Professional Documents
Culture Documents
التعليق على تفسير السعدي
التعليق على تفسير السعدي
سورة النبأ1....................................................
سورة النازعات40...............................................
سورة عبس73...................................................
سورة التكوير94.................................................
سورة االنفطار111................................................
سورة المطففين122...............................................
سورة االنشقاق150...............................................
سورة البروج176..................................................
سورة الطارق196.................................................
سورة األعلى211.................................................
سورة الغاشية227.................................................
سورة الفجر245..................................................
سورة البلد269...................................................
سورة الشمس287................................................
سورة الليل299...................................................
سورة الضحى313.................................................
سورة الشرح323..................................................
سورة التين335....................................................
سورة العلق344...................................................
سورة القدر353...................................................
سورة البينة362....................................................
سورة الزلزلة379...................................................
سورة العاديات387................................................
سورة القارعة397..................................................
سورة التكاثر403..................................................
سورة العصر408...................................................
سورة الهمزة414...................................................
سورة الفيل419....................................................
سورة قريش422....................................................
سورة الماعون425..................................................
سورة الكوثر431...................................................
سورة الكافرون435.................................................
سورة النصر439....................................................
سورة المسد443...................................................
سورة اإلخالص447................................................
سورة الفلق451....................................................
سورة الناس457....................................................
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ ْ ِّ َ َ ْ َ ُ ُ ََ ْ َ ُ ُ ََ ْ َ ْ ُُ ََ ُ ُ َّإن ْال َح ْم َ
ور أنف ِسنا و ِمن َس ِيئ ِ
اتِ ِ ر ش ن م ِ هلل
ِ ابِ وذ ع نو ،هر ف
ِ غت س نو ه ين ع ِ ت س نو ه د مح ن له
ِ لِ د
َّ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ َّ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ
ض ِل ْل فال َه ِاد َى ل ُهَ ،وأش َه ُد أ ْن ال ِإل َه ِإال ُِ
هللا أ ْع َم ِال َناَ ،م ْن َي ْه ِد ِه هللا فال م ِضل له ،ومن ي
ُ َ ْ َُ َ َ َ َ َ ْ َ
يك ل ُهَ ،وأش َه ُد أ َّن ُم َح َّم ًدا َع ْب ُد ُه َو َر ُسول ُِه ِ وحده ال ش ِر
َ َ َ ُ َّ َ ْ ُ َّ ﴿يا َأ ُّي َها َّالذ َ
ين َآم ُنوا َّات ُقوا الل َه َح َّق ت َقا ِت ِه َوال ت ُموت َّن ِإال َوأن ُت ْم ُم ْس ِل ُمون﴾ [آل عمرانِ ]۱٠۲ : ِ
َ
ً َّ ََ
س َو ِاح َد ٍة َوخل َق ِم ْن َها َز ْو َج َها َو َبث ِم ْن ُه َما ِر َجاال فاس َّات ُقوا َ َّب ُك ُم َّال ِذي َخ َل َق ُك ْم م ْن َن ْ
ر الن ُ ﴿يا َأ ُّي َها َّ َ
ٍ ِ ِ
َ ً َ َ ً َ َّ ُ َّ َ َّ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َّ َّ َ َ َ َ ُ
ان َعل ْيك ْم َر ِق ًيبا﴾ [النساءِ ]۱ : ك ِثيرا و ِنساء واتقوا الله ال ِذي تساءلون ِب ِه واْلرحام ِإن الله ك
ْ َُ َ َُ ُ َْ ً َ ً ُ ْ َُ َ َُ ﴿يا َأ ُّي َها َّالذ َ
ص ِل ْح لك ْم أ ْع َمالك ْم َو َيغ ِف ْر لك ْم ين َآم ُنوا َِّات ُقوا هللا وقولوا قوال س ِديدا * ي ِ
َ
َ َ َ َ ُذ ُن َوب ُك ْم َو َم ْن ُيطع َ
هللا َو َر ُسول ُه ف َق ْد ف َاز ف ْو ًزا َع ِظ ًيما﴾ [اْلحزابِ ]٧۱-٧٠ : ِِ
َّ َ ُ ُ ُ َ ََْ ْ ُ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ َّ َ ْ َ ْ
هللا ،وخير الهدى هدى محم ٍد صلى هللا عليه وآله وسلم، يث ِكتاب ِ أما بعد :ف ِإن خير الح ِد ِ
ض َال َلة في َّ ض َال َل ٌةَ ،و ُك َّل َ اْل ُمور ُم ْح َد َث ُات َهاَ ،و ُك َّل ُم ْح َد َثة ب ْد َع ٌةَ ،و ُك َّل ب ْد َعة َ َ َ َّ ُ
ار ِالن ِِ ٍ ِ ٍ ِ ٍ ِ وشر
ِ
َ ُ َ َ َ َّ ُ ثم يا معاشر ُ
ضان الذي الفضالء ِّإن شهر رمضان شهر القرآن آنزل فيه القرآن ﴿شهر رم ِّ
در﴾ [القدر ،]١ :وفيه ُيدارس القر ُآن﴾ [البقرة﴿ ،]١٨٥ :إ ِّنا َأ َنز ُ
لناه في َل َيلة َ
الق ُِأنز َل فيه ُ
ِ ِ ِ ِ ِ
ِّ ِّ القرآن؛ فكان جبريل عليه ِّ
السالم يدارس النبي صلى هللا عليه وسلم القرآن في رمضانِ .
وفهم للمعاني ،وقد جاء عن ِّ
بتدبر ٍ
ٍ وإن من أعلى أنواع قراءة القرآن أن يقرأ املسلم القرآن
ِّ
أمنا عائشة رض ي هللا عنهاِّ ( :أنها كانت في رمضان إذا صلت الفجر تقرأ القرآن حتى تطلع
الشمس فإذا طلعت نامت) ،رض ي هللا عنها وأرضاهاِ .
ونحن في أيام شهر رمضان بعد الفجر نعقد هذا الدرس نقرأ آيات هللا ِّ
عز وجل ونعرف
معانيها حيث نشرح ونفسر الجزء اْلخير من القرآن من خالل كتاب تيسير الكريم الرحمن
في تفسير كالم املنان لإلمام املفسر اْلصولي الفقيه املتفنن عبد الرحمن بن ناصر سعدي
عز وجل وسائر علماء املسلمينِ . السعدي رحمه هللا ِّ
1
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِّ ُ
وقفات مع الفوائد العلمية واآلثار
ٍ وجل ونبينه ونزيد عليه ،وإذا ختمنا السورة فإنا نقف
اإليمانية للسورة فنبدأ بسورة النبأ فيتفضل االبن نور الدين يقرأ لنا من هذه السورةِ .
سورة النبأ
أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم.
بسم هللا الرحمن الرحيم .
َ َ َ َّ َ َّ َّ ْ َ َ ُ َ
الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم ( )٢ال ِذي ُه ْم ِف ِيه ُم ْخ َت ِل ُفون ( )٣كَّل َس َي ْعل ُمون ﴿ع َّم َيت َس َاءلون (َ )١ع ِن
َََْ ُ َ َ ْ ََ ْ َ ْ َ َْ َ َ ُ َ َّ
ض ِم َه ًادا (َ )٦وال ِج َبا َل أ ْوت ًادا (َ )٧وخلقناك ْم اْل ْر َ ( )٤ث َّم كَّل َس َي ْعل ُمون ( )٥ألم نجع ِل
ً اسا (َ )١٠و َج َع ْل َنا َّ
الن َه َار َم َعاشا
َ َ َ ْ َ َّ
الل ْي َل ل َب ً ا ن لع ج و ) ٩ ( اات
َ َ ََْ َ ْ َ ُ ْ ُ َ ً
ب س م ك م و ن ان لع ج و ) ٨ ( ا َأ ْز َو ً
اج
ِ
َ َْ َ َ ُْ ْ َ ً َ َّ ً َ َ ََْ ََََْ َ ْ َ ُ َ ْ ً َ ً
( )١١وبنينا فوقك ْم سبعا ِشدادا ( )١٢وجعلنا ِس َراجا وهاجا ( )١٣وأنزلنا ِمن اْلع ِص َر ِ
ات
َ َ َّ َ ْ َ ً َ َ ً ُ ْ َ َ َّ ً
ات ألفافا ([ ﴾)١٦النبأ.]١٦-١ : َم ًاء ثجاجا (ِ )١٤لنخ ِرج ِب ِه ح ًّبا َون َباتا ( )١٥وجن ٍ
ِ
بعضا ،أو عز وجل :عن أي ش يء يتساءل مشركوا قريش؛ حيث يسأل بعضهم ً يقول هللا ِّ
ٍ
ِّ ِّ
استكبار وإنكارِ .
ٍِ يسألون رسول هللا صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين سؤال
َّ ْ ََ ُ َ
﴿يت َس َاءلون (َ )١ع ِن الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم﴾؛ الخبر الكبير ذي الشأن الخطير وهو القرآن وما فيه
من أخبار الغيب؛ ال سيما ما يكون بعد املوت من البعث والجزاء والحسابِ .
﴿الذي ُه ْم فيه ُم ْخ َتل ُفو َن﴾؛ في أقوالهم وفي أحوالهمِّ ،أما في أقوالهم ِّ َّ
فإنهم مضطربون ِ ِ ِ ِ
عظيما؛ فمنهم من يقول هو قول ساحر ،ومنهم من يقول هو قول كاهن ،ومنهم ً اضطر ًابا
ِّ ٌ ِّ
محمد صلى هللا عليه وسلم من اْلعاجم من أهل العبرانية أو أهل من يقول أخذه
السيريانية ،واضطرابهم يدل على بطالن أصل قولهم ،ومختلفون فيه في أحوالهم فمنهم
ومصر حتى يموت ٌ ٌ
ومستكبر ً
ومعاند ٌ
مكذب به وبما فيه من اْلخبار عن يوم البعث والفصل؛
ِّ ِّ
على ذلك ،ومنهم من سيؤمن به ويؤمن برسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
ِّ ً
ابتداء وبما فيه من اْلخبار ،وبرسالة النبي صلى وهكذا كان الحال فمنهم من كذب بالقرآن
ِّ َّ ِّ
وأصر واستكبر حتى مات على ذلك ،ومنهم من استنار فؤاده وقلبه فعلم أنه هللا عليه وسلم
الحق فصدق به وآمنِ .
2
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ
وإبطال ْلقوالهم ،سيعلمون حقيقة هذا النبأ العظيم؛ ﴿ك ََّّل َس َي ْع َل ُمو َن﴾؛ ر ٌ
دع لهم وزجر
َ
ً
جحودا ً
ظاهرا وال ً
جحودا يوم يرون ذلك ً
عيانا فيعلمون العلم الذي ال يمكن إنكاره ال
باطنا؛ بل هو علم اليقين الذي تستسلم له النفوسِ . ً
ٌ َ َ ُ َ َّ
خبر تضمن التهديد والوعيد تأكيد معنوي للجملة السابقة ،وهذا ٌ ﴿ث َّم كَّل َس َي ْعل ُمون﴾؛
واقع بهم ال محالة؛ فما توعدهم هللا ِّ
فإنه ٌ ِّ ِّ
عز وجل به من الجزاء فإنهم إذا علموا ذلك
خبر تضمن التهديد والوعيدِ . والعذاب في الجحيم سيقع بهم ال محالة؛ فهذا ٌ
ِّ ِّ ثم ِّبين هللا ِّ ِّ
محمد صلى هللا عليه وسلم وعلى ٍ عز وجل بعض اآليات الدالة على صدق
وجوب اإليمان بالقرآن وبما فيه من اْلخبار ،والدالة على وجوده سبحانه وتعالى ،والدالة
ِّ ِّ
على أنه هو الرب الذي خلق ودبر سبحانه وتعالى وأحكم ،والدالة على أنه هو القوي املتين
ٌ الذي على كل ش يء قدير سبحانه وتعالى ،وهي ٌ
آيات كونية يراها كل أحد ،وهي موصلة إلى ٍ
ُ
العلم بتلكم الحقائقِ .
هادا﴾؛ ألم نصير اْلرض ً ضم ً اْلر َََ َ َ َ
مهادا لهم؛ ممهدة كاملهد للطفل يرتاح فيه ِ ﴿ألم نجع ِل
ً ٌ
فهي ممهدة لهم بأوديتها وبصفتها وببسطها ،فهي كالفراش لهم ليست صلبة كلهاِ ،وليست
صلب يحبس لهم املاء ويبنون عليه ،ومنها ما هو ر ٌ وإنما منها ما هو ٌ ِّ ً
خو رخوة ال ينتفعون بها؛
ِّ ِّ ً
قليال بحيث يحرثونه ويزرعونه وتنبت فيه الزروع ،وهكذا اْلرض مهدت لهمِ .
وتادا﴾؛ فجعلنا الجبال كاْلوتاد لألرض حتى ال تميد بهم ،و ِال تميل بهم ،و ِال بال َأ ً ﴿والج َ َ
ِ
ٌ
تضطرب بهم؛ بل هي ثابتة مستقرةِ .
وهذه الجبال لألرض كاْلوتاد للخيمة ،واملعلوم ِّأن الوتد يكون أكثره في داخل اْلرض وما
ِّ
يخرج منه إنما هو ما ينفع خروجه ،وكذلك الجبال فقد أثبت العلماء أن أكثرها وأوسعها
ِّ
إنما هو في داخل اْلرضِ .
وأزواجا في صفاتكم ً ذكر وأنثى، من ا قناكم َأزوا ًجا﴾؛ أي :خلقناكم يا بني آدم ً
أزوج
َ ََ ُ
﴿وخل
ٍ
واحدة في جميع أموركم؛ بل لو تأملتم في أنفسكم لوجدتم اآليات ٍ صفة
فلستم على ٍ
ِّ
العظام فإن ما يحتاجه بنوا آدم على وجه السوية يستوي فيه بنوا آدم فاْلنوف في ٍ
مكان
مكان واحد ،واْليدي مكان واحد ،والروؤس في ٍ مكان واحد ،واْلفواه في ٍ واحد ،والعيون في ٍ
3
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
مكان واحد ،وما يحتاج بنوا آدم فيه إلى اإلختالف كانوا فيه
مكان واحد ِ،واْلرجل في ٍ
في ٍ
ً
أزواجا في صفاتهم فمنهم الطويل ومنهم القصير ،ومنهم النحيف ومنهم البدين ،ومنهم الغني
أزواجا كذلك تنتفعون بهاِ . ً ومنهم الفقير ،وخلق لكم
ً باتا﴾؛ فجعلنا لكم ً َ َ َ َ َ ُ ُ ً
نوما يغشاكم فترتاحون به ،وجعله لكم راحة من ﴿وجعلنا نومكم س
ِّ
اْلشغال ومن تعب اْلبدان ال تستطيعون إيجاده بأنفسكم ولو بذلتم ما بذلتم ،وإنما هللا
النعم العظمىِ . أنعم عليكم به فهو من ِّ
4
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ
اسود ،وترجون ِّ واحدة منها ،وأ اكم ًٌ ٌ
شيئا من ذلك فإنكم ترون السحاب قد ر تنزل قطرة
ٌ
السحب وال تنزل منها قطرة واحدة ولكن وتفر ُق تلك ِّ ِّ ُّ
نزول املطر ،فإذا بالرياح تهب بأمر هللا ِ
منصبا من فو ٍق إلى أسفل ًّ ماء ثجاجا؛ ً ً هللا بكرمه ورحمته بكم ُينزل من تلكم السحب ً
ماء
وأضر زروعكم ،لو ِّأن َّ ْلضركممر ًة واحدة ِّ انصب عليكم ِّ َّ متتابعا فتنتفعون به وبنزوله ،ولو
الناس ً دفعة واحدة على اْل ض لتضرر ِّ ً
ضررا عظيما وتضررت ر السحب أفرغت ما فيها
ً ًّ دوابهم وتضررت زروعهم ،ولكن هللا ِّ
منصبا متتابعا ال ينزل دفعة عز وجل جعل املطر
ٌ ًّ ِّ
وإنما ينزل ً
منصبا متتابعا ،وهذه آية عظمىِ . واحدة ،وال ينزل قطرة قطرة،
حبا هو قوتكم دوابكم؛ فنخرج لكم ًّ ﴿ل ُن ْخر َج به َح ًّبا َو َن َب ًاتا﴾؛ لنخرج لكم به قوتكم وقوت ِّ
ِ ِ ِِ
ونباتا هو اْلعشاب التي تأكلها الدوابِ . الذي تقتاتون بهً ،
ً ً َْ َ ً َ َ َّ
ات﴾؛ أي :بساتين ذات أشجار﴿ ،ألفافا﴾؛ أي :ملتفة متقاربة متشابكة اْلغصان، ﴿وجن ٍ
ومع ذلك تجد ِّأنها مختلفة الثمارِ .
ٌ
دالة على وجود هللا سبحانه وتعالى؛ ِّ
فإنها ال يمكن أن وكل هذه اآليات الكونية والحسية
ِّ ُ َ ٌ ً
وجدة محدثة وال يمكن أن تكون قد ُوجدت صدفة بهذا تكون خالقة ْلنفسها؛ فإنها م
ِّ
وبالسبر والتقسيم ال يمكن أن يكون الخالق لها بهذا خالق،
اإلحكام واإلتقان فالبد لها من ٍ
ٌ
واإلحكام إال هللا سبحانه وتعالى ،وهي كما قلنا دالة على ِّأن ربنا سبحانه وتعالى
اإلبداع ِ
القوي املتين؛ الرب املدبر الذي هو على كل ش يء قديرِ .
ٌ فما أعظم هذه اآليات وما أعظم دالالتها على املقصودِّ ،
فإنها دالة على العلم ،ولذلك ال
منكر ذلك على سبيلمنكر وجود هللا وال ربوبيته وال استحقاقه لأللوهية إال وهو ٌ ينكر ٌ
ِّ
االستكبار والجحود الظاهر ،وإال فإنه ال يستطيع أن يدفع عن نفسه هذه الحقائق:
َ َ
﴿و َج َحدوا ِبها َواست َيق َنتها أ ُنف ُس ُهم﴾ [النملِ .]١٤ :
َ
وكان حق هؤالء املشركين أن يعلموا وهم في الدنيا وجود هللا وربوبية هللا وألوهية هللا،
وسلم ،وصدق ما جاء في القرآن ،ولكن هللا ِّ ِّ ِّ
عز وجل يهدي وصدق رسول هللا صلى هللا عليه
من يشاء بفضله ،ويضل الظاملين بعدله سبحانه وتعالىِ .
ِ
5
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً
قال اإلمام عبد الرحمن السعدي رحمه هللا تعالى رحمة واسعة ورض ي عنه وعن شيخنا
وعن السامعين:
أي :عن أي ش ٍيء يتساءل اْلكذبون بآيات هللا.
ثم أدغمت النون في امليم وحذفت اْللف "ألف -ما"ِللداللة على ﴿ع َّم﴾؛ أصلها :عن ماِّ ، َ
ِّ ٌ ٌ
موجه إلى النبي صلى هللا عليه سؤال اإلستفهام فصارت عم ،ومعناها :عن أي ش يء ،وهذا
ِّ
وسلم وإلى املؤمنين به ً
تعجيب من حال أولئك املشركين؛ حيثٍ سؤال وهو له، ا تبع
ً
اعتقادا جاز ًما، يؤمن به وأن ُيعتقد
يتساءلون عما ال ينبغي أن ُيتساءل عنه؛ بل ينبغي أن َ
تعجيب من حالهمِ .
ٍ فهذا سؤال
َ َّ َ َ َ َ
ساءلون﴾؛ أي :يتساءل مشركوا قريش ،ويلحق بهم كل من كان مثلهم إلى يوم ﴿عم يت
ٌ ِّ
داخل في هذه اآليات وما فيها من اْلخبار القيامة ممن ينكروا هذه الحقائق العظيمة فإنه
والوعيد والتهديدِ .
ِ
َْ ُ َ َّ َّ ْ
﴿ع ِن الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم ( )٢ال ِذي ُه ْم ِف ِيه ُمخت ِلفون﴾؛
قال :ثم بين ما يتساءلون عنه فقالَ :
أي :عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم وانتشر فيه خَّلفهم على وجه التكذيب
واإلستبعاد ،وهو النبأ الذي ال يقبل الشك وال يدخله الريب؛ ولكن اْلكذبون بلقاء ربهم
ال يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب اْلليم.
ِ
َْ ُ َ َّ َّ ْ
﴿ع ِن الن َب ِإ ال َع ِظ ِيم ( )٢ال ِذي ُه ْم ِف ِيه ُمخت ِلفون﴾
َ
6
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وما هو هذا النبأ؟ قال بعض أهل العلم :هو القرآن ،وقال بعض أهل العلم :هو البعث وما
ِّ ِّ
بعده من جز ٍاء وحساب ،وقال بعض أهل العلم :هو نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم،
والذي يظهرِوهللا أعلم ِّأن هذا من باب اختالف التنوع ال من باب اختالف التضاد فكلها
ِّ ِّ ٌ
داخلة في النبإ العظيم ِّ
وإنها وهللا لنبأ عظيم؛ نبوة محمد صلى هللا عليه وسلم والقرآن وما
فيه من أخبار وال سيما أخبار الغيب وما يكون بعد املوتِ .
ِ
َ َ ُ َ َّ َ َ َ َّ
قال رحمه هللا :ولهذا قال﴿ :كَّل َس َي ْعل ُمون ( )٤ث َّم كَّل َس َي ْعل ُمون﴾؛ أي :سيعلمون إذا
نزل بهم العذاب ما كانو به يكذبون حين يدعون إلى نار جهنم دعا ويقال لهم هذه النار
التي كنتم بها تكذبون.
ِ
َ ِّ
وتكذيب لدعواهم .كلمة فصل يفصل بها ما بعدها عما ٍ دعرو
ٍ ٍ جر زو فصل
ٍ كلمة : ال (كَّل) ،ك
تكذيب لدعواهم ِّأنهم ال يعلمون ،
ٍ وتكذيب لدعواهم؛
ٍ دع عنه،قبلها ،وزجر عن القول ،ور ٍ
يقولِ :نحن ال نعلم ما تقول ِّ
فإنهم يعلم ِون الحقيقة وقد جاءتهم اآليات؛ اآليات املتلوة
ٌ
وتكذيب لهم تكذيب لهم في قولهم ِّإنهم ال يعلمون،
ٌ واآليات الكونية واآليات النفسية ،فهذا
ِّ ِّ
في تقوالتهم وتخرصاتهم عن النبي صلى هللا عليه وسلم وعن القرآنِ .
ُ َ َ َ
﴿كَّل َس َيعلمون﴾؛ وأكد الخبر بالسين سيعلمون علم اليقين ِوذلك عندما يموتونِِوهم ال
ينكرون املوت؛ فسيعلمون ما يكون وراء املوت علم اليقين ولن ينفعهم ذلك العلم سوى
ً
أن يكون حسرة عليهم فيتمنى أحدهم أن يعود ُليؤمن ،وهيهات هيهاتِ .
َ َ ُ َ
﴿ث َّم كَّل َس َيعلمون﴾؛ هنا إشكال من حيث اللغة ِّأن الجملة الثانية ال تصلح أن تكون
ً
لغة؛ ِّ ً
ْلن التوكيد اللغوي ال يجوز أن ُيدخل بين الجملتين حرف مؤكدة للجملة اْلولى
ِ
ً َ َ َ ِّ
توكيدا لغوي تكون اآلية العطف وهنا أدخل حرف العطف ﴿كال َس َيعلمون﴾؛ لو كانت
َ َ َ َ َ ِّ َ ِّ
﴿كال َس َيعلمون كال َس َيعلمون﴾؛ لكن أدخل حرف العطف هنا ،فقال بعض أهل العلم:
ٌ
أسلوب مستعمل تقول وثم جيء بها ملزيد التأكيد ،وهذا توكيد معنوي وليس ً
لغويا؛ ِّ ٌ هذا
ثم وبالجملةِ ِ. ثم سأضربكُ ،
فتأكد بحرف العطف ِّ البنك :سأضربك ِّ
7
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
8
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الرب وهو املستحق لأللوهية لو لم تروا إال هذه اآلية وهي آية اْلرض كيف ِّأن هللا مهدها
ً ِّ ً
لكم وسخرها لكم لكفاكم ذلك داللة على صدق محمد صلى هللا عليه وسلمِ .
ِ
بال َأ ً
وتادا﴾؛ تمسك اْلرض لئَّل تضطرب بكم وتميد. َ
﴿والج َ
ِ
ِ
تميد :يعني تميل حتى ال تضطرب فال تكون مستقرة فال تستطيعون العيش عليها ،وإذا
وقت يسير تضطرب فيهالناس وقت الزلزال ،وهو ٌ أ دت أن تعرف هذا فانظر إلى حال ِّ
ر
عز وجل ،وهو ةاية تدلك على عظم ِّنعم هللا ِّ
عز وجل عليك في اْلرض بأن اْلرض بأمر هللا ِّ
ِ
جعل الجبال أوتاد لألرض حتى تستقر وال تضطرب وال تميل بك ،ومهما ُحملت من أثقال
ِّ
فإنها ال تميد وال تميل ،وال تنخفض وترتفع وال تضطربِ .
ِ
ٓ ً ً ً َ ََ ُ َ
جنس واحد ليسكن كل منهما إلى االخر
ٍ ﴿وخلقناكم أزواجا﴾؛ أي :ذكورا وإناثا من
فتتكون اْلودة والرحمة ،وتنشأ عنهما الذرية ،وفي ضمن هذا االمتنان بلذة اْلنكح.
ِ
هذا من جهة اْلزواج في بني ةادم ،وهذه من ةايات هللا العظيمة أن جعل ِّ
منا الذكر واْلنثى،
ُ ً
جميعا نخرج من اْلرحام ،ونخلق من ماء الرجل وبويضة املرأة ومع ذلك تأتي هذه ونحن
أنثى ويأتي ذاك ذكر ،وجعل لهذا من الصفات ما يناسبه ولهذا من الصفات ما يناسبه،
ً
وجعل عند هذا ما يحتاجه هذا وجعل عند هذا ما يحتاجه هذا ،وجعل بينهما مودة
ً
لذة ومنفعة؛ فجعل الشهوة في الفطرة َّ
وهذبها بما يليق ورحمة ،وجعل لهما في النكاح
بطريق يليق بمقام اإلنسان؛ فلم يجعل التزاوج في بني
ٍ بمقام اإلنسان؛ فجعلها ال تكون إال
ِّ ة ٌ
نعمة عظمى من هللا ِّ ة
عز وجل على بني ادم ،وأشرت إلى أنه ادم كما بين الحيوانات وتلك
9
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
ِ
ً ً ً َ َ َ َ َ ُ
وقطعا ْلشغالكم التي متى تمادت بكم أضرت ومكم ُسباتا﴾؛ أي :راحة لكم ﴿وجعلنا ن
بأبدانكم.
ِ
َ َ َ َ َ ُ ُ ً
باتا﴾؛ قال بعض أهل العلمُ :س ً
باتا أي :من السكون تسكنون فيه، ﴿وجعلنا نومكم س
وهذا يؤدي إلى الراحةِ .
وقال بعض أهل العلمً :
سباتا من التمدد ،وذلك ِّأن اإلنسان إذا نام يتمدد فيرتاح وترتاح
أعضائه بهذا التمدد ،ولذلك يدرك اإلنسان ِّأن مده ْلعضائه يريحه؛ ولذلك تجد اإلنسان
إذا تعب يمد أعضائه هذا جزء من احة النوم ،قال بعض أهل العلمً :
سباتا أي :من ر
التمددِ .
ِّ وقال بعض أهل العلمً :
سباتا من القطع أي :أنه يقطعكم عن أشغالكم التي لو استمرت
ً
ْلتعبتكم ،فينقطع هذا بالنوم فيقوم اإلنسان نشيطا ،قال بعض أهل العلم :النوم يقطع
اإلنسان عما يضره ومن ذلك تعب البدن ،ومن ذلك تعب الفكر؛ اإلنسان قد تنزل به
كثيرا ويتعب ،يأتي النوم يهجم عليه فيرتاح ،وكل هذه الثالثة تدل على ِّأن في
مصيبة فيفكر ً
ً
النوم راحة أعني السكون والتمدد والقطع؛ تدل على ًأن في النوم ر ِ
احةِ .
ِ
قال رحمه هللا:
فجعل هللا الليل والنوم يغش ى الناس لتسكن حركاتهم الضارة وتحصل راحتهم النافعة.
ِ
10
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِّ َ َ َ ْ َ َّ
اسا﴾؛ أي :أنه يغشاكم ويغش ى اْلرض ،وسبحان هللا لو كنتالل ْي َل ل َب ً
ِ طبعا ِّبينا﴿ :وجعلنا
ً
ِّ
في الطائرة وقت بداية الليل ترى كيف ِّأن الظالم يغش ى اْلرض كأنه سحابِ .
والنوم لباس لكم أي :يستركم؛ يغشاكم ويستركم ،ولذلك هو وقت الراحة ووقت التخفف
من الثياب ونحو ذلكِ .
ً ﴿و َج َع ْل َنا َّ
الن َه َار َم َعاشا﴾؛ كما قلنا جعلنا النهار وقت املعاش ،فوقت معاشكم هو في النهار َ
للسقف البناء؛ تقول لسقف البيت البناء؛ فخاطبهم بما يعرفونِ .
َ َ َ َ َُ
﴿و َبن ْينا ف ْوقك ْم﴾؛ أي :سقفنا ما فوقكم وجعلناه سقفا ،وهي هذه السموات السبع
مدا ،بنيت بغير عمد نراهاِ . فطورا وال ُع ً
ً عوجا وال ً
أمتا وال الشديدة الصلبة التي ال ترى فيها ً
ً
عمد أصال ،وبعض أهل العلم قالِّ :أنها ُبنيت بغير ِّ
بعض أهل العلم قال :أنها ُبنيت بغير ٍ
عمد نراها ،وقد يكون لها لكن ال نرى ذلك ،وعلى كل حال فهي آية عجيبة في غاية ٍ
اإلعجازِ .
11
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
﴿و َّه ً
اجا﴾ أي :متألْل حا ًرا فيه الدفئ وفيه منيراَ ، كما قلنا صيرنا الشمس ﴿س َر ً
اجا﴾ أيً : ِ
املنافع العظمى ْلهل اْلرض ِ ِ.
ِِ
كثيرا ً
جدا. اجا﴾؛ أيً : ﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاْلُ ْعص َرات﴾؛ أي :السحابَ ،
﴿م ًاء َث َّج ً َ
ِ ِ
ِ
﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاْلُ ْعص َرات﴾؛ بعض أهل العلم قال :املعصرات هي :الرياح ِّ
ْلنها هي التي تعصر َ
ِ ِ
السحاب بأمر هللاِ .
ماء فاستحلبت؛ يعني مثل وبعض أهل العلم قال :املعصرات هي :السحب التي امتألت ً
ِّ ثدي املرأة إذا امتأل ً
لبنا فاستحلب وملا يخرج يعني بمجرد أن يطلبه الصبي ينساب فهي
اس َت ْح َل َب ْت وملِّا َينز ْل ُ
ماءهاِ . ماء َف ْ
الس ُح ْب ،املعصرات هي السحب التي امتألت ً ليست مجرد ُ
ماء ً
ماء﴾ السَّ ن ﴿و َأ َنزلنا م َ ِّ
ْلنه جاء َ وقال بعض أهل العلم :املعصرات هي ِّ
السماء
ِ ِ
[املؤمنونِِ .]١٨ :
ً كثير من املفسرين ِّأنها السحب ِّ َور َّج َح ٌ
ْلنها هي التي ينزل منها املاء حقيقة ،وهللا قال:
ََ
﴿وأ َنزلنا ِم َن﴾؛ ما قال :وأنزلنا باملعصرات ،لو قال :وأنزلنا باملعصرات لكان املراد الرياح،
والسماء إذا أطلقت السماء ويحتمل السحبِّ ، ﴿و َأ َنزْل َنا م َن ْاملُ ْعص َرات﴾؛ فيحتمل ِّ
لكن قالَ :
ِ ِ
في هذا املقام فالحقيقة املراد بها السحب التي في ِّ
السماءِ ِ.
جدا ،وهذا قاله بعض املفسرين؛ لكن في الحقيقة ال كثيرا ًاجا﴾؛ قال شيخنا :أيً : ﴿م ٓا ًء َث َّج َ َ
ِّ َّ
الث َج ْ
اج يطلق على الكثير وإنما الثجاج هو املنصب يشهد له شاهد في اللغة العرب أن
ٌ ِّ ُ ُ ً ِّ
صبا وأنه يتتابع ،وكما قلنا هذه آية عظيمة املتتابع ،فهو يتصف بهاتين الصفتين أنه يصب
ِّ ْ ً ً ً
فإن املطر ال ينزل دفعة واحدة على اْلرض ،وال ينزل قطرة قطرة بحيث ال ُين َت َف ُع به ،وإنما ِّ
أحكم هللا وما أر َ
حم هللا َ ُ
ويتحقق نفعه فال إله إال هللا ما ُ
فيندفع ضرره ً
متتابعا ينصب ًِ
صبا
سبحانه وتعالىِ .
ِ
12
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً ُ
وشعير وذر ٍة و أر ٍز وغير ذلك مما يأكله اآلدميون ،ونباتا يشمل سائر
ٍ حبا من ُب ٍر
لنخرج به ً
ً
النبات الذي جعله هللا قوتا ْلواشيهم.
ِ
ات به فتكفل هللا لبني آدم بأرزاقهم وأرزاق دوابهم فيخرج باملطر ما يقتاتون بهِ وما تقت ُ
13
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ملا ذكر هللا عز وجل اآليات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ،وعلى ربوبيته ،وعلى ألوهيته،
وعلى أنه القوي املتين الذي على كل ش يء قدير ،وهي آيات دالة على أنه سبحانه وتعالى قد
خلق الحياة الدنيا ِّ
ودبرها وأحكمها ِ
كان ذلك دليال على أن هللا عز وجل قادر على أن ينش ئ الحياة اْلخرى كما أنشأ الحياة
﴿إ َّن َي ْو َم صل َك َ
ان م َيق ًاتا﴾ وأكد ذلك بإ َّ
ن اْل ِولى ولذلك قال هللا عز وجل ﴿إ َّن َي ْو َم ْال َف ْ
ِ ِ ِ ِ ِ
ان ِم َيق ًاتا﴾ الذي يفصل فيه هللا عز وجل بين الحق والباطل ،وبين أهل اإليمان صل َك ََْ ْ
الف ِ
وأهل الكفران ،وبين اْلشقياء والسعداءِ .
14
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
إن ذلكم اليوم كان ميقاتا ،له وقت معلوم ،ال يتقدم عنه وال يتأخر وال يعلمه إال هللا عز
وجل ،ومتى يكون هذا اليوم ،يكون يوم ينفخ صاحب الصور امللك ،وهو عند العلماء
إسرافيل ،وقد حكى بعض العلماء اإلجماع على ذلكِ .
يأت مصرحا باسمه في النصوص ،وإنما الذي جاء في الحديث أنه صاحب الصور لكن
ولم ِ
املشهور عند العلماء أنه هو إسرافيل عليه السالم ينفخ في الصور ،والصور قرن يشبه
البوق ،وصاحب الصور قد التقم الصور ينتظر أن يؤمر بالنفخ ،وهو قائم ينظر ناحية
العرش ،يخش ى أن يؤمر بالنفخ قبل أن يرتد إليه طرفه ،فهو مستعد للنفخ في الصور،
وينفخ في الصور نفختين عند أكثر أهل العلم ،ينفخ نفخة بأمر هللا ،إذا شاء هللا عز وجل
أن يميت الخالئقِ .
ً
يأمره بالنفخ فينفخ في الصور نفخة تصعق لها املخلوقات ،وتموت املخلوقات إال من شاء
يأت تحديدها ،هل هي أربعون هللا سبحانه وتعالى ،ثم يمكث الناس في قبورهم أربعين ولم ِ
سحابا فأمطرت فينبت ً سنة أو أربعون ً
شهرا أو أربعون يوما ،ثم إذا شاء هللا عز وجل أمر
الناس في قبورهم من َع ْج ِب أذنابهم ،فيأمر هللا صاحب الصور أن ينفخ النفخة الثانية،
فينفخ نفخة فيخرج الناس من قبورهم إلى املحشر ،وهذه النفخة -أعني الثانية -هي املرادة
فواجا﴾ تأتون جماعات ،جماعات، ﴿ف َتأتو َن َأ ً
َ
ور﴾ نفخة البعث، الص ي ف
َ َ ُ َ ُ
ِ هنا؛ ﴿يوم ينف ِ
خ
ال تأتون دفعة واحدة ،بل تأتي كل جماعة مع إمامها ،وكل أمة مع نبيهاِ .
بوابا﴾ :فتتشقق السماء في ذلك اليوم ملا فيه من أهوال، كانت َأ ً
َّ ُ َ َ َُ
﴿وف ِت َح ِت السماء ف
ق تنزل منها املالئكة ،وتشقق فتكون تلك الشقوق والصدوع في السماء كاْلبواب والطر ِ
السماء بالغمام وهو السحاب اْلبيض البارد ،فينزل ربنا سبحانه وتعالى مع الغمام واملالئكة
ليفصل بين الخالئق في ذلك اليومِ .
ُ َ َ
كانت َس ً َ ُ َ
رابا﴾ :تلكم الجبال الشامخة ذات اْلحجار الصلبة يدكها هللا الجبال ف﴿وس ِير ِت ِ
ً
عز وجل دكة واحدة ،فتكون كالصوف املنفوش ،ثم تصبح كالهباء؛ أي تصبح أشياء دقيقة
تحملها الرياحِ .
وإذا أردت أن تعرف ما هو الهباء فافتح النافذة إذا خرجت الشمس ،سترى أشياء دقيقة
15
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
صل َك َ
ان ِم َيق ًاتا﴾ وسمي يوم الفصل؛ بهذا ْلنه ُيفصل فيه في قوله سبحانه﴿ :إ َّن َي ْو َم ْال َِف ْ
ِ ِ
بين الحق والباطل وبين أهل اإليمان وأهل الكفران ،وبين أصحاب الحقوق حتى الدواب،
يفصل بينها في الحقوق في ذلك اليوم ،ويفصل فيه الشقي عن السعيد ،فتبيض وجوه
وتسود وجوهِ .
َ ً
﴿ميقاتا﴾ :قال بعض أهل العلم :معنى ميقاتا؛ أي أنه مؤقت بوقت ال يتقدم وال يتأخر وال ِ
يعلمه إال هللا سبحانه وتعالىِ .
وقال بعض أهل العلم :معناها أنه ميقات للجزاء والحساب ،فهو وقت الجزاء والحسابِ .
وقال بعض أهل العلم :معنى ( ِم َيق ًاتا)؛ أنه الوقت الفاصل الذي تنتهي إليه الدنيا وتبدأ به
اآلخرة فهو كالحد الفاصلِ .
فمعنى ( ِم َيق ًاتا)؛ أنه وقت فاصل تنتهي إليه الدنيا ،وتبدأ به اآلخرة ،وكل هذا من اختالف
التنوع كله داخل في معنى الكلمة وهذا من إعجاز القرآن أن الكلمة الواحدة تحمل معاني
متعددة ِ .
قال :وأن هللا جعله ميقاتا للخلق ُينفخ في الصور فيأتون أفواجا.
16
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َْ َ ُ َ
نف ُخ في ُّ
ور﴾ :أي ينفخ امللك في الصور بأمر هللا ،النفخة
ِ الص في قول هللا عز وجل ﴿يوم ي ِ
الثانية وهي نفخة البعثِ .
قال :ويجري فيه من الزعازع والقَّلقل ما يشيب له اْلولود.
﴿ف َتأتو َن َأ ً
فواجا﴾ أفواجا كما قلنا يا إخوة؛ جماعات ،جماعات ،ال يأتون دفعة واحدة،
َ
فإنهم يخرجون من قبورهم التى انتثرت في اْلرض وتخرج كل جماعة تأتي مع إمامها وكل
أمة لها نبي تأتي مع نبيها فيأتون جماعات جماعاتِ .
قال :ويجري فيه من الزعازع والقَّلقل ما يشيب له اْلولود وتنزعج له القلوب فتسير
الجمال حتى تكون كالهباء اْلبثوث وتنشق السماء حتى تكون أبوابا.
َّ ُ َ َ َ ُ
كما قال هللا عز وجلَ ﴿ :وف ِت َح ِت السماء فكانت أبوابا﴾ هنا قال بعض املفسرين :هي
ً
أبواب على وجه الحقيقة ،ترى في السماء ،وهي طرق ومسالك املالئكة التي تنزل منهاِ .
وقال بعض املفسرين :بل هي الصدوع والشقوق التي تكون في السماء فيراها الناظر من
ََ
بعيد كأنها أبواب تن َّز ُل منها املالئكة ،وال شك أن السماء ستتشقق شيئا فشيئا ،وتتشقق
أيضا بالغمام كما قلنا ،وينزل ربنا سبحانه وتعالى ليفصل بين الخالئقِ .
قال :ويفصل هللا بين الخَّلئق بحكمه الذي ال يجور وتوقد نار جهنم ..
ُ ُ َ َ
رابا﴾ :كما قلنا معنى ( ُس ِي َر ِت)؛ أنها ت َس ِّير بالريح بعد أن تصبح
كانت َس ً الجبال ف َ ُ َ
﴿وس ِير ِت ِ
هباء ،تحملها الرياح فتسير بها الرياح في ذلك اليوم وتكون كالسراب ال ش يء وال وجود لها، ً
ْلنها قد دكت ،وبست حتى صارت ًِ
هباءِ .
ثم نقرأ اْلقطع الثالث في هذه السورةِ .
َّ َ َ َّ َ َّ َ َ ً َّ َ َّ َ َ َ ْ
اغين َم ًآبا ﴿ ﴾٢٢ال ِب ِثين ِف َيها أ ْحق ًابا ﴿ ﴾٢٣ال ﴿إن ج َهنم كانت ِم ْرصادا ﴿ِ ﴾٢١للط ِ ِ
يما َو َغ َّس ًاقا ﴿َ ﴾٢٥ج َز ًاء و َف ًاقا ﴿ ﴾٢٦إ َّن ُهمْ َ ً َ َ
َي ُذوقون ِفيها ب ْردا وال ش َرابا ﴿ ﴾٢٤إال حم ً
َّ َ ً َ َ َ ُ
ِ ِ ِ ِ
َ ُ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ًَ َّ َ َ َّ َ َ ُ َ
كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا ﴿َ ﴾٢٧وكذ ُبوا ِب َآيا ِتنا ِكذ ًابا ﴿ ﴾٢٨وكل ش ي ٍء أحصيناه ِكتابا
َ ُ ُ َ َ َّ ُ َّ َ
﴿ ﴾٢٩فذوقوا فلن ن ِز َيدك ْم ِإال َعذ ًابا ﴿[ ﴾﴾٣٠النبأ]٣٠-٢١ :
17
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ملا تقدم ِّأن هللا عز وجل يفصل بين الخالئق في ذلك اليوم ،ويفصل بين اْلشقياء
ْلن الحديث معهم من أول السورة َ
﴿ع َّم والسعداء ،بدأ هللا عز وجل ببيان حال اْلشقياء؛ ِّ
ََ َ َ
ساءلون﴾ فكان الحديث عنهم؛ عن أولئك اْلشقياء ،فبدأ هللا عز وجل ببيان حالهم في يت
اآلخرةِ .
رصادا﴾ِّ :إن ِّ
كانت م ً َّ َ َ َّ َ َ
النار التي هي عذاب هللا عز وجل كانت مرصادا ،تترصد ِ ﴿ ِإن جهنم
ناج، ٌّ َ َ
ْلهلها ،وترقب أهلها ،والبد أن ي ِردها الناس جميعا فيمرون عليها ،فمار على الصراط ٍ
ٌ ٌ
مكردس فيها هالك -والعياذ باهللِ - وساقط
ً ً ً َ
﴿ ِللطاغين َم ًآبا﴾ :للمتجاوزين حدود هللا في الدنيا مرجعا ومنزال ومصيرِاِ .
ِّ ً ً ً َ َ
ن
ا ،دهرا بعد دهر ،أما الكفار فإنهم يمكثو فيها دهور البثين فيها أحقابا﴾ :ماكثين فيها ﴿ ِ
انقطاع بينهما وال انتهاء لها، دهر ،بالدهر ،جاء ٌ مر ٌ دهورا ال انقطاع لها ،وال انتهاء لها ،كلما ِّ
ٍ
ُ وأما ُ ِّ
العصاة املوحدون الذين يدخلون النار بذنوبهم فإنهم يمكثون في النار دهرا ،وقليل
ً ُ
منة متفاوتة ،ولكن مهما ِّ
قل النار طويل؛ لشدة عذابها ،فيلبث فيها ُعصاة املوحدين أز
مكثهم فإنه كالدهرالطويل لشدة عذابهاِ .
ً ً ﴿ال َيذوقو َن فيها َب ً
ردا َوال َش ً
رابا﴾ :ال يذوقون بردا طيبا ُيبرد جلودهم من الظاهر ،وال شرابا
عذاب في ظاهر أبدانهم وفي داخل أجوافهمِ . ٍ طيبا ُيبرد أجوافهم ،بل هم في
قرب من الجلدميما﴾ :وهو املاء الذي اشتد حره وبلغ الغاية في الغليان ،إذا ِّ ﴿إال َح ً
ِّ ُ
أسقطه ،وإذا ش ِر َب قطع ما يمر به من الحلوق واْلجواف واْلمعاءِ .
ً َ ً
قرب من الجلود شققها ،وإذا سائال باردا شديد البرودة ،بلغ الزمهرير؛ إذا ِّ ﴿ َوغساقا﴾:
ُ
دخل إلى اْلجواف قطعها ،فال يذوقون إال ما يعذبهم ويزيدهم عذاباِ . أ ِ
زاء﴾ :جز ًاء ْلعمالهم ،وفاقا موافقا لها ال ظلم فيه وال زيادة فيه ،بل السيئة بمثلها ﴿ج ًَ
ٌ
ومطابق ْلعمالهمِ . ٌ
موافق ْلعمالهم وهذا العذاب
ومن أعمالهم التي يستحقون بها هذا العذاب :أنهم كانوا ال يعتقدون بالبعث ،وال يعتقدون
بالحساب والجزاء ،وال باليوم اآلخر وهذا قادهم إلى ترك العمل لذلك اليوم ،وكذبوا بآيات
18
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هللا تكذيبا ،وهذا يدل على العناد واإلصرار واالستمرار فإنهم كلما جاءتهم آية كذبوا بها
استكبارا عن الحق ً
وإباء لقبولهِ .
تابا﴾ :اإلحصاء هو :العد ،وقد تضمن معنى الكتابة ،فكل ش يء حص ُ
يناه ك ً ﴿ َو ُك َّل َش يء َأ َ
ِ ٍ
إحصاء وكتبناه كتابا ،أحصيناه على عامليه ،وكتبناه كتابا قبل أن يعملوه ،وكتاباً أحصيناه
بعد أن عملوه ،أما الكتاب قبل أن يعملوه فهو ما في اللوح املحفوظ ،فإن أعمال بني آدم
كلها مكتوبة في اللوح املحفوظ ،وأما بعد أن عملوه فهو كتابة املالئكة ْلعمالهم ال يضيع
منها ش يء فكل ش يء محص ى في ذلك الكتابِ .
َ َُ ُ
يخاطب الكفار بخاطبين من أشد ما يكون عليهمِ .
ِ ﴿فذوقوا﴾:
ِّ
أما الخطاب اْلو ِل :فإنه يؤتى باملوت على هيئة كبش فيذبح ،ويقال يا أهل النار خلود فال
موت؛ وهذا يتضمن املوتتين املوتة الصغرى وهي النوم فال نوم لهم في النار يرتاحون به،
واملوتة العظمى بخروج الروح فهم خالدون في النار ال يفتر عنهم العذاب وهذا في شأن
الكفار املنكرينِ .
ُ َّ َ ََ ُ ُ
وأما الخطاب الثاني :فإنه يقال لهم (ذوقوا) ما الشأن( ،فلن َّن ِز َيدك ْم ِإال َعذ ًابا) يزاد عليهم
العذاب ،فإن أهل النار والعياذ باهلل ال يألفون العذاب فيخف عنهم وال يخفف عنهم
العذاب ،بل ينوع عليهم العذاب أنواعا وأزواجا وأشكاالِّ ،
وتبدل جلودهم فال يخف عليهم
العذاب باملكث في النار ،بل في كل لحظاتهم في النار كأنهم قد دخلوها أول مرة فيقال لهم:
في َيأسون من املوت ،وييأسون من الخروج ،وييأسون من زيد ُكم إ ِّال َع ً
ذابا﴾ ُ ﴿فذوقوا َف َلن َن َ
َ
ِ
إلف العذاب ،وييأسون من تخفيف العذاب ،ولذلك قال جمع من السلف وروي مرفوعا:
زيد ُكم إ ِّال َع ً
ذابا﴾ِ . ﴿فذوقوا َف َلن َن َ
َ
أنه ما نزل بأهل النار من الكفار أشد من هذه اآلية
ِ
ونقرأ ما ذكره الشيخ ونعلق عليه ِ .
قال رحمه هللا :وتوقد نار جهنم التي أرصدها هللا وأعدها للطاغين ،وجعلها مثوى لهم
ً
ومآبا.
َّ
﴿ ِإ َّن َج َهن َم﴾ :جنهم اسم من أسماء النار ،وقد قال بعض أهل العلمِّ :إنها سميت جهنم
لبعد قعرها فهي بعيدة القعر فسميت جهنمِ .
19
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِّ
واملعرب في القرآن هو الذي يكون أصله وقال بعض أهل العلم :هذا من ِّ
املعرب في القرآن،
معرًبا فقال بعض أهل ًّ
أعجميا ثم يستعمل عند العرب أو يستعمل في القرآن فيصبح ِّ
العلم :إن هذا االسم من ِّ
املعرب في القرآنِ .
َّ َ َ َّ َ َ
كانت م ً
رصادا﴾ ِ ِ ﴿ ِإن جهنم
ص ًادا) أنها مترصدة أهلهاِ . قال بعض أهل العلم( :م ْر َ
ِ
مكان لحبس املجرمين ،املرصاد :هو الحبس ،فهيص ًادا) أي أنها ٌ وقال بعض املفسرين( :م ْر َ
ِ
مكان لحبس املجرمينِ .
مرعليه فمن الناس من يمرعلى ً
وطريقا البد أن ُي ِّ ص ًادا) أي ًّ
ممرا وقال بعض املفسرين( :م ْر َ
ِ
الصراط فينجو ،ويمر املؤمنون على قدر أعمالهم ،ومن الناس من تخطفه الكالليب
فيكردس في النار والعياذ باهللِ .
َ
﴿ ِللطاغين﴾ :الطاغي يا إخوة هو :املتجاوز الحد ،يقال :طغى أي تجاوز الحد ،فيقال
للشخص إنك قد طغوت أو طغيت في الظلم ،فتجاوز َت ،لم تظلم فقط ،بل تجاوزت
ِّ
الحدود ،واملقصود بالطاغين هنا :من تجاوزوا حدود هللا ،فلله حدود من عظمها ووقف
َّ
عندها كان من املفلحين ،ومن تجاوزها كان من الطاغينِ .
َّ َ ﴿إ َّن َج َه َّن َم َك َان ْت م ْر َ
ص ً
اغين َم ًآبا ﴿ :﴾﴾٢٢املآب هو املرجع واملصير واملنزل،لط
ِ ِ ل ﴾ ٢١ ﴿ ااد ِ ِ
وهذا وعيد لكل طاغ ،أما من طغى بالكفر :فإن مآله ً
يقينا إلى النار ،وقد يتمتع بالدنيا ٍ
شيئا ،لكن مصيره ومآله ومآبه إلى النار ،وأما من طغى وتجاوز الحد من املوحدين فهو ً
َّ
متوعد والعياذ باهلل بأن يكون من أهل النار ،هذا معنى للطاغين مآباِ .
ْ ً
والحقب على ما قاله كثير من اْلفسرين قال رحمه هللا :وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرةِ ،
ثمانون سنة.
والح ْقب بإسكان القاف قيل ثمانون
والح ُقب هو الدهر الطويلُ ،
اْلحقاب :جمع ُح ُقبُ ،
سنة ،وقيل سبعون سنة ،وقيل ثالثون سنة وقيل أكثر من ذلك ،واملقصود أنهم يمكثون في
ً ً النار إن كانوا ِّ
كفا ًرا أزمنة متتابعة ال انقطاع لها وال انتهاء ،وإن كانوا من املوحدين فإنهم
يمكثون فيها أزمنة ويتفاوتون في ذلك ولكن قليل النار طويل ،إذا كانت الغمسة في النار
20
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
تنس ي صاحبها نعيم الدنيا ،فكيف بدخول النار والعياذ باهلل ،وإذا كان أقل الناس ً
عذابا
ً
رجال في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ،هو في ضحضاح من النارِ ،وفي أخمص
قدميه جمرتان ،من هاتين الجمرتين ،يغلي دماغه فكيف بمن يدخل النار والعياذ باهلل ال
ً
شك أن قليل النار ،زمن طويل عياذا باهلل من عذاب ،هللا نعوذ باهلل من جهنم ِ .
حقابا﴾ ،أنهم يجدد لهم العذاب كل ثين فيها َأ ً
أحقابا﴿ ،الب َ
ً وقال بعض أهل العلم :معنى
ِ
أحقابا ً
دهورا بعد دهور ال انقطاع لها وال ً زمن ،وال مانع من املعنيين ،فهم البثون في جهنم
انتهاء إن كانوا كفا ًرا ،ويجدد لهم العذاب في كل دهر من هذه الدهور ،ف ِال يألفون العذاب
والعياذ باهلل وإنما يجدد لهمِ .
ِ
قال رحمه هللا :والحقب على ما قاله كثير من اْلفسرين ثمانون سنة ،وهم إذا وردوها
َ َ َ ُ ُ َ
﴿ال َيذوقون ِف َيها َب ْر ًدا َوال ش َر ًابا﴾ أي :ال ما يبرد جلودهم ،وال ما يدفع ظمأهم.
طيبا يبرد أجوافهم من نافعا يبرد جلودهم من الظاهر ،وال شر ًابا ً بردا ً أي :ال يجدون فيها ً
الداخل هذا معنى كالم الشيخ ،وقال بعض املفسرين﴿ :ال َيذوقو َن فيها َب ً
ردا﴾ أي ال
َ ً َ ً
ميما َوغساقا﴾ قال نوما يرتاحون فيه من العذاب ،واالستثناء هنا ﴿ ِإال ح يذوقون فيها ً
ْلن املستثنى هنا ليس من جنس ما طلبوه، بعض أهل العلم :هو منقطع ،استثناء منقطعِ ِّ ،
بردا وشر ًابا فيعطون ما لم يطلبوهِ . هم يطلبون ً
َّ ُ ُ َ ٌ
ونشر غير مرتب ﴿ال َيذوقون ِف َيها ٌ متصل وفيه لف ٌ وقال بعض أهل العلم :االستثناء هنا
َ ً َّ َ َ
حميما هنا مستثنى من الشراب، ً َب ْر ًدا َوال ش َر ًابا ﴿ِ ﴾٢٤إال َح ِم ًيما َوغ َّساقا ﴿،﴾﴾٢٥
والشراب في اآلية اْلولى كان الثانيِ ،وفي اآلية التي فيها االستثناء :املستثنى منه هو اْلول
ً ولذلك هذا غير مرتب ،والغساق مستثنى من البرد ،يعني ال يذوقون ً
بردا إال غساقا ،فهذا
استثناء متصل على هذا القول وفيه لف ونشر غير مرتبِ .
ِ
21
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يما﴾ أي :ماء حارا ،يشوي وجوههم ،ويقطع أمعاءهم، قال رحمه هللا﴿ :إ َّال َحم ً
ِ ِ
َ َ ً
﴿وغ َّساقا﴾ وهو :صديد أهل النار الذي هو في غاية النتن وكراهة اْلذاق.
ُ
فكان الجزاء موافقا للعمل ليس فيه ظ ٌِ
لم.
22
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ُ َ
﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾
ولهذا ذكر أعمالهم ،التي استحقوا بها هذا الجزاء ،فقالِ :
أي :ال يؤمنون بالبعث ،وال أن هللا يجازي الخلق بالخير والشر ،فلذلك أهملوا العمل
لآلخرة.
َ َ ُ َ
﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ :قال بعض أهل العلم- :كما قال الشيخ -إنهم كانوا ال ِ
يعتقدون بالبعث والجزاء والحساب وهذا قادهم إلى إهمال اْلعمالِ .
َ َ ُ َ
﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ أنهم كانوا ال يرجون الثواب يوموقال بعض املفسرين :معنى ِ
ثوابا ،وملاذا قال بعض القيامة ،طبعا يا إخوة ْلنهم ُينكرون البعث فما كانوا يرجون ً
َ َ ُ َ ِّ
﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾
املفسرين هذا؟ ْلن الرجاء هو انتظار النافع ،فلما قال هللاِ :
ثوابا ْلن الثواب هو النافع ،وقال بعض املفسرين :معنى اآلية؛ قالوا :إنهم كانوا ال يرجون ً
إنهم كانوا ال يخافون الحساب ،يا إخوة املعروف أن الرجاء هو انتظار النافع فكيف يفسر
َ َ
قول هللا عز وجل ﴿ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ بأنهم ال يخافون الحساب؟ والخوف ليس انتظار
ُْ
النافع ،وإنما الخوف الخوف من املؤلم الضار ،قال العلماء :الرجاء إذا أث ِب َت فهو انتظار
َ َ ُ َ
﴿إ َّن ُه ْم كانوا ال َي ْر ُجون ِح َس ًابا﴾ ِال
النافع إذا أثبت ،وإذا نفي انعكس معناه فعندما قال هللاِ :
يرجو ِن :نفي الرجاء فأصبح بمعنى الخوف من املؤلم الضار ،فكانوا ال يخافون حساباِ .
َ َّ َ َ َّ
﴿وكذ ُبوا ِب َآيا ِتنا ِكذ ًابا﴾ أي :كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا ،وجاءتهم البينات
فعاندوها.
ً
وهذه اآلية تدل على استمرار تكذيبهم و﴿ ِكذ ًابا﴾ معناها تكذيبا ،فهم لم يكذبوا مرة
ِّ
واحدة ،وإنما كلما جاءتهم آية كذبوا بها ،ف ِكذ ًابا :يدل على وقوع التكذيب املستمر منهمِ .
ِ
َ ْ َ َ َ َُ َ
ص ْين ُاه ِكت ًابا﴾ أي :كتبناه في اللوح ﴿وك ُّل ش ْي ٍء﴾ من قليل وكثير ،وخير وشر ﴿أح
اْلحفوظ ،فَّل يحسب اْلجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها ،وال يحسبوا أنه يضيع
َُ َ ْ َ ُ ََ ْ
اب فت َرى من أعمالهم ش يء ،أو ُينس ى منها مثقال ذرة ،كما قال تعالى﴿ :وو ِضع ال ِكت
َ َ ُ ُ َن َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ ُ َ ً َ َ ً
ص ِغ َيرة َوال ك ِب َيرة اب ال يغ ِادر ت ك
ِ ال اذه ال م ان ت ليو اي وولق يو يه
ِ ف
ِ امْاْلُ ْجرم َين ُم ْش ِف ِق َين م َّ
ِ ِ ِ ِِ
23
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ْ َّ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ
اض ًرا َوال َيظ ِل ُم َرُّب َك أ َح ًدا﴾.
ِإال أحصاها ووجدوا ما ع ِملوا ح ِ
وانتبه هنا فالشيخ هنا يشير إلى ما ذكرناه ِّأن أعمالهم مكتوبة في كتابين ،مكتوبة في كتاب
قبل أن يعملوها ،بل قبل أن يخلقوا وذلك في اللوح املحفوظ ،ومكتوبة في كتاب عند
عملهم لها ،تكتبها املالئكة في ذلك الكتاب الذي يوضع يوم القيامة ،ويؤتى كل إنسان يوم
القيامة كتابه ،فمن الناس من يعطى كتابه بيمينه ،ومن الناس من يعطى كتابه بشماله
من وراء ظهره ،فيجتمع عليه اْلمران يعطى كتابه بشماله من وراء ظهره ويجد في كتابه ما
عمل محضرا ال يغيب منه ش يءِ .
َ َ َ ُ َّ َ َُ ُ
﴿فذوقوا﴾ أيها اْلكذبون هذا العذاب اْلليم والخزي الدائم ﴿فل ْن ن ِز َيدك ْم ِإال َعذ ًابا﴾
فكل وقت وحين يزداد عذابهم ،وهذه اآلية أشد اآليات في شدة عذاب أهل النار أجارنا
هللا منها.
َ
﴿فذوقوا﴾ أصل الذوق يا إخوة ،هو الطعام والشراب ،ثم يطلق توسعا على كل ما ُي َحس،
كل ما يكون بالحواس ،فيقال للكفار املكذبين في النار ،ذوقوا ألوان العذاب بجميع
فيذاق ،فكل العذاب في النار حواسكم ،وحتى العذاب املعنوي في النار ،يكون كاملحسوسُ ،
والعياذ باهلل يذوقه أهل النار بحواسهمِ .
﴿ف َلن َن َ
زيد ُكم إال َع ً َ
ذابا﴾ فلن يخفف عنكم العذاب ،ولن ينقطع عنكم العذاب لحظة، ِ
ُ
وإنما أنتم في زيادة العذاب يعني في تجدده وتنوعه ،وأن جلودكم كلما نضجت ،بدلت ،فال
يخفف عنكم العذاب ،وال إلفة لكم للعذاب ،وهذا يجعل عذابهم قائما دائما ،والعياذ
باهللِ .
-تفسير اْلقطع اْلخير من السورة-
ِ
ً َْ َْ ﴿إ َّن ل ْل ُم َّتق َين َم َفا ًزا ﴿َ ﴾٣١ح َدائ َق َو َأ ْع َن ًابا ﴿َ ﴾٣٢و َك َ
اع َب أت َر ًابا ﴿َ ﴾٣٣وكأ ًسا ِد َهاقا ِ و ِ ِ ِ ِ
َ َ ْ َ َّ َ َّ
﴿ ﴾٣٤ال َي ْس َم ُعون ِف َيها لغ ًوا َوال ِكذ ًابا ﴿َ ﴾٣٥ج َز ًاء ِمن َّرِب َك َعط ًاء ِح َس ًابا ﴿َّ ﴾٣٦ر ِب
الر ُ وم ُّالر ْح َمٰـن ۖ َال َي ْمل ُكو َن م ْن ُه خ َط ًابا ﴿َ ﴾٣٧ي ْو َم َي ُق ُ اْل ْرض َو َما َب ْي َن ُه َما َّ َّ َ َ َ ْ َ
وح ِ ِ ِ ِ ات و ِ السماو ِ
ْ ْ َٰ ص ًّفا ۖ َّال َي َت َك َّل ُمو َن إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ
الر ْح َمٰـ ُن َو َق َ َو ْاْلَ ََّلئ َك ُة َ
ص َو ًابا ﴿ ﴾٣٨ذ ِل َك ال َي ْو ُم ال َح ُّق ۖ ال َ
ِ ِ
24
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
25
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
26
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
27
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
مرجع إلى هللا ،وقد لفت بعضٌ مآبا وهذا املآبفاملؤمن معاشر الفضالء يتخذ لنفسه ً
رجع العمل الصالح إلى هللا ُ ِّ
لفتة عظيمة كريمة وهي أن املؤمن في الدنيا ي ِ العلماء النظر إلى ٍ
الصالح أرجعه إلى هللا ِّوإنما إذا عمل العمل ِّ ِّ
عز وجل وقال: فال يغتر بعمله وال يمتن بعمله،
لوال هللا ما فعلت كذا لوال هللا ما صليت ،لوال هللا ما صمت ،لوال هللا ما تصدقت ،لوال ما
عز وجل؛ ِّ ً
عبادة هلل ِّ ً بررت بأبو َّي؛ فيزداد ً
ثم يرجع بهذا تواضعا هلل ،ويزداد شكرا ويزداد
الصالح إلى ربه يوم القيامة كما أرجعه إلى ربه في الدنيا فيكون له ُحسن املآب عند
العمل ِّ
هللا سبحانه وتعالىِ .
ِّ ِّ
علمنا وأنذرنا ِّ ِّ
وخوفنا من ذلك اليوم من يوم الفصل وما فيه ثم ختم هللا اآليات ببيان أنه
ِّ من اْلهوال ،وذلكم اليوم ٌ
منتظر قريب ،يوم ينظر املرء املؤمن
ٍ وكل منتظر ه ْلن يوم قريب؛
ما قدمت يداه فهو يرجو رحمة هللا في ذلك اليوم بسبب ما قدمه من توحيد ،ويخاف من
عاقبة ذنوبه فهو يوم القيامة ينظر ما قدمت يداه ر ً
جاء وخوفا ،إذا تذكر توحيده وأعماله
عز وجل رجا ما عند هللا ،وإذا تذكر ذنوبه وإسرافه على نفسه الصالحة وسعة رحمة هللا ِّ
ِّ
فإنه ٌ
يائس من رحمة هللا وال ينتظر إال عذاب هللا ،ولذلك خاف من عذاب هللاِّ ،أما الكافر
عز وجلثم قال هللا ِّ
اقتص لبعضها من بعض ِّ يقول يا ليتني كنت ترابا ،إذا أى البهائم قد ُ
ر
لها كوني تر ًابا قال :يا ليتني كنت كالبهائم أصير ترابا ،الكافر في الدنيا كاْلنعام بل هو أضل
ً ِّ ِّ
فإذا جاء يوم القيامة تمنى أن يكون كالبهائم ويصير ترابا ،أو أنه يتمنى أنه لو لم يخلق أصال
عز وجل حذرنا وأنذرنا وأعلمنا ودلناْلن أصل خلقة اإلنسان من التراب ،فاهلل ِّ فبقي تر ًابا؛ ِّ
ِ
فال يهلك على هللا إال هالكِ .
عز وجل أن يجعلنا من السعداء في الدنيا واآلخرةِ . نعوذ باهلل من سوء الحال ونسأل هللا ِّ
28
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ات ،وهذا كغالب اختالف املفسرين من باب اختالف التنوع ال من باب اختالف ِّ
للمتقين جن ٍ
والسالمة من أعظم املخوفات ،وهو مكان الفوز التضاد ،فاملفاز هو الفوز بأعلى املرغوبات ِّ
وهو ِّ
الجنةِ .
ِ
قال :وفي ذلك اْلفاز لهم حدائق وهي البساتين الجامعة ْلصناف اْلشجار الزاهية بالثمار
التي تتفجر بين خَّللها اْلنهار ،وخص العنب لشرفه وكثرته في تلك الحدائق.
َ َ ْ َّ َ َ
﴿ ِإ َّن ِلل ُمت ِقين َمفا ًزا (َ )٣١ح َدا ِئ َق َوأ ْعن ًابا﴾ِ .
ٌ ِّ ِّ
حدائق :يقول العلماء هذا بدل اشتمال يعني :أن املفاز وهو الجنة مشتمل على ٍ
نعيم عظيم
منه هذا املذكور حدائقِ .
29
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
والحدائق كما قال الشيخ :هي البساتين الكبيرة الجامعة ْلصناف اْلشجار املثمرة ،وال
ِّ ً ً
محوطا أي :أحدقت به الحيطان ،وسبب ذلك ِّأن املؤمن حديقة إال إذا كان
ِ ُيسمى البستان
يختص بهذا ِّ
النعيم فيكون البستان له ال يشاركه فيه غيرهِ . ِّ في ِّ
الجنة
ً
وأعنابا ،كما قلنا املقصود باْلعناب :الكروم ،كروم العنب التي يقوم فيها العنبِ .
ُ قال بعض أهل العلم :الكروم في داخل الحدائق هي ِنوع ِّ
مما في الحدائق وخص لشرفه؛
فإنك إذا دخلت ً ِّ ِّ
ْلن كروم العنب ِّ
مكانا مما يشرح الصدر ،وهذا يدركه اإلنسان في الدنيا
فخ ِّ ُ ثمر ِّ
وْلن العنب ٌتتنعم بهذا املنظرِّ ،
فيه عرائش العنب وكروم العنب ِّ
ص بهذاِ . طيب،
فإنهم يعطون الحدائق وزيادة، يادة على الحدائق ِِّ وقال بعض أهل العلم :بل هذا ٌ
خبر عن ز ٍ
ما هي الزيادة؟ هي كروم العنب ِّ
يتنزهون فيها ،يخرجون فيها للنزهة ،ويتمتعون َبم ْرءاهاِ .
ِ
ٌ
زوجات على مطالب النفوس. قال :ولهم فيها
ُ َ َ
اع َب﴾؛ وهي النواهد الَّلتي لم تتكسر ثدويهن من شبابهن وقواتهن ونضارتهن.
﴿كو ِ
ِّ
وأصل الكلمة :كاعب من اإلستدارة يعني ِّأن أثدائهن قد استدارت واشتدت فليست متهدلة
وال صغيرة؛ بل استدارت واشتدت وذلك للشباب والنضارةِ .
ِ
واحد متقارب ،ومن عادة اْلتراب أن يكن متآلفات
ٍ سن
قال :واْلتراب الَّلتي على ٍ
متعاشرات.
ِ
قال :وذلك السن الذي هن فيه ثَّلث وثَّلثون سنة أعدل ما يكون من الشباب.
ً ً ََْ
﴿وكأ ًسا ِد َهاقا﴾؛ أي :مملوءة من رحيق لذة للشاربين.
30
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
َْ
﴿ َوكأ ًسا﴾ ِ
ً قال بعض أهل العلم :وال يسمى اإلناء ً
ممتألِ .
ِ كأسا إال إذا كان
متابع ال ينقطع صاف ،وهل هذا من كل الشراب الذي في ِّ ِّ ً
الجنة ٍ ممتلئ ٌٌ ﴿ ِد َهاقا﴾؛ يعني أنه
ٌ
خاص بالخمر؟ ِ أم هو
ِّ
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من كل الشرابِ .
ً
مملوءة ً ْلن الكأس تسمى ً وذهب بعض اْلفسرين إلى ِّأنه من الخمر؛ ِّ
خمراِ . كأسا إذا كانت
ِ
﴿ال َي ْس َم ُعو َن ف َيها َل ْغ ًوا﴾؛ أيً :
كَّلما ال فائدة فيه.
َّ
ِ
ِ
ً
ال يسمعون فيها باطال يؤذي اْلسماعِ .
ِ
َ َ َّ
﴿وال ِكذ ًابا﴾؛ أي :إثما.
ِ
َ ً َ ْ َ َّ ِّ
هذا ما فسر به بعض العلماء الكذاب ،قالوا﴿ :ال َي ْس َم ُعون ِف َيها لغ ًوا﴾؛ أي :باطالَ ﴿ ،وال
ِك َّذ ًابا﴾؛ أي :ال يسمعون ً
إثماِ .
ً وقال بعض أهل العلم :ال يكذب بعضهم ً
بعضا فهم ال يسمعون باطال وال ُيكذبون في
خيرا ،وإن تكلموا تكلموا بصدق ِّ
وصدقهم إخوانهم ،فال ُيكذبون قولهم ،إن سمعوا سمعوا ً
ٍ
كالمهم وال يشككون فيهِ .
َّ
﴿ال َي ْس َم ُعو َن ف َيها﴾ :الضمير يعود إلى ماذا؟ قال بعض املفسرين :يعود إلى ا ِّ
لجنة ،أيِ :ال ِ
ً
باطال وال ُيكذب بعضهم ً يسمعون في ِّ
بعضاِ . الجنة
فإنهم ال يسمعون في مجالس شرب وقال بعض أهل العلم :يعود إلى مجالس شرب الخمرِّ ،
بعضا ،ملاذا؟ ِّ
شتما وال يكذب بعضهم ً
سبا وال ً ً
باطال وال ً الخمر في ِّ
ْلن املعتاد في الدنيا الجنة
ِّ
وكالم فاحش ،ويعتدي بعضهم أن مجالس شرب الخمر تكونِ مجالس لغو وسب وشتمٍ ،
31
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
32
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
﴿ح َس ًابا﴾ ِ
ِ
قال بعض أهل العلم :معناه كفاية كما تقول هللا حسبي أي :هللا يكفيني ،إذا اعتدى
ً ِّ
حسابا أنه يكفيهم وتقر به عليك أحد قلت حسبي هللا يعني يكفيني هللا شرك ،فمعني
الجنة درجات لكن الذي في الدرجة نقصا ،وإن كانت ِّأعينهم فال يري أحدهم ِّأن في نعيمه ً
ُ ً ِّ اْلدون يكفيه ما أعطاه هللا من ِّ
النعيم وتقر عينه به ،وال ينغص عليه نعيمه أنه يرى غرفا
من بعيدِ .
ً
تفاضل في الكمال ال يستلزم ً
نقصاِ . ٌ إذا هذه مسألة جيد أن نفقهها ،التفاضل في الج ِّنة
ض﴾؛ لكن هذا ْ َ ُّ ُ ُ َ َّ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ٰ َ ْ ً ً
مثال :اْلنبياء يفضل بعضهم بعضاِ ﴿ :تلك الرسل فضلنا بعضهم على بع ٍ ِ
أبدا ،ولذلك يقول العلماء التفضيل بين نقصا في رسول ً
التفاضل في الكمال ال يستلزم ً
ٍ
ِّ ِّ اْلنبياء إن استلزم ً
نقصا كان حر ًاما ،إذا قلت محمد صلى هللا عليه وسلم أفضل من
السالم هذا حرامِّ ،أما التفضيل تنقص موس ي عليه ً السالم وأنت تريد بهذا ُ
موس ي عليه ِّ
ِّ ِّ
بينهم في درجات الكمال فهذا جائز فتقول محمد صلى هللا عليه وسلم خير اْلنبياء والرسل؛
ِّ
الجنة يتفاضلون في درجات في الكمال ولكن نعم وهللا إنه خير اْلنبياء والرسل ،كذلك أهل ِِّ
كل واحد منهم قد أعطي ما يكفيه وتقر به عينه ،وكيف ال يكون كذلك وأقل من في ِّ
الجنة ٍ
له مثل الدنيا ومثلها ومثلها ومثلها ومثلها ،وهذا كما قلت مرا ًرا من باب اختالف التنوع؛
ً
حساباِ . فكل هذه املعاني صحيحة لكلمة
ِ
ُ ْ َّ َ َ َ ْ َ
ض﴾؛ أي :الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم؛ رب السموات
ات واْلر ِ﴿ َّر ِب السماو ِ
واْلرض الذي خلقها ودبرها.
ورباها ِّ
بالنعمِ .
ِ
الرحمن الذي رحمته وسعت كل ش يء.
33
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
وقلنا ِّإن هذا الثاني أعني الكالم الثانيَّ ﴿ :ال َي َت َك َّل ُمو َن إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ
الر ْح َٰم ُن َو َق َ
ال ِ
ص َو ًابا﴾؛ هذا في الشفاعةِ . َ
َ ُ َ ْ َ
يعني في قول ربنا سبحانه وتعالى﴿ :ال َي ْم ِلكون ِمن ُه ِخط ًابا﴾ هذا في كل الكالم إال بإذنهِ .
ص َو ًابا﴾؛ هذا في الشفاعة فال ال َ الر ْح َٰم ُن َو َق َِّأما في قول هللاَّ ﴿ :ال َي َت َك َّل ُمو َن إ َّال َم ْن َأ ِذ َن َل ُه َّ
ِ
صوابا في شفاعته وكان قد قال ً أحد إال من أذن له هللا سبحانه وتعالى وقال يشفع ٌ
شف ُع إال موحد وال ُي َ الصواب بالتوحيد قبل ذلك ،فكما قلنا ال َي َ
شف ُع إال ملوحد ،فالشفاعة
ِّ ليس للكفار فيها نصيب ال يشفعون وال ُي َ
شف ُع فيهم إال الشفاعة املستثناة لرسول هللا صلى
ِّ
هللا عليه وسلمِ .
ِ
ْلن ذلك اليوم هو الحق الذي ال يروج فيه الباطل وال ينفع فيه الكذب.
34
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ
اختلف العلماء في املراد بالروح هنا ،فذهب جماعة من اْلفسرين إلى ِّأن الروح هو جبريل
ً ُّ ُ ْ َ َ
وح اْل ِم ُين﴾؛ قالوا :إذا الروح هو جبريل عليه السالم وهو أشرف املالئكة﴿ :ن َز َل ِب ِه الرعليه ِّ
ِّ ِّ
السالم ْلنه هو الذي نزل بالقرآن وهذا أرجح اْلقوالِ .
ملك عظيم هو أعظم املخلوقات بعد العرش وال أعرف وقال بعض أهل العلم :الروح هو ٌ
ً ً
صحيحا على هذاِ . دليال
وقال بعض اْلفسرين :الروح هم بنوا آدم ،وقال بعض املفسرين :الروح ٌ
خلق يشبهون بنوا
آدم وليسوا منهم أيِّ :أن هيئتهم كهيئة بني آدم ويأكلون ويشرون ِّ
لكنهم ليسوا من بني آدم
ِّ فهم ليسوا مالئكة؛ ِّ
ْلنهم يأكلون ويشربون وعلى هيئة بني آدم ،وليسوا من بني آدم وإنما
ً ً ٌ
خلق خلقهم هللا لتعظيم ذلك اليوم ،وال أعرف دليال على هذا وقد بحثت طويال عن أدلة
لهذا فلم أظفر بش يء؛ لكن يذكر ذلك املفسرونِ .
ُ ُ واْلرجح واْلصوب هو ما اختاره الشيخِّ :أن الروح هو جبريل عليه ِّ
السالم ،وذكر وخص
َ ْ َ َ ُ ُ ُّ ُ ْ َ َ َ ُ
وح َواملال ِئكة﴾؛ من باب ذكر العام بعد هنا لشرفه فيكون املذكور هنا ﴿يوم يقوم الر
ُ َ ْ ﴿ت َن َّز ُل ْاملَ َال ِئ َك ُة َو ُّ
الر ُ َ
وح ِف َيها ِب ِإذ ِن َ ِِّرب ِهم ِِّمن ك ِ ِّل أ ْم ٍر﴾ [القدر]4 :؛ الخاصِ ،وفي سورة القدر
فيكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العامِ .
ِ
ً واْلَّلئكة ً
أيضا يقوم الجميع صفا خاضعين هلل.
ِ
35
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً
يقومون صفوفا ُيتمون الصف اْلول فاْلول ،وذلك ِّأن عددهم ال يحصيه إال هللا سبحانه
وتعالى ويجتمعون في ذلك اليوم ،إذا علمنا ِّأن البيت املعمور يدخله في كل يوم سبعون
ثم ال يعودون إليه؛ علمنا ِّأن عدد املالئكة ال يمكن أن ُيحص ى وال ُيحصيه إال
ألف ملك ِّ
ً
صفوفا يتمون الصف اْلول هللاِّ ،
وأنهم ٌ
خلق كثير ومع ذلك يجتمعون في ذلك اليوم املهيب
فاْلو ِلِ .
ِ
َ َّ َ َ َ َ
ال يتكلمون إال بإذنه فلما رغب ورهب وبشر وأنذر قال﴿ :ف َمن ش َاء اتخذ ِإل ٰى َرِب ِه َم ًآبا﴾؛
ً
صدق يرجع إليه يوم القيامة.
ٍ أيَ :ع َمَّل وقدم
َ
وهذا ﴿اْلرء﴾؛ هنا قال بعض أهل العلم :هو الكافر ،وقال بعض املفسرين :هو كل أحد
كافرا أو ًِ
مؤمنا ،وقال بعض املفسرين :هو املؤمنِ . سواء كان ً
36
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
37
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً َ ََْ ُ ُ ُ
نت ت َر ًابا﴾؛ يا ليتني لم أخلق أصال ،يا وقال بعض اْلفسرين :معنى قول الكافر ﴿يا ليت ِني ك
ِّ ً
أصال؛ ِّ
ْلن أصل خلقة اإلنسان أنه من ترابِ . ليتني بقيت ترابا
وأقوى اْلقوال هو اْلول ،لكن ال تضاد بينها فيمكن ِّأن الكافر يتمنى كل هذا فال تدافع
بينهاِ .
وبهذا نكون بحمد هللا قد أنهينا تفسير هذه السورة -سورة النبأِ .-
عز وجل ،قبل أن ننتقل إلىوهناك فوائد إيمانية وحكم علمية سنقف معها إن شاء هللا ِّ
السورة التالية ،وبهذا تدركون ِّأيها اإلخوة ِعظم علم التفسير وتدبر كالم هللا سبحانه وتعالى
ً فإنك بعد أن سمعت هذا التفسير لهذه السورة لو قرأتها ستجد في نفسك ً ِّ
أمورِا ِ
كثيرة
ولذة لم تسبق إلى نفسك عند قراءة هذه السورة ،ولذلك ِّ ً
مما ينبغي أن يحرص جديدة،
عليه املؤمن ،أن يتدبر القرآن وأن يعرف معاني كالم هللا سبحانه وتعالى ،أسأل هللا ِّ
عز
وجل أن يعيننا على ذلك ،وأن يجعلنا ممن يتدبرون كالمهِ .
-الفوائد العلمية ،واآلثار اإليمانية ،لهذه السورة الكريمةِ -
من تلك الفوائد :أن الداعي إلى هللا ينبغي أن يجمع في دعوته بين ما يدعو إلى الرجاء وما
يدعو إلى الخوف من هللا عز وجل ،وأن يعتني في دعوته عناية كبرى باليوم اآلخر ،وما يتعلق
بهِ .
ومن تلك الفوائد :أنه ال خير وال فالح للمؤمن إال بأن يجمع بين الرجاء والخوف ،فيكون في
سيره إلى هللا عز وجل راجيا خائفاِ .
ومن تلك الفوائد :أن حقيقة اإليمان تتجلى في اإليمان بالغيب؛ ولذلك ُيذكر هذا في أعلى
مقامات الثناء (الذين يؤمنون بالغيب)ِ .
ومن تلك الفوائد :أن من يقيم دعوى ،البد أن يقيم عليها اْلدلة التي تصدقها ،وليس كل
ِّ
من سمع اْلدلة يسلم لها ،بل قد يردها بعض الناس استكبارا وعنادا؛ كما فعل الكفار،
حيث أقام هللا عز وجل لهم البراهين القاطعة ،واآليات الساطعة على وجوده سبحانه
وتعالى ،وعلى ربوبيته ،وعلى ألوهيته ،وعلى قدرته على البعث ،لكنهم أبوا أن ِّ
يوحدوه ،وأبوا
أن يؤمنوا بالبعثِ .
38
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومن باب إتمام الفائدة- :وإن لم يكن من جنس ما معنا هنا -أقو ِل :إن السامع للدعوى
واْلدلة ،قد ِّ
يرد الدعوى وأدلتها؛ ْلنه قد ِّ
محص اْلدلة فلم ير فيها دليال أو ْلنه رأى أنها ال
تدل على املدعى ،أو أنه فهم منها غير الذي فهمه املستدل بهاِ .
وهذه الثَّلثة اْلخيرة :من أسباب اختالف العلماء وأما اْلول فهو من أسباب خالف أهل
الباطل للحق وأهلهِ .
ومن تلك الفوائد واآلثار اإليمانية :أن الدنيا مزرعة اآلخرة ،وأن ما في اآلخرة مبني على ما في
الدنياِ .
غير أنه في شأن الكفار :يكون جز ًاء موافقا ْلعمالهمِ .
وأما في شأن املؤمنين :فيكون جز ًاء بفضل هللا ،وتكون أعمالهم سببا لنيل ذلك الفضلِ .
ومن تلك الفوائد العظمى :أن مجالس اللغو من الشقاء الذي يليق باملؤمن أن يجتنبهاِ .
فمن شقاء الدنيا؛ مجالس اللغو ،وأشقاها؛ مجالس الحرام ،فإنها شقوة على صاحبها في
الدنيا واآلخرةِ .
ومن تلك الفوائد :أن من الشقاء أن يبتلى اإلنسان بمن يكذبه ،وال يصدقهِ ،
وأن من نعيم الدنيا :أن يتخذ املؤمن إخوة صدق ،ال يسمع منهم إال خيرا ،وإذا حدثهم
صدقوهِ .
ومن تلك الفوائد :أن الالئق باملؤمن أال يجلس في مجالس اللغو ،وأن يكثر الصمتِّ ،
ويقل
َ َ
الكالم ،فإن من كثر كالمه كان عرضة ِْلن ُيكذب ،ولذلك من أخالق املؤمن أن يصمت ،إال
أن يرى في الكالم خيرا ،فيقول خيرا فهذه من أعظم أخالق املؤمنين :أن يطيل املؤمن
الصمت ،وأن يقل الكالم ،وال يتكلم إال إذا رأى في الكالم خيرا ،وتكلم بخيرِ .
َ
الفائدة اْلخيرة :أن من علم أنه في اآلخرة ينظر عمله ،فينبغي عليه أن يهذب في الدنيا
عمله ،كلنا على يقين أن كل واحد سينظر عمله في اآلخرة ،فينبغي على املؤمن أن يهذب
عمله في الدنيا ،وأن ينظر في عمله في الدنيا ،فإن رأى أن هذا العمل ُّ
يسره إذا لقي هللا عز
وجل ،أكثر منه ،وثبت عليه ،وإن هذا العمل ال يسره إذا لقي هللا عز وجل ،أمسك عنه،
وإذا كان قد مض ى ش يء منه ،تاب إلى هللا عز وجل منه وأناب إلى هللا عز وجلِ .
39
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
سورة النازعات
الر ْح َمٰـن َّ
الر ِح ِيم
َّ
الل ِـه َّ ِب ْس ِم
ِ
َ َّ َ الناش َطات َن ْش ًطا ﴿َ ﴾٢و َّ َ َ َّ َ ً َ َّ َ
ات
الس ِابق ِات َس ْب ًحا ﴿ ﴾٣ف الس ِابح ِ ات غ ْرقا ﴿ ﴾١و ِ ِ ﴿والنا ِزع ِ
الر ِاد َف ُة ﴿ُ ﴾٧ق ُل ٌ
وب الراج َف ُة ﴿َ ﴾٦ت ْت َب ُع َها َّ ف َّ َْ َ َْ ُ ُ
ج ر ت م و ي ﴾ ٥﴿ ارات َأ ْم ًِ َس ْب ًقا ﴿َ ﴾٤ف ْاْلُ َدب َ
ر
ِ ِ
َ َ ْ َ
َ ُ َ َّ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ٌ ْ َ َ َ َ ََْ َ َ ٌ
ودون ِفي ال َحا ِف َر ِة ﴿ ﴾١٠أ ِإذا اش َعة ﴿ ﴾٩يقولون أ ِإنا ْلرد اجفة ﴿ ﴾٨أبصا ُرها خ ِ يوم ِئ ٍذ و ِ
اح َدة ﴿﴾١٣
ٌ َ ْ ٌ َ َ َّ َ ٌ َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ ُ َّ َ ً َّ ً
اس َرة ﴿ ﴾١٢ف ِإنما ِه َي زج َرة و ِ كنا ِعظاما ن ِخ َرة ﴿ ﴾١١قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ
اه َر ِة ﴿﴾﴾١٤ َّ َ َ ُ
ف ِإذا هم ِبالس ِ
في هذه السورة املكية بإجماع العلماء ،كسائر السور املكية ،يرد هللا عز وجل على الكفار
س ضاللهم الذي جعلهم يتعلقون بالدنيا حتى في آلهتهم ،وال يعملون أص َل كفرهمُ ،وأ َّ
ْ
لآلخرة ،أال وهو؛ إنكارهم للبعثِ .
وافتتح هللا عز وجل هذه السورة :بالقسم باملالئكة وببعض أعمالهم ،وللعظيم سبحانه أن
يقسم بما شاء ،وليس ملن دون العظيم إال أن يقسم بالعظيم سبحانه وتعالىِ .
ِّ
هللا عز وجل في افتتاح هذه السورة التي تعالج موضوع البعث ،وتسلي املؤمنين؛ أقسم
باملالئكة ،وببعض أعمال املالئكة التي لها تعلق باملوت ،الذي هو مفتاح اآلخرة ،ومقدم
البعث ،ومن عاين املوت وأدرك حقيقته بالغرغرة ،أيقن بما بعده ،ولكنه إيقان ال ينفع
صاحبه والعياذ باهلل إن لم يكن قدم خيراِ .
َ ً َ َّ َ
ات غ ْرقا﴾ :أي واملالئكة التي تنزع أرواح الكافرين نزعا شديدا،
يقول هللا عز وجل﴿ :والنا ِزع ِ
وتجذبها جذبا شديدا ،وذلك أن املالئكة تنزع أرواح الكافرين بشدة قوال وعمَّلِ .
أما القول :فإن الكافر إذا كان في إدبار من الدنيا ،وإقبال من اآلخرة ،تحضره املالئكة،
ويقعد ملك املوت عنده ،ويقال للكافر :أيتها النفس الخبيثة ،كانت في الجسد الخبيث،
40
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
41
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وأما روح الكافر :فإنها إذا نزعها ملك املوت ،لم يدعها املالئكة في يده طرفة عين ،بل
يأخذونها ويضعونها في مسوخ من النار والعياذ باهلل ،ثم يصعدون بها إلى السماء الدنيا
بريحة نتنة ،فيستفتح لها فيقال :من هذا؟ فيقال :فالن بن فالن بأخبث أسمائه في الدنيا،
فيقال :ال ً
مرحبا بالنفس الخبيثة ،كانت في الجسد الخبيثِ .
فإنه ال تفتح لها أبواب السماء ،ثم تطرح إلى اْلرض ً
طرحا والعياذ باهللِ .
ً َ َّ َ
ات َس ْبقا﴾ :فاملالئكة التي تسبق بما تؤمر به ،فتسارع وال تتوانى لحظة ،بل هي
الس ِابق ِ﴿ف
سباقة إلى االمتثال ،كما أنها ملا ُبعث محمد صلى هللا عليه وسلم ،صارت سباقة بالوحي إلى
شيئا ،كما أنها تسبق بأرواح املؤمنينالنبي صلى هللا عليه وسلم قبل أن يسترق الجن منه ً
42
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أبيتِ .
ُ
أي أن النبي صلى هللا عليه وسلم أخبر أن بين النفختين أربعين ،ولم يحدد ويعين ك ْن َه هذه
ُ
اْلربعين .وهكذا املؤمن يؤمن أن بين النفختين أربعين ،وهللا أعلم بك ْن ِه هذه اْلِربعينِ .
ُُ ٌ َ ْ َ َ َ ٌ
اجفة﴾ :قلوب يومئذ مضطربة ،كثيرة الخفقان كأنها ستزول من مكانها، ﴿قلوب يوم ِئ ٍذ و ِ
من شدة خفقانها وذلك لعظيم خوفها ،وشدة فزعها ،حيث رأت رأي العين ما أخبرت به في
َ
الدنيا فكفرت ،وعلمت أن الوعيد نازل بها ،أ ِم َنت في الدنيا فأخافها هللا في اآلخرة ،و ِال
يجمع هللا لعبد أمنين وال خوفينِ .
َمن أمن هللا في الدنيا ،أخافه الخوف الشديد والفزع العظيم في اآلخرةِ .
ومن خاف هللا في الدنياِّ ،أمنه هللا من الفزع الشديد في اآلخرةِ .
ٌ َْ َ َ َ
اش َعة﴾ :أبصارها ذليلة ،منكسرة ،جز ًاء وفاقا ،فقد كانوا في الدنيا أهل تكبر ﴿أبصا ُرها خ ِ
ِوتجبر ،فكان حالهم في اآلخرة أنهم أهل ذلة وانكسارِ .
وهكذا املتكبرون في الدنيا يكونون في اآلخرة في ذلة وانكسار فيكونون كالذر والعياذ باهللِ .
ْ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ
ودون ِفي ال َحا ِف َر ِة﴾ :أي أنهم كانوا يقولون في الدنيا ،وهذا جواب سؤال: ﴿ يقولون أ ِإنا ْلرد
ملاذا كان أمرهم هكذا؟ ملاذا كان حالهم على هذا السوء؟ ِ
َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ
ودون ِفي ال َحا ِف َر ِة﴾ أي :أإنا ملردودونِفكان الجواب :أنهم كانوا يقولون في ُدنياهم ﴿أ ِإنا ملرد
إلى أمرنا اْلول ،فنعود أحياء بعد موتنا؟ ويقولون هذا على سبيل اإلنكار والتعجب مما
أخبرهم به محمد صلى هللا عليه وسلم ،وتاله عليهم في كتاب هللا سبحانه وتعالىِ .
ً َ ً َّ َ ً َ َ ُ َّ
﴿أ ِإذا كنا ِعظاما ن ِخرة﴾ :أإذا كنا عظاما بالية ،تالفة ،مجوفة ،فإنهم كانوا يرون ذلك في
ُ
الدنيا ،ويؤمنون به ،ما كان الك ِّفار ينكرون املوتْ ،لنهم كانوا يرون املوت ،وما كانوا
ينكرون ما يكون في القبر من جهة أكل اْلرض لألجساد ،فإنهم كانوا يرون أن امليت يوضع في
ً ً ً َ َ َ ُ
قبره ،ثم بعد فترة يرون أنه قد بلي ،وبليت عظامه﴿ ،أ ِإذا ك َّنا ِعظ ًاما َّن ِخ َرة﴾ بالية ،متفتتة،
ً
مجوفة قبل ذلكِ ،
ٌ ٌ ٌ َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ
اس َرة﴾ :تلك إذا رجعة إلى الحياة باطلة ،كاذبة ،ال حقيقة لها ،ولن ﴿قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ
تكون ،فمعنى (باطلة) :أي كاذبة ،فاسدة ،ال حقيقة لهاِ .
43
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ
اح َدة﴾ :فاْلمر أسهل على ربنا من اإلنشاء ،واإلعادة أيسر من البناء َ ْ ٌ َ َ َّ َ
﴿ف ِإنما ِه َي زج َرة و ِ
واالبتداءِ .
ٌ َ
﴿ف ِإ َّن َما ِه َي َز ْج َرة﴾ :أي الصيحة الثانية ،النفخة الثانية في الصورِِ .
ٌ َ ٌ ٌ
﴿إ َّن َما ِه َي َز ْج َرة َو ِاح َدة﴾ :وهي النفخة الثانية ،التي تكون بها الحياة ،أي﴿ :ف ِإ َّن َما ِه َي َز ْج َرةِ
ِّ ُ ٌ َ
َو ِاحدة﴾ تكون بها الكرة والرجعةِ .
إذن ال إشكال ،الصيحتان اثنتان ،والنفختان اثنتان ،لكن النفخة اْلولى يكون بها املوت،
فيموت اْلحياء إال من شاء هللا ،والنفخة الثانية تكون بها الحياة ،وتكون بها الرجعة ،فإنما
ٌ
هي زجرة واحدةِ ،
﴿فإ َذا ُهم ب ََّ
الس ِاه َر ِة﴾ :أي :فإذا هم محشورون (بالساهرة)؛ باْلرض البيضاء املستوية ،التي ِ ِ
ُيرى عليها السراب كأنه ماءِ .
َ
﴿فإ َذا ُهم ب َّ
الس ِاه َر ِة﴾ :أي :في النارِ . ِ أو ِ
إذا هم بالساهرة يرونهاْ ،لنهم رأوا شيئا من عذابها في القبر ،وإذا بعثوا أيقنوا بوجودها،
وأنها مآلهم ومصيرهم ،فإذا حشروا رأوا النار في أرض املحشر ،فإذا نودوا ليتبع كل
أصحاب آلهةَ ،
ألهتهم ،تبعوا ألهتهم فتساقطوا في النار ،عياذا باهلل من ذلك ،أيقنوا من هذا
العذاب والعياذ باهللِ .
هذا التفسير املوضوعي اإلجمالي لهذا املقطعِ .
ثم نقرأ كالم الشيخ في التفسير التفصيلي ونعلق عليهِ .
قال اإلمام عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه هللا تعالى :هذه اإلقسامات باْلَّلئكة
الكرام وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم ْلمر هللا ،وإسراعهم في تنفيذهُ ،يحتمل أن
اْلقسم عليه الجزاء والبعث ،بدليل اإلتيان بأحوال القيامة بعد ذلك.
وهذا اْلظهر وهللا أعلم ،وْلن هذا هو أغلب ما في السور املكية وهو املقصود في هذه
السورة ،أعني إثبات البعث ،فاْلظهر أن املقسم عليه هو هذا اْلمر العظيمِ .
ويحتمل أن اْلقسم عليه واْلقسم به متحدان وأنه أقسم على اْلَّلئكة ْلن اإليمان بهم
44
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أحد أركان اإليمان الستة وْلن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتواله
اْلَّلئكة عند اْلوت وقبله وبعده.
يحتمل كما ذكر بعض املفسرين :أن املقسم عليه هو املالئكة ،وأنهم خلق من خلق هللا،
موجودون ،وبأعمال موكلو ِنِ .
يعني يك ِون جواب القسم :وهؤالء خلق موجودون ،وبأعمال عظيمة موكلو ِنِ .
ولكن اْلول أظهر كما ذكرناِ .
َ ً َ َّ َ
ات غ ْرقا﴾ :وهم اْلَّلئكة التي تنزع اْلرواح بقوة.
فقال ﴿والنا ِزع ِ
تنزع أرواح الكافرين بقوة وتجذبها بشدةِ .
قال :توقد في نزعها حتى تخرج الروح فتجازى بعملها.
والغرقِ :هو النزع الشديدِ .
واإلغراق :هو املبالغة في الش يءِ .
َ ً
وقال بعض اْلفسرين﴿ :غ ْرقا﴾ أي يغرق امللك أرواح الكفارِ .
ومعنى يغرق :يعيدها في أجسادهمِ .
سبحان هللا ،كيف يعيدها في أجسادهم وهو يقبضها؟ قالوا :يخيفهم حتى تتفرق أرواحهم
في أجسادهم كلهاِ .
فتكون تحت اْلظفار ،وفي العصب وفي العروق ،وفي جميع أجزاء الجسد ،ثم ينزعها .إذن
يغرقها ثم ينزعهاِ .
يغرقها :بأن يفرقها في جميع جسد الكافر ،ثم يجذبها بقوة نكاال ،وتعذيبا ،وإهانة للكافر
عند موتهِ .
وقال بعض أهل العلم :معنى غرقا؛ أن حال الكافر عند نزع روحه ،كالغريق الذي يتأخر
موته ويرى نفسه- ،أعني الكافر -كأنها تغرقِِ .
الغريق الذي يتأخر موته يأتيه املوت شديدا كثيراْ ،لنه يموت في كل لحظة ،لكن الروح ما
تزال معلقة ،فيكون الكافر كحال الغريق الذي يتأخر موته في املاء وال نجاة له ،ويرى الكافر
نفسه عند نزع روحه ،كأنه يغرق ،أي :يموت موتا شديدا بطيئا كالغريق كما قلناِ .
45
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ َّ
الناز َ
أفق إلى أفق؛ أي تذهبِ .
ٍ من نزعت النجوم، هي هنا ﴾ ات ع وقال بعض اْلفسرينِ ﴿ :
َ ًَ
و﴿غ ْرقا﴾ :قالوا معناها تطلع وتغيبِ .
َ ًَ َ َّ
﴿والنا ِز َعات﴾ :هي النجوم و﴿غ ْرقا﴾ :أي تطلع وتغيب كالغريق ،يظهر على سطح قالوت:
املاء ويغيب في داخل املاء حتى يم ِوت ،وكذلك الكواكب تظهر وتغيب ،حتى يفنيها هللا عز
َّ
وجل ،وقيل غير ذلك واْلول أظهر ،أعني أن ﴿النا ِز َعات﴾ هي املالئكة ،وعلى هذا أكثر
َّ
السلف أن ﴿النا ِز َعات﴾ هي املالئكةِ .
َ َّ َ َ ْ ً
ات نشطا﴾ :وهي اْلَّلئكة أيضا ،تجتذب اْلرواح بقوة ونشاط. اشط ِ
﴿والن ِ
هذا ،على أن هذا متعلق بأرواح الكافرين أيضا ،أي تجذبها بشدة من العروق وسائر
الجسدِ .
أو أن النشط يكون ْلرواح اْلؤمنين.
فتنشط املالئكة روح املؤمن ،كما ينشط العقال من يد البعير ،ويعرف أصحاب اإلبل أن
حل العقال من يد البعير سهل ،والنشط على هذا هو الجذب بسرعة ورفقِ .
على القول اْلولِ :النشط هو الجذب بشدةِ .
وعلى القول الثاني :وهو أظهر وهللا أعلمْ ،لن فيه زيادة معنى ،أعني أن النشط متعلق
َ
الجذب برفق وسرعةِ . بأرواح املؤمنين ،يكون النشط
أو أن النشط يكون ْلرواح اْلؤمنين ،والنزع ْلرواح الكفار.
ات﴾ :أي اْلترددات في الهواء صعودا ونزوال سبحا. ﴿و َّ َ َ
الس ِابح ِ
يعني كالسابح يصعد على املاء وينزل فيه ،فاملالئكة تنزل من املاء وتصعد إليها ،ومما تصعد
به كما قلنا اْلرواحِ .
ات﴾ :هي الكواكب تسبح في اْلفالكِ . وقال بعض اْلفسرينَ َّ ﴿ :
الس ِابح ِ
َ ََ َُ
﴿وك ٌّل ِفي فل ٍك َي ْس َب ُحون﴾ [يس ]40 :واْلول أظهر؛ ْلنه املناسب ملقصود السورة ،وهو
املتعلق بالبعثِ .
السابقات لغيرها سبقا ،فتبادر ْلمر هللا وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل
هللا ،لئَّل تسترقه.
46
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :هي املالئكة ،تسبق بأرواح املؤمنين إلى السماء ،إكراما لتلك اْلرواح
الطيبةِ .
وقال بعض اْلفسرين :السابقات :هي أروِاح املؤمنين عند خروجها تسبق إلى ملك املوت
عند حلول اْلجل ،حتى تخرج بسرعةْ ،لنها تبشر ،وعند ذاك تحب لقاء هللا ،فيحب هللا عز
وجل لقاءهاِ .
واْلول أظهر وهللا أعلم؛ أي أنها اْلَّلئكةِ .
َ َّ َ
ات﴾ :يعني هللا عز وجل فإن قال قائل :نلحظ هنا أن هللا عز وجل قال﴿ :فالس ِاب ِ
ق
ات َس ْب ًحا ﴿ِ ﴾﴾٣ الناش َطات َن ْش ًطا ﴿َ ﴾٢و َّ َ َ َّ َ َّ َ َ ً
الس ِابح ِ ات غ ْرقا ﴿ ﴾١و ِ ِ قال﴿:والنا ِزع ِ
فكان املنتظر :والسابقات سبقاِ .
ً َ َّ َ
ات َس ْبقا﴾ِ . الس ِابق ِ لكن هللا عز وجل قال﴿ :ف
قال العلماءْ :لن الفاء تؤدي هنا معنى الواو وزيادة ،وهذه الزيادة؛ أن هذه مركبة على ما
تقدم ،فما تقدم سبب لها ،وهذا يقوي القول بأن املالئكة تسبق بأرواح املؤمنين ،إكراما
لهاْ ،لن الذي تقدم متعلق بإخراج الروح ،فكانت الفاء مفيدة للقسم الذي أفادته الواو،
ومفيدة ْلن هذه والتي بعدها ،أنها َّ
مسب َبة ملا قبلها ،كما يقال :قام ،فذهبِ .
إذا قلت لك مثال :قام وذهب .هما فعالن ،قام ،وذهبِ .
قد يكون ذهب ْلي سبب ،لكن إذا قلت قام فذهب ،سبب ذهابه هو قيامه فيكون ما سبق
يعني سببا للسبق والتدبيرِ .
ً ْ َ ُْ َ َ َ
ات أمرا﴾ :أي اْلَّلئكة الذين...﴿فاْلد ِبر ِ
وهذا الذي عليه أكثر السلف :أن املدبرات هي املالئكة ،بل حكاه بعض املفسرين إجماعا
وقال :هم املالئكة قوال واحدا ،وإن كان بعض املتأخرين ذكر نزاعا ،لكن اْلظهر وهللا أعلم
أنه ال نزاع وأن املدبرات هي املالئكةِ .
أي اْلَّلئكة الذين جعلهم هللا يدبرون كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي؛ من
اْلمطار ،والنبات ،واْلشجار ،والرياح ،والبحار ،واْلجنة ،والحيوانات ،والجنة ،والنار،
وغير ذلك.
47
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومن أعظم تدبيرها كما ذكرنا :ما يتعلق بالشرع ،فإنها التي تتنزل بالوحي على اْلنبياء،
وتندبيرها كما قال هللاً :
أمرا .تدبير أمر ال ابتداء ،وإال فاملدبر هو هللا ،فيأمر املالئكة بما شاء
سبحانه ،فتدبر بأمر هللا سبحانه وتعالىِ .
وجواب القسم كما قلنا :مقدر يدل عليه املذكور بعدهُ ( :لتبعثن ولتحاسبن)ِ .
طيب ملاذا لم يذكر الشيخ جواب القسم؟ ِ
ْلنه ذكره في أول الكالم ،في مقدمة كالمه على السورة ذكر جواب القسمِ .
َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ ُ
اجفة﴾ وهي قيام الساعة.﴿يوم ترجف الر ِ
َ ُ
﴿ت ْر ُجف﴾ :أي تضطرب ،والراجفة هي املضطربة ،وهي اْلرض ،وذلك عند النفخة اْلولى في
الصور التي تميت كل ش يء ،إال من شاء هللا ،والرجف هنا من رجف الرعد ،الرجف في
أصله هو الحركة ،ولكن الرجف هنا ،من رجف الرعد ،وهو الصوت الشديد والحركة
واالضطراب ،الصوت الشديد بالنفخة ،بالنفخ في الصور ،فإذا نفخ في الصور تحركت
اْلرض واضطربتِ .
فدلت كلمة ترجف على اْلمرين :على الصوت الشديد وهو النفخ في الصور ،وعلى حركة
اْلرض واضطرابها إذا نفخ في الصورِِ .
َ ْ َ ُ َ َّ َ ُ
الر ِادفة﴾ :أي الرجفة في اْلخرى التي تردفها وتأتي تلوها. ﴿تتبعها
وهي النفخة الثانية التي يحيى بها اْلمواتِ .
ُُ ٌ َ ْ َ َ َ ٌ
اجفة﴾ :أي منزعجة من شدة ما ترى وتسمع. ﴿قلوب يوم ِئ ٍذ و ِ
فهي كما قلنا مضطربة ،شديدة الخفقان ،وهذا يدركه اإلنسان في الدنيا ،فإن اإلنسان إذا
خاف يضطرب قلبه ،ويخفق خفقانا شديدا ،هذا في خوف الدنيا ،فكيف بالفزع الشديد،
والخوف الشديد يوم القيامة؟ تخفق قلوبهم وتضطرب ،كأنها ستخرج من الصدور ،فهي
خائفة فزعة ،قد اشتد خوفها وعظم فزعها .ملاذا؟ ْلنها أيقنت أن الوعيد واقع بها ال
محالة ،فال رجاء وإنما هو الخوف ،وْلنها أمنت في الدنيا فأخافها هللا في اْلخرةِ .
ٌ َْ َ َ َ
اش َعة﴾ :أي ذليلة حقيرة ،قد ملك قلوبهم الخوف ،وأذهل أفئدتهم الفزع، ﴿أبصا ُرها خ ِ
وغلب عليهم التأسف واستولت عليهم الحسرة.
48
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َْ َ َ َ
اش َعة﴾ :أي أبصار أصحابهاْ ،لن الكالم على القلوب ،أبصارها أي أبصار
﴿أبصا ُرها خ ِ
أصحابها ،وأعيدت إلى القلوب ْلن القلب ملك اْلعضاء ،واْلعضاء تتبعه فسادا أو صالحا،
(أال وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله)،
إذن أعيدت اْلبصار إلى القلوبْ ،لن القلب ملك اْلعضاء ،وهو سبب صالحها أو سبب
فسادها والعياذ باهللِ .
َ َّ ً َ َ ُ َّ َُ ُ َ
﴿يقولون﴾ :أي الكفار في الدنيا على وجه التكذيب﴿ :أ ِإذا كنا ِعظ ًاما ن ِخ َرة﴾ :أي بالية
فتاتا.
في بعض النسخ يقولونِ- :أي ُمنكروا البعث في الدنيا ،-استهز ًاء وإنكارا للبعث ،أإنا ملردودونِ
ُ
الخلقة اْلولى؟ ِ
في الحافرة؟ أي؛ أنرد إلى املوت إلى ِ
واملعنى :أي أنعود أحياء بعدما متنا؟ ُيقال :رجع فالن على حافرتهِ .
أي رجع من حيث جاءِ .
وقال بعض اْلفسرين :معنى الحافرة :العاجلةِ .
أي أإنا ملردودون في العاجلة ،أي في الحياةِ .
والعاجلة سموها العاجلةْ :لنها قريبة إليهم ،وإال فهم ال يؤمنون باآلخرة ،يعني العاجلة
ليست التي تقابل اآلخرة ،هم منكرون ولكن سموها العاجلة على هذا التفسيرْ ،لنها قريبة
إليهمِ .
ْ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :ال َحا ِف َر ِة﴾ :معناها املحفورة ،وهي القبورِِ .
ُ يعني :أنعود أحياء في قبورنا بعد أن متنا ُ
ودفنا ،وأهيل التراب علينا ،نعود أحياء؟ إن ذلك
رجع بعيد .هكذا يقولون والعياذ باهلل مما قالوا.
َّ ً
وقال بعض املفسرين﴿ :ن ِخ َرة﴾ :أي مجوفةِ .
وال تنافر ،بل هذا اختالف تنوع ،فإن العظام في أول أمرها إنما يذهب مخها الذي فيها،
فتصبح مجوفة ثم تبلى وتفنى في القبو ِر.
ٌ َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ
اس َرة﴾ :أي استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاما ﴿قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ
نخرة ،جهَّل منهم بقدرة الله وتجريا عليه.
49
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ َ ُ ْ َ ً َ ٌ َ
اس َرة﴾ :كرة :يعني رجعةِ .
﴿قالوا ِتلك ِإذا ك َّرة خ ِ
خاسرة :يعني كاذبة باطلة ،ال حقيقة لها و لن تكونِ.
ٌ َ
﴿فإ َّن َما ه َي َز ْج َر ٌة َ
اح َدة﴾.
ِ و قال الله في بيان سهولة هذا اْلمر عليهِ ِ :
اْلمر أسهل من االبتداء ،وليس بينهم وبين البعث بعد موتهم إال النفخ في الصور ،وهو
قريب ،وقد التقم صاحب الصور ،وهو إسرافيل عند أهل العلم الصور ،وينظر إلى العرش
خشية أن يؤمر بالنفخ قبل أن يرتد إليه طرفهِ .
ولهذا قال بعض أهل العلم :أقرب املالئكة إلى العرش بعد حملته :إسرافيلِ .
فاْلمر قريب و سهلِ .
ِّ
فما هي إال أن يأمر الله إسرافيل بالنفخ في السور النفخة الثانية ،حتى يخرج أصحاب
القبور من قبورهم ويأتون إلى حشرهم أفواجا كما تقدم في سورة النبأ.
ٌ َ
﴿فإ َّن َما ه َي َز ْج َر ٌة َ
اح َدة﴾ُ :ينفخ في السور فإذا الخَّلئق كلهم بالساهرة ،أي :على وجه
ِ و ِ ِ
اْلرض قيام ينظرون ،فيجمعهم هللا ويقض ي بينهم بحكمه العدل ويجازيهم.
والعرب تسمي اْلرض الساهرة ،قالواْ :لن فيها كثيرا من الباليا ،ومن أصيب بالبالء يسهر ما
ينامِ .
العرب جربوا ،وعرفوا ،ورأوا أن الدنيا كثيرة البالء ،والبالء يسهر صاحبه .فكان السهر في
اْلرض كثيرا ،فسموا اْلرض بالساهرةِ .
وقال بعض اْلفسرين :الساهرة في اللغة العربية :هي اْلرض البيضاء املستويةُِ ،ي ِرى عليها
السراب كأنه ماء ،من قول العرب عين ساهرة ،أي يجري فيها املاءِ .
وقال بعض السلف :الساهرة :هي النارِ .
ْلنهم ال ينامون فيها والعياذ باهلل ،وال يصيبهم فيها نعاس فال يرتاحون من العذاب ،ال بنوم،
وال بنعاس نعوذ باهلل من عذاب هللاِ .
َ ْ ُ وس ٰى ﴿﴾١٥إ ْذ َن َاد ُاه َ ُّب ُه ب ْال َواد ْاْلُ َق َّ َ ْ ََ َ َ ُ
س ط ًوى ﴿ ﴾١٦اذ َه ْب ِإل ٰى ِ د ِ ِ ر ِ
يث ُم َ﴿هل أتاك ح ِد
ََ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َّ َُ َ َّ َ َ
ِف ْر َع ْون ِإن ُه طغ ٰى ﴿ ﴾١٧فق ْل َهل ل َك ِإل ٰى أن ت َزك ٰى ﴿َ ﴾١٨وأ ْه ِد َي َك ِإل ٰى َرِب َك فتخش ٰى
50
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ُ َ َ َ َّ ََ ْ َ ْ ُ
﴿﴾١٩فأ َر ُاه اآل َية الك ْب َر ٰى ﴿ ﴾٢٠فكذ َب َو َع َص ٰى ﴿ ﴾٢١ث َّم أ ْد َب َر َي ْس َع ٰى ﴿ ﴾٢٢ف َحش َر
ُْ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ ََ ُ ْ َ َ ََ
ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى ﴿ِ ﴾٢٥إ َّن ِفي ال أنا َرُّبك ُم اْل ْعل ٰى ﴿ ﴾٢٤فأخذه اللـه نك فن َاد ٰى ﴿ ﴾٢٣فق
َٰ َ ً َ ْ َ
ذ ِل َك ل ِع ْب َرة ِْلن َيخش ٰى ﴿[ ﴾﴾٢٦النازعات.]26-15 :
ملا تقدم أن مشركي قريش كانوا ينكروِن البعث ،وكان هذا يتضمن تكذيب النبي صلى هللا
عليه وسلم ،فكان هذا يؤذي النبي صلى هللا عليه وسلم ،ومشركوا قريش كانوا يؤذون النبي
حسا ً
ومعنا ،فسلى هللا عز وجل النبي صلى هللا عليه صلى هللا عليه وسلم واملؤمنون معه ًّ
وسلم واملؤمنين بتذكيرهم بقصة موس ى عليه السالم مع فرعونِِ .
وفي هذه القصة تسلية للنبي صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين من جهتينِ :
أما الجهة اْلولى :فهي أن هذا اْلذى من املشركين ْلنبيائهم وللمؤمنين باْلنبياءُ ،سنة
ماضية وطريقة مسلوكة عند املتقدمين ،فليس النبي صلى هللا عليه وسلم ً
بدعا من
الرسل ،وليس املؤمنون به ً
بدعا من املؤمنين ،بل كما كذب املشركون النبي صلى هللا عليه
وسلم ،وأنكروا ما جاء به ،وآذوه فكذلك فعل السابقون بأنبيائهم ،وكما آذى املؤمنين،
فكذلك آذى املشركون املتقدمون املؤمنين ،وفي هذا تسلية للنبي صلى هللا عليه وسلم ومن
معهِ .
وأما الوجه الثاني :فهو أن مشركي قريش وإن كفروا؛ وإن كانت لهم قوة ،فإنهم ليسوا عن
انتقام هللا ببعيد ،فقد كان من هو أطغى منهم ،وأقوى منهم ،وأشد جبروتا منهم ،وأعظم
كفرا منهم ،ومع ذلك أخذه هللا عز وجل بأيسر أمر بإغراقه مع قومه ،وما انتقام ربنا من
الظاملين ببعيدِ .
ومن هنا تعلم مناسبة ذكر قصة موس ى عليه السالم في هذا املقام ،والقرآن يأخذ بعضه
ببعض ،فلن تجد في القرآن انتقاال غريبا ،وإنما يأخذ بعضه ببعض ،فهذا مرتبط بما قبلهِ .
َ ْ ََ َ َ ُ
يث ُم َ
وس ٰى﴾ِ . فقال هللا عز وجل﴿ :هل أتاك ح ِد
( َه ْل) هذا سؤال تحقيق ،فمعنى ( َه ْل) قد ،قد أتاك وبلغك خبر موس ى عليه السالم
ىِ .
العظيم الذي فيه التسلية الكبر ِ
إذ ناداه ربه بواد طوى املقدس ،و(طوى) تعني املقدس ،وهو واد مقدس ،وكان مضمون
51
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً
طاغيا في جبروته، النداء :اذهب إلى فرعون سوال فإنه قد طغى وتجاوز كل ِّ
حد ،فكان ر
ً
وطاغيا في كفره ،حتى أنه قال ما لم يقله ً
وطاغيا في أذية بني إسرائيل، ً
وطاغيا في قوته
أحد غيره :أنا ربكم اْلعلى ،فاعرض عليه اإلسالم بقول لين بأسلوب العرضِ .
هل لك إلى أن تتزكى أي :تتطهر من جميع ذنوبك وجميع قاذوراتك فليس بينك وبين هذا إال
أن تسلم ،فإذا أسلمت هدمت كل ما كان قبل ذلك ،فتكون كأنك ولدت طاهرا لم يعلق
ُ َّ
وأدلك على ربك وأعرفك بربك فإذا عرفت هللا فستخش ى بك ذنب مما مض ى قبل إسالمك،
ْ َ َّ ْ َ َّ
هللا ،من عرف هللا حقا وصدقا ،خش ي هللا فعال ﴿ ِإن َما َيخش ى الل َه ِم ْن ِع َب ِاد ِه ال ُعل َم ُاء ۗ﴾
[فاطر ]28 :فإذا دللتك على هللا وعرفتك باهلل ،فعرفت هللا ،فإنك ستخشاه وتخافه ومن
خاف هللا اتقاه واتقى عذابهِ .
لكن فرعون أبى واستكبر وزاد في طغيانه ،فأراه موس ى عليه السالم العالمة العظمى الدالة
حية عظمى كبرىعلى صدقه ،وهي املعجزة فأراه اآلية اْلولى حيث ألقى عصاه فإذا هي ِّ
تسعى ،ثم أراه اآلية اْلخرى فأخرج يده بيضاه من غير سوءِ .
ولكن فرعون لم ي ِؤمن بل أعرض عن الحق ولم ُي ْق ِبل على الحق ،وأخذ يسعى في إفساد
أمر موس ى عليه السالم فإن لم يستطع إفساد أمره يسعى في قتاله واستئصاله مع من آمن
بهِ .
َ َ
﴿ف َحش َر﴾ جمع جنوده ،وجمع سحرته وجمع الناس ،جمع جنوده ليكونوا مستعدين
لقتال موس ى عليه السالم ومن آمن معه ،وجمع سحرته ليغالبوا موس ى عليه السالم
وليكسر موس ى عليه السالم ،وجمع الناس ليروا ذلكِ .
وملا خش ي أن يؤمن املأل بموس ى عليه السالم ،لظهور عالمات الصدق في قوله ،وظهور
املعجزات الدالة على صدقه ،نادى املأل :أنا ربكم اْلعلى ،فال أعلى فوقي والعياذ باهللِ .
وقال بعض أهل العلم :إن فرعون كان يأمر بصنع تماثيل وأصنام ويأمرهم بعبادتها ويقولِ:
أنا ربهاِ ،
هذه اْلصنام أربابكم ،وأنا رب أربابكم ،فهو الرب اْلعلى واْلصنام دونهِ .
52
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َ َ ُ َّ
الل ُه َن َك َ
ال﴾ :أي عاقبه هللا عز وجل عقوبة شديدة فيها عبرةِ . ﴿فأخذه
ُْ َ ََ َ ْ
ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ ففرعون وقومه عوقبوا عند املوت ويعاقبون بعد املوت ويعاقبون ﴿نك
يوم الحشرِ .
عوقبوا عند املوت بأن أغرقوا وهم ينظرون مع جبروتهم وقوتهم وتطور آالتهم ،حتى أنهم
صنعوا وبنوا اْلهرامات التي ال زالت قائمة إلى اليوم ،وهللا أعلم في أي زمن بنيت ،لكن في
زمن الفراعنةِ .
مع هذه القوة أخذهم هللا بأيسر أمر ،وعاقبهم وهم ينظرون حيث أغرقهم وهم ينظرونِ .
ً
وعشيا ،وهذا عذابهم في قبورهم ،تعرض ويعاقبون بعد املوت بالنار يعرضون عليها ً
غدوا
ً
وعشياِ . عليهم النار في طرفي النهار ً
غدوا
ويعاقبون يوم الحشر في اآلخرة ،بدخولهم النار خالدين مخلدين فيها ،فهذا نكال اآلخرة
واْلولىِ .
إن في ذلك لعبرة وعظة ملن يخش ى ،واالعتبار باآليات البد فيه من إيمان وخشية وحضور
َ َٰ َ ْ ْ َ َّ َّ
قلب ،فالذكرى تنفع املؤمنين ﴿ َس َيذك ُر َمن َيخش ٰى﴾ [اْلعلىِ ﴿ ،]10:إ َّن ِفي ذ ِل َك ل ِذك َر ٰى ِْلن
ٌ َّ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ ُ َْ ٌ َْ َْ َ
كان له قلب أو ألقى السمع وهو ش ِهيد﴾ [ق ،]37 :فغير املؤمن ،مهما جاءته اآليات ال يعتبر
دنيويا ،وليس كل مؤمن يتذكر باآليات ً بها وال يتعظ بها ،وإن تأثر باآليات الواقعة ،كان تأثره
واملواعظ ،فإن من املؤمنين من تضعف خشيته هلل ،فيقل اعتباره واتعاظه ،وقد يكون
املؤمن يخش ى هللا لكنه غافل ِال يحضر قلبه فال ينتفعِ .
إذن نتعلم أن اآليات واملواعظ إنما ينتفع بها من اتصف بهذه الصفات الثالث :اإليمان
والخشية وإحضار أو حضور القلبِ .
ومن هنا تعلم جواب السؤال الذي يسأله كثير من الناس :ملاذا يدخل الناس املساجد يوم
الجمعة ويستمعون الخطب ويخرجون والغالب أنهم ال يتغيرون؟ ِ
السبب في هذا إما ضعف الخشية ،وإما عدم حضور القلب ،كثير من املؤمنين ال يعرفون
من الخطبة إال الحمد والدعاء ،إذا شرع الخطيب فأثنى على هللا ،شردت قلوبهم خارج
املسجد ،وال يفيقون إال عند فراغه من الخطبة ،فال ينتفعون باآليات واملواعظ إال من رحم
53
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َٰ َ ً َ ْ َ
هللا ﴿ ِإ َّن ِفي ذ ِل َك ل ِع ْب َرة ِْلن َيخش ٰى﴾ [النازعاتِ .]26 :
هذا املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي ،ثم ننتقل إلى التفسير التفصيلي من خالل قراءة ما
كتبه الشيخ عبد الرحمنِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى:
ٰ َ ُ َ ْ ََ َ َ ُ
يقول هللا تعالى لنبيه محمد﴿ :هل أتاك ح ِديث موس ى﴾ وهذا االستفهام عن أمر عظيم
متحقق وقوعه.
( َه ْل) هنا بمعنى قد؛ ْلن السؤال سؤال تقرير وتحقيق ،فاملعنى :قد بلغك خبر موس ى عليه
السالم ،وهو خبر عظيمِ .
وقال بعض اْلفسرينَ ( :ه ْل) هنا بمعنى ما النافية ،ومعنى ذلك :ما أتاك حديث موس ى قبل
الوحي ،ما بلغك حديث موس ى قبل الوحي ،ولكن بلغك بالوحيِ .
واْلول أظهر ،أنها من باب التحقيق بمعنى :قدِ .
وهذا االستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه ،أي :هل أتاك حديثه.
ُ
س ط ًوى﴾ وهو اْلحل الذي كلمه هللا فيه ،وامتن عليه ﴿إ ْذ َن َاد ُاه َ ُّب ُه ب ْال َواد ْاْلُ َق َّ
د
ِ ر ِ ِ ِ
بالرسالة ،وابتعثه بالوحي واجتباه.
وهذا املحل هو وادي طوىِ ،وطوى تعني املقدس .فاسمه :طوى ومعناه :الوادي املقدسِ .
َ َّ َ َ َ ْ
فقال له﴿ :اذ َه ْب ِإل ٰى ِف ْر َع ْون ِإن ُه طغ ٰى﴾.
ً
وجبروتا ً
وأذى ً ً
وكفرا ،فهو قد تجاوز الحد طغيانا في طغى أي تجاوز الحد في الطغيان ،قوة
كل ش يءِ ،
في قوته ،في جبروته ،في أذيته لبني إسرائيل ،في كفرهِ .
