You are on page 1of 462

‫فهرس السور‬

‫سورة النبأ‪1....................................................‬‬

‫سورة النازعات‪40...............................................‬‬

‫سورة عبس‪73...................................................‬‬

‫سورة التكوير‪94.................................................‬‬

‫سورة االنفطار‪111................................................‬‬

‫سورة المطففين‪122...............................................‬‬

‫سورة االنشقاق‪150...............................................‬‬

‫سورة البروج‪176..................................................‬‬

‫سورة الطارق‪196.................................................‬‬

‫سورة األعلى‪211.................................................‬‬

‫سورة الغاشية‪227.................................................‬‬

‫سورة الفجر‪245..................................................‬‬

‫سورة البلد‪269...................................................‬‬

‫سورة الشمس‪287................................................‬‬

‫سورة الليل‪299...................................................‬‬

‫سورة الضحى‪313.................................................‬‬

‫سورة الشرح‪323..................................................‬‬
‫سورة التين‪335....................................................‬‬

‫سورة العلق‪344...................................................‬‬

‫سورة القدر‪353...................................................‬‬

‫سورة البينة‪362....................................................‬‬

‫سورة الزلزلة‪379...................................................‬‬

‫سورة العاديات‪387................................................‬‬

‫سورة القارعة‪397..................................................‬‬

‫سورة التكاثر‪403..................................................‬‬

‫سورة العصر‪408...................................................‬‬

‫سورة الهمزة‪414...................................................‬‬

‫سورة الفيل‪419....................................................‬‬

‫سورة قريش‪422....................................................‬‬

‫سورة الماعون‪425..................................................‬‬

‫سورة الكوثر‪431...................................................‬‬

‫سورة الكافرون‪435.................................................‬‬

‫سورة النصر‪439....................................................‬‬

‫سورة المسد‪443...................................................‬‬

‫سورة اإلخالص‪447................................................‬‬

‫سورة الفلق‪451....................................................‬‬

‫سورة الناس‪457....................................................‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ ْ ِّ َ‬ ‫َ ْ َ ُ ُ ََ ْ َ ُ ُ ََ ْ َ ْ ُُ ََ ُ ُ‬ ‫َّإن ْال َح ْم َ‬
‫ور أنف ِسنا و ِمن َس ِيئ ِ‬
‫اتِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫ب‬‫ِ‬ ‫وذ‬ ‫ع‬ ‫ن‬‫و‬ ‫‪،‬‬‫ه‬‫ر‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫غ‬‫ت‬ ‫س‬ ‫ن‬‫و‬ ‫ه‬ ‫ين‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ن‬‫و‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫م‬‫ح‬ ‫ن‬ ‫له‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫د‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ ُ َّ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ض ِل ْل فال َه ِاد َى ل ُه‪َ ،‬وأش َه ُد أ ْن ال ِإل َه ِإال ُِ‬
‫هللا‬ ‫أ ْع َم ِال َنا‪َ ،‬م ْن َي ْه ِد ِه هللا فال م ِضل له‪ ،‬ومن ي‬
‫ُ‬ ‫َ ْ َُ َ َ َ َ َ ْ َ‬
‫يك ل ُه‪َ ،‬وأش َه ُد أ َّن ُم َح َّم ًدا َع ْب ُد ُه َو َر ُسول ُِه ِ‬ ‫وحده ال ش ِر‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا َّات ُقوا الل َه َح َّق ت َقا ِت ِه َوال ت ُموت َّن ِإال َوأن ُت ْم ُم ْس ِل ُمون﴾ [آل عمران‪ِ ]۱٠۲ :‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫س َو ِاح َد ٍة َوخل َق ِم ْن َها َز ْو َج َها َو َبث ِم ْن ُه َما ِر َجاال‬ ‫ف‬‫اس َّات ُقوا َ َّب ُك ُم َّال ِذي َخ َل َق ُك ْم م ْن َن ْ‬
‫ر‬ ‫الن ُ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها َّ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ً َ َ ً َ َّ ُ َّ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َّ َ َ َ َ ُ‬
‫ان َعل ْيك ْم َر ِق ًيبا﴾ [النساء‪ِ ]۱ :‬‬ ‫ك ِثيرا و ِنساء واتقوا الله ال ِذي تساءلون ِب ِه واْلرحام ِإن الله ك‬
‫ْ َُ‬ ‫َ َُ ُ َْ ً َ ً ُ ْ َُ َ َُ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها َّالذ َ‬
‫ص ِل ْح لك ْم أ ْع َمالك ْم َو َيغ ِف ْر لك ْم‬ ‫ين َآم ُنوا َِّات ُقوا هللا وقولوا قوال س ِديدا * ي‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ُذ ُن َوب ُك ْم َو َم ْن ُيطع َ‬
‫هللا َو َر ُسول ُه ف َق ْد ف َاز ف ْو ًزا َع ِظ ًيما﴾ [اْلحزاب‪ِ ]٧۱-٧٠ :‬‬ ‫ِِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ َّ َ ْ َ ْ‬
‫هللا‪ ،‬وخير الهدى هدى محم ٍد صلى هللا عليه وآله وسلم‪،‬‬ ‫يث ِكتاب ِ‬ ‫أما بعد‪ :‬ف ِإن خير الح ِد ِ‬
‫ض َال َلة في َّ‬ ‫ض َال َل ٌة‪َ ،‬و ُك َّل َ‬ ‫اْل ُمور ُم ْح َد َث ُات َها‪َ ،‬و ُك َّل ُم ْح َد َثة ب ْد َع ٌة‪َ ،‬و ُك َّل ب ْد َعة َ‬ ‫َ َ َّ ُ‬
‫ار ِ‬‫الن ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وشر‬
‫ِ‬
‫َ ُ َ َ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم يا معاشر ُ‬
‫ضان الذي‬ ‫الفضالء ِّإن شهر رمضان شهر القرآن آنزل فيه القرآن ﴿شهر رم‬ ‫ِّ‬
‫در﴾ [القدر‪ ،]١ :‬وفيه ُيدارس‬ ‫القر ُآن﴾ [البقرة‪﴿ ،]١٨٥ :‬إ ِّنا َأ َنز ُ‬
‫لناه في َل َيلة َ‬
‫الق‬ ‫ُِأنز َل فيه ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫القرآن؛ فكان جبريل عليه ِّ‬
‫السالم يدارس النبي صلى هللا عليه وسلم القرآن في رمضان‪ِ .‬‬
‫وفهم للمعاني‪ ،‬وقد جاء عن‬ ‫ِّ‬
‫بتدبر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وإن من أعلى أنواع قراءة القرآن أن يقرأ املسلم القرآن‬
‫ِّ‬
‫أمنا عائشة رض ي هللا عنها‪ِّ ( :‬أنها كانت في رمضان إذا صلت الفجر تقرأ القرآن حتى تطلع‬
‫الشمس فإذا طلعت نامت)‪ ،‬رض ي هللا عنها وأرضاها‪ِ .‬‬
‫ونحن في أيام شهر رمضان بعد الفجر نعقد هذا الدرس نقرأ آيات هللا ِّ‬
‫عز وجل ونعرف‬
‫معانيها حيث نشرح ونفسر الجزء اْلخير من القرآن من خالل كتاب تيسير الكريم الرحمن‬
‫في تفسير كالم املنان لإلمام املفسر اْلصولي الفقيه املتفنن عبد الرحمن بن ناصر سعدي‬
‫عز وجل وسائر علماء املسلمين‪ِ .‬‬ ‫السعدي رحمه هللا ِّ‬

‫ثم نشرحه ونفسره‬ ‫ً‬


‫مقطعا من السورة ِّ‬ ‫وسنسير في الشرح والتفسير إن شاء هللا بأن نقرأ‬
‫ثم نعود إلى تفسيره التفصيلي حيث نقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا ِّ‬
‫عز‬ ‫إجما ًال‪ِّ ،‬‬

‫‪1‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫وقفات مع الفوائد العلمية واآلثار‬
‫ٍ‬ ‫وجل ونبينه ونزيد عليه‪ ،‬وإذا ختمنا السورة فإنا نقف‬
‫اإليمانية للسورة فنبدأ بسورة النبأ فيتفضل االبن نور الدين يقرأ لنا من هذه السورة‪ِ .‬‬
‫سورة النبأ‬
‫أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم ‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم (‪ )٢‬ال ِذي ُه ْم ِف ِيه ُم ْخ َت ِل ُفون (‪ )٣‬كَّل َس َي ْعل ُمون‬ ‫﴿ع َّم َيت َس َاءلون (‪َ )١‬ع ِن‬
‫َََْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ َ ْ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ َّ‬
‫ض ِم َه ًادا (‪َ )٦‬وال ِج َبا َل أ ْوت ًادا (‪َ )٧‬وخلقناك ْم‬ ‫اْل ْر َ‬ ‫(‪ )٤‬ث َّم كَّل َس َي ْعل ُمون (‪ )٥‬ألم نجع ِل‬
‫ً‬ ‫اسا (‪َ )١٠‬و َج َع ْل َنا َّ‬
‫الن َه َار َم َعاشا‬
‫َ َ َ ْ َ َّ‬
‫الل ْي َل ل َب ً‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪٩‬‬ ‫(‬ ‫ا‬‫ات‬
‫َ َ ََْ َ ْ َ ُ ْ ُ َ ً‬
‫ب‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪٨‬‬ ‫(‬ ‫ا‬ ‫َأ ْز َو ً‬
‫اج‬
‫ِ‬
‫َ َْ َ َ ُْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ً َ َّ ً‬ ‫َ َ ََْ‬ ‫ََََْ َ ْ َ ُ َ ْ ً َ ً‬
‫(‪ )١١‬وبنينا فوقك ْم سبعا ِشدادا (‪ )١٢‬وجعلنا ِس َراجا وهاجا (‪ )١٣‬وأنزلنا ِمن اْلع ِص َر ِ‬
‫ات‬
‫َ َ َّ َ ْ َ ً‬ ‫َ َ ً‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫َ َّ ً‬
‫ات ألفافا (‪[ ﴾)١٦‬النبأ‪.]١٦-١ :‬‬ ‫َم ًاء ثجاجا (‪ِ )١٤‬لنخ ِرج ِب ِه ح ًّبا َون َباتا (‪ )١٥‬وجن ٍ‬
‫ِ‬
‫بعضا‪ ،‬أو‬ ‫عز وجل‪ :‬عن أي ش يء يتساءل مشركوا قريش؛ حيث يسأل بعضهم ً‬ ‫يقول هللا ِّ‬
‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫استكبار وإنكار‪ِ .‬‬
‫ٍِ‬ ‫يسألون رسول هللا صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين سؤال‬
‫َّ ْ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫﴿يت َس َاءلون (‪َ )١‬ع ِن الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم﴾؛ الخبر الكبير ذي الشأن الخطير وهو القرآن وما فيه‬
‫من أخبار الغيب؛ ال سيما ما يكون بعد املوت من البعث والجزاء والحساب‪ِ .‬‬
‫﴿الذي ُه ْم فيه ُم ْخ َتل ُفو َن﴾؛ في أقوالهم وفي أحوالهم‪ِّ ،‬أما في أقوالهم ِّ‬ ‫َّ‬
‫فإنهم مضطربون‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫عظيما؛ فمنهم من يقول هو قول ساحر‪ ،‬ومنهم من يقول هو قول كاهن‪ ،‬ومنهم‬ ‫ً‬ ‫اضطر ًابا‬
‫ِّ‬ ‫ٌ ِّ‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم من اْلعاجم من أهل العبرانية أو أهل‬ ‫من يقول أخذه‬
‫السيريانية‪ ،‬واضطرابهم يدل على بطالن أصل قولهم‪ ،‬ومختلفون فيه في أحوالهم فمنهم‬
‫ومصر حتى يموت‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ومستكبر‬ ‫ً‬
‫ومعاند‬ ‫ٌ‬
‫مكذب به وبما فيه من اْلخبار عن يوم البعث والفصل؛‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫على ذلك‪ ،‬ومنهم من سيؤمن به ويؤمن برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫ابتداء وبما فيه من اْلخبار‪ ،‬وبرسالة النبي صلى‬ ‫وهكذا كان الحال فمنهم من كذب بالقرآن‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫وأصر واستكبر حتى مات على ذلك‪ ،‬ومنهم من استنار فؤاده وقلبه فعلم أنه‬ ‫هللا عليه وسلم‬
‫الحق فصدق به وآمن‪ِ .‬‬

‫‪2‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬
‫وإبطال ْلقوالهم‪ ،‬سيعلمون حقيقة هذا النبأ العظيم؛‬ ‫﴿ك ََّّل َس َي ْع َل ُمو َن﴾؛ ر ٌ‬
‫دع لهم وزجر‬
‫َ‬
‫ً‬
‫جحودا‬ ‫ً‬
‫ظاهرا وال‬ ‫ً‬
‫جحودا‬ ‫يوم يرون ذلك ً‬
‫عيانا فيعلمون العلم الذي ال يمكن إنكاره ال‬
‫باطنا؛ بل هو علم اليقين الذي تستسلم له النفوس‪ِ .‬‬ ‫ً‬
‫ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ َّ‬
‫خبر تضمن التهديد والوعيد‬ ‫تأكيد معنوي للجملة السابقة‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫﴿ث َّم كَّل َس َي ْعل ُمون﴾؛‬
‫واقع بهم ال محالة؛ فما توعدهم هللا ِّ‬
‫فإنه ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عز وجل به من الجزاء‬ ‫فإنهم إذا علموا ذلك‬
‫خبر تضمن التهديد والوعيد‪ِ .‬‬ ‫والعذاب في الجحيم سيقع بهم ال محالة؛ فهذا ٌ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ثم ِّبين هللا ِّ‬ ‫ِّ‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم وعلى‬ ‫ٍ‬ ‫عز وجل بعض اآليات الدالة على صدق‬
‫وجوب اإليمان بالقرآن وبما فيه من اْلخبار‪ ،‬والدالة على وجوده سبحانه وتعالى‪ ،‬والدالة‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫على أنه هو الرب الذي خلق ودبر سبحانه وتعالى وأحكم‪ ،‬والدالة على أنه هو القوي املتين‬
‫ٌ‬ ‫الذي على كل ش يء قدير سبحانه وتعالى‪ ،‬وهي ٌ‬
‫آيات كونية يراها كل أحد‪ ،‬وهي موصلة إلى‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫العلم بتلكم الحقائق‪ِ .‬‬
‫هادا﴾؛ ألم نصير اْلرض ً‬ ‫ضم ً‬ ‫اْلر َ‬‫ََ َ َ َ‬
‫مهادا لهم؛ ممهدة كاملهد للطفل يرتاح فيه‬ ‫ِ‬ ‫﴿ألم نجع ِل‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫فهي ممهدة لهم بأوديتها وبصفتها وببسطها‪ ،‬فهي كالفراش لهم ليست صلبة كلها‪ِ ،‬وليست‬
‫صلب يحبس لهم املاء ويبنون عليه‪ ،‬ومنها ما هو ر ٌ‬ ‫وإنما منها ما هو ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫خو‬ ‫رخوة ال ينتفعون بها؛‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫قليال بحيث يحرثونه ويزرعونه وتنبت فيه الزروع‪ ،‬وهكذا اْلرض مهدت لهم‪ِ .‬‬
‫وتادا﴾؛ فجعلنا الجبال كاْلوتاد لألرض حتى ال تميد بهم‪ ،‬و ِال تميل بهم‪ ،‬و ِال‬ ‫بال َأ ً‬ ‫﴿والج َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫تضطرب بهم؛ بل هي ثابتة مستقرة‪ِ .‬‬
‫وهذه الجبال لألرض كاْلوتاد للخيمة‪ ،‬واملعلوم ِّأن الوتد يكون أكثره في داخل اْلرض وما‬
‫ِّ‬
‫يخرج منه إنما هو ما ينفع خروجه‪ ،‬وكذلك الجبال فقد أثبت العلماء أن أكثرها وأوسعها‬
‫ِّ‬
‫إنما هو في داخل اْلرض‪ِ .‬‬
‫وأزواجا في صفاتكم‬ ‫ً‬ ‫ذكر وأنثى‪،‬‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫قناكم َأزوا ًجا﴾؛ أي‪ :‬خلقناكم يا بني آدم ً‬
‫أزوج‬
‫َ ََ ُ‬
‫﴿وخل‬
‫ٍ‬
‫واحدة في جميع أموركم؛ بل لو تأملتم في أنفسكم لوجدتم اآليات‬ ‫ٍ‬ ‫صفة‬
‫فلستم على ٍ‬
‫ِّ‬
‫العظام فإن ما يحتاجه بنوا آدم على وجه السوية يستوي فيه بنوا آدم فاْلنوف في ٍ‬
‫مكان‬
‫مكان واحد‪ ،‬واْليدي‬ ‫مكان واحد‪ ،‬والروؤس في ٍ‬ ‫مكان واحد‪ ،‬واْلفواه في ٍ‬ ‫واحد‪ ،‬والعيون في ٍ‬
‫‪3‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫مكان واحد‪ ،‬وما يحتاج بنوا آدم فيه إلى اإلختالف كانوا فيه‬
‫مكان واحد‪ ِ،‬واْلرجل في ٍ‬
‫في ٍ‬
‫ً‬
‫أزواجا في صفاتهم فمنهم الطويل ومنهم القصير‪ ،‬ومنهم النحيف ومنهم البدين‪ ،‬ومنهم الغني‬
‫أزواجا كذلك تنتفعون بها‪ِ .‬‬ ‫ً‬ ‫ومنهم الفقير‪ ،‬وخلق لكم‬
‫ً‬ ‫باتا﴾؛ فجعلنا لكم ً‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ُ ً‬
‫نوما يغشاكم فترتاحون به‪ ،‬وجعله لكم راحة من‬ ‫﴿وجعلنا نومكم س‬
‫ِّ‬
‫اْلشغال ومن تعب اْلبدان ال تستطيعون إيجاده بأنفسكم ولو بذلتم ما بذلتم‪ ،‬وإنما هللا‬
‫النعم العظمى‪ِ .‬‬ ‫أنعم عليكم به فهو من ِّ‬

‫شيئا فشيئا فتشتد‬ ‫ثم يزداد ً‬ ‫ِّ‬


‫يغط َيها ِّ‬ ‫زواجا﴾؛ يغشاكم ويغش ى اْلرض حتى‬ ‫قناكم َأ ً‬
‫َ ََ ُ‬
‫﴿وخل‬
‫الظالم فيطرد ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫النور الذي كان‪ ،‬ويغشاكم‬ ‫ظلمته كلما أوغلتم في الليل ‪-‬فسبحان هللا‪ -‬يأتي‬
‫قطعة فيها ً‬ ‫ً‬
‫نورا‬ ‫ويغش ى أرضكم‪ ،‬من الذي جعله كذلك؟ هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ال تجد‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫وقطعة فيها ظلمة في نفس املكان؛ بل يغش ى الليل املكان حتى يكون كاللباس‪ ،‬والليل‬
‫النور ‪-‬‬ ‫ثم إذا جاء النهار ُطويت الظلمة وذهبت وحل ِّ‬ ‫كاللباس‪ِّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫يستركم ويستر عوراتكم‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫النهار في الليل؟ ِّإنها آية من‬ ‫النهار‪ ،‬وأين ذهب نور ِّ‬ ‫الليل في ِّ‬ ‫فسبحان هللا‪ -‬أين ذهبت ظلمة‬
‫مدب ٍر موجود سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬ ‫أعجب اآليات وأعظمها تدل على ِّ‬
‫عاشا﴾؛ أي‪ :‬جعلنا ِّ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ ً‬
‫النهار وقت معاشكم وطلبكم ما تعيشون به‪ ،‬وجعلنا‬ ‫﴿وجعلنا النهار م‬
‫وييسر لكم ذلك‪ِ .‬‬ ‫النهار ما يعينكم على ذلك ِّ‬ ‫لكم في ِّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫السماوات ِّ‬ ‫سبعا وهي ِّ‬ ‫وسقفنا فوقكم ً‬ ‫دادا﴾؛ َّ‬ ‫بعا ش ً‬ ‫َََ َ َ‬
‫وق ُكم َس ً‬
‫شدادا قوية‪،‬‬ ‫السبع‬ ‫ِ‬ ‫﴿وبنينا ف‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تشققا‪ ،‬وال ترى فيها ميال؛ بل هي سقف فوقكم‬ ‫اعوجاجا‪ ،‬وال ترى فيها‬ ‫ال ترى فيها‬
‫عز وجل بعدها‪ِ .‬‬ ‫وتنتفعون به‪ ،‬وجعل هللا لكم فيها منافع عظيمة منها ما ذكره هللا ِّ‬
‫الشمس في ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫﴿و َج َعلنا س ً‬
‫راجا َوه ً‬ ‫َ‬
‫السماء‪ ،‬وفيها صفتان نافعتان غاية النفع لبني آدم‪:‬‬ ‫اجا﴾؛‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ِّ ِّ ٌ‬ ‫ِّأنها سراج ففيها الضوء الذي ينتفع به بنوا آدم في ِّ‬
‫وهاجة أي متأللئة حا ِّرة؛‬ ‫النهار‪ ،‬وأنها‬
‫ففيها الحرا ة وفيها الدفء الذي فيه من املنافع لبني آدم ما ال ُ‬
‫يقدر قدره إال هللا سبحانه‬ ‫ر‬
‫وغير ذلك من الفوائد العظيمة للشمس‪ِ .‬‬ ‫الضار ُ‬ ‫وتعالى‪ ،‬ومن ذلك إنضاج الثمار وقتل ِّ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬
‫السحب التي تحلبت‬ ‫اجا﴾‪ :‬أنزلنا لكم من املعصرات وهي ِّ‬ ‫﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاْلُ ْعص َرات َم ًاء َث َّج ً‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ً ِّ‬
‫ماء وملا ينزل املاء منها؛ فبأمر هللا ينزل منها املاء ولو شاء لصرفها بدون أن‬ ‫باملاء فامتألت‬

‫‪4‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ‬
‫اسود‪ ،‬وترجون‬ ‫ِّ‬ ‫واحدة منها‪ ،‬وأ اكم ً‬‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شيئا من ذلك فإنكم ترون السحاب قد‬ ‫ر‬ ‫تنزل قطرة‬
‫ٌ‬
‫السحب وال تنزل منها قطرة واحدة ولكن‬ ‫وتفر ُق تلك ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫نزول املطر‪ ،‬فإذا بالرياح تهب بأمر هللا ِ‬
‫منصبا من فو ٍق إلى أسفل‬ ‫ًّ‬ ‫ماء‬ ‫ثجاجا؛ ً‬ ‫ً‬ ‫هللا بكرمه ورحمته بكم ُينزل من تلكم السحب ً‬
‫ماء‬
‫وأضر زروعكم‪ ،‬لو ِّأن‬ ‫َّ‬ ‫ْلضركم‬‫مر ًة واحدة ِّ‬ ‫انصب عليكم ِّ‬ ‫َّ‬ ‫متتابعا فتنتفعون به وبنزوله‪ ،‬ولو‬
‫الناس ً‬ ‫دفعة واحدة على اْل ض لتضرر ِّ‬ ‫ً‬
‫ضررا عظيما وتضررت‬ ‫ر‬ ‫السحب أفرغت ما فيها‬
‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫دوابهم وتضررت زروعهم‪ ،‬ولكن هللا ِّ‬
‫منصبا متتابعا ال ينزل دفعة‬ ‫عز وجل جعل املطر‬
‫ٌ‬ ‫ًّ‬ ‫ِّ‬
‫وإنما ينزل‬ ‫ً‬
‫منصبا متتابعا‪ ،‬وهذه آية عظمى‪ِ .‬‬ ‫واحدة‪ ،‬وال ينزل قطرة قطرة‪،‬‬
‫حبا هو قوتكم‬ ‫دوابكم؛ فنخرج لكم ًّ‬ ‫﴿ل ُن ْخر َج به َح ًّبا َو َن َب ًاتا﴾؛ لنخرج لكم به قوتكم وقوت ِّ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫ونباتا هو اْلعشاب التي تأكلها الدواب‪ِ .‬‬ ‫الذي تقتاتون به‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َْ َ ً‬ ‫َ َ َّ‬
‫ات﴾؛ أي‪ :‬بساتين ذات أشجار‪﴿ ،‬ألفافا﴾؛ أي‪ :‬ملتفة متقاربة متشابكة اْلغصان‪،‬‬ ‫﴿وجن ٍ‬
‫ومع ذلك تجد ِّأنها مختلفة الثمار‪ِ .‬‬
‫ٌ‬
‫دالة على وجود هللا سبحانه وتعالى؛ ِّ‬
‫فإنها ال يمكن أن‬ ‫وكل هذه اآليات الكونية والحسية‬
‫ِّ ُ َ ٌ‬ ‫ً‬
‫وجدة محدثة وال يمكن أن تكون قد ُوجدت صدفة بهذا‬ ‫تكون خالقة ْلنفسها؛ فإنها م‬
‫ِّ‬
‫وبالسبر والتقسيم ال يمكن أن يكون الخالق لها بهذا‬ ‫خالق‪،‬‬
‫اإلحكام واإلتقان فالبد لها من ٍ‬
‫ٌ‬
‫واإلحكام إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهي كما قلنا دالة على ِّأن ربنا سبحانه وتعالى‬
‫اإلبداع ِ‬
‫القوي املتين؛ الرب املدبر الذي هو على كل ش يء قدير‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫فما أعظم هذه اآليات وما أعظم دالالتها على املقصود‪ِّ ،‬‬
‫فإنها دالة على العلم‪ ،‬ولذلك ال‬
‫منكر ذلك على سبيل‬‫منكر وجود هللا وال ربوبيته وال استحقاقه لأللوهية إال وهو ٌ‬ ‫ينكر ٌ‬
‫ِّ‬
‫االستكبار والجحود الظاهر‪ ،‬وإال فإنه ال يستطيع أن يدفع عن نفسه هذه الحقائق‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿و َج َحدوا ِبها َواست َيق َنتها أ ُنف ُس ُهم﴾ [النمل‪ِ .]١٤ :‬‬
‫َ‬

‫وكان حق هؤالء املشركين أن يعلموا وهم في الدنيا وجود هللا وربوبية هللا وألوهية هللا‪،‬‬
‫وسلم‪ ،‬وصدق ما جاء في القرآن‪ ،‬ولكن هللا ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عز وجل يهدي‬ ‫وصدق رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫من يشاء بفضله‪ ،‬ويضل الظاملين بعدله سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪5‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن السعدي رحمه هللا تعالى رحمة واسعة ورض ي عنه وعن شيخنا‬
‫وعن السامعين‪:‬‬
‫أي‪ :‬عن أي ش ٍيء يتساءل اْلكذبون بآيات هللا‪.‬‬
‫ثم أدغمت النون في امليم وحذفت اْللف "ألف‪ -‬ما"ِللداللة على‬ ‫﴿ع َّم﴾؛ أصلها‪ :‬عن ما‪ِّ ،‬‬ ‫َ‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫موجه إلى النبي صلى هللا عليه‬ ‫سؤال‬ ‫اإلستفهام فصارت عم‪ ،‬ومعناها ‪ :‬عن أي ش يء‪ ،‬وهذا‬
‫ِّ‬
‫وسلم وإلى املؤمنين به ً‬
‫تعجيب من حال أولئك املشركين؛ حيث‬‫ٍ‬ ‫سؤال‬ ‫وهو‬ ‫له‪،‬‬ ‫ا‬ ‫تبع‬
‫ً‬
‫اعتقادا جاز ًما‪،‬‬ ‫يؤمن به وأن ُيعتقد‬
‫يتساءلون عما ال ينبغي أن ُيتساءل عنه؛ بل ينبغي أن َ‬
‫تعجيب من حالهم‪ِ .‬‬
‫ٍ‬ ‫فهذا سؤال‬
‫َ َّ َ َ َ َ‬
‫ساءلون﴾؛ أي‪ :‬يتساءل مشركوا قريش‪ ،‬ويلحق بهم كل من كان مثلهم إلى يوم‬ ‫﴿عم يت‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫داخل في هذه اآليات وما فيها من اْلخبار‬ ‫القيامة ممن ينكروا هذه الحقائق العظيمة فإنه‬
‫والوعيد والتهديد‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َْ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ‬
‫﴿ع ِن الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم (‪ )٢‬ال ِذي ُه ْم ِف ِيه ُمخت ِلفون﴾؛‬
‫قال‪ :‬ثم بين ما يتساءلون عنه فقال‪َ :‬‬

‫أي‪ :‬عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم وانتشر فيه خَّلفهم على وجه التكذيب‬
‫واإلستبعاد‪ ،‬وهو النبأ الذي ال يقبل الشك وال يدخله الريب؛ ولكن اْلكذبون بلقاء ربهم‬
‫ال يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب اْلليم‪.‬‬
‫ِ‬
‫َْ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ‬
‫﴿ع ِن الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم (‪ )٢‬ال ِذي ُه ْم ِف ِيه ُمخت ِلفون﴾‬
‫َ‬

‫ظيم﴾‪ِ .‬‬ ‫﴿عن َّ‬


‫الن َبإ َ‬
‫الع‬ ‫﴿ع َّم َي َت َ‬
‫ساءلو َن﴾؛ يتساءلون َ‬ ‫قال بعض أهل العلم‪ :‬املعنى َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ َ َ َ‬
‫ساءلون﴾؛ أعن النبإ العظيم؟ ِ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬املعنى ﴿عم يت‬
‫ِّ‬
‫والنبأ هو الخبر‪ ،‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬النبأ هو الخبر العظيم فال يقال لش يء نبأ إال إذا‬
‫ً‬
‫عظيما‪ِ .‬‬ ‫كان‬
‫أمر يقع في املستقبل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬النبأ هو الذي يقع في املستقبل الخبر عن ٍ‬

‫‪6‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وما هو هذا النبأ؟ قال بعض أهل العلم‪ :‬هو القرآن‪ ،‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬هو البعث وما‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫بعده من جز ٍاء وحساب‪ ،‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬هو نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫والذي يظهرِوهللا أعلم ِّأن هذا من باب اختالف التنوع ال من باب اختالف التضاد فكلها‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫داخلة في النبإ العظيم ِّ‬
‫وإنها وهللا لنبأ عظيم؛ نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم والقرآن وما‬
‫فيه من أخبار وال سيما أخبار الغيب وما يكون بعد املوت‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ولهذا قال‪﴿ :‬كَّل َس َي ْعل ُمون (‪ )٤‬ث َّم كَّل َس َي ْعل ُمون﴾؛ أي‪ :‬سيعلمون إذا‬
‫نزل بهم العذاب ما كانو به يكذبون حين يدعون إلى نار جهنم دعا ويقال لهم هذه النار‬
‫التي كنتم بها تكذبون‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ ِّ‬
‫وتكذيب لدعواهم‪ .‬كلمة فصل يفصل بها ما بعدها عما‬ ‫ٍ‬ ‫دع‬‫ر‬‫و‬
‫ٍ ٍ‬ ‫جر‬ ‫ز‬‫و‬ ‫فصل‬
‫ٍ‬ ‫كلمة‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫(كَّل)‪ ،‬ك‬
‫تكذيب لدعواهم ِّأنهم ال يعلمون ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وتكذيب لدعواهم؛‬
‫ٍ‬ ‫دع عنه‪،‬‬‫قبلها‪ ،‬وزجر عن القول‪ ،‬ور ٍ‬
‫يقولِ‪ :‬نحن ال نعلم ما تقول ِّ‬
‫فإنهم يعلم ِون الحقيقة وقد جاءتهم اآليات؛ اآليات املتلوة‬
‫ٌ‬
‫وتكذيب لهم‬ ‫تكذيب لهم في قولهم ِّإنهم ال يعلمون‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫واآليات الكونية واآليات النفسية‪ ،‬فهذا‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫في تقوالتهم وتخرصاتهم عن النبي صلى هللا عليه وسلم وعن القرآن‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿كَّل َس َيعلمون﴾؛ وأكد الخبر بالسين سيعلمون علم اليقين ِوذلك عندما يموتونِِوهم ال‬
‫ينكرون املوت؛ فسيعلمون ما يكون وراء املوت علم اليقين ولن ينفعهم ذلك العلم سوى‬
‫ً‬
‫أن يكون حسرة عليهم فيتمنى أحدهم أن يعود ُليؤمن‪ ،‬وهيهات هيهات‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫ُ َ‬
‫﴿ث َّم كَّل َس َيعلمون﴾؛ هنا إشكال من حيث اللغة ِّأن الجملة الثانية ال تصلح أن تكون‬
‫ً‬
‫لغة؛ ِّ‬ ‫ً‬
‫ْلن التوكيد اللغوي ال يجوز أن ُيدخل بين الجملتين حرف‬ ‫مؤكدة للجملة اْلولى‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ َ‬ ‫َ ِّ‬
‫توكيدا لغوي تكون اآلية‬ ‫العطف وهنا أدخل حرف العطف ﴿كال َس َيعلمون﴾؛ لو كانت‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ِّ‬ ‫َ ِّ‬
‫﴿كال َس َيعلمون كال َس َيعلمون﴾؛ لكن أدخل حرف العطف هنا‪ ،‬فقال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫ٌ‬
‫أسلوب مستعمل تقول‬ ‫وثم جيء بها ملزيد التأكيد‪ ،‬وهذا‬ ‫توكيد معنوي وليس ً‬
‫لغويا؛ ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫هذا‬
‫ثم وبالجملة‪ِ ِ.‬‬ ‫ثم سأضربك‪ُ ،‬‬
‫فتأكد بحرف العطف ِّ‬ ‫البنك‪ :‬سأضربك ِّ‬

‫‪7‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫دال على ِّأن الجملة الثانية غير‬


‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل وجود حرف العطف هنا ٌ‬
‫َ‬ ‫َ ِّ‬
‫عز وجل‪﴿ :‬كال َس َيعلمو َ ِن﴾؛ أي‪ :‬هؤالء املتسائلون‬
‫الجملة اْلولى كيف؟ قالوا قول هللا ِّ‬
‫املشركون املنكرون سيعلمون‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫وعيد لهم‪ِ .‬‬
‫ُ َّ َ َ َ َ‬
‫علمو َن﴾؛ أي‪ِّ :‬أن املؤمنين سيعلمون ً‬
‫أيضا؛ ً‬
‫علما على علم حيث سبق علمهم‬ ‫﴿ثم كَّل سي‬
‫النافع في الدنيا‪ ،‬وسيعلمون علم اليقين ويكون لهم ما وعدهم ربهم من املفاز والنعيم‬
‫املقيم‪ِ .‬‬
‫ثم هنا البيان ِّأن الجملة الثانية غير الجملة اْلولى؛ فالجملة اْلولى في حق‬
‫فهذه فائدة ِِّ‬
‫املكذبين والجملة الثانية في حق املؤمنين‪ِ .‬‬
‫ِِ‬
‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫ثم ذكر النعم واْلدلة الدالة على ما جاءت به الرسل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫هي نعم دالة على وجود هللا وعلى ِّأن هللا هو الرب املدبر‪ ،‬وأنه العليم الحكيم وأنه على كل‬
‫ٌ‬
‫ش يء قدير؛ ال يعجزه ش يء سبحانه وتعالى وبالتالي هي دالة على صدق رسل هللا؛ الذين‬
‫يرسلهم هللا ويخبرون العباد عن هللا ِّ‬
‫عز وجل‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ََ ْ َ ْ َ َْ‬
‫اْل ْر َ‬
‫ض‬ ‫ثم ذكر تعالى النعم واْلدلة الدالة على ما جاءت به الرسل فقال‪﴿ :‬ألم نجع ِل‬
‫َ َ ََْ‬ ‫َ َ ََْ َ ْ َ ُ ْ ُ َ ً‬ ‫َ َََْ ُ ْ َْ‬ ‫َ ْ َ َ ََْ‬
‫ِم َه ًادا (‪ )٦‬وال ِجبال أوتادا (‪ )٧‬وخلقناكم أز اجا (‪ )٨‬وجعلنا نومكم سباتا (‪ )٩‬وجعلنا‬
‫ً‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ً‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ َُ‬ ‫ً‬ ‫اسا (‪َ )١٠‬و َج َع ْل َنا َّ‬ ‫َّ‬
‫الن َه َار َم َعاشا (‪َ )١١‬و َبن ْينا ف ْوقك ْم َس ْب ًعا ِش َد ًادا (‪َ )١٢‬و َج َعلنا‬ ‫الل ْي َل ل َب ً‬
‫ِ‬
‫َ ً‬ ‫ُ ْ‬ ‫اجا (‪َ )١٣‬و َأ َنزْل َنا م َن ْاْلُ ْعص َرات َم ًاء َث َّج ً‬
‫اجا (‪ِ )١٤‬لنخ ِر َج ِب ِه َح ًّبا َون َباتا (‪)١٥‬‬ ‫اجا َو َّه ً‬ ‫س َر ً‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َج َّنات أ ْل َف ًافا (‪﴾)١٦‬؛ أي‪ :‬أما أنعمنا علكم بنعم جليلة فجعلنا لكم اْلرض ً‬ ‫َ‬
‫مهادا أي‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ممهدة مذللـة لكم وْلصالحكم من الحروث واْلساكن والسبل‪.‬‬
‫ِِ‬

‫‪8‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫صالح ملعاشكم من أودية‪ ،‬ومن أنواع‬ ‫أي‪ :‬جعلنا اْلرض لكم فراشا ِوممهدة‪ ،‬وكل ما فيها‬
‫عز وجل هو‬‫التربة‪ ،‬ومن صفات اْلرض كلها ملنافعكم‪ ،‬ولو تدبرتم ْليقنتم وعلمتم ِّأن هللا ِّ‬

‫الرب وهو املستحق لأللوهية لو لم تروا إال هذه اآلية وهي آية اْلرض كيف ِّأن هللا مهدها‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫لكم وسخرها لكم لكفاكم ذلك داللة على صدق محمد صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫بال َأ ً‬
‫وتادا﴾؛ تمسك اْلرض لئَّل تضطرب بكم وتميد‪.‬‬ ‫َ‬
‫﴿والج َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫تميد‪ :‬يعني تميل حتى ال تضطرب فال تكون مستقرة فال تستطيعون العيش عليها‪ ،‬وإذا‬
‫وقت يسير تضطرب فيه‬‫الناس وقت الزلزال‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫أ دت أن تعرف هذا فانظر إلى حال ِّ‬
‫ر‬
‫عز وجل‪ ،‬وهو ةاية تدلك على عظم ِّنعم هللا ِّ‬
‫عز وجل عليك في اْلرض بأن‬ ‫اْلرض بأمر هللا ِّ‬
‫ِ‬
‫جعل الجبال أوتاد لألرض حتى تستقر وال تضطرب وال تميل بك‪ ،‬ومهما ُحملت من أثقال‬
‫ِّ‬
‫فإنها ال تميد وال تميل‪ ،‬وال تنخفض وترتفع وال تضطرب‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ٓ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ ََ ُ َ‬
‫جنس واحد ليسكن كل منهما إلى االخر‬
‫ٍ‬ ‫﴿وخلقناكم أزواجا﴾؛ أي‪ :‬ذكورا وإناثا من‬
‫فتتكون اْلودة والرحمة‪ ،‬وتنشأ عنهما الذرية‪ ،‬وفي ضمن هذا االمتنان بلذة اْلنكح‪.‬‬
‫ِ‬
‫هذا من جهة اْلزواج في بني ةادم‪ ،‬وهذه من ةايات هللا العظيمة أن جعل ِّ‬
‫منا الذكر واْلنثى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫جميعا نخرج من اْلرحام‪ ،‬ونخلق من ماء الرجل وبويضة املرأة ومع ذلك تأتي هذه‬ ‫ونحن‬
‫أنثى ويأتي ذاك ذكر‪ ،‬وجعل لهذا من الصفات ما يناسبه ولهذا من الصفات ما يناسبه‪،‬‬
‫ً‬
‫وجعل عند هذا ما يحتاجه هذا وجعل عند هذا ما يحتاجه هذا‪ ،‬وجعل بينهما مودة‬
‫ً‬
‫لذة ومنفعة؛ فجعل الشهوة في الفطرة َّ‬
‫وهذبها بما يليق‬ ‫ورحمة‪ ،‬وجعل لهما في النكاح‬
‫بطريق يليق بمقام اإلنسان؛ فلم يجعل التزاوج في بني‬
‫ٍ‬ ‫بمقام اإلنسان؛ فجعلها ال تكون إال‬
‫ِّ‬ ‫ة‬ ‫ٌ‬
‫نعمة عظمى من هللا ِّ‬ ‫ة‬
‫عز وجل على بني ادم‪ ،‬وأشرت إلى أنه‬ ‫ادم كما بين الحيوانات وتلك‬

‫‪9‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ة‬ ‫أيضا االختالف في الصفات‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫يدخل في اْلزواج ً‬


‫نافع لبني ادم بحيث يخدم بعضهم‬
‫ً‬
‫بعضا‪ِ .‬‬
‫ة‬
‫ً‬
‫أزواجا ليتم انتفاعهم بها‪ِ .‬‬ ‫وأيضا أ ِّن هللا جعل لبني ادم من املخلوقات‬
‫ً‬

‫ِ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ َ َ َ ُ‬
‫وقطعا ْلشغالكم التي متى تمادت بكم أضرت‬ ‫ومكم ُسباتا﴾؛ أي‪ :‬راحة لكم‬ ‫﴿وجعلنا ن‬
‫بأبدانكم‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ َ َ َ َ ُ ُ ً‬
‫باتا﴾؛ قال بعض أهل العلم‪ُ :‬س ً‬
‫باتا أي‪ :‬من السكون تسكنون فيه‪،‬‬ ‫﴿وجعلنا نومكم س‬
‫وهذا يؤدي إلى الراحة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ً :‬‬
‫سباتا من التمدد‪ ،‬وذلك ِّأن اإلنسان إذا نام يتمدد فيرتاح وترتاح‬
‫أعضائه بهذا التمدد‪ ،‬ولذلك يدرك اإلنسان ِّأن مده ْلعضائه يريحه؛ ولذلك تجد اإلنسان‬
‫إذا تعب يمد أعضائه هذا جزء من احة النوم‪ ،‬قال بعض أهل العلم‪ً :‬‬
‫سباتا أي‪ :‬من‬ ‫ر‬
‫التمدد‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ً :‬‬
‫سباتا من القطع أي‪ :‬أنه يقطعكم عن أشغالكم التي لو استمرت‬
‫ً‬
‫ْلتعبتكم‪ ،‬فينقطع هذا بالنوم فيقوم اإلنسان نشيطا‪ ،‬قال بعض أهل العلم‪ :‬النوم يقطع‬
‫اإلنسان عما يضره ومن ذلك تعب البدن‪ ،‬ومن ذلك تعب الفكر؛ اإلنسان قد تنزل به‬
‫كثيرا ويتعب‪ ،‬يأتي النوم يهجم عليه فيرتاح‪ ،‬وكل هذه الثالثة تدل على ِّأن في‬
‫مصيبة فيفكر ً‬
‫ً‬
‫النوم راحة أعني السكون والتمدد والقطع؛ تدل على ًأن في النوم ر ِ‬
‫احة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫فجعل هللا الليل والنوم يغش ى الناس لتسكن حركاتهم الضارة وتحصل راحتهم النافعة‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪10‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِّ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ‬
‫اسا﴾؛ أي‪ :‬أنه يغشاكم ويغش ى اْلرض‪ ،‬وسبحان هللا لو كنت‬‫الل ْي َل ل َب ً‬
‫ِ‬ ‫طبعا ِّبينا‪﴿ :‬وجعلنا‬
‫ً‬
‫ِّ‬
‫في الطائرة وقت بداية الليل ترى كيف ِّأن الظالم يغش ى اْلرض كأنه سحاب‪ِ .‬‬
‫والنوم لباس لكم أي‪ :‬يستركم؛ يغشاكم ويستركم‪ ،‬ولذلك هو وقت الراحة ووقت التخفف‬
‫من الثياب ونحو ذلك‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫﴿و َج َع ْل َنا َّ‬
‫الن َه َار َم َعاشا﴾؛ كما قلنا جعلنا النهار وقت املعاش‪ ،‬فوقت معاشكم هو في النهار‬ ‫َ‬

‫ويسرنا لكم ذلك‪ِ ِ.‬‬


‫ِ‬
‫َ َ َ َ َُ‬
‫﴿و َبن ْينا ف ْوقك ْم َس ْب ًعا ِش َد ًادا﴾؛ أي‪ :‬سبع سموات في غاية القوة والصَّلبة والشدة قد‬
‫ً‬
‫أمسكها هللا بقدرته وجعلها سقفا لألرض؛ فيها عدة منافع لهم‪ ،‬ولهذا ذكر من منافعها‬
‫الشمس‪.‬‬
‫ِ‬
‫سقفا‪ ،‬قال‪ِّ :‬‬
‫ْلن العرب تق ِول‬ ‫﴿و َب َن ْي َنا﴾؛ هنا ِّبين ابن جرير ِّأن معنى َ‬
‫﴿و َب َن ْي َنا﴾؛ أي‪ :‬جعلناها ً‬ ‫َ‬

‫للسقف البناء؛ تقول لسقف البيت البناء؛ فخاطبهم بما يعرفون‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ َُ‬
‫﴿و َبن ْينا ف ْوقك ْم﴾؛ أي‪ :‬سقفنا ما فوقكم وجعلناه سقفا‪ ،‬وهي هذه السموات السبع‬
‫مدا‪ ،‬بنيت بغير عمد نراها‪ِ .‬‬ ‫فطورا وال ُع ً‬
‫ً‬ ‫عوجا وال ً‬
‫أمتا وال‬ ‫الشديدة الصلبة التي ال ترى فيها ً‬
‫ً‬
‫عمد أصال‪ ،‬وبعض أهل العلم قال‪ِّ :‬أنها ُبنيت بغير‬ ‫ِّ‬
‫بعض أهل العلم قال‪ :‬أنها ُبنيت بغير ٍ‬
‫عمد نراها‪ ،‬وقد يكون لها لكن ال نرى ذلك‪ ،‬وعلى كل حال فهي آية عجيبة في غاية‬ ‫ٍ‬
‫اإلعجاز‪ِ .‬‬

‫اجا﴾؛ نبه بالسراج على‬ ‫﴿و َج َع ْل َنا س َر ً‬


‫اجا َو َّه ً‬ ‫قال‪ :‬ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫النعمة بنورها الذي صار ضرورة للخلق‪ ،‬وبالوهاج وهي حرارتها على ما فيها من اإلنضاج‬
‫واْلنافع‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪11‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿و َّه ً‬
‫اجا﴾ أي‪ :‬متألْل حا ًرا فيه الدفئ وفيه‬ ‫منيرا‪َ ،‬‬ ‫كما قلنا صيرنا الشمس ﴿س َر ً‬
‫اجا﴾ أي‪ً :‬‬ ‫ِ‬
‫املنافع العظمى ْلهل اْلرض ‪ِ ِ.‬‬
‫ِِ‬
‫كثيرا ً‬
‫جدا‪.‬‬ ‫اجا﴾؛ أي‪ً :‬‬ ‫﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاْلُ ْعص َرات﴾؛ أي‪ :‬السحاب‪َ ،‬‬
‫﴿م ًاء َث َّج ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاْلُ ْعص َرات﴾؛ بعض أهل العلم قال‪ :‬املعصرات هي‪ :‬الرياح ِّ‬
‫ْلنها هي التي تعصر‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السحاب بأمر هللا‪ِ .‬‬
‫ماء فاستحلبت؛ يعني مثل‬ ‫وبعض أهل العلم قال‪ :‬املعصرات هي‪ :‬السحب التي امتألت ً‬
‫ِّ‬ ‫ثدي املرأة إذا امتأل ً‬
‫لبنا فاستحلب وملا يخرج يعني بمجرد أن يطلبه الصبي ينساب فهي‬
‫اس َت ْح َل َب ْت وملِّا َينز ْل ُ‬
‫ماءها‪ِ .‬‬ ‫ماء َف ْ‬
‫الس ُح ْب‪ ،‬املعصرات هي السحب التي امتألت ً‬ ‫ليست مجرد ُ‬
‫ماء ً‬
‫ماء﴾‬ ‫الس‬‫َّ‬ ‫ن‬ ‫﴿و َأ َنزلنا م َ‬ ‫ِّ‬
‫ْلنه جاء َ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬املعصرات هي ِّ‬
‫السماء‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[املؤمنونِ‪ِ .]١٨ :‬‬
‫ً‬ ‫كثير من املفسرين ِّأنها السحب ِّ‬ ‫َور َّج َح ٌ‬
‫ْلنها هي التي ينزل منها املاء حقيقة‪ ،‬وهللا قال‪:‬‬
‫ََ‬
‫﴿وأ َنزلنا ِم َن﴾؛ ما قال‪ :‬وأنزلنا باملعصرات‪ ،‬لو قال‪ :‬وأنزلنا باملعصرات لكان املراد الرياح‪،‬‬
‫والسماء إذا أطلقت‬ ‫السماء ويحتمل السحب‪ِّ ،‬‬ ‫﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاملُ ْعص َرات﴾؛ فيحتمل ِّ‬
‫لكن قال‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في هذا املقام فالحقيقة املراد بها السحب التي في ِّ‬
‫السماء‪ِ ِ.‬‬
‫جدا‪ ،‬وهذا قاله بعض املفسرين؛ لكن في الحقيقة ال‬ ‫كثيرا ً‬‫اجا﴾؛ قال شيخنا‪ :‬أي‪ً :‬‬ ‫﴿م ٓا ًء َث َّج َ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫الث َج ْ‬
‫اج يطلق على الكثير وإنما الثجاج هو املنصب‬ ‫يشهد له شاهد في اللغة العرب أن‬
‫ٌ‬ ‫ِّ ُ ُ ً ِّ‬
‫صبا وأنه يتتابع‪ ،‬وكما قلنا هذه آية عظيمة‬ ‫املتتابع‪ ،‬فهو يتصف بهاتين الصفتين أنه يصب‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فإن املطر ال ينزل دفعة واحدة على اْلرض‪ ،‬وال ينزل قطرة قطرة بحيث ال ُين َت َف ُع به‪ ،‬وإنما‬ ‫ِّ‬
‫أحكم هللا وما أر َ‬
‫حم هللا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويتحقق نفعه فال إله إال هللا ما‬ ‫ُ‬
‫فيندفع ضرره‬ ‫ً‬
‫متتابعا‬ ‫ينصب ًِ‬
‫صبا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪12‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫وشعير وذر ٍة و أر ٍز وغير ذلك مما يأكله اآلدميون‪ ،‬ونباتا يشمل سائر‬
‫ٍ‬ ‫حبا من ُب ٍر‬
‫لنخرج به ً‬
‫ً‬
‫النبات الذي جعله هللا قوتا ْلواشيهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ات به‬ ‫فتكفل هللا لبني آدم بأرزاقهم وأرزاق دوابهم فيخرج باملطر ما يقتاتون بهِ وما تقت ُ‬

‫َد َو ُاب ُه ْم هذا الحب والنبات‪ِ .‬‬


‫ِّ‬ ‫ُ ُ‬
‫الثمار التي يستمتع بها ُبنوا‬ ‫َّ‬
‫الحب هو القوت والنبات هي ِ‬ ‫وأشار بعض أهل العلم إلى ِّأن‬
‫آدم؛ الحب مثل اْلرز والشعير قوت يقتات به اإلنسان وتحصل به قوته‪ ،‬والنبات الذي‬
‫ِّ‬
‫عليه أكثر املفسرين أنه العشب وما يشابهه مما تأكله الدواب‪ِ .‬‬
‫أشار بعض أهل العلم إشارة إلى ِّأن النبات هو الثمار التي يستمتع بها ابن آدم مثل‬
‫الفواكه؛ يأكل اإلنسان املوز ويأكل البرتقال هذه فيها زيادة على القوت ويستمتع اإلنسان‬
‫بها‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫َ َ‬
‫ات ألفافا﴾؛ أي‪ :‬بساتين ملتفة فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة‪.‬‬
‫﴿وجن ٍ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الجنة هي البستان‪ ،‬وأشار بعض أهل العلم إلى أنه البستان املحاط يسمى َجنة‪ِ ِ.‬‬
‫ِّ‬
‫بستان وإنما املحاط هو الحديقة كما سيأتينا إن شاء‬
‫ٍ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل هو كل‬
‫ُ‬ ‫ً َّ‬
‫صاحبه‪ ،‬ولذلك أهل‬ ‫هللا‪ ،‬ال يسمى البستان حديقة إال إذا كان ُمحاطا بحيث يختص به‬
‫ِّ‬
‫الجنة لهم حدائق ِّ‬
‫ْلنها محاطة يختص بها صاحبها؛ ما يشاركه غيره فيها كما سيأتي إن شاء‬
‫مطلقا التي فيها اْلشجار ِّ‬
‫امللتفة الكثيرة املتقاربة املتشابهة‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫فالجنات هي البساتين‬ ‫هللا‪،‬‬
‫بماء واحد؛ بل‬
‫ثمار مختلفة في البستان الواحد‪ ،‬وهي تسقى ٍ‬ ‫املتشابكة‪ ،‬ومع ذلك ففيها ٌ‬
‫بطعم وهذا‬
‫ٍ‬ ‫الجنس الواحد يتنوعِ ُيغرس النخل فهذا يأتي بلحه أحمر وهذا أصفر‪ ،‬هذا‬
‫بطعم وهكذا؛ تسقى اْلشجار بماء واحد‪ ،‬ومع ذلك تتنوع الثمار‪ ،‬وتختلف في أشكالها وفي‬
‫ٍ‬
‫طعومها وغير ذلك‪ ،‬وال يمكن أن يكون ذلك إال بتدبير هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪13‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال رحمه هللا‪:‬‬


‫فالذي أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة التي ال يقدر قدرها وال ُيحص ى عددها؛ كيف‬
‫تكفرون به وتكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور‪ ،‬أم كيف تستعينون بنعمه على‬
‫معاصيه وتجحدونها‪.‬‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ٌ ٌ‬
‫نعم دالة لكم‪ ،‬والعاقل يعلم أنه ليس له أن يستعمل نعم املنعم في معصيته‪ِ ،‬وكل‬ ‫فهذه‬
‫ِّ‬ ‫يقينا ِّأنه ال ُينعم بهذه ِّ‬
‫عاقل يدرك ً‬
‫النعم إال هللا‪ ،‬وهذا يدل على أنه سبحانه يستحق‬ ‫ٍ‬
‫وأن هذه ِّ‬
‫وأنه الذي يجب أن ُيعبد‪ِّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫النعم ينبغي على العبد أن يستعملها في طاعة‬ ‫اْللوهية‪،‬‬
‫هللا وأن ال يستعملها في معاص ي هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِِ ِ‬
‫‪-‬تفسير اْلقطع الثاني من السورة‪-‬‬

‫ُ‬ ‫الصور َف َت ْأ ُتو َن َأ ْف َو ً‬


‫اجا ﴿‪َ ﴾١٨‬وف ِت َح ِت‬ ‫نف ُخ في ُّ‬‫َْ َ ُ َ‬ ‫َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ ً‬
‫ِ‬ ‫﴿إن يوم الفص َ ِل كان ِميقاتا ﴿‪ ﴾١٧‬يوم ي ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ ْ َ ُ ََ َ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ُ َ َ َ ْ‬
‫السماء فكانت أبوابا ﴿‪ ﴾١٩‬وس ِير ِت ال ِجبال فكانت سرابا ﴿‪[ ﴾﴾٢٠‬النبأ‪]٢٠-١٧ :‬‬

‫ملا ذكر هللا عز وجل اآليات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى‪ ،‬وعلى ربوبيته‪ ،‬وعلى ألوهيته‪،‬‬
‫وعلى أنه القوي املتين الذي على كل ش يء قدير‪ ،‬وهي آيات دالة على أنه سبحانه وتعالى قد‬
‫خلق الحياة الدنيا ِّ‬
‫ودبرها وأحكمها ِ‬
‫كان ذلك دليال على أن هللا عز وجل قادر على أن ينش ئ الحياة اْلخرى كما أنشأ الحياة‬
‫﴿إ َّن َي ْو َم‬ ‫صل َك َ‬
‫ان م َيق ًاتا﴾ وأكد ذلك بإ َّ‬
‫ن‬ ‫اْل ِولى ولذلك قال هللا عز وجل ﴿إ َّن َي ْو َم ْال َف ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان ِم َيق ًاتا﴾ الذي يفصل فيه هللا عز وجل بين الحق والباطل‪ ،‬وبين أهل اإليمان‬ ‫صل َك َ‬‫َْ ْ‬
‫الف ِ‬
‫وأهل الكفران‪ ،‬وبين اْلشقياء والسعداء‪ِ .‬‬

‫‪14‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫إن ذلكم اليوم كان ميقاتا‪ ،‬له وقت معلوم‪ ،‬ال يتقدم عنه وال يتأخر وال يعلمه إال هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬ومتى يكون هذا اليوم‪ ،‬يكون يوم ينفخ صاحب الصور امللك‪ ،‬وهو عند العلماء‬
‫إسرافيل‪ ،‬وقد حكى بعض العلماء اإلجماع على ذلك‪ِ .‬‬
‫يأت مصرحا باسمه في النصوص‪ ،‬وإنما الذي جاء في الحديث أنه صاحب الصور لكن‬
‫ولم ِ‬
‫املشهور عند العلماء أنه هو إسرافيل عليه السالم ينفخ في الصور‪ ،‬والصور قرن يشبه‬
‫البوق‪ ،‬وصاحب الصور قد التقم الصور ينتظر أن يؤمر بالنفخ‪ ،‬وهو قائم ينظر ناحية‬
‫العرش‪ ،‬يخش ى أن يؤمر بالنفخ قبل أن يرتد إليه طرفه‪ ،‬فهو مستعد للنفخ في الصور‪،‬‬
‫وينفخ في الصور نفختين عند أكثر أهل العلم‪ ،‬ينفخ نفخة بأمر هللا‪ ،‬إذا شاء هللا عز وجل‬
‫أن يميت الخالئق‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫يأمره بالنفخ فينفخ في الصور نفخة تصعق لها املخلوقات‪ ،‬وتموت املخلوقات إال من شاء‬
‫يأت تحديدها‪ ،‬هل هي أربعون‬ ‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ثم يمكث الناس في قبورهم أربعين ولم ِ‬
‫سحابا فأمطرت فينبت‬ ‫ً‬ ‫سنة أو أربعون ً‬
‫شهرا أو أربعون يوما‪ ،‬ثم إذا شاء هللا عز وجل أمر‬
‫الناس في قبورهم من َع ْج ِب أذنابهم‪ ،‬فيأمر هللا صاحب الصور أن ينفخ النفخة الثانية‪،‬‬
‫فينفخ نفخة فيخرج الناس من قبورهم إلى املحشر‪ ،‬وهذه النفخة ‪-‬أعني الثانية‪ -‬هي املرادة‬
‫فواجا﴾ تأتون جماعات‪ ،‬جماعات‪،‬‬ ‫﴿ف َتأتو َن َأ ً‬
‫َ‬
‫ور﴾ نفخة البعث‪،‬‬ ‫الص‬ ‫ي‬ ‫ف‬
‫َ َ ُ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫هنا؛ ﴿يوم ينف ِ‬
‫خ‬
‫ال تأتون دفعة واحدة‪ ،‬بل تأتي كل جماعة مع إمامها‪ ،‬وكل أمة مع نبيها‪ِ .‬‬
‫بوابا﴾‪ :‬فتتشقق السماء في ذلك اليوم ملا فيه من أهوال‪،‬‬ ‫كانت َأ ً‬
‫َّ ُ َ َ‬ ‫َُ‬
‫﴿وف ِت َح ِت السماء ف‬
‫ق تنزل منها املالئكة‪ ،‬وتشقق‬ ‫فتكون تلك الشقوق والصدوع في السماء كاْلبواب والطر ِ‬
‫السماء بالغمام وهو السحاب اْلبيض البارد‪ ،‬فينزل ربنا سبحانه وتعالى مع الغمام واملالئكة‬
‫ليفصل بين الخالئق في ذلك اليوم‪ِ .‬‬
‫ُ َ َ‬
‫كانت َس ً‬ ‫َ ُ َ‬
‫رابا﴾‪ :‬تلكم الجبال الشامخة ذات اْلحجار الصلبة يدكها هللا‬ ‫الجبال ف‬‫﴿وس ِير ِت ِ‬
‫ً‬
‫عز وجل دكة واحدة‪ ،‬فتكون كالصوف املنفوش‪ ،‬ثم تصبح كالهباء؛ أي تصبح أشياء دقيقة‬
‫تحملها الرياح‪ِ .‬‬
‫وإذا أردت أن تعرف ما هو الهباء فافتح النافذة إذا خرجت الشمس‪ ،‬سترى أشياء دقيقة‬

‫‪15‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تتطاير ال تستطيع أن تقبضها بيدك هذا هو الهباء‪ ،‬فتصبح الجبال ً‬


‫هباء؛ أشياء دقيقة‬
‫تحملها الرياح فيراها الرائي من بعيد يحسبها جامدة‪ ،‬وهي تمر مر السحاب مع الرياح ْلنها‬
‫أصبحت هباء فتكون ال ش يء كالسراب‪ ،‬السراب في الحقيقة ليس شيئا‪ ،‬يراه اإلنسان من‬
‫بعيد فيظنه ماء‪ .‬حتى إذا اقترب منه لم يجده شيئا‪ ،‬وهكذا يكون حال الجبال تكون كال‬
‫ش يء تحملها الرياح ففي ذلك اليوم املهوول يكون يوم الفصل الذي ذكره هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫ونقرأ ما ذكره الشيخ السعدي ونعلق عليه ِ‬
‫ِ‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬ذكر هللا تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه‬
‫اْلكذبون‪ ،‬ويجحده اْلعاندون‪ ،‬أنه يوم عظيم‪ ،‬وأن هللا جعله ميقاتا للخلق‪.‬‬

‫صل َك َ‬
‫ان ِم َيق ًاتا﴾ وسمي يوم الفصل؛ بهذا ْلنه ُيفصل فيه‬ ‫في قوله سبحانه‪﴿ :‬إ َّن َي ْو َم ْال َِف ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بين الحق والباطل وبين أهل اإليمان وأهل الكفران‪ ،‬وبين أصحاب الحقوق حتى الدواب‪،‬‬
‫يفصل بينها في الحقوق في ذلك اليوم‪ ،‬ويفصل فيه الشقي عن السعيد‪ ،‬فتبيض وجوه‬
‫وتسود وجوه‪ِ .‬‬
‫َ ً‬
‫﴿ميقاتا﴾‪ :‬قال بعض أهل العلم‪ :‬معنى ميقاتا؛ أي أنه مؤقت بوقت ال يتقدم وال يتأخر وال‬ ‫ِ‬
‫يعلمه إال هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معناها أنه ميقات للجزاء والحساب‪ ،‬فهو وقت الجزاء والحساب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى ( ِم َيق ًاتا)؛ أنه الوقت الفاصل الذي تنتهي إليه الدنيا وتبدأ به‬
‫اآلخرة فهو كالحد الفاصل‪ِ .‬‬
‫فمعنى ( ِم َيق ًاتا)؛ أنه وقت فاصل تنتهي إليه الدنيا‪ ،‬وتبدأ به اآلخرة‪ ،‬وكل هذا من اختالف‬
‫التنوع كله داخل في معنى الكلمة وهذا من إعجاز القرآن أن الكلمة الواحدة تحمل معاني‬
‫متعددة ‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وأن هللا جعله ميقاتا للخلق ُينفخ في الصور فيأتون أفواجا‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َْ َ ُ َ‬
‫نف ُخ في ُّ‬
‫ور﴾‪ :‬أي ينفخ امللك في الصور بأمر هللا‪ ،‬النفخة‬
‫ِ‬ ‫الص‬ ‫في قول هللا عز وجل ﴿يوم ي ِ‬
‫الثانية وهي نفخة البعث‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويجري فيه من الزعازع والقَّلقل ما يشيب له اْلولود‪.‬‬
‫﴿ف َتأتو َن َأ ً‬
‫فواجا﴾ أفواجا كما قلنا يا إخوة؛ جماعات‪ ،‬جماعات‪ ،‬ال يأتون دفعة واحدة‪،‬‬
‫َ‬

‫فإنهم يخرجون من قبورهم التى انتثرت في اْلرض وتخرج كل جماعة تأتي مع إمامها وكل‬
‫أمة لها نبي تأتي مع نبيها فيأتون جماعات جماعات‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويجري فيه من الزعازع والقَّلقل ما يشيب له اْلولود وتنزعج له القلوب فتسير‬
‫الجمال حتى تكون كالهباء اْلبثوث وتنشق السماء حتى تكون أبوابا‪.‬‬
‫َّ ُ َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫كما قال هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬وف ِت َح ِت السماء فكانت أبوابا﴾ هنا قال بعض املفسرين‪ :‬هي‬
‫ً‬

‫أبواب على وجه الحقيقة‪ ،‬ترى في السماء‪ ،‬وهي طرق ومسالك املالئكة التي تنزل منها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬بل هي الصدوع والشقوق التي تكون في السماء فيراها الناظر من‬
‫ََ‬
‫بعيد كأنها أبواب تن َّز ُل منها املالئكة‪ ،‬وال شك أن السماء ستتشقق شيئا فشيئا‪ ،‬وتتشقق‬
‫أيضا بالغمام كما قلنا‪ ،‬وينزل ربنا سبحانه وتعالى ليفصل بين الخالئق‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويفصل هللا بين الخَّلئق بحكمه الذي ال يجور وتوقد نار جهنم ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ‬
‫رابا﴾‪ :‬كما قلنا معنى ( ُس ِي َر ِت)؛ أنها ت َس ِّير بالريح بعد أن تصبح‬
‫كانت َس ً‬ ‫الجبال ف‬ ‫َ ُ َ‬
‫﴿وس ِير ِت ِ‬
‫هباء‪ ،‬تحملها الرياح فتسير بها الرياح في ذلك اليوم وتكون كالسراب ال ش يء وال وجود لها‪،‬‬ ‫ً‬
‫ْلنها قد دكت‪ ،‬وبست حتى صارت ًِ‬
‫هباء‪ِ .‬‬
‫ثم نقرأ اْلقطع الثالث في هذه السورة‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ً‬ ‫َّ َ َّ َ َ َ ْ‬
‫اغين َم ًآبا ﴿‪ ﴾٢٢‬ال ِب ِثين ِف َيها أ ْحق ًابا ﴿‪ ﴾٢٣‬ال‬ ‫﴿إن ج َهنم كانت ِم ْرصادا ﴿‪ِ ﴾٢١‬للط ِ‬ ‫ِ‬
‫يما َو َغ َّس ًاقا ﴿‪َ ﴾٢٥‬ج َز ًاء و َف ًاقا ﴿‪ ﴾٢٦‬إ َّن ُهمْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َي ُذوقون ِفيها ب ْردا وال ش َرابا ﴿‪ ﴾٢٤‬إال حم ً‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ًَ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا ﴿‪َ ﴾٢٧‬وكذ ُبوا ِب َآيا ِتنا ِكذ ًابا ﴿‪ ﴾٢٨‬وكل ش ي ٍء أحصيناه ِكتابا‬
‫َ ُ ُ َ َ َّ ُ َّ َ‬
‫﴿‪ ﴾٢٩‬فذوقوا فلن ن ِز َيدك ْم ِإال َعذ ًابا ﴿‪[ ﴾﴾٣٠‬النبأ‪]٣٠-٢١ :‬‬

‫‪17‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ملا تقدم ِّأن هللا عز وجل يفصل بين الخالئق في ذلك اليوم‪ ،‬ويفصل بين اْلشقياء‬
‫ْلن الحديث معهم من أول السورة َ‬
‫﴿ع َّم‬ ‫والسعداء‪ ،‬بدأ هللا عز وجل ببيان حال اْلشقياء؛ ِّ‬
‫ََ َ َ‬
‫ساءلون﴾ فكان الحديث عنهم؛ عن أولئك اْلشقياء‪ ،‬فبدأ هللا عز وجل ببيان حالهم في‬ ‫يت‬
‫اآلخرة‪ِ .‬‬
‫رصادا﴾‪ِّ :‬إن ِّ‬
‫كانت م ً‬ ‫َّ َ َ َّ َ َ‬
‫النار التي هي عذاب هللا عز وجل كانت مرصادا‪ ،‬تترصد‬ ‫ِ‬ ‫﴿ ِإن جهنم‬
‫ناج‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫َ َ‬
‫ْلهلها‪ ،‬وترقب أهلها‪ ،‬والبد أن ي ِردها الناس جميعا فيمرون عليها‪ ،‬فمار على الصراط ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مكردس فيها هالك ‪-‬والعياذ باهلل‪ِ -‬‬ ‫وساقط‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫﴿ ِللطاغين َم ًآبا﴾‪ :‬للمتجاوزين حدود هللا في الدنيا مرجعا ومنزال ومصيرِا‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ا‪ ،‬دهرا بعد دهر‪ ،‬أما الكفار فإنهم يمكثو فيها‬ ‫دهور‬ ‫البثين فيها أحقابا﴾‪ :‬ماكثين فيها‬ ‫﴿ ِ‬
‫انقطاع بينهما وال انتهاء لها‪،‬‬ ‫دهر‪ ،‬بال‬‫دهر‪ ،‬جاء ٌ‬ ‫مر ٌ‬ ‫دهورا ال انقطاع لها‪ ،‬وال انتهاء لها‪ ،‬كلما ِّ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫وأما ُ‬ ‫ِّ‬
‫العصاة املوحدون الذين يدخلون النار بذنوبهم فإنهم يمكثون في النار دهرا‪ ،‬وقليل‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫منة متفاوتة‪ ،‬ولكن مهما ِّ‬
‫قل‬ ‫النار طويل؛ لشدة عذابها‪ ،‬فيلبث فيها ُعصاة املوحدين أز‬
‫مكثهم فإنه كالدهرالطويل لشدة عذابها‪ِ .‬‬
‫ً ً‬ ‫﴿ال َيذوقو َن فيها َب ً‬
‫ردا َوال َش ً‬
‫رابا﴾‪ :‬ال يذوقون بردا طيبا ُيبرد جلودهم من الظاهر‪ ،‬وال شرابا‬
‫عذاب في ظاهر أبدانهم وفي داخل أجوافهم‪ِ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫طيبا ُيبرد أجوافهم‪ ،‬بل هم في‬
‫قرب من الجلد‬‫ميما﴾‪ :‬وهو املاء الذي اشتد حره وبلغ الغاية في الغليان‪ ،‬إذا ِّ‬ ‫﴿إال َح ً‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫أسقطه‪ ،‬وإذا ش ِر َب قطع ما يمر به من الحلوق واْلجواف واْلمعاء‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َ ً‬
‫قرب من الجلود شققها‪ ،‬وإذا‬ ‫سائال باردا شديد البرودة‪ ،‬بلغ الزمهرير؛ إذا ِّ‬ ‫﴿ َوغساقا﴾‪:‬‬
‫ُ‬
‫دخل إلى اْلجواف قطعها‪ ،‬فال يذوقون إال ما يعذبهم ويزيدهم عذابا‪ِ .‬‬ ‫أ ِ‬
‫زاء﴾‪ :‬جز ًاء ْلعمالهم‪ ،‬وفاقا موافقا لها ال ظلم فيه وال زيادة فيه‪ ،‬بل السيئة بمثلها‬ ‫﴿ج ً‬‫َ‬
‫ٌ‬
‫ومطابق ْلعمالهم‪ِ .‬‬ ‫ٌ‬
‫موافق ْلعمالهم‬ ‫وهذا العذاب‬
‫ومن أعمالهم التي يستحقون بها هذا العذاب‪ :‬أنهم كانوا ال يعتقدون بالبعث‪ ،‬وال يعتقدون‬
‫بالحساب والجزاء‪ ،‬وال باليوم اآلخر وهذا قادهم إلى ترك العمل لذلك اليوم‪ ،‬وكذبوا بآيات‬

‫‪18‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هللا تكذيبا‪ ،‬وهذا يدل على العناد واإلصرار واالستمرار فإنهم كلما جاءتهم آية كذبوا بها‬
‫استكبارا عن الحق ً‬
‫وإباء لقبوله‪ِ .‬‬
‫تابا﴾‪ :‬اإلحصاء هو‪ :‬العد‪ ،‬وقد تضمن معنى الكتابة‪ ،‬فكل ش يء‬ ‫حص ُ‬
‫يناه ك ً‬ ‫﴿ َو ُك َّل َش يء َأ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫إحصاء وكتبناه كتابا‪ ،‬أحصيناه على عامليه‪ ،‬وكتبناه كتابا قبل أن يعملوه‪ ،‬وكتابا‬‫ً‬ ‫أحصيناه‬
‫بعد أن عملوه‪ ،‬أما الكتاب قبل أن يعملوه فهو ما في اللوح املحفوظ‪ ،‬فإن أعمال بني آدم‬
‫كلها مكتوبة في اللوح املحفوظ‪ ،‬وأما بعد أن عملوه فهو كتابة املالئكة ْلعمالهم ال يضيع‬
‫منها ش يء فكل ش يء محص ى في ذلك الكتاب‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َُ ُ‬
‫يخاطب الكفار بخاطبين من أشد ما يكون عليهم‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫﴿فذوقوا﴾‪:‬‬
‫ِّ‬
‫أما الخطاب اْلو ِل‪ :‬فإنه يؤتى باملوت على هيئة كبش فيذبح‪ ،‬ويقال يا أهل النار خلود فال‬
‫موت؛ وهذا يتضمن املوتتين املوتة الصغرى وهي النوم فال نوم لهم في النار يرتاحون به‪،‬‬
‫واملوتة العظمى بخروج الروح فهم خالدون في النار ال يفتر عنهم العذاب وهذا في شأن‬
‫الكفار املنكرين‪ِ .‬‬
‫ُ َّ َ‬ ‫ََ‬ ‫ُ ُ‬
‫وأما الخطاب الثاني‪ :‬فإنه يقال لهم (ذوقوا) ما الشأن‪( ،‬فلن َّن ِز َيدك ْم ِإال َعذ ًابا) يزاد عليهم‬
‫العذاب‪ ،‬فإن أهل النار والعياذ باهلل ال يألفون العذاب فيخف عنهم وال يخفف عنهم‬
‫العذاب‪ ،‬بل ينوع عليهم العذاب أنواعا وأزواجا وأشكاال‪ِّ ،‬‬
‫وتبدل جلودهم فال يخف عليهم‬
‫العذاب باملكث في النار‪ ،‬بل في كل لحظاتهم في النار كأنهم قد دخلوها أول مرة فيقال لهم‪:‬‬
‫في َيأسون من املوت‪ ،‬وييأسون من الخروج‪ ،‬وييأسون من‬ ‫زيد ُكم إ ِّال َع ً‬
‫ذابا﴾ ُ‬ ‫﴿فذوقوا َف َلن َن َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫إلف العذاب‪ ،‬وييأسون من تخفيف العذاب‪ ،‬ولذلك قال جمع من السلف وروي مرفوعا‪:‬‬
‫زيد ُكم إ ِّال َع ً‬
‫ذابا﴾‪ِ .‬‬ ‫﴿فذوقوا َف َلن َن َ‬
‫َ‬
‫أنه ما نزل بأهل النار من الكفار أشد من هذه اآلية‬
‫ِ‬
‫ونقرأ ما ذكره الشيخ ونعلق عليه ‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وتوقد نار جهنم التي أرصدها هللا وأعدها للطاغين‪ ،‬وجعلها مثوى لهم‬
‫ً‬
‫ومآبا‪.‬‬
‫َّ‬
‫﴿ ِإ َّن َج َهن َم﴾‪ :‬جنهم اسم من أسماء النار‪ ،‬وقد قال بعض أهل العلم‪ِّ :‬إنها سميت جهنم‬
‫لبعد قعرها فهي بعيدة القعر فسميت جهنم‪ِ .‬‬

‫‪19‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِّ‬
‫واملعرب في القرآن هو الذي يكون أصله‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هذا من ِّ‬
‫املعرب في القرآن‪،‬‬
‫معرًبا فقال بعض أهل‬ ‫ًّ‬
‫أعجميا ثم يستعمل عند العرب أو يستعمل في القرآن فيصبح ِّ‬
‫العلم‪ :‬إن هذا االسم من ِّ‬
‫املعرب في القرآن‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ َّ َ َ‬
‫كانت م ً‬
‫رصادا﴾ ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ ِإن جهنم‬
‫ص ًادا) أنها مترصدة أهلها‪ِ .‬‬ ‫قال بعض أهل العلم‪( :‬م ْر َ‬
‫ِ‬
‫مكان لحبس املجرمين‪ ،‬املرصاد‪ :‬هو الحبس‪ ،‬فهي‬‫ص ًادا) أي أنها ٌ‬ ‫وقال بعض املفسرين‪( :‬م ْر َ‬
‫ِ‬
‫مكان لحبس املجرمين‪ِ .‬‬
‫مرعليه فمن الناس من يمرعلى‬ ‫ً‬
‫وطريقا البد أن ُي ِّ‬ ‫ص ًادا) أي ًّ‬
‫ممرا‬ ‫وقال بعض املفسرين‪( :‬م ْر َ‬
‫ِ‬
‫الصراط فينجو‪ ،‬ويمر املؤمنون على قدر أعمالهم‪ ،‬ومن الناس من تخطفه الكالليب‬
‫فيكردس في النار والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ ِللطاغين﴾‪ :‬الطاغي يا إخوة هو‪ :‬املتجاوز الحد‪ ،‬يقال‪ :‬طغى أي تجاوز الحد‪ ،‬فيقال‬
‫للشخص إنك قد طغوت أو طغيت في الظلم‪ ،‬فتجاوز َت‪ ،‬لم تظلم فقط‪ ،‬بل تجاوزت‬
‫ِّ‬
‫الحدود‪ ،‬واملقصود بالطاغين هنا‪ :‬من تجاوزوا حدود هللا‪ ،‬فلله حدود من عظمها ووقف‬
‫َّ‬
‫عندها كان من املفلحين‪ ،‬ومن تجاوزها كان من الطاغين‪ِ .‬‬
‫َّ َ‬ ‫﴿إ َّن َج َه َّن َم َك َان ْت م ْر َ‬
‫ص ً‬
‫اغين َم ًآبا ﴿‪ :﴾﴾٢٢‬املآب هو املرجع واملصير واملنزل‪،‬‬‫لط‬
‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫﴾‬ ‫‪٢١‬‬ ‫﴿‬ ‫ا‬‫اد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وهذا وعيد لكل طاغ‪ ،‬أما من طغى بالكفر‪ :‬فإن مآله ً‬
‫يقينا إلى النار‪ ،‬وقد يتمتع بالدنيا‬ ‫ٍ‬
‫شيئا‪ ،‬لكن مصيره ومآله ومآبه إلى النار‪ ،‬وأما من طغى وتجاوز الحد من املوحدين فهو‬ ‫ً‬
‫َّ‬
‫متوعد والعياذ باهلل بأن يكون من أهل النار‪ ،‬هذا معنى للطاغين مآبا‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫والحقب على ما قاله كثير من اْلفسرين‬ ‫قال رحمه هللا‪ :‬وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة‪ِ ،‬‬
‫ثمانون سنة‪.‬‬
‫والح ْقب بإسكان القاف قيل ثمانون‬
‫والح ُقب هو الدهر الطويل‪ُ ،‬‬
‫اْلحقاب‪ :‬جمع ُح ُقب‪ُ ،‬‬

‫سنة‪ ،‬وقيل سبعون سنة‪ ،‬وقيل ثالثون سنة وقيل أكثر من ذلك‪ ،‬واملقصود أنهم يمكثون في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫النار إن كانوا ِّ‬
‫كفا ًرا أزمنة متتابعة ال انقطاع لها وال انتهاء‪ ،‬وإن كانوا من املوحدين فإنهم‬
‫يمكثون فيها أزمنة ويتفاوتون في ذلك ولكن قليل النار طويل‪ ،‬إذا كانت الغمسة في النار‬

‫‪20‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تنس ي صاحبها نعيم الدنيا‪ ،‬فكيف بدخول النار والعياذ باهلل‪ ،‬وإذا كان أقل الناس ً‬
‫عذابا‬
‫ً‬
‫رجال في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه‪ ،‬هو في ضحضاح من النار‪ِ ،‬وفي أخمص‬
‫قدميه جمرتان‪ ،‬من هاتين الجمرتين‪ ،‬يغلي دماغه فكيف بمن يدخل النار والعياذ باهلل ال‬
‫ً‬
‫شك أن قليل النار‪ ،‬زمن طويل عياذا باهلل من عذاب‪ ،‬هللا نعوذ باهلل من جهنم ‪ِ .‬‬
‫حقابا﴾‪ ،‬أنهم يجدد لهم العذاب كل‬ ‫ثين فيها َأ ً‬
‫أحقابا‪﴿ ،‬الب َ‬
‫ً‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى‬
‫ِ‬
‫أحقابا ً‬
‫دهورا بعد دهور ال انقطاع لها وال‬ ‫ً‬ ‫زمن‪ ،‬وال مانع من املعنيين‪ ،‬فهم البثون في جهنم‬
‫انتهاء إن كانوا كفا ًرا‪ ،‬ويجدد لهم العذاب في كل دهر من هذه الدهور‪ ،‬ف ِال يألفون العذاب‬
‫والعياذ باهلل وإنما يجدد لهم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال رحمه هللا ‪ :‬والحقب على ما قاله كثير من اْلفسرين ثمانون سنة‪ ،‬وهم إذا وردوها‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ ُ َ‬
‫﴿ال َيذوقون ِف َيها َب ْر ًدا َوال ش َر ًابا﴾ أي‪ :‬ال ما يبرد جلودهم‪ ،‬وال ما يدفع ظمأهم‪.‬‬

‫طيبا يبرد أجوافهم من‬ ‫نافعا يبرد جلودهم من الظاهر‪ ،‬وال شر ًابا ً‬ ‫بردا ً‬ ‫أي‪ :‬ال يجدون فيها ً‬
‫الداخل هذا معنى كالم الشيخ‪ ،‬وقال بعض املفسرين‪﴿ :‬ال َيذوقو َن فيها َب ً‬
‫ردا﴾ أي ال‬
‫َ ً َ ً‬
‫ميما َوغساقا﴾ قال‬ ‫نوما يرتاحون فيه من العذاب‪ ،‬واالستثناء هنا ﴿ ِإال ح‬ ‫يذوقون فيها ً‬
‫ْلن املستثنى هنا ليس من جنس ما طلبوه‪،‬‬ ‫بعض أهل العلم‪ :‬هو منقطع‪ ،‬استثناء منقطع‪ِ ِّ ،‬‬
‫بردا وشر ًابا فيعطون ما لم يطلبوه‪ِ .‬‬ ‫هم يطلبون ً‬
‫َّ ُ ُ َ‬ ‫ٌ‬
‫ونشر غير مرتب ﴿ال َيذوقون ِف َيها‬ ‫ٌ‬ ‫متصل وفيه لف‬ ‫ٌ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬االستثناء هنا‬
‫َ ً‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫حميما هنا مستثنى من الشراب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َب ْر ًدا َوال ش َر ًابا ﴿‪ِ ﴾٢٤‬إال َح ِم ًيما َوغ َّساقا ﴿‪،﴾﴾٢٥‬‬
‫والشراب في اآلية اْلولى كان الثاني‪ِ ،‬وفي اآلية التي فيها االستثناء‪ :‬املستثنى منه هو اْلول‬
‫ً‬ ‫ولذلك هذا غير مرتب‪ ،‬والغساق مستثنى من البرد‪ ،‬يعني ال يذوقون ً‬
‫بردا إال غساقا‪ ،‬فهذا‬
‫استثناء متصل على هذا القول وفيه لف ونشر غير مرتب‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪21‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يما﴾ أي‪ :‬ماء حارا‪ ،‬يشوي وجوههم‪ ،‬ويقطع أمعاءهم‪،‬‬ ‫قال رحمه هللا‪﴿ :‬إ َّال َحم ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ً‬
‫﴿وغ َّساقا﴾ وهو‪ :‬صديد أهل النار الذي هو في غاية النتن وكراهة اْلذاق‪.‬‬

‫﴿إ َّال َحم ً‬


‫يما﴾‪ :‬قال الشيخ‪ :‬هو املاء الحار أي الذي اشتد حره و بلغ الغاية في الغليان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولذلك إذا قربوه من وجوههم شواها وتساقطت جلودهم‪ ،‬وإذا أدخلوه أي أفواههم قطع‬
‫أمعائهم وأجوافهم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الحميم هو دموع أهل النار تجتمع في أخاديد‪ ،‬فيشتد حرها من‬
‫شدة حر النار‪ ،‬فإذا عطش أهل النار شربوا منها فيجتمع فيها أمران‪ :‬أنها دموع وأنها شديدة‬
‫الحرارة‪ ،‬وال مانع من اْلمرين فال شك أنهم ُيسقون ماء حميما‪ ،‬وال مانع من أنهم أيضا‬
‫يشربون من دموعهم التي تمأل اْلخاديد وقد اشتد حرها‪ِ .‬‬
‫َ ً‬
‫﴿ َوغ َّساقا﴾‪ :‬قال الشيخ هو صديد أهل النار‪ ،‬الصديد الذي يخرج من جروح أهل النار‬
‫ويسيل وال شك أنه ُمنتن‪ ،‬شديد النتانة وهو من غسق الجرح أي سال بالصديد‪ِ .‬‬
‫غساق هو الزمهرير الذي اشتد برده واملقصود أنه شراب قد‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬إن ال ِّ‬
‫َْ‬
‫الغساق صديد أهل النار وقد أنت َن‬
‫اشتد برده‪ ،‬وجمع بعض املفسرين بين اْلمرين فقال‪ِّ :‬‬
‫وأصبح زمهريرا‪ ،‬أصبح شديد البرودة‪ ،‬فيشربونه فتشقق جلودهم إذا قربوه منها ويقطع‬
‫ويشقق أجوافهم لشدة برودته مع ما فيه من كونه صديدا‪ ،‬وكونه ُمنتنا فمادته قبيحة‬
‫ورائحته قبيحة وأثره قبيح‪ ،‬فمادته صديد الجروح‪ ،‬ورائحته ُمنتنة وأثره أنه أصبح شديد‬
‫البرودة يؤثر في الجلود الظاهرة وفي اْلجواف الباطنة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬و إنما استحقوا هذه العقوبات الشنيعة جز ًاء لهم وفاقا على ما‬
‫عملوا من اْلعمال اْلوصلة إليها لم يظلمهم الله و لكن ظلموا أنفسهم‪.‬‬

‫ُ‬
‫فكان الجزاء موافقا للعمل ليس فيه ظ ٌِ‬
‫لم‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾‬
‫ولهذا ذكر أعمالهم‪ ،‬التي استحقوا بها هذا الجزاء‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬
‫أي‪ :‬ال يؤمنون بالبعث‪ ،‬وال أن هللا يجازي الخلق بالخير والشر‪ ،‬فلذلك أهملوا العمل‬
‫لآلخرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾‪ :‬قال بعض أهل العلم‪- :‬كما قال الشيخ‪ -‬إنهم كانوا ال‬ ‫ِ‬
‫يعتقدون بالبعث والجزاء والحساب وهذا قادهم إلى إهمال اْلعمال‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ أنهم كانوا ال يرجون الثواب يوم‬‫وقال بعض املفسرين‪ :‬معنى ِ‬
‫ثوابا‪ ،‬وملاذا قال بعض‬ ‫القيامة‪ ،‬طبعا يا إخوة ْلنهم ُينكرون البعث فما كانوا يرجون ً‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ِّ‬
‫﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾‬
‫املفسرين هذا؟ ْلن الرجاء هو انتظار النافع‪ ،‬فلما قال هللا‪ِ :‬‬
‫ثوابا ْلن الثواب هو النافع‪ ،‬وقال بعض املفسرين‪ :‬معنى اآلية؛‬ ‫قالوا‪ :‬إنهم كانوا ال يرجون ً‬
‫إنهم كانوا ال يخافون الحساب‪ ،‬يا إخوة املعروف أن الرجاء هو انتظار النافع فكيف يفسر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قول هللا عز وجل ﴿ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ بأنهم ال يخافون الحساب؟ والخوف ليس انتظار‬
‫ُْ‬
‫النافع‪ ،‬وإنما الخوف الخوف من املؤلم الضار‪ ،‬قال العلماء‪ :‬الرجاء إذا أث ِب َت فهو انتظار‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ ِال‬
‫النافع إذا أثبت‪ ،‬وإذا نفي انعكس معناه فعندما قال هللا‪ِ :‬‬
‫يرجو ِن‪ :‬نفي الرجاء فأصبح بمعنى الخوف من املؤلم الضار‪ ،‬فكانوا ال يخافون حسابا‪ِ .‬‬

‫َ َّ‬ ‫َ َ َّ‬
‫﴿وكذ ُبوا ِب َآيا ِتنا ِكذ ًابا﴾ أي‪ :‬كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا‪ ،‬وجاءتهم البينات‬
‫فعاندوها‪.‬‬

‫ً‬
‫وهذه اآلية تدل على استمرار تكذيبهم و﴿ ِكذ ًابا﴾ معناها تكذيبا‪ ،‬فهم لم يكذبوا مرة‬
‫ِّ‬
‫واحدة‪ ،‬وإنما كلما جاءتهم آية كذبوا بها‪ ،‬ف ِكذ ًابا‪ :‬يدل على وقوع التكذيب املستمر منهم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َ ْ َ َ َ‬ ‫َُ َ‬
‫ص ْين ُاه ِكت ًابا﴾ أي‪ :‬كتبناه في اللوح‬ ‫﴿وك ُّل ش ْي ٍء﴾ من قليل وكثير‪ ،‬وخير وشر ﴿أح‬
‫اْلحفوظ‪ ،‬فَّل يحسب اْلجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها‪ ،‬وال يحسبوا أنه يضيع‬
‫َُ َ ْ َ ُ ََ‬ ‫ْ‬
‫اب فت َرى‬ ‫من أعمالهم ش يء‪ ،‬أو ُينس ى منها مثقال ذرة‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬وو ِضع ال ِكت‬
‫َ َ ُ ُ َن َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ُ َ ً َ َ ً‬
‫ص ِغ َيرة َوال ك ِب َيرة‬ ‫اب ال يغ ِادر‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫ذ‬‫ه‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫ي‬‫و‬ ‫ا‬‫ي‬ ‫و‬‫ول‬‫ق‬ ‫ي‬‫و‬ ‫يه‬
‫ِ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫م‬‫ْاْلُ ْجرم َين ُم ْش ِف ِق َين م َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫‪23‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫اض ًرا َوال َيظ ِل ُم َرُّب َك أ َح ًدا﴾‪.‬‬
‫ِإال أحصاها ووجدوا ما ع ِملوا ح ِ‬

‫وانتبه هنا فالشيخ هنا يشير إلى ما ذكرناه ِّأن أعمالهم مكتوبة في كتابين‪ ،‬مكتوبة في كتاب‬
‫قبل أن يعملوها‪ ،‬بل قبل أن يخلقوا وذلك في اللوح املحفوظ‪ ،‬ومكتوبة في كتاب عند‬
‫عملهم لها‪ ،‬تكتبها املالئكة في ذلك الكتاب الذي يوضع يوم القيامة‪ ،‬ويؤتى كل إنسان يوم‬
‫القيامة كتابه‪ ،‬فمن الناس من يعطى كتابه بيمينه‪ ،‬ومن الناس من يعطى كتابه بشماله‬
‫من وراء ظهره‪ ،‬فيجتمع عليه اْلمران يعطى كتابه بشماله من وراء ظهره ويجد في كتابه ما‬
‫عمل محضرا ال يغيب منه ش يء‪ِ .‬‬
‫َ َ َ ُ َّ َ‬ ‫َُ ُ‬
‫﴿فذوقوا﴾ أيها اْلكذبون هذا العذاب اْلليم والخزي الدائم ﴿فل ْن ن ِز َيدك ْم ِإال َعذ ًابا﴾‬
‫فكل وقت وحين يزداد عذابهم‪ ،‬وهذه اآلية أشد اآليات في شدة عذاب أهل النار أجارنا‬
‫هللا منها‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿فذوقوا﴾ أصل الذوق يا إخوة‪ ،‬هو الطعام والشراب‪ ،‬ثم يطلق توسعا على كل ما ُي َحس‪،‬‬
‫كل ما يكون بالحواس‪ ،‬فيقال للكفار املكذبين في النار‪ ،‬ذوقوا ألوان العذاب بجميع‬
‫فيذاق‪ ،‬فكل العذاب في النار‬ ‫حواسكم‪ ،‬وحتى العذاب املعنوي في النار‪ ،‬يكون كاملحسوس‪ُ ،‬‬
‫والعياذ باهلل يذوقه أهل النار بحواسهم‪ِ .‬‬
‫﴿ف َلن َن َ‬
‫زيد ُكم إال َع ً‬ ‫َ‬
‫ذابا﴾ فلن يخفف عنكم العذاب‪ ،‬ولن ينقطع عنكم العذاب لحظة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫وإنما أنتم في زيادة العذاب يعني في تجدده وتنوعه‪ ،‬وأن جلودكم كلما نضجت‪ ،‬بدلت‪ ،‬فال‬
‫يخفف عنكم العذاب‪ ،‬وال إلفة لكم للعذاب‪ ،‬وهذا يجعل عذابهم قائما دائما‪ ،‬والعياذ‬
‫باهلل‪ِ .‬‬
‫‪-‬تفسير اْلقطع اْلخير من السورة‪-‬‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬ ‫﴿إ َّن ل ْل ُم َّتق َين َم َفا ًزا ﴿‪َ ﴾٣١‬ح َدائ َق َو َأ ْع َن ًابا ﴿‪َ ﴾٣٢‬و َك َ‬
‫اع َب أت َر ًابا ﴿‪َ ﴾٣٣‬وكأ ًسا ِد َهاقا‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿‪ ﴾٣٤‬ال َي ْس َم ُعون ِف َيها لغ ًوا َوال ِكذ ًابا ﴿‪َ ﴾٣٥‬ج َز ًاء ِمن َّرِب َك َعط ًاء ِح َس ًابا ﴿‪َّ ﴾٣٦‬ر ِب‬
‫الر ُ‬ ‫وم ُّ‬‫الر ْح َمٰـن ۖ َال َي ْمل ُكو َن م ْن ُه خ َط ًابا ﴿‪َ ﴾٣٧‬ي ْو َم َي ُق ُ‬ ‫اْل ْرض َو َما َب ْي َن ُه َما َّ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬
‫وح‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات و ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َٰ‬ ‫ص ًّفا ۖ َّال َي َت َك َّل ُمو َن إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ‬
‫الر ْح َمٰـ ُن َو َق َ‬ ‫َو ْاْلَ ََّلئ َك ُة َ‬
‫ص َو ًابا ﴿‪ ﴾٣٨‬ذ ِل َك ال َي ْو ُم ال َح ُّق ۖ‬ ‫ال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪24‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬


‫ف َمن ش َاء اتخذ ِإل ٰى َرِب ِه َم ًآبا ﴿‪ِ ﴾٣٩‬إنا أنذ ْرناك ْم َعذ ًابا ق ِر ًيبا َي ْو َم َينظ ُر اْل ْر ُء َما ق َّد َمت‬
‫َ َ ُ ُ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬
‫َي َد ُاه َو َيقو ُل الكا ِف ُر َيا ل ْيت ِني كنت ت َر ًابا ﴿‪[ ﴾﴾٤٠‬النبأ‪.]٤٠-٣١ :‬‬
‫ِ‬
‫وأن ربنا سبحانه وتعالى بدأ‬ ‫شقي ومنهم سعيد‪ِّ ،‬‬ ‫الناس في يوم الفصل‪ ،‬منهم ٌ‬ ‫أن ِّ‬ ‫تقدم معنا ِّ ِ‬
‫عز وجل‬‫ْلن الحديث من أول السورة عنهم ومعهم‪ ،‬فبدأ هللا ِّ‬ ‫ببيان حال اْلشقياء الطاغين؛ ِّ‬

‫ببيان حالهم‪ِ .‬‬


‫السعداء في ذلك اليوم؛ فأخبر سبحانه ِّأن للمتقين الذين جعلوا‬
‫عز وجل حال ِّ‬‫ثم ِّبين هللا ِّ‬
‫ِّ‬
‫حاجزا ووقاية‪ ،‬حيث آمنوا باهلل ًبا فاتقوه‪ ،‬وآمنوا ِّ‬
‫بأن هناك ً‬
‫يوما‬ ‫ً‬ ‫بينهم وبين عذاب هللا‬
‫ر‬
‫يرجعون فيه إلى هللا سبحانه وتعالى فاتقوه‪ ،‬وآمنوا بعذاب هللا سبحانه وتعالى فاتقوه بفعل‬
‫الواجبات ما استطاعوا وترك املحرمات واإلكثار من املستحبات والتنزه عن املكروهات مع‬
‫التوبة ومالزمة االستغفار‪ ،‬فجعلوا بذلك بينهم وبين عذاب هللا وقاية‪ِ .‬‬
‫عز وجل ِّأن لهم الفوز العظيم الكبير الكريم‪ ،‬وذلك بحصول أعلى املرغوبات‪،‬‬
‫أخبر هللا ِّ‬
‫َ‬ ‫واندفاع أكبر املكروهات؛ بدخولهم ِّ‬
‫الجنة وبسالمتهم من عذاب ربهم سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ف َمن‬
‫ْ َ َ َ‬ ‫ُ ْ َ َ َّ ُ‬
‫الن ِار َوِأ ْد ِخ َل ال َج َّنة ف َق ْد ف َاز﴾ [آل عمران‪ِ .]١٨٥ :‬‬ ‫زح ِزح ع ِن‬
‫أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب‬ ‫عين رأت‪ ،‬وال ٌ‬
‫والجنة مكان الفوز العظيم‪ ،‬فيها ما ال ٌ‬ ‫ِّ‬
‫ٌ‬
‫ضوان من هللا أكبر‪ ،‬وفيها الزيادة العظمى‬ ‫ضوان من هللا ال سخط بعده ور‬ ‫البشر‪ ،‬وفيها ر ٌ‬
‫والنعمة الكبرى بالنظر إلى وجه الكريم سبحانه وتعالى‪ ،‬فكانت تقواهم ً‬
‫سببا لنيلهم هذا‬ ‫ِّ‬
‫املفاز العظيم بفضل هللا ِّ‬‫َ‬
‫عز وجل‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ْلشجار كثيرة طيبة الثمار ال‬
‫ٍ‬ ‫جامعة‬ ‫كثيرة‬ ‫مكان الفوز بساتين‬
‫ولهم في هذا املكان‪ ،‬في ِ‬
‫ِّ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مسورة ْلصحابها‬ ‫وقت وال ممنوعة؛ بل هي قريبة دانية‪ ،‬وتلكم البساتين‬
‫مقطوعة في ٍ‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫ومحاطة‪ ،‬بحيث يختص بها أصحابها ال يشاركهم غيرهم فيها‪ ،‬ولهم كروم العنب‪ ،‬وقد‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫خصت اْلعناب مع ِّأنها من البساتين‪ ،‬لشرف العنب وعظيم اللذة بالكروم‪ ،‬فالتمتع بكروم‬
‫العنب أعظم‪ ،‬وثمار العنب أطيب وأكرم‪ِ .‬‬

‫‪25‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل ُخصت اْلعناب ِّ‬


‫ْلن لهم زيادة على تلك البساتين هي كروم‬
‫محوطة وأحدقت بها الحيطان‪ ،‬ولهم فوق هذا كروم‬ ‫العنب؛ فألصحاب ِّ‬
‫الجنة بساتين ِّ‬
‫العنب يتمتعون بها ويتنزهون فيها؛ فهي لهم متنزه‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫ولهم في هذا املفاز ٌ‬
‫أزواج مطهرة حسان‪ ،‬فيهن من الجمال ما ال يمكن وصفه‪ ،‬ومن الحسن‬
‫زوجات كواعب قد نهدت أفدائهن واشتدت‬ ‫ٌ‬ ‫ما ال يدرك إال بالنظر إليه والتمتع به‪ ،‬فلهم‬
‫ً‬
‫واستدارت‪ ،‬فليست مائلة متدلية‪ ،‬وذلك لشبابهن ونضارتهن وجمالهن‪ ،‬ومع ذلك فهن‬
‫ً‬
‫سواء‬ ‫الجنة في سن الثالثة والثالثين‪،‬‬ ‫سن واحدة‪ ،‬جميع النساء في ِّ‬ ‫سن متقاربة أو ِّ‬ ‫اب في ِّ‬‫أتر ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جميعا يصرن في هذا السن‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فإنهن‬ ‫من كن من نساء الدنيا املؤمنات الالتي يدخلن ِّ‬
‫الجنة؛ ِّ‬
‫وسلم‪(( :‬ال يدخل ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الجنة عجو ِز))‪ِ .‬‬ ‫ولذلك قال النبي صلى هللا عليه‬
‫الجنة كلهن في ِّ‬ ‫للرجال في ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫سن متقاربة أو‬ ‫ٍ‬ ‫وكذلك الحور العين‪ ،‬التي خلقهن هللا عز وجل ِ‬
‫السن الذي هو في غاية النضارة والشباب‪ِ .‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫سن واحدة‪ ،‬في هذا ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خمر‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ومع هذه املتعة وهذا النعيم‪ ،‬فإن لهم شرابا طيبا مباركا باردا صافيا‪ ،‬لهم شراب من ٍ‬
‫وعسل مصفى‪ ،‬ولهم‬‫ٍ‬ ‫ولبن رائق الطعم‪،‬‬ ‫عذب غير متغير بار ٍد سائغ‪ٍ ،‬‬ ‫وماء ٍ‬ ‫لذة للشاربين‪ٍ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫كؤوس من الشراب ممتلئة مترعة صافية‪ ،‬وهذه الكؤوس من كل هذا الشراب الذي‬
‫ذكرناه‪ِ .‬‬
‫خمر خاصة‪ ،‬يتمتعون بهذا الشراب ويلتذون به‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل هي من ال ِ‬
‫الجنة التي هي مكان الفوز مع ما فيها من هذا ِّ‬
‫النعيم من املطعومات‪ ،‬واملشروبات‪،‬‬ ‫وهذه ِّ‬
‫والزوجات الجميالت‪ِّ ،‬‬
‫فإن فيها طيب العشرة بين أهلها‪ ،‬وال يطيب املكان إال بطيب العشرة‬
‫بين أهله‪ِ .‬‬
‫سرر متقابلين‪ ،‬ومن‬
‫فأهلها ال حقد في قلوبهم‪ ،‬وال حسد في قلوبهم‪ ،‬بل جميعهم إخوان على ٍ‬
‫ً‬ ‫طيب عشرتهم ِّأنهم ال يقولون إال الكالم الطيب‪ ،‬فأهل ِّ‬
‫الجنة ال يسمعون فيها ً‬
‫كالما باطال‬
‫يكذب بعضهم ً‬ ‫ِّ‬
‫بعضا بل إذا تكلم أحدهم تكلم بالخير الطيب‪ ،‬وإذا‬ ‫يؤذي أسماعهم‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬ ‫سمعه إخوانه صدقوه ولم يكذبوه‪ ،‬وذلك ِّ‬
‫النعيم الذي أكرمهم هللا ِّ‬
‫عز وجل به إنما هو ملا‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫أسلفوه من اْلعمال الصالحة في الدنيا‪ ،‬وهو ليس جز ًاء وفاقا كجزاء الطاغين وإنما هو‬

‫‪26‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫ويجازون في ِّ‬


‫َّ‬ ‫عطاء من هللا بفضله؛ فهم يدخلون ِّ‬
‫ٌ‬
‫الجنة بأعمالهم فضال‬ ‫الجنة برحمة هللا‬
‫من هللا الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعة مائة ضعف وهللا يضاعف ملن يشاء‪ِ .‬‬
‫حساب يكفيهم ويقنعون به وتقر به أعينهم‪ ،‬فال منغص في ِّ‬
‫الجنة‬ ‫ٌ‬ ‫وذلك العطاء من هللا‬
‫الجنة في الكمال‪ ،‬وال ينغص نعيم أهل ِّ‬‫الناس في ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وإنما يتفاضل ِّ‬
‫الجنة ش يء‪ ،‬وذلكم الجزاء‬
‫ِّ‬
‫كاف لهم إنما هو من الرب الكريم القوي املتين‪ ،‬الذي ُيدبر ال ِّسموات‬ ‫الذي هو ٌ‬
‫عطاء ٍ‬
‫واْلرض وما بينهما ويربيها بالنعم‪ ،‬وهو سبحانه الرحمن الذي وسعت رحمته في الدنيا كل‬
‫وأما في اْلخرة فال ينال رحمته إال املوحدون؛ ِّأما الكفار فال نصيب لهم من الرحمة‪ِ .‬‬
‫ش يء‪ِّ ،‬‬
‫واملوحدون يوم القيامة لهم الرحمات العظمى‪ ،‬فيرحمهم هللا ِّ‬
‫عز وجل بالرحمة التي هي‬
‫عز وجل خلق‬ ‫صفته سبحانه وتعالى‪ ،‬وفوق هذا يخلق لهم حمات يرحمهم بها‪ِّ ،‬‬
‫فإن هللا ِّ‬ ‫ر‬
‫جزء وأنزل ً‬
‫جزءا منها في الدنيا فبهذا الجزء تتراحم الخالئق‪،‬‬ ‫الرحمة املخلوقة وجعلها مائة ٍ‬
‫ً‬
‫وأمسك تسعة وتسعين جزء‪ ،‬يرحم بها عباده املوحدين يوم القيامة؛ بل ِّإنها تكون يوم‬
‫ْلن الجزء التي ُأنزل في الدنيا ُ‬
‫يعود يوم القيامة إلى اْلجزاء التسعة‬ ‫القيامة مائة جزء ِّ‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫والتسعين فتصبح مائة‪ ،‬وتلكم الرحمة كما قلنا يوم القيامة ال تكون إال للموحدين‪ِ .‬‬
‫وفي ذلكم املوقف العظيم في يوم الفصل ال يقدر ٌ‬
‫أحد على مخاطبة هللا ِّ‬
‫عز وجل ال‬
‫بالسؤال وال بغير ذلك إال بإذنه سبحانه وتعالى‪ ،‬حيث يقوم جبريل عليه‬
‫ِ‬ ‫بالشفاعة وال‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫تهاويل‬ ‫ِّ‬
‫السالم على هيئته التي خلقه هللا عليها له ستمائة جناح‪ ،‬ويسقط من جناحه‬
‫وعجائب الدر والياقوت‪ ،‬وتقوم معه بقية املالئكة الذين هم ٌ‬
‫خلق كثير ال ُيحص ي عددهم‬
‫صفوف متراصة ُيتمون الصف اْلول فاْلول‪ ،‬يجتمعون‬
‫ٍ‬ ‫إال هللا سبحانه وتعالى؛ يقومون في‬
‫ً‬
‫في ذلك اليوم العظيم املهيب صفوفا متراصين خاشعين هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وهم في ذلك‬
‫أيضا ال يستطيعون الكالم؛ بل تخشع اْلصوات فال ُيسمع إال الهمس وال‬‫املقام وبنو أدم ً‬
‫يتكلم أحد إال من أذن هللا له‪ ،‬واملقصود بالكالم هنا الشفاعة ال يتكلم ٌ‬
‫أحد بالشفاعة إال‬
‫من أذن هللا له وقال صوابا؛ بأن أثنى على هللا سبحانه وتعالى وكان قبل ذلك من القائلين‬
‫بالصواب أعني ‪-‬ال إله إال هللا‪ ،-‬فال يشفع يوم القيامة إال موحد وال ُيشفع يوم القيامة إال‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ملوحد؛ إال الشفاعة املستثناة التي يشفعها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أو يشفع بها‬

‫‪27‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬


‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بإذن هللا لعمه أبي طالب ُليخفف عنه العذاب ال ُليخرج‬
‫من ِّ‬
‫النار‪ِ .‬‬
‫شك في ذلك فمن شاء منكم‬ ‫ً‬
‫وذلك اليوم الذي هو يوم الفصل هو الكائن املتحقق يقينا بال ٍ‬
‫ً‬
‫ومنزال ً‬
‫كريما يوم القيامة ولن‬ ‫مرجعا حس ًنا‬
‫ً‬ ‫يا بني آدم فليتخذ في الدنيا بالعمل الصالح‬
‫أحد ً‬
‫شيئا إال أن يشاء هللا رب العاملين‪ِ .‬‬ ‫يشاء ٌ‬

‫مرجع إلى هللا‪ ،‬وقد لفت بعض‬‫ٌ‬ ‫مآبا وهذا املآب‬‫فاملؤمن معاشر الفضالء يتخذ لنفسه ً‬
‫رجع العمل الصالح إلى هللا‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫لفتة عظيمة كريمة وهي أن املؤمن في الدنيا ي ِ‬ ‫العلماء النظر إلى ٍ‬
‫الصالح أرجعه إلى هللا ِّ‬‫وإنما إذا عمل العمل ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عز وجل وقال‪:‬‬ ‫فال يغتر بعمله وال يمتن بعمله‪،‬‬
‫لوال هللا ما فعلت كذا لوال هللا ما صليت‪ ،‬لوال هللا ما صمت‪ ،‬لوال هللا ما تصدقت‪ ،‬لوال ما‬
‫عز وجل؛ ِّ‬ ‫ً‬
‫عبادة هلل ِّ‬ ‫ً‬ ‫بررت بأبو َّي؛ فيزداد ً‬
‫ثم يرجع بهذا‬ ‫تواضعا هلل‪ ،‬ويزداد‬ ‫شكرا ويزداد‬
‫الصالح إلى ربه يوم القيامة كما أرجعه إلى ربه في الدنيا فيكون له ُحسن املآب عند‬
‫العمل ِّ‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِّ ِّ‬
‫علمنا وأنذرنا ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وخوفنا من ذلك اليوم من يوم الفصل وما فيه‬ ‫ثم ختم هللا اآليات ببيان أنه‬
‫ِّ‬ ‫من اْلهوال‪ ،‬وذلكم اليوم ٌ‬
‫منتظر قريب‪ ،‬يوم ينظر املرء املؤمن‬
‫ٍ‬ ‫وكل‬ ‫منتظر‬ ‫ه‬ ‫ْلن‬ ‫يوم قريب؛‬
‫ما قدمت يداه فهو يرجو رحمة هللا في ذلك اليوم بسبب ما قدمه من توحيد‪ ،‬ويخاف من‬
‫عاقبة ذنوبه فهو يوم القيامة ينظر ما قدمت يداه ر ً‬
‫جاء وخوفا‪ ،‬إذا تذكر توحيده وأعماله‬
‫عز وجل رجا ما عند هللا‪ ،‬وإذا تذكر ذنوبه وإسرافه على نفسه‬ ‫الصالحة وسعة رحمة هللا ِّ‬
‫ِّ‬
‫فإنه ٌ‬
‫يائس من رحمة هللا وال ينتظر إال عذاب هللا‪ ،‬ولذلك‬ ‫خاف من عذاب هللا‪ِّ ،‬أما الكافر‬
‫عز وجل‬‫ثم قال هللا ِّ‬
‫اقتص لبعضها من بعض ِّ‬ ‫يقول يا ليتني كنت ترابا‪ ،‬إذا أى البهائم قد ُ‬
‫ر‬
‫لها كوني تر ًابا قال‪ :‬يا ليتني كنت كالبهائم أصير ترابا‪ ،‬الكافر في الدنيا كاْلنعام بل هو أضل‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫فإذا جاء يوم القيامة تمنى أن يكون كالبهائم ويصير ترابا‪ ،‬أو أنه يتمنى أنه لو لم يخلق أصال‬
‫عز وجل حذرنا وأنذرنا وأعلمنا ودلنا‬‫ْلن أصل خلقة اإلنسان من التراب‪ ،‬فاهلل ِّ‬ ‫فبقي تر ًابا؛ ِّ‬
‫ِ‬
‫فال يهلك على هللا إال هالك‪ِ .‬‬
‫عز وجل أن يجعلنا من السعداء في الدنيا واآلخرة‪ِ .‬‬ ‫نعوذ باهلل من سوء الحال ونسأل هللا ِّ‬

‫‪28‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تفسير ونعلق عليه‪ِ .‬‬


‫ٍ‬ ‫ونقرأ ما ذكره الشيخ من‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن السعدي رحمه هللا رحمة واسعة وغفر له ولشيخنا والسامعين‪:‬‬
‫ْ َّ َ َ‬
‫﴿إ َّن ِلل ُمت ِقين َمفا ًزا﴾ أي‪ :‬الذين اتقوا‬
‫ْلا ذكر حال اْلجرمين ذكر مآل اْلتقين فقال‪ِ :‬‬
‫سخط بهم بالتمسك بطاعته واالنكفاف عن معصيته؛ فلهم ٌ‬
‫مفاز ومنجى ٌ‬
‫وبعد عن‬ ‫ر‬
‫النار‪.‬‬
‫ِ‬
‫اْلفاز أصله الفوز العظيم والفوز الكبير بحصول املرغوب واندفاع املكروه‪ ،‬تقولِ‪ :‬فزت إذا‬
‫ظفرت بما ترغب فيه أو اندفع عنك ما تخاف منه‪ِ .‬‬
‫فاملفاز هنا قال بعض أهل العلم‪ :‬هو الف ِوز بأعظم مرغوب ِّ‬
‫والسالمة من أعظم مخوف‪،‬‬
‫وذلك بالسالمة من عذاب هللا وبدخول ِّ‬
‫الجنة‪ِ .‬‬
‫الجنة وعلى هذا القول يكون املعنى‪ِّ :‬إنِ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬املفاز هو مكان الفوز وهو ِّ‬

‫ات‪ ،‬وهذا كغالب اختالف املفسرين من باب اختالف التنوع ال من باب اختالف‬ ‫ِّ‬
‫للمتقين جن ٍ‬
‫والسالمة من أعظم املخوفات‪ ،‬وهو مكان الفوز‬ ‫التضاد‪ ،‬فاملفاز هو الفوز بأعلى املرغوبات ِّ‬
‫وهو ِّ‬
‫الجنة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال‪ :‬وفي ذلك اْلفاز لهم حدائق وهي البساتين الجامعة ْلصناف اْلشجار الزاهية بالثمار‬
‫التي تتفجر بين خَّللها اْلنهار‪ ،‬وخص العنب لشرفه وكثرته في تلك الحدائق‪.‬‬

‫َ َ‬ ‫ْ َّ َ َ‬
‫﴿ ِإ َّن ِلل ُمت ِقين َمفا ًزا (‪َ )٣١‬ح َدا ِئ َق َوأ ْعن ًابا﴾‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫حدائق‪ :‬يقول العلماء هذا بدل اشتمال يعني‪ :‬أن املفاز وهو الجنة مشتمل على ٍ‬
‫نعيم عظيم‬
‫منه هذا املذكور حدائق‪ِ .‬‬

‫‪29‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫والحدائق كما قال الشيخ‪ :‬هي البساتين الكبيرة الجامعة ْلصناف اْلشجار املثمرة‪ ،‬وال‬
‫ِّ ً‬ ‫ً‬
‫محوطا أي‪ :‬أحدقت به الحيطان‪ ،‬وسبب ذلك ِّأن املؤمن‬ ‫حديقة إال إذا كان‬
‫ِ‬ ‫ُيسمى البستان‬
‫يختص بهذا ِّ‬
‫النعيم فيكون البستان له ال يشاركه فيه غيره‪ِ .‬‬ ‫ِّ‬ ‫في ِّ‬
‫الجنة‬
‫ً‬
‫وأعنابا‪ ،‬كما قلنا املقصود باْلعناب‪ :‬الكروم‪ ،‬كروم العنب التي يقوم فيها العنب‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫قال بعض أهل العلم‪ :‬الكروم في داخل الحدائق هي ِنوع ِّ‬
‫مما في الحدائق وخص لشرفه؛‬
‫فإنك إذا دخلت ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ْلن كروم العنب ِّ‬
‫مكانا‬ ‫مما يشرح الصدر‪ ،‬وهذا يدركه اإلنسان في الدنيا‬
‫فخ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ثمر ِّ‬
‫وْلن العنب ٌ‬‫تتنعم بهذا املنظر‪ِّ ،‬‬
‫فيه عرائش العنب وكروم العنب ِّ‬
‫ص بهذا‪ِ .‬‬ ‫طيب‪،‬‬
‫فإنهم يعطون الحدائق وزيادة‪،‬‬ ‫يادة على الحدائق ِِّ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل هذا ٌ‬
‫خبر عن ز ٍ‬
‫ما هي الزيادة؟ هي كروم العنب ِّ‬
‫يتنزهون فيها‪ ،‬يخرجون فيها للنزهة‪ ،‬ويتمتعون َبم ْرءاها‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫زوجات على مطالب النفوس‪.‬‬ ‫قال‪ :‬ولهم فيها‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫اع َب﴾؛ وهي النواهد الَّلتي لم تتكسر ثدويهن من شبابهن وقواتهن ونضارتهن‪.‬‬
‫﴿كو ِ‬

‫ِّ‬
‫وأصل الكلمة‪ :‬كاعب من اإلستدارة يعني ِّأن أثدائهن قد استدارت واشتدت فليست متهدلة‬
‫وال صغيرة؛ بل استدارت واشتدت وذلك للشباب والنضارة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫واحد متقارب‪ ،‬ومن عادة اْلتراب أن يكن متآلفات‬
‫ٍ‬ ‫سن‬
‫قال‪ :‬واْلتراب الَّلتي على ٍ‬
‫متعاشرات‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬


‫عظيمة للزوج؛ ِّ‬
‫فإنهن ِّ‬ ‫ٌ‬
‫تفاوت‪ ،‬وهذا من‬ ‫يكن متآلفات ليس بينهن غيرة ِوال‬ ‫وفي هذا متعة‬
‫النعيم الذي ينعم هللا به على اْلزواج في ِّ‬
‫الجنة‪ِ .‬‬ ‫ِّ‬

‫ِ‬
‫قال‪ :‬وذلك السن الذي هن فيه ثَّلث وثَّلثون سنة أعدل ما يكون من الشباب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ََْ‬
‫﴿وكأ ًسا ِد َهاقا﴾؛ أي‪ :‬مملوءة من رحيق لذة للشاربين‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ‬
‫َْ‬
‫﴿ َوكأ ًسا﴾ ِ‬
‫ً‬ ‫قال بعض أهل العلم‪ :‬وال يسمى اإلناء ً‬
‫ممتأل‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫كأسا إال إذا كان‬
‫متابع ال ينقطع صاف‪ ،‬وهل هذا من كل الشراب الذي في ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫الجنة‬ ‫ٍ‬ ‫ممتلئ ٌ‬‫ٌ‬ ‫﴿ ِد َهاقا﴾؛ يعني أنه‬
‫ٌ‬
‫خاص بالخمر؟ ِ‬ ‫أم هو‬
‫ِّ‬
‫ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من كل الشراب‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫مملوءة ً‬ ‫ْلن الكأس تسمى ً‬ ‫وذهب بعض اْلفسرين إلى ِّأنه من الخمر؛ ِّ‬
‫خمرا‪ِ .‬‬ ‫كأسا إذا كانت‬
‫ِ‬
‫﴿ال َي ْس َم ُعو َن ف َيها َل ْغ ًوا﴾؛ أي‪ً :‬‬
‫كَّلما ال فائدة فيه‪.‬‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫ال يسمعون فيها باطال يؤذي اْلسماع‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َ َ َّ‬
‫﴿وال ِكذ ًابا﴾؛ أي‪ :‬إثما‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫هذا ما فسر به بعض العلماء الكذاب‪ ،‬قالوا‪﴿ :‬ال َي ْس َم ُعون ِف َيها لغ ًوا﴾؛ أي‪ :‬باطال‪َ ﴿ ،‬وال‬
‫ِك َّذ ًابا﴾؛ أي‪ :‬ال يسمعون ً‬
‫إثما‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬ال يكذب بعضهم ً‬
‫بعضا فهم ال يسمعون باطال وال ُيكذبون في‬
‫خيرا‪ ،‬وإن تكلموا تكلموا بصدق ِّ‬
‫وصدقهم إخوانهم‪ ،‬فال ُيكذبون‬ ‫قولهم‪ ،‬إن سمعوا سمعوا ً‬
‫ٍ‬
‫كالمهم وال يشككون فيه‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫﴿ال َي ْس َم ُعو َن ف َيها﴾‪ :‬الضمير يعود إلى ماذا؟ قال بعض املفسرين‪ :‬يعود إلى ا ِّ‬
‫لجنة‪ ،‬أي‪ِ :‬ال‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫باطال وال ُيكذب بعضهم ً‬ ‫يسمعون في ِّ‬
‫بعضا‪ِ .‬‬ ‫الجنة‬
‫فإنهم ال يسمعون في مجالس شرب‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬يعود إلى مجالس شرب الخمر‪ِّ ،‬‬
‫بعضا‪ ،‬ملاذا؟ ِّ‬
‫شتما وال يكذب بعضهم ً‬
‫سبا وال ً‬ ‫ً‬
‫باطال وال ً‬ ‫الخمر في ِّ‬
‫ْلن املعتاد في الدنيا‬ ‫الجنة‬
‫ِّ‬
‫وكالم فاحش‪ ،‬ويعتدي بعضهم‬ ‫أن مجالس شرب الخمر تكونِ مجالس لغو وسب وشتم‪ٍ ،‬‬
‫‪31‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬ ‫ْلن الخمر في ِّ‬ ‫الجنة؛ ِّ‬


‫على بعض باْللسنة وباْليدي‪ ،‬ولكن هذا ال يكون في ِّ‬
‫الجنة متعة فقط‬
‫للناس وفيها ٌ‬
‫إثم كبير عظيم‪ ،‬وإثمها أكبر‬ ‫منافع ال مفاسد فيها؛ الخمر في الدنيا فيها منافع ِّ‬
‫ِّ‬
‫من نفعها‪ِّ ،‬أما في اآلخرة فليس فيها إال املنفعة‪ ،‬ليس فيها إال اللذة فال تذهب العقول وال‬
‫لغوا وال‬ ‫شرا‪ ،‬وهذا كما قلنا من باب اختالف التنوع فهم ال يسمعون في ِّ‬
‫الجنة ً‬ ‫تسبب ً‬
‫لغوا وال ً‬
‫كذابا‪ ،‬جعلني هللا‬ ‫فإنهم ال يسمعون فيها ً‬ ‫كذابا‪ ،‬ومن ذلك مجالس شرب الخمر ِّ‬ ‫ً‬
‫وإياكم ووالديكم ومن نحب منهم‪ِ .‬‬

‫َ‬ ‫َّ ً َ‬ ‫﴿ال َي ْس َم ُعو َن ِف َيها َل ْغ ًوا َوَال َت ْأ ِث ً‬


‫يما (‪ِ )٢٥‬إال ِقيَّل َسَّل ًما َسَّل ًما (‪﴾)٢٦‬؛‬
‫َ‬
‫كما قال تعالى‪:‬‬
‫وإنما أعطاهم هللا هذا الثواب الجزيل من فضله وإحسانه‪.‬‬
‫﴿ع َط ًاء ح َس ًابا﴾؛ أي‪ :‬بسبب أعمالهم التي وفقهم هللا لها‪ ،‬وجعلها ً‬
‫سببا للوصول إلى‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫كرامته‪.‬‬
‫ِ‬
‫جزاء‪ ،‬أي‪ :‬مجاز ًاة على ما أسلفوا من اْلعمال ِّ‬
‫الصالحة‪ِ .‬‬ ‫هذا معنى ً‬
‫سببا لنيل فضل هللا فلن يدخل ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫أحد‬ ‫وإنما كان عملهم ً‬ ‫َعط ًاء‪ ،‬أي‪ :‬بفضل هللا ال بعملهم‪،‬‬
‫وإنما دخول ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الجنة بفضل هللا سبحانه‬ ‫الجنة بعمله حتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫عطاء أي‪ :‬ذلك بفضل هللا‬
‫ً‬
‫اة على أعمالهم التي أسلفوها في الدنيا‪،‬‬ ‫ًإذا‪ً ،‬‬
‫جزاء يعني مجاز ِ‬
‫فأعمالهم ٌ‬
‫سبب لنيلهم فضل هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫﴿ ِح َس ًابا﴾ ِ‬
‫الجنة بحسب أعمالهم في الدنيا؛ ِّ‬
‫فالناس‬ ‫حسابا أي‪ِّ :‬أن د جاته في ِّ‬
‫ً‬ ‫قال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫ر‬
‫يدخلون ِّ‬
‫الجنة بفضل هللا ويتفاضلون فيها بحسب أعمالهم فالدخول بفضل هللا والدرجات‬
‫بحسب اْلعمال‪ ،‬واْلعمال يجازي هللا عليها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف وهللا‬
‫يضاعف ملن يشاء‪ِ .‬‬

‫‪32‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿ح َس ًابا﴾ ِ‬
‫ِ‬
‫قال بعض أهل العلم‪ :‬معناه كفاية كما تقول هللا حسبي أي‪ :‬هللا يكفيني‪ ،‬إذا اعتدى‬
‫ً ِّ‬
‫حسابا أنه يكفيهم وتقر به‬ ‫عليك أحد قلت حسبي هللا يعني يكفيني هللا شرك‪ ،‬فمعني‬
‫الجنة درجات لكن الذي في الدرجة‬ ‫نقصا‪ ،‬وإن كانت ِّ‬‫أعينهم فال يري أحدهم ِّأن في نعيمه ً‬
‫ُ ً‬ ‫ِّ‬ ‫اْلدون يكفيه ما أعطاه هللا من ِّ‬
‫النعيم وتقر عينه به‪ ،‬وال ينغص عليه نعيمه أنه يرى غرفا‬
‫من بعيد‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫تفاضل في الكمال ال يستلزم ً‬
‫نقصا‪ِ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫إذا هذه مسألة جيد أن نفقهها‪ ،‬التفاضل في الج ِّنة‬
‫ض﴾؛ لكن هذا‬ ‫ْ َ ُّ ُ ُ َ َّ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ٰ َ ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مثال‪ :‬اْلنبياء يفضل بعضهم بعضا‪ِ ﴿ :‬تلك الرسل فضلنا بعضهم على بع ٍ‬ ‫ِ‬
‫أبدا‪ ،‬ولذلك يقول العلماء التفضيل بين‬ ‫نقصا في رسول ً‬
‫التفاضل في الكمال ال يستلزم ً‬
‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫اْلنبياء إن استلزم ً‬
‫نقصا كان حر ًاما‪ ،‬إذا قلت محمد صلى هللا عليه وسلم أفضل من‬
‫السالم هذا حرام‪ِّ ،‬أما التفضيل‬ ‫تنقص موس ي عليه ً‬ ‫السالم وأنت تريد بهذا ُ‬
‫موس ي عليه ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫بينهم في درجات الكمال فهذا جائز فتقول محمد صلى هللا عليه وسلم خير اْلنبياء والرسل؛‬
‫ِّ‬
‫الجنة يتفاضلون في درجات في الكمال ولكن‬ ‫نعم وهللا إنه خير اْلنبياء والرسل‪ ،‬كذلك أهل ِِّ‬
‫كل واحد منهم قد أعطي ما يكفيه وتقر به عينه‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك وأقل من في ِّ‬
‫الجنة‬ ‫ٍ‬
‫له مثل الدنيا ومثلها ومثلها ومثلها ومثلها‪ ،‬وهذا كما قلت مرا ًرا من باب اختالف التنوع؛‬
‫ً‬
‫حسابا‪ِ .‬‬ ‫فكل هذه املعاني صحيحة لكلمة‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ض﴾؛ أي‪ :‬الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم؛ رب السموات‬
‫ات واْلر ِ‬‫﴿ َّر ِب السماو ِ‬
‫واْلرض الذي خلقها ودبرها‪.‬‬
‫ورباها ِّ‬
‫بالنعم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫الرحمن الذي رحمته وسعت كل ش يء‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وأما اآلخرة فالرحمة ِّإنما هي للموحدين‪ِّ ،‬‬


‫وأما الكفار فليس لهم إال العذاب‬ ‫في الدنيا‪ِّ ،‬‬
‫والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫فرباهم ورحمهم ولطف بهم حتى أدركوا ما أدركوا‪ ،‬ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم‬
‫القيامة وأن جميع الخلق كلهم ساكتون ذلك اليوم ال يتكلمون‪.‬‬
‫ِ‬
‫فال ُيسمع إال الهمس من خوف الخليقة من هللا ومن خشوعهم ورهبتهم من ربهم سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ص َو ًابا﴾؛ فَّل يتكلم‬ ‫خطابا‪﴿ .‬إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ‬
‫الر ْح َٰم ُن َو َق َ‬
‫ال َ‬ ‫ً‬ ‫ال يتكلمون وال يملكون منه‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫صوابا‪.‬‬ ‫أحد إال بهاذين الشرطين‪ :‬أن يأذن هللا له في الكَّلم وأن يكون ما تكلم به‬ ‫ٌ‬

‫ِ‬
‫وقلنا ِّإن هذا الثاني أعني الكالم الثاني‪َّ ﴿ :‬ال َي َت َك َّل ُمو َن إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ‬
‫الر ْح َٰم ُن َو َق َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫ص َو ًابا﴾؛ هذا في الشفاعة‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫َ‬
‫يعني في قول ربنا سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ال َي ْم ِلكون ِمن ُه ِخط ًابا﴾ هذا في كل الكالم إال بإذنه‪ِ .‬‬
‫ص َو ًابا﴾؛ هذا في الشفاعة فال‬ ‫ال َ‬ ‫الر ْح َٰم ُن َو َق َ‬‫ِّأما في قول هللا‪َّ ﴿ :‬ال َي َت َك َّل ُمو َن إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ‬
‫ِ‬
‫صوابا في شفاعته وكان قد قال‬ ‫ً‬ ‫أحد إال من أذن له هللا سبحانه وتعالى وقال‬ ‫يشفع ٌ‬
‫شف ُع إال موحد وال ُي َ‬ ‫الصواب بالتوحيد قبل ذلك‪ ،‬فكما قلنا ال َي َ‬
‫شف ُع إال ملوحد‪ ،‬فالشفاعة‬
‫ِّ‬ ‫ليس للكفار فيها نصيب ال يشفعون وال ُي َ‬
‫شف ُع فيهم إال الشفاعة املستثناة لرسول هللا صلى‬
‫ِّ‬
‫هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ْلن ذلك اليوم هو الحق الذي ال يروج فيه الباطل وال ينفع فيه الكذب‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ذلك اليوم هو الحق أي‪ :‬املتحقق الواقع ً‬


‫يقينا ال شك في ذلك وليس فيه إال الحق؛ فذلك‬
‫اليوم هو الحق املتحقق الواقع ً‬
‫يقينا وال يكون فيه إال الحق والعدل أو الفضل للمؤمنين‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال‪ :‬الذي ال يروج فيه الباطل وال ينفع فيه الكذب‪ ،‬وفي ذلك اليوم يقوم الروح وهو‬
‫جبريل عليه السَّلم الذي هو أفضل اْلَّلئكة‪.‬‬

‫ٌ‬
‫اختلف العلماء في املراد بالروح هنا‪ ،‬فذهب جماعة من اْلفسرين إلى ِّأن الروح هو جبريل‬
‫ً‬ ‫ُّ ُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫وح اْل ِم ُين﴾؛ قالوا‪ :‬إذا الروح هو جبريل عليه‬ ‫السالم وهو أشرف املالئكة‪﴿ :‬ن َز َل ِب ِه الر‬‫عليه ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫السالم ْلنه هو الذي نزل بالقرآن وهذا أرجح اْلقوال‪ِ .‬‬
‫ملك عظيم هو أعظم املخلوقات بعد العرش وال أعرف‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الروح هو ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صحيحا على هذا‪ِ .‬‬ ‫دليال‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الروح هم بنوا آدم‪ ،‬وقال بعض املفسرين‪ :‬الروح ٌ‬
‫خلق يشبهون بنوا‬
‫آدم وليسوا منهم أي‪ِّ :‬أن هيئتهم كهيئة بني آدم ويأكلون ويشرون ِّ‬
‫لكنهم ليسوا من بني آدم‬
‫ِّ‬ ‫فهم ليسوا مالئكة؛ ِّ‬
‫ْلنهم يأكلون ويشربون وعلى هيئة بني آدم‪ ،‬وليسوا من بني آدم وإنما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫خلق خلقهم هللا لتعظيم ذلك اليوم‪ ،‬وال أعرف دليال على هذا وقد بحثت طويال عن أدلة‬
‫لهذا فلم أظفر بش يء؛ لكن يذكر ذلك املفسرون‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واْلرجح واْلصوب هو ما اختاره الشيخ‪ِّ :‬أن الروح هو جبريل عليه ِّ‬
‫السالم‪ ،‬وذكر وخص‬
‫َ ْ َ َ ُ ُ ُّ ُ ْ َ َ َ ُ‬
‫وح َواملال ِئكة﴾؛ من باب ذكر العام بعد‬ ‫هنا لشرفه فيكون املذكور هنا ﴿يوم يقوم الر‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫﴿ت َن َّز ُل ْاملَ َال ِئ َك ُة َو ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫َ‬
‫وح ِف َيها ِب ِإذ ِن َ ِِّرب ِهم ِِّمن ك ِ ِّل أ ْم ٍر﴾ [القدر‪]4 :‬؛‬ ‫الخاص‪ِ ،‬وفي سورة القدر‬
‫فيكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫واْلَّلئكة ً‬
‫أيضا يقوم الجميع صفا خاضعين هلل‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪35‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬
‫يقومون صفوفا ُيتمون الصف اْلول فاْلول‪ ،‬وذلك ِّأن عددهم ال يحصيه إال هللا سبحانه‬
‫وتعالى ويجتمعون في ذلك اليوم‪ ،‬إذا علمنا ِّأن البيت املعمور يدخله في كل يوم سبعون‬
‫ثم ال يعودون إليه؛ علمنا ِّأن عدد املالئكة ال يمكن أن ُيحص ى وال ُيحصيه إال‬
‫ألف ملك ِّ‬
‫ً‬
‫صفوفا يتمون الصف اْلول‬ ‫هللا‪ِّ ،‬‬
‫وأنهم ٌ‬
‫خلق كثير ومع ذلك يجتمعون في ذلك اليوم املهيب‬
‫فاْلو ِل‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ال يتكلمون إال بإذنه فلما رغب ورهب وبشر وأنذر قال‪﴿ :‬ف َمن ش َاء اتخذ ِإل ٰى َرِب ِه َم ًآبا﴾؛‬
‫ً‬
‫صدق يرجع إليه يوم القيامة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أي‪َ :‬ع َمَّل وقدم‬

‫ً‬ ‫قال بعض أهل العلم‪َ ﴿ :‬م ًآبا﴾ أي‪ً :‬‬


‫طريقا موصال إلى إرضاء هللا وهو العمل الصالح‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومنزال ً‬
‫كريما عند لقاء هللا‪ ،‬وهذا كما‬ ‫حسنا‬ ‫ً‬
‫مرجعا‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪َ ﴿ :‬م ًآبا﴾ أي‪:‬‬
‫قلنا مرا ًرا من باب إختالف التنوع فكالهما مراد هنا‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ً َ‬
‫آت فهو قريب‪.‬‬
‫﴿إنا أنذرناكم عذابا ق ِريبا﴾؛ ْلنه قد أزف مقبَّل وكل ما هو ٍ‬ ‫ِ‬

‫ِّ‬ ‫فإن الكفار يرونه ً‬‫وهذا معا ضة لحال الكفار ِّ‬


‫بعيدا‪ ،‬أي‪ :‬بعيد الوقوع وأنه لن يقع فأخبر‬ ‫ر‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫منتظر قريب‪ِ .‬‬
‫ٍ‬ ‫وكل‬ ‫منتظر‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ْلن‬ ‫يب‬ ‫قر‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫أن‬ ‫هللا‬
‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ َْ‬
‫﴿ي ْو َم َينظ ُر اْل ْر ُء َما ق َّد َمت َي َد ُاه﴾؛ أي‪ :‬هذا الذي يهمه ويفزع إليه فالينظر في هذه الدار‬
‫َ‬

‫ما قدم لدار القرار‪.‬‬

‫َ‬
‫وهذا ﴿اْلرء﴾؛ هنا قال بعض أهل العلم‪ :‬هو الكافر‪ ،‬وقال بعض املفسرين‪ :‬هو كل أحد‬
‫كافرا أو ًِ‬
‫مؤمنا‪ ،‬وقال بعض املفسرين‪ :‬هو املؤمن‪ِ .‬‬ ‫سواء كان ً‬

‫‪36‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وخائفا فهو املؤمن؛ ِّ‬


‫ً‬ ‫َ ُ‬
‫ْلن‬ ‫اجيا‬ ‫نظ ُر﴾ أي‪ :‬ينتظر جزاء عمله ر ً‬ ‫والحق ِّأن إذا قلنا ِّإن معنى ﴿ي‬
‫عز وجل قابل بينهما‬ ‫ْلن هللا ِّ‬ ‫الكافر يائس من حمه هللا ال ينتظر إال عذاب هللا‪ ،‬وهذا أظهر ِّ‬
‫ر‬
‫َ َ ُ ُ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ َْ‬
‫﴿ َي ْو َم َينظ ُر اْل ْر ُء َما ق َّد َمت َي َد ُاه َو َيقو ُل الكا ِف ُر َيا ل ْيت ِني كنت ت َر ًابا﴾ ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ َْ‬
‫وإن قلنا معنى ﴿ َينظ ُر اْل ْر ُء َما ق َّد َمت َي َد ُاه﴾؛ أنه يرى أعماله التي قدمها في كتابه فهو كل‬
‫مؤمنا‪ِ .‬‬ ‫كافرا‪ ،‬أو ً‬ ‫سواء كان ً‬‫ً‬ ‫أحد‬
‫ويأس من الرحمة فهو‬ ‫حسرة‬ ‫ة‬‫نظر‬
‫ِ‬ ‫ينظر‬ ‫﴾؛‬ ‫نظ ُر ْاملَ ْر ُء َما َق َّد َم ْت َي َد ُ‬
‫اه‬
‫َ ُ‬
‫وإن قلنا معنى ﴿ي‬
‫ٍ‬
‫الكافر‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫أنا ذكرت هذا لتعرفوا وجه كل قول وجه قول من قال إنه الكافر‪ ،‬ووجه قول من قال إنه‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫املؤمن‪ ،‬ووجه قول من قال إنه كل أحد‪ ،‬والراجح فيما يظهر لي وهللا أعلم أنه املؤمن ملا‬
‫ذكرت‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َّ َ َ ْ َ ُ‬
‫نظ ْر َن ْف ٌ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ ُ َّ ُ‬
‫س َّما‬ ‫ين َآمنوا اتقوا الله ولت‬‫فلينظر في هذه الدار ما قدم لدار القرار ﴿يا أيها ال ِذ‬
‫خيرا فليحمد‬ ‫الل َه َخب ٌير ب َما َت ْع َم ُلو َن﴾؛ اآليات‪ ،‬فإن وجد ً‬
‫َّ َ َّ َّ‬
‫ن‬‫إ‬ ‫ۚ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫وا‬‫ق‬
‫َ َّ َ ْ َ َ َّ ُ‬
‫قدمت ِلغ ٍد ۖ وات‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫هللا‪ ،‬وإن وجد غير ذلك فَّل يلومن إال نفسه‪ ،‬ولهذا كان الكفار يتمنون اْلوت من شدة‬
‫ً‬
‫الحسرة والندم‪ ،‬نسأل هللا أن يعافينا من الكفر والشر كله إنه جواد كريم‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ َ ُ ُ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬
‫﴿ َو َيقو ُل الكا ِف ُر َيا ل ْيت ِني كنت ت َر ًابا﴾ للمفسرين فيها ثالثة أقوال‪ِ :‬‬
‫القول اْلول‪ِّ :‬أن الكافر إذا رأى البهائم بعد أن ُيقتص لبعضها من بعض ِّ‬
‫تصير تر ًابا يتمنى‬
‫لو كان كالبهائم يقال له في ذلك املوقف كن تر ًابا ولن يكون ذلك‪ِ .‬‬
‫ْلن اإلنسان‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها ِّأن الكافر إذ ذاك يتمنى لو بقي في قبره تر ًابا؛ ِّ‬

‫بقي تر ًابا وال‬


‫إذا دفن تأكله اْلرض إال املالئكة ويبقى عجب الذنب فقط‪ ،‬فالكافر يتمنى لو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫شك ِّأن الكافر في قبره يقو ِل‪ :‬ربي ال تقم الساعة مع أنه يعذب في القبر‪ ،‬مع أنه يعذب في‬
‫ِّ‬
‫قبره يقو ِل‪ :‬ربي ال تقم الساعة‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة تمنى لو بقي في القبر مع أنه والعياذ‬
‫ً‬
‫معذبا في قبره لكن ملا يراه من شدة العذاب يوم القيامة يتمنى لو بقي في قبره‪ِ .‬‬ ‫باهلل كان‬

‫‪37‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫َ ََْ ُ ُ ُ‬
‫نت ت َر ًابا﴾؛ يا ليتني لم أخلق أصال‪ ،‬يا‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى قول الكافر ﴿يا ليت ِني ك‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫أصال؛ ِّ‬
‫ْلن أصل خلقة اإلنسان أنه من تراب‪ِ .‬‬ ‫ليتني بقيت ترابا‬
‫وأقوى اْلقوال هو اْلول‪ ،‬لكن ال تضاد بينها فيمكن ِّأن الكافر يتمنى كل هذا فال تدافع‬
‫بينها‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون بحمد هللا قد أنهينا تفسير هذه السورة ‪-‬سورة النبأ‪ِ .-‬‬
‫عز وجل‪ ،‬قبل أن ننتقل إلى‬‫وهناك فوائد إيمانية وحكم علمية سنقف معها إن شاء هللا ِّ‬

‫السورة التالية‪ ،‬وبهذا تدركون ِّأيها اإلخوة ِعظم علم التفسير وتدبر كالم هللا سبحانه وتعالى‬
‫ً‬ ‫فإنك بعد أن سمعت هذا التفسير لهذه السورة لو قرأتها ستجد في نفسك ً‬ ‫ِّ‬
‫أمورِا ِ‬
‫كثيرة‬
‫ولذة لم تسبق إلى نفسك عند قراءة هذه السورة‪ ،‬ولذلك ِّ‬ ‫ً‬
‫مما ينبغي أن يحرص‬ ‫جديدة‪،‬‬
‫عليه املؤمن‪ ،‬أن يتدبر القرآن وأن يعرف معاني كالم هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬أسأل هللا ِّ‬
‫عز‬
‫وجل أن يعيننا على ذلك‪ ،‬وأن يجعلنا ممن يتدبرون كالمه‪ِ .‬‬
‫‪-‬الفوائد العلمية‪ ،‬واآلثار اإليمانية‪ ،‬لهذه السورة الكريمة‪ِ -‬‬
‫من تلك الفوائد‪ :‬أن الداعي إلى هللا ينبغي أن يجمع في دعوته بين ما يدعو إلى الرجاء وما‬
‫يدعو إلى الخوف من هللا عز وجل‪ ،‬وأن يعتني في دعوته عناية كبرى باليوم اآلخر‪ ،‬وما يتعلق‬
‫به‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد‪ :‬أنه ال خير وال فالح للمؤمن إال بأن يجمع بين الرجاء والخوف‪ ،‬فيكون في‬
‫سيره إلى هللا عز وجل راجيا خائفا‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد‪ :‬أن حقيقة اإليمان تتجلى في اإليمان بالغيب؛ ولذلك ُيذكر هذا في أعلى‬
‫مقامات الثناء (الذين يؤمنون بالغيب)‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد‪ :‬أن من يقيم دعوى‪ ،‬البد أن يقيم عليها اْلدلة التي تصدقها‪ ،‬وليس كل‬
‫ِّ‬
‫من سمع اْلدلة يسلم لها‪ ،‬بل قد يردها بعض الناس استكبارا وعنادا؛ كما فعل الكفار‪،‬‬
‫حيث أقام هللا عز وجل لهم البراهين القاطعة‪ ،‬واآليات الساطعة على وجوده سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وعلى ربوبيته‪ ،‬وعلى ألوهيته‪ ،‬وعلى قدرته على البعث‪ ،‬لكنهم أبوا أن ِّ‬
‫يوحدوه‪ ،‬وأبوا‬
‫أن يؤمنوا بالبعث‪ِ .‬‬

‫‪38‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومن باب إتمام الفائدة‪- :‬وإن لم يكن من جنس ما معنا هنا‪ -‬أقو ِل‪ :‬إن السامع للدعوى‬
‫واْلدلة‪ ،‬قد ِّ‬
‫يرد الدعوى وأدلتها؛ ْلنه قد ِّ‬
‫محص اْلدلة فلم ير فيها دليال أو ْلنه رأى أنها ال‬
‫تدل على املدعى‪ ،‬أو أنه فهم منها غير الذي فهمه املستدل بها‪ِ .‬‬
‫وهذه الثَّلثة اْلخيرة‪ :‬من أسباب اختالف العلماء وأما اْلول فهو من أسباب خالف أهل‬
‫الباطل للحق وأهله‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد واآلثار اإليمانية‪ :‬أن الدنيا مزرعة اآلخرة‪ ،‬وأن ما في اآلخرة مبني على ما في‬
‫الدنيا‪ِ .‬‬
‫غير أنه في شأن الكفار‪ :‬يكون جز ًاء موافقا ْلعمالهم‪ِ .‬‬
‫وأما في شأن املؤمنين‪ :‬فيكون جز ًاء بفضل هللا‪ ،‬وتكون أعمالهم سببا لنيل ذلك الفضل‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد العظمى‪ :‬أن مجالس اللغو من الشقاء الذي يليق باملؤمن أن يجتنبها‪ِ .‬‬
‫فمن شقاء الدنيا؛ مجالس اللغو‪ ،‬وأشقاها؛ مجالس الحرام‪ ،‬فإنها شقوة على صاحبها في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد‪ :‬أن من الشقاء أن يبتلى اإلنسان بمن يكذبه‪ ،‬وال يصدقه‪ِ ،‬‬
‫وأن من نعيم الدنيا‪ :‬أن يتخذ املؤمن إخوة صدق‪ ،‬ال يسمع منهم إال خيرا‪ ،‬وإذا حدثهم‬
‫صدقوه‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد‪ :‬أن الالئق باملؤمن أال يجلس في مجالس اللغو‪ ،‬وأن يكثر الصمت‪ِّ ،‬‬
‫ويقل‬
‫َ َ‬
‫الكالم‪ ،‬فإن من كثر كالمه كان عرضة ِْلن ُيكذب‪ ،‬ولذلك من أخالق املؤمن أن يصمت‪ ،‬إال‬
‫أن يرى في الكالم خيرا‪ ،‬فيقول خيرا فهذه من أعظم أخالق املؤمنين‪ :‬أن يطيل املؤمن‬
‫الصمت‪ ،‬وأن يقل الكالم‪ ،‬وال يتكلم إال إذا رأى في الكالم خيرا‪ ،‬وتكلم بخير‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫الفائدة اْلخيرة‪ :‬أن من علم أنه في اآلخرة ينظر عمله‪ ،‬فينبغي عليه أن يهذب في الدنيا‬
‫عمله‪ ،‬كلنا على يقين أن كل واحد سينظر عمله في اآلخرة‪ ،‬فينبغي على املؤمن أن يهذب‬
‫عمله في الدنيا‪ ،‬وأن ينظر في عمله في الدنيا‪ ،‬فإن رأى أن هذا العمل ُّ‬
‫يسره إذا لقي هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬أكثر منه‪ ،‬وثبت عليه‪ ،‬وإن هذا العمل ال يسره إذا لقي هللا عز وجل‪ ،‬أمسك عنه‪،‬‬
‫وإذا كان قد مض ى ش يء منه‪ ،‬تاب إلى هللا عز وجل منه وأناب إلى هللا عز وجل‪ِ .‬‬

‫‪39‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ‬

‫سورة النازعات‬
‫الر ْح َمٰـن َّ‬
‫الر ِح ِيم‬
‫َّ‬
‫الل ِـه َّ‬ ‫ِب ْس ِم‬
‫ِ‬
‫َ َّ َ‬ ‫الناش َطات َن ْش ًطا ﴿‪َ ﴾٢‬و َّ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ ً‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات‬
‫الس ِابق ِ‬‫ات َس ْب ًحا ﴿‪ ﴾٣‬ف‬ ‫الس ِابح ِ‬ ‫ات غ ْرقا ﴿‪ ﴾١‬و ِ ِ‬ ‫﴿والنا ِزع ِ‬
‫الر ِاد َف ُة ﴿‪ُ ﴾٧‬ق ُل ٌ‬
‫وب‬ ‫الراج َف ُة ﴿‪َ ﴾٦‬ت ْت َب ُع َها َّ‬ ‫ف َّ‬ ‫َْ َ َْ ُ ُ‬
‫ج‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫﴾‬ ‫‪٥‬‬‫﴿‬ ‫ا‬‫ر‬‫ات َأ ْم ً‬‫ِ‬ ‫َس ْب ًقا ﴿‪َ ﴾٤‬ف ْاْلُ َدب َ‬
‫ر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ ُ َ َّ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َ َ ٌ‬
‫ودون ِفي ال َحا ِف َر ِة ﴿‪ ﴾١٠‬أ ِإذا‬ ‫اش َعة ﴿‪ ﴾٩‬يقولون أ ِإنا ْلرد‬ ‫اجفة ﴿‪ ﴾٨‬أبصا ُرها خ ِ‬ ‫يوم ِئ ٍذ و ِ‬
‫اح َدة ﴿‪﴾١٣‬‬
‫ٌ‬ ‫َ ْ ٌ َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ‬ ‫ُ َّ َ ً َّ ً‬
‫اس َرة ﴿‪ ﴾١٢‬ف ِإنما ِه َي زج َرة و ِ‬ ‫كنا ِعظاما ن ِخ َرة ﴿‪ ﴾١١‬قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ‬
‫اه َر ِة ﴿‪﴾﴾١٤‬‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ف ِإذا هم ِبالس ِ‬

‫في هذه السورة املكية بإجماع العلماء‪ ،‬كسائر السور املكية‪ ،‬يرد هللا عز وجل على الكفار‬
‫س ضاللهم الذي جعلهم يتعلقون بالدنيا حتى في آلهتهم‪ ،‬وال يعملون‬ ‫أص َل كفرهم‪ُ ،‬وأ َّ‬
‫ْ‬
‫لآلخرة‪ ،‬أال وهو؛ إنكارهم للبعث‪ِ .‬‬
‫وافتتح هللا عز وجل هذه السورة‪ :‬بالقسم باملالئكة وببعض أعمالهم‪ ،‬وللعظيم سبحانه أن‬
‫يقسم بما شاء‪ ،‬وليس ملن دون العظيم إال أن يقسم بالعظيم سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫هللا عز وجل في افتتاح هذه السورة التي تعالج موضوع البعث‪ ،‬وتسلي املؤمنين؛ أقسم‬
‫باملالئكة‪ ،‬وببعض أعمال املالئكة التي لها تعلق باملوت‪ ،‬الذي هو مفتاح اآلخرة‪ ،‬ومقدم‬
‫البعث‪ ،‬ومن عاين املوت وأدرك حقيقته بالغرغرة‪ ،‬أيقن بما بعده‪ ،‬ولكنه إيقان ال ينفع‬
‫صاحبه والعياذ باهلل إن لم يكن قدم خيرا‪ِ .‬‬
‫َ ً‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات غ ْرقا﴾‪ :‬أي واملالئكة التي تنزع أرواح الكافرين نزعا شديدا‪،‬‬
‫يقول هللا عز وجل‪﴿ :‬والنا ِزع ِ‬
‫وتجذبها جذبا شديدا‪ ،‬وذلك أن املالئكة تنزع أرواح الكافرين بشدة قوال وعمَّل‪ِ .‬‬
‫أما القول‪ :‬فإن الكافر إذا كان في إدبار من الدنيا‪ ،‬وإقبال من اآلخرة‪ ،‬تحضره املالئكة‪،‬‬
‫ويقعد ملك املوت عنده‪ ،‬ويقال للكافر‪ :‬أيتها النفس الخبيثة‪ ،‬كانت في الجسد الخبيث‪،‬‬

‫‪40‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ي بحميم وغساق‪ ،‬وآخر من شكله أزواج‪ ،‬أخرجي إلى سخط من هللا‬


‫أخرجي ذميمة‪ ،‬وأبشر ِ‬
‫وغضب‪ .‬واليزال يقال لها هذا القول الشديد حتى تخرج‪ِ .‬‬
‫وأما العمل‪ :‬فإن املالئكة عند حضور موت الكافر‪ ،‬تضرب وجهه ودبره وتتفرق روح الكافر‬
‫في جسده كله‪ ،‬حتى تكون تحت أظفاره‪ ،‬وفي عروقه‪ ،‬وفي سائر جسده‪ ،‬فينتزعها ملك املوت‬
‫َ‬
‫انتزاعا شديدا‪ ،‬كما ُي ْنتزع السفود من الصوف املبلول‪ ،‬البد فيه من جذب شديد‪ ،‬والبد‬
‫لجذبه من تقطيع‪ ،‬ومن قوة‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وهكذا يكون نزع روح الكافر‪ ،‬عياذا باهلل من سوء الحال‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ ْ ً‬
‫ات نشطا﴾‪ :‬واملالئكة التي تجذب أرواح املؤمنين بسرعة‪ ،‬ورفق‪ ،‬ولين‪ ،‬قوال‬
‫اشط ِ‬‫﴿والن ِ‬
‫وعمَّل‪ِ .‬‬
‫أما القول‪ :‬فإنه يقال له‪- :‬إذا كان في إدبار من الدنيا‪ ،‬وإقبال على اآلخرة‪ -‬أيتها النفس‬
‫الطيبة‪ ،‬كانت في الجسد الطيب‪ ،‬اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان‪ ،‬ورب غير غضبان‪،‬‬
‫فال يزال يقال لها ذلك حتى تخرج‪ِ .‬‬
‫وأما الفعل‪ :‬فإن املالئكة التي تحضر املؤمن عند موته‪ ،‬تكون بيض الوجوه‪ ،‬ويجذب ملك‬
‫املوت روح املؤمن جذبا رقيقا‪ ،‬لطيفا‪ ،‬فتخرج تسيل كما تسيل القطرة ِم ْن ِف ِّ ِي السقاء‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫﴿و َّ َ‬
‫ات َس ْب ًحا﴾‪ :‬واملالئكة التي ت ْس َبح؛ أي تصعد إلى السماء‪ ،‬وتهبط من السماء‪،‬‬
‫الس ِابح ِ‬
‫َ‬
‫حينا‪ ،‬فهي تنزل‬ ‫حينا‪ ،‬وينزل إلى داخل املاء ً‬
‫فهي كمن يسبح في املاء‪ ،‬يصعد على وجه املاء ً‬

‫من السماء إلى اْلرض‪ ،‬وتصعد من اْلرض إلى السماء‪ِ .‬‬


‫ومما تصعد به املالئكة‪ :‬اْلرواح عند قبضها‪ ،‬فإن املؤمن إذا قبض ملك املوت روحه‪ ،‬لم‬
‫تدعها املالئكة في يده طرفة عين‪ ،‬بل تضعها في كفن من الجنة‪ ،‬وحنوط عظيم‪ ،‬طيب‬
‫الرائحة من الجنة‪ِ .‬‬
‫ثم تصعد بها إلى السماء الدنيا فيستفتح لها فيقال‪ :‬من هذا؟ فيقال فالن بن فالن‪،‬‬
‫ً‬
‫مرحبا بالنفس الطيبة‪ ،‬كانت في الجسد الطيب‪ِ .‬‬ ‫بأطيب أسمائه في الدنيا‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫فيفتح لها ويشيعها من كل سماء مقربوها‪ِ .‬‬
‫وهكذا في السماء الثانية‪ ،‬حتى تبلغ السماء السابعة‪ ،‬ثم ترد وتعاد إلى اْلرض‪ِ .‬‬

‫‪41‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وأما روح الكافر‪ :‬فإنها إذا نزعها ملك املوت‪ ،‬لم يدعها املالئكة في يده طرفة عين‪ ،‬بل‬
‫يأخذونها ويضعونها في مسوخ من النار والعياذ باهلل‪ ،‬ثم يصعدون بها إلى السماء الدنيا‬
‫بريحة نتنة‪ ،‬فيستفتح لها فيقال‪ :‬من هذا؟ فيقال‪ :‬فالن بن فالن بأخبث أسمائه في الدنيا‪،‬‬
‫فيقال‪ :‬ال ً‬
‫مرحبا بالنفس الخبيثة‪ ،‬كانت في الجسد الخبيث‪ِ .‬‬
‫فإنه ال تفتح لها أبواب السماء‪ ،‬ثم تطرح إلى اْلرض ً‬
‫طرحا والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات َس ْبقا﴾‪ :‬فاملالئكة التي تسبق بما تؤمر به‪ ،‬فتسارع وال تتوانى لحظة‪ ،‬بل هي‬
‫الس ِابق ِ‬‫﴿ف‬
‫سباقة إلى االمتثال‪ ،‬كما أنها ملا ُبعث محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬صارت سباقة بالوحي إلى‬
‫شيئا‪ ،‬كما أنها تسبق بأرواح املؤمنين‬‫النبي صلى هللا عليه وسلم قبل أن يسترق الجن منه ً‬

‫إلى السماء السابعة عند خروجها‪ِ .‬‬


‫ً‬
‫وفعال‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫شرعا‬ ‫ات َأ ْم ًرا﴾‪ :‬فامل ِالئكة تدبر ً‬
‫أمورا في الكون‪ ،‬وأمور العباد ً‬ ‫ُْ َ‬
‫﴿اْلد ِب َر ِ‬
‫تدبر أمور العباد ً‬
‫شرعا‪ :‬بنزولها بالوحي‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتدبر أمور العباد فعَّل‪ :‬كنزول املطر وغير ذلك‪ ،‬ولكن تدبيرها ليس استقالال وإنما هي تدبر‬
‫أمرا‪ ،‬أي تدبر بأمر هللا‪ِ .‬‬ ‫ً‬
‫فاملدبر هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬واملالئكة عاملة في ذلك التدبير بأمر هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫أيمان‪ ،‬جوابها مقدر‪ ،‬يدل عليه املذكور بعد ذلك‪ ،‬وتقدير الجواب‪( :‬لتبعثن‬ ‫ٌ‬ ‫هذه‬
‫ولتحاسبن)‪ِ .‬‬
‫فأقسم هللا عز وجل هذه اْليمان العظيمة‪ ،‬على هذا الشأن العظيم‪ ،‬وهو البعث‬
‫والحساب‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ ُ‬
‫اجفة﴾‪ :‬يوم تضطرب الراجفة‪ ،‬وهي اْلرض عند النفخة اْلولى في الصور‪،‬‬ ‫﴿يوم ترجف الر ِ‬
‫حيث يموت كل حي‪ ،‬إال من شاء هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فتضطرب اْلرض ملوت ساكنيها‪ِ .‬‬
‫ْ َ ُ َ َّ َ ُ‬
‫الر ِادفة﴾ أي‪ :‬التالية لها‪ ،‬وهي النفخة الثانية في الصور‪ ،‬التي يقوم الناس بها من‬ ‫﴿تبعها‬
‫قبورهم‪ِ .‬‬
‫وبين النفختين أربعون‪ ،‬كما تقدم معنا‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫سنة‪ .‬فقال‪:‬‬
‫قيل ْلبي هريرة رض ي هللا عنه‪ :‬يوما‪ .‬فقال‪ :‬أبيت‪ .‬قيل‪ :‬شهرا‪ .‬فقال‪ :‬أبيت‪ .‬قيل‪ِ :‬‬

‫‪42‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أبيت‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫أي أن النبي صلى هللا عليه وسلم أخبر أن بين النفختين أربعين‪ ،‬ولم يحدد ويعين ك ْن َه هذه‬
‫ُ‬
‫اْلربعين‪ .‬وهكذا املؤمن يؤمن أن بين النفختين أربعين‪ ،‬وهللا أعلم بك ْن ِه هذه اْلِربعين‪ِ .‬‬
‫ُُ ٌ َ ْ َ َ َ ٌ‬
‫اجفة﴾‪ :‬قلوب يومئذ مضطربة‪ ،‬كثيرة الخفقان كأنها ستزول من مكانها‪،‬‬ ‫﴿قلوب يوم ِئ ٍذ و ِ‬
‫من شدة خفقانها وذلك لعظيم خوفها‪ ،‬وشدة فزعها‪ ،‬حيث رأت رأي العين ما أخبرت به في‬
‫َ‬
‫الدنيا فكفرت‪ ،‬وعلمت أن الوعيد نازل بها‪ ،‬أ ِم َنت في الدنيا فأخافها هللا في اآلخرة‪ ،‬و ِال‬
‫يجمع هللا لعبد أمنين وال خوفين‪ِ .‬‬
‫َمن أمن هللا في الدنيا‪ ،‬أخافه الخوف الشديد والفزع العظيم في اآلخرة‪ِ .‬‬
‫ومن خاف هللا في الدنيا‪ِّ ،‬أمنه هللا من الفزع الشديد في اآلخرة‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َْ َ َ َ‬
‫اش َعة﴾‪ :‬أبصارها ذليلة‪ ،‬منكسرة‪ ،‬جز ًاء وفاقا‪ ،‬فقد كانوا في الدنيا أهل تكبر‬ ‫﴿أبصا ُرها خ ِ‬
‫ِوتجبر‪ ،‬فكان حالهم في اآلخرة أنهم أهل ذلة وانكسار‪ِ .‬‬
‫وهكذا املتكبرون في الدنيا يكونون في اآلخرة في ذلة وانكسار فيكونون كالذر والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ ُ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ‬
‫ودون ِفي ال َحا ِف َر ِة﴾‪ :‬أي أنهم كانوا يقولون في الدنيا‪ ،‬وهذا جواب سؤال‪:‬‬ ‫﴿ يقولون أ ِإنا ْلرد‬
‫ملاذا كان أمرهم هكذا؟ ملاذا كان حالهم على هذا السوء؟ ِ‬
‫َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ‬
‫ودون ِفي ال َحا ِف َر ِة﴾ أي‪ :‬أإنا ملردودونِ‬‫فكان الجواب‪ :‬أنهم كانوا يقولون في ُدنياهم ﴿أ ِإنا ملرد‬
‫إلى أمرنا اْلول‪ ،‬فنعود أحياء بعد موتنا؟ ويقولون هذا على سبيل اإلنكار والتعجب مما‬
‫أخبرهم به محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتاله عليهم في كتاب هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َ ً َّ َ ً‬ ‫َ َ ُ َّ‬
‫﴿أ ِإذا كنا ِعظاما ن ِخرة﴾‪ :‬أإذا كنا عظاما بالية‪ ،‬تالفة‪ ،‬مجوفة‪ ،‬فإنهم كانوا يرون ذلك في‬
‫ُ‬
‫الدنيا‪ ،‬ويؤمنون به‪ ،‬ما كان الك ِّفار ينكرون املوت‪ْ ،‬لنهم كانوا يرون املوت‪ ،‬وما كانوا‬
‫ينكرون ما يكون في القبر من جهة أكل اْلرض لألجساد‪ ،‬فإنهم كانوا يرون أن امليت يوضع في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫قبره‪ ،‬ثم بعد فترة يرون أنه قد بلي‪ ،‬وبليت عظامه‪﴿ ،‬أ ِإذا ك َّنا ِعظ ًاما َّن ِخ َرة﴾ بالية‪ ،‬متفتتة‪،‬‬
‫ً‬
‫مجوفة قبل ذلك‪ِ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ‬
‫اس َرة﴾‪ :‬تلك إذا رجعة إلى الحياة باطلة‪ ،‬كاذبة‪ ،‬ال حقيقة لها‪ ،‬ولن‬ ‫﴿قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ‬
‫تكون‪ ،‬فمعنى (باطلة)‪ :‬أي كاذبة‪ ،‬فاسدة‪ ،‬ال حقيقة لها‪ِ .‬‬

‫‪43‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬
‫اح َدة﴾‪ :‬فاْلمر أسهل على ربنا من اإلنشاء‪ ،‬واإلعادة أيسر من البناء‬ ‫َ ْ ٌ َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫﴿ف ِإنما ِه َي زج َرة و ِ‬
‫واالبتداء‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫﴿ف ِإ َّن َما ِه َي َز ْج َرة﴾‪ :‬أي الصيحة الثانية‪ ،‬النفخة الثانية في الصورِ‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫﴿إ َّن َما ِه َي َز ْج َرة َو ِاح َدة﴾‪ :‬وهي النفخة الثانية‪ ،‬التي تكون بها الحياة‪ ،‬أي‪﴿ :‬ف ِإ َّن َما ِه َي َز ْج َرة‬‫ِ‬
‫ِّ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫َو ِاحدة﴾ تكون بها الكرة والرجعة‪ِ .‬‬
‫إذن ال إشكال‪ ،‬الصيحتان اثنتان‪ ،‬والنفختان اثنتان‪ ،‬لكن النفخة اْلولى يكون بها املوت‪،‬‬
‫فيموت اْلحياء إال من شاء هللا‪ ،‬والنفخة الثانية تكون بها الحياة‪ ،‬وتكون بها الرجعة‪ ،‬فإنما‬
‫ٌ‬
‫هي زجرة واحدة‪ِ ،‬‬
‫﴿فإ َذا ُهم ب َّ‬‫َ‬
‫الس ِاه َر ِة﴾‪ :‬أي‪ :‬فإذا هم محشورون (بالساهرة)؛ باْلرض البيضاء املستوية‪ ،‬التي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُيرى عليها السراب كأنه ماء‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿فإ َذا ُهم ب َّ‬
‫الس ِاه َر ِة﴾‪ :‬أي‪ :‬في النار‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫أو ِ‬
‫إذا هم بالساهرة يرونها‪ْ ،‬لنهم رأوا شيئا من عذابها في القبر‪ ،‬وإذا بعثوا أيقنوا بوجودها‪،‬‬
‫وأنها مآلهم ومصيرهم‪ ،‬فإذا حشروا رأوا النار في أرض املحشر‪ ،‬فإذا نودوا ليتبع كل‬
‫أصحاب آلهة‪َ ،‬‬
‫ألهتهم‪ ،‬تبعوا ألهتهم فتساقطوا في النار‪ ،‬عياذا باهلل من ذلك‪ ،‬أيقنوا من هذا‬
‫العذاب والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير املوضوعي اإلجمالي لهذا املقطع‪ِ .‬‬
‫ثم نقرأ كالم الشيخ في التفسير التفصيلي ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه هللا تعالى‪ :‬هذه اإلقسامات باْلَّلئكة‬
‫الكرام وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم ْلمر هللا‪ ،‬وإسراعهم في تنفيذه‪ُ ،‬يحتمل أن‬
‫اْلقسم عليه الجزاء والبعث‪ ،‬بدليل اإلتيان بأحوال القيامة بعد ذلك‪.‬‬
‫وهذا اْلظهر وهللا أعلم‪ ،‬وْلن هذا هو أغلب ما في السور املكية وهو املقصود في هذه‬
‫السورة‪ ،‬أعني إثبات البعث‪ ،‬فاْلظهر أن املقسم عليه هو هذا اْلمر العظيم‪ِ .‬‬
‫ويحتمل أن اْلقسم عليه واْلقسم به متحدان وأنه أقسم على اْلَّلئكة ْلن اإليمان بهم‬

‫‪44‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أحد أركان اإليمان الستة وْلن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتواله‬
‫اْلَّلئكة عند اْلوت وقبله وبعده‪.‬‬
‫يحتمل كما ذكر بعض املفسرين‪ :‬أن املقسم عليه هو املالئكة‪ ،‬وأنهم خلق من خلق هللا‪،‬‬
‫موجودون‪ ،‬وبأعمال موكلو ِن‪ِ .‬‬
‫يعني يك ِون جواب القسم‪ :‬وهؤالء خلق موجودون‪ ،‬وبأعمال عظيمة موكلو ِن‪ِ .‬‬
‫ولكن اْلول أظهر كما ذكرنا‪ِ .‬‬
‫َ ً‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات غ ْرقا﴾‪ :‬وهم اْلَّلئكة التي تنزع اْلرواح بقوة‪.‬‬
‫فقال ﴿والنا ِزع ِ‬
‫تنزع أرواح الكافرين بقوة وتجذبها بشدة‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬توقد في نزعها حتى تخرج الروح فتجازى بعملها‪.‬‬
‫والغرقِ‪ :‬هو النزع الشديد‪ِ .‬‬
‫واإلغراق‪ :‬هو املبالغة في الش يء‪ِ .‬‬
‫َ ً‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬غ ْرقا﴾ أي يغرق امللك أرواح الكفار‪ِ .‬‬
‫ومعنى يغرق‪ :‬يعيدها في أجسادهم‪ِ .‬‬
‫سبحان هللا‪ ،‬كيف يعيدها في أجسادهم وهو يقبضها؟ قالوا‪ :‬يخيفهم حتى تتفرق أرواحهم‬
‫في أجسادهم كلها‪ِ .‬‬
‫فتكون تحت اْلظفار‪ ،‬وفي العصب وفي العروق‪ ،‬وفي جميع أجزاء الجسد‪ ،‬ثم ينزعها‪ .‬إذن‬
‫يغرقها ثم ينزعها‪ِ .‬‬
‫يغرقها‪ :‬بأن يفرقها في جميع جسد الكافر‪ ،‬ثم يجذبها بقوة نكاال‪ ،‬وتعذيبا‪ ،‬وإهانة للكافر‬
‫عند موته‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى غرقا؛ أن حال الكافر عند نزع روحه‪ ،‬كالغريق الذي يتأخر‬
‫موته ويرى نفسه‪- ،‬أعني الكافر‪ -‬كأنها تغرقِ‪ِ .‬‬
‫الغريق الذي يتأخر موته يأتيه املوت شديدا كثيرا‪ْ ،‬لنه يموت في كل لحظة‪ ،‬لكن الروح ما‬
‫تزال معلقة‪ ،‬فيكون الكافر كحال الغريق الذي يتأخر موته في املاء وال نجاة له‪ ،‬ويرى الكافر‬
‫نفسه عند نزع روحه‪ ،‬كأنه يغرق‪ ،‬أي‪ :‬يموت موتا شديدا بطيئا كالغريق كما قلنا‪ِ .‬‬

‫‪45‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الناز َ‬
‫أفق إلى أفق؛ أي تذهب‪ِ .‬‬
‫ٍ‬ ‫من‬ ‫نزع‬‫ت‬ ‫النجوم‪،‬‬ ‫هي‬ ‫هنا‬ ‫﴾‬ ‫ات‬ ‫ع‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ ﴿ :‬‬
‫َ ًَ‬
‫و﴿غ ْرقا﴾‪ :‬قالوا معناها تطلع وتغيب‪ِ .‬‬
‫َ ًَ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والنا ِز َعات﴾‪ :‬هي النجوم و﴿غ ْرقا﴾‪ :‬أي تطلع وتغيب كالغريق‪ ،‬يظهر على سطح‬ ‫قالوت‪:‬‬
‫املاء ويغيب في داخل املاء حتى يم ِوت‪ ،‬وكذلك الكواكب تظهر وتغيب‪ ،‬حتى يفنيها هللا عز‬
‫َّ‬
‫وجل‪ ،‬وقيل غير ذلك واْلول أظهر‪ ،‬أعني أن ﴿النا ِز َعات﴾ هي املالئكة‪ ،‬وعلى هذا أكثر‬
‫َّ‬
‫السلف أن ﴿النا ِز َعات﴾ هي املالئكة‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ ْ ً‬
‫ات نشطا﴾‪ :‬وهي اْلَّلئكة أيضا‪ ،‬تجتذب اْلرواح بقوة ونشاط‪.‬‬ ‫اشط ِ‬
‫﴿والن ِ‬
‫هذا‪ ،‬على أن هذا متعلق بأرواح الكافرين أيضا‪ ،‬أي تجذبها بشدة من العروق وسائر‬
‫الجسد‪ِ .‬‬
‫أو أن النشط يكون ْلرواح اْلؤمنين‪.‬‬
‫فتنشط املالئكة روح املؤمن‪ ،‬كما ينشط العقال من يد البعير‪ ،‬ويعرف أصحاب اإلبل أن‬
‫حل العقال من يد البعير سهل‪ ،‬والنشط على هذا هو الجذب بسرعة ورفق‪ِ .‬‬
‫على القول اْلولِ‪ :‬النشط هو الجذب بشدة‪ِ .‬‬
‫وعلى القول الثاني‪ :‬وهو أظهر وهللا أعلم‪ْ ،‬لن فيه زيادة معنى‪ ،‬أعني أن النشط متعلق‬
‫َ‬
‫الجذب برفق وسرعة‪ِ .‬‬ ‫بأرواح املؤمنين‪ ،‬يكون النشط‬
‫أو أن النشط يكون ْلرواح اْلؤمنين‪ ،‬والنزع ْلرواح الكفار‪.‬‬
‫ات﴾‪ :‬أي اْلترددات في الهواء صعودا ونزوال سبحا‪.‬‬ ‫﴿و َّ َ‬ ‫َ‬
‫الس ِابح ِ‬
‫يعني كالسابح يصعد على املاء وينزل فيه‪ ،‬فاملالئكة تنزل من املاء وتصعد إليها‪ ،‬ومما تصعد‬
‫به كما قلنا اْلرواح‪ِ .‬‬
‫ات﴾‪ :‬هي الكواكب تسبح في اْلفالك‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪َ َّ ﴿ :‬‬
‫الس ِابح ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َُ‬
‫﴿وك ٌّل ِفي فل ٍك َي ْس َب ُحون﴾ [يس‪ ]40 :‬واْلول أظهر؛ ْلنه املناسب ملقصود السورة‪ ،‬وهو‬
‫املتعلق بالبعث‪ِ .‬‬
‫السابقات لغيرها سبقا‪ ،‬فتبادر ْلمر هللا وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل‬
‫هللا‪ ،‬لئَّل تسترقه‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي املالئكة‪ ،‬تسبق بأرواح املؤمنين إلى السماء‪ ،‬إكراما لتلك اْلرواح‬
‫الطيبة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬السابقات‪ :‬هي أروِاح املؤمنين عند خروجها تسبق إلى ملك املوت‬
‫عند حلول اْلجل‪ ،‬حتى تخرج بسرعة‪ْ ،‬لنها تبشر‪ ،‬وعند ذاك تحب لقاء هللا‪ ،‬فيحب هللا عز‬
‫وجل لقاءها‪ِ .‬‬
‫واْلول أظهر وهللا أعلم؛ أي أنها اْلَّلئكة‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ‬
‫ات﴾‪ :‬يعني هللا عز وجل‬ ‫فإن قال قائل‪ :‬نلحظ هنا أن هللا عز وجل قال‪﴿ :‬فالس ِاب ِ‬
‫ق‬
‫ات َس ْب ًحا ﴿‪ِ ﴾﴾٣‬‬ ‫الناش َطات َن ْش ًطا ﴿‪َ ﴾٢‬و َّ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َّ َ َ ً‬
‫الس ِابح ِ‬ ‫ات غ ْرقا ﴿‪ ﴾١‬و ِ ِ‬ ‫قال‪﴿:‬والنا ِزع ِ‬
‫فكان املنتظر‪ :‬والسابقات سبقا‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َ َّ َ‬
‫ات َس ْبقا﴾‪ِ .‬‬ ‫الس ِابق ِ‬ ‫لكن هللا عز وجل قال‪﴿ :‬ف‬
‫قال العلماء‪ْ :‬لن الفاء تؤدي هنا معنى الواو وزيادة‪ ،‬وهذه الزيادة؛ أن هذه مركبة على ما‬
‫تقدم‪ ،‬فما تقدم سبب لها‪ ،‬وهذا يقوي القول بأن املالئكة تسبق بأرواح املؤمنين‪ ،‬إكراما‬
‫لها‪ْ ،‬لن الذي تقدم متعلق بإخراج الروح‪ ،‬فكانت الفاء مفيدة للقسم الذي أفادته الواو‪،‬‬
‫ومفيدة ْلن هذه والتي بعدها‪ ،‬أنها َّ‬
‫مسب َبة ملا قبلها‪ ،‬كما يقال‪ :‬قام‪ ،‬فذهب‪ِ .‬‬
‫إذا قلت لك مثال‪ :‬قام وذهب‪ .‬هما فعالن‪ ،‬قام‪ ،‬وذهب‪ِ .‬‬
‫قد يكون ذهب ْلي سبب‪ ،‬لكن إذا قلت قام فذهب‪ ،‬سبب ذهابه هو قيامه فيكون ما سبق‬
‫يعني سببا للسبق والتدبير‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ ُْ َ َ َ‬
‫ات أمرا﴾‪ :‬أي اْلَّلئكة الذين‪...‬‬‫﴿فاْلد ِبر ِ‬
‫وهذا الذي عليه أكثر السلف‪ :‬أن املدبرات هي املالئكة‪ ،‬بل حكاه بعض املفسرين إجماعا‬
‫وقال‪ :‬هم املالئكة قوال واحدا‪ ،‬وإن كان بعض املتأخرين ذكر نزاعا‪ ،‬لكن اْلظهر وهللا أعلم‬
‫أنه ال نزاع وأن املدبرات هي املالئكة‪ِ .‬‬
‫أي اْلَّلئكة الذين جعلهم هللا يدبرون كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي؛ من‬
‫اْلمطار‪ ،‬والنبات‪ ،‬واْلشجار‪ ،‬والرياح‪ ،‬والبحار‪ ،‬واْلجنة‪ ،‬والحيوانات‪ ،‬والجنة‪ ،‬والنار‪،‬‬
‫وغير ذلك‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومن أعظم تدبيرها كما ذكرنا‪ :‬ما يتعلق بالشرع‪ ،‬فإنها التي تتنزل بالوحي على اْلنبياء‪،‬‬
‫وتندبيرها كما قال هللا‪ً :‬‬
‫أمرا‪ .‬تدبير أمر ال ابتداء‪ ،‬وإال فاملدبر هو هللا‪ ،‬فيأمر املالئكة بما شاء‬
‫سبحانه‪ ،‬فتدبر بأمر هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وجواب القسم كما قلنا‪ :‬مقدر يدل عليه املذكور بعده‪ُ ( :‬لتبعثن ولتحاسبن)‪ِ .‬‬
‫طيب ملاذا لم يذكر الشيخ جواب القسم؟ ِ‬
‫ْلنه ذكره في أول الكالم‪ ،‬في مقدمة كالمه على السورة ذكر جواب القسم‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ ُ‬
‫اجفة﴾ وهي قيام الساعة‪.‬‬‫﴿يوم ترجف الر ِ‬
‫َ ُ‬
‫﴿ت ْر ُجف﴾‪ :‬أي تضطرب‪ ،‬والراجفة هي املضطربة‪ ،‬وهي اْلرض‪ ،‬وذلك عند النفخة اْلولى في‬
‫الصور التي تميت كل ش يء‪ ،‬إال من شاء هللا‪ ،‬والرجف هنا من رجف الرعد‪ ،‬الرجف في‬
‫أصله هو الحركة‪ ،‬ولكن الرجف هنا‪ ،‬من رجف الرعد‪ ،‬وهو الصوت الشديد والحركة‬
‫واالضطراب‪ ،‬الصوت الشديد بالنفخة‪ ،‬بالنفخ في الصور‪ ،‬فإذا نفخ في الصور تحركت‬
‫اْلرض واضطربت‪ِ .‬‬
‫فدلت كلمة ترجف على اْلمرين‪ :‬على الصوت الشديد وهو النفخ في الصور‪ ،‬وعلى حركة‬
‫اْلرض واضطرابها إذا نفخ في الصورِ‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ ُ َ َّ َ ُ‬
‫الر ِادفة﴾‪ :‬أي الرجفة في اْلخرى التي تردفها وتأتي تلوها‪.‬‬ ‫﴿تتبعها‬
‫وهي النفخة الثانية التي يحيى بها اْلموات‪ِ .‬‬
‫ُُ ٌ َ ْ َ َ َ ٌ‬
‫اجفة﴾‪ :‬أي منزعجة من شدة ما ترى وتسمع‪.‬‬ ‫﴿قلوب يوم ِئ ٍذ و ِ‬
‫فهي كما قلنا مضطربة‪ ،‬شديدة الخفقان‪ ،‬وهذا يدركه اإلنسان في الدنيا‪ ،‬فإن اإلنسان إذا‬
‫خاف يضطرب قلبه‪ ،‬ويخفق خفقانا شديدا‪ ،‬هذا في خوف الدنيا‪ ،‬فكيف بالفزع الشديد‪،‬‬
‫والخوف الشديد يوم القيامة؟ تخفق قلوبهم وتضطرب‪ ،‬كأنها ستخرج من الصدور‪ ،‬فهي‬
‫خائفة فزعة‪ ،‬قد اشتد خوفها وعظم فزعها‪ .‬ملاذا؟ ْلنها أيقنت أن الوعيد واقع بها ال‬
‫محالة‪ ،‬فال رجاء وإنما هو الخوف‪ ،‬وْلنها أمنت في الدنيا فأخافها هللا في اْلخرة‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َْ َ َ َ‬
‫اش َعة﴾‪ :‬أي ذليلة حقيرة‪ ،‬قد ملك قلوبهم الخوف‪ ،‬وأذهل أفئدتهم الفزع‪،‬‬ ‫﴿أبصا ُرها خ ِ‬
‫وغلب عليهم التأسف واستولت عليهم الحسرة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َْ َ َ َ‬
‫اش َعة﴾‪ :‬أي أبصار أصحابها‪ْ ،‬لن الكالم على القلوب‪ ،‬أبصارها أي أبصار‬
‫﴿أبصا ُرها خ ِ‬
‫أصحابها‪ ،‬وأعيدت إلى القلوب ْلن القلب ملك اْلعضاء‪ ،‬واْلعضاء تتبعه فسادا أو صالحا‪،‬‬
‫(أال وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله)‪،‬‬
‫إذن أعيدت اْلبصار إلى القلوب‪ْ ،‬لن القلب ملك اْلعضاء‪ ،‬وهو سبب صالحها أو سبب‬
‫فسادها والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫َ َّ ً‬ ‫َ َ ُ َّ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫﴿يقولون﴾‪ :‬أي الكفار في الدنيا على وجه التكذيب‪﴿ :‬أ ِإذا كنا ِعظ ًاما ن ِخ َرة﴾‪ :‬أي بالية‬
‫فتاتا‪.‬‬
‫في بعض النسخ يقولونِ‪- :‬أي ُمنكروا البعث في الدنيا‪ ،-‬استهز ًاء وإنكارا للبعث‪ ،‬أإنا ملردودونِ‬
‫ُ‬
‫الخلقة اْلولى؟ ِ‬
‫في الحافرة؟ أي؛ أنرد إلى املوت إلى ِ‬
‫واملعنى‪ :‬أي أنعود أحياء بعدما متنا؟ ُيقال‪ :‬رجع فالن على حافرته‪ِ .‬‬
‫أي رجع من حيث جاء‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى الحافرة‪ :‬العاجلة‪ِ .‬‬
‫أي أإنا ملردودون في العاجلة‪ ،‬أي في الحياة‪ِ .‬‬
‫والعاجلة سموها العاجلة‪ْ :‬لنها قريبة إليهم‪ ،‬وإال فهم ال يؤمنون باآلخرة‪ ،‬يعني العاجلة‬
‫ليست التي تقابل اآلخرة‪ ،‬هم منكرون ولكن سموها العاجلة على هذا التفسير‪ْ ،‬لنها قريبة‬
‫إليهم‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ال َحا ِف َر ِة﴾‪ :‬معناها املحفورة‪ ،‬وهي القبورِ‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫يعني‪ :‬أنعود أحياء في قبورنا بعد أن متنا ُ‬
‫ودفنا‪ ،‬وأهيل التراب علينا‪ ،‬نعود أحياء؟ إن ذلك‬
‫رجع بعيد‪ .‬هكذا يقولون والعياذ باهلل مما قالوا‪.‬‬
‫َّ ً‬
‫وقال بعض املفسرين‪﴿ :‬ن ِخ َرة﴾‪ :‬أي مجوفة‪ِ .‬‬
‫وال تنافر‪ ،‬بل هذا اختالف تنوع‪ ،‬فإن العظام في أول أمرها إنما يذهب مخها الذي فيها‪،‬‬
‫فتصبح مجوفة ثم تبلى وتفنى في القبو ِر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ‬
‫اس َرة﴾‪ :‬أي استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاما‬ ‫﴿قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ‬
‫نخرة‪ ،‬جهَّل منهم بقدرة الله وتجريا عليه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬ ‫َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ‬
‫اس َرة﴾‪ :‬كرة‪ :‬يعني رجعة‪ِ .‬‬
‫﴿قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ‬
‫خاسرة‪ :‬يعني كاذبة باطلة‪ ،‬ال حقيقة لها و لن تكونِ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫﴿فإ َّن َما ه َي َز ْج َر ٌة َ‬
‫اح َدة﴾‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫قال الله في بيان سهولة هذا اْلمر عليه‪ِ ِ :‬‬
‫اْلمر أسهل من االبتداء‪ ،‬وليس بينهم وبين البعث بعد موتهم إال النفخ في الصور‪ ،‬وهو‬
‫قريب‪ ،‬وقد التقم صاحب الصور‪ ،‬وهو إسرافيل عند أهل العلم الصور‪ ،‬وينظر إلى العرش‬
‫خشية أن يؤمر بالنفخ قبل أن يرتد إليه طرفه‪ِ .‬‬
‫ولهذا قال بعض أهل العلم‪ :‬أقرب املالئكة إلى العرش بعد حملته‪ :‬إسرافيل‪ِ .‬‬
‫فاْلمر قريب و سهل‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫فما هي إال أن يأمر الله إسرافيل بالنفخ في السور النفخة الثانية‪ ،‬حتى يخرج أصحاب‬
‫القبور من قبورهم ويأتون إلى حشرهم أفواجا كما تقدم في سورة النبأ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫﴿فإ َّن َما ه َي َز ْج َر ٌة َ‬
‫اح َدة﴾‪ُ :‬ينفخ في السور فإذا الخَّلئق كلهم بالساهرة‪ ،‬أي‪ :‬على وجه‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ ِ‬
‫اْلرض قيام ينظرون‪ ،‬فيجمعهم هللا ويقض ي بينهم بحكمه العدل ويجازيهم‪.‬‬
‫والعرب تسمي اْلرض الساهرة‪ ،‬قالوا‪ْ :‬لن فيها كثيرا من الباليا‪ ،‬ومن أصيب بالبالء يسهر ما‬
‫ينام‪ِ .‬‬
‫العرب جربوا‪ ،‬وعرفوا‪ ،‬ورأوا أن الدنيا كثيرة البالء‪ ،‬والبالء يسهر صاحبه‪ .‬فكان السهر في‬
‫اْلرض كثيرا‪ ،‬فسموا اْلرض بالساهرة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الساهرة في اللغة العربية‪ :‬هي اْلرض البيضاء املستوية‪ُِ ،‬ي ِرى عليها‬
‫السراب كأنه ماء‪ ،‬من قول العرب عين ساهرة‪ ،‬أي يجري فيها املاء‪ِ .‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬الساهرة ‪:‬هي النار‪ِ .‬‬
‫ْلنهم ال ينامون فيها والعياذ باهلل‪ ،‬وال يصيبهم فيها نعاس فال يرتاحون من العذاب‪ ،‬ال بنوم‪،‬‬
‫وال بنعاس نعوذ باهلل من عذاب هللا‪ِ .‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وس ٰى ﴿‪﴾١٥‬إ ْذ َن َاد ُاه َ ُّب ُه ب ْال َواد ْاْلُ َق َّ‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ‬
‫س ط ًوى ﴿‪ ﴾١٦‬اذ َه ْب ِإل ٰى‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫يث ُم َ‬‫﴿هل أتاك ح ِد‬
‫ََ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ َّ‬ ‫َُ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ِف ْر َع ْون ِإن ُه طغ ٰى ﴿‪ ﴾١٧‬فق ْل َهل ل َك ِإل ٰى أن ت َزك ٰى ﴿‪َ ﴾١٨‬وأ ْه ِد َي َك ِإل ٰى َرِب َك فتخش ٰى‬

‫‪50‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ََ ْ َ ْ ُ‬
‫﴿‪﴾١٩‬فأ َر ُاه اآل َية الك ْب َر ٰى ﴿‪ ﴾٢٠‬فكذ َب َو َع َص ٰى ﴿‪ ﴾٢١‬ث َّم أ ْد َب َر َي ْس َع ٰى ﴿‪ ﴾٢٢‬ف َحش َر‬
‫ُْ َ‬ ‫َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ ْ‬ ‫َ َ َ ََ ُ ْ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى ﴿‪ِ ﴾٢٥‬إ َّن ِفي‬ ‫ال أنا َرُّبك ُم اْل ْعل ٰى ﴿‪ ﴾٢٤‬فأخذه اللـه نك‬ ‫فن َاد ٰى ﴿‪ ﴾٢٣‬فق‬
‫َٰ َ ً َ ْ َ‬
‫ذ ِل َك ل ِع ْب َرة ِْلن َيخش ٰى ﴿‪[ ﴾﴾٢٦‬النازعات‪.]26-15 :‬‬
‫ملا تقدم أن مشركي قريش كانوا ينكروِن البعث‪ ،‬وكان هذا يتضمن تكذيب النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فكان هذا يؤذي النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومشركوا قريش كانوا يؤذون النبي‬
‫حسا ً‬
‫ومعنا‪ ،‬فسلى هللا عز وجل النبي صلى هللا عليه‬ ‫صلى هللا عليه وسلم واملؤمنون معه ًّ‬
‫وسلم واملؤمنين بتذكيرهم بقصة موس ى عليه السالم مع فرعونِ‪ِ .‬‬
‫وفي هذه القصة تسلية للنبي صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين من جهتين‪ِ :‬‬
‫أما الجهة اْلولى‪ :‬فهي أن هذا اْلذى من املشركين ْلنبيائهم وللمؤمنين باْلنبياء‪ُ ،‬سنة‬
‫ماضية وطريقة مسلوكة عند املتقدمين‪ ،‬فليس النبي صلى هللا عليه وسلم ً‬
‫بدعا من‬
‫الرسل‪ ،‬وليس املؤمنون به ً‬
‫بدعا من املؤمنين‪ ،‬بل كما كذب املشركون النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأنكروا ما جاء به‪ ،‬وآذوه فكذلك فعل السابقون بأنبيائهم‪ ،‬وكما آذى املؤمنين‪،‬‬
‫فكذلك آذى املشركون املتقدمون املؤمنين‪ ،‬وفي هذا تسلية للنبي صلى هللا عليه وسلم ومن‬
‫معه‪ِ .‬‬
‫وأما الوجه الثاني‪ :‬فهو أن مشركي قريش وإن كفروا؛ وإن كانت لهم قوة‪ ،‬فإنهم ليسوا عن‬
‫انتقام هللا ببعيد‪ ،‬فقد كان من هو أطغى منهم‪ ،‬وأقوى منهم‪ ،‬وأشد جبروتا منهم‪ ،‬وأعظم‬
‫كفرا منهم‪ ،‬ومع ذلك أخذه هللا عز وجل بأيسر أمر بإغراقه مع قومه‪ ،‬وما انتقام ربنا من‬
‫الظاملين ببعيد‪ِ .‬‬
‫ومن هنا تعلم مناسبة ذكر قصة موس ى عليه السالم في هذا املقام‪ ،‬والقرآن يأخذ بعضه‬
‫ببعض‪ ،‬فلن تجد في القرآن انتقاال غريبا‪ ،‬وإنما يأخذ بعضه ببعض‪ ،‬فهذا مرتبط بما قبله‪ِ .‬‬
‫َ ْ ََ َ َ ُ‬
‫يث ُم َ‬
‫وس ٰى﴾‪ِ .‬‬ ‫فقال هللا عز وجل‪﴿ :‬هل أتاك ح ِد‬
‫( َه ْل) هذا سؤال تحقيق‪ ،‬فمعنى ( َه ْل) قد‪ ،‬قد أتاك وبلغك خبر موس ى عليه السالم‬
‫ى‪ِ .‬‬
‫العظيم الذي فيه التسلية الكبر ِ‬
‫إذ ناداه ربه بواد طوى املقدس‪ ،‬و(طوى) تعني املقدس‪ ،‬وهو واد مقدس‪ ،‬وكان مضمون‬

‫‪51‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬
‫طاغيا في جبروته‪،‬‬ ‫النداء‪ :‬اذهب إلى فرعون سوال فإنه قد طغى وتجاوز كل ِّ‬
‫حد‪ ،‬فكان‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫وطاغيا في كفره‪ ،‬حتى أنه قال ما لم يقله‬ ‫ً‬
‫وطاغيا في أذية بني إسرائيل‪،‬‬ ‫ً‬
‫وطاغيا في قوته‬
‫أحد غيره‪ :‬أنا ربكم اْلعلى‪ ،‬فاعرض عليه اإلسالم بقول لين بأسلوب العرض‪ِ .‬‬
‫هل لك إلى أن تتزكى أي‪ :‬تتطهر من جميع ذنوبك وجميع قاذوراتك فليس بينك وبين هذا إال‬
‫أن تسلم‪ ،‬فإذا أسلمت هدمت كل ما كان قبل ذلك‪ ،‬فتكون كأنك ولدت طاهرا لم يعلق‬
‫ُ َّ‬
‫وأدلك على ربك وأعرفك بربك فإذا عرفت هللا فستخش ى‬ ‫بك ذنب مما مض ى قبل إسالمك‪،‬‬
‫ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ‬
‫هللا‪ ،‬من عرف هللا حقا وصدقا‪ ،‬خش ي هللا فعال ﴿ ِإن َما َيخش ى الل َه ِم ْن ِع َب ِاد ِه ال ُعل َم ُاء ۗ﴾‬
‫[فاطر‪ ]28 :‬فإذا دللتك على هللا وعرفتك باهلل‪ ،‬فعرفت هللا‪ ،‬فإنك ستخشاه وتخافه ومن‬
‫خاف هللا اتقاه واتقى عذابه‪ِ .‬‬
‫لكن فرعون أبى واستكبر وزاد في طغيانه‪ ،‬فأراه موس ى عليه السالم العالمة العظمى الدالة‬
‫حية عظمى كبرى‬‫على صدقه‪ ،‬وهي املعجزة فأراه اآلية اْلولى حيث ألقى عصاه فإذا هي ِّ‬
‫تسعى‪ ،‬ثم أراه اآلية اْلخرى فأخرج يده بيضاه من غير سوء‪ِ .‬‬
‫ولكن فرعون لم ي ِؤمن بل أعرض عن الحق ولم ُي ْق ِبل على الحق‪ ،‬وأخذ يسعى في إفساد‬
‫أمر موس ى عليه السالم فإن لم يستطع إفساد أمره يسعى في قتاله واستئصاله مع من آمن‬
‫به‪ِ .‬‬
‫َ َ‬
‫﴿ف َحش َر﴾ جمع جنوده‪ ،‬وجمع سحرته وجمع الناس‪ ،‬جمع جنوده ليكونوا مستعدين‬
‫لقتال موس ى عليه السالم ومن آمن معه‪ ،‬وجمع سحرته ليغالبوا موس ى عليه السالم‬
‫وليكسر موس ى عليه السالم‪ ،‬وجمع الناس ليروا ذلك‪ِ .‬‬
‫وملا خش ي أن يؤمن املأل بموس ى عليه السالم‪ ،‬لظهور عالمات الصدق في قوله‪ ،‬وظهور‬
‫املعجزات الدالة على صدقه‪ ،‬نادى املأل‪ :‬أنا ربكم اْلعلى‪ ،‬فال أعلى فوقي والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬إن فرعون كان يأمر بصنع تماثيل وأصنام ويأمرهم بعبادتها ويقولِ‪:‬‬
‫أنا ربها‪ِ ،‬‬
‫هذه اْلصنام أربابكم‪ ،‬وأنا رب أربابكم‪ ،‬فهو الرب اْلعلى واْلصنام دونه‪ِ .‬‬

‫‪52‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ َ َ ُ َّ‬
‫الل ُه َن َك َ‬
‫ال﴾‪ :‬أي عاقبه هللا عز وجل عقوبة شديدة فيها عبرة‪ِ .‬‬ ‫﴿فأخذه‬
‫ُْ َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ ففرعون وقومه عوقبوا عند املوت ويعاقبون بعد املوت ويعاقبون‬ ‫﴿نك‬
‫يوم الحشر‪ِ .‬‬
‫عوقبوا عند املوت بأن أغرقوا وهم ينظرون مع جبروتهم وقوتهم وتطور آالتهم‪ ،‬حتى أنهم‬
‫صنعوا وبنوا اْلهرامات التي ال زالت قائمة إلى اليوم‪ ،‬وهللا أعلم في أي زمن بنيت‪ ،‬لكن في‬
‫زمن الفراعنة‪ِ .‬‬
‫مع هذه القوة أخذهم هللا بأيسر أمر‪ ،‬وعاقبهم وهم ينظرون حيث أغرقهم وهم ينظرون‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وعشيا‪ ،‬وهذا عذابهم في قبورهم‪ ،‬تعرض‬ ‫ويعاقبون بعد املوت بالنار يعرضون عليها ً‬
‫غدوا‬
‫ً‬
‫وعشيا‪ِ .‬‬ ‫عليهم النار في طرفي النهار ً‬
‫غدوا‬
‫ويعاقبون يوم الحشر في اآلخرة‪ ،‬بدخولهم النار خالدين مخلدين فيها‪ ،‬فهذا نكال اآلخرة‬
‫واْلولى‪ِ .‬‬
‫إن في ذلك لعبرة وعظة ملن يخش ى‪ ،‬واالعتبار باآليات البد فيه من إيمان وخشية وحضور‬
‫َ‬ ‫َٰ َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ َّ‬
‫قلب‪ ،‬فالذكرى تنفع املؤمنين ﴿ َس َيذك ُر َمن َيخش ٰى﴾ [اْلعلى‪ِ ﴿ ،]10:‬إ َّن ِفي ذ ِل َك ل ِذك َر ٰى ِْلن‬
‫ٌ‬ ‫َّ ْ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َْ ٌ َْ َْ َ‬
‫كان له قلب أو ألقى السمع وهو ش ِهيد﴾ [ق‪ ،]37 :‬فغير املؤمن‪ ،‬مهما جاءته اآليات ال يعتبر‬
‫دنيويا‪ ،‬وليس كل مؤمن يتذكر باآليات‬ ‫ً‬ ‫بها وال يتعظ بها‪ ،‬وإن تأثر باآليات الواقعة‪ ،‬كان تأثره‬
‫واملواعظ‪ ،‬فإن من املؤمنين من تضعف خشيته هلل‪ ،‬فيقل اعتباره واتعاظه‪ ،‬وقد يكون‬
‫املؤمن يخش ى هللا لكنه غافل ِال يحضر قلبه فال ينتفع‪ِ .‬‬
‫إذن نتعلم أن اآليات واملواعظ إنما ينتفع بها من اتصف بهذه الصفات الثالث‪ :‬اإليمان‬
‫والخشية وإحضار أو حضور القلب‪ِ .‬‬
‫ومن هنا تعلم جواب السؤال الذي يسأله كثير من الناس‪ :‬ملاذا يدخل الناس املساجد يوم‬
‫الجمعة ويستمعون الخطب ويخرجون والغالب أنهم ال يتغيرون؟ ِ‬
‫السبب في هذا إما ضعف الخشية‪ ،‬وإما عدم حضور القلب‪ ،‬كثير من املؤمنين ال يعرفون‬
‫من الخطبة إال الحمد والدعاء‪ ،‬إذا شرع الخطيب فأثنى على هللا‪ ،‬شردت قلوبهم خارج‬
‫املسجد‪ ،‬وال يفيقون إال عند فراغه من الخطبة‪ ،‬فال ينتفعون باآليات واملواعظ إال من رحم‬

