Professional Documents
Culture Documents
العوامل المساهمة في بناء الشخصية
العوامل المساهمة في بناء الشخصية
علي األديب
شخصية الفرد وحدة متفاعلة لمجموعة النزاعات الذاتية الموجهة نحو أهداف معينة ،تصدر عنها آثار معينة في
المحيط الذي توجد فيها .هذه اآلثار تصدر عن الفرد كوحدة سلوكية متحدة العنصار غير مجزأة ،تعبر عن تكامل
واتحاد الشخصية ،وتؤثر تأثيراً ديناميكياً في المجال المحيط بها .وهذا المجال السلوكي هو الحيز الذي تظهر فيه
آثار قوى هذه الشخصية باعتبارها مصدر القوة المحركة او النزعات الموجهة ،تؤثر فيما حولها وتستلم منها
المؤثرات.
فالشخصية مزودة بنزعات وطاقات وراثية مستعدة للتعديل والتغيير والتبدل اذا ما توفر لها من عوامل المحيط ما
يساعدها على التعديل والتغيير شريطة ان تدخل في الجال الخاص للفرد.
ونقيت من الشوائب نشأ الفرد صالحاً نقياً في الغالب ،اما اذا اهملت وتركت فأنها تكون
فان صلحت هذه العوامل ّ
ذا تأثير سيء على تربية الطفل ونشأته المختلفة التي تأثرت بها في مجاالتها الحيوية التي وجدت فيها عبر
مراحل نموها السابقة.
العوامل المكونة للشخصية
يمكننا ان نصنف العوامل المكونة للشخصية الى ثالث مجموعات هي العوامل الجسمية والعوامل النفسية
والعوامل االجتماعية .وشخصية كل فرد انما هي نتاج التفاعل العام بين هذه المجاميع الثالثة.
فالعوامل الجسمية هي كل ما يتعلقبنمو جسم الفرد عموماً وحالته الصحية العامة ،كما نميز في هذه المجموعة
الرئيسية من العوامل بين صفتين:
1ـ الصفة العامة للحالة الجسمية مثل النمو الجسمي الطبيعي العام ،والصحة العامة ،والمقاومة ضد االمراض.
2ـ الصفة الخاصة لجسم الفرد كأن يكون مميزاً بالطول والقصر ،أو البدانة والنحافة ،أو تميزه بعاهة من
العاهات ،او نقص ظاهر ّبين أو خفي.
اما مجموعة العوامل النفسية فهي ما يصطلح عليها الباحثون النفسيون (بالتكوين النفسي) وظواهرها في الواقع
تشكل لب دراسة العلوم النفسية.
ويمكننا التمييز بين مجموعتين من العوامل االساسية في هذا المجال:
المجموعة االولى :وتتضمن الوظائف العقلية كالذكاء اولقدرات العقلية الخاصة كالقدرة اللغوية والقدرة الحسابية
والقدرة العلمية والقدرة الفنية ،والعمليات العقلية العليا كالتصور والتخيل والتذكر ،والمهارات العقلية المكتسبة
التي تكتسب من خالل عمليات التعلم المباشر وغير المباشر.
أما المجموعة الثانية :فتتضمن الجانب المزاجي من الشخصية ،وتشمل أساليب النشاط االنفعالي والنزوعي التي
تتعلق بالوجدان والنزوع وليس بالعوامل المعرفية.
وهي توجه بارادة الفرد وليس بالمهارات المختلفة ،ومزاج الفرد يشمل على دوافع فطرية واخرى مكتسبة بعضها
عام والبعض اآلخر خاص ،كما ان بعضها شعوري يدركه االنسان بوعيه وآخر ال شعوري يتستر في أعماق
العقل الباطن.
وهي لذلك تكون مزيجاً من عواطف الفرد وميوله ودوافعه السلوكية سواء ما اصطلح عليها بالميول أو الحاجات،
كذلك دوافع الفرد الالشعورية كالعقد النفسية التي تظهر على سلوك الفرد دون وعي منه وارادة.
وهذه المجموعة من العوامل تتبلور حول صفتين رئيسيتين:
1ـ صفة االنفعالية او ما نعني به االستعداد العام لالنفعال عند الفرد.
2ـ االتجاه الخلقي العام لدى الفرد.
وبذلك يمكن أن نضيف السمات النفسية المختلفة على الشكل التالي:
الصفات المعرفية
أ ـ الصفات الموروثة وتشمل على:
1ـ السمة المعرفية الفطرية العامة.
2ـ االستعدادات المعرفية الخاصة.
ب ـ الصفات المكتسبة وتشمل على:
1ـ الصفة العقلية المكتسبة العامة (الثقافة العامة).
2ـ المهارات الخاصة (الثقافة التخصصية النظرية أو العملية).
الصفات المزاجية
أ ـ الصفات الموروثة وتشمل على:
1ـ االنفعالية العامة.
2ـ االنفعاالت الخاصة.
ب ـ الصفات المزاجية المكتسبة وتشمل على:
1ـ االتجاه الخلقي العام.
2ـ الصفات المزاجية المكتسبة الخاصة .وتتضمن بدورها:
1ـ الدوافع المزاجية المكتسبة الخاصة الالشعورية.
2ـ الدوافع المكتسبة الخاصة الالشعورية (العقد النفسية).
ونقصد بمصطلح السمة العامة اينما وردت في تصنيفات عوامل الشخصية المارة الذكر بالصفة الكامنة وراء
جميع أساليب النشاط العام السلوكي للفرد ،بينما نقصد بالصفة الخاصة الصفة الكامنة وراء اسلوب معين من
نواحي النشاط .فالذكاء مثالً قدرة عامة تدخل في كل النشاطات والقدرات العقلية المعرفية للفرد بغض النظر عن
موضوع النشاط وشكله ،في حين تعتبر القدرة اللغوية والقدرة الحسابية والقدرة على التذكر قدرات خاصة .ونفس
الشيء بالنسبة للصفات المزاجية ،فاالنفعالية العامة هي قدرة أوسمة مزاجية عامة تدخل في جميع النشاطات
االنفعالية بالرغم من تنوعها ،فتطبع استجابات الفرد االنفعالية بطابعها من حيث الثبات او عدم االتزان او البالدة
االنفعالية ،في حين تكون صفات معينة كالغضب والخوف والحزن صفات خاصة تظهر عند الفرد في مواقف
خاصة بعينها دون ان يكون ألحدها عالقة باالخرى.
واما العوامل االجتماعية ،فنقصد بها تلك التي تتوقف على البيئة التي يعيش فيها الفرد ،ونيمز فيها بين مجموعتين
من العوامل:
المجموعة االولى :وتتعلق بالظروف االجتماعية داخل البيت ،وهي ذات قيمة كبرى على شخصية الفرد ،اذ ان
البيئة البيتية الصالحة قادرة على انتاج اطفال اصحاء نفسياً ومتماسكين في شخصياتهم.
ويمكن ان نميز في هذه المجموعة اربعة عوامل:
1ـ الحالة االقتصادية لالسرة ،وتعتبر الحالة من هذا الجانب طبيعية اذا كان مستوى االسرة االقتصادي فوق خط
الحاجة والعوز .بحيث تكون مواردها كافية لسد حاجاتها االساسية من غذاء وكساء ومأوى ورعاية صحية،
وتعليم.
ّ
2ـ والعامل الثاني هو الظرف المنزلي الطبيعي ونعني به ان تكون االسرة مكونة من أب وأم وأوالدهما المنجبين
من زواجهما ،ويعيشون جميعاً في بيت واحد ،وفي حالة اختالل هذا الوضع لسبب من االسباب اعتبرت الظروف
غير طبيعية ،كان يشرف على االطفال زوجة االب أو زوج األم او احد األقرباء ،او يعيشون في دار للحضانة.
3ـ والعامل الثالث هو المعاملة العائلية ،ونعني به الطريقة التي يسلكها الوالدان في المنزل في معاملة أبنائهما ،فقد
يكون اسلوباً يتسم بالتسامح والتساهل ،او يتميز بالعنف والتعنت ،او جامعاً بين االثنين بطريقة متناقضة.
4ـ اما العامل الرابع فهو صالحية المنزل للتربية ،اذ ان العائلة غير الصالحة والمصابة بنوع من االنحراف
االخالقي او الشذوذ السلوكي ال تصلح ألن تكون في موقع التصدي لتربية االطفال ،فاألم أو األب او كالهما في
حالة خروجهم على المبادىء االخالقية يسببون لالطفال انحرفاً مماثالً في الغالب.
اما المجموعمة الثانية من العوامل االجتماعية فهي ما تتعلق بظروف نشاط الطفل خارج البيت وهي:
1ـ أحوال العمل ،ومالئمته لميول الفرد ،اذ ان العمل غيرالمناسب الذي ال يالئم مواهب الناشىء وميوله قد يجره
الى االنحراف أو الى التمرد وقد ينعكس على شخصيته فتبرز عليها امارات عدم التوافق.
2ـ الطريقة التي يقضي بها أوقات فراغه ،من نشاط رياضي او هوايات علمية او فنية او ادبية لها عالقة وثيقة
في تكوين شخصيته واضفاء صفة االتزان أو الضعف عليها.
3ـ نوع االقران واالصدقاء الذين يصاحبون الفرد في أوقات فراغه ،ونشاطاته الترويحية ،له أثر واضح على
توجيه ميول الفرد وتعزيز اتجاهاته.
***
مما تقدم ندرك ان شخصية أي فرد انما هو نسيج عوامل وراثية جسمية ونفسية يرثها الفرد من آبائه وال دخل له
في وضعها العام متانة او ضعفاً .وعوامل بيئية محيطية تحيط الفرد قبل والدته وتواكبه بعد الوالدة ،وهي مزيج
من ظروف مادية واخرى اجتماعية.
هذه العوامل تتداخل وتتقاطع في شخصية الفرد لتنتج منه انساناً ذا مالمح مشخصة معينة ،قد تكون مقبولة
اجتماعياً وقد تكون مرفوضة وقد تأتلف مع ذاتها او تتنافر فتنشطر على نفسها ،مسببة للفرد آالماً نفسية مؤرقة.
بين الوراثة والمحيط
لقد عرفنا ان التكوين النفسي لشخصية االنسان انما هو نتيجة تفاعل عوامل فطرية وراثية مع عوامل البيئة المادية
واالجتماعية ،ويتعذر علينا تصور انعزال أحد العوامل عن االخرى النها تتبادل التأثير منذ لحظة الحمل االولى
وتستمر باستمرار حياة الفرد .فاالستعدادات الفطرية ال تتفتح وال تنمو نمواً طبيعياً إالّ برعاية البيئة ،والبيئة ال
تستطيع ايجاد شيء من العدم ،بل انها قادرة على تقديم العون والرعاية لما هو كائن وموجود بالفعل.