َ َّ َ َ َ ْ
﴿اذ َه ْب ِإل ٰى ِف ْر َع ْون ِإن ُه طغ ٰى﴾ أي :فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه.
ْلنك رسول إليه ،وإلى قومهِ .
ٰ َ ُ ْ َ َّ َ َ ٰ َ َ َ َّ
بقول لين وخطاب لطيف لعله يتذكر أو يخش ى ﴿فقل هل لك ِإلى أن تزكى﴾ أي :هل لك
في خصلة حميدة ومحمدة جميلة ،يتنافس فيها أولوا اْللباب وهي أن تزكي نفسك
وتطهرها من دنس الكفر والطغيان إلى اإليمان والعمل الصالح.
54
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أي :هل لك إلى أن تسلم ،فتتزكى وتتطهر من جميع ذنوبك ،فليس بينك وبين هدم جميع
ذنوبك إال أن تسلم ،فإذا أسلمت هدمت ما كان قبل ذلكِ .
َ ُ َ َ َ ً َّ ً ُ
وهذا املذكور هنا ،هو تفسير للقول اللين الذي أ ِمر به موس ى وهارون ﴿فقوال ل ُه ق ْوال ل ِينا﴾
َ َّ َ َ َ َّ
﴿هل ل َك ِإل ٰى أن ت َزك ٰى﴾ِ . [طه ،]44 :هذا تفسيره هنا أن يكون الكالم بأسلوب العرض
ٰ ََ ْ َ َ َٰ َ َ ََ ْ َ
﴿وأه ِديك ِإلى رِبك فتخش ى﴾ أي :أدلك عليه وأبين لك مواقع رضاه من مواقع سخطه.
وأرشدك إلى طاعته ،وأعرفك به حتى تخش ىِ .
ََ
فتخش ى هللا إذا علمت الصراط اْلستقيم ،فامتنع فرعون مما دعاه إليه موس ى﴿ ،فأ َر ُاه
ْ َ ُْ
اآل َية الك ْب َر ٰى﴾ أي :جنس اآلية الكبرى فَّل ينافي تعددها.
ْ َ ْ َ ُْ
﴿اآل َية الك ْب َر ٰى﴾ ،وموس ى عليه السالم جاء بعدد من اآليات ،فلماذا قال هللا﴿ :اآل َية﴾؟ ِ
قال بعض العلماء :أي جنس اآلية ،والجنس يطلق على الكثير ،على العدد كله فال إشكال
في تعددهاِ .
وقال بعض أهل العلم :املقصود أنه عرض عليه اآليات آية آية ،وليس دفعة واحدة ،فأوال
ألقى عصاه ،فإذا هي ثعبان مبين ،فأراه اآلية الكبرى ،ثم أخرج يده من جيبه بيضاء من
غير سوء ،آية أخرى ،فأراه اآليات آية آيةِ .
ض ُاء ل َّلناظر َ
ين﴾ فكذب بالحق ص ُاه َفإ َذا ه َي ُث ْع َب ٌ
ان ُّمب ٌين َو َن َز َع َي َد ُه َفإ َذا ه َي َب ْي َ ﴿ف َأ ْل َق ٰى َع َ
َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
وعص ى اْلمر.
النبي وعص ى هللاِ . فكذب َّ
فكذب النبي :كذب موس ى عليه السالم .وعص ى هللا :فلم يمتثل أمرهِ .
ُ َ
﴿ث َّم أ ْد َب َر َي ْس َع ٰى﴾ أي :يجتهد في مبارزة الحق ومحاربته.
ُ َ
﴿ث َّم أ ْد َب َر﴾ أدبر يعني :أعرض عن الحق ولم يقبل عليه فكأنه أواله دبرهِ .
وقال بعض اْلفسرين :إن فرعون ملا رأى عص ى موس ى حية تسعى عظيمة كبيرة خاف
يتجبر على الناس ،ويتكبر على الناس ،ملا رأى الحية ،ملا رأى العص ى
منها ،وهو الجبار الذي ِ
حية ،عظيمة ،تسعى فر وأدبر خائفا منهاِ .
معنى (يسعى) :كما قال الشيخ يجتهد في مبارزة الحق ومحاربته ،أو يجتهد في إبطال أمر
55
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
56
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وأقروا بباطله يعني :أقروا بما يدعو إليه من الباطل ،ليس أنهم أقروا أن ما عليه باطل،
ال؛ أقروا بما يدعوهم إليه من الباطل فلم يؤمنوا ولم يستجيبوا ،بل استجابوا ْلمر
فرعونِِ .
ُْ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َ َ َ ْ
ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ أي :جعل هللا عقوبته دليَّل وزاجرا ومبينة لعقوبة﴿فأخذه الله نك
الدنيا واآلخرة.
كما قلنا النكال :هو العقوبة الشديدة التي فيها عبرة ،ولذلك قال الشيخ( :أي جعل هللا
عقوبته دليَّل) أي :عبرة وزاجرا ومبينة لعقوبة الدنيا واآلخرةِ .
ُْ َ ْ
وقال بعض أهل العلم﴿ :اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ هي عقوبة اآلخرة وعقوبة اْلولى ،أي :عاقبه هللا
في اْلولى عند موته حيث أغرقه باملاء وهو ينظر ،وملا أيقن املوت وغرغر قال :آمنت أنه ِال
ْ َ
إله إال من آمن به بنو إسرائيل ،فكان في هذا عقوبة له؛ ْلن هذا اإليمان ال ينفعه ﴿آآلن
ََْ َ َ َ
ص ْيت﴾ [يونس ،]91 :فهذه نكال اْلولى ،أي النكال في اْلولى ،واآلخرة :هي عذاب القبر وقد ع
والعذاب يوم القيامةِ .
ُْ َ ََ َ ْ
ال اآل ِخ َر ِة َواْلول ٰى﴾ العقوبة على كلمته اآلخرة وكلمتهوقال بعض أهل العلم :معنى ﴿نك
اْلولى ِ
يعني :عاقبناه عقوبة شديدة على كلمته اْلولى وكلمته اْلخرىِ .ما هما؟ ِ
َٰ َ ُ َُ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ َ
اْل ْع َل ٰى﴾ [النازعاتَ ،]24 :
﴿ما َع ِل ْمت لكم ِم ْن ِإل ٍه غ ْي ِري﴾ [القصص،]38 : ﴿أنا ربكم
فهاتان الكلمتان اْلولى واآلخرةِ .
ٰ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ َ ْ َ
وقال بعض أهل العلم :الكلمة اْلولى :أنا ربكم اْلع ِلى ،واآلخرة تكذيبه موس ى وسعيه في
إهالكهِ .
فيكون املعنى على هذا :فأخذناه بالعقوبة الشديدة التي فيها عبرة بسبب اآلخرة واْلولى،
بسبب كلمته اآلخرة وكلمته اْلولى ،أو بسبب كلمته :أنا ربكم اْلعلى ،وبسبب تكذيبه ملوس ى
عليه السالم وسعيه في إهالكهِ .
َ َ ً َ ْ َ
﴿إ َّن ِفي ذ ِل َك ل ِع ْب َرة ِْل ْن َيخش ى﴾ فإن من يخش ى هللا هو الذي ينتفع باآليات والعبر.
ِ
57
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يعني أن االعتبار والعظة باآليات ،ملن يخش ى من املؤمنين ،بشرط أن ُيحضر قلبه ،فإذا كان
السامع لآليات والناظر لها مؤمنا يخاف هللا ،وأحضر قلبه فإنه ينتفع باآلياتِ .
فإذا رأى عقوبة فرعون ،عرف أن كل من تكبر وعص ى وبارز اْللك اْلعلى ،يعاقبه في
الدنيا واآلخرة ،وأما من ترحلت خشية هللا من قلبه فلو جاءته كل آية لم يؤمن بها.
-تفسير اْلقطع الثالث من السورة-
ََ ْ َ َ َ َ َ َ َ الس َم ُاء ۚ َب َن َ﴿أ َأ ُنت ْم َأ َش ُّد َخ ْل ًقا َأم ََّ
ش ل ْيل َها اها ﴿َ ﴾٢٧رف َع َس ْمك َها ف َس َّو َاها ﴿ ﴾٢٨وأغط ِ
َ
اها ﴿ ﴾٣٠أ ْخ َر َج م ْن َها َم َاء َها َو َم ْر َع َ ٰ َ
ض َب ْع َد ذل َك َد َح َ َ ْ
اها ﴿َ ﴾٢٩واْل ْر َ ض َح َ َو َأ ْخ َر َج ُ
اها ﴿﴾٣١ ِ ِ
ْ ُ
اعا لك ْم َو ِْلن َع ِامك ْم ﴿[ ﴾﴾٣٣النازعات .]33-27 :
َ َ َ ً َّ ُ ال َأ ْ َس َ ْ
اها ﴿ ﴾٣٢مت َوال ِج َب َ ر
ملا سلى هللا عز وجل الرسول صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين ،بذكر قصة موس ى عليه
السالم مع فرعون الطاغية ،عاد الكالم إلى مقصود السورة ،وهو إثبات البعثِ .
فذكر هللا عز وجل ً
شيئا من اآليات الدالة على وجوده ،وعلى ربوبيته ،وعلى تدبيره ،وعلى
ألوهيته ،وعلى قوته ،وعلى أنه على كل ش يء قدير ،وعلى أن البعث أيسر عليه سبحانه
وتعالى ،فقالَ ﴿ :أ َأ ُنت ْم َأ َش ُّد َخ ْل ًقا َأم َّ
الس َم ُاء ۚ﴾ [النازعاتِ .]27 : ِ
خلقا ،أم السماء التي ترونها ،وهي سقف فوقكم ،متسعة فيها آيات أأنتم أقوى وأثقل ً
58
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً َ
شقوقا ،وال ار ً
تخاء ،وهذا يخالف العادة ً
فطورا وال ﴿ف َس َّو َاها﴾ وأحكمها فال ترى فيها
قطعا ،في السقف الصغير ،فكيف بهذا السقف الكبير ،الذي مهما كررت النظر إليه لن ً
ً َ ً َ ً َ َت َرى فيه ً
عيبا ،ولن ت َرى فيه اختالفا ،ولن ت َرى فيه ميال ،ولن ت َرى فيه شقوقا ،وهذا ال
يمكن أن يكون إال من هللا ،فاهلل بناها وأحكمها وحفظها ،مرت عليها سنون وسنون ما تغير
فيها ش يءِ .
إذن انتبهوا :بناها ورفعها وأحكم صنعها ،وحفظ صنعها ،فإنه لم يتغير ً
أبدا ،وال يمكن أن
يكون ذلك إال من هللا سبحانه وتعالى،وأجرى فيها ٍ
آيات عظيمة ِ
ََ ْ َ َ َ َ
ش ل ْيل َها﴾ أي :أظلم ليلها ،كيف يأتي الظالم؟ ِ ﴿وأغط
يأتي الظالم بغيبوبة الشمس ،أن تغرب الشمس ،وأين الشمس؟ الشمس في السماء ،نراها
وهو الشمس ،حيث تغيب
متعلق بالسماء ِ بأمر الليل أظلم : أي ا﴾ ه ﴿و َأ ْغ َط َ
ش َل ْي َل َ فوقناَ ،
ٍ ٍ
فيقبل الليلِ . ُ
ُ
اها﴾ أنار نهارها وأبرز نهارها ،بأي أمر؟ بالشمس ،حيث تشرق الشمس ض َح َ﴿ َو َأ ْخ َر َج ُ
59
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فكل ش يء في اْلرض خلقه هللا لإلنسانُ ﴿ ،ه َو َّالذي َخ َل َق َل ُكم َّما في اْلرض َجم ً
يعا﴾ ِ ِ ِ
عائد إلى اإلنسان .من الذي خلق هذا؟ ودبر هذا؟ ال [البقرة ]29 :فنفع كل ما في اْلرض ٌ
60
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض أهل العلم :املرعى هو كل نبات ،فيدخل في ذلك ما يأكله اإلنسان وما تأكله
الدواب ،وهذا أقرب وهللا أعلم أن املقصود باملرعى النبات مطلقا ،سواء ما ترعاه الدواب
أو ما يأكله اإلنسان أو غير ذلكِ .
61
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ال َأ ْ َس َ َ ْ
اها﴾ أي :ثبتها باْلرض. ﴿وال ِج َب َ ر
كما قلنا ثبتها في اْلرض ،وثبت اْلرض بها ،هذا معنى أرساهاِ .
قال :فدحا اْلرض بعد خلق السماوات كما هو نص هذه اآليات الكريمة.
ُ َ َّ ُ
أما خلق نفس اْلرض ،فمتقدم على خلق السماء .كما قال تعالى ۞﴿ :ق ْل أ ِئنك ْم
َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ َن َ ُ َ َ ً َٰ َ َ ُّ ْ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َّ
اْلين﴾ إلى أن لتكف ُرون ِبال ِذي خلق اْلرض ِفي يومي ِن وتجعلو له أندادا ۚ ذ ِلك رب الع ِ
َ ََ ََ َ َ َ َ ْ ال َل َها َو ِل ْ َأل ْ
ان َف َق َ
الس َماء َوه َي ُد َخ ٌاس َت َو ٰى إ َلى َّ ُ
ض ائ ِت َيا ط ْو ًعا أ ْو ك ْر ًها قالتا أت ْينا
ِ ر ِ ِ ِ
﴿ث َّم ْ قال:
َ َ ض ُ
اه َّن َس ْب َع َ َطائع َين َف َق َ
ات﴾ [فصلت ،]12-9 :فالذي خلق السماوات العظام وما ٍ او م س ِ ِ
فيها من اْلنوار.
كما قلنا هي هكذا بالترتيب :هللا عز وجل خلق اْلرض في يومين ،ثم استوى إلى السماء
فخلقهن في يومين ،ثم دبر فيها أقواتها في يومينِ .
فالذي خلق السماوات العظام ،وما فيها من اْلنوار واْلجرام ،واْلرض واْلبراج الكثيفة،
وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم ،البد أن يبعث الخلق اْلكلفين فيجازيهم
بأعمالهم ،فمن أحسن فله الحسنى ،ومن أساء فَّل يلومن إال نفسه.
قلنا إن هذه اآليات دالة على وجود هللا وكل عاقل يوقن بآية من هذه اآليات ،وليس بكل
هذه اآليات أن هللا عز وجل موجود ،فإنه ال يمكن وجود هذه اآليات إال من هللا سبحانه
وتعالىِ .
فال يمكن أن توجد نفسها ،وال يمكن أن توجد صدفة ،وال يمكن ملخلوق أن يوجدها،
فتعين أن موجدها هو العظيم سبحانه ،وهي دالة على ربوبية هللا ،فهو الذي ربى خلقه
بالنعم ،وأمدهم بالقيم ،وهي دالة على ألوهية هللا ،فاهلل هو املستحق للعبادة ،وهي دالة
على قوة هللا ،فاهلل هو القوي املتين ،وهي دالة على أن هللا على كل ش يء قدير ،فيجب
امتثال أمره ،وتصديق كالمه ،وهي أيضا دالة على أن البعث أيسر عليه من هذا الخلق،
فإن اإلعادة أيسر من االبتداء كما هو معلومِ .
62
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ان َما َس َع ٰى ﴿َ ﴾٣٥و ُبر َز ِت ْال َجح ُ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ الط َّام ُة ْال ُك ْب َر ٰ
َّ ﴿فإ َذا َج َِ َ
يم ِ ِ نس اإل
ِ ر ك ذ ت ي م وي ﴾ ٣٤ ﴿ ى ت اء ِ
ْ َْ الد ْن َيا ﴿َ ﴾٣٨فإ َّن ْال َجح َ َ
ْلَن َي َر ٰى ﴿َ ﴾٣٦فأ َّما َمن َط َغ ٰى ﴿َ ﴾٣٧و َآث َر ْال َح َي َاة ُّ
يم ِه َي اْلأ َو ٰى ِ ِ ِ
ْ َْ َ ْ َ ْ الن ْف َ َ اف َم َق َ َ َّ َ ْ َ َ َ
س َع ِن ال َه َو ٰى ﴿ ﴾٤٠ف ِإ َّن ال َج َّنة ِه َي اْلأ َو ٰى َّ
ام َرِب ِه َونهَى ﴿ ﴾٣٩وأما من خ
َ ْ َ َ َ َّ َ َ َّ َ َُ َ
يم أنت ِمن ِذك َر َاها ﴿ِ ﴾٤٣إل ٰى َرِب َك اها ﴿ِ ﴾٤٢ف ان ُم ْر َس َ ﴿َ ﴾٤١ي ْسألون َك َع ِن الساع ِة أي
ً َ َ َ ْ ُ َّ ََ نت ُمنذ ُر َمن َي ْخ َش َ َّ َ َ َ
اها ﴿ ﴾٤٥كأ َّن ُه ْم َي ْو َم َي َر ْون َها ل ْم َيل َبثوا ِإال َع ِش َّية أ ْو ِ اها ﴿ِ ﴾٤٤إنما أ ُم َنت َه َ
ملا بين ربنا سبحانه وتعالى اآليات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ،وعلى ربوبيته ،وعلى
ألوهيته ،وعلى تدبيره للكون ،وعلى أنه القوي املتين ،وعلى أنه على كل ش يء قدير ،وهذه
ا ِآليات تدل على أن هللا سبحانه وتعالى قادر على بعث ِّ
الناس ،وعلى حسابهم ،وعلى ما في
اليوم اآلخر وما وراءهِ .
ِّ الط َّام ُة ْال ُك ْب َرى﴾ يعني إذا جاءت ِّ
َّ ِّ ِّ َ َ
الداهية الكبرى التي ال وجل﴿ :ف ِإذا َج َاء ِت
قال هللا عز ِ
كل داهية ،وهي يومكل داهية ،وتغلب ك ِّل داهية ،وتعلو ِّ أمر منها ،بل هي تعم ِّ أدهى منها ،وال ِّ
القيامة.
ِّ كل إنسان عمله في ِّ
الدنيا ،من خير أو ِّ ِّ
يتذكر ِّ
شر ،وهو سعيه الذي سعى به في ذلك اليوم،
إلى ِّبه سبحانه وتعالى ،ال ينس ى منه شيئا؛ في ِّ
الدنيا ،قد يعمل العمل ثم ينساهِّ ،أما في ر
ِّ
يتذكر ِّ ِّ
كل عمله وال ينس ى منه شيئاِ . اآلخرة ،فإنه
ثم يراه في كتاب يخرجه له رِّبه سبحانه وتعالى ،فهو ُيحاسب نفسه ،وكفى بنفسه حسيبا
عليه ،ويبلو عملهِ .
ثم بعد ذلكِ : ِّ
حاسب بل يدخل ِّ
الجنة بغير حساب وال عذابِ . الناس من ال ُي َ من ِّ
حاسب حسابا يسيرا ،فيعرض عليه عمله عرضا مع ِّ
الستر عليهِ . الناس من ُي َ ومن ِّ
ِّ
ومن ِِّ
الناس من ُيناقش عمله مناقشة ،ومن نوقش الحساب ُع ِذبِ .
63
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
64
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
منغص له ،فيها ما ال عين رأت ،وال أذن سمعت ،والخطر على قلب بشر ،تلكم الجنة مأواه،
منزله ،ومقره ،ومصيره الذي يرجع إليهِ .
َّ َ َ َّ َ َُ َ
اها﴾ يسألك الناس مؤمنهم وكافرهم ،عن الساعة متى ان ُم ْر َس َ﴿ َي ْسألون َك َع ِن الساع ِة أي
وقوعها؟ وما زمان وقوعها؟ ِ
في َوجه إلى ما ينفعه ،وهو االستعداد لها ،ولذلك
فأما املؤمن :فيسأل عن ذلك ليستعد لهاُ ،
ملا قال رجل :يا رسول هللا متى الساعة؟ قال :ماذا أعددت لها؟ كما ثبت في الصحيحينِ .
وأما الكافر :فيسأل متى الساعة استهز ًاء بالنبي ،واستبعادا لوقوعها ،فيقابل سؤاله
بالوعيد بأهوالها ،ومافيها للكفار من الفزع الشديدِ .
ن َ َ ْ َ َ َ
﴿ ِفيم أنت ِمن ِذكراها﴾ :في أي ش يء أنت من ذكراها ،إنك ال تعلم متى تكو ِِ .
فإن هذا مما استأثر هللا بعلمه ،فال ينبغي لك أن تسأل متى الساعةْ ،لن هذا مما ال سبيل
إلى علمه ،فإنه ال يعلمه إال هللاِ .
وال ينبغي لهم أن يسألوك فإنك ال تعلم متى الساعةِ .
َّ َ َ َ
نت ُمنذ ُر َمن َي ْخ َش َ
اها﴾ :فوظيفتك أن تخوف بالساعة وما فيها ،وهذه النذارة لكل ِ ﴿إنما أِ
أحد ،ملن يخش ى ،ومن ال يخش ى ،لكن ملا كان الذي ينتفع باإلنذار هو الذي يخش ى ،خص
هللا عز وجل من يخش ى هنا؛ ْلن إنذار من ال يخش ى ضائع ،فإنه ال ينتفع بالنذارة؛ أعني أنه
ضائع بالنسبة له ،وإال فإن فيه إقامة الحجة عليه ،وهذا سر تخصيص من يخش ى هنا،
أنه هو الذي ينتفع بالنذارة ،وفي هذا إشارة إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ينبغي أن يشتغل
ببيان أهوالها ،وبيان قرب قيامها ،وأن اإلنسان ينبغي أن يشتغل بما يجعله يخافها ،فيتقي
ذلك اليوم الذي يرجع فيه إلى هللا ،ال أن يشتغل بزمان وقوعها ،كأن أولئك املستبعدين
لها ،املنكرين لها ،يوم يرونها لم يمكثوا في دنياهم إال ً
جزء من النهار ،إما آخره وهو
العشية؛ والعشية من بعد الظهر إلى آخر النهار ،وإما ضحى؛ والضحى من ارتفاع الشمس إلى
الزوال ،وفي هذا إشارة إلى حقارة الدنيا ،وسرعة زوالها ،وقلتها فما الحياة الدنيا ومتاعها في
اآلخرة إال قليل ،ويا ويح ،ويا خسارة من قدم القليل على الكثير ،وقدم الفاني على الباقي،
قدم ما ال يبقى منه ش يء ،بل كل ما فيه يمر ،إال ما يسعى به اإلنسان من العمل ،فإنه
65
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
66
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ثم يرى عمله كله في كتاب ،ثم يكون شأن الحساب؛ من الناس من ال يحاسب ،ومن الناس
من يحاسب كما سمعناِ .
ويتذكر اإلنسان ما سعى في الدنيا من خير وشر ،فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته،
ويغمه ويحزن ،لزيادة مثقال ذرة في سيئاته ،ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما
سعاه في الدنيا ،وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا كانت سوى اْلعمال.
َ ﴿و ُبر َز ِت ْال َجح ُ
يم ْلَن َي َر ٰى﴾أي جعلت في َ
الب َراز ظاهرة لكل أحد ،قد ُه ِيئت ْلهلها َ
ِ ِ ِ
واستعدت ْلخذه منتظرة ْلمر ربها .
فيراها كل ذي عينين تتلظى ،وذلك عندما يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام ،مع كل زمام
سبعون ألف ملك ،وهذا عدد هائل جدا ،وقد ثبت هذا في صحيح مسلمِ .
يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام ،مع كل زمام سبعون ألف ملك ،فما أفضعه من منظر وما
أعظمه من أمر ُيرى ،يقطع القلوبِ .
َّ ُ ْ ُ َ َ
قلنا :هذا ،وما بعده جواب؛ ﴿ف ِإذا َج َاء ِت الط َّامة الك ْب َر ٰى﴾ فإن الناس ينقسمون إلى
فريقينِ .
ٰ َ َ َّ َ َ َ
﴿فأما من طغى﴾ أي جاوز الحد بأن تجرأ على اْلعاص ي الكبار ،ولم يقتصر على ما حده
هللا.
وآثر الحياة الدنيا على اآلخرة ،فصار سعيه لها ووقته مستغرق في حضوضها وشهواتها
ونس ي اآلخرة والعمل لها.
فع ِمل للدنيا ،وسعى لها ،ولها بالدنيا ،وترك العمل لآلخرةِ . َ
ْ َْ ﴿فإ َّن ْال َجح ََ
يم ِه َي اْلأ َو ٰى﴾ ِ ِ
ِ
الجحيم :هي النار التي اشتد حرها ،و عظم عذابها ،فهي ذات الحر الشديد و العذاب الذي
ال ُيطاقِ .
فإن الجحيم هي اْلأوى له؛ أي اْلقر و اْلسكن ْلن هذه حاله.
67
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
68
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
ان :بمعنى؛ متى؟ ِأ َّي َ ِ
ُم ْر َس َاها :أي وقوعهاِ .
وقال بعض اْلفسرين :قيامها .وقال بعض اْلفسرين :زمانها .واملعنى متقاربِ .
وقال بعض العلماء :السائل؛ كل الناس من املؤمنين والكافرين ،ولكن املؤمن يسأل
ً
واستبعادا ،كما ذكرنا في التفسير املوضوعيِ . ليستعد ،والكافر يسأل استهز ًاء
ْ َ َ َ
يم أنت ِمن ِذك َر َاها﴾ أي ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة فأجابهم هللا بقولهِ ﴿ :ف
وقت مجيئها ،فليس تحت ذلك نتيجة.
ولهذا ْلا كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ،وال دنيوية ،بل اْلصلحة
في إخفائه عليهم ،طوى علم ذلك عن جميع الخلق واستأثر بعلمه.
يم﴾ :أصلها :فيما ،فلما وقعت ،ما ،بعد حرف الجر في االستفهامُ ،حذف ألفها للداللة﴿ف َ
ِ
على االستفهامِ .
يم﴾؛ أي ش يء أنت من ذكراها ،فإنك ال تعرف زمن وقوعهاِ .ومعنى ﴿ف َ
ِ
قال بعض العلماء :هذا خطاب للنبي صلى هللا عليه وسلمْ ،لن النبي صلى هللا عليه
وسلم ،كان يسأل متى الساعة؟ ِ
ْلن املؤمنين كانوا يسألونه :متى الساعة؟ ِ
فأخبره هللا عز وجل :أنه ال سبيل له إلى علمها ،وال ْلحد من الناس ،وال ْلحد من الخلق،
فإن هللا استأثر بعلمهاِ .
وقال بعض أهل العلم :هذا خطاب في ظاهره للنبي صلى هللا عليه وسلم ،واملقصود به
ََ
إياك أعني ،واسمعي يا جارة؛ فالخطاب في الظاهر للنبي صلى هللا
أولئك الكفار ،على سن ِ ِنِ :
عليه وسلم ،واملقصود به أولئك الكفارِ .
وقال بعض أهل العلم :معنى اآلية؛ أنت ال تعلم زمان وقوعها ،فلماذا يسألونك عن زمان
وقوعها وأنت ال تعلمه؟ هذا تقريع لهم في سؤالهم هذاِ .
اها﴾ أي إليه ينتهي علمها. فقال﴿ :إ َل ٰى َ ب َك ُم َنت َه َ
ِ رِ
أي :علم وقتها ،فال يعلم وقتها إال هللا سبحانه وتعالىِ .
69
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
70
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقد يكثر عليه الكفر وأنت على السنة ،و يؤذيك الناس بأقوالهم :متشدد ،متنطع ،وهابي،
معقدِ ..
ِّ
إذا قرأت قصص املاضين ،وأخبار السلف ،سالك ذلك وكان لك فيه عبر،ة وصبرك ذلك.
كما أن في ذلك رفعا لهمة املؤمن ،ولذلك ينبغي على اإلنسان أن يعتني بالقصص الصحيح
لألمم املاضية ،وللسلف السابقين ،فإن في هذا فائدة عظمى ،وبهذا تعرف سر كثرة
القصص في القرآنِ .
والفائدة الثانية :أن املؤمن إذا أراد أن ينتفع بالعلم ،وينتفع باملواعظ ،وباآليات ،فعليه
بأمرينِ :
اْلو ِل :أن ينمي خوف هللا في قلبه ،وأن ينمي ويزيد خشية هللا في قلبهِ .
واْلمر الثاني :أن يجاهد نفسه عن الغفلة ،بأن يجاهد نفسه على إحضار قلبه ،والشيطان
ملا علم أن املؤمنين تنفعهم الذكرى ،حرص على أن ال يستمعوا للذكرىِِ .
فإن غلبه املؤمنون وحضروا ،شاغلهم ليخرجوا؛ يأتي املؤمن يوم الجمعة إلى الصالة،
ويحضر ،ولكن الشيطان ينومه ،يأتي قبل الصالة وهو من أنشط العباد ،وإذا صعد
الخطيب بدأ ينام ،وإذا انتهت الصالة وإذا به من أنشط الناسِ .
أو ُي ْخ ِر ُج قلبه؛ يأتي طالب العلم إلى الدروس فيشغله الشيطان بما يصرف قلبه ،وقد يكون
بالعلم ،واليوم عند الشيطان وسيلة جديدة؛ الهواتف في أيدي الطالب؛ إذا قال الشيخ
شيئا بدأوا يفتشون في الهواتف ،ويخرجون عن الدرسِ .
إذن؛ هذه فائدة نفيسة لكل مؤمن ولطالب العلم خصوصا ،إذا أردت أن تنتفع بالعلم وأن
تنتفع باملواعظ وأن تنتفع باآليات فعليك بأمرينِ :
-أن تنمي خوف هللا في قلبكِ .
-وأن تجاهد نفسك في إحضار قلبكِ .
الفائدة الثالثة :أن أعظم املعوقات عن لزوم الصراط املستقيم :هو الهوىِ .
فإن الهوى يدعو اإلنسان إلى ترك الواجباتـ وفعل املحرمات ،وأقبح من ذلك أنه يدعو
بعض الناس إلى تقبيح الحق وتزيين الباطلِ .
71
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الهوى؛ قد يدعو بعض الناس إلى تقبيح الحق ،وتزيين الباطل ،وقد يتسلط حتى على طالب
العلم ،فيكون عنده هوى في ش يء ،فيزين هذا الش يء ،أحدهم قال :إن الغناء واملوسيقى
ليست حراما كلها ،فلما ناصحه بعض خواصه سراِ .
قال :يا أخي أنا أجلس مع أهلي وجماعتي ،وتأتي املوسيقى في التلفاز ،واإلذاعة ،وأستحي أن
أقول لهم أرخوا الصوت ،هذا الذي دعاه أن يقو ِل :إن املوسيقى ليست حراما كلهاِ .
فمن أعظم الشرور أن يتسلط الهوى على طالب العلمُ ،ي َق ِلب اْلمور حتى يزين الباطل،
ويقبح الحق ،وهذا من أسوأ ما يكون ،ولذلك ينبغي على املؤمن أن يحذر الهوى ،وأن
يجاهد نفسه إلخراج نفسه من داعية هواه إلى طاعة موالهِ .
72
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة عبس
الر ْح َمٰـن َّ
الر ِح ِيم
َّ
الل ِـه َّ ِب ْس ِم
ِ
َ َّ َّ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َّ َّ َْ َ َ َ َ َ َّ
يك ل َعل ُه َي َّزك ٰى ﴿ ﴾٣أ ْو َيذك ُر فتنف َع ُه س َوت َول ٰى ﴿ ﴾١أن َج َاء ُه اْل ْع َم ٰى ﴿ ﴾٢وما يد ِر ﴿عب
َ َ َ َّ َّ ََ َ
نت َل ُه َت َ َ َّ َ ْ َ ْ َ ْ
ص َّد ٰى ﴿َ ﴾٦و َما َعل ْي َك أال َي َّزك ٰى ﴿َ ﴾٧وأ َّما استغن ٰى ﴿ ﴾٥فأ الذك َر ٰى ﴿ ﴾٤أما م ِن ِ
َْ ٌ َ َّ َ َ ْ ََ َ ْ َ
َمن َج َاء َك َي ْس َع ٰى ﴿َ ﴾٨و ُه َو َيخش ٰى ﴿ ﴾٩فأنت َعن ُه تله َّٰى ﴿ ﴾١٠كَّل ِإ َّن َها تذ ِك َرة ﴿﴾١١
َ ََ َ
ف َمن ش َاء ذك َر ُه ﴿[ ﴾﴾١٢عبس]12-1 :
النبي صلى هللا عليه وسلم كان حريصا على دعوة الناس ،وعلى إيمان أشراف الناس؛ ْلن
النبي صلى هللا عليه وسلم كان يدرك أن إيمان اْلشراف يقود غيرهم إلى اإليمانِ .
فإذا آمن أشراف القوم تبعهم غيرهم من القوم ،فكان حريصا صلى هللا عليه وسلم على
إيمان اْلشراف ،فكان يوما جالسا مع بعض أشراف قريش يدعوهم إلى اإلسالم ،وهم
معرضون ،وهم متعالون ،وهم متكبرون عن الحق ،فجاءه رجل أعمى ،واْلعمى ال يبصر،
وال يدري عن حال النبي صلى هللا عليه وسلمْ ،لن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يناجيهم،
ما كان يتحدث بصوت عالِ .
فخاطب النبي صلى هللا عليه وسلم ،وقال :أرشدني ،أرشدني ،علمني ،فقطع مناجاة النبي
صلى هللا عليه وسلم لألشراف ،فعبس النبي صلى هللا عليه وسلم في وجهه؛ أي تغير وجه
النبي صلى هللا عليه وسلم كراهة لفعلهِ .
وتولى؛ أعرض عنه بوجهه ،يعني أن النبي صلى هللا عليه وسلم نظر إليه ،وقد تغير وجه
النبي صلى هللا عليه وسلم كراهة ما فعل ،ثم أعرض عنه بوجهه ،ورجع يحدث اْلشرافِ .
ٰ
لألعمى؛ وإنما حرصا على إيمان أولئك ما فعل ذلك النبي صلى هللا عليه وسلم ِاحتقارا
اْلشراف ،وإكماال ملا كان قد بدأ به ،فعاتبه هللا بهذا العتاب اللطيفِ .
س س َو َت َو َّل ٰى﴾ ،من هو؟ ما قال :عبست وتوليت .ما قالَ ،
﴿ع َب َ ﴿ع َب َ
أنظر كيف قال هللاَ :
َ َ َ َّ
َوت َول ٰى﴾ ،بالغ َيبة ،كأنه غ ْي ُره ،كأن هللا يحدث محمدا صلى هللا عليه وسلم عن غيره،
َ َ َ َ َّ
س َوت َول ٰى﴾ ،ما واجهه بهذا ،وهذا من لطف العتاب ،وهذا من أدب الخطاب وينبغي ﴿عب
أن نتعلم من القرآن اْلدبِ .
73
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
74
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ََ
﴿وأ َّما َمن َج َاء َك َي ْس َع ٰى﴾ يشتد في طلب العلم وفي طلب الخيرِ .
ْ َ
﴿و ُه َو َيخش ٰى﴾ وهو يخاف هللاِ . َ
ُ ََ َ ْ ََ
﴿فأنت َعن ُه تله َّٰى﴾ فأنت تعرض عنه ،وتشتغل بغيرهِ .
َ َّ
﴿كَّل﴾ ال ينبغي لك أن تفعل هذا ،فليس الخير فيما فعلتِ .،
خيرا برجاء إيمان أولئك ،ولكن الخير والكمال فيه طبعا النبي صلى هللا عليه وسلم فعل ً ً
ُ باإلقبال على املُقبل ،ال اإلعراض عنه واالشتغال باملستغني ،وهذه ً
أيضا قاعدة :أن املقبل ِ
خير من أشراف الدنيا؛ طالب العلم الفقير ،الغريب ،الذي يأتي من بلده ،وفي على الخير ٌ
غربة وفقر ،لكن جاء لطلب العلم خير من أغنياء الدنيا الذين ال ُيقبلون على الخير،
ُّ
فينبغي اإلقبال على هؤالء الطالب ،وبذل النفس لهم ،والتواضع لهم ،وعدم االشتغال
بغيرهم عنهم ،هذه قاعدة نأخذها من هذه القصةِ .
َ َّ
﴿كَّل﴾ هذا للردع والزجر عن هذا الفعل ،فليس الخير كما فعلتِ .
َْ ٌ
﴿إ َّن َها﴾ إن السورة والقصة ﴿تذ ِك َرة﴾ لك ولقومكِ . ِ
﴿إ َّن َها﴾؛ أي هذه السورة أو هذه القصة ،وقعت بقدر هللا لتكون تذكرة لك ولقومكِ . ِ
َ َ َ َ
﴿ف َمن ش َاء ذك َر ُه﴾ فمن شاء ذكر التنزيل والوحي فعمل به؛ يعني فمن شاء من العباد ذكر
الوحي والتنزيل فتذكر وعملِ .،
ََ
وقال بعض اْلفسرين :فمن شاء هللا ذك َره؛ أي ألهمه وهداهِ .
يعني بعض اْلفسرين قال :وهذا الذي عليه اْلكثر ،فمن شاء من العباد ذكر الوحي
ُ َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ
والتنزيل فتذكر وعمل به﴿ ،وما تشاءون ِإال أن يشاء اللـه﴾ [التكويرِ ]29 :
ََ
وقال بعض اْلفسرين :معنى اآلية؛ فمن شاء هللا ،ذك َر ُه؛ أي هداه وألهمه ،وليس اْلمر
بالشرف في الدنيا وال الفقر والضعفِ .
هذا املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوع لهذا املقطع ونعود إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما
ذكره الشيخ.
قال رحمة هللا عليه :سبب نزول هذه اآليات الكريمات أنه جاء رجل من اْلؤمنين أعمى
يسأل النبي صلى هللا عليه وسلم ،ويتعلم منه ،وجاءه رجل من اْلغنياء ،وكان صلى هللا
75
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ،فمال صلى هللا عليه وسلم وأصغى إلى الغني،
وصد عن اْلعمى الفقير ،ر ً
جاء لهداية ذلك الغني ،وطمعا في تزكيته ،فعاتبه هللا بهذا
العتاب اللطيف فقال:
َ َ َ َ َّ ُ
س َوت َول ٰى﴾ ،في ابن أم روى الترميذي عن أمنا عائشة رض ي هللا عنها أنها قالت( :أ ِنزل ﴿عب
مكتوم اْلعمى ،أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فجعل يقول :يا رسول هللا أرشدني.
وعند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رجل من عظماء املشركين ،فجعل رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم يعرض عن اْلعمى ،ويقبل على اآلخر ) .وصححه اإلمام اْللبانيِ .
وقد جاء عند الطبري :أن الذين كانوا عند النبي صلى هللا عليه وسلم هم عتبة بن ربيعة،
وأبو جهل ،والعباس بن عبد املطلب .وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يناجيهم قبل مجيء
اْلعمىِ .
وقيل كان النبي صلى هللا عليه وسلم يناجي أمية بن خلف .وقيل غير هذاِ .
والشاهد أن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يناجي بعض وجهاء وأشراف قريش ،وجاء هذا
اْلعمى وهو ابن أم مكتوم باتفاق الروايات وباتفاق املفسرين ،وهذا كان في مكة ْلن
السورة مكية ،ولذلك ما ذهب إليه ابن العربي املالكي في نقد كالم املفسرين غير سديد؛
ْلن هذه السورة مكية وليست في املدينة ،وهذه القصة وقعت في مكة وإن كان ابن أم
مكتوم من أهل املدينة لكن القصة وقعت في مكةِ .
س﴾ أي في وجهه.﴿ع َب َ
قال :فعاتبه هللا بهذا العتاب اللطيف ،فقالَ :
س﴾كما قلنا معناه؛ قبض وجهه ،وتغير وجهه كراهة لفعل اْلعمىِ . ﴿ َع َب َ
قبض النبي صلى هللا عليه وسلم وجهه وتغير وجهه كراهة لفعل اْلعمىِ .
َ َ َّ
﴿وت َول ٰى﴾ في بدنه ْلجل مجيء اْلعمى.
يعني أعرض عنه ببدنهِ .
وقال بعض اْلفسرين :أعرض عنه بوجهه ،واملعنى واحد؛ يعني نظر فيه وقد تغير وجهه،
ثم أعرض عنه وأقبل على وجهاء قريش ،أين اللطف في العتاب؟ ِ
َ
كما قلنا أن الخطاب للغائب ،ولم يخاطب به النبي صلى هللا عليه وسلمِ .
76
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهذا اْلدب لو أعملناه لتجنبنا كثيرا من املشاكل ،حتى في البيت إذا أخطأت الزوجة مثال،
لو أن الزوج أخذ أسلوب العتب غير املباشر لكان في ذلك خير كثيرِْ ،لن العتب املباشر في
الغالب يدعو إلى املغالبةِ .
إذا قلت :أنت كذا قالوا :أنت ،لكن لو جاء بأسلوب غير مباشر فإنه ُيقبل ويكون له تأثير،
وعلى كل حال الحكمة وضع كل ش يء في موضعه.
َ َّ َ َ ُ ْ َ َ َّ
(﴿ي َّزك ٰى﴾ يك ل َعل ُه﴾ أي :اْلعمى
قال :ثم ذكر الفائدة في اإلقبال عليه ،فقال﴿ :وما يد ِر
أي :يتطهر عن اْلخَّلق الرذيلة ،ويتصف باْلخَّلق الجميلة؟
َ َّ
﴿ي َّزك ٰى﴾ يعني يتطهر من ذنوبهِ . وكما قلنا ،قال بعض املفسرين:
َ َّ
﴿ي َّزك ٰى﴾ يعني يسلمِ . وقال بعض اْلفسرين:
َ َّ
﴿ي َّزك ٰى﴾ لعله أن يكون أزكى من أولئك اْلشراف. وأشار بعضهم إلى أن معنى
َ ْ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ ُ ْ
الذك َر ٰى﴾ أي :يتذكر ما ينفعه ،فينتفع بتلك الذكرى ،وهذه فائدة ﴿أو يذكر فتنفعه ِ
كبيرة ،هي اْلقصودة من بعثة الرسل ،ووعظ الوعاظ ،وتذكير اْلذكرين.
فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك مقبَّل ،هو اْلليق الواجب ،وأما تصديك
وتعرضك للغني اْلستغني الذي ال يسأل وال يستفتي لعدم رغبته في الخير ،مع تركك من
هو أهم منه ،فإنه ال ينبغي لك.
فإنه ليس عليك أن ال يزكى ،فلو لم يتزكى ،فلست بمحاسب على ما عمله من الشر.
فدل هذا على القاعدة اْلشهورة ،أنه :ال يترك أمر معلوم ْلمر موهوم ،وال مصلحة
اْلفتقر إليه ،الحريص
ِ متو َّهمة وأنه ينبغي اإلقبال على طالب العلم،
متحققة ْلصلحة َ
77
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َّ َّ
﴿و َما َعل ْي َك أال َي َّزك ٰى﴾ ليس عليك ش يء لو لم يؤمنِ . َ
ََ
﴿وأ َّما َمن َج َاء َك َي ْس َع ٰى﴾ يسعى :يعني يشتد في طلب الخير ،حريص ،فهو لم يبقى في بيته
تذهب إليه ،بل جاءك ولم يأتك كسوال ،بل جاءك يسعى ،يشتد في طلب الخيرِ .
ْ َ
﴿و ُه َو َيخش ٰى﴾ وهو يخاف هللاِ . َ
ُ ُ ُ َّ ٰ ََ َ َْ ُ ََ
قبل على غيره ،وتنشغل بغيره عنهِ .
عرض ،وت ِ﴿فأنت عنه تلهَّى﴾ تلهى :يعني ت ِ
َْ ٌ َ َّ
﴿كَّل ِإ َّن َها تذ ِك َرة﴾ أي حقا.
حقاِ .﴿ َك ََّّل﴾قال بعض اْلفسرين :معناهاً :
وقال بعض اْلفسرين :هي على بابها ،للردع والزجر ِّ
عما تقدم ذكره مما وقع من النبي صلى
هللا عليه وسلم ،أي ال ينبغي أن يكون اْلمر كما فعلت ،فإنك وإن ابتغيت الخير وفعلت ما
فيه املصلحة ،فإن اْلصلح هو كذاِ .
ٌ َْ ٌ َ َّ
﴿كَّل ِإ َّن َها تذ ِك َرة﴾ أي حقا إن هذه التذكرة موعظة من هللا يذكر بها عباده ،ويبين لهم في
كتابه ما يحتاجون إليه ،ويبين الرشد من الغي.
وقال بعض اْلفسرينِ ﴿ :إ َّن َها﴾ :أي السورة ،سورة عبس ،تذكرةِ .
وقال بعض اْلفسرينِ ﴿ :إ َّن َها﴾ :أي القصة ،التي وقعت تذكرة ،وكل ما يقع للنبي صلى هللا
خير لألمة ،ملا سها النبي صلى هللا عليه وسلم في الصالة تعلمنا أحكامعليه وسلم فيه ٌ
السهو ،ملا وقعت قصة اإلفك تعلمنا كثيرا من الفوائد ،ولذلك يقول العلماء :النبي صلى
هللا عليه وسلم من خواصه أنه يفعل املكروه ويؤجر عليه ،ماذا نقول في تعريف املكروه؟ ِ
ما ُيثاب تاركه وال ُيعاقب فاعله ،النبي صلى هللا عليه وسلم من خواصه أنه يفعل املكروه
ُويثاب عليه ،ملاذا؟ ْلنه بفعله ُيعلمنا ،يبين لنا الشرعِ .
َ ََ َ
فإذا تبين ذلك ﴿ف َمن ش َاء ذك َر ُه ﴾ أي عمل به.
فمن شاء من العباد ذكره ،ما هو؟ الضمير يعود إلى ماذا؟ إلى التنزيل والوحي ،فعمل به.
وقال بعض اْلفسرين :وهو منسوب البن عباس رض ي هللا عنهما (فمن شاء هللا ذكره) أي
ألهمه وهداه ،وال تعارض فإنه لن يتذكر أحد حتى يشاء هللا أن يتذكر ،ولن يشاء أحد شيئا
حتى يشاء هللا سبحانه وتعالى.
78
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
79
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
النبي صلى هللا عليه وسلم ،في ثالث وعشرين سنةِ .
إذن ال تدافع بين كون القرآن مكتوبا ،وبين كونه كالم هللا سبحانه وتعالىِ .
وقال بعض اْلفسرين :هذه الصحف؛ هي كتب في أيدي املالئكة يقرؤون منها القرآن في
السماء ،فاملالئكة يقرؤون القرآن في السماءِ .
وقال بعض املفسرين :بل هو املصحف في أيدي املؤمنين في الدنيا ،وال مانع من إرادة كلها،
فإن اْلوصاف املذكورة هنا متحققة في جميعها ،فالصحف املكرمة هي هذه اْلربعة التي
ذكرها العلماءِ .
ُ ُ َ ْ َ ُ َْ َ
نسان َما أكف َر ُه﴾ ل ِعن ،وعذب ،وأهلك اإلنسان الذي يتحدث عنه في هذه اإل
﴿ق ِتل ِ
السورة ،وهو الكافر املنكر للبعثِ .
َْ َ
﴿ َما أكف َر ُه﴾ ما الذي جعله يكفر؟ مع أن الدواعي داعية إلى اإليمان ،فالفطرة تدعوه إلى
اإليمان ،واآليات الكونية تدعوه إلى اإليمان ،واآليات في خلقته ،وفي طعامه ،وشرابه تدعوه
إلى اإليمان ،والرسل جاءت بالتوحيد واإليمانِ .
فما الذي جعله يترك كل هذا ،ليكفر باهلل عز وجل بال سبب يدعو إلى ذلك؟ فعجبا ْلمره،
وويحا له ،ما أعظم كفرهِ .
أفال يتدبر هذا املتكبر املعرض عن التوحيد املستغني عما جاء به الرسول ،أفال يتدبر في
أصل خلقته .من أي ش يء خلقه هللا عز وجل حتى ينزجر عن هذا الكبر .من نطفة ،من منى
يمنى ،من ماء مهين خلقه ،فقدره وجعله أطوارا في رحم أمه ،يكون نطفة ،ثم يكون علقة،
ثم يكون مضغة مخلقة ،وغير مخلقة ،ويسويه هللا عز وجل في رحم أمه ،ويضع كل عضو
في موضعه ،سبحان هللا في ذاك املكان الذي ال يصل إليه أحدُ ،يخلق اإلنسان خلقة
سوية ،ويكون أطواراِ .
أيمكن أن يكون قد خلق نفسه؟ ال يمكن أن يكون ذلك وقد كان عدما ،أيمكن أن يكون
ذلك صدفة؟ ال يمكن أن يكون ذلك صدفة على هذا النسق العجيب املضطرد .أيمكن أن
يصل أحد إلى رحم أمه ليخلقه؟ ال وهللاِ .
إذن يتعين يقينا أن خالقه هو هللا ،فهو مخلوق ليس خالقا ،وال يمكن أن يخلقه إال هللا
80
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
81
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أجدادناِ .
ْلن البعث لجميع املوتى في وقت واحد بأجل معلوم ،وأيضا ليس اْلمر كما يزعم الكفار
بقولهم :أنه لو كان هناك بعث ،لكان لنا عند ربنا الحسنىْ ،لننا أهل جاه ،وأهل مال ،وأهل
مكانة ،فلو كان اْلمر كما تزعمون أن هناك بعثا ،فإن الحسنى لناِ .
كال ليس اْلمر كما يزعمون فإن لهم عند ربهم الذلة والعذاب اْلليمْ ،لنهم لم يفعلوا ما
أمرهم هللا به من التوحيد ،والطاعة ،واإليمان بالبعث ،فكانت لهم الذلة يوم القيامةِ .
فلينظر اإلنسان بعقله نظرة تدبر إلى طعامه ،ليزداد املؤمن إيمانا ولينزجر الكافر عن كفره،
لينظر جنس اإلنسان إلى مأكله ومشربه كيف دبره هللا سبحانه وتعالى ،ال ينشئه اإلنسان،
وإنما ينشئه هللا سبحانه وتعالىِ .
َّأنا أنزلنا املاء من السماء ،كثيرا متتابعا نافعا فأسكناه في اْلرض ،فاختلط بالبذور
املوجودة في اْلرض ،أو التي يغرسها اإلنسان فينمو النبات داخل اْلرض حتى تتشقق
اْلرض ،فلم يجعلها هللا صلبة ،بل تتشقق فيخرج النباتِ .
فأنبت هللا في اْلرض لبني آدم أنواع الحبوب من اْلرز والقمح والشعير والبر والعدس وغير
ذلك من أنواع الحبوبِ .
َ
﴿ َو ِعن ًبا﴾ وهو العنب املعروفِ .
ضب؛ ُيقطع ثم َينبت ثم يقطع ثم ينبتِ .ضب :معنى ُي ْق َ ﴿و َق ْ
ض ًبا﴾وهو العشب الرطبُ .ي ْق َ َ
ََ ُ ً َ ًْ
﴿وز ْيتونا َونخَّل﴾ جمع هللا بين الزيتون والنخل؛ ْلنهما شجرتان مباركتان ،الزيتون شجرة
مباركة وفيها الزيت املعروف ،والنخلة شجرة مباركةِ .
يقول العلماء :يجمع بين النخل والزيتون البركة ،وأنه ال يرمى منها ش يءِ .
شجرة الزيتون والنخلة كل ش يء فيها نافع ،ما ُيرمى منها ش يء ،كل ما فيها ينتفع به ،ولذلك
جمع هللا بينهماِ .
ُْ
﴿ َو َح َدا ِئ َق غل ًبا﴾ أنبت هللا عز وجل أشجارا ملتفة ،كبيرة ،غليظة الجدوع ،يحيطها
اإلنسان فتصبح حديقة ،يبني حولها سورا فتصبح حديقةِ .
َ ً
﴿ َوف ِاك َهة﴾ أي وثمرة يأكلها اإلنسانِ .
82
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض أهل العلم :هي على بابها ،الفاكهة املعروفة التي يتلذذ بها اإلنسان ،نوع من
الثمارِ .
يعني يا إخوة بعض أهل العلم يقولِ :الفاكهة هي الثمرة النافعة ،سواء كانت فاكهة أو
ليست فاكهة ،ثمرة نافعة ،وبعض أهل العلم يقول الفاكهة هي الفاكهة املعروفةِ .
ًّ ََ
﴿وأبا﴾ اْلب هو نبت اْلرض الذي تأكله البهائمِ .
ُ
وأنعامكم متاع لكم، وْلنعامكم، ْلمركم، ا
ر وتدبي لكم، منفعة ﴾ اعا َّل ُك ْم َو َْل ْن َعام ُك ْ
م ﴿ َّم َت ً
ِ ِ ِ
فصار الكل متاعا لكم ،والذي أنعم بهذا أال يستحق أن يعبد؟ وهللا الذي ال إله إال هو ،ال
يستحق أن يعبد إال هللا سبحانه وتعالى ،وفي ذلك داللة بينة لغير املعرض على وجود هللا
وربوبيته وألوهيته ،وعلى أنه قادر على بعث الناسِ .
هذا املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني الذي إذا أدركناه تسمو نفوسنا بمعاني القرآن ،ثم
نعود إلى التفسير التفصيلي لآليات بقراءة ما سطره الشيخ والتعليق عليه والزيادة عليه بما
يتممه إن شاء هللا عز وجل ِ .
َ ََ َ
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى﴿ :ف َمن ش َاء ذك َر ُه﴾ أي
َ َْ ْ ُ َ َْ ْ ُ َ َُ ْ
﴿وق ِل ال َح ُّق ِمن َّرِبك ْم ۖ ف َمن ش َاء فل ُيؤ ِمن َو َمن ش َاء فل َيكف ْر ۚ﴾ ثم عمل به كقوله تعالى:
َ ُ ُ َ َّ
ف ُّمك َّر َم ٍة﴾ ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها فقالِ ﴿ :في صح ٍ
ف﴾ الصحف هي الكتب ،مكرمة؛ أي عند هللا ْلن فيها كالمه ،وْلن فيها العلم، ُ ُ
﴿ ِفي صح ٍ
والحكمة ،واإليمانِ .
مرفوعة القدر والرتبة.
واملنزلة عند هللا ،وعند املالئكة ،وعند املؤمنين ،فهي ذات منزلة عالية عند ربنا سبحانه
وتعالىن وعند املالئكة في السماء ،وعند املؤمنين في اْلرضِ .
مطهرة من اآلفات.
مطهرة :يعني منزهةِ .
مطهرة من اآلفات وعن أن تنالها أيدي الشياطين ،أو يسترقوها.
ومنزهة من التحريف والتغيير ،ومنزهة من مسيس غير املطهرين لهاِ .
83
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بل هي بأيدي سفرة؛ وهم اْلَّلئكة الذين هم سفراء بين هللا وبين عباده.
يعني سفرة؛ قيل من السفير وهو الواسطة ،فاملالئكة وسطاء ينزلون بالوحي وما يشاء هللا
إلى العبادِ .
وقيل من اْلسفار؛ وهي الكتب ،واملالئكة تكتب الكتب التي فيها أعمال العباد ،وال مانع من
اْلمرينِ .
﴿ك َر ٍام﴾ أي كثيري الخير والبركة.
ِ
﴿ ِك َر ٍام﴾ أي كرام في خلقتهم كما قلنا ،فخلقتهم كريمة ،وكرام في أخالقهم ،ومن كرامتهم
كثرة خيرهم وبركتهم ،فهم عباد ليس فيهم إال الخير ،فهذا من كرامتهمِ .
َ
﴿ب َر َر ٍة﴾ قلوبهم وأعمالهم.
﴿ َب َر َر ٍة﴾ يعني أنهم صادقون في قلوبهم وأعمالهم ،هذا مراد الشيخِ .
وقال بعض املفسرينَ ﴿ :ب َر َر ٍة﴾ أي مطيعين لربهم ،وال مانع من اْلمرين ،فهم صادقون
مطيعون ،صادقون ال يكذبون أبدا ،ومطيعون ال يعصون أبداِ .
قال :وذلك كله حفظ من هللا لكتابه ،أن جعل السفراء فيه إلى الرسل ،اْلَّلئكة الكرام،
اْلقوياء ،اْلتقياء ،ولم يجعل للشياطين عليه سبيَّل ،وهذا مما يوجب اإليمان به وتلقيه
ُ َ ْ َ ُ
نسان َما بالقبول ،ولكن مع هذا أبى اإلنسان إال كفورا ،ولهذا قال هللا تعالى﴿ :ق ِتل ِ
اإل
َْ َ
أكف َر ُه﴾.
ُ
﴿ق ِت َل﴾ كما قلنا معناها لعن وعذب وأهلكِ .
و(أل) في اإلنسان للعهد ،العهد الذكري ،وهو اإلنسان املذكور هنا ،وهو الذي يكذب
بالبعثِ .
َ َْ َ
﴿ما أكف َر ُه﴾ قيل :ما ،هنا تعجبية؛ أي ما أعظم كفره مع عظيم إحسان هللا إليه ،وتوفر
الداعي إلى اإليمان والتوحيد ،وانعدام الداعي إلى الكفر ،وهللا إنه ْلمر عجيب ،اْلسباب
كلها تدعو اإلنسان إلى التوحيد واإليمان ،وال يوجد سبب واحد يدعو اإلنسان إلى الكفر،
ومع ذلك يكفر الكفرةِ .
84
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض أهل العلم :ما ،هنا استفهامية؛ يعني ما الذي جعله يكفر؟ ِ
والجواب :ال ش يء سوى طغيانه ،وإال فال يوجد ما يدعوه إلى الكفرِ .
ُ َ ْ َ ُ َْ َ
نسان َما أكف َر ُه﴾ لنعمة هللا ،وما أشد معاندته للحق بعدما تبين ،وهو ما هو؟ اإل
﴿ق ِتل ِ
هو من أضعف اْلشياء ،خلقه هللا من ماء مهين ،ثم قدر خلقه وسواه بشرا سويا.
َ
ق ِّدر خلقه فجعله أطوارا في رحم أمه ،وركبه وهو في رحم أمه ،ووضع كل عضو في موضعه،
وهو في رحم أمه سبحانه وتعالىِ .
ثم قدر خلقه وسواه بشرا سويا ،وأتقن قواه الظاهرة والباطنة.
ُ
يل َي َّس َر ُه﴾ أي يسر له اْلسباب الدينية والدنيوية وهداه السبيل وبينه ﴿ث َّم َّ
السب َ
ِ
وامتحنه باْلمر والنهي.
فكان إما شاكرا أو كفورا هذا أقوال أحد املفسرينِ .
يسر له السبيل ،فبين له سبيل الغواية ،وسبيل الهداية ،وجعله قادرا على سلوك أحد
الطريقين ،فكان إما شاكرا إما كفورا ،والذي عليه أكثر املفسرين :أن السبيل هنا هي طريق
الخروج من الرحم ،وهذا هو اْلليق بالسياق ،فإن السياق عن خلقته ووجوده ،ثم عن
موته ونشرهِ .
ُ َ َ ََْ
﴿ ث َّم أ َمات ُه فأق َب َر ُه﴾.
ُ َ َ
﴿ ث َّم أ َمات ُه﴾ أي قبض روحه ،فأسكن جسده ،سبحان هللا إن في املوت آلية؛ اإلنسان
يتحرك ويتكلم بروح ،هذه الروح لم يستطع اْلطباء والعلماء أن يصلوا إليها ،مع أنهم
شرحوا جسد اإلنسان ،لم يصلوا لهذه الروح ،ثم إذا قبضت هذه الروح سكن كل ش يء، ِّ
والروح من أمر هللا سبحانه وتعالىِ .
ُ َ َ ََْ
﴿ ث َّم أ َمات ُه فأق َب َر ُه﴾ أي أكرمه بالدفن.
معنى فأقبره :صيره إلى القبر بعد املوت ،وفي هذا إكرام لهِ .
ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه اْلرض.
ُ َ َ َ َ
﴿ث َّم ِإذا ش َاء أنش َر ُه﴾ أي بعثه بعد موته للجزاء.
85
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أنشره؛ معناها أحياه .يقال :أنشره هللا؛ أي أحياه ،وأحياه للبعث بعد أن ُيقبر وتأكله
َّ َ
اْلرض ،ويبقى عجب الذنب ،يحييه هللا مرة أخرىِِ .
قال :فاهلل هو اْلنفرد بتدبير اإلنسان وتصريفه بهذه التصاريف ،لم يشاركه فيه
مشارك ،وهو مع هذا ال يقوم بما أمره هللا ،ولم يقض ما فرضه عليه ،بل اليزال مقصرا
تحت الطلب.
َ َ َّ َ َّ َ ْ
ض َما أ َم َر ُه﴾ أن املشرك لم يمتثل ما أمره
هذا أحد معاني قول هللا عز وجل﴿ :كَّل ْلا ي ِ
ق
هللا به من التوحيد ِوالطاعة ،وهذه اآلية كما ذكرنا في التفسير لها معنيان عند أهل العلم:
كال ليس اْلمر كما يزعم الكفار ،أنه ال بعث وأنه لو كان هناك بعث لرأينا اْلجداد ،فإن هللا
ملا يقض ما أمر به كونا من البعث ،ما جاء وقت البعثِ .
والوجه الثاني :كال ليس اْلمر كما يزعم الكفار ،أن لهم الحسنى عند ربهم لو بعثوا ،فإن
لهم اإلهانة والعذابْ ،لنهم لم يقضوا ما أمرهم هللا به من التوحيد واإليمان .إذن على
الوجه اْلول يكون الفاعل (ليقض) هو هللا سبحانه وتعالىِ .
وعلى الوجه الثاني يكون الفاعل (ليقض) هو الكافر الذي ال يؤمن بالبعثِ .
قال رحمه هللا :ثم أرشده هللا إلى النظر والتفكر في طعامه ،وكيف وصل إليه بعدما
تكررت عليه طبقات عديدة ويسره هللا له فقال.. :
هذا على وجه عند املفسرين وهو أن اإلنسان هنا هو املعهود ،وهو الذي ينكر البعثِ .
يرشدون إلى
وعلى الوجه اآلخر أن اإلنسان هنا هو جنس اإلنسان ،املؤمن والكافر ،كلهم ِ
النظرِ .
أما املؤمن فليزداد إيمانا وثباتا ،وأما الكافر فلينزجر عن هذا الكفرِ .
ص ًّبا﴾ أي أنزلنا اْلطر على اْلرض ان إ َل ٰى َط َعامه ﴿َ ﴾٢٤أ َّنا َ
ص َب ْب َنا ْاْلَ َاء َ ََْ ُ ْ َ ُ
ِِ اإلنس ِ
﴿فلينظ ِر ِ
بكثرة.
متتابعا نافعا وأسكناه في اْلرضِ .
ثم شققنا اْلرض للنبات شقا.
86
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
حيث يلتقي البذر باملاء تحت اْلرض ،في جوف اْلرض ،ثم ينمو هذا النبات ويقوى على
َ
اْلرض ،مع ضعفه ،ترى الزرعة الضعيفة ت َّشق لها اْلرض وتخرج ،لو أمسكتها أنت لكسرتها
أو قطعتها ،مع ضعفها تنشق لها اْلرض ،من الذي شقها؟ هل هي قوة هذا النبات؟ ال قوة
للنبات ،هل هي فعل اإلنسان؟ ال قدرة لإلنسان ،وإنما هو تدبير الرحمن سبحانه وتعالىِ .
فأنبتنا فيها أصنافا مصنفة من أنواع اْلطعمة الذيذة ،واْلقوات الشهية.
﴿ح ًّبا﴾ وهذا شامل لسائر الحبوب على اختَّلف أصنافها. َ
﴿وع َن ًبا َو َق ْ
ض ًبا﴾ وهو القت. َ
ِ
العنب معروف ،والقضب هو القت؛ والقت هو الرطب من العشب ،قلت لكم سمي قضبا
ْلنه ُيقضبِ .
ومعنى يقضب :يقطع فينبت ،ثم يقطع ،وهكذا العشب ُي َجز ،وبعد أيام تجده قد طال ،ثم
يجز ،ثم تجده قد طال ،فهذا هو القضبِ .
ََ ُ ً َ ًْ
﴿وز ْيتونا َونخَّل﴾ وخص هذه اْلربعة لكثرة فوائدها ومنافعها.
وقد سمعتم بعض الحكمة التي التمسها بعض العلماء في الجمع بين الزيتون والنخل هنا
في مقام االمتنانِ .
ُْ
﴿و َح َدا ِئ َق غل ًبا﴾ أي بساتين فيها اْلشجار الكثيرة اْللتفة.
َ
87
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
88
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
متحملها وإن كان ال ُيغني عن االبن ،فله نصيبه من جرمها ،ولالبن نصيبه
املعصية ،وهو ِّ
89
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الذي خرج من الطاعة إلى املعصية ،فيقال له :فاجر ،ويطلق على املائل عن التوحيد إلى
الشرك ،فهو عكس الحنيفِ .
على هذا املعنى ما الحنيف؟ الحنيف :هو املائل عن الشرك إلى التوحيدِ .
ما الفاجر؟ هو املائل عن التوحيد إلى الشركِ .
وكل هذه مقصودة هنا فهم كذبة مفترونون ،هم فساق ،وهم مائلون عن التوحيد إلى
الشرك عياذا باهلل من سوء الحالِ .
ونعود إلى التفسير التفصيلي ِ
قال رحمة هللا عليه :أي إذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ لهولها اْلسماع.
أي تصم اْلسماع؛ فاْلسماع يصيبها الصمم في ذلك اليوم ،لشدة هول يوم القيامةِ .
وقال بعض أهل العلم :معنى الصاخة :الداهية التي ال أدهى منها ،فتكون الصاخة بمعنى
الطامة ،كما تقدم معنا فيكونان لفظان ملعنى واحدِ .
وقال بعض أهل العلم :الصاخة هنا هي النفخة في الصور التي تصيخ لها اْلسماع
فتسمعهاِ .
أي إذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ لهولها اْلسماع ،وتنزعج لها اْلفئدة يومئذ ،مما
يرى الناس من اْلهوال وشدة الحاجة لسالف اْلعمال.
يفر اْلرء من أعز الناس إليه و أشفقهم عليه ،من أخيه ،وأمه ،وأبيه ،و صاحبته؛ أي
زوجته وبنيه.
وسبب هذا الفرار كما قلنا :الخوف من أن يطلبوا منه حسنة واحدة ،الذي كان في الدنيا
يقدمهم على نفسه ،في اآلخرة يفر ،يخاف أن يطلبوا منه حسنة واحدة ،أو يخاف أن
يطلبوا منه أن يتحمل عنهم مظلمة ،لعل ميزانهم يرجح ،أو يخاف أن يطالبوه بتحمل
الذنوب التي تسبب بها ،أو يخاف أن يفضح بذنوبه أمامهمِ .
و ذلك ْلنه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
غيرهِ .
الشأن :هو اْلمر العظيم .ومعنى يغنيه :يشغله عن ِ
90
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أي قد أشغلته نفسه واهتم لفكاكها ،ولم يكن له التفات إلى غيرها ،فحينئذ ينقسم
الخلق إلى فريقين :سعداء و أشقياء ،فأما السعداء فوجوههم يومئذ مسفرة.
﴿ي ْو َم َت ْب َي ُّ
ض مسفرة :معناها مشرقة ،مضيئة ،حسنة ،منورة ،وهذا هو البياض املقصود َ
ُو ُج ٌ
وه﴾ [آل عمران ]106 :هذا املقصودِ .
فوجوههم يومئذ مسفرة؛ أي قد ظهر فيها السرور والبهجة مما عرفوا من نجاتهم
وفوزهم بالنعيم.
هذا سبب كونها مسفرة ،سبب كونها مشرقة :هذاِ .
َ ٌ َ َ ٌ
احكة ُّم ْست ْب ِش َرة﴾ ﴿ض ِ
َ َ ٌ
﴿ض ِاحكة﴾ أي مبتسمة ،مسرورةِ .
ٌ
﴿م ْس َت ْب ِش َرة﴾ كما قلنا أي مستبشرة بما ترجوه من النعيم املقيم في الجنة ،والزيادة،ُّ
ولتبشير املالئكة لهاِ .
ووجوه اْلشقياء يومئذ عليها غبرة.
غبرة كما قلت :بعض أهل العلم قالوا :غبار حقيقي ،و ذكر املفسرون أنه تراب البهائم
عندما تصير ترابا ،يطير فيلتصق في وجوه الكفار؛ يعني الكافر إذا رأى البهيمة قد صارت
ترابا يقولِ :يا ليتني كنت ترابا ،فيطير هذا التراب فيلتصق في وجهه ،إهانة لهِ .
وقال بعض أهل العلم :الغبرة هنا هي كسوف الوجه ،وظلمة الوجه من سوء الحالِ .
ترهقها؛ أي تغشاها قترة فهي سوداء مظلمة مدلهمة قد أيست من كل خير.
قال بعض أهل العلم :القترة :هي الغبار؛ فالغبار غبرة ،وقترة ،بمعنى واحدِ .
طبعا معروف أنه في الدنيا -وذكرنا هذا أظن في الصيام -أن القتر :هو الغبار الذي تحمله
الريح إلى السماء ،فيصعد إلى السماء ،والغبار هو الذي يكون على وجه اْلرضِ .
يوم القيامة ،قال بعض أهل العلم :الغبرة والقترة بمعنى واحدِ .
وقال بعض أهل العلم :الغبرة هي الغبرة الحقيقية ،والقترة هي الذلة وتغير حال الوجه ،و
هذا سواد وجوهها ،وهذه وجوه أهل النارِ .
91
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
شقاءها وهَّلكها ،أولئك الذين بهذا الوصف هم الكفرة قد أيست من كل خير وعرفت
الفجرة؛ أي الذين كفروا بنعمة هللا وكذبوا بآياته وتجرؤوا على محارمه.
فهم كفرة ،كفروا باهلل ،وبنعم هللا ،وبالبعثِ .
وهم فجرة ،افتروا على هللا ،وفسقوا عن أمر هللا ،ومالوا عن التوحيد الذي هو الفطرة ،إلى
الشرك عياذا باهلل من سوء الحالِ .
ِ
-بعض الفوائد العلمية واآلثار اإليمانية لهذه السورة-
سورة عبس تشترك مع سورة النازعات ،وسورة النبأ ،في الفوائد العلمية واآلثار اإليمانية،
إذ كلها سور مكية ،ومقاصد السور املكية واحدة ،ونزيد على ما تقدم ،بعض الفوائد
العلمية واآلثار اإليمانية املستفادة من سورة عبسِ .
ومن تلك الفوائد :أن تارك اْلولى ،واملخطئ غير املعاند ،واملخالف غير املعاند ،يخاطب
َ
بالتي هي أحسنِ ،ويعاتب بالتي هي ألطف ،فإن ذلك أدعى إلى رجوعه إلى ما يليق به ،فإذا
وجدنا أحدا ترك اْلولى ،واشتغل بما هو دونه ،أو وجدنا أحدا مخطئا لكن ال يظهر عليه
العناد ،أو وجدنا أحدا مخالفا للحق ،لكن ال يظهر عليه العناد ،فإنا نخاطبه بالتي هي
أحسن ،ونعاتبه بالتي هي ألطف ،فنختار ألطف العبارات إليصال املراد لهِ .
والفائدة الثانية :أن املؤمن ال ينبغي له أن يشتغل بالصالح مع قدرته على اْلصلح ،فإذا
كان أمام املسلم أمران ،أحدهما صالح ،واآلخر أصلح منه ،فإن اْلليق باملؤمن أن يشتغل
باْلصلح ،وأال يترك الصالح مع وجود اْلصلح والقدرة عليهِ .
والفائدة الثالثة :أن املصلحة املوجودة املعلومة ،مقدمة على املصلحة املرجوة املوهومة،
فإذا كان عند اإلنسان مصلحة موجودة معلومة ،ويرجو في املستقبل مصلحة يمكن أن تقع
ويمكن أال تقع ،هذا معنى املوهومة ،فإن املصلحة املوجودة املعلومة مقدمة عليهاِ .
أما إذا كانت املصلحة الغائبة معلومة ،فإنها ال تقدم عليها املصلحة املوجودة ،وإنما يوازن
بينهما ويقدم اْلصلحِ .
مثال ذلك :لو أن أحدنا معه مائة ريال ،لو تاجر فيها لحصل ربحا ،وهذه مصلحة موجودة
92
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
معلومة بغلبة الظن ،لكن لو أنفقها في سبيل هللا فإنه يحصل ثوابا هو خير له من التجا ِرة،
فهذه مصلحة غائبة لكنها ليست موهومة ،بل معلومة متحققة ،فيقدم اْلعلى وهو ما عند
هللا سبحانه وتعالىِ .
والفائدة الرابعة :أن الداعي إلى هللا إذا اتقى هللا ما استطاع ،ودعا إلى التوحيد والسنة
والحق ،فإنه ال يضره من خالفه ،وال يدل على فشل دعوته أن بعض الناس لم يستجيب ِوا
له ،فما عليه أال يزكى املعرضون ،وإنما الذي عليه أن يتقي هللا ،وأن يبذل ما يستطيع،
فيدعو إلى ما دعا إليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،على سبيل رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،على بصيرة يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك ،ويدعو إلى السنة ويحذر من
البدع ،ويدعو إلى ما قامت عليه اْلدلة ،فإذا فعل ذلك فهو على صراط مستقيم ،وفي
دعوة ناجحة ،وليس عليه أن أعرض املعرضون ولم يتزكى املعرضونِِ .
هذه بعض الفوائد التي تدل عليها هذه السورة الكريمة ،مع الفوائد اْلخرى التي قدمناها
واشتركت فيها سورة النبأ مع سورة النازعات.
93
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة التكوير
الر ِح ِيمالر ْح َمٰـن َّ َّ
الل ِـه َّ ِب ْس ِم
ِ
َ ْ
ال ُس ِي َرت ﴿َ ﴾٣و ِإذاانك َد َر ْت ﴿َ ﴾٢وإ َذا ْالج َب ُ
َ َ ُّ ُ ُ َ
س ك ِو َرت ﴿ ﴾١و ِإذا النجوم
َ َّ ْ ُ ُ ْ
﴿إذا الشم
ِ ِ ِ
وس
َ َ ُّ
الن ُف ُ ْ َ ْ ْ
وش ُح ِش َرت ﴿َ ﴾٥و ِإذا ال ِب َح ُار ُس ِج َرت ﴿ ﴾٦و ِإذا ْال ِع َش ُار ُع ِط َل ْت ﴿َ ﴾٤وإ َذا ْال ُو ُح ُ
ِ
ُّ ُ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ َ ْ َ َ َْْ ُ َ ُ ُ َ ْ ُو َ ْ
نب ق ِتلت ﴿ ﴾٩و ِإذا الصحف ن ِشرت ذ ي
ِ ِ ٍ أب ﴾ ٨﴿ ت لئِ س ة ود ء و اْل ا ذإ ِ و ﴾ ٧﴿ ت ز ِج
َ ْ َّ ُ ُ َ ْ ْ الس َم ُاء ُكش َط ْت ﴿َ ﴾١١وإ َذا ْال َجح ُ ﴿َ ﴾١٠وإ َذا َّ
يم ُس ِع َرت ﴿َ ﴾١٢و ِإذا ال َجنة أ ْ ِزلفت ﴿﴾١٣ ِ ِ ِ ِ
َ
َ َ ْ َ ْ ٌ َّ ْ َ ْ
ض َرت ﴿﴾﴾١٤ ع ِلمت نفس ما أح
هذه السورة املكية التي أجمع العلماء على أنها مكية ،فيها وصف أهوال من أهوال يوم
القيامة ،ولذلك قال النبي صلى هللا عليه وسلم( :من سره أن ينظر إلى يوم القيامة ،كأنه
َ َ َ َّ َ ُ َ َ َ َّ ْ ُ ُ
الس َم ُاء انش َّق ْ ِ
ت)) رواه انفط َر ْ ِ
ت) ،و( ِإذا َّ ِ س ك ِّ ِو َر ْ ِ
ت) ،و( ِإذا السماء رأي عين فليقرأ ( ِإذا الشم
الترمذي وصححه اْللبانيِ .
فمن أراد أن يعرف وصف يوم القيامة وأهوالها ،ليتعض ويتذكر ،فليقرأ هذه السور
الثالث ،أولها :سورة التكوير ،ومعنى ما ورد في هذه السورة ،في هذا املقطع :أنه إذا أتى أمر
هللا ،فحصلت هذه اْلمور العظيمة ،فلفت الشمسِ ،وجمعت وذهب ضوؤها ،وخسف
القمر ،وجمع بينهما؛ أي الشمس والقمر ،فألقيا في النار ،زيادة في عذاب ُع َب ِادهما ،وذلك
أن املعبودات من دون هللا عز وجل يوم القيامة تكون على ثالثة أصنافِ :
صنف عباد صالحون :ال يرضون بالكفر ،وال يأمرون به؛ كاْلنبياء عليهم السالم ،واْلولياء
الصالحين ،فهؤالء لهم الحسنى ولهم الجنة عند هللا ،وإنما العذاب لعابديهم.
وصنف ال يرض ى وال يكره :ال يرض ى بالكفر ،وال يكره الكفر ،كاْلشجار ،واْلصنام
والشمس ،والقمر ،وهذه تدخل النار مع عابديها .بل تقود عابديها إلى النار ،فتسقط في
ُ َ
النار ،ويسقط أتباعها وراءهاِ ،وهذه ت ْدخل النار زيادة في تعذيب عابديها ،ليس لتعذيبها
وإنما لزيادة تعذيب عابديهاِ .
والصنف الثالث :يرض ى بالكفر ويرض ى بأن يعبد من دون هللا ،وهذا يدخل النار مع
عابديه تعذيبا له ولعابديه ،فهذه أصناف املعبودات من دون هللا يوم القيامة .والشمس
94
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
والقمر قد عبدهما أقوام من دون هللا ،وهي ال ترض ى بالكفر وال تكره ،ليس عندها هذا
اإلدراك فيجمع الشمس والقمر يطفأ ضوؤهما ،ويلفان ويجمعان ويقذفان في النار
ويطرحان في النار.
وتناثرت النجوم من السماء فتساقطت بعد أن كانت معلقة ،ودكت الجبال دكة واحدة
فكانت كالعهن املنفوش ،وصارت هباء تسير بها الرياح ،فصارت اْلرض قاعا صفصفا،
وأهمل أهل اْلموال أموالهم ،وانشغلوا عنها من شدة الهول ،فلم يلتفتوا إليها ،حتى إلى
أنفس اْلموال وهي النوق العشار؛ والناقة العشراء :هي التي قد أتى عليها عشرة أشهر في
حملها ،فإن العادة أن صاحبها يحبها ويعتني بها ويدخل إليها في كل وقت ،ويصلح من حالها
لنفاستها عنده ،لكنه في ذلك اليوم ال يلتفت إليها حتى لو رآها ،فإنه مشغول بأهوال يوم
القيامةِ .
وجمعت الوحوش في يوم الحشر فاقتص لبعضها من بعض ،ثم أميتت فصارت ترابا ،ومن
عجيب ذلك اليوم أن الوحوش التي من عادتها أنها تنفر من الناس ،وأن الناس يهربون
منها ،تحشر مع الناس ال تنفر منهم ،وال يهرب الناس منها ،لشدة الهول الذي أشغلهم عن
كل ش يء سواه ،وزاد ماء البحار حتى فاضت ،وسال مالحها على عذبها ،وصارت بحرا
واحدا ،ثم سجرت نارا متقدة ،فتبخر ماؤها ويبست وذهب ماؤها ،وجمع بين اْلشكال
والنظائر في ذلك اليوم ،وقرن كل نظير بنظيره ،فجمع اْلبرار مع اْلبرار ،وجمع الفجار مع
الفجار ،وجمع أصحاب امليمنة معا ،وجمع أصحاب املشأمة معا ،وجمع السابقون معا،
فكانوا أزواجا ثالثة ،وجمع الرجال في الجنة مع زوجاتهم من أهل الدنيا الالتي دخلن الجنة
ومع الحور العينِ .
ِوقامت البنات املوؤودات املدفونات أحياء في ذاك اليوم العظيم ،فسألن بأي ذنب قتلن؟
وطالبن بحقوقهن من آبائهن وأمهاتهن؛ وذلك أنه كان يكثر في العرب أن املرأة إذا حملت
فوضعت بنتا ،حفرت لها حفرة ودفنتها فيها حية خوفا من زوجها ،وكان بعض الرجال إذا
وجد امرأته ولدت بنتا ،ساءه ذلك ،فأخذها وحفر لها حفرة فدفنها حية ،ففي ذلك اليوم
َ
تقوم املوؤودة فتسأل بأي ذنب قتلت؟ والجواب أنها بغير ذنب قتلت ،وتطالب بدمها.
95
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ
وقال بعض أهل العلم :إنها هي تسأل بأي ذنب قتلت؟ تبكيتا لقاتلها ،كما تقول للرجل
وقد ضربه رجل أو اعتدى عليه ،بأي ذنب يضربك هذا؟ وأنت تعرف أنه مظلوم ،من باب
تبكيت الفاعلِ .
َ
فإما أن املوؤودة هي التي تسأل وتطالب بحقها بين يدي هللا عز وجل ،وإما أن املوؤودة هي
ُ
التي تسأل بأي ذنب قتلت ،تبكيتا لقاتلها والعياذ باهللِ .
وإذا نشرت صحائف اْلعمال ،فأخرجت للعباد كتبهم ،وأوتي العباد كتبهم ،فمنهم من يؤتى
كتابه بيمينه ،وهذا السعيد املسرور ،ومنهم من يؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره ،وهذا
الشقي املثبورِِ .
ُ
ونزعت السماء ،وطواها الرحمن سبحانه وتعالى ،السماء هي سقفنا ،وفي ذلك اليوم تنزع
السماء من مكانها ،وتطوى طيا ،ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ،فيكون الذي فوق
العباد هو عرش الرحمن سبحانه وتعالى ،بعد أن كان الذي فوقهم هو السماء ،تطوى وتنزع
من مكانها ،ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانيةِ .
ُ
وأو ِقد على النار حتى صارت جحيما ،شديدة الحرارة ،عظيمة العذاب ،بعيدة القعر؛
واملقصود أنه يزاد اإليقاد عليها في ذلك اليوم ،وإال فهي مخلوقة موقدة موجودة ،والنار
تسعر؛ ومعنى تسعر أنها يقاد عليها بعد إيقاد ،وفي ذلك اليوم يزاد عليها اإليقاد ،فتتغيظ
على أهلها عياذا باهلل من عذابهاِ .
ُ ُ ُ
وق ِربت الجنة وأدنيت ،وزينت للمتقين ،وانظر الفرق بين حال اْلشقياء ،وحال اْلتقياءِ .
اْلشقياء :تسعر لهم جهنم ويزاد اإليقاد عليها حتى تتغيظِ .
واْلتقياء :تزين لهم الجنة وتقرب لهم الجنةِ .
عند ذاك تعلم كل نفس ما أحضرت من عمل ،من خير أو شر ،فما أحضرته من خير
يسرها ،وما أحضرته من شر ووجدته ،تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيداِ .
هنالك يتذكر كل إنسان عمله ،فال ينس ى منه شيئا ،ويقرأ كتابه الذي كتبت فيه أعماله،
فال يفقد من أعماله شيئا ،ال يفقد خيرا وال شرا ،وال صغيرا وال كبيرا ،وهذا هو الشأن
ُ
العظيم الذي ق ِِّدم بكل ما تقدم من أجله ،ليتعظ املؤمنِ .
96
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فأنت يا مؤمن إذا علمت أنك مالقي عملك يوم القيامة ،ال تفقد منه شيئا ،وإذا رأيت الخير
سرك ،وإذا رأيت الشر ساءك ،وتمنيت لو أن بينك وبينه أمدا بعيدا ،إذا علمت ذلكِ ،فل َم
ال يكون شأنك في الدنيا أن تعمل ما يسرك في اآلخرة ،وأن تجتنب ما يسوؤك في اآلخرة،
فتكون مجتهدا في الصالحات ،وإذا تزخرفت لك املعاص ي ،ذكرت نفسك أنك ستجدها يوم
القيامة ،وتود لو أن بينك وبينها أمدا بعيدا ،فتقلع وتبتعد وتعرض عن هذه القاذورات
وهذه املعاص يِ .
هذا التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات ،ثم نعود إلى التفسير التفصيلي ونقرأ
ما ذكره الشيخ ونعلق عليهِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا :أي إذا حصلت هذه اْلمور
َ َ
الهائلة ،ت َم َّيز الخلق ،وعلم كل ما قدمه آلخرته ،وما أحضره فيها من خير وشر ،وذلك أنه
إذا كان يوم القيامة تكور الشمس؛ أي تجمع وتلف ويخسف القمر ويلقيان في النار.
فمعنى كورت :لفت وجمعت .مثل العمامة املكورة؛ تلف وتجمعِ .
وقال بعض اْلفسرين :معنى كورت :ذهب ضوؤهاِ .
وقال بعض اْلفسرين :معنى كورتُ :ر ِم َي بهاِ .
وهذا اختالف تنوع ،فإن الكل حاصل؛ فإنها يوم القيامة يذهب ضوؤها ،وتلف وتجمع مع
القمر ،ويقذف بها ويرمى بها في النار ،حيث تتقدم عابديها إلى النار ،فتلقى في النار ويتبعها
عابدوهاِ .
َ َ ُّ ُ ُ َ ْ
وم انك َد َرت﴾أي تغيرت وتناثرت من أفَّلكها.﴿و ِإذا النج
وأصل االنكدار :االنصباب ،االنصباب من أعلى إلى أسفل ،فمعنى انكدرت :سقطت من
السماء إلى أسفل ،فتتناثر وتتساقطِ .
ْ ﴿وإ َذا ْالج َب ُ
ال ُس ِي َرت﴾ أي صارت كثيبا مهيَّل ،ثم صارت كالعهن اْلنفوش ،ثم تغيرت َ
ِ ِ
وصارت ً
هباء منبثا ،وأزيلت عن أماكنها.
َوت ِس ُير إذا صارت ً
هباء ،وقلت لكم الهباء :هو اْلشياء الدقيقةِ .
وإذا أردت أن تعرف الهباء ،فافتح النافذة في النهار ،إذا ظهر ضوء الشمس ترى أشياء
97
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
كالغبار في هذا الضوء ،هذا الهباء ،تحمله الريح وتسير بهِ .
َّ َ ْ َ َ ْ َ
﴿و ِإذا ال ِعش ُار ُع ِطلت﴾ أي َعط َل الناس يومئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها،
ويراعونها في جميع اْلوقات ،فجاءهم ما يذهلهم عنها.
العشار :اْلصل أنها النوق التي بلغ حملها عشرة أشهر ،ثم يطلقها العرب على النوق التي
معها أوالدها ،فيتوسعون في اإلطالقِ .
فيكون املراد بالعشار هنا :النوق التي بلغ حملها عشرة أشهر ،والنوق التي يتبعها أوالدها،
فإنها غالية عند أصحابها ،وأصحاب اإلبل يعرفون هذا ،تتعلق بها النفوس تعلقا عجيبا،
ُ
حتى ال يطيق صاحبها أن يفارقها ،ومع ذلك يوم القيامة لو قدر أنه يراها ،ملا اشتغل بها،
ْلنه قد جاءه ما يشغله ،وما دام ذلك كذلك ،فلماذا يلهو اإلنسان باملال؟ سبحان هللا ،ما
أحقر املال! إال إذا استعمله اإلنسان فيما يرض ي هللا.
املال ال يدخل معك قبرك ،ولذلك يقول ابن آدم :مالي ،مالي ،يحرص عليه ،وليس لك من
مالك إال ما أكلت فأفنيت ،أو لبست فأبليت ،أو تصدقت فأبقيت ،وما سوى ذلك فذاه ٌ ِ
ب
وتاركه للناس.
ويوم القيامة لو وجد اإلنسان عظيم اْلموال ،ملا نظر إليها ،فضال عن أن يعتني بها ،فكيف
يلهو اإلنسان باملال عن أمر اآلخرة ،ال شك أن من لها باْلموال حتى أشغلته عما يرض ي هللا،
قد خسر خسرانا مبينا.
فنبه بالعشار وهي النوق التي تتبعها أوالدها ،وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم،
على ما هو في معناها من كل نفيس.
ْ
وش ُح ِش َرت﴾ أي جمعت ليوم القيامة ،ليقتص هللا من بعضها لبعض، ﴿وإ َذا ْال ُو ُح َُ
ِ
ُوير َي العباد كمال عدله ،حتى إنه يقتص للشاة الدماء من الشاة القرناء ،ثم يقال لها
كوني ترابا.
ْ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ ُح ِش َرت﴾ :ماتتِ .
وقال بعضهم :اختلطت :يعني اختلط بعضها ببعض ،واختلطت بالناس بعد أن كانت تنفر
منهم ،والكل مراد ،فإنها في الحشر تحشر مع الناس ،وتختلط بهم ويختلط بعضها ببعض،
98
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وتجمع يوم القيامة ،ويقتص لبعضها من بعض ،ثم تموت ،فتصير تراباِ .
ْ
فهذه الجملة ﴿ ُح ِش َرت﴾ ،دلت على كل هذه املعاني ،وهذا من إعجاز القرآن ،أنه بالجملة
ُ
اليسيرة تفهم املعاني الكثيرةِ .
ْ َ َ ْ
﴿و ِإذا ال ِب َح ُار ُس ِج َرت﴾ أي أوقدت فصارت على عظمها نا ًرا تتوقد.
ُ ْ
﴿س ِج َرت﴾ يعني فاضت ،فزاد ماؤها حتى سال بعضها على بعض، وقال بعض اْلفسرين:
واحدا بعد أن كانت متفرقة ،واختلط املالح بالعذب ،بعد أن كان بينهما ٌ
برزخ بحرا ً ِ
وصارت ً
ال يبغيانِ .
ً
ثم توقد نا ًرا ،فيتبخر ماؤها ،فتيبس ،وتصبح يابسة فال يبقى في اْلرض ماءِ .
ُ َ َ ُّ ُ ُ ُ ْ
وس ز ِو َجت﴾ أي قرن كل صاحب عمل مع نظيره ،فجمع اْلبرار مع اْلبرار، ﴿و ِإذا النف
والفجار مع الفجار ،وزوج اْلؤمنون بالحور العين ،والكافرون بالشياطين.
واملقصود زوج الكافرون بالشياطين :أي جمع الكافرون مع الشياطين في نار جهنمِ .
يق َّالذ َ
ين ﴿وس َين َك َف ُروا إ َل ٰى َج َه َّن َم ُز َم ًرا ۖ﴾ [الزمرَ ،]71 :
يق َّالذ َ﴿وس َ َ
ِ ِ ِ ِ وهذا كقوله تعالىِ :
اج ُه ْم﴾ [الصافات:ين َظ َل ُموا َو َأ ْز َو َ َّات َق ْوا َرَّب ُه ْم إ َلى ا ْل َج َّنة ُز َم ًرۖا﴾ [الزمرْ ،]73 :
﴿اح ُش ُروا َّالذ َ
ِ ِ ِ
.]22
اج ُه ْم﴾ [الصافات ]22 :يعني وأمثالهم ،ونظراءهم ،وليس ين َظ َل ُموا َو َأ ْز َو َ
﴿اح ُش ُروا َّالذ َ
ْ
ِ
املقصود باْلزواج هنا ،الزوجات ،وإنما املقصود النظراء واْلمثالِ .
َ ُّ
الن ُف ُ
وس﴾ يعني إذا اْلرواح ،ومعنى ﴿إذا
وقال بعض اْلفسرين :النفوس هنا هي اْلرواح ِ
ُ ْ
﴿ز ِو َجت﴾ أعيدت إلى اْلجساد ،واْلول ْأولى وهللا أعلمِ .
َ َ َْْ ُ َ ُ َ ْ
ودة ُس ِئلت﴾ وهي التي كانت الجاهلية الجهَّلء تفعله من دفن البنات وهن ﴿و ِإذا اْلوء
ُ
أحياء من غير سبب ،إال خشية الفقر فتسأل :بأي ذنب قتلت ،ومن اْلعلوم أنها ليس لها
ذنب ،ولكن هذا فيه توبيخ وتقريع لقاتليها.
ُ ُ
كأن قائال قال :ملاذا تسأل وهي املجني عليها ،وهي املظلومة ،ملاذا تسأل؟ ِ
ُ
كان الجواب :تسأل توبيخا لقاتليها ،من باب التوبيخ لهم ،فيوجه السؤال لها :بأي ذنب
قتلت؟ الجواب :يقينا بغير ذنب ،فهذا توبيخ لقاتليهاِ .
ِ
99
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يعني هذا َي ُعم ،نفس نكرة في سياق الشرط ،فتعم كل نفس ،فكل نفس تعلم ما أحضرت
من اْلعمالِ .
ض َر ْت﴾ أي ما حضر لديها من اْلعمال التي قدمتها ،كما قال تعالىَ :
﴿و َو َج ُدوا ماَ ﴿ما َأ ْح ََّ
اض ًرا ۗ﴾ [الكهف.]49 : حَعم ُلوا َ
ِ ِ
100
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وكما قلنا يا إخوة في يوم القيامة يتذكر اإلنسان كل ما عمل من خير وشر ،ويقرأ في كتابه
كل ما عمل من خير وشر ،فال يغادر الكتاب صغيرة وال كبيرة إال أحصاها .واملقصود الوعظ
والتذكير ،حتى يحرص املؤمن على اإلكثار من الطاعات ،وترك املحرماتِ .
قال رحمه هللا :وهذه اْلوصاف التي وصف هللا بها يوم القيامة ،من اْلوصاف التي
تنزعج لها القلوب ،وتشتد من أجلها الكروب ،وترتعد الفرائس ،وتعم اْلخاوف ،وتحث
أولي اْللباب لَّلستعداد لذلك اليوم ،وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم؛ ولهذا قال
بعض السلف :من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين ،فليتدبر سورة (إذا
الشمس كورت).
وأصل هذا ،الحديث الصحيح عند الترمذي الذي قدمناه بين يدي الكالم عن هذه
السورةِ .
-تفسير اْلقطع اْلخير من السورةِ -
س ﴿َ ﴾١٧و ُّ الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ َ َّ ْ َ َ ْ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ ْ ُ َّ
الص ْب ِح ِ ِ و ﴾ ١٦ ﴿ سِ ن ك ال ار
ِ و ج ال ﴾ ١٥ ﴿ س ﴿فَّل أق ِسم ِبالخ ِ
ن
س ﴿ ﴾١٨إ َّن ُه َل َق ْو ُل َ ُسول َكريم ﴿ ﴾١٩ذي ُق َّوة ع َ
ند ِذي ْال َع ْ إ َذا َت َن َّف َ
ش َم ِك ٍين ﴿﴾٢٠ ِ ر ِ ٍ ِ ٍ ِ ٍ ر ِ ِ
ُ ْ ُ ُ ْ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ
اح ُبكم ِب َم ْجنو ٍن ﴿َ ﴾٢٢ولقد َر ُآه ِباْلف ِق اْل ِب ِين ﴿َ ﴾٢٣و َما ََ َ
مط ٍاع ث َّم أ ِم ٍين ﴿ ﴾٢١وما ص ِ
ُّ
َ ََ َ ْ َ َ َ ُه َو َع َلى ْال َغ ْيب ب َ
ض ِن ٍين ﴿َ ﴾٢٤و َما ُه َو ِبق ْو ِل ش ْيط ٍان َّر ِج ٍيم ﴿ ﴾٢٥فأ ْي َن تذ َه ُبون ﴿﴾٢٦ ِ ِ
َ َ َّ َ َ َ َ
نك ْم أن َي ْس َتق َ َ َ َ ُ َ
ْ ُ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ
يم ﴿َ ﴾٢٨و َما تش ُاءون ِإال أن َيش َاء ِ م
ِ اء ش ن ْل
ِ ﴾ ٢٧ ﴿ ين اْل
ِإن هو ِإال ِذكر ِللع ِ
َّ ُ َ ُّ ْ َ َ َ
اْلين ﴿﴾﴾٢٩ اللـه رب الع ِ
أي أن هللا عز وجل يقسم بهذه املخلوقات العظيمة ،وليس هلل حاجة في أن يقسم ،فإنه ال
أصدق قيال من هللا عز وجل ،ولكنه من لطفه بالعباد ورحمته بالعباد ،يقسم لهم هذه
اْلقسام ليؤكد املقسم عليه ،فيقسم هللا عز وجل بالخنس الجوار الكنس؛ وهي التي تغيب
أحيانا ،وترى أحيانا ،ويدخل في ذلك الكواكب التي تظهر وتغيب ،وتصل إلى أعلى اْلفق ثم
ترجعِ .
ويدخل في ذلك الظبى وحيوانات البر ،التي تظهر وتغيب ،ويدخل في ذلك مثال الدببة التي
تغيب في الشتاء ،وتظهر في الصيفِ .
101
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الشاهد أن هللا أقسم باملخلوقات التي تغيب أحيانا وترى أحياناِ .
وأقسم بالليل إذا أقبل بظالمه ،فطرد الظ ِالم النور ،فامتألت اْلرض ظالما ظلمة ،كأنه لم
يكن فيها نور ،فسبحان هللا من أين أتى هذا الظالم؟ و أين ذهب هذا النور؟ ال يمكن أن
يكون إال من هللا سبحانه وتعالىِ .
والنهار إذا أقبل بضيائه ،فطرد بضوئه الظلمةِ .
إنه؛ أي القرآن لقول رسول كريم ،لقول جبريل عليه السالم نزل به على رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم ،وهو قول جبريل عليه السالمْ ،لنه قاله للنبي صلى هللا عليه وسلم،
وسمعه منه النبي صلى هللا عليه وسلمِ .
فالقرآن قول ربنا سبحانه وتعالى ْلنه تكلم به وأسمعه جبريل ،وهو قول جبريل ْلن جبريل
عليه السالم ملا سمعه من هللا ،قاله ملحمد صلى هللا عليه وسلم ،وأسمعه محمدا صلى هللا
عليه وسلم ،وهو قول محمد صلى هللا عليه وسلمْ ،لن النبي صلى هللا عليه وسلم ملا
سمعه من جبريل ،قاله للمؤمنين ،وأسمعه للمؤمنينِ .
فهو قول هللا أصالة ،وقول جبريل ،وقول محمد صلى هللا عليه وسلم ،باعتبار التبليغِ .
هذا الرسول الذي هو جبريل عليه السالم ،ذو قوة ،فال يعجز عن أمر أمره هللا به ،فأعطاه
هللا قوةِ .
ْ ﴿ع َ
ند ِذي ال َع ْر ِش﴾ عند هللا ،هللا ذو العرش ،هللا صاحب العرش ،استوى على عرشه ِ
سبحانه وتعالىِ .
﴿م ِك ٍين﴾ له مكانة عالية ،فهو مقدم املالئكة ،ورأس املالئكة عليه السالمِ . َ
ُّ َ
﴿مط ٍاع﴾ في السماء ،تطيعه املالئكة إذا أمر ْ،لنها تعلم أنه يأمر بأمر هللاِ .
ومن ذلك مثال :أنه ينادي بأهل السماء أن هللا أحب فالنا فأحبوه ،فيحبه أهل السماء،
يطيعونه في أمرهْ ،لنهم يعلمون أنه إنما يأمر بأمر هللا ،فهو مطاع هناك في السماءِ .
َ
﴿أ ِم ٍين﴾ مؤتمن عند هللا وعند املالئكة وعند الرسل ،هو أمين هللا على وحيه ،وهو مؤتمن
عند املالئكة ،فإذا أخبرهم عن هللا صدقوهِ .
وهو مؤتمن عند الرسل ،فإذا أتاهم بالوحي من هللا صدقوهِ .
102
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فهو في غاية اْلمانة ،وملا ذكر هللا وصف الرسول من املالئكة ،تكلم عن الرسول من البشر،
ََ َ ُ
ص ِاح ُبكم﴾ ِ وهو محمد صلى هللا عليه وسلم ،فقال﴿ :وما
ما هذا الرجل الذي هو منكم ،نشأ فيكم ،عرفتم صدقه ،عرفتم أمانته ،عرفتم تمام
عقله؛ ما هو بمجنون ،ما هو بالذي يهذي كما قال بعضكم زورا وبهتانا ،فإن كل من عرفه
يدرك أنه ليس بمجنون ،وكيف يكون مجنونا والكالم الذي يأتي به في غاية الحكمة،
واملجنون إنما يهذي ويخلط؛ املجنون يتكلم يأتي بكالم أحيانا له معنى ،ثم يأتيك بكالم ال
معنى له ،والنبي صلى هللا عليه وسلم ال يتكلم إال بالحكمة ،القرآن حكمة وإعجاز ،أعجزهم
أن يأتوا بآية منه ،والسنة حكمة وعلم ،فكيف يكون مجنوناِ .
ولقد رأى الرسول اْلرض ي الرسول السماوي؛ رأى محمد صلى هللا عليه وسلم ،جبريل عليه
السالم على هيئته ،له ست مائة جناح باْلفق اْلعلى ،باْلفق املبين في السماء ،رآه معترضا
في السماء على هيئته ،له ست مائة جناحِ .
الرسول
وهذا يدل على مكانة هذا الرسول اْلرض ي ،حيث كشف له عن هيئة هذا ِ
السماوي ،وما هو صلى هللا عليه وسلم على الغيب؛ الذي هو القرآن والعلم ،ببخيل
عليكم ،يكتم عنكم العلم ،ال وهللا ،بل هو يبذل العلم ،ويؤدي اْلمانة ،ويبلغ الرسالة ال
يترك منها حرفا ،فليس ببخيل عليكم بالعلم ،بل مبلغ للرسالة ،مؤد لألمانة ،مجتهد في
إيصال العلم إليكمِ .
وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم ،ما هو بقول شيطان مبعد ملعون ،فإن الشيطان ال
يمكن أن يأتي بالقرآن ،بل إن الشيطان ال يطيق القرآن ،ولذلك إذا سمع القرآن فرِ .
فأين تذهبون يا أصحاب العقول ،أنتم الذين تفتخرون ببالغتكم وبعقولكم ،أين تذهبون
من هذا القرآن؟ أين تذهبون بعقولكم فتقولون ما ال يعقل؟ فتقولون عن محمد صلى هللا
عليه وسلم مجنون ،وأنتم تعلمون أنه أعقلكم ،وتقولون عن محمد صلى هللا عليه وسلم
إنه كاهن ،وتعلمون أنه كان يبغض الكهان من نشأته ،وتقولون إنه يأخذ القرآن من غيره
وتسندون هذا إلى أعجمي ال يتكلم العربية ،والقرآن عربي مبينِ .
َ ََ َ ْ
﴿فأ ْي َن تذ َه ُبون﴾ أين تذهب عقولكم حتى قلتم ما ال يعقلِ .
103
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ْ ُ َ َّ ْ ٌ ْ َ َ َ
اْلين﴾ ذكر للجن واإلنس ،والنبي صلى هللا عليه وسلم بعث لإلنس
﴿إن هو ِإال ِذكر ِللع ِ
ِ
كلهم ،عربهم وعجمهم إلى يوم القيامة ،وبعث إلى الجنِ .
يم﴾ من الذي يتذكر بالقرآن؟ من شاء أن يهتديِ . نك ْم َأن َي ْس َتق َ
َ َ َ ُ
﴿ْلن شاء ِم
ِ ِ
فكان أهال ْلن يهتدي ،وأراد أن يهتدي ،ومع ذلك لن يهتدي بمجرد مشيئته ،وإنما يهتدي
َ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ
﴿ْلن شاء ِمنكم أن يست ِقيم﴾إذا شاء هللا أن يهديه ،فاهتداؤه بفضل هللا سبحانه وتعالى ِ
أن يهتدي إلى صراط هللا املستقيمِ .
َ َ َ َ ُ َن َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ُّ ْ َ َ َ
اْلين﴾ فلوال أن هللا شاء هدايتكم ملا اهتديتم ،فاهلل
﴿وما تشاءو ِإال أن يشاء اللـه رب الع ِ
عز وجل يهدي من يشاء بفضله ،ويضل من يشاء بعدلهِ .
فمن أبى الهداية أضله هللا ،ومن شاء الهداية صادقا لن يخذله هللا ،ولذلك إذا التمست
الحق فغاب عنك ،ففتش في صدق قصدك ،فإنه قد يكون في إرادتك ش يء منع وصولك
إلى الحقِ .
فهذا تمام تفسير السورة ،وهذا التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذا املقطع ،ثم نعود
إلى التفسير التفصيليِ .
َّ َ
قال اْلصنف رحمه هللا :أقسم تعالى بالخنس.
ََ
هنا قال هللا﴿ :فال﴾ ،بعض الناس يظن أن (ال) هنا نافية ،و(ال) هنا ليست نافية ،بل هي
ُ ً ٌ
قة َ
بحاجة ْلن ُيقسم ،فقوله
ٍ قس َم ليس للق َسم ،وتتضمن ً
معنى لطيفا؛ وهو أن امل ِ حق
م ِ
ُ
ََ ََ ُ ْ يتفضل َ
َّ دق ٌ ص ٌ
بالقسم ،إذن عندما تسمع في القسم﴿ :فال أق ِس ُم﴾﴿ ،فال مبين ،ولكن هو ِ
َ َ ُ ْ ََ ْ ُ َ ُُ ُ ْ ُ ْ ُ َّ
س﴾﴿ ،فال أ ِق ِسم ِبما تب ِصرون﴾( ،ال) هنا ليست للنفي( ،ال) لتقرير القسمِ . أق ِسم ِبالخن ِ
فيقسم من وتفيدك فائدة :أن املُقسم ليس بحاجة ْلن ُيقسم ولكنه يلطف بك ويرحمكُ ،
أجلك ،ال من أجل تصديق كالمهِ .
ِ
َّ َ
أقسم تعالى بالخنس ،وهي الكواكب التي تخنس؛ أي تتأخر عن سير الكواكب اْلعتاد إلى
جهة اْلشرق.
ُ
أو أنها ترجع في سيرها ،فتسير حتى تبلغ أعلى اْلفق ثم ترجع إلى مكانهاِ .
104
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أي تتأخر عن سير الكواكب اْلعتاد إلى جهة اْلشرق؛ وهي النجوم السبعة السيارة:
الشمس ،والقمر ،والزهرة ،واْلشتري ،واْلريخ ،وزحل ،وعطارد ،فهذه السبعة لها
ٌ ٌ ُ سيرانٌ :
معاكس لهذا من جهة وسير سير إلى جهة اْلغرب مع سائر الكواكب والفلك،
اْلشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها ،فأقسم هللا بها في حال خنوسها؛ أي:
تأخرها ،وفي حال جريانها ،وفي حال كنوسها أي :استتارها بالنهارُ ،ويحتمل أن اْلراد بها
جميع الكواكب السيارة وغيرها.
ُ
وقال بعض اْلفسرين :هي تغيب في النهار ،وترى في الليلِ .
ُ ْ َ َ ْ ُ َّ ْ ُ َّ
س؛ هي :بقر الوحش والظباء ،ترى وتغيب ،فهي س ،الجو ِار الكن ِ
وقال بعض اْلفسرين :الخن ِ
ُ
ىِ .
خنس كنس؛ خنس :تغيب بأن تلجأ إلى أماكنها ،وجواري تجري ،وتر ِ
ُ
وذهب إمام اْلفسرين ابن جرير الطبري إلى العموم :أن هللا أقسم بمخلوفا ٍت تغيب وت ِرى،
فكل ما تنطبق عليه هذه الصفات يدخل في هذا القسمِ .
س﴾ أي :أقبل .وقيل :أدبر. الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ َ َّ
﴿و ِ ِ
س﴾ تأتي بمعنى :أقبل ،وتأتي بمعنى :أدبرِ . ﴿ع ْس َع َ َ
105
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
وق ً
سما بإقبال الل ْيل إ َذا َع ْس َع َ
س﴾ إذا أقبل ،يكون َق ً
سما بإقبال الليل،
َ َّ
أما إذا قلنا﴿ :و ِ ِ
َ
النهار؛ وهذا أ ْولىِ .
والنهار إذا تنفس.
والنهار :هذا تفسير وليس اآلية ،الشيخ َّ ِ
فسر الصبح بالنهار من باب إطالق الجزء على الكل،
فالصبح ٌ
جزء من النهارِ .
ً والنهار إذا تنفس أي :بدت عَّلئم الصبح ،وانشق النور ً
فشيئا حتى يستكمل وتطلع شيئا
الشمس.
قال :وهذه آيات عظام أقسم هللا عليها لقوة سند القرآن ،وجَّللته ،وحفظه من كل
َ َّ َ َ
﴿إن ُه لق ْو ُل َر ُسو ٍل ك ِر ٍيم﴾ وهو جبريل عليه السَّلم ،نزل به من هللاشيطان رجيم ،فقالِ :
ُّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ ُ َ َ ُ َ ْ َ َ َ
وح اْل ِمين ﴿﴾١٩٣ اْلين ﴿ ﴾١٩٢ن َز َل ِب ِه الر
تعالى ،كما قال تعالى﴿ :و ِإنه لت ِنزيل ر ِب الع ِ
ين﴾ [الشعراء]193 : َع َل ٰى َق ْلب َك ل َت ُكو َن م َن ْاْلُنذر َ
ِِ ِ ِ ِ
ً َّ
قوال لجبريل عليه السالم؛ أن هللا تكلم به فسمعه منه جبريل عليه السالم، وبينا وجه كونه ِ
فأسمعه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فباعتبار ِاسماعه لرسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،هو قول جبريل ْلنه قاله لرسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
ووصفه هللا بالكريم؛ لكرم أخَّلقه وكثرة خصاله الحميدة ،فإنه أفضل اْلَّلئكة
ً
وأعظمهم رتبة عند ربه.
ُ
﴿ذي ق َّو ٍة﴾ على ما أمره هللا به. ِ
ُ
فال يعجز عن ش ٍيء أمر بهِ .
ََ
لوط بهم فأهلكهم. ومن قوته أنه قلب ديار قوم ٍ
ٌ ٌ
قر ٌب عند هللا ،له منزلة رفيعة ،وخصيصة من هللا ند ِذي ْال َع ْرش﴾ أي جبريل ُم َّ ﴿ع َ
ِ
ِ
اختصه بها.
﴿م ِك ٍين﴾ أي :له مكانة ومنزلة فوق منازل اْلَّلئكة كلهم. َ
ٌ ٌ ُّ َ َ
﴿مط ٍاع ث َّم﴾ أي :جبريل مطاع في ِ
اْلأل اْلعلى؛ ْلنه من اْلَّلئكة اْلقربين ،نافذ فيهم أمره،
ٌ
مطاع رأيه.
106
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
و﴿ث َّم﴾ ظرف مكان للبعيد تعني هناكِ .
مطاع هناك؛ أي في السماءِ .
ٍ فالكالم معناه:
ٌ َ ُ َ
مطاع هناك في ﴿ث َّم﴾ هنا ،ليست ثم﴿ ،ث َّم﴾ وهي ظرف مكان للبعيد معناها :هناك؛
السماءِ .
َّ ُ ُ ُ َ
﴿أ ِم ٍين﴾ أي :ذو أمانة وقيام بما أمر به ،ال يزيد وال ينقص ،وال يتعدى ما حد له.
فتصدقه إذاأمين عند املالئكة ُ
أمين عند هللا ،فهو أمين هللا على الوحي ،وهو ٌ
وكما قلنا :هو ٌ
أخبر ،وهو أم ٌين عند الرسل فتصدقه بما ينزل به من الوحيِ .
وهذا كله يدل على شرف القرآن عند هللا تعالى.
ٌ
فإن الذي نزل به متصف بهذه الصفاتِ .
َ
فإنه بعث به هذا اْللك الكريم اْلوصوف بتلك الصفات الكاملة ،والعادة أن اْللوك ال
ُ
ترسل الكريم عليها إال في أهم اْلهمات وأشرف الرسائل.
وْلَّا ذكر فضل الرسول اْللكي الذي جاء بالقرآن ،ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل
َّ َّ ُ َ
صاح ُبكم﴾ وهو محمد صلى هللا عليه وسلم.عليه القرآن ،ودعا إليه الناس فقال﴿ :وما ِ
ُ
صاح ُبكم﴾ إشارة إلى َّأنه منهم ويعرفونه ،ويعرفون أخالقه ،ويعرفون تمام َ
وقال﴿ :وما ِ
عقلهِ .
َّ َّ ُ َ
﴿ب َمجنو ٍن﴾ كما يقول أعداؤه
ِ م وسل عليه هللا ى صل صاح ُبكم﴾ وهو محمد
﴿وما ِ
اْلكذبون برسالته ،اْلتقولون عليه من اْلقوال التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به.
ً ً َّ
وبهتانا ،وإال فهم يدركون َّأنهم كذبة ،وأنه أتم عقال منهم؛ يعرفون هذا عنه من افتر ًاء
والسالمَّ ،
ولكنهم ٌ
قوم يفترونِ . الصالة َّنشأته ،من صغره عليه َّ
ً َّ
بل هو أكمل الناس عقَّل ،وأجزلهم ر ًأيا ،وأصدقهم لهجة.
فحاله يكذب دعواهم ،وقوله يكذب دعواهمِ .
حالهَّ :
فإن حاله معروفة بالعقلِ .
ً وقولهَّ :
فإن قوله حكمة وعلمِ .
وال يمكن أن َّيتأتى هذا الحال من مجنون ،وال أن َّيتأتى هذا الكالم من مجنونِِ .
107
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ
وسلم جبريل عليه َّ ٌ َّ َََ َ ُ ُُ ُ
السَّلم باْلفق محمد صلى هللا عليه بين﴾ أي رأى
﴿ولقد رآه ِباْلف ِق اْل ِ
البين ،الذي هو أعلى ما يلوح بالبصر.
َّ َّ ً
طبعا املقصود هنا :رآه على هيئته ،وإال فالنبي صلى هللا عليه وسلم رأى جبريل على غير
ً
معترضا هيئته ،لكن املقصود هنا ًّأنه رآه على هيئته كما خلقه هللا له ست مائة جناح ،رآه
َ
السماء ،في اْلفق الظاهر ،فلم يكن هناك ل ْبس في رؤيتهِ . في َّ
َ
الغيب ب َ َ ُ َ ََ
نين﴾ أي وما هو على ما أوحاه هللا إليه بمتهم ،يزيد فيه أوٍ ض ِ ِ ى ل ﴿وما هو ع
وسلم أمين أهل َّ َّ َّ
السماء وأهل اْلرض. ينقص أو يكتم بعضه ،بل هو صلى هللا عليه
بأنه غير متهم ،هذا على قراءة الظاء أخت الطاء؛ بظنين- ،الظاء بالعصا أخت يعني التفسير َّ
108
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ََ َ َ َ َ
ذهبون﴾ أي :كيف يخطر هذا ببالكم.﴿فأين ت
ََ َ َ َ َ
ذهبون﴾ يعني أين تذهب عقولكم حتى قلتم املحال ،الذي يدرك العقالء َّأنه ال﴿فأين ت
يمكن أن يكونِِ .
وأين عزبت عنكم أذهانكم حتى جعلتم الحق الذي هو في أعلى درجات الصدق ،بمنزلة
الكذب الذي هو أنزل ما يكون ،وأرذل وأسفل الباطل ،هل هذا إال بانقَّلب الحقائق.
َ
اْل ْولى أن يقولِ :هل هذا إال من قلب الحقائقْ .لن هم قلبوا الحقائق ،أما االنقالب فقد
يكون صحيحا ،وقد يكون غير صحيح ،وهذا ليس املقصود هنا ،وإنما املقصود هو القلبِ .
إن هو إال ذكر للعاْلين يتذكرون به ربهم ،وما له من صفات الكمال ،وما ينزه عنه من
النقائص والرذائل واْلمثال ،ويتذكرون به اْلوامر والنواهي وحكمها ،ويتذكرون به
اْلحكام القدرية والشرعية والجزائية ،وبالجملة يتذكرون به مصالح الدارين ،وينالون
بالعمل به السعادتين.
نك ْم َأن َي ْس َتق َ
يم﴾ بعدما تبين الرشد من الغي والهدى من الضَّلل.
َ َ َ ُ
﴿ْلن شاء ِم
ِ ِ
أي أن هللا هدى العباد ،فبين لهم طريق الرشد وطريق الضالل ،وأعطاهم عقوال يفهمونِ
بها ،وجعل لهم إرادة يفعلون بها ،ومع ذلك فمشيئتهم تحت مشيئة هللا سبحانه وتعالىِ .
َ َ َ َ ُ َن َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ُّ ْ َ َ َ
اْلين﴾ أي فمشيئته نافذة ال يمكن أن تعا َرض أو ﴿وما تشاءو ِإال أن يشاء اللـه رب الع ِ
َ
تمانع ،وفي هذه اآلية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة ،والقدرية اْلجبرة ،كما تقدم
مثالها.
وهذا تقدم معنا في كتاب التوحيد وفصلناهِ .
وبهذا نكون ختمنا تفسير هذه السورةِ .
أسأل هللا عز وجل أن يزيدنا علما بكتابه ،وأن ينفعنا به وأن يجعلنا نافعين لألمة بهِ .
وأنتم ترون في هذه املجالس أن تدبر كتاب هللا أنفع ما يكون لطالب العلم وْلهله ،فأ ِوص ي
نفس ي وطالب العلم :بالعناية بالتفسير الصحيح للقرآن ،فإن كثيرا من طالب العلم قد
انشغلوا عن تفسير القرآن ،واشتغلوا بغيره مما هو خير ،لكن تفسير القرآن جامع للعلوم،
وجامع للخيراتِ .
109
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أنت لو فهمت القرآن فإنك تستطيع أن تعظ ،وتخطب ،وتدرس ،وتعلم ،وتفقه ،فهذا فيه
خير عظيمِ .
فالوصية لطالب العلم أن ال يغفلوا عن هذا الجانب املهم وأن يجعلوا له ً
جزءا كبيرا من
أوقاتهمِ .
ِ
110
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة االنفطار
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ ُ ْ َ ْ ََْ ْ َ َْ َْ َ ْ ﴿إ َذا َّ
الس َم ُاء انفط َرت ﴿َ ﴾1و ِإذا الك َو ِاك ُب انتث َرت ﴿َ ﴾2و ِإذا ال ِب َح ُار ف ِج َرت ﴿َ ﴾3و ِإذا ِ
َ
َ ْ َّ ْ ْال ُق ُب ُ
ور ُب ْع ِث َر ْت ﴿َ ﴾4ع ِل َم ْت َن ْف ٌ
س َما ق َّد َمت َوأخ َرت ﴿.﴾﴾5
هذه السورة معاشر الفضالء سورة مكية ،وهي السورة الثانية من السور الثالث التي من
قرأها كان كأنه ينظر إلى القيامة رأي العين كما أخبر بذلك النبي صلى هللا عليه وسلم في
الحديث الصحيح الذي رواه الترمذيِ .
ُ
ومعنى ما ِقرئ أنه إذا أتى أمر هللا -وهو قريب قد اقترب -فانشقت السماء ورأيت فيها
فطورا وشقوقا بعد أن كنت ال ترى فيها فطورا ،وانتثرت الكواكب وتساقطت من أفالكها
وانطفأت أضواؤها ،وتفجرت البحار باملياه فزاد ماؤها ففاضت وسالت حتى صارت بحرا
واحدا ،عذبها ومالحها تختلط فتصبح ماء واحدا ،وتقدم معنا أن البحار في ذلك اليوم
العظيم تفيض ويزداد ماؤها ويسيل بعضها على بعض ،فتختلط حتى تصير بحرا واحدا،
ثم تسجر نارا ،وهذا من عجائب ذلك اليوم أن املاء الذي يطفئ النار يصبح نارا مستعرة،
فيتبخر ماؤها ،وتيبس تلك البحار ،وأثيرت القبور وقلبت فجعل أسفلها أعالها ،ف ُِ
استخرج
من فيها من املوتى وقد نبتت أجسادهم فيها بسحاب يرسله هللا عز وجل بماء يشبه مني
الرجال يتسلل إلى جميع القبورِ ،فتنبت اْلجساد في القبورِ ،فإذا أذن هللا قلبت القبور
وجعل أسفلها أعالها ،وخرج الناس من قبورهمِ .
هناك في ذلك املوقف العظيم تعلم كل نفس ما عملته في الدنيا ،تتذكره فال تنس ى منه
شيئا وتقرؤه فال تفقد منه شيئا ،فتعلم ما قدمت وما قدمت هو ما عملته بنفسهاِ ،وتعلم
ما أخرت وما أخرته هو ما سنته لغيرها فاقتدى بها فيه أقوام وصاروا يعملون بمثل عمله،
فمات ِوالناس يعملون بتلك السنة ويتوارثونها ،فهذا ما أخره ،إن كان خيرا فخير ،وإن كان
شرا فشر ،فمن أحيا للناس سنة فاقتدى به الناس وعملوا بهذه السنة ،فإنه يرى أعماال
ما عملها لكنه سنها ،فكانت من عمله بفضل هللا ،وإن كان سن للناس بدعة أحدثها أو
111
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
استوردها أو قواها فعمل الناس بهذه البدعة ومات وهم يعملون بهذه البدعة ،فإنه يجد
أوزارا عظيمة في كتابه لم يعملها لكنه تسبب فيها فكانت من عملهِ .
وهذا يدلك يا عبد هللا على خطورة القدوة ،وأن اإلنسان قد يكتسب أجورا عظيمة
بواسطة القدوة بأن يكون قدوة خير في بيته ،وقدوة خير في حيه ،وقدوة خير في بلده ،وقد
يكتسب أوزارا عظيمة بأن يكون قدوة شر في بيته ،أو قدوة شر في حيه ،أو قدوة شر في
بلده ،وقد يكون قدوة شر في بلدان كثيرة ،السيما في زمانها هذا الذي سهل التواصل فيه
بين الناسِ .
وقال بعض أهل العلم :ما قدمت هو ما عملته من الفرائض ،وما أخرت هو ما تركته من
الفرائض ،وال مانع من إرادة الجميعِ .
فال شك أن اإلنسان يوم القيامة أن كل إنسان كل نفس سترى ما عملت بنفسها ،أو
تركت بنفسها ،وما تسببت به من خير أو شرِ .
هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذا املقطع ،ونعود إلى التفسير التفصيلي،
يقرأ لناِ .
فليتفضل االبن ِ
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
والسامعين :أي :إذا انشقت السماء وانفطرت وتناثرتِ .
السماء يوم القيامة تتشقق وترى فيها الفطور كأنها أبواب ،ثم تزال وتطوىِ ،وهذا من
ُ
أهوال ذلك اليوم ،حيث يتغير الكونِ ،وتحدث أمور عظيمة هائلة ِتذهب اْللباب وتذهل
كل مرضعة عما أرضعت ،نسأل هللا أن نكون عند البعث من اآلمنينِ .
أي :إذا انشقت السماء وانفطرت وتناثرت نجومها وزال جمالها.
وانطفأ ضوؤها وتساقطت من أفالكها ِ
وفجرت البحار فصارت بحرا واحدا.
وذلك بأن يكثر ماؤها فتفيض حتى تصبح بحرا واحدا متصالِ .
وبعثرت القبور بأن أخرج ما فيها من اْلموات.
112
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
البعثرة :هي القلب ،يقال :بعثرة بالعين ،ويقال :بحثرة بالحاء ،وهي القلب وإخراج ما في
الباطن ،فمعنى :بعثرت قلبت وأخرج ما فيهاِ .
وبعثرت القبور بأن أخرج ما فيها من اْلموات وحشروا للموقف بين يدي هللا للجزاء على
اْلعمال ،فحينئذ ينكشف الغطاء ،ويزول ما كان خفيا ،وتعلم كل نفس ما معها من
اْلرباح والخسران ،هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى ما قدمت يداه ،وأيقن
بالشقاء اْلبدي والعذاب السرمدي ،وهنالك يفوز اْلتقون اْلقدمون لصالح اْلعمال
بالفوز العظيم والنعيم اْلقيم والسَّلمة من عذاب الجحيم.
ْ
هللا عز وجل يقولَِ ﴿ :ع ِل َمت﴾ علما يقينيا ال شك فيه وال نقصِ .
َ ْ ﴿ َن ْف ٌ
س﴾ وهذا للعموم؛ أي :كل نفسَّ ﴿ ،ما ق َّد َمت﴾ أي :عملتِ .
َ َّ ْ
﴿ َوأخ َرت﴾ أي :تركت وضيعتِ .
َ ْ
وقال بعض اْلفسرينَّ ﴿ :ما ق َّد َمت﴾ يعني :ما عملته بنفسها ،وما أخرت أي ما سنته
لغيرهاِ .
واختار هذا الثاني إمام املفسرين ابن جرير الطبريِ ،والحق أن الكل مراد ،فكلها مقصودة
بهذه اآليةِ .
