Professional Documents
Culture Documents
مختصر كتاب - في رحاب الحضارة الإسلامية
مختصر كتاب - في رحاب الحضارة الإسلامية
أما من حيث االصطالح فلها مفاهيم متعددة ،نذكر منها على سبيل المثال ال الحصر التعريفات اآلتية:
"الحضارة هي نظام اجتماعي يعين اإلنسان على زيادة إنتاجه الثقافي". •
هي" :ذلك الكيان المعقد الذي يضم :المعرفة ،والمعتقدات ،والفنون ،والقوانين ،والعادات ،وجميع القدرات، •
والتقاليد األخرى التي َي ْك ِسُبها اإلنسان بوصفه عضوا في المجتمع".
• هي" :حياة المجتمع المتمثلة في نظمه ،ومؤسساته ،ومكاسبه ،وإنجازاته ،وفي القيم والمعاني التي تنطوي
عليها هذه الحياة".
هي :ثمرة كل جهد يقوم به اإلنسان لتحسين ظروف حياته ،سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك •
الثمرة مقصودا ،أو غير مقصود ،وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية".
خالصة القول :إن الحضارة هي جميع اإلنجازات المادية والمعنوية للبشرية على مسار رحلتها الطويلة ،وقد قرر
ابن خلدون في مقدمته أن الحضارة هي غاية العمران البشري ،ونهاية لعمره ،ومؤذنة بفساده على اعتبار أن الترف
الحاصل فيها يمثل عنصر دمارها.
الحضارة اإلسالمية هي تلك الحضارة التي قامت على أسس محددة هي القرآن الكريم ،والسنة النبوية الشريفة،
والعرق العربي ،وشعوب البالد التي دخلها اإلسالم عن طريق الفتوحات اإلسالمية ،والمجال الجغرافي ،والعناصر
األجنبية ،واللغة العربية.
كما أن للحضارة اإلسالمية خصائص مميزة نذكر منها :الوحدانية المطلقة ،النزعة العقالنية ،الطابع اإلنساني،
طابع التسامح ،والتوازن بين الماديات والروحانيات ،والقدرة على مواجهة التحديات.
كان القرآن الكريم وال يزال دستور المسلمين األول ،وهاديهم المقدم في دينهم ودنياهم ،فهو المعين الذي ال ينضب،
له الفضل في نشوء كثير من العلوم مثل علم أسباب النزول ،وعلم الناسخ والنسوخ ،وعلم القراءات ،وعلم التفسير
وغيرها.
ونظ ار الرتباط القرآن الوثيق باللغة العربية ،باعتبارها سر إعجازه ،يصعب ترجمته إلى اللغات األخرى ُليستغنى
بذلك عن العربية التي أساسها الشعر والنثر والقرآن الكريم ،اللهم إال على سبيل تقريب معانيه.
ولقد ارتبط المسلون بالقرآن الكريم أشد االرتباط حفظا وقراءة وكتابة ،بما عكس مصداقية توكيد رب العالمين "ِإًّنا
ِ
الذ ْكر وإِنا َله َل ِ
حافظو َن". ُ َن ْح ُن َن َّ ْزلنا َ
ص به القرآن لم يتأ َّ
َت لكتب أهل األديان األخرى ،حيث لحقها التحريف والتبديل والتزوير، وإن أمر الحفظ الذي ُخ َّ
األمر الذي أضفى عليه كثي ار من الوثوقية والمصداقية العالية التي تدفع كل الطعون المشككة.
ينج القرآن الكريم عبر التاريخ وإلى اليوم من الهجوم من قبل األعداء بغرض التشكيك في وثوقيته
ورغم ذلك لم ُ
والتحريف في معانيه والنقد لما جاء فيه ،إال أن ذلك عادة ما يبوء بالفشل.
ظ عن النبي من قول أو فعل أو تقرير ،ولقد حرص المسلمون على اتباع نبيهم في كل وهي كل ما ُح ِف َ
صغيرة وكبيرة ،وبخاصة إذا ُعلِ ُم بأن سنته وسيرته هي الشرح المفصل والواضح والتطبيقي لكثير مما جاء في القرآن
الكريم.
وال أ ََد َّل على ظاهرة االهتمام المتميز بسنته من كثرة العلماء والمؤلفات التي تخصصت في تدوينها ،مثل :البخاري،
ومسلم ،وابن ماجة ،وأبو داود ،والترمذي ،والنسائي ،وأحمد.
ومثله مثل القرآن الكريم تعرض نبي اإلسالم ورسوله لموجات ناقدة ومشككة على امتداد العصور ،لكنها لم
تصمد أمام شخصيته العظيمة ،وإنجازاته المتميزة على أكثر من صعيد.
ومثل القرآن الكريم يعد بحق النبي الكريم بما مثله من قيادة وتأثير األساس الثاني الذي قامت عليه الحضارة
اإلسالمية.
ولقد بدأ التأثير ابتداء من حادث نزول جبريل روح هللا وأمينه بوحي هللا تعالى إليه في غار حراء ،لتبدأ عملية
نزول القرآن الكريم ،وهي لحظة تاريخية فارقة في تاريخ اإلنسانية ،بما سيكون لها من آثار حضارية عارمة.
لم تسلم سنته من تشكيك في صحة ما ينسب إليه من أحاديث ،لكن علم الحديث بما تضمنه من علوم ،وبما
انخرط فيه من متخصصين ،استطاعوا من خالل منهج علمي له أسسه وقواعده ،أن يميزوا بين صحيحه وسقيمه ،نذكر
منها على سبيل المثال :علم غريب الحديث ،علم علل الحديث ،علم مصطلح الحديث ،وعلم الرجال.
ومما ينبغي التذكير به في هذا الصدد أن سيرته لم ترتبط بها الخرافات واألساطير ،كما لم ترتبط بطبيعته
البشرية أي صفات األلوهية ،األمر الذي ميزها بالتاريخية والواقعية والمصداقية ،على خالف ما حصل في ديانات أخرى
مثل المسيحية.
كما يجدر التنبيه على أن رسول اإلسالم ألفت عنه مؤلفات تند عن الحصر من قبل المسلمين ،ومن غيرهم
بجميع اللغات ،بما دل على شهرته وتأثيره ،تفاوتت ما بين اإلنصاف واإلجحاف ،لكنها ال تخلو من التقدير ،إال أن
المسلمين ليسوا في حاجة إلى شهادة غيرهم لتعظم ثقتهم بنبيهم ،فقد أثنى عليه رب العالمين بقوله" :وإنك لعلى خلق
عظيم" ،وقد كان لعظمة خلقة الدور البارز في التأثير والتغيير على أوسع نطاق.
ت العرق العربي.
4
من األسس التي قامت عليها الحضارة اإلسالمية أيضا العرق العربي ،فهو الذي عرف اإلسالم أوال ،ثم آمن به،
ثم خرج به من شبه الجزيرة العربية لنشره في العالم عبر الفتوحات ،فأوصله إلى شعوب العالم شرقا وغربا ،فبدون
العرب ،باعتبارهم لبنة اإلسالم األساسية ،ما كانت لتمتد الحضارة اإلسالمية ذلك االمتداد.
ولقد تناول المستشرقون الفتوحات بالدراسة ،فأرجعوا أسبابها إلى الدافع االقتصادي ،ممثال في السلب والنهب،
كما اعتبروها امتدادا لحركة الهجرات التقليدية التي عرفتها كثير من الشعوب ،بدافع البحث عن المواطن الفيضية الغنية
مثل العراق والشام ،لكن الزعم ال يدعمه التاريخ.
وعلى خالف الزعم المذكور وصفها H.G. Wellsبأنها أعجب قصص الفتوح في التاريخ ،قامت من أجل إسقاط
أنظمة الحكم القائمة ،وتخيير الشعوب بين اعتناق اإلسالم أو اإلبقاء على ديانتهم السابقة.
لم تحدث في الفتوحات عمليات تطهير عرقي ،كما تم الحفاظ على البنية السكانية والعمرانية ،وتم إنشاء العديد
من المدن اإلسالمية متميزة ،مثل :البصرة ،والكوفة ،والفسطاط ،والقيروان ،التي ستنموا باطراد.
لم تكن الفتوحات إذاً للسلب والنهب ،وإنما كانت حضارية رفيعة المستوى ،نادرة الطراز ،عديمة الشبيه.
وحينما نؤكد على أهمية العرق العربي كأساس في بناء الحضارة اإلسالمية ،فإننا ال ننكر أهمية األعراق األخرى
كالفرس والترك وغيرهم.
أما الشعوب المفتوحة فجعلت عالم اإلسالم متعددا متنوعا ،ضم الفرس واألتراك واألقباط والبربر(األمازيغ) والروم
وغيرهم ،يسوده التعايش وتسامح ،والنشاط االقتصادي والعلمي ،بعيدا عن كل مظاهر العنصرية التي عرفتها كثير من
الحضارات ،األمر الذي عمق وقوى البعد اإلبداعي للحضارة اإلسالمية.
ال شك أن للجغرافيا أهميتها وتأثيرها ،باعتبارها موجهة للتاريخ والذي ما هو من بعض الوجوه إال صراع على
الجغرافيا.
شمل نطاق الحضارة اإلسالمية مناطق واسعة في قارات العالم القديم :آسيا ،وأفريقيا ،وأوروبا ،حيث توسعت من
الصين شرقا إلى جنوب فرنسا غربا ،فاشتملت على العديد من األقاليم المناخية واألنماط البيئية المتنوعة ،التي تتوفر
على عشرات األنهار ،األمر الذي ساعد على توافر األمن المائي الضروري للحياة والنشاط االقتصادي ،زراعة،
وصناعة ،وتجارة ،كما ساعد على نمو كثافة سكانية منتجة.
5
كما احتوى النطاق الجغرافي على سواحل مهمة وجد بها العديد من الموانئ التي ازدهت من خاللها الرواج
البحري ،كما احتوت أيضا على العديد من المعادن الالزمة للتصنيع ،كما ضم هذا المجال الجغرافي خطوط التجارة
العالمية ،خاصة تجارة التوابل اآلتية من الهند ،المتجهة نحو أوربا ،المارة عبر البحر األحمر وجزيرة العرب ،وكذلك
تجارة الحرير اآلتية من الصين تجاه أوربا مرو ار بالعراق وبالد الشام.
إن هذا الموقع العبقري الفريد الذي امتدت عليه الحضارة اإلسالمية جعلها في كثير من األحيان عرضة للتنافس
والصراع مع القوى الدولية المعادية الموجودة على الساحة.
ج العناصر األجنبية.
ويقصد بها ما أفاده المسلمون من تراث األمم السابقة مثل الفرس واإلغريق والهنود ،وال عيب في ذلك ،ألن
التاريخ أخذ وعطاء ،وحوار بين الحضارات ،غير أن بعض المستشرقين أنكروا أن يكون للمسلمين أي إضافة في
مختلف العلوم ،وادعوا أن الفضل كله هو لإلغريق ،انطالقا من دافع المركزية األوروبية الذاتية ،وهو أمر غير منصف.
ح اللغة العربية.
تعد اللغة العربية أيضا أحد أسس الحضارة اإلسالمية ،باعتبارها لغة الوحي القرآني َّ
"إنا أ َْن َ ْزلناهُ ُق ْرآنا َع َربِيًّا" ،األمر
الذي أكسبها المكانة والمحل المرموق ،فنتج عنها كم هائل من اإلبداعات في جميع المجاالت اإلنسانية والطبيعية،
وصلت إلينا عبر أضخم تراث إنساني ،األمر الذي جعل منها لغة العلوم بامتياز ،ومكنها من االنتقال إلى جميع
المناطق التي بلغتها الفتوحات ،فأصبحت أحد أركان الهوية اإلسالمية إلى جانب الدين والتاريخ ،بل إنها أثرت حتى
في غير المسلمين فاعتمدوها لغة للعلم مثلما حدث في األندلس.
ويعني التوحيد المطلق ،إفراد هللا الواحد األحد األكبر المنزه عن الشبيه في أسمائه وصفاته وأفعاله بالعبودية
الخالصة ال ُي ْش َرك معه أحد من دونه.
6
ومن مظاهر التوحيد المطلق في اإلسالم عدم وجود طبقة الكهنوت التي تحتكر الدين لصالحها ،وتستغل الناس
من خالل ذلك ،فال وساطة إذاً في اإلسالم بين الخالق وعبده ،وال طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهكذا ،ومن دون مبالغة أو تعصب ،لم يعرف التاريخ اإلنساني عموما حضارة نزهت الخالق سبحانه وتعالى حق
التنزيه مثل الحضارة اإلسالمية ،فتجاوزت بذلك كثي ار من الحضارات التي انتشرت فيها األساطير المنافية للعقالنية
والواقعية.
ومن هذا المنطلق ال يمكن فهم كثير من مظاهر الحضارة اإلسالمية وعواملها ،إذا أقصي عامل عقيدة التوحيد
من االعتبار.
كما يرتبط بعقدية التوحيد أركان اإلسالم الخمسة األساسية المعروفة ،والتي هي جزء ال يتج أز من كثير من
المظاهر اإلسالمية الخارجية ،ونعني بها الشهادتين ،والصالة والزكاة ،والصيام والزكاة ،والحج مع شرط االستطاعة،
ومعلوم أن الشهادتين على الحقيقة هي عقد بين اإلنسان وخالقه ،ومن خالله يدخل في رحاب الحضارة اإلسالمية ،من
غير طقوس ،وال رجال دين ،وهذا ما لم يتأت ألي ديانة أخرى.
ب النزعة العقالنية.
العقالنية هي أيضا من خصائص الحضارة اإلسالمية البارزة ،انطالقا من حقيقة أن اإلسالم نفسه هو دين يتوافق
مع العقل البشري السوي المنصف ،وأنه يمتاز بالبساطة واليسر من غير تعقيد يصطدم مع الفطرة اإلنسانية ،ومن
مظاهر ذلك انتفاء الخرافة واألسطورة والالمعقول منه ،األمر الذي يعصم العقل المسلم من أن تقتنع بمثل هذه األمور
التي تعج بها كثير من الديانات السماوية والوضعية.
ت النزعة اإلنسانية.
اإلنسانية أيضا من الخصائص البارزة في الحضارة اإلسالمية ،تستمد روحها من اإلسالم قرآنا وسنة وأخالقا
وممارسة ،فلقد كان اإلنسان هو الهدف األول لإلسالم في الحضارة اإلسالمية التي نجمت عنه ،ولذلك فإن نظمها
ومؤسساتها كلها كان هدفها خدمة اإلنسان والرقي به.
ومن مظاهر اإلنسانية في اإلسالم ذلك التوافق العجيب ،والتوازن الفريد ،بين المطالب المادية والمطالب الروحية.
كذلك من مظاهر البعد اإلنساني في الحضارة اإلسالمية اعتبار اإلنسان خليفة هلل تعالى في األرض ،وتكريمه
على كثير من خلقه ،وتسخيرهم له ،باإلضافة إلى احترام آدميته من خالل تحريم إزهاق روحه بغير حق.
7
ث خاصية التسامح.
ي عتبر التسامح من أعظم الخصائص التي ميزت الحضارة اإلسالمية عن غيرها من الحضارات ،حيث اتسع
تسامحها ألهل األديان المختلفة ،وعلى رأسهم اليهود والنصارى ،الذين اعتبرتهم أهل ذمة ،أي أهل عهد ال ينبغي
انتهاكه ،ولذلك حمتهم الدولة اإلسالمية من كل اعتداء ،فمارسوا شعائرهم وطقوسهم بكل حرية ،مستمتعين بحق المواطنة
المدنية ،فشاركوا في بناء الحضارة اإلسالمية وانتموا إليها ،فساهموا في التنمية االقتصادية من خالل التجارة والصناعة
والصيرفة والصباغة ،وتقلدوا مناصب راقية في الدولة اإلسالمية.
وهذا موسى بن ميمون اليهودي الذي بلغت به الحظوة إلى أن صار الطبيب الشخصي لصالح الدين األيوبي،
وقبله كثير في الخالفة العباسية.
بل إن بعضهم تقلد منصب الو ازرة كما حصل في الدولة فاطمية ،ومنصب السفارة في مملكة غرناطة األندلسية.
والحقيقة إن األندلس جسدت األنموذج األمثل للتسامح والتعايش بين اإلسالم والمسيحية واليهودية بشهادة
المتخصصين.
وال أدل على خاصية التسامح والتعايش من بقاء الماليين من اليهود والمسيحيين في العالم اإلسالمي في كثير
من البالد العربية واإلسالمية إلى اآلن ،وهو أمر لم تعرفه أوربا القرون الوسطى ،التي شهدت كثي ار من مظاهر التعصب
والتطهير العرقي بين الطوائف الدينية المختلفة.
ومن أبرز التحديات التي واجهت على سبيل المثال ،الحركة الصليبية على مدى قرنين من الزمان (12م13/م)،
من خالل حمالت عديدة ،تجندت لها أوربا كلها كنيسة وملوكا ،وأنفقت فيها األموال الطائلة ،وأقامت من خاللها عدة
إمارات في بالد الشام ،بما في ذلك بيت المقدس ،ارتكبت فيها الجرائم الفظيعة ،أبرزها مذبحة القدس ،كما جاؤوا بمشروع
8
التبشير والتنصير ،إال أن الحركة فشلت فشال ذريعا ،وطرد الصليبيون شر طرد ،وعادوا أدراجهم يجرون أذيال الخيبة
على يد صالح الدين األيوبي في ملحمة حطين سنة 1187م.
ومن أعظم التحديات كذلك ،االجتياح المغولي في القرن 13م ،المنطلق من منغوليا شمال الصين ،فأهلكوا الحرث
والنسل ،وخربوا القرى والحواضر ،بما في ذلك بغداد عاصمة الخالفة العباسية ،فقتلوا الخليفة المستعصم قتلة شنيعة،
ثم توسعوا نحو الشام وأسقطوا دمشق ،إال أن دولة المماليك في مصر كانت لهم بالمرصاد ،فكبدهم هزيمة نكراء في
ملحمة عين جالوت سنة 1260م.
إلى غير ذلك من التحديات مثل تحدي االستعمار الحديث ،وما أعقبه ،فأكدت المواجهة على قدرة الحضارة
اإلسالمية على الصمود واالستمرار.
ح خاصية العالمية.
دل على هذه الخاصية قدرتها على اإلفادة من التراث اإلنساني السابق اإلغريقي والفارسي والهندي ،واستيعابه ثم
هضمه وتمثله وتقديم نتاجه إلى البشر كافة ،فكانت الحضارة اإلسالمية بحق ،عالمية المنبع وعالمية المصب.
وبفضل هذه الخاصية تفوقت على الحضارات السابقة ،حيث اتسع نطاقها جغرافيا وثقافيا ،وانتشر اإلسالم بموجب
ذلك في جميع القارات ولقرون عديدة ،األمر الذي أكد على البعد اإلنساني المتسامح ،الذي فسح مجال اإلسهام
والمشاركة حتى للعناصر المخالفة للمذهب الرسمي الدولة الحاكمة.
كما أن العالمية لم تفرض فرضا ،وإنما ترسخت تلقائيا من غير قهر أو إرغام ،وإنما من خالل انخراط إيجابي
طوعي ،بخالف ما حدث ويحدث من جراء العولمة Globalizationوالتي هي في حقيقتها فرض نمط ثقافي واحد
ووحيد على حساب ثقافات الشعوب األخرى.
خ خاصية التوازن:
وتتمثل في ذلك التوازن اإللهي الفريد بين مطالب اإلنسان الروحية والمادية ،فهي حضارة ال مادية بحتة ،وال
روحية بحتة ،فتجنبت بهذه الخاصية آفة الحضارة الغربية المبالغة في الجانب المادي ،والتي عجزت في خلق توازن
يستجيب لالحتياجات الروحية الفطرية الجالبة للسعادة المنشودة.
ونتناول من خاللها بتركيز شديد نظم الخالفة والو ازرة والمظالم والكتابة الحسبة والحجابة لما بينها من ارتباط
وثيق.
.1الخالفة:
من فعل خلف يخلف خالفة ،وهي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ،ونشأت بعد وفاة النبي ،وهي أرقى
منصب في النظم اإلسالمية ،من شروطها :اإلسالم ،والبلوغ ،والذكورة ،والعقل ،والحرية.
ومن عالماتها الرمزية البردة ،إشارة إلى بردة النبي ،التي خلعها على الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى،
بعد مدحه وقد رجع تائبا مسلما ،حيث توارث البردة الخلفاء األمويون والعباسيون إلى أن سقطت بغداد ،فانتقلت بانتقال
العباسيين إلى القاهرة ،ثم انتقلت إلى العثمانيين ،ويحتفظ بها اآلن في متحف طوبقبوي سراي بإستانبول مع عدة من
متعلقات الرسول .
من الشارات الرسمية أيضا الخاتم اقتداء بما فعله الرسول ،اتخذه لختم الرسائل والمعاهدات ،منقوش عليه
"محمد رسول هلل" ،ومنها أيضا القضيب ،وهو عبارة عن عود اتخذه الرسول أيضا.
كما كان للخالفة شارات مميزة تمثلت في الخطبة وتعني ذكر اسم الخليفة والدعاء له في الجمعة والعيدين ،بما
يدل على االعتراف بالخالفة واستمرارها.
ومن عالماتها أيضا ِ
الطراز ،ويقصد به مالبس الخليفة الرسمية المميزة.
أما النظام السياسي في اإلسالم فيقوم على األسس اآلتية:
.1الحاكمية هلل تعالى باعتباره هو مصدر التشريع استجابة لخاصية الوحدانية.
.2السيادة ألحكام الشرع تطبق على الجميع في جميع مناحي الحياة.
.3السلطان لألمة ،التي يجب عليها مبايعة الحاكم وهو الخليفة أو اإلمام.
.4يجب أن يكون لألمة خليفة واحدا ،هو رئيس الدولة ،وتساعده أجهزة تنفيذية وقضائية ومالية.
.5الشورى التي تعني تبادل المسلمين من أهل االختصاص الرأي في القضايا التي لم يرد فيها نص ،وهكذا ال
يكون القرار فرديا وإنما جماعيا وتوافقيا.
من خالل األسس المذكورة تتكشف لنا بجالء أسبقية اإلسالم وبقرون عدة كثي ار من األنظمة السياسية بما في
ذلك أنظمة معاصرة ،من خالل احترامه لحقوق اإلنسان ،التي أصل لها القرآن الكريم ،باعتباره أول "وثيقة" إلهية متكاملة
في حقوق اإلنسان.
10
ولقد تعاقب على مؤسسة الخالفة اإلسالمية ابتداء من الخالفة الراشدة مرو ار بالخالفة األموية ،وانتهاء الخالفة
العباسية في المشرق والمغرب وما صاحب ذلك من تطورات ،عدد كبير من الخلفاء لكل واحد مدته وتجربته وآثاره
تفاوتت ما بين الطول والقصر ،والقوة والضعف ،واإليجابية والسلبية ،واإلنصاف واإلجحاف ،شأن كل التواريخ ،ال يتسع
المقام لبسط القول فيها.
.2الوزارة:
المْل َجأُ ،ألنه هو ِ ِ ِ ِ
الوَزر ،وهو َ
قيل مشتقة لغويا من الوْزر ،وهو الثَق ُل ،ألن الوزير يحمل أثقال الخليفة ،وقيل من َ
األزِر ،وهو َّ
الظ ْه ُر ،يتقوى به الخليفة كما يتقوى البدن بالظهر. الذي يلجأ إليه الخليفة ،وقيل من ْ
وتعد الو ازرة من أهم المناصب السياسية في الحضارة اإلسالمية ،وال بد أن تتوافر في الوزير عهدة شروط منها:
األمانة ،والصدق والذكاء ،واالستقامة ،والحنكة والتجربة.
وللو ازرة عدة صور منها :و ازرة التنفيذ ،وتعني تنفيذ تعليمات الخليفة ،وو ازرة التفويض ،وتعني تفويض الخليفة
أمور الخالفة للوزير بموسوم رسمي ،وتكون صالحيات الوزير بالتفويض واسعة منها :يجوز له الحكم بنفسه ،بما في
ذلك تقلد األحكام ،والنظر في المظالم ،والتصرف في بيت المال ،والدفاع عن الخالفة والرعية ،وتنصيب الوالة.
ولقد كانت و ازرة التفويض تعني أن الخليفة صار بال سلطات فعلية ،كما تعني أن الوزير المفوض أصبح يتدخل
في تعيين الخلفاء وفق مصالحه بدل المصلحة العليا.
ومع ذلك فإن األمور لم تكن لتسير دوما في صالح الوزراء بالتفويض حينما يتجاوزون الحدود ،حيث تدور عليهم
الدائرة كما حدث للبرامكة الذين َن ِك َبهم هارون الرشيد العباسي من أجل خلق التوازن.
