You are on page 1of 23

‫العوامل المساهمة في بناء الشخصية‬

‫علي األديب‬
‫شخصية الفرد وحدة متفاعلة لمجموعة النزاعات الذاتية الموجهة نحو أهداف معينة‪ ،‬تصدر عنها آثار معينة في‬
‫المحيط الذي توجد فيها‪ .‬هذه اآلثار تصدر عن الفرد كوحدة سلوكية متحدة العنصار غير مجزأة‪ ،‬تعبر عن تكامل‬
‫واتحاد الشخصية‪ ،‬وتؤثر تأثيراً ديناميكياً في المجال المحيط بها‪ .‬وهذا المجال السلوكي هو الحيز الذي تظهر فيه‬
‫آثار قوى هذه الشخصية باعتبارها مصدر القوة المحركة او النزعات الموجهة‪ ،‬تؤثر فيما حولها وتستلم منها‬
‫المؤثرات‪.‬‬
‫فالشخصية مزودة بنزعات وطاقات وراثية مستعدة للتعديل والتغيير والتبدل اذا ما توفر لها من عوامل المحيط ما‬
‫يساعدها على التعديل والتغيير شريطة ان تدخل في الجال الخاص للفرد‪.‬‬
‫ونقيت من الشوائب نشأ الفرد صالحاً نقياً في الغالب‪ ،‬اما اذا اهملت وتركت فأنها تكون‬
‫فان صلحت هذه العوامل ّ‬
‫ذا تأثير سيء على تربية الطفل ونشأته المختلفة التي‪ ‬تأثرت بها في مجاالتها الحيوية التي وجدت فيها عبر‬
‫مراحل نموها السابقة‪.‬‬
‫العوامل المكونة للشخصية‬
‫يمكننا ان نصنف العوامل المكونة للشخصية الى ثالث مجموعات هي العوامل الجسمية والعوامل النفسية‬
‫والعوامل االجتماعية‪ .‬وشخصية كل فرد انما هي نتاج التفاعل العام بين هذه المجاميع الثالثة‪.‬‬
‫فالعوامل الجسمية هي كل ما يتعلقبنمو جسم الفرد عموماً وحالته الصحية العامة‪ ،‬كما نميز في هذه المجموعة‬
‫الرئيسية من العوامل بين صفتين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الصفة العامة للحالة الجسمية مثل النمو الجسمي الطبيعي العام‪ ،‬والصحة العامة‪ ،‬والمقاومة ضد االمراض‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الصفة الخاصة لجسم الفرد كأن يكون مميزاً بالطول والقصر‪ ،‬أو البدانة والنحافة‪ ،‬أو تميزه بعاهة من‬
‫العاهات‪ ،‬او نقص ظاهر ّبين أو خفي‪.‬‬
‫اما مجموعة العوامل النفسية فهي ما يصطلح عليها الباحثون النفسيون (بالتكوين النفسي) وظواهرها في الواقع‬
‫تشكل لب دراسة العلوم النفسية‪.‬‬
‫ويمكننا التمييز بين مجموعتين من العوامل االساسية في هذا المجال‪:‬‬
‫المجموعة االولى‪ :‬وتتضمن الوظائف العقلية كالذكاء اولقدرات العقلية الخاصة كالقدرة اللغوية والقدرة الحسابية‬
‫والقدرة العلمية والقدرة الفنية‪ ،‬والعمليات العقلية العليا كالتصور والتخيل والتذكر‪ ،‬والمهارات العقلية المكتسبة‬
‫التي تكتسب من خالل عمليات التعلم المباشر وغير المباشر‪.‬‬
‫أما المجموعة الثانية‪ :‬فتتضمن الجانب المزاجي من الشخصية‪ ،‬وتشمل أساليب النشاط االنفعالي والنزوعي التي‬
‫تتعلق بالوجدان والنزوع وليس بالعوامل المعرفية‪.‬‬
‫وهي توجه بارادة الفرد وليس بالمهارات المختلفة‪ ،‬ومزاج الفرد يشمل على دوافع فطرية واخرى مكتسبة بعضها‬
‫عام والبعض اآلخر خاص‪ ،‬كما ان بعضها شعوري‪ ‬يدركه االنسان بوعيه وآخر ال شعوري يتستر في أعماق‬
‫العقل الباطن‪.‬‬
‫وهي لذلك تكون مزيجاً من عواطف الفرد وميوله ودوافعه السلوكية سواء ما اصطلح عليها بالميول أو الحاجات‪،‬‬
‫كذلك دوافع الفرد الالشعورية كالعقد النفسية التي تظهر على سلوك الفرد دون وعي منه وارادة‪.‬‬
‫وهذه المجموعة من العوامل تتبلور حول صفتين رئيسيتين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ صفة االنفعالية او ما نعني به االستعداد العام لالنفعال عند الفرد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االتجاه الخلقي العام لدى الفرد‪.‬‬
‫وبذلك يمكن أن نضيف السمات النفسية المختلفة على الشكل التالي‪:‬‬
‫الصفات المعرفية‬
‫أ ـ الصفات الموروثة وتشمل على‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ السمة المعرفية الفطرية العامة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستعدادات المعرفية الخاصة‪.‬‬
‫ب ـ الصفات المكتسبة وتشمل على‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الصفة العقلية المكتسبة العامة (الثقافة العامة)‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المهارات الخاصة (الثقافة التخصصية النظرية أو العملية)‪.‬‬
‫الصفات المزاجية‬
‫أ ـ الصفات الموروثة وتشمل على‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االنفعالية العامة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االنفعاالت الخاصة‪.‬‬
‫ب ـ الصفات المزاجية المكتسبة وتشمل على‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االتجاه الخلقي العام‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الصفات المزاجية المكتسبة الخاصة‪ .‬وتتضمن بدورها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الدوافع المزاجية المكتسبة الخاصة الالشعورية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الدوافع المكتسبة الخاصة الالشعورية (العقد النفسية)‪.‬‬
‫ونقصد بمصطلح السمة العامة اينما وردت في تصنيفات عوامل الشخصية المارة الذكر بالصفة الكامنة وراء‬
‫جميع أساليب النشاط العام السلوكي للفرد‪ ،‬بينما نقصد بالصفة الخاصة الصفة الكامنة وراء اسلوب معين من‬
‫نواحي النشاط‪ .‬فالذكاء مثالً قدرة عامة تدخل في كل النشاطات والقدرات العقلية المعرفية للفرد بغض النظر عن‬
‫موضوع النشاط وشكله‪ ،‬في حين تعتبر القدرة اللغوية والقدرة الحسابية والقدرة على التذكر قدرات خاصة‪ .‬ونفس‬
‫الشيء بالنسبة للصفات المزاجية‪ ،‬فاالنفعالية العامة هي قدرة أوسمة مزاجية عامة تدخل في جميع النشاطات‬
‫االنفعالية بالرغم من تنوعها‪ ،‬فتطبع استجابات الفرد االنفعالية بطابعها من حيث الثبات او عدم االتزان او البالدة‬
‫االنفعالية‪ ،‬في حين تكون صفات معينة كالغضب والخوف والحزن صفات خاصة تظهر عند الفرد في مواقف‬
‫خاصة بعينها دون ان يكون ألحدها عالقة باالخرى‪.‬‬
‫واما العوامل االجتماعية‪ ،‬فنقصد بها تلك التي تتوقف على البيئة التي يعيش فيها الفرد‪ ،‬ونيمز فيها بين مجموعتين‬
‫من العوامل‪:‬‬
‫المجموعة االولى‪ :‬وتتعلق بالظروف االجتماعية داخل البيت‪ ،‬وهي ذات قيمة كبرى على شخصية الفرد‪ ،‬اذ ان‬
‫البيئة البيتية الصالحة قادرة على انتاج اطفال اصحاء نفسياً ومتماسكين في شخصياتهم‪.‬‬
‫ويمكن ان نميز في هذه المجموعة اربعة عوامل‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الحالة االقتصادية لالسرة‪ ،‬وتعتبر الحالة من هذا الجانب طبيعية اذا كان مستوى االسرة االقتصادي فوق خط‬
‫الحاجة والعوز‪ .‬بحيث تكون مواردها كافية لسد حاجاتها االساسية من غذاء وكساء ومأوى ورعاية صحية‪،‬‬
‫وتعليم‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ 2‬ـ والعامل الثاني هو الظرف المنزلي الطبيعي ونعني به ان تكون االسرة مكونة من أب وأم وأوالدهما المنجبين‬
‫من زواجهما‪ ،‬ويعيشون جميعاً في بيت واحد‪ ،‬وفي حالة اختالل هذا الوضع لسبب من االسباب اعتبرت الظروف‬
‫غير طبيعية‪ ،‬كان يشرف على االطفال زوجة االب أو زوج األم او احد األقرباء‪ ،‬او يعيشون في دار للحضانة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ والعامل الثالث هو المعاملة العائلية‪ ،‬ونعني به الطريقة التي يسلكها الوالدان في المنزل في معاملة أبنائهما‪ ،‬فقد‬
‫يكون اسلوباً يتسم بالتسامح والتساهل‪ ،‬او يتميز بالعنف والتعنت‪ ،‬او جامعاً بين االثنين بطريقة متناقضة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ اما العامل الرابع فهو صالحية المنزل للتربية‪ ،‬اذ ان العائلة غير الصالحة والمصابة بنوع من االنحراف‬
‫االخالقي او الشذوذ السلوكي ال تصلح ألن تكون في موقع التصدي لتربية االطفال‪ ،‬فاألم أو األب او كالهما في‬
‫حالة خروجهم على المبادىء االخالقية يسببون لالطفال انحرفاً مماثالً في الغالب‪.‬‬
‫اما المجموعمة الثانية من العوامل االجتماعية فهي ما تتعلق بظروف نشاط الطفل خارج البيت وهي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أحوال العمل‪ ،‬ومالئمته لميول الفرد‪ ،‬اذ ان العمل غيرالمناسب الذي ال يالئم مواهب الناشىء وميوله قد يجره‬
‫الى االنحراف أو الى التمرد وقد ينعكس على شخصيته فتبرز عليها امارات عدم التوافق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الطريقة التي يقضي بها أوقات فراغه‪ ،‬من نشاط رياضي او هوايات علمية او فنية او ادبية لها عالقة وثيقة‬
‫في تكوين شخصيته واضفاء صفة االتزان أو الضعف عليها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نوع االقران واالصدقاء الذين يصاحبون الفرد في أوقات فراغه‪ ،‬ونشاطاته الترويحية‪ ،‬له أثر واضح على‬
‫توجيه ميول الفرد وتعزيز اتجاهاته‪.‬‬
‫***‬
‫مما تقدم ندرك ان شخصية أي فرد انما هو نسيج عوامل وراثية جسمية ونفسية يرثها الفرد من آبائه وال دخل له‬
‫في وضعها العام متانة او ضعفاً‪ .‬وعوامل بيئية محيطية تحيط الفرد قبل والدته وتواكبه بعد الوالدة‪ ،‬وهي مزيج‬
‫من ظروف مادية واخرى اجتماعية‪.‬‬