َ اك َف َع َد َل َ َ َ ُّ َ ْ َ ُ
ان َما َغ َّر َك ب َرب َك ْال َكريم ﴿َّ ﴾6الذي َخ َل َق َك َف َس َّو َ
ي أ
ِ ِي ف ﴾ 7 ﴿ ك ِ ِ ِ ِ ِ اإلنس
﴿يا أيها ِ
َ َ ُ َ َ َّ َ ْ ُ َ ُ َ ُ َ َّ َ َ َ َّ َ َ
الد ِين ﴿َ ﴾9و ِإ َّن َعل ْيك ْم ل َحا ِف ِظين ﴿﴾10 ن
صور ٍة ما شاء ركبك ﴿ ﴾8كَّل بل تك ِذبو ِ ِ
ب
َ َ َْ ُ َ َ َ
ِك َر ًاما كا ِت ِبين ﴿َ ﴾11ي ْعل ُمون َما تف َعلون ﴿.﴾﴾12
أي ش يء غرك بربك الكريم الذي أنعم عليك أي :يا أيها اإلنسان الكافر بربك املنكر للبعثِ ُّ :
غيره ،رباك بالنعم ورددت قوله ،رباك
بنعم ال تعد وال تحص ى؟ فرباك بالنعم وعبدت ِ
بالنعم وكذبت رسوله ،وهذا غاية الغرور ومنتهاه ،فإن كل ش يء يدلك على ربك ومع ذلك
كفرت وأعرضتِ .
َ َ ُّ َ ْ َ ُ
ان﴾ يعني :يا جنس اإلنسانَ ﴿ ،ما َغ َّر َك ب َربكَ
ِ ِ اإلنس
وقال بعض اْلفسرين﴿ :يا أيها ِ
َْ
الك ِر ِيم﴾ فكفرت إن كنت كافرا ،وعصيت مع إيمانك إن كنت مؤمنا ،ما الذي غرك وربك
113
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سبحانه هو الذي خلقك؟ وأنت تدرك يقينا أنك لم تخلق نفسك ،ولم تخلق صدفة ،و ِال
يستطيع أحد أن يخلقك ،وإنما الذي خلقك هو هللا ،فخلقك يدلك على ربكِ .
ينكر أن هللا هو الذي خلق الناس إال من انطمس عقله بالكلية ،وإال فحتى الكفار
ولذلك ال ِِ
إذا سئلوا :من خلقكم؟ قالوا :هللا ،وهذا يدل العاقل على ربهِ .
اك﴾ وسوى خلقك وأنت في ظلمات الرحم ،فجعلك على خلق سوي منتظم ﴿ َف َس َّو َ
114
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :جواب هذا السؤال غرك شيطانك الذي لم يكن له عليك
سلطان ،وإنما وسوس لك فاتبعتهِ .
وال مانع من أن يكون الجواب شامال لكل هذا ،فكل هذه أسباب الغرور ،نعم وهللا إن
العبد ليذنب ،قد يكون من أهل اإلسالم لكنه يذنب ،فيرى هللا عز وجل يملي له ال يبتليه
بمرض وال يأخذه ،فيغتر ويبطر ويزداد في املعاص ي ،فيغتر بحلم هللا وكرم هللاِ .
وال شك أن الجهل شجرة كل شر ،فما وقع شر من اإلنسان إال وللجهل فيه نصيب،
والجهل مالزم للمعصية ،ولذلك قال ابن عباس رض ي هللا عنهما :ما عص ى أحد إال بجهل،
اإلنسان يقع في املعصية من جهة جهله ولو كان عاملا ،إن عص ى يكون فيه نوع من الجهل،
وال شك أن الشيطان يدعو بني آدم إلى كل شر ،وأعظم ما يرضيه هو الكفر ،وهو يكيد
لبني آدمِ .
نرجع إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما ذكره الشيخِ .
قال رحمة هللا عليه :يقول تعالى معاتبا لإلنسان اْلقصر في حقه اْلتجرئ على معاصيه.
فنفهم من هنا أن الشيخ ابن سعدي رحمه هللا يرى أن اإلنسان هنا جنس اإلنسان الذي
يعص ي سواء كان مسلما ويعص ي ،أو كان عصيانه بالكفرِ .
َْ َ َ َ ُّ َ ْ َ ُ
نسان َما غ َّر َك ِب َرِب َك الك ِر ِيم﴾ أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك اإل
﴿يا أيها ِ
لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟ أليس هو الذي خلقك فسواك في أحسن تقويم،
فعدلك وركبك تركيبا قويما معتدال في أحسن اْلشكال وأجمل الهيئات؟
فهل يليق بك أن تكفر نعمة اْلنعم أو تجحد إحسان اْلحسن؟ إن هذا إال من جهلك
وظلمك وعنادك وغشمك ،فاحمد هللا إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو
َ َّ
ور ٍة َّما ش َاء َرك َب َك﴾. نحوهما من الحيوانات ،ولهذا قال تعالى﴿ :في َأي ُ
ص َ
ِ ِ
َ َ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ
الد ِين ﴿َ ﴾9و ِإ َّن َعل ْيك ْم ل َحا ِف ِظ َين ﴿ِ ﴾10ك َر ًاما كا ِت ِب َين ﴿َ ﴾11ي ْعل ُمون
﴿كَّل ب ْل تك ِذبون ِب ِ
َْ ُ َ
َما تف َعلون ﴿.﴾﴾12
بعدما تقدم زجر هللا عز وجل الكفار زجرا غليظا عما يقولون ويفترون من أنهم على الحق،
وأنه ال حياة إال الدنيا ،وأنهم غير مبعوثين بعد موتهمِ .
115
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
116
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َّ َ ُ َ ُ َ
﴿كَّل ب ْل تك ِذبون ِب ِ
الد ِين﴾ أي :مع هذا الوعظ والتذكير ال تزالون مستمرين على
التكذيب بالجزاء ،وأنتم البد أن تحاسبوا على ما عملتم ،وقد أقام هللا عليكم مَّلئكة
كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمونها ،فدخل في هذا أفعال القلوب وأفعال
الجوارح ،فالَّلئق بكم أن تكرموهم وتجلوهم.
وقال العلماء :إن هللا عز وجل قال هناِ ﴿ :ك َر ًاما﴾ لبيان عدم الظلم وأنهم ال يظلمون وال
يكذبون ،فما في كتبكم كله صدق ،ليس فيه حرف زائد ،وليس فيه حرف ناقصِ .
ص َل ْو َن َها َي ْو َ
اْل ْب َر َار َلفي َنعيم ﴿َ ﴾13وإ َّن ْال ُف َّج َار َلفي َجحيم ﴿َ ﴾14ي ْ َّ ْ َ
الد ِين ﴿﴾15 ِ م ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ٍ ﴿ ِإن
الد ِين ماك َما َي ْو ُ اك َما َي ْو ُم الدين ﴿ُ ﴾17ث َّم َما َأ ْد َ َ َو َما ُه ْم َع ْن َها ب َغائب َين ﴿َ ﴾16و َما َأ ْد َ َ
ِ ر ِ ِ ر ِ ِِ
َّ َ ْ َ َْ َ َ َْ ُ َْ ٌ َْ
س ش ْي ًئا ۖ َواْل ْم ُر َي ْو َم ِئ ٍذ ِلل ِه ﴿.﴾﴾19 ﴿ ﴾18يوم ال تم ِلك نفس ِلن ٍ
ف
أيِّ :أن الناس يوم القيامة ينقسمون إلى :أهل نعيم وأهل جحيمِ .
فاْلبرار الذين َب ُروا بأداء الفرائض واجتناب املعاص ي فكثر خيرهم ،وقل شرهم ،وإذا زلت
أقدامهم بادروا بالرجوع إلى ربهم ،فكانوا بررة أتقياء ،أولئك ا ِْلبرار في نعيم ال يخطر على
قلب بشر ،في نعيم دائم ال ينقطع ،متجدد ال ُِيمل ،كامل ال ينغصِ .
وإن الفجار الذين مالوا عن التوحيد إلى الشرك ،أو خرجوا عن الطاعة إلى املعصية لفي نار
بعيد قعرها ،شديد حرها ،عظيم عذابها ،يصلونها ،يعذبون بها ،ويصلهم لهبها وحرها من
كل مكانِ .
يوم الدين يوم الجزاء والحساب ،ولألبرار والفجار نصيب في الدنيا مما يكون في اآلخرة،
فلألبرار في الدنيا نعيم في قلوبهم ،وحالوة في أنفسهم ،فلهم نعيم القلوب وسرورها ،وحالوة
اإليمان التي ال تدانيها حالوة العسل وحالوة السكر ،ولهم انشراح الصدور واطمئنان
القل ِوب بربهم ،والفجار لهم في الدنيا ضيق الصدورِ ،فهم في صدور ضيقة ،وما هم عنها
بغائبين ،فهم إن دخلوها كفارا لن يخرجوا منها أبدا ،فلن ُِيفقدوا منهاِ .
وما أدراك ما يوم الدين الذي كذب به أولئك الكفار؟ والذي يكون فيه انقسام الناس إلى
الفريقين :أبرار وفجار ،أشقياء وسعداءِِّ ،
أي ش يء يدريك يا محمد -صلى هللا عليه وسلم -ما
يوم الدين؟ وهذا تعظيم وتفخيم لذلك اليومِ .
117
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
118
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ففجرت أعمالهم.
تقدم معنا أن الفاجرُ :يطلق على املائل عن التوحيد إلى الشرك ،وقلت لكم في هذا املعنى ِّ
الفاجر ُيقابل الحنيف؛ ْلن الحنيف هو املائل عن الشرك إلى التوحيد ،والفاجر هو املائل
شرعا :الفاسق الذي خرج عن طاعة عن التوحيد إلى الشرك ،كما أن من معاني الفاجر ً
119
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
حصل من أموال ومهما كان عنده من يعيش الفاجر وال سيما الكافر ضيق الصدر ،فمهما ِّ
ضيق ،ولذلك تجد الكفار يدمنون على الخمور واملخدرات، حضار ٍِة زائفة فإن صدره ِّ
ِّ
ويدمنون على العمل حتى ينس ِوا ضيق صدورهم ،وهيهات أن يكون ،وعند املوت ُيبشر بما
يسوءه ،والكافر عند املوت تضرب املالئكة وجهه ،وتضرب مؤخرتهُ ،يضرب قبل خروج
ِّ
روحهُ ،ويبشر بما يسوءه :أيتها النفس الخبيثة ،كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة
وغساق وآخر من شكله أزواج ،أخرجي إلى سخط من هللا وغضب ،وإذا وأبشري بحميم ِّ
َ َ ُ ِّ ُ
أدخل في قبره ك ِذب في قبره أن كذ َب فألبسوه من النار ،وأفرشوه من النار ،وافتحوا له بابا
ضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضالعه ،حتى حرها وسمومهاُ ،وي ِّ ِّ
إلى النار ،فيأتيه من ِ
شدة ضيق قبره ،ومع كونه في هذا الضيق الشديد والعذاب اْلليم تتداخل أضالعه من ِّ
ُ ُ
فإنه ُينادي ر ِ ِّب ِال ت ِقم الساعة ،ر ِ ِّب ِال ت ِقم الساعةِ .
نسيت أن أذكر أنه إذا ُحمل على اْلكتاف يقولِ :يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين
تذهبون بها؟ يسمع صوته كل ش يء إال اإلنسان ،ولو سمعه اإلنسان ُ
لص ِعقِ .
ثم إذا ُبعث يوم القيامة كان له الفزع الشديد والخزي الكبير ،ثم يكون مصيره إلى النار
والعياذ باهللِ .
َ َْ َ
صل ْون َها﴾ ُويعذبون بها أشد العذاب. ﴿ي
َ َْ َ
صل ْون َها﴾ معناها :يصيبهم لهبها وحرها من جميع الجوانبِ . ﴿ي
َْ َ ُ
الد ِين﴾؛ أي :يوم الجزاء على اْلعمال. ويعذبون بها أشد العذاب﴿ ،يوم ِ
َ َ
﴿و َما ُه ْم َع ْن َها ِبغا ِئ ِبين﴾ أي :بل هم مَّلزمون لها ال يخرجون منها. َ
وهذا في حق الكفار ،فال ُيفقدون من النار أبدا ،بل هم مالزمون لهاِ .
الد ِين﴾ في هذا تهويل لذلك اليوم م اك َما َي ْو ُم الدين ﴿ُ ﴾17ث َّم َما َأ ْد َ َ
اك َما َي ْو ُ ﴿ َو َما َأ ْد َ َ
ِ ر ِ ِ ر
الشديد الذي ُيحي ُر اْلذهان.
والخطاب هنا للنبي صلى هللا عليه وسلم وللناس من بعده ،وقيل :لجنس اإلنسان ،وفي
هذا كما قلنا تعظيم لشأن ذلك اليوم العظيمِ .
120
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
121
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة اْلطففين
الر ْح َمن َّ َّ
الر ِح ِيم ِ
الل ِه َّ ِب ْس ِم
َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ َْ ٌ ْ ُ َ َ
وه ْم أو اس َي ْست ْوفون ﴿ ﴾2و ِإذا كال
ِ الن ى ل ع وا الت اك اذإ ين
ِ ِ ذ ال ﴾ 1 ﴿ ين﴿ويل ِللمط ِف ِف
وثو َن ﴿ ﴾4ل َي ْوم َعظيم ﴿َ ﴾5ي ْو َم َي ُق ُ َ َ َ ُ ُّ ُ َٰ َ َ َّ ُ َّ ْ ُ ُ َ َّ َ ُ ُ ْ
وم ِ ٍ ِ ٍ وه ْم ُيخ ِس ُرون ﴿ ﴾3أال يظن أول ِئك أنهم مبع وزن
َّ ُ َ ْ َ َ َ
اْلين ﴿ِ .﴾﴾6 الناس ِلر ِب الع ِ
هذه السورة اختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية؟ أو أن بعض آياتها مكي وبعض آياتها
مدني؟ واْلقرب وهللا أعلم أنها نزلت في املدينة ،وهي أول ما نزل في املدينة ،فقد جاء عن
ابن عباس رض ي هللا عنهما أنه قال :ملا قدم النبي صلى هللا عليه وسلم املدينة كانوا من
ْ َ َ
أخبث الناس كيال ،فأنزل هللا عز وجلَ ﴿ :و ْي ٌل ِلل ُمط ِف ِفين﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك ،رواه
ابن ماجه والنسائي في الكبرى وحسنه اْللبانيِ .
فهذا ثابت عن ابن عباس رض ي هللا عنهما ،وهو خبر ال يحتمل االجتهاد ،فيكون دليال
واضحا ِِّبينا على أن هذه السورة نزلت عند أول قدوم النبي صلى هللا عليه وسلم إلى
املدينةِ .
وفيها يخبر هللا عز وجل أن العذاب الشديد في جهنم للذين ُينقصون الناس حقهم
ويستوفون من الناس الذي لهم ،فهم ظلمة ال عدل عندهم ،ويدخل في ذلك كل من
يستوفي حقه كامال وقد يتجاوز ويزيد ،وال يعطي الناس حقهم أصال أو يعطيهم حقهم
ناقصاِ .
ومن ذلك ما يكون بين الزوج والزوجة فبعض اْلزواج -هدانا هللا وإياهم -يستوفي حقه
كامال ويطالب بحقه كامال ،وال يعطي الزوجة حقها وهذا مطفف ،وكذلك يدخل في هذا
الذي إذا ألحقت به التهمة تعنت في رد اْلمور الواضحات ،وإذا ألحقت التهمة بغيره تكلف
في إثبات التهمة على غيره فهو مطففِ .
فهذا أصل عام في كل من يستوفي حقه كامال وال يعطي الناس حقهمِ .
وكذلك يدخل فيها عند أهل العلم من ينقص من اْلعمال الواجبة عليه :كالصالة والزكاة،
فهذا مطففِ .
122
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ويقابل املطفف املتفضل وهو الذي يتجاوز عن حقه أو بعضه ويزيد في حق الناس ،هذا
أعلى الدرجات ،متفضل إذا كان يستوفي حقه يتنازل عن بعضه ،وإذا كان يعطي الحق
فإنه يزيد ويتفضل في غير ممنوع شرعا ،ودونه العادل وهو الذي يستوفي حقه ويوفي حق
غيرهِ .
فالناس في هذا ثَّلثة مراتب:
.1اْلرتبة اْلولى واْلعلى :مرتبة التفضل بأن ُينقص من حقه عند االستيفاء ،وأن يزيد
عند التوفية في غير محظور شرعي.
.2واْلرتبة الفاضلة التي دون اْلولى :مرتبة العدل ،فيستوفي حقه كامال ،ويوفي غيره
حقه كامال.
.3واْلرتبة الثالثة :مرتبة التطفيف ،وهذا هو املتوعد والعياذ باهلل بالعذاب الشديد
يوم القيامة.
َّ
املتوعدون بويل هم الذين يستوفون حقهم كامال ،وإذا كالوا للناس أو وزنوهم فاملطففون
ينقصون الحقِ .
أال يتعقد أولئك الظلمة الذين يظلمون في الدنيا أنهم مبعوثون من قبورهم ،فمجازون على
ُ أعمالهم ﴿ َو َقد َ
خاب َمن َح َم َل ظ ًلما﴾ ،أال يتعقد أولئك الظلمة بالبعث فيخافون الجزاء،
فينزجرون عن ظلمهم ،فإنهم وال شك مبعوثون ليوم عظيم ،شأنه عظيم ،وهوله شديد،
في ذلك اليوم يقوم الناس لربهم ،فيقومون في قبورهم حفاة عراة غرال ،ويقومون من
قبورهم حفاة عراة غرال ،ويحشرون حفاة عراة غرال ،فيقومون لربهم خاضعين ،في ذلك
املوقف العظيم قد شخصت أبصارهم ،وارتفعت رؤوسهم ،وتدنو الشمس من رؤوسهم،
فيعرق الناس على ِ
قدر أعمالهمِ :
فمنهم من يبلغ العرق إلى عقبيه ،ومنهم من يبلغ إلى نصف ساقيه ،ومنهم من يبلغ إلى
ركبتيه ،ومنهم من يبلغ إلى خاصرته ،ومنهم من يبلغ إلى عنقه ،ومنهم من يغيب في عرقه إلى
أنصاف أذنيه ،ومنهم من يغطيه عرقه تغطية كاملة ،ويذهب عرقهم في اْلرض سبعين
ذراعا ،إنه قيام عظيم ،فيبلغ الناس من الغم والكرب ما ال يطيقون وما ال يحتملونِِ .
123
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وفي هذا تحذير أكيد من الظلم وعاقبته ووعيد بالقصاص في ذلك اليوم ﴿ َي ْو َم َي ُق ُ
وم
َّ ُ َ ْ َ َ َ
اْلين﴾ِ .
الناس ِلر ِب الع ِ
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذا املقطع ونعود إلى التفسير التفصيلي ونقرأ
ما ذكره الشيخِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
﴿و ْي ٌل﴾ كلمة عذاب وعقاب.
والسامعين في تفسيرهَ :
﴿ك ُال ُ
وه ْم
َ وه ْم َأو َّو َز ُن ُ
وه ْم﴾ يعني :إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم ،فهذه كلمة واحدة ﴿وإ َذا َك ُال ُ َ
ِ
وه ْم﴾ فال يوقف على ﴿أو وزنوا﴾ِ . َأو َّو َز ُن ُ
ال تقرأ مثال﴿ :وإذا كالوهم أو وزنوا﴾﴿ ،هم يخسرون﴾ ،وهذا الذي عليه اْلكثر وهو
الصواب ،وبعضهم أجاز أن تقف هكذا فتقرأ﴿ :وإذا كالوهم أو وزنوا﴾ وقف ﴿هم
يخسرون﴾ ،ولكن الذي عليه اْلكثر هو الصوابِ .
وه ْم َأو َّو َز ُن ُ
وه ْم﴾ :كالوا لهم أو وزنوا لهم وهي لغة حجازيةِ . ﴿ك ُال ُ
َ
ومعنى
َ ُ ْ
﴿يخ ِس ُرون﴾ أي :ينقصونهم أي :إذا أعطوا الناس حقهم الذي لهم عليهم بكيل أو وزن،
ذلك إما بمكيال أو ميزان ناقصينِ .
إما بمكيال وميزان ناقصين ،فالنقص في نفس املكيال ،يقو ِل :هذا صاع وهو ليس بصاع،
مقطوع ،يقولِ :هذا كيلو ِوهو ليس بكيلوِ .
بعضهم مثال :عندما كان امليزان فيه كفتين فيضع الكيلو في كفة ويضع شيئا آخر في الكفة
الثانية تنقص الكيلو ،فهذا املقصود بقول الشيخ :إما بمكيال أو ميزان ناقصين ،فيكون
النقص في املكيال وامليزانِ .
أو بعدم ملئ اْلكيال واْليزان
فيكون النقص في الكيل أو الوزن ،وكالهما يدخل في هذاِ .
أو بغير ذلك ،فهذا سرقة ْلموال الناس وعدم إنصاف لهم منهم ،وإذا كان هذا وعيدا
على الذين يبخسون الناس في اْلكيال واْليزان.
وهو في باب املعاوضة يعطي ويأخذ ولكنه يظلمِ .
فالذي يأخذ أموالهم قهرا وسرقة أولى بهذا الوعيد من اْلطففين.
وهو الذي يأخذ وال يعطي ،وهذا ليس خاصا باْلموال يا إخوة كما قلنا هذا عام في كل ش يء
كما ذكرنا في التفسير اإلجماليِ .
قال رحمه هللا :ودلت اآلية الكريمة على أن اإلنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب
عليه أن يعطيهم كلما لهم من اْلموال واْلعامَّلت ،بل يدخل في عموم هذا الحجج
واْلقاالت ،فإنه كما أن اْلتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له
125
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
من الحجج ،فيجب عليه أيضا أن يبين ما لخصمه من الحجة التي ال يعلمها ،وأن ينظر
في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هوِ .
هللا أكبر! هللا أكبر! يعني هذا حتى في مقام املناظرة يجب العدل وعدم التطفيف ،فكما أن
اإلنسان يعرض أدلته ويقويها ويبين وجه داللتها ،فإنه يجب أن ينصف خصمه في أدلته،
ِّ
بل إذا كان له دليل لم يذكره فإنه يذكره به ،وهذا فضل في الخصومةِ .
وأيضا أن يحب أن ُينظر في أدلة خصمه كما يحب أن ُينظر في أدلته ،وأن يحب أن ُينظر
في أدلة قضيته كما يحب أن ُينظر في أدلة غيره ،وهذا موجود في صنيع علماء أهل السنة
عبر العصور ،وإذا قرأت كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا تجد أنه يعرض حجج
خصومه بأقوى مما يعرضها الخصوم ،وقد يذكر لهم من الحجج ما لم يذكروه ،وهذه
طريقة أهل اإلنصاف والعدل والعلم الذين سلمت قلوبهم وأحبوا الحق لهم أو لغيرهمِ .
قال رحمه هللا :وفي هذا اْلوضع يعرف إنصاف اإلنسان من تعصبه واعتسافه وتواضعه
من كبره وعقله من سفهه.
صدق ورب الكعبة ،وإنما تظهر اْلخالق في املضايق ،أما في السعة فالكل في الغالب يكون
على خلق ،لكن إذا جاءت املضايق كالخصومات ونحو ذلك ظهرت اْلخالق ،وبدا اإلنصاف،
وبدا من يحب الحق ممن يقدم نفسه على الحق نعوذ باهلل من سوء الحالِ .
ََ
ثم توعد هللا تعالى اْلطففين ،وتعجب من حالهم إقامتهم على ما هم عليه فقال﴿ :أال
َ ْ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ ُّ ُ َٰ َ َ َّ ُ َّ ْ ُ ُ
وثو َن ﴿ ﴾4ل َي ْوم َ
اْلين ﴿.﴾﴾6ِ ع ال بر
ِ ِل اس الن ومق ي موي ﴾ 5 ﴿ يم ظ ع
ِ ٍ ِ ٍ يظن أول ِئك أنهم مبع
َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ
اس﴾ (على) هنا ما ِ الن فاتني أن أقول في قول هللا عزوجل﴿ :ال ِذين ِإذا اكتالوا على
معناها؟ ِ
بعض اْلفسرين قال :معناها ( ِمن) ،يعني :الذين إذا اكتالوا من الناسِ .
وبعض اْلفسرين قال :معناها (عند) يعني :إذا اكتالوا عند الناس ،واملعنى واحدِ .
ُّ ََ َ ُ
﴿أال يظن﴾ قال بعض اْلفسرين :معناها :أال يعتقد ويعلم أولئكِ .
وقال بعض اْلفسرين :معناها :أال يخاف أولئكِ .
126
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ َ َ
وقال بعض اْلفسرين :معناها :أال يخطر في قلوب أولئك أ َّن ُهم َّم ْب ُعوثون فيزجرهم ذلك عن
الظلمِ .
قال رحمه هللا :فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم اآلخر ،وإال فلو آمنوا
به وعرفوا أنهم سيقومون بين يدي هللا فيحاسبهم على القليل والكثير ْلقلعوا عن ذلك
وتابوا منه.
﴿ل َي ْو ٍم َع ِظ ٍيم﴾ قال العلماء :يوم كله عظمة ،فهو عظيم في ذاته ،عظيم فيما يقع فيه،
ِ
عظيم في أهوالهِ .
َ ْ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ْ َ َ َ
اْلين﴾ قال بعض اْلفسرين :يوم يقوم الناس في قبورهمِ .﴿يوم يقوم الناس ِلر ِب الع ِ
وقال بعض اْلفسرين :يوم يخرج الناس من قبورهمِ .
وقال بعض اْلفسرين :يوم يقوم الناس في عرصات القيامةِ .
والكل مرادِ .
ً
ابتداء من قيامهم في قبورِهم ،ثم قيامهم من قبورهم ،ثم فالناس يقومون لرب العاملين
قيامهم في العرصاتِ .
أما القول بأن القيام فقط الذي في القبور فبعيد ،والقول بأن القيام هو القيام من
القبور فقط فبعيدْ ،لن اآلية واضحة أنها في القيام يوم القيامة ،لكن أن يكون ذلك كله
حاصال ومقصودا فنعم ،فهم يقومون في قبورهم ،ثم يق ِومون من قبورهم ،ثم يقومون في
عرصات يوم القيامةِ .
َ ْ َ َ َ
اْلين﴾ أي :خاضعين لرب العاملين فال يتكلمون إال بإذنه ،وال يعصون أمره ،وال ﴿ ِلر ِب الع ِ
َ ْ َ َ َ
اْلين﴾ِ . ينتظرون إال جزاءه ،هذا معنى ﴿ ِلر ِب الع ِ
وم ﴿﴾9 اب َّم ْر ُق ٌ
اك َما سج ٌين ﴿ ﴾8ك َت ٌ اب ْال ُف َّجار َلفي سجين ﴿َ ﴾7و َما َأ ْد َ َ
﴿ك ََّّل إ َّن ك َت َ
َ
ِ ِ ِ ر ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ َْ َ ْ َ ْ ُ َ َ
الد ِين ﴿َ ﴾11و َما ُيك ِذ ُب ِب ِه ِإال ك ُّل ُم ْعت ٍد
وي ٌل يوم ِئ ٍذ ِللمك ِذ ِبين ﴿ ﴾10ال ِذين يك ِذبون ِبيو ِم ِ
ان َع َل ٰى ُق ُلوبهم ماََّ َّ َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ٰ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ
ِِ اطير اْلو ِلين ﴿ ﴾13كَّل ۖ بل ۜ ر أ ِث ٍيم ﴿ِ ﴾12إذا تتلى علي ِه آياتنا قال أس ِ
َ َ ُ ْ
كانوا َيك ِس ُبون ﴿.﴾﴾14
127
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يزجر هللا عز وجل املكذبين بالبعث والعاملين بالظلم كأنه ال بعث ،يزجرهم عما يقولون
ويفعلون من الظلم ،ويقرر أن البعث كائن والجزاء حاصل والعمل محص ىِ .
فكتاب الفجار الذين مالوا عن التوحيد فكانوا مشركين مكذبين بالبعث ،والذين فسقوا
عن طاعة رب العاملين فكانوا من العاصين املجرمين إن كتابهم لفي اْلرض السابعة
السفلى ،فأعمالهم كانت سافلة في الدنيا فكان كتابهم سافال بعد موتهم ،وذلك أن الكافر
ُ
إذا قبضت روحه ثم ُعرج به إلى السماء الدنيا ال ُيفتح له ،ويقول هللا عز وجل :اكتبوا
كتابه في سجين في اْلرض السفلى ،كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول هللا صلى
هللا عليه وسلمِ .
ٌ َ َ َ ْ ََ َ
ويوجه هللا الخطاب ملحمد صلى هللا عليه وسلم ﴿وما أدراك ما ِس ِجين﴾؛ أي :وأي ش يء
أدراك يا محمد ذلك الكتاب؟ وهذا على وجه التعظيم لسفل ذلك الكتاب ،وإال فمحمد
عليه صلى هللا عليه وسلم عربي ،وسجين كلمة عربية فلما سمعها فهمها صلى هللا عليه
اك َما ِس ِج ٌين﴾ من باب التعظيم لسفل وضيق وسلم ،ولكن قول هللا عزوجلَ ﴿ :و َما َأ ْد َ َ
ر
ذلك الكتابِ .
َ َ ْ ََ َ
وإذا قيل في القرآن﴿ :وما أدراك﴾ فهذا إعالم أن البيان يتلو ذلك دائما ،إذا قرأت في
اك﴾ فاقرأ ما بعده فإنه بيان ﴿إ َّنا َأ َنزْل َن ُاه في َل ْي َلة ْال َق ْدر ﴿َ ِ ﴾1و َما َأ ْد َ َ
اك القرآن ﴿ َو َما َأ ْد َ َ
ر ِ ِ ِ ر
َ َُ َ َُ َْ
َما ل ْيلة الق ْد ِر ﴿[ ﴾﴾2القدر ]2-1 :إذا أردت أن تعرف ليلة القدر فاقرأ ما بعدها ﴿ل ْيلة
ْ َ ْ ٌَْ ْ َْ َ
ف ش ْه ٍر﴾ [القدر ]3 :إلى آخر السورة وهكذا ،إذا قرأت في القرآن ﴿ َو َما القد ِر خير ِمن أل ِ
َ َ ْ َ
أدراك﴾ فاقرأ ما بعدها فإنه بيانِ .
إعالم بأن البيان يتلو ذلكِ . ٌ اك﴾ إذن؛ ﴿ َو َما َأ ْد َ َ
ر
اك َما ِس ِج ٌين﴾ إنه كتاب مكتوب بعدل ،ال ينقص منه وال يزاد فيهِ . ﴿ َو َما َأ ْد َ َ
ر
ثم يتوعد هللا عز وجل املكذبين بالبعث ويوم القيامة وما فيه من الجزاء بالعذاب الشديدِ .
ويبين ربنا سبحانه وتعالى أنه ما يكذب بيوم الدين -بيوم الجزاء والحساب -إال كل معتد
ً
اعتداء ممن كذب كالم هللا ،وهو على هللا عز وجل في قوله فهو مكذب لقول هللا ،وال أعظم
معتد أيضا على حق الخلق كاملطففين ،فاملكذب بيوم الدين معتد دائماِ .
128
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وال تنتظر من كافر عدال وإنصافا وإنما يكون عدله وإنصافه بحسب مصلحته الدنيوية فما
يكذب بيوم الدين إال كل معتد شديد االعتداء حيث يعتدي على هللا بتكذيب كالمه،
ويعتدي على خلق هللا بتضييع حقوقهمِ .
أثيم :صاحب إثم كثير بمعاصيه ،إذا تتلى عليه اآليات من القرآن ال ينتفع بها وال يسلم
لها ،وإنما يقو ِل :إنها حواديث اْلولين ،وأخبار املاضين التي ال حقيقة لها ،وإنما هي أباطيل
وأكاذيب ،وإنما سطرت في الكتب وال حقيقة لهاِ .
وليس اْلمر كما يقولون ويفترون ،ولكن غلب على قلوبهم وغطاها ما كانوا يعملون من
الذنوب ،حتى أصبحت ال تقبل حقا وال ترد باطال ،فأظلمت قلوبهم بسواد ذنوبهم،
فأصبحت ال ترى النور وال تقبل النو ِرِ .
ُ
القرآن لو أنزل على جبل لتصدع ،وفيه الحق املبين ولكن هؤالء ال ينتفعون بالقرآن ،وإذا
سمعوه قالوا :أساطير اْلولين ،وهم يعلمونِ أنه ليس كذلك ،لكن غطت ذنوبهم قلوبهم
حتى أظلمت فأصبحت ال ترى نورا وال تقبل نوراِ .
وفي هذا بيان أن من سوء الذنوب أنها تغطي القلوب ،حتى يصبح القلب ال يقبل الحق،
ولذلك من أعظم أسباب رد الحق :الذنوب ،فإن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة
سوداء ،فإن تاب منها ونزع ُ
ص ِقل منها ،وإن زاد زادت حتى ترين على قلبه ،ولذلك إذا
وجدت الرجل ال يسلم للحق وال يقبل الحق فاعلم أنه صاحب ذنوب ،أظلم قلبه بها
والعياذ باهللِ .
ثم نعود إلى التفسير التفصيلي ونقرأ ما ذكره الشيخِ .
َ َّ َّ َ َ ْ ُ
اب الف َّج ِار﴾. قال رحمه هللا تعالى :يقول تعالى ﴿كَّل ِإن ِكت
(كَّل) كما تقدم مرارا قال بعض اْلفسرين :هي كلمة ردع وزجر عن الباطل ويتلوها تقرير
للحقِ .
وقال بعضهم :هي نافية ومعناها :ليس اْلمر كذاِ .
وقال بعض اْلفسرين :معناها :حقا ،فالذي بعدها حق ويقين ِ
129
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َّ َّ َ َ ْ ُ
اب الف َّج ِار﴾.﴿كَّل ِإن ِكت
﴿كتاب الفجار﴾ قال بعض اْلفسرين :هو الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهمِ .
وقال بعض اْلفسرين :هو الكتاب الذي كتبت فيه أسماؤهم ،فأسماء أهل النار مكتوبة
ُ
في كتاب ،ومن كتب اسمه في ذلك الكتاب فإن مصيره إلى النارِ .
َ َ ُْ
اب الف َّجار﴾ قال بعض أهل العلم بعض اْلفسرين :هو كتاب أعمالهم الذي ﴿كت
إذن ِ
ُ ُ
كتبت فيه أعمالهم ،وقال بعض اْلفسرين :هو الكتاب الذي كتبت فيه أسماؤهم ،ذلك
الكتاب الذي من كان اسمه فيه كان من أهل النارِ .
َ َّ َّ َ َ ْ ُ
اب الف َّج ِار﴾ وهذا شامل لكل فاجر من أنواع الكفرة واْلنافقين والفاسقينِ . ﴿كَّل ِإن ِكت
على أن (ال) للجنس ،فهو يشمل كل فاجرِ .
والفاجر :إما املائل عن التوحيد للشرك وهو الكافر ،وإما الفاسق الذي خرج عن الطاعة
إلى املعصيةِ .
وقال بعض اْلفسرين( :ال) هنا للعهد الذين ُيتحدث عنهم وهم املنكرون للبعث الكفار
املنكرون للبعثِ .
َ
﴿ل ِفي ِس ِج ٍين﴾.
﴿لفي سجين﴾ سجين ِّ َ
فعيل من السجن؛ أي :في مكان ضيق ،وهي اْلرض السابعة كماِ ِ ِ ِ ٍ
ثبت ذلك في الحديث الصحيح ،فهذا املكان جمع بين غاية السفل وغاية الضيق ،فهو
ضيق كما يدل على ذلك كلمة سجين ،وهو في أسفل سافلين في اْلرض السابعةِ .
﴿س ِج ٍين﴾ هي جهنم ،فكتابهم في سجينِ .
وقال بعض اْلفسرينِ :
﴿س ِج ٍين﴾ بئر في جهنم مكشوفِ .
وقال بعض اْلفسرينِ :
﴿س ِج ٍين﴾ هو مكان ،واْلول منها هو اْلولى؛ ْلنه جاء في الحديث
وعلى هذه اْلقوال ِ
الصحيح :يعني في اْلرض السابعة ،وكلمة سجين تدل على ضيقهِ .
َ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ل ِفي ِس ِج ٍين﴾ لفي خسارة وضالل ،فكتابهم ما فيه إال
الخسارة والضالل؛ ْلنهم كفار والكافر مالو حسنة في اآلخرة ،فهذا وصف ْلعمالهم على هذا
القولِ ﴿ ،س ِج ٍين﴾ وصف ْلعمالهم على هذا القولِِ .
130
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
﴿س ِج ٍين﴾ هو اسم الكتاب الذي كتبت فيه أسماء أهل النار،
وقال بعض اْلفسرينِ :
اسمه سجينِ .
﴿و َما َأ ْد َ َ
اك َما ِس ِج ٌين﴾. ﴿لفي سجين﴾ ثم فسر ذلك بقولهَ : َ
ر ِ ِ ِ ٍ
﴿وما أدراك﴾ يعني :وأي ش يء أدراك يا محمد؟ من باب تعظيم سفل هذا الكتاب وضيقهِ .
اب َّم ْر ُق ٌ
وم﴾. ﴿ك َت ٌ
ِ
وم﴾ أي :مكتوب كتابة عدل ثابتة حروفه ،فال ينمحي منه ش يء وال يزاد فيه وال اب َّم ْر ُق ٌ ﴿ك َت ٌ
ِ
ينقصِ .
الكتاب اْلرقوم :هو املكتوب كتابة ثابتة محفوظة ،فهو ال تمحى حروفه ،ومحفوظ ال يزاد
فيه وال ينقص منهِ .
وم﴾ أي كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة ،وسجين اْلحل الضيق الضنك، اب َّم ْر ُق ٌ
﴿ك َت ٌ
ِ
وسجين ضد عليين الذي هو محل كتاب اْلبرار كما سيأتي ،وقد قيل :إن سجين هو
أسفل اْلرض السابعة مأوى الفجار ومستقرهم في معادهمِ .
حيث تكون النار ،قالوا النار تكون في اْلرض السابعة هذا معنى كالم الشيخِ .
َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ َْ َ ْ َ ْ ُ َ َ
﴿وي ٌل يوم ِئ ٍذ ِللمك ِذ ِبين﴾ ،ثم بينهم بقوله﴿ :ال ِذين يك ِذبون ِبيو ِم ِ
الد ِين﴾ أي :يوم الجزاء،
َ َّ ُ َ َ
﴿و َما ُيك ِذ ُب ِب ِه ِإال ك ُّل ُم ْعت ٍد﴾ على محارم هللا. يوم يدين هللا الناس فيه بأعمالهم
كل معتد؛ أي :شديد االعتداء ،شديد االعتداء على هللا بالتكذيب وعلى محارم هللا وعلى
حقوق خلق هللاِ .
َ
معتد على محارم هللا ،متعد من الحَّلل إلى الحرام﴿ ،أ ِث ٍيم ﴾ أي :كثير اإلثم.
أثيم فعيل؛ أي :كثير اإلثمِ .
وقال بعض اْلفسرين :معتد أي :في أفعاله ،فأفعاله فيها اعتداء ،أثيم أي :في أقواله فهو
كذاب أشر؛ فأفعاله فيها اعتداء ،وأقواله فيها إثم أي كذبِ .
َ
﴿أ ِث ٍيم﴾ أي :كثير اإلثم ،فهذا يحمله عدوانه على التكذيب ،ويوجب له كبره رد الحق،
ولهذا إذا تتلى عليه آيات هللا الدالة على الحق وعلى صدق ما جاءت به الرسل كذبها
وعاندها وقال :هذه أساطير اْلولين.
131
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أساطير يعني :ما ُيسطر في الكتب من اْلكاذيب واْلباطيل ،اْلسطورة ليس الش يء العظيم
كما يظن بعض العامة ،اْلسطورة :ما ُيسطر في الكتب من اْلكاذيب واْلباطيلِ .
ُ
وقال :هذه أساطير اْلولين أي :من ت َّرهات اْلتقدمين وأخبار اْلمم الغابرين ليس من عند
كذب بيوم الدين؛ ُ َّ
هللا تكبرا وعنادا ،وأما من أنصف وكان مقصوده الحق اْلبين فإنه ال ي ِ
ْلن هللا قد أقام عليه من اْلدلة القاطعة والبراهين الساطعة ما يجعله حق اليقين،
وصار لبصائرهم بمنزلة الشمس لألبصار ،بخَّلف من ران على قلبه كسبه وغطته
ٌ
محجوب عن الحق. معاصيه فإنه
ُ َّ ُ َ ُ َ ُ َّ َّ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َّ َّ ُ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َ
ال َهذاصالو ال َج ِح ِيم ﴿ ﴾16ثم يق وبون ﴿ ﴾15ثم ِإنهم ل ﴿كَّل ِإنهم عن رِب ِهم يوم ِئ ٍذ ْلحج
َ َُ ُ ُ َّ
ال ِذي كنتم ِب ِه تك ِذ ُبون (.﴾)17
الحسنىيعني :أنه ليس اْلمر كما يقول هؤالء الكفار أنهم لو ُبعثوا لكان لهم عند هللا ُ
َّ ُ ْ َ َّ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ َ ُ
وبون﴾ فهم والقربى ،بل لهم الذلة والخزي عند بعثهم ،بل ﴿ ِإنهم عن رِب ِهم يوم ِئ ٍذ ْلحج
محجوبون عن رؤية ربهم ،وال ينظر إليهم ربهم نظرة رحمة ،فيجمع هللا عز وجل عليهم
عذاب الخوف الشديد في ذلك اليوم ،وعذاب الحجب عن رؤيتهِ ،وعذاب املنع من رحمته،
ً
يجمع هللا عليهم في ذلك اليوم عياذا باهلل من سوء الحال عذاب الخوف الشديد في ذلك
اليوم ،وعذاب الحجب عن رؤيته ،وعذاب املنع من رحمته سبحانه وتعالىِ .
وفي هذا داللة على أن املؤمنين يرون ربهم في ذلك اليوم ،فلما كان من عقوبة أهل
السخط الحجب عن رؤية هللا ،كان من نعيم أهل الرضا رؤية هللا سبحانه وتعالى ،وسيأتي
في شأن اْلبرار هذاِ .
ثم إنهم بعد هذا حيث ينالهم الخوف الشديد والحجب عن رؤية هللا وهو أشد عليهم من
ذلك الخوف واملنع من رحمة هللا ،ثم بعد ذلك إنهم لداخلوا النار شديدة الحر ،شديدة
العذاب ،بعيدة القعر ،فيأتيهم لهبها من كل مكان ،ويصيبهم عذابها من كل مكانِ .
ِّ
ثم ُيقال لهم وهم في الجحيم :هذا العذاب الذي دخلتموه هو الذي ُحذرتم منه في الدنيا
فيجمع لهم في عذاب جهنم بين العذاب ً
تبكيتا لهمُ ، فكذبتم ولم تؤمنوا به ،فيكون ذلك
132
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ
الجسدي والعذاب النفس ي بهذا التبكيت الذي ُيقال لهم ،ففي هذا زيادة في نكالهم وزيادة
في عذابهم والعياذ باهللِ .
ثم نعود إلى التفسير التفصيليِ .
قال حمه هللا تعالى :ولهذا ُجز َي على ذلك بأن ُحجب عن هللا كما ُحجب قلبه في ُّ
الدنيا ِ ر
عن آيات هللا.
ً
وفاقا ،واملؤمن كما أنه في ُّ
الدنيا رأى فال يرى هللا كما أنه في الدنيا لم ير آيات هللا ِ
جزاء
آيات هللا واستسلم لها فإنه في اآلخرة يرى هللا سبحانه وتعالىِ .
ثم إنهم مع هذه العقوبة البليغة لصالوا الجحيم.
وا﴾ أي :لداخلواَ ﴿ ،َ َ ُ ْ
حيم﴾ يعني :النار شديدة الحرارة ،عظيمة العذاب بعيدة ِ الج ﴿لصال
القعر فيأتيهم لهبها من كل مكانِ .
َ َُ ُ ُ َ َّ ً ً
وتقريعا ﴿هذا الذي كنتم ِب ِه تك ِذبون﴾. ثم ُيقال لهم توبيخا
ُ ِّ ُ
وحذرتم منه فكنتم تكذبون به ،وقد دخلتموهِ . يعني هذا العذاب الذي ذكر لكم في الدنيا،
فذكر لهم ثَّلثة أنواع من العذاب :عذاب الجحيم ،وعذاب التوبيخ واللوم ،وعذاب
الحجاب عن رب العاْلين اْلتضمن لسخطه وغضبه عليهم ،وهو أعظم عليهم من عذاب
النار.
َّ
ودل مفهوم اآلية أن اْلؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة ،ويتلذذون بالنظر إليه
أعظم من سائر اللذات ،ويبتهجون بخطابه ،ويفرحون بقربه كما ذكر هللا ذلك في عدة
آيات من القرآن ،وتواتر فيه النقل عن رسول هللا ﷺ.
وفي هذه اآليات التحذير من الذنوب فإنها ترين على القلب وتغطيه ً
شيئا فشيئا ،حتى
َّ ًّ
والحق باطَّل، ينطمس نوره ،وتموت بصيرته ،فتنقلب عليه الحقائق فيرى الباطل حقا
وهذا من أعظم عقوبات الذنوبِ .
ولذلك ينبغي أن يعتني طالب العلم بالبعد عن املعاص ي ،فإن املعاص ي تؤثر في قلبه فيكسل
عن طلب العلم ،وال يفهم إذا حضر ،وال ينتفع إذا علم ،فإذا أراد طالب العلم أن ُي ِّ
حصل
133
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
العلم وأن يفهم العلم وأن ينتفع بالعلم فليجلوا قلبه عن أثر املعاص ي بالبعد عن املعاص ي
والتوبة من املاض يِ .
أمرا ً
الصقا باإلنسان ال يستطيع أن يتخلص منه ،مهما فعل من الحمد هلل الذنب ليس ً
ُ ً الذنوب ً
سابقا يستطيع أن يتوب صادقا فإذا بها تزال ،ويبتعد عن الذنوب ويبتعد عن أهل
ً
وجمعا للعلمً ، ً الذنوب سيجد ِّ
وفهما للعلم ،ويرزقه هللا همة عالية في طلب العلم وتحصيال
من الفهم والبيان عن ذلك الفهم ما يفوق به غيرهِ .
فوصيتي لنفس ي ولطالب العلم الحرص على تخليص النفس من الذنوب السابقة بتوبة
صادقة ،والحرص على مجانبة الذنوب ومجاهدة النفس في هذا الباب ،فإن الذنوب من
أعظم العوائق عن تحصيل العلم وفهمه ،ومن وفقه هللا ليتخلص من الذنوب فقد وفقه
ْلعظم سبيل لتحصيل العلم وفهمه واالنتفاع بهِ .
وم ﴿﴾20 اب َّم ْر ُق ٌ اك َما عل ُّيو َن ﴿ ﴾19ك َت ٌ اْل ْب َرار َلفي علي َين ﴿َ ﴾18و َما َأ ْد َ َ
َ َّ َّ َ َ ْ َ
﴿كَّل ِإن ِكتاب
ِ ِِ ر ِ ِ ِِ ِ
َ ُ ُ َ َ َْ َْ َ َ َُْ َ ْ
َيش َه ُد ُه اْلق َّرُبون ﴿ِ ﴾21إ َّن اْل ْب َر َار ل ِفي ن ِع ٍيم ﴿َ ﴾22على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون ﴿ ﴾23ت ْع ِرف ِفي
َٰ َ َّ ْ ُ الن ِعيم ﴿ُ ﴾24ي ْس َق ْو َن ِمن َّ
ْ َ ْ َ َ َّ
وم ﴿ِ ﴾25خت ُام ُه ِم ْس ٌك ۚ َو ِفي ذ ِل َك يق مخت ٍ ٍ حِ ر ِ وه ِهم نضرة وج ِ
ُ ُ
َ ْ َ َف ْل َي َت َن َافس ْاْلُ َت َناف ُسو َن ﴿َ ﴾26وم َز ُ
اج ُه ِمن ت ْس ِن ٍيم ﴿َ ﴾27ع ْي ًنا َي ْش َر ُب ِب َها اْلُ َق َّرُبون ِ ِ ِ
﴿.﴾﴾28
بعد أن ِّبين ربنا سبحانه وتعالى مقام الفجار وهوانهم عند هللا عز وجل يوم القيامة ،وبدأ
بهم؛ ْلن الحديث عنهم ال تشريفا لهم ،بين سبحانه مقام اْلبرار ،وزجر املفترين الكذب
املنكرين للبعث عما يقولون من الكذب واالفتراء ،وبين سبحانه أنه ليس اْلمر كما يقولون
أن العزة والحسنى لهم عند هللا لو بعث هللا عز وجل العباد ،بل العزة واملكانة العلية
والحسنى عند هللا عز وجل يوم القيامة لألبرار ،الذين كثر خيرهم وعظم تباعدهم عن
الشر ،فأطاعوا هللا على نور من هللا ،يرجون ثواب هللا ،وتركوا معاص ي هللا على نور من هللا
يخافون عذاب هللا ،فبين هللا عز وجل علو قدرهم يوم القيامة من جهة كتابهم ،ومن جهة
حالهمِ .
134
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فكتاب أعمالهم في علو مكانة ومكانا ،فكتاب اْلبرار الذي كتبت فيه أعمالهم في علو عظيم
فهو في السماء السابعة ،في الجنة قرب عرش الرحمن سبحانه وتعالى ،وهو عالي املكانة،
كما سيأتي بيانه في اآليات التاليةِ .
ِّ
ويعظم هللا عز وجل كتاب اْلبرار بتوجيه الخطاب لسيدهم محمد بن عبد هللا صلى هللا ِ
َ
عليه وسلم ﴿ َو َما أ ْد َ َ
اك﴾ يعني :وأي ش يء أدراك يا نبينا ما عليون؟ ما مكانة ومكان هذا ر
الكتاب ،تعظيما له ،وتفخيما لشأنه وبيانا لشدة علوهِ .
عز وجل جعل فيه لألبرار
وم﴾ ال ينمحي حرفه ،وال ينقض ي فضله ،فاهلل ِ اب َّم ْر ُق ٌ
إنه ﴿ك َت ٌ
ِ
فضال ،فلم تكتب فيه الحسنة بحسنة ،بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف،
وهللا يضاعف ملن يشاء ،وهو محفوظ ال ينقص منه ش يءِ .
ومع علو مكانه فإن له علو املكانة حيث يشهده املقربون من أهل السماء ،يشهده املقربون
من هللا سبحانه وتعالى ،من أهل السماء وهم املالئكة ويشهدون عليه ،فيحضره املقربون
من املالئكة ،ويشهد عليه املقربون من املالئكةِ .
ثم بين هللا عز وجل العزة لألبرار يوم القيامة في الحال ،وأنهم في نعيم دائم ال ينقطع زمنا
وال يكدر حاال ،بل سرورهم ممتد بال نهاية ،وتام بال نقصان ،ومتجدد فال يمل منه ،كلما
أوتوا شيئا منه كأنهم يرزقونه ْلول مرة ،فهو نعيم دائم شامل لألرواح واْلجساد ،فقلوبهم
وأرواحهم في سرور ونعيم ،وأجسادهم في نعيم عظيمِ .
ومن نعيمهم أنهم على السرر املرفوعة في الحلل واللباس من اللؤلؤ والياقوت ،يجلسون
على ِأس َّرة لها سقف خاصة بها ،مثل املظلة فوق السرير ترفيها وتنعيما ،ينظرون وهم على
تلك السرر إلى ما يزيدهم سرورا ويسعد قلوبهم مما أعطاهم هللا من الكرامة والنعيم في
الجنة مما ال ينتهي الطرف إليه ،وأعظم سرورهم بالنظر في الجنة هو نظرهم إلى وجه ربهم
سبحانه وتعالىِ .
وهذا النعيم الذي أكرمهم هللا به أثر حتى في أجسادهم ،فأصبحت لو نظرت إلى الواحد
منهم ترى في وجوههم صفة النعيم ،فترى في وجوههم نعومة ونضارة وبهاء وجماالِ .
135
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومن باب التقريب وإال فال يداني هذا هذا في الدنيا إذا نظرت إلى من عاش في الترف
واْلموال والغنى وتربى في ذلك ترى في وجهه نضرة ،وترى كما يقولون الدم كأنه سيخرج من
خديه من النعيم الذي أثر فيه ،في الجنة يصل النعيم أن يؤثر في أجساد أهل الجنة ،فإذا
نظرت إلى وجههم وجدت النعيم ظاهرا فتجد صفة النعيم ،وهذا يدخل النعيم أو يدخل
السرور على قلبك ،إن نظرت إليهم فهذا يريح القلب وهم قد ظهر أثر النعيم في وجوههمِ .
ومن نعيمهم العظيم أنهم يسقون خمرا صافية محفوظة ال غش فيها وال ضرر فيها،
يسقيهم ولدان مخلدون على أجمل هيئة وبأحسن آنية ،يسقونهم تلك الخمر ،وذلك الخمر
طيب املادة طيب الرائحة ،فطعمها طيب وريحها طيب ويعقبها ريح طيب ،وهذا كله عكس
حال الخمر في الدنيا ،فحال الخمر في الدنيا أن طعمها خبيث ،وأن ريحها خبيث ،وأنه
يعقبها في فم شاربها رائحة خبيثة مع ما يحصل لشاربها بعد فراغه من شربها من صداع
وغثيان وغير ذلك ،أما خمر اآلخرة فمسلمة من كل هذا ،نعيم خالصِ .
فإن شأنهم واملرجو منهم أن يتنافسوا في تحصيل وإذا علم العقالء من أمثالكم هذا النعيم ِّ
َ َُْ َ َ َٰ َ َ ْ َ َ َ َ
س اْلتنا ِف ُسون﴾ ،وليتسابق
هذا النعيم ،وفي إدراك هذا النعيم﴿ ،و ِفي ذ ِلك فليتن ِ
اف
املتسابقون في تحصيل ذلك النعيمِ .
َ
اج ُه ِمن ت ْس ِن ٍيم﴾ أي :أن ذلك الخمر يخلط بماء أو شراب ينزل عليهم من فوق من﴿ َوم َز ُ
ِ
أعلى الجنة من الفرد ِوس الذي هو أعلى الجنة ،من عين يشرب منها املقربون ،أهل
الفردوس يشربون منها مباشرة ،واملعلوم يا إخوة أن الفردوس أوسط الجنة وأعلى الجنة،
ومنه تتفجر أنهار الجنة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ،فأهل الفردوس هم املقربون
يشربون من تلك العيون مباشرة ،وأما من دونهم فإنه ينزل إليهم من شرابها ومائها ،فيخلط
به شرابهم ،وهذا من أعظم النعيم في الجنة ،وفي هذا حث على أن يتسابق املسلمون
واملؤمنون ليس إلى الجنة فقط وإنما إلى الفردوس اْلعلى ،حتى يصبحوا من املقربين الذين
يشربون من العيون من عيون الجنة بجميع شرابها مباشرة ،ولذلك قال النبي صلى هللا
عليه وسلم(( :إذا سألتم هللا الجنة فاسألوه الفردوس اْلعلى))ِ .
136
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وإذا طلبتم يا معاشر املؤمنين الجنة فلتكن غايتكم منها أعالها بإحسان العمل ،ولن
يحسن العمل إال بتمام اإلخالص هلل وتحقيق االتباع لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،
فكلما صفا إخالصك هلل ِوحققت في فعلك سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان ذلك
أدعى ْلن تكون من املقربين الذين ينعم هللا عز وجل عليهم بالفردوس اْلعلىِ .
هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ونعود إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما
كتبه الشيخِ .
قال اإلمام عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه هللا تعالى رحمة واسعة وغفر له
ولشيخنا ولسامعينْ :لا ذكر أن كتاب الفجار في أسفل اْلمكنة وأضيقها ،ذكر أن كتاب
اْلبرار في أعَّلها وأوسعها وأفسحهاِ .
هللا عز وجل قال( :كَّل) ،و(كَّل) هناِ :
تأتي وتحتمل أن يكون املراد حقا ،حقا إن كتاب اْلبرار لفي عليين ،يقينا ال شك
فيه ،حقاِ .
وتحتمل أن يكون املراد بها الردع والزجر عما يفتريه الكفار من اْلقاويلِ .
ويحتمل أن يكون املراد بها هنا النفي ،أي :ليس اْلمر كما يزعم الكفار أن لهم
الحسنى والعزة عند هللا لو كان هنالك بعث ،بل الحسنى والعزة لألبرار عند هللا يوم
القيامةِ .
وكل هذه املعاني يصلح أن تقال هنا ،يصلح أن تكون (كَّل) بمعنى حقا ويستقيم الكالم،
ويصلح أن تكون بمعنى الردع والزجر عما يفتريه الكفار ويستقيم الكالم ،ويصلح أن تكون
بمعنى النفي ملا يقولون ويقوله الكفار ويستقيم الكالمِ .
اب﴾ الكتاب هنا كما تقدم في كتاب الفجارِ : ﴿ َك ََّّل إ َّن ك َت َ
ِ ِ
قد يكون املراد به كتاب أعمالهم ،الكتاب الذي كتبت فيه أعمالهم مرفوع قدرا
ومكانا.
وقد يكون املراد به الكتاب الذي كتبت فيه أسماء أهل الجنة ،فمن كتب فيه
اسمه فهو من أهل الجنةِ .
137
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ
﴿ل ِفي ِع ِل ِيين﴾ قال بعض أهل العلم :عليون هي السماء السابعةِ .
وقال بعض أهل العلم :هي الجنة ،وال تضاد بين هذين املعنيين ،فإن الجنة في السماء
السابعة ،فيكون القول الثاني تعيينا للمكان الذي في السماء السابعةِ .
وقال بعض اْلفسرين :قرب عرش الرحمن ،وهذا أيضا ال يضاد ما تقدم؛ ْلن سقف
الفردوس اْلعلى الذي هو أعلى الجنة عرش الرحمن سبحانه وتعالى ،فيكون على هذا يكون
كتابهم في السماء السابعة ،وفي الجنة منها ،وفي أعلى الجنة قرب عرش الرحمانِ .
وقيل :عند سدرة املنتهى ،وهو أيضا قريب مما تقدمِ .
علو يصحبه ٌ
علو علو يصحبه ٌ
وقال بعض أهل العلم( :عليون) يعني ليس علوا واحدا ،بل ٌ
ليس علوا واحدا ،فهوِ :
علو اْلكان قرب عرش الرحمن في الجنة.
وعلو اْلكانة يشهده املقربون من مالئكة السماء.
وعلو الفضل ففيه الفضل للمؤمنين؛ فهو ليس علوا واحدا.
وقال بعض اْلفسرين( :عليون) يعني أن هذا اسم الكتاب الذي تكتب فيه أسماء أهل
الجنة ،ما اسم الكتاب الذي تكتب فيه أسماء أهل الجنة؟ قالوا :عليونِِ .
َ َّ َ َ ْ َ َ
اب اْل ْب َر ِار ل ِفي ِع ِل ِيين﴾وقال بعض اْلفسرين :عليون هنا معناها الفوز والربحِ ﴿ ،إن ِكت
يعني :لفي فوز وربح وفالح عظيمِ .
ِّ َ َ ْ ََ َ
ن
﴿وما أدراك﴾ أي :أي ش يء أدراك يا محمد ما عليو ؟ ال تسأل عن علوه ،فعلوه ال يدرك
منتهاه إال الرحمن سبحانه وتعالىِ .
َُْ َ َ ْ
﴿يش َه ُد ُه اْلق َّرُبون﴾. وأن كتابهم اْلرقوم
وم﴾ مرقوم كما قلنا مكتوب بحيث ال ينمحي حرفه ،الرقم هو إظهار الحرف اب َّم ْر ُق ٌ
﴿ك َت ٌ
ِ
وبقاؤه بحيث ال يزول ،ومحفوظ بحيث ال يفقد منه ش يء ،وفيه فضل هللا -وهذا زائد على
كتاب الفجار -فيه فضل هللا على املؤمنين ،فليس ككتاب الفجارِ .
138
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
كتاب الفجار مبني على العدل ،أما كتاب اْلبرار فمبني على الفضل ،على فضل هللا
سبحانه وتعالىِ .
املؤمن يوم القيامة إذا صلى صالة ال يجد صالة بصالة -هذا العدل ،-ال ،أقل مؤمن قبلت
صالته يجد صالته بعشر صلوات ،ومنهم من يجدها بمائة ،ومنهم من يجدها بأكثر ،وهللا
يضاعف ملن يشاءِ .
ْ
﴿ َيش َه ُد ُه﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني يحضره ،لشرفه يحضره املقربون ،ولم يذكر هذا في
كتاب الفجارِ .
ْ
وقال بعض اْلفسرينَ ﴿ :يش َه ُد ُه﴾ أي :يشهد عليه املقربون من هللا عز وجل ،وهم
املقربون من املالئكة في كل سماء ،فكل سماء فيها أعداد ال تحص ى من املالئكة ،واملالئكة
يفضل بعضهم بعضا ،والذين يشهدون على كتاب اْلبرار هم املقربون من مالئكة الرحمن
عليهم السالم أجمعينِ .
َُْ َ َ ْ
﴿يش َه ُد ُه اْلق َّرُبون﴾ من اْلَّلئكة الكرام وأرواح اْلنبياء والصديقين والشهداء ،وينوه هللا
بذكرهم في اْلإل اْلعلى ،وعليون اسم ْلعلى الجنة.
فلما ذكر كتابهم ذكر أنهم في نعيم ،وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن.
َْ َ َ َ
من أين أخذ هذا الشيخ؟ أخذه من حذف املتعلق ﴿ ِإ َّن اْل ْب َر َار ل ِفي ن ِع ٍيم﴾ نعيم ملاذا؟
ْلبدانهم؟ ما ُحدد ،لقلوبهم؟ ما ُحددْ ،لرواحهم؟ ما ُحدد ،فيعم ،إذا حذف املتعلق فإنه
يعم فهم في نعيم في جميع أمورهم :أرواحهم منعمة ،قلوبهم منعمة ،أبدانهم منعمة نعيما
دائماِ .
ََ َْ
﴿على اْل َرا ِئ ِك﴾ أي :على السرر اْلزينة بالفرش الحسان.
ََ َْ
﴿على اْل َرا ِئ ِك﴾ :جمع أريكة ،واْلريكة عند العرب سرير خاص ،وهو كما قلت لكم ِ
السرير
الذي يكون له سقف ،يكون له مظلة ،فليس مكشوفا وإنما فوقه مظلة ،وهذا فيه زيادة
نعيمِ .
وهذا السرير فيه ُ
الف ُرش التي فيها النعيم املقيم ،وفيه الوسائد املصفوفة الناعمة ،وأهله
عليه في اْللبسة الفاخرة والحلي من اللؤلؤ والياقوت ،فهم في غاية الترفه في الجنةِ .
139
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ينظرون إلى ما أعد هللا من النعيم ،وينظرون إلى وجه ربهم الكريم*.
ُ َ َ َْ
كما قلنا سابقا في النعيم نقول هناَ ﴿ :على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون﴾ إلى ماذا؟ ُح ِذف املتعلق،
وهذا يقتض ي التعميم ،ينظرون إلى كل ما يزيدهم نعيما وسرورا إذا نظروا إليه ،فينظرون
إلى ما أعد هللا لهم من النعيم ،وإلى خدمهم ،وإلى زوجاتهم في الجنة وما فيهن من ُ
الحسن،
ِّ
اْلسرة ،ليس في قلوبهم ذرة حقد وال حسد ،وأعظم سرورهم وإلى إخوانهم يقابلونهم على
بنظرهم إلى وجه ربهم الكريمِ .
َ ُ
﴿ت ْع ِرف﴾ أيها الناظر.
تعرف أيها الناظر إذا كنت من أهل الجنة ،ستنظر إليهم وينظرون إليك ،فإن نظرت إليهم
رأيت في وجوههم صفة النعيم ،فقد تأثرت أجسادهم بالنعيم ،وإذا نظروا إليك ر ْأوا في
وجهك صفة النعيم ،فقد تأثر جسدك بنعيم الجنةِ .
ْ َ ْ َ َّ ُ ُ
ض َرة الن ِع ِيم﴾ أي :بهاءة ونضارته ورونقه. وه ِهم ن
﴿في وج ِ
ِ
وهذه هي صفة النعيم؛ البهاء والرونق والجمال ،واملقصود :أن النعيم يؤثر فيهم حتى يظهر
على وجوههم ،ويرى في وجوههمِ .
فإن توالي اللذات واْلسرات واْلفراح ،يكسب الوجه نورا وحسنا وبهجة.
وال شك في هذا ،اآلن أنت ترى الرجل فتقولِ :هذا فالح ،أو هذا حداد ،ملا ترى في يديه من
الخشونة والتشققات تعرف أنه يعمل بيده ويكدح وفي شقاء ،وترى آخر فتقولِ :هذا
موظف ،وترى آخر فتقولِ :هذا من اْلثرياء ملا ترى يده ووجهه فيه من النعومة والطراوة،
فتوالي السرور وامللذات يكسب الجسد نضارة وطراوة ولينا ،فكيف بنعيم الجنة الذي ال
يدانيه نعيم؟! ِ
يا أحبتي؛ نعيم الجنة كل نعيم الدنيا ال يساوي قطرة من نعيم الجنة ،لو أن اإلنسان في
َّ
متصور في الدنيا ،كل هذا ال يساوي قطرة واحدة من نعيم الجنة ،ال الدنيا أوتي كل نعيم
شك أن لهذا النعيم تأثيرا عظيما في أجساد أهل الجنةِ .
يق﴾. ح
ِ ﴿ي ْس َق ْو َن ِمن َّ
ر ُ
ٍ
(الرحيق) قال أكثر اْلفسرين :هو الخمر ،من أسماء الخمر الرحيقِ .
140
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :هي عين في الجنة شرابها له رائحة كاملسكِ .
وم﴾ ذلك
َّ ْ ُ
ت خ ﴿م وألذها، اْلشربة من ن يكو ما أطيب من وهو ﴾ يق ﴿ي ْس َق ْو َن ِمن َِّ
ح ر ُ
ٍ ٍ
َ
﴿خت ُام ُه ِم ْس ٌك ۚ﴾ يحتمل أن اْلراد مختوم عن أن يداخله ش يء ينقص لذته أوالشرابِ ،
يفسد طعمه ،وذلك الختام الذي ختم به مسكِ .
فمعنى مختوم على هذا مغطى بغطاء يمنع أن يخالطه غيره ،وهذا الغطاء من املسك،
وهذا معنى قول بعض املفسرين :مطينِ .
أصحاب الخمر إذا أرادوا أن يضمنوا أنه ال يخلطه ش يء يطينونه بطين من فوق ،يغطونه
بطين ،واليوم حتى في غير الخمر إذا أرادوا أن يضمنوا أنه غير مخلوط وغير مغشوش وكذا
الغطاء يكون له مثل اْلمان ،فتسمع له صوتا ،إذا فتحته إذا لم تسمع هذا الصوت معناه
أنه مفتوح أو فيه غش ،فهذا هو املقصود عندما يقول بعض املفسرين يعني :مختوم يعني
مطين ،يعني أنه مغطى بما يضمن أنه ال يخلطه ش يء ،ولكن غطاءه من املسكِ .
فمعنى مختوم مغطىِ .
قال :ويحتمل أن اْلراد أنه الذي يكون في آخر اإلناء الذي يشربون منه الرحيق حثالة
وهي اْلسك اْلظفرِ .
فمعنى ختامه آخره ،على املعنى اْلول ختامه يعني :غطاؤه ،على هذا املعنى ختامه يعني:
آخره مسك ،فهو خمر ثم يبقى في آخر اإلناء ش يء هو من املسك الخالص ،فيختمون شرب
الخمر بشرب هذا املسك الذي تطيب به الرائحة ،فخمرهم مخلوط بمسك مختوم بمسك،
مخلوط بمسك ،فرائحته رائحة املسك ،وآخر ما يبقى فيه من اإلناء ويشرب هو من
َ
﴿خت ُام ُه﴾ أي :آخرهِ .
املسك ،وعلى هذا معنى ِ
قال :ويحتمل أن اْلراد أنه الذي يكون في آخر اإلناء الذي يشربون منه الرحيق حثالة،
وهي اْلسك اْلظفر ،فهذا الكدر منه الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق يكون في
الجنة بهذه اْلثابة.
س
ََََْ َ
افن ت ي ل﴿ف هللا، إال ه ومقدا حسنه يعلم ال الذي اْلقيم النعيم ﴾ ك ﴿وفي َٰذل َ
َ
ِ ر ِ ِ
َ َُْ َ
اْلتنا ِف ُسون﴾ أي :فليتسابقوا في اْلبادرة إليه واْلعمال اْلوصلة إليه.
141
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
142
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وال مانع من الجميع ،فالعين اسمها تسنيم؛ ْلنها عالية ،وماؤها يجري إلى أهل الجنة من
فوق ،وماؤها صافي نقي عذب ،هذا معنى تسنيمِ .
ومزاج هذا الشراب من تسنيم ،وهي عين يشرب بها اْلقربون صرفا.
طيب انظر قال هللا عز وجلَ ﴿ :ع ْي ًنا َي ْش َر ُب ِب َها ْاْلُ َق َّرُبو َن﴾ العين ُيمكن ُي َ
شرب بها؟ يعني
تأخذ العين وتحملها َوت َ
شرب؟ ِ
يشر ُب بها؟ ِ ال؛ طيب لم قال هللا :عينا َ
قال بعض اْلفسرين( :بها) معناها منها ،وهذا من تعاور حروف الجر ،يعني يحل بعضها
محل بعض في املعنى ،قالوا :إذن معنى يشرب بها أي يشرب منهاِ .
ُ
الشرب هنا ُ
ض ِّم َ
الر ِّ ٍي فصارت كأنها ُيروى ،يشرب بها،
ِ معنى ن وقال بعض أهل العلم:
وي ،قد يشرب اإلنسان يشرب صارت كأنها ُيروىُ ،يروى بها املقربون ،ليس كل من َشرب َر َ
ِ
الر َّي ،ما ُ ُ َ
وال يروى ،أما شراب الجنة فإنهم يشربون ويروون بهذا الشراب ،فضمن يشرب ِ
الذي دل على هذا التضمين؟ ِ
وجل﴿ :بها﴾ فعلمنا أنه شراب وزيادة وهو أنه شراب ُم ِِّ
رويِ . قول هللا عز ِِّ
َُْ َ َ ْ
﴿يش َر ُب ِب َها اْلق َّرُبون﴾ ِصرفا ،وهي أعلى أشربة الجنة على اإلطَّلق ،فلذلك كانت
خالصة للمقربين الذين هم أعلى الخلق منزلة ،وممزوجة ْلصحاب اليمين؛ أي:
مخلوطة بالرحيق وغيره من اْلشربة اللذيذة.
قلنا يا إخوة إن املقربين يشربون من أصل العيون؛ ْلن املقربين هم أهل الفردوس اْلعلى،
فيشربون من أصل عيون الجنة ،ثم هذه العيون تسيل إلى من هم دون املقربين فيخلطون
شرابهم منها؛ الخمر ونحو ذلك ،فأعلى من يتنعم بشراب الجنة هم املقربون؛ ْلنهم يشربون
من اْلصل ثم من دونهم ثم من دونهمِ .
ٌ
نقص وإنما في الجنة كمال ،درجات الجنة يا وكما ذكرت لكم مرارا وتكرارا :ليس في الجنة
ٌ
تفاضل في الكمال ال يستلزم نقصا ،فكل من في الجنة منعم حتى آخر أهل الجنة إخوة
دخوال ُمنعم ،لكن هناك من هو أعلى منه ،أكمل منهِ .
143
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
طيب يقول قائل منكم :العادة أن اإلنسان إذا رأى من هو أعلى منه يقع في قلبه ش يء حتى
لو لم يحسده ،يقع في قلبه ش يء ،نقولِ :هذه نوزعت من قلوب أهل الجنة؛ ال توجد هذه
في قلوب أهل الجنة ،فهم يتفاضلون في كمال النعيم تفاضال ال يستلزم نقصا وال يولد أملاِ .
أسأل هللا أن يجعلني وإياكم ووالدينا أجمعين ومن نحب من أهل كمال النعيم في الجنةِ .
ْ ََ َ َ ُ َ ُّ َ َ َ
ن
َ َّ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ َّ َّ َ َ ْ َ ُ َ ُ
﴿إن ال ِذين أجرموا كانوا ِمن ال ِذين آمنوا يضحكو ﴿ ﴾29و ِإذا مروا ِب ِهم يتغامزون ِ
َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َّ َٰ ُ َ َ َ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ
﴿َ ﴾30و ِإذا انقل ُبوا ِإل ٰى أ ْه ِل ِه ُم انقل ُبوا ف ِك ِه َين ﴿ ﴾31و ِإذا رأوهم قالوا ِإن هؤال ِء لضالون
َ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ ُ َ َ ُ ُ
ض َحكون ين َآمنوا ِمن الكف ِار ي﴿َ ﴾32و َما أ ْر ِسلوا َعل ْي ِه ْم َحا ِف ِظين ﴿ ﴾33فاليوم ال ِذ
َ ُ ْ ُ َ ْ ُ َّ ُ ُ َ َ َْ
﴿َ ﴾34على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون ﴿َ ﴾35ه ْل ث ِو َب الكف ُار َما كانوا َيف َعلون ﴿ِ .﴾﴾36
سبحان هللا! يبين هللا عز وجل حال أهل اإلجرام مع حال أهل اإلسالم في الدنيا وانقالب
الحال في اآلخرةِ .
فيبين هللا عز وجل أن املجرمين املنكرين للبعث الكفار كانوا في الدنيا يضحكون من
املؤمنين ،ويستهزئون باملؤمنين وبتصديقهم النبي صلى هللا عليه وسلم وبإيمانهم بالبعث
والجزاء وبعملهم بالدين ،ويستهزئون بهمِ .
االستهزاء بهم من أجل
ِ وهذا يدل على أن املستهزئين بأهل الدين هم مجرمون ،فإذا كان
دينهم فإنه كفر مخرج من ملة اإلسالمِ .
وإذا مر املؤمن بأولئك املجرمين أخذ كل واحد منهم يغمز لصاحبه ويشير بعينه استهزاء به
واستحقارا له وسخرية منه ،وإذا مر أولئك املجرمون بمجالس املؤمنين أخذ أحدهم يغمز
لآلخر بعينه ويشير بعينه ،فهم يستهزئون بامل ِؤمنين سواء مر املؤمنون بهم أو هم مروا
باملؤمنين ،فشأنهم هو االستهزاء باملسلمين أتباع النبي صلى هللا عليه وسلمِ .
وكان هؤالء املجرمون إذا انصرفوا إلى أهليهم انصرفوا معجبين بأنفسهم وما هم فيه من
أمور الدنيا وقوة الدنيا وتنظيم الدنيا وغير ذلك من أمور الدنيا ،ومسرورين بحالهم،
ومنعمين بنعم هللا ،ما أحدثوا نعمهم بأنفسهم ،املنعم هو هللا ،وهم ينقلبون متنعمين بنعم
هللا في بيوتهم ،ومع ذلك ال يشكرون هللا ،بل يكفرونه ويستهزئون بعباده ،ما كفاهم أنهم ال
144
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يشكرون هللا على النعم ،بل يكفرون ،بل زادوا سوءا أنهم يستهزئون من عباد هللا
الشاكرين ،فهي ظلمات بعضها فوق بعضِ .
وإذا رأى أولئك املجرمون املسلمين وما هم عليه من التمسك بالدين قالوا :إن هؤالء
لضالون ضائعون تائهون عن طريق الحق وجادة الصواب ،والحق أنهم ما بعثوا حافظين
على املؤمنين ،وما خلقهم هللا عز وجل ليراقبوا املؤمنين في أعمالهم ويحاسبوا املؤمنين على
أعمالهم ،وإنما خلقهم ليعبدوه ،فتركوا ما خلقوا من أجله ،واشتغلوا بما لم يكلفوا به ،هللا
خلقهم ليعبدوه فما عبدوه ،وهللا عز وجل ما خلقهم ليراقبوا عباده فراقبوا عباده ،فتركوا
ما خلقوا له ،واشتغلوا بما لم يخلقوا به ،هذه الحال في الدنياِ .
أما الحال يوم القيامة فإنها منقلبة ،ففي يوم القيامة يضحك املؤمنون من الكافرين،
يضحكون مما هم فيه من النكال والذلة والهوان جزاء وفاقا ،فالضحك في الدنيا قد يكون
للكافرين ،الضحك في الدنيا الفانية قد يكون للكافرين ،أما الضحك في اآلخرة الباقية فهو
يقينا للمؤمنين ،فاملؤمنون يوم القيامة يقينا يضحكون من الكفار ومما هم فيه من
الهوان ،يضحكون وهم في النعيم املقيم ،وهم على سرر الترفه والتنعم ،ينظرون إلى
َ
الكافرين وما يصيبهم في النارِ .
ً
ومن نعيم أهل الجنة أنه إذا أراد أحدهم أن يرى كافرا بعينه في النار وما هو فيه من
العذاب جعله هللا يطلع عليه ،حتى ذكر بعض السلف أن هنالك مثل النوافذ ْلهل الجنة
في الجنة ،إذا أراد املؤمن أن يطلع على الكفار فتحت هذه الكوة فيرى الكفار وما هم فيه
من العذاب ،ولو أراد أن يرى كافرا بعينه مثل أن كافرا كان يؤذيه بعينه في الدنيا ،وأراد أن
يراه في النار بعينه فإن هللا يجعله يطلع عليه ،فيراه ويضحك من حاله ويضحك من هوانهِ .
فسبحان هللا! أهل الجنة على اْلرائك ينظرون في حالين عظيمينِ :
ينظرون إلى ما يسرهم ويتنعمون به من زوجاتهم وما أوتوا من الحلل ،وما أوتوا من
الغلمان والخدم ،وما يرونه أمامهم من النعيم ،وأعظم نعيمهم رؤيتهم ونظرهم إلى
هللا هذه من حال وجهةِ .
145
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومن جهة أخرى وهم على أرائكهم أيضا ينظرون إلى الكافرين وما هم فيه من
َ
العذاب ،فيضحكون من هوان الكفار الذين كانوا يضحكون منهم في الدنيا،
ويضحكون أن هللا سلمهم من هذه الحال ،ويعظم النعيم إذا رأى اإلنسان حال من
فقد ذلك النعيمِ .
ولذلك إذا أراد اإلنسان أن يعرف عظيم نعم النعمة التي هو فيها فلينظر إلى من فقدها،
سيرى أن النعمة التي هو فيها مع ما فيها من نقص نعمه عظيمة ،يعني الذي عنده أوالد
ُ
وما هو راض ي عنهم في بعض اْلمور ينظر إلى من فقد الولد كيف يتمنى جزء ولد ،فيعظم
في نظره ولده ويسعى إلصالحه ،الذي أنعم هللا عليه بنعمة الصحة يذهب للمستشفى ويرى
ُ
املرض ى ،فتعظم في عينه نعمة العافية والصحة التي ُرزق بهاِ .
الشاهد :أن أهل الجنة بنظرهم إلى الكفار يضحكون بأمرين؛ بسببينِ :
السبب اْلول :أنهم يرون أن هللا انتقم لهم من الكافرين الذين كانوا يضحكون منهم
في الدنيا.
واْلمر الثاني :أنهم يعرفون ِعظم النعيم الذي هم فيه ،وأن هللا سلمهم من هذا
الهوان الذي فيه الكفار.
َ ُ ْ ُ َّ ُ ُ
ثم تختم اآلية بهذا السؤال العجيب؛ وهو سؤال تقريرَ ﴿ :ه ْل ث ِو َب الكف ُار َما كانوا
ْ ُ َ
َيف َعلون﴾ ،هل ُجوزي الكفار على ما كانوا يفعلون باملؤمنين في الدنيا أم ال؟ ِ
الجواب :نعم ،الكفار يوم القيامة ُجوزوا ما كانوا يفعلون في الدنيا من ضحكهم على
املؤمنين وانقالبهم إلى أهلهم فكهين؛ ُجوزوا بالعذاب املهين ،واملؤمنون هم الذين يضحكون
مع أهليهم يوم القيامة في الجنة ُي َّ
نعمونِِ .
ٌ
وفي هذا السؤال تسلية ُعظمى للمؤمنين؛ مهما رأيتم من حال الكفار من قوتهم في الدنيا،
من تسلطهم على املؤمنين ،من أذيتهم للمؤمنين ،من مكرهم باملؤمنين ،إن هللا عز وجل
سيجازيهم على هذه الحال في يوم القيامة وينقلب الحال؛ ُويصبح املؤمنون هم الذين
يضحكون من الكفارِ .
146
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ
ففي هذه اآلية تسلية للمؤمنين عما يشاهدونه في الدنيا من الكافرين ،وتصبير لهم على ما
يلقونه منهم ،فإن هللا عز وجل سينتقم لهم ،قد ينتقم في الدنيا واآلخرة ،وقد ُيملي للكافر
حتى ينتقم منه االنتقام العظيم يوم القيامةِ .
ونقرأ ما
وهذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني ،ونعود إلى التفسير التفصيلي فنذكر ِ
ذكره الشيخِ .
قال رحمه هللا تعالىْ :لا ذكر تعالى جزاء اْلجرمين وجزاء اْلحسنين ،وذكر ما بينهما من
ُ
التفاوت العظيم ،أخبر أن اْلجرمين كانوا في الدنيا يسخرون باْلؤمنين ويستهزئون بهم،
ويضحكون منهم.
ُ َ ْ َّ َّ َ َ
﴿ ِإن ال ِذين أجرموا﴾ واإلجرام هو :فعل الذنوبِ .
واْلقصود :إن الذين أجرموا الذنب العظيم وهو الشرك باهلل سبحانه وتعالىِ .
فيتغامزون بهم عند مرورهم عليهم.
َ َ َ
﴿ َيتغ َام ُزون﴾ أيُ :يشيرون بعيونهم ،الغمز هو :اإلشارة بالعين ،وإذا كان بين طرفين فإنه
يغلب عليه أن يكون من باب السخرية واالستهزاءِ .
فيتغامزون بهم عند مرورهم عليهم احتقارا لهم وازدراء ،ومع هذا تراهم مطمئنين ال
ََ َ َ َ َ َ َ ََ
﴿و ِإذا انقل ُبوا ِإل ٰى أ ْه ِل ِه ُم﴾ صباحا أو مساء﴿ ،انقل ُبوا ف ِك ِهين﴾؛ يخطر الخوف على بالهم،
أي :مسرورين مغتبطين.
وقال بعض اْلفسرين :أي :معجبين بما هم فيهِ .
وقال بعض اْلفسرين :أي :ناعمين ،فاهلل يعطيهم من الدنيا ما شاء ،يكيد لهم سبحانه
وتعالى ملا يكيدونه املؤمنينِ .
وقيل( :فكهين) أي :واجدين ملا يحبون فهم يتنعمون بالنعمِ .
وقال بعض اْلفسرين( :فكهين) أي :متلذذين بالسخرية باملؤمنين حتى في بيوتهم ،في
مجالسهم يسخرون باملؤمنين ،إذا رجعوا إلى بيوتهم وجلسوا مع زوجاتهم وأوالدهم يتلذذون
بالسخرية من املؤمنين ،فحديثهم في بيوتهم فيه السخرية باملؤمنين ،والكلمة تحتمل كل
هذاِ .
147
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
والقاعدة :أن الكلمة تحمل على جميع معانيها ما لم تتناف املعاني وتتضاد فإنه يختار منهاِ .
ََ َ َ
﴿انقل ُبوا ف ِك ِهين﴾ أي :مسرورين مغتبطين ،وهذا أشد ما يكون من االغترار أنهم جمعوا
بين غاية اإلساءة مع اْلمن في الدنيا ،حتى كأنهم قد جاءهم كتاب وعهد من هللا أنهم من
أهل السعادة ،وقد حكموا ْلنفسهم أنهم أهل الهدى وأن اْلؤمنين ضالون افتراء على
َ َ ْ ْ َ َ ُْ ُ ََ
هللا تجرؤوا على القول عليه بَّل علم ،قال تعالى﴿ :وما أر ِسلوا علي ِهم حا ِف ِظين﴾.
ُ ُ
﴿ َو َما أ ْر ِسلوا﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني :وما بعثواِ .
ُ
وقال بعض اْلفسرين :يعني :وما خلقواِ .
َ ََ
﴿عل ْي ِه ْم َحا ِف ِظين﴾ أي :مراقبين ْلعمالهم ُمحصينهاِ .
فاملعنى كما ذكرنا :ما خلقوا ليراقبوا أعمال العباد ،وإنما خلقوا ليعبدوا رب العباد ،فلم
يعبدوا رب العباد ولم يسلم من مراقبتهم العباد ،فضادوا ما أراد هللا في اْلمرين في الجهتينِ .
اف ِظين﴾ أي :وما أرسلوا وكَّلء على اْلؤمنين ملزمين بحفظ
َ
ح﴿و َما ُأ ْرس ُلوا َع َل ْيه ْم َ
َ
ِ ِ ِ
أعمالهم حتى يحرصوا على رميهم بالضَّلل ،وما هذا منهم إال تعنت وعناد وتَّلعب ليس
َ ْ
لهم سند وال برهان ،ولهذا كان جزاؤهم في اآلخرة من جنس عملهم قال تعالى﴿ :فال َي ْو َم﴾
َ ْ ُ َّ َ ْ ُ َ َّ َ ُ
ض َحكون﴾ حين يرونهم في غمرات العذاب ين َآمنوا ِمن الكف ِار ي أي :يوم القيامة﴿ ،ال ِذ
يتقلبون ،وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون واْلؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة.
فهم يضحكون النتقام هللا لهم؛ وْلن هللا زحزحهم عن العذاب وأدخلهم الجنة ،إذا نظروا
إلى الكفار ضحكوا النتقام هللا لهم من الكفار ،ولزحزحتهم عن النارِ .
َ ُُ َ َ ََ َْ
اْلزينة﴿ ،ينظرون﴾ إلى ما أعد هللا لهم من النعيم وينظرون السرر ﴿على اْلرا ِئ ِك﴾ وهي
إلى وجه ربهم الكريم.
َ ُُ َ َ َْ ً
ون﴾ فتكون وتأكيدا لهَ ﴿ ،على اْل َرا ِئ ِك ينظر وعلى هذا التفسير يكون هذا تكرا ًرا ملا تقدم
الجملتان بمعنى واحدِ .
َ ُُ َ َ ََ َْ
وعلى التفسير الثاني﴿ :على اْلرا ِئ ِك ينظرون﴾ أي :ينطرون إلى الكفار في النار وما هم فيه
ْلمر آخر غير اْلو ِلِ . ً
من الهوان؛ يكون هذا بيانا ٍ
148
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ َ َ َْ
فاْلولَ ﴿ :على اْل َرا ِئ ِك َينظ ُرون﴾ ينظرون إلى النعيم ،وما أعده هللا لهم في الجنة ،وينظرون
إلى وجه ربهم الكريمِ .
وفي الثاني :ينظرون إلى الكفار وما هم فيه من الهوان وألوان عذابهم فيتنعمون بهذاِ .
وهذا أولى؛ ْلن القاعدة أن حمل القرآن على زيادة املعنى أولى من حمله على التأكيد ،حمل
القرآن على زيادة املعنى ،يعني :على معنى جديد ،أولى من حمله على التأكيدِ .
َ ُ ْ ُ َ ْ ُ َّ َ ُ
﴿ه ْل ث ِو َب الكف ُار َما كانوا َيف َعلون﴾ أي :هل ُجوزوا من جنس عملهم.
َ
جوزي الكفار على ما كانوا ٌ
استفهام تقريري ،يعني :أن هذا واقع ،وجوابه :نعم وهذا
يعملونِِ .
ضحكوا في الدنيا من اْلؤمنين ور َموهم بالضَّلل ضحك اْلؤمنون منهم في اآلخرة
فكما ِ
الغي والضَّلل ،نعم ثوبوا ما كانوا
حين رأوهم في العذاب والنكال الذي هو عقوبة ِ
ٌ ً
عدال من هللا وحكمة وهللا ٌ
حكيم. عليم يفعلون
وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة املطففين ،وهللا أعلمِ .
َّ َّ
وصلى هللا على نبينا وسلمِ .
ِ
ِ
ِ
ِِ
149
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة االنشقاق
بسم هللا الرحمن الرحيم
َْ َ ْ ْ َ َ َْ َّ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ﴿إ َذا َّ
ض ُم َّدت ﴿َ ﴾3وألقت َما
اْل ْر ُ الس َم ُاء انشقت ﴿َ ﴾1وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت ﴿ ﴾2و ِإذا ِ
َّ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ
ِف َيها َوتخلت ﴿َ ﴾4وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت ﴿.﴾﴾5
هذه السورة العظيمة سورة مكية بإجماع العلماء وفيها مواعظ عظيمة وزواجر كبيرة،
ففيها وصف ما يكون يوم القيامة إذا أتى أمر هللا ،وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
َ َ َّ ْ ُ ُ ْ
س ك ِو َرت﴾ ،و﴿ ِإذا ﴿إذا الشم
(من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأِ :
َ َّ ْ
الس َم ُاء انشقت﴾) رواه أحمد والترمذي وصححه اْللبانيِ . انف َط َر ْت﴾ ،و﴿إ َذا َّ
َّ َ ُ َ
السماء
ِ
فأخبر النبي صلى هللا عليه وسلم أن من سره أن يعرف أحوال يوم القيامة كأنه ينظر إلى
َ َ َّ ْ ُ ُ ْ
س ك ِو َرت﴾ ،و﴿ ِإذا ذلك اليوم العظيم رأي عين فليقرأ هذه السور الثالثِ :
﴿إذا الشم
َ َّ ْ انف َط َر ْت﴾ ،و﴿إ َذا َّ
الس َم ُاء انشقت﴾ِ .
َّ َ ُ َ
السماء
ِ
واملعنى في هذه اآليات التي تالها اْلخ واالبن نور الدين أنه إذا أتى أمر هللا وأذن سبحانه
بقيام الساعة حصلت أمور عظيمة وتغير الكون ،ومن تلك اْلمور العظيمةِ :
أن السماء الشديدة التي بناها هللا عز وجل شديدة فال ترى فيها فطورا ،وال ترى فيها
شقوقا تنشق في ذلك اليوم ،وترى فيها شقوقا وصدوعا وفطورا ،يراها الناظر كأنها أبواب،
وينشق بعضها بالغمام وهو السحاب اْلبيض البارد ،ويتغير ما ُيرى فيها ،فتلف شمسها
ويذهب ضوؤها ،ويخسف قمرها ويسود ويذهب ضوؤه ،وتتناثر كواكبها ونجومها
وتتساقط ،وكل ذلك بإذن ربها وأمر ربها سبحانه وتعالى ،فهي قد سمعت أمر ربها سماع
استجابة وانقياد وطاعة ،حيث أمرها هللا عز وجل بذلك فانقادت وأطاعت ،وحق لها أن
تسمع وتطيع وتنقاد ،وثبت لها ذلك فإنها مدبرة مسخرة مطيعة لربها منقادة ملن دبرها
سبحانه وتعالىِ .
ومن تلك اْلمور العظيمة أن اْلرض بجبالها ومعاملها يتغير حالها فتدك جبالها وتنسف
وتزال معاملها ،فال يبقى فيها جبل وال حبل -أي رمل مرتفع -وال شجر ،وتمد مدا وتبسط
بسطا وتفرش فرشا كاْلديم إذا دبغ ومد ،ويزاد في اتساعها حتى تتسع للناس عند البعث،
150
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ
ِوتخرج أثقالها ،فتخرج املوتى من بطنها ،وذلك عندما ينفخ في الصور النفخة الثانية،
ُ
وتخرج كنوزها فكأنه يقال للناس :هذه الكنوز التي ألهتكم في الدنيا وأشغلتكم عما
ينفعكم ها هي أمامكم ال تنتفعون بها شيئا ،فتعظم حسرة املفرطين الذين ألهتهم الدنيا
وكنوزها عن طاعة هللا سبحانه وتعالىِ .
وتخلت اْلرض عما في بطنها من اْلموات والكنوز بعد أن كانت ساترة لها ،وكل هذا بإذن
ربها وأمر ربها سبحانه وتعالى حيث أمرها بهذا ،فاستمعت إلذن ربها وأمر ربها استماع انقياد
واستجابة وطاعة فأطاعت وفعلت ،وحق لها أن تطيع وأن تستجيب فإنها مسخرة مدبرة
ذليلة لربها ومدبرها سبحانه وتعالىِ .
فهاتان اآليتان العظيمتان :السماء واْلرض ،يتغير حالهما يوم القيامة إذا أذن هللا عز وجل
بقيام الساعةِ .
فهذا هو معنى هذه اآليات املوضوعي اإلجمالي اإليماني ونقرأ ما ذكره الشيخ السعدي رحمه
هللا في التفسير ونعلق عليهِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى في تفسيره :يقول تعالى مبينا
َ َّ ْ ْلا يكون في يوم القيامة من تغير اْلجرام العظام ﴿إ َذا َّ
الس َم ُاء انشقت﴾ أي :انفطرت ِ
وتمايز بعضها من بعض وانتثرت نجومها وخسف شمسها وقمرهاِ .
َ
﴿انش َّق ْت﴾ أنها انفطرت وتصدعت ،حيث يكون فيها شقوق وفروج وصدوع ُترى فمعنى
فيها كأنها أبواب ،ومع انشقاقها يتغير حال ما فيها مما نراه وما ال نراه من الشمس والقمر
والكواكب ،فهذا معنى انشقتِ .
ََ َ ْ
﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها﴾ أي :استمعت ْلمره وألقت سمعها وأصاخت لخطابه.
ََ َ ْ
﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها﴾ استمعت سماع إجابة وانقياد وطاعة ْلمر ربهاِ . معنى:
يقال :أذن للصوت؛ أي :سمع الصوت واستمع له ،ومنه الحديث( :ما أذن هللا لش يء ما
أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) ،والحديث في الصحيحين ،واملعنى :ما استمع
هللا عز وجل فأذن بمعنى استمعِ .
ََ َ ْ
﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها﴾ أي :استمعت إليه وألقت سمعها وأصاخت لخطابه
151
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َّ ْ
﴿و ُحقت﴾ أي :وحق لها ذلك ،فإنها مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم ال يعص ى
أمره وال يخالف حكمه.
َ َّ ْ
﴿و ُحقت﴾ أي :حق لها أن تطيع وشأنها أن تطيع ،ومعنى حق لها أي :ثبت لها وكان معنى
حقيقا بها أن تطيع وكان شأنها أن تطيع ،فهي مدبرة مسخرة ذليلة ملن دبرها سبحانه
وتعالى ال تخرج عن طاعتهِ .
ْ َ َ َْ
ض ُم َّدت﴾ أي :رجفت وارتجت ونسفت عليها جبالها ،ودك ما عليها من بناء
اْل ْر ُ ﴿و ِإذا
ومعلم فسويت ،ومدها هللا مد اْلديم حتى صارت واسعة جدا تسع أهل اْلوقف على
كثرتهم فتصير قاعا صفصفا ال ترى فيها عوجا وال أمتا.
ز َ َ ْ َ ْ ُ ُ َّ ْ
﴿و ِإذا اْلرض مدت﴾ أي :وإذا اْلرض بسطت وأزيلت معاملها البار ة فيها حتى صارت قاعا
صفصفا ،ال ترى فيها عوجا وال أمتا ،ففرشت ووسعت وزاد هللا عز وجل في سعتهاِ .
ْ ْ
قال بعض اْلفسرينُ ﴿ :م َّدت﴾ من املد ،واملد هو البسط ،فمعنى ﴿ ُم َّدت﴾ بسطتِ .
ْ
وقال بعض اْلفسرينُ ﴿ :م َّدت﴾ من اإلمداد ،واإلمداد هو الزيادة ،ومعنى ذلك أنه زيد في
سعتهاِ .
وهذا اختالف تنوع وليس اختالف تضاد ،فكال املعنيين صحيح ،فاْلرض يوم القيامة
تبسط وتفرش وتمد ويزاد في سعتها ،فهذا ليس من باب اختالف التضاد وإنما من باب
اختالف التنوعِ .
وقال بعض العلماء :إن اْلرض اليوم كروية فيغيب بعض الناس عن بعض فيها،
فاإلنسان البعيد عن نظرك يغيب عنك ما تراه ،أما يوم القيامة فإنها تمد مدا وتبسط
بسطا وال تكون كروية ،فال يغيب أحد عن أحد ،فيحشر هللا الناس على صعيد واحد،
ينفذهم البصر ُويسمعهم الداعي لكون اْلرض قد مدت ،فال يغيب أحد فيها عن أحدِ .
وهذا املعنى اْلخير أشار إليه شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا عز وجل رحمة واسعة
وسائر علماء املسلمينِ .
152
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ََْ َ ْ
﴿وألقت َما ِف َيها﴾ من اْلموات والكنوز.
َْ َ ْ
معنى ﴿ َوألقت﴾ أخرجت ما في بطنها من اْلموات والكنوز وألقته إلى خارجها إلى ظاهرها،
ََْ َ ْ
﴿وألقت﴾ِ . فهذا معنى
َ َ َ َّ ْ
﴿وتخلت﴾ منهم ،فإنه ينفخ في الصور فتخرج اْلموات من اْلجداث إلى وجه اْلرض
ُ
وتخرج اْلرض كنوزها حتى تكون كاْلسطوان العظيم يشاهده الخلق ويتحسرون على ما
َّ ْ ن ََ َ ْ
﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت﴾ِ . هم فيه يتنافسو ،
َ َ َ َّ ْ َ َ َّ ْ ََْ َ ْ
﴿وتخلت﴾ أي :تركت ما في بطنها ﴿وألقت َما ِف َيها َوتخلت﴾ قال بعض اْلفسرين :معنى
وكشفته بعد أن كانت ساترة له وخال جوفها من ذلكِ .
َ َ َ َّ ْ
﴿وتخلت﴾ أي :خلت اْلرض من اْلحياء عليها ،وذلك عند وقال بعض اْلفسرين :معنى
النفخة اْلولى في الصورِِ .
فيكون املعنى :تخلت اْلرض عن ِ
اْلحياء فخلت منهم ،حيث يموت كل حي عليها عندما ينفخ
في الصور النفخة اْلولى ،ثم ألقت ما في جوفها من اْلموات والكنوز عندما ينفخ في الصور
النفخة الثانية نفخة البعث ،فيكون التخلي قبل اإللقاء ،يكون على هذا املعنى التخلي قبل
اإللقاء؛ ْلنِ :
التخلي :معناه أنها خلت من اْلحياء على ظهرهاِ .
واإللقاء :أنها أخرجت ما في بطنها من اْلموات من أجل البعثِ .
َ َ َ َّ ْ
﴿وتخلت﴾ِ : فهذان معنيان ذكرهما أهل العلم لجملة
فاْلعنى اْلول :بمعنى أن جوفها خال مما فيهِ .
واْلعنى الثاني :بمعنى أن ظهرها خال مما فيهِ .
وال مانع من اْلمرين ،ففي اْلول ِ
يخلو ظهرها من اْلحياء فال يبقى على ظهرها حي ،وفي
الثاني يخلو جوفها من اْلموات والكنوز فال يبقى في جوفها كنز وال ميتِ .
َ َ َ ْ َ َ َ ُ َّ ْ
﴿وأ ِذنت ِلرِبها وحقت﴾ أي :سمعت اْلرض أمر ربها سماع استجابة وانقياد فانقادت ْلمر
ربهاِ .
َّ ْ
ومعنى ﴿ َو ُحقت﴾ أي :حق لها أن تسمع وتطيع ِوتنقاد فإنها مسخرة مدبرةِ :
153
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ ْ ََ َ ْ
﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت﴾ في السماءِ . فالجملة اْلولى:
َّ ْ ََ َ ْ
﴿وأ ِذنت ِل َرِب َها َو ُحقت﴾ في شأن اْلرضِ . والجملة الثانية:
َ ُ ََ َ َ َ َ َ َ ُّ َ ْ َ ُ َّ َ
نسان ِإن َك ك ِاد ٌح ِإل ٰى َرِب َك ك ْد ًحا ف ُمَّل ِق ِيه ﴿ ﴾6فأ َّما َم ْن أو ِت َي ِكت َاب ُه ِب َي ِمي ِن ِه اإل
﴿يا أيها ِ
ُ َ َ َ َ ﴿َ ﴾7ف َس ْو َف ُي َح َ
اس ُب ِح َس ًابا َي ِس ًيرا ﴿َ ﴾8و َينق ِل ُب ِإل ٰى أ ْه ِل ِه َم ْس ُرو ًرا ﴿َ ﴾9وأ َّما َم ْن أو ِت َي
ْ َّ ُ َ َ َ ََ َْ ك َت َاب ُه َو َر َاء َظ ْهره ﴿َ ﴾10ف َس ْو َف َي ْد ُعو ُث ُب ً
صل ٰى َس ِع ًيرا ﴿ِ ﴾12إنه كان ِفي أه ِل ِه ورا ﴿ ﴾11وي ِِ ِ
َ َ
ور ﴿َ ﴾14بل ٰى ِإ َّن َرَّب ُه كان ِب ِه َب ِص ًيرا ﴿ِ .﴾﴾15
َ َم ْس ُرو ًرا ﴿ ﴾13إ َّن ُه َظ َّن َأن َّلن َي ُح َ
ِ
ساع إلى ربه
يخاطب هللا عز وجل جنس اإلنسان بأنه خلق في الدنيا في دار العمل وهو ِ
بعمله ،إما أن يتقدم إلى العمل الصالح عن العمل الس يء ،وإما أن يتأخر عن العمل
الصلح إلى العمل الس يءِ .
فكل الناس في يومه يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ،ثم هو ميت ومبعوث يوم
القيامة ومالق ربه ،حيث يالقي عمله ويعرض عليه عمله في كتاب ،ويالقي جزاء عمله ،فإلى
هللا إيابه وعلى هللا حسابه ،فإنه مهما عمل إن أطاع وعمل الصالحات أو طغا وتجبر وعمل
السيئات آيب إلى ربه سبحانه وتعالى ومالق عمله ،وسيعرض عليه عمله ،ويلقى جزاء عملهِ .
وبين هللا عز وجل لإلنسان كيف يلقى عمله يوم القيامة ،وهو أن عمله مكتوب في كتاب ال
يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ،وسوف يؤتى ذلك الكتاب يوم القيامة حيث ينقسم
الناس إلى فريقينِ :
فأما من أوتي كتابه بيمينه إكراما له وتشريفا له وهو السعيد الذي جعل اآلخرة نيته،
وسارع في الدنيا إلى الجنة بالعمل الصالح ،والزم التوبة واالستغفار ،وغلبت صالحاته
سيئاته ،أو عفا هللا عن سيئاته بفضله ورحمته ومغفرته وكرمه وبره ورأفته سبحانه
وتعالى ،ذلك السعيد سوف يحاسب حسابا يسيرا سهال عليهِ .
وقد فسر النبي صلى هللا عليه وسلم ذلك اليسر حيث قال صلى هللا عليه وسلم( :من
نوقش الحساب عذب) ،فقالت أمنا عائشة رض ي هللا عنها وأرضاها( :أوليس يقول هللا
تعالىَ ﴿ :ف َس ْو َف ُي َح َ
اس ُب ِح َس ًابا َي ِس ًيرا﴾ ،فقال النبي صلى هللا عليه( :إنما ذلك العرض،
ولكن من نوقش الحساب يهلك) متفق عليهِ .
154
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فبين النبي صلى هللا عليه وسلم أن الحساب اليسير هو عرض اْلعمال عرضا من غير
مناقشة ،وبين لنا النبي صلى هللا عليه وسلم طريقة ذلك العرض ،فقال صلى هللا عليه
وسلم( :إن هللا يدني اْلؤمن فيضع عليه كنفه فيقول :أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب
كذا؟ وهو يقول :نعم أي ربي ،حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال هللا:
سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ،ويعطى كتاب حسناته) متفق عليهِ .
فبين النبي صلى هللا عليه وسلم أن من يحاسب حسابا يسيرا يدنيه هللا عز وجل ويضع
عليه كنفه فيستره وال يفضحه بين الخالئق حتى عند العرض ،وتعرض عليه ذنوبه :أتعرف
ذنب كذا؟ فيقولِ :أي نعم يا ربي :وال يقال لهِ :ل َم فعلت كذا؟ وإنما يقال له :أتعرف ذنب
كذا؟ فيقو ِل :أي نعم يا ربي ،أتعرف ذنب كذا؟ فيقو ِل :أي نعم يا ربي ،حتى إذا قرره
بذنوبه وعرض عليه ذنوبه ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك لهذه الذنوب ،قال هللا :أنا
سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ،فال يستر هللا عبدا في الدنيا إال ستره يوم
القيامةِ .
لكن ال ينبغي للعبد أن يستهين بالذنب إن ُستر ،فلعل هذا يكون استدراجا حتى إذا أخذه
هللا بذنبه لم يفلت ،لكن من أذنب ذنبا فستره هللا في الدنيا فأقلع عنه فهذه بشارة أن هللا
يستره في اآلخرة ،ولن يستر هللا عبده في الدنيا ويفضحه في اآلخرة ،بهذا أخبرنا النبي صلى
هللا عليه وسلمِ .
وخير من هذا من يدخل الجنة بغير حساب أصال -بغير عرض ،-حيث أخبر النبي صلى هللا
عليه وسلم أن سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بغير حساب وال عذاب ،وبين صلى هللا
عليه وسلم أنهم الذين ال يسترقون وال يكتوون وال يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ،كما ثبت
ذلك عند الشيخين البخاري ومسلمِ .
وصاحب السعادة هذا الذي يحاسب حسابا يسيرا أو ال يحاسب أصال ينقلب إلى أهله في
الجنة من الحور العين ،ومن دخل الجنة من أهله في الدنيا ينقلب فرحا مسرورا ،ويظهر
أثر هذا الفرح على وجهه حتى يكون في أجمل الصور عند دخوله الجنة ،وسبب سروره أنه
155
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سلم من عذاب هللا وأدخل الجنة ،ومن خاف هللا في الدنيا أمن يوم القيامة وكان من أهل
السرور إذا لقي هللا سبحانه وتعالىِ .
وأما الفريق الثاني :وهو من أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره حيث تلوى يده الشمال وراء
ظهره فيعطى كتابه مهانا ،أنظروا إلى اإلهانة :يعطى الكتاب بالشمال ال باليمين ،وليس
بمجرد الشمال ،بل إن الشمال تلوى حتى تكون من وراء ظهره ،ويعطى كتابه على ذلك
الحال ،وذلك هو الشقي الذي جعل الدنيا همه ،ولها بها عن اآلخرة ،فكفر بربه أصال ،أو
أسلم لكنه أسرف على نفسه بالذنوب ،فعص ى ربه حتى غلب عصيانه طاعاته ،ولم يعف
هللا عنه وجاهر بمعاصيه في الدنيا ،فسوف يحاسب حسابا عسيرا ثقيال حيث يناقش
الحساب ،فيقال لهِ :ل َم فعلت كذا؟ ِل َم فعلت كذا؟ ويذكره هللا بنعمه فيعرفها فيقول هللا
عز وجل :فما صنعت فيها؟ ومن نوقش الحساب عذب وهلك عياذا باهللِ .
وشر منه من ُيفضح على رؤوس الخالئق كاملشركين واملنافقين الذين ينادى بهم على رؤوس
الخالئق ،فيقول اْلشهاد :هؤالء الذين كذبوا على ِربهم أال لعنة هللا على الظاملينِ .
وعند ذاك يدعو الشقي بالويل والهالك والعذاب والشر على نفسه؛ ْلنه تيقن من عذاب
هللا سبحانه وتعالى ،ويقول وهو يدعو على نفسه بالويل والثبور والهالك والشرورَ :
﴿يا
َ َ َ َ َ ُ َ َ
ل ْيت ِني ل ْم أوت ِكت ِاب َي ْه ﴿َ ﴾25ول ْم أ ْد ِر َما ِح َس ِاب َي ْه ﴿[ ﴾﴾26الحاقة ،]26-25 :ويكون مآله
إلى النار املسعرة التي اشتد حرها وعظم عذابها ،فيحترق بتلك النار من جميع الجهات،
ويأتيه العذاب من كل مكان ،فيتمنى أن يموت فال يموت ،ويسأل تخفيف العذاب فال
يجاب ،فال يفتر عنه العذاب ،وال يخفف عنه العذاب ،وال يعتاد على العذاب حتى يخف
عنه ،بل هو في عذاب دائم وسعير دائم ال ينقطعِ .
وهذا الخزي والعذاب -الخزي في املوقف والعذاب في النارِ -وفاق لعمله في الدنيا ،فإنه
كان في الدنيا في أهله مسرورا فرحا باتباع هواه ونيل شهواته املحرمة ونيل ملذاته املحرمة،
وفعله املحرمات ،وظن أنه مخلد في الدنيا ،ولن يبعث يوم القيامة إن كان كافرا ،يعنيِ :
156
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
إن كان كافرا فإنه كان في الدنيا يظن أنه مخلد في الدنيا ،وينكر البعث وأنه لن
يبعث يوم القيامة ولن يلقى هللا ،ويسخر ممن يخبره أنه سيبعث ويلقى هللا سبحانه
وتعالىِ .
وإن كان مسلما عاصيا يكون قد غفل عن هذه الحقيقة وهو في الدنيا وإن كان
يعتقد بالبعث لكن أصابته الغفلة وألهاه التكاثر وألهته امللذات حتى مات وهو على
سوء الحالِ .
والحال أن ربه كان به بصيرا ال يخفى منه ش يء عن ربه ،وال يخفى من عمله ش يء عن ربه،
واملالئكة تشهد عليه وتكتب عملهِ .
فهذان الفريقان قد أخبرنا هللا عنهما وعن حال كل فريق يوم القيامة ،ومن أصدق من ربنا
قيال سبحانه وتعالىِ .
فالواجب على البصير أن يعتبر ،وأن يعلم أن السرور في الدنيا بالحرام يستحق به العذاب
يوم القيامة ،وأن لزوم طاعة هللا وترك الحرام ولو دعت النفس إلى ارتكاب الحرام سبب
لنيل فضل هللا ودخ ِول الجنة عند لقاء هللا سبحانه وتعالى ،فعليه أن يختارِ .
أنت يا عبد هللا؛ يا من تعيش في الدنيا؛ أخبرك هللا أنك عامل والبد ،إما أن تعمل صالحا
فتتقدم ،وإما أن تعمل سيئا فتتأخر ،وأنك ستبعث ،وأنك ستلقى هللا فإلى ربك املنتهى،
وأنك ستلقى عملك ال تفقد منه شيئا ،وأن الناس يوم القيامة سيكونون على الفريقين
عند إعطاء الكتاب ،فاختر لنفسك اليوم حيث أنك في دار العمل ،إن كنت أسرفت فيما
مض ى فتب إلى هللا صادقا ،وأحسن فيما يأتي من أيامك لتكون من أهل السرور يوم
القيامة ،وإياك أن تكون ممن ُيذهب سرورهم الزائل في الدنيا سرو َرهم الدائم يوم
القيامة ،وبئس البيع أن يبيع العبد السرور الدائم يوم القيامة بالسرور الزائل في الدنيا،
أعني :السرور باملحرماتِ .
فوهللا ثم وهللا إن السرور في الدنيا كله ال يساوي لحظة من عذاب هللا سبحانه وتعالى،
وإن الشقاء في الدنيا كله ال يساوي لحظة في النعيم يوم القيامة ،فإنه يؤتى يوم القيامة
بأنعم رجل كان في الدنيا من أهل النار فيغمس غمسة في النار فيقال :هل رأيت نعيما قط؟
157
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فيقو ِل :ال؛ ما رأيت نعيما قط ،ويؤتى بأبأس رجل كان في الدنيا من أهل الجنة فيغمس
غمسة في الجنة فيقال :هل رأيت بؤسا قط؟ فيقولِ :ال وهللا يا ربي ما رأيت بؤسا قطِ .
ومن هنا تعلم معنى أن الدنيا سجن املؤمن وجنة الكافر ،فاملؤمن محبوس بالدنيا عن
النعيم املقيم في الجنة ،فمهما كان في نعيم دنيوي فهو محبوس عن النعيم اْلعظم ،وليس
بين املؤمن الطائع وذاك النعيم إال أن يموت ،وأما الكافر فإنه محبوس في الدنيا عن
العذاب الشديد يوم القيامة ،فمهما كان في بؤس في الدنيا فهو بالنسبة آلخرته في جنة،
واملؤمن العاص ي على خطر عظيم ،قد يدخل النار بسبب ذنوبه فيعذب ،وال يطيق العبد
لحظة واحدة في النار ،ثم يخرج إذا شاء هللا أن يخرجه من النار فيدخل الجنة ،وقد يعفو
هللا عنهِ .
فالواجب على العبد أن ينظر إلى نفسه اليوم وأن يختار لنفسه اليومِ .
هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني للجزء الذي قرأه اْلخ نور الدين من هذه
السورة ،ونعود إلى التفسير التفصيلي فنقرأ ما ذكره اإلمام السعدي رحمه هللاِ .
َ َ َ َ َ َ ُّ َ ْ َ ُ َّ َ
نسان ِإن َك ك ِاد ٌح ِإل ٰى َرِب َك ك ْد ًحا ف ُمَّل ِق ِيه﴾ قال رحمة هللا عليه :أي :إنك ساع اإل
﴿يا أيها ِ
إلى هللا وعامل بأوامره ونواهيه ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر ،ثم تَّلقي هللا يوم
القيامة ،فَّل تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل ،بالفضل إن كنت سعيدا ،وبالعقوبة
العادلة إن كنت شقياِ .
َ َ ُّ َ ْ َ ُ
نسان﴾ قال بعض اْلفسرين( :ال) هنا للجنس ،فهذا خطاب لكل يقول هللا ﴿ :يا أيها ِ
اإل
إنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا ،طائعا أو عاصيا ،ويدل لذلك التنويع عند اللقاء في إتيان
الكتابِ .
وقال بعض العلماء( :ال) هنا للعهد ،وهذه السورة مكية ،فالخطاب للكفار الذين
ينكرون البعث ،ويدل لذلك ما جاء في آخر اآليات ﴿إ َّن ُه َظ َّن َأن َّلن َي ُح َ
ور﴾. ِ
واْلظهر وهللا أعلم أن الخطاب لجنس اإلنسان ،لكل إنسان سواء كان مؤمنا أو كافراِ .
158
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ َ
﴿إن َك ك ِاد ٌح﴾ يقول العلماء :الكدح :هو العمل املستمر بجد ومشقة ،فاإلنسان عامل في
ِ
الدنيا والبد بجد ومشقة ،وعمله مستمر ال انقطاع فيه حتى يلقى هللا سبحانه وتعالى،
يعني :حتى تقوم قيامته بموتهِ .
َ َ َ َ
﴿ف ُمَّل ِق ِيه﴾ قال بعض اْلفسرين﴿ :ف ُمَّل ِق ِيه﴾ أي :مالقي هللا عز وجل كما قال الشيخ
السعدي هنا ،فأرجعوا الضمير إلى هللاِ .
َ َ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :ف ُمَّل ِق ِيه﴾ أي :مالقي عملك ،فأرجعوا الضمير إلى العملِ .
وكال القولين صحيح واقع ،فإن اإلنسان كادح إلى ربه كدحا بالعمل فمالقي ربه ومالقي
عملهِ .
َ ُ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ َ
قال :ولهذا ذكر تفصيل الجزاء فقال﴿ :فأما من أو ِتي ِكتابه ِبي ِمي ِن ِه﴾ وهم أهل
السعادةِ .
(فأما) هذا للتنويع ،وهو أن اإلنسان إذا لقي ربه يوم القيامة ولقي عمله يوم القيامةِ :
إما أن يكون من فريق السعداءِ .
وإما أن يكون من فريق اْلشقياءِ .
ُ ََ
﴿فأ َّما َم ْن أو ِت َي﴾ ولم يبين لنا من الذي يعطيه الكتاب ،نحن علمنا يقينا أنه سيعطى
الكتاب بيمينه ،لكن من الذي سيعطيه هللا أعلم ،لم يبن ذلك لناِ .
َ
﴿ ِكت َاب ُه﴾ أي :كتاب أعماله ،واْلعمال تكتب مرتينِ :
كتبت أوال في اللوح املحفوظ ،فعمل كل إنسان مكتوب عندما خلق هللا القلم وأمره
أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ،لكنه ليس املراد هناِ .
ويكتب إذا عمله اإلنسان تكتبه املالئكة إن عمل خيرا أو عمل شرا ،وهذا الذي
يؤتاه العامل يوم القيامة ،فإن كان من أهل السعادة يؤتى الكتاب بيمينه ويعطى
الكتاب بيمينه إكراما له وتشريفا له.
﴿ف َس ْو َف ُي َح َ
اس ُب ِح َس ًابا َي ِس ًيرا﴾ وهو العرض اليسير على هللا ،فيقرره هللا بذنوبه ،حتى
َ
إذا ظن العبد أنه قد هلك قال هللا تعالى :إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها لك
159
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
اليومِ .
وهذا تفسير الحساب اليسير كما ذكرناه في التفسير اإلجمالي ،والحساب اليسير هو السهل
الذي ال مشقة فيه وال عناء فيهِ .
َ َ
طيب نلحظ أن ربنا سبحانه وتعالى قال﴿ :ف َس ْوف﴾ (الفاء) هنا واقعة في جواب (أما) وهي
تفيد الترتيب والتعقيب وتشعر بالقرب ،هي واقعة في جواب (فأما) وهي مفيدة للترتيب
والتعقيب ،ومفيدة للقرب -مشعرة للقرب ،-فظاهر هذا الترتيب أن اإلنسان يؤتى كتابه
بيمينه ،ثم يحاسب حسابا يسيرا ،لكن السنة دلت على العكس ،الحديث في الصحيحين
دل على أنه يحاسب حسابا يسيرا ،ثم يعطى كتابه ،فينطلق بكتابه مسرورا ،ويق ِولِ :هاؤم
اقرؤوا كتابيه ،فالترتيب والتعقيب هنا هو للقرب ،وإال فإن الترتيب أنه يحاسب حسابا
يسيرا ،ثم يعطى كتابه بيمينهِ .
(والفاء) هنا مشعرة بالقرب ،وال شك أن اْلمر قريب ،فاملوت قريب ،والساعة قريبة،
والجزاء قريب ،فالدنيا سريعة ،انظر لنفسك ،باْلمس القريب كنت طفال تلعب ،واليوم
أنت شاب أو كهل أو شيخ ،وهللا ما بينك اآلن وبين كونك طفال كأنه ساعة ،قريب ،وهكذا
سيكون الباقي من عمرك كاملاض ي تماما سيمض ي سريعا ،ولو طال عمرك فإنه قريب،
ويأتيك املوت وتقبر وتبعث وتلقى عملك وتجازىِِ .
(فالفاء) هنا كما قلت مشعرة بالقرب ،وال شك أن كل ما هو أمامنا قريب وهللا ،وإذا
أردت أن تعتبر فانظر إلى ما خلفك من عمرك كيف أنه كأنه لحظات ،وهكذا ما بقي من
عمرك وعمر الدنيا قريب سريع الزوال ،وهللا يكون كأنه لحظاتِ .
نقل ُب إ َل ٰى َأ ْهله﴾ في الجنةَ ،
﴿م ْس ُرو ًرا﴾ ْلنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب.
ََ َ
﴿وي
ِِ ِ ِ
َ َ َ َ
﴿و َينق ِل ُب ِإل ٰى أ ْه ِل ِه﴾ قال بعض العلماء اْلفسرين :أهل خلقهم هللا له في الجنة وهن
الحور العين وخدمه في الجنة من الغلمانِ .
وقال بعض اْلفسرين :أهله في الدنيا من أهل الجنة ،يعني :أهله الذين كانوا في الدنيا
ودخلوا الجنةِ .
160
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهذا كما قلنا مرارا وهذا على اختالف املفسرين اختالف تنوع وليس اختالف تضاد ،فهو
ينقلب إلى أهله من الحور العين والحور الطين وأوالده ممن دخلوا الجنة ،فيجتمع مع أهله
الذين يحبهم من أهل الدنيا ،ويزيده هللا أهال في الجنة ،فيعظم سروره ،من سرور املؤمن في
الجنة ونعيم املؤمن في الجنة أنه ال ي َّ
فرق عن أهله الذين كانوا معه في الدنيا إذا دخلوا
الجنة ،بل يرفع اْلدنى منزلة منهم إلى اْلعلى ،وال ينزل اْلعلى إلى اْلدنى ،ال؛ يعني لو كان اْلب
صالحا وكان في منزلة عالية في الجنة ،ودخلت زوجته الجنة ودخل أوالده الجنة ،لكنهم في
مرتبة دنيا بالنسبة له ،فإنهم ال يبقون هكذا؛ ْلنه ال يفرق بين صاحب الجنة وأهله ،وال
ُ
ينزل اْلعلى إلى اْلدون ،وإنما يرفع اْلدون إلى اْلعلى ،وكذلك االبن لو كان صالحا فأدخل
الجنة فكان في مرتبة عليا ،ودخل أبواه الجنة ولكنهما كانا بالنسبة له في مرتبة أدون في
الجنة ،وكما قلت مرارا وتكرارا يا إخوة مراتب الجنة مراتب كمال ،يعني :التفاضل فيها
تفاضل كمال ،ليس فيها شقاء أبدا ،ليس في الجنة شقاء أبدا ،لكن يتفاضل أهل الجنة في
الكمال ،فإن الوالدين يرفعان إلى منزلة االبن وال يفرق بينهماِ .
﴿م ْس ُرو ًرا﴾ قال الشيخْ :لنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب.َ
وقال العلماء :سروره في قلبه تظهر بهجته على وجهه ،وهذا معروف يا إخوة الذي في
القلب يظهر على الوجهِ .
اإلنسان إذا كان حزينا في قلبه سترى في وجهه وعينيه أثر الحزن ،وإذا كان مسرورا سترى
ذلك في وجهه وعينيه ،فينعكس سرور قلبه بهجة ونضرة على وجهه ،ويكون سروره بحسب
عمله ونضرته بحسب عمله ،فيتفاوت أهل الجنة في جمالهم ،وكل من يدخل الجنة يكون
جميال ،لكن أهل الجنة يتفاوتون في الجمال بحسب أعمالهم في الدنيا ،وما يحصل لهم من
سرور في اآلخرة بسبب أعمالهم بفضل هللا سبحانه وتعالىِ .
َ َ ُ ََ
﴿وأ َّما َم ْن أو ِت َي ِكت َاب ُه َو َر َاء ظ ْه ِر ِه﴾ أي :بشماله من وراء ظهره.
بعض العلماء قالوا :إن الناس ثالثة أقسامِ :
.1قسم يؤتى كتابه بيمينهِ .
.2وقسم يؤتى كتابه بشمالهِ .
161
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
162
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
163
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ََ
﴿بل ٰى ِإ َّن َرَّب ُه كان ِب ِه َب ِص ًيرا﴾ فال يخفى منه عليه ش يء ،وال يخفى من عمله عليه ش يء،
ِّ
وكان ربه قد علمه وبين له طريق الجنة وأمره بلزومه ،وبين له طريق النار وحذره من
سلوكه ،ثم إن إيابه إلى هللا وحسابه على هللاِ .
َ ً ََ َ َ َّ َْ َّ َّ َ ََ ُ ْ
﴿فَّل أق ِس ُم ِبالشف ِق (َ )16والل ْي ِل َو َما َو َس َق (َ )17والق َم ِر ِإذا ات َس َق ( )18لت ْرك ُب َّن ط َبقا َعن
َ ُْ ُ َ َ َ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ
ط َب ٍق ( )19ف َما ل ُه ْم ال ُيؤ ِمنون (َ )20و ِإذا ق ِر َئ َعل ْي ِه ُم الق ْرآن ال َي ْس ُج ُدون ۩ (َ )21ب ِل
َّ ََ ُْ ََ َ َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ ُ َ ُ َ
اب أ ِل ٍيم (ِ )24إال ٍ ذع ب
ِ م هر شِ ب ف ) 23 ( ن و وع ي امبِ م لع أ هالل و ) 22 ( نال ِذين كفروا يك ِذبو
ُ َّ َ َ َ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ
ات ل ُه ْم أ ْج ٌر غ ْي ُر َم ْمنو ٍن (ِ .﴾)25ِ ِ حال الص وا ل ال ِذين آمنوا وع ِم
يقسم هللا عز وجل بهذه اآليات العظيمة التي تكون في الليل ،وهي تدل على وجوده سبحانه
وعلى تدبيره ْلحوال عباده وعلى قدرته على تغيير أحوالهم من حال إلى حالِ .
وللعظيم سبحانه أن يقسم بما شاء ،وليس لإلنسان أن يقسم إال بربه العظيم سبحانه
وتعالى ،فمن حلف بغير هللا فقد كفر أو أشركِ .