.3الكتابة:
هي أيضا من الوظائف المهمة القريبة من الو ازرة ،تتولى إدارة شؤون الدولة فيما يتعلق باألمور التي تقتضي
الكتابة ،ويمكن إرجاع بداياتها إلى العهد النبوي ،من خالل اتخاذ عدد من كتبة الوحي الكريم.
وستتطور الكتابة على عهد الدولة األموية حيث سيتوالها عدة من الكتاب بحسب االختصاص مثل :كاتب
الرسائل ،وكاتب الخراج ،وكاتب الشرطة ،وكاتب القضاء ،األمر الذي دل على علو شأنها.
أما العباسيون فقد حرصوا على تولية الكتابة ألهل النسب الرفيع.
.4المظالم:
11
كان من مهامه النظر في تعدي الوالة على الرعية ،وأيضا منع ظلم العمال عند جباية األموال ،ومن وظائفه
أيضا مراقبة كتاب الدواوين وأحوالهم.
ولقد وجد من الخلفاء المسلمين من تولى بنفسه والية المظالم تأكيدا ألهميتها ،وحرصا على إقامة العدل الذي هو
أساس الملك.
.5الحسبة:
وهي من الوظائف الشرعية الرفيعة ،القائمة على قاعدة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ويجب أن تتوافر
في المحتسب الشروط المعتبرة التي حددها الفقهاء ،وعلى رأسها اإللمام باألحكام الشرعية في مراقبة األسواق ذات
المبيعات المختلفة ،ومنع الغش ،وازدحام الطرقات ،ومراقبة التزام أهل الذمة ،حرصا على حفظ النظام العام ،وقبل ذلك
حماية المستهلك صحيا واقتصاديا.
.6الحجابة:
وهي من الوظائف التي حدثت على العهد األموي ،دعت إليها الضرورة األمنية بعد محاولة اغتيال معاوية بن
أبي سفيان الفاشلة من قبل الخوارج ،فاقتدى به الخلفاء من بعده احت ار از وأمنا من أي مكروه.
لكن العباسيين اتجهوا من خاللها إلى إحاطة أنفسهم بنوع من القداسة والرهبة ،تأث ار بالتقاليد الفارسية في ذلك.
ثم ازداد نفوذ الحاجب مع الزمن فصار مستشا ار في العديد من شؤون الدولة ،فعال شأنه عن الوزير ،كما أصبح
مرجعا ألصحاب الدواوين ،مما جعل بعض الحجاب يغتنون غناء فاحشا.
)2النظم االقتصادية.
مقدمة.
بداية البد من اإلقرار بوجود مالمح أساسية للنظم االقتصادية في منظومة اإلسالم الحضارية ،ويمكن إجمالها
في اآلتي:
➢ من المبادئ األساسية أن هللا تعالى مالك ،واإلنسان مالك هو اآلخر ،مع التأكيد على أن تفسير العالقة بين
الملكيتين ،حيث أن ملكية اإلنسان هي ملكية استخالف ،فهو خليفة هللا في األرض والمال من أجل عمارتها واستخدام
المال في سبيل ذلك.
12
➢ إن المال ال يصلح إال من األوجه اآلتية :يؤخذ بالحق ،ويعطى في الحق ،ويمنع من الباطل ،فاهلل طيب ال
يقبل إال طيبا ،واإلسالم شدد على خطورة الحرام أكثر من غيره من األديان.
➢ حرم اإلسالم الربا ،وهي الزيادة على المبلغ المقترض وفق شروط خاصة ،لما في ذلك من استغالل ،من
دون جهد ،ولما فيه من تدمير للعالقات اإلنسانية بين األفراد ،والتأثير على االستقالل االقتصادي والسياسي على
مستوى الدول والمؤسسات.
➢ حرم اإلسالم اكتناز األموال ،لما لذلك من أثر في تفاوت الدخول ،وعدم توظيف المال في النشاط االقتصادي
واالجتماعي المفيد للمجتمع اإلسالمي تنمية ورخاء ،فال يؤدي ذلك إلى تداول المال بين األغنياء فقط ،وعلى حساب
كافة عناصر المجتمع.
➢ منع اإلسالم أيضا االحتكار ،لما فيه أيضا من استغالل ،من خالل احتكار سلعة ما من قبل قلة تجارية
على حساب باقي أفراد المجتمع ،األمر الذي أكد على البعد األخالقي للحضارة اإلسالمية.
ولقد أكدت األسس الخمسة المذكورة على الطابع اإلنساني للحضارة اإلسالمية من خالل نظرة اإلسالم إلى المال.
أما مصادر وموارد المال في النظم االقتصادية اإلسالمية فمتعددة ومهمة منها:
.1الزكاة:
الزكاة التي تمثل الحد األدنى في الصدقات المفروضة سنويا على األموال المكتنزة ،وكذلك المال المسخر للتجارة،
وكذلك الغالت الزراعية والصناعية والحيوانية.
وأما أوجه اإلنفاق من إيرادات الزكاة فحددها القرآن الكريم في الفقراء ،والمساكين ،وابن السبيل ،والعاملين عليها،
والرقاب ،والمؤلفة قلوبهم ،والغارمين ،وفي سبيل هللا.
والذي يتأمل في هذه المصارف يدرك الدور المحوري الذي لعبته الزكاة في حل المشاكل االقتصادية ،وتضييق
الهوة بين الفقراء واألغنياء ،وعصمة المجتمع من الصراع الطبقي المدمر ،ونشر السالم االجتماعي.
.2الخراج:
ومن المصادر المالية أيضا الخراج ،وهو ما تخرجه األرض من مزروعات متنوعة ،إحياء لألرض وإعمارا ،حتى
ال تبقى عاطلة من غير فائدة ،ولتحصيل الخراج عدة اعتبارات منها :األرض من حيث جودة الزراعة فيها من عدمها،
أنواع الزراعات ثما ار وحبوبا ،وتفاوت األثمان ،واألرض الزراعية ونوعية ريها أباألنهار والنواعير؟ أم باألمطار والسيول؟
وال بد من اإلشارة في هذا المقام إلى وجود حاالت تسقط فيها جباية الخراج مثل :عدم صالحية األرض للزراعة،
وإذا لحق بالزراعة آفات وجوائح.
.3الجزية:
13
من المصادر أيضا الجزية المتمثلة في المبلغ المالي الرمزي المأخوذ من أهل الذمة من النصارى واليهود ،من
الذكور البالغين القادرين ،مرة واحدة في العام ،ألجل استخدامه للصالح العام االجتماعي.
ولقد انتقد كثير من المستشرقين الجزية بوصفها ِذَّلة ،وجشعا ،وقه ار يعارض التسامح ،لكن الردود على هذا كانت
أكثر إقناعا ،ألن الجزية كانت عبارة عن ضريبة رمزية يؤديها القادرون مقابل حق المواطنة ،وحق الحرية ،والحماية،
واالستفادة من جميع المرافق ،شأنها شأن كثير من الضرائب المفروضة في الدولة المدنية الحديثة ،وكذلك هي أقل من
أنف ُسهم. واجب الزكاة الذي يؤديه المسلم والذي قد يكون من مصارفها ُ
أهل الذمة ُ
.4الفيء:
ومن المصادر أيضا الفيء ،وهو مال الكفار المتروك بال قتال وراجع إلى المسلمين ،مثل األموال التي يتخلى
عنها األعداء فزعا من المسلمين عند نشوب الحرب بين الطرفين.
.5العشور:
ومن المصادر أيضا العشور ،وهي نسبة ُع ُشر األموال ،تفرض على أهل الذمة إذا انتقلوا من بلد إلى آخر داخل
رقعة دولة اإلسالم الممتدة.
.6الغنيمة:
من المصادر كذلك الغنائم ،وهي مال األعداء المتحصل من الحروب بعد االنتصار مثل األسالب ،األسلحة
والماشية وما إلى ذلك.
وهكذا ،لم تكن الغنيمة هي المصدر الوحيد لألموال كما يظن أو يشاع بأن المسلمين كان همهم في الفتوحات
الغنيمة فقط كما زعم بعض المستشرقين.
لقد كان المقصد من الفتوحات محاربة دول حال القائمون عليها دون الدعوة اإلسالمية ،ثم تخيير شعوبها بين
اعتناق اإلسالم أو عدم اعتناقه.
.7المواريث الحشرية:
من المصادر أيضا المواريث الحشرية ،وهي األموال التي ال يعلم وجود مستحق لها ،مثل مال هالك لم يترك
وريثا ،أو آخر ترك وارثا وال يستحق كل التركة ،كل ذلك وفق ما قرره الشرع.
.8الصدقات:
ومن المصادر أيضا الصدقات ،المتمثل في اإلنفاق التطوعي في سبيل هللا ،في جميع أوجه البر التي تخدم
المجتمع ،تطهي ار للنفس من األنانية والبخل ،ولقد ضرب المسلمون في ذلك أروع األمثلة الدالة على حبهم للخير ،ابتغاء
مرضات هللا.
14
وهكذا ،استطاع اإلسالم من خالل نظرته إلى المال أن يوافق بين الروح الفردية والجماعية ،في توازن ملفت
ومثمر ،حال دون شبح الصراع الطبقي المؤدي إلى العداوات والمآسي.
.9العملة:
من القضايا المرتبطة بالجانب المالي مسألة العملة المستخدمة في الحضارة اإلسالمية ،فقد عرف العرب القدامى
الدرهم الفارسي الساساني ،والدينار البيزنطي ذوا األصل اللغوي اليوناني ،لكنها ستُعرب على يد عبد الملك بن مروان
األموي ،وكانت الدوافع متعددة :منها االستقاللية االقتصادية والمالية ،طبع الدولة بالطابع العربي ،من خالل تعريب
كثير من المؤسسات كالدواوين.
وهكذا أصبحت العملة بعد التعريب لها المميزات اآلتية:
.1تخلصت من رسوم اآللهة والملوك ،وكل الرموز المسيحية مثل الصليب وعصا المطرانية.
.2نقش عليها نصوص من القرآن الكريم.
الس ِك.
.3نقشت على طوق الظهر البسملة ،وتاريخ َّ
.4نقش على مركز الوجه عبارة التوحيد بهذه الصيغة" :ال إله إال هللا وحده ال شريك له".
.5نقش على طوق الوجه عبارة "محمد رسول هللا أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" محيطة
بنصوص مركز الوجه.
ولقد ارتبط بالعملة أنظمة أخرى خاصة مثل الصيارفة ،وكانت مهمتهم النظر في العملة من حيث الجودة والوزن.
كما ارتبط بالعملة معامالت ائتمانية ،كأن يتم تداول المال بين ثالثة أشخاص في أماكن متباعدة باإلذن واالتفاق،
من دون انتقال المال ،تَ َح ُّسبا لمخاطر الطريق ،وتسمى ُّ
السْفتَ َج ُة ،وتسمى في االصطالح المعاصر باإلنجليزية
.Travelers Cheques
وإلى جانب هذا كانت معامالت ائتمانية أخرى تشبه المعاملة المعاصرة بواسطة الشيك ،وهو امتداد الصطالح
"الصك" ذي األصول الفارسية والعربية ،والذي استخدم في مؤسسات حكومية مثل دفع الرواتب ،وكسند للدين مع شرط
التصديق من قبل الشهود.
)3النظم الحربية في الحضارة اإلسالمية
أ مفهوم الجهاد.
وتتجلى أهمية تناول النظم الحربة في الحضارة اإلسالمية من حيث ارتباطها ببعض المفاهيم المغلوطة ،التي
أثارها كثير من المستشرقين ،فكان لها األثر السيء على الفكر الغربي برمته ،بحيث اقترن عندهم اإلسالم بالجهاد
15
والحروب ،مع ما لديهم من تصور قاتم حول الحروب عامة والجهاد خاصة ،األمر تطلب شيئا من التوضيح لهذا
المصطلح.
والجهاد لغة هو التعب والمشقة ،ولقد ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة الشريفة بما دل على علو شأنه.
كما أنه من الشرائع التي طالها التدرج ،بدأً بدعوة المسلمين إلى كف اليد عن القتال ،وكان هذا في مكة وأ ََّو َل
العهد في المدينة ،ثم كان اإلذن بالقتال لمواجهة األعداء ،ثم فرض لمن قاتلهم من دون من لم يقاتلهم ،ثم أخي ار فرض
لقتال المشركين كافة.
وتجدر اإلشارة إلى أن مفهوم الدفاع في اإلسالم يتجاوز حدود الناحية الحربية الصرفة إلى ما هو أوسع ،ويتمثل
في الدفاع ضد كل العوامل التي تقيد حريته ،والمتمثلة في معتقدات والتصورات وأنظمة سياسية شكلت حواجز اقتصادية
وطبيعية وعنصرية آنذاك.
كما أن فكرة الجهاد في اإلسالم في بعده الحضاري لها صلة وثيقة بالمثل العليا ،إذ لم يكن القتال لمجرد الشهوة
والنهب والسلب ،وإنما من أجل نشر قيم اإلسالم اإلنسانية والمتحضرة.
وهكذا لم يرتبط اعتناق اإلسالم باإلكراه كما جاء في القرآن الكريم "ال إكراه في الدين" ،األمر الذي نفى عن
اإلسالم شبهة الغزو واالستعمار والتوسع.
ب مبادئ الحرب.
ارتبط بالقتال والحرب في اإلسالم عدة مبادئ غاية في العدالة والرقي الحضاري منها:
.1السلم هو األساس الذي تقوم عليه العالقات اإلنسانية ،وإن وجدت حرب فهي في حال الضرورة من غير
عدوان.
.2المواجهة بين الجيشين فقط ،فال ينبغي أن يتأثر بالحرب من ال يشاركون فيها.
.3المسارعة إلى السلم ،من خالل االستجابة إلى تلبية الدعوة إلى السلم إن ُدعي إليه.
.4حسن معاملة األسرى.
.5ليست الحرب والغنيمة غاية ،فال حرب مشروعة قبل الدعوة إلى اإلسالم سلميا ،ألن الحرب والغنيمة ليست
غاية ،إنما الغاية هي خير اإلنسانية.
كما ارتبط بذلك فكرة تقسيم العالم من المنظور الفقهي القانوني إلى قسمين:
➢ دار اإلسالم :ويقصد بها المناطق اإلسالمية وغير اإلسالمية التي خضعت للسيادة اإلسالمية ،وسادت فيها
أحكام الشريعة اإلسالمية.
16
أما نشأة األسطول البحري اإلسالمي ،فبدأ على يد معاوية بن أبي سفيان في خالفة عثمان بن عفان ،وكان
أمي ار على بالد الشام ،حيث بنى أسطوال خاض به سنة 655م أول معركة بحرية إسالمية ضد البيزنطيين ،استهدفت
إسقاط القسطنطينية عاصمة اإلمبراطورية ،انتصر فيها األسطول اإلسالمي لكنه لم يسقط المدينة.
ويجدر التنبيه على أن البحرية اإلسالمية استهدفت القسطنطينية أكثر من مرة على امتداد العصور اإلسالمية،
لما كان يشكله البيزنطيون من خطر.
كما أن جميع الدول اإلسالمية التي تأسست ،وكانت قريبة من البحر ،مثل دول شمال أفريقيا واألندلس ،اهتمت
ببناء األساطيل البحرية ،باعتبارها ج أز ال يتج أز من الجيش الذي ينبغي أن تتوافر فيه جميع أسباب القوة المدافعة
والرادعة.
ولقد كان نشاط األسطول اإلسالمي على امتداد البحر األبيض المتوسط والبحر األحمر ،اقتضى ذلك المنافسة
الدولية ،والصراع التجاري والمدني ،الذي فرضته القوى األوربية المتنامية.
وهكذا وجدت عدة أنواع من السفن مثل:
شواني :وهي مراكب بحرية كبيرة الحجم ،تحتوي على مئة وأربعين مجدافا ،متعددة الوظائف الهجومية،
.1ال َّ
والدفاعية ،والتموينية.
الشواني حيث تستوعب سبعمائة مقاتل ،واحتوت أربعين شراعا.طسة ،وهي أضخم من َّ
.2البطس :جمع َب ْ َ
طحات :جمع مسطح ،وهي نوع آخر من السفن الحربية الكبيرة ،مسطحة الظهر ،تتيح القتال من عال .3المس َّ
سطحها ،و ِ
الم َجدفو َن ُي َح ِرُك َ
ونها. ُ
شل ْندِيات :جمع َشَل ْندى ،وهي أيضا مراكب ضخمة تنقل األفراد والمؤن واألسلحة. .4ال َّ
ط َّرَادة ،وهي السفينة الصغيرة السريعة.
الط َّرادات :جمع َ
َّ .5
.6الحراريق :جمع ح َّراقة ،وهي مركب متوسط الحجم يتسع لمائة مقاتل ومائة مجِد ٍ
ف ،تزود بالنفط من أجل َُ َ
قذفه على سفن العدو بهدف إحراقها.
.7األ ْغ ِربة :جمع غراب ،سوداء تشبه رأس الغراب ،وتمتاز بالسرعة.
باإلضافة إلى ما ذكر وجدت معدات أخرى ارتبطت بالسفن ،مثل الكالليب وهي عبارة عن خطاطيف حديدية،
ترمى على سفن األعداء لجذبها ومهاجمتها.
والتوابيت وكانت تعبأ بالحجارة ألجل الرمي ،وقدور الحيات والعقارب والصابون ،إلى غير ذلك من المواد.
18
وباإلضافة إلى األسلحة البحرية المذكورة ،اعتمد المسلمون نظام مخابرات غاية في الفعالية ،يعتمد على الجواسيس
بما في ذلك المرأة المسلمة ،ونظام الكتابة السرية أو الشيفرة ،برعت في ذلك الدولة األيوبية على عهد صالح الدين أيما
براعة ،وحققت بفضل ذلك انتصارات ساحقة على رأسها محركة حطين الشهيرة.
مدرسة ج ْنديسابور :تقع في بالد فارس ،اشتهرت بالطب والتشريح ،تخرج منها علماء تأثروا بالثقافات الهندية
والفارسية واليونانية.
مدرسة ح َّران :السريانية وتقع اليوم جنوب تركيا على الحدود السورية ،اشتهرت بالفلسفة والفلك والرياضيات،
حيث كانت للصابئة عباد الكواكب.
الرها :السريانية وتقع جنوب شرق تركيا على الحدود الشمالية لبالد الشام ،اشتهرت بالعلوم الدينية
مدرسة َّ
والفلسفية.
مدرسة نصيبين :السريانية وتقع أيضا جنوب شرق تركيا على الحدود الشمالية الشرقية لبالد الشام ،اشتهرت
بعلوم الالهوت (اإللهيات) ،وكذلك الفلسفة.
لقد كانت هذه المراكز هي النواة األولى لنشأة حركة الترجمة ،بما توفرت عليه من مترجمين كانوا على دراية
واسعة بعدة لغات.
كما ساعد على ازدهار الترجمة سيطرة العباسيين على طريق الحرير ،Silk roadبما وفر األموال الطائلة التي
ُسخرت للنهوض بهذا المشروع العلمي الطموح.
كما ساعد على نجاح المشروع الرعاية الرسمية من قبل الخلفاء العباسيين ،وذلك من خالل التفاعل ،واختيار
المترجمين ،وتشجيعهم ،واحترامهم ،واإلنفاق عليهم ،وإنشاء المؤسسات الخاصة لذلك.
ويجدر التنبيه على أن من أبرز العوامل التي ساعدت على إنجاح حركة الترجمة هو اإلسالم نفسه ،الذي كان
ِفعل أمر "اقرأ" هو أول وحي تصدر به قرآنه المنزل ،وما في ذلك من دالالت رمزية غاية في األهمية ،وكذلك توجهاته
القوية نحو إعمال العقل ،وطلب العلم.
وانطالقا من هذه االعتبارات ،وبفضل هذا المشروع العلمي القائم على الترجمة يمكن بحق َعُّد الحضارة اإلسالمية
الم ْن َبع ،من خالل ذلك التفاعل العجيب بين العناصر األجنبية والعناصر األصلية وفي مقدمتها اإلسالم نفسه
عالمية َ
باعتباره حضارة.
لقد وجد عدد من الرواد الذين قادوا هذا المشروع ،الذي أنقذ التراث العلمي للحضارة اإلغريقية والفارسية والهندية
الح َّراني (ت288هـ901/م) ،وإسحاق بن إسحاق (ت264هـ873/م) ،ثاِب ُت ُ
بن ُق َّرَة َ نذكر منهم على سبيل المثالُ :ح َن ْي ُن ُ
وح َب ْيش بن األعسم(264هـ877/م) ،يعقوب بن إسحاق الكندي (ت 255هـ869/م)، بن ُح َن ْين (ت298هـ910/م)ُ ،
وُق ْسطا بن لوقا البعلبكي(ت250هـ864/م) ،وعمر بن الفرخان الطبري (ت200هـ815/م) ،وغيرهم كثير ،بحيث تجاوزوا
الستين مترجما.
20
لكن ولإلنصاف يبقى حنين بن إسحاق هو رائد وقائد المترجمين ،بفضل ما امتلكه من مهارات متعددة ،فقد كان
يتقن العربية والسريانية واليونانية ،كما كان واسع الثقافة ،كما أنه كان طبيبا.
عينه الخليفة المأمون العباسي (833-823م) رئيسا لبيت الحكمة ومؤسسة الترجمة في بغداد ،يقود فر َ
يق عمل
من نخبة المترجمين المسلمين والنصارى وغيرهم من المتقنين للغات العلم العالمية ،تحدوهم الرغبة األكيدة ،وتوجههم
الغاية المشتركة ،ضاربين المثال في العمل الجماعي المقدر للعمل الفردي ،مؤسسين بذلك ألول أنموذج لفريق العمل،
ففاقوا بذلك الحضارات السابقة ،وتقدموا على الحضارات الالحقة.
الم َؤِس َسة لعلمي الطب والفلسفة التي ترجمها حنين بن إسحاق نذكر منها :الفصول ألبقراط،
ومن أشهر الكتب ُ
يماو ْس ألفالطون ،وهو منزع أكد على الترابط الوثيق بين ِ
والصناعة لجالينوس ،والكون والفساد ألرسطوطاليس ،وط ُ
العلوم والمعرفة الفلسفية ،بين العلوم الحقة والعلوم اإلنسانية واالجتماعية.
أما منهجه في الترجمة فقام على أسس من التحقيق والتدقيق ،مثل اعتماد النسخة األصلية ،فإن ُعدمت اعتمد
على نسختين فرعيتين ثم يقارن بينهما ،كما أوكلت إليه مهمة مراجعة كل ما يصدر عن بيت الحكمة من ترجمات.
ومن إنجازاته أنه ترجم أزيد من مائتي كتاب من اللغة اليونانية ،قرابة النصف منها مما كتبه جالينوس ،كما أنه
أوجد ألفاظا ومصطلحات عربية جديدة مقابل العديد من الكلمات اليونانية التي لم يكن لها مقابل في العربية والسريانية،
كما وصفت ترجماته بالدقة المتناهية والجودة العالية التي حرصت على األمانة في المعنى ،والجودة في الصياغة.
الصاِبئي فقد تفوق في الرياضيات والفلسفة ،وكان يتقن اللغتين السريانية واليونانية إلى
الحراني َّ
ثابت بن ُق َّرة َّ
أما ُ
جاب اللغة العربية ،وترجم عدة كتب إغريقية منها:
كتاب المجسطي لبطليموس ،هذا الكتاب الذي كان له األثر العميق في معارف المسلمين الجغرافية والفلكية.
كتاب أصول الهندسة لمناالؤس.
كتاب األمراض الحادة ،وكتاب الفصد لجالنوس.
اتخذه الخليفة المعتضد صديقا له رغم ديانته الوثنية ،األمر الذي أكد على انفتاح وتسامح وإنسانية أبناء الحضارة
اإلسالمية تجاه من يخالفهم في العرق أو الدين من دون تعصب أو إقصاء.
وأما إسحاق بن حنين فكان طبيبا ومترجما مثل والده ،ويتقن اليونانية والسريانية والعربية ،ترجم العديد من الكتب
منها:
كتاب إبوطيقا(الشعر) ،وكتاب الخطابة ،وكتاب السماء والعالم ،وكتاب الجدل ألرسطوطاليس.
21
إلى غير ذلك من المترجمين والترجمات التي تنوعت مجاالتها ما بين الطب والصيدلة والفلك والفلسفة والهندسة
والجغرافيا واألدب وغيرها لما كان لذلك من أولوية.
ولقد كان المترجمون في سباق محموم مع الزمن ،من أجل استيعاب كل ما كتب ،وترجمته إلى العربية ،مع
مراعاة الدقة واإلتقان ،وذلك حتى ال يبقى العلم حك ار على أهل ولغة العلوم األصلية ،فتحولت بهذا اإلنجاز اللغة العربية
إلى لغة العلوم البديلة دون منازع ،فحفظت العربية ،وازدادت قوة ومنعة وتأثي ار ،حفظ أهلها من المؤثرات السلبية المحتملة.