‫هذه العوامل تتداخل وتتقاطع في شخصية الفرد لتنتج منه انساناً ذا مالمح مشخصة معينة‪ ،‬قد تكون مقبولة‬
‫اجتماعياً وقد تكون مرفوضة وقد تأتلف مع ذاتها او تتنافر فتنشطر على نفسها‪ ،‬مسببة للفرد آالماً نفسية مؤرقة‪.‬‬
‫بين الوراثة والمحيط‬
‫لقد عرفنا ان التكوين النفسي لشخصية االنسان انما هو نتيجة تفاعل عوامل فطرية وراثية مع عوامل البيئة المادية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬ويتعذر علينا تصور انعزال أحد العوامل عن االخرى النها تتبادل التأثير منذ لحظة الحمل االولى‬
‫وتستمر باستمرار حياة الفرد‪ .‬فاالستعدادات الفطرية ال تتفتح وال تنمو نمواً طبيعياً إالّ برعاية البيئة‪ ،‬والبيئة ال‬
‫تستطيع ايجاد شيء من العدم‪ ،‬بل انها قادرة على تقديم العون والرعاية لما هو كائن وموجود بالفعل‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم يذكر هذه الحقيقة الناصعة في سورة «الضحى» بقوله‪« :‬ونفس وما سواها * فالهمها فجورها‬
‫دساها»(‪ )1‬فعملية التكوين الزراعي مثالً تقتضي وجود البذرة‬
‫وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من ّ‬
‫والتربة معاً‪ ،‬شريطة أن تكون التربة متوافرة على عوامل الرعاية والصالح‪ ،‬لتنبت نباتاً صحيحاً‪ ،‬والبذرة مهما‬
‫كانت جيدة فانها ال تنبت إذا وضعت في صندوق مقفل او القيت على رف‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬الضحى ‪ 7‬ـ ‪.10‬‬
‫‪ ‬‬
‫في غرفة‪ ،‬والتربة الصالحة ال تستطيع فعل شيء اذا كانت البذرة غير صاله للنمو‪ ،‬فاقدة لالستعدادات الذاتية‪.‬‬
‫واالرض بعد ذلك مهما كانت جيدة وخصبة ال تستطيع قلب خصائص البذرة الى خصائص مغايرة كأن تقلب‬
‫نبات الحنطة برتقاالً‪.‬‬
‫الزراع الى حقيقة جهودهم في الزراعة واعتمادها اصالً على القدرات التي‬
‫ولذلك نرى القرآن الكريم يلفت نظر ّ‬
‫ادخرها اهلل في‪ ‬بذور النباتات وخصائص االخصاب في التربة بقوله‪« :‬أفرأيتهم ما تحرثون * إنتم تزرعو ام نحن‬
‫الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تف ّكهون»(ـ‪.)1‬‬
‫فتفاعل عوامل االستعداد الفطري بالعوامل البيئية حقيقة اساسية في تكوين الفرد‪ .‬ولكن العلماء اختلفوا في ايهما‬
‫أقوى اثراً‪ :‬فبعض العلماء يرى ان االستعداد الوراثي هو الذي يقرر تكوين الفرد وان للرعاية البيئية أثراً ضئيالً‬
‫مساعداً‪ ،‬وبعض العلماء يرى ان عوامل الرعاية والمجتمع هي التي تحدد نماذج التكوين وانماط الشخصية‬
‫وقوالب الحياة االجتماعية‪ ،‬وانها تستطيع ان تعدل وتغير كثيراً من ميول الفطرة واستعدادات الوراثة‪ .‬وواقع‬
‫أقر بشيء مما أثبته اآلخر‪ .‬فأنصار البيئة ال ينكرون آثار‬
‫االمر ان كال الطرفين متطرف في عرض رأيه‪ ،‬وقد ّ‬
‫االستعداد الفطري في التكوين الجسمي والمزاجي والعصبي‪ ،‬كما أن أنصار الوراثة ال ينكرون آثار الفعل البيئي‬
‫في التكوين الخلقي واالدراكي واالجتماعي‪.‬ـ‬
‫فالعوامل المختلفة تتفاعل في التكوين النفسي للفرد‪ ،‬وتر ّكب شخصيته‪ ،‬وال يستطيع‪ .‬أي انسان أن يبعد نفسه عن‬
‫أثر العوامل البيئية ولو قدر له ان يعيش كل حياته منعزالً عن المجتمع‪.‬‬
‫شبعه (ويالرد اولسون) تفاعل هذه العوامل‪ ،‬بعلمية صب الماء في كوب اذ مثّل االستعداد الوراثي للفرد‬
‫وقد ّ‬
‫بكوب ومثّل الرعاية البيئية بالماء يصب في هذا الكوب‪ .‬فالكوب الكبير يمثل االستعداد الممتاز‪ ،‬والكونب الصغير‬
‫وشبه‬
‫يمثل ضعف االستعداد وضآلة حجمه‪ ،‬والمالحظ ان أكوابنا التي ورثناها فيها قليل أو كثير من الماء‪ّ ،‬‬
‫(وودورث) تفاعل االستعداد بالبيئة في التكوين النفسي للفرد بالمستطيل الذي يتوقف مساحته على كل من طوله‬
‫وعرضه‪ ،‬وقد يتناقص الطول ليصير عرضاً‪ ،‬أو العكس‪ .،‬ولكن التكوين النفس يبقى نتاجاً لتفاعل هذين العاملين(‬
‫‪ .)2‬القرآن الكريم يشير الى هذه الحقيقة عند االشارة الى تبعات اعمال االنسان وطريقة حسابه بقوله‪« :‬ال يكلف‬
‫اهلل نفسها إال وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»(‪.)3‬‬
‫والحق ان الفطرة الوراثية ليست أكثر تأثيراً من الرعاية البيئية‪ .‬كما انها ليست أقل أهمية فكالهما اساسي للحياة‬
‫وفقدان أحدهما يعني عدم الحياة‪.‬‬
‫غير اننا يمكن ان نميز تأثير وغلبة أحد هذه العوامل على غيرها في تكوين الفرد تبعاً لبعض الصفات فيه‪ ،‬اذ ان‬
‫صفات االنسان على نوعين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ نوع بنائي كالقامة ونوع القوام وقياسات الجمجمة‪ ..‬الخ وهذه تكون في الغالب وراثية ال يؤثر فيها المحيط‬
‫تأثيراً يذكر‪.‬‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬سورة الواقعة‪ 63 /‬ـ ‪،65‬‬
‫(‪ )2‬عبد الحميد الهاشمي‪ ،‬علم النفس التكويني واسسه التطبيقية‪ ،‬ص‪.68‬‬
‫(‪ )3‬سورة البقرة‪.286/‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ 2‬ـ نوع بنائي وظيفي كالوزن والصحة ـ عامة وخاصة‪ ،‬وسواها وهذه يؤثر فيها المحيط كما تؤثر فيها الوراثة‪.‬‬
‫اما الصفات النفسية مثل الذكاء واالنفعالية والطبع الشخصي وغيرها فصفات تتأثر بالوراثة والمحيط معاً‪،‬‬
‫والذكاء نفسه رغم تأكيد بعض علماء النفس على فطريته التامة ـ يتأثر بالمحيط القادر ـ على رأي الكثيرين على‬
‫تفتيحه وابرازه او كبته وقتله وزيادته ونقصه‪ .‬ويقال الشيء نفسه عن سرعة التهيج وقابلية االنفجار بالغضب أو‬
‫الخضوع للخوف او غير ذلك‪.‬‬
‫اما الصفات النفسية‪ ‬ا لتي هي من نوع صفات الشخصية والعادات وطريقة التفكير فهي تتأثر بالبيئة تأثراً كبيراً‬
‫جداً وتفعل التربية فيها فعالً مؤثراً وواضحاً الى مدى بعيد(‪.)1‬‬
‫العوامل البيئية المؤثرة في التكوين النفسي للفرد‬
‫مجموعة العوامل الخارجية المؤثرة في التكوين النفسي للفرد ونمذ اللحظة التي يتشكل فيها الجنين في رحم امه‬
‫نصطلح عليها بمجموعة العوامل البيئية‪ ،‬فالرحم بما يوفره من جو دافىء وغذاء وما يتعرض له من احداث غير‬
‫طبيعية‪ ،‬او نقص في غذاء االم‪ ،‬او تعرضها لمشكالت اجتماعية ونفسية‪ ،‬كل هذه العوامل تشكل الظروف البيئية‬
‫االولى للطفل في المرحلة الجنينية وتبقى الكثير من آثمارها مصاحبة للفرد بعد الوالدة وحتى أيام الكبر‪.‬‬
‫والطفل يواجه بعد ميالده مباشرة بيئة ذات شرائط خاصة في جانبها الطبيعي وبيئة اجتماعية متمثلة باالسرة‬
‫واعضائها ونمط العالقات القائمة بينهم‪.‬‬
‫وحين يكبر ويدخل المدرسة يختلط مع أقران له من اعمار مساوية لعمره او تفاوته بقدر معين ويتخذ منهم‬
‫أصدقاء‪ ،‬وان هو كبر واصبح راشداً مستقالً غدا عضواً في المجتمع‪ ،‬فقد دخل البيئة االجتماعية االوسعة وتفاعل‬
‫معها‪ ،‬مؤثراً ومتأثراً بمفرداتها‪.‬‬
‫والبيئة عموماً تشمل الجانب المادي المتمثل بالطبيعة وعناصرها ومكوناتها وظواهرها وخصائصها‪ ،‬وتشمل‬
‫كذلك الجانب االجتماعي بما فيها من مؤسسات وتجمعات ومنظمات وعادات وتقاليد ومقدسات‪.‬‬
‫ولقد اتسعت دائرة البيئة في يومنا هذا بفضل تطور وسائل االرتباط الحديثة وانتشار المطبوعات وتقدم طرق‬
‫المواصالت بحيث شملت مساحات ما كانت لتشملها في ما مضى من أجيال وعهود‪ .‬ومن هذه العوامل البيئية ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الصحة والسالمة العامة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نوع التغذية‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التربية وثقافة المجتمع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ العامل الجغرافي‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ العوامل االتفاقية‪.‬‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬فاخر عاقل‪ ،‬اعرف نفسك‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ ‬‬
‫وسنتحدث في هذه الدراسة عن العوامل الثالثة االخيرة باعتبار ان العاملين االولين يحتاجان الى دراسة‬
‫تخصصية مستقلة‪.‬‬
‫التربية وثقافة المجتمع‬
‫فعلى التربية وتوجيهاتها تترتب اآلثار الكبرى في تحديد الوضع النهائي للتكوين النفسي والعقلي واالجتماعي‬
‫للفرد‪ .‬وفي عمليات التربية تتفاعل عوامل الوراثة وما تضمه من استعدادات وقابليات بعوامل البيئة المادية‬
‫واالجتماعية التي يتبناها المجتمع كأساس للتوجيه‪ ،‬وعلى اساس القيم التي تتبناها التربية تتحقق رغبات االفراد‬
‫والجماعات داخل النطاق الحضاري العام‪ ،‬وتتحقق درجات التكامل االجتماعي في المجتمع‪ .‬وهي كفيلة بتقليل‬
‫ظهور المؤثرات ومظاهر السلوك المنحرف وتعمل على اندماج الفرد بالجماعة وايمانه بأهدافها وقيمها‪.‬‬
‫فاالنسان حينما يخرج في لحظة الوالدة الى الحياة يجد امامه بيئة تتبنى ثقافة تربوية اجتماعية تحدد معالمه‬
‫التكوينية وتحمله على تشربها وتمثل مفاهيمها خالل عمليات وادوار نموه‪ ،‬حتى اذا استوى وكبر قام بنقل تلك‬
‫الثقافة واالنماط التربوية االجتماعية التي تعلمها الى صغاره‪ ،‬او يسعى الى تغييرها ومالئمتها لمطالب الحياة‬
‫االجتماعية المتغيرة والمتجددة‪.‬‬
‫فالطفل البشري يمتاز بوراثة ساللية وقابليات فطرية لها قابلية التشكل والتكيف وفق ارادة البيئة واهدافها‪ .‬وهي‬