واملقسم عليه هنا أمر ثابت ال يحتاج أن َ
يقسم عليه ،لكن أقسم هللا عليه مزيدا للتأكيد َ
وإلقامة الحجة ،وإال فهذا َ
املقسم عليه ثابت يقينا ،فإن هللا أخبر عن ذلك ومن أصدق من
هللا قيال ،وإن اآليات الكونية دالة على ذلك ،لكن أقسم هللا عز وجل عليه ليزداد اطمئنان
النفوس املؤمنة به ،ولتقام الحجة على الكافرينِ .
فأقسم ربنا بالشفق وهو الضوء اْلحمر الذي يكون في أول الليل بعد غروب الشمس ،ثم
الضوء اْلبيض الذي يتلو الضوء اْلحمرِ .
فالشفق شفقانِ :
شفق أحمر :وهو الذي علقت بغيبوبته صالة العشاء عند جمهور الفقهاءِ .
وشفق أبيض :وهو يتلو الشفق اْلحمر ،وهو آية عظيمة من آيات هللا سبحانه
وتعالى حيث يظهر في هذا الوقت في أول الليل عند إقبال الظلمةِ .
164
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وأقسم سبحانه بالليل وهو -أعني الليل -في نفسه آية عظيمة في إقباله وفي إدباره ،حيث
يقبل على اْلرض فيغش ى اْلِرض ويغطيها ،ثم يدبر فتنقشع ظلمته ،فسبحان هللا! من أين
أتى هذا الظالم كله؟! وإلى أين ذهب هذا الظالم كله؟! ِ
وهو آية في اْلحوال التي تقع فيه وتناسب سكونه وظلمته ،حيث يجمع ويضم اْلشياء
املنتثرة املنتشرة في النهار ،وتسكن فيه الدواب بأن ترجع إلى أوكارها ومأواها ،ويسكن فيه
اإلنسان بأن ينام ويلقي عنه تعب النهارِ .
وأقسم بالقمر حال اكتمال ضوئه وتمام ضوئه وذلك إذا أصبح بدرا ،ويكون ذلك في وقت
منتظم من الشهر ال يتقدم وال يتأخر ،ويكون له أثره في الليل فتستنير اْلرض مع ظلمة
الليل ،وكل هذا فيه آيات عظيمةِ .
وكان َ
املقسم عليه الذي أقسم عليه العظيم سبحانه بهذه اآليات لتركبن أيها الناس في
حياتكم الدنيا وفي أخراكم طبقا عن طبق ،فتكونون في الدنيا على أطوار وتتنقلون في
أحوال ،فاإلنسان في أول أمره يكون محبوسا في ظلمة الرحم ،وفي آخر أمره يكون محبوسا
في ظلمة القبر إال من وسع هللا عليه قبره وأنار له قبرهِ .
واإلنسان يبدأ طفال ضعيفا في جسده ،ضعيفا في عقله ،ثم ينتقل إلى حال الشباب
فيقوى ،ثم ينتقل إلى حال الكهولة ،ثم ينتقل إلى حال الشيب إن كتب هللا له البقاء ،ثم
يموت لينتقل من حال الدنيا إلى حال اآلخرة ،ويبقى في قبره ما شاء هللا أن يبقى ويك ِونِ في
قبره على أحوال :فإما معذب -عياذا باهلل ،-وإما منعمِ .
ُويبعث يوم القيامة ويكون الناس عند بعثهم على أحوال ،ويرون الشدائد واْلهوال ،ثم
يكونون في مآلهم ومستقرهم على أحوال ،فمنهم سعيد ،ومنهم شقي ،ومنهم من يشقى في
أول أمره ثم ُيلحق بالسعداءِ .
فهذا أمر عظيم أقسم عليه العظيم سبحانه وتعالىِ .
وال يكون ذلك إال بأمر هللا وتدبيره ،وهذا يدل العاقل -أعني ما يراه من أطوار وأحوال في
الدنيا -على حقيقة البعث ،وأن هللا قادر إذا شاء أن يغير أحوال الدنيا بالبعث لتكون
اآلخرةِ .
165
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهنا تلحظ مناسبة ما أقسم هللا به للمقسم عليه ،فأقسم هللا بأحوال في الليل على أن
اإلنسان يكون على أحوال وأطوار في دنياه ،ويكون على أحوال في أخراه ،وفي ذلك عبرة ملن
اعتبر ونظر وتفكر وتدبر ،فإن ذلك يدله على وجود هللا وعلى قدرة هللا وعلى تدبير هللا،
وعلى أن املستحق للعبادة وحده هو هللا سبحانه وتعالى ،ويدله على البعث وما فيه من
اْلحوالِ .
فما لهؤالء الكفار الذين ينكرون البعث مع ثبوته ال يصدقون تصديقا مع انقياد وعمل؟
أال عقول لهم؟! إنهم لفي أمر مريج ومنكر عظيمِ .
وما لهم إذا قرئ عليهم القرآن بما فيه من إعجاز ال تخشع قلوبهم وال تخضع أجسادهم هلل
ِّ
وال يصلون؟! ِ
ِّ
يكذبون بالقرآن وما جاء به النبيإن الذي يجعلهم على هذه الحال القاسية الخبيثة أنهم ِ
صلى هللا عليه وسلم تكذيب مكابرة وعناد ،وليس اعتقادا مبنيا على أصول صحيحة ،بل
كل ش يء يدلهم على ثبوت ما ينفون ،ولكنهم يكذبون تكذيب املعاند املكابرِ .
والر ُّاد للحق عنادا ومكابرة ِال حيلة فيه ،فمهما أوردت عليه من اْلدلة ال يستنير قلبه
بالحق وال يقبل على الحق إال أن يشاء هللا أن يرحمه ،فيدفع عنه هذا العناد وهذه
املكابرةِ .
وهللا سبحانه العليم أعلم بهم وبأعمالهم وبما تكنه أنفسهم وقلوبهم ،أعلم بهم من
أنفسهم سبحانه وتعالى ،يعلم ما في قلوبهم وما يسرون وما يخفون ،وما يعلنون وما
يجهرون به ،ويحص ي ذلك عليهم وسيجازيهم بأعمالهمِ .
وليس للكفار يوم القيامة إال النار ،فبشرهم يا رسولنا بعذاب أليم دائم ال ينقطعِ .
لكن الذين آمنو فصدقوا تصديقا مع إذعان وعمل صالح فلهم شأن آخر ،فلهم ثواب على
أعمالهم غير مقطوع عنهم وال منغص عليهم وال مكدر عليهم ،فهم في نعيم ال تشوبه شائبة،
وقلوبهم به متنعمة ال ينغصها خوف ذهاب وال قلق من نقص ،وأجسادهم به متنعمة في
جنة أعد هللا فيها لعباده الصالحين ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشرِ .
فشتان معاشر املؤمنين بين حال الكافرين املعذبين ،وبين حال املؤمنين املنعمينِ .
166
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
واملؤمن إذا سمع هذا فإنه يبرأ إلى هللا من الكفر وأهله ،ويجهد نفسه في أن يتقرب إلى هللا
بكل ما يستطيع لعله أن يكون من الفائزينِ .
هذا التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمة ونعود إلى التفسير التفصيلي
ونقرأ ما ذكره اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق عليه ِ
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
والسامعين :أقسم في هذا اْلوضع بآيات الليل فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور
الشمس الذي هو مفتتح الليل.
ََ ُ ْ
﴿فَّل أق ِس ُم﴾ يقول اْلفسرون أو أكثر اْلفسرين( :ال) هنا صلة بمعنى أنها زائدة للتوكيد،
زائدة لتوكيد القسم ،ولها فائدة فليس في القرآن ما ال فائدة له ،لها فائدةِ :
َ َ
وهي :أنها تفيد أن املقسم عليه ثابت يقينا وال يحتاج أن يقسم عليه ،لكن ِ
يقسم
هللا عليه رحمة بالناس لتطمئن قلوبهم ويزداد أهل اإليمان إيماناِ .
كما أنها تفيد أن َ
املقسم عليه مع ثبوته يقينا فإن من البشر من نفاه.
دائما إذا وجدت بين يدي القسم (ال) فاعلم هذه الفائدة ،أنها تفيد هذين اْلمرينِ :
اْلمر اْلول :أن املقسم عليه ثابت ثبوتا يقينيا بدون القسم؛ وال حاجة ْلن يقسم
عليه ،لكن هللا يتفضل على املؤمنين بالقسم عليه لتطمئن قلوبهم وليزدادوا إيمانا
مع إيمانهم.
والفائدة الثانية :أن َ
املقسم عليه مع ثبوته ثبوتا يقينيا بينا فإن هناك من البشر
من انطمست بصائرهم حتى أنكروا ذلك املقسم عليه.
رأيتم الفائدة يا إخوة؟ ليس في القرآن زائد ال يفيد بحيث يستغنى عنه من جهة املعنى،
يِ .
وإنما تكون الزيادة من حيث التركيب اللغو ِ
وقال بعض اْلفسرين :معنى (فَّل) أي :ليس اْلمر كما ظن الكفار ،فالنفي هنا ليس
واقعا على القسم ،وإنما واقع على ظن الكفار ،فمعنى (فَّل) أي :ليس اْلمر كما ظن
ُْ
الكفار؛ بل أق ِسم على خالف ظنهمِ .
167
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ
قالوا :معنى (فَّل) أي :فليس اْلمر كما ظن الكفار بل أ ْق ِسم على خالف ظنهم ،واْلول
أقوى -ما ذهب إليه أكثر املفسرين أقوىِ ،-وإن كان للثاني وجهِ .
والقسم :هو الحلف واليمين لتوكيد اْلمرِ .
َّ َ
﴿ ِبالشف ِق﴾ الشفق :هو الضوء الذي يظهر عند أول الليل فيكون أحمر ثم يعقبه ضوء
أبيض ،وهذا الضوء اْلبيض -قال بعض العلماء -يمتد إلى قرب نهاية الثلث اْلول من
الليل ،وبعده تبدأ الظلمة الشديدة حيث يذهب هذا الضوءِ .
وأصل معنى الشفق من الرقة ،ومنه يقال :إن الوالد شفيق؛ أي :رقيق القلب ،ويقال:
أشفقت على اليتيم؛ أي :رق قلبي له ،فسمي هذا الضوء شفقا لرقته ،ليس ضوءا
ساطعا ،وإنما هو ضوء رقيق ضعيف يكون في أول الليلِ .
َ َّ
﴿والل ْي ِل َو َما َو َس َق﴾؛ أي :احتوى عليه من حيوانات وغيرها.
﴿ َو َما َو َس َق﴾ قال بعض اْلفسرين :أي :ما جمع وضمِ .
فالوسق :هو الجمع والضمِ .
ومعنى ذلك أنه في الليل يجتمع ما انتشر في النهار :الناس والحيوانات ،كلها تنتشر في النهار،
فإذا جاء الليل اجتمع ما انتشر في النهار ،فتأوي الطيور إلى أوكارها ،وتأوي الحيوانات إلى
مأواها ،ويأوي اإلنسان إلى سكنه وبيته وينامِ .
وقال بعض العلماءَ ﴿ :و َما َو َس َق﴾ من السوق وهو الجلب ،ومعناه :أن الليل يجلب الناس
والحيوانات إلى مخادعها ،يسوقها بعد أن كانت منتشرةِ .
وقال بعض العلماءَ ﴿ :و َما َو َس َق﴾ من الوسق بمعنى ،جن وستر ،فمعنى ﴿ َو َما َو َس َق﴾؛
أي :وما ستر من املخلوقات واْلعمال ،فإن الليل يستر املخلوقات ومنها اإلنسان ،ويستر
اْلعمال أيضا منها :قيام الليل وقراءة القرآن في الليل والدعاء في الليل والذكر في الليل
يستره الليل ،ولذلك العمل في الليل أقرب إلى اإلخالص من العمل في النهار؛ ْلن الليل
يسترهِ .
168
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهذا االختالف كأكثر اختالف املفسرين اختالف تنوع ،فالكل داخل في قول هللا عز وجل
﴿ َو َما َو َس َق﴾؛ أي :ما جمع وضم وجلب وجن وستر ،كلها تدخل في هذا املعنى ِ
َ َّ َ َْ
﴿والق َم ِر ِإذا ات َس َق﴾ أي امتأل نورا بإبداره وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع.
َّ
﴿ات َس َق﴾ يعني :اكتمل نوره فصار بدراِ .
َّ
ومعنى ﴿ات َس َق﴾ في اْلصل تم واجتمع واستوى ،يقال :اتسق أمرك؛ أي :تم أمرك ،فمعنى
َّ
﴿ات َس َق﴾ تم واستوى واجتمع ،فمعنى (اتسق القمر)؛ أي :تم نوره واكتمل نوره فصار
بدراِ .
ََ َ
قال :واْلقسم عليه قوله﴿ :لت ْرك ُب َّن﴾؛ أي :أيها الناس﴿ ،طبقا عن طبق﴾؛ أي :أطوارا
متعددة وأحواال متباينة من النطفة إلى العلقة إلى اْلضغة إلى نفخ الروح ،ثم يكون
وليدا وطفَّل ومميزا ،ثم يجري عليه قلم التكليف واْلمر والنهي ،ثم يموت بعد ذلك ثم
يبعث ويجازى بأعماله.
فهذه طبقات مختلفة الجارية على العبد دالة على أن هللا وحده هو اْلعبود اْلوحد
اْلدبر لعباده بحكمته ورحمته ،وأن العبد فقير عاجز تحت تدبير العزيز الرحيمِ .
ََ َ
هذا على قراءة ضم الباء ﴿لت ْرك ُب َّن﴾؛ أي :أيها الناس لتكونون أطوارا وعلى أحوال في
حياتكمِ .
وقال بعض اْلفسرين :الخطاب ليس للناس جميعا وإنما ملن بعث لهم محمد صلى هللا
عليه وسلم؛ أي :لتعملن كما عملت اْلمم من قبلكم ،فمنكم من يؤمن به ومنكم من
يكفر ،هذا خطاب ْلمة الدعوة؛ يعني :سيكون شأنكم مع محمد صلى هللا عليه وسلم
كشأن اْلمم السابقة مع أنبيائها فمنكم من يؤمن ومنكم من يكفرِ .
ويكون الخطاب أيضا ْلمة اإلجابة بأنكم ستعملون أعمال من قبلكم من اليهود والنصارى،
فتتبعون سنن من كان قبلكمِ .
ََ َ
وقال بعض اْلفسرين في قراءة ﴿لت ْرك ُب َّن﴾ بضم الباء :الخطاب للكفار خاصة؛ أي :لتكونن
في النار في دركات وطبقات ،تطبق عليكم وتغلق عليكم فال محيد لكم عنها وال مخرج لكم
منها وال متنفس لكم من عذابها وال ضوء فيها وعذابها مطبق بكمِ .
169
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ََ َ
هذه ثالثة أقوال في قراءة ﴿لت ْرك ُب َّن﴾ِ :
.1القول اْلول :أن الخطاب لعموم الناس على املعنى الذي ذكرناهِ .
.2والقول الثاني :أن الخطاب ْلمة محمد صلى هللا عليه وسلم من أمة الدعوة وأمة
اإلجابةِ .
.3والقول الثالث :أن الخطاب للكفار املنكرين بالبعث.
ُ
وق ِرأت اآلية قراءة سبعية بفتح الباء ﴿لتركبن﴾ ،فيكون الخطاب ملحمد صلى هللا عليه
وسلم ،ويكون املعنى :لتكونن مع الناس في أحوال وتمر بشدائد بسبب دعوتك إلى التوحيد،
لتكونن يا محمد مع الناس في أحوال وستمر بشدائد :منها إخراج قومه له ،ومحاربة قومه
له إلى غير ذلكِ .
وقال بعض اْلفسرين :املعنى لتركبن يا محمد السماوات السبع ،وقد كان ذلك في املعراج
حيث مر النبي صلى هللا عليه وسلم بالسماوات السبعِ .
والقرآن يجمع املعاني ،وال تضاد بين هذه املعاني كلهاِ .
والطبق -قال العلماء :-هو اْلمر الشديد ،وكذلك اْلمر املحيط وكذلك الجماعةِ .
قال رحمه هللا :ومع هذا فكثير من الناس ال يؤمنون.
أي :ال يصدقون تصديقا معه إذعان وعمل ،فما الذي جعلهم كذلك؟ ِ
َ َ َ ْ ُ َ
﴿ف َما ل ُه ْم ال ُيؤ ِمنون﴾ وهذا استفهام إنكاري تضمن التعجيب من حالهم ،هذا االستفهام
إنكاري؛ ْلنه ال شك أنهم فعلوا منكرا ،فإن إنكار البعث وعدم اإليمان منكر واضح النكران؛
ْلن اْلدلة على البعث وعلى صدق النبي صلى هللا عليه وسلم أوضح من الشمس ،وهذا
االستفهام اإلنكاري تضمن التعجيب من حالهم ،وهو يشعر املؤمن بأن يحمد هللاِ .
ما الفرق بين من آمن ومن كفر؟ هذا إنسان وهذا إنسان ،هذا له عقل وهذا له عقل،
لكن تفضل هللا على من شاء ممن هو أهل للهداية فهداه ،فهذا االستفهام متضمن
للتعجيب من حال الكفار ،ومشعر للمؤمن بحمد هللا على نعمة الهداية لإليمانِ .
َ ُْ ُ َ َ َ ُ
﴿ َو ِإذا ق ِر َئ َعل ْي ِه ُم الق ْرآن ال َي ْس ُج ُدون﴾ ،أي :ال يخضعون للقرآن وال ينقادون ْلوامره
ونواهيهِ .
170
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ
﴿ال َي ْس ُج ُدون﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني ال يخشعون وال يخضعون ،وعلى هذا يشمل
هذا جميع أحوالهم ،ويدل أيضا على أن قلوبهم أقس ى من الجبال ،فإن هذا القرآن لو أنزل
على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية هللا ،وهؤالء القوم يفهمون القرآن ومع ذلك ال
يخشعون وال يخضعون ،فقلوبهم قاسية أشد من قسوة الحجارةِ .
َ َ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ال َي ْس ُج ُدون﴾؛ أي :ال يصلون ،والسجود يطلق على الصالة
كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم لذلك الرجل( :أعني على نفسك بكثرة السجود)؛ أي:
بكثرة الصالةِ .
قالوا :وخصت الصالة هنا؛ ْلنها أعظم اْلعمال ،بل هي عند جمع من العلماء أصل في
اإلسالم من لم يأت بها ولو أقر بوجوبها ال يكون مسلماِ .
وللفقهاء مبحث في هذه اآلية هل هي من آيات سجود الت ِالوة أو ليست من آيات سجود
التالوة محل هذا املبحث كتب الفقهِ .
َ َ َ َّ َ َ َ
ين كف ُروا ُيك ِذ ُبون﴾ أي :يعاندون الحق بعدما تبين ،فَّل يستغرب عدم إيمانهم ﴿ب ِل ال ِذ
وانقيادهم للقرآن فإن اْلكذب بالحق عنادا ال حيلة فيه.
َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ
ن
﴿والله أعلم ِبما يوعو ﴾ أي :بما يعملونه وينوونه سرا ،فاهلل يعلم سرهم وجهرهم
وسيجازيهم بأعمالهمِ .
َ ُ ُ َ
وعون﴾؛ أي :بما يخفون ويضمرون في قلوبهمِ . فمعنى ﴿ ِبما ي
َ ُ ُ َ
وعون﴾؛ أي :بما يجمعون من اعتقادات وأعمال، وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ ِبما ي
َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ
ن
﴿والله أعلم ِبما يوعو ﴾ حتى من أنفسهم ويحصيه عليهمِ .
وهذه اآلية متضمنة الوعيد ،ليست مجرد خبر ،بل هو خبر ضمن الوعيد ،فإن هللا أعلم
بما يوعون وهو محصيه عليهم وسيجازيهم بهِ .
ََ ُْ ََ َ
اب أ ِل ٍيم﴾ ،وسميت البشارة بشارة؛ ْلنها تؤثر في البشرة
ولهذا قال﴿ :فب ِشرهم ِبعذ ٍ
سرورا أو غماِ .
هذا على قول إن البشارة عامة تعم ِ
اإلخبار بالحسن السار وبالس يء الذي يغم؛ ْلنها
171
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
مأخوذة من تأثر البشرة ،واإلنسان إذا أخبر بما يسر تأثرت بشرته بهجة وسرورا فيظهر ذلك
على وجهه ،وإذا أخبر بما يغمه تأثرت بشرته أيضا وظهر ذلك على وجههِ .
وقال بعض العلماء :بل البشارة اإلخبار بما يسر فقط ،البشارة هي اإلخبار بما يسر،
واستخدمت هنا في اإلخبار بالعذاب وهو ال يسر تهكما بهم واستهزاء بهم جزاء وفاقا؛ ْلنهم
يتهكمون باملؤمنين ويسخرون من املؤمنين ،فاستخدمت البشارة هنا فيما يغم من باب
التهكم بالكافرين والسخرية بهم.
قال :فهذه حال أكثر الناس :التكذيب بالقرآن وعدم اإليمان به.
ومن الناس فريق هداهم هللا فآمنوا باهلل وقبلوا ما جاءتهم به الرسل فآمنوا وعملوا
ن َُ ْ َ ْ ٌ َُْ َ ْ ُ
الصالحات ،فهؤالء ﴿لهم أجر غير ممنو ٍ ﴾ أي :غير مقطوع بل هو أجر دائم مما ال عين
رأيت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر والحمد هللِ .
َّ َّ َ ُ
ين َآمنوا﴾ قال بعض العلماء :استثناء منقطع؛ ْلن املستثنى هناواالستثناء هنا ﴿ ِإال ال ِذ
ليس من جنس ما قبله فيكون استثناء منقطعا ،ويكون معنى (إال) لكن ،كما لو قلت مثال:
جاء القوم أو جاء الرجال إال حمارا أو إال بقرة ،فإن املستثنى ليس من جنس ما قبله،
فيكون استثناء منقطعا ،وتكون إ ِال بمعنى لكنِ .
فاملعنى على هذا :لكن املؤمنين على حال أخرى هي حال النعيم املقيمِ .
َ ً ََ َ
وقال بعض اْلفسرين :االستثناء هنا استثناء متصل من قوله تعالى﴿ :لت ْرك ُب َّن ط َبقا َعن
َ
ط َب ٍق﴾؛ أي :لتركبن الشدائد واْلهوال يوم القيامة إال الذين آمنوا؛ أي :يا أيها الناس لتركبن
الشدائد واْلهوال يوم القيامة إال الذين آمنوا فلن يكونوا مثل الكفار يوم القيامةِ .
ََ ُْ ََ
اب
وقال بعض اْلفسرين :هو استثناء متصل أيضا ،ولكن من قوله تعالى﴿ :فب ِشرهم ِبع ٍ
ذ
َ
أ ِل ٍيم﴾ ،واملعنى :إال الذين آمنوا من أولئك الكفار فتابوا من كفرهم وأسلموا ،فإن اإلسالم
يهدم ما كان قبله فلهم أجر غير ممنون ،فهم ساملون من ذلك الوعيد ،فتوعد هللا الكفار
وفتح لهم باب السالمةِ .
ََ ُْ ََ َ
اب أ ِل ٍيم﴾ ومن أراد السالمة منهم فإن له بابا وهو أن يؤمن ويترك الكفر،
﴿فب ِشرهم ِبعذ ٍ
فإذا آمن وترك الكفر سلم من العذاب الشديدِ .
172
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
173
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
كما أن فيها بيان أن الدنيا مزرعة اآلخرة ،وأن ما يزرعه اإلنسان اليوم يحصده غدا ،فمن
أحسن فلنفسه ومن أساء فعليهاِ .
كما أن فيها أن ما يراه اإلنسان في نفسه وفي الكون املحيط به يدل على وجود هللا ،فال
يمكن أن توجد أنت أيها اإلنسان لوحدك ،أنت فقط أنت بنفسك ،ال يمكن أن توجد على
هذا النظام العجيب بغير موجد ،كما يقول بعض املخذولين :صدفة ،ما يمكن ،لو كان
صدفة لوجدنا واحدا نجد أنفه فوق رأسه وواحد عين في الجبهة وعين في الذقن ،إضافة
إلى ما أعجز العلماء عبر القرون مما في داخل اإلنسان من أجهزة عجيبة فإنها تدل على أنه
البد أن لك من موجد ،ما يمكن ،وأنت تعلم يقينا أنك لم توجد نفسك ،وأنك لم يوجدك
أحد من الناس ،فتعلم يقينا أن الذي أوجدك هو هللا سبحانه وتعالىِ .
وكذا الكون من حولك :هذا النهار والليل والشمس والقمر والنجوم والحر والبرد كلها دالة
على وجود هللا سبحانه وتعالى وعلى قدرته ،فالذي يميتك املوتة الصغرى بالنوم؛ النوم ال
تستطيع أن تجلبه وال تستطيع أن تدفعه إن هجم عليك ،ولذلك الناس الذين يقول ِونِ:
نومي بيدي ،هذا غلط ،هللا عز وجل هو الذي يجعلك تنام ،ولو شاء ما استطعت النوم
ىِ .
ويأتيك النوم ويغلبك ،قد ال تريد أن تنام لكن تنام هذه املوتة الصغر ِ
والذي يحييك من نومك قادر على أن يميتك ويبعثك ،وقد أراك شيئا من الجزاء في الدنيا
فأنت تعمل العمل الصالح فتجد راحة في قلبك في ذلك اليوم ،تجد أنك مرتاح ،تصلي
الليل فترتاح في النهار ،تصلي الفجر فتجد نشاطا في يومك ،وقد يأتيك من هللا ما يأتيك
وأنت في الدنيا ،فأراك أنك تجازى على عملك ،هذا في الدنيا فكيف في اآلخرةِ .
فهذه السور التي قرأناها وقرأنا تفسيرها فيها هذه الحقيقة العظمى ،وهو أن كل ما نراه في
أنفسنا وفي الكون وفي اْلرض وفي السماء يدلنا على وجود هللا وعلى أنه سبحانه املدبر وعلى
أنه على كل ش يء قدير ،وما دام ذلك كذلك فإنه املستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالىِ .
فهذه الحكم الكلية والفوائد الكبرى في هذه اآليات التي قرأنا تفسيرهاِ .
ِ
ِ
174
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
ِِ
175
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة البروج
بسم هللا الرحمن الرحيم:
ص َح ُ
اب الس َماء َذات ْال ُب ُروج (َ )1و ْال َي ْوم ْاْلَ ْو ُعود (َ )2و َشاهد َو َم ْش ُهود (ُ )3قت َل َأ ْ ﴿و َّ َ
ِ ٍ ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َ ْ َ ُ َن ْ ُ ْ َ ُ ٌ ُ َ َ ُ ْ ُ ْ
النار َذات ال ََّ ُْ
اْل ْخ ُ
ود (ِ )5إذ ه ْم عل ْي َها ق ُعود (َ )6وه ْم على ما يفعلو ِباْلؤ ِم ِنين ِ ق و ِ ِ ) 4 ( ود
ِ د
َّ َ ْ َّ ْ َ ْ َ ُْ ُ َ َ َ َ َ ُ ْ ْ َّ ُ ٌ
يد ( )8ال ِذي ل ُه ُمل ُك ش ُهود ( )7وما نقموا ِمن ُهم ِإال أن يؤ ِمنوا ِبالل ِه الع ِز ِيز الح ِم ِ
َّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ ٌ ُ َ َ َّ ُ َّ َ َ َ ْ َ
ات ث َّمض ۚ والله على ك ِل ش ْي ٍء ش ِهيد (ِ )9إن ال ِذين فتنوا اْلؤ ِم ِنين واْلؤ ِمن ِ اْل ْ
ات و ِ
ر السماو ِ
ُ َّ َّ َ ُ َ ْ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ
ين َآمنوا َو َع ِملوا اب ال َح ِر ِيق (ِ )10إن ال ِذ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذ
َْ ُ َْ َْ َ َّ َ َ ُ ْ َ َّ ٌ َ
ات ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار ۚ ذلك الف ْوز الك ِب ُير ([ ﴾)11البروج.]11-1 : ات لهم جن الص ِالح ِ
في هذه السورة املكية باتفاق العلماء يقسم هللا عز وجل بالسماء ذات النجوم وذات
املنازل للكواكب املعروفة ،وذات الخلق الحكيم والشدة واإلحكام ،وبيوم القيامة الذي هو
اليوم املوعود بزمانه الذي ال يعلمه إال هللا ،وبما فيه من أهوال وأحوال ،والذي وعد أهل
اْلرض والسماء باالجتماع فيهِ .
وبالشاهد بكل حق في الدنيا واآلخرة ،فاهلل شاهد وكفى باهلل شهيدا ،واملالئكة الكرام
يدا﴾ [النساء: شاهدون ،ومحمد صلى هللا عليه وسلم شاهد ﴿ َوج ْئ َنا ب َك َع َل ٰى َٰه ُؤَالء َشه ً
ِ ِ ِ ِ
ُ ُ َّ َ َْ َ ََْ َ
يد﴾ ،]41واْلنبياء عليهم السالم شهود على أممهم ﴿فكيف ِإذا ِجئنا ِمن ك ِل أم ٍة ِبش ِه ٍ
َْ ُ ُ ً َ َٰ
[النساء ،]41 :وأمة محمد صلى هللا عليه وسلم تشهد على اْلمم ﴿ َوكذ ِل َك َج َعلناك ْم أ َّمة
َ َ ً َ ُ ُ ُ َ َ َ َ َ َّ
اس﴾ [البقرة ،]143 :وأعضاء اإلنسان تشهد عليه يوم ِ الن وسطا ِلتكونوا شهداء على
َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َْ ْ َْ َُُ ْ َ َْ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُ َ
ر ن
القيامة ﴿يوم تشهد علي ِهم أل ِسنتهم وأي ِد ِيهم وأرجلهم ِبما كانوا يعملو ﴾ [النو ِ،]24 :
ويوم الجمعة يشهد ْلهله ،والحجر اْلسود يشهد ملن استلمه بحق يوم القيامة ،وكل شاهد
بالحق يدخل في هذا القسم العظيمِ .
ويقسم هللا عز وجل باملشهود وهو يوم القيامة ،وكل يوم مشهود في الدنيا كيوم عرفةِ ،وكل
مشهود عليه في الدنيا واآلخرةِ .
ُ ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
اب اْلخ ُد ِود﴾ [البروج ،]4 :لقد لعن وأهلكوجواب هذه اْلقسام العظيمة ﴿ق ِتل أصح
وعذب أصحاب اْلخدود الذين حفروا في اْلرض شقا عظيما مستطيال ،وأوقدوا فيه نارا
176
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
شديدة أشعلوها بالحطب ،وازداد اشتعالها بأجساد املؤمنين حيث قذفوا فيها ،فاتقدت
وعظمت نارهاِ .
ومن عظيم جرمهم وقسوة قلوبهم أنهم قعدوا على النار ،فقعدوا عند أطرافها ،ووقفوا
عليها يشهدون املؤمنين وهم يحترقون ،وينظرون إليهم وهم يحترقون في النار كبارا وصغارا،
نساء ورجاال ،وهذا يدل على شدة كفرهم ،وقسوة قلوبهم ،وانحرافهم عن الفطرة بالكلية،
فإن اإلنسان ال يطيق أن ينظر إلى من يحترق في النار ولو كان من أعداءه ،فكيف
بالجماعات من الصغار والكبار والرجال والنساء؟! ِ
َّ
مع أن أولئك املعذبين بتلك النار ما أجرموا جرما ،وال اقترفوا ذنبا ،فإنهم ما عذبوهم لذنب
قد اقترفوه ،وال جرم قد فعلوه ،وإنما عذبوهم على ما يمدحون به حيث آمنوا باهلل عز
وجل الذي له العزة املطلقة ،واملحمود على كل حال سبحانه ،وذلك ملا رأوا اآليات البينات،
ومنها :الغالم الذي آمن باهلل عز وجل ،فأراد امللك الطاغية الجبار أن يقتله ،فلم يتمكن من
قتله ،وكلما سعى إلى قتله نجا ذلك الغالم من بطشه ،حتى قال له الغالم :إنك لست
بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ،قال :وما هو؟ قال :أن تجمع الناس على صعيد واحد،
وتصلبني في جذع ،وتأخذ سهما من كنانتي ،وتقو ِل :باسم رب هذا الغالم وترميني به ،فإن
برب الغالم ،آمنا برب
فعلت فإنك قاتلي ،ففعل ذلك ،فمات الغالم ،فقال الناس :آمنا ِ
الغالم ،آمنا برب الغالم ،فانقلب الكيد على ذلك امللك الجبار ،وآمن الناس ،فأمر ذلك
امللك بأن ُيحفر شق عظيم في أفواه السكك ،وأن يرمى فيه الحطب الكثير ،وأن توقد فيه
النار ،وأمر بجمع الناس ،وقال للناس :من رجع منكم عن دينه تركناه ،ومن بقي على دينه
أحرقناه ،وأمر غلمانه وجنوده بأن من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها ،واقذفوه فيها ،فأخذ
املؤمنون يتعادون إلى تلك النار ،ويتدافعون فيها ،وجعل غلمانه يلقون في ذلك اْلخدود،
ووقفوا عند جوانب النار ينظرون إلى املؤمنين وهم يحترقون في تلك النارِ .
ولم يخف أولئك الكفار املتجبرون ربهم سبحانه وتعالى الذي له ملك السماوات واْلرض،
فهو يملكهم ويملك غيرهم ،ويدبرهم ويتصرف فيهم ،وهو املطلع على كل ش يء ،يعلم ويسمع
ويبصر ،ال يخفى عليه ش يء في اْلرض وال في السماء ،وكفى به شهيداِ .
177
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فأولئك املتجبرون مملوكون له سبحانه وتعالى ،وهو مطلع على ما يفعلون باملؤمنين ،ومع
ذلك ال يخافونه ،ويقتلون أولياءه ويعذبونهم بهذا العذاب الشديدِ .
ثم توعد هللا الذين يعملون على صرف املؤمنين عن دينهم ،وعلى فتنة املسلمين عن دينهم
بشتى اْلساليب ومنهم أولئك الجبارون أصحاب اْلخدود بأن لهم العذاب الشديد املحرق في
نار جهنم وبئس املهادِ .
إال من تاب منهم بعد جرمه ،وأناب إلى هللا ،وأسلم وآمن ،فإن اإلسالم ُ
يج ُّب ما كان قبله،
وسبحان هللا! إذا كان هللا عز وجل يقبل توبة هؤالء املجرمين ،بل ويحثهم على التوبة،
ويفتح لهم باب الرجوع ،ال شك أن من كان دونهم أقرب إلى هذا ،وأقرب إلى أن يتوب هللا
عز وجل عليه إن صدق في توبته ،فإن هللا يغفر الذنوب جميعاِ .
ثم ملا ذكر هللا عز وجل عقاب أعدائه املتكبرين املتجبرين ،ذكر ثواب عباده الصالحين
الذين آمنوا باهلل ومالئكته وكتبه ورسله وباليوم اآلخر والقدر خيره وشره من هللا تعالى،
إيمانا مع إذعان وانقياد ،وعملوا الصالحات بإخالص هلل واتباع لرسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،بشرهم ربهم بأن لهم جنات وليس جنة واحدة ،وكل جنة منها فيها من النعيم ما ال
عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب بشرِ .
ومن نعيم أهلها أن اْلنهار من املاء الصافي العذب البارد ،والعسل املصفى ،والخمر املصفى
من كل ما يضر ،واللبن الذي لم يتغير طعمه تجري من تحت قصورهم ،ومن تحت
بساتينهم ،ومن بين أيديهم من غير أخاديد تحدها ،بل تجري حيث يشتهون ،وال تفيض على
أهلها ،وال تخطؤ طريقها ،يتنعمون برؤيتها تجري من تحتهم ،ويتنعمون بالشرب منها شرابا
سائغا لذة للشاربينِ .
وذلك الفوز بالجنة هو الفوز الكبير العظيم الذي ال يدانيه فوز ،وال يقاربه فوز ،فهو
الفوز الدائم الذي ال ينقطع ،الذي يتحقق به املطلوب في أعلى درجاته ،ويسلم به من
املرهوب في كل ألوانه ،ومن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز الفوز العظيمِ .
178
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمة التي فيها أكبر العبر،
وأعظم املواعظ ملن قرأ وتدبر ،وراجع وتفكر ،وينبغي أن يكون لها أكبر اْلثر وأعظم الوقع
على قلوب املؤمنينِ .
تيسير
ِ ثم نعود إلى التفسير التفصيلي لآليات ،حيث نقرأ من هذا الكتاب البديع النافع
الكريم الرحمن في تفسير كالم املنان ،لإلمام املفسر الفقيه اْلصولي املتفنن عبد الرحمن بن
ناصر السعدي رحمه هللا عز وجل وسائر علماء املسلمينِ .
َ َّ َ َ
ات
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى قال تعالى﴿ :والسم ِاء ِ
ذ
وج﴾ أي :ذات اْلنازل اْلشتملة على منازل الشمس والقمر والكواكب اْلنتظمة في ْال ُب ُ
ر
ِ
سيرها على أكمل ترتيب ونظام ،دالة على كمال قدرة هللا تعالى ،ورحمته ،وسعة علمه
وحكمته.
الس َم ِاء﴾ الواو للقسم ،والسماء معروفة ،وكل ما عالك فهو سماء ،واملقصود بالسماء ﴿ َو َّ
هنا السماء املعهودة املعروفة املوصوفة بأنها صاحبة البروجِ .
َ
ات﴾ بمعنى صاحبةِ . ﴿ذ ِ
وج﴾ قال كثير من اْلفسرين :أي املنازل التي تسير فيها الكواكب املعروفة ،وهي اثنا ر ﴿ ْال ُب ُ
ِ
عشر كوكبا ،أو اثنا عشر برجا ،لكل فصل منها ثالثة أبراجِ .
وقال بعض أهل العلم :البروج هي النجوم كلها ،فمعنى ذات البروج صاحبة النجوم
والكواكبِ .
وكل هذا مراد ،فالسماء ذات النجوم الكثير وذات املنازل للكواكب املعروفة التي يعرفها
الناس ،وفي ذاك إحكام للخلق ونظام عجيب ،وذلك دال على وجود هللا ،وعلى قدرة هللا
وعلى تدبير هللا ،فإنه ال يمكن للسماء أن تخلق نفسها وأبراجها وما فيها ،وال يمكن ملخلوق
أن يخلقها ،فخالقها ومدبرها بهذا النظام العجيب هو هللا سبحانه وتعالى ،وما دام ذلك
كذلك فإنه املستحق للعبادة ،ال يستحق أحد العبادة من دونه سبحانه وتعالىِ .
ود﴾ وهو يوم القيامة الذي وعد هللا الخلق أن يجمعهم فيه ،ويضم فيه َ ْ َ ْ َْْ ُ
﴿واليو ِم اْلوع ِ
أولهم وآخرهم ،وقاصيهم ودانيهم ،الذي ال يمكن أن يتغير ،وال يخلف هللا اْليعاد.
179
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ََ ْ َ َ
اه ٍد ومش ُه ٍ
ود﴾ وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف ،أي :مبصر ومبصر، ﴿وش ِ
وحاضر ومحضور ،ور ٍاء ومرئي).
هذا هو أوسع معنى لآلية ،فيدخل فيه جميع املعانيِ .
املخبر عن أعمال غيرهِ . َ
وقال بعض اْلفسرين :املشهود هو املخبر عن أعماله ،والشاهد هو ِ
وقال بعض اْلفسرين :املشهود يوم عرفة ،والشاهد يوم الجمعة ،وقد جاء في الحديث أن
النبي صلى هللا عليه وسلم قال(( :اليوم اْلوعود يوم القيامة واْلشهود يوم عرفة
والشاهد يوم الجمعة)) ،رواه الترمذي وحسنه اْللباني ،واختار هذا التفسير شيخنا الشيخ
ابن باز رحمه هللا عز وجل ،وقال :إنه أحسن ما قيل في تفسير هذه اآليةِ .
وقال بعض اْلفسرين :يدخل فيها كل شاهد وكل مشهودِ .
وهذا اْلرجح ،فإن معاني القرآن واسعة ،فيدخل في هذا القسم كل مشهود ،سواء كان
بحضوره ،أو باعتباره ،أو بكونه ُيشهد عليه ،ويدخل في هذا كل شاهد بالحق في الدنيا
واآلخرةِ .
َ
واْلقسم عليه ما تضمنه هذا القسم من آيات هللا الباهرة ،وحكمة قال رحمه هللا:
ُ ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
الظاهرة ،ورحمته الواسعة ،وقيل :إن اْلقسم عليه قوله﴿ :ق ِتل أصحاب اْلخد ِود﴾.
يعني أن جواب القسم هو ما تضمنه هذا القسمِ .
َ ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
َّ
مضمنا في اب اْلخ ُد ِود﴾ خبر مستأنف ،فيكون جواب القسم وقول هللا﴿ :ق ِتل أصح
ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
اب اْلخ ُد ِود﴾ فهذا خبر جديد مستأنفِ . القسم ،وأما قول هللا عز وجل﴿ :ق ِتل أصح
وقال بعض العلماء :إن جواب القسم متروك ،لم يذكر ،يقدره السامع ،وقال بعض
ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
اب اْلخ ُد ِود﴾ كما قال الشيخِ .املفسرين :جواب القسم ﴿ق ِتل أصح
ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
اب اْلخ ُد ِود﴾ وهذا دعاء عليهم بالهَّلك.﴿ق ِتل أصح
ُ
﴿ق ِت َل﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني لعن ،وكل قتل في القرآن فهي بمعنى لعنِ .
وقال بعضهم :أهلك وعذب ،وكلها معان صحيحة مرادة هنا ،وهوِ :
-إما دعاء عليهم باللعن والهالك والتعذيبِ .
180
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-وإما خبر بما وقع عليهم ،وهو أنه قد وقعت عليهم لعنة هللا وأهلكوا وعذبوا في الدنيا
واآلخرةِ .
واْلقرب كونه خبرا ،وأن هذا اْلمر قد وقع عليهمِ .
قال :واْلخدود الحفر التي تحفر في اْلرض.
اْلخدود هو الشق العظيم الذي يحفر في اْلرض ويكون مستطيالِ .
قال :وكان أصحاب اْلخدود هؤالء قوما كافرين ،ولديهم قوم مؤمنون ،فراودوهم على
الدخول في دينهم ،فامتنع اْلؤمنون من ذلك ،فشق الكافرون أخدودا في اْلرض ،وقذفوا
فيها النار ،وقعدوا حولها ،وفتنوا اْلؤمنون وعرضوهم عليها ،فمن استجاب لهم
أطلقوه ،ومن استمر على اإليمان قذفوه في النار ،وهذا غاية اْلحاربة هلل ولحزبه
ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
اب اْلخ ُد ِود﴾.اْلؤمنين ،ولهذا لعنهم هللا ،وأهلكم وتوعدهم ،فقال﴿ :ق ِتل أصح
وعلى هذا الرأي يكون أصحاب اْلخدود هم أولئك الكفار الذين حفروا ذلك الشقَّ ،
وحرقوا
املؤمنين فيه ،وهذا قول أكثر املفسرينِ .
وقال بعص اْلفسرين :أصحاب اْلخدود هم أولئك املؤمنون الذين ُعذبوا بالنار في ذلك
اْلخدودِ .
ُ
فمعنى ﴿ق ِت َل﴾ أي :قتل أولئك الكفار أصحاب اْلخدود بتلك الطريقة البشعة ،حيث
حفروا شقا في اْلرض ،وأضرموا فيه النار ،وألقوا فهي املؤمنينِ .
وهذا وهللا أعلم مرجوح ،وقول اْلكثر هو اْلقرب واْلظهر ملا بعده من اآلياتِ .
ُ َ َ ْ َ ُ ُْْ
اب اْلخ ُد ِود﴾ ،ثم فسر اْلخدود ولهذا لعنهم هللا وأهلكهم وتوعدهم فقال﴿ :ق ِتل أصح
ْ ُ َ ُْْ َ النار َذات ْال َو ُقود ( )5إ ْذ ُه ْم َع َل ْي َها ُق ُع ٌَّ
ود (َ ﴿ )6و ُه ْم على َما َيف َعلون ِباْلؤ ِم ِنين ِ ِ ِ بقولهِ ﴿ :
ود﴾ (.﴾)7 ُش ُه ٌ
َُْ َّ َ
ود﴾ بدل اشتمال ،بدل من اْلخدود ،بدل اشتمال ،واملعنى :املشتمل على ات الوق ِ ﴿الن ِار ذ ِ
النار ،ولذلك يقول العلماء :هذا بدل اشتمال ،بدل من اْلخدود بدل اشتمالِ .
َُْ َّ َ
ود﴾ أي :النار صاحبة الوقود ،أي :ذات الحطب الكثير املشتعلِ . ات الوق ِ ﴿الن ِار ذ ِ
181
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
182
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ
اْل ْ
ض ۚ﴾ خلقا وعبيدا يتصرف فيهم بما يشاء.
ات و ِ
ر ﴿ال ِذي له ملك السماو ِ
ومنهم أولئك املجرمون الذين فعلوا باملؤمنين ما فعلواِ .
يد﴾ علما وسمعا وبصرا. الل ُه على ُكل َش ْيء َشه ٌ
َ َّ
﴿و
ٍ ِ ِ
معنى شهيد أنه مطلع على كل ش يء ،ال يخفى عليه ش يء سبحانه وتعالى ،فهو مطلع على كل
ش يء بعلمه وسمعه وبصره سبحانه وتعالى ،ال يخفى عليه ش يء ،وال يختلط عليه ش يء
بش يء سبحانه وتعالى ،وهذا تهديد للكفار جميعاِ .
قال :أفَّل خاف هؤالء اْلتمردون عليه أن يأخذهم العزيز اْلقتدرَ ،أو َما علموا أنهم
مماليك هلل؟ ليس ْلحد على أحد سلطة من دون إذن اْلالك؟ َأو خفي عليهم أن هللا
محيط بأعمالهم مجازيهم عليها؟
كَّل؛ إن الكافر في غرور ،والجاهل في عمى وضَّلل عن سواء السبيل.
َّ َّ َ َ َ ُ ْ ُ ْ َ
ين فتنوا اْلؤ ِم ِنين ثم أوعدهم هللا ووعدهم وعرض عليهم التوبة فقالِ ﴿ :إن ال ِذ
َ ْ ُ ْ َ ُ َّ َ ْ َ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ
اب ال َح ِر ِيق﴾؛ أي :العذاب الشديد ات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذ واْلؤ ِمن ِ
اْلحرق ،قال الحسن رحمه هللا :انظروا إلى هذا الكرم والجود ،قتلوا أولياءه وأهل
طاعته ،وهو يدعوهم إلى التوبة.
َّ َّ َ َ َ ُ
ين فتنوا﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني إن الذين اجتهدوا في صرف املسلمين عن ﴿ ِإن ال ِذ
دينهم بشتى السبل ،ومنها تعذيبهم وإحراقهمِ .
َّ َّ َ َ َ ُ
ين فتنوا﴾ أي :أحرقوا وأدخلوا املؤمنين في النار، وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ ِإن ال ِذ
يقال :فتن الذهب إذا أدخله في النار ،فهو من هذا املعنىِ .
واْلولى حمله على املعنى اْلوسع الذي هو اْلول ،الذي يشمل كل من يسعى لصرف
املسلمين عن دينهم في كل زمان ومكان ،ما مض ى قبل نزول القرآن ،وما يلحق بعد نزول
القرآن ،فإنهم يدخلون في هذا الوعيد الشديدِ .
وبوا﴾ انظر كيف أن هللا عز وجل دعاهم إلى التوبة ،وأخبرهم أنهم إن تابوا﴿ ُث َّم َل ْم َي ُت ُ
سلموا ،وإن كانوا قد أجرموا ،فاهلل ال يغلق الباب أمام أحد مهما بلغ إجرامه ،فإنه إن
أقبل على هللا أقبل هللا عليه ،وإن أناب إلى هللا قبله هللا ،بل وفرح بهِ .
183
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ
اب ال َح ِر ِيق﴾ قال بعض اْلفسرين :أي :لهم العذاب املحرق﴿فلهم عذاب جهنم ولهم عذ
شديدة العذابِ .
ِ في جهنم
وقال بعض اْلفسرين :فلهم عذاب جهنم في يوم القيامة ،ولهم عذاب الحريق في الدنيا،
فعذبهم هللا في الدنيا بإحراقهم جزاء وفاقا لفعلهم باملؤمنينِ .
وقد ذكر بعض السلف أن النار التي أحرقوا بها املؤمنين خرجت من اْلخدود عليهم
فأحرقتهم ،وهذا اختاره بعض املفسرين كابن جرير الطبري ،ونقله عن ابن عباس رض ي هللا
عنهما ،وال تعارض بين املعنيين ،فلهم عذاب محرق في جهنم ،وأحرقهم هللا عز وجل بالنار
في الدنياِ .
َّ َّ َ ُ
ين َآمنوا﴾قال رحمه هللا :وْلا ذكر عقوبة الظاْلين ذكر ثواب اْلؤمنين ،فقالِ ﴿ :إن ال ِذ
َّ َ َ َ ُ
ات﴾ بجوارحهم.بقلوبهم﴿ ،وع ِملوا الص ِالح ِ
إن الذين ءامنوا بقلوبهم ،وعملوا الصالحات بجوارحهم ،وعملهم من إيمانهم ،فالعمل
الصالح من اإليمان ،فذكره بعد اإليمان من باب ذكر الخاص بعد العام ،كما قال هللا عز
وح ِف َيها﴾ [القدر ،]4 :فالروح الذي هو جبريل من املالئكة عليهم الر ُ وجلَ ﴿ :ت َن َّز ُل ْاْلَ ََّل ِئ َك ُة َو ُّ
السالم ،وال يعني هذا أن الروح ليس من املالئكةِ .
ُ
فكذلك هنا العمل الصالح من اإليمان ،وذكر بعد اإليمان من باب ذكر الخاص بعد العامِ .
َْ ُ َْ َْ َ َ ُ ْ َ َّ ٌ َ
ات ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار ۚ ذألك الف ْوز الك ِب ُير﴾ الذي حصل لهم الفوز برضا ﴿ ل ه م جن
هللا ودار كرامته.
﴿ َل ُه ْم َج َّن ٌ
ات﴾ الجنات في اللغة :هي البساتين كثيرة اْلشجار ،التي تستر ما بداخلها لكثرة
أشجارها ،وهي كذلك في اآلخرة ،أعدها هللا لعباده املتقين ،وجعل فيها من النعيم ما ال عين
رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب بشرِ .
َْ ُ َْ
و﴿الف ْوز الك ِب ُير﴾ هو الفوز العظيم الذي يتحقق به املطلوبُ ،ويسلم فيه من املرهوب،
فهذا هو الفوز الكبيرِ .
ُ ور ْال َو ُد ُ
ود ( )15ذو ش َ ب َك َل َشد ٌيد ( )13إ َّن ُه ُه َو ُي ْبد ُئ َو ُيع ُ
يد (َ )14و ُه َو ْال َغ ُف ُ ﴿إ َّن َب ْط َ
ِ ِ ِ ِ ِ ر ِ
َ َ ْ
ْال َع ْرش اْلج ُ
َ
ال ِْلا ُي ِر ُيد﴾ [البروج.]16-12 : يد ( )16ف َّع ٌ
ِ ِ
184
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يخبر هللا عز وجل أنه غفور ودود ،وأنه شديد العقاب ،عظيم البطش ،وأن بطشه وأخذه
أعداءه وانتقامه منهم شديد قوي أليم ،وفي ذلك تهديد ْلولئك اْلعداء إن لم يتوبوا ،فهو
سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ،وأخذه أخذا شديدا أليما ،وهو سبحانه له
اْلمر كله من قبل ومن بعد ،فهو الذي بدأ اْلشياء كلها ،وإليه تنتهي اْلشياء كلها ،فهو
الخالق ،وهو القابض ،وهو الباعث وهو املعيد سبحانه وتعالىِ .
ومن ذلك أنه إذا شاء عذب أعداءه في الدنيا ،فابتدأهم بالعذاب في الدنيا ،وأعاد عليهم
العذاب يوم القيامة ،وهو أشد وأبقى ،وآلم وأنكى سبحانه وتعالىِ .
ومع كون بطشه شديدا فإن رحمته واسعة ،ومغفرته عظيمة ،فهو ذو املغفرة الذي يستر
الذنوب ،ويسقط عقابها سبحانه وتعالى إن تاب صاحبها منها ،وإن لم يتب منها ولم تكن
شركا فإنه إن شاء غفر ،فستر وأسقط ،وإن شاء عاقب بعدل سبحانه وتعالىِ .
وهو الودود ذو املحبة الخالصة ْلوليائه ،والذي يحبه عباده الصالحون حبا خالصا،
ويقدمون حبه على كل حب ،وهو الذي يتودد إلى عباده بالنعمِ .
وفي قرن الودود بالغفور بشارة للمذنبين التائبين أن ذنوبهم السابقة مهما بلغت ال تمنع
من أن يكونوا أولياء هلل بعد توبتهم ،فليس من شرط الولي أال يسبق واليته ذنب ،أو أال يقع
في واليته ذنب ،ولكن الولي أواب يرجع إلى هللا سبحانه وتعالى ،فقرن هللا الودود بالغفور
ليبشر عباده التائبين أن ذنوبهم السابقة ال تمنع أن يكونوا أولياء هلل ،يحبهم هللا سبحانه
وتعالىِ .
وهو سبحانه له السلطان التام ،فهو صاحب العرش الذي استوى عليه سبحانه ،وهو
أعظم مخلوقاته وأكبرها وأوسعها وأشدها ،وذلك العرش مجيد ،له الغاية في فضل
املخلوقات ،وربه سبحانه املستوي عليه مجيد ،له الكمال املطلق في ذاته ،وفي أسماءه
وصفاته ،وفي سلطانه ،وفي شرعه ،وفي خلقه سبحانه وتعالىِ .
وهو سبحانه فعال ملا يريد ،كثير الفعل ملا يريد كونا وقدرا ،فما أراده كونا وقدرا كانِ .
وهو على كل ش يء قدير ،ال يعجزه ش يء في اْلرض وال في السماء ،وال يمنعه مما أراد مانع
يوحد ،وأن يعبد سبحانه وتعالىِ .سبحانه من عظيم ،وهذا يقتض ي أن َّ
185
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذا املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات املتلوة ،ونعود إلى املعنى التفصيليِ .
َ َ ﴿إ َّن َب ْط َ
ش َرِب َك لش ِد ٌيد﴾ أي :إن عقوبته ْلهل الجرائم والذنوب العظام لقوية شديدة، ِ
وهو للظاْلين باْلرصادِ .
ش َرِب َك﴾ البطش هو اْلخذ واالنتقام والتعذيبِ . ﴿إ َّن َب ْط َ
ِ
َ َ
﴿لش ِد ٌيد﴾ الشديد هو القوي العظيم اْلليم املحيطِ .
ْ ْ
وال َحظ أن الشيخ قال( :أي إن عقوبته ْلهل الجرائم والذنوب العظام لقوية شديدة)
فبطش هللا شديد بمن يستحق البطش ،ففعل ما يستحق به أن ُينتقم منه ،وأن يعذب،
وأن يؤخذ بذلك العمل ،بأن فعله وأصر عليه ،أما من سلم من الذنب فلم يذنب ،فإن هللا
ال يبطش به ،ومن أذنب فتاب فإن هللا ال يبطش بهِ .
إذن إن بطش ربك لشديد بمن يستحق البطش ،أما من ال يستحق البطش فإنه داخل في
الرحمة الواسعة وفي املغفرة من هللا سبحانه وتعالىِ .
َ ٌَ َ َ َ َ ُْ َ َ َٰ َ ْ ُ
﴿وكذ ِل َك أخذ َرِب َك ِإذا أخذ الق َر ٰى َو ِه َي ظ ِاْلة ۚ ِإ َّن وهو للظاْلين باْلرصاد ،قال هللا تعالى:
َ ْ َُ َ ٌ َ
يم ش ِد ٌيد﴾ [هودِ .]102 : أخذه أ ِل
يد﴾ أي :هو اْلنفرد بإبداء الخلق وإعادته ،فَّل يشاركه في ذلك ﴿إ َّن ُه ُه َو ُي ْبد ُئ َو ُيع ُ
ِ ِ ِ
مشارك.
َّ
وقال بعض اْلفسرينِ ﴿ :إن ُه ُه َو ُي ْب ِد ُئ﴾ أي :يبتدئ الكفار بالعذاب في الدنيا ،فيعذب من
شاء أن يعذبه منهم في الدنيا ،كما حدث مع قوم نوح وفرعون وثمود كما سيأتي إن شاء
هللاِ .
يد﴾ أي :أنه يعيد لهم العذاب يوم القيامة ،وعذاب اآلخرة أشد وأبقى وأعظم وأنكىِ . ﴿ َو ُيع ُ
ِ
وهذا في الحقيقة نوع من أنواع املراد ،فيدخل في ذلك كل ما ذكرناه في التفسير املوضوعي
اإلجماليِ .
﴿ َو ُه َو ْال َغ ُف ُ
ور﴾ الذي يغفر الذنوب جميعها ْلن تاب ،ويعفو عن السيئات ْلن استغفره
وأناب.
186
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فالغفور هو كثير املغفرة ،الذي يستر الذنب ،ويسقط العقوبة ،الغفور هو كثير املغفرة،
واملغفرة :يا إخوة ستر الذنب وإسقاط العقوبة ،فال فضيحة وال عقوبة ،فيستر ويسقط
سبحانه وتعالىِ .
ود﴾ الذي يحبه أحبابه محبة ال يشبهها ش يء. ﴿ ْال َو ُد ُ
187
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال :وإن لم تكن غيرها تبعا لها كانت عذابا على أهلها ،وهو تعالى الودود الواد ْلوليائه
َ
﴿ي ِح ُّب ُه ْم َو ُي ِح ُّبون ُه﴾ [املائدة ،]54 :واْلودة هي اْلحبة الصافية.
كما قال تعالىُ :
وهنا ذكر املعنى الثاني للودود ،وهو أن هللا يود ويحب سبحانه وتعالى ،وكلها مرادة كما قلنا
يتودد ،كلها داخلة في الودودَ :يود ُويود ويتودد سبحانه وتعالىِ .
قال رحمه هللا تعالى :وفي هذا سر لطيف حيث قرن الودود بالغفور؛ ليدل ذلك على أن
أهل الذنوب إذا تابوا إلى هللا وأنابوا غفر لهم ذنوبهم ،وأحبهم ،فَّل يقال :تغفر لهم
ذنوبهم وال يرجع إليهم الود كما قاله بعض الغالطين ،بل هللا أفرح بتوبة عبده حين
يتوب من رجل على راحلته عليها طعامه وشرابه وما يسطحه ،فأضلها في أرض فَّلة
مهلكة ،فأيس منها ،فاضطجع في ظل شجرة ينتظر اْلوت ،فبينما هو على تلك الحال،
إذا راحلته على رأسه فأخذ بخطامها ،فاهلل أعظم فرحا بتوبة العبد من هذا براحلته،
وهذا أعظم فرح يقدر.
قرب بهذا املثال ،كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى هللا عليهِّ
يعني أن هذا الفرح ِ
وسلمِ .
فلله الحمد والثناء وصفو الوداد ما أعظم بره ،وأكثر خيره ،وأغزر إحسانه ،وأوسع
امتنانه.
يد﴾ أي :صاحب العرش العظيم الذي من عظمته أنه وسع السماوات ﴿ ُذو ْال َع ْرش ْاْلَج ُ
ِ ِ
واْلرض والكرس ي ،فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فَّلة بالنسبة لسائر اْلرض،
وخص هللا العرش بالذكر لعظمته؛ وْلنه أخص اْلخلوقات بالقرب منه تعالىِ .
ُ ﴿ ُذو ْال َع ْ
ش﴾ العرش في اللغة :سرير املــلك ،سرير امللك يسمى عرشاِ .
ِ ر
ولربنا سبحانه وتعالى عرش عظيم يحمله ثمانية ،أحدهم ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه
مسيرة سبعمائة عام ،وهذا يدلك على عظمة العرش ،فالعرش يحمله من املالئكة ثمانية،
أحدهم ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام ،وله قوائم -أعني العرش -وهو
سقف الفردوسِ .
188
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ ُ ْ َ ْ َْ
واملجيد من املجد ،واملجد يد﴾ بقراءة الكسر على أن هذا وصف للعرش،
ش اْل ِج ِ
﴿ذو العر ِ
هو الغاية في الكرم والفضل ،وسعة الصفات وعظمهاِ .
فعرش ربنا له الكمال في فضل املخلوقات ،وهو عظيم الصفات ،من عظمته أنه وسع
السماوات واْلرض والكرس ي ،فهي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فالة ،قال تعالىَ ﴿ :و ِس َع
ُ ْ ُّ ُ َّ َ َ َ ْ َ
اْل ْر َ
ض ۖ﴾ [البقرةِ .]255 : ات و
كر ِسيه السماو ِ
وقد صح عن ابن عباس رض ي هللا عنهما موقوفا عليه أن الكرس ي موضع القدمين ،وأن
العرش ال يقدر قدره إال هللا ،صح هذا عن ابن عباس موقوفا ،أما املرفوع فضعيفِ .
وقال النبي صلى هللا عليه وسلم(( :ما السماوات السبع في الكرس ي إال كحلقة ملقاة
بأرض فَّلة ،وفضل العرش على الكرس ي كفضل تلك الفَّلة على تلك الحلقة)) ،وذكره
اْللباني في الصحيحة ،فهذا يدل على عظمة العرش ومجدهِ .
قال :وهذا على قراءة الجر يكون اْلجيد نعتا للعرش ،وأما على قراءة الرفع فإنه يكون
نعتا هلل ،واْلجد سعة اْلوصاف وعظمتها.
على قراءة الرفع في املجيد ﴿ ُذو ْال َع ْرش ْاْلَج ُ
يد﴾ فإن هذا اسم هلل ،ووصف هلل سبحانه ِ ِ
ِوتعالى ،وكما قلنا املجد هو الغاية في الكرم والفضل ،وسعة اْلوصاف وعظمها ،فاهلل عز
وجل هو املجيد الكامل في ذاته ،والكامل في صفاته ،والكامل في سلطانه ،والكامل في
شرعه ،والكامل في خلقه سبحانه وتعالىِ .
َّ
سمعيتان ،وكال املعنيين صحيح ،فالعرش مجيد ،وربه مجيد، وكال القراءتين صحيحتان
ومجد هذا يليق باملخلوق ،ومجد ربنا هو املجد املطلق والكمال املطلقِ .
َ َّ ٌ َ
ال ِْلا ُي ِر ُيد﴾ أي :مهما أراد شيئا فعله ،إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ،وليس ﴿فع
أحد فعاال ْلا يريد إال هللاِ .
أي مهما أراد شيئا كونا وقدرا؛ ْلن إرادة هللا نوعانِ :
-إرادة كونية قدرية إيجاديةِ .
-وإرادة شرعية أمريةِ .
189
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
واملراد باإلرادة هنا اإلرادة الكونية القدرية اإليجادية ،فمهما أراد شيئا كونا وقدرا فعله ،إذا
أراد شيئا قال له :كن ،فيكونِ .
يعني العامة يقولون بين الكاف والنون ،ال؛ ليس بين الكاف والنون؛ ْلن البينية تقتض ي
التوسطِ ،وإنما بكن تكون ،ما نقول :أمر هللا وخلق هللا بين الكاف والنون ،نقول :أمر هللا
مع كن ،فإذا قال هللا كن كانِ .
قال الشيخ( :وليس أحد فعاال ملا يريد إال هللا)؛ ْلنه ليس ْلحد إرادة مطلقة إال هللا،
اإلنسان له إرادة ،لكنها تحت إرادة هللا ،ولن يريد إال ما أراده هللا سبحانه وتعالى ،فليس
ْلحد من الخلق إرادة مطلقة ،اإلرادة املطلقة لرب الخلق سبحانه وتعالى ،هلل ،وأما كل
مخلوق فمهما بلغت قوته ،ومهما بلغت عظمته بالنسبة للمخلوقات ،فإنه ليست له إرادة
مطلقة ،وليس كل فعل له يبنى على إرادته ،فقد يفعل ما ال يريد ،وقد يريد وال يفعل،
اإلنسان قد يفعل ما ال يريد ،يأتيه مثال الخارج من السبيلين ،هو ال يريده ،لكن يفعل ،وقد
يريد شيئا ،ولكنه ال يفعله ِ .
فالفعال ملا يريد هو ذو اإلرادة املطلقة سبحانه وتعالى ،ربنا سبحانه وتعالىِ .
كثير الفعل ملا يريد
وفعال تدل على الكثرة ،فال يفعل بعض اْلشياء التي يريدها ،بل هو ِ
كونا وقدرا ،وهو سبحانه إن أراد كونا وقدرا فعل بقوله :كن ،فهو الغني القديرِ .
أما املخلوق فإنه إذا أراد شيئا البد أن ُيعان عليه ،كل اْلشياء ال يمكن أن يفعلها املخلوق
إال إذا أعانه هللا ،وقد يحتاج إلى عون مخلوق مثله ،وال يستطيع أن يفعل ما يريد إال إذا
أعانه مخلوق مثلهِ .
وهذا يدلنا على أن الكمال املطلق والغنى املطلق والقوة املطلقة إنما هي لربنا سبحانه
وتعالى ،أما املخلوق فليست له قوة مطلقة ،وليس له غنى مطلق ،فهو فقير وإن استغنىِ .
قال :فإن اْلخلوقات ولو أرادت شيئا فإنه البد إلرادتها من معاون وممانع ،وهللا ال
معاون إلرادته ،وال ممانع له مما أراد.
190
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فال يمنعه مما أراد مانع ،وإذا أراد شيئا قال له :كن ،فيكون ،فال يمتنع وال يمانع ،ال يمتنع
َ
ما أراده ،وال يمانع سبحانه مما أراده ،وإذا أراد شيئا فإنما يقول له :كن فيكون ،فهو
الفعال ملا يريدِ .
وفي هذا وعيد شديد ْلعدائه الذين يكذبون رسله ،ويعادون عباده الصالحينِ .
َْ ُ َ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ََ
ن َ ْ ََ َ َ ُ ْ ُ ُ
يب ()19 ود (ِ )17فرعو وثمود ( )18ب ِل ال ِذين كفروا ِفي تك ِذ ٍ ﴿هل أتاك ح ِديث الجن ِ
ُْ َْ ٌ َ ُ َ ُ ٌ ٌ ََ َ َّ ُ
وظ (ِ .﴾)22 والله ِمن ور ِائ ِهم ُّم ِحيط ( )20ب ْل هو ق ْرآن َّم ِجيد (ِ )21في لو ٍح َّمحف ٍ
في هذه اآليات الكريمات يخاطب هللا عز وجل نبيه صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين تبعا له
تسلية لنبيه صلى هللا عليه وسلم على ما يلقاه من أذى الكفار عندما كان في مكة وما يراه
من إعراضهم ،وتسلية للمؤمنين معه الذين كان الكفار يعذبون أغلبهم ،ويحرصون على
فتنة املسلمين عن دينهم ،وتهديدا ْلعدائه املحاربين لنبيه وْلوليائه املؤمنين وبيانا لسنته
َ ْ ََ َ َ ُ ْ ُ ُ
ود﴾ أي :قد الكونية في أعدائه املكذبين لرسله بقوله سبحانه﴿ :هل أتاك ح ِديث الج ِ
ن
أتاك خبر القوم ذوي القوة واملنعة والعدد الكثير ،فجاءك حديثهم وخبرهمِ .
خبرهم ،وهم فرعون وملؤه الذين طغوا واالستفهام هنا للتنبيه واملراد التحقيق :قد أتاك ُ
في البالد وأظهروا فيها الظلم والفساد ،وثمود قوم صالح الذين قطعوا الصخور وبنوا بها
القصور ونحتوا الجبال بيوتا ،ولم يؤمن هؤالء وال أولئك فانتقم هللا منهم ،فأغرق فرعون
ومأله باملاء الذي كان فرع ِون يتجبر به ويتكبر ويقولِ :وهذه اْلنهار تجري من تحتي ،وأهلك
اآلخرين برجفة وصيحة لم تترك منهم أحداِ .
وخص هللا عز وجل فرعون وثمود بالذكر لشهرة أخبارهم عند العرب وعند اليهود
والنصارى ،فهم أقرب لالعتبار بهم ،وهذا الذي وقع يكفي زاجرا للكفار بمحمد صلى هللا
عليه وسلم عن كفرهم ،فلو كانوا يعقلون النزجروا واعتبروا بما وقع ملن كفر وعاند من
اْلمم السابقة ،ولكنهم يكذبون برسول هللا صلى هللا عليه وسلم فال يؤمنون باآليات املتلوة
عليهم في القرآن وال باْلخبار الصادقة التي يخبرهم بها سيد ولد عدنان صلى هللا عليه
وسلم ،وال يعتبرون باآليات الكونية وال بما يمرون به مما فيه اعتبار ومواعظ للقلوب
الحيةِ .
191
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فهم في وسط التكذيب ،والتكذيب محيط بهم من كل جانب فأعمى أبصارهم وطمس
بصائرهم ،فال يصدقون وال يعتبرونِ .
والشأن أن هللا سبحانه وتعالى محيط بهم وبأعمالهم من كل جانب ال يخرجون من
سلطانه ،و ِال يغيبون عن علمه وال عن سمعه وال بصره ،وال يخفى منهم ش يءِ .
ثم هم راجعون إلى هللا سبحانه وتعالى ،وفي ذلك أعظم التهديد ْلولئك الكفار املكذبين
برسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،والذين يكذبون بالقرآن وهو قرآن ذو عظمة ومجد
وإعجاز ،فهو كالم هللا املعجز ،وال يمكن ملخلوق مهما بلغ من الفصاحة أن يأتي بمثله أو
أن يأتي بمثل بعضهِ .
ومن كان من أهل القرآن صادقا كان له من املجد والعزة النصيب اْلعظم ،ومن كذب
بالقرآن كان له من الذلة النصيب اْلعظمِ .
وهو محفوظ في اللوح املحفوظ ال يناله تغيير وال تبديل ،وهو محفوظ عند نزوله ،فاهلل
يتكلم به متى شاء ،ويسمعه منه جبريل اْلمين عليه السالمُ ،وي ْس ِم ُعه ملحمد الصادق اْلمين
ْ َّ َ ْ ُ َ َّ ْ َ
الذك َر
صلى هللا عليه وسلم ،وهو محفوظ ْلمة محمد تكفل هللا بحفظهِ ﴿ :إنا نحن نزلنا ِ
ُ َ َّ َ َ
َو ِإنا ل ُه ل َحا ِفظون﴾ [الحجر ،]9 :ويسر ْلمة محمد صلى هللا عليه وسلم حفظهِ .
فالقرآن يحفظه املؤمنون يحفظه صغار من املؤمنين ويحفظه كبار من املؤمنين ،ولو قرأ
قارئ فأخطأ في آية لرد عليه صغار الحفاظ قبل كبارهم ،فهو محفوظ ْلمة محمد صلى
هللا عليه وسلم ما بقيت هذه اْلمة ،يتلونه اليوم وغدا كأنه نزل اللحظة على محمد صلى
هللا عليه وسلمِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات ،ونعود إلى التفسير التفصيلي،
ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق عليهِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
﴿ه ْل َأ َتاكَ
والسامعين :ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به سله فقالَ :
ر
يث ْال ُج ُنود ( )17ف ْر َع ْو َن َو َث ُم َ
ود (ِ .﴾)18
َ ُ
ح ِد
ِ ِ
ِ
192
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
﴿ه ْل﴾ بمعنى قد ،فإن أخبارهم قد أتته صلى هللا عليه وسلم في القرآن ،واالستفهام كما
قلنا للتنبيه ملا في هذه اْلخبار من املعاني والعبرِ .
َ ُ
﴿ح ِديث﴾ أي :خبرِ .
ْ ُُ
ود﴾ هم القوم املجتمعون كثيرو العدد الذين لهم قوة ومنعة ،فهم يتصفون بثالث ﴿الجن ِ
صفات :االجتماع ،والكثرة ،والقوةِ .
َ
وبين هللا عز وجل املراد بالجنود هنا في قولهِ ﴿ :ف ْر َع ْون﴾ وفرعون ملك له جنود ومأل،
فليس املقصود فرعون فقط ،وإنما من تحت واليته من الكفار من جنوده ووزرائه وأتباعه
الذين آمنوا به ولم يؤمنوا باهلل عز وجلِ .
ود﴾ هم قوم صالح ،وهم عند العرب وديارهم في ديار العرب وآثارهم باقية ،فالبيوت ﴿و َث ُم َ
َ
التي نحتوها في الجبال الزالت باقية ،ويمر بها العرب ويرونهاِ .
َ
ومن هنا تعرف سر تخصيص فرعون وثمود بالذكر مع كون الجنود الكفرة املهلكين كثر،
خص فرعون بالذكر لشهرة أخباره عند العرب واليهود والنصارى ،وخص قوم صالح ثمود
بالذكر لكونهم في ديار العرب فهم أقرب للمخاطبين بالقرآن عند نزولهِ .
َ ُ ْ َ ْ َ ََ
ن َ ْ ََ َ َ ُ ْ ُ ُ
ود (ِ )17فرعو وثمود ( ﴾18وكيف كذبوا اْلرسلين فجعلهم هللا ﴿هل أتاك ح ِديث الجن ِ
من اْلهلكين.
َْ ُ َ َّ َ َ َ
يب﴾ أي :ال يزالون مستمرين على التكذيب والعناد ال تنفع ذ
ِ ٍ ك ت ي فِ وار ف ﴿ب ِل ال ِذين ك
فيهم اآليات ،وال تجدي لديهم العظات.
َْ
يب﴾ فهم في التكذيب ،ومعنى ذلك أن التكذيب وانظر أن ربنا سبحانه وتعالى قالِ ﴿ :في ت ٍ
ذ
ِ ك
محيط بهم من كل جانب ،فهم ال يؤمنونِ وال يصدقون ،فقد أعماهم التكذيب وطمس
بصائرهمِ .
يط﴾ قد أحاط بهم علما وقدرة ،كقوله﴿ :إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ
صاد﴾
ٌ َ َّ
﴿والل ُه ِمن َو َر ِائ ِهم ُّم ِح
ِ ِ ِ
ففيه الوعيد الشديد للكافرين من عقوبة من هم في قبضته وتحت تدبيره.
وهم راجعون إلى هللا عز وجل ومؤاخذهم بأعمالهم لن يغيب منها ش يء ولن يفقد منها ش يءِ .
﴿ب ْل ُه َو ُق ْر ٌ
آن َّم ِجيد﴾ أي :واسع اْلعاني عظيمها كثير الخير والعلمِ . َ
193
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
تقدم معنا أن املجيد من املجد وهو الكمال في الفضل ،والقرآن هو أفضل الكتب املنزلة
على الرسل وقد بلغ الكمال وهو كالم هللا سبحانه وتعالىِ .
َ ْ َّ ْ ُ
وظ﴾ من التغيير والزيادة والنقص ومحفوظ من الشياطين وهو اللوح ﴿في لو ٍح مح ٍ
ف ِ
اْلحفوظ الذي قد أثبت هللا فيه كل ش يء.
فهو محفوظ في اللوح املحفوظ الذي ال يتطرق إليه تغيير ،ومحفوظ عند إنزاله كما قلنا
هللا عز وجل يتكلم باآليات متى شاء ،فيسمعها جبريل عليه السالم ،وجبريل ذو قوة أمين
متين فينزل بالقرآن ،والسماء قد حفظت من الشياطين والجانُ ،في ْسمع محمدا صلى هللا
عليه وسلم اآليات ،ومحمد صلى هللا عليه وسلم رسول هللا الصادق اْلمين فيسمعها
للناسِ .
ثم بعد نزوله أيضا هو محفوظ ،والزال محفوظا وسيبقى محفوظا ،وهذا من مجد القرآن
وكمال فضلهِ .
قال :وهذا يدل على جَّللة القرآن وجزالته ورفعة قدره عند هللا تعالى وهللا أعلم.
وبهذا فرغنا من تفسير هذه السورة ومن الحكم الكليةِ .
والفوائد العظمى من هذه السورة:
-بيان قوة هللا وقدرته وسنته في نصر أوليائه وأخذ أعدائه :بيان قوة هللا القوي املتين
وقدرة هللا سبحانه وتعالى وهو على كل ش يء قدير وسنته الجارية في نصر أوليائه وأخذ
أعدائهِ .
-أيضا من الحكم الكلية والفوائد العظمى في هذه السورة بيان سنة الكفر والكفرة مع
دين هللا عز وجل والعداء ْلهل دين هللا عز وجل ،وأن عداوة الكفار للمسلمين إنما هي من
أجل دينهم وإن تظاهروا بأشياء أخرى ،فإن حقيقة عداوتهم أنها من أجل دين املسلمين،
ولذلك لن يرض ى الكفار عن املسلمين مهما فعلوا إال أن يتركوا دينهم؛ ْلن عداوة الكفار
وبغض الكفار للمسلمين إنما سببه دين املسلمين ،وعلى املسلمين أن يعوا هذا اْلمرِ .
194
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-ومن الحكم الكلية والفوائد العظمى في هذه السورة :بيان أن املسلمين ال يزالون
منصورين ما تمسكوا بالقرآن العظيم ،وأنهم لن يهزموا إال إذا تركوا كتاب هللا سبحانه
وتعالىِ .
-وكذلك من تلك الحكم الكلية والفوائد العظمى :بيان أن من أجرم وأصر على إجرامه
حقيق بأن يأخذه هللا أخذا شديدا ،وأنه إذا تاب من إجرامه قبل أن يحل به العذاب
يسلم من ذلك العذاب ،بيان أن من أجرم وأصر على إجرامه وظلم وعظم ظلمه حقيق بأن
يأخذه هللا عز وجل أخذا شديدا وإن أملى له ،وأنه إن تاب من إجرامه مهما عظم قبل أن
يحل به العذاب يسلم برحمة هللا من ذلك العذابِ .
ِ
ِِ
195
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الطارق
بسم هللا الرحمن الرحيم
ُ ُّ َ ْ َّ َّ
س ْلا ف ن ل ك نإ ) 3 ( ب
َّ ْ ُ َّ
الثاق ُ م ج الن ) 2 (
َّ ُ
قار الط ا م الطارق (َ )1و َما َأ ْد َ َ
اك َ َ َّ َ َ َّ
ٍ ِ ِ ِ ر ﴿والسم ِاء و ِ ِ
ْ ُ ُ ََْ ُ ْ َ ُ َ ََْ َ ٌ
نسان ِم َّم خ ِل َق ( )5خ ِل َق ِمن َّم ٍاء َد ِاف ٍق (َ )6يخ ُر ُج ِمن َب ْي ِن اإل
عليها حا ِفظ ( )4فلينظ ِر ِ
ُ َ َ َ الت َرائب ( )7إ َّن ُه َع َل ٰى َر ْجعه َل َقاد ٌر (َ )8ي ْو َم ُت ْب َلى َُّّ ْ َ َّ
الس َرا ِئ ُر ( )9ف َما ل ُه ِمن ق َّو ٍة َوال ِِ ِ ِ ِ ِ الصل ِب و
َ
اص ٍر (ِ .﴾)10 ِ ن
في هذه السورة املكية يقسم هللا عز وجل بالسماء وما يكون فيها مما يظهر ليال ويختفي
َّ ُ
اك َما الط ِارق﴾ أي: نها ا ،وينبه نبيه صلى هللا عليه وسلم ِواملؤمن ويشوقه بقولهَ ﴿ :و َما َأ ْد َ َ
ر ر
وما أعلمك ما الطارق؟ إنه النجم الالمع شديد اللمعان واملتوهج بضوئه الذي يثقب
السماء بشدة ضوئه ،ويكون متميزا عن غيره من النجوم بشدة ضوئه ،وكذلك النجم الذي
يرى ضوؤه عندما ترمى به الشياطين حتى ال تسترق السمع ،وفي ذلك إشارة إلى حفظ
القرآن الكريمِ .
وجواب القسم أنه ما من نفس من الناس إال ويحفظها هللا عز وجل ،وجعل عليها من
املالئكة من يحفظها ويحرسها من اآلفات واملهلكات ،ولوال ذلك ملا عاش اإلنسان في الدنيا
على اْلرض وهلك ،ولكن هللا عز وجل يسر له مالئكة تحفظه من اآلفات املهلكاتِ .
كما جعل له مالئكة يحفظون أعماله -أو نقول يحفظون أعمالها باعتبار أنا نتكلم عن
النفس -من اْلفعال واْلقوال الظاهرة والخفية ،ويكتبون ذلك لتعرض على صاحبها يوم
القيامة ويالقيهاِ .
وقد جعل هللا عز وجل لإلنسان في دنياه ما يعتبر به ويتعظ به إن تفكر فيه وتدبر ،ومن
ُ
ذلك نفسه ،فلينظر اإلنسان في نفسه نظر تفكر واعتبار ،وليفكر من أي ش يء خلق؟ وما هو
ُ
أصل خلقته؟ إنه خلق من ماء مهين هو املني يخرج دفقا ودفعا من بين ظهر الرجل وأعلى
صدره ،أو من بين ظهر الرجل وصدر املرأة ،فهو في مكان أمين من الجسد يحفظ فيه
بحيواناته ،ثم يخرج عند الشهوة مندفعا سائال حيث يختلط ببويضة املرأة وبماء املرأة
اْلصفر الرقيق الذي فيه البويضة ،فتلقح البويضة بالحيوان املنوي إذا شاء هللا عز وجل
196
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ذلك ،وتستقر تلك البويضة امللقحة في الرحم ،فإن سبق ماء الرجل ماء املرأة نزع الولد إلى
شبه أبيهِ ،وإن سبق ماء املرأة ماء الرجل نزع الولد إلى شبه أمهِ .
وهذا يشترك فيه كل الناس اْلغنياء والفقراء امللوك والعامة بمختلف اْللوان ،كل الناس
هذا أصل خلقتهم ،فأصل خلقتهم واحد ،وال يملك مخلوق مهما أوتي من العلم أن يوجد
ذلك املاء ،وال أن يحدث تلك البويضة فالعلماء بالطب والتشريح مع سعة علمهم عاجزون
عن إيجاد املاء وما فيه من الحيوانات املنوية ،وعاجزون عن إيجاد البويضات ،ال يملك
ذلك إال هللاِ .
والقادر على إيجاد مادة اإلنسان قادر على أن يعيده يوم القيامة ،واإلعادة أسهل وأهون
من االبتداء ،وهذا أمر عقلي مرئي ال يمكن دفعه ملن كانت له بصيرة ،وإعادته وبعثه يوم
القيامة يوم تختبر القلوب ،وتكشف املكنونات ،وتبرز اْلعمال من الكتب ،وتربط اْلعمال
بالقلوب صالحا وفسادا ،ويحاسب اإلنسان على ذلك ،في يوم يكون فيه اإلنسان ضعيفا ال
قوة له في ذاته ،وال في حيلته حتى يدفع عن نفسه ،وال ناصر له من غيره يحميه ويدفع عنه
ال من نسبه ،وال من أصحابه ،وال من جنده ،وال من غير ذلكِ .
فهو يأتي ربه يوم القيامة فردا ،وهذه حقيقة اإلنسان؛ يبدأ ضعيفا من ماء مهين ضعيف،
ويكون في رحم أمه فردا ،ثم يعيش في الدنيا ويسعى بعمله ويكدح إلى ربه ،ثم يكون في قبره
فردا ،ثم يبعث يوم القيامة فردا ،ال تكون له قوة يدفع بها عن نفسه ،وال حيلة يحتال بها،
وال تقبل منه فدية يفتدي بها من عذاب هللا ،وال يوجد ش يء يساوي جرمه حتى يفتدي به
من عذاب هللا لو كان يملكه ،فكيف وهو ال يملك شيئا يوم القيامة؟! ِ
يأتي كما ولدته أمه ،وال يكون له ناصر ينصره ويحميه ،وال يكون له شافع إال أن يأذن هللا
ملن يشاء ويرض ىِ .
ولو أن اإلنسان علم هذا علم اليقين لسار إلى ربه في تقى ،وخاف من هللا أشد الخوف،
واستحيى من هللا حق الحياءِ .
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ،ونعود إلى املعنى التفصيلي لهذه
ا ِآليات ،ونقرأ ما ذكره الشيخ رحمه هللاِ .
197
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ
الس َم ِاء َوالط ِار ِق (ِ .﴾)1
قال رحمه هللا تعالى :يقول هللا تعالىَ ( :و َّ
الواو للقسمِ .
و َّ
﴿الس َم ِاء﴾ هو كل ما عالك ،فيشمل ذلك اْلفالك والسماء املعروفة بهذا االسم ،هكذا
قال جمع من العلماءِ .
واْلظهر وهللا أعلم أن املراد بالسماء هنا هي السماء املعروفة بهذا االسم ،وليس كل ما
عال ،وهذا هو املتبادر إلى الذهن عند سماع اسم السماءِ .
وأما الطارق فيأتي تفسيرهِ .
َّ ُ
اك َما الط ِارق﴾ قال العلماء :هذا استفهام تنبيه وتشويق قدم أمام البيان ﴿ َو َما َأ ْد َ َ
ر
ُ
لتلتفت القلوب وتنتبه وتشتاق إلى ما يأتي من التفسير ،وفسر الطارق بقول هللا ِ
َّ َّ
﴿الن ْج ُم الثا ِق ُب﴾ أي :اْلض يء الذي يثقب نوره فيخرق ثم فسر الطارق بقوله:
السماوات فينفذ حتى يرى في اْلرضِ .
قال :أي :املض يء شديد اإلضاءة الذي يثقب نوره؛ أي :أنه شديد اإلضاءة ،فضوؤه شديد
وهاج ،فينفذ حتى يرى في ا ِْلرض ويلتمع نوره وهو في السماءِ .
َّ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :الثا ِق ُب﴾ هو الذي يرتفع ويعلوِ .
َّ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :الثا ِق ُب﴾ هو الذي ُيرمى به؛ أي :أن النجم الثاقب هنا هو الذي
ترمى به الشياطينِ .
ومن نظر إلى السماء يرى أحيانا ضوءا يلتمع ،هذا ضوء النجم الذي ترمى به الشياطين.
َّ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :الثا ِق ُب﴾ هو املحرق ،وهو النجم الذي ترمى به الشياطين
فيحرقهاِ .
هذا تفسير معنى الثاقبِ .
ثم اختلف العلماء في هذا النجم الثاقب :هل هو كل النجوم؟ أو نجم معين؟ وهذا ما ذكره
الشيخِ .
ِ
قال :والصحيح أنه اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب ،وقد قيل إنه زحل الذي
198
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
199
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ ُّ َ ْ َّ َ َ
س ْلا َعل ْي َها
وفي قراءة اْلكثر لـما بتخفيف امليم -كما كاد نور الدين أن يقرأهاِ ﴿ ،-إن كل نف ٍ
ٌ
َحا ِفظ﴾ ،فتكون إن مخففة من الثقيلة ،والَّلم زائدة للتوكيد صلة ،وما فارقة ،فيكون
َّ
املعنى :إن كل نفس عليها حافظِ .
والحافظ كما ذكر الشيخ هنا هم املالئكة حفظة اْلعمال كما ذهب إلى ذلك بعض
املفسرين ،ومنهم شيخهم ابن جرير ،هم املالئكة حفظة اْلعمالِ .
وذهب بعض اْلفسرين إلى أن الحافظ هنا هم املالئكة الذين يحفظون اإلنسان
ويحرسونه في الدنيا من املهلكات حتى يأتي قدر هللا ،وأحسب أن ابن كثير ذهب إلى هذاِ .
وقال بعض اْلفسرين :الحافظ هنا هو هللاِ .
والكل صحيح ،فاهلل حافظ وهو خير الحافظين ،وقد قيظ لإلنسان مالئكة يحفظونه
ويحرسونه من املهلكات ،وجعل له مالئكة يحفظون عليه أعماله وأقواله ويكتبونهاِ .
فهذا كما قلنا مرارا من اختالف التنوع ،وهذا الغالب على اختالف املفسرين أن يكون من
باب اختالف التنوع ،ملاذا؟ ِ
ْلن القرآن حمال وجوه ،ويحتمل املعاني الكثيرة في الكلمات القليلةِ .
ُ ََْ ُ ْ َ ُ
نسان ِم َّم خ ِل َق ( ﴾ )5أي :فليتدبر خلقته ومبدأهِ . اإل
﴿فلينظ ِر ِ
ََْ ُ ْ َ ُ
نسان﴾ قال بعض أهل العلم :ال هنا للجنس ،فهذا خطاب لجنس اإلنسان اإل
﴿فلينظ ِر ِ
املؤمن والكافر ،كل إنسان يأمره هللا أن ينظر في أصل خلقته وفي نفسه نظر تدبر واعتبارِ .
ينظر هذا
وقال بعض أهل العلم :ال هنا للعهد ،فاإلنسان هو الكافر املنكر للبعث؛ أي :فل ِ
اإلنسان الذي يكذب النبي صلى هللا عليه وسلم وينكر البعث إلى نفسه وإلى أصل خلقتهِ .
واْلظهر أنه لجنس اإلنسان ،كلما كان املعنى أعم وأشمل واحتمله اللفظ كان أولى إال أن
يأبى ذلك السياق ،وهذا ضابط في تفسير القرآن ،كلما كان املعنى أعم وأشمل ويحتمله
اللفظ وال يأباه السياق كان أولى أن يحمل عليه القرآنِ .
قال :فإنه مخلوق من ماء دافق وهو اْلني الذي يخرج من بين الصلب والترائب ،يحتمل
أنه من بين صلب الرجل وترائب اْلرأة وهي ثدياها ،ويحتمل أن اْلراد اْلني الدافق وهو
مني الرجل ،وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه ،ولعل هذا أولى ،فإنه إنما
200
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وصف به اْلاء الدافق الذي يحس به ويشاهد دفقه وهو مني الرجل ،وكذلك لفظ
الترائب فإنها تستعمل للرجل ،فإن الترائب للرجل بمنزلة الثديين لألنثى ،فلو ولدت
اْلنثى لقيل :من الصلب والثديين ونحو ذلك وهللا أعلمِ .
ُ
﴿خ ِل َق ِمن َّم ٍاء َدا ِف ٍق﴾ بعض اْلفسرين يقول :هذا هو ماء الرجل ،املني الذي يخرج دفقا
ودفعا عند حصول سبب ذلكِ .
وبعض اْلفسرين قالوا :هذا ماء الرجل وماء املرأة ،املاء الدافق هنا هو ماء الرجل وماء
املرأة؛ ْلن اإلنسان يخلق من املاءين ،من ماء الرجل وماء املرأة ،قالوا :وكان دافقا؛ ْلنه
يندفع من مكانه عند حصول السبب ،فماء الرجل يندفع من مكانه ويخرج مندفعا ،وماء
املرأة يخرج من املبايض مندفعا ولكنه ال يخرج دافقا ،وفي هذا رد على الذين ضعفوا
القول بأنه ماء املرأة وماء الرجل بأن ماء املرأة ال يكون دافقا ،قالوا والذي يكون دافقا هو
ماء الرجل ،يخرج مندفعا عند حصول السبب ،أما ماء املرأة فإنه ال يخرج دفقا ،وإنما
يسيل حتى لو احتلمت املرأة فإنها قد ترى املاء وهو ماء أصفر رقيق يسيل سيالنا ،قد يخرج
خارج الفرج وقد ال يخرج ،رد عليهم من يقول إنه ماء املرأة وماء الرجل بأن الدفق هنا يعني
االندفاع من املحل ،فماء الرجل يندفع من محله وماء املرأة يندفع من محله عند حصول
السببِ .
َّ ُّ ْ ْ
الصل ِب َوالت َرا ِئ ِب﴾ الصلب هو الظهر باتفاق املفسرين ،ظهر الرجلِ . ﴿ َيخ ُر ُج ِمن َب ْي ِن
لكن اختلفوا في الترائب ،فقال بعضهم :الترائب هي ترائب اْلنثى ،وما هي ترائب اْلنثى؟
قال بعضهم :هي ثدياها ،ومعنى هذا أن املاء متصل بالثدي بطريقة هللا أعلم بهاِ .
وقال بعضهم :الترائب ما بين الثديينِ .
وقال بعضهم :ترائب املرأة أضالعهاِ .
وقال بعضهم :الرجالن والقدمان والعينان ،ما هي الترائب؟ قالوا الرجالن واليدان
والعينانِ .
طبعا هؤالء من يا إخوة؟ الذين يقولون إن املاء الدافق هو ماء الرجل وماء املرأةِ .
201
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :الصلب ظهر الرجل ،والترائب ترائب الرجل ،والترائب هي الصدر،
ترائب الرجل قالوا الصدر ،يعني ما بين الظهر والصدرِ .
وبعضهم قال :اْلضالعِ .
وبعضهم قال :بعض اْلضالعِ .
وبعضهم قال :الرجالن واليدان والعينانِ .
والشيخ ابن سعدي كما رأيتم اختار أن املاء الدافق هو ماء الرجل ،وأن الترائب ترائب
الرجل ،واآلية محتملة ،لكنا نجزم أن للمرأة ماء كما أخبر بذلك النبي صلى هللا عليه
وسلم ،وأن خلقة اإلنسان ال تكون من ماء الرجل فقط ،بل من ماء الرجل وبويضة املرأة
التي تكون في مائها ،وأما املراد في اآلية فهو محتمل ،وإن كنت أنا أميل إلى أن املاء الدافق
هو ماء الرجل وماء املرأة ،والدفق كما عرفنا االندفاع من املحل ،والصلب هو ظهر الرجل،
والترائب هي ترائب املرأةِ .
قال رحمه هللا :فالذي أوجد اإلنسان من ماء دافق يخرج من هذا اْلوضع الصعب قادر
على رجعه في اآلخرة وإعادته للبعث والنشور والجزاء.
وقد قيل :إن معناه أن هللا على رجع اْلاء اْلدفوق في الصلب لقادر وهذا وإن كان اْلعنى
صحيحا فليس هو اْلراد من اآليةِ .
ََ َّ َ
﴿ ِإن ُه َعل ٰى َر ْج ِع ِه لق ِاد ٌر﴾ عندنا ضميران :إنه هنا الضمير يعود إلى هللا سبحانه وتعالى ،إن
هللاِ .
َ
﴿ َعل ٰى َر ْج ِع ِه﴾ الضمير في رجعه يعود إلى ماذا؟ ِ
قال بعض اْلفسرين -وهو اْلظهر :-يرجع إلى اإلنسان ،فيكون املعنى إن هللا على رجع
اإلنسان وبعثه يوم القيامة لقادر ،إن هللا على رجع اإلنسان وإعادته بعدما يبلى وبعثه يوم
القيامة لقادر ،وهذا أظهر ما قيلِ .
وقال بعض اْلفسرين :الضمير يرجع إلى اإلنسان ،ولكن املعنى :إن هللا على إعادة هذا
اإلنسان املتكبر بنفسه املكذب بدين ربه لقادر على أن يعيده ماء كما كان لو شاء ،يقو ِل:
202
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذا اإلنسان املتكبر املتجبر الذي يكذب بدين هللا؛ رُّبه الذي خلقه من ماء مهين قادر على
أن يعيده ماء مهيناِ .
وهذا وإن كان صحيح املعنى وفيه تهديد للكفرة إال أن السياق يأباه؛ ْلن السياق يدل على
أن هذا في اآلخرةَ ﴿ ،ي ْو َم ُت ْب َلى َّ
الس َرا ِئ ُر﴾ واإلرجاع يوم تبلى السرائر هو إعادة اْلجساد
والبعثِ .
وقال بعض اْلفسرين :إنه -أعني الضمير -يرجع إلى املاء ،إنه على رجعه؛ أي :على رجع
املاء لقادر ،فيكون املعنى :إن هللا على رد هذا املاء وحبسه حتى ال يندفع من مكانه لقادر لو
شاء ،لو شاء هللا ما جعل هذا املاء يخرج ،سبحان هللا! هللا عز وجل خلق املاء ولو شاء ما
ولو شاء ما كان ،وجعل
خلقه ،وجعله في مكان أمين يحفظ فيه هذا املاء بخواصه وينتجِ ،
خلقة الرجل وخلقة املرأة قابلة للجماع ،ولو شاء ما جعل ذلك ،وأرشد اإلنسان إلى العمل
الذي يتحرك به املاء ويحصل به التقاء ماء الرجل وماء املرأة ،ولو شاء ما فعل ذلك ،أال
يدل هذا اإلنسان على ضعفه وعلى أن هللا هو الذي يدبر أمره ،وعلى وجود ربه وعلى
قدرته ،وعلى أنه املستحق للعبادة؟! ِ
أين يذهب امللحدون الذين يزعمون أنهم أصحاب عقول من هذه الحقيقة التي ال يمكن
دفعها؟! ِ
هذا امللحد الذي ينكر وجود هللا وينكر اْلديان إذا أراد الولد ماذا يفعل؟ يبقى ويقولِ :يأتي
الولد ،وهل يملك من أمره شيئا؟ ال؛ وهللا ،ولكنهم قد استسلموا للشيطان ،وهللا ال سبب
لإللحاد إال االستسالم املحض للشيطان ،ما يمكن يكون فيه عقل ،ما يمكن يكون فيه
آيات ،ما يمكن ،ما يمكن ،إال االستسالم املحض للشيطان ،أو يكذبون على أنفسهم ما هم
ملحدون ،ولكن هم يريدون ما وراء اإللحادِ .
ناظرت ملحدا من امللحدين العرب ال كثرهم هللا وهدى الضالل ،فمازلت به بحمد هللا حتى
رجع ،فقال :أخبرك يا شيخ؛ أنا وهللا وصلت مع القوم إلى القمة ،ما بالقوم إلحاد ،وإنما
هم يريدون الحرية البهيمية ،ولذلك يتواعدون في بعض الدول بزوجاتهم ،ويتبادلون
الزوجات ،ملحدون ،هكذا يتوهمون ،فامللحد ِال يخلو من حالينِ :
203
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
تختبر سرائر الصدور يعني :سرائر القلوب ويكشف ما فيها ،وتربط أعمال الجوارح بها ،فإن
فساد اْلعمال أو صالح اْلعمال منوط بالقلوب(( ،أال وإن في الجسد مضغة إن صلحت
صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله)) ،فيكشف ما في القلوب من نيات
واعتقادات ،وتربط أعمال الجوارح بها ويحاسب اإلنسان على ذلكِ .
الس َرا ِئ ُر ( ﴾)9أي :تختبر سرائر الصدور ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر ﴿ي ْو َم ُت ْب َلى َّ
َ
وه َو َت ْس َو ُّد ُو ُج ٌ
وه﴾. ﴿ي ْو َم َت ْب َي ُّ
ض ُو ُج ٌ على صفحات الوجوه ،كما قال تعالىَ :
وقال بعض اْلفسرين :السرائر هي ما في الكتب ،هي أعمال اإلنسان وأقوال اإلنسان التي
في الكتب ،تكشف وتظهر يوم القيامة ،فمعنى تبلى على هذا القولِ :تظهر وتبدى بعد أن
كانت في بطون الكتب ،تظهر وتبدى ْلصحابها ،وبعض الناس يفضح أمام الناس عياذا باهلل
من سوء الحالِ .
قال رحمه هللا :ففي الدنيا تنكتم كثير من اْلشياء وال يظهر عيانا للناس ،وأما يوم
القيامة فيظهر بر اْلبرار وفجور الفجار ،وتصير اْلمور عَّلنية.
204
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
205
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هللا عليه وسلم وللمؤمنين كيدا عظيما شديدا متتابعا ليصرفوا املسلمين عن دينهم،
وليشوهوا الحق ويظهروه للناس بصورة الباطلِ .
وملة الكفر في هذا واحدة ،وكلمتهم فيه مع اختالف أزمانهم واحدة ،فمع اختالف قلوبهم
وتشتتهم فيما بينهم تجدهم في الكيد لإلسالمِعلى كلمة واحدة وعلى طريقة واحدة ،وهذا
واقعهم الذي ال يتغير ،فبالنسبة لنبيناِصلى هللا عليه وسلم عندما كان النبيِصلى هللا
حيا كاد الكفار له ليقتلوه ،وصنعوا ما عرفتم في السيرة من أنهم أرادوا أنعليه وسلم ًّ
يجتمعوا على قتله ،وانتخبوا من كل قبيلة رجال حتى يضيع دمه بين القبائل وال يستطيع
قومه أن يطالبوا بدمه ،أو أن يثأ ِروا له ،واتفقوا على ليلة معينة يدخلون فيها على
النبيِصلى هللا عليه وسلم وهو في فراشه ليقتلوه ،فأوحى هللا إليه وأخبرهِبما كادوا ونجاه
من كيدهم ،وخرج وهاجرِصلى هللا عليه وسلم إلى املدينةِ .
واليوم -والنبيِصلى هللا عليه وسلم ميت -تجد أن الكفار يكيدون لنبيناِصلى هللا عليه
وسلم ويعملون على تشويه صورته ،وعلى بذل اْلسباب التي تجعل الناس ينفرون منه
وينفرون من دينهِصلى هللا عليه وسلم ،وبالنسبة لديننا فإن الكفار في زمن النبيِصلى هللا
عليه وسلم كانوا يحرصون على صد املسلمين عن الدين بتعذيب من آمن ،وبوصف
النبيِصلى هللا عليه وسلم بأنه ساحر أو كاهن أو كذاب أو مجنون أو غير ذلك من اْلوصاف
التي يعلمون سالمته منها ،واليوم تجد أن الكفار يعملون جاهدين على صد املسلمين عن
دينهم بشتى السبل ،ومن كيدهم للمسلمين أنهم يستعملون بعض املسلمين لصد املسلمين
عن دينهم وإلضعاف دين املسلمين ،فيستخدمون الدراويش الذين يعبدون هللا عز وجل عن
طريق الدروشة ال عن طريق السنة في صرف الناس عن حقيقة الدين الذي هو السنة؛ ْلن
عدونا الكافر يعلم أن املسلمين لو عادوا إلى أخذ دينهم من كتاب هللا ومن سنةِرسول
هللاِصلى هللا عليه وسلم بفهم الصحابة ومن بعدهم ممن اتبعهم بإحسان لكانوا متمسكين
بالدين حقا ،فوجدوا أن الدروشة وعبادة هللا بالبدع تصرف الناس عن دينهم،
فاستخدموا أولئك الدراويش ،ونحن نعرف اليوم أن الكفار يبذلون املاليين من اْلموال
لرؤوس أولئك الدراويش من أجل صرف الناس عن دينهم وإضعاف تمسك الناس بدينهم،
وكذلك نعلم جازمين أن أعداء اإلسالم أن الكفار من كيدهم للمسلمين يستخدمون باب
الغلو والغالة لصرف الناس عن دينهم ،ويضخمون شأن الغلو ،ويستخدمون خوارج العصر
في إضعاف دين اإلسالم وفي إضعاف املسلمين ،وفي صد املسلمين عن دينهم ،وفي تشويه
206
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
صورة اإلسالم ،فإن هؤالء الخوارج القساة الضالل قد أعطوا الكفار الصورة التي يريدون
من أجل تشويه دين اإلسالم حتى يصرفوا الناس عن دينهمِ .
الشاهد أن كيد الكفار للمسلمين كيد عظيم متتابع ال ينقطع ،غرضهم منه أن يصرفوا
املسلمين عن دينهم ،وسببه دين اإلسالم ،فهم ال يحسدوننا على مال ،وال يحسدوننا على
مكان ،وإنما يحسدوننا على هذا الدين الذي جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم ،ومع أن
الكفار يكيدون لإلسالم وأهله كيدا عظيما كبيرا متتابعا فإن رب املسلمين هللا سبحانه
وتعالى يكيد للكفار كيدا عظيما ،ويدبر اْلمر ،وينصر الحق وأهله ،ويحفظ دينه ،ويحفظ
املتمسكين بدينه حقا وصدقا ،ويكون ذلك في زمنه املناسب وبحكمة تامة ،ولذلك قال هللا
َ َ ْ َْ َ
ين أ ْم ِهل ُه ْم ُر َو ْي ًدا﴾ [الطارقِ]17 :؛ أي ال
عز وجل لنبيهِصلى هللا عليه وسلم﴿ :ف َم ِه ِل الكا ِف ِر
تعجل على الكافرين واصبر وانتظر فإن هللا ينصر الحق ولو بعد حينِ .
فيا محمد ويا أيها املؤمن ال تعجل على الكفار ،واصبر عليهم ،وانتظر خذالنهم في وقت
قريب ،فإن بقاءهم على ما هم عليه قليل ،فانتظر خذالنهم من رب العاملينِ .
وقد يكون كيد هللا عز وجل للكافر بأن يطيل في عمره ويملي له ليزداد إثما ،وليعظم عذابه
عند لقاء هللا سبحانه وتعالى ،فاهلل يرحم املؤمنين ويكيد للكافرينِ .
وإنك لتعجب ممن ُيعجب بمن يكيد هللا له ،وال يرض ى أن يكون في صف من يرحمهم هللا
سبحانه وتعالىِ .
فعلى اْلمة كلها حكامها ومحكوميها أن يتمسكوا بدين اإلسالم ،وأن يتمسكوا بما في القرآن
والسنة ،وأن يصبروا وينتظروا نصر هللا سبحانه وتعالى إن هم عملوا بما في كتابه وما في
سنة نبيه صلى هللا عليه وسلمِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإليماني اإلجمالي لهذه اآليات ،ثم نعود إلى التفسير التفصيلي
لبعض الكلمات الواردة في هذه اآليات من خالل القراءة في تفسير اإلمام السعدي تيسير
الكريم الرحمن في تفسير كالم املنانِ ِ.
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا رحمة واسعة وغفر له ولشيخنا
َ
الر ْج ِع ()11
ات َّ والسامعين :ثم أقسم قسما ثانيا على صحة القرآن فقالَ :
﴿و َّ
الس َم ِاء ذ ِ
ْ َّ َ ْ َْ َ
ات الصد ِع ( ﴾)12أي :ترجع السماء باْلطر كل عام وتنصدع اْلرض للنبات، ضذ ِ واْلر ِ
فيعيش بذلك اآلدميون والبهائم ،وترجع السماء أيضا باْلقدار والشؤون اإللهية كل
وقت ،وتنصدع اْلرض عن اْلمواتِ .
207
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الشيخ يقو ِل :ثم أقسم –أي :ربنا -قسما ثانيا ،القسم اْلول هو في أول السورة ،وقد
تضمنت تلك اْلقسام أن القرآن محفوظ كما ذكرت لكم في التفسير ،وهنا يقسم هللا
قسما ثانيا على صحة القرآنِ .
الر ْجع﴾ ﴿ َو َّ َ َّ َ َ
الس َم ِاء﴾ هي السماء املعروفة التي إذا أطلقت انصرفت ِ
ات َّ
ِ ذ ﴿والسم ِاء
اْلذهان إليهاِ .
َ
ات﴾ يعني :صاحبةِ . ِ ﴿ذ
الرج ِع﴾ عند أكثر املفسرين هو املطر ،وملاذا سمي املطر رجعا؟ ِ ْ ﴿ َّ
قال بعض العلماءْ :لنه يرجع ويتكرر وقتا بعد وقت ،فهو ليس منهمرا طوال السنة ال
ينقطع أبدا ،وطوال العمر ال ينقطع أبدا ،بل ينزل وينقطع ،فيأتي ثم ينقطع ثم يرجع مرة
أخرىِِ .
وقال بعض اْلفسرين :سمي املطر رجعا ْلنه يرجع إلى اْلرض بعد أن ارتفع ماؤه منها،
فالنظرية التي يذكرها العلماء أن املاء يتبخر من البحار ويصعد إلى السماء ،ويتكثف ويكون
سحابا بأمر هللا ،وينزل املطر كانت معروفة في الجاهلية قبل اإلسالم ،كانوا يرون أن
السحب إنما هي ماء قد ارتفع من اْلرض ،فليس أمرا جديدا عرفه علماء هذا الزمان
فبعض املفسرين قالوا :إن املطر سمي رجعا ْلنه ماء يرجع إلى اْلرض بعد أن كان قد ارتفع
منها ،فهو يعود إليهاِ .
َ
الر ْج ِع﴾
ات َّ وفسر بعض اْلفسرين :الرجع بالكواكب التي تظهر وتغيب فقالواَ ﴿ :و َّ
الس َم ِاء ذ ِ
يعني صاحبة الكواكب التي تظهر وتغيب ثم ترجع مرة أخرى فتظهرِ .
ولكن الذي عليه أكثر املفسرين أن الرجع هو املطر ،وهو املناسب ملا بعدهِ .
اْل ْرض َذات َّ َ َْ
الص ْد ِع﴾ ذات الصدع هنا جنس يا إخوة ليس شقا واحدا وإنما جنس؛ ﴿و ِ ِ
يعني :ذات الشقوق ،فليست يعني صلبة ال يدخل فيها ش يء وال يخرج منها ش يء ،بل جعل
هللا فيها صدوعا وشقوقا حتى في الجبال سبحان هللا! هناك صدوع يدخل منها املاء ويخرج
منها النبات ،وهذا دليل على قدرة هللا عز وجلِ .
املقسم عليه للمقسم عليه أن في املطر والنبات حياة اْلرض ،وفي َ َ املقسم به هنا ومناسبة َ
وهو القرآن حياة الخلق ،وهي الحياة الحقيقية التي من لم يحياها فهو ميت ،ولو كان يأكل
واملقسم عليه َِِ ويشرب ويتكلم ،بل هو أشد من اْلموات فهذه املناسبة بين َ
املقسم به
208
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ص ٌل﴾؛ أي :حق وصدق بين واضحِ . ﴿إ َّن ُه﴾؛ أي :القرآن﴿ ،إ َّن ُه َل َق ْو ٌل َف ْ
ِ ِ
ْ َ ٌ ْ َ َ ُ َّ ُ َّ
﴿إنه﴾؛ أي :القرآن ،هذا جواب القسمِ ﴿ ،إنه لقول فص ٌل﴾؛ أي :القرآنِ . ِ
ْ َ َ
﴿لقو ٌل﴾ وكما قلنا القرآن قول هللا؛ ْلنه تكلم به فهو كالم هللا ،وقول جبريل عليه السالم
ْلنه بلغه ،وقول محمدِصلى هللا عليه وسلم ْلنه بلغه ،فهو قو ِلِ .
ص ٌل﴾ أي :مميز فاصل بين الحق والباطل ،وفاصل يهزم من يخالفهِ . ﴿ َف ْ
وما ذكره الشيخ هي اْلوصاف التي كان بها فاصال أي :حق وصدق بين واضح ،هذا جواب
سؤال ،ملاذا كان فاصال؟ ِ
ْلنه حق وصدق وبين وواضح ،فمعنى فاصل أنه مميز بين الحق والباطل ،وهازم للباطل
وأهله ،ملاذا؟ ِ
ْلنه حق وواضح بين فهو كالم هللاِ .
ْ
﴿و َما ُه َو ِبال َه ْز ِل﴾ أي :جد ليس بالهزل ،وهو القول الذي يفصل بين الطوائف واْلقاالت َ
وتنفصل به الخصوماتِ .
ْ
﴿و َما ُه َو ِبال َه ْز ِل﴾ يعني :ليس باللعب وال باللغو ،ليس قول لعب وال قول لغو ،وإنما هو َ
قول حق يحق هللا به الحق ويدمغ به الباطلِ .
َ ُ َ َ
يدون ك ْي ًدا﴾ ليدفعوا ﴿إ َّن ُه ْم﴾ أي :اْلكذبين للرسول صلى هللا عليه وسلم وللقرآن﴿ ،ي ِك ِ
بكيدهم الحق ويؤيدوا الباطلِ ِ.
َّ ُ ْ َ ُ َ َ
يدون ك ْي ًدا﴾ انتقل هللا عز وجل يأتي سؤال في اْلذهان :ما عالقة هذا بما قبله؟ ﴿ ِإنهم ي ِك
من الكالم عن القرآن إلى الكالم عن الكفار ،ما العالقة بين اْلمرين؟ ِ
ظاهر الصدق ،قوي الحجة بلسان العرب َ العالقة أن القرآن مع كونه فصال ليس بالهزل،
الذين كانوا يخاطبون به في ذلك الوقت لم يؤمن به الكفار ،بل كادوا ْلهله ،فهم مع
كفرهم يكيد ِون ْلهل القرآنِ .
ََ ُ َ
يد ك ْي ًدا﴾ إلظهار الحق ولو كره الكافرون ،ولدفع ما جاؤوا به من الباطل ،ويعلم ﴿وأ ِك
بهذا من الغالب ،فإن اآلدمية أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده.
َ َ ْ َْ َ
ين أ ْم ِهل ُه ْم ُر َو ْي ًدا﴾ أي :قليَّلِ ِ.﴿ف َم ِه ِل الكا ِف ِر
َ
﴿ف َم ِه ِل﴾ أي :أتركهم واصبر عليهم وال تعجل عليهم ،وانتظرهم فإن هللا يكيد لهمِ .
﴿ر َو ْي ًدا﴾ الرويد هو القليل ،فبقاؤهم قليلِ ِ. ُ
209
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
210
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة اْلعلى
بسم هللا الرحمن الرحيم
َّ َ ْ َ َ َّ ََ َ َّ َْ َ
اس َم َرِب َك اْل ْعلى ( )1ال ِذي خل َق ف َس َّو ٰى (َ )2وال ِذي ق َّد َر ف َه َد ٰى (َ )3وال ِذي أخ َر َج ﴿سبح ْ
ِِ
َ
َّ َّ َ َ َّ ْاْلَ ْر َع ٰى (َ )4ف َج َع َل ُه ُغ َث ًاء َأ ْح َو ٰى (َ )5س ُن ْقرُئ َك َف ََّل َت َ
نس ٰى (ِ )6إال َما ش َاء الل ُه ۚ ِإن ُه َي ْعل ُم ِ
ْ ُ َْ ْ
ال َج ْه َر َو َما َيخف ٰى (َ )7ون َي ِس ُر َك ِلل ُي ْس َر ٰى (.﴾)8
في هذه السورة املكية عند جمهور املفسرين -وهو الصواب -يأمر هللا عز وجل نبيهِصلى
هللا عليه وسلم وكل مؤمن تبعا لهِصلى هللا عليه وسلم بأن ينزه ربه سبحانه وتعالى عن كل
ما ال يليق بجالله سبحانه وتعالى من النقائص ،وأن يعظمه بإثبات الكماالت له سبحانه
وتعالى ،فالتسبيح تنزيه وتعظيمِ .
وأن ينزه أسماء ربه سبحانه وتعالى عن اإللحاد فيها وامليل بها عن معانيها وتحريفها وعن
امتهانها ،وعن تسمية املخلوقين بها على الوجه الذي يسمى بها هللا سبحانه وتعالىِ .
ومع هذا التنزيه يأمره بأن يكون ذاكرا لربه سبحانه وتعالى بلسانه ،وناطقا باسم ربه،
فيجتمع القلب واللسانِ .
وهو سبحانه مستحق للتنزيه والتعظيم فهو الرب الخالق واملالك واملدبر واملربي بالنعم
دقيقها وجليلها ،حسيها ومعنويها ،وهو السيد املصلح أمر خلقه سبحانه وتعالى فله الخلق
وله اْلمر سبحانه وتعالىِ .
وهو اْلعلى هو الرب وهو اْلعلى الذي له العلو املطلق بذاته ،فهو مستو على عرشه فوق
مخلوقاته ال ش يء فوقه سبحانه وتعالى ،وله العلو املطلق بقدره ،فصفاته صفات الكمال،
وله العلو املطلق بقهره سبحانه وتعالىِ .
ومن ربوبيته سبحانه وتعالى أنه خلق كل ش يء فسوى خلقه بما يناسبه وما خلق له،
وجعل لكل خلق ما يصلحه ويناسبه ويتحقق به املقصود من خلقه في أحواله وأفعاله،
فلم يجعل الخلق جنسا واحدا ،بل هؤالء أناس ،وهذا نمل ،وتلك فيلة ،وتلك غنم ،وذاك
نبات ،وهكذا ،وجعل كل خلق من جنس يناسب بعضه بعضا بإحكام وانتظام سبحانه
وتعالىِ .
وأرشد كل مخلوق إلى ما يصلحه :الذي له عقل ،والذي ال عقل له ،أرشده إلى ما يصلحه
وما يكون به بقاؤه ،فأرشد النحل مثال إلى التكاثر وكيف يكون ،وإلى صنع املكان الذي
211
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يحفظ فيه العسل وال يمكن أن يحفظ في غيره ،وكيف يصنع العسل ،وهكذا في سائر
املخلوقاتِ .
وأرشد اإلنسان إلى ما يصلح دنياه ،ويكون به بقاؤه ،وما يتحقق به ما خلق من أجله ،وهو
أن يوحد هللا ويعبده هداية بيان ،وهدى من شاء هدايته من الناس هداية توفيق ،هللا
خلق اإلنسان وهداه ،هدى كل الناس هداية بيان ،وهدى من شاء أن يهديه هداية توفيقِ .
وهو سبحانه الذي أخرج من اْلرض ما تكون به أقوات اْلحياء عليها وتحصل به حياتهم،
فأخرج من بطنها صنوف اْلشجار والنباتات والحشيش اْلخضر ،وهذا متضمن أنه أنزل
من السماء ماء؛ ْلن النبات ال يخرج إال باملاء النازل من السماء بأمر هللا سبحانه وتعالىِ .
وجعل لذلك النبات زهوة ورونقا وشدة وخضرة تعجب الناظرين إليه ،حتى إذا شاء
سبحانه جعله يابسا متكسرا هشيما مسودا من االحتراق واليبس ،متغيرا تطير به الريح،
ويحمله السيل زبدا ويقذف به على جوانبهِ .
وذكر هذه اآليات العظام واملنن الجسام ُم َوطؤ لذكر نعمة عظمى على محمدِصلى هللا عليه
وسلم وعلى أمته ،وهي أن هللا عز وجل سيقرئ النبيِصلى هللا عليه وسلم القرآن الذي هو
كالمه ،ويجعله يحفظه في قلبه وهو اْلمي الذي ال يقرأ وال يكتب ،لكنه ال يحتاج إلى كتابة
َ
حتى يحفظ ،وال يحتاج أن يقرأ مع امللك حتى يحفظ ،بل سيقرئه هللا عز وجل القرآن
يسمعه من امللك فيحفظه وال ينس ى منه شيئا ال قليال وال كثيرا إال ما شاء هللا أن ينساه من
النسيان العارض بعد البالغ ،فالنبيِصلى هللا عليه وسلم يبلغ اْلمة القرآن كامال ال ينس ى
منه حرفا ،ولكنه بعد تبليغه قد يعرض له النسيان فينس ى آية أو يتردد في كلمة ،كما وقع
في صالتهِصلى هللا عليه وسلم ،ليعلم الناس أنه بشر شرفه هللا بالرسالة ،ولذلك قال:
((إنما أنا بشر أنس ى كما تنسون ،فإذا نسيت فذكروني)) ،إال ما شاء هللا أن ينساه من
النسيان العارض بعد التبليغ التامِ .
وكذلك ما ينساه لكون هللا نسخه تالوة وحكما ،فإنه مر معنا في اْلصول أن من اآليات ما
ينسخ لفظا وحكما ،تالوة وحكما ،فهذا ينساه النبيِصلى هللا عليه وسلم ،فهذا معنى إال ما
شاء هللاِ .
وهو سبحانه يعلم الجهر الظاهر والسر الخفي من بني آدم فال يغيب عن علمه ش يء ،فهو
يعلم عالنيتك وسرك ويعلم أعمالك سرها وجهرها ،ويعلم ما في قلبه ،وهذا الخطاب لكل
إنسانِ .
212
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ويبشر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم بنعمة أخرى وهي أنه سيسهل له اليسرى
بجميع معاني اليسر ،فييسر له ذكر القرآن والتذكير به والتذكر به ،وهذا ليس للنبيِصلى
هللا عليه وسلم فقط لكل اْلمة ،ييسر هللا له ذكر القرآن أي :حفظ القرآنِ .
يا إخوة ال يوجد واحد من أمة محمدِصلى هللا عليه وسلم ال يستطيع أن يحفظ القرآن
إال أن يكون في عقله ش يء ،لكن هي الهمم ،وييسر هللا له أن يذكر بالقرآن ،وييسر هللا له
أن يتذكر بالقرآن ،وييسر هللا له دينه حيث جعل دين محمدِصلى هللا عليه وسلم يسرا،
إن هذا الدين يسر ،وييسر هللا له طرق الجنة ،هللا يسر ْلمة محمدِصلى هللا عليه وسلم
طرق دخول الجنة ،ولذلك النبيِصلى هللا عليه وسلم يقو ِل(( :كل أمتي يدخلون الجنة إال
من أبى ،قالوا :ومن يأبى يا رسول هللا؟ قال :من أطاعني دخل الجنة ،ومن عصاني فقد
أبى)) ،وهللا عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،وهللا يضاعف ملن
يشاء وهذا من اليسرى التي جعلها هللا عز وجل ملحمدِصلى هللا عليه وسلم وأمتهِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات ونعود إلى التفسير التفصيليِ .
قال رحمه هللا تعالى :يأمر تعالى بتسبيحه اْلتضمن لذكره وعبادته والخضوع لجَّلله
واالستكانة لعظمته ،وأن يكون تسبيحا يليق بعظمة هللا تعالى بأن تذكر أسماؤه
الحسنى العالية على كل اسم بمعناها العظيم الجليل ،وتذكر أفعالهِ ...
﴿س ِب ِح﴾ قال بعض العلماء :أي :نزه ربك عما ال يليق بجالله من النقائص كلهاِ . َ
﴿س ِب ِح﴾ هنا بمعنى عظم ربك بإثبات الكماالت هلل؛ ْلنه لم يسبق وقال بعض اْلفسرينَ :
هذا اْلمر ما ينزه عنه ،فقالواَ :
﴿س ِب ِح﴾ أي :عظمِ .
والتحقيق أن اْلمرين مقصودان ،فسبح هنا بمعنى نزه ربك عن النقائص ،وعظم ربك
بإثبات الكماالت له سبحانه وتعالىِ .
باالسم؛ ْلن هللا قالَ ﴿ :سبح ْ
اس َم هل اْلمر هنا بتسبيح االسم أو تسبيح الرب أو التسبيح ِ
ِِ َْ َ
َرِب َك اْل ْعلى﴾؟ ِ
فقال أكثر اْلفسرين :هذا أمر بتسبيح الرب سبحانه وتعالى تنزيها وتعظيما ،واالسم هنا
مقحم للتعظيم وللداللة على أنه ُيجمع مع تعظيم القلب وتنزيه القلب تعظيم اللسان
وتنزيهه ،فصار املعنى :سبح ربك ناطقا باسمه ،هذه فائدة ذكر االسم ،يقولو ِن :مقحم هنا؛
ْلن التسبيح املقصود أن يكون للرب سبحانه وتعالى للتعظيم ،لتعظيم هللا عز وجل
وللداللة على التعظيم والتنزيه باللسان ،فيكون التعظيم والتنزيه بالقلب وباللسانِ .
213
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :التسبيح هنا لالسم؛ أي :نزه اسم ربك أن تسمي به غير هللا إن كان
خاصا باهلل ،أو تسمي به غير هللا على الوجه الذي يسمى به هللا إن كان مشتركا ،وعن أن
تمتهنهِ .
وقال بعض اْلفسرين :بل هذا أمر بالتسبيح باالسم أي :بالذكر ،فيكون معنى التسبيح
هنا الذكر ،اذكر ربك باسمهِ .
وكلها مرادة وال تدافع بينها ،فهذا من باب اختالف التنوع ،فيكون اْلمر بتسبيح االسم
وتنزيهه وذلك مستلزم استلزاما أوليا تسبيح الرب سبحانه وتعالى ،إذا كنت تنزه وتسبح اسم
اس َم َرِب َك﴾ِ .
هللا فمن باب أولى أن تنزه وتسبح الرب سبحانه وتعالى ﴿ َسبح ْ
ِِ
لفتات املفسرين يتضح بها املعنى ويعظم بها اإليمان ،ولذلك نحن بحاجة إلى أن نقرأ
التفسير فترة بعد فترة ،يعني يحسن لإلنسان إذا جعل له وردا في قراءة القرآن كل يوم
واختار لورده أفضل وقته ينبغي أن يجعل ْلحسن الكالم وهو كالم هللا أحسن اْلوقات،
أحسن وقت تكون مستجمعا فيه الذهن قبل الفجر بعد الفجر ،يحسن باملؤمن أن
يستصحب كتاب تفسير معتمد مثل كتاب تيسير الكريم الرحمن ،فإذا فرغ من قراءة ورده
قرأ تفسير هذا الورد ،وهذا الحزب الذي يقرؤه من الكتاب ،فيعظم فهمه ويزداد إيمانهِ .
اس َم َرِب َك﴾ الرب هو السيد الكامل في سؤدده ،املصلح لعبيده ،املدبر ْلمرهم ﴿ َسبح ْ
ِِ
املنعم عليهم بشتى النعم ،الخالق لهم ابتداء ،واملالك لهم واملدبر أمورهم ،كلها تدخل في
معنى الربِ .