ويجدر التنبيه على أن الترجمة من خالل مؤسسة بيت الحكمة قد عبرت عن التوافق الالفت لالنتباه بين الكم
والكيف ،والتنوع ،والغنى واالنفتاح على التراث الفارسي واليوناني والهندي مع الحرص على الدقة واإلتقان والجودة شكال
ومضمونا ،بشهادة المتخصصين في تاريخ الترجمة بما في ذلك الغربيين.
نتائج حركة الترجمة.
.1قدمت هذه الحركة العلمية الكبرى المقترنة بالترجمة زادا فكريا غاية في األهمية ،حيث مكنت من االطالع
على نفائس التراث اليوناني والفارسي والهندي.
.2مكن ذلك أيضا من إثراء اللغة العربية بكثير من األلفاظ ،والمصطلحات ،والتراكيب ،والمعاني الجديدة ،األمر
الذي أثبت جدارة وقدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم كلها ،حيث أتصبحت في وقت وجيز لغة العلوم في العصور
الوسطى بدون منازع أو منافس ،األمر الذي أكد أيضا على أنها تستطيع ذلك في كل زمان ،بما ذلك العصر الراهن،
فعلى الرغم من مظاهر التهميش واإلقصاء للغة العربية ،كأداة للعلم ،إال أنها ما انفكت تؤكد وجودها يوما بعد يوم،
وتزاحم أكثر اللغات الحية في كل المجاالت العلمية.
.3من نتائج هذه الحركة أيضا أن الفاتحين العرب المسلمين لم يكونوا أهل سلب ونهب ،مثلما حاول إشاعته
بعض المستشرقين ،وإنما كانوا أصحاب رسالة حضارية نبيلة ،من خالل االنفتاح على تراث األمم السابقة وإنقاذه من
الضياع واالندثار ،على اعتبار أن العلم ال وطن له ،وأن الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها.
األساس الذي ستعتمد
َ .4من النتائج المهمة أيضا أن العلوم اليونانية التي تُرجمت إلى اللغة العربية كانت هي
عليه أوروبا إبان نهضتها في العصور الوسطى ،حيث نتج عن ذلك أعظم وأوسع نهضة شهدتها أوروبا عبر تاريخها،
فكان الفضل األكبر في ذلك للحضارة اإلسالمية ،التي قدمت لها تراثها التاريخي اإلغريقي ،على طبق من ذهب ،بنكهة
عربية إسالمية ،تعكس الفهم العميق ،واإلضافات المتميزة الجمة ،في كل المجاالت العلمية.
الوَّراقين ،التي تعني إنتاج الكتاب ،ورواجه وانتشاره ،بما ساهم في ِ
.5أدت حركة الترجمة إلى ازدهار الوَارَق ُة و َ
خلق مناخ علمي شجع على ظهور ونبوغ كثير من العلماء في كافة المجاالت العلمية والمعرفية.
22
.6أكدت الترجمة أيضا على أن المسلمين ،لم يكونوا مجرد َنَقَل ٍة ،وإنما كانوا محققين وشارحين ومصححين
ومنتقدين ومضيفين ،على خالف ما ذهب إليه بعض المستشرقين غير المنصفين ،الذين زعموا ،من دون دليل ،أن
المسلمين لم يأتوا بأي جديد ،وأنهم كانوا مرددين للتراث اليوناني فحسب ،وال أدل على خالف هذا الزعم ما أكد عليه
المستشرق ديمتري جوتاس بعد أن بين مواطن تفوق المسلمين من خالل قوله المنصف" :إن أعمال هؤالء (ابن سينا،
التباني ،البيروني ،الخوارزمي ،ابن الهيثم ،الفارابي) لم تقف عند الحد الذي تََف َّو َق فيه األدب ُ
المتَ ْر َج ِم ،بل لم تلبث أن
صِنَف ْت على أسلوب وصيغة ،واتخذت موقفا بحيث استجابت للمواقف تفوقت عليه من وجهة نظر علمية ،بل إنها ُ
المعاصرة في العالم اإلسالمي ...موقف الباحثين والعلماء الذين نجحوا من خالل اهتمامهم العلمي في تطوير الميادين
التي تخص كال منهم".
)2الطب والصيدلة.
من دون مبالغة يمكن القول إن الباحث في تاريخ الطب والصيدلة في الحضارة اإلسالمية يواجه مشكلة كثرة
التأليف في ذلك كما وكيفا بصورة غير مسبوقة ،كما يصادف أسماء العديد من األطباء الذين برعوا في مختلف فروع
المعرفة الطبية والصيدالنية ،لذلك سيكون من الجدير اعتماد النماذج المختارة.
هذا ويجدر التنبيه على أن اإلسهام لم يكن مقصو ار على المسلمين فقط ،وإنما شمل عناصر أخرى من أهل الذمة
من اليهود والنصارى الذين كان لهم دور بارز ،بما أكد أن الحضارة اإلسالمية اإلنسانية والمتسامحة كانت حضارة الكل
دون تمييز.
كذلك يواجه الباحث بالنسبة لعطاء المسلمين في هذا الباب رؤية استشراقية تأرجحت ما بين االعتراف واإلجحاف.
إال أن اإلنصاف المستند إلى معطيات التاريخ يؤكد أن اإلسهام العربي اإلسالمي في هذا المجال كان امتدادا
لكل ما قدمته الحضارات السابقة ،مثل قدماء المصريين الذين عرفوا العديد من األمراض ،ومعالجتها من خالل األعشاب
والعمليات الجراحية ،كما أكدت ذلك العديد من البرديات.
كذلك األمر بالنسبة لحضارة بالد الرافدين التي برع أهلها من البابليين واآلشوريين في عالج أمراض مختلفة ،من
خالل عقاقير نباتية وحيوانية ومعدنية.
من ناحية أخرى عرف العرب عددا من المعارف العالجية ،وإن لم ترق إلى مرتبة المعالجة الطبية العلمية ،وذلك
من خالل الكهانة والعرافة والسحر ،والتي سيمحوا أثرها اإلسالم بعقالنيته وواقعيته في هذا المجال.
23
كما ينبغي التنويه بما عرف بالطب النبوي ،باعتباره لبنة أساسية ،وذلك من خالل األحاديث النبوية ذات البعد
الطبي العالجي ،والتي ألف فيها قديما أكثر من كتاب مثل كتاب "الطب النبوي" البن قيم الجوزية ،بل إن الطب النبوي
أصبح في عصرنا الحالي يحظى باهتمام خاص من خالل الدراسات واألبحاث العديدة.
لكن القفزة النوعية في مجال الدراسات الطبية والصيدالنية ستنطلق ابتداء من عصر الترجمة ،حيث أصبح لدي
المسلمين قاعدة معلومات طبية كبيرة ذات مصادر يونانية وهندية.
وهكذا ألف المسلمون في المجاالت الطبية كلها مثل :علم التشريح ،Anatomyوعلم وظائف األعضاء
،Physiologyوعلم األمراض ،Pathologyوعلم النساء والتوليد ،Gynaecologyوعلم األمراض
الرهاوي في القرن الثالث الهجري حيث ألف
،Pharmachlogyكما ألفوا في آداب مهنة الطب ،مثلما فعل أبو إسحاق ًّ
في الموضوع كتابا قيما ووافيا أسماه "أدب الطبيب" ،وأمراض األطفال ،وطب األجنة ،واألمراض النفسية والعصبية،
كما ألفوا كتبا طبية للفقراء والمساكين الذين ال يقدرون على التطبيب ماديا.
ونظ ار لسعة مادة موضوع الطب والصيدلة في التراث العلمي للحضارة اإلسالمية سنقتصر على مجمل اإلنجازات
الطبية التي تحققت من خالل اآلتي:
.1اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الرئوية) قبل وليام هارفي William Harvyاإلنجليزي بعدة قرون،
كما أدرك األطباء المسلمون وجود أوعية داخل القلب تغذيه ،وبرعوا في وصف الدورة الدموية في األوعية َّ
الش ْع ِريَّة
الدقيقة.
.2القيام بالعديد من العمليات الجراحية ،منها فتح القصبة الهوائية ،بغرض إنقاذ مرضى االختناق ،كما عالجوا
انسداد المجاري التنفسية (االختناق الحنجري) ،من خالل إدخال قصبة مصنوعة من الذهب أو الفضة ،ال زالت تستخدم
حاليا غير أنها مصنوعة من المطاط أو البالستيك.
سموها ببواسير األنف وبين األورام
.3دراسة األورام السرطانية ،فميزوا مثال بين الزوائد اللحمية األنفية التي َّ
السرطانية.
.4معالجة الكسور العظمية ،بما في ذلك الكسور الدقيقة ،مثل عالج كسر األنف.
َغ ِرَية (جمع ِغراء مهي مادة
ط ،والكي باألدوية الكاوية أو بالنار ،أو باأل ْ .5وقف النزيف بعدة طرق منها َّ
الرْب ُ
نباتية لزجة) ،أو بالتَّْبريد ،أو من خالل الخياطة فوق النقطة النازفة.
.6وصف العديد من أمراض الجهاز البولي والتناسلي ووسائل عالجها.
24
.7إج ارء عمليات التجميل ،بصورة ملفتة ،دحضت االدعاء بأنها من نتاج العصر الحديث ،حيث عالجوا انشقاق
الشفة ،والرباط تحت اللسان المعيق للكالم لدى األطفال ،وانسداد األذن ،وتشوهات األصابع ،وانسداد مجرى البول،
والخنوثة ،وتجمع الماء في رؤوس الصبيان.
.8تصنيع أدوات الجراحة الكثيرة والمتنوعة ،والتي تشهد صورها في المخطوطات المحفوظة ،على صالحيتها
واستخدامها حتى في العصر الحديث.
.9استعمال الخيوط الضامة المصنوعة من أمعاء الحيوانات من أجل خياطة الجروح واألنسجة تحت الجلد.
.10تشخيص األمراض النفسية والعصبية مثل انفصام الشخصية ،واالكتئاب ،والسوداوية (المالينخوليا) ،وجنون
العظمة ،والوسواس القهري ،كما أدركوا الصلة الوثيقة بين األمراض النفسية واألمراض العضوية باعتبار أن اإلنسان
منظومة متكاملة متداخلة.
.11استعمال المواد المخدرة ،للحؤول دون األلم ،أثناء العمليات الجراحية ،مثل نبات القنب الهندي والحشيش،
واألفيون ،إلى غير ذلك من المواد.
.12معرفة مبدأ اإلنعاش النفسي من خالل دفع كميات من الهواء عبر الرئتين من خالل الضغط المتناوب ال
يزال مستعمال حتى اليوم في مجال اإلسعاف.
.13إدراك كثير من جوانب طب النساء والتوليد ،وتحدثوا عن أسباب عسر الوالدة مثل اإلشارة إلى بدانة الحامل،
أو صغر حجمها ،أو ورم في الرحم ،أو شدة الخوف ،أو الوالدة األولى ،أو الوالدة قبل الموعد ،أو كبر المولود ،أو
صغره أو خفته ،أو ضعفه ،أو تشوه خلقي ،أو عدة مواليد ،أو انقالبه في الرحم.
أما األطباء في الحضارة العربية اإلسالمية فقد كانوا كثيرين على امتداد جغرافية العالم اإلسالمي مشرقا ومغربا
مسلمين ويهود ونصاري ،نذكر بعض األعالم منهم:
الرازي ،أبو بكر بن محمد(ت311هـ923/م) ،اسمه بالالتينية ُ ،Rhazesعَّد من قبل بعض الباحثين الغربيين
من أعظم األطباء في الحضارة اإلسالمية ،من أبرز مؤلفاته إنجازه العلمي المتفرد "الحاوي في الطب والتداوي" ،وهو
أكبر الموسوعة الطبية في عشرين مجلدا ،ويتجاوز عند التحقيق ستين مجلدا.
كما ألف مقالة غاية في األهمية والطرافة ،فرق من خاللها بين الجدري والحصبة ،وكالهما من األمراض الجلدية،
عدت فتحا جديدا في علم الطب .ترجمت مؤلفاته الطبية إلى اللغة الالتينية.
25
ابن سينا ،علي بن الحسين(427هـ1037/م) ،بالالتينية ،Avicenneمن أشهر مؤلفاته "القانون في الطب" ،عد
من أهم ما ألفه المسلمون في حضارتهم ،وهو عبارة عن موسوعة طبية وافية ،ترجم إلى الالتينية ،شرحه العديد من
العلماء األوروبيين بما أكد أهمية الكبيرة.
الكحال ،علي بن عيسى(ت400هـ1010/م) ،برز واشتهر في طب العيون ،من أشهر كتب في ذلك "تذكرة
الكحالين" ،اعتبر من قبل الغرب أفضل ما ألف في هذا التخصص ،وصف من خالله األمراض التي تصيب العين،
ووسائل عالجها ،ترجم أيضا إلى الالتينية.
الزهراوي ،أبو القاسم خلف بن عباس( Albucasis ،ت400هـ1013/م) ،أندلسي من قرطبة ،وصف من قبل
الغربيين بأنه أعظم جراح عرفته الحضارة اإلسالمية ،من أشهر كتبه "التصريف لمن عجز عن التأليف" ،أجرى العديد
من العمليات الجراحية ،كان ينصح تالميذه بعدم التسرع في اعتماد الجراحة إال بعد استفراغ الجهد من خالل األدوية
المفردة والمركبة.
ابن الهيثم ،أبو الحسن (1038م) يعد من أكبر علماء المسلمين في العصور الوسطى ،ألف كتابه الشهير
"المناظر" ذي القيمة العظيمة ،عرض من خالله الظواهر البصرية ،وخداع البصر وأسبابه وصفا دقيقا ،وتفسي ار علميا
نادرا ،حتى عد بذلك من قبل األخصائيين من علماء الغرب "من أعظم علماء البصريات في كل العصور" ،بل عد
أيضا منشئ علم الضوء بال منازع ،كما أطلق عليه أحدهم "أمير النور".
ابن زهر ،وهو طبيب أندلسي ،أشهر كتبه "التيسير في المداواة والتدبير" ترجم إلى اللغة الالتينية ،وله أيضا
رسائل ومقاالت في علمي البرص والبهق ،وعلل الكلى ،وأمراض الجلد ،والجهاز البولي ،إلى غير ذلك من اإلنجازات.
ابن النفيس ،يعد من قبل العلماء الغربيين من أكبر األطباء المسلمين ،ينسب إليه اكتشاف الدورة الدموية قبل
العالم اإلنجليزي وليام هارفي بقرون عديدة ،عرف أيضا بمنهج اعتماده في العالج على الغذاء بدل األدوية والعقاقير.
وإلى جانب كثير من أعالم الرجال ،اشتهر في هذا المجال كثير من النساء كذلك ،بما أكد على مكانة المرأة
المسلمة ،وحضورها العلمي في الحضارة العربية اإلسالمية من أجل النهوض بما تحتاجه النساء في هذا المجال ،نذكر
منهن على سبيل المثال ال الحصر ،أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي ،وأخت الحفيد ابن زهر وابنتها ،وابنة
شهاب الدين بن الصائغ.
26
كما ارتبط بالطب في الحضارة العربية اإلسالمية مشرقا ومغربا ظاهرة علمية ملفتة ،ونعني بها ظاهرة األسر
الطبية التي توارثت الطب أبا عن جد ،وهذا يدل على الرسوخ ،وتراكم الخبرة ،فضال عن المصداقية والتنافسية ،مثل
أسرة الحارث بن كلدة الثقفي ،وأسرة أبي الحكم الدمشقي ،وأسرة جورجيوس بن جبرائيل بن َب ْخ َتي ُشوع النصراني السرياني،
وأسرة رضي الدين يوسف بن حيدرة الرحبي ،وأسرة محمد بن زهر األندلسي.
كما ارتبط بالطب العربي اإلسالمي في تلك العصور ظاهرة انتشار المستشفيات التي اصطلح على تسميتها
بالبيمارستانات جمع بيمارستان ذي األصل الفارسي المؤلف من بيمار وتعني مريض وستان وتعني مكان.
ولقد أسس لظاهرة العناية بعالج المصابين العهد النبوي حيث كانت تنصب خيام في ميادين القتال لهذا الغرض،
ثم تطورت بعد ذلك عبر العصور المتعاقبة ،حتى أصبحت نماذج ال نظير لها في تاريخ الحضارات كلها ،عمارة،
وتخصصات ،وخدمات ،ومرافق ،ونظافة ،وامتيازات ،سبقت عصرها ،وقاربت وربما تجاوزت كثي ار مما يحدث في عصرنا
الراهن.
نذكر في هذا المجال على سبيل المثال البيمارستان النوري ،نسبة إلى السلطان نور الدين محمود الزنكي ،شيده
في دمشق سنة 1154م ،أشاد به وبمرافقه وتخصصاته الرحالة األندلسي الشهير ابن جبير.
والبيمارستان الصالحي بالقاهرة نسبة إلى السلطان صالح الدين األيوبي سنة 1181م ،وكان من أشهر
المستشفيات في زمانه.
والبيمارستان المنصوري بالقاهرة أيضا نسبة إلى السلطان المنصور قالوون ،شيده سنة 1284م ،ولقد عد من
مفاخر الحضارة اإلسالمية على اإلطالق ،لتوفره على جميع التخصصات تقريبا ،وعلى مختبر لصانعة األدوية ،وعلى
خدمات قل نظيرها في كثير من المستشفيات.
ولقد توافر في هذه المستشفيات األطباء في جميع التخصصات ،وكانت اإلقامة والتطبيب والدواء والطعام مجانا
بالنسبة لكل من دخله مسلما كان وغير مسلم.
كما ارتبط بازدهار الطب في الحضارة العربية اإلسالمية علم الصيدلة بما لهما من ارتباط وثيق ،فكان للصيادلة
العرب والمسلمين إسهامات كثيرة في هذا المجال نذكر منها على سبل المثال ال الحصر:
الشريف اإلدريسي 1160م ،الجغرافي المتميز ،ألف كتاب "الجامع ألشتات النبات".
ابن البيطار 1248م ،صاحب الكتاب الشهير "الجامع لمفردات األدوية واألغذية" وصف فيه 1400عقار نباتي
وحيواني ومعدني ،وذكر فيه 300عقار جديد لم يكن لإلغريق معرفة بها.
الغافقي 1165م صاحب كتاب "األدوية المفردة" ،ويعد من أعظم الصيادلة المسلمين طوال العصور الوسطى.
الفلك. أ
يعد علم الفلك من أعرق العلوم ،له بدايات مبكرة ،تعود إلى جهود المصريين القدامى ،وحضارة بالد الرافدين،
والحضارة اليونانية ،فكان للمصريين معارف فلكية معتبرة ،تجلت من خالل ما شيدوه من عمائر خالدة كاألهرامات
ونحوها ،كما عرفوا الكواكب الخمسة :عطارد ،والزهرة ،والمريخ ،والمشتري ،وزحل.
أما أهل بالد الرافدين فقد قسموا اليوم إلى أربع وعشرين ساعة ،والنهار إلى اثني عشر ساعة ،وكذلك الليل ،وقد
استفادوا في ذلك من الساعة الشمسية ،كما أشار المؤرخون إلى أنهم ميزوا بين الكواكب الخمسة المذكورة.
وأما اليونانيون فقد أفادوا من العلوم الفلكية الشرقية القديمة المذكورة ثم طوروها ،وكان على رأس ذلك في القرن
األول الميالدي ،بطليموس القلوذي ،Ptolem Ptolemius Claudiusاألسكندري المشهور بكتابه "المجسطي" الذي
ترجمه إلى العربية ثابت بن قرة ،وكان عمدة المسلمين األولى في الفلك ،إال أنهم سرعان ما تجاوزوه بالنقد ،وبخاصة
فكرة اعتباره األرض مركز الكون ودوران الشمس حولها.
هذا ولم يخل القرآن الكريم مصدر اإلسالم األول منذ إطاللته المبكرة من إشارات فلكية تدعو إلى النظر وإعمال
ِ ِِ ِ ِ َّ َّ ِ
اب َما َخَل َق ور َوَقَّد َرهُ َم َن ِازَل لتَ ْعَل ُموا َع َد َد السن َ
ين َواْلح َس َ اء َواْلَق َم َر ُن ًا
العقل ،مثل قوله تعالىُ :ه َو الذي َج َع َل الش ْم َس ض َي ً
28
ض َآلي ٍ
ات ِ ّللاُ ِفي َّ
الس َم َاوات َو ْاأل َْر ِ َ الن َه ِار َو َما َخَل َق َّ ف َّ
اللْي ِل َو َّ اخِت َال ِ ِ يَف ِ
ص ُل ْاآل َيات لَِق ْو ٍم َي ْعَل ُمو َن ِإ َّن ِفي ْ ُ ّللاُ ََٰذلِ َك ِإ َّال ِباْل َح ِق
َّ
سورة يونس. لَِق ْو ٍم َيتَُّقو َن6/5 ،
ومن هذا المنطلق فقد كان القرآن الكريم عامال أساسيا في صرف اهتمام المسلمين إلى الفلك ،ثم جاء زخم ثورة
الترجمة ذات األثر الفعال في نشأة وتطور هذا العلم لديهم ،فقد ثبتت ترجمة "كتاب السند هند" المنسوب لهرمس الحكيم
في عهد أبي جعفر المنصور () على يد ثابت بن قرة ،وهو كتاب تناول حركات النجوم ،والشمر والقمر ،والتعريف
بالبروج ،كما أنه دعت الحاجة إلى هذا العلم ضرورة معرفة بدايات الشهور ألجل تحديد وجهة القبلة ومواقيت الصالة.
الب ذي األصل
ط ُر ْ
ثم تطور علم الفلك لدى المسلمين ،فاستخدموا آالت متعددة للرصد الفلكي ،أهمها :األَ ْس ْ
طر" وهو النجم و"البون" وهي المرآة.
اليوناني Astrolabiunالمؤلف من كلمة "أَ ْس ْ
ولألَ ْس ْ
ط ُرالب عند المسلمين عدة أنواع دلت على التطوير واالستخدام المتعدد منها :التام ،والمسطح ،والطوماري،
والهاللي ،والزورقي ،والعقربي ،واآلسي ،والقوسي ،والجنوب ،والشمالي ،والكبرى ،والمسطح ،والمسرطق ،وحق العمر،
والجامع ،وعصا الطوس.
.5الحجر :الفراغ الموجود في أم األسطرالب ،وينقش عليها أطوال وأعراض بعض المدن أحيانا.
صفائِح :أقراص مستديرة الشكل اختلف عددها من أسطرالب آلخر.
.6ال َّ
.7الع ْنكبوت :الشبكة ذات الخروق والنتوءات المشكلة لوجه األسطرالب ،والتي تُ َعِي ُن بعض الكواكب.
.8ال ِعضادة :الساق المتحركة على ظهر األسطرالب.
الم ْم ِس ُك َّ
للصفائح والعنكبوت من خالل ثقوب في مراكزها. ط ُب ُ
المحْ ور :الُق ْ
ِ .9
.10الفرس :الداخل في القطب الممسك له.
.11المري :الزيادة التي تكون في رأس الجدي.
.12ظهر األسطرالب :وينقسم إلى 360درجة ،وإلى أربعة أرباع الدائرة ،كما ينقسم إلى أسماء البروج ،وغيرها
من الرسوم الضرورية لعمل األسطرالب.
ولقد تطور علم الفلك لدى المسلمين من خالل إنشاء المراصد المتعددة ،في مختلف البقاع ،مثل مرصد الشماسية
ببغداد زمن الخليفة المأمون (829م) ،ومرصد سامراء ،ومرصد جبل قاسيون ،ومرصد أنطاكية ،في بالد الشام ،ومرصد
المراغة (أذربيجان) ويعد من أهم وأعجب المراصد في زمانه ،ومرصد سمرقند الذي شيده تيمورلنك المغولي ،بلغ ارتفاعه
21مترا ،على قاعدة صخرية بلغ طولها 85مترا.
ومن أبرز مظاهر تطور هذا العلم في الحضارة اإلسالمية حمل كثير من النجوم أسماء عربية إلى اليوم مثل:
العذارى ( ،)Adaraالغول ( ،)Algolالطائر ( ،)Altairفم الحوت ( ،)Fom Alhutالرجل ( ،)Rigelالزورق
(.)Zaurak
ومن اإلنجازات الفلكية المتميزة في الحضارة اإلسالمية التمكن من قياس محيط األرض على عهد المأمون
العباسي بمقدار ( )41248كلم ،بحيث ُعَّد من قبل الغرب أول قياس علمي حقيقي تطلب وقتا وجهدا.