‫‪53‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َٰ َ ً َ ْ َ‬
‫هللا ﴿ ِإ َّن ِفي ذ ِل َك ل ِع ْب َرة ِْلن َيخش ٰى﴾ [النازعات‪ِ .]26 :‬‬
‫هذا املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي‪ ،‬ثم ننتقل إلى التفسير التفصيلي من خالل قراءة ما‬
‫كتبه الشيخ عبد الرحمن‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ‬
‫يقول هللا تعالى لنبيه محمد‪﴿ :‬هل أتاك ح ِديث موس ى﴾ وهذا االستفهام عن أمر عظيم‬
‫متحقق وقوعه‪.‬‬
‫( َه ْل) هنا بمعنى قد؛ ْلن السؤال سؤال تقرير وتحقيق‪ ،‬فاملعنى‪ :‬قد بلغك خبر موس ى عليه‬
‫السالم‪ ،‬وهو خبر عظيم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ ( :‬ه ْل) هنا بمعنى ما النافية‪ ،‬ومعنى ذلك‪ :‬ما أتاك حديث موس ى قبل‬
‫الوحي‪ ،‬ما بلغك حديث موس ى قبل الوحي‪ ،‬ولكن بلغك بالوحي‪ِ .‬‬
‫واْلول أظهر‪ ،‬أنها من باب التحقيق بمعنى‪ :‬قد‪ِ .‬‬
‫وهذا االستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه‪ ،‬أي‪ :‬هل أتاك حديثه‪.‬‬
‫ُ‬
‫س ط ًوى﴾ وهو اْلحل الذي كلمه هللا فيه‪ ،‬وامتن عليه‬ ‫﴿إ ْذ َن َاد ُاه َ ُّب ُه ب ْال َواد ْاْلُ َق َّ‬
‫د‬
‫ِ‬ ‫ر ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫بالرسالة‪ ،‬وابتعثه بالوحي واجتباه‪.‬‬
‫وهذا املحل هو وادي طوىِ‪ ،‬وطوى تعني املقدس‪ .‬فاسمه‪ :‬طوى ومعناه‪ :‬الوادي املقدس‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫فقال له‪﴿ :‬اذ َه ْب ِإل ٰى ِف ْر َع ْون ِإن ُه طغ ٰى﴾‪.‬‬
‫ً‬
‫وجبروتا ً‬
‫وأذى ً‬ ‫ً‬
‫وكفرا‪ ،‬فهو قد تجاوز الحد طغيانا في‬ ‫طغى أي تجاوز الحد في الطغيان‪ ،‬قوة‬
‫كل ش يء‪ِ ،‬‬
‫في قوته‪ ،‬في جبروته‪ ،‬في أذيته لبني إسرائيل‪ ،‬في كفره‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫﴿اذ َه ْب ِإل ٰى ِف ْر َع ْون ِإن ُه طغ ٰى﴾ أي‪ :‬فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه‪.‬‬
‫ْلنك رسول إليه‪ ،‬وإلى قومه‪ِ .‬‬
‫ٰ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ َ َ ٰ َ َ َ َّ‬
‫بقول لين وخطاب لطيف لعله يتذكر أو يخش ى ﴿فقل هل لك ِإلى أن تزكى﴾ أي‪ :‬هل لك‬
‫في خصلة حميدة ومحمدة جميلة‪ ،‬يتنافس فيها أولوا اْللباب وهي أن تزكي نفسك‬
‫وتطهرها من دنس الكفر والطغيان إلى اإليمان والعمل الصالح‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أي‪ :‬هل لك إلى أن تسلم‪ ،‬فتتزكى وتتطهر من جميع ذنوبك‪ ،‬فليس بينك وبين هدم جميع‬
‫ذنوبك إال أن تسلم‪ ،‬فإذا أسلمت هدمت ما كان قبل ذلك‪ِ .‬‬
‫َ ُ َ َ َ ً َّ ً‬ ‫ُ‬
‫وهذا املذكور هنا‪ ،‬هو تفسير للقول اللين الذي أ ِمر به موس ى وهارون ﴿فقوال ل ُه ق ْوال ل ِينا﴾‬
‫َ َّ َ َ َ َّ‬
‫﴿هل ل َك ِإل ٰى أن ت َزك ٰى﴾‪ِ .‬‬ ‫[طه‪ ،]44 :‬هذا تفسيره هنا أن يكون الكالم بأسلوب العرض‬
‫ٰ‬ ‫ََ ْ َ َ َٰ َ َ ََ ْ َ‬
‫﴿وأه ِديك ِإلى رِبك فتخش ى﴾ أي‪ :‬أدلك عليه وأبين لك مواقع رضاه من مواقع سخطه‪.‬‬
‫وأرشدك إلى طاعته‪ ،‬وأعرفك به حتى تخش ى‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫فتخش ى هللا إذا علمت الصراط اْلستقيم‪ ،‬فامتنع فرعون مما دعاه إليه موس ى‪﴿ ،‬فأ َر ُاه‬
‫ْ َ ُْ‬
‫اآل َية الك ْب َر ٰى﴾ أي‪ :‬جنس اآلية الكبرى فَّل ينافي تعددها‪.‬‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ ُْ‬
‫﴿اآل َية الك ْب َر ٰى﴾‪ ،‬وموس ى عليه السالم جاء بعدد من اآليات‪ ،‬فلماذا قال هللا‪﴿ :‬اآل َية﴾؟ ِ‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬أي جنس اآلية‪ ،‬والجنس يطلق على الكثير‪ ،‬على العدد كله فال إشكال‬
‫في تعددها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬املقصود أنه عرض عليه اآليات آية آية‪ ،‬وليس دفعة واحدة‪ ،‬فأوال‬
‫ألقى عصاه‪ ،‬فإذا هي ثعبان مبين‪ ،‬فأراه اآلية الكبرى‪ ،‬ثم أخرج يده من جيبه بيضاء من‬
‫غير سوء‪ ،‬آية أخرى‪ ،‬فأراه اآليات آية آية‪ِ .‬‬
‫ض ُاء ل َّلناظر َ‬
‫ين﴾ فكذب بالحق‬ ‫ص ُاه َفإ َذا ه َي ُث ْع َب ٌ‬
‫ان ُّمب ٌين َو َن َز َع َي َد ُه َفإ َذا ه َي َب ْي َ‬ ‫﴿ف َأ ْل َق ٰى َع َ‬
‫َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وعص ى اْلمر‪.‬‬
‫النبي وعص ى هللا‪ِ .‬‬ ‫فكذب َّ‬
‫فكذب النبي‪ :‬كذب موس ى عليه السالم‪ .‬وعص ى هللا‪ :‬فلم يمتثل أمره‪ِ .‬‬
‫ُ َ‬
‫﴿ث َّم أ ْد َب َر َي ْس َع ٰى﴾ أي‪ :‬يجتهد في مبارزة الحق ومحاربته‪.‬‬
‫ُ َ‬
‫﴿ث َّم أ ْد َب َر﴾ أدبر يعني‪ :‬أعرض عن الحق ولم يقبل عليه فكأنه أواله دبره‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬إن فرعون ملا رأى عص ى موس ى حية تسعى عظيمة كبيرة خاف‬
‫يتجبر على الناس‪ ،‬ويتكبر على الناس‪ ،‬ملا رأى الحية‪ ،‬ملا رأى العص ى‬
‫منها‪ ،‬وهو الجبار الذي ِ‬
‫حية‪ ،‬عظيمة‪ ،‬تسعى فر وأدبر خائفا منها‪ِ .‬‬
‫معنى (يسعى)‪ :‬كما قال الشيخ يجتهد في مبارزة الحق ومحاربته‪ ،‬أو يجتهد في إبطال أمر‬

‫‪55‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫موس ى‪ ،‬أو يسعى في القضاء على موس ى وقومه‪ِ .‬‬


‫فرعون‪ ،‬سعى في محاربة الحق‪ ،‬وسعى في تدبير‬
‫وهذا من اختالف التنوع‪ ،‬كل هذا من سعي ِ‬
‫القضاء على موس ى عليه السالم وقومه‪ ،‬وسعى في إبطال أمر موس ى عليه السالم بجمع‬
‫السحرة‪ِ .‬‬
‫َ َ ََ‬
‫﴿ف َحش َر فن َاد ٰى﴾ فحشر جنوده أي‪ :‬جمعهم‪.‬‬
‫َ َ‬
‫﴿ف َحش َر﴾ ِ‬
‫قال بعض أهل العلم‪ :‬أي جمع جنوده لقتال موس ى ومن آمن معه‪ِ .‬‬
‫حشر أي جمع مأله ليشاورهم في أمر موس ى عليه السالم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ِ :‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬حشر أي جمع السحرة من أنحاء البالد ليغالبوا موس ى عليه‬
‫السالم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬حشر أي جمع الناس وجعل لهم موعدا‪ ،‬ليشهدوا غلبة السحرة‬
‫ملوس ى عليه السالم؛ ْلن الناس قد تسامعوا بأمر موس ى عليه السالم‪ ،‬فأمرهم أن يجتمعوا‬
‫في يوم الزينة ضحى‪ ،‬حتى يروا غلبة السحرة ملوس ى عليه السالم‪ِ .‬‬
‫وال مانع من الجميع‪ ،‬فإنه حشر كل هؤالء‪ ،‬كل هذا مدافعة للحق وتمسكا بالباطل‪ِ .‬‬
‫َ َ َ ٰ َ َ َ ََ ُ ْ َ َ‬
‫ال أنا َرُّبك ُم اْل ْعل ٰى﴾ [النازعات‪.]24-23 :‬‬‫﴿فنادى فق‬
‫ََ ُ‬
‫ملا خش ي أن يؤمن املأل بموس ى عليه السالم‪ ،‬قال لهم‪ :‬ما علمت لكم إلها غيري ﴿أنا َرُّبك ُم‬
‫َْ َ‬
‫اْل ْعل ٰى﴾ ِ‬
‫ٰ‬ ‫َْ َْ‬
‫(اْلعلى) ِ‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬ال أحد فوقي‪ ،‬أنا اْلعلى على اإلطالق والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي أن لكم أربابا تعبدونها‪ ،‬وأنا رب أربابكم‪ ،‬فأنا الرب اْلعلى‬
‫الرئيس واْلصنام التماثيل التي تعبدونها أرباب دوني‪ِ .‬‬
‫ٰ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ‬
‫﴿فقال أنا ربكم اْلعلى﴾ فأذعنوا له وأقروا بباطله حين استخفهم‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وأقروا بباطله يعني‪ :‬أقروا بما يدعو إليه من الباطل‪ ،‬ليس أنهم أقروا أن ما عليه باطل‪،‬‬
‫ال؛ أقروا بما يدعوهم إليه من الباطل فلم يؤمنوا ولم يستجيبوا‪ ،‬بل استجابوا ْلمر‬
‫فرعونِ‪ِ .‬‬
‫ُْ َ‬ ‫َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ ْ‬
‫ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ أي‪ :‬جعل هللا عقوبته دليَّل وزاجرا ومبينة لعقوبة‬‫﴿فأخذه الله نك‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫كما قلنا النكال‪ :‬هو العقوبة الشديدة التي فيها عبرة‪ ،‬ولذلك قال الشيخ‪( :‬أي جعل هللا‬
‫عقوبته دليَّل) أي‪ :‬عبرة وزاجرا ومبينة لعقوبة الدنيا واآلخرة‪ِ .‬‬
‫ُْ َ‬ ‫ْ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪﴿ :‬اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ هي عقوبة اآلخرة وعقوبة اْلولى‪ ،‬أي‪ :‬عاقبه هللا‬
‫في اْلولى عند موته حيث أغرقه باملاء وهو ينظر‪ ،‬وملا أيقن املوت وغرغر قال‪ :‬آمنت أنه ِال‬
‫ْ َ‬
‫إله إال من آمن به بنو إسرائيل‪ ،‬فكان في هذا عقوبة له؛ ْلن هذا اإليمان ال ينفعه ﴿آآلن‬
‫ََْ َ َ َ‬
‫ص ْيت﴾ [يونس‪ ،]91 :‬فهذه نكال اْلولى‪ ،‬أي النكال في اْلولى‪ ،‬واآلخرة‪ :‬هي عذاب القبر‬ ‫وقد ع‬
‫والعذاب يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ُْ َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ العقوبة على كلمته اآلخرة وكلمته‬‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى ﴿نك‬
‫اْلولى ِ‬
‫يعني‪ :‬عاقبناه عقوبة شديدة على كلمته اْلولى وكلمته اْلخرىِ‪ .‬ما هما؟ ِ‬
‫َٰ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫َ َ َ ُّ ُ ُ ْ َ‬
‫اْل ْع َل ٰى﴾ [النازعات‪َ ،]24 :‬‬
‫﴿ما َع ِل ْمت لكم ِم ْن ِإل ٍه غ ْي ِري﴾ [القصص‪،]38 :‬‬ ‫﴿أنا ربكم‬
‫فهاتان الكلمتان اْلولى واآلخرة‪ِ .‬‬
‫ٰ‬ ‫َ َ َ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الكلمة اْلولى‪ :‬أنا ربكم اْلع ِلى‪ ،‬واآلخرة تكذيبه موس ى وسعيه في‬
‫إهالكه‪ِ .‬‬
‫فيكون املعنى على هذا‪ :‬فأخذناه بالعقوبة الشديدة التي فيها عبرة بسبب اآلخرة واْلولى‪،‬‬
‫بسبب كلمته اآلخرة وكلمته اْلولى‪ ،‬أو بسبب كلمته‪ :‬أنا ربكم اْلعلى‪ ،‬وبسبب تكذيبه ملوس ى‬
‫عليه السالم وسعيه في إهالكه‪ِ .‬‬
‫َ َ ً َ ْ َ‬
‫﴿إ َّن ِفي ذ ِل َك ل ِع ْب َرة ِْل ْن َيخش ى﴾ فإن من يخش ى هللا هو الذي ينتفع باآليات والعبر‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪57‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يعني أن االعتبار والعظة باآليات‪ ،‬ملن يخش ى من املؤمنين‪ ،‬بشرط أن ُيحضر قلبه‪ ،‬فإذا كان‬
‫السامع لآليات والناظر لها مؤمنا يخاف هللا‪ ،‬وأحضر قلبه فإنه ينتفع باآليات‪ِ .‬‬
‫فإذا رأى عقوبة فرعون‪ ،‬عرف أن كل من تكبر وعص ى وبارز اْللك اْلعلى‪ ،‬يعاقبه في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأما من ترحلت خشية هللا من قلبه فلو جاءته كل آية لم يؤمن بها‪.‬‬
‫‪-‬تفسير اْلقطع الثالث من السورة‪-‬‬
‫ََ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫الس َم ُاء ۚ َب َن َ‬‫﴿أ َأ ُنت ْم َأ َش ُّد َخ ْل ًقا َأم َّ‬‫َ‬
‫ش ل ْيل َها‬ ‫اها ﴿‪َ ﴾٢٧‬رف َع َس ْمك َها ف َس َّو َاها ﴿‪ ﴾٢٨‬وأغط‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫اها ﴿‪ ﴾٣٠‬أ ْخ َر َج م ْن َها َم َاء َها َو َم ْر َع َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫ض َب ْع َد ذل َك َد َح َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫اها ﴿‪َ ﴾٢٩‬واْل ْر َ‬ ‫ض َح َ‬ ‫َو َأ ْخ َر َج ُ‬
‫اها ﴿‪﴾٣١‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ ُ‬
‫اعا لك ْم َو ِْلن َع ِامك ْم ﴿‪[ ﴾﴾٣٣‬النازعات ‪.]33-27 :‬‬
‫َ‬ ‫َ َ ً َّ ُ‬ ‫ال َأ ْ َس َ‬ ‫ْ‬
‫اها ﴿‪ ﴾٣٢‬مت‬ ‫َوال ِج َب َ ر‬
‫ملا سلى هللا عز وجل الرسول صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين‪ ،‬بذكر قصة موس ى عليه‬
‫السالم مع فرعون الطاغية‪ ،‬عاد الكالم إلى مقصود السورة‪ ،‬وهو إثبات البعث‪ِ .‬‬
‫فذكر هللا عز وجل ً‬
‫شيئا من اآليات الدالة على وجوده‪ ،‬وعلى ربوبيته‪ ،‬وعلى تدبيره‪ ،‬وعلى‬
‫ألوهيته‪ ،‬وعلى قوته‪ ،‬وعلى أنه على كل ش يء قدير‪ ،‬وعلى أن البعث أيسر عليه سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬أ َأ ُنت ْم َأ َش ُّد َخ ْل ًقا َأم َّ‬
‫الس َم ُاء ۚ﴾ [النازعات‪ِ .]27 :‬‬ ‫ِ‬
‫خلقا‪ ،‬أم السماء التي ترونها‪ ،‬وهي سقف فوقكم‪ ،‬متسعة فيها آيات‬ ‫أأنتم أقوى وأثقل ً‬

‫عظيمة‪ ،‬ومن السماء ما ال ترون‪ ،‬وفيه من العجائب الش يء العظيم‪ِ .‬‬


‫وهذا يكفي العاقل ليقولِ‪ :‬إن السماء أشد وأثقل ً‬
‫خلقا من خلق الناس‪ ،‬لكن هللا عز وجل‬
‫سقفا فوقكم‪ ،‬والعرب تسمي السقف‬ ‫اها﴾ أي‪ :‬جعلها ً‬ ‫بيانا ففصل هذه اآلية‪َ ﴿ :‬ب َن َ‬
‫اد اْلمر ً‬
‫ز‬
‫سقفا‪ ،‬وهذا السقف معلق من غير عمد‬ ‫بناء كما تقدم معنا في سورة النبأ‪ ،‬فجعلها ً‬ ‫ً‬
‫َّ‬
‫عمد ترونها‪ ،‬وفي هذه اآلية عبرة‪ ،‬فإن اإلنسان ولو‬
‫ترونها‪ ،‬مع سعته‪ ،‬فإنه معلق من غير ٍِ‬
‫صغيرا بال عمد‪ ،‬ال يستطيع ولو جمع الناس كلهم‪،‬‬‫ً‬ ‫جمع ما جمع ال يستطيع أن يبني ً‬
‫سقفا‬
‫املتسع ُيبنى بال عمد؟! ال‬
‫صغيرا بال عمد‪ ،‬فكيف بهذا السقف ِّ‬ ‫ً‬ ‫ال يستطيع أن يبني ً‬
‫سقفا‬
‫ِ‬
‫شك أنه ال يقدر على ذلك إال هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ََ َ َ‬
‫﴿ َرفع س ْمك َها﴾ أي‪ :‬أعلى سقفها‪ ،‬ورفعها في الهواء من غير ٍ‬
‫عمد ترونها‪ِ .‬‬

‫‪58‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫َ‬
‫شقوقا‪ ،‬وال ار ً‬
‫تخاء‪ ،‬وهذا يخالف العادة‬ ‫ً‬
‫فطورا وال‬ ‫﴿ف َس َّو َاها﴾ وأحكمها فال ترى فيها‬
‫قطعا‪ ،‬في السقف الصغير‪ ،‬فكيف بهذا السقف الكبير‪ ،‬الذي مهما كررت النظر إليه لن‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َت َرى فيه ً‬
‫عيبا‪ ،‬ولن ت َرى فيه اختالفا‪ ،‬ولن ت َرى فيه ميال‪ ،‬ولن ت َرى فيه شقوقا‪ ،‬وهذا ال‬
‫يمكن أن يكون إال من هللا‪ ،‬فاهلل بناها وأحكمها وحفظها‪ ،‬مرت عليها سنون وسنون ما تغير‬
‫فيها ش يء‪ِ .‬‬
‫إذن انتبهوا‪ :‬بناها ورفعها وأحكم صنعها‪ ،‬وحفظ صنعها‪ ،‬فإنه لم يتغير ً‬
‫أبدا‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫يكون ذلك إال من هللا سبحانه وتعالى‪،‬وأجرى فيها ٍ‬
‫آيات عظيمة ِ‬
‫ََ ْ َ َ َ َ‬
‫ش ل ْيل َها﴾ أي‪ :‬أظلم ليلها‪ ،‬كيف يأتي الظالم؟ ِ‬ ‫﴿وأغط‬
‫يأتي الظالم بغيبوبة الشمس‪ ،‬أن تغرب الشمس‪ ،‬وأين الشمس؟ الشمس في السماء‪ ،‬نراها‬
‫وهو الشمس‪ ،‬حيث تغيب‬
‫متعلق بالسماء ِ‬ ‫بأمر‬ ‫الليل‬ ‫أظلم‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫ا﴾‬ ‫ه‬ ‫﴿و َأ ْغ َط َ‬
‫ش َل ْي َل َ‬ ‫فوقنا‪َ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فيقبل الليل‪ِ .‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫اها﴾ أنار نهارها وأبرز نهارها‪ ،‬بأي أمر؟ بالشمس‪ ،‬حيث تشرق الشمس‬ ‫ض َح َ‬‫﴿ َو َأ ْخ َر َج ُ‬

‫فيظهر النهار‪ ،‬ويعم الضوء‪ِ .‬‬


‫بآية عظيمة‬
‫ومن هنا تعرف سر إضافة الظلمة إلى السماء‪ ،‬والضوء إلى السماء‪ ،‬أي ٍ‬
‫وبآية واحدة تعلق الضدان‪ :‬الليل والنهار‪ ،‬كالهما متعلقان‬‫متعلقة بالسماء وهي الشمس‪ٍ ،‬‬
‫ً‬ ‫بالشمس ً‬
‫غروبا لليل‪ ،‬وشروقا للضوء والنهار‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وأنواعا‪ ،‬بما يناسب نفع‬ ‫ومهدها وجعلها ً‬
‫ألوانا‬ ‫سواها َّ‬ ‫ض َب ْع َد َٰذل َك َد َح َ‬
‫اها﴾ أي‪َّ :‬‬ ‫َ َْ‬
‫اْل ْر َ‬‫﴿و‬
‫ِ‬
‫ودبر فيها أو أقواتها ومألها خيرات‪ِ .‬‬ ‫اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫وهذا يدل على أن تدبير اْلرض متأخر على خلق السماء‪ ،‬فكان اْلمر أن ربنا ‪-‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬خلق اْلرض في يومين‪ ،‬ثم استوى إلى السماء‪ ،‬فخلق السماء بعد خلق اْلرض في‬
‫قدر فيها أقواتها في يومين‪ ،‬فهذه ستة أيام‪ِ .‬‬ ‫يومين‪ ،‬ثم ِّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫﴿أخرج ِمنها ماءها ومرعاها﴾ وحياة الناس قائمة على هذين‪ :‬املاء ِوالطعام‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َ ْ‬
‫﴿أخ َر َج ِم ْن َها َم َاء َها﴾ ففيها عيون‪ ،‬وإذا حفرت اآلبار وجد املاء‪ِ .‬‬
‫وأخرج منها مرعاها أي‪ :‬نباتها النافع لإلنسان ولدواب اإلنسان‪ ،‬والدواب نافعة لإلنسان‪،‬‬

‫‪59‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فكل ش يء في اْلرض خلقه هللا لإلنسان‪ُ ﴿ ،‬ه َو َّالذي َخ َل َق َل ُكم َّما في اْلرض َجم ً‬
‫يعا﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عائد إلى اإلنسان‪ .‬من الذي خلق هذا؟ ودبر هذا؟ ال‬ ‫[البقرة‪ ]29 :‬فنفع كل ما في اْلرض ٌ‬

‫يمكن أن يكون إال هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬


‫ال َأ ْ َس َ‬ ‫َ ْ‬
‫اها﴾‪.‬‬ ‫﴿وال ِج َب َ ر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿أرساها﴾ أي ثبتها وثبت بها‪ ،‬فالجبال ثبتها هللا في اْلرض وقد اكتشف العلماء أن أكثر‬
‫وثبت بها اْلرض انتبهوا الجبال راسية ُومرسية‪ ،‬وهذه آية عظيمة‪،‬‬ ‫الجبال في داخل اْلرض‪ِّ ،‬‬
‫ثابتة ومثبتة‪ُ ،‬ث ِّبتت في اْلرض فليست على سطح اْلرض فيمكن أن تتزلزل‪ِّ ،‬‬
‫ومثبتة لألرض‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل هذا الذي تقدم في اْلرض‪ ،‬منفعة لإلنسان‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َّ ُ ْ َ َ ْ َ ُ‬ ‫﴿ َم َت ً‬
‫اعا﴾‪ :‬أي منفعة ﴿لكم و ِْلنع ِامكم﴾ ومنفعة أنعامكم منفعة لكم‪ ،‬فكان اْلمر كله‬
‫منفعة لي بني آدم‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير اإلجمالي اإليماني املوضوعي ثم نعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫واضحا ْلنكري البعث ومستبعدي إعادة‬ ‫قال رحمه الله تعالى‪ :‬يقول تعالى مبينا دليَّل‬
‫ََ ُ‬
‫هللا لألجساد ﴿أأنت ْم﴾ أيها البشر‪.‬‬
‫أيها البشر‪ .‬وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يا مشركي قريش‪ ،‬وال تدافع بين املعنيين فإن الخطاب‬
‫ابتداء ملشركي قريش ويشاركهم جميع البشر فإنهم داخلون في هذا‪ِ .‬‬
‫﴿أ َش ُّد َخ ْل ًقا َأم َّ‬
‫الس َم ُاء ۚ﴾‪.‬‬
‫َ‬
‫البشر‬ ‫أيها‬ ‫﴾‬ ‫﴿أ َأ ُنت ْ‬
‫م‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َ َ ًَْ‬
‫﴿أش ُّد خلقا﴾‪ :‬أي‪ :‬أقوى خلقا وأثقل خلقا‪ ،‬أم السماء‪ِ .‬‬
‫ذات الجرم العظيم والخلق القوي واالرتفاع الباهر‪.‬‬
‫والطبقات فهي سبع سماوات‪ِ .‬‬
‫َب َن َ‬
‫اها هللا‪.‬‬
‫أي‪ :‬فجعلها سقفا‪ ،‬وكما قلنا العرب تسمي السقف ً‬
‫بناء فخاطبهم هللا بما يعرفونِ‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿ َرف َع َس ْمك َها ف َس َّو َاها﴾ أي‪ :‬جرمها وصورتها‪.‬‬
‫ْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬رفع سمكها‪ :‬أي أعلى سقفها‪ ،‬فجعلها عالية بعيدة‪ ،‬يقال‪َ :‬س َم ِك ُتِ‬
‫الش يء‪ ،‬أي‪ :‬رفعته في الهواء‪ِ .‬‬

‫‪60‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فسواها بإحكام وإتقان يحير العقول ويذهل اْللباب‪.‬‬


‫فال شقوق فيها وال فطور وليس فيها تفاوت ومع اتساعها رفعها سبحانه بغير عمد ترونها‬
‫وتلك آية عظمى‪ِ .‬‬
‫ََ ْ َ َ َ َ‬
‫ش ل ْيل َها﴾ أي‪ :‬أظلمه‪ ،‬فعمت الظلمة جميع أرجاء السماء‪ ،‬فأظلم وجه اْلرض‪.‬‬ ‫﴿وأغط‬
‫والغطش هو الظلمة‪ ،‬وأضاف الظلمة إلى السماء ْلن الظلمة تكون بغروب الشمس‬
‫والشمس في السماء‪ِ .‬‬
‫اها﴾ أي‪ :‬أظهر فيه النور العظيم حين أتى بالشمس فانتشر الناس في‬ ‫﴿و َأ ْخ َر َج ُ‬
‫ض َح َ‬ ‫َ‬

‫مصالح دينهم ودنياهم‪.‬‬


‫وليس املراد الضحى فقط‪ ،‬وإنما املراد النهار‪ ،‬وهذا من باب التعبير عن الش يء ببعضه‪ .‬أي‪:‬‬
‫أخرج نهارها وجعل نهارها مضيئا ْلنه وقت املعاش‪ ،‬وجعل ليلها مظلما ْلنه وقت السبات‪ِ .‬‬
‫َٰ‬ ‫َ َْ‬
‫ض َب ْع َد ذ ِل َك﴾ أي‪ :‬بعد خلق السماء‪ ،‬دحاها‪ ،‬أي أودع فيها منافعها‪.‬‬
‫اْل ْر َ‬‫﴿و‬
‫اها﴾ أي‪ :‬بسطها بما يناسب ما خلقت له‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬ ‫﴿د َح َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬

‫دحاها أي‪ :‬مهدها لألقوات وقدر فيها أقواتها‪ِ .‬‬


‫اها﴾ أي أودع فيها منافعها وفسر ذلك بقوله‪ :‬أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال‬ ‫﴿د َح َ‬
‫َ‬

‫أرساها أي‪ :‬ثبتها في اْلرض‪.‬‬


‫َ ْ‬
‫﴿أخ َر َج ِم ْن َها َم َاء َها﴾ أي‪ :‬أخرج منها عيونا متفجرة باملاء‪ ،‬وجعل في بطنها ماء‪ ،‬يستخرجه‬
‫اإلنسان لينتفع به‪ ،‬وعلم اإلنسان كيف يستخرجه من الذي علم اإلنسان أن في بطن‬
‫اْلرض ماء؟! هللا‪ ،‬وعلمه كيف يستخرجه‪ ،‬والزلنا إلى اليوم نتعلم أشياء جديدة نستخرج بها‬
‫املاء الذي نشربه‪ِ .‬‬
‫ولوال هللا ما عرفنا‪ ،‬ولوال هللا ما وصلنا إلى ذلك املاء‪ِ .‬‬
‫اها﴾ قال بعض أهل العلم‪ :‬املرعى هو ما ترعاه اْلنعام‪ِ .‬‬ ‫﴿و َم ْر َع َ‬
‫َ‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬املرعى هو كل نبات‪ ،‬فيدخل في ذلك ما يأكله اإلنسان وما تأكله‬
‫الدواب‪ ،‬وهذا أقرب وهللا أعلم أن املقصود باملرعى النبات مطلقا‪ ،‬سواء ما ترعاه الدواب‬
‫أو ما يأكله اإلنسان أو غير ذلك‪ِ .‬‬

‫‪61‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ال َأ ْ َس َ‬ ‫َ ْ‬
‫اها﴾ أي‪ :‬ثبتها باْلرض‪.‬‬ ‫﴿وال ِج َب َ ر‬
‫كما قلنا ثبتها في اْلرض‪ ،‬وثبت اْلرض بها‪ ،‬هذا معنى أرساها‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فدحا اْلرض بعد خلق السماوات كما هو نص هذه اآليات الكريمة‪.‬‬
‫ُ َ َّ ُ‬
‫أما خلق نفس اْلرض‪ ،‬فمتقدم على خلق السماء ‪.‬كما قال تعالى‪ ۞﴿ :‬ق ْل أ ِئنك ْم‬
‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َن َ ُ َ َ ً َٰ َ َ ُّ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ َّ‬
‫اْلين﴾ إلى أن‬ ‫لتكف ُرون ِبال ِذي خلق اْلرض ِفي يومي ِن وتجعلو له أندادا ۚ ذ ِلك رب الع ِ‬
‫َ ََ ََ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال َل َها َو ِل ْ َأل ْ‬
‫ان َف َق َ‬
‫الس َماء َوه َي ُد َخ ٌ‬‫اس َت َو ٰى إ َلى َّ‬ ‫ُ‬
‫ض ائ ِت َيا ط ْو ًعا أ ْو ك ْر ًها قالتا أت ْينا‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ث َّم ْ‬ ‫قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ض ُ‬
‫اه َّن َس ْب َع َ‬ ‫َطائع َين َف َق َ‬
‫ات﴾ [فصلت‪ ،]12-9 :‬فالذي خلق السماوات العظام وما‬ ‫ٍ‬ ‫او‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ِ ِ‬
‫فيها من اْلنوار‪.‬‬
‫كما قلنا هي هكذا بالترتيب‪ :‬هللا عز وجل خلق اْلرض في يومين‪ ،‬ثم استوى إلى السماء‬
‫فخلقهن في يومين‪ ،‬ثم دبر فيها أقواتها في يومين‪ِ .‬‬
‫فالذي خلق السماوات العظام‪ ،‬وما فيها من اْلنوار واْلجرام‪ ،‬واْلرض واْلبراج الكثيفة‪،‬‬
‫وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم‪ ،‬البد أن يبعث الخلق اْلكلفين فيجازيهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬فمن أحسن فله الحسنى‪ ،‬ومن أساء فَّل يلومن إال نفسه‪.‬‬
‫قلنا إن هذه اآليات دالة على وجود هللا وكل عاقل يوقن بآية من هذه اآليات‪ ،‬وليس بكل‬
‫هذه اآليات أن هللا عز وجل موجود‪ ،‬فإنه ال يمكن وجود هذه اآليات إال من هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫فال يمكن أن توجد نفسها‪ ،‬وال يمكن أن توجد صدفة‪ ،‬وال يمكن ملخلوق أن يوجدها‪،‬‬
‫فتعين أن موجدها هو العظيم سبحانه‪ ،‬وهي دالة على ربوبية هللا‪ ،‬فهو الذي ربى خلقه‬
‫بالنعم‪ ،‬وأمدهم بالقيم‪ ،‬وهي دالة على ألوهية هللا‪ ،‬فاهلل هو املستحق للعبادة‪ ،‬وهي دالة‬
‫على قوة هللا‪ ،‬فاهلل هو القوي املتين‪ ،‬وهي دالة على أن هللا على كل ش يء قدير‪ ،‬فيجب‬
‫امتثال أمره‪ ،‬وتصديق كالمه‪ ،‬وهي أيضا دالة على أن البعث أيسر عليه من هذا الخلق‪،‬‬
‫فإن اإلعادة أيسر من االبتداء كما هو معلوم‪ِ .‬‬

‫‪62‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ان َما َس َع ٰى ﴿‪َ ﴾٣٥‬و ُبر َز ِت ْال َجح ُ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ‬ ‫الط َّام ُة ْال ُك ْب َر ٰ‬
‫َّ‬ ‫﴿فإ َذا َج َِ‬ ‫َ‬
‫يم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نس‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬‫ي‬ ‫﴾‬ ‫‪٣٤‬‬ ‫﴿‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫اء‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫الد ْن َيا ﴿‪َ ﴾٣٨‬فإ َّن ْال َجح َ‬ ‫َ‬
‫ْلَن َي َر ٰى ﴿‪َ ﴾٣٦‬فأ َّما َمن َط َغ ٰى ﴿‪َ ﴾٣٧‬و َآث َر ْال َح َي َاة ُّ‬
‫يم ِه َي اْلأ َو ٰى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫الن ْف َ‬ ‫َ‬ ‫اف َم َق َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫س َع ِن ال َه َو ٰى ﴿‪ ﴾٤٠‬ف ِإ َّن ال َج َّنة ِه َي اْلأ َو ٰى‬ ‫َّ‬
‫ام َرِب ِه َونهَى‬ ‫﴿‪ ﴾٣٩‬وأما من خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َّ َ َ َّ َ‬ ‫َُ َ‬
‫يم أنت ِمن ِذك َر َاها ﴿‪ِ ﴾٤٣‬إل ٰى َرِب َك‬ ‫اها ﴿‪ِ ﴾٤٢‬ف‬ ‫ان ُم ْر َس َ‬ ‫﴿‪َ ﴾٤١‬ي ْسألون َك َع ِن الساع ِة أي‬
‫ً َ‬ ‫َ َ ْ ُ َّ‬ ‫ََ‬ ‫نت ُمنذ ُر َمن َي ْخ َش َ‬ ‫َّ َ َ َ‬
‫اها ﴿‪ ﴾٤٥‬كأ َّن ُه ْم َي ْو َم َي َر ْون َها ل ْم َيل َبثوا ِإال َع ِش َّية أ ْو‬ ‫ِ‬ ‫اها ﴿‪ِ ﴾٤٤‬إنما أ‬ ‫ُم َنت َه َ‬

‫اها ﴿‪[ ﴾﴾٤٦‬النازعات‪]46-34 :‬‬ ‫ض َح َ‬ ‫ُ‬

‫ملا بين ربنا سبحانه وتعالى اآليات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى‪ ،‬وعلى ربوبيته‪ ،‬وعلى‬
‫ألوهيته‪ ،‬وعلى تدبيره للكون‪ ،‬وعلى أنه القوي املتين‪ ،‬وعلى أنه على كل ش يء قدير‪ ،‬وهذه‬
‫ا ِآليات تدل على أن هللا سبحانه وتعالى قادر على بعث ِّ‬
‫الناس‪ ،‬وعلى حسابهم‪ ،‬وعلى ما في‬
‫اليوم اآلخر وما وراءه‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫الط َّام ُة ْال ُك ْب َرى﴾ يعني إذا جاءت ِّ‬
‫َّ‬ ‫ِّ ِّ َ َ‬
‫الداهية الكبرى التي ال‬ ‫وجل‪﴿ :‬ف ِإذا َج َاء ِت‬
‫قال هللا عز ِ‬
‫كل داهية‪ ،‬وهي يوم‬‫كل داهية‪ ،‬وتغلب ك ِّل داهية‪ ،‬وتعلو ِّ‬ ‫أمر منها‪ ،‬بل هي تعم ِّ‬ ‫أدهى منها‪ ،‬وال ِّ‬
‫القيامة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كل إنسان عمله في ِّ‬
‫الدنيا‪ ،‬من خير أو ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يتذكر ِّ‬
‫شر‪ ،‬وهو سعيه الذي سعى به‬ ‫في ذلك اليوم‪،‬‬
‫إلى ِّبه سبحانه وتعالى‪ ،‬ال ينس ى منه شيئا؛ في ِّ‬
‫الدنيا‪ ،‬قد يعمل العمل ثم ينساه‪ِّ ،‬أما في‬ ‫ر‬
‫ِّ‬
‫يتذكر ِّ‬ ‫ِّ‬
‫كل عمله وال ينس ى منه شيئا‪ِ .‬‬ ‫اآلخرة‪ ،‬فإنه‬
‫ثم يراه في كتاب يخرجه له رِّبه سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو ُيحاسب نفسه‪ ،‬وكفى بنفسه حسيبا‬
‫عليه‪ ،‬ويبلو عمله‪ِ .‬‬
‫ثم بعد ذلك‪ِ :‬‬ ‫ِّ‬
‫حاسب بل يدخل ِّ‬
‫الجنة بغير حساب وال عذاب‪ِ .‬‬ ‫الناس من ال ُي َ‬ ‫من ِّ‬
‫حاسب حسابا يسيرا‪ ،‬فيعرض عليه عمله عرضا مع ِّ‬
‫الستر عليه‪ِ .‬‬ ‫الناس من ُي َ‬ ‫ومن ِّ‬
‫ِّ‬
‫ومن ِِّ‬
‫الناس من ُيناقش عمله مناقشة‪ ،‬ومن نوقش الحساب ُع ِذب‪ِ .‬‬

‫‪63‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الناس من ُيفضح بعمله على رؤوس الخالئق‪ِ .‬‬ ‫ومن ِّ‬


‫ِّ‬ ‫في ذلك اليوم ُتظهر ِّ‬
‫كل أحد في منظر مخيف ُيقطع القلوب‪،‬‬ ‫لكل ذي عينين فيراها ِّ‬ ‫النار ِّ‬
‫ِّ‬
‫كل زمام سبعون ألف‬ ‫تغيظ وزفير ‪ ،‬لها سبعون زمام مع ِّ‬ ‫تتلظى‪ ،‬لها ِّ‬ ‫حيث ُيؤتى بها وهي‬
‫يجرونها‬‫يجرونها‪ ،‬أي معها أربعة مليون وتسعمائة ألف ملك‪ ،‬هللا أعلم بعظم خلقتهم‪ِّ ،‬‬ ‫ملك ِّ‬
‫مأل يبلغون هذا العدد اجتمعوا في ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ًّ‬
‫الدنيا‪ ،‬وهم‬ ‫جرا‪ ،‬وهذا منظر يقطع القلوب‪ ،‬لو أن‬
‫ِّ‬
‫الناس لقطع ذلك القلوب‪ ،‬فكيف بنار ِِّ‬
‫جهنم؟‬ ‫الدنيا ُليدخلوا فيها بعض ِّ‬ ‫ُيع ِّدون نا ا من نار ِّ‬
‫ر‬ ‫ِ‬
‫وقد أتى بها هذا العدد العظيم من املالئكة في ذلك املوقف العظيم‪ِ .‬‬
‫الناس من يوقن ِّأنه واقع فيها‪ ،‬ال يرجو سالمة‪ ،‬وهم ِّ‬
‫الكفار ‪ِ .‬‬ ‫فمن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ومن ِّ‬
‫يشتد خوفه من دخولها‪ ،‬وهم عصاة املؤمنين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم‪،‬‬ ‫الناس من‬
‫ِّ‬
‫سيمر عليها‪ ،‬وال يدري هل يسلم منها أو ُيكردس فيها‪ِ .‬‬ ‫ِّ‬ ‫وكل مؤمن يدرك وهو يراها أنه‬ ‫ِّ‬
‫َّ ُ ْ ُ‬ ‫ِّ ِّ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫وجل‪﴿ :‬ف ِإذا َج َاء ِت الط َّامة الك ْب َرى﴾‪ ،‬هذه‬
‫﴿فأ َّما َمن طغ ٰى﴾‪ :‬هذا جواب قول هللا عز ِ‬
‫فأما من تجاوز الحد‪ ،‬ولم يلزم حدود رِّبه‪ ،‬ولم يعظم شعائر‬ ‫اآلية وما بعدها جواب لهذا‪ِّ ،‬‬
‫ربه‪ ،‬بل كفر أو عص ى ولم يغفر هللا له معصيته‪ ،‬وآثر الحياة الدنيا فقدمها على اآلخرة‪ ،‬ولها‬
‫بها عن اآلخرة فألهته اْلموال عن ذكر ربه‪ ،‬وألهته اْلوالد عن ذكر ربه‪ ،‬وألهته املتع عن ذكر‬
‫ربه‪ ،‬فإن النار الشديدة الحر ‪،‬العظيمة العذاب‪ ،‬مأواه‪ ،‬ومنزله‪ ،‬ومقره‪ ،‬ومصيره الذي يصير‬
‫إليه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الن ْف َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫س َع ِن ال َه َو ٰى﴾ فعلم في دنياه أن هللا يراه‪ ،‬وأن هللا‬ ‫﴿وأ َّما َم ْن خاف َمقا َم َرِب ِه َونهَى‬
‫يسمعه‪ ،‬وأنه سيرجع إلى ربه‪ ،‬وأن ربه سيكلمه‪ ،‬فاتقى هللا واتقى اليوم الذي يرجع فيه إلى‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬فزجر نفسه عن الهوى الذي يدعوها إلى ترك الواجبات‪ ،‬وفعل املحرمات‪،‬‬
‫فلم يطع نفسه اْلمارة بالسوء‪ ،‬ولم يطع شياطين الجن واإلنس‪ ،‬ولم يطع هواه‪ ،‬وإنما أفلح‬
‫فخرج من داعية هواه‪ ،‬إلى طاعة مواله‪ ،‬فعاش طائعا لربه‪ ،‬وإن زلت القدم وغلب الضعف‬
‫عليه سارع بالندم‪ ،‬وأقلع عن الذنب‪ ،‬وعزم على أال يرجع إليه‪ ،‬ولم يغره حلم هللا عليه‪،‬‬
‫باستمراره في الذنب‪ِ .‬‬
‫ْ َْ‬ ‫َ ْ َّ َ‬
‫﴿ف ِإ َّن ال َجنة ِه َي اْلأ َو ٰى﴾‪ :‬فإن الجنة التي فيها النعيم املقيم‪ ،‬الذي ال انقطاع له‪ ،‬وال‬

‫‪64‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫منغص له‪ ،‬فيها ما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬والخطر على قلب بشر‪ ،‬تلكم الجنة مأواه‪،‬‬
‫منزله‪ ،‬ومقره‪ ،‬ومصيره الذي يرجع إليه‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ َّ َ‬ ‫َُ َ‬
‫اها﴾ يسألك الناس مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬عن الساعة متى‬ ‫ان ُم ْر َس َ‬‫﴿ َي ْسألون َك َع ِن الساع ِة أي‬
‫وقوعها؟ وما زمان وقوعها؟ ِ‬
‫في َوجه إلى ما ينفعه‪ ،‬وهو االستعداد لها‪ ،‬ولذلك‬
‫فأما املؤمن‪ :‬فيسأل عن ذلك ليستعد لها‪ُ ،‬‬
‫ملا قال رجل‪ :‬يا رسول هللا متى الساعة؟ قال‪ :‬ماذا أعددت لها؟ كما ثبت في الصحيحين‪ِ .‬‬
‫وأما الكافر‪ :‬فيسأل متى الساعة استهز ًاء بالنبي‪ ،‬واستبعادا لوقوعها‪ ،‬فيقابل سؤاله‬
‫بالوعيد بأهوالها‪ ،‬ومافيها للكفار من الفزع الشديد‪ِ .‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫﴿ ِفيم أنت ِمن ِذكراها﴾‪ :‬في أي ش يء أنت من ذكراها‪ ،‬إنك ال تعلم متى تكو ِ‪ِ .‬‬
‫فإن هذا مما استأثر هللا بعلمه‪ ،‬فال ينبغي لك أن تسأل متى الساعة‪ْ ،‬لن هذا مما ال سبيل‬
‫إلى علمه‪ ،‬فإنه ال يعلمه إال هللا‪ِ .‬‬
‫وال ينبغي لهم أن يسألوك فإنك ال تعلم متى الساعة‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ َ‬
‫نت ُمنذ ُر َمن َي ْخ َش َ‬
‫اها﴾‪ :‬فوظيفتك أن تخوف بالساعة وما فيها‪ ،‬وهذه النذارة لكل‬ ‫ِ‬ ‫﴿إنما أ‬‫ِ‬
‫أحد‪ ،‬ملن يخش ى‪ ،‬ومن ال يخش ى‪ ،‬لكن ملا كان الذي ينتفع باإلنذار هو الذي يخش ى‪ ،‬خص‬
‫هللا عز وجل من يخش ى هنا؛ ْلن إنذار من ال يخش ى ضائع‪ ،‬فإنه ال ينتفع بالنذارة؛ أعني أنه‬
‫ضائع بالنسبة له‪ ،‬وإال فإن فيه إقامة الحجة عليه‪ ،‬وهذا سر تخصيص من يخش ى هنا‪،‬‬
‫أنه هو الذي ينتفع بالنذارة‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ينبغي أن يشتغل‬
‫ببيان أهوالها‪ ،‬وبيان قرب قيامها‪ ،‬وأن اإلنسان ينبغي أن يشتغل بما يجعله يخافها‪ ،‬فيتقي‬
‫ذلك اليوم الذي يرجع فيه إلى هللا‪ ،‬ال أن يشتغل بزمان وقوعها‪ ،‬كأن أولئك املستبعدين‬
‫لها‪ ،‬املنكرين لها‪ ،‬يوم يرونها لم يمكثوا في دنياهم إال ً‬
‫جزء من النهار‪ ،‬إما آخره وهو‬
‫العشية؛ والعشية من بعد الظهر إلى آخر النهار‪ ،‬وإما ضحى؛ والضحى من ارتفاع الشمس إلى‬
‫الزوال‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى حقارة الدنيا‪ ،‬وسرعة زوالها‪ ،‬وقلتها فما الحياة الدنيا ومتاعها في‬
‫اآلخرة إال قليل‪ ،‬ويا ويح‪ ،‬ويا خسارة من قدم القليل على الكثير‪ ،‬وقدم الفاني على الباقي‪،‬‬
‫قدم ما ال يبقى منه ش يء‪ ،‬بل كل ما فيه يمر‪ ،‬إال ما يسعى به اإلنسان من العمل‪ ،‬فإنه‬

‫‪65‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫مكتوب عليه‪ ،‬ومالقيه‪ِ .‬‬


‫يا خسارة من قدم هذا الفاني الحقير‪ ،‬الذي ال يساوي عند هللا جناح بعوضة‪ ،‬على الباقي‬
‫الدائم‪ ،‬فقاده ذلك إلى الجحيم والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫ثم نعود إلى التفسير التفصيلي لآليات فنقرأ ما ذكره الشيخ ونقربه ونتممه بما يزيده حسنا‬
‫ً‬
‫وبهاء ويجعل الفهم آليات هذه السورة فهما نافعا‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى‪ :‬ولهذا ذكر بعد هذا قيام‬
‫َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ‬ ‫الط َّام ُة ْال ُك ْب َر ٰ‬
‫َّ‬ ‫﴿فإ َذا َج َِ‬ ‫َ‬
‫نسان َما‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫م‬‫و‬ ‫ي‬ ‫﴾‬ ‫‪٣٤‬‬ ‫﴿‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫اء‬ ‫الساعة ثم الجزاء؛ فقال‪ِ :‬‬
‫َ َ َ ْ َ َ َ ُّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َُ َ ْ َ ُ َ‬
‫الدن َيا‬ ‫يم ِْلن َي َر ٰى ﴿‪ ﴾٣٦‬فأ َّما َمن طغ ٰى ﴿‪ ﴾٣٧‬وآثر الحياة‬ ‫َس َع ٰى ﴿‪ ﴾٣٥‬وب ِرز ِت الج ِح‬
‫ْ‬
‫س َع ِن ال َه َو ٰى‬ ‫الن ْف َ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ى‬‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫﴿‪ ﴾٣٨‬ف ِإن الج ِحيم ِهي اْلأو ﴿‪ ﴾٣٩‬وأما من خاف مقام رِب ِه ونهَى‬
‫َْْ‬ ‫َ ْ َّ َ‬
‫﴿‪ ﴾٤٠‬ف ِإ َّن ال َجنة ِه َي اْلأ َو ٰى ﴿‪﴾﴾٤١‬‬
‫أي‪ :‬إذا جاءت القيامة الكبرى‪ ،‬والشدة العظمى‪ ،‬التي يهون عندها كل شدة‪ ،‬فحينئذ‬
‫يذهل الوالد عن ولده‪ ،‬والصاحب عن صاحبه‪ ،‬وكل محب عن حبيبه‪.‬‬
‫والطامة في لغة العرب‪ :‬هي الداهية‪ ،‬وسمي يوم القيامة بالطامة؛ ْلنه يطم كل ش يء‪ِ .‬‬
‫ومعنى يطم؛ يعم‪ ،‬ويعلو‪ ،‬ويغلب؛ فيوم القيامة داهية تغلب كل داهية‪ ،‬وتهون عندها‬
‫جميع الدواهي‪ ،‬فهي أدهى وأمر‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الطامة الكبرى؛ هي الصيحة الثانية‪ ،‬النفخة الثانية في الصور التي‬
‫يكون بها البعث كما تقدم معنا مرارا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الطامة الكبرى؛ عندما يساق أهل النار إلى النار‪ ،‬والذي عليه‬
‫اْلكثر‪ :‬أن الطامة الكبرى هي يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ويتذكر اإلنسان ما سعى في الدنيا من خير وشر ‪.‬‬
‫كما قلنا‪ ،‬اإلنسان يوم القيامة يتذكر جميع عمله‪ ،‬من خير أو شر‪ ،‬ال ينس ى منه مثقال‬
‫ذرة‪ ،‬إن عمل خيرا ولو قليال تذكره‪ ،‬وإن عمل شرا ولو قليال تذكره‪ ،‬فيبلو ما أسلف‪،‬‬
‫يحاسب‪ ،‬وكفى بنفسه حسيبا عليه‪ِ .‬‬‫َ‬ ‫ويحاسب نفسه قبل أن‬
‫ِ‬

‫‪66‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ثم يرى عمله كله في كتاب‪ ،‬ثم يكون شأن الحساب؛ من الناس من ال يحاسب‪ ،‬ومن الناس‬
‫من يحاسب كما سمعنا‪ِ .‬‬
‫ويتذكر اإلنسان ما سعى في الدنيا من خير وشر‪ ،‬فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته‪،‬‬
‫ويغمه ويحزن‪ ،‬لزيادة مثقال ذرة في سيئاته‪ ،‬ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما‬
‫سعاه في الدنيا‪ ،‬وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا كانت سوى اْلعمال‪.‬‬
‫َ‬ ‫﴿و ُبر َز ِت ْال َجح ُ‬
‫يم ْلَن َي َر ٰى﴾أي جعلت في َ‬
‫الب َراز ظاهرة لكل أحد‪ ،‬قد ُه ِيئت ْلهلها‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫واستعدت ْلخذه منتظرة ْلمر ربها ‪.‬‬
‫فيراها كل ذي عينين تتلظى‪ ،‬وذلك عندما يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام‪ ،‬مع كل زمام‬
‫سبعون ألف ملك‪ ،‬وهذا عدد هائل جدا‪ ،‬وقد ثبت هذا في صحيح مسلم‪ِ .‬‬
‫يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام‪ ،‬مع كل زمام سبعون ألف ملك‪ ،‬فما أفضعه من منظر وما‬
‫أعظمه من أمر ُيرى‪ ،‬يقطع القلوب‪ِ .‬‬
‫َّ ُ ْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫قلنا‪ :‬هذا‪ ،‬وما بعده جواب؛ ﴿ف ِإذا َج َاء ِت الط َّامة الك ْب َر ٰى﴾ فإن الناس ينقسمون إلى‬
‫فريقين‪ِ .‬‬
‫ٰ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ‬
‫﴿فأما من طغى﴾ أي جاوز الحد بأن تجرأ على اْلعاص ي الكبار‪ ،‬ولم يقتصر على ما حده‬
‫هللا‪.‬‬
‫وآثر الحياة الدنيا على اآلخرة‪ ،‬فصار سعيه لها ووقته مستغرق في حضوضها وشهواتها‬
‫ونس ي اآلخرة والعمل لها‪.‬‬
‫فع ِمل للدنيا‪ ،‬وسعى لها‪ ،‬ولها بالدنيا‪ ،‬وترك العمل لآلخرة‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫ْ َْ‬ ‫﴿فإ َّن ْال َجح َ‬‫َ‬
‫يم ِه َي اْلأ َو ٰى﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫الجحيم‪ :‬هي النار التي اشتد حرها‪ ،‬و عظم عذابها‪ ،‬فهي ذات الحر الشديد و العذاب الذي‬
‫ال ُيطاق‪ِ .‬‬
‫فإن الجحيم هي اْلأوى له؛ أي اْلقر و اْلسكن ْلن هذه حاله‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ى‪ :‬مأواه‪ ،‬الهاء في آخر الكلمة‬


‫قال العلماء‪ :‬اْللف و الالم بدل عن الهاء؛ يعني معنى املأو ِ‬
‫بدل عنها اْللف والالم‪ ،‬فهي مأواه مقره وسكنه ومنزله ومصيره الذي يصير إليه‪ِ .‬‬
‫َ َ َّ َ ْ َ َ‬
‫اف َم َق َ‬
‫ام َرِب ِه﴾ أي خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل‪.‬‬ ‫﴿وأما من خ‬
‫﴿ َم َق َ‬
‫ام َرِب ِه﴾ ِ‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬خاف أن هللا عز و جل يراه‪ ،‬و يسمعه‪ ،‬فخاف من هللا أن يعمل‬
‫هم بمعصية تذكر أن هللا يراه‪ ،‬فاستحى من هللا و خاف من هللا‪ ،‬و كلما ِّ‬
‫هم‬ ‫معصية‪ ،‬فكلما ِّ‬
‫َ َ‬
‫فيزجره ذلك‬
‫ِ‬ ‫أن يقول معصية‪ ،‬أن يقول حراما‪ ،‬تذكر أن هللا يسمعه‪ ،‬مهما خاف َت قوله‪،‬‬
‫عن املعاص ي قوال وفعال‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬مقام ربه هنا يعني؛ القيامة وأنه سيقف بين يدي هللا عز وجل‪،‬‬
‫وهذا كما قدمنا مرارا من اختالف التنوع‪ ،‬فال مانع من اْلمرين‪ ،‬راقب هللا في الدنيا‪ ،‬فعلم‬
‫أن هللا يراه وأن هللا يسمعه‪ ،‬فاستحى من هللا حق الحياء‪ ،‬وخاف هللا عز وجل‪ ،‬وعلم أنه‬
‫سيرجع إلى هللا‪ ،‬وسيقف بين يدي هللا‪ ،‬وسيكلمه هللا‪ ،‬فخاف خوفا حقق به التقوى‪ ،‬فأقبل‬
‫على طاعة هللا وانزجر عن معاص ي هللا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فأثر هذا الخوف في قلبه‪ ،‬فنهى النفس عن هواها الذي يصدها عن طاعة هللا‪،‬‬
‫وصار هواه تبعا ْلا جاء به الرسول‪ ،‬وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير‪.‬‬
‫الن ْف َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫س﴾‪ :‬أي زجر النفس‪ ،‬عن الهوى الذي يأمرها بخالف أمر هللا‪ ،‬وأخرج نفسه من‬ ‫﴿ َونهَى‬
‫داعية هواه إلى طاعة مواله‪ِ .‬‬
‫فإن الجنة اْلشتملة على كل خير و سرور و نعيم‪ ،‬هي اْلأوى ْلن هذا وصفه‪.‬‬
‫املأوى كما تقدم‪ ،‬املقر‪ ،‬واملنزل‪ ،‬واملصير الذي يصير إليه‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ َّ َ‬ ‫َ َُ َ‬
‫اها﴾ أي يسألك اْلتعنتون‪ ،‬اْلكذبون بالبعث‪ ،‬عن‬‫ان ُم ْر َس َ‬‫﴿ي ْسألون َك َع ِن الساع ِة أي‬
‫الساعة‪.‬‬
‫يعني يسألونك سؤال استهزاء‪ ،‬و استبعاد؛ ْلنهم ينكرونها و ينكرون البعث‪ ،‬فيسألون سؤال‬
‫استبعاد لها وسؤال استهزاء بالنبي صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫أي يسألونك اْلتنعتون اْلكذبون بالبعث عن الساعة‪ ،‬متى وقوعها؟ وأيان مرساها؟‬

‫‪68‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫ان‪ :‬بمعنى؛ متى؟ ِ‬‫أ َّي َ ِ‬
‫ُم ْر َس َاها‪ :‬أي وقوعها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬قيامها‪ .‬وقال بعض اْلفسرين‪ :‬زمانها‪ .‬واملعنى متقارب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬السائل؛ كل الناس من املؤمنين والكافرين‪ ،‬ولكن املؤمن يسأل‬
‫ً‬
‫واستبعادا‪ ،‬كما ذكرنا في التفسير املوضوعي‪ِ .‬‬ ‫ليستعد‪ ،‬والكافر يسأل استهز ًاء‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫يم أنت ِمن ِذك َر َاها﴾ أي ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة‬ ‫فأجابهم هللا بقوله‪ِ ﴿ :‬ف‬
‫وقت مجيئها‪ ،‬فليس تحت ذلك نتيجة‪.‬‬
‫ولهذا ْلا كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية‪ ،‬وال دنيوية‪ ،‬بل اْلصلحة‬
‫في إخفائه عليهم‪ ،‬طوى علم ذلك عن جميع الخلق واستأثر بعلمه‪.‬‬
‫يم﴾‪ :‬أصلها‪ :‬فيما‪ ،‬فلما وقعت‪ ،‬ما‪ ،‬بعد حرف الجر في االستفهام‪ُ ،‬حذف ألفها للداللة‬‫﴿ف َ‬
‫ِ‬
‫على االستفهام‪ِ .‬‬
‫يم﴾؛ أي ش يء أنت من ذكراها‪ ،‬فإنك ال تعرف زمن وقوعها‪ِ .‬‬‫ومعنى ﴿ف َ‬
‫ِ‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬هذا خطاب للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ْ ،‬لن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬كان يسأل متى الساعة؟ ِ‬
‫ْلن املؤمنين كانوا يسألونه‪ :‬متى الساعة؟ ِ‬
‫فأخبره هللا عز وجل‪ :‬أنه ال سبيل له إلى علمها‪ ،‬وال ْلحد من الناس‪ ،‬وال ْلحد من الخلق‪،‬‬
‫فإن هللا استأثر بعلمها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هذا خطاب في ظاهره للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬واملقصود به‬
‫ََ‬
‫إياك أعني‪ ،‬واسمعي يا جارة؛ فالخطاب في الظاهر للنبي صلى هللا‬
‫أولئك الكفار‪ ،‬على سن ِ ِن‪ِ :‬‬
‫عليه وسلم‪ ،‬واملقصود به أولئك الكفار‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى اآلية؛ أنت ال تعلم زمان وقوعها‪ ،‬فلماذا يسألونك عن زمان‬
‫وقوعها وأنت ال تعلمه؟ هذا تقريع لهم في سؤالهم هذا‪ِ .‬‬
‫اها﴾ أي إليه ينتهي علمها‪.‬‬ ‫فقال‪﴿ :‬إ َل ٰى َ ب َك ُم َنت َه َ‬
‫ِ رِ‬
‫أي‪ :‬علم وقتها‪ ،‬فال يعلم وقتها إال هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬

‫‪69‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اها ۖ ُق ْل إ َّن َما ع ْل ُم َها ع َ‬ ‫َّ َ َ َّ َ‬


‫ان ُم ْر َس َ‬ ‫َ ْ َُ َ‬
‫ون َك َ‬
‫ند َرِبي ۖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫اع‬‫الس‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ع‬ ‫كما قال في اآلية اْلخرى‪﴿ :‬يسأل‬
‫ْ َّ‬ ‫َ‬
‫ال ُي َج ِل َيها ِل َوق ِت َها ِإال ُه َو ۚ﴾ [االعراف‪.]187 :‬‬
‫َّ َ َ َ‬
‫نت ُمنذ ُر َمن َي ْخ َش َ‬
‫اها﴾ أي‪ :‬إنما نذارتك نفعها ْلن يخش ى مجيء الساعة‪ ،‬ويخاف‬ ‫ِ‬ ‫﴿إنما أ‬ ‫ِ‬
‫الوقوف بين يدي هللا‪ ،‬فهم الذين ال يهمهم إال االستعداد لها‪ ،‬والعمل ْلجلها‪.‬‬
‫وأما من ال يؤمن بها فَّل يبالى به وال بتعنته‪ْ ،‬لنه تعنت مبني على التكذيب والعناد‪ ،‬وإذا‬
‫وصل إلى هذه الحال كان اإلجابة عنه عبثا‪ ،‬ينزه أحكم الحاكمين عنه‪.‬‬
‫يعني أن النبي صلى هللا عليه وسلم منذر الجميع‪ ،‬لكن الذي ينتفع بالنذارة إنما هو الذي‬
‫يخش ى‪ ،‬أما الذي ال يخش ى فإنه ال ينتفع‪ ،‬فال ُيشتغل به‪ ،‬وإنما ُي َت َهدد ُوي َت َ‬
‫وعد بما فيها من‬
‫ُ‬
‫اْلهوال‪ ،‬ولهذا خص من يخش ى‪ ،‬هنا‪ِ .‬‬
‫اها﴾‪ :‬أي كأن أولئك الكفار يوم يرون‬ ‫﴿ َك َأ َّن ُه ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َها َل ْم َي ْل َب ُثوا إ َّال َعش َّي ًة َأ ْو ُ‬
‫ض َح َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫القيامة‪ ،‬لم يمكثوا في الدنيا‪ ،‬وقال بعض اْلفسرين‪ :‬لم يمكثوا في قبورهم إال ساعة من‬
‫نهار‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫﴿ ِإال َع ِش َّية﴾‪ :‬والعشية كما قلنا من بعد الظهر إلى الليل‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿أو ضحاها﴾‪ :‬أي ضحى العشية‪ ،‬هاء هنا ترجع إلى العشية‪ِ .‬‬
‫والضحى‪ :‬من ارتفاع الشمس إلى زوالها‪ِ .‬‬
‫وبهذا يتم تفسير هذه السورة‪ ،‬وأما الفوائد العلمية‪ ،‬واآلثار اإليمانية من هذه السورة‪ ،‬وقد‬
‫قلت لكم سابقا‪ :‬إنا نقصد بالفوائد العلمية واآلثار اإليمانية؛ اْلمور الكلية التي دلت عليها‬
‫أدلة كثيرة من الكتاب والسنة‪ ،‬وقررها العلماء في مواطن كثيرة‪ ،‬وتدل عليها السورة التي‬
‫نفسرها‪ِ .‬‬
‫والفوائد العلمية‪ ،‬واآلثار اإليمانية لسورة النازعات‪ ،‬هي‪ ،‬هي‪ ،‬الفوائد العلمية واآلثار‬
‫اإليمانية لسورة النبأ؛ فإن موضوع السورتين واحد‪ ،‬ونزيد على ما تقدم ثالث فوائد كلية‪ِ .‬‬
‫أما الفائدة اْلولى‪ :‬فهي أن في قصص السابقين‪ ،‬وفي أخبار السلف املاضين‪ ،‬تسلية للمؤمن‬
‫ورفعا لهمته‪ِ .‬‬
‫فإذا عرف اإلنسان قصص املاضين فإن هذا يسليه‪ ،‬إذا عشت في بلد يغلب عليه الضالل‪،‬‬

‫‪70‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقد يكثر عليه الكفر وأنت على السنة‪ ،‬و يؤذيك الناس بأقوالهم‪ :‬متشدد‪ ،‬متنطع‪ ،‬وهابي‪،‬‬
‫معقد‪ِ ..‬‬
‫ِّ‬
‫إذا قرأت قصص املاضين‪ ،‬وأخبار السلف‪ ،‬سالك ذلك وكان لك فيه عبر‪،‬ة وصبرك ذلك‪.‬‬
‫كما أن في ذلك رفعا لهمة املؤمن‪ ،‬ولذلك ينبغي على اإلنسان أن يعتني بالقصص الصحيح‬
‫لألمم املاضية‪ ،‬وللسلف السابقين‪ ،‬فإن في هذا فائدة عظمى‪ ،‬وبهذا تعرف سر كثرة‬
‫القصص في القرآن‪ِ .‬‬
‫والفائدة الثانية‪ :‬أن املؤمن إذا أراد أن ينتفع بالعلم‪ ،‬وينتفع باملواعظ‪ ،‬وباآليات‪ ،‬فعليه‬
‫بأمرين‪ِ :‬‬
‫اْلو ِل‪ :‬أن ينمي خوف هللا في قلبه‪ ،‬وأن ينمي ويزيد خشية هللا في قلبه‪ِ .‬‬
‫واْلمر الثاني‪ :‬أن يجاهد نفسه عن الغفلة‪ ،‬بأن يجاهد نفسه على إحضار قلبه‪ ،‬والشيطان‬
‫ملا علم أن املؤمنين تنفعهم الذكرى‪ ،‬حرص على أن ال يستمعوا للذكرىِ‪ِ .‬‬
‫فإن غلبه املؤمنون وحضروا‪ ،‬شاغلهم ليخرجوا؛ يأتي املؤمن يوم الجمعة إلى الصالة‪،‬‬
‫ويحضر‪ ،‬ولكن الشيطان ينومه‪ ،‬يأتي قبل الصالة وهو من أنشط العباد‪ ،‬وإذا صعد‬
‫الخطيب بدأ ينام‪ ،‬وإذا انتهت الصالة وإذا به من أنشط الناس‪ِ .‬‬
‫أو ُي ْخ ِر ُج قلبه؛ يأتي طالب العلم إلى الدروس فيشغله الشيطان بما يصرف قلبه‪ ،‬وقد يكون‬
‫بالعلم‪ ،‬واليوم عند الشيطان وسيلة جديدة؛ الهواتف في أيدي الطالب؛ إذا قال الشيخ‬
‫شيئا بدأوا يفتشون في الهواتف‪ ،‬ويخرجون عن الدرس‪ِ .‬‬
‫إذن؛ هذه فائدة نفيسة لكل مؤمن ولطالب العلم خصوصا‪ ،‬إذا أردت أن تنتفع بالعلم وأن‬
‫تنتفع باملواعظ وأن تنتفع باآليات فعليك بأمرين‪ِ :‬‬
‫‪-‬أن تنمي خوف هللا في قلبك‪ِ .‬‬
‫‪-‬وأن تجاهد نفسك في إحضار قلبك‪ِ .‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أن أعظم املعوقات عن لزوم الصراط املستقيم‪ :‬هو الهوى‪ِ .‬‬
‫فإن الهوى يدعو اإلنسان إلى ترك الواجباتـ وفعل املحرمات‪ ،‬وأقبح من ذلك أنه يدعو‬
‫بعض الناس إلى تقبيح الحق وتزيين الباطل‪ِ .‬‬

‫‪71‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الهوى؛ قد يدعو بعض الناس إلى تقبيح الحق‪ ،‬وتزيين الباطل‪ ،‬وقد يتسلط حتى على طالب‬
‫العلم‪ ،‬فيكون عنده هوى في ش يء‪ ،‬فيزين هذا الش يء‪ ،‬أحدهم قال‪ :‬إن الغناء واملوسيقى‬
‫ليست حراما كلها‪ ،‬فلما ناصحه بعض خواصه سرا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬يا أخي أنا أجلس مع أهلي وجماعتي‪ ،‬وتأتي املوسيقى في التلفاز ‪ ،‬واإلذاعة‪ ،‬وأستحي أن‬
‫أقول لهم أرخوا الصوت‪ ،‬هذا الذي دعاه أن يقو ِل‪ :‬إن املوسيقى ليست حراما كلها‪ِ .‬‬
‫فمن أعظم الشرور أن يتسلط الهوى على طالب العلم‪ُ ،‬ي َق ِلب اْلمور حتى يزين الباطل‪،‬‬
‫ويقبح الحق‪ ،‬وهذا من أسوأ ما يكون‪ ،‬ولذلك ينبغي على املؤمن أن يحذر الهوى‪ ،‬وأن‬
‫يجاهد نفسه إلخراج نفسه من داعية هواه إلى طاعة مواله‪ِ .‬‬

‫‪72‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة عبس‬
‫الر ْح َمٰـن َّ‬
‫الر ِح ِيم‬
‫َّ‬
‫الل ِـه َّ‬ ‫ِب ْس ِم‬
‫ِ‬
‫َ َّ َّ َ َ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ َّ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ‬
‫يك ل َعل ُه َي َّزك ٰى ﴿‪ ﴾٣‬أ ْو َيذك ُر فتنف َع ُه‬ ‫س َوت َول ٰى ﴿‪ ﴾١‬أن َج َاء ُه اْل ْع َم ٰى ﴿‪ ﴾٢‬وما يد ِر‬ ‫﴿عب‬
‫َ‬ ‫َ َ َّ َّ‬ ‫ََ َ‬
‫نت َل ُه َت َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ص َّد ٰى ﴿‪َ ﴾٦‬و َما َعل ْي َك أال َي َّزك ٰى ﴿‪َ ﴾٧‬وأ َّما‬ ‫استغن ٰى ﴿‪ ﴾٥‬فأ‬ ‫الذك َر ٰى ﴿‪ ﴾٤‬أما م ِن‬ ‫ِ‬
‫َْ ٌ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ ْ ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫َمن َج َاء َك َي ْس َع ٰى ﴿‪َ ﴾٨‬و ُه َو َيخش ٰى ﴿‪ ﴾٩‬فأنت َعن ُه تله َّٰى ﴿‪ ﴾١٠‬كَّل ِإ َّن َها تذ ِك َرة ﴿‪﴾١١‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫ف َمن ش َاء ذك َر ُه ﴿‪[ ﴾﴾١٢‬عبس‪]12-1 :‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم كان حريصا على دعوة الناس‪ ،‬وعلى إيمان أشراف الناس؛ ْلن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم كان يدرك أن إيمان اْلشراف يقود غيرهم إلى اإليمان‪ِ .‬‬
‫فإذا آمن أشراف القوم تبعهم غيرهم من القوم‪ ،‬فكان حريصا صلى هللا عليه وسلم على‬
‫إيمان اْلشراف‪ ،‬فكان يوما جالسا مع بعض أشراف قريش يدعوهم إلى اإلسالم‪ ،‬وهم‬
‫معرضون‪ ،‬وهم متعالون‪ ،‬وهم متكبرون عن الحق‪ ،‬فجاءه رجل أعمى‪ ،‬واْلعمى ال يبصر‪،‬‬
‫وال يدري عن حال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ْ ،‬لن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يناجيهم‪،‬‬
‫ما كان يتحدث بصوت عال‪ِ .‬‬
‫فخاطب النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬أرشدني‪ ،‬أرشدني‪ ،‬علمني‪ ،‬فقطع مناجاة النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم لألشراف‪ ،‬فعبس النبي صلى هللا عليه وسلم في وجهه؛ أي تغير وجه‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم كراهة لفعله‪ِ .‬‬
‫وتولى؛ أعرض عنه بوجهه‪ ،‬يعني أن النبي صلى هللا عليه وسلم نظر إليه‪ ،‬وقد تغير وجه‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم كراهة ما فعل‪ ،‬ثم أعرض عنه بوجهه‪ ،‬ورجع يحدث اْلشراف‪ِ .‬‬
‫ٰ‬
‫لألعمى؛ وإنما حرصا على إيمان أولئك‬ ‫ما فعل ذلك النبي صلى هللا عليه وسلم ِاحتقارا‬
‫اْلشراف‪ ،‬وإكماال ملا كان قد بدأ به‪ ،‬فعاتبه هللا بهذا العتاب اللطيف‪ِ .‬‬
‫س‬ ‫س َو َت َو َّل ٰى﴾‪ ،‬من هو؟ ما قال‪ :‬عبست وتوليت‪ .‬ما قال‪َ ،‬‬
‫﴿ع َب َ‬ ‫﴿ع َب َ‬
‫أنظر كيف قال هللا‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫َوت َول ٰى﴾‪ ،‬بالغ َيبة‪ ،‬كأنه غ ْي ُره‪ ،‬كأن هللا يحدث محمدا صلى هللا عليه وسلم عن غيره‪،‬‬
‫َ َ َ َ َّ‬
‫س َوت َول ٰى﴾‪ ،‬ما واجهه بهذا‪ ،‬وهذا من لطف العتاب‪ ،‬وهذا من أدب الخطاب وينبغي‬ ‫﴿عب‬
‫أن نتعلم من القرآن اْلدب‪ِ .‬‬

‫‪73‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ َّ‬ ‫﴿ع َب َ‬‫َ‬


‫﴿وت َول ٰى﴾‪.‬‬ ‫س﴾؛ هو‪،‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫﴿أن َج َاء ُه اْل ْع َم ٰى﴾؛ ْلنه جاءه اْلعمى‪ ،‬وقطع مناجاته لألشراف‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫﴿ َو َما ُي ْد َ‬
‫يك﴾؛ عاد الخطاب إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ملا جاء اْلمر إلى تقرير الحق‪ ،‬ملا‬ ‫ِر‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ‬
‫س َوت َول ٰى ﴿‪ ﴾١‬أن َج َاء ُه اْل ْع َم ٰى ﴿‪َ ﴾٢‬و َما‬ ‫كان هناك عتابا‪ ،‬جاء خطاب الغيبة ﴿عب‬
‫يك﴾؛ ملا جاء اْلمر إلى تقرير العلم والحق‪ِ .‬‬ ‫ُي ْد َ‬
‫ِر‬
‫َ َ ُ ْ َ َ َّ َّ‬
‫يك ل َعل ُه َي َّزك ٰى﴾؛ لعله يتطهر من ذنوبه‪ ،‬لعله يسلم فيتطهر من ذنوبه‪ِ .‬‬ ‫﴿وما يد ِر‬
‫أزكى من هؤالء اْلشراف‪ِ .‬‬ ‫يزكى يعني‪ :‬لعله ٰ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬لعله ٰ‬
‫َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ْ‬
‫الذك َر ٰى﴾؛ إذا حدثته لعله أن يتذكر‪ ،‬فتنفعه الذكرى‪ِ .‬‬ ‫﴿أو يذكر فتنفعه ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ٰ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ْ َ‬
‫﴿أما م ِن استغنى﴾ عنك وتكبر ‪،‬وتعالى على ما تقو ‪ ،‬ولم ينصت إليك‪ ،‬فضال عن أن‬
‫ُ‬ ‫ََ‬
‫يسألك فأنت له تتعرض‪ ،‬وتقبل عليه‪ ،‬وتحدثه رجاء أن ُيسلم‪ ،‬وما كان ذلك من النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم من أجل الدنيا‪ ،‬وال احتقا ًرا للضعيف وحاشاه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وإنما‬
‫أراد املصلحة‪ِ .‬‬
‫والقاعدة العامة‪ :‬أن املصلحة العامة ُمقدمة على املصلحة الخاصة‪ ،‬لكن كان هنالك‬
‫ٌ ُ‬
‫ش يء؛ وهي قاعدة أخرى‪ :‬وهي أن املصلحة املعلومة أولى من املصلحة املرجوة‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫العامة ماذا يقولون؟ مع أن هذا املثل فيه ما فيه‪ .‬يقولون‪ :‬عصفور في اليد وال عشرة على‬
‫ََ‬ ‫الشجرة‪ً ،‬‬
‫طبعا بعض أهل العلم قالوا‪ :‬هذا املثل ليس بصحيح على إطالقه؛ ْلن املؤمن‪،‬‬
‫الحسنات له خير مما في يده‪ ،‬لكن في الحقيقة إذا نظرنا أن الحسنات بالنسبة للمؤمن في‬
‫ً‬
‫مخلصا هلل عز وجل‪ ،‬فاملصلحة املعلومة مقدمة على املصلحة‬ ‫يده إذا عمل العمل الصالح‬
‫ُ‬
‫املرجوة‪ ،‬بعض أهل العلم يقول‪ :‬املوهومة؛ يعني‪ :‬التي ليست موجودة وإنما ترجى‪ ،‬وهذه‬
‫القصة دليل على هذه القاعدة؛ أن املصلحة املعلومة مقدمة على املصلحة املرجوة‪،‬‬
‫املوهومة التي ليست موجودة‪ ،‬وإنما يرجوها اإلنسان‪ ،‬ومن أجل ذلك عاتب هللا نبيه صلى‬
‫هللا عليه وسلم بهذا العتاب اللطيف‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َّ َّ‬
‫﴿و َما َعل ْي َك أال َي َّزك ٰى﴾أي ليس عليك ش ٌين بأال يؤمن هؤالء‪ ،‬فإنهم هم الذين أعرضوا‪ ،‬فال‬
‫َ‬

‫يضرك كفرهم‪ ،‬فلماذا تشتغل بهم؟ ِ‬

‫‪74‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ََ‬
‫﴿وأ َّما َمن َج َاء َك َي ْس َع ٰى﴾ يشتد في طلب العلم وفي طلب الخير‪ِ .‬‬
‫ْ َ‬
‫﴿و ُه َو َيخش ٰى﴾ وهو يخاف هللا‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ََ َ ْ ََ‬
‫﴿فأنت َعن ُه تله َّٰى﴾ فأنت تعرض عنه‪ ،‬وتشتغل بغيره‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿كَّل﴾ ال ينبغي لك أن تفعل هذا‪ ،‬فليس الخير فيما فعلت‪ِ .،‬‬
‫خيرا برجاء إيمان أولئك‪ ،‬ولكن الخير والكمال فيه‬ ‫طبعا النبي صلى هللا عليه وسلم فعل ً‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫باإلقبال على املُقبل‪ ،‬ال اإلعراض عنه واالشتغال باملستغني‪ ،‬وهذه ً‬
‫أيضا قاعدة‪ :‬أن املقبل‬ ‫ِ‬
‫خير من أشراف الدنيا؛ طالب العلم الفقير‪ ،‬الغريب‪ ،‬الذي يأتي من بلده‪ ،‬وفي‬ ‫على الخير ٌ‬
‫غربة وفقر‪ ،‬لكن جاء لطلب العلم خير من أغنياء الدنيا الذين ال ُيقبلون على الخير‪،‬‬
‫ُّ‬
‫فينبغي اإلقبال على هؤالء الطالب‪ ،‬وبذل النفس لهم‪ ،‬والتواضع لهم‪ ،‬وعدم االشتغال‬
‫بغيرهم عنهم‪ ،‬هذه قاعدة نأخذها من هذه القصة‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿كَّل﴾ هذا للردع والزجر عن هذا الفعل‪ ،‬فليس الخير كما فعلت‪ِ .‬‬
‫َْ ٌ‬
‫﴿إ َّن َها﴾ إن السورة والقصة ﴿تذ ِك َرة﴾ لك ولقومك‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫﴿إ َّن َها﴾؛ أي هذه السورة أو هذه القصة‪ ،‬وقعت بقدر هللا لتكون تذكرة لك ولقومك‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ف َمن ش َاء ذك َر ُه﴾ فمن شاء ذكر التنزيل والوحي فعمل به؛ يعني فمن شاء من العباد ذكر‬
‫الوحي والتنزيل فتذكر وعمل‪ِ .،‬‬
‫ََ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬فمن شاء هللا ذك َره؛ أي ألهمه وهداه‪ِ .‬‬
‫يعني بعض اْلفسرين قال‪ :‬وهذا الذي عليه اْلكثر‪ ،‬فمن شاء من العباد ذكر الوحي‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ‬
‫والتنزيل فتذكر وعمل به‪﴿ ،‬وما تشاءون ِإال أن يشاء اللـه﴾ [التكوير‪ِ ]29 :‬‬
‫ََ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى اآلية؛ فمن شاء هللا‪ ،‬ذك َر ُه؛ أي هداه وألهمه‪ ،‬وليس اْلمر‬
‫بالشرف في الدنيا وال الفقر والضعف‪ِ .‬‬
‫هذا املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوع لهذا املقطع ونعود إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما‬
‫ذكره الشيخ‪.‬‬
‫قال رحمة هللا عليه‪ :‬سبب نزول هذه اآليات الكريمات أنه جاء رجل من اْلؤمنين أعمى‬
‫يسأل النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويتعلم منه‪ ،‬وجاءه رجل من اْلغنياء‪ ،‬وكان صلى هللا‬

‫‪75‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫عليه وسلم حريصا على هداية الخلق‪ ،‬فمال صلى هللا عليه وسلم وأصغى إلى الغني‪،‬‬
‫وصد عن اْلعمى الفقير‪ ،‬ر ً‬
‫جاء لهداية ذلك الغني‪ ،‬وطمعا في تزكيته‪ ،‬فعاتبه هللا بهذا‬
‫العتاب اللطيف فقال‪:‬‬
‫َ َ َ َ َّ‬ ‫ُ‬
‫س َوت َول ٰى﴾‪ ،‬في ابن أم‬ ‫روى الترميذي عن أمنا عائشة رض ي هللا عنها أنها قالت‪( :‬أ ِنزل ﴿عب‬
‫مكتوم اْلعمى‪ ،‬أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فجعل يقول‪ :‬يا رسول هللا أرشدني‪.‬‬
‫وعند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رجل من عظماء املشركين‪ ،‬فجعل رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم يعرض عن اْلعمى‪ ،‬ويقبل على اآلخر )‪ .‬وصححه اإلمام اْللباني‪ِ .‬‬
‫وقد جاء عند الطبري‪ :‬أن الذين كانوا عند النبي صلى هللا عليه وسلم هم عتبة بن ربيعة‪،‬‬
‫وأبو جهل‪ ،‬والعباس بن عبد املطلب‪ .‬وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يناجيهم قبل مجيء‬
‫اْلعمى‪ِ .‬‬
‫وقيل كان النبي صلى هللا عليه وسلم يناجي أمية بن خلف‪ .‬وقيل غير هذا‪ِ .‬‬
‫والشاهد أن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يناجي بعض وجهاء وأشراف قريش‪ ،‬وجاء هذا‬
‫اْلعمى وهو ابن أم مكتوم باتفاق الروايات وباتفاق املفسرين‪ ،‬وهذا كان في مكة ْلن‬
‫السورة مكية‪ ،‬ولذلك ما ذهب إليه ابن العربي املالكي في نقد كالم املفسرين غير سديد؛‬
‫ْلن هذه السورة مكية وليست في املدينة‪ ،‬وهذه القصة وقعت في مكة وإن كان ابن أم‬
‫مكتوم من أهل املدينة لكن القصة وقعت في مكة‪ِ .‬‬
‫س﴾ أي في وجهه‪.‬‬‫﴿ع َب َ‬
‫قال‪ :‬فعاتبه هللا بهذا العتاب اللطيف‪ ،‬فقال‪َ :‬‬

‫س﴾كما قلنا معناه؛ قبض وجهه‪ ،‬وتغير وجهه كراهة لفعل اْلعمى‪ِ .‬‬ ‫﴿ َع َب َ‬
‫قبض النبي صلى هللا عليه وسلم وجهه وتغير وجهه كراهة لفعل اْلعمى‪ِ .‬‬
‫َ َ َّ‬
‫﴿وت َول ٰى﴾ في بدنه ْلجل مجيء اْلعمى‪.‬‬
‫يعني أعرض عنه ببدنه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أعرض عنه بوجهه‪ ،‬واملعنى واحد؛ يعني نظر فيه وقد تغير وجهه‪،‬‬
‫ثم أعرض عنه وأقبل على وجهاء قريش‪ ،‬أين اللطف في العتاب؟ ِ‬
‫َ‬
‫كما قلنا أن الخطاب للغائب‪ ،‬ولم يخاطب به النبي صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬

‫‪76‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهذا اْلدب لو أعملناه لتجنبنا كثيرا من املشاكل‪ ،‬حتى في البيت إذا أخطأت الزوجة مثال‪،‬‬
‫لو أن الزوج أخذ أسلوب العتب غير املباشر لكان في ذلك خير كثير‪ِْ ،‬لن العتب املباشر في‬
‫الغالب يدعو إلى املغالبة‪ِ .‬‬
‫إذا قلت‪ :‬أنت كذا قالوا‪ :‬أنت‪ ،‬لكن لو جاء بأسلوب غير مباشر فإنه ُيقبل ويكون له تأثير‪،‬‬
‫وعلى كل حال الحكمة وضع كل ش يء في موضعه‪.‬‬
‫َ َّ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ َّ‬
‫(﴿ي َّزك ٰى﴾‬ ‫يك ل َعل ُه﴾ أي‪ :‬اْلعمى‬
‫قال‪ :‬ثم ذكر الفائدة في اإلقبال عليه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬وما يد ِر‬
‫أي‪ :‬يتطهر عن اْلخَّلق الرذيلة‪ ،‬ويتصف باْلخَّلق الجميلة؟‬
‫َ َّ‬
‫﴿ي َّزك ٰى﴾ يعني يتطهر من ذنوبه‪ِ .‬‬ ‫وكما قلنا‪ ،‬قال بعض املفسرين‪:‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿ي َّزك ٰى﴾ يعني يسلم‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿ي َّزك ٰى﴾ لعله أن يكون أزكى من أولئك اْلشراف‪.‬‬ ‫وأشار بعضهم إلى أن معنى‬
‫َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ْ‬
‫الذك َر ٰى﴾ أي‪ :‬يتذكر ما ينفعه‪ ،‬فينتفع بتلك الذكرى‪ ،‬وهذه فائدة‬ ‫﴿أو يذكر فتنفعه ِ‬
‫كبيرة‪ ،‬هي اْلقصودة من بعثة الرسل‪ ،‬ووعظ الوعاظ‪ ،‬وتذكير اْلذكرين‪.‬‬
‫فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك مقبَّل‪ ،‬هو اْلليق الواجب‪ ،‬وأما تصديك‬
‫وتعرضك للغني اْلستغني الذي ال يسأل وال يستفتي لعدم رغبته في الخير‪ ،‬مع تركك من‬
‫هو أهم منه‪ ،‬فإنه ال ينبغي لك‪.‬‬
‫فإنه ليس عليك أن ال يزكى‪ ،‬فلو لم يتزكى‪ ،‬فلست بمحاسب على ما عمله من الشر‪.‬‬
‫فدل هذا على القاعدة اْلشهورة‪ ،‬أنه‪ :‬ال يترك أمر معلوم ْلمر موهوم‪ ،‬وال مصلحة‬
‫اْلفتقر إليه‪ ،‬الحريص‬
‫ِ‬ ‫متو َّهمة وأنه ينبغي اإلقبال على طالب العلم‪،‬‬
‫متحققة ْلصلحة َ‬

‫عليه أزيد من غيره‪.‬‬


‫وأن طالب العلم الصادق الواحد خير من الجماعة‪ ،‬ليست العبرة بكثرة الناس‪ ،‬وإنما العبرة‬
‫باإلقبال والصدق‪ ،‬وهذا كما تلحظون تفسير إجمالي من الشيخ‪ِ .‬‬
‫ٰ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ْ َ‬
‫﴿أما م ِن استغنى﴾ كما قلنا أظهر اإلستغناء عنك‪ ،‬يعني اغتر بماله‪ ،‬وجاهه‪ ،‬والدنيا‪ ،‬فأظهر‬
‫االستغناء عنك‪ِ .‬‬
‫ََ َ‬
‫نت َل ُه َت َ‬
‫ص َّد ٰى﴾ يعني تتعرض له وتقبل عليه‪ِ .‬‬ ‫﴿فأ‬

‫‪77‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ َّ َّ‬
‫﴿و َما َعل ْي َك أال َي َّزك ٰى﴾ ليس عليك ش يء لو لم يؤمن‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫ََ‬
‫﴿وأ َّما َمن َج َاء َك َي ْس َع ٰى﴾ يسعى‪ :‬يعني يشتد في طلب الخير‪ ،‬حريص‪ ،‬فهو لم يبقى في بيته‬
‫تذهب إليه‪ ،‬بل جاءك ولم يأتك كسوال‪ ،‬بل جاءك يسعى‪ ،‬يشتد في طلب الخير‪ِ .‬‬
‫ْ َ‬
‫﴿و ُه َو َيخش ٰى﴾ وهو يخاف هللا‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫ُ ُ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٰ‬ ‫ََ َ َْ ُ ََ‬
‫قبل على غيره‪ ،‬وتنشغل بغيره عنه‪ِ .‬‬
‫عرض‪ ،‬وت ِ‬‫﴿فأنت عنه تلهَّى﴾ تلهى‪ :‬يعني ت ِ‬
‫َْ ٌ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿كَّل ِإ َّن َها تذ ِك َرة﴾ أي حقا‪.‬‬
‫حقا‪ِ .‬‬‫﴿ َك ََّّل﴾قال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ً :‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي على بابها‪ ،‬للردع والزجر ِّ‬
‫عما تقدم ذكره مما وقع من النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬أي ال ينبغي أن يكون اْلمر كما فعلت‪ ،‬فإنك وإن ابتغيت الخير وفعلت ما‬
‫فيه املصلحة‪ ،‬فإن اْلصلح هو كذا‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َْ ٌ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿كَّل ِإ َّن َها تذ ِك َرة﴾ أي حقا إن هذه التذكرة موعظة من هللا يذكر بها عباده‪ ،‬ويبين لهم في‬
‫كتابه ما يحتاجون إليه‪ ،‬ويبين الرشد من الغي‪.‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ ﴿ :‬إ َّن َها﴾‪ :‬أي السورة‪ ،‬سورة عبس‪ ،‬تذكرة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ ﴿ :‬إ َّن َها﴾‪ :‬أي القصة‪ ،‬التي وقعت تذكرة‪ ،‬وكل ما يقع للنبي صلى هللا‬
‫خير لألمة‪ ،‬ملا سها النبي صلى هللا عليه وسلم في الصالة تعلمنا أحكام‬‫عليه وسلم فيه ٌ‬
‫السهو‪ ،‬ملا وقعت قصة اإلفك تعلمنا كثيرا من الفوائد‪ ،‬ولذلك يقول العلماء‪ :‬النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم من خواصه أنه يفعل املكروه ويؤجر عليه‪ ،‬ماذا نقول في تعريف املكروه؟ ِ‬
‫ما ُيثاب تاركه وال ُيعاقب فاعله‪ ،‬النبي صلى هللا عليه وسلم من خواصه أنه يفعل املكروه‬
‫ُويثاب عليه‪ ،‬ملاذا؟ ْلنه بفعله ُيعلمنا‪ ،‬يبين لنا الشرع‪ِ .‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫فإذا تبين ذلك ﴿ف َمن ش َاء ذك َر ُه ﴾ أي عمل به‪.‬‬
‫فمن شاء من العباد ذكره‪ ،‬ما هو؟ الضمير يعود إلى ماذا؟ إلى التنزيل والوحي‪ ،‬فعمل به‪.‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬وهو منسوب البن عباس رض ي هللا عنهما (فمن شاء هللا ذكره) أي‬
‫ألهمه وهداه‪ ،‬وال تعارض فإنه لن يتذكر أحد حتى يشاء هللا أن يتذكر‪ ،‬ولن يشاء أحد شيئا‬
‫حتى يشاء هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪-‬تفسير اْلقطع الثاني للسورة‪-‬‬


‫َ‬
‫وع ٍة ُّمط َّه َر ٍة‬ ‫ص ُحف ُّم َك َّر َمة ﴿‪َّ ﴾١٣‬م ْر ُف َ‬ ‫﴿ك ََّّل إ َّن َها َت ْذك َر ٌة ﴿‪َ ﴾١١‬ف َمن َش َاء َذ َك َر ُه ﴿‪ ﴾١٢‬في ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ان َما أ ْك َف َر ُه ﴿‪ ﴾١٧‬م ْ‬‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫﴿‪ ﴾١٤‬بأ ْي ِدي َس َف َر ٍة ﴿‪ِ ﴾١٥‬ك َرام َب َر َر ٍة ﴿‪ ﴾١٦‬ق ِت َ‬ ‫َ‬
‫ي ش ْي ٍء‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫نس‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َخ َل َق ُه ﴿‪ ﴾١٨‬من ُّن ْط َف ٍة َخ َل َق ُه َف َق َّد َر ُه ﴿‪ُ ﴾١٩‬ث َّم َّ‬
‫يل َي َّس َر ُه ﴿‪ ﴾٢٠‬ث َّم أ َمات ُه فأق َب َر ُه‬ ‫السب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ََْ ُ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫نش َر ُه ﴿‪َ ﴾٢٢‬ك ََّّل َْلَّا َي ْقض َما أ َم َر ُ‬ ‫َ‬
‫ُ َّ َ َ َ َ‬
‫نسان ِإل ٰى ط َع ِام ِه‬ ‫اإل‬
‫ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫نظ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫﴾‬ ‫‪٢٣‬‬ ‫﴿‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫﴿‪ ﴾٢١‬ثم ِإذا شاء أ‬
‫ََ َْ‬ ‫ُ َّ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ًّ‬ ‫ص َب ْب َنا ْاْلَ َاء َ‬ ‫﴿‪َ ﴾٢٤‬أ َّنا َ‬
‫ض شقا ﴿‪ ﴾٢٦‬فأ َنبتنا ِف َيها َح ًّبا ﴿‪﴾٢٧‬‬ ‫ص ًّبا ﴿‪ ﴾٢٥‬ثم شققنا اْلر‬
‫اعا‬‫ونا َو َن ْخ ًَّل ﴿‪َ ﴾٢٩‬و َح َدائ َق ُغ ْل ًبا ﴿‪َ ﴾٣٠‬و َفاك َه ًة َو َأ ًّبا ﴿‪َّ ﴾٣١‬م َت ً‬ ‫َ َز ْ ُ ً‬
‫ت‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪٢٨‬‬ ‫﴿‬ ‫ا‬ ‫ضً‬
‫ب‬ ‫َوع َن ًبا َو َق ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫لك ْم َو ِْلن َع ِامك ْم ﴿‪﴾﴾٣٢‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫ملا ذكر ربنا سبحانه وتعالى القرآن‪ ،‬في قوله سبحانه‪﴿ :‬ف َمن ش َاء ذك َر ُه﴾ وقد تقدم تفسير‬
‫هذه اآلية‪ ،‬بين ِربنا سبحانه وتعالى منزلة القرآن العالية‪ ،‬في السماء وفي اْلرض‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ف ُّمك َّر َم ٍة﴾ في كتب مكرمة عند هللا عز وجل‪ْ ،‬لن فيها‬
‫فبين سبحانه أن القرآن ﴿ ِفي صح ٍ‬
‫كالمه‪ ،‬وْلن فيها العلم والحكمة واإليمان‪ ،‬وهي كتب مرفوعة املنزلة والقدر عند هللا عز‬
‫وجل وعند املالئكة وعند املؤمنين‪ ،‬وهي كتب منزهة عن التغيير والتبديل‪ ،‬وعن أن يمسها‬
‫غير املطهرين‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ ِبأ ْي ِدي َسف َر ٍة﴾؛ وهم املالئكة الذين هم واسطة بين هللا عز وجل وبني آدم‪ ،‬وهم كتبة‬
‫يكتبون اْلسفار؛ أي الكتب التي فيها أعمال بني آدم‪ِ .‬‬
‫﴿ ِك َر ٍام﴾ في خلقتهم‪ ،‬فخلقتهم كريمة‪ ،‬وفي أخالقهم فأخالقهم كريمة‪ِ .‬‬
‫﴿ َب َر َر ٍة﴾أي صادقون في أقوالهم‪ ،‬مطيعون لربهم‪ ،‬خيرهم كثير وفضلهم عظيم‪ .‬وهذه‬
‫الصحف‪ ،‬قال بعض اْلفسرين‪ :‬هي اللوح املحفوظ حيث كتب فيه القرآن‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي الصحف التي أنزل فيها القرآن جملة واحدة ليلة القدر من‬
‫اللوح املحفوظ إلى أيدي امل ِالئكة‪ِ .‬‬
‫فالقرآن مكتوب في اللوح املحفوظ‪ ،‬وأنزل في صحف من اللوح املحفوظ في ليلة القدر‬
‫جملة واحدة‪ ،‬وهذه الصحف في أيدي املالئكة‪ ،‬ويتكلم هللا بالقرآن متى شاء‪َ ،‬ويسمعه‬
‫جبريل عليه السالم من هللا‪ُ ،‬ويسمعه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فنزل ُم َنجما على‬

‫‪79‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬في ثالث وعشرين سنة‪ِ .‬‬
‫إذن ال تدافع بين كون القرآن مكتوبا‪ ،‬وبين كونه كالم هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذه الصحف؛ هي كتب في أيدي املالئكة يقرؤون منها القرآن في‬
‫السماء‪ ،‬فاملالئكة يقرؤون القرآن في السماء‪ِ .‬‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬بل هو املصحف في أيدي املؤمنين في الدنيا‪ ،‬وال مانع من إرادة كلها‪،‬‬
‫فإن اْلوصاف املذكورة هنا متحققة في جميعها‪ ،‬فالصحف املكرمة هي هذه اْلربعة التي‬
‫ذكرها العلماء‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ َ ْ َ ُ َْ َ‬
‫نسان َما أكف َر ُه﴾ ل ِعن‪ ،‬وعذب‪ ،‬وأهلك اإلنسان الذي يتحدث عنه في هذه‬ ‫اإل‬
‫﴿ق ِتل ِ‬
‫السورة‪ ،‬وهو الكافر املنكر للبعث‪ِ .‬‬
‫َْ َ‬
‫﴿ َما أكف َر ُه﴾ ما الذي جعله يكفر؟ مع أن الدواعي داعية إلى اإليمان‪ ،‬فالفطرة تدعوه إلى‬
‫اإليمان‪ ،‬واآليات الكونية تدعوه إلى اإليمان‪ ،‬واآليات في خلقته‪ ،‬وفي طعامه‪ ،‬وشرابه تدعوه‬
‫إلى اإليمان‪ ،‬والرسل جاءت بالتوحيد واإليمان‪ِ .‬‬
‫فما الذي جعله يترك كل هذا‪ ،‬ليكفر باهلل عز وجل بال سبب يدعو إلى ذلك؟ فعجبا ْلمره‪،‬‬
‫وويحا له‪ ،‬ما أعظم كفره‪ِ .‬‬
‫أفال يتدبر هذا املتكبر املعرض عن التوحيد املستغني عما جاء به الرسول‪ ،‬أفال يتدبر في‬
‫أصل خلقته‪ .‬من أي ش يء خلقه هللا عز وجل حتى ينزجر عن هذا الكبر‪ .‬من نطفة‪ ،‬من منى‬
‫يمنى‪ ،‬من ماء مهين خلقه‪ ،‬فقدره وجعله أطوارا في رحم أمه‪ ،‬يكون نطفة‪ ،‬ثم يكون علقة‪،‬‬
‫ثم يكون مضغة مخلقة‪ ،‬وغير مخلقة‪ ،‬ويسويه هللا عز وجل في رحم أمه‪ ،‬ويضع كل عضو‬
‫في موضعه‪ ،‬سبحان هللا في ذاك املكان الذي ال يصل إليه أحد‪ُ ،‬يخلق اإلنسان خلقة‬
‫سوية‪ ،‬ويكون أطوارا‪ِ .‬‬
‫أيمكن أن يكون قد خلق نفسه؟ ال يمكن أن يكون ذلك وقد كان عدما‪ ،‬أيمكن أن يكون‬
‫ذلك صدفة؟ ال يمكن أن يكون ذلك صدفة على هذا النسق العجيب املضطرد‪ .‬أيمكن أن‬
‫يصل أحد إلى رحم أمه ليخلقه؟ ال وهللا‪ِ .‬‬
‫إذن يتعين يقينا أن خالقه هو هللا‪ ،‬فهو مخلوق ليس خالقا‪ ،‬وال يمكن أن يخلقه إال هللا‬

‫‪80‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬


‫ُ‬
‫﴿ث َّم َّ‬
‫السب َ‬
‫يل﴾ سبيل خروجه من رحم أمه‪ ،‬يسره له‪ ،‬سبحان هللا هداه إليه في وقت‬ ‫ِ‬
‫معين‪ ،‬كان موجودا في رحم أمه‪ ،‬وكان املكان الذي يخرج منه موجودا‪ ،‬فلم يخرج إليه‪ِ .‬‬
‫لكن في وقت معين يهديه هللا إليه فينقلب على رأسه ليخرج من ذاك املكان‪ِّ ،‬‬
‫ويسره له‬
‫خلقة فركب خلقة املرأة تركيبا عجيبا ليتسع ذلك املكان الضيق لخروجه وقت خروجه‪ِ .‬‬
‫ال يمكن أن يكون ذلك إال من اللطيف الخبير ‪،‬الحكيم العليم سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ثم أحياه ما شاء أن يحييه‪ ،‬ثم أماته فقبض روحه‪ ،‬وفي املوت آية عجيبة حيث يسكن‬
‫الجسد بعد نشاطه‪ ،‬وال يملك اإلنسان مهما عال علمه‪ ،‬وال جميع الناس‪ ،‬أن يدفعوا املوت‬
‫عنه إذا حضر؛ الطبيب املاهر الذي يعالج املرض ى بأمر هللا‪ ،‬يموت بنفس املرض‪ِ .‬‬
‫يجتمع اْلطباء املاهرون عند رأس العظيم من البشر إذا حضر املوت‪ ،‬ال يستطيعون له‬
‫شيئا‪ِ .‬‬
‫ََْ‬
‫﴿فأق َب َر ُه﴾ وجعله يستر بقبره‪ ،‬فأكرمه عن سائر املخلوقات‪ ،‬فلم يجعله كالحيوان يموت‪،‬‬
‫ِّ‬
‫فيترك يتعفن وينتفخ ويأكله الدود على وجه اْلرض‪ ،‬بل علم ابن آدم كيف يدفن أخاه بآية‬
‫عجيبة في قصة الغراب املعروفة‪ ،‬فصار ابن آدم يقبر ويستر في قبره‪ ،‬وتلك نعمة عظمى من‬
‫هللا عز وجل على ابن آدم‪ِ .‬‬
‫ثم إذا شاء سبحانه أحياه من قبره‪ ،‬وذلك إذا شاء أن يبعث عباده‪ ،‬بعث سحابا‪ ،‬فأمطر‬
‫مطرا وماء يشبه مني الرجال‪ ،‬فنشأت اْلجساد في القبور من عجب الذنب‪ ،‬ليخرج الناس‬
‫من قبورهم‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿كَّل﴾ ليس اْلمر كما يزعم الكفار ‪،‬أنه ال بعث‪ ،‬وليس اْلمر كما يقول الكفار للمؤمنين لو‬
‫كان هناك بعث لوجدنا أجدادنا أحياء‪ِ .‬‬
‫الكفار من جهلهم كانوا يقولونِ‪ :‬لو كان هناك بعث وإحياء بعد املوت‪ ،‬أين أجدادنا؟ ملاذا ال‬
‫نراهم أحياء اآلن؟ ِ‬
‫فرد هللا عليهم‪ :‬كال ليس اْلمر كما تزعمون‪ ،‬فإن هللا ملا يقض ما أمر به كونا من البعث‪،‬‬
‫فإن للبعث أجال‪ ،‬ال يتقدم وال يتأخر‪ ،‬فليس اْلمر كما تقولونِ‪ :‬لو كان هناك بعث لوجدنا‬

‫‪81‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أجدادنا‪ِ .‬‬
‫ْلن البعث لجميع املوتى في وقت واحد بأجل معلوم‪ ،‬وأيضا ليس اْلمر كما يزعم الكفار‬
‫بقولهم‪ :‬أنه لو كان هناك بعث‪ ،‬لكان لنا عند ربنا الحسنى‪ْ ،‬لننا أهل جاه‪ ،‬وأهل مال‪ ،‬وأهل‬
‫مكانة‪ ،‬فلو كان اْلمر كما تزعمون أن هناك بعثا‪ ،‬فإن الحسنى لنا‪ِ .‬‬
‫كال ليس اْلمر كما يزعمون فإن لهم عند ربهم الذلة والعذاب اْلليم‪ْ ،‬لنهم لم يفعلوا ما‬
‫أمرهم هللا به من التوحيد‪ ،‬والطاعة‪ ،‬واإليمان بالبعث‪ ،‬فكانت لهم الذلة يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫فلينظر اإلنسان بعقله نظرة تدبر إلى طعامه‪ ،‬ليزداد املؤمن إيمانا ولينزجر الكافر عن كفره‪،‬‬
‫لينظر جنس اإلنسان إلى مأكله ومشربه كيف دبره هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ال ينشئه اإلنسان‪،‬‬
‫وإنما ينشئه هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َّأنا أنزلنا املاء من السماء‪ ،‬كثيرا متتابعا نافعا فأسكناه في اْلرض‪ ،‬فاختلط بالبذور‬
‫املوجودة في اْلرض‪ ،‬أو التي يغرسها اإلنسان فينمو النبات داخل اْلرض حتى تتشقق‬
‫اْلرض‪ ،‬فلم يجعلها هللا صلبة‪ ،‬بل تتشقق فيخرج النبات‪ِ .‬‬
‫فأنبت هللا في اْلرض لبني آدم أنواع الحبوب من اْلرز والقمح والشعير والبر والعدس وغير‬
‫ذلك من أنواع الحبوب‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ َو ِعن ًبا﴾ وهو العنب املعروف‪ِ .‬‬
‫ضب؛ ُيقطع ثم َينبت ثم يقطع ثم ينبت‪ِ .‬‬‫ضب‪ :‬معنى ُي ْق َ‬ ‫﴿و َق ْ‬
‫ض ًبا﴾وهو العشب الرطب‪ُ .‬ي ْق َ‬ ‫َ‬
‫ََ ُ ً َ ًْ‬
‫﴿وز ْيتونا َونخَّل﴾ جمع هللا بين الزيتون والنخل؛ ْلنهما شجرتان مباركتان‪ ،‬الزيتون شجرة‬
‫مباركة وفيها الزيت املعروف‪ ،‬والنخلة شجرة مباركة‪ِ .‬‬
‫يقول العلماء‪ :‬يجمع بين النخل والزيتون البركة‪ ،‬وأنه ال يرمى منها ش يء‪ِ .‬‬
‫شجرة الزيتون والنخلة كل ش يء فيها نافع‪ ،‬ما ُيرمى منها ش يء‪ ،‬كل ما فيها ينتفع به‪ ،‬ولذلك‬
‫جمع هللا بينهما‪ِ .‬‬
‫ُْ‬
‫﴿ َو َح َدا ِئ َق غل ًبا﴾ أنبت هللا عز وجل أشجارا ملتفة‪ ،‬كبيرة‪ ،‬غليظة الجدوع‪ ،‬يحيطها‬
‫اإلنسان فتصبح حديقة‪ ،‬يبني حولها سورا فتصبح حديقة‪ِ .‬‬
‫َ ً‬
‫﴿ َوف ِاك َهة﴾ أي وثمرة يأكلها اإلنسان‪ِ .‬‬

‫‪82‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هي على بابها‪ ،‬الفاكهة املعروفة التي يتلذذ بها اإلنسان‪ ،‬نوع من‬
‫الثمار‪ِ .‬‬
‫يعني يا إخوة بعض أهل العلم يقولِ‪ :‬الفاكهة هي الثمرة النافعة‪ ،‬سواء كانت فاكهة أو‬
‫ليست فاكهة‪ ،‬ثمرة نافعة‪ ،‬وبعض أهل العلم يقول الفاكهة هي الفاكهة املعروفة‪ِ .‬‬
‫ًّ‬ ‫ََ‬
‫﴿وأبا﴾ اْلب هو نبت اْلرض الذي تأكله البهائم‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وأنعامكم متاع لكم‪،‬‬ ‫وْلنعامكم‪،‬‬ ‫ْلمركم‪،‬‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫وتدبي‬ ‫لكم‪،‬‬ ‫منفعة‬ ‫﴾‬ ‫اعا َّل ُك ْم َو َْل ْن َعام ُك ْ‬
‫م‬ ‫﴿ َّم َت ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فصار الكل متاعا لكم‪ ،‬والذي أنعم بهذا أال يستحق أن يعبد؟ وهللا الذي ال إله إال هو‪ ،‬ال‬
‫يستحق أن يعبد إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وفي ذلك داللة بينة لغير املعرض على وجود هللا‬
‫وربوبيته وألوهيته‪ ،‬وعلى أنه قادر على بعث الناس‪ِ .‬‬
‫هذا املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني الذي إذا أدركناه تسمو نفوسنا بمعاني القرآن‪ ،‬ثم‬
‫نعود إلى التفسير التفصيلي لآليات بقراءة ما سطره الشيخ والتعليق عليه والزيادة عليه بما‬
‫يتممه إن شاء هللا عز وجل ‪ِ .‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى‪﴿ :‬ف َمن ش َاء ذك َر ُه﴾ أي‬
‫َ َْ ْ ُ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َُ ْ‬
‫﴿وق ِل ال َح ُّق ِمن َّرِبك ْم ۖ ف َمن ش َاء فل ُيؤ ِمن َو َمن ش َاء فل َيكف ْر ۚ﴾ ثم‬ ‫عمل به كقوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ َّ‬
‫ف ُّمك َّر َم ٍة﴾‬ ‫ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها فقال‪ِ ﴿ :‬في صح ٍ‬
‫ف﴾ الصحف هي الكتب‪ ،‬مكرمة؛ أي عند هللا ْلن فيها كالمه‪ ،‬وْلن فيها العلم‪،‬‬ ‫ُ ُ‬
‫﴿ ِفي صح ٍ‬
‫والحكمة‪ ،‬واإليمان‪ِ .‬‬
‫مرفوعة القدر والرتبة‪.‬‬
‫واملنزلة عند هللا‪ ،‬وعند املالئكة‪ ،‬وعند املؤمنين‪ ،‬فهي ذات منزلة عالية عند ربنا سبحانه‬
‫وتعالىن وعند املالئكة في السماء‪ ،‬وعند املؤمنين في اْلرض‪ِ .‬‬
‫مطهرة من اآلفات‪.‬‬
‫مطهرة‪ :‬يعني منزهة‪ِ .‬‬
‫مطهرة من اآلفات وعن أن تنالها أيدي الشياطين‪ ،‬أو يسترقوها‪.‬‬
‫ومنزهة من التحريف والتغيير‪ ،‬ومنزهة من مسيس غير املطهرين لها‪ِ .‬‬

‫‪83‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫بل هي بأيدي سفرة؛ وهم اْلَّلئكة الذين هم سفراء بين هللا وبين عباده‪.‬‬
‫يعني سفرة؛ قيل من السفير وهو الواسطة‪ ،‬فاملالئكة وسطاء ينزلون بالوحي وما يشاء هللا‬
‫إلى العباد‪ِ .‬‬
‫وقيل من اْلسفار؛ وهي الكتب‪ ،‬واملالئكة تكتب الكتب التي فيها أعمال العباد‪ ،‬وال مانع من‬
‫اْلمرين‪ِ .‬‬
‫﴿ك َر ٍام﴾ أي كثيري الخير والبركة‪.‬‬
‫ِ‬
‫﴿ ِك َر ٍام﴾ أي كرام في خلقتهم كما قلنا‪ ،‬فخلقتهم كريمة‪ ،‬وكرام في أخالقهم‪ ،‬ومن كرامتهم‬
‫كثرة خيرهم وبركتهم‪ ،‬فهم عباد ليس فيهم إال الخير ‪،‬فهذا من كرامتهم‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ب َر َر ٍة﴾ قلوبهم وأعمالهم‪.‬‬
‫﴿ َب َر َر ٍة﴾ يعني أنهم صادقون في قلوبهم وأعمالهم‪ ،‬هذا مراد الشيخ‪ِ .‬‬
‫وقال بعض املفسرين‪َ ﴿ :‬ب َر َر ٍة﴾ أي مطيعين لربهم‪ ،‬وال مانع من اْلمرين‪ ،‬فهم صادقون‬
‫مطيعون‪ ،‬صادقون ال يكذبون أبدا‪ ،‬ومطيعون ال يعصون أبدا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وذلك كله حفظ من هللا لكتابه‪ ،‬أن جعل السفراء فيه إلى الرسل‪ ،‬اْلَّلئكة الكرام‪،‬‬
‫اْلقوياء‪ ،‬اْلتقياء‪ ،‬ولم يجعل للشياطين عليه سبيَّل‪ ،‬وهذا مما يوجب اإليمان به وتلقيه‬
‫ُ َ ْ َ ُ‬
‫نسان َما‬ ‫بالقبول‪ ،‬ولكن مع هذا أبى اإلنسان إال كفورا‪ ،‬ولهذا قال هللا تعالى‪﴿ :‬ق ِتل ِ‬
‫اإل‬
‫َْ َ‬
‫أكف َر ُه﴾‪.‬‬
‫ُ‬
‫﴿ق ِت َل﴾ كما قلنا معناها لعن وعذب وأهلك‪ِ .‬‬
‫و(أل) في اإلنسان للعهد‪ ،‬العهد الذكري‪ ،‬وهو اإلنسان املذكور هنا‪ ،‬وهو الذي يكذب‬
‫بالبعث‪ِ .‬‬
‫َ َْ َ‬
‫﴿ما أكف َر ُه﴾ قيل‪ :‬ما‪ ،‬هنا تعجبية؛ أي ما أعظم كفره مع عظيم إحسان هللا إليه‪ ،‬وتوفر‬
‫الداعي إلى اإليمان والتوحيد‪ ،‬وانعدام الداعي إلى الكفر‪ ،‬وهللا إنه ْلمر عجيب‪ ،‬اْلسباب‬
‫كلها تدعو اإلنسان إلى التوحيد واإليمان‪ ،‬وال يوجد سبب واحد يدعو اإلنسان إلى الكفر‪،‬‬
‫ومع ذلك يكفر الكفرة‪ِ .‬‬

‫‪84‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬ما‪ ،‬هنا استفهامية؛ يعني ما الذي جعله يكفر؟ ِ‬
‫والجواب‪ :‬ال ش يء سوى طغيانه‪ ،‬وإال فال يوجد ما يدعوه إلى الكفر‪ِ .‬‬
‫ُ َ ْ َ ُ َْ َ‬
‫نسان َما أكف َر ُه﴾ لنعمة هللا‪ ،‬وما أشد معاندته للحق بعدما تبين‪ ،‬وهو ما هو؟‬ ‫اإل‬
‫﴿ق ِتل ِ‬
‫هو من أضعف اْلشياء‪ ،‬خلقه هللا من ماء مهين‪ ،‬ثم قدر خلقه وسواه بشرا سويا‪.‬‬
‫َ‬
‫ق ِّدر خلقه فجعله أطوارا في رحم أمه‪ ،‬وركبه وهو في رحم أمه‪ ،‬ووضع كل عضو في موضعه‪،‬‬
‫وهو في رحم أمه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ثم قدر خلقه وسواه بشرا سويا‪ ،‬وأتقن قواه الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫ُ‬
‫يل َي َّس َر ُه﴾ أي يسر له اْلسباب الدينية والدنيوية وهداه السبيل وبينه‬ ‫﴿ث َّم َّ‬
‫السب َ‬
‫ِ‬
‫وامتحنه باْلمر والنهي‪.‬‬
‫فكان إما شاكرا أو كفورا هذا أقوال أحد املفسرين‪ِ .‬‬
‫يسر له السبيل‪ ،‬فبين له سبيل الغواية‪ ،‬وسبيل الهداية‪ ،‬وجعله قادرا على سلوك أحد‬
‫الطريقين‪ ،‬فكان إما شاكرا إما كفورا‪ ،‬والذي عليه أكثر املفسرين‪ :‬أن السبيل هنا هي طريق‬
‫الخروج من الرحم‪ ،‬وهذا هو اْلليق بالسياق‪ ،‬فإن السياق عن خلقته ووجوده‪ ،‬ثم عن‬
‫موته ونشره‪ِ .‬‬
‫ُ َ َ ََْ‬
‫﴿ ث َّم أ َمات ُه فأق َب َر ُه﴾‪.‬‬
‫ُ َ َ‬
‫﴿ ث َّم أ َمات ُه﴾ أي قبض روحه‪ ،‬فأسكن جسده‪ ،‬سبحان هللا إن في املوت آلية؛ اإلنسان‬
‫يتحرك ويتكلم بروح‪ ،‬هذه الروح لم يستطع اْلطباء والعلماء أن يصلوا إليها‪ ،‬مع أنهم‬
‫شرحوا جسد اإلنسان‪ ،‬لم يصلوا لهذه الروح‪ ،‬ثم إذا قبضت هذه الروح سكن كل ش يء‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫والروح من أمر هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ُ َ َ ََْ‬
‫﴿ ث َّم أ َمات ُه فأق َب َر ُه﴾ أي أكرمه بالدفن‪.‬‬
‫معنى فأقبره‪ :‬صيره إلى القبر بعد املوت‪ ،‬وفي هذا إكرام له‪ِ .‬‬
‫ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه اْلرض‪.‬‬
‫ُ َ َ َ َ‬
‫﴿ث َّم ِإذا ش َاء أنش َر ُه﴾ أي بعثه بعد موته للجزاء‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أنشره؛ معناها أحياه‪ .‬يقال‪ :‬أنشره هللا؛ أي أحياه‪ ،‬وأحياه للبعث بعد أن ُيقبر وتأكله‬
‫َّ َ‬
‫اْلرض‪ ،‬ويبقى عجب الذنب‪ ،‬يحييه هللا مرة أخرىِ‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فاهلل هو اْلنفرد بتدبير اإلنسان وتصريفه بهذه التصاريف‪ ،‬لم يشاركه فيه‬
‫مشارك‪ ،‬وهو مع هذا ال يقوم بما أمره هللا‪ ،‬ولم يقض ما فرضه عليه‪ ،‬بل اليزال مقصرا‬
‫تحت الطلب‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ َّ َ ْ‬
‫ض َما أ َم َر ُه﴾ أن املشرك لم يمتثل ما أمره‬
‫هذا أحد معاني قول هللا عز وجل‪﴿ :‬كَّل ْلا ي ِ‬
‫ق‬
‫هللا به من التوحيد ِوالطاعة‪ ،‬وهذه اآلية كما ذكرنا في التفسير لها معنيان عند أهل العلم‪:‬‬
‫كال ليس اْلمر كما يزعم الكفار‪ ،‬أنه ال بعث وأنه لو كان هناك بعث لرأينا اْلجداد‪ ،‬فإن هللا‬
‫ملا يقض ما أمر به كونا من البعث‪ ،‬ما جاء وقت البعث‪ِ .‬‬
‫والوجه الثاني‪ :‬كال ليس اْلمر كما يزعم الكفار ‪،‬أن لهم الحسنى عند ربهم لو بعثوا‪ ،‬فإن‬
‫لهم اإلهانة والعذاب‪ْ ،‬لنهم لم يقضوا ما أمرهم هللا به من التوحيد واإليمان‪ .‬إذن على‬
‫الوجه اْلول يكون الفاعل (ليقض) هو هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وعلى الوجه الثاني يكون الفاعل (ليقض) هو الكافر الذي ال يؤمن بالبعث‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ثم أرشده هللا إلى النظر والتفكر في طعامه‪ ،‬وكيف وصل إليه بعدما‬
‫تكررت عليه طبقات عديدة ويسره هللا له فقال‪.. :‬‬
‫هذا على وجه عند املفسرين وهو أن اإلنسان هنا هو املعهود‪ ،‬وهو الذي ينكر البعث‪ِ .‬‬
‫يرشدون إلى‬
‫وعلى الوجه اآلخر أن اإلنسان هنا هو جنس اإلنسان‪ ،‬املؤمن والكافر‪ ،‬كلهم ِ‬
‫النظر‪ِ .‬‬
‫أما املؤمن فليزداد إيمانا وثباتا‪ ،‬وأما الكافر فلينزجر عن هذا الكفر‪ِ .‬‬
‫ص ًّبا﴾ أي أنزلنا اْلطر على اْلرض‬ ‫ان إ َل ٰى َط َعامه ﴿‪َ ﴾٢٤‬أ َّنا َ‬
‫ص َب ْب َنا ْاْلَ َاء َ‬ ‫ََْ ُ ْ َ ُ‬
‫ِِ‬ ‫اإلنس ِ‬
‫﴿فلينظ ِر ِ‬
‫بكثرة‪.‬‬
‫متتابعا نافعا وأسكناه في اْلرض‪ِ .‬‬
‫ثم شققنا اْلرض للنبات شقا‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫حيث يلتقي البذر باملاء تحت اْلرض‪ ،‬في جوف اْلرض‪ ،‬ثم ينمو هذا النبات ويقوى على‬
‫َ‬
‫اْلرض‪ ،‬مع ضعفه‪ ،‬ترى الزرعة الضعيفة ت َّشق لها اْلرض وتخرج‪ ،‬لو أمسكتها أنت لكسرتها‬
‫أو قطعتها‪ ،‬مع ضعفها تنشق لها اْلرض‪ ،‬من الذي شقها؟ هل هي قوة هذا النبات؟ ال قوة‬
‫للنبات‪ ،‬هل هي فعل اإلنسان؟ ال قدرة لإلنسان‪ ،‬وإنما هو تدبير الرحمن سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فأنبتنا فيها أصنافا مصنفة من أنواع اْلطعمة الذيذة‪ ،‬واْلقوات الشهية‪.‬‬
‫﴿ح ًّبا﴾ وهذا شامل لسائر الحبوب على اختَّلف أصنافها‪.‬‬ ‫َ‬
‫﴿وع َن ًبا َو َق ْ‬
‫ض ًبا﴾ وهو القت‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫العنب معروف‪ ،‬والقضب هو القت؛ والقت هو الرطب من العشب‪ ،‬قلت لكم سمي قضبا‬
‫ْلنه ُيقضب‪ِ .‬‬
‫ومعنى يقضب‪ :‬يقطع فينبت‪ ،‬ثم يقطع‪ ،‬وهكذا العشب ُي َجز‪ ،‬وبعد أيام تجده قد طال‪ ،‬ثم‬
‫يجز‪ ،‬ثم تجده قد طال‪ ،‬فهذا هو القضب‪ِ .‬‬
‫ََ ُ ً َ ًْ‬
‫﴿وز ْيتونا َونخَّل﴾ وخص هذه اْلربعة لكثرة فوائدها ومنافعها‪.‬‬
‫وقد سمعتم بعض الحكمة التي التمسها بعض العلماء في الجمع بين الزيتون والنخل هنا‬
‫في مقام االمتنان‪ِ .‬‬
‫ُْ‬
‫﴿و َح َدا ِئ َق غل ًبا﴾ أي بساتين فيها اْلشجار الكثيرة اْللتفة‪.‬‬
‫َ‬

‫أي بساتين محوطة‪ِ .‬‬


‫تقدم معنا يا إخوة أن البستان ال يسمى حديقة إال إذا كان محوطا‪ ،‬فهي بساتين محوطة‬
‫فيها اْلشجار الكثيرة امللتفة؛ فالغلب ما التف من الشجر واجتمع‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫الطوال؛ أشجار طويلة‪ِ .‬‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الغلب‪ِ :‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الغلب‪ :‬اْلشجار غليظة الجذوع‪ ،‬تكون جذوعها وسيقانها غليظة‪،‬‬
‫ً‬
‫وال مانع من الكل‪ ،‬فالكل يدخل في مسمى الغلب لغة‪ ،‬وهو الواقع‪ ،‬فتجد أشجارا طويلة‪،‬‬
‫وتجد أشجار ملتفة‪ ،‬وتجد أشجارا جذوعها غليظة جدا‪ ،‬وهكذا‪ِ .‬‬
‫ََ ً َ‬
‫﴿وف ِاك َهة َوأ ًّبا﴾ الفاكهة ما يتفكه فيه اإلنسان‪ ،‬من تين وعنب وخوخ ورمان وغير ذلك‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬كل ما يأكله بنو آدم من النبات‪ ،‬سواء كان فاكهة في العرف‪ ،‬أو لم يكن فاكهة‪ِ .‬‬

‫‪87‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬واْلب ما تأكله البهائم واْلنعام‪.‬‬


‫اْلب‪ :‬هو نبت اْلرض الذي تأكله البهائم‪ِ .‬‬
‫َّ َ ً َّ ُ َ ْ ُ‬
‫اعا لك ْم َو ِْلن َع ِامك ْم﴾ التي خلقها هللا وسخرها لكم‪ ،‬فمن نظر في‬‫قال‪ :‬ولهذا قال‪﴿ :‬مت‬
‫ْ‬
‫هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه‪ ،‬وبذل الجهد في اإلنابة إليه‪ ،‬واإلقبال على طاعته‪،‬‬
‫والتصديق ْلخباره‪.‬‬
‫‪-‬تفسير اْلقطع اْلخير من السورة‪-‬‬
‫اح َب ِت ِه‬‫ص‬‫اخ ُة ﴿‪َ ﴾٣٣‬ي ْو َم َيف ُّر ْاْلَ ْر ُء م ْن َأخيه ﴿‪َ ﴾٣٤‬و ُأمه َو َأبيه ﴿‪َ ﴾٣٥‬و َ‬ ‫َّ َّ‬
‫الص‬ ‫ت‬ ‫﴿فإ َذا َج َِ‬
‫اء‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫َو َبنيه ﴿‪ ﴾٣٦‬ل ُكل ْامرئ م ْن ُه ْم َي ْو َمئذ َشأ ٌن ُي ْغنيه ﴿‪ُ ﴾٣٧‬و ُج ٌ‬
‫وه َي ْو َم ِئ ٍذ ُّم ْس ِف َرة ﴿‪﴾٣٨‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِ ٍِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ََ ٌ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫ضاح َك ٌة ُّم ْس َت ْبش َر ٌة ﴿‪َ ﴾٣٩‬و ُو ُج ٌ‬ ‫َ‬
‫وه َي ْو َم ِئ ٍذ َعل ْي َها غ َب َرة ﴿‪ ﴾٤٠‬ت ْر َهق َها قت َرة ﴿‪ ﴾٤١‬أولـ ِئ َك ُه ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ َ ُ َْ ُ‬
‫الكف َرة الف َج َرة ﴿‪﴾﴾٤٢‬‬
‫ملا كان ما تقدم داال على عظيم قدرة ربنا سبحانه وتعالى‪ ،‬وعظيم تدبيره‪ ،‬رتب هللا على‬
‫ذلك الكالم عن يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫فإن الذي دبر الدنيا قادر على أن يدبر اآلخرة‪ ،‬وقادر على البعث سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫اخ ُة﴾ إذا جاءت القيامة التي َت ُ‬
‫َّ َّ‬ ‫َ َ‬
‫ص ُّخ اْلسماع؛ أي ت ِص ُّم اْلسماع لهولها‬ ‫﴿ف ِإذا َج َاء ِت الص‬
‫وعظيم ما فيها‪ ،‬فهي الداهية التي ال أدهى منها‪ ،‬وال أمر منها‪ِ .‬‬
‫في ذلك اليوم يفر املرء من أخيه من أمه وأبيه‪ ،‬يهرب منه‪ ،‬ومن أمه وأبيه‪ ،‬ومن زوجته‬
‫وبنيه؛ هؤالء في الدنيا إذا نزلت باإلنسان نازلة ذهب إليهم‪ ،‬واستأنس بهم‪ .‬أما في اآلخرة‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عند نزول الصاخة‪ ،‬فإنه يهرب منهم ْلنه يخاف أن يطلبوا منه حسنة واحدة‪ ،‬ويخاف أن‬
‫يطالبوه بمظاملهم عنده‪ ،‬ويخاف أن يطالبوه بأن يتحمل عنهم الذنوب التي فعلوها من‬
‫أجله في الدنيا‪ .‬الولد قد يعص ي هللا في الدنيا بأمر أبيه‪ ،‬هذا ما يجوز ومعصية‪ ،‬لكن قد‬
‫يعص ي بأمر أبيه‪ ،‬مثل ما يفعل بعض اْلباء‪ :‬هداني هللا وإياهم‪ ،‬يأتي االبن يعفي لحيته‪.‬‬
‫يقو ِل‪ :‬احلق لحيتك‪ .‬لست ابني إذا ما حلقت لحيتك‪ ،‬أطردك من البيت إذا ما حلقت‬
‫لحيتك‪ .‬بل بلغ السفه ببعض اْلباء أن يقو ِل‪ :‬سأبلغ عنك إذا ما حلقت لحيتك‪ .‬هناك‬
‫ِّ‬
‫يتذكر اْلب أنه الذي أمر ابنه باملعصية فيخاف أن يطالبه االبن بأن يتحمل عنه هذه‬

‫‪88‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫متحملها وإن كان ال ُيغني عن االبن‪ ،‬فله نصيبه من جرمها‪ ،‬ولالبن نصيبه‬
‫املعصية‪ ،‬وهو ِّ‬

‫من جرمها‪ِ .‬‬


‫ِّ‬ ‫يفر منهم ِّ‬
‫حتى ال يروا هوانه‪ ،‬و ذله‪ ،‬وما ُيفعل به في ذلك اليوم‪،‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ِّ :‬‬
‫ْلنه يعرف معاصيه التي كان ُي ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫خبئها عنهم في الدنيا‪ ،‬فيخاف أن‬ ‫حتى ال ُيفضح أمامهم‪،‬‬
‫فر ِّ‬ ‫ِّ‬
‫حتى ال يفضح بذنوبه أمامهم‪ِ .‬‬ ‫فكلما رأهم ِّ‬ ‫ُيفضح أمامهم‪.‬‬
‫أصال يوم القيامة ال يشتغل ً‬ ‫ً‬
‫أحدا بأحد‪ِ .‬‬ ‫لكل امرئ منهم شأن عظيم يشغله عن غيره؛ ِ‬
‫ِّ ُ ً‬
‫عراة‪ ،‬غ ْرال‪ ،‬حفاة) قالت ِّأمنا‬ ‫ولذلك ملا قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬يحشر الناس‬
‫الحيية‪ :‬الرجال والنساء يا رسول هللا؟ ‪-‬يعني يبعثون عراة‬ ‫ِّ‬ ‫عائشة رض ي هللا عنها وهي‬
‫الرجال والنساء في مكان واحد؟‪ -‬فقال‪ :‬يا عائشة اْلمر أعظم من ذلك؛ ما ينظر رجل إلى‬
‫امرأة‪ ،‬وال امرأة إلى رجل‪ .‬لكل امرئ منهم شأن يغنيه ويشغله عن غيره‪ .‬في ذلك اليوم تبيض‬
‫وجوه‪ ،‬وتسود وجوه‪ ،‬فهناك وجوه مشرقة‪ ،‬حسنة‪ ،‬بهية‪ ،‬نضرة‪ ،‬ضاحكة‪ ،‬مسرورة‪،‬‬
‫مبتسمة إذا رأت كتابها‪ ،‬مستبشرة بنعيم الجنة والزيادة التي في الجنة‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫مبشرة‪ ،‬تبشرها املالئكة بالسالم والجنة‪ ،‬تتالقاها املالئكة بالبشرىِ‪ :‬بشراكم‪ ،‬سالم من‬ ‫أو‬
‫ربكم وجنة‪ِ .‬‬
‫فهي مستبشرة لسبق علمها بنعيم الجنة‪ ،‬والزيادة التي هي رؤية وجه هللا في الجنة‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫ومبش ِّرة؛ ِّتبشرها املالئكة فيزداد سرورها‪ ،‬وسعادتها‪ ،‬وتلك وجوه أهل اإليمان‪ .‬وتسود‬
‫وجوه؛ ف ِوجوه في ذلك اليوم عليها غبرة‪ِ .‬‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬غبار حقيقي؛ وهو التراب الحاصل من البهائم‪ ،‬عندما تكون البهائم‬
‫ترابا؛ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يطير هذا التراب فيلتصق في وجوه الكفار‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل هي غبرة الذل‪ ،‬فوجوههم كاسفة‪ ،‬مظلمة من الذل والعياذ‬
‫باهلل‪ِ .‬‬
‫تغشاها قترة؛ تغشاها ذلة‪ ،‬وظلمة‪ ،‬أولئك الذين هذه وجوههم‪ ،‬هم الكفرة‪ ،‬الذين كفروا‬
‫باهلل‪ ،‬وكفروا بنعم هللا‪ ،‬وكفروا بالبعث‪ ،‬وكذبوا آيات هللا‪ ،‬وكذبوا رسل هللا‪ ،‬وهم الفجرة؛‬
‫والفاجر يطلق على الكذاب املفتري‪ ،‬يقال للكذاب املفتريِ‪( :‬فاجر) ويطلق على الفاسق‬

‫‪89‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الذي خرج من الطاعة إلى املعصية‪ ،‬فيقال له‪ :‬فاجر‪ ،‬ويطلق على املائل عن التوحيد إلى‬
‫الشرك‪ ،‬فهو عكس الحنيف‪ِ .‬‬
‫على هذا املعنى ما الحنيف؟ الحنيف‪ :‬هو املائل عن الشرك إلى التوحيد‪ِ .‬‬
‫ما الفاجر؟ هو املائل عن التوحيد إلى الشرك‪ِ .‬‬
‫وكل هذه مقصودة هنا فهم كذبة مفترونون‪ ،‬هم فساق‪ ،‬وهم مائلون عن التوحيد إلى‬
‫الشرك عياذا باهلل من سوء الحال‪ِ .‬‬
‫ونعود إلى التفسير التفصيلي ِ‬
‫قال رحمة هللا عليه‪ :‬أي إذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ لهولها اْلسماع‪.‬‬
‫أي تصم اْلسماع؛ فاْلسماع يصيبها الصمم في ذلك اليوم‪ ،‬لشدة هول يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى الصاخة‪ :‬الداهية التي ال أدهى منها‪ ،‬فتكون الصاخة بمعنى‬
‫الطامة‪ ،‬كما تقدم معنا فيكونان لفظان ملعنى واحد‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الصاخة هنا هي النفخة في الصور التي تصيخ لها اْلسماع‬
‫فتسمعها‪ِ .‬‬
‫أي إذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ لهولها اْلسماع‪ ،‬وتنزعج لها اْلفئدة يومئذ‪ ،‬مما‬
‫يرى الناس من اْلهوال وشدة الحاجة لسالف اْلعمال‪.‬‬
‫يفر اْلرء من أعز الناس إليه و أشفقهم عليه‪ ،‬من أخيه‪ ،‬وأمه‪ ،‬وأبيه‪ ،‬و صاحبته؛ أي‬
‫زوجته وبنيه‪.‬‬
‫وسبب هذا الفرار كما قلنا‪ :‬الخوف من أن يطلبوا منه حسنة واحدة‪ ،‬الذي كان في الدنيا‬
‫يقدمهم على نفسه‪ ،‬في اآلخرة يفر‪ ،‬يخاف أن يطلبوا منه حسنة واحدة‪ ،‬أو يخاف أن‬
‫يطلبوا منه أن يتحمل عنهم مظلمة‪ ،‬لعل ميزانهم يرجح‪ ،‬أو يخاف أن يطالبوه بتحمل‬
‫الذنوب التي تسبب بها‪ ،‬أو يخاف أن يفضح بذنوبه أمامهم‪ِ .‬‬
‫و ذلك ْلنه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه‪.‬‬
‫غيره‪ِ .‬‬
‫الشأن‪ :‬هو اْلمر العظيم‪ .‬ومعنى يغنيه‪ :‬يشغله عن ِ‬

‫‪90‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أي قد أشغلته نفسه واهتم لفكاكها‪ ،‬ولم يكن له التفات إلى غيرها‪ ،‬فحينئذ ينقسم‬
‫الخلق إلى فريقين‪ :‬سعداء و أشقياء‪ ،‬فأما السعداء فوجوههم يومئذ مسفرة‪.‬‬
‫﴿ي ْو َم َت ْب َي ُّ‬
‫ض‬ ‫مسفرة‪ :‬معناها مشرقة‪ ،‬مضيئة‪ ،‬حسنة‪ ،‬منورة‪ ،‬وهذا هو البياض املقصود َ‬
‫ُو ُج ٌ‬
‫وه﴾ [آل عمران‪ ]106 :‬هذا املقصود‪ِ .‬‬
‫فوجوههم يومئذ مسفرة؛ أي قد ظهر فيها السرور والبهجة مما عرفوا من نجاتهم‬
‫وفوزهم بالنعيم‪.‬‬
‫هذا سبب كونها مسفرة‪ ،‬سبب كونها مشرقة‪ :‬هذا‪ِ .‬‬
‫َ ٌ‬ ‫َ َ ٌ‬
‫احكة ُّم ْست ْب ِش َرة﴾‬ ‫﴿ض ِ‬
‫َ َ ٌ‬
‫﴿ض ِاحكة﴾ أي مبتسمة‪ ،‬مسرورة‪ِ .‬‬
‫ٌ‬
‫﴿م ْس َت ْب ِش َرة﴾ كما قلنا أي مستبشرة بما ترجوه من النعيم املقيم في الجنة‪ ،‬والزيادة‪،‬‬‫ُّ‬
‫ولتبشير املالئكة لها‪ِ .‬‬
‫ووجوه اْلشقياء يومئذ عليها غبرة‪.‬‬
‫غبرة كما قلت‪ :‬بعض أهل العلم قالوا‪ :‬غبار حقيقي‪ ،‬و ذكر املفسرون أنه تراب البهائم‬
‫عندما تصير ترابا‪ ،‬يطير فيلتصق في وجوه الكفار؛ يعني الكافر إذا رأى البهيمة قد صارت‬
‫ترابا يقولِ‪ :‬يا ليتني كنت ترابا‪ ،‬فيطير هذا التراب فيلتصق في وجهه‪ ،‬إهانة له‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الغبرة هنا هي كسوف الوجه‪ ،‬وظلمة الوجه من سوء الحال‪ِ .‬‬
‫ترهقها؛ أي تغشاها قترة فهي سوداء مظلمة مدلهمة قد أيست من كل خير‪.‬‬
‫قال بعض أهل العلم‪ :‬القترة‪ :‬هي الغبار؛ فالغبار غبرة‪ ،‬وقترة‪ ،‬بمعنى واحد‪ِ .‬‬
‫طبعا معروف أنه في الدنيا ‪-‬وذكرنا هذا أظن في الصيام‪ -‬أن القتر‪ :‬هو الغبار الذي تحمله‬
‫الريح إلى السماء‪ ،‬فيصعد إلى السماء‪ ،‬والغبار هو الذي يكون على وجه اْلرض‪ِ .‬‬
‫يوم القيامة‪ ،‬قال بعض أهل العلم‪ :‬الغبرة والقترة بمعنى واحد‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الغبرة هي الغبرة الحقيقية‪ ،‬والقترة هي الذلة وتغير حال الوجه‪ ،‬و‬
‫هذا سواد وجوهها‪ ،‬وهذه وجوه أهل النار‪ِ .‬‬

‫‪91‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫شقاءها وهَّلكها‪ ،‬أولئك الذين بهذا الوصف هم الكفرة‬ ‫قد أيست من كل خير وعرفت‬
‫الفجرة؛ أي الذين كفروا بنعمة هللا وكذبوا بآياته وتجرؤوا على محارمه‪.‬‬
‫فهم كفرة‪ ،‬كفروا باهلل‪ ،‬وبنعم هللا‪ ،‬وبالبعث‪ِ .‬‬
‫وهم فجرة‪ ،‬افتروا على هللا‪ ،‬وفسقوا عن أمر هللا‪ ،‬ومالوا عن التوحيد الذي هو الفطرة‪ ،‬إلى‬
‫الشرك عياذا باهلل من سوء الحال‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫‪-‬بعض الفوائد العلمية واآلثار اإليمانية لهذه السورة‪-‬‬
‫سورة عبس تشترك مع سورة النازعات‪ ،‬وسورة النبأ‪ ،‬في الفوائد العلمية واآلثار اإليمانية‪،‬‬
‫إذ كلها سور مكية‪ ،‬ومقاصد السور املكية واحدة‪ ،‬ونزيد على ما تقدم‪ ،‬بعض الفوائد‬
‫العلمية واآلثار اإليمانية املستفادة من سورة عبس‪ِ .‬‬
‫ومن تلك الفوائد‪ :‬أن تارك اْلولى‪ ،‬واملخطئ غير املعاند‪ ،‬واملخالف غير املعاند‪ ،‬يخاطب‬
‫َ‬
‫بالتي هي أحسن‪ِ ،‬ويعاتب بالتي هي ألطف‪ ،‬فإن ذلك أدعى إلى رجوعه إلى ما يليق به‪ ،‬فإذا‬
‫وجدنا أحدا ترك اْلولى‪ ،‬واشتغل بما هو دونه‪ ،‬أو وجدنا أحدا مخطئا لكن ال يظهر عليه‬
‫العناد‪ ،‬أو وجدنا أحدا مخالفا للحق‪ ،‬لكن ال يظهر عليه العناد‪ ،‬فإنا نخاطبه بالتي هي‬
‫أحسن‪ ،‬ونعاتبه بالتي هي ألطف‪ ،‬فنختار ألطف العبارات إليصال املراد له‪ِ .‬‬
‫والفائدة الثانية‪ :‬أن املؤمن ال ينبغي له أن يشتغل بالصالح مع قدرته على اْلصلح‪ ،‬فإذا‬
‫كان أمام املسلم أمران‪ ،‬أحدهما صالح‪ ،‬واآلخر أصلح منه‪ ،‬فإن اْلليق باملؤمن أن يشتغل‬
‫باْلصلح‪ ،‬وأال يترك الصالح مع وجود اْلصلح والقدرة عليه‪ِ .‬‬
‫والفائدة الثالثة‪ :‬أن املصلحة املوجودة املعلومة‪ ،‬مقدمة على املصلحة املرجوة املوهومة‪،‬‬
‫فإذا كان عند اإلنسان مصلحة موجودة معلومة‪ ،‬ويرجو في املستقبل مصلحة يمكن أن تقع‬
‫ويمكن أال تقع‪ ،‬هذا معنى املوهومة‪ ،‬فإن املصلحة املوجودة املعلومة مقدمة عليها‪ِ .‬‬
‫أما إذا كانت املصلحة الغائبة معلومة‪ ،‬فإنها ال تقدم عليها املصلحة املوجودة‪ ،‬وإنما يوازن‬
‫بينهما ويقدم اْلصلح‪ِ .‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬لو أن أحدنا معه مائة ريال‪ ،‬لو تاجر فيها لحصل ربحا‪ ،‬وهذه مصلحة موجودة‬

‫‪92‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫معلومة بغلبة الظن‪ ،‬لكن لو أنفقها في سبيل هللا فإنه يحصل ثوابا هو خير له من التجا ِرة‪،‬‬
‫فهذه مصلحة غائبة لكنها ليست موهومة‪ ،‬بل معلومة متحققة‪ ،‬فيقدم اْلعلى وهو ما عند‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫والفائدة الرابعة‪ :‬أن الداعي إلى هللا إذا اتقى هللا ما استطاع‪ ،‬ودعا إلى التوحيد والسنة‬
‫والحق‪ ،‬فإنه ال يضره من خالفه‪ ،‬وال يدل على فشل دعوته أن بعض الناس لم يستجيب ِوا‬
‫له‪ ،‬فما عليه أال يزكى املعرضون‪ ،‬وإنما الذي عليه أن يتقي هللا‪ ،‬وأن يبذل ما يستطيع‪،‬‬
‫فيدعو إلى ما دعا إليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬على سبيل رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬على بصيرة يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك‪ ،‬ويدعو إلى السنة ويحذر من‬
‫البدع‪ ،‬ويدعو إلى ما قامت عليه اْلدلة‪ ،‬فإذا فعل ذلك فهو على صراط مستقيم‪ ،‬وفي‬
‫دعوة ناجحة‪ ،‬وليس عليه أن أعرض املعرضون ولم يتزكى املعرضونِ‪ِ .‬‬
‫هذه بعض الفوائد التي تدل عليها هذه السورة الكريمة‪ ،‬مع الفوائد اْلخرى التي قدمناها‬
‫واشتركت فيها سورة النبأ مع سورة النازعات‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة التكوير‬
‫الر ِح ِيم‬‫الر ْح َمٰـن َّ‬ ‫َّ‬
‫الل ِـه َّ‬ ‫ِب ْس ِم‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ال ُس ِي َرت ﴿‪َ ﴾٣‬و ِإذا‬‫انك َد َر ْت ﴿‪َ ﴾٢‬وإ َذا ْالج َب ُ‬
‫َ َ ُّ ُ ُ َ‬
‫س ك ِو َرت ﴿‪ ﴾١‬و ِإذا النجوم‬
‫َ َّ ْ ُ ُ ْ‬
‫﴿إذا الشم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وس‬
‫َ َ ُّ‬
‫الن ُف ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫وش ُح ِش َرت ﴿‪َ ﴾٥‬و ِإذا ال ِب َح ُار ُس ِج َرت ﴿‪ ﴾٦‬و ِإذا‬ ‫ْال ِع َش ُار ُع ِط َل ْت ﴿‪َ ﴾٤‬وإ َذا ْال ُو ُح ُ‬
‫ِ‬
‫ُّ ُ ُ ُ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُ َ ْ‬ ‫َ َ َْْ ُ َ ُ ُ َ ْ‬ ‫ُو َ ْ‬
‫نب ق ِتلت ﴿‪ ﴾٩‬و ِإذا الصحف ن ِشرت‬ ‫ذ‬ ‫ي‬
‫ِ ِ ٍ‬ ‫أ‬‫ب‬ ‫﴾‬ ‫‪٨‬‬‫﴿‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫ئ‬‫ِ‬ ‫س‬ ‫ة‬ ‫ود‬ ‫ء‬ ‫و‬ ‫اْل‬ ‫ا‬ ‫ذ‬‫إ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪٧‬‬‫﴿‬ ‫ت‬ ‫ز ِج‬
‫َ ْ َّ ُ ُ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫الس َم ُاء ُكش َط ْت ﴿‪َ ﴾١١‬وإ َذا ْال َجح ُ‬ ‫﴿‪َ ﴾١٠‬وإ َذا َّ‬
‫يم ُس ِع َرت ﴿‪َ ﴾١٢‬و ِإذا ال َجنة أ ْ ِزلفت ﴿‪﴾١٣‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ َ ْ َ ْ ٌ َّ ْ َ ْ‬
‫ض َرت ﴿‪﴾﴾١٤‬‬ ‫ع ِلمت نفس ما أح‬
‫هذه السورة املكية التي أجمع العلماء على أنها مكية‪ ،‬فيها وصف أهوال من أهوال يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ولذلك قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من سره أن ينظر إلى يوم القيامة‪ ،‬كأنه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ُ َ َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ‬
‫الس َم ُاء انش َّق ْ ِ‬
‫ت)) رواه‬ ‫انفط َر ْ ِ‬
‫ت)‪ ،‬و( ِإذا َّ ِ‬ ‫س ك ِّ ِو َر ْ ِ‬
‫ت)‪ ،‬و( ِإذا السماء‬ ‫رأي عين فليقرأ ( ِإذا الشم‬
‫الترمذي وصححه اْللباني‪ِ .‬‬
‫فمن أراد أن يعرف وصف يوم القيامة وأهوالها‪ ،‬ليتعض ويتذكر‪ ،‬فليقرأ هذه السور‬
‫الثالث‪ ،‬أولها‪ :‬سورة التكوير‪ ،‬ومعنى ما ورد في هذه السورة‪ ،‬في هذا املقطع‪ :‬أنه إذا أتى أمر‬
‫هللا‪ ،‬فحصلت هذه اْلمور العظيمة‪ ،‬فلفت الشمس‪ِ ،‬وجمعت وذهب ضوؤها‪ ،‬وخسف‬
‫القمر‪ ،‬وجمع بينهما؛ أي الشمس والقمر‪ ،‬فألقيا في النار‪ ،‬زيادة في عذاب ُع َب ِادهما‪ ،‬وذلك‬
‫أن املعبودات من دون هللا عز وجل يوم القيامة تكون على ثالثة أصناف‪ِ :‬‬
‫صنف عباد صالحون‪ :‬ال يرضون بالكفر‪ ،‬وال يأمرون به؛ كاْلنبياء عليهم السالم‪ ،‬واْلولياء‬
‫الصالحين‪ ،‬فهؤالء لهم الحسنى ولهم الجنة عند هللا‪ ،‬وإنما العذاب لعابديهم‪.‬‬
‫وصنف ال يرض ى وال يكره‪ :‬ال يرض ى بالكفر‪ ،‬وال يكره الكفر‪ ،‬كاْلشجار‪ ،‬واْلصنام‬
‫والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬وهذه تدخل النار مع عابديها‪ .‬بل تقود عابديها إلى النار‪ ،‬فتسقط في‬
‫ُ َ‬
‫النار‪ ،‬ويسقط أتباعها وراءها‪ِ ،‬وهذه ت ْدخل النار زيادة في تعذيب عابديها‪ ،‬ليس لتعذيبها‬
‫وإنما لزيادة تعذيب عابديها‪ِ .‬‬
‫والصنف الثالث‪ :‬يرض ى بالكفر ويرض ى بأن يعبد من دون هللا‪ ،‬وهذا يدخل النار مع‬
‫عابديه تعذيبا له ولعابديه‪ ،‬فهذه أصناف املعبودات من دون هللا يوم القيامة‪ .‬والشمس‬

‫‪94‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫والقمر قد عبدهما أقوام من دون هللا‪ ،‬وهي ال ترض ى بالكفر وال تكره‪ ،‬ليس عندها هذا‬
‫اإلدراك فيجمع الشمس والقمر يطفأ ضوؤهما‪ ،‬ويلفان ويجمعان ويقذفان في النار‬
‫ويطرحان في النار‪.‬‬
‫وتناثرت النجوم من السماء فتساقطت بعد أن كانت معلقة‪ ،‬ودكت الجبال دكة واحدة‬
‫فكانت كالعهن املنفوش‪ ،‬وصارت هباء تسير بها الرياح‪ ،‬فصارت اْلرض قاعا صفصفا‪،‬‬
‫وأهمل أهل اْلموال أموالهم‪ ،‬وانشغلوا عنها من شدة الهول‪ ،‬فلم يلتفتوا إليها‪ ،‬حتى إلى‬
‫أنفس اْلموال وهي النوق العشار؛ والناقة العشراء‪ :‬هي التي قد أتى عليها عشرة أشهر في‬
‫حملها‪ ،‬فإن العادة أن صاحبها يحبها ويعتني بها ويدخل إليها في كل وقت‪ ،‬ويصلح من حالها‬
‫لنفاستها عنده‪ ،‬لكنه في ذلك اليوم ال يلتفت إليها حتى لو رآها‪ ،‬فإنه مشغول بأهوال يوم‬
‫القيامة‪ِ .‬‬
‫وجمعت الوحوش في يوم الحشر فاقتص لبعضها من بعض‪ ،‬ثم أميتت فصارت ترابا‪ ،‬ومن‬
‫عجيب ذلك اليوم أن الوحوش التي من عادتها أنها تنفر من الناس‪ ،‬وأن الناس يهربون‬
‫منها‪ ،‬تحشر مع الناس ال تنفر منهم‪ ،‬وال يهرب الناس منها‪ ،‬لشدة الهول الذي أشغلهم عن‬
‫كل ش يء سواه‪ ،‬وزاد ماء البحار حتى فاضت‪ ،‬وسال مالحها على عذبها‪ ،‬وصارت بحرا‬
‫واحدا‪ ،‬ثم سجرت نارا متقدة‪ ،‬فتبخر ماؤها ويبست وذهب ماؤها‪ ،‬وجمع بين اْلشكال‬
‫والنظائر في ذلك اليوم‪ ،‬وقرن كل نظير بنظيره‪ ،‬فجمع اْلبرار مع اْلبرار‪ ،‬وجمع الفجار مع‬
‫الفجار‪ ،‬وجمع أصحاب امليمنة معا‪ ،‬وجمع أصحاب املشأمة معا‪ ،‬وجمع السابقون معا‪،‬‬
‫فكانوا أزواجا ثالثة‪ ،‬وجمع الرجال في الجنة مع زوجاتهم من أهل الدنيا الالتي دخلن الجنة‬
‫ومع الحور العين‪ِ .‬‬
‫ِوقامت البنات املوؤودات املدفونات أحياء في ذاك اليوم العظيم‪ ،‬فسألن بأي ذنب قتلن؟‬
‫وطالبن بحقوقهن من آبائهن وأمهاتهن؛ وذلك أنه كان يكثر في العرب أن املرأة إذا حملت‬
‫فوضعت بنتا‪ ،‬حفرت لها حفرة ودفنتها فيها حية خوفا من زوجها‪ ،‬وكان بعض الرجال إذا‬
‫وجد امرأته ولدت بنتا‪ ،‬ساءه ذلك‪ ،‬فأخذها وحفر لها حفرة فدفنها حية‪ ،‬ففي ذلك اليوم‬
‫َ‬
‫تقوم املوؤودة فتسأل بأي ذنب قتلت؟ والجواب أنها بغير ذنب قتلت‪ ،‬وتطالب بدمها‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬إنها هي تسأل بأي ذنب قتلت؟ تبكيتا لقاتلها‪ ،‬كما تقول للرجل‬
‫وقد ضربه رجل أو اعتدى عليه‪ ،‬بأي ذنب يضربك هذا؟ وأنت تعرف أنه مظلوم‪ ،‬من باب‬
‫تبكيت الفاعل‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫فإما أن املوؤودة هي التي تسأل وتطالب بحقها بين يدي هللا عز وجل‪ ،‬وإما أن املوؤودة هي‬
‫ُ‬
‫التي تسأل بأي ذنب قتلت‪ ،‬تبكيتا لقاتلها والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫وإذا نشرت صحائف اْلعمال‪ ،‬فأخرجت للعباد كتبهم‪ ،‬وأوتي العباد كتبهم‪ ،‬فمنهم من يؤتى‬
‫كتابه بيمينه‪ ،‬وهذا السعيد املسرور‪ ،‬ومنهم من يؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره‪ ،‬وهذا‬
‫الشقي املثبورِ‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ونزعت السماء‪ ،‬وطواها الرحمن سبحانه وتعالى‪ ،‬السماء هي سقفنا‪ ،‬وفي ذلك اليوم تنزع‬
‫السماء من مكانها‪ ،‬وتطوى طيا‪ ،‬ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‪ ،‬فيكون الذي فوق‬
‫العباد هو عرش الرحمن سبحانه وتعالى‪ ،‬بعد أن كان الذي فوقهم هو السماء‪ ،‬تطوى وتنزع‬
‫من مكانها‪ ،‬ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وأو ِقد على النار حتى صارت جحيما‪ ،‬شديدة الحرارة‪ ،‬عظيمة العذاب‪ ،‬بعيدة القعر؛‬
‫واملقصود أنه يزاد اإليقاد عليها في ذلك اليوم‪ ،‬وإال فهي مخلوقة موقدة موجودة‪ ،‬والنار‬
‫تسعر؛ ومعنى تسعر أنها يقاد عليها بعد إيقاد‪ ،‬وفي ذلك اليوم يزاد عليها اإليقاد‪ ،‬فتتغيظ‬
‫على أهلها عياذا باهلل من عذابها‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وق ِربت الجنة وأدنيت‪ ،‬وزينت للمتقين‪ ،‬وانظر الفرق بين حال اْلشقياء‪ ،‬وحال اْلتقياء‪ِ .‬‬
‫اْلشقياء‪ :‬تسعر لهم جهنم ويزاد اإليقاد عليها حتى تتغيظ‪ِ .‬‬
‫واْلتقياء‪ :‬تزين لهم الجنة وتقرب لهم الجنة‪ِ .‬‬
‫عند ذاك تعلم كل نفس ما أحضرت من عمل‪ ،‬من خير أو شر‪ ،‬فما أحضرته من خير‬
‫يسرها‪ ،‬وما أحضرته من شر ووجدته‪ ،‬تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا‪ِ .‬‬
‫هنالك يتذكر كل إنسان عمله‪ ،‬فال ينس ى منه شيئا‪ ،‬ويقرأ كتابه الذي كتبت فيه أعماله‪،‬‬
‫فال يفقد من أعماله شيئا‪ ،‬ال يفقد خيرا وال شرا‪ ،‬وال صغيرا وال كبيرا‪ ،‬وهذا هو الشأن‬
‫ُ‬
‫العظيم الذي ق ِِّدم بكل ما تقدم من أجله‪ ،‬ليتعظ املؤمن‪ِ .‬‬

‫‪96‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فأنت يا مؤمن إذا علمت أنك مالقي عملك يوم القيامة‪ ،‬ال تفقد منه شيئا‪ ،‬وإذا رأيت الخير‬
‫سرك‪ ،‬وإذا رأيت الشر ساءك‪ ،‬وتمنيت لو أن بينك وبينه أمدا بعيدا‪ ،‬إذا علمت ذلك‪ِ ،‬فل َم‬
‫ال يكون شأنك في الدنيا أن تعمل ما يسرك في اآلخرة‪ ،‬وأن تجتنب ما يسوؤك في اآلخرة‪،‬‬
‫فتكون مجتهدا في الصالحات‪ ،‬وإذا تزخرفت لك املعاص ي‪ ،‬ذكرت نفسك أنك ستجدها يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وتود لو أن بينك وبينها أمدا بعيدا‪ ،‬فتقلع وتبتعد وتعرض عن هذه القاذورات‬
‫وهذه املعاص ي‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ثم نعود إلى التفسير التفصيلي ونقرأ‬
‫ما ذكره الشيخ ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا‪ :‬أي إذا حصلت هذه اْلمور‬
‫َ َ‬
‫الهائلة‪ ،‬ت َم َّيز الخلق‪ ،‬وعلم كل ما قدمه آلخرته‪ ،‬وما أحضره فيها من خير وشر‪ ،‬وذلك أنه‬
‫إذا كان يوم القيامة تكور الشمس؛ أي تجمع وتلف ويخسف القمر ويلقيان في النار‪.‬‬
‫فمعنى كورت‪ :‬لفت وجمعت‪ .‬مثل العمامة املكورة؛ تلف وتجمع‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى كورت‪ :‬ذهب ضوؤها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى كورت‪ُ :‬ر ِم َي بها‪ِ .‬‬
‫وهذا اختالف تنوع‪ ،‬فإن الكل حاصل؛ فإنها يوم القيامة يذهب ضوؤها‪ ،‬وتلف وتجمع مع‬
‫القمر‪ ،‬ويقذف بها ويرمى بها في النار‪ ،‬حيث تتقدم عابديها إلى النار‪ ،‬فتلقى في النار ويتبعها‬
‫عابدوها‪ِ .‬‬
‫َ َ ُّ ُ ُ َ ْ‬
‫وم انك َد َرت﴾أي تغيرت وتناثرت من أفَّلكها‪.‬‬‫﴿و ِإذا النج‬
‫وأصل االنكدار ‪:‬االنصباب‪ ،‬االنصباب من أعلى إلى أسفل‪ ،‬فمعنى انكدرت‪ :‬سقطت من‬
‫السماء إلى أسفل‪ ،‬فتتناثر وتتساقط‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫﴿وإ َذا ْالج َب ُ‬
‫ال ُس ِي َرت﴾ أي صارت كثيبا مهيَّل‪ ،‬ثم صارت كالعهن اْلنفوش‪ ،‬ثم تغيرت‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وصارت ً‬
‫هباء منبثا‪ ،‬وأزيلت عن أماكنها‪.‬‬
‫َوت ِس ُير إذا صارت ً‬
‫هباء‪ ،‬وقلت لكم الهباء‪ :‬هو اْلشياء الدقيقة‪ِ .‬‬
‫وإذا أردت أن تعرف الهباء‪ ،‬فافتح النافذة في النهار‪ ،‬إذا ظهر ضوء الشمس ترى أشياء‬

‫‪97‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫كالغبار في هذا الضوء‪ ،‬هذا الهباء‪ ،‬تحمله الريح وتسير به‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫﴿و ِإذا ال ِعش ُار ُع ِطلت﴾ أي َعط َل الناس يومئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها‪،‬‬
‫ويراعونها في جميع اْلوقات‪ ،‬فجاءهم ما يذهلهم عنها‪.‬‬
‫العشار‪ :‬اْلصل أنها النوق التي بلغ حملها عشرة أشهر‪ ،‬ثم يطلقها العرب على النوق التي‬
‫معها أوالدها‪ ،‬فيتوسعون في اإلطالق‪ِ .‬‬
‫فيكون املراد بالعشار هنا‪ :‬النوق التي بلغ حملها عشرة أشهر‪ ،‬والنوق التي يتبعها أوالدها‪،‬‬
‫فإنها غالية عند أصحابها‪ ،‬وأصحاب اإلبل يعرفون هذا‪ ،‬تتعلق بها النفوس تعلقا عجيبا‪،‬‬
‫ُ‬
‫حتى ال يطيق صاحبها أن يفارقها‪ ،‬ومع ذلك يوم القيامة لو قدر أنه يراها‪ ،‬ملا اشتغل بها‪،‬‬
‫ْلنه قد جاءه ما يشغله‪ ،‬وما دام ذلك كذلك‪ ،‬فلماذا يلهو اإلنسان باملال؟ سبحان هللا‪ ،‬ما‬
‫أحقر املال! إال إذا استعمله اإلنسان فيما يرض ي هللا‪.‬‬
‫املال ال يدخل معك قبرك‪ ،‬ولذلك يقول ابن آدم‪ :‬مالي‪ ،‬مالي‪ ،‬يحرص عليه‪ ،‬وليس لك من‬
‫مالك إال ما أكلت فأفنيت‪ ،‬أو لبست فأبليت‪ ،‬أو تصدقت فأبقيت‪ ،‬وما سوى ذلك فذاه ٌ ِ‬
‫ب‬
‫وتاركه للناس‪.‬‬
‫ويوم القيامة لو وجد اإلنسان عظيم اْلموال‪ ،‬ملا نظر إليها‪ ،‬فضال عن أن يعتني بها‪ ،‬فكيف‬
‫يلهو اإلنسان باملال عن أمر اآلخرة‪ ،‬ال شك أن من لها باْلموال حتى أشغلته عما يرض ي هللا‪،‬‬
‫قد خسر خسرانا مبينا‪.‬‬
‫فنبه بالعشار وهي النوق التي تتبعها أوالدها‪ ،‬وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم‪،‬‬
‫على ما هو في معناها من كل نفيس‪.‬‬
‫ْ‬
‫وش ُح ِش َرت﴾ أي جمعت ليوم القيامة‪ ،‬ليقتص هللا من بعضها لبعض‪،‬‬ ‫﴿وإ َذا ْال ُو ُح ُ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫ُوير َي العباد كمال عدله‪ ،‬حتى إنه يقتص للشاة الدماء من الشاة القرناء‪ ،‬ثم يقال لها‬
‫كوني ترابا‪.‬‬
‫ْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ ُح ِش َرت﴾‪ :‬ماتت‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬اختلطت‪ :‬يعني اختلط بعضها ببعض‪ ،‬واختلطت بالناس بعد أن كانت تنفر‬
‫منهم‪ ،‬والكل مراد‪ ،‬فإنها في الحشر تحشر مع الناس‪ ،‬وتختلط بهم ويختلط بعضها ببعض‪،‬‬

‫‪98‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وتجمع يوم القيامة‪ ،‬ويقتص لبعضها من بعض‪ ،‬ثم تموت‪ ،‬فتصير ترابا‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫فهذه الجملة ﴿ ُح ِش َرت﴾‪ ،‬دلت على كل هذه املعاني‪ ،‬وهذا من إعجاز القرآن‪ ،‬أنه بالجملة‬
‫ُ‬
‫اليسيرة تفهم املعاني الكثيرة‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫﴿و ِإذا ال ِب َح ُار ُس ِج َرت﴾ أي أوقدت فصارت على عظمها نا ًرا تتوقد‪.‬‬
‫ُ ْ‬
‫﴿س ِج َرت﴾ يعني فاضت‪ ،‬فزاد ماؤها حتى سال بعضها على بعض‪،‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫واحدا بعد أن كانت متفرقة‪ ،‬واختلط املالح بالعذب‪ ،‬بعد أن كان بينهما ٌ‬
‫برزخ‬ ‫بحرا ً ِ‬
‫وصارت ً‬
‫ال يبغيان‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫ثم توقد نا ًرا‪ ،‬فيتبخر ماؤها‪ ،‬فتيبس‪ ،‬وتصبح يابسة فال يبقى في اْلرض ماء‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُّ ُ ُ ُ ْ‬
‫وس ز ِو َجت﴾ أي قرن كل صاحب عمل مع نظيره‪ ،‬فجمع اْلبرار مع اْلبرار‪،‬‬ ‫﴿و ِإذا النف‬
‫والفجار مع الفجار‪ ،‬وزوج اْلؤمنون بالحور العين‪ ،‬والكافرون بالشياطين‪.‬‬
‫واملقصود زوج الكافرون بالشياطين‪ :‬أي جمع الكافرون مع الشياطين في نار جهنم‪ِ .‬‬
‫يق َّالذ َ‬
‫ين‬ ‫﴿وس َ‬‫ين َك َف ُروا إ َل ٰى َج َه َّن َم ُز َم ًرا ۖ﴾ [الزمر‪َ ،]71 :‬‬
‫يق َّالذ َ‬‫﴿وس َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهذا كقوله تعالى‪ِ :‬‬
‫اج ُه ْم﴾ [الصافات‪:‬‬‫ين َظ َل ُموا َو َأ ْز َو َ‬ ‫َّات َق ْوا َرَّب ُه ْم إ َلى ا ْل َج َّنة ُز َم ًرۖا﴾ [الزمر‪ْ ،]73 :‬‬
‫﴿اح ُش ُروا َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪.]22‬‬
‫اج ُه ْم﴾ [الصافات‪ ]22 :‬يعني وأمثالهم‪ ،‬ونظراءهم‪ ،‬وليس‬ ‫ين َظ َل ُموا َو َأ ْز َو َ‬
‫﴿اح ُش ُروا َّالذ َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫املقصود باْلزواج هنا‪ ،‬الزوجات‪ ،‬وإنما املقصود النظراء واْلمثال‪ِ .‬‬
‫َ ُّ‬
‫الن ُف ُ‬
‫وس﴾ يعني إذا اْلرواح‪ ،‬ومعنى‬ ‫﴿إذا‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬النفوس هنا هي اْلرواح ِ‬
‫ُ ْ‬
‫﴿ز ِو َجت﴾ أعيدت إلى اْلجساد‪ ،‬واْلول ْأولى وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫َ َ َْْ ُ َ ُ َ ْ‬
‫ودة ُس ِئلت﴾ وهي التي كانت الجاهلية الجهَّلء تفعله من دفن البنات وهن‬ ‫﴿و ِإذا اْلوء‬
‫ُ‬
‫أحياء من غير سبب‪ ،‬إال خشية الفقر فتسأل‪ :‬بأي ذنب قتلت‪ ،‬ومن اْلعلوم أنها ليس لها‬
‫ذنب‪ ،‬ولكن هذا فيه توبيخ وتقريع لقاتليها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كأن قائال قال‪ :‬ملاذا تسأل وهي املجني عليها‪ ،‬وهي املظلومة‪ ،‬ملاذا تسأل؟ ِ‬
‫ُ‬
‫كان الجواب‪ :‬تسأل توبيخا لقاتليها‪ ،‬من باب التوبيخ لهم‪ ،‬فيوجه السؤال لها‪ :‬بأي ذنب‬
‫قتلت؟ الجواب‪ :‬يقينا بغير ذنب‪ ،‬فهذا توبيخ لقاتليها‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫‪99‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫ئ‪ :‬وإذا املوءودة َسألت‪ ،‬أي أنها هي التي‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أنها هي التي تسأل‪ .‬وقد ق ِر ِ‬
‫تسأل بأي ذنب قتلت‪ ،‬وتطالب بحقها من أمها التي دفنتها حية‪ ،‬أو من أبيها الذي دفنها‬
‫حية‪ِ .‬‬
‫ُ ْ‬ ‫ُّ ُ ُ ْ‬ ‫َ َ‬
‫الص ُحف ن ِش َرت﴾ اْلشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر‪﴿ ،‬ن ِش َرت﴾‬ ‫﴿و ِإذا‬
‫وفرقت على أهلها‪ ،‬فآخذ كتابه بيمينه‪ ،‬وآخذ كتابه بشماله‪ ،‬أو من وراء ظهره‪.‬‬
‫ْ َ‬
‫الس َم ُاء ِبالغ َم ِام﴾‬ ‫الس َم ُاء ُكش َط ْت﴾ أي‪ :‬أزيلت‪ .‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫﴿و َي ْو َم َت َش َّق ُق َّ‬ ‫﴿وإ َذا َّ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ‬
‫اْل ْر ُ‬ ‫ُُْ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َْ َ َ ْ‬
‫ض‬ ‫الس ِج ِل ِللكت ِب ۚ﴾ [اْلنبياء‪﴿ ،]104 :‬و‬ ‫ِ ِ‬ ‫ي‬ ‫ط‬ ‫ك‬ ‫اء‬‫م‬‫الس‬ ‫ي‬ ‫و‬‫[الفرقان‪﴿ ،]25 :‬يوم ن ِ‬
‫ط‬
‫ات َم ْطو َّي ٌ‬‫َ ً َ ْ َ ُ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ُ‬
‫ات ِب َي ِم ِين ِه ۚ﴾ [الزمر‪.]67 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ج ِميعا قبضته يوم ال ِقيام ِة والسماو‬
‫فيزال هذا السقف العظيم ويطوى‪ ،‬ويكون الذي فوق الناس‪ ،‬فوق العباد‪ ،‬هو العرش‬
‫تحمله ثمانية من املالئكة‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫﴿ َوإ َذا ْال َجح ُ‬
‫يم ُس ِع َرت﴾ أي أوقد عليها فاستعرت والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وليس املقصود أنها تسعر في ذلك اليوم فقط‪ ،‬بل هي مخلوقة موجودة مسعرة‪ ،‬ولكنه يزاد‬
‫عليها اإليقاد في ذلك اليوم حتى يعظم التهابها‪ ،‬ويأكل بعضها بعضا‪ ،‬وتترصد ْلصحابها‪،‬‬
‫وتتغيظ على أصحابها‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫ومعنى ﴿ ُس ِع َرت﴾ أوقد عليها مرة بعد مرة‪ ،‬فالنار والعياذ باهلل يوقد عليها مرة بعد مرة‪ ،‬وفي‬
‫ذلك اليوم يزاد عليها اإليقاد عياذا باهلل من النار‪ِ .‬‬
‫َ َ ْ َّ ُ ُ َ ْ‬
‫﴿و ِإذا ال َجنة أ ْ ِزلفت﴾ أي‪ :‬قربت للمتقين‪.‬‬
‫قربت وزينت للمتقين‪ ،‬فهي تقرب وتدنى للمتقين وتزين لهم‪ِ .‬‬
‫س﴾ أي كل نفس إلتيانها في سياق الشرط‪.‬‬ ‫﴿ع ِل َم ْت َن ْف ٌ‬
‫َ‬

‫يعني هذا َي ُعم‪ ،‬نفس نكرة في سياق الشرط‪ ،‬فتعم كل نفس‪ ،‬فكل نفس تعلم ما أحضرت‬
‫من اْلعمال‪ِ .‬‬
‫ض َر ْت﴾ أي ما حضر لديها من اْلعمال التي قدمتها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫﴿و َو َج ُدوا ماَ‬ ‫﴿ما َأ ْح َ‬‫َّ‬
‫اض ًرا ۗ﴾ [الكهف‪.]49 :‬‬ ‫ح‬‫َعم ُلوا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪100‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وكما قلنا يا إخوة في يوم القيامة يتذكر اإلنسان كل ما عمل من خير وشر‪ ،‬ويقرأ في كتابه‬
‫كل ما عمل من خير وشر‪ ،‬فال يغادر الكتاب صغيرة وال كبيرة إال أحصاها‪ .‬واملقصود الوعظ‬
‫والتذكير‪ ،‬حتى يحرص املؤمن على اإلكثار من الطاعات‪ ،‬وترك املحرمات‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وهذه اْلوصاف التي وصف هللا بها يوم القيامة‪ ،‬من اْلوصاف التي‬
‫تنزعج لها القلوب‪ ،‬وتشتد من أجلها الكروب‪ ،‬وترتعد الفرائس‪ ،‬وتعم اْلخاوف‪ ،‬وتحث‬
‫أولي اْللباب لَّلستعداد لذلك اليوم‪ ،‬وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم؛ ولهذا قال‬
‫بعض السلف‪ :‬من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين‪ ،‬فليتدبر سورة (إذا‬
‫الشمس كورت)‪.‬‬
‫وأصل هذا‪ ،‬الحديث الصحيح عند الترمذي الذي قدمناه بين يدي الكالم عن هذه‬
‫السورة‪ِ .‬‬
‫‪-‬تفسير اْلقطع اْلخير من السورة‪ِ -‬‬
‫س ﴿‪َ ﴾١٧‬و ُّ‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ْ َ َ ْ ُ َّ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ ْ ُ َّ‬
‫الص ْب ِح‬ ‫ِ ِ‬ ‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪١٦‬‬ ‫﴿‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫ار‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫﴾‬ ‫‪١٥‬‬ ‫﴿‬ ‫س‬ ‫﴿فَّل أق ِسم ِبالخ ِ‬
‫ن‬
‫س ﴿‪ ﴾١٨‬إ َّن ُه َل َق ْو ُل َ ُسول َكريم ﴿‪ ﴾١٩‬ذي ُق َّوة ع َ‬
‫ند ِذي ْال َع ْ‬ ‫إ َذا َت َن َّف َ‬
‫ش َم ِك ٍين ﴿‪﴾٢٠‬‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اح ُبكم ِب َم ْجنو ٍن ﴿‪َ ﴾٢٢‬ولقد َر ُآه ِباْلف ِق اْل ِب ِين ﴿‪َ ﴾٢٣‬و َما‬ ‫ََ َ‬
‫مط ٍاع ث َّم أ ِم ٍين ﴿‪ ﴾٢١‬وما ص ِ‬
‫ُّ‬
‫َ‬ ‫ََ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُه َو َع َلى ْال َغ ْيب ب َ‬
‫ض ِن ٍين ﴿‪َ ﴾٢٤‬و َما ُه َو ِبق ْو ِل ش ْيط ٍان َّر ِج ٍيم ﴿‪ ﴾٢٥‬فأ ْي َن تذ َه ُبون ﴿‪﴾٢٦‬‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نك ْم أن َي ْس َتق َ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ْ ُ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ‬
‫يم ﴿‪َ ﴾٢٨‬و َما تش ُاءون ِإال أن َيش َاء‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫اء‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ْل‬
‫ِ‬ ‫﴾‬ ‫‪٢٧‬‬ ‫﴿‬ ‫ين‬ ‫اْل‬
‫ِإن هو ِإال ِذكر ِللع ِ‬
‫َّ ُ َ ُّ ْ َ َ َ‬
‫اْلين ﴿‪﴾﴾٢٩‬‬ ‫اللـه رب الع ِ‬
‫أي أن هللا عز وجل يقسم بهذه املخلوقات العظيمة‪ ،‬وليس هلل حاجة في أن يقسم‪ ،‬فإنه ال‬
‫أصدق قيال من هللا عز وجل‪ ،‬ولكنه من لطفه بالعباد ورحمته بالعباد‪ ،‬يقسم لهم هذه‬
‫اْلقسام ليؤكد املقسم عليه‪ ،‬فيقسم هللا عز وجل بالخنس الجوار الكنس؛ وهي التي تغيب‬
‫أحيانا‪ ،‬وترى أحيانا‪ ،‬ويدخل في ذلك الكواكب التي تظهر وتغيب‪ ،‬وتصل إلى أعلى اْلفق ثم‬
‫ترجع‪ِ .‬‬
‫ويدخل في ذلك الظبى وحيوانات البر‪ ،‬التي تظهر وتغيب‪ ،‬ويدخل في ذلك مثال الدببة التي‬
‫تغيب في الشتاء‪ ،‬وتظهر في الصيف‪ِ .‬‬

‫‪101‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الشاهد أن هللا أقسم باملخلوقات التي تغيب أحيانا وترى أحيانا‪ِ .‬‬
‫وأقسم بالليل إذا أقبل بظالمه‪ ،‬فطرد الظ ِالم النور‪ ،‬فامتألت اْلرض ظالما ظلمة‪ ،‬كأنه لم‬
‫يكن فيها نور‪ ،‬فسبحان هللا من أين أتى هذا الظالم؟ و أين ذهب هذا النور؟ ال يمكن أن‬
‫يكون إال من هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫والنهار إذا أقبل بضيائه‪ ،‬فطرد بضوئه الظلمة‪ِ .‬‬
‫إنه؛ أي القرآن لقول رسول كريم‪ ،‬لقول جبريل عليه السالم نزل به على رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو قول جبريل عليه السالم‪ْ ،‬لنه قاله للنبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وسمعه منه النبي صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫فالقرآن قول ربنا سبحانه وتعالى ْلنه تكلم به وأسمعه جبريل‪ ،‬وهو قول جبريل ْلن جبريل‬
‫عليه السالم ملا سمعه من هللا‪ ،‬قاله ملحمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأسمعه محمدا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وهو قول محمد صلى هللا عليه وسلم‪ْ ،‬لن النبي صلى هللا عليه وسلم ملا‬
‫سمعه من جبريل‪ ،‬قاله للمؤمنين‪ ،‬وأسمعه للمؤمنين‪ِ .‬‬
‫فهو قول هللا أصالة‪ ،‬وقول جبريل‪ ،‬وقول محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬باعتبار التبليغ‪ِ .‬‬
‫هذا الرسول الذي هو جبريل عليه السالم‪ ،‬ذو قوة‪ ،‬فال يعجز عن أمر أمره هللا به‪ ،‬فأعطاه‬
‫هللا قوة‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫﴿ع َ‬
‫ند ِذي ال َع ْر ِش﴾ عند هللا‪ ،‬هللا ذو العرش‪ ،‬هللا صاحب العرش‪ ،‬استوى على عرشه‬ ‫ِ‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫﴿م ِك ٍين﴾ له مكانة عالية‪ ،‬فهو مقدم املالئكة‪ ،‬ورأس املالئكة عليه السالم‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫ُّ َ‬
‫﴿مط ٍاع﴾ في السماء‪ ،‬تطيعه املالئكة إذا أمر ‪ْ،‬لنها تعلم أنه يأمر بأمر هللا‪ِ .‬‬
‫ومن ذلك مثال‪ :‬أنه ينادي بأهل السماء أن هللا أحب فالنا فأحبوه‪ ،‬فيحبه أهل السماء‪،‬‬
‫يطيعونه في أمره‪ْ ،‬لنهم يعلمون أنه إنما يأمر بأمر هللا‪ ،‬فهو مطاع هناك في السماء‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿أ ِم ٍين﴾ مؤتمن عند هللا وعند املالئكة وعند الرسل‪ ،‬هو أمين هللا على وحيه‪ ،‬وهو مؤتمن‬
‫عند املالئكة‪ ،‬فإذا أخبرهم عن هللا صدقوه‪ِ .‬‬
‫وهو مؤتمن عند الرسل‪ ،‬فإذا أتاهم بالوحي من هللا صدقوه‪ِ .‬‬

‫‪102‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فهو في غاية اْلمانة‪ ،‬وملا ذكر هللا وصف الرسول من املالئكة‪ ،‬تكلم عن الرسول من البشر‪،‬‬
‫ََ َ ُ‬
‫ص ِاح ُبكم﴾ ِ‬ ‫وهو محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪﴿ :‬وما‬
‫ما هذا الرجل الذي هو منكم‪ ،‬نشأ فيكم‪ ،‬عرفتم صدقه‪ ،‬عرفتم أمانته‪ ،‬عرفتم تمام‬
‫عقله؛ ما هو بمجنون‪ ،‬ما هو بالذي يهذي كما قال بعضكم زورا وبهتانا‪ ،‬فإن كل من عرفه‬
‫يدرك أنه ليس بمجنون‪ ،‬وكيف يكون مجنونا والكالم الذي يأتي به في غاية الحكمة‪،‬‬
‫واملجنون إنما يهذي ويخلط؛ املجنون يتكلم يأتي بكالم أحيانا له معنى‪ ،‬ثم يأتيك بكالم ال‬
‫معنى له‪ ،‬والنبي صلى هللا عليه وسلم ال يتكلم إال بالحكمة‪ ،‬القرآن حكمة وإعجاز ‪،‬أعجزهم‬
‫أن يأتوا بآية منه‪ ،‬والسنة حكمة وعلم‪ ،‬فكيف يكون مجنونا‪ِ .‬‬
‫ولقد رأى الرسول اْلرض ي الرسول السماوي؛ رأى محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬جبريل عليه‬
‫السالم على هيئته‪ ،‬له ست مائة جناح باْلفق اْلعلى‪ ،‬باْلفق املبين في السماء‪ ،‬رآه معترضا‬
‫في السماء على هيئته‪ ،‬له ست مائة جناح‪ِ .‬‬
‫الرسول‬
‫وهذا يدل على مكانة هذا الرسول اْلرض ي‪ ،‬حيث كشف له عن هيئة هذا ِ‬
‫السماوي‪ ،‬وما هو صلى هللا عليه وسلم على الغيب؛ الذي هو القرآن والعلم‪ ،‬ببخيل‬
‫عليكم‪ ،‬يكتم عنكم العلم‪ ،‬ال وهللا‪ ،‬بل هو يبذل العلم‪ ،‬ويؤدي اْلمانة‪ ،‬ويبلغ الرسالة ال‬
‫يترك منها حرفا‪ ،‬فليس ببخيل عليكم بالعلم‪ ،‬بل مبلغ للرسالة‪ ،‬مؤد لألمانة‪ ،‬مجتهد في‬
‫إيصال العلم إليكم‪ِ .‬‬
‫وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم‪ ،‬ما هو بقول شيطان مبعد ملعون‪ ،‬فإن الشيطان ال‬
‫يمكن أن يأتي بالقرآن‪ ،‬بل إن الشيطان ال يطيق القرآن‪ ،‬ولذلك إذا سمع القرآن فر‪ِ .‬‬
‫فأين تذهبون يا أصحاب العقول‪ ،‬أنتم الذين تفتخرون ببالغتكم وبعقولكم‪ ،‬أين تذهبون‬
‫من هذا القرآن؟ أين تذهبون بعقولكم فتقولون ما ال يعقل؟ فتقولون عن محمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم مجنون‪ ،‬وأنتم تعلمون أنه أعقلكم‪ ،‬وتقولون عن محمد صلى هللا عليه وسلم‬
‫إنه كاهن‪ ،‬وتعلمون أنه كان يبغض الكهان من نشأته‪ ،‬وتقولون إنه يأخذ القرآن من غيره‬
‫وتسندون هذا إلى أعجمي ال يتكلم العربية‪ ،‬والقرآن عربي مبين‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫﴿فأ ْي َن تذ َه ُبون﴾ أين تذهب عقولكم حتى قلتم ما ال يعقل‪ِ .‬‬

‫‪103‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ْ ُ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾ ذكر للجن واإلنس‪ ،‬والنبي صلى هللا عليه وسلم بعث لإلنس‬
‫﴿إن هو ِإال ِذكر ِللع ِ‬
‫ِ‬
‫كلهم‪ ،‬عربهم وعجمهم إلى يوم القيامة‪ ،‬وبعث إلى الجن‪ِ .‬‬
‫يم﴾ من الذي يتذكر بالقرآن؟ من شاء أن يهتدي‪ِ .‬‬ ‫نك ْم َأن َي ْس َتق َ‬
‫َ َ َ ُ‬
‫﴿ْلن شاء ِم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فكان أهال ْلن يهتدي‪ ،‬وأراد أن يهتدي‪ ،‬ومع ذلك لن يهتدي بمجرد مشيئته‪ ،‬وإنما يهتدي‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ‬
‫﴿ْلن شاء ِمنكم أن يست ِقيم﴾‬‫إذا شاء هللا أن يهديه‪ ،‬فاهتداؤه بفضل هللا سبحانه وتعالى ِ‬
‫أن يهتدي إلى صراط هللا املستقيم‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ ُ َن َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ُّ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾ فلوال أن هللا شاء هدايتكم ملا اهتديتم‪ ،‬فاهلل‬
‫﴿وما تشاءو ِإال أن يشاء اللـه رب الع ِ‬
‫عز وجل يهدي من يشاء بفضله‪ ،‬ويضل من يشاء بعدله‪ِ .‬‬
‫فمن أبى الهداية أضله هللا‪ ،‬ومن شاء الهداية صادقا لن يخذله هللا‪ ،‬ولذلك إذا التمست‬
‫الحق فغاب عنك‪ ،‬ففتش في صدق قصدك‪ ،‬فإنه قد يكون في إرادتك ش يء منع وصولك‬
‫إلى الحق‪ِ .‬‬
‫فهذا تمام تفسير السورة‪ ،‬وهذا التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذا املقطع‪ ،‬ثم نعود‬
‫إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫قال اْلصنف رحمه هللا‪ :‬أقسم تعالى بالخنس‪.‬‬
‫ََ‬
‫هنا قال هللا‪﴿ :‬فال﴾‪ ،‬بعض الناس يظن أن (ال) هنا نافية‪ ،‬و(ال) هنا ليست نافية‪ ،‬بل هي‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫قة َ‬
‫بحاجة ْلن ُيقسم‪ ،‬فقوله‬
‫ٍ‬ ‫قس َم ليس‬ ‫للق َسم‪ ،‬وتتضمن ً‬
‫معنى لطيفا؛ وهو أن امل ِ‬ ‫حق‬
‫م ِ‬
‫ُ‬
‫ََ‬ ‫ََ ُ ْ‬ ‫يتفضل َ‬
‫َّ‬ ‫دق ٌ‬ ‫ص ٌ‬
‫بالقسم‪ ،‬إذن عندما تسمع في القسم‪﴿ :‬فال أق ِس ُم﴾‪﴿ ،‬فال‬ ‫مبين‪ ،‬ولكن هو‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ ُ َ ُ‬‫ُ‬ ‫ُ ْ ُ ْ ُ َّ‬
‫س﴾‪﴿ ،‬فال أ ِق ِسم ِبما تب ِصرون﴾‪( ،‬ال) هنا ليست للنفي‪( ،‬ال) لتقرير القسم‪ِ .‬‬ ‫أق ِسم ِبالخن ِ‬
‫فيقسم من‬ ‫وتفيدك فائدة‪ :‬أن املُقسم ليس بحاجة ْلن ُيقسم ولكنه يلطف بك ويرحمك‪ُ ،‬‬
‫أجلك‪ ،‬ال من أجل تصديق كالمه‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫أقسم تعالى بالخنس‪ ،‬وهي الكواكب التي تخنس؛ أي تتأخر عن سير الكواكب اْلعتاد إلى‬
‫جهة اْلشرق‪.‬‬
‫ُ‬
‫أو أنها ترجع في سيرها‪ ،‬فتسير حتى تبلغ أعلى اْلفق ثم ترجع إلى مكانها‪ِ .‬‬

‫‪104‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أي تتأخر عن سير الكواكب اْلعتاد إلى جهة اْلشرق؛ وهي النجوم السبعة السيارة‪:‬‬
‫الشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والزهرة‪ ،‬واْلشتري‪ ،‬واْلريخ‪ ،‬وزحل‪ ،‬وعطارد‪ ،‬فهذه السبعة لها‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫سيران‪ٌ :‬‬
‫معاكس لهذا من جهة‬ ‫وسير‬ ‫سير إلى جهة اْلغرب مع سائر الكواكب والفلك‪،‬‬
‫اْلشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها‪ ،‬فأقسم هللا بها في حال خنوسها؛ أي‪:‬‬
‫تأخرها‪ ،‬وفي حال جريانها‪ ،‬وفي حال كنوسها أي‪ :‬استتارها بالنهار‪ُ ،‬ويحتمل أن اْلراد بها‬
‫جميع الكواكب السيارة وغيرها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي تغيب في النهار‪ ،‬وترى في الليل‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ْ َ َ ْ ُ َّ‬ ‫ْ ُ َّ‬
‫س؛ هي‪ :‬بقر الوحش والظباء‪ ،‬ترى وتغيب‪ ،‬فهي‬ ‫س‪ ،‬الجو ِار الكن ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الخن ِ‬
‫ُ‬
‫ى‪ِ .‬‬
‫خنس كنس؛ خنس‪ :‬تغيب بأن تلجأ إلى أماكنها‪ ،‬وجواري تجري‪ ،‬وتر ِ‬
‫ُ‬
‫وذهب إمام اْلفسرين ابن جرير الطبري إلى العموم‪ :‬أن هللا أقسم بمخلوفا ٍت تغيب وت ِرى‪،‬‬
‫فكل ما تنطبق عليه هذه الصفات يدخل في هذا القسم‪ِ .‬‬
‫س﴾ أي‪ :‬أقبل‪ .‬وقيل‪ :‬أدبر‪.‬‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿و ِ ِ‬
‫س﴾ تأتي بمعنى‪ :‬أقبل‪ ،‬وتأتي بمعنى‪ :‬أدبر‪ِ .‬‬ ‫﴿ع ْس َع َ‬ ‫َ‬

‫س﴾ إذا أقبل بضيائه ِ‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬


‫َ َّ‬
‫فقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬و ِ ِ‬
‫س﴾ إذا أقبل بظالمه‪ِ .‬‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫َ َّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬و ِ ِ‬
‫س﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬إذا أدبر ظالمه‪ِ .‬‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿و ِ ِ‬
‫الص ْبح إ َذا َت َن َّف َ‬
‫س﴾‬ ‫س﴾إذا أدبر‪ ،‬يكون وقول هللا عز وجل‪َ :‬‬
‫﴿و ُّ‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫َ َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫فإذا قلنا‪﴿ :‬و ِ ِ‬
‫وقت واحد‪ْ ،‬لنه متى يتنفس الصبح؟ إذا أدبر الليل‪ ،‬ولذلك ذهب بعض‬ ‫بمعنى واحد في ٍ‬ ‫ً‬
‫اْلفسرين إلى ترجيح‪ :‬أقبل‪ْ ،‬لن فيه زيادة معنى‪ِ .‬‬
‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫َ َّ‬
‫س﴾ يعني‪ :‬إذا أقبل الليل بظالمه‪ِ .‬‬ ‫فيكون الكالم‪﴿ :‬و ِ ِ‬
‫س﴾ يعني‪ :‬إذا أقبل النهار بضيائه‪ِ .‬‬ ‫الص ْبح إ َذا َت َن َّف َ‬ ‫َ‬
‫﴿و ُّ‬
‫ِ ِ‬
‫س﴾ يعني‪ :‬والليل إذا أدبر‪ ،‬فإنه‬‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫َ َّ‬
‫فهذا فيه زيادة معنى‪ ،‬بخالف ما لو قلنا‪﴿ :‬و ِ ِ‬
‫سما بإقبال النهار في الحقيقة‪ِ .‬‬ ‫يكون َق ً‬

‫‪105‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫وق ً‬
‫سما بإقبال‬ ‫الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ‬
‫س﴾ إذا أقبل‪ ،‬يكون َق ً‬
‫سما بإقبال الليل‪،‬‬
‫َ َّ‬
‫أما إذا قلنا‪﴿ :‬و ِ ِ‬
‫َ‬
‫النهار؛ وهذا أ ْولى‪ِ .‬‬
‫والنهار إذا تنفس‪.‬‬
‫والنهار‪ :‬هذا تفسير وليس اآلية‪ ،‬الشيخ َّ ِ‬
‫فسر الصبح بالنهار من باب إطالق الجزء على الكل‪،‬‬
‫فالصبح ٌ‬
‫جزء من النهار‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫والنهار إذا تنفس أي‪ :‬بدت عَّلئم الصبح‪ ،‬وانشق النور ً‬
‫فشيئا حتى يستكمل وتطلع‬ ‫شيئا‬
‫الشمس‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذه آيات عظام أقسم هللا عليها لقوة سند القرآن‪ ،‬وجَّللته‪ ،‬وحفظه من كل‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫﴿إن ُه لق ْو ُل َر ُسو ٍل ك ِر ٍيم﴾ وهو جبريل عليه السَّلم‪ ،‬نزل به من هللا‬‫شيطان رجيم‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬
‫ُّ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫وح اْل ِمين ﴿‪﴾١٩٣‬‬ ‫اْلين ﴿‪ ﴾١٩٢‬ن َز َل ِب ِه الر‬
‫تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬و ِإنه لت ِنزيل ر ِب الع ِ‬
‫ين﴾ [الشعراء‪]193 :‬‬ ‫َع َل ٰى َق ْلب َك ل َت ُكو َن م َن ْاْلُنذر َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫قوال لجبريل عليه السالم؛ أن هللا تكلم به فسمعه منه جبريل عليه السالم‪،‬‬ ‫وبينا وجه كونه ِ‬
‫فأسمعه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فباعتبار ِاسماعه لرسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬هو قول جبريل ْلنه قاله لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ووصفه هللا بالكريم؛ لكرم أخَّلقه وكثرة خصاله الحميدة‪ ،‬فإنه أفضل اْلَّلئكة‬
‫ً‬
‫وأعظمهم رتبة عند ربه‪.‬‬
‫ُ‬
‫﴿ذي ق َّو ٍة﴾ على ما أمره هللا به‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫فال يعجز عن ش ٍيء أمر به‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫لوط بهم فأهلكهم‪.‬‬ ‫ومن قوته أنه قلب ديار قوم ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫قر ٌب عند هللا‪ ،‬له منزلة رفيعة‪ ،‬وخصيصة من هللا‬ ‫ند ِذي ْال َع ْرش﴾ أي جبريل ُم َّ‬ ‫﴿ع َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫اختصه بها‪.‬‬
‫﴿م ِك ٍين﴾ أي‪ :‬له مكانة ومنزلة فوق منازل اْلَّلئكة كلهم‪.‬‬ ‫َ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ َ َ‬
‫﴿مط ٍاع ث َّم﴾ أي‪ :‬جبريل مطاع في ِ‬
‫اْلأل اْلعلى؛ ْلنه من اْلَّلئكة اْلقربين‪ ،‬نافذ فيهم أمره‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مطاع رأيه‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫و﴿ث َّم﴾ ظرف مكان للبعيد تعني هناك‪ِ .‬‬
‫مطاع هناك؛ أي في السماء‪ِ .‬‬
‫ٍ‬ ‫فالكالم معناه‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مطاع هناك في‬ ‫﴿ث َّم﴾ هنا‪ ،‬ليست ثم‪﴿ ،‬ث َّم﴾ وهي ظرف مكان للبعيد معناها‪ :‬هناك؛‬
‫السماء‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫﴿أ ِم ٍين﴾ أي‪ :‬ذو أمانة وقيام بما أمر به‪ ،‬ال يزيد وال ينقص‪ ،‬وال يتعدى ما حد له‪.‬‬
‫فتصدقه إذا‬‫أمين عند املالئكة ُ‬
‫أمين عند هللا‪ ،‬فهو أمين هللا على الوحي‪ ،‬وهو ٌ‬
‫وكما قلنا‪ :‬هو ٌ‬