َْ َْ
﴿اْلعلى﴾ الذي عليه أكثر املفسرين أن اْلعلى وصف للرب ،فاهلل هو العلي املتعالي اْلعلى
الذي له العلو املطلق :علو الذات ،وعلو القدر ،وعلو القهرِ .
وبعض اْلفسرين قال :هذا وصف لالسم ،واالسم هنا يا إخوة جنس ْلسماء هللا عز وجل،
وال شك أن أسماء هللا عليا وحسنىِ .
لكن اْلقرب هو ما ذهب إليه أكثر املفسرين أن هذا وصف للربِ ِ
قال :أو تذكر أفعاله التي منها أنه خلق اْلخلوقات فسواها؛ أي :أتقن وأحسن خلقهاِ ِ.
ََ َّ
﴿ال ِذي خل َق﴾ هذا من ربوبية هللا ،من ِربوبية هللا عز وجل هذه اْلفعال الذي خلق فأوجد
من العدمِ .
214
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
﴿ف َس َّو ٰى﴾ أي :أحكم وأتقن وأعطى كل ش يء خلقه املناسب لهِ .
َ َ َّ
﴿وال ِذي ق َّد َر﴾ تقديرا تتبعه جميع اْلقدراتِ .
َ َ َّ
﴿وال ِذي ق َّد َر﴾ أي :قدر تقديرا محيطا تاما ال يخرج عنه ش يء من املخلوقاتِ .
َ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ق َّد َر﴾ وفق كل شكل من الخلق إلى ما يشاكله ،ووفق
اإلنسان ليكون مع الناس ،النملة تكون مع النمل ،القطة تكون مع القطط ،وهكذا ،فقالوا
هذا معنى قدرِ .
َ
وقال بعض اْلفسرين :أي قدر اْلقوات واْلرزاق ،وعلى هذا يكون معنى ﴿ف َه َد ٰى﴾
أرشدهم إلى طرق اكتساب اْلرزاق التي قدرها ،قدر اْلقوات واْلرزاق فما من مخلوق إال
وقد قدر هللا رزقه وعلى هللا رزقه ،وأرشد كل مخلوق إلى طرق اكتساب ما قدره له من
الرزقِ .
وقال بعض اْلفسرين :أي قدر التناسل بين املخلوقات ليبقى الخلق قائما ،وأرشد الذكر
إلى الطريقة التي يكون بها التناسل مع اْلنثىِ .
َ
أيضا قال بعض اْلفسرين :قدر؛ أي :قدر مدة بقاء الجنين في رحم أمه﴿ ،ف َه َد ٰى﴾ أي:
أرشد الجنين إلى الخروج من الرحم عند انتهاء تلك املدة ،وال شك أن هذا من آيات هللا
العظام ،الجنين في آخر مدة الحمل يستعد للنزول فينقلب ،من الذي أرشده وعلمه؟ ِ
هللا سبحانه وتعالى ،وهذا في الحقيقة كله من باب التفسير باملثال ،فقدر كما قال الشيخ
تشمل كل تقدير ،وكل ما ذكره املفسرون إنما هي أمثلة لهذا التقديرِ ِ.
َ
﴿ف َه َد ٰى﴾ إلى ذلك جميع اْلخلوقاتِ ِ.
َ
فمعنى ﴿ف َه َد ٰى﴾ يعني :أرشدِ ِ.
قال :وهذه الهدايات العامة التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق ْلصلحته ،وتذكر فيها
َْ َ َ َّ َ ْ
﴿وال ِذي أخ َر َج اْل ْرع ٰى﴾ِ ِ. نعمه الدنيوية ولهذا قال:
ما معنى :وتذكر فيها نعمه الدنيوية؟ ِ
أي :أن العبد وهو يسبح هللا وينزه هللا ويعظم هللا سبحانه وتعالى يذكر أسماء هللا الحسنى،
ويذكر أفعال هللا وحكمته ،ويذكر نعمه عليه في الدينا ،هذا مراد الشيخِ ِ.
ل ٰ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ
﴿وال ِذي أخرج اْلرعى﴾ِأي :أنز من السماء ماء فأنبت به أصناف النبات والعشب
الكثير فرتع فيه الناس والبهائم وجميع الحيوانات ،ثم بعد أن استكمل ما قدر له من
الشباب ألوى نباته وصوح عشبه.
215
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َُ َ
﴿ف َج َعل ُه غث ًاء أ ْح َو ٰى﴾ أي :أسود؛ أي :جعله هشيما رميماِ ِ.
َ َ َُ
﴿ف َج َعل ُه غث ًاء﴾ أي :يابسا متكسرا هشيما ،والغثاء :هو الش يء اليابسِ .
وقال بعض العلماء :الغثاء هو الزبد الذي يقذف به السيل يسمى غثاءِ .
أحوى أي :متغيرا ،وقال بعض اْلفسرين :أي صار أسود من يبسه واحتراقهِ .
الغالب أن النبات إذا يبس يحرقه الزراع فيصير أسود ،بدال من كونه أخضر زاهيا يصبح
متكسرا هشيما مسودا من اإلحراقِ .
وقال بعض اْلفسرين :اْلحوى الذي اسود من شدة اخضراره ،إذن يكون هذا متى؟ عند
التكسر وال عند الخضرة؟ عند الخضرة على هذا املعنى ،فيصير املعنى :فجعله أحوى أي:
شديد الخضرة مسودا ،ثم جعله غثاء ،فيصير التقدير هكذا :الذي أخرج املرعى :أخرجه
من اْلرض ،فجعله أحوى أي :جعله أخضر شديد الخضرة حتى أن الناظر إليه يظن أنه
أسود من شدة خضرته ،ثم جعله غثاء يعني :جعله يابسا متكسراِ .
قال :ويذكر فيها نعمه الدينيةِ ِ.
ويذكر فيها أي :في التنزيه والتسبيح نعم هللا الدينيةِ ِ.
نس ٰى﴾ أي:﴿س ُن ْقرُئ َك َف ََّل َت َقال :ولهذا امتن هللا بأصلها ومادتها وهو القرآن فقالَ :
ِ
سنحفظ ما أوحيناه إليك من الكتاب ونوعيه قلبك فَّل تنس ى منه شيئاِ ِ.
وال تحتاج إلى تكراره عند سماعه ،وال إلى لوح لحفظهِ .
﴿ف ََّل َت ََ
نس ٰى﴾ أي :فال يغيب عنك ش يء من القرآن ،ال يغيب قال بعض اْلفسرين :معنى
عن قلبك ش يء من القرآنِ .
َ َ َ
وقال بعض املفسرين :معنى ﴿فَّل ت َ
نس ٰى﴾ أي :فال تترك العمل بالقرآن ،أي :أنا نعينك
فتكون عامال بالقرآن كلهِ .
ولذلك ماذا تقول أمنا عائشة رض ي هللا عنها؟ ((كان خلقه القرآن))ِصلى هللا عليه وسلم،
فتكون على هذا املعنى اآلية قد تضمنت نعمتينِ :
النعمة اْلولى :حفظ القرآنِ .
والنعمة الثانية :العمل بالقرآنِ .
َ
﴿ف ََّل َت َ
نس ٰى﴾ أي :فال تترك العمل بالقرآن وال ببعضه ،بل نعينك على القول بأن معنى
فتكون عامال بالقرآن كله ،تكون اآلية تضمنت نعمة الحفظ في قول هللا عز وجل:
َ
﴿ف ََّل َت َ َ ُْ ُ
نس ٰى﴾. ﴿سنق ِرئ َك﴾ ،وتضمنت نعمة العمل في قول هللا عز وجل:
216
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وال مانع من إرادة املعنيين فال يغيب عن قلبك ش يء من القرآن ،وال تترك العمل بش يء من
القرآنِ ِ.
قال :وهذه بشارة من هللا كبيرة لعبده ورسوله محمد صلى هللا عليه وسلم ،أن هللا
َّ َ َّ
﴿إال َما ش َاء الل ُه ۚ ﴾ مما اقتضت حكمته أن ينسيكه ْلصلحة سيعلمه علما ال ينساهِ ،
وحكمة بالغة ِ
َّ َ َّ
﴿إال َما ش َاء الل ُه ۚ ﴾ هنا وقف املفسرون وقفةِ:هل ينس ى النبيِصلى هللا عليه وسلم شيئا ِ
من القرآن؟ ِ
َّ َ َّ
﴿إال َما ش َاء الل ُه ۚ﴾؟ ِ فقال بعضهم :ال؛ إذا قلنا :ال ال ينس ى ،ما معنى ِ
قالوا :املعنى فال تنس ى إال أن يشاء هللا أن تنس ى ،لكن هللا لم يشأ ذلك ،فهذا التعليق
حقيقي لكنه لم يقع ،يقولونِ :ال تنس ى إال أن يشاء هللا أن تنس ى ،فأنت عبد من عباد هللا،
ولكن هللا لم يشأ ذلك ،وقالوا هذا اْلسلوب معروف ومستعملِ .
وقال بعض اْلفسرين :بل النبيِصلى هللا عليه وسلم ينس ى اآلية من القرآن ،سبحان هللا!
كيف ينس ى؟ ما الذي ينساه؟ قالوا أمرانِ :
اْلمر اْلول :النسيان العارض بعد تمام البالغ كما قلنا في التفسير املوضوعي ،فيعرض له
ِّ
النسيان بعد أن بلغ القرآن من غير نقص وال نسيان ،كما حصل للنبيِصلى هللا عليه وسلم
وه ِو يصلي نس ي آية ،ونوزع آية ،وتردد في كلمة هذا عارض ،وقد وقع وله حكمة كما قلنا
أن يعلم الناس أنه بشر ،فال يصرف له ش يء من أنواع العبادةِ .
واْلمر الثاني :ما نسخ لفظه ومعناه وحكمه ،فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم ينساه وال يقرأ
به بعد نسخهِ .
تفسير اآليةِ ِ.ِ وهذا هو الصواب في
َْ َّ َ ْ
﴿إن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر َو َما َيخف ٰى﴾ ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده؛ أي :فلذلك يشرع قالِ :
ما أراد ويحكم بما يريدِ ِ.
أي :يعلم كل ش يء سبحانه وتعالى ،فخلقه وتقديره وشرعه عن علم وحكمةِ .
َْ َّ َ ْ
﴿إن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر َو َما َيخف ٰى﴾ هنا إنه يعلم ما يبقى من
وقال بعض املفسرين :معنى ِ
القرآن فتجهر به وتقرؤه ،وما يخفى؛ أي :ما ينسخ فال تقرأ بهِ .
َّ َ ْ
﴿إن ُه َي ْعل ُم ال َج ْه َر﴾ أي :ما تجهر به من القرآن لبقائه وعدم نسخهِ . ِ
217
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ْ َ
﴿و َما َيخف ٰى﴾ أي :ما ال تقرأ به من القرآن لكونه قد نسخ ،يعلم ذلك قبل النسخ سبحانه َ
وبعد النسخِ ِ.
ْ َُ
﴿ون َي ِس ُر َك ِلل ُي ْس َر ٰى﴾ وهذه أيضا بشارة أخرى أن هللا ييسر رسوله صلى هللا عليه وسلم
لليسرى في جميع أموره ،ويجعل شرعه ودينه يسيراِ .
كما قلنا :اليسرى تشمل اليسر بجميع وجوهه ،فال إعنات في دين محمدِصلى هللا عليه
وسلم ،يسر هللا لنا القرآن ،ويسر هللا لنا السنة ،ويسر هللا لنا العلم ،وجعل دينه كله
يسرا ،ويسر لنا دخول الجنة ،يسر لنا طرق الجنة ،ويسر لنا الخروج من الذنب ،لم يجعل
الذنب إذا ارتكبناه الزما لنا ال ننفك عنه ،ولم يوجب علينا أمرا شاقا عسيرا حتى نخرج من
الذنب ،بل يسر لنا الخروج بتوبة صادقة ،فإذا بنا نخرج من الذنب كلهِ .
َّ َ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َّ َّ ْ َّ َ َ ََ
الذك َر ٰى (َ )9س َيذك ُر َمن َيخش ٰى (َ )10و َيت َجن ُب َها اْلشقى ( )11ال ِذي ﴿فذ ِك ْر ِإن نفع ِت ِ
وت ِف َيها َوَال َي ْح َي ٰى (َ )13ق ْد َأ ْف َل َح َمن َت َز َّك ٰى (َ )14و َذ َكرَ ُ َّ َ َ ُ ُ َ ْ َ َّ ْ ُ
صلى الن َار الك ْب َر ٰى ( )12ثم ال يم ي
َّ َٰ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ ٌ َ َ ْ َٰ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُّ َْ ْ َ َ َ َ َّٰ
اسم رِب ِه فصلى ( )15بل تؤ ِثرون الحياة الدنيا ( )16واآل ِخرة خير وأبقى (ِ )17إن هذا ل ِفي
يم َو ُم َص ُحف إ ْب َراه َاْل َول ٰى (ُ )18 ُْ ُّ ُ
وس ٰى (.﴾ )19 ِ ِ ِ ف الصح ِ
في هذه اآليات الجليالت العظيمات يأمر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وكل من
يصلح للخطاب بأن يعظ الناس ويعلمهم القرآن ،وما دل عليه القرآن ،فستنفع الذكرى،
فإن الذكرى تنفع املذكر فيكتب له اْلجر وتبرأ ذمته ،وتنفع التقي الذي يخاف هللا عز وجل
ويخاف وعيده ويخاف اليوم اآلخر بعلم وإيقان ،وأما الشقي فإن الذكرى تنفع بإقامة
الحجة عليهِ .
فالذكرى تنفع على كل حال ،فالتقي الذي يخاف هللا ويخاف وعيده واليوم اآلخر مع العلم
بذلك واإليقان بذلك يتعظ بالذكرى ،ويتعظ بمواعظ القرآن ،ويتعظ بالزواجر العظيمة،
فيزداد إيمانا وخشية وإقباال على اْلعمال الصالحة وبعدا عما يغضب هللا تعالى ،وأما
اْلشقى الذي أحاطت به الشقاوة وكان أشقى الناس فسيعرض عن الذكرى ،ويعاند ويتكبر
وال يعتبر باملواعظ ،فيكون مآله إلى أشقى حال ،فيكون في أشقى الشقاء فيدخل النار
جزءا ،يحترق فيها ويقاس ي حرها ويعاني أليم الكبرى التي تفضل نار الدنيا بتسعة وستين ً
عذابها الدائم الذي ال يخفف عنه لحظة ،وال يتعود عليه جسده ،وال راحة منه حتى يتمنى
أن ُيخرج من النار ليعمل الصالحات ،ويعطي العهود واملواثيق املغلظة على أال يرجع إلى ما
َ َُ ْ ُ
كان ،فيكون جوابه مع غيره ﴿اخ َسئوا ِف َيها َوال تك ِل ُمو ِن﴾ [املؤمنونِ ،]108 :فإذا يئس من
218
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الخروج نادى مالكا خازن النار ليقض علينا ربك ،فيتمنى املوت فيكون جوابه مع غيره:
إنكم ماكثون ،فال يموت في النار حتى يرتاح من العذاب وال يحيى حياة تسعده وتسره كما
يحب الحي ويتمنى ،فهي حياة املوت خير منها ،واملوت أحب إلى صاحبها منهاِ .
وبين هللا عز وجل سبب سعادة السعداء يوم القيامة وشقاء اْلشقياء يوم القيامة؛ بأن
تطهر في الدنيا من الدنائس والرذائل واْلخالق السيئة ،ومما السعيد يوم القيامة هو من َّ
َّ
يغضب هللا سبحانه وتعالى ،فزكى قلبه فكان طاهر القلب ،وزكى ظاهره فكان طاهر العمل،
فأفلح في دنياه وأفلح في أخراه ،وفاز الفور العظيم إذا لقي هللا عز وجل ،ودعته تزكية
نفسه إلى اإلقبال على طاعة هللا واالجتهاد في طاعة هللا بقلبه ولسانه وجوارحه ،فأكثر من
ذكر هللا عز وجل حتى أصبح لسانه رطبا من ذكر هللا ،وأصبح قلبه طيبا بذكر هللا سبحانه
وتعالى ،واطمأن قلبه بذكر هللا ،وعمل الصالحات وعلى رأسها الصالة التي هي خير أعمال
العبادِ .
وأما اْلشقياء في اآلخرة فإن سبب شقائهم أنهم قد اغتروا بالدنيا وبزخارفها وبمتاعها من
غير تفكر وتدبر ،فقدموا الدنيا الغترارهم بها على اآلخرة ،منهم من قدم الدنيا على اآلخرة
تقديما كليا فكفر باهلل عز وجل ولم يعمل ْلخراه ،ومنهم من آمن باهلل لكن ألهته الدنيا عن
أخراه فعمل املعاص ي وأسرف على نفسه ،ولم يقبل دعاء هللا له بالتوبة ،وأصر واستكبر
حتى مات على ذلك ،فكان إيثاره الدنيا سبب شقائه عند لقاء هللا سبحانه وتعالى ،فأدخله
هللا نارا فيها الشقاء والعذاب الدائم ،إن كان كافرا ال ينقطع عنه ذلك العذاب ،وإن كان
مؤمنا استحق دخول النار بعمله ،وشاء هللا أن يعذبه بعمله دخل النار فكان فيها شقيا،
وغمسة في النار هي عذاب شديد ،وجمرتان من النار يغلي منهما الدماغ ،فكيف بدخول
النار ولو في زمن يسير غير مؤبد؟! ثم ُيخرج منها إن كان في قلبه إيمان بعد أن يشقى بعذابها
ويعاني عذابهاِ .
ثم بين هللا عز وجل أن هذا املذكور قريبا من أن الفالح ملن تزكى وأتعب نفسه في طاعة
هللا ،وأن سبب الشقاء تقديم الحياة الدنيا على اآلخرة ،وأن اآلخرة خير وأبقى من ذاك
املتاع الزائل قد تتابعت عليه اْلنبياء واتفقت عليه اْلنبياء ،فهو في الصحف اْل ِولى التي
سبقت نزول القرآن ،فهو في صحف إبراهيم عليه السالم الذي هو أفضل اْلنبياء بعد
محمدِصلى هللا عليه وسلم ،وفي صحف موس ى بن عمران عليه السالم الذي هو أفضل
اْلنبياء بعد محمدِصلى هللا عليه وسلم وإبراهيم ،فهذا اْلمر مصلحته دائمة قد جاء به
219
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
جميع اْلنبياء وقرره جميع اْلنبياء ،فحق للعاقل وهو يسمع ذلك أن ينظر في الدنيا نظرة
تدبر واعتبار ،وأن يرى كيف أن نعيمها إن حصل يكدر بمنغصات في أثناءه ،ثم يزول وال
يبقى نعيما ،بل يورث في القلب حسرة وظلمة وكآبة ،وأن الدنيا كلها مهما طالت فإنها
قصيرة مفا ِرقة أو مفا َرقة ،فاإلنسان فيها إما أن يفارقها باملوت ،وإما أن تفارقه بارتحال ما
فيها ،حتى إذا شاء هللا عز وجل فنيت الدنيا كلها وكانت اآلخرةِ .
وأن يعلم علم اليقين أن اآلخرة خير له وأبقى ،فوهللا ثم وهللا لو أن نعيم الدنيا كلها جمع
لإلنسان بطريق يغضب هللا سبحانه وتعالى فإن لحظة في النار تنسيه كل ذلك النعيم ،وإن
لحظة من نعيم الجنة أعلى وأحلى وأكمل من نعيم الدنيا كله لو اجتمع إلنسان ،فكيف
يؤثر العاقل املوقن النعيم املكدر الفاني على النعيم الخالص الدائم الباقي؟! ِ
ال شك أن املوفق سيدرك أن الباقي خير له من الفاني ،فإن كان على طاعة اجتهد فيها
وأكثر وعمل على اإلخالص واملتابعة ،وإن كان في معصية فارقها خوفا من هللا عز وجل
ويقينا بتلك الحقيقة املطلقة العظيمةِ .
هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات العظيمة التي تغسل قلوب
املؤمنين ،وتزلزل قلوب الكافرين ،ونعود للتفسير التفصيلي لبيان معنى أو معاني بعض
الكلمات في اآليات ،ونقرأ ما سطره اإلمام املفسر اْلصولي الفقيه عبد الرحمن بن ناصر بن
سعدي السعدي رحمه هللا عز وجل في كتابه النافع :تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم
املنانِ ِ.
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له
ََ
ولشيخنا والسامعين :قوله ﴿فذ ِك ْر﴾ بشرع هللا وآياتهِ ِ.
فذكر بمعنى عظ وعلم بالقرآن وما دل عليه القرآن ،وهو مراد الشيخ بقوله :بشرع هللا
وآياتهِ ِ.
ْ َّ َ َ
الذك َر ٰى﴾ أي :ما دامت الذكرى مقبولة واْلوعظة مسموعة سواء حصل من ﴿إن نفع ِت ِ ِ
الذكرى جميع اْلقصود أو بعضه ،ومفهوم اآلية أنه إن لم تنفع الذكرى بأن كان التذكير
يزيد في الشر أو ينقص من الخير لم تكن مأمورا بها بل منهيا عنها.
هذا على أن إن شرطية ،فيكون معنى اآلية :فذكر إن غلب على ظنك أن الذكرى ستنفع
َّ
املذكر فيزداد بها الخير ويكسر بها الشر ،وال تذكر إن غلب على ظنك أن الذكرى ستضر،
فيعظم بها الشر أو ينفر بسببها من الخير ،هذا معنى كالم الشيخ ،نفع يقابله ضر ،إن غلب
220
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
على ظنك أن الذكرى ستنفع ذكر ،وإن غلب على ظنك أن الذكرى ستضر في هذا املقام
أمسكِ .
وقال بعض اْلفسرين :املعنى :فذكر إن نفعت الذكرى وال تذكر إن لم تنفع ،فإن غلب
على ظنك أنها تنفع ذكر ،وإن غلب على ظنك أنها ال تنفع أمسك ،ما الفرق بين هذا والذي
قبله؟ ِ
هذا الذي يقابل النفع هو عدم النفع ،عدم حصول النفع حتى لو لم يقع ضرر ،أما الذي
قبله فالذي يقابل النفع هو حصول الضررِِ .
وقال بعض اْلفسرين :املعنى :ذكر إن نفعت الذكرى وهي نافعة على كل حال؛ ْلنها تنفع
َّ ِّ
املذكر بثبوت اْلجر له وبراءة ذمته ،وتنفع املذكر إن كان تقيا فيتعظ ويعتبر ،وأما الشقي ِ
فإن نفعها بالنسبة إليه أن تقام عليه الحجة ،ونتيجة ذلك يكون املعنى :فذكر على كل
حال فإن الذكرى نافعةِ .
وقال بعض أهل العلم :املعنى :ذكر على كل حال فإنك ال تدري متى تنفع الذكرى ومتى ال
تنفع ،فإن علم ذلك عند هللا ،فإنه يعلم من ينتفع ومن ال ينتفع ،أما أنت فإنما عليك
َّ
البالغ وعليك البيان وعليك الذكرى ،فإنك ال تدري هل ينتفع املذكر بهذه الذكرى أو ال
ينتفعِ ِ.
قال :فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين :منتفعون وغير منتفعين ،فأما اْلنتفعون فقد
ْ َ َ َّ َّ
﴿س َيذك ُر َمن َيخش ٰى﴾ هللا ،فإن خشية هللا تعالى والعلم بمجازاته على ذكرهم بقوله:
اْلعمال توجب للعبد االنكفاف عما يكرهه هللا والسعي في الخيراتِ ِ.
َ ْ َ
﴿من َيخش ٰى﴾ الخشية هي الخوف بعلم ،فهي نوع من الخوف؛ ْلن الخوف قد يكون بعلم
ْ َ َّ ْ َ َّ
وقد يكون بغير علم ،أما الخشية فهي بعلم ﴿ ِإن َما َيخش ى الل َه ِم ْن ِع َب ِاد ِه ال ُعل َم ُاء ۗ﴾ [فاطر:
،]28فالخشية بعلمِ .
َ ْ َ
﴿من َيخش ٰى﴾ من يخش ى هللا ملعرفته بربه ويقينه بذلك ،ويخش ى وعيد هللا ملعرفته فمعنى
بذلك ويقينه ،ويخش ى اليوم اآلخر ملعرفته بذلك ويقينهِ ِ.
َّ َ ْ َ َّ َ َ َّ ْ َ ْ َ
صلى الن َار ﴿و َيت َجن ُب َها اْلشقى ( )11ال ِذي ي قال :وأما غير اْلنتفعين فذكرهم بقوله:
ُْ
الك ْب َر ٰى ( ،﴾)12وهي النار اْلوقدة التي تطلع على اْلفئدةِ ِ.
َ َ َّ ْ َ ْ َ
﴿و َيت َجن ُب َها اْلشقى﴾ اْلشقى أفعل تفضيل؛ أي :أنه وأما غير املنتفعين فذكرهم بقوله
أشقى اْلشقياء؛ ْلن شقاءه في فساد دينه ،وأشقى الشقاء هو فساد الدين ،الشقاء قد
221
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
تكون له أسباب دنيوية :يكون هذا شقيا ْلن أوالده يعقونه فيشقى بهم ،يكون هذا شقيا
ْلنه ال مال عنده ،وهذا شقاء عارض ،لكن أشقى اْلشقياء هو من يكون شقاؤه في فساد
دينه ،فهو في الدنيا أشقى اْلشقياء ،ويكون مآله يوم القيامة إلى أشقى الشقاء وهو دخول
النار والعياذ باهللِ .
وقال بعض العلماء :املراد باْلشقى هنا الكافر فإنه أشقى العصاة ،العصاة أشقياء،
أشقاهم هو الكافر ،وقالوا :إن الحديث هنا إنما هو عن الكافرِ .
لكن هذا القول مرجوح والراجح هو ا ِْلولِ :اْلشقى الذي هو أشقى اْلشقياء بسبب فساد
دينه ،وهو يعرض عن الذكرى ويعاند ويصر على الشر الذي هو فيهِ .
َّ َ ْ َ
صلى﴾ يصلى يعني يحترق ويعاني العذاب ،يعني يحترق بالنار ويعاني عذابهاِ . ﴿ال ِذي ي
َّ ْ ُ
﴿الن َار الك ْب َر ٰى﴾ هي نار جهنم -والعياذ باهلل -دار االنتقام ،وهي النار الكبرى ،والنار
الصغرى هي نيران الدنيا كلها ،كل نيران الدنيا منذ أن قامت الدنيا إلى أن تفنى هي بالنسبة
لجهنم نار صغرى؛ ْلن نيران الدنيا -ال إله إال هللا ،-نيران الدنيا كلها بما ترون من نيران
اْلفران ونيران البترول والحرائق إلى غير ذلك من النيران إنما هي جزء من سبعين ً
جزءا من
نار جهنم ،ففضلت نار جهنم على نيران الدنيا بتسعة وستين ً
جزءاِ .
جزءا من نار جهنم ،قيل :يا قال النبيِصلى هللا عليه وسلم(( :ناركم جزء من سبعين ً
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إن كانت لكافية)) ،إن كان هذا الجزء من السبعين وهو
نار الدنيا لكاف في العذاب ،فقالِصلى هللا عليه وسلم(( :إنها فضلت عليها بتسعة وستين
جزء كلهن مثل حرها)) متفق عليه ،فلو أن نيران الدنيا كلها عبر أزمنتها وأماكنها جمعت في
مكان واحد في وقت واحد لكان حر تلك النيران جزءا من سبعين جزء من حر جهنم ،وكل
جزء من التسعة والستين الباقية مثل حر هذا الجزء ،نعوذ باهلل من عذاب هللا ،إنها النار
الكبرىِِ ِ.
َ ُ ُ َ
﴿ث َّم ال َي ُموت ِف َيها َوال َي ْح َي ٰى﴾ أي :يعذب عذابا أليما من غير راحة وال استراحة ،حتى إنهم
َ َ ُ َ َ َّ ُ َ ْ
يتمنون اْلوت فَّل يحصل لهم ،كما قال تعالى﴿ :ال ُيق َض ٰى َعل ْي ِه ْم ف َي ُموتوا َوال ُيخفف
َ
َع ْن ُهم ِم ْن َعذ ِاب َها ۚ﴾ِ .
يقول قائل :هذان نقيضان ،املوت والحياة نقيضان ،اإلنسان إما أن يكون ميتا وإما أن
يكون حيا ،ال يجتمعان معا وال يرتفعان معا ،ال يمكن أن يكون اإلنسان حيا ميتا ،وال
222
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ُ ُ َ
يمكن أن يكون ليس حيا وليس ميتا ،فلماذا قال هللا عز وجل﴿ :ث َّم ال َي ُموت ِف َيها َوال
َي ْح َي ٰى﴾؟ ِ
قلنا :إن املقصود بالحياة هنا الحياة التي تحصل بها الراحة ،التي يحصل بها السرور ،التي
يتمناها اإلنسان ،فإنه ال يموت موتا يرتاح به ،وال يحيى حياة يرتاح فيها ،فهي كما قلنا
حياة املوت خير منها لصاحبهاِ ِ.
َ َّ َ َ َْ
﴿ق ْد أفل َح َمن ت َزك ٰى﴾ أي :قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم
ومساوئ اْلخَّلقِ ِ.
قد للتحقيق ،فالفالح إنما هو في التزكية ،والفَّلح :هو الفوز باملطلوب والنجاة من
املرهوب ،وال يكون الفالح في الدنيا على الحقيقة وفي اآلخرة إال ملن تزكى وعمل الصالحات،
فصفى قلبه وأعماله وأخالقه مما يغضب هللا ،ور َّبى نفسه على طاعة هللا ،فكان عامال
بالتصفية والتربيةِ .
التصفية :التزكية ،والتربية :هي الزيادة في الخيرِ .
فـ تزكى معناها طهر قلبه وأقواله وأعماله من الدنائس والرذائل ،وأعظم ذلك التطهر من
الشرك في االعتقاد والعمل والقولِِ .
َ َّ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ت َزك ٰى﴾ هنا أي :زكىِأمواله ،قد أفلح من أدى الزكاةِ .
َ َ َّ
﴿من ت َزك ٰى﴾ هنا من زكى زكاة الفطر ،فزكى نفسه بأداء زكاة وقال بعض اْلفسرين :معنى
الفطرِ .
وعلى هذين املعنيين اْلخيرين تكون هذه اآلية مدنية؛ ْلنه تقدم معنا أنه عند جمهور
العلماء -وهو الصواب -أن اْلعلى سورة مكية ،لكن على هذا التفسير تكون هذه اآلية
مدنية؛ ْلن الزكاة لم تفرض إال في املدينة ،وزكاة الفطر لم تفرض إال في املدينة ،وهذا ما
جعل بعض املفسرين املتأخرين يقولِ :من ذكر هذا املعنى من السلف مراده أن اآلية تشهد
لهذا ،وليس املراد أنه ه ِو املراد من اآلية ،بمعنى :أن هذا املعنى يدخل في عموم اآلية وليس
هو املراد باآلية ،بل املراد باآلية العموم فيدخل في عمومه هذا املعنى ،فتكون اآلية شاهدا
لهذا املعنى ،وليس هذا املعنى مرادا أصليا من اآلية وإنما يدخل في عمومهاِ ِ.
َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َّ
صل ٰى﴾ أي :اتصف بذكر هللا وانصبغ به قلبه ،فأوجب له ذلك العمل ﴿وذكر اسم رِب ِه ف
بما يرض ي هللا خصوصا الصَّلة التي هي ميزان اإليمان ،هذا معنى اآلية الكريمةِ ِ.
اس َم َرِب ِه﴾ أي :داوم على ذكر هللاِ . ﴿و َذ َك َر ْفيكون معنى َ
223
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َّ
صل ٰى﴾ أي :اجتهد في طاعة هللا باْلعمال وعلى رأسها الصالةِ . ﴿ف
َ َ
﴿وذك َر ْصل ٰى﴾ أي :في يوم الجمعةَ ، َّ َ
اس َم َربه ف َ َ
﴿وذك َر ْ َ ِوقال بعض املفسرين :معنى َ
اس َم ِِ
َرِب ِه﴾ أي :الخطيب في الخطبة واملصلي بالسماع ،قالوا :الخطيب في الخطبة عندما يعظ
َ َ َّ
صل ٰى﴾ أي :صلى صالة الجمعة ،وقالوا: ويذكر ذكر اسم ربه ،واملصلي بسماع الخطبة﴿ ،ف
هذا يدل على أن صالة الجمعة والعناية بها من أعظم ما يتزكى به اإلنسان ،كما أن عدم
العناية بالجمعة وإهمال الجمعة من أعظم ما يدنس قلب اإلنسان ،حتى أنه إذا ترك ثالث
جمع تهاونا فودعها تهاونا طبع على قلبه وختم على قلبهِ .
اس َم َرِب ِه﴾ أي :ذكر اسم ربه على اْلضحية في يوم ﴿و َذ َك َر ْوقال بعض اْلفسرين :معنى َ
َ َ َّ
صل ٰى﴾ أي :صلى صالة العيد صالة عيد اْلضحىِ . النحر﴿ ،ف
والكالم هنا في هذين التفسيرين كالكالم في السابق ،على هذين التفسيرين تكون اآلية
مدنية؛ ْلن هذا إنما كان في املدينة ،أو على ما وجهه بعضهم يكون كالم بعض السلف
الذين ذكروا هذا املعنى مرادا به أن هذا يدخل في عموم اآلية ،فاآلية شاهد له ،وليس هو
املراد بعينه باآلية ،وإنما يدخل في عمومهاِ .
وما ذكره الشيخ أولى ،وقد قلت لكم سابقا إنه في تفسير القرآن يحمل املعنى على املعنى
اْلعم ما دام أن اللفظ يحتمله والسياق يقبله ،دائما في التفسيرِ:يحمل املعنى على املعنى
اْلعم بشرط أن يكون اللفظ محتمال له وأن يكون السياق قابال لهِ ِ.
﴿و َذ َك َر ْ
اس َم َرِب ِه ﴿ت َز َّك ٰى﴾ يعني :أخرج زكاة الفطرَ ، َ
قال رحمه هللا :وأما من فسره قوله:
َ َ َّ
صل ٰى﴾ أنه صَّلة العيد ،فإنه وإن كان داخَّل في اللفظ وبعض جزئياته فليس هو اْلعنى ف
وحده.
ْ
َ ْ ُ ْ ُ َ َ َ َ ُّ ْ
الدن َيا﴾ أي :تقدمونها على اآلخرة وتختارون نعيمها اْلنغص اْلكدر ﴿بل تؤ ِثرون الحياة
الزائل على اآلخرةِ ِ.
بل يقول العلماء هي لإلضراب االنتقالي؛ أي :لنقل الخطاب من ش يء إلى ش يء ،فيؤتى بـ بل
لإلضراب عن الكالم السابق ونقل الك ِالم إلى أمر آخر؛ ْلنه كما يعرف طالب العلم
اإلضراب إما إبطالي وإما انتقاليِ .
.1إما إبطالي ملا قبله وبيان الحق بعدهِ .
.2وإما انتقالي :ينقل الكالم من ش يء إلى ش يءِ .
و (بل) هنا لإلضراب االنتقاليِ .
224
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُّ ْ
الدن َيا﴾ أي :تقدمون الحياة الدنيا على اآلخرة ،والحياة الدنيا سميت ﴿تؤ ِثرون الحياة
دنياْ ،لنها قريبة الزمان إلى اإلنسان ،فاإلنسان يعيش فيها فهي قريبة لهِ .
وسميت دنيا كذلك لقصر زمانها ،فهي وإن طالت قصيرة فانيةِ .
وسميت دنيا كذلك؛ ْلنها متقلبة فال تستقر باإلنسان على حال ،يوم في نعيم وضحك،
ويوم في بكاء وشقاء ،بل قد يكون في ساعة في غاية السرور ،ثم يكون في بقية يومه في غاية
الشقاء ،فهي دنيا ،ومن تفكر فيها دلته على نفسهاِ .
العاقل ال يحتاج إلى أكثر من أن يتفكر في الدنيا فيما مر عليه هو كم بلغ اليوم؟ بلغ أربعين
سنة ،يتفكر فيما مض ى فتدله الدنيا على نفسها وأنها دنيا ،وهكذا كل من بلغ عمرا إذا
تفكر فيها دلته الدنيا على نفسها ،وأنها دنيا ال تبقى على حالِ ِ.
َ ْ ُ َ َ َ
﴿واآل ِخ َرة خ ْي ٌر َوأ ْبق ٰى﴾ خير من الدنيا في كل وصف مطلوب ،وأبقى لكونها دار خلد وبقاء
وصفاء ،والدنيا دار فناء ،فاْلؤمن العاقل ال يختار اْلردأ على اْلجود ،وال يبيع لذة ساعة
بترحة اْلبد ،فحب الدنيا وإيثارها على اآلخرة رأس كل خطيئة.
ٰ َ
﴿إ َّن َهذا﴾ اْلذكور لكم في هذه السورة اْلباركة من اْلوامر الحسنة واْلخبار ِ
اْلستحسنة.
ص ُحف إ ْب َراه َ
يم َو ُم َ ُْ
اْل َول ٰى (ُ )18 ُّ ُ َّ َٰ َ َ
وس ٰى ( ﴾)19اللذين هما أشرف ِ ِ ِ ف﴿إن هذا ل ِفي الصح ِ ِ
اْلرسلين بعد محمد صلى هللا عليه وعليهم أجمعين ،فهذه أوامر في كل شريعة لكونها
عائدة إلى مصالح الدارين ،وهي مصالح في كل زمان ومكانِ ِ.
ٰ َ
﴿إ َّن َهذا﴾ هذا اسم إشارة إلى قريبِ . ِ
فقال بعض اْلفسرين :يرجع إلى السورة كلها ،إن هذا املذكور في هذه السورة قد جاء به
اْلنبياء جميعا ،فهو من املصالح الثابتة التي ال تختلف باختالف اْلممِ .
وقال بعض اْلفسرين :هذا يرجع إلى أقرب ش يء ،وهو أن الفالح ملن تزكى إلى آخره ،وهذا
أقرب املعاني إن شاء هللاِ .
وقال بعض اْلفسرين :هذا يعود إلى الجملة اْلقرب وهي الجملة اْلخيرة ،إن كون اآلخرة
خيرا وأبقى في صحف جميع اْلنبياء ،فكان ذلك في الصحف اْلولىِ .
وذكر إبراهيم عليه السالم وموس ى عليه السالم لكونهما أشرف اْلنبياء بعد النبيِصلى هللا
عليه وسلم بعد محمدِصلى هللا عليه وسلم؛ وْلن أخبارهما معلومة عند العرب الذين
َ
كانوا يخاطبون بالقرآن عند نزول هذه اآليات ،فإبراهيم عليه السالم أخباره معروفة في
225
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
مكة ،وموس ى عليه السالم أخباره معروفة ومنتشرة ،فخصا بالذكر لهذين اْلمرين
العظيمينِ .
وال يعني هذا أن هذا ليس مذكورا إال في صحف إبراهيم وموس ى ،بل هو مذكور في
الصحف اْلولى كلها ،وصحف إبراهيم وموس ى هذا من الخاص بعد العام ملا ذكرناِ .
وبهذا يتم تفسير هذه السورة العظيمة التي فيها الحكم الكلية العظمى والفوائد الكبرىِِ :
-فمن فوائدها بيان بعض اآليات الكونية التي تدل على قدرة هللا وتدبيره وقوته وإحاطته
بخلقه ،وأنه املستحق للعبادة سبحانه وتعالىِ .
-ومن حكمها الكلية وفوائدها العظمى :بيان نعمة هللا الكبرى على محمدِصلى هللا عليه
وسلم وعلى أمته بحفظ القرآن وتيسير الدين وتيسير طرق الجنة ،فاهلل رحم هذه اْلمة
فحفظ كتابها ،ولم يكل حفظ كتابها إلى العلماء ،ويسر دينها ويسر لها طرق الجنة ،واليهود
والنصارى يحسدوننا على هذاِ .
ِّ
يذكر، -ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن من علم شيئا ينبغي عليه أن ِ
وأما قلوب الناس فليست بيده ،وال يعلم شيئا عن حالها ،فال ينبغي للداعية وال املربي أن
ييأس من إنسان ما بقيت الروح في جسده ،بل يذكره دائما ،فوظيفته البيان والتذكير،
وأما من ينتفع ومن ال ينتفع فعلم ذلك إلى هللا سبحانه وتعالىِ .
-ومن فوائدها الكلية وحكمها العظمى :بيان أن من أعظم اْلسباب النطماس بصيرة
اإلنسان إيثار الحياة الدنيا واالغترار بها من غير تفكر في حقيقتهاِ .
-ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن من الشرائع ما اتفق عليه اْلنبياء،
فليست شرائع اْلنبياء مختلفة في جميع شرائعها -جميع أعمالها ،-بل هناك من الشريعة ما
اتفق عليه اْلنبياء وكلفت به جميع اْلمم ،وذلك لثبات املصالح واملفاسد فيها ،فال تتغير
مصالحها وال املفاسد املدروءة بذلك الشرع باختالف الزمان واملكانِ .
ِ
ِ
ِ
ِ
ِ
226
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الغاشية
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ َْ َ ٌ َ َ ٌ َّ ُ ُ ٌ ََْ َ ٌَ َ ْ ََ َ َ ُ
يث ْال َغاش َ
صل ٰى نا ًرا اص َبة ( )3ت
ِ ن ة ل ام
ِ ع ) 2 ( ةع اش
ٍِ ِخ ذ ئ مو ي وه ج و ) 1 ( ة ي
ِ ِ ﴿هل أتاك ح ِد
َ ْ َّ ام إ َّال من َ َّ ْ َ َ ْ َ َ ٌ ُ ْ َ َ ًَ
ض ِر ٍيع ( )6ال ُي ْس ِم ُن َوال ُيغ ِني ْ َْ َ
ح ِامية ( )4تسق ٰى ِمن عي ٍن آ ِني ٍة ( )5ليس ل ُهم طع ِ ِ
َّ َ َّ ٌ اع َم ٌة (ِ )8ل َس ْعي َها َ ُ ُ ٌ َ ْ َ َّ
اض َية (ِ )9في َجن ٍة َع ِال َي ٍة ( )10ال ت ْس َم ُع ِ ر ِ ِ ن وع ( )7وجوه يوم ِئ ٍذ ٍ ِمن ُج
َ َ ْ َ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ َ ُ ُ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ ٌ َ ً
وعة ()14 وعة ( )13وأكواب موض ِف َيها ال ِغ َية (ِ )11ف َيها َع ْي ٌن َجا ِرَية (ِ )12فيها سرر مرف
ُ ٌَ َ ََ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ
صفوفة (َ )15وز َر ِاب ُّي َم ْبثوثة (ِ .﴾ )16 ونم ِارق م
َ
في هذه السورة املكية باتفاق العلماء يقول هللا لنبيهِصلى هللا عليه وسلمَ ﴿ :ه ْل أ َت َ
اك
َ ُ ْ َ
اش َي ِة﴾ أي :قد جاءك نبأ الغاشية على وجه التفصيل ،فجاءك نبأ يوم القيامة ح ِديث ال ِ
غ
الذي يغش ى الناس جميعا ويعمهم ويحيط بهم من كل جانب باْلهوال والكروب ،وما فيه
من النار التي تغطي أهلها بلهيبها وعظيم عذابها وتأتيهم من كل مكان ،حيث ينقسم الناس
في ذلك اليوم إلى أشقياء وسعداءِ .
أما اْلشقياء فوجوههم ذليلة منكسرة حيث امتألت قلوبهم بالذلة ،وظهر أثر ذلك على
وجوههم ،وعلى نظرهم فال ينظرون إال من طرف خفي ،وعلى أصواتهم فاختفت أصواتهم
ذلة وانكسارا ،وهذه الوجوه الذليلة يوم القيامة في النار عاملة عمال فيه نكالها وعذابها،
فهي تحمل اْلغالل الثقيلة ،وتجر السالسل الطويلة ،وتنقل أقدامها في النار بثقل وألم
شديد ،كالذي ينقل أقدامه وقد غرق في الطين ،وأحاط به الطين من كل جانب ،فهي في
غاية التعب وفي شدة العذاب الذي ال راحة منه ،وقد دخلت النار الحامية التي اشتد حرها
ْ
ودام فال تخفو وال يخف عذابها ،فأحرقهم حرها وشواهم لهيبها ،وهو حر ال يخبو فيخف
إحراقه ،وال تتعود عليه اْلجساد فيخف أثره ،فهو سعير أبدا ،والجلود تبدل كل ما احترقت
جلودا غيرهاِ .
ومن عذاب تلك الوجوه الشقية أن ما تشربه ليس قريبا منها تتناوله متى أحست
بالعطش ،بل هو بعيد عنها ال يعطى لها إال إذا اشتد عطشها فاستغاثت وطالت استغاثتها،
عند ذاك يأتيها السقاة به متى شاؤوا ،وذاك الشراب هو ماء قد بلغت في الحرارة منتهاه،
وصديد أهل النار من الدماء والقروح وما يخرج من فروج النساء ،وقد اشتد حره وبلغ
الغاية في الغليان ،فإذا أعطاهم السقاة ذاك الشراب فقربوه من وجوههم شوى وجوههم،
227
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فإذا شربوا منه مع حرارته لشدة عطشهم صهر ما في بطونهم ،وأذاب ما في أجوافهم ،فهو
شراب ال خير لهم فيه ،بل فيه زيادة عذابهمِ .
وأما إذا اشتد جوعهم فإنه ال طعام لهم في النار إال نبتا له شوك عريض قاس ،وله أوراق
شديدة املرارة تكون يابسة ،فتكون سما ،فيأكلون من ذلك النبات ما يضرهم ويؤذيهم؛ ْلنه
أخذه من بين اْلشواك مؤلم ،وهو حال يبسه سم ،وال يقويهم وال يكسبهم قوة ،وال يذهب
جوعهم مع نتانة رائحته ومرارة طعمهِ .
وأما السعداء فوجوههم ناعمة ،قد ظهر أثر النعيم عليها وظهرت أنوار السعادة فيها ،فإنها
في نعيم منذ فارقت الدنيا ،بل عند فراقها للدنيا تبشر -والناس يبكون حولها -بروِح
وريحان ورب غير غضبان ،وهي في نعيم وهي محمولة على أعناق الرجال ،ترى َّ ِ
وتبشر بما
تقدم عليه وتنادي :قدموني قدموني ،وهي في قبورها في نعيم منعمة ،وعند البعث آمنة،
وقد أعطي أصحابها الكتب باليمين ،وبشروا باملقام الكريم ،فأكسبهم ذلك سرورا وسعادة،
وظهر أثر ذلك على وجوههم ،فكانت لعملها في الدنيا راضية يوم القيامة ،حامدة ما عملت،
مجازاة بالجنة بفضل هللا بسبب ما عملته في الدنيا ،فهي في جنة مليئة باْلشجار وفيها
ألوان النعيم ،فهي عالية املكان فوق السماوات ،وسقف أعالها عرش الرحمن ،وهي عالية
املكانة ،فنعيمها ال يمكن وصفه ،ففيها ما ال عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب
بشر ،وْلهلها اإلكرام التام املقيم الدائم ،ولهم املكانة العالية ،وال يكون فيها إال ما يسر
اْلنفسِ .
فمن نعيمها أنك إن دخلتها ال تسمع فيها كلمة تؤذيك ،فال تسمع فيها باطال وال تسمع فيها
لغوا ال خير فيه ،وال تجد فيها جماعة الغية تتكلم بالباطل وتتكلم بما ال فائدة فيهِ .
ومن نعيم هذه الوجوه -واملقصود أصحابها -أنها في جنة شرابها طيب عذب قريب ال تتعب
في تحصيله ،فهي في جنة فيها عيون من كل شراب طيب ،من ماء وخمر وعسل ولبن يجري
من تحتها وحيث شاءت من غير أخاديد تحده ،يوجهونها كيف شاؤوا ،إن أرادوا أن تكون
عن أيمانهم كانت ،وإن أرادوا أن تكون عن شمائلهم كانت ،وإن أرادوا أن تكون من بين
أيديهم كانتِ .
وفيها سرر عالية مرتفعة إذا أراد أحدهم أن يجلس عليها تطأطأت له ثم ارتفعت به ،يتكئ
عليها مع أهله في نعيم مقيم ،ينظرون إلى نعيم الجنة وأنهارها ،وفيها وسائد قد صفت لهم
ووضع بعضها بجوار بعض يتكئون عليها في ترف ونعيم وهناء وسرور من غير تعب يسبق
228
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ذلك ،وال يتخلل ذلك وال يلحق ذلك ،وفيها أغلى وأعلى وأنعم الفرش املبثوثة املبسوطة في
كل مكان ،ال يفقدونها في مكان وال يتعبون في بسطهاِ .
وذاك النعيم دائم متجدد ،ال يفقدون منه شيئا ،وال يملونه أبدا ،بل كلما نظروا إلى نعيم
َ َْ ٰ َ َّ
كانوا كأنهم قد رأوه أول مرة ،وكلما رزقوا رزقا في الجنة قالواَ ﴿ :هذا ال ِذي ُر ِزقنا ِمن ق ْب ُل ۖ
﴾ [البقرة ]25 :لكن إن أكلوه وجدوا نعيما جديدا ولذة جديدة ،هم وأهلهم وأزواجهم
يحبرون فيها ويتنعمون فيها ،أسأل هللا بأسمائه الحسنى وصفاته العال أن يجعلنا ووِالدينا
وأهلينا وأحبابنا من أهل هذه الجنة ،وأال يحرم منا أحدا ،أسأل هللا كما أكرمنا أن نكون
في مسجد رسولهِصلى هللا عليه وسلم إخوانا في درس العلم متقابلين أن يجعلنا جميعا في
الجنة إخوانا على سرر متقابلينِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات الجليالت الكريمات ،ونعود إلى
التفسير التفصيليِ ِ.
قال رحمه هللا تعالى :يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من اْلهوال الطامة ،وأنها
تغش ى الخَّلئق بشدائدهاِ ِ.
أكثر اْلفسرين على أن الغاشية هي يوم القيامةِ .
وقال بعض اْلفسرين :الغاشية هي النار تغش ى أهلهاِ .
و ِال مانع من إرادة اْلمرين ،فالغاشيةِ يوم القيامة وفيها النار التي تغش ى أهلهاِ .
وقال بعض اْلفسرين :الغاشية هم الناس الذين يدخلون النار ،فالناس الذين يدخلون
النار هم الذين يغشون النارِ .
ولكن ما تقدم أقرب إلى املعنىِ .
قبل هذا قال هللاَ ﴿ :ه ْل﴾ هل هنا بمعنى قد ،وجيئت بصيغة االستفهام للتنبيه والتشويق
والتعظيم ،يعني :أن هذا النبأ عظيم ،ولتشويق النفوس لتسمع ما بعد هذاِ .
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ َه ْل﴾ االستفهام على وجه الحقيقة ،واملقصود :هل أتاك
وقومك نبأ الغاشية على وجه التفصيل قبل أن يوحى إليك؟ وفي هذا إقامة الحجة على
الكفار في مكة ،فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم جاءهم بما ال يعلمون وال يعهدون من
تفصيل ما يكون يوم القيامة ،وأقام البراهيم العقلية واْلدلة النقلية على هذا اْلمر
العظيمِ .
229
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ُ
﴿ح ِديث﴾ هو النبأ العظيمِ ِ. و
قال :وأنها تغش ى الخَّلئق بشدائدها ،فيجازون بأعمالهم ويتميزون إلى فريقين :فريق في
الجنة ،وفريق في السعير ،فأخبر عن وصف كَّل الفريقين ،فقال في وصف أهل النار:
ٌ َ ُ ُ ٌ ََْ َ ٌَ
اش َعة﴾ من الذل والفضيحة والخزيِ ِ. اشعة﴾ أي :يوم القيامة﴿ ،خ ِ ﴿وجوه يوم ِئ ٍذ خ ِ
فهي ذليلة منكسرة قد ظهر الهوان والذل عليهاِ ِ.
ُ ٌ َ َ ٌ َّ
اص َبة﴾ أي :تاعبة في العذاب ت َجر على وجوهها ،وتغش ى وجوههم النار، ﴿ع ِاملة ِ
ن
ٌ َ َ ٌ َّ ُ ُ ٌ ََْ َ ٌَ
اص َبة﴾ في الدنيا ،لكونهم في اشعة ( )2ع ِاملة ن ِ ويحتمل أن اْلراد بقوله﴿ :وجوه يوم ِئ ٍذ خ ِ
الدنيا أهل عبادات وعمل ولكنه ْلا عدم شرطه وهو اإليمان صار يوم القيامة هباء
منثوراِ ِ.
وه َي ْو َم ِئ ٍذ﴿و ُج ٌ
عاملة ناصبة قال كثير من اْلفسرين :إن هذا يوم القيامة بداللة السياق ُ
ٌ َ َ ٌ َّ َ ٌَ
اص َبة﴾ أي :يومئذ ،يوم القيامة ،فهي عاملة بما يعذبها كما قلنا اشعة ( )2ع ِاملة ن ِ خ ِ
تحمل اْلغالل ،وتجر السالسل ،وتتنقل في النار بتثاقل وألم ،فهي متعبة أشد التعبِ .
ٌ َ َ ٌ َّ
اص َبة﴾ هذا في الدنيا؛ أي :أنها كانت عاملة ناصبة، وقال بعض اْلفسرين﴿ :ع ِاملة ِ
ن
فعملت بأعمال تتقرب بها ،وأتعبت أنفسها في ذلك ،لكن هذا لم ينفعها يوم القيامة؛ ْلنه
ال ينفع مع الكفر عملِ .
وقال بعض اْلفسرين :أنها عاملة في الدنيا بأعمال تتقرب بها وال تنفعها في اآلخرة ،ناصبة
ٌ َّ َ ٌَ
اص َبة﴾ في اآلخرةِ . في اآلخرة؛ ْلنها تدخل النار ،فـ ﴿ع ِاملة﴾ في الدنيا ،و ﴿ن ِ
ٌ َّ َ ٌَ
اص َبة﴾ أي: وقال بعض اْلفسرين﴿ :ع ِاملة﴾ أي :عاملة بالشرك واملعاص ي في الدنيا﴿ ،ن ِ
يوم القيامة؛ ْلنها تدخل النار بسبب عملهاِ .
طبعا في اْلقوال السابقة عملها عمل تتقرب به ،لكن في هذا القول عملها باملعاص ي
والشرك في الدنيا ،ناصبة في اآلخرة أي :تدخل النار بسبب معاصيهاِ .
واْلقرب وهللا أعلم هو املعنى اْلو ِل :أن هذا في يوم القيامة بداللة السياق ،وأن الكالم عن
حال اْلشقياء يوم القيامةِ .
فإن قال قائل :قد جاء عن بعض السلف كابن عباس أنه قال :إنهم النصارى ،قلنا :هذا
قياس حالهم في اآلخرة بحالهم في الدنيا ،وليس تفسيرا لآلية؛ يعني :هذه الوجوه وجوه
النصارى في الدنيا عاملة ناصبة لكثرة الرهبنة فيها ،وهي في يوم القيامة عاملة ناصبة،
عاملة في النار -كما قلنا ،-متعبة في النارِ ِ.
230
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال :وهذا االحتمال وإن كان صحيحا من حيث اْلعنى فَّل يدل عليه سياق الكَّلم ،بل
الصواب اْلقطوع به هو االحتمال اْلول؛ ْلنه قيده بالظرف وهو يوم القيامة؛ وْلن
اْلقصود هنا بيان ذكر أهل النار عموما ،وذلك االحتمال جزء قليل بالنسبة إلى أهل
النار؛ وْلن الكَّلم في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية ،فليس فيه تعرض
ْلحوالهم في الدنيا.
ً َ َْ َ
صل ٰى نا ًرا َح ِام َية﴾ أي :شديدا حرها تحيط بهم من كل مكانِ ِ. وقوله﴿ :ت
َ ً ُ ُ َ َْ
﴿ح ِام َية﴾ أي :شديدة الحرارةِ . صل ٰى﴾ أي :تحرق وتشوى نارا، ﴿ت
َ ً
﴿ح ِام َية﴾ أي :دائمة شدة الحرارة ،وإال فمعلوم أن النار قال بعض املفسرين :معنى
حامية ،فاملقصود بحامية هنا أنها دائمة شدة الحرارة ،فال تخبو وال تخف شدة حرارتهاِ .
َ ً
﴿ح ِام َية﴾ أنها شديدة الغضب على أهلها ،تكاد تتقطع وتفجر وقال بعض اْلفسرين :معنى
من شدة غضبها وغيظها على أهلهاِ .
وال شك أن كل هذا واقع في النار ،فالنار شديدة الحرارة ،وشدة حرارتها دائمة ،وهي
تتغيظ وتفور على أهلها ،تكاد تميز من الغيظ من شدة غيظها وإرادتها االنتقام منهم؛ ْلنهم
أغضبوا هللا سبحانه وتعالىِ ِ.
َ ْ ُ َ ُ ُ
﴿و ِإن َي ْس َت ِغيثوا ُيغاثوا ِب َم ٍاء كاْلُ ْه ِل َي ْش ِوي
﴿ت ْس َق ٰى م ْن َع ْين آن َية﴾ أي :شديدة الحرارةَ ،
ٍ ِ ٍ ِ
وه ۚ ﴾ [الكهف ]29 :فهذا شرابهمِ ِ. ْال ُو ُج َ
ُ َ
قال هللا﴿ :ت ْسق ٰى﴾ فهي ال تشرب بنفسها ،والشراب ليس قريبا منها بل يسقيها غيرها ،فإذا
أصابها العطش واشتد بها استغاثت ،فيغيثها الساقي متى أراد ،ويعطيها شرابها بإهانة
وإذالل ،وفي هذا مزيد تعذيب لها ،وهذا الشراب يؤتى به من عين آنيه قد بلغت الشدة في
غليانها وحرها ،ومادتها إما ماء وإما صديد أهل النار الذي يخرج من قروحهم وجروحهم
من الدماء والصديد اْلبيض ،وما يخرج من فروج النساء املعذبات في النار عياذا باهلل من
سوء الحالِ .
وع ضريع (َّ )6ال ُي ْسم ُن َوَال ُي ْغني من ُ
ج س َل ُه ْم َط َع ٌ
ام إ َّال من َ َّ
﴿ل ْي َ قال :وأما طعامهم فـ
ٍ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
(ِ .﴾)7
الضريع هو نبت الصق باْلرض له شوك عريض قاس مؤلم ،وله ورق مر ،وإذا صار يابسا -
أعني ورقه -فإنه يصبح سما ،فال تأكله حتى البهائم ،هو نبت معروف في الدنيا وبعضهم
231
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يسمي هذا النبت إذا كان ورقه أخضر بالشبرق ،والزال بعض الناس يسمونه بالشبرق إلى
اليوم ،وإذا كان يابسا يسمونه الضريع ،وهو إذا يبس يصبح سما ،وهذا هو املراد ،واملراد
أنه شجر في النار كالضريع يأكلون منه فيضرهم وال يسرهم ،يضرهم ْلنه صار سما وهو من
النار ،ويؤملهم عند أخذه من الشوك ،وال يكسبهم قوة وال يدفع عنهم جوعاِ .
قال :وذلك ْلن اْلقصود من الطعام أحد أمرين :إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه
أْله ،وإما أن يسمن بدنه من الهزال ،وهذا الطعام ليس فيه ش يء من هذين اْلمرين،
بل هو طعام في غاية اْلرارة والنتن والخسة نسأل هللا العافيةِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي رحمه هللا تعالى :وأما أهل الخير
فوجوههم يوم القيامة ناعمة؛ أي :قد جرت عليهم نظرة النعيم فنضرت أبدانهم
واستنارت وجوههم وسروا غاية السرورِ .
ُ
تلحظون هنا أن الوجوه لم تعطف بالواو ،فلم يقل ربنا :ووجوه يومئذ ناعمة؛ قال
العلماءْ :لن املقام مقام تقسيم أحوال ،فذاك حال وهذا حال آخرِ .
ُ ُ ٌ َ ْ َ َّ ٌ
اع َمة﴾ هذه وجوه السعداء يوم القيامة ،ناعمة ظهر أثر النعيم عليها وظهر
﴿وجوه يوم ِئ ٍذ ن ِ
السرور عليها؛ ْلنها كانت في نعيم وصارت إلى نعيم وستصير إلى نعيمِ .
فهي كانت في نعيم عند موتها فبشرتها املالئكة بروح وريحان ورب غير غضبان ،وكانت في
نعيم في قبورها ،وأمنها هللا عز وجل يوم الخوف ،خافت ربها في الدنيا فأمنها يوم القيامة،
ولن يجمع هللا لعبده خوفين ،فمن خاف هللا في الدنيا أمن يوم القيامة ،وبمقدار خوف
العبد من ربه في الدنيا يكون أمنه يوم القيامةِ .
ُ
ثم إنها أعطيت كتبها بأيمانها ،وبشرت بالجنة وعلمت أنها تصير إلى الجنة فظهر أثر النعيم
على الوجوه سرورا ولينا وضياء وبياضا في ذلك اليوم العظيمِ ِ.
﴿ل َس ْع ِي َها﴾ الذي قدمته في الدنيا من اْلعمال الصالحة واإلحسان إلى عباد هللا، ِ
ٌ
اض َية﴾ إذ وجدت ثوابه مدخرا مضاعفا ،فحمدت عقباه وحصل لها كل ما تتمناهِ ِ. َ
﴿ر ِ
﴿ل َس ْع ِي َها﴾ يعنيْ :لعمالها التي عملتها في الدنياِ . ِ
232
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ٌ
اض َية﴾ أي :حامدة راضية بتلك اْلعمال؛ ْلنها أوصلتها إلى فضل هللا ،فدخلت الجنة َ
﴿ر ِ
بفضل هللا بسبب تلك اْلعمالِ .
﴿ل َس ْع ِي َها﴾؛ أي :لثواب سعيها راضية ،فهي بثواب سعيها راضية؛
وقال بعض اْلفسرينِ :
ْلنه هو الذي يك ِون في يوم القيامةِ .
واملعنيان متقاربان ،فإن اْلعمال في الدنيا هي سبب الثواب في اآلخرةِ ِ.
قال :وذلك أنها في جنة جامعة ْلنواع النعيم كلهاِ ِ.
الجنة يا إخوة في اللغة هي البستان كثير الشجر الذي يستر ما فيه ومن فيه ،والجنة في
الشرع هي دار الكرامة ودار الرحمة ودار املقامة للمؤمنين التي فيها اْلشجار العظيمة واْلنهار
الكريمة والنعيم املقيم ،ففيها ما تشتهيه اْلنفس وتلذ اْلعين ،أعد هللا فيها لعباده
الصالحين ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشرِ .
وهي جامعة ْلنواع النعيم كلها ،وهي جنات وليست جنة واحدة ،وتتفاضل تلك الجنات في
كمال النعيم ،وال نقص في جنة منها وإنما تتفاضل في الكمال ،فبعض الجنان أعلى من
بعض حتى تبلغ الفردوس اْلعلى الذي هو أعلى الجنة وأكمل الجنة نعيماِ .
هذا النعيم الذي في الجنة ال يدانيه نعيم الدنيا كله من أوله إلى آخره ،فأقل أهل الجنة
نعيما له أعظم من نعيم الدنيا كله أضعافا مضاعفة ،وبهذا تعلم حسرة من يبيع هذا
النعيم املقيم بش يء من النعيم الذي ال يساوي شيئا في ذلك النعيمِ ِ.
َ
﴿ع ِال َي ٍة﴾ في محلها ومنازلها ،فمحلها في أعلى عليين ،ومنازلها مساكن عالية ،لها غرف
ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد هللا لهم من الكرامةِ ِ.
فهي عالية؛ ْلنها فوق السماوات ،وسقف أعالها عرش الرحمن سبحانه وتعالىِ .
ُ
والغرف التي فيها عالية تتراءى كما يتراءى الكوكب الغارب ،ففيها غرف من فوقها غرف
مبنية يتنعم فيها أهلها ،وما فيها من النعيم عال ،فهو أعلى النعيم ،ومن فيها لهم العلو
واإلكرام واملكانة العالية ،كل هذا يدخل في قول ربنا سبحانه وتعالىَ :
﴿ع ِال َي ٍة﴾ِ ِ.
ٌ ُ ُ ُ
﴿قطوف َها َدا ِن َية﴾ [الحاقة]23 :؛ أي :كثيرة الفواكه اللذيذة اْلثمرة بالثمار الحسنة
السهلة التناول بحيث يناولوها على أي حال كانوا ،ال يحتاجون أن يصعدوا شجرة أو
233
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
234
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
واملقصود أنه ليس في الجنة ما يؤذي مطلقا ال من الكالم وال من غيرهِ ِ.
ٌ
﴿ ِف َيها َع ْي ٌن َجا ِرَية﴾ وهذا اسم جنس؛ أي :فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها
كيف شاءوا وأنى أرادواِ ِ.
فتجري حيث اشتهوا ،فليس لها مسار محدد وأخاديد معينة تسير فيها ،وهي تسير بطيب
الشراب من املاء العذب البارد ،والعسل املصفى ،والخمر الذي يسر وال يضر ،واللبن الذي
لم تشبه شائبة ولم يتغير طعمه ،تجري من تحتهم ،وحيث شاءوا لها واشتهوا أن تجري،
وذاك من تمام سرورهم ونعيمهمِ ِ.
َ ُ ُ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ
وعة﴾ والسرر جمع سرير ،وهي اْلجالس اْلرتفعة في ذاتها وبما عليها من ﴿ ِفيها سرر مرف
الفرش اللينة الوطيئةِ ِ.
فهي مرتفعة في ذاتها ،وعالية في وصفها ،فعليها فرش وطيئة ناعمة ،فإذا أراد صاحبها أن
يجلس عليها طأطأت له حتى يجلس عليها ثم ارتفعت بهِ ِ.
َ َ ْ َ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ
وعة﴾؛ أي :أواني ممتلئة من أنواع اْلشربة اللذيذة قد وضعت بين ﴿وأكواب موض
أيديهم وأعدت لهم ،وصارت تحت طلبهم واختيارهم ،يطوف بها عليهم الولدان
اْلخلدونِ ِ.
ُ َ َ ُ
اب﴾ جمع كوب أو ك ْوب ،والك ْوب أو الكوب هو اإلناء الذي ال عرى له فيحمل بذاته؛ ﴿و َأ ْك َو ٌ
َ
ُ
يعني :الكأس كما يقول العلماء هو اإلناء الذي له عرى ،والعامة تقول يد ،والكوب أ ِو
الكوب هو اإلناء الذي ال عرى لهِ . ْ
َّ ْ ُ َ ٌ
وعة﴾؛ أي :أنها بين أيديهم في متناول أيديهم ،ليست مرتفعة عنهم وال ومعنى ﴿موض
منخفضة عنهم ،ومنها أوان يطوف عليهم بها ولدان مخلدون النظر إليهم نعيمِ .
َّ ْ ُ َ ٌ
وعة﴾؛ أي :على حواف العيون التي تجري ،فالعيون تجري وقال بعض اْلفسرين﴿ :موض
باْلكواب املهيأةِ .
َّ ْ ُ َ ٌ
وعة﴾؛ أي :مملوءة بما يشتهون ،فبمجرد أن يشتهي وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿موض
ولي هللا في الجنة أن يشرب شيئا امتأل الكوب بذلك الش يء واقترب منهِ .
235
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وكل هذه املعاني صحيحة ملوضوعة فكلها داخلة في هذه الكلمةِ .
ََ َ ُ َ ْ ُ َ ٌ
صفوفة﴾؛ أي :وسائد من الحرير واالستبرق وغيرهما مما ال يعلمه إال هللا، ﴿ونم ِارق م
قد صفت للجلوس واالتكاء عليها وقد أريحوا عن أن يضعوها أو يصفوها بأنفسهمِ ِ.
النمارق :هي الوسائد التي يتكئ عليها صفت بأنواعها ،فال يحتاجون إلى صفها وإنما يجدونها
مصفوفة مرتبة ،حيث ذهبوا وأرادوا أن يجلسوا وجدوا تلك الوسائد معدة لهم مصفوفة
يتكئون عليها بحبور وسرورِ ِ.
َ ُ ٌَ ُ ٌَ ََ
﴿م ْبثوثة﴾؛ أي :مملوءة بها مجالسهم ﴿وز َر ِاب ُّي َم ْبثوثة﴾ والزرابي هي البسط الحسان،
من كل جانبِ .
الزرابي هي البسط ،وهي أحسن البسطِ .
ُ ٌَ َ ُ ٌَ
﴿م ْبثوثة﴾ قال بعض اْلفسرين :أي :كثيرةَ ﴿ ،م ْبثوثة﴾؛ يعني :كثيرةِ . وهي
وقال بعض اْلفسرين :أي :مبسوطة ،فهي ليست مطوية بل مبسوطة لهمِ .
َ ُ ٌَ
﴿م ْبثوثة﴾؛ يعني :أن بعضها فوق بعض ،وهذا يزيدها نعومة وقال بعض اْلفسرين:
ولينا ،عندما يوضع البساط الحسن اللين وفوقه بساط حسن لين فإن هذا يزيده نعومة
ويزيده ليناِ .
َ ُ ٌَ
﴿م ْبثوثة﴾؛ يعني :مفرقة في املجالس بما يسر الناظرين؛ يعني :هنا وقال بعض اْلفسرين:
يوضع بساط بلون وبطريقة ،وهنا بساط بلون وطريقةِ،وهنا بساط بلون وطريقة ،فهي
موزعة في املجالس بما يسر الناظر إليهاِ .
وكل هذا مراد فهي صفات لهذه الزرابيِ .
َ ْ ْ َ َ ف ُخل َق ْت (َ )17وإ َلى َّ َ ََ َ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ
الس َم ِاء ك ْيف ُر ِف َعت (َ )18و ِإلى ال ِج َب ِال ِ ِ اإل ِب ِل كي
ِ﴿أفَّل ينظرون ِإلى ِ
َّ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ ْ َْ َ َ َْ َ ُ َ ْ
ض ك ْيف ُس ِط َحت ( )20فذ ِك ْر ِإن َما أنت ُمذ ِك ٌر ( )21ل ْست ِ راْل ى ل إِ و ) 19 ( ت كيف ن ِصب
َ َ َ ُ َ ُ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ َّ َع َل ْيهم ب ُم َ
اب اْلك َب َر (ِ )24إ َّن ِإل ْينا ص ْي ِط ٍر (ِ )22إال َمن ت َول ٰى َوكف َر ( )23فيع ِذبه الله العذ ِ ِ
َ َ ُ
ِإ َي َاب ُه ْم ( )25ث َّم ِإ َّن َعل ْينا ِح َس َاب ُهم (ِ .﴾)26
ملا ذكر هللا عز وجل في أول السورة أن الناس يوم القيامة منهم أشقياء ومنهم سعداء ،حث
من كان على طريق الشقاوة في الدنيا على اجتناب ذلك الطريق قبل أن يصبح من أهل
236
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الشقاوة في اآلخرة ،ودله على آيات عظام إذا تفكر فيها تفكر املعتبر املتجرد ترك الكفر إلى
اإليمان ،والعصيان إلى الطاعةِ .
والخطاب وإن كان ْلولئك الكفار الذين يسلكون طريق الشقاء في الدنيا أصال؛ فإنه يدخل
فيه املؤمن أيضا ليزداد إيمانا ،فهو أيضا يدخل في الحث على هذا النظر وهذا التفكرِ .
أفال ينظرون نظر تفكر واعتبار إلى اإلبل التي يرونها صباحا ومساء ،ويركبونها كيف خلقت
خلقا عجيبا ،وسخرت لإلنسان ،فهي كبيرة بحجمها تسير املسافات الطويلة بال كلل وال
تعب ،وتحمل اإلنسان إلى البلدان البعيدة ،وتصبر على العطش ،وتحمل اْلثقال وهي
باركة ،ثم تقوم بها لكي يتمكن اإلنسان من االنتفاع بها ،وترد ما ال يرده غيرها من الشجر
شفاه مشقوقة فتصل إلى أوراق الشجر من بين اْلشواك وال ً حيث جعل هللا عز وجل لها
تؤذيها اْلشواك ،وجعل أعناقها طويلة إن رفعتها وصلت إلى أعلى اْلشجار ،وإن خفضتها
وصلت إلى اْلرض ،وجعل لها خفافا تقيها حر الشمس ،ومع كبر حجمها فإنها يقودها الصبي
الصغير واملرأة الضعيفة ،فسخر هللا عز وجل هذا املخلوق الكبير لعبده الصغير ،وتلك من
آيات هللا سبحانه وتعالىِ .
وفي كل الحيوانات عبر لكن هللا خص اإلبل بالذكر هنا؛ ْلن العرب املخاطبين أصالة عند
نزول القرآن بالقرآن يعرفون اإلبل معرفة دقيقة ،ولعظم منفعة اإلبل ،فإن منفعة
الحيوان لإلنسان :إما في اْلكل ،وإما في الركوب ،وإما في الحلب ،حيث يشرب اإلنسان من
حليبهاِ،وكل هذه املنافع مجتمعة في اإلبل ،فهي حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة تحمل أثقال
اإلنسان ،فهي أعظم الحيوانات نفعا لإلنسان ،ولذلك خصها هللا عز وجل بالذكر للنظر
واالعتبارِ .
وإلى السماء الشديدة الخلق الواسعة اْلرجاء املرتفعة بغير عمد كيف رفعت بغير عمد من
غير أن ترى فيها ميال في ناحية من نواحيها ،أو انبعاجا في وسطها ،أو صدوعا أو شقوقا مع
تطاول الزمان ،وما فيها من الكواكب العظيمة التي تظهر وتغيب ،كيف رفعت وعلقت بين
السماء واْلرضِ .
237
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وال شك أن من نظر إلى السماء نظرة اعتبار وتفكر أيقن أنها ال يمكن أن تكون قد خلقت
نفسها ،وأنه ال يمكن ملخلوق أن يكون قد خلقها ،وال يمكن أن تكونِ مع هذا االنتظام
العجيب والعلو أن تكون قد خلقت صدفة ،فلم يبق إال أن الذي قد خلقها هو القوي
القدير سبحانه وتعالىِ .
وإلى الجبال العظيمة كيف نصبت مع اختالف ألوانهاُ ،
فجعل لها ظاهر بارز على وجه
وجعل لها باطن في داخل اْلرضُ ،
وحفظت بها اْلرض أن تميد مع ما جعله هللا فيها اْلرضُ ،
من املنافع والكنوز ،والزال الناس يكتشفون الكنوز واملنافع في الجبال إلى يومنا هذاِ .
وإلى اْلرض كيف سطحت وهيئت لإلنسان ليعيش عليها ،فكانت صالحة لالستقرار عليها،
وقابلة للحياة والستقبال املاء وإلنبات الزرع وغير ذلك ،فسبحان هللا! لم يجعلها هللا
مرتفعة كالسماء ،ولم يجعلها منتصبة كالجبال ،بل بسطها وهيأها لإلنسان ،وكل ذلك يدل
على قدرة هللا وعلى قوة هللا وعلى تدبير هللا عز وجل ،وبالتالي يدل على وجود هللا سبحانه
وتعالى ،وعلى أنه هو املستحق للعبادةِ .
ْ
وما دام ذلك كذلك ف ِعظ يا محمد ومن يصلح للخطاب من املؤمنين ،وذكر وخوف باآليات
املتلوة واآليات املخلوقة ،فإن وظيفتك واملطلوب منك هو التذكير والبيان ،وال تملك إال
ِّ
فعلق قلبك بما تملك وال تؤاخذ نفسك بما ال تملك ،فال يحملنك اْللم من عدم ذلكِ ،
إيمانهم على أن تؤذي نفسك بذلك ،فإنك ال تملك ذلك ،وإنك لست مسلطا على الناس،
وال مالكا لقلوبهم تصرفها كيف تشاء وتحملهم على اإليمان ،وال موكال بأعمالهم ،فليس
عليك هداهم ولكن هللا يهدي من يشاء ،وليس عليك أن تحص ي عليهم أعمالهم ،ولكن هللا
يحص ي عليهم أعمالهمِ .
لكن من تولى وأعرض عن الذكرى وكفر بربه فإن هللا لن يتركه ،بل سيأخذه سبحانه
وتعالى ،فسيالقي جزاءه في اآلخرة ،فيعذبه هللا العذاب اْلكبر في اآلخرة ،وإن شاء عذبه
العذاب اْلصغر في الدنيا ،ومن عذابه اْلصغر في الدنيا ضيق القلوب ،وما قد ينزله هللا عز
وجل من العذاب بأعدائه ،فإن الناس مهما عاشوا فإنهم ميتون ،وإذا ماتوا فإنهم إلى ربهم
راجعون ،فمالقو أعمالهم فيجازيهم هللا عز وجل بأعمالهمِ .
238
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ويكونون يوم القيامة سعداء أو أشقياء ،فأما السعداء فمنهم من يكرم بالكرامة الكبرى
فيدخل الجنة بغير حساب وال عذاب ،ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا فيعرض عليه عمله،
ثم يدخل الجنةِ .
َ
وأما اْلشقياء فمنهم من يناقش الحساب ثم يهلك ويعذب ،ومنهم من يفضح فضحا على
رؤوس الخالئق ثم يهلك ويعذب ،ثم هؤالء اْلشقياء منهم من يخرج من النار بعد أن يعذبه
هللا ما شاء ،وهم أهل التوحيد العصاة الذين شاء هللا عز وجل أن يدخلهم النار ،ومنهم
من يبقى في ذلك الشقاء الدائم ال يموت فيه وال يحيى ،وهم الكفار الذين ال إيمان في
قلوبهم ،فيؤبدون في العذابِ .
فرجع آخر السورة إلى أول السورة ،وذلك من أعلى مقامات البالغة ،ومن أعلى مقامات
النظم .هذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ،ثم نرجع إلى التفسير
التفصيليِ ِ.
ًّ
قال رحمه هللا تعالى :يقول تعالى َحثا للذين ال يصدقون الرسول صلى هللا عليه وسلم
ولغيرهم من الناس أن يتفكروا في مخلوقات هللا الدالة على توحيده.
َْ َ ُ َ ْ َ ََ َ ُ ُ َ َ ْ
اإل ِب ِل كيف خ ِلقت﴾؛ أي :أال ينظرون إلى خلقها البديع؟! وكيف
﴿أفَّل ينظرون ِإلى ِ
سخرها هللا للعباد وذللها ْلنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها؟!ِ ِ
أفَّل هذا االستفهام قال العلماء :هذا للحث واْلمر ،للحث على التفكر والتدبر ،واْلمر
بالتفكر والتدبرِ .
وقال بعض اْلفسرين :هذا االستفهام لتوبيخ الكفار يوم القيامة حيث صاروا إلى الشقاء،
فيكون املعنى :أفلم يكونوا ينظرون إلى تلك اآليات حتى يعتبروا وينزجرواِ .
وقال بعض العلماء :هذا االستفهام لتوبيخ الكفار في الدنيا ،كيف يكفرون واآليات الدالة
على التوحيد بينة عظيمة؟ أال عقول لهم؟! إنهم أشد حاال من املجانين ،فهذا توبيخ للكفار
في الدنياِ .
وال مانع من الكل ،فاهلل عز وجل يأمر ويحث على التفكر ،ويوبخ من لم يتفكر في الدنيا،
وسيوبخ من جاءته الرسل فلم يؤمن بها ولم يعتبر بآيات هللا يوم القيامةِ .
239
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ َ َ ََ
﴿أفَّل َينظ ُرون﴾ نظر تفكر واعتبار ،وإال فكل صاحب عين ينظر إلى اإلبل من العرب،
الذين يعرفون اإلبل ينظرون إلى اإلبل ويركبونها ،وينظرون إلى السماء وينظرون إلى الجبال
التي أمامهم ،وينظرون إلى اْلرض ،لكنهم ال ينظرون نظر تفكر واعتبارِ .
ُ َ َ ََ
﴿أفَّل َينظ ُرون﴾ نظر تفكر واعتبارِ .
َ ْ
اإل ِب ِل﴾ اإلبل هي اْلباعر ،وهي الحيوان املعروفِ .
﴿إلى ِ ِ
والعلماء يقولون :اإلبل اسم جمع ال واحد له من جنسه ،وهي مؤنثة دائما تلزم التأنيث؛
ْلن اسم الجمع الذي ال واحد له من جنسه لغير العاقل يلزم التأنيث دائما ،فهي مؤنثةِ .
قال بعض اْلفسرين :ملا ذكر هللا عز وجل في أول السورة ما يكون يوم القيامة أنكر الكفار
البعث ،فأقام هللا عليهم البراهين الدالة على قدرته ،وأنه قادر على أن يبعث الناس بقوله:
َ َ ُ َ ْ َ ََ َ ُ ُ َ َ ْ
اإل ِب ِل ك ْيف خ ِلقت﴾ اآلياتِ ِ.
﴿أفَّل ينظرون ِإلى ِ
َ ُ ُ ٌ َّ ْ ُ َ ٌ
وعة﴾ ،قال بعض الكفار وقال بعض اْلفسرين :ملا قال هللا عز وجلِ ﴿ :فيها سرر مرف
مستهزئين :فكيف يجلس عليها أصحابها ما دام أنها مرفوعة؟ ِ
وقال بعض اْلفسرين :قال بعض املؤمنين :كيف نجلس عليها؟ ِ
إذا قلنا :قال بعض الكافرين :كيف يجلس عليها أهلها؟ فهذا سؤال استبعاد وسخرية،
وإذا قلنا :قال بعض املؤمنين :كيف نجلس عليها؟ فهذا سؤال استعالم الستحالب معرفة
النعيم؛ يعني :لالستزادة من معرفة النعيم ،ذكر هللا لهم مثاال يدلهم على ذلك ،فإن اْلباعر
واإلبل مرتفعة ،كيف يركب عليها اإلنسان؟ إذا أراد اإلنسان أن يركب بركت له فيركب
عليها ،فكذلك تلك السرر إذا أراد صاحبها أن يجلس عليها طأطأت له فجلس عليها ،هذا
قاله بعض املفسرين لكن ليس له إسناد ،لكن قاله بعض املفسرينِ .
والظاهر وهللا أعلم ما بدأنا به ،وهو أنه ملا ذكر هللا حال اْلشقياء والسعداء يوم القيامة
دل عباده على ما ينجيهم من الشقاء وهو اإليمان ،ودلهم على آيات تدعوهم إلى اإليمان،
واآليات الداعية إلى اإليمان إما متلوة وهي من كالم هللا ،وإما مخلوقة سواء في الكون أو في
النفس أو في املخلوقات ،فهذا اْلظهر وهللا أعلمِ .
240
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وبعض العلماء بعض اْلفسرين قالوا :واإلبل هنا هي السحب ،قالوا :أفال ينظرون إلى
السحب وما فيها من الخير الذي ينزل إلى العباد بأمر هللا ،لكن هذا خالف ظاهر اللفظ
وخالف ما يفهم من اللفظِ ِ.
ْ َ َ ُ َ َ ْ
﴿و ِإلى ال ِج َب ِال ك ْيف ن ِص َبت﴾ بهيئة باهرة حصل بها االستقرار لألرض وثباتها من
االضطراب ،وأودع هللا فيها من اْلنافع الجليلة ما أودع.
ْ َ َ ْ َْ َ َ
ض ك ْيف ُس ِط َحت﴾؛ أي :مدت مدا واسعا ،وسهلت غاية التسهيل ليستقر ﴿و ِإلى اْلر ِ
العباد على ظهرها ،ويتمكنوا من حرثها وغراسها ،والبنيان فيها وسلوك طرقهاِ ِ.
أي :أنها أعدت لإلنسان ليعيش عليهاِ ِ.
قال :واعلم أن تسطيحها ال ينافي أنها كرة مستديرة ،قد أحاطت اْلفَّلك فيها من جميع
جوانبها ،كما دل على ذلك النقل والعقل والحس واْلشاهدة ،كما هو مذكور معروف
عند كثير من الناس خصوصا في هذه اْلزمنة التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما
أعطاهم هللا من اْلسباب اْلقربة للبعيد ،فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير
جدا الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر ،وأما جسم اْلرض الذي هو كبير جدا
واسع فيكون كرويا مسطحا ،وال يتنافى اْلمران كما يعرف ذلك أرباب الخبرةِ ِ.
يشير الشيخ هنا إلى كروية اْلرض ،وأن اْلرض كروية مستديرة كما دلت على ذلك أو نبهت
على ذلك بعض اآليات وبعض اْلحاديث ،وكما يدل عليه الحس والعلمِ .
وكون اْلرض كروية ال ينافي كونها مسطحة ،فإنها مسطحة لإلنسان بحيث ينتفع بها ،وهي
كروية في هيأتها العامةِ .
وقلت مرارا وتكرارا ال ينبغي لطالب العلم أن يبادروا إلى نفي الحقائق العلمية ،وأن يجروا
القرآن إلى نفي تلك اْلمور ،فإن هذا مما يزري باملتكلم ،وقد يشكك بعض الناس في
القرآن ،فال ينبغي لطالب العلم أن يصادم الحقائق العلمية الثابتة بفهم لبعض آيات
القرآن ،هذا مما ينبغي أن يترفع عنه طالب العلم ،وقد ظهر قبل فترة يسيرة طالب علم
تكلم في حقائق علمية بما ال يحسن ،وجر القرآن إلى ذلك فجعل ْلعداء الدين وأعداء
السنة وأعداء هذه البالد فرصة ليسخروا ويستهزؤوا من ذلك الكالمِ .
241
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فينبغي لطالب العلم أن يعلموا أن كالمهم منسوب إلى الدين وإلى اْلمة وليس منسوبا
للواحد منهم ،فال يتكلم إال بما يثمر خيرا ويزيد الناس إيمانا ويزجرهم عن الشرِ ِ.
َ َ َّ َ َ َ
﴿فذ ِك ْر ِإن َما أنت ُمذ ِكر﴾؛ أي :ذكر الناس وعظهم وأنذرهم وبشرهم ،فإنك مبعوث
لدعوة الخلق إلى هللا وتذكيرهم ،ولم تبعث عليهم مسيطرا عليهم ،مسلطا موكَّل
بأعمالهم.
َ َ َ َ
﴿و َما أنت َعل ْي ِهم ِب َج َّب ٍار ۖ فإذا قمت بما عليك فَّل عليك بعد ذلك لوم ،كقوله تعالى:
اف َََ ْ ُْ ْ َ َ َ ُ
يد (.﴾)45
ِ ِعو فذ ِكر ِبالقر ِآن من يخ
َ َّ َ َ َّ
وقولهِ ﴿ :إال َمن ت َول ٰى َوكفر﴾؛ أي :لكن من تولى عن الطاعة وكفر باهللِ ِ.
ص ْي ِطر﴾ فهذا استثناء منقطع؛ ْلن ما بعده ليس من جنس ما قبلهَّ ﴿ ،ل ْس َت َع َل ْيهم ب ُم َ
ِ ِ
انتهى الكالم ،لكن من تولى وكفر فإن هللا سيتواله سبحانه وتعالى ،وهو ْلعدائه باملرصاد ِ .
َ َّ َّ وبعض اْلفسرين قالوا :االستثناء هنا متصلَّ ﴿ ،ل ْس َت َع َل ْيهم ب ُم َ
ص ْي ِطر (ِ )22إال َمن ت َول ٰى ِ ِ
َ َ
َوكفر﴾ فقد جعل هللا لك عليه سلطانا بالجهاد وينصرك عليه ،لكن الذي عليه أكثر
املفسرين أن االستثناء هنا منقطع بمعنى لكنِ ِ.
َ ُ َ ُ ُ َّ ُ ْ َ َ َ ْ َ ْ
اب اْلك َبر﴾؛ أي :الشديد الدائمِِ . ﴿فيع ِذبه الله العذ
َّ
ووصفه بأنه اْلكبر؛ ْلن هناك عذابا أصغر ،وهو ما يسبق دخول النار ،فيعذب الشقي في
املوقفِ .
َ
واملعلوم أن الناس في املوقف منهم من يؤ َمن وهم من خافوا هللا في الدنيا ،ومنهم من
ُيخوف شديد الخوف ،وأن الناس يكونون يوم القيامة في العرق على قدر أعمالهم ،فمنهم
من يعرق إلى كعبيه ،ومنهم من يعرق إلى ركبتيه ،ومنهم من يعرق إلى حقويه إلى وسطه،
ومنهم من يعرق إلى ثدييه ،ومنهم من يصل العرق إلى فمه يغطيه إلى فمه ،ومنهم من يغطيه
العرق تغطية ،ويعذب في القبر ،وقد يعذب في الدنيا بأن يأخذه هللا كما أخذ بعض اْلمم،
أو يسلط عليه بعض مخلوقاته ونحو ذلكِ .
فالعذاب أكبر وهو عذاب النار الذي ال يدانيه عذاب ،وأصغر وهو ما قبل دخول النارِ ِ.
َ َ
﴿ ِإ َّن ِإل ْينا ِإ َي َاب ُه ْم﴾؛ أي :رجوع الخَّلئق وجمعهم في يوم القيامة.
242
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ُ
﴿ث َّم ِإ َّن َعل ْينا ِح َس َاب ُهم﴾ على ما عملوا من خير وشرِ ِ.
فيكون الناس كما قلنا سعداء وأشقياء ،والسعداء منهم من ال يحاسب أصال ،ومنهم من
يحاسب حسابا يسيرا بعرض اْلعمال عليه عرضا من غير مناقشةِ .
َ
واْلشقياء منهم من يحاسب حسابا عسيرا بأن يناقش الحساب ،ومن نوقش الحساب
عذب وهلك ،ومنهم من يفضح فضحا أمام الخالئق وينادى عليه على رؤوس الخالئق ،ثم
هؤالء اْلشقياء إذا دخلوا النار منهم من يخرج منها بعد أن يعذب ما شاء هللا أن يعذب،
وهم العصاة من املوحدين الذين شاء هللا أن يدخلوا النار ،ومنهم من يؤبد عذابه في النار
وهم أهل الكفر ،فال خروج لهم من النار أبداِ .
وبهذا نكون قد فرغنا من تفسير هذه السورة العظيمة سورة الغاشية ،وهذه السورة فيها
حكم كلية وفوائد عظمى وهيِ :
-أن الدنيا مزرعة اآلخرة ،وأن الناس في اآلخرة يكونون أشقياء أو سعداء بحسب أعمالهم
في الدنياِ .
-ومنها أن كل ما خلق هللا يدل على هللا ،يدل على وجود هللا ،وعلى قدرة هللا ،وعلى قوة
هللا ،وعلى تدبير هللا ،وعلى أنه املستحق للعبادة ،ومن ذلك اآليات العظيمة التي ذكرت في
هذه السورةِ .
ومنها بيان أن العالم ال يجب عليه إال البيان ،أما القبول فليس واجبا عليه ،ولذلك ال
يقاس العالم بكثرة الناس الذين يتبعونه ،ال يقال هذا أتباعه كثر فهو ما شاء هللا عالم
طيب ،وهذا الذي يجلسون عنده قلة فهو ال علم عنده ،وإنما يقاس العلماء بما يقولون،
فإن كانوا يقولون الحق وإليه يدعون فهم العلماء اْلتقياء ،ولو لم يتبعهم أحد ،قد يبتلى
العالم بأقوام أشقياء ِال تتحرك قلوبهم للحق ويتبعون الهوى ،ويجرحون العلماء اْلثبات وال
يقبلونهم ،فاملطلوب من العالم أن يبين ،ويقاس العالم بما يقول ،فإن كان يقول الحق
ويدعو إليه فهو العالم الرباني ،ولو لم يكن مشهورا ،ولو لم يكن له جمهور ،وإن كان يقول
الباطل فهو داعية ضالل ،وإن أقبل الناس إليه ومالوا إلى ما يقو ِلِ .
ِ
243
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
ِِ
244
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الفجر
بسم هللا الرحمن الرحيم
َٰ َ َ َّ َّ ْ ْ ْ ْ َ َ َْ
﴿والف ْج ِر (َ )1ول َي ٍال َعش ٍر (َ )2والشف ِع َوال َوت ِر (َ )3والل ْي ِل ِإذا َي ْس ِر (َ )4ه ْل ِفي ذ ِل َك ق َس ٌم
ِل ِذي ِح ْج ٍر (ِ .﴾)5
في هذه السورة املكية يقسم هللا عز وجل بآيات عظام متعلقة بأزمنة العبادة ،فيقسم
بالفجر الذي يكون عند إدبار الليل وإقبال النهار ،وتكون فيه عبادة شريفة هي صالة
الفجر ،وقراءة القرآن فيها مشهودة ،وتجتمع فيه مالئكة الليل عند إرادتها الصعود إلى
السماء ،ومالئكة النهار عند نزولها من السماءِ .
العشر التي هي عشر ذي الحجة التي ما من أيام العمل فيهن أحب إلى هللا
ِ ويقسم بالليالي
وأفضل عند هللا منها ،وفيها عبادات شريفة :ففيها الحج ،فيها ركن الحج اْلعظم وهو
الوقوف بعرفة ،وفيها يوم النحر الذي هو يوم الحج اْلكبر وأعظم اْليام عند هللا سبحانه
وتعالى ،وفيها ذبح اْلضاحي ،وصالة عيد اْلضحى ،أو هي ليالي العشر اْلواخر من رمضان على
ما ذهب إليه بعض السلف التي فيهن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ،وفيهن
العبادات العظيمة التي يجتهد فيهاِ .
ويقسم سبحانه بالشفع وهو الزوج الذي ُيضم فيه ش يء إلى ش يء ،ولم يخص هللا شفعا
من شفع فيعم كل شفعِ .
ِويقسم بالوتر الذي هو الفرد ،ولم يخص هللا فردا من فرد ،وهللا وتر يحب الوترِ .
ويقسم بالليل الذي يسري على الناس ،ويغشاهم بظالمه ،ويسير من أوله إلى آخره وهو
أفضله ،فالليل يسير له أول ووسط وآخر وآخره أفضله ،ويسري فيه الناس ،فتطوى لهم
اْلرض ،وفيه ثالث صلوات مفروضة :عند إقباله صالة هي املغرب ،وعند إدباره صالة هي
الفجر ،وفي وسطه صالة هي العشاء- ،في وسطه يعني :في أثناءه ليس في نصفهِ ،-وفيه
أفضل صلوات النافلة التي هي قيام الليلِ .
وجواب القسم :إن في ذلك لقسما عظيما لذي عقل يعقل به ويتفكرِ .
245
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذا هو التفسير اإلجمالي املوض ِوعي اإليماني لهذه اآليات ،ونعود إلى التفسير التفصيليِ ِ.
اْلقسم به ،وذلك جائز مستعمل إذااْلقسم عليه هو َ َ قال رحمه هللا تعالى :الظاهر أن
كان أمرا ظاهرا مهما ،وهو كذلك في هذا اْلوضعِ ِ.
وتقديره:
ِ ً
مضمنا في القسم؛ يعني :يفهم من القسم ،أو يكون مقد ًرا فيكون جواب القسم
إن هذه املذكورات آليات عظامِ .
ُ
وقال بعض اْلفسرين :جواب القسم املذكور هنا هو ما ذكر بعدها مباشرة ،وتقديره :إن
في ذلك لقسما لذي حجر ،وسيأتي بيانه إن شاء هللاِ .
وقال بعض اْلفسرين :جواب القسم إن ربك لباملرصاد ،وهذا بعيد؛ ْلنه فصل بين
القسم واملقسم عليه فواصل كثيرة ،فهذا بعيدِ ِ.
قال رحمه هللا :فأقسم تعالى بالفجرِ ِ.
والفجر هو الصبحِ ِ.
الذي هو آخر الليل ومقدمة النهارْ ،لا في إدبار الليل وإقبال النهار من اآليات الدالة على
كمال قدرة هللا تعالى ،وأنه تعالى هو اْلدبر لجميع اْلمور الذي ال تنبغي العبادة إال له،
ويقع في الفجر صَّلة فاضلة معظمة يحسن أن يقسم هللا بهاِ .
وبعض اْلفسرين قالوا :إن الفجر هنا فجر مخصوص وهو فجر يوم النحر؛ ْلنه آخر الليالي
العشر التي تتلو في الذكر هنا ،وهو أعظم اْليام عند هللاِ .
وقال بعض اْلفسرين :هو فجر مخصوص وهو فجر أول يوم من ذي الحجة؛ ْلنه أول
ْ َ َْ
العشر ولذلك ذكر قبلهاَ ﴿ ،والف ْج ِر (َ )1ول َي ٍال َعش ٍر ( ﴾)2قال :والفجر هو فجر يوم
مخصوص وهو فجر أول يوم من ذي الحجة؛ ْلنه أول العشرِ .
والصحيح التعميم فيعم كل فجر ،فإن هللا لم يخص فجرا من فجرِ .
وقال بعض العلماء :املراد بالفجر النهار ،فيكون التقدير والنهار إذا ظهر ،ملاذا؟ ِ
َ َ َّ
﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ ،فقالوا :عبر عن النهار بأوله وهو الفجر ،فهذا تعبير عن الكل ليقابل
بالبعضِ .
246
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
لكن اْلظهر وهللا أعلم أنه الفجر املعروف على ما ذكرنا من فضله وما يقع فيه من
عباداتِ .
قال :ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر ،وهي على الصحيح ليالي عشر رمضان أو عشر
ذي الحجةِ .
وهذا يشعر أن الشيخ ابن سعدي رحمه هللا يرجح أنها ليالي العشر اْلخيرة من رمضان؛
ْلنه قدمها بعد قوله الصحيح ،كال القولين محتمل ،لكن هذا ُيشعر أن الراجح عند الشيخ
ابن سعدي رحمه هللا أنها ليالي العشر اْلخيرة من رمضان ،وهذا هو الذي رجحه شيخنا
الشيخ ابن عثيمين ،قال :إن هذا أرجح أنها ليالي العشر اْلخيرة من رمضان؛ ْلن هللا ذكر
الليالي ،والفضل في العشر اْلوائل من ذي الحجة في اْليام ،والفضل في العشر اْلواخر من
رمضان في الليالي ،فقالوا :الراجح أنها العشر اْلواخر من رمضان ،ولكن جمهور املفس ِرين
والعلماء بل بعضهم زعم أن عليه الكافة على أنها الليالي العشر اْلول من ذي الحجةِ .
قال :فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلةِ .
ِوقد روى اإلمام أحمد والنسائي في الكبرى أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال(( :الليالي
العشر عشر اْلضحى)) ،لكن ذكر اْللباني في السلسلة الضعيفة أنه منكر ،وفيه أبو الزبير
راوية جابر وهو مدلس وقد عنعن رواه عن جابر ،ولم يأت له شاهد يقويه ،فهو ضعيف،
وإال لو صح فهو قاطع للنزاع؛ ْلنه تفسير من النبي صلى هللا عليه وسلمِ .
قال :فإنها ليالي مشتملة على أيام فاضلة ويقع فيها من العبادات والقربات ما ال يقع
بغيرها.
ِ(فإنها) يرجع إلى اْلخير الذي ذكر وهو عشر ذي الحجةِ .
قال :وفي ليال عشر رمضان ليلة القدر التي هي خير من من ألف شهر ،وفي نهارها صيام
آخر رمضان الذي هو أحد أركان اإلسَّلم العظام ،وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف
بعرفة الذي يغفر هللا فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان ،فإنه ما ُرِئ َي الشيطان
أحقر وال أدحر منه في يوم عرفة ْلا يرى من تنزل اْلمَّلك والرحمة من هللا على عباده،
247
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة ،وهذه أشياء معظمة مستحقة أن يقسم هللا
بها.
َ َ َّ
﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ِ .
والشفع والوتر الشفع كما قلنا يا إخوة هو الزوج ،من لفظ الشفع بمعنى الضم ،يضم
ش يء إلى ش يء ،والوتر هو الفردِ .
قال بعض اْلفسرين :الشفع يوم النحر؛ ْلنه يوم عشرة وهذا زوج ،والوتر يوم عرفة؛ ْلنه
يوم التاسع وهذا وتر فرد ،وذكروا الحديث املتقدم عند اإلمام أحمد والنسائي وفيه:
((والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر)) ،ولكن الحديث ضعيف كما تقدمِ .
وقال بعض اْلفسرين :الشفع هو شفع الليالي ،والوتر هو وتر الليالي ،فالليالي منها شفع
ومنها وتر سواء ليالي كلها أو ليالي العشرِ .
وقال بعض اْلفسرين :الشفع صالة الفجر وهي في مفتتح النهار ،والوتر صالة املغرب وهي
في مفتتح الليلِ .
وقال بعض اْلفسرين :الشفع صالة الفجر والظهر والعصر والعشاء ،والوتر صالة املغرب،
وقد روى الترمذي أن النبي صلى هللا عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال(( :هي
الصَّلة بعضها شفع وبعضها وتر)) ،ولكن الحديث ضعيف ضعفه اْللباني وغيرهِ .
وقال بعض اْلفسرين :الشفع عشر ذي الحجة فإنها عشر شفع ،والوتر أيام التشريق فإنها
ثالثةِ .
وقال بعضهم :املراد الشفع في أعمال الحج ،والوتر في أعمال الحج ،فإن بعض أعمال
الحج شفع وبعض أعمال الحج وترِ .
وقال بعضهم :الوتر آدم عليه السالم قبل خلق حواء ،والشفع آدم وحواء؛ يعني :يقولون
كان آدم وترا قبل أن تخلق حواء ،ثم صار شفعا ملا خلقت حواء ،فصار مع حواء شفعاِ .
وقال بعضهم :الوتر هو هللا ،والشفع هو املخلوقاتِ .
248
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
والراجح :هو التعميم ،وكل ما ذكر إنما هو أنواع للشفع والوتر ،فلم يخص هللا شفعا دون
شفع وال وترا دون وترِ .
متواترة وهي لغة قريش ،يقولونَِ :
الوترِ . ِ والشفع َ
والوتر هذه قراءة
والوتر بكسر الواوِ،هذه أيضا قراءة متواترة وهي لغة تميم ،فالفتح قراءة متواترة
والشفع ِ
والوتر بكسر الواو كما تعودنا عليه نحن قراءة متواترة
ولغة عربية فصحى هي لغة قريشِ ،
ولغة ،فهي لغة تميم يكسرون الواوِ .
َ َ َّ
﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ أي :وقت سريانه وارخائه ظَّلمه على العباد ،فيسكنون ويطمئنونِ
رحمة منه تعالى وحكمةِ .
وقت سريانه؛ يعني :وقت مشيه ،فهو يسير من أوله إلى آخرهِ .
َ َ َّ َ َ َّ
﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ معنى ﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ إذا ذهب فأدبر وأقبل النهار، وقال بعضهم:
(يسر) ذهبِ .
َ َ َّ
﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ إذا أذهب بعضه بعضا ،فالليل أجزاء وليس جزء وقال بعضهم:
واحدا؛ يعني :الليل ليس طبقة واحدة من أوله إلى آخره ،بل أوله على هيئة ،ووسطه على
هيئة ،وآخره على هيئة ،فيذهب بعضه بعضاِ .
وتلحظون هنا أن الياء محذوفة كتابة ونطقا ،فلم ُيكتب :والليل إذا يسري ،وال ننطقها:
والليل إذا يسري ،وال أعلم تعليال لغويا صحيحا لهذا ،ملاذا حذفت الياء؟ ِ
من حيث اللغة ال أعلم تعليال صحيحا له ،لهذا الحذف ،ولكن من حيث القرآن هذا
الحذف مراعاة لفواصل السور وللرسم العثماني؛ وْلنه مبني على التلقي فهو أقوى من
اللغةِ .
نعم يا إخوة؛ القرآن أقوى من اللغة ،كوننا ال نجد تعليال عند أهل اللغة صحيحا ،ولو
بعضهم علل بتعليل عليل ولذلك لم أذكره ،ال يعني ضعف هذا ،بل هذا أقوى من اللغة،
فلماذا نحذف الياء؟ ِ
نقو ِلْ :لن القرآن مبني على التلقي ،هكذا سمع من رسول هللا صل هللا عليه وسلم ،وهكذا
قرأه القراء ،وهكذا نقرأه ،ومراعاة للرسم العثماني ،هكذا رسم في مصحف عثمان ،ومن
249
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َْ
﴿والف ْج ِر حيث النظر القرآني أن هذا الحذف مراعاة لفواصل اآليات حتى تكون متسقة،
َ َ َّ ْ َ
﴿والل ْي ِل ِإذا َي ْسر﴾ لو قلنا( :إذا يسريِ) تغير النسقِ . (َ )1ول َي ٍال َعش ٍر ( ﴾)2إلى
َ َٰ
﴿ه ْل ِفي ذ ِل َك﴾ اْلذكور ﴿ ق َس ٌم ِل ِذي ِح ْج ٍر﴾. َ
هل قال بعض اْلفسرين :هل هنا بمعنى إن ،فهذا جواب القسمِ .
وقال بعضهم :بل هي على بابها من االستفهامِ .
َ َٰ
﴿ه ْل ِفي ذ ِل َك﴾ اْلذكور ﴿ ق َس ٌم ِل ِذي ِح ْج ٍر﴾؛ أي :لذي عقلِ .
ِ َ
وسمي العقل حجرا؛ ْلنه يمنع صاحبه مما ال يليق به من الدنائس والرذائل ،واملراد :هل في
هذه املذكورات في القسم عبرة لذي عقل؟ ِ
والجواب :نعم؛ بل في بعضها عبرة ،بعضها كاف ليعتبر ذو العقلِ .
قال :نعم؛ بعض ذلك يكفي ْلن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيدِ .
ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ ْ ََ َ ف َف َع َل َرُّب َك ب َ ََ ْ َ َ َ ْ َ
ات ال ِع َم ِاد ( )7ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها ِفي ال ِبَّل ِد ()8 ِ ذ مر إِ ) 6 ( اد
ِ ٍع ﴿ألم تر كي
ْ َ َّ َ َ َ َْ َ َ َّ ْ ْ ود َّالذ ََو َث ُم َ
ين طغ ْوا ِفي ال ِبَّل ِد الصخ َر ِبال َو ِاد (َ )9و ِف ْر َع ْون ِذي اْل ْوت ِاد ( )10ال ِذ ين َج ُابوا ِ
ط َع َذاب ( )13إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ َ َ َّ َ َ ْ ْ َ ُّ َ َ ْ َ َ َ َ َْ ُ َََْ
ص ِاد ِ ِ ِ ٍ و س ك ب
ِ ر م هي لع ب ص ف ) 12 ( اد س ف ال ايه ف ِ وا ر ث ( )11فأك
([ ﴾)14الفجرِ .)]14-6 :
ملا ذكر هللا عز وجل في أول السورة أزمنة العبادات الشريفة منبها ملا فيها من تلك العبادات
التي هي جنة لعباده الصالحين املؤمنين املطيعين املتذللين لربهم سبحانه وتعالى ذكر عز
وجل بعض من يقابل أولئك املؤمنين املتذللين هلل عز وجل من عتاة الكفار املتجبرين
املعرضينِ .
فخاطب نبيه صلى هللا عليه وسلم وكل مؤمن :ألم تر رؤية بصيرة وتعلم بخبر هللا عز وجل
وذلك يشير إلى التصديق التام لخبر هللا عز وجل وإلى اليقين بخبر هللا عز وجل ،فإن املؤمن
إذا سمع الخبر من هللا عز وجل يؤمن به ويوقن به كأنه يراه بعينيه ،ولذلك قال هللا عز
َ ََ ْ َ
وجل﴿ :ألم تر﴾؛ أي :رؤية بصيرة وعلم بما أعلمه هللا عز وجل بهِ .
فاملعنى :ألم تر ببصيرتك كيف فعل ربك القادر بعاد قوم هود ،وهم أوالد عاد بن إرم ،وقد
آتاهم هللا ما آتاهم فزادهم في الخلق بسطة ،وآتاهم قوة شديدة ،وكانت لهم مدينة ذات
250
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أبنية رفيعة شديدة قوية لم ُيصنع مثلها في البالد ،وكذلك هم قبيلة قوية شديدة لم يخلق
مثلها في البالد ،ومع كل ما أعطاهم هللا إياه لم يؤمنوا ولم يتذللوا لربهم ولم يخضعوا
لربهم سبحانه وتعالى ،بل طغوا وتجبروا وآذوا عباد هللا املؤمنينِ .
وذلك ألم تر كيف فعل ربك بثمود قوم صالح الذين آتاهم هللا قوة ومهارة ،فجابوا الصخر
َ
بالواد قطعوه من الجبال ،وكانت عندهم قدرة على ثقبه فجاؤوا به إلى الوادي املعروف
وادي القرى ،فبنوا به القصور في الوادي ،ونحتوا في الجبال بيوتا فارهين ،وذلك مما
أعطاهم هللا عز وجل من القوة ،ولكنهم لم يعرفوا هلل حقه ،ولم يؤمنوا برسوله ،ولم
َّ ِّ
يسلموا آلياته ،بل طغوا وتجبروا وأفسدوا وعذبوا عباد هللا املؤمنين وسخروا منهمِ .ِ
وكذلك ألم تر كيف فعل ربك بفرعون ملك مصر الذي كانت له جنود قوية كثيرة ِّ
تثبت
ملكه ،وكان له مأل يعينونه على تثبيت ملكه ،وكان طاغية جبا ًرا يستضعف الناس
ويعذبهم ،فيربط بعضهم باْلوتاد التي يغرسها في اْلرض ويربط فيها أيديهم وأرجلهم،
ً
منتصبا ،فيصلب عليه من يريد أن ويصلب بعضهم بخشب يغرسه في اْلرض كالوتد ويكون
يعذبه من عباد هللاِ .
ومن جبروته وطغيانه أنه كان يستضعف بني إسرائيل ،فيذبح أبناءهم الذكور ،ويستحيي
نساءهم ،وكل هذا مما أعطاه هللا عز وجل ،لكنه وقومه لم يؤمنوا ولم يخضعوا ولم ِيذلوا
َ َ َ ََ ُ ْ َ َ
ال أنا َرُّبك ُم اْل ْعل ٰى﴾لربهم ،بل طغى هذا الجبار وقال مالم يقله غيره ،فقال﴿ :فق
َٰ َ ُ َُ
﴿ما َع ِل ْمت لكم ِم ْن ِإل ٍه غ ْي ِري﴾ [القصص ،]38 :ووافقه مأله
[النازعات ،]24 :وقالَ :
251
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
إثمهم ،ولتعظم ذنوبهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم سبحانه وتعالى ،وهللا قوي عزيز عليم
حكيمِ .
ِوفي هذا وعيد ملن كفر باهلل عز وجل وأعرض عن ذكره أنه قد يأتيه عذاب هللا بغته ،فإنه
ليس أقوى من فرعون وال من عاد وال من ثمود ،ففي هذا أكبر الوعيدِ .
ً
وثمودا؛ ْلنهم في جزيرة العربٌ ،
فعاد في الربع الخالي جنوب وخص هللا عز وجل ً
عادا
الجزيرة ،وثمود في وادي القرى في الحجر على طريق تبوك من جهة املدينة ،وفرعون كانت
َ َّ
أخباره منتشرة في الجزيرة السيما مع وجود النصارى في نجران واليهود في املدينة ،فذكر هللا
الناس بما يعرفون ،وأبان لهم من أخبارهم ما ال يعرفون؛ وفي ذلك أعظم العبر وأعظم
الزواجر عن كفرهم وعنادهمِ .
هذا هو التفسير اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات ،ونعود إلى التفسير التفصيلي،
الرحمن،
فنقرأ ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه هللا في كتابه تيسير الكريم ِ
ونعلق عليهِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
َ ََ ْ َ
والسامعين( :يقول تعالى﴿ :ألم تر﴾ بقلبك وبصيرتك).
ً
موجودا عند فعل ذلك بهم ،ولكن هللا أخبره ،فصار كأنه ْلنه صلى هللا عليه وسلم لم يكن
يرى تلك اْلحداث ،وهي في قلبه يقين؛ ْلن هللا عز وجل أخبره بهذا ،وكذا كل مؤمن يقرأ
القرآن يوقن بما أخبر هللا عز وجل به كأنه ينظر إليه بعينيهِ .
َ َ َ
(﴿ك ْيف ف َع َل﴾ بهذه اْلمم الطاغية ،عاد :وهي إرم القبيلة اْلعروفة في اليمن).
ٌ إرم قيل :هي عاد؛ تسمى ً
عادا وتسمى إر ًما ،وقيل :إرم قبيلة من عاد؛ فخذ من أفخاذ قبيلة
ٌ ٌ
عاد ،وقيل :إن إرم مقر حكم وملك قوم عاد ،وقيل :إن إرم هي مدينة عجيبة قوية البنيان،
شديدة البنيان لقوم عادِ .
وتلحظون هنا أن الشيخ قال بالقول اْلو ِل :أن إرم هي هي قبيلة عاد ،وكل هذا قد قاله
املفسرونِ .
252
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال( :في اليمن) في اليمن ْلنها في اْلحقاف ،واْلحقاف هي حبال الرمل ،وحبال الرمل هي
الربع الخالي في جنوب الجزيرة العربية ،وكل الجنوب تسميه العرب ً
يمنا؛ كل جنوب
الجزيرة العربية تسميه العرب ً
يمنا ،كما أن الشمال -شمال الجزيرة العربيةُ -يسمى ً
شاماِ .
فالشيخ يقولِ :املعروفة في اليمن يعني :في جنوب الجزيرة العربية؛ وهي كما قلنا :في حبال
الرمال في الربع الخالي ،وأبعد النجعة بعض املفسرين فقال :إنها في اإلسكندرية ،وقال
بعضهم في الشام ،وهذا بعيد وغلط ،فإنها في اْلحقاف كما أخبر هللا عز وجل ،واْلحقاف
على أصح التفاسير هي :حبال الرملِ .
ْ َ
ات ال ِع َم ِاد﴾ أي :القوة الشديدة والعتو والتجبر).
(﴿ذ ِ
ذات العماد ﴿إ َ َم َذات ْالع َماد﴾ هي ُ
ذات العماد ،قيل :ذات القوة ذات العماد؛ هي ُ ُ
ِر ِ ِ ِ
والبطش والجبروتِ .
وقال بعض اْلفسرين :هي ذات اْلجسام الطويل؛ فأجسامهم طويلةِ .
ُ
وقال بعض اْلفسرين :هي ذات الخيام الكبيرة التي تبنى على اْلعمدة الطويلة ،فإنهم كانوا
ً يسكنون املدينة؛ فلهم مدينة يسكنونها ،وينتقلون منها عند الجدب ،ويسكنون ً
خياما كبيرة
ُ
تبنى على اْلعمدة الطويلةِ .
وكل هذا محتمل ،وقد ذكره املفسرون ،وال مانع من اجتماعه كله لهم ،فهم أهل شدة
ٌ وقوة وجبروت ،وأجسامهم طويلة ،ولهم ٌ
اْلعمدة الطويلة ،ولهم مدينة خيام ينصبونها على ِ
وعمد؛ كل هذا كان لهمِ . ذات بناء ُ ُ
ٍ
ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ
(ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها ِفي ال ِبَّل ِد) أي :في جميع البلدان في القوة والشدة ،كما قال لهم
ْ َْ َ ُ
وح َوز َادك ْم ِفي الخل ِقن
َ ْ َْ ُ
موق د ع ب نم ﴿و ْاذ ُك ُروا إ ْذ َج َع َل ُك ْم ُخ َل َف َ
اء هود عليه السَّلمَ : نبيهم ٌ
ِ ٍ ِ ِ ِ
َ َّ َ َّ ُ ُ ْ َ ًَ َ ُْ
َب ْسطة ۖ فاذك ُروا آال َء الل ِه ل َعلك ْم تف ِل ُحون﴾ [اْلعراف.)]٦٩ :
ود الضمير هنا بحسب التفاسير السابقةِ . ﴿ َّالتي َل ْم ُي ْخ َل ْق م ْث ُل َها﴾ َع ُ
ِ ِ
فقال بعض اْلفسرين :أي :لم ُيخلق مثل هذه القبيلة في شدتها وطول أجسادها في
البلدانِ .
253
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ َ ْ َ ْ ُ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها﴾ يعني املدينة؛ فيكون املعنى :التي لم ُيصنع
يبني مثل مدينتهم؛ مثلما َبنوا هم وصنعوا همِ . مثلها ،فلم يستطع أحد من أهل البلدان أن َ
َ ْ َ ُْ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها﴾ أي :اْلعمدة التي يبنون عليها الخيام؛ كانت في
أحد من أهل البلدان مثلهاِ . الطول والشدة بحيث لم يصنع ٌ
ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ
﴿ال ِتي ل ْم ُيخل ْق ِمثل َها ِفي ال ِبَّل ِد﴾ قال بعض العلماء :هذا مطلق في جميع البلدان وفي
جميع اْلزمانِ .
وقال بعض اْلفسرينَ ﴿ :ل ْم ُي ْخ َل ْق م ْث ُل َها في ْالب ََّل ِد﴾ في زمنها؛ فهو ُم َّ
قي ٌد بذلك الزمانِ . ِ ِ ِ
وظاهر القرآن اإلطالق أنها لم ُيخلق مثلها في البالد على املعاني التي ذكرناهاِ .
الصخ َر ِبال َو ِاد﴾ أي :وادي القرى ،نحتوا بقوتهم الصخور
َّ ْ ْ
ين َج ُابوا ﴿و َث ُم َ
ود َّال َذ َ َ
فاتخذوها مساكن.
وادي القرى وهو معروف إلى اليوم؛ وهو الذي فيه الحجر ،وفيه بما يسمى بمدينة صالحِ .
َ
﴿ج ُابوا﴾ يعني قطعوا وثقبوا ،فهم كانوا يقطعون الصخور العظيمة من الجبال ،ويأتون
بها إلى الوادي فيثقبونها ،ويدخلون هذا في هذا ،فكانت عندهم قدرة على قطع الصخور
العظيمة وعلى ثقبها ،فيبنون بها في واديهم القصورِِ .
وأما الجبال الثابتة فينحتون فيها ،ومن مر بالحجر يرى هذا كيف أن هناك أبوابا منحوتة
في الجبل ،ثم هناك غرفا وهناك مقابر في داخل الجبال ونحو ذلكِ .
َْ َ َ
﴿و ِف ْر َع ْون ِذي اْل ْوت ِاد﴾ أي :ذي الجنود الذي ثبتوا ملكه كما ثبتت اْلوتاد وما يراد
( َ
إمساكه بها).
َ
﴿و ِف ْر َع ْون﴾ هذا اسم ملك مصر في ذلك الزمان ،امللك في مصر في ذلك الزمان يقال له: َ
فرعون ،وليس اسما خاصا بإنسان بعينه ،وإنما هذا لقب امللك :فرعون ،وفرعون موس ى
كان طاغية جبارا قد مكن هللا عز وجل له في اْلرضِ .
ْ ََْ َ
﴿و ِف ْر َع ْون ِذي اْلوت ِاد﴾ قال بعض العلماء :اْلوتاد هنا هم الجنود واملأل العظيم الذين
َ
َّثبتوا ملكه كما يثبت الوتد الخيمة ،فكانوا يخدمونه ويثبتون ملكهِ .
254
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َْ
اْل ْو َتاد﴾ قالوا :فرعون ذو اْلوتاد يعني :الذي كان يصنع ً
أوتادا ِ وقال بعض العلماءِ ﴿ :ذي
ً يعذب بها الناس فيغرس بعضها في اْلرض ويربط ًيدا في وتد ً
ويدا في وتد آخر ورجال في وتد
ً ً
عريضا يثبته في اْلرض ويصلب ورجال في وتد آخر ويتركهم تحت الشمس ،وينصب خشبا
عليه من يريد أن يعذبه ويأمر بضربه بالسياط ،وال مانع من اْلمرينِ .
َْ َ َ
﴿و ِف ْر َع ْون ِذي اْل ْوت ِاد﴾ يعني صاحب الخيام الكثيرة الكبيرة،
وقال بعض اْلفسرينَ :
فكانوا يتخذون الخيام الكبيرة التي يثبتونها باْلوتاد للنزهة والفسحةِ .
وأشار بعض اْلفسرين إلى احتمال لم يذكره أحد من املتقدمين ،وهو أن اْلوتاد هي
اْلهرام املعروفة املوجودة في مصر قالواْ :لنها تشبه الجبال ،وهي ظاهرة على وجه اْلرض
كأنها جبل ،ولكن لم أقف على أحد من العلماء املتقدمين ذكر هذا التفسيرِ .
وعلى كل حال فهذا الوصف يدل على القوة وما أنعم هللا به على أولئك اْلقوامِ .
ْ َ َّ َ َ َ
ين طغ ْوا ِفي ال ِبَّل ِد﴾ هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم فإنهم (﴿ال ِذ
طغوا في بَّلد هللا وآذوا عباد هللا في دينهم ودنياهم).
ين﴾ هذا الوصف لكل من تقدمِ . ﴿ َّالذ َ
ِ
ََ
﴿طغ ْوا﴾ تجاوزوا الحد ،ورأس الطغيان الشرك والعياذ باهلل ،فطغوا في كل جرم وظلموا
واستعبدوا عباد هللاِ .
َْ َََْ
(ولهذا قال هللا﴿ :فأكث ُروا ِف َيها الف َس َاد﴾ [الفجر ]12 :العمل بالكفر وشعبه من جميع
أجناس اْلعاص ي وسعوا في محاربة الرسل وصد الناس عن سبيل هللا فلما بلغوا من
العتو ما هو موجب لهَّلكهم أرسل هللا عليهم من عذابه ذنوبا وسوط عذاب).
ط َع َذاب﴾ [الفجر]13 :؛ ﴿ َف َ
ص َّب﴾ هذا يدل على أن العذاب
َ َ َّ َ َ ْ ْ َ ُّ َ َ ْ َ
﴿فصب علي ِهم ربك سو
ٍ
أتاهم من فوقِِ .
واملعنى :أنزل هللا عز وجل بهم عذابا أخذهم واستأصلهم في وقت قليل ،فأخذ ً
عادا بالريح
ً
حسوما ،فمع قوتهم وجبروتهم لم يبق العقيم التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام
هودا بالصيحة ،وأخذ ثمود بالصيحة ،وأغرق فرعونمنهم أحد ،يعني من الكفار ،وأخذ ً
255
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ْ َ ََ
اب﴾ قالوا :للداللة على اْلخذ الشديد
قال بعض اْلفسرين :قال هللا هنا ﴿سوط ع ٍ
ذ
السريع كأنه سوط نزل بهم مع كل ذلك الجبروتِ .
وقال بعض اْلفسرين :في هذا إشارة إلى شدة عذابهم يوم القيامة ،فإن عذابهم هذا الذي
في الدنيا بالنسبة لعذابهم يوم القيامة كأنه سوط واحدِ .
وال مانع من الفائدتين لذكر السوط هنا ،فإنه دل على سرعة اْلخذ ،ويشير ويدل إلى ما
ينتظرهم من العذاب الشديد يوم القيامةِ .
ص ِاد﴾ ْلن يعصيه يمهله قليَّل ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر).(﴿إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ
ِ ِ ِ
ْ
﴿إ َّن َرَّب َك َلباْل ْر َ
ص ِاد﴾ قال بعض اْلفسرين :ملن يعصيه ،فإنه يملي للظالم حتى إذا أخذه ِ ِ ِ
أخذ عزيز مقتدر ،وقد يكون هذا في الدنيا ،فيعذبه في الدنيا وعذاب هللا أشد وأبقى يوم
القيامةِ .
وقد يكون أخذ هللا عز وجل له في اآلخرة ،فيملي له في الدنيا حتى يزداد ً
إثما ،ثم يأخذه
يوم القيامة ويعذبه العذاب الشديدِ .
ً
جميعا مؤمنهم وكافرهم يرصد وقال بعض اْلفسرين﴿ :إ َّن َرَّب َك َلب ْاْل ْر َ
ص ِاد﴾ لعباده ِ ِ ِ
أعمالهم سبحانه وتعالى ،ويحفظها عليهم ،ثم يجازيهم بها يوم القيامةِ .
وقد يجازي هؤالء وهؤالء على أعمالهم في الدنيا ،فاملؤمن الطائع قد يجازيه هللا في الدنيا،
ً كالذي يصل رحمه؛ قد يجازيه هللا في الدنيا ً
ثوابا عاجال بأن يوسع له في رزقه ،وينسأ له في
أجله ،وثواب اآلخرة أعلى وأبقى وأحلىِ .
كافرا كان أو ً
مؤمنا -بعذاب في الدنيا ،كالعاق والعياذ باهلل ،فإنه حري وقد يأخذ العاص ي ً -
وأجدر أن ينزل هللا به العذاب وهو في الدنيا ،مع ما يدخر له من العذاب يوم القيامةِ .
الذين قالوا باْلول وهو الذي ذكره الشيخ ،قالوا به من أجل السياق ،فإن ما قبله يدل
على هذا ،أنه للعصاةِ .