‫تمتاز على سائر الكائنات الحية بمرونتها ومطواعيتها على التعديل والتوجيه والتأثر بعوامل التربية‪.‬‬
‫والطفل انما ينتقل من حالته كطفل بيولوجي يشابه صغار الحيوانات الى شخصية انسان اجتماعية قادرة على‬
‫التفاعل مع الوجود‪ ،‬عبر عمليات التربية االجتماعية التي يجد اجواءها قائمة بعد الوالدة مباشرة‪ .‬ويحدثنا القرآن‬
‫الكريم عن هذه الحقيقة حينما يشير الى السمع واالبصار واالفئدة كاجهزة الستقبال وهضم المؤثرات التربوية‬
‫كقوله «الذي احسن كل شيء خلقه وبدأ خلقه االنسان من طين * ثم جعل نسله من ساللة من ماء مهين * ثم سواه‬
‫ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع واالبصار واألفئدة قليالً ما تشكرون»(‪.)1‬‬
‫فاالنسان يولد وهو يرث قدرته على الكالم‪ ،‬وحينما يبلغ النضج الكافي فانه يتكلم اللغة الشائعة في بيئته‪ ،‬واذا‬
‫اهملت تربيته ورعايته وعاش مع الحيوانات في الغابة مثالً ضمرت فيه سمات التكوين النفسي لالنسان الطبيعي‬
‫وانعدمت فيه الشخصية البشرية االجتماعية‪ .‬ولم يتكلم لغة المجتمع‪ ،‬وانما يصرخ كما تصرخ الحيوانات ويعوي‬
‫كما تعوي االحياء من حوله‪.‬‬
‫وللتربية االجتماعية التي يتوالها المجتمع وافراد العائلة االثر البليغ في تكوين الجانب االنفعالي‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬سورة السجدة‪ 7 /‬ـ ‪.9‬‬
‫‪ ‬‬
‫واالدراكي لدى الطفل‪ ،‬كما تحدد له مفاهيم الحياة وممارساته السلوكية اجتماعياً‪.‬‬
‫فاالنسان يخضع لكل المؤثرات االجتماعية التي يتلقاها من مجتمعه مباشرة او عن طريق خلية المجتمع القريبة‬
‫منه والمتمثلة‪ ‬باسرته‪ ،‬او المدرسة التي يدرس فيها أو أية مؤسسة اجتماعية ينتسب اليها في أدوار حياته المختلفة‪.‬‬
‫فممثلو المجتمع من اآلباء واالمهات والمعلمين والمسؤولين واالصدقاء‪ ،‬يتولون نقل تراث المجتمع ويعدونه‬
‫اعداداً نفسياً وجسمياً وعقلياً لالضطالع بدوره الفاعل في المجتمع‪ .‬فكل مولود يولد على الفطرة إال ان أبويه‬
‫يهودانه او ينصرانه او يمجسانه(‪.)1‬‬
‫فكلما سمت الغايات واالهداف التربوية لدى المربين الذين يتولون أمر التربية في المجتمع كلما كانت نتائجها‬
‫حسنة وسليمة في االوالد‪ ،‬وعلى االجيال اآلتية‪ ،‬وبعكسها لو اهملت التربية او تدنت مراميها واغراضها ساءت‬
‫نتائجها وتدهورت ثمارها‪.‬‬
‫وكذلك المحيط التربوي العام للمجتمع بما فيه االدارة السياسية واالعالمية له كبير االثر على منحى االجيال‬
‫واتجاهاتهم واهتماماتهم االخالقية واالجتماعية‪ ،‬فكلما تميز المحيط بالنظافة وااللتزام‪ ،‬اثر ايجابياً في نطاقة اخالق‬
‫االجيال والعكس صحيح ايضاً‪ .‬ولذلك فان السلطة السياسية في أي مجتمع من مجتمعاتنا تتحمل الثقل االكبر في‬
‫نشأة أبناء المجتمع وتحصينهم ضد نزعات االنحراف والتطرف‪ .‬وامير المؤمنين (ع) يقول بهذا الشأن «الناس‬
‫بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم»(‪ )2‬والمثل الشعبي عندنا يقول «الناس على دين ملوكهم»‪.‬‬
‫ان نوع الثقافة العامة الشائعة في المجتمع او ما يصطلح عليها بالحضارة أو الثقافة المميزة (‪ )Culture‬كذلك‬
‫تحدد نظرتنا بقدر كبير الى الكون والحياة ومكانتها فيها‪ ،‬وطرق تفكيرنا وتعبيرنا عن انفعاالتنا وارضائنا‬
‫لدوافعنا‪ ،‬وفيما ندركه من معايير المحظور والمباح‪ ،‬والعدل والظلم‪ ،‬اولحق والباطل‪ ،‬يضاف الى ذلك ان الثقافة‬
‫تعين السبل واالساليب التي يتبعها الوالدان في تنشئة االطفال‪ ،‬وفيما اذا كانت وسائل قائمة على التشدد او‬
‫هي التي ّ‬
‫التسامح‪ ،‬او انها تفرض على الطفل تكاليف الرجولة من عهد مبكر أم تنتظره حتى يبلغ مدى نضجه الطبيعي‪،‬‬
‫فثقافة المجتمع تعيش فينا كما نعيش فيها‪ ،‬وتنعكس علينا آثارها‪ ،‬وما الشخصية ااال مظهر ذاتي للثقافة في بعض‬
‫جوانبها‪.‬‬
‫الوراثة الثقافية‬
‫ان كثيراً من الظواهر السلوكية التي كنا نظنها سابقاً ذات منشأ بيولوجي وراثي اتضح اآلن انها متأثرة بثقافة‬
‫المجتمع‪ .‬فقد كان الكثيرون يعتقدون ان مرحلة المراهقة في كل زمان ومكان مرحلة مشكالت نفسية وصراعات‬
‫ترجع الى التغيرات البيولوجية العنيفة التي يمر بها المراهق‪ ،‬دون اعتبار لثقافة المجتمع الذي ينتمي اليه المراهق‬
‫حتى ظهرت نتائج البحوث االنثروبولوجية الحديثة فأثبتت‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬حديث للرسول االكرم (ص)‪.‬‬
‫(‪ )2‬بحار االنوار‪ ،‬ج‪ ،17‬ص‪.129‬‬
‫‪ ‬‬
‫حقيقة كون المراهقة ليست مرحلة تأزم بل مرحلة هينة سهلة تخلو من الصراعات واالمراض النفسية والتمرد في‬
‫كثير من الشعوب البدائية‪ .‬وأرجعوا سبب ذلك الى ان المجتمعات البدائية كانت تتسامح ازاء المراهق منذ بدء‬
‫مراهقته وتتيح له فرصة االضطالع باعبار الكبار وأدوارهم االقتصادية واالجتماعية والجنسية والدينية‪ .‬فكأن‬
‫المراهقة المتأزمة متأتية من طريقة معاملتنا ونظرتنا لها‪ ،‬فالتقييد االجتماعي والجنسي واالقتصادي للمراهق‬
‫ومصادرة رغبته فيى االستقالل وعدم منحه االعتماد الالزم هي التي تدفع بمراهقنا للتمرد والعصيان‪.‬‬
‫وقد عثر علماء االنثروبولوجيا على ثقافات اتسمت فيها شخصيات الرجال بالسمات االنثوية كحالة االستسالم‬
‫وتحلين بالسيطرة والنشاط العدواني‪ ،‬فقد وجدت (مرغريت‬
‫ّ‬ ‫واالذعام والطاعة‪ ،‬فيما اتسمت االناث بسمات الرجال‬
‫ميد) ان المثل االعلى للرجل في قبلية (ارابش) في غينيا الجديدة هو الرجل الوديع الرقيق الطبع المسالم السلبي‪،‬‬
‫كذلك حال المرأة‪ ،‬بحيث يمكن القول بعدم وجود فوارق بين الجنسين في هذه القبيلة ان كال الجنسين ذو طبع‬
‫انثوي لين(‪.)1‬‬
‫اما المثل االعلى للرجل في قبيلة تجاورها لكن تختلف عنها في الثقافة هي قبيلة (موندر جومر) فهو الرجل‬
‫الخشن الغليظ العدواني المقاتل المنتقم‪ ،‬وكذلك المرأة فهي تقوم بكل اعمال الرجل ولها مثل صفاته‪ .‬اما في قبيلة‬
‫(تشامبولي) التي تجاور هاتين القبيلتين فينقلب دور الرجل والمرأة فيها عما هو مألوف في مجتمعنا‪ ،‬حيث تكون‬
‫المرأة هي العنصر المسيطر الغالب المتصرف في كل االمور‪ ،‬فه تصيد السمك وتنسج الشباك وتقوم باالدوار‬
‫الشاقة‪ ،‬في حين يتعهد رجال القبيلة بشؤون االطفال وينصرفون الى االهتمام بالرقص والحفر اولنقش وغيرها‬
‫مما ال تهتم به المرأة هناك(‪.)2‬‬
‫القابلية على التغير‬
‫واذا كان صحيحاً ان االنسان صنيعة النمط الحضاري لبيئة‪ ،‬ذلك النمط الذي ولد في وسطه‪ ،‬صحيح كذلك انه‬
‫قادر على التغير والتبدل اذا ما تغيرت مفردات الحضارة من حوله‪ ،‬وهذا ما اثبته البحث العلمي ايضاً‪ ،‬فالبحارة‬
‫االسكندنافيون في العصر البرونزي وهم بال شك أجداد االسكندنافيون المعاصرين غيرهم اليوم من حيث‬
‫استبدالهم لحياة التنقل بحياة االستقرار والثبات‪ .‬وكذلك المرح الصاخب في حياة انكلترا في عهد اليزابيث االولى‬
‫يختلف جداً عن االتجاهات في انكلترا على عهد اليزابيث الثانية‪ ،‬كما ان الخالعة الشهوانية ف عهد التجديد‬
‫تعارض بصورة حادة التزمت في العهد الفيكتوري‪ ،‬وقد كان االنكليز حتى منتصف القرن التاسع عشر معروفين‬
‫بالشراسة والعدوانية‪ ،‬ولكنهم اليوم يظهرون طاعة جمة للقوانين واحترام النظم‪.‬‬
‫ان احدى خصائص االنسان االساسية قابليته على التغير والتبدل في ظروف متغيرة‪ ،‬وقدرته على احداث‬
‫التغيرات الضرورية في داخل نفسه‪ ،‬مالئمة لمتطلبات المحيط المتغير‪.‬‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬احمد عزت راجح‪ ،‬اصول علم النفس‪ ،‬ص‪.425‬‬
‫(‪ )2‬احمد عزت راجح‪ ،‬اصول علم النفس‪ ،،‬ص‪.425‬‬
‫‪ ‬‬
‫وان هذه الصفة صفة المرونة او القابلية على التكيف والتثقيف صفة مكنت االنسان من اجتياز الكثير من عقبات‬
‫الحياة ومشكالتها الطبيعية واالجتماعية‪ ،‬وان بقاء النوع االنساني وتقدمه يعتمد على قدرة الطبيعة البشرية اساساً‬
‫على التحول بواسطة التكيف الى الظروف المتغيرة‪ ،‬فما حسبه أكثر الناس على انه الطبيعة البشرية‪ ،‬هي في‬
‫الحقيقة طبيعة اكتسبت بواسطة االستعدادات الفطرية لتنتج انساناً في حضارة معينة‪.‬‬
‫فالطبيعة البشرية نمط من السلوك‪ ،‬قادر على التغير‪ ،‬ليس من عصر الى عصر فقط بل في داخل الشخص نفسه‬
‫في عصر واحد‪.‬‬
‫وبما ان الطبيعة البشرية كثيراً ما اعتبرت نتاجاً لالرث البيولوجي وهي ثابتة محدودة بالوراثة البيولوجية‪ ،‬فقد‬
‫حسبت الحضارة تجاوزاً بأنها تغيير في االرث البايولوجي‪ ،‬بينما االمر في الواقع هو ان الطبيعة البشرية تعبير‬
‫عن التفاعل بين االرث البايولوجي واالوساط الثقافية التي يوجد فيها هذا االرث في حالة تطبيع (‪Condit‬‬
‫‪ )ional‬وتأنيس (‪ )Socialized‬وعند فقدان المنبه الحضاري يفشل هذا الكائن في ان يعبر عن الطبيعة أياً كانت‪،‬‬
‫منفصلة عن ظاهرة العمل الجسدي الصرف ألن الكائن ينبغي ان يطعم اذا شاء الحياة وان حاالت‬
‫االطفال نصف المعزولين (‪ )Semi - lsolated‬الذين ترعرعوا في الغابات تشهد لهذه الحقيقة شهادة وافرة‪.‬‬
‫اذن فالطبيعة البشرية مكتسبة متعلمة ضمن حدود االستعدادات البشرية الفردية لتصوغ انساناً في حضارة معينة‪.‬‬