‫أخبر‪ ،‬وهو أم ٌين عند الرسل فتصدقه بما ينزل به من الوحي‪ِ .‬‬
‫وهذا كله يدل على شرف القرآن عند هللا تعالى‪.‬‬
‫ٌ‬
‫فإن الذي نزل به متصف بهذه الصفات‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫فإنه بعث به هذا اْللك الكريم اْلوصوف بتلك الصفات الكاملة‪ ،‬والعادة أن اْللوك ال‬
‫ُ‬
‫ترسل الكريم عليها إال في أهم اْلهمات وأشرف الرسائل‪.‬‬
‫وْلَّا ذكر فضل الرسول اْللكي الذي جاء بالقرآن‪ ،‬ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫صاح ُبكم﴾ وهو محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬‫عليه القرآن‪ ،‬ودعا إليه الناس فقال‪﴿ :‬وما ِ‬
‫ُ‬
‫صاح ُبكم﴾ إشارة إلى َّأنه منهم ويعرفونه‪ ،‬ويعرفون أخالقه‪ ،‬ويعرفون تمام‬ ‫َ‬
‫وقال‪﴿ :‬وما ِ‬
‫عقله‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫﴿ب َمجنو ٍن﴾ كما يقول أعداؤه‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫وسل‬ ‫عليه‬ ‫هللا‬ ‫ى‬ ‫صل‬ ‫صاح ُبكم﴾ وهو محمد‬
‫﴿وما ِ‬
‫اْلكذبون برسالته‪ ،‬اْلتقولون عليه من اْلقوال التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً َّ‬
‫وبهتانا‪ ،‬وإال فهم يدركون َّأنهم كذبة‪ ،‬وأنه أتم عقال منهم؛ يعرفون هذا عنه من‬ ‫افتر ًاء‬
‫والسالم‪َّ ،‬‬
‫ولكنهم ٌ‬
‫قوم يفترون‪ِ .‬‬ ‫الصالة َّ‬‫نشأته‪ ،‬من صغره عليه َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫بل هو أكمل الناس عقَّل‪ ،‬وأجزلهم ر ًأيا‪ ،‬وأصدقهم لهجة‪.‬‬
‫فحاله يكذب دعواهم‪ ،‬وقوله يكذب دعواهم‪ِ .‬‬
‫حاله‪َّ :‬‬
‫فإن حاله معروفة بالعقل‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫وقوله‪َّ :‬‬
‫فإن قوله حكمة وعلم‪ِ .‬‬
‫وال يمكن أن َّيتأتى هذا الحال من مجنون‪ ،‬وال أن َّيتأتى هذا الكالم من مجنونِ‪ِ .‬‬

‫‪107‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ‬
‫وسلم جبريل عليه َّ‬ ‫ٌ َّ‬ ‫َََ َ ُ ُُ ُ‬
‫السَّلم باْلفق‬ ‫محمد صلى هللا عليه‬ ‫بين﴾ أي رأى‬
‫﴿ولقد رآه ِباْلف ِق اْل ِ‬
‫البين‪ ،‬الذي هو أعلى ما يلوح بالبصر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫طبعا املقصود هنا‪ :‬رآه على هيئته‪ ،‬وإال فالنبي صلى هللا عليه وسلم رأى جبريل على غير‬
‫ً‬
‫معترضا‬ ‫هيئته‪ ،‬لكن املقصود هنا ًّأنه رآه على هيئته كما خلقه هللا له ست مائة جناح‪ ،‬رآه‬
‫َ‬
‫السماء‪ ،‬في اْلفق الظاهر‪ ،‬فلم يكن هناك ل ْبس في رؤيته‪ِ .‬‬ ‫في َّ‬
‫َ‬
‫الغيب ب َ‬ ‫َ ُ َ ََ‬
‫نين﴾ أي وما هو على ما أوحاه هللا إليه بمتهم‪ ،‬يزيد فيه أو‬‫ٍ‬ ‫ض‬ ‫ِ ِ‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫﴿وما هو ع‬
‫وسلم أمين أهل َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫السماء وأهل اْلرض‪.‬‬ ‫ينقص أو يكتم بعضه‪ ،‬بل هو صلى هللا عليه‬
‫بأنه غير متهم‪ ،‬هذا على قراءة الظاء أخت الطاء؛ بظنين‪- ،‬الظاء بالعصا أخت‬ ‫يعني التفسير َّ‬

‫الطاء‪ -‬أي غير متهم‪ِ .‬‬


‫ٌ‬
‫صادق عليه‪،‬‬ ‫وبضنين ‪-‬بالضاد أخت الصاد‪ -‬معناه َّأنه غير بخيل‪ /‬غير شحيح‪ ،‬وكالهما‬
‫وسلم‪َّ ،‬‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بخيل في تبليغ الرسالة‪ ،‬وأداء اْلمانة‪ ،‬وتعليم الناس‪ ،‬وغير‬
‫ٍ‬ ‫غير‬ ‫ه‬ ‫فإن‬ ‫ِ‬ ‫عليه‬ ‫هللا‬ ‫ى‬‫صل‬
‫متهم في ذلك ً‬
‫أبدا‪ِ .‬‬ ‫ٍ‬
‫وسلم أمين أهل َّ‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫السماء وأهل اْلرض‪ ،‬الذي بلغ رساالت ربه البَّلغ‬ ‫بل هو صلى هللا عليه‬
‫اْلبين‪ ،‬فلم يشح بش ٍيء منه عن غني وال فقير‪ ،‬وال رئيس وال مرؤوس‪ ،‬وال ذكر وال أنثى‪ ،‬وال‬
‫جاهلة جهَّلء‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حضري وال بدوي‪ ،‬ولذلك بعثه هللا في أمة أمية‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فلم يمت صلى هللا عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين‪ ،‬وأحبا ًرا متفرسين‪ ،‬إليهم الغاية‬
‫في العلوم‪ ،‬وإليهم اْلنتهى في استخراج الدقائق واْلفهوم‪ ،‬وهم اْلساتذة وغيرهم قصاره‬
‫أن يكون من تَّلميذهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫جيم﴾ ْلا ذكر جَّللة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين‬ ‫ر‬‫﴿وما ُه َو ب َقو ِل َشيطان َ‬
‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ونقص‬
‫ٍ‬ ‫آفة‬
‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫عنه‬ ‫دفع‬ ‫أثنى‪،‬‬ ‫بما‬ ‫عليهما‬ ‫هللا‬ ‫وأثنى‬ ‫أيديهما‪،‬‬ ‫على‬ ‫اس‬ ‫الن‬ ‫إلى‬ ‫وصَّل‬ ‫ذين‬‫الل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َّ‬
‫جيم﴾ أي في غاية البعد عن هللا‬ ‫مما يقدح في صدقه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬وما هو ِبقو ِل ش ٍ‬
‫يطان ر ٍ‬
‫وعن قربه‪.‬‬
‫الرجيم‪ :‬هو امللعون املطرود‪ ،‬فكيف يأتي بالقرآن وهو كالم هللا؟ ِ‬
‫هللا طرده وأبعده‪ ،‬فكيف يأتي بالقرآن الذي هو كالم هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬هذا محال‪ِ .‬‬

‫‪108‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ََ َ َ َ َ‬
‫ذهبون﴾ أي‪ :‬كيف يخطر هذا ببالكم‪.‬‬‫﴿فأين ت‬
‫ََ َ َ َ َ‬
‫ذهبون﴾ يعني أين تذهب عقولكم حتى قلتم املحال‪ ،‬الذي يدرك العقالء َّأنه ال‬‫﴿فأين ت‬
‫يمكن أن يكونِ‪ِ .‬‬
‫وأين عزبت عنكم أذهانكم حتى جعلتم الحق الذي هو في أعلى درجات الصدق‪ ،‬بمنزلة‬
‫الكذب الذي هو أنزل ما يكون‪ ،‬وأرذل وأسفل الباطل‪ ،‬هل هذا إال بانقَّلب الحقائق‪.‬‬
‫َ‬
‫اْل ْولى أن يقولِ‪ :‬هل هذا إال من قلب الحقائق‪ْ .‬لن هم قلبوا الحقائق‪ ،‬أما االنقالب فقد‬
‫يكون صحيحا‪ ،‬وقد يكون غير صحيح‪ ،‬وهذا ليس املقصود هنا‪ ،‬وإنما املقصود هو القلب‪ِ .‬‬
‫إن هو إال ذكر للعاْلين يتذكرون به ربهم‪ ،‬وما له من صفات الكمال‪ ،‬وما ينزه عنه من‬
‫النقائص والرذائل واْلمثال‪ ،‬ويتذكرون به اْلوامر والنواهي وحكمها‪ ،‬ويتذكرون به‬
‫اْلحكام القدرية والشرعية والجزائية‪ ،‬وبالجملة يتذكرون به مصالح الدارين‪ ،‬وينالون‬
‫بالعمل به السعادتين‪.‬‬
‫نك ْم َأن َي ْس َتق َ‬
‫يم﴾ بعدما تبين الرشد من الغي والهدى من الضَّلل‪.‬‬
‫َ َ َ ُ‬
‫﴿ْلن شاء ِم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أي أن هللا هدى العباد‪ ،‬فبين لهم طريق الرشد وطريق الضالل‪ ،‬وأعطاهم عقوال يفهمونِ‬
‫بها‪ ،‬وجعل لهم إرادة يفعلون بها‪ ،‬ومع ذلك فمشيئتهم تحت مشيئة هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ ُ َن َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ُّ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾ أي فمشيئته نافذة ال يمكن أن تعا َرض أو‬ ‫﴿وما تشاءو ِإال أن يشاء اللـه رب الع ِ‬
‫َ‬
‫تمانع‪ ،‬وفي هذه اآلية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة‪ ،‬والقدرية اْلجبرة‪ ،‬كما تقدم‬
‫مثالها‪.‬‬
‫وهذا تقدم معنا في كتاب التوحيد وفصلناه‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير هذه السورة‪ِ .‬‬
‫أسأل هللا عز وجل أن يزيدنا علما بكتابه‪ ،‬وأن ينفعنا به وأن يجعلنا نافعين لألمة به‪ِ .‬‬
‫وأنتم ترون في هذه املجالس أن تدبر كتاب هللا أنفع ما يكون لطالب العلم وْلهله‪ ،‬فأ ِوص ي‬
‫نفس ي وطالب العلم‪ :‬بالعناية بالتفسير الصحيح للقرآن‪ ،‬فإن كثيرا من طالب العلم قد‬
‫انشغلوا عن تفسير القرآن‪ ،‬واشتغلوا بغيره مما هو خير‪ ،‬لكن تفسير القرآن جامع للعلوم‪،‬‬
‫وجامع للخيرات‪ِ .‬‬

‫‪109‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أنت لو فهمت القرآن فإنك تستطيع أن تعظ‪ ،‬وتخطب‪ ،‬وتدرس‪ ،‬وتعلم‪ ،‬وتفقه‪ ،‬فهذا فيه‬
‫خير عظيم‪ِ .‬‬
‫فالوصية لطالب العلم أن ال يغفلوا عن هذا الجانب املهم وأن يجعلوا له ً‬
‫جزءا كبيرا من‬
‫أوقاتهم‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪110‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة االنفطار‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََْ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫﴿إ َذا َّ‬
‫الس َم ُاء انفط َرت ﴿‪َ ﴾1‬و ِإذا الك َو ِاك ُب انتث َرت ﴿‪َ ﴾2‬و ِإذا ال ِب َح ُار ف ِج َرت ﴿‪َ ﴾3‬و ِإذا‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ ْ َّ ْ‬ ‫ْال ُق ُب ُ‬
‫ور ُب ْع ِث َر ْت ﴿‪َ ﴾4‬ع ِل َم ْت َن ْف ٌ‬
‫س َما ق َّد َمت َوأخ َرت ﴿‪.﴾﴾5‬‬
‫هذه السورة معاشر الفضالء سورة مكية‪ ،‬وهي السورة الثانية من السور الثالث التي من‬
‫قرأها كان كأنه ينظر إلى القيامة رأي العين كما أخبر بذلك النبي صلى هللا عليه وسلم في‬
‫الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ومعنى ما ِقرئ أنه إذا أتى أمر هللا ‪-‬وهو قريب قد اقترب‪ -‬فانشقت السماء ورأيت فيها‬
‫فطورا وشقوقا بعد أن كنت ال ترى فيها فطورا‪ ،‬وانتثرت الكواكب وتساقطت من أفالكها‬
‫وانطفأت أضواؤها‪ ،‬وتفجرت البحار باملياه فزاد ماؤها ففاضت وسالت حتى صارت بحرا‬
‫واحدا‪ ،‬عذبها ومالحها تختلط فتصبح ماء واحدا‪ ،‬وتقدم معنا أن البحار في ذلك اليوم‬
‫العظيم تفيض ويزداد ماؤها ويسيل بعضها على بعض‪ ،‬فتختلط حتى تصير بحرا واحدا‪،‬‬
‫ثم تسجر نارا‪ ،‬وهذا من عجائب ذلك اليوم أن املاء الذي يطفئ النار يصبح نارا مستعرة‪،‬‬
‫فيتبخر ماؤها‪ ،‬وتيبس تلك البحار‪ ،‬وأثيرت القبور وقلبت فجعل أسفلها أعالها‪ ،‬ف ُِ‬
‫استخرج‬
‫من فيها من املوتى وقد نبتت أجسادهم فيها بسحاب يرسله هللا عز وجل بماء يشبه مني‬
‫الرجال يتسلل إلى جميع القبورِ‪ ،‬فتنبت اْلجساد في القبورِ‪ ،‬فإذا أذن هللا قلبت القبور‬
‫وجعل أسفلها أعالها‪ ،‬وخرج الناس من قبورهم‪ِ .‬‬
‫هناك في ذلك املوقف العظيم تعلم كل نفس ما عملته في الدنيا‪ ،‬تتذكره فال تنس ى منه‬
‫شيئا وتقرؤه فال تفقد منه شيئا‪ ،‬فتعلم ما قدمت وما قدمت هو ما عملته بنفسها‪ِ ،‬وتعلم‬
‫ما أخرت وما أخرته هو ما سنته لغيرها فاقتدى بها فيه أقوام وصاروا يعملون بمثل عمله‪،‬‬
‫فمات ِوالناس يعملون بتلك السنة ويتوارثونها‪ ،‬فهذا ما أخره‪ ،‬إن كان خيرا فخير‪ ،‬وإن كان‬
‫شرا فشر‪ ،‬فمن أحيا للناس سنة فاقتدى به الناس وعملوا بهذه السنة‪ ،‬فإنه يرى أعماال‬
‫ما عملها لكنه سنها‪ ،‬فكانت من عمله بفضل هللا‪ ،‬وإن كان سن للناس بدعة أحدثها أو‬

‫‪111‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫استوردها أو قواها فعمل الناس بهذه البدعة ومات وهم يعملون بهذه البدعة‪ ،‬فإنه يجد‬
‫أوزارا عظيمة في كتابه لم يعملها لكنه تسبب فيها فكانت من عمله‪ِ .‬‬
‫وهذا يدلك يا عبد هللا على خطورة القدوة‪ ،‬وأن اإلنسان قد يكتسب أجورا عظيمة‬
‫بواسطة القدوة بأن يكون قدوة خير في بيته‪ ،‬وقدوة خير في حيه‪ ،‬وقدوة خير في بلده‪ ،‬وقد‬
‫يكتسب أوزارا عظيمة بأن يكون قدوة شر في بيته‪ ،‬أو قدوة شر في حيه‪ ،‬أو قدوة شر في‬
‫بلده‪ ،‬وقد يكون قدوة شر في بلدان كثيرة‪ ،‬السيما في زمانها هذا الذي سهل التواصل فيه‬
‫بين الناس‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬ما قدمت هو ما عملته من الفرائض‪ ،‬وما أخرت هو ما تركته من‬
‫الفرائض‪ ،‬وال مانع من إرادة الجميع‪ِ .‬‬
‫فال شك أن اإلنسان يوم القيامة أن كل إنسان كل نفس سترى ما عملت بنفسها‪ ،‬أو‬
‫تركت بنفسها‪ ،‬وما تسببت به من خير أو شر‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذا املقطع‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‪،‬‬
‫يقرأ لنا‪ِ .‬‬
‫فليتفضل االبن ِ‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫والسامعين‪ :‬أي‪ :‬إذا انشقت السماء وانفطرت وتناثرت‪ِ .‬‬
‫السماء يوم القيامة تتشقق وترى فيها الفطور كأنها أبواب‪ ،‬ثم تزال وتطوىِ‪ ،‬وهذا من‬
‫ُ‬
‫أهوال ذلك اليوم‪ ،‬حيث يتغير الكونِ‪ ،‬وتحدث أمور عظيمة هائلة ِتذهب اْللباب وتذهل‬
‫كل مرضعة عما أرضعت‪ ،‬نسأل هللا أن نكون عند البعث من اآلمنين‪ِ .‬‬
‫أي‪ :‬إذا انشقت السماء وانفطرت وتناثرت نجومها وزال جمالها‪.‬‬
‫وانطفأ ضوؤها وتساقطت من أفالكها ِ‬
‫وفجرت البحار فصارت بحرا واحدا‪.‬‬
‫وذلك بأن يكثر ماؤها فتفيض حتى تصبح بحرا واحدا متصال‪ِ .‬‬
‫وبعثرت القبور بأن أخرج ما فيها من اْلموات‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫البعثرة‪ :‬هي القلب‪ ،‬يقال‪ :‬بعثرة بالعين‪ ،‬ويقال‪ :‬بحثرة بالحاء‪ ،‬وهي القلب وإخراج ما في‬
‫الباطن‪ ،‬فمعنى‪ :‬بعثرت قلبت وأخرج ما فيها‪ِ .‬‬
‫وبعثرت القبور بأن أخرج ما فيها من اْلموات وحشروا للموقف بين يدي هللا للجزاء على‬
‫اْلعمال‪ ،‬فحينئذ ينكشف الغطاء‪ ،‬ويزول ما كان خفيا‪ ،‬وتعلم كل نفس ما معها من‬
‫اْلرباح والخسران‪ ،‬هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى ما قدمت يداه‪ ،‬وأيقن‬
‫بالشقاء اْلبدي والعذاب السرمدي‪ ،‬وهنالك يفوز اْلتقون اْلقدمون لصالح اْلعمال‬
‫بالفوز العظيم والنعيم اْلقيم والسَّلمة من عذاب الجحيم‪.‬‬
‫ْ‬
‫هللا عز وجل يقولِ‪َ ﴿ :‬ع ِل َمت﴾ علما يقينيا ال شك فيه وال نقص‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬ ‫﴿ َن ْف ٌ‬
‫س﴾ وهذا للعموم؛ أي‪ :‬كل نفس‪َّ ﴿ ،‬ما ق َّد َمت﴾ أي‪ :‬عملت‪ِ .‬‬
‫َ َّ ْ‬
‫﴿ َوأخ َرت﴾ أي‪ :‬تركت وضيعت‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َّ ﴿ :‬ما ق َّد َمت﴾ يعني‪ :‬ما عملته بنفسها‪ ،‬وما أخرت أي ما سنته‬
‫لغيرها‪ِ .‬‬
‫واختار هذا الثاني إمام املفسرين ابن جرير الطبريِ‪ ،‬والحق أن الكل مراد‪ ،‬فكلها مقصودة‬
‫بهذه اآلية‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫اك َف َع َد َل َ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ‬
‫ان َما َغ َّر َك ب َرب َك ْال َكريم ﴿‪َّ ﴾6‬الذي َخ َل َق َك َف َس َّو َ‬
‫ي‬ ‫أ‬
‫ِ ِ‬‫ي‬ ‫ف‬ ‫﴾‬ ‫‪7‬‬ ‫﴿‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اإلنس‬
‫﴿يا أيها ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ َ َّ َ َ َ َّ َ َ‬
‫الد ِين ﴿‪َ ﴾9‬و ِإ َّن َعل ْيك ْم ل َحا ِف ِظين ﴿‪﴾10‬‬ ‫ن‬
‫صور ٍة ما شاء ركبك ﴿‪ ﴾8‬كَّل بل تك ِذبو ِ ِ‬
‫ب‬
‫َ َ َْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِك َر ًاما كا ِت ِبين ﴿‪َ ﴾11‬ي ْعل ُمون َما تف َعلون ﴿‪.﴾﴾12‬‬
‫أي ش يء غرك بربك الكريم الذي أنعم عليك‬ ‫أي‪ :‬يا أيها اإلنسان الكافر بربك املنكر للبعث‪ِ ُّ :‬‬
‫غيره‪ ،‬رباك بالنعم ورددت قوله‪ ،‬رباك‬
‫بنعم ال تعد وال تحص ى؟ فرباك بالنعم وعبدت ِ‬
‫بالنعم وكذبت رسوله‪ ،‬وهذا غاية الغرور ومنتهاه‪ ،‬فإن كل ش يء يدلك على ربك ومع ذلك‬
‫كفرت وأعرضت‪ِ .‬‬
‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ‬
‫ان﴾ يعني‪ :‬يا جنس اإلنسان‪َ ﴿ ،‬ما َغ َّر َك ب َربكَ‬
‫ِ ِ‬ ‫اإلنس‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬يا أيها ِ‬
‫َْ‬
‫الك ِر ِيم﴾ فكفرت إن كنت كافرا‪ ،‬وعصيت مع إيمانك إن كنت مؤمنا‪ ،‬ما الذي غرك وربك‬

‫‪113‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سبحانه هو الذي خلقك؟ وأنت تدرك يقينا أنك لم تخلق نفسك‪ ،‬ولم تخلق صدفة‪ ،‬و ِال‬
‫يستطيع أحد أن يخلقك‪ ،‬وإنما الذي خلقك هو هللا‪ ،‬فخلقك يدلك على ربك‪ِ .‬‬
‫ينكر أن هللا هو الذي خلق الناس إال من انطمس عقله بالكلية‪ ،‬وإال فحتى الكفار‬
‫ولذلك ال ِِ‬
‫إذا سئلوا‪ :‬من خلقكم؟ قالوا‪ :‬هللا‪ ،‬وهذا يدل العاقل على ربه‪ِ .‬‬
‫اك﴾ وسوى خلقك وأنت في ظلمات الرحم‪ ،‬فجعلك على خلق سوي منتظم‬ ‫﴿ َف َس َّو َ‬

‫اْلعضاء‪ ،‬وجعل كل عضو في موضعه‪ِ .‬‬


‫َ َ‬
‫﴿ف َع َدل َك﴾ فجعلك معتدل القامة ال تزحف كبعض الحيوانات‪ ،‬وال تمش ي على أربع‬
‫كبعض الحيوانات‪ ،‬بل كرمك في صورتك وكرمك في هيأتك فكنت معتدل القامة‪ ،‬منتصب‬
‫القامة‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫ور ٍة َّما ش َاء َرك َب َك﴾ إن شاء لو شاء لجعلك في صورة من أقبح الصورِ‪ ،‬لو شاء‬ ‫﴿في َأي ُ‬
‫ص َ‬
‫ِ ِ‬
‫لجعلك في صورة حمار أو كلب أو خنزير‪ ،‬لكنه تفضل عليك وأنعم عليك وأنت في رحم‬
‫أمك‪ ،‬فجعلك في هذه الصورِة السوية البهية‪ِِّ ،‬‬
‫وصرفك إلى ما شاء من صورِ‪ ،‬فقد يجعلك‬
‫شبيها بأبيك‪ ،‬وقد يجعلك شبيها بأمك‪ ،‬وقد يجعلك شبيها بأجدادك‪ ،‬وقد يجعلك شبيها‬
‫بأعمامك‪ ،‬وقد يجعلك شبيها بأخوالك‪ ،‬ولذلك تجد الناس في عائلة واحدة في بيت واحد‬
‫هذا يميل شبهه إلى أمه‪ ،‬وهذا يميل شبهه إلى أبيه‪ ،‬وهذا أسمر في وسط بيض مال شبهه إلى‬
‫جد من أجداده‪ ،‬سبحانه هو الذي يصورنا في اْلرحام كيف شاء سبحانه وتعالى‪ ،‬وجعل‬
‫صور بني آدم أشكاال وألوانا‪ ،‬فهذا طويل وهذا قصير‪ِ ،‬وهذا آدم ِوهذا أسود وهذا أبيض‪،‬‬
‫يصور كيف يشاء سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ‬
‫نسان َما غ َّر َك ِب َرِب َك الك ِر ِيم﴾ قال بعض اْلفسرين‪:‬‬ ‫اإل‬
‫هذا السؤال العظيم‪﴿ :‬يا أيها ِ‬
‫َْ‬
‫جوابه كرم هللا وحلمه؛ ْلن اآلية أشعرت بهذا في قول هللا عز وجل‪ِ ﴿ :‬ب َرِب َك الك ِر ِيم﴾ فرأيت‬
‫هللا عز وجل يملي لك وال يأخذك بذنبك‪ ،‬فغرك ذلك حتى كفرت أو فسقت أو ظلمت‪ُ ،‬‬
‫وهللاِ‬
‫إنما يملي للكافر ليزداد إثما‪ ،‬ويملي للمؤمن لعله أن يتوب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬جواب هذا السؤال‪ :‬غرك ظلمك وجهلك فكنت من أجهل‬
‫الجاهلين وأظلم الظاملين‪ِ .‬‬

‫‪114‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬جواب هذا السؤال غرك شيطانك الذي لم يكن له عليك‬
‫سلطان‪ ،‬وإنما وسوس لك فاتبعته‪ِ .‬‬
‫وال مانع من أن يكون الجواب شامال لكل هذا‪ ،‬فكل هذه أسباب الغرور‪ ،‬نعم وهللا إن‬
‫العبد ليذنب‪ ،‬قد يكون من أهل اإلسالم لكنه يذنب‪ ،‬فيرى هللا عز وجل يملي له ال يبتليه‬
‫بمرض وال يأخذه‪ ،‬فيغتر ويبطر ويزداد في املعاص ي‪ ،‬فيغتر بحلم هللا وكرم هللا‪ِ .‬‬
‫وال شك أن الجهل شجرة كل شر‪ ،‬فما وقع شر من اإلنسان إال وللجهل فيه نصيب‪،‬‬
‫والجهل مالزم للمعصية‪ ،‬ولذلك قال ابن عباس رض ي هللا عنهما‪ :‬ما عص ى أحد إال بجهل‪،‬‬
‫اإلنسان يقع في املعصية من جهة جهله ولو كان عاملا‪ ،‬إن عص ى يكون فيه نوع من الجهل‪،‬‬
‫وال شك أن الشيطان يدعو بني آدم إلى كل شر‪ ،‬وأعظم ما يرضيه هو الكفر‪ ،‬وهو يكيد‬
‫لبني آدم‪ِ .‬‬
‫نرجع إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما ذكره الشيخ‪ِ .‬‬
‫قال رحمة هللا عليه‪ :‬يقول تعالى معاتبا لإلنسان اْلقصر في حقه اْلتجرئ على معاصيه‪.‬‬
‫فنفهم من هنا أن الشيخ ابن سعدي رحمه هللا يرى أن اإلنسان هنا جنس اإلنسان الذي‬
‫يعص ي سواء كان مسلما ويعص ي‪ ،‬أو كان عصيانه بالكفر‪ِ .‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ‬
‫نسان َما غ َّر َك ِب َرِب َك الك ِر ِيم﴾ أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك‬ ‫اإل‬
‫﴿يا أيها ِ‬
‫لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟ أليس هو الذي خلقك فسواك في أحسن تقويم‪،‬‬
‫فعدلك وركبك تركيبا قويما معتدال في أحسن اْلشكال وأجمل الهيئات؟‬
‫فهل يليق بك أن تكفر نعمة اْلنعم أو تجحد إحسان اْلحسن؟ إن هذا إال من جهلك‬
‫وظلمك وعنادك وغشمك‪ ،‬فاحمد هللا إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو‬
‫َ َّ‬
‫ور ٍة َّما ش َاء َرك َب َك﴾‪.‬‬ ‫نحوهما من الحيوانات‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪﴿ :‬في َأي ُ‬
‫ص َ‬
‫ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫الد ِين ﴿‪َ ﴾9‬و ِإ َّن َعل ْيك ْم ل َحا ِف ِظ َين ﴿‪ِ ﴾10‬ك َر ًاما كا ِت ِب َين ﴿‪َ ﴾11‬ي ْعل ُمون‬
‫﴿كَّل ب ْل تك ِذبون ِب ِ‬
‫َْ ُ َ‬
‫َما تف َعلون ﴿‪.﴾﴾12‬‬
‫بعدما تقدم زجر هللا عز وجل الكفار زجرا غليظا عما يقولون ويفترون من أنهم على الحق‪،‬‬
‫وأنه ال حياة إال الدنيا‪ ،‬وأنهم غير مبعوثين بعد موتهم‪ِ .‬‬

‫‪115‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َّ‬


‫﴿كَّل﴾ فليس اْلمر كما تزعمو ِن‪ ،‬وليس ا ِْلمر كما تفترون‪َ ﴿ ،‬ب ْل﴾ أنتم ﴿تك ِذ ُبون﴾ بيوم‬
‫الحساب الذي يحاسب فيه هللا عز وجل العباد‪ ،‬وهو حق ال شك فيه‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ويحصونها‪،‬‬‫﴿ َو ِإ َّن َعل ْيك ْم ل َحا ِف ِظين﴾ إن عليكم في الدنيا مالئكة يحفظون أعمالكم ُِ‬
‫وهؤالء املالئكة كرام كاتبون‪ ،‬فهم كرام عند هللا‪ ،‬وكرام في أخالقهم‪ ،‬وكرام في خلقتهم‪،‬‬
‫ولذلك ال يظلمونكم شيئا‪ ،‬يكتبون الحق ال يزيدون وال ينقصون فإنهم كرام‪ِ .‬‬
‫وهم كاتبون يكتبون ما تقولونِ‪ ،‬ويكتبون ما تفعلونِ‪ ،‬ويكتبون ما تتركون‪ ،‬وهم يعلمون ما‬
‫تفعلونِ‪ ،‬ال يغيب عنهم ش يء من أقوالكم وال من أفعالكم‪ ،‬وال ما تسرون به وال ما تعلنونِ‪ِ .‬‬
‫أما ما تعلنونه فإنهم يعلمونه‪ ،‬فما تقولونه علنا يعلمونه ويسمعونه‪ ،‬وما تفعلونه يرونه‬
‫فيكتبونه‪ ،‬وأما ما تسرون وما في قلوبكم فإن هللا يطلعهم على ذلك‪ ،‬فهم يعلمون ما‬
‫تخفون بإطالع عالم السر والجهر سبحانه وتعالى لهم على ما في قلوبكم من اْلعمال‬
‫القلبية‪ ،‬ومن النيات واملقاصد‪ ،‬ومن الهم بالحسنة‪ ،‬ومن الهم بالسيئة‪ِ .‬‬
‫وفي هذا وعيد للكفار والعصاة وتحذير من معصية هللا عز وجل‪ ،‬وتذكير بالحياء‪ ،‬أنت يا‬
‫عبد هللا لو رأيت رجال يمش ي في الطريق الستحيت أن تفعل املعصية‪ ،‬ربما تشرب الدخان‬
‫فإذا رأيت رجال ذا لحية رميت السيجارة‪ ،‬وربما أطبقت يدك عليها‪ ،‬فكيف ال تستحي من‬
‫املالئكة وهي معك ال تفارقك وال يغيب عنها عملك؟ وهم عباد مكرمون كيف ال تكرمهم؟‬
‫كيف تتلوث باملعاص ي أمامهم؟ ِ‬
‫إن هذا وهللا ليزجر املؤمن العاقل إذا تذكره عن اإلقدام على املعاص ي‪ ،‬فإن املالئكة‬
‫الحافظين ال يفارقونه أبدا‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وقوله ﴿كَّل ب ْل تك ِذبون ِب ِ‬
‫الد ِين﴾‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿كَّل﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها حقا‪ ،‬حقا بل تكذبون بالدين‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ :‬ليس اْلمر كما تزعمون أنه ال بعث وال جزاء‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬ ‫َ َّ‬
‫جر ﴿ َب ْل﴾ إضراب عما يقول ِون‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬كَّل﴾ زجر بعدها إضراب‪﴿ ،‬كَّل﴾ ز ِ‬
‫إلى ما هو الحق‪ ،‬كال بل أنتم تكذبون بالدين الذي هو الحق املبين‪ِ .‬‬

‫‪116‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫﴿كَّل ب ْل تك ِذبون ِب ِ‬
‫الد ِين﴾ أي‪ :‬مع هذا الوعظ والتذكير ال تزالون مستمرين على‬
‫التكذيب بالجزاء‪ ،‬وأنتم البد أن تحاسبوا على ما عملتم‪ ،‬وقد أقام هللا عليكم مَّلئكة‬
‫كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمونها‪ ،‬فدخل في هذا أفعال القلوب وأفعال‬
‫الجوارح‪ ،‬فالَّلئق بكم أن تكرموهم وتجلوهم‪.‬‬
‫وقال العلماء‪ :‬إن هللا عز وجل قال هنا‪ِ ﴿ :‬ك َر ًاما﴾ لبيان عدم الظلم وأنهم ال يظلمون وال‬
‫يكذبون‪ ،‬فما في كتبكم كله صدق‪ ،‬ليس فيه حرف زائد‪ ،‬وليس فيه حرف ناقص‪ِ .‬‬
‫ص َل ْو َن َها َي ْو َ‬
‫اْل ْب َر َار َلفي َنعيم ﴿‪َ ﴾13‬وإ َّن ْال ُف َّج َار َلفي َجحيم ﴿‪َ ﴾14‬ي ْ‬ ‫َّ ْ َ‬
‫الد ِين ﴿‪﴾15‬‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫﴿ ِإن‬
‫الد ِين‬ ‫م‬‫اك َما َي ْو ُ‬ ‫اك َما َي ْو ُم الدين ﴿‪ُ ﴾17‬ث َّم َما َأ ْد َ َ‬ ‫َو َما ُه ْم َع ْن َها ب َغائب َين ﴿‪َ ﴾16‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ َْ ُ َْ ٌ َْ‬
‫س ش ْي ًئا ۖ َواْل ْم ُر َي ْو َم ِئ ٍذ ِلل ِه ﴿‪.﴾﴾19‬‬ ‫﴿‪ ﴾18‬يوم ال تم ِلك نفس ِلن ٍ‬
‫ف‬
‫أي‪ِّ :‬أن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى‪ :‬أهل نعيم وأهل جحيم‪ِ .‬‬
‫فاْلبرار الذين َب ُروا بأداء الفرائض واجتناب املعاص ي فكثر خيرهم‪ ،‬وقل شرهم‪ ،‬وإذا زلت‬
‫أقدامهم بادروا بالرجوع إلى ربهم‪ ،‬فكانوا بررة أتقياء‪ ،‬أولئك ا ِْلبرار في نعيم ال يخطر على‬
‫قلب بشر‪ ،‬في نعيم دائم ال ينقطع‪ ،‬متجدد ال ُِيمل‪ ،‬كامل ال ينغص‪ِ .‬‬
‫وإن الفجار الذين مالوا عن التوحيد إلى الشرك‪ ،‬أو خرجوا عن الطاعة إلى املعصية لفي نار‬
‫بعيد قعرها‪ ،‬شديد حرها‪ ،‬عظيم عذابها‪ ،‬يصلونها‪ ،‬يعذبون بها‪ ،‬ويصلهم لهبها وحرها من‬
‫كل مكان‪ِ .‬‬
‫يوم الدين يوم الجزاء والحساب‪ ،‬ولألبرار والفجار نصيب في الدنيا مما يكون في اآلخرة‪،‬‬
‫فلألبرار في الدنيا نعيم في قلوبهم‪ ،‬وحالوة في أنفسهم‪ ،‬فلهم نعيم القلوب وسرورها‪ ،‬وحالوة‬
‫اإليمان التي ال تدانيها حالوة العسل وحالوة السكر‪ ،‬ولهم انشراح الصدور واطمئنان‬
‫القل ِوب بربهم‪ ،‬والفجار لهم في الدنيا ضيق الصدورِ‪ ،‬فهم في صدور ضيقة‪ ،‬وما هم عنها‬
‫بغائبين‪ ،‬فهم إن دخلوها كفارا لن يخرجوا منها أبدا‪ ،‬فلن ُِيفقدوا منها‪ِ .‬‬
‫وما أدراك ما يوم الدين الذي كذب به أولئك الكفار؟ والذي يكون فيه انقسام الناس إلى‬
‫الفريقين‪ :‬أبرار وفجار‪ ،‬أشقياء وسعداء‪ِِّ ،‬‬
‫أي ش يء يدريك يا محمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ما‬
‫يوم الدين؟ وهذا تعظيم وتفخيم لذلك اليوم‪ِ .‬‬

‫‪117‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ي؛ ْلنه دخل بين الجملتين حرف العطف‬


‫ثم ما أدراك ما يوم الدين هذا تأكيد معنو ِ‬
‫فليس تأكيدا لغويا‪ ،‬وإنما هو تأكيد معنويِ‪ ،‬وأفادت ثم مزيد التأكيد‪ِ .‬‬
‫ثم فسر ربنا ذلك اْلمر العظيم في ذلك اليوم ببيان أنه يوم ال تغني فيه نفس عن نفس‬
‫شيئا‪ ،‬فال تنفعها بحسنة واحدة‪ ،‬ال ينفع اْلب ابنه وال ينفع االبن أباه‪ ،‬وال تدفع عنها بلية‬
‫واحدة‪ ،‬وال تسقط عنها سيئة واحدة إال ما أذن هللا به من الشفاعة‪ِ .‬‬
‫وهللا في ذلك اليوم يأذن ملن يشاء ويرض ى بالشفاعة‪ ،‬فتكون املنفعة بإذن هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فاْلمر كله في ذلك اليوم هلل عز وجل‪ ،‬وتسقط الرئاسات‪ ،‬ويسقط امللك‪ ،‬ويذل‬
‫املتكبرون‪ ،‬فاْلمر كله للجبار سبحانه وتعالى‪ ،‬فال جزاء في ذلك اليوم إال من هللا‪ ،‬وال شفاعة‬
‫إال بإذن هللا‪ ،‬وال كالم ْلحد إال بإذن هللا‪ ،‬فال يستطيع أحد في ذلك اليوم أن يجرؤ على‬
‫مخالفة أمر هللا‪ ،‬في الدنيا كان من العباد من يفسق ويجرؤ على مخالفة أمر ربه‪ ،‬أما في‬
‫ذلك اليوم العظيم فال يملك أحد وال يجرؤ أحد أن يخالف أمر الجبار سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فإذا علمت يا عبد هللا أنك صائر إلى ذلك اليوم الذي ال تغني نفس فيه عن نفس شيئا‪،‬‬
‫وال تكون الشفاعة إال بإذن هللا ملن شاء ورض ي سبحانه وتعالى‪ ،‬فإنه يجب عليك أن تعد‬
‫لذلك اليوم عدته‪ ،‬وأن تحرص على أن تكون في ذلك اليوم ممن حمل خيرا‪ ،‬ولم يحمل‬
‫ظلما‪ ،‬ولم يحمل وزرا‪ ،‬وقد خاب من حمل في ذلك اليوم ظلما‪ِ .‬‬
‫فالواجب علينا جميعا أن نراجع أنفسنا‪ ،‬وأن ننظر في سيرنا إلى ربنا فإن وجدنا خيرا‬
‫فلنعلم أنه بفضل هللا‪ ،‬ولنشكر هللا‪ ،‬ولنسأل هللا القبول والثبات‪ ،‬وإن وجدنا شرا‬
‫فلنتخلص منه اليوم قبل أن نلقاه غذا في يوم ال تملك نفس لنفس شيئا‪ ،‬واْلمر يومئذ هلل‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬اْلراد باْلبرار هم القائمون بحقوق هللا وحقوق عباده اْلَّلزمون للبر‬
‫في أعمال القلوب وأعمال الجوارح‪.‬‬
‫اْلبرار‪ :‬جمع بر‪ ،‬والبر هو كثير الخير املتباعد عن الشر‪ ،‬ال تفقده في الخير‪ ،‬وال تراه في‬
‫الشر‪ ،‬البر هو الذي ال يفقد في الخير‪ ،‬وال يرى في الشر‪ ،‬هذا هو البر‪ِ .‬‬
‫فهؤالء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن في دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ َ ْ‬


‫ين َآمنوا َول ْم َيل ِب ُسوا ِإ َيمان ُهم ِبظل ٍم‬ ‫الشك أن اْلبرار لهم اْلمن التام في الدنيا واآلخرة‪﴿ ،‬ال ِذ‬
‫ََ َ ُ َ‬ ‫ُ َٰ َ َ ُ ُ ْ َ‬
‫اْل ْم ُن َو ُهم ُّم ْه َت ُدو َن﴾ [اْلنعام‪َ ﴿ ،]82 :‬م ْن َعم َل َ‬
‫ص ِال ًحا ِمن ذك ٍر أ ْو أنث ٰى َو ُه َو‬ ‫ِ‬ ‫أول ِئك لهم‬
‫ً َ ً‬ ‫ْ َ َ ُ َّ‬
‫ُمؤ ِم ٌن فلن ْح ِي َين ُه َح َياة ط ِي َبة ۖ ﴾ [النحل‪ ،]97 :‬ففي الحياة لهم اْلمن‪ ،‬لهم طمأنينة القلب‪،‬‬
‫لهم انشراح الصدر‪ ،‬هم أقوياء بربهم سبحانه وتعالى‪ ،‬وعند املوت لهم البشرىِ‪ ،‬أيتها‬
‫النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة‪ ،‬وأبشري بروِح وريحان ورب غير‬
‫غضبان‪ ،‬فإذا بشرت أحبت لقاء هللا‪ ،‬أرادت اآلخرة فيحب هللا لقاءها‪ ،‬فتكمل سعادتها‬
‫ونعيمها‪ ،‬فإذا غسلت وكفنت وحملت على اْلجساد استبشرت بما أمامها وقالت لحامليها‬
‫بصوت ال يسمعونه‪ :‬قدموني قدموني‪ ،‬أسرعوا‪ ،‬فإذا كانت في قبرها كان لها التصديق‬
‫لقولها‪ ،‬أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة‪ ،‬وألبسوه من الجنة‪ ،‬وافتحوا له بابا إلى‬
‫الجنة‪ ،‬ويوسع عليه قبره مد بصره‪ ،‬هذا القبر الذي يراه الناس ضيقا للبر يوسع له مد‬
‫بصره‪ ،‬ويكون في قبره في هذه السعة‪ ،‬ويعرض عليه مقعده من الجنة‪ ،‬وإذا بعث كان من‬
‫اآلمنين‪ ،‬ثم يكون من أهل النعيم املقيم‪ ،‬فالخير كله في ِ‬
‫البر‪ِ .‬‬
‫وهذا ٌ‬
‫أمر يقيني لكن أكثر الناس ال يعلمون‪ ،‬فنسأل هللا أن يرزقنا البر وأن يجعلنا من‬
‫عباده اْلبرار‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫﴿و ِإ َّن الفج َار﴾ الذين قصروا في حقوق هللا وحقوق عباده‪ ،‬الذين ف َج َرت قلوبهم‬ ‫َ‬

‫ففجرت أعمالهم‪.‬‬
‫تقدم معنا أن الفاجر‪ُ :‬يطلق على املائل عن التوحيد إلى الشرك‪ ،‬وقلت لكم في هذا املعنى‬ ‫ِّ‬

‫الفاجر ُيقابل الحنيف؛ ْلن الحنيف هو املائل عن الشرك إلى التوحيد‪ ،‬والفاجر هو املائل‬
‫شرعا‪ :‬الفاسق الذي خرج عن طاعة‬ ‫عن التوحيد إلى الشرك‪ ،‬كما أن من معاني الفاجر ً‬

‫هللا إلى معاصيه‪ِ .‬‬


‫َ‬
‫﴿ل ِفي َج ِح ٍيم﴾‪ :‬أي عذاب أليم في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار‪.‬‬
‫الدنيا ملعونة‪ ،‬ملعو ٌن‬
‫الفاجر البعيد عن هللا يعيش في الدنيا في لعنة كما قال النبي ﷺ‪ُّ ﴿ِ:‬‬
‫ً‬
‫ومتعل ًما﴾‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫ما فيها إال ذكر هللا وما وااله وعاْلا‬

‫‪119‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫حصل من أموال ومهما كان عنده من‬ ‫يعيش الفاجر وال سيما الكافر ضيق الصدر‪ ،‬فمهما ِّ‬
‫ضيق‪ ،‬ولذلك تجد الكفار يدمنون على الخمور واملخدرات‪،‬‬ ‫حضار ٍِة زائفة فإن صدره ِّ‬
‫ِّ‬
‫ويدمنون على العمل حتى ينس ِوا ضيق صدورهم‪ ،‬وهيهات أن يكون‪ ،‬وعند املوت ُيبشر بما‬
‫يسوءه‪ ،‬والكافر عند املوت تضرب املالئكة وجهه‪ ،‬وتضرب مؤخرته‪ُ ،‬يضرب قبل خروج‬
‫ِّ‬
‫روحه‪ُ ،‬ويبشر بما يسوءه‪ :‬أيتها النفس الخبيثة‪ ،‬كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة‬
‫وغساق وآخر من شكله أزواج‪ ،‬أخرجي إلى سخط من هللا وغضب‪ ،‬وإذا‬ ‫وأبشري بحميم ِّ‬
‫َ َ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬
‫أدخل في قبره ك ِذب في قبره أن كذ َب فألبسوه من النار‪ ،‬وأفرشوه من النار‪ ،‬وافتحوا له بابا‬
‫ضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضالعه‪ ،‬حتى‬ ‫حرها وسمومها‪ُ ،‬وي ِّ‬ ‫ِّ‬
‫إلى النار‪ ،‬فيأتيه من ِ‬
‫شدة ضيق قبره‪ ،‬ومع كونه في هذا الضيق الشديد والعذاب اْلليم‬ ‫تتداخل أضالعه من ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فإنه ُينادي ر ِ ِّب ِال ت ِقم الساعة‪ ،‬ر ِ ِّب ِال ت ِقم الساعة‪ِ .‬‬
‫نسيت أن أذكر أنه إذا ُحمل على اْلكتاف يقولِ‪ :‬يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين‬
‫تذهبون بها؟ يسمع صوته كل ش يء إال اإلنسان‪ ،‬ولو سمعه اإلنسان ُ‬
‫لص ِعق‪ِ .‬‬
‫ثم إذا ُبعث يوم القيامة كان له الفزع الشديد والخزي الكبير‪ ،‬ثم يكون مصيره إلى النار‬
‫والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫َ َْ َ‬
‫صل ْون َها﴾ ُويعذبون بها أشد العذاب‪.‬‬ ‫﴿ي‬
‫َ َْ َ‬
‫صل ْون َها﴾ معناها‪ :‬يصيبهم لهبها وحرها من جميع الجوانب‪ِ .‬‬ ‫﴿ي‬
‫َْ َ‬ ‫ُ‬
‫الد ِين﴾؛ أي‪ :‬يوم الجزاء على اْلعمال‪.‬‬ ‫ويعذبون بها أشد العذاب‪﴿ ،‬يوم ِ‬
‫َ َ‬
‫﴿و َما ُه ْم َع ْن َها ِبغا ِئ ِبين﴾ أي‪ :‬بل هم مَّلزمون لها ال يخرجون منها‪.‬‬ ‫َ‬

‫وهذا في حق الكفار‪ ،‬فال ُيفقدون من النار أبدا‪ ،‬بل هم مالزمون لها‪ِ .‬‬
‫الد ِين﴾ في هذا تهويل لذلك اليوم‬ ‫م‬ ‫اك َما َي ْو ُم الدين ﴿‪ُ ﴾17‬ث َّم َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َما َي ْو ُ‬ ‫﴿ َو َما َأ ْد َ َ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ‬ ‫ر‬
‫الشديد الذي ُيحي ُر اْلذهان‪.‬‬
‫والخطاب هنا للنبي صلى هللا عليه وسلم وللناس من بعده‪ ،‬وقيل‪ :‬لجنس اإلنسان‪ ،‬وفي‬
‫هذا كما قلنا تعظيم لشأن ذلك اليوم العظيم‪ِ .‬‬

‫‪120‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ َْ ُ َْ ٌ َْ‬


‫س ش ْي ًئا ۖ َواْل ْم ُر َي ْو َم ِئ ٍذ ِلل ِه﴾ ولو كانت قريبة أو حبيبة وصافية‪،‬‬
‫﴿يوم ال تم ِلك نفس ِلن ٍ‬
‫ف‬
‫فكل ُمنش ِغ ٌل بنفسه ال يطلب الفكاك لغيرها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ َْ ُ َْ ٌ َْ‬
‫س ش ْي ًئا﴾ يعني‪ :‬يوم ال تغني نفس عن نفس‬ ‫قال اْلفسرون‪﴿ :‬يوم ال تم ِلك نفس ِلن ٍ‬
‫ف‬
‫فت ُع ُم ِّ‬
‫كل ش ٍيء ولو كان صغيرا‪ ،‬إال ما أذن هللا به من‬ ‫شيئا‪ ،‬وشيئا هنا نكرة في سياق النفي َ‬
‫الشفاعة‪ ،‬والشفاعة يا إخوة كلها ِّلله‪ ،‬ولذلك لن ينال ٌ‬
‫أحد الشفاعة إال بإرضاء هللا‪،‬‬
‫ً‬
‫ضالال بعيدا من يطلب الشفاعة من غير هللا‪ ،‬أو يظن أنه ُ‬
‫سيحصل الشفاعة‬ ‫ويضل‬
‫بالشرك باهلل‪ ،‬وهللا ال يكون‪ ،‬وإنما الشفاعة هلل سبحانه وتعالى هو الذي يأذن ملن شاء أن‬
‫شافع إال ملن ارتض ى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهللا ال َ‬
‫يرض ى لعباده‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫يشفع‬ ‫يشفع إكراما له‪ ،‬وال‬
‫الكفر‪ ،‬فالذي يذهب إلى القبر ويتقرب إلى صاحب القبر يرجو شفاعته‪ ،‬وأن يكون وسيلة‬
‫ِّ‬
‫بينه وبين هللا‪ ،‬وهللا إنما يقطع الصلة بينه وبين الله‪ ،‬ولن يكون له هذا املقبورِ شفيعا بهذا‬
‫الطريق‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َّ‬
‫اْلظلوم حقه من ظاْله وهللا‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫ويأخذ‬ ‫العباد‬ ‫بين‬ ‫يفصل‬ ‫الذي‬ ‫فهو‬ ‫﴾‬ ‫ه‬
‫﴿واْلمر يوم ِئ ٍذ ِل ِ‬
‫ل‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وبهذا نكون أتممنا تفسير هذه السورة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪121‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة اْلطففين‬
‫الر ْح َمن َّ‬ ‫َّ‬
‫الر ِح ِيم‬ ‫ِ‬
‫الل ِه َّ‬ ‫ِب ْس ِم‬
‫َ َ َ ُ ُ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ‬ ‫َْ ٌ ْ ُ َ َ‬
‫وه ْم أو‬ ‫اس َي ْست ْوفون ﴿‪ ﴾2‬و ِإذا كال‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫وا‬ ‫ال‬‫ت‬ ‫اك‬ ‫ا‬‫ذ‬‫إ‬ ‫ين‬
‫ِ ِ‬ ‫ذ‬ ‫ال‬ ‫﴾‬ ‫‪1‬‬ ‫﴿‬ ‫ين‬‫﴿ويل ِللمط ِف ِف‬
‫وثو َن ﴿‪ ﴾4‬ل َي ْوم َعظيم ﴿‪َ ﴾5‬ي ْو َم َي ُق ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُّ ُ َٰ َ َ َّ ُ َّ ْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ ُ ْ‬
‫وم‬ ‫ِ ٍ ِ ٍ‬ ‫وه ْم ُيخ ِس ُرون ﴿‪ ﴾3‬أال يظن أول ِئك أنهم مبع‬ ‫وزن‬
‫َّ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫اْلين ﴿‪ِ .﴾﴾6‬‬ ‫الناس ِلر ِب الع ِ‬
‫هذه السورة اختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية؟ أو أن بعض آياتها مكي وبعض آياتها‬
‫مدني؟ واْلقرب وهللا أعلم أنها نزلت في املدينة‪ ،‬وهي أول ما نزل في املدينة‪ ،‬فقد جاء عن‬
‫ابن عباس رض ي هللا عنهما أنه قال‪ :‬ملا قدم النبي صلى هللا عليه وسلم املدينة كانوا من‬
‫ْ َ َ‬
‫أخبث الناس كيال‪ ،‬فأنزل هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬و ْي ٌل ِلل ُمط ِف ِفين﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك‪ ،‬رواه‬
‫ابن ماجه والنسائي في الكبرى وحسنه اْللباني‪ِ .‬‬
‫فهذا ثابت عن ابن عباس رض ي هللا عنهما‪ ،‬وهو خبر ال يحتمل االجتهاد‪ ،‬فيكون دليال‬
‫واضحا ِِّبينا على أن هذه السورة نزلت عند أول قدوم النبي صلى هللا عليه وسلم إلى‬
‫املدينة‪ِ .‬‬
‫وفيها يخبر هللا عز وجل أن العذاب الشديد في جهنم للذين ُينقصون الناس حقهم‬
‫ويستوفون من الناس الذي لهم‪ ،‬فهم ظلمة ال عدل عندهم‪ ،‬ويدخل في ذلك كل من‬
‫يستوفي حقه كامال وقد يتجاوز ويزيد‪ ،‬وال يعطي الناس حقهم أصال أو يعطيهم حقهم‬
‫ناقصا‪ِ .‬‬
‫ومن ذلك ما يكون بين الزوج والزوجة فبعض اْلزواج ‪-‬هدانا هللا وإياهم‪ -‬يستوفي حقه‬
‫كامال ويطالب بحقه كامال‪ ،‬وال يعطي الزوجة حقها وهذا مطفف‪ ،‬وكذلك يدخل في هذا‬
‫الذي إذا ألحقت به التهمة تعنت في رد اْلمور الواضحات‪ ،‬وإذا ألحقت التهمة بغيره تكلف‬
‫في إثبات التهمة على غيره فهو مطفف‪ِ .‬‬
‫فهذا أصل عام في كل من يستوفي حقه كامال وال يعطي الناس حقهم‪ِ .‬‬
‫وكذلك يدخل فيها عند أهل العلم من ينقص من اْلعمال الواجبة عليه‪ :‬كالصالة والزكاة‪،‬‬
‫فهذا مطفف‪ِ .‬‬

‫‪122‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ويقابل املطفف املتفضل وهو الذي يتجاوز عن حقه أو بعضه ويزيد في حق الناس‪ ،‬هذا‬
‫أعلى الدرجات‪ ،‬متفضل إذا كان يستوفي حقه يتنازل عن بعضه‪ ،‬وإذا كان يعطي الحق‬
‫فإنه يزيد ويتفضل في غير ممنوع شرعا‪ ،‬ودونه العادل وهو الذي يستوفي حقه ويوفي حق‬
‫غيره‪ِ .‬‬
‫فالناس في هذا ثَّلثة مراتب‪:‬‬
‫‪ .1‬اْلرتبة اْلولى واْلعلى‪ :‬مرتبة التفضل بأن ُينقص من حقه عند االستيفاء‪ ،‬وأن يزيد‬
‫عند التوفية في غير محظور شرعي‪.‬‬
‫‪ .2‬واْلرتبة الفاضلة التي دون اْلولى‪ :‬مرتبة العدل‪ ،‬فيستوفي حقه كامال‪ ،‬ويوفي غيره‬
‫حقه كامال‪.‬‬
‫‪ .3‬واْلرتبة الثالثة‪ :‬مرتبة التطفيف‪ ،‬وهذا هو املتوعد والعياذ باهلل بالعذاب الشديد‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫َّ‬
‫املتوعدون بويل هم الذين يستوفون حقهم كامال‪ ،‬وإذا كالوا للناس أو وزنوهم‬ ‫فاملطففون‬
‫ينقصون الحق‪ِ .‬‬
‫أال يتعقد أولئك الظلمة الذين يظلمون في الدنيا أنهم مبعوثون من قبورهم‪ ،‬فمجازون على‬
‫ُ‬ ‫أعمالهم ﴿ َو َقد َ‬
‫خاب َمن َح َم َل ظ ًلما﴾‪ ،‬أال يتعقد أولئك الظلمة بالبعث فيخافون الجزاء‪،‬‬
‫فينزجرون عن ظلمهم‪ ،‬فإنهم وال شك مبعوثون ليوم عظيم‪ ،‬شأنه عظيم‪ ،‬وهوله شديد‪،‬‬
‫في ذلك اليوم يقوم الناس لربهم‪ ،‬فيقومون في قبورهم حفاة عراة غرال‪ ،‬ويقومون من‬
‫قبورهم حفاة عراة غرال‪ ،‬ويحشرون حفاة عراة غرال‪ ،‬فيقومون لربهم خاضعين‪ ،‬في ذلك‬
‫املوقف العظيم قد شخصت أبصارهم‪ ،‬وارتفعت رؤوسهم‪ ،‬وتدنو الشمس من رؤوسهم‪،‬‬
‫فيعرق الناس على ِ‬
‫قدر أعمالهم‪ِ :‬‬
‫فمنهم من يبلغ العرق إلى عقبيه‪ ،‬ومنهم من يبلغ إلى نصف ساقيه‪ ،‬ومنهم من يبلغ إلى‬
‫ركبتيه‪ ،‬ومنهم من يبلغ إلى خاصرته‪ ،‬ومنهم من يبلغ إلى عنقه‪ ،‬ومنهم من يغيب في عرقه إلى‬
‫أنصاف أذنيه‪ ،‬ومنهم من يغطيه عرقه تغطية كاملة‪ ،‬ويذهب عرقهم في اْلرض سبعين‬
‫ذراعا‪ ،‬إنه قيام عظيم‪ ،‬فيبلغ الناس من الغم والكرب ما ال يطيقون وما ال يحتملونِ‪ِ .‬‬

‫‪123‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وفي هذا تحذير أكيد من الظلم وعاقبته ووعيد بالقصاص في ذلك اليوم ﴿ َي ْو َم َي ُق ُ‬
‫وم‬
‫َّ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾‪ِ .‬‬
‫الناس ِلر ِب الع ِ‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذا املقطع ونعود إلى التفسير التفصيلي ونقرأ‬
‫ما ذكره الشيخ‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫﴿و ْي ٌل﴾ كلمة عذاب وعقاب‪.‬‬
‫والسامعين في تفسيره‪َ :‬‬

‫قال جمع من اْلفسرين‪ :‬هي كلمة عذاب وعقاب‪ِ .‬‬


‫وقريب من هذا قول بعضهم‪ :‬هي وعيد بالعذاب والعقاب‪ ،‬وقيل‪َ ﴿ :‬و ْي ٌل﴾ ٌ‬
‫دعاء بالشدة‬
‫والهلكة‪ِ .‬‬
‫َْ‬
‫وقيل‪﴿ :‬وي ٌل﴾ ٍ‬
‫واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار‪ِ .‬‬
‫وقيل‪َ ﴿ :‬و ْي ٌل﴾ هي النار‪ ،‬فويل ٌ‬
‫اسم من أسماء النار كجهنم والجحيم‪ِ .‬‬
‫والذي عليه اْلكثر‪ ،‬أنها كلمة عذاب وعقاب ووعيد‪ِ .‬‬
‫ِّ ْ َ‬
‫﴿لل ُمط ِِّف ِف َين﴾‪ِ .‬‬‫ِ‬
‫ْ َ َ‬
‫﴿ ِلل ُمط ِف ِفين﴾ قيل‪ :‬إنها من الش يء الطفيف‪ ،‬والش يء الطفيف هو القليل‪ ،‬وذلك أن‬
‫املطفف في املكيال وامليزان في الغالب ال يأخذ إال شيئا قليال؛ ْلنه ال يستطيع أن يطفف‬
‫َ‬
‫الش يء الكثير؛ ْلنه ُيكشف‪ ،‬فخاب وخسر حيث يأخذ القليل فيكون من أهل هذا الوعيد‬
‫الشديد‪ِ .‬‬
‫فاْلطفف إذن‪ :‬هو املقلل حق صاحب الحق‪ ،‬وقيل‪ :‬مأخوذ من طف الش يء‪ ،‬وطف الش يء‬
‫هو جانبه‪ ،‬فاملطفف هو الذي ال يجعل املكيال تمتلئ جوانبه‪ ،‬واملعنى من حيث املقصود‬
‫متقارب‪ ،‬فهو الذي ُينقص في الكيل والوزن‪ِ .‬‬
‫َ ُ َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ‬ ‫ُْ َ َ‬
‫اس َي ْست ْوفون﴾ أي‪:‬‬
‫﴿للمط ِف ِفين﴾‪ ،‬وفسر هللا اْلطففين بأنهم ﴿ال ِذين ِإذا اكتالوا على الن ِ‬ ‫ِ‬
‫أخذوا منهم و ً‬
‫فاء لهم عما قبلهم‪.‬‬
‫َْ‬ ‫ْ َ ُ َ َ َّ‬
‫استوف ْوا حقهم فأخذوه‪ِ .‬‬ ‫اس﴾ يعني‪:‬‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫﴿اكتالوا على‬
‫وه ْم﴾‪.‬‬‫وه ْم َأو َّو َز ُن ُ‬
‫﴿وإ َذا َك ُال ُ‬
‫َ‬
‫يستوفونه كامَّل من غير نقص ِ‬
‫‪124‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿ك ُال ُ‬
‫وه ْم‬
‫َ‬ ‫وه ْم َأو َّو َز ُن ُ‬
‫وه ْم﴾ يعني‪ :‬إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم‪ ،‬فهذه كلمة واحدة‬ ‫﴿وإ َذا َك ُال ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫وه ْم﴾ فال يوقف على ﴿أو وزنوا﴾‪ِ .‬‬ ‫َأو َّو َز ُن ُ‬

‫ال تقرأ مثال‪﴿ :‬وإذا كالوهم أو وزنوا﴾‪﴿ ،‬هم يخسرون﴾‪ ،‬وهذا الذي عليه اْلكثر وهو‬
‫الصواب‪ ،‬وبعضهم أجاز أن تقف هكذا فتقرأ‪﴿ :‬وإذا كالوهم أو وزنوا﴾ وقف ﴿هم‬
‫يخسرون﴾‪ ،‬ولكن الذي عليه اْلكثر هو الصواب‪ِ .‬‬
‫وه ْم َأو َّو َز ُن ُ‬
‫وه ْم﴾‪ :‬كالوا لهم أو وزنوا لهم وهي لغة حجازية‪ِ .‬‬ ‫﴿ك ُال ُ‬
‫َ‬
‫ومعنى‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫﴿يخ ِس ُرون﴾ أي‪ :‬ينقصونهم‬ ‫أي‪ :‬إذا أعطوا الناس حقهم الذي لهم عليهم بكيل أو وزن‪،‬‬
‫ذلك إما بمكيال أو ميزان ناقصين‪ِ .‬‬
‫إما بمكيال وميزان ناقصين‪ ،‬فالنقص في نفس املكيال‪ ،‬يقو ِل‪ :‬هذا صاع وهو ليس بصاع‪،‬‬
‫مقطوع‪ ،‬يقولِ‪ :‬هذا كيلو ِوهو ليس بكيلو‪ِ .‬‬
‫بعضهم مثال‪ :‬عندما كان امليزان فيه كفتين فيضع الكيلو في كفة ويضع شيئا آخر في الكفة‬
‫الثانية تنقص الكيلو‪ ،‬فهذا املقصود بقول الشيخ‪ :‬إما بمكيال أو ميزان ناقصين‪ ،‬فيكون‬
‫النقص في املكيال وامليزان‪ِ .‬‬
‫أو بعدم ملئ اْلكيال واْليزان‬
‫فيكون النقص في الكيل أو الوزن‪ ،‬وكالهما يدخل في هذا‪ِ .‬‬
‫أو بغير ذلك‪ ،‬فهذا سرقة ْلموال الناس وعدم إنصاف لهم منهم‪ ،‬وإذا كان هذا وعيدا‬
‫على الذين يبخسون الناس في اْلكيال واْليزان‪.‬‬
‫وهو في باب املعاوضة يعطي ويأخذ ولكنه يظلم‪ِ .‬‬
‫فالذي يأخذ أموالهم قهرا وسرقة أولى بهذا الوعيد من اْلطففين‪.‬‬
‫وهو الذي يأخذ وال يعطي‪ ،‬وهذا ليس خاصا باْلموال يا إخوة كما قلنا هذا عام في كل ش يء‬
‫كما ذكرنا في التفسير اإلجمالي‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ودلت اآلية الكريمة على أن اإلنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب‬
‫عليه أن يعطيهم كلما لهم من اْلموال واْلعامَّلت‪ ،‬بل يدخل في عموم هذا الحجج‬
‫واْلقاالت‪ ،‬فإنه كما أن اْلتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له‬

‫‪125‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫من الحجج‪ ،‬فيجب عليه أيضا أن يبين ما لخصمه من الحجة التي ال يعلمها‪ ،‬وأن ينظر‬
‫في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو‪ِ .‬‬
‫هللا أكبر! هللا أكبر! يعني هذا حتى في مقام املناظرة يجب العدل وعدم التطفيف‪ ،‬فكما أن‬
‫اإلنسان يعرض أدلته ويقويها ويبين وجه داللتها‪ ،‬فإنه يجب أن ينصف خصمه في أدلته‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بل إذا كان له دليل لم يذكره فإنه يذكره به‪ ،‬وهذا فضل في الخصومة‪ِ .‬‬
‫وأيضا أن يحب أن ُينظر في أدلة خصمه كما يحب أن ُينظر في أدلته‪ ،‬وأن يحب أن ُينظر‬
‫في أدلة قضيته كما يحب أن ُينظر في أدلة غيره‪ ،‬وهذا موجود في صنيع علماء أهل السنة‬
‫عبر العصور‪ ،‬وإذا قرأت كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا تجد أنه يعرض حجج‬
‫خصومه بأقوى مما يعرضها الخصوم‪ ،‬وقد يذكر لهم من الحجج ما لم يذكروه‪ ،‬وهذه‬
‫طريقة أهل اإلنصاف والعدل والعلم الذين سلمت قلوبهم وأحبوا الحق لهم أو لغيرهم‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وفي هذا اْلوضع يعرف إنصاف اإلنسان من تعصبه واعتسافه وتواضعه‬
‫من كبره وعقله من سفهه‪.‬‬
‫صدق ورب الكعبة‪ ،‬وإنما تظهر اْلخالق في املضايق‪ ،‬أما في السعة فالكل في الغالب يكون‬
‫على خلق‪ ،‬لكن إذا جاءت املضايق كالخصومات ونحو ذلك ظهرت اْلخالق‪ ،‬وبدا اإلنصاف‪،‬‬
‫وبدا من يحب الحق ممن يقدم نفسه على الحق نعوذ باهلل من سوء الحال‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫ثم توعد هللا تعالى اْلطففين‪ ،‬وتعجب من حالهم إقامتهم على ما هم عليه فقال‪﴿ :‬أال‬
‫َ ْ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ ُ ُّ ُ َٰ َ َ َّ ُ َّ ْ ُ ُ‬
‫وثو َن ﴿‪ ﴾4‬ل َي ْوم َ‬
‫اْلين ﴿‪.﴾﴾6‬‬‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ب‬‫ر‬
‫ِ ِ‬‫ل‬ ‫اس‬ ‫الن‬ ‫وم‬‫ق‬ ‫ي‬ ‫م‬‫و‬‫ي‬ ‫﴾‬ ‫‪5‬‬ ‫﴿‬ ‫يم‬ ‫ظ‬ ‫ع‬
‫ِ ٍ ِ ٍ‬ ‫يظن أول ِئك أنهم مبع‬
‫َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ‬
‫اس﴾ (على) هنا ما‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫فاتني أن أقول في قول هللا عزوجل‪﴿ :‬ال ِذين ِإذا اكتالوا على‬
‫معناها؟ ِ‬
‫بعض اْلفسرين قال‪ :‬معناها ( ِمن)‪ ،‬يعني‪ :‬الذين إذا اكتالوا من الناس‪ِ .‬‬
‫وبعض اْلفسرين قال‪ :‬معناها (عند) يعني‪ :‬إذا اكتالوا عند الناس‪ ،‬واملعنى واحد‪ِ .‬‬
‫ُّ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫﴿أال يظن﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ :‬أال يعتقد ويعلم أولئك‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ :‬أال يخاف أولئك‪ِ .‬‬

‫‪126‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ :‬أال يخطر في قلوب أولئك أ َّن ُهم َّم ْب ُعوثون فيزجرهم ذلك عن‬
‫الظلم‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم اآلخر‪ ،‬وإال فلو آمنوا‬
‫به وعرفوا أنهم سيقومون بين يدي هللا فيحاسبهم على القليل والكثير ْلقلعوا عن ذلك‬
‫وتابوا منه‪.‬‬
‫﴿ل َي ْو ٍم َع ِظ ٍيم﴾ قال العلماء‪ :‬يوم كله عظمة‪ ،‬فهو عظيم في ذاته‪ ،‬عظيم فيما يقع فيه‪،‬‬
‫ِ‬
‫عظيم في أهواله‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يوم يقوم الناس في قبورهم‪ِ .‬‬‫﴿يوم يقوم الناس ِلر ِب الع ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يوم يخرج الناس من قبورهم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يوم يقوم الناس في عرصات القيامة‪ِ .‬‬
‫والكل مراد‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫ابتداء من قيامهم في قبورِهم‪ ،‬ثم قيامهم من قبورهم‪ ،‬ثم‬ ‫فالناس يقومون لرب العاملين‬
‫قيامهم في العرصات‪ِ .‬‬
‫أما القول بأن القيام فقط الذي في القبور فبعيد‪ ،‬والقول بأن القيام هو القيام من‬
‫القبور فقط فبعيد‪ْ ،‬لن اآلية واضحة أنها في القيام يوم القيامة‪ ،‬لكن أن يكون ذلك كله‬
‫حاصال ومقصودا فنعم‪ ،‬فهم يقومون في قبورهم‪ ،‬ثم يق ِومون من قبورهم‪ ،‬ثم يقومون في‬
‫عرصات يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾ أي‪ :‬خاضعين لرب العاملين فال يتكلمون إال بإذنه‪ ،‬وال يعصون أمره‪ ،‬وال‬ ‫﴿ ِلر ِب الع ِ‬
‫َ ْ َ َ َ‬
‫اْلين﴾‪ِ .‬‬ ‫ينتظرون إال جزاءه‪ ،‬هذا معنى ﴿ ِلر ِب الع ِ‬
‫وم ﴿‪﴾9‬‬ ‫اب َّم ْر ُق ٌ‬
‫اك َما سج ٌين ﴿‪ ﴾8‬ك َت ٌ‬ ‫اب ْال ُف َّجار َلفي سجين ﴿‪َ ﴾7‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫﴿ك ََّّل إ َّن ك َت َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ ِ ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ‬ ‫َْ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫الد ِين ﴿‪َ ﴾11‬و َما ُيك ِذ ُب ِب ِه ِإال ك ُّل ُم ْعت ٍد‬
‫وي ٌل يوم ِئ ٍذ ِللمك ِذ ِبين ﴿‪ ﴾10‬ال ِذين يك ِذبون ِبيو ِم ِ‬
‫ان َع َل ٰى ُق ُلوبهم ماَّ‬‫َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫َ ُ ْ َ ٰ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫اطير اْلو ِلين ﴿‪ ﴾13‬كَّل ۖ بل ۜ ر‬ ‫أ ِث ٍيم ﴿‪ِ ﴾12‬إذا تتلى علي ِه آياتنا قال أس ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ‬
‫كانوا َيك ِس ُبون ﴿‪.﴾﴾14‬‬

‫‪127‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يزجر هللا عز وجل املكذبين بالبعث والعاملين بالظلم كأنه ال بعث‪ ،‬يزجرهم عما يقولون‬
‫ويفعلون من الظلم‪ ،‬ويقرر أن البعث كائن والجزاء حاصل والعمل محص ى‪ِ .‬‬
‫فكتاب الفجار الذين مالوا عن التوحيد فكانوا مشركين مكذبين بالبعث‪ ،‬والذين فسقوا‬
‫عن طاعة رب العاملين فكانوا من العاصين املجرمين إن كتابهم لفي اْلرض السابعة‬
‫السفلى‪ ،‬فأعمالهم كانت سافلة في الدنيا فكان كتابهم سافال بعد موتهم‪ ،‬وذلك أن الكافر‬
‫ُ‬
‫إذا قبضت روحه ثم ُعرج به إلى السماء الدنيا ال ُيفتح له‪ ،‬ويقول هللا عز وجل‪ :‬اكتبوا‬
‫كتابه في سجين في اْلرض السفلى‪ ،‬كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬
‫ويوجه هللا الخطاب ملحمد صلى هللا عليه وسلم ﴿وما أدراك ما ِس ِجين﴾؛ أي‪ :‬وأي ش يء‬
‫أدراك يا محمد ذلك الكتاب؟ وهذا على وجه التعظيم لسفل ذلك الكتاب‪ ،‬وإال فمحمد‬
‫عليه صلى هللا عليه وسلم عربي‪ ،‬وسجين كلمة عربية فلما سمعها فهمها صلى هللا عليه‬
‫اك َما ِس ِج ٌين﴾ من باب التعظيم لسفل وضيق‬ ‫وسلم‪ ،‬ولكن قول هللا عزوجل‪َ ﴿ :‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬
‫ذلك الكتاب‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬
‫وإذا قيل في القرآن‪﴿ :‬وما أدراك﴾ فهذا إعالم أن البيان يتلو ذلك دائما‪ ،‬إذا قرأت في‬
‫اك﴾ فاقرأ ما بعده فإنه بيان ﴿إ َّنا َأ َنزْل َن ُاه في َل ْي َلة ْال َق ْدر ﴿‪َ ِ ﴾1‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك‬ ‫القرآن ﴿ َو َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫َ َُ‬ ‫َ َُ َْ‬
‫َما ل ْيلة الق ْد ِر ﴿‪[ ﴾﴾2‬القدر‪ ]2-1 :‬إذا أردت أن تعرف ليلة القدر فاقرأ ما بعدها ﴿ل ْيلة‬
‫ْ َ ْ ٌَْ ْ َْ َ‬
‫ف ش ْه ٍر﴾ [القدر‪ ]3 :‬إلى آخر السورة وهكذا‪ ،‬إذا قرأت في القرآن ﴿ َو َما‬ ‫القد ِر خير ِمن أل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أدراك﴾ فاقرأ ما بعدها فإنه بيان‪ِ .‬‬
‫إعالم بأن البيان يتلو ذلك‪ِ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫اك﴾‬ ‫إذن؛ ﴿ َو َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬
‫اك َما ِس ِج ٌين﴾ إنه كتاب مكتوب بعدل‪ ،‬ال ينقص منه وال يزاد فيه‪ِ .‬‬ ‫﴿ َو َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬
‫ثم يتوعد هللا عز وجل املكذبين بالبعث ويوم القيامة وما فيه من الجزاء بالعذاب الشديد‪ِ .‬‬
‫ويبين ربنا سبحانه وتعالى أنه ما يكذب بيوم الدين ‪-‬بيوم الجزاء والحساب‪ -‬إال كل معتد‬
‫ً‬
‫اعتداء ممن كذب كالم هللا‪ ،‬وهو‬ ‫على هللا عز وجل في قوله فهو مكذب لقول هللا‪ ،‬وال أعظم‬
‫معتد أيضا على حق الخلق كاملطففين‪ ،‬فاملكذب بيوم الدين معتد دائما‪ِ .‬‬

‫‪128‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وال تنتظر من كافر عدال وإنصافا وإنما يكون عدله وإنصافه بحسب مصلحته الدنيوية فما‬
‫يكذب بيوم الدين إال كل معتد شديد االعتداء حيث يعتدي على هللا بتكذيب كالمه‪،‬‬
‫ويعتدي على خلق هللا بتضييع حقوقهم‪ِ .‬‬
‫أثيم‪ :‬صاحب إثم كثير بمعاصيه‪ ،‬إذا تتلى عليه اآليات من القرآن ال ينتفع بها وال يسلم‬
‫لها‪ ،‬وإنما يقو ِل‪ :‬إنها حواديث اْلولين‪ ،‬وأخبار املاضين التي ال حقيقة لها‪ ،‬وإنما هي أباطيل‬
‫وأكاذيب‪ ،‬وإنما سطرت في الكتب وال حقيقة لها‪ِ .‬‬
‫وليس اْلمر كما يقولون ويفترون‪ ،‬ولكن غلب على قلوبهم وغطاها ما كانوا يعملون من‬
‫الذنوب‪ ،‬حتى أصبحت ال تقبل حقا وال ترد باطال‪ ،‬فأظلمت قلوبهم بسواد ذنوبهم‪،‬‬
‫فأصبحت ال ترى النور وال تقبل النو ِر‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫القرآن لو أنزل على جبل لتصدع‪ ،‬وفيه الحق املبين ولكن هؤالء ال ينتفعون بالقرآن‪ ،‬وإذا‬
‫سمعوه قالوا‪ :‬أساطير اْلولين‪ ،‬وهم يعلمونِ أنه ليس كذلك‪ ،‬لكن غطت ذنوبهم قلوبهم‬
‫حتى أظلمت فأصبحت ال ترى نورا وال تقبل نورا‪ِ .‬‬
‫وفي هذا بيان أن من سوء الذنوب أنها تغطي القلوب‪ ،‬حتى يصبح القلب ال يقبل الحق‪،‬‬
‫ولذلك من أعظم أسباب رد الحق‪ :‬الذنوب‪ ،‬فإن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة‬
‫سوداء‪ ،‬فإن تاب منها ونزع ُ‬
‫ص ِقل منها‪ ،‬وإن زاد زادت حتى ترين على قلبه‪ ،‬ولذلك إذا‬
‫وجدت الرجل ال يسلم للحق وال يقبل الحق فاعلم أنه صاحب ذنوب‪ ،‬أظلم قلبه بها‬
‫والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫ثم نعود إلى التفسير التفصيلي ونقرأ ما ذكره الشيخ‪ِ .‬‬
‫َ َّ َّ َ َ ْ ُ‬
‫اب الف َّج ِار﴾‪.‬‬ ‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول تعالى ﴿كَّل ِإن ِكت‬
‫(كَّل) كما تقدم مرارا قال بعض اْلفسرين‪ :‬هي كلمة ردع وزجر عن الباطل ويتلوها تقرير‬
‫للحق‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬هي نافية ومعناها‪ :‬ليس اْلمر كذا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ :‬حقا‪ ،‬فالذي بعدها حق ويقين ِ‬

‫‪129‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َّ َّ َ َ ْ ُ‬
‫اب الف َّج ِار﴾‪.‬‬‫﴿كَّل ِإن ِكت‬
‫﴿كتاب الفجار﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬هو الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو الكتاب الذي كتبت فيه أسماؤهم‪ ،‬فأسماء أهل النار مكتوبة‬
‫ُ‬
‫في كتاب‪ ،‬ومن كتب اسمه في ذلك الكتاب فإن مصيره إلى النار‪ِ .‬‬
‫َ َ ُْ‬
‫اب الف َّجار﴾ قال بعض أهل العلم بعض اْلفسرين‪ :‬هو كتاب أعمالهم الذي‬ ‫﴿كت‬
‫إذن ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كتبت فيه أعمالهم‪ ،‬وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو الكتاب الذي كتبت فيه أسماؤهم‪ ،‬ذلك‬
‫الكتاب الذي من كان اسمه فيه كان من أهل النار‪ِ .‬‬
‫َ َّ َّ َ َ ْ ُ‬
‫اب الف َّج ِار﴾ وهذا شامل لكل فاجر من أنواع الكفرة واْلنافقين والفاسقين‪ِ .‬‬ ‫﴿كَّل ِإن ِكت‬
‫على أن (ال) للجنس‪ ،‬فهو يشمل كل فاجر‪ِ .‬‬
‫والفاجر‪ :‬إما املائل عن التوحيد للشرك وهو الكافر‪ ،‬وإما الفاسق الذي خرج عن الطاعة‬
‫إلى املعصية‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬ال) هنا للعهد الذين ُيتحدث عنهم وهم املنكرون للبعث الكفار‬
‫املنكرون للبعث‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ل ِفي ِس ِج ٍين﴾‪.‬‬
‫﴿لفي سجين﴾ سجين ِّ‬ ‫َ‬
‫فعيل من السجن؛ أي‪ :‬في مكان ضيق‪ ،‬وهي اْلرض السابعة كما‬‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬
‫ثبت ذلك في الحديث الصحيح‪ ،‬فهذا املكان جمع بين غاية السفل وغاية الضيق‪ ،‬فهو‬
‫ضيق كما يدل على ذلك كلمة سجين‪ ،‬وهو في أسفل سافلين في اْلرض السابعة‪ِ .‬‬
‫﴿س ِج ٍين﴾ هي جهنم‪ ،‬فكتابهم في سجين‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ :‬‬
‫﴿س ِج ٍين﴾ بئر في جهنم مكشوف‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ :‬‬
‫﴿س ِج ٍين﴾ هو مكان‪ ،‬واْلول منها هو اْلولى؛ ْلنه جاء في الحديث‬
‫وعلى هذه اْلقوال ِ‬
‫الصحيح‪ :‬يعني في اْلرض السابعة‪ ،‬وكلمة سجين تدل على ضيقه‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ل ِفي ِس ِج ٍين﴾ لفي خسارة وضالل‪ ،‬فكتابهم ما فيه إال‬
‫الخسارة والضالل؛ ْلنهم كفار والكافر مالو حسنة في اآلخرة‪ ،‬فهذا وصف ْلعمالهم على هذا‬
‫القول‪ِ ﴿ ،‬س ِج ٍين﴾ وصف ْلعمالهم على هذا القولِ‪ِ .‬‬

‫‪130‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿س ِج ٍين﴾ هو اسم الكتاب الذي كتبت فيه أسماء أهل النار‪،‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ :‬‬
‫اسمه سجين‪ِ .‬‬
‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َما ِس ِج ٌين﴾‪.‬‬ ‫﴿لفي سجين﴾ ثم فسر ذلك بقوله‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬
‫﴿وما أدراك﴾ يعني‪ :‬وأي ش يء أدراك يا محمد؟ من باب تعظيم سفل هذا الكتاب وضيقه‪ِ .‬‬
‫اب َّم ْر ُق ٌ‬
‫وم﴾‪.‬‬ ‫﴿ك َت ٌ‬
‫ِ‬
‫وم﴾ أي‪ :‬مكتوب كتابة عدل ثابتة حروفه‪ ،‬فال ينمحي منه ش يء وال يزاد فيه وال‬ ‫اب َّم ْر ُق ٌ‬ ‫﴿ك َت ٌ‬
‫ِ‬
‫ينقص‪ِ .‬‬
‫الكتاب اْلرقوم‪ :‬هو املكتوب كتابة ثابتة محفوظة‪ ،‬فهو ال تمحى حروفه‪ ،‬ومحفوظ ال يزاد‬
‫فيه وال ينقص منه‪ِ .‬‬
‫وم﴾ أي كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة‪ ،‬وسجين اْلحل الضيق الضنك‪،‬‬ ‫اب َّم ْر ُق ٌ‬
‫﴿ك َت ٌ‬
‫ِ‬
‫وسجين ضد عليين الذي هو محل كتاب اْلبرار كما سيأتي ‪،‬وقد قيل‪ :‬إن سجين هو‬
‫أسفل اْلرض السابعة مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم‪ِ .‬‬
‫حيث تكون النار‪ ،‬قالوا النار تكون في اْلرض السابعة هذا معنى كالم الشيخ‪ِ .‬‬
‫َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ‬ ‫َْ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫﴿وي ٌل يوم ِئ ٍذ ِللمك ِذ ِبين﴾‪ ،‬ثم بينهم بقوله‪﴿ :‬ال ِذين يك ِذبون ِبيو ِم ِ‬
‫الد ِين﴾ أي‪ :‬يوم الجزاء‪،‬‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫﴿و َما ُيك ِذ ُب ِب ِه ِإال ك ُّل ُم ْعت ٍد﴾ على محارم هللا‪.‬‬ ‫يوم يدين هللا الناس فيه بأعمالهم‬
‫كل معتد؛ أي‪ :‬شديد االعتداء‪ ،‬شديد االعتداء على هللا بالتكذيب وعلى محارم هللا وعلى‬
‫حقوق خلق هللا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫معتد على محارم هللا‪ ،‬متعد من الحَّلل إلى الحرام‪﴿ ،‬أ ِث ٍيم ﴾ أي‪ :‬كثير اإلثم‪.‬‬
‫أثيم فعيل؛ أي‪ :‬كثير اإلثم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معتد أي‪ :‬في أفعاله‪ ،‬فأفعاله فيها اعتداء‪ ،‬أثيم أي‪ :‬في أقواله فهو‬
‫كذاب أشر؛ فأفعاله فيها اعتداء‪ ،‬وأقواله فيها إثم أي كذب‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿أ ِث ٍيم﴾ أي‪ :‬كثير اإلثم‪ ،‬فهذا يحمله عدوانه على التكذيب‪ ،‬ويوجب له كبره رد الحق‪،‬‬
‫ولهذا إذا تتلى عليه آيات هللا الدالة على الحق وعلى صدق ما جاءت به الرسل كذبها‬
‫وعاندها وقال‪ :‬هذه أساطير اْلولين‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أساطير يعني‪ :‬ما ُيسطر في الكتب من اْلكاذيب واْلباطيل‪ ،‬اْلسطورة ليس الش يء العظيم‬
‫كما يظن بعض العامة‪ ،‬اْلسطورة‪ :‬ما ُيسطر في الكتب من اْلكاذيب واْلباطيل‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وقال‪ :‬هذه أساطير اْلولين أي‪ :‬من ت َّرهات اْلتقدمين وأخبار اْلمم الغابرين ليس من عند‬
‫كذب بيوم الدين؛‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫هللا تكبرا وعنادا‪ ،‬وأما من أنصف وكان مقصوده الحق اْلبين فإنه ال ي ِ‬
‫ْلن هللا قد أقام عليه من اْلدلة القاطعة والبراهين الساطعة ما يجعله حق اليقين‪،‬‬
‫وصار لبصائرهم بمنزلة الشمس لألبصار‪ ،‬بخَّلف من ران على قلبه كسبه وغطته‬
‫ٌ‬
‫محجوب عن الحق‪.‬‬ ‫معاصيه فإنه‬

‫ُ َّ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ َّ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫َ َّ َّ ُ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َ‬
‫ال َهذا‬‫صالو ال َج ِح ِيم ﴿‪ ﴾16‬ثم يق‬ ‫وبون ﴿‪ ﴾15‬ثم ِإنهم ل‬ ‫﴿كَّل ِإنهم عن رِب ِهم يوم ِئ ٍذ ْلحج‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫ال ِذي كنتم ِب ِه تك ِذ ُبون (‪.﴾)17‬‬
‫الحسنى‬‫يعني‪ :‬أنه ليس اْلمر كما يقول هؤالء الكفار أنهم لو ُبعثوا لكان لهم عند هللا ُ‬
‫َّ ُ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫وبون﴾ فهم‬ ‫والقربى‪ ،‬بل لهم الذلة والخزي عند بعثهم‪ ،‬بل ﴿ ِإنهم عن رِب ِهم يوم ِئ ٍذ ْلحج‬
‫محجوبون عن رؤية ربهم‪ ،‬وال ينظر إليهم ربهم نظرة رحمة‪ ،‬فيجمع هللا عز وجل عليهم‬
‫عذاب الخوف الشديد في ذلك اليوم‪ ،‬وعذاب الحجب عن رؤيته‪ِ ،‬وعذاب املنع من رحمته‪،‬‬
‫ً‬
‫يجمع هللا عليهم في ذلك اليوم عياذا باهلل من سوء الحال عذاب الخوف الشديد في ذلك‬
‫اليوم‪ ،‬وعذاب الحجب عن رؤيته‪ ،‬وعذاب املنع من رحمته سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وفي هذا داللة على أن املؤمنين يرون ربهم في ذلك اليوم‪ ،‬فلما كان من عقوبة أهل‬
‫السخط الحجب عن رؤية هللا‪ ،‬كان من نعيم أهل الرضا رؤية هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وسيأتي‬
‫في شأن اْلبرار هذا‪ِ .‬‬
‫ثم إنهم بعد هذا حيث ينالهم الخوف الشديد والحجب عن رؤية هللا وهو أشد عليهم من‬
‫ذلك الخوف واملنع من رحمة هللا‪ ،‬ثم بعد ذلك إنهم لداخلوا النار شديدة الحر‪ ،‬شديدة‬
‫العذاب‪ ،‬بعيدة القعر‪ ،‬فيأتيهم لهبها من كل مكان‪ ،‬ويصيبهم عذابها من كل مكان‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫ثم ُيقال لهم وهم في الجحيم‪ :‬هذا العذاب الذي دخلتموه هو الذي ُحذرتم منه في الدنيا‬
‫فيجمع لهم في عذاب جهنم بين العذاب‬ ‫ً‬
‫تبكيتا لهم‪ُ ،‬‬ ‫فكذبتم ولم تؤمنوا به‪ ،‬فيكون ذلك‬

‫‪132‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬
‫الجسدي والعذاب النفس ي بهذا التبكيت الذي ُيقال لهم‪ ،‬ففي هذا زيادة في نكالهم وزيادة‬
‫في عذابهم والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫ثم نعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫قال حمه هللا تعالى‪ :‬ولهذا ُجز َي على ذلك بأن ُحجب عن هللا كما ُحجب قلبه في ُّ‬
‫الدنيا‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫عن آيات هللا‪.‬‬
‫ً‬
‫وفاقا‪ ،‬واملؤمن كما أنه في ُّ‬
‫الدنيا رأى‬ ‫فال يرى هللا كما أنه في الدنيا لم ير آيات هللا ِ‬
‫جزاء‬
‫آيات هللا واستسلم لها فإنه في اآلخرة يرى هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ثم إنهم مع هذه العقوبة البليغة لصالوا الجحيم‪.‬‬
‫وا﴾ أي‪ :‬لداخلوا‪َ ﴿ ،‬‬‫َ َ ُ ْ‬
‫حيم﴾ يعني‪ :‬النار شديدة الحرارة‪ ،‬عظيمة العذاب بعيدة‬ ‫ِ‬ ‫الج‬ ‫﴿لصال‬
‫القعر فيأتيهم لهبها من كل مكان‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتقريعا ﴿هذا الذي كنتم ِب ِه تك ِذبون﴾‪.‬‬ ‫ثم ُيقال لهم توبيخا‬
‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬
‫وحذرتم منه فكنتم تكذبون به‪ ،‬وقد دخلتموه‪ِ .‬‬ ‫يعني هذا العذاب الذي ذكر لكم في الدنيا‪،‬‬
‫فذكر لهم ثَّلثة أنواع من العذاب‪ :‬عذاب الجحيم‪ ،‬وعذاب التوبيخ واللوم‪ ،‬وعذاب‬
‫الحجاب عن رب العاْلين اْلتضمن لسخطه وغضبه عليهم‪ ،‬وهو أعظم عليهم من عذاب‬
‫النار‪.‬‬
‫َّ‬
‫ودل مفهوم اآلية أن اْلؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة‪ ،‬ويتلذذون بالنظر إليه‬
‫أعظم من سائر اللذات‪ ،‬ويبتهجون بخطابه‪ ،‬ويفرحون بقربه كما ذكر هللا ذلك في عدة‬
‫آيات من القرآن‪ ،‬وتواتر فيه النقل عن رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫وفي هذه اآليات التحذير من الذنوب فإنها ترين على القلب وتغطيه ً‬
‫شيئا فشيئا‪ ،‬حتى‬
‫َّ‬ ‫ًّ‬
‫والحق باطَّل‪،‬‬ ‫ينطمس نوره‪ ،‬وتموت بصيرته‪ ،‬فتنقلب عليه الحقائق فيرى الباطل حقا‬
‫وهذا من أعظم عقوبات الذنوب‪ِ .‬‬
‫ولذلك ينبغي أن يعتني طالب العلم بالبعد عن املعاص ي‪ ،‬فإن املعاص ي تؤثر في قلبه فيكسل‬
‫عن طلب العلم‪ ،‬وال يفهم إذا حضر‪ ،‬وال ينتفع إذا علم‪ ،‬فإذا أراد طالب العلم أن ُي ِّ‬
‫حصل‬

‫‪133‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫العلم وأن يفهم العلم وأن ينتفع بالعلم فليجلوا قلبه عن أثر املعاص ي بالبعد عن املعاص ي‬
‫والتوبة من املاض ي‪ِ .‬‬
‫أمرا ً‬
‫الصقا باإلنسان ال يستطيع أن يتخلص منه‪ ،‬مهما فعل من‬ ‫الحمد هلل الذنب ليس ً‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫الذنوب ً‬
‫سابقا يستطيع أن يتوب صادقا فإذا بها تزال‪ ،‬ويبتعد عن الذنوب ويبتعد عن أهل‬
‫ً‬
‫وجمعا للعلم‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫الذنوب سيجد ِّ‬
‫وفهما للعلم‪ ،‬ويرزقه هللا‬ ‫همة عالية في طلب العلم وتحصيال‬
‫من الفهم والبيان عن ذلك الفهم ما يفوق به غيره‪ِ .‬‬
‫فوصيتي لنفس ي ولطالب العلم الحرص على تخليص النفس من الذنوب السابقة بتوبة‬
‫صادقة‪ ،‬والحرص على مجانبة الذنوب ومجاهدة النفس في هذا الباب‪ ،‬فإن الذنوب من‬
‫أعظم العوائق عن تحصيل العلم وفهمه‪ ،‬ومن وفقه هللا ليتخلص من الذنوب فقد وفقه‬
‫ْلعظم سبيل لتحصيل العلم وفهمه واالنتفاع به‪ِ .‬‬
‫وم ﴿‪﴾20‬‬ ‫اب َّم ْر ُق ٌ‬ ‫اك َما عل ُّيو َن ﴿‪ ﴾19‬ك َت ٌ‬ ‫اْل ْب َرار َلفي علي َين ﴿‪َ ﴾18‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫َ َّ َّ َ َ ْ َ‬
‫﴿كَّل ِإن ِكتاب‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ ِِ ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َُْ َ‬ ‫ْ‬
‫َيش َه ُد ُه اْلق َّرُبون ﴿‪ِ ﴾21‬إ َّن اْل ْب َر َار ل ِفي ن ِع ٍيم ﴿‪َ ﴾22‬على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون ﴿‪ ﴾23‬ت ْع ِرف ِفي‬
‫َٰ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ ُ‬ ‫الن ِعيم ﴿‪ُ ﴾24‬ي ْس َق ْو َن ِمن َّ‬
‫ْ َ ْ َ َ َّ‬
‫وم ﴿‪ِ ﴾25‬خت ُام ُه ِم ْس ٌك ۚ َو ِفي ذ ِل َك‬ ‫يق مخت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫وه ِهم نضرة‬ ‫وج ِ‬
‫ُ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َف ْل َي َت َن َافس ْاْلُ َت َناف ُسو َن ﴿‪َ ﴾26‬وم َز ُ‬
‫اج ُه ِمن ت ْس ِن ٍيم ﴿‪َ ﴾27‬ع ْي ًنا َي ْش َر ُب ِب َها اْلُ َق َّرُبون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿‪.﴾﴾28‬‬
‫بعد أن ِّبين ربنا سبحانه وتعالى مقام الفجار وهوانهم عند هللا عز وجل يوم القيامة‪ ،‬وبدأ‬
‫بهم؛ ْلن الحديث عنهم ال تشريفا لهم‪ ،‬بين سبحانه مقام اْلبرار‪ ،‬وزجر املفترين الكذب‬
‫املنكرين للبعث عما يقولون من الكذب واالفتراء‪ ،‬وبين سبحانه أنه ليس اْلمر كما يقولون‬
‫أن العزة والحسنى لهم عند هللا لو بعث هللا عز وجل العباد‪ ،‬بل العزة واملكانة العلية‬
‫والحسنى عند هللا عز وجل يوم القيامة لألبرار‪ ،‬الذين كثر خيرهم وعظم تباعدهم عن‬
‫الشر‪ ،‬فأطاعوا هللا على نور من هللا‪ ،‬يرجون ثواب هللا‪ ،‬وتركوا معاص ي هللا على نور من هللا‬
‫يخافون عذاب هللا‪ ،‬فبين هللا عز وجل علو قدرهم يوم القيامة من جهة كتابهم‪ ،‬ومن جهة‬
‫حالهم‪ِ .‬‬

‫‪134‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فكتاب أعمالهم في علو مكانة ومكانا‪ ،‬فكتاب اْلبرار الذي كتبت فيه أعمالهم في علو عظيم‬
‫فهو في السماء السابعة‪ ،‬في الجنة قرب عرش الرحمن سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو عالي املكانة‪،‬‬
‫كما سيأتي بيانه في اآليات التالية‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫ويعظم هللا عز وجل كتاب اْلبرار بتوجيه الخطاب لسيدهم محمد بن عبد هللا صلى هللا‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫عليه وسلم ﴿ َو َما أ ْد َ َ‬
‫اك﴾ يعني‪ :‬وأي ش يء أدراك يا نبينا ما عليون؟ ما مكانة ومكان هذا‬ ‫ر‬
‫الكتاب‪ ،‬تعظيما له‪ ،‬وتفخيما لشأنه وبيانا لشدة علوه‪ِ .‬‬
‫عز وجل جعل فيه لألبرار‬
‫وم﴾ ال ينمحي حرفه‪ ،‬وال ينقض ي فضله‪ ،‬فاهلل ِ‬ ‫اب َّم ْر ُق ٌ‬
‫إنه ﴿ك َت ٌ‬
‫ِ‬
‫فضال‪ ،‬فلم تكتب فيه الحسنة بحسنة‪ ،‬بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‪،‬‬
‫وهللا يضاعف ملن يشاء‪ ،‬وهو محفوظ ال ينقص منه ش يء‪ِ .‬‬
‫ومع علو مكانه فإن له علو املكانة حيث يشهده املقربون من أهل السماء‪ ،‬يشهده املقربون‬
‫من هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬من أهل السماء وهم املالئكة ويشهدون عليه‪ ،‬فيحضره املقربون‬
‫من املالئكة‪ ،‬ويشهد عليه املقربون من املالئكة‪ِ .‬‬
‫ثم بين هللا عز وجل العزة لألبرار يوم القيامة في الحال‪ ،‬وأنهم في نعيم دائم ال ينقطع زمنا‬
‫وال يكدر حاال‪ ،‬بل سرورهم ممتد بال نهاية‪ ،‬وتام بال نقصان‪ ،‬ومتجدد فال يمل منه‪ ،‬كلما‬
‫أوتوا شيئا منه كأنهم يرزقونه ْلول مرة‪ ،‬فهو نعيم دائم شامل لألرواح واْلجساد‪ ،‬فقلوبهم‬
‫وأرواحهم في سرور ونعيم‪ ،‬وأجسادهم في نعيم عظيم‪ِ .‬‬
‫ومن نعيمهم أنهم على السرر املرفوعة في الحلل واللباس من اللؤلؤ والياقوت‪ ،‬يجلسون‬
‫على ِأس َّرة لها سقف خاصة بها‪ ،‬مثل املظلة فوق السرير ترفيها وتنعيما‪ ،‬ينظرون وهم على‬
‫تلك السرر إلى ما يزيدهم سرورا ويسعد قلوبهم مما أعطاهم هللا من الكرامة والنعيم في‬
‫الجنة مما ال ينتهي الطرف إليه‪ ،‬وأعظم سرورهم بالنظر في الجنة هو نظرهم إلى وجه ربهم‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وهذا النعيم الذي أكرمهم هللا به أثر حتى في أجسادهم‪ ،‬فأصبحت لو نظرت إلى الواحد‬
‫منهم ترى في وجوههم صفة النعيم‪ ،‬فترى في وجوههم نعومة ونضارة وبهاء وجماال‪ِ .‬‬

‫‪135‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومن باب التقريب وإال فال يداني هذا هذا في الدنيا إذا نظرت إلى من عاش في الترف‬
‫واْلموال والغنى وتربى في ذلك ترى في وجهه نضرة‪ ،‬وترى كما يقولون الدم كأنه سيخرج من‬
‫خديه من النعيم الذي أثر فيه‪ ،‬في الجنة يصل النعيم أن يؤثر في أجساد أهل الجنة‪ ،‬فإذا‬
‫نظرت إلى وجههم وجدت النعيم ظاهرا فتجد صفة النعيم‪ ،‬وهذا يدخل النعيم أو يدخل‬
‫السرور على قلبك‪ ،‬إن نظرت إليهم فهذا يريح القلب وهم قد ظهر أثر النعيم في وجوههم‪ِ .‬‬
‫ومن نعيمهم العظيم أنهم يسقون خمرا صافية محفوظة ال غش فيها وال ضرر فيها‪،‬‬
‫يسقيهم ولدان مخلدون على أجمل هيئة وبأحسن آنية‪ ،‬يسقونهم تلك الخمر‪ ،‬وذلك الخمر‬
‫طيب املادة طيب الرائحة‪ ،‬فطعمها طيب وريحها طيب ويعقبها ريح طيب‪ ،‬وهذا كله عكس‬
‫حال الخمر في الدنيا‪ ،‬فحال الخمر في الدنيا أن طعمها خبيث‪ ،‬وأن ريحها خبيث‪ ،‬وأنه‬
‫يعقبها في فم شاربها رائحة خبيثة مع ما يحصل لشاربها بعد فراغه من شربها من صداع‬
‫وغثيان وغير ذلك‪ ،‬أما خمر اآلخرة فمسلمة من كل هذا‪ ،‬نعيم خالص‪ِ .‬‬
‫فإن شأنهم واملرجو منهم أن يتنافسوا في تحصيل‬ ‫وإذا علم العقالء من أمثالكم هذا النعيم ِّ‬
‫َ‬ ‫َُْ َ‬ ‫َ َٰ َ َ ْ َ َ َ َ‬
‫س اْلتنا ِف ُسون﴾‪ ،‬وليتسابق‬
‫هذا النعيم‪ ،‬وفي إدراك هذا النعيم‪﴿ ،‬و ِفي ذ ِلك فليتن ِ‬
‫اف‬
‫املتسابقون في تحصيل ذلك النعيم‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫اج ُه ِمن ت ْس ِن ٍيم﴾ أي‪ :‬أن ذلك الخمر يخلط بماء أو شراب ينزل عليهم من فوق من‬‫﴿ َوم َز ُ‬
‫ِ‬
‫أعلى الجنة من الفرد ِوس الذي هو أعلى الجنة‪ ،‬من عين يشرب منها املقربون‪ ،‬أهل‬
‫الفردوس يشربون منها مباشرة‪ ،‬واملعلوم يا إخوة أن الفردوس أوسط الجنة وأعلى الجنة‪،‬‬
‫ومنه تتفجر أنهار الجنة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري‪ ،‬فأهل الفردوس هم املقربون‬
‫يشربون من تلك العيون مباشرة‪ ،‬وأما من دونهم فإنه ينزل إليهم من شرابها ومائها‪ ،‬فيخلط‬
‫به شرابهم‪ ،‬وهذا من أعظم النعيم في الجنة‪ ،‬وفي هذا حث على أن يتسابق املسلمون‬
‫واملؤمنون ليس إلى الجنة فقط وإنما إلى الفردوس اْلعلى‪ ،‬حتى يصبحوا من املقربين الذين‬
‫يشربون من العيون من عيون الجنة بجميع شرابها مباشرة‪ ،‬ولذلك قال النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪(( :‬إذا سألتم هللا الجنة فاسألوه الفردوس اْلعلى))‪ِ .‬‬

‫‪136‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وإذا طلبتم يا معاشر املؤمنين الجنة فلتكن غايتكم منها أعالها بإحسان العمل‪ ،‬ولن‬
‫يحسن العمل إال بتمام اإلخالص هلل وتحقيق االتباع لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فكلما صفا إخالصك هلل ِوحققت في فعلك سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان ذلك‬
‫أدعى ْلن تكون من املقربين الذين ينعم هللا عز وجل عليهم بالفردوس اْلعلى‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ونعود إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما‬
‫كتبه الشيخ‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه هللا تعالى رحمة واسعة وغفر له‬
‫ولشيخنا ولسامعين‪ْ :‬لا ذكر أن كتاب الفجار في أسفل اْلمكنة وأضيقها‪ ،‬ذكر أن كتاب‬
‫اْلبرار في أعَّلها وأوسعها وأفسحها‪ِ .‬‬
‫هللا عز وجل قال‪( :‬كَّل)‪ ،‬و(كَّل) هنا‪ِ :‬‬
‫‪ ‬تأتي وتحتمل أن يكون املراد حقا‪ ،‬حقا إن كتاب اْلبرار لفي عليين‪ ،‬يقينا ال شك‬
‫فيه‪ ،‬حقا‪ِ .‬‬
‫‪ ‬وتحتمل أن يكون املراد بها الردع والزجر عما يفتريه الكفار من اْلقاويل‪ِ .‬‬
‫‪ ‬ويحتمل أن يكون املراد بها هنا النفي‪ ،‬أي‪ :‬ليس اْلمر كما يزعم الكفار أن لهم‬
‫الحسنى والعزة عند هللا لو كان هنالك بعث‪ ،‬بل الحسنى والعزة لألبرار عند هللا يوم‬
‫القيامة‪ِ .‬‬
‫وكل هذه املعاني يصلح أن تقال هنا‪ ،‬يصلح أن تكون (كَّل) بمعنى حقا ويستقيم الكالم‪،‬‬
‫ويصلح أن تكون بمعنى الردع والزجر عما يفتريه الكفار ويستقيم الكالم‪ ،‬ويصلح أن تكون‬
‫بمعنى النفي ملا يقولون ويقوله الكفار ويستقيم الكالم‪ِ .‬‬
‫اب﴾ الكتاب هنا كما تقدم في كتاب الفجار‪ِ :‬‬ ‫﴿ َك ََّّل إ َّن ك َت َ‬
‫ِ ِ‬
‫‪ ‬قد يكون املراد به كتاب أعمالهم‪ ،‬الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهم مرفوع قدرا‬
‫ومكانا‪.‬‬
‫‪ ‬وقد يكون املراد به الكتاب الذي كتبت فيه أسماء أهل الجنة‪ ،‬فمن كتب فيه‬
‫اسمه فهو من أهل الجنة‪ِ .‬‬
‫‪137‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ل ِفي ِع ِل ِيين﴾ قال بعض أهل العلم‪ :‬عليون هي السماء السابعة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هي الجنة‪ ،‬وال تضاد بين هذين املعنيين‪ ،‬فإن الجنة في السماء‬
‫السابعة‪ ،‬فيكون القول الثاني تعيينا للمكان الذي في السماء السابعة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬قرب عرش الرحمن‪ ،‬وهذا أيضا ال يضاد ما تقدم؛ ْلن سقف‬
‫الفردوس اْلعلى الذي هو أعلى الجنة عرش الرحمن سبحانه وتعالى‪ ،‬فيكون على هذا يكون‬
‫كتابهم في السماء السابعة‪ ،‬وفي الجنة منها‪ ،‬وفي أعلى الجنة قرب عرش الرحمان‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬عند سدرة املنتهى‪ ،‬وهو أيضا قريب مما تقدم‪ِ .‬‬
‫علو يصحبه ٌ‬
‫علو‬ ‫علو يصحبه ٌ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪( :‬عليون) يعني ليس علوا واحدا‪ ،‬بل ٌ‬
‫ليس علوا واحدا‪ ،‬فهو‪ِ :‬‬
‫‪ ‬علو اْلكان قرب عرش الرحمن في الجنة‪.‬‬
‫‪ ‬وعلو اْلكانة يشهده املقربون من مالئكة السماء‪.‬‬
‫‪ ‬وعلو الفضل ففيه الفضل للمؤمنين؛ فهو ليس علوا واحدا‪.‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬عليون) يعني أن هذا اسم الكتاب الذي تكتب فيه أسماء أهل‬
‫الجنة‪ ،‬ما اسم الكتاب الذي تكتب فيه أسماء أهل الجنة؟ قالوا‪ :‬عليونِ‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ َ‬
‫اب اْل ْب َر ِار ل ِفي ِع ِل ِيين﴾‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬عليون هنا معناها الفوز والربح‪ِ ﴿ ،‬إن ِكت‬
‫يعني‪ :‬لفي فوز وربح وفالح عظيم‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬
‫ن‬
‫﴿وما أدراك﴾ أي‪ :‬أي ش يء أدراك يا محمد ما عليو ؟ ال تسأل عن علوه‪ ،‬فعلوه ال يدرك‬
‫منتهاه إال الرحمن سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َُْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫﴿يش َه ُد ُه اْلق َّرُبون﴾‪.‬‬ ‫وأن كتابهم اْلرقوم‬
‫وم﴾ مرقوم كما قلنا مكتوب بحيث ال ينمحي حرفه‪ ،‬الرقم هو إظهار الحرف‬ ‫اب َّم ْر ُق ٌ‬
‫﴿ك َت ٌ‬
‫ِ‬
‫وبقاؤه بحيث ال يزول‪ ،‬ومحفوظ بحيث ال يفقد منه ش يء‪ ،‬وفيه فضل هللا ‪-‬وهذا زائد على‬
‫كتاب الفجار‪ -‬فيه فضل هللا على املؤمنين‪ ،‬فليس ككتاب الفجار‪ِ .‬‬

‫‪138‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫كتاب الفجار مبني على العدل‪ ،‬أما كتاب اْلبرار فمبني على الفضل‪ ،‬على فضل هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫املؤمن يوم القيامة إذا صلى صالة ال يجد صالة بصالة ‪-‬هذا العدل‪ ،-‬ال‪ ،‬أقل مؤمن قبلت‬
‫صالته يجد صالته بعشر صلوات‪ ،‬ومنهم من يجدها بمائة‪ ،‬ومنهم من يجدها بأكثر‪ ،‬وهللا‬
‫يضاعف ملن يشاء‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫﴿ َيش َه ُد ُه﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني يحضره‪ ،‬لشرفه يحضره املقربون‪ ،‬ولم يذكر هذا في‬
‫كتاب الفجار‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ ﴿ :‬يش َه ُد ُه﴾ أي‪ :‬يشهد عليه املقربون من هللا عز وجل‪ ،‬وهم‬
‫املقربون من املالئكة في كل سماء‪ ،‬فكل سماء فيها أعداد ال تحص ى من املالئكة‪ ،‬واملالئكة‬
‫يفضل بعضهم بعضا‪ ،‬والذين يشهدون على كتاب اْلبرار هم املقربون من مالئكة الرحمن‬
‫عليهم السالم أجمعين‪ِ .‬‬
‫َُْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫﴿يش َه ُد ُه اْلق َّرُبون﴾ من اْلَّلئكة الكرام وأرواح اْلنبياء والصديقين والشهداء‪ ،‬وينوه هللا‬
‫بذكرهم في اْلإل اْلعلى‪ ،‬وعليون اسم ْلعلى الجنة‪.‬‬
‫فلما ذكر كتابهم ذكر أنهم في نعيم‪ ،‬وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن‪.‬‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫من أين أخذ هذا الشيخ؟ أخذه من حذف املتعلق ﴿ ِإ َّن اْل ْب َر َار ل ِفي ن ِع ٍيم﴾ نعيم ملاذا؟‬
‫ْلبدانهم؟ ما ُحدد‪ ،‬لقلوبهم؟ ما ُحدد‪ْ ،‬لرواحهم؟ ما ُحدد‪ ،‬فيعم‪ ،‬إذا حذف املتعلق فإنه‬
‫يعم فهم في نعيم في جميع أمورهم‪ :‬أرواحهم منعمة‪ ،‬قلوبهم منعمة‪ ،‬أبدانهم منعمة نعيما‬
‫دائما‪ِ .‬‬
‫ََ َْ‬
‫﴿على اْل َرا ِئ ِك﴾ أي‪ :‬على السرر اْلزينة بالفرش الحسان‪.‬‬
‫ََ َْ‬
‫﴿على اْل َرا ِئ ِك﴾‪ :‬جمع أريكة‪ ،‬واْلريكة عند العرب سرير خاص‪ ،‬وهو كما قلت لكم ِ‬
‫السرير‬
‫الذي يكون له سقف‪ ،‬يكون له مظلة‪ ،‬فليس مكشوفا وإنما فوقه مظلة‪ ،‬وهذا فيه زيادة‬
‫نعيم‪ِ .‬‬
‫وهذا السرير فيه ُ‬
‫الف ُرش التي فيها النعيم املقيم‪ ،‬وفيه الوسائد املصفوفة الناعمة‪ ،‬وأهله‬
‫عليه في اْللبسة الفاخرة والحلي من اللؤلؤ والياقوت‪ ،‬فهم في غاية الترفه في الجنة‪ِ .‬‬

‫‪139‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ينظرون إلى ما أعد هللا من النعيم‪ ،‬وينظرون إلى وجه ربهم الكريم*‪.‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬
‫كما قلنا سابقا في النعيم نقول هنا‪َ ﴿ :‬على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون﴾ إلى ماذا؟ ُح ِذف املتعلق‪،‬‬
‫وهذا يقتض ي التعميم‪ ،‬ينظرون إلى كل ما يزيدهم نعيما وسرورا إذا نظروا إليه‪ ،‬فينظرون‬
‫إلى ما أعد هللا لهم من النعيم‪ ،‬وإلى خدمهم‪ ،‬وإلى زوجاتهم في الجنة وما فيهن من ُ‬
‫الحسن‪،‬‬
‫ِّ‬
‫اْلسرة‪ ،‬ليس في قلوبهم ذرة حقد وال حسد‪ ،‬وأعظم سرورهم‬ ‫وإلى إخوانهم يقابلونهم على‬
‫بنظرهم إلى وجه ربهم الكريم‪ِ .‬‬
‫َ ُ‬
‫﴿ت ْع ِرف﴾ أيها الناظر‪.‬‬
‫تعرف أيها الناظر إذا كنت من أهل الجنة‪ ،‬ستنظر إليهم وينظرون إليك‪ ،‬فإن نظرت إليهم‬
‫رأيت في وجوههم صفة النعيم‪ ،‬فقد تأثرت أجسادهم بالنعيم‪ ،‬وإذا نظروا إليك ر ْأوا في‬
‫وجهك صفة النعيم‪ ،‬فقد تأثر جسدك بنعيم الجنة‪ِ .‬‬
‫ْ َ ْ َ َّ‬ ‫ُ ُ‬
‫ض َرة الن ِع ِيم﴾ أي‪ :‬بهاءة ونضارته ورونقه‪.‬‬ ‫وه ِهم ن‬
‫﴿في وج ِ‬
‫ِ‬
‫وهذه هي صفة النعيم؛ البهاء والرونق والجمال‪ ،‬واملقصود‪ :‬أن النعيم يؤثر فيهم حتى يظهر‬
‫على وجوههم‪ ،‬ويرى في وجوههم‪ِ .‬‬
‫فإن توالي اللذات واْلسرات واْلفراح‪ ،‬يكسب الوجه نورا وحسنا وبهجة‪.‬‬
‫وال شك في هذا‪ ،‬اآلن أنت ترى الرجل فتقولِ‪ :‬هذا فالح‪ ،‬أو هذا حداد‪ ،‬ملا ترى في يديه من‬
‫الخشونة والتشققات تعرف أنه يعمل بيده ويكدح وفي شقاء‪ ،‬وترى آخر فتقولِ‪ :‬هذا‬
‫موظف‪ ،‬وترى آخر فتقولِ‪ :‬هذا من اْلثرياء ملا ترى يده ووجهه فيه من النعومة والطراوة‪،‬‬
‫فتوالي السرور وامللذات يكسب الجسد نضارة وطراوة ولينا‪ ،‬فكيف بنعيم الجنة الذي ال‬
‫يدانيه نعيم؟! ِ‬
‫يا أحبتي؛ نعيم الجنة كل نعيم الدنيا ال يساوي قطرة من نعيم الجنة‪ ،‬لو أن اإلنسان في‬
‫َّ‬
‫متصور في الدنيا‪ ،‬كل هذا ال يساوي قطرة واحدة من نعيم الجنة‪ ،‬ال‬ ‫الدنيا أوتي كل نعيم‬
‫شك أن لهذا النعيم تأثيرا عظيما في أجساد أهل الجنة‪ِ .‬‬
‫يق﴾‪.‬‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫﴿ي ْس َق ْو َن ِمن َّ‬
‫ر‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫(الرحيق) قال أكثر اْلفسرين‪ :‬هو الخمر‪ ،‬من أسماء الخمر الرحيق‪ِ .‬‬

‫‪140‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي عين في الجنة شرابها له رائحة كاملسك‪ِ .‬‬
‫وم﴾ ذلك‬
‫َّ ْ ُ‬
‫ت‬ ‫خ‬ ‫﴿م‬ ‫وألذها‪،‬‬ ‫اْلشربة‬ ‫من‬ ‫ن‬ ‫يكو‬ ‫ما‬ ‫أطيب‬ ‫من‬ ‫وهو‬ ‫﴾‬ ‫يق‬ ‫﴿ي ْس َق ْو َن ِمن َِّ‬
‫ح‬ ‫ر‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫﴿خت ُام ُه ِم ْس ٌك ۚ﴾ يحتمل أن اْلراد مختوم عن أن يداخله ش يء ينقص لذته أو‬‫الشراب‪ِ ،‬‬
‫يفسد طعمه‪ ،‬وذلك الختام الذي ختم به مسك‪ِ .‬‬
‫فمعنى مختوم على هذا مغطى بغطاء يمنع أن يخالطه غيره‪ ،‬وهذا الغطاء من املسك‪،‬‬
‫وهذا معنى قول بعض املفسرين‪ :‬مطين‪ِ .‬‬
‫أصحاب الخمر إذا أرادوا أن يضمنوا أنه ال يخلطه ش يء يطينونه بطين من فوق‪ ،‬يغطونه‬
‫بطين‪ ،‬واليوم حتى في غير الخمر إذا أرادوا أن يضمنوا أنه غير مخلوط وغير مغشوش وكذا‬
‫الغطاء يكون له مثل اْلمان‪ ،‬فتسمع له صوتا‪ ،‬إذا فتحته إذا لم تسمع هذا الصوت معناه‬
‫أنه مفتوح أو فيه غش‪ ،‬فهذا هو املقصود عندما يقول بعض املفسرين يعني‪ :‬مختوم يعني‬
‫مطين‪ ،‬يعني أنه مغطى بما يضمن أنه ال يخلطه ش يء‪ ،‬ولكن غطاءه من املسك‪ِ .‬‬
‫فمعنى مختوم مغطى‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويحتمل أن اْلراد أنه الذي يكون في آخر اإلناء الذي يشربون منه الرحيق حثالة‬
‫وهي اْلسك اْلظفر‪ِ .‬‬
‫فمعنى ختامه آخره‪ ،‬على املعنى اْلول ختامه يعني‪ :‬غطاؤه‪ ،‬على هذا املعنى ختامه يعني‪:‬‬
‫آخره مسك‪ ،‬فهو خمر ثم يبقى في آخر اإلناء ش يء هو من املسك الخالص‪ ،‬فيختمون شرب‬
‫الخمر بشرب هذا املسك الذي تطيب به الرائحة‪ ،‬فخمرهم مخلوط بمسك مختوم بمسك‪،‬‬
‫مخلوط بمسك‪ ،‬فرائحته رائحة املسك‪ ،‬وآخر ما يبقى فيه من اإلناء ويشرب هو من‬
‫َ‬
‫﴿خت ُام ُه﴾ أي‪ :‬آخره‪ِ .‬‬
‫املسك‪ ،‬وعلى هذا معنى ِ‬
‫قال‪ :‬ويحتمل أن اْلراد أنه الذي يكون في آخر اإلناء الذي يشربون منه الرحيق حثالة‪،‬‬
‫وهي اْلسك اْلظفر‪ ،‬فهذا الكدر منه الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق يكون في‬
‫الجنة بهذه اْلثابة‪.‬‬
‫س‬
‫ََََْ َ‬
‫اف‬‫ن‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫﴿ف‬ ‫هللا‪،‬‬ ‫إال‬ ‫ه‬ ‫ومقدا‬ ‫حسنه‬ ‫يعلم‬ ‫ال‬ ‫الذي‬ ‫اْلقيم‬ ‫النعيم‬ ‫﴾‬ ‫ك‬ ‫﴿وفي َٰذل َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َُْ َ‬
‫اْلتنا ِف ُسون﴾ أي‪ :‬فليتسابقوا في اْلبادرة إليه واْلعمال اْلوصلة إليه‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وليرغبوا فيه وليطلبوه‪ِ .‬‬


‫يضن به‬
‫والتنافس قال بعض أهل العلم‪ :‬أصله من النفيس‪ :‬وهو الش يء الغالي الذي ِ‬
‫أصحابه عن غيرهم‪ ،‬ويحتفظون به ْلنفسهم‪ِ .‬‬
‫دائما عادة اإلنسان أن الش يء الغالي يحافظ عليه‪ ،‬مثال‪ :‬في املكتبة عند طالب العلم كل‬
‫الكتب عند طالب العلم غالية‪ ،‬لكن هناك كتب تكون نفيسة عنده غالية تجده جاعلها في‬
‫مكان خاص ال يصل إليه كل أحد‪ِ .‬‬
‫يضن به‬
‫فقال بعض أهل العلم‪ :‬التنافس أصله من الش يء النفيس؛ أي‪ :‬الغالي الذي ِ‬
‫صاحبه أن يصل إليه غيره‪ ،‬واملقصود‪ :‬أن يسعى كل واحد أن يحصل على هذا الش يء‬
‫الغالي النفيس‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬التنافس أصله من النفس‪ ،‬كأن املتنافسين يتسابقون حتى يشتد‬
‫نفسهم‪ ،‬واإلنسان إذا اشتد عدوه يشتد نفسه‪ ،‬فهو كناية عن سرعة العدو للسبق‪ ،‬يسرع‬
‫سرعة شديدة حتى يتعالى نفسه من السرعة حتى ُي َحصل هذا املقام العظيم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َُْ َ‬ ‫ََََْ َ‬
‫س اْلتنا ِف ُسون﴾ أي‪ :‬فليتسابقوا في اْلبادرة إليه واْلعمال اْلوصلة إليه‪ ،‬فهذا‬
‫﴿فليتن ِ‬
‫اف‬
‫أولى ما بذلت فيه نفائس اْلنفاس وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال‪.‬‬
‫ومزاج هذا الشراب من تسنيم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫(اْلزاج) كما قلنا‪ :‬هو الذي ُيمزج به ُيخلط به‪ ،‬فالشراب الذي ُيخلط به الخمر أو املاء‬
‫الخمر من تسنيم‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫الذي ُيخلط به‬
‫وتسنيم قال بعض العلماء‪ :‬هو اإلجراء من فوق‪ ،‬فالتسنيم يدل على العلو‪ ،‬ومنه سنام‬
‫البعير‪ ،‬وقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ذروة سنامه الجهاد)) يعني‪ :‬ذروة أعاله‪ِ .‬‬
‫فمعنى (تسنيم)‪ :‬أنه ماء يجري من فوق‪ ،‬أي‪ :‬أنه يتفجر من الفردوس اْلعلى‪ ،‬وجميع‬
‫شراب الجنة يتفجر من الفردوس اْلعلى‪ ،‬فأصل أشربة الجنة في الفردوس اْلعلى‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬تسنيم اسم العين التي يشرب بها املقربون‪ ،‬اسمها تسنيم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬تسنيم هو املاء الصافي العذب‪ِ .‬‬

‫‪142‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وال مانع من الجميع‪ ،‬فالعين اسمها تسنيم؛ ْلنها عالية‪ ،‬وماؤها يجري إلى أهل الجنة من‬
‫فوق‪ ،‬وماؤها صافي نقي عذب‪ ،‬هذا معنى تسنيم‪ِ .‬‬
‫ومزاج هذا الشراب من تسنيم‪ ،‬وهي عين يشرب بها اْلقربون صرفا‪.‬‬
‫طيب انظر قال هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬ع ْي ًنا َي ْش َر ُب ِب َها ْاْلُ َق َّرُبو َن﴾ العين ُيمكن ُي َ‬
‫شرب بها؟ يعني‬
‫تأخذ العين وتحملها َوت َ‬
‫شرب؟ ِ‬
‫يشر ُب بها؟ ِ‬ ‫ال؛ طيب لم قال هللا‪ :‬عينا َ‬
‫قال بعض اْلفسرين‪( :‬بها) معناها منها‪ ،‬وهذا من تعاور حروف الجر‪ ،‬يعني يحل بعضها‬
‫محل بعض في املعنى‪ ،‬قالوا‪ :‬إذن معنى يشرب بها أي يشرب منها‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫الشرب هنا ُ‬
‫ض ِّم َ‬
‫الر ِّ ٍي فصارت كأنها ُيروى‪ ،‬يشرب بها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫معنى‬ ‫ن‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫وي‪ ،‬قد يشرب اإلنسان‬ ‫يشرب صارت كأنها ُيروى‪ُ ،‬يروى بها املقربون‪ ،‬ليس كل من َشرب َر َ‬
‫ِ‬
‫الر َّي‪ ،‬ما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وال يروى‪ ،‬أما شراب الجنة فإنهم يشربون ويروون بهذا الشراب‪ ،‬فضمن يشرب ِ‬
‫الذي دل على هذا التضمين؟ ِ‬
‫وجل‪﴿ :‬بها﴾ فعلمنا أنه شراب وزيادة وهو أنه شراب ُم ِِّ‬
‫روي‪ِ .‬‬ ‫قول هللا عز ِِّ‬
‫َُْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫﴿يش َر ُب ِب َها اْلق َّرُبون﴾ ِصرفا‪ ،‬وهي أعلى أشربة الجنة على اإلطَّلق‪ ،‬فلذلك كانت‬
‫خالصة للمقربين الذين هم أعلى الخلق منزلة‪ ،‬وممزوجة ْلصحاب اليمين؛ أي‪:‬‬
‫مخلوطة بالرحيق وغيره من اْلشربة اللذيذة‪.‬‬
‫قلنا يا إخوة إن املقربين يشربون من أصل العيون؛ ْلن املقربين هم أهل الفردوس اْلعلى‪،‬‬
‫فيشربون من أصل عيون الجنة‪ ،‬ثم هذه العيون تسيل إلى من هم دون املقربين فيخلطون‬
‫شرابهم منها؛ الخمر ونحو ذلك‪ ،‬فأعلى من يتنعم بشراب الجنة هم املقربون؛ ْلنهم يشربون‬
‫من اْلصل ثم من دونهم ثم من دونهم‪ِ .‬‬
‫ٌ‬
‫نقص وإنما في الجنة كمال‪ ،‬درجات الجنة يا‬ ‫وكما ذكرت لكم مرارا وتكرارا‪ :‬ليس في الجنة‬
‫ٌ‬
‫تفاضل في الكمال ال يستلزم نقصا‪ ،‬فكل من في الجنة منعم حتى آخر أهل الجنة‬ ‫إخوة‬
‫دخوال ُمنعم‪ ،‬لكن هناك من هو أعلى منه‪ ،‬أكمل منه‪ِ .‬‬

‫‪143‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫طيب يقول قائل منكم‪ :‬العادة أن اإلنسان إذا رأى من هو أعلى منه يقع في قلبه ش يء حتى‬
‫لو لم يحسده‪ ،‬يقع في قلبه ش يء‪ ،‬نقولِ‪ :‬هذه نوزعت من قلوب أهل الجنة؛ ال توجد هذه‬
‫في قلوب أهل الجنة‪ ،‬فهم يتفاضلون في كمال النعيم تفاضال ال يستلزم نقصا وال يولد أملا‪ِ .‬‬
‫أسأل هللا أن يجعلني وإياكم ووالدينا أجمعين ومن نحب من أهل كمال النعيم في الجنة‪ِ .‬‬
‫ْ ََ َ َ ُ َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ن‬
‫َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َّ َّ َ َ ْ َ ُ َ ُ‬
‫﴿إن ال ِذين أجرموا كانوا ِمن ال ِذين آمنوا يضحكو ﴿‪ ﴾29‬و ِإذا مروا ِب ِهم يتغامزون‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َّ َٰ ُ َ َ َ ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿‪َ ﴾30‬و ِإذا انقل ُبوا ِإل ٰى أ ْه ِل ِه ُم انقل ُبوا ف ِك ِه َين ﴿‪ ﴾31‬و ِإذا رأوهم قالوا ِإن هؤال ِء لضالون‬
‫َ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ض َحكون‬ ‫ين َآمنوا ِمن الكف ِار ي‬‫﴿‪َ ﴾32‬و َما أ ْر ِسلوا َعل ْي ِه ْم َحا ِف ِظين ﴿‪ ﴾33‬فاليوم ال ِذ‬
‫َ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ ُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬
‫﴿‪َ ﴾34‬على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون ﴿‪َ ﴾35‬ه ْل ث ِو َب الكف ُار َما كانوا َيف َعلون ﴿‪ِ .﴾﴾36‬‬
‫سبحان هللا! يبين هللا عز وجل حال أهل اإلجرام مع حال أهل اإلسالم في الدنيا وانقالب‬
‫الحال في اآلخرة‪ِ .‬‬
‫فيبين هللا عز وجل أن املجرمين املنكرين للبعث الكفار كانوا في الدنيا يضحكون من‬
‫املؤمنين‪ ،‬ويستهزئون باملؤمنين وبتصديقهم النبي صلى هللا عليه وسلم وبإيمانهم بالبعث‬
‫والجزاء وبعملهم بالدين‪ ،‬ويستهزئون بهم‪ِ .‬‬
‫االستهزاء بهم من أجل‬
‫ِ‬ ‫وهذا يدل على أن املستهزئين بأهل الدين هم مجرمون‪ ،‬فإذا كان‬
‫دينهم فإنه كفر مخرج من ملة اإلسالم‪ِ .‬‬
‫وإذا مر املؤمن بأولئك املجرمين أخذ كل واحد منهم يغمز لصاحبه ويشير بعينه استهزاء به‬
‫واستحقارا له وسخرية منه‪ ،‬وإذا مر أولئك املجرمون بمجالس املؤمنين أخذ أحدهم يغمز‬
‫لآلخر بعينه ويشير بعينه‪ ،‬فهم يستهزئون بامل ِؤمنين سواء مر املؤمنون بهم أو هم مروا‬
‫باملؤمنين‪ ،‬فشأنهم هو االستهزاء باملسلمين أتباع النبي صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وكان هؤالء املجرمون إذا انصرفوا إلى أهليهم انصرفوا معجبين بأنفسهم وما هم فيه من‬
‫أمور الدنيا وقوة الدنيا وتنظيم الدنيا وغير ذلك من أمور الدنيا‪ ،‬ومسرورين بحالهم‪،‬‬
‫ومنعمين بنعم هللا‪ ،‬ما أحدثوا نعمهم بأنفسهم‪ ،‬املنعم هو هللا‪ ،‬وهم ينقلبون متنعمين بنعم‬
‫هللا في بيوتهم‪ ،‬ومع ذلك ال يشكرون هللا‪ ،‬بل يكفرونه ويستهزئون بعباده‪ ،‬ما كفاهم أنهم ال‬

‫‪144‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يشكرون هللا على النعم‪ ،‬بل يكفرون‪ ،‬بل زادوا سوءا أنهم يستهزئون من عباد هللا‬
‫الشاكرين‪ ،‬فهي ظلمات بعضها فوق بعض‪ِ .‬‬
‫وإذا رأى أولئك املجرمون املسلمين وما هم عليه من التمسك بالدين قالوا‪ :‬إن هؤالء‬
‫لضالون ضائعون تائهون عن طريق الحق وجادة الصواب‪ ،‬والحق أنهم ما بعثوا حافظين‬
‫على املؤمنين‪ ،‬وما خلقهم هللا عز وجل ليراقبوا املؤمنين في أعمالهم ويحاسبوا املؤمنين على‬
‫أعمالهم‪ ،‬وإنما خلقهم ليعبدوه‪ ،‬فتركوا ما خلقوا من أجله‪ ،‬واشتغلوا بما لم يكلفوا به‪ ،‬هللا‬
‫خلقهم ليعبدوه فما عبدوه‪ ،‬وهللا عز وجل ما خلقهم ليراقبوا عباده فراقبوا عباده‪ ،‬فتركوا‬
‫ما خلقوا له‪ ،‬واشتغلوا بما لم يخلقوا به‪ ،‬هذه الحال في الدنيا‪ِ .‬‬
‫أما الحال يوم القيامة فإنها منقلبة‪ ،‬ففي يوم القيامة يضحك املؤمنون من الكافرين‪،‬‬
‫يضحكون مما هم فيه من النكال والذلة والهوان جزاء وفاقا‪ ،‬فالضحك في الدنيا قد يكون‬
‫للكافرين‪ ،‬الضحك في الدنيا الفانية قد يكون للكافرين‪ ،‬أما الضحك في اآلخرة الباقية فهو‬
‫يقينا للمؤمنين‪ ،‬فاملؤمنون يوم القيامة يقينا يضحكون من الكفار ومما هم فيه من‬
‫الهوان‪ ،‬يضحكون وهم في النعيم املقيم‪ ،‬وهم على سرر الترفه والتنعم‪ ،‬ينظرون إلى‬
‫َ‬
‫الكافرين وما يصيبهم في النار‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫ومن نعيم أهل الجنة أنه إذا أراد أحدهم أن يرى كافرا بعينه في النار وما هو فيه من‬
‫العذاب جعله هللا يطلع عليه‪ ،‬حتى ذكر بعض السلف أن هنالك مثل النوافذ ْلهل الجنة‬
‫في الجنة‪ ،‬إذا أراد املؤمن أن يطلع على الكفار فتحت هذه الكوة فيرى الكفار وما هم فيه‬
‫من العذاب‪ ،‬ولو أراد أن يرى كافرا بعينه مثل أن كافرا كان يؤذيه بعينه في الدنيا‪ ،‬وأراد أن‬
‫يراه في النار بعينه فإن هللا يجعله يطلع عليه‪ ،‬فيراه ويضحك من حاله ويضحك من هوانه‪ِ .‬‬
‫فسبحان هللا! أهل الجنة على اْلرائك ينظرون في حالين عظيمين‪ِ :‬‬
‫‪ ‬ينظرون إلى ما يسرهم ويتنعمون به من زوجاتهم وما أوتوا من الحلل‪ ،‬وما أوتوا من‬
‫الغلمان والخدم‪ ،‬وما يرونه أمامهم من النعيم‪ ،‬وأعظم نعيمهم رؤيتهم ونظرهم إلى‬
‫هللا هذه من حال وجهة‪ِ .‬‬

‫‪145‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ ‬ومن جهة أخرى وهم على أرائكهم أيضا ينظرون إلى الكافرين وما هم فيه من‬
‫َ‬
‫العذاب‪ ،‬فيضحكون من هوان الكفار الذين كانوا يضحكون منهم في الدنيا‪،‬‬
‫ويضحكون أن هللا سلمهم من هذه الحال‪ ،‬ويعظم النعيم إذا رأى اإلنسان حال من‬
‫فقد ذلك النعيم‪ِ .‬‬
‫ولذلك إذا أراد اإلنسان أن يعرف عظيم نعم النعمة التي هو فيها فلينظر إلى من فقدها‪،‬‬
‫سيرى أن النعمة التي هو فيها مع ما فيها من نقص نعمه عظيمة‪ ،‬يعني الذي عنده أوالد‬
‫ُ‬
‫وما هو راض ي عنهم في بعض اْلمور ينظر إلى من فقد الولد كيف يتمنى جزء ولد‪ ،‬فيعظم‬
‫في نظره ولده ويسعى إلصالحه‪ ،‬الذي أنعم هللا عليه بنعمة الصحة يذهب للمستشفى ويرى‬
‫ُ‬
‫املرض ى‪ ،‬فتعظم في عينه نعمة العافية والصحة التي ُرزق بها‪ِ .‬‬
‫الشاهد‪ :‬أن أهل الجنة بنظرهم إلى الكفار يضحكون بأمرين؛ بسببين‪ِ :‬‬
‫‪ ‬السبب اْلول‪ :‬أنهم يرون أن هللا انتقم لهم من الكافرين الذين كانوا يضحكون منهم‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫‪ ‬واْلمر الثاني‪ :‬أنهم يعرفون ِعظم النعيم الذي هم فيه‪ ،‬وأن هللا سلمهم من هذا‬
‫الهوان الذي فيه الكفار‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫ْ ُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ثم تختم اآلية بهذا السؤال العجيب؛ وهو سؤال تقرير‪َ ﴿ :‬ه ْل ث ِو َب الكف ُار َما كانوا‬
‫ْ ُ َ‬
‫َيف َعلون﴾‪ ،‬هل ُجوزي الكفار على ما كانوا يفعلون باملؤمنين في الدنيا أم ال؟ ِ‬
‫الجواب‪ :‬نعم‪ ،‬الكفار يوم القيامة ُجوزوا ما كانوا يفعلون في الدنيا من ضحكهم على‬
‫املؤمنين وانقالبهم إلى أهلهم فكهين؛ ُجوزوا بالعذاب املهين‪ ،‬واملؤمنون هم الذين يضحكون‬
‫مع أهليهم يوم القيامة في الجنة ُي َّ‬
‫نعمونِ‪ِ .‬‬
‫ٌ‬
‫وفي هذا السؤال تسلية ُعظمى للمؤمنين؛ مهما رأيتم من حال الكفار من قوتهم في الدنيا‪،‬‬
‫من تسلطهم على املؤمنين‪ ،‬من أذيتهم للمؤمنين‪ ،‬من مكرهم باملؤمنين‪ ،‬إن هللا عز وجل‬
‫سيجازيهم على هذه الحال في يوم القيامة وينقلب الحال؛ ُويصبح املؤمنون هم الذين‬
‫يضحكون من الكفار‪ِ .‬‬

‫‪146‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬
‫ففي هذه اآلية تسلية للمؤمنين عما يشاهدونه في الدنيا من الكافرين‪ ،‬وتصبير لهم على ما‬
‫يلقونه منهم‪ ،‬فإن هللا عز وجل سينتقم لهم‪ ،‬قد ينتقم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقد ُيملي للكافر‬
‫حتى ينتقم منه االنتقام العظيم يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ونقرأ ما‬
‫وهذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي فنذكر ِ‬
‫ذكره الشيخ‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ْ :‬لا ذكر تعالى جزاء اْلجرمين وجزاء اْلحسنين‪ ،‬وذكر ما بينهما من‬
‫ُ‬
‫التفاوت العظيم‪ ،‬أخبر أن اْلجرمين كانوا في الدنيا يسخرون باْلؤمنين ويستهزئون بهم‪،‬‬
‫ويضحكون منهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َّ َ َ‬
‫﴿ ِإن ال ِذين أجرموا﴾ واإلجرام هو‪ :‬فعل الذنوب‪ِ .‬‬
‫واْلقصود‪ :‬إن الذين أجرموا الذنب العظيم وهو الشرك باهلل سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فيتغامزون بهم عند مرورهم عليهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿ َيتغ َام ُزون﴾ أي‪ُ :‬يشيرون بعيونهم‪ ،‬الغمز هو‪ :‬اإلشارة بالعين‪ ،‬وإذا كان بين طرفين فإنه‬
‫يغلب عليه أن يكون من باب السخرية واالستهزاء‪ِ .‬‬
‫فيتغامزون بهم عند مرورهم عليهم احتقارا لهم وازدراء‪ ،‬ومع هذا تراهم مطمئنين ال‬
‫ََ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ََ‬
‫﴿و ِإذا انقل ُبوا ِإل ٰى أ ْه ِل ِه ُم﴾ صباحا أو مساء‪﴿ ،‬انقل ُبوا ف ِك ِهين﴾؛‬ ‫يخطر الخوف على بالهم‪،‬‬
‫أي‪ :‬مسرورين مغتبطين‪.‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬معجبين بما هم فيه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬ناعمين‪ ،‬فاهلل يعطيهم من الدنيا ما شاء‪ ،‬يكيد لهم سبحانه‬
‫وتعالى ملا يكيدونه املؤمنين‪ِ .‬‬
‫وقيل‪( :‬فكهين) أي‪ :‬واجدين ملا يحبون فهم يتنعمون بالنعم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬فكهين) أي‪ :‬متلذذين بالسخرية باملؤمنين حتى في بيوتهم‪ ،‬في‬
‫مجالسهم يسخرون باملؤمنين‪ ،‬إذا رجعوا إلى بيوتهم وجلسوا مع زوجاتهم وأوالدهم يتلذذون‬
‫بالسخرية من املؤمنين‪ ،‬فحديثهم في بيوتهم فيه السخرية باملؤمنين‪ ،‬والكلمة تحتمل كل‬
‫هذا‪ِ .‬‬

‫‪147‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫والقاعدة‪ :‬أن الكلمة تحمل على جميع معانيها ما لم تتناف املعاني وتتضاد فإنه يختار منها‪ِ .‬‬
‫ََ َ َ‬
‫﴿انقل ُبوا ف ِك ِهين﴾ أي‪ :‬مسرورين مغتبطين‪ ،‬وهذا أشد ما يكون من االغترار أنهم جمعوا‬
‫بين غاية اإلساءة مع اْلمن في الدنيا‪ ،‬حتى كأنهم قد جاءهم كتاب وعهد من هللا أنهم من‬
‫أهل السعادة‪ ،‬وقد حكموا ْلنفسهم أنهم أهل الهدى وأن اْلؤمنين ضالون افتراء على‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُْ ُ ََ‬
‫هللا تجرؤوا على القول عليه بَّل علم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وما أر ِسلوا علي ِهم حا ِف ِظين﴾‪.‬‬
‫ُ ُ‬
‫﴿ َو َما أ ْر ِسلوا﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني‪ :‬وما بعثوا‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني‪ :‬وما خلقوا‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿عل ْي ِه ْم َحا ِف ِظين﴾ أي‪ :‬مراقبين ْلعمالهم ُمحصينها‪ِ .‬‬
‫فاملعنى كما ذكرنا‪ :‬ما خلقوا ليراقبوا أعمال العباد‪ ،‬وإنما خلقوا ليعبدوا رب العباد‪ ،‬فلم‬
‫يعبدوا رب العباد ولم يسلم من مراقبتهم العباد‪ ،‬فضادوا ما أراد هللا في اْلمرين في الجهتين‪ِ .‬‬
‫اف ِظين﴾ أي‪ :‬وما أرسلوا وكَّلء على اْلؤمنين ملزمين بحفظ‬
‫َ‬
‫ح‬‫﴿و َما ُأ ْرس ُلوا َع َل ْيه ْم َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أعمالهم حتى يحرصوا على رميهم بالضَّلل‪ ،‬وما هذا منهم إال تعنت وعناد وتَّلعب ليس‬
‫َ ْ‬
‫لهم سند وال برهان‪ ،‬ولهذا كان جزاؤهم في اآلخرة من جنس عملهم قال تعالى‪﴿ :‬فال َي ْو َم﴾‬
‫َ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ‬ ‫َّ َ ُ‬
‫ض َحكون﴾ حين يرونهم في غمرات العذاب‬ ‫ين َآمنوا ِمن الكف ِار ي‬ ‫أي‪ :‬يوم القيامة‪﴿ ،‬ال ِذ‬
‫يتقلبون‪ ،‬وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون واْلؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة‪.‬‬
‫فهم يضحكون النتقام هللا لهم؛ وْلن هللا زحزحهم عن العذاب وأدخلهم الجنة‪ ،‬إذا نظروا‬
‫إلى الكفار ضحكوا النتقام هللا لهم من الكفار‪ ،‬ولزحزحتهم عن النار‪ِ .‬‬
‫َ ُُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َْ‬
‫اْلزينة‪﴿ ،‬ينظرون﴾ إلى ما أعد هللا لهم من النعيم وينظرون‬ ‫السرر‬ ‫﴿على اْلرا ِئ ِك﴾ وهي‬
‫إلى وجه ربهم الكريم‪.‬‬
‫َ ُُ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ً‬
‫ون﴾ فتكون‬ ‫وتأكيدا له‪َ ﴿ ،‬على اْل َرا ِئ ِك ينظر‬ ‫وعلى هذا التفسير يكون هذا تكرا ًرا ملا تقدم‬
‫الجملتان بمعنى واحد‪ِ .‬‬
‫َ ُُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َْ‬
‫وعلى التفسير الثاني‪﴿ :‬على اْلرا ِئ ِك ينظرون﴾ أي‪ :‬ينطرون إلى الكفار في النار وما هم فيه‬
‫ْلمر آخر غير اْلو ِل‪ِ .‬‬ ‫ً‬
‫من الهوان؛ يكون هذا بيانا ٍ‬

‫‪148‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬
‫فاْلول‪َ ﴿ :‬على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون﴾ ينظرون إلى النعيم‪ ،‬وما أعده هللا لهم في الجنة‪ ،‬وينظرون‬
‫إلى وجه ربهم الكريم‪ِ .‬‬
‫وفي الثاني‪ :‬ينظرون إلى الكفار وما هم فيه من الهوان وألوان عذابهم فيتنعمون بهذا‪ِ .‬‬
‫وهذا أولى؛ ْلن القاعدة أن حمل القرآن على زيادة املعنى أولى من حمله على التأكيد‪ ،‬حمل‬
‫القرآن على زيادة املعنى‪ ،‬يعني‪ :‬على معنى جديد‪ ،‬أولى من حمله على التأكيد‪ِ .‬‬
‫َ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ ُ َّ‬ ‫َ ُ‬
‫﴿ه ْل ث ِو َب الكف ُار َما كانوا َيف َعلون﴾ أي‪ :‬هل ُجوزوا من جنس عملهم‪.‬‬
‫َ‬
‫جوزي الكفار على ما كانوا‬ ‫ٌ‬
‫استفهام تقريري‪ ،‬يعني‪ :‬أن هذا واقع‪ ،‬وجوابه‪ :‬نعم‬ ‫وهذا‬
‫يعملونِ‪ِ .‬‬
‫ضحكوا في الدنيا من اْلؤمنين ور َموهم بالضَّلل ضحك اْلؤمنون منهم في اآلخرة‬
‫فكما ِ‬
‫الغي والضَّلل‪ ،‬نعم ثوبوا ما كانوا‬
‫حين رأوهم في العذاب والنكال الذي هو عقوبة ِ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫عدال من هللا وحكمة وهللا ٌ‬
‫حكيم‪.‬‬ ‫عليم‬ ‫يفعلون‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة املطففين‪ ،‬وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وصلى هللا على نبينا وسلم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪149‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة االنشقاق‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫﴿إ َذا َّ‬
‫ض ُم َّدت ﴿‪َ ﴾3‬وألقت َما‬
‫اْل ْر ُ‬ ‫الس َم ُاء انشقت ﴿‪َ ﴾1‬وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت ﴿‪ ﴾2‬و ِإذا‬ ‫ِ‬
‫َّ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ ْ‬
‫ِف َيها َوتخلت ﴿‪َ ﴾4‬وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت ﴿‪.﴾﴾5‬‬
‫هذه السورة العظيمة سورة مكية بإجماع العلماء وفيها مواعظ عظيمة وزواجر كبيرة‪،‬‬
‫ففيها وصف ما يكون يوم القيامة إذا أتى أمر هللا‪ ،‬وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ ْ‬
‫س ك ِو َرت﴾‪ ،‬و﴿ ِإذا‬ ‫﴿إذا الشم‬
‫(من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ‪ِ :‬‬
‫َ َّ ْ‬
‫الس َم ُاء انشقت﴾) رواه أحمد والترمذي وصححه اْللباني‪ِ .‬‬ ‫انف َط َر ْت﴾‪ ،‬و﴿إ َذا َّ‬
‫َّ َ ُ َ‬
‫السماء‬
‫ِ‬
‫فأخبر النبي صلى هللا عليه وسلم أن من سره أن يعرف أحوال يوم القيامة كأنه ينظر إلى‬
‫َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُ ْ‬
‫س ك ِو َرت﴾‪ ،‬و﴿ ِإذا‬ ‫ذلك اليوم العظيم رأي عين فليقرأ هذه السور الثالث‪ِ :‬‬
‫﴿إذا الشم‬
‫َ َّ ْ‬ ‫انف َط َر ْت﴾‪ ،‬و﴿إ َذا َّ‬
‫الس َم ُاء انشقت﴾‪ِ .‬‬
‫َّ َ ُ َ‬
‫السماء‬
‫ِ‬
‫واملعنى في هذه اآليات التي تالها اْلخ واالبن نور الدين أنه إذا أتى أمر هللا وأذن سبحانه‬
‫بقيام الساعة حصلت أمور عظيمة وتغير الكون‪ ،‬ومن تلك اْلمور العظيمة‪ِ :‬‬
‫أن السماء الشديدة التي بناها هللا عز وجل شديدة فال ترى فيها فطورا‪ ،‬وال ترى فيها‬
‫شقوقا تنشق في ذلك اليوم‪ ،‬وترى فيها شقوقا وصدوعا وفطورا‪ ،‬يراها الناظر كأنها أبواب‪،‬‬
‫وينشق بعضها بالغمام وهو السحاب اْلبيض البارد‪ ،‬ويتغير ما ُيرى فيها‪ ،‬فتلف شمسها‬
‫ويذهب ضوؤها‪ ،‬ويخسف قمرها ويسود ويذهب ضوؤه‪ ،‬وتتناثر كواكبها ونجومها‬
‫وتتساقط‪ ،‬وكل ذلك بإذن ربها وأمر ربها سبحانه وتعالى‪ ،‬فهي قد سمعت أمر ربها سماع‬
‫استجابة وانقياد وطاعة‪ ،‬حيث أمرها هللا عز وجل بذلك فانقادت وأطاعت‪ ،‬وحق لها أن‬
‫تسمع وتطيع وتنقاد‪ ،‬وثبت لها ذلك فإنها مدبرة مسخرة مطيعة لربها منقادة ملن دبرها‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ومن تلك اْلمور العظيمة أن اْلرض بجبالها ومعاملها يتغير حالها فتدك جبالها وتنسف‬
‫وتزال معاملها‪ ،‬فال يبقى فيها جبل وال حبل ‪-‬أي رمل مرتفع‪ -‬وال شجر‪ ،‬وتمد مدا وتبسط‬
‫بسطا وتفرش فرشا كاْلديم إذا دبغ ومد‪ ،‬ويزاد في اتساعها حتى تتسع للناس عند البعث‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ‬
‫ِوتخرج أثقالها‪ ،‬فتخرج املوتى من بطنها‪ ،‬وذلك عندما ينفخ في الصور النفخة الثانية‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتخرج كنوزها فكأنه يقال للناس‪ :‬هذه الكنوز التي ألهتكم في الدنيا وأشغلتكم عما‬
‫ينفعكم ها هي أمامكم ال تنتفعون بها شيئا‪ ،‬فتعظم حسرة املفرطين الذين ألهتهم الدنيا‬
‫وكنوزها عن طاعة هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وتخلت اْلرض عما في بطنها من اْلموات والكنوز بعد أن كانت ساترة لها‪ ،‬وكل هذا بإذن‬
‫ربها وأمر ربها سبحانه وتعالى حيث أمرها بهذا‪ ،‬فاستمعت إلذن ربها وأمر ربها استماع انقياد‬
‫واستجابة وطاعة فأطاعت وفعلت‪ ،‬وحق لها أن تطيع وأن تستجيب فإنها مسخرة مدبرة‬
‫ذليلة لربها ومدبرها سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فهاتان اآليتان العظيمتان‪ :‬السماء واْلرض‪ ،‬يتغير حالهما يوم القيامة إذا أذن هللا عز وجل‬
‫بقيام الساعة‪ِ .‬‬
‫فهذا هو معنى هذه اآليات املوضوعي اإلجمالي اإليماني ونقرأ ما ذكره الشيخ السعدي رحمه‬
‫هللا في التفسير ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى في تفسيره‪ :‬يقول تعالى مبينا‬
‫َ َّ ْ‬ ‫ْلا يكون في يوم القيامة من تغير اْلجرام العظام ﴿إ َذا َّ‬
‫الس َم ُاء انشقت﴾ أي‪ :‬انفطرت‬ ‫ِ‬
‫وتمايز بعضها من بعض وانتثرت نجومها وخسف شمسها وقمرها‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿انش َّق ْت﴾ أنها انفطرت وتصدعت‪ ،‬حيث يكون فيها شقوق وفروج وصدوع ُترى‬ ‫فمعنى‬
‫فيها كأنها أبواب‪ ،‬ومع انشقاقها يتغير حال ما فيها مما نراه وما ال نراه من الشمس والقمر‬
‫والكواكب‪ ،‬فهذا معنى انشقت‪ِ .‬‬
‫ََ َ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها﴾ أي‪ :‬استمعت ْلمره وألقت سمعها وأصاخت لخطابه‪.‬‬
‫ََ َ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها﴾ استمعت سماع إجابة وانقياد وطاعة ْلمر ربها‪ِ .‬‬ ‫معنى‪:‬‬
‫يقال‪ :‬أذن للصوت؛ أي‪ :‬سمع الصوت واستمع له‪ ،‬ومنه الحديث‪( :‬ما أذن هللا لش يء ما‬
‫أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به)‪ ،‬والحديث في الصحيحين‪ ،‬واملعنى‪ :‬ما استمع‬
‫هللا عز وجل فأذن بمعنى استمع‪ِ .‬‬
‫ََ َ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها﴾ أي‪ :‬استمعت إليه وألقت سمعها وأصاخت لخطابه‬

‫‪151‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َّ ْ‬
‫﴿و ُحقت﴾ أي‪ :‬وحق لها ذلك‪ ،‬فإنها مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم ال يعص ى‬
‫أمره وال يخالف حكمه‪.‬‬
‫َ َّ ْ‬
‫﴿و ُحقت﴾ أي‪ :‬حق لها أن تطيع وشأنها أن تطيع‪ ،‬ومعنى حق لها أي‪ :‬ثبت لها وكان‬ ‫معنى‬
‫حقيقا بها أن تطيع وكان شأنها أن تطيع‪ ،‬فهي مدبرة مسخرة ذليلة ملن دبرها سبحانه‬
‫وتعالى ال تخرج عن طاعته‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َْ‬
‫ض ُم َّدت﴾ أي‪ :‬رجفت وارتجت ونسفت عليها جبالها‪ ،‬ودك ما عليها من بناء‬
‫اْل ْر ُ‬ ‫﴿و ِإذا‬
‫ومعلم فسويت‪ ،‬ومدها هللا مد اْلديم حتى صارت واسعة جدا تسع أهل اْلوقف على‬
‫كثرتهم فتصير قاعا صفصفا ال ترى فيها عوجا وال أمتا‪.‬‬
‫ز‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ ُ َّ ْ‬
‫﴿و ِإذا اْلرض مدت﴾ أي‪ :‬وإذا اْلرض بسطت وأزيلت معاملها البار ة فيها حتى صارت قاعا‬
‫صفصفا‪ ،‬ال ترى فيها عوجا وال أمتا‪ ،‬ففرشت ووسعت وزاد هللا عز وجل في سعتها‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ُ ﴿ :‬م َّدت﴾ من املد‪ ،‬واملد هو البسط‪ ،‬فمعنى ﴿ ُم َّدت﴾ بسطت‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ُ ﴿ :‬م َّدت﴾ من اإلمداد‪ ،‬واإلمداد هو الزيادة‪ ،‬ومعنى ذلك أنه زيد في‬
‫سعتها‪ِ .‬‬
‫وهذا اختالف تنوع وليس اختالف تضاد‪ ،‬فكال املعنيين صحيح‪ ،‬فاْلرض يوم القيامة‬
‫تبسط وتفرش وتمد ويزاد في سعتها‪ ،‬فهذا ليس من باب اختالف التضاد وإنما من باب‬
‫اختالف التنوع‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬إن اْلرض اليوم كروية فيغيب بعض الناس عن بعض فيها‪،‬‬
‫فاإلنسان البعيد عن نظرك يغيب عنك ما تراه‪ ،‬أما يوم القيامة فإنها تمد مدا وتبسط‬
‫بسطا وال تكون كروية‪ ،‬فال يغيب أحد عن أحد‪ ،‬فيحشر هللا الناس على صعيد واحد‪،‬‬
‫ينفذهم البصر ُويسمعهم الداعي لكون اْلرض قد مدت‪ ،‬فال يغيب أحد فيها عن أحد‪ِ .‬‬
‫وهذا املعنى اْلخير أشار إليه شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا عز وجل رحمة واسعة‬
‫وسائر علماء املسلمين‪ِ .‬‬

‫‪152‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ََْ َ ْ‬
‫﴿وألقت َما ِف َيها﴾ من اْلموات والكنوز‪.‬‬
‫َْ َ ْ‬
‫معنى ﴿ َوألقت﴾ أخرجت ما في بطنها من اْلموات والكنوز وألقته إلى خارجها إلى ظاهرها‪،‬‬
‫ََْ َ ْ‬
‫﴿وألقت﴾‪ِ .‬‬ ‫فهذا معنى‬
‫َ َ َ َّ ْ‬
‫﴿وتخلت﴾ منهم‪ ،‬فإنه ينفخ في الصور فتخرج اْلموات من اْلجداث إلى وجه اْلرض‬
‫ُ‬
‫وتخرج اْلرض كنوزها حتى تكون كاْلسطوان العظيم يشاهده الخلق ويتحسرون على ما‬
‫َّ ْ‬ ‫ن ََ َ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت﴾‪ِ .‬‬ ‫هم فيه يتنافسو ‪،‬‬
‫َ َ َ َّ ْ‬ ‫َ َ َّ ْ‬ ‫ََْ َ ْ‬
‫﴿وتخلت﴾ أي‪ :‬تركت ما في بطنها‬ ‫﴿وألقت َما ِف َيها َوتخلت﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى‬
‫وكشفته بعد أن كانت ساترة له وخال جوفها من ذلك‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َّ ْ‬
‫﴿وتخلت﴾ أي‪ :‬خلت اْلرض من اْلحياء عليها‪ ،‬وذلك عند‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى‬
‫النفخة اْلولى في الصورِ‪ِ .‬‬
‫فيكون املعنى‪ :‬تخلت اْلرض عن ِ‬
‫اْلحياء فخلت منهم‪ ،‬حيث يموت كل حي عليها عندما ينفخ‬
‫في الصور النفخة اْلولى‪ ،‬ثم ألقت ما في جوفها من اْلموات والكنوز عندما ينفخ في الصور‬
‫النفخة الثانية نفخة البعث‪ ،‬فيكون التخلي قبل اإللقاء‪ ،‬يكون على هذا املعنى التخلي قبل‬
‫اإللقاء؛ ْلن‪ِ :‬‬
‫التخلي‪ :‬معناه أنها خلت من اْلحياء على ظهرها‪ِ .‬‬
‫واإللقاء‪ :‬أنها أخرجت ما في بطنها من اْلموات من أجل البعث‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َّ ْ‬
‫﴿وتخلت﴾‪ِ :‬‬ ‫فهذان معنيان ذكرهما أهل العلم لجملة‬
‫فاْلعنى اْلول‪ :‬بمعنى أن جوفها خال مما فيه‪ِ .‬‬
‫واْلعنى الثاني‪ :‬بمعنى أن ظهرها خال مما فيه‪ِ .‬‬
‫وال مانع من اْلمرين‪ ،‬ففي اْلول ِ‬
‫يخلو ظهرها من اْلحياء فال يبقى على ظهرها حي‪ ،‬وفي‬
‫الثاني يخلو جوفها من اْلموات والكنوز فال يبقى في جوفها كنز وال ميت‪ِ .‬‬
‫َ َ َ ْ َ َ َ ُ َّ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِلرِبها وحقت﴾ أي‪ :‬سمعت اْلرض أمر ربها سماع استجابة وانقياد فانقادت ْلمر‬
‫ربها‪ِ .‬‬
‫َّ ْ‬
‫ومعنى ﴿ َو ُحقت﴾ أي‪ :‬حق لها أن تسمع وتطيع ِوتنقاد فإنها مسخرة مدبرة‪ِ :‬‬

‫‪153‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ ْ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت﴾ في السماء‪ِ .‬‬ ‫فالجملة اْلولى‪:‬‬
‫َّ ْ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت﴾ في شأن اْلرض‪ِ .‬‬ ‫والجملة الثانية‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ َّ َ‬
‫نسان ِإن َك ك ِاد ٌح ِإل ٰى َرِب َك ك ْد ًحا ف ُمَّل ِق ِيه ﴿‪ ﴾6‬فأ َّما َم ْن أو ِت َي ِكت َاب ُه ِب َي ِمي ِن ِه‬ ‫اإل‬
‫﴿يا أيها ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫﴿‪َ ﴾7‬ف َس ْو َف ُي َح َ‬
‫اس ُب ِح َس ًابا َي ِس ًيرا ﴿‪َ ﴾8‬و َينق ِل ُب ِإل ٰى أ ْه ِل ِه َم ْس ُرو ًرا ﴿‪َ ﴾9‬وأ َّما َم ْن أو ِت َي‬
‫ْ‬ ‫َّ ُ َ َ َ‬ ‫ََ َْ‬ ‫ك َت َاب ُه َو َر َاء َظ ْهره ﴿‪َ ﴾10‬ف َس ْو َف َي ْد ُعو ُث ُب ً‬
‫صل ٰى َس ِع ًيرا ﴿‪ِ ﴾12‬إنه كان ِفي أه ِل ِه‬ ‫ورا ﴿‪ ﴾11‬وي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬
‫ور ﴿‪َ ﴾14‬بل ٰى ِإ َّن َرَّب ُه كان ِب ِه َب ِص ًيرا ﴿‪ِ .﴾﴾15‬‬
‫َ‬ ‫َم ْس ُرو ًرا ﴿‪ ﴾13‬إ َّن ُه َظ َّن َأن َّلن َي ُح َ‬
‫ِ‬
‫ساع إلى ربه‬
‫يخاطب هللا عز وجل جنس اإلنسان بأنه خلق في الدنيا في دار العمل وهو ِ‬
‫بعمله‪ ،‬إما أن يتقدم إلى العمل الصالح عن العمل الس يء‪ ،‬وإما أن يتأخر عن العمل‬
‫الصلح إلى العمل الس يء‪ِ .‬‬
‫فكل الناس في يومه يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها‪ ،‬ثم هو ميت ومبعوث يوم‬
‫القيامة ومالق ربه‪ ،‬حيث يالقي عمله ويعرض عليه عمله في كتاب‪ ،‬ويالقي جزاء عمله‪ ،‬فإلى‬
‫هللا إيابه وعلى هللا حسابه‪ ،‬فإنه مهما عمل إن أطاع وعمل الصالحات أو طغا وتجبر وعمل‬
‫السيئات آيب إلى ربه سبحانه وتعالى ومالق عمله‪ ،‬وسيعرض عليه عمله‪ ،‬ويلقى جزاء عمله‪ِ .‬‬
‫وبين هللا عز وجل لإلنسان كيف يلقى عمله يوم القيامة‪ ،‬وهو أن عمله مكتوب في كتاب ال‬
‫يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها‪ ،‬وسوف يؤتى ذلك الكتاب يوم القيامة حيث ينقسم‬
‫الناس إلى فريقين‪ِ :‬‬
‫فأما من أوتي كتابه بيمينه إكراما له وتشريفا له وهو السعيد الذي جعل اآلخرة نيته‪،‬‬
‫وسارع في الدنيا إلى الجنة بالعمل الصالح‪ ،‬والزم التوبة واالستغفار‪ ،‬وغلبت صالحاته‬
‫سيئاته‪ ،‬أو عفا هللا عن سيئاته بفضله ورحمته ومغفرته وكرمه وبره ورأفته سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬ذلك السعيد سوف يحاسب حسابا يسيرا سهال عليه‪ِ .‬‬
‫وقد فسر النبي صلى هللا عليه وسلم ذلك اليسر حيث قال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من‬
‫نوقش الحساب عذب)‪ ،‬فقالت أمنا عائشة رض ي هللا عنها وأرضاها‪( :‬أوليس يقول هللا‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ف َس ْو َف ُي َح َ‬
‫اس ُب ِح َس ًابا َي ِس ًيرا﴾‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه‪( :‬إنما ذلك العرض‪،‬‬
‫ولكن من نوقش الحساب يهلك) متفق عليه‪ِ .‬‬

‫‪154‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فبين النبي صلى هللا عليه وسلم أن الحساب اليسير هو عرض اْلعمال عرضا من غير‬
‫مناقشة‪ ،‬وبين لنا النبي صلى هللا عليه وسلم طريقة ذلك العرض‪ ،‬فقال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬إن هللا يدني اْلؤمن فيضع عليه كنفه فيقول‪ :‬أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب‬
‫كذا؟ وهو يقول‪ :‬نعم أي ربي‪ ،‬حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال هللا‪:‬‬
‫سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‪ ،‬ويعطى كتاب حسناته) متفق عليه‪ِ .‬‬
‫فبين النبي صلى هللا عليه وسلم أن من يحاسب حسابا يسيرا يدنيه هللا عز وجل ويضع‬
‫عليه كنفه فيستره وال يفضحه بين الخالئق حتى عند العرض‪ ،‬وتعرض عليه ذنوبه‪ :‬أتعرف‬
‫ذنب كذا؟ فيقولِ‪ :‬أي نعم يا ربي‪ :‬وال يقال له‪ِ :‬ل َم فعلت كذا؟ وإنما يقال له‪ :‬أتعرف ذنب‬
‫كذا؟ فيقو ِل‪ :‬أي نعم يا ربي‪ ،‬أتعرف ذنب كذا؟ فيقو ِل‪ :‬أي نعم يا ربي‪ ،‬حتى إذا قرره‬
‫بذنوبه وعرض عليه ذنوبه ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك لهذه الذنوب‪ ،‬قال هللا‪ :‬أنا‬
‫سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‪ ،‬فال يستر هللا عبدا في الدنيا إال ستره يوم‬
‫القيامة‪ِ .‬‬
‫لكن ال ينبغي للعبد أن يستهين بالذنب إن ُستر‪ ،‬فلعل هذا يكون استدراجا حتى إذا أخذه‬
‫هللا بذنبه لم يفلت‪ ،‬لكن من أذنب ذنبا فستره هللا في الدنيا فأقلع عنه فهذه بشارة أن هللا‬
‫يستره في اآلخرة‪ ،‬ولن يستر هللا عبده في الدنيا ويفضحه في اآلخرة‪ ،‬بهذا أخبرنا النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وخير من هذا من يدخل الجنة بغير حساب أصال ‪-‬بغير عرض‪ ،-‬حيث أخبر النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم أن سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بغير حساب وال عذاب‪ ،‬وبين صلى هللا‬
‫عليه وسلم أنهم الذين ال يسترقون وال يكتوون وال يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون‪ ،‬كما ثبت‬
‫ذلك عند الشيخين البخاري ومسلم‪ِ .‬‬
‫وصاحب السعادة هذا الذي يحاسب حسابا يسيرا أو ال يحاسب أصال ينقلب إلى أهله في‬
‫الجنة من الحور العين‪ ،‬ومن دخل الجنة من أهله في الدنيا ينقلب فرحا مسرورا‪ ،‬ويظهر‬
‫أثر هذا الفرح على وجهه حتى يكون في أجمل الصور عند دخوله الجنة‪ ،‬وسبب سروره أنه‬

‫‪155‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سلم من عذاب هللا وأدخل الجنة‪ ،‬ومن خاف هللا في الدنيا أمن يوم القيامة وكان من أهل‬
‫السرور إذا لقي هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وأما الفريق الثاني‪ :‬وهو من أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره حيث تلوى يده الشمال وراء‬
‫ظهره فيعطى كتابه مهانا‪ ،‬أنظروا إلى اإلهانة‪ :‬يعطى الكتاب بالشمال ال باليمين‪ ،‬وليس‬
‫بمجرد الشمال‪ ،‬بل إن الشمال تلوى حتى تكون من وراء ظهره‪ ،‬ويعطى كتابه على ذلك‬
‫الحال‪ ،‬وذلك هو الشقي الذي جعل الدنيا همه‪ ،‬ولها بها عن اآلخرة‪ ،‬فكفر بربه أصال‪ ،‬أو‬
‫أسلم لكنه أسرف على نفسه بالذنوب‪ ،‬فعص ى ربه حتى غلب عصيانه طاعاته‪ ،‬ولم يعف‬
‫هللا عنه وجاهر بمعاصيه في الدنيا‪ ،‬فسوف يحاسب حسابا عسيرا ثقيال حيث يناقش‬
‫الحساب‪ ،‬فيقال له‪ِ :‬ل َم فعلت كذا؟ ِل َم فعلت كذا؟ ويذكره هللا بنعمه فيعرفها فيقول هللا‬
‫عز وجل‪ :‬فما صنعت فيها؟ ومن نوقش الحساب عذب وهلك عياذا باهلل‪ِ .‬‬
‫وشر منه من ُيفضح على رؤوس الخالئق كاملشركين واملنافقين الذين ينادى بهم على رؤوس‬
‫الخالئق‪ ،‬فيقول اْلشهاد‪ :‬هؤالء الذين كذبوا على ِربهم أال لعنة هللا على الظاملين‪ِ .‬‬
‫وعند ذاك يدعو الشقي بالويل والهالك والعذاب والشر على نفسه؛ ْلنه تيقن من عذاب‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ويقول وهو يدعو على نفسه بالويل والثبور والهالك والشرور‪َ :‬‬
‫﴿يا‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ‬
‫ل ْيت ِني ل ْم أوت ِكت ِاب َي ْه ﴿‪َ ﴾25‬ول ْم أ ْد ِر َما ِح َس ِاب َي ْه ﴿‪[ ﴾﴾26‬الحاقة‪ ،]26-25 :‬ويكون مآله‬
‫إلى النار املسعرة التي اشتد حرها وعظم عذابها‪ ،‬فيحترق بتلك النار من جميع الجهات‪،‬‬
‫ويأتيه العذاب من كل مكان‪ ،‬فيتمنى أن يموت فال يموت‪ ،‬ويسأل تخفيف العذاب فال‬
‫يجاب‪ ،‬فال يفتر عنه العذاب‪ ،‬وال يخفف عنه العذاب‪ ،‬وال يعتاد على العذاب حتى يخف‬
‫عنه‪ ،‬بل هو في عذاب دائم وسعير دائم ال ينقطع‪ِ .‬‬
‫وهذا الخزي والعذاب ‪-‬الخزي في املوقف والعذاب في النار‪ِ -‬وفاق لعمله في الدنيا‪ ،‬فإنه‬
‫كان في الدنيا في أهله مسرورا فرحا باتباع هواه ونيل شهواته املحرمة ونيل ملذاته املحرمة‪،‬‬
‫وفعله املحرمات‪ ،‬وظن أنه مخلد في الدنيا‪ ،‬ولن يبعث يوم القيامة إن كان كافرا‪ ،‬يعني‪ِ :‬‬

‫‪156‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ ‬إن كان كافرا فإنه كان في الدنيا يظن أنه مخلد في الدنيا‪ ،‬وينكر البعث وأنه لن‬
‫يبعث يوم القيامة ولن يلقى هللا‪ ،‬ويسخر ممن يخبره أنه سيبعث ويلقى هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ ‬وإن كان مسلما عاصيا يكون قد غفل عن هذه الحقيقة وهو في الدنيا وإن كان‬
‫يعتقد بالبعث لكن أصابته الغفلة وألهاه التكاثر وألهته امللذات حتى مات وهو على‬
‫سوء الحال‪ِ .‬‬
‫والحال أن ربه كان به بصيرا ال يخفى منه ش يء عن ربه‪ ،‬وال يخفى من عمله ش يء عن ربه‪،‬‬
‫واملالئكة تشهد عليه وتكتب عمله‪ِ .‬‬
‫فهذان الفريقان قد أخبرنا هللا عنهما وعن حال كل فريق يوم القيامة‪ ،‬ومن أصدق من ربنا‬
‫قيال سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فالواجب على البصير أن يعتبر‪ ،‬وأن يعلم أن السرور في الدنيا بالحرام يستحق به العذاب‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وأن لزوم طاعة هللا وترك الحرام ولو دعت النفس إلى ارتكاب الحرام سبب‬
‫لنيل فضل هللا ودخ ِول الجنة عند لقاء هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فعليه أن يختار‪ِ .‬‬
‫أنت يا عبد هللا؛ يا من تعيش في الدنيا؛ أخبرك هللا أنك عامل والبد‪ ،‬إما أن تعمل صالحا‬
‫فتتقدم‪ ،‬وإما أن تعمل سيئا فتتأخر‪ ،‬وأنك ستبعث‪ ،‬وأنك ستلقى هللا فإلى ربك املنتهى‪،‬‬
‫وأنك ستلقى عملك ال تفقد منه شيئا‪ ،‬وأن الناس يوم القيامة سيكونون على الفريقين‬
‫عند إعطاء الكتاب‪ ،‬فاختر لنفسك اليوم حيث أنك في دار العمل‪ ،‬إن كنت أسرفت فيما‬
‫مض ى فتب إلى هللا صادقا‪ ،‬وأحسن فيما يأتي من أيامك لتكون من أهل السرور يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وإياك أن تكون ممن ُيذهب سرورهم الزائل في الدنيا سرو َرهم الدائم يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وبئس البيع أن يبيع العبد السرور الدائم يوم القيامة بالسرور الزائل في الدنيا‪،‬‬
‫أعني‪ :‬السرور باملحرمات‪ِ .‬‬
‫فوهللا ثم وهللا إن السرور في الدنيا كله ال يساوي لحظة من عذاب هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وإن الشقاء في الدنيا كله ال يساوي لحظة في النعيم يوم القيامة‪ ،‬فإنه يؤتى يوم القيامة‬
‫بأنعم رجل كان في الدنيا من أهل النار فيغمس غمسة في النار فيقال‪ :‬هل رأيت نعيما قط؟‬
‫‪157‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فيقو ِل‪ :‬ال؛ ما رأيت نعيما قط‪ ،‬ويؤتى بأبأس رجل كان في الدنيا من أهل الجنة فيغمس‬
‫غمسة في الجنة فيقال‪ :‬هل رأيت بؤسا قط؟ فيقولِ‪ :‬ال وهللا يا ربي ما رأيت بؤسا قط‪ِ .‬‬
‫ومن هنا تعلم معنى أن الدنيا سجن املؤمن وجنة الكافر‪ ،‬فاملؤمن محبوس بالدنيا عن‬
‫النعيم املقيم في الجنة‪ ،‬فمهما كان في نعيم دنيوي فهو محبوس عن النعيم اْلعظم‪ ،‬وليس‬
‫بين املؤمن الطائع وذاك النعيم إال أن يموت‪ ،‬وأما الكافر فإنه محبوس في الدنيا عن‬
‫العذاب الشديد يوم القيامة‪ ،‬فمهما كان في بؤس في الدنيا فهو بالنسبة آلخرته في جنة‪،‬‬
‫واملؤمن العاص ي على خطر عظيم‪ ،‬قد يدخل النار بسبب ذنوبه فيعذب‪ ،‬وال يطيق العبد‬
‫لحظة واحدة في النار‪ ،‬ثم يخرج إذا شاء هللا أن يخرجه من النار فيدخل الجنة‪ ،‬وقد يعفو‬
‫هللا عنه‪ِ .‬‬
‫فالواجب على العبد أن ينظر إلى نفسه اليوم وأن يختار لنفسه اليوم‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني للجزء الذي قرأه اْلخ نور الدين من هذه‬
‫السورة‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما ذكره اإلمام السعدي رحمه هللا‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ َّ َ‬
‫نسان ِإن َك ك ِاد ٌح ِإل ٰى َرِب َك ك ْد ًحا ف ُمَّل ِق ِيه﴾ قال رحمة هللا عليه‪ :‬أي‪ :‬إنك ساع‬ ‫اإل‬
‫﴿يا أيها ِ‬
‫إلى هللا وعامل بأوامره ونواهيه ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر‪ ،‬ثم تَّلقي هللا يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فَّل تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل‪ ،‬بالفضل إن كنت سعيدا‪ ،‬وبالعقوبة‬
‫العادلة إن كنت شقيا‪ِ .‬‬
‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ‬
‫نسان﴾ قال بعض اْلفسرين‪( :‬ال) هنا للجنس‪ ،‬فهذا خطاب لكل‬ ‫يقول هللا‪ ﴿ :‬يا أيها ِ‬
‫اإل‬
‫إنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا‪ ،‬طائعا أو عاصيا‪ ،‬ويدل لذلك التنويع عند اللقاء في إتيان‬
‫الكتاب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪( :‬ال) هنا للعهد‪ ،‬وهذه السورة مكية‪ ،‬فالخطاب للكفار الذين‬
‫ينكرون البعث‪ ،‬ويدل لذلك ما جاء في آخر اآليات ﴿إ َّن ُه َظ َّن َأن َّلن َي ُح َ‬
‫ور﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واْلظهر وهللا أعلم أن الخطاب لجنس اإلنسان‪ ،‬لكل إنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا‪ِ .‬‬

‫‪158‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ َ‬
‫﴿إن َك ك ِاد ٌح﴾ يقول العلماء‪ :‬الكدح‪ :‬هو العمل املستمر بجد ومشقة‪ ،‬فاإلنسان عامل في‬
‫ِ‬
‫الدنيا والبد بجد ومشقة‪ ،‬وعمله مستمر ال انقطاع فيه حتى يلقى هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫يعني‪ :‬حتى تقوم قيامته بموته‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿ف ُمَّل ِق ِيه﴾ قال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ف ُمَّل ِق ِيه﴾ أي‪ :‬مالقي هللا عز وجل كما قال الشيخ‬
‫السعدي هنا‪ ،‬فأرجعوا الضمير إلى هللا‪ِ .‬‬
‫َ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ف ُمَّل ِق ِيه﴾ أي‪ :‬مالقي عملك‪ ،‬فأرجعوا الضمير إلى العمل‪ِ .‬‬
‫وكال القولين صحيح واقع‪ ،‬فإن اإلنسان كادح إلى ربه كدحا بالعمل فمالقي ربه ومالقي‬
‫عمله‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َ ْ ُ َ َ‬
‫قال‪ :‬ولهذا ذكر تفصيل الجزاء فقال‪﴿ :‬فأما من أو ِتي ِكتابه ِبي ِمي ِن ِه﴾ وهم أهل‬
‫السعادة‪ِ .‬‬
‫(فأما) هذا للتنويع‪ ،‬وهو أن اإلنسان إذا لقي ربه يوم القيامة ولقي عمله يوم القيامة‪ِ :‬‬
‫‪ ‬إما أن يكون من فريق السعداء‪ِ .‬‬
‫‪ ‬وإما أن يكون من فريق اْلشقياء‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ََ‬
‫﴿فأ َّما َم ْن أو ِت َي﴾ ولم يبين لنا من الذي يعطيه الكتاب‪ ،‬نحن علمنا يقينا أنه سيعطى‬
‫الكتاب بيمينه‪ ،‬لكن من الذي سيعطيه هللا أعلم‪ ،‬لم يبن ذلك لنا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ ِكت َاب ُه﴾ أي‪ :‬كتاب أعماله‪ ،‬واْلعمال تكتب مرتين‪ِ :‬‬
‫‪ ‬كتبت أوال في اللوح املحفوظ‪ ،‬فعمل كل إنسان مكتوب عندما خلق هللا القلم وأمره‬
‫أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‪ ،‬لكنه ليس املراد هنا‪ِ .‬‬
‫‪ ‬ويكتب إذا عمله اإلنسان تكتبه املالئكة إن عمل خيرا أو عمل شرا‪ ،‬وهذا الذي‬
‫يؤتاه العامل يوم القيامة‪ ،‬فإن كان من أهل السعادة يؤتى الكتاب بيمينه ويعطى‬
‫الكتاب بيمينه إكراما له وتشريفا له‪.‬‬
‫﴿ف َس ْو َف ُي َح َ‬
‫اس ُب ِح َس ًابا َي ِس ًيرا﴾ وهو العرض اليسير على هللا‪ ،‬فيقرره هللا بذنوبه‪ ،‬حتى‬
‫َ‬

‫إذا ظن العبد أنه قد هلك قال هللا تعالى‪ :‬إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها لك‬

‫‪159‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اليوم‪ِ .‬‬
‫وهذا تفسير الحساب اليسير كما ذكرناه في التفسير اإلجمالي‪ ،‬والحساب اليسير هو السهل‬
‫الذي ال مشقة فيه وال عناء فيه‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫طيب نلحظ أن ربنا سبحانه وتعالى قال‪﴿ :‬ف َس ْوف﴾ (الفاء) هنا واقعة في جواب (أما) وهي‬
‫تفيد الترتيب والتعقيب وتشعر بالقرب‪ ،‬هي واقعة في جواب (فأما) وهي مفيدة للترتيب‬
‫والتعقيب‪ ،‬ومفيدة للقرب ‪-‬مشعرة للقرب‪ ،-‬فظاهر هذا الترتيب أن اإلنسان يؤتى كتابه‬
‫بيمينه‪ ،‬ثم يحاسب حسابا يسيرا‪ ،‬لكن السنة دلت على العكس‪ ،‬الحديث في الصحيحين‬
‫دل على أنه يحاسب حسابا يسيرا‪ ،‬ثم يعطى كتابه‪ ،‬فينطلق بكتابه مسرورا‪ ،‬ويق ِولِ‪ :‬هاؤم‬
‫اقرؤوا كتابيه‪ ،‬فالترتيب والتعقيب هنا هو للقرب‪ ،‬وإال فإن الترتيب أنه يحاسب حسابا‬
‫يسيرا‪ ،‬ثم يعطى كتابه بيمينه‪ِ .‬‬
‫(والفاء) هنا مشعرة بالقرب‪ ،‬وال شك أن اْلمر قريب‪ ،‬فاملوت قريب‪ ،‬والساعة قريبة‪،‬‬
‫والجزاء قريب‪ ،‬فالدنيا سريعة‪ ،‬انظر لنفسك‪ ،‬باْلمس القريب كنت طفال تلعب‪ ،‬واليوم‬
‫أنت شاب أو كهل أو شيخ‪ ،‬وهللا ما بينك اآلن وبين كونك طفال كأنه ساعة‪ ،‬قريب‪ ،‬وهكذا‬
‫سيكون الباقي من عمرك كاملاض ي تماما سيمض ي سريعا‪ ،‬ولو طال عمرك فإنه قريب‪،‬‬
‫ويأتيك املوت وتقبر وتبعث وتلقى عملك وتجازىِ‪ِ .‬‬
‫(فالفاء) هنا كما قلت مشعرة بالقرب‪ ،‬وال شك أن كل ما هو أمامنا قريب وهللا‪ ،‬وإذا‬
‫أردت أن تعتبر فانظر إلى ما خلفك من عمرك كيف أنه كأنه لحظات‪ ،‬وهكذا ما بقي من‬
‫عمرك وعمر الدنيا قريب سريع الزوال‪ ،‬وهللا يكون كأنه لحظات‪ِ .‬‬
‫نقل ُب إ َل ٰى َأ ْهله﴾ في الجنة‪َ ،‬‬
‫﴿م ْس ُرو ًرا﴾ ْلنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب‪.‬‬
‫ََ َ‬
‫﴿وي‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿و َينق ِل ُب ِإل ٰى أ ْه ِل ِه﴾ قال بعض العلماء اْلفسرين‪ :‬أهل خلقهم هللا له في الجنة وهن‬
‫الحور العين وخدمه في الجنة من الغلمان‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أهله في الدنيا من أهل الجنة‪ ،‬يعني‪ :‬أهله الذين كانوا في الدنيا‬
‫ودخلوا الجنة‪ِ .‬‬

‫‪160‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهذا كما قلنا مرارا وهذا على اختالف املفسرين اختالف تنوع وليس اختالف تضاد‪ ،‬فهو‬
‫ينقلب إلى أهله من الحور العين والحور الطين وأوالده ممن دخلوا الجنة‪ ،‬فيجتمع مع أهله‬
‫الذين يحبهم من أهل الدنيا‪ ،‬ويزيده هللا أهال في الجنة‪ ،‬فيعظم سروره‪ ،‬من سرور املؤمن في‬
‫الجنة ونعيم املؤمن في الجنة أنه ال ي َّ‬
‫فرق عن أهله الذين كانوا معه في الدنيا إذا دخلوا‬
‫الجنة‪ ،‬بل يرفع اْلدنى منزلة منهم إلى اْلعلى‪ ،‬وال ينزل اْلعلى إلى اْلدنى‪ ،‬ال؛ يعني لو كان اْلب‬
‫صالحا وكان في منزلة عالية في الجنة‪ ،‬ودخلت زوجته الجنة ودخل أوالده الجنة ‪ ،‬لكنهم في‬
‫مرتبة دنيا بالنسبة له‪ ،‬فإنهم ال يبقون هكذا؛ ْلنه ال يفرق بين صاحب الجنة وأهله‪ ،‬وال‬
‫ُ‬
‫ينزل اْلعلى إلى اْلدون‪ ،‬وإنما يرفع اْلدون إلى اْلعلى‪ ،‬وكذلك االبن لو كان صالحا فأدخل‬
‫الجنة فكان في مرتبة عليا‪ ،‬ودخل أبواه الجنة ولكنهما كانا بالنسبة له في مرتبة أدون في‬
‫الجنة‪ ،‬وكما قلت مرارا وتكرارا يا إخوة مراتب الجنة مراتب كمال‪ ،‬يعني‪ :‬التفاضل فيها‬
‫تفاضل كمال‪ ،‬ليس فيها شقاء أبدا‪ ،‬ليس في الجنة شقاء أبدا‪ ،‬لكن يتفاضل أهل الجنة في‬
‫الكمال‪ ،‬فإن الوالدين يرفعان إلى منزلة االبن وال يفرق بينهما‪ِ .‬‬
‫﴿م ْس ُرو ًرا﴾ قال الشيخ‪ْ :‬لنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب‪.‬‬‫َ‬
‫وقال العلماء‪ :‬سروره في قلبه تظهر بهجته على وجهه‪ ،‬وهذا معروف يا إخوة الذي في‬
‫القلب يظهر على الوجه‪ِ .‬‬
‫اإلنسان إذا كان حزينا في قلبه سترى في وجهه وعينيه أثر الحزن‪ ،‬وإذا كان مسرورا سترى‬
‫ذلك في وجهه وعينيه‪ ،‬فينعكس سرور قلبه بهجة ونضرة على وجهه‪ ،‬ويكون سروره بحسب‬
‫عمله ونضرته بحسب عمله‪ ،‬فيتفاوت أهل الجنة في جمالهم‪ ،‬وكل من يدخل الجنة يكون‬
‫جميال‪ ،‬لكن أهل الجنة يتفاوتون في الجمال بحسب أعمالهم في الدنيا‪ ،‬وما يحصل لهم من‬
‫سرور في اآلخرة بسبب أعمالهم بفضل هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫﴿وأ َّما َم ْن أو ِت َي ِكت َاب ُه َو َر َاء ظ ْه ِر ِه﴾ أي‪ :‬بشماله من وراء ظهره‪.‬‬
‫بعض العلماء قالوا‪ :‬إن الناس ثالثة أقسام‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬قسم يؤتى كتابه بيمينه‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬وقسم يؤتى كتابه بشماله‪ِ .‬‬

‫‪161‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ .3‬وقسم يؤتى كتابه من وراء ظهره‪ِ .‬‬


‫لكن اْلقرب وهللا أعلم ما ذهب إليه اْلكثر من أن الناس على فريقين‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬قسم يؤتى كتابه بيمينه‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬وقسم تلف شماله وراء ظهره‪ ،‬فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره إذالال له وخزيا‬
‫له نعوذ باهلل من ذلك‪.‬‬
‫ورا﴾ من الخزي والفضيحة وما يجد في كتابه من اْلعمال التي قدمها‬ ‫﴿ف َس ْو َف َي ْد ُعو ُث ُب ً‬
‫َ‬

‫ولم يتب منها‪ِ .‬‬


‫﴿ف َس ْو َف َي ْد ُعو ُث ُب ً‬
‫ورا﴾ أنه ينادي على‬
‫َ‬
‫الثبور قال العلماء‪ :‬هو الهالك والشر‪ ،‬فمعنى‪:‬‬
‫نفسه بالهالك والشر‪ :‬يا ويلي‪ ،‬يا هالكي ‪-‬نعوذ باهلل‪ -‬ليتني لم أؤت كتابيه ولم أدر ما‬
‫حسابيه‪ ،‬ينادي على نفسه بين الناس‪ ،‬يرفع صوته‪ ،‬هذا معنى الدعاء‪ ،‬يرفع صوته وينادي‬
‫ويدعو على نفسه بالهالك والشر والويل‪ ،‬ويقولِ‪ :‬ليتني لم أوت كتابيه‪ ،‬ولم أدر ما حسابيه‪ِ .‬‬
‫ََ َْ‬
‫صل ٰى َس ِع ًيرا﴾ أي تحيط به السعير من كل جانب ويقلب على عذابها‪.‬‬ ‫﴿وي‬
‫يقول العلماء‪ :‬معنى (يصلى) يحترق ويقاس ي شدة الحر ويعاني العذاب‪ِ .‬‬
‫سعيرا قال العلماء‪ :‬السعير‪ :‬هي النار شديدة الحرارة عظيمة العذاب‪ِ .‬‬
‫ََ َْ‬
‫صل ٰى َس ِع ًيرا﴾؛ أي‪ :‬ويحترق بنار شديدة الحرارة يعاني حرها‪ ،‬ويقاس ي من عذابها‬ ‫فمعنى ﴿وي‬
‫نعوذ باهلل من عذاب هللا‪ِ .‬‬
‫وذلك ْلنه كان في أهله مسرورا ال يخطر البعث على باله وقد أساء‪ ،‬وال يظن أنه راجع‬
‫إلى ربه وموقوف بين يديه‪ِ .‬‬
‫(إنه) تعليلية‪ ،‬يعني‪ :‬أن هذا العذاب والخزي يوافق عمله؛ ْلنه كان في أهله في الدنيا‬
‫مسرورا‪ِ .‬‬
‫سبحان هللا! انظر كيف قابل هللا بين السعيد والشقي‪ِ :‬‬
‫‪-‬السعيد متى يكون في أهله مسرورا؟ في الجنة‪ ،‬نعم؛ هو قد ُي َس ُّر في الدنيا لكن سروره‬
‫اْلعظم في الجنة‪ِ .‬‬

‫‪162‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪-‬وأما الشقي فال سرور له في أهله إال في الدنيا‪ِ .‬‬


‫َّ َ‬
‫ور﴾ ﴿ ِإن ُه ظ َّن﴾ أي اعتقد إن كان كافرا‪ِ .‬‬‫﴿إ َّن ُه َظ َّن َأن َّلن َي ُح َ‬
‫ِ‬
‫﴿أن َّلن َي ُح َ‬ ‫َ‬
‫ور﴾ لن يحور يعني لن يرجع إلى هللا‪ِ :‬‬
‫‪ ‬فإن كان كافرا في الدنيا فإنه اعتقد أنه لن يبعث ولن يرجع إلى هللا‪ ،‬لكن ملا كان‬
‫اعتقاده باطال ال حقيقة له حتى في نفسه فإن اآليات التي تدل على البعث ظاهرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫ن‬ ‫ور‬
‫جدا‪ ،‬قال هللا‪﴿ :‬أن لن يح ﴾ فسماه ظنا؛ ِْلنه ما يمكن أن تكو له عقيدة‬
‫دينية؛ ْلن كل ش يء يراه يدله على أنه سيموت‪ ،‬وعلى أن هللا قادر على أن يبعثه‪،‬‬
‫فهو في الحقيقة ظن‪ ،‬وإن كان ينكر البعث ويعتقد ذلك‪ِ .‬‬
‫‪ ‬وإن كان من أهل الشقاء املسلمين الذي يسميه العلماء بالشقاء املؤقت‪ ،‬فإنه ظن‬
‫الرجوع والبعث فلها بالدنيا‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫أنه لن يحور؛ أي‪ :‬غفل عن‬
‫والعلماء يقولون‪ :‬الناس يوم القيامة ثالثة أقسام من جهة السعادة والشقاء‪ :‬سعيد‬
‫مطلقا‪ ،‬وشقي مطلقا‪ ،‬وشقي مؤقت‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫ابتداء‪ِ .‬‬ ‫‪ .1‬سعيد مطلقا هم الذين يدخلون الجنة‬
‫‪ .2‬وشقي مطلقا هم الكفار واملنافقون املخلدون في النار‪ِ .‬‬
‫‪ .3‬وشقي شقاء مؤقتا هم عصاة املوحدين الذين شاء هللا أن يدخلوا النار؛ شاء هللا‬
‫بعدله أن يدخلوا النار‪ ،‬فهؤالء لهم شقاء مؤقت‪ِ .‬‬
‫فالسعيد اعتقد أنه سيبعث وعمل ملا بعد املوت‪ ،‬ولم تلهه الدنيا بزخارفها عن اآلخرة‪،‬‬
‫والشقي املطلق اعتقد في الدنيا أنه لن يبعث فعمل للدنيا ولم يعمل لآلخرة‪ ،‬والشقي شقاء‬
‫مؤقتا غفل عن البعث‪ ،‬فألهته الدنيا حتى طغت على قلبه‪ ،‬فعمل املعاص ي وأسرف‪ ،‬ولم‬
‫يتب إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهذا كما تعلمون يوم القيامة تحت املشيئة‪ :‬إن شاء ربه عفا‬
‫عنه بفضله‪ ،‬وإن شاء ربه عذبه بعدله‪ ،‬فإن شاء ربنا أن يعفو عنه صار من أهل السعادة‬
‫املطلقة‪ ،‬وإن شاء هللا أن يعذبه صار من أهل الشقاء شقاء مؤقتا‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿بل ٰى ِإ َّن َرَّب ُه كان ِب ِه َب ِص ًيرا﴾ فَّل يحسن أن يتركه سدى ال يؤمر وال ينهى وال يثاب وال‬
‫يعاقب‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿بل ٰى ِإ َّن َرَّب ُه كان ِب ِه َب ِص ًيرا﴾ فال يخفى منه عليه ش يء‪ ،‬وال يخفى من عمله عليه ش يء‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وكان ربه قد علمه وبين له طريق الجنة وأمره بلزومه‪ ،‬وبين له طريق النار وحذره من‬
‫سلوكه‪ ،‬ثم إن إيابه إلى هللا وحسابه على هللا‪ِ .‬‬
‫َ ً‬ ‫ََ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ََ ُ ْ‬
‫﴿فَّل أق ِس ُم ِبالشف ِق (‪َ )16‬والل ْي ِل َو َما َو َس َق (‪َ )17‬والق َم ِر ِإذا ات َس َق (‪ )18‬لت ْرك ُب َّن ط َبقا َعن‬
‫َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ط َب ٍق (‪ )19‬ف َما ل ُه ْم ال ُيؤ ِمنون (‪َ )20‬و ِإذا ق ِر َئ َعل ْي ِه ُم الق ْرآن ال َي ْس ُج ُدون ۩ (‪َ )21‬ب ِل‬
‫َّ‬ ‫ََ ُْ ََ َ‬ ‫َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ ُ َ ُ َ‬
‫اب أ ِل ٍيم (‪ِ )24‬إال‬ ‫ٍ‬ ‫ذ‬‫ع‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫ش‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫)‬ ‫‪23‬‬ ‫(‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫وع‬ ‫ي‬ ‫ا‬‫م‬‫ب‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫أ‬ ‫ه‬‫الل‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪22‬‬ ‫(‬ ‫ن‬‫ال ِذين كفروا يك ِذبو‬
‫ُ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َّ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫ات ل ُه ْم أ ْج ٌر غ ْي ُر َم ْمنو ٍن (‪ِ .﴾)25‬‬‫ِ ِ‬ ‫ح‬‫ال‬ ‫الص‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫ال ِذين آمنوا وع ِم‬
‫يقسم هللا عز وجل بهذه اآليات العظيمة التي تكون في الليل‪ ،‬وهي تدل على وجوده سبحانه‬
‫وعلى تدبيره ْلحوال عباده وعلى قدرته على تغيير أحوالهم من حال إلى حال‪ِ .‬‬
‫وللعظيم سبحانه أن يقسم بما شاء‪ ،‬وليس لإلنسان أن يقسم إال بربه العظيم سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فمن حلف بغير هللا فقد كفر أو أشرك‪ِ .‬‬
‫واملقسم عليه هنا أمر ثابت ال يحتاج أن َ‬
‫يقسم عليه‪ ،‬لكن أقسم هللا عليه مزيدا للتأكيد‬ ‫َ‬
‫وإلقامة الحجة‪ ،‬وإال فهذا َ‬
‫املقسم عليه ثابت يقينا‪ ،‬فإن هللا أخبر عن ذلك ومن أصدق من‬
‫هللا قيال‪ ،‬وإن اآليات الكونية دالة على ذلك‪ ،‬لكن أقسم هللا عز وجل عليه ليزداد اطمئنان‬
‫النفوس املؤمنة به‪ ،‬ولتقام الحجة على الكافرين‪ِ .‬‬
‫فأقسم ربنا بالشفق وهو الضوء اْلحمر الذي يكون في أول الليل بعد غروب الشمس‪ ،‬ثم‬
‫الضوء اْلبيض الذي يتلو الضوء اْلحمر‪ِ .‬‬
‫فالشفق شفقان‪ِ :‬‬
‫‪ ‬شفق أحمر‪ :‬وهو الذي علقت بغيبوبته صالة العشاء عند جمهور الفقهاء‪ِ .‬‬
‫‪ ‬وشفق أبيض‪ :‬وهو يتلو الشفق اْلحمر‪ ،‬وهو آية عظيمة من آيات هللا سبحانه‬
‫وتعالى حيث يظهر في هذا الوقت في أول الليل عند إقبال الظلمة‪ِ .‬‬

‫‪164‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وأقسم سبحانه بالليل وهو ‪-‬أعني الليل‪ -‬في نفسه آية عظيمة في إقباله وفي إدباره‪ ،‬حيث‬
‫يقبل على اْلرض فيغش ى اْلِرض ويغطيها‪ ،‬ثم يدبر فتنقشع ظلمته‪ ،‬فسبحان هللا! من أين‬
‫أتى هذا الظالم كله؟! وإلى أين ذهب هذا الظالم كله؟! ِ‬
‫وهو آية في اْلحوال التي تقع فيه وتناسب سكونه وظلمته‪ ،‬حيث يجمع ويضم اْلشياء‬
‫املنتثرة املنتشرة في النهار‪ ،‬وتسكن فيه الدواب بأن ترجع إلى أوكارها ومأواها‪ ،‬ويسكن فيه‬
‫اإلنسان بأن ينام ويلقي عنه تعب النهار‪ِ .‬‬
‫وأقسم بالقمر حال اكتمال ضوئه وتمام ضوئه وذلك إذا أصبح بدرا‪ ،‬ويكون ذلك في وقت‬
‫منتظم من الشهر ال يتقدم وال يتأخر‪ ،‬ويكون له أثره في الليل فتستنير اْلرض مع ظلمة‬
‫الليل‪ ،‬وكل هذا فيه آيات عظيمة‪ِ .‬‬
‫وكان َ‬
‫املقسم عليه الذي أقسم عليه العظيم سبحانه بهذه اآليات لتركبن أيها الناس في‬
‫حياتكم الدنيا وفي أخراكم طبقا عن طبق‪ ،‬فتكونون في الدنيا على أطوار وتتنقلون في‬
‫أحوال‪ ،‬فاإلنسان في أول أمره يكون محبوسا في ظلمة الرحم‪ ،‬وفي آخر أمره يكون محبوسا‬
‫في ظلمة القبر إال من وسع هللا عليه قبره وأنار له قبره‪ِ .‬‬
‫واإلنسان يبدأ طفال ضعيفا في جسده‪ ،‬ضعيفا في عقله‪ ،‬ثم ينتقل إلى حال الشباب‬
‫فيقوى‪ ،‬ثم ينتقل إلى حال الكهولة‪ ،‬ثم ينتقل إلى حال الشيب إن كتب هللا له البقاء‪ ،‬ثم‬
‫يموت لينتقل من حال الدنيا إلى حال اآلخرة‪ ،‬ويبقى في قبره ما شاء هللا أن يبقى ويك ِونِ في‬
‫قبره على أحوال‪ :‬فإما معذب ‪-‬عياذا باهلل‪ ،-‬وإما منعم‪ِ .‬‬
‫ُويبعث يوم القيامة ويكون الناس عند بعثهم على أحوال‪ ،‬ويرون الشدائد واْلهوال‪ ،‬ثم‬
‫يكونون في مآلهم ومستقرهم على أحوال‪ ،‬فمنهم سعيد‪ ،‬ومنهم شقي‪ ،‬ومنهم من يشقى في‬
‫أول أمره ثم ُيلحق بالسعداء‪ِ .‬‬
‫فهذا أمر عظيم أقسم عليه العظيم سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وال يكون ذلك إال بأمر هللا وتدبيره‪ ،‬وهذا يدل العاقل ‪-‬أعني ما يراه من أطوار وأحوال في‬
‫الدنيا‪ -‬على حقيقة البعث‪ ،‬وأن هللا قادر إذا شاء أن يغير أحوال الدنيا بالبعث لتكون‬
‫اآلخرة‪ِ .‬‬