فالقرآن الكريم يذكر هذه الحقيقة الناصعة في سورة «الضحى» بقوله« :ونفس وما سواها * فالهمها فجورها
دساها»( )1فعملية التكوين الزراعي مثالً تقتضي وجود البذرة
وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من ّ
والتربة معاً ،شريطة أن تكون التربة متوافرة على عوامل الرعاية والصالح ،لتنبت نباتاً صحيحاً ،والبذرة مهما
كانت جيدة فانها ال تنبت إذا وضعت في صندوق مقفل او القيت على رف
__________________________________
( )1الضحى 7ـ .10
في غرفة ،والتربة الصالحة ال تستطيع فعل شيء اذا كانت البذرة غير صاله للنمو ،فاقدة لالستعدادات الذاتية.
واالرض بعد ذلك مهما كانت جيدة وخصبة ال تستطيع قلب خصائص البذرة الى خصائص مغايرة كأن تقلب
نبات الحنطة برتقاالً.
الزراع الى حقيقة جهودهم في الزراعة واعتمادها اصالً على القدرات التي
ولذلك نرى القرآن الكريم يلفت نظر ّ
ادخرها اهلل في بذور النباتات وخصائص االخصاب في التربة بقوله« :أفرأيتهم ما تحرثون * إنتم تزرعو ام نحن
الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تف ّكهون»(ـ.)1
فتفاعل عوامل االستعداد الفطري بالعوامل البيئية حقيقة اساسية في تكوين الفرد .ولكن العلماء اختلفوا في ايهما
أقوى اثراً :فبعض العلماء يرى ان االستعداد الوراثي هو الذي يقرر تكوين الفرد وان للرعاية البيئية أثراً ضئيالً
مساعداً ،وبعض العلماء يرى ان عوامل الرعاية والمجتمع هي التي تحدد نماذج التكوين وانماط الشخصية
وقوالب الحياة االجتماعية ،وانها تستطيع ان تعدل وتغير كثيراً من ميول الفطرة واستعدادات الوراثة .وواقع
أقر بشيء مما أثبته اآلخر .فأنصار البيئة ال ينكرون آثار
االمر ان كال الطرفين متطرف في عرض رأيه ،وقد ّ
االستعداد الفطري في التكوين الجسمي والمزاجي والعصبي ،كما أن أنصار الوراثة ال ينكرون آثار الفعل البيئي
في التكوين الخلقي واالدراكي واالجتماعي.ـ
فالعوامل المختلفة تتفاعل في التكوين النفسي للفرد ،وتر ّكب شخصيته ،وال يستطيع .أي انسان أن يبعد نفسه عن
أثر العوامل البيئية ولو قدر له ان يعيش كل حياته منعزالً عن المجتمع.
شبعه (ويالرد اولسون) تفاعل هذه العوامل ،بعلمية صب الماء في كوب اذ مثّل االستعداد الوراثي للفرد
وقد ّ
بكوب ومثّل الرعاية البيئية بالماء يصب في هذا الكوب .فالكوب الكبير يمثل االستعداد الممتاز ،والكونب الصغير
وشبه
يمثل ضعف االستعداد وضآلة حجمه ،والمالحظ ان أكوابنا التي ورثناها فيها قليل أو كثير من الماءّ ،
(وودورث) تفاعل االستعداد بالبيئة في التكوين النفسي للفرد بالمستطيل الذي يتوقف مساحته على كل من طوله
وعرضه ،وقد يتناقص الطول ليصير عرضاً ،أو العكس .،ولكن التكوين النفس يبقى نتاجاً لتفاعل هذين العاملين(
.)2القرآن الكريم يشير الى هذه الحقيقة عند االشارة الى تبعات اعمال االنسان وطريقة حسابه بقوله« :ال يكلف
اهلل نفسها إال وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»(.)3
والحق ان الفطرة الوراثية ليست أكثر تأثيراً من الرعاية البيئية .كما انها ليست أقل أهمية فكالهما اساسي للحياة
وفقدان أحدهما يعني عدم الحياة.
غير اننا يمكن ان نميز تأثير وغلبة أحد هذه العوامل على غيرها في تكوين الفرد تبعاً لبعض الصفات فيه ،اذ ان
صفات االنسان على نوعين:
1ـ نوع بنائي كالقامة ونوع القوام وقياسات الجمجمة ..الخ وهذه تكون في الغالب وراثية ال يؤثر فيها المحيط
تأثيراً يذكر.
__________________________________
( )1سورة الواقعة 63 /ـ ،65
( )2عبد الحميد الهاشمي ،علم النفس التكويني واسسه التطبيقية ،ص.68
( )3سورة البقرة.286/
2ـ نوع بنائي وظيفي كالوزن والصحة ـ عامة وخاصة ،وسواها وهذه يؤثر فيها المحيط كما تؤثر فيها الوراثة.
اما الصفات النفسية مثل الذكاء واالنفعالية والطبع الشخصي وغيرها فصفات تتأثر بالوراثة والمحيط معاً،
والذكاء نفسه رغم تأكيد بعض علماء النفس على فطريته التامة ـ يتأثر بالمحيط القادر ـ على رأي الكثيرين على
تفتيحه وابرازه او كبته وقتله وزيادته ونقصه .ويقال الشيء نفسه عن سرعة التهيج وقابلية االنفجار بالغضب أو
الخضوع للخوف او غير ذلك.
اما الصفات النفسية ا لتي هي من نوع صفات الشخصية والعادات وطريقة التفكير فهي تتأثر بالبيئة تأثراً كبيراً
جداً وتفعل التربية فيها فعالً مؤثراً وواضحاً الى مدى بعيد(.)1
العوامل البيئية المؤثرة في التكوين النفسي للفرد
مجموعة العوامل الخارجية المؤثرة في التكوين النفسي للفرد ونمذ اللحظة التي يتشكل فيها الجنين في رحم امه
نصطلح عليها بمجموعة العوامل البيئية ،فالرحم بما يوفره من جو دافىء وغذاء وما يتعرض له من احداث غير
طبيعية ،او نقص في غذاء االم ،او تعرضها لمشكالت اجتماعية ونفسية ،كل هذه العوامل تشكل الظروف البيئية
االولى للطفل في المرحلة الجنينية وتبقى الكثير من آثمارها مصاحبة للفرد بعد الوالدة وحتى أيام الكبر.
والطفل يواجه بعد ميالده مباشرة بيئة ذات شرائط خاصة في جانبها الطبيعي وبيئة اجتماعية متمثلة باالسرة
واعضائها ونمط العالقات القائمة بينهم.
وحين يكبر ويدخل المدرسة يختلط مع أقران له من اعمار مساوية لعمره او تفاوته بقدر معين ويتخذ منهم
أصدقاء ،وان هو كبر واصبح راشداً مستقالً غدا عضواً في المجتمع ،فقد دخل البيئة االجتماعية االوسعة وتفاعل
معها ،مؤثراً ومتأثراً بمفرداتها.
والبيئة عموماً تشمل الجانب المادي المتمثل بالطبيعة وعناصرها ومكوناتها وظواهرها وخصائصها ،وتشمل
كذلك الجانب االجتماعي بما فيها من مؤسسات وتجمعات ومنظمات وعادات وتقاليد ومقدسات.
ولقد اتسعت دائرة البيئة في يومنا هذا بفضل تطور وسائل االرتباط الحديثة وانتشار المطبوعات وتقدم طرق
المواصالت بحيث شملت مساحات ما كانت لتشملها في ما مضى من أجيال وعهود .ومن هذه العوامل البيئية ما
يلي:
1ـ الصحة والسالمة العامة.
2ـ نوع التغذية.
3ـ التربية وثقافة المجتمع.
4ـ العامل الجغرافي.
5ـ العوامل االتفاقية.
__________________________________
( )1فاخر عاقل ،اعرف نفسك ،ص.26
وسنتحدث في هذه الدراسة عن العوامل الثالثة االخيرة باعتبار ان العاملين االولين يحتاجان الى دراسة
تخصصية مستقلة.
التربية وثقافة المجتمع
فعلى التربية وتوجيهاتها تترتب اآلثار الكبرى في تحديد الوضع النهائي للتكوين النفسي والعقلي واالجتماعي
للفرد .وفي عمليات التربية تتفاعل عوامل الوراثة وما تضمه من استعدادات وقابليات بعوامل البيئة المادية
واالجتماعية التي يتبناها المجتمع كأساس للتوجيه ،وعلى اساس القيم التي تتبناها التربية تتحقق رغبات االفراد
والجماعات داخل النطاق الحضاري العام ،وتتحقق درجات التكامل االجتماعي في المجتمع .وهي كفيلة بتقليل
ظهور المؤثرات ومظاهر السلوك المنحرف وتعمل على اندماج الفرد بالجماعة وايمانه بأهدافها وقيمها.
فاالنسان حينما يخرج في لحظة الوالدة الى الحياة يجد امامه بيئة تتبنى ثقافة تربوية اجتماعية تحدد معالمه
التكوينية وتحمله على تشربها وتمثل مفاهيمها خالل عمليات وادوار نموه ،حتى اذا استوى وكبر قام بنقل تلك
الثقافة واالنماط التربوية االجتماعية التي تعلمها الى صغاره ،او يسعى الى تغييرها ومالئمتها لمطالب الحياة
االجتماعية المتغيرة والمتجددة.
فالطفل البشري يمتاز بوراثة ساللية وقابليات فطرية لها قابلية التشكل والتكيف وفق ارادة البيئة واهدافها .وهي
تمتاز على سائر الكائنات الحية بمرونتها ومطواعيتها على التعديل والتوجيه والتأثر بعوامل التربية.