‫العامل الجغرافي‬
‫للعامل الجغرافي أثر واضح في بعض السمات وابرازها أو تعطيل بعضها اآلخر ضمن التكوين النفسي لشخصية‬
‫الفرد‪ ،‬فمن المعروف ان اسلوب حياة الجماعة ـ اية جماعة ـ يتأثر ألنها تعيش في الصحراء او بين الجبال او في‬
‫جزيرة أو منطقة معتدلة المناخ‪ ،‬أو ألنها تعيش في أرض ال تصلح للزراعة او في واد خصب‪ .‬هذه العوامل‬
‫المختلفة ذات اثر في شخصية الجماعة كلها‪ ،‬وفي شخصيات االفراد التي تتكون منهم هذه الجماعة‪.‬‬
‫فاألسكيمو الذين يعيشون في جزيرة غرينالند يعانون ظروفاً جغرافيةً قاسية بحيث ال يستطيع مقاومتها إالّ‬
‫األقوياء منهم‪ ،‬اما الضعفاء منهم فأنهم يفنون تدريجياًوال يصمدون أمام قسوة الطبيعة‪ ،‬وقد قضت طبيعة بالدهم‬
‫الجغرافية عليهم ان يعيشوا ضمن نظام اجتماعي يتميز باالنفرادية الى حد كبير‪ .‬فكل منهم يصنع ادواته واسلحته‬
‫بنفسه‪ ،‬ويخرج الى الصيد لوحده‪ ،‬ويواجه مصاعب ومشكالت الحياة لوحده‪ ،‬ودون معونة من غيره‪.‬‬
‫واالسرة عندهم وحدة اقتصادية مكتفية بنفسها ذاتياً‪ ،‬واذا ما اضطرت للعيش مع غيرها من االسر في بيت واحد‬
‫فانها تطهو طعامها بشكل مستقل عن األسر االخرى في الشتاء خاصة‪ ،‬وذلك ألن الطهو الجماعي متعذر او‬
‫مستحيل النه يستهلك وقتاً أطول العداده كما انه يتعذر عليهم نقل الموقد الكبير من منازل الشتاء الى منازل‬
‫الصيف‪.‬‬
‫وهم بذلك اقدر على التكيف الفردي للبيئة من التكيف الجماعي‪ ،‬لضرورات وخصوصيات بيئتهم الجغرافية‪.‬‬
‫لذا نرى بروز صفات التحدي واالعتماد على النفس والمبادأة والذات القوية القادرة على الصبر والمقاومة فيهم‬
‫بشكل واضح‪.‬‬
‫وما يصدق على ظروف االسكيمو وتأثيرها في تكوينهم النفسي يصدق على الجماعات البشرية االخرى التي‬
‫عاشت والزالت ضمن ظروف جغرافية خاصة بها‪.‬‬
‫العوامل االتفاقية‪:‬‬
‫وهي عوامل متفرقة‪ ،‬تعرض للفرد في حياته العامة‪ ،‬ويتأثر بها تكوينه النفسي الى حد كبير‪ ،‬منها مركز الفرد في‬
‫االسرة‪ ،‬كأن يكون الطفل االكبر السرته أو الوحيد فيها‪ ،‬او االوسط‪ ،‬او االصغر‪ ،‬وقد يكون الذكر بعد عدة اناث‬
‫أو االنثى بعد عدة ذكور‪ ،‬أو الطفل الذي يولد بعد عدة وفيات من اخوته واخوانه‪ ،‬او بعد فترة طويلة من عدم‬
‫االنجاب‪.‬‬
‫فقد يكون الطفل المفضل االثير في االسرة‪ ،‬او يكون الطفيلي الدخيل عليها‪ ،‬ففي الحالة االولى يظفر بكثير من‬
‫امتيازات االسرة‪ ،‬وفي الحالة الثانية يكون عبئاً ثقيالً أو انساناً غير مرغوب فيه‪.‬‬
‫هذه االمور تؤثر تأثيراً ايجابياً أو سلبياً في شخصية الفرد وعمله على نمط من التصرفات او النظرة لالمور‬
‫تختلف عن نظرات اآلخرين الذين لم يتعرضوا لمثل هذه العوامل وضغوطاتها‪.‬‬
‫كما ان قلة خبرة الوالدين بتربية االطفال لكونهما حديثي عهد بالزواج وما ينجم عنهما من تصرفات متطرفة أزاء‬
‫أطفالهما‪ ،‬خاصة تجاه الوليد االول‪ ،‬باعتباره الطفل االول لتجربتهما وعدم استعدادهما الكافي لمواجه التغير‬
‫الطارىء على نظام االسرة جراء المولود الجديد‪ ،‬يحمل الوليد االكبر تبعات وآثار نفسية جسيمة‪ ،‬كما ان بقاء‬
‫الطفل االكبر لوحده سنوات عديدة نتيجة لعدم ميل الوالدين في انجاب اطفال آخرين السباب اقتصادية واجتماعية‪،‬‬
‫يحرمه من فوائد الزمالة والتنافس واالخذ ولعطاء مع اخوة له يقاربونه في السن‪.‬‬
‫ويحمل االوالد الكبار مرارة تحول عواطف‬
‫ّ‬ ‫وفي حالة انجاب طفل ثان وثالث يغتصب الجديد اهتمام أبويه‬
‫ورعاية الوالدين الى غيرهم‪ ،‬مما يزرع في نفوسهم عدم الثقة واالطمئنان في مواقفهم االجتماعية الالحقة‪.‬‬
‫لقد اجرى فريق من علماء النفس الكلينيكي (العيادي) دراسات وافية لمعرفة ما يترتب على مركز الطفل في‬
‫االسرة من آثار في تكوينه النفسي فوجدوا‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ان مركز الطفل ليس إالّ عامالً من عوامل اخرى اكثر اهمية تؤثر في شخصيته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وان مركز الطفل قد يكون ميزة له‪ ،‬أو كارثة عليه‪ ،‬أو ال أهمية له‪ ،‬واالمر كله مرهون بموقف الوالدين منه‪،‬‬
‫والجو العام الذي يسود االسرة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وان نفس المشاكل السلوكية تعرض لالطفال في كل مركز يحتلونه وبنفس النسبة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ليس هناك ارتباط ثابت بين مركز الطفل وسمات شخصيته وهو راشد(‪.)1‬‬
‫كيف نساهم في صناعة الشخصية المقبولة؟‬
‫االجابة على هذا السؤال تستدعي تلخيص فاعلية كل من الوراثة والمحيط وطريقة عملهما في تكوين انسان ذي‬
‫مالمح وسمات معينة‪ ،‬تتقصد انتاجه وتستهدف نشر المعرفة الخاصة بطريقة وقائية من كل عامل أو سبب يؤدي‬
‫به الى مجانبة القصد والهدف من انتاجه‪.‬‬
‫وقبل أن ندخل في صميم التوصيات الرسالية التي تضع أيدينا على الطريق السليم‪ ،‬البد أن نسلّم بما سلّم به علماء‬
‫الوراثة والمحيط من حقائق اساسية في تفاعل هذين العاملين وتظافر جهودهما في صياغة االنسان الذي نريده‬
‫وننشده‪ ،‬فاهلل «يجري االمور على ما يقتضيه ال على ما نرتضيه»(‪.)2‬‬
‫وال نستطيع نحن تجاوز السنن والنواميس التي وضعها اهلل تعالى منهجاً للكون والحياة فنفشل في جهدنا دون‬
‫طائل‪ ،‬واالمام علي (ع) يقول «من كابر الزمان ُغلب»(‪ )3‬و«من عتب على الزمان طالت معتبته»(‪.)4‬‬
‫لذا فالبد لنا من الرجوع الى حقائق العلم والتجربة ونلتزم توصيات الرسالة االساليمة التي كشفت حقيقة العوامل‬
‫الدخيلة في صناعة االنسان وعلمته سبيل االختيار االنجح وحفزته على اجتناب الطرق التي ال تؤدي إال إلى‬
‫ضعف المجتمع ودماره وتدهور بنيته‪.‬‬
‫تخير السبيل الصحيح هي‪:‬‬
‫ومن هذه الحقائق التي على ضوئها نقدر على ّ‬
‫‪ 1‬ـ ان عاملي الوراثة والمحيط يعمالن متكاملين متعاضدين ال متنارين متضادين فالمحيط الجيد يستطيع ان‬
‫يخفف االثر السيءللوراثة السيئة‪ ،‬وان الوراثة الجيدة تستطيع ان تقي االنسان من شرور المحيط السيء الى حد‬
‫بعيد‪ ،‬وان الطامة الكبرى هي في اجتماع محيط سيء ووراثة سيئة في انسان بعينه والسعادة الكبرى انما تكون‬
‫في اجتماع وراثة جيدة ومحيط جيد في انسان بعينه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ان المحيط الجيد يرافق عادة الوراثة الجيدة وان المحيط السيء يرافق عادة الوراثة السيئة‪ .‬فأبناء الطبقات‬
‫ذكاء منحطاً وقدرات عقلية متواضعة فحسب بل يرثون أيضاً مفاهيم أخالقية فقيرة‬
‫الفقيرة ال يرثون في المعتاد ً‬
‫وحياة مادية مدقعة ولغة قذرة وطرائق تعامل غير مقبولة اجتماعياً‪ .‬وذلك ألن الفقر مالزم لحالة اجتماعية‬
‫متأخرة وصحية متردية وتعليمية متدنية‪ ،‬والفقير مشغول بهمه االقتصادي ال يكون على شيء أكثر من حاجاته‬
‫الغريزية االساسية(‪ )5‬واالمام علي (ع) يقول بهذا الصدد «العسر‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬احمد عزت راجح‪ ،‬اصول علم النفس‪ ،‬ص‪.432‬‬
‫(‪ )2‬غرر الحكم‪ ،‬ص‪ ،219‬من أقوال االمام علي (ع)‪.‬‬
‫(‪ )3‬من أقوال االمام علي (ع)‪ ،‬تحف العقول‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫(‪ )4‬من أقوال االمام علي (ع)‪ ،‬بحار االنوار‪ ،‬ج‪ ،17‬ص‪.101‬‬
‫(‪ )5‬نستثني من ذلك البيئات الدينية التي تعتمد توفير فرص التربية والتدين وااللتزام باهداف الفضلية االخالقية‪،‬‬
‫وتترفع على الفقر بحالة الزهد والصبر‪ ،‬وتجاهد دون االنحدار مع تيار االستسالم لضغط الظروف الصعبة‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫يفسد االخالق»(‪« .)1‬والعسر ُيخرس الفّطن عن ُحجته» و«الفقر أحزان»‪ ،‬و«ضرورة الفقر تبعث على فضيع‬
‫االمر»‪ ،‬ولذلك فهو يقرر بأن «القبر خير من الفقر» ألن في حياة االنسان الفقير شقاء متنوع الوجوه‪ ،‬و«الفقر‬
‫مذلة للنفس مدهشة للعقل جالب للهموم»‪ ،‬وهي لذلك تصطحب معها آثاراً نفسية سيئة وتركيبة انسانية‪ ،‬يستلزم‬
‫اصالحها فريد جهد وجهاد‪ ،‬ولذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يضع الفقير الناجح في أخالقه وحياته في مصافي‬
‫أفضل الناس فهو يقول «خير الناس من كان في عسره مؤثراً صبوراً»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ان تعاقب االجيال يزيد حسن الحسن وسوء السيء حتى يأتي حين من الدهر يكون الفارق كثيراً بين االثنين‪،‬‬
‫فالطفل الذي يولد بوراثة جيدة وفي بيئة غنية مادياً واخالقياً تهيء له الفرص الستغالل مواهبه وتفتيحها وتنميتها‬
‫ارتقاء نسلمها‪ ،‬اما الطفل‬
‫ً‬ ‫ثم يزوج بزوجة مقارنة له في الذكاء واليسر االقتصادي واالخالقي فيتزايد على االيام‬
‫ذو الوراثة السيئة المولود في بيئة فقيرة متأخرة اجتماعياً فيأتمر به الغباء وسوء االخالق والفقر ليدفعاه الى‬
‫أحضان من هي أغبى منه وأفقر ولتلد له ـ في االعم االغلب ـ مولوداً يتزايد غباؤه وتأخره فيقف هذا قريباً من‬
‫الخطيئة والجريمة والشذوذ والجنوح‪ .‬وقد أشار القرآن الكريم الى ذلك فيما قصه علينا من خبر قوم نبيه نوح (ع)‬