‫‪165‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهنا تلحظ مناسبة ما أقسم هللا به للمقسم عليه‪ ،‬فأقسم هللا بأحوال في الليل على أن‬
‫اإلنسان يكون على أحوال وأطوار في دنياه‪ ،‬ويكون على أحوال في أخراه‪ ،‬وفي ذلك عبرة ملن‬
‫اعتبر ونظر وتفكر وتدبر‪ ،‬فإن ذلك يدله على وجود هللا وعلى قدرة هللا وعلى تدبير هللا‪،‬‬
‫وعلى أن املستحق للعبادة وحده هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ويدله على البعث وما فيه من‬
‫اْلحوال‪ِ .‬‬
‫فما لهؤالء الكفار الذين ينكرون البعث مع ثبوته ال يصدقون تصديقا مع انقياد وعمل؟‬
‫أال عقول لهم؟! إنهم لفي أمر مريج ومنكر عظيم‪ِ .‬‬
‫وما لهم إذا قرئ عليهم القرآن بما فيه من إعجاز ال تخشع قلوبهم وال تخضع أجسادهم هلل‬
‫ِّ‬
‫وال يصلون؟! ِ‬
‫ِّ‬
‫يكذبون بالقرآن وما جاء به النبي‬‫إن الذي يجعلهم على هذه الحال القاسية الخبيثة أنهم ِ‬
‫صلى هللا عليه وسلم تكذيب مكابرة وعناد‪ ،‬وليس اعتقادا مبنيا على أصول صحيحة‪ ،‬بل‬
‫كل ش يء يدلهم على ثبوت ما ينفون‪ ،‬ولكنهم يكذبون تكذيب املعاند املكابر‪ِ .‬‬
‫والر ُّاد للحق عنادا ومكابرة ِال حيلة فيه‪ ،‬فمهما أوردت عليه من اْلدلة ال يستنير قلبه‬
‫بالحق وال يقبل على الحق إال أن يشاء هللا أن يرحمه‪ ،‬فيدفع عنه هذا العناد وهذه‬
‫املكابرة‪ِ .‬‬
‫وهللا سبحانه العليم أعلم بهم وبأعمالهم وبما تكنه أنفسهم وقلوبهم‪ ،‬أعلم بهم من‬
‫أنفسهم سبحانه وتعالى‪ ،‬يعلم ما في قلوبهم وما يسرون وما يخفون‪ ،‬وما يعلنون وما‬
‫يجهرون به‪ ،‬ويحص ي ذلك عليهم وسيجازيهم بأعمالهم‪ِ .‬‬
‫وليس للكفار يوم القيامة إال النار‪ ،‬فبشرهم يا رسولنا بعذاب أليم دائم ال ينقطع‪ِ .‬‬
‫لكن الذين آمنو فصدقوا تصديقا مع إذعان وعمل صالح فلهم شأن آخر‪ ،‬فلهم ثواب على‬
‫أعمالهم غير مقطوع عنهم وال منغص عليهم وال مكدر عليهم‪ ،‬فهم في نعيم ال تشوبه شائبة‪،‬‬
‫وقلوبهم به متنعمة ال ينغصها خوف ذهاب وال قلق من نقص‪ ،‬وأجسادهم به متنعمة في‬
‫جنة أعد هللا فيها لعباده الصالحين ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ِ .‬‬
‫فشتان معاشر املؤمنين بين حال الكافرين املعذبين‪ ،‬وبين حال املؤمنين املنعمين‪ِ .‬‬

‫‪166‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واملؤمن إذا سمع هذا فإنه يبرأ إلى هللا من الكفر وأهله‪ ،‬ويجهد نفسه في أن يتقرب إلى هللا‬
‫بكل ما يستطيع لعله أن يكون من الفائزين‪ِ .‬‬
‫هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمة ونعود إلى التفسير التفصيلي‬
‫ونقرأ ما ذكره اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق عليه ِ‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫والسامعين‪ :‬أقسم في هذا اْلوضع بآيات الليل فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور‬
‫الشمس الذي هو مفتتح الليل‪.‬‬
‫ََ ُ ْ‬
‫﴿فَّل أق ِس ُم﴾ يقول اْلفسرون أو أكثر اْلفسرين‪( :‬ال) هنا صلة بمعنى أنها زائدة للتوكيد‪،‬‬
‫زائدة لتوكيد القسم‪ ،‬ولها فائدة فليس في القرآن ما ال فائدة له‪ ،‬لها فائدة‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ ‬وهي‪ :‬أنها تفيد أن املقسم عليه ثابت يقينا وال يحتاج أن يقسم عليه‪ ،‬لكن ِ‬
‫يقسم‬
‫هللا عليه رحمة بالناس لتطمئن قلوبهم ويزداد أهل اإليمان إيمانا‪ِ .‬‬
‫‪ ‬كما أنها تفيد أن َ‬
‫املقسم عليه مع ثبوته يقينا فإن من البشر من نفاه‪.‬‬
‫دائما إذا وجدت بين يدي القسم (ال) فاعلم هذه الفائدة‪ ،‬أنها تفيد هذين اْلمرين‪ِ :‬‬
‫‪ ‬اْلمر اْلول‪ :‬أن املقسم عليه ثابت ثبوتا يقينيا بدون القسم؛ وال حاجة ْلن يقسم‬
‫عليه‪ ،‬لكن هللا يتفضل على املؤمنين بالقسم عليه لتطمئن قلوبهم وليزدادوا إيمانا‬
‫مع إيمانهم‪.‬‬
‫‪ ‬والفائدة الثانية‪ :‬أن َ‬
‫املقسم عليه مع ثبوته ثبوتا يقينيا بينا فإن هناك من البشر‬
‫من انطمست بصائرهم حتى أنكروا ذلك املقسم عليه‪.‬‬
‫رأيتم الفائدة يا إخوة؟ ليس في القرآن زائد ال يفيد بحيث يستغنى عنه من جهة املعنى‪،‬‬
‫ي‪ِ .‬‬
‫وإنما تكون الزيادة من حيث التركيب اللغو ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى (فَّل) أي‪ :‬ليس اْلمر كما ظن الكفار‪ ،‬فالنفي هنا ليس‬
‫واقعا على القسم‪ ،‬وإنما واقع على ظن الكفار‪ ،‬فمعنى (فَّل) أي‪ :‬ليس اْلمر كما ظن‬
‫ُْ‬
‫الكفار؛ بل أق ِسم على خالف ظنهم‪ِ .‬‬

‫‪167‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ‬
‫قالوا‪ :‬معنى (فَّل) أي‪ :‬فليس اْلمر كما ظن الكفار بل أ ْق ِسم على خالف ظنهم‪ ،‬واْلول‬
‫أقوى ‪-‬ما ذهب إليه أكثر املفسرين أقوىِ‪ ،-‬وإن كان للثاني وجه‪ِ .‬‬
‫والقسم‪ :‬هو الحلف واليمين لتوكيد اْلمر‪ِ .‬‬
‫َّ َ‬
‫﴿ ِبالشف ِق﴾ الشفق‪ :‬هو الضوء الذي يظهر عند أول الليل فيكون أحمر ثم يعقبه ضوء‬
‫أبيض‪ ،‬وهذا الضوء اْلبيض ‪-‬قال بعض العلماء‪ -‬يمتد إلى قرب نهاية الثلث اْلول من‬
‫الليل‪ ،‬وبعده تبدأ الظلمة الشديدة حيث يذهب هذا الضوء‪ِ .‬‬
‫وأصل معنى الشفق من الرقة‪ ،‬ومنه يقال‪ :‬إن الوالد شفيق؛ أي‪ :‬رقيق القلب‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫أشفقت على اليتيم؛ أي‪ :‬رق قلبي له‪ ،‬فسمي هذا الضوء شفقا لرقته‪ ،‬ليس ضوءا‬
‫ساطعا‪ ،‬وإنما هو ضوء رقيق ضعيف يكون في أول الليل‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل َو َما َو َس َق﴾؛ أي‪ :‬احتوى عليه من حيوانات وغيرها‪.‬‬
‫﴿ َو َما َو َس َق﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬ما جمع وضم‪ِ .‬‬
‫فالوسق‪ :‬هو الجمع والضم‪ِ .‬‬
‫ومعنى ذلك أنه في الليل يجتمع ما انتشر في النهار‪ :‬الناس والحيوانات‪ ،‬كلها تنتشر في النهار‪،‬‬
‫فإذا جاء الليل اجتمع ما انتشر في النهار‪ ،‬فتأوي الطيور إلى أوكارها‪ ،‬وتأوي الحيوانات إلى‬
‫مأواها‪ ،‬ويأوي اإلنسان إلى سكنه وبيته وينام‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪َ ﴿ :‬و َما َو َس َق﴾ من السوق وهو الجلب‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن الليل يجلب الناس‬
‫والحيوانات إلى مخادعها‪ ،‬يسوقها بعد أن كانت منتشرة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪َ ﴿ :‬و َما َو َس َق﴾ من الوسق بمعنى‪ ،‬جن وستر‪ ،‬فمعنى ﴿ َو َما َو َس َق﴾؛‬
‫أي‪ :‬وما ستر من املخلوقات واْلعمال‪ ،‬فإن الليل يستر املخلوقات ومنها اإلنسان‪ ،‬ويستر‬
‫اْلعمال أيضا منها‪ :‬قيام الليل وقراءة القرآن في الليل والدعاء في الليل والذكر في الليل‬
‫يستره الليل‪ ،‬ولذلك العمل في الليل أقرب إلى اإلخالص من العمل في النهار؛ ْلن الليل‬
‫يستره‪ِ .‬‬

‫‪168‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهذا االختالف كأكثر اختالف املفسرين اختالف تنوع‪ ،‬فالكل داخل في قول هللا عز وجل‬
‫﴿ َو َما َو َس َق﴾؛ أي‪ :‬ما جمع وضم وجلب وجن وستر‪ ،‬كلها تدخل في هذا املعنى ِ‬
‫َ َّ‬ ‫َ َْ‬
‫﴿والق َم ِر ِإذا ات َس َق﴾ أي امتأل نورا بإبداره وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع‪.‬‬
‫َّ‬
‫﴿ات َس َق﴾ يعني‪ :‬اكتمل نوره فصار بدرا‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫ومعنى ﴿ات َس َق﴾ في اْلصل تم واجتمع واستوى‪ ،‬يقال‪ :‬اتسق أمرك؛ أي‪ :‬تم أمرك‪ ،‬فمعنى‬
‫َّ‬
‫﴿ات َس َق﴾ تم واستوى واجتمع‪ ،‬فمعنى (اتسق القمر)؛ أي‪ :‬تم نوره واكتمل نوره فصار‬
‫بدرا‪ِ .‬‬
‫ََ َ‬
‫قال‪ :‬واْلقسم عليه قوله‪﴿ :‬لت ْرك ُب َّن﴾؛ أي‪ :‬أيها الناس‪﴿ ،‬طبقا عن طبق﴾؛ أي‪ :‬أطوارا‬
‫متعددة وأحواال متباينة من النطفة إلى العلقة إلى اْلضغة إلى نفخ الروح‪ ،‬ثم يكون‬
‫وليدا وطفَّل ومميزا‪ ،‬ثم يجري عليه قلم التكليف واْلمر والنهي‪ ،‬ثم يموت بعد ذلك ثم‬
‫يبعث ويجازى بأعماله‪.‬‬
‫فهذه طبقات مختلفة الجارية على العبد دالة على أن هللا وحده هو اْلعبود اْلوحد‬
‫اْلدبر لعباده بحكمته ورحمته‪ ،‬وأن العبد فقير عاجز تحت تدبير العزيز الرحيم‪ِ .‬‬
‫ََ َ‬
‫هذا على قراءة ضم الباء ﴿لت ْرك ُب َّن﴾؛ أي‪ :‬أيها الناس لتكونون أطوارا وعلى أحوال في‬
‫حياتكم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الخطاب ليس للناس جميعا وإنما ملن بعث لهم محمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم؛ أي‪ :‬لتعملن كما عملت اْلمم من قبلكم‪ ،‬فمنكم من يؤمن به ومنكم من‬
‫يكفر‪ ،‬هذا خطاب ْلمة الدعوة؛ يعني‪ :‬سيكون شأنكم مع محمد صلى هللا عليه وسلم‬
‫كشأن اْلمم السابقة مع أنبيائها فمنكم من يؤمن ومنكم من يكفر‪ِ .‬‬
‫ويكون الخطاب أيضا ْلمة اإلجابة بأنكم ستعملون أعمال من قبلكم من اليهود والنصارى‪،‬‬
‫فتتبعون سنن من كان قبلكم‪ِ .‬‬
‫ََ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين في قراءة ﴿لت ْرك ُب َّن﴾ بضم الباء‪ :‬الخطاب للكفار خاصة؛ أي‪ :‬لتكونن‬
‫في النار في دركات وطبقات‪ ،‬تطبق عليكم وتغلق عليكم فال محيد لكم عنها وال مخرج لكم‬
‫منها وال متنفس لكم من عذابها وال ضوء فيها وعذابها مطبق بكم‪ِ .‬‬

‫‪169‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ََ َ‬
‫هذه ثالثة أقوال في قراءة ﴿لت ْرك ُب َّن﴾‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬القول اْلول‪ :‬أن الخطاب لعموم الناس على املعنى الذي ذكرناه‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬والقول الثاني‪ :‬أن الخطاب ْلمة محمد صلى هللا عليه وسلم من أمة الدعوة وأمة‬
‫اإلجابة‪ِ .‬‬
‫‪ .3‬والقول الثالث‪ :‬أن الخطاب للكفار املنكرين بالبعث‪.‬‬
‫ُ‬
‫وق ِرأت اآلية قراءة سبعية بفتح الباء ﴿لتركبن﴾‪ ،‬فيكون الخطاب ملحمد صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ويكون املعنى‪ :‬لتكونن مع الناس في أحوال وتمر بشدائد بسبب دعوتك إلى التوحيد‪،‬‬
‫لتكونن يا محمد مع الناس في أحوال وستمر بشدائد‪ :‬منها إخراج قومه له‪ ،‬ومحاربة قومه‬
‫له إلى غير ذلك‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى لتركبن يا محمد السماوات السبع‪ ،‬وقد كان ذلك في املعراج‬
‫حيث مر النبي صلى هللا عليه وسلم بالسماوات السبع‪ِ .‬‬
‫والقرآن يجمع املعاني‪ ،‬وال تضاد بين هذه املعاني كلها‪ِ .‬‬
‫والطبق ‪-‬قال العلماء‪ :-‬هو اْلمر الشديد‪ ،‬وكذلك اْلمر املحيط وكذلك الجماعة‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ومع هذا فكثير من الناس ال يؤمنون‪.‬‬
‫أي‪ :‬ال يصدقون تصديقا معه إذعان وعمل‪ ،‬فما الذي جعلهم كذلك؟ ِ‬
‫َ َ َ ْ ُ َ‬
‫﴿ف َما ل ُه ْم ال ُيؤ ِمنون﴾ وهذا استفهام إنكاري تضمن التعجيب من حالهم‪ ،‬هذا االستفهام‬
‫إنكاري؛ ْلنه ال شك أنهم فعلوا منكرا‪ ،‬فإن إنكار البعث وعدم اإليمان منكر واضح النكران؛‬
‫ْلن اْلدلة على البعث وعلى صدق النبي صلى هللا عليه وسلم أوضح من الشمس‪ ،‬وهذا‬
‫االستفهام اإلنكاري تضمن التعجيب من حالهم‪ ،‬وهو يشعر املؤمن بأن يحمد هللا‪ِ .‬‬
‫ما الفرق بين من آمن ومن كفر؟ هذا إنسان وهذا إنسان‪ ،‬هذا له عقل وهذا له عقل‪،‬‬
‫لكن تفضل هللا على من شاء ممن هو أهل للهداية فهداه‪ ،‬فهذا االستفهام متضمن‬
‫للتعجيب من حال الكفار‪ ،‬ومشعر للمؤمن بحمد هللا على نعمة الهداية لإليمان‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫﴿ َو ِإذا ق ِر َئ َعل ْي ِه ُم الق ْرآن ال َي ْس ُج ُدون﴾‪ ،‬أي‪ :‬ال يخضعون للقرآن وال ينقادون ْلوامره‬
‫ونواهيه‪ِ .‬‬
‫‪170‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ال َي ْس ُج ُدون﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني ال يخشعون وال يخضعون‪ ،‬وعلى هذا يشمل‬
‫هذا جميع أحوالهم‪ ،‬ويدل أيضا على أن قلوبهم أقس ى من الجبال‪ ،‬فإن هذا القرآن لو أنزل‬
‫على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية هللا‪ ،‬وهؤالء القوم يفهمون القرآن ومع ذلك ال‬
‫يخشعون وال يخضعون‪ ،‬فقلوبهم قاسية أشد من قسوة الحجارة‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ال َي ْس ُج ُدون﴾؛ أي‪ :‬ال يصلون‪ ،‬والسجود يطلق على الصالة‬
‫كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم لذلك الرجل‪( :‬أعني على نفسك بكثرة السجود)؛ أي‪:‬‬
‫بكثرة الصالة‪ِ .‬‬
‫قالوا‪ :‬وخصت الصالة هنا؛ ْلنها أعظم اْلعمال‪ ،‬بل هي عند جمع من العلماء أصل في‬
‫اإلسالم من لم يأت بها ولو أقر بوجوبها ال يكون مسلما‪ِ .‬‬
‫وللفقهاء مبحث في هذه اآلية هل هي من آيات سجود الت ِالوة أو ليست من آيات سجود‬
‫التالوة محل هذا املبحث كتب الفقه‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫ين كف ُروا ُيك ِذ ُبون﴾ أي‪ :‬يعاندون الحق بعدما تبين‪ ،‬فَّل يستغرب عدم إيمانهم‬ ‫﴿ب ِل ال ِذ‬
‫وانقيادهم للقرآن فإن اْلكذب بالحق عنادا ال حيلة فيه‪.‬‬
‫َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ‬
‫ن‬
‫﴿والله أعلم ِبما يوعو ﴾ أي‪ :‬بما يعملونه وينوونه سرا‪ ،‬فاهلل يعلم سرهم وجهرهم‬
‫وسيجازيهم بأعمالهم‪ِ .‬‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫وعون﴾؛ أي‪ :‬بما يخفون ويضمرون في قلوبهم‪ِ .‬‬ ‫فمعنى ﴿ ِبما ي‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫وعون﴾؛ أي‪ :‬بما يجمعون من اعتقادات وأعمال‪،‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ ِبما ي‬
‫َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ‬
‫ن‬
‫﴿والله أعلم ِبما يوعو ﴾ حتى من أنفسهم ويحصيه عليهم‪ِ .‬‬
‫وهذه اآلية متضمنة الوعيد‪ ،‬ليست مجرد خبر‪ ،‬بل هو خبر ضمن الوعيد‪ ،‬فإن هللا أعلم‬
‫بما يوعون وهو محصيه عليهم وسيجازيهم به‪ِ .‬‬
‫ََ ُْ ََ َ‬
‫اب أ ِل ٍيم﴾‪ ،‬وسميت البشارة بشارة؛ ْلنها تؤثر في البشرة‬
‫ولهذا قال‪﴿ :‬فب ِشرهم ِبعذ ٍ‬
‫سرورا أو غما‪ِ .‬‬
‫هذا على قول إن البشارة عامة تعم ِ‬
‫اإلخبار بالحسن السار وبالس يء الذي يغم؛ ْلنها‬

‫‪171‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫مأخوذة من تأثر البشرة‪ ،‬واإلنسان إذا أخبر بما يسر تأثرت بشرته بهجة وسرورا فيظهر ذلك‬
‫على وجهه‪ ،‬وإذا أخبر بما يغمه تأثرت بشرته أيضا وظهر ذلك على وجهه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬بل البشارة اإلخبار بما يسر فقط‪ ،‬البشارة هي اإلخبار بما يسر‪،‬‬
‫واستخدمت هنا في اإلخبار بالعذاب وهو ال يسر تهكما بهم واستهزاء بهم جزاء وفاقا؛ ْلنهم‬
‫يتهكمون باملؤمنين ويسخرون من املؤمنين‪ ،‬فاستخدمت البشارة هنا فيما يغم من باب‬
‫التهكم بالكافرين والسخرية بهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذه حال أكثر الناس‪ :‬التكذيب بالقرآن وعدم اإليمان به‪.‬‬
‫ومن الناس فريق هداهم هللا فآمنوا باهلل وقبلوا ما جاءتهم به الرسل فآمنوا وعملوا‬
‫ن‬ ‫َُ ْ َ ْ ٌ َُْ َ ْ ُ‬
‫الصالحات‪ ،‬فهؤالء ﴿لهم أجر غير ممنو ٍ ﴾ أي‪ :‬غير مقطوع بل هو أجر دائم مما ال عين‬
‫رأيت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر والحمد هلل‪ِ .‬‬
‫َّ َّ َ ُ‬
‫ين َآمنوا﴾ قال بعض العلماء‪ :‬استثناء منقطع؛ ْلن املستثنى هنا‬‫واالستثناء هنا ﴿ ِإال ال ِذ‬
‫ليس من جنس ما قبله فيكون استثناء منقطعا‪ ،‬ويكون معنى (إال) لكن‪ ،‬كما لو قلت مثال‪:‬‬
‫جاء القوم أو جاء الرجال إال حمارا أو إال بقرة‪ ،‬فإن املستثنى ليس من جنس ما قبله‪،‬‬
‫فيكون استثناء منقطعا‪ ،‬وتكون إ ِال بمعنى لكن‪ِ .‬‬
‫فاملعنى على هذا‪ :‬لكن املؤمنين على حال أخرى هي حال النعيم املقيم‪ِ .‬‬
‫َ ً‬ ‫ََ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬االستثناء هنا استثناء متصل من قوله تعالى‪﴿ :‬لت ْرك ُب َّن ط َبقا َعن‬
‫َ‬
‫ط َب ٍق﴾؛ أي‪ :‬لتركبن الشدائد واْلهوال يوم القيامة إال الذين آمنوا؛ أي‪ :‬يا أيها الناس لتركبن‬
‫الشدائد واْلهوال يوم القيامة إال الذين آمنوا فلن يكونوا مثل الكفار يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ََ ُْ ََ‬
‫اب‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو استثناء متصل أيضا‪ ،‬ولكن من قوله تعالى‪﴿ :‬فب ِشرهم ِبع ٍ‬
‫ذ‬
‫َ‬
‫أ ِل ٍيم﴾‪ ،‬واملعنى‪ :‬إال الذين آمنوا من أولئك الكفار فتابوا من كفرهم وأسلموا‪ ،‬فإن اإلسالم‬
‫يهدم ما كان قبله فلهم أجر غير ممنون‪ ،‬فهم ساملون من ذلك الوعيد‪ ،‬فتوعد هللا الكفار‬
‫وفتح لهم باب السالمة‪ِ .‬‬
‫ََ ُْ ََ َ‬
‫اب أ ِل ٍيم﴾ ومن أراد السالمة منهم فإن له بابا وهو أن يؤمن ويترك الكفر‪،‬‬
‫﴿فب ِشرهم ِبعذ ٍ‬
‫فإذا آمن وترك الكفر سلم من العذاب الشديد‪ِ .‬‬

‫‪172‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واْلجر‪ :‬هو الثواب عن العمل بما ينفع‪ِ .‬‬


‫يعني اْلجر يا إخوة ال يطلق على ما يعطى بال عمل‪ ،‬هذا ال يسمى أجرا‪ ،‬فهو الثواب على‬
‫عمل‪ ،‬والجزاء بما يضر ال يسمى أجرا إال من باب التوسع أو التهكم‪ ،‬وإنما اْلجر هو الثواب‬
‫على العمل بما ينفع‪ِ .‬‬
‫واْلجر غير اْلمنون قال بعض اْلفسرين‪ :‬هو غير املقطوع‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬هو الثواب الذي يعطاه صاحبه بإكرام ومن غير تنغيص‪ِ .‬‬
‫وهلل املثل اْلعلى‪ :‬لو أن عامال عمل عندك استأجرته على عمل بأجرة اتفقتما عليها‪ ،‬وملا‬
‫فرغ من عمله رميت عليه اْلجرة رميا‪ ،‬أعطيته أجربته لكن من غير إكرام‪ ،‬أو أخذت‬
‫تحاسبه وقلت‪ :‬أنا اتفقت معك بمائة وأنت أنقصت كذا‪ ،‬فأنا أنقص خمسة وأنقصت كذا‬
‫فأنا أنقص كذا‪ ،‬فنغصت عليه أجرته‪ِ .‬‬
‫أما الثواب غير املمنون فهو الذي يعطى على سبيل اإلكرام ومن غير منغص‪ ،‬إذا أخذت‬
‫املبلغ ووضعته في يده وقلت‪ :‬جزاك هللا خيرا يا أخي قد أحسنت‪ ،‬بارك هللا فيك أسأل هللا‬
‫عز وجل أن يبارك في عملك ومالك‪ ،‬فأنت أعطيت على سبيل اإلكرام من غير أن تنغص‬
‫عليه‪ ،‬فيكون هذا أجرا غير ممنو ِن‪ِ .‬‬
‫ِوكال املعنيين صحيح هنا‪ :‬فهو أجر غير مقطوع‪ ،‬ويعطاه املؤمنون بإكرام فيساقون له سوق‬
‫إكرام ومن غير منغص ال فيه وال في القلب وال في الحقيقة‪ ،‬ال منغص لنعيم املؤمن يوم‬
‫القيامة‪ِ .‬‬
‫وبهذا تتم هذه السورة‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة مع ما سبقها من السور من التكوير إلى هذه السورة سورة االنشقاق فيها‬
‫إنذار وتخويف لعباد هللا عز وجل ببيان أحوال يوم القيامة‪ ،‬ليستعد املؤمنون لذلك اليوم‬
‫استعدادا صحيحا‪ِ .‬‬
‫كما أن في هذه السور بيان إهانة الكفار يوم القيامة حتى ال يغتر املؤمنون بما قد يرونه‬
‫من أحوال الكفار في الدنيا‪ ،‬فإن هذا استدراج لهم وهو عرض زائل ولهم اإلهانة والذلة‬
‫الكبرى الدائمة يوم القيامة‪ِ .‬‬

‫‪173‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫كما أن فيها بيان أن الدنيا مزرعة اآلخرة‪ ،‬وأن ما يزرعه اإلنسان اليوم يحصده غدا‪ ،‬فمن‬
‫أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها‪ِ .‬‬
‫كما أن فيها أن ما يراه اإلنسان في نفسه وفي الكون املحيط به يدل على وجود هللا‪ ،‬فال‬
‫يمكن أن توجد أنت أيها اإلنسان لوحدك‪ ،‬أنت فقط أنت بنفسك‪ ،‬ال يمكن أن توجد على‬
‫هذا النظام العجيب بغير موجد‪ ،‬كما يقول بعض املخذولين‪ :‬صدفة‪ ،‬ما يمكن‪ ،‬لو كان‬
‫صدفة لوجدنا واحدا نجد أنفه فوق رأسه وواحد عين في الجبهة وعين في الذقن‪ ،‬إضافة‬
‫إلى ما أعجز العلماء عبر القرون مما في داخل اإلنسان من أجهزة عجيبة فإنها تدل على أنه‬
‫البد أن لك من موجد‪ ،‬ما يمكن‪ ،‬وأنت تعلم يقينا أنك لم توجد نفسك‪ ،‬وأنك لم يوجدك‬
‫أحد من الناس‪ ،‬فتعلم يقينا أن الذي أوجدك هو هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وكذا الكون من حولك‪ :‬هذا النهار والليل والشمس والقمر والنجوم والحر والبرد كلها دالة‬
‫على وجود هللا سبحانه وتعالى وعلى قدرته‪ ،‬فالذي يميتك املوتة الصغرى بالنوم؛ النوم ال‬
‫تستطيع أن تجلبه وال تستطيع أن تدفعه إن هجم عليك‪ ،‬ولذلك الناس الذين يقول ِونِ‪:‬‬
‫نومي بيدي‪ ،‬هذا غلط‪ ،‬هللا عز وجل هو الذي يجعلك تنام‪ ،‬ولو شاء ما استطعت النوم‬
‫ى‪ِ .‬‬
‫ويأتيك النوم ويغلبك‪ ،‬قد ال تريد أن تنام لكن تنام هذه املوتة الصغر ِ‬
‫والذي يحييك من نومك قادر على أن يميتك ويبعثك‪ ،‬وقد أراك شيئا من الجزاء في الدنيا‬
‫فأنت تعمل العمل الصالح فتجد راحة في قلبك في ذلك اليوم‪ ،‬تجد أنك مرتاح‪ ،‬تصلي‬
‫الليل فترتاح في النهار‪ ،‬تصلي الفجر فتجد نشاطا في يومك‪ ،‬وقد يأتيك من هللا ما يأتيك‬
‫وأنت في الدنيا‪ ،‬فأراك أنك تجازى على عملك‪ ،‬هذا في الدنيا فكيف في اآلخرة‪ِ .‬‬
‫فهذه السور التي قرأناها وقرأنا تفسيرها فيها هذه الحقيقة العظمى‪ ،‬وهو أن كل ما نراه في‬
‫أنفسنا وفي الكون وفي اْلرض وفي السماء يدلنا على وجود هللا وعلى أنه سبحانه املدبر وعلى‬
‫أنه على كل ش يء قدير‪ ،‬وما دام ذلك كذلك فإنه املستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فهذه الحكم الكلية والفوائد الكبرى في هذه اآليات التي قرأنا تفسيرها‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬

‫‪174‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪175‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة البروج‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫ص َح ُ‬
‫اب‬ ‫الس َماء َذات ْال ُب ُروج (‪َ )1‬و ْال َي ْوم ْاْلَ ْو ُعود (‪َ )2‬و َشاهد َو َم ْش ُهود (‪ُ )3‬قت َل َأ ْ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ َ ُ َن ْ ُ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫النار َذات ال َ‬‫َّ‬ ‫ُْ‬
‫اْل ْخ ُ‬
‫ود (‪ِ )5‬إذ ه ْم عل ْي َها ق ُعود (‪َ )6‬وه ْم على ما يفعلو ِباْلؤ ِم ِنين‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ِ ِ‬ ‫)‬ ‫‪4‬‬ ‫(‬ ‫ود‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫َّ َ ْ‬ ‫َّ ْ َ ْ َ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ ْ َّ‬ ‫ُ ٌ‬
‫يد (‪ )8‬ال ِذي ل ُه ُمل ُك‬ ‫ش ُهود (‪ )7‬وما نقموا ِمن ُهم ِإال أن يؤ ِمنوا ِبالل ِه الع ِز ِيز الح ِم ِ‬
‫َّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ات ث َّم‬‫ض ۚ والله على ك ِل ش ْي ٍء ش ِهيد (‪ِ )9‬إن ال ِذين فتنوا اْلؤ ِم ِنين واْلؤ ِمن ِ‬ ‫اْل ْ‬
‫ات و ِ‬
‫ر‬ ‫السماو ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ َّ َ ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫ين َآمنوا َو َع ِملوا‬ ‫اب ال َح ِر ِيق (‪ِ )10‬إن ال ِذ‬ ‫لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذ‬
‫َْ ُ َْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ َّ ٌ َ‬
‫ات ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار ۚ ذلك الف ْوز الك ِب ُير (‪[ ﴾)11‬البروج‪.]11-1 :‬‬ ‫ات لهم جن‬ ‫الص ِالح ِ‬
‫في هذه السورة املكية باتفاق العلماء يقسم هللا عز وجل بالسماء ذات النجوم وذات‬
‫املنازل للكواكب املعروفة‪ ،‬وذات الخلق الحكيم والشدة واإلحكام‪ ،‬وبيوم القيامة الذي هو‬
‫اليوم املوعود بزمانه الذي ال يعلمه إال هللا‪ ،‬وبما فيه من أهوال وأحوال‪ ،‬والذي وعد أهل‬
‫اْلرض والسماء باالجتماع فيه‪ِ .‬‬
‫وبالشاهد بكل حق في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فاهلل شاهد وكفى باهلل شهيدا‪ ،‬واملالئكة الكرام‬
‫يدا﴾ [النساء‪:‬‬ ‫شاهدون‪ ،‬ومحمد صلى هللا عليه وسلم شاهد ﴿ َوج ْئ َنا ب َك َع َل ٰى َٰه ُؤَالء َشه ً‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ ُ َّ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َ‬
‫يد﴾‬ ‫‪ ،]41‬واْلنبياء عليهم السالم شهود على أممهم ﴿فكيف ِإذا ِجئنا ِمن ك ِل أم ٍة ِبش ِه ٍ‬
‫َْ ُ ُ ً‬ ‫َ َٰ‬
‫[النساء‪ ،]41 :‬وأمة محمد صلى هللا عليه وسلم تشهد على اْلمم ﴿ َوكذ ِل َك َج َعلناك ْم أ َّمة‬
‫َ َ ً َ ُ ُ ُ َ َ َ َ َ َّ‬
‫اس﴾ [البقرة‪ ،]143 :‬وأعضاء اإلنسان تشهد عليه يوم‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫وسطا ِلتكونوا شهداء على‬
‫َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َْ ْ َْ َُُ ْ َ َْ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ‬
‫ر‬ ‫ن‬
‫القيامة ﴿يوم تشهد علي ِهم أل ِسنتهم وأي ِد ِيهم وأرجلهم ِبما كانوا يعملو ﴾ [النو ِ‪،]24 :‬‬
‫ويوم الجمعة يشهد ْلهله‪ ،‬والحجر اْلسود يشهد ملن استلمه بحق يوم القيامة‪ ،‬وكل شاهد‬
‫بالحق يدخل في هذا القسم العظيم‪ِ .‬‬
‫ويقسم هللا عز وجل باملشهود وهو يوم القيامة‪ ،‬وكل يوم مشهود في الدنيا كيوم عرفة‪ِ ،‬وكل‬
‫مشهود عليه في الدنيا واآلخرة‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫اب اْلخ ُد ِود﴾ [البروج‪ ،]4 :‬لقد لعن وأهلك‬‫وجواب هذه اْلقسام العظيمة ﴿ق ِتل أصح‬
‫وعذب أصحاب اْلخدود الذين حفروا في اْلرض شقا عظيما مستطيال‪ ،‬وأوقدوا فيه نارا‬

‫‪176‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫شديدة أشعلوها بالحطب‪ ،‬وازداد اشتعالها بأجساد املؤمنين حيث قذفوا فيها‪ ،‬فاتقدت‬
‫وعظمت نارها‪ِ .‬‬
‫ومن عظيم جرمهم وقسوة قلوبهم أنهم قعدوا على النار‪ ،‬فقعدوا عند أطرافها‪ ،‬ووقفوا‬
‫عليها يشهدون املؤمنين وهم يحترقون‪ ،‬وينظرون إليهم وهم يحترقون في النار كبارا وصغارا‪،‬‬
‫نساء ورجاال‪ ،‬وهذا يدل على شدة كفرهم‪ ،‬وقسوة قلوبهم‪ ،‬وانحرافهم عن الفطرة بالكلية‪،‬‬
‫فإن اإلنسان ال يطيق أن ينظر إلى من يحترق في النار ولو كان من أعداءه‪ ،‬فكيف‬
‫بالجماعات من الصغار والكبار والرجال والنساء؟! ِ‬
‫َّ‬
‫مع أن أولئك املعذبين بتلك النار ما أجرموا جرما‪ ،‬وال اقترفوا ذنبا‪ ،‬فإنهم ما عذبوهم لذنب‬
‫قد اقترفوه‪ ،‬وال جرم قد فعلوه‪ ،‬وإنما عذبوهم على ما يمدحون به حيث آمنوا باهلل عز‬
‫وجل الذي له العزة املطلقة‪ ،‬واملحمود على كل حال سبحانه‪ ،‬وذلك ملا رأوا اآليات البينات‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬الغالم الذي آمن باهلل عز وجل‪ ،‬فأراد امللك الطاغية الجبار أن يقتله‪ ،‬فلم يتمكن من‬
‫قتله‪ ،‬وكلما سعى إلى قتله نجا ذلك الغالم من بطشه‪ ،‬حتى قال له الغالم‪ :‬إنك لست‬
‫بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به‪ ،‬قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬أن تجمع الناس على صعيد واحد‪،‬‬
‫وتصلبني في جذع‪ ،‬وتأخذ سهما من كنانتي‪ ،‬وتقو ِل‪ :‬باسم رب هذا الغالم وترميني به‪ ،‬فإن‬
‫برب الغالم‪ ،‬آمنا برب‬
‫فعلت فإنك قاتلي‪ ،‬ففعل ذلك‪ ،‬فمات الغالم‪ ،‬فقال الناس‪ :‬آمنا ِ‬
‫الغالم‪ ،‬آمنا برب الغالم‪ ،‬فانقلب الكيد على ذلك امللك الجبار‪ ،‬وآمن الناس‪ ،‬فأمر ذلك‬
‫امللك بأن ُيحفر شق عظيم في أفواه السكك‪ ،‬وأن يرمى فيه الحطب الكثير‪ ،‬وأن توقد فيه‬
‫النار‪ ،‬وأمر بجمع الناس‪ ،‬وقال للناس‪ :‬من رجع منكم عن دينه تركناه‪ ،‬ومن بقي على دينه‬
‫أحرقناه‪ ،‬وأمر غلمانه وجنوده بأن من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها‪ ،‬واقذفوه فيها‪ ،‬فأخذ‬
‫املؤمنون يتعادون إلى تلك النار‪ ،‬ويتدافعون فيها‪ ،‬وجعل غلمانه يلقون في ذلك اْلخدود‪،‬‬
‫ووقفوا عند جوانب النار ينظرون إلى املؤمنين وهم يحترقون في تلك النار‪ِ .‬‬
‫ولم يخف أولئك الكفار املتجبرون ربهم سبحانه وتعالى الذي له ملك السماوات واْلرض‪،‬‬
‫فهو يملكهم ويملك غيرهم‪ ،‬ويدبرهم ويتصرف فيهم‪ ،‬وهو املطلع على كل ش يء‪ ،‬يعلم ويسمع‬
‫ويبصر‪ ،‬ال يخفى عليه ش يء في اْلرض وال في السماء‪ ،‬وكفى به شهيدا‪ِ .‬‬

‫‪177‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فأولئك املتجبرون مملوكون له سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو مطلع على ما يفعلون باملؤمنين‪ ،‬ومع‬
‫ذلك ال يخافونه‪ ،‬ويقتلون أولياءه ويعذبونهم بهذا العذاب الشديد‪ِ .‬‬
‫ثم توعد هللا الذين يعملون على صرف املؤمنين عن دينهم‪ ،‬وعلى فتنة املسلمين عن دينهم‬
‫بشتى اْلساليب ومنهم أولئك الجبارون أصحاب اْلخدود بأن لهم العذاب الشديد املحرق في‬
‫نار جهنم وبئس املهاد‪ِ .‬‬
‫إال من تاب منهم بعد جرمه‪ ،‬وأناب إلى هللا‪ ،‬وأسلم وآمن‪ ،‬فإن اإلسالم ُ‬
‫يج ُّب ما كان قبله‪،‬‬
‫وسبحان هللا! إذا كان هللا عز وجل يقبل توبة هؤالء املجرمين‪ ،‬بل ويحثهم على التوبة‪،‬‬
‫ويفتح لهم باب الرجوع‪ ،‬ال شك أن من كان دونهم أقرب إلى هذا‪ ،‬وأقرب إلى أن يتوب هللا‬
‫عز وجل عليه إن صدق في توبته‪ ،‬فإن هللا يغفر الذنوب جميعا‪ِ .‬‬
‫ثم ملا ذكر هللا عز وجل عقاب أعدائه املتكبرين املتجبرين‪ ،‬ذكر ثواب عباده الصالحين‬
‫الذين آمنوا باهلل ومالئكته وكتبه ورسله وباليوم اآلخر والقدر خيره وشره من هللا تعالى‪،‬‬
‫إيمانا مع إذعان وانقياد‪ ،‬وعملوا الصالحات بإخالص هلل واتباع لرسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بشرهم ربهم بأن لهم جنات وليس جنة واحدة‪ ،‬وكل جنة منها فيها من النعيم ما ال‬
‫عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪ِ .‬‬
‫ومن نعيم أهلها أن اْلنهار من املاء الصافي العذب البارد‪ ،‬والعسل املصفى‪ ،‬والخمر املصفى‬
‫من كل ما يضر‪ ،‬واللبن الذي لم يتغير طعمه تجري من تحت قصورهم‪ ،‬ومن تحت‬
‫بساتينهم‪ ،‬ومن بين أيديهم من غير أخاديد تحدها‪ ،‬بل تجري حيث يشتهون‪ ،‬وال تفيض على‬
‫أهلها‪ ،‬وال تخطؤ طريقها‪ ،‬يتنعمون برؤيتها تجري من تحتهم‪ ،‬ويتنعمون بالشرب منها شرابا‬
‫سائغا لذة للشاربين‪ِ .‬‬
‫وذلك الفوز بالجنة هو الفوز الكبير العظيم الذي ال يدانيه فوز‪ ،‬وال يقاربه فوز‪ ،‬فهو‬
‫الفوز الدائم الذي ال ينقطع‪ ،‬الذي يتحقق به املطلوب في أعلى درجاته‪ ،‬ويسلم به من‬
‫املرهوب في كل ألوانه‪ ،‬ومن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز الفوز العظيم‪ِ .‬‬

‫‪178‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمة التي فيها أكبر العبر‪،‬‬
‫وأعظم املواعظ ملن قرأ وتدبر‪ ،‬وراجع وتفكر‪ ،‬وينبغي أن يكون لها أكبر اْلثر وأعظم الوقع‬
‫على قلوب املؤمنين‪ِ .‬‬
‫تيسير‬
‫ِ‬ ‫ثم نعود إلى التفسير التفصيلي لآليات‪ ،‬حيث نقرأ من هذا الكتاب البديع النافع‬
‫الكريم الرحمن في تفسير كالم املنان‪ ،‬لإلمام املفسر الفقيه اْلصولي املتفنن عبد الرحمن بن‬
‫ناصر السعدي رحمه هللا عز وجل وسائر علماء املسلمين‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ‬
‫ات‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى قال تعالى‪﴿ :‬والسم ِاء ِ‬
‫ذ‬
‫وج﴾ أي‪ :‬ذات اْلنازل اْلشتملة على منازل الشمس والقمر والكواكب اْلنتظمة في‬ ‫ْال ُب ُ‬
‫ر‬
‫ِ‬
‫سيرها على أكمل ترتيب ونظام‪ ،‬دالة على كمال قدرة هللا تعالى‪ ،‬ورحمته‪ ،‬وسعة علمه‬
‫وحكمته‪.‬‬
‫الس َم ِاء﴾ الواو للقسم‪ ،‬والسماء معروفة‪ ،‬وكل ما عالك فهو سماء‪ ،‬واملقصود بالسماء‬ ‫﴿ َو َّ‬
‫هنا السماء املعهودة املعروفة املوصوفة بأنها صاحبة البروج‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫ات﴾ بمعنى صاحبة‪ِ .‬‬ ‫﴿ذ ِ‬
‫وج﴾ قال كثير من اْلفسرين‪ :‬أي املنازل التي تسير فيها الكواكب املعروفة‪ ،‬وهي اثنا‬ ‫ر‬ ‫﴿ ْال ُب ُ‬
‫ِ‬
‫عشر كوكبا‪ ،‬أو اثنا عشر برجا‪ ،‬لكل فصل منها ثالثة أبراج‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬البروج هي النجوم كلها‪ ،‬فمعنى ذات البروج صاحبة النجوم‬
‫والكواكب‪ِ .‬‬
‫وكل هذا مراد‪ ،‬فالسماء ذات النجوم الكثير وذات املنازل للكواكب املعروفة التي يعرفها‬
‫الناس‪ ،‬وفي ذاك إحكام للخلق ونظام عجيب‪ ،‬وذلك دال على وجود هللا‪ ،‬وعلى قدرة هللا‬
‫وعلى تدبير هللا‪ ،‬فإنه ال يمكن للسماء أن تخلق نفسها وأبراجها وما فيها‪ ،‬وال يمكن ملخلوق‬
‫أن يخلقها‪ ،‬فخالقها ومدبرها بهذا النظام العجيب هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وما دام ذلك‬
‫كذلك فإنه املستحق للعبادة‪ ،‬ال يستحق أحد العبادة من دونه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ود﴾ وهو يوم القيامة الذي وعد هللا الخلق أن يجمعهم فيه‪ ،‬ويضم فيه‬ ‫َ ْ َ ْ َْْ ُ‬
‫﴿واليو ِم اْلوع ِ‬
‫أولهم وآخرهم‪ ،‬وقاصيهم ودانيهم‪ ،‬الذي ال يمكن أن يتغير‪ ،‬وال يخلف هللا اْليعاد‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ََ ْ‬ ‫َ َ‬
‫اه ٍد ومش ُه ٍ‬
‫ود﴾ وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف‪ ،‬أي‪ :‬مبصر ومبصر‪،‬‬ ‫﴿وش ِ‬
‫وحاضر ومحضور‪ ،‬ور ٍاء ومرئي)‪.‬‬
‫هذا هو أوسع معنى لآلية‪ ،‬فيدخل فيه جميع املعاني‪ِ .‬‬
‫املخبر عن أعمال غيره‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املشهود هو املخبر عن أعماله‪ ،‬والشاهد هو ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املشهود يوم عرفة‪ ،‬والشاهد يوم الجمعة‪ ،‬وقد جاء في الحديث أن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪(( :‬اليوم اْلوعود يوم القيامة واْلشهود يوم عرفة‬
‫والشاهد يوم الجمعة))‪ ،‬رواه الترمذي وحسنه اْللباني‪ ،‬واختار هذا التفسير شيخنا الشيخ‬
‫ابن باز رحمه هللا عز وجل‪ ،‬وقال‪ :‬إنه أحسن ما قيل في تفسير هذه اآلية‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يدخل فيها كل شاهد وكل مشهود‪ِ .‬‬
‫وهذا اْلرجح‪ ،‬فإن معاني القرآن واسعة‪ ،‬فيدخل في هذا القسم كل مشهود‪ ،‬سواء كان‬
‫بحضوره‪ ،‬أو باعتباره‪ ،‬أو بكونه ُيشهد عليه‪ ،‬ويدخل في هذا كل شاهد بالحق في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫واْلقسم عليه ما تضمنه هذا القسم من آيات هللا الباهرة‪ ،‬وحكمة‬ ‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫الظاهرة‪ ،‬ورحمته الواسعة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن اْلقسم عليه قوله‪﴿ :‬ق ِتل أصحاب اْلخد ِود﴾‪.‬‬
‫يعني أن جواب القسم هو ما تضمنه هذا القسم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫َّ‬
‫مضمنا في‬ ‫اب اْلخ ُد ِود﴾ خبر مستأنف‪ ،‬فيكون جواب القسم‬ ‫وقول هللا‪﴿ :‬ق ِتل أصح‬
‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫اب اْلخ ُد ِود﴾ فهذا خبر جديد مستأنف‪ِ .‬‬ ‫القسم‪ ،‬وأما قول هللا عز وجل‪﴿ :‬ق ِتل أصح‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬إن جواب القسم متروك‪ ،‬لم يذكر‪ ،‬يقدره السامع‪ ،‬وقال بعض‬
‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫اب اْلخ ُد ِود﴾ كما قال الشيخ‪ِ .‬‬‫املفسرين‪ :‬جواب القسم ﴿ق ِتل أصح‬
‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫اب اْلخ ُد ِود﴾ وهذا دعاء عليهم بالهَّلك‪.‬‬‫﴿ق ِتل أصح‬
‫ُ‬
‫﴿ق ِت َل﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني لعن‪ ،‬وكل قتل في القرآن فهي بمعنى لعن‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬أهلك وعذب‪ ،‬وكلها معان صحيحة مرادة هنا‪ ،‬وهو‪ِ :‬‬
‫‪ -‬إما دعاء عليهم باللعن والهالك والتعذيب‪ِ .‬‬

‫‪180‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬وإما خبر بما وقع عليهم‪ ،‬وهو أنه قد وقعت عليهم لعنة هللا وأهلكوا وعذبوا في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ِ .‬‬
‫واْلقرب كونه خبرا‪ ،‬وأن هذا اْلمر قد وقع عليهم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬واْلخدود الحفر التي تحفر في اْلرض‪.‬‬
‫اْلخدود هو الشق العظيم الذي يحفر في اْلرض ويكون مستطيال‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وكان أصحاب اْلخدود هؤالء قوما كافرين‪ ،‬ولديهم قوم مؤمنون‪ ،‬فراودوهم على‬
‫الدخول في دينهم‪ ،‬فامتنع اْلؤمنون من ذلك‪ ،‬فشق الكافرون أخدودا في اْلرض‪ ،‬وقذفوا‬
‫فيها النار‪ ،‬وقعدوا حولها‪ ،‬وفتنوا اْلؤمنون وعرضوهم عليها‪ ،‬فمن استجاب لهم‬
‫أطلقوه‪ ،‬ومن استمر على اإليمان قذفوه في النار‪ ،‬وهذا غاية اْلحاربة هلل ولحزبه‬
‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫اب اْلخ ُد ِود﴾‪.‬‬‫اْلؤمنين‪ ،‬ولهذا لعنهم هللا‪ ،‬وأهلكم وتوعدهم‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ق ِتل أصح‬
‫وعلى هذا الرأي يكون أصحاب اْلخدود هم أولئك الكفار الذين حفروا ذلك الشق‪َّ ،‬‬
‫وحرقوا‬
‫املؤمنين فيه‪ ،‬وهذا قول أكثر املفسرين‪ِ .‬‬
‫وقال بعص اْلفسرين‪ :‬أصحاب اْلخدود هم أولئك املؤمنون الذين ُعذبوا بالنار في ذلك‬
‫اْلخدود‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫فمعنى ﴿ق ِت َل﴾ أي‪ :‬قتل أولئك الكفار أصحاب اْلخدود بتلك الطريقة البشعة‪ ،‬حيث‬
‫حفروا شقا في اْلرض‪ ،‬وأضرموا فيه النار‪ ،‬وألقوا فهي املؤمنين‪ِ .‬‬
‫وهذا وهللا أعلم مرجوح‪ ،‬وقول اْلكثر هو اْلقرب واْلظهر ملا بعده من اآليات‪ِ .‬‬
‫ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ‬
‫اب اْلخ ُد ِود﴾‪ ،‬ثم فسر اْلخدود‬ ‫ولهذا لعنهم هللا وأهلكهم وتوعدهم فقال‪﴿ :‬ق ِتل أصح‬
‫ْ ُ َ ُْْ َ‬ ‫النار َذات ْال َو ُقود (‪ )5‬إ ْذ ُه ْم َع َل ْي َها ُق ُع ٌ‬‫َّ‬
‫ود (‪َ ﴿ )6‬و ُه ْم على َما َيف َعلون ِباْلؤ ِم ِنين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بقوله‪ِ ﴿ :‬‬
‫ود﴾ (‪.﴾)7‬‬ ‫ُش ُه ٌ‬
‫َُْ‬ ‫َّ َ‬
‫ود﴾ بدل اشتمال‪ ،‬بدل من اْلخدود‪ ،‬بدل اشتمال‪ ،‬واملعنى‪ :‬املشتمل على‬ ‫ات الوق ِ‬ ‫﴿الن ِار ذ ِ‬
‫النار‪ ،‬ولذلك يقول العلماء‪ :‬هذا بدل اشتمال‪ ،‬بدل من اْلخدود بدل اشتمال‪ِ .‬‬
‫َُْ‬ ‫َّ َ‬
‫ود﴾ أي‪ :‬النار صاحبة الوقود‪ ،‬أي‪ :‬ذات الحطب الكثير املشتعل‪ِ .‬‬ ‫ات الوق ِ‬ ‫﴿الن ِار ذ ِ‬

‫‪181‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض العلماء‪ :‬أي ذات االتقاد الشديد واالشتعال‪ِ .‬‬


‫وكالهما صحيح فهي ذات حطب شديد أوقد فيه حتى اشتعل‪ ،‬وزاد اشتعاله باْلجساد‬
‫امللقاة فيه‪ ،‬فصارت النار ذات اتقاد شديد واشتعال عظيم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫﴿إ ْذ ُه ْم َع َل ْي َها ُق ُع ٌ‬
‫ود﴾ أي‪ :‬قعود على حافتها‪ ،‬ولقربهم منها قال هللا‪َ ﴿ :‬عل ْي َها﴾ كأنهم على‬ ‫ِ‬
‫النار ذاتها قعود‪ ،‬وذلك من شدة قربهم من النار‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء الذين قالوا إن أصحاب اْلخدود هم املؤمنون الذين عذبوا‪ :‬إن‬
‫املؤمنين كانوا في النار قعودا‪ ،‬ملا ألقوهم في النار صاروا قعودا في النار‪ِ .‬‬
‫ود﴾ أي‪ :‬حضور‪ِ ،‬وهذا يدل على قسوة قلوبهم وشدة‬ ‫﴿ َو ُه ْم على َما َي ْف َع ُلو َن ب ْاْلُ ْؤمن َين ُش ُه ٌ‬
‫ِ ِِ‬
‫إجرامهم‪ ،‬كما قال الشيخ‪ِ .‬‬
‫قال وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب؛ ْلنهم جمعوا بين الكفر بآيات‬
‫هللا ومعاندتها‪ ،‬ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب الذي تنفطر منه القلوب‪،‬‬
‫وحضورهم إياه عند إلقاءهم فيها‪.‬‬
‫والحال أنهم ما نقموا من اْلؤمنين إال حالة ُيمدحون عليها وبها سعادتهم‪ ،‬وهي أنهم‬
‫كانوا يؤمنون باهلل العزيز الحميد‪ ،‬أي‪ :‬الذي له العزة التي قهر بها كل ش يء‪ ،‬وهو حميد‬
‫في أقواله وأفعاله وأوصافه‪.‬‬
‫ََ‬
‫﴿ َو َما نق ُموا﴾ أي‪ :‬ما عابوا عليهم‪ ،‬وما أنكروا عليه‪ ،‬وما أخذوا عليهم إال هذا الحال‬
‫املحمود‪ ،‬وهو أنهم آمنوا باهلل العزيز الذي له العزة كلها‪ ،‬وبجميع معانيها‪ :‬فله عزة القوة‪،‬‬
‫وعزة االمتناع‪ ،‬وعزة االستغناء‪ ،‬هللا عز وجل له العزة املطلقة بجميع معانيها‪ :‬فله عزة‬
‫القوة‪ ،‬وله عزة االمتناع‪ ،‬وله عزة الغلبة واالستغناء‪ ،‬وله عزة القهر سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫يد﴾ فعيل بمعنى مفعول وفاعل‪ ،‬فهو سبحانه محمود على كل حال؛ ْلن أفعاله‬ ‫م‬ ‫﴿ ْال َ‬
‫ح‬
‫ِ ِ‬
‫وشرعه مبنية على الحكمة‪ ،‬فكل فعل هلل مبني على الحكمة التامة‪ ،‬وكل شرع هللا مبني على‬
‫الحكمة التامة‪ ،‬فهو سبحانه محمود على كل حال‪ ،‬مثنى عليه بصفات الكمال والجمال‪،‬‬
‫وهو حامد ملن يستحق الحمد من عباده‪ِ .‬‬
‫فالحميد فعيل بمعنى مفعول‪ ،‬وبمعنى فاعل‪ِ .‬‬

‫‪182‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫اْل ْ‬
‫ض ۚ﴾ خلقا وعبيدا يتصرف فيهم بما يشاء‪.‬‬
‫ات و ِ‬
‫ر‬ ‫﴿ال ِذي له ملك السماو ِ‬
‫ومنهم أولئك املجرمون الذين فعلوا باملؤمنين ما فعلوا‪ِ .‬‬
‫يد﴾ علما وسمعا وبصرا‪.‬‬ ‫الل ُه على ُكل َش ْيء َشه ٌ‬
‫َ َّ‬
‫﴿و‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫معنى شهيد أنه مطلع على كل ش يء‪ ،‬ال يخفى عليه ش يء سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو مطلع على كل‬
‫ش يء بعلمه وسمعه وبصره سبحانه وتعالى‪ ،‬ال يخفى عليه ش يء‪ ،‬وال يختلط عليه ش يء‬
‫بش يء سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا تهديد للكفار جميعا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬أفَّل خاف هؤالء اْلتمردون عليه أن يأخذهم العزيز اْلقتدر‪َ ،‬أو َما علموا أنهم‬
‫مماليك هلل؟ ليس ْلحد على أحد سلطة من دون إذن اْلالك؟ َأو خفي عليهم أن هللا‬
‫محيط بأعمالهم مجازيهم عليها؟‬
‫كَّل؛ إن الكافر في غرور‪ ،‬والجاهل في عمى وضَّلل عن سواء السبيل‪.‬‬
‫َّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ ْ َ‬
‫ين فتنوا اْلؤ ِم ِنين‬ ‫ثم أوعدهم هللا ووعدهم وعرض عليهم التوبة فقال‪ِ ﴿ :‬إن ال ِذ‬
‫َ ْ ُ ْ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫اب ال َح ِر ِيق﴾؛ أي‪ :‬العذاب الشديد‬ ‫ات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذ‬ ‫واْلؤ ِمن ِ‬
‫اْلحرق‪ ،‬قال الحسن رحمه هللا‪ :‬انظروا إلى هذا الكرم والجود‪ ،‬قتلوا أولياءه وأهل‬
‫طاعته‪ ،‬وهو يدعوهم إلى التوبة‪.‬‬
‫َّ َّ َ َ َ ُ‬
‫ين فتنوا﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني إن الذين اجتهدوا في صرف املسلمين عن‬ ‫﴿ ِإن ال ِذ‬
‫دينهم بشتى السبل‪ ،‬ومنها تعذيبهم وإحراقهم‪ِ .‬‬
‫َّ َّ َ َ َ ُ‬
‫ين فتنوا﴾ أي‪ :‬أحرقوا وأدخلوا املؤمنين في النار‪،‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ ِإن ال ِذ‬
‫يقال‪ :‬فتن الذهب إذا أدخله في النار‪ ،‬فهو من هذا املعنى‪ِ .‬‬
‫واْلولى حمله على املعنى اْلوسع الذي هو اْلول‪ ،‬الذي يشمل كل من يسعى لصرف‬
‫املسلمين عن دينهم في كل زمان ومكان‪ ،‬ما مض ى قبل نزول القرآن‪ ،‬وما يلحق بعد نزول‬
‫القرآن‪ ،‬فإنهم يدخلون في هذا الوعيد الشديد‪ِ .‬‬
‫وبوا﴾ انظر كيف أن هللا عز وجل دعاهم إلى التوبة‪ ،‬وأخبرهم أنهم إن تابوا‬‫﴿ ُث َّم َل ْم َي ُت ُ‬

‫سلموا‪ ،‬وإن كانوا قد أجرموا‪ ،‬فاهلل ال يغلق الباب أمام أحد مهما بلغ إجرامه‪ ،‬فإنه إن‬
‫أقبل على هللا أقبل هللا عليه‪ ،‬وإن أناب إلى هللا قبله هللا‪ ،‬بل وفرح به‪ِ .‬‬

‫‪183‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫اب ال َح ِر ِيق﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬لهم العذاب املحرق‬‫﴿فلهم عذاب جهنم ولهم عذ‬
‫شديدة العذاب‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫في جهنم‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬فلهم عذاب جهنم في يوم القيامة‪ ،‬ولهم عذاب الحريق في الدنيا‪،‬‬
‫فعذبهم هللا في الدنيا بإحراقهم جزاء وفاقا لفعلهم باملؤمنين‪ِ .‬‬
‫وقد ذكر بعض السلف أن النار التي أحرقوا بها املؤمنين خرجت من اْلخدود عليهم‬
‫فأحرقتهم‪ ،‬وهذا اختاره بعض املفسرين كابن جرير الطبري‪ ،‬ونقله عن ابن عباس رض ي هللا‬
‫عنهما‪ ،‬وال تعارض بين املعنيين‪ ،‬فلهم عذاب محرق في جهنم‪ ،‬وأحرقهم هللا عز وجل بالنار‬
‫في الدنيا‪ِ .‬‬
‫َّ َّ َ ُ‬
‫ين َآمنوا﴾‬‫قال رحمه هللا‪ :‬وْلا ذكر عقوبة الظاْلين ذكر ثواب اْلؤمنين‪ ،‬فقال‪ِ ﴿ :‬إن ال ِذ‬
‫َّ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ات﴾ بجوارحهم‪.‬‬‫بقلوبهم‪﴿ ،‬وع ِملوا الص ِالح ِ‬
‫إن الذين ءامنوا بقلوبهم‪ ،‬وعملوا الصالحات بجوارحهم‪ ،‬وعملهم من إيمانهم‪ ،‬فالعمل‬
‫الصالح من اإليمان‪ ،‬فذكره بعد اإليمان من باب ذكر الخاص بعد العام‪ ،‬كما قال هللا عز‬
‫وح ِف َيها﴾ [القدر‪ ،]4 :‬فالروح الذي هو جبريل من املالئكة عليهم‬ ‫الر ُ‬ ‫وجل‪َ ﴿ :‬ت َن َّز ُل ْاْلَ ََّل ِئ َك ُة َو ُّ‬
‫السالم‪ ،‬وال يعني هذا أن الروح ليس من املالئكة‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫فكذلك هنا العمل الصالح من اإليمان‪ ،‬وذكر بعد اإليمان من باب ذكر الخاص بعد العام‪ِ .‬‬
‫َْ ُ َْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ ٌ َ‬
‫ات ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار ۚ ذألك الف ْوز الك ِب ُير﴾ الذي حصل لهم الفوز برضا‬ ‫﴿ ل ه م جن‬
‫هللا ودار كرامته‪.‬‬
‫﴿ َل ُه ْم َج َّن ٌ‬
‫ات﴾ الجنات في اللغة‪ :‬هي البساتين كثيرة اْلشجار‪ ،‬التي تستر ما بداخلها لكثرة‬
‫أشجارها‪ ،‬وهي كذلك في اآلخرة‪ ،‬أعدها هللا لعباده املتقين‪ ،‬وجعل فيها من النعيم ما ال عين‬
‫رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪ِ .‬‬
‫َْ ُ َْ‬
‫و﴿الف ْوز الك ِب ُير﴾ هو الفوز العظيم الذي يتحقق به املطلوب‪ُ ،‬ويسلم فيه من املرهوب‪،‬‬
‫فهذا هو الفوز الكبير‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ور ْال َو ُد ُ‬
‫ود (‪ )15‬ذو‬ ‫ش َ ب َك َل َشد ٌيد (‪ )13‬إ َّن ُه ُه َو ُي ْبد ُئ َو ُيع ُ‬
‫يد (‪َ )14‬و ُه َو ْال َغ ُف ُ‬ ‫﴿إ َّن َب ْط َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ْال َع ْرش اْلج ُ‬
‫َ‬
‫ال ِْلا ُي ِر ُيد﴾ [البروج‪.]16-12 :‬‬ ‫يد (‪ )16‬ف َّع ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫‪184‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يخبر هللا عز وجل أنه غفور ودود‪ ،‬وأنه شديد العقاب‪ ،‬عظيم البطش‪ ،‬وأن بطشه وأخذه‬
‫أعداءه وانتقامه منهم شديد قوي أليم‪ ،‬وفي ذلك تهديد ْلولئك اْلعداء إن لم يتوبوا‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‪ ،‬وأخذه أخذا شديدا أليما‪ ،‬وهو سبحانه له‬
‫اْلمر كله من قبل ومن بعد‪ ،‬فهو الذي بدأ اْلشياء كلها‪ ،‬وإليه تنتهي اْلشياء كلها‪ ،‬فهو‬
‫الخالق‪ ،‬وهو القابض‪ ،‬وهو الباعث وهو املعيد سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ومن ذلك أنه إذا شاء عذب أعداءه في الدنيا‪ ،‬فابتدأهم بالعذاب في الدنيا‪ ،‬وأعاد عليهم‬
‫العذاب يوم القيامة‪ ،‬وهو أشد وأبقى‪ ،‬وآلم وأنكى سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ومع كون بطشه شديدا فإن رحمته واسعة‪ ،‬ومغفرته عظيمة‪ ،‬فهو ذو املغفرة الذي يستر‬
‫الذنوب‪ ،‬ويسقط عقابها سبحانه وتعالى إن تاب صاحبها منها‪ ،‬وإن لم يتب منها ولم تكن‬
‫شركا فإنه إن شاء غفر‪ ،‬فستر وأسقط‪ ،‬وإن شاء عاقب بعدل سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وهو الودود ذو املحبة الخالصة ْلوليائه‪ ،‬والذي يحبه عباده الصالحون حبا خالصا‪،‬‬
‫ويقدمون حبه على كل حب‪ ،‬وهو الذي يتودد إلى عباده بالنعم‪ِ .‬‬
‫وفي قرن الودود بالغفور بشارة للمذنبين التائبين أن ذنوبهم السابقة مهما بلغت ال تمنع‬
‫من أن يكونوا أولياء هلل بعد توبتهم‪ ،‬فليس من شرط الولي أال يسبق واليته ذنب‪ ،‬أو أال يقع‬
‫في واليته ذنب‪ ،‬ولكن الولي أواب يرجع إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فقرن هللا الودود بالغفور‬
‫ليبشر عباده التائبين أن ذنوبهم السابقة ال تمنع أن يكونوا أولياء هلل‪ ،‬يحبهم هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫وهو سبحانه له السلطان التام‪ ،‬فهو صاحب العرش الذي استوى عليه سبحانه‪ ،‬وهو‬
‫أعظم مخلوقاته وأكبرها وأوسعها وأشدها‪ ،‬وذلك العرش مجيد‪ ،‬له الغاية في فضل‬
‫املخلوقات‪ ،‬وربه سبحانه املستوي عليه مجيد‪ ،‬له الكمال املطلق في ذاته‪ ،‬وفي أسماءه‬
‫وصفاته‪ ،‬وفي سلطانه‪ ،‬وفي شرعه‪ ،‬وفي خلقه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وهو سبحانه فعال ملا يريد‪ ،‬كثير الفعل ملا يريد كونا وقدرا‪ ،‬فما أراده كونا وقدرا كان‪ِ .‬‬
‫وهو على كل ش يء قدير‪ ،‬ال يعجزه ش يء في اْلرض وال في السماء‪ ،‬وال يمنعه مما أراد مانع‬
‫يوحد‪ ،‬وأن يعبد سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬‫سبحانه من عظيم‪ ،‬وهذا يقتض ي أن َّ‬

‫‪185‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذا املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات املتلوة‪ ،‬ونعود إلى املعنى التفصيلي‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫﴿إ َّن َب ْط َ‬
‫ش َرِب َك لش ِد ٌيد﴾ أي‪ :‬إن عقوبته ْلهل الجرائم والذنوب العظام لقوية شديدة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وهو للظاْلين باْلرصاد‪ِ .‬‬
‫ش َرِب َك﴾ البطش هو اْلخذ واالنتقام والتعذيب‪ِ .‬‬ ‫﴿إ َّن َب ْط َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿لش ِد ٌيد﴾ الشديد هو القوي العظيم اْلليم املحيط‪ِ .‬‬
‫ْ ْ‬
‫وال َحظ أن الشيخ قال‪( :‬أي إن عقوبته ْلهل الجرائم والذنوب العظام لقوية شديدة)‬
‫فبطش هللا شديد بمن يستحق البطش‪ ،‬ففعل ما يستحق به أن ُينتقم منه‪ ،‬وأن يعذب‪،‬‬
‫وأن يؤخذ بذلك العمل‪ ،‬بأن فعله وأصر عليه‪ ،‬أما من سلم من الذنب فلم يذنب‪ ،‬فإن هللا‬
‫ال يبطش به‪ ،‬ومن أذنب فتاب فإن هللا ال يبطش به‪ِ .‬‬
‫إذن إن بطش ربك لشديد بمن يستحق البطش‪ ،‬أما من ال يستحق البطش فإنه داخل في‬
‫الرحمة الواسعة وفي املغفرة من هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ ٌَ‬ ‫َ َ َ َ ُْ‬ ‫َ َ َٰ َ ْ ُ‬
‫﴿وكذ ِل َك أخذ َرِب َك ِإذا أخذ الق َر ٰى َو ِه َي ظ ِاْلة ۚ ِإ َّن‬ ‫وهو للظاْلين باْلرصاد‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫َ ْ َُ َ ٌ َ‬
‫يم ش ِد ٌيد﴾ [هود‪ِ .]102 :‬‬ ‫أخذه أ ِل‬
‫يد﴾ أي‪ :‬هو اْلنفرد بإبداء الخلق وإعادته‪ ،‬فَّل يشاركه في ذلك‬ ‫﴿إ َّن ُه ُه َو ُي ْبد ُئ َو ُيع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مشارك‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ ﴿ :‬إن ُه ُه َو ُي ْب ِد ُئ﴾ أي‪ :‬يبتدئ الكفار بالعذاب في الدنيا‪ ،‬فيعذب من‬
‫شاء أن يعذبه منهم في الدنيا‪ ،‬كما حدث مع قوم نوح وفرعون وثمود كما سيأتي إن شاء‬
‫هللا‪ِ .‬‬
‫يد﴾ أي‪ :‬أنه يعيد لهم العذاب يوم القيامة‪ ،‬وعذاب اآلخرة أشد وأبقى وأعظم وأنكى‪ِ .‬‬ ‫﴿ َو ُيع ُ‬
‫ِ‬
‫وهذا في الحقيقة نوع من أنواع املراد‪ ،‬فيدخل في ذلك كل ما ذكرناه في التفسير املوضوعي‬
‫اإلجمالي‪ِ .‬‬
‫﴿ َو ُه َو ْال َغ ُف ُ‬
‫ور﴾ الذي يغفر الذنوب جميعها ْلن تاب‪ ،‬ويعفو عن السيئات ْلن استغفره‬
‫وأناب‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فالغفور هو كثير املغفرة‪ ،‬الذي يستر الذنب‪ ،‬ويسقط العقوبة‪ ،‬الغفور هو كثير املغفرة‪،‬‬
‫واملغفرة‪ :‬يا إخوة ستر الذنب وإسقاط العقوبة‪ ،‬فال فضيحة وال عقوبة‪ ،‬فيستر ويسقط‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ود﴾ الذي يحبه أحبابه محبة ال يشبهها ش يء‪.‬‬ ‫﴿ ْال َو ُد ُ‬

‫عال من املحبة‪ ،‬أعلى املحبة‪ ،‬خالص‬


‫الود هو خالص املحبة‪ ،‬فهو ليس املحبة‪ ،‬إنما نوع ٍ‬
‫املحبة‪ ،‬فالودود هو الذي يحب أولياءه حبا خالصا‪ ،‬ويحبه أولياؤه حبا خالصا‪ ،‬ففعول‬
‫بمعنى فاعل ومفعول‪َ ،‬ي َود ُوي َود‪ ،‬ربنا سبحانه َي َود ُوي َود ويتودد سبحانه وتعالى‪ ،‬فيتودد إلى‬
‫عباده بالنعم وبتدبير أمورهم‪ِ .‬‬
‫الودود الذي يحبه أحبابه محبة ال يشبهها ش يء‪ ،‬فكما أنه ال يشابهه ش يء في صفات‬
‫الجَّلل والجمال واْلعاني واْلفعال‪ ،‬فمحبته في قلوب خواص خلقه التابعة لذلك ال‬
‫يشبهها ش يء من أنواع اْلحاب‪ ،‬ولهذا كانت محبته أصل العبودية‪ ،‬وهي اْلحبة التي‬
‫تتقدم جميع اْلحاب وتغلبها‪ِ .‬‬
‫كما تقدم في التوحيد‪ ،‬ال تكون العبادة عبادة إال إذا كانت عن محبة وعن ذل وخضوع‪،‬‬
‫َْ‬
‫ومحبة هللا عز وجل مقدمة على كل محبة‪ ،‬بل إن كل محبة تتبع محبة هللا‪ ،‬كل محبة‬
‫مشروعة أو مأذون فيها تتبع محبة هللا‪ ،‬فهي إما محبة هلل‪ :‬نحن نحب رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم هلل؛ ْلن هللا أكرمه‪ ،‬وجعله رسوال‪ ،‬وأمرنا بحبه‪ ،‬وهو صلى هللا عليه وسلم‬
‫يستحق أن نحبه‪ ،‬ولكن حبنا له هلل وليس مع هللا‪ ،‬ما نشرك مع هللا‪ ،‬هو هلل‪ ،‬محبتنا‬
‫للعلماء هلل‪ ،‬محبتنا فيما بيننا هلل‪ ،‬محبة الزوج لزوجته من جهة النكاح هي محبة بإذن هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا معنى قول الشيخ‪ ( :‬تتقدم جميع املحاب وتغلبها)‪ِ .‬‬
‫وإن لم يكن غيرها تبعا لها كانت عذابا على أهلها؛ ْلنها ممنوعة‪ ،‬وقد تكون شركية‪ ،‬وقد‬
‫تكون دون ذلك كما فصلناه وفسرناه في شرح كتاب التوحيد‪ِ .‬‬
‫وتلحظون أن الشيخ هنا فسر الودود بمعنى املحبوب الذي يحبه أولياؤه‪ ،‬ويوده أولياؤه‪،‬‬
‫وقلنا إنا املودة محبة خالصة‪ ،‬فهي من أرفع أنواع املحبة‪ِ .‬‬

‫‪187‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬وإن لم تكن غيرها تبعا لها كانت عذابا على أهلها‪ ،‬وهو تعالى الودود الواد ْلوليائه‬
‫َ‬
‫﴿ي ِح ُّب ُه ْم َو ُي ِح ُّبون ُه﴾ [املائدة‪ ،]54 :‬واْلودة هي اْلحبة الصافية‪.‬‬
‫كما قال تعالى‪ُ :‬‬

‫وهنا ذكر املعنى الثاني للودود‪ ،‬وهو أن هللا يود ويحب سبحانه وتعالى‪ ،‬وكلها مرادة كما قلنا‬
‫يتودد‪ ،‬كلها داخلة في الودود‪َ :‬يود ُويود ويتودد سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬وفي هذا سر لطيف حيث قرن الودود بالغفور؛ ليدل ذلك على أن‬
‫أهل الذنوب إذا تابوا إلى هللا وأنابوا غفر لهم ذنوبهم‪ ،‬وأحبهم‪ ،‬فَّل يقال‪ :‬تغفر لهم‬
‫ذنوبهم وال يرجع إليهم الود كما قاله بعض الغالطين‪ ،‬بل هللا أفرح بتوبة عبده حين‬
‫يتوب من رجل على راحلته عليها طعامه وشرابه وما يسطحه‪ ،‬فأضلها في أرض فَّلة‬
‫مهلكة‪ ،‬فأيس منها‪ ،‬فاضطجع في ظل شجرة ينتظر اْلوت‪ ،‬فبينما هو على تلك الحال‪،‬‬
‫إذا راحلته على رأسه فأخذ بخطامها‪ ،‬فاهلل أعظم فرحا بتوبة العبد من هذا براحلته‪،‬‬
‫وهذا أعظم فرح يقدر‪.‬‬
‫قرب بهذا املثال‪ ،‬كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى هللا عليه‬‫ِّ‬
‫يعني أن هذا الفرح ِ‬
‫وسلم‪ِ .‬‬
‫فلله الحمد والثناء وصفو الوداد ما أعظم بره‪ ،‬وأكثر خيره‪ ،‬وأغزر إحسانه‪ ،‬وأوسع‬
‫امتنانه‪.‬‬
‫يد﴾ أي‪ :‬صاحب العرش العظيم الذي من عظمته أنه وسع السماوات‬ ‫﴿ ُذو ْال َع ْرش ْاْلَج ُ‬
‫ِ ِ‬
‫واْلرض والكرس ي‪ ،‬فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فَّلة بالنسبة لسائر اْلرض‪،‬‬
‫وخص هللا العرش بالذكر لعظمته؛ وْلنه أخص اْلخلوقات بالقرب منه تعالى‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫﴿ ُذو ْال َع ْ‬
‫ش﴾ العرش في اللغة‪ :‬سرير املــلك‪ ،‬سرير امللك يسمى عرشا‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ولربنا سبحانه وتعالى عرش عظيم يحمله ثمانية‪ ،‬أحدهم ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه‬
‫مسيرة سبعمائة عام‪ ،‬وهذا يدلك على عظمة العرش‪ ،‬فالعرش يحمله من املالئكة ثمانية‪،‬‬
‫أحدهم ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام‪ ،‬وله قوائم ‪-‬أعني العرش‪ -‬وهو‬
‫سقف الفردوس‪ِ .‬‬

‫‪188‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ‬ ‫ُ ْ َ ْ َْ‬
‫واملجيد من املجد‪ ،‬واملجد‬ ‫يد﴾ بقراءة الكسر على أن هذا وصف للعرش‪،‬‬
‫ش اْل ِج ِ‬
‫﴿ذو العر ِ‬
‫هو الغاية في الكرم والفضل‪ ،‬وسعة الصفات وعظمها‪ِ .‬‬
‫فعرش ربنا له الكمال في فضل املخلوقات‪ ،‬وهو عظيم الصفات‪ ،‬من عظمته أنه وسع‬
‫السماوات واْلرض والكرس ي‪ ،‬فهي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فالة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ِس َع‬
‫ُ ْ ُّ ُ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫اْل ْر َ‬
‫ض ۖ﴾ [البقرة‪ِ .]255 :‬‬ ‫ات و‬
‫كر ِسيه السماو ِ‬
‫وقد صح عن ابن عباس رض ي هللا عنهما موقوفا عليه أن الكرس ي موضع القدمين‪ ،‬وأن‬
‫العرش ال يقدر قدره إال هللا‪ ،‬صح هذا عن ابن عباس موقوفا‪ ،‬أما املرفوع فضعيف‪ِ .‬‬
‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ما السماوات السبع في الكرس ي إال كحلقة ملقاة‬
‫بأرض فَّلة‪ ،‬وفضل العرش على الكرس ي كفضل تلك الفَّلة على تلك الحلقة))‪ ،‬وذكره‬
‫اْللباني في الصحيحة‪ ،‬فهذا يدل على عظمة العرش ومجده‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وهذا على قراءة الجر يكون اْلجيد نعتا للعرش‪ ،‬وأما على قراءة الرفع فإنه يكون‬
‫نعتا هلل‪ ،‬واْلجد سعة اْلوصاف وعظمتها‪.‬‬
‫على قراءة الرفع في املجيد ﴿ ُذو ْال َع ْرش ْاْلَج ُ‬
‫يد﴾ فإن هذا اسم هلل‪ ،‬ووصف هلل سبحانه‬ ‫ِ ِ‬
‫ِوتعالى‪ ،‬وكما قلنا املجد هو الغاية في الكرم والفضل‪ ،‬وسعة اْلوصاف وعظمها‪ ،‬فاهلل عز‬
‫وجل هو املجيد الكامل في ذاته‪ ،‬والكامل في صفاته‪ ،‬والكامل في سلطانه‪ ،‬والكامل في‬
‫شرعه‪ ،‬والكامل في خلقه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫سمعيتان‪ ،‬وكال املعنيين صحيح‪ ،‬فالعرش مجيد‪ ،‬وربه مجيد‪،‬‬ ‫وكال القراءتين صحيحتان‬
‫ومجد هذا يليق باملخلوق‪ ،‬ومجد ربنا هو املجد املطلق والكمال املطلق‪ِ .‬‬
‫َ َّ ٌ َ‬
‫ال ِْلا ُي ِر ُيد﴾ أي‪ :‬مهما أراد شيئا فعله‪ ،‬إذا أراد شيئا قال له كن فيكون‪ ،‬وليس‬ ‫﴿فع‬
‫أحد فعاال ْلا يريد إال هللا‪ِ .‬‬
‫أي مهما أراد شيئا كونا وقدرا؛ ْلن إرادة هللا نوعان‪ِ :‬‬
‫‪ -‬إرادة كونية قدرية إيجادية‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإرادة شرعية أمرية‪ِ .‬‬

‫‪189‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واملراد باإلرادة هنا اإلرادة الكونية القدرية اإليجادية‪ ،‬فمهما أراد شيئا كونا وقدرا فعله‪ ،‬إذا‬
‫أراد شيئا قال له‪ :‬كن‪ ،‬فيكون‪ِ .‬‬
‫يعني العامة يقولون بين الكاف والنون‪ ،‬ال؛ ليس بين الكاف والنون؛ ْلن البينية تقتض ي‬
‫التوسط‪ِ ،‬وإنما بكن تكون‪ ،‬ما نقول‪ :‬أمر هللا وخلق هللا بين الكاف والنون‪ ،‬نقول‪ :‬أمر هللا‬
‫مع كن‪ ،‬فإذا قال هللا كن كان‪ِ .‬‬
‫قال الشيخ‪( :‬وليس أحد فعاال ملا يريد إال هللا)؛ ْلنه ليس ْلحد إرادة مطلقة إال هللا‪،‬‬
‫اإلنسان له إرادة‪ ،‬لكنها تحت إرادة هللا‪ ،‬ولن يريد إال ما أراده هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فليس‬
‫ْلحد من الخلق إرادة مطلقة‪ ،‬اإلرادة املطلقة لرب الخلق سبحانه وتعالى‪ ،‬هلل‪ ،‬وأما كل‬
‫مخلوق فمهما بلغت قوته‪ ،‬ومهما بلغت عظمته بالنسبة للمخلوقات‪ ،‬فإنه ليست له إرادة‬
‫مطلقة‪ ،‬وليس كل فعل له يبنى على إرادته‪ ،‬فقد يفعل ما ال يريد‪ ،‬وقد يريد وال يفعل‪،‬‬
‫اإلنسان قد يفعل ما ال يريد‪ ،‬يأتيه مثال الخارج من السبيلين‪ ،‬هو ال يريده‪ ،‬لكن يفعل‪ ،‬وقد‬
‫يريد شيئا‪ ،‬ولكنه ال يفعله ‪ِ .‬‬
‫فالفعال ملا يريد هو ذو اإلرادة املطلقة سبحانه وتعالى‪ ،‬ربنا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫كثير الفعل ملا يريد‬
‫وفعال تدل على الكثرة‪ ،‬فال يفعل بعض اْلشياء التي يريدها‪ ،‬بل هو ِ‬
‫كونا وقدرا‪ ،‬وهو سبحانه إن أراد كونا وقدرا فعل بقوله‪ :‬كن‪ ،‬فهو الغني القدير‪ِ .‬‬
‫أما املخلوق فإنه إذا أراد شيئا البد أن ُيعان عليه‪ ،‬كل اْلشياء ال يمكن أن يفعلها املخلوق‬
‫إال إذا أعانه هللا‪ ،‬وقد يحتاج إلى عون مخلوق مثله‪ ،‬وال يستطيع أن يفعل ما يريد إال إذا‬
‫أعانه مخلوق مثله‪ِ .‬‬
‫وهذا يدلنا على أن الكمال املطلق والغنى املطلق والقوة املطلقة إنما هي لربنا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬أما املخلوق فليست له قوة مطلقة‪ ،‬وليس له غنى مطلق‪ ،‬فهو فقير وإن استغنى‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فإن اْلخلوقات ولو أرادت شيئا فإنه البد إلرادتها من معاون وممانع‪ ،‬وهللا ال‬
‫معاون إلرادته‪ ،‬وال ممانع له مما أراد‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فال يمنعه مما أراد مانع‪ ،‬وإذا أراد شيئا قال له‪ :‬كن‪ ،‬فيكون‪ ،‬فال يمتنع وال يمانع‪ ،‬ال يمتنع‬
‫َ‬
‫ما أراده‪ ،‬وال يمانع سبحانه مما أراده‪ ،‬وإذا أراد شيئا فإنما يقول له‪ :‬كن فيكون‪ ،‬فهو‬
‫الفعال ملا يريد‪ِ .‬‬
‫وفي هذا وعيد شديد ْلعدائه الذين يكذبون رسله‪ ،‬ويعادون عباده الصالحين‪ِ .‬‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ْ َ ََ‬
‫ن‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ ْ ُ ُ‬
‫يب (‪)19‬‬ ‫ود (‪ِ )17‬فرعو وثمود (‪ )18‬ب ِل ال ِذين كفروا ِفي تك ِذ ٍ‬ ‫﴿هل أتاك ح ِديث الجن ِ‬
‫ُْ‬ ‫َْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ َ ُ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ََ‬ ‫َ َّ ُ‬
‫وظ (‪ِ .﴾)22‬‬ ‫والله ِمن ور ِائ ِهم ُّم ِحيط (‪ )20‬ب ْل هو ق ْرآن َّم ِجيد (‪ِ )21‬في لو ٍح َّمحف ٍ‬
‫في هذه اآليات الكريمات يخاطب هللا عز وجل نبيه صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين تبعا له‬
‫تسلية لنبيه صلى هللا عليه وسلم على ما يلقاه من أذى الكفار عندما كان في مكة وما يراه‬
‫من إعراضهم‪ ،‬وتسلية للمؤمنين معه الذين كان الكفار يعذبون أغلبهم‪ ،‬ويحرصون على‬
‫فتنة املسلمين عن دينهم‪ ،‬وتهديدا ْلعدائه املحاربين لنبيه وْلوليائه املؤمنين وبيانا لسنته‬
‫َ ْ ََ َ َ ُ ْ ُ ُ‬
‫ود﴾ أي‪ :‬قد‬ ‫الكونية في أعدائه املكذبين لرسله بقوله سبحانه‪﴿ :‬هل أتاك ح ِديث الج ِ‬
‫ن‬
‫أتاك خبر القوم ذوي القوة واملنعة والعدد الكثير‪ ،‬فجاءك حديثهم وخبرهم‪ِ .‬‬
‫خبرهم‪ ،‬وهم فرعون وملؤه الذين طغوا‬ ‫واالستفهام هنا للتنبيه واملراد التحقيق‪ :‬قد أتاك ُ‬
‫في البالد وأظهروا فيها الظلم والفساد‪ ،‬وثمود قوم صالح الذين قطعوا الصخور وبنوا بها‬
‫القصور ونحتوا الجبال بيوتا‪ ،‬ولم يؤمن هؤالء وال أولئك فانتقم هللا منهم‪ ،‬فأغرق فرعون‬
‫ومأله باملاء الذي كان فرع ِون يتجبر به ويتكبر ويقولِ‪ :‬وهذه اْلنهار تجري من تحتي‪ ،‬وأهلك‬
‫اآلخرين برجفة وصيحة لم تترك منهم أحدا‪ِ .‬‬
‫وخص هللا عز وجل فرعون وثمود بالذكر لشهرة أخبارهم عند العرب وعند اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬فهم أقرب لالعتبار بهم‪ ،‬وهذا الذي وقع يكفي زاجرا للكفار بمحمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم عن كفرهم‪ ،‬فلو كانوا يعقلون النزجروا واعتبروا بما وقع ملن كفر وعاند من‬
‫اْلمم السابقة‪ ،‬ولكنهم يكذبون برسول هللا صلى هللا عليه وسلم فال يؤمنون باآليات املتلوة‬
‫عليهم في القرآن وال باْلخبار الصادقة التي يخبرهم بها سيد ولد عدنان صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وال يعتبرون باآليات الكونية وال بما يمرون به مما فيه اعتبار ومواعظ للقلوب‬
‫الحية‪ِ .‬‬

‫‪191‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فهم في وسط التكذيب‪ ،‬والتكذيب محيط بهم من كل جانب فأعمى أبصارهم وطمس‬
‫بصائرهم‪ ،‬فال يصدقون وال يعتبرون‪ِ .‬‬
‫والشأن أن هللا سبحانه وتعالى محيط بهم وبأعمالهم من كل جانب ال يخرجون من‬
‫سلطانه‪ ،‬و ِال يغيبون عن علمه وال عن سمعه وال بصره‪ ،‬وال يخفى منهم ش يء‪ِ .‬‬
‫ثم هم راجعون إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وفي ذلك أعظم التهديد ْلولئك الكفار املكذبين‬
‫برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والذين يكذبون بالقرآن وهو قرآن ذو عظمة ومجد‬
‫وإعجاز‪ ،‬فهو كالم هللا املعجز‪ ،‬وال يمكن ملخلوق مهما بلغ من الفصاحة أن يأتي بمثله أو‬
‫أن يأتي بمثل بعضه‪ِ .‬‬
‫ومن كان من أهل القرآن صادقا كان له من املجد والعزة النصيب اْلعظم‪ ،‬ومن كذب‬
‫بالقرآن كان له من الذلة النصيب اْلعظم‪ِ .‬‬
‫وهو محفوظ في اللوح املحفوظ ال يناله تغيير وال تبديل‪ ،‬وهو محفوظ عند نزوله‪ ،‬فاهلل‬
‫يتكلم به متى شاء‪ ،‬ويسمعه منه جبريل اْلمين عليه السالم‪ُ ،‬وي ْس ِم ُعه ملحمد الصادق اْلمين‬
‫ْ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ َّ ْ َ‬
‫الذك َر‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو محفوظ ْلمة محمد تكفل هللا بحفظه‪ِ ﴿ :‬إنا نحن نزلنا ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫َو ِإنا ل ُه ل َحا ِفظون﴾ [الحجر‪ ،]9 :‬ويسر ْلمة محمد صلى هللا عليه وسلم حفظه‪ِ .‬‬
‫فالقرآن يحفظه املؤمنون يحفظه صغار من املؤمنين ويحفظه كبار من املؤمنين‪ ،‬ولو قرأ‬
‫قارئ فأخطأ في آية لرد عليه صغار الحفاظ قبل كبارهم‪ ،‬فهو محفوظ ْلمة محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم ما بقيت هذه اْلمة‪ ،‬يتلونه اليوم وغدا كأنه نزل اللحظة على محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‪،‬‬
‫ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫﴿ه ْل َأ َتاكَ‬
‫والسامعين‪ :‬ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به سله فقال‪َ :‬‬
‫ر‬
‫يث ْال ُج ُنود (‪ )17‬ف ْر َع ْو َن َو َث ُم َ‬
‫ود (‪ِ .﴾)18‬‬
‫َ ُ‬
‫ح ِد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬

‫‪192‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫﴿ه ْل﴾ بمعنى قد‪ ،‬فإن أخبارهم قد أتته صلى هللا عليه وسلم في القرآن‪ ،‬واالستفهام كما‬
‫قلنا للتنبيه ملا في هذه اْلخبار من املعاني والعبر‪ِ .‬‬
‫َ ُ‬
‫﴿ح ِديث﴾ أي‪ :‬خبر‪ِ .‬‬
‫ْ ُُ‬
‫ود﴾ هم القوم املجتمعون كثيرو العدد الذين لهم قوة ومنعة‪ ،‬فهم يتصفون بثالث‬ ‫﴿الجن ِ‬
‫صفات‪ :‬االجتماع‪ ،‬والكثرة‪ ،‬والقوة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وبين هللا عز وجل املراد بالجنود هنا في قوله‪ِ ﴿ :‬ف ْر َع ْون﴾ وفرعون ملك له جنود ومأل‪،‬‬
‫فليس املقصود فرعون فقط‪ ،‬وإنما من تحت واليته من الكفار من جنوده ووزرائه وأتباعه‬
‫الذين آمنوا به ولم يؤمنوا باهلل عز وجل‪ِ .‬‬
‫ود﴾ هم قوم صالح‪ ،‬وهم عند العرب وديارهم في ديار العرب وآثارهم باقية‪ ،‬فالبيوت‬ ‫﴿و َث ُم َ‬
‫َ‬

‫التي نحتوها في الجبال الزالت باقية‪ ،‬ويمر بها العرب ويرونها‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫ومن هنا تعرف سر تخصيص فرعون وثمود بالذكر مع كون الجنود الكفرة املهلكين كثر‪،‬‬
‫خص فرعون بالذكر لشهرة أخباره عند العرب واليهود والنصارى‪ ،‬وخص قوم صالح ثمود‬
‫بالذكر لكونهم في ديار العرب فهم أقرب للمخاطبين بالقرآن عند نزوله‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ْ َ ََ‬
‫ن‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ ْ ُ ُ‬
‫ود (‪ِ )17‬فرعو وثمود (‪ ﴾18‬وكيف كذبوا اْلرسلين فجعلهم هللا‬ ‫﴿هل أتاك ح ِديث الجن ِ‬
‫من اْلهلكين‪.‬‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫يب﴾ أي‪ :‬ال يزالون مستمرين على التكذيب والعناد ال تنفع‬ ‫ذ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫وا‬‫ر‬ ‫ف‬ ‫﴿ب ِل ال ِذين ك‬
‫فيهم اآليات‪ ،‬وال تجدي لديهم العظات‪.‬‬
‫َْ‬
‫يب﴾ فهم في التكذيب‪ ،‬ومعنى ذلك أن التكذيب‬ ‫وانظر أن ربنا سبحانه وتعالى قال‪ِ ﴿ :‬في ت ٍ‬
‫ذ‬
‫ِ‬ ‫ك‬
‫محيط بهم من كل جانب‪ ،‬فهم ال يؤمنونِ وال يصدقون‪ ،‬فقد أعماهم التكذيب وطمس‬
‫بصائرهم‪ِ .‬‬
‫يط﴾ قد أحاط بهم علما وقدرة‪ ،‬كقوله‪﴿ :‬إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ‬
‫صاد﴾‬
‫ٌ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ُه ِمن َو َر ِائ ِهم ُّم ِح‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ففيه الوعيد الشديد للكافرين من عقوبة من هم في قبضته وتحت تدبيره‪.‬‬
‫وهم راجعون إلى هللا عز وجل ومؤاخذهم بأعمالهم لن يغيب منها ش يء ولن يفقد منها ش يء‪ِ .‬‬
‫﴿ب ْل ُه َو ُق ْر ٌ‬
‫آن َّم ِجيد﴾ أي‪ :‬واسع اْلعاني عظيمها كثير الخير والعلم‪ِ .‬‬ ‫َ‬

‫‪193‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تقدم معنا أن املجيد من املجد وهو الكمال في الفضل‪ ،‬والقرآن هو أفضل الكتب املنزلة‬
‫على الرسل وقد بلغ الكمال وهو كالم هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ ْ َّ ْ ُ‬
‫وظ﴾ من التغيير والزيادة والنقص ومحفوظ من الشياطين وهو اللوح‬ ‫﴿في لو ٍح مح ٍ‬
‫ف‬ ‫ِ‬
‫اْلحفوظ الذي قد أثبت هللا فيه كل ش يء‪.‬‬
‫فهو محفوظ في اللوح املحفوظ الذي ال يتطرق إليه تغيير‪ ،‬ومحفوظ عند إنزاله كما قلنا‬
‫هللا عز وجل يتكلم باآليات متى شاء‪ ،‬فيسمعها جبريل عليه السالم‪ ،‬وجبريل ذو قوة أمين‬
‫متين فينزل بالقرآن‪ ،‬والسماء قد حفظت من الشياطين والجان‪ُ ،‬في ْسمع محمدا صلى هللا‬
‫عليه وسلم اآليات‪ ،‬ومحمد صلى هللا عليه وسلم رسول هللا الصادق اْلمين فيسمعها‬
‫للناس‪ِ .‬‬
‫ثم بعد نزوله أيضا هو محفوظ‪ ،‬والزال محفوظا وسيبقى محفوظا‪ ،‬وهذا من مجد القرآن‬
‫وكمال فضله‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وهذا يدل على جَّللة القرآن وجزالته ورفعة قدره عند هللا تعالى وهللا أعلم‪.‬‬
‫وبهذا فرغنا من تفسير هذه السورة ومن الحكم الكلية‪ِ .‬‬
‫والفوائد العظمى من هذه السورة‪:‬‬
‫‪-‬بيان قوة هللا وقدرته وسنته في نصر أوليائه وأخذ أعدائه‪ :‬بيان قوة هللا القوي املتين‬
‫وقدرة هللا سبحانه وتعالى وهو على كل ش يء قدير وسنته الجارية في نصر أوليائه وأخذ‬
‫أعدائه‪ِ .‬‬
‫‪ -‬أيضا من الحكم الكلية والفوائد العظمى في هذه السورة بيان سنة الكفر والكفرة مع‬
‫دين هللا عز وجل والعداء ْلهل دين هللا عز وجل‪ ،‬وأن عداوة الكفار للمسلمين إنما هي من‬
‫أجل دينهم وإن تظاهروا بأشياء أخرى‪ ،‬فإن حقيقة عداوتهم أنها من أجل دين املسلمين‪،‬‬
‫ولذلك لن يرض ى الكفار عن املسلمين مهما فعلوا إال أن يتركوا دينهم؛ ْلن عداوة الكفار‬
‫وبغض الكفار للمسلمين إنما سببه دين املسلمين‪ ،‬وعلى املسلمين أن يعوا هذا اْلمر‪ِ .‬‬

‫‪194‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬ومن الحكم الكلية والفوائد العظمى في هذه السورة‪ :‬بيان أن املسلمين ال يزالون‬
‫منصورين ما تمسكوا بالقرآن العظيم‪ ،‬وأنهم لن يهزموا إال إذا تركوا كتاب هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وكذلك من تلك الحكم الكلية والفوائد العظمى‪ :‬بيان أن من أجرم وأصر على إجرامه‬
‫حقيق بأن يأخذه هللا أخذا شديدا‪ ،‬وأنه إذا تاب من إجرامه قبل أن يحل به العذاب‬
‫يسلم من ذلك العذاب‪ ،‬بيان أن من أجرم وأصر على إجرامه وظلم وعظم ظلمه حقيق بأن‬
‫يأخذه هللا عز وجل أخذا شديدا وإن أملى له‪ ،‬وأنه إن تاب من إجرامه مهما عظم قبل أن‬
‫يحل به العذاب يسلم برحمة هللا من ذلك العذاب‪ِ .‬‬

‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪195‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الطارق‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ُ ُّ َ ْ َّ َّ‬
‫س ْلا‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫)‬ ‫‪3‬‬ ‫(‬ ‫ب‬
‫َّ ْ ُ َّ‬
‫الثاق ُ‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫الن‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬
‫َّ ُ‬
‫ق‬‫ار‬ ‫الط‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫الطارق (‪َ )1‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َ‬ ‫َ َّ َ َ َّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫﴿والسم ِاء و ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََْ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ ََْ َ ٌ‬
‫نسان ِم َّم خ ِل َق (‪ )5‬خ ِل َق ِمن َّم ٍاء َد ِاف ٍق (‪َ )6‬يخ ُر ُج ِمن َب ْي ِن‬ ‫اإل‬
‫عليها حا ِفظ (‪ )4‬فلينظ ِر ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫الت َرائب (‪ )7‬إ َّن ُه َع َل ٰى َر ْجعه َل َقاد ٌر (‪َ )8‬ي ْو َم ُت ْب َلى َّ‬‫ُّ ْ َ َّ‬
‫الس َرا ِئ ُر (‪ )9‬ف َما ل ُه ِمن ق َّو ٍة َوال‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصل ِب و‬
‫َ‬
‫اص ٍر (‪ِ .﴾)10‬‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫في هذه السورة املكية يقسم هللا عز وجل بالسماء وما يكون فيها مما يظهر ليال ويختفي‬
‫َّ ُ‬
‫اك َما الط ِارق﴾ أي‪:‬‬ ‫نها ا‪ ،‬وينبه نبيه صلى هللا عليه وسلم ِواملؤمن ويشوقه بقوله‪َ ﴿ :‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫وما أعلمك ما الطارق؟ إنه النجم الالمع شديد اللمعان واملتوهج بضوئه الذي يثقب‬
‫السماء بشدة ضوئه‪ ،‬ويكون متميزا عن غيره من النجوم بشدة ضوئه‪ ،‬وكذلك النجم الذي‬
‫يرى ضوؤه عندما ترمى به الشياطين حتى ال تسترق السمع‪ ،‬وفي ذلك إشارة إلى حفظ‬
‫القرآن الكريم‪ِ .‬‬
‫وجواب القسم أنه ما من نفس من الناس إال ويحفظها هللا عز وجل‪ ،‬وجعل عليها من‬
‫املالئكة من يحفظها ويحرسها من اآلفات واملهلكات‪ ،‬ولوال ذلك ملا عاش اإلنسان في الدنيا‬
‫على اْلرض وهلك‪ ،‬ولكن هللا عز وجل يسر له مالئكة تحفظه من اآلفات املهلكات‪ِ .‬‬
‫كما جعل له مالئكة يحفظون أعماله ‪-‬أو نقول يحفظون أعمالها باعتبار أنا نتكلم عن‬
‫النفس‪ -‬من اْلفعال واْلقوال الظاهرة والخفية‪ ،‬ويكتبون ذلك لتعرض على صاحبها يوم‬
‫القيامة ويالقيها‪ِ .‬‬
‫وقد جعل هللا عز وجل لإلنسان في دنياه ما يعتبر به ويتعظ به إن تفكر فيه وتدبر‪ ،‬ومن‬
‫ُ‬
‫ذلك نفسه‪ ،‬فلينظر اإلنسان في نفسه نظر تفكر واعتبار‪ ،‬وليفكر من أي ش يء خلق؟ وما هو‬
‫ُ‬
‫أصل خلقته؟ إنه خلق من ماء مهين هو املني يخرج دفقا ودفعا من بين ظهر الرجل وأعلى‬
‫صدره‪ ،‬أو من بين ظهر الرجل وصدر املرأة‪ ،‬فهو في مكان أمين من الجسد يحفظ فيه‬
‫بحيواناته‪ ،‬ثم يخرج عند الشهوة مندفعا سائال حيث يختلط ببويضة املرأة وبماء املرأة‬
‫اْلصفر الرقيق الذي فيه البويضة‪ ،‬فتلقح البويضة بالحيوان املنوي إذا شاء هللا عز وجل‬

‫‪196‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ذلك‪ ،‬وتستقر تلك البويضة امللقحة في الرحم‪ ،‬فإن سبق ماء الرجل ماء املرأة نزع الولد إلى‬
‫شبه أبيه‪ِ ،‬وإن سبق ماء املرأة ماء الرجل نزع الولد إلى شبه أمه‪ِ .‬‬
‫وهذا يشترك فيه كل الناس اْلغنياء والفقراء امللوك والعامة بمختلف اْللوان‪ ،‬كل الناس‬
‫هذا أصل خلقتهم‪ ،‬فأصل خلقتهم واحد‪ ،‬وال يملك مخلوق مهما أوتي من العلم أن يوجد‬
‫ذلك املاء‪ ،‬وال أن يحدث تلك البويضة فالعلماء بالطب والتشريح مع سعة علمهم عاجزون‬
‫عن إيجاد املاء وما فيه من الحيوانات املنوية‪ ،‬وعاجزون عن إيجاد البويضات‪ ،‬ال يملك‬
‫ذلك إال هللا‪ِ .‬‬
‫والقادر على إيجاد مادة اإلنسان قادر على أن يعيده يوم القيامة‪ ،‬واإلعادة أسهل وأهون‬
‫من االبتداء‪ ،‬وهذا أمر عقلي مرئي ال يمكن دفعه ملن كانت له بصيرة‪ ،‬وإعادته وبعثه يوم‬
‫القيامة يوم تختبر القلوب‪ ،‬وتكشف املكنونات‪ ،‬وتبرز اْلعمال من الكتب‪ ،‬وتربط اْلعمال‬
‫بالقلوب صالحا وفسادا‪ ،‬ويحاسب اإلنسان على ذلك‪ ،‬في يوم يكون فيه اإلنسان ضعيفا ال‬
‫قوة له في ذاته‪ ،‬وال في حيلته حتى يدفع عن نفسه‪ ،‬وال ناصر له من غيره يحميه ويدفع عنه‬
‫ال من نسبه‪ ،‬وال من أصحابه‪ ،‬وال من جنده‪ ،‬وال من غير ذلك‪ِ .‬‬
‫فهو يأتي ربه يوم القيامة فردا‪ ،‬وهذه حقيقة اإلنسان؛ يبدأ ضعيفا من ماء مهين ضعيف‪،‬‬
‫ويكون في رحم أمه فردا‪ ،‬ثم يعيش في الدنيا ويسعى بعمله ويكدح إلى ربه‪ ،‬ثم يكون في قبره‬
‫فردا‪ ،‬ثم يبعث يوم القيامة فردا‪ ،‬ال تكون له قوة يدفع بها عن نفسه‪ ،‬وال حيلة يحتال بها‪،‬‬
‫وال تقبل منه فدية يفتدي بها من عذاب هللا‪ ،‬وال يوجد ش يء يساوي جرمه حتى يفتدي به‬
‫من عذاب هللا لو كان يملكه‪ ،‬فكيف وهو ال يملك شيئا يوم القيامة؟! ِ‬
‫يأتي كما ولدته أمه‪ ،‬وال يكون له ناصر ينصره ويحميه‪ ،‬وال يكون له شافع إال أن يأذن هللا‬
‫ملن يشاء ويرض ى‪ِ .‬‬
‫ولو أن اإلنسان علم هذا علم اليقين لسار إلى ربه في تقى‪ ،‬وخاف من هللا أشد الخوف‪،‬‬
‫واستحيى من هللا حق الحياء‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ونعود إلى املعنى التفصيلي لهذه‬
‫ا ِآليات‪ ،‬ونقرأ ما ذكره الشيخ رحمه هللا‪ِ .‬‬

‫‪197‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ‬
‫الس َم ِاء َوالط ِار ِق (‪ِ .﴾)1‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول هللا تعالى‪َ ( :‬و َّ‬
‫الواو للقسم‪ِ .‬‬
‫و َّ‬
‫﴿الس َم ِاء﴾ هو كل ما عالك‪ ،‬فيشمل ذلك اْلفالك والسماء املعروفة بهذا االسم‪ ،‬هكذا‬
‫قال جمع من العلماء‪ِ .‬‬
‫واْلظهر وهللا أعلم أن املراد بالسماء هنا هي السماء املعروفة بهذا االسم‪ ،‬وليس كل ما‬
‫عال‪ ،‬وهذا هو املتبادر إلى الذهن عند سماع اسم السماء‪ِ .‬‬
‫وأما الطارق فيأتي تفسيره‪ِ .‬‬
‫َّ ُ‬
‫اك َما الط ِارق﴾ قال العلماء‪ :‬هذا استفهام تنبيه وتشويق قدم أمام البيان‬ ‫﴿ َو َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬
‫ُ‬
‫لتلتفت القلوب وتنتبه وتشتاق إلى ما يأتي من التفسير‪ ،‬وفسر الطارق بقول هللا ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫﴿الن ْج ُم الثا ِق ُب﴾ أي‪ :‬اْلض يء الذي يثقب نوره فيخرق‬ ‫ثم فسر الطارق بقوله‪:‬‬
‫السماوات فينفذ حتى يرى في اْلرض‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬أي‪ :‬املض يء شديد اإلضاءة الذي يثقب نوره؛ أي‪ :‬أنه شديد اإلضاءة‪ ،‬فضوؤه شديد‬
‫وهاج‪ ،‬فينفذ حتى يرى في ا ِْلرض ويلتمع نوره وهو في السماء‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬الثا ِق ُب﴾ هو الذي يرتفع ويعلو‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬الثا ِق ُب﴾ هو الذي ُيرمى به؛ أي‪ :‬أن النجم الثاقب هنا هو الذي‬
‫ترمى به الشياطين‪ِ .‬‬
‫ومن نظر إلى السماء يرى أحيانا ضوءا يلتمع‪ ،‬هذا ضوء النجم الذي ترمى به الشياطين‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬الثا ِق ُب﴾ هو املحرق‪ ،‬وهو النجم الذي ترمى به الشياطين‬
‫فيحرقها‪ِ .‬‬
‫هذا تفسير معنى الثاقب‪ِ .‬‬
‫ثم اختلف العلماء في هذا النجم الثاقب‪ :‬هل هو كل النجوم؟ أو نجم معين؟ وهذا ما ذكره‬
‫الشيخ‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال‪ :‬والصحيح أنه اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب‪ ،‬وقد قيل إنه زحل الذي‬

‫‪198‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يخرق السماوات السبع وينفذها فيرى منها‪ِ .‬‬


‫وقيل‪ :‬إنه الثريا‪ ،‬لكن اْلقرب واْلظهر أنه يشمل كل نجم ثاقب له نور يرى ويراه الناس من‬
‫اْلرض‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وسمي طارقا ْلنه يطرق ليَّل ‪ِ .‬‬
‫ومعنى يطرق ليال يظهر ليال ويختفي نهارا‪ ،‬يقال‪ :‬طرق فالن بيته إذا جاءه ليال‪ ،‬فالطرق هو‬
‫املجيء في الليل‪ِ .‬‬
‫وبعض املعاصرين الذين يتكلمون عن إعجاز القرآن؛ وهذا التفسير أعني بإعجاز القرآن إن‬
‫كان متوافقا مع كالم املتقدمين وكان حقيقة علمية فهو طيب‪ ،‬أما إذا كان يخالف كالم‬
‫املتقدمين ويأتي بمعنى جديد لم تعرفه اْلمة فهذا ال يمكن في القرآن وهو باطل‪ ،‬فإذا‬
‫اختلفت اْلمة في التفسير على قولين أو جاءت بقول واحد وإن تنوع التعبير فإنه ال يجوز‬
‫ملن بعدهم أن يحدث قوال جديدا يخالف ما كان عليه أول اْلمة‪ ،‬فإن أمة محمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم ال تجتمع إال على حق‪ ،‬وما خرج عن اجتماعها فهو باطل‪ِ .‬‬
‫وكذلك التفسير باإلعجاز بالنظريات التي ليست حقائق يقينية‪ ،‬فإنه ال يجوز أن يجر‬
‫القرآن إلى ما هو تحت التجربة‪ ،‬يمكن أن يثبت ويمكن أال يثبت‪ِ .‬‬
‫بعض الذين يعتنون بتفسير اإلعجاز أو التفسير اإلعجازي وهو تفسير مخترع جديد يعني‬
‫يقولون الطارق والنجم الثاقب هو النجم الذي له صوت‪ ،‬فيقولونِ‪ :‬الطارق من الطرق‪،‬‬
‫من طرق الباب وطرق الخشب له صوت‪ ،‬فالنجم الثاقب هو النجم الذي له صوت‪ِ .‬‬
‫وهذا لم يقله أحد من املفسرين املتقدمين‪ ،‬وال يعرف في لغة العرب فال يلتفت إليه‪ ،‬وإنما‬
‫ذكرته هنا ْلذكر الفائدة املتعلقة بالتفسير اإلعجازي وأنه متى يكون طيبا ومتى يكون‬
‫ممنوعا‪ ،‬وإال فالحقيقة مثل هذا التفسير ال يوقف عنده وال يؤبه به‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ ُّ َ ْ َّ َّ َ‬
‫س ْلا َعل ْي َها َحا ِفظ﴾ يحفظ عليها أعمالها‬
‫﴿إن كل نف ٍ‬ ‫قال‪ :‬واْلقسم عليه قوله‪ِ :‬‬
‫الصالحة والسيئة وستجازى بعملها اْلحفوظ عليها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ ُّ َ ْ َّ َ‬
‫س ْلَّا َعل ْي َها َحا ِفظ﴾ هذه إحدى القراءتين ل َّـما بتشديد امليم‪ ،‬وعلى هذا تكون‬
‫﴿ ِإن كل نف ٍ‬
‫إن نافية‪ ،‬ول َّـما بمعنى إال‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬ما من نفس إال عليها حافظ‪ِ .‬‬

‫‪199‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ ُّ َ ْ َّ َ َ‬
‫س ْلا َعل ْي َها‬
‫وفي قراءة اْلكثر لـما بتخفيف امليم ‪-‬كما كاد نور الدين أن يقرأها‪ِ ﴿ ،-‬إن كل نف ٍ‬
‫ٌ‬
‫َحا ِفظ﴾‪ ،‬فتكون إن مخففة من الثقيلة‪ ،‬والَّلم زائدة للتوكيد صلة‪ ،‬وما فارقة‪ ،‬فيكون‬
‫َّ‬
‫املعنى‪ :‬إن كل نفس عليها حافظ‪ِ .‬‬
‫والحافظ كما ذكر الشيخ هنا هم املالئكة حفظة اْلعمال كما ذهب إلى ذلك بعض‬
‫املفسرين‪ ،‬ومنهم شيخهم ابن جرير‪ ،‬هم املالئكة حفظة اْلعمال‪ِ .‬‬
‫وذهب بعض اْلفسرين إلى أن الحافظ هنا هم املالئكة الذين يحفظون اإلنسان‬
‫ويحرسونه في الدنيا من املهلكات حتى يأتي قدر هللا‪ ،‬وأحسب أن ابن كثير ذهب إلى هذا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الحافظ هنا هو هللا‪ِ .‬‬
‫والكل صحيح‪ ،‬فاهلل حافظ وهو خير الحافظين‪ ،‬وقد قيظ لإلنسان مالئكة يحفظونه‬
‫ويحرسونه من املهلكات‪ ،‬وجعل له مالئكة يحفظون عليه أعماله وأقواله ويكتبونها‪ِ .‬‬
‫فهذا كما قلنا مرارا من اختالف التنوع‪ ،‬وهذا الغالب على اختالف املفسرين أن يكون من‬
‫باب اختالف التنوع‪ ،‬ملاذا؟ ِ‬
‫ْلن القرآن حمال وجوه‪ ،‬ويحتمل املعاني الكثيرة في الكلمات القليلة‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ََْ ُ ْ َ ُ‬
‫نسان ِم َّم خ ِل َق (‪ ﴾ )5‬أي‪ :‬فليتدبر خلقته ومبدأه‪ِ .‬‬ ‫اإل‬
‫﴿فلينظ ِر ِ‬
‫ََْ ُ ْ َ ُ‬
‫نسان﴾ قال بعض أهل العلم‪ :‬ال هنا للجنس‪ ،‬فهذا خطاب لجنس اإلنسان‬ ‫اإل‬
‫﴿فلينظ ِر ِ‬
‫املؤمن والكافر‪ ،‬كل إنسان يأمره هللا أن ينظر في أصل خلقته وفي نفسه نظر تدبر واعتبار‪ِ .‬‬
‫ينظر هذا‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬ال هنا للعهد‪ ،‬فاإلنسان هو الكافر املنكر للبعث؛ أي‪ :‬فل ِ‬
‫اإلنسان الذي يكذب النبي صلى هللا عليه وسلم وينكر البعث إلى نفسه وإلى أصل خلقته‪ِ .‬‬
‫واْلظهر أنه لجنس اإلنسان‪ ،‬كلما كان املعنى أعم وأشمل واحتمله اللفظ كان أولى إال أن‬
‫يأبى ذلك السياق‪ ،‬وهذا ضابط في تفسير القرآن‪ ،‬كلما كان املعنى أعم وأشمل ويحتمله‬
‫اللفظ وال يأباه السياق كان أولى أن يحمل عليه القرآن‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فإنه مخلوق من ماء دافق وهو اْلني الذي يخرج من بين الصلب والترائب‪ ،‬يحتمل‬
‫أنه من بين صلب الرجل وترائب اْلرأة وهي ثدياها‪ ،‬ويحتمل أن اْلراد اْلني الدافق وهو‬
‫مني الرجل‪ ،‬وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه‪ ،‬ولعل هذا أولى‪ ،‬فإنه إنما‬

‫‪200‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وصف به اْلاء الدافق الذي يحس به ويشاهد دفقه وهو مني الرجل‪ ،‬وكذلك لفظ‬
‫الترائب فإنها تستعمل للرجل‪ ،‬فإن الترائب للرجل بمنزلة الثديين لألنثى‪ ،‬فلو ولدت‬
‫اْلنثى لقيل‪ :‬من الصلب والثديين ونحو ذلك وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫﴿خ ِل َق ِمن َّم ٍاء َدا ِف ٍق﴾ بعض اْلفسرين يقول‪ :‬هذا هو ماء الرجل‪ ،‬املني الذي يخرج دفقا‬
‫ودفعا عند حصول سبب ذلك‪ِ .‬‬
‫وبعض اْلفسرين قالوا‪ :‬هذا ماء الرجل وماء املرأة‪ ،‬املاء الدافق هنا هو ماء الرجل وماء‬
‫املرأة؛ ْلن اإلنسان يخلق من املاءين‪ ،‬من ماء الرجل وماء املرأة‪ ،‬قالوا‪ :‬وكان دافقا؛ ْلنه‬
‫يندفع من مكانه عند حصول السبب‪ ،‬فماء الرجل يندفع من مكانه ويخرج مندفعا‪ ،‬وماء‬
‫املرأة يخرج من املبايض مندفعا ولكنه ال يخرج دافقا‪ ،‬وفي هذا رد على الذين ضعفوا‬
‫القول بأنه ماء املرأة وماء الرجل بأن ماء املرأة ال يكون دافقا‪ ،‬قالوا والذي يكون دافقا هو‬
‫ماء الرجل‪ ،‬يخرج مندفعا عند حصول السبب‪ ،‬أما ماء املرأة فإنه ال يخرج دفقا‪ ،‬وإنما‬
‫يسيل حتى لو احتلمت املرأة فإنها قد ترى املاء وهو ماء أصفر رقيق يسيل سيالنا‪ ،‬قد يخرج‬
‫خارج الفرج وقد ال يخرج‪ ،‬رد عليهم من يقول إنه ماء املرأة وماء الرجل بأن الدفق هنا يعني‬
‫االندفاع من املحل‪ ،‬فماء الرجل يندفع من محله وماء املرأة يندفع من محله عند حصول‬
‫السبب‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫ْ‬
‫الصل ِب َوالت َرا ِئ ِب﴾ الصلب هو الظهر باتفاق املفسرين‪ ،‬ظهر الرجل‪ِ .‬‬ ‫﴿ َيخ ُر ُج ِمن َب ْي ِن‬
‫لكن اختلفوا في الترائب‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬الترائب هي ترائب اْلنثى‪ ،‬وما هي ترائب اْلنثى؟‬
‫قال بعضهم‪ :‬هي ثدياها‪ ،‬ومعنى هذا أن املاء متصل بالثدي بطريقة هللا أعلم بها‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬الترائب ما بين الثديين‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬ترائب املرأة أضالعها‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬الرجالن والقدمان والعينان‪ ،‬ما هي الترائب؟ قالوا الرجالن واليدان‬
‫والعينان‪ِ .‬‬
‫طبعا هؤالء من يا إخوة؟ الذين يقولون إن املاء الدافق هو ماء الرجل وماء املرأة‪ِ .‬‬

‫‪201‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الصلب ظهر الرجل‪ ،‬والترائب ترائب الرجل‪ ،‬والترائب هي الصدر‪،‬‬
‫ترائب الرجل قالوا الصدر‪ ،‬يعني ما بين الظهر والصدر‪ِ .‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬اْلضالع‪ِ .‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬بعض اْلضالع‪ِ .‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬الرجالن واليدان والعينان‪ِ .‬‬
‫والشيخ ابن سعدي كما رأيتم اختار أن املاء الدافق هو ماء الرجل‪ ،‬وأن الترائب ترائب‬
‫الرجل‪ ،‬واآلية محتملة‪ ،‬لكنا نجزم أن للمرأة ماء كما أخبر بذلك النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأن خلقة اإلنسان ال تكون من ماء الرجل فقط‪ ،‬بل من ماء الرجل وبويضة املرأة‬
‫التي تكون في مائها‪ ،‬وأما املراد في اآلية فهو محتمل‪ ،‬وإن كنت أنا أميل إلى أن املاء الدافق‬
‫هو ماء الرجل وماء املرأة‪ ،‬والدفق كما عرفنا االندفاع من املحل‪ ،‬والصلب هو ظهر الرجل‪،‬‬
‫والترائب هي ترائب املرأة‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فالذي أوجد اإلنسان من ماء دافق يخرج من هذا اْلوضع الصعب قادر‬
‫على رجعه في اآلخرة وإعادته للبعث والنشور والجزاء‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن معناه أن هللا على رجع اْلاء اْلدفوق في الصلب لقادر وهذا وإن كان اْلعنى‬
‫صحيحا فليس هو اْلراد من اآلية‪ِ .‬‬
‫ََ‬ ‫َّ َ‬
‫﴿ ِإن ُه َعل ٰى َر ْج ِع ِه لق ِاد ٌر﴾ عندنا ضميران‪ :‬إنه هنا الضمير يعود إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬إن‬
‫هللا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ َعل ٰى َر ْج ِع ِه﴾ الضمير في رجعه يعود إلى ماذا؟ ِ‬
‫قال بعض اْلفسرين ‪-‬وهو اْلظهر‪ :-‬يرجع إلى اإلنسان‪ ،‬فيكون املعنى إن هللا على رجع‬
‫اإلنسان وبعثه يوم القيامة لقادر‪ ،‬إن هللا على رجع اإلنسان وإعادته بعدما يبلى وبعثه يوم‬
‫القيامة لقادر‪ ،‬وهذا أظهر ما قيل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الضمير يرجع إلى اإلنسان‪ ،‬ولكن املعنى‪ :‬إن هللا على إعادة هذا‬
‫اإلنسان املتكبر بنفسه املكذب بدين ربه لقادر على أن يعيده ماء كما كان لو شاء‪ ،‬يقو ِل‪:‬‬

‫‪202‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذا اإلنسان املتكبر املتجبر الذي يكذب بدين هللا؛ رُّبه الذي خلقه من ماء مهين قادر على‬
‫أن يعيده ماء مهينا‪ِ .‬‬
‫وهذا وإن كان صحيح املعنى وفيه تهديد للكفرة إال أن السياق يأباه؛ ْلن السياق يدل على‬
‫أن هذا في اآلخرة‪َ ﴿ ،‬ي ْو َم ُت ْب َلى َّ‬
‫الس َرا ِئ ُر﴾ واإلرجاع يوم تبلى السرائر هو إعادة اْلجساد‬
‫والبعث‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬إنه ‪-‬أعني الضمير‪ -‬يرجع إلى املاء‪ ،‬إنه على رجعه؛ أي‪ :‬على رجع‬
‫املاء لقادر‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬إن هللا على رد هذا املاء وحبسه حتى ال يندفع من مكانه لقادر لو‬
‫شاء‪ ،‬لو شاء هللا ما جعل هذا املاء يخرج‪ ،‬سبحان هللا! هللا عز وجل خلق املاء ولو شاء ما‬
‫ولو شاء ما كان‪ ،‬وجعل‬
‫خلقه‪ ،‬وجعله في مكان أمين يحفظ فيه هذا املاء بخواصه وينتج‪ِ ،‬‬
‫خلقة الرجل وخلقة املرأة قابلة للجماع‪ ،‬ولو شاء ما جعل ذلك‪ ،‬وأرشد اإلنسان إلى العمل‬
‫الذي يتحرك به املاء ويحصل به التقاء ماء الرجل وماء املرأة‪ ،‬ولو شاء ما فعل ذلك‪ ،‬أال‬
‫يدل هذا اإلنسان على ضعفه وعلى أن هللا هو الذي يدبر أمره‪ ،‬وعلى وجود ربه وعلى‬
‫قدرته‪ ،‬وعلى أنه املستحق للعبادة؟! ِ‬
‫أين يذهب امللحدون الذين يزعمون أنهم أصحاب عقول من هذه الحقيقة التي ال يمكن‬
‫دفعها؟! ِ‬
‫هذا امللحد الذي ينكر وجود هللا وينكر اْلديان إذا أراد الولد ماذا يفعل؟ يبقى ويقولِ‪ :‬يأتي‬
‫الولد‪ ،‬وهل يملك من أمره شيئا؟ ال؛ وهللا‪ ،‬ولكنهم قد استسلموا للشيطان‪ ،‬وهللا ال سبب‬
‫لإللحاد إال االستسالم املحض للشيطان‪ ،‬ما يمكن يكون فيه عقل‪ ،‬ما يمكن يكون فيه‬
‫آيات‪ ،‬ما يمكن‪ ،‬ما يمكن‪ ،‬إال االستسالم املحض للشيطان‪ ،‬أو يكذبون على أنفسهم ما هم‬
‫ملحدون‪ ،‬ولكن هم يريدون ما وراء اإللحاد‪ِ .‬‬
‫ناظرت ملحدا من امللحدين العرب ال كثرهم هللا وهدى الضالل‪ ،‬فمازلت به بحمد هللا حتى‬
‫رجع‪ ،‬فقال‪ :‬أخبرك يا شيخ؛ أنا وهللا وصلت مع القوم إلى القمة‪ ،‬ما بالقوم إلحاد‪ ،‬وإنما‬
‫هم يريدون الحرية البهيمية‪ ،‬ولذلك يتواعدون في بعض الدول بزوجاتهم‪ ،‬ويتبادلون‬
‫الزوجات‪ ،‬ملحدون‪ ،‬هكذا يتوهمون‪ ،‬فامللحد ِال يخلو من حالين‪ِ :‬‬

‫‪203‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬إما أنه مستسلم للشيطان استسالما تاما محضا‪ِ .‬‬


‫‪ -‬وإما أنه يريد ما وراء اإللحاد‪ ،‬وإال فهو ليس ملحدا في الحقيقة‪ ،‬في قلبه ليس‬
‫ملحدا‪ ،‬ولكن يريد ما وراء اإللحاد من الحياة البهيمية والحرية املطلقة كما يزعمون‪ِ .‬‬
‫أعود فأقول قال بعض اْلفسرين‪ :‬إن الضمير ِيرجع إلى املاء الدافق‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬إن هللا‬
‫على رد ذلك املاء وحبسه في مكانه حتى ال يخرج لقادر‪ ،‬فال يخلق اإلنسان‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬إن هللا على رده إلى اإلحليل حيث خرج منه لقادر‪ ،‬واملعنى متقارب‪،‬‬
‫لكن هذا الثاني يكون يعني بعد خروجه هللا قادر على رده‪ ،‬وأال يأخذ طريقه حيث يحصل‬
‫االلتقاء‪ِ .‬‬
‫ولكن اْلظهر وهللا أعلم أن الضمير كما قلنا في اْلول يرجع إلى اإلنسان‪ ،‬واملعنى‪ :‬أن هللا‬
‫على رجع اإلنسان وإعادة جسده وبعثه يوم القيامة لقادر بداللة السياق‪ِ .‬‬
‫﴿ي ْو َم ُت ْب َلى َّ‬
‫الس َرا ِئ ُر (‪ ﴾)9‬أي‪ :‬تختبر سرائر الصدور‪ِ .‬‬ ‫قال رحمه هللا‪ :‬ولهذا قال بعده‪َ :‬‬

‫تختبر سرائر الصدور يعني‪ :‬سرائر القلوب ويكشف ما فيها‪ ،‬وتربط أعمال الجوارح بها‪ ،‬فإن‬
‫فساد اْلعمال أو صالح اْلعمال منوط بالقلوب‪(( ،‬أال وإن في الجسد مضغة إن صلحت‬
‫صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله))‪ ،‬فيكشف ما في القلوب من نيات‬
‫واعتقادات‪ ،‬وتربط أعمال الجوارح بها ويحاسب اإلنسان على ذلك‪ِ .‬‬
‫الس َرا ِئ ُر (‪ ﴾)9‬أي‪ :‬تختبر سرائر الصدور ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر‬ ‫﴿ي ْو َم ُت ْب َلى َّ‬
‫َ‬
‫وه َو َت ْس َو ُّد ُو ُج ٌ‬
‫وه﴾‪.‬‬ ‫﴿ي ْو َم َت ْب َي ُّ‬
‫ض ُو ُج ٌ‬ ‫على صفحات الوجوه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬السرائر هي ما في الكتب‪ ،‬هي أعمال اإلنسان وأقوال اإلنسان التي‬
‫في الكتب‪ ،‬تكشف وتظهر يوم القيامة‪ ،‬فمعنى تبلى على هذا القولِ‪ :‬تظهر وتبدى بعد أن‬
‫كانت في بطون الكتب‪ ،‬تظهر وتبدى ْلصحابها‪ ،‬وبعض الناس يفضح أمام الناس عياذا باهلل‬
‫من سوء الحال‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ففي الدنيا تنكتم كثير من اْلشياء وال يظهر عيانا للناس‪ ،‬وأما يوم‬
‫القيامة فيظهر بر اْلبرار وفجور الفجار‪ ،‬وتصير اْلمور عَّلنية‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اص ٍر﴾ من خارج ينتصر به‬


‫ََ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ََ َُ‬
‫وقوله‪﴿ :‬فما له ِمن قو ٍة﴾ أي‪ :‬من نفسه يدفع بها‪﴿ ،‬وال ن ِ‬
‫فهذا القسم على العاملين وقت عملهم وعند جزائهم‪ِ .‬‬
‫الص ْدع (‪ )12‬إ َّن ُه َل َق ْو ٌل َف ْ‬ ‫اْل ْرض َذات َّ‬‫َ َْ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ص ٌل (‪َ )13‬و َما ُه َو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪11‬‬ ‫(‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ج‬‫الر ْ‬
‫ات َّ‬‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫﴿والسم ِاء‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ ْ َ ُ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ين أ ْم ِهل ُه ْم ُر َو ْي ًدا‬ ‫يد ك ْي ًدا (‪ )16‬ف َم ِه ِل الكا ِف ِر‬ ‫يدون ك ْي ًدا (‪ )15‬وأ ِك‬ ‫ِبال َه ْز ِل (‪ِ )14‬إنهم ي ِك‬
‫(‪ِ .﴾ )17‬‬
‫يقسم هللا عز وجل في هذه اآليات بالسماء ذات املطر الذي يرجع إلى اْلرض ويتكرر‪ ،‬وبه‬
‫حياة اْلرض‪ ،‬وباْلرض صاحبة االنشقاق فيتخللها املاء عند نزولهِ من السماء‪ ،‬يتخلل تلك‬
‫فتحيى بعد موتها‪ِ .‬‬ ‫الصدوع إلى باطن اْل ض‪ ،‬ثم يخرج منها النبات بسبب املطر ُ‬
‫ر‬
‫وجواب القسم أن القرآن الذي به الحياة الحقيقية‪ ،‬وهي أعظم من الحياة الحسية التي‬
‫تكون باملطر‪ ،‬وكالهما نازل من السماء‪ ،‬ولكن املطر مخلوق والقرآن كالم هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فهو قول هللا عز وجل تكلم به سبحانه وألقاه إلى جبريل عليه السالم‪ ،‬فبلغه جبريل‬
‫عليه السالم نبيناِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهو قول جبريل باعتبار أنه قد بلغه للنبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وبلغه النبيِصلى هللا عليه وسلم ْلمته‪ ،‬فهو قول محمدِصلى هللا عليه ِوسلم‬
‫باعتبار تبليغه لألمة‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫إذن هو قول هللا عز وجل الذي تكلم به حقيقة‪ ،‬وقول جبريل الذي بلغ كالم هللا إلى‬
‫َّ‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقول محمدِصلى هللا عليه وسلم الذي ِبلغ كالم هللا إلى أمته‬
‫ص ٌل﴾ أي‪:‬‬ ‫جميعا‪ ،‬وهو فصل يفصل بين الحق والباطل‪ ،‬هذا جواب القسم ﴿إ َّن ُه َل َق ْو ٌل َف ْ‬
‫ِ‬
‫إن القرآن لقول‪ ،‬هو قول هللا تكلم به‪ ،‬وقول جبريل بلغه‪ ،‬وقول محمدِصلى هللا عليه‬
‫وسلم بلغه‪ ،‬وهو فصل يفصل بين الحق والباطل‪ ،‬وبين املحقين واملبطلين‪ ،‬وبين امل ِؤمنين‬
‫واملنافقين واملشركين‪ ،‬فيميز هذا عن هذا‪ ،‬وهو يفصل ويقطع كل من عاداه‪ ،‬فمن عادى‬
‫خصم أعني‪ :‬القرآن‪َ ،‬وي ِهزم وال‬ ‫القرآن وناصب القرآن العداء فإنه مهزوم‪ ،‬فهو َيخصم وال ُي َ‬
‫ِ‬
‫ُي َهزم‪ِ .‬‬
‫ولو أن أمة محمدِصلى هللا عليه وسلم تمسكت بالقرآن وعملت بما جاء فيه حقا وصدقا‬
‫لهزمت سائر اْلمم وخصمت سائر اْلمم‪ ،‬فالقرآن قول فصل‪ِ .‬‬
‫وهو حق ليس بالهزل واللعب واللغو‪ ،‬لذا ال تنقض ي عجائبه‪ ،‬وال يمل منه قارئه‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فإن الكفار النطماس بصائرهم يكذبون به مع أن الصدق فيه ظاهر‪ ،‬ويكيدون للنبيِصلى‬

‫‪205‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هللا عليه وسلم وللمؤمنين كيدا عظيما شديدا متتابعا ليصرفوا املسلمين عن دينهم‪،‬‬
‫وليشوهوا الحق ويظهروه للناس بصورة الباطل‪ِ .‬‬
‫وملة الكفر في هذا واحدة‪ ،‬وكلمتهم فيه مع اختالف أزمانهم واحدة‪ ،‬فمع اختالف قلوبهم‬
‫وتشتتهم فيما بينهم تجدهم في الكيد لإلسالمِعلى كلمة واحدة وعلى طريقة واحدة‪ ،‬وهذا‬
‫واقعهم الذي ال يتغير‪ ،‬فبالنسبة لنبيناِصلى هللا عليه وسلم عندما كان النبيِصلى هللا‬
‫حيا كاد الكفار له ليقتلوه‪ ،‬وصنعوا ما عرفتم في السيرة من أنهم أرادوا أن‬‫عليه وسلم ًّ‬
‫يجتمعوا على قتله‪ ،‬وانتخبوا من كل قبيلة رجال حتى يضيع دمه بين القبائل وال يستطيع‬
‫قومه أن يطالبوا بدمه‪ ،‬أو أن يثأ ِروا له‪ ،‬واتفقوا على ليلة معينة يدخلون فيها على‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم وهو في فراشه ليقتلوه‪ ،‬فأوحى هللا إليه وأخبرهِبما كادوا ونجاه‬
‫من كيدهم‪ ،‬وخرج وهاجرِصلى هللا عليه وسلم إلى املدينة‪ِ .‬‬
‫واليوم ‪-‬والنبيِصلى هللا عليه وسلم ميت‪ -‬تجد أن الكفار يكيدون لنبيناِصلى هللا عليه‬
‫وسلم ويعملون على تشويه صورته‪ ،‬وعلى بذل اْلسباب التي تجعل الناس ينفرون منه‬
‫وينفرون من دينهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وبالنسبة لديننا فإن الكفار في زمن النبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم كانوا يحرصون على صد املسلمين عن الدين بتعذيب من آمن‪ ،‬وبوصف‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم بأنه ساحر أو كاهن أو كذاب أو مجنون أو غير ذلك من اْلوصاف‬
‫التي يعلمون سالمته منها‪ ،‬واليوم تجد أن الكفار يعملون جاهدين على صد املسلمين عن‬
‫دينهم بشتى السبل‪ ،‬ومن كيدهم للمسلمين أنهم يستعملون بعض املسلمين لصد املسلمين‬
‫عن دينهم وإلضعاف دين املسلمين‪ ،‬فيستخدمون الدراويش الذين يعبدون هللا عز وجل عن‬
‫طريق الدروشة ال عن طريق السنة في صرف الناس عن حقيقة الدين الذي هو السنة؛ ْلن‬
‫عدونا الكافر يعلم أن املسلمين لو عادوا إلى أخذ دينهم من كتاب هللا ومن سنةِرسول‬
‫هللاِصلى هللا عليه وسلم بفهم الصحابة ومن بعدهم ممن اتبعهم بإحسان لكانوا متمسكين‬
‫بالدين حقا‪ ،‬فوجدوا أن الدروشة وعبادة هللا بالبدع تصرف الناس عن دينهم‪،‬‬
‫فاستخدموا أولئك الدراويش‪ ،‬ونحن نعرف اليوم أن الكفار يبذلون املاليين من اْلموال‬
‫لرؤوس أولئك الدراويش من أجل صرف الناس عن دينهم وإضعاف تمسك الناس بدينهم‪،‬‬
‫وكذلك نعلم جازمين أن أعداء اإلسالم أن الكفار من كيدهم للمسلمين يستخدمون باب‬
‫الغلو والغالة لصرف الناس عن دينهم‪ ،‬ويضخمون شأن الغلو‪ ،‬ويستخدمون خوارج العصر‬
‫في إضعاف دين اإلسالم وفي إضعاف املسلمين‪ ،‬وفي صد املسلمين عن دينهم‪ ،‬وفي تشويه‬

‫‪206‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫صورة اإلسالم‪ ،‬فإن هؤالء الخوارج القساة الضالل قد أعطوا الكفار الصورة التي يريدون‬
‫من أجل تشويه دين اإلسالم حتى يصرفوا الناس عن دينهم‪ِ .‬‬
‫الشاهد أن كيد الكفار للمسلمين كيد عظيم متتابع ال ينقطع‪ ،‬غرضهم منه أن يصرفوا‬
‫املسلمين عن دينهم‪ ،‬وسببه دين اإلسالم‪ ،‬فهم ال يحسدوننا على مال‪ ،‬وال يحسدوننا على‬
‫مكان‪ ،‬وإنما يحسدوننا على هذا الدين الذي جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومع أن‬
‫الكفار يكيدون لإلسالم وأهله كيدا عظيما كبيرا متتابعا فإن رب املسلمين هللا سبحانه‬
‫وتعالى يكيد للكفار كيدا عظيما‪ ،‬ويدبر اْلمر‪ ،‬وينصر الحق وأهله‪ ،‬ويحفظ دينه‪ ،‬ويحفظ‬
‫املتمسكين بدينه حقا وصدقا‪ ،‬ويكون ذلك في زمنه املناسب وبحكمة تامة‪ ،‬ولذلك قال هللا‬
‫َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ين أ ْم ِهل ُه ْم ُر َو ْي ًدا﴾ [الطارقِ‪]17 :‬؛ أي ال‬
‫عز وجل لنبيهِصلى هللا عليه وسلم‪﴿ :‬ف َم ِه ِل الكا ِف ِر‬
‫تعجل على الكافرين واصبر وانتظر فإن هللا ينصر الحق ولو بعد حين‪ِ .‬‬
‫فيا محمد ويا أيها املؤمن ال تعجل على الكفار‪ ،‬واصبر عليهم‪ ،‬وانتظر خذالنهم في وقت‬
‫قريب‪ ،‬فإن بقاءهم على ما هم عليه قليل‪ ،‬فانتظر خذالنهم من رب العاملين‪ِ .‬‬
‫وقد يكون كيد هللا عز وجل للكافر بأن يطيل في عمره ويملي له ليزداد إثما‪ ،‬وليعظم عذابه‬
‫عند لقاء هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فاهلل يرحم املؤمنين ويكيد للكافرين‪ِ .‬‬
‫وإنك لتعجب ممن ُيعجب بمن يكيد هللا له‪ ،‬وال يرض ى أن يكون في صف من يرحمهم هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فعلى اْلمة كلها حكامها ومحكوميها أن يتمسكوا بدين اإلسالم‪ ،‬وأن يتمسكوا بما في القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬وأن يصبروا وينتظروا نصر هللا سبحانه وتعالى إن هم عملوا بما في كتابه وما في‬
‫سنة نبيه صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإليماني اإلجمالي لهذه اآليات‪ ،‬ثم نعود إلى التفسير التفصيلي‬
‫لبعض الكلمات الواردة في هذه اآليات من خالل القراءة في تفسير اإلمام السعدي تيسير‬
‫الكريم الرحمن في تفسير كالم املنان‪ِ ِ.‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا رحمة واسعة وغفر له ولشيخنا‬
‫َ‬
‫الر ْج ِع (‪)11‬‬
‫ات َّ‬ ‫والسامعين‪ :‬ثم أقسم قسما ثانيا على صحة القرآن فقال‪َ :‬‬
‫﴿و َّ‬
‫الس َم ِاء ذ ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َْ َ‬
‫ات الصد ِع (‪ ﴾)12‬أي‪ :‬ترجع السماء باْلطر كل عام وتنصدع اْلرض للنبات‪،‬‬ ‫ضذ ِ‬ ‫واْلر ِ‬
‫فيعيش بذلك اآلدميون والبهائم‪ ،‬وترجع السماء أيضا باْلقدار والشؤون اإللهية كل‬
‫وقت‪ ،‬وتنصدع اْلرض عن اْلموات‪ِ .‬‬

‫‪207‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الشيخ يقو ِل‪ :‬ثم أقسم –أي‪ :‬ربنا‪ -‬قسما ثانيا‪ ،‬القسم اْلول هو في أول السورة‪ ،‬وقد‬
‫تضمنت تلك اْلقسام أن القرآن محفوظ كما ذكرت لكم في التفسير‪ ،‬وهنا يقسم هللا‬
‫قسما ثانيا على صحة القرآن‪ِ .‬‬
‫الر ْجع﴾ ﴿ َو َّ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫الس َم ِاء﴾ هي السماء املعروفة التي إذا أطلقت انصرفت‬ ‫ِ‬
‫ات َّ‬
‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫﴿والسم ِاء‬
‫اْلذهان إليها‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫ات﴾ يعني‪ :‬صاحبة‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫﴿ذ‬
‫الرج ِع﴾ عند أكثر املفسرين هو املطر‪ ،‬وملاذا سمي املطر رجعا؟ ِ‬ ‫ْ‬ ‫﴿ َّ‬
‫قال بعض العلماء‪ْ :‬لنه يرجع ويتكرر وقتا بعد وقت‪ ،‬فهو ليس منهمرا طوال السنة ال‬
‫ينقطع أبدا‪ ،‬وطوال العمر ال ينقطع أبدا‪ ،‬بل ينزل وينقطع‪ ،‬فيأتي ثم ينقطع ثم يرجع مرة‬
‫أخرىِ‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬سمي املطر رجعا ْلنه يرجع إلى اْلرض بعد أن ارتفع ماؤه منها‪،‬‬
‫فالنظرية التي يذكرها العلماء أن املاء يتبخر من البحار ويصعد إلى السماء‪ ،‬ويتكثف ويكون‬
‫سحابا بأمر هللا‪ ،‬وينزل املطر كانت معروفة في الجاهلية قبل اإلسالم‪ ،‬كانوا يرون أن‬
‫السحب إنما هي ماء قد ارتفع من اْلرض‪ ،‬فليس أمرا جديدا عرفه علماء هذا الزمان‬
‫فبعض املفسرين قالوا‪ :‬إن املطر سمي رجعا ْلنه ماء يرجع إلى اْلرض بعد أن كان قد ارتفع‬
‫منها‪ ،‬فهو يعود إليها‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫الر ْج ِع﴾‬
‫ات َّ‬ ‫وفسر بعض اْلفسرين‪ :‬الرجع بالكواكب التي تظهر وتغيب فقالوا‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫الس َم ِاء ذ ِ‬
‫يعني صاحبة الكواكب التي تظهر وتغيب ثم ترجع مرة أخرى فتظهر‪ِ .‬‬
‫ولكن الذي عليه أكثر املفسرين أن الرجع هو املطر‪ ،‬وهو املناسب ملا بعده‪ِ .‬‬
‫اْل ْرض َذات َّ‬ ‫َ َْ‬
‫الص ْد ِع﴾ ذات الصدع هنا جنس يا إخوة ليس شقا واحدا وإنما جنس؛‬ ‫﴿و ِ ِ‬
‫يعني‪ :‬ذات الشقوق‪ ،‬فليست يعني صلبة ال يدخل فيها ش يء وال يخرج منها ش يء‪ ،‬بل جعل‬
‫هللا فيها صدوعا وشقوقا حتى في الجبال سبحان هللا! هناك صدوع يدخل منها املاء ويخرج‬
‫منها النبات‪ ،‬وهذا دليل على قدرة هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫املقسم عليه‬ ‫للمقسم عليه أن في املطر والنبات حياة اْلرض‪ ،‬وفي َ‬ ‫َ‬ ‫املقسم به هنا‬ ‫ومناسبة َ‬
‫وهو القرآن حياة الخلق‪ ،‬وهي الحياة الحقيقية التي من لم يحياها فهو ميت‪ ،‬ولو كان يأكل‬
‫واملقسم عليه ِ‬‫َِ‬ ‫ويشرب ويتكلم‪ ،‬بل هو أشد من اْلموات فهذه املناسبة بين َ‬
‫املقسم به‬

‫‪208‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ص ٌل﴾؛ أي‪ :‬حق وصدق بين واضح‪ِ .‬‬ ‫﴿إ َّن ُه﴾؛ أي‪ :‬القرآن‪﴿ ،‬إ َّن ُه َل َق ْو ٌل َف ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫﴿إنه﴾؛ أي‪ :‬القرآن‪ ،‬هذا جواب القسم‪ِ ﴿ ،‬إنه لقول فص ٌل﴾؛ أي‪ :‬القرآن‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿لقو ٌل﴾ وكما قلنا القرآن قول هللا؛ ْلنه تكلم به فهو كالم هللا‪ ،‬وقول جبريل عليه السالم‬
‫ْلنه بلغه‪ ،‬وقول محمدِصلى هللا عليه وسلم ْلنه بلغه‪ ،‬فهو قو ِل‪ِ .‬‬
‫ص ٌل﴾ أي‪ :‬مميز فاصل بين الحق والباطل‪ ،‬وفاصل يهزم من يخالفه‪ِ .‬‬ ‫﴿ َف ْ‬
‫وما ذكره الشيخ هي اْلوصاف التي كان بها فاصال أي‪ :‬حق وصدق بين واضح‪ ،‬هذا جواب‬
‫سؤال‪ ،‬ملاذا كان فاصال؟ ِ‬
‫ْلنه حق وصدق وبين وواضح‪ ،‬فمعنى فاصل أنه مميز بين الحق والباطل‪ ،‬وهازم للباطل‬
‫وأهله‪ ،‬ملاذا؟ ِ‬
‫ْلنه حق وواضح بين فهو كالم هللا‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫﴿و َما ُه َو ِبال َه ْز ِل﴾ أي‪ :‬جد ليس بالهزل‪ ،‬وهو القول الذي يفصل بين الطوائف واْلقاالت‬ ‫َ‬
‫وتنفصل به الخصومات‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫﴿و َما ُه َو ِبال َه ْز ِل﴾ يعني‪ :‬ليس باللعب وال باللغو‪ ،‬ليس قول لعب وال قول لغو‪ ،‬وإنما هو‬ ‫َ‬
‫قول حق يحق هللا به الحق ويدمغ به الباطل‪ِ .‬‬
‫َ ُ َ َ‬
‫يدون ك ْي ًدا﴾ ليدفعوا‬ ‫﴿إ َّن ُه ْم﴾ أي‪ :‬اْلكذبين للرسول صلى هللا عليه وسلم وللقرآن‪﴿ ،‬ي ِك‬ ‫ِ‬
‫بكيدهم الحق ويؤيدوا الباطل‪ِ ِ.‬‬
‫َّ ُ ْ َ ُ َ َ‬
‫يدون ك ْي ًدا﴾ انتقل هللا عز وجل‬ ‫يأتي سؤال في اْلذهان‪ :‬ما عالقة هذا بما قبله؟ ﴿ ِإنهم ي ِك‬
‫من الكالم عن القرآن إلى الكالم عن الكفار‪ ،‬ما العالقة بين اْلمرين؟ ِ‬
‫ظاهر الصدق‪ ،‬قوي الحجة بلسان العرب‬ ‫َ‬ ‫العالقة أن القرآن مع كونه فصال ليس بالهزل‪،‬‬
‫الذين كانوا يخاطبون به في ذلك الوقت لم يؤمن به الكفار‪ ،‬بل كادوا ْلهله‪ ،‬فهم مع‬
‫كفرهم يكيد ِون ْلهل القرآن‪ِ .‬‬
‫ََ ُ َ‬
‫يد ك ْي ًدا﴾ إلظهار الحق ولو كره الكافرون‪ ،‬ولدفع ما جاؤوا به من الباطل‪ ،‬ويعلم‬ ‫﴿وأ ِك‬
‫بهذا من الغالب‪ ،‬فإن اآلدمية أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده‪.‬‬
‫َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ين أ ْم ِهل ُه ْم ُر َو ْي ًدا﴾ أي‪ :‬قليَّل‪ِ ِ.‬‬‫﴿ف َم ِه ِل الكا ِف ِر‬
‫َ‬
‫﴿ف َم ِه ِل﴾ أي‪ :‬أتركهم واصبر عليهم وال تعجل عليهم‪ ،‬وانتظرهم فإن هللا يكيد لهم‪ِ .‬‬
‫﴿ر َو ْي ًدا﴾ الرويد هو القليل‪ ،‬فبقاؤهم قليل‪ِ ِ.‬‬ ‫ُ‬

‫‪209‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ قال‪ :‬فسيعلمون عاقبة أمرهم حين ينزل بهم العقاب‪ِ .‬‬


‫وبهذا تم تفسير هذه السورة العظيمة‪ ،‬ومن فوائد السورة العظمى وحكمها الكلية‪ِ :‬‬
‫‪ -‬بيان أن اإلنسان يبدأ ضعيفا فردا‪ ،‬وينتهي ضعيفا فردا‪ ،‬ويبعث يوم القيامة ضعيفا‬
‫فردا‪ ،‬وال قوة له إال بفضل هللا والتوحيد والعمل الصالح‪ِ .‬‬
‫بيان أن اإلنسان يبدأ ضعيفا فردا في رحم أمه‪ ،‬وينتهي فردا في قبره‪ ،‬ويبعث يوم القيامة‬
‫ضعيفا فردا‪ ،‬وال قوة له أبدا إال بفضل ربه سبحانه وتعالى بأن يؤمن باهلل عز وجل‪ِ ،‬ويوحد‬
‫هللا‪ ،‬ويعمل الصالحات‪ِ .‬‬
‫‪ -‬كذلك من فوائدها العظمى وحكمها الكلية بيان أن حال الكفار الدائم الكيد للمؤمنين‬
‫بسبب دينهم‪ ،‬وأن هللا يحفظ املؤمنين وينصرهم ما تمسكوا بقرآنهم ودينهم‪ ،‬وأن العزة ال‬
‫تكون لألمة إال بالتمسك بالقرآن والسنة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪210‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة اْلعلى‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َّ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ َ‬
‫اس َم َرِب َك اْل ْعلى (‪ )1‬ال ِذي خل َق ف َس َّو ٰى (‪َ )2‬وال ِذي ق َّد َر ف َه َد ٰى (‪َ )3‬وال ِذي أخ َر َج‬ ‫﴿سبح ْ‬
‫ِِ‬
‫َ‬
‫َّ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْاْلَ ْر َع ٰى (‪َ )4‬ف َج َع َل ُه ُغ َث ًاء َأ ْح َو ٰى (‪َ )5‬س ُن ْقرُئ َك َف ََّل َت َ‬
‫نس ٰى (‪ِ )6‬إال َما ش َاء الل ُه ۚ ِإن ُه َي ْعل ُم‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬
‫ال َج ْه َر َو َما َيخف ٰى (‪َ )7‬ون َي ِس ُر َك ِلل ُي ْس َر ٰى (‪.﴾)8‬‬
‫في هذه السورة املكية عند جمهور املفسرين ‪-‬وهو الصواب‪ -‬يأمر هللا عز وجل نبيهِصلى‬
‫هللا عليه وسلم وكل مؤمن تبعا لهِصلى هللا عليه وسلم بأن ينزه ربه سبحانه وتعالى عن كل‬
‫ما ال يليق بجالله سبحانه وتعالى من النقائص‪ ،‬وأن يعظمه بإثبات الكماالت له سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فالتسبيح تنزيه وتعظيم‪ِ .‬‬
‫وأن ينزه أسماء ربه سبحانه وتعالى عن اإللحاد فيها وامليل بها عن معانيها وتحريفها وعن‬
‫امتهانها‪ ،‬وعن تسمية املخلوقين بها على الوجه الذي يسمى بها هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ومع هذا التنزيه يأمره بأن يكون ذاكرا لربه سبحانه وتعالى بلسانه‪ ،‬وناطقا باسم ربه‪،‬‬
‫فيجتمع القلب واللسان‪ِ .‬‬
‫وهو سبحانه مستحق للتنزيه والتعظيم فهو الرب الخالق واملالك واملدبر واملربي بالنعم‬
‫دقيقها وجليلها‪ ،‬حسيها ومعنويها‪ ،‬وهو السيد املصلح أمر خلقه سبحانه وتعالى فله الخلق‬
‫وله اْلمر سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وهو اْلعلى هو الرب وهو اْلعلى الذي له العلو املطلق بذاته‪ ،‬فهو مستو على عرشه فوق‬
‫مخلوقاته ال ش يء فوقه سبحانه وتعالى‪ ،‬وله العلو املطلق بقدره‪ ،‬فصفاته صفات الكمال‪،‬‬
‫وله العلو املطلق بقهره سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ومن ربوبيته سبحانه وتعالى أنه خلق كل ش يء فسوى خلقه بما يناسبه وما خلق له‪،‬‬
‫وجعل لكل خلق ما يصلحه ويناسبه ويتحقق به املقصود من خلقه في أحواله وأفعاله‪،‬‬
‫فلم يجعل الخلق جنسا واحدا‪ ،‬بل هؤالء أناس‪ ،‬وهذا نمل‪ ،‬وتلك فيلة‪ ،‬وتلك غنم‪ ،‬وذاك‬
‫نبات‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وجعل كل خلق من جنس يناسب بعضه بعضا بإحكام وانتظام سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫وأرشد كل مخلوق إلى ما يصلحه‪ :‬الذي له عقل‪ ،‬والذي ال عقل له‪ ،‬أرشده إلى ما يصلحه‬
‫وما يكون به بقاؤه‪ ،‬فأرشد النحل مثال إلى التكاثر وكيف يكون‪ ،‬وإلى صنع املكان الذي‬

‫‪211‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يحفظ فيه العسل وال يمكن أن يحفظ في غيره‪ ،‬وكيف يصنع العسل‪ ،‬وهكذا في سائر‬
‫املخلوقات‪ِ .‬‬
‫وأرشد اإلنسان إلى ما يصلح دنياه‪ ،‬ويكون به بقاؤه‪ ،‬وما يتحقق به ما خلق من أجله‪ ،‬وهو‬
‫أن يوحد هللا ويعبده هداية بيان‪ ،‬وهدى من شاء هدايته من الناس هداية توفيق‪ ،‬هللا‬
‫خلق اإلنسان وهداه‪ ،‬هدى كل الناس هداية بيان‪ ،‬وهدى من شاء أن يهديه هداية توفيق‪ِ .‬‬
‫وهو سبحانه الذي أخرج من اْلرض ما تكون به أقوات اْلحياء عليها وتحصل به حياتهم‪،‬‬
‫فأخرج من بطنها صنوف اْلشجار والنباتات والحشيش اْلخضر‪ ،‬وهذا متضمن أنه أنزل‬
‫من السماء ماء؛ ْلن النبات ال يخرج إال باملاء النازل من السماء بأمر هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وجعل لذلك النبات زهوة ورونقا وشدة وخضرة تعجب الناظرين إليه‪ ،‬حتى إذا شاء‬
‫سبحانه جعله يابسا متكسرا هشيما مسودا من االحتراق واليبس‪ ،‬متغيرا تطير به الريح‪،‬‬
‫ويحمله السيل زبدا ويقذف به على جوانبه‪ِ .‬‬
‫وذكر هذه اآليات العظام واملنن الجسام ُم َوطؤ لذكر نعمة عظمى على محمدِصلى هللا عليه‬
‫وسلم وعلى أمته‪ ،‬وهي أن هللا عز وجل سيقرئ النبيِصلى هللا عليه وسلم القرآن الذي هو‬
‫كالمه‪ ،‬ويجعله يحفظه في قلبه وهو اْلمي الذي ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬لكنه ال يحتاج إلى كتابة‬
‫َ‬
‫حتى يحفظ‪ ،‬وال يحتاج أن يقرأ مع امللك حتى يحفظ‪ ،‬بل سيقرئه هللا عز وجل القرآن‬
‫يسمعه من امللك فيحفظه وال ينس ى منه شيئا ال قليال وال كثيرا إال ما شاء هللا أن ينساه من‬
‫النسيان العارض بعد البالغ‪ ،‬فالنبيِصلى هللا عليه وسلم يبلغ اْلمة القرآن كامال ال ينس ى‬
‫منه حرفا‪ ،‬ولكنه بعد تبليغه قد يعرض له النسيان فينس ى آية أو يتردد في كلمة‪ ،‬كما وقع‬
‫في صالتهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ليعلم الناس أنه بشر شرفه هللا بالرسالة‪ ،‬ولذلك قال‪:‬‬
‫((إنما أنا بشر أنس ى كما تنسون‪ ،‬فإذا نسيت فذكروني))‪ ،‬إال ما شاء هللا أن ينساه من‬
‫النسيان العارض بعد التبليغ التام‪ِ .‬‬
‫وكذلك ما ينساه لكون هللا نسخه تالوة وحكما‪ ،‬فإنه مر معنا في اْلصول أن من اآليات ما‬
‫ينسخ لفظا وحكما‪ ،‬تالوة وحكما‪ ،‬فهذا ينساه النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهذا معنى إال ما‬
‫شاء هللا‪ِ .‬‬
‫وهو سبحانه يعلم الجهر الظاهر والسر الخفي من بني آدم فال يغيب عن علمه ش يء‪ ،‬فهو‬
‫يعلم عالنيتك وسرك ويعلم أعمالك سرها وجهرها‪ ،‬ويعلم ما في قلبه‪ ،‬وهذا الخطاب لكل‬
‫إنسان‪ِ .‬‬

‫‪212‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ويبشر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم بنعمة أخرى وهي أنه سيسهل له اليسرى‬
‫بجميع معاني اليسر‪ ،‬فييسر له ذكر القرآن والتذكير به والتذكر به‪ ،‬وهذا ليس للنبيِصلى‬
‫هللا عليه وسلم فقط لكل اْلمة‪ ،‬ييسر هللا له ذكر القرآن أي‪ :‬حفظ القرآن‪ِ .‬‬
‫يا إخوة ال يوجد واحد من أمة محمدِصلى هللا عليه وسلم ال يستطيع أن يحفظ القرآن‬
‫إال أن يكون في عقله ش يء‪ ،‬لكن هي الهمم‪ ،‬وييسر هللا له أن يذكر بالقرآن‪ ،‬وييسر هللا له‬
‫أن يتذكر بالقرآن‪ ،‬وييسر هللا له دينه حيث جعل دين محمدِصلى هللا عليه وسلم يسرا‪،‬‬
‫إن هذا الدين يسر‪ ،‬وييسر هللا له طرق الجنة‪ ،‬هللا يسر ْلمة محمدِصلى هللا عليه وسلم‬
‫طرق دخول الجنة‪ ،‬ولذلك النبيِصلى هللا عليه وسلم يقو ِل‪(( :‬كل أمتي يدخلون الجنة إال‬
‫من أبى‪ ،‬قالوا‪ :‬ومن يأبى يا رسول هللا؟ قال‪ :‬من أطاعني دخل الجنة‪ ،‬ومن عصاني فقد‬
‫أبى))‪ ،‬وهللا عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬وهللا يضاعف ملن‬
‫يشاء وهذا من اليسرى التي جعلها هللا عز وجل ملحمدِصلى هللا عليه وسلم وأمته‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات ونعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يأمر تعالى بتسبيحه اْلتضمن لذكره وعبادته والخضوع لجَّلله‬
‫واالستكانة لعظمته‪ ،‬وأن يكون تسبيحا يليق بعظمة هللا تعالى بأن تذكر أسماؤه‬
‫الحسنى العالية على كل اسم بمعناها العظيم الجليل‪ ،‬وتذكر أفعاله‪ِ ...‬‬
‫﴿س ِب ِح﴾ قال بعض العلماء‪ :‬أي‪ :‬نزه ربك عما ال يليق بجالله من النقائص كلها‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫﴿س ِب ِح﴾ هنا بمعنى عظم ربك بإثبات الكماالت هلل؛ ْلنه لم يسبق‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬
‫هذا اْلمر ما ينزه عنه‪ ،‬فقالوا‪َ :‬‬
‫﴿س ِب ِح﴾ أي‪ :‬عظم‪ِ .‬‬
‫والتحقيق أن اْلمرين مقصودان‪ ،‬فسبح هنا بمعنى نزه ربك عن النقائص‪ ،‬وعظم ربك‬
‫بإثبات الكماالت له سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫باالسم؛ ْلن هللا قال‪َ ﴿ :‬سبح ْ‬
‫اس َم‬ ‫هل اْلمر هنا بتسبيح االسم أو تسبيح الرب أو التسبيح ِ‬
‫ِِ‬ ‫َْ َ‬
‫َرِب َك اْل ْعلى﴾؟ ِ‬
‫فقال أكثر اْلفسرين‪ :‬هذا أمر بتسبيح الرب سبحانه وتعالى تنزيها وتعظيما‪ ،‬واالسم هنا‬
‫مقحم للتعظيم وللداللة على أنه ُيجمع مع تعظيم القلب وتنزيه القلب تعظيم اللسان‬
‫وتنزيهه‪ ،‬فصار املعنى‪ :‬سبح ربك ناطقا باسمه‪ ،‬هذه فائدة ذكر االسم‪ ،‬يقولو ِن‪ :‬مقحم هنا؛‬
‫ْلن التسبيح املقصود أن يكون للرب سبحانه وتعالى للتعظيم‪ ،‬لتعظيم هللا عز وجل‬
‫وللداللة على التعظيم والتنزيه باللسان‪ ،‬فيكون التعظيم والتنزيه بالقلب وباللسان‪ِ .‬‬

‫‪213‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬التسبيح هنا لالسم؛ أي‪ :‬نزه اسم ربك أن تسمي به غير هللا إن كان‬
‫خاصا باهلل‪ ،‬أو تسمي به غير هللا على الوجه الذي يسمى به هللا إن كان مشتركا‪ ،‬وعن أن‬
‫تمتهنه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬بل هذا أمر بالتسبيح باالسم أي‪ :‬بالذكر‪ ،‬فيكون معنى التسبيح‬
‫هنا الذكر‪ ،‬اذكر ربك باسمه‪ِ .‬‬
‫وكلها مرادة وال تدافع بينها‪ ،‬فهذا من باب اختالف التنوع‪ ،‬فيكون اْلمر بتسبيح االسم‬
‫وتنزيهه وذلك مستلزم استلزاما أوليا تسبيح الرب سبحانه وتعالى‪ ،‬إذا كنت تنزه وتسبح اسم‬
‫اس َم َرِب َك﴾‪ِ .‬‬
‫هللا فمن باب أولى أن تنزه وتسبح الرب سبحانه وتعالى ﴿ َسبح ْ‬
‫ِِ‬
‫لفتات املفسرين يتضح بها املعنى ويعظم بها اإليمان‪ ،‬ولذلك نحن بحاجة إلى أن نقرأ‬
‫التفسير فترة بعد فترة‪ ،‬يعني يحسن لإلنسان إذا جعل له وردا في قراءة القرآن كل يوم‬
‫واختار لورده أفضل وقته ينبغي أن يجعل ْلحسن الكالم وهو كالم هللا أحسن اْلوقات‪،‬‬
‫أحسن وقت تكون مستجمعا فيه الذهن قبل الفجر بعد الفجر‪ ،‬يحسن باملؤمن أن‬
‫يستصحب كتاب تفسير معتمد مثل كتاب تيسير الكريم الرحمن‪ ،‬فإذا فرغ من قراءة ورده‬
‫قرأ تفسير هذا الورد‪ ،‬وهذا الحزب الذي يقرؤه من الكتاب‪ ،‬فيعظم فهمه ويزداد إيمانه‪ِ .‬‬
‫اس َم َرِب َك﴾ الرب هو السيد الكامل في سؤدده‪ ،‬املصلح لعبيده‪ ،‬املدبر ْلمرهم‬ ‫﴿ َسبح ْ‬
‫ِِ‬
‫املنعم عليهم بشتى النعم‪ ،‬الخالق لهم ابتداء‪ ،‬واملالك لهم واملدبر أمورهم‪ ،‬كلها تدخل في‬
‫معنى الرب‪ِ .‬‬
‫َْ َْ‬
‫﴿اْلعلى﴾ الذي عليه أكثر املفسرين أن اْلعلى وصف للرب‪ ،‬فاهلل هو العلي املتعالي اْلعلى‬
‫الذي له العلو املطلق‪ :‬علو الذات‪ ،‬وعلو القدر‪ ،‬وعلو القهر‪ِ .‬‬
‫وبعض اْلفسرين قال‪ :‬هذا وصف لالسم‪ ،‬واالسم هنا يا إخوة جنس ْلسماء هللا عز وجل‪،‬‬
‫وال شك أن أسماء هللا عليا وحسنى‪ِ .‬‬
‫لكن اْلقرب هو ما ذهب إليه أكثر املفسرين أن هذا وصف للربِ ِ‬
‫قال‪ :‬أو تذكر أفعاله التي منها أنه خلق اْلخلوقات فسواها؛ أي‪ :‬أتقن وأحسن خلقها‪ِ ِ.‬‬
‫ََ‬ ‫َّ‬
‫﴿ال ِذي خل َق﴾ هذا من ربوبية هللا‪ ،‬من ِربوبية هللا عز وجل هذه اْلفعال الذي خلق فأوجد‬
‫من العدم‪ِ .‬‬

‫‪214‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫﴿ف َس َّو ٰى﴾ أي‪ :‬أحكم وأتقن وأعطى كل ش يء خلقه املناسب له‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿وال ِذي ق َّد َر﴾ تقديرا تتبعه جميع اْلقدرات‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿وال ِذي ق َّد َر﴾ أي‪ :‬قدر تقديرا محيطا تاما ال يخرج عنه ش يء من املخلوقات‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ق َّد َر﴾ وفق كل شكل من الخلق إلى ما يشاكله‪ ،‬ووفق‬
‫اإلنسان ليكون مع الناس‪ ،‬النملة تكون مع النمل‪ ،‬القطة تكون مع القطط‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فقالوا‬
‫هذا معنى قدر‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي قدر اْلقوات واْلرزاق‪ ،‬وعلى هذا يكون معنى ﴿ف َه َد ٰى﴾‬
‫أرشدهم إلى طرق اكتساب اْلرزاق التي قدرها‪ ،‬قدر اْلقوات واْلرزاق فما من مخلوق إال‬
‫وقد قدر هللا رزقه وعلى هللا رزقه‪ ،‬وأرشد كل مخلوق إلى طرق اكتساب ما قدره له من‬
‫الرزق‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي قدر التناسل بين املخلوقات ليبقى الخلق قائما‪ ،‬وأرشد الذكر‬
‫إلى الطريقة التي يكون بها التناسل مع اْلنثى‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫أيضا قال بعض اْلفسرين‪ :‬قدر؛ أي‪ :‬قدر مدة بقاء الجنين في رحم أمه‪﴿ ،‬ف َه َد ٰى﴾ أي‪:‬‬
‫أرشد الجنين إلى الخروج من الرحم عند انتهاء تلك املدة‪ ،‬وال شك أن هذا من آيات هللا‬
‫العظام‪ ،‬الجنين في آخر مدة الحمل يستعد للنزول فينقلب‪ ،‬من الذي أرشده وعلمه؟ ِ‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا في الحقيقة كله من باب التفسير باملثال‪ ،‬فقدر كما قال الشيخ‬
‫تشمل كل تقدير‪ ،‬وكل ما ذكره املفسرون إنما هي أمثلة لهذا التقدير‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫﴿ف َه َد ٰى﴾ إلى ذلك جميع اْلخلوقات‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫فمعنى ﴿ف َه َد ٰى﴾ يعني‪ :‬أرشد‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬وهذه الهدايات العامة التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق ْلصلحته‪ ،‬وتذكر فيها‬
‫َْ َ‬ ‫َ َّ َ ْ‬
‫﴿وال ِذي أخ َر َج اْل ْرع ٰى﴾‪ِ ِ.‬‬ ‫نعمه الدنيوية ولهذا قال‪:‬‬
‫ما معنى‪ :‬وتذكر فيها نعمه الدنيوية؟ ِ‬
‫أي‪ :‬أن العبد وهو يسبح هللا وينزه هللا ويعظم هللا سبحانه وتعالى يذكر أسماء هللا الحسنى‪،‬‬
‫ويذكر أفعال هللا وحكمته‪ ،‬ويذكر نعمه عليه في الدينا‪ ،‬هذا مراد الشيخ‪ِ ِ.‬‬
‫ل‬ ‫ٰ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫﴿وال ِذي أخرج اْلرعى﴾ِأي‪ :‬أنز من السماء ماء فأنبت به أصناف النبات والعشب‬
‫الكثير فرتع فيه الناس والبهائم وجميع الحيوانات‪ ،‬ثم بعد أن استكمل ما قدر له من‬
‫الشباب ألوى نباته وصوح عشبه‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ َُ َ‬
‫﴿ف َج َعل ُه غث ًاء أ ْح َو ٰى﴾ أي‪ :‬أسود؛ أي‪ :‬جعله هشيما رميما‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ َُ‬
‫﴿ف َج َعل ُه غث ًاء﴾ أي‪ :‬يابسا متكسرا هشيما‪ ،‬والغثاء‪ :‬هو الش يء اليابس‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬الغثاء هو الزبد الذي يقذف به السيل يسمى غثاء‪ِ .‬‬
‫أحوى أي‪ :‬متغيرا‪ ،‬وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي صار أسود من يبسه واحتراقه‪ِ .‬‬
‫الغالب أن النبات إذا يبس يحرقه الزراع فيصير أسود‪ ،‬بدال من كونه أخضر زاهيا يصبح‬
‫متكسرا هشيما مسودا من اإلحراق‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬اْلحوى الذي اسود من شدة اخضراره‪ ،‬إذن يكون هذا متى؟ عند‬
‫التكسر وال عند الخضرة؟ عند الخضرة على هذا املعنى‪ ،‬فيصير املعنى‪ :‬فجعله أحوى أي‪:‬‬
‫شديد الخضرة مسودا‪ ،‬ثم جعله غثاء‪ ،‬فيصير التقدير هكذا‪ :‬الذي أخرج املرعى‪ :‬أخرجه‬
‫من اْلرض‪ ،‬فجعله أحوى أي‪ :‬جعله أخضر شديد الخضرة حتى أن الناظر إليه يظن أنه‬
‫أسود من شدة خضرته‪ ،‬ثم جعله غثاء يعني‪ :‬جعله يابسا متكسرا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويذكر فيها نعمه الدينية‪ِ ِ.‬‬
‫ويذكر فيها أي‪ :‬في التنزيه والتسبيح نعم هللا الدينية‪ِ ِ.‬‬
‫نس ٰى﴾ أي‪:‬‬‫﴿س ُن ْقرُئ َك َف ََّل َت َ‬‫قال‪ :‬ولهذا امتن هللا بأصلها ومادتها وهو القرآن فقال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫سنحفظ ما أوحيناه إليك من الكتاب ونوعيه قلبك فَّل تنس ى منه شيئا‪ِ ِ.‬‬
‫وال تحتاج إلى تكراره عند سماعه‪ ،‬وال إلى لوح لحفظه‪ِ .‬‬
‫﴿ف ََّل َت َ‬‫َ‬
‫نس ٰى﴾ أي‪ :‬فال يغيب عنك ش يء من القرآن‪ ،‬ال يغيب‬ ‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى‬
‫عن قلبك ش يء من القرآن‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬معنى ﴿فَّل ت َ‬
‫نس ٰى﴾ أي‪ :‬فال تترك العمل بالقرآن‪ ،‬أي‪ :‬أنا نعينك‬
‫فتكون عامال بالقرآن كله‪ِ .‬‬
‫ولذلك ماذا تقول أمنا عائشة رض ي هللا عنها؟ ((كان خلقه القرآن))ِصلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فتكون على هذا املعنى اآلية قد تضمنت نعمتين‪ِ :‬‬
‫النعمة اْلولى‪ :‬حفظ القرآن‪ِ .‬‬
‫والنعمة الثانية‪ :‬العمل بالقرآن‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ف ََّل َت َ‬
‫نس ٰى﴾ أي‪ :‬فال تترك العمل بالقرآن وال ببعضه‪ ،‬بل نعينك‬ ‫على القول بأن معنى‬
‫فتكون عامال بالقرآن كله‪ ،‬تكون اآلية تضمنت نعمة الحفظ في قول هللا عز وجل‪:‬‬
‫َ‬
‫﴿ف ََّل َت َ‬ ‫َ ُْ ُ‬
‫نس ٰى﴾‪.‬‬ ‫﴿سنق ِرئ َك﴾‪ ،‬وتضمنت نعمة العمل في قول هللا عز وجل‪:‬‬

‫‪216‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وال مانع من إرادة املعنيين فال يغيب عن قلبك ش يء من القرآن‪ ،‬وال تترك العمل بش يء من‬
‫القرآن‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬وهذه بشارة من هللا كبيرة لعبده ورسوله محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أن هللا‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿إال َما ش َاء الل ُه ۚ ﴾ مما اقتضت حكمته أن ينسيكه ْلصلحة‬ ‫سيعلمه علما ال ينساه‪ِ ،‬‬
‫وحكمة بالغة ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿إال َما ش َاء الل ُه ۚ ﴾ هنا وقف املفسرون وقفة‪ِ:‬هل ينس ى النبيِصلى هللا عليه وسلم شيئا‬ ‫ِ‬
‫من القرآن؟ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿إال َما ش َاء الل ُه ۚ﴾؟ ِ‬ ‫فقال بعضهم‪ :‬ال؛ إذا قلنا‪ :‬ال ال ينس ى‪ ،‬ما معنى ِ‬
‫قالوا‪ :‬املعنى فال تنس ى إال أن يشاء هللا أن تنس ى‪ ،‬لكن هللا لم يشأ ذلك‪ ،‬فهذا التعليق‬
‫حقيقي لكنه لم يقع‪ ،‬يقولونِ‪ :‬ال تنس ى إال أن يشاء هللا أن تنس ى‪ ،‬فأنت عبد من عباد هللا‪،‬‬
‫ولكن هللا لم يشأ ذلك‪ ،‬وقالوا هذا اْلسلوب معروف ومستعمل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬بل النبيِصلى هللا عليه وسلم ينس ى اآلية من القرآن‪ ،‬سبحان هللا!‬
‫كيف ينس ى؟ ما الذي ينساه؟ قالوا أمران‪ِ :‬‬
‫اْلمر اْلول‪ :‬النسيان العارض بعد تمام البالغ كما قلنا في التفسير املوضوعي‪ ،‬فيعرض له‬
‫ِّ‬
‫النسيان بعد أن بلغ القرآن من غير نقص وال نسيان‪ ،‬كما حصل للنبيِصلى هللا عليه وسلم‬
‫وه ِو يصلي نس ي آية‪ ،‬ونوزع آية‪ ،‬وتردد في كلمة هذا عارض‪ ،‬وقد وقع وله حكمة كما قلنا‬
‫أن يعلم الناس أنه بشر‪ ،‬فال يصرف له ش يء من أنواع العبادة‪ِ .‬‬
‫واْلمر الثاني‪ :‬ما نسخ لفظه ومعناه وحكمه‪ ،‬فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم ينساه وال يقرأ‬
‫به بعد نسخه‪ِ .‬‬
‫تفسير اآلية‪ِ ِ.‬‬‫ِ‬ ‫وهذا هو الصواب في‬
‫َْ‬ ‫َّ َ ْ‬
‫﴿إن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر َو َما َيخف ٰى﴾ ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده؛ أي‪ :‬فلذلك يشرع‬ ‫قال‪ِ :‬‬
‫ما أراد ويحكم بما يريد‪ِ ِ.‬‬
‫أي‪ :‬يعلم كل ش يء سبحانه وتعالى‪ ،‬فخلقه وتقديره وشرعه عن علم وحكمة‪ِ .‬‬
‫َْ‬ ‫َّ َ ْ‬
‫﴿إن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر َو َما َيخف ٰى﴾ هنا إنه يعلم ما يبقى من‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬معنى ِ‬
‫القرآن فتجهر به وتقرؤه‪ ،‬وما يخفى؛ أي‪ :‬ما ينسخ فال تقرأ به‪ِ .‬‬
‫َّ َ ْ‬
‫﴿إن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر﴾ أي‪ :‬ما تجهر به من القرآن لبقائه وعدم نسخه‪ِ .‬‬ ‫ِ‬

‫‪217‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ْ َ‬
‫﴿و َما َيخف ٰى﴾ أي‪ :‬ما ال تقرأ به من القرآن لكونه قد نسخ‪ ،‬يعلم ذلك قبل النسخ سبحانه‬ ‫َ‬
‫وبعد النسخ‪ِ ِ.‬‬
‫ْ‬ ‫َُ‬
‫﴿ون َي ِس ُر َك ِلل ُي ْس َر ٰى﴾ وهذه أيضا بشارة أخرى أن هللا ييسر رسوله صلى هللا عليه وسلم‬
‫لليسرى في جميع أموره‪ ،‬ويجعل شرعه ودينه يسيرا‪ِ .‬‬
‫كما قلنا‪ :‬اليسرى تشمل اليسر بجميع وجوهه‪ ،‬فال إعنات في دين محمدِصلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬يسر هللا لنا القرآن‪ ،‬ويسر هللا لنا السنة‪ ،‬ويسر هللا لنا العلم‪ ،‬وجعل دينه كله‬
‫يسرا‪ ،‬ويسر لنا دخول الجنة‪ ،‬يسر لنا طرق الجنة‪ ،‬ويسر لنا الخروج من الذنب‪ ،‬لم يجعل‬
‫الذنب إذا ارتكبناه الزما لنا ال ننفك عنه‪ ،‬ولم يوجب علينا أمرا شاقا عسيرا حتى نخرج من‬
‫الذنب‪ ،‬بل يسر لنا الخروج بتوبة صادقة‪ ،‬فإذا بنا نخرج من الذنب كله‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َ َّ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ََ‬
‫الذك َر ٰى (‪َ )9‬س َيذك ُر َمن َيخش ٰى (‪َ )10‬و َيت َجن ُب َها اْلشقى (‪ )11‬ال ِذي‬ ‫﴿فذ ِك ْر ِإن نفع ِت ِ‬
‫وت ِف َيها َوَال َي ْح َي ٰى (‪َ )13‬ق ْد َأ ْف َل َح َمن َت َز َّك ٰى (‪َ )14‬و َذ َكرَ‬ ‫ُ َّ َ َ ُ ُ‬ ‫َ ْ َ َّ ْ ُ‬
‫صلى الن َار الك ْب َر ٰى (‪ )12‬ثم ال يم‬ ‫ي‬
‫َّ َٰ َ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َٰ‬ ‫َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُّ َْ‬ ‫ْ َ َ َ َ َّٰ‬
‫اسم رِب ِه فصلى (‪ )15‬بل تؤ ِثرون الحياة الدنيا (‪ )16‬واآل ِخرة خير وأبقى (‪ِ )17‬إن هذا ل ِفي‬
‫يم َو ُم َ‬‫ص ُحف إ ْب َراه َ‬‫اْل َول ٰى (‪ُ )18‬‬ ‫ُْ‬ ‫ُّ ُ‬
‫وس ٰى (‪.﴾ )19‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ف‬ ‫الصح ِ‬
‫في هذه اآليات الجليالت العظيمات يأمر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وكل من‬
‫يصلح للخطاب بأن يعظ الناس ويعلمهم القرآن‪ ،‬وما دل عليه القرآن‪ ،‬فستنفع الذكرى‪،‬‬
‫فإن الذكرى تنفع املذكر فيكتب له اْلجر وتبرأ ذمته‪ ،‬وتنفع التقي الذي يخاف هللا عز وجل‬
‫ويخاف وعيده ويخاف اليوم اآلخر بعلم وإيقان‪ ،‬وأما الشقي فإن الذكرى تنفع بإقامة‬
‫الحجة عليه‪ِ .‬‬
‫فالذكرى تنفع على كل حال‪ ،‬فالتقي الذي يخاف هللا ويخاف وعيده واليوم اآلخر مع العلم‬
‫بذلك واإليقان بذلك يتعظ بالذكرى‪ ،‬ويتعظ بمواعظ القرآن‪ ،‬ويتعظ بالزواجر العظيمة‪،‬‬
‫فيزداد إيمانا وخشية وإقباال على اْلعمال الصالحة وبعدا عما يغضب هللا تعالى‪ ،‬وأما‬
‫اْلشقى الذي أحاطت به الشقاوة وكان أشقى الناس فسيعرض عن الذكرى‪ ،‬ويعاند ويتكبر‬
‫وال يعتبر باملواعظ‪ ،‬فيكون مآله إلى أشقى حال‪ ،‬فيكون في أشقى الشقاء فيدخل النار‬
‫جزءا‪ ،‬يحترق فيها ويقاس ي حرها ويعاني أليم‬ ‫الكبرى التي تفضل نار الدنيا بتسعة وستين ً‬
‫عذابها الدائم الذي ال يخفف عنه لحظة‪ ،‬وال يتعود عليه جسده‪ ،‬وال راحة منه حتى يتمنى‬
‫أن ُيخرج من النار ليعمل الصالحات‪ ،‬ويعطي العهود واملواثيق املغلظة على أال يرجع إلى ما‬
‫َ َُ‬ ‫ْ ُ‬
‫كان‪ ،‬فيكون جوابه مع غيره ﴿اخ َسئوا ِف َيها َوال تك ِل ُمو ِن﴾ [املؤمنونِ‪ ،]108 :‬فإذا يئس من‬

‫‪218‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الخروج نادى مالكا خازن النار ليقض علينا ربك‪ ،‬فيتمنى املوت فيكون جوابه مع غيره‪:‬‬
‫إنكم ماكثون‪ ،‬فال يموت في النار حتى يرتاح من العذاب وال يحيى حياة تسعده وتسره كما‬
‫يحب الحي ويتمنى‪ ،‬فهي حياة املوت خير منها‪ ،‬واملوت أحب إلى صاحبها منها‪ِ .‬‬
‫وبين هللا عز وجل سبب سعادة السعداء يوم القيامة وشقاء اْلشقياء يوم القيامة؛ بأن‬
‫تطهر في الدنيا من الدنائس والرذائل واْلخالق السيئة‪ ،‬ومما‬ ‫السعيد يوم القيامة هو من َّ‬
‫َّ‬
‫يغضب هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فزكى قلبه فكان طاهر القلب‪ ،‬وزكى ظاهره فكان طاهر العمل‪،‬‬
‫فأفلح في دنياه وأفلح في أخراه‪ ،‬وفاز الفور العظيم إذا لقي هللا عز وجل‪ ،‬ودعته تزكية‬
‫نفسه إلى اإلقبال على طاعة هللا واالجتهاد في طاعة هللا بقلبه ولسانه وجوارحه‪ ،‬فأكثر من‬
‫ذكر هللا عز وجل حتى أصبح لسانه رطبا من ذكر هللا‪ ،‬وأصبح قلبه طيبا بذكر هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬واطمأن قلبه بذكر هللا‪ ،‬وعمل الصالحات وعلى رأسها الصالة التي هي خير أعمال‬
‫العباد‪ِ .‬‬
‫وأما اْلشقياء في اآلخرة فإن سبب شقائهم أنهم قد اغتروا بالدنيا وبزخارفها وبمتاعها من‬
‫غير تفكر وتدبر‪ ،‬فقدموا الدنيا الغترارهم بها على اآلخرة‪ ،‬منهم من قدم الدنيا على اآلخرة‬
‫تقديما كليا فكفر باهلل عز وجل ولم يعمل ْلخراه‪ ،‬ومنهم من آمن باهلل لكن ألهته الدنيا عن‬
‫أخراه فعمل املعاص ي وأسرف على نفسه‪ ،‬ولم يقبل دعاء هللا له بالتوبة‪ ،‬وأصر واستكبر‬
‫حتى مات على ذلك‪ ،‬فكان إيثاره الدنيا سبب شقائه عند لقاء هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فأدخله‬
‫هللا نارا فيها الشقاء والعذاب الدائم‪ ،‬إن كان كافرا ال ينقطع عنه ذلك العذاب‪ ،‬وإن كان‬
‫مؤمنا استحق دخول النار بعمله‪ ،‬وشاء هللا أن يعذبه بعمله دخل النار فكان فيها شقيا‪،‬‬
‫وغمسة في النار هي عذاب شديد‪ ،‬وجمرتان من النار يغلي منهما الدماغ‪ ،‬فكيف بدخول‬
‫النار ولو في زمن يسير غير مؤبد؟! ثم ُيخرج منها إن كان في قلبه إيمان بعد أن يشقى بعذابها‬
‫ويعاني عذابها‪ِ .‬‬
‫ثم بين هللا عز وجل أن هذا املذكور قريبا من أن الفالح ملن تزكى وأتعب نفسه في طاعة‬
‫هللا‪ ،‬وأن سبب الشقاء تقديم الحياة الدنيا على اآلخرة‪ ،‬وأن اآلخرة خير وأبقى من ذاك‬
‫املتاع الزائل قد تتابعت عليه اْلنبياء واتفقت عليه اْلنبياء‪ ،‬فهو في الصحف اْل ِولى التي‬
‫سبقت نزول القرآن‪ ،‬فهو في صحف إبراهيم عليه السالم الذي هو أفضل اْلنبياء بعد‬
‫محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وفي صحف موس ى بن عمران عليه السالم الذي هو أفضل‬
‫اْلنبياء بعد محمدِصلى هللا عليه وسلم وإبراهيم‪ ،‬فهذا اْلمر مصلحته دائمة قد جاء به‬

‫‪219‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫جميع اْلنبياء وقرره جميع اْلنبياء‪ ،‬فحق للعاقل وهو يسمع ذلك أن ينظر في الدنيا نظرة‬
‫تدبر واعتبار‪ ،‬وأن يرى كيف أن نعيمها إن حصل يكدر بمنغصات في أثناءه‪ ،‬ثم يزول وال‬
‫يبقى نعيما‪ ،‬بل يورث في القلب حسرة وظلمة وكآبة‪ ،‬وأن الدنيا كلها مهما طالت فإنها‬
‫قصيرة مفا ِرقة أو مفا َرقة‪ ،‬فاإلنسان فيها إما أن يفارقها باملوت‪ ،‬وإما أن تفارقه بارتحال ما‬
‫فيها‪ ،‬حتى إذا شاء هللا عز وجل فنيت الدنيا كلها وكانت اآلخرة‪ِ .‬‬
‫وأن يعلم علم اليقين أن اآلخرة خير له وأبقى‪ ،‬فوهللا ثم وهللا لو أن نعيم الدنيا كلها جمع‬
‫لإلنسان بطريق يغضب هللا سبحانه وتعالى فإن لحظة في النار تنسيه كل ذلك النعيم‪ ،‬وإن‬
‫لحظة من نعيم الجنة أعلى وأحلى وأكمل من نعيم الدنيا كله لو اجتمع إلنسان‪ ،‬فكيف‬
‫يؤثر العاقل املوقن النعيم املكدر الفاني على النعيم الخالص الدائم الباقي؟! ِ‬
‫ال شك أن املوفق سيدرك أن الباقي خير له من الفاني‪ ،‬فإن كان على طاعة اجتهد فيها‬
‫وأكثر وعمل على اإلخالص واملتابعة‪ ،‬وإن كان في معصية فارقها خوفا من هللا عز وجل‬
‫ويقينا بتلك الحقيقة املطلقة العظيمة‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمة التي تغسل قلوب‬
‫املؤمنين‪ ،‬وتزلزل قلوب الكافرين‪ ،‬ونعود للتفسير التفصيلي لبيان معنى أو معاني بعض‬
‫الكلمات في اآليات‪ ،‬ونقرأ ما سطره اإلمام املفسر اْلصولي الفقيه عبد الرحمن بن ناصر بن‬
‫سعدي السعدي رحمه هللا عز وجل في كتابه النافع‪ :‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم‬
‫املنان‪ِ ِ.‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له‬
‫ََ‬
‫ولشيخنا والسامعين‪ :‬قوله ﴿فذ ِك ْر﴾ بشرع هللا وآياته‪ِ ِ.‬‬
‫فذكر بمعنى عظ وعلم بالقرآن وما دل عليه القرآن‪ ،‬وهو مراد الشيخ بقوله‪ :‬بشرع هللا‬
‫وآياته‪ِ ِ.‬‬
‫ْ‬ ‫َّ َ َ‬
‫الذك َر ٰى﴾ أي‪ :‬ما دامت الذكرى مقبولة واْلوعظة مسموعة سواء حصل من‬ ‫﴿إن نفع ِت ِ‬ ‫ِ‬
‫الذكرى جميع اْلقصود أو بعضه‪ ،‬ومفهوم اآلية أنه إن لم تنفع الذكرى بأن كان التذكير‬
‫يزيد في الشر أو ينقص من الخير لم تكن مأمورا بها بل منهيا عنها‪.‬‬
‫هذا على أن إن شرطية‪ ،‬فيكون معنى اآلية‪ :‬فذكر إن غلب على ظنك أن الذكرى ستنفع‬
‫َّ‬
‫املذكر فيزداد بها الخير ويكسر بها الشر‪ ،‬وال تذكر إن غلب على ظنك أن الذكرى ستضر‪،‬‬
‫فيعظم بها الشر أو ينفر بسببها من الخير‪ ،‬هذا معنى كالم الشيخ‪ ،‬نفع يقابله ضر‪ ،‬إن غلب‬

‫‪220‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫على ظنك أن الذكرى ستنفع ذكر‪ ،‬وإن غلب على ظنك أن الذكرى ستضر في هذا املقام‬
‫أمسك‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى‪ :‬فذكر إن نفعت الذكرى وال تذكر إن لم تنفع‪ ،‬فإن غلب‬
‫على ظنك أنها تنفع ذكر‪ ،‬وإن غلب على ظنك أنها ال تنفع أمسك‪ ،‬ما الفرق بين هذا والذي‬
‫قبله؟ ِ‬
‫هذا الذي يقابل النفع هو عدم النفع‪ ،‬عدم حصول النفع حتى لو لم يقع ضرر‪ ،‬أما الذي‬
‫قبله فالذي يقابل النفع هو حصول الضررِ‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى‪ :‬ذكر إن نفعت الذكرى وهي نافعة على كل حال؛ ْلنها تنفع‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫املذكر بثبوت اْلجر له وبراءة ذمته‪ ،‬وتنفع املذكر إن كان تقيا فيتعظ ويعتبر‪ ،‬وأما الشقي‬ ‫ِ‬
‫فإن نفعها بالنسبة إليه أن تقام عليه الحجة‪ ،‬ونتيجة ذلك يكون املعنى‪ :‬فذكر على كل‬
‫حال فإن الذكرى نافعة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬املعنى‪ :‬ذكر على كل حال فإنك ال تدري متى تنفع الذكرى ومتى ال‬
‫تنفع‪ ،‬فإن علم ذلك عند هللا‪ ،‬فإنه يعلم من ينتفع ومن ال ينتفع‪ ،‬أما أنت فإنما عليك‬
‫َّ‬
‫البالغ وعليك البيان وعليك الذكرى‪ ،‬فإنك ال تدري هل ينتفع املذكر بهذه الذكرى أو ال‬
‫ينتفع‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين‪ :‬منتفعون وغير منتفعين‪ ،‬فأما اْلنتفعون فقد‬
‫ْ َ‬ ‫َ َّ َّ‬
‫﴿س َيذك ُر َمن َيخش ٰى﴾ هللا‪ ،‬فإن خشية هللا تعالى والعلم بمجازاته على‬ ‫ذكرهم بقوله‪:‬‬
‫اْلعمال توجب للعبد االنكفاف عما يكرهه هللا والسعي في الخيرات‪ِ ِ.‬‬
‫َ ْ َ‬
‫﴿من َيخش ٰى﴾ الخشية هي الخوف بعلم‪ ،‬فهي نوع من الخوف؛ ْلن الخوف قد يكون بعلم‬
‫ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ‬
‫وقد يكون بغير علم‪ ،‬أما الخشية فهي بعلم ﴿ ِإن َما َيخش ى الل َه ِم ْن ِع َب ِاد ِه ال ُعل َم ُاء ۗ﴾ [فاطر‪:‬‬
‫‪ ،]28‬فالخشية بعلم‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ‬
‫﴿من َيخش ٰى﴾ من يخش ى هللا ملعرفته بربه ويقينه بذلك‪ ،‬ويخش ى وعيد هللا ملعرفته‬ ‫فمعنى‬
‫بذلك ويقينه‪ ،‬ويخش ى اليوم اآلخر ملعرفته بذلك ويقينه‪ِ ِ.‬‬
‫َّ َ ْ َ َّ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ْ َ‬
‫صلى الن َار‬ ‫﴿و َيت َجن ُب َها اْلشقى (‪ )11‬ال ِذي ي‬ ‫قال‪ :‬وأما غير اْلنتفعين فذكرهم بقوله‪:‬‬
‫ُْ‬
‫الك ْب َر ٰى (‪ ،﴾)12‬وهي النار اْلوقدة التي تطلع على اْلفئدة‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ َّ ْ َ ْ َ‬
‫﴿و َيت َجن ُب َها اْلشقى﴾ اْلشقى أفعل تفضيل؛ أي‪ :‬أنه‬ ‫وأما غير املنتفعين فذكرهم بقوله‬
‫أشقى اْلشقياء؛ ْلن شقاءه في فساد دينه‪ ،‬وأشقى الشقاء هو فساد الدين‪ ،‬الشقاء قد‬

‫‪221‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تكون له أسباب دنيوية‪ :‬يكون هذا شقيا ْلن أوالده يعقونه فيشقى بهم‪ ،‬يكون هذا شقيا‬
‫ْلنه ال مال عنده‪ ،‬وهذا شقاء عارض‪ ،‬لكن أشقى اْلشقياء هو من يكون شقاؤه في فساد‬
‫دينه‪ ،‬فهو في الدنيا أشقى اْلشقياء‪ ،‬ويكون مآله يوم القيامة إلى أشقى الشقاء وهو دخول‬
‫النار والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬املراد باْلشقى هنا الكافر فإنه أشقى العصاة‪ ،‬العصاة أشقياء‪،‬‬
‫أشقاهم هو الكافر‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن الحديث هنا إنما هو عن الكافر‪ِ .‬‬
‫لكن هذا القول مرجوح والراجح هو ا ِْلولِ‪ :‬اْلشقى الذي هو أشقى اْلشقياء بسبب فساد‬
‫دينه‪ ،‬وهو يعرض عن الذكرى ويعاند ويصر على الشر الذي هو فيه‪ِ .‬‬
‫َّ َ ْ َ‬
‫صلى﴾ يصلى يعني يحترق ويعاني العذاب‪ ،‬يعني يحترق بالنار ويعاني عذابها‪ِ .‬‬ ‫﴿ال ِذي ي‬
‫َّ ْ ُ‬
‫﴿الن َار الك ْب َر ٰى﴾ هي نار جهنم ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬دار االنتقام‪ ،‬وهي النار الكبرى‪ ،‬والنار‬
‫الصغرى هي نيران الدنيا كلها‪ ،‬كل نيران الدنيا منذ أن قامت الدنيا إلى أن تفنى هي بالنسبة‬
‫لجهنم نار صغرى؛ ْلن نيران الدنيا ‪-‬ال إله إال هللا‪ ،-‬نيران الدنيا كلها بما ترون من نيران‬
‫اْلفران ونيران البترول والحرائق إلى غير ذلك من النيران إنما هي جزء من سبعين ً‬
‫جزءا من‬
‫نار جهنم‪ ،‬ففضلت نار جهنم على نيران الدنيا بتسعة وستين ً‬
‫جزءا‪ِ .‬‬
‫جزءا من نار جهنم‪ ،‬قيل‪ :‬يا‬ ‫قال النبيِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ناركم جزء من سبعين ً‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إن كانت لكافية))‪ ،‬إن كان هذا الجزء من السبعين وهو‬
‫نار الدنيا لكاف في العذاب‪ ،‬فقالِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬إنها فضلت عليها بتسعة وستين‬
‫جزء كلهن مثل حرها)) متفق عليه‪ ،‬فلو أن نيران الدنيا كلها عبر أزمنتها وأماكنها جمعت في‬
‫مكان واحد في وقت واحد لكان حر تلك النيران جزءا من سبعين جزء من حر جهنم‪ ،‬وكل‬
‫جزء من التسعة والستين الباقية مثل حر هذا الجزء‪ ،‬نعوذ باهلل من عذاب هللا‪ ،‬إنها النار‬
‫الكبرىِ‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫﴿ث َّم ال َي ُموت ِف َيها َوال َي ْح َي ٰى﴾ أي‪ :‬يعذب عذابا أليما من غير راحة وال استراحة‪ ،‬حتى إنهم‬
‫َ َ ُ َ َ َّ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫يتمنون اْلوت فَّل يحصل لهم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ال ُيق َض ٰى َعل ْي ِه ْم ف َي ُموتوا َوال ُيخفف‬
‫َ‬
‫َع ْن ُهم ِم ْن َعذ ِاب َها ۚ﴾‪ِ .‬‬
‫يقول قائل‪ :‬هذان نقيضان‪ ،‬املوت والحياة نقيضان‪ ،‬اإلنسان إما أن يكون ميتا وإما أن‬
‫يكون حيا‪ ،‬ال يجتمعان معا وال يرتفعان معا‪ ،‬ال يمكن أن يكون اإلنسان حيا ميتا‪ ،‬وال‬