والطفل انما ينتقل من حالته كطفل بيولوجي يشابه صغار الحيوانات الى شخصية انسان اجتماعية قادرة على
التفاعل مع الوجود ،عبر عمليات التربية االجتماعية التي يجد اجواءها قائمة بعد الوالدة مباشرة .ويحدثنا القرآن
الكريم عن هذه الحقيقة حينما يشير الى السمع واالبصار واالفئدة كاجهزة الستقبال وهضم المؤثرات التربوية
كقوله «الذي احسن كل شيء خلقه وبدأ خلقه االنسان من طين * ثم جعل نسله من ساللة من ماء مهين * ثم سواه
ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع واالبصار واألفئدة قليالً ما تشكرون»(.)1
فاالنسان يولد وهو يرث قدرته على الكالم ،وحينما يبلغ النضج الكافي فانه يتكلم اللغة الشائعة في بيئته ،واذا
اهملت تربيته ورعايته وعاش مع الحيوانات في الغابة مثالً ضمرت فيه سمات التكوين النفسي لالنسان الطبيعي
وانعدمت فيه الشخصية البشرية االجتماعية .ولم يتكلم لغة المجتمع ،وانما يصرخ كما تصرخ الحيوانات ويعوي
كما تعوي االحياء من حوله.
وللتربية االجتماعية التي يتوالها المجتمع وافراد العائلة االثر البليغ في تكوين الجانب االنفعالي
__________________________________
( )1سورة السجدة 7 /ـ .9
واالدراكي لدى الطفل ،كما تحدد له مفاهيم الحياة وممارساته السلوكية اجتماعياً.
فاالنسان يخضع لكل المؤثرات االجتماعية التي يتلقاها من مجتمعه مباشرة او عن طريق خلية المجتمع القريبة
منه والمتمثلة باسرته ،او المدرسة التي يدرس فيها أو أية مؤسسة اجتماعية ينتسب اليها في أدوار حياته المختلفة.
فممثلو المجتمع من اآلباء واالمهات والمعلمين والمسؤولين واالصدقاء ،يتولون نقل تراث المجتمع ويعدونه
اعداداً نفسياً وجسمياً وعقلياً لالضطالع بدوره الفاعل في المجتمع .فكل مولود يولد على الفطرة إال ان أبويه
يهودانه او ينصرانه او يمجسانه(.)1
فكلما سمت الغايات واالهداف التربوية لدى المربين الذين يتولون أمر التربية في المجتمع كلما كانت نتائجها
حسنة وسليمة في االوالد ،وعلى االجيال اآلتية ،وبعكسها لو اهملت التربية او تدنت مراميها واغراضها ساءت
نتائجها وتدهورت ثمارها.
وكذلك المحيط التربوي العام للمجتمع بما فيه االدارة السياسية واالعالمية له كبير االثر على منحى االجيال
واتجاهاتهم واهتماماتهم االخالقية واالجتماعية ،فكلما تميز المحيط بالنظافة وااللتزام ،اثر ايجابياً في نطاقة اخالق
االجيال والعكس صحيح ايضاً .ولذلك فان السلطة السياسية في أي مجتمع من مجتمعاتنا تتحمل الثقل االكبر في
نشأة أبناء المجتمع وتحصينهم ضد نزعات االنحراف والتطرف .وامير المؤمنين (ع) يقول بهذا الشأن «الناس
بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم»( )2والمثل الشعبي عندنا يقول «الناس على دين ملوكهم».
ان نوع الثقافة العامة الشائعة في المجتمع او ما يصطلح عليها بالحضارة أو الثقافة المميزة ( )Cultureكذلك
تحدد نظرتنا بقدر كبير الى الكون والحياة ومكانتها فيها ،وطرق تفكيرنا وتعبيرنا عن انفعاالتنا وارضائنا
لدوافعنا ،وفيما ندركه من معايير المحظور والمباح ،والعدل والظلم ،اولحق والباطل ،يضاف الى ذلك ان الثقافة
تعين السبل واالساليب التي يتبعها الوالدان في تنشئة االطفال ،وفيما اذا كانت وسائل قائمة على التشدد او
هي التي ّ
التسامح ،او انها تفرض على الطفل تكاليف الرجولة من عهد مبكر أم تنتظره حتى يبلغ مدى نضجه الطبيعي،
فثقافة المجتمع تعيش فينا كما نعيش فيها ،وتنعكس علينا آثارها ،وما الشخصية ااال مظهر ذاتي للثقافة في بعض
جوانبها.
الوراثة الثقافية
ان كثيراً من الظواهر السلوكية التي كنا نظنها سابقاً ذات منشأ بيولوجي وراثي اتضح اآلن انها متأثرة بثقافة
المجتمع .فقد كان الكثيرون يعتقدون ان مرحلة المراهقة في كل زمان ومكان مرحلة مشكالت نفسية وصراعات
ترجع الى التغيرات البيولوجية العنيفة التي يمر بها المراهق ،دون اعتبار لثقافة المجتمع الذي ينتمي اليه المراهق
حتى ظهرت نتائج البحوث االنثروبولوجية الحديثة فأثبتت
__________________________________
( )1حديث للرسول االكرم (ص).
( )2بحار االنوار ،ج ،17ص.129
حقيقة كون المراهقة ليست مرحلة تأزم بل مرحلة هينة سهلة تخلو من الصراعات واالمراض النفسية والتمرد في
كثير من الشعوب البدائية .وأرجعوا سبب ذلك الى ان المجتمعات البدائية كانت تتسامح ازاء المراهق منذ بدء
مراهقته وتتيح له فرصة االضطالع باعبار الكبار وأدوارهم االقتصادية واالجتماعية والجنسية والدينية .فكأن
المراهقة المتأزمة متأتية من طريقة معاملتنا ونظرتنا لها ،فالتقييد االجتماعي والجنسي واالقتصادي للمراهق
ومصادرة رغبته فيى االستقالل وعدم منحه االعتماد الالزم هي التي تدفع بمراهقنا للتمرد والعصيان.
وقد عثر علماء االنثروبولوجيا على ثقافات اتسمت فيها شخصيات الرجال بالسمات االنثوية كحالة االستسالم
وتحلين بالسيطرة والنشاط العدواني ،فقد وجدت (مرغريت
ّ واالذعام والطاعة ،فيما اتسمت االناث بسمات الرجال
ميد) ان المثل االعلى للرجل في قبلية (ارابش) في غينيا الجديدة هو الرجل الوديع الرقيق الطبع المسالم السلبي،
كذلك حال المرأة ،بحيث يمكن القول بعدم وجود فوارق بين الجنسين في هذه القبيلة ان كال الجنسين ذو طبع
انثوي لين(.)1
اما المثل االعلى للرجل في قبيلة تجاورها لكن تختلف عنها في الثقافة هي قبيلة (موندر جومر) فهو الرجل
الخشن الغليظ العدواني المقاتل المنتقم ،وكذلك المرأة فهي تقوم بكل اعمال الرجل ولها مثل صفاته .اما في قبيلة
(تشامبولي) التي تجاور هاتين القبيلتين فينقلب دور الرجل والمرأة فيها عما هو مألوف في مجتمعنا ،حيث تكون
المرأة هي العنصر المسيطر الغالب المتصرف في كل االمور ،فه تصيد السمك وتنسج الشباك وتقوم باالدوار
الشاقة ،في حين يتعهد رجال القبيلة بشؤون االطفال وينصرفون الى االهتمام بالرقص والحفر اولنقش وغيرها
مما ال تهتم به المرأة هناك(.)2
القابلية على التغير
واذا كان صحيحاً ان االنسان صنيعة النمط الحضاري لبيئة ،ذلك النمط الذي ولد في وسطه ،صحيح كذلك انه
قادر على التغير والتبدل اذا ما تغيرت مفردات الحضارة من حوله ،وهذا ما اثبته البحث العلمي ايضاً ،فالبحارة
االسكندنافيون في العصر البرونزي وهم بال شك أجداد االسكندنافيون المعاصرين غيرهم اليوم من حيث
استبدالهم لحياة التنقل بحياة االستقرار والثبات .وكذلك المرح الصاخب في حياة انكلترا في عهد اليزابيث االولى
يختلف جداً عن االتجاهات في انكلترا على عهد اليزابيث الثانية ،كما ان الخالعة الشهوانية ف عهد التجديد
تعارض بصورة حادة التزمت في العهد الفيكتوري ،وقد كان االنكليز حتى منتصف القرن التاسع عشر معروفين
بالشراسة والعدوانية ،ولكنهم اليوم يظهرون طاعة جمة للقوانين واحترام النظم.
ان احدى خصائص االنسان االساسية قابليته على التغير والتبدل في ظروف متغيرة ،وقدرته على احداث
التغيرات الضرورية في داخل نفسه ،مالئمة لمتطلبات المحيط المتغير.
__________________________________
( )1احمد عزت راجح ،اصول علم النفس ،ص.425
( )2احمد عزت راجح ،اصول علم النفس ،،ص.425
وان هذه الصفة صفة المرونة او القابلية على التكيف والتثقيف صفة مكنت االنسان من اجتياز الكثير من عقبات
الحياة ومشكالتها الطبيعية واالجتماعية ،وان بقاء النوع االنساني وتقدمه يعتمد على قدرة الطبيعة البشرية اساساً
على التحول بواسطة التكيف الى الظروف المتغيرة ،فما حسبه أكثر الناس على انه الطبيعة البشرية ،هي في
الحقيقة طبيعة اكتسبت بواسطة االستعدادات الفطرية لتنتج انساناً في حضارة معينة.
فالطبيعة البشرية نمط من السلوك ،قادر على التغير ،ليس من عصر الى عصر فقط بل في داخل الشخص نفسه
في عصر واحد.
وبما ان الطبيعة البشرية كثيراً ما اعتبرت نتاجاً لالرث البيولوجي وهي ثابتة محدودة بالوراثة البيولوجية ،فقد
حسبت الحضارة تجاوزاً بأنها تغيير في االرث البايولوجي ،بينما االمر في الواقع هو ان الطبيعة البشرية تعبير
عن التفاعل بين االرث البايولوجي واالوساط الثقافية التي يوجد فيها هذا االرث في حالة تطبيع (Condit
)ionalوتأنيس ( )Socializedوعند فقدان المنبه الحضاري يفشل هذا الكائن في ان يعبر عن الطبيعة أياً كانت،
منفصلة عن ظاهرة العمل الجسدي الصرف ألن الكائن ينبغي ان يطعم اذا شاء الحياة وان حاالت
االطفال نصف المعزولين ( )Semi - lsolatedالذين ترعرعوا في الغابات تشهد لهذه الحقيقة شهادة وافرة.
اذن فالطبيعة البشرية مكتسبة متعلمة ضمن حدود االستعدادات البشرية الفردية لتصوغ انساناً في حضارة معينة.