‫دياراً * انك ان تذرهم يضلوا عبادك وال يلدوا إال‬
‫حين دعا عليهم بقوله‪ :‬رب ال تذر على االرض من الكافرين ّ‬
‫فاجراً كفاراً»(‪ )2‬ادراكاً منه (ع) لمصير االجيال اآلتية التي ستنشأ تحت رعاية هؤالء القوم الكافرين المعاندين‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ان الطفل ال يرث جسد والديه وقدراتهم الفطرية وقصورهم العضوي البنائي فحسب ولكنه يرث الى جانب‬
‫ذلك طريقتهم في الحياة والتعامل ومفاهيمهم االجتماعية واالخالقية ومعتقداتهم الدينية والسياسية ومواقفهم في‬
‫الحياة ولذلك فنحن نرى غالباً ان ابن الغضوب غضوب وابن العصبي عصبي وابن المتدين متدين وابن المتهتك‬
‫اخالقياً متهتك مثله‪ .‬كما نرى ان ثمة عوائل اشتهرت بالمرح أو التعصب او سرعة الغضب او التحسس الفائق او‬
‫التزمت في تعاملها وعرفت بين الناس بمثل هذه السمات البارزة‪.‬‬
‫والى مثل هذا يشير االمام علي (ع) بقوله‪« :‬خير ما ورث االباء االبناء األدب»(‪ .)3‬و«بئس النسب سوء‬
‫االدب»(‪)4‬‬
‫وفي حديث لالمام زين العابدين (ع) بشأن هذه الحقيقة يقول «واما حق ولدك فتعلم انه منك ومضاف اليك في‬
‫عاجل الدنيا بخيره وشره‪ ،‬وانك مسؤول عما وليته من حسن االدب»‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ان ما يورث من االباء الى االبناء هو ما كان على صلة ببناء العضوية واصل تكوينها ال ما طرأ‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬غرر الحكم ودرر الكلم‪ ،‬باب الفقر‪.‬‬
‫(‪ )2‬نوح‪ 26 /‬ـ ‪.27‬‬
‫(‪ )3‬غرر الحكم‪ ،‬في باب االدب‪.‬‬
‫(‪ )4‬المصدر السابق‪ ،‬في باب الحمق‪ ،‬والحمق معناه قلة العقل أو فساده وبالمعنى الحديث للكلمة قصوره ونقصه‬
‫العضوي‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫عليها خالل حياتها القصيرة ولم يؤثر في طبيعة بنائها‪ .‬وهذا يعني ان ما يورث حقاً‪ :‬كضعف الرئة وتشوه مراكز‬
‫الدماغ (نتيجة االصابة بالزهري) كما يورث المواهب الفائقة او القدرات الضعيفة‪.‬‬
‫اولذي يبقى لعمل المحيط هو ابراز هذه المواهب الموروثة وتنميتها او خنقها وطمسها‪ ،‬وكذلك يبقى للمحيط ان‬
‫يؤثر ـ على مر االجيال ـ في تحسين وراثة االبناء أو اساءتها عبر االجيال‪.‬‬
‫ولذلك من يستورث من والديه ضعفه العقلي وغباءه ال تستطيع عوامل المحيط ان تقدم له معونة تذكر‪ ،‬وبهذا‬
‫الصدد يقول االمام علي (ع)‪« :‬الحمق داء ال يداوى ومرض ال ُيبرأ»‪.‬‬
‫فالقصور العقلي مسألة وراثية‪ ،‬والشذوذ يورث اذا كان اصله بنائياً‪ ،‬اما االجرام فبالرغم من امكان نشوئه عن‬
‫اسباب جسدية مادية‪ ،‬إال انه يرجع في معظهم الى اسباب محيطية‪ .‬واما الجنون فينطبق عليه ما ينطبق على‬
‫الشذوذ بمعنى انه وراثي حين يكون على صلة باسباب بنائية‪.‬‬
‫ويتضح مما تقدم ان عوامل المحيط ذات تأثير كبير على المنحى العام لشخصية الفرد لذا تعتبر التربية الى مدى‬
‫بعيد مسؤولة عن سالمة االنسان ورشده‪ .‬وعوامل المحيط ـ كما هو معلوم ـ عديدة فالعائلة والمدرسة والمسجد‬
‫ووسائل االعالم والشارع والنادي والمنظمة والحزب وسواها عوامل محيطية معروفة‪ ،‬ظاهرة القيمة واضحة‬
‫االهمية‪ .‬تشترك كلها وضمن ادوارها الخاصة في تطبيع وتعديل االمكانات الخاصة بالفرد وتوجيهها تبعاً‬
‫لبرامجها وخططها‪.‬‬
‫بناء االسرة اسالمياً‬
‫االسرة أحد العوامل االساسية في بناء الكيان النفسي والتربوي للفرد‪ ،‬وفي مناخها تتم عملية تكيف االطفال‬
‫للمجتمع واهدافه‪ ،‬وتشكل شخصيتهم‪ ،‬وفي أجوائها تكتسب العادات السلوكية التي تبقى مالزمة لهم على طول‬
‫الحياة‪ ،‬فهي البذرة االولى في تكوين النمو الفردي وبناء الشخصية‪ ،‬فالطفل فضالً عن كونه يحكي وراثة والديه‬
‫ويلخص قدراتهما واستعداداتهما الفطرية‪ ،‬فأنه مقلد ألبويه في اخالقهما وسلوكهما أيضاً‪ ،‬واالسالم اراد لهذه‬
‫الخير السوي‪ .‬وجعل‬
‫الخلية االجتماعية الحيوية ان تقام على اسس سليمة تتفق وهدف الحياة ومقاصد السلوك ّ‬
‫بواعث التكوين العائلي في فطرة االنسان وغرزها ضمن غرائزه االساسية الذاتية‪ ،‬فقال تعالى‪« :‬ومن آياته ان‬
‫خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة»(‪ )1‬وجعل نظام الكون كله قائماً على اساس‬
‫الزوجية فقال عز من قائل‪« :‬وخلقناكم أزواجاً»(‪ ،)2‬كما جعل بدء تكوين االنسان من التقاء خليتي الذكر واالنثى‬
‫في رحم االنثى فقال‪« :‬انا خلقنا االنسان من نطقة امشاج»(‪.)3‬‬
‫وإ ذا كانت الحياة الزوجية تعبيراً عن غاية آلهية نبيلة‪ ،‬وتطبيقاً لسنة فطرية ال محيص لخلق اهلل منها‪ ،‬اذاً البد من‬
‫اقامتها على قاعدة من االهداف الربانية والمقاصد السليمة‪ ،‬وتعليمات الرسالة خير دليل‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬سورة الروم‪.20/‬‬
‫(‪ )2‬سورة النبأ‪.8/‬‬
‫(‪ )3‬سورة الدهر‪.2/‬‬
‫‪ ‬‬
‫ومرشد لنا في مثل هذه المجاالت والميادين العملية‪.‬‬
‫فاهلل تعالى يريد من االسرة المسلمة ان تكون قدوة حسنة طيبة تتوافر فيها عناصر القيادة الرشيدة ومالمح حياة‬
‫المتقين الصالحين ولذلك فهو يطري على اسر الصالحين الذين يدعونه بصالح الدعوات في بناء االسرة بقوله‪:‬‬
‫«والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين اماماً»(‪ .)1‬واالنتقاء الوراثي‬
‫الوراثي لوضع الزوجة المنتخبة عامل من أهم عوامل الصالح والخير المؤمل في سلوك الزوجة وذريتها‪ .‬ألن ما‬
‫ثبت علمياً يؤكد عمق تأثير العامل الوراثي بما يفرزه من استعدادات وقدرات على وضع االوالد وقابلياتهم‪.‬‬
‫واالمام علي (ع) يؤكد هذه الحقيقة بقوله‪« :‬انما طبايع االبرار طبايع ُمحتملة الخير فمهما حملت منه احتملته»(‬
‫‪ ،)2‬فلوال وجود (االحتمال) االستعداد والقدرة الفطريتين عند الفرد لما استطاع ان يقوم بانجاز عمل أو االتسام‬
‫بسمة او التحلي بصفة‪ ،‬فطبيعة االنسان البار تُنجب ما يماثلها والطبيعة الشريرة تنجب ما يطابقها‪ ،‬فقد تنحي‬
‫بالالئمة على التصرفات السيئة لبعض االفراد في حين انهم ال ذنب لهم في ذلك‪ ،‬ألنهم ورثوا من أبائهم استعدادات‬
‫تلك االعمال والصفات‪ .‬ولذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يقول‪« :‬رب ملوم ال ذنب له»(‪ )3‬للتدليل على مثل هذه‬
‫االحاالت باسبابها الوراثية التي ال دخل لالفراد في وجودها‪.‬‬
‫ويوضح هذه الحقيقة االمام الصادق (ع) بشكل أكثر تفصيالً فيوعز بعض مظاهر السلوك واالمكانات الفردية الى‬
‫اسباب وراثية قدرية ليس للفرد فيها نصيب االحداث أو التغيير‪ ،‬يقول االمام (ع)‪« :‬ستة أشياء ليس للعباد فيها‬
‫صنع‪ :‬المعرفة والجهل والرضى والغضب والنوم واليقظة»(‪ ،)4‬هذه المسائل وان بدت ألول وهلة لنا بأنها ارادية‬
‫وخاضعة للجد واالجتهاد الشخصي ولكن تأمالً أعمق في مقصود االمام (ع) يظهر لنا هدفه في بيان االسباب‬
‫الكامنة وراء هذه المسائل الظاهرة‪ ،‬فالمعرفة والجهل صفتان مكتسبتان ولكن ليس بدون وجود استعداد فطري‬
‫سابق عليهما‪ ،‬فنحن نتعلم أو نبقى جهلة تبعاً لقدراتنا العقلية الموروثة‪ ،‬وحالة المخ عند الوالدة من حيث السالمة‬
‫او النقص‪ ،‬فالذي يولد وهو قليل الذكاء‪ ،‬أو معتوهاً ال تستطيع وسائل التربية والترويض أن تجعل منه نبيهاً مفكراً‬
‫مهما بذلت من جهد ومشقة‪.‬‬
‫والقدرات العقلية كما ّبينا سابقاً تعتمد االساس الوراثي وليس االساس البيئي في انطالقتها‪ ،‬وعوامل البيئة انما‬
‫تعتمد ذلك االساس في عمليات التفتح والتغذية والتوجيه‪.‬‬
‫وكذلك حالتا الرضى والغضب‪ ،‬انما هما مظهران لحقيقة مزاجية يرثها االنسان عن آبائه‪ ،‬تشترك في صنعها‬
‫طبيعة النسيج العصبي الموروث (وعملية االيض) عنده والتي نعني بها التفاعل الكيمياوي‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬سورة الفرقان ‪.74/‬‬
‫(‪ )2‬غرر الحكم‪ ،‬باب الطباع‪.5 ،‬‬
‫(‪ )3‬نهج البالغة‪ ،‬ص‪.884‬‬
‫(‪ )4‬اثبات الهداة بالبراهين والمعجزات‪ ،‬الحر العاملي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.85‬‬
‫‪ ‬‬
‫والفيزياوي داخل أجهزة االنسان والتي تتضمن عادة افرازات الغدد الصم‪ ،‬وتبدل تركيب الدم وما يستتبع ذلك من‬
‫تحفز االنسان أو استسالمه لحاالت الطوارىء والمواقف المثيرة‪ ،‬وطريقة تصرفه أزاءها‪.‬‬
‫فالمزاج الشخصي الذي يتسم به الفرد يعتمد على قاعدة القابلية الوراثية غالباً وال تستطيع عوامل التربية والمحيط‬
‫االجتماعي إالّ تعديلها وترويضها لتطابق مطالب المحيط وطريقة فهم االنسان لنفسه بنسبة طفيفة‪.‬‬
‫أما حالتا اليقظة والنوم فهما فسلجيتان تعتمدان اساساً على مدى تحمل االنسان لالجهاد والتعب‪ ،‬وطريقته البنائية‬
‫الخاصة في استعادة حيويته وتجديد نشاطه‪ ،‬وال عالقة لالنسان بحال في تغيير قدراته الموروثة في اليقظة والنوم‬
‫إالّ بمدى ما تسمح به استعداداته الفسيولوجية‪.‬‬
‫بعد ذلك يقرر االمام علي (ع) في أحد بياناته حقيقة علمية تتعلق بعدم امكاننا اصطناع الوراثة الحسنة إالّ من‬
‫طريقها الذى وضعه اهلل تعالى‪ ،‬وهو في ذلك يرى استحالة نقل الطبيعة البشرية الى االفراد كما نريد فهو يقول‪:‬‬