‫‪222‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫يمكن أن يكون ليس حيا وليس ميتا‪ ،‬فلماذا قال هللا عز وجل‪﴿ :‬ث َّم ال َي ُموت ِف َيها َوال‬
‫َي ْح َي ٰى﴾؟ ِ‬
‫قلنا‪ :‬إن املقصود بالحياة هنا الحياة التي تحصل بها الراحة‪ ،‬التي يحصل بها السرور‪ ،‬التي‬
‫يتمناها اإلنسان‪ ،‬فإنه ال يموت موتا يرتاح به‪ ،‬وال يحيى حياة يرتاح فيها‪ ،‬فهي كما قلنا‬
‫حياة املوت خير منها لصاحبها‪ِ ِ.‬‬
‫َ َّ‬ ‫َ َ َْ‬
‫﴿ق ْد أفل َح َمن ت َزك ٰى﴾ أي‪ :‬قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم‬
‫ومساوئ اْلخَّلق‪ِ ِ.‬‬
‫قد للتحقيق‪ ،‬فالفالح إنما هو في التزكية‪ ،‬والفَّلح‪ :‬هو الفوز باملطلوب والنجاة من‬
‫املرهوب‪ ،‬وال يكون الفالح في الدنيا على الحقيقة وفي اآلخرة إال ملن تزكى وعمل الصالحات‪،‬‬
‫فصفى قلبه وأعماله وأخالقه مما يغضب هللا‪ ،‬ور َّبى نفسه على طاعة هللا‪ ،‬فكان عامال‬
‫بالتصفية والتربية‪ِ .‬‬
‫التصفية‪ :‬التزكية‪ ،‬والتربية‪ :‬هي الزيادة في الخير‪ِ .‬‬
‫فـ تزكى معناها طهر قلبه وأقواله وأعماله من الدنائس والرذائل‪ ،‬وأعظم ذلك التطهر من‬
‫الشرك في االعتقاد والعمل والقولِ‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ت َزك ٰى﴾ هنا أي‪ :‬زكىِأمواله‪ ،‬قد أفلح من أدى الزكاة‪ِ .‬‬
‫َ َ َّ‬
‫﴿من ت َزك ٰى﴾ هنا من زكى زكاة الفطر‪ ،‬فزكى نفسه بأداء زكاة‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى‬
‫الفطر‪ِ .‬‬
‫وعلى هذين املعنيين اْلخيرين تكون هذه اآلية مدنية؛ ْلنه تقدم معنا أنه عند جمهور‬
‫العلماء ‪-‬وهو الصواب‪ -‬أن اْلعلى سورة مكية‪ ،‬لكن على هذا التفسير تكون هذه اآلية‬
‫مدنية؛ ْلن الزكاة لم تفرض إال في املدينة‪ ،‬وزكاة الفطر لم تفرض إال في املدينة‪ ،‬وهذا ما‬
‫جعل بعض املفسرين املتأخرين يقولِ‪ :‬من ذكر هذا املعنى من السلف مراده أن اآلية تشهد‬
‫لهذا‪ ،‬وليس املراد أنه ه ِو املراد من اآلية‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن هذا املعنى يدخل في عموم اآلية وليس‬
‫هو املراد باآلية‪ ،‬بل املراد باآلية العموم فيدخل في عمومه هذا املعنى‪ ،‬فتكون اآلية شاهدا‬
‫لهذا املعنى‪ ،‬وليس هذا املعنى مرادا أصليا من اآلية وإنما يدخل في عمومها‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َّ‬
‫صل ٰى﴾ أي‪ :‬اتصف بذكر هللا وانصبغ به قلبه‪ ،‬فأوجب له ذلك العمل‬ ‫﴿وذكر اسم رِب ِه ف‬
‫بما يرض ي هللا خصوصا الصَّلة التي هي ميزان اإليمان‪ ،‬هذا معنى اآلية الكريمة‪ِ ِ.‬‬
‫اس َم َرِب ِه﴾ أي‪ :‬داوم على ذكر هللا‪ِ .‬‬ ‫﴿و َذ َك َر ْ‬‫فيكون معنى َ‬

‫‪223‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ َّ‬
‫صل ٰى﴾ أي‪ :‬اجتهد في طاعة هللا باْلعمال وعلى رأسها الصالة‪ِ .‬‬ ‫﴿ف‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿وذك َر ْ‬‫صل ٰى﴾ أي‪ :‬في يوم الجمعة‪َ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫اس َم َربه ف َ‬ ‫َ‬
‫﴿وذك َر ْ‬ ‫َ‬ ‫ِوقال بعض املفسرين‪ :‬معنى َ‬
‫اس َم‬ ‫ِِ‬
‫َرِب ِه﴾ أي‪ :‬الخطيب في الخطبة واملصلي بالسماع‪ ،‬قالوا‪ :‬الخطيب في الخطبة عندما يعظ‬
‫َ َ َّ‬
‫صل ٰى﴾ أي‪ :‬صلى صالة الجمعة‪ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫ويذكر ذكر اسم ربه‪ ،‬واملصلي بسماع الخطبة‪﴿ ،‬ف‬
‫هذا يدل على أن صالة الجمعة والعناية بها من أعظم ما يتزكى به اإلنسان‪ ،‬كما أن عدم‬
‫العناية بالجمعة وإهمال الجمعة من أعظم ما يدنس قلب اإلنسان‪ ،‬حتى أنه إذا ترك ثالث‬
‫جمع تهاونا فودعها تهاونا طبع على قلبه وختم على قلبه‪ِ .‬‬
‫اس َم َرِب ِه﴾ أي‪ :‬ذكر اسم ربه على اْلضحية في يوم‬ ‫﴿و َذ َك َر ْ‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى َ‬
‫َ َ َّ‬
‫صل ٰى﴾ أي‪ :‬صلى صالة العيد صالة عيد اْلضحى‪ِ .‬‬ ‫النحر‪﴿ ،‬ف‬
‫والكالم هنا في هذين التفسيرين كالكالم في السابق‪ ،‬على هذين التفسيرين تكون اآلية‬
‫مدنية؛ ْلن هذا إنما كان في املدينة‪ ،‬أو على ما وجهه بعضهم يكون كالم بعض السلف‬
‫الذين ذكروا هذا املعنى مرادا به أن هذا يدخل في عموم اآلية‪ ،‬فاآلية شاهد له‪ ،‬وليس هو‬
‫املراد بعينه باآلية‪ ،‬وإنما يدخل في عمومها‪ِ .‬‬
‫وما ذكره الشيخ أولى‪ ،‬وقد قلت لكم سابقا إنه في تفسير القرآن يحمل املعنى على املعنى‬
‫اْلعم ما دام أن اللفظ يحتمله والسياق يقبله‪ ،‬دائما في التفسير‪ِ:‬يحمل املعنى على املعنى‬
‫اْلعم بشرط أن يكون اللفظ محتمال له وأن يكون السياق قابال له‪ِ ِ.‬‬
‫﴿و َذ َك َر ْ‬
‫اس َم َرِب ِه‬ ‫﴿ت َز َّك ٰى﴾ يعني‪ :‬أخرج زكاة الفطر‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وأما من فسره قوله‪:‬‬
‫َ َ َّ‬
‫صل ٰى﴾ أنه صَّلة العيد‪ ،‬فإنه وإن كان داخَّل في اللفظ وبعض جزئياته فليس هو اْلعنى‬ ‫ف‬
‫وحده‪.‬‬
‫ْ‬
‫َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ َ ُّ ْ‬
‫الدن َيا﴾ أي‪ :‬تقدمونها على اآلخرة وتختارون نعيمها اْلنغص اْلكدر‬ ‫﴿بل تؤ ِثرون الحياة‬
‫الزائل على اآلخرة‪ِ ِ.‬‬
‫بل يقول العلماء هي لإلضراب االنتقالي؛ أي‪ :‬لنقل الخطاب من ش يء إلى ش يء‪ ،‬فيؤتى بـ بل‬
‫لإلضراب عن الكالم السابق ونقل الك ِالم إلى أمر آخر؛ ْلنه كما يعرف طالب العلم‬
‫اإلضراب إما إبطالي وإما انتقالي‪ِ .‬‬
‫‪ .1‬إما إبطالي ملا قبله وبيان الحق بعده‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬وإما انتقالي‪ :‬ينقل الكالم من ش يء إلى ش يء‪ِ .‬‬
‫و (بل) هنا لإلضراب االنتقالي‪ِ .‬‬

‫‪224‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُّ ْ‬
‫الدن َيا﴾ أي‪ :‬تقدمون الحياة الدنيا على اآلخرة‪ ،‬والحياة الدنيا سميت‬ ‫﴿تؤ ِثرون الحياة‬
‫دنيا‪ْ ،‬لنها قريبة الزمان إلى اإلنسان‪ ،‬فاإلنسان يعيش فيها فهي قريبة له‪ِ .‬‬
‫وسميت دنيا كذلك لقصر زمانها‪ ،‬فهي وإن طالت قصيرة فانية‪ِ .‬‬
‫وسميت دنيا كذلك؛ ْلنها متقلبة فال تستقر باإلنسان على حال‪ ،‬يوم في نعيم وضحك‪،‬‬
‫ويوم في بكاء وشقاء‪ ،‬بل قد يكون في ساعة في غاية السرور‪ ،‬ثم يكون في بقية يومه في غاية‬
‫الشقاء‪ ،‬فهي دنيا‪ ،‬ومن تفكر فيها دلته على نفسها‪ِ .‬‬
‫العاقل ال يحتاج إلى أكثر من أن يتفكر في الدنيا فيما مر عليه هو كم بلغ اليوم؟ بلغ أربعين‬
‫سنة‪ ،‬يتفكر فيما مض ى فتدله الدنيا على نفسها وأنها دنيا‪ ،‬وهكذا كل من بلغ عمرا إذا‬
‫تفكر فيها دلته الدنيا على نفسها‪ ،‬وأنها دنيا ال تبقى على حال‪ِ ِ.‬‬
‫َ ْ ُ َ َ َ‬
‫﴿واآل ِخ َرة خ ْي ٌر َوأ ْبق ٰى﴾ خير من الدنيا في كل وصف مطلوب‪ ،‬وأبقى لكونها دار خلد وبقاء‬
‫وصفاء‪ ،‬والدنيا دار فناء‪ ،‬فاْلؤمن العاقل ال يختار اْلردأ على اْلجود‪ ،‬وال يبيع لذة ساعة‬
‫بترحة اْلبد‪ ،‬فحب الدنيا وإيثارها على اآلخرة رأس كل خطيئة‪.‬‬
‫ٰ َ‬
‫﴿إ َّن َهذا﴾ اْلذكور لكم في هذه السورة اْلباركة من اْلوامر الحسنة واْلخبار‬ ‫ِ‬
‫اْلستحسنة‪.‬‬
‫ص ُحف إ ْب َراه َ‬
‫يم َو ُم َ‬ ‫ُْ‬
‫اْل َول ٰى (‪ُ )18‬‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َّ َٰ َ َ‬
‫وس ٰى (‪ ﴾)19‬اللذين هما أشرف‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ف‬‫﴿إن هذا ل ِفي الصح ِ‬ ‫ِ‬
‫اْلرسلين بعد محمد صلى هللا عليه وعليهم أجمعين‪ ،‬فهذه أوامر في كل شريعة لكونها‬
‫عائدة إلى مصالح الدارين‪ ،‬وهي مصالح في كل زمان ومكان‪ِ ِ.‬‬
‫ٰ َ‬
‫﴿إ َّن َهذا﴾ هذا اسم إشارة إلى قريب‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫فقال بعض اْلفسرين‪ :‬يرجع إلى السورة كلها‪ ،‬إن هذا املذكور في هذه السورة قد جاء به‬
‫اْلنبياء جميعا‪ ،‬فهو من املصالح الثابتة التي ال تختلف باختالف اْلمم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذا يرجع إلى أقرب ش يء‪ ،‬وهو أن الفالح ملن تزكى إلى آخره‪ ،‬وهذا‬
‫أقرب املعاني إن شاء هللا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذا يعود إلى الجملة اْلقرب وهي الجملة اْلخيرة‪ ،‬إن كون اآلخرة‬
‫خيرا وأبقى في صحف جميع اْلنبياء‪ ،‬فكان ذلك في الصحف اْلولى‪ِ .‬‬
‫وذكر إبراهيم عليه السالم وموس ى عليه السالم لكونهما أشرف اْلنبياء بعد النبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم بعد محمدِصلى هللا عليه وسلم؛ وْلن أخبارهما معلومة عند العرب الذين‬
‫َ‬
‫كانوا يخاطبون بالقرآن عند نزول هذه اآليات‪ ،‬فإبراهيم عليه السالم أخباره معروفة في‬

‫‪225‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫مكة‪ ،‬وموس ى عليه السالم أخباره معروفة ومنتشرة‪ ،‬فخصا بالذكر لهذين اْلمرين‬
‫العظيمين‪ِ .‬‬
‫وال يعني هذا أن هذا ليس مذكورا إال في صحف إبراهيم وموس ى‪ ،‬بل هو مذكور في‬
‫الصحف اْلولى كلها‪ ،‬وصحف إبراهيم وموس ى هذا من الخاص بعد العام ملا ذكرنا‪ِ .‬‬
‫وبهذا يتم تفسير هذه السورة العظيمة التي فيها الحكم الكلية العظمى والفوائد الكبرىِ‪ِ :‬‬
‫‪ -‬فمن فوائدها بيان بعض اآليات الكونية التي تدل على قدرة هللا وتدبيره وقوته وإحاطته‬
‫بخلقه‪ ،‬وأنه املستحق للعبادة سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن حكمها الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان نعمة هللا الكبرى على محمدِصلى هللا عليه‬
‫وسلم وعلى أمته بحفظ القرآن وتيسير الدين وتيسير طرق الجنة‪ ،‬فاهلل رحم هذه اْلمة‬
‫فحفظ كتابها‪ ،‬ولم يكل حفظ كتابها إلى العلماء‪ ،‬ويسر دينها ويسر لها طرق الجنة‪ ،‬واليهود‬
‫والنصارى يحسدوننا على هذا‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫يذكر‪،‬‬ ‫‪ -‬ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن من علم شيئا ينبغي عليه أن ِ‬
‫وأما قلوب الناس فليست بيده‪ ،‬وال يعلم شيئا عن حالها‪ ،‬فال ينبغي للداعية وال املربي أن‬
‫ييأس من إنسان ما بقيت الروح في جسده‪ ،‬بل يذكره دائما‪ ،‬فوظيفته البيان والتذكير‪،‬‬
‫وأما من ينتفع ومن ال ينتفع فعلم ذلك إلى هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن فوائدها الكلية وحكمها العظمى‪ :‬بيان أن من أعظم اْلسباب النطماس بصيرة‬
‫اإلنسان إيثار الحياة الدنيا واالغترار بها من غير تفكر في حقيقتها‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن من الشرائع ما اتفق عليه اْلنبياء‪،‬‬
‫فليست شرائع اْلنبياء مختلفة في جميع شرائعها ‪-‬جميع أعمالها‪ ،-‬بل هناك من الشريعة ما‬
‫اتفق عليه اْلنبياء وكلفت به جميع اْلمم‪ ،‬وذلك لثبات املصالح واملفاسد فيها‪ ،‬فال تتغير‬
‫مصالحها وال املفاسد املدروءة بذلك الشرع باختالف الزمان واملكان‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬

‫‪226‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الغاشية‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ َْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ َ ٌ َّ‬ ‫ُ ُ ٌ ََْ َ ٌَ‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ‬
‫يث ْال َغاش َ‬
‫صل ٰى نا ًرا‬ ‫اص َبة (‪ )3‬ت‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫ام‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ة‬‫ع‬ ‫اش‬
‫ٍِ ِ‬‫خ‬ ‫ذ‬ ‫ئ‬ ‫م‬‫و‬ ‫ي‬ ‫وه‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪1‬‬ ‫(‬ ‫ة‬ ‫ي‬
‫ِ ِ‬ ‫﴿هل أتاك ح ِد‬
‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ام إ َّال من َ‬ ‫َّ ْ َ َ ْ َ َ ٌ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫َ ًَ‬
‫ض ِر ٍيع (‪ )6‬ال ُي ْس ِم ُن َوال ُيغ ِني‬ ‫ْ َْ َ‬
‫ح ِامية (‪ )4‬تسق ٰى ِمن عي ٍن آ ِني ٍة (‪ )5‬ليس ل ُهم طع ِ ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫اع َم ٌة (‪ِ )8‬ل َس ْعي َها َ‬ ‫ُ ُ ٌ َ ْ َ َّ‬
‫اض َية (‪ِ )9‬في َجن ٍة َع ِال َي ٍة (‪ )10‬ال ت ْس َم ُع‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫وع (‪ )7‬وجوه يوم ِئ ٍذ‬ ‫ٍ‬ ‫ِمن ُج‬
‫َ َ ْ َ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ‬ ‫َ ُ ُ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ً‬
‫وعة (‪)14‬‬ ‫وعة (‪ )13‬وأكواب موض‬ ‫ِف َيها ال ِغ َية (‪ِ )11‬ف َيها َع ْي ٌن َجا ِرَية (‪ِ )12‬فيها سرر مرف‬
‫ُ ٌَ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ‬
‫صفوفة (‪َ )15‬وز َر ِاب ُّي َم ْبثوثة (‪ِ .﴾ )16‬‬ ‫ونم ِارق م‬
‫َ‬
‫في هذه السورة املكية باتفاق العلماء يقول هللا لنبيهِصلى هللا عليه وسلم‪َ ﴿ :‬ه ْل أ َت َ‬
‫اك‬
‫َ ُ ْ َ‬
‫اش َي ِة﴾ أي‪ :‬قد جاءك نبأ الغاشية على وجه التفصيل‪ ،‬فجاءك نبأ يوم القيامة‬ ‫ح ِديث ال ِ‬
‫غ‬
‫الذي يغش ى الناس جميعا ويعمهم ويحيط بهم من كل جانب باْلهوال والكروب‪ ،‬وما فيه‬
‫من النار التي تغطي أهلها بلهيبها وعظيم عذابها وتأتيهم من كل مكان‪ ،‬حيث ينقسم الناس‬
‫في ذلك اليوم إلى أشقياء وسعداء‪ِ .‬‬
‫أما اْلشقياء فوجوههم ذليلة منكسرة حيث امتألت قلوبهم بالذلة‪ ،‬وظهر أثر ذلك على‬
‫وجوههم‪ ،‬وعلى نظرهم فال ينظرون إال من طرف خفي‪ ،‬وعلى أصواتهم فاختفت أصواتهم‬
‫ذلة وانكسارا‪ ،‬وهذه الوجوه الذليلة يوم القيامة في النار عاملة عمال فيه نكالها وعذابها‪،‬‬
‫فهي تحمل اْلغالل الثقيلة‪ ،‬وتجر السالسل الطويلة‪ ،‬وتنقل أقدامها في النار بثقل وألم‬
‫شديد‪ ،‬كالذي ينقل أقدامه وقد غرق في الطين‪ ،‬وأحاط به الطين من كل جانب‪ ،‬فهي في‬
‫غاية التعب وفي شدة العذاب الذي ال راحة منه‪ ،‬وقد دخلت النار الحامية التي اشتد حرها‬
‫ْ‬
‫ودام فال تخفو وال يخف عذابها‪ ،‬فأحرقهم حرها وشواهم لهيبها‪ ،‬وهو حر ال يخبو فيخف‬
‫إحراقه‪ ،‬وال تتعود عليه اْلجساد فيخف أثره‪ ،‬فهو سعير أبدا‪ ،‬والجلود تبدل كل ما احترقت‬
‫جلودا غيرها‪ِ .‬‬
‫ومن عذاب تلك الوجوه الشقية أن ما تشربه ليس قريبا منها تتناوله متى أحست‬
‫بالعطش‪ ،‬بل هو بعيد عنها ال يعطى لها إال إذا اشتد عطشها فاستغاثت وطالت استغاثتها‪،‬‬
‫عند ذاك يأتيها السقاة به متى شاؤوا‪ ،‬وذاك الشراب هو ماء قد بلغت في الحرارة منتهاه‪،‬‬
‫وصديد أهل النار من الدماء والقروح وما يخرج من فروج النساء‪ ،‬وقد اشتد حره وبلغ‬
‫الغاية في الغليان‪ ،‬فإذا أعطاهم السقاة ذاك الشراب فقربوه من وجوههم شوى وجوههم‪،‬‬

‫‪227‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فإذا شربوا منه مع حرارته لشدة عطشهم صهر ما في بطونهم‪ ،‬وأذاب ما في أجوافهم‪ ،‬فهو‬
‫شراب ال خير لهم فيه‪ ،‬بل فيه زيادة عذابهم‪ِ .‬‬
‫وأما إذا اشتد جوعهم فإنه ال طعام لهم في النار إال نبتا له شوك عريض قاس‪ ،‬وله أوراق‬
‫شديدة املرارة تكون يابسة‪ ،‬فتكون سما‪ ،‬فيأكلون من ذلك النبات ما يضرهم ويؤذيهم؛ ْلنه‬
‫أخذه من بين اْلشواك مؤلم‪ ،‬وهو حال يبسه سم‪ ،‬وال يقويهم وال يكسبهم قوة‪ ،‬وال يذهب‬
‫جوعهم مع نتانة رائحته ومرارة طعمه‪ِ .‬‬
‫وأما السعداء فوجوههم ناعمة‪ ،‬قد ظهر أثر النعيم عليها وظهرت أنوار السعادة فيها‪ ،‬فإنها‬
‫في نعيم منذ فارقت الدنيا‪ ،‬بل عند فراقها للدنيا تبشر ‪-‬والناس يبكون حولها‪ -‬بروِح‬
‫وريحان ورب غير غضبان‪ ،‬وهي في نعيم وهي محمولة على أعناق الرجال‪ ،‬ترى َّ ِ‬
‫وتبشر بما‬
‫تقدم عليه وتنادي‪ :‬قدموني قدموني‪ ،‬وهي في قبورها في نعيم منعمة‪ ،‬وعند البعث آمنة‪،‬‬
‫وقد أعطي أصحابها الكتب باليمين‪ ،‬وبشروا باملقام الكريم‪ ،‬فأكسبهم ذلك سرورا وسعادة‪،‬‬
‫وظهر أثر ذلك على وجوههم‪ ،‬فكانت لعملها في الدنيا راضية يوم القيامة‪ ،‬حامدة ما عملت‪،‬‬
‫مجازاة بالجنة بفضل هللا بسبب ما عملته في الدنيا‪ ،‬فهي في جنة مليئة باْلشجار وفيها‬
‫ألوان النعيم‪ ،‬فهي عالية املكان فوق السماوات‪ ،‬وسقف أعالها عرش الرحمن‪ ،‬وهي عالية‬
‫املكانة‪ ،‬فنعيمها ال يمكن وصفه‪ ،‬ففيها ما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب‬
‫بشر‪ ،‬وْلهلها اإلكرام التام املقيم الدائم‪ ،‬ولهم املكانة العالية‪ ،‬وال يكون فيها إال ما يسر‬
‫اْلنفس‪ِ .‬‬
‫فمن نعيمها أنك إن دخلتها ال تسمع فيها كلمة تؤذيك‪ ،‬فال تسمع فيها باطال وال تسمع فيها‬
‫لغوا ال خير فيه‪ ،‬وال تجد فيها جماعة الغية تتكلم بالباطل وتتكلم بما ال فائدة فيه‪ِ .‬‬
‫ومن نعيم هذه الوجوه ‪-‬واملقصود أصحابها‪ -‬أنها في جنة شرابها طيب عذب قريب ال تتعب‬
‫في تحصيله‪ ،‬فهي في جنة فيها عيون من كل شراب طيب‪ ،‬من ماء وخمر وعسل ولبن يجري‬
‫من تحتها وحيث شاءت من غير أخاديد تحده‪ ،‬يوجهونها كيف شاؤوا‪ ،‬إن أرادوا أن تكون‬
‫عن أيمانهم كانت‪ ،‬وإن أرادوا أن تكون عن شمائلهم كانت‪ ،‬وإن أرادوا أن تكون من بين‬
‫أيديهم كانت‪ِ .‬‬
‫وفيها سرر عالية مرتفعة إذا أراد أحدهم أن يجلس عليها تطأطأت له ثم ارتفعت به‪ ،‬يتكئ‬
‫عليها مع أهله في نعيم مقيم‪ ،‬ينظرون إلى نعيم الجنة وأنهارها‪ ،‬وفيها وسائد قد صفت لهم‬
‫ووضع بعضها بجوار بعض يتكئون عليها في ترف ونعيم وهناء وسرور من غير تعب يسبق‬

‫‪228‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ذلك‪ ،‬وال يتخلل ذلك وال يلحق ذلك‪ ،‬وفيها أغلى وأعلى وأنعم الفرش املبثوثة املبسوطة في‬
‫كل مكان‪ ،‬ال يفقدونها في مكان وال يتعبون في بسطها‪ِ .‬‬
‫وذاك النعيم دائم متجدد‪ ،‬ال يفقدون منه شيئا‪ ،‬وال يملونه أبدا‪ ،‬بل كلما نظروا إلى نعيم‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ٰ َ َّ‬
‫كانوا كأنهم قد رأوه أول مرة‪ ،‬وكلما رزقوا رزقا في الجنة قالوا‪َ ﴿ :‬هذا ال ِذي ُر ِزقنا ِمن ق ْب ُل ۖ‬
‫﴾ [البقرة‪ ]25 :‬لكن إن أكلوه وجدوا نعيما جديدا ولذة جديدة‪ ،‬هم وأهلهم وأزواجهم‬
‫يحبرون فيها ويتنعمون فيها‪ ،‬أسأل هللا بأسمائه الحسنى وصفاته العال أن يجعلنا ووِالدينا‬
‫وأهلينا وأحبابنا من أهل هذه الجنة‪ ،‬وأال يحرم منا أحدا‪ ،‬أسأل هللا كما أكرمنا أن نكون‬
‫في مسجد رسولهِصلى هللا عليه وسلم إخوانا في درس العلم متقابلين أن يجعلنا جميعا في‬
‫الجنة إخوانا على سرر متقابلين‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات الجليالت الكريمات‪ ،‬ونعود إلى‬
‫التفسير التفصيلي‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من اْلهوال الطامة‪ ،‬وأنها‬
‫تغش ى الخَّلئق بشدائدها‪ِ ِ.‬‬
‫أكثر اْلفسرين على أن الغاشية هي يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الغاشية هي النار تغش ى أهلها‪ِ .‬‬
‫و ِال مانع من إرادة اْلمرين‪ ،‬فالغاشيةِ يوم القيامة وفيها النار التي تغش ى أهلها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الغاشية هم الناس الذين يدخلون النار‪ ،‬فالناس الذين يدخلون‬
‫النار هم الذين يغشون النار‪ِ .‬‬
‫ولكن ما تقدم أقرب إلى املعنى‪ِ .‬‬
‫قبل هذا قال هللا‪َ ﴿ :‬ه ْل﴾ هل هنا بمعنى قد‪ ،‬وجيئت بصيغة االستفهام للتنبيه والتشويق‬
‫والتعظيم‪ ،‬يعني‪ :‬أن هذا النبأ عظيم‪ ،‬ولتشويق النفوس لتسمع ما بعد هذا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ َه ْل﴾ االستفهام على وجه الحقيقة‪ ،‬واملقصود‪ :‬هل أتاك‬
‫وقومك نبأ الغاشية على وجه التفصيل قبل أن يوحى إليك؟ وفي هذا إقامة الحجة على‬
‫الكفار في مكة‪ ،‬فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم جاءهم بما ال يعلمون وال يعهدون من‬
‫تفصيل ما يكون يوم القيامة‪ ،‬وأقام البراهيم العقلية واْلدلة النقلية على هذا اْلمر‬
‫العظيم‪ِ .‬‬

‫‪229‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ُ‬
‫﴿ح ِديث﴾ هو النبأ العظيم‪ِ ِ.‬‬ ‫و‬
‫قال‪ :‬وأنها تغش ى الخَّلئق بشدائدها‪ ،‬فيجازون بأعمالهم ويتميزون إلى فريقين‪ :‬فريق في‬
‫الجنة‪ ،‬وفريق في السعير‪ ،‬فأخبر عن وصف كَّل الفريقين‪ ،‬فقال في وصف أهل النار‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ٌ ََْ َ ٌَ‬
‫اش َعة﴾ من الذل والفضيحة والخزي‪ِ ِ.‬‬ ‫اشعة﴾ أي‪ :‬يوم القيامة‪﴿ ،‬خ ِ‬ ‫﴿وجوه يوم ِئ ٍذ خ ِ‬
‫فهي ذليلة منكسرة قد ظهر الهوان والذل عليها‪ِ ِ.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ َ ٌ َّ‬
‫اص َبة﴾ أي‪ :‬تاعبة في العذاب ت َجر على وجوهها‪ ،‬وتغش ى وجوههم النار‪،‬‬ ‫﴿ع ِاملة ِ‬
‫ن‬
‫ٌ‬ ‫َ َ ٌ َّ‬ ‫ُ ُ ٌ ََْ َ ٌَ‬
‫اص َبة﴾ في الدنيا‪ ،‬لكونهم في‬ ‫اشعة (‪ )2‬ع ِاملة ن ِ‬ ‫ويحتمل أن اْلراد بقوله‪﴿ :‬وجوه يوم ِئ ٍذ خ ِ‬
‫الدنيا أهل عبادات وعمل ولكنه ْلا عدم شرطه وهو اإليمان صار يوم القيامة هباء‬
‫منثورا‪ِ ِ.‬‬
‫وه َي ْو َم ِئ ٍذ‬‫﴿و ُج ٌ‬
‫عاملة ناصبة قال كثير من اْلفسرين‪ :‬إن هذا يوم القيامة بداللة السياق ُ‬
‫ٌ‬ ‫َ َ ٌ َّ‬ ‫َ ٌَ‬
‫اص َبة﴾ أي‪ :‬يومئذ‪ ،‬يوم القيامة‪ ،‬فهي عاملة بما يعذبها كما قلنا‬ ‫اشعة (‪ )2‬ع ِاملة ن ِ‬ ‫خ ِ‬
‫تحمل اْلغالل‪ ،‬وتجر السالسل‪ ،‬وتتنقل في النار بتثاقل وألم‪ ،‬فهي متعبة أشد التعب‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َ َ ٌ َّ‬
‫اص َبة﴾ هذا في الدنيا؛ أي‪ :‬أنها كانت عاملة ناصبة‪،‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ع ِاملة ِ‬
‫ن‬
‫فعملت بأعمال تتقرب بها‪ ،‬وأتعبت أنفسها في ذلك‪ ،‬لكن هذا لم ينفعها يوم القيامة؛ ْلنه‬
‫ال ينفع مع الكفر عمل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أنها عاملة في الدنيا بأعمال تتقرب بها وال تنفعها في اآلخرة‪ ،‬ناصبة‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٌَ‬
‫اص َبة﴾ في اآلخرة‪ِ .‬‬ ‫في اآلخرة؛ ْلنها تدخل النار‪ ،‬فـ ﴿ع ِاملة﴾ في الدنيا‪ ،‬و ﴿ن ِ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٌَ‬
‫اص َبة﴾ أي‪:‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ع ِاملة﴾ أي‪ :‬عاملة بالشرك واملعاص ي في الدنيا‪﴿ ،‬ن ِ‬
‫يوم القيامة؛ ْلنها تدخل النار بسبب عملها‪ِ .‬‬
‫طبعا في اْلقوال السابقة عملها عمل تتقرب به‪ ،‬لكن في هذا القول عملها باملعاص ي‬
‫والشرك في الدنيا‪ ،‬ناصبة في اآلخرة أي‪ :‬تدخل النار بسبب معاصيها‪ِ .‬‬
‫واْلقرب وهللا أعلم هو املعنى اْلو ِل‪ :‬أن هذا في يوم القيامة بداللة السياق‪ ،‬وأن الكالم عن‬
‫حال اْلشقياء يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬قد جاء عن بعض السلف كابن عباس أنه قال‪ :‬إنهم النصارى‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا‬
‫قياس حالهم في اآلخرة بحالهم في الدنيا‪ ،‬وليس تفسيرا لآلية؛ يعني‪ :‬هذه الوجوه وجوه‬
‫النصارى في الدنيا عاملة ناصبة لكثرة الرهبنة فيها‪ ،‬وهي في يوم القيامة عاملة ناصبة‪،‬‬
‫عاملة في النار ‪-‬كما قلنا‪ ،-‬متعبة في النار‪ِ ِ.‬‬

‫‪230‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬وهذا االحتمال وإن كان صحيحا من حيث اْلعنى فَّل يدل عليه سياق الكَّلم‪ ،‬بل‬
‫الصواب اْلقطوع به هو االحتمال اْلول؛ ْلنه قيده بالظرف وهو يوم القيامة؛ وْلن‬
‫اْلقصود هنا بيان ذكر أهل النار عموما‪ ،‬وذلك االحتمال جزء قليل بالنسبة إلى أهل‬
‫النار؛ وْلن الكَّلم في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية‪ ،‬فليس فيه تعرض‬
‫ْلحوالهم في الدنيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ َْ َ‬
‫صل ٰى نا ًرا َح ِام َية﴾ أي‪ :‬شديدا حرها تحيط بهم من كل مكان‪ِ ِ.‬‬ ‫وقوله‪﴿ :‬ت‬
‫َ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ‬
‫﴿ح ِام َية﴾ أي‪ :‬شديدة الحرارة‪ِ .‬‬ ‫صل ٰى﴾ أي‪ :‬تحرق وتشوى نارا‪،‬‬ ‫﴿ت‬
‫َ ً‬
‫﴿ح ِام َية﴾ أي‪ :‬دائمة شدة الحرارة‪ ،‬وإال فمعلوم أن النار‬ ‫قال بعض املفسرين‪ :‬معنى‬
‫حامية‪ ،‬فاملقصود بحامية هنا أنها دائمة شدة الحرارة‪ ،‬فال تخبو وال تخف شدة حرارتها‪ِ .‬‬
‫َ ً‬
‫﴿ح ِام َية﴾ أنها شديدة الغضب على أهلها‪ ،‬تكاد تتقطع وتفجر‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى‬
‫من شدة غضبها وغيظها على أهلها‪ِ .‬‬
‫وال شك أن كل هذا واقع في النار‪ ،‬فالنار شديدة الحرارة‪ ،‬وشدة حرارتها دائمة‪ ،‬وهي‬
‫تتغيظ وتفور على أهلها‪ ،‬تكاد تميز من الغيظ من شدة غيظها وإرادتها االنتقام منهم؛ ْلنهم‬
‫أغضبوا هللا سبحانه وتعالى‪ِ ِ.‬‬
‫َ ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫﴿و ِإن َي ْس َت ِغيثوا ُيغاثوا ِب َم ٍاء كاْلُ ْه ِل َي ْش ِوي‬
‫﴿ت ْس َق ٰى م ْن َع ْين آن َية﴾ أي‪ :‬شديدة الحرارة‪َ ،‬‬
‫ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫وه ۚ ﴾ [الكهف‪ ]29 :‬فهذا شرابهم‪ِ ِ.‬‬ ‫ْال ُو ُج َ‬
‫ُ َ‬
‫قال هللا‪﴿ :‬ت ْسق ٰى﴾ فهي ال تشرب بنفسها‪ ،‬والشراب ليس قريبا منها بل يسقيها غيرها‪ ،‬فإذا‬
‫أصابها العطش واشتد بها استغاثت‪ ،‬فيغيثها الساقي متى أراد‪ ،‬ويعطيها شرابها بإهانة‬
‫وإذالل‪ ،‬وفي هذا مزيد تعذيب لها‪ ،‬وهذا الشراب يؤتى به من عين آنيه قد بلغت الشدة في‬
‫غليانها وحرها‪ ،‬ومادتها إما ماء وإما صديد أهل النار الذي يخرج من قروحهم وجروحهم‬
‫من الدماء والصديد اْلبيض‪ ،‬وما يخرج من فروج النساء املعذبات في النار عياذا باهلل من‬
‫سوء الحال‪ِ .‬‬
‫وع‬ ‫ضريع (‪َّ )6‬ال ُي ْسم ُن َوَال ُي ْغني من ُ‬
‫ج‬ ‫س َل ُه ْم َط َع ٌ‬
‫ام إ َّال من َ‬ ‫َّ‬
‫﴿ل ْي َ‬ ‫قال‪ :‬وأما طعامهم فـ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ِ .﴾)7‬‬
‫الضريع هو نبت الصق باْلرض له شوك عريض قاس مؤلم‪ ،‬وله ورق مر‪ ،‬وإذا صار يابسا ‪-‬‬
‫أعني ورقه‪ -‬فإنه يصبح سما‪ ،‬فال تأكله حتى البهائم‪ ،‬هو نبت معروف في الدنيا وبعضهم‬

‫‪231‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يسمي هذا النبت إذا كان ورقه أخضر بالشبرق‪ ،‬والزال بعض الناس يسمونه بالشبرق إلى‬
‫اليوم‪ ،‬وإذا كان يابسا يسمونه الضريع‪ ،‬وهو إذا يبس يصبح سما‪ ،‬وهذا هو املراد‪ ،‬واملراد‬
‫أنه شجر في النار كالضريع يأكلون منه فيضرهم وال يسرهم‪ ،‬يضرهم ْلنه صار سما وهو من‬
‫النار‪ ،‬ويؤملهم عند أخذه من الشوك‪ ،‬وال يكسبهم قوة وال يدفع عنهم جوعا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وذلك ْلن اْلقصود من الطعام أحد أمرين‪ :‬إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه‬
‫أْله‪ ،‬وإما أن يسمن بدنه من الهزال‪ ،‬وهذا الطعام ليس فيه ش يء من هذين اْلمرين‪،‬‬
‫بل هو طعام في غاية اْلرارة والنتن والخسة نسأل هللا العافية‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي رحمه هللا تعالى‪ :‬وأما أهل الخير‬
‫فوجوههم يوم القيامة ناعمة؛ أي‪ :‬قد جرت عليهم نظرة النعيم فنضرت أبدانهم‬
‫واستنارت وجوههم وسروا غاية السرور‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫تلحظون هنا أن الوجوه لم تعطف بالواو‪ ،‬فلم يقل ربنا‪ :‬ووجوه يومئذ ناعمة؛ قال‬
‫العلماء‪ْ :‬لن املقام مقام تقسيم أحوال‪ ،‬فذاك حال وهذا حال آخر‪ِ .‬‬
‫ُ ُ ٌ َ ْ َ َّ ٌ‬
‫اع َمة﴾ هذه وجوه السعداء يوم القيامة‪ ،‬ناعمة ظهر أثر النعيم عليها وظهر‬
‫﴿وجوه يوم ِئ ٍذ ن ِ‬
‫السرور عليها؛ ْلنها كانت في نعيم وصارت إلى نعيم وستصير إلى نعيم‪ِ .‬‬
‫فهي كانت في نعيم عند موتها فبشرتها املالئكة بروح وريحان ورب غير غضبان‪ ،‬وكانت في‬
‫نعيم في قبورها‪ ،‬وأمنها هللا عز وجل يوم الخوف‪ ،‬خافت ربها في الدنيا فأمنها يوم القيامة‪،‬‬
‫ولن يجمع هللا لعبده خوفين‪ ،‬فمن خاف هللا في الدنيا أمن يوم القيامة‪ ،‬وبمقدار خوف‬
‫العبد من ربه في الدنيا يكون أمنه يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ثم إنها أعطيت كتبها بأيمانها‪ ،‬وبشرت بالجنة وعلمت أنها تصير إلى الجنة فظهر أثر النعيم‬
‫على الوجوه سرورا ولينا وضياء وبياضا في ذلك اليوم العظيم‪ِ ِ.‬‬
‫﴿ل َس ْع ِي َها﴾ الذي قدمته في الدنيا من اْلعمال الصالحة واإلحسان إلى عباد هللا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫اض َية﴾ إذ وجدت ثوابه مدخرا مضاعفا‪ ،‬فحمدت عقباه وحصل لها كل ما تتمناه‪ِ ِ.‬‬ ‫َ‬
‫﴿ر ِ‬
‫﴿ل َس ْع ِي َها﴾ يعني‪ْ :‬لعمالها التي عملتها في الدنيا‪ِ .‬‬ ‫ِ‬

‫‪232‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ٌ‬
‫اض َية﴾ أي‪ :‬حامدة راضية بتلك اْلعمال؛ ْلنها أوصلتها إلى فضل هللا‪ ،‬فدخلت الجنة‬ ‫َ‬
‫﴿ر ِ‬
‫بفضل هللا بسبب تلك اْلعمال‪ِ .‬‬
‫﴿ل َس ْع ِي َها﴾؛ أي‪ :‬لثواب سعيها راضية‪ ،‬فهي بثواب سعيها راضية؛‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ :‬‬
‫ْلنه هو الذي يك ِون في يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫واملعنيان متقاربان‪ ،‬فإن اْلعمال في الدنيا هي سبب الثواب في اآلخرة‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬وذلك أنها في جنة جامعة ْلنواع النعيم كلها‪ِ ِ.‬‬
‫الجنة يا إخوة في اللغة هي البستان كثير الشجر الذي يستر ما فيه ومن فيه‪ ،‬والجنة في‬
‫الشرع هي دار الكرامة ودار الرحمة ودار املقامة للمؤمنين التي فيها اْلشجار العظيمة واْلنهار‬
‫الكريمة والنعيم املقيم‪ ،‬ففيها ما تشتهيه اْلنفس وتلذ اْلعين‪ ،‬أعد هللا فيها لعباده‬
‫الصالحين ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ِ .‬‬
‫وهي جامعة ْلنواع النعيم كلها‪ ،‬وهي جنات وليست جنة واحدة‪ ،‬وتتفاضل تلك الجنات في‬
‫كمال النعيم‪ ،‬وال نقص في جنة منها وإنما تتفاضل في الكمال‪ ،‬فبعض الجنان أعلى من‬
‫بعض حتى تبلغ الفردوس اْلعلى الذي هو أعلى الجنة وأكمل الجنة نعيما‪ِ .‬‬
‫هذا النعيم الذي في الجنة ال يدانيه نعيم الدنيا كله من أوله إلى آخره‪ ،‬فأقل أهل الجنة‬
‫نعيما له أعظم من نعيم الدنيا كله أضعافا مضاعفة‪ ،‬وبهذا تعلم حسرة من يبيع هذا‬
‫النعيم املقيم بش يء من النعيم الذي ال يساوي شيئا في ذلك النعيم‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫﴿ع ِال َي ٍة﴾ في محلها ومنازلها‪ ،‬فمحلها في أعلى عليين‪ ،‬ومنازلها مساكن عالية‪ ،‬لها غرف‬
‫ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد هللا لهم من الكرامة‪ِ ِ.‬‬
‫فهي عالية؛ ْلنها فوق السماوات‪ ،‬وسقف أعالها عرش الرحمن سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫والغرف التي فيها عالية تتراءى كما يتراءى الكوكب الغارب‪ ،‬ففيها غرف من فوقها غرف‬
‫مبنية يتنعم فيها أهلها‪ ،‬وما فيها من النعيم عال‪ ،‬فهو أعلى النعيم‪ ،‬ومن فيها لهم العلو‬
‫واإلكرام واملكانة العالية‪ ،‬كل هذا يدخل في قول ربنا سبحانه وتعالى‪َ :‬‬
‫﴿ع ِال َي ٍة﴾‪ِ ِ.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ ُ ُ‬
‫﴿قطوف َها َدا ِن َية﴾ [الحاقة‪]23 :‬؛ أي‪ :‬كثيرة الفواكه اللذيذة اْلثمرة بالثمار الحسنة‬
‫السهلة التناول بحيث يناولوها على أي حال كانوا‪ ،‬ال يحتاجون أن يصعدوا شجرة أو‬

‫‪233‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يستعص ي عليهم منها ثمرة‪ِ .‬‬


‫الظاهر وهللا أعلم أن الشيخ لم يرد تفسير هذه اآلية هنا‪ ،‬ولكن أراد ملا تكلم عن معنى‬
‫عالية وأن ما فيها عال بين أن هذا العالي يتذلل ْلصحاب الجنة‪ ،‬فال يعانون للوصول إليه‪،‬‬
‫بل يتذلل لهم ويدنوا إليهم‪ ،‬ال يحتاجون فيه إلى طلب‪ ،‬بمجرد أن يشتهي أحدهم شيئا دنا‬
‫منه‪ ،‬فاْلشجار العالية بثمارها العالية إذا اشتهى املؤمن منها شيئا تذللت له ودنت منه‪،‬‬
‫وكذا أسرتها املرتفعة كما ستأتي إذا أراد العبد أن يركب عليها طأطأت له حتى يركب عليها‬
‫ويجلس‪ ،‬ثم ارتفعت به في نعيم وكمال سرور‪ِ .‬‬
‫فال يظهر لي وهللا أعلم أن الشيخ أراد تفسير هذه اآلية هنا‪ ،‬وإنما أراد أن يبين أن هذا‬
‫العلو ال يقتض ي تعبا في الوصول إليه‪ ،‬بل كل عال في الجنة إذا اشتهاه املؤمن دنا له وطأطأ‬
‫له‪ ،‬واقترب منه‪ِ ِ.‬‬
‫َ ً‬ ‫َّ َ‬
‫﴿ال ت ْس َم ُع ِف َيها﴾؛ أي‪ :‬الجنة‪﴿ ،‬ال ِغ َية﴾‪ِ ِ.‬‬
‫َ ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ‬
‫﴿ال ت ْس َم ُع ِف َيها﴾ هذه قراءة‪ ،‬وفي قراءة متواترة‪﴿ :‬ال ُي ْس َم ُع ِف َيها ال ِغ َية﴾‪ ،‬وفي قراءة أخرى‬
‫َ ً‬ ‫َّ ُ‬
‫متواترة‪﴿ :‬ال ت ْس َم ُع ِف َيها ال ِغ َية﴾‪ ،‬واملعنى واحد‪ ،‬أن أهل الجنة ال يسمعون فيها ما يؤذيهم‬
‫من الكالم‪ِ ِ.‬‬
‫َ ً‬
‫﴿ال ِغ َية﴾ أي‪ :‬كلمة لغو وباطل فضَّل عن الكَّلم اْلحرم‪ ،‬بل كَّلمهم كَّلم حسن نافع‬
‫مشتمل على ذكر هللا وذكر نعمه اْلتواترة عليهم وعلى اآلداب الحسنة بين اْلتعاشرين‬
‫الذي يسر القلوب ويشرح الصدور‪ِ ِ.‬‬
‫َ ً‬
‫﴿ال ِغ َية﴾ قال بعض العلماء‪ :‬هي مصدر بمعنى اللغو؛ أي‪ :‬ال تسمع فيها لغوا‪ِ .‬‬
‫واللغو‪ :‬هو الكالم الذي ال خير فيه وال فائدة منه‪ِ .‬‬
‫َ ً‬
‫وقال بعض العلماء‪﴿ :‬ال ِغ َية﴾ وصف ملوصوف محذوف تقديره‪ :‬ال تسمع فيها كلمة‬
‫الغية‪ ،‬والكلمة الالغية هي الكلمة املؤذية من الباطل والشتم واللغو الذي ال خير فيه وال‬
‫فائدة منه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬هي صفة ملوصوف مقدر أيضا ولكن تقديره‪ :‬جماعة‪ ،‬ال تسمع فيها‬
‫جماعة الغية‪ ،‬فليس من أهل الجنة من يلغو‪ ،‬بل كالمهم جميعا كله خير وكله حسن‪ِ .‬‬

‫‪234‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واملقصود أنه ليس في الجنة ما يؤذي مطلقا ال من الكالم وال من غيره‪ِ ِ.‬‬
‫ٌ‬
‫﴿ ِف َيها َع ْي ٌن َجا ِرَية﴾ وهذا اسم جنس؛ أي‪ :‬فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها‬
‫كيف شاءوا وأنى أرادوا‪ِ ِ.‬‬
‫فتجري حيث اشتهوا‪ ،‬فليس لها مسار محدد وأخاديد معينة تسير فيها‪ ،‬وهي تسير بطيب‬
‫الشراب من املاء العذب البارد‪ ،‬والعسل املصفى‪ ،‬والخمر الذي يسر وال يضر‪ ،‬واللبن الذي‬
‫لم تشبه شائبة ولم يتغير طعمه‪ ،‬تجري من تحتهم‪ ،‬وحيث شاءوا لها واشتهوا أن تجري‪،‬‬
‫وذاك من تمام سرورهم ونعيمهم‪ِ ِ.‬‬
‫َ ُ ُ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ‬
‫وعة﴾ والسرر جمع سرير‪ ،‬وهي اْلجالس اْلرتفعة في ذاتها وبما عليها من‬ ‫﴿ ِفيها سرر مرف‬
‫الفرش اللينة الوطيئة‪ِ ِ.‬‬
‫فهي مرتفعة في ذاتها‪ ،‬وعالية في وصفها‪ ،‬فعليها فرش وطيئة ناعمة‪ ،‬فإذا أراد صاحبها أن‬
‫يجلس عليها طأطأت له حتى يجلس عليها ثم ارتفعت به‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ ْ َ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ‬
‫وعة﴾؛ أي‪ :‬أواني ممتلئة من أنواع اْلشربة اللذيذة قد وضعت بين‬ ‫﴿وأكواب موض‬
‫أيديهم وأعدت لهم‪ ،‬وصارت تحت طلبهم واختيارهم‪ ،‬يطوف بها عليهم الولدان‬
‫اْلخلدون‪ِ ِ.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اب﴾ جمع كوب أو ك ْوب‪ ،‬والك ْوب أو الكوب هو اإلناء الذي ال عرى له فيحمل بذاته؛‬ ‫﴿و َأ ْك َو ٌ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يعني‪ :‬الكأس كما يقول العلماء هو اإلناء الذي له عرى‪ ،‬والعامة تقول يد‪ ،‬والكوب أ ِو‬
‫الكوب هو اإلناء الذي ال عرى له‪ِ .‬‬ ‫ْ‬
‫َّ ْ ُ َ ٌ‬
‫وعة﴾؛ أي‪ :‬أنها بين أيديهم في متناول أيديهم‪ ،‬ليست مرتفعة عنهم وال‬ ‫ومعنى ﴿موض‬
‫منخفضة عنهم‪ ،‬ومنها أوان يطوف عليهم بها ولدان مخلدون النظر إليهم نعيم‪ِ .‬‬
‫َّ ْ ُ َ ٌ‬
‫وعة﴾؛ أي‪ :‬على حواف العيون التي تجري‪ ،‬فالعيون تجري‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬موض‬
‫باْلكواب املهيأة‪ِ .‬‬
‫َّ ْ ُ َ ٌ‬
‫وعة﴾؛ أي‪ :‬مملوءة بما يشتهون‪ ،‬فبمجرد أن يشتهي‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿موض‬
‫ولي هللا في الجنة أن يشرب شيئا امتأل الكوب بذلك الش يء واقترب منه‪ِ .‬‬

‫‪235‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وكل هذه املعاني صحيحة ملوضوعة فكلها داخلة في هذه الكلمة‪ِ .‬‬
‫ََ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ‬
‫صفوفة﴾؛ أي‪ :‬وسائد من الحرير واالستبرق وغيرهما مما ال يعلمه إال هللا‪،‬‬ ‫﴿ونم ِارق م‬
‫قد صفت للجلوس واالتكاء عليها وقد أريحوا عن أن يضعوها أو يصفوها بأنفسهم‪ِ ِ.‬‬
‫النمارق‪ :‬هي الوسائد التي يتكئ عليها صفت بأنواعها‪ ،‬فال يحتاجون إلى صفها وإنما يجدونها‬
‫مصفوفة مرتبة‪ ،‬حيث ذهبوا وأرادوا أن يجلسوا وجدوا تلك الوسائد معدة لهم مصفوفة‬
‫يتكئون عليها بحبور وسرور‪ِ ِ.‬‬
‫َ ُ ٌَ‬ ‫ُ ٌَ‬ ‫ََ‬
‫﴿م ْبثوثة﴾؛ أي‪ :‬مملوءة بها مجالسهم‬ ‫﴿وز َر ِاب ُّي َم ْبثوثة﴾ والزرابي هي البسط الحسان‪،‬‬
‫من كل جانب‪ِ .‬‬
‫الزرابي هي البسط‪ ،‬وهي أحسن البسط‪ِ .‬‬
‫ُ ٌَ‬ ‫َ ُ ٌَ‬
‫﴿م ْبثوثة﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬كثيرة‪َ ﴿ ،‬م ْبثوثة﴾؛ يعني‪ :‬كثيرة‪ِ .‬‬ ‫وهي‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬مبسوطة‪ ،‬فهي ليست مطوية بل مبسوطة لهم‪ِ .‬‬
‫َ ُ ٌَ‬
‫﴿م ْبثوثة﴾؛ يعني‪ :‬أن بعضها فوق بعض‪ ،‬وهذا يزيدها نعومة‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫ولينا‪ ،‬عندما يوضع البساط الحسن اللين وفوقه بساط حسن لين فإن هذا يزيده نعومة‬
‫ويزيده لينا‪ِ .‬‬
‫َ ُ ٌَ‬
‫﴿م ْبثوثة﴾؛ يعني‪ :‬مفرقة في املجالس بما يسر الناظرين؛ يعني‪ :‬هنا‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫يوضع بساط بلون وبطريقة‪ ،‬وهنا بساط بلون وطريقة‪ِ،‬وهنا بساط بلون وطريقة‪ ،‬فهي‬
‫موزعة في املجالس بما يسر الناظر إليها‪ِ .‬‬
‫وكل هذا مراد فهي صفات لهذه الزرابي‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ف ُخل َق ْت (‪َ )17‬وإ َلى َّ‬ ‫َ ََ َ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫الس َم ِاء ك ْيف ُر ِف َعت (‪َ )18‬و ِإلى ال ِج َب ِال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإل ِب ِل كي‬
‫ِ﴿أفَّل ينظرون ِإلى ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َْ َ َ‬ ‫َْ َ ُ َ ْ‬
‫ض ك ْيف ُس ِط َحت (‪ )20‬فذ ِك ْر ِإن َما أنت ُمذ ِك ٌر (‪ )21‬ل ْست‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫اْل‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪19‬‬ ‫(‬ ‫ت‬ ‫كيف ن ِصب‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ َ ُ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َّ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َع َل ْيهم ب ُم َ‬
‫اب اْلك َب َر (‪ِ )24‬إ َّن ِإل ْينا‬ ‫ص ْي ِط ٍر (‪ِ )22‬إال َمن ت َول ٰى َوكف َر (‪ )23‬فيع ِذبه الله العذ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ِإ َي َاب ُه ْم (‪ )25‬ث َّم ِإ َّن َعل ْينا ِح َس َاب ُهم (‪ِ .﴾)26‬‬
‫ملا ذكر هللا عز وجل في أول السورة أن الناس يوم القيامة منهم أشقياء ومنهم سعداء‪ ،‬حث‬
‫من كان على طريق الشقاوة في الدنيا على اجتناب ذلك الطريق قبل أن يصبح من أهل‬

‫‪236‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الشقاوة في اآلخرة‪ ،‬ودله على آيات عظام إذا تفكر فيها تفكر املعتبر املتجرد ترك الكفر إلى‬
‫اإليمان‪ ،‬والعصيان إلى الطاعة‪ِ .‬‬
‫والخطاب وإن كان ْلولئك الكفار الذين يسلكون طريق الشقاء في الدنيا أصال؛ فإنه يدخل‬
‫فيه املؤمن أيضا ليزداد إيمانا‪ ،‬فهو أيضا يدخل في الحث على هذا النظر وهذا التفكر‪ِ .‬‬
‫أفال ينظرون نظر تفكر واعتبار إلى اإلبل التي يرونها صباحا ومساء‪ ،‬ويركبونها كيف خلقت‬
‫خلقا عجيبا‪ ،‬وسخرت لإلنسان‪ ،‬فهي كبيرة بحجمها تسير املسافات الطويلة بال كلل وال‬
‫تعب‪ ،‬وتحمل اإلنسان إلى البلدان البعيدة‪ ،‬وتصبر على العطش‪ ،‬وتحمل اْلثقال وهي‬
‫باركة‪ ،‬ثم تقوم بها لكي يتمكن اإلنسان من االنتفاع بها‪ ،‬وترد ما ال يرده غيرها من الشجر‬
‫شفاه مشقوقة فتصل إلى أوراق الشجر من بين اْلشواك وال‬ ‫ً‬ ‫حيث جعل هللا عز وجل لها‬
‫تؤذيها اْلشواك‪ ،‬وجعل أعناقها طويلة إن رفعتها وصلت إلى أعلى اْلشجار‪ ،‬وإن خفضتها‬
‫وصلت إلى اْلرض‪ ،‬وجعل لها خفافا تقيها حر الشمس‪ ،‬ومع كبر حجمها فإنها يقودها الصبي‬
‫الصغير واملرأة الضعيفة‪ ،‬فسخر هللا عز وجل هذا املخلوق الكبير لعبده الصغير‪ ،‬وتلك من‬
‫آيات هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وفي كل الحيوانات عبر لكن هللا خص اإلبل بالذكر هنا؛ ْلن العرب املخاطبين أصالة عند‬
‫نزول القرآن بالقرآن يعرفون اإلبل معرفة دقيقة‪ ،‬ولعظم منفعة اإلبل‪ ،‬فإن منفعة‬
‫الحيوان لإلنسان‪ :‬إما في اْلكل‪ ،‬وإما في الركوب‪ ،‬وإما في الحلب‪ ،‬حيث يشرب اإلنسان من‬
‫حليبها‪ِ،‬وكل هذه املنافع مجتمعة في اإلبل‪ ،‬فهي حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة تحمل أثقال‬
‫اإلنسان‪ ،‬فهي أعظم الحيوانات نفعا لإلنسان‪ ،‬ولذلك خصها هللا عز وجل بالذكر للنظر‬
‫واالعتبار‪ِ .‬‬
‫وإلى السماء الشديدة الخلق الواسعة اْلرجاء املرتفعة بغير عمد كيف رفعت بغير عمد من‬
‫غير أن ترى فيها ميال في ناحية من نواحيها‪ ،‬أو انبعاجا في وسطها‪ ،‬أو صدوعا أو شقوقا مع‬
‫تطاول الزمان‪ ،‬وما فيها من الكواكب العظيمة التي تظهر وتغيب‪ ،‬كيف رفعت وعلقت بين‬
‫السماء واْلرض‪ِ .‬‬

‫‪237‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وال شك أن من نظر إلى السماء نظرة اعتبار وتفكر أيقن أنها ال يمكن أن تكون قد خلقت‬
‫نفسها‪ ،‬وأنه ال يمكن ملخلوق أن يكون قد خلقها‪ ،‬وال يمكن أن تكونِ مع هذا االنتظام‬
‫العجيب والعلو أن تكون قد خلقت صدفة‪ ،‬فلم يبق إال أن الذي قد خلقها هو القوي‬
‫القدير سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وإلى الجبال العظيمة كيف نصبت مع اختالف ألوانها‪ُ ،‬‬
‫فجعل لها ظاهر بارز على وجه‬
‫وجعل لها باطن في داخل اْلرض‪ُ ،‬‬
‫وحفظت بها اْلرض أن تميد مع ما جعله هللا فيها‬ ‫اْلرض‪ُ ،‬‬

‫من املنافع والكنوز‪ ،‬والزال الناس يكتشفون الكنوز واملنافع في الجبال إلى يومنا هذا‪ِ .‬‬
‫وإلى اْلرض كيف سطحت وهيئت لإلنسان ليعيش عليها‪ ،‬فكانت صالحة لالستقرار عليها‪،‬‬
‫وقابلة للحياة والستقبال املاء وإلنبات الزرع وغير ذلك‪ ،‬فسبحان هللا! لم يجعلها هللا‬
‫مرتفعة كالسماء‪ ،‬ولم يجعلها منتصبة كالجبال‪ ،‬بل بسطها وهيأها لإلنسان‪ ،‬وكل ذلك يدل‬
‫على قدرة هللا وعلى قوة هللا وعلى تدبير هللا عز وجل‪ ،‬وبالتالي يدل على وجود هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وعلى أنه هو املستحق للعبادة‪ِ .‬‬
‫ْ‬
‫وما دام ذلك كذلك ف ِعظ يا محمد ومن يصلح للخطاب من املؤمنين‪ ،‬وذكر وخوف باآليات‬
‫املتلوة واآليات املخلوقة‪ ،‬فإن وظيفتك واملطلوب منك هو التذكير والبيان‪ ،‬وال تملك إال‬
‫ِّ‬
‫فعلق قلبك بما تملك وال تؤاخذ نفسك بما ال تملك‪ ،‬فال يحملنك اْللم من عدم‬ ‫ذلك‪ِ ،‬‬
‫إيمانهم على أن تؤذي نفسك بذلك‪ ،‬فإنك ال تملك ذلك‪ ،‬وإنك لست مسلطا على الناس‪،‬‬
‫وال مالكا لقلوبهم تصرفها كيف تشاء وتحملهم على اإليمان‪ ،‬وال موكال بأعمالهم‪ ،‬فليس‬
‫عليك هداهم ولكن هللا يهدي من يشاء‪ ،‬وليس عليك أن تحص ي عليهم أعمالهم‪ ،‬ولكن هللا‬
‫يحص ي عليهم أعمالهم‪ِ .‬‬
‫لكن من تولى وأعرض عن الذكرى وكفر بربه فإن هللا لن يتركه‪ ،‬بل سيأخذه سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فسيالقي جزاءه في اآلخرة‪ ،‬فيعذبه هللا العذاب اْلكبر في اآلخرة‪ ،‬وإن شاء عذبه‬
‫العذاب اْلصغر في الدنيا‪ ،‬ومن عذابه اْلصغر في الدنيا ضيق القلوب‪ ،‬وما قد ينزله هللا عز‬
‫وجل من العذاب بأعدائه‪ ،‬فإن الناس مهما عاشوا فإنهم ميتون‪ ،‬وإذا ماتوا فإنهم إلى ربهم‬
‫راجعون‪ ،‬فمالقو أعمالهم فيجازيهم هللا عز وجل بأعمالهم‪ِ .‬‬

‫‪238‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ويكونون يوم القيامة سعداء أو أشقياء‪ ،‬فأما السعداء فمنهم من يكرم بالكرامة الكبرى‬
‫فيدخل الجنة بغير حساب وال عذاب‪ ،‬ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا فيعرض عليه عمله‪،‬‬
‫ثم يدخل الجنة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وأما اْلشقياء فمنهم من يناقش الحساب ثم يهلك ويعذب‪ ،‬ومنهم من يفضح فضحا على‬
‫رؤوس الخالئق ثم يهلك ويعذب‪ ،‬ثم هؤالء اْلشقياء منهم من يخرج من النار بعد أن يعذبه‬
‫هللا ما شاء‪ ،‬وهم أهل التوحيد العصاة الذين شاء هللا عز وجل أن يدخلهم النار‪ ،‬ومنهم‬
‫من يبقى في ذلك الشقاء الدائم ال يموت فيه وال يحيى‪ ،‬وهم الكفار الذين ال إيمان في‬
‫قلوبهم‪ ،‬فيؤبدون في العذاب‪ِ .‬‬
‫فرجع آخر السورة إلى أول السورة‪ ،‬وذلك من أعلى مقامات البالغة‪ ،‬ومن أعلى مقامات‬
‫النظم‪ .‬هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ثم نرجع إلى التفسير‬
‫التفصيلي‪ِ ِ.‬‬
‫ًّ‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول تعالى َحثا للذين ال يصدقون الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ولغيرهم من الناس أن يتفكروا في مخلوقات هللا الدالة على توحيده‪.‬‬
‫َْ َ ُ َ ْ‬ ‫َ ََ َ ُ ُ َ َ ْ‬
‫اإل ِب ِل كيف خ ِلقت﴾؛ أي‪ :‬أال ينظرون إلى خلقها البديع؟! وكيف‬
‫﴿أفَّل ينظرون ِإلى ِ‬
‫سخرها هللا للعباد وذللها ْلنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها؟!ِ ِ‬
‫أفَّل هذا االستفهام قال العلماء‪ :‬هذا للحث واْلمر‪ ،‬للحث على التفكر والتدبر‪ ،‬واْلمر‬
‫بالتفكر والتدبر‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذا االستفهام لتوبيخ الكفار يوم القيامة حيث صاروا إلى الشقاء‪،‬‬
‫فيكون املعنى‪ :‬أفلم يكونوا ينظرون إلى تلك اآليات حتى يعتبروا وينزجروا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬هذا االستفهام لتوبيخ الكفار في الدنيا‪ ،‬كيف يكفرون واآليات الدالة‬
‫على التوحيد بينة عظيمة؟ أال عقول لهم؟! إنهم أشد حاال من املجانين‪ ،‬فهذا توبيخ للكفار‬
‫في الدنيا‪ِ .‬‬
‫وال مانع من الكل‪ ،‬فاهلل عز وجل يأمر ويحث على التفكر‪ ،‬ويوبخ من لم يتفكر في الدنيا‪،‬‬
‫وسيوبخ من جاءته الرسل فلم يؤمن بها ولم يعتبر بآيات هللا يوم القيامة‪ِ .‬‬

‫‪239‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ َ‬ ‫َ ََ‬
‫﴿أفَّل َينظ ُرون﴾ نظر تفكر واعتبار‪ ،‬وإال فكل صاحب عين ينظر إلى اإلبل من العرب‪،‬‬
‫الذين يعرفون اإلبل ينظرون إلى اإلبل ويركبونها‪ ،‬وينظرون إلى السماء وينظرون إلى الجبال‬
‫التي أمامهم‪ ،‬وينظرون إلى اْلرض‪ ،‬لكنهم ال ينظرون نظر تفكر واعتبار‪ِ .‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ ََ‬
‫﴿أفَّل َينظ ُرون﴾ نظر تفكر واعتبار‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬
‫اإل ِب ِل﴾ اإلبل هي اْلباعر‪ ،‬وهي الحيوان املعروف‪ِ .‬‬
‫﴿إلى ِ‬ ‫ِ‬
‫والعلماء يقولون‪ :‬اإلبل اسم جمع ال واحد له من جنسه‪ ،‬وهي مؤنثة دائما تلزم التأنيث؛‬
‫ْلن اسم الجمع الذي ال واحد له من جنسه لغير العاقل يلزم التأنيث دائما‪ ،‬فهي مؤنثة‪ِ .‬‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬ملا ذكر هللا عز وجل في أول السورة ما يكون يوم القيامة أنكر الكفار‬
‫البعث‪ ،‬فأقام هللا عليهم البراهين الدالة على قدرته‪ ،‬وأنه قادر على أن يبعث الناس بقوله‪:‬‬
‫َ َ ُ َ ْ‬ ‫َ ََ َ ُ ُ َ َ ْ‬
‫اإل ِب ِل ك ْيف خ ِلقت﴾ اآليات‪ِ ِ.‬‬
‫﴿أفَّل ينظرون ِإلى ِ‬
‫َ ُ ُ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ‬
‫وعة﴾‪ ،‬قال بعض الكفار‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬ملا قال هللا عز وجل‪ِ ﴿ :‬فيها سرر مرف‬
‫مستهزئين‪ :‬فكيف يجلس عليها أصحابها ما دام أنها مرفوعة؟ ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬قال بعض املؤمنين‪ :‬كيف نجلس عليها؟ ِ‬
‫إذا قلنا‪ :‬قال بعض الكافرين‪ :‬كيف يجلس عليها أهلها؟ فهذا سؤال استبعاد وسخرية‪،‬‬
‫وإذا قلنا‪ :‬قال بعض املؤمنين‪ :‬كيف نجلس عليها؟ فهذا سؤال استعالم الستحالب معرفة‬
‫النعيم؛ يعني‪ :‬لالستزادة من معرفة النعيم‪ ،‬ذكر هللا لهم مثاال يدلهم على ذلك‪ ،‬فإن اْلباعر‬
‫واإلبل مرتفعة‪ ،‬كيف يركب عليها اإلنسان؟ إذا أراد اإلنسان أن يركب بركت له فيركب‬
‫عليها‪ ،‬فكذلك تلك السرر إذا أراد صاحبها أن يجلس عليها طأطأت له فجلس عليها‪ ،‬هذا‬
‫قاله بعض املفسرين لكن ليس له إسناد‪ ،‬لكن قاله بعض املفسرين‪ِ .‬‬
‫والظاهر وهللا أعلم ما بدأنا به‪ ،‬وهو أنه ملا ذكر هللا حال اْلشقياء والسعداء يوم القيامة‬
‫دل عباده على ما ينجيهم من الشقاء وهو اإليمان‪ ،‬ودلهم على آيات تدعوهم إلى اإليمان‪،‬‬
‫واآليات الداعية إلى اإليمان إما متلوة وهي من كالم هللا‪ ،‬وإما مخلوقة سواء في الكون أو في‬
‫النفس أو في املخلوقات‪ ،‬فهذا اْلظهر وهللا أعلم‪ِ .‬‬

‫‪240‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وبعض العلماء بعض اْلفسرين قالوا‪ :‬واإلبل هنا هي السحب‪ ،‬قالوا‪ :‬أفال ينظرون إلى‬
‫السحب وما فيها من الخير الذي ينزل إلى العباد بأمر هللا‪ ،‬لكن هذا خالف ظاهر اللفظ‬
‫وخالف ما يفهم من اللفظ‪ِ ِ.‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫﴿و ِإلى ال ِج َب ِال ك ْيف ن ِص َبت﴾ بهيئة باهرة حصل بها االستقرار لألرض وثباتها من‬
‫االضطراب‪ ،‬وأودع هللا فيها من اْلنافع الجليلة ما أودع‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ ْ َْ َ َ‬
‫ض ك ْيف ُس ِط َحت﴾؛ أي‪ :‬مدت مدا واسعا‪ ،‬وسهلت غاية التسهيل ليستقر‬ ‫﴿و ِإلى اْلر ِ‬
‫العباد على ظهرها‪ ،‬ويتمكنوا من حرثها وغراسها‪ ،‬والبنيان فيها وسلوك طرقها‪ِ ِ.‬‬
‫أي‪ :‬أنها أعدت لإلنسان ليعيش عليها‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬واعلم أن تسطيحها ال ينافي أنها كرة مستديرة‪ ،‬قد أحاطت اْلفَّلك فيها من جميع‬
‫جوانبها‪ ،‬كما دل على ذلك النقل والعقل والحس واْلشاهدة‪ ،‬كما هو مذكور معروف‬
‫عند كثير من الناس خصوصا في هذه اْلزمنة التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما‬
‫أعطاهم هللا من اْلسباب اْلقربة للبعيد‪ ،‬فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير‬
‫جدا الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر‪ ،‬وأما جسم اْلرض الذي هو كبير جدا‬
‫واسع فيكون كرويا مسطحا‪ ،‬وال يتنافى اْلمران كما يعرف ذلك أرباب الخبرة‪ِ ِ.‬‬
‫يشير الشيخ هنا إلى كروية اْلرض‪ ،‬وأن اْلرض كروية مستديرة كما دلت على ذلك أو نبهت‬
‫على ذلك بعض اآليات وبعض اْلحاديث‪ ،‬وكما يدل عليه الحس والعلم‪ِ .‬‬
‫وكون اْلرض كروية ال ينافي كونها مسطحة‪ ،‬فإنها مسطحة لإلنسان بحيث ينتفع بها‪ ،‬وهي‬
‫كروية في هيأتها العامة‪ِ .‬‬
‫وقلت مرارا وتكرارا ال ينبغي لطالب العلم أن يبادروا إلى نفي الحقائق العلمية‪ ،‬وأن يجروا‬
‫القرآن إلى نفي تلك اْلمور‪ ،‬فإن هذا مما يزري باملتكلم‪ ،‬وقد يشكك بعض الناس في‬
‫القرآن‪ ،‬فال ينبغي لطالب العلم أن يصادم الحقائق العلمية الثابتة بفهم لبعض آيات‬
‫القرآن‪ ،‬هذا مما ينبغي أن يترفع عنه طالب العلم‪ ،‬وقد ظهر قبل فترة يسيرة طالب علم‬
‫تكلم في حقائق علمية بما ال يحسن‪ ،‬وجر القرآن إلى ذلك فجعل ْلعداء الدين وأعداء‬
‫السنة وأعداء هذه البالد فرصة ليسخروا ويستهزؤوا من ذلك الكالم‪ِ .‬‬

‫‪241‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فينبغي لطالب العلم أن يعلموا أن كالمهم منسوب إلى الدين وإلى اْلمة وليس منسوبا‬
‫للواحد منهم‪ ،‬فال يتكلم إال بما يثمر خيرا ويزيد الناس إيمانا ويزجرهم عن الشر‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ َّ َ َ َ‬
‫﴿فذ ِك ْر ِإن َما أنت ُمذ ِكر﴾؛ أي‪ :‬ذكر الناس وعظهم وأنذرهم وبشرهم‪ ،‬فإنك مبعوث‬
‫لدعوة الخلق إلى هللا وتذكيرهم‪ ،‬ولم تبعث عليهم مسيطرا عليهم‪ ،‬مسلطا موكَّل‬
‫بأعمالهم‪.‬‬
‫َ َ َ َ‬
‫﴿و َما أنت َعل ْي ِهم ِب َج َّب ٍار ۖ‬ ‫فإذا قمت بما عليك فَّل عليك بعد ذلك لوم‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫اف َ‬‫ََ ْ ُْ ْ َ َ َ ُ‬
‫يد (‪.﴾)45‬‬
‫ِ ِ‬‫ع‬‫و‬ ‫فذ ِكر ِبالقر ِآن من يخ‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫َّ‬
‫وقوله‪ِ ﴿ :‬إال َمن ت َول ٰى َوكفر﴾؛ أي‪ :‬لكن من تولى عن الطاعة وكفر باهلل‪ِ ِ.‬‬
‫ص ْي ِطر﴾‬ ‫فهذا استثناء منقطع؛ ْلن ما بعده ليس من جنس ما قبله‪َّ ﴿ ،‬ل ْس َت َع َل ْيهم ب ُم َ‬
‫ِ ِ‬
‫انتهى الكالم‪ ،‬لكن من تولى وكفر فإن هللا سيتواله سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو ْلعدائه باملرصاد ‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫وبعض اْلفسرين قالوا‪ :‬االستثناء هنا متصل‪َّ ﴿ ،‬ل ْس َت َع َل ْيهم ب ُم َ‬
‫ص ْي ِطر (‪ِ )22‬إال َمن ت َول ٰى‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ‬
‫َوكفر﴾ فقد جعل هللا لك عليه سلطانا بالجهاد وينصرك عليه‪ ،‬لكن الذي عليه أكثر‬
‫املفسرين أن االستثناء هنا منقطع بمعنى لكن‪ِ ِ.‬‬
‫َ ُ َ ُ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫اب اْلك َبر﴾؛ أي‪ :‬الشديد الدائمِ‪ِ .‬‬ ‫﴿فيع ِذبه الله العذ‬
‫َّ‬
‫ووصفه بأنه اْلكبر؛ ْلن هناك عذابا أصغر‪ ،‬وهو ما يسبق دخول النار‪ ،‬فيعذب الشقي في‬
‫املوقف‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫واملعلوم أن الناس في املوقف منهم من يؤ َمن وهم من خافوا هللا في الدنيا‪ ،‬ومنهم من‬
‫ُيخوف شديد الخوف‪ ،‬وأن الناس يكونون يوم القيامة في العرق على قدر أعمالهم‪ ،‬فمنهم‬
‫من يعرق إلى كعبيه‪ ،‬ومنهم من يعرق إلى ركبتيه‪ ،‬ومنهم من يعرق إلى حقويه إلى وسطه‪،‬‬
‫ومنهم من يعرق إلى ثدييه‪ ،‬ومنهم من يصل العرق إلى فمه يغطيه إلى فمه‪ ،‬ومنهم من يغطيه‬
‫العرق تغطية‪ ،‬ويعذب في القبر‪ ،‬وقد يعذب في الدنيا بأن يأخذه هللا كما أخذ بعض اْلمم‪،‬‬
‫أو يسلط عليه بعض مخلوقاته ونحو ذلك‪ِ .‬‬
‫فالعذاب أكبر وهو عذاب النار الذي ال يدانيه عذاب‪ ،‬وأصغر وهو ما قبل دخول النار‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ‬
‫﴿ ِإ َّن ِإل ْينا ِإ َي َاب ُه ْم﴾؛ أي‪ :‬رجوع الخَّلئق وجمعهم في يوم القيامة‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿ث َّم ِإ َّن َعل ْينا ِح َس َاب ُهم﴾ على ما عملوا من خير وشر‪ِ ِ.‬‬
‫فيكون الناس كما قلنا سعداء وأشقياء‪ ،‬والسعداء منهم من ال يحاسب أصال‪ ،‬ومنهم من‬
‫يحاسب حسابا يسيرا بعرض اْلعمال عليه عرضا من غير مناقشة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫واْلشقياء منهم من يحاسب حسابا عسيرا بأن يناقش الحساب‪ ،‬ومن نوقش الحساب‬
‫عذب وهلك‪ ،‬ومنهم من يفضح فضحا أمام الخالئق وينادى عليه على رؤوس الخالئق‪ ،‬ثم‬
‫هؤالء اْلشقياء إذا دخلوا النار منهم من يخرج منها بعد أن يعذب ما شاء هللا أن يعذب‪،‬‬
‫وهم العصاة من املوحدين الذين شاء هللا أن يدخلوا النار‪ ،‬ومنهم من يؤبد عذابه في النار‬
‫وهم أهل الكفر‪ ،‬فال خروج لهم من النار أبدا‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون قد فرغنا من تفسير هذه السورة العظيمة سورة الغاشية‪ ،‬وهذه السورة فيها‬
‫حكم كلية وفوائد عظمى وهي‪ِ :‬‬
‫‪ -‬أن الدنيا مزرعة اآلخرة‪ ،‬وأن الناس في اآلخرة يكونون أشقياء أو سعداء بحسب أعمالهم‬
‫في الدنيا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومنها أن كل ما خلق هللا يدل على هللا‪ ،‬يدل على وجود هللا‪ ،‬وعلى قدرة هللا‪ ،‬وعلى قوة‬
‫هللا‪ ،‬وعلى تدبير هللا‪ ،‬وعلى أنه املستحق للعبادة‪ ،‬ومن ذلك اآليات العظيمة التي ذكرت في‬
‫هذه السورة‪ِ .‬‬
‫ومنها بيان أن العالم ال يجب عليه إال البيان‪ ،‬أما القبول فليس واجبا عليه‪ ،‬ولذلك ال‬
‫يقاس العالم بكثرة الناس الذين يتبعونه‪ ،‬ال يقال هذا أتباعه كثر فهو ما شاء هللا عالم‬
‫طيب‪ ،‬وهذا الذي يجلسون عنده قلة فهو ال علم عنده‪ ،‬وإنما يقاس العلماء بما يقولون‪،‬‬
‫فإن كانوا يقولون الحق وإليه يدعون فهم العلماء اْلتقياء‪ ،‬ولو لم يتبعهم أحد‪ ،‬قد يبتلى‬
‫العالم بأقوام أشقياء ِال تتحرك قلوبهم للحق ويتبعون الهوى‪ ،‬ويجرحون العلماء اْلثبات وال‬
‫يقبلونهم‪ ،‬فاملطلوب من العالم أن يبين‪ ،‬ويقاس العالم بما يقول‪ ،‬فإن كان يقول الحق‬
‫ويدعو إليه فهو العالم الرباني‪ ،‬ولو لم يكن مشهورا‪ ،‬ولو لم يكن له جمهور‪ ،‬وإن كان يقول‬
‫الباطل فهو داعية ضالل‪ ،‬وإن أقبل الناس إليه ومالوا إلى ما يقو ِل‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪243‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪244‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الفجر‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َٰ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫﴿والف ْج ِر (‪َ )1‬ول َي ٍال َعش ٍر (‪َ )2‬والشف ِع َوال َوت ِر (‪َ )3‬والل ْي ِل ِإذا َي ْس ِر (‪َ )4‬ه ْل ِفي ذ ِل َك ق َس ٌم‬
‫ِل ِذي ِح ْج ٍر (‪ِ .﴾)5‬‬
‫في هذه السورة املكية يقسم هللا عز وجل بآيات عظام متعلقة بأزمنة العبادة‪ ،‬فيقسم‬
‫بالفجر الذي يكون عند إدبار الليل وإقبال النهار‪ ،‬وتكون فيه عبادة شريفة هي صالة‬
‫الفجر‪ ،‬وقراءة القرآن فيها مشهودة‪ ،‬وتجتمع فيه مالئكة الليل عند إرادتها الصعود إلى‬
‫السماء‪ ،‬ومالئكة النهار عند نزولها من السماء‪ِ .‬‬
‫العشر التي هي عشر ذي الحجة التي ما من أيام العمل فيهن أحب إلى هللا‬
‫ِ‬ ‫ويقسم بالليالي‬
‫وأفضل عند هللا منها‪ ،‬وفيها عبادات شريفة‪ :‬ففيها الحج‪ ،‬فيها ركن الحج اْلعظم وهو‬
‫الوقوف بعرفة‪ ،‬وفيها يوم النحر الذي هو يوم الحج اْلكبر وأعظم اْليام عند هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وفيها ذبح اْلضاحي‪ ،‬وصالة عيد اْلضحى‪ ،‬أو هي ليالي العشر اْلواخر من رمضان على‬
‫ما ذهب إليه بعض السلف التي فيهن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر‪ ،‬وفيهن‬
‫العبادات العظيمة التي يجتهد فيها‪ِ .‬‬
‫ويقسم سبحانه بالشفع وهو الزوج الذي ُيضم فيه ش يء إلى ش يء‪ ،‬ولم يخص هللا شفعا‬
‫من شفع فيعم كل شفع‪ِ .‬‬
‫ِويقسم بالوتر الذي هو الفرد‪ ،‬ولم يخص هللا فردا من فرد‪ ،‬وهللا وتر يحب الوتر‪ِ .‬‬
‫ويقسم بالليل الذي يسري على الناس‪ ،‬ويغشاهم بظالمه‪ ،‬ويسير من أوله إلى آخره وهو‬
‫أفضله‪ ،‬فالليل يسير له أول ووسط وآخر وآخره أفضله‪ ،‬ويسري فيه الناس‪ ،‬فتطوى لهم‬
‫اْلرض‪ ،‬وفيه ثالث صلوات مفروضة‪ :‬عند إقباله صالة هي املغرب‪ ،‬وعند إدباره صالة هي‬
‫الفجر‪ ،‬وفي وسطه صالة هي العشاء‪- ،‬في وسطه يعني‪ :‬في أثناءه ليس في نصفه‪ِ ،-‬وفيه‬
‫أفضل صلوات النافلة التي هي قيام الليل‪ِ .‬‬
‫وجواب القسم‪ :‬إن في ذلك لقسما عظيما لذي عقل يعقل به ويتفكر‪ِ .‬‬

‫‪245‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذا هو التفسير اإلجمالي املوض ِوعي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ ِ.‬‬
‫اْلقسم به‪ ،‬وذلك جائز مستعمل إذا‬‫اْلقسم عليه هو َ‬ ‫َ‬ ‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬الظاهر أن‬
‫كان أمرا ظاهرا مهما‪ ،‬وهو كذلك في هذا اْلوضع‪ِ ِ.‬‬
‫وتقديره‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫مضمنا في القسم؛ يعني‪ :‬يفهم من القسم‪ ،‬أو يكون مقد ًرا‬ ‫فيكون جواب القسم‬
‫إن هذه املذكورات آليات عظام‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬جواب القسم املذكور هنا هو ما ذكر بعدها مباشرة‪ ،‬وتقديره‪ :‬إن‬
‫في ذلك لقسما لذي حجر‪ ،‬وسيأتي بيانه إن شاء هللا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬جواب القسم إن ربك لباملرصاد‪ ،‬وهذا بعيد؛ ْلنه فصل بين‬
‫القسم واملقسم عليه فواصل كثيرة‪ ،‬فهذا بعيد‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فأقسم تعالى بالفجر‪ِ ِ.‬‬
‫والفجر هو الصبح‪ِ ِ.‬‬
‫الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار‪ْ ،‬لا في إدبار الليل وإقبال النهار من اآليات الدالة على‬
‫كمال قدرة هللا تعالى‪ ،‬وأنه تعالى هو اْلدبر لجميع اْلمور الذي ال تنبغي العبادة إال له‪،‬‬
‫ويقع في الفجر صَّلة فاضلة معظمة يحسن أن يقسم هللا بها‪ِ .‬‬
‫وبعض اْلفسرين قالوا‪ :‬إن الفجر هنا فجر مخصوص وهو فجر يوم النحر؛ ْلنه آخر الليالي‬
‫العشر التي تتلو في الذكر هنا‪ ،‬وهو أعظم اْليام عند هللا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو فجر مخصوص وهو فجر أول يوم من ذي الحجة؛ ْلنه أول‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫العشر ولذلك ذكر قبلها‪َ ﴿ ،‬والف ْج ِر (‪َ )1‬ول َي ٍال َعش ٍر (‪ ﴾)2‬قال‪ :‬والفجر هو فجر يوم‬
‫مخصوص وهو فجر أول يوم من ذي الحجة؛ ْلنه أول العشر‪ِ .‬‬
‫والصحيح التعميم فيعم كل فجر‪ ،‬فإن هللا لم يخص فجرا من فجر‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬املراد بالفجر النهار‪ ،‬فيكون التقدير والنهار إذا ظهر‪ ،‬ملاذا؟ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾‪ ،‬فقالوا‪ :‬عبر عن النهار بأوله وهو الفجر‪ ،‬فهذا تعبير عن الكل‬ ‫ليقابل‬
‫بالبعض‪ِ .‬‬

‫‪246‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫لكن اْلظهر وهللا أعلم أنه الفجر املعروف على ما ذكرنا من فضله وما يقع فيه من‬
‫عبادات‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر‪ ،‬وهي على الصحيح ليالي عشر رمضان أو عشر‬
‫ذي الحجة‪ِ .‬‬
‫وهذا يشعر أن الشيخ ابن سعدي رحمه هللا يرجح أنها ليالي العشر اْلخيرة من رمضان؛‬
‫ْلنه قدمها بعد قوله الصحيح‪ ،‬كال القولين محتمل‪ ،‬لكن هذا ُيشعر أن الراجح عند الشيخ‬
‫ابن سعدي رحمه هللا أنها ليالي العشر اْلخيرة من رمضان‪ ،‬وهذا هو الذي رجحه شيخنا‬
‫الشيخ ابن عثيمين‪ ،‬قال‪ :‬إن هذا أرجح أنها ليالي العشر اْلخيرة من رمضان؛ ْلن هللا ذكر‬
‫الليالي‪ ،‬والفضل في العشر اْلوائل من ذي الحجة في اْليام‪ ،‬والفضل في العشر اْلواخر من‬
‫رمضان في الليالي‪ ،‬فقالوا‪ :‬الراجح أنها العشر اْلواخر من رمضان‪ ،‬ولكن جمهور املفس ِرين‬
‫والعلماء بل بعضهم زعم أن عليه الكافة على أنها الليالي العشر اْلول من ذي الحجة‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة‪ِ .‬‬
‫ِوقد روى اإلمام أحمد والنسائي في الكبرى أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪(( :‬الليالي‬
‫العشر عشر اْلضحى))‪ ،‬لكن ذكر اْللباني في السلسلة الضعيفة أنه منكر‪ ،‬وفيه أبو الزبير‬
‫راوية جابر وهو مدلس وقد عنعن رواه عن جابر‪ ،‬ولم يأت له شاهد يقويه‪ ،‬فهو ضعيف‪،‬‬
‫وإال لو صح فهو قاطع للنزاع؛ ْلنه تفسير من النبي صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فإنها ليالي مشتملة على أيام فاضلة ويقع فيها من العبادات والقربات ما ال يقع‬
‫بغيرها‪.‬‬
‫ِ(فإنها) يرجع إلى اْلخير الذي ذكر وهو عشر ذي الحجة‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وفي ليال عشر رمضان ليلة القدر التي هي خير من من ألف شهر‪ ،‬وفي نهارها صيام‬
‫آخر رمضان الذي هو أحد أركان اإلسَّلم العظام‪ ،‬وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف‬
‫بعرفة الذي يغفر هللا فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان‪ ،‬فإنه ما ُرِئ َي الشيطان‬
‫أحقر وال أدحر منه في يوم عرفة ْلا يرى من تنزل اْلمَّلك والرحمة من هللا على عباده‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة‪ ،‬وهذه أشياء معظمة مستحقة أن يقسم هللا‬
‫بها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾‪ِ .‬‬
‫والشفع والوتر الشفع كما قلنا يا إخوة هو الزوج‪ ،‬من لفظ الشفع بمعنى الضم‪ ،‬يضم‬
‫ش يء إلى ش يء‪ ،‬والوتر هو الفرد‪ِ .‬‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬الشفع يوم النحر؛ ْلنه يوم عشرة وهذا زوج‪ ،‬والوتر يوم عرفة؛ ْلنه‬
‫يوم التاسع وهذا وتر فرد‪ ،‬وذكروا الحديث املتقدم عند اإلمام أحمد والنسائي وفيه‪:‬‬
‫((والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر))‪ ،‬ولكن الحديث ضعيف كما تقدم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الشفع هو شفع الليالي‪ ،‬والوتر هو وتر الليالي‪ ،‬فالليالي منها شفع‬
‫ومنها وتر سواء ليالي كلها أو ليالي العشر‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الشفع صالة الفجر وهي في مفتتح النهار‪ ،‬والوتر صالة املغرب وهي‬
‫في مفتتح الليل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الشفع صالة الفجر والظهر والعصر والعشاء‪ ،‬والوتر صالة املغرب‪،‬‬
‫وقد روى الترمذي أن النبي صلى هللا عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال‪(( :‬هي‬
‫الصَّلة بعضها شفع وبعضها وتر))‪ ،‬ولكن الحديث ضعيف ضعفه اْللباني وغيره‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الشفع عشر ذي الحجة فإنها عشر شفع‪ ،‬والوتر أيام التشريق فإنها‬
‫ثالثة‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬املراد الشفع في أعمال الحج‪ ،‬والوتر في أعمال الحج‪ ،‬فإن بعض أعمال‬
‫الحج شفع وبعض أعمال الحج وتر‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬الوتر آدم عليه السالم قبل خلق حواء‪ ،‬والشفع آدم وحواء؛ يعني‪ :‬يقولون‬
‫كان آدم وترا قبل أن تخلق حواء‪ ،‬ثم صار شفعا ملا خلقت حواء‪ ،‬فصار مع حواء شفعا‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬الوتر هو هللا‪ ،‬والشفع هو املخلوقات‪ِ .‬‬

‫‪248‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫والراجح‪ :‬هو التعميم‪ ،‬وكل ما ذكر إنما هو أنواع للشفع والوتر‪ ،‬فلم يخص هللا شفعا دون‬
‫شفع وال وترا دون وتر‪ِ .‬‬
‫متواترة وهي لغة قريش‪ ،‬يقولونِ‪َ :‬‬
‫الوتر‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫والشفع َ‬
‫والوتر هذه قراءة‬
‫والوتر بكسر الواو‪ِ،‬هذه أيضا قراءة متواترة وهي لغة تميم‪ ،‬فالفتح قراءة متواترة‬
‫والشفع ِ‬
‫والوتر بكسر الواو كما تعودنا عليه نحن قراءة متواترة‬
‫ولغة عربية فصحى هي لغة قريش‪ِ ،‬‬
‫ولغة‪ ،‬فهي لغة تميم يكسرون الواو‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ أي‪ :‬وقت سريانه وارخائه ظَّلمه على العباد‪ ،‬فيسكنون ويطمئنون‬‫ِ‬
‫رحمة منه تعالى وحكمة‪ِ .‬‬
‫وقت سريانه؛ يعني‪ :‬وقت مشيه‪ ،‬فهو يسير من أوله إلى آخره‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ معنى‬ ‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ إذا ذهب فأدبر وأقبل النهار‪،‬‬ ‫وقال بعضهم‪:‬‬
‫(يسر) ذهب‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ إذا أذهب بعضه بعضا‪ ،‬فالليل أجزاء وليس جزء‬ ‫وقال بعضهم‪:‬‬
‫واحدا؛ يعني‪ :‬الليل ليس طبقة واحدة من أوله إلى آخره‪ ،‬بل أوله على هيئة‪ ،‬ووسطه على‬
‫هيئة‪ ،‬وآخره على هيئة‪ ،‬فيذهب بعضه بعضا‪ِ .‬‬
‫وتلحظون هنا أن الياء محذوفة كتابة ونطقا‪ ،‬فلم ُيكتب‪ :‬والليل إذا يسري‪ ،‬وال ننطقها‪:‬‬
‫والليل إذا يسري‪ ،‬وال أعلم تعليال لغويا صحيحا لهذا‪ ،‬ملاذا حذفت الياء؟ ِ‬
‫من حيث اللغة ال أعلم تعليال صحيحا له‪ ،‬لهذا الحذف‪ ،‬ولكن من حيث القرآن هذا‬
‫الحذف مراعاة لفواصل السور وللرسم العثماني؛ وْلنه مبني على التلقي فهو أقوى من‬
‫اللغة‪ِ .‬‬
‫نعم يا إخوة؛ القرآن أقوى من اللغة‪ ،‬كوننا ال نجد تعليال عند أهل اللغة صحيحا‪ ،‬ولو‬
‫بعضهم علل بتعليل عليل ولذلك لم أذكره‪ ،‬ال يعني ضعف هذا‪ ،‬بل هذا أقوى من اللغة‪،‬‬
‫فلماذا نحذف الياء؟ ِ‬
‫نقو ِل‪ْ :‬لن القرآن مبني على التلقي‪ ،‬هكذا سمع من رسول هللا صل هللا عليه وسلم‪ ،‬وهكذا‬
‫قرأه القراء‪ ،‬وهكذا نقرأه‪ ،‬ومراعاة للرسم العثماني‪ ،‬هكذا رسم في مصحف عثمان‪ ،‬ومن‬

‫‪249‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َْ‬
‫﴿والف ْج ِر‬ ‫حيث النظر القرآني أن هذا الحذف مراعاة لفواصل اآليات حتى تكون متسقة‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ لو قلنا‪( :‬إذا يسريِ) تغير النسق‪ِ .‬‬ ‫(‪َ )1‬ول َي ٍال َعش ٍر (‪ ﴾)2‬إلى‬
‫َ‬ ‫َٰ‬
‫﴿ه ْل ِفي ذ ِل َك﴾ اْلذكور ﴿ ق َس ٌم ِل ِذي ِح ْج ٍر﴾‪.‬‬ ‫َ‬

‫هل قال بعض اْلفسرين‪ :‬هل هنا بمعنى إن‪ ،‬فهذا جواب القسم‪ِ .‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬بل هي على بابها من االستفهام‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َٰ‬
‫﴿ه ْل ِفي ذ ِل َك﴾ اْلذكور ﴿ ق َس ٌم ِل ِذي ِح ْج ٍر﴾؛ أي‪ :‬لذي عقل‪ِ .‬‬
‫ِ َ‬

‫وسمي العقل حجرا؛ ْلنه يمنع صاحبه مما ال يليق به من الدنائس والرذائل‪ ،‬واملراد‪ :‬هل في‬
‫هذه املذكورات في القسم عبرة لذي عقل؟ ِ‬
‫والجواب‪ :‬نعم؛ بل في بعضها عبرة‪ ،‬بعضها كاف ليعتبر ذو العقل‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬نعم؛ بعض ذلك يكفي ْلن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‪ِ .‬‬
‫ْ َ‬ ‫َّ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫ف َف َع َل َرُّب َك ب َ‬ ‫ََ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫ات ال ِع َم ِاد (‪ )7‬ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها ِفي ال ِبَّل ِد (‪)8‬‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫م‬‫ر‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫)‬ ‫‪6‬‬ ‫(‬ ‫اد‬
‫ِ ٍ‬‫ع‬ ‫﴿ألم تر كي‬
‫ْ َ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ ْ‬ ‫ود َّالذ َ‬‫َو َث ُم َ‬
‫ين طغ ْوا ِفي ال ِبَّل ِد‬ ‫الصخ َر ِبال َو ِاد (‪َ )9‬و ِف ْر َع ْون ِذي اْل ْوت ِاد (‪ )10‬ال ِذ‬ ‫ين َج ُابوا‬ ‫ِ‬
‫ط َع َذاب (‪ )13‬إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ ْ َ ُّ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫َََْ‬
‫ص ِاد‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫ِ ر‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ف‬ ‫)‬ ‫‪12‬‬ ‫(‬ ‫اد‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫يه‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ر‬ ‫ث‬ ‫(‪ )11‬فأك‬
‫(‪[ ﴾)14‬الفجر‪ِ .)]14-6 :‬‬
‫ملا ذكر هللا عز وجل في أول السورة أزمنة العبادات الشريفة منبها ملا فيها من تلك العبادات‬
‫التي هي جنة لعباده الصالحين املؤمنين املطيعين املتذللين لربهم سبحانه وتعالى ذكر عز‬
‫وجل بعض من يقابل أولئك املؤمنين املتذللين هلل عز وجل من عتاة الكفار املتجبرين‬
‫املعرضين‪ِ .‬‬
‫فخاطب نبيه صلى هللا عليه وسلم وكل مؤمن‪ :‬ألم تر رؤية بصيرة وتعلم بخبر هللا عز وجل‬
‫وذلك يشير إلى التصديق التام لخبر هللا عز وجل وإلى اليقين بخبر هللا عز وجل‪ ،‬فإن املؤمن‬
‫إذا سمع الخبر من هللا عز وجل يؤمن به ويوقن به كأنه يراه بعينيه‪ ،‬ولذلك قال هللا عز‬
‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫وجل‪﴿ :‬ألم تر﴾؛ أي‪ :‬رؤية بصيرة وعلم بما أعلمه هللا عز وجل به‪ِ .‬‬
‫فاملعنى‪ :‬ألم تر ببصيرتك كيف فعل ربك القادر بعاد قوم هود‪ ،‬وهم أوالد عاد بن إرم‪ ،‬وقد‬
‫آتاهم هللا ما آتاهم فزادهم في الخلق بسطة‪ ،‬وآتاهم قوة شديدة‪ ،‬وكانت لهم مدينة ذات‬

‫‪250‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أبنية رفيعة شديدة قوية لم ُيصنع مثلها في البالد‪ ،‬وكذلك هم قبيلة قوية شديدة لم يخلق‬
‫مثلها في البالد‪ ،‬ومع كل ما أعطاهم هللا إياه لم يؤمنوا ولم يتذللوا لربهم ولم يخضعوا‬
‫لربهم سبحانه وتعالى‪ ،‬بل طغوا وتجبروا وآذوا عباد هللا املؤمنين‪ِ .‬‬
‫وذلك ألم تر كيف فعل ربك بثمود قوم صالح الذين آتاهم هللا قوة ومهارة‪ ،‬فجابوا الصخر‬
‫َ‬
‫بالواد قطعوه من الجبال‪ ،‬وكانت عندهم قدرة على ثقبه فجاؤوا به إلى الوادي املعروف‬
‫وادي القرى‪ ،‬فبنوا به القصور في الوادي‪ ،‬ونحتوا في الجبال بيوتا فارهين‪ ،‬وذلك مما‬
‫أعطاهم هللا عز وجل من القوة‪ ،‬ولكنهم لم يعرفوا هلل حقه‪ ،‬ولم يؤمنوا برسوله‪ ،‬ولم‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫يسلموا آلياته‪ ،‬بل طغوا وتجبروا وأفسدوا وعذبوا عباد هللا املؤمنين وسخروا منهم‪ِ .‬‬‫ِ‬
‫وكذلك ألم تر كيف فعل ربك بفرعون ملك مصر الذي كانت له جنود قوية كثيرة ِّ‬
‫تثبت‬
‫ملكه‪ ،‬وكان له مأل يعينونه على تثبيت ملكه‪ ،‬وكان طاغية جبا ًرا يستضعف الناس‬
‫ويعذبهم‪ ،‬فيربط بعضهم باْلوتاد التي يغرسها في اْلرض ويربط فيها أيديهم وأرجلهم‪،‬‬
‫ً‬
‫منتصبا‪ ،‬فيصلب عليه من يريد أن‬ ‫ويصلب بعضهم بخشب يغرسه في اْلرض كالوتد ويكون‬
‫يعذبه من عباد هللا‪ِ .‬‬
‫ومن جبروته وطغيانه أنه كان يستضعف بني إسرائيل‪ ،‬فيذبح أبناءهم الذكور‪ ،‬ويستحيي‬
‫نساءهم‪ ،‬وكل هذا مما أعطاه هللا عز وجل‪ ،‬لكنه وقومه لم يؤمنوا ولم يخضعوا ولم ِيذلوا‬
‫َ َ َ ََ ُ ْ َ َ‬
‫ال أنا َرُّبك ُم اْل ْعل ٰى﴾‬‫لربهم‪ ،‬بل طغى هذا الجبار وقال مالم يقله غيره‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فق‬
‫َٰ َ‬ ‫ُ َُ‬
‫﴿ما َع ِل ْمت لكم ِم ْن ِإل ٍه غ ْي ِري﴾ [القصص‪ ،]38 :‬ووافقه مأله‬
‫[النازعات‪ ،]24 :‬وقال‪َ :‬‬

‫وقومه على هذا الكفر والتجبر‪ِ .‬‬


‫فكل هؤالء من قوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون طغوا في البالد‪ ،‬وتجاوزوا كل حد في‬
‫وأسه هو الشرك باهلل عز وجل والكفر‬ ‫ظلمهم‪ ،‬وأكثروا في اْلرض الفساد‪ ،‬ورأس الفساد ُّ‬
‫باهلل عز وجل‪ ،‬وتفننوا في هذا الفساد‪ ،‬وأتوا منه ً‬
‫ألوانا‪ ،‬فعذبهم هللا في الدنيا‪ ،‬وصب عليهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سريعا أخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ِ .‬‬ ‫عذابا مهلكا‬
‫وهذه سنة هللا عز وجل في أعدائه أنه لهم باملرصاد‪ ،‬قد يعذب بعضهم في الدنيا فيأخذهم‬
‫بعذابه اْلليم املهلك املستأصل‪ ،‬وقد يملي لبعضهم ويبقيهم في الدنيا ليزدادوا ًِ‬
‫إثما مع‬

‫‪251‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫إثمهم‪ ،‬ولتعظم ذنوبهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم سبحانه وتعالى‪ ،‬وهللا قوي عزيز عليم‬
‫حكيم‪ِ .‬‬
‫ِوفي هذا وعيد ملن كفر باهلل عز وجل وأعرض عن ذكره أنه قد يأتيه عذاب هللا بغته‪ ،‬فإنه‬
‫ليس أقوى من فرعون وال من عاد وال من ثمود‪ ،‬ففي هذا أكبر الوعيد‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وثمودا؛ ْلنهم في جزيرة العرب‪ٌ ،‬‬
‫فعاد في الربع الخالي جنوب‬ ‫وخص هللا عز وجل ً‬
‫عادا‬
‫الجزيرة‪ ،‬وثمود في وادي القرى في الحجر على طريق تبوك من جهة املدينة‪ ،‬وفرعون كانت‬
‫َ َّ‬
‫أخباره منتشرة في الجزيرة السيما مع وجود النصارى في نجران واليهود في املدينة‪ ،‬فذكر هللا‬
‫الناس بما يعرفون‪ ،‬وأبان لهم من أخبارهم ما ال يعرفون؛ وفي ذلك أعظم العبر وأعظم‬
‫الزواجر عن كفرهم وعنادهم‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‪،‬‬
‫الرحمن‪،‬‬
‫فنقرأ ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه هللا في كتابه تيسير الكريم ِ‬
‫ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫والسامعين‪( :‬يقول تعالى‪﴿ :‬ألم تر﴾ بقلبك وبصيرتك)‪.‬‬
‫ً‬
‫موجودا عند فعل ذلك بهم‪ ،‬ولكن هللا أخبره‪ ،‬فصار كأنه‬ ‫ْلنه صلى هللا عليه وسلم لم يكن‬
‫يرى تلك اْلحداث‪ ،‬وهي في قلبه يقين؛ ْلن هللا عز وجل أخبره بهذا‪ ،‬وكذا كل مؤمن يقرأ‬
‫القرآن يوقن بما أخبر هللا عز وجل به كأنه ينظر إليه بعينيه‪ِ .‬‬
‫َ َ َ‬
‫(﴿ك ْيف ف َع َل﴾ بهذه اْلمم الطاغية‪ ،‬عاد‪ :‬وهي إرم القبيلة اْلعروفة في اليمن)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫إرم قيل‪ :‬هي عاد؛ تسمى ً‬
‫عادا وتسمى إر ًما‪ ،‬وقيل‪ :‬إرم قبيلة من عاد؛ فخذ من أفخاذ قبيلة‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫عاد‪ ،‬وقيل‪ :‬إن إرم مقر حكم وملك قوم عاد‪ ،‬وقيل‪ :‬إن إرم هي مدينة عجيبة قوية البنيان‪،‬‬
‫شديدة البنيان لقوم عاد‪ِ .‬‬
‫وتلحظون هنا أن الشيخ قال بالقول اْلو ِل‪ :‬أن إرم هي هي قبيلة عاد‪ ،‬وكل هذا قد قاله‬
‫املفسرون‪ِ .‬‬

‫‪252‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪( :‬في اليمن) في اليمن ْلنها في اْلحقاف‪ ،‬واْلحقاف هي حبال الرمل‪ ،‬وحبال الرمل هي‬
‫الربع الخالي في جنوب الجزيرة العربية‪ ،‬وكل الجنوب تسميه العرب ً‬
‫يمنا؛ كل جنوب‬
‫الجزيرة العربية تسميه العرب ً‬
‫يمنا‪ ،‬كما أن الشمال ‪-‬شمال الجزيرة العربية‪ُ -‬يسمى ً‬
‫شاما‪ِ .‬‬
‫فالشيخ يقولِ‪ :‬املعروفة في اليمن يعني‪ :‬في جنوب الجزيرة العربية؛ وهي كما قلنا‪ :‬في حبال‬
‫الرمال في الربع الخالي‪ ،‬وأبعد النجعة بعض املفسرين فقال‪ :‬إنها في اإلسكندرية‪ ،‬وقال‬
‫بعضهم في الشام‪ ،‬وهذا بعيد وغلط‪ ،‬فإنها في اْلحقاف كما أخبر هللا عز وجل‪ ،‬واْلحقاف‬
‫على أصح التفاسير هي‪ :‬حبال الرمل‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ات ال ِع َم ِاد﴾ أي‪ :‬القوة الشديدة والعتو والتجبر)‪.‬‬
‫(﴿ذ ِ‬
‫ذات العماد ﴿إ َ َم َذات ْالع َماد﴾ هي ُ‬
‫ذات العماد‪ ،‬قيل‪ :‬ذات القوة‬ ‫ذات العماد؛ هي ُ‬ ‫ُ‬
‫ِر ِ ِ ِ‬
‫والبطش والجبروت‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي ذات اْلجسام الطويل؛ فأجسامهم طويلة‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هي ذات الخيام الكبيرة التي تبنى على اْلعمدة الطويلة‪ ،‬فإنهم كانوا‬
‫ً‬ ‫يسكنون املدينة؛ فلهم مدينة يسكنونها‪ ،‬وينتقلون منها عند الجدب‪ ،‬ويسكنون ً‬
‫خياما كبيرة‬
‫ُ‬
‫تبنى على اْلعمدة الطويلة‪ِ .‬‬
‫وكل هذا محتمل‪ ،‬وقد ذكره املفسرون‪ ،‬وال مانع من اجتماعه كله لهم‪ ،‬فهم أهل شدة‬
‫ٌ‬ ‫وقوة وجبروت‪ ،‬وأجسامهم طويلة‪ ،‬ولهم ٌ‬
‫اْلعمدة الطويلة‪ ،‬ولهم مدينة‬ ‫خيام ينصبونها على ِ‬
‫وعمد؛ كل هذا كان لهم‪ِ .‬‬ ‫ذات بناء ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫َّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫(ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها ِفي ال ِبَّل ِد) أي‪ :‬في جميع البلدان في القوة والشدة‪ ،‬كما قال لهم‬
‫ْ َْ‬ ‫َ ُ‬
‫وح َوز َادك ْم ِفي الخل ِق‬‫ن‬
‫َ ْ َْ ُ‬
‫م‬‫و‬‫ق‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫م‬ ‫﴿و ْاذ ُك ُروا إ ْذ َج َع َل ُك ْم ُخ َل َف َ‬
‫اء‬ ‫هود عليه السَّلم‪َ :‬‬ ‫نبيهم ٌ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ َّ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ًَ َ ُْ‬
‫َب ْسطة ۖ فاذك ُروا آال َء الل ِه ل َعلك ْم تف ِل ُحون﴾ [اْلعراف‪.)]٦٩ :‬‬
‫ود الضمير هنا بحسب التفاسير السابقة‪ِ .‬‬ ‫﴿ َّالتي َل ْم ُي ْخ َل ْق م ْث ُل َها﴾ َع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬لم ُيخلق مثل هذه القبيلة في شدتها وطول أجسادها في‬
‫البلدان‪ِ .‬‬

‫‪253‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها﴾ يعني املدينة؛ فيكون املعنى‪ :‬التي لم ُيصنع‬
‫يبني مثل مدينتهم؛ مثلما َبنوا هم وصنعوا هم‪ِ .‬‬ ‫مثلها‪ ،‬فلم يستطع أحد من أهل البلدان أن َ‬
‫َ ْ َ ُْ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها﴾ أي‪ :‬اْلعمدة التي يبنون عليها الخيام؛ كانت في‬
‫أحد من أهل البلدان مثلها‪ِ .‬‬ ‫الطول والشدة بحيث لم يصنع ٌ‬
‫ْ َ‬ ‫َّ َ ْ َ ْ ُ‬
‫﴿ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها ِفي ال ِبَّل ِد﴾ قال بعض العلماء‪ :‬هذا مطلق في جميع البلدان وفي‬
‫جميع اْلزمان‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ ﴿ :‬ل ْم ُي ْخ َل ْق م ْث ُل َها في ْالب ََّل ِد﴾ في زمنها؛ فهو ُم َّ‬
‫قي ٌد بذلك الزمان‪ِ .‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫وظاهر القرآن اإلطالق أنها لم ُيخلق مثلها في البالد على املعاني التي ذكرناها‪ِ .‬‬
‫الصخ َر ِبال َو ِاد﴾ أي‪ :‬وادي القرى‪ ،‬نحتوا بقوتهم الصخور‬
‫َّ ْ ْ‬
‫ين َج ُابوا‬ ‫﴿و َث ُم َ‬
‫ود َّال َذ َ‬ ‫َ‬

‫فاتخذوها مساكن‪.‬‬
‫وادي القرى وهو معروف إلى اليوم؛ وهو الذي فيه الحجر‪ ،‬وفيه بما يسمى بمدينة صالح‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ج ُابوا﴾ يعني قطعوا وثقبوا‪ ،‬فهم كانوا يقطعون الصخور العظيمة من الجبال‪ ،‬ويأتون‬
‫بها إلى الوادي فيثقبونها‪ ،‬ويدخلون هذا في هذا‪ ،‬فكانت عندهم قدرة على قطع الصخور‬
‫العظيمة وعلى ثقبها‪ ،‬فيبنون بها في واديهم القصورِ‪ِ .‬‬
‫وأما الجبال الثابتة فينحتون فيها‪ ،‬ومن مر بالحجر يرى هذا كيف أن هناك أبوابا منحوتة‬
‫في الجبل‪ ،‬ثم هناك غرفا وهناك مقابر في داخل الجبال ونحو ذلك‪ِ .‬‬
‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫﴿و ِف ْر َع ْون ِذي اْل ْوت ِاد﴾ أي‪ :‬ذي الجنود الذي ثبتوا ملكه كما ثبتت اْلوتاد وما يراد‬
‫( َ‬

‫إمساكه بها)‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿و ِف ْر َع ْون﴾ هذا اسم ملك مصر في ذلك الزمان‪ ،‬امللك في مصر في ذلك الزمان يقال له‪:‬‬ ‫َ‬

‫فرعون‪ ،‬وليس اسما خاصا بإنسان بعينه‪ ،‬وإنما هذا لقب امللك‪ :‬فرعون‪ ،‬وفرعون موس ى‬
‫كان طاغية جبارا قد مكن هللا عز وجل له في اْلرض‪ِ .‬‬
‫ْ ََْ‬ ‫َ‬
‫﴿و ِف ْر َع ْون ِذي اْلوت ِاد﴾ قال بعض العلماء‪ :‬اْلوتاد هنا هم الجنود واملأل العظيم الذين‬
‫َ‬

‫َّثبتوا ملكه كما يثبت الوتد الخيمة‪ ،‬فكانوا يخدمونه ويثبتون ملكه‪ِ .‬‬

‫‪254‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َْ‬
‫اْل ْو َتاد﴾ قالوا‪ :‬فرعون ذو اْلوتاد يعني‪ :‬الذي كان يصنع ً‬
‫أوتادا‬ ‫ِ‬ ‫وقال بعض العلماء‪ِ ﴿ :‬ذي‬
‫ً‬ ‫يعذب بها الناس فيغرس بعضها في اْلرض ويربط ًيدا في وتد ً‬
‫ويدا في وتد آخر ورجال في وتد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عريضا يثبته في اْلرض ويصلب‬ ‫ورجال في وتد آخر ويتركهم تحت الشمس‪ ،‬وينصب خشبا‬
‫عليه من يريد أن يعذبه ويأمر بضربه بالسياط‪ ،‬وال مانع من اْلمرين‪ِ .‬‬
‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫﴿و ِف ْر َع ْون ِذي اْل ْوت ِاد﴾ يعني صاحب الخيام الكثيرة الكبيرة‪،‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬

‫فكانوا يتخذون الخيام الكبيرة التي يثبتونها باْلوتاد للنزهة والفسحة‪ِ .‬‬
‫وأشار بعض اْلفسرين إلى احتمال لم يذكره أحد من املتقدمين‪ ،‬وهو أن اْلوتاد هي‬
‫اْلهرام املعروفة املوجودة في مصر قالوا‪ْ :‬لنها تشبه الجبال‪ ،‬وهي ظاهرة على وجه اْلرض‬
‫كأنها جبل‪ ،‬ولكن لم أقف على أحد من العلماء املتقدمين ذكر هذا التفسير‪ِ .‬‬
‫وعلى كل حال فهذا الوصف يدل على القوة وما أنعم هللا به على أولئك اْلقوام‪ِ .‬‬
‫ْ َ‬ ‫َّ َ َ َ‬
‫ين طغ ْوا ِفي ال ِبَّل ِد﴾ هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم فإنهم‬ ‫(﴿ال ِذ‬
‫طغوا في بَّلد هللا وآذوا عباد هللا في دينهم ودنياهم)‪.‬‬
‫ين﴾ هذا الوصف لكل من تقدم‪ِ .‬‬ ‫﴿ َّالذ َ‬
‫ِ‬
‫ََ‬
‫﴿طغ ْوا﴾ تجاوزوا الحد‪ ،‬ورأس الطغيان الشرك والعياذ باهلل‪ ،‬فطغوا في كل جرم وظلموا‬
‫واستعبدوا عباد هللا‪ِ .‬‬
‫َْ‬ ‫َََْ‬
‫(ولهذا قال هللا‪﴿ :‬فأكث ُروا ِف َيها الف َس َاد﴾ [الفجر‪ ]12 :‬العمل بالكفر وشعبه من جميع‬
‫أجناس اْلعاص ي وسعوا في محاربة الرسل وصد الناس عن سبيل هللا فلما بلغوا من‬
‫العتو ما هو موجب لهَّلكهم أرسل هللا عليهم من عذابه ذنوبا وسوط عذاب)‪.‬‬
‫ط َع َذاب﴾ [الفجر‪]13 :‬؛ ﴿ َف َ‬
‫ص َّب﴾ هذا يدل على أن العذاب‬
‫َ َ َّ َ َ ْ ْ َ ُّ َ َ ْ َ‬
‫﴿فصب علي ِهم ربك سو‬
‫ٍ‬
‫أتاهم من فوقِ‪ِ .‬‬
‫واملعنى‪ :‬أنزل هللا عز وجل بهم عذابا أخذهم واستأصلهم في وقت قليل‪ ،‬فأخذ ً‬
‫عادا بالريح‬
‫ً‬
‫حسوما‪ ،‬فمع قوتهم وجبروتهم لم يبق‬ ‫العقيم التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام‬
‫هودا بالصيحة‪ ،‬وأخذ ثمود بالصيحة‪ ،‬وأغرق فرعون‬‫منهم أحد‪ ،‬يعني من الكفار‪ ،‬وأخذ ً‬

‫ومأله باملاء‪ِ .‬‬

‫‪255‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ْ َ ََ‬
‫اب﴾ قالوا‪ :‬للداللة على اْلخذ الشديد‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬قال هللا هنا ﴿سوط ع ٍ‬
‫ذ‬
‫السريع كأنه سوط نزل بهم مع كل ذلك الجبروت‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬في هذا إشارة إلى شدة عذابهم يوم القيامة‪ ،‬فإن عذابهم هذا الذي‬
‫في الدنيا بالنسبة لعذابهم يوم القيامة كأنه سوط واحد‪ِ .‬‬
‫وال مانع من الفائدتين لذكر السوط هنا‪ ،‬فإنه دل على سرعة اْلخذ‪ ،‬ويشير ويدل إلى ما‬
‫ينتظرهم من العذاب الشديد يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ص ِاد﴾ ْلن يعصيه يمهله قليَّل ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر)‪.‬‬‫(﴿إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫﴿إ َّن َرَّب َك َلباْل ْر َ‬
‫ص ِاد﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬ملن يعصيه‪ ،‬فإنه يملي للظالم حتى إذا أخذه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬وقد يكون هذا في الدنيا‪ ،‬فيعذبه في الدنيا وعذاب هللا أشد وأبقى يوم‬
‫القيامة‪ِ .‬‬
‫وقد يكون أخذ هللا عز وجل له في اآلخرة‪ ،‬فيملي له في الدنيا حتى يزداد ً‬
‫إثما‪ ،‬ثم يأخذه‬
‫يوم القيامة ويعذبه العذاب الشديد‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫جميعا مؤمنهم وكافرهم يرصد‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ‬
‫ص ِاد﴾ لعباده‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أعمالهم سبحانه وتعالى‪ ،‬ويحفظها عليهم‪ ،‬ثم يجازيهم بها يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫وقد يجازي هؤالء وهؤالء على أعمالهم في الدنيا‪ ،‬فاملؤمن الطائع قد يجازيه هللا في الدنيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كالذي يصل رحمه؛ قد يجازيه هللا في الدنيا ً‬
‫ثوابا عاجال بأن يوسع له في رزقه‪ ،‬وينسأ له في‬
‫أجله‪ ،‬وثواب اآلخرة أعلى وأبقى وأحلى‪ِ .‬‬
‫كافرا كان أو ً‬
‫مؤمنا‪ -‬بعذاب في الدنيا‪ ،‬كالعاق والعياذ باهلل‪ ،‬فإنه حري‬ ‫وقد يأخذ العاص ي ‪ً -‬‬
‫وأجدر أن ينزل هللا به العذاب وهو في الدنيا‪ ،‬مع ما يدخر له من العذاب يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫الذين قالوا باْلول وهو الذي ذكره الشيخ‪ ،‬قالوا به من أجل السياق‪ ،‬فإن ما قبله يدل‬
‫على هذا‪ ،‬أنه للعصاة‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫والذين قالوا بالثاني قالوا ْلن هذا أعم‪ ،‬وال يأباه السياق‪ ،‬فإنه خاتمة‪ ،‬وليس تعليال ملا‬
‫تقدم‪ِ .‬‬

‫‪256‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬
‫ولعل هذا أرجح وهللا أعلم؛ أنه يعم املؤمن والكافر‪ ،‬ولكن شتان بين املؤمن والكافر حاال‬
‫وجز ًِ‬
‫اء‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََْ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ُ َ‬
‫نسان ِإذا َما ْابتَّل ُه َرُّب ُه فأك َر َم ُه َون َّع َم ُه ف َيقو ُل َرِبي أك َر َم ِن (‪َ )15‬وأ َّما ِإذا َما‬ ‫اإل‬
‫(﴿فأما ِ‬
‫َ‬
‫يم (‪َ )17‬وال‬ ‫ْاب َت ََّل ُه َف َق َد َر َع َل ْيه ر ْز َق ُه َف َي ُقو ُل َربي َأ َه َانن (‪َ )16‬ك ََّّل ۖ َبل َّال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫اث أ ْك ًَّل َّْلًّا (‪َ )19‬و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ُ ُ َ ُّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُّ َ َ َ‬
‫ال ُح ًّبا َج ًّما‬ ‫اضون َعل ٰى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين (‪ )18‬وتأكلون التر‬ ‫تح‬
‫(‪[ ﴾)20‬الفجر‪ِ .)]15-20 :‬‬
‫يخبر هللا عز وجل أنه يختبر الناس بالخير والشر‪ ،‬وأن اإلنسان الجاهل والكافر إن ابتاله‬
‫هللا بالخير؛ فأكرمه باملال ونعمه بما وسع عليه في الدنيا‪ ،‬اغتر بذلك‪ ،‬وزاد شرا في نفسه؛‬
‫ْلنه يظن أن هللا أعطاه هذا الخير لعلم عنده‪ ،‬ومهارة عنده‪ ،‬ولكرامته ومنزلته عند هللا التي‬
‫استحقها بنفسه‪ ،‬فليس الفضل في ذلك عنده هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وإنما ْلنه مستحق‬
‫لذلك‪ِ .‬‬
‫وأما إن ابتاله بالضر‪ ،‬وضيق عليه رزقه‪ ،‬وأعطاه بمقدار ما يحتاج‪ ،‬فيتسخط‪ ،‬ويقولِ‪:‬‬
‫إني ال أستحق هذا‪ ،‬وأن هللا ظلمني عياذا باهلل مما يقولِ‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫صابرا‬ ‫مقرا بفضل هللا وال عند الضراء‬ ‫ً‬
‫شاكرا ًّ‬ ‫فليس هذا الجاهل أو الكافر عند الرخاء‬
‫ِّ‬
‫مسل ًما اْلمر هلل عز وجل‪ ،‬وعند الرخاء ال ينسب الفضل إلى هللا وإنما ينسب االستحقاق‬
‫لنفسه‪ ،‬وعند الضراء ينسب الظلم إلى هللا وأنه ال يستحق ما نزل به‪ِ .‬‬
‫ومفهوم هذا أن املؤمن العارف بربه بضد هذا‪ ،‬فإذا أكرمه هللا بخير ووسع عليه في رزقه‬
‫وابتاله بذلك الخير قال‪ :‬هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر‪ ،‬وليس ْلنه مستحق‬
‫لذلك ال فضل هلل عليه بهذا‪ ،‬ويشكر هللا على هذا بلسانه وقلبه وجوارحه‪ ،‬وأما إذا ابت ِاله‬
‫ربه بالضراء فإنه يقولِ‪ :‬هذا بسبب من نفس ي‪ ،‬وهللا يذكرني بهذا‪ ،‬وهللا قد رحمني فلم‬
‫يعطني ما أستحق من الضراء بسبب ذنبي‪ ،‬فيقولِ‪ :‬أنا مستحق ْلكثر من هذا ولكن ربي‬
‫ِّ‬
‫فيسلم ْلمر هللا ويرجع‬
‫ِ‬ ‫غفور رحيم أنزل بي البالء ليذكرني‪ ،‬ولم يأخذني بكل ما أستحق‪،‬‬
‫إلى هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬

‫‪257‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ثم بين هللا لذلك اإلنسان الجاهل والكافر حقيقة حاله‪ ،‬وأنه إذا أكرمه باملال فإنه ال يفعل‬
‫كريما عند هللا سبحانه وتعالى بمجرد‬‫في ذلك ما يقتضيه اإلكرام‪ ،‬مما يدل على أنه ليس ً‬
‫السعة في املال والسعة في الدنيا‪ِ .‬‬
‫فإنكم يا معاشر الجهلة أو الكفار هذا الخطاب‪ ،‬إذا أكرمكم هللا ال تعطفون على اليتيم‬
‫الذي قد مات أبوه وهو دون البلوغ‪ ،‬وال تحسنون إليه من مالكم‪ ،‬وال تكرمونه ًّأيا كان هذا‬
‫اليتيم سواء كان من أقربائكم أو لم يكن من أقربائكم‪ ،‬فال يجد عندكم إكر ًاما وإنما يجد‬
‫اإلهانة‪ ،‬وال تعرفون حق هللا في املال‪ ،‬فال يحث بعضكم ً‬
‫بعضا على إطعام املساكين‬
‫املحاويج الذين ال يجدون القوت‪ ،‬بل وال تشعرون باملسكين وال تعطونه ً‬
‫شيئا‪ ،‬وإذا مات‬
‫ً‬
‫ميت وترك ماال يورث ال تعطونه ْلهله‪ ،‬وتقتسمونه فيما بينكم معاشر اْلقوياء‪ ،‬وال تعطون‬
‫تاما وتجمعونه مع أموالكم‪ ،‬وال تبقون منه ً‬ ‫ً‬
‫أكال ًّ‬
‫شيئا‪ ،‬وتحبون‬ ‫املستحقين له بل تأكلونه‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫املال ًّ‬
‫شديدا أعماكم وأطغاكم‪ ،‬فجعلكم ال تعرفون حق الله في املال ‪ ،‬وال تعطون أهل‬ ‫حبا‬
‫الحق حقوقهم وال تنفقون منه شيئا في سبيل هللا‪ ،‬وهذا كله يدل على بخلكم وشحكم‬
‫والبخيل الشحيح ذليل مهان وليس ً‬
‫مكرما‪ِ .‬‬
‫ومفهوم هذا أن املؤمن إذا أكرمه هللا عز وجل باملال والسعة أكرم اْليتام‪ ،‬وأعطاهم من‬
‫ماله‪ ،‬وحفظ لهم أموالهم‪ ،‬وتفقد املساكين املحاويج وأعطاهم من ماله‪ ،‬وحث غيره على‬
‫ً‬
‫اإلنفاق‪ ،‬وإذا مات ميت وترك ماال كان أحرص على إيصال الحقوق إلى أصحابها منه على‬
‫أخذ حقه‪ ،‬ويحب املال بمقتض ى اإلنسانية ًّ‬
‫حبا ال يطغيه‪ ،‬بل يجعل املال في يده وال يجعله‬
‫في قلبه‪ ،‬ويسأل هللا أن يجعل غناه في قلبه‪ِ .‬‬
‫يكرم بكثرة الدنيا واملال‪ ،‬كما ال يهين بقلة الدنيا‬
‫ومقصود هذه اآليات بيان أن هللا ال ِ‬
‫واملال‪ ،‬وإنما اإلكرام للمؤمن املطيع ولو قل ماله‪ ،‬واإلهانة واإلذالل للكافر العاص ي ولو كثر‬
‫ماله‪ِ .‬‬
‫فهذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ونعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬

‫‪258‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال اْلصنف رحمه هللا‪( :‬يخبر تعالى عن طبيعة اإلنسان من حيث هو وأنه جاهل ظالم‬
‫ال علم له بالعواقب يظن الحالة التي تقع فيه تستمر وال تزول ويظن أن إكرام هللا في‬
‫الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه‪.‬‬
‫ََ‬
‫هللا عز وجل يقولِ‪﴿ :‬فأ َّما﴾ هنا للتقسيم‪ ،‬فاإلنسان في هذه الحال حال االختبار بالخير‬
‫والشر ينقسم إلى قسمين ‪-‬واإلنسان هنا جنس اإلنسان‪ِ :-‬‬
‫‪ -‬مصرح به في اآليات وهو الجاهل الكافر‪ِ .‬‬
‫‪ -‬والقسم الثاني مفهوم من اآليات بمفهوم املخالفة‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬فأ َّما﴾ زائدة صلة‪ ،‬واملعنى‪ :‬إن اإلنسان‪ِ .‬‬
‫ْ َ ُ‬
‫نسان﴾ هنا قال بعض العلماء‪( :‬ال) فيه للجنس‪ ،‬فيكون املعنى أن اْلصل في‬ ‫اإل‬
‫﴿ ِ‬
‫اإلنسان أنه ظلوم جهول وهذه حاله إال من رحم هللا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬ال) في اإلنسان للعهد‪ ،‬واإلنسان املعهود بالخطاب في السور‬
‫املكية هو الكافر‪ ،‬فاإلنسان هنا هو الكافر ومن اتصف بهذه الصفات من املسلمين لجهله‬
‫وظلمه لنفسه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬بل هذا كافر بعينه‪ ،‬فبعضهم قال أمية بن خلف وبعضهم قال‬
‫كعب بن خلف وهكذا‪ِ .‬‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫﴿ ِإذا َما ْابتَّل ُه﴾ أي‪ :‬اختبره‪ِ .‬‬
‫ََْ‬
‫﴿ َرُّب ُه فأك َر َم ُه﴾ أي‪ :‬باملال‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ َون َّع َم ُه﴾؛ أي‪ :‬بما وسع عليه‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬
‫﴿ف َيقو ُل َرِبي أك َر َم ِن﴾ أي‪ْ :‬لني استحق اإلكرام وليس هذا فضال من هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫﴿ َوأ َّما ِإذا َما ْابتَّل ُه﴾ أي‪ :‬اختبره‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫﴿فق َد َر﴾ أي‪ :‬ضيق‪ِ .‬‬
‫فقدر) بالتشديد أي‪ :‬أعطاه بمقدار حاجته‪ ،‬أعطاه باملقدار‪،‬‬ ‫﴿ َع َل ْيه ر ْز َق ُه﴾ وفي قراءة ( َّ‬
‫ِ ِ‬
‫قدر) يعنى‪ :‬ضيق عليه رزقه‪ ،‬وقراءة ( َّ‬
‫فقدر)؛ أي‪ :‬أعطاه باملقدار؛ أي‪ :‬بمقدار ما يحتاج‬ ‫( َ‬

‫إليه ولم يوسع عليه‪ِ .‬‬

‫‪259‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫﴿ف َيقو ُل َرِبي أ َهان ِن﴾ وأنا ال أستحق اإلهانة‪ ،‬فربي ظالم لي أعوذ باهلل من هذا القول ِومن‬
‫هذا القائل‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫قال‪( :‬وأنه إذا قدر عليه رزقه؛ أي‪ :‬ضيقه فصار بقدر قو ِته ال يقدر عنه أن هذا إهانة‬
‫من هللا له‪ ،‬فرد هللا عليه هذا الحسبان فقال‪﴿ :‬كَّل﴾ أي‪ :‬ليس كل من َّ‬
‫نعمته في هذه‬
‫الدنيا فهو كريم علي)‪.‬‬
‫فاملعنى‪ :‬كال ليس اْلمر كما تزعمون‪ ،‬فليس اإلكرام بسعة الدنيا وال اإلهانة بضيق الدنيا‪ِ .‬‬
‫نعمته في الدنيا فهو كريم علي‪ ،‬وال كل من قدرت عليه رزقه فهو‬ ‫قال‪( :‬أي‪ :‬ليس كل من َّ‬

‫مهان لدي‪ ،‬وإنما الغنى والفقر والسعة والضيق ابتَّلء من هللا وامتحان يمنحن به‬
‫العباد ليرى من يقوم له بالشكر والصبر فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل‪ ،‬ممن ليس‬
‫كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل‪.‬‬
‫وأيضا فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط من ضعف الهمة ولهذا المهم هللا‬
‫على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق اْلحتاجين فقال‪َ ﴿ :‬ك ََّّل ۖ َبل َّال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ‬
‫يم﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[الفجر‪.)]17 :‬‬
‫َّ ُ ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ ْ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿كَّل ۖ َبل ال تك ِر ُمون﴾ فانتقل الخطاب من الغيبة إلى الحاضر ﴿كَّل ۖ َبل ال تك ِر ُمون﴾‪،‬‬
‫َ َ َ َ ُّ َ‬
‫اضون‬ ‫ان إ َذا َما ْاب َت ََّل ُه َرُّب ُه﴾ ثم‪َ ﴿ :‬ك ََّّل ۖ َبل َّال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ُ‬
‫يم (‪ )17‬وال تح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنس ِ‬ ‫قبله ﴿فأما ِ‬
‫ال ُح ًّبا َج ًّما (‪﴾)20‬؛‬ ‫اث َأ ْك ًَّل َّ ًّْلا (‪َ )19‬و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ‬
‫َ َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ‬ ‫ْ‬
‫َعل ٰى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين (‪ )18‬وتأكلون التر‬
‫َ َ‬

‫ْلن الخطاب أصبح لهؤالء الجهلة الكفار الذين تقدم وصفهم‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ ُّ َ َ َ‬ ‫وفي قراءة‪َ ﴿ :‬كَّل َب ْل ال ُي ْكر ُمو َن ْال َيت َ‬
‫اضون َعلى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين (‪)18‬‬ ‫يم (‪ )17‬وال يح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ُح ًّبا َج ًّما (‪ ،﴾)20‬فيكون ذلك على السياق؛‬ ‫اث َأ ْكَّل َْلًّا (‪َ )19‬و ُي ِح ُّبون اْل َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ‬
‫ويأكلون التر‬
‫َ َ َّ ْ َ ُ‬
‫نسان﴾ كما قلنا للجنس‪ ،‬أي‪ :‬الناس‪ ،‬وأن هذا هو‬ ‫ْلن اإلنسان في قول هللا‪﴿ :‬فأما ِ‬
‫اإل‬
‫اْلصل فيهم‪ ،‬فهم ال يكرمون اليتيم هذا هو اْلصل فيهم إال من رحمه هللا وهكذا‪ِ .‬‬
‫يم﴾ الذي فقد أباه وكاسبه واحتاج إلى جبر خاطره واإلحسان‬ ‫﴿كَّل َب ْل ال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ‬ ‫َ‬
‫(‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إليه)‪.‬‬
‫وهو دون البلوغ؛ ْلن اليتيم إنما يسمى يتيما إذا كان دون البلوغ‪ِ .‬‬

‫‪260‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪( :‬فأنتم ال تكرمونه بل تهينونه وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم وعدم الرغبة‬
‫في الخير)‪.‬‬
‫وعدم الرحمة تدل على أن صاحب هذا العدم ليس كريما‪ ،‬فإن الكريم عند هللا رحيم‪،‬‬
‫فالراحمون يرحمهم الرحمن سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ ُّ َ َ َ‬
‫اضون َعلى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين﴾ أي‪ :‬ال يحض بعضكم بعضا على إطعام اْلحاويج‬‫﴿وال تح‬
‫من الفقراء واْلساكين‪ ،‬وذلك ْلجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة اْلتمكنة من‬
‫القلوب‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ ُّ َ َ َ‬
‫اضون َعلى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين﴾ ال تحثون أهليكم على إعطاء املسكين إذا‬‫وقيل معنى ﴿وال تح‬
‫جاء يسأل عند البيت‪ ،‬بل تمنعوهم من ذلك‪ ،‬وال مانع من اْلمرين فهم ال يحث بعضهم‬
‫بعضا على ذلك‪ ،‬وال يحثون أهليهم على ذلك‪ ،‬بل وال يرضون من أهليهم بذلك‪ِ .‬‬
‫َ ْ ُ ُ َ ُّ َ‬
‫(ولهذا قال‪َ ﴿ :‬وتأكلون الت َراث﴾ أي‪ :‬اْلال اْلخلف)‪.‬‬
‫التراث‪ :‬هو امليراث‪ ،‬املال املوروث‪ ،‬هذا الذي عليه أكثر املفسرين‪ِ .‬‬
‫وبعض اْلفسرين يقول‪ :‬املال املوروث وغيره الذي أورثهم هللا إياه‪ ،‬فاملال مال هللا يعطيه‬
‫من شاء من عباده‪ ،‬لكن اْلقرب هو قول اْلكثرين أن التراث هو املال املوروث‪ِ .‬‬
‫يعا ال تبقون على ش يء منه‬‫اث﴾ أي‪ :‬اْلال اْلخلف‪َ ﴿ ،‬أ ْك ًَّل َّْلًّا﴾ أي‪ :‬ذر ً‬ ‫َ َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ‬
‫﴿وتأكلون التر‬
‫ً‬
‫شديدا فال تتركون منه شيئا‪ِ .‬‬ ‫ذر ً‬
‫يعا أي‪:‬‬
‫جامعا لنصيبهم مع نصيبكم‪ ،‬فتجمعون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ ْ ً َّ ًّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬أكَّل ْلا﴾ أي‪ :‬أكال‬
‫نصيبهم مع نصيبكم وتأكلونه‪ِ .‬‬
‫وقيل اللم هو‪ :‬أن يأكل كل ما يقع في يده وال يسأل عن حالل وال حرام‪ِ .‬‬
‫َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ ْ ً َّ ًّ‬
‫﴿ َوتأكلون الت َراث أكَّل ْلا﴾ أي‪ :‬تأكلون كل ما يقع في يدكم‪ ،‬فالحالل ما حل في أيديكم ال‬
‫تسألون عن حالل وال حرام‪ِ .‬‬
‫َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُّ ْ‬
‫الدن َيا‬ ‫ال ُح ًّبا َج ًّما﴾ أي‪ :‬شديدا‪ ،‬وهذا كقوله‪﴿ :‬بل تؤ ِثرون الحياة‬ ‫﴿و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ‬ ‫( َ‬
‫َ َّ َ ْ ُ ُّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ‬
‫اجلة َوتذ ُرون اآل ِخ َرة﴾ [القيامة‪:‬‬‫ع‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫و‬‫ب‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫َّل‬‫﴿ك‬ ‫‪،‬‬ ‫]‬ ‫‪17‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪:‬‬ ‫اْلعلى‬‫[‬ ‫﴾‬ ‫َو ْاآل ِخ َر ُة َخ ْي ٌر َو َأ ْب َق ٰ‬
‫ى‬
‫ِ‬
‫‪ِ .)]21-20‬‬

‫‪261‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ‬


‫ال ُح ًّبا َج ًّما﴾ أي‪ :‬شديدا‪،‬‬ ‫الجم في اْلصل هو الكثير‪ ،‬واملراد به هنا الشدة‪َ ،‬‬

‫وعبر عن الشدة بالجم هنا للداللة على حب اإلنسان لكثرة املال‪ ،‬وأنه مهما كثر املال في يده‬ ‫ُِ‬
‫فإنه يرغب في الزيادة‪ ،‬وال يقنع ً‬
‫أبدا‪ِ .‬‬
‫ص ًّفا (‪َ )22‬وج َ‬ ‫ض َد ًّكا َد ًّكا (‪َ )21‬و َج َاء َرُّب َك َو ْاْلَ َل ُك َ‬
‫ص ًّفا َ‬ ‫َ َّ َ ُ َّ ْ َ‬
‫يء َي ْو َم ِئ ٍذ‬ ‫ِ‬
‫اْل ْر ُ‬ ‫﴿كَّل ِإذا دك ِت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُل َ َ ْ َ َ َّ ْ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ ٰ َ ُ ْ‬
‫الذكر (‪ )23‬يقو يا ليت ِني قدمت ِلحيا ِتي (‪)24‬‬ ‫ى‬ ‫اإلنسان وأنى له ِ‬ ‫ِبجهنم ۚ يوم ِئ ٍذ يتذكر ِ‬
‫َ َ َّ ُ َ َّ ْ ُ ْ ُ ْ َّ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫س اْلط َم ِئنة‬ ‫ف َي ْو َم ِئ ٍذ ال ُي َع ِذ ُب َعذ َاب ُه أ َح ٌد (‪َ )25‬وال ُيو ِث ُق َوثاق ُه أ َح ٌد (‪ )26‬يا أيتها النف‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫(‪ )27‬ا ْرج ِعي إ َل ٰى َرب ِك َ‬
‫اض َية َّم ْر ِض َّية (‪ )28‬ف ْادخ ِلي ِفي ِع َب ِادي (‪َ )29‬و ْادخ ِلي َجن ِتي (‪﴾30‬‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫[الفجر‪ِ .]30-21 :‬‬
‫يبين هللا عز وجل لإلنسان الجاهل أو الكافر حقيقة حاله‪ ،‬وأن وجود اْلموال في يده‪،‬‬
‫واْلوالد عنده في هذه الدنيا ليس إكراما له‪ ،‬فإنه ذاهب وتاركه‪ِ .‬‬
‫كال يا من تقدم بيان حالك‪ ،‬ليس اْلمر كما زعمت‪ ،‬فإن وراءك ً‬ ‫َّ‬
‫يوما تتغير فيه اْلرض‬ ‫ف‬
‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫شديدا‪ ،‬وتزلزل اْلرض حتى ال يبقى‬ ‫وتبدل‪ ،‬فيدك كل ما على اْلرض من شجر وجبال دكا‬
‫مدا كمد الجلد‪ِ .‬‬ ‫ً‬
‫صفصفا‪ ،‬وتمد ًّ‬ ‫أمتا‪ ،‬بل تكون ً‬
‫قاعا‬ ‫عوجا وال ً‬
‫عليها ش يء بارز‪ ،‬فال ترى فيها ً‬
‫ً‬
‫وفي ذلك اليوم موقف مهيب‪ ،‬حيث ينزل هللا عز وجل نزوال يليق بجالله ليقض ي بين‬
‫الناس‪ ،‬يجيء في ظلل من السحاب البارد اْلبيض‪ ،‬وتجيء املالئكة كلها‪ ،‬وهي كثيرة العدد‬
‫صفا ًّ‬
‫صفا بين يدي ربها‪،‬‬ ‫فعددها ال يحصيه إال من خلقها سبحانه وتعالى‪ ،‬تأتي في صفوف ًّ‬

‫وتصف من وراء الخلق في املحشر‪ ،‬وهي مع كثرة طاعتها‪ ،‬وشدة خلقها‪ ،‬تقف ذليلة‬
‫خاضعة خاشعة لربها سبحانه وتعالى في ذلك اليوم‪ِ .‬‬
‫جرا‪ ،‬فقد روى مسلم أن النبي‬ ‫وتقرب النار من الناس‪ُ ،‬‬
‫فيجاء بها‪ ،‬تأتي بها املالئكة يجرونها ًّ‬
‫ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪( :‬يأتى بجهنم يومئذ ولها سبعون ألف زمام‪ ،‬مع كل ز ٍ‬
‫مام‬
‫ً‬ ‫سبعون ألف ملك يجرونها)‪ ،‬وإذا ُق ِّربت من أهلها ورأت أهلها َّ‬
‫فإنهم يسمعون لها تغيظا‬
‫تقطع من الغيظ عليهم‪ ،‬ومن رغبتها في االنتقام منهم؛ َّ‬ ‫َّ‬ ‫وز ً‬
‫ْلنهم عصوا هللا سبحانه‬ ‫فيرا؛ تكاد‬
‫النار في ذلك املوقف بإهانة وإذالل؛ فينظرون إلى َّ‬
‫النار التي‬ ‫وتعالى‪ ،‬ويعرضون على َّ‬
‫ٍ‬
‫سيقتل بالسيف ُفيشهر السيف أمامه فيرفع‬ ‫طرف خفي بذلة؛ كمن ُ‬ ‫سيعذبون فيها من ٍ‬
‫‪262‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫طرفه بذلة واستكانة؛ ينظر إلى السيف الذي سيقتل به‪ ،‬فكذلك أهل َّ‬
‫النار في ذلك اليوم‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫طرف خفي‪ ،‬ويخرج‬ ‫بذلة واستكانة من ٍ‬ ‫املهيب العظيم يعرضون على النار فينظرون إليها ٍ‬
‫ٌ‬
‫ولسان ينطق يقولِ‪ :‬إني ُوكلت بثالثة‪:‬‬ ‫النار له عينان تبصران‪ ،‬وأذنان تسمعان‪،‬‬‫عنق من َِّ‬ ‫ٌ‬

‫إلها آخر وباملصورين؛ كما ثبت عند الترمذي بإسناد‬ ‫بكل جبار عنيد‪ ،‬وبكل من دعا مع هللا ً‬
‫ٍ‬
‫صحيح‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫فإذا رأى اإلنسان ذلك كله تذكر‪ ،‬وأنى له الذكرى؛ فالذكرى بعيدة عنه فقد فات أوانها‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وانقض ى زمانها فيدرك عند ذاك َّأن الحياة حياة اآلخرة‪ ،‬وأن حياة الدنيا حقيرة دنية؛‬
‫ً‬
‫متحسرا على ما كان منه‪ :‬يا ليتني قدمت لحياتي في حياتي‪ ،‬يا ليتني قدمت لحياتي‬ ‫فيقول‬
‫الحقيقية التي هي هذه الحياة التي يراها في ذلك اليوم في حياتي ِّ‬
‫السابقة التي هي دار‬
‫العمل‪ِ .‬‬
‫ففي ذلك املوقف‪ ،‬وفي ذلك اليوم ال يعذب عذاب هللا أحد؛ فعذاب هللا أشد وأبقى‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫يوثق وثاق هللا أحد؛ فوثاق هللا أشد حيث توضع اْلغالل في أعناق أهل َّ‬
‫النار‪ ،‬وتشد أيديهم‬
‫طويلة‬ ‫النار‪ ،‬وتربط أرجلهم وتشد إلى أعناقهم وأيديهم في سالسل‬ ‫إلى أعناقهم بسالسل من َّ‬
‫ٍ‬
‫اعا‪ ،‬وبالتالي َّ‬
‫فإن الذي يعذبه هللا في ذلك اليوم وما‬ ‫عظيمة منها ما يكون ذرعه سبعين ذر ً‬
‫يعذب عذابه أحد‪ ،‬وال يوثق وثاقه أحد؛ فالغمسة في َّ‬ ‫َّ‬
‫عذاب قبلها؛‬
‫ٍ‬ ‫النار دونها كل‬ ‫بعده ال‬
‫ُ‬
‫فكيف باملكث فيها والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫وأما النفس املؤمنة التي كانت مطمئنة في الدنيا باإليمان وبذكر هللا وباْلعمال الصالحة‪،‬‬
‫فإنها تكون مطمئنة يوم القيامة‪ ،‬حيث يؤمنها هللا عز وجل‪َ ،‬‬
‫وتنادى بما يسرها‪ ،‬ويدخل‬
‫البهجة عليها‪ ،‬فيقال لها‪ِ :‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اض َية﴾ [الفجر‪ ]28 :‬عن نفسك‪ ،‬وعن أعمالك‪ ،‬وعن ربك‪َّ ﴿ ،‬م ْر ِض َّية﴾‬ ‫﴿ا ْرج ِعي إ َل ٰى َرب ِك َ‬
‫ر‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫قد رض ي هللا عنك وأرضاك‪ ،‬وهذا شأن النفس املؤمنة املطمئنة منذ أن تبدأ في قيامتها‪،‬‬
‫إذا أقبلت على اآلخرة‪ ،‬وأدبرت عن الدنيا‪ ،‬فجاءها ملك املوت‪ ،‬فإنه يقال لها‪ :‬أيتها النفس‬
‫املطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية‪ ،‬وأبشري بروح وريحان‪ ،‬ورب غير غضبان‪ِ .‬‬

‫‪263‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وكذلك يقال لها يوم القيامة‪ ،‬فيقال لها‪ :‬ارجعي إلى ربك ‪-‬والكل سيرجع إلى هللا في ذلك‬
‫اليوم‪ ،-‬ولكن النفس املطمئنة ترجع إلى ربها آمنة راضية مرضية‪ِ .‬‬
‫َ ُ‬
‫﴿ف ْادخ ِلي ِفي ِع َب ِادي﴾ [الفجر‪ ]29 :‬الذين رضيت عنهم‪ ،‬وجعلت لهم الجنة نزال‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫﴿ َو ْادخ ِلي َجن ِتي﴾ [الفجر‪ ]30 :‬التي أعددتها لعبادي الصالحين‪ ،‬وجعلت فيها ما ال عين‬
‫رأت‪ ،‬و ِال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ِ .‬‬
‫فبين هللا لك أيها اإلنسان ما يكون يوم القيامة للنفس العاصية املعرضة‪ ،‬وللنفس‬
‫املطمئنة في الدنيا‪ ،‬فاختر لنفسك أيها اإلنسان‪ ،‬فقد هداك هللا النجدين‪ ،‬ووعظك‪،‬‬
‫وذكرك‪ ،‬وبين لك غاية البيان‪ ،‬وجعل لك قدرة على عمل الطاعات وعلى ترك العصيان‪،‬‬
‫ُ‬
‫تحسن إال إلى نفسك‪ ،‬وإن شئت فاعمل املعاص ي؛ وال تس ئ‬ ‫فإن شئت فاعمل الطاعات؛ وال‬
‫إال إلى نفسك‪ ،‬فاعمل ما شئت فإنك مالقيه ومجازى به‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات‪ ،‬ونرجع إلى التفسير التفصيلي‪،‬‬
‫ونقرأ ما ذكره الشيخ‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫(﴿كَّل﴾ أي‪ :‬ليس كل ما أحببتم من اْلموال‪ ،‬وتنافستم فيه من اللذات ببقاق لكم‪ ،‬بل‬
‫أمامكم يوم عظيم وهول جسيم تدك فيه اْلرض والجبال وما عليها‪ ،‬حتى تجعل قاعا‬
‫صفصفا ال عوج فيه وال أمتا‪ ،‬ويجيء هللا لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام‪،‬‬
‫ويجيء اْلَّلئكة الكرام أهل السماوات كلهم‪.‬‬
‫ص ًّفا﴾ [الفجر‪ ]22 :‬أي‪ :‬صفا بعد صف كل سماء يجيء مَّلئكتها صفا يحيطون‬
‫﴿ص ًّفا َ‬
‫َ‬

‫بمن دونهم من الخلق‪ ،‬وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار‪.‬‬
‫َّ‬
‫يء َي ْو َم ِئ ٍذ ِب َج َهن َم ۚ﴾ [الفجر‪ ]23 :‬تقودها اْلَّلئكة بالسَّلسل‪.‬‬
‫﴿وج َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫فإذا وقعت هذه اْلمور فيومئذ يتذكر اإلنسان ما قدمه من خير ومن شر وأنى له‬
‫الذكرى)‪.‬‬
‫اإلنسان‪ :‬قيل كل إنسان‪ ،‬فـ (ال) هنا للجنس‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬اإلنسان الذي ظلم نفسه فكفر أو عص ى ربه عصيانا عظيما بداللة ما بعده وهذا‬
‫أقرب وهللا أعلم‪ِ .‬‬

‫‪264‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫بعض أهل العلم‪ :‬يقولون جنس اإلنسان وما من إنسان يوم القيامة إال ويندم ما من‬
‫ً‬
‫إحسانا ليزداد درجات‪ ،‬وإن‬ ‫إنسان إ ِال ويندم يوم القيامة‪ ،‬إن كان محسنا ندم أنه لم يزدد‬
‫ً‬
‫مسيئا ندم أنه لم يقلع عن إساءته ويعمل بالصالحات‪ ،‬قالوا‪ :‬والسياق ال يأبى هذا‪ِ .‬‬ ‫كان‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬بل اإلنسان هنا (ال) للعهد وهو اإلنسان الذي تقدم وصفه وهو‬
‫الكافر أو الجاهل الذي يعتقد ما تقدم‪ِ .‬‬
‫(فيومئذ يتذكر اإلنسان ما قدمه من خير وشر وأنى له الذكرى)‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫(أنى) لالستبعاد يعني‪ :‬أنى الذكرى بعيدة عنه‪.‬‬
‫(وأنى له الذكرى فقد فات أوانها وذهب زمانها يقول متحسرا على ما فرط في جنب هللا‬
‫يا ليتني قدمت لحياتي الباقية الدائمة عمَّل صالحا)‪.‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ ِل َح َيا ِتي﴾؛ أي‪ :‬في حياتي‪ ،‬فالالم بمعنى في‪ ،‬يعني‪ :‬يا ليتني‬
‫قدمت في الحياة الدنيا الطاعة واإلقالع عن املعصية‪ ،‬وكال املعنيين صحيح فاملعنى يا ليتني‬
‫قدمت في حياتي لحياتي‪ ،‬يا ليتني قدمت في حياتي في الدنيا وهي الحياة الفانية‪ ،‬والدنيا دار‬
‫العمل لحياتي الباقية الحقيقية فإن الدار اآلخرة هي الحيوان فكال املعنيين صحيح مراد‪ِ .‬‬
‫َ َ ْ َ َ ٰ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ‬ ‫ً‬ ‫﴿ي ُقو ُل َيا َل ْي َت ِني َّات َخ ْذ ُت َم َع َّ‬
‫الر ُسو ِل َس ِبيَّل (‪ )27‬يا ويلتى ليت ِني لم أت ِخذ‬ ‫كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫َُ ً َ ً‬
‫فَّلنا خ ِليَّل (‪[ ﴾)28‬الفرقان‪ ]28-27 :‬وفي هذا دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في‬
‫كمالها وتحصيلها وكمالها وفي تثمين ملذاتها هي الحياة في دار القرار فإنها دار الخلد‬
‫والبقاء‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ ُ َ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫﴿فيوم ِئ ٍذ ال يع ِذب عذابه أحد﴾ [الفجر‪ْ ]25 :‬لن أهمل ذلك اليوم ونس ي العمل‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿وال ُيو ِث ُق َوثاق ُه﴾ [الفجر‪ ]26 :‬يخرجون بسَّلسل من نار ويسحبون على وجوههم في‬
‫الحميم ثم في النار يسجرون فهذا جزاء اْلجرمين)‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫﴿ف َي ْو َم ِئ ٍذ ال ُي َع ِذ ُب َعذ َاب ُه أ َح ٌد﴾ وعلى هذا يكون الضمير راجعا هلل عز وجل‪ ،‬فيومئذ ال‬
‫يعذب عذاب هللا أحد فإن عذاب هللا أشد وأبقى‪ ،‬وأن كل عذاب دون عذاب هللا كال‬
‫عذاب‪ِ .‬‬

‫‪265‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿وال ُيو ِث ُق َوثاق ُه أحد﴾؛ أي‪ :‬ال يوثق وثاق هللا أحد‪ ،‬فإن ذاك الوثاق شديد أليم فإنه من‬
‫النار مع اإلهانة البالغة‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َّ‬ ‫َ‬
‫وفي قراءة ﴿ف َي ْو َم ِئ ٍذ ال ُي َعذ ُب َعذ َاب ُه أحد (‪َ )25‬وال ُيوث ُق َوثاق ُه (‪[ ﴾)26‬الفجر‪،]26-25 :‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫فيكون الضمير في ﴿ َعذ َاب ُه﴾ راجعا إلى املعذب فيومئذ ال يعذب عذاب ذلك املعذب أحد‬
‫فإن عذابه أشد وأبقى وأعظم أملا‪ ،‬بل كل عذاب دون عذابه كال عذاب‪ ،‬وال يوثق وثاق‬
‫َ‬
‫ذلك املوثق أحد‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َّ َّ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬في هذه القراءة املعنى ال يعذب بدال منه أحد‪﴿ ،‬ال ُي َعذ ُب َعذ َاب ُه﴾‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬ال يعذب أحد بدال منه وال يوثق أحد بدال منه‪ ،‬فإنه ال يفدي أحد أحدا في ذلك اليوم‪ِ .‬‬
‫وهذا صحيح أيضا‪ ،‬وكل املعاني صحيحة وهذا اختالف تنوع وليس اختالف تضاد‪ِ .‬‬
‫(قال‪ :‬وأما من آمن باهلل واطمأن به وصدق رسله فيقال له‪ :‬يا أيتها النفس اْلطمئنة إلى‬
‫ذكر هللا الساكنة إلى حبه التي قرت عينها باهلل)‪.‬‬
‫فكانت مطمئنة في الدنيا باإليمان وذكر هللا والعمل الصالح‪ِ .‬‬
‫(ارجعي إلى ربك الذي رباك بنعمته)‪.‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ ﴿ :‬إل ٰى َرِب ِك﴾؛ أي‪ :‬إلى صاحبك فارجعي إلى جسده‪ ،‬فاملعنى‪ :‬ارجعي إلى‬
‫جسد صاحبك‪ ،‬لكن اْلظهر هو اْلولِ‪ :‬ارجعي إلى ربك سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫(ارجعي إلى ربك الذي رباك بنعمته وأسدل عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه‬
‫وأحبابه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اض َية َّم ْر ِض َّية﴾ [الفجر‪ ]28 :‬أي‪ :‬راضية عن هللا وعما أكرمها به من الثواب وهللا قد‬ ‫َ‬
‫﴿ر ِ‬
‫رض ي عنها)‪.‬‬
‫ً‬
‫اض َية﴾ أي‪ :‬عن ربها وبعملها فهي لسعيها راضية وحامدة ومرضية أرضاها هللا سبحانه‬ ‫َ‬
‫﴿ر ِ‬
‫وتعالى ورض ي عنها‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫(﴿ف ْادخ ِلي ِفي ِع َب ِادي (‪َ )29‬و ْادخ ِلي َجن ِتي (‪[ ﴾)30‬الفجر‪ ]30-29:‬وهذا تخاطب به الروح‬
‫يوم القيامة وتخاطب به وقت السياق واْلوت)‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿ َف ْاد ُخلي في ع َبادي﴾ هذه القراءة املتواترة يعني‪ :‬فادخلي في عبادي ِّ‬
‫املنعمين الصالحين‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫الذين كتبت لهم كرامتي‪ ،‬وهذا يقال للنفس املطمئنة عند حضور اْلجل وخروج الروح‪،‬‬
‫ويقال لها عند يوم القيامة‪ ،‬فالراجح العموم؛ ْلن يعض السلف قالوا هذا عند االحتضار‪،‬‬
‫وبعضهم قال يوم القيامة‪ ،‬والراجح أنه يعم اْلمرين‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫وفي قراءة ليست متواترة‪﴿ :‬فادخلي في ْ‬
‫عبدي﴾ هذا على معنى‪﴿ :‬ا ْر ِج ِعي ِإل ٰى َرِب ِك﴾؛ أي‪:‬‬
‫عبدي أي‪ :‬ادخلي في جسده‪ ،‬والقراءة غير متواترة‪ ،‬لكنه يفسر بها‪ِ .‬‬ ‫إلى صاحبك‪ ،‬فادخلي في ْ‬
‫ولكن اْلمر كما قلنا‪ :‬ارجعي إلى ربك الذي رباك وأنعم عليك بما تقدم وتفضل عليك بما‬
‫هو بين يديك من النعيم‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير هذه السورة‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫الحكم الكلية والفوائد الكبرى لسورة الفجر‪ِ :‬‬
‫أحب أن أذكر بعض ِ‬
‫‪ -‬فمن ِحكم هذه السور الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان قدرة هللا عز وجل وتدبيره لخلقه‪،‬‬
‫وأنه الرب املستحق للعبادة سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن ِحكم السور الكلية‪ :‬بيان سنة هللا في أعدائه وأعداء أوليائه املؤمنين‪ ،‬وأنه قد ُيملي‬
‫لهم فإذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬وأن الذلة دائما ْلعداء هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن ِحكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن اإلكرام عند هللا ليس بكثرة متاع‬
‫الدنيا‪ ،‬وأن اإلهانة عند هللا ليست بقلة متاع الدنيا‪ ،‬وإنما اإلكرام عند ربنا سبحانه‬
‫بتوحيده وطاعته‪ ،‬والشكر عند السراء والصبر عند الضراء‪ ،‬فمن آمن باهلل ووحده واجتهد‬
‫صابرا على بالء هللا فهو املُ ْكرم ً‬
‫حقا عند هللا‪ ،‬وله‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شاكرا لنعم هللا عز وجل‬ ‫في طاعته‪ ،‬وكان‬
‫اإلكرام في الدنيا واآلخرة‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن ِحكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن من أهمل الزراعة في الدنيا يندم‬
‫وقت الحصاد في اآلخرة‪ ،‬فالدنيا مزرعة‪ ،‬وأوان حصاد ثمارها في اآلخرة‪ ،‬فمن أهمل الزرع‬
‫في الدنيا فإنه يندم عند وقت أوان الحصاد في اآلخرة‪ِ .‬‬

‫‪267‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬ومن ِحكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن النفس املطمئنة في الدنيا بتوحيد‬
‫ً‬
‫هللا وذكره وطاعته تكون مطمئنة في اآلخرة‪ ،‬فلها الطمأنينة عند لقاء ربها‪ ،‬ولها النعيم في‬
‫جنة ربها‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪268‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة البلد‪.‬‬
‫الر ِح ِيم‪:‬‬‫الر ْح َمن َّ‬ ‫هللا َّ‬‫ِبس ِم ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ََ َََْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫﴿ال أق ِس ُم ِب َٰهذا ال َبل ِد (‪َ )1‬وأنت ِح ٌّل ِب َٰهذا ال َبل ِد (‪َ )2‬و َو ِال ٍد َو َما َول َد (‪ )3‬لق ْد خلقنا‬
‫ُ َ َ ْ ُ ً ُّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫نسان ِفي ك َب ٍد (‪ )4‬أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد (‪َ )5‬يقو ُل أ ْهلكت َماال ل َب ًدا‬ ‫ا ِإل‬
‫(‪َ )6‬أ َي ْح َس ُب َأن َّل ْم َي َر ُه َأ َح ٌد (‪َ )7‬أ َل ْم َن ْج َعل َّل ُه َع ْي َن ْين (‪َ )8‬ول َس ًانا َو َش َف َت ْين (‪َ )9‬و َه َد ْي َناهُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َ ُّ َ ََ‬ ‫ََ ََْ َ َ ْ َََُ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ََ َْ‬ ‫َّ‬
‫الن ْج َد ْي ِن (‪ )10‬فَّل اقت َح َم ال َعق َبة (‪ )11‬وما أدراك ما العقبة (‪ )12‬فك رقب ٍة(‪ )13‬أو‬
‫ُ َ َ‬ ‫ً َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ً َ ْ‬ ‫َ‬ ‫إ ْط َع ٌ‬
‫يما ذا َمق َرَب ٍة (‪ )15‬أ ْو ِم ْس ِكينا ذا َمت َرَب ٍة (‪ )16‬ث َّم كان‬ ‫ام ِفي َي ْو ٍم ِذي َم ْسغ َب ٍة (‪ )14‬ي ِت‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫َ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الص ْبر َو َت َو َ‬ ‫ين َآم ُنوا َو َت َو َ‬ ‫م َن َّالذ َ‬
‫اب اْل ْي َمن ِة (‪)18‬‬ ‫اص ْوا ِباْل ْر َح َم ِة (‪)17‬أول ِئك أصح‬ ‫ِ‬
‫اص ْوا ب َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ ْ َ ٌ ُّ ْ َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ ْ َ ُ َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫ص َدة (‪ِ .﴾)20‬‬ ‫اب اْلشأ َم ِة (‪ )19‬علي ِهم نار مؤ‬ ‫ين كف ُروا ِبآي ِاتنا هم أصح‬ ‫وال ِذ‬
‫ببعض؛ ولذلك لم‬ ‫ٍ‬ ‫هذه السورة الكريمة املباركة معانيها متصلة‪ ،‬وآياتها يأخذ بعضها‬
‫نقسمها ولم نقطعها‪ِ .‬‬
‫وإحسانا إليهم لتأكيد املُ َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قسم‬ ‫ففي هذه السورة املكية ُي ْق ِسم ربنا سبحانه رحمة بعباده‬
‫حرمه سبحانه وتعالى يوم خلق السماوات‬ ‫قسم سبحانه بمكة البلد الحرام الذي َّ‬ ‫ُ‬
‫عليه‪ ،‬في ِ‬
‫نبيه الخليل إبراهيم عليه السالم‪ ،‬وفيه املسجد الحرام الذي هو‬ ‫َ‬
‫تحريمه ُّ‬ ‫واْلرض‪ ،‬وأظهر‬
‫أحب بقاع اْلرض إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وفيه الكعبة التي لها الحرمة العظيمة‪ ،‬وفيه‬
‫مقام إبراهيم الذي فيه آية كبرىِ‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫يقسم بمكة حال ِّ‬
‫كون النبي صلى هللا عليه وسلم حاال بها فتزداد به شرفا إلى شرفها‪،‬‬
‫ً‬
‫وحال إحاللها للنبي صلى هللا عليه وسلم حيث ستزداد حين ذاك شرفا بإسالم أهلها‬
‫وتطهيرها من الكفار والكفر واْلصنام‪ِ .‬‬
‫وتضمن هذا القسم القسم بالنبي صلى هللا عليه وسلم الذي من شرفه أن هللا يحل له‬
‫ً‬
‫شيئا لم يحله ْلحد من عباده ال من قبله وال من بعده‪ ،‬حيث يحل هللا له القتال في مكة‬
‫ساعة من نهار وذلك لشرفه صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ويقسم هللا عز وجل بكل والد من إنسان أو حيوان‪ ،‬وبكل مولود‪ِ ،‬وفي التناسل آية عظيمة‬
‫هلل سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬

‫‪269‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وجواب القسم‪ :‬لقد خلقنا اإلنسان في كبد‪ ،‬فخلقناه في حسن قامة واستقامة وميزناه‬
‫بخلقته عن بقية املخلوقات‪ ،‬فخلقته أحسن خلقة‪ ،‬وأقوم خلقة‪ ،‬وخلقه هللا عز وجل‬
‫ليعمل العمل الكثير في الدنيا لدينه بأن يعبد هللا سبحانه وتعالى وحده‪ ،‬ولدنياه التي لن‬
‫يحصل ما فيها إال بالسعي والتعب واملعاناة‪ ،‬فهو ينتقل من تعب إلى تعب‪ ،‬وسيكون بعد‬
‫موته في تعب شديد ومعاناة شديدة إن لم يطع هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فاهلل أخبرك أيها اإلنسان أنه قد خلقك في كبد‪ ،‬فما خلقت إال لتعمل‪ِ :‬‬
‫إما لدينك وهو اْلصل في خلقتك بأن تعبد هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وإما لدنياك التي لن تحصل ما فيها إال بتعب‪ِ .‬‬
‫فأنت ما دمت في الدنيا تنتقل من تعب إلى تعب‪ ،‬وبعد املوت عند لقاء هللا سيكون‬
‫اإلنسان في تعب شديد إال إذا أطاع هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فال راحة لإلنسان إال في الجنة‪،‬‬
‫حيث يضع رجله فيها إن كان من أهلها‪ ،‬فيضيف بزيادة كبد الحوت‪ ،‬ويذبح له وْلهل‬
‫الجنة الثور املربى في الجنة كرامة لهم عند دخولهم‪ِ .‬‬
‫هناك يرتاح اإلنسان‪ ،‬فمن أتعب نفسه قبل ذلك في طاعة هللا ارتاح في الجنة‪ ،‬ومن‬
‫أعرض عن طاعة هللا انتقل من تعب إلى تعب ِّ‬
‫أشد منه‪ِ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ظلوم جهول مغتر بنفسه متكبر‪ ،‬فيظن أنه ال‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا اإلنسان مع ضعفه اْلصل فيه أنه‬
‫يقدر عليه أحد‪ ،‬وأنه لن يقدر عليه أحد مطلقا‪ ،‬فيغفل عن قدرة هللا‪ ،‬وأن هللا عز وجل‬
‫على كل ش يء قدير‪ ،‬ومن كبره وجهله يقولِ‪ :‬إني صاحب أموال كثيرة لن تنقطع عني‪ ،‬فأنا‬
‫قد أهلكت في شهواتي وملذاتي أموال كثيرة مجتمعة كالجبال‪ ،‬جمعت بعضها على بعض‪،‬‬
‫فلم يذهب مالي ولن يذهب مالي‪ِ .‬‬
‫أفال يعلم ذلك املغرور أن الذي أعطاه املال قادر على أن يسلبه منه في لحظة؟! وقادر على‬
‫أن يأخذه من املال في لحظة؟! إن هللا على كل ش يء قدير‪ ،‬وأن الذي خلقه قادر على إماتته‬
‫وبعثه ومجازاته‪ِ .‬‬

‫‪270‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومن ظلم ذلك اإلنسان املتكبر املتجبر الظلوم الجهول أنه يظن أنه ال يرصده أحد‪ ،‬وال‬
‫يحفظ عليه عمله أحد‪ ،‬أفال يعلم ذلك املغرور أن هللا ُيراقبه‪ ،‬وأن هللا يراه ويسمعه‪ ،‬وأن‬
‫عليه مالئكة تحفظ عليه أعماله؟! ِ‬
‫أفال يفكر هذا املتجبر املتكبر في أصل خلقته وفي ضعفه وفي نفسه حتى يعلم أنه ضعيف ال‬
‫يملك من أمر نفسه شيئا وال يملك لنفسه شيئا؟! ِ‬
‫ألم ينعم هللا عليه فيجعل له عينين يبصر بهما ويرى بهما؟! ولو شاء هللا ملا جعل له ذلك‪،‬‬
‫ولو شاء هللا لذهب بنورهما فما استطاع أن يعيد ذلك النورِ‪ِ .‬‬
‫ومن آيات التي يريها للناس وهي متعلقة بهذا أنك تجد طبيب عيون يفقد بصره ويصبح‬
‫أعمى‪ ،‬وال يصنع لنفسه شيئا‪ ،‬فهو من ضعفه ال يستطيع إيجاد العينين‪ ،‬وال أن يحافظ‬
‫عليهما بل هللا عز وجل خلقهما وهللا عز وجل يحفظهما‪ِ .‬‬
‫ألم ينعم هللا عليه فجعل له لسانا ينطق به‪ ،‬ويعبر به عن ما يريد؟! ِ‬
‫سبحان هللا! من أين تأتي هذه الحروف؟! يخرج هواء من الفم‪ ،‬فإذا به يكون حروفا‪ ،‬وإذا‬
‫به يكون كالما‪ ،‬من أين تأتي؟ وهللا لو اجتمع الخلق كلهم ملا استطاعوا أن يخرجوا حرفا‬
‫واحدا‪ ،‬هللا جعل له ذلك‪ ،‬وجعل له شفتين تتشكل بهما الحروف‪ ،‬وفيهما منافع عظيمة‪،‬‬
‫ولو شاء هللا لسلبه ذلك‪ ،‬فكم من إنسان له لسان‪ ،‬وله شفتان‪ ،‬ويخرج من جوفه هواء‬
‫كالذي يخرج من أجواف الناس‪ ،‬لكنه ال يتكلم بحرف‪ ،‬وال يتكلم بكلمة‪ ،‬إن اإلنسان‬
‫ضعيف‪ ،‬وإن الذي أنعم عليه بهذا هو القوي القدير سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ألم يرشده ربه عند صغره عند والدته وهو ال يعلم شيئا‪ ،‬وال يدرك شيئا؟! ِ‬
‫ألم يرشده ربه إلى ثديي أمه وأن فيهما غذاءه‪ ،‬ويعلمه كيف يمتص ذلك اللبن من ذلك‬
‫الثدي؟! ِ‬
‫فهداه النجدين‪ ،‬هداه طريقي تغذيته وهو صغير وهما هذان الثديان‪ ،‬فيذهب مباشرة إلى‬
‫ثدي أمه يلتقمه‪ ،‬ال يذهب إلى سرتها‪ ،‬وال يذهب إلى أصبعها‪ ،‬وإنما يذهب إلى ثديها‪ ،‬وهو ال‬
‫يعلم شيئا‪ ،‬وال يدرك شيئا‪ ،‬من الذي هداه؟ إنه هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬

‫‪271‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وملا كبر هداه هللا فعلمه طريق الخير وطريق الشر‪ ،‬فبعث له رسال يدعونه إلى الخير‪،‬‬
‫ويعلمونه الخير‪ ،‬ويبينون له الشر‪ ،‬وينهونه عن الشر‪ِ .‬‬
‫بلى وربي‪ ،‬وكل ذلك يدل على قوة هللا‪ِ ،‬وعلى قدرة هللا‪ ،‬وعلى تدبير هللا‪ ،‬وعلى ضعف‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأنه ال يدبر لنفسه شيئا‪ ،‬وأنه ال يملك له من دون هللا شيئا‪ِ .‬‬
‫وذلك اإلنسان الظلوم الجهول مع أن هللا هداه النجدين‪ ،‬وبين له طريق الخير ويسر له‬
‫سلوكه‪ ،‬وبين له طريق الشر وحذره من سلوكه‪ ،‬لم يسلك طريق الهداية؛ ْلنها ليس فيها‬
‫شهوة حاضرة‪ ،‬ويرى طريقها صعبا‪ ،‬فلم يسلك ذلك الطريق الذي يتجاوز به العقبة التي‬
‫هي النار يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫ََ ََْ َ َ ْ َََُ‬
‫﴿وما أدراك ما العقبة﴾ [البلد‪ ]12 :‬ما أعلمك أيها املخاطب ما العقبة‪ ،‬بينها لك ربك‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وإذا سمعت في القرآن (ما أدراك) فانتظر البيان‪ ،‬فكل ما قال هللا عز وجل‬
‫فيه (ما أدراك) فقد بينه هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫إن الطريق الصعبة في الدنيا الذي ت َتجاوز به العقبة يوم القيامة هو اإليمان باهلل‪،‬‬
‫واإلحسان إلى خلق هللا‪ ،‬والرحمة بهم‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬فك رقبة اْلسير من أسره‪ ،‬والرقيق من‬
‫رقه‪ ،‬ومنها‪ :‬إطعام الضعفة في يوم ذي مجاعة‪ ،‬فإطعام الطعام من شيم الكرام‪ ،‬ومن‬
‫أفعال الصالحين‪ ،‬ويعظم فضل إطعام الطعام إذا كان ذلك عند الحاجة‪ ،‬ويعظم إطعام‬
‫الطعام عند الحاجة؛ إذا كان للضعفة الذين ال ُيرجى منهم خير دنيوي‪ ،‬وال ُيخاف بأسهم‪ِ .‬‬
‫فمما يجتاز به اإلنسان العقبة‪ ،‬وينجو به من النار أن يطعم الضعفة في يوم شديد املجاعة‬
‫يشتهي فيه الناس الطعام فال يجدونه‪ ،‬ويبحثون عنه فال يحصلونه‪ِ .‬‬
‫وزاد؛ بأن يطعم يتيمه القريب‪ ،‬الذي من أقربائه‪ ،‬فيطعم اليتيم الذي فقد أباه وهو صغير‬
‫قبل بلوغه‪ ،‬ذكرا كان أو أنثى‪ ،‬السيما إذا كان من أقربائه‪ ،‬فيكون له حق يتمه‪ ،‬وحق‬
‫قرابته‪ِ .‬‬
‫وكذلك أن يطعم املسكين الذي ال يجد شيئا‪ ،‬فهو ال يملك إال التراب في يده إن كان في يده‬
‫ش يء‪ ،‬فال تجد في يده إال ترابا‪ ،‬إن كان في يده ش يء‪ ،‬وكأنه قد لصق بالتراب لشدة حاجته‪،‬‬

‫‪272‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فكأنه ال لباس يحول بينه وبين التراب‪ ،‬وال بساط يحول بينه وبين التراب‪ ،‬فهو مسكين‬
‫شديد املسكنة‪ ،‬ال يملك شيئا‪ِ .‬‬
‫وكل ذلك الذي تقدم من اإلحسان إلى خلق هللا ال ينفع إال إذا كان مع إيمان‪ ،‬فشرط قبوله‬
‫أن يكون العامل به مؤمنا باهلل عز وجل‪ ،‬يفعله إيمانا واحتسابا‪ ،‬إيمانا باهلل‪ ،‬وإيمانا بوعد‬
‫هللا‪ ،‬واحتسابا ملا عند هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فكان من الذين آمنوا باهلل وبموعود هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وكان من أهل الصبر‪ ،‬فإن الثبات‬
‫على طريق االستقامة ال يكون إال للصابرين‪ ،‬فال إيمان ملن ال صبر له‪ِ .‬‬
‫والصبر البد له من التواص ي به‪ ،‬فيحتاج املؤمن في استقامته إلى أن يوص ي غيره‬
‫باالستقامة‪ ،‬وأن يوصيه غيره باالستقامة‪ ،‬فيكون في ذاته صابرا على طاعة هللا وال سيما في‬
‫زمن الغربة‪ ،‬ال سيما في آخر الزمان حيث يقل املعين على الطاعة‪ ،‬ويكثر املثبط عن طاعة‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ويكون صابرا عن معصية هللا ال سيما في زمن الفتن حيث تقترب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتسهل له وتكثر عليه‪ ،‬ويكون صابرا على أقدار هللا وعلى بالء هللا‪،‬‬ ‫املعاص ي من اإلنسان‪،‬‬
‫ويوص ي غيره بذلك ويوصيه غيره بذلك‪ِ .‬‬
‫رحم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فمن ال يرحم ال ُي َ‬
‫رحم‪ ،‬ومن‬ ‫والبد لإلنسان في دنياه من رحمة حتى ُي َ‬

‫رحم عباد هللا رحمه هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬والرحمة تحتاج إلى تواص ي بها‪ ،‬وأن يوص ي‬
‫املؤمنون بعضهم بعضا ِ‬
‫بالرحمة‪ ،‬أولئك الذين آمنوا باهلل وأحسنوا إلى خلق هللا ورحموا‬
‫عباد هللا أصحاب اإلكرام من هللا‪ ،‬فاهلل يكرمهم‪ِ .‬‬
‫وأما من قابلهم فكفر باهلل‪ ،‬ولم يرحم عباد هللا ولم يحسن إلى عباد هللا فأولئك أصحاب‬
‫اإلذالل واإلهانة من هللا عز وجل‪ ،‬ولهم العذاب الشديد يوم القيامة‪ ،‬فتوصد عليهم النار‪،‬‬
‫وتطبق عليهم النار‪ُ ،‬ويجعل ْلبوابها ُعمد حتى ال َ‬
‫تفتح أبدا‪ ،‬فال يخرج من لهيبها ش يء إلى‬ ‫َ‬
‫خارجها‪ ،‬وال يخرج من ِّ‬
‫حرها ش يء إلى خارجها‪ ،‬بل كل عذابها وكل لهيبها على أهلها مسعر‪،‬‬
‫هي كانت قبل دخول أهلها إليها اشتكت إلى ربها فقالت‪( :‬يا ربي أكل بعض ي بعضا)‪ ،‬من‬
‫شدة ما فيها‪ ،‬فأذن لها بنفسين‪ :‬نفس في الصيف‪ ،‬ونفس في الشتاء‪ ،‬فأشد ما يجد الناس‬
‫ََ‬ ‫ََ‬
‫س جهنم‪ِ .‬‬
‫س جهنم‪ ،‬وأشد ما يجد الناس من البرد من نف ِ‬
‫من الحر من نف ِ‬
‫‪273‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫لكن إذا ُأدخل أهلها إليها ُوأطبقت عليهم أبوابها‪ ،‬وأوصدت ُ‬


‫بالع َمد‪ ،‬فإنه ال يخرج منها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ش يء‪ ،‬أعني من لهيبها وعذابها‪ ،‬بل َّ‬
‫تسعر على أصحابها‪ ،‬فإن كان أهلها كفارا فإنها تطبق‬
‫عليهم أبد اآلباد‪ ،‬ال تبيد وال يخرجون منها‪ ،‬وإن كان أهلها من عصاة املوحدين فإنها تطبق‬
‫عليهم حتى إذا شاء هللا أن يخرجهم أخرجهم‪ ،‬فمنهم من يخرج سريعا بشفاعة الشفعاء‬
‫قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬من عصاة املوحدين من يدخل جهنم ولكنه ُيخرج منها‬
‫بشفاعة الشافعين بإذن هللا سبحانه وتعالى قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬ومنهم من‬
‫يمكث فيها زمنا ثم يخرج منها‪ ،‬ومنهم من يطول عليه الزمن في نار جهنم حتى يكون كأنه‬
‫مؤبد فيها وإن كان مآله إلى الخروج منها‪ِ .‬‬
‫فنعوذ باهلل من النار نعوذ باهلل من النار نعوذ باهلل من النار‪ ،‬اللهم نجنا ووالدينا وأهلينا‬
‫وذرياتنا وأحبابنا من النار‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة العظيمة املكية املباركة‪،‬‬
‫ونرجع إلى التفسير التفصيلي‪ ،‬ونقرأ ما ذكره اإلمام الفقيه املفسر اْلصولي املتفنن؛ َمن‬
‫َو َه َب ُه هللا البصيرة فجمع كثيرا من علم املتقدمين‪ ،‬وعندما تقرأ له تحس كأنه قد سبق‬
‫زمنه فذكر من اْلحكام واملسائل ما يناسب الزمن الذي بعده‪ ،‬وذاك فضل هللا يؤتيه من‬
‫يشاء‪ ،‬اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا وسائر علماء املسلمين‪ِ .‬‬
‫أحبوا العلماء يا إخوة وادعوا لهم‪ ،‬فإن ذلك قربى إلى هللا‪ ،‬وامليت أخوك غائب فإذا‬
‫دعوت له قال لك امللك‪ :‬آمين ولك مثله‪ ،‬والعلماء حقهم علينا عظيم‪ ،‬وال نزال بخير ما‬
‫أحببنا علماء أهل السنة‪ ،‬وإن لم نرض شيئا من أقوالهم ْلن غيرهم من أهل السنة قال‬
‫قوال هو أحق بالرض ى من قولهم‪ ،‬لكننا نحبهم‪ ،‬ويكون االبتالء الحقيقي للقلوب عندما‬
‫يأتيك ش يء من اْلذى من عالم من علماء أهل السنة فتبقى محبا له‪ ،‬داعيا له‪ ،‬ناشرا‬
‫لفضله‪ ،‬غيورا على عرضه؛ ْلنك تتقرب إلى هللا ال ْلحد من البشر‪ ،‬ومن علماء أهل السنة‬
‫الكبار الشيخ السعدي رحمه هللا وهو شيخ شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا‪ ،‬وهو ممن‬
‫أثر تأثيرا بالغا عظيما في الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا رحمة واسعة وسائر علماء املسلمين‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪274‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى غفر له ولشيخنا وللسامعين‪:‬‬
‫يقسم تعالى بهذا البلد اْلمين‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫يقول هللا‪﴿ :‬ال أق ِس ُم ِب َٰهذا ال َبل ِد﴾؛ قال بعض اْلفسرين‪( :‬ال) هنا زائدة‪ ،‬صلة لتأكيد‬
‫القسم‪ ،‬وفيها بيان أن املقسم عليه ثابت ال شك فيه‪ ،‬وال يحتاج إلى قسم‪ ،‬لكن هللا يقسم‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬
‫عليه إحسانا لعباده ليزدادوا إيمانا‪ ،‬ولتطمئن قلوبهم‪ .‬ومعنى‪﴿ :‬أق ِسم﴾؛ يعني‪ :‬أحلف‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ‬
‫﴿ب َٰهذا ال َبل ِد﴾؛ هو مكة بإجماع العلماء‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫قال‪ :‬يقسم تعالى بهذا البلد اْلمين وهو مكة اْلكرمة أفضل البلدان على اإلطَّلق‪،‬‬
‫خصوصا وقت حلول الرسول صلى هللا عليه وسلم فيها ‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫َ َ َ ٌّ َٰ َ ْ َ َ‬
‫﴿وأنت ِحل ِبهذا البلد﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬وأنت حال بهذا البلد‪ ،‬يعني وأنت مقيم بهذا‬
‫البلد فإنه يزداد شرفا إلى شرفه‪ ،‬وهذا ما ذكره الشيخ هنا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬في هذا إشارة إلى أنه سيخرج من مكة‪ ،‬وأنه ُ‬
‫سيخرج من مكة‪ْ ،‬لن‬
‫ًّ‬ ‫َ َ‬
‫سيخرج من مكة‪ ،‬وقد‬‫حاال فيها‪ ،‬وهذا يشعر بأنه َ‬ ‫هللا قال‪َ ﴿ :‬وأنت ِح ٌّل﴾ يعني حال كونك‬
‫أخرجه قومه من مكة‪ِ .‬‬
‫َ َ َ ٌّ َٰ َ ْ َ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى قول ربنا‪﴿ :‬وأنت ِحل ِبهذا البلد﴾ وهذا البلد حالل لك‪،‬‬
‫سي َحل لك هذا البلد املحرم‪ ،‬وفي هذا بشارة للنبي صلى هللا عليه وسلم أنه سيفتح‬ ‫حيث ُ‬
‫مكة‪ ،‬فيكون هذا قسما ثانيا ِبحل ربنا مكة لنبيه صلى هللا عليه وسلم ملا في ذلك من‬
‫الشرف ملحمد صلى هللا عليه وسلم ومن العز لدينه‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫ََ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬وأنت ِحل﴾ أي‪ :‬أنت حالل غير مح ِرم‪ ،‬وليس املراد النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم فقط‪ ،‬بل كل حالل؛ يعني يقول ربنا‪ :‬أقسم بهذا البلد ومن فيه ُم ِحلون غير‬
‫محرمين فكيف إذا كانوا محرمين؟ ال شك أن اْلمر أعظم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬ال)هنا نافية (ال أقسم) ال هنا نافية‪ ،‬واملعنى ال أقسم بهذا البلد‪،‬‬
‫ملاذا؟ ملاذا ال يقسم هللا بهذا البلد؟ ِ‬

‫‪275‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬
‫مستحل في هذا البلد فدمك‬ ‫﴿ َوأنت ِح ٌّل ِب َٰهذا ال َبلد﴾ ما معنى وأنت حل؟ يعني وأنت‬
‫َ‬
‫مستحل يشتمونك ويسبونك ويلصقون بك‬ ‫مستحل يكيدون لك يريدون قتلك‪ ،‬وعرضك‬ ‫َ‬

‫التهم الكاذبة‪ ،‬فال أقسم بهذا البلد ما دمت مستحال في هذا البلد‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫وقال بعضهم ‪-‬الذين يقولون أن (ال) هنا نافية‪﴿ :-‬ال أق ِس ُم ِب َٰهذا ال َبل ِد (‪َ )1‬وأنت ِح ٌّل﴾ أي‬
‫حال عن البلد‪ ،‬أي‪ :‬خارج عنها‪ ،‬أي ال أقسم بهذا البلد إذا أخرجك قومك منه‪ِ .‬‬ ‫ٌّ‬
‫َ َ‬
‫فصارت ﴿ َوأنت ِح ٌّل﴾ ( ِحل) هنا لها أربعة معاني‪ِ :‬‬
‫َ َ‬
‫‪َ ﴿- .1‬وأنت ِح ٌّل﴾ يعني‪ :‬وأنت حال في مكة‪ ،‬أقسم بمكة وأنت حال موجود فيها‪.‬‬
‫‪ .2‬والثاني‪ :‬أقسم بمكة وأنت حالل فيها‪ ،‬يعني‪ :‬حالل من الحل‪ ،‬وأنت حالل فيها غير‬
‫محرم‪.‬‬
‫ِ‬
‫َِ‬
‫مستحل‬ ‫َ‬
‫مستحل‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬ال أقسم بمكة ْلنك‬ ‫‪ .3‬والثالث‪ :‬بمعنى حل‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫فيها‪.‬‬
‫‪ .4‬والرابع‪( :‬حل) بمعنى حال عن‪ ،‬اْلول‪ :‬حال في‪ ،‬الرابع‪ :‬حال عن‪ ،‬يعني‪ :‬ال أقسم‬
‫بمكة وأنت حال عنها ُمخرج منها‪.‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬ال) هنا للرد على املكذبين بالبعث والنبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فيكون املعني‪ :‬ال؛ ليس اْلمر كما تزعمون بل ستموتون وتبعثون وتجا ِزون‪ ،‬أقسم بهذا‬
‫البلد‪ِ .‬‬
‫فتكونِ‪ :‬ال نافية لكن ليست نافية للقسم‪ ،‬نافية لزعمهم أنهم لن يبعثوا وأن محمدا صلى‬
‫هللا عليه وسلم كذاب ‪-‬يزعمون هذا‪ ،-‬فيكون املعنى‪ :‬ال‪ ،‬ليس اْلمر كما تزعمون‪ ،‬بل‬
‫َ‬
‫وستجازون بأعمالكم‪ ،‬أقسم‬ ‫محمد صلى هللا عليه وسلم صادق‪ ،‬وستموتون وستبعثون‬
‫بهذا البلدن ِ‬
‫هذه املعاني كلها ذكرها املفسرين‪ ،‬لكن أظهرها اْلول‪ ،‬وأن (ال) لتوكيد القسم‪ ،‬وأن هللا‬
‫يقسم بمكة حال كون النبي صلى هللا عليه وسلم حاال فيها‪ ،‬وحال كونها حالال له في‬
‫املستقبل‪ ،‬وحال كونه حالال فيها غير حرام‪ ،‬هذا الذي عليه اْلكثر‪ ،‬وهو اْلظهر إن شاء هللا‬
‫عز وجل‪ ،‬وإن كانت جميع املعاني متجهة على ما بيناه وفصلناه‪ِ .‬‬

‫‪276‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫﴿و َو ِال ٍد َو َما َول َد﴾ أي‪ :‬آدم وذريته‪.‬‬
‫َ‬
‫َ‬
‫﴿و َو ِال ٍد َو َما َول َد﴾ أي‪ :‬ووالد والذي ولده الوالد؛ يعني‪ :‬ومن ولده الوالد‪،‬‬
‫هذا أحد اْلقوال‪َ :‬‬

‫(فالوالد) هو آدم والد البشر جميعا‪( ،‬وما ولد) هم البشر جميعا‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬ووالد رزقه هللا الولد ووهب له الولد‪ ،‬وما ولد‪( ،‬ما) نافية‪ ،‬والعقيم الذي لم يولد‬
‫له‪ ،‬فيكون هللا أقسم بمن ولد وبمن لم يلد‪ ،‬هذا قو ِل‪ِ .‬‬
‫َ َ‬
‫﴿و َما َول َد﴾ أي‪ :‬لم يلد‪ ،‬فيكون هللا أقسم بالصنفين‪ :‬من يلد‪،‬‬ ‫﴿و َو ِال ٍد﴾ وهبه هللا الولد‪،‬‬
‫َ‬

‫ومن ال يلد‪ِ .‬‬


‫َ َ‬
‫﴿و َما َول َد﴾ هم اْلنبياء بعده‪،‬‬ ‫﴿و َو ِال ٍد﴾ هو إبراهيم عليه السالم‪،‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬

‫فإن جميع اْلنبياء بعد إبراهيم عليه السالم من ذرية إبراهيم عليه السالم‪ ،‬فصار املعنى‪:‬‬
‫َ َ‬
‫﴿و َما َول َد﴾ واْلنبياء من بعده فإنهم من ذريته‪ِ .‬‬ ‫﴿و َو ِال ٍد﴾ أي‪ :‬وإبراهيم خليل هللا‪،‬‬ ‫َ‬

‫﴿و َو ِال ٍد﴾ أي‪ :‬كل والد سواء كان إنسانا أو حيوانا‪ ،‬ويشمل هذا ما‬ ‫واملعنى اْلعم أولى‪َ ،‬‬
‫َ َ‬
‫﴿و َما َول َد﴾ أي‪ :‬ما ولده ذلك الوالد سواء كان إنسانا أو حيوانا‪،‬‬ ‫ذكره بعض املفسرين‪،‬‬
‫ُ‬
‫فهذا أولى ما تحمل عليه اآلية؛ ْلنه يشمل جميع ما ذكره املفسرون‪ِ .‬‬
‫ََ ْ َََْ ْ َ َ َ‬
‫نسان ِفي ك َب ٍد﴾‪ ،‬يحتمل أن اْلراد من ذلك ما‬ ‫اإل‬
‫قال‪ :‬واْلقسم عليه قوله‪﴿ :‬لقد خلقنا ِ‬
‫يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا وفي البرزخ ويوم يقوم اْلشهاد‪ ،‬وأنه ينبغي له أن‬
‫يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد ويوجب له الفرح والسرور الدائم‪ ،‬وإن لم يفعل‬
‫فإنه ال يزال يكابد العذاب الشديد أبد اآلباد‪.‬‬
‫ويحتمل أن اْلعنى‪ :‬لقد خلقنا اإلنسان في أحسن تقويم وأقوم ِخلقة يقدر على‬
‫التصرف واْلعمال الشديدة‪ ،‬ومع ذلك فإنه لم يشكر هللا على هذه النعمة العظيمة‪،‬‬
‫بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿في ك َب ٍد﴾ ما معنى الكبد هنا؟ ِ‬
‫ِ‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬في تعب ومعاناة شديدة‪ ،‬فهو يخرج من تعب إلى تعب‪ ،‬فيخرج من بين‬
‫الصلب والترائب‪ ،‬ثم يتخلق في الرحم ال حيلة له‪ ،‬ثم يخرج من ذلك املخرج‪ ،‬فإذا خرج إلى‬
‫الدنيا صاح‪ ،‬ثم يكون ضعيفا يتألم وال يستطيع أن يعبر عن أمله إال بالبكاء‪ ،‬وال يستطيع أن‬

‫‪277‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يدل أحدا على أمله إال بالبكاء‪ ،‬ثم تظهر أسنانه ويعاني املعاناة الشديدة عند ظهورها‪ ،‬ثم‬
‫يعاني في الحفاظ عليها‪ ،‬ثم يعاني في آخر عمره غالبا من أملها‪ ،‬ويتعب في طلب رزقه‪ ،‬وهكذا‬
‫يخرج من تعب إلى تعب‪ ،‬فإذا حضر اْلجل أتته سكرات املوت‪(( :‬وإن للموت سكرات)) كما‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فيتعب عند ذاك‪ ،‬وإذا أدخل قبره ُ‬
‫ضم في قبره ضمة لن‬
‫ينجو منها أحد‪ ،‬وإذا ُبعث أدنيت الشمس من رؤوس الخالئق‪َ ،‬ووقف ال يدري ما ُيصنع به‬
‫حتى يقض ي هللا بين العباد‪ ،‬ثم إن كان ممن كتب هللا له أن يسير على الصراط سار على‬
‫أحد من السيف على قدر عمله‪ ،‬فإذا سلم‬‫الصراط‪ ،‬وهو منصوب على متن جهنم وهو ُّ‬

‫ونجا ُحبس مع إخوانه املؤمنين على القنطرة حتى ُيقتص لبعضهم من بعض‪ ،‬وفي كل هذا‬
‫تعب وألم‪ ،‬فال راحة له إال بالجنة إن كان من أهلها‪ ،‬وإال انتقل من تعب إلى تعب أشد فال‬
‫راحة له أبدا‪ ،‬الكافر ال راحة له أبدا أبدا‪ ،‬وأما املؤمن فإن له الراحة في الجنة‪ ،‬ولذلك ملا‬
‫سئل اإلمام أحمد رحمه هللا‪ :‬متى الراحة يا أبا عبد هللا؟ قال‪( :‬إذا وضعت رجلك في‬
‫الجنة)‪ ،‬هناك الراحة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫الخلقة‪ ،‬فقامته حسنة‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬الكبد) هو حسن القامة واالستقامة في ِ‬
‫وخلقته حسنة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬الكبد) هو السماء‪ ،‬يعني في كبد السماء‪ ،‬فيكون املراد باإلنسان‬
‫هنا آدم عليه السالم وحواء‪ِ .‬‬
‫وال مانع من املعاني الثالثة كلها‪ ،‬فاإلنسان خلق في السماء‪ ،‬أمنا وأبونا خلقا في السماء آدم‬
‫ُ‬
‫وحواء‪ ،‬وخلق في الدنيا في تعب‪ ،‬وينتقل من تعب إلى تعب‪ ،‬وقد أحسن هللا له ِخلقته‬
‫فخلقه في أحسن تقويم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فحسب بجهله وبظلمه أن هذه الحالة ستدوم له‪ ،‬وأن سلطان تصرفه ال ينعزل‪،‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫َ‬
‫ولهذا قال تعالى‪﴿ :‬أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد﴾‪.‬‬
‫هنا إما أن الكالم عن اإلنسان بجنسه فيكون هذا هو اْلصل في اإلنسان؛ أنه جهول ظلوم‬
‫متكبر متعجرف ال يدرك حقيقة نفسه إال من رحم هللا فأنار بصيرته‪ِ .‬‬

‫‪278‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وإما أن تكون (ال) للعهد‪ ،‬فيكون الحديث عن اإلنسان املعهود في السور املكية وهو الكافر‬
‫الذي كفر باهلل عز وجل‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿أ َي ْح َس ُب﴾ أي‪ :‬أيظن‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫َ‬
‫﴿أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد﴾ فيأخذه أو يأخذ ما أعطاه‪ ،‬أيظن أنه لن يقدر عليه‬
‫أحد فيأخذه أو يأخذ ما أعطاه؟! وهذا ما جعله يطغى ويتجبر‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫َ‬
‫﴿أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد﴾ ويطغى ويفتخر بما أنفق من اْلموال على شهوات‬
‫َ َ ْ ُ ً ُّ‬
‫نفسه‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬أ ْهلكت َماال ل َب ًدا﴾ أي‪ :‬كثيرا‪ ،‬بعضه فوق بعض وسمى هللا تعالى‬
‫االنفاق في الشهوات واْلعاص ي إهَّلكا؛ ْلنه ال ينتفع اْلنفق بما أنفق وال يعود عليه من‬
‫إنفاقه إال الندم والخسار والتعب والقلة‪.‬‬
‫ُ َ َْ ُ‬
‫لم يقل هللا‪( :‬يقولِ‪ :‬أنفقت)‪ ،‬قال‪َ ﴿ :‬يقو ُل أ ْهلكت﴾‪ ،‬واإلهالك هو اإلتالف بال فائدة‪،‬‬
‫وسبب ذلك أنه ينفقه على شهواته وملذاته املحرمة‪ ،‬فهو يبلى ويفنى وما بقي منه سيرحل‬
‫عنه‪ ،‬فال ينتفع بماله ال بما استعمل وال بما أبقى‪ ،‬وسيجازى ويحاسب عنه من أين‬
‫اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ فكان املال خسرانا عليه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذا هو الكافر الذي ينفق ماله في الصد عن دين هللا وفي معاداة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويفتخر بذلك‪ ،‬فسينفق ماله ويهلكه‪ ،‬ثم يكون عليه‬
‫حسرة‪ ،‬ثم ال يتحقق له مراده‪ ،‬فالغلبة لدين هللا‪ْ ،‬لولياء هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ال كمن أنفق في مرضات هللا في سبيل الخير‪ ،‬فإن هذا قد تاجر مع هللا وربح‬
‫أضعاف أضعاف ما أنفق‪ :‬قال هللا متوعدا هذا الذي افتخر بما أنفق في الشهوات‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫﴿أ َي ْح َس ُب أن ل ْم َي َر ُه أ َح ٌد﴾ أي‪ :‬أيظن في فعله هذا أن هللا ال يراه ويحاسبه على الصغير‬
‫والكبير‪ ،‬بل قد رآه هللا وحفظ عليه أعماله‪ ،‬ووكل به الكرام الكاتبين لكل ما عمله من‬
‫خير وشر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم قرره بنعمه‪ ،‬فقال‪... :‬‬
‫قرره بنعمه وبين له حقيقة نفسه ومدى ضعفه‪ ،‬وأنه ال يستطيع أن يدبر أمره‪ ،‬وأن هللا‬
‫هو ربه الذي يدبر أمره‪ِ .‬‬