العامل الجغرافي
للعامل الجغرافي أثر واضح في بعض السمات وابرازها أو تعطيل بعضها اآلخر ضمن التكوين النفسي لشخصية
الفرد ،فمن المعروف ان اسلوب حياة الجماعة ـ اية جماعة ـ يتأثر ألنها تعيش في الصحراء او بين الجبال او في
جزيرة أو منطقة معتدلة المناخ ،أو ألنها تعيش في أرض ال تصلح للزراعة او في واد خصب .هذه العوامل
المختلفة ذات اثر في شخصية الجماعة كلها ،وفي شخصيات االفراد التي تتكون منهم هذه الجماعة.
فاألسكيمو الذين يعيشون في جزيرة غرينالند يعانون ظروفاً جغرافيةً قاسية بحيث ال يستطيع مقاومتها إالّ
األقوياء منهم ،اما الضعفاء منهم فأنهم يفنون تدريجياًوال يصمدون أمام قسوة الطبيعة ،وقد قضت طبيعة بالدهم
الجغرافية عليهم ان يعيشوا ضمن نظام اجتماعي يتميز باالنفرادية الى حد كبير .فكل منهم يصنع ادواته واسلحته
بنفسه ،ويخرج الى الصيد لوحده ،ويواجه مصاعب ومشكالت الحياة لوحده ،ودون معونة من غيره.
واالسرة عندهم وحدة اقتصادية مكتفية بنفسها ذاتياً ،واذا ما اضطرت للعيش مع غيرها من االسر في بيت واحد
فانها تطهو طعامها بشكل مستقل عن األسر االخرى في الشتاء خاصة ،وذلك ألن الطهو الجماعي متعذر او
مستحيل النه يستهلك وقتاً أطول العداده كما انه يتعذر عليهم نقل الموقد الكبير من منازل الشتاء الى منازل
الصيف.
وهم بذلك اقدر على التكيف الفردي للبيئة من التكيف الجماعي ،لضرورات وخصوصيات بيئتهم الجغرافية.
لذا نرى بروز صفات التحدي واالعتماد على النفس والمبادأة والذات القوية القادرة على الصبر والمقاومة فيهم
بشكل واضح.
وما يصدق على ظروف االسكيمو وتأثيرها في تكوينهم النفسي يصدق على الجماعات البشرية االخرى التي
عاشت والزالت ضمن ظروف جغرافية خاصة بها.
العوامل االتفاقية:
وهي عوامل متفرقة ،تعرض للفرد في حياته العامة ،ويتأثر بها تكوينه النفسي الى حد كبير ،منها مركز الفرد في
االسرة ،كأن يكون الطفل االكبر السرته أو الوحيد فيها ،او االوسط ،او االصغر ،وقد يكون الذكر بعد عدة اناث
أو االنثى بعد عدة ذكور ،أو الطفل الذي يولد بعد عدة وفيات من اخوته واخوانه ،او بعد فترة طويلة من عدم
االنجاب.
فقد يكون الطفل المفضل االثير في االسرة ،او يكون الطفيلي الدخيل عليها ،ففي الحالة االولى يظفر بكثير من
امتيازات االسرة ،وفي الحالة الثانية يكون عبئاً ثقيالً أو انساناً غير مرغوب فيه.
هذه االمور تؤثر تأثيراً ايجابياً أو سلبياً في شخصية الفرد وعمله على نمط من التصرفات او النظرة لالمور
تختلف عن نظرات اآلخرين الذين لم يتعرضوا لمثل هذه العوامل وضغوطاتها.
كما ان قلة خبرة الوالدين بتربية االطفال لكونهما حديثي عهد بالزواج وما ينجم عنهما من تصرفات متطرفة أزاء
أطفالهما ،خاصة تجاه الوليد االول ،باعتباره الطفل االول لتجربتهما وعدم استعدادهما الكافي لمواجه التغير
الطارىء على نظام االسرة جراء المولود الجديد ،يحمل الوليد االكبر تبعات وآثار نفسية جسيمة ،كما ان بقاء
الطفل االكبر لوحده سنوات عديدة نتيجة لعدم ميل الوالدين في انجاب اطفال آخرين السباب اقتصادية واجتماعية،
يحرمه من فوائد الزمالة والتنافس واالخذ ولعطاء مع اخوة له يقاربونه في السن.
ويحمل االوالد الكبار مرارة تحول عواطف
ّ وفي حالة انجاب طفل ثان وثالث يغتصب الجديد اهتمام أبويه
ورعاية الوالدين الى غيرهم ،مما يزرع في نفوسهم عدم الثقة واالطمئنان في مواقفهم االجتماعية الالحقة.
لقد اجرى فريق من علماء النفس الكلينيكي (العيادي) دراسات وافية لمعرفة ما يترتب على مركز الطفل في
االسرة من آثار في تكوينه النفسي فوجدوا:
1ـ ان مركز الطفل ليس إالّ عامالً من عوامل اخرى اكثر اهمية تؤثر في شخصيته.
2ـ وان مركز الطفل قد يكون ميزة له ،أو كارثة عليه ،أو ال أهمية له ،واالمر كله مرهون بموقف الوالدين منه،
والجو العام الذي يسود االسرة.
3ـ وان نفس المشاكل السلوكية تعرض لالطفال في كل مركز يحتلونه وبنفس النسبة.
4ـ ليس هناك ارتباط ثابت بين مركز الطفل وسمات شخصيته وهو راشد(.)1
كيف نساهم في صناعة الشخصية المقبولة؟
االجابة على هذا السؤال تستدعي تلخيص فاعلية كل من الوراثة والمحيط وطريقة عملهما في تكوين انسان ذي
مالمح وسمات معينة ،تتقصد انتاجه وتستهدف نشر المعرفة الخاصة بطريقة وقائية من كل عامل أو سبب يؤدي
به الى مجانبة القصد والهدف من انتاجه.
وقبل أن ندخل في صميم التوصيات الرسالية التي تضع أيدينا على الطريق السليم ،البد أن نسلّم بما سلّم به علماء
الوراثة والمحيط من حقائق اساسية في تفاعل هذين العاملين وتظافر جهودهما في صياغة االنسان الذي نريده
وننشده ،فاهلل «يجري االمور على ما يقتضيه ال على ما نرتضيه»(.)2
وال نستطيع نحن تجاوز السنن والنواميس التي وضعها اهلل تعالى منهجاً للكون والحياة فنفشل في جهدنا دون
طائل ،واالمام علي (ع) يقول «من كابر الزمان ُغلب»( )3و«من عتب على الزمان طالت معتبته»(.)4
لذا فالبد لنا من الرجوع الى حقائق العلم والتجربة ونلتزم توصيات الرسالة االساليمة التي كشفت حقيقة العوامل
الدخيلة في صناعة االنسان وعلمته سبيل االختيار االنجح وحفزته على اجتناب الطرق التي ال تؤدي إال إلى
ضعف المجتمع ودماره وتدهور بنيته.
تخير السبيل الصحيح هي:
ومن هذه الحقائق التي على ضوئها نقدر على ّ
1ـ ان عاملي الوراثة والمحيط يعمالن متكاملين متعاضدين ال متنارين متضادين فالمحيط الجيد يستطيع ان
يخفف االثر السيءللوراثة السيئة ،وان الوراثة الجيدة تستطيع ان تقي االنسان من شرور المحيط السيء الى حد
بعيد ،وان الطامة الكبرى هي في اجتماع محيط سيء ووراثة سيئة في انسان بعينه والسعادة الكبرى انما تكون
في اجتماع وراثة جيدة ومحيط جيد في انسان بعينه.
2ـ ان المحيط الجيد يرافق عادة الوراثة الجيدة وان المحيط السيء يرافق عادة الوراثة السيئة .فأبناء الطبقات
ذكاء منحطاً وقدرات عقلية متواضعة فحسب بل يرثون أيضاً مفاهيم أخالقية فقيرة
الفقيرة ال يرثون في المعتاد ً
وحياة مادية مدقعة ولغة قذرة وطرائق تعامل غير مقبولة اجتماعياً .وذلك ألن الفقر مالزم لحالة اجتماعية
متأخرة وصحية متردية وتعليمية متدنية ،والفقير مشغول بهمه االقتصادي ال يكون على شيء أكثر من حاجاته
الغريزية االساسية( )5واالمام علي (ع) يقول بهذا الصدد «العسر
__________________________________
( )1احمد عزت راجح ،اصول علم النفس ،ص.432
( )2غرر الحكم ،ص ،219من أقوال االمام علي (ع).
( )3من أقوال االمام علي (ع) ،تحف العقول ،ص.85
( )4من أقوال االمام علي (ع) ،بحار االنوار ،ج ،17ص.101
( )5نستثني من ذلك البيئات الدينية التي تعتمد توفير فرص التربية والتدين وااللتزام باهداف الفضلية االخالقية،
وتترفع على الفقر بحالة الزهد والصبر ،وتجاهد دون االنحدار مع تيار االستسالم لضغط الظروف الصعبة.
يفسد االخالق»(« .)1والعسر ُيخرس الفّطن عن ُحجته» و«الفقر أحزان» ،و«ضرورة الفقر تبعث على فضيع
االمر» ،ولذلك فهو يقرر بأن «القبر خير من الفقر» ألن في حياة االنسان الفقير شقاء متنوع الوجوه ،و«الفقر
مذلة للنفس مدهشة للعقل جالب للهموم» ،وهي لذلك تصطحب معها آثاراً نفسية سيئة وتركيبة انسانية ،يستلزم
اصالحها فريد جهد وجهاد ،ولذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يضع الفقير الناجح في أخالقه وحياته في مصافي
أفضل الناس فهو يقول «خير الناس من كان في عسره مؤثراً صبوراً».
3ـ ان تعاقب االجيال يزيد حسن الحسن وسوء السيء حتى يأتي حين من الدهر يكون الفارق كثيراً بين االثنين،
فالطفل الذي يولد بوراثة جيدة وفي بيئة غنية مادياً واخالقياً تهيء له الفرص الستغالل مواهبه وتفتيحها وتنميتها
ارتقاء نسلمها ،اما الطفل
ً ثم يزوج بزوجة مقارنة له في الذكاء واليسر االقتصادي واالخالقي فيتزايد على االيام
ذو الوراثة السيئة المولود في بيئة فقيرة متأخرة اجتماعياً فيأتمر به الغباء وسوء االخالق والفقر ليدفعاه الى
أحضان من هي أغبى منه وأفقر ولتلد له ـ في االعم االغلب ـ مولوداً يتزايد غباؤه وتأخره فيقف هذا قريباً من
الخطيئة والجريمة والشذوذ والجنوح .وقد أشار القرآن الكريم الى ذلك فيما قصه علينا من خبر قوم نبيه نوح (ع)
دياراً * انك ان تذرهم يضلوا عبادك وال يلدوا إال
حين دعا عليهم بقوله :رب ال تذر على االرض من الكافرين ّ
فاجراً كفاراً»( )2ادراكاً منه (ع) لمصير االجيال اآلتية التي ستنشأ تحت رعاية هؤالء القوم الكافرين المعاندين.