ولقد انجبت الحضارة اإلسالمية عددا كبي ار من علماء الفلك نذكر منهم على سبيل المثل:
30
موسى بن شاكر وأبناءه محمد وأحمد وحسن (813م861-م) ،برعوا في عهد الخليفة المأمون والمتوكل ،كما
يعدون من المؤسسين لكثير من العلوم في الحضارة اإلسالمية ،كانت لهم مهارات كثيرة ،بما فيها الرصد الفلكي ،تجلى
من خالل إقامتهم لمرصد في بغداد ،كما تركوا عدة مؤلفات في الفلك منها" :كتاب حركة الفلك األولى" وهي مقالة
لمحمد بن موسى ،و"كتاب تقويم التقاويم للمنازل والسيارات" ،ولقد عكس دورهم أهمية دراسة األسر العلمية في العصور
الوسطى في كافة العلوم ،بما دل على خاصية متفردة ،تميزت بها الحضارة اإلسالمية دون غيرها.
أبو معشر البلخي (881م) ألف العديد من المؤلفات الفلكية منها :كتاب هيئة الفلك ،كتاب تفسير المقامات من
النجوم ،كتاب زيج القرانات واالحتراقات.
أبو عبد هللا البتاني (927م) العراقي ،والذي يعد من أكبر علماء الفلك المسلمين في العصور الوسطى ،عرفه
األوربيون باسم Albategniأو ،Albatagnusعد من قبل الغرب بطليموس العرب ،ألف عدة مؤلفات منها :رسالة
في تحقيق أقدار االتصاالت ،كتاب معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك ،من إنجازاته :تحديد ميل دائرة فلك
البروج أو ما يعرف بـ" الدائرة الكسوفية" ،التوصل إلى نظرية جديدة في أحوال القمر ،والكسوف والخسوف ،استفاد منها
ُد ْنثورن Donthorneسنة 1749م ،كما صحح كث ار من التصورات الفلكية التي أوردها بطليموس.
أبو الوفاء البوزجاني (998م) ،يرجع إليه الفضل في اكتشافه الخلل الواقع في حساب معادالت مواقع القمر،
وتوصله إلى معادلة جديدة عرفت باسم (معادلة السرعة) ،التي نسبت زو ار وظلما إلى الفلكي الدانماركي تيشو براهي
( Tycho braheت1610م) ،كما اعترف للبيروني بأنه هو صاحب الفضل في التوصل إلى النسبة المثلية (المماس)،
وله عدة مؤلفات منها" :كتاب معرفة الدائرة من الفلك" ،كتاب الزج الشامل ...إلخ.
الحسن بن الهيثم (1039م) ،يعد من أبرز علماء البصريات ،زادت مؤلفاته عن السبعين ،أشهرها "المناظر في
علم اإلبصار" ،كان له األثر البارز في أوربا في عصر نهضتها ،له مساهمات متميزة في تعليل قوس قزح ،وحمرة
الشفق ،والكسوف والخسوف وغيرها ،كما انتقد وفند في كتابه "الشكوك على بطليموس" كثي ار من أفكاره.
أعدت حوله في العصر الحديث العديد من الدراسات والمؤتمرات ،ووصف من قبل الغرب كما ذكر بـ "أمير النور"
بفضل مساهماته المتميزة في تطوير علم الضوء.
أبو الريحان البيروني (1050م) ،يعد من أبرز علماء الفلك الموسوعيين في علمهم ،توصل من خالل كتابه
"القانون المسعودي" إلى تقدير محيط األرض على نحو أشاد به عالم الفلك اإليطالي نللينو ،وسماها العلماء األوروبيون
31
(قاعدة البيروني) ،1بلغت مؤلفاته ،417منها" :تحديد نهايات األماكن"" ،كتاب إيضاح األدلة في كيفية َس ْم ِت القبلة"،
"كتاب العمل باألسطرالب"" ،كتاب عن حركة الشمس"" ،كتاب عن النجوم"" ،كتاب االستشهاد باختالف األرصاد"...إلخ.
وتخليدا لذكره أطلقت جمهورية أوزبكستان اسمه على المدينة التي ولد بها ،كما عقدت العديد من المؤتمرات
الدولية من أجل دراسة أعماله ونتائج فكره في الميادين العلمية المختلفة.
هذا باإلضافة إلى أسماء أخرى في جهات أخرى من العالم اإلسالمي ال تقل ألمعية مما ذكرنا ،أضربنا عن ذكرها
اختصارا ،مثل :أبو القاسم المجريطي(1007م) ،عمر الخيام(1130م) ،جابر بن أفلح القرطبي(1145م) ،أبي جعفر
الخازن(1155م) ،البطروجي(1185م) ،مؤيد الدين المرضي(1266م) ،نصير الدين الطوسي(1274م) ،قطب الدين
الشيرازي(1311م) ،وغيرهم كثير.2
ب الرياضيات.
عرفت الرياضيات أيضا لدى قدماء المصريين ،وأهل بالد الرافدين ،ثم تطورت زمن الحضارة اإلغريقية ،وبرع
فيها جملة من الرياضيين أمثال :إقليدس ،Euclidوأرشميدس ،Archimedesوأبولونيوس ،Appoloniusالذين أفاد
الرياضيون المسلمون من كتبهم خالل حركة الترجمة ،ثم أضافوا إليها إضافات معتبرة ،نذكر منها على سبيل المثال:
.1تحويلهم لألرقام الهندية إلى نظام عملي سهل التطبيق ،كما استخدموا الصفر قبل الهنود ،األمر الذي جعل
الغرب يعتبره اختراعا عربيا قدم للعالم ،كما عده الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل من أعظم اإلنجازات التي
توصل إليها العقل البشري.
.2كما يجدر التنبيه على أنهم هم الذين وضعوا أسس علم الجبر في القرن التاسع الميالدي ،حتى أصبح
اصطالحا رياضيا شائعا في جميع لغات العالم ،تم ذلك بفضل محمد بن موسى الخوارزمي الذي ألف فيه كتابه
الشهير "حساب الجبر والمقابلة" ،اشتهر لدى الغرب في عصر النهضة باالسم الالتيني الجوريتمي .Algorithmie
ومن هنا ينبع التعبير بالغ الشأن في الرياضيات والسيبرنتيك في الوقت الحاضر .Algorithme
.3كما ينسب للرياضيين المسلمين تطويرهم لعلم المثلثات ،أو حساب المثلثات ،Trigonometriaالذي يدرس
الزوايا والمثلثات ،وجعله مستقال عن علم الفلك.
ولقد ظهر في الحضارة اإلسالمية كثير من المشاهير الرياضيين ،ال يقلون أهمية عن الخوارزمي مثل:
اإلصطخري الحاسب (ت ق10م) مؤلف كتاب "الجامع في الحساب" ،وبهاء الدين العاملي (ت 1031م) ،ترك
العديد من المؤلفات منها" :الطرق الحسابية األساسية" ،و"جمع المتواليات" ،و"المسائل العويصة أو مستحيلة الحل"،
و"رسالة في الجبر وعالقته بالحساب".
أبو الحسن القلصادي األندلسي (ت1486م) ،ترك عدة من المؤلفات منها" :كشف األسرار في علم الغبار"،
و"قانون الحساب" ،و"التبصرة الواضحة في مسائل األعداد الالئحة".
)4الجغرافيا.
قدم المسلمون معرفة جغرافية مهمة ،مقارنة بما كان سائدا قبلهم ،وبخاصة لدى اإلغريق ،أكد على ذلك حجم
اإلسهام الكبير في تلك العصور.
ولقد كان للعرب قبل ظهور اإلسالم معارفهم الجغرافية ،من خالل ما درجوا عليه من التجارة داخل جزيرة العرب
وخارجها ،من خالل رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والشام ،كما كانوا يهتدون في ذلك بالنجوم لمعرفة االتجاهات
المختلفة.
ولقد حاول بعض المستشرقين ،المنبهرين بالمركزية الغربية ،االدعاء بأن الجغرافيا اليونانية هي المنبع الذي نهل
منه المسلمون ،وأنهم لم يقدموا أي معرفة جغرافية إضافية ،وهو زعم مناف للصحة ،بل إن إسهامات المسلمين في ذلك
أوجدت نقلة فارقة في تاريخ العلوم عامة ،وعلم جغرافيا خاصة كما سنالحظ.
قدم الجغرافيون المسلمون معرفة مهمة في هذا الباب من خالل الوصف العمراني ،ورصد المسالك البرية والبحرية
الممتازة ،بما أبان عن عوامل ازدهار األوضاع االقتصادية للعالم اإلسالمي ،وانعكاس ذلك على كافة المظاهر
الحضارية.
هذا ويمكن وصف القرن العاشر الميالدي بأنه قرن كبار علماء المسالك والممالك ،حيث ظهر فيه عدة أعالم
أمثال:
ابن حوقل (990م) ،ألف كتاب "صورة األرض" ،عرف برحالته الواسعة ،استغرقت ثالثين سنة ،قدم من خاللها
معلومات ،ال يقدما إال الوافد األجنبي المالحظ ،فوصف ديار العرب ،وبحر فارس (الخليج العربي) ،وبالد المغرب
واألندلس ،وكذلك مصر ،والشام ،والعراق ،وبالد فارس ،والسند ،وما إلى ذلك من أقاليم آسيا الواسعة ،بما أكد على
الرؤية العالمية للجغرافيا عند المسلمين.
ابن رستة (ت ق 10م) ،مؤلف كتاب "األعالق النفيسة" ،قدم فيه وصفا للعديد من األقاليم ،والمواقع الجغرافية،
والطرق المهمة ،مثل طريق خراسان الكبير إلى طوس ،وطريق بغداد إلى الكوفة والبصرة.
ابن فضالن (ت ق 10م) ،الذي قام برحلة ضمن بعثة سفارية ،بأمر من الخليفة المقتدر العباسي ،استجابة لطلب
ملك البلغار وما وراء نهر الفولجا سنة 922م.
أبو زيد البلخي (ت 934م) ،له كتاب "المسالك والممالك" ،كان من الرواد في صناعة الخرائط.
المسعودي (ت ق 10م) ،من أشهر كتبه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" ،هو جغرافي ومؤرخ ،يمتاز بالنزعة
العقالنية والبعد على الخرافية ،تعبر كتاباته الجغرافية عن تطور ملحوظ.
34
المقدسي (ت ق 10م) ،يعد أحد كبار الجغرافيين المسلمين ،قرر أن األرض كروية ،وقسمها خط االستواء إلى
قسمين متساويين ،وأن محيطها بلغ 360درجة ،وأن هناك 90درجة بين ذلك الخط وكل قطب من القطبين الشمالي
والجنوبي.
كما لم يقدم الجغرافيا بمنظورها الضيق ،وإنما قدم إشارات مهمة تتعلق بالجوانب البشرية والعادات والنشاط
االقتصادي والمحاصيل والصنائع.
ولقد شكل كل من المسعودي والمقدسي نقطة تحول فارقة في المعرفة الجغرافية اإلسالمية ،دون إغفال إسهامات
األعالم اآلخرين.
كتاب "حدود العالم" باللغة الفارسية ،لمؤلف مجهول ،مثل كثير من الكتب ،أهدي ألحد أمراء الدولة الفرغانية
في طبرستان ،فيه وصف لمئات المواقع الجغرافية ،والبحار ،والجزر ،والجبال ،واألنهار ،والصحاري ،سجل تطو ار
ملحوظا في التأليف الجغرافي لدى المسلمين ،أكسبهم قاعدة معلومات جغرافية فريدة ،أثنى على أهميته فاسيلي بارتولد
الحتوائه على مادة وفيرة عن بالد الترك ،وآسيا والوسطى ،التي لم تخضع لسلطان المسلمين ،فاقت جميع المصنفات
الجغرافية العربية التي بين أيدين.3
إسحاق بن الحسين( ،ت ق 10م) ،اشتهر بكتابه "آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان" ،تميز
بتوسعه من حيث الوصف في مدن أفريقية واألندلس ،كما قدم معلومات مهمة عن القارة األوروبية من خالل وصفه
لمناطق في إيطاليا وفرنسا ،وبالد الصقالبة (السالف) ،وشيء عن اإلمبراطورية البيزنطية ،بما أكد إلى جانب الكتاب
الذي تقدمه على أن الجغرافيين المسلمين لم يمنعهم العداء السياسي والعسكري مع غيرهم من أن يقدموا معلومات
جغرافية عنهم ،األمر الذي يؤكد على سعة أفقهم.
أبو الريحان البيروني( ،ت 1048م) ،يعد من أشهر العلماء لدي الغرب ،كان متعدد المعارف ،موسوعي الثقافة،
أجاد العربية ،والفارسية ،والسنسكريتية ،ألف عدة كتب جغرافية منها :كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل
أو مرذولة" ،وكتاب "الجماهر في معرفية الجواهر" ،وكتاب "اآلثار الباقية عن القرون الخالية" ،كلها امتازت بالعمق،
وسعة االطالع ،متعددة المعارف الجغرافية كالجغرافيا الطبيعية والبشرية واالقتصادية.
كما يعد كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" نقلة نوعية في مجال الجغرافيا اإلقليمية،
التي أحاطت بجغرافية الهند وشعوبها ،وفتحا في مجال االنثروبولوجيا االجتماعية ،جعلته يوصف من قبل المستشرق
األلماني سخاو Sachauبأنه أعظم عقلية في القرون الوسطى.
كما يجدر التنبيه على أن ما كتبه البيروني عن الهند قد أفاد بريطانيا في استعمارها للهند ،بما قدمه من معلومات
عميقة ودقيقة عن الشخصية الهندية وعاداتها ،ومعتقداتها.
هذا ،ويرتبط بعلم الجغرافيا لدى المسلمين في لعصور الوسطى ،تجربة الرحلة ،حيث ظهر عدد بارز من الرحالة
الذين طافوا البلدان ،وساهموا بكثير من الكشف الجغرافي ،نذكر منهم:
ط َّوف في بالد الشام ومصر ،وقدم وصفا امتاز بدقة المالحظة ،وغ ازرة
ناصر خسرو (ت 1060م) ،الذي َ
التفاصيل ،بحث عدت مصد ار أساسيا عن أوضاع هذه البالد.
الشريف اإلدرسي (ت 1160م) ،يعد أعظم جغرافي ،اشتهر بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق" ،ألفه بطلب
من الملك النورماني روجر الثاني 1154-1130( Roger IIم) ،في مدينة باليرمو Palermoعاصمة صقلية ،وقد
وضع تحت تصرفه كل اإلمكانيات ،فتضمن الكتاب وصفا شامال ودقيقا غير مسبوق ألوروبا ،قدم معلومات دقيقة عن
إيطاليا ،وفرنسا ،وانجلترا ،وألمانيا ،واسكندنافيا (السويد ،النرويج ،الدنمارك) ،على نحو جعل صاحبه يحتل مكانة مرموقة
في تاريخ جهود المسلمين الجغرافية ،كما اعتبره البعض نقطة احتكاك بين الحضارتين اإلسالمية والمسيحية.
ورغم ذلك هنالك من قلل من قيمة ما قدمه اإلدريسي مثل المستشرق الروسي فالديمير كراتشكوفسكي ،مقارنة
بغيره من الجغرافيين ،والباحث التركي الشهير فؤاد سيزكين ،الذي ع از ضعف اإلدريسي إلى قضاء معظم عمره في
صقلية ،وهي بيئة أوربية تأثرت بالحضارة اإلسالمية إلى حد بعيد.
لكن ُرد على زعمها المتهافت بما أنصف اإلدريسي وأرجع إليه اعتباره ،وذلك بفضل الدراسات التي تناولت عمله،
وكشفت عن أوجه تميزه وتفوقه.4
هذا ويرتبط بإنجازات اإلدريسي الجغرافية الفارقة والمهمة ،إسهامه المتميز في علم الخرائط ،Cartography
حيث تضمن كتابه سبعين خريطة ،عدت من أدق وأوضح وأصح ما وصل إلينا ،تفوقت على خرائط بطليموس الذي
بالغ كثير من الغربيين في تمجيده بحكم المركزية األوروبية.
ياقوت الحموي( ،ت 1225م) ،هو أيضا أحد العباقرة في الجغرافيا ،اشتهر بكتابه الفذ "معجم البلدان" ،في ثمانية
مجلدات ،استغرق في تأليفه عشر سنوات ،ورتبه أبجديا ،وقدم فيه وصفا حيويا ومهما لكل وصل إليه علمه ،عن المدن
والمواضع في بالد اإلسالم مما وراء النهر والهند شرقا إلى بالد المغرب واألندلس غربا ،اشتمل على معلومات لها صلة
بالدين والحضارة واإلثنولوجيا ،Ethnologyأي علم األعراق والفصائل البشرية ،وما اقترن بها من األدب الشعبي
،Folkloreواألدب الفني ،فضال عن المعرفة الجغرافية ،بما جعله على حد تعبير العالمة الروسي كراتشكوفسكي
منجما غنيا للمعرفة ال نظير له في جميع اللغات.5
ويجدر التنبيه على أن ياقوت كان من الرقيق الذين نعموا بالحرية في بالد اإلسالم ،فلم يمنعه وضعه من أن
يتعلم ويبرز ويحظى باالحترام والتقدير ،األمر الذي أكد على خاصية القدرة على مواجهة التحديات التي عرفت بها
الحضارة اإلسالمية ،نستشف ذلك من سير كثير من أعالمها الذين تحدوا كل المعوقات من خالل استجابتهم المتميزة.
ابن جبير( ،ت 1217م) ،قدم رحلة فريدة ،عكست قوة المالحظة ،وغ ازرة التفاصيل ،وصف من خاللها جميع
المظاهر العمرانية في األماكن المقدسة بالحجاز ،كما وصف مصر ،وبالد الشام في العصر األيوبي ،كما تناول
العالقات السلمية بين المسلمين والصليبيين التي تجلت في التواصل التجاري بين الطرفين رغم الصراع ،فعد بذلك
مصد ار ال عنى عنه في التأريخ للعالقة بين الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية ،في هذه الحقبة الزمنية.
كذلك وثق للعديد من المنشآت المعمارية المدنية والحربية ،فوصف مثال البيمارستان النوري ،المتميز بمعماره
ومرافقه وخدماته ،كما وصف حصن األكراد ،الشهير بمناعته الطبيعية وصنعته المعمارية.
ابن بطوطة1377( ،م) ،عد أعظم رحالة في زمانه ،أملى رحلته على ابن جزي بأمر من الملك أبي عنان
المريني ،تحت عنوان "تحفة النظار في غرائب األمصار وعجائب األسفار" ،انطلق من طنجة بشمال المغرب األقصى
إلى الصين وما وراءها ،استغرقت 27عاما ،قدرت المسافة التي قطعها بأكثر من 75000ميال ،وهي مسافة زادت
عما قطعه ماركو بولو Marco Poloالرحالة البندقي ،الذي يحلو لكثير من الغربيين نعته تعصبا بأنه أعظم الرحالة،
لكن دراسات غربية أخرى منصفة أعادت البن بطوطة اعتباره الذي ينازع.
قدم ابن بطوطة من خالل رحلته كثي ار من المعلومات الجغرافية واألنثروبولوجية والحضارية والتاريخية غاية في
الدقة والمصداقية والفرادة لكل المشاهد التي شاهدها.
شيخ الربوة الدمشقي( ،ت 1326م) ،مؤلف كتاب "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر" ،اتسم بالموسوعية معرفة
واهتماما ،يعد كتابه من المصادر المهمة في الجغرافيا.
ابن ماجد (1530م) ،يعد من أبرز علماء الجغرافيا ،وبخاصة فيما يتعلق بعلم البحار ،لقب بأسد البحار ،له عدة
مؤلفات في ذلك ،نذكر منها" :الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" ،و "حاوية االختصار في أصول علم البحار" ،كما
ألف أراجيز في ذلك.
الحسن الوزان ،الملقب ليون األفريقي ( ،Leon Africanusت 1552م) ،ألف كتاب "وصف أفريقيا" ،الذي يعد
من أهم المصادر الجغرافية في أواخر العصور الوسطى.
هذا ويجدر التنبيه على أن الجغرافيين المسلمين كان لهم إسهام بارز في مجال اكتشاف القارات قبل إسهام
األوروبيين ،فقد عرفوا قارة أستراليا ،وسموها جزيرة جاوة الكبيرة ،تميي از لها عن جزيرة جاوة اإلندونيسية قبل أن يكتشفها
األوروبيون.
هذا ويكمن تلخيص إسهامات الجغرافيين المسلمين على سبيل االختصار في النقاط اآلتية:
.1إشاراتهم الدالة إلى احتمال وصول المسلمين إلى أمريكا قبل اكتشافها من قبل كريستوفر كولومبوس بعدة
قرون ،يؤكد ذلك األدلة اآلتية:
إشارة الشريف اإلدريسي في "نزهة المشتاق" إلى قصة الفتية المغررين ،الذين قاموا برحلة من لشبونة أ
(عاصمة البرتغال) بقصد عبور بحر الظلمات (المحيط األطلسي) ،فلم يعودوا ،األمر الذي ُي ْبقي احتمال بلوغهم قائما.
ب إشارة القلقشندي (ت1418م) في كتابه "صبح األعشى" إلى رحلة قام بها سلطان مالي أبو بكر الثاني عبر
من خاللها المحيط األطلنطي ،ويفترض أنه يكون قد وصل كوبا عام 1311م.
ت إيراد ابن الوردي (ت 1349م) في كتابه "فريدة العجائب ،وخريدة الغرائب" أوصافا محددة تنطبق على الهنود
الحمر سكان أمريكا األصليين ،وال شك أن في ذلك داللة على وصول المسلمين إلى موطنهم.
ث ِذ ْك ُر بعض الباحثين أمر وجود مفردات من اللغة العربية ضمن لغة الهنود الحمر ،أكدها علم فقه اللغة.
.2قولهم بكروية األرض ،ووجود اليابسة وراء بحر الظلمات ،بخالف ما كان عليه تصور الجغرافيين اإلغريق
الذي توهموا انتهاء اليابسة عند أعمدة هرقل في طنجة شمال المغرب.
38
.3أكدت كثير من الدراسات الحديثة المتخصصة إقرار كريستوفر كولمبوس من خالل رسائله التي كتبها
استفادته من علوم العرب في ذلك.6
.4اتساع الرؤية الجغرافية لديهم من خالل اتساع مساحة األرض التي عرفوها ووصفوها وصفا مفصال استغرق
كافة الجوانب ،طبيعية ومناخية ،واالجتماعية ،والفالحية ،والصناعية ،والمعدنية ،والدينية ،واللغوية ،في المشارق
والمغارب ،بفضل بحثهم ومغامراتهم ورحالتهم ،وبفضل اتساع الدولة اإلسالمية وانفتاحها على العالم أرضا وشعوبا.7
هذا وال يعرف مقدار وحجم إسهامات الجغرافيين المسلمين إال من خالل اإلشارة إلى مظاهر القصور الذي لحق
الجغرافيا اليونانية والذي يمكن إجماله في اآلتي:
.1مبالغة بطليموس الذي هو عمدة اإلغريق في الجغرافيا في تحديد طول البحر المتوسط.
.2تصوره أن المحيط الهندي وكذلك المحيط الهادي بحيرة مغلقة.
.3إخفاقه في تحديد موقع بحر قزوين ،وكذلك الخليج العربي ،وكذلك جزيرة سيالن (سريالنكا).
.4عدم تمكنه من استعمال خطوط الطول والعرض.
.5اعتقاده أن األرض مسطحة.
.6تصوره أن القارة اإلفريقية يمتد طرفها الجنوبي إلى الشرق ليصل إلى األرخبيل اإلندونيسي.
هذا ،ورغم كل هذه اإلسهامات الجغرافية المتميزة التي أضافتها الحضارة اإلسالمية إلى التراث الجغرافي البشري،
فقد وجد في الغرب من المستشرقين من حاول التقليل من قيمتها شكال ومنهجا وإضافات ،إال أن ما يفند تلك مزاعم
أكثر مما يدعمه ،ولعل فيما ذكر الكفاء والغناء.
عرف المسلمون التاريخ بأنه اإلعالم بالوقت ،تقول :أرخت الكتاب ،بمعنى بينت وقت كتابته.
ومع تعاقب العصور تطورت التصورات وتعددت حول ماهية التاريخ ،وتأكدت حقيقته كعلم قائم على منهج بحثي
محدد ،كما اعتبر أيضا فنا من حيث اعتماده الخيال الستعادة الماضي ،وتصويره من جديد بغية االقتراب قدر اإلمكان
من الواقع التاريخي والحقيقة التاريخية.
ومن هذا المنطلق تتضح صعوبة تحديد ماهية التاريخ الرتباطه بالحياة كلها ،استهدافه الوجود اإلنساني في
الماضي لما له من انعكاس على الحاضر والمستقبل.