‫‪279‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ‬


‫قال ثم قرره بنعمه‪ ،‬فقال ‪﴿ :‬أل ْم ن ْج َعل ل ُه َع ْين ْي ِن‪َ .‬و ِل َسانا وشفتين﴾ للجمال والبصر‬
‫والنطق وغير ذلك من اْلنافع الضرورية فيها‪ ،‬فهذه نعم الدنيا‪ .‬ثم قال في نعم الدين‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫﴿و َه َد ْين ُاه الن ْج َد ْي ِن﴾ أي‪ :‬طريقي الخير والشر‪ ،‬بينا له الهدى من الضَّلل والرشد من‬
‫الغي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫﴿ َو َه َد ْين ُاه الن ْج َد ْي ِن﴾ أي‪ :‬أرشدناه إلى الطريقين‪ِ .‬‬
‫والنجد أصله املكان العالي‪ ،‬واملقصود به الطريق‪ ،‬فأرشدناه إلى طريق الخير وأمرناه به‪،‬‬
‫وأرشدناه إلى طريق الشر ونهيناه عنه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى اآلية أرشدناه حال صغره إلى ثديي أمه‪ ،‬وهما طريقا غذائه‪ِ .‬‬
‫وال مانع من اْلمرين‪ ،‬فاآلية تحتمل اْلمرين‪ ،‬فاهلل هدى اإلنسان في صغره إلى طريق‬
‫غذائه‪ ،‬وهداه في كبره إلى طريق الخير وأمره بسلوكه‪ ،‬وإلى طريق الشر ونهاه عن سلوكه‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فهذه اْلنن الجزيلة تقتض ي من العبد أن يقوم بحقوق هللا ويشكره على‬
‫ََ‬
‫نعمه‪ ،‬وأن ال يستعين بها على معاص ي هللا‪ ،‬ولكن هذا اإلنسان لم يفعل ذلك ﴿فَّل‬
‫َ َ َ ََ َ‬
‫العق َبة﴾‪.‬‬ ‫اقتحم‬
‫ِّ‬ ‫ََ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫املتجبر‬
‫ِ‬ ‫الكافر‬ ‫ولكن‬ ‫الشر‪،‬‬ ‫وطريق‬ ‫الخير‬ ‫طريق‬ ‫اإلنسان‬ ‫هدينا‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫﴾؛‬ ‫ة‬ ‫﴿فَّل اقتحم العقب‬
‫ٌ‬ ‫املغرور بنفسه لم يختر طريق الخير؛ َّ‬
‫ْلنه ليس فيه شهوة عاجلة‪ ،‬بل سلك طريق الشر؛ ِْلن‬
‫فيه شهواته وملذاته العاجلة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫اقت َح َم﴾ سلك ُ‬
‫القحمة‪ ،‬والقحم‪ :‬هو الطريق الصعب أو صعاب الطريق‪ ،‬وأصل‬ ‫ومعنى ﴿‬
‫االقتحام هو الدخول في اْلمر بعزيمة من غير ٍ‬
‫روية وال مباالة‪ِ .‬‬
‫ومعنى (فَّل)‪ِّ :‬إما ِّأنها نافية؛ يعني‪ :‬فال اقتحم الكافر ما يجتاز به العقبة‪ ،‬يعني‪ :‬لم يسلك‬
‫الكافر طريق الهداية الذي يجتاز به العقبة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى (فال) أفال‪ ،‬أي‪ :‬أن هللا يحض الكافر في الدنيا أن يسلك طريق‬
‫الخير ليجتاز العقبة‪ِ .‬‬

‫‪280‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫والعقبة‪ :‬أصلها الطريق في الجبل‪ ،‬والزال َّ‬


‫الناس لليوم يسمون الطريق في الجبل عقبة‪،‬‬
‫وطريق الجبل صعب‪ ،‬صعب في سلوكه‪ ،‬فاملراد الطريق الصعب في الدنيا الذي يجتاز به‬
‫اإلنسان العقبة يوم القيامة‪ ،‬والعقبة يوم القيامة هي ًّ‬
‫جهنم‪ِ .‬‬
‫جهنم‪ ،‬واملعنيان متقاربان‪ ،‬هذا‬‫وقال بعض السلف هي‪ :‬الصراط الذي ينصب على متن َّ‬
‫ََ َ َ َ َ َ َ‬
‫العق َبة﴾‪ِ .‬‬ ‫معنى ﴿فَّل اقتحم‬
‫ََ َ َ َ َ َ َ‬
‫العق َبة﴾؛ أي‪ :‬لم يقتحمها ويعبر عليها‪.‬‬ ‫﴿فَّل اقتحم‬
‫َ‬ ‫اقت َح َم﴾؛ بلم يقتحم؛ َّ‬ ‫ََ َ‬
‫ْلن العادة أن (ال) إنما تذكر عند التكرار‪﴿ :‬فَّل‬ ‫ففسر الشيخ ﴿فَّل‬
‫صلى﴾؛ لكن ال تذكر لش ٍيء واحد‪ ،‬فقالوا (ال) هنا بمعنى لم يقتحم العقبة‪ِ .‬‬ ‫ص َّد َق َوال َ‬
‫َ‬
‫ْلنه ٌ‬ ‫َّ‬
‫متبع لهواه‪ ،‬وهذه العقبة شديدة عليه‪.‬‬ ‫أي‪ :‬لم يقتحمها ويعبر عليها؛‬
‫َ َ‬
‫ثم فسر هذه العقبة بقوله‪﴿ :‬ف ُّك َرق َب ٍة﴾‪.‬‬ ‫َّ‬
‫َ َ َ َ ََ ُ‬
‫العق َبة﴾؛ أي‪ :‬ما أعلمك أيها املخاطب ما العقبة‪ ،‬العقبة اْلولى والعقبة‬ ‫﴿وما أدراك ما‬
‫الثانية‪ِ :‬‬
‫العقبة اْلولى‪ :‬التي هي صعوبة طريق الهداية؛ َّ‬
‫ْلن اإلنسان في الهداية يخرج من داعية‬
‫هواه إلى ما يريده مواله‪ ،‬وهذا صعب على ِّ‬
‫النفس‪ِ .‬‬
‫والعقبة الثانية‪ :‬هي العقبة التي تجتاز يوم القيامة‪ ،‬وهي َّ‬
‫جهنم أو الصراط الذي ينصب‬
‫على متن َّ‬
‫جهنم‪ِ .‬‬
‫والعقبة فسرها ما بعدها‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ َََُ‬
‫جتاز‬
‫﴿وما أدراك ما العقبة﴾؛ يعني‪ :‬ما أدراك ما العقبة التي في الدنيا التي من سلكها ا ِ‬
‫العقبة التي في اآلخرة؛ إنها اإليمان باهلل واإلحسان إلى خلق هللا والرحمة بهم‪ِ .‬‬
‫َ َ‬
‫ثم فسر هذه العقبة بقوله‪﴿ :‬ف ُّك َرق َب ٍة﴾ أي‪ :‬فكها من الرق بعتقها أو مساعدتها على‬
‫أداء كتابتها‪ ،‬ومن باب أولى فكاك اْلسير اْلسلم عند الكفار‪ِ .‬‬
‫وأصل الفك‪ :‬هو حل القيد‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿أ ْو إ ْط َع ٌ‬
‫ام ِفي َي ْو ٍم ِذي َم ْسغ َب ٍة﴾ أي‪ :‬مجاعة شديدة بأن يطعم وقت الحاجة أشد‬ ‫ِ‬
‫الناس حاجة‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهذا أفضل إطعام الطعام‪ ،‬خير املؤمنين من أطعم الطعام‪ ،‬وخير هؤالء اْلخيار من أطعم‬
‫عند القلة في يده والحاجة عند الناس لكنه لم يتكلف‪ ،‬وخير هؤالء اْلخيار من أطعم‬
‫الضعفاء عند الحاجة‪ ،‬الذين ما يرجو منهم شيئا ال شفاعة وال مكانة وال وال وال‪ ،‬فيكون‬
‫ذلك هلل سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َ ً َ ْ‬
‫ً‬
‫وفقيرا ذا قرابة‪.‬‬ ‫جامعا بين كونه ً‬
‫يتيما‬ ‫يما ذا َمق َرَب ٍة﴾ أي‪:‬‬ ‫﴿ي ِت‬
‫ً َ ْ‬ ‫َ‬
‫﴿أ ْو ِم ْس ِكينا ذا َمت َرَب ٍة﴾ أي‪ :‬قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة‪.‬‬
‫ً َ ْ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬أ ْو ِم ْس ِكينا ذا َمت َرَب ٍة﴾ أو مسكينا صاحب عيال يتربون عليه عند‬
‫حاجته‪ ،‬هو مسكين محتاج وعنده عيال‪ ،‬وكل والد يعرف أن حاجة أوالده أشق على نفسه‬
‫من حاجته‪ ،‬اإلنسان يمكن أن يعيش مسكينا‪ ،‬وكما يقولون بالعامية‪( :‬يدبر نفسه)‪ ،‬لكن‬
‫إذا جاءه الولد؛ الولد مبخلة للغني‪ ،‬الغني إذا جاءه الولد يبدأ يمسك‪ ،‬مستقبل اْلوالد‪،‬‬
‫واملسكين إذا جاءه الولد عظمت حاجته في نفسه‪ ،‬واملعلوم أن اْلب واْلم يقدم أوالده على‬
‫نفسه‪ِ .‬‬
‫ولذلك تلك املرأة التي جاءت ومعها البنتان إلى أمنا عائشة رض ي هللا عنها إلى بيت النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم تسأل‪ ،‬فلم تجد عائشة رض ي هللا عنها إال تمرتين‪ ،‬بيت النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم ما كان فيه إال تمرتان! لجوده صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فأخذت تمرة فشقتها‬
‫بينهما‪ ،‬فلما أكلتا النصف نظرتا إلى أمهما فشقت التمرة الثانية فأطعمتهما مع جوعها‪ِ .‬‬
‫فقال بعض السلف‪ :‬املسكين ذو املتربة هو املسكين ذو العيال فإنه أشد املساكين حاجة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬املسكين ذو املتربة هو كبير السن الذي لم يبق له‪ ،‬أحد الذي أصبح‬
‫كبيرا ال يستطيع أن يقوم بنفسه وليس له أحد إما حقيقة أو معنى‪ِ :‬‬
‫‪ ‬إما حقيقة‪ :‬لم يبق له زوجة وال أوالد‪ ،‬وهذا في الغالب يهملة الناس وال يلتفتون‬
‫إليه‪ِ .‬‬
‫‪ ‬وإما حكما‪ :‬بأن يكون له أوالد لكن ملا رأوه قد كبر في السن وليس عنده ش يء أهملوه‬
‫وتركوه ولم يلتفتوا إليه‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قالوا‪ :‬هو املسكين‪ ،‬والحقيقة أن كل هؤالء يدخلون في املسكين‪ ،‬املسكين ذو املتربة الذي‬
‫ال يجد شيئا أو يجد ما ال يكفيه‪ ،‬ثم هم درجات ال شك في هذا أن الحاجة تكون ٰ‬
‫على‬
‫درجات‪ ،‬واملسكين املتعفف أعظم املساكين حاجة واإلحسان إليه أعظم اإلحسان‪ِ .‬‬
‫أنا أعرف طالب علم جاء ٰ‬
‫إلى املدينة يريد طلب العلم مسكين ما معه ش يء‪ ،‬وال عنده‬
‫ش يء‪ ،‬يحضر الدروس عند املشايخ في الحرم‪ ،‬ثم في الليل إذا ر ٰ‬
‫أى أن الناس ناموا يذهب ٰ‬
‫إلى‬
‫َ َ‬
‫حاويات النفايات لعله أن يجد بجوارها طعاما يأكله‪ ،‬ما أعل َم أحدا‪ ،‬وال يسأل الناس‪،‬‬
‫هنيئا ملن وقع عليه‪ ،‬وهللا من دله هللا ٰ‬
‫إلى مثل هذا اإلنسان فقد أكرمه هللا‪ ،‬طالب علم‬
‫ومسكين ما يجد ما يأكله‪ ،‬ومتعفف ما يخبر حتى زمالئه‪ ،‬أحد زمالئه الحظ هذا في الغرفة‬
‫وخرج وراءه وجده يفعل هذا ولم يخبره‪ ،‬لكن جاءني وأخبرني عن حاله‪ِ .‬‬
‫ولذلك أنا أقول للناس‪ :‬تفقدوا طالب العلم‪ ،‬تفقدوا طالب العلم‪ ،‬وهللا إن اإلحسان إلى‬
‫طالب العلم املحتاج خير من اإلحسان ٰ‬
‫إلى غيره‪ ،‬اسألوا عنهم وعن أحوالهم‪ ،‬وأعينوهم بما‬
‫تستطيعون‪ ،‬فهؤالء هم شيوخ اْلمة في قادم أيامها‪ ،‬وهم الذين ٰ‬
‫يرجى منهم الخير‪ ،‬وال تزال‬
‫اْلمة بخير ما تفقدت ضعفاءها‪ ،‬النصر والرزق يأتي بسبب الضعفاء‪ِ .‬‬
‫ُ َّ َ َ َ َّ َ ُ‬
‫ين َآمنوا﴾ وعملوا الصالحات‪ِ .‬‬ ‫﴿ثم كان ِمن ال ِذ‬
‫بمعنى (الواو)؛ أي‪ :‬وكان حال عمله هذا مؤمنا‪ ،‬فإن الذي تقدم ال ُيمدح به إال‬
‫ٰ‬ ‫(ثم) هنا‬
‫مؤمن‪ ،‬وال ينفع إال املؤمن‪ ،‬فال يقبل هللا عمال إال من مؤمن‪ ،‬وال يقبل عبادة إال من‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬مخلص اإلخالص اْلكبر باإليمان‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬ومخلص اإلخالص اْلصغر في نفس العبادة‪ِ .‬‬
‫‪ .3‬ومتابع لرسول هللا ٰ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫هللا ال يقبل العبادة الخاصة إال من مخلص اإلخالص اْلكبر باإليمان‪ ،‬ومخلص اإلخالص‬
‫اْلصغر باإلخالص في نفس العبادة بأن يعملها هلل‪ ،‬ومتبع لرسول هللا ٰ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وال يقبل العمل من عبده ويثيبه عليه إال إذا كان مخلصا له محتسبا اْلجر عنده‪ ،‬فكان‬
‫مخلصا اإلخالص اْلكبر واإلخالص اْلصغر في ذلك العمل‪ِ .‬‬

‫‪283‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أي‪ :‬آمنوا بقلوبهم بما يجب اإليمان به‪ ،‬وعملوا الصالحات بجوارحهم‪ ،‬فدخل في هذا‬
‫كل قول وفعل واجب أو مستحب‪.‬‬
‫ً‬
‫واحتسابا‪ ،‬وهذا يدخل في اإليمان‪،‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪َ ﴿ :‬آم ُنوا﴾ أي‪ :‬فعلوا ذلك ً‬
‫إيمانا‬
‫ً‬
‫واحتسابا‪ِ .‬‬ ‫فآمنوا باهلل وفعلو ذلك ً‬
‫إيمانا‬
‫الص ْب ِر﴾ على طاعة هللا وعن معصيته وعلى أقداره اْلؤْلة بأن يحث بعضهم‬ ‫﴿و َت َو َ‬
‫اص ْوا ب َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ًٓ‬ ‫ً‬
‫منشر ًحا به الصدر مطمئنة به النفس‪.‬‬
‫َ‬ ‫بعضا على االنقياد لذلك واإلتيان به كامَّل‬
‫واْلصل هذا اْلصل‪ ،‬أن من يوص ي غيره يعمل بنفسه‪ ،‬هذا اْلصل‪ ،‬اْلصل أن العاقل ما‬
‫يوص ي غيره وال يعمله‪ ،‬هذا اْلصل‪ ،‬وإن كان قد ال يقع هذا‪ ،‬فالذين تواصلوا بالصبر اْلصل‬
‫أنهم يصبرون‪ ،‬ويوصون غيرهم بالصبر‪ ،‬الصبر بأنواعه الثالثة‪ :‬على طاعة هللا‪ ،‬وعن‬
‫معصية هللا‪ ،‬وعلى أقدار هللا‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َْ‬ ‫﴿و َت َو َ‬
‫اص ْوا ِباْل ْر َح َم ِة﴾ للخلق من إعطاء محتاجهم وتعليم جاهلهم والقيام بما‬ ‫َ‬

‫يحتاجون إليه من جميع الوجوه‪ ،‬ومساعدتهم على اْلصالح على الدينية والدنيوية‪ ،‬وأن‬
‫يحب لهم ما يحب لنفسه‪ ،‬ويكره لهم ما يكره لنفسه‪.‬‬
‫املؤمن يرحم عباد هللا‪ ،‬ومن رحمته بهم يأمرهم باملعروف وينهاهم عن املنكر‪ ،‬ورأس ذلك‬
‫أن يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك‪ ،‬ويرحمهم في بقية أمورهم‪ ،‬وكما قلنا في الصبر‪،‬‬
‫اْلصل أن من يوص ي غيره باملرحمة يكون رحي ًما بعباد هللا‪ِ .‬‬
‫﴿أ َٰولئ َك﴾ الذين قاموا بهذه اْلوصاف الذين وفقهم هللا القتحام هذه العقبة‪ُ ( ،‬أ َٰولئكَ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ ُ َْ َ‬
‫اب اْل ْي َمن ِة﴾ ْلنهم أدوا ما أمر هللا به من حقوقه وحقوق عباده‪ ،‬وتركوا ما نهوا‬ ‫أصح‬
‫عنه وذلك عنوان السعادة وعَّلمتها‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ ُ َْ َ‬
‫اب اْل ْي َمن ِة﴾ أنهم أصحاب اليمن والبركة والسعادة واإلكرام‪ِ .‬‬ ‫فمعنى ﴿أصح‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َْْ َ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿أصحاب اْليمن ِة﴾ أنهم الذين يعطو كتبهم باليمين‪ ،‬أنهم‬
‫الذين ُيعطون كتبهم بأيمانهم‪ِ .‬‬

‫‪284‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ْ َ ُ َْ َ‬
‫اب اْل ْي َمن ِة﴾ يعني أصحاب اليمين الذين ُوعدوا بالنعم‬‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬أصح‬
‫املقيم‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َ ْ َ ُ َْ َ‬
‫اب اْل ْي َمن ِة﴾ هم الذين أخذوا من الشق اْليمن من آدم‬‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬أصح‬
‫عليه السالم‪ ،‬الذين يكونون عن يمين آدم عليه السالم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫ين كف ُروا ِب َآيا ِتنا﴾ بأن نبذوا هذه اْلمور وراء ظهورهم فلم يصدقوا باهلل وال آمنوا‬ ‫﴿وال ِذ‬
‫صالحا وال رحموا عباد هللا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫به وال عملوا‬
‫َ ْ َ ُ َْ ْ َ‬
‫اب اْلشأ َم ِة﴾‪.‬‬ ‫﴿أولئك أصح‬
‫َ ْ َ ُ َْ ْ َ‬
‫اب اْلشأ َم ِة﴾ قيل‪ :‬أصحاب الشؤم والشقاء والعذاب‪ِ .‬‬ ‫﴿أصح‬
‫وقيل‪ :‬الذين ُيعطون كتبهم بشمائلهم‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬هم أصحاب الشمال الذين ُوعدوا بعذاب السموم‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫وقيل‪ :‬هم الذين من الشق اْليسر من آدم عليه السالم‪ِ .‬‬
‫فأصحاب امليمنة في املعنى تقابل أصحاب املشئمة‪ ،‬وأصحاب املشأمة في املعنى تقابل‬
‫أصحاب امليمنة‪ِ .‬‬
‫َ َ ْ ْ َ ٌ ُّ ْ َ ٌ‬
‫ص َدة﴾ أي‪ :‬مغلقة‪.‬‬ ‫﴿علي ِهم نار مؤ‬
‫ً‬
‫أبدا‪ِ .‬‬
‫مغلقة مطبقة عليهم‪ ،‬ليس فيها نفس وال مخرج ِ‬
‫﴿في َع َم ٍد ُّم َم َّد َد ٍة﴾ [الهمزة‪ ،]9 :‬قد مدت من ورائها لئَّل تنفتح أبوابها‪.‬‬
‫ِ‬
‫فأغلقت أبوابها بالعمد‪ ،‬يعني ُس ِّمرت أبوابها بالعمد‪ ،‬فال رجاء لفتحها إال أن تفتح إلخراج‬
‫من استوفى عذابه من عصاة املوحدين في النار‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬قد ودت من ورائها لئَّل تنفتح أبوابها حتى يكونوا في ضيق وهم وشدة‪.‬‬
‫وهذا آخر تفسير سورة البلد‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة فيها حكم كلية وفوائد عظمى كثيرة‪ ،‬لكن أذكر أهمها في نظري‪ ،‬من ذلك‪ِ :‬‬
‫ِّ‬
‫‪ -‬بيان ِّأن اإلنسان خلق في تعب‪ ،‬ويخرج من تعب إلى تعب‪ ،‬وأنه ال راحة له إال في الجنة‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬بيان أن اإليمان بقدرة هللا وبمراقبة هللا للعبد بأنه يراه ويسمعه يقود العبد إلى‬
‫تزكية نفسه‪ ،‬وأن الغفلة عن هذا تقود العبد إلى الطغيان‪ ،‬ولذلك البد أن تذكر نفسك‬

‫‪285‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وأن هللا يراك حيثما كنت‪ ،‬وأن هللا يسمعك حيثما كنت‪ِّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫دائما بأن هللا عليك قادر‪ِّ ،‬‬
‫هذا يقودك إلى أن تزكي نفسك‪ ،‬وأما الغفلة عن هذا ِّ‬
‫فإنها سبب للطغيان والعياذ باهلل‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬بيان ِّأن طريق النجاة من ِّ‬
‫النار وتجاوزها هو اإليمان باهلل‪ ،‬واإلحسان إلى خلق هللا‪،‬‬
‫والرحمة بخلق هللا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومنها ‪ :‬بيان ِّأن االستقامة البد لها من صبر‪ِّ ،‬‬
‫وأن الصبر البد له من التواص ي به‪ ،‬إذا أردت‬
‫أن تثبت على االستقامة فكن صبورا‪ ،‬درب نفسك على الصبر‪ ،‬والبد للصبر ‪-‬حتى يصبر‬
‫اإلنسان ويستمر على ذلك‪ -‬من أن يتواص ى به مع غيره من املؤمنين‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪286‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الشمس‬
‫الر ِح ِيم‬ ‫الر ْح َمٰـن َّ‬ ‫َّ‬
‫الل ِـه َّ‬ ‫ِب ْس ِم‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ َ َّ‬ ‫َ ََ‬ ‫َْ‬ ‫الش ْمس َو ُ‬ ‫َ َّ‬
‫الن َه ِار ِإذا َجَّل َها ﴿‪َ ﴾٣‬والل ْي ِل ِإذا‬ ‫اها ﴿‪َ ﴾١‬والق َم ِر ِإذا تَّل َها ﴿‪ ﴾٢‬و‬ ‫ض َح َ‬
‫ِ‬ ‫﴿و‬
‫ََْ‬ ‫اْل ْ ض َو َما َط َح َ‬‫َ َْ‬ ‫الس َماء َو َما َب َن َ‬ ‫َي ْغ َش َ‬
‫س َو َما َس َّو َاها ﴿‪﴾٧‬‬ ‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫ن‬‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪٦‬‬‫﴿‬ ‫ا‬ ‫اه‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪٥‬‬‫﴿‬ ‫ا‬‫اه‬ ‫ِ‬ ‫اها ﴿‪َ ﴾٤‬و َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ َْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َََْ َ َ ُ ُ َ َ ََ ْ‬
‫فألهمها فجورها وتقواها ﴿‪ ﴾٨‬قد أفلح من زكاها ﴿‪ ﴾٩‬وقد خاب من دساها ﴿‪ِ ﴾﴾١٠‬‬
‫في هذه السورة املكية‪ ،‬يقسم هللا عز وجل بالشمس وما فيها من اآليات‪ :‬بنورها الذي تضيئ‬
‫به اْلرض‪ِّ ،‬‬
‫وبحرها الذي تنتفع به املخلوقات‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫وبالقمر إذا تبع الشمس وجاء بعدها فهما يتعاقبان‪ ،‬وإذا أخذ منها ضوءه‪ ،‬فالشمس‬
‫سراج‪ ،‬والقمر ضياء يأخذ ضوءه بإذن هللا وأمره من الشمس‪ِ .‬‬
‫وبالنهار املض يء الذي يكشف ما على اْلرض‪ ،‬وبالليل الذي يغطي اْلرض بظالمه‪ ،‬ويغطي‬
‫املخلوقات بظالمه‪ ،‬ويستر ما على اْلرض بذلك الظالم‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وبالسماء على اتساعها‪ ،‬وببنائها الشديد‪ ،‬الواسع‪ ،‬املحكم بغير عمد‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫ودحيها بالكنوز‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬التي تحيا عليها‬ ‫ومدها‪ ،‬وبسطها‪ ،‬وتسويتها للمخلوقات‬‫وباْل ض ِّ‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫والخيرات‪ ،‬من النبات وغيره‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وفطرة‪ِّ ،‬‬ ‫ً‬
‫فسوى خلقتها‪ ،‬وجعل خلقتها في أحسن‬ ‫وبالنفس؛ نفس اإلنسان‪ ،‬وتسويتها خلقة‬
‫تقويم‪ِ .‬‬
‫وتميزت على املخلوقات بحسن الخلقة‪ ،‬وجعل فطرتها ِّ‬
‫سوية‪ ،‬فكل مولود يولد على الفطرة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وهيأها لشأنها‪ ،‬فألهمها وعلمها طريق التقى والطاعة وطريق الفجور واملعصية‪ِ .‬‬
‫وبين لها هذا‪ ،‬وأمرها ُّ‬
‫بالتقى والطاعة‪ ،‬ونهاها عن الفجورِ واملعصية‪ ،‬وأقدرها‬ ‫فبين لها هذا ِّ‬
‫ِّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عقال ِّ‬
‫يميز به‪ ،‬وجعل له إرادة ومشيئة يختار بها‪ ،‬ولن‬ ‫على فعل هذا وهذا‪ ،‬فجعل لصاحبها‬
‫يشاء اإلنسان إال أن يشاء هللا رب العاملين‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫جميعا هداية البيان‪ ،‬إن شاء هدى من شاء منهم‬ ‫ثم هو سبحانه بعد أن هدى الناس‬
‫هداية التوفيق بفضله وإحسانه‪ِ .‬‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ويضل من شاء إضالله من الناس‬ ‫فيؤتي أنفسهم تقواها ويهديها هداية البيان‪ ،‬ويزكيها‬

‫‪287‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِّ‬ ‫بعدله‪ ،‬فذاك َ‬


‫املض ُّل مستحق للضاللة‪ ،‬وهللا الذي أضله عدل في ذلك سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫اها ﴿‪ ﴾﴾۱٠‬ففاز الفوز‬‫اب َمن َد َّس َ‬ ‫﴿ق ْد َأ ْف َل َح َمن َز َّك َ‬
‫اها ﴿‪َ ﴾٩‬و َق ْد َخ َ‬ ‫َ‬
‫وجواب القسم‪:‬‬
‫حصل مرغوبه ونجا من مرهوبه من ِّزكى نفسه‪ِّ ،‬‬
‫فطهرها من الشرك واملعاص ي‬ ‫العظيم‪ ،‬ف ِّ‬
‫والرذائل‪ ،‬ونماها بالتوحيد والطاعة‪.‬‬
‫فالتزكية‪ :‬تطهير وتنمية‪ُ ،‬‬
‫في ِّ‬
‫طهر نفسه من الشرك كبيره وصغيره‪ ،‬ويجتهد في تطهير نفسه‬
‫من املعاص ي واْلخالق الرذيلة‪ُ ،‬وي ِّ‬
‫نمي نفسه‪ْ ،‬لنها مولودة على الفطرة‪ ،‬مول ِودة على الخير‪،‬‬
‫نمي ذلك فيها بالتوحيد واالجتهاد في الطاعات ما استطاع إلى ذلك‬ ‫في ِّ‬
‫مولودة على اإلسالم‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫سبيال‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫عظيما من أخفى خير نفسه بالشرك واملعاص ي‪ ،‬وأخفى فطرتها‬ ‫ً‬ ‫وخاب وخسر خسر ًانا‬
‫السوية التي ولدت عليها بتدنيسها بالشرك واملعاص ي‪ ،‬وفي هذا دليل على أن اإلنسان له‬
‫قدرة وإرادة وأنه يفعل الخير باختياره‪ ،‬ومشيئته ويفعل الشر باختياره ومشيئته‪ ،‬فهو يزكي‬
‫ِّ‬
‫نفسه أو يدنس نفسه‪ ،‬ومشيئته ضعيفة قاصرة فهي تحت مشيئة ربه الكونية القدرية‪ِ .‬‬
‫فال يكون في كون ربنا إال ما شاء سبحانه وتعالى‪ ،‬فال يشاء عبد إال ما شاء ربه سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمات ونعود إلى التفسير‬
‫التفصيلي ونقرأ ما كتبه اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق عليه‪.‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا‪ :‬أقسم تعالى بهذه اآليات العظيمة‬
‫َ َّ‬
‫الشمس َو ُ‬
‫ضحاها﴾ أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫على النفس اْلفلحة‪ ،‬وغيرها من النفوس الفاجرة‪ ،‬فقال‪﴿ :‬و‬
‫نورها ونفعها الصادر منها‪.‬‬
‫اها﴾‪ ،‬قال‬ ‫﴿و ُ‬
‫ض َح َ‬ ‫(الواو) واو القسم‪ ،‬والشمس معروفة؛ ذلكم الكوكب الناري املتوهج‪َ .‬‬

‫بعض اْلفسرين‪ :‬أي ونورها النافع للعباد‪ ،‬فإن النهار إذا ظهر بنور الشمس‪ ،‬سعى العباد في‬
‫خيرهم‪ِ .‬‬
‫اها﴾ أي ِّ‬
‫وحرها الذي ينفع البالد والعباد‪ ،‬فتنضج به الثمار‬ ‫﴿و ُ‬
‫ض َح َ‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬

‫وتحصل به كثير من املصالح‪ِ .‬‬

‫‪288‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اها﴾ واملخلوقات التي تظهر وتضحى عند إشراقها؛‬ ‫﴿و ُ‬


‫ض َح َ‬ ‫وقال بعض العلماء‪ :‬أي َ‬

‫فاملخلوقات تسكن في الليل‪ ،‬فإذا أشرقت الشمس خرجت‪ ،‬وال مانع من إرادة الكل‪ ،‬فإن‬
‫الكل من ضحى الشمس‪ِ .‬‬
‫فضحاها‪ :‬هو نورها‪ ،‬وهو حرها‪ ،‬وهو املخلوقات التي تظهر عند إشراقها‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿والق َم ِر ِإذا تَّلها﴾ أي‪ :‬تبعها في اْلنازل والنور‪.‬‬
‫إذا تبعها في املنازل‪ ،‬فإن القمر يتبع الشمس في املنازلِ‪ِ .‬‬
‫وفي النور‪ ،‬فإن القمر ضياء ليس سراجا‪ ،‬السراج هو املض يء بنفسه‪ ،‬ضوؤه منه‪ .‬والضياء‪:‬‬
‫هو الضوء من الغير‪ِ .‬‬
‫فالقمر يتبع الشمس في الضوء‪ ،‬ويأخذ الضوء من الشمس‪ِ .‬‬
‫وتلك آية عظيمة لربنا سبحانه وتعالى‪ ،‬أن الشمس غائبة في الليل‪ ،‬ويأخذ القمر منها‬
‫الضوء‪ ،‬إنه أمر هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫والقمر إذا صار بدرا فأشبهها‪ْ ،‬لن القمر‬
‫ِ‬ ‫﴿والق َم ِر ِإذا تَّلها﴾ أي‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫يبدأ هالال‪ ،‬ثم يكبر‪ ،‬ثم يصير بدرا‪ ،‬فيكون مستديرا مثل الشمس ويض يء اْلرض‪ِ .‬‬
‫القمر إذا صار بدرا‪ ،‬يكون له ضوء في اْلرض‪ ،‬فيشبه الشمس في ذلك‪ ،‬فقالوا‪ :‬معنى‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿والق َم ِر ِإذا تَّلها﴾ أي والقمر إذا صار بدرا فأشبه الشمس‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َّ‬
‫الن َه ِار ِإذا َجَّل َها﴾ أي إذا جلى ما على وجه اْلرض وأوضحه‪.‬‬ ‫﴿و‬
‫َّ‬
‫﴿ َجَّل َها﴾ يعني أظهرها وكشفها‪ ،‬لكن الضمير يعود إلى ماذا؟ ِ‬
‫أكثر اْلفسرين يقولون‪ :‬إلى اْلرض‪ ،‬مع أنها ليست مذكورة سابقا‪ ،‬لكنه معلوم‪ ،‬فال بأس‬
‫من إعادة الضمير إلى املعلوم‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َّ‬
‫الن َه ِار ِإذا َجَّل َها﴾ أي والنهار إذا‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬بل الضمير يعود إلى الشمس ﴿و‬
‫جلى الشمس‪ ،‬وأظهر جرمها وضوءها‪ِ .‬‬
‫وال مانع من اْلمرين‪ ،‬فإن هذا يحصل في النهار‪ ،‬وهذا يحصل في النهار‪ِ .‬‬
‫اها﴾ أي يغش ى وجه اْلرض فيكون ما عليها مظلما‬ ‫الل ْيل إ َذا َي ْغ َش َ‬
‫َ َّ‬
‫﴿و ِ ِ‬
‫اها﴾ يغش ى‪ :‬يعني يغطي‪ِ .‬‬‫الل ْيل إ َذا َي ْغ َش َ‬
‫َ َّ‬
‫﴿و ِ ِ‬
‫‪289‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ولكن يغطي ماذا؟ الضمير يعود إلى ماذا؟ ِ‬


‫بعض أهل العلم وهم الجمهور قالوا‪ :‬يعود إلى اْلرض‪ ،‬فهو يغش ى اْلرض‪ ،‬ويغطي اْلرض‬
‫بظالمه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬الضمير يعود إلى الشمس‪ ،‬فهو يغطي الشمس فتغيب إذا ظهر‪ ،‬إذا‬
‫دخل الليل غابت الشمس‪ ،‬فهو يغطيها‪ِ .‬‬
‫الل ْيل إ َذا َي ْغ َش َ‬
‫َ َّ‬ ‫الن َهار إ َذا َج ََّّل َ‬ ‫َ ْ‬
‫ظ هنا أن هللا عز وجل قال‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫اها﴾ ففي النهار‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪٣‬‬ ‫﴿‬ ‫ا‬‫ه‬ ‫ِِ‬ ‫والح‬
‫ذكر الفعل املاض ي‪ِ .‬‬
‫وفي الليل‪ ،‬ذكر الفعل املضارع‪ِ .‬‬
‫قال العلماء‪ْ :‬لن الضوء يقع في اْلرض مرة واحدة‪ ،‬ضوء النهار واحد‪ ،‬أما الليل فإنه يأتي‬
‫شيئا فشيئا‪ِ .‬‬
‫ففي أول الليل يكون الظالم خفيفا‪ ،‬ثم يزداد عند العشاء‪ ،‬ثم يزداد في نصف الليل‪ ،‬فيأتي‬
‫شيئا فشيئا‪ ،‬ولذلك جاء التعبير عنه بفعل املضارع بفعل املضارع‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فتعاقب الظلمة‪ ،‬والضياء‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر على هذا العالم بانتظام‪ ،‬وإتقان‬
‫وقيام ْلصالح العباد‪ ،‬أكبر دليل على أن هللا بكل ش يء عليم‪ ،‬وعلى كل ش يء قدير‪ ،‬وأنه‬
‫اْلعبود وحده الذي كل معبود سواه باطل‪.‬‬
‫ال شك في هذا‪ ،‬هذه اآليات العظام تدل على وجود هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وعلى أنه الخالق‬
‫املدبر‪ ،‬وعلى أنه على كل ش يء قدير‪ِ .‬‬
‫فهذا ضوء النهار الذي يأتي في النهار‪ ،‬من أين جاء؟ ثم إذا طوي بالليل أين يذهب؟ وظلمة‬
‫الليل التي تغش ى اْلرض‪ ،‬من أين جاءت؟ أين كانت؟ ِ‬
‫و إذا جاء النهار‪ ،‬وانفجر الفجر‪ ،‬أين تذهب؟ ِ‬
‫إنها قدرة هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬هللا على كل ش يء قدير‪ ،‬وهذه اآليات تدل اإلنسان على أنه‬
‫َ‬
‫فقير‪ ،‬وأن ربه يدبر أمره وعلى أن ربه هو الغ ِني ال ِغ َنى املطلق سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فكيف ينصرف العبد عن الغني سبحانه‪ ،‬إلى ضعيف مثله فيدعوه من دون هللا‪ ،‬ويضع‬
‫حاجته عنده من دون هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬

‫‪290‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فهذه اآليات تدل على أن هللا هو املستحق للعبادة سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫الس َماء َو َما َب َن َ‬ ‫َ‬
‫اها﴾ يحتمل أن (ما) موصولة‪ ،‬فيكون اإلقسام بالسماء وبانيها‪ ،‬وهو‬ ‫﴿و َّ ِ‬
‫هللا تعالى‪.‬‬
‫فيكون املعنى‪ :‬والسماء والذي بناها؛ والذي بناها هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فيكون هللا قد‬
‫أقسم بالسماء‪ ،‬وهي آية عجيبة يراها اإلنسان‪ ،‬وبه سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو الذي بنى السماء‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويحتمل أنها مصدرية‪ ،‬فيكون اإلقسام بالسماء وبنيانها الذي هو غاية ما يقدر من‬
‫اإلحكام‪ ،‬واإلتقان ‪،‬واإلحسان‪.‬‬
‫الس َماء َو َما َب َن َ‬ ‫َ‬
‫اها﴾ فيكون هللا أقسم‬ ‫ويحتمل أن (ما) وما بعدها مصدر‪ ،‬فيكون ﴿و َّ ِ‬
‫بالسماء وببنيان تلك السماء البنيان العجيب‪ ،‬فهي مع اتساعها وارتفاعها‪ ،‬ال ترى لها‬
‫عمدا‪ ،‬مع أن اإلنسان يدرك أن الش يء غير املتسع‪ ،‬إذا رفع البد أن يوضع له عمد وإال‬
‫سقط‪ِ .‬‬
‫احتجنا في مساجدنا إلى السواري حتى ال يسقط السقف‪ ،‬ولكن السماء مع اتساعها ال ترى‬
‫لها عمدا‪ ،‬وال ترى فيها انبعاجا‪ ،‬وال ترى فيها ميالنا‪ ،‬وال ترى فيها تشققا مع تطاول الزمان‪،‬‬
‫وهذه آية عظيمة من آيات هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ َْ‬
‫اْل ْ ض َو َما َط َح َ‬
‫اها﴾ أي مدها ووسعها‪ ،‬فتمكن الخلق حينئذ‬ ‫قال‪ :‬ونحو هذا قوله‪﴿ :‬و ِ‬
‫ر‬
‫من االنتفاع بها بجميع أوجه االنتفاع‪.‬‬
‫َ َْ‬ ‫﴿الس َماء َو َما َب َن َ‬
‫ض َو َما‬
‫ِ‬
‫اْلرْ‬‫و‬ ‫﴾‬ ‫‪٥‬‬ ‫﴿‬ ‫ا‬‫اه‬ ‫َّ ِ‬ ‫قول الشيخ‪ :‬ونحو هذا؛ أي مثل اآلية السابقة‬
‫اها﴾ ِ‬‫َط َح َ‬

‫(ما) هنا يحتمل أن تكون موصولة‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬واْلرض والذي طحاها‪ ،‬وهو هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫ويحتمل أن تكون مصدرية‪ ،‬فتكون هي وما بعدها مصدرا‪ ،‬فتكون واْلرض ومدها‪ .‬فمعنى‬
‫اها﴾ أي مدها‪ ،‬ووسعها‪ ،‬وبسطها لينتفع بها الخلق‪ِ .‬‬ ‫﴿ َو َما َط َح َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اها﴾ يعني وما خلقها‪ ،‬يعني إما والذي خلقها‪ِ ،‬أو وخل ِقها؛ واْلرض وخل ِقها‪ِ .‬‬ ‫وقيل ﴿ َو َما َط َح َ‬

‫اها﴾ دحاها بما فيها من النبات والخيرات‪ ،‬وهذا الذي نص عليه‬ ‫وقيل معني ﴿ َو َما َط َح َ‬

‫‪291‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫البخاري في الصحيح‪ ،‬وكل هذه املعاني صحيحة‪ِ .‬‬


‫فاهلل خلق اْلرض وبسطها‪ ،‬ومدها‪ ،‬ولم يجعلها صلبة‪ ،‬ولم يجعلها رخوة‪ ،‬وجعل منها ما‬
‫يصلح للزراعة‪ ،‬ومنها ما يصلح للبناء عليه‪ ،‬ودحاها فجعل في باطنها من الخيرات والكنوز‬
‫ما هللا به عليم‪ ،‬والزال الناس يستخرجون من كنوزها وينتفعون به‪ِ .‬‬
‫ََْ‬
‫س َو َما َس َّو َاها﴾ يحتمل أن اْلراد‪ :‬ونفس سائر اْلخلوقات الحيوانية‪ ،‬كما يؤيد هذا‬ ‫﴿ون ٍ‬‫ف‬
‫العموم‪.‬‬
‫ََْ‬
‫س َو َما َس َّو َاها﴾ النفس هنا‪ ،‬يحتمل أن يراد بها كل نفس‪ ،‬وعلى هذا يكون معنى‬ ‫﴿ونف ٍ‬
‫َْ‬ ‫﴿ف َأ ْل َه َم َها ُف ُج َ‬
‫ور َها َوتق َو َاها﴾ ألهمها نفعها‪ ،‬وضرها‪ ،‬فعلمها ما ينفعها سواء كانت النفس‬
‫َ‬

‫حيوانا‪ ،‬أو إنسانا‪ِ .‬‬


‫علمها ما ينفعها وعلمها ما يضرها ودلها كيف تحصل هذا وكيف تتقي هذا‪ ،‬لكن هذا‬
‫االحتمال وهللا أعلم مرجوح‪ ،‬فإن السياق يدل على املعنى الثاني‪ ،‬وهي أن النفس هنا‪ ،‬هي‬
‫نفس اإلنسان‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويحتمل أن اإلقسام بنفس اإلنسان اْلكلف‪ ،‬بدليل ما يأتي بعده‪.‬‬
‫وهناك احتمال ثالث‪ :‬وهي أن النفس هنا‪ ،‬نفس آدم عليه السالم‪ ،‬ونفس واحدة هي نفس‬
‫آدم عليه السالم‪ ،‬وتبعه في ذلك ذريته‪ِ .‬‬
‫ولكن أقوى وأظهر االحتماالت أنها نفس اإلنسان‪ ،‬بداللة السياق بعدها‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وعلى كل‪ ،‬فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق اإلقسام بها‪ ،‬فإنها في غاية اللطف‬
‫والخفة‪ ،‬سريعة التنقل والحركة‪ ،‬والتغير والتأثر‪ ،‬واالنفعاالت النفسية من الهم‪،‬‬
‫واإلرادة‪ ،‬والقصد‪ ،‬والحب‪ ،‬والبغض‪ ،‬وهي التي لوالها لكان البدن مجرد تمثال ال فائدة‬
‫فيه‪ ،‬وتسويتها على ما هي عليه آية من آيات هللا العظيمة‪.‬‬
‫﴿و َما َس َّو َاها﴾ مثل ما تقدم‪ ،‬يحتمل أن تكون (ما) موصولة‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬ومن سواها‪:‬‬
‫َ‬

‫والذي سواها‪ ،‬فيكون قسما باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬ويحتمل أنها مصدرية‪ ،‬فيكون املعنى‪:‬‬
‫ِونفس وتسويتها‪ ،‬حيث سوى هللا خلقتها‪ ،‬وسوى فطرتها‪ ،‬فجعلها على خلقة سوية‪ ،‬وخلقها‬
‫على فطرة سوية‪ ،‬واإلنسان يدنس هذه الفطرة أو ينميها‪ِ .‬‬

‫‪292‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿ق ْد َأ ْف َل َح َمن َز َّك َ‬


‫اها﴾ أي طهر نفسه من الذنوب‪ ،‬ونقاها من العيوب‪ ،‬ورقاها‬
‫َ‬
‫وقوله‪:‬‬
‫بطاعة هللا‪ ،‬وعَّلها بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬
‫هذا جواب القسم‪ ،‬لكن هنا إشكال‪ ،‬إذا كان هذا جواب القسم فأين الالم؟ أين الالم؟‬
‫املنتظر أن يقال لقد؟ ِ‬
‫قالوا‪ :‬حذفت الالم لطول الفصل‪ْ ،‬لنه فصل بين القسم واملقسم عليه فاصل طويل‪،‬‬
‫فحذفت الالم من جواب القسم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬جواب القسم مقدر تقديره (لتبعثن ) ‪ ،‬فاهلل عز وجل أقسم بهذه‬
‫اآليات التي تدل على قدرته على أنه سيبعث الناس‪ ،‬والذي أوجد هذه اآليات قادر على أن‬
‫يبعث اإلنسان بعد موته وقال بعض املفسرين‪ :‬جواب القسم مقدر أيضا ولكن اختلف‬
‫التقدير فقالوا‪ :‬الجواب جواب القسم املقدر ليعذبن هللا الكافرين‪ ،‬فكما أن هللا قادر على‬
‫املجيء بالنهار والذهاب به واملجيء بالليل والذهاب به فإنه قادر كما أوجد هؤالء الكفار أن‬
‫َ َ َْ‬
‫يذهب بهم‪ ،‬وعلى هذين القولين يكون قول هللا عز وجل‪ {:‬ق ْد أفل َح } مستأنفا‪ ،‬ولكن اْلقرب‬
‫وهللا أعلم اْلول وأن هذا هو جواب القسم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َ َ َ َّ‬
‫طيب‪﴿ ،‬قد أفلح من زكاها﴾ من املزكي هنا؟ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َْ‬
‫قال بعض اْلفسرين‪ :‬اإلنسان نفسه ﴿ق ْد أفل َح َمن َزك َاها﴾ ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو هللا‪ ،‬فاملعنى‪ :‬قد أفلح من زكى هللا نفسه‪ ،‬أي‪ :‬هداه هداية‬
‫التوفيق بعد أن هدى الناس جميعا هداية البيان‪ِ .‬‬
‫اها﴾ أي أخفى نفسه الكريمة التي ليست حقيقة‪ ،‬بقمعها وإخفائها‬ ‫﴿و َق ْد َخ َ‬
‫اب َمن َد َّس َ‬ ‫َ‬

‫بالتدنس بالرذائل‪ ،‬والدنو من العيوب والذنوب‪ ،‬وترك ما يكملها وينميها‪ ،‬واستعمال ما‬
‫يشينها ويدسيها ‪.‬‬
‫اب﴾ قد خسر‪َ ﴿ ،‬من َد َّس َ‬
‫اها﴾ من أخفى خيرها بالشرك واملعاص ي‪ .‬وأصل دساها‪:‬‬ ‫﴿و َق ْد َخ َ‬
‫َ‬

‫دسسها؛ وهو إخفاء الش يء في ش يء‪ .‬التدسيس هو إخفاء الش يء في ش يء‪ِ .‬‬
‫ولذلك مثال يقال‪ِّ :‬‬
‫دس املال في يده؛ أي وضع املال في يده وأخفاه حتى ال يرى الناس أنه‬
‫أعطى ماال‪ِ .‬‬

‫‪293‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫دس الكتاب في الحقيبة؛ أخفى الكتاب في الحقيبة‪ِ .‬‬ ‫ويقال‪ِّ :‬‬


‫وقال بعض اْلفسرين‪َ ﴿ :‬د َّس َ‬
‫اها﴾ يعني أغواها‪ ،‬من الغواية‪ِ .‬‬
‫دس نفسه في جانب املؤمنين وليس منهم‪ ،‬من‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى قد خسر من ِّ‬
‫هو هذا؟ املنافق‪ ،‬فيقولِ‪ :‬املقصود بهذا املنافق‪ ،‬الذي ِّ‬
‫دس نفسه مع املؤمنين وهو ليس‬
‫منهم‪ ،‬فهو صالح الظاهر فاسد الباطن‪ِ .‬‬
‫قالوا‪ :‬ويشبهه من كان صالح الجلوة‪ ،‬فاسد الخلوة؛ يعني له به شبه‪ ،‬من كان صالح‬
‫الجلوة‪ ،‬فإذا كان أمام الناس كان صالحا‪ ،‬فاسد الخلوة‪ِ .‬‬
‫وإن كان الذي يظهر وهللا أعلم هو املعنى الذي ذكره الشيخ السعدي رحمه هللا‪ِ .‬‬
‫‪-‬تفسير اْلقطع الثاني من السورة‪-‬‬
‫َّ َ َ َ َّ‬ ‫ََ َ َ‬
‫ال ل ُه ْم َر ُسو ُل الل ِـه ناقة الل ِـه‬‫اها ﴿‪ ﴾١٢‬فق‬ ‫انب َع َث َأ ْش َق َ‬ ‫ود ب َط ْغ َو َاها ﴿‪ ﴾١١‬إذ َ‬ ‫﴿ك َّذ َب ْت َث ُم ُ‬
‫َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ََ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وه ف َع َق ُر َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو ُس ْق َي َ‬
‫وها ف َد ْم َد َم َعل ْي ِه ْم َرُّب ُهم ِبذ ِنب ِه ْم ف َس َّو َاها ﴿‪ ﴾١٤‬وال يخاف‬ ‫اها ﴿‪ ﴾١٣‬فكذ ُب ُ‬

‫اها ﴿‪﴾﴾١٥‬‬ ‫ُع ْق َب َ‬

‫في هذه اآليات الكريمات يبين هللا عز وجل أنه محيط بالكافرين‪ ،‬وأنه لهم باملرصاد‪ ،‬ويأخذ‬
‫من شاء أخذه منهم بالعذاب في الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬كما فعل بثمود قوم صالح الذين أنعم‬
‫عليهم بالنعم‪ ،‬وآتاهم قوة وقدرة‪ ،‬فكانوا يقطعون الصخور العظيمة‪ ،‬ويثقبونها‪ ،‬ويبنون بها‬
‫القصور‪ ،‬وينحتون البيوت في الجبال‪ ،‬ويتفننون في البنيان‪ ،‬وبعث هللا لهم صالح عليه‬
‫السالم رسوال‪ ،‬فدعاهم إلى التوحيد‪ ،‬وحذرهم من الطغيان‪ ،‬لكنهم كذبوا لجبروتهم‬
‫ً‬
‫صالحا عليه السالم‪ ،‬وأعرضوا عن‬ ‫وطغيانهم‪ ،‬فلم يؤمنوا باهلل عز وجل‪ ،‬ولم يصدقوا‬
‫الحق‪ ،‬وتجبروا‪ ،‬وتكبروا‪ ،‬وتجاوزوا كل حد‪ِ .‬‬
‫فجعل هللا لهم آية عظيمة‪ ،‬هي الناقة ذات الخلقة العجيبة‪ ،‬أخرجها لهم فقال لهم صالح‬
‫اللـه َوَال َت َم ُّس َ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ٰ َ َ ُ َّ َ ُ ْ َ ً َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ‬
‫وها‬ ‫عليه السالم‪﴿ :‬ويا قو ِم هـ ِذ ِه ناقة الل ِـه لكم آية فذروها تأكل ِفي ِ ِ‬
‫ض‬‫ر‬ ‫أ‬
‫ٌ‬ ‫ُ ََْ ُ َ ُ ْ َ َ ٌ َ‬
‫وء فيأخذكم عذاب ق ِريب﴾ [هود‪ِ ]٦٤ :‬‬ ‫ِبس ٍ‬
‫وأخبرهم أن لها شرب يوم‪ ،‬ولهم شرب يوم‪ِ .‬‬
‫ونهاهم عن االعتداء عليها في شربها‪ ،‬وتوعدهم بالعذاب إن هم اعتدوا عليها في شربها‪،‬‬

‫‪294‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فأطاعوا في أول اْلمر وتركوها‪ ،‬فكانت تشرب يوما‪ ،‬وفي اليوم الثاني يشربون هم‪ ،‬وكانت في‬
‫اليوم الثاني لشربها تدر الحليب الكثير فيشربون مع شربهم‪ ،‬مع املاء يشربون حليبها العذب‬
‫الطيب الكثير‪ِ .‬‬
‫ثم َّإن طغيانهم زاد فرأوا أن يقتلوا َّ‬
‫الناقة فتواطؤا على هذا‪ ،‬وندبوا من يقتلها‪ ،‬فانتدب‬
‫جل قوي ذو منعة‪ ،‬له مكانة في قومه وبايعوه على قتلها‪ ،‬فقال لهم رسول هللا‪:‬‬ ‫لقتلها ر ٌ‬
‫(أحذركم ناقة هللا ال تمسوها بسوء‪ ،‬وأحذركم سقيا الناقة الذي جعله هللا لها ال تعتدوا‬
‫عليه‪ ،‬وإال مسكم العذاب )فكذبوه‪ ،‬ولم يصدقوا بالوعيد‪ ،‬فانبعث ذلك الرجل الشقي‪،‬‬
‫أشقى تلك القبيلة بندب قومه له‪ ،‬فعقرها وقتلها‪ِ .‬‬
‫جميعا َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫كأنهم قد قتلوها‪ ،‬فاآلمر بالشر‬ ‫وملا كان قتله لها بندب بعضهم ورض ى بعضهم‪ ،‬كانوا‬
‫كفاعل الشر‪ ،‬والراض ي به كفاعله‪ِ .‬‬
‫فبعضهم هو الذي أمر ذلك الرجل وانتدبه‪ ،‬وبعضهم رض ي بفعله‪ ،‬ولذلك قال هللا‪:‬‬
‫َ َ‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫﴿ف َعقروها﴾‪ ،‬مع أن الذي باشر النحر والقتل واحد هو ذلك الرجل؛ لكنهم اشتركوا‬
‫في قتلها ْلمر بعضهم‪ ،‬ورض ى بعضهم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫مد َم َعل ِيهم َرُّب ُهم ِبذ ِنب ِها﴾ وأطبق عليهم العذاب‪ ،‬وأصابهم العذاب العاجل املطبق‪،‬‬‫﴿فد‬
‫أحدا؛ يعني من الكفار‪َّ ،‬‬
‫فإنه ما‬ ‫عز وجل بالصيحة والرجفة فلم يبق منهم ً‬ ‫فأهلكهم هللا َّ‬

‫آمن مع صالح إال قليل عليه السالم‪ ،‬وال يخاف هللا سبحانه وتعالى تبعة تعذيبهم‪ ،‬وال‬
‫وإنه سبحانه‬‫فإنه سبحانه امللك الذي ال ُيسأل عما يفعل وهم يسألون‪َّ ،‬‬‫تعذيب غيرهم‪َّ ،‬‬

‫الحكم العدل الذي ال يعذب إال بذنب سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬


‫هذا هو التفسير املوضوعي االجمالي اإليماني لهذه اآليات‪َّ ،‬‬
‫ثم نعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ ُ َ‬
‫مود ِبطغواها﴾ أي بسبب طغيانها وترفعها عن الحق وعتوها على رسولهم‪.‬‬ ‫﴿كذبت ث‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫صالحا عليه السالم‪ ،‬وتؤمن به‪ ،‬وتؤمن‬ ‫﴿ ِبطغواها﴾ الباء سببية‪ ،‬ملاذا كذبت ولم تصدق‬
‫بما دعى إليه فتوحد هللا؟ بسبب طغيانها‪ ،‬وتجبرها‪ ،‬وكبرها‪ ،‬وتجاوزها الحد‪ِ .‬‬
‫َ َ َ‬
‫انب َعث أشقاها﴾ أي أشقى القبيلة‪ ،‬وهو قدار بن سالف لعقرها حين اتفقوا على‬ ‫﴿إ ِذ‬
‫ِ‬
‫ذلك وأمروه فائتمر لهم‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫متردد‪ ،‬واْلمر كما ذكرت لكم‪َّ ،‬أنهم في أول اْلمر تركوا‬


‫وانبعث معناها‪ :‬انطلق بسرعة غير ٍ‬
‫الناقة تشرب ً‬
‫يوما ويشربون ي ِوما‪ ،‬ثم تواطؤوا على قتلها‪ ،‬فقال جماعة منهم‪ :‬من ينتدب إلى‬
‫قتلها؟ فانتدب إلى قتلها ذلك الشقي‪ ،‬فانطلق مسرعا بعد أن بايعوه على قتلها‪ ،‬انطلق‬
‫مسرعا غير متردد‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َّ‬
‫اللـه َو ُس ْق َي َ‬
‫اها﴾ أي احذروا عقر‬ ‫فقال لهم رسول هللا صالح عليه السَّلم محذرا‪﴿ :‬ناقة ِ‬
‫ناقة هللا التي جعلها لكم آية عظيمة‪ ،‬وال تقابلوا نعمة هللا عليكم بسقي لبنها‪ ،‬أن‬
‫تعقروها‪.‬‬
‫َ َ َ َّ‬
‫اللـه َو ُس ْق َي َ‬
‫اها﴾ يعني أحذركم ناقة هللا ال تمسوها بسوء‪ ،‬وأضيفت إلى هللا تشريفا‬ ‫﴿ناقة ِ‬
‫وتعظيما‪ِ .‬‬
‫وأحذركم سقياها‪ ،‬وهو شربها يوما‪ ،‬ال تعتدوا عليه‪ِ .‬‬
‫أحذركم ناقة هللا ال تمسوها بسوء‪ ،‬وأذكركم سقياها يعني‪:‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى‪ِ :‬‬
‫أذكركم اللبن الذي تشربون منها‪ ،‬فإنها نافعة لكم مع كونها آية‪ ،‬فإنها نافعة لكم‪ِ .‬‬
‫فاملعنى‪ :‬أحذركم ناقة هللا ال تمسوها بسوء‪ ،‬وأذكركم سقياها‪ ،‬فحذرهم وأطمعهم‪ ،‬حذرهم‬
‫من االعتداء عليها‪ ،‬وأطمعهم في سقياها فقال‪( :‬وأذكركم سقياها )‪ِ .‬‬
‫فكذبوا نبيهم صالحا فعقروها‪ ،‬فدمدم عليهم ربهم بذنبهم؛ أي دمر عليهم وعمهم‬
‫بعقابه‪ ،‬وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم‪ ،‬والرجفة من تحتهم‪ ،‬فأصبحوا جاثمين على‬
‫ركبهم‪ ،‬ال تجد منهم داعيا وال مجيبا‪.‬‬
‫﴿ َف َع َق ُر َ‬
‫وها﴾ كما قلنا مع أن العاقر واحد‪ْ ،‬لن بعضهم آمر وبعضهم راض ي‪ ،‬فكانوا جميعا‬
‫قد عقروها بهذا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ف َد ْم َد َم﴾ أي أطبق‪ ،‬الدمدمة هي اإلطباق‪ ،‬يقال‪ :‬دمدم البئر إذا أطبق التراب فيه‪ ،‬فأطبق‬
‫عليهم عذابا عاجال‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿بذ ِنب ِه ْم﴾ الباء سببية‪ ،‬أي بسبب ذنبهم‪ ،‬فاهلل ال يظلم الناس شيئا وإنما استحقوا هذا‬ ‫ِ‬
‫العذاب بذنبهم‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ف َس َّو ٰى َها﴾ عليهم‪ ،‬أي سوى بينهم في العقوبة‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫﴿ف َس َّو ٰى َها﴾ عليهم أي أنه أخذهم جميعا‪ ،‬جميع الكفار بعذاب واحد‪ ،‬فلم ينجو منهم أحد‪،‬‬
‫َ‬
‫﴿ف َس َّو ٰى َها﴾‪ِّ ،‬‬
‫سوى بينهم في هذه العقوبة‪ِ .‬‬ ‫فمعنى‬
‫ََ َ ُ ْ‬
‫﴿وال َيخاف ُعق َٰب َها﴾ أي تبعتها‪ ،‬وكيف يخاف من هو قاهر‪ ،‬ال يخرج عن قهره وتصرفه‬
‫مخلوق الحكيم في كل ما قضاه وشرعه‪.‬‬
‫ََ َ ُ ْ‬
‫﴿وال َيخاف ُعق َٰب َها﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى‪ :‬وال يخاف هللا تبعة تعذيبهم وال تعذيب‬
‫عما يفعل وهم يسألونِ‪ .‬وْلنه الحكم‬‫الفعال ملا يريد‪ ،‬الذي ال ُيسأل ِّ‬
‫غيرهم‪ْ ،‬لنه امللك ِّ‬
‫العدل فلم يؤاخذهم إال بذنبهم‪ِ .‬‬
‫ٰ‬
‫عقبى فعله‪ ،‬فكانت عاقبة فعله‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املعنى ‪ :‬لم يخف الذي عقر الناقة‬
‫تدميرا له ولقومه‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ََ َ ُ ْ‬
‫﴿وال َيخاف ُعق َٰب َها﴾ الذي عليه الجمهور‪ :‬أن الذي ال يخاف هو الله سبحانه وتعالى‪ ،‬ال‬
‫يخاف تبعة تعذيبهم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الذي ال يخاف هنا هو ذلك الرجل الشقي الذي عقر الناقة‪،‬‬
‫واملعنى‪ :‬ولم يخف الذي عقر الناقة عاقبة فعله فكان عاقبة فعله تدميرا له ولقومه‪ ،‬وقول‬
‫الجمهور أظهر وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الشمس‪ِ .‬‬
‫ومن حكم هذه السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن الفالح في تزكية النفس‬
‫بالتطهر من الشرك واملعاص ي‪ ،‬والتنمية بالتوحيد والطاعات‪ِ .‬‬
‫﴿و ْال َع ْ‬
‫ص ِر ﴿‪﴾١‬‬ ‫وأن الخسران في اإلشراك والعصيان‪ ،‬وهذا على ميزان قول هللا عز وجل‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫الصال َحات َو َت َو َ‬
‫اص ْوا ِبال َح ِق‬ ‫ان َلفي ُخ ْسر ﴿‪ ﴾٢‬إ َّال َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ‬ ‫َّ ْ َ َ‬
‫اإلنس‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِإن ِ‬
‫الص ْب ِر ﴿‪﴾﴾٣‬‬ ‫َو َت َو َ‬
‫اص ْوا ب َّ‬
‫ِ‬
‫ومن حكم هذه السورة الكلية و فوائدها العظمى‪ :‬بيان أن الطغيان سبب ْلخذ الرب‬
‫عبده بذنبه‪ ،‬فمن طغى كان أهال ْلن يعذبه هللا في الدنيا إن شاء‪ ،‬سواء كان مشركا‪ ،‬أو‬
‫ِّ‬
‫طغى و تجاوز بالعصيان وهو موحد‪ ،‬فإنه أهل ْلن يأخذه الله بالعذاب في الدنيا‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫قلنا مثال يا إخوة‪ :‬من الطغاة املوحدين قاطع الرحم؛ قطاع الرحم من الطغاة‪ ،‬وعاق‬

‫‪297‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الوالدين من الطغاة‪ ،‬بهذا املعنى الذي ذكرناه فهم أهل ْلن يعجل هللا لهم العقوبة في‬
‫الدنيا‪ِ .‬‬
‫وكذلك الطغيان سبب لتعذيب هللا اإلنسان في اآلخرة‪ ،‬فإن كان مشركا فإنه معذب والبد‪،‬‬
‫وإن كان موحدا وطغى بالعصيان‪ ،‬فإنه مستحق ْلن يعذبه هللا‪ ،‬فإن شاء عذبه وأذاقه‬
‫النار‪ ،‬وإن شاء عفا عنه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪298‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الليل‬
‫الر ْح َمٰـن َّ‬
‫الر ِح ِيم‬
‫َّ‬
‫الل ِـه َّ‬ ‫ِب ْس ِم‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ َ ْ ُ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َّ َ َ َّ‬ ‫َ َْ‬ ‫َّ‬
‫الن َه ِار ِإذا ت َجل ٰى ﴿‪َ ﴾٢‬و َما خل َق الذك َر َواْلنث ٰى ﴿‪ِ ﴾٣‬إ َّن َس ْع َيك ْم‬ ‫﴿ َوالل ْي ِل ِإذا َيغش ٰى ﴿‪ ﴾١‬و‬
‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫ص َّدق ِبال ُح ْسن ٰى ﴿‪ ﴾٦‬ف َسن َي ِس ُر ُه ِلل ُي ْس َر ٰى ﴿‪﴾٧‬‬ ‫لش َّت ٰى ﴿‪ ﴾٤‬فأ َّما َم ْن أ ْعط ٰى َواتق ٰى ﴿‪ ﴾٥‬و‬
‫ََ ُ ْ‬
‫ى‬‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َُ ُُ ْ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫وأما من ب ِخل واستغنى ﴿‪ ﴾٨‬وكذب ِبالحسنى ﴿‪ ﴾٩‬فسني ِسره ِللعسر ﴿‪ ﴾١٠‬وما يغ ِني‬
‫َ َ َْ َ ْ ُ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ْ ُ َ َ‬
‫َعن ُه َمال ُه ِإذا ت َر َّد ٰى ﴿‪ِ ﴾١١‬إ َّن َعل ْينا لل ُـه َد ٰى ﴿‪َ ﴾١٢‬و ِإ َّن لنا لآل ِخ َرة َواْلول ٰى ﴿‪﴾١٣‬‬
‫َ َّ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ‬
‫صَّل َها ِإال اْلشقى ﴿‪ ﴾١٥‬ال ِذي كذ َب َوت َول ٰى ﴿‪﴾١٦‬‬ ‫فأنذ ْرتك ْم نا ًرا تلظ ٰى ﴿‪ ﴾١٤‬ال ي‬
‫ُ‬
‫ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز ٰى‬ ‫اْل ْت َقى ﴿‪َّ ﴾١٧‬الذي ُي ْؤتي َم َال ُه َي َت َز َّك ٰى ﴿‪َ ﴾١٨‬و َما َْل َحد ع َ‬ ‫َ َ ُ َ َّ ُ َ ْ َ‬
‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وسيجنبها‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ َ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ‬
‫﴿‪ِ ﴾١٩‬إال اب ِتغاء وج ِه رِب ِه اْلعلى ﴿‪ ﴾٢٠‬ولسوف يرض ى ﴿‪﴾﴾٢١‬‬
‫في هذه السورة املكية عند جمهور العلماء‪ ،‬يقسم هللا عز وجل بالليل في أكمل حاالته‪ ،‬إذا‬
‫يغش ى اْلرض بظالمه‪ ،‬ويستر املخلوقات بظالمه‪ِ .‬‬
‫والنهار في أكمل حاالته‪ ،‬إذا تجلى فانكشف وظهر وبان‪ ،‬فالنهار ُيجلي ويتجلى‪ِ .‬‬
‫ُيجلي كما تقدم‪ ،‬ويتجلى كما هنا‪ ،‬فيظهر وينكشف بالضوء والنورِ‪ِ .‬‬
‫ماء واحد‪ ،‬يخرج‬
‫وبخلق الذكر واْلنثى‪ ،‬وفي ذلك آية عجيبة؛ فإن الذكر واْلنثى يخلقان من ٍ‬
‫ً‬
‫حم واحد‪ ،‬ومع ذلك يولد هذا ذكرا بصفات‬ ‫من بين الصلب والترائب‪ ،‬ويخلقان في ر ٍ‬
‫الذكورة الحسية واملعنوية‪ ،‬وتولد تلك أنثى بصفات اْلنوثة الحسية واملعنوية‪ ،‬بل قد يولد‬
‫اإلثنان من رحم واحد‪ ،‬في وقت واحد‪ ،‬ويكون هذا ذكرا وهذا أنثى‪ .‬من الذي فصل هذا عن‬
‫هذا؟ وجعل هذا ذكرا بصفاته وهذا أنثى بصفاتها؟ ِ‬
‫إنه هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وفي ذلك آية عجيبة‪ ،‬وتلحظون أن القسم هنا كان في ٍ‬
‫أمور‬
‫متقابلة‪ :‬الليل والنهار‪ ،‬يغش ى وتجلى‪ ،‬والذكر واْلنثى؛ وذلك ْلن املقسم عليه فيه تقابل‪ِ .‬‬
‫ٌ‬
‫فجواب القسم‪ :‬إن سعيكم يا بني آدم ملختلف في ذاته‪ ،‬ومختلف في جزائه‪ ،‬وهذا يتضمن‬
‫أن اإلنسان البد أن يسعى وهو في الدنيا البد أن يعمل‪ ،‬فإن عملكم يا بني آدم مختلف في‬
‫ذاته‪ ،‬وفي جزائه‪ِ .‬‬
‫ثم ِّ‬
‫فصل هللا عز وجل ذلك فقال سبحانه‪ :‬وأما من أعطى حق هللا في نفسه وماله واتقى‬

‫‪299‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وصدق وآمن‬ ‫هللا‪ ،‬فعم َل بطاعة هللا‪ ،‬يرجو ثواب هللا وترك معصية هللا يخاف عقاب هللا‪ِّ ،‬‬
‫ِ‬
‫بالكلمة الحسنى ( ِال إله إال هللا) وبالعاقبة الحسنى (الجنة) وبالوعد الحسن (وهو أن ُيخ ِلف‬
‫هللا عليه ما أنفق‪ ،‬وأن إنفاقه في سبيل هللا ال ُينقص ماله)‪ ،‬وهذا ذهب املفسرون إلى أنه‬
‫أبو بكر الصديق رض ي هللا عنه‪ ،‬وقد نقل جمع إجماع املفسرين على أنه أبو بكر الصديق‬
‫رض ي هللا عنه‪َّ ،‬‬
‫ولكن املعنى عام‪ ،‬ال شك أن أبا بكر الصديق رض ي هللا عنه أولى الناس‬
‫بهذا‪ ،‬ولكنه ليس ًّ‬
‫خاصا به بل هو عام‪ِ .‬‬
‫فسنيسره ونسهل له اليسرى في كل ش يء‪ ،‬فيكون له اليسر في ِّ‬
‫الد ِين‪ ،‬ويكون له اليسر في‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أمره‪ ،‬فيجعل هللا له من أمره ُيسرى ْلنه قد اتقاه‪ ،‬ويجعل أمره كله له خير؛ إن أصابته‬
‫ضراء صبر فكان ذلك ً‬
‫خيرا له‪ ،‬ويعينه على‬ ‫خيرا له‪ ،‬وإن أصابته ِّ‬‫نعماء شكر فكان ذلك ً‬
‫ُ ِّ ُ‬
‫سهله عليه وهو طريق الجنة ‪-‬أعني العمل الصالح‪ -‬فيوصله بتقواه‬ ‫العمل الصالح‪ ،‬في ِ‬
‫وطاعته إلى جنته سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫هذا صنف من العاملين ووصف ْلعمالهم وهم َّ‬
‫املتقون‪ ،‬الذين سلموا من البخل‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫﴿وأ َّما َمن َب ِخ َل﴾ بحق هللا فلم يعبد هللا‪ ،‬ولم ُيخرج من ماله حق هللا‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َْ‬
‫استغن ٰى﴾ بزعمه عن فضل هللا‪ ،‬وجعل دنياه الفانية‪ ،‬مغنية له في ظنه الفاسد عن‬ ‫﴿و‬
‫ُ‬
‫أخراه‪ِ .‬‬
‫ِّ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َّ‬
‫َوكذ َب بالكلمة الحسنى‪ ،‬فلم يقل (ال إلـه إال هللا) ولم يعتقدها‪ ،‬وكذب بالعاقبة الحسنى‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وهي الجنة‪ ،‬فأنكر أن ُيبعث‪ ،‬وكذب بموعود هللا‪ ،‬ومنه أن يخلف عليه ما أنفق‪ِ .‬‬
‫فسنيسره ونسهل له العسرى؛ أي سلوكها‪ ،‬وإال هي عسرى ال تصبح سهلة‪ ،‬فيكون عمله في‬
‫الدنيا فيما يشقيه‪ ،‬ال في دين هللا الذي هو ُي ُسر‪ ،‬ويجعل هللا فقره بين عينيه‪ ،‬فال يرى إال‬
‫ً‬
‫فقرا ويعمل الذنوب فوق الذنوب‪ ،‬فيقوده ذلك إلى النار‪ ،‬وقد يجمع املال في الدنيا وال‬
‫ينفقه؛ يكنزه‪ ،‬يبخل به‪ ،‬وقد ينفقه في الصد عن دين هللا‪ ،‬وفي املحرمات فال يغن عنه ذلك‬
‫املال ً‬
‫شيئا‪ِ .‬‬
‫ُ ِّ‬ ‫َ‬
‫وع ِذب في قبره‪ ،‬وتردى‪ ،‬التردي اْلعظم في النار‪ ،‬فإنه ال ينفعه‬ ‫﴿ ِإذا ت َردى﴾ فمات وهلك‬
‫ش ًيئا‪ ،‬فلو كان يملك مال الدنيا وأضعاف أضعافه‪ ،‬وأراد أن يفتدي به ما ُت ِّ‬
‫قبل منه‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫‪300‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اله َدى؛ أي الهداية إلى النجديين؛ هداية‬


‫ثم بين هللا عز وجل لبني آدم‪ ،‬أن عليه سبحانه ُ‬
‫البيان إلى طريق الخير مع اْلمر به‪ ،‬وإلى طريق الشر مع النهي عنه‪ ،‬وأن الـملك كله هلل؛ فاهلل‬
‫يملك اآلخرة ويملك اْلولى التي هي الدنيا‪ ،‬ويعطي الدنيا ملن أحب ومن ال يحب‪ ،‬لكن ِّ‬
‫شتان‬
‫بين إعطائه الدنيا ملن أحب‪ ،‬ليزداد بها ً‬
‫خيرا‪ ،‬وبين إعطائه الدنيا ملن ال يحب‪ ،‬ليملي له‬
‫ويزداد بها ً‬
‫إثما‪ِ .‬‬
‫وال يعطي اآلخرة إال ملن يحب‪ ،‬وفي هذا تهديد ووعيد ْلولئك الكفار‪ ،‬ولذلك قال هللا‪:‬‬
‫َ ِّ‬ ‫ََ‬ ‫ََ َ ُ ُ‬
‫َّ‬
‫تتسعر وتتوهج‪ ،‬ويشتد‬ ‫﴿فأنذرتكم نا ًرا تلظى﴾ خوفتكم‪ ،‬وحذرتكم نا ًرا كبرى‪َ ،‬تتلظى؛‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫حرها‪ ،‬ويعظم لهيبها‪ ،‬ال يحترق ِ‬
‫بحرها وال يعاني عذابها إال اْلشقى‪ .‬فأشقى الناس من دخل‬
‫ََ‬
‫شقاء دون دخول النار كال شقاء‪ِ .‬‬
‫ٍ‬ ‫في النار‪ ،‬وأشقى الشقاء هو دخول النار‪ ،‬وكل‬
‫ولذلك اْلشقى هنا على بابه أفعل تفضيل‪ ،‬فإن عذاب النار هو أشقى الشقاء‪ ،‬من هو هذا‬
‫اْلشقى؟ ِ‬
‫َ َّ‬
‫الذي كذ َب ما جاء به الرسل‪ ،‬فلم يصدق الخبر ولم يؤمن‪ ،‬وتولى وأعرض عن العمل‪ ،‬فال‬
‫صدق وال صلى؛ ال آمن وصدق الخبر وتبع ذلك أنه ما عمل؛ بل أعرض ولو عمل مع تكذيبه‬
‫ما نفعه ذلك‪ ،‬لكنه لم يعمل فيؤاخذ بتكذيبه وبعدم عمله يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫َّ ْ َ ْ َ‬
‫﴿ َو َس ُي َجن ُب َها اْلتقى﴾ واْلتقى هنا بمعنى الذي يعمل العمل الصالح بعد العمل الصالح‪،‬‬
‫فإن العمل الصالح تقى‪ ،‬فإذا عمل عمال صالح بعد العمل الصالح‪ ،‬صار أتقى‪ ،‬هذا ال يعني‬
‫يا إخوة أن التقي ال يجنبها‪ ،‬وإنما اْلتقى هنا ليس تفضيال بين الناس‪ ،‬وإنما تفضيل عند‬
‫اإلنسان نفسه‪ ،‬فإنه يعمل الصالح اليوم‪ ،‬فيكون تقيا فيعمل عمال صالحا فيكون أتقى‬
‫منه باْلمس؛ واملقصود هنا‪ :‬اإلشارة إلى ديمومة العمل الصالح‪ ،‬واجتناب املحرمات‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫من هو هذا اْلتقى؟ ﴿ال ِذي ُيؤ ِتي َمال ُه﴾ في سبيل هللا‪ ،‬وينفق ماله في سبيل هللا‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َّ‬
‫﴿يتزك ٰى﴾ يطلب تزكية ماله‪ ،‬وتزكية نفسه من ربه سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو ينفق املال هلل رجاء‬
‫يزكي نفسه‪ِ .‬‬‫يزكي هللا ماله‪ ،‬وأن َ‬ ‫أن َ‬
‫﴿ َو َما َْل َحد ع َ‬
‫ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة﴾ صغيرة أو كبيرة‪ِ .‬‬ ‫ِ ٍ ِ‬
‫ُ‬
‫﴿ت ْج َز ٰى﴾ أي ما تقدمت ْلحد عنده نعمة يكافئ صاحبها عليها باإلنفاق‪ ،‬وال يرجو نعمة بعد‬

‫‪301‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫إنفاقه من الناس؛ يعني ال يجازي على نعمة سابقة‪ ،‬وال ينفق للحصول على نعمة الحقة‬
‫من الناس‪ ،‬ال من َ‬
‫املنفق عليه وال من غيره‪ ،‬لكن ينفق ابتغاء وجه ربه اْلعلى‪ ،‬فهو مخلص‬
‫هلل‪ ،‬ينفق هلل مع قطع النظر عن الناس وما في أيدي الناس‪ِ .‬‬
‫وهذا هو اإلخالص أحسن تعريف لإلخالص هو‪( :‬أن يعمل العامل العمل هلل‪ ،‬مع قطع‬
‫النظر عن الناس‪ ،‬وعما في أيدي الناس )‪ِ .‬‬
‫مع قطع النظر عن الناس‪ :‬يعني مدحهم‪ ،‬ال ينظر إليهم‪ ،‬كأنهم غير موجودين‪ ،‬إذا قام‬
‫يصلي‪ ،‬يصلي كأنه لوحده ما يلتفت ْلحد من الناس‪ ،‬يقطع النظر عن مدحهم‪ِ .‬‬
‫وما في أيدي الناس‪ :‬أي من الدنيا‪ ،‬فهو ال يعمل العمل الصالح أو ينفق في سبيل هللا‪ ،‬وهو‬
‫يريد شيئا من الدنيا إال ما أذن هللا به‪ ،‬كما هو معلوم فيما فصلناه في كتاب التوحيد‪ ،‬ومن‬
‫كان كذلك‪ ،‬يوحد هللا ويطيع هللا ويخلص هلل لسوف يرض ى عند لقاء هللا‪ ،‬يرض ى عن‬
‫ُ‬
‫عمله‪ ،‬ويرض ى عن ثوابه‪ ،‬ويرض ى عن ربه‪ ،‬ومن أ ْر ِض َي في اآلخرة ُر ِض َي عنه‪ ،‬فهو يرض ى‪،‬‬
‫وهللا عز وجل يرض ى عنه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫فسرنا سورة الليل كاملة تفسيرا إجماليا موضوعيا وبقي علينا التفسير التفصيلي‪ِ :‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر ابن سعدي رحمه هللا تعالى في تفسير سورة الليل‬
‫‪:‬هذا قسم من هللا بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم‪.‬‬
‫قال العلماء‪ :‬هذا قسم بهذه اْلزمان التي تقع فيها عبادات فاضلة‪ ،‬وتضمن هذا القسم‬
‫بتلك العبادات فكأن اْلقسام هنا بالزمن وما يقع فيه من العبادات‪ِ .‬‬
‫َ َْ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َيغش ٰى﴾ أي يعم الخلق بظَّلمه فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه‬ ‫فقال‪:‬‬
‫ويستريح العباد من الكد والتعب‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل﴾ الواو للقسم‪ ،‬والليل معروف جزء من اليوم‪ِ .‬‬
‫َ َْ‬
‫﴿إذا َيغش ٰى﴾ يغش ى يعني‪ :‬يغطي‪ ،‬فيغطي اْلرض بظالمه‪ ،‬فتسكن املخلوقات على اْلرض‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ويأوي كل إلى مأواه‪ ،‬ويرتاح الناس واملخلوقات من الكد والتعب في النهار‪ .‬ولك أن تتص ِور يا‬
‫عبد هللا؛ لو لم ينعم هللا علينا بهذا الليل‪ ،‬كيف تكون حياتنا؟ لو شاء هللا عز وجل لجعل‬
‫الوقت كله نهارا‪ ،‬ولضاقت اْلرض بالعباد‪ ،‬فإنه ال سكن وال راحة إال في الليل على وجه‬

‫‪302‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الكمال والحقيقة‪ِ .‬‬


‫والليل تقع فيه عبادات واجبة‪ ،‬وتقع فيه عبادات مستحبة من أفضل العبادات؛ ففي أوله‬
‫صالة املغرب‪ ،‬وفي ثلثه إلى نصفه صالة العشاء‪ ،‬وفي آخره عندما يدبر صالة الفجر‪ ،‬وفيه‬
‫قيام الليل الذي هو أفضل صلوات النافلة‪ ،‬فيكون القسم بالليل متضمنا ذلك‪ .‬وفي هذا‬
‫َ َْ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿والل ْي ِل ِإذا َيغش ٰى﴾‬ ‫إشارة أيضا إلى أن العبادة في الليل أقرب إلى اإلخالص؛ ْلنها مغطاة‪،‬‬
‫فالعبادة في الليل في وقت التغطية‪ ،‬فيكون ذلك أقرب إلى اإلخالص‪ ،‬كما أن فيها تعبا‪،‬‬
‫واْلجر يزداد بزيادة التعب‪ .‬تقدم معنا مرارا أن العبد يؤجر على التعب في العبادة إذا حصل‬
‫ًِ‬
‫ابتداء‪ِ .‬‬ ‫له‪ ،‬لكن ال يشرع له أن يتقرب إلى هللا بالتعب‬
‫ولذلك يا إخوة كانت أثقل الصالة على املنافقين صالة العشاء‪ ،‬وكذلك صالة الفجر‪ ،‬فهي‬
‫فيها مزيد إخالص‪ ،‬ومزيد أجر عن عبادة النهار وفي كل خير‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ َّ‬
‫الن َه ِار ِإذا ت َجل ٰى﴾ للخلق فاستضاؤوا بنوره‪ ،‬وانتشروا في مصالحهم‪.‬‬ ‫﴿و‬
‫َ َّ َ َ َّ‬
‫الن َه ِار ِإذا ت َجل ٰى﴾ فتجلى النهار وظهر وانكشف للناس‪ ،‬بظهور الضوء‪ ،‬فالنهار كما قلنا‬‫﴿و‬
‫يجلي ويتجلى‪ :‬يتجلى بنفسه فيظهر للناس بضوئه‪ِ .‬‬
‫ويجلي اْلرض وما على اْلرض‪ ،‬وتخرج فيه الحيوانات التي استترت في مخابئها‪ .‬فهو يتجلى‬
‫ويجلي‪ ،‬ويجلي الشمس كذلك كما تقدم معنا‪ِ .‬‬
‫َّ َ ْ ُ َ‬ ‫َ ََ‬
‫﴿و َما خل َق الذك َر َواْلنث ٰى﴾ إن كانت )ما( موصولة‪ ،‬كان إقساما بنفسه الكريمة‬
‫اْلوصوفة‪ ،‬خالق الذكور واإلناث‪ ،‬وإن كانت مصدرية كان قسما بخلقه للذكر واْلنثى‪،‬‬
‫وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد إبقاءها ذكرا‬
‫وأنثى‪ ،‬ليبقى النوع وال يضمحل‪ ،‬وقاد كَّل منهما إلى اآلخر بسلسلة الشهوة‪ ،‬وجعل كَّل‬
‫منهما مناسبا لآلخر‪ ،‬فتبارك هللا أحسن الخالقين‪.‬‬
‫(ما) هنا إن كانت موصولة؛ فهي بمعنى (الذي) أو بمعنى (من) (والذي خلق الذكر واْلنثى)‬
‫فيكون ربنا سبحانه وتعالى يقسم بنفسه‪ ،‬وإن كانت مصدرية فإنها تقدر هي وما بعدها‬
‫وخلق الذكر واْلنثى‪ ،‬وكما ذكر الشيخ في خلق الذكر‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫﴾‬ ‫﴿وما َخ َل َ‬
‫ق‬ ‫مصدرا‪ ،‬فيكون َ‬
‫ِ‬

‫‪303‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واْلنثى آية عجيبة من جهة تمييز هذا عن هذا من املاء والرحم‪ ،‬ومن جهة إكساب هذا‬
‫صفات خاصة وهذا صفات خاصة‪ ،‬وداللتهما على ما يكون به التناسل‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ ُ َ َ‬
‫عيكم لشتى﴾ هذا هو اْلقسم عليه أي‪ :‬إن سعيكم أيها اْلكلفون ْلتفاوت‬ ‫﴿إن س‬‫وقوله‪ِ :‬‬
‫تفاوتا كثيرا‪ ،‬وذلك بحسب تفاوت نفس اْلعمال ومقدارها والنشاط فيها‪ ،‬وبحسب‬
‫الغاية اْلقصودة بتلك اْلعمال‪ ،‬هل هو وجه هللا اْلعلى الباقي؟ فيبقى العمل له ببقائه‪،‬‬
‫وينتفع به صاحبه‪ ،‬أم هي غاية مضمحلة فانية‪ ،‬فيبطل العمل ببطَّلنها‪ ،‬ويضمحل‬
‫باضمحَّللها؟ وهذا كل عمل يقصد به غير وجه هللا تعالى بهذا الوصف‪.‬‬
‫َّ َ َ ُ‬
‫عيكم﴾ هذا جواب القسم‪ ،‬والسعي‪ :‬هو العمل باهتمام‪ ،‬وتضمن هذا أن اإلنسان‬ ‫﴿إن س‬‫ِ‬
‫البد له من عمل‪ ،‬فإن لم يشغل نفسه بالطاعة أشغلته نفسه باملعصية‪ ،‬ما يمكن أن‬
‫يبقى اإلنسان بال عمل‪ ،‬البد من عمل‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ ُ َ َ‬
‫عيكم لشتى﴾ أي ملختلف في ذاته‪ ،‬منكم من يعمل الخير‪ ،‬ومنكم من يعمل الشر‪ِ .‬‬ ‫﴿ ِإن س‬
‫وفي قصده؛ فمنكم من يقصد وجه هللا‪ ،‬ومنكم من يريد الدنيا‪ِ .‬‬
‫وفي جزائه؛ فمنكم من يجازى على عمله الطيب في الدنيا ثم ال يكون له منه نصيب في‬
‫اآلخرة‪ ،‬ومنكم من يخسر في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ومنكم من يؤتيه هللا جز ًاء حسنا في الدنيا‬
‫ويؤتيه جز ًاء أعظم في اآلخرة‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ولهذا فصل هللا العاملين ووصف أعمالهم فقال‪﴿ :‬فأما َم ْن أ ْعطى﴾ أي‬
‫ما أمر به من العبادات اْلالية‪ ،‬كالزكوات‪ ،‬والنفقات‪ ،‬والكفارات‪ ،‬والصدقات‪ ،‬واإلنفاق‬
‫في وجوه الخير‪ ،‬والعبادات البدنية؛ كالصَّلة‪ ،‬والصوم وغيرهما‪ ،‬واْلركبة من ذلك؛‬
‫كالحج‪ ،‬والعمرة‪ ،‬ونحوهما‪.‬‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿فأما َمن أعطى﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬أي أعطى الحقوق‪ ،‬أعطى حق هللا وأعطى حق‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأعطى حق الصحابة‪ ،‬وأعطى حق أولياء هللا‪ ،‬وأعطى حق‬
‫والديه‪ ،‬وأعطى حق أقاربه‪ ،‬وأعطى الحق في ماله‪ ،‬املهم أنه يعطي الحقوق‪ ،‬فهو حريص‬
‫ق‪ِ .‬‬
‫على إعطاء الحقو ِ‬

‫‪304‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أعطى املحاويج من ماله‪ ،‬وحمل اآلية على املعنى اْلعم أولى كما‬
‫تقدم ذكره مرارا‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿واتقى﴾ ما نهي عنه من اْلحرمات واْلعاص ي على اختَّلف أجناسها‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿واتقى﴾ قال بعض العلماء‪ :‬أعطى في جانب العمل‪ ،‬واتقى في جانب الترك؛ فأعطى أي‪:‬‬
‫عمل الصالحات‪ ،‬واتقى أي‪ :‬ترك املحرمات‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿واتقى﴾ أي‪:‬ذ عمل بطاعة هللا يريد ثواب هللا‪ ،‬وترك معصية هللا‬ ‫وقال بعض العلماء‪:‬‬
‫يخاف عذاب هللا؛ فعلى هذا القول يكون أعطى ًّ‬
‫خاصا‪ ،‬واتقى ًّ‬
‫عاما فيكون ذلك من باب‬
‫ذكر العام بعد الخاص‪ .‬ولعل هذا أولى وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫الحسنى﴾ أي‪ :‬صدق بَّل إله إال هللا‪ ،‬وما دلت عليه من جميع العقائد الدينية‬ ‫ص َّد َق ب ُ‬
‫﴿و َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫وما ترتب عليها من الجزاء اْلخروي‪.‬‬
‫مقدر أي‪ :‬وصدق بالكلمة الحسنى وهي (ال‬ ‫الحسنى﴾ هناك َّ‬ ‫ص َّد َق ب ُ‬‫﴿و َ‬‫بعض العلماء قال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫إله إال هللا) أحسن الكالم وأجمله وأكمله‪،‬أحسن ما يقوله إنسان‪( :‬ال إله إال هللا)‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬ ‫ص َّد َق ب ُ‬ ‫﴿و َ‬‫وقال بعض العلماء‪َ :‬‬
‫الحسنى﴾ أي‪ :‬بالخل ِة الحسنى؛ وهي موعود هللا بأن ُيخلف‬ ‫ِ‬
‫عليه ما أنفق‪ِ .‬‬
‫ْ َ‬
‫﴿بال ُح ْسنى﴾ أي‪ :‬بالجنة‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض العلماء‪ِ :‬‬
‫موحدا‪ ،‬وصدق بموعود هللا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صدق ب ــال إله إال هللا‪ ،‬فكان‬‫وكل هذه املعاني صحيحة‪ ،‬فهو َّ‬
‫وصدق بالجنة‪ ،‬فكان ً‬ ‫عامال‪َّ ،‬‬ ‫ً‬
‫متقيا يرجو ما عند هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬ ‫فكان‬
‫ً‬ ‫َ َ َُ ُ ُْ ْ‬
‫ميسرا له ترك كل‬‫ً‬ ‫نيسر له أمره ونجعله مسهَّل عليه كل خير‬ ‫﴿فسني ِس ُره ِلليس َرى﴾ أي‪ِ :‬‬
‫فيسر هللا له ذلك‪.‬‬ ‫شر؛ ْلنه أتى بأسباب التيسير َّ‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬اليسرى هنا تعني تيسير أموره؛ ُ‬
‫فييسر هللا له اْلمور في الدنيا‪ ،‬ويجعل‬
‫ً‬ ‫مخرجا؛ فما ضاقت به الدنيا ورجع إلى هللا خاضعا ً‬ ‫ً‬
‫داعيا متوسال إال فرج‬ ‫ضيق‬
‫له من كل ٍ‬
‫جعل َل ُه َم َ‬
‫خر ًجا﴾ [الطالق‪ِ .]٢ :‬‬
‫َ َ َ َّ َّ‬
‫الل َه َي َ‬ ‫عنه ﴿ومن يت ِق‬
‫ْ‬
‫﴿لل ُي ْس َرى﴾ أي‪ :‬للشريعة اليسرى التي هي دين محمد صلى هللا عليه‬ ‫وقال بعض العلماء‪ِ :‬‬
‫وسلم‪ ،‬يقولِ‪( :‬بعثت بالحنيفية السمحة)‪ ،‬فيكون من أهلها العاملين بها‪ِ .‬‬

‫‪305‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سهل هللا له الجنة بتسهيل طرقها؛ وهي‬‫وقال بعض العلماء‪ :‬اليسرى هي‪ :‬الجنة؛ ُفي ِّ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫حريصا على إعطاء الحقوق وعلم هللا منه‬ ‫ٌ‬
‫مقصود باآلية؛ فمن كان‬ ‫الصالحات وكل هذا‬
‫بعا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬ ‫مخلصا هلل َّ‬
‫مت ً‬ ‫ً‬ ‫مجتهد في ذلك‪ ،‬وكان ً‬
‫مؤمنا باهلل‬ ‫ٌ‬ ‫أنه‬
‫محتسبا ما عند هللا؛ فإن هللا ِّ‬
‫ييسره لكل يسرى‪ ،‬وييسر له كل يسرى‪ ،‬وما يصعب على غيره‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫يسهل عليه حتى الصبر؛ ييسر هللا له الصبر فقد تنزل به املصيبة فيتلقاها بالصبر‪ ،‬وقد‬
‫دائما ُميسر اْلمورِ‪ِ .‬‬
‫يتلقاها بالرضا وهو أعظم؛ فتجده ً‬
‫اليسرى في كل‬ ‫فيا ‪-‬عبد هللا‪ -‬قد أبان هللا لك واْلمر كله هلل؛ إن أردت أن تكون من أهل ُ‬
‫ً‬
‫وإيمانا به‪،‬‬ ‫ً‬
‫وإخالصا له‪،‬‬ ‫ً‬
‫حرصا على أداء الحقوق‪،‬‬ ‫أمورك فاحرص على أن يعلم هللا منك‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫واتباعا لرسوله صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬ ‫واحتسابا ملا عنده‪،‬‬
‫ََ‬
‫﴿وأما َمن َب ِخ َل﴾ بما أمر به فترك اإلنفاق الواجب واْلستحب‪ ،‬ولم تسمح نفسه بأداء ما‬
‫وجب هلل‪.‬‬
‫واجب عليه أو مستحب؛ فلم يؤده أو قصر‬ ‫حق‬ ‫َ َ َ‬
‫ٍ‬ ‫بعض اْلفسرين قال‪﴿ :‬من ب ِخل﴾؛ بكل ٍ‬
‫يؤد حقوق الوالدين أو قصر فيها‪ ،‬لم ينفق من ماله‬
‫يؤد العبادات أو قصر فيها‪ ،‬لم ِ‬
‫فيه‪ ،‬لم ِ‬
‫النفقة الواجبة أو قصر في ذلك‪ ،‬أو لم ينفق النفقة املستحبة‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬البخل يتعلق باملال عادة‪ ،‬فاملقصود من بخل بماله فلم يعرف‬
‫وإنما كان همه الكنز؛ يخاف أن ينفق منه هلل فينقص؛ فال ينفق في سبيل‬ ‫حق هللا فيه‪َّ ،‬‬

‫هللا سبحانه وتعالى ‪ِ .‬‬


‫استغنى﴾ عن هللا‪ ،‬فترك عوديته ً‬‫َ َ‬
‫جانبا‪ ،‬ولم ير نفسه مفتقرا غاية االفتقار إلى ربها‪،‬‬ ‫﴿و‬
‫الذي ال نجاة لها وال فوز وال فَّلح إال بأن يكون هو محبوبها ومعبودها الذي تقصده‬
‫وتتوجه إليه‪،‬‬
‫ْ ْ‬
‫اس َتغ َنى عن هللا أي‪ :‬لم يعبد هللا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬استغنى عن هللا في املال‪ ،‬فقال من حيث االكتساب‪ :‬أنا اكتسبت املال‬
‫بعلمي ومهارتي وذكائي‪ ،‬ولم ينسب ذلك إلى فضل هللا‪ ،‬واستغنى عن موعود هللا في االنفاق‪ِ .‬‬

‫‪306‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ْ َ َْ‬
‫استغنى﴾ أي‪ :‬استغنى بالدنيا عن اآلخرة؛ فظن لجهله َّأن الدنيا‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬و‬
‫ُومتعها ولذاتها وشهواتها تغنيه عن اآلخرة‪ ،‬والكل يدخل في هذه الجملة‪ِ .‬‬
‫الحسنى﴾ أي‪ :‬بما أوجب هللا على العباد التصديق به من العقائد الحسنة‪.‬‬ ‫﴿و َك َّذ َب ب ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الح ْس َنى هنا هي الحسنى هناك‪ ،‬كذب بال إله إال هللا فكذب بالتوحيد‪ ،‬أو كذب بموعود هللا‬ ‫ُ‬

‫بأن ُيخلف على من ينفق في سبيله‪ ،‬أو كذب بالجنة وأنكر البعث وما وراء البعث‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫﴿ف َس ُن َيس ُر ُه ل ُ‬ ‫َ‬
‫ميسرا للشر‬ ‫لعسرى﴾ أي‪ :‬للحالة العسرة والخصال الذميمة؛ بأن يكون‬ ‫ِ ِ‬
‫ومقيضا له أفعال اْلعاص ي ‪-‬نسأل هللا العافية‪.-‬‬ ‫ً‬ ‫أينما كان‪،‬‬
‫لعسرى﴾ والعسرىِ‪ :‬فيها تعسير‪ِ .‬‬ ‫عز وجل قال‪َ ﴿ :‬ف َس ُن َيس ُر ُه ل ُ‬ ‫وهللا ِّ‬
‫ِ ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ ُ‬
‫ولذلك قال بعض أهل العلم‪ :‬قال هللا ﴿ف َسن َي ِس ُر ُه﴾ تهك ًما به‪ِ .‬‬
‫العسرى فيفعل املعاص ي والشرور حتى‬ ‫سنسهل له ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هي على بابها‪،‬‬
‫ِ‬
‫إثما‪ ،‬حتى إذا أخذه هللا عزوجل لم يفلته‪ِ .‬‬ ‫يزداد ً‬
‫لعسرى﴾ أي لجهنم‪ ،‬بأن‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى ﴿ َف َس ُن َيس ُر ُه﴾ يعني فسنهيئه ﴿ل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يكون من العاملين بما يؤدي إليها‪ِ .‬‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫﴿و َما ُيغ ِني َعن ُه َمال ُه﴾ الذي أطغاه واستغنى به وبخل به‪ ،‬إذا هلك ومات فإنه ال‬ ‫َ‬
‫يصحب اإلنسان إال عمله الصالح‪ ،‬وأما ماله الذي لم يخرج منه الواجب فإنه يكون‬
‫وباال عليه إذ لم يقدم منه آلخرته ً‬ ‫ً‬
‫شيئا‪.‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى ﴿ت َر َّد ٰى﴾ هلك وسقط في جهنم‪ ،‬فإن ماله ال ينفعه ولو‬
‫ُ‬
‫افتدى به وبأمثاله وأضعاف أضعافه‪ ،‬بل بمال الدنيا كله‪ ،‬ما نفعه وما ت ُق ِِّبل منه‪ِ .‬‬
‫َ َ َْ‬
‫﴿إ َّن َعل ْينا لل ُـه َد ٰى﴾ أي إن الهدى اْلستقيم طريقه يوصل إلى هللا ويدني من رضاه‪ ،‬وأما‬ ‫ِ‬
‫الضَّلل فطرقه مسدودة عن هللا ال توصل صاحبها إال للعذاب الشديد ‪.‬‬
‫َ َ َْ‬
‫﴿إ َّن َعل ْينا لل ُـه َد ٰى﴾ قال بعض أهل العلم‪ :‬الهدى هو الخير‪ ،‬هنا هو الخير‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫ومعنى ذلك أن املوصل لنا هو الخير‪ ،‬ويقابل الخير‪ ،‬الشر والضالل‪ ،‬فالشر والضالل ال‬
‫يوصل إلى هللا وال إلى رحمة هللا‪ ،‬وإنما يوصل إلى غضبه وسخطه وانتقامه ودار انتقامه‪ِ .‬‬
‫َ َْ‬
‫﴿إ َّن َعل ْي َنا لل ُـه َد ٰى﴾ يعني الهداية‪ ،‬والهداية تكون للخير وتكون‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ِ :‬‬
‫‪307‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫للشر‪ْ ،‬لن الهداية هي اإل شاد‪ ،‬فإن علينا اإل شاد والبيان‪ِّ ،‬‬
‫فبينا لإلنسان طريق الخير‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫وأمرناه به‪ِّ ،‬‬
‫وبينا له طريق الشر وحذرناه منه‪ِ .‬‬
‫وهذا أولى من اْلول وهللا أعلم‪ْ ،‬لن هللا هنا إنما ذكر الهدى ولم يذكر الضالل فهذا يدل‬
‫وهللا أعلم على أنه ُّ‬
‫يعم االثنين‪ ،‬الداللة على الخير والداللة على الشر‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َ َ َ َْ َ ْ ُ َ‬
‫وتصرفا ليس له فيهما مشارك‪ ،‬فليرغب الراغبون إليه في‬ ‫ُّ‬ ‫﴿و ِإ َّن لنا لآل ِخ َرة َواْلول ٰى﴾ ملكا‬
‫الطلب ولينقطع رجاؤهم عن اْلخلوقين ‪.‬‬
‫ِملك اآلخرة التي هي الحياة اآلخرة‪ ،‬واْلولى التي هي الدنيا هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فال يستطيع‬
‫شيئا من دونه‪ ،‬ولو اجتمع الخلق كلهم‪ ،‬وال يستطيع أحد أن يمنع منها‬ ‫أحد أن يعطي منها ً‬

‫شيئا من دونه ولو اجتمع الخلق كلهم‪ ،‬فخاب وخسر من لم يجعل رجاءه في هللا‪ ،‬وخوفه‬ ‫ً‬

‫وتضمن هذا أن هللا يعطي الدنيا من يحب ومن ال يحب‪ ،‬وال يعطي‬ ‫ِّ‬ ‫من هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫اآلخرة إال ملن يحب‪ِّ ،‬‬
‫وقدم هللا اآلخرة على اْلولى مع أن اْلولى متقدمة ز ً‬
‫منا ْلن اآلخرة هي‬
‫وابتالء وعمل‪ِ .‬‬
‫ٍ‬ ‫اختبار‬
‫ٍ‬ ‫الحياة الحقيقية وهي الحيوان‪ ،‬وأما اْلولى فهي دار‬
‫َ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ‬
‫﴿فأنذ ْرتك ْم نا ًرا تلظ ٰى﴾ أي تست ِعر وتتوقد‪.‬‬
‫ً ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ُْ ُ‬
‫ل‬
‫﴿فأنذرتكم﴾ أي‪:‬خوفتكم وحذرتكم نارا تلظى‪ ،‬وقد كان النبي ﷺ يخطب الناس ويقو ِ‪:‬‬
‫(أنذرتكم النار‪ ،‬أنذرتكم النار‪ ،‬أنذرتكم النار) ويعلو صوته حتى أن الرداء يسقط من فوق‬
‫شدة علو صوته وحركته ﷺ‪ِ .‬‬ ‫كتفيه من ِّ‬
‫ِّ‬
‫خوفتكم وحذرتكم‪ِ .‬‬ ‫﴿ف َأ َنذ ْرُت ُك ْم﴾ ِّ‬
‫َ‬
‫فمعنى‬
‫َ َ َّ‬ ‫ِّ‬
‫فيشتد ِّ‬ ‫﴿نا ًرا َت َل َّظ ٰى﴾أي ِّ‬
‫َ‬
‫حرها‪ ،‬و﴿تلظ ٰى﴾يدل على‬ ‫تتوهج باللهب وتلتهب بالسعير‪،‬‬
‫االستمرار‪ ،‬فسعيرها ولهيبها مستمر دائم ال ينقطع وال يخبو‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫صَّل َها ِإال اْلشقى ﴿‪ ﴾١٥‬ال ِذي كذ َب َوت َول ٰى ﴿‪﴾﴾١٦‬عن اْلمر‪.‬‬ ‫﴿ال ي‬
‫َّ ْ َ ْ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ َْ َ‬
‫﴿إال اْلشقى﴾ وقلنا اْلشقى هنا ْلنه بلغ‬ ‫﴿ال يصَّلها﴾ أي ال يحترق بحرها ويعاني سعيرها ِ‬
‫الغاية في الشقاء في جزائه‪ ،‬فمن دخل النار فهو اْلشقى والعياذ باهلل‪ ،‬وْلن كل شقاء دون‬
‫ذلك فال شقاء‪ِ .‬‬

‫‪308‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اإلنسان قد يشقى بسبب الدنيا‪ ،‬قد يشقى ْلنه فقير‪ ،‬قد يشقى ْلنه مريض‪ ،‬قد يشقى‬
‫َ َّ‬ ‫َّ‬
‫بزوجة‪ ،‬وهو شقاء ولكن اْلشقى من عص ى هللا‪ ،‬فأدخله هللا النار‪.‬من هو؟ ﴿ال ِذي كذ َب﴾‬
‫َ َ َّ‬ ‫بالخبر‪ ،‬فلم ِّ‬
‫﴿وت َول ٰى﴾ عن اْلمر فلم يمتثل‪ ،‬لم‬ ‫يصدق قول هللا وال قول رسول هللا ﷺ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يفعل الواجبات ويترك املحرمات‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ َ ْ َ‬
‫﴿و َس ُي َجن ُب َها اْلتقى ﴿‪ ﴾١٧‬ال ِذي ُيؤ ِتي َمال ُه َيتزك ٰى ﴿‪ ﴾﴾١٨‬بأن يكون قصده به تزكية‬ ‫َ‬

‫قاصدا به وجه هللا تعالى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نفسه وتطهيرها من الذنوب واْلدناس‬


‫وحد وعمل بالطاعات ر ً‬ ‫التقي الذي ِّ‬ ‫سيجنبها ِّ‬‫اْل ْت َقى﴾ يعني‪ُ :‬‬ ‫َ َ ُ َ َّ ُ َ ْ َ‬
‫اجيا ثواب هللا‪،‬‬ ‫﴿وسيجنبها‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫وترك املحرمات ً‬
‫مستمرا فإنه أتقى ْلنه اليوم يعمل فهو‬ ‫خائفا من عقاب هللا‪ ،‬لكن ملا كان‬
‫تقي‪ً ،‬‬
‫وغدا يعمل تزيد تقواه‪ ،‬فهو أتقى‪ ،‬وبعد غد يعمل تزيد تقواه وهو ثابت مستمر على‬
‫ذلك إلى أن يموت‪ ،‬فهو اْلتقى‪ِ .‬‬
‫التفضيل هنا ليس بين الناس يعني ليس بين ِّ‬
‫التقي واْلتقى بل كل تقي ُي ِّ‬
‫جنب‬ ‫واملقصود أن ِّ‬
‫ً‬ ‫النار‪ ،‬إما ُي ِّ‬
‫جنب دخولها أصال إن كملت تقواه بحسب اإلمكان وإما يجنب الخلود فيها‬
‫ولكن التفضيل هنا في ُّ‬
‫التقى نفسه فإنه باالستمرار كلما استمر كان أتقى إلى أن يموت‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فدل هذا على أنه إذا تضمن اإلنفاق اْلستحب ترك واجب كدين أو‬
‫نفقة ونحوهما فإنه غير مشروع بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء ْلنه ال‬
‫َ‬
‫يتزكى بفعل مستحب يف ِوت عليه الواجب‪.‬‬
‫َ َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫﴿ال ِذي ُيؤ ِتي َمال ُه َيتزك ٰى﴾‬
‫َ َ َ َّ‬
‫﴿يتزك ٰى﴾ قال بعض العلماء‪ :‬يطلب تزكية نفسه‪ ،‬والتزكية كما قلنا يا إخوة تطهير وتنمية‬
‫تطهير وتنمية‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يتزكى يطلب تزكية ماله‪ ،‬والتزكية كذلك تطهير وتنمية وأشار الشيخ‬
‫َ َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ْ َ ْ َ‬
‫﴿و َس ُي َجن ُب َها اْلتقى ﴿‪ ﴾١٧‬ال ِذي ُيؤ ِتي َمال ُه َيتزك ٰى﴾ أي‬
‫هنا إلى الربط بين قول هللا عز وجل‪َ :‬‬

‫يطلب التزكية بما يزكيه الربط بين هذا وبين في سبيل هللا ملن عليه نفقة اإلنفاق املستحب‬
‫في سبيل هللا ملن عليه نفقة واجبة فإن جمعا من العلماء يقولون‪ :‬ال تقبل نفقته وإذا‬
‫وجد الحاكم فإنه يبطلها ويردها وال يرضيها؛ ْلن النفقة املشروعة هي التي فيها تقى وتزكية‪،‬‬

‫‪309‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وكون اإلنسان يترك الواجب وينفق في املستحب الذي يضيع الواجب‪ ،‬أما إذا كان عليه‬
‫نفقة واجبة وتيسر له‪ ،‬اآلن أن ينفق نفقة مستحبة وعنده قدرة على النفقة الواجبة في‬
‫وقتها فهذا ال يدخل معنا ولكن الذي يدخل معنا هو الذي عليه النفقة الواجبة فينفق‬
‫نفقة مستحبة تمنعه من النفقة الواجبة من غير إذن صاحب النفقة الواجبة أما لو‬
‫استأذنه فأذن له اشترك في اْلجر؛ رجل تجب عليه النفقة لزوجته واملال الذي في يده‬
‫بمقدار نفقتها الواجبة فجاء مسكين أو قريب أو نحو ذلك وسأله فقال لها‪ :‬يا فالنة ف ِالن‬
‫سألني وهو محتاج وصالح وأنا ما عندي إال مقدار نفقتك ما رأيك أن أعطيه بعض هذا‬
‫املال؟ قالت‪ :‬طيب‪ .‬يجوز ويؤجران معا سواء كان رضاها مشاركة في النفقة فتسقط حقها‬
‫الذي حصلت من النفقة يعني املقدار الذي أنفق في سبيل هللا تسقطه أو أذنت على أن‬
‫تستوفي حقها من بعد فإنها تؤجر ْلنها هي التي سببت وقوع هذه النفقة املستحبة‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫﴿و َما َْل َحد ع َ‬
‫ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز ٰى﴾ أي ليس ْلحد من الخلق على هذا اْلتقى من نعمة‬ ‫ِ ٍ ِ‬
‫َ‬

‫تجزى إال وقد كافأه عليها وربما بقي له الفضل واْلنة على الناس فتمحض عبدا هلل ْلنه‬
‫رقيق إحسانه وحده‪.‬‬
‫هذا أحد املعاني يعني أن هذا املنفق ليس ْلحد عليه نعمة بل له نعم على الناس‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫وهذا أبو بكر الصديق رض ي هللا عنه فإنه لم يكن ْلحد من الناس عليه نعمة في أمر الدنيا؛‬
‫نعم النبي صلى هللا عليه وسلم له عليه نعمة من جهة الهداية‪ ،‬والصحبة‪ ،‬والفضل‪ ،‬لكن‬
‫من أمر الدنيا قالوا‪ :‬لم يكن ْلحد نعمة على أبي بكر الصديق رض ي هللا عنه بل له أيادي‬
‫بيضاء على غيره‪ ،‬فإنفاقه يتمحض هلل وحده هذا أحد املعاني‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وأما من بقيت عليه نعمة الناس فلم يجزها ويكافئها فإنه البد أن يترك للناس‬
‫ويفعل لهم ما ينقص إخَّلصه‪.‬‬
‫ند ُه﴾ ممن ينفق عليهم نعمة تجزى؛ يعني ال يريد أن تكون‬‫﴿و َما َْل َحد ع َ‬
‫وقال أهل العلم‪َ :‬‬
‫ِ ٍ ِ‬
‫له على َ‬
‫املنفق عليه نعمة يجزاها فيما بعد‪ ،‬فيأتي فيما بعد يقول ‪ :‬أنا الذي أنفقت عليك‬
‫في سنة كذا في وقت كذا أعطني كذا‪ ،‬فهو ِّيدخر ما ينفق ليكون نعمة له على غيره‪ ،‬ال هو‬
‫ليس على هذا وإنما ينفق هلل‪ِ .‬‬

‫‪310‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬وهذه اآلية وإن كانت متناولة ْلبي بكر الصديق رض ي هللا عنه بل قيل إنها نزلت‬
‫بسببه‪.‬‬
‫ذكر بعض املفسرين اإلجماع على أن هذه اآلية في أبي بكر الصديق رض ي هللا عنه‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫﴿و َما َْل َحد ع َ‬
‫ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز ٰى﴾ حتى وال رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫ِ ٍ ِ‬
‫فإنه رض ي هللا عنه َ‬

‫وسلم‪.‬‬
‫من جهة الدنيا من جهة أمور الدنيا‪ِ .‬‬
‫إال نعمة الرسول التي ال يمكن جزاؤها وهي نعمة الدعوة إلى دين اإلسَّلم وتعليم الهدى‬
‫ودين الحق‪ ،‬فإن هلل ورسوله اْلنة على كل أحد‪ ،‬منة ال يمكن لها جزاء وال مقابلة‪ ،‬فإنها‬
‫متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل‪.‬‬
‫فإنها؛ أي اآلية ليس املنة فالكالم هكذا‪( :‬وهذه اآلية وإن كانت متناولة ْلبي بكر الصديق‬
‫رض ي هللا عنه فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل)‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل فلم يبق ْلحد عليه من الخلق‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿إال ْاب ِتغ َاء َو ْج ِه َرِب ِه‬ ‫نعمة تجزى‪ ،‬فبقيت أعماله خالصة لوجه هللا تعالى‪ ،‬ولهذا قال‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫اْل ْعل ٰى ﴿‪َ ﴾٢٠‬ول َس ْوف َي ْر َض ٰى ﴿‪.﴾﴾٢١‬‬
‫َّ‬
‫﴿إال﴾ هذا استثناء مقابل‪ ،‬يعني‪ :‬لكن ابتغاء وجه ربه اْلعلى‪ ،‬لكن ينفق ابتغاء وجه ربه‬ ‫ِ‬
‫اْلعلى‪ ،‬ولربنا وجه يليق بجالله سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿ول َس ْوف َي ْر َض ٰى﴾ (الَّلم)‪ :‬مؤكدة‪( .‬سوف)‪ :‬تدل على مهلة في الزمن‪ِ .‬‬
‫﴿ي ْر َض ٰى﴾ أي عند لقاء هللا عز وجل يرض ى عن عمله ويرض ى عن ثواب عمله ويرض ى عن‬ ‫َ‬
‫ربه سبحانه وتعالى أي يزداد ر ً‬
‫ضا‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫﴿إال ْاب ِتغ َاء َو ْج ِه َرِب ِه اْل ْعل ٰى ﴿‪َ ﴾٢٠‬ول َس ْوف َي ْر َض ٰى ﴿‪ ﴾﴾٢١‬هذا اْلتقى بما يعطيه هللا‬ ‫ِ‬
‫من أنواع الكرامات واْلثوبات‪.‬‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الليل‪ ،‬وهذه السورة كسائر السور أودعت حكما عظمى‪،‬‬
‫وفوائد كبرى‪ ،‬ولو أن املؤمن تدبر َّ‬
‫أي سورة من سور القرآن‪ ،‬لوجد من الفوائد والحكم ما‬
‫ال ينقض ي‪ ،‬بل ربما كلما زاد تدبرا كلما وقف على ِحكم وفوائد عظمى من تلك السورة‪ِ .‬‬

‫‪311‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذه السورة من فوائدها العظمى وحكمها الكلية‪ :‬بيان أن عمل الناس في الدنيا مختلف‬
‫َ‬
‫ِقلة وكثرة‪ ،‬تماما ونقصا‪ ،‬خيرا وشرا‪ ،‬وأن جزاءه في اآلخرة مختلف باختالف أعمالهم‪ِ .‬‬
‫ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ :‬بيان أن أصل كل خيرلإلنسان السماحة‬
‫بمعناها العام‪ ،‬وأن أصل كل شر البخل بمعناه العام ‪ ،‬ولذلك جاء عن ابن عباس رض ي‬
‫هللا عنهما أنه قال‪( :‬هذه السورة في السماحة والبخل)‪ِ .‬‬
‫وأن‬ ‫ومن حكم هذه السورة الكلية وفوائدها الكبرى‪ِّ :‬أن ِ‬
‫اآلخرة واْلولى ملك هللا عز وجل ِ‬
‫املعطي واملانع هو هللا‪ ،‬فيعطي هللا الدنيا ملن يحب إكراما وابتالء بها‪ ،‬وملن ال يحب‬
‫استدراجا‪ ،‬وال يعط اآلخرة إال ملن يحب‪ِ .‬‬
‫ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى‪ِّ :‬أن الناس في الدنيا أتقياء وأشقياء‪ ،‬وفي‬
‫اآلخرة سعداء وأشقياء‪ ،‬أن الناس في الدنيا أتقياء وأشقياء إما تقي وإما شقي‪ ،‬وأنهم في‬
‫اآلخرة سعداء وأشقياء‪ ،‬فأتقياء الدنيا سعداء اآلخرة‪ ،‬وأشقياء الدنيا أشقياء اآلخرة‪ ،‬وبهذا‬
‫نكون فرغنا من ما يتعلق بسورة الليل‪ِ .‬‬
‫ِِ‬

‫‪312‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الضحى‪ِ .‬‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫َ ْ ُ َ َّ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الض َح ٰى (‪َ )1‬والل ْي ِل ِإذا َس َج ٰى (‪َ )2‬ما َو َّد َع َك َرُّب َك َو َما قل ٰى (‪َ )3‬ولآل ِخ َرة خ ْي ٌر ل َك ِم َن‬ ‫﴿و ُّ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ َ َ َ ًّ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ َ ْ َ َ ً َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُّ َ َ َ‬ ‫ٰ‬ ‫ُْ َ‬
‫و‬ ‫ى‬
‫اْلولى (‪ )4‬ولسوف يع ِطيك ربك فترض ى (‪ )5‬ألم ي ِجدك ي ِتيما فآو (‪ )6‬و جدك ضاال‬
‫ََ َ‬
‫السا ِئ َل فَّل ت ْن َه ْر (‪)10‬‬‫يم َف ََّل َت ْق َه ْر (‪َ )9‬و َأ َّما َّ‬
‫َف َه َد ٰى (‪َ )7‬و َو َج َد َك َعائ ًَّل َف َأ ْغ َن ٰى (‪َ )8‬ف َأ َّما ْال َيت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫َوأ َّما ِب ِن ْع َم ِة َرِب َك ف َح ِدث (‪ِ .﴾)11‬‬
‫في هذه السورة املكية يذكر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا له باآلية‬
‫العظمى عليه‪ ،‬ويرد على مشركي قريش حيث انقطع الوحي زمنا يسيرا وفتر فترة قصيرة‪،‬‬
‫فجاءت امرأة إلى النبيِصلى هللا عليه وسلم وقالت‪ :‬إني ْلرجو أن يكون شيطانك قد تركك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬
‫يبال هللا به‪ ،‬فأقسم‬ ‫وقال املشركون فيما بينهم‪ :‬قد و ِدع محمد؛ أي‪ :‬ترك محمد وأهمل ولم ِ‬
‫هللا عز وجل بأول النهار من شروق الشمس إلى قبيل الزوال‪ ،‬وبالليل إذا أقبل فسكنت‬
‫املخلوقات فيه‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وجواب هذا القسم‪َ ﴿ :‬ما َو َّد َع َك َرُّب َك َو َما قل ٰى﴾ فما فارقك ربك وما قطعك قطع ِّ‬
‫املودع‬ ‫ِ‬
‫للمودع‪ ،‬وال تركك بال مباالة بك‪ ،‬وال أبغضك بل أنت خليله‪ِ .‬‬ ‫َّ‬
‫ولآلخرة خير لك من الدنيا فما أعده هللا لك فيها ‪-‬أعني في اآلخرة‪ -‬من الكرامة والنعيم‬
‫املقيم خير وأبقى‪ِ .‬‬
‫ولسوف يعطيك ربك في دنياك لك وْلمتك من الكنوز والتمكين والفتوحات والخصائص‬
‫عن سائر اْلمم ما يرضيك‪ ،‬وما في اآلخرة مما يعطيك ربك خير لك مما يعطيك إياه في‬
‫ويعد لك من الكرامات في‬ ‫الدنيا‪ ،‬فيعطيك املقام املحمود عند الحشر والقضاء بين الناس‪ِّ ،‬‬
‫الجنة والنعيم في الجنة ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ ،‬فيرضيك في‬
‫الدنيا‪ ،‬ويرضيك عند البعث‪ ،‬ويرضيك في دار املقامة في الجنة‪ ،‬ويرضيك يوم القيامة في‬
‫مؤمني أمتك حيث يدخل منهم سبعينا ألفا الجنة بغير حساب وال عذاب‪ ،‬ويعفو عن أعداد‬
‫كبيرة منهم ويشفعك في أهل الكبائر منهم‪ِ .‬‬
‫وقد صح عن ابن عباس رض ي هللا عنهما أنه قال‪ُ ( :‬عرض على رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ما هو مفتوح على أمته كنزا كنزا‪ ،‬فسر بذلك)‪ ،‬أي‪ :‬عرض امللك على النبيِصلى هللا‬
‫فسر النبيِصلى هللا عليه وسلم‬ ‫عليه وسلم ما سيفتح على اْلمة من الكنوز كنزا كنزا ُ‬
‫ََ‬ ‫﴿و َل َس ْو َف ُي ْعط َ‬
‫يك َرُّب َك فت ْر َض ٰى﴾)‪ ،‬فأعطاه هللا في الجنة‬ ‫ِ‬
‫بذلك‪ ،‬قال‪( :‬فأنزل هللا عز وجل‪َ :‬‬

‫‪313‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ألف ألف قصر‪ ،‬في كل قصر ما ينبغي له من اْلزواج والخدم‪ ،‬فاهلل عرض على نبيهِصلى‬
‫هللا عليه وسلم ما يرضيه ْلمته في الدنيا‪ ،‬وما يفتح عليها من الخيرات‪ ،‬فدخل السرور على‬
‫حبيبنا ونبيناِصلى هللا عليه وسلم بذلك‪ ،‬فوعده هللا بما هو أعظم‪ ،‬فجعل له في الجنة ما‬
‫يرضيه‪ ،‬فجعل له في الجنة مليون قصر‪ ،‬وفي كل قصر ما يحتاج إليه من خدم وغيرهم‪،‬‬
‫ومثل هذا ال يقال بالرأي‪ ،‬فله حكم الرفع إلى النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫ثم ذكر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم بنعمه املاضية ليزداد يقينا بالنعم الالحقة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫فإن الذي أنعم بما مض ى قادر على أن ينعم بما يأتي‪ ،‬فذكره ربه بأنه قد وجده يتيما قد‬
‫مات أبوه وهو في بطن أمه‪ ،‬ثم ماتت أمه‪ ،‬فرباه وآواه وهيأ له من يرعاه‪ ،‬فرعاه جده‪ ،‬وملا‬
‫مات جده رعاه عمه أبو طالب‪ ،‬ف ِوجده يتيما فآواه‪ ،‬وآوى به‪ ،‬فآوى اْليتام ورعى اْليتام‬
‫بهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقد جاء في شرعه فضل رعاية اليتيم‪ ،‬وآوى أمته بهِصلى هللا‬
‫عليه وسلم فجعل لها النصر والتمكين‪ ،‬فاهلل عز وجل آواه‪ ،‬وآوى اْليتام به‪ ،‬وآوى الضعفاء‬
‫به‪ ،‬وآوى اْلمة به‪ِ .‬‬
‫ووجده ضاال عن الكتاب واإليمان‪ ،‬ال يدري ما الكتاب وال اإليمان‪ ،‬فلم يكن له علم بهما‪،‬‬
‫فأنزل عليه الكتاب وهداه لإليمان والشرع القويم والخلق الكريم‪ ،‬وهدى به أمته إلى ذلك‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫وذكره سبحانه بأنه قد وجده فقيرا فأغناه وأغنى به‪ ،‬فأعطاه الغنى الظاهر والغنى الباطن‪،‬‬
‫فأعطاه الغنى الظاهر بما جعل له وْلمته من الفتوح والكنوز‪ ،‬وأعطاه الغنى الباطن فجعل‬
‫قلبه شاكرا قانعا‪ ،‬فجعل غناه في قلبه‪ ،‬وأغنى أمته بذلك‪ِ .‬‬
‫واملراد أن من أنعم عليك بتلك النعم قادر على أن ينعم عليك بغيرها فكن عبدا شكورا‬
‫ُ‬
‫تستجلب نعم هللا‪ ،‬وقابل كل نعمة بما ينبغي لها‪ ،‬فال تنهر اليتيم‪ ،‬و ِال تكسر قلبه‪ ،‬وال تضع‬
‫حقه‪ ،‬وال يضق صدرك به‪ ،‬فإنك كنت يتيما فآواك هللا‪ ،‬فقابل هذه النعمة بما ينبغي حتى‬
‫تكون شاكرا هلل عز وجل‪ ،‬وإذا جاءك سائل يسألك علما أو دنيا فال تنهره وال تزجره وال‬
‫تغلظ عليه‪ ،‬بل إذا جاءك السائل يسألك علما فعلمه‪ ،‬وإذا جاءك السائل يسألك دنيا‬
‫فإن كانت عندك فأعطه‪ ،‬وإن لم تكن عندك فقل له قوال كريما‪ ،‬وقل له قوال ميسورا‪،‬‬
‫َو ِعده خيرا‪ِ .‬‬
‫واشكر نعم ربك عليك بالتحدث بها والثناء على هللا عز وجل بها‪ ،‬ومن ذكر نعم ربه مثنيا‬
‫بها على هللا مضيفا إياها إلى هللا فقد شكرها‪ ،‬ومن كتمها فقد كفرها‪ِ .‬‬

‫‪314‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وادع إلى ربك املنعم عليك بكل هذه النعم‪ ،‬الذي أنعم عليك بالكتاب فأنزله عليك‪ ،‬وأنعم‬
‫ُ‬
‫عليك باإليمان فهداك إليه‪ ،‬وأوحى إليك الشرع القويم وجعلك على خلق عظيم‪ ،‬ادع إليه‬
‫لتكون عبدا شكورا‪ ،‬وقد كانِصلى هللا عليه وسلم عبدا شكورا‪ ،‬فشكر هللا عز وجل على‬
‫هذه النعم وعلى غيرها‪ ،‬فكان أرحم الناس باليتيم‪ ،‬وأرفق الناس بالسائل‪ ،‬وأكثر الناس‬
‫تحدثا بنعم هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وفي كل هذا تعليم ْلمة محمد صلى هللا عليه وسلم لتكون على هذا الصراط املستقيم‪،‬‬
‫ولتتخلق بالخلق القويم لتكون شاكرة لربها على هذه النعم‪ ،‬فإن كل نعمة أنعم هللا بها على‬
‫نبيهاِصلى هللا عليه وسلم فإنها نعمة على كل واحد من اْلمة‪ ،‬فينبغي على كل واحد من أمة‬
‫محمدِصلى هللا عليه وسلم أن يقابل هذه النعم بالشكر‪ ،‬فيكون رحيما باْليتام‪ ،‬رفيقا‬
‫بالسائلين‪ ،‬معتنيا بضعفاء اْلمة‪ ،‬متحدثا بنعم هللا عليه خاصة وعلى اْلمة عامة‪ ،‬وشاكرا‬
‫أنع َمه‪ ،‬وداعيا إلى ربه بحسب استطاعته‪ ،‬مقتديا بنبيهِصلى هللا عليه وسلم الذي‬ ‫لربه ُ‬
‫امتثل ما أمره به ربه‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬ونعود إلى التفسير‬
‫التفصيلي‪ِ .‬‬
‫وقبل أن نقرأ هذا التفسير نذكر ما جاء في ما يتعلق بأسباب النزول املتعلقة بهذه السورة‪،‬‬
‫فقد روى الشيخان البخاري ومسلم عن جندبة بن سفيان قال‪ :‬اشتكى رسول هللاِصلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪-‬أي‪ :‬مرض‪ ،-‬فلم يقم ليلتين أو ثالثا‪ ،‬فجاءت امرأة فقالت‪ ،‬يا محمد إني ْلرجو‬
‫أن يكون شيطانك قد تركك‪ ،‬ولم أره قربك منذ ليلتين أو ثالثا‪ ،‬فأنزل هللا عز وجل‪:‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫﴿و ُّ‬
‫الض َح ٰى (‪َ )1‬والل ْي ِل ِإذا َس َج ٰى (‪ِ .﴾)2‬‬ ‫َ‬
‫وروى الترمذي أن جبريل عليه السالم أبطأ على النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‬
‫ََ‬
‫املشركونِ‪ :‬قد ُودع محمد‪ ،‬فأنزل هللا عز وجل ﴿ َما َو َّد َع َك َرُّب َك َو َما قل ٰى﴾‪ ،‬قال اْللباني‪:‬‬
‫صحيح‪ ،‬فهذا ما يتعلق بأسباب النزول املتعلقة بهذه السورة‪ِ ِ.‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين‪:‬‬
‫أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياءه بالضحى‪ِ ِ.‬‬
‫الضحى قال بعض اْلفسرين‪ :‬هنا هو النهار كله؛ ْلنه يستنير بضحى الشمس‪ ،‬أي بنور‬
‫الشمس‪ِ .‬‬

‫‪315‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فاملقصود بالضحى هنا النور ‪-‬نور الشمس‪ ،-‬وليس املقصود الضحى الذي هو الزمن الذي‬
‫هو جزء من النهار‪ ،‬وإنما كل النهار‪ ،‬هكذا قال بعض املفسرين‪ ،‬قال‪ :‬ويدل لذلك أن هللا‬
‫َّ‬ ‫﴿و ُّ‬
‫الض َح ٰى (‪َ )1‬والل ْي ِل﴾‪ ،‬قالوا‪ :‬فهذا يدل على أن الضحى هنا هو النهار‪ِ .‬‬ ‫قابله بالليل َ‬
‫الض َح ٰى﴾‪ :‬هنا هو االستنارة بنور الشمس‪ ،‬يعني والنهار املستنير بضوء الشمس‪ِ .‬‬ ‫﴿و ُّ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الضحى هو الزمن املعروف‪ ،‬وهو جزء من النهار يبدأ بطلوع‬
‫الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى قبيل الزوال‪ِ .‬‬
‫محتمل أن يكون املراد بالضحى النهار أو يكون املراد بالنهار هو الوقت املعروف‬ ‫ِ‬ ‫والكل‬
‫بالضحى‪ ،‬وإن كان هذا أقرب ْلنه ظاهر اللفظ‪ِ ِ.‬‬
‫وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫﴿إذا َس َج ٰى﴾ قيل‪ :‬إذا أظلم‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫وقيل‪ :‬إذا أقبل‪ِ ،‬‬
‫وقيل‪ :‬إذا غطى املخلوقات فسكنت املخلوقات‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إذا أقبل‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إذا أدبر‪ِ .‬‬
‫وكل املعاني صالحة أن تجتمع إال املعنيين اْلخيرين‪ :‬إذا أقبل وإذا أدبر‪ ،‬فبعض أهل العلم‬
‫رجح إذا أقبل‪ ،‬قال املقصود إذا أقبل‪ ،‬بعض أهل العلم رجح إذا أدبر قال‪ :‬املقصود إذا‬
‫أدبر‪ِ .‬‬
‫وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته على اعتناء هللا برسوله صلى هللا عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫﴿ما َو َّد َع َك َرُّب َك﴾؛ أي‪ :‬ما تركك منذ اعتنى بك‪ ،‬وال أهملك منذ رباك ورعاك‪ ،‬بل لم يزل‬ ‫َ‬
‫يربيك أكمل تربية‪ ،‬ويعليك درجة بعد درجة‪ِ ِ.‬‬
‫للمودع‪ ،‬وما فارقك فراق املودع للمودع‪ِ .‬‬ ‫َ‬ ‫املودع‬ ‫َ َ َّ َ َ‬
‫﴿ما ودعك﴾ أي‪ :‬ما قاطعك قطع ِ‬
‫﴿ما َو َّد َع َك﴾ بفتح الدال‪ ،‬ومعناها‪ :‬ما تركك تركا ال يبالي بك فيه‪ِ ِ.‬‬ ‫وفي قراءة‪َ :‬‬
‫وما قَّلك هللا أي‪ :‬ما أبغضك منذ أحبك‪ ،‬فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده‪ ،‬والنفي‬
‫اْلحض ال يكون مدحا إال إذا تضمن ثبوت كمال‪ِ ِ.‬‬
‫كما تقدم معنا في العقيدة الواسطية‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬فهذه حال الرسول صلى هللا عليه وسلم اْلاضية والحاضرة أكمل حال وأتمها‬
‫محبة هللا له واستمرارها وترقيه في درجات الكمال ودوام اعتناء هللا به‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُْ َ‬ ‫َ ْ ُ َ َّ‬
‫وأما حاله اْلستقبلة فقال‪َ ﴿ :‬ولآل ِخ َرة خ ْي ٌر ل َك ِم َن اْلول ٰى﴾‪ِ ِ.‬‬
‫َ َْ ُ‬
‫﴿ولآل ِخ َرة﴾ قيل‪ :‬الواو هنا للقسم‪ ،‬والالم موطئة للقسم‪ ،‬والقسم مقدر تقديره‪ :‬وهللا‬
‫لآلخرة خير لك من اْلولى‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬الواو لالستئناف‪ ،‬والالم ابتدائية‪ ،‬فهذا ابتداء كالم جديدِ ِ‬
‫ُْ َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ َّ‬
‫﴿ولآل ِخ َرة خ ْي ٌر ل َك ِم َن اْلول ٰى﴾ أي‪ :‬كل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل على‬
‫الحالة السابقة‪ ،‬فلم يزل صلى هللا عليه وسلم يصعد في درجات اْلعالي ويمكن هللا له‬
‫دينه وينصره على أعدائه ويسدده في أحواله حتى مات وقد وصل إلى حال ما وصل إليها‬
‫اْلولون واآلخرون من الفضائل والنعم وقرة العين وسرور القلب‪.‬‬
‫ثم بعد هذا ال تسأل عن حاله في اآلخرة من تفاصيل اإلكرام وأنواع اإلنعام‪ِ ِ.‬‬
‫وعلى هذا املعنى يكون املراد باآلخرة هنا الحالة اآلخرة؛ يعني‪ :‬املتأخرة‪ ،‬فالحالة املتأخرة خير‬
‫لك من الحالة التي سبقتها‪ِ .‬‬
‫اآلخر‪ ،‬وأن اْلولى هنا هي الدنيا‪،‬‬ ‫وذهب جمع من املفسرين إلى أن اآلخرة هنا هي اليوم ِ‬
‫وهذا هو اْلظهر وهللا أعلم‪ ،‬أن املقصود باآلخرة هي اليوم اآلخر ما يكون في يوم البعث وما‬
‫بعده‪ ،‬واْلولى ما يكون في الدنيا من اإلكرام‪ِ .‬‬
‫فإكرام هللا لنبيهِصلى هللا عليه وسلم وْلمته في اآلخرة خير من اإلكرام الذي يقع في الدنيا‪،‬‬
‫ولهذا كان النبيِصلى هللا عليه وسلم يزهد في الدنيا ويقولِ‪(( :‬مالي وللدنيا‪ ،‬ما أنا في الدنيا‬
‫إال كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) رواه الترمذي وصححه اْللباني‪ ،‬وملا‬
‫ُ‬
‫خ ِِّيرِصلى هللا عليه وسلم بين الدنيا واالنتقال إلى الرفيق اْلعلى اختار الرفيق اْلعلى‪ ،‬فإن‬
‫اآلخرة خير له من اْلولى وخير وأبقى‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿و َل َس ْو َف ُي ْعط َ‬
‫يك َرُّب َك فت ْر َض ٰى﴾‪ ،‬وهذا أمر ال يمكن التعبير عنه إال بهذه‬ ‫ِ‬
‫ولهذا قال‪َ :‬‬
‫العبارة الجامعة الشاملة‪ِ ِ.‬‬
‫فهي شاملة‪ ،‬فيرضيه هللا عز وجل في نفسه‪ ،‬ويرضيه هللا عز وجل في أمته‪ ،‬ويرضيه هللا عز‬
‫وجل في مؤمني أمته‪ِ .‬‬
‫في الدنيا واآلخرة فإن قال قائل‪ :‬هل تعني هذه اآلية أن هللا ال يعذب أحدا من أمته؛ ْلن‬
‫ََ‬ ‫﴿و َل َس ْو َف ُي ْعط َ‬
‫يك َرُّب َك فت ْر َض ٰى﴾ فوعده بإرضائه؟ والنبيِصلى هللا عليه وسلم‬ ‫ِ‬
‫هللا قال له‪َ :‬‬
‫ال يرض ى أن يعذب أحد من أمته ‪-‬هكذا يقولونِ‪-‬؟ ِ‬

‫‪317‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قلنا‪ :‬ال؛ ال تدل على هذا‪ ،‬فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم يرض ى بحكم هللا وال شك‪ ،‬فإذا‬
‫حكم هللا بحكم رضيه محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬رضيه نبيهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإذا‬
‫حكم هللا على مستحقي التعذيب بالعذاب رض ي النبيِصلى هللا عليه وسلم بذلك‪ ،‬وحاش ى‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم أال يرض ى بحكم هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فمن كفر من أهله أو من‬
‫أمته فإن هللا يدخله النار ويكون خالدا مخلدا في النار‪ ،‬ويرض ىِصلى هللا عليه وسلم بهذا؛‬
‫ْلنه يرض ى بحكم هللا‪ِ .‬‬
‫ولذلك الذين يستدلون بهذه اآلية على أن والدي محمدِصلى هللا عليه وسلم في الجنة‬
‫استداللهم باطل؛ ْلنه إذا حكم هللا على والدي النبيِصلى هللا عليه وسلم أو أعمام‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم بأنهم في النار فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم سيرض ى؛ ْلنه يرض ى‬
‫بحكم هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهذه اآلية ال تدل على ما يقولونِ‪ِ .‬‬
‫وذكرنا أن النبيِصلى هللا عليه وسلم سيرضيه هللا في الدنيا‪ ،‬ويرضيه هللا يوم البعث‪،‬‬
‫ويرضيه هللا في الجنة‪ ،‬وقد سمعنا ما ثبت عن ابن عباس رض ي هللا عنه وعن أبيه وذاك‬
‫اْلثر قد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم بإسناد صحيح‪ ،‬ومثله ال يقال بالرأي‪ ،‬وقد وعد هللا‬
‫نبيهِصلى هللا عليه وسلم بأن يرضيه في أمته فقد روى مسلم في الصحيح أن النبيِصلى‬
‫هللا عليه وسلم ذكر دعاء إبراهيم عليه السالم ْلمته وذريته‪ ،‬ودعاء موس ى عليه السالم‬
‫ْلتباعه فبكىِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال هللا عز وجل لجبريل‪(( :‬يا جبريل؛ اذهب إلى‬
‫محمد وربك أعلم به فسله ما يبكيك‪ ،‬فأتاه جبريل عليه السَّلم فسأله‪ ،‬فأخبره بما‬
‫كان‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم أمتي‪ ،‬اللهم أمتي‪ ،‬اللهم أمتي‪ ،‬فقال هللا‪ :‬يا جبريل؛ اذهب إلى محمد‬
‫وقل‪ :‬إنا سنرضيك في أمتك وال نسوؤك))‪ ،‬فاهلل عز وجل وعد محمداِصلى هللا عليه‬
‫وسلم بإرضائه عموما‪ ،‬ومن ذلك العموم إرضاؤه في أمته‪ ،‬لكن هذا يفهم في السياق‬
‫الصحيح له‪ ،‬وهو أن النبيِصلى هللا عليه وسلم يرض ى بحكم هللا عز وجل‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫﴿أ َل ْم َيج ْد َك َي ِت ً‬
‫يما‬ ‫ِ‬ ‫قال رحمه هللا‪ :‬ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله الخاصة فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫ف َآو ٰى﴾ أي‪ :‬وجدك ال أم لك وال أب‪ ،‬بل قد مات أبوه وأمه وهو ال يدبر نفسه‪ ،‬فآواه‬
‫هللا‪ ،‬وكفله جده عبد اْلطلب‪ ،‬ثم ْلا مات جده كفله هللا عمه أبا طالب‪ ،‬حتى أيده هللا‬
‫بنصره وباْلؤمنين‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال هللا‪﴿ :‬ف َآوى﴾ وحذف املتعلق‪ ،‬فلم يقل‪( :‬فآواك) ليعم‪ ،‬فآواه وآوى ضعفاء أمته‬

‫‪318‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫بشرعه‪ ،‬وآوى أمته بهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهذا سر حذف املتعلق هنا‪ ،‬ملاذا لم يقل ربنا‬
‫(فآواك)؟ ِ‬
‫ليعم‪ ،‬فتعظم النعمة‪ ،‬فليس اإليواء خاصا بهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بل آواه هللا وآوى‬
‫الضعفاء بشرعه وآوى أمته به‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ َ َ َ َ ًّ َ‬
‫ضاال ف َه َد ٰى﴾ أي‪ :‬وجدك ال تدري ما الكتاب وال اإليمان فعلمك ما لم تكن‬ ‫﴿ووجدك‬
‫تعلم‪ ،‬ووفقك ْلحسن اْلعمال واْلخَّلق‪ِ ِ.‬‬
‫وجدك ضاال أي‪ :‬غير عالم بالكتاب واإليمان وتفاصيل الخير‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى ضاال غافال عن الخير وعن الكتاب واإليمان‪ ،‬حتى علمك هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وذكر بعض املفسرين تأويالت ال داعي لها‪ ،‬فإن القرآن يفسر بعضه بعضا‪ ،‬فإن النبيِصلى‬
‫هللا عليه وسلم ما كان يدري ما الكتاب وال اإليمان حتى علمه هللا سبحانه وتعالى‪ِ ِ.‬‬
‫ً‬
‫﴿و َو َج َد َك َعا ِئَّل﴾ أي‪ :‬فقيرا‪ ،‬فأغناك هللا بما فتح عليك من البلدان التي جبيت لك‬ ‫َ‬
‫أموالها وخراجها‪ِ ِ.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ً َ َْ‬
‫قال‪َ ﴿ :‬و َو َج َد َك َعا ِئَّل فأغن ٰى﴾‪ ،‬وكذلك هنا حذف املتعلق‪ ،‬فلم يقل‪( :‬فأغناك)‪ ،‬فيصير‬
‫املعنى‪ :‬فأغناك وأغنى بك فأغناك‪ ،‬وأغنى أمتك‪ ،‬ورزق من كان يريد اآلخرة من أمتك الغنى‬
‫الظاهر والغنى الباطن‪ ،‬فمن كانت اآلخرة نيته جمع هللا عليه أمره‪ ،‬وجعل غناه في قلبه‬
‫وأتته الدنيا وهي راغمة‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فالذي أزال عنك هذه النقائص سيزيل عنك كل نقص‪ ،‬والذي أوصلك‬
‫إلى الغنى وآواك ونصرك وهداك قابل نعمته بالشكران‪.‬‬
‫َ َ َّ ْ َ َ َ َ َ ْ‬
‫يم فَّل تق َهر﴾ أي‪ :‬ال تس ئ معاملة اليتيم‪ ،‬وال يضق صدرك عليه‪،‬‬ ‫ولهذا قال‪﴿ :‬فأما الي ِت‬
‫وال تنهره‪ ،‬بل أكرمه وأعطه ما تيسر‪ ،‬واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك‪ِ ِ.‬‬
‫وال تحتقره لضعفه‪ ،‬وهذا الخطاب للنبيِصلى هللا عليه وسلم وْلمته من بعده‪ ،‬فهو خطاب‬
‫لكل واحد من اْلمة‪ ،‬ومن أراد إرضاء ربه وإالنة قلبه فليلن قلبه لأليتام‪ ،‬وليحسن لأليتام‪،‬‬
‫وكذا سائر الضعفة من أمة محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ِ ِ.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َّ َّ َ َ َ َ‬
‫﴿وأما السا ِئل فَّل تنهر﴾ أي‪ :‬ال يصدر منك كَّلم للسائل يقتض ي رده عن مطلوبه بنهر‬
‫وشراسة خلق‪ ،‬بل أعطه ما تيسر عندك‪ ،‬أو رده بمعروف وإحسان‪ ،‬ويدخل في هذا‬
‫السائل للمال والسائل للعلم‪ ،‬ولهذا كان اْلعلم مأمورا بحسن الخلق مع اْلتعلم‪،‬‬

‫‪319‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومباشرته باإلكرام والتحنن عليه‪ ،‬فإن في ذلك معونة له على مقصده‪ ،‬وإكراما ْلن كان‬
‫يسعى في نفع البَّلد والعباد‪ِ ِ.‬‬
‫فالسائل عن العلم يرد ولو بعلم قليل وقول حسن جميل‪ِ .‬‬
‫الذي يأتي إليك وأنت عندك علم ويسألك ينبغي أن يعود منك بأمرين‪ِ :‬‬
‫‪ -‬بعلم بمقدار ما عندك ولو كان قليال‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وبقول جميل‪ِ .‬‬
‫فأولى الناس باإلكرام طالب العلم‪ ،‬ينبغي أن يبسط لهم الوجه‪ ،‬وأن يالن لهم القلب‪ ،‬وأن‬
‫يعانوا على مطلوبهم بما يستطاع‪ ،‬وأن يحسن خطابهم‪ ،‬وهذا خلق ينبغي أن يتحلى به كل‬
‫معلم‪ ،‬سواء كان معلما في املدارس النظامية أو معلما في حلقات العلم أو غير ذلك ينبغي أن‬
‫يعامل طالب العلم باإلكرام‪ ،‬وأعظم ما يكرم به طالب العلم العلم‪ِ .‬‬
‫وال ينبغي ملن رزقه هللا علما أن يبخل بعلمه‪ ،‬فإنه إن بخل إما واقع في اإلثم إن كان‬
‫التعليم واجبا عليه‪ ،‬وإما حارما نفسه من الحسنات والفضل إن لم يكن التعليم واجبا‬
‫عليه‪ِ .‬‬
‫وأن يلين قلبه لطالب العلم الطالب في االبتدائي في املتوسط في الثانوي في الجامعة في‬
‫الدراسات العليا في الحلق‪ ،‬ينبغي على املعلم أن يلين قلبه لطالب العلم‪ ،‬وأن يبسط وجهه‬
‫ويبتسم لهم‪ ،‬وأن يحسن خلقه في التعامل معهم‪ ،‬وأن يحرص على القول الطيب في‬
‫مخاطبتهم‪ ،‬وإذا غلبته نفسه البشرية فغضب وأغلظ ينبغي أن يكون محسنا لخلق‬
‫االعتذار‪ ،‬فيعتذر ملن أساء إليه منهم ‪-‬أعني من أساء إليه من طالب العلم‪ ،‬من أساء الشيخ‬
‫إليه من طالب العلم‪ ،-‬فهذا خلق ينبغي أن نتخلق به نحن املعلمين جميعا‪ ،‬وأن نعالج‬
‫أنفسنا عليه‪ِ .‬‬
‫وأما السائل للدنيا فينبغي أن يرجع منك ببذل ولو قليل‪ ،‬أو بقول جميل‪ ،‬طالب العلم‬
‫سائل العلم يجمع له بين العلم ولو قليل والقول الجميل‪ ،‬وسائل الدنيا ينبغي أن يرجع‬
‫منك إما ببذل ولو قليل إن كان عندك‪ ،‬أو بقول جميل‪ ،‬تعتذر له بقول جميل كأن تدعو‬
‫له أو نحو هذا‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ َّ ْ َ َ َ َ َ ْ‬
‫﴿وأما ِب ِنعم ِة رِبك فح ِدث﴾ وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية‪ ،‬أي‪ :‬أثني على هللا بها‬
‫وخصه بالذكر إن كانت هناك مصلحة‪ ،‬وإال فحدث بنعم هللا على اإلطَّلق‪ ،‬فإن‬
‫التحدث بنعمة هللا داع لشكرها‪ ،‬وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها‪ ،‬فإن‬

‫‪320‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫القلوب مجبولة على محبة اْلحسن‪ِ ِ.‬‬


‫والناس مع النعم ثالثة أقسام‪ِ :‬‬
‫منعم عليه شاكر‪ ،‬فيشكر املنعم‪ ،‬ويعمل بالنعم فيما يرض ي املنعم‪ِ .‬‬ ‫‪ .1‬القسم اْلول‪َ :‬‬
‫منعم عليه كاتم للنعم أو ناسب النعم لغير املنعم بها‪ ،‬كالذين ُينعم هللا‬ ‫‪ .2‬وقسم‪َ :‬‬
‫عليهم بالنعم وينسبونها إلى اْلولياء‪ ،‬أو ينسبونها إلى القب ِور‪ ،‬يرزقه هللا ولداِفال‬
‫ينسب النعمة إلى هللا‪ ،‬وإنما يقول‪ :‬أنا زرت قبر سيدي فالن فرزقني الولد نعوذ باهلل‬
‫من الشرك‪.‬‬
‫منعم عليه ومتزين بما لم يعطه هللا‪ ،‬ويزعم أن عنده نعما وهي ليست‬ ‫‪ .3‬وقسم‪ :‬غير َ‬
‫ِ‬
‫عنده‪ ،‬كمن يزعم أنه طالب علم وليس بطالب علم‪ ،‬أو يزعم أنه عالم وليس بعالم‪،‬‬
‫فالذي عنده ليس من العلوم وإنما هو جهل ونحو ذلك‪.‬‬
‫يقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬من أعطي عطاء فوجد ْ‬
‫فليج ِز به‪ ،‬ومن لم يجد‬
‫فليثن‪ ،‬فإن من أثنى فقد شكر‪ ،‬ومن كتم فقد كفر‪ ،‬ومن تحلى بما لم يعط كَّلبس ثوبي‬ ‫ِ‬
‫زور)) رواه الترمذي وحسنه اْللباني‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الضحى‪ ،‬ونقف مع آخر ما اعتدنا عليه في التفسير وهو‬
‫الحكم العظمى والفوائد الكبرى من السورة‪ ،‬فمن ذلك‪ِ :‬‬
‫‪ -‬أن في السورة تصديق النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأنه يوحى إليه‪ ،‬وأنه خليل هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وفي السورة عظم منزلة النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فله منزلة عظمى صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وفي السورة أن نور الوحي كنور النهار يحتاجه كل أحد‪ ،‬وسيعم اْلرض كلها‪ ،‬السورة فيها‬
‫إشارة إلى أن اإلسالم سيعم اْلرض‪ ،‬فنور الوحي كنور النهار‪ ،‬فكما أن نور النهار يعم اْلرض‬
‫النهار يحتاجه كل أحد فإن نور الوحي‬ ‫كلها فإن نور الوحي سيعم اْلرض كلها‪ ،‬وكما أن نور ِ‬
‫يحتاجه كل أحد‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وفي السورة بشارة للنبي صلى هللا عليه وسلم وللمؤمنين أن هللا سيفصل بين املؤمنين‬
‫واملشركين كما يفصل بين الليل والنهار‪ ،‬في السورة بشارة للنبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫وللمؤمنين أنه لن يدعهم على ما هم عليه بل سيفصل بين املؤمنين واملشركين كما يفصل‬

‫‪321‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫بين النهار والليل‪ ،‬وهذا من أسرار القسم بالضحى والليل في صدر السورة‪ ،‬تضمنت هذه‬
‫البشارة‪ِ .‬‬
‫والحظوا أن السورة مكية‪ ،‬فهي بشارة للمؤمنين وهم في حالِضعفهم أن هذه الظلمة‬
‫سيعقبها الضوء والبد‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وفي السورة أيضا بشارة للمؤمنين بأن هللا سيعطيهم خيرا في الدنيا‪ ،‬ومع ذلك فخير اآلخرة‬
‫أعظم لهم وأبقى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وفي السورة أن من املكارم ومن أسباب جلب النعم اإلحسان إلى اليتامى والضعفاء‪ ،‬فمن‬
‫رحم الضعفاء رحمه هللا‪ ،‬حتى الشاة عند ذبحها إن رحمتها رحمك هللا كما أخبر النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬ومن أكرم اْليتام أكرمه هللا‪ ،‬ومن أكرم الضعفاء أكرمه هللا وهكذا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وفي السورة أن النعم تقيد بالشكر‪ِ .‬‬
‫أسأل هللا عز وجل أن يجعلنا ممن يقرؤون القرآن فينتفعون‪ ،‬ويتدبرون فيفهمون‪،‬‬
‫ويفهمون فيعملون‪ ،‬وأن يجعل القرآن حجة لنا ال علينا‪ ،‬فكل الناس يغدو فبائع نفسه‬
‫فمعتقها أو موبقها‪ ،‬والقرآن حجة للعبد أو حجة عليه‪ ،‬فاللهم اجعل كالمك حجة لنا وال‬
‫تجعله حجة علينا‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪322‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الشرح‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪.‬‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ َْ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ‬
‫ض ظ ْه َر َك (‪َ )3‬و َرف ْعنا ل َك‬ ‫نك ِوز َر َك (‪ )2‬ال ِذي أنق‬ ‫ص ْد َر َك (‪ )1‬ووضعنا ع‬
‫َ‬
‫انص ْب (‪َ )7‬و ِإل ٰى‬ ‫ذ ْك َر َك (‪َ )4‬فإ َّن َم َع ْال ُع ْسر ُي ْس ًرا (‪ )5‬إ َّن َم َع ْال ُع ْسر ُي ْس ًرا (‪َ )6‬فإ َذا َف َر ْغ َت َف َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َْ‬
‫رِبك فارغب (‪ِ .﴾)8‬‬
‫ِّ‬
‫في هذه السورة املكية يذكر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا له في ذلك‬
‫َ‬
‫بأنه سبحانه وتعالى قد أنعم عليه بالنعم العظمى‪ ،‬حيث نور له صدره وجعله صدرا واسعا‬
‫فسيحا متسعا لكل معروف‪ ،‬وسليما من كل منكر‪ ،‬وقابال لفهم كل ما يوحى إليه‪ ،‬فال يعجز‬
‫عن فهم ش يء مما يوحى إليه‪ ،‬وجعله واسعا بما أوحى إليه‪ ،‬فصدر نبيناِصلى هللا عليه‬
‫وسلم الشريف متسع للوحي فال يضيق عن ش يء من الوحي ال حفظا وال فهما‪ ،‬ومتسع‬
‫بالوحي‪ ،‬وكما شرح هللا صدره فإنه قد شرح دينه‪ ،‬فجعل دينه حنيفيا سمحا سهال ميسرا‬
‫ال ضيق فيه وال حرج‪ ،‬كما قال النبيِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬إن هذا الدين يسر))‪ ،‬ف ِال‬
‫ََُ‬
‫تكلف في دين محمدِصلى هللا عليه وسلم وال غلو فيه وال إعنات فيه‪ِ .‬‬
‫ومع هذه النعمة العظمى على النبيِصلى هللا عليه وسلم وعلى أمته فقد قرنها هللا عز وجل‬
‫َ‬
‫بنعمة كبرى أخرى حيث أسقط عنه الوزر‪ ،‬فخصهِصلى هللا عليه وسلم من سائر املكلفين‬
‫بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬فال يحملِصلى هللا عليه وسلم وزرا وهو في‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬وهذا خاص بمحمدِصلى هللا عليه وسلم لم ينله أحد من املكلفين‪ ،‬كما أنه‬
‫حط عنه ثقل الجاهلية‪ ،‬وأذهب من قلبه حظ الشيطان منذ أن كان صغيرا‪ ،‬حيث شق‬
‫جبريل عليه السالم صدره وهو صغير وأخرج منه حظ الشيطان‪ ،‬وغسل قلبه بماء زمزم‪،‬‬
‫هللا أكبر! ما أعظم هذه النعم على النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكل نعمة على النبيِصلى‬
‫هللا عليه وسلم فهي في الجملة نعمة على اْلمة‪ِ .‬‬
‫هللا عز وجل حط عن نبيناِصلى هللا عليه وسلم الوزر فال يحمل وزرا‪ ،‬وغفر له ما تقدم‬
‫من ذنبه وما تأخر وهو حي في الدنيا‪ ،‬وحط عنه أثقال الجاهلية‪ ،‬وأخرج من قلبه حظ‬
‫الشيطان وهو صغير‪ ،‬فشق صدره وأخرج قلبه وغسل بماء زمزم‪ ،‬ثم أعيد إلى مكانه‪،‬‬
‫فجمع هللا عز وجل لنبيناِصلى هللا عليه وسلم بين كل هذا الخير‪ :‬مغفرة الذنب املتقدم‬
‫واملتأخر وليس هذا إال لهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتعلمون معاشر اْلحبة أن أهل السنة‬
‫يقرون عليها‪،‬‬ ‫والجماعة يقولون إن اْلنبياء قد تصدر منه الصغيرة غير الرذيلة‪ ،‬ولكنهم ال ُِّ‬

‫‪323‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أما محمدِصلى هللا عليه وسلم فقد حط هللا عنه الوزر أصال‪ ،‬وأذهب عنه أثقال‬
‫الجاهلية‪ ،‬وطهر قلبه من حظ الشيطان وهو صغير‪ ،‬وجعل صدره متسعا منشرحا‪ِ .‬‬
‫فوضع هللا عنه الوزر الذي يثقل الظهر حتى كأنه ُي ْس َمع له صوت من ثقل ما يحمل‪،‬‬
‫العبد إذا أذنب فإنما يحمل وز ِرا على ظهره‪ ،‬ولو كان يعقل لسمع صوت عظامه من ثقل ما‬
‫يحمل من الذنوب‪ ،‬وهللا طهر نبيهِصلى هللا عليه وسلم من ذلك‪ِ .‬‬
‫ومع كل هذه النعم أنعم هللا عليه بنعمة عظمى أخرى بأن جعل ذكره مرفوعا في الدنيا‬
‫مرفوع الذكر في اْلرض‪،‬‬ ‫واآلخرة‪ ،‬في الدنيا وفي السماء وفي اآلخرة‪ ،‬فهوِصلى هللا عليه وسلم ِ‬
‫مرفوع الذكر في السماء‪ ،‬مرفوع الذكر يوم القيامةِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫أما في اْلرض فإن هللا قرن اسمه باسمه‪ ،‬وينادى باسمه مع اسم هللا عز وجل في اْلذان‬
‫الذي يرفع في أنحاء اْلرض‪ ،‬ومن الحكمة أنك ال تكاد تجد وقتا في اْلرض إال وينادى فيه‬
‫باْلذان‪ ،‬فأوقات الصالة بالنسبة لألرض متفاوتة‪ ،‬فيؤذن هنا وبعد قليل يؤذن في مكان‬
‫آخر‪ ،‬وبعد قليل يؤذن في مكان آخر‪ ،‬فيرفع اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم في اْلرض في‬
‫كل أجزاء اليوم والليلة مقرونا باسم هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وكذلك في الصالة يذكر العبد‬
‫اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم وجوبا في صالته‪ ،‬وكذلك في الخطب يذكر النبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وكذلك في الدروس الشرعية التي يقيمها العلماء فال يوجد درس شرعي على‬
‫وجه الحقيقة إال ويذكر فيه اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهو مرفوع الذكر في اْلرض‪ِ .‬‬
‫ومرفوع الذكر في السماء‪ ،‬فإن هللا عز وجل يثني عليه في املإل اْلعلى‪ ،‬وإن املالئكة لتصلي‬
‫عليهِصلى هللا عليه وسلم في السماء‪ِ .‬‬
‫وهو مرفوع الذكر يوم القيامة حيث يتنحى اْلنبياء عليهم السالم جميعا عن الشفاعة‬
‫للناس‪ ،‬حتى يأتي الناس للنبيِصلى هللا عليه وسلم فيطلبون منه الشفاعة‪ ،‬فيستأذن على‬
‫ربه سبحانه وتعالى فيؤذن له‪ ،‬حتى إذا رأى ربه خر ساجدا‪ ،‬وحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬ويقال‬
‫له‪ :‬ارفع‪ ،‬واشفع تشفع‪ ،‬وسل تعطى‪ ،‬فيشفعِصلى هللا عليه وسلم الشفاعات العظيمة‬
‫التي فيها املقام املحمود لهِصلى هللا عليه وسلم فقد رفع هللا ذكره‪ ،‬ومن رفع ذكرهِصلى هللا‬
‫عليه وسلم أنه مذكور في كتب اْلنبياء قبله‪ ،‬وأنه يجب على كل نبي إن أدركه أن يتبعه وأن‬
‫يؤمن بهِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫فهوِصلى هللا عليه وسلم مرفوع الذكر مع ما جعله هللا له من رفعة في قلوب أمته‪،‬‬
‫فهوِصلى هللا عليه وسلم تجب محبته على كل مؤمن أكثر من محبة النفس والولد والوالد‬

‫‪324‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قِصلى هللا عليه‬ ‫والناس أجمعين‪ ،‬فهو مقدمِصلى هللا عليه وسلم في املحبة على كل مخلو ِ‬
‫وسلم‪ ،‬فله الرفعة حكما وواقعا‪ِ .‬‬
‫وجعل تعظيمه واقعا في قلوب اْلمة‪ ،‬فما من مسلم يسمع اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم‬
‫حتى يعظم هذا االسم‪ ،‬ويفرح بسماعه‪ ،‬ويصلي عليهِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ومن رفعتهِصلى هللا عليه وسلم التي جعلها هللا له أن ربنا سبحانه وتعالى جعل‬
‫طاعتهِصلى هللا عليه وسلم من طاعة هللا‪ ،‬ولذلك قال نبيناِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬من‬
‫أطاعني فقد أطاع هللا‪ ،‬ومن عصاني فقد عص ى هللا))‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫ثم ملا ذكر هللا نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته بهذه النعم العظمى التي تنشرح لها الصدور‬
‫ِّ‬
‫ويفرح املؤمن إذا سمعها بشر هللا نبيهِصلى هللا عليه وسلم وكل من انشرح صدره لإليمان‬
‫وانشرح باإليمان بأن مع الضيق والحرج والعسر يسرا واتساعا‪ ،‬وأن مع الشدة رخاء‪ ،‬وأن‬
‫مع الكرب فرجا ملن اتقى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فقد جعل هللا للمتقين اليسر واملخارج من‬
‫كل ضيق ومن كل عسر‪﴿ :‬ومن يتق هللا يجعل له مخرجا﴾‪ ،‬يقول ابن عباس رض ي هللا‬
‫عنه‪( :‬ومن كل ضيق)‪ ،‬في الدنيا واآلخرة يجعل هللا له مخرجا ويسرا من كل ضيق وعسر في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ِ .‬‬
‫وأكد هللا هذه الحقيقة للمؤمنين بتكرار ذلك‪ ،‬فاليسر في السورة يسران والعسر واحد‪،‬‬
‫ِولن يغلب عسر يسرين‪ِ .‬‬
‫ثم أرشد هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا لذلك إلى كيفية شكر هذه‬
‫َ‬
‫النعم‪ ،‬وإلى ما يجلب به هذا اليسر‪ ،‬ذكر هللا عز وجل في صدر السورة النعم ثم بشر‬
‫باليسر‪ ،‬ثم أرشد النبيِصلى هللا عليه وسلم وسائر اْلمة إلى كيفية شكر تلك النعم وغي ِرها‪،‬‬
‫وإلى كيفية جلب ذلك اليسر‪ ،‬وكيف يتحقق للمؤمن أن ُيجعل له اليسر بعد العسر‪ ،‬وأن‬
‫ُيجلب له املخرج من الضيق‪ ،‬بين أن هذا إنما يكون بطاعة هللا وإقبال القلب على عبادة‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فإنه ما شكر هللا عز وجل على النعم بأعظم من طاعته سبحانه‬
‫وتعالى‪ِ .‬‬
‫فخاطب هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وتدخل اْلمة في الخطاب تبعا لهِصلى هللا‬
‫انص ْب﴾ أي‪ :‬إذا فرغت من شغلك وأمور الدنيا‪ ،‬وصفا‬ ‫عليه وسلم بقوله‪َ ﴿ :‬فإ َذا َف َر ْغ َت َف َ‬
‫ِ‬
‫قلبك‪ ،‬وفرغ بالك فانصب للعبادة‪ ،‬وأقبل عليها بقلب صاف وببدن نشيط‪ِ .‬‬

‫‪325‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومن هنا يعلم املؤمن أنه ينبغي أن يختار لنوافله الوقت الذي يكون فيه فارغا من‬
‫الشواغل‪ ،‬ويكون قلبه مقبال على الطاعة‪ ،‬ولذا كان خير نوافل الصالة صالة الليل؛ ْلن‬
‫اإلنسان يكون في الليل فارغا‪ ،‬وإذا نام ثم استيقظ يكون نشيط البدن‪ِ .‬‬
‫وال تنقطع عن العبادة فكلما فرغت من عبادة مفروضة فأتبعها بنافلة منها‪ ،‬فإذا صليت‬
‫الفرض فأتبعه بنافلة‪ ،‬وإذا صمت رمضان فأتبع صيامك بالنوافل وصم النوافل‪ ،‬وهكذا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وكما تنصب هلل فافزع هلل واجعل حوائجك بباب هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وال ت ْد ُع مع هللا‬
‫أحدا‪ ،‬فإن ذلك شكره وحقه‪ ،‬حق هللا أن تدعوه سبحانه وأال تدعو معه أحدا‪ ،‬وشكره أن‬
‫تدعوه سبحانه وأال تدعو معه أحدا‪ ،‬ومن دعا غير هللا لم يكن عبدا شكورا بل كان مشركا‬
‫كفورا‪ِ .‬‬
‫فهذا هو املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات ثم نعود إلى التفسير التفصيلي‬
‫لهذه اآليات‪ِ ِ.‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى رحمة واسعة‪ِ ::‬‬
‫َ‬
‫﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ‬
‫ص ْد َر َك﴾‪ِ ِ.‬‬ ‫يقول تعالى ممتنا على رسوله‪:‬‬
‫واملنة على الرسول منة على اْلمة‪ ،‬فاهلل يمتن علينا بهذه النعم‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ‬
‫ص ْد َر َك﴾ أي‪ :‬نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى هللا واالتصاف بمكارم‬
‫اْلخَّلق واإلقبال على اآلخرة‪ ،‬وتسهيل الخيرات‪ ،‬فلم يكن ضيقا حرجا ال يكاد ينقاد لخير‬
‫وال تكاد تجده منبسطا‪ِ ِ.‬‬
‫واآلية دليل على أن محل الفهم هو الصدر وهو القلب‪ ،‬وليس الدماغ‪ ،‬وإنما للدماغ صلة‬
‫بالقلب‪ ،‬وإال محل الفهم اْلصلي هو القلب مع صلة بالدماغ‪ ،‬وهذه اآلية دليل على ذلك؛‬
‫َ‬
‫﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ‬
‫ص ْد َر َك﴾‪ِ .‬‬ ‫ْلن هللا قال‪:‬‬
‫ومن معاني هذه اآلية أن صدرك صار متسعا لفهم الوحي‪ِ ِ.‬‬
‫ََ َ َْ َ َ ْ‬
‫نك ِوز َر َك﴾ أي‪ :‬ذنبك‪ِ .‬‬ ‫﴿ووضعنا ع‬
‫وقد قال بعض اْلفسرين‪ :‬هذا هو الذنب الذي كان في الجاهلية قبل أن يوحى إليهِصلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬بل هذا مطلقا‪ ،‬وضع هللا الوزر عن النبيِصلى هللا عليه وسلم‬
‫َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬
‫مطلقا‪ ،‬وذلك كقول هللا عز وجل‪ِ ﴿ :‬ل َيغ ِف َر ل َك الل ُه َما تق َّد َم ِمن ذ ِنب َك َو َما تأخ َر﴾ [الفتح‪:‬‬
‫‪ِ .]2‬‬

‫‪326‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واآلية عامة فإن الوزر كله وضع عن النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بل إن النبيِصلى هللا عليه‬
‫وسلم خص من بين البشر أنه حفظ من شيطانه‪ ،‬وذلك بأمرين‪ِ :‬‬
‫اْلمر اْلول‪ :‬ما ذكرناه أن هللا أمر جبريل عليه السالم فشق صدره وهو صغير‪ ،‬وأخرج‬
‫علقة من صدره هي حظ الشيطان من صدرهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وغسله باملاء املبارك‬
‫ماء زمزم ثم رده مكانه‪ِ .‬‬
‫واْلمر الثاني‪ :‬أن هللا أعانه على شيطانه فسلم منه‪ ،‬ما من إنسان إال ومعه شيطان حتى‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولكن النبيِصلى هللا عليه وسلم أعانه هللا على شيطانه فيسلم‪ِ .‬‬
‫يعني هو قالِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬أعانني هللا عليه فأسلم))‪ ،‬بعض العلماء قال‪:‬‬
‫(فأسلم) يعني أن الشيطان أسلم لكن هذا غير صحيح‪ ،‬وإنما أسلم من السالمة‪،‬‬
‫فالنبيِصلى هللا عليه وسلم يسلم منه‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫﴿ال ِذي أنقض﴾ أي‪ :‬أثقل‪﴿ ،‬ظهرك﴾‪ِ ِ.‬‬
‫يعني أنقض الذي يثقل ظهرك‪ِ .‬‬
‫واإلنقاض أصله هو الصوت الذي يخرج من البعير إذا حمل باْلثقال فقام‪ ،‬فإنه يسمع‬
‫لظهره صوت‪ ،‬والذنوب إذا حملها العبد كأنه يحملها على ظهره‪ ،‬كلما قام تئن عظامه‬
‫وتشتكي من ثقل ذنبه‪ ،‬واملوقف من أزال هذا الثقل بتوبة فتاب إلى هللا عز وجل‪ ،‬فيوضع‬
‫عنه الوزر‪ِ .‬‬
‫ربنا رحيم رحمن نذنب ويغفر‪ ،‬ويدعونا إلى التوبة‪ ،‬ويعدنا بأن يفرح إذا تبنا‪ ،‬وأن يغفر إذا‬
‫تبنا‪ ،‬وأن يبدل سيئاتنا حسنات إذا تبنا‪ ،‬ويسر لنا أمر التوبة‪ ،‬فلم يطلب منا شططا بعيدا‪،‬‬
‫وإنما طلب منا لنتوب أمرا يسيرا‪ ،‬ومن تاب تاب هللا عليه وأسقط ذنبه بالكلية‪ِ .‬‬
‫فيا أيها العبد؛ يا من أذنبت وأكثرت ‪-‬وكلنا كذلك‪ -‬إلجأ إلى باب هللا لترحم نفسك في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬لترحم جسدك الضعيف من حمل هذه الذنوب التي تؤثر في عظامه‪ ،‬بل ذكر‬
‫بعض السلف أن الذنوب تؤثر في الصحة وتضعف البدن في آخر الحياة‪ ،‬أحد السلف قفز‬
‫وهو في الستين كما يقفز الشاب‪ ،‬فقيل له في هذا‪ ،‬فقال‪( :‬حفظناها في الصغر فحفظها هلل‬
‫لنا في الكبر)‪ ،‬حفظناها في الصغر فلم نعص هللا بها فحفظها هللا لنا في الكبر‪ِ .‬‬
‫التخلص من الذنوب سبب للصحة وسبب النشراح الصدر وسبب لبياض الوجه‪ ،‬وأهم من‬
‫ذلك كله سبب لرض ى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فليت شعري ما الذي يؤخرنا؟ ما الذي يجعلنا‬
‫نتوانى عن وضع هذا الثقل عن ظهورنا؟ ملاذا ال نعزم ونجزم ونتوكل بحزم فنتوب فورا من‬

‫‪327‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ذنوبنا ونقبل على طاعة ربنا سبحانه وتعالى؟ فالشاهد أن املذنب يكون كالبعير الذي يحمل‬
‫اْلثقال فإذا قام بها سمع لعظامه صوت‪ ،‬فكذلك املذنب إذا كان يحمل الذنوب فإنه إذا‬
‫قام تشتكي عظامه وتئن عظامه من هذا الثقل‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬
‫﴿ل َيغ ِف َر ل َك الل ُه َما تق َّد َم ِمن ذ ِنب َك َو َما تأخ َر﴾ [الفتح‪.]2 :‬‬ ‫كما قال تعالى‪ِ :‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫﴿ َو َرف ْعنا ل َك ِذك َر َك﴾ أي‪ :‬أعلينا قدرك‪ ،‬وجعلنا لك الثناء الحسن العالي الذي لم يصل‬
‫إليه أحد من الخلق‪ِ ِ.‬‬
‫كما ذكرنا في اْلرض وفي السماء ويوم القيامة‪ ،‬وكذلك في الجنة‪ ،‬فإن النبيِصلى هللا عليه‬
‫وسلم أول من يجوز على الصراط‪ ،‬وأول من يفتح له باب الجنة؛ لن يفتح باب الجنة إال‬
‫ملحمدِصلى هللا عليه وسلم ثم الناس من ورائهِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهناك أناس‬
‫يدخلون مع النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬هناك أناس يدخلهم النبيِصلى هللا عليه وسلم‬
‫بيده الجنةِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومن أولئك الناس من واظب على أن يقول في كل صباح‪:‬‬
‫رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينا وبمحمد رسوال‪ ،‬فإنه إذا واظب على هذا في كل صباح يأتي‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم يوم القيامة ويأخذ بيده إلى الجنة‪ ،‬ومعنى هذا أنه يدخل الجنة‬
‫مع النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ثم النبيِصلى هللا عليه وسلم في الجنة هو أعلى من في الجنةِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فرفعه‬
‫هللاِصلى هللا عليه وسلم‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فَّل يذكر هللا إال ذكر معه رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ِ ِ.‬‬
‫يعني في الشهادتين‪ِ ِ.‬‬
‫كما في الدخول في اإلسَّلم وفي اْلذان واإلقامة والخطب وغير ذلك من اْلمور التي أعلى‬
‫هللا بها ذكر رسوله محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وله في قلوب أمته من اْلحبة واإلجَّلل‬
‫والتعظيم ما ليس ْلحد غيره بعد هللا تعالى‪ ،‬فجزاه هللا عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن‬
‫أمته‪ِ ِ.‬‬
‫وذكرنا أوجه رفع ذكر النبيِصلى هللا عليه وسلم في التفسير اإلجمالي‪ِ ِ.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وقوله‪﴿ :‬ف ِإ َّن َم َع ال ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (‪ِ )5‬إ َّن َم َع ال ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (‪.﴾)6‬‬
‫َ‬
‫﴿ف ِإ َّن﴾ الفاء هنا للتفريع‪ ،‬تفريع ما بعدها على ما قبلها؛ أي‪ :‬مع تلك النعم فإن مع العسر‬
‫يسرا‪ ،‬ملن؟ للمتقين‪ْ ،‬لمة محمدِصلى هللا عليه وسلم ومن اتقى هللا من هذه اْلمة‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬بشارة عظيمة أنه كلما وجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه ويصاحبه‪،‬‬

‫‪328‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿س َي ْج َع ُل‬
‫حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫الل ُه َب ْع َد ُع ْس ٍر ُي ْس ًرا﴾ [الطَّلق‪ ،]7 :‬وكما قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬وإن الفرج‬
‫مع الكرب‪ ،‬وإن مع العسر يسرا))‪ِ ِ.‬‬
‫يعني أما اْلول حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر؛ روي هذا املعنى عن ابن‬
‫مسعود رض ي هللا عنه ورِجاله ثقات‪ ،‬عن ابن مسعود غير أن فيه رجال لم يسم‪ ،‬هذا‬
‫بالنسبة للموقوف‪ ،‬وروي مرفوعا وال يصح‪ ،‬قال اْللباني‪ :‬ضعيف جدا‪ ،‬أعني ((حتى لو‬
‫دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر))‪ ،‬روي مرفوعا عن النبيِصلى هللا عليه وسلم‬
‫وال يصح‪ ،‬بل هو ضعيف جدا كما قرره اإلمام اْللباني‪ ،‬ور ِوي موقوفا على ابن مسعود من‬
‫قول ابن مسعود رض ي هللا عنه ورجاله ثقات غير أن فيه علة وهو أن فيه رجال لم يسمى‪ِ .‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وكما قال النبيِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬وإن الفرج مع الكرب‪ ،‬وإن مع العسر‬
‫يسرا)) )‪ ،‬فهذه قطعة من حديث ابن عباس رض ي هللا عنهما‪(( :‬احفظ هللا يحفظك))‪ ،‬وقد‬
‫روى الحديث بهذه الزيادة اإلمام أحمد رحمه هللاِ ِ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وتعريف العسر في اآليتين يدل على أنه واحد‪ ،‬وتنكير اليسر يدل على‬
‫تكراره‪ ،‬فلن يغلب عسر يسرين‪ِ ِ.‬‬
‫يعني كون العسر هنا معرفا فهذا يدل على أن الثاني هو اْلول‪ ،‬وكون اليسر منكرا فهذا يدل‬
‫على أن الثاني غير اْلول‪ ،‬ولن يغلب عسر يسرين‪ ،‬وقد كتب عمر رض ي هللا عنه إلى أبي‬
‫عبيدة رض ي هللا عنه‪ :‬أما بعد‪( :‬فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل هللا له‬
‫بعده فرجا‪ ،‬وإنه لن يغلب عسر يسرين) رواه مالك‪ ،‬يشير عمر رض ي هللا عنه إلى هاتين‬
‫اآليتين‪ِ .‬‬
‫وقال الحاكم صحت ال ِرواية عن عمر رض ي هللا عنه أنه لن يغلب عسر يسرين‪ ،‬وقد روي‬
‫ذلك مرسال عن النبيِصلى هللا عليه وسلم من مراسيل الحسن‪ ،‬وبعض العلماء يقبلون‬
‫مراسيل الحسن‪ ،‬وهو من كبار التابعين إال أن الصواب أن املرسل كله ضعيف‪ ،‬فلم يثبت‬
‫مرفوعا لكنه صح عن عمر رض ي هللا عنه وأرضاه أنه لن يغلب عسر يسرين‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وفي تعريفه باْللف والَّلم الدال على االستغراق والعموم يدل على أن‬
‫كل عسر وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ فإن في آخره التيسير مَّلزم له‪ِ ِ.‬‬
‫يعني أن هذا الوعد عام‪ ،‬وأن العسر البد أن يعقب للمؤمن بيسر‪ ،‬وهذا اليسر إما رفع‬
‫للعسر وإما صبر عليه‪ِ .‬‬

‫‪329‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يعني‪ِ :‬‬
‫‪-‬إما أن يرفع هللا العسر عن املؤمن‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإما أن يرزقه صبرا عليه فتتضاعف له الحسنات‪ِ .‬‬
‫ْلن بعض الناس يقو ِل‪ :‬نرى بعض املؤمنين يبتلى إلى أن يموت‪ ،‬نقو ِل‪ :‬نعم؛ لكن ستجد في‬
‫الغالب أن هللا يرزقه الصبر‪ ،‬بل قد يرزقه الرض ى‪ ،‬بل قد يرزقه الشكر‪ ،‬تجد أن بعض‬
‫من يبتلون باملصائب والبالء أرض ى ممن حولهم‪ ،‬تجد أن حولهم من اْلصحاء يئنون‪،‬‬
‫ومسكين مسكين‪ ،‬أما هو تجده شاكرا راضيا صابرا‪ ،‬تجده يقول الحمد هلل أنا في خير من‬
‫هللا‪ ،‬أنا في نعمة من هللا‪ ،‬حبسني هللا عن كثير من الشرور في خارج البيت‪ ،‬أقل الدرجات أن‬
‫يرزق الصبر‪ ،‬وقد يعلو اْلمر حتى يرزق الرضا‪ ،‬وقد يعلو اْلمر حتى يرزق الشكر‪ ،‬وهذا من‬
‫أعظم اليسر إذا رزق هللا عبده املؤمن الصبر على البالء وعلى العسر أو رزقه الرضا به أو‬
‫رزقه الشكر عليه فهذا من أعظم اليسر؛ ْلن البالء ال يزال باملؤمن حتى يجعله يسير على‬
‫اْلرض وليست عليه خطيئة‪ ،‬ويوم القيامة يود أهل العافية لو أنهم نشروا في الدنيا‬
‫باملناشير ملا يرون من ثواب أهل البالء‪ ،‬ولكن هذا ال يطلب بل املشروع أن يطلب اإلنسان‬
‫العافية‪ ،‬ويسأل هللا العافية‪ ،‬لكن إذا ابتلي املؤمن فإما أن يرفع هللا عنه البالء ولو بعد‬
‫حين‪ ،‬وإما أن يرزقه الصبر أو الرضا أو الشكر فتنقلب املحنة منحة‪ ،‬وينقلب البالء‬
‫حسنات ال تنقطع‪ ،‬حتى ربما رفع في أعلى درجات الجنة بسبب ذلك‪ِ .‬‬
‫وقد جاء في الحديث ((أن هللا إذا أراد بعبده منزلة في الجنة ثم لم يبلغها بعمله قال‬
‫ْلَّلئكته‪ :‬صبوا عليه البَّلء صبا‪ ،‬وصبره عليه))‪ِ .‬‬
‫فهذا ما ينبغي أن نفقهه‪ :‬اليسر ال يعني أن يرفع العسر فقط‪ ،‬بل قد يكون برفع العسر‪،‬‬
‫وقد يكون بتيسيره على املبتلى به أن يصبر عليه أو يرض ى أو يشكر‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ثم أمر هللا رسوله أصَّل واْلؤمنين تبعا بشكره‪ ،‬والقيام بواجب نعمه‬
‫انص ْب﴾ أي‪ :‬إذا تفرغت من أشغالك ولم يبق في قلبك ما يعوقه‬ ‫﴿فإ َذا َف َر ْغ َت َف َ‬
‫َ‬
‫فقال‪ِ :‬‬
‫فاجتهد في العبادة والدعاء‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إذا فرغت من عبادة مفروضة فأتبعها بنافلة من جنسها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬إذا فرغت من يومك من نهارك الذي هو وقت الشغل فانصب‬
‫لربك في الليل الذي هو وقت التفرغ‪ِ .‬‬

‫‪330‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫التنوع وليس من باب اختالف التضاد‪ِ ِ.‬‬ ‫وكل هذه املعاني صحيحة‪ ،‬فهذا من باب اختالف ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿ َو ِإل ٰى َرِب َك﴾ وحده‪﴿ ،‬فا ْرغب﴾ أي‪ :‬أعظم الرغبة في إجابة دعاءك وقبول دعواتك‬
‫ملاذا قال الشيخ‪( :‬وإلى ربك وحده)؟ ِ‬
‫ْلن تقديم املعمول يدل على الحصر‪ ،‬تقديم الجار واملجرور يدل على الحصر‪ ،‬اْلصل‬
‫فارغب إلى ربك‪ ،‬لكن قدم الجار واملج ِرور على متعلقه‪ ،‬وتقديم الجار واملجرور يدل على‬
‫الحصر‪ ،‬فأصبح معنى اآلية‪ :‬وإلى ربك وحده فارغب وضع حوائجك‪ ،‬واجعل دعاءك لربك‬
‫فقط وال تدع من دون هللا أحدا‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬وال تكن ممن إذا فرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره فتكون من الخاسرين‪،‬‬
‫وقد قيل إن معنى هذا‪ :‬فإذا فرغت من الصَّلة وأكملتها فانصب في الدعاء‪.‬‬
‫هذا قاله بعض أهل العلم لكن فيه نظر؛ ْلن النبيِصلى هللا عليه وسلم لم يكن يدعو بعد‬
‫املفروضة‪ ،‬وإنما كان يذكر‪ِ .‬‬
‫والظاهر عندي وهللا أعلم وهو الظاهر عند جمع من أهل العلم ومنهم شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية رحمه هللا أن كل دعاء نقل عن النبيِصلى هللا عليه وسلمِفي دبر الصالة املقصود به‬
‫في آخرها‪ ،‬وليس في خارجها‪ :‬اللهم آجرني من النار على ما ورد وعلى ما في الرواية‪ ،‬اللهم قني‬
‫عذابك يوم تبعث عبادك‪ ،‬اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‪ ،‬أن كل هذا إنما‬
‫هو في آخر الصالة من اْلدعية املشروعة في آخر الصالة وليس في خارجها‪ِ .‬‬
‫ولذلك هذا املعنى الذي ذكره بعض أهل العلم‪ :‬إذا فرغت من الصالة وأكملتها فانصب‬
‫للدعاء محل نظر؛ ْلن املخاطب باآلية وهوِصلى هللا عليه وسلم لم يفعل ذلك في كل‬
‫صالة‪ ،‬وما كان ينصب للدعاء ويكثر من الدعاء بعد الصلوات عموما‪ ،‬ولم يكن يدعو أصال‬
‫بعد الفرائض مباشرة‪ ،‬بل كان يذكر هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وإنما كان يدعو دعاء واحدا‬
‫مناسبا للمقام وهو أن يقول فور السالم‪ :‬أستغفر هللا أستغفر هللا أستغفر هللا؛ ْلن هذا‬
‫متعلق بما كان في الصالة‪ ،‬يستغفر العبد من تقصيره في بعض الصالة‪ ،‬من شروذ ذهنه في‬
‫بعض الصالة ِونحو هذا‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿و ِإل ٰى َرِب َك فا ْرغ ْب﴾ في سؤال مطالبك‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬
‫واستدل من قال هذا القول على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات اْلكتوبات‬
‫وهللا أعلم‪ِ ِ.‬‬
‫أما الذكر فال شك أنه مشروع وهو سنة‪ ،‬أما الدعاء فال يشرع منه إال أن يقولِ‪ :‬أستغفر‬

‫‪331‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هللا أستغفر هللا أستغفر هللا عقب السالم مباشرة‪ِ .‬‬


‫هذه السورة العظيمة فيها حكم كبرى وفوائد عظمى‪ ،‬فمن حكمها الكبرى وفوائدها‬
‫العظمى‪ِ :‬‬
‫‪ -‬عظم منزلة النبيِصلى هللا عليه وسلمِعند ربه وعند املؤمنين‪ ،‬وكثرة نعم هللا عز وجل على‬
‫محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وبالتالي على أمته‪ِ .‬‬
‫‪ِ 47‬‬
‫ِ‬
‫‪ -‬الحكمة الثانية والفائدة الثانية‪ :‬أن انشغال الصدر يمنع الفهم‪ ،‬انشغال القلب يمنع‬
‫الفهم‪ ،‬والسيما انشغال القلب بالهموم‪ ،‬فإنه يمنع الفهم‪ ،‬ولذلك ينبغي على طالب العلم‬
‫أن يجتهد في تفريغ قلبه من الهموم ما استطاع‪ ،‬وأال يحضر للدرس مهموما مشغول القلب‪،‬‬
‫َّ َٰ َ َ ْ َ ٰى َ َ َ َ ُ َ ْ ٌ َ ْ َ ْ َ‬
‫وهذا جزء من معنى قول هللا عز وجل‪ِ ﴿ :‬إن ِفي ذ ِلك ل ِذكر ِْلن كان له قلب أو ألقى‬
‫يد﴾ [ق‪]37 :‬؛ ْلن املشغول املهموم ال يحضر قلبه وال يكون شهيدا‪ ،‬حتى‬ ‫الس ْم َع َو ُه َو َشه ٌ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫إذا كان يستمع هو مع همه مشتغل ومع أشغاله مشتغل‪ ،‬ولذلك ينبغي على طالب العلم‬
‫أن يجتهد في انشراح الصدر‪ ،‬و ِال أعظم النشراح الصدر من قراءة القرآن‪ ،‬اجعل لنفسك‬
‫وردا ونصيبا من قراءة القرآن‪ِ .‬‬
‫أنا أعجب من طالب العلم الذين ال يكون لهم نصيب كبير من القرآن ويريدون أن يحصلوا‬
‫كثيرا من العلم! قراءة القرآن‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬أوال تجعل في الوقت بركة‪ ،‬من جعل له وردا عظيما كسبع القرآن مثال في يومه‬
‫يجعل هللا في يومه بركة ما يجدها غيره‪.‬‬
‫‪ .2‬وثانيا عالج للهموم والغموم والشواغل‪ ،‬فيقبل طالب العلم ومن يريد أن يفهم على‬
‫املسموعات والعلوم بقلب منشرح‪ ،‬فيفهم ويستفيد ويحصل خيرا كثيرا وعلما‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫‪ -‬من فوائد هذه السورة الكبرى وحكمها العظمى‪ :‬أن أعظم أسباب تفريج الهموم اإلقبال‬
‫على هللا‪ ،‬وهللا إن اإلقبال على هللا عالج حتى لألمراض النفسية‪ ،‬أن يقبل اإلنسان على‬
‫طاعة هللا‪ ،‬يقرأ القرآن‪ ،‬يذكر هللا يحضر في حلق العلم‪ ،‬يصلي‪ ،‬يصوم‪ ،‬والصالة لها‬
‫خاصية عجيبة في هذا الباب‪ ،‬ولذلك النبيِصلى هللا عليه وسلمِكان يقولِ‪(( :‬أرحنا بها يا‬

‫‪332‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫بَّلل))‪ ،‬فالصالة عالج للهموم والغموم وعالج ْلمراض النفوس‪ ،‬وعالج للغضب‪ ،‬الغضبان‬
‫لو قام يتنفل هلل بركعتين يذهب غضبه‪ِ .‬‬
‫فاإلقبال على هللا سر السعادة‪ ،‬من أراد عالج همومه وغمومه وإسعاد قلبه فليقبل على‬
‫ربه‪ ،‬والسعادة هبة من هللا يهبها ملن يشاء‪ ،‬وهللا يهب السعادة ملن أقبل عليه‪ِ ،‬‬
‫السعادة في الدين والتدين والطاعة واإلقبال على هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬والقلوب بينِأصبعين‬
‫من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ِ .‬‬
‫وهللا قد تدخل الصالة وأنت في غاية الهم تسلم وأنت ما كأنه قد أصابك هم‪ ،‬القلوب بين‬
‫أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى‪ ،‬فإذا أردت اْلنس فانس باهلل‬
‫وانس بكتاب هللا ونس بذكر هللا ونس بطاعة هللا ونس بالعلم‪ ،‬وعليك بالتوحيد‪ِ .‬‬
‫‪ -‬الحكمة الكبرى الرابعة والفائدة العظمى الرابعة‪ :‬أن الذنوب تثقل ظهر اإلنسان حسا‬
‫ومعنى‪ ،‬فالعبد كلما أذنب ذنبا رمى حمال على ظهره‪ ،‬فتئن العظام وتشتكي من الذنوب‬
‫حسا‪ ،‬ويثقل عن الطاعات وعن طلب العلم خصوصا بسبب الذنوب‪ ،‬وكلما رمى ذنبا كلما‬
‫أبعد عن الطاعة‪ ،‬كلما حمل ذنبا كلما أبعد عن الطاعة‪ ،‬فالذنوب مبعدة للقلوب‪ِ .‬‬
‫وقد جاء في الحديث ((أن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء‪ ،‬فإن نزع منها‬
‫سقل منها)) الحظوا‪ :‬سقل السقل يكون للزجاج‪ ،‬وسقل الزجاج يذهب الش يء بالكلية‪ ،‬وإن‬
‫زاد زادت حتى ترين على قلبه‪ ،‬فالذنوب تثقل ظهر اإلنسان حسا ومعنى‪ ،‬حسا تثقل‬
‫عظامه‪ ،‬ومعنى تثقله عن الطاعات‪ِ .‬‬
‫ولذلك الذي ال يقوم الليل في الغالب كثير الذنوب‪ ،‬تقيده ذنوبه عن هذه الطاعة التي هي‬
‫لذة وجنة ورحمة للعاملين‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن حكم هذه السورة الكبرى وفوائدها العظمى‪ :‬أن من أعظم أسباب العزة والرفعة‬
‫لإلنسان التوحيد والطاعة‪ ،‬ولذلك قلنا ونقولِ‪ :‬من أراد العزة لألمة فليدعو للتوحيد‬
‫وليعلم التوحيد ولينشر التوحيد‪ ،‬وليحذر من الشرك‪ ،‬ومن أراد العزة لنفسه فليحرص على‬
‫تحقيق التوحيد‪ ،‬وليكن من املوحدين‪ ،‬ومن وحد هللا وأطاع هللا رفع هللا ذكره في اآلخرة‬
‫يقينا‪ ،‬وفي الدنيا بحسب مصلحته‪ ،‬فقد تكون مصلحتك في الدنيا أن تعرف فيرفع هللا‬
‫ذكرك ويعرفك الناس‪ ،‬وقد تكون مصلحتك أن ال تعرف وأن تكون كما يقولون نكرة؛ ْلنك‬
‫اآلخرة فاملوحد مرفوع الذكر‪ ،‬وكذا عند هللا في املإل اْلعلى املوحد‬ ‫لو عرفت لفتنت‪ ،‬أما في ِ‬
‫مرفوع الذكر‪ ،‬وأما في اْلرض فهو مرفوع ولكن بحسب مصلحته‪ ،‬فقد يرفع ذكره ويعرف في‬

‫‪333‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اآلفاق؛ ْلن مصلحته كذلك ومصلحة اْلمة مرتبطة بذلك‪ ،‬وقد ال يعرف‪ ،‬ولذلك ارض ى بما‬
‫اختار هللا لك وإياك والتطلع للشهرة‪ِ ،‬ال تطلب الشهرة أبدا‪ ،‬بل السلف الصالح رضوان هللا‬
‫عليهم كانوا ال يريدون الشهرة وإنما يريدون شهرة الحق وظهور الحق‪ ،‬فإن كتب هللا لك‬
‫شهرة فزد تواضعا لعباد هللا‪ ،‬ومن قبل ذلك ليعظم تذللك هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وإن لم‬
‫تشهر فاحمد هللا على السالمة‪ ،‬وقل‪ :‬الحمد هلل الذي سلمني‪ ،‬والحمد هلل الذي نجاني‪ِ .‬‬
‫الحكمة السادسة الكبرى والفائدة العظمى‪ :‬بشارة أهل البالء والشدة والكروب من أمة‬
‫محمدِصلى هللا عليه وسلم بأن الفرج قريب‪ ،‬وهذا يقتض ي عدم اْلنين والشكوى وعدم‬
‫التسخط‪ ،‬فإن الفرج قريب وإن مع العسر يسرا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬الحكمة السابعة واْلخيرة والفائدة الكبرى السابعة‪ :‬أن شأن املؤمن االستفادة من الفراغ‬
‫في طاعة هللا‪ ،‬والفراغ نعمة مغبون فيها كثير من الناس‪ ،‬ما عرفوا الطريق الصحيح فيها‪،‬‬
‫بعض الناس يأتي يقو ِل‪ :‬يا أخي أنا طفشان‪ ،‬ملاذا؟ قال‪ :‬ما عندي ش يء‪ ،‬سبحان هللا! عندك‬
‫القرآن اقرأ‪ ،‬عندك ذكر هللا اذكر‪ ،‬عندك الصالة صلي‪ ،‬عندك السعي في مصالح‬
‫املسلمين‪ ،‬يقولون العمل التطوعي‪ ،‬عندك وقت اجتهد في مصالح املسلمين مصالح جيرانك‪ِ .‬‬
‫ولذلك الفراغ بالنسبة للمؤمن نعمة؛ ْلنه إذا فرغ نصب‪ ،‬وجعل الوقت طاعة هلل عز‬
‫وجل‪ ،‬فشأن املؤمن كشأن نبيهِصلى هللا عليه وسلم أنه يستفيد من الفراغ في ِزيادة‬
‫الحسنات‪ِ .‬‬
‫ولذلك يا عبد هللاِأقولِ‪ :‬إذا وجدت أيها املؤمن فراغا فاحمد هللا على هذه النعمة‪ ،‬واغتنم‬
‫هذه النعمة فيما يقربك إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬اغرس شجرك في الجنة بذكر هللا‪ ،‬قل‪:‬‬
‫سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكبر وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬زد حسناتك‬
‫بكثرة الطاعة هلل سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الشرح أسأل هللا عز وجل أن يشرح صدورنا للهدى‪ ،‬وأن‬
‫يشرح صدورنا بالهدى‪ ،‬وأن يفهمنا معاني كتابه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪334‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة التين‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ََ ْ َََْ ْ َ َ‬ ‫َ َٰ َ ْ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َّ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫نسان ِفي‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫د‬‫ق‬ ‫ل‬ ‫)‬ ‫‪3‬‬ ‫(‬ ‫ين‬ ‫م‬‫اْل‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫د‬‫ل‬ ‫ب‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫ذ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ين‬ ‫الت ِين والزيتو ِن (‪ )1‬و ِ ِ ِ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫ر‬‫و‬ ‫ط‬ ‫﴿و ِ‬
‫َّ َ َ َ‬
‫ات فل ُه ْم‬ ‫ح‬‫ال‬ ‫الص‬ ‫وا‬
‫َّ َّ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬‫و‬ ‫وا‬ ‫ن‬ ‫آم‬ ‫ين‬ ‫ذ‬ ‫ال‬ ‫ال‬ ‫إ‬ ‫)‬ ‫‪5‬‬ ‫(‬
‫َ‬
‫ين‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ا‬‫س‬‫َأ ْح َسن َت ْقويم (‪ُ )4‬ث َّم َر َد ْد َن ُاه َأ ْس َف َل َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َُ‬ ‫َ ْ ٌ َُْ َ ْ ُ‬
‫الد ِين (‪ )7‬أليس الله ِبأحك ِم الح ِاك ِمين(‪ِ .﴾ )8‬‬ ‫أجر غير ممنو ٍ (‪ )6‬فما يك ِذبك بعد ِب ِ‬ ‫ن‬
‫هذه السورة املكية يقسم هللا عز وجل فيها بالتين املعروف والزيتون املعروف‪ ،‬وفي هذا‬
‫بيان فضل هاتين الثمرتين وما فيهما من الفوائد لإلنسان‪ ،‬وإشارة إلى أحسن موطن لهما‬
‫وهو فلسطين أرض نبوة عيس ى عليه السالم‪ ،‬ثم يقسم هللا عز وجل بطور سيناء وهي‬
‫اْلرض التي أوحي فيها إلى موس ى عليه السالم‪ ،‬ثم يقسم هللا عز وجل بمكة التي بعث فيها‬
‫محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فجمع هللا عز وجل في أول هذه السورة القسم بأراض بعث‬
‫فيها هؤالء اْلنبياء الثالثة وهم من أولي العزم الذين هم أشرف الرسل عليهم السالم‪ِ .‬‬
‫ََ َََْ‬
‫أقسم هللا عز وجل بهذه اْلمور العظيمة على أمر عظيم‪ ،‬وجواب القسم‪﴿ :‬لق ْد خلقنا‬
‫َْ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫نسان ِفي أ ْح َس ِن تق ِو ٍيم﴾‪ ،‬أيها اإلنسان هللا عز وجل خلقك وال خالق لك إال هللا سبحانه‬ ‫اإل‬
‫ِ‬
‫وتعالى‪ ،‬وخلقك حسن الخلقة مكرما في صورتك وهيأتك‪ِ .‬‬
‫ثم رد هللا عز وجل هذا اإلنسان أسفل سافلين في نار جهنم‪ ،‬وذلك ْلن اإلنسان يطغى‬
‫ويتجبر ويتكبر وال يشكر نعم هللا عز وجل عليه‪ ،‬وإنما قد يشرك باهلل عز وجل وقد يكثر من‬
‫املعاص ي العظيمة‪ِ .‬‬
‫وال ينجو من هذا ُ‬
‫السفل إال الذين آمنوا باهلل ربا‪ ،‬وبمحمدِصلى هللا عليه وسلم رس ِوال‪،‬‬
‫وباإلسالم دينا‪ ،‬وآمنوا بالرسل واملالئكة والكتب واليوم اآلخر والقدر خيره وشره من هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬ومن إيمانهم أنهم عملوا الصالحات‪ ،‬فاجتهدوا في العمل بالصالحات‪ ،‬فأخلصوا هلل‬
‫فيها‪ ،‬واتبعوا رسول هللاِصلى هللا عليه وسلم فيها‪ِ .‬‬
‫ومن كان هذا شأنهم فإنهم في أعلى عليين‪ ،‬على عكس غيرهم الذين هم في أسفل سافلين‪،‬‬
‫مقامهم بين الخالئق عالي ومقامهم يوم الدين عالي في جنة رب العاملين‪ ،‬فهم في الدنيا أكرم‬
‫الخلق وإن كانوا مستضعفين‪ ،‬وهم في اآلخرة في أعلى عليين في جنة رب العاملين‪ ،‬ونعيمهم‬