4ـ ان الطفل ال يرث جسد والديه وقدراتهم الفطرية وقصورهم العضوي البنائي فحسب ولكنه يرث الى جانب
ذلك طريقتهم في الحياة والتعامل ومفاهيمهم االجتماعية واالخالقية ومعتقداتهم الدينية والسياسية ومواقفهم في
الحياة ولذلك فنحن نرى غالباً ان ابن الغضوب غضوب وابن العصبي عصبي وابن المتدين متدين وابن المتهتك
اخالقياً متهتك مثله .كما نرى ان ثمة عوائل اشتهرت بالمرح أو التعصب او سرعة الغضب او التحسس الفائق او
التزمت في تعاملها وعرفت بين الناس بمثل هذه السمات البارزة.
والى مثل هذا يشير االمام علي (ع) بقوله« :خير ما ورث االباء االبناء األدب»( .)3و«بئس النسب سوء
االدب»()4
وفي حديث لالمام زين العابدين (ع) بشأن هذه الحقيقة يقول «واما حق ولدك فتعلم انه منك ومضاف اليك في
عاجل الدنيا بخيره وشره ،وانك مسؤول عما وليته من حسن االدب».
5ـ ان ما يورث من االباء الى االبناء هو ما كان على صلة ببناء العضوية واصل تكوينها ال ما طرأ
__________________________________
( )1غرر الحكم ودرر الكلم ،باب الفقر.
( )2نوح 26 /ـ .27
( )3غرر الحكم ،في باب االدب.
( )4المصدر السابق ،في باب الحمق ،والحمق معناه قلة العقل أو فساده وبالمعنى الحديث للكلمة قصوره ونقصه
العضوي.
عليها خالل حياتها القصيرة ولم يؤثر في طبيعة بنائها .وهذا يعني ان ما يورث حقاً :كضعف الرئة وتشوه مراكز
الدماغ (نتيجة االصابة بالزهري) كما يورث المواهب الفائقة او القدرات الضعيفة.
اولذي يبقى لعمل المحيط هو ابراز هذه المواهب الموروثة وتنميتها او خنقها وطمسها ،وكذلك يبقى للمحيط ان
يؤثر ـ على مر االجيال ـ في تحسين وراثة االبناء أو اساءتها عبر االجيال.
ولذلك من يستورث من والديه ضعفه العقلي وغباءه ال تستطيع عوامل المحيط ان تقدم له معونة تذكر ،وبهذا
الصدد يقول االمام علي (ع)« :الحمق داء ال يداوى ومرض ال ُيبرأ».
فالقصور العقلي مسألة وراثية ،والشذوذ يورث اذا كان اصله بنائياً ،اما االجرام فبالرغم من امكان نشوئه عن
اسباب جسدية مادية ،إال انه يرجع في معظهم الى اسباب محيطية .واما الجنون فينطبق عليه ما ينطبق على
الشذوذ بمعنى انه وراثي حين يكون على صلة باسباب بنائية.
ويتضح مما تقدم ان عوامل المحيط ذات تأثير كبير على المنحى العام لشخصية الفرد لذا تعتبر التربية الى مدى
بعيد مسؤولة عن سالمة االنسان ورشده .وعوامل المحيط ـ كما هو معلوم ـ عديدة فالعائلة والمدرسة والمسجد
ووسائل االعالم والشارع والنادي والمنظمة والحزب وسواها عوامل محيطية معروفة ،ظاهرة القيمة واضحة
االهمية .تشترك كلها وضمن ادوارها الخاصة في تطبيع وتعديل االمكانات الخاصة بالفرد وتوجيهها تبعاً
لبرامجها وخططها.
بناء االسرة اسالمياً
االسرة أحد العوامل االساسية في بناء الكيان النفسي والتربوي للفرد ،وفي مناخها تتم عملية تكيف االطفال
للمجتمع واهدافه ،وتشكل شخصيتهم ،وفي أجوائها تكتسب العادات السلوكية التي تبقى مالزمة لهم على طول
الحياة ،فهي البذرة االولى في تكوين النمو الفردي وبناء الشخصية ،فالطفل فضالً عن كونه يحكي وراثة والديه
ويلخص قدراتهما واستعداداتهما الفطرية ،فأنه مقلد ألبويه في اخالقهما وسلوكهما أيضاً ،واالسالم اراد لهذه
الخير السوي .وجعل
الخلية االجتماعية الحيوية ان تقام على اسس سليمة تتفق وهدف الحياة ومقاصد السلوك ّ
بواعث التكوين العائلي في فطرة االنسان وغرزها ضمن غرائزه االساسية الذاتية ،فقال تعالى« :ومن آياته ان
خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة»( )1وجعل نظام الكون كله قائماً على اساس
الزوجية فقال عز من قائل« :وخلقناكم أزواجاً»( ،)2كما جعل بدء تكوين االنسان من التقاء خليتي الذكر واالنثى
في رحم االنثى فقال« :انا خلقنا االنسان من نطقة امشاج»(.)3
وإ ذا كانت الحياة الزوجية تعبيراً عن غاية آلهية نبيلة ،وتطبيقاً لسنة فطرية ال محيص لخلق اهلل منها ،اذاً البد من
اقامتها على قاعدة من االهداف الربانية والمقاصد السليمة ،وتعليمات الرسالة خير دليل
__________________________________
( )1سورة الروم.20/
( )2سورة النبأ.8/
( )3سورة الدهر.2/
ومرشد لنا في مثل هذه المجاالت والميادين العملية.
فاهلل تعالى يريد من االسرة المسلمة ان تكون قدوة حسنة طيبة تتوافر فيها عناصر القيادة الرشيدة ومالمح حياة
المتقين الصالحين ولذلك فهو يطري على اسر الصالحين الذين يدعونه بصالح الدعوات في بناء االسرة بقوله:
«والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين اماماً»( .)1واالنتقاء الوراثي
الوراثي لوضع الزوجة المنتخبة عامل من أهم عوامل الصالح والخير المؤمل في سلوك الزوجة وذريتها .ألن ما
ثبت علمياً يؤكد عمق تأثير العامل الوراثي بما يفرزه من استعدادات وقدرات على وضع االوالد وقابلياتهم.
واالمام علي (ع) يؤكد هذه الحقيقة بقوله« :انما طبايع االبرار طبايع ُمحتملة الخير فمهما حملت منه احتملته»(
،)2فلوال وجود (االحتمال) االستعداد والقدرة الفطريتين عند الفرد لما استطاع ان يقوم بانجاز عمل أو االتسام
بسمة او التحلي بصفة ،فطبيعة االنسان البار تُنجب ما يماثلها والطبيعة الشريرة تنجب ما يطابقها ،فقد تنحي
بالالئمة على التصرفات السيئة لبعض االفراد في حين انهم ال ذنب لهم في ذلك ،ألنهم ورثوا من أبائهم استعدادات
تلك االعمال والصفات .ولذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يقول« :رب ملوم ال ذنب له»( )3للتدليل على مثل هذه
االحاالت باسبابها الوراثية التي ال دخل لالفراد في وجودها.
ويوضح هذه الحقيقة االمام الصادق (ع) بشكل أكثر تفصيالً فيوعز بعض مظاهر السلوك واالمكانات الفردية الى
اسباب وراثية قدرية ليس للفرد فيها نصيب االحداث أو التغيير ،يقول االمام (ع)« :ستة أشياء ليس للعباد فيها
صنع :المعرفة والجهل والرضى والغضب والنوم واليقظة»( ،)4هذه المسائل وان بدت ألول وهلة لنا بأنها ارادية
وخاضعة للجد واالجتهاد الشخصي ولكن تأمالً أعمق في مقصود االمام (ع) يظهر لنا هدفه في بيان االسباب
الكامنة وراء هذه المسائل الظاهرة ،فالمعرفة والجهل صفتان مكتسبتان ولكن ليس بدون وجود استعداد فطري
سابق عليهما ،فنحن نتعلم أو نبقى جهلة تبعاً لقدراتنا العقلية الموروثة ،وحالة المخ عند الوالدة من حيث السالمة
او النقص ،فالذي يولد وهو قليل الذكاء ،أو معتوهاً ال تستطيع وسائل التربية والترويض أن تجعل منه نبيهاً مفكراً
مهما بذلت من جهد ومشقة.
والقدرات العقلية كما ّبينا سابقاً تعتمد االساس الوراثي وليس االساس البيئي في انطالقتها ،وعوامل البيئة انما
تعتمد ذلك االساس في عمليات التفتح والتغذية والتوجيه.
وكذلك حالتا الرضى والغضب ،انما هما مظهران لحقيقة مزاجية يرثها االنسان عن آبائه ،تشترك في صنعها
طبيعة النسيج العصبي الموروث (وعملية االيض) عنده والتي نعني بها التفاعل الكيمياوي
__________________________________
( )1سورة الفرقان .74/
( )2غرر الحكم ،باب الطباع.5 ،
( )3نهج البالغة ،ص.884
( )4اثبات الهداة بالبراهين والمعجزات ،الحر العاملي ،ج ،1ص.85
والفيزياوي داخل أجهزة االنسان والتي تتضمن عادة افرازات الغدد الصم ،وتبدل تركيب الدم وما يستتبع ذلك من
تحفز االنسان أو استسالمه لحاالت الطوارىء والمواقف المثيرة ،وطريقة تصرفه أزاءها.
فالمزاج الشخصي الذي يتسم به الفرد يعتمد على قاعدة القابلية الوراثية غالباً وال تستطيع عوامل التربية والمحيط
االجتماعي إالّ تعديلها وترويضها لتطابق مطالب المحيط وطريقة فهم االنسان لنفسه بنسبة طفيفة.
أما حالتا اليقظة والنوم فهما فسلجيتان تعتمدان اساساً على مدى تحمل االنسان لالجهاد والتعب ،وطريقته البنائية
الخاصة في استعادة حيويته وتجديد نشاطه ،وال عالقة لالنسان بحال في تغيير قدراته الموروثة في اليقظة والنوم
إالّ بمدى ما تسمح به استعداداته الفسيولوجية.