ويجدر التنبيه على أن الحضارات السابقة عن الحضارة اإلسالمية مثل الحضارة المصرية والعراقية واليونانية
والرومانية كانت لها كتابات تاريخية تجلت في اآلثار والنقوش والنقود وبعض المصادر األدبية والمالحم واألشعار.
نذكر مهم على سبيل المثال هيرودوت ،Herodotusالذي لقبه الغربيون بأبي التاريخ ،وثيكوديدز
،Thucydidesالذي وصف من قبلهم أيضا بأبي النقد التاريخي.
وإلى جانب هذين المؤرخين وجد آخرون خالل األعصر المتعاقبة ،لكنهم يعدون على رؤوس األصابع ،أرخوا
لعهود بعض األباطرة والملوك ،كما أرخوا لبعض الحروب والمنشآت.8
أما علم التاريخ عند المسلمين فقد ارتبطت نشأته بعلم الحديث النبوي على العهد األموي.
هذا ويجدر التنبيه على أن العرب أيضا اشتهروا بروائع األخبار ،ومعرفة األنساب ،أكد ذلك عبيد بن شرية
الجرهمي الذي ألف "كتاب الملوك وأخبار الماضين" في تاريخ ملوك اليمن القدامى ،ووهب بن منبه اليمني الذي ألف
"كتاب التيجان ولوك حمير".
وقد يحسن تناول تاريخ علم التاريخ عند المسلمين من خالل مدارسه الفكرية اآلتية:
ارتبطت هذه المدرسة بالمغازي ،فوصفت أحيانا بـ "مدرسة المغازي" ،ومن أبرز أعالمها الصحابي الجليل عبد
هللا بن عباس ،وصلنا علمه في ذلك عن طريق أبرز تالميذه عروة بن الزبير بن العوام () ،الذي يعد من أوائل من
كتب في السيرة النبوية ،والخلفاء الراشدين ،والخالفة األموية (إلى عهد عبد الملك بن مروان).
ومن أعالم هذه المدرسة محمد بن شهاب الزهري (741م) ،الذي كتب هو اآلخر في المغازي ،والخلفاء الراشدين،
إلى بداية الخالفة األموية ،وصلتنا نقول من كتاباته ضمن مؤرخين معتبرين تلوه مثل :ابن إسحاق والواقدي والبالذرى
والطبري وغيرهم ،ويعتبر واضع قواعد وأسس دراسة المغازي ،والمعالم األولى لكتابة السيرة النبوية ،التي تعد من أسس
الحضارة اإلسالمية كما ذكر في صدر الكتاب.
ومن أعالمها موسى بن عقبة (758م) ،كتب في المغازي ،والسيرة النبوية ،والخالفة الراشدة ،والخالفة األموية،
اهتم بأمر التسلسل الزمني لألحداث التاريخية ،فاستفاد منه المؤرخون والجغرافيون بعده.
ومنها أيضا ابن إسحاق ،وهو أهم أعالم مدرسة المدينة ،أفاد من علم أهل الكتاب ،وعطت كتابته من بدء الخليقة
إلى بني أمية مرو ار بالسيرة النبوية وعصر الخلفاء الراشدين.
ومنها كذلك الواقدي (823م) ،الذي بلغت مؤلفاته 28كتابا ،فقد أغلبها ،لكن وصلتنا كتاباته في المغازي وفتوح
مصر ،وفتوح الشام.
ومنها ابن سعد (845م) تلميذ الواقدي ،اشتهر بكتاب الطبقات ،الذي يقع في أكثر 12مجلدا ،شمل السيرة،
والمغازي ،والصحابة والتابعين ،والخلفاء ،وغيرهم ،وكان عمدة لمن جاء بعده.
ابن القالنسي الدمشقي(1160م) ،ألف كتاب "ذيل تاريخ دمشق" ،استوعب أخبار دمشق عاصمة بالد الشام ،كما
عد كتابه المصدر العربي الوحيد في أخبار الحملتين الصليبيتين األولى والثانية ،لمعاصرته لهما ،فاكتسب لذلك أهمية
بالغة ،وكان مرجعا ال غنى عنه لمن بعده.
41
كما تكمن أهميته في إيراده للوثائق ،كما حرص على التأريخ للكوارث الطبيعية مثل الجفاف ،والزالزل.
كما يعد مصد ار أساسيا عن الدولة البورية األتابكية (1134م1154-م) ،والدولة النورية الزينكية (1146م-
1174م).
أدرك المستشرقون أهميته فحققه ،Amedrozكما ترجم المؤرخ البريطاني المرموق Hamilton Gibbقسما منه
إلى االنجليزية.
ومنها أيضا ،ابن عساكر (1176م) ،مؤرخ ومحدث ،من أشهر كتبه "تاريخ مدينة دمشق" المعروف بتاريخ ابن
عساكر ،أطول وأوسع كتاب ألف في هذه المدينة ،بلغ ثمانين مجلدا ،واستغرق في تأليفه ثالثين سنة ،عكست صبره،
وحبه لتخليد مآثر مدينته.
ومنها كذلك ،العماد األصفهاني (1201م) ،عمل كاتبا لنور الدين محمود ومن بعده لصالح الدين األيوبي ،ومن
"الب ْر ُق الشامي" ،و"خريدة القصر وجريدة العصر"، ِ "الف ْت ُح الُق ِس ُّي في َ
الف ْت ِح الُقُدس ِي" ،و َ أشهر وأنفع مؤلفاته التاريخيةَ :
و"تاريخ آل سلجوق" ،وغيرها من الكتب.
يمتاز أسلوبه في الكتابة بأسلوب الكتاب ،الذي يطغى عليه األسلوب األدبي القائم على المحسنات البديعية ،لذلك
يحتاج مطالعة إلى جهد ألجل استخراج مادته التاريخية.
ومنها أيضا ،أبو شامة المقدسي (1268م) ،ومن أشهر كتبه النفيسة" :الروضتين في تاريخ الدولتين النورية
والصالحية" ،و"الذيل على الروضتين".
الحَل ِب من تاريخ
ومن أعالم هذه المدرسة كذلك ،ابن العديم الحنبلي (1261م) ،من أشهر مؤلفاته التاريخية ُ"زْب َدةُ َ
حلب" ،و"بغية الطلب في تاريخ حلب" ،يعد أرز مؤرخ لمدينة حلب ،عاصر محنة غزو المغول لبالد الشام.
وخالصة القول فقد تنوعت إسهامات مؤرخي المدرسة الشامية ،وسجلوا أحداث عصر الحروب الصلبية التي
عاصروها ،الستشعارهم أهميتها ،فحابوها بأقالمهم ،وحفظوها ألمتهم من الضياع ،باعتبارها من أخطر التحديات التي
واجهت الحضارة اإلسالمية في العصور الوسطى.
.2المدرسة العراقية.
42
ازدهرت المدرسة العراقية انطالقا من العراق ،الذي شهد تأسيس مدينة بغداد ،عاصمة الخالفة العباسية ،مترامية
األطراف ،حيث نشطت فيها الحركة العلمية ،فكانت بحق المدرسة األم ،نظ ار لتعدد أعالمها ،وإسهاماتهم البارزة في
الكتابة التاريخية اإلسالمية في تلك العصور ،منهم:
القاضي أبو يوسف (798م) ،عاصر الخليفة العباسي هارون الرشد ،وألف بأمر منه كتابه الشهير "الخراج"،
ويعد مصد ار أساسيا في األوضاع االقتصادية للخالفة اإلسالمية.
كما ألف بعده يحيى بن آدم (818م) وفي نفس الموضوع للخليفة المأمون كتابه "الخراج" ،تميز بتفصيالت أوفى
مما أورده أبو يوسف.
كذلك ألف بعدهما أبو عبيد هللا بن سالم (848م) ،كتابه المهم "األموال" ،امتاز بالشمولية أكثر مقارنة بالكتابين
السابقين.
ومنهم محمد بن جرير الطبري (922م) ،ويعد شيخ المؤرخين المسلمين وعمدتهم ،ألف كتابه الموسوعي الشهير
"تاريخ الرسل والملوك" المعروف أيضا بتاريخ الطبري ،استوعب من خالله تاريخ من تقدمه من المؤرخين باإلضافة إلى
تأريخه الوافي لعصره من جميع الجوانب ،فكان له األثر البارز فيمن تاله من المؤرخين ،منهجا ومادة ،بل إن أحد
أشهر المستشرقين األلمان وأكبرهم ،وهو كارل بروكلمان ،Carl Brockelmanحصل على درجة الدكتوراه حول
موضوع تأثير تاريخ الطبري وفي تاريخ ابن األثير الذي جاء من بعده بقرون.
ومن أعالم هذه المدرسة المسعودي (957م) ،الذي ألف عدة كتب تاريخية مهمة منها :كتاب "أخبار الزمان ومن
أباده الحدثان من األمم الماضية والممالك الدائرة" ،وكتاب "التنبيه واإلشراف" ،وكتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر"،
امتاز المسعودي بنزعته العقالنية في كتابة التاريخية ،كما يعد من أهم وأشهر مؤرخي اإلسالم.
ومن أعالمها أيضا أبو الفرج األصفهاني (973م) ،له ميول شيعية ،خلف عدة مؤلفات مهمة ،منها :كتاب
األغاني يقع في أكثر من 20مجلدا ،جمع مادته في نصف من الزمان ،ويعد منجما من كمناجم المعلومات المتعلقة
بالحضارة اإلسالمية ،إال أنه يتضمن العديد من المعلومات المغلوطة والمدسوسة ،أثبتت ذلك الدراسات النقدية التي
قدمت حوله ،لذا يجب الحيطة والحذر في التعامل معه.
ومنها كذلك ابن النديم (990م) ،صاحب الكتاب الشهير "الفهرست" ،أحصى من خالله الكتب التي ألفت الحضارة
اإلسالمية حتى القرن العاشر الميالدي ،حيث أورد فيه نحو 6124عنوان كتاب ،فعد بذلك مصد ار غاية في األهمية،
43
وال سيما في التأريخ لحركة الترجمة على العهد العباسي ،من أجل نقل التراث اليوناني والفارسي والهندي إلى اللغة
العربية ،إلى جانب توثيقه لحجم التأليف في مختلف العلوم عطت أربعة قرون هجرية.
ومنها أيضا ابن األثير الجزري (1232م) ،يعد من ألع مؤرخي هذه المدرسة األفذاذ ،أثرى التراث التاريخي
اإلسالمي بعدة مؤلفات مهمة ،نذكر منها" :الكامل في التاريخ" من بدء الخليقة إلى عصره ،أفاد ممن تقدمه من المؤرخين
وبخاصة الطبري ،ال يستغنى عنه ،ويمتاز بغ ازرة التفاصيل ،وحضور شخصيته التأريخية .و"أسد الغابة في معرفة
الصحابة" ،فريد في بابه ،ترجم فيه لنحو 8000صحابي ،بصورة غير مسبوقة ،عكست علمه وجهده ،وبراعته.
هذا يعتبر ابن األثير نقطة تحول في الكتابة التاريخية ،وتغي ار واضحا يدركه من يطالع إسهاماته مقارنه بمن
تقدمه ،نبه على ذلك كثير من المتخصصين.
ومنها أيضا ابن خلكان( ،ت 1282م) ،صاحب الكتاب المشهور "وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان" ،والذي يعد
أشمل في تراجم األعالم ،حيث عرف بالمئات من الرجال والنساء من أهل العلم والسياسة واألدب ،كما تضمن إشارات
في المجاالت االجتماعية والعلمية غاية في األهمية مادة وأسلوبا ،ونظ ار ألهميته في بابه فقد أعقبته ذيول وتكمالت
مثل كتاب "فوات الوفيات" البن شاكر الكتبي ،وكتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي.
.3المدرسة المصرية.
ظهر فيها هي األخرى عدد كبير من المؤرخين ،أرخت لمصر منذ الفتح اإلسالمي لها ،وانضمامها لدولة الخالفة
الراشدة ،وقد بدأت هذه المدرسة مع ابن عبد الحكم من خالل كتابه النفيس "فتوح مصر والمغرب" والذي يعد األعرق
في بابه ،اعتمد على الروايات الشفوية وكثير من الوثائق المهمة.
ثم تبعه آخرون مثل الكندي (867م) صاحب كتاب "الوالة والقضاة" ،وابن زوالق صاحب كتاب "أخبار القضاة"،
والمسبحي صاحب كتاب "التاريخ الكبير" الذي لم يصل إلينا.
كما برز في العصر المملوكي كوكبة متميزة من المؤرخين قلما تجتمع في عصر واحد ،منهم:
شهاب الدين النويري (1322م) صاحب الموسوعة الشهيرة "نهاية األرب في فنون األدب" ضم مادة عليمة
ضخمة ،دلت على النفس الطويل والقدرة الفائقة على الجمع والترتيب.
44
ومن أعالم هذه المدرسة القلقشندي (1418م) ،صاحب الموسوعة الفذة "صبح األعشى في صناعة اإلنشا" ،فريد
في بابه وحجمه ،حيث كان موضوعه حول ديوان الكتابة أحد أهم الدواوين اإلدارة اإلسالمية ،احتوى كن از حقيقيا من
الوثائق التي تعد مادة أولية للكتابة التاريخية.
من أعالمها السيوطي ( 1505م) ،العالم الموسوعي بامتياز ،يعد من أغزر مؤرخي ومؤلفي عصره ،كتب قرابة
611كتابا في المعارف والعلوم المختلفة ،وكتب في التاريخ عدة كتب أشهرها :كتاب "تاريخ الخلفاء" ،وكتاب "حسن
المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة".
ومن أعالمها أيضا ،ابن تغري بردي (1569م) ،ويعد من أبرز أعالم هذه المدرسة ،ألف العديد من المؤلفات
التاريخية النفيسة ،نذكر منها أهمها وأشهرها" :النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" ،و"المنهل الصافي والمستوفي
بعد الوافي".
ومنها كذلك ،السخاوي (1496م) ،ويعد كذلك من المؤرخين المرموقين في زمانه ،ألف عدة مؤلفات تاريخية
مهمة ،نذكر منها" :الضوء الالمع ألهل القرن التاسع" و"التبر المسبوك في ذيل الملوك".
ومن أعالمها أيضا ،تقي الدين المقريزي (1441م) ،الذي أعانه اشتغاله في ديوان اإلنشاء وتتلمذه وتأثره بالعالمة
ابن خلدون على اكتساب رؤية متفردة وشخصية مستقلة في كتابة التاريخ ،وأهله لكتابة العديد من الكتب التاريخية
المفيدة نذكر منها أشهرها وأنفعها" :المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار" المعروف بالـ "الخطط المقريزية" ،و"المقفى
في تراجم أهل مصر والواردين إليها" ،و"السلوك لمعرفة دول الملوك" و"اتعاظ الحنفا بأخبار األئمة الفاطميين الخلفا".
ومنها أيضا ،ابن حجر العسقالني (1448م) ،اشتهر بكتابة تراجم األعالم الشهيرة ،ألف في ذلك عدة كتب مهمة
نذكر منها أشهرها وأثرها أثرا" :الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" و"اإلصابة في تمييز الصحابة" و"إنباء الغمر
بأبناء العمر" و"رفع اإلصر عمن قضاة مصر" و"لسان الميزان".
.4المدرسة األندلسية
وهي مدرسة لها خصوصيتها ،وانجبت العديد من المؤرخين البارزين والمتميزين ،نذكر منهم:
ابن حبيب (852م) ،يعتبر أول مؤرخ أندلسي ،ألف كتابا في التاريخ العام قبل أن يكتب في ذلك شيخ المؤرخين
اإلمام الطبري بأكثر من نصف قرن ،أكد من خالل ذلك على هويته األندلسية المبكرة ،له عدة مصنفات مهمة نذكر
45
منها" :كتاب التاريخ"" ،كتاب حروب اإلسالم"" ،كتاب أدب النساء الموسوم بكتاب الغاية والنهاية" ،إلى غير ذلك من
الكتب القيمة في السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين وتاريخ اإلسالم عامة.
ابن عبد ربه (940م) ،مؤلف الكتاب الموسوعة الشهير "العقد الفريد" في 25مجلدا ،في األدب والتاريخ وغيره،
استوعب كثي ار مما سائدا الثقافة المشرقية رغم الفاصل الجغرافي مما دل على قوة التواصل الحضاري بين جميع أقطار
العالم اإلسالمي في ذلك الوقت.
ومنها أيضا أبو بكر أحمد الرازي (955م) ،ويعد من أكبر وأشهر مؤرخي األندلس في العصر األموي ،كتب في
تاريخ األندلس وأخبار ملوكها ودولها كتابا غاية في األهمية ،اعتبر مصد ار مهما لمن أعقبه من المؤرخين.
ومنها كذلك ،ابن حزم األندلسي (1064م) ،فقيه ومؤرخ له مكانته ،كان موسوعي االهتمام والتصنيف ،حيث
كتب في الفقه واألصول ،والفلسفة والمنطق والسلوك ،والتاريخ واألنساب ومقارنة األديان واألدب ،من كتبه" :نقط العروس
في تواريخ الخلفاء" ،و"جمهرة أنساب العرب ،و"الفصل في الملل واألهواء والنحل" و"جوامع السير" و"رسالة في أمهات
الخلفاء" و"جمل من فتوح اإلسالم".
ابن حيان (1076م) ،يمثل قمة التأليف في الكتابة التاريخية في المدرسة األندلسية ،ترك مؤلفات تاريخية أندلسية
نفيسة مثل" :المقتبس من أبناء أهل األندلس"" ،المتين" في 60مجلدا ،لكن لألسف لم يصلنا ،أجمع مؤرخو األندلس
على إمامته في تاريخ األندلس ،حيث امتاز بالدقة والضبط ،وغ ازرة التفاصيل وتنوع المعلومات وشمولها ،باإلضافة إلى
الروح النقدية والمقارنة واالستنتاج.
لسان الدين بن الخطيب (1374م) ،خاتمة مؤرخي األندلس ،يعد من كبار مؤرخي األندلس دون جدال ،غ ازرة
وتنوعا وأسلوبا ،بما كان له من مكانة علمية وأدبية موسوعية ،وبما كان له من مكانة سياسية في مملكة غرناطة آخر
دويلة اإلسالم في األندلس ،ومن كتبه القيمة" :اإلحاطة في أخبار غرناطة" ،و"إعمال األعالم"" ،الكتيبة الكامنة في
أدباء المائة الثامنة" ،و "اللمحة البدرية في الدولة النصرية" ،إلى غير ذلك من المؤلفات.
ابن خلدون (1405م) ،اشتهر بكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم
من ذوي السلطان األكبر" ،بدأه بمقدمة تعد عمال ابتكاريا غير مسبوق ،بوأته مقام فيلسوف التاريخ بشهادة أرنولد توينبي،
مبدع نظرية التحدي واالستجابة ،واعتبر ما توصل إليه ابن خلدون أكبر إنجاز توصل إليه عقل بشري في كل زمان
وكان.
46
.1القدرة الفذة على التحليل واالستنتاج والتعليل والوعي بالعالقة التي تربط بن كافة العناصر المشتركة في
صناعة التاريخ ،ساعده ،ال شك ،على ذلك سعة اطالعه على العلوم المختلفة بما في ذلك علم التاريخ.
.2عمله السياسي ،وتقلب أحواله في ذلك ،واطالعه على كثير من الدسائس ،مكنه من إدراك خبايا األمور.
.3طبيعة العصر الذي عاش فيه ،حيث عرف تحوالت كبيرة وتغيرات عميقة في المشرق والمغرب ،ساعده
إدراكها على إنتاج نظرية تفسيرية وتعليلية للعوامل المختلفة غاية في الطرافة واألهمية.
.4من العوامل أيضا التي أثرت في مساره الفكري ما ألم بالعالم من كارثة الوباء الهائل المعروف بالموت
األسود ،الذي "ذهب بأهل الخير ،وطوى كثي ار من محاسن العمران ومحاها ،وجاء للدول على حين هرمها ...فقلص
ظاللها ،وأوهم من سلطانها ...وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول واالنقباض فبادر باإلجابة".9
هذا ،ورغم إشادة الكثيرين بإبداع ابن خلدون في مقدمته ،فقد ظهر في السنين القليلة الماضية بعض الباحثين
الذين يزعموا بأن ابن خلدون إنما نقل كل ذلك عن إخوان الصفا ،إال أن الزعم فند باألدلة اآلتية:
)1إن رسائل إخوان الصفا ال تقدم نظرية متكاملة حقيقية لتفسير التاريخ ،مثلما قدمه ابن خلدون استنادا على
نظرية العصبية.
)2إن النصوص التي قدمت للتدليل على النقل ليست متطابقة ،إنها اعتمدت على التلفيق ،واألحكام المسبقة.
)3لم يكن ابن خلدون بما امتلكه من مهارات وخبرات عاصرها مثل الطاعون األسود في حاجة إلى السطو
على رسائل إخوان الصفا.
)4تقدير كبار المستشرقين لفكر ابن خلدون واعتباره رم از من رموز الفكر العربي اإلسالمي في عصره.
مؤرخون غير مسلمين :هذا ولقد وجد إلى جانب المؤرخين العرب والمسلمين مؤرخين غير مسلمين احتضنتهم
الحضارة اإلسالمية ،نذكر منهم مؤرخين يهود مثل :ما شاء هللا(ق3-2م) ،الذي عاش في العصر العباسي ،وسعدي
العاجوني(ق10م) ،وخلف الدمشقي(1227م) ،ومؤرخين مسيحيين مثل :ثيوفيل بن توما الرهاوي(785م) ،وإيليا
النصيبيني(1049م) ،ميخائيل السرياني(1199م) ،وابن العبري غريغوريوس (1286م).
)6الفلسفة
يواجه الدارس للفلسفة اإلسالمية في الحضارة اإلسالمية إشكالية يمكن عرضها من خالل اآلتي:
أوال :المركزية األوروبية وتأثيراتها الكبيرة :حيث إن المستشرقين الغربيين الذين درسوا الفلسفة اإلسالمية نظروا
إليها على أنها نتاج الفلسفة اليونانية ،وأن أرسطو كان المحرك لها ،على اعتبار أن المسلمين لم يتمكنوا من الفكاك من
تأثيره حيث وصفوه بـ"المعلم األول" ،فلم تكن فلسفتهم ،بزعمهم ،إال فلسفة يونانية بثياب إسالمية ،مستدلين على ذلك
بكثرة شروح فالسفة اإلسالم لتلك الفلسفة التي اعتبروها أوروبية أصيلة.
كذلك وجد بعض الباحثين الغربيين الذين نظروا إلى الفلسفة اإلسالمية نظرة دونية ،فوصموا تصوراتهم
المعيش ،فظلوا في أبراج عاجية بعيدين عن هموم الناس.
بالميتافيزيقية ،ومعالجتهم ألمور جدلية ال عالقة لها بالواقع َ
وامتدادا لهذه المركزية وجد اتجاه بداخلها رأى أن القرآن الكريم حد من النشاط الفلسفي ،وهو أمر مخالف للواقع
التاريخي.
ثانيا :الطابع الفردي في تناول الفلسفة اإلسالمية :تمثل ذلك في تركيز أغلب المستشرقين على عدد من أعالم
الفلسفة اإلسالمية ،دون البحث عن تأثيراتهم في معاصريهم ،كتيارات فكرية ،اكتسبت تأييدا من المعاصرين ،وتأرجحت
بين القوة والضعف ،بحسب العصور ،شأنهم في ذلك شأن أي ظاهرة فكرية في التاريخ اإلنساني عموما ،وهكذا ركزوا
على الفالسفة باعتبارهم أفرادا ال تأثير لهم في المجتمعات ،بحجة أن فلسفتهم كانت مجرد ترف عقلي.
ثالثا :ثنائية الصراع بين الفالسفة والفقهاء المسلمين :وهي ظاهرة ال يمكن إغفال ظهورها من حين آلخر ،وكانت
عادة ما تقف السلطة إلى جانب الفقهاء ضد الفالسفة ،إال في حاالت استثنائية قليلة ،مثلما حصل على عهد الخليفة
المأمون في العصر العباسي الذي كام مؤيدا للمعتزلة ومذهبهم في النظر.
ومن اإلنصاف اإلقرار بأن بعض الفالسفة المسلمين ربما صدموا المجتمع اإلسالمي ببعض التصورات ،األمر
الذي رجح كفة الفقهاء عند المواجهة.
رابعا :مشكلة التصنيف :فقد وجد فالسفة إلى جانب وجود عديد من المتصوفة المتفلسفين ،مما جعل فريقا من
الباحثين يجمعهم في مجال واحد ،األمر الذي جعل دائرة تصنيف الفكر الفلسفي تتسع وتتعدد أوجهها وتوراتها بتعدد
المنابع والمشارب.