ً
والذين قالوا بالثاني قالوا ْلن هذا أعم ،وال يأباه السياق ،فإنه خاتمة ،وليس تعليال ملا
تقدمِ .
256
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً
ولعل هذا أرجح وهللا أعلم؛ أنه يعم املؤمن والكافر ،ولكن شتان بين املؤمن والكافر حاال
وجز ًِ
اءِ .
َ َ َْ َ ُ َ ََْ ََ َ َ َّ ْ َ ُ َ
نسان ِإذا َما ْابتَّل ُه َرُّب ُه فأك َر َم ُه َون َّع َم ُه ف َيقو ُل َرِبي أك َر َم ِن (َ )15وأ َّما ِإذا َما اإل
(﴿فأما ِ
َ
يم (َ )17وال ْاب َت ََّل ُه َف َق َد َر َع َل ْيه ر ْز َق ُه َف َي ُقو ُل َربي َأ َه َانن (َ )16ك ََّّل ۖ َبل َّال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ
اث أ ْك ًَّل َّْلًّا (َ )19و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ ْ
َ َ ُ ُ َ ُّ َ َ ْ َ َ ُّ َ َ َ
ال ُح ًّبا َج ًّما اضون َعل ٰى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين ( )18وتأكلون التر تح
([ ﴾)20الفجرِ .)]15-20 :
يخبر هللا عز وجل أنه يختبر الناس بالخير والشر ،وأن اإلنسان الجاهل والكافر إن ابتاله
هللا بالخير؛ فأكرمه باملال ونعمه بما وسع عليه في الدنيا ،اغتر بذلك ،وزاد شرا في نفسه؛
ْلنه يظن أن هللا أعطاه هذا الخير لعلم عنده ،ومهارة عنده ،ولكرامته ومنزلته عند هللا التي
استحقها بنفسه ،فليس الفضل في ذلك عنده هلل سبحانه وتعالى ،وإنما ْلنه مستحق
لذلكِ .
وأما إن ابتاله بالضر ،وضيق عليه رزقه ،وأعطاه بمقدار ما يحتاج ،فيتسخط ،ويقولِ:
إني ال أستحق هذا ،وأن هللا ظلمني عياذا باهلل مما يقولِِ .
ً
صابرا مقرا بفضل هللا وال عند الضراء ً
شاكرا ًّ فليس هذا الجاهل أو الكافر عند الرخاء
ِّ
مسل ًما اْلمر هلل عز وجل ،وعند الرخاء ال ينسب الفضل إلى هللا وإنما ينسب االستحقاق
لنفسه ،وعند الضراء ينسب الظلم إلى هللا وأنه ال يستحق ما نزل بهِ .
ومفهوم هذا أن املؤمن العارف بربه بضد هذا ،فإذا أكرمه هللا بخير ووسع عليه في رزقه
وابتاله بذلك الخير قال :هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ،وليس ْلنه مستحق
لذلك ال فضل هلل عليه بهذا ،ويشكر هللا على هذا بلسانه وقلبه وجوارحه ،وأما إذا ابت ِاله
ربه بالضراء فإنه يقولِ :هذا بسبب من نفس ي ،وهللا يذكرني بهذا ،وهللا قد رحمني فلم
يعطني ما أستحق من الضراء بسبب ذنبي ،فيقولِ :أنا مستحق ْلكثر من هذا ولكن ربي
ِّ
فيسلم ْلمر هللا ويرجع
ِ غفور رحيم أنزل بي البالء ليذكرني ،ولم يأخذني بكل ما أستحق،
إلى هللا سبحانه وتعالىِ .
257
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ثم بين هللا لذلك اإلنسان الجاهل والكافر حقيقة حاله ،وأنه إذا أكرمه باملال فإنه ال يفعل
كريما عند هللا سبحانه وتعالى بمجردفي ذلك ما يقتضيه اإلكرام ،مما يدل على أنه ليس ً
السعة في املال والسعة في الدنياِ .
فإنكم يا معاشر الجهلة أو الكفار هذا الخطاب ،إذا أكرمكم هللا ال تعطفون على اليتيم
الذي قد مات أبوه وهو دون البلوغ ،وال تحسنون إليه من مالكم ،وال تكرمونه ًّأيا كان هذا
اليتيم سواء كان من أقربائكم أو لم يكن من أقربائكم ،فال يجد عندكم إكر ًاما وإنما يجد
اإلهانة ،وال تعرفون حق هللا في املال ،فال يحث بعضكم ً
بعضا على إطعام املساكين
املحاويج الذين ال يجدون القوت ،بل وال تشعرون باملسكين وال تعطونه ً
شيئا ،وإذا مات
ً
ميت وترك ماال يورث ال تعطونه ْلهله ،وتقتسمونه فيما بينكم معاشر اْلقوياء ،وال تعطون
تاما وتجمعونه مع أموالكم ،وال تبقون منه ً ً
أكال ًّ
شيئا ،وتحبون املستحقين له بل تأكلونه
ِّ ً املال ًّ
شديدا أعماكم وأطغاكم ،فجعلكم ال تعرفون حق الله في املال ،وال تعطون أهل حبا
الحق حقوقهم وال تنفقون منه شيئا في سبيل هللا ،وهذا كله يدل على بخلكم وشحكم
والبخيل الشحيح ذليل مهان وليس ً
مكرماِ .
ومفهوم هذا أن املؤمن إذا أكرمه هللا عز وجل باملال والسعة أكرم اْليتام ،وأعطاهم من
ماله ،وحفظ لهم أموالهم ،وتفقد املساكين املحاويج وأعطاهم من ماله ،وحث غيره على
ً
اإلنفاق ،وإذا مات ميت وترك ماال كان أحرص على إيصال الحقوق إلى أصحابها منه على
أخذ حقه ،ويحب املال بمقتض ى اإلنسانية ًّ
حبا ال يطغيه ،بل يجعل املال في يده وال يجعله
في قلبه ،ويسأل هللا أن يجعل غناه في قلبهِ .
يكرم بكثرة الدنيا واملال ،كما ال يهين بقلة الدنيا
ومقصود هذه اآليات بيان أن هللا ال ِ
واملال ،وإنما اإلكرام للمؤمن املطيع ولو قل ماله ،واإلهانة واإلذالل للكافر العاص ي ولو كثر
مالهِ .
فهذا هو التفسير اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ونعود إلى التفسير التفصيليِ .
258
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال اْلصنف رحمه هللا( :يخبر تعالى عن طبيعة اإلنسان من حيث هو وأنه جاهل ظالم
ال علم له بالعواقب يظن الحالة التي تقع فيه تستمر وال تزول ويظن أن إكرام هللا في
الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه.
ََ
هللا عز وجل يقولِ﴿ :فأ َّما﴾ هنا للتقسيم ،فاإلنسان في هذه الحال حال االختبار بالخير
والشر ينقسم إلى قسمين -واإلنسان هنا جنس اإلنسانِ :-
-مصرح به في اآليات وهو الجاهل الكافرِ .
-والقسم الثاني مفهوم من اآليات بمفهوم املخالفةِ .
ََ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :فأ َّما﴾ زائدة صلة ،واملعنى :إن اإلنسانِ .
ْ َ ُ
نسان﴾ هنا قال بعض العلماء( :ال) فيه للجنس ،فيكون املعنى أن اْلصل في اإل
﴿ ِ
اإلنسان أنه ظلوم جهول وهذه حاله إال من رحم هللاِ .
وقال بعض اْلفسرين( :ال) في اإلنسان للعهد ،واإلنسان املعهود بالخطاب في السور
املكية هو الكافر ،فاإلنسان هنا هو الكافر ومن اتصف بهذه الصفات من املسلمين لجهله
وظلمه لنفسهِ .
وقال بعض اْلفسرين :بل هذا كافر بعينه ،فبعضهم قال أمية بن خلف وبعضهم قال
كعب بن خلف وهكذاِ .
ََ َ
﴿ ِإذا َما ْابتَّل ُه﴾ أي :اختبرهِ .
ََْ
﴿ َرُّب ُه فأك َر َم ُه﴾ أي :باملالِ .
َ
﴿ َون َّع َم ُه﴾؛ أي :بما وسع عليهِ .
ً َْ َ ُ
﴿ف َيقو ُل َرِبي أك َر َم ِن﴾ أيْ :لني استحق اإلكرام وليس هذا فضال من هللا سبحانه وتعالىِ .
ََ َ َ
﴿ َوأ َّما ِإذا َما ْابتَّل ُه﴾ أي :اختبرهِ .
ََ
﴿فق َد َر﴾ أي :ضيقِ .
فقدر) بالتشديد أي :أعطاه بمقدار حاجته ،أعطاه باملقدار، ﴿ َع َل ْيه ر ْز َق ُه﴾ وفي قراءة ( َّ
ِ ِ
قدر) يعنى :ضيق عليه رزقه ،وقراءة ( َّ
فقدر)؛ أي :أعطاه باملقدار؛ أي :بمقدار ما يحتاج ( َ
259
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َ ُ
﴿ف َيقو ُل َرِبي أ َهان ِن﴾ وأنا ال أستحق اإلهانة ،فربي ظالم لي أعوذ باهلل من هذا القول ِومن
هذا القائلِ .
ُ
قال( :وأنه إذا قدر عليه رزقه؛ أي :ضيقه فصار بقدر قو ِته ال يقدر عنه أن هذا إهانة
من هللا له ،فرد هللا عليه هذا الحسبان فقال﴿ :كَّل﴾ أي :ليس كل من َّ
نعمته في هذه
الدنيا فهو كريم علي).
فاملعنى :كال ليس اْلمر كما تزعمون ،فليس اإلكرام بسعة الدنيا وال اإلهانة بضيق الدنياِ .
نعمته في الدنيا فهو كريم علي ،وال كل من قدرت عليه رزقه فهو قال( :أي :ليس كل من َّ
مهان لدي ،وإنما الغنى والفقر والسعة والضيق ابتَّلء من هللا وامتحان يمنحن به
العباد ليرى من يقوم له بالشكر والصبر فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل ،ممن ليس
كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل.
وأيضا فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط من ضعف الهمة ولهذا المهم هللا
على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق اْلحتاجين فقالَ ﴿ :ك ََّّل ۖ َبل َّال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ
يم﴾ ِ ِ
[الفجر.)]17 :
َّ ُ ْ َ َ َّ َ َّ ُ ْ َ َّ
﴿كَّل ۖ َبل ال تك ِر ُمون﴾ فانتقل الخطاب من الغيبة إلى الحاضر ﴿كَّل ۖ َبل ال تك ِر ُمون﴾،
َ َ َ َ ُّ َ
اضون ان إ َذا َما ْاب َت ََّل ُه َرُّب ُه﴾ ثمَ ﴿ :ك ََّّل ۖ َبل َّال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ َ َ َّ ْ َ ُ
يم ( )17وال تح ِ ِ اإلنس ِ قبله ﴿فأما ِ
ال ُح ًّبا َج ًّما (﴾)20؛ اث َأ ْك ًَّل َّ ًّْلا (َ )19و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ
َ َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ ْ
َعل ٰى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين ( )18وتأكلون التر
َ َ
ْلن الخطاب أصبح لهؤالء الجهلة الكفار الذين تقدم وصفهمِ .
ْ َ َ َ ُّ َ َ َ وفي قراءةَ ﴿ :كَّل َب ْل ال ُي ْكر ُمو َن ْال َيت َ
اضون َعلى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين ()18 يم ( )17وال يح ِ ِ
ال ُح ًّبا َج ًّما ( ،﴾)20فيكون ذلك على السياق؛ اث َأ ْكَّل َْلًّا (َ )19و ُي ِح ُّبون اْل َ
َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ
ويأكلون التر
َ َ َّ ْ َ ُ
نسان﴾ كما قلنا للجنس ،أي :الناس ،وأن هذا هو ْلن اإلنسان في قول هللا﴿ :فأما ِ
اإل
اْلصل فيهم ،فهم ال يكرمون اليتيم هذا هو اْلصل فيهم إال من رحمه هللا وهكذاِ .
يم﴾ الذي فقد أباه وكاسبه واحتاج إلى جبر خاطره واإلحسان ﴿كَّل َب ْل ال ُت ْكر ُمو َن ْال َيت َ َ
(
ِ ِ
إليه).
وهو دون البلوغ؛ ْلن اليتيم إنما يسمى يتيما إذا كان دون البلوغِ .
260
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال( :فأنتم ال تكرمونه بل تهينونه وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم وعدم الرغبة
في الخير).
وعدم الرحمة تدل على أن صاحب هذا العدم ليس كريما ،فإن الكريم عند هللا رحيم،
فالراحمون يرحمهم الرحمن سبحانه وتعالىِ .
ْ َ َ َ ُّ َ َ َ
اضون َعلى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين﴾ أي :ال يحض بعضكم بعضا على إطعام اْلحاويج﴿وال تح
من الفقراء واْلساكين ،وذلك ْلجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة اْلتمكنة من
القلوب.
ْ َ َ َ ُّ َ َ َ
اضون َعلى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين﴾ ال تحثون أهليكم على إعطاء املسكين إذاوقيل معنى ﴿وال تح
جاء يسأل عند البيت ،بل تمنعوهم من ذلك ،وال مانع من اْلمرين فهم ال يحث بعضهم
بعضا على ذلك ،وال يحثون أهليهم على ذلك ،بل وال يرضون من أهليهم بذلكِ .
َ ْ ُ ُ َ ُّ َ
(ولهذا قالَ ﴿ :وتأكلون الت َراث﴾ أي :اْلال اْلخلف).
التراث :هو امليراث ،املال املوروث ،هذا الذي عليه أكثر املفسرينِ .
وبعض اْلفسرين يقول :املال املوروث وغيره الذي أورثهم هللا إياه ،فاملال مال هللا يعطيه
من شاء من عباده ،لكن اْلقرب هو قول اْلكثرين أن التراث هو املال املوروثِ .
يعا ال تبقون على ش يء منهاث﴾ أي :اْلال اْلخلفَ ﴿ ،أ ْك ًَّل َّْلًّا﴾ أي :ذر ً َ َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ
﴿وتأكلون التر
ً
شديدا فال تتركون منه شيئاِ . ذر ً
يعا أي:
جامعا لنصيبهم مع نصيبكم ،فتجمعون ً ً َ ْ ً َّ ًّ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :أكَّل ْلا﴾ أي :أكال
نصيبهم مع نصيبكم وتأكلونهِ .
وقيل اللم هو :أن يأكل كل ما يقع في يده وال يسأل عن حالل وال حرامِ .
َ ْ ُ ُ َ ُّ َ َ ْ ً َّ ًّ
﴿ َوتأكلون الت َراث أكَّل ْلا﴾ أي :تأكلون كل ما يقع في يدكم ،فالحالل ما حل في أيديكم ال
تسألون عن حالل وال حرامِ .
َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ َ َ ُّ ْ
الدن َيا ال ُح ًّبا َج ًّما﴾ أي :شديدا ،وهذا كقوله﴿ :بل تؤ ِثرون الحياة ﴿و ُت ِح ُّبو َن ْاْلَ َ ( َ
َ َّ َ ْ ُ ُّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ
اجلة َوتذ ُرون اآل ِخ َرة﴾ [القيامة:ع ال نوب ح
ِ ت لب َّل﴿ك ، ] 17 - 16 : اْلعلى[ ﴾ َو ْاآل ِخ َر ُة َخ ْي ٌر َو َأ ْب َق ٰ
ى
ِ
ِ .)]21-20
261
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وعبر عن الشدة بالجم هنا للداللة على حب اإلنسان لكثرة املال ،وأنه مهما كثر املال في يده ُِ
فإنه يرغب في الزيادة ،وال يقنع ً
أبداِ .
ص ًّفا (َ )22وج َ ض َد ًّكا َد ًّكا (َ )21و َج َاء َرُّب َك َو ْاْلَ َل ُك َ
ص ًّفا َ َ َّ َ ُ َّ ْ َ
يء َي ْو َم ِئ ٍذ ِ
اْل ْر ُ ﴿كَّل ِإذا دك ِت
َ َ َ ُ ُل َ َ ْ َ َ َّ ْ ُ ٰ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ ٰ َ ُ ْ
الذكر ( )23يقو يا ليت ِني قدمت ِلحيا ِتي ()24 ى اإلنسان وأنى له ِ ِبجهنم ۚ يوم ِئ ٍذ يتذكر ِ
َ َ َّ ُ َ َّ ْ ُ ْ ُ ْ َّ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ
س اْلط َم ِئنة ف َي ْو َم ِئ ٍذ ال ُي َع ِذ ُب َعذ َاب ُه أ َح ٌد (َ )25وال ُيو ِث ُق َوثاق ُه أ َح ٌد ( )26يا أيتها النف
َّ ُ َ ُ ً ً ( )27ا ْرج ِعي إ َل ٰى َرب ِك َ
اض َية َّم ْر ِض َّية ( )28ف ْادخ ِلي ِفي ِع َب ِادي (َ )29و ْادخ ِلي َجن ِتي (﴾30 ِ ر ِ ِ ِ
[الفجرِ .]30-21 :
يبين هللا عز وجل لإلنسان الجاهل أو الكافر حقيقة حاله ،وأن وجود اْلموال في يده،
واْلوالد عنده في هذه الدنيا ليس إكراما له ،فإنه ذاهب وتاركهِ .
كال يا من تقدم بيان حالك ،ليس اْلمر كما زعمت ،فإن وراءك ً َّ
يوما تتغير فيه اْلرض ف
ً ًّ ُ
شديدا ،وتزلزل اْلرض حتى ال يبقى وتبدل ،فيدك كل ما على اْلرض من شجر وجبال دكا
مدا كمد الجلدِ . ً
صفصفا ،وتمد ًّ أمتا ،بل تكون ً
قاعا عوجا وال ً
عليها ش يء بارز ،فال ترى فيها ً
ً
وفي ذلك اليوم موقف مهيب ،حيث ينزل هللا عز وجل نزوال يليق بجالله ليقض ي بين
الناس ،يجيء في ظلل من السحاب البارد اْلبيض ،وتجيء املالئكة كلها ،وهي كثيرة العدد
صفا ًّ
صفا بين يدي ربها، فعددها ال يحصيه إال من خلقها سبحانه وتعالى ،تأتي في صفوف ًّ
وتصف من وراء الخلق في املحشر ،وهي مع كثرة طاعتها ،وشدة خلقها ،تقف ذليلة
خاضعة خاشعة لربها سبحانه وتعالى في ذلك اليومِ .
جرا ،فقد روى مسلم أن النبي وتقرب النار من الناسُ ،
فيجاء بها ،تأتي بها املالئكة يجرونها ًّ
ُ
صلى هللا عليه وسلم قال( :يأتى بجهنم يومئذ ولها سبعون ألف زمام ،مع كل ز ٍ
مام
ً سبعون ألف ملك يجرونها) ،وإذا ُق ِّربت من أهلها ورأت أهلها َّ
فإنهم يسمعون لها تغيظا
تقطع من الغيظ عليهم ،ومن رغبتها في االنتقام منهم؛ َّ َّ وز ً
ْلنهم عصوا هللا سبحانه فيرا؛ تكاد
النار في ذلك املوقف بإهانة وإذالل؛ فينظرون إلى َّ
النار التي وتعالى ،ويعرضون على َّ
ٍ
سيقتل بالسيف ُفيشهر السيف أمامه فيرفع طرف خفي بذلة؛ كمن ُ سيعذبون فيها من ٍ
262
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
طرفه بذلة واستكانة؛ ينظر إلى السيف الذي سيقتل به ،فكذلك أهل َّ
النار في ذلك اليوم ٍ
َّ ُ
طرف خفي ،ويخرج بذلة واستكانة من ٍ املهيب العظيم يعرضون على النار فينظرون إليها ٍ
ٌ
ولسان ينطق يقولِ :إني ُوكلت بثالثة: النار له عينان تبصران ،وأذنان تسمعان،عنق من َِّ ٌ
إلها آخر وباملصورين؛ كما ثبت عند الترمذي بإسناد بكل جبار عنيد ،وبكل من دعا مع هللا ً
ٍ
صحيحِ .
َّ
فإذا رأى اإلنسان ذلك كله تذكر ،وأنى له الذكرى؛ فالذكرى بعيدة عنه فقد فات أوانها،
ٌ
وانقض ى زمانها فيدرك عند ذاك َّأن الحياة حياة اآلخرة ،وأن حياة الدنيا حقيرة دنية؛
ً
متحسرا على ما كان منه :يا ليتني قدمت لحياتي في حياتي ،يا ليتني قدمت لحياتي فيقول
الحقيقية التي هي هذه الحياة التي يراها في ذلك اليوم في حياتي ِّ
السابقة التي هي دار
العملِ .
ففي ذلك املوقف ،وفي ذلك اليوم ال يعذب عذاب هللا أحد؛ فعذاب هللا أشد وأبقى ،وال
ُ يوثق وثاق هللا أحد؛ فوثاق هللا أشد حيث توضع اْلغالل في أعناق أهل َّ
النار ،وتشد أيديهم
طويلة النار ،وتربط أرجلهم وتشد إلى أعناقهم وأيديهم في سالسل إلى أعناقهم بسالسل من َّ
ٍ
اعا ،وبالتالي َّ
فإن الذي يعذبه هللا في ذلك اليوم وما عظيمة منها ما يكون ذرعه سبعين ذر ً
يعذب عذابه أحد ،وال يوثق وثاقه أحد؛ فالغمسة في َّ َّ
عذاب قبلها؛
ٍ النار دونها كل بعده ال
ُ
فكيف باملكث فيها والعياذ باهللِ .
وأما النفس املؤمنة التي كانت مطمئنة في الدنيا باإليمان وبذكر هللا وباْلعمال الصالحة،
فإنها تكون مطمئنة يوم القيامة ،حيث يؤمنها هللا عز وجلَ ،
وتنادى بما يسرها ،ويدخل
البهجة عليها ،فيقال لهاِ :
ً ً
اض َية﴾ [الفجر ]28 :عن نفسك ،وعن أعمالك ،وعن ربكَّ ﴿ ،م ْر ِض َّية﴾ ﴿ا ْرج ِعي إ َل ٰى َرب ِك َ
ر
ِ ِ ِ ِ
قد رض ي هللا عنك وأرضاك ،وهذا شأن النفس املؤمنة املطمئنة منذ أن تبدأ في قيامتها،
إذا أقبلت على اآلخرة ،وأدبرت عن الدنيا ،فجاءها ملك املوت ،فإنه يقال لها :أيتها النفس
املطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ،وأبشري بروح وريحان ،ورب غير غضبانِ .
263
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وكذلك يقال لها يوم القيامة ،فيقال لها :ارجعي إلى ربك -والكل سيرجع إلى هللا في ذلك
اليوم ،-ولكن النفس املطمئنة ترجع إلى ربها آمنة راضية مرضيةِ .
َ ُ
﴿ف ْادخ ِلي ِفي ِع َب ِادي﴾ [الفجر ]29 :الذين رضيت عنهم ،وجعلت لهم الجنة نزالِ .
َّ ُ
﴿ َو ْادخ ِلي َجن ِتي﴾ [الفجر ]30 :التي أعددتها لعبادي الصالحين ،وجعلت فيها ما ال عين
رأت ،و ِال أذن سمعت وال خطر على قلب بشرِ .
فبين هللا لك أيها اإلنسان ما يكون يوم القيامة للنفس العاصية املعرضة ،وللنفس
املطمئنة في الدنيا ،فاختر لنفسك أيها اإلنسان ،فقد هداك هللا النجدين ،ووعظك،
وذكرك ،وبين لك غاية البيان ،وجعل لك قدرة على عمل الطاعات وعلى ترك العصيان،
ُ
تحسن إال إلى نفسك ،وإن شئت فاعمل املعاص ي؛ وال تس ئ فإن شئت فاعمل الطاعات؛ وال
إال إلى نفسك ،فاعمل ما شئت فإنك مالقيه ومجازى بهِ .
هذا هو التفسير اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات ،ونرجع إلى التفسير التفصيلي،
ونقرأ ما ذكره الشيخِ .
َ َّ
(﴿كَّل﴾ أي :ليس كل ما أحببتم من اْلموال ،وتنافستم فيه من اللذات ببقاق لكم ،بل
أمامكم يوم عظيم وهول جسيم تدك فيه اْلرض والجبال وما عليها ،حتى تجعل قاعا
صفصفا ال عوج فيه وال أمتا ،ويجيء هللا لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام،
ويجيء اْلَّلئكة الكرام أهل السماوات كلهم.
ص ًّفا﴾ [الفجر ]22 :أي :صفا بعد صف كل سماء يجيء مَّلئكتها صفا يحيطون
﴿ص ًّفا َ
َ
بمن دونهم من الخلق ،وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار.
َّ
يء َي ْو َم ِئ ٍذ ِب َج َهن َم ۚ﴾ [الفجر ]23 :تقودها اْلَّلئكة بالسَّلسل.
﴿وج َ
ِ
َ
َّ
فإذا وقعت هذه اْلمور فيومئذ يتذكر اإلنسان ما قدمه من خير ومن شر وأنى له
الذكرى).
اإلنسان :قيل كل إنسان ،فـ (ال) هنا للجنسِ .
وقيل :اإلنسان الذي ظلم نفسه فكفر أو عص ى ربه عصيانا عظيما بداللة ما بعده وهذا
أقرب وهللا أعلمِ .
264
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بعض أهل العلم :يقولون جنس اإلنسان وما من إنسان يوم القيامة إال ويندم ما من
ً
إحسانا ليزداد درجات ،وإن إنسان إ ِال ويندم يوم القيامة ،إن كان محسنا ندم أنه لم يزدد
ً
مسيئا ندم أنه لم يقلع عن إساءته ويعمل بالصالحات ،قالوا :والسياق ال يأبى هذاِ . كان
وقال بعض العلماء :بل اإلنسان هنا (ال) للعهد وهو اإلنسان الذي تقدم وصفه وهو
الكافر أو الجاهل الذي يعتقد ما تقدمِ .
(فيومئذ يتذكر اإلنسان ما قدمه من خير وشر وأنى له الذكرى)ِ .
َّ َّ
(أنى) لالستبعاد يعني :أنى الذكرى بعيدة عنه.
(وأنى له الذكرى فقد فات أوانها وذهب زمانها يقول متحسرا على ما فرط في جنب هللا
يا ليتني قدمت لحياتي الباقية الدائمة عمَّل صالحا).
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ ِل َح َيا ِتي﴾؛ أي :في حياتي ،فالالم بمعنى في ،يعني :يا ليتني
قدمت في الحياة الدنيا الطاعة واإلقالع عن املعصية ،وكال املعنيين صحيح فاملعنى يا ليتني
قدمت في حياتي لحياتي ،يا ليتني قدمت في حياتي في الدنيا وهي الحياة الفانية ،والدنيا دار
العمل لحياتي الباقية الحقيقية فإن الدار اآلخرة هي الحيوان فكال املعنيين صحيح مرادِ .
َ َ ْ َ َ ٰ َ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ً ﴿ي ُقو ُل َيا َل ْي َت ِني َّات َخ ْذ ُت َم َع َّ
الر ُسو ِل َس ِبيَّل ( )27يا ويلتى ليت ِني لم أت ِخذ كما قال تعالىَ :
َُ ً َ ً
فَّلنا خ ِليَّل ([ ﴾)28الفرقان ]28-27 :وفي هذا دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في
كمالها وتحصيلها وكمالها وفي تثمين ملذاتها هي الحياة في دار القرار فإنها دار الخلد
والبقاء.
ٌ َ َ َ ْ َ َّ ُ َ ُ َ َ َ ُ َ
﴿فيوم ِئ ٍذ ال يع ِذب عذابه أحد﴾ [الفجرْ ]25 :لن أهمل ذلك اليوم ونس ي العمل
َ َ ََ
﴿وال ُيو ِث ُق َوثاق ُه﴾ [الفجر ]26 :يخرجون بسَّلسل من نار ويسحبون على وجوههم في
الحميم ثم في النار يسجرون فهذا جزاء اْلجرمين).
َ َ َّ َ
﴿ف َي ْو َم ِئ ٍذ ال ُي َع ِذ ُب َعذ َاب ُه أ َح ٌد﴾ وعلى هذا يكون الضمير راجعا هلل عز وجل ،فيومئذ ال
يعذب عذاب هللا أحد فإن عذاب هللا أشد وأبقى ،وأن كل عذاب دون عذاب هللا كال
عذابِ .
265
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ََ
﴿وال ُيو ِث ُق َوثاق ُه أحد﴾؛ أي :ال يوثق وثاق هللا أحد ،فإن ذاك الوثاق شديد أليم فإنه من
النار مع اإلهانة البالغةِ .
َ َ َ َ َ َ َّ َّ َ
وفي قراءة ﴿ف َي ْو َم ِئ ٍذ ال ُي َعذ ُب َعذ َاب ُه أحد (َ )25وال ُيوث ُق َوثاق ُه ([ ﴾)26الفجر،]26-25 :
َّ َّ َّ َ
فيكون الضمير في ﴿ َعذ َاب ُه﴾ راجعا إلى املعذب فيومئذ ال يعذب عذاب ذلك املعذب أحد
فإن عذابه أشد وأبقى وأعظم أملا ،بل كل عذاب دون عذابه كال عذاب ،وال يوثق وثاق
َ
ذلك املوثق أحدِ .
َ َّ َّ َ
وقال بعض اْلفسرين :في هذه القراءة املعنى ال يعذب بدال منه أحد﴿ ،ال ُي َعذ ُب َعذ َاب ُه﴾
َ
أي :ال يعذب أحد بدال منه وال يوثق أحد بدال منه ،فإنه ال يفدي أحد أحدا في ذلك اليومِ .
وهذا صحيح أيضا ،وكل املعاني صحيحة وهذا اختالف تنوع وليس اختالف تضادِ .
(قال :وأما من آمن باهلل واطمأن به وصدق رسله فيقال له :يا أيتها النفس اْلطمئنة إلى
ذكر هللا الساكنة إلى حبه التي قرت عينها باهلل).
فكانت مطمئنة في الدنيا باإليمان وذكر هللا والعمل الصالحِ .
(ارجعي إلى ربك الذي رباك بنعمته).
َ
وقال بعض اْلفسرينِ ﴿ :إل ٰى َرِب ِك﴾؛ أي :إلى صاحبك فارجعي إلى جسده ،فاملعنى :ارجعي إلى
جسد صاحبك ،لكن اْلظهر هو اْلولِ :ارجعي إلى ربك سبحانه وتعالىِ .
(ارجعي إلى ربك الذي رباك بنعمته وأسدل عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه
وأحبابه.
ً ً
اض َية َّم ْر ِض َّية﴾ [الفجر ]28 :أي :راضية عن هللا وعما أكرمها به من الثواب وهللا قد َ
﴿ر ِ
رض ي عنها).
ً
اض َية﴾ أي :عن ربها وبعملها فهي لسعيها راضية وحامدة ومرضية أرضاها هللا سبحانه َ
﴿ر ِ
وتعالى ورض ي عنهاِ .
َّ ُ َ ُ
(﴿ف ْادخ ِلي ِفي ِع َب ِادي (َ )29و ْادخ ِلي َجن ِتي ([ ﴾)30الفجر ]30-29:وهذا تخاطب به الروح
يوم القيامة وتخاطب به وقت السياق واْلوت).
266
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
﴿ َف ْاد ُخلي في ع َبادي﴾ هذه القراءة املتواترة يعني :فادخلي في عبادي ِّ
املنعمين الصالحين ِ ِ ِ ِ
الذين كتبت لهم كرامتي ،وهذا يقال للنفس املطمئنة عند حضور اْلجل وخروج الروح،
ويقال لها عند يوم القيامة ،فالراجح العموم؛ ْلن يعض السلف قالوا هذا عند االحتضار،
وبعضهم قال يوم القيامة ،والراجح أنه يعم اْلمرينِ .
َ وفي قراءة ليست متواترة﴿ :فادخلي في ْ
عبدي﴾ هذا على معنى﴿ :ا ْر ِج ِعي ِإل ٰى َرِب ِك﴾؛ أي:
عبدي أي :ادخلي في جسده ،والقراءة غير متواترة ،لكنه يفسر بهاِ . إلى صاحبك ،فادخلي في ْ
ولكن اْلمر كما قلنا :ارجعي إلى ربك الذي رباك وأنعم عليك بما تقدم وتفضل عليك بما
هو بين يديك من النعيمِ .
وبهذا نكون ختمنا تفسير هذه السورةِ .
ُ
الحكم الكلية والفوائد الكبرى لسورة الفجرِ :
أحب أن أذكر بعض ِ
-فمن ِحكم هذه السور الكلية وفوائدها العظمى :بيان قدرة هللا عز وجل وتدبيره لخلقه،
وأنه الرب املستحق للعبادة سبحانه وتعالىِ .
-ومن ِحكم السور الكلية :بيان سنة هللا في أعدائه وأعداء أوليائه املؤمنين ،وأنه قد ُيملي
لهم فإذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر ،وأن الذلة دائما ْلعداء هللا سبحانه وتعالىِ .
-ومن ِحكم السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن اإلكرام عند هللا ليس بكثرة متاع
الدنيا ،وأن اإلهانة عند هللا ليست بقلة متاع الدنيا ،وإنما اإلكرام عند ربنا سبحانه
بتوحيده وطاعته ،والشكر عند السراء والصبر عند الضراء ،فمن آمن باهلل ووحده واجتهد
صابرا على بالء هللا فهو املُ ْكرم ً
حقا عند هللا ،وله ً ً
شاكرا لنعم هللا عز وجل في طاعته ،وكان
اإلكرام في الدنيا واآلخرةِ .
-ومن ِحكم السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن من أهمل الزراعة في الدنيا يندم
وقت الحصاد في اآلخرة ،فالدنيا مزرعة ،وأوان حصاد ثمارها في اآلخرة ،فمن أهمل الزرع
في الدنيا فإنه يندم عند وقت أوان الحصاد في اآلخرةِ .
267
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-ومن ِحكم السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن النفس املطمئنة في الدنيا بتوحيد
ً
هللا وذكره وطاعته تكون مطمئنة في اآلخرة ،فلها الطمأنينة عند لقاء ربها ،ولها النعيم في
جنة ربهاِ .
ِ
ِ
ِ
ِ
ِِ
268
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة البلد.
الر ِح ِيم:الر ْح َمن َّ هللا َِّبس ِم ِ
ْ
ِ
ََ َََْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ُْ
﴿ال أق ِس ُم ِب َٰهذا ال َبل ِد (َ )1وأنت ِح ٌّل ِب َٰهذا ال َبل ِد (َ )2و َو ِال ٍد َو َما َول َد ( )3لق ْد خلقنا
ُ َ َ ْ ُ ً ُّ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ
نسان ِفي ك َب ٍد ( )4أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد (َ )5يقو ُل أ ْهلكت َماال ل َب ًدا ا ِإل
(َ )6أ َي ْح َس ُب َأن َّل ْم َي َر ُه َأ َح ٌد (َ )7أ َل ْم َن ْج َعل َّل ُه َع ْي َن ْين (َ )8ول َس ًانا َو َش َف َت ْين (َ )9و َه َد ْي َناهُ
ِ ِ ِ
َْ َ ُّ َ ََ ََ ََْ َ َ ْ َََُ ْ َ َ ََ َْ َّ
الن ْج َد ْي ِن ( )10فَّل اقت َح َم ال َعق َبة ( )11وما أدراك ما العقبة ( )12فك رقب ٍة( )13أو
ُ َ َ ً َ ْ َ َ ً َ ْ َ إ ْط َع ٌ
يما ذا َمق َرَب ٍة ( )15أ ْو ِم ْس ِكينا ذا َمت َرَب ٍة ( )16ث َّم كان ام ِفي َي ْو ٍم ِذي َم ْسغ َب ٍة ( )14ي ِت ِ
ْ
َ َ ْ َ ُ َ َ َ ٰ ُ َ ْ الص ْبر َو َت َو َ ين َآم ُنوا َو َت َو َ م َن َّالذ َ
اب اْل ْي َمن ِة ()18 اص ْوا ِباْل ْر َح َم ِة ()17أول ِئك أصح ِ
اص ْوا ب َّ
ِ ِ ِ
َ َ ْ ْ َ ٌ ُّ ْ َ ٌ َ َ َ ُ ْ ْ َ ُ َْ ْ َ َ َّ َ َ َ
ص َدة (ِ .﴾)20 اب اْلشأ َم ِة ( )19علي ِهم نار مؤ ين كف ُروا ِبآي ِاتنا هم أصح وال ِذ
ببعض؛ ولذلك لم ٍ هذه السورة الكريمة املباركة معانيها متصلة ،وآياتها يأخذ بعضها
نقسمها ولم نقطعهاِ .
وإحسانا إليهم لتأكيد املُ َ
ً ً
قسم ففي هذه السورة املكية ُي ْق ِسم ربنا سبحانه رحمة بعباده
حرمه سبحانه وتعالى يوم خلق السماوات قسم سبحانه بمكة البلد الحرام الذي َّ ُ
عليه ،في ِ
نبيه الخليل إبراهيم عليه السالم ،وفيه املسجد الحرام الذي هو َ
تحريمه ُّ واْلرض ،وأظهر
أحب بقاع اْلرض إلى هللا سبحانه وتعالى ،وفيه الكعبة التي لها الحرمة العظيمة ،وفيه
مقام إبراهيم الذي فيه آية كبرىِِ .
ً ًّ يقسم بمكة حال ِّ
كون النبي صلى هللا عليه وسلم حاال بها فتزداد به شرفا إلى شرفها،
ً
وحال إحاللها للنبي صلى هللا عليه وسلم حيث ستزداد حين ذاك شرفا بإسالم أهلها
وتطهيرها من الكفار والكفر واْلصنامِ .
وتضمن هذا القسم القسم بالنبي صلى هللا عليه وسلم الذي من شرفه أن هللا يحل له
ً
شيئا لم يحله ْلحد من عباده ال من قبله وال من بعده ،حيث يحل هللا له القتال في مكة
ساعة من نهار وذلك لشرفه صلى هللا عليه وسلمِ .
ويقسم هللا عز وجل بكل والد من إنسان أو حيوان ،وبكل مولودِ ،وفي التناسل آية عظيمة
هلل سبحانه وتعالىِ .
269
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وجواب القسم :لقد خلقنا اإلنسان في كبد ،فخلقناه في حسن قامة واستقامة وميزناه
بخلقته عن بقية املخلوقات ،فخلقته أحسن خلقة ،وأقوم خلقة ،وخلقه هللا عز وجل
ليعمل العمل الكثير في الدنيا لدينه بأن يعبد هللا سبحانه وتعالى وحده ،ولدنياه التي لن
يحصل ما فيها إال بالسعي والتعب واملعاناة ،فهو ينتقل من تعب إلى تعب ،وسيكون بعد
موته في تعب شديد ومعاناة شديدة إن لم يطع هللا سبحانه وتعالىِ .
فاهلل أخبرك أيها اإلنسان أنه قد خلقك في كبد ،فما خلقت إال لتعملِ :
إما لدينك وهو اْلصل في خلقتك بأن تعبد هللا سبحانه وتعالىِ .
وإما لدنياك التي لن تحصل ما فيها إال بتعبِ .
فأنت ما دمت في الدنيا تنتقل من تعب إلى تعب ،وبعد املوت عند لقاء هللا سيكون
اإلنسان في تعب شديد إال إذا أطاع هللا سبحانه وتعالى ،فال راحة لإلنسان إال في الجنة،
حيث يضع رجله فيها إن كان من أهلها ،فيضيف بزيادة كبد الحوت ،ويذبح له وْلهل
الجنة الثور املربى في الجنة كرامة لهم عند دخولهمِ .
هناك يرتاح اإلنسان ،فمن أتعب نفسه قبل ذلك في طاعة هللا ارتاح في الجنة ،ومن
أعرض عن طاعة هللا انتقل من تعب إلى تعب ِّ
أشد منهِ . ٍ ٍ
ظلوم جهول مغتر بنفسه متكبر ،فيظن أنه ال ٌ وهذا اإلنسان مع ضعفه اْلصل فيه أنه
يقدر عليه أحد ،وأنه لن يقدر عليه أحد مطلقا ،فيغفل عن قدرة هللا ،وأن هللا عز وجل
على كل ش يء قدير ،ومن كبره وجهله يقولِ :إني صاحب أموال كثيرة لن تنقطع عني ،فأنا
قد أهلكت في شهواتي وملذاتي أموال كثيرة مجتمعة كالجبال ،جمعت بعضها على بعض،
فلم يذهب مالي ولن يذهب ماليِ .
أفال يعلم ذلك املغرور أن الذي أعطاه املال قادر على أن يسلبه منه في لحظة؟! وقادر على
أن يأخذه من املال في لحظة؟! إن هللا على كل ش يء قدير ،وأن الذي خلقه قادر على إماتته
وبعثه ومجازاتهِ .
270
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومن ظلم ذلك اإلنسان املتكبر املتجبر الظلوم الجهول أنه يظن أنه ال يرصده أحد ،وال
يحفظ عليه عمله أحد ،أفال يعلم ذلك املغرور أن هللا ُيراقبه ،وأن هللا يراه ويسمعه ،وأن
عليه مالئكة تحفظ عليه أعماله؟! ِ
أفال يفكر هذا املتجبر املتكبر في أصل خلقته وفي ضعفه وفي نفسه حتى يعلم أنه ضعيف ال
يملك من أمر نفسه شيئا وال يملك لنفسه شيئا؟! ِ
ألم ينعم هللا عليه فيجعل له عينين يبصر بهما ويرى بهما؟! ولو شاء هللا ملا جعل له ذلك،
ولو شاء هللا لذهب بنورهما فما استطاع أن يعيد ذلك النورِِ .
ومن آيات التي يريها للناس وهي متعلقة بهذا أنك تجد طبيب عيون يفقد بصره ويصبح
أعمى ،وال يصنع لنفسه شيئا ،فهو من ضعفه ال يستطيع إيجاد العينين ،وال أن يحافظ
عليهما بل هللا عز وجل خلقهما وهللا عز وجل يحفظهماِ .
ألم ينعم هللا عليه فجعل له لسانا ينطق به ،ويعبر به عن ما يريد؟! ِ
سبحان هللا! من أين تأتي هذه الحروف؟! يخرج هواء من الفم ،فإذا به يكون حروفا ،وإذا
به يكون كالما ،من أين تأتي؟ وهللا لو اجتمع الخلق كلهم ملا استطاعوا أن يخرجوا حرفا
واحدا ،هللا جعل له ذلك ،وجعل له شفتين تتشكل بهما الحروف ،وفيهما منافع عظيمة،
ولو شاء هللا لسلبه ذلك ،فكم من إنسان له لسان ،وله شفتان ،ويخرج من جوفه هواء
كالذي يخرج من أجواف الناس ،لكنه ال يتكلم بحرف ،وال يتكلم بكلمة ،إن اإلنسان
ضعيف ،وإن الذي أنعم عليه بهذا هو القوي القدير سبحانه وتعالىِ .
ألم يرشده ربه عند صغره عند والدته وهو ال يعلم شيئا ،وال يدرك شيئا؟! ِ
ألم يرشده ربه إلى ثديي أمه وأن فيهما غذاءه ،ويعلمه كيف يمتص ذلك اللبن من ذلك
الثدي؟! ِ
فهداه النجدين ،هداه طريقي تغذيته وهو صغير وهما هذان الثديان ،فيذهب مباشرة إلى
ثدي أمه يلتقمه ،ال يذهب إلى سرتها ،وال يذهب إلى أصبعها ،وإنما يذهب إلى ثديها ،وهو ال
يعلم شيئا ،وال يدرك شيئا ،من الذي هداه؟ إنه هللا سبحانه وتعالىِ .
271
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وملا كبر هداه هللا فعلمه طريق الخير وطريق الشر ،فبعث له رسال يدعونه إلى الخير،
ويعلمونه الخير ،ويبينون له الشر ،وينهونه عن الشرِ .
بلى وربي ،وكل ذلك يدل على قوة هللاِ ،وعلى قدرة هللا ،وعلى تدبير هللا ،وعلى ضعف
اإلنسان ،وأنه ال يدبر لنفسه شيئا ،وأنه ال يملك له من دون هللا شيئاِ .
وذلك اإلنسان الظلوم الجهول مع أن هللا هداه النجدين ،وبين له طريق الخير ويسر له
سلوكه ،وبين له طريق الشر وحذره من سلوكه ،لم يسلك طريق الهداية؛ ْلنها ليس فيها
شهوة حاضرة ،ويرى طريقها صعبا ،فلم يسلك ذلك الطريق الذي يتجاوز به العقبة التي
هي النار يوم القيامةِ .
ََ ََْ َ َ ْ َََُ
﴿وما أدراك ما العقبة﴾ [البلد ]12 :ما أعلمك أيها املخاطب ما العقبة ،بينها لك ربك
سبحانه وتعالى ،وإذا سمعت في القرآن (ما أدراك) فانتظر البيان ،فكل ما قال هللا عز وجل
فيه (ما أدراك) فقد بينه هللا سبحانه وتعالىِ .
ُ
إن الطريق الصعبة في الدنيا الذي ت َتجاوز به العقبة يوم القيامة هو اإليمان باهلل،
واإلحسان إلى خلق هللا ،والرحمة بهم ،فمن ذلك :فك رقبة اْلسير من أسره ،والرقيق من
رقه ،ومنها :إطعام الضعفة في يوم ذي مجاعة ،فإطعام الطعام من شيم الكرام ،ومن
أفعال الصالحين ،ويعظم فضل إطعام الطعام إذا كان ذلك عند الحاجة ،ويعظم إطعام
الطعام عند الحاجة؛ إذا كان للضعفة الذين ال ُيرجى منهم خير دنيوي ،وال ُيخاف بأسهمِ .
فمما يجتاز به اإلنسان العقبة ،وينجو به من النار أن يطعم الضعفة في يوم شديد املجاعة
يشتهي فيه الناس الطعام فال يجدونه ،ويبحثون عنه فال يحصلونهِ .
وزاد؛ بأن يطعم يتيمه القريب ،الذي من أقربائه ،فيطعم اليتيم الذي فقد أباه وهو صغير
قبل بلوغه ،ذكرا كان أو أنثى ،السيما إذا كان من أقربائه ،فيكون له حق يتمه ،وحق
قرابتهِ .
وكذلك أن يطعم املسكين الذي ال يجد شيئا ،فهو ال يملك إال التراب في يده إن كان في يده
ش يء ،فال تجد في يده إال ترابا ،إن كان في يده ش يء ،وكأنه قد لصق بالتراب لشدة حاجته،
272
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فكأنه ال لباس يحول بينه وبين التراب ،وال بساط يحول بينه وبين التراب ،فهو مسكين
شديد املسكنة ،ال يملك شيئاِ .
وكل ذلك الذي تقدم من اإلحسان إلى خلق هللا ال ينفع إال إذا كان مع إيمان ،فشرط قبوله
أن يكون العامل به مؤمنا باهلل عز وجل ،يفعله إيمانا واحتسابا ،إيمانا باهلل ،وإيمانا بوعد
هللا ،واحتسابا ملا عند هللا سبحانه وتعالىِ .
فكان من الذين آمنوا باهلل وبموعود هللا سبحانه وتعالى ،وكان من أهل الصبر ،فإن الثبات
على طريق االستقامة ال يكون إال للصابرين ،فال إيمان ملن ال صبر لهِ .
والصبر البد له من التواص ي به ،فيحتاج املؤمن في استقامته إلى أن يوص ي غيره
باالستقامة ،وأن يوصيه غيره باالستقامة ،فيكون في ذاته صابرا على طاعة هللا وال سيما في
زمن الغربة ،ال سيما في آخر الزمان حيث يقل املعين على الطاعة ،ويكثر املثبط عن طاعة
هللا سبحانه وتعالى ،ويكون صابرا عن معصية هللا ال سيما في زمن الفتن حيث تقترب
ُ ُ
وتسهل له وتكثر عليه ،ويكون صابرا على أقدار هللا وعلى بالء هللا، املعاص ي من اإلنسان،
ويوص ي غيره بذلك ويوصيه غيره بذلكِ .
رحم في الدنيا واآلخرة ،فمن ال يرحم ال ُي َ
رحم ،ومن والبد لإلنسان في دنياه من رحمة حتى ُي َ
رحم عباد هللا رحمه هللا سبحانه وتعالى ،والرحمة تحتاج إلى تواص ي بها ،وأن يوص ي
املؤمنون بعضهم بعضا ِ
بالرحمة ،أولئك الذين آمنوا باهلل وأحسنوا إلى خلق هللا ورحموا
عباد هللا أصحاب اإلكرام من هللا ،فاهلل يكرمهمِ .
وأما من قابلهم فكفر باهلل ،ولم يرحم عباد هللا ولم يحسن إلى عباد هللا فأولئك أصحاب
اإلذالل واإلهانة من هللا عز وجل ،ولهم العذاب الشديد يوم القيامة ،فتوصد عليهم النار،
وتطبق عليهم النارُ ،ويجعل ْلبوابها ُعمد حتى ال َ
تفتح أبدا ،فال يخرج من لهيبها ش يء إلى َ
خارجها ،وال يخرج من ِّ
حرها ش يء إلى خارجها ،بل كل عذابها وكل لهيبها على أهلها مسعر،
هي كانت قبل دخول أهلها إليها اشتكت إلى ربها فقالت( :يا ربي أكل بعض ي بعضا) ،من
شدة ما فيها ،فأذن لها بنفسين :نفس في الصيف ،ونفس في الشتاء ،فأشد ما يجد الناس
ََ ََ
س جهنمِ .
س جهنم ،وأشد ما يجد الناس من البرد من نف ِ
من الحر من نف ِ
273
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
274
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى غفر له ولشيخنا وللسامعين:
يقسم تعالى بهذا البلد اْلمينِ .
َ ْ َ َ ُْ
يقول هللا﴿ :ال أق ِس ُم ِب َٰهذا ال َبل ِد﴾؛ قال بعض اْلفسرين( :ال) هنا زائدة ،صلة لتأكيد
القسم ،وفيها بيان أن املقسم عليه ثابت ال شك فيه ،وال يحتاج إلى قسم ،لكن هللا يقسم
ُ ُْ
عليه إحسانا لعباده ليزدادوا إيمانا ،ولتطمئن قلوبهم .ومعنى﴿ :أق ِسم﴾؛ يعني :أحلفِ .
َ ْ َ
﴿ب َٰهذا ال َبل ِد﴾؛ هو مكة بإجماع العلماءِ . ِ
قال :يقسم تعالى بهذا البلد اْلمين وهو مكة اْلكرمة أفضل البلدان على اإلطَّلق،
خصوصا وقت حلول الرسول صلى هللا عليه وسلم فيها .
ٌّ َ َ َ ٌّ َٰ َ ْ َ َ
﴿وأنت ِحل ِبهذا البلد﴾ قال بعض اْلفسرين :وأنت حال بهذا البلد ،يعني وأنت مقيم بهذا
البلد فإنه يزداد شرفا إلى شرفه ،وهذا ما ذكره الشيخ هناِ .
وقال بعض اْلفسرين :في هذا إشارة إلى أنه سيخرج من مكة ،وأنه ُ
سيخرج من مكةْ ،لن
ًّ َ َ
سيخرج من مكة ،وقدحاال فيها ،وهذا يشعر بأنه َ هللا قالَ ﴿ :وأنت ِح ٌّل﴾ يعني حال كونك
أخرجه قومه من مكةِ .
َ َ َ ٌّ َٰ َ ْ َ َ
وقال بعض اْلفسرين :معنى قول ربنا﴿ :وأنت ِحل ِبهذا البلد﴾ وهذا البلد حالل لك،
سي َحل لك هذا البلد املحرم ،وفي هذا بشارة للنبي صلى هللا عليه وسلم أنه سيفتح حيث ُ
مكة ،فيكون هذا قسما ثانيا ِبحل ربنا مكة لنبيه صلى هللا عليه وسلم ملا في ذلك من
الشرف ملحمد صلى هللا عليه وسلم ومن العز لدينهِ .
ْ ُ ٌّ ََ َ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :وأنت ِحل﴾ أي :أنت حالل غير مح ِرم ،وليس املراد النبي صلى هللا
عليه وسلم فقط ،بل كل حالل؛ يعني يقول ربنا :أقسم بهذا البلد ومن فيه ُم ِحلون غير
محرمين فكيف إذا كانوا محرمين؟ ال شك أن اْلمر أعظمِ .
وقال بعض اْلفسرين( :ال)هنا نافية (ال أقسم) ال هنا نافية ،واملعنى ال أقسم بهذا البلد،
ملاذا؟ ملاذا ال يقسم هللا بهذا البلد؟ ِ
275
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ْ َ َ َ
َ
مستحل في هذا البلد فدمك ﴿ َوأنت ِح ٌّل ِب َٰهذا ال َبلد﴾ ما معنى وأنت حل؟ يعني وأنت
َ
مستحل يشتمونك ويسبونك ويلصقون بك مستحل يكيدون لك يريدون قتلك ،وعرضك َ
التهم الكاذبة ،فال أقسم بهذا البلد ما دمت مستحال في هذا البلدِ .
َ َ َ ْ َ َ ُْ
وقال بعضهم -الذين يقولون أن (ال) هنا نافية﴿ :-ال أق ِس ُم ِب َٰهذا ال َبل ِد (َ )1وأنت ِح ٌّل﴾ أي
حال عن البلد ،أي :خارج عنها ،أي ال أقسم بهذا البلد إذا أخرجك قومك منهِ . ٌّ
َ َ
فصارت ﴿ َوأنت ِح ٌّل﴾ ( ِحل) هنا لها أربعة معانيِ :
َ َ
َ ﴿- .1وأنت ِح ٌّل﴾ يعني :وأنت حال في مكة ،أقسم بمكة وأنت حال موجود فيها.
.2والثاني :أقسم بمكة وأنت حالل فيها ،يعني :حالل من الحل ،وأنت حالل فيها غير
محرم.
ِ
َِ
مستحل َ
مستحل ،فيكون املعنى :ال أقسم بمكة ْلنك .3والثالث :بمعنى حل ،يعني:
فيها.
.4والرابع( :حل) بمعنى حال عن ،اْلول :حال في ،الرابع :حال عن ،يعني :ال أقسم
بمكة وأنت حال عنها ُمخرج منها.
وقال بعض اْلفسرين( :ال) هنا للرد على املكذبين بالبعث والنبي صلى هللا عليه وسلم،
فيكون املعني :ال؛ ليس اْلمر كما تزعمون بل ستموتون وتبعثون وتجا ِزون ،أقسم بهذا
البلدِ .
فتكونِ :ال نافية لكن ليست نافية للقسم ،نافية لزعمهم أنهم لن يبعثوا وأن محمدا صلى
هللا عليه وسلم كذاب -يزعمون هذا ،-فيكون املعنى :ال ،ليس اْلمر كما تزعمون ،بل
َ
وستجازون بأعمالكم ،أقسم محمد صلى هللا عليه وسلم صادق ،وستموتون وستبعثون
بهذا البلدن ِ
هذه املعاني كلها ذكرها املفسرين ،لكن أظهرها اْلول ،وأن (ال) لتوكيد القسم ،وأن هللا
يقسم بمكة حال كون النبي صلى هللا عليه وسلم حاال فيها ،وحال كونها حالال له في
املستقبل ،وحال كونه حالال فيها غير حرام ،هذا الذي عليه اْلكثر ،وهو اْلظهر إن شاء هللا
عز وجل ،وإن كانت جميع املعاني متجهة على ما بيناه وفصلناهِ .
276
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
﴿و َو ِال ٍد َو َما َول َد﴾ أي :آدم وذريته.
َ
َ
﴿و َو ِال ٍد َو َما َول َد﴾ أي :ووالد والذي ولده الوالد؛ يعني :ومن ولده الوالد،
هذا أحد اْلقوالَ :
(فالوالد) هو آدم والد البشر جميعا( ،وما ولد) هم البشر جميعاِ .
وقيل :ووالد رزقه هللا الولد ووهب له الولد ،وما ولد( ،ما) نافية ،والعقيم الذي لم يولد
له ،فيكون هللا أقسم بمن ولد وبمن لم يلد ،هذا قو ِلِ .
َ َ
﴿و َما َول َد﴾ أي :لم يلد ،فيكون هللا أقسم بالصنفين :من يلد، ﴿و َو ِال ٍد﴾ وهبه هللا الولد،
َ
فإن جميع اْلنبياء بعد إبراهيم عليه السالم من ذرية إبراهيم عليه السالم ،فصار املعنى:
َ َ
﴿و َما َول َد﴾ واْلنبياء من بعده فإنهم من ذريتهِ . ﴿و َو ِال ٍد﴾ أي :وإبراهيم خليل هللا، َ
﴿و َو ِال ٍد﴾ أي :كل والد سواء كان إنسانا أو حيوانا ،ويشمل هذا ما واملعنى اْلعم أولىَ ،
َ َ
﴿و َما َول َد﴾ أي :ما ولده ذلك الوالد سواء كان إنسانا أو حيوانا، ذكره بعض املفسرين،
ُ
فهذا أولى ما تحمل عليه اآلية؛ ْلنه يشمل جميع ما ذكره املفسرونِ .
ََ ْ َََْ ْ َ َ َ
نسان ِفي ك َب ٍد﴾ ،يحتمل أن اْلراد من ذلك ما اإل
قال :واْلقسم عليه قوله﴿ :لقد خلقنا ِ
يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا وفي البرزخ ويوم يقوم اْلشهاد ،وأنه ينبغي له أن
يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد ويوجب له الفرح والسرور الدائم ،وإن لم يفعل
فإنه ال يزال يكابد العذاب الشديد أبد اآلباد.
ويحتمل أن اْلعنى :لقد خلقنا اإلنسان في أحسن تقويم وأقوم ِخلقة يقدر على
التصرف واْلعمال الشديدة ،ومع ذلك فإنه لم يشكر هللا على هذه النعمة العظيمة،
بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه.
َ
﴿في ك َب ٍد﴾ ما معنى الكبد هنا؟ ِ
ِ
قال بعض العلماء :في تعب ومعاناة شديدة ،فهو يخرج من تعب إلى تعب ،فيخرج من بين
الصلب والترائب ،ثم يتخلق في الرحم ال حيلة له ،ثم يخرج من ذلك املخرج ،فإذا خرج إلى
الدنيا صاح ،ثم يكون ضعيفا يتألم وال يستطيع أن يعبر عن أمله إال بالبكاء ،وال يستطيع أن
277
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يدل أحدا على أمله إال بالبكاء ،ثم تظهر أسنانه ويعاني املعاناة الشديدة عند ظهورها ،ثم
يعاني في الحفاظ عليها ،ثم يعاني في آخر عمره غالبا من أملها ،ويتعب في طلب رزقه ،وهكذا
يخرج من تعب إلى تعب ،فإذا حضر اْلجل أتته سكرات املوت(( :وإن للموت سكرات)) كما
قال النبي صلى هللا عليه وسلم ،فيتعب عند ذاك ،وإذا أدخل قبره ُ
ضم في قبره ضمة لن
ينجو منها أحد ،وإذا ُبعث أدنيت الشمس من رؤوس الخالئقَ ،ووقف ال يدري ما ُيصنع به
حتى يقض ي هللا بين العباد ،ثم إن كان ممن كتب هللا له أن يسير على الصراط سار على
أحد من السيف على قدر عمله ،فإذا سلمالصراط ،وهو منصوب على متن جهنم وهو ُّ
ونجا ُحبس مع إخوانه املؤمنين على القنطرة حتى ُيقتص لبعضهم من بعض ،وفي كل هذا
تعب وألم ،فال راحة له إال بالجنة إن كان من أهلها ،وإال انتقل من تعب إلى تعب أشد فال
راحة له أبدا ،الكافر ال راحة له أبدا أبدا ،وأما املؤمن فإن له الراحة في الجنة ،ولذلك ملا
سئل اإلمام أحمد رحمه هللا :متى الراحة يا أبا عبد هللا؟ قال( :إذا وضعت رجلك في
الجنة) ،هناك الراحةِ .
َ
الخلقة ،فقامته حسنة
وقال بعض اْلفسرين( :الكبد) هو حسن القامة واالستقامة في ِ
وخلقته حسنةِ .
َ
وقال بعض اْلفسرين( :الكبد) هو السماء ،يعني في كبد السماء ،فيكون املراد باإلنسان
هنا آدم عليه السالم وحواءِ .
وال مانع من املعاني الثالثة كلها ،فاإلنسان خلق في السماء ،أمنا وأبونا خلقا في السماء آدم
ُ
وحواء ،وخلق في الدنيا في تعب ،وينتقل من تعب إلى تعب ،وقد أحسن هللا له ِخلقته
فخلقه في أحسن تقويمِ .
قال :فحسب بجهله وبظلمه أن هذه الحالة ستدوم له ،وأن سلطان تصرفه ال ينعزل،
َ َ َ َّ ْ َ
ولهذا قال تعالى﴿ :أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد﴾.
هنا إما أن الكالم عن اإلنسان بجنسه فيكون هذا هو اْلصل في اإلنسان؛ أنه جهول ظلوم
متكبر متعجرف ال يدرك حقيقة نفسه إال من رحم هللا فأنار بصيرتهِ .
278
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وإما أن تكون (ال) للعهد ،فيكون الحديث عن اإلنسان املعهود في السور املكية وهو الكافر
الذي كفر باهلل عز وجلِ .
َ
﴿أ َي ْح َس ُب﴾ أي :أيظنِ .
َ َ َ َّ ْ َ
﴿أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد﴾ فيأخذه أو يأخذ ما أعطاه ،أيظن أنه لن يقدر عليه
أحد فيأخذه أو يأخذ ما أعطاه؟! وهذا ما جعله يطغى ويتجبرِ .
َ َ َ َّ ْ َ
﴿أ َي ْح َس ُب أن لن َيق ِد َر َعل ْي ِه أ َح ٌد﴾ ويطغى ويفتخر بما أنفق من اْلموال على شهوات
َ َ ْ ُ ً ُّ
نفسه ،فيقول﴿ :أ ْهلكت َماال ل َب ًدا﴾ أي :كثيرا ،بعضه فوق بعض وسمى هللا تعالى
االنفاق في الشهوات واْلعاص ي إهَّلكا؛ ْلنه ال ينتفع اْلنفق بما أنفق وال يعود عليه من
إنفاقه إال الندم والخسار والتعب والقلة.
ُ َ َْ ُ
لم يقل هللا( :يقولِ :أنفقت) ،قالَ ﴿ :يقو ُل أ ْهلكت﴾ ،واإلهالك هو اإلتالف بال فائدة،
وسبب ذلك أنه ينفقه على شهواته وملذاته املحرمة ،فهو يبلى ويفنى وما بقي منه سيرحل
عنه ،فال ينتفع بماله ال بما استعمل وال بما أبقى ،وسيجازى ويحاسب عنه من أين
اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ فكان املال خسرانا عليهِ .
وقال بعض اْلفسرين :هذا هو الكافر الذي ينفق ماله في الصد عن دين هللا وفي معاداة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ويفتخر بذلك ،فسينفق ماله ويهلكه ،ثم يكون عليه
حسرة ،ثم ال يتحقق له مراده ،فالغلبة لدين هللاْ ،لولياء هللا سبحانه وتعالىِ .
قال :ال كمن أنفق في مرضات هللا في سبيل الخير ،فإن هذا قد تاجر مع هللا وربح
أضعاف أضعاف ما أنفق :قال هللا متوعدا هذا الذي افتخر بما أنفق في الشهوات:
َ َ َّ َ
﴿أ َي ْح َس ُب أن ل ْم َي َر ُه أ َح ٌد﴾ أي :أيظن في فعله هذا أن هللا ال يراه ويحاسبه على الصغير
والكبير ،بل قد رآه هللا وحفظ عليه أعماله ،ووكل به الكرام الكاتبين لكل ما عمله من
خير وشر.
قال :ثم قرره بنعمه ،فقال... :
قرره بنعمه وبين له حقيقة نفسه ومدى ضعفه ،وأنه ال يستطيع أن يدبر أمره ،وأن هللا
هو ربه الذي يدبر أمرهِ .
279
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
280
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
281
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهذا أفضل إطعام الطعام ،خير املؤمنين من أطعم الطعام ،وخير هؤالء اْلخيار من أطعم
عند القلة في يده والحاجة عند الناس لكنه لم يتكلف ،وخير هؤالء اْلخيار من أطعم
الضعفاء عند الحاجة ،الذين ما يرجو منهم شيئا ال شفاعة وال مكانة وال وال وال ،فيكون
ذلك هلل سبحانه وتعالىِ .
ً َ ً َ ْ
ً
وفقيرا ذا قرابة. جامعا بين كونه ً
يتيما يما ذا َمق َرَب ٍة﴾ أي: ﴿ي ِت
ً َ ْ َ
﴿أ ْو ِم ْس ِكينا ذا َمت َرَب ٍة﴾ أي :قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة.
ً َ ْ َ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :أ ْو ِم ْس ِكينا ذا َمت َرَب ٍة﴾ أو مسكينا صاحب عيال يتربون عليه عند
حاجته ،هو مسكين محتاج وعنده عيال ،وكل والد يعرف أن حاجة أوالده أشق على نفسه
من حاجته ،اإلنسان يمكن أن يعيش مسكينا ،وكما يقولون بالعامية( :يدبر نفسه) ،لكن
إذا جاءه الولد؛ الولد مبخلة للغني ،الغني إذا جاءه الولد يبدأ يمسك ،مستقبل اْلوالد،
واملسكين إذا جاءه الولد عظمت حاجته في نفسه ،واملعلوم أن اْلب واْلم يقدم أوالده على
نفسهِ .
ولذلك تلك املرأة التي جاءت ومعها البنتان إلى أمنا عائشة رض ي هللا عنها إلى بيت النبي
صلى هللا عليه وسلم تسأل ،فلم تجد عائشة رض ي هللا عنها إال تمرتين ،بيت النبي صلى هللا
عليه وسلم ما كان فيه إال تمرتان! لجوده صلى هللا عليه وسلم ،فأخذت تمرة فشقتها
بينهما ،فلما أكلتا النصف نظرتا إلى أمهما فشقت التمرة الثانية فأطعمتهما مع جوعهاِ .
فقال بعض السلف :املسكين ذو املتربة هو املسكين ذو العيال فإنه أشد املساكين حاجةِ .
وقال بعض السلف :املسكين ذو املتربة هو كبير السن الذي لم يبق له ،أحد الذي أصبح
كبيرا ال يستطيع أن يقوم بنفسه وليس له أحد إما حقيقة أو معنىِ :
إما حقيقة :لم يبق له زوجة وال أوالد ،وهذا في الغالب يهملة الناس وال يلتفتون
إليهِ .
وإما حكما :بأن يكون له أوالد لكن ملا رأوه قد كبر في السن وليس عنده ش يء أهملوه
وتركوه ولم يلتفتوا إليه.
282
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قالوا :هو املسكين ،والحقيقة أن كل هؤالء يدخلون في املسكين ،املسكين ذو املتربة الذي
ال يجد شيئا أو يجد ما ال يكفيه ،ثم هم درجات ال شك في هذا أن الحاجة تكون ٰ
على
درجات ،واملسكين املتعفف أعظم املساكين حاجة واإلحسان إليه أعظم اإلحسانِ .
أنا أعرف طالب علم جاء ٰ
إلى املدينة يريد طلب العلم مسكين ما معه ش يء ،وال عنده
ش يء ،يحضر الدروس عند املشايخ في الحرم ،ثم في الليل إذا ر ٰ
أى أن الناس ناموا يذهب ٰ
إلى
َ َ
حاويات النفايات لعله أن يجد بجوارها طعاما يأكله ،ما أعل َم أحدا ،وال يسأل الناس،
هنيئا ملن وقع عليه ،وهللا من دله هللا ٰ
إلى مثل هذا اإلنسان فقد أكرمه هللا ،طالب علم
ومسكين ما يجد ما يأكله ،ومتعفف ما يخبر حتى زمالئه ،أحد زمالئه الحظ هذا في الغرفة
وخرج وراءه وجده يفعل هذا ولم يخبره ،لكن جاءني وأخبرني عن حالهِ .
ولذلك أنا أقول للناس :تفقدوا طالب العلم ،تفقدوا طالب العلم ،وهللا إن اإلحسان إلى
طالب العلم املحتاج خير من اإلحسان ٰ
إلى غيره ،اسألوا عنهم وعن أحوالهم ،وأعينوهم بما
تستطيعون ،فهؤالء هم شيوخ اْلمة في قادم أيامها ،وهم الذين ٰ
يرجى منهم الخير ،وال تزال
اْلمة بخير ما تفقدت ضعفاءها ،النصر والرزق يأتي بسبب الضعفاءِ .
ُ َّ َ َ َ َّ َ ُ
ين َآمنوا﴾ وعملوا الصالحاتِ . ﴿ثم كان ِمن ال ِذ
بمعنى (الواو)؛ أي :وكان حال عمله هذا مؤمنا ،فإن الذي تقدم ال ُيمدح به إال
ٰ (ثم) هنا
مؤمن ،وال ينفع إال املؤمن ،فال يقبل هللا عمال إال من مؤمن ،وال يقبل عبادة إال منِ :
.1مخلص اإلخالص اْلكبر باإليمانِ .
.2ومخلص اإلخالص اْلصغر في نفس العبادةِ .
.3ومتابع لرسول هللا ٰ
صلى هللا عليه وسلمِ .
هللا ال يقبل العبادة الخاصة إال من مخلص اإلخالص اْلكبر باإليمان ،ومخلص اإلخالص
اْلصغر باإلخالص في نفس العبادة بأن يعملها هلل ،ومتبع لرسول هللا ٰ
صلى هللا عليه وسلمِ .
وال يقبل العمل من عبده ويثيبه عليه إال إذا كان مخلصا له محتسبا اْلجر عنده ،فكان
مخلصا اإلخالص اْلكبر واإلخالص اْلصغر في ذلك العملِ .
283
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أي :آمنوا بقلوبهم بما يجب اإليمان به ،وعملوا الصالحات بجوارحهم ،فدخل في هذا
كل قول وفعل واجب أو مستحب.
ً
واحتسابا ،وهذا يدخل في اإليمان، وقال بعض اْلفسرينَ ﴿ :آم ُنوا﴾ أي :فعلوا ذلك ً
إيمانا
ً
واحتساباِ . فآمنوا باهلل وفعلو ذلك ً
إيمانا
الص ْب ِر﴾ على طاعة هللا وعن معصيته وعلى أقداره اْلؤْلة بأن يحث بعضهم ﴿و َت َو َ
اص ْوا ب َّ َ
ِ
ً ًٓ ً
منشر ًحا به الصدر مطمئنة به النفس.
َ بعضا على االنقياد لذلك واإلتيان به كامَّل
واْلصل هذا اْلصل ،أن من يوص ي غيره يعمل بنفسه ،هذا اْلصل ،اْلصل أن العاقل ما
يوص ي غيره وال يعمله ،هذا اْلصل ،وإن كان قد ال يقع هذا ،فالذين تواصلوا بالصبر اْلصل
أنهم يصبرون ،ويوصون غيرهم بالصبر ،الصبر بأنواعه الثالثة :على طاعة هللا ،وعن
معصية هللا ،وعلى أقدار هللاِ .
ِ
َْ ﴿و َت َو َ
اص ْوا ِباْل ْر َح َم ِة﴾ للخلق من إعطاء محتاجهم وتعليم جاهلهم والقيام بما َ
يحتاجون إليه من جميع الوجوه ،ومساعدتهم على اْلصالح على الدينية والدنيوية ،وأن
يحب لهم ما يحب لنفسه ،ويكره لهم ما يكره لنفسه.
املؤمن يرحم عباد هللا ،ومن رحمته بهم يأمرهم باملعروف وينهاهم عن املنكر ،ورأس ذلك
أن يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك ،ويرحمهم في بقية أمورهم ،وكما قلنا في الصبر،
اْلصل أن من يوص ي غيره باملرحمة يكون رحي ًما بعباد هللاِ .
﴿أ َٰولئ َك﴾ الذين قاموا بهذه اْلوصاف الذين وفقهم هللا القتحام هذه العقبةُ ( ،أ َٰولئكَ ُ
ِ ِ
َ ْ َ ُ َْ َ
اب اْل ْي َمن ِة﴾ ْلنهم أدوا ما أمر هللا به من حقوقه وحقوق عباده ،وتركوا ما نهوا أصح
عنه وذلك عنوان السعادة وعَّلمتهاِ .
َ ْ َ ُ َْ َ
اب اْل ْي َمن ِة﴾ أنهم أصحاب اليمن والبركة والسعادة واإلكرامِ . فمعنى ﴿أصح
ن ْ ُ َ َ ْ َ ُ َْْ َ َ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿أصحاب اْليمن ِة﴾ أنهم الذين يعطو كتبهم باليمين ،أنهم
الذين ُيعطون كتبهم بأيمانهمِ .
284
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ْ َ ُ َْ َ
اب اْل ْي َمن ِة﴾ يعني أصحاب اليمين الذين ُوعدوا بالنعموقال بعض اْلفسرين﴿ :أصح
املقيمِ .
ُ َ ْ َ ُ َْ َ
اب اْل ْي َمن ِة﴾ هم الذين أخذوا من الشق اْليمن من آدموقال بعض اْلفسرين﴿ :أصح
عليه السالم ،الذين يكونون عن يمين آدم عليه السالمِ .
َ َ َّ َ َ َ
ين كف ُروا ِب َآيا ِتنا﴾ بأن نبذوا هذه اْلمور وراء ظهورهم فلم يصدقوا باهلل وال آمنوا ﴿وال ِذ
صالحا وال رحموا عباد هللا. ً به وال عملوا
َ ْ َ ُ َْ ْ َ
اب اْلشأ َم ِة﴾. ﴿أولئك أصح
َ ْ َ ُ َْ ْ َ
اب اْلشأ َم ِة﴾ قيل :أصحاب الشؤم والشقاء والعذابِ . ﴿أصح
وقيل :الذين ُيعطون كتبهم بشمائلهمِ .
وقيل :هم أصحاب الشمال الذين ُوعدوا بعذاب السمومِ .
ِّ
وقيل :هم الذين من الشق اْليسر من آدم عليه السالمِ .
فأصحاب امليمنة في املعنى تقابل أصحاب املشئمة ،وأصحاب املشأمة في املعنى تقابل
أصحاب امليمنةِ .
َ َ ْ ْ َ ٌ ُّ ْ َ ٌ
ص َدة﴾ أي :مغلقة. ﴿علي ِهم نار مؤ
ً
أبداِ .
مغلقة مطبقة عليهم ،ليس فيها نفس وال مخرج ِ
﴿في َع َم ٍد ُّم َم َّد َد ٍة﴾ [الهمزة ،]9 :قد مدت من ورائها لئَّل تنفتح أبوابها.
ِ
فأغلقت أبوابها بالعمد ،يعني ُس ِّمرت أبوابها بالعمد ،فال رجاء لفتحها إال أن تفتح إلخراج
من استوفى عذابه من عصاة املوحدين في النارِ .
قال :قد ودت من ورائها لئَّل تنفتح أبوابها حتى يكونوا في ضيق وهم وشدة.
وهذا آخر تفسير سورة البلدِ .
وهذه السورة فيها حكم كلية وفوائد عظمى كثيرة ،لكن أذكر أهمها في نظري ،من ذلكِ :
ِّ
-بيان ِّأن اإلنسان خلق في تعب ،ويخرج من تعب إلى تعب ،وأنه ال راحة له إال في الجنةِ .
ِّ
-ومنها :بيان أن اإليمان بقدرة هللا وبمراقبة هللا للعبد بأنه يراه ويسمعه يقود العبد إلى
تزكية نفسه ،وأن الغفلة عن هذا تقود العبد إلى الطغيان ،ولذلك البد أن تذكر نفسك
285
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وأن هللا يراك حيثما كنت ،وأن هللا يسمعك حيثما كنتِّ ،
فإن دائما بأن هللا عليك قادرِّ ،
هذا يقودك إلى أن تزكي نفسك ،وأما الغفلة عن هذا ِّ
فإنها سبب للطغيان والعياذ باهللِ .
-ومنها :بيان ِّأن طريق النجاة من ِّ
النار وتجاوزها هو اإليمان باهلل ،واإلحسان إلى خلق هللا،
والرحمة بخلق هللاِ .
-ومنها :بيان ِّأن االستقامة البد لها من صبرِّ ،
وأن الصبر البد له من التواص ي به ،إذا أردت
أن تثبت على االستقامة فكن صبورا ،درب نفسك على الصبر ،والبد للصبر -حتى يصبر
اإلنسان ويستمر على ذلك -من أن يتواص ى به مع غيره من املؤمنينِ .
ِ
ِِ
286
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الشمس
الر ِح ِيم الر ْح َمٰـن َّ َّ
الل ِـه َّ ِب ْس ِم
ِ
َ َّ َ َّ َ َّ َ ََ َْ الش ْمس َو ُ َ َّ
الن َه ِار ِإذا َجَّل َها ﴿َ ﴾٣والل ْي ِل ِإذا اها ﴿َ ﴾١والق َم ِر ِإذا تَّل َها ﴿ ﴾٢و ض َح َ
ِ ﴿و
ََْ اْل ْ ض َو َما َط َح ََ َْ الس َماء َو َما َب َن َ َي ْغ َش َ
س َو َما َس َّو َاها ﴿﴾٧ ٍ ف نو ﴾ ٦﴿ ا اه ِ ر و ﴾ ٥﴿ ااه ِ اها ﴿َ ﴾٤و َّ
َ َّ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ َْ َ َ َ َ َ َََْ َ َ ُ ُ َ َ ََ ْ
فألهمها فجورها وتقواها ﴿ ﴾٨قد أفلح من زكاها ﴿ ﴾٩وقد خاب من دساها ﴿ِ ﴾﴾١٠
في هذه السورة املكية ،يقسم هللا عز وجل بالشمس وما فيها من اآليات :بنورها الذي تضيئ
به اْلرضِّ ،
وبحرها الذي تنتفع به املخلوقاتِ .
ِ
وبالقمر إذا تبع الشمس وجاء بعدها فهما يتعاقبان ،وإذا أخذ منها ضوءه ،فالشمس
سراج ،والقمر ضياء يأخذ ضوءه بإذن هللا وأمره من الشمسِ .
وبالنهار املض يء الذي يكشف ما على اْلرض ،وبالليل الذي يغطي اْلرض بظالمه ،ويغطي
املخلوقات بظالمه ،ويستر ما على اْلرض بذلك الظالمِ .
َ
وبالسماء على اتساعها ،وببنائها الشديد ،الواسع ،املحكم بغير عمدِ .
ِّ
ودحيها بالكنوز ً
جميعا ،التي تحيا عليها ومدها ،وبسطها ،وتسويتها للمخلوقاتوباْل ض ِّ
ِ ر
والخيرات ،من النبات وغيرهِ .
ً
وفطرةِّ ، ً
فسوى خلقتها ،وجعل خلقتها في أحسن وبالنفس؛ نفس اإلنسان ،وتسويتها خلقة
تقويمِ .
وتميزت على املخلوقات بحسن الخلقة ،وجعل فطرتها ِّ
سوية ،فكل مولود يولد على الفطرة،
ِّ ِّ
وهيأها لشأنها ،فألهمها وعلمها طريق التقى والطاعة وطريق الفجور واملعصيةِ .
وبين لها هذا ،وأمرها ُّ
بالتقى والطاعة ،ونهاها عن الفجورِ واملعصية ،وأقدرها فبين لها هذا ِّ
ِّ
ً ً
عقال ِّ
يميز به ،وجعل له إرادة ومشيئة يختار بها ،ولن على فعل هذا وهذا ،فجعل لصاحبها
يشاء اإلنسان إال أن يشاء هللا رب العاملينِ .
ً
جميعا هداية البيان ،إن شاء هدى من شاء منهم ثم هو سبحانه بعد أن هدى الناس
هداية التوفيق بفضله وإحسانهِ .
ُّ ِّ ُ
ويضل من شاء إضالله من الناس فيؤتي أنفسهم تقواها ويهديها هداية البيان ،ويزكيها
287
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بعض اْلفسرين :أي ونورها النافع للعباد ،فإن النهار إذا ظهر بنور الشمس ،سعى العباد في
خيرهمِ .
اها﴾ أي ِّ
وحرها الذي ينفع البالد والعباد ،فتنضج به الثمار ﴿و ُ
ض َح َ وقال بعض اْلفسرينَ :
288
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فاملخلوقات تسكن في الليل ،فإذا أشرقت الشمس خرجت ،وال مانع من إرادة الكل ،فإن
الكل من ضحى الشمسِ .
فضحاها :هو نورها ،وهو حرها ،وهو املخلوقات التي تظهر عند إشراقهاِ .
َ َ َ
﴿والق َم ِر ِإذا تَّلها﴾ أي :تبعها في اْلنازل والنور.
إذا تبعها في املنازل ،فإن القمر يتبع الشمس في املنازلِِ .
وفي النور ،فإن القمر ضياء ليس سراجا ،السراج هو املض يء بنفسه ،ضوؤه منه .والضياء:
هو الضوء من الغيرِ .
فالقمر يتبع الشمس في الضوء ،ويأخذ الضوء من الشمسِ .
وتلك آية عظيمة لربنا سبحانه وتعالى ،أن الشمس غائبة في الليل ،ويأخذ القمر منها
الضوء ،إنه أمر هللا سبحانه وتعالىِ .
َ َ َ
والقمر إذا صار بدرا فأشبههاْ ،لن القمر
ِ ﴿والق َم ِر ِإذا تَّلها﴾ أي وقال بعض اْلفسرين:
يبدأ هالال ،ثم يكبر ،ثم يصير بدرا ،فيكون مستديرا مثل الشمس ويض يء اْلرضِ .
القمر إذا صار بدرا ،يكون له ضوء في اْلرض ،فيشبه الشمس في ذلك ،فقالوا :معنى
َ َ َ
﴿والق َم ِر ِإذا تَّلها﴾ أي والقمر إذا صار بدرا فأشبه الشمسِ .
َ َّ َ َّ
الن َه ِار ِإذا َجَّل َها﴾ أي إذا جلى ما على وجه اْلرض وأوضحه. ﴿و
َّ
﴿ َجَّل َها﴾ يعني أظهرها وكشفها ،لكن الضمير يعود إلى ماذا؟ ِ
أكثر اْلفسرين يقولون :إلى اْلرض ،مع أنها ليست مذكورة سابقا ،لكنه معلوم ،فال بأس
من إعادة الضمير إلى املعلومِ .
َ َّ َ َّ
الن َه ِار ِإذا َجَّل َها﴾ أي والنهار إذاوقال بعض اْلفسرين :بل الضمير يعود إلى الشمس ﴿و
جلى الشمس ،وأظهر جرمها وضوءهاِ .
وال مانع من اْلمرين ،فإن هذا يحصل في النهار ،وهذا يحصل في النهارِ .
اها﴾ أي يغش ى وجه اْلرض فيكون ما عليها مظلما الل ْيل إ َذا َي ْغ َش َ
َ َّ
﴿و ِ ِ
اها﴾ يغش ى :يعني يغطيِ .الل ْيل إ َذا َي ْغ َش َ
َ َّ
﴿و ِ ِ
289
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
290
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فهذه اآليات تدل على أن هللا هو املستحق للعبادة سبحانه وتعالىِ .
الس َماء َو َما َب َن َ َ
اها﴾ يحتمل أن (ما) موصولة ،فيكون اإلقسام بالسماء وبانيها ،وهو ﴿و َّ ِ
هللا تعالى.
فيكون املعنى :والسماء والذي بناها؛ والذي بناها هو هللا سبحانه وتعالى ،فيكون هللا قد
أقسم بالسماء ،وهي آية عجيبة يراها اإلنسان ،وبه سبحانه وتعالى ،وهو الذي بنى السماءِ .
قال :ويحتمل أنها مصدرية ،فيكون اإلقسام بالسماء وبنيانها الذي هو غاية ما يقدر من
اإلحكام ،واإلتقان ،واإلحسان.
الس َماء َو َما َب َن َ َ
اها﴾ فيكون هللا أقسم ويحتمل أن (ما) وما بعدها مصدر ،فيكون ﴿و َّ ِ
بالسماء وببنيان تلك السماء البنيان العجيب ،فهي مع اتساعها وارتفاعها ،ال ترى لها
عمدا ،مع أن اإلنسان يدرك أن الش يء غير املتسع ،إذا رفع البد أن يوضع له عمد وإال
سقطِ .
احتجنا في مساجدنا إلى السواري حتى ال يسقط السقف ،ولكن السماء مع اتساعها ال ترى
لها عمدا ،وال ترى فيها انبعاجا ،وال ترى فيها ميالنا ،وال ترى فيها تشققا مع تطاول الزمان،
وهذه آية عظيمة من آيات هللا سبحانه وتعالىِ .
َ َْ
اْل ْ ض َو َما َط َح َ
اها﴾ أي مدها ووسعها ،فتمكن الخلق حينئذ قال :ونحو هذا قوله﴿ :و ِ
ر
من االنتفاع بها بجميع أوجه االنتفاع.
َ َْ ﴿الس َماء َو َما َب َن َ
ض َو َما
ِ
اْلرْو ﴾ ٥ ﴿ ااه َّ ِ قول الشيخ :ونحو هذا؛ أي مثل اآلية السابقة
اها﴾ َِط َح َ
(ما) هنا يحتمل أن تكون موصولة ،فيكون املعنى :واْلرض والذي طحاها ،وهو هللا سبحانه
وتعالىِ .
ويحتمل أن تكون مصدرية ،فتكون هي وما بعدها مصدرا ،فتكون واْلرض ومدها .فمعنى
اها﴾ أي مدها ،ووسعها ،وبسطها لينتفع بها الخلقِ . ﴿ َو َما َط َح َ
ْ ْ
اها﴾ يعني وما خلقها ،يعني إما والذي خلقهاِ ،أو وخل ِقها؛ واْلرض وخل ِقهاِ . وقيل ﴿ َو َما َط َح َ
اها﴾ دحاها بما فيها من النبات والخيرات ،وهذا الذي نص عليه وقيل معني ﴿ َو َما َط َح َ
291
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
والذي سواها ،فيكون قسما باهلل سبحانه وتعالى ،ويحتمل أنها مصدرية ،فيكون املعنى:
ِونفس وتسويتها ،حيث سوى هللا خلقتها ،وسوى فطرتها ،فجعلها على خلقة سوية ،وخلقها
على فطرة سوية ،واإلنسان يدنس هذه الفطرة أو ينميهاِ .
292
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بالتدنس بالرذائل ،والدنو من العيوب والذنوب ،وترك ما يكملها وينميها ،واستعمال ما
يشينها ويدسيها .
اب﴾ قد خسرَ ﴿ ،من َد َّس َ
اها﴾ من أخفى خيرها بالشرك واملعاص ي .وأصل دساها: ﴿و َق ْد َخ َ
َ
دسسها؛ وهو إخفاء الش يء في ش يء .التدسيس هو إخفاء الش يء في ش يءِ .
ولذلك مثال يقالِّ :
دس املال في يده؛ أي وضع املال في يده وأخفاه حتى ال يرى الناس أنه
أعطى ماالِ .
293
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
في هذه اآليات الكريمات يبين هللا عز وجل أنه محيط بالكافرين ،وأنه لهم باملرصاد ،ويأخذ
من شاء أخذه منهم بالعذاب في الدنيا قبل اآلخرة ،كما فعل بثمود قوم صالح الذين أنعم
عليهم بالنعم ،وآتاهم قوة وقدرة ،فكانوا يقطعون الصخور العظيمة ،ويثقبونها ،ويبنون بها
القصور ،وينحتون البيوت في الجبال ،ويتفننون في البنيان ،وبعث هللا لهم صالح عليه
السالم رسوال ،فدعاهم إلى التوحيد ،وحذرهم من الطغيان ،لكنهم كذبوا لجبروتهم
ً
صالحا عليه السالم ،وأعرضوا عن وطغيانهم ،فلم يؤمنوا باهلل عز وجل ،ولم يصدقوا
الحق ،وتجبروا ،وتكبروا ،وتجاوزوا كل حدِ .
فجعل هللا لهم آية عظيمة ،هي الناقة ذات الخلقة العجيبة ،أخرجها لهم فقال لهم صالح
اللـه َوَال َت َم ُّس َ
َّ ْ َ َ َ ْ َ ٰ َ َ ُ َّ َ ُ ْ َ ً َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ
وها عليه السالم﴿ :ويا قو ِم هـ ِذ ِه ناقة الل ِـه لكم آية فذروها تأكل ِفي ِ ِ
ضر أ
ٌ ُ ََْ ُ َ ُ ْ َ َ ٌ َ
وء فيأخذكم عذاب ق ِريب﴾ [هودِ ]٦٤ : ِبس ٍ
وأخبرهم أن لها شرب يوم ،ولهم شرب يومِ .
ونهاهم عن االعتداء عليها في شربها ،وتوعدهم بالعذاب إن هم اعتدوا عليها في شربها،
294
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فأطاعوا في أول اْلمر وتركوها ،فكانت تشرب يوما ،وفي اليوم الثاني يشربون هم ،وكانت في
اليوم الثاني لشربها تدر الحليب الكثير فيشربون مع شربهم ،مع املاء يشربون حليبها العذب
الطيب الكثيرِ .
ثم َّإن طغيانهم زاد فرأوا أن يقتلوا َّ
الناقة فتواطؤا على هذا ،وندبوا من يقتلها ،فانتدب
جل قوي ذو منعة ،له مكانة في قومه وبايعوه على قتلها ،فقال لهم رسول هللا: لقتلها ر ٌ
(أحذركم ناقة هللا ال تمسوها بسوء ،وأحذركم سقيا الناقة الذي جعله هللا لها ال تعتدوا
عليه ،وإال مسكم العذاب )فكذبوه ،ولم يصدقوا بالوعيد ،فانبعث ذلك الرجل الشقي،
أشقى تلك القبيلة بندب قومه له ،فعقرها وقتلهاِ .
جميعا َّ
ً َّ
كأنهم قد قتلوها ،فاآلمر بالشر وملا كان قتله لها بندب بعضهم ورض ى بعضهم ،كانوا
كفاعل الشر ،والراض ي به كفاعلهِ .
فبعضهم هو الذي أمر ذلك الرجل وانتدبه ،وبعضهم رض ي بفعله ،ولذلك قال هللا:
َ َ
ً
جميعا ﴿ف َعقروها﴾ ،مع أن الذي باشر النحر والقتل واحد هو ذلك الرجل؛ لكنهم اشتركوا
في قتلها ْلمر بعضهم ،ورض ى بعضهمِ .
َ ََ َ َ
مد َم َعل ِيهم َرُّب ُهم ِبذ ِنب ِها﴾ وأطبق عليهم العذاب ،وأصابهم العذاب العاجل املطبق،﴿فد
أحدا؛ يعني من الكفارَّ ،
فإنه ما عز وجل بالصيحة والرجفة فلم يبق منهم ً فأهلكهم هللا َّ
آمن مع صالح إال قليل عليه السالم ،وال يخاف هللا سبحانه وتعالى تبعة تعذيبهم ،وال
وإنه سبحانهفإنه سبحانه امللك الذي ال ُيسأل عما يفعل وهم يسألونَّ ،تعذيب غيرهمَّ ،
295
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
296
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
﴿ف َس َّو ٰى َها﴾ عليهم أي أنه أخذهم جميعا ،جميع الكفار بعذاب واحد ،فلم ينجو منهم أحد،
َ
﴿ف َس َّو ٰى َها﴾ِّ ،
سوى بينهم في هذه العقوبةِ . فمعنى
ََ َ ُ ْ
﴿وال َيخاف ُعق َٰب َها﴾ أي تبعتها ،وكيف يخاف من هو قاهر ،ال يخرج عن قهره وتصرفه
مخلوق الحكيم في كل ما قضاه وشرعه.
ََ َ ُ ْ
﴿وال َيخاف ُعق َٰب َها﴾ قال بعض اْلفسرين :املعنى :وال يخاف هللا تبعة تعذيبهم وال تعذيب
عما يفعل وهم يسألونِ .وْلنه الحكمالفعال ملا يريد ،الذي ال ُيسأل ِّ
غيرهمْ ،لنه امللك ِّ
العدل فلم يؤاخذهم إال بذنبهمِ .
ٰ
عقبى فعله ،فكانت عاقبة فعله وقال بعض اْلفسرين :املعنى :لم يخف الذي عقر الناقة
تدميرا له ولقومهِ .
ِّ ََ َ ُ ْ
﴿وال َيخاف ُعق َٰب َها﴾ الذي عليه الجمهور :أن الذي ال يخاف هو الله سبحانه وتعالى ،ال
يخاف تبعة تعذيبهمِ .
وقال بعض اْلفسرين :الذي ال يخاف هنا هو ذلك الرجل الشقي الذي عقر الناقة،
واملعنى :ولم يخف الذي عقر الناقة عاقبة فعله فكان عاقبة فعله تدميرا له ولقومه ،وقول
الجمهور أظهر وهللا أعلمِ .
وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الشمسِ .
ومن حكم هذه السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن الفالح في تزكية النفس
بالتطهر من الشرك واملعاص ي ،والتنمية بالتوحيد والطاعاتِ .
﴿و ْال َع ْ
ص ِر ﴿﴾١ وأن الخسران في اإلشراك والعصيان ،وهذا على ميزان قول هللا عز وجلَ :
ْ الصال َحات َو َت َو َ
اص ْوا ِبال َح ِق ان َلفي ُخ ْسر ﴿ ﴾٢إ َّال َّالذ َ
ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ َّ ْ َ َ
اإلنس
ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِإن ِ
الص ْب ِر ﴿﴾﴾٣ َو َت َو َ
اص ْوا ب َّ
ِ
ومن حكم هذه السورة الكلية و فوائدها العظمى :بيان أن الطغيان سبب ْلخذ الرب
عبده بذنبه ،فمن طغى كان أهال ْلن يعذبه هللا في الدنيا إن شاء ،سواء كان مشركا ،أو
ِّ
طغى و تجاوز بالعصيان وهو موحد ،فإنه أهل ْلن يأخذه الله بالعذاب في الدنياِ .
ِّ
قلنا مثال يا إخوة :من الطغاة املوحدين قاطع الرحم؛ قطاع الرحم من الطغاة ،وعاق
297
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الوالدين من الطغاة ،بهذا املعنى الذي ذكرناه فهم أهل ْلن يعجل هللا لهم العقوبة في
الدنياِ .
وكذلك الطغيان سبب لتعذيب هللا اإلنسان في اآلخرة ،فإن كان مشركا فإنه معذب والبد،
وإن كان موحدا وطغى بالعصيان ،فإنه مستحق ْلن يعذبه هللا ،فإن شاء عذبه وأذاقه
النار ،وإن شاء عفا عنه سبحانه وتعالىِ .
ِ
ِ
ِِ
298
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الليل
الر ْح َمٰـن َّ
الر ِح ِيم
َّ
الل ِـه َّ ِب ْس ِم
ِ
ُ َّ َ ْ ُ َ ََ َ َّ َ َ َّ َ َْ َّ
الن َه ِار ِإذا ت َجل ٰى ﴿َ ﴾٢و َما خل َق الذك َر َواْلنث ٰى ﴿ِ ﴾٣إ َّن َس ْع َيك ْم ﴿ َوالل ْي ِل ِإذا َيغش ٰى ﴿ ﴾١و
ْ َ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ََ َ َ
ص َّدق ِبال ُح ْسن ٰى ﴿ ﴾٦ف َسن َي ِس ُر ُه ِلل ُي ْس َر ٰى ﴿﴾٧ لش َّت ٰى ﴿ ﴾٤فأ َّما َم ْن أ ْعط ٰى َواتق ٰى ﴿ ﴾٥و
ََ ُ ْ
ىٰ َ ْ ُ َ َ َُ ُُ ْ ٰ َ َ َّ َ ْ ُ ْ َ ٰ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ْ َ
وأما من ب ِخل واستغنى ﴿ ﴾٨وكذب ِبالحسنى ﴿ ﴾٩فسني ِسره ِللعسر ﴿ ﴾١٠وما يغ ِني
َ َ َْ َ ْ ُ َ َ َ َْ ْ ُ َ َ
َعن ُه َمال ُه ِإذا ت َر َّد ٰى ﴿ِ ﴾١١إ َّن َعل ْينا لل ُـه َد ٰى ﴿َ ﴾١٢و ِإ َّن لنا لآل ِخ َرة َواْلول ٰى ﴿﴾١٣
َ َّ َ َّ َّ َّ ْ َ ْ َ َ َ َْ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ
صَّل َها ِإال اْلشقى ﴿ ﴾١٥ال ِذي كذ َب َوت َول ٰى ﴿﴾١٦ فأنذ ْرتك ْم نا ًرا تلظ ٰى ﴿ ﴾١٤ال ي
ُ
ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز ٰى اْل ْت َقى ﴿َّ ﴾١٧الذي ُي ْؤتي َم َال ُه َي َت َز َّك ٰى ﴿َ ﴾١٨و َما َْل َحد ع َ َ َ ُ َ َّ ُ َ ْ َ
ِ ٍ ِ ِ ِ وسيجنبها
ٰ َ ْ َ ََ َ ْ َ ٰ َّ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ
﴿ِ ﴾١٩إال اب ِتغاء وج ِه رِب ِه اْلعلى ﴿ ﴾٢٠ولسوف يرض ى ﴿﴾﴾٢١
في هذه السورة املكية عند جمهور العلماء ،يقسم هللا عز وجل بالليل في أكمل حاالته ،إذا
يغش ى اْلرض بظالمه ،ويستر املخلوقات بظالمهِ .
والنهار في أكمل حاالته ،إذا تجلى فانكشف وظهر وبان ،فالنهار ُيجلي ويتجلىِ .
ُيجلي كما تقدم ،ويتجلى كما هنا ،فيظهر وينكشف بالضوء والنورِِ .
ماء واحد ،يخرج
وبخلق الذكر واْلنثى ،وفي ذلك آية عجيبة؛ فإن الذكر واْلنثى يخلقان من ٍ
ً
حم واحد ،ومع ذلك يولد هذا ذكرا بصفات من بين الصلب والترائب ،ويخلقان في ر ٍ
الذكورة الحسية واملعنوية ،وتولد تلك أنثى بصفات اْلنوثة الحسية واملعنوية ،بل قد يولد
اإلثنان من رحم واحد ،في وقت واحد ،ويكون هذا ذكرا وهذا أنثى .من الذي فصل هذا عن
هذا؟ وجعل هذا ذكرا بصفاته وهذا أنثى بصفاتها؟ ِ
إنه هللا سبحانه وتعالى ،وفي ذلك آية عجيبة ،وتلحظون أن القسم هنا كان في ٍ
أمور
متقابلة :الليل والنهار ،يغش ى وتجلى ،والذكر واْلنثى؛ وذلك ْلن املقسم عليه فيه تقابلِ .
ٌ
فجواب القسم :إن سعيكم يا بني آدم ملختلف في ذاته ،ومختلف في جزائه ،وهذا يتضمن
أن اإلنسان البد أن يسعى وهو في الدنيا البد أن يعمل ،فإن عملكم يا بني آدم مختلف في
ذاته ،وفي جزائهِ .
ثم ِّ
فصل هللا عز وجل ذلك فقال سبحانه :وأما من أعطى حق هللا في نفسه وماله واتقى
299
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وصدق وآمن هللا ،فعم َل بطاعة هللا ،يرجو ثواب هللا وترك معصية هللا يخاف عقاب هللاِّ ،
ِ
بالكلمة الحسنى ( ِال إله إال هللا) وبالعاقبة الحسنى (الجنة) وبالوعد الحسن (وهو أن ُيخ ِلف
هللا عليه ما أنفق ،وأن إنفاقه في سبيل هللا ال ُينقص ماله) ،وهذا ذهب املفسرون إلى أنه
أبو بكر الصديق رض ي هللا عنه ،وقد نقل جمع إجماع املفسرين على أنه أبو بكر الصديق
رض ي هللا عنهَّ ،
ولكن املعنى عام ،ال شك أن أبا بكر الصديق رض ي هللا عنه أولى الناس
بهذا ،ولكنه ليس ًّ
خاصا به بل هو عامِ .
فسنيسره ونسهل له اليسرى في كل ش يء ،فيكون له اليسر في ِّ
الد ِين ،ويكون له اليسر في
ِ ٍ
أمره ،فيجعل هللا له من أمره ُيسرى ْلنه قد اتقاه ،ويجعل أمره كله له خير؛ إن أصابته
ضراء صبر فكان ذلك ً
خيرا له ،ويعينه على خيرا له ،وإن أصابته ِّنعماء شكر فكان ذلك ً
ُ ِّ ُ
سهله عليه وهو طريق الجنة -أعني العمل الصالح -فيوصله بتقواه العمل الصالح ،في ِ
وطاعته إلى جنته سبحانه وتعالىِ .
هذا صنف من العاملين ووصف ْلعمالهم وهم َّ
املتقون ،الذين سلموا من البخلِ .
ََ
﴿وأ َّما َمن َب ِخ َل﴾ بحق هللا فلم يعبد هللا ،ولم ُيخرج من ماله حق هللاِ .
َ ْ َ َْ
استغن ٰى﴾ بزعمه عن فضل هللا ،وجعل دنياه الفانية ،مغنية له في ظنه الفاسد عن ﴿و
ُ
أخراهِ .
ِّ ٰ َ َّ
َوكذ َب بالكلمة الحسنى ،فلم يقل (ال إلـه إال هللا) ولم يعتقدها ،وكذب بالعاقبة الحسنى،
ِّ
وهي الجنة ،فأنكر أن ُيبعث ،وكذب بموعود هللا ،ومنه أن يخلف عليه ما أنفقِ .
فسنيسره ونسهل له العسرى؛ أي سلوكها ،وإال هي عسرى ال تصبح سهلة ،فيكون عمله في
الدنيا فيما يشقيه ،ال في دين هللا الذي هو ُي ُسر ،ويجعل هللا فقره بين عينيه ،فال يرى إال
ً
فقرا ويعمل الذنوب فوق الذنوب ،فيقوده ذلك إلى النار ،وقد يجمع املال في الدنيا وال
ينفقه؛ يكنزه ،يبخل به ،وقد ينفقه في الصد عن دين هللا ،وفي املحرمات فال يغن عنه ذلك
املال ً
شيئاِ .
ُ ِّ َ
وع ِذب في قبره ،وتردى ،التردي اْلعظم في النار ،فإنه ال ينفعه ﴿ ِإذا ت َردى﴾ فمات وهلك
ش ًيئا ،فلو كان يملك مال الدنيا وأضعاف أضعافه ،وأراد أن يفتدي به ما ُت ِّ
قبل منهِ . ِ
300
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
301
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
إنفاقه من الناس؛ يعني ال يجازي على نعمة سابقة ،وال ينفق للحصول على نعمة الحقة
من الناس ،ال من َ
املنفق عليه وال من غيره ،لكن ينفق ابتغاء وجه ربه اْلعلى ،فهو مخلص
هلل ،ينفق هلل مع قطع النظر عن الناس وما في أيدي الناسِ .
وهذا هو اإلخالص أحسن تعريف لإلخالص هو( :أن يعمل العامل العمل هلل ،مع قطع
النظر عن الناس ،وعما في أيدي الناس )ِ .
مع قطع النظر عن الناس :يعني مدحهم ،ال ينظر إليهم ،كأنهم غير موجودين ،إذا قام
يصلي ،يصلي كأنه لوحده ما يلتفت ْلحد من الناس ،يقطع النظر عن مدحهمِ .
وما في أيدي الناس :أي من الدنيا ،فهو ال يعمل العمل الصالح أو ينفق في سبيل هللا ،وهو
يريد شيئا من الدنيا إال ما أذن هللا به ،كما هو معلوم فيما فصلناه في كتاب التوحيد ،ومن
كان كذلك ،يوحد هللا ويطيع هللا ويخلص هلل لسوف يرض ى عند لقاء هللا ،يرض ى عن
ُ
عمله ،ويرض ى عن ثوابه ،ويرض ى عن ربه ،ومن أ ْر ِض َي في اآلخرة ُر ِض َي عنه ،فهو يرض ى،
وهللا عز وجل يرض ى عنه سبحانه وتعالىِ .
فسرنا سورة الليل كاملة تفسيرا إجماليا موضوعيا وبقي علينا التفسير التفصيليِ :
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر ابن سعدي رحمه هللا تعالى في تفسير سورة الليل
:هذا قسم من هللا بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم.
قال العلماء :هذا قسم بهذه اْلزمان التي تقع فيها عبادات فاضلة ،وتضمن هذا القسم
بتلك العبادات فكأن اْلقسام هنا بالزمن وما يقع فيه من العباداتِ .
َ َْ َ َّ
﴿والل ْي ِل ِإذا َيغش ٰى﴾ أي يعم الخلق بظَّلمه فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه فقال:
ويستريح العباد من الكد والتعب.
َ َّ
﴿والل ْي ِل﴾ الواو للقسم ،والليل معروف جزء من اليومِ .
َ َْ
﴿إذا َيغش ٰى﴾ يغش ى يعني :يغطي ،فيغطي اْلرض بظالمه ،فتسكن املخلوقات على اْلرض، ِ
ويأوي كل إلى مأواه ،ويرتاح الناس واملخلوقات من الكد والتعب في النهار .ولك أن تتص ِور يا
عبد هللا؛ لو لم ينعم هللا علينا بهذا الليل ،كيف تكون حياتنا؟ لو شاء هللا عز وجل لجعل
الوقت كله نهارا ،ولضاقت اْلرض بالعباد ،فإنه ال سكن وال راحة إال في الليل على وجه
302
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
303
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
واْلنثى آية عجيبة من جهة تمييز هذا عن هذا من املاء والرحم ،ومن جهة إكساب هذا
صفات خاصة وهذا صفات خاصة ،وداللتهما على ما يكون به التناسلِ .
َّ َ َ ُ َ َ
عيكم لشتى﴾ هذا هو اْلقسم عليه أي :إن سعيكم أيها اْلكلفون ْلتفاوت ﴿إن سوقولهِ :
تفاوتا كثيرا ،وذلك بحسب تفاوت نفس اْلعمال ومقدارها والنشاط فيها ،وبحسب
الغاية اْلقصودة بتلك اْلعمال ،هل هو وجه هللا اْلعلى الباقي؟ فيبقى العمل له ببقائه،
وينتفع به صاحبه ،أم هي غاية مضمحلة فانية ،فيبطل العمل ببطَّلنها ،ويضمحل
باضمحَّللها؟ وهذا كل عمل يقصد به غير وجه هللا تعالى بهذا الوصف.
َّ َ َ ُ
عيكم﴾ هذا جواب القسم ،والسعي :هو العمل باهتمام ،وتضمن هذا أن اإلنسان ﴿إن سِ
البد له من عمل ،فإن لم يشغل نفسه بالطاعة أشغلته نفسه باملعصية ،ما يمكن أن
يبقى اإلنسان بال عمل ،البد من عملِ .
َّ َ َ ُ َ َ
عيكم لشتى﴾ أي ملختلف في ذاته ،منكم من يعمل الخير ،ومنكم من يعمل الشرِ . ﴿ ِإن س
وفي قصده؛ فمنكم من يقصد وجه هللا ،ومنكم من يريد الدنياِ .
وفي جزائه؛ فمنكم من يجازى على عمله الطيب في الدنيا ثم ال يكون له منه نصيب في
اآلخرة ،ومنكم من يخسر في الدنيا واآلخرة ،ومنكم من يؤتيه هللا جز ًاء حسنا في الدنيا
ويؤتيه جز ًاء أعظم في اآلخرةِ .
َ َ ََ
قال رحمه هللا :ولهذا فصل هللا العاملين ووصف أعمالهم فقال﴿ :فأما َم ْن أ ْعطى﴾ أي
ما أمر به من العبادات اْلالية ،كالزكوات ،والنفقات ،والكفارات ،والصدقات ،واإلنفاق
في وجوه الخير ،والعبادات البدنية؛ كالصَّلة ،والصوم وغيرهما ،واْلركبة من ذلك؛
كالحج ،والعمرة ،ونحوهما.
َ ََ
﴿فأما َمن أعطى﴾ قال بعض اْلفسرين :أي أعطى الحقوق ،أعطى حق هللا وأعطى حق
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وأعطى حق الصحابة ،وأعطى حق أولياء هللا ،وأعطى حق
والديه ،وأعطى حق أقاربه ،وأعطى الحق في ماله ،املهم أنه يعطي الحقوق ،فهو حريص
قِ .
على إعطاء الحقو ِ
304
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :أعطى املحاويج من ماله ،وحمل اآلية على املعنى اْلعم أولى كما
تقدم ذكره مراراِ .
َ َّ
﴿واتقى﴾ ما نهي عنه من اْلحرمات واْلعاص ي على اختَّلف أجناسها.
َ َّ
﴿واتقى﴾ قال بعض العلماء :أعطى في جانب العمل ،واتقى في جانب الترك؛ فأعطى أي:
عمل الصالحات ،واتقى أي :ترك املحرماتِ .
َ َّ
﴿واتقى﴾ أي:ذ عمل بطاعة هللا يريد ثواب هللا ،وترك معصية هللا وقال بعض العلماء:
يخاف عذاب هللا؛ فعلى هذا القول يكون أعطى ًّ
خاصا ،واتقى ًّ
عاما فيكون ذلك من باب
ذكر العام بعد الخاص .ولعل هذا أولى وهللا أعلمِ .
الحسنى﴾ أي :صدق بَّل إله إال هللا ،وما دلت عليه من جميع العقائد الدينية ص َّد َق ب ُ
﴿و َ
َ
ِ
وما ترتب عليها من الجزاء اْلخروي.
مقدر أي :وصدق بالكلمة الحسنى وهي (ال الحسنى﴾ هناك َّ ص َّد َق ب ُ﴿و َبعض العلماء قالَ :
ِ
إله إال هللا) أحسن الكالم وأجمله وأكمله،أحسن ما يقوله إنسان( :ال إله إال هللا)ِ .
َ َّ ص َّد َق ب ُ ﴿و َوقال بعض العلماءَ :
الحسنى﴾ أي :بالخل ِة الحسنى؛ وهي موعود هللا بأن ُيخلف ِ
عليه ما أنفقِ .
ْ َ
﴿بال ُح ْسنى﴾ أي :بالجنةِ . وقال بعض العلماءِ :
موحدا ،وصدق بموعود هللا، ً صدق ب ــال إله إال هللا ،فكانوكل هذه املعاني صحيحة ،فهو َّ
وصدق بالجنة ،فكان ً عامالَّ ، ً
متقيا يرجو ما عند هللا سبحانه وتعالىِ . فكان
ً َ َ َُ ُ ُْ ْ
ميسرا له ترك كلً نيسر له أمره ونجعله مسهَّل عليه كل خير ﴿فسني ِس ُره ِلليس َرى﴾ أيِ :
فيسر هللا له ذلك. شر؛ ْلنه أتى بأسباب التيسير َّ
قال بعض العلماء :اليسرى هنا تعني تيسير أموره؛ ُ
فييسر هللا له اْلمور في الدنيا ،ويجعل
ً مخرجا؛ فما ضاقت به الدنيا ورجع إلى هللا خاضعا ً ً
داعيا متوسال إال فرج ضيق
له من كل ٍ
جعل َل ُه َم َ
خر ًجا﴾ [الطالقِ .]٢ :
َ َ َ َّ َّ
الل َه َي َ عنه ﴿ومن يت ِق
ْ
﴿لل ُي ْس َرى﴾ أي :للشريعة اليسرى التي هي دين محمد صلى هللا عليه وقال بعض العلماءِ :
وسلم ،يقولِ( :بعثت بالحنيفية السمحة) ،فيكون من أهلها العاملين بهاِ .
305
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سهل هللا له الجنة بتسهيل طرقها؛ وهيوقال بعض العلماء :اليسرى هي :الجنة؛ ُفي ِّ
ِ
ً
حريصا على إعطاء الحقوق وعلم هللا منه ٌ
مقصود باآلية؛ فمن كان الصالحات وكل هذا
بعا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم مخلصا هلل َّ
مت ً ً مجتهد في ذلك ،وكان ً
مؤمنا باهلل ٌ أنه
محتسبا ما عند هللا؛ فإن هللا ِّ
ييسره لكل يسرى ،وييسر له كل يسرى ،وما يصعب على غيره ً
ِ
يسهل عليه حتى الصبر؛ ييسر هللا له الصبر فقد تنزل به املصيبة فيتلقاها بالصبر ،وقد
دائما ُميسر اْلمورِِ .
يتلقاها بالرضا وهو أعظم؛ فتجده ً
اليسرى في كل فيا -عبد هللا -قد أبان هللا لك واْلمر كله هلل؛ إن أردت أن تكون من أهل ُ
ً
وإيمانا به، ً
وإخالصا له، ً
حرصا على أداء الحقوق، أمورك فاحرص على أن يعلم هللا منك
ِّ ِّ ً ً
واتباعا لرسوله صلى هللا عليه وسلمِ . واحتسابا ملا عنده،
ََ
﴿وأما َمن َب ِخ َل﴾ بما أمر به فترك اإلنفاق الواجب واْلستحب ،ولم تسمح نفسه بأداء ما
وجب هلل.
واجب عليه أو مستحب؛ فلم يؤده أو قصر حق َ َ َ
ٍ بعض اْلفسرين قال﴿ :من ب ِخل﴾؛ بكل ٍ
يؤد حقوق الوالدين أو قصر فيها ،لم ينفق من ماله
يؤد العبادات أو قصر فيها ،لم ِ
فيه ،لم ِ
النفقة الواجبة أو قصر في ذلك ،أو لم ينفق النفقة املستحبةِ .
ً
وقال بعض أهل العلم :البخل يتعلق باملال عادة ،فاملقصود من بخل بماله فلم يعرف
وإنما كان همه الكنز؛ يخاف أن ينفق منه هلل فينقص؛ فال ينفق في سبيل حق هللا فيهَّ ،
306
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ْ َ َْ
استغنى﴾ أي :استغنى بالدنيا عن اآلخرة؛ فظن لجهله َّأن الدنيا وقال بعض اْلفسرين﴿ :و
ُومتعها ولذاتها وشهواتها تغنيه عن اآلخرة ،والكل يدخل في هذه الجملةِ .
الحسنى﴾ أي :بما أوجب هللا على العباد التصديق به من العقائد الحسنة. ﴿و َك َّذ َب ب ُ َ
ِ
الح ْس َنى هنا هي الحسنى هناك ،كذب بال إله إال هللا فكذب بالتوحيد ،أو كذب بموعود هللا ُ
بأن ُيخلف على من ينفق في سبيله ،أو كذب بالجنة وأنكر البعث وما وراء البعثِ .
ً ﴿ف َس ُن َيس ُر ُه ل ُ َ
ميسرا للشر لعسرى﴾ أي :للحالة العسرة والخصال الذميمة؛ بأن يكون ِ ِ
ومقيضا له أفعال اْلعاص ي -نسأل هللا العافية.- ً أينما كان،
لعسرى﴾ والعسرىِ :فيها تعسيرِ . عز وجل قالَ ﴿ :ف َس ُن َيس ُر ُه ل ُ وهللا ِّ
ِ ِ
ُّ َ ُ
ولذلك قال بعض أهل العلم :قال هللا ﴿ف َسن َي ِس ُر ُه﴾ تهك ًما بهِ .
العسرى فيفعل املعاص ي والشرور حتى سنسهل له ُ ِّ وقال بعض أهل العلم :هي على بابها،
ِ
إثما ،حتى إذا أخذه هللا عزوجل لم يفلتهِ . يزداد ً
لعسرى﴾ أي لجهنم ،بأن وقال بعض أهل العلم :معنى ﴿ َف َس ُن َيس ُر ُه﴾ يعني فسنهيئه ﴿ل ُ
ِ ِ
يكون من العاملين بما يؤدي إليهاِ .
ْ ُ ْ
﴿و َما ُيغ ِني َعن ُه َمال ُه﴾ الذي أطغاه واستغنى به وبخل به ،إذا هلك ومات فإنه ال َ
يصحب اإلنسان إال عمله الصالح ،وأما ماله الذي لم يخرج منه الواجب فإنه يكون
وباال عليه إذ لم يقدم منه آلخرته ً ً
شيئا.
َ
وقال بعض أهل العلم :معنى ﴿ت َر َّد ٰى﴾ هلك وسقط في جهنم ،فإن ماله ال ينفعه ولو
ُ
افتدى به وبأمثاله وأضعاف أضعافه ،بل بمال الدنيا كله ،ما نفعه وما ت ُق ِِّبل منهِ .
َ َ َْ
﴿إ َّن َعل ْينا لل ُـه َد ٰى﴾ أي إن الهدى اْلستقيم طريقه يوصل إلى هللا ويدني من رضاه ،وأما ِ
الضَّلل فطرقه مسدودة عن هللا ال توصل صاحبها إال للعذاب الشديد .
َ َ َْ
﴿إ َّن َعل ْينا لل ُـه َد ٰى﴾ قال بعض أهل العلم :الهدى هو الخير ،هنا هو الخيرِ . ِ
ومعنى ذلك أن املوصل لنا هو الخير ،ويقابل الخير ،الشر والضالل ،فالشر والضالل ال
يوصل إلى هللا وال إلى رحمة هللا ،وإنما يوصل إلى غضبه وسخطه وانتقامه ودار انتقامهِ .
َ َْ
﴿إ َّن َعل ْي َنا لل ُـه َد ٰى﴾ يعني الهداية ،والهداية تكون للخير وتكون
وقال بعض أهل العلمِ :
307
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
للشرْ ،لن الهداية هي اإل شاد ،فإن علينا اإل شاد والبيانِّ ،
فبينا لإلنسان طريق الخير ر ر
وأمرناه بهِّ ،
وبينا له طريق الشر وحذرناه منهِ .
وهذا أولى من اْلول وهللا أعلمْ ،لن هللا هنا إنما ذكر الهدى ولم يذكر الضالل فهذا يدل
وهللا أعلم على أنه ُّ
يعم االثنين ،الداللة على الخير والداللة على الشرِ .
ً َ َ َ َْ َ ْ ُ َ
وتصرفا ليس له فيهما مشارك ،فليرغب الراغبون إليه في ُّ ﴿و ِإ َّن لنا لآل ِخ َرة َواْلول ٰى﴾ ملكا
الطلب ولينقطع رجاؤهم عن اْلخلوقين .
ِملك اآلخرة التي هي الحياة اآلخرة ،واْلولى التي هي الدنيا هلل سبحانه وتعالى ،فال يستطيع
شيئا من دونه ،ولو اجتمع الخلق كلهم ،وال يستطيع أحد أن يمنع منها أحد أن يعطي منها ً
شيئا من دونه ولو اجتمع الخلق كلهم ،فخاب وخسر من لم يجعل رجاءه في هللا ،وخوفه ً
وتضمن هذا أن هللا يعطي الدنيا من يحب ومن ال يحب ،وال يعطي ِّ من هللا سبحانه وتعالى،
اآلخرة إال ملن يحبِّ ،
وقدم هللا اآلخرة على اْلولى مع أن اْلولى متقدمة ز ً
منا ْلن اآلخرة هي
وابتالء وعملِ .
ٍ اختبار
ٍ الحياة الحقيقية وهي الحيوان ،وأما اْلولى فهي دار
َ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ
﴿فأنذ ْرتك ْم نا ًرا تلظ ٰى﴾ أي تست ِعر وتتوقد.
ً ِّ ِّ ِّ ْ َ َ َ ُْ ُ
ل
﴿فأنذرتكم﴾ أي:خوفتكم وحذرتكم نارا تلظى ،وقد كان النبي ﷺ يخطب الناس ويقو ِ:
(أنذرتكم النار ،أنذرتكم النار ،أنذرتكم النار) ويعلو صوته حتى أن الرداء يسقط من فوق
شدة علو صوته وحركته ﷺِ . كتفيه من ِّ
ِّ
خوفتكم وحذرتكمِ . ﴿ف َأ َنذ ْرُت ُك ْم﴾ ِّ
َ
فمعنى
َ َ َّ ِّ
فيشتد ِّ ﴿نا ًرا َت َل َّظ ٰى﴾أي ِّ
َ
حرها ،و﴿تلظ ٰى﴾يدل على تتوهج باللهب وتلتهب بالسعير،
االستمرار ،فسعيرها ولهيبها مستمر دائم ال ينقطع وال يخبوِ .
َ َّ َ َّ َّ َّ ْ َ ْ َ َ َ َْ
صَّل َها ِإال اْلشقى ﴿ ﴾١٥ال ِذي كذ َب َوت َول ٰى ﴿﴾﴾١٦عن اْلمر. ﴿ال ي
َّ ْ َ ْ َ ِّ َ َ َْ َ
﴿إال اْلشقى﴾ وقلنا اْلشقى هنا ْلنه بلغ ﴿ال يصَّلها﴾ أي ال يحترق بحرها ويعاني سعيرها ِ
الغاية في الشقاء في جزائه ،فمن دخل النار فهو اْلشقى والعياذ باهلل ،وْلن كل شقاء دون
ذلك فال شقاءِ .
308
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
اإلنسان قد يشقى بسبب الدنيا ،قد يشقى ْلنه فقير ،قد يشقى ْلنه مريض ،قد يشقى
َ َّ َّ
بزوجة ،وهو شقاء ولكن اْلشقى من عص ى هللا ،فأدخله هللا النار.من هو؟ ﴿ال ِذي كذ َب﴾
َ َ َّ بالخبر ،فلم ِّ
﴿وت َول ٰى﴾ عن اْلمر فلم يمتثل ،لم يصدق قول هللا وال قول رسول هللا ﷺ، ِ
يفعل الواجبات ويترك املحرماتِ .
َ َ َ َّ ْ َّ َّ ْ َ ْ َ
﴿و َس ُي َجن ُب َها اْلتقى ﴿ ﴾١٧ال ِذي ُيؤ ِتي َمال ُه َيتزك ٰى ﴿ ﴾﴾١٨بأن يكون قصده به تزكية َ
يطلب التزكية بما يزكيه الربط بين هذا وبين في سبيل هللا ملن عليه نفقة اإلنفاق املستحب
في سبيل هللا ملن عليه نفقة واجبة فإن جمعا من العلماء يقولون :ال تقبل نفقته وإذا
وجد الحاكم فإنه يبطلها ويردها وال يرضيها؛ ْلن النفقة املشروعة هي التي فيها تقى وتزكية،
309
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وكون اإلنسان يترك الواجب وينفق في املستحب الذي يضيع الواجب ،أما إذا كان عليه
نفقة واجبة وتيسر له ،اآلن أن ينفق نفقة مستحبة وعنده قدرة على النفقة الواجبة في
وقتها فهذا ال يدخل معنا ولكن الذي يدخل معنا هو الذي عليه النفقة الواجبة فينفق
نفقة مستحبة تمنعه من النفقة الواجبة من غير إذن صاحب النفقة الواجبة أما لو
استأذنه فأذن له اشترك في اْلجر؛ رجل تجب عليه النفقة لزوجته واملال الذي في يده
بمقدار نفقتها الواجبة فجاء مسكين أو قريب أو نحو ذلك وسأله فقال لها :يا فالنة ف ِالن
سألني وهو محتاج وصالح وأنا ما عندي إال مقدار نفقتك ما رأيك أن أعطيه بعض هذا
املال؟ قالت :طيب .يجوز ويؤجران معا سواء كان رضاها مشاركة في النفقة فتسقط حقها
الذي حصلت من النفقة يعني املقدار الذي أنفق في سبيل هللا تسقطه أو أذنت على أن
تستوفي حقها من بعد فإنها تؤجر ْلنها هي التي سببت وقوع هذه النفقة املستحبةِ .
ُ ﴿و َما َْل َحد ع َ
ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز ٰى﴾ أي ليس ْلحد من الخلق على هذا اْلتقى من نعمة ِ ٍ ِ
َ
تجزى إال وقد كافأه عليها وربما بقي له الفضل واْلنة على الناس فتمحض عبدا هلل ْلنه
رقيق إحسانه وحده.
هذا أحد املعاني يعني أن هذا املنفق ليس ْلحد عليه نعمة بل له نعم على الناس ،قالوا :
وهذا أبو بكر الصديق رض ي هللا عنه فإنه لم يكن ْلحد من الناس عليه نعمة في أمر الدنيا؛
نعم النبي صلى هللا عليه وسلم له عليه نعمة من جهة الهداية ،والصحبة ،والفضل ،لكن
من أمر الدنيا قالوا :لم يكن ْلحد نعمة على أبي بكر الصديق رض ي هللا عنه بل له أيادي
بيضاء على غيره ،فإنفاقه يتمحض هلل وحده هذا أحد املعانيِ .
قال :وأما من بقيت عليه نعمة الناس فلم يجزها ويكافئها فإنه البد أن يترك للناس
ويفعل لهم ما ينقص إخَّلصه.