‫«كل شيء يستطاع إالّ نقل الطباع»(‪ ،)1‬ويلفت أنظارنا الى مظاهر الشخصية المصطنعة غير المعتمدة على‬
‫استعدادات فطرية موروثة اصيلة‪ ،‬ويحثنا الى عدم الركون اليها في أحكامنا بقوله‪« :‬ال تزكوا الصنيعة مع غير‬
‫أصل»(‪.)2‬‬
‫يقيم االستعدادات الموروثة فيثني على بعضها ويرثي بعضها االخر فيقول‪« :‬بئس االستعداد‬
‫واالمام (ع) ّ‬
‫االستبداد»(‪ ،)3‬توضيحاً منه (ع) لظاهرة االنانية السلوكية التي تخفي وراءها عامالً موروثاً يحركها ويقويها‪.‬‬
‫وراثية القدرة العقلية (الذكاء)‬
‫لالصول العقلية عند االنسان جذور وراثية صارخة‪ ،‬هي موضع تسليم مختلف الباحثين النفسيين‪ ،‬وال أجدني‬
‫بحاجة الى البرهنة على ذلك‪ ،‬والتصور االسالمي يؤكد ايضاً خضوع االصول العقلية عامة لنمط ثابت من‬
‫الوراثة بشكل عام‪ ،‬كما انها تخضع لوراثة طارئة في نطاق (رحم االم)‪ ،‬مضافاً الى ذلك ان البيئة لها نصيبها من‬
‫التأثير في هذا الشأن ايضاً‪ ،‬لنستمع الى ما يقرره االمام الصادق (ع) في االصل الوراثي العام (للمهارات العقلية)‬
‫في جوابه على سؤال أحد تالميذه والمدعو بابي بصير عن المعرفة أمكتسبة هي؟ قال‪ :‬ال‪ .‬فقيل له‪ :‬فمن صنع اهلل‬
‫وعطائه هي؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وليس للعباد فيها صنع(‪.)4‬‬
‫وحين يسأل (ع) عن الحاالت المختلفة للنشاط العقلي في حوار له مع آخر يقول‪:‬‬
‫(قلت ألبي عبد اهلل (ع)‪:‬‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬غرر الحكم‪ ،‬في باب الطباع‪.‬‬
‫(‪ )2‬غرر الحكم‪ ،‬في باب االصل‪.‬‬
‫(‪ )3‬الكافي‪ ،‬للكليني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.85‬‬
‫(‪ )4‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫علي كما كلمته‪.‬‬
‫الرجل آتيه واكلمه ببعض كالمي فيعرفه كله‪ ،‬ومنهم من آتيه فاكلمه فيستوفي كالمي كله‪ ،‬ثم يرده ّ‬
‫علي‪.‬‬
‫ومنهم من آتيه فاكلمه فيقول‪ :‬أعد ّ‬
‫فقال (ع)‪ :‬وما تدري لم هذا؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال (ع)‪ :‬الذي تكلمه ببعض كالمك فيعرفه كله‪ ،‬فذاك من عجنت نطفته بعقله‪ ،‬واما الذي تكلمه فيستوفي ثم يجيبك‬
‫على كالمك فذاك الذي ركب عقله في بطن امه‪.‬‬
‫علي‪ :‬فذا ك‪ ‬الذي ركب فيه بعدما كبر)(‪.)1‬‬‫وأما الذي تكلمه بالكالم فيقول أعد ّ‬
‫ان هذا النص يفصح عن نصيب كل من الوراثة والبيئة في صياغة المهارة العقلية للفرد وعلى النحو الذي بيناه‪.‬‬
‫فالمهارة العقلية في وضعها االول التي تتضمن جواب االمام االول في الحديث هي المهارة العقلية الموروثة من‬
‫اآلباء عن طريق انتقال الجينات الوراثية الحاملة للذكاء الموروث وبنسبة عالية‪.‬‬
‫اما المهارة العقلية في حالتها الثانية فتتضمن حقيقتين علميتين أوالهما تناغم الجينات الوراثية لصفة الذكاء عند‬
‫الزوجة مع الجينات الوراثية للزوج في الرحم من خالل عملية تلقيح الحيمن المنوي الذكري للبويضة االنثوية‪،‬‬
‫(مورثات) الذكاء في الخلية المخصبة‪ ،‬وثانيها عوامل الوراثة الطارئة او المحيط الرحمي التي‬
‫والتقاء جينات ُ‬
‫قامت بتنشيط وتغليب الصفات الجينية الحسنة للذكاء على الصفات الموروثة المتنحية‪ ،‬أو احاطت الجنين ببيئة‬
‫رحمية سليمة خالل فترة الحمل‪.‬‬
‫أما الحالة الثالثة للمهارة العقلية التي استدعت اعادة كالم المتكلم على السامع من أجل الحفاظ واالتقان فهي اشارة‬
‫الى أثر العامل البيئي على المهارة العقلية وتوليها لها بالرعاية والتعليم‪ .‬وما يؤكد تحليلنا هذا لمقصد االمام (ع)‬
‫حديث آخر ألمير المؤمنين (ع) حيث يصنف العقل االنساني الى نوعين بقوله‪« :‬العقل عقالن عقل الطبع وعقل‬
‫التجربة وكالهما يؤدي الى المنفعة»(‪.)2‬‬
‫مما تقدم في حديثي االمام الصادق (ع) واالمام علي (ع) تصريح واضح ألهمية الوراثة النقية التي تطبع‬
‫الفردبطابعها العام‪ ،‬واشارة واضحة للوراثة الطارئة التي ترد على الجنين وهو في رحم امه‪ ،‬ثم نرى في حديث‬
‫االمام اشارة بينة لعوامل البيئة وقدرتها على تحسين االستفادة من االستعدادات الوراثية الضئيلة التي يرثها الفرد‬
‫مميزة لقدرته العقلية العامة‪ ،‬وهي ما نعني بها نسبة الذكاء‪.‬‬
‫فالقدرات العقلية في االنسان تتميز بأصولها الوراثية‪ ،‬والتربية وعواملها تؤثر فيها ايجابياً فيما لو كانت تسمح‬
‫االصول الوراثية بذلك فـ«العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب»(‪ ،)3‬كما يصرح بذلك االمام علي (ع)‪ ،‬و«العقل‬
‫عقالن مطبوع ومسوع وال ينفع المسموع ما لم يكن مطبوعاً‪ ،‬كما ال ينفع نور‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬بحار االنوار‪ ،‬ص‪ ،197‬ج‪ ،1‬باب العقل والجهل‪.‬‬
‫(‪ )2‬بحار االنوار‪ ،‬ص‪ ،116‬ج‪.17‬‬
‫(‪ )3‬غرر الحكم ودرر الكلم‪ ،‬ص‪.67‬‬
‫‪ ‬‬
‫الشمس ونور العين ممنوع»(‪.)1‬‬
‫وهو ـ العقل ـ حباء من اهلل كما يقول االمام الرضا (ع) ومن تكلف العقل لم يزدد بذلك إالّ جهالً(‪.)2‬‬
‫غير إن نسبة الذكاء في االنسان تتبع اصولها الوراثية المتفاوتة في االفراد فحين تزداد نسبتها يكون االنسان‬
‫عبقرياً نبيهاً يشار له بالعقل والحكمة والنباهة‪ ،‬وحينما تنقص يكون الفرد عادياً او دون العادي‪ ،‬والعاديون في‬
‫ذكائهم يحتاجون الى مزيد جهد ورعاية حتى تستغل مقادير ذكائهم القليلة الى أقصى حدودها الممكنة‪ ،‬ويشير الى‬
‫هذا المعنى االمام علي (ع) بقوله‪« :‬من أكثر الفكر فيما تعلّم اتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم»(‪.)3‬‬
‫وراثية االستعدادات النفسية‬
‫حديثنا المتقدم عن وراثية االستعدادات العقلية تظل مبدءاً عاماً لالستعدادات النفسية ايضاً‪.‬‬
‫وإ ذا كانت المباحث النفسية تصطنع فارقاً بين االستعدادات العقلية والنفسية من حيث شمول الطابع الوراثي‬
‫للقدرات العقلية وفق نسب مختلفة وتراجع العامل الوراثي للسمات النفسية‪ ،‬انما تصطنع ذلك ألن تجارب تلك‬
‫االبحاث والدراسات دللت حتى االن علمياً بامكانية خضوع السمات العقلية للوراثة بنسبة اكبر حجماً بالقياس الى‬
‫السمات النفسية‪ ،‬وحيث ان السمات النفسية تتأثر بالبيئة وعواملها بشكل أكبر‪.‬‬
‫فاالستعدادات النفسية عند علماء النفس تعني‪:‬‬
‫أ ـ السمات الفكرية أو (االتجاه)‪.‬‬
‫ب ـ السمات النفسية الخالصة‪.‬‬
‫وهما من السمات التي يرثها االنسان من آبائه شأنه في ذلك شأن سائر االصول العضوية والحيوية والعقلية التي‬
‫يرثها منهم ايضاً‪ .‬لنستمع الى االمام الصادق (ع) وهو يحدثنا عن هذا الموضوع بقوله‪« :‬ان نطفة المؤمن لتكون‬
‫في صلب المشرك فال يصيبها من الشر شيء حتى اذا صارت في رحم المشركة لم يصبها من الشر شيء فاذا‬
‫وضعته لم يصبها من الشر شيء‪ ،‬حتى يجري القلم»‪)4(.‬‬
‫واالمام (ع) من خالل نصه هذا يحدد اصالً فطرياً عاماً‪ ،‬يرثه الفرد من طرف االم أو االب أو من طرف كليهما ـ‬
‫ال فرق ـ هذا االصل الفطري يحدد مقدار استعداد الفرد وامكاناته للتوجه تجاهاً خاصاً او االتصاف بصفة او سمة‬
‫اخالقية معينة‪ ،‬تبعاً لنمط التربية التي ترعاه وتغمره‪ ،‬والمجتمع الذي يدلّيه ويرشده‪.‬‬
‫وحين تتعارض هذه االستعدادات النفسية في جينات كل من االب واالم يكون الظهور لالستعدادات االنشط‬
‫واالقوى‪ ،‬فتغلب على االخرى‪ ،‬لذلك نجد اشارة واضحة لهذا المعنى في حديث‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬عين اليقين‪ ،‬ص‪.243‬‬
‫(‪ )2‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.24‬‬
‫(‪ )3‬فهرست غرر الحكم‪ ،‬ص‪.316‬‬
‫(‪)4‬‬
‫‪ ‬‬
‫االمام الصادق (ع) عندما يقدم توصياته للشباب بشأن (الزواج االنتقائي)‪ ،‬حيث يحذرهم من السمات الوراثية‬
‫السيئة في بعض الرهوط وامكانية انتقالها لالوالد بقوله «ال تزوجوا اليهم فإن لهم عرقاً يدعو الى عدم الوفاء»(‬
‫‪ ،)1‬وفي نص ثان‪« :‬فإن لهم أرحاماً تدل على غير الوفاء»(‪ ،)2‬وفي نص ثالث‪« :‬فإن لهم اصوالً تدعوهم الى‬
‫غير الوفاء»(‪.)3‬‬
‫وواضح ان كلمات (العرق) و(االرحام) و(االصول) التي جاءت في النصوص الثالثة تدل على النقلة الوراثية‬
‫لسمة (عدم الوفاء) أو (الغدر) وامكانية انسحابها على مورثات االوالد‪.‬‬
‫والمتتبع ألحاديث الشرع االسالمي فى هذا المجال يجد انه يرجع بعض الصفات االخالقية الى المحيط وتأثيراته‬
‫كأداء االمانة وصدق البأس ونحوهما‪ ،‬ويترك االشارة الى تأثير الوراثة فيها‪ ،‬في ُين نجده عند حديثه عن صفة‬
‫(الغدر) يؤكد على الجانب الوراثي منها حيث نهى عن الزواج بالرهوط المعروفة بهذه الصفة‪ .‬وحقيقة االمر ان‬
‫االصول النفسية ألخالقية الفرد ترجع الى نوعين من السمات‪ ،‬وهي السمات المزاجية والسمات االخالقية‪،‬‬
‫فاالنطواء واالنبساط مثالً يعبران عن سمات مزاجية‪ ،‬والمزاج الفردي كما ذكرنا سابقاً هو جملة الصفات التي‬
‫تميز انفعاالت الفرد عن غيره ولذلك فهو يؤلف جانباً تكوينياً من شخصية‪ ،‬وهو جانب يعتمد في المقام االول على‬
‫عوامل وراثية تتعلقبحالة الجهازين العصبي والغددي الهرموني‪ ،‬ومن هذه الصفات المزاجية مستوى الحيوية‬