بعد ذلك يقرر االمام علي (ع) في أحد بياناته حقيقة علمية تتعلق بعدم امكاننا اصطناع الوراثة الحسنة إالّ من
طريقها الذى وضعه اهلل تعالى ،وهو في ذلك يرى استحالة نقل الطبيعة البشرية الى االفراد كما نريد فهو يقول:
«كل شيء يستطاع إالّ نقل الطباع»( ،)1ويلفت أنظارنا الى مظاهر الشخصية المصطنعة غير المعتمدة على
استعدادات فطرية موروثة اصيلة ،ويحثنا الى عدم الركون اليها في أحكامنا بقوله« :ال تزكوا الصنيعة مع غير
أصل»(.)2
يقيم االستعدادات الموروثة فيثني على بعضها ويرثي بعضها االخر فيقول« :بئس االستعداد
واالمام (ع) ّ
االستبداد»( ،)3توضيحاً منه (ع) لظاهرة االنانية السلوكية التي تخفي وراءها عامالً موروثاً يحركها ويقويها.
وراثية القدرة العقلية (الذكاء)
لالصول العقلية عند االنسان جذور وراثية صارخة ،هي موضع تسليم مختلف الباحثين النفسيين ،وال أجدني
بحاجة الى البرهنة على ذلك ،والتصور االسالمي يؤكد ايضاً خضوع االصول العقلية عامة لنمط ثابت من
الوراثة بشكل عام ،كما انها تخضع لوراثة طارئة في نطاق (رحم االم) ،مضافاً الى ذلك ان البيئة لها نصيبها من
التأثير في هذا الشأن ايضاً ،لنستمع الى ما يقرره االمام الصادق (ع) في االصل الوراثي العام (للمهارات العقلية)
في جوابه على سؤال أحد تالميذه والمدعو بابي بصير عن المعرفة أمكتسبة هي؟ قال :ال .فقيل له :فمن صنع اهلل
وعطائه هي؟ قال :نعم ،وليس للعباد فيها صنع(.)4
وحين يسأل (ع) عن الحاالت المختلفة للنشاط العقلي في حوار له مع آخر يقول:
(قلت ألبي عبد اهلل (ع):
__________________________________
( )1غرر الحكم ،في باب الطباع.
( )2غرر الحكم ،في باب االصل.
( )3الكافي ،للكليني ،ج ،1ص.85
( )4المصدر السابق.
علي كما كلمته.
الرجل آتيه واكلمه ببعض كالمي فيعرفه كله ،ومنهم من آتيه فاكلمه فيستوفي كالمي كله ،ثم يرده ّ
علي.
ومنهم من آتيه فاكلمه فيقول :أعد ّ
فقال (ع) :وما تدري لم هذا؟
قلت :ال.
قال (ع) :الذي تكلمه ببعض كالمك فيعرفه كله ،فذاك من عجنت نطفته بعقله ،واما الذي تكلمه فيستوفي ثم يجيبك
على كالمك فذاك الذي ركب عقله في بطن امه.
علي :فذا ك الذي ركب فيه بعدما كبر)(.)1وأما الذي تكلمه بالكالم فيقول أعد ّ
ان هذا النص يفصح عن نصيب كل من الوراثة والبيئة في صياغة المهارة العقلية للفرد وعلى النحو الذي بيناه.
فالمهارة العقلية في وضعها االول التي تتضمن جواب االمام االول في الحديث هي المهارة العقلية الموروثة من
اآلباء عن طريق انتقال الجينات الوراثية الحاملة للذكاء الموروث وبنسبة عالية.
اما المهارة العقلية في حالتها الثانية فتتضمن حقيقتين علميتين أوالهما تناغم الجينات الوراثية لصفة الذكاء عند
الزوجة مع الجينات الوراثية للزوج في الرحم من خالل عملية تلقيح الحيمن المنوي الذكري للبويضة االنثوية،
(مورثات) الذكاء في الخلية المخصبة ،وثانيها عوامل الوراثة الطارئة او المحيط الرحمي التي
والتقاء جينات ُ
قامت بتنشيط وتغليب الصفات الجينية الحسنة للذكاء على الصفات الموروثة المتنحية ،أو احاطت الجنين ببيئة
رحمية سليمة خالل فترة الحمل.
أما الحالة الثالثة للمهارة العقلية التي استدعت اعادة كالم المتكلم على السامع من أجل الحفاظ واالتقان فهي اشارة
الى أثر العامل البيئي على المهارة العقلية وتوليها لها بالرعاية والتعليم .وما يؤكد تحليلنا هذا لمقصد االمام (ع)
حديث آخر ألمير المؤمنين (ع) حيث يصنف العقل االنساني الى نوعين بقوله« :العقل عقالن عقل الطبع وعقل
التجربة وكالهما يؤدي الى المنفعة»(.)2
مما تقدم في حديثي االمام الصادق (ع) واالمام علي (ع) تصريح واضح ألهمية الوراثة النقية التي تطبع
الفردبطابعها العام ،واشارة واضحة للوراثة الطارئة التي ترد على الجنين وهو في رحم امه ،ثم نرى في حديث
االمام اشارة بينة لعوامل البيئة وقدرتها على تحسين االستفادة من االستعدادات الوراثية الضئيلة التي يرثها الفرد
مميزة لقدرته العقلية العامة ،وهي ما نعني بها نسبة الذكاء.
فالقدرات العقلية في االنسان تتميز بأصولها الوراثية ،والتربية وعواملها تؤثر فيها ايجابياً فيما لو كانت تسمح
االصول الوراثية بذلك فـ«العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب»( ،)3كما يصرح بذلك االمام علي (ع) ،و«العقل
عقالن مطبوع ومسوع وال ينفع المسموع ما لم يكن مطبوعاً ،كما ال ينفع نور
__________________________________
( )1بحار االنوار ،ص ،197ج ،1باب العقل والجهل.
( )2بحار االنوار ،ص ،116ج.17
( )3غرر الحكم ودرر الكلم ،ص.67
الشمس ونور العين ممنوع»(.)1
وهو ـ العقل ـ حباء من اهلل كما يقول االمام الرضا (ع) ومن تكلف العقل لم يزدد بذلك إالّ جهالً(.)2
غير إن نسبة الذكاء في االنسان تتبع اصولها الوراثية المتفاوتة في االفراد فحين تزداد نسبتها يكون االنسان
عبقرياً نبيهاً يشار له بالعقل والحكمة والنباهة ،وحينما تنقص يكون الفرد عادياً او دون العادي ،والعاديون في
ذكائهم يحتاجون الى مزيد جهد ورعاية حتى تستغل مقادير ذكائهم القليلة الى أقصى حدودها الممكنة ،ويشير الى
هذا المعنى االمام علي (ع) بقوله« :من أكثر الفكر فيما تعلّم اتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم»(.)3
وراثية االستعدادات النفسية
حديثنا المتقدم عن وراثية االستعدادات العقلية تظل مبدءاً عاماً لالستعدادات النفسية ايضاً.
وإ ذا كانت المباحث النفسية تصطنع فارقاً بين االستعدادات العقلية والنفسية من حيث شمول الطابع الوراثي
للقدرات العقلية وفق نسب مختلفة وتراجع العامل الوراثي للسمات النفسية ،انما تصطنع ذلك ألن تجارب تلك
االبحاث والدراسات دللت حتى االن علمياً بامكانية خضوع السمات العقلية للوراثة بنسبة اكبر حجماً بالقياس الى
السمات النفسية ،وحيث ان السمات النفسية تتأثر بالبيئة وعواملها بشكل أكبر.
فاالستعدادات النفسية عند علماء النفس تعني:
أ ـ السمات الفكرية أو (االتجاه).
ب ـ السمات النفسية الخالصة.
وهما من السمات التي يرثها االنسان من آبائه شأنه في ذلك شأن سائر االصول العضوية والحيوية والعقلية التي
يرثها منهم ايضاً .لنستمع الى االمام الصادق (ع) وهو يحدثنا عن هذا الموضوع بقوله« :ان نطفة المؤمن لتكون
في صلب المشرك فال يصيبها من الشر شيء حتى اذا صارت في رحم المشركة لم يصبها من الشر شيء فاذا
وضعته لم يصبها من الشر شيء ،حتى يجري القلم»)4(.
واالمام (ع) من خالل نصه هذا يحدد اصالً فطرياً عاماً ،يرثه الفرد من طرف االم أو االب أو من طرف كليهما ـ
ال فرق ـ هذا االصل الفطري يحدد مقدار استعداد الفرد وامكاناته للتوجه تجاهاً خاصاً او االتصاف بصفة او سمة
اخالقية معينة ،تبعاً لنمط التربية التي ترعاه وتغمره ،والمجتمع الذي يدلّيه ويرشده.
وحين تتعارض هذه االستعدادات النفسية في جينات كل من االب واالم يكون الظهور لالستعدادات االنشط
واالقوى ،فتغلب على االخرى ،لذلك نجد اشارة واضحة لهذا المعنى في حديث
__________________________________
( )1عين اليقين ،ص.243
( )2الكافي ،ج ،1ص.24
( )3فهرست غرر الحكم ،ص.316
()4
االمام الصادق (ع) عندما يقدم توصياته للشباب بشأن (الزواج االنتقائي) ،حيث يحذرهم من السمات الوراثية
السيئة في بعض الرهوط وامكانية انتقالها لالوالد بقوله «ال تزوجوا اليهم فإن لهم عرقاً يدعو الى عدم الوفاء»(
،)1وفي نص ثان« :فإن لهم أرحاماً تدل على غير الوفاء»( ،)2وفي نص ثالث« :فإن لهم اصوالً تدعوهم الى
غير الوفاء»(.)3
وواضح ان كلمات (العرق) و(االرحام) و(االصول) التي جاءت في النصوص الثالثة تدل على النقلة الوراثية
لسمة (عدم الوفاء) أو (الغدر) وامكانية انسحابها على مورثات االوالد.