ند ُه﴾ ممن ينفق عليهم نعمة تجزى؛ يعني ال يريد أن تكون﴿و َما َْل َحد ع َ
وقال أهل العلمَ :
ِ ٍ ِ
له على َ
املنفق عليه نعمة يجزاها فيما بعد ،فيأتي فيما بعد يقول :أنا الذي أنفقت عليك
في سنة كذا في وقت كذا أعطني كذا ،فهو ِّيدخر ما ينفق ليكون نعمة له على غيره ،ال هو
ليس على هذا وإنما ينفق هللِ .
310
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال :وهذه اآلية وإن كانت متناولة ْلبي بكر الصديق رض ي هللا عنه بل قيل إنها نزلت
بسببه.
ذكر بعض املفسرين اإلجماع على أن هذه اآلية في أبي بكر الصديق رض ي هللا عنهِ .
ُ ﴿و َما َْل َحد ع َ
ند ُه ِمن ِن ْع َم ٍة ت ْج َز ٰى﴾ حتى وال رسول هللا صلى هللا عليه ِ ٍ ِ
فإنه رض ي هللا عنه َ
وسلم.
من جهة الدنيا من جهة أمور الدنياِ .
إال نعمة الرسول التي ال يمكن جزاؤها وهي نعمة الدعوة إلى دين اإلسَّلم وتعليم الهدى
ودين الحق ،فإن هلل ورسوله اْلنة على كل أحد ،منة ال يمكن لها جزاء وال مقابلة ،فإنها
متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل.
فإنها؛ أي اآلية ليس املنة فالكالم هكذا( :وهذه اآلية وإن كانت متناولة ْلبي بكر الصديق
رض ي هللا عنه فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل)ِ .
قال :فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل فلم يبق ْلحد عليه من الخلق
َ َّ
﴿إال ْاب ِتغ َاء َو ْج ِه َرِب ِه نعمة تجزى ،فبقيت أعماله خالصة لوجه هللا تعالى ،ولهذا قالِ :
َ َ َْ َ
اْل ْعل ٰى ﴿َ ﴾٢٠ول َس ْوف َي ْر َض ٰى ﴿.﴾﴾٢١
َّ
﴿إال﴾ هذا استثناء مقابل ،يعني :لكن ابتغاء وجه ربه اْلعلى ،لكن ينفق ابتغاء وجه ربه ِ
اْلعلى ،ولربنا وجه يليق بجالله سبحانه وتعالىِ .
َ ََ
﴿ول َس ْوف َي ْر َض ٰى﴾ (الَّلم) :مؤكدة( .سوف) :تدل على مهلة في الزمنِ .
﴿ي ْر َض ٰى﴾ أي عند لقاء هللا عز وجل يرض ى عن عمله ويرض ى عن ثواب عمله ويرض ى عن َ
ربه سبحانه وتعالى أي يزداد ر ً
ضاِ .
َ َ َْ َ َ َّ
﴿إال ْاب ِتغ َاء َو ْج ِه َرِب ِه اْل ْعل ٰى ﴿َ ﴾٢٠ول َس ْوف َي ْر َض ٰى ﴿ ﴾﴾٢١هذا اْلتقى بما يعطيه هللا ِ
من أنواع الكرامات واْلثوبات.
وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الليل ،وهذه السورة كسائر السور أودعت حكما عظمى،
وفوائد كبرى ،ولو أن املؤمن تدبر َّ
أي سورة من سور القرآن ،لوجد من الفوائد والحكم ما
ال ينقض ي ،بل ربما كلما زاد تدبرا كلما وقف على ِحكم وفوائد عظمى من تلك السورةِ .
311
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذه السورة من فوائدها العظمى وحكمها الكلية :بيان أن عمل الناس في الدنيا مختلف
َ
ِقلة وكثرة ،تماما ونقصا ،خيرا وشرا ،وأن جزاءه في اآلخرة مختلف باختالف أعمالهمِ .
ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمى :بيان أن أصل كل خيرلإلنسان السماحة
بمعناها العام ،وأن أصل كل شر البخل بمعناه العام ،ولذلك جاء عن ابن عباس رض ي
هللا عنهما أنه قال( :هذه السورة في السماحة والبخل)ِ .
وأن ومن حكم هذه السورة الكلية وفوائدها الكبرىِّ :أن ِ
اآلخرة واْلولى ملك هللا عز وجل ِ
املعطي واملانع هو هللا ،فيعطي هللا الدنيا ملن يحب إكراما وابتالء بها ،وملن ال يحب
استدراجا ،وال يعط اآلخرة إال ملن يحبِ .
ومن حكم السورة الكلية وفوائدها العظمىِّ :أن الناس في الدنيا أتقياء وأشقياء ،وفي
اآلخرة سعداء وأشقياء ،أن الناس في الدنيا أتقياء وأشقياء إما تقي وإما شقي ،وأنهم في
اآلخرة سعداء وأشقياء ،فأتقياء الدنيا سعداء اآلخرة ،وأشقياء الدنيا أشقياء اآلخرة ،وبهذا
نكون فرغنا من ما يتعلق بسورة الليلِ .
ِِ
312
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
313
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ألف ألف قصر ،في كل قصر ما ينبغي له من اْلزواج والخدم ،فاهلل عرض على نبيهِصلى
هللا عليه وسلم ما يرضيه ْلمته في الدنيا ،وما يفتح عليها من الخيرات ،فدخل السرور على
حبيبنا ونبيناِصلى هللا عليه وسلم بذلك ،فوعده هللا بما هو أعظم ،فجعل له في الجنة ما
يرضيه ،فجعل له في الجنة مليون قصر ،وفي كل قصر ما يحتاج إليه من خدم وغيرهم،
ومثل هذا ال يقال بالرأي ،فله حكم الرفع إلى النبيِصلى هللا عليه وسلمِ .
ِّ
ثم ذكر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم بنعمه املاضية ليزداد يقينا بالنعم الالحقة،
ِّ
فإن الذي أنعم بما مض ى قادر على أن ينعم بما يأتي ،فذكره ربه بأنه قد وجده يتيما قد
مات أبوه وهو في بطن أمه ،ثم ماتت أمه ،فرباه وآواه وهيأ له من يرعاه ،فرعاه جده ،وملا
مات جده رعاه عمه أبو طالب ،ف ِوجده يتيما فآواه ،وآوى به ،فآوى اْليتام ورعى اْليتام
بهِصلى هللا عليه وسلم ،فقد جاء في شرعه فضل رعاية اليتيم ،وآوى أمته بهِصلى هللا
عليه وسلم فجعل لها النصر والتمكين ،فاهلل عز وجل آواه ،وآوى اْليتام به ،وآوى الضعفاء
به ،وآوى اْلمة بهِ .
ووجده ضاال عن الكتاب واإليمان ،ال يدري ما الكتاب وال اإليمان ،فلم يكن له علم بهما،
فأنزل عليه الكتاب وهداه لإليمان والشرع القويم والخلق الكريم ،وهدى به أمته إلى ذلكِ .
ِّ
وذكره سبحانه بأنه قد وجده فقيرا فأغناه وأغنى به ،فأعطاه الغنى الظاهر والغنى الباطن،
فأعطاه الغنى الظاهر بما جعل له وْلمته من الفتوح والكنوز ،وأعطاه الغنى الباطن فجعل
قلبه شاكرا قانعا ،فجعل غناه في قلبه ،وأغنى أمته بذلكِ .
واملراد أن من أنعم عليك بتلك النعم قادر على أن ينعم عليك بغيرها فكن عبدا شكورا
ُ
تستجلب نعم هللا ،وقابل كل نعمة بما ينبغي لها ،فال تنهر اليتيم ،و ِال تكسر قلبه ،وال تضع
حقه ،وال يضق صدرك به ،فإنك كنت يتيما فآواك هللا ،فقابل هذه النعمة بما ينبغي حتى
تكون شاكرا هلل عز وجل ،وإذا جاءك سائل يسألك علما أو دنيا فال تنهره وال تزجره وال
تغلظ عليه ،بل إذا جاءك السائل يسألك علما فعلمه ،وإذا جاءك السائل يسألك دنيا
فإن كانت عندك فأعطه ،وإن لم تكن عندك فقل له قوال كريما ،وقل له قوال ميسورا،
َو ِعده خيراِ .
واشكر نعم ربك عليك بالتحدث بها والثناء على هللا عز وجل بها ،ومن ذكر نعم ربه مثنيا
بها على هللا مضيفا إياها إلى هللا فقد شكرها ،ومن كتمها فقد كفرهاِ .
314
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وادع إلى ربك املنعم عليك بكل هذه النعم ،الذي أنعم عليك بالكتاب فأنزله عليك ،وأنعم
ُ
عليك باإليمان فهداك إليه ،وأوحى إليك الشرع القويم وجعلك على خلق عظيم ،ادع إليه
لتكون عبدا شكورا ،وقد كانِصلى هللا عليه وسلم عبدا شكورا ،فشكر هللا عز وجل على
هذه النعم وعلى غيرها ،فكان أرحم الناس باليتيم ،وأرفق الناس بالسائل ،وأكثر الناس
تحدثا بنعم هللا سبحانه وتعالىِ .
وفي كل هذا تعليم ْلمة محمد صلى هللا عليه وسلم لتكون على هذا الصراط املستقيم،
ولتتخلق بالخلق القويم لتكون شاكرة لربها على هذه النعم ،فإن كل نعمة أنعم هللا بها على
نبيهاِصلى هللا عليه وسلم فإنها نعمة على كل واحد من اْلمة ،فينبغي على كل واحد من أمة
محمدِصلى هللا عليه وسلم أن يقابل هذه النعم بالشكر ،فيكون رحيما باْليتام ،رفيقا
بالسائلين ،معتنيا بضعفاء اْلمة ،متحدثا بنعم هللا عليه خاصة وعلى اْلمة عامة ،وشاكرا
أنع َمه ،وداعيا إلى ربه بحسب استطاعته ،مقتديا بنبيهِصلى هللا عليه وسلم الذي لربه ُ
امتثل ما أمره به ربهِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ،ونعود إلى التفسير
التفصيليِ .
وقبل أن نقرأ هذا التفسير نذكر ما جاء في ما يتعلق بأسباب النزول املتعلقة بهذه السورة،
فقد روى الشيخان البخاري ومسلم عن جندبة بن سفيان قال :اشتكى رسول هللاِصلى هللا
عليه وسلم -أي :مرض ،-فلم يقم ليلتين أو ثالثا ،فجاءت امرأة فقالت ،يا محمد إني ْلرجو
أن يكون شيطانك قد تركك ،ولم أره قربك منذ ليلتين أو ثالثا ،فأنزل هللا عز وجل:
َ َّ ﴿و ُّ
الض َح ٰى (َ )1والل ْي ِل ِإذا َس َج ٰى (ِ .﴾)2 َ
وروى الترمذي أن جبريل عليه السالم أبطأ على النبيِصلى هللا عليه وسلم ،فقال
ََ
املشركونِ :قد ُودع محمد ،فأنزل هللا عز وجل ﴿ َما َو َّد َع َك َرُّب َك َو َما قل ٰى﴾ ،قال اْللباني:
صحيح ،فهذا ما يتعلق بأسباب النزول املتعلقة بهذه السورةِ ِ.
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين:
أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياءه بالضحىِ ِ.
الضحى قال بعض اْلفسرين :هنا هو النهار كله؛ ْلنه يستنير بضحى الشمس ،أي بنور
الشمسِ .
315
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فاملقصود بالضحى هنا النور -نور الشمس ،-وليس املقصود الضحى الذي هو الزمن الذي
هو جزء من النهار ،وإنما كل النهار ،هكذا قال بعض املفسرين ،قال :ويدل لذلك أن هللا
َّ ﴿و ُّ
الض َح ٰى (َ )1والل ْي ِل﴾ ،قالوا :فهذا يدل على أن الضحى هنا هو النهارِ . قابله بالليل َ
الض َح ٰى﴾ :هنا هو االستنارة بنور الشمس ،يعني والنهار املستنير بضوء الشمسِ . ﴿و ُّ َ
وقال بعض اْلفسرين :الضحى هو الزمن املعروف ،وهو جزء من النهار يبدأ بطلوع
الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى قبيل الزوالِ .
محتمل أن يكون املراد بالضحى النهار أو يكون املراد بالنهار هو الوقت املعروف ِ والكل
بالضحى ،وإن كان هذا أقرب ْلنه ظاهر اللفظِ ِ.
وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمتهِ ِ.
َ
﴿إذا َس َج ٰى﴾ قيل :إذا أظلمِ . ِ
وقيل :إذا أقبلِ ،
وقيل :إذا غطى املخلوقات فسكنت املخلوقاتِ .
وقيل :إذا أقبلِ .
وقيل :إذا أدبرِ .
وكل املعاني صالحة أن تجتمع إال املعنيين اْلخيرين :إذا أقبل وإذا أدبر ،فبعض أهل العلم
رجح إذا أقبل ،قال املقصود إذا أقبل ،بعض أهل العلم رجح إذا أدبر قال :املقصود إذا
أدبرِ .
وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته على اعتناء هللا برسوله صلى هللا عليه وسلم فقال:
﴿ما َو َّد َع َك َرُّب َك﴾؛ أي :ما تركك منذ اعتنى بك ،وال أهملك منذ رباك ورعاك ،بل لم يزل َ
يربيك أكمل تربية ،ويعليك درجة بعد درجةِ ِ.
للمودع ،وما فارقك فراق املودع للمودعِ . َ املودع َ َ َّ َ َ
﴿ما ودعك﴾ أي :ما قاطعك قطع ِ
﴿ما َو َّد َع َك﴾ بفتح الدال ،ومعناها :ما تركك تركا ال يبالي بك فيهِ ِ. وفي قراءةَ :
وما قَّلك هللا أي :ما أبغضك منذ أحبك ،فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده ،والنفي
اْلحض ال يكون مدحا إال إذا تضمن ثبوت كمالِ ِ.
كما تقدم معنا في العقيدة الواسطيةِ ِ.
قال :فهذه حال الرسول صلى هللا عليه وسلم اْلاضية والحاضرة أكمل حال وأتمها
محبة هللا له واستمرارها وترقيه في درجات الكمال ودوام اعتناء هللا به.
316
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُْ َ َ ْ ُ َ َّ
وأما حاله اْلستقبلة فقالَ ﴿ :ولآل ِخ َرة خ ْي ٌر ل َك ِم َن اْلول ٰى﴾ِ ِ.
َ َْ ُ
﴿ولآل ِخ َرة﴾ قيل :الواو هنا للقسم ،والالم موطئة للقسم ،والقسم مقدر تقديره :وهللا
لآلخرة خير لك من اْلولىِ .
وقيل :الواو لالستئناف ،والالم ابتدائية ،فهذا ابتداء كالم جديدِ ِ
ُْ َ َ َ ْ ُ َ َّ
﴿ولآل ِخ َرة خ ْي ٌر ل َك ِم َن اْلول ٰى﴾ أي :كل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل على
الحالة السابقة ،فلم يزل صلى هللا عليه وسلم يصعد في درجات اْلعالي ويمكن هللا له
دينه وينصره على أعدائه ويسدده في أحواله حتى مات وقد وصل إلى حال ما وصل إليها
اْلولون واآلخرون من الفضائل والنعم وقرة العين وسرور القلب.
ثم بعد هذا ال تسأل عن حاله في اآلخرة من تفاصيل اإلكرام وأنواع اإلنعامِ ِ.
وعلى هذا املعنى يكون املراد باآلخرة هنا الحالة اآلخرة؛ يعني :املتأخرة ،فالحالة املتأخرة خير
لك من الحالة التي سبقتهاِ .
اآلخر ،وأن اْلولى هنا هي الدنيا، وذهب جمع من املفسرين إلى أن اآلخرة هنا هي اليوم ِ
وهذا هو اْلظهر وهللا أعلم ،أن املقصود باآلخرة هي اليوم اآلخر ما يكون في يوم البعث وما
بعده ،واْلولى ما يكون في الدنيا من اإلكرامِ .
فإكرام هللا لنبيهِصلى هللا عليه وسلم وْلمته في اآلخرة خير من اإلكرام الذي يقع في الدنيا،
ولهذا كان النبيِصلى هللا عليه وسلم يزهد في الدنيا ويقولِ(( :مالي وللدنيا ،ما أنا في الدنيا
إال كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) رواه الترمذي وصححه اْللباني ،وملا
ُ
خ ِِّيرِصلى هللا عليه وسلم بين الدنيا واالنتقال إلى الرفيق اْلعلى اختار الرفيق اْلعلى ،فإن
اآلخرة خير له من اْلولى وخير وأبقىِ ِ.
َ َ ﴿و َل َس ْو َف ُي ْعط َ
يك َرُّب َك فت ْر َض ٰى﴾ ،وهذا أمر ال يمكن التعبير عنه إال بهذه ِ
ولهذا قالَ :
العبارة الجامعة الشاملةِ ِ.
فهي شاملة ،فيرضيه هللا عز وجل في نفسه ،ويرضيه هللا عز وجل في أمته ،ويرضيه هللا عز
وجل في مؤمني أمتهِ .
في الدنيا واآلخرة فإن قال قائل :هل تعني هذه اآلية أن هللا ال يعذب أحدا من أمته؛ ْلن
ََ ﴿و َل َس ْو َف ُي ْعط َ
يك َرُّب َك فت ْر َض ٰى﴾ فوعده بإرضائه؟ والنبيِصلى هللا عليه وسلم ِ
هللا قال لهَ :
ال يرض ى أن يعذب أحد من أمته -هكذا يقولونِ-؟ ِ
317
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قلنا :ال؛ ال تدل على هذا ،فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم يرض ى بحكم هللا وال شك ،فإذا
حكم هللا بحكم رضيه محمدِصلى هللا عليه وسلم ،رضيه نبيهِصلى هللا عليه وسلم ،فإذا
حكم هللا على مستحقي التعذيب بالعذاب رض ي النبيِصلى هللا عليه وسلم بذلك ،وحاش ى
النبيِصلى هللا عليه وسلم أال يرض ى بحكم هللا سبحانه وتعالى ،فمن كفر من أهله أو من
أمته فإن هللا يدخله النار ويكون خالدا مخلدا في النار ،ويرض ىِصلى هللا عليه وسلم بهذا؛
ْلنه يرض ى بحكم هللاِ .
ولذلك الذين يستدلون بهذه اآلية على أن والدي محمدِصلى هللا عليه وسلم في الجنة
استداللهم باطل؛ ْلنه إذا حكم هللا على والدي النبيِصلى هللا عليه وسلم أو أعمام
النبيِصلى هللا عليه وسلم بأنهم في النار فإن النبيِصلى هللا عليه وسلم سيرض ى؛ ْلنه يرض ى
بحكم هللا سبحانه وتعالى ،فهذه اآلية ال تدل على ما يقولونِِ .
وذكرنا أن النبيِصلى هللا عليه وسلم سيرضيه هللا في الدنيا ،ويرضيه هللا يوم البعث،
ويرضيه هللا في الجنة ،وقد سمعنا ما ثبت عن ابن عباس رض ي هللا عنه وعن أبيه وذاك
اْلثر قد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم بإسناد صحيح ،ومثله ال يقال بالرأي ،وقد وعد هللا
نبيهِصلى هللا عليه وسلم بأن يرضيه في أمته فقد روى مسلم في الصحيح أن النبيِصلى
هللا عليه وسلم ذكر دعاء إبراهيم عليه السالم ْلمته وذريته ،ودعاء موس ى عليه السالم
ْلتباعه فبكىِصلى هللا عليه وسلم ،فقال هللا عز وجل لجبريل(( :يا جبريل؛ اذهب إلى
محمد وربك أعلم به فسله ما يبكيك ،فأتاه جبريل عليه السَّلم فسأله ،فأخبره بما
كان ،وقال :اللهم أمتي ،اللهم أمتي ،اللهم أمتي ،فقال هللا :يا جبريل؛ اذهب إلى محمد
وقل :إنا سنرضيك في أمتك وال نسوؤك)) ،فاهلل عز وجل وعد محمداِصلى هللا عليه
وسلم بإرضائه عموما ،ومن ذلك العموم إرضاؤه في أمته ،لكن هذا يفهم في السياق
الصحيح له ،وهو أن النبيِصلى هللا عليه وسلم يرض ى بحكم هللا عز وجلِ ِ.
َ
﴿أ َل ْم َيج ْد َك َي ِت ً
يما ِ قال رحمه هللا :ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله الخاصة فقال:
َ
ف َآو ٰى﴾ أي :وجدك ال أم لك وال أب ،بل قد مات أبوه وأمه وهو ال يدبر نفسه ،فآواه
هللا ،وكفله جده عبد اْلطلب ،ثم ْلا مات جده كفله هللا عمه أبا طالب ،حتى أيده هللا
بنصره وباْلؤمنينِ ِ.
َ َ
وقال هللا﴿ :ف َآوى﴾ وحذف املتعلق ،فلم يقل( :فآواك) ليعم ،فآواه وآوى ضعفاء أمته
318
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بشرعه ،وآوى أمته بهِصلى هللا عليه وسلم ،فهذا سر حذف املتعلق هنا ،ملاذا لم يقل ربنا
(فآواك)؟ ِ
ليعم ،فتعظم النعمة ،فليس اإليواء خاصا بهِصلى هللا عليه وسلم ،بل آواه هللا وآوى
الضعفاء بشرعه وآوى أمته بهِ ِ.
َ َ َ َ َ َ ًّ َ
ضاال ف َه َد ٰى﴾ أي :وجدك ال تدري ما الكتاب وال اإليمان فعلمك ما لم تكن ﴿ووجدك
تعلم ،ووفقك ْلحسن اْلعمال واْلخَّلقِ ِ.
وجدك ضاال أي :غير عالم بالكتاب واإليمان وتفاصيل الخيرِ .
وقال بعض أهل العلم :معنى ضاال غافال عن الخير وعن الكتاب واإليمان ،حتى علمك هللا
سبحانه وتعالىِ .
وذكر بعض املفسرين تأويالت ال داعي لها ،فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ،فإن النبيِصلى
هللا عليه وسلم ما كان يدري ما الكتاب وال اإليمان حتى علمه هللا سبحانه وتعالىِ ِ.
ً
﴿و َو َج َد َك َعا ِئَّل﴾ أي :فقيرا ،فأغناك هللا بما فتح عليك من البلدان التي جبيت لك َ
أموالها وخراجهاِ ِ.
َّ َ
ً َ َْ
قالَ ﴿ :و َو َج َد َك َعا ِئَّل فأغن ٰى﴾ ،وكذلك هنا حذف املتعلق ،فلم يقل( :فأغناك) ،فيصير
املعنى :فأغناك وأغنى بك فأغناك ،وأغنى أمتك ،ورزق من كان يريد اآلخرة من أمتك الغنى
الظاهر والغنى الباطن ،فمن كانت اآلخرة نيته جمع هللا عليه أمره ،وجعل غناه في قلبه
وأتته الدنيا وهي راغمةِ ِ.
قال رحمه هللا :فالذي أزال عنك هذه النقائص سيزيل عنك كل نقص ،والذي أوصلك
إلى الغنى وآواك ونصرك وهداك قابل نعمته بالشكران.
َ َ َّ ْ َ َ َ َ َ ْ
يم فَّل تق َهر﴾ أي :ال تس ئ معاملة اليتيم ،وال يضق صدرك عليه، ولهذا قال﴿ :فأما الي ِت
وال تنهره ،بل أكرمه وأعطه ما تيسر ،واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدكِ ِ.
وال تحتقره لضعفه ،وهذا الخطاب للنبيِصلى هللا عليه وسلم وْلمته من بعده ،فهو خطاب
لكل واحد من اْلمة ،ومن أراد إرضاء ربه وإالنة قلبه فليلن قلبه لأليتام ،وليحسن لأليتام،
وكذا سائر الضعفة من أمة محمدِصلى هللا عليه وسلمِ ِ.
ْ َ ْ َ َ َّ َّ َ َ َ َ
﴿وأما السا ِئل فَّل تنهر﴾ أي :ال يصدر منك كَّلم للسائل يقتض ي رده عن مطلوبه بنهر
وشراسة خلق ،بل أعطه ما تيسر عندك ،أو رده بمعروف وإحسان ،ويدخل في هذا
السائل للمال والسائل للعلم ،ولهذا كان اْلعلم مأمورا بحسن الخلق مع اْلتعلم،
319
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومباشرته باإلكرام والتحنن عليه ،فإن في ذلك معونة له على مقصده ،وإكراما ْلن كان
يسعى في نفع البَّلد والعبادِ ِ.
فالسائل عن العلم يرد ولو بعلم قليل وقول حسن جميلِ .
الذي يأتي إليك وأنت عندك علم ويسألك ينبغي أن يعود منك بأمرينِ :
-بعلم بمقدار ما عندك ولو كان قليالِ .
-وبقول جميلِ .
فأولى الناس باإلكرام طالب العلم ،ينبغي أن يبسط لهم الوجه ،وأن يالن لهم القلب ،وأن
يعانوا على مطلوبهم بما يستطاع ،وأن يحسن خطابهم ،وهذا خلق ينبغي أن يتحلى به كل
معلم ،سواء كان معلما في املدارس النظامية أو معلما في حلقات العلم أو غير ذلك ينبغي أن
يعامل طالب العلم باإلكرام ،وأعظم ما يكرم به طالب العلم العلمِ .
وال ينبغي ملن رزقه هللا علما أن يبخل بعلمه ،فإنه إن بخل إما واقع في اإلثم إن كان
التعليم واجبا عليه ،وإما حارما نفسه من الحسنات والفضل إن لم يكن التعليم واجبا
عليهِ .
وأن يلين قلبه لطالب العلم الطالب في االبتدائي في املتوسط في الثانوي في الجامعة في
الدراسات العليا في الحلق ،ينبغي على املعلم أن يلين قلبه لطالب العلم ،وأن يبسط وجهه
ويبتسم لهم ،وأن يحسن خلقه في التعامل معهم ،وأن يحرص على القول الطيب في
مخاطبتهم ،وإذا غلبته نفسه البشرية فغضب وأغلظ ينبغي أن يكون محسنا لخلق
االعتذار ،فيعتذر ملن أساء إليه منهم -أعني من أساء إليه من طالب العلم ،من أساء الشيخ
إليه من طالب العلم ،-فهذا خلق ينبغي أن نتخلق به نحن املعلمين جميعا ،وأن نعالج
أنفسنا عليهِ .
وأما السائل للدنيا فينبغي أن يرجع منك ببذل ولو قليل ،أو بقول جميل ،طالب العلم
سائل العلم يجمع له بين العلم ولو قليل والقول الجميل ،وسائل الدنيا ينبغي أن يرجع
منك إما ببذل ولو قليل إن كان عندك ،أو بقول جميل ،تعتذر له بقول جميل كأن تدعو
له أو نحو هذاِ ِ.
َ َ َّ ْ َ َ َ َ َ ْ
﴿وأما ِب ِنعم ِة رِبك فح ِدث﴾ وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية ،أي :أثني على هللا بها
وخصه بالذكر إن كانت هناك مصلحة ،وإال فحدث بنعم هللا على اإلطَّلق ،فإن
التحدث بنعمة هللا داع لشكرها ،وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها ،فإن
320
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
321
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بين النهار والليل ،وهذا من أسرار القسم بالضحى والليل في صدر السورة ،تضمنت هذه
البشارةِ .
والحظوا أن السورة مكية ،فهي بشارة للمؤمنين وهم في حالِضعفهم أن هذه الظلمة
سيعقبها الضوء والبدِ .
-وفي السورة أيضا بشارة للمؤمنين بأن هللا سيعطيهم خيرا في الدنيا ،ومع ذلك فخير اآلخرة
أعظم لهم وأبقىِ .
-وفي السورة أن من املكارم ومن أسباب جلب النعم اإلحسان إلى اليتامى والضعفاء ،فمن
رحم الضعفاء رحمه هللا ،حتى الشاة عند ذبحها إن رحمتها رحمك هللا كما أخبر النبي صلى
هللا عليه وسلم ،ومن أكرم اْليتام أكرمه هللا ،ومن أكرم الضعفاء أكرمه هللا وهكذاِ .
-وفي السورة أن النعم تقيد بالشكرِ .
أسأل هللا عز وجل أن يجعلنا ممن يقرؤون القرآن فينتفعون ،ويتدبرون فيفهمون،
ويفهمون فيعملون ،وأن يجعل القرآن حجة لنا ال علينا ،فكل الناس يغدو فبائع نفسه
فمعتقها أو موبقها ،والقرآن حجة للعبد أو حجة عليه ،فاللهم اجعل كالمك حجة لنا وال
تجعله حجة عليناِ .
ِ
ِ
ِِ
322
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الشرح.
بسم هللا الرحمن الرحيم.
َ َ َ َ َ َ َ َّ ََ َ َْ َ َ ْ َ
﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ
ض ظ ْه َر َك (َ )3و َرف ْعنا ل َك نك ِوز َر َك ( )2ال ِذي أنق ص ْد َر َك ( )1ووضعنا ع
َ
انص ْب (َ )7و ِإل ٰى ذ ْك َر َك (َ )4فإ َّن َم َع ْال ُع ْسر ُي ْس ًرا ( )5إ َّن َم َع ْال ُع ْسر ُي ْس ًرا (َ )6فإ َذا َف َر ْغ َت َف َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َ َ َْ
رِبك فارغب (ِ .﴾)8
ِّ
في هذه السورة املكية يذكر هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا له في ذلك
َ
بأنه سبحانه وتعالى قد أنعم عليه بالنعم العظمى ،حيث نور له صدره وجعله صدرا واسعا
فسيحا متسعا لكل معروف ،وسليما من كل منكر ،وقابال لفهم كل ما يوحى إليه ،فال يعجز
عن فهم ش يء مما يوحى إليه ،وجعله واسعا بما أوحى إليه ،فصدر نبيناِصلى هللا عليه
وسلم الشريف متسع للوحي فال يضيق عن ش يء من الوحي ال حفظا وال فهما ،ومتسع
بالوحي ،وكما شرح هللا صدره فإنه قد شرح دينه ،فجعل دينه حنيفيا سمحا سهال ميسرا
ال ضيق فيه وال حرج ،كما قال النبيِصلى هللا عليه وسلم(( :إن هذا الدين يسر)) ،ف ِال
ََُ
تكلف في دين محمدِصلى هللا عليه وسلم وال غلو فيه وال إعنات فيهِ .
ومع هذه النعمة العظمى على النبيِصلى هللا عليه وسلم وعلى أمته فقد قرنها هللا عز وجل
َ
بنعمة كبرى أخرى حيث أسقط عنه الوزر ،فخصهِصلى هللا عليه وسلم من سائر املكلفين
بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،فال يحملِصلى هللا عليه وسلم وزرا وهو في
الحياة الدنيا ،وهذا خاص بمحمدِصلى هللا عليه وسلم لم ينله أحد من املكلفين ،كما أنه
حط عنه ثقل الجاهلية ،وأذهب من قلبه حظ الشيطان منذ أن كان صغيرا ،حيث شق
جبريل عليه السالم صدره وهو صغير وأخرج منه حظ الشيطان ،وغسل قلبه بماء زمزم،
هللا أكبر! ما أعظم هذه النعم على النبيِصلى هللا عليه وسلم ،وكل نعمة على النبيِصلى
هللا عليه وسلم فهي في الجملة نعمة على اْلمةِ .
هللا عز وجل حط عن نبيناِصلى هللا عليه وسلم الوزر فال يحمل وزرا ،وغفر له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر وهو حي في الدنيا ،وحط عنه أثقال الجاهلية ،وأخرج من قلبه حظ
الشيطان وهو صغير ،فشق صدره وأخرج قلبه وغسل بماء زمزم ،ثم أعيد إلى مكانه،
فجمع هللا عز وجل لنبيناِصلى هللا عليه وسلم بين كل هذا الخير :مغفرة الذنب املتقدم
واملتأخر وليس هذا إال لهِصلى هللا عليه وسلم ،وتعلمون معاشر اْلحبة أن أهل السنة
يقرون عليها، والجماعة يقولون إن اْلنبياء قد تصدر منه الصغيرة غير الرذيلة ،ولكنهم ال ُِّ
323
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أما محمدِصلى هللا عليه وسلم فقد حط هللا عنه الوزر أصال ،وأذهب عنه أثقال
الجاهلية ،وطهر قلبه من حظ الشيطان وهو صغير ،وجعل صدره متسعا منشرحاِ .
فوضع هللا عنه الوزر الذي يثقل الظهر حتى كأنه ُي ْس َمع له صوت من ثقل ما يحمل،
العبد إذا أذنب فإنما يحمل وز ِرا على ظهره ،ولو كان يعقل لسمع صوت عظامه من ثقل ما
يحمل من الذنوب ،وهللا طهر نبيهِصلى هللا عليه وسلم من ذلكِ .
ومع كل هذه النعم أنعم هللا عليه بنعمة عظمى أخرى بأن جعل ذكره مرفوعا في الدنيا
مرفوع الذكر في اْلرض، واآلخرة ،في الدنيا وفي السماء وفي اآلخرة ،فهوِصلى هللا عليه وسلم ِ
مرفوع الذكر في السماء ،مرفوع الذكر يوم القيامةِصلى هللا عليه وسلمِ .
أما في اْلرض فإن هللا قرن اسمه باسمه ،وينادى باسمه مع اسم هللا عز وجل في اْلذان
الذي يرفع في أنحاء اْلرض ،ومن الحكمة أنك ال تكاد تجد وقتا في اْلرض إال وينادى فيه
باْلذان ،فأوقات الصالة بالنسبة لألرض متفاوتة ،فيؤذن هنا وبعد قليل يؤذن في مكان
آخر ،وبعد قليل يؤذن في مكان آخر ،فيرفع اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم في اْلرض في
كل أجزاء اليوم والليلة مقرونا باسم هللا سبحانه وتعالى ،وكذلك في الصالة يذكر العبد
اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم وجوبا في صالته ،وكذلك في الخطب يذكر النبيِصلى هللا
عليه وسلم ،وكذلك في الدروس الشرعية التي يقيمها العلماء فال يوجد درس شرعي على
وجه الحقيقة إال ويذكر فيه اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم ،فهو مرفوع الذكر في اْلرضِ .
ومرفوع الذكر في السماء ،فإن هللا عز وجل يثني عليه في املإل اْلعلى ،وإن املالئكة لتصلي
عليهِصلى هللا عليه وسلم في السماءِ .
وهو مرفوع الذكر يوم القيامة حيث يتنحى اْلنبياء عليهم السالم جميعا عن الشفاعة
للناس ،حتى يأتي الناس للنبيِصلى هللا عليه وسلم فيطلبون منه الشفاعة ،فيستأذن على
ربه سبحانه وتعالى فيؤذن له ،حتى إذا رأى ربه خر ساجدا ،وحمد هللا وأثنى عليه ،ويقال
له :ارفع ،واشفع تشفع ،وسل تعطى ،فيشفعِصلى هللا عليه وسلم الشفاعات العظيمة
التي فيها املقام املحمود لهِصلى هللا عليه وسلم فقد رفع هللا ذكره ،ومن رفع ذكرهِصلى هللا
عليه وسلم أنه مذكور في كتب اْلنبياء قبله ،وأنه يجب على كل نبي إن أدركه أن يتبعه وأن
يؤمن بهِصلى هللا عليه وسلمِ .
فهوِصلى هللا عليه وسلم مرفوع الذكر مع ما جعله هللا له من رفعة في قلوب أمته،
فهوِصلى هللا عليه وسلم تجب محبته على كل مؤمن أكثر من محبة النفس والولد والوالد
324
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قِصلى هللا عليه والناس أجمعين ،فهو مقدمِصلى هللا عليه وسلم في املحبة على كل مخلو ِ
وسلم ،فله الرفعة حكما وواقعاِ .
وجعل تعظيمه واقعا في قلوب اْلمة ،فما من مسلم يسمع اسم النبيِصلى هللا عليه وسلم
حتى يعظم هذا االسم ،ويفرح بسماعه ،ويصلي عليهِصلى هللا عليه وسلمِ .
ومن رفعتهِصلى هللا عليه وسلم التي جعلها هللا له أن ربنا سبحانه وتعالى جعل
طاعتهِصلى هللا عليه وسلم من طاعة هللا ،ولذلك قال نبيناِصلى هللا عليه وسلم(( :من
أطاعني فقد أطاع هللا ،ومن عصاني فقد عص ى هللا))ِ .
ِّ
ثم ملا ذكر هللا نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته بهذه النعم العظمى التي تنشرح لها الصدور
ِّ
ويفرح املؤمن إذا سمعها بشر هللا نبيهِصلى هللا عليه وسلم وكل من انشرح صدره لإليمان
وانشرح باإليمان بأن مع الضيق والحرج والعسر يسرا واتساعا ،وأن مع الشدة رخاء ،وأن
مع الكرب فرجا ملن اتقى هللا سبحانه وتعالى ،فقد جعل هللا للمتقين اليسر واملخارج من
كل ضيق ومن كل عسر﴿ :ومن يتق هللا يجعل له مخرجا﴾ ،يقول ابن عباس رض ي هللا
عنه( :ومن كل ضيق) ،في الدنيا واآلخرة يجعل هللا له مخرجا ويسرا من كل ضيق وعسر في
الدنيا واآلخرةِ .
وأكد هللا هذه الحقيقة للمؤمنين بتكرار ذلك ،فاليسر في السورة يسران والعسر واحد،
ِولن يغلب عسر يسرينِ .
ثم أرشد هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا لذلك إلى كيفية شكر هذه
َ
النعم ،وإلى ما يجلب به هذا اليسر ،ذكر هللا عز وجل في صدر السورة النعم ثم بشر
باليسر ،ثم أرشد النبيِصلى هللا عليه وسلم وسائر اْلمة إلى كيفية شكر تلك النعم وغي ِرها،
وإلى كيفية جلب ذلك اليسر ،وكيف يتحقق للمؤمن أن ُيجعل له اليسر بعد العسر ،وأن
ُيجلب له املخرج من الضيق ،بين أن هذا إنما يكون بطاعة هللا وإقبال القلب على عبادة
هللا سبحانه وتعالى ،فإنه ما شكر هللا عز وجل على النعم بأعظم من طاعته سبحانه
وتعالىِ .
فخاطب هللا عز وجل نبيهِصلى هللا عليه وسلم وتدخل اْلمة في الخطاب تبعا لهِصلى هللا
انص ْب﴾ أي :إذا فرغت من شغلك وأمور الدنيا ،وصفا عليه وسلم بقولهَ ﴿ :فإ َذا َف َر ْغ َت َف َ
ِ
قلبك ،وفرغ بالك فانصب للعبادة ،وأقبل عليها بقلب صاف وببدن نشيطِ .
325
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومن هنا يعلم املؤمن أنه ينبغي أن يختار لنوافله الوقت الذي يكون فيه فارغا من
الشواغل ،ويكون قلبه مقبال على الطاعة ،ولذا كان خير نوافل الصالة صالة الليل؛ ْلن
اإلنسان يكون في الليل فارغا ،وإذا نام ثم استيقظ يكون نشيط البدنِ .
وال تنقطع عن العبادة فكلما فرغت من عبادة مفروضة فأتبعها بنافلة منها ،فإذا صليت
الفرض فأتبعه بنافلة ،وإذا صمت رمضان فأتبع صيامك بالنوافل وصم النوافل ،وهكذاِ .
َ
وكما تنصب هلل فافزع هلل واجعل حوائجك بباب هللا سبحانه وتعالى ،وال ت ْد ُع مع هللا
أحدا ،فإن ذلك شكره وحقه ،حق هللا أن تدعوه سبحانه وأال تدعو معه أحدا ،وشكره أن
تدعوه سبحانه وأال تدعو معه أحدا ،ومن دعا غير هللا لم يكن عبدا شكورا بل كان مشركا
كفوراِ .
فهذا هو املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي لهذه اآليات ثم نعود إلى التفسير التفصيلي
لهذه اآلياتِ ِ.
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى رحمة واسعةِ ::
َ
﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ
ص ْد َر َك﴾ِ ِ. يقول تعالى ممتنا على رسوله:
واملنة على الرسول منة على اْلمة ،فاهلل يمتن علينا بهذه النعمِ ِ.
َ
﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ
ص ْد َر َك﴾ أي :نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى هللا واالتصاف بمكارم
اْلخَّلق واإلقبال على اآلخرة ،وتسهيل الخيرات ،فلم يكن ضيقا حرجا ال يكاد ينقاد لخير
وال تكاد تجده منبسطاِ ِ.
واآلية دليل على أن محل الفهم هو الصدر وهو القلب ،وليس الدماغ ،وإنما للدماغ صلة
بالقلب ،وإال محل الفهم اْلصلي هو القلب مع صلة بالدماغ ،وهذه اآلية دليل على ذلك؛
َ
﴿أ َل ْم َن ْش َر ْح َل َك َ
ص ْد َر َك﴾ِ . ْلن هللا قال:
ومن معاني هذه اآلية أن صدرك صار متسعا لفهم الوحيِ ِ.
ََ َ َْ َ َ ْ
نك ِوز َر َك﴾ أي :ذنبكِ . ﴿ووضعنا ع
وقد قال بعض اْلفسرين :هذا هو الذنب الذي كان في الجاهلية قبل أن يوحى إليهِصلى
هللا عليه وسلمِ .
وقال بعض اْلفسرين :بل هذا مطلقا ،وضع هللا الوزر عن النبيِصلى هللا عليه وسلم
َ َ َّ َ ََ َّ ْ َ
مطلقا ،وذلك كقول هللا عز وجلِ ﴿ :ل َيغ ِف َر ل َك الل ُه َما تق َّد َم ِمن ذ ِنب َك َو َما تأخ َر﴾ [الفتح:
ِ .]2
326
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
واآلية عامة فإن الوزر كله وضع عن النبيِصلى هللا عليه وسلم ،بل إن النبيِصلى هللا عليه
وسلم خص من بين البشر أنه حفظ من شيطانه ،وذلك بأمرينِ :
اْلمر اْلول :ما ذكرناه أن هللا أمر جبريل عليه السالم فشق صدره وهو صغير ،وأخرج
علقة من صدره هي حظ الشيطان من صدرهِصلى هللا عليه وسلم ،وغسله باملاء املبارك
ماء زمزم ثم رده مكانهِ .
واْلمر الثاني :أن هللا أعانه على شيطانه فسلم منه ،ما من إنسان إال ومعه شيطان حتى
النبيِصلى هللا عليه وسلم ،ولكن النبيِصلى هللا عليه وسلم أعانه هللا على شيطانه فيسلمِ .
يعني هو قالِصلى هللا عليه وسلم(( :أعانني هللا عليه فأسلم)) ،بعض العلماء قال:
(فأسلم) يعني أن الشيطان أسلم لكن هذا غير صحيح ،وإنما أسلم من السالمة،
فالنبيِصلى هللا عليه وسلم يسلم منهِ ِ.
َ َ ْ َ َ َّ َ َ
﴿ال ِذي أنقض﴾ أي :أثقل﴿ ،ظهرك﴾ِ ِ.
يعني أنقض الذي يثقل ظهركِ .
واإلنقاض أصله هو الصوت الذي يخرج من البعير إذا حمل باْلثقال فقام ،فإنه يسمع
لظهره صوت ،والذنوب إذا حملها العبد كأنه يحملها على ظهره ،كلما قام تئن عظامه
وتشتكي من ثقل ذنبه ،واملوقف من أزال هذا الثقل بتوبة فتاب إلى هللا عز وجل ،فيوضع
عنه الوزرِ .
ربنا رحيم رحمن نذنب ويغفر ،ويدعونا إلى التوبة ،ويعدنا بأن يفرح إذا تبنا ،وأن يغفر إذا
تبنا ،وأن يبدل سيئاتنا حسنات إذا تبنا ،ويسر لنا أمر التوبة ،فلم يطلب منا شططا بعيدا،
وإنما طلب منا لنتوب أمرا يسيرا ،ومن تاب تاب هللا عليه وأسقط ذنبه بالكليةِ .
فيا أيها العبد؛ يا من أذنبت وأكثرت -وكلنا كذلك -إلجأ إلى باب هللا لترحم نفسك في الدنيا
واآلخرة ،لترحم جسدك الضعيف من حمل هذه الذنوب التي تؤثر في عظامه ،بل ذكر
بعض السلف أن الذنوب تؤثر في الصحة وتضعف البدن في آخر الحياة ،أحد السلف قفز
وهو في الستين كما يقفز الشاب ،فقيل له في هذا ،فقال( :حفظناها في الصغر فحفظها هلل
لنا في الكبر) ،حفظناها في الصغر فلم نعص هللا بها فحفظها هللا لنا في الكبرِ .
التخلص من الذنوب سبب للصحة وسبب النشراح الصدر وسبب لبياض الوجه ،وأهم من
ذلك كله سبب لرض ى هللا سبحانه وتعالى ،فليت شعري ما الذي يؤخرنا؟ ما الذي يجعلنا
نتوانى عن وضع هذا الثقل عن ظهورنا؟ ملاذا ال نعزم ونجزم ونتوكل بحزم فنتوب فورا من
327
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ذنوبنا ونقبل على طاعة ربنا سبحانه وتعالى؟ فالشاهد أن املذنب يكون كالبعير الذي يحمل
اْلثقال فإذا قام بها سمع لعظامه صوت ،فكذلك املذنب إذا كان يحمل الذنوب فإنه إذا
قام تشتكي عظامه وتئن عظامه من هذا الثقلِ ِ.
َ
َ َّ َ ََ َّ ْ َ
﴿ل َيغ ِف َر ل َك الل ُه َما تق َّد َم ِمن ذ ِنب َك َو َما تأخ َر﴾ [الفتح.]2 : كما قال تعالىِ :
ْ َ َ َ
﴿ َو َرف ْعنا ل َك ِذك َر َك﴾ أي :أعلينا قدرك ،وجعلنا لك الثناء الحسن العالي الذي لم يصل
إليه أحد من الخلقِ ِ.
كما ذكرنا في اْلرض وفي السماء ويوم القيامة ،وكذلك في الجنة ،فإن النبيِصلى هللا عليه
وسلم أول من يجوز على الصراط ،وأول من يفتح له باب الجنة؛ لن يفتح باب الجنة إال
ملحمدِصلى هللا عليه وسلم ثم الناس من ورائهِصلى هللا عليه وسلم ،وهناك أناس
يدخلون مع النبيِصلى هللا عليه وسلم ،هناك أناس يدخلهم النبيِصلى هللا عليه وسلم
بيده الجنةِصلى هللا عليه وسلم ،ومن أولئك الناس من واظب على أن يقول في كل صباح:
رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينا وبمحمد رسوال ،فإنه إذا واظب على هذا في كل صباح يأتي
النبيِصلى هللا عليه وسلم يوم القيامة ويأخذ بيده إلى الجنة ،ومعنى هذا أنه يدخل الجنة
مع النبيِصلى هللا عليه وسلمِ .
ثم النبيِصلى هللا عليه وسلم في الجنة هو أعلى من في الجنةِصلى هللا عليه وسلم ،فرفعه
هللاِصلى هللا عليه وسلمِ ِ.
قال رحمه هللا :فَّل يذكر هللا إال ذكر معه رسوله صلى هللا عليه وسلمِ ِ.
يعني في الشهادتينِ ِ.
كما في الدخول في اإلسَّلم وفي اْلذان واإلقامة والخطب وغير ذلك من اْلمور التي أعلى
هللا بها ذكر رسوله محمد صلى هللا عليه وسلم ،وله في قلوب أمته من اْلحبة واإلجَّلل
والتعظيم ما ليس ْلحد غيره بعد هللا تعالى ،فجزاه هللا عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن
أمتهِ ِ.
وذكرنا أوجه رفع ذكر النبيِصلى هللا عليه وسلم في التفسير اإلجماليِ ِ.
ْ ْ َ
وقوله﴿ :ف ِإ َّن َم َع ال ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (ِ )5إ َّن َم َع ال ُع ْس ِر ُي ْس ًرا (.﴾)6
َ
﴿ف ِإ َّن﴾ الفاء هنا للتفريع ،تفريع ما بعدها على ما قبلها؛ أي :مع تلك النعم فإن مع العسر
يسرا ،ملن؟ للمتقينْ ،لمة محمدِصلى هللا عليه وسلم ومن اتقى هللا من هذه اْلمةِ ِ.
قال رحمه هللا :بشارة عظيمة أنه كلما وجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه ويصاحبه،
328
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
﴿س َي ْج َع ُل
حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه ،كما قال تعالىَ :
َّ
الل ُه َب ْع َد ُع ْس ٍر ُي ْس ًرا﴾ [الطَّلق ،]7 :وكما قال النبي صلى هللا عليه وسلم(( :وإن الفرج
مع الكرب ،وإن مع العسر يسرا))ِ ِ.
يعني أما اْلول حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر؛ روي هذا املعنى عن ابن
مسعود رض ي هللا عنه ورِجاله ثقات ،عن ابن مسعود غير أن فيه رجال لم يسم ،هذا
بالنسبة للموقوف ،وروي مرفوعا وال يصح ،قال اْللباني :ضعيف جدا ،أعني ((حتى لو
دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر)) ،روي مرفوعا عن النبيِصلى هللا عليه وسلم
وال يصح ،بل هو ضعيف جدا كما قرره اإلمام اْللباني ،ور ِوي موقوفا على ابن مسعود من
قول ابن مسعود رض ي هللا عنه ورجاله ثقات غير أن فيه علة وهو أن فيه رجال لم يسمىِ .
وأما قوله( :وكما قال النبيِصلى هللا عليه وسلم(( :وإن الفرج مع الكرب ،وإن مع العسر
يسرا)) ) ،فهذه قطعة من حديث ابن عباس رض ي هللا عنهما(( :احفظ هللا يحفظك)) ،وقد
روى الحديث بهذه الزيادة اإلمام أحمد رحمه هللاِ ِ
قال رحمه هللا :وتعريف العسر في اآليتين يدل على أنه واحد ،وتنكير اليسر يدل على
تكراره ،فلن يغلب عسر يسرينِ ِ.
يعني كون العسر هنا معرفا فهذا يدل على أن الثاني هو اْلول ،وكون اليسر منكرا فهذا يدل
على أن الثاني غير اْلول ،ولن يغلب عسر يسرين ،وقد كتب عمر رض ي هللا عنه إلى أبي
عبيدة رض ي هللا عنه :أما بعد( :فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل هللا له
بعده فرجا ،وإنه لن يغلب عسر يسرين) رواه مالك ،يشير عمر رض ي هللا عنه إلى هاتين
اآليتينِ .
وقال الحاكم صحت ال ِرواية عن عمر رض ي هللا عنه أنه لن يغلب عسر يسرين ،وقد روي
ذلك مرسال عن النبيِصلى هللا عليه وسلم من مراسيل الحسن ،وبعض العلماء يقبلون
مراسيل الحسن ،وهو من كبار التابعين إال أن الصواب أن املرسل كله ضعيف ،فلم يثبت
مرفوعا لكنه صح عن عمر رض ي هللا عنه وأرضاه أنه لن يغلب عسر يسرينِ ِ.
قال رحمه هللا :وفي تعريفه باْللف والَّلم الدال على االستغراق والعموم يدل على أن
كل عسر وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ فإن في آخره التيسير مَّلزم لهِ ِ.
يعني أن هذا الوعد عام ،وأن العسر البد أن يعقب للمؤمن بيسر ،وهذا اليسر إما رفع
للعسر وإما صبر عليهِ .
329
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يعنيِ :
-إما أن يرفع هللا العسر عن املؤمنِ .
-وإما أن يرزقه صبرا عليه فتتضاعف له الحسناتِ .
ْلن بعض الناس يقو ِل :نرى بعض املؤمنين يبتلى إلى أن يموت ،نقو ِل :نعم؛ لكن ستجد في
الغالب أن هللا يرزقه الصبر ،بل قد يرزقه الرض ى ،بل قد يرزقه الشكر ،تجد أن بعض
من يبتلون باملصائب والبالء أرض ى ممن حولهم ،تجد أن حولهم من اْلصحاء يئنون،
ومسكين مسكين ،أما هو تجده شاكرا راضيا صابرا ،تجده يقول الحمد هلل أنا في خير من
هللا ،أنا في نعمة من هللا ،حبسني هللا عن كثير من الشرور في خارج البيت ،أقل الدرجات أن
يرزق الصبر ،وقد يعلو اْلمر حتى يرزق الرضا ،وقد يعلو اْلمر حتى يرزق الشكر ،وهذا من
أعظم اليسر إذا رزق هللا عبده املؤمن الصبر على البالء وعلى العسر أو رزقه الرضا به أو
رزقه الشكر عليه فهذا من أعظم اليسر؛ ْلن البالء ال يزال باملؤمن حتى يجعله يسير على
اْلرض وليست عليه خطيئة ،ويوم القيامة يود أهل العافية لو أنهم نشروا في الدنيا
باملناشير ملا يرون من ثواب أهل البالء ،ولكن هذا ال يطلب بل املشروع أن يطلب اإلنسان
العافية ،ويسأل هللا العافية ،لكن إذا ابتلي املؤمن فإما أن يرفع هللا عنه البالء ولو بعد
حين ،وإما أن يرزقه الصبر أو الرضا أو الشكر فتنقلب املحنة منحة ،وينقلب البالء
حسنات ال تنقطع ،حتى ربما رفع في أعلى درجات الجنة بسبب ذلكِ .
وقد جاء في الحديث ((أن هللا إذا أراد بعبده منزلة في الجنة ثم لم يبلغها بعمله قال
ْلَّلئكته :صبوا عليه البَّلء صبا ،وصبره عليه))ِ .
فهذا ما ينبغي أن نفقهه :اليسر ال يعني أن يرفع العسر فقط ،بل قد يكون برفع العسر،
وقد يكون بتيسيره على املبتلى به أن يصبر عليه أو يرض ى أو يشكرِ ِ.
قال رحمه هللا :ثم أمر هللا رسوله أصَّل واْلؤمنين تبعا بشكره ،والقيام بواجب نعمه
انص ْب﴾ أي :إذا تفرغت من أشغالك ولم يبق في قلبك ما يعوقه ﴿فإ َذا َف َر ْغ َت َف َ
َ
فقالِ :
فاجتهد في العبادة والدعاء.
وقيل :إذا فرغت من عبادة مفروضة فأتبعها بنافلة من جنسهاِ .
وقال بعض أهل العلم :إذا فرغت من يومك من نهارك الذي هو وقت الشغل فانصب
لربك في الليل الذي هو وقت التفرغِ .
330
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
التنوع وليس من باب اختالف التضادِ ِ. وكل هذه املعاني صحيحة ،فهذا من باب اختالف ِ
َ َ َ
﴿ َو ِإل ٰى َرِب َك﴾ وحده﴿ ،فا ْرغب﴾ أي :أعظم الرغبة في إجابة دعاءك وقبول دعواتك
ملاذا قال الشيخ( :وإلى ربك وحده)؟ ِ
ْلن تقديم املعمول يدل على الحصر ،تقديم الجار واملجرور يدل على الحصر ،اْلصل
فارغب إلى ربك ،لكن قدم الجار واملج ِرور على متعلقه ،وتقديم الجار واملجرور يدل على
الحصر ،فأصبح معنى اآلية :وإلى ربك وحده فارغب وضع حوائجك ،واجعل دعاءك لربك
فقط وال تدع من دون هللا أحداِ ِ.
قال :وال تكن ممن إذا فرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره فتكون من الخاسرين،
وقد قيل إن معنى هذا :فإذا فرغت من الصَّلة وأكملتها فانصب في الدعاء.
هذا قاله بعض أهل العلم لكن فيه نظر؛ ْلن النبيِصلى هللا عليه وسلم لم يكن يدعو بعد
املفروضة ،وإنما كان يذكرِ .
والظاهر عندي وهللا أعلم وهو الظاهر عند جمع من أهل العلم ومنهم شيخ اإلسالم ابن
تيمية رحمه هللا أن كل دعاء نقل عن النبيِصلى هللا عليه وسلمِفي دبر الصالة املقصود به
في آخرها ،وليس في خارجها :اللهم آجرني من النار على ما ورد وعلى ما في الرواية ،اللهم قني
عذابك يوم تبعث عبادك ،اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ،أن كل هذا إنما
هو في آخر الصالة من اْلدعية املشروعة في آخر الصالة وليس في خارجهاِ .
ولذلك هذا املعنى الذي ذكره بعض أهل العلم :إذا فرغت من الصالة وأكملتها فانصب
للدعاء محل نظر؛ ْلن املخاطب باآلية وهوِصلى هللا عليه وسلم لم يفعل ذلك في كل
صالة ،وما كان ينصب للدعاء ويكثر من الدعاء بعد الصلوات عموما ،ولم يكن يدعو أصال
بعد الفرائض مباشرة ،بل كان يذكر هللا سبحانه وتعالى ،وإنما كان يدعو دعاء واحدا
مناسبا للمقام وهو أن يقول فور السالم :أستغفر هللا أستغفر هللا أستغفر هللا؛ ْلن هذا
متعلق بما كان في الصالة ،يستغفر العبد من تقصيره في بعض الصالة ،من شروذ ذهنه في
بعض الصالة ِونحو هذاِ ِ.
َ َ َ َ
﴿و ِإل ٰى َرِب َك فا ْرغ ْب﴾ في سؤال مطالبك. قال:
واستدل من قال هذا القول على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات اْلكتوبات
وهللا أعلمِ ِ.
أما الذكر فال شك أنه مشروع وهو سنة ،أما الدعاء فال يشرع منه إال أن يقولِ :أستغفر
331
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
332
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
بَّلل)) ،فالصالة عالج للهموم والغموم وعالج ْلمراض النفوس ،وعالج للغضب ،الغضبان
لو قام يتنفل هلل بركعتين يذهب غضبهِ .
فاإلقبال على هللا سر السعادة ،من أراد عالج همومه وغمومه وإسعاد قلبه فليقبل على
ربه ،والسعادة هبة من هللا يهبها ملن يشاء ،وهللا يهب السعادة ملن أقبل عليهِ ،
السعادة في الدين والتدين والطاعة واإلقبال على هللا سبحانه وتعالى ،والقلوب بينِأصبعين
من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاءِ .
وهللا قد تدخل الصالة وأنت في غاية الهم تسلم وأنت ما كأنه قد أصابك هم ،القلوب بين
أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى ،فإذا أردت اْلنس فانس باهلل
وانس بكتاب هللا ونس بذكر هللا ونس بطاعة هللا ونس بالعلم ،وعليك بالتوحيدِ .
-الحكمة الكبرى الرابعة والفائدة العظمى الرابعة :أن الذنوب تثقل ظهر اإلنسان حسا
ومعنى ،فالعبد كلما أذنب ذنبا رمى حمال على ظهره ،فتئن العظام وتشتكي من الذنوب
حسا ،ويثقل عن الطاعات وعن طلب العلم خصوصا بسبب الذنوب ،وكلما رمى ذنبا كلما
أبعد عن الطاعة ،كلما حمل ذنبا كلما أبعد عن الطاعة ،فالذنوب مبعدة للقلوبِ .
وقد جاء في الحديث ((أن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ،فإن نزع منها
سقل منها)) الحظوا :سقل السقل يكون للزجاج ،وسقل الزجاج يذهب الش يء بالكلية ،وإن
زاد زادت حتى ترين على قلبه ،فالذنوب تثقل ظهر اإلنسان حسا ومعنى ،حسا تثقل
عظامه ،ومعنى تثقله عن الطاعاتِ .
ولذلك الذي ال يقوم الليل في الغالب كثير الذنوب ،تقيده ذنوبه عن هذه الطاعة التي هي
لذة وجنة ورحمة للعاملينِ .
-ومن حكم هذه السورة الكبرى وفوائدها العظمى :أن من أعظم أسباب العزة والرفعة
لإلنسان التوحيد والطاعة ،ولذلك قلنا ونقولِ :من أراد العزة لألمة فليدعو للتوحيد
وليعلم التوحيد ولينشر التوحيد ،وليحذر من الشرك ،ومن أراد العزة لنفسه فليحرص على
تحقيق التوحيد ،وليكن من املوحدين ،ومن وحد هللا وأطاع هللا رفع هللا ذكره في اآلخرة
يقينا ،وفي الدنيا بحسب مصلحته ،فقد تكون مصلحتك في الدنيا أن تعرف فيرفع هللا
ذكرك ويعرفك الناس ،وقد تكون مصلحتك أن ال تعرف وأن تكون كما يقولون نكرة؛ ْلنك
اآلخرة فاملوحد مرفوع الذكر ،وكذا عند هللا في املإل اْلعلى املوحد لو عرفت لفتنت ،أما في ِ
مرفوع الذكر ،وأما في اْلرض فهو مرفوع ولكن بحسب مصلحته ،فقد يرفع ذكره ويعرف في
333
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
اآلفاق؛ ْلن مصلحته كذلك ومصلحة اْلمة مرتبطة بذلك ،وقد ال يعرف ،ولذلك ارض ى بما
اختار هللا لك وإياك والتطلع للشهرةِ ،ال تطلب الشهرة أبدا ،بل السلف الصالح رضوان هللا
عليهم كانوا ال يريدون الشهرة وإنما يريدون شهرة الحق وظهور الحق ،فإن كتب هللا لك
شهرة فزد تواضعا لعباد هللا ،ومن قبل ذلك ليعظم تذللك هلل سبحانه وتعالى ،وإن لم
تشهر فاحمد هللا على السالمة ،وقل :الحمد هلل الذي سلمني ،والحمد هلل الذي نجانيِ .
الحكمة السادسة الكبرى والفائدة العظمى :بشارة أهل البالء والشدة والكروب من أمة
محمدِصلى هللا عليه وسلم بأن الفرج قريب ،وهذا يقتض ي عدم اْلنين والشكوى وعدم
التسخط ،فإن الفرج قريب وإن مع العسر يسراِ .
-الحكمة السابعة واْلخيرة والفائدة الكبرى السابعة :أن شأن املؤمن االستفادة من الفراغ
في طاعة هللا ،والفراغ نعمة مغبون فيها كثير من الناس ،ما عرفوا الطريق الصحيح فيها،
بعض الناس يأتي يقو ِل :يا أخي أنا طفشان ،ملاذا؟ قال :ما عندي ش يء ،سبحان هللا! عندك
القرآن اقرأ ،عندك ذكر هللا اذكر ،عندك الصالة صلي ،عندك السعي في مصالح
املسلمين ،يقولون العمل التطوعي ،عندك وقت اجتهد في مصالح املسلمين مصالح جيرانكِ .
ولذلك الفراغ بالنسبة للمؤمن نعمة؛ ْلنه إذا فرغ نصب ،وجعل الوقت طاعة هلل عز
وجل ،فشأن املؤمن كشأن نبيهِصلى هللا عليه وسلم أنه يستفيد من الفراغ في ِزيادة
الحسناتِ .
ولذلك يا عبد هللاِأقولِ :إذا وجدت أيها املؤمن فراغا فاحمد هللا على هذه النعمة ،واغتنم
هذه النعمة فيما يقربك إلى هللا سبحانه وتعالى ،اغرس شجرك في الجنة بذكر هللا ،قل:
سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكبر وال حول وال قوة إال باهلل ،زد حسناتك
بكثرة الطاعة هلل سبحانه وتعالىِ .
وبهذا نكون ختمنا تفسير سورة الشرح أسأل هللا عز وجل أن يشرح صدورنا للهدى ،وأن
يشرح صدورنا بالهدى ،وأن يفهمنا معاني كتابه سبحانه وتعالىِ .
ِِ
ِ
ِ
ِِ
334
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة التين.
بسم هللا الرحمن الرحيم
ََ ْ َََْ ْ َ َ َ َٰ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َّ ْ ُ َ
نسان ِفي اإل
ِ ان ق ل خ دق ل ) 3 ( ين ماْل
ِ ِ ِ دل ب ال اذ ه و ) 2 ( ين الت ِين والزيتو ِن ( )1و ِ ِ ِ
ن ي س رو ط ﴿و ِ
َّ َ َ َ
ات فل ُه ْم حال الص وا
َّ َّ َ َ ُ َ َ ُ
ل م عو وا ن آم ين ذ ال ال إ ) 5 (
َ
ين ل ف اسَأ ْح َسن َت ْقويم (ُ )4ث َّم َر َد ْد َن ُاه َأ ْس َف َل َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ٍ
َ َ َ
َ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُ ََ َُ َ ْ ٌ َُْ َ ْ ُ
الد ِين ( )7أليس الله ِبأحك ِم الح ِاك ِمين(ِ .﴾ )8 أجر غير ممنو ٍ ( )6فما يك ِذبك بعد ِب ِ ن
هذه السورة املكية يقسم هللا عز وجل فيها بالتين املعروف والزيتون املعروف ،وفي هذا
بيان فضل هاتين الثمرتين وما فيهما من الفوائد لإلنسان ،وإشارة إلى أحسن موطن لهما
وهو فلسطين أرض نبوة عيس ى عليه السالم ،ثم يقسم هللا عز وجل بطور سيناء وهي
اْلرض التي أوحي فيها إلى موس ى عليه السالم ،ثم يقسم هللا عز وجل بمكة التي بعث فيها
محمدِصلى هللا عليه وسلم ،فجمع هللا عز وجل في أول هذه السورة القسم بأراض بعث
فيها هؤالء اْلنبياء الثالثة وهم من أولي العزم الذين هم أشرف الرسل عليهم السالمِ .
ََ َََْ
أقسم هللا عز وجل بهذه اْلمور العظيمة على أمر عظيم ،وجواب القسم﴿ :لق ْد خلقنا
َْ ْ َ َ َ
نسان ِفي أ ْح َس ِن تق ِو ٍيم﴾ ،أيها اإلنسان هللا عز وجل خلقك وال خالق لك إال هللا سبحانه اإل
ِ
وتعالى ،وخلقك حسن الخلقة مكرما في صورتك وهيأتكِ .
ثم رد هللا عز وجل هذا اإلنسان أسفل سافلين في نار جهنم ،وذلك ْلن اإلنسان يطغى
ويتجبر ويتكبر وال يشكر نعم هللا عز وجل عليه ،وإنما قد يشرك باهلل عز وجل وقد يكثر من
املعاص ي العظيمةِ .
وال ينجو من هذا ُ
السفل إال الذين آمنوا باهلل ربا ،وبمحمدِصلى هللا عليه وسلم رس ِوال،
وباإلسالم دينا ،وآمنوا بالرسل واملالئكة والكتب واليوم اآلخر والقدر خيره وشره من هللا عز
وجل ،ومن إيمانهم أنهم عملوا الصالحات ،فاجتهدوا في العمل بالصالحات ،فأخلصوا هلل
فيها ،واتبعوا رسول هللاِصلى هللا عليه وسلم فيهاِ .
ومن كان هذا شأنهم فإنهم في أعلى عليين ،على عكس غيرهم الذين هم في أسفل سافلين،
مقامهم بين الخالئق عالي ومقامهم يوم الدين عالي في جنة رب العاملين ،فهم في الدنيا أكرم
الخلق وإن كانوا مستضعفين ،وهم في اآلخرة في أعلى عليين في جنة رب العاملين ،ونعيمهم
335
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فيها عظيم كثير كبير ممتد ال ينقص ،وال يفقدون منه شيئا ،وال ينقطع وال لحظة ،فهو
نعيم محفوظ من النقصان ،محفوظ من العدم ،محفوظ من االنقطاع ،فال منغص فيه
أبدا ،فإن الذي ينغص على اإلنسان النعيم أن يعلم أنه ينقص كلما أخذ منه ،وهذا ال
يكون في نعيم الجنة ،وأن يعلم أنه قد ينقطع فينقلب النعيم إلى ابتالء ،وهذا ال يكون في
نعيم الجنة ،وأن يعلم أنه قد يذهب عنه بالكلية وهذا ال يكون في نعيم الجنةِ .
وهذا العلو للمؤمنين والسفل لغير املؤمنين الذي يكون يوم القيامة هو يقين ال شك فيه،
الد ِين﴾ فأي ش يء أيها العبد العاقل يجعلك تكذبب دولهذا قال بناَ ﴿ :ف َما ُي َكذ ُب َك َب ْع ُ
ِ ِ ِ ر
بالبعث والجزاء؟! وقد قامت على ذلك البراهين القطعية ،فال عذر لك في ذلك ،فاآليات
املتلوة واآليات املشاهدة وما تراه من ذهاب اْلجيال ،وما تراه من الصالة على اْلموات ومن
قبر املقبورين يدلك داللة بينة على أنك لست مخلدا في الدنيا ،ولست باقيا في الدنيا،
وأنك ميت وال شك ،وقد دلت اْلدلة القطعية على أن امليت يبعث ويجازىِِ .
ومن ذلك أن حكمة الحكيم سبحانه وتعالى تدل داللة بينة على أنه ال يمكن أن يخلق
الجن واإلنس ويكلفهم باْلعمال ،وينهاهم عن بعض اْلعمال وال يحاسبهم عليها وال يجازيهم
عليها ،فإن هللا عز وجل خلق الجن واإلنس ولم يتركهم همال بل أرسل لهم رسال يأمرون
باملعروف وينهون عن املنكر ،وال شك أن العالم بحكمة هللا عز وجل يدرك أنه البد من
َ
جزاء والبد من حساب ،إذن البد من بعث ،ولذلك قال هللا عز وجل بعد قوله﴿ :ف َما
َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َُ ُ َ َ ُْ
س الل ُه ِبأ ْحك ِم ال َح ِاك ِمين (.﴾ )8 الد ِين ( )7ألي
يك ِذبك بعد ِب ِ
بلى وربي؛ وما دام أن حكمة هللا تامة وهو أحكم الحاكمين فإن العاقل يدرك إدراكا يقينيا
أن من كلف العباد في الدنيا البد أن يبعثهم وأن يجازيهم وأن يحاسبهمِ .
فهذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه اآليات العظيمة ،ثم ننتقل إلى التفسير
التفصيلي ونقرأ ما سطره اإلمام املفسر الفقيه اْلصولي املتفنن الذي رزقه هللا علما عجيبا
بديعا الشيخ اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي السعدي رحمه هللا عز وجل في
تفسيرهِ .
336
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِِ
قالِاإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين:
الت ِين﴾ هو التين اْلعروف وكذلك الزيتونِ ِ. َ
قوله﴿ :و ِ
وهذا أظهر ما قاله املفسرون وما قاله السلف الصالح رضوان هللا عليهمِ .
وإذا اختلف املفسرون فاْلقرب في التفسير هو ما يتطابق مع الظاهر ،ولذلك الذي عليه
اْلكثر وهو الصواب أن التين هنا هو التين املعروف ،وكذلك الزيتونِِ .
والتين فائدته في أكله والزيتون فائدته العظمى في عصره ،فهذا مأكول وهذا مشروب،
وكالهما نعمة عظيمة وفيه فوائد كثيرة لإلنسانِ .
ولذلك من الخير لإلنسان أن يحافظ على هاتين الثمرتين فإن في أكلهما وشرب زيت
الزيتون الصحة والعافية والبركة ،فيحسن باملؤمن أن يدرك هذا ،فإن هللا ال يقسم إال
بعظيم من خلقه ،فهاتان الثمرتان من أعظم الثمار فائدة لإلنسانِ ِ.
قال رحمه هللا :أقسم بهاتين الشجرتين لكثرة منافع شجرهما وثمرهما؛ وْلن سلطانهما
في أرض الشام محل نبوة عيس ى بن مريم عليه السَّلم.
َ َ ُ
ور ِسي ِنين﴾ أي :طور سيناءِ ِ.
﴿و ِ
ط
َ
﴿س ِينين﴾ على هذا سيناءِ . طور سيناء هو الجبل املعروف في سيناء من أرض مصر ،فمعنى ِ
ٌِ
حسنِ . ﴿سي ِن َين﴾ أنه الحسن ،فهو ٌ
جبل وقال بعض العلماء :معنى ِ
َ
﴿سي ِنين﴾ مبارك فهو جبل مباركِ . وقال بعض العلماء :معنى ِ
َ
﴿سي ِنين﴾ أنه ذو شجر فهو جبل ذو شجرِ . وقال بعض العلماء :معنى ِ
َ
﴿سي ِنين﴾ هو الشجر املثمر فهو جبل ذو شجر مثمرِ . وقال بعض اْلفسرينِ :
وهذا من باب اختالف التنوع في التفسير وليس من باب اختالف التضاد ،فهو جبل مبارك
حسن كثير اْلشجار املثمرة ،وهو الجبل املعروف ،وشذ من ذكر أنه جبل في الشام هذا
ُ
قول شاذ ضعيف ،وإنما هو جبل في أرض سيناء من مصر وهو املكان الذي ن ِب َئ فيه موس ى
عليه السالمِ ِ.
َ َ ُ
ور ِسي ِنين﴾ أي :طور سيناء محل نبوة موس ى عليه السَّلم.
﴿و ِ
ط
337
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ٰ َ ْ َ َْ
﴿و َهذا ال َبل ِد اْل ِم ِين﴾ وهو مكة اْلكرمة محل نبوة محمد صلى هللا عليه وسلمِ ِ.
وهذا اسم إشارة للقريب؛ ْلن اآليات مكية ،فالذين يخاطبونِ بها في ذلك الزمن هم قاطنوا
ٰ َ ْ َ َْ
مكة ،ولذلك قالَ ﴿ :و َهذا ال َبل ِد اْل ِم ِين﴾ِ .
واْلمين فعيل ،وكما تدركون فعيل تأتي بمعنى فاعل وتأتي بمعنى مفعول ،فهو بلد آمن
ِّ
ومؤمن ومأمون ،ففيه اْلمن من جميع ومؤمن ،ففيه اْلمن كله ،بلد آمن َّ ِّ َّ
ومؤمن ِ ومؤمن ِ
جوانبه وهذا اْلمن ما جعله إنسان لهذا املكان وإنما جعله هللا عز وجل لهذا البلد ،وهو
محل بعثة محمدِصلى هللا عليه وسلمِ .
قال :فأقسم تعالى بهذه اْلواضع اْلقدسة التي اختارها وابتعث منها أفضل اْلنبياء
وأشرفهم.
َْ ََ ْ َََْ ْ َ َ َ
نسان ِفي أ ْح َس ِن تق ِو ٍيم﴾ أي :تام الخلق متناسب اإل
واْلقسم عليه قوله﴿ :لقد خلقنا ِ
اْلعضاء منتصب القامة ،لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا وباطنا شيئاِ ِ.
َْ َ
هذا قول اْلكثر أن معنى ﴿أ ْح َس ِن تق ِو ٍيم﴾ هو في الخلقة الظاهرة ،أن هللا عز وجل جعل
اإلنسان في أحسن قامة من بين جميع املخلوقات ،وفي أحسن صورة وفي أكرم هيئةِ .
َ ْ َ َْ
﴿في أحس ِن تق ِو ٍيم﴾ يعني على الفطرة وهي اإلسالم ،فكل مولود وقال بعض اْلفسرينِ :
يولد على الفطرة يعني على اإلسالم ،كل مولود يولد على أحسن تقويم على الفطرة وهي
اإلسالمِ .
فهؤالء حملوا حسن التقويم على اْلمر الباطن ،واْلولون حملوه على اْلمر الظاهر،
والقاعدة أنه إذا ذكر املفسرون قولين أو أكثر ال تنافي بينها فسرت اآلية بجميعها ،فأحسن
التقويم هنا يشمل الخلقة الظاهرة ويشمل باطن اإلنسان ،فإن اإلنسان يولد على أحسن
تقويم ظاهرا وباطناِ ِ.
قال رحمه هللا :ومع هذه النعم العظيمة التي ينبغي منه القيام بشكرها فأكثر الخلق
منحرفون عن شكر اْلنعم ،مشتغلون باللهو واللعب ،قد رضوا ْلنفسهم بأسافل اْلمور
وسفساف اْلخَّلق ،فردهم هللا في أسفل سافلين أي :أسفل النار موضع العصاة
اْلتمردين على ربهم إال من من هللا عليه باإليمان والعمل الصالح واْلخَّلق الفاضلة
338
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
العاليةِ ِ.
َ َ َ َ ُ
﴿ث َّم َر َد ْدن ُاه أ ْسف َل َسا ِف ِلين﴾ من قال :إن حسن التقويم في الهيأة الظاهرة قال :املعنى ثم
رددنا هذا اإلنسان إلى النار إلى جهنم لعدم شكره ،بل كان مشركا أو كثير العصيان ،فيرد
إلى النار بحسبهِ .
﴿ث َّم َر َد ْد َن ُاه َأ ْس َفلَ
ُ
ومن قال :إن حسن التقويم هنا هو الفطرة وهي اإلسالم قال :معنى
َ
َسا ِف ِلين﴾ أن أهله يردونه إلى أسفل سافلين ،فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانهِ .
وكما قلنا إنه ال مانع من حمل حسن التقويم على الحالين ،فإنه ال مانع من حمل الرد إلى
أسفل سافلين على الحالين ،فيرد في الدنيا إلى الشرك وكثرة العصيان والطغيان ،ويرد يوم
القيامة إلى النار التي هي أسفل سافلينِ .
َ َ َ َ ُ
وقال بعض اْلفسرين﴿ :ث َّم َر َد ْدن ُاه أ ْسف َل َسا ِف ِلين﴾ يعني رددناه إلى أرذل العمر فيصبح
شيخا كبيرا تذهب قوته وتتحول إلى ضعف ،وتتغير هيأته فبعد أن كان بهي البشرة يذهب
بهاء تلك البشرةِ .
ُ َّ َّ َ ُ
ين َآمنوا َو َع ِملواإذا قلنا بهذا التفسير هنا إشكال؛ ِْلن هللا عز وجل قالِ ﴿ :إال ال ِذ
ات﴾ ،واملعلوم أن املؤمن قد يرد إلى أرذل العمر ويصبح شيخا كبيرا ،فبعضهم َّ َ
الص ِالح ِ
قال :إن االستثناء هنا منقطع ،واملعنى لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ردهم إلى
أرذل العمر لهم أجر غير ممنون في الجنةِ .
وبعضهم قال :إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن أجرهم ال ينقطع بضعفهم أو ذهاب
عقلهم ،بل يكتب لهم في حال ضعفهم وحال أرذل العمر ما كانوا يعملونه في حال الصحة
والقوة ،فلو كان أحدهم مثال يصوم االثنين والخميس لكن ملا كبر سنه أصبح ال يستطيع
الصوم يجري هللا عليه أجر صيام االثنين والخميس وإن بقي عشرين سنة ضعيفا ،كان
يصلي من الليل فأصبح من ضعفه ال يستطيع أن يصلي من الليل يجري هللا عليه أجر قيام
الليل وإن بقي سنين طويلة ،فقالوا هذا معنى اآلية ،ليس استثناء من الرد إلى أرذل العمر،
وإنما هو استثناء من انقطاع اْلجر عند الرد إلى أرذل العمر ،فإن أجرهم يعني مستمرِ .
339
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ُ َ َْ ُ َ ْ َ َ
وبعضهم قالوا :إن اآلية على ظاهرها ﴿ث َّم َرددناه أسف َل س ِ
اف ِلين﴾ يعني رددناه إلى أرذل
العمر حتى ال يعلم من بعد علم شيئا إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن هللا يحفظهم
من هذا ،واملقصود خاصة املؤمنين وليس كل املؤمنين على هذا التفسير ،خاصة املؤمنين
الذين حفظوا أعضاءهم في الصغر يحفظها هللا لهم في الكبر ،فال يردون إلى أرذل العمرِ .
َّ َّ َ ُ
ين َآمنوا﴾ يعني :إال الذين﴿إال ال ِذ
ولذلك قال بعض السلف الذين فسروا هذا التفسيرِ :
حفظوا القرآن وكانوا من أهل القرآن وليس عموم املؤمنين ،فإنهم يحفظون من الرد إلى
أرذل العمر ،ولذلك قال بعضهم :ال يعرف رجل من أهل القرآن رد إلى أرذل العمر ،يعني :ال
يعرف رجل من أهل القرآن على وجه الحقيقة وليس مجرد ترداد اْللفاظ رد إلى أرذل
العمرِ .
لكن ما قدمناه أولى من هذا التفسير؛ ْلنه هو الظاهر وهللا أعلم ،وشيخنا الشيخ ابن
عثيمين يرى أن اآلية تدل على املعنيين ،ويرى أن هذا من اختالف التنوع وليس من
اختالف التضاد ،لكن يعني اْلظهر وهللا أعلم هو اْلول ْلن السياق يدل عليهِ ِ.
في أسفل سافلين أي :أسفل النار موضع العصاة اْلتمردين على ربهم.
إال من من هللا عليه باإليمان والعمل الصالح واْلخَّلق الفاضلة العالية فلهم بذلك
اْلنازل العالية وأجر غير ممنون؛ أي :غير مقطوع ،بل لذات متوافرة وأفراح متواترة،
ونعم متكاثرة في أبد ال يزول ،ونعيم ال يحول ،أكلها دائم وظلهاِ ِ.
ُ َ
﴿غ ْي ُر َم ْمنو ٍن﴾ قال بعض اْلفسرين :غير مقطوع كما قال الشيخِ .
وقال بعض اْلفسرين :غير منقوص ،يعني ال ينقصِ .
وكال املعنيين صحيح ،فنعيم الجنة ال يفنى وال يعدم وال ينقطع وال لحظة وال ينقص أبدا،
ال من جهة ذاته وال من جهة التنعم بهِ .
اإلنسان في الدنيا إذا أوتي نعيما هذا النعيم سينقص ،إما بذاته فينقص ويقل ،وإما
بالتنعم به ،فإن اإلنسان إذا طال تنعمه بهذا النعيم يألفه حتى ال يشعر بالنعيم وال يشعر
بلذته ،وهذا ال يكون في الجنة ،بل أهل الجنة -نسأل هللا أن يجعلنا منهم -في كل لحظة
كأن النعيم جديد ،ال يملونه أبدا وال يفقدونه أبدا وال يفقدون منه شيئا ،وفوق هذا هم
340
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
آمنون من هذا كله ،يعني قلوبهم مطمئنة بهذا ال يخافون ذهابا له وال نقصا وال انقطاعا
وهذا من تمام نعيمهمِ ِ.
َ
﴿ف َما ُي َكذ ُب َك َب ْع ُ
الد ِين﴾ أي :أي ش يء يكذبك أيها اإلنسان بيوم الجزاء على اْلعمال؟!
ِ ِب د ِ
قد رأيت من آيات هللا الكثيرة ما يحصل لك به اليقين ومن نعمه ما يوجب عليك أال
تكفر بش يء منهاِ ِ
هذا قول اْلكثر أن الدين هو الجزاء على اْلعمال يوم القيامةِ .
وقال بعض املفسرين :الدين هنا هو ما جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم ،واملعنى ما
الذي يجعلك أيها اإلنسان تكذب بما جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلم وقد أقمنا لك
البراهين الساطعة واْلدلة القاطعة على صدق محمدِصلى هللا عليه وسلم وعلى صحة ما؟ ِ
جاء به واآلية تحمل على اْلمرينِ :
-تحمل على الدين الذي جاء به النبيِصلى هللا عليه وسلمِ .
-وعلى الدين الذي هو الجزاء باْلعمال وهو مما جاء به محمدِصلى هللا عليه وسلمِ .
فإن محمداِصلى هللا عليه وسلم تال علينا في كتاب ربنا هذا وأخبرنا بالسنة تفاصيل كثيرة
عن هذا اْلمرِ ِ.
َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ
س الل ُه ِبأ ْحك ِم ال َح ِاك ِمين﴾ فهل تقتض ي حكمته أن يترك الخلق سدى ال يؤمرون ﴿ألي
وال ينهون وال يثابون وال يعاقبون
س﴾ هذا استفهام ،وهو استفهام تقريري ،واالستفهام التقريري يرد على اْلمر القطعي ﴿ َأ َل ْي َ
الذي ال يمكن أن ينكر ،فهذا تقرير لهذه القضية الكلية القطعية وهي أن هللا عز وجل
أحكم الحاكمين.
و(أحكم) عند اْلكثر من الحكمة ،والحكمة هي اإلتقان ووضع كل ش يء في موضعه ،وهللا
عز وجل أحكم الحاكمين ،وكل من أوتي حكمة فحكمته ناقصة وهي هبة من هللا ،وحكمة
هللا تامة كاملةِ .
فاهلل أحكم الحاكمين ،هو سبحانه اْلحكم ،وهو الواهب للحكمة ،فالحكمة رزق من هللا
عز وجلِ .
341
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ
س الل ُه ِبأ ْحك ِم ال َح ِاك ِمين﴾ أي :أن وقال بعض اْلفسرين( :أحكم) هنا من الحكم﴿ ،ألي
حكم هللا محيط بالجميع ،وهو الحكم القدري ،أن حكم هللا القدري ال يخرج عنه ش يء،
وهذا يتضمن التهديد والوعيد للكفارِ .
وقال بعض أهل العلم :أحكم من الحكم ولكنه الحكم الشرعي ،فشريعة هللا تامة ال
نقص فيها ،واْلدلة عليها براهين ساطعة وأدلة قاطعةِ ِ.
قال :فهل تقتض ي حكمته أن يترك الخلق سدى ال يؤمرون وال ينهون وال يثابون وال
يعاقبون ،أم الذي خلق اإلنسان أطوارا بعد أطوار وأوصل إليهم من النعم والخير والبر
ما ال يحصونه ورباهم التربية الحسنةِ .
وكلفهم؛ أهم قضية أنه كلفهم وأمرهم ونهاهمِ ِ.
البد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم وغايتهم التي إليها يقصدون ونحوها يؤمونِ ِ.
من فوائد هذه السورة الكبرى وحكمها العظمىِ :
-بيان أن املخلوقات تتفاضل ،فمنها ما يتفاضل في فضل ونقص كسائر الناس والثمار،
فهنا التين والزيتون من أفضل الثمار دلنا على ذلك أن هللا أقسم بها ،وهللا ال يقسم إال
بعظيم فاضل ،ومنها ما يتفاضل في كمال ال نقص فيه كاْلنبياء عليهم الس ِالم ،وكال اْلمرين
موجود في اآليات؛ ْلن هللا عز وجل أقسم بالتين والزيتون وهذه مخلوقات تتفاضل بين
كمال ونقص ،وأقسم بهذه اْلراض ي؛ واْلراض ي تتفاضل بين كمال ونقص ،وتضمن هذا
القسم باْلنبياء الثالثة عيس ى عليه السالم وموس ى عليه السالمِومحمدِصلى هللا عليه
وسلم ،وا ِْلنبياء يتفاضلون في الكمال بال نقص ،فال نقص في نبي من اْلنبياء ،ولكنهم
يتفاضلون في الكمالِ .
ولذلك التفضيل بين اْلنبياء إن كان على وجه التفاضل في الكمال جائز ومشروع ،فنقولِ:
أفضل اْلنبياء أولوا العزم ،وأفضل أولوا العزم محمدِصلى هللا عليه وسلم ،أما إذا كان
على وجه التنقص لنبي من اْلنبياء فإنه ال يجوز ،ال يجوز أن تقو ِل :محمد صلى هللا عليه
وسلم أفضل من موس ى عليه السالم إذا كان قصدك أن تتنقص موس ى عليه السالم ،أما
إذا كان قصدك أن تذكر كمال محمدِصلى هللا عليه وسلم فإنه يجوزِِ .
342
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-ومن فوائد هذه السورة بيان أن اْلرض إنما تفضل بوجود الصالحين فيها ،فمكة شرفت
بوجود محمدِصلى هللا عليه وسلم فيها ،وبوجود بيت هللا فيها الذي يؤمه الصالحون،
وبوجود إسماعيل فيها من قبل عليه السالم ،وفلسطين شرفت بوجود عدد كبير من
اْلنبياء فيها عليهم السالم ،ومنهم عيس ى عليه السالم ،وطور سيناء شرف بوجود م ِوس ى
عليه السالم عنده عندما نبئ عليه السالمِ .
-ومن فوائد هذه السورة أن شرف اإلنسان وعزه وعلو مقامه إنما يكون بقربه من هللا،
فليس العز السلطة والجاه ،وليس العز القوة والبطش ،وليس العز املال والغنى ،وإنما العز
حقا وصدقا القرب من هللا ،فمن اقترب من هللا عز ِوجل فإن هللا يرفعه في الدنيا واآلخرة،
ويكون كريما في الدنيا ولو ابتلي هو أكرم من غيره ،ويكون مكرما في اآلخرة عند البعث يكون
مؤمنا ،وعند الجزاء يكون من أهل الجنة ،وعلى املؤمن أن يدرك هذه الحقيقة فيسعى في
قربه من هللا عز وجلِ .
كثير من الناس يقيمون الناس خطأ ِويظهر هذا تماما عندما يتقدم رجل لخطبة امرأة،
فإن بعض الناس ينظرون إلى الجاه ،وبعض الناس ينظرون إلى املال والوظيفة ،وهذا ليس
هو التقييم الصحيح وإنما التقييم الصحيح هو امليزان الشرعي ((إذا أتاكم من ترضون
دينه وخلقه فزوجوه)) ،كلما كان العبد أقرب إلى هللا وأقرب إلى رسول هللاِصلى هللا عليه
وسلم بحسن الخلق كان أعز وأكرم وأشرف ،ويشرف اإلنسان بالقرب منه ،ولذلك ينبغي
على العبد أن يحرص على أن يكون من الصالحين وعلى أن يكون مع الصالحين ،أن يكون
من الصالحين فيحرص على أن يكون قريبا من هللا متقربا إلى هللا ،لكي يكون عزيزا ِرفيع
املقام ،وليكون مع الصالحين فإنهم أهل العزة والرفعة وعلو املقامِ .
ِ
ِ
ِِ
343
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة العلق.
بسم هللا الرحمن الرحيم ِ
َّ َْْ ْ ْ َ ََ َ ْ َ َ ﴿اق َرْأ ب ْ
اسم َ ب َك َّالذي َخ َل َ ْ
نسان ِم ْن َعل ٍق ( )2اق َرأ َو َر ُّب َك اْلك َر ُم ( )3ال ِذي اإل
ِ ق ل خ ) 1 ( ق ِ ر
ِ ِ ِ
َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ َ ْ َ َ
نسان َما ل ْم َي ْعل ْم) ِ .﴾ )5 اإل
علم ِبالقل ِم ( )4علم ِ
هذه السورة التي هذا الجزء منها -وهو أولها -أول ما نزل من القرآن ،نزل في غار حراء أول،
ما نزل من القرآن هي هذه اآليات الخمس في أول هذه السورة ،فيها يأمر هللا عز وجل
نبيهِصلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا لذلك بأن يقرأ مستعينا بربه ومتبركا باسمه؛ أن يقرأ
باسم ربه ،وربه سبحانه هو الذي خلقه ورباه بالنعم ويدله على القيم ،وهو سبحانه الذي
ومن أكرم خلقه اإلنسان الذي خلقه ربه من علق؛ من دم
خلق كل ش يء فقدره تقديراِ ،
غليظ يعلق في الرحمِ .
ثم كرر هللا أمر نبيهِصلى هللا عليه وسلم بالقراءة ،وذكر له أن ربه الذي رباه بالنعم ودبر
أجساد بني آدم يدلهم على تربية أرواحهم ،وعلى إصالح قلوبهم وأنفسهم بإنزال الكتب على
الرسلُ ،
وخيرها ما ابتدأ نزوله عند هذه اآليات وهو القرآن ،فهو سبحانه الرب اْلكرم
املتصف بكمال الكرم ،ومن كمال كرمه أنه ِّ
كرم اإلنسان بأن جعله قابال للعلم ،من كرمه
ِّ
وعظيم كرمه سبحانه أنه كرم اإلنسان فجعله قابال للعلم ،وعلمه ما لم يكن يعلم ،وعلمه
القراءة والكتابة التي هي طريق ضبط العلم وتحصيل العلم ،ومن كرمه سبحانه أنه أنعم
على اإلنسان بالقلم الذي يكتب به العلم ،والقلم نعمة عظمى على اإلنسان لوال أن هللا
أكرم الناس بأن أنعم عليهم بالقلم لضاع علمهم ،فتلك نعمة عظمىِ .
فهذا هو التفسير اإلجمالي لهذا القسم اْلول لهذه السورة ثم نعود ملا كتبه الشيخ عبد
الرحمن بن سعدي فنقرأ ونعلق عليهِ ِ.
قال رحمة هللا عليه :هذه السورة أول السور القرآنية نزوال على رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة إذ كان ال يدري ما الكتاب وال اإليمان،
فجاءه جبريل عليه الصَّلة والسَّلم بالرسالة ،وأمره أن يقرأ فامتنع وقال :ما أنا بقارئ،
ََ َّ فلم يزل به حتى قرأ ،فأنزل هللا عليهْ ﴿ :اق َرْأ ب ْ
اس ِم َرِب َك ال ِذي خل َق﴾ِ ِ. ِ
344
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
في حديث عائشة رض ي هللا عنها ((أن الحق جاء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم وهو متعبد
في غار حراء ،فجاءه اْللك وهو جبريل عليه السَّلم فقال :اقرأ ،فقال النبي صلى هللا
عليه وسلم :ما أنا بقارئ)) ،ليس رفضا وإنما يخبر عن حاله أنه ال يقرأ ،النبيِصلى هللا
عليه وسلم أمي ال يقرأ وال يكتب ،قال(( :ما أنا بقارئ ،قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
فأخذني وغطني حتى بلغ مني الجهد)) ،ضمه ضما شديدا(( ،ثم أرسلني ،فقال :اقرأ،
قلت :ما أنا بقارئ ،قال :فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ،فقال:
﴿اق َرْأ ب ْ
اس ِم َرِب َك
ْ
اقرأ ،فقلت :ما أنا بقارئ ،فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني ،فقال:
ِ
َّ ْ َ َ َّ َْْ ْ ْ َ ََ َ ْ َ َ ََ َ َّ
نسان ِم ْن َعل ٍق ( )2اق َرأ َو َر ُّب َك اْلك َر ُم ( )3ال ِذي َعل َم ِبالقل ِم ()4 اإل
ال ِذي خلق ( )1خلق ِ
َ َ َّ َ ْ َ َ َ
نسان َما ل ْم َي ْعل ْم ( ،﴾)5وهذا الحديث متفق عليه ،فكان أول ما سمعه النبيِصلى اإل
علم ِ
هللا عليه وسلم من الوحي هذه اآليات الخمسِ ِ.
ََ َّ ﴿ ْاق َرْأ ب ْ
اس ِم َرِب َك ال ِذي خل َق﴾ عموم الخلق. ِ
عموم الخلق ،من أين أخذنا هذا العموم؟ ِ
ََ َّ من حذف املتعلق ،فإن هللا عز وجل قالْ ﴿ :اق َرْأ ب ْ
اس ِم َرِب َك ال ِذي خل َق﴾ خلق ماذا ما ِ
ذكره ،وهذا يدل على العموم ،فاهلل سبحانه خالق كل ش يء سبحانه وتعالىِ .
قال رحمه هللا :ثم خص اإلنسان وذكر ابتداء خلقه من علقِ ِ.
فهذا من أعظم ما خلقه هللا ،وفي خلقه آيات عجيبة تقدمت في تفسير السور السابقة،
ومن تلك اآليات أنه ُيخلق في الرحم بأن يكون علقة ،والعلقة هي الدم الغليظ الذي يعلق
بالرحمِ .
ولذلك قال العلماء :اإلنسان خلق من دم ،ويحيى بالدم ،ال حياة له إال بالدم ،وهذا جزء
من خلق اإلنسان ،اإلنسان خلق من نطفة هذا الجزء اْلول ،وخلق من علق وهذا جزء
من خلق اإلنسان ،وفي هذا آيات عجيبة عظيمةِ ِ.
قال رحمه هللا فالذي خلق اإلنسان واعتنى بتدبيره البد أن يدبره باْلمر والنهي وذلك
بإرسال الرسل وإنزال الكتب ،ولهذا أتى بعد اْلمر بالقراءة بخلقه لإلنسان.
345
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َْْ ْ ْ
ثم قال﴿ :اق َرأ َو َر ُّب َك اْلك َر ُم﴾ أي :كثير الصفات واسعها ،كثير الكرم واإلحسان واسع
الجود الذي من كرمه أن علم أنواع العلومِ ِ.
(اقرأ) الثانية قال بعض العلماء :هي تكرار لـ (اقرأ) اْلولى تأكيدا ،واملقصود :اقرأ القرآن
أصال والعلوم فرعاِ .
والقراءة ال يشترط أن تكون بمعرفة الحروف ،ولذلك كان النبيِصلى هللا عليه وسلم ِ
يقرأ
القرآن ولكنه ال يعرف الحروفِصلى هللا عليه وسلمِ .
وقال بعض العلماء( :اقرأ) الثانية غير اْلولى ،فـ (اقرأ) اْلولى؛ أي :أنظر في آيات هللا
الكونية وأموره القدرية ،فهي أقرب إلى العلم قراءة أقرب إلى العلم ،واقرأ الثانية؛ أي :اقرأ
القرآنِ .
والظاهر وهللا أعلم أنهما بمعنى واحدِ ِ.
َ َ َّ َ ْ َ َ َ
نسان َما ل ْم َي ْعل ْم﴾ فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ال يعلم شيئا،اإل
وعلم بالقلم﴿ ،علم ِ
وجعل له السمع والبصر والفؤاد ،ويسر له أسباب العلم ،علمه القرآن وعلمه الحكمة
وعلمه بالقلم الذي به تحفظ العلوم ،وتضبط الحقوق ،وتكون رسَّل للناس تنوب
مناب خطابهم ،فلله الحمد واْلنة الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي ال يقدرون لها
على جزاء وال شكور ،ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق.
الر ْج َع ٰى(ِ .﴾ )8 ان َل َي ْط َغ ٰى (َ )6أن َّر ُآه ْ
اس َت ْغ َن ٰى ( )7إ َّن إ َل ٰى َرب َك ُّ َ َّ َّ ْ َ َ
اإلنس
ِ ِ ِ ﴿كَّل ِإن ِ
يخبر هللا عز وجل في هذه اآليات أنه ما كان يليق باإلنسان بعد أن خلقه هللا عز وجل في
أحسن تق ِويم وأنعم عليه بالنعم أن يتجاوز الحد الذي وضعه له ربه والذي ينبغي أن
يكون عليه ،فإن جنس اإلنسان يطغى ويتجاوز الحد بأن يكفر بربه ،بل حق اإلنسان
العاقل أن يكون شاكرا لنعم ربه ،ولكن هذا ال يكون من كثير من الناس ،فإن كثيرا من
الناس إذا رأوا أن هللا أغناهم وأنعم عليهم يطغون ويتجاوزون الحد ،ويظنون أنهم إنما
حصلوا هذا بذكائهم وقدرتهم وعملهمِ .
ثم هدد هللا عز وجل الطغاة بالكفر والعصيان أنهم راجعون إلى هللا ومحاسبون على ما
يعملونِِ .
346
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
347
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
348
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذا املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذا الجزء اْلخير ،ثم نرجع إلى ما ذكره الشيخ في
التفسير التفصيليِ ِ.
قال رحمه هللا تعالى :يقول هللا لهذا اْلتمرد العاتي :أرأيت أيها الناهي للعبد إذا صلى ،إن
كان العبد اْلصلي على الهدى العلم بالحق والعمل به ،أو أمر غيره بالتقوىِ ِ.
روى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رض ي هللا عنه أنه قال :قال أبو جهل :هل يعفر
محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا :نعم ،قال :والالت والعزى لئن رأيته يفعل ذلك ْلطأن على
رقبته أو ْلعفرن وجهه في التراب ،فأتى رسول هللاِصلى هللا عليه وسلم وهو يصلي ،فما
فجئهم منه إال وهو ينكص على عقبيه ،ويتقي بيديه فقيل له :مالك ،فقال إن بيني وبينه
لخندقا من نار وهوال وأجنحة ،فقال النبيِصلى هللا عليه وسلم(( :لو دنى مني الختطفته
َ َ َ َ َ
اْلَّلئكة عضوا عضوا)) ،قال﴿ :أ َرأ ْيت ِإن كان﴾ العبد املصلي الذي هو النبيِصلى هللا
عليه وسلمِ .
َ ْ
ِ﴿ َعلى ال ُه َد ٰى﴾ فكان صالحا في نفسهِ .
َّ ْ َ َ
﴿أ ْو أ َم َر ِبالتق َو ٰى﴾ (أو) هنا على بابها للتنويع ،يعني أنه صالح في نفسه ومصلح لغيره
بالدعوة إلى الحقِصلى هللا عليه وسلمِ ِِ.
قال :فهل يحسن أن ينهى من هذا وصفه؟ أليس نهيه من أعظم اْلحادة هلل واْلحاربة
للحق؟ فإن النهي ال يتوجه إال ْلن هو في نفسه على غير الهدى أو كان يأمر غيره بخَّلف
التقوى.
أرأيت أيها املخاطب الصالح لسماع الخطابِ ِ.
أرأيت إن كذب الناهي بالحق وتولى عن اْلمرِ ِ.
فأعرض عن الحقِ ِ.
أما يخاف هللا ويخش ى عقابه؟ ألم يعلم بأن هللا يرى ما يعمل ويفعل؟
َ َّ َ َّ َ
ثم توعده إن استمر على حاله فقال﴿ :كَّل ل ِئن ل ْم َينت ِه﴾ِ .
(كَّل) هنا قال بعض أهل العلم :بمعنى حقا ويقينا أنه إن لم ينته سيكون هذاِ .
349
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض أهل العلم :هي للردع والزجر ،كال هنا للردع والزجرِ ِ.
َ َ ْ َ ً َّ َ َّ َ َّ ْ َ َ
اص َي ِة﴾؛ أي :لنأخذن بناصيته أخذا الن
ِ ِ ب اع ف س ن ل ﴿ ويفعل، ل يقو عما ﴾ ه
﴿كَّل ل ِئن لم ي ِ
نت
َ َ َ َ َ َ
اطئ ٍة﴾؛ أي :كاذبة في قولها خاطئة في
اصي ٍة ك ِاذب ٍة خ ِ
عنيفا ،وهي حقيقة بذلك ،فإنها ﴿ن ِ
فعلهاِ ِ.
كاذبة كثيرة الكذب ،واملقصود صاحبها ،ومن كذبه ما قاله هناِ .
خاطئة؛ أي :فاعلة للقبائح عن عمد ،وفرق بين الخاطئ واملخطيء ،املخطيء هو الذي
يفعل الش يء بدون قصد ،والخاطئ هو الذي يفعل الش يء عمدا ،فهذا خاطئ وليس مخطئا
يفعل القبائح عن عمدِ .
َْ
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى :قوله﴿ :فل َي ْد ُع﴾ هذا الذي
حق عليه العذاب.
َ
﴿ن ِاد َي ُه﴾ أي :أهل مجلسه وأصحابه ومن حوله ليعينوه على ما نزل بهِ ِ.
فليدع ناديه؛ أي :ليدع مجالسيه ومناصريه وقومه ليعينوه على ما نزل به من وعيد هللا
سبحانه وتعالىِ ِ.
َ َ ْ ُ َّ َ
الزَبا ِن َية﴾؛ أي :خزنة جهنم ْلخذه وعقوبتهِ ِ. ﴿سندع
إن دعا ناديه متقويا بهم فإنا سندع الزبانية وهم خزنة جهنم ليأخذوه ،قال ابن عباس
رض ي هللا عنهما(( :فوهللا لو دعا ناديه ْلخذته زبانية هللا)) رواه الترمذي وصححه اْللبانيِ .
فلو أنه كما زعم دعا ناديه ليتقوى على رسول هللاِصلى هللا عليه وسلم ْلمر هللا الزبانية
أن تتخطفه ،ولكان قطعا في أيدي أولئك املالئكةِ ِ.
فلينظر أي الفريقين أقوى وأقدر ،فهذه حالة الناهي وما توعد به من العقوبة.
َ َّ َ
وأما حالة اْلنهي فأمره هللا أال يصغي إلى هذا الناهي وال ينقاد لنهيه فقال﴿ :كَّل ال
ُ
ت ِط ْع ُه﴾؛ أي :فإنه ال يأمر إال بما فيه الخسار.
َْ
اس ُج ْد﴾ لربكَ ﴿ ،واقت ِرب﴾) منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات، ﴿ َو ْ
فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه ،وهذا عام لكل ناه عن الخير ولكل منهي عنه ،وإن
كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الصَّلة
350
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وعذبه وآذاه
وبهذا يتم تفسير هذه السورة ،ننبه على بعض فوائد هذه السورة العظمى وحكمها الكليةِ :
-فمن تلك الفوائد أن العلم والقراءة والكتابة من أعظم النعم على الناس ،وأن الناس
يشرفون بحسب منازلهم من العلم ،وأن كتابة العلم من أعظم ما ينبغي أن يعتني به طالب
العلم حتى يضبط العلم وحتى ال يتفلت عليه العلمِ .
-واْلمر الثاني :أن اْلصل في اإلنسان الظلم والطغيان ،السيما إذا كان في حال الرخاء وكان
في نعم ،وال يسلم من هذا الحال الرديء إال أهل اإليمان فإنهم يسلمون من حال الطغيانِ .
-واْلمر الثالث :أن من أعظم الفساد نهي العبد الصالح عن عمل الصالحات بمختلف
الحجج ،فينبغي على املؤمن أن يربأ بنفسه من أن ينهى عبدا صالحا عن عمل صالح ثابت
يعمله ،ومن ذلك مثال ما يقع من بعض اآلباء من نهيهم أبناءهم عن إعفاء اللحى ،فإذا رأى
الوالد ابنه أعفى لحيته زجره عن هذا العمل ونهاه عن هذا العمل ،وقال :ملاذا تكون من
املتشددين؟ وإن هذا تشدد ،وهذا ما ال يليق باملؤمن ،فإن املعلوم املتيقن أن هذا من فعل
النبيِصلى هللا عليه وسلم بال شك وال ريب ومن فعل الصحابة أجمعين رضوان هللا عليهم،
فكون الشاب يعفي لحيته فإن هذا من الخير والعمل الصالح ،لو لم يكن ذلك واجبا،
فكيف وقد علمنا باْلدلة الشرعية أن إعفاء اللحية واجب على الرجل ،فينبغي على املؤمن
أن يربأ بنفسه من أن ينهى عبدا صالحا يعمل بهذا العمل الصالح ،إن كان قد ترك هذا
الواجب بنفسه فال ينبغي أن يضيف إلى هذا سوءا بأن ينهى عبدا صالحا عن هذا العمل
الصالحِ .
ومن ذلك أيضا أن بعض اآلباء إذا رأوا أبناءهم الذكور يحرصون على الصالة في املسجد
نهوهم عن ذلك ،وقالوا :ال حاجة للمسجد ،ملاذا هذا التشدد؟ صلي كما نصلي في البيت وال
تذهب إلى املسجد ،فينهون عبدا صالحا عن عمل صالح ال شك فيه بإجماع العلماء ،وإن
كان العلماء قد اختلفوا هل هو مستحب أو واجب والراجح أنه واجب ،لكن العلماء
مجمعون على أنه عمل صالحِ .
351
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فينبغي على كل مؤمن أن يربأ بنفسه من هذا اإلفساد العظيم ،وهو نهي العبد الصالح
عن العمل الصالح الثابت الذي يزيده قربا من هللا عز وجل بمختلف الحججِ .
-اْلمر الرابع :أن من أعظم صالح العبد في نفسه أن يكون من املصلين ،فمن أعظم
أمارات صالح العبد أن تجده من املصلين ،معهم من الراكعين ومنهم ،تجده حريصا على
صالته ،فهذا من أعظم الصالح ومن أعظم أمارات وعالمات صالح العبدِ .
-واْلمر الخامس :أن الخير للعبد املؤمن أن يكون صالحا في نفسه حريصا على إصالح غيره
ما أمكنه ،فيحرص على الصالح ،ويحرص على أن يأمر غيره بالتقوى فإن هذا من أعظم
املنازل وأشرفها وأكرمها وأعالها وأحالها وأجالها ،فما أحلى من أن يقوم املؤمن بالصالح في
نفسه ،وأن يحرص على إصالح غيره ،والسيما اْلقارب ممن يكونون حوله من أصوله
وفروعه وحواشيه ،فإن هذا من أعظم صلة الرحم ،من أعظم صلة الرحم أن تحرص على
إهداء رحمك اإلرشاد إلى اْلعمال الصالحة والنهي عن املخالفات الشرعية بأسلوب لين
رقيق وبأسلوب يناسب من تخاطبهِ .
اْلمر اْلخير :أن هللا عز وجل ينصر أولياءه ويحفظ عباده الصالحين من حيث يشعرون
ومن حيث ال يشعرون ،فإن مكر بهم أعداؤهم مكر هللا بأعدائهم ،وهللا خير املاكرين ،وإن
سعى جهال في الطعن فيهم وإسقاطهم عن منازلهم الشرعية حسدا من عند أنفسهم أو
حرصا على إبقاء ما يعتقدون في الساحة؛ ْلن ذلك ِّ
الخير يفسد عليهم مآربهم ،فإن هللا عز
وجل يدافع عن الذين آمنوا ويحفظ الذين آمنوا ،فال ينبغي للعبد الخير الصالح إن علم
أن الذي هو عليه خير أن يخاف من أحد أو يخش ى من مكر أحد ،فإن هللا عز وجل يحفظ
أولياءه ،وإذا كان الذي بينك وبين هللا عامرا وكنت على طريق صحيحة فاطمئن وتوكل على
هللا ،والزم الحق الذي أنت عليه ،وال تلتفتن إلى خوف من أحدِ .
إن من املصائب أن يترك املسلم خيرا يعلمه إلرهاب أحد له أو لخوف من مكر أحد أن
يمكر به هنا أو هناك ،فكن على يقين وتوكل على هللا واعلم أن هللا يحفظ أولياءه ،وأن هللا
يحفظ عباده الصالحين من حيث يشعرون ومن حيث ال يشعرونِ .
ِ
352
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة القدر
بسم هللا الرحمن الرحيم
ََْ ُ ْ َ ْ ٌَْ ْ َْ َ ﴿إ َّنا َأ َنزْل َن ُاه في َل ْي َلة ْال َق ْدر (َ )1و َما َأ ْد َ َ
اك َما َل ْي َل ُة ْال َق ْ
ف ش ْه ٍر
ِ ل أ نمِ ر يخ ر
ِ د ق ال ة لي ل ) 2 ( ر
ِ د ر ِ ِ ِ ِ
َْ َ َ ُ ْ (َ )3ت َن َّز ُل ْاْلَ ََّل ِئ َك ُة َو ُّ
وح ِف َيها ِب ِإذ ِن َرِب ِهم ِمن ك ِل أ ْم ٍر (َ )4سَّل ٌم ِه َي َح َّت ٰى َمطل ِع الر ُ
َْ
الف ْج ِر(ِ .﴾)5
هذه السورة املدنية عند أكثر املفسرين -والتي قال بعض العلماء إنها أول سورة نزلت
باملدينة -يخبر هللا فيها بأمور عظيمة وبشارات كريمة ،يخبر هللا فيها أنه سبحانه وتعالى أنزل
القرآن في ليلة القدر ،فابتدأ نزوله في تلك الليلة املباركة في شهر رمضان املبارك الذي أنزل
فيه القرآن ،وهي في ثلثه اْلخير ،تلك الليلة الشريفة التي هي ليلة الحكم والتفصيل
والتقدير ،ففيها يفرق كل أمر حكيم ،فيها يقدر هللا عز وجل مقادير السنة التي تليهاُ ،ويعلم
املالئكة بذلك ،فشأنها شأن عظيم ،وهي ليلة ذات قدر وشرف عظيم وفضل كريم.
وهي ليلة قليلة الزمن فإنها ليلة في العام ،وإن ساعاتها سريعة االنصرام ،وعظم هللا شأنها
ََ ََْ َ َ َُ َْ
اك َما ل ْيلة الق ْد ِر﴾ فما أشعرك وما أعلمك ما ليلة القدر ،إن شأنها
بقوله﴿ :وما أدر
عظيم ،ومنزلتها جليلة ،وثمارها مباركة ،ومن عظم شأنها أنها خير للمؤمن من ألف شهر،
فهي تساوي في فضلها وأجورها وخيراتها وبركاتها للمؤمن ثالثا وثمانين سنة وثلثا ،فمن
أكرمه هللا عز وجل بإحسان العمل فيها كان كأنه قد عمل في ثالث وثمانين سنة وثلث
السنة من حيث ما يحصل له من اْلجور ومن حيث ما يحصل له من الخيرات والبركات،
ففيها خير كثير للمؤمن ال يوجد مثله في ألف شهر بل تزيد ،ليس منهن أو ليس فيهن ليلة
القدرِ .
فعمل املؤمن إيمانا واحتسابا خير له من العمل في ألف شهر ليس فيهن ليلة القدرِ .
ومن فضلها وشرفها ولفضلها وشرفها تهبط املالئكة من السماء إلى اْلرض أفواجا أفواجا
ويؤمنون على دعاء الناس ،ويحفظون العباد في تلك الليلة ،ومعهم أفضلهمفي تلك الليلةِّ ،
وأشرفهم جبريل عليه السالم ،ونزولهم بأمر ربهم سبحانه وتعالى ،ينزلون بكل أمر فيه خير
للمؤمنين ،وقد أبهم هذا الخير فهو مطلق عام يشمل أنواع الخيراتِ .
353
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
تلكم هللا الليلة املباركة ساملة للمؤمن من اْلذى ،فال يصيبه فيها إال خير ،حتى إن كتب
هللا عليه بالء في تلك الليلة فهو خير ال مصيبة ،فهي ساملة من كل خير ،واملسلم يسلم فيها
من وسوسة الشياطين كبارهم وصغارهم ،وهي سالم فيكثر فيها السالم ،يسلم املالئكة على
املؤمنين ،ويسلم املالئكة بعضهم على بعضِ .
تلكم الليلة من أول دخول الليل بدخول املغرب حتى يطلع الفجر كلها خير وبركة وسالم
للمؤمنينِ .
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ،ثم نعود إلى التفسير التفصيلي
لهذه اآليات العظيمات املليئة بالبشارات للمؤمنين واملؤمناتِ .
َّ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ
قال رحمه هللا تعالى :يقول تعالى مبينا لفضل القرآن وعلو قدرهِ ﴿ :إنا أنزلناه ِفي ليل ِة
َْ
الق ْد ِر﴾ِ ِ.
َّ َ ْ َ
﴿إنا أ َنزلن ُاه﴾ فاهلل عز وجل يعظم نفسه وهو العظيم سبحانه يقول ربنا سبحانه وتعالىِ :
َّ َ ْ َ
﴿إنا أ َنزلن ُاه﴾ الضمير هنا يعود إلى القرآن مع أنه لم يسبق له ذكر في السورة، وتعالىِ ،
وذلك جائز؛ ْلنه معلوم ،فإنه ال يمتري أحد وال يرتاب مسلم عندما يسمع هذه اآليات في
أن املقصود هو القرآن ،فلما كان معلوما بال مرية وال ريب وال شك جاز أن يعبر عنه
بالضمير مع عدم سبقهِ ِ.
َ َ َّ َ ْ َ
كما قال تعالىِ ﴿ :إنا أ َنزلن ُاه ِفي ل ْيل ِة﴾ مباركة ،وذلك أن هللا ابتدأ بإنزال القرآن في
رمضان في ليلة القدر ،ورحم هللا بها العباد رحمة عامة ال يقدر العباد لها شكراِ ِ.
ْ َّ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ْ َ
هذا القول اْلظهر وهللا أعلم في معنى قول هللا عز وجل ِ
﴿إنا أنزلناه ِفي ليل ِة القد ِر﴾ ،فإن
املعلوم أن القرآن نزل على محمدِصلى هللا عليه وسلم منجما في ثالث وعشرين سنة ،فما
َ َ َْ َّ َ ْ َ
﴿إنا أ َنزلن ُاه ِفي ل ْيل ِة الق ْد ِر﴾؟ ِ
معنى قول هللا عز وجلِ :
للعلماء قوالنِ :
القول اْلول :إن املعنى إنا ابتدأنا إنزاله على نبيناِصلى هللا عليه وسلم في ليلة القدر ،ثم
توالى إنزاله على محمدِصلى هللا عليه وسلمِ .
354
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
والقول الثاني :إن املراد أنه أنزل من اللوح املحفوظ جملة إلى السماء الدنيا وذلك في ليلة
القدر ،وقد جاءت رواية صحيحة عن ابن عباس رض ي هللا عنهما بهذا أن القرآن أنزل من
اللوح املحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر ،ثم نزل به جبريل عليه
السالم منجماِ .
ُ
ويمكن أن يكون املراد من اآلية اْلمرين ،فيكون القرآن أنزل من اللوح املحفوظ إلى السماء
الدنيا جملة في ليلة القدر ،ثم تكلم ربنا بالقرآن وسمعه جبريل من ربنا ونزل به منجما بأمر
هللا سبحانه وتعالى ،وابتدأ نزول جبريل على نبيناِصلى هللا عليه وسلمِبكالم هللا الذي تكلم
هللا به حقيقة وسمعه منه جبريل عليه السالم في ليلة القدر ،فنزلِ بما أمر به في تلك الليلة
على محمدِصلى هللا عليه وسلم ،وهو الذي قدمنا في املجلس السابق أنه اآليات الخمسة
اْلول من سورة العلق ،فنزل بها جبريل عليه السالم في ليلة القدر ،فال تنافي بين املعنيين
وهللا أعلمِ ِ.
قال رحمه هللا :وسميت ليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند هللاِ .
كما يقال لفالن قدر؛ أي :له فضل ومنزلة عاليةِ ِ.
قال :وْلنه يقدر فيها ما يكون في العام من اآلجال واْلرزاق واْلقادير القدريةِ ِ.
فهي من التقدير ،وهو الحكم والتفصيلِ .
وقال بعض العلماء :سميت بذلك ْلن للطاعات فيها قدرا كبيرا وأجرا كثيرا ،فسميت ليلة
القدر من أجل ذلكِ .
وقال بعض اْلفسرين :سميت بذلك ْلنه أنزل فيها القرآن فصارت ذات قدر من أجل
ذلك ،يعني :أنها صارت ذات شرف من أجل أنه أنزل فيها القرآنِ .
وقال بعض اْلفسرين :سميت بليلة القدر من القدر وهو التضييق؛ ْلنها ليلة ضيقة في
وقتها ،فهي ليلة من ليالي العام ،وساعاتها تمر سريعا على املؤمنين ،فهي ليلة ضيقة من هذا
الوجهِ .
355
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض اْلفسرين :إنها سميت بذلك من القدر الذي هو التضييق ،ولكن ْلن اْلرض
تضيق بساكنيها في تلك الليلة؛ ْلن املالئكة يتنزلون في تلك الليلة إلى اْلرض ،فتمتلئ اْلرض
باملالئكة ،فتضيق اْلرض في تلك الليلةِ .
وال مانع من الجميع ،فإن القرآن حمال أوجه ،وما دام أن اْلوجه املذكورة محتملة وال
تدافع بينها فإن اآلية تحمل على جميعها ،فليلة القدر من القدر بمعنى الشرف على اْلوجه
التي ذكرناها ،ومن القدر بمعنى التقدير ،ومن القدر بمعنى التضييق ،كلها مرادة في هذه
اآليةِ .
ََ ََْ َ َ َُ َْ
اك َما ل ْيلة الق ْدر﴾؛ أي:
قال رحمه هللا :ثم فخم شأنها وعظم مقدارها فقال﴿ :وما أدر
فإن شأنها جليل وخطرها عظيمِ ِ.
﴿و َما َأ ْد َ َ
اك﴾ إنما هو للتعظيم قال العلماء :هذا التكرار والذي يبدأ بقوله تعالىَ :
ر
اك﴾ فهذا تعظيم وتفخيم ،فعظم هللا شأنها ﴿و َما َأ ْد َ َ
والتفخيم ،فحيثما وجدت في القرآن َ
ر
ََ ََْ َ َ َُ َْ
اك َما ل ْيلة الق ْدر﴾ِ .بقوله سبحانه﴿ :وما أدر
اك﴾ ما أعملك وما أشعرك بفضل ليلة القدر؟ وذلك يدل على أن فضل ﴿و َما َأ ْد َ َ
ومعنى َ
ر
ليلة القدر كان مخبوءا ،فلم يكن يعلم به أحد ،ثم أعلم هللا به نبيناِصلى هللا عليه ِوسلم
تكريما لهذه اْلمة وتشريفا لهذه اْلمة ،فتلك الليلة كانت مخبوءة ْلمة محمدِصلى هللا عليه
وسلم ،كما أن يوم الجمعة كان مخبوءا ْلمة محمدِصلى هللا عليه وسلم ،فقول ربناَ :
﴿و َما
اك﴾ مشعر بهذاِ .َأ ْد َ َ
ر
صار معلوما وبينه هللا
وقد قال العلماء :كل ما قال هللا فيه وما أدراك لم يكن معلوما ثم ِ
سبحانه وتعالىِ ِ.
ََْ ُ ْ َ ْ ٌَْ ْ َْ َ
ف ش ْه ٍر﴾؛ أي :تعادل من فضلها ألف شهر فالعمل الذي يقع﴿ليلة القد ِر خير ِمن أل ِ
فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها ،وهذا مما تتحير فيه اْللباب وتندهش له
العقول ،حيث من تبارك وتعالى على هذه اْلمة الضعيفة القوة والقوى بليلة يكون
العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر عمر رجل معمر عمرا طويَّل نيفا وثمانين سنةِ ِ.
ملا كانت أعمار هذه اْلمة قصيرة بالنسبة لألمم فكانت أعمار أمة محمد صلى هللا عليه
356
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وسلم ما بين الستين إلى السبعين وقل من يجوز منهم ذلك ،أنعم هللا على اْلمة بأعمار إلى
أعمارها ،فكانت ليلة القدر تساوي ما يزيد على عمر املسلم في الغالب ،وهي ليلة واحدة في
كل سنة ،فإذا كان اإلنسان منذ أن بلغ في الخامسة عشر مثال وعاش إلى خمس وثمانين
سنة فإنه يكون في سبعين سنة في كل سنة يجد ليلة تساوي ما يقرب من عمره خمس
وثمانين سنة ،اضرب هذا في سبعين على املثال الذي ذكرناه ،فكم يكون كأنه قد عاش؟
عاش طويال من جهة البركة واْلجور والخيراتِ .
أنتم يا أمة محمدِصلى هللا عليه وسلم أمة مرحومة ،قد وسع هللا لكم أبواب الجنة
وأبواب الخيرات والحسنات ،ولذلك ال يهلك على هللا إال هالك ،ولذلك قال النبيِصلى هللا
عليه وسلم(( :كل أمتي يدخل الجنة إال من أبى))؛ ْلن هللا عز وجل قد وسع أبواب الخير
ْلمة محمدِصلى هللا عليه وسلم ،في كل سنة لك ليلة لو اجتهدت في عشر ليال اجتهادا
طيبا فإنك تفوز بتلك الليلة ،هذه الليلة التي هي في العشر اْلواخر من رمضان إذا اجتهدت
كما كان النبيِصلى هللا عليه وسلم يجتهد من أول دخول العشر إلى أن تخرج العشر فقد
أصبت ليلة القدر علمت أو لم تعلم ،وإذا أصبت ليلة القدر فقد فزت بأجور ثالث وثمانين
سنة وثلث ،فإذا أصبت ذلك في سنة وسنة وسنة وسنة كم من الحسنات العظيمة
تحصل ،لكن التقصير يحصل من العباد ،وإال ففضل هللا على هذه اْلمة عظيم ،ورحمة
هللا لهذه اْلمة عظيمةِ .
وقال بعض اْلفسرين :املراد باْللف شهر الدهر كله ،وليس املراد اْللف شهر بخصوصها،
قالوا :وهذه عادة العرب إذا أرادت أن تعبر عن الدهر عبرت باْللفَ ﴿ ،ي َو ُّد َأ َح ُد ُه ْم َل ْو ُي َع َّمرُ
َْ َ َ
ألف َسن ٍة﴾ [البقرة ]96 :ليس املقصود أنه يريد أن يعمر ألف سنة ،؛ يريد أن يعمر الدهر
كله ،يريد أن يخلد ،فقالوا عادة العرب إذا أرادوا أن يعبروا عن الدهر عبروا باْللف ،فهنا
املراد بالألف هو الدهر ،فهذه الليلة خير للعبد من أن يعيش الدهر كله بليلة هي لية من
رمضان ،وهذا عظيم فضل هللا على اْلمةِ .
وإن كان الظاهر من اللفظ هو اْلول ،وهو أن تلك الليلة تساوي ما يزيد على ثالث وثمانين
سنة وثلث في الخيرات والبركات ليس فيهن ليلة القدرِ .
357
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وسلم أفضل البشر وسيد ولد آدم أجمعين ،فإن جبريل عليه السالم أفضل املالئكة ،وقد
كان سيد البشر يحب لقاء سيد املالئكة ،كان النبي صلى هللا عليه وسلم وهو سيد ولد آدم
أجمعين ِيحب لقاء جبريل عليه السالم وهو أشرف املالئكةِ .
