You are on page 1of 2

‫زها حديد‪ :‬ما بعد التفكيكية‬

‫األحد ‪ 24‬نيسان ‪2016‬‬

‫بقلم بسمة عبد هللا عريقات‬

‫ي وأثرها على البيئة‬


‫تقوم دراسة الحضارات القديمة على تحليل إرثها المعماري‪ ،‬وتقاس قوة المؤسسات بوجودها المبن ّ‬
‫الحضرية‪ .‬منذ العقد الماضي‪ ،‬تزامنت الثورات التكنولوجية والسياسية االجتماعية التي أدت إلى تفكيك كامل للقواعد المألوفة‬
‫من دولة ومجتمع وثقافة وفلسفة وفكر‪ .‬وكما يقول المفكر المعمار ليبيوس وودز‪ ،‬إن التفكك الذي سببته النزاعات السياسية‬
‫والتكنولوجية في العالم يجعل الصمود غير ممكن إال من خالل تشكيالت جديدة غير تقليدية‪ ،‬تتعدى النزاعات األرضية لتصبح‬
‫قوى خالقة منتجة‪.‬‬

‫ال يمكن الحديث عن اإلرث المعماري وعن التصميم غير المألوف دون الحديث عن زها حديد التي رحلت في أوج إبداعها‬
‫ً‬
‫ومميزا من العمارة المعاصرة‪ .‬فعبر العقدين الماضيين‪ ،‬كلما ارتبط اسم زها حديد بأحد األنماط أواالتجاهات‬ ‫مخلفة نتا ًجا غنيًا‬
‫المعمارية وجدناها خرجت منه بتصميم جديد ال يمكن تأطيره‪ ،‬إلى أن أصبح الوصف الوحيد الممكن ألعمالها هو التصميم‬
‫الحديدي «‪ .»Hadidian‬فبتحويل اسمها إلى مدرسة معمارية بحد ذاتها‪ ،‬أصبحت زها عالمة فارقة في التاريخ المعماري‬
‫وخلّدت وجودها من خالل إرثها المبني والمرسوم‪.‬‬

‫كلما ارتبط اسم زها حديد بأحد األنماط أواالتجاهات المعمارية وجدناها خرجت منه بتصميم جديد ال يمكن تأطيره‬
‫انتشارا‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫تنتمي زها حديد إلى جيل ما بعد الحداثة الذي تشكل كردة فعل ألحد تيارين مختلفين للحداثة؛ األول‪ ،‬وهو األكثر‬
‫نتيجة الثورة الصناعية وحقوق العمال والمجتمع االنتاجي‪ ،‬والثاني الذي تأثر بالتجريدية الشكلية والفكرية والعالقة ما بين‬
‫الجسد والفن‪ .‬تأثرت زها بالفئة الثانية من الحداثة وتحديدًا بلوحات الفنان الروسي ماليفيتش التجريدية المفككة‪ ،‬واستخدمت‬
‫أعماله كقاعدة لمشروع تخرجها تحت إشراف المفكر والعمراني كولهاس في لندن حيث درست الهندسة المعمارية‪.‬‬
‫تزامن ذلك مع ظهور تفكيكيّة جاك دريدا كاتجاه فلسفي تحليلي يعنى بتفكيك النص األدبي لكشف المعاني الكامنة فيه‪ .‬فكان‬
‫مبدأ التكسير والتفكيك المؤثر األساسي في تشكيل أعمال زها األولى‪ ،‬والتي أعادت تعريف العناصر البنائية والمنظور لخلق‬
‫فراغات غير مألوفة معماريًا وبصريا‪.‬‬

‫ارتبطت زها بالتفكيكية بشكل رسمي بعد مشاركتها في المعرض الذي أقيم في متحف الفن الحديث في نيويورك عام ‪1988‬‬
‫مع العديد من المعماريين الذين ارتبطوا بنفس الحركة مثل فرانك جيري وبيتر أيزنمان‪ .‬عرفت زها طوال الثمانينيات وأوائل‬
‫التسعينيات برسوماتها ذات المنظور المحور والزوايا الحادة والمستويات المائلة‪ .‬لكنها لم تستطع تحويل أي ٍ من تصوراتها‬
‫وتصاميمها إلى مبان واقعية وذلك لبعدها عن المعايير الهندسية العملية وطرق البناء السائدة‪ .‬استمر ذلك إلى عام ‪1994‬‬
‫عندما استطاعت أن تحقق أول ُمنشأ مبني وهو محطة إطفائية فيترا والذي توصلت فيه إلى طريقة هندسية لتربيط العناصر‬
‫المعمارية المائلة والزوايا الحادة وذلك بالتعاون مع المهندسين اإلنشائيين ومطوري مواد البناء‪.‬‬

‫استطاعت زها في السنوات القليلة التي تلت ذلك خلق عدد من المباني ذات التصميم المبسط مثل مركز الفنون في‬
‫سينسيناتي وذلك لتدخل أبواب الحياة العملية في العمارة‪ .‬ومع بداية األلفية وتطور التكنولوجيا وبرمجيات الحاسوب‪ ،‬عادت‬
‫ى بعيدًا عن التفكيكية المبسطة لتدخل عالم المنحنيات التي‬‫زها لتتحدى الواقع باستخدام األدوات الرقمية لتأخذ أعمالها منح ً‬
‫تمحي الخط الفاصل بين األرض والعمارة والسماء‪ .‬ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬تحولت عالقة زها بالمادة والهندسة من عالقة منافسة‬
‫وتح ٍد إلى تطور ونمو‪ ،‬بحيث يتم التعاون مع األخصائيين الستحداث مواد بناء خاصة وتقنيات إنشائية جديدة لتحقيق هذه‬
‫المباني‪ ،‬والتي تفتح أبوابًا جديدة في تكنولوجيا البناء لتغير تدريجيًا مسار العمارة العالمي‪.‬‬

‫لكن أهمية زها حديد في التاريخ المعاصر تتعدى تصاميمها ومبانيها المثيرة للجدل في العديد من األحيان‪ ،‬إنها في قدرتها على‬
‫محو الفواصل ما بين المتقابالت ودمج آفاق مختلفة‪ .‬فمن األفقي والعامودي‪ ،‬األرض والبناء‪ ،‬المنحنى والمستقيم‪ ،‬إلى إدخال‬
‫العمارة في األزياء وتصميم السيارات‪ ،‬استطاعت زها أن تتعدى الحواجز الجندرية والعنصرية لتحقق ما لم يحققه إال القليل‬
‫من المعماريين في التاريخ‪.‬‬

‫تجسد مسيرة زها كامرأة في مهنة ذكورية‪ ،‬وكعربية في زمن يعاني فيه العالم العربي من تفكك ودمار مادي ومعنوي‪ ،‬إمكانية‬
‫تحويل المتناقضات والنزاعات والتحديات إلى قوى صانعة منتجة خالقة من خالل الفكر التفكيكي التحليلي‪ ،‬إلعادة تعريف‬
‫المفاهيم الهدامة وتشكيل منظور جديد مبني على التغيير واالختالف‪.‬‬

‫*الصور لمركز حيدر علييف في أذربيجان‪ ،‬من تصميم زها حديد‪.‬‬

You might also like