والمتتبع ألحاديث الشرع االسالمي فى هذا المجال يجد انه يرجع بعض الصفات االخالقية الى المحيط وتأثيراته
كأداء االمانة وصدق البأس ونحوهما ،ويترك االشارة الى تأثير الوراثة فيها ،في ُين نجده عند حديثه عن صفة
(الغدر) يؤكد على الجانب الوراثي منها حيث نهى عن الزواج بالرهوط المعروفة بهذه الصفة .وحقيقة االمر ان
االصول النفسية ألخالقية الفرد ترجع الى نوعين من السمات ،وهي السمات المزاجية والسمات االخالقية،
فاالنطواء واالنبساط مثالً يعبران عن سمات مزاجية ،والمزاج الفردي كما ذكرنا سابقاً هو جملة الصفات التي
تميز انفعاالت الفرد عن غيره ولذلك فهو يؤلف جانباً تكوينياً من شخصية ،وهو جانب يعتمد في المقام االول على
عوامل وراثية تتعلقبحالة الجهازين العصبي والغددي الهرموني ،ومن هذه الصفات المزاجية مستوى الحيوية
والنشاط والمرح او العبوس ،والخجل ودرجة الحساسية للمثيرات ،واالندفاعية ،وتقلب المزاج ،وكل هذه الصفات
تقوم بدور هام في تلوين السلوك وأساليب التكيف التي يصطنعها الفرد لنفسه.
لذلك نجد ان (الغدر) كصفة اخالقية سيئة مبعثها قد يكون ناشئاً عن مزاج انطوائي عدواني ،فحينئذ تكون
االنطوائية الوراثية مسؤولة عن ظهورها كسمة اخالقية.
ولهذا المعنى يشير االمام علي (ع) بقوله« :الشر كامن في طبيعة كل أحد فإن غلبه صاحبه بطن وان لم يغلبه
ظهر»(.)4
لذلك فإن االستعدادات المزايجة التي يرثها االفراد عن آبائهم هي القابالت التي تقبل عن المحيط ومؤثرات التربية
ما يوافقها وينعشها وينميها ،وما الصفات االخالقية إالّ ظواهر لتلك الموروثات ودالئل تشيء عن ماهيتها.
لنستمع الى رسول اهلل (ص) يحدثنا عن هذه الحقيقة بقوله« :الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فمن كان له في
الجاهلية أصل فله في االسالم أصل»(.)5
والسمات األخالقية للفرد التي اعتبرناها شاشة امامية كاشفة لما تخفيه شخصية االنسان من ميول مزاجية دفينة
تتأثر كذلك بالقدرة العقلية الخاصة به ـ أي ذكائه ـ وهي سمة ورالثية أيضاً،وقد ثبت ذلك علمياً من نتائج اختبارات
صممت لهذا الغرض ،إذ أظهرت نتائج االختبار ترابطاً واضحاً بنى
__________________________________
( )1الوسائل ،باب ،31حديث ،3مقدمات النكاح.
( )2المصدر السابق ،حديث .2
( )3المصدر السابق ،حديث .5
( )4فهرست غرر الحكم ،ص.173
( )5روضة الكافي ،ص.177
مستويات الذكاء العالي والسمات االخالقية العالية في هذا الميدان.
وقد اشار رسول اهلل (ص) الى مثل هذا بقوله« :انما يدرك الخير كله بالعقل ،و«اذا بلغكم عن رجل حسن حال
فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله»(.)1
ولذلك أصبح «العقل دليل المؤمن»(ـ ،)2ألنه« :في كماله قهر للطبع السيء»( ،)3وهو «يهدي وينجي»(،)4
و«الشقي من حرم نفع ما اوتي من العقل والتجربة»(.)5
إذاً فالسمات االخالقية التي نجدها في االفراد تحركها اصالً استعدادات موروثة سواء ما كان منها استعدادات او
اصول عقلية او مزاجية نفسية وتنشط تلك الصفات او تخفيها عوامل الوراثة الطارئة في رحم االم ،في حين
تتكفل عوامل التنشئة التربوية والمحيطية بتحديد نوع السمة االخالقية التي يتحلى بها الفرد على ضوء الموروثات
التي يرثها الفرد من اسالفه بما فيها قدرته على التمييز واالختيار وارادته على الحسم او التردد.
يقول الكسيس كارل في كتابه «االنسان ذلك المجهول» عن تأثير كل من الموروثات العقلية والفسلجية على
الوضع النفسي واالخالقي لالنسان ما يلي:
(ان المراكز المخية ال تتكون من المادة العصبية فحسب ،بل انها تشتمل ايضاً على سوائل غطست فيها الخاليا،
وينظم تأليفها بواسطة مصل الدم .ويحتوي مصل الدم على افرازات الغدد ،والنسيج الذى ينتشر في الجسم كله،
ولما كان كل عضو موجوداً في النخاع الشوكي بواسطة الدم والليمفا ،فإن حاالتنا الشعورية مرتبطة بالتركيب
الكيميائي ألخالط العقل مثل ارتباطها بالحالة التركيبية لخالياه ،وحينما يحرم الوسيط العضوي من افرازات غدد
(السوير ارينال) فإن المريض يسقط فريسة لالنقباض الشديد ،ويشبه حيواناً شرساً ،وتؤدي االضطرابات
الوظيفية لغدة الثايارويد اما الى الهياج العصبي والعقلي او الى البالدة وفقد االحساس ،وقد وجد معتوهون
وضعاف عقول ومجرمون في اُسر اصبح تغير تركيب هذه الغدة فيها بسبب اصابتها بجروح او بامراض مسألة
وراثية)(.)6
االستعدادات النفسية والزواج االنتقائي
في رأي المشرع االسالمي
لقد فرغنا من خالل الحديث السابق من اثبات اثر العوامل الوراثية والمحيطية في التكوين النفسي للفرد علمياً
واسصالمياً ،وهنا سنتعرف على رأي المشرع االسالمي في نوعية الزواج المطلوب شيوعه في المجتمع
االسالمي كي يكون متوافقاً مع مبادئه وااهدافه ساعياً الى تحقيقها عبر النواميس االلهية
__________________________________
( )1الكافي ،ج ،1ص.12
( )2من أقوال ابي عبد اهلل (ع) ،الكافي ،ج ،1ص.25
( )3فهرست غرر الحكم ،ص ،257من أقوال االمام علي (ع) ونصه« :العقل الكامل قاهر للطبع السيء».
( )4أصل الحديث لالمام علي (ع)« :العقل يهدي وينمي والجهل يغري ويردي» ،بحار االنوار ،ج،17ص
.116
( )5نهج البالغة ،للفيض الكاشاني.1073 ،
( )6االنسان ذلك المجهول ص ،115ترجمة عادل شفيق.
والجهد التخطيطي الشخصي واالجتماعي.
فالبد إذاً من التعرف على التوصيات المتصلة بتحسين الوراثة والتوصيات المتصلة بالتنشئة االجتماعية المطلوبة
بغية االفادة من العنصرين في تعديل السلوك البشري وتنظيمه وتوجيهه.
ويمكننا اآلن متابعة توصيات الشريعة االسالمية فيما يتصل بكل من التحسين الوراثي والرعاية البيئية.
ولنتحدث اآلن عن التوصيات المتصلة بالتحسين الوراثي عبر عمليتي:
1ـ االنتقاء الزوجي.
2ـ انعقاد النطفة وتشكيل الجنين.
االنتقاء الزوجي:
لما كان الزواج مقدمة اصيلة لتوفر أرضية وراثية لوالدة اجيال جديدة ،كان البد للمشرع ان يضع االسس السليمة
لالنتقاء الزوجي لئال يتيه الشاب غير المجرب بين عوامل الجذب االجتماعية الكثيرة التي احتلت موقعها اليوم
كسنن سلوكية محترمة مع االسف.
فعاداتنا االجتماعية ال تصلح ان تكون قاعدة لالنتقاء الحسن ،وهي تختلط عندها المبررات والداوفع ،وتشتبك فيها
االسباب والمحفزات للواج ،ولكن الشريعة تفهم الزواج رسالة حياتية خطيرة ،ووسيلة لتحقيق غايات كبيرة ،يقول
تعالى« :فاإلن باشروهن وابتغوا ما كتب اهلل لكم»(.)1
يقول العالمة الطباطبائي :يعني الولد ،وفائدة النكاح كما يقول الغزالي (الولد :وهو االصل وله وضع النكاح
والمقصود ابقاء النسل .وان ال يخلو العالم من جنس االنس وانما الشهوة خلقت باعثة مستحثة)(.)2
والزواج من اجل الذرية من سنن أنبياء اهلل ورسوله مع ما كفلوا به من ابالغ الرسالة .يقول سبحانه« :ولقد
ارسلنا ُرسالً من قبلك وجعلنا لهم ازواجاً وذرية»( .)3واحاطتنا بهذه السنة واالذعان لها تعيننا على حفز الهمة
لتحقيق غرضها .وعند ذاك يكون بديهياً ان افضل الزوجات هي ما يتوفر فيها من خصائص النفس ومزايا الروح
ما يجعلها اقرب من غيرها الى مقاصد الزواج الحسية والمعنوية على خير وجه.
ولذلك فاختيار المرأة الودود الولود ،التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وسلوكها كانت من الشروط
االساسية لالنتقاء الزوجي الصالح .فال تترك عملية االختيار واالنتقاء للصدفة والالأبالية.
فاالمام الصادق (ع) يقول« :تخيروا لنطفكم»( )4والتخير معناه على ضوء ما تقدم من حديث
__________________________________
( )1سورة البقرة .187/
( )2احياء علوم الدين ،باب الولد.