هذا ويجدر التنبيه على أن منهج البحث في الفكر الفلسفي لها أسسها التي قد تتفق وقد تختلف أيضا عن منهج
البحث في الفكر الصوفي باختالف األعصر مصطلحا وتطو ار تاريخيا ،إلى جانب اختالف التجربة الصوفية باختالف
أعالمها.
48
خامسا :الطابع الذكوري للفلسفة في الشرق وفي الغرب كذلك :وهو ال شك أمر متوقع لطبيعة تلك المرحلة
التاريخية ،بعكس مرحلة الحضارة اليونانية الرومانية التي نشأ فيها فيلسوفات ذكرهن التاريخ.
ورغم ذلك يجب التأكيد على أن التفلسف على مر التاريخ لم يكن محصو ار في الرجال فقط ،وإن كان األمر يدعو
إلى بحث موقف الفلسفة من المرأة ،مع التأكيد أيضا على نظرة اإلسالم المتحضرة للمرأة باعتبار أن النساء شقائق
الرجال.
سادسا :مشكلة الموضوعية :وتتمثل في صعوبة الحكم القطعي على عدد من الفالسفة بسبب فقدان كتبهم،
وتكالب الخصوم ضدهم ،األمر الذي حال دون الحكم على أفكارهم ،عالوة على موجات العداء للفلسفة والفالسفة عموما
في المشرق والمغرب ،إلى درجة إحراق مؤلفات عدد مهم مثلما حدث للغزالي وابن رشد وغيرهما.
ويجدر التنبيه على أن الحديث عن الفلسفة اإلسالمية ال ينبغي أن يبدأ من أصولها اليونانية مثلما يجنح الغربيون،
ومن شايعهم من باحثين عرب وغيرهم ،تحت تأثير المركزية األوروبية ،ألن اإلغريق أنفسهم تعلموا من الحضارات
السابقة ،في الشرق األدنى ،وبخاصة من الحضارة المصرية وبالد الرافدين في العراق.
كما تجدر اإلشارة إلى أن حركة الترجمة ،التي تقدم الحديث عنها ،التي كان لها تأثير كبير في تمكين المسلمين
من االطالع علة مؤلفات أعالم الفلسفة اليونانية ،وجعلت تحت أيديكم قاعدة معلومات فلسفية غنية ،تعود إلى كبار
األعالم مثل أفالطون ،وأرسطو ،وأفلوطين ،وغيرهم ،لكن يالحظ أن أرسطو كان صاحب المقام المرموق لدى فالسفة
اإلسالم ،وبخاصة فيما يتصل بالمنطق اآلرسطي ،إال أنهم لم يكونوا مقلدين حرفيين له ،وإنما اختلفوا معه في كثير من
الوجوه كما سيتبين من خالل ما يعرض عن فالسفة اإلسالم في اآلتي:
الكندي (867م) ،هو أول فيلسوف عربي ،ألف العديد من المؤلفات ،مثل" :رسالة في حدود األشياء"" ،رسالة في
وحدانية هللا"" ،رسالة في الجواهر الخمس".
له نظرية في المعرفة ركناها المحسوس والمعقول ،أي أن معارفنا إما أن تكون حسية ،وإما أن تكون عقلية،
ص ِوَرة ،ويسميها القوى المتوسطة. ِِ
المتَ َ وبينهما توجد القوى ُ
المتَ َخيَلة أو ُ
كان واسع اطالع في جميع العلوم والمعارف ،مستقل الشخصية ،خالف ،وفي زمن مبكر أرسطو ،كما كان له
تأثير كبير من خالل مؤلفاته في المجالت المتعددة مثل الرياضيات ،والفلك ،والجغرافيا ،والطب ،وهو ما يحيل إدراكه
49
لوحدة العلوم ،وصف أيضا بالريادة والسبق والتأثير فيمن جاء بعده من الفالسفة ،كما عكست جهوده قدرة اإلسالم على
إنجاب فالسفة في مراحله المبكرة ،وهو أمر يكاد يقل نظيره في زماننا.
الفارابي (950م) ،يعد واحدا من أكبر فالسفة اإلسالم ،يوصف بأنه مؤسس الفلسفة العربية اإلسالمية ،ترك تراثا
فلسفيا معتبرا ،منه على سبيل المثال" :إحصاء العلوم ،كتاب الجدل"" ،الجمع بين رأي الحكيمين"" ،السياسة المدنية"،
"آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها" ،والذي يعد من أهم وأشمل مؤلفاته ،ألنه يمثل مرحلة النضج في حياته ،أودع
فيه آخر ما توصل إليه من نظرات فلسفية ،الميتافيزيقية ،والنفسية ،واالجتماعية ،والسياسية ،والخلقية ،مثل فكرة حاجة
اإلنسان إلى االجتماع والتعاون ،وصفات رئيس المدينة الفاضلة وأهلها ،والمقارنة بين المدينة الجاهلة والمدينة الفاضلة.
ويجدر التنبيه بهذا الخصوص على أنه على الرغم من تأثره في كتابه هذا بكتاب الجمهورية ،Republucaإال
أن بصماته في ذلك واضحة.
وعلى العموم هناك من عد فلسفته مذهبا روحيا متسقا تمام االتساق ،وبصورة تعبيرية مذهبا عقليا ،األمر الذي
جعل كا ار دو فو ،Carra de vauxيذهب إلى الشبه بينه وبين الفيلسوف األلماني الشهير نيتشه ،Nietzsche
وبخاصة في أفكاره التي أوردها في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة".
ابن سينا (1037م) ،يعد الشيخ الرئيس كذلك واحدا من أكبر وأشهر فالسفة اإلسالم ،ألف عدة مؤلفات في ذلك
منها" :الشفاء"" ،حي بن يقضان" ،الذي سيكتب في موضوعه عدة فالسفة من بعده" ،اإلشارات والتنبيهات"" ،رسالة في
القدر".
امتاز ابن سينا بالموسوعية ،واإللمام بالعديد من العلوم والمعارف ،جمع بين الفلسفة والطب على حد سواء ،األمر
الذي أكد على منوع وحدة العلوم.
من آرائه الفلسفية إرادته التوفيق بين فلسفته وأفكار أهل السنة والجماعة ،مثل اعتقاده بأن الخير والشر موجود
بقدر هللا تعالى ،إال أنه سبحانه ال يرضى إال الخير ،ومن أفكاره أيضا ،أن العالم ال يمكن أن يكون أحسن وال أبدع مما
هو عليه بالفعل.
إخوان الصفا ،وهي جماعة فلسفية شيعية وجدت في البصرة في القرن (10م) ،من تصوراتهم أن الشريعة تم
تدنيسها بالجهاالت ،واختلطت بالضالالت ،لذلك تصدوا لتطهيرها من خالل الفلسفة ،فذهبوا إلى أنه إذا ما حدث التزاوج
50
بين الفلسفة اليونانية والشريعة العربية اإلسالمية فإنه يحصل الكمال ،ولقد عبروا عن أفكارهم في ذلك في مجموع لهم
بعنوان" :رسائل إخوان الصفا وخالن الوفا".
هذا ويجدر التنبيه على أنهم كانوا موصوفين في كثير من أحوالهم بالسرية ،األمر الذي أثار حولهم عالمات
االستفهام ،كما أنهم في مجال األخالق اتجهوا نحو الزهد ،مقتبسين في ذلك من مذاهب مختلفة ،معتبرين المحبة أسمى
الفضائل ،وغايتها الفناء في هللا الموصوف عندهم بالمحبوب األول ،كما حاول إخوان الصفا التوفيق بين الدين والفلسفة،
كما أن كثي ار من مصادر أفكارهم لم تكن إسالمية صرفه ،وإنما تضمنت الكثير ديانات ما قبل اإلسالم.
وتجدر اإلشارة إلى الباحث في تاريخ المدينة يواجه إشكاليات حقيقية تتجلى معالمها في اآلتي:
أوال :تعدد مصادر تاريخ المدينة اإلسالمية ،متمثلة في كتابات مؤرخي المدن ،وكتب الخطط ،والوفيات ،والتراجم،
والحوليات ،وكتب الحسبة ،ودواوين الشعر ،واآلثار والنقوش والنقود وغيرها.
وبقدر ما يعكس هذا األمر الثراء الحقيقي لتاريخ تلك المراكز العمرانية الحضارية ،إال أنه يشكل تحديا حقيقيا
أمام الباحث ،جمعا ،واستقصاء ،وفحصا ،وتركيبا يوصل إلى تصور متكامل المالمح عن تاريخ المدن اإلسالمية.
ثانيا :اتساع المساحة الجغرافية التي أقام المسلمون عليها مدنهم ،والتي شملت آسيا وأفريقيا وأوروبا ،من الصين
شرقا إلى األندلس غربا ،كما بلغت المئات ،لذا يتعين على التصدي لهذا األمر أن يتحرى انتقاء نماذج مميزة تعبر عن
العمارة والتشييد.
ثالثا :داللة تلك المدن على مظاهر االزدهار والتألق ،مقابل صفحات أخرى دلت على التدهور واألفول ،من
منظور الثبات والتغير ،واستحضار عوامل التفاعل والتغير المختلفة داخليا وخارجيا.
رابعا :في تاريخ المدن اإلسالمية نجد إشارات مصدرية وافرة حينما يتعلق األمر بعلية القوم من السياسة أمثال
الخلفاء والسالطين والوزراء وغيرهم ،بينما تبدو الصورة باهتة حينما يتعلق األمر بعامة الناس على الرغم من خطورة
51
دورها كثافة وإنتاجا ،وهو أمر يشير إلى عدم التوازن من الناحية المصدرية ،إال أن األمر يمكن معالجته من خالل ما
يعرف اليوم بالتاريخ الموازي بالرجوع إلى مصادر أخرى غير مباشرة مثل كتب الرحالت والجغرافيا.
سادسا :المركزية األوروبية التي أشرنا إليها أكثر من مرة ،والتي تمثلت في انطالق المستشرقين ،أحيانا ،أثناء
دراستهم للمدن اإلسالمية من منطلقات خاصة بالمدينة اليونانية والرومانية ،باعتبارها امتدادا لنظمها ،وهو أمر مغلوط
جعلهم ال يدركون خصوصيتها وتعبيريها عن روح اإلسالم كدين له في ذلك تأثيره المميز ،نتج عنها افتقار المسلمين
المحدثين لرؤية إسالمية عن المدن اإلسالمية باستثناء بعض الدراسات المتناثرة هنا وهناك ،ترد على ادعاءات
المستشرقين من تأثر بهم ممن تتلمذ عليهم.
كان ميالد المدينة في اإلسالم حدثا حضاريا متفردا ،وذلك الرتباطه بالسيرة النبوية الشريفة ،وخاصة بحادث
الهجرة من مكة المكرمة إلى يثرب الصغيرة التي ستتحول إلى المدينة المنورة ،ذات المكانة البارزة قداسة وخصوصية
في تاريخ اإلسالم شرقا وغربا.
أقام عليه الصالة والسالم عقب نزوله بها المسجد وبيت إقامته ،واستصدر وثيقة كانت بمثابة دستور منظم
لعالقات طوائف المجتمع ،كما آخى بين المهاجرين واألنصار ،بما أزال النعرة القبلية ،كذلك أنشأ بها سوقا ،فصارت
بفضل هذه اإلجراءات مدينة واضحة المعالم ،وقدوة لجميع مؤسسي المدن اإلسالمية الحقا.
ص َن المدينة ،حينما تألب عليه األحزاب الذين كانت غايتهم استئصال اإلسالم والمسلمين ،وذلك من
أيضا َح َّ
خالل حفر خندق ،قد يعتبر من العجائب في ذلك الزمان ،شارك في حفره قرابة ثالثة آالف صحابي ،واستغرق الحفر
أربعة وعشرين يوما ،وبلغ طوله ستة كيلومترات.
ولقد شكل موقع المدينة اإلسالمية لدى مشيديها أهمية خاصة ،حيث تعتمد المشورة الجماعية ،من خالل إشراك
القيادات السياسية والعسكرية والدينية ،كما يؤخذ بعين االعتبار المناخ وبخاصة مراعات الرياح الشمالية على اعتبار أن
52
الجنوبية هي مجلبة لألمراض ،كما يراعا الموقع العتبارات دفاعية أحيانا ،وسياسية واقتصادية أحيانا ،كما ال بد من
توافر مصدر للحياة المتمثل في األنهار أو مياه األمطار.
وهكذا فإن المتأمل في مواقع المدن اإلسالمية في الحضارة اإلسالمية ،يالحظ دون عناء أنها لم تكن عشوائية،
وإنما كانت ناجمة عن دراسة متأنية أخذت بعين االعتبار العديد من األولويات والمقومات المهمة.
كما أنها كانت من خالل اختبار الموقع بعناية ،وإقامة المسجد ،وبناء دار اإلمارة ،وإنشاء السوق ،وتخطيط أحياء
السكان ،تعتبر امتدادا لمدينة الرسول صلى هللا عليه وسلم ،كما أن المدينة في تاريخ اإلسالم كانت نابعة من مقومات
اإلسالم عقيدة وشريعة وأخالقا ،بعيدة عن أي مؤثرات خارجية يونانية أو رومانية كما زعم بعض الباحثين الغربيين كما
أشرنا.
.3أنواع المدن.
وجدت في الحضارة اإلسالمية عدة أنواع من المدن اإلسالمية أبرزها:
هكذا كان لكل نوع من أنواع المدن اإلسالمية خصوصية ،كما كانت جميعها نابضة بالحياة السياسية واالجتماعية
واالقتصادية ،كما كانت على الرغم من تنوعها توحدها خصائص اإلسالم العامة ،المتمثلة في المسجد الجامع ،والعادات،
والتقاليد ،وغيرها من المظاهر الدينية المشتركة والمتجانسة مشرقا ومغربا.
نذكر في هذا الصدد بعض النماذج للمدن اإلسالمية ،نقف من خاللها على عناصر مكوناتها ،وعلى أوجه الشبه
واالختالف بينها ،وهي:
الكوفة :شيدها الفاتح سعد بن أبي وقاص ،قائد ملحمة القادسية ضد الفرس عام 639م ،وذلك بعد تخير أ
موقعها ،مراعاة للظروف الصحية المواتية ،فكان المكان مرتفعا ،وخاليا من الحشرات ،وكذلك يسير االتصال بالمدينة
المنورة ،عاصمة الخالفة.
سميت بالكوفة ،استنادا إلى خصائص أرضها وتربتها التي كانت مزيجا من الحصباء والطين والرمل.
أما مكوناتها األساسية عند اإلنشاء فهي :المسجد الجامع الذي اتسم بالبساطة ،ودار اإلمارة ،وخطط األحياء
السكنة ،وتحصيص مكان للسوق الذي سيتطور مع الزمن إلى عدة أسواق.
اتخذها علي بن أبي طالب عاصمة للخالفة ،فأصبح لها دور سياسي بارز ،كما أصبح لها تبعا لذلك دور علمي
بارز ،فنشأت بها مدرسة نحوية لها شأنها ،كما أنجبت أعالما مرموقين في علوم مختلفة.
بدأ إشعاع الكوفة يخبو ،وسيرع إليها الخراب شيئا فشيئا ،وذلك حينما شيدت بغداد ،وصارت عاصمة للخالفة
العباسية ،وانتقل إليها الناس.
وتجدر المالحظة إلى أن تشييد المدن اإلسالمية األولى ،ارتبط بقادة الفتوحات اإلسالمية ،وهذا يدل على أنهم
لم يكونوا مجرد غزاة فاتحين ،وإنما كانوا مؤسسي مدن ورسل مدنية وحضارة ،وهي خاصية متفردة امتازت بها الحضارة
اإلسالمية.
ب الف ْسطاط :أنشأها الفاتح عمرو بن العاص عام 642م ،في موقع صحراوي مالئم للفاتحين العرب ،بين النيل
وجبل المقطم ،فكان تجنب اإلسكندرية ،المدينة البحيرة ،وعاصمة العصرين الروماني والبيزنطي مقصودا ،اتقاء لخطر
الهجوم البيزنطي الذي كان متوقعا في تلك المرحلة التاريخية المبكرة.
ولقد شهد الفسطاط عبر الزمان عدة تحوالت وتقلبات أثرت على استق ارره وعمرانه مثل المجاعة الشديدة التي
حدثت بسبب انخفاض منسوب النيل ،وإحراقها بسبب الصراع اإلسالمي الصليبي على العهد الفاطمي.
ورغم ذلك فقد كان الفسطاط مزدهر العمران ،كما لعب دو ار مهما في نشر اإلسالم واللغة العربية ،ألنها كانت
منطلقا للفتوحات اإلسالمية في شمال إفريقيا.
ت القيروان :أقامها الفاتح عقبة بن نافع الفهري عام 670م في تونس ،ومعنى القيروان القافلة ،اختار موقعها
بعناية شديدة كما جرت العادة ،فروعي كذلك بعدها عن البحر التوسط وقربها من الريف لمدها باالحتياجات الزراعية.
احتوت القيروان أيضا ،مثل نظيراتها ،على المسجد الجامع ،ودار اإلمارة ،والسوق ،وخطط سكنى األهالي ،األمر
الذي جعل منها مرك از عمرانيا حيويا متناميا ،كما شجع على ذلك وقوعها على خط التجارة العالمية بين الشرق والغرب.
ولقد ظلت القيروان مزدهرة ،إلى أن ألمت بها كارثة غزو وتخريب قبائل بني هالل وبني سليم ،بتحريض من
الفاطميين نكاية في أعدائهم بني زيري.
ورغم ذلك واصلت القيروان مسيرتها ،شأنها شأن جميع مدن اإلسالم ،واستمرت فيها الحياة االقتصادية والعلمية
والحضارية ،بما أكد على خاصية مواجهة التحديات ،التي تميزت بها الحضارة اإلسالمية ،كما ألمحنا سابقا.
ث بغداد :وهي المدينة األشهر واألبرز في تاريخ حركة تشييد المدن اإلسالمية حتى ظهور القاهرة ،وقد تعددت
اآلراء حول معنى اسمها ،أسسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 766م ،اختار موقعها بعناية منقطعة النظير،
على حدود صحراء بادية السماوة ،فكانت واسطة العقد بين بالد العرب وبالد العجم الذين قامت على أكتافهم الخالفة
العباسية ،كما روعي في إنشائها القرب من دجلة لضرورة المياه.
ولقد أنفقت األموال الطائلة في تشييدها ،لتكون عظيمة الشأن ،فحشد ألجل ذلك المهندسين والبنائين ،وصفها
ياقوت الحموي بـ "أم الدنيا ،وسيدة البالد" ،كما جعلت على شكل دائري ،وأحيطت بسورين عظيمين لتكون حصينة،
كما احتوت على المسجد الجامع ،وقصر الخليفة ،والدواوين المتعدد ،والسوق ،وخطط أحياء السكان.
عدت بفضل ضخامتها وتميزها وازدهارها اقتصاديا وثقافيا من المدن العالمية الرائدة ،بحيث نافست بجدارة
القسطنطينية العاصمة التاريخية الشهيرة لإلمبراطورة البيزنطية.
هذا ورغم شهرتها ومنعتها فقد تعرضت بغداد لعدة تحديات ،أسوأها وأبشعها ،الغزو المغولي سنة 1258م ،القترانه
بقتل الخليفة ،وإسقاط الخالفة ،وبالمذابح والتخريب والدمار.
55
ولقد دخلت بغداد تاريخ العلم من أبوابه المشرعة ،حيث تجرج فيها العدد الهائل من األعالم في العلوم المختلفة،
تشهد على عطائهم المؤلفات الكثيرة ،والمكتبات الوفيرة ،فصارت ألجل ذلك مقصد الطالب والرحالة من كل حدب
وصوب.
القاهرة :تعد من أكبر المدن التي شيدت في الحضارة اإلسالمية ،أسسها جوهر الصقلي الفاطمي عام ج
969م شمال الفسطاط ،أطلق عليها هذا االسم لتكون قاهرة لألعداء.
احتوت على القصر الفاطمي ذي المساحة الواسعة ،والفخامة البالغة ،التي عكست الثراء والقوة ،والمدنية.
كما احتوت على الجامع األزهر ،الذي أسس ليكون مرك از للدعوة إلى المذهب الشيعي ،بديال عن مسجد عمرو
بن العاص رمز المذهب السني.
ولما أسقطت الدولة األيوبية بقيادة صالح الدين الدولة الفاطمية ،دخلت القاهرة عهدا جديدا من حيث العمران
والبناء ،وبخاصة من حيث كثرة تشييد المدارس.
كما زادها دفعة حضارية أخرى عهد السالطين المماليك ،الذين أنشأوا بها العديد من المدارس ،والزوايا ،والخوانق،
والمساجد ،ما زال الكثير منها قائما في العصر الراهن.
ولقد كانت القاهرة قبلة لكثير من الرحالة على اختالف أعراقهم ومشاربهم ،منهم العالمة ابن خلدون الذي وصفها
بقوله" :حضرة الدنيا ،وبستان العالم ،ومحشر األمم ،ومدرج البشر ،وديوان اإلسالم ،وكرسي الملك."..
كما دخلها شيخ الرحالة المسلمين ،ابن بطوطة ،وخصها بوصف متميز عكس حويتها وانساع عمرانها وكثافة
سكانها ،كما وصفها غيره من الرحالة ،بما أكد على مدنيتها وحضارتها على كافة المستويات.
كما احتضنت الطبقة الوسطى التي تتألف من كبار التجار والصناع ،إلى جانب طبقة العامة من صغار التجار
والصناع وغيرهم.
56
كما ضمت المدينة اإلسالمية طبقة من أهل الذمة من اليهود والنصارى وغيرهم ،عاشوا في توافق عام ،مستمتعين
بما ضمنته لهم الدولة اإلسالمية من حقوق المواطنة والحرية الدينية ،باستثناء حاالت نادرة ،آثرها محدودة.
هذا وتجدر اإلشارة إلى أن الدولة اإلسالمية كان لها دور فعال في رقابة الحياة االجتماعية لحفظ النظام من
االنح ارف ،وضمان الطابع اإلسالمي في المدن ،وذلك من خالل دور ديوان الحسبة ،في حدود القواعد الشرعية والعوائد
االجتماعية من دون قمع للحريات ،كما قد يتوهمه البعض.
ومن الظواهر االجتماعية المرتبطة بالمدن اإلسالمية التي يجب التنويه بها ،ظاهرة زحف سكان األرياف إلى
المدن ،رغبة في تحسين ظروف العيش ،لتوفر المدن على الفرص المتعددة والمتنوعة.
ب الحياة االقتصادية.
أما ما يتصل بالحياة االقتصادية في المدن اإلسالمية فقد تجلى من خالل النشاطين الصناعي الحرفي والتجاري،
حيث وجدت الصناعات المتعددة مثل :صانعة النسيج ،والصابون ،والورق ،والزجاج ،والصناعات المعدنية الحديدة
والنحاسية وكذا الذهبية والفضية وغيرها ،كما ارتبط بهاذين النشاطين نقابات منظمة لعمل الحرفيين من حيث التدرج
في الصنعة ،وحمايتها ،وتضامن أهلها ضد أي عدوان عليها من أي جهة كانت.
هذا وتجدر اإلشارة إلى أن الصناع المسلمين ،كانوا فنانين بحق لدقة صناعاتهم ،حيث تبوأوا المكانة المرموقة،
يؤكد هذا األمر ما تتوفر عليه متاحف الفنون المختلفة المنتشرة في كثير من المدن والبالد العربية وغير العربية ،وقد
شجع على ذلك ونماه عنصر الخبرة المتوارثة ،واعتماد الموارد المتاحة والمستوردة.
وأما النشاط التجاري في المدن اإلسالمية فعكسته األسواق اليومية واألسبوعية والموسمية سواء المبلط منها أو
المسقوف مراعاة للحاجة واألحوال الجوية.
كما وجدت في المدن اإلسالمية األسواق المتخصصة مثل :سوق النحاسين ،وسوق الب اززين (األقمشة) ،وسوق
الحدادين ،وغيرها كثير.
الخانات :جمع خان وهو مبنى كبير يضم عدة حوانيت كبيرة وصغيرة ،ومخازن للبضائع ،وكانت منتشرة في كثير
من البالد اإلسالمية مشرقا ومغربا.
57
القياسر :جمع قيسارية ،وهي عبارة عن بناء كبير ،تتوزع على جانبيه الحوانيت ،تجعل منها سوقا تحتوي على
جميع السلع ،تغلق ليال ،وتخضع للحراسة.
كما وجد في المدينة اإلسالمية عدة أنواع من التجار كثل :التاجر الركاض وهو المستورد الذي يجلب السلعة من
مواطنها األصلية ،والخزن وهو تاجر الجملة ،والمجهز هو مساعده ،وتاجر التجزئة وهو المباشر للبيع لعامة الناس،
كما وجد التاجر المختص في بضاعة محددة.