‫والنشاط والمرح او العبوس‪ ،‬والخجل ودرجة الحساسية للمثيرات‪ ،‬واالندفاعية‪ ،‬وتقلب المزاج‪ ،‬وكل هذه الصفات‬
‫تقوم بدور هام في تلوين السلوك وأساليب التكيف التي يصطنعها الفرد لنفسه‪.‬‬
‫لذلك نجد ان (الغدر) كصفة اخالقية سيئة مبعثها قد يكون ناشئاً عن مزاج انطوائي عدواني‪ ،‬فحينئذ تكون‬
‫االنطوائية الوراثية مسؤولة عن ظهورها كسمة اخالقية‪.‬‬
‫ولهذا المعنى يشير االمام علي (ع) بقوله‪« :‬الشر كامن في طبيعة كل أحد فإن غلبه صاحبه بطن وان لم يغلبه‬
‫ظهر»(‪.)4‬‬
‫لذلك فإن االستعدادات المزايجة التي يرثها االفراد عن آبائهم هي القابالت التي تقبل عن المحيط ومؤثرات التربية‬
‫ما يوافقها وينعشها وينميها‪ ،‬وما الصفات االخالقية إالّ ظواهر لتلك الموروثات ودالئل تشيء عن ماهيتها‪.‬‬
‫لنستمع الى رسول اهلل (ص) يحدثنا عن هذه الحقيقة بقوله‪« :‬الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فمن كان له في‬
‫الجاهلية أصل فله في االسالم أصل»(‪.)5‬‬
‫والسمات األخالقية للفرد التي اعتبرناها شاشة امامية كاشفة لما تخفيه شخصية االنسان من ميول مزاجية دفينة‬
‫تتأثر كذلك بالقدرة العقلية الخاصة به ـ أي ذكائه ـ وهي سمة ورالثية أيضاً‪،‬وقد ثبت ذلك علمياً من نتائج اختبارات‬
‫صممت لهذا الغرض‪ ،‬إذ أظهرت نتائج االختبار ترابطاً واضحاً بنى‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬الوسائل‪ ،‬باب ‪ ،31‬حديث ‪ ،3‬مقدمات النكاح‪.‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق‪ ،‬حديث ‪.2‬‬
‫(‪ )3‬المصدر السابق‪ ،‬حديث ‪.5‬‬
‫(‪ )4‬فهرست غرر الحكم‪ ،‬ص‪.173‬‬
‫(‪ )5‬روضة الكافي‪ ،‬ص‪.177‬‬
‫‪ ‬‬
‫مستويات الذكاء العالي والسمات االخالقية العالية في هذا الميدان‪.‬‬
‫وقد اشار رسول اهلل (ص) الى مثل هذا بقوله‪« :‬انما يدرك الخير كله بالعقل‪ ،‬و«اذا بلغكم عن رجل حسن حال‬
‫فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله»(‪.)1‬‬
‫ولذلك أصبح «العقل دليل المؤمن»(ـ‪ ،)2‬ألنه‪« :‬في كماله قهر للطبع السيء»(‪ ،)3‬وهو «يهدي وينجي»(‪،)4‬‬
‫و«الشقي من حرم نفع ما اوتي من العقل والتجربة»(‪.)5‬‬
‫إذاً فالسمات االخالقية التي نجدها في االفراد تحركها اصالً استعدادات موروثة سواء ما كان منها استعدادات او‬
‫اصول عقلية او مزاجية نفسية وتنشط تلك الصفات او تخفيها عوامل الوراثة الطارئة في رحم االم‪ ،‬في حين‬
‫تتكفل عوامل التنشئة التربوية والمحيطية بتحديد نوع السمة االخالقية التي يتحلى بها الفرد على ضوء الموروثات‬
‫التي يرثها الفرد من اسالفه بما فيها قدرته على التمييز واالختيار وارادته على الحسم او التردد‪.‬‬
‫يقول الكسيس كارل في كتابه «االنسان ذلك المجهول» عن تأثير كل من الموروثات العقلية والفسلجية على‬
‫الوضع النفسي واالخالقي لالنسان ما يلي‪:‬‬
‫(ان المراكز المخية ال تتكون من المادة العصبية فحسب‪ ،‬بل انها تشتمل ايضاً على سوائل غطست فيها الخاليا‪،‬‬
‫وينظم تأليفها بواسطة مصل الدم‪ .‬ويحتوي مصل الدم على افرازات الغدد‪ ،‬والنسيج الذى ينتشر في الجسم كله‪،‬‬
‫ولما كان كل عضو موجوداً في النخاع الشوكي بواسطة الدم والليمفا‪ ،‬فإن حاالتنا الشعورية مرتبطة بالتركيب‬
‫الكيميائي ألخالط العقل مثل ارتباطها بالحالة التركيبية لخالياه‪ ،‬وحينما يحرم الوسيط العضوي من افرازات غدد‬
‫(السوير ارينال) فإن المريض يسقط فريسة لالنقباض الشديد‪ ،‬ويشبه حيواناً شرساً‪ ،‬وتؤدي االضطرابات‬
‫الوظيفية لغدة الثايارويد اما الى الهياج العصبي والعقلي او الى البالدة وفقد االحساس‪ ،‬وقد وجد معتوهون‬
‫وضعاف عقول ومجرمون في اُسر اصبح تغير تركيب هذه الغدة فيها بسبب اصابتها بجروح او بامراض مسألة‬
‫وراثية)(‪.)6‬‬
‫االستعدادات النفسية والزواج االنتقائي‬
‫في رأي المشرع االسالمي‬
‫لقد فرغنا من خالل الحديث السابق من اثبات اثر العوامل الوراثية والمحيطية في التكوين النفسي للفرد علمياً‬
‫واسصالمياً‪ ،‬وهنا سنتعرف على رأي المشرع االسالمي في نوعية الزواج المطلوب شيوعه في المجتمع‬
‫االسالمي كي يكون متوافقاً مع مبادئه وااهدافه ساعياً الى تحقيقها عبر النواميس االلهية‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.12‬‬
‫(‪ )2‬من أقوال ابي عبد اهلل (ع)‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.25‬‬
‫(‪ )3‬فهرست غرر الحكم‪ ،‬ص‪ ،257‬من أقوال االمام علي (ع) ونصه‪« :‬العقل الكامل قاهر للطبع‪ ‬السيء»‪.‬‬
‫(‪ )4‬أصل الحديث لالمام علي (ع)‪« :‬العقل يهدي وينمي والجهل يغري ويردي»‪ ،‬بحار االنوار‪ ،‬ج‪،17‬ص‬
‫‪.116‬‬
‫(‪ )5‬نهج البالغة‪ ،‬للفيض الكاشاني‪.1073 ،‬‬
‫(‪ )6‬االنسان ذلك المجهول ص‪ ،115‬ترجمة عادل شفيق‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫والجهد التخطيطي الشخصي واالجتماعي‪.‬‬
‫فالبد إذاً من التعرف على التوصيات المتصلة بتحسين الوراثة والتوصيات المتصلة بالتنشئة االجتماعية المطلوبة‬
‫بغية االفادة من العنصرين في تعديل السلوك البشري وتنظيمه وتوجيهه‪.‬‬
‫ويمكننا اآلن متابعة توصيات الشريعة االسالمية فيما يتصل بكل من التحسين الوراثي والرعاية البيئية‪.‬‬
‫ولنتحدث اآلن عن التوصيات المتصلة بالتحسين الوراثي عبر عمليتي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ االنتقاء الزوجي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ انعقاد النطفة وتشكيل الجنين‪.‬‬
‫االنتقاء الزوجي‪:‬‬
‫لما كان الزواج مقدمة اصيلة لتوفر أرضية وراثية لوالدة اجيال جديدة‪ ،‬كان البد للمشرع ان يضع االسس السليمة‬
‫لالنتقاء الزوجي لئال يتيه الشاب غير المجرب بين عوامل الجذب االجتماعية الكثيرة التي احتلت موقعها اليوم‬
‫كسنن سلوكية محترمة مع االسف‪.‬‬
‫فعاداتنا االجتماعية ال تصلح ان تكون قاعدة لالنتقاء الحسن‪ ،‬وهي تختلط عندها المبررات والداوفع‪ ،‬وتشتبك فيها‬
‫االسباب والمحفزات للواج‪ ،‬ولكن الشريعة تفهم الزواج رسالة حياتية خطيرة‪ ،‬ووسيلة لتحقيق غايات كبيرة‪ ،‬يقول‬
‫تعالى‪« :‬فاإلن باشروهن وابتغوا ما كتب اهلل لكم»(‪.)1‬‬
‫يقول العالمة الطباطبائي‪ :‬يعني الولد‪ ،‬وفائدة النكاح كما يقول الغزالي (الولد‪ :‬وهو االصل وله وضع النكاح‬
‫والمقصود ابقاء النسل‪ .‬وان ال يخلو العالم من جنس االنس وانما الشهوة خلقت باعثة مستحثة)(‪.)2‬‬
‫والزواج من اجل الذرية من سنن أنبياء اهلل ورسوله مع ما كفلوا به من ابالغ الرسالة‪ .‬يقول سبحانه‪« :‬ولقد‬
‫ارسلنا ُرسالً من قبلك وجعلنا لهم ازواجاً وذرية»(‪ .)3‬واحاطتنا بهذه السنة واالذعان لها تعيننا على حفز الهمة‬
‫لتحقيق غرضها‪ .‬وعند ذاك يكون بديهياً ان افضل الزوجات هي ما يتوفر فيها من خصائص النفس ومزايا الروح‬
‫ما يجعلها اقرب من غيرها الى مقاصد الزواج الحسية والمعنوية على خير وجه‪.‬‬
‫ولذلك فاختيار المرأة الودود الولود‪ ،‬التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وسلوكها كانت من الشروط‬
‫االساسية لالنتقاء الزوجي الصالح‪ .‬فال تترك عملية االختيار واالنتقاء للصدفة والالأبالية‪.‬‬
‫فاالمام الصادق (ع) يقول‪« :‬تخيروا لنطفكم»(‪ )4‬والتخير معناه على ضوء ما تقدم من حديث‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪.187/‬‬
‫(‪ )2‬احياء علوم الدين‪ ،‬باب الولد‪.‬‬
‫(‪ )3‬سورة الرعد ‪.38/‬‬
‫(‪ )4‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.200‬‬
‫‪ ‬‬
‫الوراثة والمحيط هو ما يجمع بين أحسن وافضل الشروط الوراثية والتربوية الن المطلوب في الولد ان يكون‬
‫صحيح الجسم قوي الصحة سالماً من النقص والتشويه والمرض والعاهة‪ ،‬يرث من أبيه وأمه سماتهم الخلقية‬
‫وخلقه وشمائله»(‪.)1‬‬
‫الحسنة وصفاتهم الخلقية الرشيدة فـ«من سعادة الرجل ان يكون الولد يعرف بشبهه وخلقه ُ‬
‫وال يتحقق هذا الهدف إال إذا اجتمعت خير الشروط في الزواج والزوجة‪ ،‬وأهم هذه الشروط هي العفة فـ«طوبى‬
‫لمن كانت امه عفيفة»(‪.)2‬‬
‫وقد نصح االمام الصادق (ع) من يريد الزواج بالتحري الدقيق عن االستعدادات الموروثة لدى المرأة والتأكد من‬
‫مقبوليتها فقال‪« :‬تزوجوا في الحجز(‪ )3‬الصالح فإن العرق دساس»(‪ .)4‬وقال الرسول االكرم (ص) بهذا المعنى‬
‫أيضاً‪« :‬إنظروا في أي شيء تضع ولدك فإن العرق دساس»(‪ .)5‬ويقصد بذلك (ص) ان أخالق االباء تنتقل الى‬
‫االبناء بعوامل وراثية‪ .‬كما اراد الرسول (ص) واالمام الصادق (ع) التأكيد على عمق تأثير العامل الوراثي‬
‫المتأتي نم االجداد أيضاً والمؤثر في الوالدات المتأخرة‪ ،‬ولذلك فهو لم يقصر عملية التحري الوراثي على الوالدين‬
‫فقط انما وسعها لتشمل العشيرة حيث اشار بكلمة (الحجز الصالح) الى الوراثات الموغلة في االباء عبر التاريخ‪،‬‬
‫وقد أكد رسول اهلل (ص) على هذه الحقيقة مرة حين جاءه رجل يشكو اليه عدم تشابه المولود الحديث بابيه أو‬
‫بأمه‪ ،‬واختلف عنهما بسواد بشرته الحالك وشعره المجعهد وانفه االفطس‪ ،‬فقال له الرسول انهما هو ابنك وهذه‬
‫الصفات التي تراها فيه «لم يأتك إال من عرق منك او منها»(‪ .)6‬فـ«ان اهلل تعالى إذا اراد ان يخلق خلقاً جمع كل‬