‫‪335‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فيها عظيم كثير كبير ممتد ال ينقص‪ ،‬وال يفقدون منه شيئا‪ ،‬وال ينقطع وال لحظة‪ ،‬فهو‬
‫نعيم محفوظ من النقصان‪ ،‬محفوظ من العدم‪ ،‬محفوظ من االنقطاع‪ ،‬فال منغص فيه‬
‫أبدا‪ ،‬فإن الذي ينغص على اإلنسان النعيم أن يعلم أنه ينقص كلما أخذ منه‪ ،‬وهذا ال‬
‫يكون في نعيم الجنة‪ ،‬وأن يعلم أنه قد ينقطع فينقلب النعيم إلى ابتالء‪ ،‬وهذا ال يكون في‬
‫نعيم الجنة‪ ،‬وأن يعلم أنه قد يذهب عنه بالكلية وهذا ال يكون في نعيم الجنة‪ِ .‬‬
‫وهذا العلو للمؤمنين والسفل لغير املؤمنين الذي يكون يوم القيامة هو يقين ال شك فيه‪،‬‬
‫الد ِين﴾ فأي ش يء أيها العبد العاقل يجعلك تكذب‬‫ب‬ ‫د‬‫ولهذا قال بنا‪َ ﴿ :‬ف َما ُي َكذ ُب َك َب ْع ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫بالبعث والجزاء؟! وقد قامت على ذلك البراهين القطعية‪ ،‬فال عذر لك في ذلك‪ ،‬فاآليات‬
‫املتلوة واآليات املشاهدة وما تراه من ذهاب اْلجيال‪ ،‬وما تراه من الصالة على اْلموات ومن‬
‫قبر املقبورين يدلك داللة بينة على أنك لست مخلدا في الدنيا‪ ،‬ولست باقيا في الدنيا‪،‬‬
‫وأنك ميت وال شك‪ ،‬وقد دلت اْلدلة القطعية على أن امليت يبعث ويجازىِ‪ِ .‬‬
‫ومن ذلك أن حكمة الحكيم سبحانه وتعالى تدل داللة بينة على أنه ال يمكن أن يخلق‬
‫الجن واإلنس ويكلفهم باْلعمال‪ ،‬وينهاهم عن بعض اْلعمال وال يحاسبهم عليها وال يجازيهم‬
‫عليها‪ ،‬فإن هللا عز وجل خلق الجن واإلنس ولم يتركهم همال بل أرسل لهم رسال يأمرون‬
‫باملعروف وينهون عن املنكر‪ ،‬وال شك أن العالم بحكمة هللا عز وجل يدرك أنه البد من‬
‫َ‬
‫جزاء والبد من حساب‪ ،‬إذن البد من بعث‪ ،‬ولذلك قال هللا عز وجل بعد قوله‪﴿ :‬ف َما‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ ْ‬ ‫َُ ُ َ َ ُْ‬
‫س الل ُه ِبأ ْحك ِم ال َح ِاك ِمين (‪.﴾ )8‬‬ ‫الد ِين (‪ )7‬ألي‬
‫يك ِذبك بعد ِب ِ‬
‫بلى وربي؛ وما دام أن حكمة هللا تامة وهو أحكم الحاكمين فإن العاقل يدرك إدراكا يقينيا‬
‫أن من كلف العباد في الدنيا البد أن يبعثهم وأن يجازيهم وأن يحاسبهم‪ِ .‬‬
‫فهذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات العظيمة‪ ،‬ثم ننتقل إلى التفسير‬
‫التفصيلي ونقرأ ما سطره اإلمام املفسر الفقيه اْلصولي املتفنن الذي رزقه هللا علما عجيبا‬
‫بديعا الشيخ اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي السعدي رحمه هللا عز وجل في‬
‫تفسيره‪ِ .‬‬

‫‪336‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِِ‬
‫قالِاإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين‪:‬‬
‫الت ِين﴾ هو التين اْلعروف وكذلك الزيتون‪ِ ِ.‬‬ ‫َ‬
‫قوله‪﴿ :‬و ِ‬
‫وهذا أظهر ما قاله املفسرون وما قاله السلف الصالح رضوان هللا عليهم‪ِ .‬‬
‫وإذا اختلف املفسرون فاْلقرب في التفسير هو ما يتطابق مع الظاهر‪ ،‬ولذلك الذي عليه‬
‫اْلكثر وهو الصواب أن التين هنا هو التين املعروف‪ ،‬وكذلك الزيتونِ‪ِ .‬‬
‫والتين فائدته في أكله والزيتون فائدته العظمى في عصره‪ ،‬فهذا مأكول وهذا مشروب‪،‬‬
‫وكالهما نعمة عظيمة وفيه فوائد كثيرة لإلنسان‪ِ .‬‬
‫ولذلك من الخير لإلنسان أن يحافظ على هاتين الثمرتين فإن في أكلهما وشرب زيت‬
‫الزيتون الصحة والعافية والبركة‪ ،‬فيحسن باملؤمن أن يدرك هذا‪ ،‬فإن هللا ال يقسم إال‬
‫بعظيم من خلقه‪ ،‬فهاتان الثمرتان من أعظم الثمار فائدة لإلنسان‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬أقسم بهاتين الشجرتين لكثرة منافع شجرهما وثمرهما؛ وْلن سلطانهما‬
‫في أرض الشام محل نبوة عيس ى بن مريم عليه السَّلم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ور ِسي ِنين﴾ أي‪ :‬طور سيناء‪ِ ِ.‬‬
‫﴿و ِ‬
‫ط‬
‫َ‬
‫﴿س ِينين﴾ على هذا سيناء‪ِ .‬‬ ‫طور سيناء هو الجبل املعروف في سيناء من أرض مصر‪ ،‬فمعنى ِ‬
‫ٌِ‬
‫حسن‪ِ .‬‬ ‫﴿سي ِن َين﴾ أنه الحسن‪ ،‬فهو ٌ‬
‫جبل‬ ‫وقال بعض العلماء‪ :‬معنى ِ‬
‫َ‬
‫﴿سي ِنين﴾ مبارك فهو جبل مبارك‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض العلماء‪ :‬معنى ِ‬
‫َ‬
‫﴿سي ِنين﴾ أنه ذو شجر فهو جبل ذو شجر‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض العلماء‪ :‬معنى ِ‬
‫َ‬
‫﴿سي ِنين﴾ هو الشجر املثمر فهو جبل ذو شجر مثمر‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ :‬‬
‫وهذا من باب اختالف التنوع في التفسير وليس من باب اختالف التضاد‪ ،‬فهو جبل مبارك‬
‫حسن كثير اْلشجار املثمرة‪ ،‬وهو الجبل املعروف‪ ،‬وشذ من ذكر أنه جبل في الشام هذا‬
‫ُ‬
‫قول شاذ ضعيف‪ ،‬وإنما هو جبل في أرض سيناء من مصر وهو املكان الذي ن ِب َئ فيه موس ى‬
‫عليه السالم‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ور ِسي ِنين﴾ أي‪ :‬طور سيناء محل نبوة موس ى عليه السَّلم‪.‬‬
‫﴿و ِ‬
‫ط‬

‫‪337‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ٰ َ ْ َ َْ‬
‫﴿و َهذا ال َبل ِد اْل ِم ِين﴾ وهو مكة اْلكرمة محل نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم‪ِ ِ.‬‬
‫وهذا اسم إشارة للقريب؛ ْلن اآليات مكية‪ ،‬فالذين يخاطبونِ بها في ذلك الزمن هم قاطنوا‬
‫ٰ َ ْ َ َْ‬
‫مكة‪ ،‬ولذلك قال‪َ ﴿ :‬و َهذا ال َبل ِد اْل ِم ِين﴾‪ِ .‬‬
‫واْلمين فعيل‪ ،‬وكما تدركون فعيل تأتي بمعنى فاعل وتأتي بمعنى مفعول‪ ،‬فهو بلد آمن‬
‫ِّ‬
‫ومؤمن ومأمون‪ ،‬ففيه اْلمن من جميع‬ ‫ومؤمن‪ ،‬ففيه اْلمن كله‪ ،‬بلد آمن َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫ومؤمن ِ‬ ‫ومؤمن ِ‬
‫جوانبه وهذا اْلمن ما جعله إنسان لهذا املكان وإنما جعله هللا عز وجل لهذا البلد‪ ،‬وهو‬
‫محل بعثة محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فأقسم تعالى بهذه اْلواضع اْلقدسة التي اختارها وابتعث منها أفضل اْلنبياء‬
‫وأشرفهم‪.‬‬
‫َْ‬ ‫ََ ْ َََْ ْ َ َ َ‬
‫نسان ِفي أ ْح َس ِن تق ِو ٍيم﴾ أي‪ :‬تام الخلق متناسب‬ ‫اإل‬
‫واْلقسم عليه قوله‪﴿ :‬لقد خلقنا ِ‬
‫اْلعضاء منتصب القامة‪ ،‬لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا وباطنا شيئا‪ِ ِ.‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫هذا قول اْلكثر أن معنى ﴿أ ْح َس ِن تق ِو ٍيم﴾ هو في الخلقة الظاهرة‪ ،‬أن هللا عز وجل جعل‬
‫اإلنسان في أحسن قامة من بين جميع املخلوقات‪ ،‬وفي أحسن صورة وفي أكرم هيئة‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َْ‬
‫﴿في أحس ِن تق ِو ٍيم﴾ يعني على الفطرة وهي اإلسالم‪ ،‬فكل مولود‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ِ :‬‬
‫يولد على الفطرة يعني على اإلسالم‪ ،‬كل مولود يولد على أحسن تقويم على الفطرة وهي‬
‫اإلسالم‪ِ .‬‬
‫فهؤالء حملوا حسن التقويم على اْلمر الباطن‪ ،‬واْلولون حملوه على اْلمر الظاهر‪،‬‬
‫والقاعدة أنه إذا ذكر املفسرون قولين أو أكثر ال تنافي بينها فسرت اآلية بجميعها‪ ،‬فأحسن‬
‫التقويم هنا يشمل الخلقة الظاهرة ويشمل باطن اإلنسان‪ ،‬فإن اإلنسان يولد على أحسن‬
‫تقويم ظاهرا وباطنا‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ومع هذه النعم العظيمة التي ينبغي منه القيام بشكرها فأكثر الخلق‬
‫منحرفون عن شكر اْلنعم‪ ،‬مشتغلون باللهو واللعب‪ ،‬قد رضوا ْلنفسهم بأسافل اْلمور‬
‫وسفساف اْلخَّلق‪ ،‬فردهم هللا في أسفل سافلين أي‪ :‬أسفل النار موضع العصاة‬
‫اْلتمردين على ربهم إال من من هللا عليه باإليمان والعمل الصالح واْلخَّلق الفاضلة‬

‫‪338‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫العالية‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿ث َّم َر َد ْدن ُاه أ ْسف َل َسا ِف ِلين﴾ من قال‪ :‬إن حسن التقويم في الهيأة الظاهرة قال‪ :‬املعنى ثم‬
‫رددنا هذا اإلنسان إلى النار إلى جهنم لعدم شكره‪ ،‬بل كان مشركا أو كثير العصيان‪ ،‬فيرد‬
‫إلى النار بحسبه‪ِ .‬‬
‫﴿ث َّم َر َد ْد َن ُاه َأ ْس َفلَ‬
‫ُ‬
‫ومن قال‪ :‬إن حسن التقويم هنا هو الفطرة وهي اإلسالم قال‪ :‬معنى‬
‫َ‬
‫َسا ِف ِلين﴾ أن أهله يردونه إلى أسفل سافلين‪ ،‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ِ .‬‬
‫وكما قلنا إنه ال مانع من حمل حسن التقويم على الحالين‪ ،‬فإنه ال مانع من حمل الرد إلى‬
‫أسفل سافلين على الحالين‪ ،‬فيرد في الدنيا إلى الشرك وكثرة العصيان والطغيان‪ ،‬ويرد يوم‬
‫القيامة إلى النار التي هي أسفل سافلين‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ث َّم َر َد ْدن ُاه أ ْسف َل َسا ِف ِلين﴾ يعني رددناه إلى أرذل العمر فيصبح‬
‫شيخا كبيرا تذهب قوته وتتحول إلى ضعف‪ ،‬وتتغير هيأته فبعد أن كان بهي البشرة يذهب‬
‫بهاء تلك البشرة‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َّ َّ َ ُ‬
‫ين َآمنوا َو َع ِملوا‬‫إذا قلنا بهذا التفسير هنا إشكال؛ ِْلن هللا عز وجل قال‪ِ ﴿ :‬إال ال ِذ‬
‫ات﴾‪ ،‬واملعلوم أن املؤمن قد يرد إلى أرذل العمر ويصبح شيخا كبيرا‪ ،‬فبعضهم‬ ‫َّ َ‬
‫الص ِالح ِ‬
‫قال‪ :‬إن االستثناء هنا منقطع‪ ،‬واملعنى لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ردهم إلى‬
‫أرذل العمر لهم أجر غير ممنون في الجنة‪ِ .‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن أجرهم ال ينقطع بضعفهم أو ذهاب‬
‫عقلهم‪ ،‬بل يكتب لهم في حال ضعفهم وحال أرذل العمر ما كانوا يعملونه في حال الصحة‬
‫والقوة‪ ،‬فلو كان أحدهم مثال يصوم االثنين والخميس لكن ملا كبر سنه أصبح ال يستطيع‬
‫الصوم يجري هللا عليه أجر صيام االثنين والخميس وإن بقي عشرين سنة ضعيفا‪ ،‬كان‬
‫يصلي من الليل فأصبح من ضعفه ال يستطيع أن يصلي من الليل يجري هللا عليه أجر قيام‬
‫الليل وإن بقي سنين طويلة‪ ،‬فقالوا هذا معنى اآلية‪ ،‬ليس استثناء من الرد إلى أرذل العمر‪،‬‬
‫وإنما هو استثناء من انقطاع اْلجر عند الرد إلى أرذل العمر‪ ،‬فإن أجرهم يعني مستمر‪ِ .‬‬

‫‪339‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫ُ َ َْ ُ َ ْ َ َ‬
‫وبعضهم قالوا‪ :‬إن اآلية على ظاهرها ﴿ث َّم َرددناه أسف َل س ِ‬
‫اف ِلين﴾ يعني رددناه إلى أرذل‬
‫العمر حتى ال يعلم من بعد علم شيئا إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن هللا يحفظهم‬
‫من هذا‪ ،‬واملقصود خاصة املؤمنين وليس كل املؤمنين على هذا التفسير‪ ،‬خاصة املؤمنين‬
‫الذين حفظوا أعضاءهم في الصغر يحفظها هللا لهم في الكبر‪ ،‬فال يردون إلى أرذل العمر‪ِ .‬‬
‫َّ َّ َ ُ‬
‫ين َآمنوا﴾ يعني‪ :‬إال الذين‬‫﴿إال ال ِذ‬
‫ولذلك قال بعض السلف الذين فسروا هذا التفسير‪ِ :‬‬
‫حفظوا القرآن وكانوا من أهل القرآن وليس عموم املؤمنين‪ ،‬فإنهم يحفظون من الرد إلى‬
‫أرذل العمر‪ ،‬ولذلك قال بعضهم‪ :‬ال يعرف رجل من أهل القرآن رد إلى أرذل العمر‪ ،‬يعني‪ :‬ال‬
‫يعرف رجل من أهل القرآن على وجه الحقيقة وليس مجرد ترداد اْللفاظ رد إلى أرذل‬
‫العمر‪ِ .‬‬
‫لكن ما قدمناه أولى من هذا التفسير؛ ْلنه هو الظاهر وهللا أعلم‪ ،‬وشيخنا الشيخ ابن‬
‫عثيمين يرى أن اآلية تدل على املعنيين‪ ،‬ويرى أن هذا من اختالف التنوع وليس من‬
‫اختالف التضاد‪ ،‬لكن يعني اْلظهر وهللا أعلم هو اْلول ْلن السياق يدل عليه‪ِ ِ.‬‬
‫في أسفل سافلين أي‪ :‬أسفل النار موضع العصاة اْلتمردين على ربهم‪.‬‬
‫إال من من هللا عليه باإليمان والعمل الصالح واْلخَّلق الفاضلة العالية فلهم بذلك‬
‫اْلنازل العالية وأجر غير ممنون؛ أي‪ :‬غير مقطوع‪ ،‬بل لذات متوافرة وأفراح متواترة‪،‬‬
‫ونعم متكاثرة في أبد ال يزول‪ ،‬ونعيم ال يحول‪ ،‬أكلها دائم وظلها‪ِ ِ.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫﴿غ ْي ُر َم ْمنو ٍن﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬غير مقطوع كما قال الشيخ‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬غير منقوص‪ ،‬يعني ال ينقص‪ِ .‬‬
‫وكال املعنيين صحيح‪ ،‬فنعيم الجنة ال يفنى وال يعدم وال ينقطع وال لحظة وال ينقص أبدا‪،‬‬
‫ال من جهة ذاته وال من جهة التنعم به‪ِ .‬‬
‫اإلنسان في الدنيا إذا أوتي نعيما هذا النعيم سينقص‪ ،‬إما بذاته فينقص ويقل‪ ،‬وإما‬
‫بالتنعم به‪ ،‬فإن اإلنسان إذا طال تنعمه بهذا النعيم يألفه حتى ال يشعر بالنعيم وال يشعر‬
‫بلذته‪ ،‬وهذا ال يكون في الجنة‪ ،‬بل أهل الجنة ‪-‬نسأل هللا أن يجعلنا منهم‪ -‬في كل لحظة‬
‫كأن النعيم جديد‪ ،‬ال يملونه أبدا وال يفقدونه أبدا وال يفقدون منه شيئا‪ ،‬وفوق هذا هم‬

‫‪340‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫آمنون من هذا كله‪ ،‬يعني قلوبهم مطمئنة بهذا ال يخافون ذهابا له وال نقصا وال انقطاعا‬
‫وهذا من تمام نعيمهم‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬
‫﴿ف َما ُي َكذ ُب َك َب ْع ُ‬
‫الد ِين﴾ أي‪ :‬أي ش يء يكذبك أيها اإلنسان بيوم الجزاء على اْلعمال؟!‬
‫ِ ِ‬‫ب‬ ‫د‬ ‫ِ‬
‫قد رأيت من آيات هللا الكثيرة ما يحصل لك به اليقين ومن نعمه ما يوجب عليك أال‬
‫تكفر بش يء منهاِ ِ‬
‫هذا قول اْلكثر أن الدين هو الجزاء على اْلعمال يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬الدين هنا هو ما جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬واملعنى ما‬
‫الذي يجعلك أيها اإلنسان تكذب بما جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم وقد أقمنا لك‬
‫البراهين الساطعة واْلدلة القاطعة على صدق محمدِصلى هللا عليه وسلم وعلى صحة ما؟ ِ‬
‫جاء به واآلية تحمل على اْلمرين‪ِ :‬‬
‫‪ -‬تحمل على الدين الذي جاء به النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وعلى الدين الذي هو الجزاء باْلعمال وهو مما جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫فإن محمداِصلى هللا عليه وسلم تال علينا في كتاب ربنا هذا وأخبرنا بالسنة تفاصيل كثيرة‬
‫عن هذا اْلمر‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ ْ‬
‫س الل ُه ِبأ ْحك ِم ال َح ِاك ِمين﴾ فهل تقتض ي حكمته أن يترك الخلق سدى ال يؤمرون‬ ‫﴿ألي‬
‫وال ينهون وال يثابون وال يعاقبون‬
‫س﴾ هذا استفهام‪ ،‬وهو استفهام تقريري‪ ،‬واالستفهام التقريري يرد على اْلمر القطعي‬ ‫﴿ َأ َل ْي َ‬
‫الذي ال يمكن أن ينكر‪ ،‬فهذا تقرير لهذه القضية الكلية القطعية وهي أن هللا عز وجل‬
‫أحكم الحاكمين‪.‬‬
‫و(أحكم) عند اْلكثر من الحكمة‪ ،‬والحكمة هي اإلتقان ووضع كل ش يء في موضعه‪ ،‬وهللا‬
‫عز وجل أحكم الحاكمين‪ ،‬وكل من أوتي حكمة فحكمته ناقصة وهي هبة من هللا‪ ،‬وحكمة‬
‫هللا تامة كاملة‪ِ .‬‬
‫فاهلل أحكم الحاكمين‪ ،‬هو سبحانه اْلحكم‪ ،‬وهو الواهب للحكمة‪ ،‬فالحكمة رزق من هللا‬
‫عز وجل‪ِ .‬‬

‫‪341‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ ْ‬
‫س الل ُه ِبأ ْحك ِم ال َح ِاك ِمين﴾ أي‪ :‬أن‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪( :‬أحكم) هنا من الحكم‪﴿ ،‬ألي‬
‫حكم هللا محيط بالجميع‪ ،‬وهو الحكم القدري‪ ،‬أن حكم هللا القدري ال يخرج عنه ش يء‪،‬‬
‫وهذا يتضمن التهديد والوعيد للكفار‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬أحكم من الحكم ولكنه الحكم الشرعي‪ ،‬فشريعة هللا تامة ال‬
‫نقص فيها‪ ،‬واْلدلة عليها براهين ساطعة وأدلة قاطعة‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬فهل تقتض ي حكمته أن يترك الخلق سدى ال يؤمرون وال ينهون وال يثابون وال‬
‫يعاقبون‪ ،‬أم الذي خلق اإلنسان أطوارا بعد أطوار وأوصل إليهم من النعم والخير والبر‬
‫ما ال يحصونه ورباهم التربية الحسنة‪ِ .‬‬
‫وكلفهم؛ أهم قضية أنه كلفهم وأمرهم ونهاهم‪ِ ِ.‬‬
‫البد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم وغايتهم التي إليها يقصدون ونحوها يؤمون‪ِ ِ.‬‬
‫من فوائد هذه السورة الكبرى وحكمها العظمى‪ِ :‬‬
‫‪ -‬بيان أن املخلوقات تتفاضل‪ ،‬فمنها ما يتفاضل في فضل ونقص كسائر الناس والثمار‪،‬‬
‫فهنا التين والزيتون من أفضل الثمار دلنا على ذلك أن هللا أقسم بها‪ ،‬وهللا ال يقسم إال‬
‫بعظيم فاضل‪ ،‬ومنها ما يتفاضل في كمال ال نقص فيه كاْلنبياء عليهم الس ِالم‪ ،‬وكال اْلمرين‬
‫موجود في اآليات؛ ْلن هللا عز وجل أقسم بالتين والزيتون وهذه مخلوقات تتفاضل بين‬
‫كمال ونقص‪ ،‬وأقسم بهذه اْلراض ي؛ واْلراض ي تتفاضل بين كمال ونقص‪ ،‬وتضمن هذا‬
‫القسم باْلنبياء الثالثة عيس ى عليه السالم وموس ى عليه السالمِومحمدِصلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وا ِْلنبياء يتفاضلون في الكمال بال نقص‪ ،‬فال نقص في نبي من اْلنبياء‪ ،‬ولكنهم‬
‫يتفاضلون في الكمال‪ِ .‬‬
‫ولذلك التفضيل بين اْلنبياء إن كان على وجه التفاضل في الكمال جائز ومشروع‪ ،‬فنقولِ‪:‬‬
‫أفضل اْلنبياء أولوا العزم‪ ،‬وأفضل أولوا العزم محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أما إذا كان‬
‫على وجه التنقص لنبي من اْلنبياء فإنه ال يجوز‪ ،‬ال يجوز أن تقو ِل‪ :‬محمد صلى هللا عليه‬
‫وسلم أفضل من موس ى عليه السالم إذا كان قصدك أن تتنقص موس ى عليه السالم‪ ،‬أما‬
‫إذا كان قصدك أن تذكر كمال محمدِصلى هللا عليه وسلم فإنه يجوزِ‪ِ .‬‬

‫‪342‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬ومن فوائد هذه السورة بيان أن اْلرض إنما تفضل بوجود الصالحين فيها‪ ،‬فمكة شرفت‬
‫بوجود محمدِصلى هللا عليه وسلم فيها‪ ،‬وبوجود بيت هللا فيها الذي يؤمه الصالحون‪،‬‬
‫وبوجود إسماعيل فيها من قبل عليه السالم‪ ،‬وفلسطين شرفت بوجود عدد كبير من‬
‫اْلنبياء فيها عليهم السالم‪ ،‬ومنهم عيس ى عليه السالم‪ ،‬وطور سيناء شرف بوجود م ِوس ى‬
‫عليه السالم عنده عندما نبئ عليه السالم‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن فوائد هذه السورة أن شرف اإلنسان وعزه وعلو مقامه إنما يكون بقربه من هللا‪،‬‬
‫فليس العز السلطة والجاه‪ ،‬وليس العز القوة والبطش‪ ،‬وليس العز املال والغنى‪ ،‬وإنما العز‬
‫حقا وصدقا القرب من هللا‪ ،‬فمن اقترب من هللا عز ِوجل فإن هللا يرفعه في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ويكون كريما في الدنيا ولو ابتلي هو أكرم من غيره‪ ،‬ويكون مكرما في اآلخرة عند البعث يكون‬
‫مؤمنا‪ ،‬وعند الجزاء يكون من أهل الجنة‪ ،‬وعلى املؤمن أن يدرك هذه الحقيقة فيسعى في‬
‫قربه من هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫كثير من الناس يقيمون الناس خطأ ِويظهر هذا تماما عندما يتقدم رجل لخطبة امرأة‪،‬‬
‫فإن بعض الناس ينظرون إلى الجاه‪ ،‬وبعض الناس ينظرون إلى املال والوظيفة‪ ،‬وهذا ليس‬
‫هو التقييم الصحيح وإنما التقييم الصحيح هو امليزان الشرعي ((إذا أتاكم من ترضون‬
‫دينه وخلقه فزوجوه))‪ ،‬كلما كان العبد أقرب إلى هللا وأقرب إلى رسول هللاِصلى هللا عليه‬
‫وسلم بحسن الخلق كان أعز وأكرم وأشرف‪ ،‬ويشرف اإلنسان بالقرب منه‪ ،‬ولذلك ينبغي‬
‫على العبد أن يحرص على أن يكون من الصالحين وعلى أن يكون مع الصالحين‪ ،‬أن يكون‬
‫من الصالحين فيحرص على أن يكون قريبا من هللا متقربا إلى هللا‪ ،‬لكي يكون عزيزا ِرفيع‬
‫املقام‪ ،‬وليكون مع الصالحين فإنهم أهل العزة والرفعة وعلو املقام‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪343‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة العلق‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم ِ‬
‫َّ‬ ‫َْْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ َ َ‬ ‫﴿اق َرْأ ب ْ‬
‫اسم َ ب َك َّالذي َخ َل َ‬ ‫ْ‬
‫نسان ِم ْن َعل ٍق (‪ )2‬اق َرأ َو َر ُّب َك اْلك َر ُم (‪ )3‬ال ِذي‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫)‬ ‫‪1‬‬ ‫(‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ‬
‫نسان َما ل ْم َي ْعل ْم) ‪ِ .﴾ )5‬‬ ‫اإل‬
‫علم ِبالقل ِم (‪ )4‬علم ِ‬
‫هذه السورة التي هذا الجزء منها ‪-‬وهو أولها‪ -‬أول ما نزل من القرآن‪ ،‬نزل في غار حراء أول‪،‬‬
‫ما نزل من القرآن هي هذه اآليات الخمس في أول هذه السورة‪ ،‬فيها يأمر هللا عز وجل‬
‫نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا لذلك بأن يقرأ مستعينا بربه ومتبركا باسمه؛ أن يقرأ‬
‫باسم ربه‪ ،‬وربه سبحانه هو الذي خلقه ورباه بالنعم ويدله على القيم‪ ،‬وهو سبحانه الذي‬
‫ومن أكرم خلقه اإلنسان الذي خلقه ربه من علق؛ من دم‬
‫خلق كل ش يء فقدره تقديرا‪ِ ،‬‬
‫غليظ يعلق في الرحم‪ِ .‬‬
‫ثم كرر هللا أمر نبيهِصلى هللا عليه وسلم بالقراءة‪ ،‬وذكر له أن ربه الذي رباه بالنعم ودبر‬
‫أجساد بني آدم يدلهم على تربية أرواحهم‪ ،‬وعلى إصالح قلوبهم وأنفسهم بإنزال الكتب على‬
‫الرسل‪ُ ،‬‬
‫وخيرها ما ابتدأ نزوله عند هذه اآليات وهو القرآن‪ ،‬فهو سبحانه الرب اْلكرم‬
‫املتصف بكمال الكرم‪ ،‬ومن كمال كرمه أنه ِّ‬
‫كرم اإلنسان بأن جعله قابال للعلم‪ ،‬من كرمه‬
‫ِّ‬
‫وعظيم كرمه سبحانه أنه كرم اإلنسان فجعله قابال للعلم‪ ،‬وعلمه ما لم يكن يعلم‪ ،‬وعلمه‬
‫القراءة والكتابة التي هي طريق ضبط العلم وتحصيل العلم‪ ،‬ومن كرمه سبحانه أنه أنعم‬
‫على اإلنسان بالقلم الذي يكتب به العلم‪ ،‬والقلم نعمة عظمى على اإلنسان لوال أن هللا‬
‫أكرم الناس بأن أنعم عليهم بالقلم لضاع علمهم‪ ،‬فتلك نعمة عظمى‪ِ .‬‬
‫فهذا هو التفسير اإلجمالي لهذا القسم اْلول لهذه السورة ثم نعود ملا كتبه الشيخ عبد‬
‫الرحمن بن سعدي فنقرأ ونعلق عليه‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمة هللا عليه‪ :‬هذه السورة أول السور القرآنية نزوال على رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة إذ كان ال يدري ما الكتاب وال اإليمان‪،‬‬
‫فجاءه جبريل عليه الصَّلة والسَّلم بالرسالة‪ ،‬وأمره أن يقرأ فامتنع وقال‪ :‬ما أنا بقارئ‪،‬‬
‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫فلم يزل به حتى قرأ‪ ،‬فأنزل هللا عليه‪ْ ﴿ :‬اق َرْأ ب ْ‬
‫اس ِم َرِب َك ال ِذي خل َق﴾‪ِ ِ.‬‬ ‫ِ‬
‫‪344‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫في حديث عائشة رض ي هللا عنها ((أن الحق جاء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم وهو متعبد‬
‫في غار حراء‪ ،‬فجاءه اْللك وهو جبريل عليه السَّلم فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقال النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ :‬ما أنا بقارئ))‪ ،‬ليس رفضا وإنما يخبر عن حاله أنه ال يقرأ‪ ،‬النبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم أمي ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬قال‪(( :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫فأخذني وغطني حتى بلغ مني الجهد))‪ ،‬ضمه ضما شديدا‪(( ،‬ثم أرسلني‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪،‬‬
‫قلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬قال‪ :‬فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫﴿اق َرْأ ب ْ‬
‫اس ِم َرِب َك‬
‫ْ‬
‫اقرأ‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ِ‬
‫َّ ْ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َّ‬
‫نسان ِم ْن َعل ٍق (‪ )2‬اق َرأ َو َر ُّب َك اْلك َر ُم (‪ )3‬ال ِذي َعل َم ِبالقل ِم (‪)4‬‬ ‫اإل‬
‫ال ِذي خلق (‪ )1‬خلق ِ‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ َ‬
‫نسان َما ل ْم َي ْعل ْم (‪ ،﴾)5‬وهذا الحديث متفق عليه‪ ،‬فكان أول ما سمعه النبيِصلى‬ ‫اإل‬
‫علم ِ‬
‫هللا عليه وسلم من الوحي هذه اآليات الخمس‪ِ ِ.‬‬
‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫﴿ ْاق َرْأ ب ْ‬
‫اس ِم َرِب َك ال ِذي خل َق﴾ عموم الخلق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عموم الخلق‪ ،‬من أين أخذنا هذا العموم؟ ِ‬
‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫من حذف املتعلق‪ ،‬فإن هللا عز وجل قال‪ْ ﴿ :‬اق َرْأ ب ْ‬
‫اس ِم َرِب َك ال ِذي خل َق﴾ خلق ماذا ما‬ ‫ِ‬
‫ذكره‪ ،‬وهذا يدل على العموم‪ ،‬فاهلل سبحانه خالق كل ش يء سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ثم خص اإلنسان وذكر ابتداء خلقه من علق‪ِ ِ.‬‬
‫فهذا من أعظم ما خلقه هللا‪ ،‬وفي خلقه آيات عجيبة تقدمت في تفسير السور السابقة‪،‬‬
‫ومن تلك اآليات أنه ُيخلق في الرحم بأن يكون علقة‪ ،‬والعلقة هي الدم الغليظ الذي يعلق‬
‫بالرحم‪ِ .‬‬
‫ولذلك قال العلماء‪ :‬اإلنسان خلق من دم‪ ،‬ويحيى بالدم‪ ،‬ال حياة له إال بالدم‪ ،‬وهذا جزء‬
‫من خلق اإلنسان‪ ،‬اإلنسان خلق من نطفة هذا الجزء اْلول‪ ،‬وخلق من علق وهذا جزء‬
‫من خلق اإلنسان‪ ،‬وفي هذا آيات عجيبة عظيمة‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا فالذي خلق اإلنسان واعتنى بتدبيره البد أن يدبره باْلمر والنهي وذلك‬
‫بإرسال الرسل وإنزال الكتب‪ ،‬ولهذا أتى بعد اْلمر بالقراءة بخلقه لإلنسان‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َْْ‬ ‫ْ ْ‬
‫ثم قال‪﴿ :‬اق َرأ َو َر ُّب َك اْلك َر ُم﴾ أي‪ :‬كثير الصفات واسعها‪ ،‬كثير الكرم واإلحسان واسع‬
‫الجود الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم‪ِ ِ.‬‬
‫(اقرأ) الثانية قال بعض العلماء‪ :‬هي تكرار لـ (اقرأ) اْلولى تأكيدا‪ ،‬واملقصود‪ :‬اقرأ القرآن‬
‫أصال والعلوم فرعا‪ِ .‬‬
‫والقراءة ال يشترط أن تكون بمعرفة الحروف‪ ،‬ولذلك كان النبيِصلى هللا عليه وسلم ِ‬
‫يقرأ‬
‫القرآن ولكنه ال يعرف الحروفِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪( :‬اقرأ) الثانية غير اْلولى‪ ،‬فـ (اقرأ) اْلولى؛ أي‪ :‬أنظر في آيات هللا‬
‫الكونية وأموره القدرية‪ ،‬فهي أقرب إلى العلم قراءة أقرب إلى العلم‪ ،‬واقرأ الثانية؛ أي‪ :‬اقرأ‬
‫القرآن‪ِ .‬‬
‫والظاهر وهللا أعلم أنهما بمعنى واحد‪ِ ِ.‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ َ‬
‫نسان َما ل ْم َي ْعل ْم﴾ فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ال يعلم شيئا‪،‬‬‫اإل‬
‫وعلم بالقلم‪﴿ ،‬علم ِ‬
‫وجعل له السمع والبصر والفؤاد‪ ،‬ويسر له أسباب العلم‪ ،‬علمه القرآن وعلمه الحكمة‬
‫وعلمه بالقلم الذي به تحفظ العلوم‪ ،‬وتضبط الحقوق‪ ،‬وتكون رسَّل للناس تنوب‬
‫مناب خطابهم‪ ،‬فلله الحمد واْلنة الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي ال يقدرون لها‬
‫على جزاء وال شكور‪ ،‬ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق‪.‬‬
‫الر ْج َع ٰى(‪ِ .﴾ )8‬‬ ‫ان َل َي ْط َغ ٰى (‪َ )6‬أن َّر ُآه ْ‬
‫اس َت ْغ َن ٰى (‪ )7‬إ َّن إ َل ٰى َرب َك ُّ‬ ‫َ َّ َّ ْ َ َ‬
‫اإلنس‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫﴿كَّل ِإن ِ‬
‫يخبر هللا عز وجل في هذه اآليات أنه ما كان يليق باإلنسان بعد أن خلقه هللا عز وجل في‬
‫أحسن تق ِويم وأنعم عليه بالنعم أن يتجاوز الحد الذي وضعه له ربه والذي ينبغي أن‬
‫يكون عليه‪ ،‬فإن جنس اإلنسان يطغى ويتجاوز الحد بأن يكفر بربه‪ ،‬بل حق اإلنسان‬
‫العاقل أن يكون شاكرا لنعم ربه‪ ،‬ولكن هذا ال يكون من كثير من الناس‪ ،‬فإن كثيرا من‬
‫الناس إذا رأوا أن هللا أغناهم وأنعم عليهم يطغون ويتجاوزون الحد‪ ،‬ويظنون أنهم إنما‬
‫حصلوا هذا بذكائهم وقدرتهم وعملهم‪ِ .‬‬
‫ثم هدد هللا عز وجل الطغاة بالكفر والعصيان أنهم راجعون إلى هللا ومحاسبون على ما‬
‫يعملونِ‪ِ .‬‬

‫‪346‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فهذا هو املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات‪ِ ِ.‬‬


‫قال رحمه هللا‪ :‬ولكن اإلنسان لجهله وظلمه إذا رأى نفسه غنيا طغى وبغى وتجبر عن‬
‫الهدى‪ ،‬ونس ي أن لربه الرجعى ولم يخف الجزاءِ‪ِ .‬‬
‫َ َّ َّ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫نسان ل َيطغ ٰى﴾ كَّل هنا قال بعض العلماء معناها حقا ويقينا إن اإلنسان‬ ‫اإل‬
‫﴿كَّل ِإن ِ‬
‫ليطغى‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معناها ما كان ينبغي لإلنسان أن يطغى‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َ َّ َّ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫نسان ل َيطغ ٰى﴾ اإلنسان؛ أي‪ :‬جنس اإلنسان هذا حاله أنه يطغى إذا أنعم عليه‬ ‫اإل‬
‫﴿كَّل ِإن ِ‬
‫إال من أكرمه هللا باإليمان‪ ،‬فإنه يعلم أنه أفقر الخلق إلى هللا‪ ،‬وأنه لوال هللا ما ِّ‬
‫حصل نعمة‪،‬‬
‫ولوال هللا ما تنعم بنعمة‪ ،‬فيزداد ذال هلل‪ ،‬ويزداد عبادة هلل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َ َّ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َّ َّ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫استغن ٰى﴾ أن رأى ربه أغناه وجعله يستغني عن غيره‬ ‫نسان ل َيطغ ٰى (‪ )6‬أن رآه‬ ‫اإل‬
‫﴿كَّل ِإن ِ‬
‫بما أوتي من النعم‪ ،‬لكنه يطغى وال يفكر في هذا‪ ،‬ويظن املسكين أنه إنما استغنى لنسبه أو‬
‫النتسابه لدولة ما‪ ،‬أو لشرفه أو نحو ذلك‪ ،‬فال يشكر هللا‪ ،‬فال يقر بأن النعمة من هللا‪ ،‬وال‬
‫يتحدث بهذا‪ ،‬وال يعمل بالنعمة في إرضاء هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫الر ْج َع ٰى﴾ هذا تهديد ملن طغى بأنه سيرجع إلى هللا‪ ،‬وهناك ال طغيان ولكنه‬ ‫﴿إ َّن إ َل ٰى َرب َك ُّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫الجزاء والندم حيث ال ينفع الندم‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ْ ً َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫صل ٰى (‪ )10‬أ َرأ ْيت ِإن كان َعلى ال ُه َد ٰى (‪ )11‬أ ْو أ َم َر‬ ‫﴿أ َرأ ْيت ال ِذي َينه َٰى (‪ )9‬عبدا ِإذا‬
‫َ َّ َ َّ َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ََ‬ ‫َ َّ َ َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫ِبالتق َو ٰى (‪)12‬أ َرأ ْيت ِإن كذ َب َوت َول ٰى (‪ )13‬أل ْم َي ْعلم ِبأ َّن الل َه َي َر ٰى (‪ )14‬كَّل ل ِئن ل ْم َينت ِه‬
‫َ َ ْ ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ ً َّ‬
‫الزَبا ِن َية‬ ‫اطئ ٍة (‪ )16‬فل َي ْد ُع ن ِاد َي ُه (‪ )17‬سندع‬ ‫اصي ٍة ك ِاذب ٍة خ ِ‬ ‫اصي ِة (‪ )15‬ن ِ‬
‫الن َ‬
‫لنسفعا ِب ِ‬
‫َْ‬
‫اس ُج ْد َواقت ِرب ۩ (‪ِ .﴾)19‬‬ ‫(‪َ )18‬ك ََّّل َال ُتط ْع ُه َو ْ‬
‫ِ‬
‫في هذه اآليات يخاطب هللا عز وجل املخاطب‪ :‬أرأيت أيها املخاطب ذلكم الكافر الذي طغى‬
‫فكان فاسدا في نفسه وهو أبو جهل؛ ال يرض ى بأن يهتدي غيره‪ ،‬فمع فساده في ذاته هو‬
‫رافض أن يهتدي غيره‪ ،‬بل يتهدد نبينا العبد الصالحِصلى هللا عليه وسلم؛ ْلنه عبد هللا‬
‫وحده وصلى لربه‪ ،‬ويزعم منتفخا متكبرا أنه سيطأ على رقبته عندما يجده ساجدا في‬

‫‪347‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫صالته في املسجد الحرام‪ِ .‬‬


‫ألم يعلم ذلك الطاغي املتجاوز الحد بأن هللا يراه وقادر على أخذه فيخاف عاقبة ما يفعل؟! ِ‬
‫أرأيت أيها املخاطب إن كان محمدِصلى هللا عليه وسلم على الهدى واالستقامة في ذاته‪،‬‬
‫فهو صالح في ذاتهِصلى هللا عليه وسلم كما هو ظاهر من حاله‪ ،‬أو كان آمرا الناس‬
‫بالتقوى‪ ،‬كان آمرا الناس بالهدى والدين فهو صالح في نفسه‪ ،‬داع عباد هللا إلى الصالح‪،‬‬
‫أيليق بعاقل أن ينهاه عن ذلك؟! ِ‬
‫لكن هذا الكافر الطاغي املتكبر الفاسد مطموس البصيرة‪ ،‬مختوم على قلبه‪ ،‬أرأيت أيها‬
‫املخاطب أن هذا الكافر الذي يتوعد رسولنا الصالحِصلى هللا عليه وسلم مكذب لرسولنا‬
‫ولوحينا‪ ،‬معرض عن الحق كما هو حاله‪ ،‬ألم يوقن بما دلت عليه اْلدلة املتلوة واْلدلة‬
‫املشاهدة من أن هللا خلق الخلق ويراهم ويطلع عليهم ويقدر على أخذ الظلمة منهم‪ِ .‬‬
‫كال؛ ليس اْلمر كما زعم ذلك الكافر الطاغية أنه قوي قادر على فعل ما يريد برسولناِصلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فإنه ليس كذلك بل هو من أضعف الخلق وإن لم ينته عن هذا لنأخذنه‬
‫مجذوبا من مقدمة رأسه في الدنيا ويوم القيامة‪ِ ِ.‬‬
‫لئن لم ينته ذلك الكافر الباغي الفاسد املفسد عما يفعل لنأخذنه مجذوبا بشدة وإهانة من‬
‫مقدمة رأسه في الدنيا بأن تختطفه املالئكة‪ ،‬ويوم القيامة بأن يجذب بمقدمة رأسه إلى‬
‫النار‪ ،‬فإنه كذاب ومن كذبه زعمه أنه قادر على إهانة محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬خاطئ‬
‫يفعل القبائح عامدا‪ ،‬وقد كان يزعم أنه أقوى أهل مكة وأكثر أهل مكة أتباعا‪ ،‬وأن قومه‬
‫أقوياء كثيرون‪ ،‬وأنه سيدعوهم للنيل من محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فتوعده هللا‬
‫َ َ ْ ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫الزَبا ِن َية (‪ ﴾)18‬مالئكة النار لتأخذه وتختطفه قبل أن يصل‬ ‫﴿فل َي ْد ُع ن ِاد َي ُه (‪ )17‬سندع‬
‫إلى النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وليس اْلمر كما زعم‪ ،‬فإنه غير قادر على منع النبيِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فال تخف منه أيها‬
‫النبي الكريم‪ ،‬وال تلتفت لكالمه وال تسمع منه‪ ،‬بل استمر مكثرا من الصالة مكثرا من‬
‫السجود متقربا إلى هللا عز وجل‪ ،‬وأقرب ما يكون العبد إلى هللا وهو ساجد فاستمر في‬
‫صالتك وسجودك وال تلتفت إلى هذا الكافر الطاغي الباغي املهين‪ِ .‬‬

‫‪348‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذا املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذا الجزء اْلخير‪ ،‬ثم نرجع إلى ما ذكره الشيخ في‬
‫التفسير التفصيلي‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول هللا لهذا اْلتمرد العاتي‪ :‬أرأيت أيها الناهي للعبد إذا صلى‪ ،‬إن‬
‫كان العبد اْلصلي على الهدى العلم بالحق والعمل به‪ ،‬أو أمر غيره بالتقوى‪ِ ِ.‬‬
‫روى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رض ي هللا عنه أنه قال‪ :‬قال أبو جهل‪ :‬هل يعفر‬
‫محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬والالت والعزى لئن رأيته يفعل ذلك ْلطأن على‬
‫رقبته أو ْلعفرن وجهه في التراب‪ ،‬فأتى رسول هللاِصلى هللا عليه وسلم وهو يصلي‪ ،‬فما‬
‫فجئهم منه إال وهو ينكص على عقبيه‪ ،‬ويتقي بيديه فقيل له‪ :‬مالك‪ ،‬فقال إن بيني وبينه‬
‫لخندقا من نار وهوال وأجنحة‪ ،‬فقال النبيِصلى هللا عليه وسلم‪(( :‬لو دنى مني الختطفته‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫اْلَّلئكة عضوا عضوا))‪ ،‬قال‪﴿ :‬أ َرأ ْيت ِإن كان﴾ العبد املصلي الذي هو النبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬
‫ِ﴿ َعلى ال ُه َد ٰى﴾ فكان صالحا في نفسه‪ِ .‬‬
‫َّ ْ‬ ‫َ َ‬
‫﴿أ ْو أ َم َر ِبالتق َو ٰى﴾ (أو) هنا على بابها للتنويع‪ ،‬يعني أنه صالح في نفسه ومصلح لغيره‬
‫بالدعوة إلى الحقِصلى هللا عليه وسلم‪ِ ِِ.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يحسن أن ينهى من هذا وصفه؟ أليس نهيه من أعظم اْلحادة هلل واْلحاربة‬
‫للحق؟ فإن النهي ال يتوجه إال ْلن هو في نفسه على غير الهدى أو كان يأمر غيره بخَّلف‬
‫التقوى‪.‬‬
‫أرأيت أيها املخاطب الصالح لسماع الخطاب‪ِ ِ.‬‬
‫أرأيت إن كذب الناهي بالحق وتولى عن اْلمر‪ِ ِ.‬‬
‫فأعرض عن الحق‪ِ ِ.‬‬
‫أما يخاف هللا ويخش ى عقابه؟ ألم يعلم بأن هللا يرى ما يعمل ويفعل؟‬
‫َ َّ َ َّ َ‬
‫ثم توعده إن استمر على حاله فقال‪﴿ :‬كَّل ل ِئن ل ْم َينت ِه﴾‪ِ .‬‬
‫(كَّل) هنا قال بعض أهل العلم‪ :‬بمعنى حقا ويقينا أنه إن لم ينته سيكون هذا‪ِ .‬‬

‫‪349‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هي للردع والزجر‪ ،‬كال هنا للردع والزجر‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ ْ َ ً َّ‬ ‫َ َّ َ َّ ْ َ َ‬
‫اص َي ِة﴾؛ أي‪ :‬لنأخذن بناصيته أخذا‬ ‫الن‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ا‬‫ع‬ ‫ف‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫﴿‬ ‫ويفعل‪،‬‬ ‫ل‬ ‫يقو‬ ‫عما‬ ‫﴾‬ ‫ه‬
‫﴿كَّل ل ِئن لم ي ِ‬
‫نت‬
‫َ َ َ َ َ َ‬
‫اطئ ٍة﴾؛ أي‪ :‬كاذبة في قولها خاطئة في‬
‫اصي ٍة ك ِاذب ٍة خ ِ‬
‫عنيفا‪ ،‬وهي حقيقة بذلك‪ ،‬فإنها ﴿ن ِ‬
‫فعلها‪ِ ِ.‬‬
‫كاذبة كثيرة الكذب‪ ،‬واملقصود صاحبها‪ ،‬ومن كذبه ما قاله هنا‪ِ .‬‬
‫خاطئة؛ أي‪ :‬فاعلة للقبائح عن عمد‪ ،‬وفرق بين الخاطئ واملخطيء‪ ،‬املخطيء هو الذي‬
‫يفعل الش يء بدون قصد‪ ،‬والخاطئ هو الذي يفعل الش يء عمدا‪ ،‬فهذا خاطئ وليس مخطئا‬
‫يفعل القبائح عن عمد‪ِ .‬‬
‫َْ‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى‪ :‬قوله‪﴿ :‬فل َي ْد ُع﴾ هذا الذي‬
‫حق عليه العذاب‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿ن ِاد َي ُه﴾ أي‪ :‬أهل مجلسه وأصحابه ومن حوله ليعينوه على ما نزل به‪ِ ِ.‬‬
‫فليدع ناديه؛ أي‪ :‬ليدع مجالسيه ومناصريه وقومه ليعينوه على ما نزل به من وعيد هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ ْ ُ َّ َ‬
‫الزَبا ِن َية﴾؛ أي‪ :‬خزنة جهنم ْلخذه وعقوبته‪ِ ِ.‬‬ ‫﴿سندع‬
‫إن دعا ناديه متقويا بهم فإنا سندع الزبانية وهم خزنة جهنم ليأخذوه‪ ،‬قال ابن عباس‬
‫رض ي هللا عنهما‪(( :‬فوهللا لو دعا ناديه ْلخذته زبانية هللا)) رواه الترمذي وصححه اْللباني‪ِ .‬‬
‫فلو أنه كما زعم دعا ناديه ليتقوى على رسول هللاِصلى هللا عليه وسلم ْلمر هللا الزبانية‬
‫أن تتخطفه‪ ،‬ولكان قطعا في أيدي أولئك املالئكة‪ِ ِ.‬‬
‫فلينظر أي الفريقين أقوى وأقدر‪ ،‬فهذه حالة الناهي وما توعد به من العقوبة‪.‬‬
‫َ َّ َ‬
‫وأما حالة اْلنهي فأمره هللا أال يصغي إلى هذا الناهي وال ينقاد لنهيه فقال‪﴿ :‬كَّل ال‬
‫ُ‬
‫ت ِط ْع ُه﴾؛ أي‪ :‬فإنه ال يأمر إال بما فيه الخسار‪.‬‬
‫َْ‬
‫اس ُج ْد﴾ لربك‪َ ﴿ ،‬واقت ِرب﴾) منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات‪،‬‬ ‫﴿ َو ْ‬

‫فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه‪ ،‬وهذا عام لكل ناه عن الخير ولكل منهي عنه‪ ،‬وإن‬
‫كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الصَّلة‬

‫‪350‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وعذبه وآذاه‬
‫وبهذا يتم تفسير هذه السورة‪ ،‬ننبه على بعض فوائد هذه السورة العظمى وحكمها الكلية‪ِ :‬‬
‫‪ -‬فمن تلك الفوائد أن العلم والقراءة والكتابة من أعظم النعم على الناس‪ ،‬وأن الناس‬
‫يشرفون بحسب منازلهم من العلم‪ ،‬وأن كتابة العلم من أعظم ما ينبغي أن يعتني به طالب‬
‫العلم حتى يضبط العلم وحتى ال يتفلت عليه العلم‪ِ .‬‬
‫‪ -‬واْلمر الثاني‪ :‬أن اْلصل في اإلنسان الظلم والطغيان‪ ،‬السيما إذا كان في حال الرخاء وكان‬
‫في نعم‪ ،‬وال يسلم من هذا الحال الرديء إال أهل اإليمان فإنهم يسلمون من حال الطغيان‪ِ .‬‬
‫‪ -‬واْلمر الثالث‪ :‬أن من أعظم الفساد نهي العبد الصالح عن عمل الصالحات بمختلف‬
‫الحجج‪ ،‬فينبغي على املؤمن أن يربأ بنفسه من أن ينهى عبدا صالحا عن عمل صالح ثابت‬
‫يعمله‪ ،‬ومن ذلك مثال ما يقع من بعض اآلباء من نهيهم أبناءهم عن إعفاء اللحى‪ ،‬فإذا رأى‬
‫الوالد ابنه أعفى لحيته زجره عن هذا العمل ونهاه عن هذا العمل‪ ،‬وقال‪ :‬ملاذا تكون من‬
‫املتشددين؟ وإن هذا تشدد‪ ،‬وهذا ما ال يليق باملؤمن‪ ،‬فإن املعلوم املتيقن أن هذا من فعل‬
‫النبيِصلى هللا عليه وسلم بال شك وال ريب ومن فعل الصحابة أجمعين رضوان هللا عليهم‪،‬‬
‫فكون الشاب يعفي لحيته فإن هذا من الخير والعمل الصالح‪ ،‬لو لم يكن ذلك واجبا‪،‬‬
‫فكيف وقد علمنا باْلدلة الشرعية أن إعفاء اللحية واجب على الرجل‪ ،‬فينبغي على املؤمن‬
‫أن يربأ بنفسه من أن ينهى عبدا صالحا يعمل بهذا العمل الصالح‪ ،‬إن كان قد ترك هذا‬
‫الواجب بنفسه فال ينبغي أن يضيف إلى هذا سوءا بأن ينهى عبدا صالحا عن هذا العمل‬
‫الصالح‪ِ .‬‬
‫ومن ذلك أيضا أن بعض اآلباء إذا رأوا أبناءهم الذكور يحرصون على الصالة في املسجد‬
‫نهوهم عن ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال حاجة للمسجد‪ ،‬ملاذا هذا التشدد؟ صلي كما نصلي في البيت وال‬
‫تذهب إلى املسجد‪ ،‬فينهون عبدا صالحا عن عمل صالح ال شك فيه بإجماع العلماء‪ ،‬وإن‬
‫كان العلماء قد اختلفوا هل هو مستحب أو واجب والراجح أنه واجب‪ ،‬لكن العلماء‬
‫مجمعون على أنه عمل صالح‪ِ .‬‬

‫‪351‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فينبغي على كل مؤمن أن يربأ بنفسه من هذا اإلفساد العظيم‪ ،‬وهو نهي العبد الصالح‬
‫عن العمل الصالح الثابت الذي يزيده قربا من هللا عز وجل بمختلف الحجج‪ِ .‬‬
‫‪ -‬اْلمر الرابع‪ :‬أن من أعظم صالح العبد في نفسه أن يكون من املصلين‪ ،‬فمن أعظم‬
‫أمارات صالح العبد أن تجده من املصلين‪ ،‬معهم من الراكعين ومنهم‪ ،‬تجده حريصا على‬
‫صالته‪ ،‬فهذا من أعظم الصالح ومن أعظم أمارات وعالمات صالح العبد‪ِ .‬‬
‫‪ -‬واْلمر الخامس‪ :‬أن الخير للعبد املؤمن أن يكون صالحا في نفسه حريصا على إصالح غيره‬
‫ما أمكنه‪ ،‬فيحرص على الصالح‪ ،‬ويحرص على أن يأمر غيره بالتقوى فإن هذا من أعظم‬
‫املنازل وأشرفها وأكرمها وأعالها وأحالها وأجالها‪ ،‬فما أحلى من أن يقوم املؤمن بالصالح في‬
‫نفسه‪ ،‬وأن يحرص على إصالح غيره‪ ،‬والسيما اْلقارب ممن يكونون حوله من أصوله‬
‫وفروعه وحواشيه‪ ،‬فإن هذا من أعظم صلة الرحم‪ ،‬من أعظم صلة الرحم أن تحرص على‬
‫إهداء رحمك اإلرشاد إلى اْلعمال الصالحة والنهي عن املخالفات الشرعية بأسلوب لين‬
‫رقيق وبأسلوب يناسب من تخاطبه‪ِ .‬‬
‫اْلمر اْلخير‪ :‬أن هللا عز وجل ينصر أولياءه ويحفظ عباده الصالحين من حيث يشعرون‬
‫ومن حيث ال يشعرون‪ ،‬فإن مكر بهم أعداؤهم مكر هللا بأعدائهم‪ ،‬وهللا خير املاكرين‪ ،‬وإن‬
‫سعى جهال في الطعن فيهم وإسقاطهم عن منازلهم الشرعية حسدا من عند أنفسهم أو‬
‫حرصا على إبقاء ما يعتقدون في الساحة؛ ْلن ذلك ِّ‬
‫الخير يفسد عليهم مآربهم‪ ،‬فإن هللا عز‬
‫وجل يدافع عن الذين آمنوا ويحفظ الذين آمنوا‪ ،‬فال ينبغي للعبد الخير الصالح إن علم‬
‫أن الذي هو عليه خير أن يخاف من أحد أو يخش ى من مكر أحد‪ ،‬فإن هللا عز وجل يحفظ‬
‫أولياءه‪ ،‬وإذا كان الذي بينك وبين هللا عامرا وكنت على طريق صحيحة فاطمئن وتوكل على‬
‫هللا‪ ،‬والزم الحق الذي أنت عليه‪ ،‬وال تلتفتن إلى خوف من أحد‪ِ .‬‬
‫إن من املصائب أن يترك املسلم خيرا يعلمه إلرهاب أحد له أو لخوف من مكر أحد أن‬
‫يمكر به هنا أو هناك‪ ،‬فكن على يقين وتوكل على هللا واعلم أن هللا يحفظ أولياءه‪ ،‬وأن هللا‬
‫يحفظ عباده الصالحين من حيث يشعرون ومن حيث ال يشعرون‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪352‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة القدر‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ََْ ُ ْ َ ْ ٌَْ ْ َْ َ‬ ‫﴿إ َّنا َأ َنزْل َن ُاه في َل ْي َلة ْال َق ْدر (‪َ )1‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َما َل ْي َل ُة ْال َق ْ‬
‫ف ش ْه ٍر‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫خ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫ل‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫(‪َ )3‬ت َن َّز ُل ْاْلَ ََّل ِئ َك ُة َو ُّ‬
‫وح ِف َيها ِب ِإذ ِن َرِب ِهم ِمن ك ِل أ ْم ٍر (‪َ )4‬سَّل ٌم ِه َي َح َّت ٰى َمطل ِع‬ ‫الر ُ‬
‫َْ‬
‫الف ْج ِر(‪ِ .﴾)5‬‬
‫هذه السورة املدنية عند أكثر املفسرين ‪-‬والتي قال بعض العلماء إنها أول سورة نزلت‬
‫باملدينة‪ -‬يخبر هللا فيها بأمور عظيمة وبشارات كريمة‪ ،‬يخبر هللا فيها أنه سبحانه وتعالى أنزل‬
‫القرآن في ليلة القدر‪ ،‬فابتدأ نزوله في تلك الليلة املباركة في شهر رمضان املبارك الذي أنزل‬
‫فيه القرآن‪ ،‬وهي في ثلثه اْلخير‪ ،‬تلك الليلة الشريفة التي هي ليلة الحكم والتفصيل‬
‫والتقدير‪ ،‬ففيها يفرق كل أمر حكيم‪ ،‬فيها يقدر هللا عز وجل مقادير السنة التي تليها‪ُ ،‬ويعلم‬
‫املالئكة بذلك‪ ،‬فشأنها شأن عظيم‪ ،‬وهي ليلة ذات قدر وشرف عظيم وفضل كريم‪.‬‬
‫وهي ليلة قليلة الزمن فإنها ليلة في العام‪ ،‬وإن ساعاتها سريعة االنصرام‪ ،‬وعظم هللا شأنها‬
‫ََ ََْ َ َ َُ َْ‬
‫اك َما ل ْيلة الق ْد ِر﴾ فما أشعرك وما أعلمك ما ليلة القدر‪ ،‬إن شأنها‬
‫بقوله‪﴿ :‬وما أدر‬
‫عظيم‪ ،‬ومنزلتها جليلة‪ ،‬وثمارها مباركة‪ ،‬ومن عظم شأنها أنها خير للمؤمن من ألف شهر‪،‬‬
‫فهي تساوي في فضلها وأجورها وخيراتها وبركاتها للمؤمن ثالثا وثمانين سنة وثلثا‪ ،‬فمن‬
‫أكرمه هللا عز وجل بإحسان العمل فيها كان كأنه قد عمل في ثالث وثمانين سنة وثلث‬
‫السنة من حيث ما يحصل له من اْلجور ومن حيث ما يحصل له من الخيرات والبركات‪،‬‬
‫ففيها خير كثير للمؤمن ال يوجد مثله في ألف شهر بل تزيد‪ ،‬ليس منهن أو ليس فيهن ليلة‬
‫القدر‪ِ .‬‬
‫فعمل املؤمن إيمانا واحتسابا خير له من العمل في ألف شهر ليس فيهن ليلة القدر‪ِ .‬‬
‫ومن فضلها وشرفها ولفضلها وشرفها تهبط املالئكة من السماء إلى اْلرض أفواجا أفواجا‬
‫ويؤمنون على دعاء الناس‪ ،‬ويحفظون العباد في تلك الليلة‪ ،‬ومعهم أفضلهم‬‫في تلك الليلة‪ِّ ،‬‬
‫وأشرفهم جبريل عليه السالم‪ ،‬ونزولهم بأمر ربهم سبحانه وتعالى‪ ،‬ينزلون بكل أمر فيه خير‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وقد أبهم هذا الخير فهو مطلق عام يشمل أنواع الخيرات‪ِ .‬‬

‫‪353‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تلكم هللا الليلة املباركة ساملة للمؤمن من اْلذى‪ ،‬فال يصيبه فيها إال خير‪ ،‬حتى إن كتب‬
‫هللا عليه بالء في تلك الليلة فهو خير ال مصيبة‪ ،‬فهي ساملة من كل خير‪ ،‬واملسلم يسلم فيها‬
‫من وسوسة الشياطين كبارهم وصغارهم‪ ،‬وهي سالم فيكثر فيها السالم‪ ،‬يسلم املالئكة على‬
‫املؤمنين‪ ،‬ويسلم املالئكة بعضهم على بعض‪ِ .‬‬
‫تلكم الليلة من أول دخول الليل بدخول املغرب حتى يطلع الفجر كلها خير وبركة وسالم‬
‫للمؤمنين‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ثم نعود إلى التفسير التفصيلي‬
‫لهذه اآليات العظيمات املليئة بالبشارات للمؤمنين واملؤمنات‪ِ .‬‬
‫َّ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول تعالى مبينا لفضل القرآن وعلو قدره‪ِ ﴿ :‬إنا أنزلناه ِفي ليل ِة‬
‫َْ‬
‫الق ْد ِر﴾‪ِ ِ.‬‬
‫َّ َ ْ َ‬
‫﴿إنا أ َنزلن ُاه﴾ فاهلل عز وجل يعظم نفسه وهو العظيم سبحانه‬ ‫يقول ربنا سبحانه وتعالى‪ِ :‬‬
‫َّ َ ْ َ‬
‫﴿إنا أ َنزلن ُاه﴾ الضمير هنا يعود إلى القرآن مع أنه لم يسبق له ذكر في السورة‪،‬‬ ‫وتعالى‪ِ ،‬‬
‫وذلك جائز؛ ْلنه معلوم‪ ،‬فإنه ال يمتري أحد وال يرتاب مسلم عندما يسمع هذه اآليات في‬
‫أن املقصود هو القرآن‪ ،‬فلما كان معلوما بال مرية وال ريب وال شك جاز أن يعبر عنه‬
‫بالضمير مع عدم سبقه‪ِ ِ.‬‬
‫َ َ‬ ‫َّ َ ْ َ‬
‫كما قال تعالى‪ِ ﴿ :‬إنا أ َنزلن ُاه ِفي ل ْيل ِة﴾ مباركة‪ ،‬وذلك أن هللا ابتدأ بإنزال القرآن في‬
‫رمضان في ليلة القدر‪ ،‬ورحم هللا بها العباد رحمة عامة ال يقدر العباد لها شكرا‪ِ ِ.‬‬
‫ْ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ‬
‫هذا القول اْلظهر وهللا أعلم في معنى قول هللا عز وجل ِ‬
‫﴿إنا أنزلناه ِفي ليل ِة القد ِر﴾‪ ،‬فإن‬
‫املعلوم أن القرآن نزل على محمدِصلى هللا عليه وسلم منجما في ثالث وعشرين سنة‪ ،‬فما‬
‫َ َ َْ‬ ‫َّ َ ْ َ‬
‫﴿إنا أ َنزلن ُاه ِفي ل ْيل ِة الق ْد ِر﴾؟ ِ‬
‫معنى قول هللا عز وجل‪ِ :‬‬
‫للعلماء قوالن‪ِ :‬‬
‫القول اْلول‪ :‬إن املعنى إنا ابتدأنا إنزاله على نبيناِصلى هللا عليه وسلم في ليلة القدر‪ ،‬ثم‬
‫توالى إنزاله على محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬

‫‪354‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫والقول الثاني‪ :‬إن املراد أنه أنزل من اللوح املحفوظ جملة إلى السماء الدنيا وذلك في ليلة‬
‫القدر‪ ،‬وقد جاءت رواية صحيحة عن ابن عباس رض ي هللا عنهما بهذا أن القرآن أنزل من‬
‫اللوح املحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر‪ ،‬ثم نزل به جبريل عليه‬
‫السالم منجما‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ويمكن أن يكون املراد من اآلية اْلمرين‪ ،‬فيكون القرآن أنزل من اللوح املحفوظ إلى السماء‬
‫الدنيا جملة في ليلة القدر‪ ،‬ثم تكلم ربنا بالقرآن وسمعه جبريل من ربنا ونزل به منجما بأمر‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وابتدأ نزول جبريل على نبيناِصلى هللا عليه وسلمِبكالم هللا الذي تكلم‬
‫هللا به حقيقة وسمعه منه جبريل عليه السالم في ليلة القدر‪ ،‬فنزلِ بما أمر به في تلك الليلة‬
‫على محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو الذي قدمنا في املجلس السابق أنه اآليات الخمسة‬
‫اْلول من سورة العلق‪ ،‬فنزل بها جبريل عليه السالم في ليلة القدر‪ ،‬فال تنافي بين املعنيين‬
‫وهللا أعلم‪ِ ِ.‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وسميت ليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند هللا‪ِ .‬‬
‫كما يقال لفالن قدر؛ أي‪ :‬له فضل ومنزلة عالية‪ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬وْلنه يقدر فيها ما يكون في العام من اآلجال واْلرزاق واْلقادير القدرية‪ِ ِ.‬‬
‫فهي من التقدير‪ ،‬وهو الحكم والتفصيل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬سميت بذلك ْلن للطاعات فيها قدرا كبيرا وأجرا كثيرا‪ ،‬فسميت ليلة‬
‫القدر من أجل ذلك‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬سميت بذلك ْلنه أنزل فيها القرآن فصارت ذات قدر من أجل‬
‫ذلك‪ ،‬يعني‪ :‬أنها صارت ذات شرف من أجل أنه أنزل فيها القرآن‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬سميت بليلة القدر من القدر وهو التضييق؛ ْلنها ليلة ضيقة في‬
‫وقتها‪ ،‬فهي ليلة من ليالي العام‪ ،‬وساعاتها تمر سريعا على املؤمنين‪ ،‬فهي ليلة ضيقة من هذا‬
‫الوجه‪ِ .‬‬

‫‪355‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬إنها سميت بذلك من القدر الذي هو التضييق‪ ،‬ولكن ْلن اْلرض‬
‫تضيق بساكنيها في تلك الليلة؛ ْلن املالئكة يتنزلون في تلك الليلة إلى اْلرض‪ ،‬فتمتلئ اْلرض‬
‫باملالئكة‪ ،‬فتضيق اْلرض في تلك الليلة‪ِ .‬‬
‫وال مانع من الجميع‪ ،‬فإن القرآن حمال أوجه‪ ،‬وما دام أن اْلوجه املذكورة محتملة وال‬
‫تدافع بينها فإن اآلية تحمل على جميعها‪ ،‬فليلة القدر من القدر بمعنى الشرف على اْلوجه‬
‫التي ذكرناها‪ ،‬ومن القدر بمعنى التقدير‪ ،‬ومن القدر بمعنى التضييق‪ ،‬كلها مرادة في هذه‬
‫اآلية‪ِ .‬‬
‫ََ ََْ َ َ َُ َْ‬
‫اك َما ل ْيلة الق ْدر﴾؛ أي‪:‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ثم فخم شأنها وعظم مقدارها فقال‪﴿ :‬وما أدر‬
‫فإن شأنها جليل وخطرها عظيم‪ِ ِ.‬‬
‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك﴾ إنما هو للتعظيم‬ ‫قال العلماء‪ :‬هذا التكرار والذي يبدأ بقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ر‬
‫اك﴾ فهذا تعظيم وتفخيم‪ ،‬فعظم هللا شأنها‬ ‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫والتفخيم‪ ،‬فحيثما وجدت في القرآن َ‬
‫ر‬
‫ََ ََْ َ َ َُ َْ‬
‫اك َما ل ْيلة الق ْدر﴾‪ِ .‬‬‫بقوله سبحانه‪﴿ :‬وما أدر‬
‫اك﴾ ما أعملك وما أشعرك بفضل ليلة القدر؟ وذلك يدل على أن فضل‬ ‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫ومعنى َ‬
‫ر‬
‫ليلة القدر كان مخبوءا‪ ،‬فلم يكن يعلم به أحد‪ ،‬ثم أعلم هللا به نبيناِصلى هللا عليه ِوسلم‬
‫تكريما لهذه اْلمة وتشريفا لهذه اْلمة‪ ،‬فتلك الليلة كانت مخبوءة ْلمة محمدِصلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬كما أن يوم الجمعة كان مخبوءا ْلمة محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقول ربنا‪َ :‬‬
‫﴿و َما‬
‫اك﴾ مشعر بهذا‪ِ .‬‬‫َأ ْد َ َ‬
‫ر‬
‫صار معلوما وبينه هللا‬
‫وقد قال العلماء‪ :‬كل ما قال هللا فيه وما أدراك لم يكن معلوما ثم ِ‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ ِ.‬‬
‫ََْ ُ ْ َ ْ ٌَْ ْ َْ َ‬
‫ف ش ْه ٍر﴾؛ أي‪ :‬تعادل من فضلها ألف شهر فالعمل الذي يقع‬‫﴿ليلة القد ِر خير ِمن أل ِ‬
‫فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها‪ ،‬وهذا مما تتحير فيه اْللباب وتندهش له‬
‫العقول‪ ،‬حيث من تبارك وتعالى على هذه اْلمة الضعيفة القوة والقوى بليلة يكون‬
‫العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر عمر رجل معمر عمرا طويَّل نيفا وثمانين سنة‪ِ ِ.‬‬
‫ملا كانت أعمار هذه اْلمة قصيرة بالنسبة لألمم فكانت أعمار أمة محمد صلى هللا عليه‬

‫‪356‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وسلم ما بين الستين إلى السبعين وقل من يجوز منهم ذلك‪ ،‬أنعم هللا على اْلمة بأعمار إلى‬
‫أعمارها‪ ،‬فكانت ليلة القدر تساوي ما يزيد على عمر املسلم في الغالب‪ ،‬وهي ليلة واحدة في‬
‫كل سنة‪ ،‬فإذا كان اإلنسان منذ أن بلغ في الخامسة عشر مثال وعاش إلى خمس وثمانين‬
‫سنة فإنه يكون في سبعين سنة في كل سنة يجد ليلة تساوي ما يقرب من عمره خمس‬
‫وثمانين سنة‪ ،‬اضرب هذا في سبعين على املثال الذي ذكرناه‪ ،‬فكم يكون كأنه قد عاش؟‬
‫عاش طويال من جهة البركة واْلجور والخيرات‪ِ .‬‬
‫أنتم يا أمة محمدِصلى هللا عليه وسلم أمة مرحومة‪ ،‬قد وسع هللا لكم أبواب الجنة‬
‫وأبواب الخيرات والحسنات‪ ،‬ولذلك ال يهلك على هللا إال هالك‪ ،‬ولذلك قال النبيِصلى هللا‬
‫عليه وسلم‪(( :‬كل أمتي يدخل الجنة إال من أبى))؛ ْلن هللا عز وجل قد وسع أبواب الخير‬
‫ْلمة محمدِصلى هللا عليه وسلم‪ ،‬في كل سنة لك ليلة لو اجتهدت في عشر ليال اجتهادا‬
‫طيبا فإنك تفوز بتلك الليلة‪ ،‬هذه الليلة التي هي في العشر اْلواخر من رمضان إذا اجتهدت‬
‫كما كان النبيِصلى هللا عليه وسلم يجتهد من أول دخول العشر إلى أن تخرج العشر فقد‬
‫أصبت ليلة القدر علمت أو لم تعلم‪ ،‬وإذا أصبت ليلة القدر فقد فزت بأجور ثالث وثمانين‬
‫سنة وثلث‪ ،‬فإذا أصبت ذلك في سنة وسنة وسنة وسنة كم من الحسنات العظيمة‬
‫تحصل‪ ،‬لكن التقصير يحصل من العباد‪ ،‬وإال ففضل هللا على هذه اْلمة عظيم‪ ،‬ورحمة‬
‫هللا لهذه اْلمة عظيمة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املراد باْللف شهر الدهر كله‪ ،‬وليس املراد اْللف شهر بخصوصها‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذه عادة العرب إذا أرادت أن تعبر عن الدهر عبرت باْللف‪َ ﴿ ،‬ي َو ُّد َأ َح ُد ُه ْم َل ْو ُي َع َّمرُ‬
‫َْ َ َ‬
‫ألف َسن ٍة﴾ [البقرة‪ ]96 :‬ليس املقصود أنه يريد أن يعمر ألف سنة‪ ،‬؛ يريد أن يعمر الدهر‬
‫كله‪ ،‬يريد أن يخلد‪ ،‬فقالوا عادة العرب إذا أرادوا أن يعبروا عن الدهر عبروا باْللف‪ ،‬فهنا‬
‫املراد بالألف هو الدهر‪ ،‬فهذه الليلة خير للعبد من أن يعيش الدهر كله بليلة هي لية من‬
‫رمضان‪ ،‬وهذا عظيم فضل هللا على اْلمة‪ِ .‬‬
‫وإن كان الظاهر من اللفظ هو اْلول‪ ،‬وهو أن تلك الليلة تساوي ما يزيد على ثالث وثمانين‬
‫سنة وثلث في الخيرات والبركات ليس فيهن ليلة القدر‪ِ .‬‬

‫‪357‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿ َت َن َّز ُل ْاْلَ ََّل ِئ َك ُة َو ُّ‬


‫الر ُ‬
‫وح ِف َيها﴾؛ أي‪ :‬يكثر نزولهم فيها‪.‬‬
‫َ َ ْ ََ َ ُ‬
‫﴿تن َّز ُل اْلَّل ِئكة﴾؛ أي‪ :‬تهبط املالئكة من السماء شيئا فشيئا‪ ،‬هذا الذي يدل عليه التنزل‪،‬‬
‫فإنها تتنزل؛ أي‪ :‬تهبط فوجا فوجا‪ ،‬وذلكِلكثرة املالئكة عليهم السالم‪ِ .‬‬
‫وح ِف َيها﴾ هو جبريل عليه السالم أفضل املالئكة‪ ،‬كما أن محمدا صلى هللا عليه‬ ‫الر ُ‬ ‫﴿و ُّ‬ ‫َ‬

‫وسلم أفضل البشر وسيد ولد آدم أجمعين‪ ،‬فإن جبريل عليه السالم أفضل املالئكة‪ ،‬وقد‬
‫كان سيد البشر يحب لقاء سيد املالئكة‪ ،‬كان النبي صلى هللا عليه وسلم وهو سيد ولد آدم‬
‫أجمعين ِيحب لقاء جبريل عليه السالم وهو أشرف املالئكة‪ِ .‬‬
‫وح﴾ صنف من املالئكة هم أفضل املالئكة وأشرف املالئكة‬ ‫الر ُ‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬
‫﴿و ُّ‬
‫وأقربهم إلى هللا‪ ،‬يعني قالوا‪ :‬الروح هنا ليس املراد به جبريل عليه السالم‪ ،‬وإنما هم صنف‬
‫من املالئكة هم أشرف املالئكة‪ ،‬وهم أقرب املالئكة إلى هللا‪ ،‬فمن شرف تلك الليلة أن‬
‫أشرف املالئكة وأقرب املالئكة إلى هللا ينزلون إلى اْلرض في تلك الليلة‪ِ .‬‬
‫وح﴾ هم جنود املالئكة الذين ينصر هللا بهم أولياءه‪ ،‬فهم‬ ‫الر ُ‬ ‫وقال بعض املفسرين‪َ :‬‬
‫﴿و ُّ‬
‫الجنود من املالئكة‪ِ .‬‬
‫الر ُ‬
‫وح﴾ هنا هي الرحمة؛ أي‪ :‬تنزل املالئكة بالرحمة على عباد‬ ‫وقال بعض املفسرين‪َ :‬‬
‫﴿و ُّ‬
‫هللا‪ ،‬وال شك أن املالئكة في ليلة القدر تتنزل بالرحمة على عباد هللا‪ِ .‬‬
‫لكن اْلظهر وهللا أعلم أن املراد بالروح هنا جبريل عليه السالم‪ ،‬فقد سمي جبريل عليه‬
‫السالم بالروح في عدد من اآليات‪ ،‬فهذا هو اْلظهر‪ ،‬فيكون جبريل عليه السالم ذكر في اآلية‬
‫مرتين‪ ،‬كيف؟ ِ‬
‫َ َ ْ ََ َ ُ‬
‫ذكر أوال في قول هللا‪﴿ :‬تن َّز ُل اْلَّل ِئكة﴾ فإن جبريل عليه السالم من املالئكة‪ ،‬ثم ذكر‬
‫الر ُ‬
‫وح ِف َيها﴾‪ِ .‬‬ ‫خصوصا في قوله سبحانه وتعالى َ‬
‫﴿و ُّ‬
‫ْ‬
‫﴿ب ِإذ ِن َرِب ِهم﴾؛ أي‪ :‬بأمر ربهم سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ُ َْ‬
‫﴿ ِمن ك ِل أمر﴾ قال العلماء‪(ِ:‬من) هنا بمعنى الباء؛ أي‪ :‬بكل أمر أمر هللا به لعباده في تلك‬
‫الليلة من الخيرات والبركات مما ال يقدر قدره إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو هنا مبهم‪ ،‬فهو‬
‫قدر زائد على ما علمناه من فضل ليلة القدر‪ِ .‬‬

‫‪358‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫﴿ َسَّل ٌم ِه َي﴾؛ أي‪ :‬ساْلة من كل آفة وشر وذلك لكثرة خيرها‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫﴿سَّل ٌم ِه َي﴾؛ أي‪ :‬أنها ساملة من كيد الشياطين‪ ،‬فال كيد للشياطين‬ ‫ِوقال بعض العلماء‪:‬‬
‫في تلك الليلة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬سالم من املالئكة على الناس‪ ،‬فهي ليلة السالم يكثر فيها‬
‫التسليم من املالئكة على عباد هللا املؤمنين‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫﴿سَّل ٌم﴾؛ أي‪ :‬سالم املالئكة على بعضهم حيث يلتقون عند‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫نزولهم‪ ،‬فيسلم بعضهم على بعض‪ ،‬وهم من الكثرة بمكان في تلك الليلة فال تخلو لحظة‬
‫من لحظات تلك الليلة من س ِالم‪ِ .‬‬
‫َْ ْ َ‬
‫﴿ َح َّت ٰى َمطل ِع الف ْج ِر﴾؛ أي‪ :‬مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر‪ِ .‬‬
‫ِفبركاتها وخيراتها من غروب الشمس إلى طلوع الفجر‪ِ .‬‬
‫ِقال‪ :‬وقد تواترت اْلحاديث في فضلها وأنها في رمضان وفي العشر اْلواخر منه خصوصا‬
‫في أوتاره‪ ،‬وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة‪ ،‬ولهذا كان النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫يعتكف ويكثر من التعبد في العشر اْلواخر من رمضان رجاء ليلة القدر وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫ِقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم‬
‫من ذنبه)) متفق عليه‪ ،‬فمن قام ليلة القدر إيمانا باهلل وإيمانا بفضل تلك الليلة‪،‬‬
‫ً‬
‫واحتسابا لذلك اْلجر موقنا بذلك فإن هللا يغفر له ما تقدم من ذنبه‪ِ .‬‬
‫وقد جاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال‪(( :‬اعتكف النبي صلى هللا عليه وسلم العشر‬
‫اْلول من رمضان‪ ،‬واعتكفنا معه‪ ،‬فأتاه جبريل عليه السَّلم فقال‪ :‬إن الذي تطلب‬
‫أمامك))؛ ْلن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يطلب باالعتكاف ليلة القدر‪(( ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫الذي تطلب أمامك‪ ،‬فاعتكف العشر اْلواسط واعتكفنا معه‪ ،‬فجاءه جبريل عليه‬
‫السَّلم فقال‪ :‬إن الذي تطلب أمامك‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إنها في العشر‬
‫اْلواخر في وتر)) رواه البخاري في الصحيح‪ِ .‬‬
‫فدل ذلك داللة بينة على أن ليلة القدر في العشر اْلواخر من رمضان‪ ،‬فاهلل من رحمته‬
‫بهذه اْلمة دلها على أن ليلة القدر في العشر اْلواخر من رمضان؛ ْلنها لو أبهمت في العام‬

‫‪359‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫لقل طالبها وقل املجتهدون فيها‪ ،‬فلما علمنا أنها ليلة من عشر ليال سهل على الناس أن‬
‫يجتهدوا في هذه العشر ِوأن يطلبوها‪ِ .‬‬
‫ثم إن هللا أبهم في أي ليلة من العشر وأطمع في كل ليلة‪ ،‬فإذا نظرت إلى اْلدلة تجد أن‬
‫هناك أدلة تطمعك في كل ليلة من ليال العشر أنها هي ليلة القدر‪ ،‬فإذا خلفت ليلتين من‬
‫العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة ثالث وعشرين‪ ،‬فإذا خلفت أربع ليال من‬
‫العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة خمس وعشرين‪ ،‬فإذا خلفت ست ليال من‬
‫العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة سبع وعشرين‪ ،‬فإذا خلفت ثمان ليال من‬
‫العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة تسع وعشرين أو في آخر ليلة من رمضان‪ ،‬فال‬
‫تزال تترقى في طمع ما دمت في العشر اْلواخر‪ ،‬ملاذا أبهم هللا هذه الليلة ولم يعينها لنا؟ ِ‬
‫قالوا رحمة بنا‪ِ :‬‬
‫أوال‪ :‬ليتميز الصادق في طلبها‪ ،‬فإنها إذا كانت في عشر ليال تبين الصادق املجد الذي‬
‫يحرص على طلبها باجتهاده في العشر‪ِ .‬‬
‫واْلمر الثاني‪ :‬لتزداد أجور املؤمنين‪ ،‬فإنا إذا عملنا في العشر كلها أصبنا ليلة القدر ونلنا‬
‫تواب االجتهاد في بقية الليالي‪ ،‬أصبنا أجر فضل ليلة القدر وأجور ليلة القدر‪ ،‬وزادنا هللا‬
‫خيرا فوق هذا وهو أجور االجتهاد في بقية الليالي‪ِ .‬‬
‫وبهذا يدرك املؤمن عظم رحمة هللا بهذه اْلمة‪ ،‬وعظم فضل هللا عليه‪ ،‬فينبغي علينا أيها‬
‫ِّ‬
‫اإلخوة أن نحمد هللا حمدا كثيرا أن جعلنا مسلمين من أتباع محمد صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫أن جعلنا من هذه اْلمة املرحومة‪ ،‬وأن نغتنم اْلوقات الفاضلة في ما يقربنا إلى هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فإذا كان اإلنسان يا إخوة إذا جلس مجلسا لم يذكر هللا فيه يندم يوم القيامة‪،‬‬
‫ويكون هذا املجلس ترة عليه يوم القيامة‪ ،‬وإذا كان يندم على سجدة تركها لم يسجدها هلل‬
‫مع قدرته‪ ،‬فكيف بالتفريط في اْلوقات الفاضلة؟! كيف بمن يفرط في ليلة القدر وال يجتهد‬
‫في العشر اْلواخر ليصيبها؟! ال شك أنه سيندم ندما عظيما على هذا التفريط‪ ،‬فال ينبغي‬
‫للمؤمن أن يعرض نفسه للندم‪ِ .‬‬

‫‪360‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وبهذا نختم تفسير هذه السورة القصيرة العظيمة التي فيها البشارات الكريمة‪ ،‬وأما الحكم‬
‫الكبرى والفوائد الكلية فهي في هذه السورة ظاهرة أهمها‪ِ :‬‬
‫‪ -‬أن هذه اْلمة أمة مرحومة فتح هللا لها السبل إلى الجنة‪ ،‬فينبغي على املؤمنين أن يحمدوا‬
‫هللا على هذا الفضل‪ ،‬وأن يغتنموا اْل ِوقات الفاضلة‪ِ .‬‬
‫ِِ‬

‫‪361‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة البينة‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫م َُ‬ ‫َم‬ ‫مُ م َ َ َ‬ ‫ْ َْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َّ َ َ َ ُ‬
‫اب َوٱْلش ِر ِكين ُمنف ِكين َح َّت ٰى تأ ِت َي ُه ُم ٱل َب ِينة (‪)1‬‬
‫﴿لم يك ِن ال ِذين كفروا ِمن أه ِل ال ِك ِ‬
‫ت‬
‫ُُ َ ٌ‬ ‫َ ُ ٌ َ َّ َّ َ ْ ُ ُ ً َ‬
‫ص ُحفا ُّمط َّه َرة (‪ِ )2‬ف َيها كت ٌب ق ِي َمة (‪[ ﴾)3‬البينة‪ِ .]3-1 :‬‬ ‫رسول من الل ِه يتلوا‬
‫هذه السورة التي بين أيدينا لها عدة أسماء‪ ،‬فتسمى سورة البينة‪ ،‬وتسمى سورة لم يكن‪،‬‬
‫وتسمى سورة القيمة‪ ،‬وتسمى سورة البرية‪ ،‬وتسمى سورة أهل الكتاب‪ ،‬وتسمى سورة‬
‫االنفكاك‪ ،‬بكل هذه اْلسماء سمى العلماء هذه السورة‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة عند جمهور العلماء مدنية‪ ،‬نزلت في هذه املدينة ‪-‬في مدينة رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،-‬وفي الحديث ما يدل على ذلك ويؤكد أنها مدنية‪ ،‬فعند الشيخين البخاري‬
‫أنس رض ي هللا عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ْلبي بن كعب‪:‬‬ ‫ومسلم من حديث ٍ‬
‫ْ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫((إن هللا أمرني أن أقرأ عليك‪َ ﴿ :‬ل ْم َي ُكن َّالذ َ‬
‫ين َك َف ُ‬
‫اب﴾ فقال أبي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫وا‬‫ر‬ ‫ِ ِ‬
‫أبي رض ي هللا عنه‪ ،‬وعند أحمد‬ ‫وسماني؟ فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬نعم))‪ ،‬فبكى ٌ‬
‫ْ َْ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ ُ َّ َ َ َ‬
‫اب﴾ إلى‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ ِ ِ‬‫ال‬ ‫ل‬‫ه‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫وا‬‫ر‬ ‫ف‬ ‫من حديث أبي حبة البدري أنه ملا نزلت‪﴿ :‬لم يك ِن ال ِذين ك‬
‫أبيا)) الحديث‪،‬‬‫آخرها قال جبريل عليه السالم‪(( :‬يا رسول هللا؛ إن هللا يأمرك أن تقرئها ًّ‬
‫ٌ‬
‫صحيح لغيره‪ِ .‬‬ ‫والحديث‬
‫فهذا الحديث عند اإلمام أحمد يبين أن إقراء النبي صلى هللا عليه وسلم ْلبي بن كعب‬
‫هذه السورة كان عند نزولها بأمر هللا عز وجل‪ ،‬واملعلوم أن أبي بن كعب من اْلنصار فهو‬
‫مدني؛ فيدل ذلك على أن هذه السورة مدنية‪.‬‬
‫وفي هذه اآليات التي سمعناها ِّبين هللا عز وجل أن الذين كفروا من اليهود والنصارى‬
‫حيث حرفوا التوراة واإلنجيل وأشركوا باهلل‪ ،‬واملشركين من غيرهم بشتى مللهم من ِّ‬
‫عباد‬
‫وعباد الكواكب وعباد النيران وغير ذلك لم يكونوا منتهين عن كفرهم وضاللهم‬‫اْلصنام ِّ‬
‫حتى تأتيهم البينة التي تبين أن ما هم عليه باطل‪ ،‬وذلك بزعمهم‪ِ .‬‬

‫‪362‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫محمد صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إذا بعث هللا الرسول الخاتم‬
‫ٍ‬ ‫حيث كانوا يقولون قبل بعثة‬
‫فإنا نتبعه‪ ،‬ونترك ما نحن عليه‪ ،‬فأما اليهود والنصارى فإنهم كانوا يعلمون ذلك من كتبهم‪،‬‬
‫وأما غيرهم فإنهم كانوا يعلمون ذلك من أخبار اليهود والنصارى‪ ،‬فكانوا يزعمون أنهم إذا‬
‫جاءتهم البينة سيتركون الكفر وما هم عليه ويتبعون الرسول‪ ،‬أو أنهم لم يكونوا منتهين عن‬
‫كفرهم حتى تأتيهم البينة‪ِ .‬‬
‫فلما أتتهم البينة تفرقوا في ذلك‪ ،‬فمنهم من انتهى عن الكفر وآمن‪ ،‬ومنهم من كفر عنادا‬
‫وجحودا بعد أن تبين له الحق بالبينة واستيقنت نفسه الحق‪.‬‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم قبل بعثته‪ ،‬بل كانوا‬
‫ٍ‬ ‫كما أنهم لم يكونوا متفرقين في شأن‬
‫يصفونه بالصادق اْلمين‪ ،‬فلما ُبعث صلى هللا عليه وسلم تفرقوا فيه‪ ،‬فصدقه ٌ‬
‫قوم وقالوا‪:‬‬
‫إنه صادق صلى هللا عليه وسلم وآمنوا به‪ِ ،‬وكذبه قوم منهم وكفروا به‪ ،‬ووصفوه بعكس ما‬
‫كانوا يصفونه قبل بعثته‪.‬‬
‫ٌ‬
‫محمد رسول هللا صلى هللا‬ ‫وتلكم البينة املوضحة للحق املظهرة للحق الدامغة للباطل هي‬
‫عليه وسلم‪ ،‬الذي يتلو على الناس والجن القرآن من حفظه‪ ،‬فلم يكن صلى هللا عليه‬
‫وسلم قارئا وال كاتبا‪ِ .‬‬
‫مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كر ٍام بررة‪ ،‬وذلك‬
‫ٍ‬ ‫صحف مكرمة‬
‫ٍ‬ ‫والقرآن ك ِالم هللا كان في‬
‫صحف مطهرة من كل‬
‫ٍ‬ ‫محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم سيصير مجموعا في‬
‫ٍ‬ ‫قبل نزوله إلى‬
‫نقص ومن كل باطل‪ِ .‬‬
‫تبديل ومن كل ٍ‬‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫مكتوب فيها الحق العادل‪ ،‬والطريق املستقيم الذي ال اعوجاج فيه‪ ،‬ومن‬ ‫تلك الصحف‬
‫التزمه وصل إلى املطلوب ونجا من املرغوب؛ فالقرآن كالم هللا عز وجل فيه بيان كل ش يء‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫مركوز في كتاب ربنا سبحانه وتعالى‪ ،‬وما من ِّ‬
‫وحذرنا منه في كتاب‬‫شر إال ِ‬
‫ٍ‬ ‫خير إال وهو‬
‫ما من ٍ‬
‫ربنا سبحانه وتعالى على سبيل التفصيل أو على سبيل اإلجمال‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي لهذه اآليات‪ ،‬ونعود إلى املعنى التفصيلي لها فنقرأ من‬
‫كتاب تفسير الشيخ السعدي رحمه هللا ونعلق على ما يحتاج إلى تعليق‪ِ .‬‬

‫‪363‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫ْ َْ ْ َ‬ ‫َ‬
‫﴿ل ْم َي ُكن َّالذ َ‬
‫ين َك َف ُ‬
‫اب﴾‪ ،‬أي‪ :‬من اليهود‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫وا‬‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والسامعين‪ :‬يقول تعالى‪:‬‬
‫والنصارى‪.‬‬
‫اليهود والنصارى من حيث اإليمان والكفر على ثالثة أقسام‪ِ :‬‬
‫ٌ‬
‫‪ .1‬قسم آمنوا برسولهم الذي بعث إليهم وآمنوا بكتابه‪ ،‬فهؤالء مسلمون على ٍ‬
‫دين‬
‫صحيح‪ِ .‬‬
‫ابنا‪ ،‬وأشركوا باهلل ما لم ِّ‬
‫ينزل به‬ ‫حرفوا التوراة واإلنجيل‪ ،‬وزعموا أن هلل ً‬ ‫ٌ‬
‫وقسم َّ‬ ‫‪.2‬‬
‫ِ‬
‫سلط ًانا‪َّ ،‬‬
‫فبدلوا وغيروا وأشركوا‪ ،‬وهؤالء َّ‬
‫كفار‪ِ .‬‬
‫بمحمد صلى هللا عليه وسلم فلم يؤمن‬
‫ٍ‬ ‫يهودي أو نصراني سمع‬ ‫ِّ‬ ‫‪ .3‬والقسم الثالث‪ :‬كل‬
‫ٍ‬
‫كافر من أهل النار‪.‬‬ ‫به‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫ْ َْ ْ َ‬ ‫واملقصودون ب ﴿ َّالذ َ‬
‫ين َك َف ُ‬
‫اب﴾ هم أهل القسم الثاني والثالث فهم‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫وا‬‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫كفار من أهل النار‪ِ .‬‬
‫َ مُ م َ‬
‫﴿وٱْلش ِر ِكين﴾ من سائر أصناف اْلمم‪.‬‬
‫املشركون من سائر أصناف اْلمم غير أهل الكتاب؛ سواء من كانوا يعبدون النيران‪ ،‬أو‬
‫يعبدون الكواكب‪ ،‬أو يعبدون اْلصنام‪ ،‬أو يعبدون اْلحجار‪ ،‬أو يعبدون البقر‪ ،‬أو غير ذلك‬
‫فكلهم مشركون باهلل سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َُْ َ‬
‫﴿منف ِكين﴾ عن كفرهم وضَّللهم الذي هم عليه؛ أي‪ :‬ال يزالون في ِ‬
‫غيهم وضَّللهم ال‬
‫يزيدهم مرور اْلوقات إال ً‬
‫كفرا‪.‬‬
‫َْ َ‬
‫﴿ ُمنف ِكين﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬منتهين عن كفرهم وضاللهم بحسب زعمهم هم‪،‬‬
‫حيث كانوا يقولون‪ :‬لن نترك ما نحن عليه حتى ُيبعث لنا الرسول الخاتم‪ ،‬فإذا بعث‬
‫اتبعناه‪ِ .‬‬
‫َْ َ‬
‫فمعنى ﴿ ُمنف ِكين﴾؛ أي‪ :‬منتهين عن الكفر والضالل بحسب زعمهم‪ِ .‬‬

‫‪364‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬بل املعنى منتهين عن الكفر والضالل بحسب حقيقة حالهم‪ ،‬لكن‬
‫للبينة وأسلم‪ ،‬ومنهم من بان له الحق لكنه عاند وكابر وجحد‪َّ ،‬‬ ‫سلم ِّ‬ ‫َّ‬
‫فتفرقوا من‬ ‫ِ‬ ‫منهم من‬
‫بعد ما جاءتهم البينة‪ِ .‬‬
‫َْ َ‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬معنى ﴿ ُمنف ِكين﴾؛ أي‪ :‬منتهين عن االجتماع على الكفر‪ ،‬فهم كانوا‬
‫ً‬
‫محمدا‬ ‫محمد صلى هللا عليه وسلم مجتمعين على الكفر والشرك‪َّ ،‬‬
‫فلما بعث هللا‬ ‫قبل بعثة‬
‫ٍ‬
‫صلى هللا عليه وسلم تفرقوا‪ ،‬فمنهم من آمن ومنهم من كفر‪ِ .‬‬
‫َْ َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى ﴿ ُمنف ِكين﴾ متروكين من غير إقامة الحجة عليهم‪ ،‬فلم يكن‬
‫ً‬
‫هللا عز وجل ليتركهم سدى‪ ،‬بل يرسل إليهم رسوال ويقيم عليهم الحجة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذه اآلية املراد منها توبيخهم‪ ،‬والتعجب من حالهم كيف أنه قد‬
‫جاءتهم البينة التي تقتض ي منهم ترك الكفر‪ ،‬ومع ذلك أبى أكثرهم إال كفورا‪ ،‬فهذا توبيخ‬
‫لهم؛ ْلنهم تركوا الحق املبين‪ ،‬ولزموا الكفر‪ ،‬والذي يقتضيه املقام والحجة والعقل‬
‫والفطرة أن يتركوا ذلك الكفر إلى اإلسالم بتلك البينة العظيمة املظهرة للحق والدامغة‬
‫للباطل‪ِ .‬‬
‫مُ م َ‬ ‫م َٰ‬ ‫َ‬ ‫َ م َ ُ َّ َ َ َ ْ‬
‫ين كف ُروا ِم من أ مه ِل ٱل ِكت ِب َوٱْلش ِر ِكين‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى اآلية‪﴿ :‬لم يك ِن ٱل ِذ‬
‫َ َ‬
‫ُمنف ِكين﴾ وإن أتتهم البينة‪ ،‬فـ (حتى) هنا بمعنى (وإن)‪ ،‬وإن أتتهم البينة فإن أكثرهم يصر‬
‫على الكفر وال يترك الكفر‪ِ .‬‬
‫وكل هذه املعاني تصلح لها اآلية وال تنافر بينها‪ ،‬فتحمل اآلية على جميع هذه املعاني‪ِ .‬‬
‫م َ‬ ‫َ َم‬
‫﴿ح َّت ٰى تأ ِت َي ُه ُم ٱل َب ِينة﴾ الواضحة والبرهان الساطع‪.‬‬
‫البينة‪ :‬هي املظهرة للحق‪ ،‬كل ما يظهر الحق يسمى بينة‪ ،‬ولذلك في الحديث‪(( :‬البينة على‬
‫اْلدعي))؛ فسمى الشهادة بينة؛ ْلنها تظهر الحق‪ ،‬فالبينة هي املظهرة للحق‪ ،‬وهي هنا‬
‫واضحة دامغة قاطعة تظهر الحق وتعليه‪ ،‬وتدمغ الباطل وتكشفه وتعريه‪ِ .‬‬

‫‪365‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ‬
‫قال‪ :‬ثم فسر تلك البينة فقال‪َ ﴿ :‬ر ُسو ٌل َم َّن الل ِه﴾ أي‪ :‬أرسله هللا يدعو الناس إلى‬
‫الحق‪ ،‬وأنزل عليه كتاب يتلوه ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم ويخرجهم من الظلمات إلى‬
‫النور‪.‬‬
‫وهذا الرسول هو محمد صلى هللا عليه وسلم أشرف اْلنبياء واملرسلين وخاتم اْلنبياء‬
‫واملرسلين‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫ُونكر هنا ﴿ َر ُسو ٌل﴾ مع أنه معين للتعظيم ‪-‬لتعظيم شأنه صلى هللا عليه وسلم‪-‬؛ والتنكير‬
‫يأتي للتعظيم‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وأيضا فيه فائدة أخرى من التنكير هنا وهي عموم رسالته صلى هللا عليه وسلم للجن‬
‫ً‬
‫جميعا كما أنه رسول للجن‪ ،‬وهو صلى هللا‬ ‫واإلنس‪ ،‬فهو صلى هللا عليه وسلم رسول للناس‬
‫عليه وسلم رحمة للعاملين‪ ،‬رحمة للجن ورحمة لإلنس صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫َمُ ْ ُ ٗ َ ٗ‬
‫ص ُحفا ُّمط َّه َرة﴾ ؛ أي‪ :‬محفوظة من قربان الشياطين ال يمسها إال‬ ‫ولهذا قال‪﴿ :‬يتلوا‬
‫اْلطهرون ْلنها أعلى ما يكون من الكَّلم‪.‬‬
‫َمُ ْ‬
‫﴿يتلوا﴾ أي‪ :‬يسمعهم ما فيها من حفظه صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ُ ً‬
‫ص ُحفا﴾ ‪ ،‬طيب القرآن لم ينزل صحفا؛ نزل على النبي صلى هللا عليه وسلم أنزله جبريل‬ ‫﴿‬
‫عليه السالم‪ ،‬جبريل سمعه من ربنا سبحانه وتعالى وأسمعه لنبينا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫فقال املفسرون‪ :‬املعنى أنه كان في صحف قبل نزوله‪ ،‬وسيصير إلى صحف بعد نزوله؛ فهو‬
‫قبل نزوله كان في تلك الصحف التي بأيدي املالئكة‪ ،‬وبعد نزوله سيجمع في صحف وهو‬
‫اليوم بين أيدينا في صحف‪ ،‬نقرأه كأنما نزل على محمد صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫فاملقصود بالصحف هنا الصحف قبل النزول وهي التي في أيدي املالئكة‪ ،‬والصحف بعد‬
‫نزوله حيث جمع فيها في زمن أبي بكر الصديق رض ي هللا عنه وأرضاه‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وهذه الصحف ﴿ ُمط َّه َرة﴾ ؛ فال يقربها شياطين الجن وال شياطين اإلنس‪ ،‬فال تبديل ملا‬
‫َّ َ‬
‫فيها وال نقص‪ ،‬وال يأتيها الباطل أبدا‪ ،‬بل هي محفوظة بحفظ هللا سبحانه وتعالى‪ِ ﴿ :‬إنا ن ْح ُن‬

‫‪366‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ْ َ َ َّ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ َّ ْ َ‬
‫مطهرة من كل دنس‪ ،‬مطهرة من التغيير والتبديل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫افظون﴾ ؛ فهي‬ ‫الذكر و ِإنا له لح ِ‬
‫نزلنا ِ‬
‫ومطهرة من الباطل فليس فيها إال الخير‪ِ .‬‬
‫ُُ َ ٌ‬
‫قال‪ :‬ولهذا قال عنها ﴿ ِف َيها﴾ أي‪ :‬في تلك الصحف ﴿كت ٌب ق ِي َمة﴾ أي‪ :‬أخبار صادقة‬
‫وأوامر عادلة تهدي إلى الحق وإلى الطريق اْلستقيم‪.‬‬
‫فإذا جاءتهن هذه البينة فحين إذن يتبين طالب الحق ممن ليس له مقصد في طلبه‪،‬‬
‫فيهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة‪.‬‬
‫ُُ َ ٌ‬
‫﴿ ِف َيها كت ٌب ق ِي َمة﴾ ؛ قال العلماء‪ :‬كتب هنا بمعنى مكتوب؛ املكتوب فيها قيمة‪ِ .‬‬
‫الكتب وهو القضاء والحكم‪ ،‬فليس‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى كتب هنا اْلحكام من ْ‬
‫ُُ‬ ‫َُْ ُ ً َ‬
‫ص ُحفا ُّمط َّه َرة (‪ِ )2‬ف َيها كت ٌب‬ ‫املراد بالكتب هنا الصحف؛ ْلنه إذ ذاك يكون تكرارا ﴿يتلوا‬
‫َ ٌ‬
‫ق ِي َمة﴾؛ فلو كانت الكتب هنا بمعنى الصحف لكان ذلك تكرارا‪ ،‬والتأسيس أولى من‬
‫التأكيد‪ ،‬واملعنى الجديد أولى من التكرار‪ ،‬ولهذا قال العلماء‪ :‬املكتوب فيها قيم مستقيم‬
‫عادل ال اعوجاج فيه‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الذي فيها أحكام كتبها هللا على بني آدم قيمة ال عوج فيها بل هي‬
‫صراط مستقيم‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ َ َ َّ‬
‫اب ِإال ِمن َب ْع ِد َما َج َاء ْت ُه ُم ال َب ِينة (‪َ )4‬و َما أ ِم ُروا ِإال ِل َي ْع ُب ُدوا‬ ‫﴿وما تفرق ال ِذين أوتوا ال ِكت‬
‫َّ َ َ َ َ َ ُ ْ َ‬‫ٰ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ‬ ‫الل َه ُم ْخلص َين َل ُه الد َ‬
‫ين ُح َن َف َاء َو ُيق ُ‬ ‫َّ‬
‫ين الق ِي َم ِة (‪﴾)5‬‬ ‫الصَّلة َو ُيؤتوا الزكاة ۚ وذ ِلك ِد‬ ‫يموا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫[البينة‪.]5-4 :‬‬
‫في هذه اآليات يبين هللا عز وجل أن أهل الكتاب ومن كان تابعا لهم من املشركين إنما‬
‫تفرقوا ملا جاءهم محمد صلى هللا عليه وسلم بالبينة‪ ،‬فآمن به بعضهم‪ ،‬وكفر به آخرون‪،‬‬
‫وخالفوا ما كانوا يزعمون من أنهم إذا بعث الرسول الخاتم سيتبعونه‪ِ .‬‬
‫وكفرهم هذا إنما هو بعد بيان الحق‪ُّ ،‬‬
‫وتبي ِن الحق لهم‪ ،‬فهو كفر وجحود بعد أن تيقنوا‬
‫الحق وعلموا الحق؛ بعد ما جاءتهم البينة الواضحة الظاهرة املظهرة للحق والقاسمة‬
‫للباطل‪ ،‬وليس هذا بغريب على أهل الكتاب‪ ،‬فإنهم تفرقوا في دينهم الذي جاء به أنبياءهم‬

‫‪367‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وحرفوا وبدلوا واختلفوا وأشركوا باهلل عز وجل‪ ،‬فتفرقوا واختلفوا من بعد ما‬ ‫السابقون‪َّ ،‬‬
‫جاءهم البينات‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫﴿ َو َما أ ِم ُروا﴾ أي‪ :‬وما أمر الناس جميعا من لدن آدم عليه السالم إلى أن يرث هللا اْلرض‬
‫ومن عليها على لسان جميع اْلنبياء عليهم السالم إال بالتوحيد الخالص املتفق مع الفطرة‬
‫السوية؛ فما أرسل هللا رسوال إال أوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون‪ ،‬وكل أمة مأمورة بأن‬
‫تعبد هللا وحده وأن تجتنب الطاغوت‪ ،‬وما جاءهم محمد صلى هللا عليه وسلم إال بذلك‪،‬‬
‫فما أمروا إال بعبادة ربهم مخلصين له الدين ومائلين عن سائر اْلديان إلى دين اإلسالم وعن‬
‫الشرك إلى التوحيد‪ ،‬وبإقامة الصالة‪ ،‬فأمروا أن يعبدوا هللا بأبدانهم‪ ،‬وأشرف عبادات‬
‫البدن هي الصالة‪ ،‬وبإيتاء الزكاة فأمروا أن يعبدوا هللا بأموالهم‪ ،‬وأشرف عبادات املال هي‬
‫الزكاة؛ ومن آمن وأقام الصالة وآتى الزكاة فقد حافظ على دينه‪ ،‬وكان على بقية شرائع‬
‫الدين أحرص‪ِ .‬‬
‫وذلك الدين الذي أمروا به هو الدين القيم املستقيم‪ ،‬وامللة العادلة القائمة‪ ،‬وهو دين‬
‫اْلمة الوسط املعتدلة املستقيمة على صراط هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهي بعد بعثة النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم أمة محمد صلى هللا عليه وسلم التي جعلها هللا عز وجل أمة وسطا‪ِ .‬‬
‫نعود إلى التفسير الـتفصيلي لهذه اآليات‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بهذا الرسول وينقادوا له فليس ذلك ببدع‬
‫من ضَّللهم وعنادهم‪ ،‬فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابا إال من بعد ما جاءتهم‬
‫البينة التي توجب ْلهلها االجتماع واالتفاق‪ ،‬ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم لم يزدهم الهدى‬
‫إال ضَّلال وال البصيرة إال عمى‪ ،‬مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد ودين واحد‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ َق َّ َ ُ ُ ْ َ‬
‫فإن قال قائل‪ :‬ملاذا قال هللا عز وجل هنا‪﴿ :‬وما تفر ال ِذين أوتوا ال ِكتاب﴾ ولم يذكر‬
‫َ ْ َ ُ َّ َ َ َ‬
‫ين كف ُروا ِم ْن‬ ‫املشركين مع أنه سبحانه وتعالى قال في مفتتح السورة قال‪﴿ :‬لم يك ِن ال ِذ‬
‫ُْ ْ َ‬ ‫َْ ْ َ‬
‫اب َواْلش ِر ِكين﴾ ؟ ِ‬
‫أه ِل ال ِك ِ‬
‫ت‬

‫‪368‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫تبع ْلهل الكتاب في هذا؛ فإن أهل الكتاب كانوا يعرفون ببعثة‬ ‫قال العلماء‪ْ :‬لن املشركين ٌ‬
‫املشركون فكانوا يعرفون ببعثة النبي صلى هللا‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم من كتبهم‪ ،‬وأما ِ‬
‫عليه وسلم من خالل أهل الكتاب؛ من خالل أخبار أهل الكتاب‪ ،‬فهم ٌ‬
‫تبع لهم‪ ،‬كما أن‬
‫ِّ‬ ‫الح َّجة؛ ولذلك ُخ ُّ‬
‫أهل الكتاب قد قامت عليهم ُ‬
‫صوا بالذكر هنا‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫هنا بعض أهل العلم يقولون‪ :‬هذه اآلية مرتبطة باآلية اْلولى‪ ،‬فيكون املعنى‪ :‬لم يكن الذين‬
‫الب ِِّي َنة‬ ‫كفروا من أهل الكتاب واملشركين منتهين عن كفرهم ِّ‬
‫حتى تأتيهم ِّ‬
‫البينة؛ وقد جاءتهم َ‬
‫تفرقوا؛ فمنهم َمن ِّ‬ ‫ُّ‬
‫انفكوا عن كفرهم؟ كان الجواب‪ :‬ال؛ وإنما ِّ‬
‫انفك عن الكفر‪ ،‬ومنهم‬ ‫فهل‬
‫ً‬ ‫َمن ِّ‬
‫أصر على الكفر؛ فتكون هذه اآلية مرتبطة باآلية اْلولى‪ِ .‬‬
‫فما أمروا في سائر الشرائع‪.‬‬
‫َ ُ‬
‫ً‬
‫جميعا‪ِ .‬‬ ‫﴿و َما أ ِم ُروا﴾؛ أي‪ :‬الناس‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الدين﴾؛ أي‪ :‬قاصدين بجميع‬ ‫﴿إال ِليعبدوا الله مخ ِل ِصين له ِ‬ ‫فما أ ِمروا في سائر الشرائع ِ‬
‫عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه هللا وطلب الزلفى لديه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫جميعا في‬ ‫جميعا؛ اْلنبياء عليهم السالم‬ ‫وهذا قد اتفق عليه اْلنبياء‪ ،‬وبدأ به اْلنبياء‬
‫دعوة تخلو من تعظيم التوحيد والدعوة‬ ‫ٍ‬ ‫دعوتهم يبدأون بالدعوة إلى التوحيد؛ ولذلك كل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إلى التوحيد فهي ليست على َسنن اْلنبياء‪ ،‬وليست دعوة شرعية‪ ،‬وليست دعوة نافعة‬
‫ً‬
‫ناجعة‪ ،‬مهما دعا الناس إلى اْلخالق وأغفلوا التوحيد؛ فإنهم ال يصنعون شيئا‪ ،‬كل ٍ‬
‫خير‬
‫ُ‬
‫مفتاحه التوحيد؛ فإذا ف ِقد املفتاح فلن ُيفتح الخير‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫جميعا الدعوة‬ ‫متفقة على الدعوة إلى التوحيد‪ُ ،‬ومفتتح دعوة الرسل‬ ‫جميعا ِّ‬
‫ً‬ ‫دعوة اْلنبياء‬
‫قوم مشركين؛ فدعاهم‬ ‫ِّ‬
‫إلى التوحيد‪ ،‬وحبيبنا ونبينا وإمامنا صلى هللا عليه وسلم جاء إلى ٍ‬
‫إلى التوحيد‪ ،‬وبدأ بدعوة التوحيد؛ فنفر أكثرهم‪ ،‬فلم يثنه ذلك عن الدعوة إلى التوحيد‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫مشروعا‪ -‬أن يدعوهم إلى محاسن‬ ‫وكان يستطيع صلى هللا عليه وسلم ‪-‬لو كان هذا‬
‫ُُ‬ ‫ِّ‬
‫يؤخر الدعوة إلى التوحيد‪ ،‬والنبي صلى هللا عليه وسلم هو الذي على الخلق‬ ‫اْلخالق‪ ،‬وأن‬

‫‪369‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬ولكنه صلى هللا عليه وسلم‬ ‫العظيم الكريم‪ ،‬ولو دعاهم إلى ُحسن اْلخالق ْلجابوا‬
‫دعاهم إلى التوحيد‪ِ .‬‬
‫فلما نفروا ثبت على الدعوة إلى التوحيد صلى هللا عليه وسلم‪َ ،‬ومن يقتدي بالنبي صلى هللا‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫عليه وسلم في دعوته ينبغي عليه أن ُيعظم شأن التوحيد‪ ،‬وأن يجعل دعوته ُمفتتحة‬
‫قتديا ِّ‬ ‫ً‬
‫وقائمة على الت ِوحيد ُم ً‬
‫بنبيه صلى هللا عليه وسلم وبسائر اْلنبياء عليهم‬ ‫بالتوحيد‪،‬‬
‫السالم‪ِ .‬‬
‫نفاء﴾؛ أي‪ُ :‬معرضين مائلين عن سائر اْلديان اْلخالفة لدين التوحيد‪.‬‬
‫﴿ح َ‬ ‫ُ‬

‫إلى دين اإلسالم‪ ،‬ومائلين عن الشرك إلى التوحيد؛ وهذا شأن أهل االستقامة يميلون عن‬
‫ٌ‬ ‫الشرك‪ ،‬وحيثما علم أحدهم أن اْلمر ٌ‬
‫شرك لم تدعه عادة قديمة‪ ،‬وال فعل اآلباء واْلمهات‬
‫مسك بذلك الشرك؛ بل يبادر إلى التخلص من الشرك‪ ،‬وامليل إلى توحيد رب العاملين‬ ‫إلى ِّ‬
‫الت ِّ‬
‫سواء كان ذلك من الشرك اْلكبر أو كان من الشرك اْلصغر‪ِ .‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫وجل‪ُ ،‬ويعبد‬
‫عز ِّ‬ ‫بيئة ُيدعى فيها غير هللا َِّ‬
‫وأضرب لكم مثاال‪ :‬إن بعض املسلمين نشأوا في ٍ‬
‫وبين أهل الحق أن‬ ‫الحجة‪ِّ ،‬‬‫ِّ‬ ‫أصحاب القبور‪ُ ،‬وينذر لهم‪ ،‬وتقدم إليهم القرابين؛ فإذا جاءت‬
‫هذا من الشرك اْلكبر‪ ،‬وأن هذا ُيغضب هللا سبحانه وتعالى ُوب ِّين التوحيد؛ تجد املؤمن‬
‫الراغب في االستقامة يترك ما نشأ عليه ويهجره ويباعده إلى توحيد رب العاملين‪ِ ،‬وأما في‬
‫الشرك اْلصغر فهناك من املسلمين من نشأ على الحلف بغير هللا كالحلف بالنبي‪ ،‬والحلف‬
‫باْلمانة‪ ،‬والحلف برأس اْلب‪ ،‬وبرأس اْلم‪ ،‬فإذا ُب ِّين له أن هذا من الشرك والكفر وأن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪َ (( :‬من حلف بغير هللا فقد كفر أو أشرك)) وإن كان هذا من‬
‫ِّ‬
‫الشرك اْلصغر الذي ال يخرج من امللة؛ فإنك تجده يترك هذا وينفر منه‪ ،‬ويلزم ما أمر به‬
‫خاصة‪ ،‬وعدم الحلف بغير‬ ‫وجل ِّ‬ ‫النبي صلى هللا عليه وسلم من التوحيد بالحلف باهلل َّ‬
‫عز ِّ‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫عب ُدوا الل َه‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وخص الصَّلة والزكاة بالذكر مع أنهما داخَّلن في قوله‪﴿ :‬ل َي ُ‬
‫ِ‬
‫ين﴾؛ لفضلهما وشرفهما وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام‬ ‫صين َل ُه الد َ‬
‫َ‬
‫خل‬ ‫ُ‬
‫م ِ‬
‫بجميع شرائع الدين‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِّ‬ ‫كما أشرنا ُخ ِّ‬


‫صت إقامة الصالة بالذكر مع أنها من عبادة هللا؛ ْلنها أشرف العبادات‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫وخ ِّ‬
‫صت الزكاة بالذكر مع أنها من عبادة هللا؛ ْلنها أشرف العبادات املالية‪ِ .‬‬ ‫البدنية‬
‫وح فيها﴾ ؛‬ ‫اْلَّلئ َك ُة ُّ‬
‫والر ُ‬ ‫َ َ َّ ُ‬
‫دليل على الشرف‪﴿ ،‬تنزل ِ‬ ‫واملعلوم أن ذكر الخاص بعد العام ٌ‬
‫فذكر بعد العام؛ وهذا ٌ‬ ‫ُ‬
‫دليل على شرفه‬ ‫الروح‪ :‬هو جبريل عليه السالم‪ ،‬وهو من املالئكة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث ذكر مرتين‪ :‬ذكر في العموم‪ ،‬ثم ذكر بخصوصه‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وهنا إقامة الصالة ذكرت بعد ذكر عبادة هللا؛ فذكرت مرتين‪ :‬ذكرت في عبادة هللا‪ ،‬وذكرت‬
‫في خصوصها‪ ،‬وكذلك إيتاء الزكاة‪ِ .‬‬
‫والناس أعظم ما ُيبتلون به هو في الصالة وفي الزكاة؛ ففي العبادات البدنية ُيبتلى اإلنسان‬
‫بالصالة‪ ،‬وفي العبادات املالية ُيبتلى اإلنسان بالزكاة‪َ ،‬ومن قام بهما كان ً‬
‫مقيما لدينه‬
‫ً‬
‫محافظا على بقية الشرائع‪ِ .‬‬
‫أبدا من باب‬ ‫عابدا هللا في املال ً‬
‫ضيع الزكاة لم يكن ً‬ ‫ضيع دينه‪َ ،‬ومن ِّ‬ ‫َومن ِّ‬
‫ضيع الصالة ِّ‬
‫أولى‪ِ .‬‬
‫ُ َْ‬
‫ين الق ِي َم ِة﴾؛ أي‪ :‬الدين اْلستقيم‬‫﴿د‬ ‫هو‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫في‬ ‫اإلخَّلص‬ ‫هو‬ ‫التوحيد‬ ‫أي‪:‬‬ ‫﴾؛‬ ‫ك‬‫﴿و َٰذل َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫اْلوصل إلى جنات النعيم‪ ،‬وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم‪.‬‬
‫فسرناه على الظاهر هكذا‪ :‬أن هذا من إضافة الدين إلى ِّ‬
‫القيمة تجد أن‬ ‫ين ْال َقي َمة﴾ إذا ِّ‬ ‫﴿د ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الدين ِّ‬
‫القيم‪ ،‬فلماذا زيدت الهاء‬ ‫قيم‪ِّ ،‬‬‫دين ِّ‬ ‫القيم‪ٌ ،‬‬
‫الهاء هنا زيدت؛ ْلن الدين ُيقال‪ :‬الدين ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هنا؟ ِ‬
‫قال العلماء‪ :‬للمبالغة واملدح؛ الهاء زيادة للمدح واملبالغة فيه‪ِ .‬‬
‫القيمة املعتدلة‬ ‫قدر تقديره (اْلمة)؛ يعني دين اْلمة ِّ‬ ‫وبعض أهل العلم قال‪ :‬هنا محذوف ُم َّ‬
‫ِ‬
‫الوسط القائمة بالحق‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ َٰ‬ ‫ين َك َف ُروا م ْن َأ ْهل ْالك َتاب َو ْاْلُ ْشرك َين في َنار َج َه َّن َم َخالد َ‬
‫ين ِف َيها ۚ أولـ ِئ َك ُه ْم ش ُّر‬ ‫﴿إ َّن َّالذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫الصال َحات أ َولٰـئ َك ُه ْم َخ ْي ُر ْال َبرَّية (‪َ )٧‬ج َز ُاؤ ُه ْم ع َ‬
‫ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ‬‫ْال َبرَّية (‪ )٦‬إ َّن َّالذ َ‬
‫ند‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫‪371‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ْ‬ ‫َ َ َ َ ً َّ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬


‫ضوا َعن ُه ۚ‬
‫الل ُـه َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬ ‫َرِب ِه ْم َجنات َع ْد ٍن ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار خ ِال ِدين ِفيها أبدا ۖ ر ِض ي‬
‫َ َ‬ ‫َٰ‬
‫ذ ِل َك ِْل ْن خ ِش َي َرَّب ُه (‪.﴾)٨‬‬
‫في هذه اآليات ملا ذكر هللا عز وجل تفرق الناس في الدين فيما تقدم من اآليات؛ حيث‬
‫جاءت البينة الواضحة املظهرة للحق والدامغة للباطل‪ ،‬فتفرق الناس فيها‪ ،‬فمنهم من هدى‬
‫ً‬
‫وعنادا‪ ،‬فانقسم الناس إلى مؤمنين‬ ‫هللا فآمن واستقام‪ ،‬ومنهم من أعرض وكفر جح ِو ًدا‬
‫وكفار‪ ،‬بين هللا عز وجل في هذه اآليات حال أولئك الكفار وحال هؤالء املؤمنين‪ِ .‬‬
‫فالذين كفروا بمختلف مللهم في نار جهنم‪ ،‬في نار شديدة الحر‪ ،‬بعيدة القعر‪ ،‬سوداء‬
‫فيرتاحون‪ ،‬فهم في عذاب‬
‫مظلمة‪ ،‬ماكثين فيها أبدا‪ ،‬ال يحولون عنها وال يزولون‪ ،‬وال يموتون ِ‬
‫دائم ال يزولون عنه‪ ،‬وال يرجون الزوال عنه‪ ،‬وال يخفف عنهم‪ ،‬وال يألفونه فيخف عليهم‪،‬‬
‫وال يرجون موتا يرتاحون به من ذلك العذاب‪ ،‬وأولئك هم شر من خلق هللا‪ ،‬فهم شر‬
‫الخليقة حاال في الدنيا ومآال في اآلخرة‪ ،‬فهم في الحال في الدنيا بكفرهم أشر من الدواب‪،‬‬
‫وكيف ال يكونون كذلك وقد ظلموا أشد الظلم‪ ،‬فاهلل عز وجل خلقهم ورباهم‪ ،‬وأقام لهم‬
‫اآليات والبراهيم الساطعة على توحيده سبحانه وتعالى‪ ،‬وأرسل لهم الرسل‪ ،‬ومع ذلك‬
‫أعرضوا وظلموا أعظم الظلم‪ ،‬وجعلوا هلل ندا وهو خلقهم سبحانه وتعالى‪ ،‬وهم في مآلهم في‬
‫حال‪ ،‬في ذلكم العذاب الذي بينه هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫اآلخرة في أشر ٍ ِ‬
‫وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم خير الخليقة في حالهم ومآلهم‪ ،‬املؤمن خير من‬
‫مرض‬
‫فقر أو ٍ‬
‫خلق هللا في حاله حيث عبد هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ومهما كان حاله في الدنيا من ٍ‬
‫أو نحو ذلك فهو من خير الخليقة‪ ،‬وأما في املآل في اآلخرة فإن املؤمنين خير الخليقة حيث‬
‫أن جزاءهم عند ربهم جنات عدن؛ جنات إقامة دائمة‪ ،‬تجري من تحتها اْلنهار فتجري من‬
‫خمر ومن عسل‪،‬‬
‫لبن ومن ٍ‬
‫تحت قصورها ومن تحت بساتينها اْلنهار من ماء غير آسن‪ ،‬ومن ٍ‬
‫أيضا حيث شاء أهل الجنة؛ فتنتقل من مكان إلى مكان بحسب مشيئة أهل الجنة‬‫وتجري ً‬
‫ورغبتهم‪ ،‬حيث ال أخاديد لها ُ‬
‫تحدها‪ ،‬وذاك من تمام نعيم أهل الجنة‪ ،‬وهم في هذا النعيم‬
‫خالدون أبدا فال يحول عنهم النعيم وال يحولون عنه‪ ،‬وال يزول عنهم النعيم وال يزولون‬
‫ٌ‬
‫جديد عليهم مع مشابهته للنعيم الذي‬ ‫عنه‪ ،‬وال يملونه أبدا‪ ،‬بل كلما رزقوا نعيما كأنه‬

‫‪372‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قبله‪ ،‬فيرضون بجزائهم من ربهم‪ ،‬ويزداد رضاهم عن ربهم سبحانه وتعالى‪ ،‬ويزيدهم هللا عز‬
‫فيحل عليهم رضوانه حيث يقول سبحانه وتعالى ْلهل الجنة‪ :‬يا أهل الجنة؛‬ ‫وجل نعيما‪ُ ،‬‬
‫فيقولونِ‪ :‬لبيك ربنا وسعديك‪ ،‬فيقول سبحانه وتعالى‪ :‬هل رضيتم؟ ما أرحم هللا! وما أكرم‬
‫هللا سبحانه وتعالى! يقول ْلهل الجنة‪ :‬هل رضيتم؟ فيقولونِ‪ :‬وما لنا ال نرض ى وقد أعطيتنا‬
‫أحدا من خلقك‪ ،‬فيقول سبحانه‪ :‬أنا أعطيكم أفضل من ذلك‪ ،‬فيقولون‬ ‫ما لم تعط ً‬
‫ِ‬
‫مشتاقين ال منكرين‪ :‬يا ربنا أي ش يء أفضل من ذلك؟ هم مصدقون ما أخبرهم به ربهم‪،‬‬
‫لكنهم اشتاقوا إلى معرفة ما هو أفضل من ذلك النعيم الذي هم فيه‪ ،‬فيقول سبحانه‬
‫وتعالى‪ :‬أحل عليكم رضواني فال أسخط عليكم بعده أبدا‪ ،‬فيعظم نعيمهم‪ ،‬ويتم نعيمهم‬
‫حيث أنهم أمنوا من زوال ذلك النعيم‪ ،‬وأمنوا من زوالهم عن ذلك النعيم‪ ،‬فال موت وال‬
‫فوت وال ملل وال خروج من الجنة‪ ،‬وأمنوا سخط املالك لذلك النعيم‪ ،‬فأعطوا رضوانه‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فال منغص لهم في نعيمهم‪ ،‬بل نعيمهم في الجنة نعيم تام‪ِ .‬‬
‫وتلك الخيرية العظيمة والجزاء العظيم إنما هي ملن خش ي ربه الذي خلقه ورباه بالنعم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مقترنا بالتعظيم والرهبة من هللا عزوجل‪،‬‬ ‫وبعث له الرسل‪ ،‬فعلم شأن ربه وخاف خوفا‬
‫ً‬
‫اهبا لربه سبحانه وتعالى‪ ،‬فكانت تلك الخشية دافعة له إلى‬ ‫معظما ر ً‬
‫ً‬ ‫فكان عاملا خا ًئفا‬
‫منيعا في قلبه عن الشهوات املحرمة والوقوع فيما حرم‬ ‫ً‬
‫حصنا ً‬ ‫املسارعة في الخيرات‪ ،‬وكانت‬
‫ِّ‬
‫هللا‪ ،‬وإذا زلت القدم ووقع صاحبها فيما حرم هللا دعته خشيته لربه إلى الرجوع إلى ربه‬
‫واإلنابة إلى به‪ِ ،‬والتوبة من ذنبه؛ فمن رزق الخشية رزق ِّ‬
‫الجنة‪ِ .‬‬ ‫ر‬
‫عز وجل بأسمائه‬ ‫يتعرف إلى ربه‪ ،‬وأن يعرف هللا ِّ‬
‫وطريق هذه الخشية أن يتعلم املسلم وأن ِّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مقترنا بتعظيم ربه سبحانه وتعالى‪ ،‬وبالرهبة من‬ ‫وصفاته وبآياته؛ فيثمر ذلك في قلبه خوفا‬
‫ربه سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫جميعا بجنته‪ ،‬وأن يجعلنا ووالدينا‬ ‫عز وجل أن يرزقنا خشيته‪ ،‬وأن يكرمنا‬ ‫فنسأل هللا ِّ‬
‫النار‪ ،‬وكتبهم من أهل ِّ‬
‫الجنان‪ِ .‬‬ ‫وأحبابنا ممن أعتق قابهم من ِّ‬
‫ر‬

‫‪373‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات‪ ،‬ونرجع إلى التفسير التفصيلي‪ ،‬ونقرأ‬
‫عز وجل ونعلق على‬‫ما سطره اإلمام الفقيه املفسر اْلصولي املتفنن ابن سعدي رحمه هللا ِّ‬

‫ما يحتاج إلى تعليق‪ِ .‬‬


‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا وللسامعين‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َّ َّ َ َ َ‬
‫تاب‬
‫ِ‬ ‫الك‬
‫ِ‬ ‫هل‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫روا‬‫ف‬ ‫﴿إن الذين ك‬ ‫ثم ذكر جزاء الكافرين بعدما جاءتهم البينة فقال‪ِ :‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫نار َج َهن َم﴾‪.‬‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫كين‬ ‫شر‬
‫واْل ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ َ َ َ‬
‫شركين﴾؛ (من) هنا بيانية لهؤالء‬ ‫ِ‬ ‫اْل‬‫و‬ ‫تاب‬ ‫الك‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫هل‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫روا‬‫ف‬ ‫(إن) هنا للتأكيد‪ِ ﴿ :‬إن الذين ك‬
‫الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم‪ِ .‬‬
‫وجهنم سميت بذلك لبعد قعرها واشتداد سوادها؛ فهي بعيدة القعر‪،‬‬ ‫﴿في نار َج َه َّن َم﴾؛ ِّ‬
‫ِ‬
‫النار والعياذ باهلل‪ِ .‬‬ ‫شديدة السواد مظلمة‪ ،‬وذلك لشدة َّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ َ َ َ‬
‫نار َج َهن َم﴾ قد أحاط بهم عذابها‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫كين‬ ‫شر‬
‫ِ‬ ‫اْل‬‫و‬ ‫تاب‬ ‫الك‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫هل‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫روا‬ ‫ف‬ ‫﴿إن الذين ك‬‫فقال‪ِ :‬‬
‫دين فيه﴾ ال يفتر عنهم العذاب وهم فيها مبلسون‪ِ .‬‬ ‫واشتد عليهم عقابها‪﴿ ،‬خال َ‬
‫ِ‬
‫وال رجاء عندهم للموت‪ ،‬بل ُي ِئسوا من املوت‪ ،‬فال يرجون تخفيف العذاب‪ ،‬وال يرجون‬
‫االنتقال عنه‪ ،‬وال يرجون نهايته‪ ،‬بل هم خالدون مخلدون فيه والعياذ باهلل‪ ،‬وهذا في شأن‬
‫الكفار‪ِ .‬‬
‫أما من يدخلون النار من املؤمنين الستحقاقهم دخول النار وعدم عفو هللا عز وجل عنهم‬
‫فإنهم يعذبون فيها ما شاء هللا عز وجل‪ ،‬ثم يخرجون منها‪ ،‬أما الكفار فال‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ ُ ْ َ ُّ ْ‬
‫﴿أول ِئك هم شر الب ِري ِة﴾؛ ْلنهم عرفوا الحق وتركوه‪ ،‬وخسروا الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ْ‬
‫﴿ال َب ِرَّي ِة﴾ هي الخليقة‪ ،‬من البرء وهو‪ :‬الخلق واإليجاد‪ِ .‬‬
‫وذهب بعض العلماء إلى أن البرية من البراء‪ ،‬والبراء هو‪ :‬التراب‪ ،‬فيكون املعنى على هذا‪:‬‬
‫هم شر الناس؛ ْلن الناس هم الذين خلقوا من التراب‪ِ .‬‬
‫لكن اْلول أقرب وهللا أعلم؛ أن هذا من البرء وهو الخلق فهم شر الخليقة‪ ،‬وهم شر‬
‫الخليقة في الدنيا وفي اآلخرة في الحال واملآل‪ ،‬فمهما كان عند الكفار من دنيا‪ ،‬ومهما كان‬

‫‪374‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫عندهم من قوة دنيوية‪ ،‬فهم لكفرهم أشر من البهائم وأشر الخليقة‪ ،‬وكذا في اآلخرة فإنهم‬
‫أشر الخليقة ملا تقدم من جزائهم‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬ ‫َّ َ ُ َ ٰ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫ات أولـ ِئ َك ُه ْم خ ْي ُر ال َب ِرَّي ِة﴾ ْلنهم عبدوا هللا وعرفوه‬ ‫ح‬
‫ِ ِ‬ ‫ال‬‫الص‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫﴿إن ال ِذين آمنوا وع ِم‬
‫ِ‬
‫وفازوا بنعيم الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير الخليقة‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫ومن هنا ذهب جمع من العلماء إلى أن املؤمن من البشر خير من امللك‪ ،‬واملسألة ال يترتب‬
‫عليها ش يء‪ ،‬ومعروفة عند أهل العلم‪ ،‬لكن من أدلة القائلين إن املؤمن الصالح خير من‬
‫َ‬
‫امللك هذه اآلية‪ ،‬فاملؤمن الصالح خير الخليقة‪ِ .‬‬
‫الجزاء‬
‫وتلحظ هنا أن هللا في شأن املؤمنين قدم الثناء على الجزاء‪ ،‬وفي شأن الكافرين قدم ِ‬
‫على الذم‪ ،‬وسبب ذلك قال العلماء‪ :‬إن ثناء هللا على املؤمنين أعظم من جزائهم ولذلك‬
‫ُ‬
‫قدم الثناء على الجزاء‪ِ .‬‬
‫وجه آخر أن الثناء على املؤمنين في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فهم خير الخليقة في الدنيا وفي‬
‫ومن ٍ‬
‫اآلخرة‪ ،‬وأما الجزاء فإنه في اآلخرة‪ ،‬ومن هنا قدم هللا عز وجل الثناء على املؤمنين على‬
‫جزاءهم‪ِ .‬‬
‫َّ ُ‬ ‫﴿ج َز ُاؤ ُه ْم ع َ‬
‫لغاية‬
‫ٍ‬ ‫إقامة ال ظعن فيها وال رحيل وال طلب‬
‫ٍ‬ ‫ند َرِب ِه ْم َجنات َع ْد ٍن﴾ أي‪ :‬جنات‬ ‫ِ‬
‫َ‬

‫فوقها‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫َّ ُ‬ ‫﴿ َج َز ُاؤ ُه ْم ع َ‬
‫ند َرِب ِه ْم َجنات﴾ فهي ليس جنة واحدة‪ ،‬بل هي جنات كثيرة اْلشجار‪ ،‬عظيمة‬ ‫ِ‬
‫الظالل‪ِ .‬‬
‫﴿ َع ْد ٍن﴾ العدن هي اإلقامة الدائمة‪ ،‬فهي جنات إقامة دائمة‪ِ .‬‬
‫وقد تضمن هذا أن املؤمن في الجنة يرض ى بالنعيم الذي هو فيه‪ ،‬وال يطلب االنتقال عنه‪،‬‬
‫فمع أن أهل الجنة درجات إال أن كل مؤمن في الجنة يقنع بالدرجة التي هو فيها‪ ،‬وال يطلب‬
‫االنتقال عنها‪ِ .‬‬

‫‪375‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ولذلك يقول العلماء‪ :‬التفاضل في درجات الجنة تفاضل في كمال النعيم ال يستلزم‬
‫ً‬
‫نقصا‪ ،‬وهذا كثير مثل التفاضل في كالم هللا عز وجل‪ ،‬فإنه تفاضل في الكمال ال يستلزم‬
‫نقصا‪ ،‬فاملؤمن إذا دخل الجنة ورزق الدرجة التي قسمت له في الجنة يقنع بالنعيم الذي‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تحوال عنها‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫أعطيه‪ُ ،‬ويقيم في تلك الدرجة وال يطلب‬
‫َ َ َ َ ً َّ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َر ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار خ ِال ِدين ِفيها أبدا ر ِض ي الله عنهم و ضوا عنه﴾ فرض ي عنهم بما‬
‫ُ‬

‫قاموا به من مراضيه‪ ،‬ورضوا عنه بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل اْلثوبات‪ِ .‬‬
‫املؤمنون في الجنة يرضون بجزاء أعمالهم‪ ،‬بل يعلمون أنهم إنما دخلوا الجنة بفضل هللا ال‬
‫بأعمالهم‪ ،‬ونالوا درجاتهم في الجنة بحسب أعمالهم‪ ،‬فيرضون بجزائهم في الجنة‪ ،‬ويزداد‬
‫رضاهم عن ربهم‪ ،‬فإن املؤمن يرض ى عن ربه ويكتمل رضاه عن ربه في الجنة ‪-‬أسأل هللا أن‬
‫جميعا من أهلها‪ ،-‬ويرض ى عنهم هللا ُويحل عليهم رضوانه فيأمن ِون‬ ‫ً‬ ‫يجعلنا ووالدينا وأحبابنا‬
‫الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا أفضل لهم من ُكل نعيم ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الجنة الذي ينالونه‪ُ ،‬ويكرمهم‬ ‫سخط‬
‫ِّ‬
‫الله عز وجل باْلعظم واْلفضل‪ ،‬وهو النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َٰ‬
‫﴿ْل ْن خ ِش َي َرَّب ُه﴾ أي‪ْ :‬لن خاف الله فأحجم عن معاصيه وقام‬ ‫ِ‬ ‫الحسن‬ ‫الجزاء‬ ‫﴾‬ ‫﴿ذل َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫بما أوجب عليه‪.‬‬
‫بني على العلم‪ ،‬ومن ُرزق الخشية‬ ‫هيبة وتعظيم َم ٌ‬ ‫الخشية خوف خاص؛ فهي خوف مع ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫الجنة لهذه اآلية‪﴿ :‬ذ ِل َك ِْل ْن خ ِش َي َرَّبه﴾‪ِ .‬‬ ‫ُرزق َّ‬
‫َ‬
‫وينبغي على املؤمن أن يسعى في تحصيل هذه الخشية ِببذل أسبابها‪ ،‬ومن أعظم أسبابها‬
‫بالله عز وجل بمعرفة أسمائه وصفاته‪ ،‬ومن أسبابها أن ُي َ‬ ‫َّ‬
‫ربي اإلنسان نفسه على‬ ‫العلم‬
‫َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫ُ‬
‫بأن الل َه يراه‬ ‫اشتد إخالصه‪ ،‬وذكر نفسه‬ ‫َّ‬ ‫دائما‪ ،‬وكلما أراد طاعة‬ ‫الل َه ً‬ ‫املراقبة فيراقب‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫لربه وذكر نفسه ِّأن الله يراه‬ ‫اشتدت ُمراقبته ِّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫همت نفسه باملعصية‬ ‫ويسمعه‪ ،‬وإذا َّ‬
‫َ‬ ‫الخشية في القلب ُوت ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قوي الخشية في القلب‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫نتج‬ ‫ت‬ ‫اقبة‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ويسمعه؛ فهذه امل‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫الله َّ‬‫ِّ‬
‫كأنه يرى الله‪ ،‬فإن لم يكن‬ ‫ومن أسبابها أن َيحرص العبد على اإلحسان بأن َيعبد‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يقين من َّأن الله عز وجل سبحانه َيراه‪ِ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫وهو‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫يعبد‬ ‫ه‬ ‫فإن‬ ‫كذلك‬

‫‪376‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ‬
‫وبهذا نكون ختمنا تفسير هذه السورة‪ ،‬ونختم كالمنا عنها ببعض الفوائد العظمى ِ‬
‫والحكم‬
‫ُ‬
‫الكبرى ِمن هذه السورة‪ِ :‬‬
‫َّ‬
‫والسنة ُيؤدي إلى‬ ‫التمسك بالكتاب‬ ‫ُّ‬ ‫العظمى‪ :‬أن‬ ‫فمن تلك الفوائد الكبرى والحكم ُ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫بالبينة ِّ‬ ‫فالتمس ُك ِّ‬
‫والوحي كتاب الله‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫الوحي‪،‬‬ ‫التي هي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫التفرق املذموم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫االجتماع‪َ ،‬ويدفع‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ ُ‬ ‫َّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ‬ ‫َّ‬
‫ومثله‬ ‫الل ِه صلى الله علي ِه وسلم‪ ،‬فالنبي صلى الله علي ِه وسلم أوتي القرآن ِ‬ ‫وسنة رسول ِ‬
‫االجتماع الحقيقي‪ ،‬فال اجتماع مشروع‪ ،‬وال اجتماع نافع‪،‬‬ ‫معه‪ ،‬فالتمسك ِّ‬
‫بالبينة هو سبب ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫الله‪ِّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫والسنة‪ ،‬والتم ِّسك‬ ‫بالبينة‪ ،‬بالكتاب‬ ‫ِ‬ ‫بالتمسك بحبل ِ‬ ‫ُّ‬ ‫وال اجتماع على وجه حقيقة إال‬
‫التفرق املذموم‪ِ .‬‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫والسنة َيدفع‬ ‫بالكتاب‬
‫ى‪َّ :‬أن االجتماع على الحق هو االجتماع الشرعي‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫وأن ما عداه‬ ‫ومن فوائد هذه السورة الكبر ِ‬ ‫ِ‬
‫تفرق‪ ،‬فاالجتماع املحمود واالجتماع املطلوب هو االجتماع على الحق‪ِ .‬‬ ‫ُّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫والسنة‬ ‫ومن فوائد هذه السورة الكبرىِ‪َّ :‬أن سبب ا ِالفتراق في اْلمة مع ُوجود الكتاب‬
‫َّ‬
‫والسنة‪ِ .‬‬ ‫والطائفة املنصورة َّإنما هو اْلهواء وعدم االهتداء الصادق بالكتاب‬
‫ِّ‬ ‫َّ َّ َ‬
‫التفرق الذي ُيوجد في أمة محمد صلى الل ُه َعل ْي ِه َو َس ِل ْـم مع َّأن أسباب االجتماع‬
‫ُّ‬ ‫سبب هذا‬
‫والسنة موجودون ُ‬
‫وهم‬ ‫َّ‬ ‫والسنة موجودة‪ ،‬والقائمون بالكتاب‬ ‫َّ‬ ‫موجودة‪ ،‬فالكتاب موجود‪،‬‬
‫سببه اْلهواء‪ ،‬وعدم‬ ‫الدين في هذه اْلمة ُ‬ ‫تفر ًقا في ِّ‬
‫الطائفة املنصورة‪ ،‬ومع ذلك نرى ُّ‬
‫ِ‬
‫والسنة‪ِّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫تزعم َّأنها تهتدي بالكتاب‬
‫كل الف َرق ُ‬ ‫َّ‬
‫ولكن‬ ‫االهتداء الصادق بالكتاب والسنة‪ِ ُّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫والسنة سبب‬ ‫الشأن كله في الصدق في هذا االهتداء‪ ،‬فعدم الصدق في االهتداء بالكتاب‬
‫ِّ‬
‫التفرق املذموم‪ِ .‬‬ ‫لهذا‬
‫من فوائد هذه السورة الكبرىِ‪َّ :‬أن الكفر ينحط بصاحبه عن درجة ُحسن ِاإلنسان حتى‬
‫َّ‬
‫الل ُه ِّ‬
‫عز ِّ‬
‫وجل‬ ‫يصير أسوأ من البهائم؛ َّأن الكفر ينحط بصاحبه عن درجة ُحسن اإلنسان‪،‬‬
‫ولكن الكفر ينحط بصاحبه عن هذه الدرجة حتى ُيصبح‬ ‫خلق اإلنسان في أحسن تقويم‪َّ ،‬‬

‫خيرا منه‪ِ .‬‬ ‫أشر من البهائم‪ُ ،‬وتصبح البهائم ً‬ ‫َّ‬


‫تغتر بذلك؛‬‫أيت في أيدي الكافرين من نعيم الدنيا وزخارفها وتنظيمها والقوة فال ِّ‬ ‫فمهما َ‬
‫ر‬
‫وأنهم ُّ‬
‫أشر من البهائم‪ِ .‬‬ ‫شر الخليقة‪َّ ،‬‬ ‫بل اعلم ً‬
‫يقينا َّأنهم ُّ‬

‫‪377‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِّ‬
‫وأصل املدح إنما هو باإليمان‪َّ ،‬أن‬ ‫َ‬ ‫َّ ِّ‬
‫الرفعة الحقيقية‬
‫من فوائد هذه السورة العظمى‪ :‬أن ِ‬
‫ِّ‬ ‫وأن َ‬ ‫الرفعة الحقيقية في الدنيا واآلخرة َّ‬ ‫ِّ‬
‫أصل مدح اإلنسان إنما هو باإليمان‪ ،‬ولذلك يخطئ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫شنيعا َمن يمدح َّ‬
‫ُ‬
‫فأصل املدح‬ ‫الكفار ِمن أجل الدنيا ويذ َم املؤمنين من أجل الدنيا؛‬ ‫ً‬ ‫خطأ‬
‫القرب ُ‬ ‫والذم بحسب ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫والبعد‪ِ .‬‬ ‫يحصل لإلنسان من املدح‬ ‫وشرطه هو اإليمان‪ ،‬ثم‬
‫التفاوت في الخيرية بين املؤمنين في الدنيا واآلخرة ٌّ‬
‫مبني‬ ‫ُ‬ ‫من فوائد هذه السورة العظمى‪َّ :‬أن‬
‫الله ِّ‬‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫الرفعة في الدرجة في الدنيا‬ ‫التفاوت في اإليمان والعمل الصالح‪ ،‬فإذا أردت يا عبد‬ ‫على‬
‫أجل أعمالك الصالحة اْلخالق‬ ‫واآلخرة فعليك باالجتهاد في إيمانك وأعمالك الصالحة‪ ،‬ومن ِّ‬
‫ِ‬
‫وح ً‬ ‫وصالحا في اْلعمال ُ‬
‫ً‬ ‫وكلما ازددت ِّ‬‫َّ‬
‫سنا‬ ‫قوة في اإليمان‬ ‫الحسنة الصالحة‪ ،‬اجتهد في هذا‪،‬‬
‫في اْلخالق كلما ازددت رفعة عند هللا وعند املؤمنين‪ِ .‬‬
‫فاحرص رعاك هللا على إكرام نفسك بهذا اْلمر‪ ،‬وإياك والتوقف‪ ،‬فمهما بلغت من خير‬
‫فسارع إلى خير أعظم‪ ،‬واجتهد في تحصيل ذلك لتكون من أهل املراتب العليا في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ِ .‬‬
‫وبهذا نختم الكالم عن سورة البينة ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪378‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الزلزلة‪:‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ََ َ ْ َ ُ َ‬
‫نسان َما ل َها (‪)3‬‬ ‫اإل‬ ‫ال‬ ‫ق‬‫و‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ا‬‫ه‬‫ض َأ ْث َق َال َ‬ ‫ََ ْ َ َ َْ‬
‫اْل ْر ُ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ج‬ ‫ر‬‫خ‬ ‫أ‬‫و‬ ‫)‬ ‫‪1‬‬ ‫(‬ ‫ا‬‫ه‬‫َ‬ ‫َ ُْ َ ْ َْ ُ ْ َ َ‬
‫ال‬‫﴿إذا زل ِزل ِت اْلرض ِزلز‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ ْ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ ُ ْ‬
‫اس أشتاتا ِل ُي َر ْوا‬ ‫َي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث أخ َبا َر َها (‪ِ )4‬بأ َّن َرَّب َك أ ْو َح ٰى ل َها (‪ )5‬يوم ِئ ٍذ يصدر الن‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ‬
‫أعمالهم (‪ )6‬فمن يعمل ِمثقال ذر ٍة خيرا يره (‪ )7‬ومن يعمل ِمثقال ذر ٍة شرا يره (‪ِ .﴾)8‬‬
‫هذه السورة اختلف العلماء من السلف والخلف هل هي مكية أو مدنية؛ واْلقرب وهللا‬
‫أعلم أنها مكية‪ِ .‬‬
‫وفي هذه السورة يخبر ربنا سبحانه وتعالى عما يكون عند قيام الساعة‪ ،‬وذلك إذا تحركت‬
‫اضطرابا شديدا‪ ،‬وذلك عند النفخة اْلولى في‬
‫ِ‬ ‫اْلرض من باطنها حركة شديدة واضطربت‬
‫الصور‪ ،‬وأخرجت اْلرض ما في باطنها من املقبورين والكنوز وغيرها‪ ،‬فخرج الناس من‬
‫قبورهم يتمايلون كأنهم سكارى وما هم بسكارىِ‪ِ .‬‬
‫وعند ذاك يقول الناس‪ :‬مال لألرض تغيرت أحوالها فاضطربت بعد أن كانت مستقرة‪،‬‬
‫وأخرجت ما في باطنها وكشفته بعد أن كانت ساترة له؟ ِ‬
‫وفي يوم الحساب تحدث اْلرض بأخبارها‪ ،‬وتشهد على أهلها بما صنعوا عليها من خير أو‬
‫شر‪ ،‬فويحك أيها اإلنسان؛ كيف تجرؤ على معاص ي هللا سبحانه وتعالى إذا خلوت بها وهللا‬
‫عز وجل يراك ويسمعك ويشهد عليك وكفى باهلل شهيدا؟! واملالئكة تكتب عليك وتشهد‬
‫عليك‪ ،‬وجوارحك تشهد عليك‪ ،‬واْلرض التي أنت عليها تشهد عليك‪ِ .‬‬
‫وتحديث اْلرض بأخبارها وشهادتها على أهلها إنما هو بإذن هللا عز وجل لها‪ ،‬وأمره لها‬
‫بذلك‪ ،‬فعند ذاك تتكلم وتشهد على أهلها وعند ذلك يكون الناس أصنافا في الحساب ليروا‬
‫أعمالهم‪ِ .‬‬
‫فمن الناس من يكرمه هللا عز وجل فال يحاسب؛ فيدخل الجنة بغير حساب وال عذاب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ‬
‫أولئك خلص املؤمنين الذين عظم توكلهم على هللا عز وجل‪ ،‬وخلص توكلهم على ربهم‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬

‫‪379‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومن الناس من ُيدني عليه ربه كنفه‪ ،‬ويعرض عليه أعماله ً‬


‫عرضا‪ ،‬حتى إذا رأى أنه قد‬ ‫ِ‬
‫هلك قال الرحيم سبحانه وتعالى‪(( :‬سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم))؛ فال‬
‫ً‬
‫تقريرا ‪ِ .‬‬ ‫يفضح بين الخالئق وال يعذب وإنما يقرر بأعماله‬
‫ومن الناس من يناقش الحساب ويناقش أعماله‪ ،‬ويقال له‪ :‬قد أنعم هللا عليك بكذا فما‬
‫عملت؟ وملاذا عملت؟ وقد عملت في اليوم الفالني كذا فلماذا عملت؟ وهذا والعياذ باهلل‬
‫ِّ‬
‫يعذب؛ فمن نوقش الحساب ُع ِذب‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫فضحاعلى رؤوس الخالئق‪ ،‬وأولئك هم الكفار‬ ‫ومن الناس من ُيفضح يوم القيامة‬
‫فيجعل لكل غادر‬ ‫واملنافقون وبعض العصاة من املؤمنين‪ ،‬كالغدرة الذين يغدرون بالناس‪ُ ،‬‬
‫منهم لواء عند إسته ويقال‪ :‬هذه غدرة فالن‪ ،‬وكاملرائين الذين يفضحون يوم القيامة‪،‬‬
‫وكالرجل املعدد املتزوج بأكثر من زوجة وال يعدل بين زوجاته فيما يملك‪ ،‬وكمن يغتصب‬
‫اْلرض‪ ،‬أولئك ُيفضحون على رؤوس الخالئق عند الحساب‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وبعد الحساب يصدرون من موقف الحساب أصنافا ُلي َروا جزاء أعمالهم؛ فمنهم سعيد‬
‫ََ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫ينقلب إلى أهله مسرورا ويقولِ‪َ ﴿ :‬هاؤ ُم اق َر ُءوا ِكت ِاب َي ْه (‪ِ )19‬إ ِني ظننت أ ِني ُمَّل ٍق ِح َس ِاب َي ْه‬
‫شقي يدعو ً‬
‫ثبورا؛‬ ‫(‪[ ﴾)20‬الحاقة‪ ،]20-19 :‬فيساق إلى الجنة في غاية اإلكرام‪ ،‬ومنهم ٌّ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ‬
‫ويقولِ‪َ ﴿ :‬يا ل ْيت ِني ل ْم أوت ِكت ِاب َي ْه (‪َ )25‬ول ْم أ ْد ِر َما ِح َس ِاب َي ْه (‪[ ﴾)26‬الحاقة‪،]26-25 :‬‬
‫ُويساق إلى النار في غاية اإلهانة‪ِ .‬‬
‫شيئا ولو أقل القليل؛ فمن يعمل وزن ذر ٍة وهي‬ ‫وفي ذلك اليوم ال يفقد اإلنسان من عمله ً‬

‫النملة الصغيرة أو أقل من ذلك أو أكبر سيراه‪ ،‬ومن يعمل من الخير وزن ذرة وهي النملة‬
‫الصغيرة أو أقل من ذلك أو أكبر سيراه ويوزن في ميزانه‪ ،‬ومن يعمل وزن ذر ٍة أو أقل من‬
‫ِّ‬
‫يكفره هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ذلك أو أكبر من شر سيراه ويوضع في ميزانه إن لم ِ‬
‫خير يوم القيامة‪ ،‬بل عمله كله ٌ‬
‫هباء منثور وال يجد إال ًّ‬
‫شرا؛ ْلن الكافر ال‬ ‫والكافر ليس له ٌ‬
‫جدال أنه عمل العمل هلل عز وجل فإنه ال يكون ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫متبعا‬ ‫يعمل العمل هلل عز وجل‪ ،‬ولو فرض‬
‫لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فال يكون ش ٌيء في ميزان يوم القيامة من أعماله ً‬
‫خيرا‬
‫ً‬
‫أبدا؛ ْلن الخير يوم القيامة هو ما كان هلل عز وجل على سنة رسول هللا صلى هللا عليه‬

‫‪380‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وسلم‪ ،‬وأما في الدنيا فقد يؤتيه هللا عز وجل من الدنيا جزاء لعمله على ظاهره من الخي ِر‬
‫وقد ال يؤتيه ذلك‪ ،‬وأما الشر فإنه يراه كله يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫وأما املؤمن فإن كل عمل صالح يعمله سيراه يوم القيامة أعظم وأفضل وأكبر مما عمله في‬
‫الدنيا‪ ،‬وأما الشر فإن هللا عز وجل فتح للمؤمن أبواب تكفير الذنوب وأعظمها وأكبرها‬
‫وأوسعها عفو هللا عز وجل ورحمته ومغفرته سبحانه وتعالى‪ ،‬ومنها االستغفار والتوبة‬
‫بالرجوع إلى هللا عز وجل‪ ،‬فإن بقي عليه شر لم يغفر يجده يوم القيامة ويكون في ميزانه‬
‫يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫واإلنسان ال يأمن أن يؤاخذ بشره‪ ،‬فعلى اإلنسان أن يتعظ ويعتبر‪ ،‬وأن يحرص على أال‬
‫يرى أمامه يوم القيامة إال خيرا يسره‪ ،‬تثقل به ميزان حسناته‪ ،‬وليتفقد نفسه في املعاص ي‪،‬‬
‫فإن وجد أنه على معصية مقيم فليرجع عنها وليتب إلى هللا عز وجل توبة صادقة‪ ،‬وإن وجد‬
‫أنه سبقت منه ذنوب فليكثر االستغفار وليتب منها ليتخلص منها وهو في هذه الدنيا‪ ،‬وإن‬
‫كان الذنب يتعلق بعباد هللا عز وجل وبحقوق عباد هللا عز وجل؛ فإن كانت من اْلمور التي‬
‫ترد فليبادر بردها إلى أهلها‪ ،‬وليتلطف في ردها إلى أهلها‪ ،‬ولو كان ذلك قد وقع منه قبل‬
‫سنين كثيرة فإنه يبادر بردها إلى أهلها‪ ،‬وال يلزم أن يخبرهم أنه مذنب أو أنه الفاعل‪ ،‬وإنما‬
‫الواجب أن يردها إلى أهلها‪ ،‬وإذا كانت مما ال يرد كما يتعلق بالكالم في العرض والغيبة‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإن كان املجني عليه قد علم بذنب اإلنسان وأنه قد اغتابه أو تكلم في عرضه‬
‫فليذهب إليه وليتحلله وليحاول أن يرضيه بما استطاع لعله أن يسلم من ذلك الشر‪ ،‬وإن‬
‫كان املجني عليه لم يعلم بذلك الذنب‪ ،‬فإن كان يعلم منه أنه تطيب نفسه ويعفو ويسامح‪،‬‬
‫فليتحلله وإن لم يأمن ذلك وخش ي أن يقع بينه وبين أخيه شر وأال يترتب على إخباره خير‪،‬‬
‫فإنه يكفيه أن يذكره بخير هو فيه وأن يدعو له‪ ،‬وأن يكثر من الدعاء له‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬ثم نعود إلى التفسير‬
‫التفصيلي لهذه السورة‪ ،‬ونقرأ من تفسير اإلمام ابن سعدي رحمه هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫والسامعين‪ :‬يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة وأن اْلرض تتزلزل وترجف وترتج حتى‬

‫‪381‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫يسقط ما عليها من بناء ومعلم‪ ،‬فتندك جبالها‪ ،‬وتسوى تَّللها وتكون قاعا صفصفا ال‬
‫عوج فيه وال أمتا‪ِ .‬‬
‫والزلزلة‪ :‬هي الحركة واالضطراب‪ ،‬وزلزلت أي‪ :‬تحركت من أصلها‪ ،‬واضطربت اضطر ًابا‬
‫شديدا‪ِ .‬‬
‫َ ُْ َ ْ َْ ُ ْ َ‬
‫ض ِزل َزال َها} املصدر هنا للتأكيد‪ ،‬وبيان أن الزلزلة على وجه الحقيقة وليست‬‫{ ِإذا زل ِزل ِت اْلر‬
‫ُ ِّ‬
‫زلزلة معنوية‪ ،‬بل هي زلزلة حقيقية‪ ،‬والفعل إذا أ ِكد بمصدره دل ذلك على أن معناه على‬
‫وجه الحقيقة ال على الوجه املعنويِ‪ِ .‬‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َْ ُ َ ْ َ َ‬
‫ض أثقال َها﴾؛ أي‪ :‬ما في بطنها من اْلموات والكنوز‪.‬‬ ‫﴿وأخرج ِت اْلر‬
‫واإلنسان وهو في باطن اْلرض ثقل لألرض‪ ،‬وهو حي على اْلرض ثقل على اْلرض‪ِ .‬‬
‫العلماء يقولونِ‪ :‬اإلنسان إذا كان حيا فهو ثقل على اْلرض‪ ،‬وإذا كان ميتا مقبورا في اْلرض‬
‫فهو ثقل لألرض‪ِ .‬‬
‫وبعض العلماء فسر اْلثقال هنا فقط باملقبورين‪ ،‬ولكن الصحيح أن هذا عام يشمل‬
‫املقبورين والكنوز وغيرها مما في هو جوف اْلرض‪ِ .‬‬
‫ََ َ ْ َ ُ َ‬
‫نسان َما ل َها﴾‪.‬‬ ‫اإل‬
‫﴿وقال ِ‬
‫ََ َ ْ َ ُ‬
‫نسان﴾ قيل‪ :‬اإلنسان هنا هو جنس اإلنسان‪ ،‬فكل إنسان يقول ذلك‪ِ .‬‬ ‫اإل‬
‫﴿وقال ِ‬
‫وقيل‪ :‬هو الكافر‪ ،‬أما املؤمن فهو يعلم بإيمانه ملاذا حدث هذا‪ ،‬وإنما الذي يقول هذا هو‬
‫الكافر الذي كان منكرا لقيام الساعة وللبعث‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه إنسان بعينه يقول هذا الكالم‪ِ .‬‬
‫لكن الذي عليه اْلكثر وهو اْلظهر أنه جنس اإلنسان‪ ،‬فاإلنسان يقول ذلك من هول ما‬
‫يرى في ذلك الوقت‪ِ .‬‬
‫ََ َ ْ َ ُ‬
‫نسان﴾ إذا رأى ما عراها من اْلمر العظيم مستعظما لذلك‪.‬‬ ‫اإل‬
‫﴿وقال ِ‬
‫َ‬
‫﴿ َما ل َها﴾‪ .‬؛ أي‪ :‬أي ش يء عرض لها؟‬
‫فجعلها تضطرب بعد استقرار‪ ،‬وتخرج ما في جوفها بعد أن كانت تستره‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫﴿ َي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث﴾ اْلرض‪﴿ ،‬أخ َبا َر َها﴾‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫﴿ي ْو َم ِئ ٍذ﴾ أي‪ :‬يوم القيامة يوم الجزاء يوم الحساب‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫ُ ُ‬
‫﴿ت َح ِدث﴾؛ أي‪ :‬تخبر وتتكلم على وجه الحقيقة بأمر هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ُ ُ َ ْ‬
‫﴿ي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث أخ َبا َر َها﴾؛ أي‪ :‬تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر‪،‬‬
‫َ‬

‫فإن اْلرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم‪.‬‬


‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬تحديث اْلرض بأخبارها هو إخراجها للمقبورين من قبورهم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ِّ :‬إن تحديث اْلرض بأخبارها أنها تحدث الناس إذ ذاك أن القيامة‬
‫قامت‪ ،‬فإذا خرج الناس من قبورهم تحدثهم اْلرض أن القيامة قامت‪ِ .‬‬
‫لكن اْلظهر وهللا أعلم أن تحديثها بأخبارها هو شهادتها على أهلها بما صنعوا عليها من خير‬
‫أو شر‪ ،‬وهذا من كالم ربنا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ََ َ ْ َ ُ َ‬
‫نسان َما ل َها (‪َ )3‬ي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث‬ ‫اإل‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هذا تتمة كالم اإلنسان‪﴿ :‬وقال ِ‬
‫َ ْ‬
‫أخ َبا َر َها (‪ ،﴾)4‬فيكون كأن اإلنسان قال‪ :‬ما لها في ذلك اليوم تحدث أخبارها؟ ِ‬
‫َ‬
‫ولكن اْلول أرجح وأن كالم اإلنسان ينتهي عند قوله‪َ ﴿ :‬ما ل َها﴾‪ ،‬ثم يخبر هللا عز وجل بهذا‬
‫ُ ُ َ ْ‬
‫الخبر العظيم ﴿ َي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث أخ َبا َر َها﴾‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ َّ َ َ ْ َ ٰ َ‬
‫ذلك ﴿ ِبأن ربك أوحى لها﴾‪ِ .‬‬
‫(الباء) هنا سببية؛ أي‪ :‬بسبب أن ربك أ ِوحى لها‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿بأ َّن َرَّب َك أ ْو َح ٰى ل َها﴾؛ أي‪ :‬أمرها أن تخبر بما عمل عليها فَّل تعص ي أمره‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫فمعنى أوحى لها أذن لها وأمرها‪ ،‬فتطيع ربها وتتكلم على وجه الحقيقة‪ ،‬هذا الصحيح من‬
‫كالم العلماء ِ‬
‫َ ْ َ ً‬ ‫َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ‬
‫الن ُ‬
‫اس﴾ من موقف القيامة حين يقض ي هللا بينهم‪﴿ ،‬أشتاتا﴾؛ أي‪ :‬فرقا‬ ‫﴿يوم ِئ ٍذ يصدر‬
‫متفاوتين‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬يصدرون أشتاتا إلى فرقتين‪ :‬كافرين ومنافقين هذه فرقة‪ ،‬ومؤمنين هذه فرقة‬
‫ى‪ِ .‬‬
‫أخر ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪َ :‬‬
‫﴿ي ْو َم ِئ ٍذ﴾؛ أي‪ :‬عند قيام الساعة‪ ،‬يصدر الناس من قبورهم‬
‫أشتاتا وفرقا يساقون إلى أرض املحشر‪ِ .‬‬

‫‪383‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬
‫﴿ل ُي َر ْوا أ ْع َمال ُه ْم﴾؛ أي‪ :‬ليريهم هللا ما عملوا من السيئات والحسنات‪ ،‬ويريهم جزاءه‬ ‫ِ‬
‫ََ َ َْ ْ َْ َ َ َ‬ ‫ََ َ َْ ْ َْ َ َ َ‬
‫ال ذ َّر ٍة ش ًّرا َي َر ُه (‪.﴾)8‬‬‫ال ذ َّر ٍة خ ْي ًرا َي َر ُه (‪ )7‬ومن يعمل ِمثق‬‫ُم َوفرا‪﴿ ،‬فمن يعمل ِمثق‬
‫الذرة معروفة عند العرب والزالت إلى اليوم وهي النملة الصغيرة‪ِ .‬‬
‫وقد ذكر بعض العلماء أن النمل الصغير ال وزن له‪ ،‬وذكروا أن أحد السلف أخذ قطعة‬
‫قد اجتمع عليها النمل الصغير وزنها قبل ذلك‪ ،‬ثم وضعها فاجتمع عليها النمل فوزنها بعد‬
‫ذلك‪ ،‬فوجد وزنها واحدا‪ ،‬فقالوأ‪ :‬إن هذا الذر الصغير ‪-‬النمل الصغي‪-‬رال يكاد أن يكون له‬
‫وزن‪ ،‬وإذا كان هذا بهذا الحجم سيوجد في امليزان فمن باب أولى ما كان أكبر منه مما يكون‬
‫له وزن وثقل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الذرة هي واحدة الغبار‪ ،‬فأنت إذا ضربت اْلرض يثور الغبار ذرات‪،‬‬
‫فالذرة هي واحدة الغبار‪ ،‬وهي ال وزن لها‪ ،‬والعرب تضرب املثل للقلة الشديدة بالذر‪ِ .‬‬
‫الخير فإنه سيجده اإلنسان‪ِ .‬‬
‫فاملقصود أنه مهما قل العمل من ِ‬
‫بعض املعاصرين الذين أغرقوا في التفسير العلمي للقرآن قالوا‪ :‬الذرة هي الذرة التي‬
‫يتحدث عنها العلماء اليوم في اْلمور النووية‪ ،‬وهذا في الحقيقة إسراف في حمل القرآن على‬
‫معان ال يليق أن يحمل عليها القرآن‪ ،‬فإن القرآن أنزل ليفهم في جميع اْلزمان‪ ،‬فال يليق‬
‫حمله على مثل هذه اْلمورِ‪ِ .‬‬
‫وقد أشرت في التفسير اإليماني إلى أن العلماء قالوا إن اإلنسان إما أن يكون كافرا وإما أن‬
‫يكون مؤمنا‪ ،‬فإن كان كافرا فإنه يوم القيامة ال يجد إال شرا‪ ،‬ال يحضر له إال شر‪ ،‬لن‬
‫يكون له خير يوم القيامة‪ ،‬بل كل ما عمله مما ظاهره أنه خير يكون هباء منثورا يوم‬
‫القيامة؛ ْلنه ليس خيرا‪ ،‬فهو ليس هلل وال على سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وأما في الدنيا فقد َ‬
‫يجازى من الدنيا على الدنيا على ظاهر ما عمله من ظاهر أنه خير‪ ،‬وأما‬
‫الشر فيجده يوم القيامة ال يفقد منه شيئا‪ِ .‬‬
‫وأما املؤمن فخيره محفوظ له يجده يوم القيامة أوفر مما عمل‪ ،‬وأما الشر فاهلل جعل له‬
‫مكفرات عدها بعض العلماء عشرة َّ‬
‫يكفر بها الشر الذي يعمله املؤمن‪ ،‬فإن وافى بشره ولم‬
‫ُ‬
‫يعف هللا عنه فإنه يجد ذلك في ميزان حسناته‪ ،‬والعاقل يعلم أنه إذا عمل الشر فإنه كتب‬

‫‪384‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫باملكفرات‪ ،‬فقد ال يوفق إليها أصال‪ ،‬وقد يكون اغتراره سببا ملنعه‬
‫ِ‬ ‫عليه‪ ،‬فال ينبغي أن يغتر‬
‫من التكفير ‪-‬من تكفير ذنبه‪ِ .-‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬وهذا شامل عام للشر والخير كله؛ ْلنه إذا رأى مثقال الذرة التي هي‬
‫أحقر اْلشياء وجوزي عليها فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫﴿ي ْو َم‬
‫ض ًرا وما َعم َل ْت من ُسوء َت َو ُّد َل ْو َأ َّن َب ْي َن َها َو َب ْي َن ُه َأ َمداً‬
‫َتج ُد ُك ُّل َن ْفس َّما َعم َل ْت م ْن َخ ْير ُّم ْح َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َ ُ َ َ‬ ‫َ ً‬
‫اض ًرا ۗ ﴾ [الكهف‪ ]49 :‬وهذا فيه‬ ‫ب ِعيدا﴾ [آل عمران‪﴿ ،]30 :‬ووجدوا ما ع ِملوا ح ِ‬
‫الترغيب في فعل الخير ولو قليَّل‪ ،‬والترهيب من فعل الشر ولو حقيرا‪ِ .‬‬
‫وهذه اآلية عامة كما ذكر الشيخ‪ ،‬ولذلك ملا سأل الصحابة رضوان هللا عليهم النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم عن الحمير؛ يعني‪ :‬علموا فضل الخيل في الجهاد‪ ،‬فسألوا عن الحمير ماذا‬
‫فيها‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ما أنزل علي فيها ش يء إال هذه اآلية العامة‪:‬‬
‫ََ َ َْ ْ َْ َ َ َ‬
‫ال ذ َّر ٍة خ ْي ًرا َي َر ُه﴾))‪ ،‬فهذه اآلية عامة في كل خير يعمله اإلنسان‬‫﴿فمن يعمل ِمثق‬
‫بالشرطين املعروفين‪ :‬اإلخالص هلل عز وجل‪ ،‬واملتابعة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وبهذا نكون أنهينا تفسير سورة الزلزلة‪ ،‬والفائدة الكبرى من هذه السورة‪ِ :‬‬
‫تحذير املؤمنين من فعل املحرمات‪ ،‬وتنمية املراقبة هلل عز وجل باملسارعة إلى الخيرات‬
‫واجتناب املحرمات‪ِ .‬‬
‫واملؤمن يحرص على أن يبتعد عن كل ذنب؛ ْلنه ال ينظر إلي وزن الذنب ولكن ينظر إلى أنه‬
‫يعص ي هللا به‪ِ .‬‬
‫خل الذنـ ـ ـ ــوب صغيرها وكبيرها فهو التقى ِ‬
‫واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرىِ ِ‬
‫ال تحقرن صغيرة إن الجبـ ـ ـ ــال من الحص ى ِ‬
‫كما أن املعلوم أن الذنوب ظلمة على القلب‪ ،‬فكلما أذنب العبد ذنبا ولو صغيرا أظلم جزء‬
‫من قلبه‪ ،‬فإن زاد زادت الظلمة‪ ،‬ولربما زادت على القلب حتى انغلق تماما ورانت عليه‬
‫والعياذ باهلل‪ ،‬أما إذا تاب ونزع ورجع عن ذنبه فإن تلك الظلمة تزال من القلب‪ِ .‬‬

‫‪385‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ولذلك املؤمن يخاف خوفا شديدا من الذنوب مهما صغرت؛ ْلنها ظلمة في قلبه ويخاف‬
‫أن تزداد عليه حتى يظلم القلب بالكلية‪ ،‬وكما هو معلوم عند العلماء أن من شؤم املعاص ي‬
‫أنها قيود عن الخير‪ ،‬من شؤم املعاص ي أنها حبال تقيد اإلنسان عن الخير‪ ،‬فقد يمنع‬
‫اإلنسان من قيام الليل لذنوب النهار‪ ،‬قد يمنع من قيام الليل بالكلية وال يقوم الليل لكثرة‬
‫ذنوبه‪ ،‬وقد يمنع من قيام الليل في ليلة بسبب ذنوب نهاره‪ ،‬فاملؤمن ال يتساهل في الذنوب‬
‫أبدا‪ ،‬وال ينظر هل هذه كبيرة أو صغيرة وإنما ينظر إلى عاقبة الذنب‪ ،‬فيراقب هللا عز ِوجل‪،‬‬
‫وتعظم تقواه لربه سبحانه وتعالى‪ ،‬فيكون متقيا هلل حيث كان مبتعدا عن املحرمات‪ ،‬فإذا‬
‫وقعت السيئة عمل على تكفيرها بتوبة أو بأن يتبعها حسنة إن كانت من الصغائر حتى‬
‫يمحوها بتلك الحسنة‪ِ .‬‬
‫هذا من أعظم مقاصد هذه السورة وفوائدها العظمى وحكمها الكبرىِ‪ِ .‬‬

‫‪386‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة العاديات‬
‫بسم هللا الرحمان الرحيم‬
‫َََ َ َ ْ‬ ‫ض ْب ًحا (‪َ )1‬ف ْاْلُور َيات َق ْد ًحا (‪َ )2‬ف ْاْلُغ َيرات ُ‬ ‫﴿و ْال َعاد َيات َ‬
‫ص ْب ًحا (‪ )3‬فأث ْرن ِب ِه نق ًعا (‪)4‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫ود (‪َ )6‬وإ َّن ُه َع َلى َذل َك َل َشه ٌ‬
‫يد (‪َ )7‬و ِإن ُه ِل ُح ِب‬ ‫ان ل َربه َل َك ُن ٌ‬
‫َّ ْ ْ َ َ‬
‫س‬ ‫ن‬ ‫اإل‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫)‬ ‫‪5‬‬ ‫(‬ ‫ا‬‫ع‬‫َف َو َس ْط َن به َج ْم ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬
‫ْال َخ ْير َل َشد ٌيد (‪ )8‬أ َف ََّل َي ْع َل ُم إ َذا ُب ْعث َر َما في ْال ُق ُبور (‪َ )9‬و ُحص َل َما في ُّ‬
‫الص ُدو ِر (‪ِ )10‬إ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ‬
‫َرَّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِبير (‪[ ﴾)11‬العديات‪.]11-1 :‬‬
‫هذه السورة مكية عند جمهور العلماء‪ ،‬وهو اْلقرب وهللا أعلم‪ ،‬يقسم هللا عز وجل فيها‬
‫بالخيل التي تعدو بسرعة‪ ،‬ومن شدة عدوها يخرج لها صوت‪ ،‬وتضرب بحدواتها الحديدية‬
‫اْلحجار والصخور فيتطاير منها الشرر كأنما توقد النار‪ ،‬كأنها تقدح لتشعل النار‪ ،‬وهي يغير‬
‫بها فرسانها على أعدائهم بسرعة مصبحين لهم‪ ،‬وهي في سرعة عدوها تثير الغبار إثا ِرة‬
‫شديدة‪ ،‬وتتوسط بفرسانها املكان املراد بسرعة مجتمعة فيه‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫عموما ولنعم ربه خصوصا‪ ،‬فطبع اإلنسان‬ ‫وجواب القسم أن جنس اإلنسان كفور لربه‬
‫أنه يعد النقم وينس ى النعم إال من تهذب بدين هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫وهللا سبحانه وتعالى شهيد على اإلنسان بهذا‪ ،‬واإلنسان نفسه تشهد حاله عليه في الدنيا‬
‫بهذا‪ ،‬فحاله تدل على أنه كفور إال إذا تهذب بدين هللا عز وجل‪ ،‬وهو يشهد يوم القيامة‬
‫على نفسه بهذا‪ ،‬حيث يندم أشد الندم على أنه لم يشكر نعم هللا عليه في الدنيا إذا رأى‬
‫الجزاء‪ِ .‬‬
‫وهذا اإلنسان الكنود الكفور لربه شديد املحبة للمال‪ ،‬ولشدة حبه للمال يمنع الخير في‬
‫هذا املال‪ ،‬فال يعرف هلل فيه حقا‪ ،‬وال يصل به رحما‪ ،‬وال يصل به ضعيفا‪ ،‬وال يحسن به‬
‫باق له ال يزول‪ ،‬وكأنه لو‬
‫إلى محتاج‪ ،‬وال ينفقه فيما يحب هللا سبحانه وتعالى كأن املال ٍ‬
‫بقي املال ال يزول هو عن ذلك املال‪ِ .‬‬
‫عجيب أمر هذا اإلنسان! أال يعلم علم اليقين أنه ميت؛ وأنه إن بقي املال البد أن يفارقه‬
‫هو ويتركه للناس؟! ِ‬

‫‪387‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أال يعلم هذا اإلنسان أنه ميت مقبور ثم مبعوث من قبره‪ ،‬وأنه مالق ربه سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫َ‬
‫وأن ربه سيسأله عن هذه النعم وعن هذا املال خصوصا من أين اكتسبه؟ أمن حالل‬
‫حصله أم من حرام جمعه؟ وماذا عمل فيه أفي حالل أنفقه وفي خير فرقه؟ أم استعان به‬
‫على ما يغضب هللا سبحان وتعالى؟! ِ‬
‫إن هذا اإلنسان يعلم أنه ميت‪ ،‬لكن هل يعلم ما وراء املوت؟ هل يعلم ما يكون في قبره؟‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫هل يعلم ما يكون عند البعث؟ هل يعلم ما يكون عند السؤال؟ إذا نثر ما في القبور وخرج‬
‫املقبورون من قبورهم وأخرجت اْلرض املقبورين فيها من لدن آدم عليه السالم إلى آخر‬
‫الص ُدو ِر﴾ فكشف‬
‫وقت واحد حيارى مذهولين‪َ ﴿ ،‬و ُحص َل َما في ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫جميعا في ٍ‬ ‫إنسان يخرجون‬
‫ما يخفيه اإلنسان في نفسه وحوسب عنه‪ ،‬أال يعلم هذ؟ ِ‬
‫بلى ورب الكعبة؛ قد أقام هللا عز وجل البراهين القاطعة والحجج الساطعة على البعث‬
‫وعلى الجزاء‪ِ .‬‬
‫ومن جواب القسم إن رب الناس بهم يومئذ لخبير‪ ،‬عالم بأعمالهم وأحوالهم وشأنهم ال‬
‫تخفى عليه منهم خافية‪ ،‬هو سبحانه خبير بالناس في ذلك اليوم وقبل ذلك اليوم‪ ،‬لكن‬
‫خص ذلك اليوم هنا بالذكر؛ ْلنه يوم الجزاء ‪-‬يوم الحساب‪ -‬حيث ُيحاسب الناس على‬
‫أعمالهم‪ ،‬وربهم سبحانه وتعالى خبير بهم وخبير بأعمالهم وشهيد عليهم وكفى باهلل شهيدا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫أعظم الزاجر لإلنسان عن الطغيان‪ ،‬أنت أيها اإلنسان مهما‬ ‫وفيما ذكر ربنا سبحانه وتعالى‬
‫قبر صائر‪ ،‬أنت أيها‬
‫قبر صائر‪ ،‬أنت أيها اإلنسان مهما كنت صحيحا فإلى ٍ‬
‫كنت قويا فإلى ٍ‬
‫ُ‬
‫قبر صائر‪ ،‬وفي قبرك تسأل وتفتن وتختبر‪ :‬فإما‬
‫اإلنسان مهما ملكت ومهما حكمت فإلى ٍ‬
‫ٌ‬
‫منعم وإما معذب‪ ،‬ثم إنك أيها اإلنسان مبعوث من قبرك ومسؤول بين يدي ربك عن هذه‬
‫ُ‬
‫النعم‪ ،‬فكيف ال تصونها؟ وكيف ال تشكرها؟ وكيف ال تعملها في طاعة هللا سبحانه وتعالى؟ ِ‬
‫لو تدبرنا ما ذكره ِربنا في هذه السورة لرقت قلوبنا‪ ،‬وعظم اجتهادنا في الخير‪ ،‬وانزجرنا عن‬
‫إسرافنا على أنفسنا وعن إسرافنا في مالنا‪ِ .‬‬
‫ٌ‬
‫مركوز في طبع اإلنسان وال عيب فيه‪ ،‬ولكن العيب أن‬ ‫أنت أيها اإلنسان تحب املال وهذا‬
‫ً‬
‫شديدا يجعلك تعص ي هللا من أجل املال وال تنفق املال فيما يحب هللا‪،‬‬ ‫تحب املال ً‬
‫حبا‬

‫‪388‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ً‬
‫شحيحا‪ .‬فعجبا لحالك أيها اإلنسان!!! كيف تقول مالي مالي‪ ،‬وتعص ي هللا من أجل‬ ‫فتكون‬
‫هذا املال‪ ،‬وليس لك من مالك إال ما أكلت فأفنيت‪ ،‬أو لبست فأبليت‪ ،‬أو تصدقت فأبقيت‪،‬‬
‫وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس‪ِ .‬‬
‫أال ترى أيها اإلنسان أن هذا املال الذي يجعلك تعص ي هللا لتحصله البد من فراقه؟ فهو‬
‫ق‪ِ :‬‬ ‫إما مفارق وإما َ‬
‫مفار ِ‬ ‫ِ‬
‫ََ‬
‫مفارق يذهب عنك وأنت حي‪ ،‬وكم من إنسان لها بجمع املال عن الخير وعن الطاعة‬ ‫‪ -‬إما ِ‬
‫فافتقر وصار إلى الفقر وهو حي وذهب عنه املال‪ِ .‬‬
‫‪َ -‬‬
‫وه ْب أن املال لم يذهب عنك؛ أال ترى التجار وامللوك وغيرهم يذهبون ويترك ِون املال؟ و ِال‬
‫ينفعهم املال عند موتهم شيئا وال في قبورهم شيئا‪ِ .‬‬
‫معاشر املؤمنين؛ إن تدبرنا للقرآن شفاء لصدورنا‪ ،‬هدى لقلوبنا‪ ،‬جالء ْلمراض القلوب‪،‬‬
‫فياليتنا نقرأ كالم ربنا بتدبر‪ ،‬ونعرف معاني اآليات لنكون بها من املنتفعين‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬ثم نعود إلى التفسير‬
‫التفصيلي ونقرأ كالم اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق على ما يحتاج إلى تعليق‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمان ابن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫وللسامعين‪ :‬أقسم هللا تبارك وتعالى بالخيل‪.‬‬
‫هذا قول جمهور املفسرين أن القسم هنا بالخيل‪ِ .‬‬
‫وهللا عز وجل العظيم يقسم بما شاء‪ ،‬وليس للعبد أن يقسم إال باهلل‪ ،‬هللا يقسم بما‬
‫شاء‪ ،‬وإذا أقسم هللا بش يء دل ذلك على فضله وعلى عظيم ما يذكر في ذلك القسم‪،‬‬
‫وجمهور املفسرين على أن القسم هنا بالخيل‪ِ .‬‬
‫أقسم هللا تبارك وتعالى بالخيل ْلا فيها من آياته الباهرة ونعمه الظاهرة ما هو معلوم‬
‫للخلق‪ ،‬وأقسم هللا تعالى بها في الحال التي يشاركه فيه غيرها من أنواع الحيوانات‪،‬‬
‫﴿و ْال َعاد َيات َ‬
‫ض ْب ًحا﴾ أي‪ :‬العاديات عدوا شديدا بليغا يصدر عنه الضبح‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫فقال‪َ :‬‬

‫ُِ‬
‫والعدو‪ :‬هو الجري بسرعة؛ أي‪ :‬أنها تجري بسرعة‬ ‫العدو‪،‬‬
‫ِ‬ ‫العاديات جمع عادية‪ ،‬من‬
‫شديدة‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬أي‪ :‬العاديات عدوا بليغا قويا يصدر عنه الضبح‪ ،‬وهو صوت نفسها في صدرها‬
‫عند اشتداد عدوها‪.‬‬
‫هذا قول اْلكثر في تفسير الضبح‪ ،‬وهو أنه الصوت الذي يصدر من الخيل عند اشتداد‬
‫عدوها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الضبح‪ :‬نوع من الجري السريع‪ ،‬وهو محمود في الخيل‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الضبح‪ :‬هو صوت الحوافر عند العدو‪ ،‬الضبح هو صوت الحوافر‬
‫عندما تصطك باْلرض‪ ،‬ولكن الذي عليه اْلكثر هو اْلول وهو اْلقرب وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫ات﴾ بحوافرهن ما يطأن عليه من اْلحجار‪﴿ ،‬ق ْد ًحا﴾؛ أي‪ :‬تنقدح النار من‬ ‫﴿ َف ْاْلُور َ‬
‫ي‬
‫ِ ِ‬
‫صَّلبة حوافرهن وقوتهن إذا عدون‪.‬‬
‫واملقصود أن الحوافر إذا اصطكت باْلحجار والصخر تنتج شررا كما يفعل من يريد أن‬
‫يشعل النار فإنه كان يضرب حجرا بحجر لينتج شررا تورى وتشعل به النار‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬إن املعنى أن الخيل تشعل في نفوس الفرسان الرغبة في القتال‬
‫والحرب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املقصود واملعنى أن الفرسان يشعلون الحرب‪ِ .‬‬
‫فاملقصود باملوريات هنا الفرسان الذين يركبون الخيول أنهم يشعلون الحرب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬إن املوريات هنا هي اْللسن‪ ،‬ليست الخيل‪ ،‬اْللسن التي تشعل‬
‫الفتن‪ ،‬والفتن كالنار املحرقة‪ ،‬وال شك أن اْللسن تشعل الفتن إن لم يتق أصحابها ربهم‪،‬‬
‫وقد يغر الشيطان اإلنسان فيظهر له أن إشعال الفتنة خير وقربة‪ ،‬فيشعل فتنة بين‬
‫اْلحبة‪ ،‬ويفرق الصف املجتمع على الحق بفتنة وباطل وشر‪ ،‬لكن ال شك أن اْللسن‬
‫ليست هي املراد هنا‪ ،‬وإنما املراد هنا الخيول‪ ،‬وأنها لشدة عدوها واصطكاك حذواتها‬
‫بالحص ى ينتج من ذلك شرر كأنها تشعل النار‪ِ .‬‬
‫﴿ َف ْاْلُغ َيرات﴾ على اْلعداء‪ُ ﴿ ،‬‬
‫ص ْب ًحا﴾ وهذا أمر أغلبي أن الغارة تكون صباحا‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫والصبح هو أشرف اليوم‪ ،‬والبكور في أول الصبح شأن أهل الجد والهمة‪ ،‬أهل الجد‬
‫والهمة عملهم يكون في أول النهار‪ ،‬أما أهل الكسل فإنهم أهل نوم ال يبكرون‪ ،‬فلما كان‬

‫‪390‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الصبح وقت نشاط أهل الهمم وأهل الجد ذكر هنا‪ ،‬وإن كانت اإلغارة ليست خاصة‬
‫ُ‬
‫بالصبح‪ ،‬فقد تكون اإلغارة في الليل‪ ،‬وقد تكون في وسط النهار لكن ذكر اْلشرف‪ ،‬وكان‬
‫النبي صلى هللاِعليه وسلم يغير صبحا بعد الفجر‪ِ .‬‬
‫َََ َ‬
‫﴿فأث ْرن ِب ِه﴾‪.‬‬
‫ن‬ ‫َََ ْ َ‬
‫ن‬
‫﴿فأثر ﴾؛ أي‪ :‬حركن معنى أثر حركن‪ِ .‬‬
‫﴿ب ِه﴾ أي‪ :‬بعدوهن وغارتهن‪.‬‬
‫ِ‬
‫هذا على قول أن الضمير هنا يعود إلى العدو؛ فأثرن بعدوهن وسرعتهن نقعا‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الضمير يرجع إلى املكان الذي تجري فيه الخيل؛ يعني‪ :‬فأثرن في املكان الذي‬
‫تجرين فيه غبارا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬به يعني بالصبح؛ يعني‪ :‬فأثرنِ وحركن في الصبح غبارا‪ِ .‬‬
‫وال مانع من إرادة الكل‪ ،‬فالخيل تثير الغبار بعدوها‪ ،‬وتثير الغبار في املكان الذي تعدو فيه‪،‬‬
‫وتثير الغبار إذا أغير بها صبحا‪ ،‬فال مانع من حمل اآلية على الجميع‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫﴿نق ًعا﴾؛ أي‪ :‬غبارا‪﴿ ،‬ف َو َسط َن ِب ِه﴾؛ أي‪ :‬براكبهن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿ف َو َسط َن﴾؛ أي‪ :‬توسطن‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿ف َو َسط َن ِب ِه﴾؛ أي‪ :‬براكبهن‪َ ﴿ ،‬ج ْم ًعا﴾؛ أي‪ :‬توسطن به جموع اْلعداء الذين أغار‬
‫عليهم‪.‬‬
‫هذا في حال الحرب‪ ،‬توسطن بالفرسان جموع اْلعداء‪ ،‬فالخيل تغير على اْلعداء حتى‬
‫تجتمع في وسط اْلعداء بفرسانها‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬توسطن بفرسانهن املكان املراد جميعا‪ ،‬وهذا املعنى أعم من اْلول؛‬
‫ْلن اْلول خاص بالحرب‪ ،‬أما هذا فهو عام‪ ،‬يعني‪ :‬لو كانوا في سباق يتسابقون إلى مكان فإن‬
‫الخيول في الغالب تصل معا في وقت متقارب إلى املكان املراد وتتوسط املكان املراد‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى اآلية فوسطن بالغبار الجمع؛ أي‪ :‬جعلن الغبار فوق الجمع ‪-‬‬
‫فوق الجماعة املجتمعة‪ ،-‬فيكون الضمير راجعا إلى الغبار‪ ،‬هذا قول الجمهور كما قلنا‪ِ .‬‬

‫‪391‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ات﴾ يعني‪ :‬اإلبل ْلنها أكثر ما‬ ‫َ ْ َ َ‬


‫وذهب بعض اْلفسرين إلى أن القسم هنا باإلبل‪﴿ ،‬والع ِادي ِ‬
‫يركبه العرب‪َ ﴿ ،‬‬
‫ض ْب ًحا﴾ يعني بصوت اإلبل‪ ،‬ولبعض املفسرين كالم بعيد‪ِ .‬‬
‫َ ُْ َ َ‬
‫ات ق ْد ًحا﴾ يعني‪ :‬املشعالت الحرب‪ِ .‬‬ ‫وري ِ‬‫﴿فاْل ِ‬
‫ص ْب ًحا﴾ قالوا؛ أي‪ :‬املغيرات من مزدلفة صبحا في الحج‪ِ .‬‬ ‫﴿ف ْاْلُغ َيرات ُ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿ف َو َسط َن ِب ِه َج ْم ًعا﴾ فوسطن به منى‪ ،‬وسطن براكبهن منى‪ ،‬فـ (جمع) هنا منى أو (جمع)‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫﴿ف ْاْلُغ َيرات ُ‬
‫ص ْب ًحا﴾ املغيرات إلى منى صبحا‪﴿ ،‬ف َو َسط َن ِب ِه َج ْم ًعا﴾‬
‫َ‬
‫هي مزدلفة‪ ،‬فيكونِ‬
‫ِ ِ‬
‫فوسطن به مزدلفة‪ِ .‬‬
‫لكن هذا القول ضعيف‪ ،‬والراجح هو اْلول أنها الخيل ِ‬
‫ود﴾‪ِ .‬‬ ‫ان ل َربه َل َك ُن ٌ‬‫َّ ْ ْ َ َ‬
‫اإلنس ِ ِ ِ‬ ‫قال‪ :‬واْلقسم عليه قوله‪ِ ﴿ :‬إن ِ‬
‫َّ ْ ْ َ‬
‫اإلن َسان﴾ اْلكثر على أنه جنس اإلنسان‪ِ .‬‬ ‫﴿إن ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو الكافر‪ ،‬لكن اْلول أقرب أنه جنس اإلنسان‪ِ .‬‬
‫ود﴾‪.‬‬ ‫ان ل َربه َل َك ُن ٌ‬
‫َّ ْ ْ َ َ‬
‫اإلنس ِ ِ ِ‬ ‫﴿ ِإن ِ‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬
‫ود﴾ لكفورِ‪ِ .‬‬ ‫ود﴾ اْلكثر على أن‬
‫عد املصائب وينس ى النعم‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض املفسرين‪ :‬لكفور بالنعم َي ُّ‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬ ‫َ‬
‫ود﴾ لجاحد للحق‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬ ‫َ‬
‫ود﴾ يعني لحسود‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬ ‫َ‬
‫لعاص لربه‪ِ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫ود﴾ يعني‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬ ‫َ‬
‫ود﴾ يعني أنه يستعمل نعم هللا في معاص ي هللا‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫﴿ل َك ُن ٌ‬ ‫َ‬
‫ود﴾ يعني لبخيل‪ ،‬وهذه هو املعنى الذي ذكره الشيخ حيث‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫قال‪ِ :‬‬
‫أي‪ْ :‬لنوع للخير الذي هلل عليه‪ ،‬فطبيعة اإلنسان وجبلته أن نفسه ال تسمح بما عليه‬
‫من الحقوق فتؤديها كاملة موفرة‪ ،‬بل طبيعتها الكسل واْلنع ْلا عليها من الحقوق اْلالية‬
‫والبدنية إال من هداه هللا وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق‪.‬‬
‫وكل املعاني التي ذكرتها صالحة لكلمة (لكنود)‪ ،‬وهي تعود إلى معنى لكفور‪ ،‬فاإلنسان من‬

‫‪392‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫طبعه أنه كفور وال سيما لنعم هللا إال من تهذب بدين هللا‪ ،‬ولذلك يقول النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪(( :‬عجبا ْلمر اْلؤمن إن أمره كله له خير‪ ،‬وليس ذلك إال للمؤمن‪ :‬إن أصابته‬
‫سراء شكر فكان خيرا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له))‪.‬‬
‫يد﴾؛ أي‪ :‬إن اإلنسان على ما يعرف من نفسه من اْلنع والكند‬ ‫﴿وإ َّن ُه َع َلى َذل َك َل َشه ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لشاهد بذلك ال يجحده وال ينكره؛ ْلن ذلك أمر بين واضح‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿و ِإن ُه﴾ الضمير هنا قيل إنه اإلنسان؛ ْلن الكالم عنه ‪-‬الكالم عن اإلنسان‪ ،-‬وإن اإلنسان‬
‫على ذلك لشهيد‪ ،‬فهو شهيد على نفسه بأنه كفورِ‪ِ :‬‬
‫‪ -‬أما في الدنيا فهو شاهد بحاله‪ ،‬فإن حاله يشهد عليه أنه كفورِ‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وأما في اآلخرة فإنه يشهد على نفسه يوم القيامة بهذا‪ ،‬وال يستطيع أن يجحد هذا‪ ،‬بل‬
‫سيندم كل إنسان يوم القيامة على أنه لم يشكر نعم هللا سبحانه وتعالى عليها إال من رحم‬
‫ربي‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ويحتمل أن الضمير عائد إلى هللا تعالى؛ أي‪ :‬إن العبد لربه لكنود‪.‬‬
‫وهذا قول اْلكثر أن الضمير عائد إلى هللا عز وجل‪ ،‬وأن هللا شهيد على اإلنسان بأنه كنود‪،‬‬
‫ان ل َربه َل َك ُن ٌ‬
‫َّ ْ ْ َ َ‬
‫ود‬ ‫اإلنس ِ ِ ِ‬ ‫وذلك ْلن الضمير يعود إلى أقرب مذكور‪ ،‬وأقرب مذكور هو الرب ﴿ ِإن ِ‬
‫َّ‬
‫(‪َ )6‬و ِإن ُه﴾ الضمير يعود إلى أقرب مذكور‪ ،‬وأقرب مذكور هو الرب؛ وْلنه جاء في قراءة‬
‫وإن هللا على ذلك لشهيد)‪ ،‬والقراءة الشاذة يفسر بها القرآن‪ ،‬فيكون الضمير هنا‬ ‫شاذة‪ِّ ( :‬‬