كما يجدر التنبيه على أن الدول اإلسالمية كانت تتدخل في النشاط التجاري من أجل النهوض باالقتصاد ،من
خالل رقابة األسواق بواسطة خطة الحسبة ،كذلك من خالل إصدار ق اررات إللغاء الرسوم التجارية المفروضة لضمان
سالسة وتدفق السلع الصادرة والواردة.
وخالصة القول فإن دراسة المدن اإلسالمية تؤكد ،بما يدع مجاال للشك ،على الوجه الحضاري والعمراني المؤثر
لإلسالم ،منذ انطالق حركة الفتوحات ،األمر الذي يفند كثي ار من األوهام االستشراقية التي تتهم اإلسالم باإلرهاب والعنف
إلى غير ذلك من النعوت السلبية الباطلة.
ويجدر التنبيه كذلك على أن التصدي للموضوع تواجهه إشكالية تناثر مادته الفنية التي تركها الفنان المسلم عبر
قرون عديدة في كل من آسيا وأفريقيا وأوروبا ،هذا من جهة ،ومن جهة أخرى الرؤية االستشراقية التي تنسب ذلك إلى
األصول اليونانية.
ألجل استجالء ذلك ال بد من عرض عدة نماذج مختارة تسلط الضوء على جوانب من الحضارة اإلسالمية في
ذلك.
حرص قطاع من المستشرقين على تتبع األعمال الفنية ،التي زخرت بها الحضارة اإلسالمية ،ابتداء من الفتوحات
اإلسالمية ،فانتهوا إلى تعميق فكرة األثر اليوناني في الفنون اإلسالمية.
58
وفي ذات الوقت وجد قطاع آخر منهم مثل ابنين سوريو ،E. Souriouوجاستون فييت ،G. Wietذهب إلى
أن اإلسالم أوجد اتجاها تعبيريا جديدا ،وأن الفنان المسلم في جميع األعمال التي أبدعها ،عكس روح الدين الجديد
وحضارته.
بل إن هنالك من يقر بأن الفن العربي اإلسالمي يعد أحد الفنون العالمية الرئيسة ،وأنه أطول عم ار وأوسعها
انتشارا ،وأكثرها تنوعا ووضوحا ،وذلك من خالل االحتفاظ بشخصيته المتميزة.
يؤكد هذا األمر اهتمام علماء الجمال ،ومؤرخي الفن ،والنقاد ،وعلماء اآلثار ،بدراسته ثم االنبهار به واإلشادة
باإلسالم وحضارته لم لكا لهما من إسهامات وافرة في مجال الفنون.
تجنبه للتشخيص والتجسيد والتمثيل ،وميله إلى التجريد ،وهو ما يفتح المجال أمام الخيال الواسع ،واإليحاءات أ
الروحية.
ب فن التسبيح والتعبير عن الالنهائية ،حيث تتكرر فيه الوحدات الزخرفية إلى ما ال نهاية.
ت امتيازه بالدقة المتناهية ،وتحري اإلتقان التام إلى درجة اإلعجاز ،وكأنه نوع من التعبد والقربى إلى هللا تعالى،
انعكس ذلك في آالف األعمال التي وصلت إلينا.
ث خلوه من الفراغ ،أي استفادته من جميع أبعاد المكان.
تجليته للطموح اإلنساني المتمثل في تشييد أعلى المآذن الرشيقة ،وأضخم القباب ،وإبداع أدق الزخارف ج
الالمتناهية.
ح اعتماده على جمالية الخط العربي الذي يشد الناظر ويبهره.
تمتيع الفنان المسلم ،بناء على رأي عفيف بهنسي عالم الفنون اإلسالمية ،بالحربية التعبيرية اإلبداعية خ
المطلقة ،بخالف غيره منذ أقدم العصور والذي ظل أسي ار للواقع ،وحتى الفنان الغربي الحديث على الرغم من تحرره
ونزعته التجريدية عجز عن تحقيق تلك الحرية ،فوقع في متاهات العدم والالشيء والسريالية.
.2خصائص العمارة اإلسالمية
امتازت العمارة اإلسال مية بخاصية أساسية تمثلت في صورة "الجوانية" ،وتعني أن أي مبنى سواء أكان مسجدا
أو مدرسة أو مسكنا فإنه يحمل الطابع الجواني ،بحيث يكون خارجه أقل شأنا من عمارته الداخلية ،تجلى ذلك من
59
المساجد األولى كجامع القرويين بفاس ،والجامع األموي بدمشق ،وجامع قرطبة ،بخالف داخله الذي امتاز بأروع
الزخارف ،واألثاث المعماري ،وكان الباعث من وراء ذلك الرغبة في عدم التظاهر والتفاخر والمضاهاة.
كما يالحظ أن التعاليم والمبادئ اإلسالمية دعمت هوية العمارة اإلسالمية وجعلها تخصص فنا وهندسة لعقيدة
اإلسالم القائمة على التوحيد.
كما تجدر اإلشارة إلى أن علماء المسلمين في تلك العصور الزاهرة راعوا العديد من الجوانب العمرانية لم تراع إال
في عصرنا الحالي ،نذكر منهم ابن رامي (ق ،)10صاحب كتاب "اإلعالن في أحكام البنيان" ،الذي تضمن معلومات
غاية في األهمية منها :قواعد تنظيمية وصحية ،األخطاء المعمارية وآثارها كعدم حماية البناء من الدخان ،والروائح
والضوضاء والشمس ،واالطالل على الجوار ،ومنع اطالع المارة على داخل السكن...إلخ.
.3العمارة الدينية.
وتتمثل في العمائر الدينية مثل المسجد ،وهو الحيز اإللهي إلقامة الصالة التي تجسد الصلة الروحية بين المسلم
وخالقة سبحانه وتعالى ،المتجه صوب القبلة ،ذات الشكل المكعب ذي الداللتين :داللة االرتباط باالتجاهات األربعة،
والداللة السرمدية المتمثلة في رسوخ الكعبة على األرض ،باعتبارها مركز الكون الذي ال يحدده زمان.10
أما المئذنة فوظيفتها النداء إلى الصالة من خالل التكبير والشهادة بالوحدانية ،ولقد تعددت أشكالها بتعدد المساجد
في البالد اإلسالمية ،فنجد المئذنة الصومعة ،والمئذنة الملوية ،والمئذنة األسطوانية ،والمئذنة الحلزونية ،والمئذنة
العثمانية.11
وأما القبة فتعد من أبرز السمات الروحية للمسجد إلى جنب المئذنة ،وهي نصف الكرة ،تقوم فوق الحرم ،وترمز
إلى الكون المؤلف من نصفين :النصف العلوي ويمثل السماء ،والنصف السفلي ويمثل األرض.
ومن األمثلة البارزة للعمارة الدينية في الحضارة اإلسالمية ،مسجد قبة الصخرة الذي أقيم عام 691م على عهد
الخليفة عبد الملك بن مروان األموي ،وله عدة مميزات نذكرها في اآلتي:
أوال :يعد من أقدم المنشآت المعمارية األموية ،ال يزال يحتفظ إلى اليوم بمالمحه األصيلة ،التي تعكس اإلتقان
والحسن ،رغم عوادي الزمن.
ثانيا :هو المسجد الفريد بنوعه بشكله المثمن ،عكس هندسة المعماريين األوائل الذين ترجموا من خالله تقاليد
العمارة السائدة.
ثالثا :إقامته قبة الصخرة على الصخرة المقدسة التي كانت منطلق عروج الرسول عليه الصالة والسالم إلى
السماء ،يبلغ طولها 17,70مترا ،وعرضها 13,50مترا ،وارتفاعها أكثر من متر ،وهي من الحجر الصلد ،ويبلغ قطر
القبة المقامة عليها 20,44مترا ،ويبلغ ارتفاعها 31,50مترا.
ومن أشهر المساجد في تاريخ العمارة اإلسالمية ،مسجد السلطان سليمان في إسطنبول (1550م1557-م) ،بني
في العصر الذهبي لهذه الدولة ،وله أربع منارات ،كما احتوت عاصمة الخالفة العثمانية العديد من المساجد الرائعة،
التي أكدت على إسهامات األتراك األصيلة والمتميزة.
.4العمارة المدنية.
وتتمثل العمارة المدنية في القصور والمدارس والبيمارستانات التي انتشرت عبر امتداد جغرافية العالم اإلسالمي،
ويمكن أن نمثل لذلك بأحد القصور الشهيرة والمتميزة ،ونعني به قصر الحمراء بغرناطة األندلس ،بناه الحجاج أبو
يوسف األول(1354م) ،وأكمله ابنه محمد الخامس الغني باهلل.
ولقد احتوى القصر على الزخارف النباتية ،والهندسية ،والكتابية ،يعلوه سقف خشبي يعرف برواق الِب ْرَك ِة ،تطل
بائكة 12مؤلفة من سبعة عقود على بهو الريحان ،والعقد األوسط منها أكثر ارتفاعا ،يقدم مثاال رائعا للبهو األندلسي
المتميز ،ال يزال قائما في غرناطة إلى اليوم ،شاهدا على ما بلغه المسلمون من حضارة في األندلس.
.5العمارة الحربية.
وتمثلها القالع والحصون التي أقيمت في جميع أنحاء العالم اإلسالمي على امتداد القرون ،ومن نماذجها قلعة
الجبل التي أقامها صالح الدين األيوبي ،فوق جبل المقطم بالقاهرة ،ومن نماذجها أيضا قلعة حلب الضخمة والحصينة
والتي تعد أروع مثال للعمارة الحربية اإلسالمية.
- 12البائكة :عبارة عن صف من األعمدة أو الدعامات ،تعلوها عقود يرتكز عليها السقف ،وأحيانا يرتكز السقف على األعمدة والدعامات ،دون وساطة
العقود.
61
ويجدر التنبيه على أن قالع المسلمين كانت أقل عددا بقالع أعدائهم من الصليبيين في بالد الشام ،ألنهم كانوا
يعانون من مشكلة قلة العنصر البشري فأقاموا نحو 120قلعة امتدت من السويد إلى غزة ،بخالف المسلمين الذين لم
يعانوا من هذه المشكلة وبخاصة في سهول الوديان الفيضية مثل بالد الشام ومصر.
.6الزخارف.
وتتمثل كما مرت اإلشارة في الزخارف النباتية والهندسية والكتابية والحيوانية ،فنجد مثال الزخارف النباتية منذ
العصر األموي ،تأث ار بالفن البيزنطي بحكم المرحلة تجلى ذلك في قصر المشتى ،وقبة الصخرة ،والمسجد األموي في
بالد الشام.
كما نجد الزخارف النباتية في شكل وريقات منفردة وثنائية وثالثية ،ألشجار العنب والنخيل ،باإلضافة إلى الزهور،
كزهر الزنبق الذي استخدم في العصر األيوبي ،على واجهة المدارس.
وتعد الزخارف النباتية "األرابيسك" األكثر شيوعا في الزخرفة اإلسالمية ،وهي عبارة عن فروع نباتية ،متماثلة،
ومتشابكة ،ومتتابعة ،يمثل ذلك خير تمثيل مدرسة السلطان حسن ومحراب مدرسة الناصر على العهد المملوكي ،كما
يمثل ذلك في العصر العثماني مسجد السلطان أحمد بإسطنبول ،ل استخدمت الزخارف النباتية في شمال إفريقيا
واألندلس على العهد األموي والمرابطي والموحدي ،وقد بلغ الطراز الفني المغربي أوجه غرناطة خالل القرن الثالث
عشر الميالدي.
أما الزخارف الهندسية فتعد من أغنى العناصر الزخرفية في العمارة اإلسالمية ،وتتمثل في الدوائر المتماسة
والمتجاورة ،والجداول ،والخطوط المنكسرة والمتشابكة ،باإلضافة إلى أشكال المثلث والمربع والمعين والمخمس
والمسدس.13
وأما بالنسبة للزخارف الكتابية فتعكسها األشكال المتعددة للخط العربي ،متمثلة في الخط الكوفي ،والمثلث،
والنسخ ،والرقعة ،والفارسي ،والديواني ،وغيرها من الخطوط ،فظهر الخط الكوفي أول ما ظهر في العراق ،ويعد أصل
الخطوط جميعها ،واستخدم خط الثلث في عناوين الكتب ،واآليات القرآنية ،والزخارف المعمارية ،كما استخدم خط النسخ
في نسخ المصاحف ،واستخدم خط الرقعة الذي ابتكره العثمانيون في الكتابة العادية ،واستعمل الخط الديواني الذي نشأ
في الدولة العثمانية في دواوين الملوك.
ويمتاز الخط العربي بالحيوية لما يتوفر عليه من مرونة وطواعية ،وقابلية للمد والرجع واالستدارة والتشابك
والتداخل ،األمر الذي هيأ له جميع أسباب التطور والزخرفة باألساليب المختلفة ،حتى يقال إن حرف "الهاء" ورد له
نحو 900شكل مختلف ،عكس بحق عبقرية الخط العربي.14
ولقد انتشرت الزخرفة الكتابية في جميع العمائر اإلسالمية مشرقا ومغربا على امتداد عصور الحضارة اإلسالمية.
أما األشكال اآلدمية والحيوانية فمن أمثلتها قصر الحير الغربي ،حيث وجدت صور مشاهد الطير والغناء ،كما
استخدم المسلمون رسوم األسد والفهد والفيل والغزال واألرانب ،والطيور المختلفة.
ومما يعكس براعة المصور المسلم أعمال الفنان العراقي يحيى بن محمود الواسطي (ق13م) ،الذي ترك إنتاجا
فنيا رائعا ،بلغت 96رسما مصغرا ،ينبض بالحياة ،تدعوا إلى "إيقاظ لغة العين" ،ألن الفن اإلسالمي يطرح سؤال :كيف
نرى؟ ال لماذا نرى؟
وال بد من التنويه في هذا لمقام بابن البواب (ق10م) الذي ترك مؤلفات رائعة في الخط والقلم ،وأدوات الكتابة
باإلضافة إلى عدد من المصاحف الرائقة الحسن الرائعة الخط.
كما يذكر في هذا الباب ابن ُمْقلة (940م) الشهير باإلتقان وحسن الخط ،هذا باإلضافة إلى غيرهم من الخطاطين
والمصورين والرسامين على امتداد العصور اإلسالمية.
.7الموسيقى.
وهي أيضا من الفنون التي كان لها محلها في الفنون اإلسالمية المختلفة ،وموسيقى هي من الفنون التي تخاطب
الروح وتعكس جانبا من جوانب التذوق للحضارة اإلسالمية ،وبه تكتمل لوحة الفنون في ظل حضارة اإلسالم رقيا
وشفافية وذوقا وإنسانية.
وتجدر اإلشارة إلى أن الشعوب الشرقية القديمة في مصر وفي بالد الرفدين كان لها اهتمام بالموسيقى ،أكد ذلك
الشواهد األثرية ،وكذلك األمر بالنسبة للحضارة اليونانية ،بما أكد على االمتداد الحضاري المشترك لهذه الحضارات.
ويجدر التنبيه بالنسبة لموضوع الموسيقى على أن بعض الباحثين الغربيين الذين درسوا تاريخ الموسيقى العالمية،
تعمدوا ،تحت تأثير المركزية األوروبية ،إغفال الموسيقى في الحضارة العربية اإلسالمية ،فدرسوا الموسيقى اإلغريقية ثم
قفزوا إلى مرحلة عصر النهضة وتاريخ أوروبا الحديث ،مثلما فعل برنار شابينول في كتابه "تاريخ الموسيقى Histoire
،"de la musiqueوتبعه في ذلك أحد جورج مدبك الباحثين العرب ،الذي أغفل تماما دور العرب في اآلالت الموسيقية،
رغم وجود آالت موسيقية عربية كثيرة.15
يذكر التاريخ وجدود آالت موسيقية عربية انتقلت إلى أوربا فيما بعد ،وأوضح مثال على ذلك العود ،كما ظهر
عدد من كبار أعالم الموسيقى ،مثل منصور زلزل واسحاق الموصلي وزرياب وغيرهم.
كما وجدت مؤلفات في مجال الموسيقى ،مثل ما كتبه الفارابي الفيلسوف الشهير ،حيث ألف كما مرت اإلشارة
كتاب "تاريخ الموسيقى الكبير" ،وابن علي الكاتب صاحب كتاب "كمال أدب الغناء" كما ال يغفل في هذا المقام أبو
الفرج األصبهاني صاحب الكتاب الشهير "األغاني" دون إغفال المحاذير الخاصة عند التعامل معه كمصدر تاريخي
تعرض للنقد.
إن الوقوف على تلك المعابر يفيد في تفنيد أوهام المتعصبين من أبناء الحضارة الغربية ،الذين توهموا أن المسلمين
لم يقدموا أي شيء ألوربا ،وأن المركزية األوربية وحدها هي صاحبة الفضل األول واألخير في ذلك ،انطالقا من مرحلة
اإلبداع اإلغريقي ،مرو ار بإنجازات عصر النهضة ،وانتهاء بما أعقبه إلى عصرنا الحاضر.
وفي هذا المجال يمكن اإلفادة من شهادات المنصفين والموضوعيين من الباحثين الغربيين أنفسهم ،الذين اعترفوا
صراحة بأن أوربا قد تتلمذت على الشرق اإلسالمي صاحب الحضارة الزاهرة.
.1معبر األندلس.
ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار األندلس بأنها المعبر الحضاري البارز ،الذي قدم اإلسالم كدين حضارة ألوربا
العصور الوسطى ،باعتبارها كانت على أرض أوربية ،حيث مكث المسلمون بها ثمانية قرون كاملة ،وظهر فيها كبار
األعالم في جميع المجاالت كما مرت اإلشارة ،وكفي أن نشير إلى أن مدينة قرطبة كانت من الحواضر الكبرى على
مستوى العالم في منتصف القرن العاشر الميالدي.
لقد كان لألطباء في فرنسا طريقا واحدا لتعلم الطب ،هو طريق عبور جبال البرانس من أجل التتلمذ على أيدي
كبار األطباء المسلمين في قرطبة وإشبيلية وغيرهما من المدن األندلسية المزدهرة.
كذلك وجدت اللغة العربية عشاقا كثيرين من األوروبيين باعتبارها وعاء للفكر ،ومن الشواهد على ذلك ،ما قاله
الكاتب اإلسباني ألفارو ":Alvaroلقد نسي المسيحيون حتى لغتهم ،ولن نجد بين األلف منهم واحدا يستطيع كتابة
خطاب باللغة الالتينية ،بينما نجد بينهم عددا كبي ار ال يحصى يتكلم العربية بطالقة ،ويقرض الشعر أحسن من العرب
أنفسهم".16
كما يالحظ أن شعر الموشحات األندلسية ترك أثره على شعر التوربادور Trubadorالذي وجد في فرنسا،
بحيث ال يمكن دراسة هذا الشعر دون استحضار تأثر الموشحات األندلسية فيه.
من جهة أخرى قام الملك ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم 1252( Alfonco X El Sabioم1284-م) برعاية
طَلة ،التي انخرط فيها كبار المترجمين ،وترجمت من خاللها المؤلفات العربية إلى
طَل ْي ُ
حركة الترجمة من خالل مدرسة ُ
اللغة الالتينية.
ومن كبار المترجمين الذين برزوا في األندلس في هذه المرحلة نذكر جيرارد الكريموني (1114م1187-م) ،يقال
إنه ترجم واحدا وسبعين كتابا عربيا في مجاالت علمية مختلفة نذكر منها غل سبيل المثال ال الحصر:
كما كان إلى جانبه يوحنا اإلشبيلي (1126م1151-م) الذي قام بدور بارز في هذا المجال حيث ترجم عددا من
المؤلفات نذكر منها على سبيل المثال:
كما كان إلى جانب هذا األخير مترجم إسباني آخر كان يشاركه في الترجمة هو دو مينكو كوديسالفو (ت ق
12م).
وهكذا كان األندلس بحق معب ار أساسيا من معابر الحضارة اإلسالمية إلى أوربا ،لذلك ال عجب إذا وجدنا كاتبا
إسبانيا معاص ار وهو اجناسيو أوالي يقرر أن العرب يغزوها ،بل قدموا إليها كمنقذين ورسل حضارة.
.2معبر صقلية.
تعد جزيرة صقلية Sicilyإلى جانب جنوبي إيطاليا أيضا من المعابر األساسية للحضارة اإلسالمية إلى أوربا،
حيث مكث فيها المسلمون من سنة 831م إلى سنة 1092م ،وفيما بعد استولى عليها النورمان بسبب تصارع المسلمين
فيما بينهم ،فتولى حكم صقلية روجر األول 1061( Roger Iم_1101م) ،الذي كان متسامحا مع المسلمين ،ثم جاء
بعده روجر الثاني 1101( Roger IIم1154-م) ،وكان من المنبهرين بالحضارة اإلسالمية ،حيث وصفه المستشرق
اإليطالي البارز أماري Amariبأنه سلطان محمد ،حيث اعتقد الكثيرون بأنه بالفعل سلطان عربي حمل تاجا مثل
ملوك اإلفرنج.
اتخذ روجر الثاني لنفسه لقبا إسالميا ،حيث تسمى بالمعتز باهلل ،كما سك عملة باللغة العربية إلى جانب العمالت
المكتوبة باللغة الالتينية واليونانية ،كما أصدر ق اررات باللغات الثالث المذكورة ،كما وقع على المعامالت الصادرة عن
ديوانه بعبارات إسالمية مثل "الحمد هلل حق حمده" ،و" الحمد هلل وشك ار ألنعمه" ،فكان بحق مثاال صادقا عن ملك أوربي
فتن بالحضارة اإلسالمية من رأسه إلى أخمص قدميه.
66
كما ُي ْذ َكر أنه استقدم إلى قصره الجغرافي الشهير الشريف اإلدريسي من مدينته سبتة المغربية ،ليؤلف له كتابه
الشهير "نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق" ،بعد أن قدم له كل اإلمكانيات ألجل ذلك.
كما أعقب روجر الثاني فريدريك األول وفريدريك الثاني (1198م1250-م) والذي كان هو اآلخر منبه ار بالحضارة
اإلسالمية ،حيث أتقن اللغة العربية ،وكانت له عالقات صداقة مع السلطان الكامل األيوبي ،حيث تبودلت السفارات
بينهما ،كما يذكر التاريخ أن ابنه منفرد Manfredتأثر هو اآلخر بالحضارة اإلسالمية ،وكانت له عالقات ودية مع
المسلمين ،حيث حدثت سفارة بينه وبين السلطان الظاهر بيبرس (1260م1277-م).
وعلى العموم فقد كان للغة العربية في صقلية تأثير كبير ،حيث تسرب منها إلى اللغتين الالتينية واليونانية ألفاظ
كثيرة نذك منها على سبيل المثال ال الحصر :الفنذق ،Fondacoديوان ،Douaneدفتر ،Defetariرحبة ،Rahbo
مخزن ،Magazinمسكين ،Mesquinoالقصر ،Cassaroالقبة ،La cubaالعزيزة ،Alzizaالمحتسب
،Almotacebالسكة ،Zeccaخسارة .Cassaro
ولقد احتضت باليرمو حاضرة صقلية على مدرسة للترجمة من اللغة العربية إلى اللغتين اليونانية والالتينية ،مثلما
كان الحال في مدرسة طليطلة في القرن الثاني عشر الميالدي ،كما وجدت عالقات بين المدرستين ،ومن الذين ترددوا
بين المدرستين العالم األسكتلندي ميخائيل سكوت ،Scottالذي ترجم بعض كتب أرسطو بشروح ابن رشد.
كما ترجمت مدرسة باليرمو كتب ابن سينا والرازي في الطب ،ومن أشهر المترجمين بها أوجينوس الباليرمي
،Eugene of Palermoوليوناردو البيزي .Leonardo of Piza
.3الحروب الصليبية.
أقام الصليبيون خالل حمالتهم وحروبهم المتعاقبة في بالد الشام قرابة قرنين من الزمان ،وكانوا حينما قدموا
يتوهمون أنهم أقوى من أعدائهم المسلمين ،لكن مفاجأة كبرى كانت تنتظرهم تمثلت في ظاهرة التمشرق ،حيث أنهم مع
طول اإلقامة هناك تعلموا من المسلمين الكثير من العادات والتقاليد ،كما أنهم ترجموا مؤلفات علمية إسالمية ال سيما
في الطب ،األمر الذي أكد أن مقولة ابن خلدون الشهيرة ،المتمثلة في "أن المغلوب مولع بتقليد الغالب" ال تنطبق على
وضع بالد الشام زمن الحروب الصليبية ،ألننا نحن أمام حال حضارية استثنائية متفردة ،حيث إن المغلوب "عسكريا"
تمكن من هزيمة الغزاة بسالح الحضارة الفتاك ،ألنه سالح عميق التأثير ،وأقدر على الدوام إذا ما قورن باألسلحة
المادية التقليدية ،وتتوارثه األجيال.