( )3سورة الرعد .38/
( )4مكارم االخالق ،ص.200
الوراثة والمحيط هو ما يجمع بين أحسن وافضل الشروط الوراثية والتربوية الن المطلوب في الولد ان يكون
صحيح الجسم قوي الصحة سالماً من النقص والتشويه والمرض والعاهة ،يرث من أبيه وأمه سماتهم الخلقية
وخلقه وشمائله»(.)1
الحسنة وصفاتهم الخلقية الرشيدة فـ«من سعادة الرجل ان يكون الولد يعرف بشبهه وخلقه ُ
وال يتحقق هذا الهدف إال إذا اجتمعت خير الشروط في الزواج والزوجة ،وأهم هذه الشروط هي العفة فـ«طوبى
لمن كانت امه عفيفة»(.)2
وقد نصح االمام الصادق (ع) من يريد الزواج بالتحري الدقيق عن االستعدادات الموروثة لدى المرأة والتأكد من
مقبوليتها فقال« :تزوجوا في الحجز( )3الصالح فإن العرق دساس»( .)4وقال الرسول االكرم (ص) بهذا المعنى
أيضاً« :إنظروا في أي شيء تضع ولدك فإن العرق دساس»( .)5ويقصد بذلك (ص) ان أخالق االباء تنتقل الى
االبناء بعوامل وراثية .كما اراد الرسول (ص) واالمام الصادق (ع) التأكيد على عمق تأثير العامل الوراثي
المتأتي نم االجداد أيضاً والمؤثر في الوالدات المتأخرة ،ولذلك فهو لم يقصر عملية التحري الوراثي على الوالدين
فقط انما وسعها لتشمل العشيرة حيث اشار بكلمة (الحجز الصالح) الى الوراثات الموغلة في االباء عبر التاريخ،
وقد أكد رسول اهلل (ص) على هذه الحقيقة مرة حين جاءه رجل يشكو اليه عدم تشابه المولود الحديث بابيه أو
بأمه ،واختلف عنهما بسواد بشرته الحالك وشعره المجعهد وانفه االفطس ،فقال له الرسول انهما هو ابنك وهذه
الصفات التي تراها فيه «لم يأتك إال من عرق منك او منها»( .)6فـ«ان اهلل تعالى إذا اراد ان يخلق خلقاً جمع كل
صورة بينه وبين آدم ،ثم خلقه على صورة أحديهن فال يقولن احد لولده هذا ال يشبهني وال يشبه شيئاً من آبائي»(
.)7
وحذر رسول اهلل (ص) من الزيجات القائمة على العشق والحب العابر ،بسبب الجمال او العوامل الظاهرية
المغرية بنهيه الصريح عنها« :أيها الناس إياكم وخضراء الدمن .قيل :يا رسول اهلل وما خضراء الدمن؟ قال:
المرأة الحسناء في منبت السوء»( .)8وحين سئل االمام الباقر (ع) عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء
أيصلح له ان يتزوجها وهي مجنونة« :قال :ال .ولكن ان كانت عنده امة مجنونة فال بأس بأن يطأها وال يطلب
ولدها»( .)9لما في ذلك من تأثير على وراثة االوالد.
كما نهى االمام الصادق (ع) عن الزواج بالزانية او الزاني بقوله« :ال تزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا وال
__________________________________
( )1عن كتاب المحاسن ،مكارم االخالق ،من اقوال االمام الصادق (ع).
( )2بحار االنوار ،من اقوال االمام الصادق (ع) ص ،23ص.79
( )3الحجز :العشيرة العفيفة الطاهرة.
( )4مكارم االخالق ،ص.197
( )5المستطرف ،ج ،2ص.218
( )6الكافي ،ج ،5ص.332
( )7الوسائل ،ج ،5ص.40
( )8المستدرك ،ج ،2ص.631
( )9حديث لالمام الصادق (ع) ،مكارم االخالق ،ص.114
تزوجوا الرجل المستعلن بالزنا ،إالّ أن تعرفوا منهما التوبة» .حتى ال تضيع االنساب وتختلط المياه ويكثر االوالد
غير الشرعيين فيحرم الجيل من رعاية االباء واالمهات ودفء البيوت الوادعة المطمئنة.
ونهى االمام علي (ع) من تزويج الفاسقين والمخمورين لئال يسود المجتمع التحلل واالستهتار وروح التمرد على
القيم االنسانية والدينية ،فينقطع النسل الصالح وتقفر االرض من مسؤولية البناء واالصالح ،لنستمع اليه (ع) وهو
يشرح لنا سبب ذلك:
«من زوج كريمته من فاسق فقط قطع رحمها»(.)1
«ومن زوج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها»(.)2
وقد منع االمام الصادق في حديث له عن التزوج بضعيفات القدرة العقلية الن ذلك ينقل عبر وراثتها فقال (ع):
«إياكم وتزوج الحمقاء فإن صحبتها بالء وولدها ضياع»( .)3كما نهى رسول اهلل (ص) من الزواج بالقريبات
الن ذلك مما يضعف المورثات الجينية في نسلهما ،فتظهر على أوالدهم امارات الضعف وعالئم االمراض ذات
المنشأ الوراثي فقال (ص)« :ال تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد ُيخلق ضاوياً»( .)4والضوي معناه دقة العظم
وقلة الجسم والخلقة ،وهذا النهي يشمل فقط القرابة التي تجتمع فيها المورثات الضعيفة ،بحيث تتأصل فيها عن
طريق التزواج وتبرز في االوالد.
وقد نهى أبي الحسن (ع) عن تزويج سيء الخلق الن سوء االخالق ينتقل الى االوالد عبر عوامل وراثية مزاجية
وعوامل محيطية ،واالب او االم اذا ما كانا سيئي الخلق فانهما يوفران الوالدهما وراثة سيئة ومحيطاً بيئياً سيئاً
الي وفي ُخلقه ُسوء ،قال :ال
ايضاً .يقول الحسين بن بشار :كتبت الى أبي الحسن (ع)( :ان لي ذا قرابة قد خطب ّ
تزوجه ان كان سيء الخلق)(.)5
والمشرع االسالمي وضع خصائص الزواج الناجح بناء على معايير علمية وعقيدية ورغب في البحث عنها
وتوفيرها قدر االمكان.
فهذا االمام الصادق (ع) يقول للشباب «إذا هم أحدكم بالزواج :فليصل ركعتين وليحمد اهلل عز وجل وليقل اللهم
وخلقاً واعفهن فرجاً واحفظهن لي في نفسها ومالي
اني أريد ان اتزوج اللهم فقدر لي من النساء أحسنهن خلقاً ُ
وأوسعهن رزقاً واعظمهن بركة وأقض لي منها ولداً طيباً تجعله لي خلفاً صالحاً في حياتي وبعد موتي»( )6وقال
االمام السجاد (ع)« :إذا أراد احدكم ان يتزوج فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها فإن الشعر أحد
الجمالين»(.)7
__________________________________
( )1المحجة البيضاء .ج ،3ص.94
( )2الكافي ،ج ،5ص.347
( )3الجعفريات ،ص.92
( )4المحجة البيضاء ،ج ،3ص.94
( )5مكارم االخالق ،ص.103
( )6مكارم االخالق ،ص.205
( )7مكارم االخالق ،ص.200
وقال رسول اهلل (ص)« :أفضل نساء امتي أصبحهن وجهاً واقلهن مهراً»(.)1
وقال (ص) كذلك« :ان من سعادة المرء المسلم ان يشبهه ولده والمرأة الجمالء ذات دين.)2(»...
وحين سأل احد الشباب االمام علي (ع) عن صفات من يتزوجها قال له« :تزوج سمراء عجزاء مربوعة فإن
كرهتها فعلي صداقها»( ،)3ويعني بذلك الحسنة العين ووسيعتها ،ولون بشرتها وسط بين السواد والبياض،
وكبيرة العجيزة ووسيطة القامة بين الطول والقصر.
وقد سئل االمام الصادق (ع) مثل هذا السؤال فكان جوابه للسائل ان «اُنظر اين تضع نفسك ومن تشركه في مالك
وتطلعه على دينك وسرك وامانتك ،فإن كنت البد فاعالً فبكراً تنسب الى الخير والى ُحسن الخلق:
أال إن النساء خلقن شتى***فمنهن الغنيمة والعزام
ومنهن الهالل إذا تجلى***لصاحبه ومنهن الظالم
فمن يظفر بصالحتهن ُيسعد***ومن ُيغبن فليس له انتظام
وهن ثالث فأمراة ولود ودود تعين زوجها على دهره وتساعده على دنياه وآخرته وال تعين الدهر عليه ،وامرأة
)فراجة همازة( )6تستقل
صخابة( )4والجة(ّ 5
عقيم ال ذات جمال وال ُخلق وال تعين زوجها على خير ،وامرأة ّ
الكثير وال تقبل اليسير(.)7
فانتقاء الزوجة على ضوء المقاييس الشرعية ومعايير العقيدة هو هدف االسالم الرئيس من الزواج ،وان توفير
االرضية الوراثية الصالحة لهذا الزواج مدعاةً لمل المجتمع باجيال صالحة ايضاً ،فـ«االيام توضح السرائر
«حسن االخالق برهان كرم االعراق»( ،)9و«جميل
الكامنة»( )8في االنسان مهما كانت خافية عن غيره ،وان ُ
الفعل ينبىء عن طيب االصل»( ،)10و«اذا ما كرم اصل الرجل كرم مغيبه ومحضره»(.)11
والمجتمع المؤمن العامل بشروط الزواج الصالح ينتج وبالتأكيد أبناء مؤمنين صالحين بعضهم اكفاء بعض ،ما لم
تظهر عليهم عالئم القصور العضوي والتخلف العقلي ،ولذلك فهم يصلحون للزواج من بعضهم البعض وفي ذلك
يقول رسول اهلل (ص)« :إذا جاءكم من ترضون ُخلقه او عقله ودينه فزوجوه،
__________________________________
( )1بحار االنوار ،ج ،23ص.55
( )2بحار االنوار ،ج ،23ص.51
( )3مكارم االخالق ،ص.199
( )4صخابة :بالتحريك شدة الصوت والصيحة للخصام.
( )5الوالّجة :كثير الولوج اي الدخول والخروج.
العيابة والغيابة.
( )6الهمازةّ :
( )7مكارم االخالق ،ص.199
( )8االمام علي (ع) ،غرر الحكم ،ص.28
( )9المصدر السابق ،ص.379
( )10المصدر السابق.
( )11المصدر السابق ،ص.327
أال تفعلوه تكن فتنة في االرض وفساد كبير»(.)1
وفي قصة خطبة بالل الحبشي وصهيب الرومي مصداق لشيوع هذه القيم االلهية في مجتمع الرسول االعظم
(ص).
(يحكى ان بالالً وصهيباً أتيا اهل بيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما :من أنتما؟ فقال بالل:
كنا ضالين فهدانا اهلل وكنا محكومين فأعتقنا اهلل ،وكنا عائلين فأغننا اهلل فان تزوجونا
أنا بالل وهذا أخي صهيب ّ
فالحمد هلل ،وان تردونا فسبحان اهلل.
فقالوا بل تزوجان والحمد هلل ،فقال صهيب لبالل:
لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول اهلل (ص) :فقال :اسكت فقد صدقت ..فأنكحت الصدق».
هذه هي التحفظات الشرعية على الزيجات التي تستبطن وراثة سيئة ،وهي بمجموعها تشكل تصور وفهم المشرع
االسالمي الثر العامل الموروث في التكوين النفسي لشخصية الفرد ،فإن هو أفلح في تجنيب النسل البشري اسباب
تخلفه النفسي (العقلي والسلوكي)ـ وفر للمجتمع جيالً فاعالً نشطاً يتحرك باتجاه التكامل والعلو ،غير مشدود الى
الخلف بحبال الوراثة المنحطة ،أو باغراء المحيط الالمسؤول.
_______________________________
( )1الكافي ،ج ،5ص.347