‫عائدا إلى هللا‪ِ .‬‬


‫وذهب جمع من املحققين إلى صحة اْلمرين‪ ،‬فاإلنسان على نفسه شهيد وهللا عليه شهيد‪،‬‬
‫هللا شهيد على اإلنسان بأنه كنود‪ ،‬واإلنسان على نفسه شهيد بأنه كنود‪ ،‬ولعل هذا أقرب‬
‫وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫وهللا شهيد على ذلك ففيه الوعيد والتهديد الشديد ْلن هو لربه كنود بأن هللا عليه‬
‫شهيد‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ‬
‫﴿ َو ِإن ُه﴾؛ أي‪ :‬اإلنسان‪ِ ﴿ ،‬ل ُح ِب الخ ْي ِر﴾؛ أي‪ :‬اْلال‪﴿ ،‬لش ِد ٌيد﴾؛ أي‪ :‬كثير الحب للمال‪،‬‬
‫وحبه لذلك هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه‪ ،‬فقدم شهوة نفسه على‬
‫رضا ربه‪ ،‬وكل هذا ْلنه َق َ‬
‫ص َر نظره على هذه الدار وغفل عن اآلخرة‪.‬‬
‫ْ َ َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿و ِإن ُه ِل ُح ِب الخ ْي ِر لش ِد ٌيد﴾ قال بعض العلماء‪ :‬املعنى وإنه لحب املال لشديد؛ أي‪ :‬أن‬
‫حبه للمال شديد‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬وإنه بسبب حبه للمال لشديد؛ أي‪ :‬بخيل‪ ،‬شديد اإلمساك للمال‪ِ .‬‬
‫وكال املعنيين صحيح‪ ،‬فاإلنسان بطبعه شديد الحب للمال‪ ،‬ولشدة حبه للمال يكون‬
‫شحيحا بخيال‪ ،‬ولذلك كلما اشتد حب اإلنسان للمال كلما كان بخيال؛ ْلن شدة حبه للمال‬
‫تدعوه إلى البخل‪ِ .‬‬
‫َ ََ َ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ولهذا قال حاثا له على خوف يوم الوعيد‪﴿ :‬أفَّل َي ْعل ُم﴾؛ أي‪ :‬هل ال يعلم‬
‫ُْ‬ ‫َ‬
‫﴿إذا ُب ْع ِث َر َما ِفي الق ُبور﴾‪ِ .‬‬
‫هذا اْلغتر‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫﴿ ِإذا ُب ْع ِث َر﴾؛ أي‪ :‬إذا نثر ما في القبور وأخرج ما في القبورِ‪ِ .‬‬
‫أي‪ :‬هل ال يعلم هذا اْلغتر إذا بعثر ما في القبور؛ أي‪ :‬أخرج هللا اْلموات من قبورهم‬
‫لحشرهم ونشورهم‪.‬‬
‫الص ُدو ِر﴾؛ أي‪ :‬ظهر وبان ما فيها وما استتر في الصدور من كمائن الخير‬
‫﴿ َو ُحص َل َما في ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والشر‪ ،‬فصار السر عَّلنية والباطل ظاهرا‪ ،‬وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم‪.‬‬
‫وانظر رعاك هللا إلى التناسب بين بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور‪ ،‬كالهما فيه إخراج‬
‫مستتر‪ ،‬فالقبور تستر املوتى فبعثرة القبور إخراج املقبور املستور في القبر‪ ،‬والصدور تستر‬
‫ما فيها‪ ،‬فتحصيل ما في الصدور كشف لهذا املخفي في الصدر‪ ،‬فهنا تناسب عظيم بين‬
‫بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور إذ في كل كشف مستورِ‪ِ .‬‬
‫َّ َ‬
‫﴿إ َّن َرَّب ُهم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِب ٌير﴾‪.‬‬
‫ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ان ل َربه َل َك ُن ٌ‬ ‫َّ ْ َ َ‬
‫ود﴾ هذا من جواب القسم‪َ ﴿ ،‬و ِإن ُه َعل ٰى‬ ‫اإلنس ِ ِ ِ‬‫هذا من جواب القسم‪ِ ﴿ ،‬إن ِ‬
‫َّ َ‬
‫يد﴾ هذا من جواب القسم‪ِ ﴿ ،‬إ َّن َرَّب ُهم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِب ٌير﴾ هذا من جواب‬ ‫َٰذل َك َل َشه ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القسم‪ِ .‬‬

‫‪394‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ َ‬
‫﴿إ َّن َرَّب ُهم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِب ٌير﴾؛ أي‪ :‬مطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة الخفية والجلية‬
‫ِ‬
‫ومجازيهم عليها‪ ،‬وخص خبرهم بذلك اليوم مع أنه خبير بهم كل وقت؛ ْلن اْلراد به‬
‫الجزاء على اْلعمال الناش ئ عن علم هللا واطَّلعه‪.‬‬
‫وبهذا نتم تفسير سورة العاديات‪ ،‬ومقصود السورة ظاهر والحكمة العظمى منها ظاهرة‪:‬‬
‫وهي أن امل ِؤمن ينبغي أن يكون شكورا لنعم هللا صبورا على بالء هللا‪ِ .‬‬
‫أن اْلؤمن ينبغي أن يكون شكورا لنعم هللا؛ والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح‪ِ :‬‬
‫‪ -‬يكون بالقلب‪ :‬بأن يعتقد أن كل خير هو فيه إنما الفضل فيه هلل‪ ،‬ال ينسب ذلك إلى‬
‫قوة وال إلى ذكاء وال إلى مهارة‪ ،‬وإنما يعتقد اعتقادا جازما أن هذا الخير الذي هو فيه‬
‫إنما هو بفضل هللا‪ ،‬وأن الذي أنعم به عليه هو هللا سبحانه وتعالى ِ‬
‫‪ -‬وباللسان‪ :‬بأن يثني على هللا بهذه النعم‪ ،‬فيحمد هللا الذي رزقه السمع‪ ،‬الذي رزقه‬
‫البصر‪ ،‬الذي رزقه الكالم‪ ،‬الذي رزقه الصحة‪ ،‬يثني على هللا‪ ،‬ولذلك شأن املؤمن‬
‫أن يكون كثير الثناء ممسكا عن الشكوى‪ ،‬ال يشكو هللا إلى أحد‪ ،‬ويكثر الثناء على هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ويكون بالجوارح‪ :‬بأن يستعمل نعم هللا في طاعة هللا أو فيما أباح هللا‪ ،‬هذا النظر‬
‫نعمة عظمى من هللا‪ ،‬وهللا لو اجتمع الخلق جميعا ما استطاعوا أن يوصلوا هذه‬
‫النعمة لإلنسان‪ ،‬ما شكرها؟ أن تستعملها في طاعة هللا‪ ،‬تستعملها في النظر إلى‬
‫القرآن‪ ،‬لتقرأ تستعملها في كتب العلم لتقرأ‪ ،‬أو أن تستعملها في املباح‪ ،‬فتنظر إلى‬
‫اْلشياء الطيبة‪ ،‬وتنظر إلى زوجتك وتنظر‪ ،‬كفرانها أن تستعملها في معصية هللا‪،‬‬
‫فتنظر بها إلى الحرام‪ِ .‬‬
‫وأن يكون صبورا على بَّلء هللا‪ ،‬ويا عبد هللا؛ إذا نزل بك البالء فأوال اعلم أن الذي أنزل‬
‫البالء هو هللا‪ ،‬وأنه هو مالكك‪ ،‬وأنه إن ابتلى بش يء فقد أنعم بأشياء‪ ،‬ومع ذلك ال يبتليك‬
‫إال لحكمة‪ ،‬هو املالك وأنت اململوك‪ ،‬وللمالك أن يتصرف في مملوكه كيف شاء‪ ،‬وهو إن‬
‫ابتالك في ش يء فقد أنعم عليك بأشياء‪ ،‬ومع ذلك ال يبتليك إال لحكمة‪ِ :‬‬

‫‪395‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬فإما أن ينبهك من غفلة؛ شردت عن بابه وابتعدت عن طاعته فيبتليك ببالء لترجع‬
‫إليه‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يكفر عنك سيئة‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يرفعك بهذا البالء في الجنة درجة‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ولذلك يا إخوة يوم القيامة يتمنى أهل العافية لو أنهم في الدنيا نشروا باملناشير ملا يرون‬
‫ُ‬
‫من ثواب أهل البالء‪ ،‬وهذا يعينك على الصبر على ما تبتلى به إن أدركت هذه الحقائق‪ِ .‬‬
‫فمقصود السورة اْلعظم وحكمتها العظمى أن اإلنسان يجب عليه أن يعالج نفسه ليكون‬
‫شكورا للنعم‪ ،‬صبورا على البالء‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪396‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة القارعة‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫اس َك ْال َف َ‬ ‫َ ْ َ َ ُ ُن َّ‬
‫الن ُ‬ ‫ََ ََْ َ َ َْ َُ‬ ‫َ َْ َُ‬ ‫َْ َُ‬
‫اش‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫و‬‫ك‬ ‫ي‬ ‫م‬‫و‬ ‫ي‬ ‫)‬ ‫‪3‬‬ ‫(‬ ‫ة‬‫ع‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫ق‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫م‬ ‫اك‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬‫و‬ ‫)‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫ة‬‫ع‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫ا‬‫ق‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫م‬ ‫)‬ ‫‪1‬‬ ‫(‬ ‫ة‬ ‫﴿القا ِرع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََُ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ُ ُن ْ َ ُ َ ْ ْ ْ َ ُ‬ ‫َْْ ُ‬
‫وش (‪ )5‬فأ َّما َمن ثقلت َم َوا ِزين ُه (‪ )6‬ف ُه َو ِفي‬ ‫ِ‬ ‫نف‬ ‫اْل‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ال‬‫ك‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ك‬‫ت‬‫و‬ ‫)‬ ‫‪4‬‬ ‫(‬ ‫وث‬ ‫ِ‬ ‫ث‬ ‫اْلب‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ ُ ُّ ُ َ َ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ َ ْ َ َّ ْ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫اض َي ٍة (‪ )7‬وأما من خفت موا ِزينه (‪ )8‬فأمه ه ِاوية (‪ )9‬وما أدراك ما ِهيه (‪)10‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِعيش ٍة َّر ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ن ٌار َح ِام َية (‪[ ﴾)11‬القارعة‪.]11-1 :‬‬
‫في هذه السورة املكية بإجماع العلماء يخبر هللا عز وجل عن بعض أحوال يوم القيامة‪،‬‬
‫والقارعة من أسماء يوم القيامة‪ ،‬سميت بذلك ْلنها تقرع القلوب وتفزع القلوب بأهوالها‬
‫وما يكون فيها من اْلمور العظام‪ ،‬وتقرع أعداء هللا بالعذاب واملصيبة العظمى‪ِ .‬‬
‫َْ ُ‬ ‫وعظم هللا عز وجل شأنها وفخمه بقوله‪َ ﴿ :‬ما ْال َقا َع ُة (‪َ )2‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َما القا ِر َعة (‪،﴾)3‬‬‫ر‬ ‫ِر‬
‫ففي هذا تفخيم وتعظيم ْلهوالها وما يكون فيها‪ِ .‬‬
‫فمن أحوالها وأهوالها العظام أن الناس ينشرون فيها ويتفرقون عند خروجهم من‬
‫قبورهم‪ ،‬حيث يخرجون جميعا من لدن آدم عليه السالم إلى آخر إنسان يكون في الدنيا‪،‬‬
‫يخرجون من قبورهم ويبعثون من قبورهم‪ ،‬ويذهبون ويرجعون عند ذلك من الهول‬
‫والحيرة كأنهم فراش يطير وال يهتدي في طيرانه‪ ،‬بل يكون مضطربا‪ ،‬وذلك لشدة الهول‬
‫وشدة ما يرون من خروج الناس جميعا‪ِ .‬‬
‫وتكون الجبال القوية الراسية كالصوف املنفوش الهش املتفرق الذي يتطاير مع الريح‪،‬‬
‫حيث تدك تلك الجبال وتفتت تفتيتا وتصير كالصوف املفرق‪ ،‬إلى أن تصير ال ش يء‬
‫كالسراب‪ِ .‬‬
‫وفي ذلك اليوم العظيم يكون الوزن الحق الذي ال ظلم فيه‪ ،‬فتوزن اْلعمال وال يفقد‬
‫اإلنسان من عمله شيئا‪ ،‬ويوزن العاملون‪ ،‬فيأتي الرجل الكافر السمين العظيم ال يزن في‬
‫امليزان جناح بعوضة‪ ،‬ويأتي املؤمن دقيق اْلعضاء وهو أثقل في امليزان من جبل أحد‪،‬‬
‫وتوزن صحف اْلعمال التي كتبت فيها اْلعمال‪ِ .‬‬

‫‪397‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فمن ثقلت موازينه فأولئك املفلحون‪ ،‬فمن ثقل ميزانه عند ربه فإنه املفلح السعيد الفائز‬
‫حقا وصدقا الذي يعيش عيشة مرضية يرضاها ويرض ى بها ويهنأ بها على وجه الكمال من‬
‫غير منغص لها أبدا‪ ،‬وهي حياة سهلة طيبة ْلهلها منقادة ْلهلها‪ ،‬يحصلون فيها اللذة‬
‫والنعيم من غير تعب‪ ،‬بل تكون منقادة لهم سهلة‪ ،‬وال يملون ذلك النعيم أبدا‪ ،‬بل كلما‬
‫رزقوا النعيم كانوا كأنهم يرزقونه ْلول مرة‪ ،‬ويحصل لهم فيها ما يشاؤون من النعيم‪ِ .‬‬
‫وأما من خفت موازينه فلم تكن له حسنات أو رجحت سيئاته على حسناته فذاك هو‬
‫الخاسر حقا‪ ،‬وهو في غاية الخسران والذلة في ذلك اليوم‪ ،‬وهو ساقط بإذالل في جهنم‪،‬‬
‫حيث ُيسقط فيها ُويطرح فيها منكوسا يهوي على رأسه في النار‪ ،‬وتكون مأواه النار شديدة‬
‫العذاب الذي ال يجد عنها مصرفا‪ ،‬ويعلم وهو في ذلك املوقف أنه صائر إليها‪ ،‬وهي بعيدة‬
‫القعر شديدة العذاب‪ِ .‬‬
‫وما أدراك ما الذي يأوي إليه والذي يصير إليه؟ إنها نار حامية شديدة الحر قوية اللهب‪،‬‬
‫وكل ما فيها من شراب وطعام وغير ذلك شديد الحرارة‪ ،‬عظيم اْللم‪ ،‬وهي محيطة بأهلها‪،‬‬
‫يحيط عذابها بأهلها‪ ،‬وإذا كان أهون الناس عذابا فيها من في أخمص قدميه جمرتان يغلي‬
‫منهما دماغه فكيف بمن أحاطت به تلك النار وأحاط به لهيبها وأحاط به عذابها؟! ال شك‬
‫أن الخاسر كل الخسارة من كان مآله إلى النار ومأواه تلك النار ِ‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬ثم نرجع إلى التفسير‬
‫التفصيلي فنقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمان بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين‪:‬‬
‫َْ ُ‬
‫قوله‪﴿ :‬القا ِر َعة﴾ من أسماء يوم القيامة‪ ،‬سميت بذلك ْلنها تقرع الناس وتزعجهم‬
‫بأهوالها‪ِ .‬‬
‫فهي تقرع اْلسماع عند النفخ في الصور‪ ،‬فيفزع من في السماوات ومن في اْلرض إال ما شاء‬
‫هللا‪ ،‬وتفزع القلوب ْلهوالها وما يكون فيها من تغير اْلحوال وعظيم اْلهوال‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬سميت بذلك ْلنها تقرع أعداء هللا بالعذاب‪ِ .‬‬

‫‪398‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وال مانع من اْلمرين فهي قارعة للناس جميعا بالفزع عند البعث لشدة ما فيها من أهوال‪،‬‬
‫وقارعة للكفار وأعداء هللا بالعذاب‪ِ .‬‬
‫َْ ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫قال‪ :‬ولهذا عظم أمرها وفخمه بقوله‪﴿ :‬القا ِر َعة (‪َ )1‬ما القا ِر َعة (‪ِ .﴾)2‬‬
‫َْ ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫﴿القا ِر َعة (‪َ )1‬ما القا ِر َعة (‪ ﴾)2‬استفهام للتفخيم والتعظيم‪ِ .‬‬
‫واملعنى؛ أي‪ :‬ش يء هذه القارعة؛ إنها قارعة عظيمة اْلهوال‪ِ .‬‬
‫َْ ُ‬ ‫وفخمه بقوله‪ْ ﴿ :‬ال َقا َع ُة (‪َ )1‬ما ْال َقا َع ُة (‪َ )2‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َما القا ِر َعة (‪ِ .﴾)3‬‬ ‫ر‬ ‫ِر‬ ‫ِر‬
‫اك َما القا ِر َعة﴾ لزيادة التفخيم والتعظيم‪ ،‬واملقصود‪ :‬وما أعلمك ما القارعة؟‬
‫َْ ُ‬ ‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫َ‬
‫ر‬
‫فما أشدها وما أعظم أحوالها‪ ،‬إنها عظيمة اْلحوال شديدة اْلهوال‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ َ ُ ُن َّ‬
‫الن ُ‬
‫اس﴾ من شدة الفزع والهول‪.‬‬ ‫﴿ يوم يكو‬
‫حيث يخرجون جميعا من القبور ويبعثون من قبورهم فيهولهم اْلمر‪ ،‬فيضطربون‬
‫ِويذهبون ويرجعون من شده الهول والفزع‪ِ .‬‬
‫َْْ ُ‬ ‫َ َْ َ‬
‫وث﴾ أي‪ :‬كالجراد اْلنتشر الذي يموج بعضه في بعض‪ ،‬والفراش هي‬ ‫اش اْلب ِ‬
‫ث‬ ‫﴿كالفر ِ‬
‫الحيوانات التي تكون في الليل يموج بعضها في بعض‪ ،‬ال تدري أين توجه‪ ،‬فإذا أوقد لها‬
‫نار تهافتت إليها لضعف إدراكها‪ ،‬فهذه حال الناس أهل العقول‪.‬‬
‫يعني‪ :‬يشبهون الفراش في حيرته واضطرابه عند تحركه مع أنهم أهل عقولِ‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫والفراش قال بعد العلماء‪ :‬هو الجراد‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬بل هو كل هذه الحيوانات الطائرة التي تطير في اضطراب وال تهتدي‬
‫في طيرانها‪ ،‬فشبه هللا عز وجل الناس عند خروجهم من قبورهم في حيرتهم واضطراهم‬
‫وطريقة حركتهم بالفراش املبثوث املتطاير‪ِ .‬‬
‫ن َ ْ ْ َْ ُ‬
‫وش﴾؛ أي‪ :‬كالصوف اْلنفوش‬
‫ِ‬ ‫نف‬ ‫قال‪ :‬وأما الجبال الصم الصَّلب فتكو ﴿كال ِعه ِن اْل‬
‫الذي بقي ضعيفا جدا تطير به أدني ريح‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬العهن هو الصوف امللون‪ ،‬وذلك أن الجبال ألوان فإذا نفشت‬
‫تظهر كأنها صوف ملو ِن‪ِ .‬‬

‫‪399‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اب ۚ﴾ [النمل‪ ،]88 :‬ثم بعد‬‫ح‬ ‫﴿و َت َرى ْالج َب َ‬


‫ال َت ْح َس ُب َها َجام َد ًة َوه َي َت ُم ُّر َم َّر َّ‬
‫الس َ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذلك تكون بعد ذلك هباء منثورا‪ ،‬فتضمحل وال يبقى منها ش يء يشاهد‪ ،‬فحينئذ تنصب‬
‫اْلوازين‪ ،‬وينقسم الناس قسمين‪ :‬سعداء وأشقياء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ََُ ْ‬ ‫ََ‬
‫﴿فأ َّما َمن ثقلت َم َوا ِزين ُه﴾‪.‬‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ َ ْ َ َ ُ‬
‫﴿فأما من ثقلت موا ِزينه﴾ موازينه قال بعض العلماء‪ :‬هي املوزونات‪ ،‬واملوزو يوم‬
‫القيامة ثالثة‪ِ :‬‬
‫‪ -‬اْلعمال من خير وشر‪ِ .‬‬
‫‪ -‬والعاملون‪ِ .‬‬
‫‪ -‬والصحف التي كتبت فيها اْلعمال‪ِ .‬‬
‫كلها توزن يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫َ ُ‬
‫﴿م َوا ِزين ُه﴾‪ .‬هي املوازين التي توزن بها املوزونات‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫وهل هي ميزان واحد أو موازين؟ الذي يظهر وهللا أعلم أنها ميزان واحد‪ ،‬وإنما جمعت هنا‬
‫باعتبار ما يوزن فيها‪ ،‬فالذي يوزن فيها متعدد فجمعت هنا‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ََُ ْ‬ ‫ََ‬
‫﴿فأ َّما َمن ثقلت َم َوا ِزين ُه﴾؛ أي‪ :‬رجحت حسناته على سيئاته‪.‬‬
‫هذا معنى من ثقلت رجحت حسناته على سيئاته‪ِ .‬‬
‫اض َية﴾ في جنات النعيم‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿ف ُهو ِفي ِعيش ٍة َّر ِ‬
‫َ‬
‫اض َية﴾ مرض ٌي عنها ومرضية‪ ،‬راضية بمعنى مرض ي عنها ومرضية‪ ،‬فهي مرضية‬ ‫﴿في ِعيش ٍة َّر ِ‬ ‫ِ‬
‫ْلهلها؛ ْلنها عيشة هينة لينة كلها نعيم‪ ،‬وأهلها راضون بها ال يقع في قلوبهم منغص لتلك‬
‫العيشة التي يعيشونها‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫َ‬
‫﴿ َوأ َّما َم ْن خفت َم َوا ِزين ُه﴾ بأن لم تكن له حسنات تقاوم سيئاته‪.‬‬
‫إما‪ :‬لم تكن له حسنات أصال مثل الكافر‪ ،‬فإن الكافر ال يوافي بحسنة يوم القيامة‪ِ .‬‬
‫وإما‪ :‬أن تكون سيئاته راجحة على حسناته‪ ،‬ولم يغفر هللا عز وجل له‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َُ‬
‫﴿فأ ُّم ُه َه ِاو َية﴾؛ أي‪ :‬مأواه ومسكنه النار التي من أسماءها الهاوية‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َُ‬
‫﴿فأ ُّم ُه﴾؛ أي‪ :‬مأواه ومسكنه هكذا قال بعض املفسرين‪ ،‬معنى فأمه؛ أي‪ :‬مأواه ومسكنه‬
‫الذي يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه‪ ،‬فال مصير له وال مأوى إال النار‪ِ .‬‬
‫َ ٌ‬
‫﴿ه ِاو َية﴾ هي النار‪ ،‬وسميت بالهاوية ْلن قعرها بعيد‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َُ‬
‫﴿فأ ُّم ُه َه ِاو َية﴾؛ أي‪ :‬مأواه ومسكنه النار التي من أسماءها الهاوية تكون له بمنزلة اْلم‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿إ َّن َعذ َاب َها كان غ َر ًاما﴾ [الفرقان‪.]65 :‬‬
‫اْلَّلزمة كما قال تعالى‪ِ :‬‬
‫وقيل‪ :‬إن معنى ذلك فأم دماغه هاوية في النار؛ أي‪ :‬يلقى في النار على رأسه‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقيل‪( :‬أمه)؛ أي‪ :‬مقصوده الذي يقصده من اْل ِ ِِّم وهو القصد‪ ،‬فهو يتوجه إلى النار‪ ،‬وال‬
‫توجه له إال إلى النار‪ ،‬فال منجاة له من النار‪ ،‬فال يجد عنها مصرفا‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿وما أدراك ما ِهيه﴾‪.‬‬
‫املعنى‪ :‬أتدري وتعلم ما هي؟ إنها شديدة عظيمة‪ِ .‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫اك َما ِه َي ْه﴾ وهذا تعظيم ْلمرها‪ ،‬ثم فسرها بقوله‪﴿ :‬ن ٌار َح ِام َية﴾؛ أي‪ :‬شديدة‬ ‫َ‬
‫ر‬
‫الحرارة قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا بسبعين ضعفا فاستجيروا باهلل منها‪.‬‬
‫وفي الحديث أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪(( :‬ناركم جزء من سبعين جزءا من نار‬
‫ُ‬
‫جهنم))‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول هللا إن كانت لكافية‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬فضلت عليهن‬
‫بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)) متفق عليه‪ِ .‬‬
‫فنار الدنيا جميعا بنيران اْلرض كلها إنما هي جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم‪،‬‬
‫ُ‬
‫طفأ باملاء مرتين ملا انتفعنا به‪ ،‬وفي الحديث أن النار اشتكت إلى ربها‬
‫ولوال أن هذا الجزء ِ‬
‫أ‬
‫وقالت‪( :‬رب قد أكل بعض ي بعضا) من شدة حرها ِوشدة بردها‪ ،‬فأذن هللا لها بنفسين في‬
‫الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر‪ ،‬وفي الشتاء فهو أشد ما تجدون من الزمهرير‪ ،‬متفق‬
‫عليه‪ِ .‬‬
‫فاهلل عز وجل قد أرى الناس جزءا صغيرا جدا من النار وهي نارهم التي يرونها في الدنيا‪،‬‬
‫وأذاقهم شيئا يسيرا جدا من حر النار وبردها‪ ،‬فأشد ما يجده الناس في الدنيا من الحر إنما‬
‫هو نفس تتنفسه جهنم‪ ،‬وأشد ما يجدون من البرد الذي يقتل املئات إنما هو نفس من‬
‫نفس جهنم‪ ،‬فكيف بجهنم والعياذ باهلل‪ِ .‬‬

‫‪401‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ما أقس ى القلوب يا إخوة؛ ما أقس ى القلوب!! تسمع هذا الكالم‪ ،‬وتعلم هذا العلم‪ ،‬ومع‬
‫ذنب يعلمه‬
‫شخص منا اآلن هو صاحب ٍ‬‫ٍ‬ ‫ذلك تراها جامدة كأنها ال تسمع شيئا‪ ،‬كم من‬
‫ويعلم أنه ٌ‬
‫مقيم عليه‪ ،‬فهل حرك هذا الكالم قلبه؟ ليراجع نفسه في هذا الذنب وليعزم على‬
‫التوبة‪ ،‬وليعزم على اإلقالع عنه والرجوع إليه‪ ،‬الرجوع إلى هللا سبحانه وتعالى منه؟ أم أن‬
‫قلوبنا أصبحت أقس ى من الحديد وأقس ى من الجبال؟ نسأل هللا أن يلين قلوبنا لطاعته‪،‬‬
‫وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫هذه السورة مقصدها اْلعظم‪ :‬وعظ القلوب بما يكون من أهوال يوم القيامة لت ِ‬
‫حسن‬
‫اْلنفس االستعداد لذلك اليوم‪ ،‬لكي يكون اإلنسان فيه من املفلحين‪ ،‬وطريق الفالح هو‬
‫اإليمان والعمل الصالح‪ ،‬لينال العبد فضل هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪402‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة التكاثر‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ َ ُ ُ َّ َ ُ‬
‫التكاث ُر (‪َ )1‬ح َّت ٰى ُز ْر ُت ُم اْل َق ِاب َر (‪ )2‬كَّل َس ْوف ت ْعل ُمون (‪ )3‬ث َّم كَّل َس ْوف ت ْعل ُمون‬ ‫﴿ألهاكم‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ََ‬ ‫(‪َ )4‬ك ََّّل َل ْو َت ْع َل ُمو َن ع ْل َم ْال َيقين (‪َ )5‬ل َت َر ُو َّن ْال َجح َ‬
‫يم (‪ )6‬ث َّم لت َر ُو َّن َها َع ْين ال َي ِق ِين (‪ )7‬ث َّم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َُ ْ َُ‬
‫لتسألن يوم ِئ ٍذ ع ِن الن ِع ِيم (‪[ ﴾)8‬التكاثر‪.]8-1 :‬‬
‫هذه السورة تسمى سورة التكاثر‪ ،‬وتسمى سورة ألهاكم‪ ،‬وتسمى سورة املقبرة‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة مكية‪ ،‬يخاطب هللا فيها الناس بأنه قد أشغل قلوبكم وأبدانكم عن طاعة‬
‫ربكم وآخرتكم ما تطلبون كثرته من اْلموال واْلوالد وغيرها‪ ،‬فاشتغلتم بذلك عن دينكم‬
‫وعن أمور آخرتكم‪ ،‬والزلتم تنتقلون من ٍ‬
‫طلب للتكاثر إلى طلب حتى جاءكم املوت وأنتم‬
‫غافلون‪ ،‬وتركتم ما ألهاكم فأنتم عنه راحلونِ‪ِ .‬‬
‫حرص أحدكم على جمع املال ونس ي اآلخرة‪ ،‬ثم رحل عنه وتركه للناس‪ ،‬ولم يدخل معه من‬
‫ماله ش يء قبره‪ ،‬وحرص أحدكم على إكثار اْلوالد ولها بذلك عن املقصود‪ ،‬ثم رحل وتركهم‬
‫فساروا خلفه إلى قبره‪ ،‬ثم رجعوا وتركوه‪ ،‬وما هي إال أيام ويكونون قد نسوه‪ِ .‬‬
‫والقبور مع هولها وما فيها من فتنة ونعيم أو عذاب ما أنتم لها إال زائرون‪ ،‬ثم إنكم بعد‬
‫ذلك مبعوثون ومحاسبون ومجزيون‪ ،‬بعد أن كنتم في تكاثركم كأنكم في الدنيا مخلدون‪،‬‬
‫وعما عملتم فيها ال تحاسبونِ‪ِ .‬‬
‫كال ليس اْلمر كما تزعمون؛ بل إنكم ميتون يقينا‪ ،‬فإذا متم وصرتم إلى قبوركم ستعلمون‬
‫علما ال شك فيه أن انشغالكم بأمور الدنيا عن اآلخرة ال خير لكم فيه‪ ،‬بل هو شر عليكم‪،‬‬
‫وستعلمون يقينا أن اآلخرة خير وأبقى‪ِ .‬‬
‫ثم كرر ذلك تغليظا وتهديدا وتخويفا‪ ،‬ولو علمتم هذا العلم الذي تعلمونه عند حضور‬
‫املوت في دنياكم لكان ذلك زاجرا لكم عن اللهو بالتكاثر عن أخراكم‪ ،‬لكن ذلك العلم بعد‬
‫املوت ال ينفعكم شيئا‪ ،‬فوهللا لترون الجحيم يوم القيامة تقرب ْلصحابها‪ ،‬يؤتى بها لها‬
‫سبعون ألف زمام‪ ،‬مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها‪ ،‬وعند ذلك سترونها عين‬
‫اليقين‪ ،‬ويعلم أصحابها أنهم ال نجاة لهم منها‪ ،‬وال يجد املجرمون عنها مصرفا‪ِ .‬‬

‫‪403‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ثم في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من رؤوس الخالئق مقدار ميل‪ ،‬ويعرقون‬
‫على قدر أعمالهم‪ ،‬فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه‪ ،‬ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه‪،‬‬
‫ومنهم من يصل العرق إلى حقويه‪ ،‬ومنهم من يلجمه العرق إلجاما‪ ،‬في ذلك اليوم العظيم‬
‫لتسألن عن نعم هللا عز وجل ماذا عملتم فيها‪ِ .‬‬
‫وأول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال له‪ :‬ألم نصح لك جسدك ونسقيك من املاء‬
‫البارد؟ هذا أول ما يسأل عنه العبد من النعيم‪ ،‬وسيسأل عن نعم هللا عز وجل ماذا عمل‬
‫فيها‪ِ .‬‬
‫فأما املحسن فيسأل عن النعيم تذكيرا وامتنانا عليه بالنعم‪ ،‬وأما املس يء فيسأل عن النعم‬
‫تبكيتا وليجازى على إساءته فيها‪ ،‬وأنت يا عبد هللا تتقلب في نعم هللا‪ ،‬كل ما أنت فيه نعم‬
‫من هللا عز وجل وستسأل عن النعيم‪ ،‬ستسأل عن هذه النعم ماذا عملت فيها؟ فإياك ثم‬
‫إياك أن تستعمل نعم هللا فيما حرم هللا‪ ،‬أن تستعمل نعم هللا فيما يغضب هللا‪ِ .‬‬
‫أنعم هللا عليك بنعم في جسدك فإياك أن تستعملها في معاص ي هللا‪ ،‬أنعم هللا عليك بنعم‬
‫فيما حولك من أجهزة وغيرها فإياك أن تستعملها فيما يغضب هللا‪ ،‬فإنك يوم القيامة‬
‫مسؤول عن ذلك النعيم‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي آليات هذه السورة العظيمة ونرجع إلى املعنى أو‬
‫التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول تعالى موبخا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته‬
‫ُ‬ ‫ََْ ُ‬
‫وحده ال شريك له ومعرفته واإلنابة إليه وتقديم محبته على كل ش يء‪﴿ :‬ألهاكم﴾‪ِ .‬‬
‫َْ ُ‬
‫﴿أل َهاك ُم﴾ من املخاطبون؟ جنس الناس إال من علم حقيقة الدنيا فقدم عليها اآلخرة‪ِ .‬‬
‫اْلصل في اإلنسان اللهو‪ ،‬واللهو‪ :‬هو اشتغال القلب‪ِ .‬‬
‫العلماء يقولون‪ :‬اللعب بالبدن واللهو اشتغال القلب بما ال ينفع‪ ،‬فاملخاطبون هم الناس‬
‫جميعا إال من علم حقيقة الدنيا فقدم عليها اآلخرة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الخطاب للكفار‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الخطاب لكل من لها بالتكاثر‪ِ .‬‬

‫‪404‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫واْلرجح اْلول أن الخطاب لجنس اإلنسان إال من علم حقيقة الدنيا فقدم اآلخرة عليها ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫﴿أل َهاك ُم﴾ عن ذلك اْلذكور‪﴿ ،‬التكاث ُر﴾ ولم يذكر اْلتكاثر به ليشمل ذلك كل ما يتكاثر‬
‫به اْلتكاثرون‪ ،‬ويفتخر به اْلفتخرون من التكاثر في اْلموال واْلوالد واْلنصار والجنود‬
‫والخدم والجاه وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد لآلخر‪ ،‬وليس اْلقصود منه‬
‫وجه هللا‪.‬‬
‫حتى قال بعض أهل العلم‪ :‬إن طلب العلم للمفاخرة واملباهاة يدخل في التكاثر املذموم‬
‫هنا‪ ،‬كون اإلنسان يكثر املسائل ويكثر طلب العلم ال يبتغي بذلك وجه هللا وإنما يريد أن‬
‫يفاخر الناس وأن يتباهى على الناس بالعلم‪ ،‬فإنه يدخل في ذلك‪ِ .‬‬
‫فكل ما يطلب الناس التكاثر فيه والكثرة الكثيرة فيه وال يريدون بذلك الخير ووجه هللا‬
‫سبحانه وتعالى يدخل في ذلك‪ ،‬وقد روى مسلم عن مطرف عن أبيه أنه قال‪ :‬أتيت النبي‬
‫َ ْ ُ َّ َ ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم وهو يقرأ‪﴿ :‬أل َهاك ُم التكاث ُر﴾ فقال صلى هللا عليه ِوسلم‪(( :‬يقول ابن‬
‫آدم‪ :‬مالي مالي؛ وهل لك يا ابن آدم من مالك إال ما أكلت فأفنيت‪ ،‬أو لبست فأبليت‪ ،‬أو‬
‫تصدقت فأبقيت))؛ أي‪ :‬وما سوى ذلك فإنه ليس لك وإنما هو للورثة كما جاء في الرواية‬
‫ى‪(( :‬وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس))‪ ،‬وهذا تفسير بنوع من التكاثر وليس هو‬
‫اْلخر ِ‬
‫كل التكاثر‪ِ .‬‬
‫واملقصود أن اإلنسان إذا لها بهذا التكاثر فإن هذا يغويه عن الحق‪ ،‬ثم إنه سيزول عن‬
‫هذا أو يزول هو عنه والبد‪ ،‬فال تبقى إال العاقبة السيئة لهذا التكاثر‪ِ .‬‬
‫ُ ُ ََْ‬
‫قال فاستمرت غفلتكم ولهوتكم وتشاغلكم‪َ ﴿ ،‬ح َّت ٰى ز ْرت ُم اْلق ِاب َر﴾ فانكشف حينئذ لكم‬
‫الغطاء ولكن بعدما تعذر عليكم استئنافه‪ِ .‬‬
‫َ ُ ُ ََْ‬
‫﴿ح َّت ٰى ز ْرت ُم اْلق ِاب َر﴾ أنكم أسرفتم في‬ ‫هذا قول اْلكثر‪ ،‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬معنى‬
‫التكاثر حتى أصبحتم تتكاثرون بالقبور‪ ،‬فيأتي الرجل من القبيلة فيقولِ‪ :‬نحن أكثر من‬
‫قبيلتكم وإن أردتم تعالوا نذهب إلى القبور قبورنا أكثر من قب ِوركم‪ ،‬موتانا أكثر من‬
‫موتاكم؛ ْلنا أكثر منكم عددا‪ ،‬فأسرفتم في التكاثر حتى أصبحتم تتكاثرون بالقبور‪ ،‬ولكن‬
‫اْلول أولى وهو قول اْلكثر من العلماء‪ِ .‬‬

‫‪405‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ ُ ُ ََْ‬
‫﴿ح َّت ٰى ز ْرت ُم اْلق ِاب َر﴾ أن البرزخ دار اْلقصود منها النفوذ إلى الدار اآلخرة؛ ْلن‬ ‫ودل قوله‪:‬‬
‫هللا سماهم زائرين ولم يسمهم مقيمين‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واإلنسان في قبره يحيى حياة برزخية يفتن في قبره ويسأل‪ ،‬وينعم أو يعذب‪ ،‬فإن كان منعما‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬رب أقم الساعة‪ ،‬وإن كان معذبا مع أنه في عذاب يقولِ‪ :‬رب ال تقم الساعة؛ ْلنه يعلم‬
‫أن ما أمامه من عذاب أعظم من هذا العذاب‪ِ .‬‬
‫وهم للقبور زائرون‪ ،‬والزائر ال يقيم‪ ،‬ولذلك قول بعض الناس‪ :‬انتقل إلى مثواه اْلخير‪ ،‬غير‬
‫صحيح ْلن القبر إنما هو محل زيارة وليس املثوى اْلخير‪ ،‬وإن كان بعضهم يقول املقصود‬
‫مثواه اْلخير في اْلرض‪ ،‬فإنه بعدها يبعث‪ ،‬لكن هذا ال ينبغي‪ ،‬فال ينبغي أن يقال انتقل إلى‬
‫ٌ‬
‫مثواه اْلخير‪ ،‬وإنما هو زائر للقبر ومحصل في القبر ما يحصل‪ ،‬ثم مبعوث من قبره‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫باقية غير فانية‪ ،‬ولهذا توعدهم‪﴿ :‬كَّل‬ ‫دار ٍ‬ ‫فدل ذلك على البعث والجزاء على اْلعمال في ٍ‬
‫َ َ َ َ‬
‫َس ْوف ت ْعل ُمون﴾‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿كَّل﴾ كلمة للردع؛ أي‪ :‬ارتدعوا عن هذا اللهو بالتكاثر‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها حقا ويقينا سوف تعلمونِ‪ِ .‬‬
‫َ َ َ‬
‫و ﴿ت ْعل ُمون﴾ يعني‪ :‬تعلمون عاقبة أمركم‪ ،‬وأن اآلخرة خير وأبقى وذلك عند حضور املوت‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ُ َ َّ‬
‫﴿ث َّم كَّل َس ْوف ت ْعل ُمون﴾‪.‬‬
‫تكرار للتأكيد والتهديد والتخويف‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ َ َ ْ ْ‬
‫﴿كَّل ل ْو ت ْعل ُمون ِعل َم ال َي ِق ِين﴾ أي‪ :‬لو تعلمون ما أمامكم علم يصل إلى القلوب ْلا ألهاكم‬
‫التكاثر‪ ،‬ولبادرتم إلى اْلعمال الصالحة‪ ،‬ولكن عدم العلم الحقيقي صيركم إلى ما ترون‪.‬‬
‫﴿ل َت َر ُو َّن ْال َجح َ‬ ‫َ‬
‫يم﴾‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫يم﴾ هذا جواب قسم مقدر تقديره‪ :‬فوهللا لترون الجحيم‪ ،‬فهذه جملة‬ ‫﴿ َل َت َر ُو َّن ْال َجح َ‬
‫ِ‬
‫جديدة وهي جواب قسم مقدر‪ِ .‬‬
‫﴿ل َت َر ُو َّن ْال َجح َ‬‫َ‬
‫يم﴾؛ أي‪ :‬لتردن القيامة فلترون الجحيم التي أعدها هللا للكافرين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫في عرصات القيامة حيث تقرب ْلصحابها‪ ،‬وتأتي لها سبعون ألف زمام‪ ،‬ومع كل زمام‬
‫سبعون ألف ملك مع قوتهم وعظم ِخلقتهم‪ ،‬مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها‪ ،‬وهذا‬

‫‪406‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫دليل على كبرها وشدة ما فيها وثقل ما فيها‪ ،‬نعوذ باهلل منها‪ ،‬نعوذ باهلل من النار‪ ،‬نعوذ باهلل‬
‫من النار‪ ،‬نعوذ باهلل من النار‪ِ .‬‬
‫َ َّ َ َ ُّ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ََ‬
‫﴿و َرأى اْل ْج ِر ُمون الن َار فظنوا‬ ‫﴿ث َّم لت َر ُو َّن َها َع ْين ال َي ِق ِين﴾؛ أي‪ :‬رؤية بصرية كما قال تعالى‪:‬‬
‫َ َّ ُ ُّ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ْ ً‬
‫ص ِرفا﴾ [الكهف‪ِ .]53 :‬‬ ‫أنهم موا ِقعوها ولم ي ِجدوا عنها م‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ َ ُ ْ َ ُ‬
‫﴿ثم لتسألن يوم ِئ ٍذ ع ِن الن ِع ِيم﴾ الذي تنعمتم به في دار الدنيا‪ ،‬هل قمتم بشكره وأديتم‬
‫نعيما أعلى منه وأفضل‪.‬‬ ‫حق الله فيه ولم تستعينوا به على معاصيه؟ فينعمكم ً‬
‫أم اغتررتم به ولم تقوموا بشكره بل ربما استعنتم به على اْلعاص ي؟ فيعاقبكم على‬
‫ُ‬ ‫َ َّ َ ْ ُ َ ُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َّ َ َ َ‬
‫ين كف ُروا َعلى الن ِار أذ َه ْبت ْم ط ِي َبا ِتك ْم ِفي َح َيا ِتك ُم‬ ‫ذلك‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ويوم يعرض ال ِذ‬
‫ُّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ‬
‫اب ال ُهو ِن﴾ [اْلحقاف‪.]20 :‬‬ ‫الدنيا واستمتعتم ِبها فاليوم تجزون عذ‬
‫هذه اآلية مقصودها اْلعظم أن يعلم املسلم حقيقة حاله ومآله‪ ،‬وأن اليقين أنه ميت‪،‬‬
‫فيحسن االستعداد لآلخرة‪ ،‬ويقدم اآلخرة على الدنيا‪ ،‬وهذا هو حال السلف الصالح‬ ‫ُ‬
‫رضوان هللا عليهم ومن قبلهم حال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم كان يكون مع أهله فإذا نودي للصالة كان كأنه ال يعرفهم‪ ،‬وكان بعض السلف‬
‫ربما رفع املطرقة فأذن املؤذن فأسقطها من يده ولم يرجعها‪ ،‬من شدة استجابتهم‬
‫وتقديمهم لآلخرة على هذه الدنيا‪ِ .‬‬
‫هذا مقصود هذه السورة‪ :‬أن تعلم أيها املسلم حقيقة حالك في الدنيا‪ ،‬وأن الدنيا دار‬
‫الغرور ودار التعب والعمل‪ ،‬وأن اليقين وإن تناسيته أنك ستموت‪ ،‬وإذا مت فإنك ستبعث‪،‬‬
‫وإذا بعثت فإنك ُ‬
‫ستجازى على عملك‪ ،‬وهذا يجعل املؤمن ُيحسن االستعداد لآلخرة بفعل‬
‫الطاعات واجتناب املحرمات‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪407‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ‬
‫سورة العصر‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫الصال َحات َو َت َو َ‬
‫اص ْوا‬ ‫ان َلفي ُخ ْسر (‪ )2‬إ َّال َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ‬ ‫َّ ْ َ َ‬
‫نس‬ ‫اإل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫)‬ ‫‪1‬‬ ‫(‬ ‫ر‬ ‫﴿و ْال َع ْ‬
‫ص‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الص ْب ِر (‪ِ .﴾)3‬‬
‫اص ْوا ب َّ‬ ‫ب ْال َحق َو َت َو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫هذه السورة مكية عند جمهور العلماء‪ ،‬يقسم هللا عز وجل فيها بالزمان الذي تقع فيه‬
‫أقوال وأفعال العباد‪ ،‬وتحدث فيه آيات عظام في الكون يقع بها االعتبار ملن تأمل وتدبر‬
‫ونظر وتفكر‪ِ .‬‬
‫والعظيم سبحانه وتعالى إذا أقسم بش يء دل على عظمته وعظمة ما فيه‪ ،‬فالعظيم‬
‫سبحانه يقسم بهذا الزمان على أمر عظيم يهم كل إنسان أال وهو أن جنس اإلنسان في‬
‫خسر وضياع وحسرة وعقوبة إال من استثنى الرحمن سبحانه وتعالى‪ ،‬وهم الذين آمنوا‪،‬‬
‫فآمنوا بربهم سبحانه وتعالى‪ ،‬وآمنو برسله وكتبه ومالئكته واليوم اآلخر والقدر خيره وشره‪ِ .‬‬
‫ومع إيمانهم ومن إيمانهم عملوا الصالحات‪ ،‬فاجتهدوا في إرضاء هللا عز وجل بعمل‬
‫الصالحات التي فيها اإلخالص هلل عز وجل واملتابعة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ال‬
‫يكسلون عن العمل الصالح‪ ،‬وال يملون من العمل الصالح‪ ،‬يتعبون أنفسهم في ظاهر اْلمر‪،‬‬
‫وهم يريحونها حقيقة في الدنيا ويسعون إلى الراحة العظمى في اآلخرة عندما يحطون‬
‫رحالهم في جنة رب العاملين‪ِ .‬‬
‫ولن يكون اإليمان والعمل الصالح إال ثمرة العلم‪ ،‬فالعلم يثمر اإليمان‪ ،‬واإليمان يدعو إلى‬
‫العلم ويثمر العمل الصالح‪ ،‬فهم يجمعون بين الفضيلتين العظيمتين‪ :‬العلم ِوالعمل‪ ،‬فلم‬
‫يعملوا بال علم فيكونوا ضالين‪ ،‬ولم يعلموا بال علم فيكون من مغضوبا عليهم‪ ،‬بل جمعوا‬
‫بين العلم والعمل‪ِ .‬‬
‫ومع ذلك فهم يوص ي بعضهم بعضا بالحق‪ ،‬يوص ي بعضهم بعضا بالقرآن وبسنة النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم وبالعمل الصالح الذي دل عليه القرآن والسنة‪ ،‬ويوص ي بعضهم‬
‫بعضا بالصبر ُوي َ‬
‫صبر بعضهم بعضا‪ ،‬يتواصون بالصبر على طاعة هللا‪ ،‬ويتواصون بالصبر‬

‫‪408‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫عن معصية هللا‪ ،‬ويتواصون بالصبر على أقدار هللا عز وجل‪ ،‬فهم عاملون بالحق وعاملون‬
‫بالحق‪ ،‬وداعون ومعلمون للحق‪ ،‬وصابرون على الحق‪ ،‬وموصون بالحق والصبر على الحق‪،‬‬
‫ومن جمع هذا فهو أهل للفالح الكامل‪ ،‬وينقص فالحه بحسب ما ينقص من ذلك‪ِ .‬‬
‫وأما من لم يكن من أهل االستثناء فإنه باق على اْلصل وهو أنه في خسارة وفي ضياع وأن‬
‫مآله إلى حسرة وإلى عقوبة من هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة القليلة في العدد العظيمة‬
‫في املعنى‪ ،‬ثم نرجع إلى التفسير التفصيلي ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬ونعلق ما يحتاج إلى تعليق ونتمم ما يحتاج إلى إتمام‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين‪ِ :‬‬
‫أقسم تعالى بالعصر الذي هو الليل والنهار محل أفعال العباد وأعمالهم‪ِ .‬‬
‫نعم هذا قول اْلكثر‪ ،‬وقيل‪ :‬إن العصر هو السنة‪ ،‬فالسنة الواحدة تسمى عصرا‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إن العصر هنا هو الوقت املعروف املسمى بالعصر‪ ،‬وهو جزء من اليوم في آخر‬
‫النهار‪ِ .‬‬
‫ولكن اْلكثر على اْلول الذي ذكره اإلمام السعدي رحمه هللا‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫َّ ْ َ َ َ‬
‫نسان ل ِفي خ ْس ٍر﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني في هالك‪ِ .‬‬ ‫اإل‬
‫﴿ ِإن ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني في ضياع‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني في عقوبة‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني في حسرة‪ِ .‬‬
‫وهذا اختالف تنوع فالكل صحيح‪ِ .‬‬
‫وما املراد باإلنسان هنا؟ قال بعض اْلفسرين‪ :‬هو جنس اإلنسان إال من استثنى هللا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو الكافر‪ ،‬فيكون االستثناء هنا منقطعا إن اإلنسان الكافر لفي‬
‫خسر لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في فالح‪ِ .‬‬
‫ولكن اْلقرب وهللا أعلم أن اإلنسان هنا هو جنس اإلنسان‪ ،‬فاإلنسان اْلصل فيه أنه في‬
‫هالك وخسارة وضياع إال إذا اتصف بما ذكره هللا عز وجل‪ِ .‬‬

‫‪409‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أقسم هللا تعالى بالعصر الذي هو الليل والنهار محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل‬
‫إنسان خاسر‪ ،‬والخاسر ضد الرابح‪ ،‬والخسار مراتب متعددة متفاوتة‪ :‬قد يكون خسارا‬
‫مطلقا كحال من خسر الدنيا واآلخرة وفاته النعيم واستحق الجحيم‪ِ .‬‬
‫وهذا حال الكفار واملنافقين فإنهم في خسارة مطلقا‪ ،‬وإياك أن تغتر ببهرجة الدنيا وزخارف‬
‫الدنيا التي يكون فيها الكفار‪ ،‬فإنهم وهللا لفي خسر خسارة تامة مطبقة ما لم يخرجوا من‬
‫كفرهم وما لم يخرجوا من نفاقهم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬قد يكون خاسرا من بعض الوجوه دون بعض‪ِ .‬‬
‫وهذا في حق املؤمن العاص ي‪ ،‬فإنه يكون خاسرا من جهة عصيانه‪ِ .‬‬
‫ولهذا عمم هللا الخسارة لكل إنسان إال من اتصف بأربع صفات‪ :‬اإليمان بما أمر هللا‬
‫باإليمان به‪ِ .‬‬
‫فيؤمن باْلركان الستة وبكل غيب ذكره هللا عز وجل‪ ،‬فيؤمن بالقبر وعذاب القبر وفتنة القبر‬
‫وغير ذلك مما ذكره هللا عز وجل‪ ،‬يؤمن بذلك إيمانا ال شك فيه وال يتطرقِ إليه احتمال‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وال يكون اإليمان بدون العلم‪ ،‬فهو فرع عنه ال يتم إال به‪ِ .‬‬
‫فتضمن ذكر العلم؛ ذكر اإليمان والعمل الصالح تضمن ذكر العلم؛ ْلن العلم قنطرة‬
‫اإليمان والعمل الصالح‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬والعمل الصالح وهذا شامل ْلفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة اْلتعلقة بحقوق‬
‫هللا وحقوق عباده الواجبة واْلستحبة‪ِ .‬‬
‫وال يكون العمل صالحا إال بشرطين‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬اإلخالص هلل‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬واملتابعة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وكل عمل فقد الشرطين أو أحدهما فهو عمل فاسد صاحبه مستحق للعقوبة وليس عامال‬
‫عمال صالحا‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬والتواص ي بالحق الذي هو اإليمان والعمل الصالح أي‪:‬؛ يوص ي بعضهم بعضا‬
‫بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه‪ِ .‬‬
‫‪410‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وقيل‪ :‬الحق هو القرآن وما دل عليه القرآن‪ ،‬فهم يتواصون بالقرآن تالوة ومعرفة للمعاني‬
‫وعمال بما فيه‪ ،‬ويتواصون بالسنة؛ ْلن الزم التواص ي بالقرآن التواص ي بالسنة‪ ،‬فهما‬
‫مقترنان‪ ،‬والسنة وحي الحق‪(( :‬أال إني أوتيت القرآن ومثله معه))‪ ،‬واملؤمن ال يفرق بين‬
‫الوحي‪ ،‬فالكل حق من هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ويتواصون أيضا فيما بينهم بالعمل الصالح‪ ،‬وإذا رأى أحدهم من أخيه نقصا أو كسال‬
‫أوصاه فيما ُ‬
‫بينه وبينه‪ ،‬وحرص على أن يدعوه إلى الخير؛ ْلنه يحب ْلخيه ما يحب لنفسه‪،‬‬
‫اْلخالق‪ ،‬يوصون من يرون فيه تقصيرا خاصا في نفسه وال ينشرون ذلك‬
‫وهذه صفات أهل ِ‬
‫بين الناس‪ ،‬وال يعيبونه من وراء ظهره‪ ،‬وال يوصونه إذا التقوا به‪ ،‬بل ما دام أن اْلمر‬
‫خاص‪ ،‬فإنهم ال ينشرونه بين الناس‪ ،‬ومع ذلك ال يتركون صاحبه‪ ،‬بل ينصحونه ويوصونه‬
‫بالحق وبالخير‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬والتواص ي بالصبر على طاعة هللا وعن معصية هللا وعلى أقدار هللا اْلؤْلة وهذه‬
‫أنواع الصبر الثالثة‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬الصبر على الطاعة‪ :‬وال شك أن اإلنسان يحتاج إلى الصبر على الطاعة والسيما في‬
‫ِّ‬
‫املخذلون عن الطاعة‪ :‬وأنت معقد‪ ،‬وأنت متشدد‪ ،‬وأنت‬ ‫ِ‬ ‫زمن الفتن الذي يكثر فيه‬
‫تأتينا باإلسالم السعودي‪ ،‬وأنت ِوأنت ‪ ،...‬فاإلنسان يحتاج إلى صبر على هذه‬
‫َّ‬
‫الطاعة‪ ،‬ومن صبر حيث يخذل عن الطاعة عظم أجره حتى قد يبلغ به الحال أن‬
‫يثاب ثواب خمسين من صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فالطاعة تحتاج‬
‫إلى صبر‪.‬‬
‫‪ .2‬والصبر أيضا عن اْلعصية‪ :‬واملعصية يزخرفها شياطين اإلنس والجن وتزخرفها‬
‫النفس اْلمارة بالسوء‪ ،‬فيحتاج اإلنسان أن يصبر عنها والسيما في الخلوات حيث ال‬
‫يراه أحد من الناس‪ ،‬فيحتاج أن ِّ‬
‫يصبر نفسه وأن يذكرها بأن هللا يراه‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ .3‬والصبر على أقدار هللا عز وجل‪ :‬ويحتاج املؤمن أن يصبر نفسه عن املصائب‪،‬‬
‫ونزول املصيبة دليل على املحبة إن لم يكن ذلك استدراجا‪ ،‬فإن هللا إذا أحب‬
‫قوما ابتالهم‪ ،‬ويبتلى الناس بقدر محبة هللا لهم وبقدر دينهم‪.‬‬

‫‪411‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ولذلك بعض السلف إذا مرت عليه أيام لم ُي ْب َت َل بمصيبة يتفقد نفسه‪ ،‬وإذا‬
‫نزلت املصيبة باإلنسان والبالء باإلنسان فإنه يصبر نفسه أن الذي أنزلها هو هللا‬
‫املالك له‪ ،‬فاهلل مالك وهو عبد‪ ،‬وللمالك أن يفعل بعبده ما يشاء‪ ،‬وهذا املالك‬
‫سبحانه ال يظلم الناس شيئا‪ ،‬وإنما يفعل عن حكمة‪ ،‬فال يسأل عما يفعل‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا املالك الحكيم إن ابتلى بش يء فقد أنعم بأشياء‪ ،‬ثم هذا‬
‫االبتالء ملصلحة املبتلى‪ِ :‬‬
‫‪ -‬لتذكيره ليعبد هللا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬لتكفير سيئاته‪ِ .‬‬
‫‪ -‬لتعلو درجته في الجنة‪ِ .‬‬
‫فكيف ال يصبر إذا علم املؤمن هذا؟! ِ‬
‫ثم إن البالء مار وليس قارا‪ ،‬البالء يمر وكل عسر يعقبه يسر فيصبر املؤمن على‬
‫هذا اْلمر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فباْلمرين اْلولين يكمل العبد نفسه‪ِ .‬‬
‫يعني‪ :‬باإليمان والعمل الصالح‪ِ .‬‬
‫وباْلمرين اْلخيرين يكمل غيره‪ِ .‬‬
‫يعني بالت ِواص ي بالحق والتواص ي بالصبر‪ ،‬والحق أنه بالتواص ي بالحق والتواص ي بالصبر‬
‫يكمل نفسه ويكمل غيره‪ ،‬فالتواص ي هذا عمل صالح في ذاته‪ ،‬ومن وص ى غيره فإن في هذا‬
‫موعظة لنفسه‪ ،‬ولذلك العاقل ال يمكن أن يوص ي غيره بش يء ويترك ذلك الش يء إال أال‬
‫يكون مطلوبا منه هو‪ ،‬فبالتواص ي بالحق والتواص ي بالصبر يكمل اإلنسان نفسه وغيره‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وبتكميل اْلمور اْلربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم‪ِ .‬وبهذا‬
‫يتم تفسير سورة العصر‪ ،‬ومقصود هذه السورة‪ :‬أن الناس في الدنيا ينقسمون إلى قسمين‪:‬‬
‫أهل ربح وأهل خسارة‪ ،‬وأن أهل الربح هم أهل اإليمان والعمل الصالح والتواص ي بالحق‬
‫والتواص ي بالصبر‪ ،‬وأن أهل الخسارة هم من عدا ذلك‪ِ .‬‬
‫ِ‬

‫‪412‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪413‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الهمزة‬
‫بسم هللا الرحمن‬
‫َ َّ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿و ْي ٌل ِلك ِل ُه َم َز ٍة ْل َز ٍة (‪ )1‬ال ِذي َج َم َع َماال َو َع َّد َد ُه (‪َ )2‬ي ْح َس ُب أ َّن َمال ُه أخل َد ُه (‪ )3‬كَّل ۖ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َّ َ َّ‬ ‫َ َّ ْ ُ َ ُ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫اك َما ال ُحط َمة (‪ )5‬ن ُار الل ِه اْلوق َدة (‪ )6‬ال ِتي تط ِل ُع َعلى‬ ‫َل ُي َنب َذ َّن في ْال ُح َط َمة (‪َ )4‬و َما َأ ْد َ َ‬
‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ َ ْ ُّ ْ َ ٌ‬ ‫َْْ‬
‫ص َدة (‪ِ )8‬في َع َم ٍد ُّم َم َّد َد ٍة (‪.﴾)9‬‬ ‫اْلف ِئ َد ِة (‪ِ )7‬إنها علي ِهم مؤ‬
‫َِ‬
‫املغتاب‬ ‫في هذه السورة املكية باتفاق العلماء يتوعد هللا عزو جل بالنار وشديد العذاب‬
‫الطعان الذي يطعن في الناس ويعيب الناس بقوله أو فعله أو إشارته بغير حق‪ ،‬ويتنقصهم‬
‫ويتتبع عيوبهم‪ِ .‬‬
‫ومع ذلك فهو بخيل جماع للمال‪ ،‬ال يخرج منه حقه‪ ،‬ويعده دائما ويحسبه دائما خوف‬
‫نقصانه‪ ،‬مع أنه يعلم أنه لم ينفق منه شيئا‪ ،‬فيعده صباحا ثم يعده مساء‪ ،‬وهو يعلم أنه‬
‫لم ينفق منه شيئا‪ِ .‬‬
‫وهو لجهله يظن أن ماله سيخلده في الدنيا‪ ،‬ويحميه من املوت‪ ،‬ويبقى ذكره بين الناس إذا‬
‫مات‪ ،‬فهو يظن أن هذا املال يجلب له الصحة والعافية والقوة والبقاء في الدنيا‪ ،‬وأنه إذا‬
‫جاءه املوت سيبقى ذكره بين الناس؛ ْلنه صاحب أموال‪ِ .‬‬
‫وليس اْلمر كما يظن بل وهللا سيموت ويبعث ويجازى ويطرح في النار طرحا بإهانة‪،‬‬
‫وتحطمه النار وتطحنه طحنا‪ِ .‬‬
‫وما أدراك ما الحطمة؟ إن شأنها عظيم وعذابها شديد‪ ،‬تطحن أهلها وأهلها في عذاب‬
‫شديد‪ ،‬إنها النار التي أعدها هللا عز وجل لعذاب املستحقين للعذاب‪ ،‬التي أوقد عليها فهي‬
‫سوداء مظلمة‪ ،‬ومن وقودها الناس والحجارة‪ ،‬وعذابها شديد‪ ،‬فهي تحرق أهلها حتى تبلغ‬
‫قلوبهم‪ ،‬فكل اْلعضاء في ظاهرها وباطنها تحرق بنارها ويصل لهبها إلى القلوب التي في‬
‫الصدور‪ ،‬وهي على أهلها مطبقة مغلقة محكمة اْلبواب‪ ،‬قد جعل هللا على أبوابها أعمدة‬
‫إلحكام إغالقها‪ ،‬ولييأس أهلها من فتح أبوابها‪ ،‬وفيها أعمدة ُيربط فيها أهل النار وأعمدة من‬
‫نار يعذب بها أهل النار‪ ،‬فهم في ألوان من العذاب ال يألفون العذاب أبدا بل يجدد عليهم‪،‬‬
‫وهم يائسون من الخروج من هذا العذاب‪ ،‬فقد يئسوا من املوت‪ ،‬ويئسوا من سؤال‬

‫‪414‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫إخراجهم منها‪ ،‬ويئسوا من فتح أبوابها‪ ،‬وهذا من أشد عذابها على أهلها‪ ،‬ومع ذلك فلهبها‬
‫شديد يحرق اإلنسان من ظاهره وباطنه‪ ،‬نعوذ باهلل من عذاب النار‪ ،‬نعوذ باهلل من عذاب‬
‫النار‪ ،‬نعوذ باهلل من عذاب النار‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي اإليمان املوضوعي آليات هذه السورة‪ ،‬ونرجع إلى التفسير التفصيلي‬
‫فنقرأ ما ذكره اإلمام السعدي رحمه هللا‪ِ .‬‬
‫﴿ َو ْي ٌل﴾؛ أي‪ :‬وعيد ووبال وشدة عذاب‪ِ .‬‬
‫﴿و ْي ٌل﴾ كلمة وعيد؛ أي‪ :‬أن لهم وعيدا وشدة عذاب‪ِ .‬‬
‫هذا عند أكثر العلماء أن َ‬

‫﴿و ْي ٌل﴾ جهنم‪ ،‬ويل من أسماء جهنم‪ِ .‬‬


‫وقال بعض العلماء‪ :‬بل َ‬

‫وقال بعض العلماء‪َ ﴿ :‬و ْي ٌل﴾ واد من أودية جهنم‪ِ .‬‬


‫اْلكثر أنها كلمة وعيد بالعذاب الشديد‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫والذي عليه‬
‫ُّ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿لك ِل ُه َم َز ٍة ْل َز ٍة﴾؛ أي‪ :‬الذي يهمز الناس بفعله ويلمزهم بقوله‪ ،‬فالهماز الذي يعيب‬
‫ِ‬
‫الناس ويطعن ويعيب عليهم باإلشارة والفعل‪ِ .‬‬
‫كأن يلوي وجهه إذا رأى إنسانا أو يغمز بعينه أو يشير برأسه إليه أو نحو ذلك‪ .‬واللماز الذي‬
‫يعيبهم بقوله‪ِ .‬‬
‫فيعيب بالقولِ‪ :‬وفالن كذا وفالن كذا وفالنة كذا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬هما بمعنى واحد فالهماز اللماز هو املغتاب‪ ،‬فاملغتاب يقال‪ :‬له هماز‬
‫ملاز‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬الهماز املغتاب‪ ،‬واللماز السباب‪ ،‬ما الفرق بينهما؟ ِ‬
‫املغتاب يذكر اإلنسان بما يكره من وراء ظهره في غيبته‪ ،‬والسباب يذكر اإلنسان بما يكره‬
‫في وجهه فيسبه وهو حاضر‪ ،‬فالهماز هو املغتاب واللماز هو السباب الطعان‪ِ .‬‬
‫وعكس بعض أهل العلم وقالوا‪ :‬الهماز هو السباب واللماز هو املغتاب‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬الهماز هو الذي يطعن في اْلنساب خاصة‪ ،‬نسب القبيلة الفالنية وأنساب فالن‬
‫يطعن فيها‪ ،‬واللماز هو الذي يسب في غير ذلك‪ِ .‬‬

‫‪415‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وكلمة املفسرين جميعا على أن الهماز اللماز اْلصل فيه أنه املغتاب الذي يغتاب الناس‬
‫ويعيبهم‪ ،‬وكذلك على الراجح السباب الذي يسب الناس ويطعن فيهم بحضورهم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ومن صفة هذا الهماز اللماز أنه ال هم له سوى جمع اْلال وتعديده والغبطة به‪ِ .‬‬
‫﴿و َع َّد َد ُه﴾ قيل‪ :‬إنه من بخله يكثر عده‪ ،‬فدائما يعد املال وال ينفق منه شيئا‪ ،‬ولكنه من‬
‫َ‬

‫شدة بخله يعده دائما‪ِ .‬‬


‫﴿و َع َّد َد ُه﴾؛ أي‪ :‬جعله عدة لنوائب الدهر معتمدا عليه‪ ،‬يقولِ‪ :‬أنا ما عندي الحمد‬
‫وقيل‪َ :‬‬

‫هلل ما أخاف من املستقبل‪ ،‬أنا عندي أموال‪ ،‬فيعتمد على ماله‪ ،‬ويعد املال أمانا‬
‫للمستقبل‪ ،‬وال يتوكل على هللا‪ ،‬وإنما يعتمد على هذا املال‪ ،‬فهو يجعله ويعده لنوائب الدهر‬
‫معتمدا عليه‪ِ .‬‬
‫﴿و َع َّد َد ُه﴾؛ أي‪ :‬كنزه ولم ينفق منه ال اإلنفاق الواجب وال اإلنفاق‬
‫وقال بعض املفسرين‪َ :‬‬

‫املستحب‪ِ .‬‬
‫وقال بعض املفسرين‪ :‬وعدده؛ أي‪ :‬أعده للورثة‪ ،‬ليس بقصد منه لكنه جمعه جمعه‬
‫جمعه ثم مات وتركه‪ ،‬فهو للورثة‪ِ .‬‬
‫وكل هذه املعاني صحيحة‪ ،‬فهو يعده عدا‪ ،‬ويكثر عده‪ ،‬ويعتمد عليه في اْلمان من مصائب‬
‫الدهر‪ ،‬وال ينفق منه ال النفقة الواجبة وال النفقة املستحبة‪ ،‬ومع ذلك فإنه ميت عنه‬
‫وتاركه للناس إن لم يبتل في حياته بذهاب املال من بين يديه‪ِ .‬‬
‫﴿ي ْح َس ُب﴾‬
‫قال‪ :‬وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة اْلرحام ونحو ذلك‪َ .‬‬

‫بجهله‪ِ .‬‬
‫﴿ي ْح َس ُب﴾ يعني يظن‪ِ .‬‬‫َ‬
‫َ َ َْ‬ ‫َ‬
‫﴿ي ْح َس ُب﴾ بجهله؛ ﴿أ َّن َمال ُه أخل َد ُه﴾ في الدنيا‪ِ .‬‬
‫َ‬

‫بجسده أو بذكره‪ ،‬بجسده حيث يحسب أن املال سيبقيه قويا صحيحا سليما؛ ْلن عنده‬
‫أموال‪ ،‬ويحسب لجهله أنه إذا مات سيبقى ذكره بين الناس ْلنه شريف والناس يأتون إليه‬
‫وعند بابه ْلنه صاحب مال؛ ْلن الناس في الغالب يميلون إلى صاحب املال‪ ،‬وال يتنبه‬
‫املسكين إلى ما قاله ذاك القائل‪ِ :‬‬

‫‪416‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ِ‬


‫فعنه الناس قد مالوا ِ‬ ‫ومن ال عنده مال‬
‫فهو إن كان عنده مال وينفق يأتيه الناس‪ ،‬أما إذا كان ال ينفق فإن الناس ال يأتونه‪ ،‬وإذا‬
‫قيمة له عند الناس‪ ،‬وإذا ذهب هو عن املال فإنه ال ذكر له حسن عند‬ ‫ذهب ماله فإنه ال َ‬
‫الناس‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك كان كده وسعيه كله في تنمية ماله الذي يظن أنه ينمي عمره‪ ،‬ولم يدر أن‬
‫البخل يقصف اْلعمار ويخرب الديار‪ ،‬وأن البر يزيد في العمر‪.‬‬
‫َ َّ َ َ‬
‫﴿كَّل ۖ ل ُي َنبذ َّن﴾‪ِ .‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿كَّل ۖ﴾ كما تقدم مرارا كلمة للردع والزجر؛ أي‪ :‬ارتدع عن هذا‪ ،‬وقيل‪ :‬معناها حقا‪ِ .‬‬
‫َ َ‬
‫﴿ل ُي َنبذ َّن﴾ جواب قسم مقدر؛ أي‪ :‬وهللا لينبذن‪ِ .‬‬
‫أي‪ :‬ليطرحن في الحطمة‪ِ .‬‬
‫الحطمة التي تحطم اْلشياء وتفتتها‪ِ .‬‬
‫ْ َ ُ‬
‫اك َما ال ُحط َمة﴾ تعظيم لها وتهويل لشأنها‪.‬‬ ‫﴿و َما َأ ْد َ َ‬
‫َ‬
‫ر‬
‫َ َّ ْ ُ َ ُ‬
‫ثم فسرها بقوله‪﴿ :‬ن ُار الل ِه اْلوق َدة﴾‪ِ .‬‬
‫فالحطمة من أسماء النار‪ ،‬ونار هللا أضيفت إلى هللا؛ ْلنها عذاب هللا ومحل انتقامه وغضبه‬
‫سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ َّ ْ ُ َ ُ‬
‫﴿ن ُار الل ِه اْلوق َدة﴾ التي وقودها الناس والحجارة‪ِ .‬‬
‫وجاء في حديث عند الترمذي وفيه ضعف ضعفه اْللباني وغيره أنها أوقد عليها ألف سنة‬
‫حتى احمرت‪ ،‬ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت‪ ،‬ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت‪،‬‬
‫والحديث فيه ضعف‪ ،‬وثبت عن جمع من السلف أن نار جهنم سوداء مظلمة‪ِ .‬‬
‫َ َْْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬
‫﴿ال ِتي﴾ من شدتها ﴿تط ِل ُع َعلى اْلف ِئ َد ِة﴾؛ أي‪ :‬تنفذ من اْلجسام إلى القلوب‪ِ .‬‬
‫فهي ال تحرق ظاهر الجلد‪ ،‬بل تحرق ظاهر الجلد وباطن اللحم وباطن الجوف حتى تحرق‬
‫القلب‪ ،‬فعذابها شديد محيط عام‪ ،‬نعوذ باهلل من النار‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ومع هذه الحرارة البليغة هم محبوسون فيها قد أيسوا من الخروج منها ولهذا‬

‫‪417‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪﴿ :‬إ َّن َها َع َل ْيهم ُّم ْؤ َ‬


‫ص َد ٌة﴾؛ أي‪ :‬مغلقة‪﴿ ،‬في َع َم ٍد﴾ من خلف اْلبواب‪ُّ ،‬‬
‫﴿م َم َّد َد ٍة﴾ لئَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يخرجوا منها‪ِ .‬‬
‫أي‪ :‬دون اْلبواب من جهة جهنم أعمدة مدت‪ ،‬وهذا معروف أن فيه شدة اإلحكام وأن‬
‫الباب الذي تمد عليه اْلعمدة ال يمكن فتحه وأنه شديد اإلغالق‪ ،‬وأنهم لو راموا فتح‬
‫اْلبواب لحالت بينهم وبينها اْلعمدة‪ِ .‬‬
‫عمد من الحديد في النار يربط فيها أهل النار‪ ،‬حديد في نار‬‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني في ٍ‬
‫مشتعلة سيكون نا ًرا يربط فيه أهل النار‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬أعمدة يعذب فيها أهل النار ويضرب بها أهل النار‪ِ .‬‬
‫والكل صحيح‪ِ .‬‬
‫كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها‪ ،‬نعوذ باهلل من ذلك ونسأله العفو والعافية‪ِ .‬‬
‫ومقصود هذه السورة والحكمة الكبرى منها‪ِ :‬‬
‫صفة ً‬‫ً‬
‫وأثرا‪،‬‬ ‫‪ -‬بيان خطر الذنوب والسيما الغيبة والشح املطاع‪ ،‬فإنها من أقبح الذنوب‬
‫حق‪ ،‬ولألسف أن بعض‬
‫الغيبة والطعن في الناس بغير حق‪ ،‬وأعظمه الطعن في الدين بغير ٍ‬
‫طالب العلم أصيبوا بموت قلوبهم في هذا الباب‪ ،‬فال يرتاحون إال بالطعن في دين الناس من‬
‫غير حق وال علم وال بصيرة‪ ،‬وهذا خطر عظيم‪ ،‬وفرق بين من يتكلم ليحمي دين الناس وبين‬
‫من يتكلم ليطعن في دين الناس‪ ،‬شتان بين من وصل الدرجات الكبرى في الفضل وبين من‬
‫انحدر إلى الدركات السفلى في السفالة ثم الطعن في أعراض الناس بغير حق وال برهان‪ِ .‬‬
‫فهذا من أقبح الذنوب وأعظمها أثرا على املغتاب في أعراض الناس‪ ،‬وكذلك الشح املطاع‬
‫الذي يطيعه اإلنسان فال ينفق من املال‪ ،‬فإنه من أقبح الذنوب وأعظمها أثرا‪ِ .‬‬
‫والحكمة العظمى من السورة‪ :‬بيان شؤم املعاص ي والذنوب والسيما ما ذكر وهو الغيبة‬
‫والشح املطاع‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪418‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الفيل‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ‬ ‫ص َحاب ْالفيل (‪َ )1‬أ َل ْم َي ْج َع ْل َك ْي َد ُه ْم في َت ْ‬
‫ف َف َع َل َرُّب َك ب َأ ْ‬ ‫ََ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫ض ِل ٍيل (‪َ )2‬وأ ْر َس َل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ألم تر كي‬
‫ُْ‬
‫ف َّمأكو ٍل (‪ِ .﴾)5‬‬ ‫ص‬‫يل (‪َ )3‬ت ْرميهم بح َجا َرة من سجيل (‪َ )4‬ف َج َع َل ُه ْم َك َع ْ‬ ‫َ‬ ‫اب‬ ‫َع َل ْيه ْم َط ْي ًرا َأ َ‬
‫ب‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ ِِ ٍ ِ ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في هذه السورة املكية باالتفاق يخاطب هللا عز وجل نبيه صلى هللا عليه وسلم ومن يصلح‬
‫للخطاب‪ :‬ألم تعلم علم اليقين كأنك ترى بعينيك وإن كنت لم تر؛ لكن الخبر صحيح‪ِ .‬‬
‫كيف فعل ربك بأصحاب الفيل وهم أبرهة اْلشرم وجيشه‪ ،‬حيث بنى أبرهة في اليمن‬
‫كنيسة كبرى وأراد أن يصرف حج العرب من الكعبة إليها‪ ،‬فغضب العرب جميعا وغضبت‬
‫قريش من جملتهم‪ ،‬فذهب شاب من قريش ودخل تلك الكنيسة وقض ى حاجته فيها‪ ،‬ثم‬
‫عاد‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إن فتية من قريش ذهبوا إليها فأوقدوا النار فيها فأصبحت هشيما‪ ،‬فقيل إن هذا‬
‫من فعل قريش‪ ،‬فجهز أبرهة جيشا عظيما‪ ،‬وأخذ معه فيال ضخما جدا جاءه من الحبشة‪،‬‬
‫يقال‪ :‬له محمود قيل ليرعب العرب؛ ْلنهم ال يعرفون هذه اْلفيال‪ ،‬وقيل‪ :‬ليهدم به الكعبة‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬ليحمل عليه وعلى بعض الفيلة حجر الكعبة ليبني به الكنيسة‪ ،‬فسار من اليمن في‬
‫جيشه‪ ،‬فقاومه بعض العرب فهزمهم‪ ،‬حتى إذا بلغ مكة برك الفيل ولزم اْلرض‪ ،‬فنخزوه‬
‫بالحراب فلم يتحرك‪ ،‬فوجهوه إلى اليمن فقام وهرول‪ ،‬وأعادوه إلى مكة فبرك في نفس‬
‫املكان‪ ،‬وهكذا؛ فجعل هللا كيدهم حيث جيشوا هذا الجيش وأحضروا الفيلة في ضياع‬
‫وخسار وعاقبهم عقوبة عظمى‪ ،‬فأرسل عليهم طيرا هللا أعلم بصفتها لكنها كثيرة العدد‪ ،‬تأتي‬
‫ً‬
‫تباعا وتأتيهم من كل مكان‪ ،‬هذه الطير ترميهم من فوقهم بحجارة من طين قد أحرقت في نار‬
‫جهنم‪ ،‬فتنفض في أجسادهم فتتفتت أجسادهم‪ ،‬فمنهم من مات في موضعه‪ ،‬ومنهم من‬
‫بدأ امل ِوت فيه في ذلك املوضع‪ ،‬ثم سار يتساقط جسده ويخبر عن هذه القضية فمات في‬
‫الطريق‪ ،‬ومنهم من عاد إلى اليمن ومات هناك‪ ،‬فجعلهم هللا يتساقطون وتتساقط‬
‫أعضاءهم جزءا جزءا كالورق الضعيف والقشرة الضعيفة على الثمار التي تتساقط وال‬
‫قيمة لها‪ِ .‬‬

‫‪419‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قريش أهل البيت وجيرانه وعلى املسلمين أهل الكعبة‪،‬‬


‫وفي هذا منة عظمى من هللا على ِ‬
‫فهذه منة عظمى‪ ،‬واْلكثر أن النبي صلى هللا عليه وسلم ولد في ذلك العام‪ ،‬وأن في هذا‬
‫إرهاصا لدعوته صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى املوضوعي اإليماني اإلجمالي لهذه السورة‪ ،‬ثم نرجع إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬أي‪ :‬أما رأيت من قدرة هللا وعظيم شأنه ورحمته بعباده وأدلة‬
‫توحيده وصدق رسوله محمد صلى هللا عليه وسلم ما فعله هللا بأصحاب الفيل‪ِ .‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم لم يكن موجودا؛ ولد في ذلك العام‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬ألم تر؟ ِوهو‬
‫لم ير‪ ،‬قال العلماء‪ :‬يعني ألم تعلم علما يقينيا كأنك ترى بعينك‪ ،‬علم ال شك فيه‪ ،‬فإن‬
‫الخبر متواتر صحيح‪ِ .‬‬
‫ونحن اليوم وهللا نعلم ما فعله هللا بأصحاب الفيل كأنا قد رأيناه بأعيننا‪ِ .‬‬
‫والخطاب ملن هنا؟ ِ‬
‫قيل‪ :‬للنبي صلى هللا عليه وسلم خاصة‪ ،‬وتدخل أمته تبعا له‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬خطاب لكل من يصلح لهذا الخطاب‪ ،‬فيدخل فيه النبي صلى هللا عليه وسلم وكفار‬
‫قريش واملؤمنون إلى قيام الساعة‪ ،‬وهذا أظهر وهللا أعلم‪ِ .‬‬
‫ما فعله هللا بأصحاب الفيل الذين كادوا بيته الحرام‪ ،‬وأرادوا إخرابه‪ ،‬فتجهزوا ْلجل‬
‫ذلك‪ ،‬واستصحبوا معهم الفيلة لهدمه‪ِ .‬‬
‫قيل‪ :‬فيل واحد‪ ،‬وقيل‪ :‬فيل كبير ومعه عدد من الفيلة‪ِ .‬‬
‫ِويكون الفيل هنا إما املقصود به الفيل الكبير الذي اسمه محمود‪ ،‬وإما الفيل هنا جنس‬
‫الفيلة‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬وجاؤوا بجمع ال قبل للعرب به من الحبشة واليمن‪ ،‬فلما انتهوا إلى قرب مكة ولم‬
‫يكن بالعرب مدافعة‪ِ .‬‬
‫وإن كان بعض العرب قد قاوموا الجيش وواجهوه بالسالح ولكنهم هزموا‪ِ .‬‬
‫وخرج أهل مكة من مكة خوفا على أنفسهم منهم‪ ،‬أرسل هللا عليهم طيرا أبابيل ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿أل ْم َي ْج َع ْل ك ْي َد ُه ْم﴾؛ أي‪ :‬جمعهم وتجهيزهم الجيش‪ِ .‬‬

‫‪420‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ض ِل ٍيل﴾ يعني في ضياع وخسران‪ِ .‬‬ ‫﴿في َت ْ‬


‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿وأ ْر َس َل َعل ْيه ْم ط ْي ًرا أ َباب َ‬‫َ‬
‫يل﴾؛ أي‪ :‬متفرقة‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قيل‪ :‬معنى أبابيل متفرقة‪ ،‬وقيل‪ :‬جماعات كثيرة‪ ،‬وقيل‪ :‬تأتي من جهات كثيرة وتأتي‬
‫متتابعة‪ِ .‬‬
‫وهذا اختالف تنوع‪ ،‬فكلها من صفاتها‪ ،‬فهي كثيرة مجتمعة على إهالك هؤالء القوم تأتي‬
‫متابعة‪ ،‬فكل هذه الصفات متحققة فيها‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬تحمل أحجارا ُم َحماة من سجيل‪ِ .‬‬
‫﴿من ِس ِج ٍيل﴾؛ أي‪ :‬من طين‪ ،‬السجيل هو الطين‪ ،‬فهي تحمل أحجارا من طين قد أحرق في‬
‫ِ‬
‫نار جهنم فهو صلب؛ ْلنه طين محروق‪ ،‬وهو حام؛ٍ ْلنه أحمي في نار جهنم‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫قال‪ :‬فرمتهم بها‪ ،‬وتتبعت قاصيهم ودانيهم‪ ،‬فخمدوا وهمدوا وصاروا كعصف مأكول‪ِ .‬‬
‫ف﴾ قال بعض العلماء‪ :‬العصف هو الورق الضعيف الذي يتساقط‪ ،‬ورق‬ ‫َ َ ْ‬
‫﴿كعص ٍ‬
‫الشجرة الضعيف الذي يتساقط ‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬هو القشرة الخفيفة التي تكون على الحبوب وعند الحصاد تطير‪ِ .‬‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬هو التبن الذي تأكله البهائم‪ِ .‬‬
‫واملقصود أنه نبات ضعيف خفيف يتساقط وال قيمة له‪ ،‬فجعلهم هللا كهذا‪ ،‬وذلك أن‬
‫الحجارة إذا أصابت أجسادهم تتفتت أجسادهم وتتساقط شيئا فشيئا‪ ،‬فصاروا كهذا‬
‫العصف املأكو ِل‪ِ .‬‬
‫ُْ‬
‫﴿ َّمأكو ٍل﴾ يعني‪ :‬أكلته البهائم مع خفته فال قيمة له‪ِ .‬‬
‫وصاروا كعصف مأكول‪ ،‬وكفى هللا شرهم ورد كيدهم في نحورهم‪ ،‬وقصتهم معروفة‬
‫مشهورة‪ ،‬وكانت تلك السنة التي ولد فيها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فصارت من‬
‫جملة إرهاصات دعوته وأدلة رسالته فلله الحمد والشكر‪.‬‬
‫ومن حكم هذه السورة العظمى‪ِ :‬‬

‫‪421‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬بيان عظيم قدرة هللا عز وجل وبيان حماية هللا عز وجل لبيته‪ ،‬ويفهم من ذلك حماية هللا‬
‫ْلوليائه إن توكلوا عليه وأخلصوا له وكانوا أولياء حقا وصدقا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن حكمها العظمى بيان أن هللا هو املستحق للعبادة سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو الذي حمى‬
‫بيته سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫سورة قريش‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ٰ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫﴿إل َيَّلف ُق َرْيش (‪ )1‬إ َيَّلفه ْم ر ْح َل َة الش َتاء َو َّ‬
‫ف (‪ )2‬فل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذا ال َب ْي ِت‬
‫ِ‬
‫الص ْ‬
‫ي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫(‪َّ )3‬الذي أ ْط َع َم ُهم من ُ‬
‫وع َو َآم َن ُهم ِم ْن خ ْو ٍف (‪[ ﴾)4‬قريش‪ِ .]4-1 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في هذه السورة املكية يمتن هللا عز وجل على قريش أهل الحرم بما أنعم به عليهم من‬
‫النعم العظيمة ومنها ما ألفوه واعتادوه واجتمعوا عليه من رحلة الشتاء إلى اليمن‪ ،‬وذلك‬
‫لطيب هواءها في الشتاء وطيب ثمارها في الشتاء‪ ،‬ورحلة الصيف إلى الشام وذلك لطيب‬
‫هواءها في الصيف ولطيب ثمارها في الصيف‪ِ .‬‬
‫وهم مع ذلك في بلدهم آمنون‪ ،‬فهم في أمن من الخوف؛ ْلنهم جيران الحرم الذي جعله‬
‫هللا عز وجل آمنا‪ ،‬فأمنوا بأمنه‪ ،‬وآمنهم هللا فيه من كل خوف عام‪ ،‬فال يخافون عدوا‬
‫يستأصلهم‪ ،‬وال مرضا يستأصلهم جميعا‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وأطعمهم من جوع فأمنوا من الجوع أيضا‪ ،‬فهم ُيرزقون من الثمرات‪ ،‬وتجبى لهم الثمرات‬
‫من كل مكان‪ِ .‬‬
‫وهذه النعم العظمى توجب عليهم أن يعبدوا املن ِعم سبحانه وتعالى‪ ،‬فيوحدوا هللا ويتركوا‬
‫عبادة الطاغوت والشرك باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬ويتبعوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه السورة‪ ،‬وأما التفسير التفصيلي فنقرأ ما‬
‫سطره اإلمام السعدي رحمه هللا ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين‪ :‬قال كثير من اْلفسرين‪:‬‬
‫إن الجار واْلجرور‪ِ .‬‬

‫‪422‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الجار واملجرور يعني في ﴿إل َيَّلف ُق َرْ‬


‫ش﴾؛ ِ ِإليَّل ِف‪ :‬الجار واملجرور البد له من متعلق‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ِِ ِ‬
‫َّ‬
‫ومتعلقه هنا اختلف فيه‪ِ :‬‬
‫‪-‬منه ما ذكره الشيخ‪ ،‬وهو أن هذه السورة مرتبطة بالسورة التي قبلها‪ ،‬فالذي فعله هللا عز‬
‫وجل بأصحاب الفيل من أجل قريش ‪-‬سكان الحرم‪ -‬وحفظ ما هم فيه من النعم‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬بل الجار واملجرور متع ِلق بقوله سبحانه وتعالى في السورة‪:‬‬
‫ش﴾؛ يعني‪ :‬بسبب ما أنعم هللا به عليهم من‬ ‫﴿ َف ْل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َٰه َذا ْال َب ْيت﴾‪﴿ ،‬إل َيَّلف ُق َرْ‬
‫ي‬
‫ٍ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫هذه النعم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬هو متعلق بفعل محذوف تقديره‪ِ :‬اعجبوا؛ ِاعجبوا من قريش كيف‬
‫ينعم هللا عليهم ويعبدون غيره؟! ِ‬
‫قال كثير من اْلفسرين‪ :‬إن الجار واْلجرور متعلق بالسورة التي قبلها؛ أي‪ :‬فعلنا ما‬
‫فعلنا بأصحاب الفيل ْلجل قريش وأمنهم واستقامة مصالحهم وانتظام رحلتهم في‬
‫الشتاء لليمن‪ ،‬وفي الصيف للشام ْلجل التجارة واْلكاسب‪ ،‬فأهلك هللا من أرادهم‬
‫بسوء وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب‪ ،‬حتى احترموهم ولم يعترضوا لهم في أي‬
‫سفر أرادوا‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿إليَّل ِف﴾ ما معنى إيالف؟ قال بعض أهل العلم‪ :‬ما اعتادوه وألفوه من هاتين الرحلتين‪ِ .‬‬‫ِِ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬يعني ما اجتمعوا عليه من االئتالف وهو االجتماع‪ِ .‬‬
‫وكال املعنيين صحيح‪ ،‬فإيالف قريش هو اعتيادهم هاتين الرحلتين‪ ،‬واجتماعهم على هاتين‬
‫الرحلتين‪ِ .‬‬
‫وقريش هي القبيلة املعروفة‪ِ .‬‬
‫ف﴾ إلى الشام‪.‬‬ ‫ي‬ ‫﴿إ َيَّلفه ْم ر ْح َل َة الش َتاء﴾ إلى اليمن‪َ ﴿ ،‬و َّ‬
‫الص ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َْ‬
‫قال‪ :‬ولهذا أمرهم هللا بالشكر فقال‪﴿ :‬فل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذا ال َب ْي ِت﴾‪.‬‬
‫الفاء هنا سببية‪ ،‬أي‪ :‬بسبب هذه النعم أو بسبب أن هللا أنعم عليهم بهذه النعم ليعبدوا‬
‫رب هذا البيت‪ِ .‬‬
‫أي‪ :‬ليوحدوه ويخلصوا له العبادة‪.‬‬

‫‪423‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫وع َو َآم َن ُه ْم ِم ْن خ ْو ٍف﴾ فرغد الرزق واْلمن من الخوف من أكبر‬ ‫﴿الذي َأ ْط َع َم ُه ْم م ْن ُ‬
‫ج‬
‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النعم الدنيوية اْلوجبة لشكر هللا تعالى‪ ،‬فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة‬
‫والباطنة‪.‬‬
‫وع﴾؛ فاهلل عز وجل جعل البيت وأهله في أمن من الخوف وأمن من‬ ‫﴿ َّالذي َأ ْط َع َم ُهم من ُ‬
‫ج‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫الجوع‪ ،‬فآمنهم من كل خوف‪ ،‬وأطعمهم من الجوع‪ ،‬فهم يرزقون من الثمرات‪ ،‬وتجبى لهم‬
‫الثمرات من كل مكان‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿و َآم َن ُهم ِم ْن خ ْو ٍف﴾؛ خوف هنا عام من كل أمر يخاف منه خوفا عاما؛ من عدو‬
‫َ‬

‫مستأصل أو مرض مستأصل‪ ،‬بل وحتى الدجال؛ فإنه ال يدخل مكة‪ِ .‬‬
‫آمن من مكة؛ ُ‬
‫آمن مكان على وجه اْلرض على‬ ‫وقال العلماء‪ :‬ال يوجد مكان في اْلرض َ‬

‫اإلطالق هو مكة‪ ،‬فأمنها متين قوي؛ ْلن هللا هو الذي أمنها سبحانه وتعالى‪ ،‬فآمن بقعة على‬
‫وجه اْلرض هي مكة‪ِ .‬‬
‫وخص هللا الربوبية بالبيت لفضله وشرفه‪ ،‬وإال فهو رب كل ش يء‪.‬‬
‫ٰ َ ْ‬ ‫َْ‬
‫﴿فل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذا ال َب ْي ِت﴾ هللا رب كل ش يء ومليكه‪ ،‬فلماذا خص البيت هنا؟ قالوا‪:‬‬
‫تشريفا للبيت؛ وْلنه سبب أمنهم ورغد عيشهم‪ِ .‬‬
‫فهذا تذكير بأن جوارهم للبيت هو سبب أمنهم وسبب رغد عيشهم‪ ،‬لم ينالوا هذا بشرف‬
‫نسبهم‪ ،‬وال بكثرة عددهم‪ ،‬وال بقوتهم‪ ،‬وإنما بمجاورتهم لبيت هللا‪ ،‬وهم جميعا يعلمون أن‬
‫البيت ‪-‬أعني الكعبة‪ -‬بيت هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ى‪ِ :‬‬
‫ومن مقاصد هذه السورة العظمى وحكمها الكبر ِ‬
‫‪ -‬أن أعظم شكر على النعمة هو عبادة هللا عز وجل بها‪ِ .‬‬
‫‪-‬وأن النعم تقتض ي من العبد أن يعبد هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪424‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة اْلاعون‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫﴿أ َرَأ ْي َت َّالذي ُي َكذ ُب بالدين (‪َ )1‬ف َٰذل َك َّالذي َي ُد ُّع ْال َيت َ‬
‫يم‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫َ َْ ٌ ْ ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ُ ُّ َ َ‬
‫صَّل ِت ِه ْم‬ ‫ص ِلين (‪ )4‬ال ِذين هم عن‬ ‫ض َعل ٰى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين (‪ )3‬فويل ِللم‬ ‫(‪ )2‬وال يح‬
‫َ َ ْ َ ُ َ َْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫اهو َن (‪َّ )5‬الذ َ‬
‫اعون (‪[ ﴾)7‬اْلاعون‪ِ .]7-1 :‬‬ ‫ين ُه ْم ُي َر ُاءون (‪ )6‬ويمنعون اْل‬ ‫ِ‬
‫َس ُ‬

‫هذه السورة تسمى‪ :‬سورة املاعون‪ ،‬وتسمى‪ :‬سورة الدين‪ ،‬وتسمى‪ :‬سورة اليتيم‪ ،‬وتسمى‪:‬‬
‫سورة التكذيب‪ ،‬وتسمى‪ :‬سورة أرءيت‪ِ .‬‬
‫وهي سورة مكية عند الجمهور‪ ،‬بعض أهل العلم قالوا مدنية‪ ،‬وبعض أهل العلم قال‪:‬‬
‫بعضها مكي وبعضها مدني‪ ،‬ولكن الذي عليه الجمهور أنها مكية‪ِ .‬‬
‫َ َ َ‬
‫وفيها يخاطب هللا عز وجل من يصلح للخطاب‪﴿ ،‬أ َرأ ْيت﴾ فشاهدت وعلمت حال من‬
‫يكذب بيوم البعث والجزاء والحساب والثواب والعقاب؛ فإنه يكون ِّ‬
‫مضيعا لحقوق هللا‪،‬‬
‫ِ‬
‫ومضيعا لحقوق خلق هللا‪ ،‬وقاس ي القلب‪ ،‬وبخيال باملال؛ ْلنه ال يؤمن بالثواب والعقاب‪ِ .‬‬
‫فإنه يدفع اليتيم الذي مات أبوه وهو دون سن البلوغ؛ يدفعه بشدة إذا جاء يطلب حقه‬
‫أو يطلب فضله‪ ،‬فإذا جاءه يطلب ميراثه أو ماله من أبيه دفعه بشدة وكهره ونهره‪ ،‬وإذا‬
‫جاءه يطلب منه شيئا ليعينه دفعه بشدة وكهره ونهره‪ ،‬فهو يظلمه حقه‪ ،‬وال يكرمه‪ِ .‬‬
‫وال يأمر غيره بإطعام املسكين الذي ال يجد القوت‪ ،‬ومن باب أولى أنه ال يطعمه بنفسه‪،‬‬
‫فإذا كان ال يأمر غيره بإطعامه وهو ال يكلفه‪ ،‬شيئا فمن باب أولى أنه ال يطعمه بنفسه‪ ،‬فهو‬
‫قاس ي القلب‪ ،‬شحيح باملال‪ِ .‬‬
‫ثم ت ِوعد هللا عز وجل طائفة من املصلين بالعذاب الشديد وهم الساهون الالهون‬
‫املعرضون عن صالتهم‪ ،‬إما‪ِ :‬‬
‫‪ -‬بعدم املحافظة على أدائها؛ فهم يصلون ويتركون‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإما بعدم املحافظة على وقتها؛ فهم يخرجون الصالة عن وقتها‪ِ .‬‬
‫وصالتها بسرعة‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وإما بجعلها في آخر الوقت ونقرها نقرا‪،‬‬
‫‪ -‬وإما بالسرقة من ركوعها وسجودها وخشوعها بعدم إحسان أفعالها‪ِ .‬‬
‫‪425‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ومع سوء صالتهم فإنهم غير مخلصين فيها وال في غيرها‪ ،‬فال يصلون هلل‪ ،‬وال يذكرون هللا‬
‫إال قليال‪ ،‬وإنما هم يظهرون العبادة أمام الناس من أجل أن يمدحهم الناس‪ ،‬فهم يصلون‬
‫مع املصلين ال إلرضاء رب العاملين‪ ،‬وإنما ليقال‪ :‬إنهم من املصلين‪ ،‬وال يذكرون هللا إال قليال‪،‬‬
‫وهذا شأن أهل النفاق‪ِ .‬‬
‫وهم مع كل هذا القبح ال يحسنون إلى الخلق‪ ،‬بل يمنعون ما يجب عليهم أن يبذلوه للناس‬
‫أو يستحب لهم أن يبذلوه للناس ولو كان شيئا قليال‪ ،‬ولوكان بذله للناس ال يضرهم شيئا‪،‬‬
‫فهم ال يحسنون العبادة وال يحسنون إلى العباد‪ِ .‬‬
‫وهذا شأن أهل الكفر وشأن أهل النفاق الذي يظهرون اإلسالم ويبطنون الكفر‪ ،‬ومن‬
‫اتصف بصفه من هذه الصفات مع اإليمان فهو مشابه لهم وفاعل لكبيرة من كبائر‬
‫الذنوب‪ِ .‬‬
‫ومقتض ى هذه السورة ومفهومها أن اإليمان باليوم اآلخر ‪-‬بيوم الدين‪ -‬يقتض ي من العبد‬
‫أن يكون رحيم القلب‪ ،‬رفيقا باليتامى‪ ،‬مؤديا حقوقهم‪ ،‬مطعما للمساكين‪ ،‬مهتما بصالته‪،‬‬
‫صاحب عناية بها يؤديها دائما في وقتها‪ ،‬ويحرص على إتمام وضوئها وركوعها وسجودها‬
‫وخشوعها وجميع أقوالها وأفعالها‪ ،‬ويكون في ذلك مخلصا هلل عز وجل‪ ،‬ويحسن إلى خلق‬
‫الناس ببذل ما يحتاجونِ إليه من املنافع والسيما إذا كان البذل ال يضره شيئا‪ِ .‬‬
‫هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬وأما التفسير التفصيلي‬
‫فنقرأ ما سطره اإلمام السعدي ونعلق عليه‪ِ .‬‬
‫﴿أ َرَأ ْي َت َّالذي ُي َكذبُ‬
‫َ‬ ‫قال رحمه هللا‪ :‬يقول تعالى ً‬
‫ذاما ْلن ترك حقوقه وحقوق عباده‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ِين﴾ أي‪ :‬بالبعث والجزاء فَّل يؤمن بما جاءت به الرسل‪.‬‬
‫ِب ِ‬
‫َ َ َ‬
‫﴿أ َرأ ْيت﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها‪ :‬أشاهدت بعينك حالهم؟ ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أعلمت؟ ِ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معناها أخبرني عن حالهم‪ِ .‬‬
‫الد ِين﴾ قيل‪ :‬بالبعث والجزاء‪ ،‬وقيل‪ :‬بالحساب‪ ،‬وقيل‪ :‬بالثواب والعقاب‪،‬‬ ‫َّ ُ َ ُ‬
‫﴿ال ِذي يك ِذب ِب ِ‬
‫وقيل‪ :‬يكذب بحكم هللا؛ والكل داخل في التكذيب بيوم الدين‪ِ .‬‬

‫‪426‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ‬
‫﴿ف َذل َك َّالذي َي ُد ُّع ْال َيت َ‬
‫يم﴾ أي‪ :‬يدفعه بعنف وشدة وال يرحمه لقساوة قلبه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فيمنعه حقه وال يعطيه من فضله‪ ،‬ال يمكنه من حقه‪ ،‬وال يعطيه من ماله هو‪ ،‬بل يكون‬
‫ظاملا له وغير مكرم له؛ ْلنه ال يؤمن بالثواب والعقاب‪ِ .‬‬
‫واليتيم‪ :‬الذي مات أبوه وهو دون سن البلوغ ضعيف مسكين‪ ،‬فال يخاف سطوة أحد‪ ،‬وال‬
‫َّ‬
‫يؤمن بالثواب والعقاب‪ ،‬فتجده آكاال ملال اليتيم‪َّ ،‬نهارا له ظاملا له‪ِ .‬‬
‫ثوابا وال يخاف ً‬
‫عقابا‪.‬‬ ‫قال‪ :‬وْلنه ال يرجو ً‬
‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫﴿وال َي ُح ُّ‬
‫﴿على ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين﴾؛ ومن باب أولى أنه بنفسه ال يطعم اْلسكين‪.‬‬ ‫ض﴾ غيره‬ ‫َ‬
‫َ َْ ٌ ْ ُ َ َ‬
‫ص ِلين﴾‪.‬‬ ‫﴿فويل ِللم‬
‫َ‬
‫﴿ف َو ْي ٌل﴾ كما تقدم وعيد بالعذاب الشديد‪ ،‬وقيل‪ :‬هي جهنم‪ ،‬وقيل‪ :‬واد من أودية جهنم‪،‬‬
‫لكن الذي عليه اْلكثر أنها وعيد؛ كلمة وعيد بالعذاب الشديد‪.‬‬
‫َ َْ ٌ ْ ُ َ َ‬
‫ص ِلين﴾ أي‪ :‬اْللتزمين إلقامة الصَّلة‪.‬‬ ‫﴿فويل ِللم‬
‫امللتزمين إلقامة الصالة أي‪ :‬أنهم التزموا اإلسالم ولو ظاهرا كحال املنافقين‪ ،‬ولكنهم ساهون‬
‫عن صالتهم‪ِ :‬‬
‫‪ -‬فإما أنهن يتركونها بالكلية‪ ،‬هم مصلون باعتبار أنهم التزموا الصالة؛ باعتبار أنهم‬
‫التزموا اإلسالم‪ ،‬ولكنهم في الحقيقة ال يصل ِون‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإما بعدم املحافظة على أدائها‪ ،‬فهم يصلون ويخلون‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإما بإخراجها عن وقتها بالكلية‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإما بتأخيرها حتى يضيق الوقت ضيقا شديدا فينقرونها نقرا‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وإما بأدائها من غير إحسان‪ِ .‬‬
‫فهم الهون عن صالتهم‪ِ .‬‬
‫َ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫اهون﴾‪.‬‬ ‫َّلت ِهم س‬
‫ولكنهم ﴿عن ص ِ‬
‫َ ُ َ‬
‫اهون﴾ قيل‪ :‬الهون‪ ،‬وقيل‪ :‬معرضون‪ ،‬واملعنى قريب‪ِ .‬‬ ‫﴿س‬

‫‪427‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫أي‪ :‬مضيعون لها تاركون لوقتها مخلون بأركانها‪ ،‬وهذا لعدم اهتمامهم بأمر هللا حيث‬
‫ضيعوا الصَّلة التي هي أهم الطاعات‪.‬‬
‫ومن ضيع الصالة كان لسواها أضيع‪ ،‬من لم يعتن بالصالة فإنه ال يعتني بسائر اْلعمال‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬والسهو عن الصَّلة هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم‪.‬‬
‫وأما السهو في الصَّلة فهذا يقع من كل أحد حتى من النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫والسهو عن الصالة قد يكون كما قلنا‪ِ :‬‬
‫‪- -‬بتركها بالكلية‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وقد يكون بعدم املحافظة عليها‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وقد يكون بتأخيرها عن وقتها‪ِ .‬‬
‫‪ -‬وقد يكون بصالتها في آخر الوقت بسرعة‪ِ .‬‬
‫وهذا كله خارج الصالة‪ِ .‬‬
‫وقد يكون السهو عن الصالة في داخل الصالة‪ ،‬بحيث يصلي وهو غافل غير مهتم‪ ،‬فال يهتم‬
‫بركوعها وال سجودها وال خشوعها‪ ،‬فإنه يدخل في هذا الوعيد‪ِ .‬‬
‫أما السهو في الصالة الذي يغلب على اإلنسان فينس ى فهذا ال يسلم منه أحد‪ ،‬وال يذم به‬
‫أحد مادام أنه ليس بتفريط من اإلنسان‪ ،‬ولذلك النبي صلى هللا عليه وسلم سها في صالته‬
‫وهو رسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولم يقع ذلك منه مرة واحدة بل تكرر منه صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ِ .‬‬
‫ومن حكم وقوع السهو من النبي صلى هللا عليه وسلم في الصالة أن ُيعلم أن السهو الغالب‬
‫على اإلنسان ال يذم به اإلنسان‪ ،‬ولذلك اإلمام إذا سها ال يذم بأنه سها‪ ،‬بل هذا من اْلمور‬
‫التي تغلب على اإلنسان وال يؤاخذ بها‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫ين ُه ْم‬
‫﴿الذ َ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ولهذا وصف هللا هؤالء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة فقال‪ِ :‬‬
‫َ‬
‫ُي َر ُاءون﴾ أي‪ :‬يعملون اْلعمال ْلجل رئاء الناس‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫فيظهرون اْلعمال أمام الناس ويزينونها من أجل مدح الناس‪ ،‬من أجل حمد الناس‪ ،‬يظهر‬
‫الواحد منهم الخشوع ولربما بكى في صالته ال خوفا من هللا؛ وإنما ليقول الناس‪ :‬بكاء‪ ،‬فالن‬
‫بكاء‪ ،‬ربما الزموا املسجد‪ ،‬ال خوفا من هللا وال التماسا لرضا هللا؛ وإنما ليقول الناس‪:‬‬
‫حمامة مسجد ال يغيب عن املسجد‪ ،‬وهكذا وال يذكرون هللا إال قليال‪ ،‬وهذا شأن أهل‬
‫النفاق‪.‬‬
‫َ َ ْ َ ُ َ َْ ُ َ‬
‫اعون﴾ أي‪ :‬يمنعون إعطاء الش يء الذي ال يضر إعطاؤه على وجه العارية‬‫﴿ويمنعون اْل‬
‫أو الهبة كاإلناء والدلو والفأس ونحو ذلك مما جرت العادة ببذله والسماح به‪.‬‬
‫يقول ابن مسعود رض ي هللا عنه‪(( :‬كنا نعد اْلاعون على عهد النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫َع َو َر الدلو والقدر)) رواه أبو داوود وحسنه اْللباني‪ِ .‬‬
‫يقول ابن مسعود رض ي هللا عنه كنا نعتبر املاعون ونعده أنه إعطاء الدلو على سبيل‬
‫العارية‪ ،‬يأتي جاره ويريد دلوا يعيره الدلو‪ ،‬يريد قدرا يعيره القدر‪ِ .‬‬
‫فهؤالء يمنعون من هذا مع أنه ال يضرهم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املاعون كل ما فيه منفعة كبيرا كان أو صغيرا‪ ،‬فيأتيه جاره محتاجا‬
‫للسيارة وهو يحسن القيادة وال يحتاج اآلن للسيارة‪ ،‬ويقو ِل‪ :‬أريد السيارة أوصل زوجتي‬
‫للمستشفى‪ ،‬يقولِ‪ :‬ال؛ ما أعطيك‪ ،‬والسيما عند االضطرار فإنه يصبح واجبا‪ ،‬مثل‪ :‬رجل‬
‫امرأته على وشك الو ِالدة‪ ،‬وليس عنده سيارة‪ ،‬ويقول لجاره‪ :‬أعطني السيارة‪ ،‬الوالدة‬
‫متعسرة أعطنا السيارة نوصل املرأة أو أوصلنا يقولِ‪ :‬ال؛ أو قليل يقول له‪ :‬أعطني امللعقة‬
‫ْلشرب بها الدواء‪ ،‬يقو ِل‪ :‬ال؛ يقو ِل‪ :‬أعطني السكين ْلقطعن‪ ،‬يقو ِل‪ :‬ال؛ فهو منع كل ما فيه‬
‫منفعة مما ال يضر إعطاؤه سواء كان كبيرا أو صغيرا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املاعون هو املال‪ ،‬فهم يمنعون املال فال يخرجون من املال شيئا ال‬
‫واجبا وال مستحبا‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املاعون هو املاء ‪-‬آخره همز‪ -‬يمنعون املاء وال يبذلونه للناس‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬املاعون هو الزكاة؛ يمنعون الزكاة وال يؤدونها وال يوصلونها إلى أهلها‪ِ .‬‬
‫فهؤالء لشدة حرصهم يمنعون اْلاعون‪ ،‬فكيف بما هو أكثر منه‪.‬‬

‫‪429‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال رحمه هللا‪ :‬وفي هذه السورة الحث على إطعام اليتيم واْلساكين والتحضيض على‬
‫ذلك‪ ،‬ومراعاة الصَّلة واْلحافظة عليها وعلى اإلخَّلص فيها وفي سائر اْلعمال‪ ،‬والحث‬
‫على فعل اْلعروف وبذل اْلمور الخفيفة كعارية اإلناء والدلو والكتاب ونحو ذلك؛ ْلن‬
‫هللا ذم من لم يفعل ذلك وهللا سبحانه أعلم‪.‬‬
‫ى‪ِ :‬‬
‫من فوائد هذه السورة الكبر ِ‬
‫‪ -‬أن التكذيب بيوم الدين سبب لكل شر‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن فوائدها الكبرىِ‪ :‬أن االتصاف بصفة من الصفات املذكورة فيها من كبائر الذنوب‪،‬‬
‫فزجر اليتيم ومنعه حقه من كبائر الذنوب‪ ،‬وعدم إطعام املسكين عند الضرورة من كبائر‬
‫الذنوب‪ِ .‬‬
‫املسكين يا إخوة هو الذي ال يجد ما يقيته‪ ،‬إنسان عنده فضل من مال ورأى مسكينا يكاد‬
‫يموت وال يعطيه من فضل املال هذا كبيرة من كبائر الذنوب‪ِ .‬‬
‫والرياء كبيرة من كبائر الذنوب‪ ،‬هذا إذا لم يغلب على جميع اْلعمال؛ وأما غلبته على‬
‫جميع أعمال اإلنسان بحيث ال يذكر هللا إال قليال فهذا ال يكون من مؤمن‪ ،‬هذا من أهل‬
‫النفاق فقط‪ِ .‬‬
‫وكذلك منع ما يجب بذله والسيما عند الضرورة من كبائر الذنوب‪ِ .‬‬
‫وكما قلنا في التفسير من فوائد السورة أن من شأن املؤمنين عكس ما ذكر في هذه‬
‫السورة‪ ،‬من شأن املؤمنين في البعث والجزاء عكس ما ذكر في هذه السورة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬

‫‪430‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الكوثر‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫ََْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫ص ِل ِل َرِب َك َوان َح ْر (‪ِ )2‬إ َّن شا ِنئ َك ُه َو اْل ْبت ُر (‪[ ﴾)3‬الكوثر‪ِ .]3-1 :‬‬ ‫﴿إ َّنا َأ ْع َط ْي َن َ‬
‫اك ْال َك ْو َث َر (‪َ )1‬ف َ‬
‫ِ‬
‫هذه السورة كما يقول العلماء أقصر سورة في القرآن‪ ،‬وهي يشترك معها في عدد آياتها‬
‫سورة العصر وسورة النصر‪ ،‬ولكنها أقصر سورة في القرآن من جهة عدد الكلمات‬
‫والحروف‪ ،‬فهي أقصر سورة في القرآن‪ِ .‬‬
‫وهي مكية عند الجمهور‪ ،‬وذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنها مدنية‪ ،‬وهذا أقرب‬
‫وهللا أعلم أنها مدنية‪ ،‬وذلك لحديث أنس رض ي هللا عنه أنه قال‪(( :‬بين رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفا إغفاءة‪ ،‬ثم رفع رأسه مبتسما‪ ،‬فقلنا‪ :‬ما أضحكك‬
‫يا رسول هللا؟ فقال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أنزلت علي آنفا سورة‪ ،‬ثم قرأ‪ :‬بسم هللا الرحمان‬
‫َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ‬
‫اك الك ْوث َر﴾ السورة)) رواه مسلم في الصحيح‪ِ .‬‬ ‫﴿إنا أعطين‬ ‫الرحيم ِ‬
‫ومعلوم أن أنس رض ي هللا عنه مدني‪ ،‬وهو يقولِ‪(( :‬بين أظهرنا)) وفي بعض الروايات‪(( :‬في‬
‫ناحية املسجد)) فدل ذلك على أن السورة مدنية‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َّ َ‬
‫وفي هذه السورة يمتن هللا عز وجل على رسوله محمد صلى الله َعل ْي ِه َو َس ِل َم وعلى أمته‬
‫تبعا له بأنه سبحانه وتعالى قد أعطاه الخير الكثير‪ ،‬ومن ذلك الخير الكثير نهر الكوثر الذي‬
‫َ‬
‫أصله في الجنة‪ ،‬ومنه حوض يكون في املحشر ت ِر ُده أمة محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬آنيته‬
‫َّ‬
‫عدد نجوم السماء‪ ،‬وهو أشد بياضا من اللبن‪ ،‬وأحلى من العسل‪ ،‬حافتاه قباب اللؤلؤ‬
‫املجوف‪ِ .‬‬
‫فاهلل أعطى النبي صلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا له الخير الكثير‪ ،‬ومنه هذا النهر العظيم‪ِ .‬‬
‫فصل لربك واجعل صالتك لربك‪ ،‬والصالة أشرف عبادات البدن فكن‬
‫ومادام ذلك كذلك ِ‬
‫مخلصا فيها؛ في فرضها‪ ،‬وفي نفلها‪ ،‬وانحر لربك ال شريك له‪ ،‬فاجمع بين العبادة البدنية‬
‫والعبادة املالية مخلصا هلل عز وجل في جميع أعمالك‪ ،‬إن مبغضك ومبغض دينك وعدوك‬
‫وعدو دينك هو اْلذل الحقير املقطوع من كل خير‪ ،‬فليس في خير وال يصل إلى خير‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإليماني واإلجمالي املوضوعي لهذه اآليات‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬

‫‪431‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ‬
‫﴿إنا‬‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬يقول هللا تعالى لنبيه محمد صلى هللا عليه وسلم ممتنا عليه‪ِ :‬‬
‫َ ْ ََْ َ ْ َ َ‬
‫اك الك ْوث َر﴾‪.‬‬‫أ ع طين‬
‫ممتنا عليه‪ ،‬واملنة على النبي صلى هللا عليه وسلم منة على أمته؛ منة عليكم أنتم‪ِ .‬‬
‫الكوثر من الكثرة‪ ،‬فهو الخير الكثير‪ ،‬إنا أعطيناك الخير الكثير؛ ومن الخير الكثير الذي‬
‫ُ‬
‫عط َيه النبي صلى هللا عليه وسلم نهر الكوثر‪ ،‬حيث فسره النبي صلى هللا عليه وسلم بذلك‪ِ .‬‬ ‫أ ِ‬
‫ففي حديث أنس املتقدم بعد أن قرأ النبي صلى هللا عليه وسلم السورة‪(( ،‬قال‪ :‬أتدرون‬
‫ما الكوثر؟ قالوا‪ :‬هللا ورسوله أعلم؟ قال‪ :‬فإنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير‪ ،‬وهو‬
‫حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة‪ ،‬وآنيته عدد النجوم‪ُ ،‬‬
‫فيختلج العبد منهم‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫ربي إنه من أمتي‪ ،‬فيقال أو فيقول‪ :‬ما تدري ما أحدثت بعدك))‪ ،‬والحديث كما قلنا في‬
‫صحيح مسلم‪ِ .‬‬
‫فهذا الحوض العظيم في املحشر ترد عليه أمة محمد صلى هللا عليه وسلم وتشرب منه‪،‬‬
‫فمنهم من يناوله النبي صلى هللا عليه وسلم بيده؛ فإن النبي صلى هللا عليه وسلم ُيهوي‬
‫ليناول بعض الناس بيده فيحال بينه وبينهم‪ ،‬فدل ذلك على أن من الناس من يناوله النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم بيده‪ ،‬ومن الناس من يشرب بنفسه‪ ،‬ومن الناس والعياذ باهلل من‬
‫يمنع من الشرب‪ ،‬وتحول املالئكة بينه ِوبين هذا الحوض‪ ،‬ملاذا؟ ِ‬
‫ْلنه أحدث في الدين؛ ْلنه ابتدع في دين هللا؛ ْلنه عبد هللا بالبدعة وترك سنة النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فأهل اإلحداث وأهل االبتداع ال يكونون أهال لورود حوض النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فكما أنهم لم يشربوا من سنته في الدنيا فإنهم ال يشربون من حوضه في‬
‫املحشر‪ ،‬كما أنهم لم يردوا سنته في الدنيا بل أعرضوا عنها وطلبوا غيرها فإنهم ال يريدون‬
‫حوضه صلى هللا عليه وسلم في املحشر‪ِ .‬‬
‫وأصل هذا الحوض نهر في الجنة واسمه الكوثر أيضا‪ ،‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫((رأيت نهرا في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا يا جبريل؟ فقال‪ :‬هذا الكوثر‬
‫الذي أعطاكه هللا)) رواه الترمذي وصححه اْللباني‪ِ .‬‬
‫إذن الكوثر هو الخير الكثير‪ ،‬ومنه ومن أشرفه نهر الكوثر‪ِ .‬‬

‫‪432‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ‬
‫اك الك ْوث َر﴾؛ أي‪ :‬الخير الكثير والفضل الغزير الذي من جملته ما يعطيه هللا‬‫﴿إنا أعطين‬ ‫ِ‬
‫لنبيه صلى هللا عليه وسلم يوم القيامة من النهر الذي يقال له‪ :‬الكوثر‪ ،‬ومن الحوض‬
‫ً‬
‫بياضا من اللبن‪ ،‬وأحلى من العسل‪ ،‬آنيته عدد‬ ‫طوله شهر وعرضه شهر‪ ،‬ماؤه أشد‬
‫نجوم السماء في كثرتها واستنا تها‪ ،‬من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها ً‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ص ِل ِل َرِب َك َوان َح ْر﴾‪.‬‬
‫﴿ف َ‬ ‫وْلا ذكر منته عليه أمره بشكرها فقال‪:‬‬
‫نعم الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها‪ ،‬مادام َّأنا أعطيناك الكوثر ِ ِ‬
‫فصل‪ِ .‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ص ِل ِل َرِب َك َوان َح ْر﴾ خص هاتين العبادتين بالذكر؛ ْلنهما أفضل العبادات وأجل‬ ‫﴿ف َ‬

‫القربات‪.‬‬
‫إحداهما بدنية واْلخرى مالية‪ِ .‬‬
‫ُّ‬
‫وْلن الصَّلة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح هلل‪ ،‬وتنقله في أنواع العبودية‪ ،‬وفي‬
‫النحر تقرب إلى هللا بأفضل ما عند العبد من النحائر‪ ،‬وإخراج للمال الذي جبلت‬
‫النفوس على محبته والشح به‪.‬‬
‫ِّ‬
‫فصل صالة العيد وانحر اْلضاحي‪ ،‬فهي صالة خاصة‪ ،‬يعني‪ِ :‬‬‫وقيل املعنى‪ِ :‬‬
‫‪ -‬على املعنى اْلول‪ :‬الصالة عامة تشمل كل صالة‪ ،‬والنحر عام يشمل كل نحر هلل‪ِ .‬‬
‫‪ -‬على القول الثاني‪ :‬فصل صالة العيد ‪-‬عيد اْلضحى‪ -‬وانحر اْلضاحي‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬
‫﴿وان َح ْر﴾؛ أي‪ :‬اجعل يديك عند نحرك في الصالة‪،‬‬ ‫فصل صالتك‬
‫وقال بعض العلماء‪ِ :‬‬
‫فضع اليمنى على اليسرى على الصدر‪ِ .‬‬
‫َ ْ‬
‫﴿وان َح ْر﴾ أي‪ :‬اتجه بنحرك إلى القبلة‪ ،‬أي‪ :‬استقبل القبلة‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪:‬‬
‫َ ْ‬
‫﴿وان َح ْر﴾ أي‪ :‬ارفع يديك عند الدخول في الصالة إلى جهة‬ ‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬معنى‬
‫نحرك‪ِ .‬‬
‫واْلول أشهر وأظهر أن الصالة جميع الصلوات‪ ،‬وأن النحر هو الذبح تقربا إلى هللا عز وجل‪ِ .‬‬
‫َ َ‬
‫﴿إ َّن شا ِنئ َك﴾ أي‪ :‬مبغضك وذامك ومنتقصك‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿إ َّن شا ِنئ َك﴾ يعني‪ :‬إن عدوك‪ ،‬وقيل إن مبغضك وذامك ومنتقصك‪ِ .‬‬ ‫وقيل عدوك‪ِ ،‬‬

‫‪433‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ُ َ َْ‬
‫اْلبت ُر﴾ أي‪ :‬اْلقطوع من كل خير‪ ،‬مقطوع العمل‪ ،‬مقطوع الذكر‪.‬‬ ‫﴿هو‬
‫وقد قيل‪ :‬إنه شخص بعينه‪ ،‬فقيل إنه العاص بن وائل‪ ،‬وكان إذا ذكر النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم قال‪ :‬دعوكم من هذا اْلبتر فإنه ال عقب له‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه أبو لهب‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه كعب بن اْلشرف الذي قدم على أهل مكة‬
‫وقال لهم‪ :‬أنتم خير من محمد‪ ،‬فنزل ذلك فيه‪ ،‬وهذا رواه البزار بإسناد صالح‪ ،‬هذا أصح ما‬
‫قيل أنها بسبب قول الكعب بن أشرف ْلهل مكة‪ :‬أنتم خير من محمد‪ِ .‬‬
‫والعبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬فكل من أبغض النبي صلى هللا عليه وسلم أو‬
‫كذب النبي صلى هللا عليه وسلم أو ذم النبي صلى هللا عليه وسلم أو عادى النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم فإنه اْلذل اْلحقر املقطوع من كل خير‪ ،‬ويدخل في ذم النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم وبغض النبي صلى هللا عليه وسلم ذم دينه وبغض دينه‪ ،‬فمن أبغض دين محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلم أو بعضه فهو اْلبتر اْلذل اْلحقر؛ الذليل الحقير املقطوع من كل خير‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫وأما محمد صلى هللا عليه وسلم فهو الكامل حقا الذي له الكمال اْلمكن للمخلوق من‬
‫رفع الذكر‪ ،‬وكثرة اْلنصار واْلتباع صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪434‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الكافرون‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ‬ ‫عبدو َن (‪َ )2‬وال َأ ُنتم عابدو َن ما َأ ُ‬ ‫رون (‪ )1‬ال َأ ُ‬
‫عب ُد ما َت ُ‬ ‫َ‬ ‫﴿قل يا َأ ُّي َ‬ ‫ُ‬
‫عب ُد (‪َ )3‬وال أنا‬ ‫ِ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫الكا‬ ‫ا‬‫ه‬
‫دين ُكم َول َ‬
‫ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دتم (‪َ )4‬وال أ ُنتم عابدو َن ما أ ُ‬
‫عب ُ‬ ‫ََ ُ‬ ‫عاب ٌ‬
‫دين (‪[ ﴾)6‬الكافرون‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫)‬ ‫‪5‬‬ ‫(‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ما‬ ‫د‬ ‫ِ‬
‫‪.]٦-١‬‬
‫هذه سورة مكية عند أكثر العلماء‪ِ ،‬وحكاه بعضهم كابن كثير اتفاقا‪ ،‬ولكن الخالف موجود‬
‫وهي سورة الكافرون وسورة اإلخالص الكبرى وسورة العبادة وسورة الدين‪ ،‬كل هذه أسماء‬
‫لهذه السورة‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة تعدل ربع القرآن كما جاء عندي الترمذي وصححه اْللباني في صحيح سنن‬
‫الترمذي وقال في السلسلة الصحيحة إنه حسن بمجموع طرقه‪ ،‬فهي تعدل ربع القرآن‪،‬‬
‫فمن قرأها في ليلة أربع مرات فكأنما ختم القرآن ويثاب ثواب ختم القرءان كله‪ ،‬وإن كان‬
‫الذي يقرأ القرآن كله أعظم أجرا لكثرة الحروف‪ ،‬لكن من فضل هللا على أمة محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم أن من قرأ هذه السورة سورة اإلخالص الكبرى أربع مرات في ليلة كان كأنه‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ُ َ َّ ُ َ‬
‫قرأ القرآن في ليلة‪ ،‬كما أن من قرأ سورة اإلخالص الصغرى ﴿قل هو الله أحد﴾ ثالث‬
‫مرات في ليلة كان كأنه قرأ القرآن في ليلة‪ ،‬وهذا من فضل ربنا على أمة محمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ِوفي هذه السورة تقرير توحيد العبادة والبراءة من الشرك كله حيث أمر هللا عزوجل فيها‬
‫ِّ‬
‫ييئس الكفار من موافقته لهم فيِ دينهم أو االلتقاء معهم في نقطة في الدين‬‫كل مؤمن أن ِ‬
‫بأن يقول للكافرين حال كفرهم ال أعبد ما تعبدون؛ فإنكم تعبدون آلهة من دون هللا وأنا‬
‫ال أعبدها‪ ،‬وال أنتم عابدون ما أعبد فإني أعبد هللا مخلصا له الدين وأنتم إن عبدتم هللا‬
‫فما تعبدونه إال وأنتم به مشركون‪ ،‬وال أنتم عابدون ما أعبد فأنتم ثابتون على كفركم إن‬
‫لم تخرجوا منه إلى اإلسالم‪ ،‬وكما أني ال أعبد ما تعبدون في الحاضر فإني لست عابدا ما‬
‫تعبدون في املستقبل‪ ،‬وأنا بريء من دينكم الذي هو الكفر‪ ،‬كما أنكم بريئون من ديني الذي‬
‫هو اإلسالم‪ ،‬وأنا لي جزائي يوم الدين على إسالمي‪ ،‬وأنتم لكم جزاؤكم على كفركم‪ِ .‬‬

‫‪435‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهذا فيه البراءة من دين الكافرين وفيه الوعيد الشديد للكفار‪ ،‬وليس هذا من حرية‬
‫اْلديان في ش يء كما فهمه من ال يفهم‪ ،‬وإنما هو ضد ذلك‪ ،‬فهو وعيد للكفار وبراءة من دين‬
‫الكفار‪ ،‬فاملسلم بريء من دين الكافرين‪ ،‬واإلسالم بريء من الكافرين‪ِ ِ.‬‬
‫هذا معنى وتفسير هذه السورة اإلجمالي املوضوعي اإليماني‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‬
‫ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومصرحا‪.‬‬ ‫والسامعين‪﴿ :‬قل يا أ ُّي َها الكا ِفرون﴾؛ أي‪ :‬قل للكافرين معلنا‬
‫أي‪ :‬قل‪ ،‬قيل أن هذا الخطاب لكل مؤمن ورأس املؤمنين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫فاملعنى‪ :‬قل أيها املؤمن‪ ،‬قل أيها املسلم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الخطاب للنبي صلى هللا عليه وسلم وتدخل أمته تبعا‪ ،‬فاملعنى‪ :‬قل‬
‫يا محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتدخل اْلمة تبعا للنبي صلى هللا عليه وسلم؛ ْلن الخطاب‬
‫للنبي صلى هللا عليه وسلم خطاب لألمة‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قل للكافرين‪﴿ ،‬قل يا أ ُّي َها الكا ِفرون﴾ من هم الكافرون هنا؟ ِ‬
‫الكافرون هنا هم جنس الكفار فيشمل الكفار بجميع مللهم‪ ،‬ولكن امل ِواجهين به عند‬
‫الخطاب هم كفار قريش؛ ْلنهم هم الذين يخاطبهم النبي صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫ٰ‬
‫وقد قيل‪ :‬إن كفار قريش قالوا للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬لنصطلح‪ ،‬نعبد إلهك سنة‬
‫وتعبد آلهتنا سنة‪ ،‬فأنزل هللا عزوجل هذه السورة‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ ُُْ َ َ ُُْ َ‬
‫ن‬ ‫ن‬ ‫ن‬
‫﴿ال أعبد ما تعبدو ﴾ أي‪ :‬تبرأ مما كانوا يعبدو من دو هللا ظاهرا وباطنا‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫ََ َُْ‬
‫﴿وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ لعدم إخَّلصكم في عبادتكم هلل‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫ََ َُْ‬
‫﴿وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ (ما) هنا بمعنى (من)‪ ،‬و(ما) إذا ذكرت في حق هللا فإنها بمعنى‬
‫(من) دائما‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َُْ ْ َ ُ َ َ َ‬
‫﴿وال أنتم ع ِابدون ما أعبد﴾ وهو هللا‪ ،‬فإن قيل‪ :‬إن املشركين يعبدو هللا‪ ،‬قيل‪ :‬إنهم ِال‬
‫ن‬
‫يعبدون هللا إال وهم مشركون‪ ،‬إن عبدوا هللا فإنهم ال يعبدون هللا إال وهم مشركون‪ ،‬وهذا‬
‫ال ينفعهم فال إسالم إال بعبادة هللا عزوجل عبادة خالصة ليس معها شرك‪ِ .‬‬

‫‪436‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬فعبادتكم له اْلقترنة بالشرك ال تسمى عبادة‪ ،‬وكرر ذلك ليدل اْلول على عدم‬
‫ً‬
‫وجود الفعل‪ ،‬والثاني على أن ذلك قد صار وصفا الز ًما‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫بمعنى قول هللا عزوجل‪﴿ :‬ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾ أي‪ :‬قل ال أعبد ما تعبدون هذا لنفس‬
‫َ َ‬
‫عاب ٌد ما‬
‫ِ‬ ‫نا‬‫أ‬ ‫الفعل فأنا لن أعبد ما تعبدون‪ ،‬وقول هللا عزوجل في قول املؤمن ﴿وال‬
‫ُ‬
‫َع َبدتم﴾ِمعناه‪ :‬أن هذا صار وصفا مالزما لي فال أنفك عنه ال اليوم وال في املستقبل‪ ،‬فال‬
‫تطمعوا أن أعبد ما تعبدون يوما‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َُْ‬
‫وقول هللا عزوجل‪َ ﴿ :‬وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ يعني‪ :‬في الفعل‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َُْ‬
‫﴿ َوال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ الثانية؛ أي‪ :‬أن هذا صار وصفا الز ًما لكم‪ ،‬فأنتم ماكثون على‬
‫كفركم إال أن يرحمكم هللا باإلسالم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬التكرار بالنسبة للكفار للتأكيد وأنهم مستمرون على كفرهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وبالنسبة إلى املؤمنين اختلفت الصيغة؛ الحظوا ﴿ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾‪ ،‬الصيغة الثانية‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫﴿ َوال َأ ُنتم عابدو َن ما َأ ُ‬
‫عب ُ‬
‫عاب ٌد ما َع َبدتم (‪ ﴾)4‬فصيغة جديدة‪ ،‬قالوا فاملعنى‬ ‫ِ‬ ‫نا‬‫أ‬ ‫ال‬‫و‬ ‫)‬ ‫‪3‬‬ ‫(‬ ‫د‬ ‫ِ‬
‫جديد‪ ،‬إذن ما املعنى؟ ِ‬
‫َ َ ُُْ َ َ ُُْ َ‬
‫ن‬ ‫ن‬
‫﴿ال أعبد ما تعبدو ﴾ فكما أني ال أعبد ما تعبدو اليوم فإني لن أعبد ما تعبدو في‬ ‫ن‬
‫املستقبل ما دمتم على كفركم‪ِ .‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬الجملتان اْلوليان باعتبار الفعل‪ ،‬والجملتان الثانيتان باعتبار‬
‫َ َ‬ ‫َ َُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫القبول‪﴿ ،‬ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾ يعني‪ :‬ال أفعل هذه العبادة‪َ ﴿ ،‬وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾‬
‫ََ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ َ‬
‫عابد ما عبدتم﴾ يعني‪ :‬وال أنا قابل أن أعبد ما‬ ‫يعنى ال تفعلون هذه العبادة‪﴿ ،‬وال أنا ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َُْ‬
‫تعبدون‪َ ﴿ ،‬وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ يعني وال أنتم قابلون أن تعبدوا ما أعبد‪ ،‬وهذا‬
‫املقصود به حال كونهم على كفرهم‪ِ .‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا ميز بين الفريقين‪ ،‬وفصل بين الطائفتين‪:‬‬
‫َ َ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُُ‬ ‫َُ‬
‫فقال‪﴿ :‬لك ْم ِدينك ْم َو ِل َي ِد ِين﴾ كما قال تعالى‪﴿ :‬ق ْل ك ٌّل َي ْع َم ُل َعلى ش ِاكل ِت ِه﴾ [اإلسراء‪:‬‬
‫َ ُ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َُْ‬
‫‪﴿ ،]84‬أنت ْم َب ِريئون ِم َّما أ ْع َم ُل َوأنا َب ِري ٌء ِم َّما ت ْع َملون﴾ [يونس‪.]41 :‬‬

‫‪437‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫دين ُكم﴾ قال بعض اْلفسرين‪ :‬يعني لكم ملتكم وهي الكفر‪َ ﴿ ،‬ول َ‬
‫ُ‬ ‫َُ‬
‫دين﴾ لي ملتي وهي‬
‫ِ ِ‬‫ي‬ ‫م‬ ‫ك‬‫﴿ل‬
‫اإلسالم‪ ،‬فال التقاء بيننا‪ ،‬فأنتم لكم ملتكم الكفر وأنا لي ملتي اإلسالم‪ ،‬فال يمكن أن تلتقي‬
‫امللتان كالثريا وسهيل‪ِ .‬‬
‫﴿ول َ‬‫دين ُكم﴾ يعني‪ :‬لكم جزاؤكم يوم الدين‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫َُ‬
‫دين﴾ لي جزائي‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ك‬‫وقال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬ل‬
‫يوم الدين‪ ،‬وشتان بين جزاء املسلم وجزاء الكافر‪ِ .‬‬
‫فتضمنت اآلية الوعيد للكافرين‪ِ .‬‬
‫ِوالحكمة الكبرى من السورة ظاهرة جدا وهي تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك‪ ،‬وهما‬
‫متالزمان‪ ،‬ال يمكن أنه يوجد التوحيد بدون البراءة من الشرك‪ ،‬البد من تحقيق التوحيد‬
‫من البراءة من الشرك‪ِ .‬‬
‫وهذا هو مقصود هذه السورة‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪438‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة النصر‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ‬ ‫الله َأ ً‬
‫فواجا (‪ )2‬ف َس ِبح‬
‫َّ‬
‫دين‬ ‫في‬
‫َ َ ُ َ‬
‫ن‬‫لو‬‫دخ‬ ‫ي‬ ‫اس‬ ‫الن‬
‫َ َر َ َ‬
‫يت‬‫تح (‪ )1‬و أ‬
‫َ َ ُ َّ َ َ‬
‫الف ُ‬ ‫﴿إذا جاء نصر الل ِه و‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ َّ‬
‫ره ِإن ُه كان تو ًابا (‪[ ﴾)3‬اْلسد‪.]3-1 :‬‬‫غف‬
‫مد رِبك واست ِ‬
‫ِبح ِ‬
‫هذه سورة النصر‪ ،‬وسورة إذا جاء نصر هللا والفتح‪ ،‬وسورة الفتح‪ ،‬وسورة التوديع هذه‬
‫أسماء لهذه السورة‪ِ .‬‬
‫وهي سورة مدنية باالتفاق‪ ،‬وهي آخر سورة نزلت كاملة‪ ،‬قال ابن عباس رض ي هللا عنهما‬
‫لت َجم ً‬ ‫ورة َن َز ْ‬‫ُ َ‬ ‫َ َْ‬
‫يعا؟)) يعني‪ :‬تعلم آخر سورة نزلت كاملة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫لعبيد هللا‪(( :‬تعل ُم ِآخ َر س ٍ‬
‫َ ْ‬ ‫الله َو ْال َف ْت ُح‪َ ،‬‬‫َ َ َ َ َ ْ َّ‬
‫ت)) رواه مسلم في الصحيح‪ ،‬فهي‬ ‫ص َدق َ ِ‬ ‫ال ابن عباس‪:‬‬ ‫فق َ‬ ‫((نع ْم؛ ِإذا ج َاء نص ُر ِ‬
‫آخر سورة من القرآن نزلت كاملة‪ِ .‬‬
‫ِوهي ناعية لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومبينة قربة أجله صلى هللا عليه وسلم‪َ ،‬ع ْن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ال بعضهم‪ِ :‬ل َم ت ْد ِخ ُل َهذا َم َع َنا َول َنا‬ ‫ان ُع َم ُر ُي ْد ِخ ُلني َم َع َأ ْش َياخ َب ْدر‪َ ،‬ف َق َ‬
‫ال َك َ‬‫ْابن َع َّباس َق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُْ‬ ‫َ‬
‫أ ْب َن ٌاء ِمثل ُه؟)) يعني‪ :‬االعتراض من وجهين‪ِ :‬‬
‫‪ -‬ملاذا تدخله معنا وهو شاب صغير ونحن شيوخ‪ِ .‬‬
‫‪ -‬والوجه الثاني ملاذا تدخله وال تدخل أبنائنا فنحن لنا أبناء مثله‪ِ .‬‬
‫َ َ َ َ ْ َّ ْ َ ْ‬
‫ص ُر الل ِه َوالفت ُح﴾ حتى‬ ‫قال‪ :‬فدعاهم ذات يوم ودعاني‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقولون في‪ِ ﴿ :‬إذا جاء ن‬
‫ختم السورة‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬أمرنا أن نحمد هللا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا‪ ،‬على‬
‫َ َ َ‬
‫ال ف َما‬ ‫ظاهر الكالم‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ال ندري‪ ،‬فقال لي عمر‪ :‬أتقول مثلما قالوا؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬ق‬
‫َ ُ َ َ َ َ ْ َّ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َّ َ َّ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ص ُر الل ِه‬ ‫صلى الل ُه َعل ْي ِه َو َسل َم أ ْعل َم ُه هللا له‪ِ ،‬إذا جاء ن‬ ‫ت‪ُ :‬ه َو أ َج ُل َر ُسو ِل الل ِه‬ ‫ت ُقو ُل؟ قل ُ ِ‬
‫ال ُع َم ُر رض ي هللا‬‫ان َت َّو ًابا‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫اك َع ِال َم ُة َأ َجل َك َف َس ِّب ْح ب َح ْمد َرِّب َك َو ْ‬
‫اس َت ْغف ْر ُه إ َّن ُه َك َ‬ ‫فذ َ‬ ‫َ َُْْ َ‬
‫والفتح‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬
‫عنه‪ :‬ال أ ْعل ُم ِم ْن َها ِإال َما تعلم)) رواه البخاري في الصحيح‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ومعنى هذه السورة‪ :‬أنه إذا جاء عون هللا لك على الكافرين ونصرت عليهم فذاك تمهيد‬
‫لفتح مكة‪ ،‬فإذا جاء الفتح بعد النصر فإن الناس سيدخلون في دين هللا أفواجا‪،‬‬
‫فاالنتصارات للمسلمين على الكفار مقدمة لفتح مكة‪ ،‬وفتح مكة مقدمة إلسالم الناس‬

‫‪439‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫جماعات جماعات‪ ،‬وهذا ما وقع‪ ،‬فإن فتح مكة كان في السنة الثامنة ِوفي السنة التاسعة‬
‫كثرت الوفود على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لإلسالم حتى َّ‬
‫سمي العام بعام الوفود‪،‬‬
‫فإذا رأيت ذلك فإن أجلك قد اقترب‪ ،‬فاستعد لذلك بتنزيه ربك عما ال يليق بجالله‪،‬‬
‫ً‬
‫استعدادا للقائه‪ ،‬فسبح باسم ربك واستغفره إنه‬ ‫وبحمده ً‬
‫شكرا على آالئه‪ ،‬وباستغفاره‬
‫كان توابا‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه السورة‪ ،‬وأما التفسير التفصيلي‪ ،‬فقبل أن‬
‫نقرأ كالم الشيخ أذكر تفسيرا تفصيليا ْلن الشيخ أجمل الكالم‪ِ .‬‬
‫َ َ ُ َّ‬
‫صر الل ِه﴾ النصر‪ :‬هو معونة هللا على الكفار لهزمهم‪ِ .‬‬ ‫﴿ ِإذا جاء ن‬
‫َ َ‬
‫الف ُ‬
‫تح﴾ هو فتح مكة‪ِ .‬‬ ‫﴿و‬
‫َ َ‬
‫الف ُ‬ ‫َ َ ُ َّ‬
‫تح﴾ فتح‬ ‫صر الل ِه﴾ أي‪ :‬نصر هللا للمؤمنين مطلقا‪﴿ ،‬و‬ ‫وقال بعض العلماء‪ِ ﴿ :‬إذا جاء ن‬
‫البالد مطلقا‪ِ .‬‬
‫لكن اْلول أقوى‪ ،‬أنه نصر هللا للنبي صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين على كفار قريش وفتح‬
‫مكة‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َ َر َ َ‬
‫دين الل ِه أفواجا﴾ أي‪ :‬جماعات جماعات‪ ،‬وهذه بشارة للنبي‬ ‫ن‬
‫﴿و أيت الناس يدخلو في ِ‬
‫صلى هللا عليه وسلم أنه بعد فتح مكة سيدخل الناس في دين هللا أفواجا‪ ،‬وأنه صلى هللا‬
‫عليه وسلم لن يموت حتى يرى ظهور اإلسالم ودخول الناس في دين هللا أفواجا‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫﴿ف َس ِبح﴾ أي‪ :‬نزه ربك عما ال يليق بجالله‪ِ ِ.‬‬
‫مد َرِب َك﴾ أي‪ :‬احمد ربك واشكره على نعمه وآالئه‪ِ .‬‬ ‫َ‬
‫﴿ ِبح ِ‬
‫َ َ‬
‫استغف ُ‬
‫ره﴾ أي‪ :‬أكثر من االستغفار واطلب مغفرته استعدادا للقائه‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫﴿و‬
‫وقد فعل النبي صلى هللا عليه وسلم ذلك عند رؤية العالمة‪ ،‬فكان صلى هللا عليه وسلم‬
‫يكثر أن يقول قبل موته‪(( :‬سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك))‪ ،‬فالحظت أمنا‬
‫عائشة رض ي هللا عنها أن النبي صلى هللا عليه وسلم أحدث هذا الكالم وصار يكررِه كثيرا‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬يا رسول هللا؛ ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها وتقولها‪ ،‬فقال صلى هللا عليه‬
‫َ َ ُ َّ َ َ‬
‫الف ُ‬
‫تح﴾)) إلى آخر‬ ‫﴿إذا جاء نصر الل ِه و‬‫وسلم‪(( :‬جعلت لها عَّلمة في أمتي إذا رأيتها قلتها‪ِ :‬‬
‫السورة‪ ،‬يعني وقد رأيتها رواه مسلم في الصحيح‪ِ .‬‬
‫‪440‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬في هذه السورة الكريمة بشارة وأمر لرسوله عند حصولها وإشارة‬
‫وتنبيه على ما يترتب على ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫أفواجا‬ ‫فالبشارة هي البشارة بنصر هللا لرسوله وفتحه مكة‪ ،‬ودخول الناس في دين هللا‬
‫بحيث يكون كثير منهم من أهله وأنصاره بعد أن كانوا من أعدائه‪ ،‬وقد وقع هذا اْلبشر‬
‫به‪.‬‬
‫وأما اْلمر بعد حصول النصر والفتح‪ ،‬فأمر هللا رسوله أن يشكر ربه على ذلك‪ ،‬ويسبح‬
‫بحمده ويستغفره‪.‬‬
‫وأما اإلشارة فإن في ذلك إشارتين‪:‬‬
‫‪-‬إشارة أن يستمر النصر لهذا الدين‪ ،‬ويزداد عند حصول التسبيح بحمد هللا واستغفاره‬
‫َ ْ َ َ ُ َ َ َّ ُ‬
‫من رسوله‪ ،‬فإن هذا من الشكر‪ ،‬وهللا يقول‪﴿ :‬ل ِئن شك ْرت ْم ْل ِز َيدنك ْم﴾‪ ،‬وقد وجد ذلك‬
‫ً‬
‫مستمرا حتى وصل‬ ‫في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه اْلمة لم يزل نصر هللا‬
‫اإلسَّلم إلى ما لم يصل إليه دين من اْلديان‪ ،‬ودخل فيه من لم يدخل في غيره‪ ،‬حتى‬
‫حدث من اْلمة من مخالفة أمر هللا ما حدث‪ ،‬فابتلوا بتفرق الكلمة وتشتت اْلمر‪،‬‬
‫فحصل ما حصل ومع هذا فلهذه اْلمة وهذا الدين من رحمة هللا ولطفه ما ال يخطر‬
‫بالبال أو يدور في الخيال‪.‬‬
‫‪-‬وأما اإلشارة الثانية‪ :‬فهي اإلشارة إلى أن أجل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد قرب‬
‫ودنا‪ ،‬ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم هللا به‪ ،‬وقد عهد أن اْلمور الفاضلة تختم‬
‫باالستغفار‪ ،‬كالصَّلة والحج‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫فأمر هللا لرسوله بالحمد واالستغفار في هذه الحال‪ ،‬إشارة إلى أن أجله قد انتهى‪،‬‬
‫فليستعد ويتهيأ للقاء ربه‪ ،‬ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات هللا وسَّلمه عليه‪.‬‬
‫فكان صلى هللا عليه وسلم يتأول القرآن‪ ،‬ويقول ذلك في صَّلته‪ ،‬يكثر أن يقول في ركوعه‬
‫وسجوده‪(( :‬سبحانك اللهم ربنا وبحمدك‪ ،‬اللهم اغفر لي))‪.‬‬
‫ى‪ِ :‬‬
‫ومن فوائد هذه السورة الكبر ِ‬

‫‪441‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ -‬أن النصر والتمكين مبني على القيام بحق رب العاملين والبعد عن الذنوب‪ ،‬فهذه‬
‫اْلمة منصورة ممكنة ما قامت بحق ربها وابتعدت عن الذنوب فعال أو بالتوبة عند‬
‫َ‬
‫الوقوع‪( ،‬فعال) يعني‪ :‬بأن ابتعدت فعال عن الذنوب فلم تفعلها‪ ،‬أو بالتوبة منها إذا‬
‫فعلتها‪.‬‬
‫‪ -‬والفائدة الثانية الكبرى‪ :‬أن تسبيح هللا وحمده واستغفاره خير ما تختم به اْلعمار‪،‬‬
‫فيتأكد اإلكثار من ذلك للكبير في سنه‪ ،‬من بلغ الستين‪ ،‬اإلكثار مطلوب من الجميع‬
‫لكن يتأكد اإلكثار ملن كبر في سنه كأن بلغ الستين‪ ،‬وملن مرض مرضا مخوفا يتأكد‬
‫في حقه أن يكثر من تسبيح هللا وحمد هللا واستغفار هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬

‫‪442‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة اْلسد‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫نه مال ُه َوما ك َس َب (‪َ )2‬س َيصلى نا ًرا ذات ل َه ٍب (‪)3‬‬ ‫﴿ت َّبت َيدا أبي ل َه ٍب َوت َّب (‪ )1‬ما أغنى ع‬
‫جيدها َح ٌ‬ ‫َ ََُ ُ َ َ َ َ َ‬
‫بل ِمن َم َس ٍد (‪[ ﴾)5‬اْلسد‪.]٥-١ :‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫)‬ ‫‪4‬‬ ‫(‬ ‫ب‬‫وامرأته حمالة الح ِ‬
‫ط‬
‫هذه السورة سورة املسد‪ ،‬وسورة تبت‪ ،‬وسورة أبي لهب‪ ،‬وسورة اللهب‪ ،‬هذه أسماؤها‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة نزلت ملا جمع النبي صلى هللا عليه وسلم قومه وأمرهم بالتوحيد‪ ،‬فقال أبو‬
‫لهب وهو ِِّعم النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬تبا لك ألهذا جمعتنا؟! ونفض يديه‪ ،‬فأنزل هللا عز‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫وجل‪﴿ :‬ت َّبت َيدا أبي ل َه ٍب َوت َّب﴾ إلى آخر السورة‪ ،‬رواه البخاري في الصحيح‪ِ .‬‬
‫فدعا هللا عز وجل على أبي لهب بالخسارة والهالك‪ ،‬وأخبر أنه خاسر هالك وأنه لم ينفعه‬
‫ولن يدفع عنه ماله و ِال جاهه وال ولده الخسران والضياع والهالك‪ ،‬وسيموت على الكفر‪،‬‬
‫ويدخل جهنم ويحترق بنارها ويصيبه لهبها من كل جانب هو وامرأته التي كانت تحثه على‬
‫أذية النبي صلى هللا عليه وسلم وتعينه على ذلك‪ ،‬وتحمل اْلشواك على عاتقها لتضعها في‬
‫طريق النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتحمل على ظهرها الذنوب العظيمة بسبب أذيتها لرسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فكان من جزائها في جهنم أنها تحمل الحطب وتلقيه على زوجها‪،‬‬
‫كما كانت تلقي الحقد على محمد صلى هللا عليه وسلم في قلب زوجها فإنها في جهنم تحمل‬
‫الحطب وتلقيه على زوجها‪ِ ،‬وفي عنقها حبل من نار‪ ،‬فكما كانت تحمل الشوك بالحبل على‬
‫كتفها لتؤذي به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان من جزائها في النار أن ِّ‬
‫صير في عنقها‬‫ِ‬
‫حبل من النار تعذب به‪ِ .‬‬
‫هذا املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني آليات هذه السورة ونعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬أبو لهب هو عم النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫واسمه عبد العزى‪ ،‬وكنيته أبو عتيبة‪ ،‬لم يكن يكنى بأبي لهب‪ ،‬لكن لقب بأبي لهب قيل‪:‬‬
‫الحمرار وجهه‪ ،‬كان وجهه أحمر فلقب بأبي لهب كأن اللهب يخرج من وجهه‪ ،‬وكان كثير‬
‫اْلذى والتكذيب لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكان يتبع النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫ويأمر الناس بتكذيبه‪ ،‬وكانت امرأته تعينه على ذلك‪ِ .‬‬

‫‪443‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬وكان شديد العداوة واْلذية له‪ ،‬فَّل فيه دين‪ ،‬وال حمية للقرابة ‪-‬قبحه هللا‪.-‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫لم يكن ذا دين وال حمية ومروءة‪ ،‬لم يكن مثال مثل أبي طالب‪ ،‬نعم لم يكن ذا دين لكنه‬
‫َ‬
‫كان ذا حمية ومروءة‪ ،‬فحمى النبي صلى هللا عليه وسلم وكان يقولِ‪ :‬أعلم أن دين محمد‬
‫خير اْلديان‪ ،‬أما هذا فلم يكن عنده دين وال مروءة وال حمية‪ِ ِ.‬‬
‫َ ْ‬
‫قال‪ :‬فذمه هللا بهذا الذم العظيم الذي هو خزي عليه إلى يوم القيامة فقال‪﴿ :‬ت َّبت َي َدا‬
‫َ َ‬
‫أ ِبي ل َه ٍب﴾ أي‪ :‬خسرت يداه وشقي‪.‬‬
‫أي‪ :‬خسرت يداه وضلت‪ ،‬وشقي وهلك وهذا دعاء عليه‪ِ .‬‬
‫ََ‬
‫﴿وت َّب﴾ فلم يربح‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫وهذا خبر‪﴿ ،‬تبت يدا أبي له ٍب﴾ هذا دعاء‪﴿ ،‬وتب﴾ هذا خبر أي أنه هلك وخسر‪ ،‬بالفعل‬
‫هلك وخسر‪ِ .‬‬
‫َ َ َْ ْ ُ‬
‫﴿ما أغنى َعن ُه َمال ُه﴾ الذي كان عنده وأطغاه‪.‬‬
‫َ َْ‬
‫﴿ َما أغنى﴾ يعني ما دفع عنه وال نفعه‪ ،‬و(ما) هنا نافية؛ يعني‪ :‬ما نفعه وال دفع عنه‪ِ .‬‬
‫ِوقيل‪( :‬ما) استفهامية‪ ،‬طيب إذا كانت استفهامية ما املعنى؟ ِ‬
‫أي‪ :‬ماذا أغنى عنه ماله وما كسب‪ِ ِ ِ.‬‬
‫قال‪ :‬وال ما كسبه فلم يرد عنه ً‬
‫شيئا من عذاب هللا‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿ َما ك َس َب﴾ (ما) هنا موصولة؛ يعني‪ :‬الذي كسب‪ ،‬ما هو؟ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َْ ْ ُ‬
‫قال بعض العلماء‪َ ﴿ :‬ما أغنى َعن ُه َمال ُه﴾ الذي ورثه‪َ ﴿ ،‬ما ك َس َب﴾ املال الذي اكتسبه‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َْ َُْ َ ُ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪﴿ :‬ما أغنى عنه ماله﴾ هذا واضح‪﴿ ،‬ما كسب﴾ أي‪ :‬ما اكتسب‬
‫من الجاه والرئاسة‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪َ ﴿ :‬ما ك َس َب﴾‪ ،‬يعني‪ :‬الولد‪ ،‬فما أعنى عنه ماله وال ولده وال جاهه‬
‫شيئا‪ِ .‬‬
‫فلم يرد عنه ً‬
‫شيئا من عذاب هللا إذ نزل به‪.‬‬
‫َ َ َْ َ َ َ َ‬
‫صلى نا ًرا ذات ل َه ٍب﴾‪.‬‬ ‫﴿سي‬
‫ص َلى﴾ دائما يصلى معناها يدخل ويحترق‪ِّ ،‬‬
‫الص ِّلي هو الدخول واالحتراق‪ِ .‬‬ ‫﴿ َس َي ْ‬
‫ِ‬
‫‪444‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫َ َ َْ َ‬
‫صلى نا ًرا﴾ أي‪ :‬سيدخل نارا ويحترق فيها‪ِ .‬‬ ‫﴿سي‬
‫أي‪ :‬ستحيط به النار من كل جانب‪.‬‬
‫َ َ َ‬
‫﴿ذات ل َه ٍب﴾ أي‪ :‬أن لها لهبا شديدا محرقا محيطا‪ِ .‬‬
‫ََ ْ َ‬ ‫َ َُ‬
‫﴿و ْام َرأت ُه َح َّمالة ال َحط ِب﴾‪.‬‬ ‫أي‪ :‬ستحيط به النار من كل جانب‪ ،‬هو‬
‫الواو هنا عاطفة على الضمير‪ :‬سيصلى هو وامرأته حمالة الحطب‪ ،‬واسمها أروى وكنيتها أم‬
‫جميل‪ ،‬ولقبت بالعوراء‪ِ .‬‬
‫ََ ْ َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫﴿ َح َّمالة ال َحط ِب﴾ قيل‪ :‬معنى ﴿ َح َّمالة ال َحط ِب﴾ أنها في الدنيا كانت تحث أبا لهب على‬
‫أذية رسول هللا فتشعل النار في قلبه‪ ،‬إذن الحطب هنا معنوي تشعل النار في قلب أبي لهب‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬حمالة الحطب في النار ليس في الدنيا‪ ،‬تحمل الحطب وتلقيه على أبي لهب‪ِ .‬‬
‫وكال املعنيان صحيح‪ ،‬فهي في الدنيا كانت تشعل الحقد في قلب زوجها على الرسول صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وجزاء ذلك أنها يوم القيامة تحمل الحطب وتلقيه في جهنم‪ِ ِ ِ ِ.‬‬
‫أيضا شديدة اْلذية لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬تتعاون هي وزوجها‬ ‫قال‪ :‬وكانت ً‬

‫على اإلثم والعدوان‪ ،‬وتلقي الشر‪ ،‬وتسعى غاية ما تقدر عليه في أذية الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وتجمع على ظهرها اْلوزار‪ِ .‬‬
‫ََ ْ َ‬
‫يعني‪ :‬على هذا القول ﴿ َح َّمالة ال َحط ِب﴾ يعني‪ :‬التي تحمل اْلوزار على ظهرها وستقودها إلى‬
‫النار‪ ،‬فكأنها تحمل حطبا لتشعل النار في نفسها‪ ،‬هي تحمل اْلوزار بسبب أذيتها لرسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فكأنها تحمل حطبا لتحرق نفسها؛ ْلنها بحملها اْلوزار ستدخل النار‪.‬‬
‫ً‬
‫﴿م ْن َم َس ٍد﴾ أي‪ :‬من ليف‪.‬‬ ‫ً‬
‫قال‪ :‬بمنزلة من يجمع حطبا‪ ،‬قد أعد له في عنقه حبَّل‪ِ ،‬‬
‫جيدها﴾ في عنقها‪ِ .‬‬
‫﴿في ِ‬
‫بل ِمن َم َس ٍد﴾ قال بعض العلماء‪ :‬أي في عنقها حبل من ليف لحمل الشوك لتضعه‬ ‫﴿ َح ٌ‬
‫في طريق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬في عنقها حبل من صوف لتحمل به الشوك‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬في عنقها حبل من شجر في اليمن يقال له املسد‪ِ .‬‬

‫‪445‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫املهم أنه في كل هذه اْلقوال أنه هذا في الدنيا‪ ،‬في عنقها حبل تحمل به اْلشواك ْلذية‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫جيدها َح ٌ‬
‫بل ِمن َم َس ٍد﴾ أي‪ :‬في عنقها وهي في النار حبل من نار‪ِ .‬‬ ‫وقال بعض العلماء‪﴿ :‬في ِ‬
‫وقيل‪ :‬في عنقها طوق من حديد في جهنم تعذب به‪ِ .‬‬
‫وكال اْلمرين صحيح‪ ،‬ففي الدنيا كان في عنقها حبل من صوف أو من جلد أو من شجر‬
‫يقال له املسد أو من ليف‪ ،‬املهم أنه حبل تحمل به الشوك‪ِ ،‬وفي جهنم من جزائها أن يكون‬
‫في عنقها حبل من نار أو طوق من حديد تعذب به‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها متقلدة في عنقها حبَّل من مسد‪.‬‬
‫قال‪ :‬وعلى كل ففي هذه السورة آية باهرة من آيات هللا‪ ،‬فإن هللا أنزل هذه السورة وأبو‬
‫لهب وامرأته لم يهلكا‪ ،‬وأخبر أنهما سيعذبان في النار وال بد‪ ،‬ومن الزم ذلك أنهما ال‬
‫يسلمان‪ ،‬فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة‪.‬‬
‫ومقصود السورة ظاهر جدا وهو نصر هللا عزوجل لرسوله صلى هللا عليه وسلم وإذالل‬
‫أعدائه‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪446‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة اإلخَّلص‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ ُ َّ ُ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫الص َم ُد (‪ )2‬ل ْم َي ِل ْد َول ْم ُيول ْد (‪َ )3‬ول ْم َيكن ل ُه كف ًوا أ َح ٌد‬
‫الل ُه َّ‬ ‫﴿ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد (‪)1‬‬
‫(‪[ ﴾)4‬اإلخَّلص‪ِ .]4-1 :‬‬
‫هذه السورة سورة اإلخالص‪ ،‬ويسميها بعض أهل العلم بسورة اإلخالص الصغرى‪ ،‬وسورة‬
‫اإلخالص الكبرى كما تقدم معنا هي سورة الكافرون‪ ،‬وهي سورة قل هو هللا أحد‪ ،‬وسورة‬
‫التوحيد‪ ،‬وسورة الصمد‪ ،‬وسورة اْلساس‪ ،‬هذه أسماء هذه السورة‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة تعدل ثلث القرآن‪ ،‬فمن قرأها في ليلة فقد قرأ ثلث القرآن في ليلة‪ ،‬ومن قام‬
‫بها فقد قام بثلث القرآن‪ ،‬ومن قرأها ثالث مرات في ليلة فكأنما قرأ القرآن كله‪ ،‬وهي كما‬
‫تقدم معنا في سورة الكافرون ال تغني عن قراءة القرآن‪ ،‬ولكنه فضل هللا عز وجل على أمة‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم من جهة اْلجر والثواب‪ِ .‬‬
‫وقد روى الترمذي أن املشركين قالوا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬انسب لنا ربك‪،‬‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫فأنزل هللا عز وجل‪﴿ :‬ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد﴾ السورة‪ ،‬وحسنه اْللباني‪ِ .‬‬
‫وهذه السورة في التوحيد االعتقادي‪ ،‬ففيها وصف ربنا سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد كان أحد‬
‫ِّ ِّ‬ ‫الصحابة ضوان هللا عليهم يختم بها قراءته في الصالة‪ ،‬فذكر أصحابه ذلك ِّ‬
‫للنبي صلى الله‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫عليه وسلم فقال‪(( :‬سلوه ْلي ش يء يفعل ذلك؟))‪ ،‬فقال‪ْ :‬لنها ِصفة الرحمن وأنا أحب‬
‫أن أقرأ بها‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬أخبروه أن الله يحبه)) متفق عليه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ ِّ‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم‪ِ .‬‬ ‫صفة ِّ‬
‫الرحمن‪ ،‬وأقره‬ ‫والشاهد أن الرجل قال‪ِّ :‬إنها ِ ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم رجال يدعو وهو يقولِ‪ :‬اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك‬ ‫وسمع‬
‫ِّ‬
‫أنت الله ال إله إال أنت اْلحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬فقال‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم‪(( :‬والذي نفس ي بيده لقد سأل الله باسمه اْلعظم الذي إذا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عطي)) رواه الترمذي وغيره وصححه اْللباني‪ِ .‬‬ ‫د ِعي به أجاب‪ ،‬وإذا سئل به أ ِ‬
‫وسلم ُوك َّل مؤمن ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫تبعا له صلى‬ ‫الله عز وجل ِّ‬
‫نبيه صلى هللا عليه‬ ‫ففي هذه السورة ُيخاطب‬
‫ِّ‬
‫وسلم‪ُ ،‬‬
‫فقل يا محمد قوال تعرف معناه وتعتقده بقلبك‪ :‬رِّبي هو املألوه املعب ِود‬ ‫هللا عليه‬

‫‪447‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫توحد في صفاته‪،‬‬ ‫توحد في أسمائه‪ ،‬واملُ ِّ‬ ‫املُنفرد بالكمال في جميع الوجوه؛ فهو اْلحد املُ ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫توحد في ألوهيته؛ فال مثل له في أسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وال‬ ‫توحد في أفعاله‪ ،‬واملُ ِّ‬ ‫واملُ ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شريك له في ألوهيته‪ِ .‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫وهو الصمد الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬والغ ُّني ال ِغ َنى املطلق ال يحتاج إلى ش يء‬
‫ومفت َق ٌر إليه افتقا ًرا ُمطلقا‪ ،‬وهو املقصود في ِّ‬
‫كل‬ ‫ويحتاج إليه كل ش يء؛ َغ ٌّني غ ًنى مطلقا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحوائج سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ولد‬ ‫الذي لم يكن فكان؛ بل هو اْلول الذي ليس قبله ش يء؛ فلم ُي ِ‬ ‫ولكمال ِغناه فهو ِ‬
‫فتقر إلى ش يء؛ فلم َيلد سبحانه وتعالى‪ ،‬وكل من نسب إليه الولد فهو‬ ‫َ‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وال ي ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫كذاب ِأشر وكافر‪ ،‬كقول املشركين‪ِّ :‬إن املالئكة بنات الله‪ ،‬وقول اليهود‪ُ :‬ع ْزير ابن الله‪،‬‬
‫الله‪ ،‬وهو سبحانه لم ُيكن له ٌ‬ ‫ِّ‬
‫مثيل ُيكا ِفئه في أسمائه‪ ،‬أو‬ ‫وقول النصارىِ‪ :‬املسيح ابن‬
‫ْ‬
‫الس ِم ُيع ال َب ِص ُير﴾ [الشورى‪ِ .]11 :‬‬ ‫س َكم ْثله َش ْي ٌء َو ُه َو َّ‬ ‫َ‬ ‫صفاته‪ ،‬أو أفعاله ﴿ َل ْ‬
‫ي‬
‫ِ ِِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ستحق العبادة سواه‪ ،‬هو الغ ُّني‬ ‫ستحق للعبادة‪ ،‬وال ي ِ‬ ‫وما دام أن رَّبنا كذلك فهو املعبود امل ِ‬
‫عبد غيره من‬ ‫غيره معه فض ِال أن ُي َ‬
‫عبد ُ‬ ‫وكل من سواه ُمفتقر إليه‪ ،‬فكيف ُي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِغنى املُطلق ُّ‬
‫دونه؟! ِ‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬ونعود إلى التفسير التفصيلي‬
‫ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا وسائر علماء املسلمين‪ِ .‬‬
‫قال اإلمام عبد الرحمان بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ُ َ َّ ُ َ‬
‫﴿قل هو الله أحد﴾ أي‪ :‬قل قوال جازما به معتقدا له عارفا بمعناه‪.‬‬
‫ومن املخاطب؟ املخاطب محمد صلى هللا عليه وسلم ثم تتبعه أمته‪ ،‬فأنت مخاطب بهذه‬
‫السورة تبعا لنبيك صلى هللا عليه وسلم‪ِ .‬‬
‫والقول هنا قول إعالم وبالغ؛ أي‪ :‬قل قوال عارفا بمعناه معتقدا له بقلبك معلما إياه‬
‫الناس ومبلغا الناس به‪ ،‬فالقول هنا قول إبالغ وتعليم مع االعتقاد والعلم‪ِ .‬‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد﴾ أي‪ :‬قد انحصر فيه اْلحدية‪ ،‬فهو اْلحد اْلنفرد بالكمال الذي له‬
‫اْلسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا واْلفعال اْلقدسة الذي ال نظير له وال مثيل‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وهو أيضا املتوحد باْللوهية فال شريك له في ألوهيته‪ ،‬وال أحد إال هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫يعني‪ :‬املنفرد باْلحدية املطلقة‪ ،‬املنفرد باْلحدية املطلقة هو هللا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫الص َم ُد﴾؛ أي‪ :‬اْلقصود في جميع الحوائج‪ ،‬فأهل العالم العلوي والسفلي‬ ‫الل ُه َّ‬ ‫﴿‬
‫مفتقرون إليه غاية االفتقار‪ ،‬يسألونه حوائجهم‪ ،‬ويرغبون إليه في مهماتهم؛ ْلنه الكامل‬
‫في أوصافه العليم الذي قد كمل في علمه الحليم الذي قد كمل في حلمه‪ ،‬الرحيم الذي‬
‫قد كمل في رحمته الذي وسعت رحمته كل ش يء‪ ،‬وهكذا سائر أوصافه‪.‬‬
‫فذكر الشيخ معنيين للصمد‪ِ :‬‬
‫‪ .1‬اْلعنى اْلول‪ :‬أنه املقصود في كل ش يء‪ِ .‬‬
‫‪ .2‬واْلعنى الثاني‪ :‬أنه الكامل في كل ش يء‪ ،‬كامل في جميع أسمائه وصفاته وأفعاله‬
‫وشرعه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الصمد هو السيد الكامل في سؤدده والغني الكامل في غناه‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الصمد هو الذي ال جوف له‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الصمد الذي ال يخرج منه ش يء‪ِ .‬‬
‫وقيل‪ :‬الصمد هو الباقي الذي ال يفنى‪ِ .‬‬
‫ويجمع كل هذه املعاني أنه الكامل الكمال املطلق‪ ،‬فهذه أنواع لكماله‪ ،‬املعاني التي ذكرها‬
‫املفسرون أنواع لكماله سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو ذو الكمال املطلق سبحانه وتعالى هذا معنى‬
‫الصمد‪ِ .‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬ومن كماله أنه ﴿ل ْم َي ِل ْد َول ْم ُيول ْد﴾ لكمال غناه‪.‬‬
‫﴿ل ْم َيل ْد﴾ فهو الغني الغنى املطلق‪ ،‬وال يفتقر إلى غيره‪ ،‬والولد ُي َ‬ ‫َ‬
‫فتقر إليه‪ ،‬ولذلك يستكمل‬ ‫ِ‬
‫الوالد حاله بأوالده‪ ،‬وهللا عز وجل الغني الغنى املطلق والكامل الكمال املطلق فلم يلد‪ ،‬وهو‬
‫اْلول الذي ليس قبله ش يء‪ ،‬لم يكن فكان‪ ،‬فهو لم يولد سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ َ ُ َّ ُ ُ َ‬
‫﴿ول ْم َيكن ل ُه كف ًوا أ َح ٌد﴾ ال في أسمائه؛ وال في صفاته؛ وال في أفعاله تبارك وتعالى‪ِ .‬‬
‫س‬‫﴿ َو َل ْم َي ُكن َّل ُه ُك ُف ًوا﴾ يعني‪ :‬لم يكن له مثيال ‪ ،‬فليس له مثيل سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬ل ْي َ‬
‫ْ‬ ‫َكم ْثله َش ْي ٌء ۖ َو ُه َو َّ‬
‫الس ِم ُيع ال َب ِص ُير﴾ [الشورى‪ِ .]11 :‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫‪449‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال‪ :‬فهذه السورة مشتملة على توحيد اْلسماء والصفات‪ِ .‬‬


‫مقصود هذه السورة اْلعظم والحكمة الكبرى منها‪ :‬بيان كمال هللا عز وجل املطلق‪ ،‬وأنه‬
‫املستحق للعبادة‪ ،‬وبطالن عبادة من سواه؛ بيان كمال ربنا سبحانه وتعالى املطلق من‬
‫جميع الوجوه‪ ،‬وأنه املستحق للعبادة‪ ،‬وبطالن عبادة ما سواه‪ِ .‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬

‫‪450‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الفلق‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َرب ْال َف َلق (‪ )1‬من َشر َما َخ َل َق (‪َ )2‬‬
‫اس ٍق ِإذا َوق َب (‪َ )3‬و ِمن ش ِر‬‫غ‬
‫ِ ِ‬ ‫ر‬‫ش‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿قل أع ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َّ َّ َ‬
‫اس ٍد ِإذا َح َس َد (‪[ ﴾)5‬الفلق‪.]5-1 :‬‬ ‫َ‬
‫ات ِفي العق ِد (‪ )4‬و ِمن ش ِر ح ِ‬ ‫النفاث ِ‬
‫هذه السورة عند جمهور العلماء مدنية‪ ،‬وقد نزلت على النبي صلى هللا عليه وسلم عندما‬
‫سحر؛ فكان يخيل إليه أنه أتى أهله وهو لم يفعل صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وآياتها عظام جدا‪ِ .‬‬
‫فعن عقبة بن عامر رض ي هللا عنه أنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬ألم تر‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ‬
‫اس﴾))‬‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫ِ ِ‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫و﴿ق‬ ‫﴾‪،‬‬ ‫ق‬‫آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط ﴿قل أعوذ ِبر ِب الف ِ‬
‫ل‬
‫رواه مسلم في الصحيح‪ ،‬وقال النبي صلى هللا عليه وسلم لجابر رض ي هللا عنه‪﴿(( :‬اقرأ يا‬
‫جابر‪ ،‬فقال جابر رض ي هللا عنه‪ :‬وماذا أقرأ بأبي وأمي أنت يا رسول هللا؟ فقال صلى هللا‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ‬
‫اس﴾ ولن تقرأ بمثلهما))‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫ِ ِ‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ل‬‫و﴿ق‬ ‫﴾‪،‬‬ ‫ق‬‫عليه وسلم‪ :‬اقرأ ﴿قل أعوذ ِبر ِب الف ِ‬
‫ل‬
‫رواه النسائي وصححه اْللباني‪ ،‬وقال لعقبة رض ي هللا عنه‪(( :‬إنك لن تقرأ شيئا أبلغ عند‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ‬
‫اس﴾)) رواه النسائي وصححه‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬‫ر‬
‫ِ ِ‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫و﴿ق‬ ‫﴾‬ ‫ق‬‫هللا من ﴿قل أعوذ ِبر ِب الف ِ‬
‫ل‬
‫اْللباني‪ ،‬وقال البن عباس رض ي هللا عنهما‪(( :‬أال أخبرك بأفضل ما يتعوذ به اْلتعوذون؟‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ‬
‫اس﴾))‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫ِ ِ‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫و﴿ق‬ ‫﴾‪،‬‬ ‫ق‬‫قال‪ :‬بلى يا رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬قل‪﴿:‬قل أعوذ ِبر ِب الف ِ‬
‫ل‬
‫رواه النسائي وصححه اْللباني‪ِ .‬‬
‫واملؤمن إذا تعوذ بهاتين السورتين فإنه يحفظ بهما من الشر بإذن هللا‪ ،‬ويعافى من الشر‬
‫َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫بإذن هللا‪ ،‬فهي حرز وشفاء وما تعوذ متعوذ بأفضل من هاتين السورتين‪﴿ :‬قل أعوذ ِبر ِب‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َ‬ ‫ََْ‬
‫اس﴾‪ِ .‬‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬‫ر‬
‫ِ ِ‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫و﴿‬ ‫﴾‪،‬‬‫ق‬‫الف ِ‬
‫ل‬
‫ً‬
‫فيها‪ :‬قل يا محمد ممتثال ومتعوذا‪ :‬ألجأ وألوذ وأعتصم وأستجير برب الصبح فالق اإلصباح‬
‫ُ‬
‫والحب والنوى من شر جميع املخلوقات‪ ،‬فأستعيذ بخالقها من شرها‪ ،‬هذا على وجه‬
‫العموم‪ِ .‬‬
‫ثم خص هللا بعضها‪ :‬ومن شر الليل إذا دخل‪ ،‬فإنه تنتشر الشياطين عند دخوله وتكثر فيه‬
‫الهوام والحيوانات الضارة‪ ،‬ومن شر القمر إذا غاب‪ ،‬فإنه إذا غاب أظلمت الدنيا وخرجت‬

‫‪451‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫الدواب والهوام التي تضر اإلنسان‪ ،‬ومن شر الساحرات الالتي يسحرن في الخيوط‪ ،‬ويعقدن‬
‫العقد مع النفث‪ ،‬ويذكرن الطالسم التي فيها االستعانة بالشياطين‪ ،‬ومن شر الحاسد الذي‬
‫مكر‬ ‫َ‬
‫سحر أو ٍ‬
‫بعين أو ٍ‬ ‫يكره ِنعم هللا على العباد إذا حسد فتمنى زوال النعمة وسعى في ذلك ٍ‬
‫أو غير ذلك‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ويجمع الليل والنفاثات والحسدة أن شرهم خفي وضررهم خفي‪ ،‬فخصوا بالذكر في هذه‬
‫االستعاذة؛ ْلن شرهم وضررهم يصل إلى اإلنسان خفية‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني آليات هذه السورة‪ ،‬ثم نعود إلى التفسير‬
‫التفصيلي‪ِ .‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬أي‪﴿ :‬ق ْل﴾ متعوذا‪.‬‬
‫ُ‬
‫قل والخطاب للنبي صلى هللا عليه وسلم وتتبعه أمته في هذا‪ِ .‬‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قل قول امتثال وتعوذ‪ ،‬في ﴿ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد﴾ قلنا‪ :‬قول إعالم وإبالغ‪ ،‬في املعوذات هو‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قول امتثال وتعوذ‪ ،‬قل ممتثال ومتعوذا بهذه املعوذات‪ِ .‬‬
‫َ ُ‬
‫﴿أ ُعوذ﴾ أي‪ :‬ألجأ وألوذ وأعتصم‪.‬‬
‫ََْ‬
‫﴿ب َر ِب الفل ِق﴾ أي‪ :‬فالق الحب والنوى وفالق اإلصباح‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الفلق‪ :‬أصله الشق؛ أي‪ :‬شاق الحب والنوى واإلصباح‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الفلق‪ :‬هو الصبح خاصة‪ ،‬يعني برب الصبح؛ ْلن الصبح ينجلي به‬
‫الليل والليل مظنة حصول الضرر‪ ،‬يعني مناسبة ذكر الصبح هنا أن الصبح ينجلي به‬
‫الليل‪ ،‬والليل مظنة حصول الضرر‪ ،‬فهنا تفاؤل بزوال الضر ِر‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الفلق جهنم‪ ،‬هذا من أسماء جهنم‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬الفلق‪ :‬بيت في جهنم إذا فتح بابه استعاذ أهل النار مع ما هم فيه‬
‫من حر من حره‪ِ .‬‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الفلق هو‪ :‬الخلق‪ ،‬واْلقوى هو ما ذكره اإلمام السعدي أنه رب‬
‫الفلق يعني؛ رب الشق للحب والنوى واإلصباح‪ِ .‬‬

‫‪452‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫وجن وحيوانات فيستعاذ‬ ‫إنس‬ ‫من‬ ‫هللا‬ ‫خلق‬ ‫ما‬ ‫جميع‬ ‫يشمل‬ ‫وهذا‬ ‫﴾؛‬ ‫﴿من َشر ما َخ َل َ‬
‫ق‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بخالقها من الشر الذي فيها‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ويدخل في ذلك نفس اإلنسان؛ فإنه بهذا يتعوذ باهلل من شر نفسه‪ ،‬والنفس لها ٌِ‬
‫شر‪ .‬وقال‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫بعض أهل العلم‪ :‬معنى ﴿ ِمن ش ِر ما خل َق﴾؛ يعني من شر الشيطان‪ ،‬فيكون املعنى من أشر‬
‫ما خلق؛ أستعيذ باهلل من أشر ما خلق وهو الشيطان‪ِ .‬‬
‫ولكن الذي ذكره الشيخ هو اْلرجح واْلصح في تفسير اآلية‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غاس ٍق ِإذا َوق َب﴾‪.‬‬ ‫َ‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬ثم خص بعدما عم فقال‪﴿ :‬و ِمن ش ِر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غاس ٍق ِإذا َوق َب﴾؛ يعني‪ :‬ومن شر الليل إذا دخل‪،‬‬ ‫َ‬
‫قال بعض اْلفسرين‪﴿ :‬و ِمن ش ِر ِ‬
‫شرا لكن فيه شر‪ ،‬تنتشر الشياطين في أوله‪،‬‬ ‫واملقصود من شر ما فيه؛ الليل نفسه ليس ً‬
‫ْلن الشياطين تنتشر عند أول دخول‬ ‫ولذلك املشروع أن ُيحفظ الصبيان عند الغروب؛ ِّ‬

‫الليل‪ ،‬وتخرج الدواب والهوام الضارة في الليل‪ِ .‬‬


‫وقال بعض أهل العلم‪ :‬معناه‪ :‬ومن شر الليل إذا ظهر قمره‪ ،‬فالغاسق هو الليل‪ ،‬ووقب‬
‫يعني ظهر قمره‪ِ .‬‬
‫ِّ‬
‫وعكس بعض أهل العلم فقالوا‪ :‬ومن شر الليل إذا غاب قمره؛ ْلنه مظنة اْلذى‪ِ .‬‬
‫َ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬الغاسق هو القمر‪ ،‬ومعنى ﴿ ِإذا َوق َب﴾ يعني إذا غاب‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫فإن الليل غاسق وإن القمر غاسق‪ ،‬يقول هللا ِّ‬ ‫وكال املعنيين صحيح‪ِّ ،‬‬
‫عز وجل‪﴿ :‬إلى غ َس ِق‬
‫َّ‬
‫الل ِيل﴾ [اإلسراء‪ِ ]78 :‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ ِّ‬
‫القمر وقال ِْل ِّمنا عا ِئشة ر ِض ي الله عنها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫ة‬ ‫وسلم نظر ِّ‬
‫مر‬ ‫عليه‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫والن ِبي صلى‬
‫ِّ‬
‫الت ِرم ِذ ِّي‪ ،‬وقال حسن‬ ‫شر هذا ِفإن هذا هو الغاسق إذا وقب)) رواه ِ‬ ‫((استعيذي ِبالل ِه ِمن ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫تفسير من ِّ‬
‫عليه وسلم‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫الرسو ِل صلى‬ ‫صحيح؛ فهذا ِ‬ ‫صحيح‪ ،‬وكذا قال اْللبا ِن ِِّي‪ :‬حسن ِ‬ ‫ِ‬
‫الليل يكون ِف ِيه القمر ِّ‬ ‫ِّ‬
‫فيظلم‪ِ .‬‬ ‫ثم ي ِغيب ِ‬ ‫إذن الغاسق هو‬
‫ِّ‬
‫الث ِّريا إذا ظهرت‪ ،‬فإ ِّ‬
‫ض أوجاع‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫اْل‬ ‫ي‬‫ف‬‫ِ‬ ‫تظهر‬ ‫ظهرت‬ ‫إذا‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫أهل ال ِع ِلم‪ :‬الغاسق هو‬ ‫وقال بعض ِ‬
‫وأمراض‪ِ .‬‬

‫‪453‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سنة ِّ‬ ‫الصواب؛ ْل ِّنه تفسير من القرآن ومن ِّ‬ ‫الليل والقمر هو ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ولد‬
‫سي ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فسير ِبأنه‬ ‫ولكن الت ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫عليه وسلم‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫عدنان صلى‬
‫ْ‬
‫الليل حين يغش ى الناس وتنتشر‬
‫ْ‬ ‫من شر ما يكون في ْ‬ ‫أي‪ْ :‬‬ ‫اسق إ َذا َو َق َب﴾ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿و ِمن ش ِر ِ ٍ ِ‬
‫غ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َّ َّ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬
‫ات ِفي ال ُعق ِد﴾‪.‬‬ ‫َ‬
‫فيه كثير من اْل ْرواح الشريرة والحيوانات اْلؤذية ﴿و ِمن ش ِر النفاث ِ‬
‫ابها ِفي‬ ‫ين َقال‪ :‬الغاسق ُه َنا ه َي ْال َح َّية ﴿ َوإ َذا َو ْق َب﴾‪َ :‬ي ْعني َإذا َأ ْد َخ َل ْت َأ ْن َي َ‬ ‫ض ْاْلُ َفسر َ‬ ‫َب ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫بال ْيل َو ْال َق َمر ُه َو َّ‬ ‫َ‬ ‫اللديغ‪َ ،‬لكن َّ‬ ‫َّ‬
‫الص َو ُ ِ‬
‫اب ِ‬ ‫الت ْف ِسير‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ َّ َّ َ‬
‫وم ْن ش ِر السواحر الَّل ِتي َي ْست ِع ْن على سحرهن‬ ‫ِ‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫﴾؛‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫﴿و ِمن ش ِر النف ِ ِ‬
‫ات‬ ‫اث‬ ‫َ‬
‫ََ‬ ‫ْ َ ْ َّ‬ ‫َّ ْ‬
‫الس ْح ِر‪.‬‬ ‫ِبالنفث ِفي العق ِد ال ِتي يعقدنها على ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫الس َح َرة أال ُي ْس َت َعاذ ِم ْن ش ِّ ِر ِه ْم؟ ِ‬ ‫الر َجال َّ‬ ‫َ ِّ‬
‫و ِ‬
‫َ َ َ ْ ُ َ ْ ْ ْ َ َّ ِّ‬
‫الن َس ُاء هنا ْلنهن أكثر من يسحر بهذه الطريقة؛ وْلن سحرهن‬ ‫قال بعض أه ِل ال ِعل ِم‪ :‬خص ِ‬
‫أقوى‪ ،‬فهذا من باب ذكر الغالب‪ ،‬وذكر الغالب ال يقتض ي التخصيص فيدخل الرجال‬
‫أيضا‪ِ .‬‬
‫َ َّ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ات﴾ يعني ومن شر اْلنفس النفاثات‪ ،‬فيدخل في‬
‫وقال بعض أهل العلم ﴿و ِمن ش ِر النفاث ِ‬
‫ذلك الرجال والنساء‪ِ .‬‬
‫وعلى كل حال فالرجال كالنساء ُيستعاذ باهلل من شرهم إذا َسحروا‪ِ .‬‬
‫والحاسد‪ :‬هو الذي يحب زوال النعمة عن اْلحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من‬
‫اْلسباب‪ِ .‬‬
‫اس ٍد﴾ الحسد‪ :‬هو كره النعمة على العباد وتمني زوالها‪ِ .‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿و ِمن ش ِر ح ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿ومن َشر َ‬
‫اس ٍد ِإذا َح َس َد﴾؟ ِل َم ل ْم يقل هللا‪ :‬ومن شر حاسد؟ ِ‬‫ح‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫ملاذا قال هللا ِ‬
‫َ‬
‫﴿إذا َح َس َد﴾‬
‫قالوا‪ْ :‬لن الحاسد قد يكره النعمة على غيره لكن ال يسعى في زوالها‪ ،‬فمعنى ِ‬
‫ُ‬
‫يعني إذا سعى في زوال تلك النعمة إما بعين‪ ،‬والعين حق وتورد الجمل القدر وتجر شرورا‬
‫كثيرة‪ ،‬والعين كما تدل عليه النصوص نوعان‪ِ :‬‬
‫‪ ‬عين حاسدة‪ :‬وهذه أخبث العيون‪ِ .‬‬

‫‪454‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫‪ ‬وعين معجبة‪ :‬ال يلزم أن تكون حاسدة‪ ،‬ولكن يعجبها ش يء فتصيبه بالضرر‪ ،‬وهذه‬
‫أخطر من اْلولى من جهة أن اإلنسان ال يتنبه لها‪ِ .‬‬
‫اْلولى أخبث والثانية أخطر على اإلنسان؛ ْلن اإلنسان قد يعجب بحفظه فيصيب نفسه‬
‫بالعين‪ ،‬قد يعجب بتجارته فيصيب تجارته بالعين إذا لم ُي َب ِّ ِرك‪ ،‬قد يعجب بابنه فيصيب‬
‫ابنه بالعين‪ ،‬ولذلك املشروع لإلنسان إذا رأى ما يعجبه من نفسه أو ماله أو ولده أو غيره‬
‫أن ُي َب ِّ ِرك‪ ،‬فيقو ِل‪ :‬تبارك هللا‪ ،‬اللهم بارك‪ ،‬وإن قال‪ :‬ما شاء هللاِال قوة إال باهلل اللهم بارك‬
‫فحسن‪ ،‬لكن ال يقتصر على قوله‪ :‬ما شاءِهللاِال قوة إال باهلل؛ البد من التبريك‪ِ .‬‬
‫وبعض الناس إذا قلت له‪َ :‬ب ِّ ِرك يا أخي‪ ،‬قال‪ :‬وهل أنا حاسد؟ إذا قال‪ :‬فالن كذا‪ ،‬قلت‪ :‬يا‬
‫أخي قل تبارك هللا‪ ،‬قال‪ :‬وهل أنا حاسد‪ ،‬ال؛ ما يلزم من إصابة العين أن تكون عن حسد‪،‬‬
‫بل قد تكون عن إعجاب‪ِ .‬‬
‫ومن عجيب أني مرة في درس ي هنا تكلمت عن هذه املسألة‪ ،‬وأن العين قد تكون عين حسد‬
‫وقد تكون عين إعجاب‪ ،‬وأن اإلنسان قد يصيب نفسه بالعين وهو ال يشعر‪ ،‬فأرسل لي‬
‫أحد اإلخوة من بلد أوروبي رسالة‪ ،‬وقال‪ :‬يا شيخ أنا ابتليت بالخسارات في تجارتي بعد أن‬
‫مستغربا حتى سمعت كالمك عن املسألة‪ ،‬فتنبهت أني أصيب نفس ي‬‫ً‬ ‫كنت ناجحا‪ ،‬وكنت‬
‫بالعين‪ ،‬فأصبحت أقو ِل‪ :‬تبارك هللا‪ ،‬فرجعت تجارتي إلى الربح والحمد هلل وزال هذا اْلمر‪ِ .‬‬
‫فهذا ينبغي أن ُيتنبه له إذا رأيت من نفسك من مالك من زوجتك من أبنائك من جيرانك‬
‫ما يعجبك فبرك‪ ،‬فإنك قد تصيب بالعين وأنت ال تشعر‪ ،‬ولكن عين الحاسد أخبث من‬
‫عين املعجب‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا‪ :‬فاحتيج إلى االستعاذة باهلل من شره وإبطال كيده‪ ،‬ويدخل في الحاسد‬
‫العائن؛ ْلنه ال تصدر العين إال من حاسد شرير الطبع خبيث النفس‪ِ .‬‬
‫وهذا غير صحيح‪ ،‬فالعين قد تصدر من غير الحاسد‪ ،‬ولكن الحاسد خبيث العين مظنة‬
‫اإلصابة بالعين‪ِ .‬‬

‫‪455‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫قال رحمه هللا‪ :‬فهذه السورة تضمنت االستعاذة من جميع أنواع الشرور عموما‬
‫وخصوصا‪ ،‬ودلت على أن السحر له حقيقة يخش ى من ضرره ويستعاذ باهلل منه ومن‬
‫أهله‪.‬‬
‫‪-‬من فوائد هذه السورة الكبرىِ‪ :‬أن االستعاذة عبادة؛ فال يستعاذ إال باهلل عز وجل‪ِ .‬‬
‫‪ -‬ومن فوائد هذه السورة أن املؤمن يتعوذ بها تحصينا وشفاء‪ ،‬فيتعوذ بها تحصينا من‬
‫ً‬
‫شفاء من اْلدواء الحسية واملعنوية‪ِ .‬‬ ‫الشر‪ ،‬ويتعوذ بها‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬

‫‪456‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫سورة الناس‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ْ َ َّ‬ ‫الناس (‪ )٣‬من َشر ْال َو ْس َ‬ ‫َٰ َّ‬ ‫َّ‬ ‫الناس (‪َ )١‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫اس‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫خ‬ ‫ال‬ ‫اس‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫)‬ ‫‪٢‬‬ ‫(‬ ‫اس‬‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫ِ ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫﴿قل أع ِ ِ‬
‫ر‬ ‫ب‬ ‫وذ‬
‫َ ْ َّ َ َّ‬ ‫ُ ُ ر َّ‬ ‫(‪َّ )٤‬ال ِذي ُي َو ْسو ُ‬
‫اس (‪[ ﴾)٦‬الناس ‪.]٦-١:‬‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ج‬‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫)‬ ‫‪٥‬‬ ‫(‬ ‫اس‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫د‬‫ص‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬
‫ما ذكرناه من فضل في سورة الفلق نذكره هنا‪ ،‬فهما مقترنتان‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫يقول هللا عز وجل‪ :‬قل يا محمد ممتثال ومتعوذا ألجأ وأعتصم وأستجير برب الناس الذي‬
‫يربيهم بالنعم ويدبر أمورهم‪ ،‬وهو سبحانه مالكهم الذي يتصرف فيهم‪ ،‬وهو إلههم الحق‬
‫املستحق للعبادة من شر شياطين اإلنس والجن الذين يوسوسون في الصدور بما يضر‬
‫وبالشر خفية إذا غفل اإلنسان عنهم‪ ،‬وعن ذكر هللا عز وجل‪ ،‬فإذا ذكر هللا اختفوا عنه‬
‫وفروا منه وابتعدوا عنه‪ِ .‬‬
‫هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ونعود إلى التفسير التفصيلي‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُ‬
‫وذ ب َ‬
‫اس﴾ هللا رب كل ش يء‪ ،‬رب الناس‪ ،‬رب املالئكة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬‫يقول هللا عز وجل‪﴿ :‬قل أع ِ ِ‬
‫ر‬
‫رب الجن‪ ،‬رب الحيوانات‪ ،‬فلماذا خص هللا عز وجل الناس هنا؟ ِ‬
‫ٌ‬
‫قالوا‪ :‬للمناسبة؛ ْلن الناس متعوذون ومستعاذ من شرهم‪ِ .‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫اس﴾ ملاذا ذكر ا ِمللك هنا؟ ِ‬
‫﴿م ِل ِك الن ِ‬
‫قويا له ملك وله جاه وله سطوة‪ ،‬فهذا هللا مالكه‪،‬‬‫قال العلماء‪ْ :‬لن من الناس من يكون ً‬
‫فاهلل مالك الناس جميعا‪ ،‬فإذا استعذت باهلل من شر الناس فإن هللا يعيذك من شرهم‬
‫جميعا‪ ،‬من شر امللك‪ ،‬ومن شر الخفي‪ ،‬من شر القوي‪ ،‬ومن شر الضعيف‪ ،‬فاهلل يملكهم‬
‫جميعا سبحانه وتعالى‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫َٰ َّ‬
‫اس﴾ ذكر اْللوهية هنا ُليعلم أن املستعاذ به هو هللا اإلله الحق‪ ،‬وأن االستعاذة‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫﴿ ِإل ِه‬
‫بغير هللا فيما ال يقدر عليه املستعاذ كفر وشرك باهلل عز وجل‪ ،‬فاملستعاذ به إله‪ ،‬فمن‬
‫استعاذ باملقبورين فقد جعلهم آلة من دون هللا‪ ،‬ومن استعاذ بالحي فيما ال يقدر عليه فقد‬
‫جعله إله من دون هللا عز وجل‪ِ .‬‬

‫‪457‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫اس﴾ الوسواس‪ :‬هو ما يلقى في الصدر‪ِ .‬‬ ‫و‬‫﴿من َشر ْال َو ْس َ‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الوسواس ‪-‬بالفتح أو الكسر للواو‪ِ .-‬‬ ‫﴿من َشر ْال َو ْس َواس﴾ معناه‪ :‬من شر ذي الوسواس أو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ‬ ‫ْ‬
‫اس﴾‪ :‬كثير االختفاء الذي إذا ذكر هللا اختفى‪ِ .‬‬ ‫﴿الخن ِ‬
‫اس﴾ الصدور يعني القلوب التي في الصدورِ‪ِ .‬‬
‫ُ ُ ر َّ‬
‫الن‬ ‫و‬ ‫د‬‫ص‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫﴿ َّال ِذي ُي َو ْسو ُ‬
‫س‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َّ‬
‫﴿م َن ال ِجن ِة﴾ جمع جني‪ِ .‬‬ ‫ِ‬
‫َ َّ‬
‫اس﴾ شياطين اإلنس‪ِ .‬‬ ‫﴿والن ِ‬
‫املوسوس قد يكون‬ ‫َ ْ َّ َ َّ‬
‫ِ‬ ‫أن‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫‪:‬‬ ‫العلماء‬ ‫بعض‬ ‫قال‬ ‫﴾‪،‬‬‫اس‬
‫ومعنى هذه اآلية‪ِ ﴿ :‬من ال ِجن ِة و ِ‬
‫الن‬
‫من شياطين اإلنس وقد يكون من شياطين الجن‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫وقال بعض اْلفسرين‪ :‬أي‪ :‬أن امل َوسوس في صدره قد يكون من الجن وقد يكون من‬
‫اإلنس‪ ،‬فالشيطان يوسوس للجن ويوسوس لإلنس‪ِ .‬‬
‫وكال املعنيين صحيح‪ ،‬فاملُ َوسوس قد يكون ًّ‬
‫جنيا من الشياطين وقد يكون ً‬
‫إنسيا‪ ،‬الذي‬ ‫ِ‬
‫يأتي ْلخيه وقد أعفى لحيته‪ :‬أنت اآلن متشدد‪ ،‬اآلن املباحث ستبحث عنك‪ ،‬ستسجن‪،‬‬
‫سيفعل بك‪ ،‬امرأتك لن تحبك‪ ،‬هذا موسوس يوسوس بالشر‪ ،‬يفعل ما يفعله الشيطان‬
‫من الصد عن الخير بالوسوسة‪ ،‬وأيضا الوسوسة تكون للجن؛ ْلنهم مكلفون وتكون‬
‫لإلنس‪ ،‬فالشيطان يوسوس للجن ويوسوس لإلنس‪ ،‬ذكرت هذا ْلن الشيخ لم يذكر هذا‬
‫ونعود ونقرأ كالم الشيخ‪ِ .‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪ :‬وهذه السورة مشتملة على االستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم‬
‫من الشيطان الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها‪ ،‬الذي من فتنته وشره أنه يوسوس في‬
‫صدور الناس‪ ،‬فيحسن لهم الشر ويريهم إياه في صورة حسنة‪ ،‬وينشط إرادتهم لفعله‪،‬‬
‫ويثبطهم عن الخير ويريهم إياه في صورة غير صورته‪ ،‬وهو ً‬
‫دائما بهذه الحال يوسوس ثم‬
‫يخنس؛ أي‪ :‬يتأخر عن الوسوسة إذا ذكر العبد ربه واستعاذ به على دفعه‪.‬‬
‫فينبغي له أن يستعين ويستعيذ ويعتصم بربوبية هللا للناس كلهم‪ ،‬وأن الخلق كلهم‬
‫داخلون تحت الربوبية وا ِْللك‪ ،‬فكل ٍ‬
‫دابة هو آخذ بناصيتها‪ ،‬وبألوهيته التي خلقهم‬

‫‪458‬‬
‫شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن‬

‫ْلجلها فَّل تتم لهم إال بدفع شر عدوهم الذي يريد أن يقتطعهم عنها ويحول بينهم وبينها‪،‬‬
‫ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‪.‬‬
‫َ ْ َّ َ َّ‬
‫اس (‪﴾)6‬‬ ‫والوسواس كما يكون من الجن يكون من اإلنس‪ ،‬ولهذا قال‪ِ :‬‬
‫﴿من ال ِجن ِة و ِ‬
‫الن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫والحمد هلل رب العاْلين أوال وآخرا‬
‫ِ‬

‫‪459‬‬

You might also like