67
والواقع إن هناك كثير من مظاهر تأثير حضارة اإلسالم في أوربا خالل العصور الوسطى على كثير من األصعدة
كما سنرى في اآلتي:
من مظاهر التأثير على الصعيد السياسي نجد أن ملوك إنجلت ار وفرنسا كانوا من أوائل المتمردين على الكنيسة،
وهي بالد شارك ملوكها بشكل فعال في الحروب الصليبية ،وحتى على المستوى الدستوري يرى بعض الباحثين أن
دستور إنجلت ار يعد بوجه من الوجوه أث ار من آثار الحروب الصليبية ،مع عدم إغفال التطور الطبيعي للتاريخ الدستوري
إلنجلت ار الذي له أهميته ،تجلى ذلك في أنه عندما عاد الملك ريتشارد قلب األسد 1189( Richard I Lionheartم-
1199م) إلى إنجلت ار بعد عودته من بالد الشام ،ونجاته بعد تجربة أسر مريرة ،طلب منه مرافقوه تطوير بالده لتواكب
بالد المشرق ،كما بدأ اإلنجليز يطالبون بحياة أفضل فيها كثير من الحرية ،كما قامت انتفاضة على عهد أخيه الملك
يوحنا 1199( Johnم1216-م) تطالب بوضع دستور جديد للبالد ،كما أرغم على توقيع ما عرف بالماجنا كارتا
، Magna Chartaأو العهد األعظم ،والذي يتألف من ثالث وستين مادة ،تناولت :العالقة بين الكنيسة والدولة،
والعالقات اإلقطاعية بين الملك وأتباعه ،واإلجراءات الملكية في القضايا المدنية بين الملك ورعاياه ،حقوق البارونات.
أما على الصعيد الفكري فعلى الرغم من أن هنالك اتجاها لدى بعض الباحثين يرى أن الصليبيين قدموا إلى
المنطقة كغزاة ،وبالتالي ليس هنالك أي مبرر لجعلهم يتأثرون بحياة المسلمين الفكرية في بالد الشام ،ثم ينقلونها بعد
ذلك إلى الغرب األوربي بصورة أو بأخرى ،لكن وقائع التاريخ ،واآلثار الجلية تفند ذلك ،حيث تدل القرائن المختلفة أن
التأثر كان على مستوى العلوم اإلنسانية وكذلك العلوم العملية التطبيقية.
وأما على المستوى أثر الحضارة اإلسالمية في أوربا من الناحية اللغوية ،فتجلى ذلك من خالل دخول العديد من
المفردات العربية إلى اللغات األوروبية زمن الحروب الصليبية نذكر منها على سبيل المثال:
كلمة جالب ،وهو شراب مستخلص من بعض األعشاب العطري ،نجده في االنجليزية ،Julepوفي الفرنسية •
،Julepeوفي اإلسبانية والبرتغالية ،Julepeوفي اإليطالية .Qiulebbe
كلمة َس ْمت ،وهو مصطلح يستخدم في العديد من العلوم التطبيقية مثل المالحة ،والفلك وعلم المساحة ،نجده •
في اإلنجليزية ،Zenithوفي الفرنسية ،)Sommet( Zenithوفي اإلسبانية .Azimut
68
كلمة شراب ،في اإلنجليزية ،Syrupوفي الفرنسية ،Siropوفي اإليطالية .Sciroppo •
كلمة عود ،باإلسبانية ،Laudوبالبرتغالية .Alaude •
كلمة جرة ،في اإلنجليزية ،Jarوفي الفرنسية ،Jarueوفي اإلسبانية ،Jarroوفي البرتغالية،Zarro ، Jarro •
وفي اإليطالية .Grarro ،Giaro
إلى غير ذلك من األلفاظ والمصطلحات التي ال يتسع المقام لجردها ،مما يشهد على التأثير على المستوى اللغوي
والعلمي والثقافي عموما.
ث على الصعيد األدبي.
Trupadorكما مرت أما على مستوى األدب شع ار ونثرا ،فقد أثر الشعر العربي في تطعيم شعر التروبادور
اإلشارة ،وهو شعر غنائي فرنسي ظهر في جنوب فرنسا أخريات القرن الحادي عشر الميالدي ،وتطور على يد وليام
العاشر دوق آكيتاين 1077( William X of Aquiaineم1127-م) ،وقد اشترك في الحملة الصليبية األولى مع غيره
من الشعراء.
كذلك أثرت الحضارة اإلسالمية خالل الحروب الصليبية على الجانب القصصي لدى األوروبيين ،حيث ذكر أن
أسقف عكا جاك دي فتري 1170( Jacques de Vitryم1240-م) كان يروي مقتطفات من قصة "ألف ليلة وليلة"
لبعض عناصر الصليبيين القادمين إلى الشام ،وحينما عادوا في القرن الموالي رووها بدورهم على معارفهم ،وقد تم نشر
تلك القصص في القرن الرابع عشر الميالدي ،من خالل مجموعة قصصية بعنوان "أعمال الرومان" Gesta
،Romanorumومن خاللها ظهرت في أوربا قصص مشابهة لها مثل الديكاميرون ،Decameron IIالتي ألفها
األديب اإليطالي جيوفاني بوكاشيو 1313( Giovanni Bokaccioم1375-م) ،وكلمة الديكاميرون تعني الليالي
العشر على لسان عشر شخصيات سبعة رجال وثالث نساء.
ولقد امتازت القصص بالجرأة والحديث المكشوف عن الحب الحسي المتحرر من كل القيود ،وبمهاجمة رجال
الدين ،في عنف وسخرية شديدة ،في أسلوب حيوي وبسيط ،ومن يتأملها جيدا يدرك الشبه بينها وبين قصة الوزراء
السبعة في ألف ليلة وليلة.
هذا ويجدر التنبيه على أن األوربيين حينما تمت ترجمة ألف ليلة وليلة فيما بعد إلى الفرنسية ،على يد المستشرق
جاالن 1664( Gallandم1715-م) أحدثت ما يشبه البعث المعرفي في أذهانهم ،وفتحت بوابة سحرية اكتشف الغرب
من خاللها عالم الشرق الساحر الذي التقت فيه الحقيقة باألسطورة ،كما أثرت في اإلنتاج األدبي األوربي حتى العصر
الحديث.
69
كما يجدر التنبيه أيضا على أنه تأكد للدارسين أن دانتي اليجيري 1265( Danteم1321-م) أديب إيطاليا
البارز في عمله ذائع الصيت الكوميديا اإللهية ،The divine comedyتأثر تأث ار واضحا برسالة الغفران ألبي العالء
المعري ،المستلهمة من قصة المعراج ،رغم إنكار بعض المنكرين المتعصبين لألدب اإليطالي ،لكن أدلة المثبتين أقوى
من أدلة المنكرين ألنها تستند إلى معطيات تاريخية موثوقة.
كما كان أيضا لمقامات الحريري انتشا ار واسعا ،وتأثي ار ملفتا ،وبخاصة على طراز معروف في األدب اإلسباني
باسم قصص الصعاليك ،األمر الذي أكد بوضوح على قدرة األدب العربي على التأثير على اآلداب العالمية األخرى.
ج على صعيد الكتابة التاريخية.
وأما على مستوى الكتابة التاريخية ،فنجد أن الحضارة اإلسالمية أثرت في إحداث نقلة نوعية وغير مسبوقة في
الغرب األوربي ،فقد لوحظ أن الحروب الصليبية أفرزت المؤرخ الصليبي البارز وليم الصوري William of the
،Typeالذي ألف كتابه الفريد "تاريخ األعمال التي جرت فيما وراء البحر" ،وقد عمل رئيسا ألساقفة صور ،Tyre
وكان يتقن عدة لغات منها العربية ،التي اطلع من خاللها على مؤلفات التاريخية العربية ،كما أنه بعث إلى الغرب
األوربي على مدى عشرين سنة (1142م1162-م) ،حيث كان يموج بما عرف الحقا بنهضة القارن الثاني عشر
الميالدي ،القائمة على أساس ترجمة العلوم اإلسالمية ،وهي من أعمق وأوسع النهضات في أوربا القرون الوسطى.
ويجدر التنبيه على أن هذا المؤرخ اتسم تاريخه بالروح الناقدة والبصيرة النافذة ،حيث انتقد المملكة الصليبية لعدم
التزامها بالعهود والمواثيق الدبلوماسية بين المسلمين أحيانا ،كما كان موضوعيا عندما امتدح السلطان نور الدين محمود
وتلميذه المخلص السلطان صالح الدين األيوبي الذي بهر الصليبيين بشجاعته وانتصاراته وأخالقه الحربية التي تستمد
روحها من اإلسالم وحضارته.
ولقد عاصر هذا المؤرخ مؤرخا مسلما شهي ار هو ابن القالنسي ،الذي أكدت الدراسات أنه قد تأثر به وليم الصوري
تأث ار واضحا.
وهكذا تأكد أن ذروة الكتابة التاريخية في الغرب األوربي في العصور الوسطى لم تكن من أوربا ،وإنما كانت من
الشرق الالتيني الذي تأثر بصورة كبيرة وواضحة بالحضارة اإلسالمية التي كانت على درجة كبيرة من التفوق والقوة.
ح على الصعيد الطبي.
أما إذا انتقلنا إلى علم الطب فنجد أن أوربا قد أفادت زمن الحروب الصليبية إفادة كبيرة من الحضارة اإلسالمية،
متمثلة إسهامات أبنائها المبدعين في هذا المجال ،فمن المعروف أن الطب في أوربا القرون الوسطى ارتبط ارتباطا
وثيقا بالكنيسة التي نظرت إلى المرض على أنه عقاب إلهي ناتج عن اآلثام والخطايا المرتكبة ،لذلك كان عادة ما
70
يهاجم كبار رجال الكنيسة األطباء ،وال أدل على ذلك ما ُنسب إلى جريجوري أسقف مدينة تور قوله :إن عمل األطباء
يؤدي إلى إلحاق اآلالم بالمرضى أكثر من تخفيف حدتها.
لكنهم حينما قدموا إلى المشرق زمن الحروب الصليبية ،تأثروا بالحضارة اإلسالمية وتأكدت لديهم الحاجة إلى
االهتمام بالطب لعالج العديد من الحاالت المرضية.
وتشير القرائن إلى أن الطب عند الصليبيين وصم بكثير من التخلف عند مقارنته بما كانت عليه الحال لدى
المسلمين كما أكد على ذلك الفارس والشاعر والرحالة أسامة ابن منقذ (1188م) في كتابه االعتبار ،األمر الذي دعاهم
إلى اإلفادة من المسلمين في هذا المجال ،كما عملوا على ترجمة كتاب "الكامل في الصناعة الطبية" لعلي بن عباس
المجوسي ،الذي يعد أحد كبار األطباء المسلمين ،كما كان لكتابه تأثير ورواج كبير بفضل شموله وعمومه وحسن
ترتيبه وعمقه ،قبل ظهور كتاب القانون في الطب البن سينا الذي سينصرف إليه الناس الحقا أكثر من أي كتاب آخر.
ولقد كان كتاب الكامل في الصناعة الطبية المرجع األساس لعلم التشريح في ساليرنو حاضرة صقلية ،كما أكدت
الدراسات أنه من أوائل الكتب المترجمة إلى اللغة الالتينية على يد قسطنطين اإلفريقي ،خالل القرن الحادي عشر
الميالدي ،كما ترجم ثانية على يد ستيفن األنطاكي ،كما ترجم إلى جانبه أيضا في هذه المرحلة كتاب "سر األسرار في
المترجم ْين المذكورين في مرحلة الحروب
َ طب العيون" ،بما دل على التأثر الكبير في هذا الصدد ،كما كان إلى جانب
الصليبية مترجم آخر هو برنارد سلفستر ،بما دل أيضا على حركة االقتباس واألخذ من الحضارة اإلسالمية كما مرت
اإلشارة.
خ على الصعيد الحربي ومنشآته.
لقد كان في هذا المجال أيضا تأثر واضح ،منها أخذهم على المسلمين تنعيل الخيل بالحديد ،كما تأثروا بالمسلمين
في العمائر والمنشآت الحربية وبخاصة القالع ،حيث اقتبسوا منهم شكل المدخل الموصل من باب القلعة إلى داخلها
وجعله على هيئة زاوية قائمة ،وكذلك أخذوا عنهم إنشاء السقاطات ،وهي عبارة عن أجسام بارزة من السور تعتمد على
كوابيل مفتوحة من أسفلها ،تستخدم إللقاء الزيوت المغلية ،والمقذوفات الحجرية على المهاجمين ،وعادة ما تكون فوق
األبواب ،وأماكن أخرى من السور ،وذلك إلعاقة المهاجم من تسلقه.
كذلك أخذ الغرب عصر الحروب الصليبية فكرة المزاغل ،وهي عبارة عن فتحات طويلة عمودية ضيقة من
الخارج ،موزعة على امتداد أسوار القالع واألبراج ،وذلك لمنع تعرض المدافع لإلصابة الخارجية.
كذلك تأثر األوربيون في تلك المرحلة فيما يخص العمارة الحربية بما اصطلح على تسميته َ
بالبرقان ،ويعني البرج
الكبير الذي يبنى على مسافة من باب الحصن ،أو قنطرته التي تقام فوق الخندق المحيط بالحصن.
71
كما يجب في هذا الصدد عدم إغفال الفروسية اإلسالمية التي قدمت أنموذجا فريدا في شخص السلطان صالح
الدين األيوبي ،الذي مثل بحق الحضارة اإلسالمية في هذا الجاب في أبهى وأجمل صورها ،شجاعة ،ومسالمة ،ونبال،
والتزاما بالعهود والمواثيق المبرمة ،ورحمة ،وحسن معاملة ،وعفوا عند المقدرة ،إلى غير ذلك من القيم التي أكدت على
الفرق الشاسع بين الفروسية اإلسالمية والفروسية الصلبية القائمة على العنف والدموية والفتك واإلبادة وقساوة والغدر،
األمر الذي بهر الصليبيين ،وجعلهم ينسجون حوله أسطورة ظلت مصاحبة للعقل الجمعي الغربي طوال العصور
الوسطى.
كل هذه المؤثرات اإلسالمية خالل الحروب الصليبية وغيرها كثير ستكون عامال من عوامل التغيير العميق في
أوربا ،وتدفع بها نحو نهضة شاملة قادتها إلى العصر الحديث الذي عرف تحوالت كبيرة في كل المجاالت.
)2موقف الغرب من الحضارة اإلسالمية
نتناول تحت هذا العنوان بيان موقف الغرب من الحضارة اإلسالمية ،وكذلك العوامل المتعددة التي أوجدته ،كما
نعرض من خالله لرؤية بعض المنصفين الغربيين الذين انبهروا بالحضارة اإلسالمية.
ويجدر التنبيه على أن الغرب عموما اتخذ موقفا عدائيا من الحضارة اإلسالمية ،كما استمر على ذلك قرونا
عديدة ،األمر الذي عمقه ورسخه في العقل الجمعي الغربي.
هذا ولقد ُوجدت عدة عوامل ساعدت على ذلك الموقف العدائي ،نذكر بعضا منها في اآلتي:
أوال :عدم اعتراف الغرب باإلسالم ونبيه الكريم عليه الصالة والسالم ،حيث نظر اليهود والمسيحيون إلى اإلسالم
باعتباره بدعة أو هرطقة ،وليس باعتباره رسالة خاتمة ومكملة لألديان السماوية السابقة ،وهو تصور وجد منذ العصور
الوسطى ،وستفرغ ألجله رجال الكنيسة جهدهم منذ يوحنا الدمشقي إلى اآلن ،ويقوم على التشكيك في اإلسالم ،ومهاجمة
القرآن الكريم ،ونبي اإلسالم عليه الصالة والسالم ،بروح عدائية أبعد عن الموضوعية العلمية القائمة على الحقائق.
ولقد قام فريق من المستشرقين المتعصبين بدور بارز في هذا المجال ،تحركهم الكراهية ،والرغبة في الثأر من
دين تمتع بقدرات ذاتية جعلته واسع االنتشار ،وصالحية لكل زمان ومكان ،يحترم العقل ،وينسجم مع الفطرة اإلنسانية.
ومن الالفت أنه دين يعترف باليهودية والمسيحية ،كما يعترف باآلخر ،هذا اآلخر الذي يقصيه ،وفي هذا أكبر
دليل على موضوعية اإلسالم وعالميته وتسامحه.
72
ثانيا :كان لفتح العثمانيين األتراك القسطنطينية عام 1453م ،ودخول المسلمين شرق أوربا بعد سنين عديدة من
التربص ،وإسقاطهم النهائي لإلمبراطورية البيزنطية العتيدة ،رمز المسيحية األرثودوكسية ودرعها في الشرق طوال ثانية
قرون ،األثر البالغ في نفوس الغرب المسيحيين ،حيث تولد عن ذلك نوع من الرعب أو اإلسالموفوبيا من اإلسالم ،كما
كان أيضا لحصار العثمانيين لفيينا عام 1529م ،األثر الكبير في تعميق هذا الرعب.
وتجدر اإلشارة إلى أن الغرب سرعان ما يلوح بهذه الورقة كلما دعته الضرورة والمصلحة ،والواقع أن أساس
الرعب من اإلسالم هو سوء فهم اإلسالم المتعمد والمقصود ،ونشر ذلك وتعميقه في األذهان من خالل اإلعالم ومناهج
التعليم ،وكذلك من خالل تصيد سلبيات محسوبة على اإلسالم ،ونسبتها إلى اإلسالم نفسه.
ثالثا :أدى انتشار اإلسالم السريع سلميا وتلقائيا ،في المناطق التي لم يدخلها الفاتحون المسلمون منذ العصور
الوسطى ،وإلى عصرنا الحاضر ،على الرغم من قلة اإلمكانيات المادية للدعوة اإلسالمية مقارنة بإمكانيات الكنائس
المسيحية إلى وقوف الغرب من اإلسالم وحضارته موقفا عدائيا.
لكن وعلى الرغم من ذلك لم يمنع األمر بعض األعالم من المفكرين الغربيين من االعتراف باإلسالم كدين له
إنجازات حضارية ،مثلما ذكره أديب ألمانيا العظيم جوته (1749م1832-م) ،وأديب روسيا الشهير تولدستوي (1828م-
1910م) ،وأديب فرنسا المعروف المارتين (1790م1869-م) ،حيث أثنوا على نبي اإلسالم منجزاته الحضارية بما
أكد على جاذبية اإلسالم وتأثيره.
رابعا :هنالك تهمة دعائية شائعة لدى الغرب حول الشريعة اإلسالمية السمحة واإلسالم عموما ،تمثلت في نعتهما
بالقساوة والعنف والدموية ،لكن األمر ال يحتاج إلى دليل لدفع هذه التهمة استنادا إلى الثقافة والتاريخ ،فقد عرفنا على
النقيض من ذلك كيف أن الغرب المسيحي هو الذي أشعل فتيل الحروب الصليبية في تلك العصور ،وقد كانت حربا
عالمية بامتياز ،كذلك األمر بالنسبة للحرب العالمية األولى 1914م1918-م) ،من بعدها الحرب العالمية الثانية
(1939م1954-م) ،أودت بحياة الماليين ،اقترنت باألخيرة كارثة إلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي ،كما
أن الغرب هو الذي ينتج األسلحة المدمرة.
أما الشريعة اإلسالمية فهي مظهر حضاري بارز ،أدت إلى نشر األمن في بقاع ديار اإلسالم ،وحلت كثي ار من
المشاكل البشرية ،وقادرة على ذلك في المستقبل كما اعترف بذلك األديب األيرلندي الشهير برنارد شو ،وكذلك كبار
رجال القانون في الغرب اعترفوا بذلك ،وهو أمر عجزت عن كثير منه القوانين الوضعية مثل جرائم االغتصاب والسرقة
والقتل واالنتحار غيرها من اآلفات التي لم تنتشر في المجتمعات اإلسالمية القديمة.
73
خامسا :أيضا تصور الغرب أن اإلسالم دين ذكوري ،وأن المرأة فيه مسلوبة اإلرادة ،وال أثر لها في نظمه ،األمر
الذي عمق لدى الغرب سوء الفهم المتعمد لإلسالم وحضارته ،بينما كان وضع المرأة على النقيض من ذلك فقد كانت
سلطانة وفقيهة ومحتسبة وممرضة وطالبة علم ،ومستشارة سياسة ،ومديرة للشؤون السياسية عند الضرورة ،األمر الذي
أكد على مساهمتها الفعالة في الحضارة اإلسالمية.
ساديا :من العوامل التي بلورت هذا الموقف أيضا مسألة المركزية األوربية ،التي رسخت وهم أن العلم واألدب
وال فن إنما نبع من القارة األوربية ،وأن حضارة اإلغريق والرومان هي األساس الحقيقي للنهضة األوربية ،غافلة عن
أمرين ال يمكن تجاهلهما وهما:
.1أن الحضارة اإلغريقية إنما قامت على أكتاف حضارة مصر الفرعونية وحضارة بالد الرافدين ،بما أكد على
أصولها الشرقية ،وهي حقيقة كثي ار ما تعمد الباحثون الغربيون إنكارها.
.2أن الحضارة اإلغريقية تطورت تطورات فارقة في تاريخ العلم على أيدي المسلمين الذين اعتمدوها وانتقدوها
وتطوروها ثم قدموها إلى الغرب ،لتكون من أهم العوامل التي أدت إلى نهضته.
سابعا :ومن عوامل التي كرست هذا الموقف أيضا عجز الغرب عن التحاور مع الشرق ،مثلما عكس ذلك قول
السياسي واألديب البريطاني كبلنج" :الشرق شرق والغرب غرب وال يلتقيان ،ولن يلتقيا إال يوم القيامة" ،وهو قول يدل
على مدى اتساع الفوارق بين الجانبين ،مع التنبيه على أن األمر متصل بالغرب أكثر من الشرق ،ألن الحضارة
اإلسالمية في العصور الوسطى أثبتت مدى قدرتها على حوار األديان والشعوب ،تجلى ذلك من خالل إسهامات عشرات
العلماء غير المسلمين في مجاالت علمية عديدة كما مر بنا.
وال شك أن من عوامل هذا العجز نظرة الغرب االستعالئية تجاه اآلخر المختلف عنه لغة وديانة ،والتقليل من
شأنه وقدراته على اإلبداع ،وهو أمر َغ َّذ ْته فلسفات أوربية حديثة متعصبة ،كما كان أيضا لحركة االستعمار األوربي
الحديث أسوأ األثر على العالقات بين الغرب والشرق ،وبخاصة تلك الحركة التي استخدمت العلم كسالح ألحكام القبضة
على شعوب الشرق مثلما حدث في الجزائر على سبيل المثال.
ورغم خروج االستعمار في مظهره العسكري ،ال تزال الفجوات قائمة من خالل النواحي التكنولوجية والتبعية
الفكرية.
وال شك أيضا أن سبعة قرون من الصراع بين الغرب والعالم اإلسالمي شكلت الذهنية الغربية تجاه حضارة
اإلسالم ،ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001لتعمق الهوة ،وتكرس العداء ،وتنعت اإلسالم بنعوت ال
74
تعكس حقيقته كدين وال إسهاماته كتاريخ وحضارة ،ولذلك أصبح من الضرورة بمكان المطالبة بقوة بحوار حقيقي مع
الغرب من أجل تغيير الصورة الذهنية المغلوطة ،كما على الغرب أن يكف عن استعالئه ،ويشجع على حوار الحضارات
بدل صدامها وهيمنة قوة واحدة ،وإلغاء الثقافات األخرى باسم ما يعرف بالعولمة ،وذلك من خالل إقامة مراكز بحثية،
واستغالل القنوان الفضائية ،وبعث الثقة في نفوس أبناء الحضارة اإلسالمية ،رجاء أن يلتقي الشرق والغرب في يوم من
األيام مثلما فعلت الحضارة اإلسالمية في عصرها الذهبي والعصور الوسطى.
كما ينبغي على العالم اإلسالمي تبني سياسات التسامح تجاه العناصر غير المسلمة التي تعيش في كنفه ،حتى
ال تتطلع إلى طلب معاونة الغرب فيستغلها.
كذلك ينبغي على المسلمين نبذ العنف والتطرف واإلرهاب كوسيلة وحيدة للتعامل مع الغرب ،ألنه ال يجلب إال
الخسارة.
إضافة إلى كل هذا الدعوة إلى ضرورة حل المشكالت الدولية العالقة منذ عقود ،وعودة الحقوق إلى أصحابها،
مثل حل قضية فلسطين المزمنة ،التي عادة ما ينحاز الغرب ضدها ،وهي قضية أثرت وتؤثر على كثير من األوضاع
في الشرق والغرب.