‫صورة بينه وبين آدم‪ ،‬ثم خلقه على صورة أحديهن فال يقولن احد لولده هذا ال يشبهني وال يشبه شيئاً من آبائي»(‬
‫‪.)7‬‬
‫وحذر رسول اهلل (ص) من الزيجات القائمة على العشق والحب العابر‪ ،‬بسبب الجمال او العوامل الظاهرية‬
‫المغرية بنهيه الصريح عنها‪« :‬أيها الناس إياكم وخضراء الدمن‪ .‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل وما خضراء الدمن؟ قال‪:‬‬
‫المرأة الحسناء في منبت السوء»(‪ .)8‬وحين سئل االمام الباقر (ع) عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء‬
‫أيصلح له ان يتزوجها وهي مجنونة‪« :‬قال‪ :‬ال‪ .‬ولكن ان كانت عنده امة مجنونة فال بأس بأن يطأها وال يطلب‬
‫ولدها»(‪ .)9‬لما في ذلك من تأثير على وراثة االوالد‪.‬‬
‫كما نهى االمام الصادق (ع) عن الزواج بالزانية او الزاني بقوله‪« :‬ال تزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا وال‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬عن كتاب المحاسن‪ ،‬مكارم االخالق‪ ،‬من اقوال االمام الصادق (ع)‪.‬‬
‫(‪ )2‬بحار االنوار‪ ،‬من اقوال االمام الصادق (ع) ص‪ ،23‬ص‪.79‬‬
‫(‪ )3‬الحجز‪ :‬العشيرة العفيفة الطاهرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.197‬‬
‫(‪ )5‬المستطرف‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.218‬‬
‫(‪ )6‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.332‬‬
‫(‪ )7‬الوسائل‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.40‬‬
‫(‪ )8‬المستدرك‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.631‬‬
‫(‪ )9‬حديث لالمام الصادق (ع)‪ ،‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.114‬‬
‫‪ ‬‬
‫تزوجوا الرجل المستعلن بالزنا‪ ،‬إالّ أن تعرفوا منهما التوبة»‪ .‬حتى ال تضيع االنساب وتختلط المياه ويكثر االوالد‬
‫غير الشرعيين فيحرم الجيل من رعاية االباء واالمهات ودفء البيوت الوادعة المطمئنة‪.‬‬
‫ونهى االمام علي (ع) من تزويج الفاسقين والمخمورين لئال يسود المجتمع التحلل واالستهتار وروح التمرد على‬
‫القيم االنسانية والدينية‪ ،‬فينقطع النسل الصالح وتقفر االرض من مسؤولية البناء واالصالح‪ ،‬لنستمع اليه (ع) وهو‬
‫يشرح لنا سبب ذلك‪:‬‬
‫«من زوج كريمته من فاسق فقط قطع رحمها»(‪.)1‬‬
‫«ومن زوج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها»(‪.)2‬‬
‫وقد منع االمام الصادق في حديث له عن التزوج بضعيفات القدرة العقلية الن ذلك ينقل عبر وراثتها فقال (ع)‪:‬‬
‫«إياكم وتزوج الحمقاء فإن صحبتها بالء وولدها ضياع»(‪ .)3‬كما نهى رسول اهلل (ص) من الزواج بالقريبات‬
‫الن ذلك مما يضعف المورثات الجينية في نسلهما‪ ،‬فتظهر على أوالدهم امارات الضعف وعالئم االمراض ذات‬
‫المنشأ الوراثي فقال (ص)‪« :‬ال تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد ُيخلق ضاوياً»(‪ .)4‬والضوي معناه دقة العظم‬
‫وقلة الجسم والخلقة‪ ،‬وهذا النهي يشمل فقط القرابة التي تجتمع فيها المورثات الضعيفة‪ ،‬بحيث تتأصل فيها عن‬
‫طريق التزواج وتبرز في االوالد‪.‬‬
‫وقد نهى أبي الحسن (ع) عن تزويج سيء الخلق الن سوء االخالق ينتقل الى االوالد عبر عوامل وراثية مزاجية‬
‫وعوامل محيطية‪ ،‬واالب او االم اذا ما كانا سيئي الخلق فانهما يوفران الوالدهما وراثة سيئة ومحيطاً بيئياً سيئاً‬
‫الي وفي ُخلقه ُسوء‪ ،‬قال‪ :‬ال‬
‫ايضاً‪ .‬يقول الحسين بن بشار‪ :‬كتبت الى أبي الحسن (ع)‪( :‬ان لي ذا قرابة قد خطب ّ‬
‫تزوجه ان كان سيء الخلق)(‪.)5‬‬
‫والمشرع االسالمي وضع خصائص الزواج الناجح بناء على معايير علمية وعقيدية ورغب في البحث عنها‬
‫وتوفيرها قدر االمكان‪.‬‬
‫فهذا االمام الصادق (ع) يقول للشباب «إذا هم أحدكم بالزواج‪ :‬فليصل ركعتين وليحمد اهلل عز وجل وليقل اللهم‬
‫وخلقاً واعفهن فرجاً واحفظهن لي في نفسها ومالي‬
‫اني أريد ان اتزوج اللهم فقدر لي من النساء أحسنهن خلقاً ُ‬
‫وأوسعهن رزقاً واعظمهن بركة وأقض لي منها ولداً طيباً تجعله لي خلفاً صالحاً في‪ ‬حياتي وبعد موتي»(‪ )6‬وقال‬
‫االمام السجاد (ع)‪« :‬إذا أراد احدكم ان يتزوج فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها فإن الشعر أحد‬
‫الجمالين»(‪.)7‬‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬المحجة البيضاء‪ .‬ج‪ ،3‬ص‪.94‬‬
‫(‪ )2‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.347‬‬
‫(‪ )3‬الجعفريات‪ ،‬ص‪.92‬‬
‫(‪ )4‬المحجة البيضاء‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.94‬‬
‫(‪ )5‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.103‬‬
‫(‪ )6‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.205‬‬
‫(‪ )7‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.200‬‬
‫‪ ‬‬
‫وقال رسول اهلل (ص)‪« :‬أفضل نساء امتي أصبحهن وجهاً واقلهن مهراً»(‪.)1‬‬
‫وقال (ص) كذلك‪« :‬ان من سعادة المرء المسلم ان يشبهه ولده والمرأة الجمالء ذات دين‪.)2(»...‬‬
‫وحين سأل احد الشباب االمام علي (ع) عن صفات من يتزوجها قال له‪« :‬تزوج سمراء عجزاء مربوعة فإن‬
‫كرهتها فعلي صداقها»(‪ ،)3‬ويعني بذلك الحسنة العين ووسيعتها‪ ،‬ولون بشرتها وسط بين السواد والبياض‪،‬‬
‫وكبيرة العجيزة ووسيطة القامة بين الطول والقصر‪.‬‬
‫وقد سئل االمام الصادق (ع) مثل هذا السؤال فكان جوابه للسائل ان «اُنظر اين تضع نفسك ومن تشركه في مالك‬
‫وتطلعه على دينك وسرك وامانتك‪ ،‬فإن كنت البد فاعالً فبكراً تنسب الى الخير والى ُحسن الخلق‪:‬‬
‫أال إن النساء خلقن شتى***فمنهن الغنيمة والعزام‬
‫ومنهن الهالل إذا تجلى***لصاحبه ومنهن الظالم‬
‫فمن يظفر بصالحتهن ُيسعد***ومن ُيغبن فليس له انتظام‬
‫وهن ثالث فأمراة ولود ودود تعين زوجها على دهره وتساعده على دنياه وآخرته وال تعين الدهر عليه‪ ،‬وامرأة‬
‫)فراجة همازة(‪ )6‬تستقل‬
‫صخابة(‪ )4‬والجة(‪ّ 5‬‬
‫عقيم ال ذات جمال وال ُخلق وال تعين زوجها على خير‪ ،‬وامرأة ّ‬
‫الكثير وال تقبل اليسير(‪.)7‬‬
‫فانتقاء الزوجة على ضوء المقاييس الشرعية ومعايير العقيدة هو هدف االسالم الرئيس من الزواج‪ ،‬وان توفير‬
‫االرضية الوراثية الصالحة لهذا الزواج مدعاةً لمل المجتمع باجيال صالحة ايضاً‪ ،‬فـ«االيام توضح السرائر‬
‫«حسن االخالق برهان كرم االعراق»(‪ ،)9‬و«جميل‬
‫الكامنة»(‪ )8‬في االنسان مهما كانت خافية عن غيره‪ ،‬وان ُ‬
‫الفعل ينبىء عن طيب االصل»(‪ ،)10‬و«اذا ما كرم اصل الرجل كرم مغيبه ومحضره»(‪.)11‬‬
‫والمجتمع المؤمن العامل بشروط الزواج الصالح ينتج وبالتأكيد أبناء مؤمنين صالحين بعضهم اكفاء بعض‪ ،‬ما لم‬
‫تظهر عليهم عالئم القصور العضوي والتخلف العقلي‪ ،‬ولذلك فهم‪ ‬يصلحون للزواج من بعضهم البعض وفي ذلك‬
‫يقول رسول اهلل (ص)‪« :‬إذا جاءكم من ترضون ُخلقه او عقله ودينه فزوجوه‪،‬‬
‫__________________________________‬
‫(‪ )1‬بحار االنوار‪ ،‬ج‪ ،23‬ص‪.55‬‬
‫(‪ )2‬بحار االنوار‪ ،‬ج‪ ،23‬ص‪.51‬‬
‫(‪ )3‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.199‬‬
‫(‪ )4‬صخابة‪ :‬بالتحريك شدة الصوت والصيحة للخصام‪.‬‬
‫(‪ )5‬الوالّجة‪ :‬كثير الولوج اي الدخول والخروج‪.‬‬
‫العيابة والغيابة‪.‬‬
‫(‪ )6‬الهمازة‪ّ :‬‬
‫(‪ )7‬مكارم االخالق‪ ،‬ص‪.199‬‬
‫(‪ )8‬االمام علي (ع)‪ ،‬غرر الحكم‪ ،‬ص‪.28‬‬
‫(‪ )9‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.379‬‬
‫(‪ )10‬المصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )11‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.327‬‬
‫‪ ‬‬
‫أال تفعلوه تكن فتنة في االرض وفساد كبير»(‪.)1‬‬
‫وفي قصة خطبة بالل الحبشي وصهيب الرومي مصداق لشيوع هذه القيم االلهية في مجتمع الرسول االعظم‬
‫(ص)‪.‬‬
‫(يحكى ان بالالً وصهيباً أتيا اهل بيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما‪ :‬من أنتما؟ فقال بالل‪:‬‬
‫كنا ضالين فهدانا اهلل وكنا محكومين فأعتقنا اهلل‪ ،‬وكنا عائلين فأغننا اهلل فان تزوجونا‬
‫أنا بالل وهذا أخي صهيب ّ‬
‫فالحمد هلل‪ ،‬وان تردونا فسبحان اهلل‪.‬‬
‫فقالوا بل تزوجان والحمد هلل‪ ،‬فقال صهيب لبالل‪:‬‬
‫لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول اهلل (ص)‪ :‬فقال‪ :‬اسكت فقد صدقت‪ ..‬فأنكحت الصدق»‪.‬‬
‫هذه هي التحفظات الشرعية على الزيجات التي تستبطن وراثة سيئة‪ ،‬وهي بمجموعها تشكل تصور وفهم المشرع‬
‫االسالمي الثر العامل الموروث في التكوين النفسي لشخصية الفرد‪ ،‬فإن هو أفلح في تجنيب النسل البشري اسباب‬
‫تخلفه النفسي (العقلي والسلوكي)ـ وفر للمجتمع جيالً فاعالً نشطاً يتحرك باتجاه التكامل والعلو‪ ،‬غير مشدود الى‬
‫الخلف بحبال الوراثة المنحطة‪ ،‬أو باغراء المحيط الالمسؤول‪.‬‬
‫_______________________________‬
‫(‪ )1‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.347‬‬

You might also like