وح﴾ صنف من املالئكة هم أفضل املالئكة وأشرف املالئكة الر ُ وقال بعض اْلفسرينَ :
﴿و ُّ
وأقربهم إلى هللا ،يعني قالوا :الروح هنا ليس املراد به جبريل عليه السالم ،وإنما هم صنف
من املالئكة هم أشرف املالئكة ،وهم أقرب املالئكة إلى هللا ،فمن شرف تلك الليلة أن
أشرف املالئكة وأقرب املالئكة إلى هللا ينزلون إلى اْلرض في تلك الليلةِ .
وح﴾ هم جنود املالئكة الذين ينصر هللا بهم أولياءه ،فهم الر ُ وقال بعض املفسرينَ :
﴿و ُّ
الجنود من املالئكةِ .
الر ُ
وح﴾ هنا هي الرحمة؛ أي :تنزل املالئكة بالرحمة على عباد وقال بعض املفسرينَ :
﴿و ُّ
هللا ،وال شك أن املالئكة في ليلة القدر تتنزل بالرحمة على عباد هللاِ .
لكن اْلظهر وهللا أعلم أن املراد بالروح هنا جبريل عليه السالم ،فقد سمي جبريل عليه
السالم بالروح في عدد من اآليات ،فهذا هو اْلظهر ،فيكون جبريل عليه السالم ذكر في اآلية
مرتين ،كيف؟ ِ
َ َ ْ ََ َ ُ
ذكر أوال في قول هللا﴿ :تن َّز ُل اْلَّل ِئكة﴾ فإن جبريل عليه السالم من املالئكة ،ثم ذكر
الر ُ
وح ِف َيها﴾ِ . خصوصا في قوله سبحانه وتعالى َ
﴿و ُّ
ْ
﴿ب ِإذ ِن َرِب ِهم﴾؛ أي :بأمر ربهم سبحانه وتعالىِ .
ِ
ُ َْ
﴿ ِمن ك ِل أمر﴾ قال العلماء(ِ:من) هنا بمعنى الباء؛ أي :بكل أمر أمر هللا به لعباده في تلك
الليلة من الخيرات والبركات مما ال يقدر قدره إال هللا سبحانه وتعالى ،وهو هنا مبهم ،فهو
قدر زائد على ما علمناه من فضل ليلة القدرِ .
358
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
﴿ َسَّل ٌم ِه َي﴾؛ أي :ساْلة من كل آفة وشر وذلك لكثرة خيرهاِ .
ََ
﴿سَّل ٌم ِه َي﴾؛ أي :أنها ساملة من كيد الشياطين ،فال كيد للشياطين ِوقال بعض العلماء:
في تلك الليلةِ .
وقال بعض اْلفسرين :أي :سالم من املالئكة على الناس ،فهي ليلة السالم يكثر فيها
التسليم من املالئكة على عباد هللا املؤمنينِ .
ََ
﴿سَّل ٌم﴾؛ أي :سالم املالئكة على بعضهم حيث يلتقون عند وقال بعض اْلفسرين:
نزولهم ،فيسلم بعضهم على بعض ،وهم من الكثرة بمكان في تلك الليلة فال تخلو لحظة
من لحظات تلك الليلة من س ِالمِ .
َْ ْ َ
﴿ َح َّت ٰى َمطل ِع الف ْج ِر﴾؛ أي :مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجرِ .
ِفبركاتها وخيراتها من غروب الشمس إلى طلوع الفجرِ .
ِقال :وقد تواترت اْلحاديث في فضلها وأنها في رمضان وفي العشر اْلواخر منه خصوصا
في أوتاره ،وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة ،ولهذا كان النبي صلى هللا عليه وسلم
يعتكف ويكثر من التعبد في العشر اْلواخر من رمضان رجاء ليلة القدر وهللا أعلمِ .
ً
ِقال النبي صلى هللا عليه وسلم(( :من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم
من ذنبه)) متفق عليه ،فمن قام ليلة القدر إيمانا باهلل وإيمانا بفضل تلك الليلة،
ً
واحتسابا لذلك اْلجر موقنا بذلك فإن هللا يغفر له ما تقدم من ذنبهِ .
وقد جاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال(( :اعتكف النبي صلى هللا عليه وسلم العشر
اْلول من رمضان ،واعتكفنا معه ،فأتاه جبريل عليه السَّلم فقال :إن الذي تطلب
أمامك))؛ ْلن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يطلب باالعتكاف ليلة القدر(( ،فقال :إن
الذي تطلب أمامك ،فاعتكف العشر اْلواسط واعتكفنا معه ،فجاءه جبريل عليه
السَّلم فقال :إن الذي تطلب أمامك ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم :إنها في العشر
اْلواخر في وتر)) رواه البخاري في الصحيحِ .
فدل ذلك داللة بينة على أن ليلة القدر في العشر اْلواخر من رمضان ،فاهلل من رحمته
بهذه اْلمة دلها على أن ليلة القدر في العشر اْلواخر من رمضان؛ ْلنها لو أبهمت في العام
359
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
لقل طالبها وقل املجتهدون فيها ،فلما علمنا أنها ليلة من عشر ليال سهل على الناس أن
يجتهدوا في هذه العشر ِوأن يطلبوهاِ .
ثم إن هللا أبهم في أي ليلة من العشر وأطمع في كل ليلة ،فإذا نظرت إلى اْلدلة تجد أن
هناك أدلة تطمعك في كل ليلة من ليال العشر أنها هي ليلة القدر ،فإذا خلفت ليلتين من
العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة ثالث وعشرين ،فإذا خلفت أربع ليال من
العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة خمس وعشرين ،فإذا خلفت ست ليال من
العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة سبع وعشرين ،فإذا خلفت ثمان ليال من
العشر اْلواخر جاءك ما يطمعك أنها في ليلة تسع وعشرين أو في آخر ليلة من رمضان ،فال
تزال تترقى في طمع ما دمت في العشر اْلواخر ،ملاذا أبهم هللا هذه الليلة ولم يعينها لنا؟ ِ
قالوا رحمة بناِ :
أوال :ليتميز الصادق في طلبها ،فإنها إذا كانت في عشر ليال تبين الصادق املجد الذي
يحرص على طلبها باجتهاده في العشرِ .
واْلمر الثاني :لتزداد أجور املؤمنين ،فإنا إذا عملنا في العشر كلها أصبنا ليلة القدر ونلنا
تواب االجتهاد في بقية الليالي ،أصبنا أجر فضل ليلة القدر وأجور ليلة القدر ،وزادنا هللا
خيرا فوق هذا وهو أجور االجتهاد في بقية اللياليِ .
وبهذا يدرك املؤمن عظم رحمة هللا بهذه اْلمة ،وعظم فضل هللا عليه ،فينبغي علينا أيها
ِّ
اإلخوة أن نحمد هللا حمدا كثيرا أن جعلنا مسلمين من أتباع محمد صلى هللا عليه وسلم،
أن جعلنا من هذه اْلمة املرحومة ،وأن نغتنم اْلوقات الفاضلة في ما يقربنا إلى هللا سبحانه
وتعالى ،فإذا كان اإلنسان يا إخوة إذا جلس مجلسا لم يذكر هللا فيه يندم يوم القيامة،
ويكون هذا املجلس ترة عليه يوم القيامة ،وإذا كان يندم على سجدة تركها لم يسجدها هلل
مع قدرته ،فكيف بالتفريط في اْلوقات الفاضلة؟! كيف بمن يفرط في ليلة القدر وال يجتهد
في العشر اْلواخر ليصيبها؟! ال شك أنه سيندم ندما عظيما على هذا التفريط ،فال ينبغي
للمؤمن أن يعرض نفسه للندمِ .
360
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وبهذا نختم تفسير هذه السورة القصيرة العظيمة التي فيها البشارات الكريمة ،وأما الحكم
الكبرى والفوائد الكلية فهي في هذه السورة ظاهرة أهمهاِ :
-أن هذه اْلمة أمة مرحومة فتح هللا لها السبل إلى الجنة ،فينبغي على املؤمنين أن يحمدوا
هللا على هذا الفضل ،وأن يغتنموا اْل ِوقات الفاضلةِ .
ِِ
361
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة البينة
بسم هللا الرحمن الرحيم
م َُ َم مُ م َ َ َ ْ َْ ْ َ َ ْ َ ُ َّ َ َ َ ُ
اب َوٱْلش ِر ِكين ُمنف ِكين َح َّت ٰى تأ ِت َي ُه ُم ٱل َب ِينة ()1
﴿لم يك ِن ال ِذين كفروا ِمن أه ِل ال ِك ِ
ت
ُُ َ ٌ َ ُ ٌ َ َّ َّ َ ْ ُ ُ ً َ
ص ُحفا ُّمط َّه َرة (ِ )2ف َيها كت ٌب ق ِي َمة ([ ﴾)3البينةِ .]3-1 : رسول من الل ِه يتلوا
هذه السورة التي بين أيدينا لها عدة أسماء ،فتسمى سورة البينة ،وتسمى سورة لم يكن،
وتسمى سورة القيمة ،وتسمى سورة البرية ،وتسمى سورة أهل الكتاب ،وتسمى سورة
االنفكاك ،بكل هذه اْلسماء سمى العلماء هذه السورةِ .
وهذه السورة عند جمهور العلماء مدنية ،نزلت في هذه املدينة -في مدينة رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم ،-وفي الحديث ما يدل على ذلك ويؤكد أنها مدنية ،فعند الشيخين البخاري
أنس رض ي هللا عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ْلبي بن كعب: ومسلم من حديث ٍ
ْ ْ ْ َ َ ((إن هللا أمرني أن أقرأ عليكَ ﴿ :ل ْم َي ُكن َّالذ َ
ين َك َف ُ
اب﴾ فقال أبي: ِ ت ك
ِ ال لِ ه أ نمِ وار ِ ِ
أبي رض ي هللا عنه ،وعند أحمد وسماني؟ فقال النبي صلى هللا عليه وسلم(( :نعم)) ،فبكى ٌ
ْ َْ ْ َ ُ َ ْ َ ُ َّ َ َ َ
اب﴾ إلى ت ك
ِ ِ ِال له أ ن م ِ وار ف من حديث أبي حبة البدري أنه ملا نزلت﴿ :لم يك ِن ال ِذين ك
أبيا)) الحديث،آخرها قال جبريل عليه السالم(( :يا رسول هللا؛ إن هللا يأمرك أن تقرئها ًّ
ٌ
صحيح لغيرهِ . والحديث
فهذا الحديث عند اإلمام أحمد يبين أن إقراء النبي صلى هللا عليه وسلم ْلبي بن كعب
هذه السورة كان عند نزولها بأمر هللا عز وجل ،واملعلوم أن أبي بن كعب من اْلنصار فهو
مدني؛ فيدل ذلك على أن هذه السورة مدنية.
وفي هذه اآليات التي سمعناها ِّبين هللا عز وجل أن الذين كفروا من اليهود والنصارى
حيث حرفوا التوراة واإلنجيل وأشركوا باهلل ،واملشركين من غيرهم بشتى مللهم من ِّ
عباد
وعباد الكواكب وعباد النيران وغير ذلك لم يكونوا منتهين عن كفرهم وضاللهماْلصنام ِّ
حتى تأتيهم البينة التي تبين أن ما هم عليه باطل ،وذلك بزعمهمِ .
362
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
محمد صلى هللا عليه وسلم :إذا بعث هللا الرسول الخاتم
ٍ حيث كانوا يقولون قبل بعثة
فإنا نتبعه ،ونترك ما نحن عليه ،فأما اليهود والنصارى فإنهم كانوا يعلمون ذلك من كتبهم،
وأما غيرهم فإنهم كانوا يعلمون ذلك من أخبار اليهود والنصارى ،فكانوا يزعمون أنهم إذا
جاءتهم البينة سيتركون الكفر وما هم عليه ويتبعون الرسول ،أو أنهم لم يكونوا منتهين عن
كفرهم حتى تأتيهم البينةِ .
فلما أتتهم البينة تفرقوا في ذلك ،فمنهم من انتهى عن الكفر وآمن ،ومنهم من كفر عنادا
وجحودا بعد أن تبين له الحق بالبينة واستيقنت نفسه الحق.
محمد صلى هللا عليه وسلم قبل بعثته ،بل كانوا
ٍ كما أنهم لم يكونوا متفرقين في شأن
يصفونه بالصادق اْلمين ،فلما ُبعث صلى هللا عليه وسلم تفرقوا فيه ،فصدقه ٌ
قوم وقالوا:
إنه صادق صلى هللا عليه وسلم وآمنوا بهِ ،وكذبه قوم منهم وكفروا به ،ووصفوه بعكس ما
كانوا يصفونه قبل بعثته.
ٌ
محمد رسول هللا صلى هللا وتلكم البينة املوضحة للحق املظهرة للحق الدامغة للباطل هي
عليه وسلم ،الذي يتلو على الناس والجن القرآن من حفظه ،فلم يكن صلى هللا عليه
وسلم قارئا وال كاتباِ .
مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كر ٍام بررة ،وذلك
ٍ صحف مكرمة
ٍ والقرآن ك ِالم هللا كان في
صحف مطهرة من كل
ٍ محمد صلى هللا عليه وسلم ،ثم سيصير مجموعا في
ٍ قبل نزوله إلى
نقص ومن كل باطلِ .
تبديل ومن كل ٍٍ
ٌ
مكتوب فيها الحق العادل ،والطريق املستقيم الذي ال اعوجاج فيه ،ومن تلك الصحف
التزمه وصل إلى املطلوب ونجا من املرغوب؛ فالقرآن كالم هللا عز وجل فيه بيان كل ش يء،
ِّ ٌ
مركوز في كتاب ربنا سبحانه وتعالى ،وما من ِّ
وحذرنا منه في كتابشر إال ِ
ٍ خير إال وهو
ما من ٍ
ربنا سبحانه وتعالى على سبيل التفصيل أو على سبيل اإلجمالِ .
هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي لهذه اآليات ،ونعود إلى املعنى التفصيلي لها فنقرأ من
كتاب تفسير الشيخ السعدي رحمه هللا ونعلق على ما يحتاج إلى تعليقِ .
363
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
ْ َْ ْ َ َ
﴿ل ْم َي ُكن َّالذ َ
ين َك َف ُ
اب﴾ ،أي :من اليهود
ِ ت ك
ِ ال لِ ه أ نمِ وار ِ ِ والسامعين :يقول تعالى:
والنصارى.
اليهود والنصارى من حيث اإليمان والكفر على ثالثة أقسامِ :
ٌ
.1قسم آمنوا برسولهم الذي بعث إليهم وآمنوا بكتابه ،فهؤالء مسلمون على ٍ
دين
صحيحِ .
ابنا ،وأشركوا باهلل ما لم ِّ
ينزل به حرفوا التوراة واإلنجيل ،وزعموا أن هلل ً ٌ
وقسم َّ .2
ِ
سلط ًاناَّ ،
فبدلوا وغيروا وأشركوا ،وهؤالء َّ
كفارِ .
بمحمد صلى هللا عليه وسلم فلم يؤمن
ٍ يهودي أو نصراني سمع ِّ .3والقسم الثالث :كل
ٍ
كافر من أهل النار. به ،فهذا ٌ
ْ َْ ْ َ واملقصودون ب ﴿ َّالذ َ
ين َك َف ُ
اب﴾ هم أهل القسم الثاني والثالث فهم
ِ ت ك
ِ ال لِ ه أ ن م
ِ وار ِ ِ
ٌ
كفار من أهل النارِ .
َ مُ م َ
﴿وٱْلش ِر ِكين﴾ من سائر أصناف اْلمم.
املشركون من سائر أصناف اْلمم غير أهل الكتاب؛ سواء من كانوا يعبدون النيران ،أو
يعبدون الكواكب ،أو يعبدون اْلصنام ،أو يعبدون اْلحجار ،أو يعبدون البقر ،أو غير ذلك
فكلهم مشركون باهلل سبحانه وتعالىِ .
َُْ َ
﴿منف ِكين﴾ عن كفرهم وضَّللهم الذي هم عليه؛ أي :ال يزالون في ِ
غيهم وضَّللهم ال
يزيدهم مرور اْلوقات إال ً
كفرا.
َْ َ
﴿ ُمنف ِكين﴾ قال بعض اْلفسرين :أي :منتهين عن كفرهم وضاللهم بحسب زعمهم هم،
حيث كانوا يقولون :لن نترك ما نحن عليه حتى ُيبعث لنا الرسول الخاتم ،فإذا بعث
اتبعناهِ .
َْ َ
فمعنى ﴿ ُمنف ِكين﴾؛ أي :منتهين عن الكفر والضالل بحسب زعمهمِ .
364
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقال بعض أهل العلم :بل املعنى منتهين عن الكفر والضالل بحسب حقيقة حالهم ،لكن
للبينة وأسلم ،ومنهم من بان له الحق لكنه عاند وكابر وجحدَّ ، سلم ِّ َّ
فتفرقوا من ِ منهم من
بعد ما جاءتهم البينةِ .
َْ َ
وقال بعض املفسرين :معنى ﴿ ُمنف ِكين﴾؛ أي :منتهين عن االجتماع على الكفر ،فهم كانوا
ً
محمدا محمد صلى هللا عليه وسلم مجتمعين على الكفر والشركَّ ،
فلما بعث هللا قبل بعثة
ٍ
صلى هللا عليه وسلم تفرقوا ،فمنهم من آمن ومنهم من كفرِ .
َْ َ
وقال بعض اْلفسرين :معنى ﴿ ُمنف ِكين﴾ متروكين من غير إقامة الحجة عليهم ،فلم يكن
ً
هللا عز وجل ليتركهم سدى ،بل يرسل إليهم رسوال ويقيم عليهم الحجةِ .
وقال بعض اْلفسرين :هذه اآلية املراد منها توبيخهم ،والتعجب من حالهم كيف أنه قد
جاءتهم البينة التي تقتض ي منهم ترك الكفر ،ومع ذلك أبى أكثرهم إال كفورا ،فهذا توبيخ
لهم؛ ْلنهم تركوا الحق املبين ،ولزموا الكفر ،والذي يقتضيه املقام والحجة والعقل
والفطرة أن يتركوا ذلك الكفر إلى اإلسالم بتلك البينة العظيمة املظهرة للحق والدامغة
للباطلِ .
مُ م َ م َٰ َ َ م َ ُ َّ َ َ َ ْ
ين كف ُروا ِم من أ مه ِل ٱل ِكت ِب َوٱْلش ِر ِكينوقال بعض اْلفسرين :معنى اآلية﴿ :لم يك ِن ٱل ِذ
َ َ
ُمنف ِكين﴾ وإن أتتهم البينة ،فـ (حتى) هنا بمعنى (وإن) ،وإن أتتهم البينة فإن أكثرهم يصر
على الكفر وال يترك الكفرِ .
وكل هذه املعاني تصلح لها اآلية وال تنافر بينها ،فتحمل اآلية على جميع هذه املعانيِ .
م َ َ َم
﴿ح َّت ٰى تأ ِت َي ُه ُم ٱل َب ِينة﴾ الواضحة والبرهان الساطع.
البينة :هي املظهرة للحق ،كل ما يظهر الحق يسمى بينة ،ولذلك في الحديث(( :البينة على
اْلدعي))؛ فسمى الشهادة بينة؛ ْلنها تظهر الحق ،فالبينة هي املظهرة للحق ،وهي هنا
واضحة دامغة قاطعة تظهر الحق وتعليه ،وتدمغ الباطل وتكشفه وتعريهِ .
365
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ
قال :ثم فسر تلك البينة فقالَ ﴿ :ر ُسو ٌل َم َّن الل ِه﴾ أي :أرسله هللا يدعو الناس إلى
الحق ،وأنزل عليه كتاب يتلوه ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم ويخرجهم من الظلمات إلى
النور.
وهذا الرسول هو محمد صلى هللا عليه وسلم أشرف اْلنبياء واملرسلين وخاتم اْلنبياء
واملرسلينِ .
َّ
ُونكر هنا ﴿ َر ُسو ٌل﴾ مع أنه معين للتعظيم -لتعظيم شأنه صلى هللا عليه وسلم-؛ والتنكير
يأتي للتعظيمِ .
ً
وأيضا فيه فائدة أخرى من التنكير هنا وهي عموم رسالته صلى هللا عليه وسلم للجن
ً
جميعا كما أنه رسول للجن ،وهو صلى هللا واإلنس ،فهو صلى هللا عليه وسلم رسول للناس
عليه وسلم رحمة للعاملين ،رحمة للجن ورحمة لإلنس صلى هللا عليه وسلمِ .
َمُ ْ ُ ٗ َ ٗ
ص ُحفا ُّمط َّه َرة﴾ ؛ أي :محفوظة من قربان الشياطين ال يمسها إال ولهذا قال﴿ :يتلوا
اْلطهرون ْلنها أعلى ما يكون من الكَّلم.
َمُ ْ
﴿يتلوا﴾ أي :يسمعهم ما فيها من حفظه صلى هللا عليه وسلمِ .
ُ ً
ص ُحفا﴾ ،طيب القرآن لم ينزل صحفا؛ نزل على النبي صلى هللا عليه وسلم أنزله جبريل ﴿
عليه السالم ،جبريل سمعه من ربنا سبحانه وتعالى وأسمعه لنبينا صلى هللا عليه وسلم،
فقال املفسرون :املعنى أنه كان في صحف قبل نزوله ،وسيصير إلى صحف بعد نزوله؛ فهو
قبل نزوله كان في تلك الصحف التي بأيدي املالئكة ،وبعد نزوله سيجمع في صحف وهو
اليوم بين أيدينا في صحف ،نقرأه كأنما نزل على محمد صلى هللا عليه وسلمِ .
فاملقصود بالصحف هنا الصحف قبل النزول وهي التي في أيدي املالئكة ،والصحف بعد
نزوله حيث جمع فيها في زمن أبي بكر الصديق رض ي هللا عنه وأرضاهِ .
َ
وهذه الصحف ﴿ ُمط َّه َرة﴾ ؛ فال يقربها شياطين الجن وال شياطين اإلنس ،فال تبديل ملا
َّ َ
فيها وال نقص ،وال يأتيها الباطل أبدا ،بل هي محفوظة بحفظ هللا سبحانه وتعالىِ ﴿ :إنا ن ْح ُن
366
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ْ َ َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َ َّ ْ َ
مطهرة من كل دنس ،مطهرة من التغيير والتبديل،
ِ افظون﴾ ؛ فهي الذكر و ِإنا له لح ِ
نزلنا ِ
ومطهرة من الباطل فليس فيها إال الخيرِ .
ُُ َ ٌ
قال :ولهذا قال عنها ﴿ ِف َيها﴾ أي :في تلك الصحف ﴿كت ٌب ق ِي َمة﴾ أي :أخبار صادقة
وأوامر عادلة تهدي إلى الحق وإلى الطريق اْلستقيم.
فإذا جاءتهن هذه البينة فحين إذن يتبين طالب الحق ممن ليس له مقصد في طلبه،
فيهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة.
ُُ َ ٌ
﴿ ِف َيها كت ٌب ق ِي َمة﴾ ؛ قال العلماء :كتب هنا بمعنى مكتوب؛ املكتوب فيها قيمةِ .
الكتب وهو القضاء والحكم ،فليس وقال بعض أهل العلم :معنى كتب هنا اْلحكام من ْ
ُُ َُْ ُ ً َ
ص ُحفا ُّمط َّه َرة (ِ )2ف َيها كت ٌب املراد بالكتب هنا الصحف؛ ْلنه إذ ذاك يكون تكرارا ﴿يتلوا
َ ٌ
ق ِي َمة﴾؛ فلو كانت الكتب هنا بمعنى الصحف لكان ذلك تكرارا ،والتأسيس أولى من
التأكيد ،واملعنى الجديد أولى من التكرار ،ولهذا قال العلماء :املكتوب فيها قيم مستقيم
عادل ال اعوجاج فيهِ .
وقال بعض أهل العلم :الذي فيها أحكام كتبها هللا على بني آدم قيمة ال عوج فيها بل هي
صراط مستقيمِ .
َّ ُ ْ َُ َ َ َ َ َّ َ َّ َ ُ ُ ْ َ َ َّ
اب ِإال ِمن َب ْع ِد َما َج َاء ْت ُه ُم ال َب ِينة (َ )4و َما أ ِم ُروا ِإال ِل َي ْع ُب ُدوا ﴿وما تفرق ال ِذين أوتوا ال ِكت
َّ َ َ َ َ َ ُ ْ َٰ َّ َ َ ْ ُ الل َه ُم ْخلص َين َل ُه الد َ
ين ُح َن َف َاء َو ُيق ُ َّ
ين الق ِي َم ِة (﴾)5 الصَّلة َو ُيؤتوا الزكاة ۚ وذ ِلك ِد يموا ِ ِ ِ ِ
[البينة.]5-4 :
في هذه اآليات يبين هللا عز وجل أن أهل الكتاب ومن كان تابعا لهم من املشركين إنما
تفرقوا ملا جاءهم محمد صلى هللا عليه وسلم بالبينة ،فآمن به بعضهم ،وكفر به آخرون،
وخالفوا ما كانوا يزعمون من أنهم إذا بعث الرسول الخاتم سيتبعونهِ .
وكفرهم هذا إنما هو بعد بيان الحقُّ ،
وتبي ِن الحق لهم ،فهو كفر وجحود بعد أن تيقنوا
الحق وعلموا الحق؛ بعد ما جاءتهم البينة الواضحة الظاهرة املظهرة للحق والقاسمة
للباطل ،وليس هذا بغريب على أهل الكتاب ،فإنهم تفرقوا في دينهم الذي جاء به أنبياءهم
367
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وحرفوا وبدلوا واختلفوا وأشركوا باهلل عز وجل ،فتفرقوا واختلفوا من بعد ما السابقونَّ ،
جاءهم البيناتِ .
ُ
﴿ َو َما أ ِم ُروا﴾ أي :وما أمر الناس جميعا من لدن آدم عليه السالم إلى أن يرث هللا اْلرض
ومن عليها على لسان جميع اْلنبياء عليهم السالم إال بالتوحيد الخالص املتفق مع الفطرة
السوية؛ فما أرسل هللا رسوال إال أوحى إليه أنه ال إله إال أنا فاعبدون ،وكل أمة مأمورة بأن
تعبد هللا وحده وأن تجتنب الطاغوت ،وما جاءهم محمد صلى هللا عليه وسلم إال بذلك،
فما أمروا إال بعبادة ربهم مخلصين له الدين ومائلين عن سائر اْلديان إلى دين اإلسالم وعن
الشرك إلى التوحيد ،وبإقامة الصالة ،فأمروا أن يعبدوا هللا بأبدانهم ،وأشرف عبادات
البدن هي الصالة ،وبإيتاء الزكاة فأمروا أن يعبدوا هللا بأموالهم ،وأشرف عبادات املال هي
الزكاة؛ ومن آمن وأقام الصالة وآتى الزكاة فقد حافظ على دينه ،وكان على بقية شرائع
الدين أحرصِ .
وذلك الدين الذي أمروا به هو الدين القيم املستقيم ،وامللة العادلة القائمة ،وهو دين
اْلمة الوسط املعتدلة املستقيمة على صراط هللا سبحانه وتعالى ،وهي بعد بعثة النبي صلى
هللا عليه وسلم أمة محمد صلى هللا عليه وسلم التي جعلها هللا عز وجل أمة وسطاِ .
نعود إلى التفسير الـتفصيلي لهذه اآلياتِ .
قال رحمه هللا :وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بهذا الرسول وينقادوا له فليس ذلك ببدع
من ضَّللهم وعنادهم ،فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابا إال من بعد ما جاءتهم
البينة التي توجب ْلهلها االجتماع واالتفاق ،ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم لم يزدهم الهدى
إال ضَّلال وال البصيرة إال عمى ،مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد ودين واحد.
َ َ َ َ َ َّ َق َّ َ ُ ُ ْ َ
فإن قال قائل :ملاذا قال هللا عز وجل هنا﴿ :وما تفر ال ِذين أوتوا ال ِكتاب﴾ ولم يذكر
َ ْ َ ُ َّ َ َ َ
ين كف ُروا ِم ْن املشركين مع أنه سبحانه وتعالى قال في مفتتح السورة قال﴿ :لم يك ِن ال ِذ
ُْ ْ َ َْ ْ َ
اب َواْلش ِر ِكين﴾ ؟ ِ
أه ِل ال ِك ِ
ت
368
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
تبع ْلهل الكتاب في هذا؛ فإن أهل الكتاب كانوا يعرفون ببعثة قال العلماءْ :لن املشركين ٌ
املشركون فكانوا يعرفون ببعثة النبي صلى هللا
النبي صلى هللا عليه وسلم من كتبهم ،وأما ِ
عليه وسلم من خالل أهل الكتاب؛ من خالل أخبار أهل الكتاب ،فهم ٌ
تبع لهم ،كما أن
ِّ الح َّجة؛ ولذلك ُخ ُّ
أهل الكتاب قد قامت عليهم ُ
صوا بالذكر هناِ .
ِّ
هنا بعض أهل العلم يقولون :هذه اآلية مرتبطة باآلية اْلولى ،فيكون املعنى :لم يكن الذين
الب ِِّي َنة كفروا من أهل الكتاب واملشركين منتهين عن كفرهم ِّ
حتى تأتيهم ِّ
البينة؛ وقد جاءتهم َ
تفرقوا؛ فمنهم َمن ِّ ُّ
انفكوا عن كفرهم؟ كان الجواب :ال؛ وإنما ِّ
انفك عن الكفر ،ومنهم فهل
ً َمن ِّ
أصر على الكفر؛ فتكون هذه اآلية مرتبطة باآلية اْلولىِ .
فما أمروا في سائر الشرائع.
َ ُ
ً
جميعاِ . ﴿و َما أ ِم ُروا﴾؛ أي :الناس
َ ُ َ َ َّ َ ُ ْ ُ ُ ْ َ َّ ُ
الدين﴾؛ أي :قاصدين بجميع ﴿إال ِليعبدوا الله مخ ِل ِصين له ِ فما أ ِمروا في سائر الشرائع ِ
عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه هللا وطلب الزلفى لديه.
ً ً ِّ
جميعا في جميعا؛ اْلنبياء عليهم السالم وهذا قد اتفق عليه اْلنبياء ،وبدأ به اْلنبياء
دعوة تخلو من تعظيم التوحيد والدعوة ٍ دعوتهم يبدأون بالدعوة إلى التوحيد؛ ولذلك كل
ً ً ً
إلى التوحيد فهي ليست على َسنن اْلنبياء ،وليست دعوة شرعية ،وليست دعوة نافعة
ً
ناجعة ،مهما دعا الناس إلى اْلخالق وأغفلوا التوحيد؛ فإنهم ال يصنعون شيئا ،كل ٍ
خير
ُ
مفتاحه التوحيد؛ فإذا ف ِقد املفتاح فلن ُيفتح الخيرِ .
ً
جميعا الدعوة متفقة على الدعوة إلى التوحيدُ ،ومفتتح دعوة الرسل جميعا ِّ
ً دعوة اْلنبياء
قوم مشركين؛ فدعاهم ِّ
إلى التوحيد ،وحبيبنا ونبينا وإمامنا صلى هللا عليه وسلم جاء إلى ٍ
إلى التوحيد ،وبدأ بدعوة التوحيد؛ فنفر أكثرهم ،فلم يثنه ذلك عن الدعوة إلى التوحيدِ .
ً
مشروعا -أن يدعوهم إلى محاسن وكان يستطيع صلى هللا عليه وسلم -لو كان هذا
ُُ ِّ
يؤخر الدعوة إلى التوحيد ،والنبي صلى هللا عليه وسلم هو الذي على الخلق اْلخالق ،وأن
369
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً
جميعا ،ولكنه صلى هللا عليه وسلم العظيم الكريم ،ولو دعاهم إلى ُحسن اْلخالق ْلجابوا
دعاهم إلى التوحيدِ .
فلما نفروا ثبت على الدعوة إلى التوحيد صلى هللا عليه وسلمَ ،ومن يقتدي بالنبي صلى هللا
ً ِّ
عليه وسلم في دعوته ينبغي عليه أن ُيعظم شأن التوحيد ،وأن يجعل دعوته ُمفتتحة
قتديا ِّ ً
وقائمة على الت ِوحيد ُم ً
بنبيه صلى هللا عليه وسلم وبسائر اْلنبياء عليهم بالتوحيد،
السالمِ .
نفاء﴾؛ أيُ :معرضين مائلين عن سائر اْلديان اْلخالفة لدين التوحيد.
﴿ح َ ُ
إلى دين اإلسالم ،ومائلين عن الشرك إلى التوحيد؛ وهذا شأن أهل االستقامة يميلون عن
ٌ الشرك ،وحيثما علم أحدهم أن اْلمر ٌ
شرك لم تدعه عادة قديمة ،وال فعل اآلباء واْلمهات
مسك بذلك الشرك؛ بل يبادر إلى التخلص من الشرك ،وامليل إلى توحيد رب العاملين إلى ِّ
الت ِّ
سواء كان ذلك من الشرك اْلكبر أو كان من الشرك اْلصغرِ . ً
ً
وجلُ ،ويعبد
عز ِّ بيئة ُيدعى فيها غير هللا َِّ
وأضرب لكم مثاال :إن بعض املسلمين نشأوا في ٍ
وبين أهل الحق أن الحجةِّ ،ِّ أصحاب القبورُ ،وينذر لهم ،وتقدم إليهم القرابين؛ فإذا جاءت
هذا من الشرك اْلكبر ،وأن هذا ُيغضب هللا سبحانه وتعالى ُوب ِّين التوحيد؛ تجد املؤمن
الراغب في االستقامة يترك ما نشأ عليه ويهجره ويباعده إلى توحيد رب العاملينِ ،وأما في
الشرك اْلصغر فهناك من املسلمين من نشأ على الحلف بغير هللا كالحلف بالنبي ،والحلف
باْلمانة ،والحلف برأس اْلب ،وبرأس اْلم ،فإذا ُب ِّين له أن هذا من الشرك والكفر وأن النبي
صلى هللا عليه وسلم قالَ (( :من حلف بغير هللا فقد كفر أو أشرك)) وإن كان هذا من
ِّ
الشرك اْلصغر الذي ال يخرج من امللة؛ فإنك تجده يترك هذا وينفر منه ،ويلزم ما أمر به
خاصة ،وعدم الحلف بغير وجل ِّ النبي صلى هللا عليه وسلم من التوحيد بالحلف باهلل َّ
عز ِّ
هللا سبحانه وتعالىِ .
َّ
عب ُدوا الل َه
قال رحمه هللا :وخص الصَّلة والزكاة بالذكر مع أنهما داخَّلن في قوله﴿ :ل َي ُ
ِ
ين﴾؛ لفضلهما وشرفهما وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام صين َل ُه الد َ
َ
خل ُ
م ِ
بجميع شرائع الدين.
370
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
371
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
372
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قبله ،فيرضون بجزائهم من ربهم ،ويزداد رضاهم عن ربهم سبحانه وتعالى ،ويزيدهم هللا عز
فيحل عليهم رضوانه حيث يقول سبحانه وتعالى ْلهل الجنة :يا أهل الجنة؛ وجل نعيماُ ،
فيقولونِ :لبيك ربنا وسعديك ،فيقول سبحانه وتعالى :هل رضيتم؟ ما أرحم هللا! وما أكرم
هللا سبحانه وتعالى! يقول ْلهل الجنة :هل رضيتم؟ فيقولونِ :وما لنا ال نرض ى وقد أعطيتنا
أحدا من خلقك ،فيقول سبحانه :أنا أعطيكم أفضل من ذلك ،فيقولون ما لم تعط ً
ِ
مشتاقين ال منكرين :يا ربنا أي ش يء أفضل من ذلك؟ هم مصدقون ما أخبرهم به ربهم،
لكنهم اشتاقوا إلى معرفة ما هو أفضل من ذلك النعيم الذي هم فيه ،فيقول سبحانه
وتعالى :أحل عليكم رضواني فال أسخط عليكم بعده أبدا ،فيعظم نعيمهم ،ويتم نعيمهم
حيث أنهم أمنوا من زوال ذلك النعيم ،وأمنوا من زوالهم عن ذلك النعيم ،فال موت وال
فوت وال ملل وال خروج من الجنة ،وأمنوا سخط املالك لذلك النعيم ،فأعطوا رضوانه
سبحانه وتعالى ،فال منغص لهم في نعيمهم ،بل نعيمهم في الجنة نعيم تامِ .
وتلك الخيرية العظيمة والجزاء العظيم إنما هي ملن خش ي ربه الذي خلقه ورباه بالنعم،
ً ً
مقترنا بالتعظيم والرهبة من هللا عزوجل، وبعث له الرسل ،فعلم شأن ربه وخاف خوفا
ً
اهبا لربه سبحانه وتعالى ،فكانت تلك الخشية دافعة له إلى معظما ر ً
ً فكان عاملا خا ًئفا
منيعا في قلبه عن الشهوات املحرمة والوقوع فيما حرم ً
حصنا ً املسارعة في الخيرات ،وكانت
ِّ
هللا ،وإذا زلت القدم ووقع صاحبها فيما حرم هللا دعته خشيته لربه إلى الرجوع إلى ربه
واإلنابة إلى بهِ ،والتوبة من ذنبه؛ فمن رزق الخشية رزق ِّ
الجنةِ . ر
عز وجل بأسمائه يتعرف إلى ربه ،وأن يعرف هللا ِّ
وطريق هذه الخشية أن يتعلم املسلم وأن ِّ
ً ً
مقترنا بتعظيم ربه سبحانه وتعالى ،وبالرهبة من وصفاته وبآياته؛ فيثمر ذلك في قلبه خوفا
ربه سبحانه وتعالىِ .
ً
جميعا بجنته ،وأن يجعلنا ووالدينا عز وجل أن يرزقنا خشيته ،وأن يكرمنا فنسأل هللا ِّ
النار ،وكتبهم من أهل ِّ
الجنانِ . وأحبابنا ممن أعتق قابهم من ِّ
ر
373
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه اآليات ،ونرجع إلى التفسير التفصيلي ،ونقرأ
عز وجل ونعلق علىما سطره اإلمام الفقيه املفسر اْلصولي املتفنن ابن سعدي رحمه هللا ِّ
374
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
عندهم من قوة دنيوية ،فهم لكفرهم أشر من البهائم وأشر الخليقة ،وكذا في اآلخرة فإنهم
أشر الخليقة ملا تقدم من جزائهمِ .
َ ْ َّ َ ُ َ ٰ َّ َّ َ َ ُ َ َ ُ
ات أولـ ِئ َك ُه ْم خ ْي ُر ال َب ِرَّي ِة﴾ ْلنهم عبدوا هللا وعرفوه ح
ِ ِ الالص وا ل﴿إن ال ِذين آمنوا وع ِم
ِ
وفازوا بنعيم الدنيا واآلخرة.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير الخليقةِ .
ََ
ومن هنا ذهب جمع من العلماء إلى أن املؤمن من البشر خير من امللك ،واملسألة ال يترتب
عليها ش يء ،ومعروفة عند أهل العلم ،لكن من أدلة القائلين إن املؤمن الصالح خير من
َ
امللك هذه اآلية ،فاملؤمن الصالح خير الخليقةِ .
الجزاء
وتلحظ هنا أن هللا في شأن املؤمنين قدم الثناء على الجزاء ،وفي شأن الكافرين قدم ِ
على الذم ،وسبب ذلك قال العلماء :إن ثناء هللا على املؤمنين أعظم من جزائهم ولذلك
ُ
قدم الثناء على الجزاءِ .
وجه آخر أن الثناء على املؤمنين في الدنيا واآلخرة ،فهم خير الخليقة في الدنيا وفي
ومن ٍ
اآلخرة ،وأما الجزاء فإنه في اآلخرة ،ومن هنا قدم هللا عز وجل الثناء على املؤمنين على
جزاءهمِ .
َّ ُ ﴿ج َز ُاؤ ُه ْم ع َ
لغاية
ٍ إقامة ال ظعن فيها وال رحيل وال طلب
ٍ ند َرِب ِه ْم َجنات َع ْد ٍن﴾ أي :جنات ِ
َ
فوقهاِ .
ِ
َّ ُ ﴿ َج َز ُاؤ ُه ْم ع َ
ند َرِب ِه ْم َجنات﴾ فهي ليس جنة واحدة ،بل هي جنات كثيرة اْلشجار ،عظيمة ِ
الظاللِ .
﴿ َع ْد ٍن﴾ العدن هي اإلقامة الدائمة ،فهي جنات إقامة دائمةِ .
وقد تضمن هذا أن املؤمن في الجنة يرض ى بالنعيم الذي هو فيه ،وال يطلب االنتقال عنه،
فمع أن أهل الجنة درجات إال أن كل مؤمن في الجنة يقنع بالدرجة التي هو فيها ،وال يطلب
االنتقال عنهاِ .
375
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ولذلك يقول العلماء :التفاضل في درجات الجنة تفاضل في كمال النعيم ال يستلزم
ً
نقصا ،وهذا كثير مثل التفاضل في كالم هللا عز وجل ،فإنه تفاضل في الكمال ال يستلزم
نقصا ،فاملؤمن إذا دخل الجنة ورزق الدرجة التي قسمت له في الجنة يقنع بالنعيم الذي ً
ً ُ
تحوال عنهاِ .
ِ أعطيهُ ،ويقيم في تلك الدرجة وال يطلب
َ َ َ َ ً َّ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َر ُ َ ْ َ َْ َ َ
﴿ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت َها اْل ْن َه ُار خ ِال ِدين ِفيها أبدا ر ِض ي الله عنهم و ضوا عنه﴾ فرض ي عنهم بما
ُ
قاموا به من مراضيه ،ورضوا عنه بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل اْلثوباتِ .
املؤمنون في الجنة يرضون بجزاء أعمالهم ،بل يعلمون أنهم إنما دخلوا الجنة بفضل هللا ال
بأعمالهم ،ونالوا درجاتهم في الجنة بحسب أعمالهم ،فيرضون بجزائهم في الجنة ،ويزداد
رضاهم عن ربهم ،فإن املؤمن يرض ى عن ربه ويكتمل رضاه عن ربه في الجنة -أسأل هللا أن
جميعا من أهلها ،-ويرض ى عنهم هللا ُويحل عليهم رضوانه فيأمن ِون ً يجعلنا ووالدينا وأحبابنا
الله سبحانه وتعالى ،وهذا أفضل لهم من ُكل نعيم ِّ ِّ
الجنة الذي ينالونهُ ،ويكرمهم سخط
ِّ
الله عز وجل باْلعظم واْلفضل ،وهو النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.
َ َ َٰ
﴿ْل ْن خ ِش َي َرَّب ُه﴾ أيْ :لن خاف الله فأحجم عن معاصيه وقام ِ الحسن الجزاء ﴾ ﴿ذل َ
ك ِ
بما أوجب عليه.
بني على العلم ،ومن ُرزق الخشية هيبة وتعظيم َم ٌ الخشية خوف خاص؛ فهي خوف مع ٍ
َ َ َ
الجنة لهذه اآلية﴿ :ذ ِل َك ِْل ْن خ ِش َي َرَّبه﴾ِ . ُرزق َّ
َ
وينبغي على املؤمن أن يسعى في تحصيل هذه الخشية ِببذل أسبابها ،ومن أعظم أسبابها
بالله عز وجل بمعرفة أسمائه وصفاته ،ومن أسبابها أن ُي َ َّ
ربي اإلنسان نفسه على العلم
َّ َّ َّ ً ُ َ َّ ُ
بأن الل َه يراه اشتد إخالصه ،وذكر نفسه َّ دائما ،وكلما أراد طاعة الل َه ً املراقبة فيراقب
ِّ َّ
لربه وذكر نفسه ِّأن الله يراه اشتدت ُمراقبته ِّ
ِ
َّ همت نفسه باملعصية ويسمعه ،وإذا َّ
َ الخشية في القلب ُوت ِّ َ ُ ُ
قوي الخشية في القلبِ . ِ نتج ت اقبة ر
ِ ويسمعه؛ فهذه امل
ُ ِّ الله َِّّ
كأنه يرى الله ،فإن لم يكن ومن أسبابها أن َيحرص العبد على اإلحسان بأن َيعبد ِ
ِّ ِّ ِّ
يقين من َّأن الله عز وجل سبحانه َيراهِ . ٍ على وهو ه الل يعبد ه فإن كذلك
376
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ
وبهذا نكون ختمنا تفسير هذه السورة ،ونختم كالمنا عنها ببعض الفوائد العظمى ِ
والحكم
ُ
الكبرى ِمن هذه السورةِ :
َّ
والسنة ُيؤدي إلى التمسك بالكتاب ُّ العظمى :أن فمن تلك الفوائد الكبرى والحكم ُ
ِ
ِّ بالبينة ِّ فالتمس ُك ِّ
والوحي كتاب الله ُّ ُّ
الوحي، التي هي ِ ِ
ُّ التفرق املذموم، ُّ االجتماعَ ،ويدفع ِ
َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ ُ َّ َ َّ َّ ُ َ َ ْ َ َ َّ َّ
ومثله الل ِه صلى الله علي ِه وسلم ،فالنبي صلى الله علي ِه وسلم أوتي القرآن ِ وسنة رسول ِ
االجتماع الحقيقي ،فال اجتماع مشروع ،وال اجتماع نافع، معه ،فالتمسك ِّ
بالبينة هو سبب ِ ِ
َّ اللهِّ ، َّ َّ
والسنة ،والتم ِّسك بالبينة ،بالكتاب ِ بالتمسك بحبل ِ ُّ وال اجتماع على وجه حقيقة إال
التفرق املذمومِ . ُّ َّ
والسنة َيدفع بالكتاب
ىَّ :أن االجتماع على الحق هو االجتماع الشرعيَّ ، ُ
وأن ما عداه ومن فوائد هذه السورة الكبر ِ ِ
تفرق ،فاالجتماع املحمود واالجتماع املطلوب هو االجتماع على الحقِ . ُّ
َّ ُ
والسنة ومن فوائد هذه السورة الكبرىَِّ :أن سبب ا ِالفتراق في اْلمة مع ُوجود الكتاب
َّ
والسنةِ . والطائفة املنصورة َّإنما هو اْلهواء وعدم االهتداء الصادق بالكتاب
ِّ َّ َّ َ
التفرق الذي ُيوجد في أمة محمد صلى الل ُه َعل ْي ِه َو َس ِل ْـم مع َّأن أسباب االجتماع
ُّ سبب هذا
والسنة موجودون ُ
وهم َّ والسنة موجودة ،والقائمون بالكتاب َّ موجودة ،فالكتاب موجود،
سببه اْلهواء ،وعدم الدين في هذه اْلمة ُ تفر ًقا في ِّ
الطائفة املنصورة ،ومع ذلك نرى ُّ
ِ
والسنةِّ ، َّ تزعم َّأنها تهتدي بالكتاب
كل الف َرق ُ َّ
ولكن االهتداء الصادق بالكتاب والسنةِ ُّ ،
َّ َّ
والسنة سبب الشأن كله في الصدق في هذا االهتداء ،فعدم الصدق في االهتداء بالكتاب
ِّ
التفرق املذمومِ . لهذا
من فوائد هذه السورة الكبرىَِّ :أن الكفر ينحط بصاحبه عن درجة ُحسن ِاإلنسان حتى
َّ
الل ُه ِّ
عز ِّ
وجل يصير أسوأ من البهائم؛ َّأن الكفر ينحط بصاحبه عن درجة ُحسن اإلنسان،
ولكن الكفر ينحط بصاحبه عن هذه الدرجة حتى ُيصبح خلق اإلنسان في أحسن تقويمَّ ،
377
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِّ
وأصل املدح إنما هو باإليمانَّ ،أن َ َّ ِّ
الرفعة الحقيقية
من فوائد هذه السورة العظمى :أن ِ
ِّ وأن َ الرفعة الحقيقية في الدنيا واآلخرة َّ ِّ
أصل مدح اإلنسان إنما هو باإليمان ،ولذلك يخطئ ِ
ُّ شنيعا َمن يمدح َّ
ُ
فأصل املدح الكفار ِمن أجل الدنيا ويذ َم املؤمنين من أجل الدنيا؛ ً خطأ
القرب ُ والذم بحسب ُ َّ ُ
والبعدِ . يحصل لإلنسان من املدح وشرطه هو اإليمان ،ثم
التفاوت في الخيرية بين املؤمنين في الدنيا واآلخرة ٌّ
مبني ُ من فوائد هذه السورة العظمىَّ :أن
الله ِِّّ ُ
الرفعة في الدرجة في الدنيا التفاوت في اإليمان والعمل الصالح ،فإذا أردت يا عبد على
أجل أعمالك الصالحة اْلخالق واآلخرة فعليك باالجتهاد في إيمانك وأعمالك الصالحة ،ومن ِّ
ِ
وح ً وصالحا في اْلعمال ُ
ً وكلما ازددت َِّّ
سنا قوة في اإليمان الحسنة الصالحة ،اجتهد في هذا،
في اْلخالق كلما ازددت رفعة عند هللا وعند املؤمنينِ .
فاحرص رعاك هللا على إكرام نفسك بهذا اْلمر ،وإياك والتوقف ،فمهما بلغت من خير
فسارع إلى خير أعظم ،واجتهد في تحصيل ذلك لتكون من أهل املراتب العليا في الدنيا
واآلخرةِ .
وبهذا نختم الكالم عن سورة البينة ِ
ِ
ِ
ِِ
378
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الزلزلة:
بسم هللا الرحمن الرحيم
ََ َ ْ َ ُ َ
نسان َما ل َها ()3 اإل ال قو ) 2 ( اهض َأ ْث َق َال َ ََ ْ َ َ َْ
اْل ْر ُ ت ِ ج رخ أو ) 1 ( اهَ َ ُْ َ ْ َْ ُ ْ َ َ
ال﴿إذا زل ِزل ِت اْلرض ِزلز
ِ ِ
َ
َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ ُ ْ َ ً َ َ َ َ
ُ ُ ْ
اس أشتاتا ِل ُي َر ْوا َي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث أخ َبا َر َها (ِ )4بأ َّن َرَّب َك أ ْو َح ٰى ل َها ( )5يوم ِئ ٍذ يصدر الن
ُ َ َ ًّ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َّ َ ُ َ َ ً ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ َْ َ
أعمالهم ( )6فمن يعمل ِمثقال ذر ٍة خيرا يره ( )7ومن يعمل ِمثقال ذر ٍة شرا يره (ِ .﴾)8
هذه السورة اختلف العلماء من السلف والخلف هل هي مكية أو مدنية؛ واْلقرب وهللا
أعلم أنها مكيةِ .
وفي هذه السورة يخبر ربنا سبحانه وتعالى عما يكون عند قيام الساعة ،وذلك إذا تحركت
اضطرابا شديدا ،وذلك عند النفخة اْلولى في
ِ اْلرض من باطنها حركة شديدة واضطربت
الصور ،وأخرجت اْلرض ما في باطنها من املقبورين والكنوز وغيرها ،فخرج الناس من
قبورهم يتمايلون كأنهم سكارى وما هم بسكارىِِ .
وعند ذاك يقول الناس :مال لألرض تغيرت أحوالها فاضطربت بعد أن كانت مستقرة،
وأخرجت ما في باطنها وكشفته بعد أن كانت ساترة له؟ ِ
وفي يوم الحساب تحدث اْلرض بأخبارها ،وتشهد على أهلها بما صنعوا عليها من خير أو
شر ،فويحك أيها اإلنسان؛ كيف تجرؤ على معاص ي هللا سبحانه وتعالى إذا خلوت بها وهللا
عز وجل يراك ويسمعك ويشهد عليك وكفى باهلل شهيدا؟! واملالئكة تكتب عليك وتشهد
عليك ،وجوارحك تشهد عليك ،واْلرض التي أنت عليها تشهد عليكِ .
وتحديث اْلرض بأخبارها وشهادتها على أهلها إنما هو بإذن هللا عز وجل لها ،وأمره لها
بذلك ،فعند ذاك تتكلم وتشهد على أهلها وعند ذلك يكون الناس أصنافا في الحساب ليروا
أعمالهمِ .
فمن الناس من يكرمه هللا عز وجل فال يحاسب؛ فيدخل الجنة بغير حساب وال عذاب،
ُ ُ ُ َّ
أولئك خلص املؤمنين الذين عظم توكلهم على هللا عز وجل ،وخلص توكلهم على ربهم
سبحانه وتعالىِ .
379
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
النملة الصغيرة أو أقل من ذلك أو أكبر سيراه ،ومن يعمل من الخير وزن ذرة وهي النملة
الصغيرة أو أقل من ذلك أو أكبر سيراه ويوزن في ميزانه ،ومن يعمل وزن ذر ٍة أو أقل من
ِّ
يكفره هللا سبحانه وتعالىِ .
ذلك أو أكبر من شر سيراه ويوضع في ميزانه إن لم ِ
خير يوم القيامة ،بل عمله كله ٌ
هباء منثور وال يجد إال ًّ
شرا؛ ْلن الكافر ال والكافر ليس له ٌ
جدال أنه عمل العمل هلل عز وجل فإنه ال يكون ً ً ُ
متبعا يعمل العمل هلل عز وجل ،ولو فرض
لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فال يكون ش ٌيء في ميزان يوم القيامة من أعماله ً
خيرا
ً
أبدا؛ ْلن الخير يوم القيامة هو ما كان هلل عز وجل على سنة رسول هللا صلى هللا عليه
380
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وسلم ،وأما في الدنيا فقد يؤتيه هللا عز وجل من الدنيا جزاء لعمله على ظاهره من الخي ِر
وقد ال يؤتيه ذلك ،وأما الشر فإنه يراه كله يوم القيامةِ .
وأما املؤمن فإن كل عمل صالح يعمله سيراه يوم القيامة أعظم وأفضل وأكبر مما عمله في
الدنيا ،وأما الشر فإن هللا عز وجل فتح للمؤمن أبواب تكفير الذنوب وأعظمها وأكبرها
وأوسعها عفو هللا عز وجل ورحمته ومغفرته سبحانه وتعالى ،ومنها االستغفار والتوبة
بالرجوع إلى هللا عز وجل ،فإن بقي عليه شر لم يغفر يجده يوم القيامة ويكون في ميزانه
يوم القيامةِ .
واإلنسان ال يأمن أن يؤاخذ بشره ،فعلى اإلنسان أن يتعظ ويعتبر ،وأن يحرص على أال
يرى أمامه يوم القيامة إال خيرا يسره ،تثقل به ميزان حسناته ،وليتفقد نفسه في املعاص ي،
فإن وجد أنه على معصية مقيم فليرجع عنها وليتب إلى هللا عز وجل توبة صادقة ،وإن وجد
أنه سبقت منه ذنوب فليكثر االستغفار وليتب منها ليتخلص منها وهو في هذه الدنيا ،وإن
كان الذنب يتعلق بعباد هللا عز وجل وبحقوق عباد هللا عز وجل؛ فإن كانت من اْلمور التي
ترد فليبادر بردها إلى أهلها ،وليتلطف في ردها إلى أهلها ،ولو كان ذلك قد وقع منه قبل
سنين كثيرة فإنه يبادر بردها إلى أهلها ،وال يلزم أن يخبرهم أنه مذنب أو أنه الفاعل ،وإنما
الواجب أن يردها إلى أهلها ،وإذا كانت مما ال يرد كما يتعلق بالكالم في العرض والغيبة
ونحو ذلك ،فإن كان املجني عليه قد علم بذنب اإلنسان وأنه قد اغتابه أو تكلم في عرضه
فليذهب إليه وليتحلله وليحاول أن يرضيه بما استطاع لعله أن يسلم من ذلك الشر ،وإن
كان املجني عليه لم يعلم بذلك الذنب ،فإن كان يعلم منه أنه تطيب نفسه ويعفو ويسامح،
فليتحلله وإن لم يأمن ذلك وخش ي أن يقع بينه وبين أخيه شر وأال يترتب على إخباره خير،
فإنه يكفيه أن يذكره بخير هو فيه وأن يدعو له ،وأن يكثر من الدعاء لهِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ،ثم نعود إلى التفسير
التفصيلي لهذه السورة ،ونقرأ من تفسير اإلمام ابن سعدي رحمه هللا عز وجلِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
والسامعين :يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة وأن اْلرض تتزلزل وترجف وترتج حتى
381
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
يسقط ما عليها من بناء ومعلم ،فتندك جبالها ،وتسوى تَّللها وتكون قاعا صفصفا ال
عوج فيه وال أمتاِ .
والزلزلة :هي الحركة واالضطراب ،وزلزلت أي :تحركت من أصلها ،واضطربت اضطر ًابا
شديداِ .
َ ُْ َ ْ َْ ُ ْ َ
ض ِزل َزال َها} املصدر هنا للتأكيد ،وبيان أن الزلزلة على وجه الحقيقة وليست{ ِإذا زل ِزل ِت اْلر
ُ ِّ
زلزلة معنوية ،بل هي زلزلة حقيقية ،والفعل إذا أ ِكد بمصدره دل ذلك على أن معناه على
وجه الحقيقة ال على الوجه املعنويِِ .
َ َ ْ َ َ ْ َْ ُ َ ْ َ َ
ض أثقال َها﴾؛ أي :ما في بطنها من اْلموات والكنوز. ﴿وأخرج ِت اْلر
واإلنسان وهو في باطن اْلرض ثقل لألرض ،وهو حي على اْلرض ثقل على اْلرضِ .
العلماء يقولونِ :اإلنسان إذا كان حيا فهو ثقل على اْلرض ،وإذا كان ميتا مقبورا في اْلرض
فهو ثقل لألرضِ .
وبعض العلماء فسر اْلثقال هنا فقط باملقبورين ،ولكن الصحيح أن هذا عام يشمل
املقبورين والكنوز وغيرها مما في هو جوف اْلرضِ .
ََ َ ْ َ ُ َ
نسان َما ل َها﴾. اإل
﴿وقال ِ
ََ َ ْ َ ُ
نسان﴾ قيل :اإلنسان هنا هو جنس اإلنسان ،فكل إنسان يقول ذلكِ . اإل
﴿وقال ِ
وقيل :هو الكافر ،أما املؤمن فهو يعلم بإيمانه ملاذا حدث هذا ،وإنما الذي يقول هذا هو
الكافر الذي كان منكرا لقيام الساعة وللبعثِ .
وقيل :إنه إنسان بعينه يقول هذا الكالمِ .
لكن الذي عليه اْلكثر وهو اْلظهر أنه جنس اإلنسان ،فاإلنسان يقول ذلك من هول ما
يرى في ذلك الوقتِ .
ََ َ ْ َ ُ
نسان﴾ إذا رأى ما عراها من اْلمر العظيم مستعظما لذلك. اإل
﴿وقال ِ
َ
﴿ َما ل َها﴾ .؛ أي :أي ش يء عرض لها؟
فجعلها تضطرب بعد استقرار ،وتخرج ما في جوفها بعد أن كانت تسترهِ .
َ ْ ُ ُ
﴿ َي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث﴾ اْلرض﴿ ،أخ َبا َر َها﴾.
382
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
﴿ي ْو َم ِئ ٍذ﴾ أي :يوم القيامة يوم الجزاء يوم الحسابِ . َ
ُ ُ
﴿ت َح ِدث﴾؛ أي :تخبر وتتكلم على وجه الحقيقة بأمر هللا سبحانه وتعالىِ .
ُ ُ َ ْ
﴿ي ْو َم ِئ ٍذ ت َح ِدث أخ َبا َر َها﴾؛ أي :تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر،
َ
383
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ
﴿ل ُي َر ْوا أ ْع َمال ُه ْم﴾؛ أي :ليريهم هللا ما عملوا من السيئات والحسنات ،ويريهم جزاءه ِ
ََ َ َْ ْ َْ َ َ َ ََ َ َْ ْ َْ َ َ َ
ال ذ َّر ٍة ش ًّرا َي َر ُه (.﴾)8ال ذ َّر ٍة خ ْي ًرا َي َر ُه ( )7ومن يعمل ِمثقُم َوفرا﴿ ،فمن يعمل ِمثق
الذرة معروفة عند العرب والزالت إلى اليوم وهي النملة الصغيرةِ .
وقد ذكر بعض العلماء أن النمل الصغير ال وزن له ،وذكروا أن أحد السلف أخذ قطعة
قد اجتمع عليها النمل الصغير وزنها قبل ذلك ،ثم وضعها فاجتمع عليها النمل فوزنها بعد
ذلك ،فوجد وزنها واحدا ،فقالوأ :إن هذا الذر الصغير -النمل الصغي-رال يكاد أن يكون له
وزن ،وإذا كان هذا بهذا الحجم سيوجد في امليزان فمن باب أولى ما كان أكبر منه مما يكون
له وزن وثقلِ .
وقال بعض اْلفسرين :الذرة هي واحدة الغبار ،فأنت إذا ضربت اْلرض يثور الغبار ذرات،
فالذرة هي واحدة الغبار ،وهي ال وزن لها ،والعرب تضرب املثل للقلة الشديدة بالذرِ .
الخير فإنه سيجده اإلنسانِ .
فاملقصود أنه مهما قل العمل من ِ
بعض املعاصرين الذين أغرقوا في التفسير العلمي للقرآن قالوا :الذرة هي الذرة التي
يتحدث عنها العلماء اليوم في اْلمور النووية ،وهذا في الحقيقة إسراف في حمل القرآن على
معان ال يليق أن يحمل عليها القرآن ،فإن القرآن أنزل ليفهم في جميع اْلزمان ،فال يليق
حمله على مثل هذه اْلمورِِ .
وقد أشرت في التفسير اإليماني إلى أن العلماء قالوا إن اإلنسان إما أن يكون كافرا وإما أن
يكون مؤمنا ،فإن كان كافرا فإنه يوم القيامة ال يجد إال شرا ،ال يحضر له إال شر ،لن
يكون له خير يوم القيامة ،بل كل ما عمله مما ظاهره أنه خير يكون هباء منثورا يوم
القيامة؛ ْلنه ليس خيرا ،فهو ليس هلل وال على سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
وأما في الدنيا فقد َ
يجازى من الدنيا على الدنيا على ظاهر ما عمله من ظاهر أنه خير ،وأما
الشر فيجده يوم القيامة ال يفقد منه شيئاِ .
وأما املؤمن فخيره محفوظ له يجده يوم القيامة أوفر مما عمل ،وأما الشر فاهلل جعل له
مكفرات عدها بعض العلماء عشرة َّ
يكفر بها الشر الذي يعمله املؤمن ،فإن وافى بشره ولم
ُ
يعف هللا عنه فإنه يجد ذلك في ميزان حسناته ،والعاقل يعلم أنه إذا عمل الشر فإنه كتب
384
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
باملكفرات ،فقد ال يوفق إليها أصال ،وقد يكون اغتراره سببا ملنعه
ِ عليه ،فال ينبغي أن يغتر
من التكفير -من تكفير ذنبهِ .-
قال رحمه هللا :وهذا شامل عام للشر والخير كله؛ ْلنه إذا رأى مثقال الذرة التي هي
أحقر اْلشياء وجوزي عليها فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى ،كما قال تعالىَ :
﴿ي ْو َم
ض ًرا وما َعم َل ْت من ُسوء َت َو ُّد َل ْو َأ َّن َب ْي َن َها َو َب ْي َن ُه َأ َمداً
َتج ُد ُك ُّل َن ْفس َّما َعم َل ْت م ْن َخ ْير ُّم ْح َ
ٍ ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ ِ
َ ُ ََ َ ُ َ َ َ ً
اض ًرا ۗ ﴾ [الكهف ]49 :وهذا فيه ب ِعيدا﴾ [آل عمران﴿ ،]30 :ووجدوا ما ع ِملوا ح ِ
الترغيب في فعل الخير ولو قليَّل ،والترهيب من فعل الشر ولو حقيراِ .
وهذه اآلية عامة كما ذكر الشيخ ،ولذلك ملا سأل الصحابة رضوان هللا عليهم النبي صلى
هللا عليه وسلم عن الحمير؛ يعني :علموا فضل الخيل في الجهاد ،فسألوا عن الحمير ماذا
فيها ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم(( :ما أنزل علي فيها ش يء إال هذه اآلية العامة:
ََ َ َْ ْ َْ َ َ َ
ال ذ َّر ٍة خ ْي ًرا َي َر ُه﴾)) ،فهذه اآلية عامة في كل خير يعمله اإلنسان﴿فمن يعمل ِمثق
بالشرطين املعروفين :اإلخالص هلل عز وجل ،واملتابعة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
وبهذا نكون أنهينا تفسير سورة الزلزلة ،والفائدة الكبرى من هذه السورةِ :
تحذير املؤمنين من فعل املحرمات ،وتنمية املراقبة هلل عز وجل باملسارعة إلى الخيرات
واجتناب املحرماتِ .
واملؤمن يحرص على أن يبتعد عن كل ذنب؛ ْلنه ال ينظر إلي وزن الذنب ولكن ينظر إلى أنه
يعص ي هللا بهِ .
خل الذنـ ـ ـ ــوب صغيرها وكبيرها فهو التقى ِ
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرىِ ِ
ال تحقرن صغيرة إن الجبـ ـ ـ ــال من الحص ى ِ
كما أن املعلوم أن الذنوب ظلمة على القلب ،فكلما أذنب العبد ذنبا ولو صغيرا أظلم جزء
من قلبه ،فإن زاد زادت الظلمة ،ولربما زادت على القلب حتى انغلق تماما ورانت عليه
والعياذ باهلل ،أما إذا تاب ونزع ورجع عن ذنبه فإن تلك الظلمة تزال من القلبِ .
385
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ولذلك املؤمن يخاف خوفا شديدا من الذنوب مهما صغرت؛ ْلنها ظلمة في قلبه ويخاف
أن تزداد عليه حتى يظلم القلب بالكلية ،وكما هو معلوم عند العلماء أن من شؤم املعاص ي
أنها قيود عن الخير ،من شؤم املعاص ي أنها حبال تقيد اإلنسان عن الخير ،فقد يمنع
اإلنسان من قيام الليل لذنوب النهار ،قد يمنع من قيام الليل بالكلية وال يقوم الليل لكثرة
ذنوبه ،وقد يمنع من قيام الليل في ليلة بسبب ذنوب نهاره ،فاملؤمن ال يتساهل في الذنوب
أبدا ،وال ينظر هل هذه كبيرة أو صغيرة وإنما ينظر إلى عاقبة الذنب ،فيراقب هللا عز ِوجل،
وتعظم تقواه لربه سبحانه وتعالى ،فيكون متقيا هلل حيث كان مبتعدا عن املحرمات ،فإذا
وقعت السيئة عمل على تكفيرها بتوبة أو بأن يتبعها حسنة إن كانت من الصغائر حتى
يمحوها بتلك الحسنةِ .
هذا من أعظم مقاصد هذه السورة وفوائدها العظمى وحكمها الكبرىِِ .
386
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة العاديات
بسم هللا الرحمان الرحيم
َََ َ َ ْ ض ْب ًحا (َ )1ف ْاْلُور َيات َق ْد ًحا (َ )2ف ْاْلُغ َيرات ُ ﴿و ْال َعاد َيات َ
ص ْب ًحا ( )3فأث ْرن ِب ِه نق ًعا ()4 ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ
َّ ود (َ )6وإ َّن ُه َع َلى َذل َك َل َشه ٌ
يد (َ )7و ِإن ُه ِل ُح ِب ان ل َربه َل َك ُن ٌ
َّ ْ ْ َ َ
س ن اإل نإ ) 5 ( اعَف َو َس ْط َن به َج ْم ً
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ
َ
ْال َخ ْير َل َشد ٌيد ( )8أ َف ََّل َي ْع َل ُم إ َذا ُب ْعث َر َما في ْال ُق ُبور (َ )9و ُحص َل َما في ُّ
الص ُدو ِر (ِ )10إ َّن ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َ
َرَّب ُه ْم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِبير ([ ﴾)11العديات.]11-1 :
هذه السورة مكية عند جمهور العلماء ،وهو اْلقرب وهللا أعلم ،يقسم هللا عز وجل فيها
بالخيل التي تعدو بسرعة ،ومن شدة عدوها يخرج لها صوت ،وتضرب بحدواتها الحديدية
اْلحجار والصخور فيتطاير منها الشرر كأنما توقد النار ،كأنها تقدح لتشعل النار ،وهي يغير
بها فرسانها على أعدائهم بسرعة مصبحين لهم ،وهي في سرعة عدوها تثير الغبار إثا ِرة
شديدة ،وتتوسط بفرسانها املكان املراد بسرعة مجتمعة فيهِ .
ً
عموما ولنعم ربه خصوصا ،فطبع اإلنسان وجواب القسم أن جنس اإلنسان كفور لربه
أنه يعد النقم وينس ى النعم إال من تهذب بدين هللا عز وجلِ .
وهللا سبحانه وتعالى شهيد على اإلنسان بهذا ،واإلنسان نفسه تشهد حاله عليه في الدنيا
بهذا ،فحاله تدل على أنه كفور إال إذا تهذب بدين هللا عز وجل ،وهو يشهد يوم القيامة
على نفسه بهذا ،حيث يندم أشد الندم على أنه لم يشكر نعم هللا عليه في الدنيا إذا رأى
الجزاءِ .
وهذا اإلنسان الكنود الكفور لربه شديد املحبة للمال ،ولشدة حبه للمال يمنع الخير في
هذا املال ،فال يعرف هلل فيه حقا ،وال يصل به رحما ،وال يصل به ضعيفا ،وال يحسن به
باق له ال يزول ،وكأنه لو
إلى محتاج ،وال ينفقه فيما يحب هللا سبحانه وتعالى كأن املال ٍ
بقي املال ال يزول هو عن ذلك املالِ .
عجيب أمر هذا اإلنسان! أال يعلم علم اليقين أنه ميت؛ وأنه إن بقي املال البد أن يفارقه
هو ويتركه للناس؟! ِ
387
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أال يعلم هذا اإلنسان أنه ميت مقبور ثم مبعوث من قبره ،وأنه مالق ربه سبحانه وتعالى،
َ
وأن ربه سيسأله عن هذه النعم وعن هذا املال خصوصا من أين اكتسبه؟ أمن حالل
حصله أم من حرام جمعه؟ وماذا عمل فيه أفي حالل أنفقه وفي خير فرقه؟ أم استعان به
على ما يغضب هللا سبحان وتعالى؟! ِ
إن هذا اإلنسان يعلم أنه ميت ،لكن هل يعلم ما وراء املوت؟ هل يعلم ما يكون في قبره؟
َ ُ
هل يعلم ما يكون عند البعث؟ هل يعلم ما يكون عند السؤال؟ إذا نثر ما في القبور وخرج
املقبورون من قبورهم وأخرجت اْلرض املقبورين فيها من لدن آدم عليه السالم إلى آخر
الص ُدو ِر﴾ فكشف
وقت واحد حيارى مذهولينَ ﴿ ،و ُحص َل َما في ُّ
ِ ِ
ً
جميعا في ٍ إنسان يخرجون
ما يخفيه اإلنسان في نفسه وحوسب عنه ،أال يعلم هذ؟ ِ
بلى ورب الكعبة؛ قد أقام هللا عز وجل البراهين القاطعة والحجج الساطعة على البعث
وعلى الجزاءِ .
ومن جواب القسم إن رب الناس بهم يومئذ لخبير ،عالم بأعمالهم وأحوالهم وشأنهم ال
تخفى عليه منهم خافية ،هو سبحانه خبير بالناس في ذلك اليوم وقبل ذلك اليوم ،لكن
خص ذلك اليوم هنا بالذكر؛ ْلنه يوم الجزاء -يوم الحساب -حيث ُيحاسب الناس على
أعمالهم ،وربهم سبحانه وتعالى خبير بهم وخبير بأعمالهم وشهيد عليهم وكفى باهلل شهيداِ .
َ
أعظم الزاجر لإلنسان عن الطغيان ،أنت أيها اإلنسان مهما وفيما ذكر ربنا سبحانه وتعالى
قبر صائر ،أنت أيها
قبر صائر ،أنت أيها اإلنسان مهما كنت صحيحا فإلى ٍ
كنت قويا فإلى ٍ
ُ
قبر صائر ،وفي قبرك تسأل وتفتن وتختبر :فإما
اإلنسان مهما ملكت ومهما حكمت فإلى ٍ
ٌ
منعم وإما معذب ،ثم إنك أيها اإلنسان مبعوث من قبرك ومسؤول بين يدي ربك عن هذه
ُ
النعم ،فكيف ال تصونها؟ وكيف ال تشكرها؟ وكيف ال تعملها في طاعة هللا سبحانه وتعالى؟ ِ
لو تدبرنا ما ذكره ِربنا في هذه السورة لرقت قلوبنا ،وعظم اجتهادنا في الخير ،وانزجرنا عن
إسرافنا على أنفسنا وعن إسرافنا في مالناِ .
ٌ
مركوز في طبع اإلنسان وال عيب فيه ،ولكن العيب أن أنت أيها اإلنسان تحب املال وهذا
ً
شديدا يجعلك تعص ي هللا من أجل املال وال تنفق املال فيما يحب هللا، تحب املال ً
حبا
388
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ً
شحيحا .فعجبا لحالك أيها اإلنسان!!! كيف تقول مالي مالي ،وتعص ي هللا من أجل فتكون
هذا املال ،وليس لك من مالك إال ما أكلت فأفنيت ،أو لبست فأبليت ،أو تصدقت فأبقيت،
وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناسِ .
أال ترى أيها اإلنسان أن هذا املال الذي يجعلك تعص ي هللا لتحصله البد من فراقه؟ فهو
قِ : إما مفارق وإما َ
مفار ِ ِ
ََ
مفارق يذهب عنك وأنت حي ،وكم من إنسان لها بجمع املال عن الخير وعن الطاعة -إما ِ
فافتقر وصار إلى الفقر وهو حي وذهب عنه املالِ .
َ -
وه ْب أن املال لم يذهب عنك؛ أال ترى التجار وامللوك وغيرهم يذهبون ويترك ِون املال؟ و ِال
ينفعهم املال عند موتهم شيئا وال في قبورهم شيئاِ .
معاشر املؤمنين؛ إن تدبرنا للقرآن شفاء لصدورنا ،هدى لقلوبنا ،جالء ْلمراض القلوب،
فياليتنا نقرأ كالم ربنا بتدبر ،ونعرف معاني اآليات لنكون بها من املنتفعينِ .
هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ،ثم نعود إلى التفسير
التفصيلي ونقرأ كالم اإلمام السعدي رحمه هللا عز وجل ونعلق على ما يحتاج إلى تعليقِ .
قال اإلمام عبد الرحمان ابن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
وللسامعين :أقسم هللا تبارك وتعالى بالخيل.
هذا قول جمهور املفسرين أن القسم هنا بالخيلِ .
وهللا عز وجل العظيم يقسم بما شاء ،وليس للعبد أن يقسم إال باهلل ،هللا يقسم بما
شاء ،وإذا أقسم هللا بش يء دل ذلك على فضله وعلى عظيم ما يذكر في ذلك القسم،
وجمهور املفسرين على أن القسم هنا بالخيلِ .
أقسم هللا تبارك وتعالى بالخيل ْلا فيها من آياته الباهرة ونعمه الظاهرة ما هو معلوم
للخلق ،وأقسم هللا تعالى بها في الحال التي يشاركه فيه غيرها من أنواع الحيوانات،
﴿و ْال َعاد َيات َ
ض ْب ًحا﴾ أي :العاديات عدوا شديدا بليغا يصدر عنه الضبح. ِ ِ
فقالَ :
ُِ
والعدو :هو الجري بسرعة؛ أي :أنها تجري بسرعة العدو،
ِ العاديات جمع عادية ،من
شديدة.
389
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال :أي :العاديات عدوا بليغا قويا يصدر عنه الضبح ،وهو صوت نفسها في صدرها
عند اشتداد عدوها.
هذا قول اْلكثر في تفسير الضبح ،وهو أنه الصوت الذي يصدر من الخيل عند اشتداد
عدوهاِ .
وقال بعض اْلفسرين :الضبح :نوع من الجري السريع ،وهو محمود في الخيلِ .
وقال بعض أهل العلم :الضبح :هو صوت الحوافر عند العدو ،الضبح هو صوت الحوافر
عندما تصطك باْلرض ،ولكن الذي عليه اْلكثر هو اْلول وهو اْلقرب وهللا أعلمِ .
َ
ات﴾ بحوافرهن ما يطأن عليه من اْلحجار﴿ ،ق ْد ًحا﴾؛ أي :تنقدح النار من ﴿ َف ْاْلُور َ
ي
ِ ِ
صَّلبة حوافرهن وقوتهن إذا عدون.
واملقصود أن الحوافر إذا اصطكت باْلحجار والصخر تنتج شررا كما يفعل من يريد أن
يشعل النار فإنه كان يضرب حجرا بحجر لينتج شررا تورى وتشعل به النارِ .
وقال بعض اْلفسرين :إن املعنى أن الخيل تشعل في نفوس الفرسان الرغبة في القتال
والحربِ .
وقال بعض اْلفسرين :املقصود واملعنى أن الفرسان يشعلون الحربِ .
فاملقصود باملوريات هنا الفرسان الذين يركبون الخيول أنهم يشعلون الحربِ .
وقال بعض العلماء :إن املوريات هنا هي اْللسن ،ليست الخيل ،اْللسن التي تشعل
الفتن ،والفتن كالنار املحرقة ،وال شك أن اْللسن تشعل الفتن إن لم يتق أصحابها ربهم،
وقد يغر الشيطان اإلنسان فيظهر له أن إشعال الفتنة خير وقربة ،فيشعل فتنة بين
اْلحبة ،ويفرق الصف املجتمع على الحق بفتنة وباطل وشر ،لكن ال شك أن اْللسن
ليست هي املراد هنا ،وإنما املراد هنا الخيول ،وأنها لشدة عدوها واصطكاك حذواتها
بالحص ى ينتج من ذلك شرر كأنها تشعل النارِ .
﴿ َف ْاْلُغ َيرات﴾ على اْلعداءُ ﴿ ،
ص ْب ًحا﴾ وهذا أمر أغلبي أن الغارة تكون صباحا. ِ ِ
والصبح هو أشرف اليوم ،والبكور في أول الصبح شأن أهل الجد والهمة ،أهل الجد
والهمة عملهم يكون في أول النهار ،أما أهل الكسل فإنهم أهل نوم ال يبكرون ،فلما كان
390
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الصبح وقت نشاط أهل الهمم وأهل الجد ذكر هنا ،وإن كانت اإلغارة ليست خاصة
ُ
بالصبح ،فقد تكون اإلغارة في الليل ،وقد تكون في وسط النهار لكن ذكر اْلشرف ،وكان
النبي صلى هللاِعليه وسلم يغير صبحا بعد الفجرِ .
َََ َ
﴿فأث ْرن ِب ِه﴾.
ن َََ ْ َ
ن
﴿فأثر ﴾؛ أي :حركن معنى أثر حركنِ .
﴿ب ِه﴾ أي :بعدوهن وغارتهن.
ِ
هذا على قول أن الضمير هنا يعود إلى العدو؛ فأثرن بعدوهن وسرعتهن نقعاِ .
وقيل :إن الضمير يرجع إلى املكان الذي تجري فيه الخيل؛ يعني :فأثرن في املكان الذي
تجرين فيه غباراِ .
وقال بعض اْلفسرين :به يعني بالصبح؛ يعني :فأثرنِ وحركن في الصبح غباراِ .
وال مانع من إرادة الكل ،فالخيل تثير الغبار بعدوها ،وتثير الغبار في املكان الذي تعدو فيه،
وتثير الغبار إذا أغير بها صبحا ،فال مانع من حمل اآلية على الجميعِ .
ْ َ َْ
﴿نق ًعا﴾؛ أي :غبارا﴿ ،ف َو َسط َن ِب ِه﴾؛ أي :براكبهن.
ْ َ
﴿ف َو َسط َن﴾؛ أي :توسطنِ .
ْ َ
﴿ف َو َسط َن ِب ِه﴾؛ أي :براكبهنَ ﴿ ،ج ْم ًعا﴾؛ أي :توسطن به جموع اْلعداء الذين أغار
عليهم.
هذا في حال الحرب ،توسطن بالفرسان جموع اْلعداء ،فالخيل تغير على اْلعداء حتى
تجتمع في وسط اْلعداء بفرسانهاِ .
وقال بعض اْلفسرين :توسطن بفرسانهن املكان املراد جميعا ،وهذا املعنى أعم من اْلول؛
ْلن اْلول خاص بالحرب ،أما هذا فهو عام ،يعني :لو كانوا في سباق يتسابقون إلى مكان فإن
الخيول في الغالب تصل معا في وقت متقارب إلى املكان املراد وتتوسط املكان املرادِ .
وقال بعض أهل العلم :معنى اآلية فوسطن بالغبار الجمع؛ أي :جعلن الغبار فوق الجمع -
فوق الجماعة املجتمعة ،-فيكون الضمير راجعا إلى الغبار ،هذا قول الجمهور كما قلناِ .
391
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
392
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
طبعه أنه كفور وال سيما لنعم هللا إال من تهذب بدين هللا ،ولذلك يقول النبي صلى هللا
عليه وسلم(( :عجبا ْلمر اْلؤمن إن أمره كله له خير ،وليس ذلك إال للمؤمن :إن أصابته
سراء شكر فكان خيرا له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)).
يد﴾؛ أي :إن اإلنسان على ما يعرف من نفسه من اْلنع والكند ﴿وإ َّن ُه َع َلى َذل َك َل َشه ٌ َ
ِ ِ ِ
لشاهد بذلك ال يجحده وال ينكره؛ ْلن ذلك أمر بين واضح.
َ َّ
﴿و ِإن ُه﴾ الضمير هنا قيل إنه اإلنسان؛ ْلن الكالم عنه -الكالم عن اإلنسان ،-وإن اإلنسان
على ذلك لشهيد ،فهو شهيد على نفسه بأنه كفورِِ :
-أما في الدنيا فهو شاهد بحاله ،فإن حاله يشهد عليه أنه كفورِِ .
-وأما في اآلخرة فإنه يشهد على نفسه يوم القيامة بهذا ،وال يستطيع أن يجحد هذا ،بل
سيندم كل إنسان يوم القيامة على أنه لم يشكر نعم هللا سبحانه وتعالى عليها إال من رحم
ربيِ .
قال :ويحتمل أن الضمير عائد إلى هللا تعالى؛ أي :إن العبد لربه لكنود.
وهذا قول اْلكثر أن الضمير عائد إلى هللا عز وجل ،وأن هللا شهيد على اإلنسان بأنه كنود،
ان ل َربه َل َك ُن ٌ
َّ ْ ْ َ َ
ود اإلنس ِ ِ ِ وذلك ْلن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ،وأقرب مذكور هو الرب ﴿ ِإن ِ
َّ
(َ )6و ِإن ُه﴾ الضمير يعود إلى أقرب مذكور ،وأقرب مذكور هو الرب؛ وْلنه جاء في قراءة
وإن هللا على ذلك لشهيد) ،والقراءة الشاذة يفسر بها القرآن ،فيكون الضمير هنا شاذةِّ ( :
393
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ ْ َ َّ
﴿ َو ِإن ُه﴾؛ أي :اإلنسانِ ﴿ ،ل ُح ِب الخ ْي ِر﴾؛ أي :اْلال﴿ ،لش ِد ٌيد﴾؛ أي :كثير الحب للمال،
وحبه لذلك هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه ،فقدم شهوة نفسه على
رضا ربه ،وكل هذا ْلنه َق َ
ص َر نظره على هذه الدار وغفل عن اآلخرة.
ْ َ َ َ َ َّ
﴿و ِإن ُه ِل ُح ِب الخ ْي ِر لش ِد ٌيد﴾ قال بعض العلماء :املعنى وإنه لحب املال لشديد؛ أي :أن
حبه للمال شديدِ .
وقال بعض أهل العلم :وإنه بسبب حبه للمال لشديد؛ أي :بخيل ،شديد اإلمساك للمالِ .
وكال املعنيين صحيح ،فاإلنسان بطبعه شديد الحب للمال ،ولشدة حبه للمال يكون
شحيحا بخيال ،ولذلك كلما اشتد حب اإلنسان للمال كلما كان بخيال؛ ْلن شدة حبه للمال
تدعوه إلى البخلِ .
َ ََ َ
قال رحمه هللا :ولهذا قال حاثا له على خوف يوم الوعيد﴿ :أفَّل َي ْعل ُم﴾؛ أي :هل ال يعلم
ُْ َ
﴿إذا ُب ْع ِث َر َما ِفي الق ُبور﴾ِ .
هذا اْلغترِ ،
َ
﴿ ِإذا ُب ْع ِث َر﴾؛ أي :إذا نثر ما في القبور وأخرج ما في القبورِِ .
أي :هل ال يعلم هذا اْلغتر إذا بعثر ما في القبور؛ أي :أخرج هللا اْلموات من قبورهم
لحشرهم ونشورهم.
الص ُدو ِر﴾؛ أي :ظهر وبان ما فيها وما استتر في الصدور من كمائن الخير
﴿ َو ُحص َل َما في ُّ
ِ ِ
والشر ،فصار السر عَّلنية والباطل ظاهرا ،وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم.
وانظر رعاك هللا إلى التناسب بين بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور ،كالهما فيه إخراج
مستتر ،فالقبور تستر املوتى فبعثرة القبور إخراج املقبور املستور في القبر ،والصدور تستر
ما فيها ،فتحصيل ما في الصدور كشف لهذا املخفي في الصدر ،فهنا تناسب عظيم بين
بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور إذ في كل كشف مستورِِ .
َّ َ
﴿إ َّن َرَّب ُهم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِب ٌير﴾.
ِ
َّ َ ان ل َربه َل َك ُن ٌ َّ ْ َ َ
ود﴾ هذا من جواب القسمَ ﴿ ،و ِإن ُه َعل ٰى اإلنس ِ ِ ِهذا من جواب القسمِ ﴿ ،إن ِ
َّ َ
يد﴾ هذا من جواب القسمِ ﴿ ،إ َّن َرَّب ُهم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِب ٌير﴾ هذا من جواب َٰذل َك َل َشه ٌ
ِ ِ
القسمِ .
394
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ َ
﴿إ َّن َرَّب ُهم ِب ِه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ لخ ِب ٌير﴾؛ أي :مطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة الخفية والجلية
ِ
ومجازيهم عليها ،وخص خبرهم بذلك اليوم مع أنه خبير بهم كل وقت؛ ْلن اْلراد به
الجزاء على اْلعمال الناش ئ عن علم هللا واطَّلعه.
وبهذا نتم تفسير سورة العاديات ،ومقصود السورة ظاهر والحكمة العظمى منها ظاهرة:
وهي أن امل ِؤمن ينبغي أن يكون شكورا لنعم هللا صبورا على بالء هللاِ .
أن اْلؤمن ينبغي أن يكون شكورا لنعم هللا؛ والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارحِ :
-يكون بالقلب :بأن يعتقد أن كل خير هو فيه إنما الفضل فيه هلل ،ال ينسب ذلك إلى
قوة وال إلى ذكاء وال إلى مهارة ،وإنما يعتقد اعتقادا جازما أن هذا الخير الذي هو فيه
إنما هو بفضل هللا ،وأن الذي أنعم به عليه هو هللا سبحانه وتعالى ِ
-وباللسان :بأن يثني على هللا بهذه النعم ،فيحمد هللا الذي رزقه السمع ،الذي رزقه
البصر ،الذي رزقه الكالم ،الذي رزقه الصحة ،يثني على هللا ،ولذلك شأن املؤمن
أن يكون كثير الثناء ممسكا عن الشكوى ،ال يشكو هللا إلى أحد ،ويكثر الثناء على هللا
سبحانه وتعالىِ .
-ويكون بالجوارح :بأن يستعمل نعم هللا في طاعة هللا أو فيما أباح هللا ،هذا النظر
نعمة عظمى من هللا ،وهللا لو اجتمع الخلق جميعا ما استطاعوا أن يوصلوا هذه
النعمة لإلنسان ،ما شكرها؟ أن تستعملها في طاعة هللا ،تستعملها في النظر إلى
القرآن ،لتقرأ تستعملها في كتب العلم لتقرأ ،أو أن تستعملها في املباح ،فتنظر إلى
اْلشياء الطيبة ،وتنظر إلى زوجتك وتنظر ،كفرانها أن تستعملها في معصية هللا،
فتنظر بها إلى الحرامِ .
وأن يكون صبورا على بَّلء هللا ،ويا عبد هللا؛ إذا نزل بك البالء فأوال اعلم أن الذي أنزل
البالء هو هللا ،وأنه هو مالكك ،وأنه إن ابتلى بش يء فقد أنعم بأشياء ،ومع ذلك ال يبتليك
إال لحكمة ،هو املالك وأنت اململوك ،وللمالك أن يتصرف في مملوكه كيف شاء ،وهو إن
ابتالك في ش يء فقد أنعم عليك بأشياء ،ومع ذلك ال يبتليك إال لحكمةِ :
395
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-فإما أن ينبهك من غفلة؛ شردت عن بابه وابتعدت عن طاعته فيبتليك ببالء لترجع
إليه.
-وإما أن يكفر عنك سيئة.
-وإما أن يرفعك بهذا البالء في الجنة درجةِ .
ُ
ولذلك يا إخوة يوم القيامة يتمنى أهل العافية لو أنهم في الدنيا نشروا باملناشير ملا يرون
ُ
من ثواب أهل البالء ،وهذا يعينك على الصبر على ما تبتلى به إن أدركت هذه الحقائقِ .
فمقصود السورة اْلعظم وحكمتها العظمى أن اإلنسان يجب عليه أن يعالج نفسه ليكون
شكورا للنعم ،صبورا على البالءِ .
ِ
ِِ
396
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة القارعة
بسم هللا الرحمن الرحيم:
اس َك ْال َف َ َ ْ َ َ ُ ُن َّ
الن ُ ََ ََْ َ َ َْ َُ َ َْ َُ َْ َُ
اش
ِ ر وك ي مو ي ) 3 ( ةع ر
ِ اق ال ام اك ر د أ ا مو ) 2 ( ةع رِ اق ال ام ) 1 ( ة ﴿القا ِرع
َ ُ ََُ ْ ََ َ َ ُ ُن ْ َ ُ َ ْ ْ ْ َ ُ َْْ ُ
وش ( )5فأ َّما َمن ثقلت َم َوا ِزين ُه ( )6ف ُه َو ِفي ِ نف اْل نِ ه ع
ِ الك ال ب ج ِ ال و كتو ) 4 ( وث ِ ث اْلب
ْ َ ْ ََ َ َ ُ ُّ ُ َ َ ٌ ُ َ َ َّ َ ْ َ َّ ْ َ َ ُ َ
اض َي ٍة ( )7وأما من خفت موا ِزينه ( )8فأمه ه ِاوية ( )9وما أدراك ما ِهيه ()10
َ َ َ
ِعيش ٍة َّر ِ
ٌ َ
ن ٌار َح ِام َية ([ ﴾)11القارعة.]11-1 :
في هذه السورة املكية بإجماع العلماء يخبر هللا عز وجل عن بعض أحوال يوم القيامة،
والقارعة من أسماء يوم القيامة ،سميت بذلك ْلنها تقرع القلوب وتفزع القلوب بأهوالها
وما يكون فيها من اْلمور العظام ،وتقرع أعداء هللا بالعذاب واملصيبة العظمىِ .
َْ ُ وعظم هللا عز وجل شأنها وفخمه بقولهَ ﴿ :ما ْال َقا َع ُة (َ )2و َما َأ ْد َ َ
اك َما القا ِر َعة (،﴾)3ر ِر
ففي هذا تفخيم وتعظيم ْلهوالها وما يكون فيهاِ .
فمن أحوالها وأهوالها العظام أن الناس ينشرون فيها ويتفرقون عند خروجهم من
قبورهم ،حيث يخرجون جميعا من لدن آدم عليه السالم إلى آخر إنسان يكون في الدنيا،
يخرجون من قبورهم ويبعثون من قبورهم ،ويذهبون ويرجعون عند ذلك من الهول
والحيرة كأنهم فراش يطير وال يهتدي في طيرانه ،بل يكون مضطربا ،وذلك لشدة الهول
وشدة ما يرون من خروج الناس جميعاِ .
وتكون الجبال القوية الراسية كالصوف املنفوش الهش املتفرق الذي يتطاير مع الريح،
حيث تدك تلك الجبال وتفتت تفتيتا وتصير كالصوف املفرق ،إلى أن تصير ال ش يء
كالسرابِ .
وفي ذلك اليوم العظيم يكون الوزن الحق الذي ال ظلم فيه ،فتوزن اْلعمال وال يفقد
اإلنسان من عمله شيئا ،ويوزن العاملون ،فيأتي الرجل الكافر السمين العظيم ال يزن في
امليزان جناح بعوضة ،ويأتي املؤمن دقيق اْلعضاء وهو أثقل في امليزان من جبل أحد،
وتوزن صحف اْلعمال التي كتبت فيها اْلعمالِ .
397
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فمن ثقلت موازينه فأولئك املفلحون ،فمن ثقل ميزانه عند ربه فإنه املفلح السعيد الفائز
حقا وصدقا الذي يعيش عيشة مرضية يرضاها ويرض ى بها ويهنأ بها على وجه الكمال من
غير منغص لها أبدا ،وهي حياة سهلة طيبة ْلهلها منقادة ْلهلها ،يحصلون فيها اللذة
والنعيم من غير تعب ،بل تكون منقادة لهم سهلة ،وال يملون ذلك النعيم أبدا ،بل كلما
رزقوا النعيم كانوا كأنهم يرزقونه ْلول مرة ،ويحصل لهم فيها ما يشاؤون من النعيمِ .
وأما من خفت موازينه فلم تكن له حسنات أو رجحت سيئاته على حسناته فذاك هو
الخاسر حقا ،وهو في غاية الخسران والذلة في ذلك اليوم ،وهو ساقط بإذالل في جهنم،
حيث ُيسقط فيها ُويطرح فيها منكوسا يهوي على رأسه في النار ،وتكون مأواه النار شديدة
العذاب الذي ال يجد عنها مصرفا ،ويعلم وهو في ذلك املوقف أنه صائر إليها ،وهي بعيدة
القعر شديدة العذابِ .
وما أدراك ما الذي يأوي إليه والذي يصير إليه؟ إنها نار حامية شديدة الحر قوية اللهب،
وكل ما فيها من شراب وطعام وغير ذلك شديد الحرارة ،عظيم اْللم ،وهي محيطة بأهلها،
يحيط عذابها بأهلها ،وإذا كان أهون الناس عذابا فيها من في أخمص قدميه جمرتان يغلي
منهما دماغه فكيف بمن أحاطت به تلك النار وأحاط به لهيبها وأحاط به عذابها؟! ال شك
أن الخاسر كل الخسارة من كان مآله إلى النار ومأواه تلك النار ِ
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ،ثم نرجع إلى التفسير
التفصيلي فنقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللاِ .
قال اإلمام عبد الرحمان بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين:
َْ ُ
قوله﴿ :القا ِر َعة﴾ من أسماء يوم القيامة ،سميت بذلك ْلنها تقرع الناس وتزعجهم
بأهوالهاِ .
فهي تقرع اْلسماع عند النفخ في الصور ،فيفزع من في السماوات ومن في اْلرض إال ما شاء
هللا ،وتفزع القلوب ْلهوالها وما يكون فيها من تغير اْلحوال وعظيم اْلهوالِ .
وقال بعض العلماء :سميت بذلك ْلنها تقرع أعداء هللا بالعذابِ .
398
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وال مانع من اْلمرين فهي قارعة للناس جميعا بالفزع عند البعث لشدة ما فيها من أهوال،
وقارعة للكفار وأعداء هللا بالعذابِ .
َْ ُ َْ ُ
قال :ولهذا عظم أمرها وفخمه بقوله﴿ :القا ِر َعة (َ )1ما القا ِر َعة (ِ .﴾)2
َْ ُ َْ ُ
﴿القا ِر َعة (َ )1ما القا ِر َعة ( ﴾)2استفهام للتفخيم والتعظيمِ .
واملعنى؛ أي :ش يء هذه القارعة؛ إنها قارعة عظيمة اْلهوالِ .
َْ ُ وفخمه بقولهْ ﴿ :ال َقا َع ُة (َ )1ما ْال َقا َع ُة (َ )2و َما َأ ْد َ َ
اك َما القا ِر َعة (ِ .﴾)3 ر ِر ِر
اك َما القا ِر َعة﴾ لزيادة التفخيم والتعظيم ،واملقصود :وما أعلمك ما القارعة؟
َْ ُ ﴿و َما َأ ْد َ َ
َ
ر
فما أشدها وما أعظم أحوالها ،إنها عظيمة اْلحوال شديدة اْلهوالِ .
َ ْ َ َ ُ ُن َّ
الن ُ
اس﴾ من شدة الفزع والهول. ﴿ يوم يكو
حيث يخرجون جميعا من القبور ويبعثون من قبورهم فيهولهم اْلمر ،فيضطربون
ِويذهبون ويرجعون من شده الهول والفزعِ .
َْْ ُ َ َْ َ
وث﴾ أي :كالجراد اْلنتشر الذي يموج بعضه في بعض ،والفراش هي اش اْلب ِ
ث ﴿كالفر ِ
الحيوانات التي تكون في الليل يموج بعضها في بعض ،ال تدري أين توجه ،فإذا أوقد لها
نار تهافتت إليها لضعف إدراكها ،فهذه حال الناس أهل العقول.
يعني :يشبهون الفراش في حيرته واضطرابه عند تحركه مع أنهم أهل عقولِِ .
َ
والفراش قال بعد العلماء :هو الجرادِ .
وقال بعض العلماء :بل هو كل هذه الحيوانات الطائرة التي تطير في اضطراب وال تهتدي
في طيرانها ،فشبه هللا عز وجل الناس عند خروجهم من قبورهم في حيرتهم واضطراهم
وطريقة حركتهم بالفراش املبثوث املتطايرِ .
ن َ ْ ْ َْ ُ
وش﴾؛ أي :كالصوف اْلنفوش
ِ نف قال :وأما الجبال الصم الصَّلب فتكو ﴿كال ِعه ِن اْل
الذي بقي ضعيفا جدا تطير به أدني ريحِ .
وقال بعض أهل العلم :العهن هو الصوف امللون ،وذلك أن الجبال ألوان فإذا نفشت
تظهر كأنها صوف ملو ِنِ .
399
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
400
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َُ
﴿فأ ُّم ُه﴾؛ أي :مأواه ومسكنه هكذا قال بعض املفسرين ،معنى فأمه؛ أي :مأواه ومسكنه
الذي يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه ،فال مصير له وال مأوى إال النارِ .
َ ٌ
﴿ه ِاو َية﴾ هي النار ،وسميت بالهاوية ْلن قعرها بعيدِ .
ٌ َُ
﴿فأ ُّم ُه َه ِاو َية﴾؛ أي :مأواه ومسكنه النار التي من أسماءها الهاوية تكون له بمنزلة اْلم
َ َ َ َ
﴿إ َّن َعذ َاب َها كان غ َر ًاما﴾ [الفرقان.]65 :
اْلَّلزمة كما قال تعالىِ :
وقيل :إن معنى ذلك فأم دماغه هاوية في النار؛ أي :يلقى في النار على رأسهِ .
َ
وقيل( :أمه)؛ أي :مقصوده الذي يقصده من اْل ِ ِِّم وهو القصد ،فهو يتوجه إلى النار ،وال
توجه له إال إلى النار ،فال منجاة له من النار ،فال يجد عنها مصرفاِ .
ْ َ َ َ َ ْ ََ َ
﴿وما أدراك ما ِهيه﴾.
املعنى :أتدري وتعلم ما هي؟ إنها شديدة عظيمةِ .
ٌ َ ﴿و َما َأ ْد َ َ
اك َما ِه َي ْه﴾ وهذا تعظيم ْلمرها ،ثم فسرها بقوله﴿ :ن ٌار َح ِام َية﴾؛ أي :شديدة َ
ر
الحرارة قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا بسبعين ضعفا فاستجيروا باهلل منها.
وفي الحديث أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال(( :ناركم جزء من سبعين جزءا من نار
ُ
جهنم)) ،قيل :يا رسول هللا إن كانت لكافية ،فقال صلى هللا عليه وسلم(( :فضلت عليهن
بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)) متفق عليهِ .
فنار الدنيا جميعا بنيران اْلرض كلها إنما هي جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم،
ُ
طفأ باملاء مرتين ملا انتفعنا به ،وفي الحديث أن النار اشتكت إلى ربها
ولوال أن هذا الجزء ِ
أ
وقالت( :رب قد أكل بعض ي بعضا) من شدة حرها ِوشدة بردها ،فأذن هللا لها بنفسين في
الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر ،وفي الشتاء فهو أشد ما تجدون من الزمهرير ،متفق
عليهِ .
فاهلل عز وجل قد أرى الناس جزءا صغيرا جدا من النار وهي نارهم التي يرونها في الدنيا،
وأذاقهم شيئا يسيرا جدا من حر النار وبردها ،فأشد ما يجده الناس في الدنيا من الحر إنما
هو نفس تتنفسه جهنم ،وأشد ما يجدون من البرد الذي يقتل املئات إنما هو نفس من
نفس جهنم ،فكيف بجهنم والعياذ باهللِ .
401
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ما أقس ى القلوب يا إخوة؛ ما أقس ى القلوب!! تسمع هذا الكالم ،وتعلم هذا العلم ،ومع
ذنب يعلمه
شخص منا اآلن هو صاحب ٍٍ ذلك تراها جامدة كأنها ال تسمع شيئا ،كم من
ويعلم أنه ٌ
مقيم عليه ،فهل حرك هذا الكالم قلبه؟ ليراجع نفسه في هذا الذنب وليعزم على
التوبة ،وليعزم على اإلقالع عنه والرجوع إليه ،الرجوع إلى هللا سبحانه وتعالى منه؟ أم أن
قلوبنا أصبحت أقس ى من الحديد وأقس ى من الجبال؟ نسأل هللا أن يلين قلوبنا لطاعته،
وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنهِ .
ُ
هذه السورة مقصدها اْلعظم :وعظ القلوب بما يكون من أهوال يوم القيامة لت ِ
حسن
اْلنفس االستعداد لذلك اليوم ،لكي يكون اإلنسان فيه من املفلحين ،وطريق الفالح هو
اإليمان والعمل الصالح ،لينال العبد فضل هللا سبحانه وتعالىِ .
ِ
ِ
ِِ
402
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة التكاثر.
بسم هللا الرحمن الرحيم:
َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َ َّ َْ َ ْ َ ُ ُ َّ َ ُ
التكاث ُر (َ )1ح َّت ٰى ُز ْر ُت ُم اْل َق ِاب َر ( )2كَّل َس ْوف ت ْعل ُمون ( )3ث َّم كَّل َس ْوف ت ْعل ُمون ﴿ألهاكم
ُ َ ْ ُ ََ (َ )4ك ََّّل َل ْو َت ْع َل ُمو َن ع ْل َم ْال َيقين (َ )5ل َت َر ُو َّن ْال َجح َ
يم ( )6ث َّم لت َر ُو َّن َها َع ْين ال َي ِق ِين ( )7ث َّم ِ ِ ِ ِ
َّ َ َ ْ َ َّ َُ ْ َُ
لتسألن يوم ِئ ٍذ ع ِن الن ِع ِيم ([ ﴾)8التكاثر.]8-1 :
هذه السورة تسمى سورة التكاثر ،وتسمى سورة ألهاكم ،وتسمى سورة املقبرةِ .
وهذه السورة مكية ،يخاطب هللا فيها الناس بأنه قد أشغل قلوبكم وأبدانكم عن طاعة
ربكم وآخرتكم ما تطلبون كثرته من اْلموال واْلوالد وغيرها ،فاشتغلتم بذلك عن دينكم
وعن أمور آخرتكم ،والزلتم تنتقلون من ٍ
طلب للتكاثر إلى طلب حتى جاءكم املوت وأنتم
غافلون ،وتركتم ما ألهاكم فأنتم عنه راحلونِِ .
حرص أحدكم على جمع املال ونس ي اآلخرة ،ثم رحل عنه وتركه للناس ،ولم يدخل معه من
ماله ش يء قبره ،وحرص أحدكم على إكثار اْلوالد ولها بذلك عن املقصود ،ثم رحل وتركهم
فساروا خلفه إلى قبره ،ثم رجعوا وتركوه ،وما هي إال أيام ويكونون قد نسوهِ .
والقبور مع هولها وما فيها من فتنة ونعيم أو عذاب ما أنتم لها إال زائرون ،ثم إنكم بعد
ذلك مبعوثون ومحاسبون ومجزيون ،بعد أن كنتم في تكاثركم كأنكم في الدنيا مخلدون،
وعما عملتم فيها ال تحاسبونِِ .
كال ليس اْلمر كما تزعمون؛ بل إنكم ميتون يقينا ،فإذا متم وصرتم إلى قبوركم ستعلمون
علما ال شك فيه أن انشغالكم بأمور الدنيا عن اآلخرة ال خير لكم فيه ،بل هو شر عليكم،
وستعلمون يقينا أن اآلخرة خير وأبقىِ .
ثم كرر ذلك تغليظا وتهديدا وتخويفا ،ولو علمتم هذا العلم الذي تعلمونه عند حضور
املوت في دنياكم لكان ذلك زاجرا لكم عن اللهو بالتكاثر عن أخراكم ،لكن ذلك العلم بعد
املوت ال ينفعكم شيئا ،فوهللا لترون الجحيم يوم القيامة تقرب ْلصحابها ،يؤتى بها لها
سبعون ألف زمام ،مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ،وعند ذلك سترونها عين
اليقين ،ويعلم أصحابها أنهم ال نجاة لهم منها ،وال يجد املجرمون عنها مصرفاِ .
403
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ثم في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من رؤوس الخالئق مقدار ميل ،ويعرقون
على قدر أعمالهم ،فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه ،ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه،
ومنهم من يصل العرق إلى حقويه ،ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ،في ذلك اليوم العظيم
لتسألن عن نعم هللا عز وجل ماذا عملتم فيهاِ .
وأول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال له :ألم نصح لك جسدك ونسقيك من املاء
البارد؟ هذا أول ما يسأل عنه العبد من النعيم ،وسيسأل عن نعم هللا عز وجل ماذا عمل
فيهاِ .
فأما املحسن فيسأل عن النعيم تذكيرا وامتنانا عليه بالنعم ،وأما املس يء فيسأل عن النعم
تبكيتا وليجازى على إساءته فيها ،وأنت يا عبد هللا تتقلب في نعم هللا ،كل ما أنت فيه نعم
من هللا عز وجل وستسأل عن النعيم ،ستسأل عن هذه النعم ماذا عملت فيها؟ فإياك ثم
إياك أن تستعمل نعم هللا فيما حرم هللا ،أن تستعمل نعم هللا فيما يغضب هللاِ .
أنعم هللا عليك بنعم في جسدك فإياك أن تستعملها في معاص ي هللا ،أنعم هللا عليك بنعم
فيما حولك من أجهزة وغيرها فإياك أن تستعملها فيما يغضب هللا ،فإنك يوم القيامة
مسؤول عن ذلك النعيمِ .
هذا هو املعنى اإلجمالي اإليماني املوضوعي آليات هذه السورة العظيمة ونرجع إلى املعنى أو
التفسير التفصيليِ .
قال رحمه هللا تعالى :يقول تعالى موبخا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته
ُ ََْ ُ
وحده ال شريك له ومعرفته واإلنابة إليه وتقديم محبته على كل ش يء﴿ :ألهاكم﴾ِ .
َْ ُ
﴿أل َهاك ُم﴾ من املخاطبون؟ جنس الناس إال من علم حقيقة الدنيا فقدم عليها اآلخرةِ .
اْلصل في اإلنسان اللهو ،واللهو :هو اشتغال القلبِ .
العلماء يقولون :اللعب بالبدن واللهو اشتغال القلب بما ال ينفع ،فاملخاطبون هم الناس
جميعا إال من علم حقيقة الدنيا فقدم عليها اآلخرةِ .
وقال بعض اْلفسرين :الخطاب للكفارِ .
وقال بعض اْلفسرين :الخطاب لكل من لها بالتكاثرِ .
404
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
واْلرجح اْلول أن الخطاب لجنس اإلنسان إال من علم حقيقة الدنيا فقدم اآلخرة عليها ِ
َ َّ َ ُ َْ ُ
﴿أل َهاك ُم﴾ عن ذلك اْلذكور﴿ ،التكاث ُر﴾ ولم يذكر اْلتكاثر به ليشمل ذلك كل ما يتكاثر
به اْلتكاثرون ،ويفتخر به اْلفتخرون من التكاثر في اْلموال واْلوالد واْلنصار والجنود
والخدم والجاه وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد لآلخر ،وليس اْلقصود منه
وجه هللا.
حتى قال بعض أهل العلم :إن طلب العلم للمفاخرة واملباهاة يدخل في التكاثر املذموم
هنا ،كون اإلنسان يكثر املسائل ويكثر طلب العلم ال يبتغي بذلك وجه هللا وإنما يريد أن
يفاخر الناس وأن يتباهى على الناس بالعلم ،فإنه يدخل في ذلكِ .
فكل ما يطلب الناس التكاثر فيه والكثرة الكثيرة فيه وال يريدون بذلك الخير ووجه هللا
سبحانه وتعالى يدخل في ذلك ،وقد روى مسلم عن مطرف عن أبيه أنه قال :أتيت النبي
َ ْ ُ َّ َ ُ
صلى هللا عليه وسلم وهو يقرأ﴿ :أل َهاك ُم التكاث ُر﴾ فقال صلى هللا عليه ِوسلم(( :يقول ابن
آدم :مالي مالي؛ وهل لك يا ابن آدم من مالك إال ما أكلت فأفنيت ،أو لبست فأبليت ،أو
تصدقت فأبقيت))؛ أي :وما سوى ذلك فإنه ليس لك وإنما هو للورثة كما جاء في الرواية
ى(( :وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس)) ،وهذا تفسير بنوع من التكاثر وليس هو
اْلخر ِ
كل التكاثرِ .
واملقصود أن اإلنسان إذا لها بهذا التكاثر فإن هذا يغويه عن الحق ،ثم إنه سيزول عن
هذا أو يزول هو عنه والبد ،فال تبقى إال العاقبة السيئة لهذا التكاثرِ .
ُ ُ ََْ
قال فاستمرت غفلتكم ولهوتكم وتشاغلكمَ ﴿ ،ح َّت ٰى ز ْرت ُم اْلق ِاب َر﴾ فانكشف حينئذ لكم
الغطاء ولكن بعدما تعذر عليكم استئنافهِ .
َ ُ ُ ََْ
﴿ح َّت ٰى ز ْرت ُم اْلق ِاب َر﴾ أنكم أسرفتم في هذا قول اْلكثر ،وقال بعض أهل العلم :معنى
التكاثر حتى أصبحتم تتكاثرون بالقبور ،فيأتي الرجل من القبيلة فيقولِ :نحن أكثر من
قبيلتكم وإن أردتم تعالوا نذهب إلى القبور قبورنا أكثر من قب ِوركم ،موتانا أكثر من
موتاكم؛ ْلنا أكثر منكم عددا ،فأسرفتم في التكاثر حتى أصبحتم تتكاثرون بالقبور ،ولكن
اْلول أولى وهو قول اْلكثر من العلماءِ .
405
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ ُ ُ ََْ
﴿ح َّت ٰى ز ْرت ُم اْلق ِاب َر﴾ أن البرزخ دار اْلقصود منها النفوذ إلى الدار اآلخرة؛ ْلن ودل قوله:
هللا سماهم زائرين ولم يسمهم مقيمين.
ً ً
واإلنسان في قبره يحيى حياة برزخية يفتن في قبره ويسأل ،وينعم أو يعذب ،فإن كان منعما
ً
قال :رب أقم الساعة ،وإن كان معذبا مع أنه في عذاب يقولِ :رب ال تقم الساعة؛ ْلنه يعلم
أن ما أمامه من عذاب أعظم من هذا العذابِ .
وهم للقبور زائرون ،والزائر ال يقيم ،ولذلك قول بعض الناس :انتقل إلى مثواه اْلخير ،غير
صحيح ْلن القبر إنما هو محل زيارة وليس املثوى اْلخير ،وإن كان بعضهم يقول املقصود
مثواه اْلخير في اْلرض ،فإنه بعدها يبعث ،لكن هذا ال ينبغي ،فال ينبغي أن يقال انتقل إلى
ٌ
مثواه اْلخير ،وإنما هو زائر للقبر ومحصل في القبر ما يحصل ،ثم مبعوث من قبرهِ .
َ َّ
باقية غير فانية ،ولهذا توعدهم﴿ :كَّل دار ٍ فدل ذلك على البعث والجزاء على اْلعمال في ٍ
َ َ َ َ
َس ْوف ت ْعل ُمون﴾.
َ َّ
﴿كَّل﴾ كلمة للردع؛ أي :ارتدعوا عن هذا اللهو بالتكاثرِ .
ً ً
وقال بعض اْلفسرين :معناها حقا ويقينا سوف تعلمونِِ .
َ َ َ
و ﴿ت ْعل ُمون﴾ يعني :تعلمون عاقبة أمركم ،وأن اآلخرة خير وأبقى وذلك عند حضور املوتِ .
َ َ َ َ ُ َ َّ
﴿ث َّم كَّل َس ْوف ت ْعل ُمون﴾.
تكرار للتأكيد والتهديد والتخويفِ .
َ َّ َ َ َ َ ْ ْ
﴿كَّل ل ْو ت ْعل ُمون ِعل َم ال َي ِق ِين﴾ أي :لو تعلمون ما أمامكم علم يصل إلى القلوب ْلا ألهاكم
التكاثر ،ولبادرتم إلى اْلعمال الصالحة ،ولكن عدم العلم الحقيقي صيركم إلى ما ترون.
﴿ل َت َر ُو َّن ْال َجح َ َ
يم﴾ِ . ِ
يم﴾ هذا جواب قسم مقدر تقديره :فوهللا لترون الجحيم ،فهذه جملة ﴿ َل َت َر ُو َّن ْال َجح َ
ِ
جديدة وهي جواب قسم مقدرِ .
﴿ل َت َر ُو َّن ْال َجح ََ
يم﴾؛ أي :لتردن القيامة فلترون الجحيم التي أعدها هللا للكافرين. ِ
في عرصات القيامة حيث تقرب ْلصحابها ،وتأتي لها سبعون ألف زمام ،ومع كل زمام
سبعون ألف ملك مع قوتهم وعظم ِخلقتهم ،مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ،وهذا
406
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
دليل على كبرها وشدة ما فيها وثقل ما فيها ،نعوذ باهلل منها ،نعوذ باهلل من النار ،نعوذ باهلل
من النار ،نعوذ باهلل من النارِ .
َ َّ َ َ ُّ َ َ ُْ َ ْ ُ ََ
﴿و َرأى اْل ْج ِر ُمون الن َار فظنوا ﴿ث َّم لت َر ُو َّن َها َع ْين ال َي ِق ِين﴾؛ أي :رؤية بصرية كما قال تعالى:
َ َّ ُ ُّ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ َ ْ ً
ص ِرفا﴾ [الكهفِ .]53 : أنهم موا ِقعوها ولم ي ِجدوا عنها م
َّ َ َ ْ َ َّ ُ َّ َ ُ ْ َ ُ
﴿ثم لتسألن يوم ِئ ٍذ ع ِن الن ِع ِيم﴾ الذي تنعمتم به في دار الدنيا ،هل قمتم بشكره وأديتم
نعيما أعلى منه وأفضل. حق الله فيه ولم تستعينوا به على معاصيه؟ فينعمكم ً
أم اغتررتم به ولم تقوموا بشكره بل ربما استعنتم به على اْلعاص ي؟ فيعاقبكم على
ُ َ َّ َ ْ ُ َ ُ َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َّ َ َ َ
ين كف ُروا َعلى الن ِار أذ َه ْبت ْم ط ِي َبا ِتك ْم ِفي َح َيا ِتك ُم ذلك ،قال تعالى﴿ :ويوم يعرض ال ِذ
ُّ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ
اب ال ُهو ِن﴾ [اْلحقاف.]20 : الدنيا واستمتعتم ِبها فاليوم تجزون عذ
هذه اآلية مقصودها اْلعظم أن يعلم املسلم حقيقة حاله ومآله ،وأن اليقين أنه ميت،
فيحسن االستعداد لآلخرة ،ويقدم اآلخرة على الدنيا ،وهذا هو حال السلف الصالح ُ
رضوان هللا عليهم ومن قبلهم حال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فإن النبي صلى هللا
عليه وسلم كان يكون مع أهله فإذا نودي للصالة كان كأنه ال يعرفهم ،وكان بعض السلف
ربما رفع املطرقة فأذن املؤذن فأسقطها من يده ولم يرجعها ،من شدة استجابتهم
وتقديمهم لآلخرة على هذه الدنياِ .
هذا مقصود هذه السورة :أن تعلم أيها املسلم حقيقة حالك في الدنيا ،وأن الدنيا دار
الغرور ودار التعب والعمل ،وأن اليقين وإن تناسيته أنك ستموت ،وإذا مت فإنك ستبعث،
وإذا بعثت فإنك ُ
ستجازى على عملك ،وهذا يجعل املؤمن ُيحسن االستعداد لآلخرة بفعل
الطاعات واجتناب املحرماتِ .
ِ
ِ
ِِ
407
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
سورة العصر
بسم هللا الرحمن الرحيم
الصال َحات َو َت َو َ
اص ْوا ان َلفي ُخ ْسر ( )2إ َّال َّالذ َ
ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ َّ ْ َ َ
نس اإل ن إ ) 1 ( ر ﴿و ْال َع ْ
ص َ
ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ ِ
الص ْب ِر (ِ .﴾)3
اص ْوا ب َّ ب ْال َحق َو َت َو َ
ِ ِ ِ
هذه السورة مكية عند جمهور العلماء ،يقسم هللا عز وجل فيها بالزمان الذي تقع فيه
أقوال وأفعال العباد ،وتحدث فيه آيات عظام في الكون يقع بها االعتبار ملن تأمل وتدبر
ونظر وتفكرِ .
والعظيم سبحانه وتعالى إذا أقسم بش يء دل على عظمته وعظمة ما فيه ،فالعظيم
سبحانه يقسم بهذا الزمان على أمر عظيم يهم كل إنسان أال وهو أن جنس اإلنسان في
خسر وضياع وحسرة وعقوبة إال من استثنى الرحمن سبحانه وتعالى ،وهم الذين آمنوا،
فآمنوا بربهم سبحانه وتعالى ،وآمنو برسله وكتبه ومالئكته واليوم اآلخر والقدر خيره وشرهِ .
ومع إيمانهم ومن إيمانهم عملوا الصالحات ،فاجتهدوا في إرضاء هللا عز وجل بعمل
الصالحات التي فيها اإلخالص هلل عز وجل واملتابعة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ال
يكسلون عن العمل الصالح ،وال يملون من العمل الصالح ،يتعبون أنفسهم في ظاهر اْلمر،
وهم يريحونها حقيقة في الدنيا ويسعون إلى الراحة العظمى في اآلخرة عندما يحطون
رحالهم في جنة رب العاملينِ .
ولن يكون اإليمان والعمل الصالح إال ثمرة العلم ،فالعلم يثمر اإليمان ،واإليمان يدعو إلى
العلم ويثمر العمل الصالح ،فهم يجمعون بين الفضيلتين العظيمتين :العلم ِوالعمل ،فلم
يعملوا بال علم فيكونوا ضالين ،ولم يعلموا بال علم فيكون من مغضوبا عليهم ،بل جمعوا
بين العلم والعملِ .
ومع ذلك فهم يوص ي بعضهم بعضا بالحق ،يوص ي بعضهم بعضا بالقرآن وبسنة النبي
صلى هللا عليه وسلم وبالعمل الصالح الذي دل عليه القرآن والسنة ،ويوص ي بعضهم
بعضا بالصبر ُوي َ
صبر بعضهم بعضا ،يتواصون بالصبر على طاعة هللا ،ويتواصون بالصبر
408
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
عن معصية هللا ،ويتواصون بالصبر على أقدار هللا عز وجل ،فهم عاملون بالحق وعاملون
بالحق ،وداعون ومعلمون للحق ،وصابرون على الحق ،وموصون بالحق والصبر على الحق،
ومن جمع هذا فهو أهل للفالح الكامل ،وينقص فالحه بحسب ما ينقص من ذلكِ .
وأما من لم يكن من أهل االستثناء فإنه باق على اْلصل وهو أنه في خسارة وفي ضياع وأن
مآله إلى حسرة وإلى عقوبة من هللا عز وجلِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة القليلة في العدد العظيمة
في املعنى ،ثم نرجع إلى التفسير التفصيلي ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا عز
وجل ،ونعلق ما يحتاج إلى تعليق ونتمم ما يحتاج إلى إتمامِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعينِ :
أقسم تعالى بالعصر الذي هو الليل والنهار محل أفعال العباد وأعمالهمِ .
نعم هذا قول اْلكثر ،وقيل :إن العصر هو السنة ،فالسنة الواحدة تسمى عصراِ .
وقيل :إن العصر هنا هو الوقت املعروف املسمى بالعصر ،وهو جزء من اليوم في آخر
النهارِ .
ولكن اْلكثر على اْلول الذي ذكره اإلمام السعدي رحمه هللاِ .
ُ َّ ْ َ َ َ
نسان ل ِفي خ ْس ٍر﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني في هالكِ . اإل
﴿ ِإن ِ
وقال بعض اْلفسرين :يعني في ضياعِ .
وقال بعض اْلفسرين :يعني في عقوبةِ .
وقال بعض اْلفسرين :يعني في حسرةِ .
وهذا اختالف تنوع فالكل صحيحِ .
وما املراد باإلنسان هنا؟ قال بعض اْلفسرين :هو جنس اإلنسان إال من استثنى هللاِ .
وقال بعض اْلفسرين :هو الكافر ،فيكون االستثناء هنا منقطعا إن اإلنسان الكافر لفي
خسر لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في فالحِ .
ولكن اْلقرب وهللا أعلم أن اإلنسان هنا هو جنس اإلنسان ،فاإلنسان اْلصل فيه أنه في
هالك وخسارة وضياع إال إذا اتصف بما ذكره هللا عز وجلِ .
409
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أقسم هللا تعالى بالعصر الذي هو الليل والنهار محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل
إنسان خاسر ،والخاسر ضد الرابح ،والخسار مراتب متعددة متفاوتة :قد يكون خسارا
مطلقا كحال من خسر الدنيا واآلخرة وفاته النعيم واستحق الجحيمِ .
وهذا حال الكفار واملنافقين فإنهم في خسارة مطلقا ،وإياك أن تغتر ببهرجة الدنيا وزخارف
الدنيا التي يكون فيها الكفار ،فإنهم وهللا لفي خسر خسارة تامة مطبقة ما لم يخرجوا من
كفرهم وما لم يخرجوا من نفاقهمِ .
قال :قد يكون خاسرا من بعض الوجوه دون بعضِ .
وهذا في حق املؤمن العاص ي ،فإنه يكون خاسرا من جهة عصيانهِ .
ولهذا عمم هللا الخسارة لكل إنسان إال من اتصف بأربع صفات :اإليمان بما أمر هللا
باإليمان بهِ .
فيؤمن باْلركان الستة وبكل غيب ذكره هللا عز وجل ،فيؤمن بالقبر وعذاب القبر وفتنة القبر
وغير ذلك مما ذكره هللا عز وجل ،يؤمن بذلك إيمانا ال شك فيه وال يتطرقِ إليه احتمالِ .
قال :وال يكون اإليمان بدون العلم ،فهو فرع عنه ال يتم إال بهِ .
فتضمن ذكر العلم؛ ذكر اإليمان والعمل الصالح تضمن ذكر العلم؛ ْلن العلم قنطرة
اإليمان والعمل الصالحِ .
قال :والعمل الصالح وهذا شامل ْلفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة اْلتعلقة بحقوق
هللا وحقوق عباده الواجبة واْلستحبةِ .
وال يكون العمل صالحا إال بشرطينِ :
.1اإلخالص هللِ .
.2واملتابعة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
وكل عمل فقد الشرطين أو أحدهما فهو عمل فاسد صاحبه مستحق للعقوبة وليس عامال
عمال صالحاِ .
قال :والتواص ي بالحق الذي هو اإليمان والعمل الصالح أي:؛ يوص ي بعضهم بعضا
بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيهِ .
410
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وقيل :الحق هو القرآن وما دل عليه القرآن ،فهم يتواصون بالقرآن تالوة ومعرفة للمعاني
وعمال بما فيه ،ويتواصون بالسنة؛ ْلن الزم التواص ي بالقرآن التواص ي بالسنة ،فهما
مقترنان ،والسنة وحي الحق(( :أال إني أوتيت القرآن ومثله معه)) ،واملؤمن ال يفرق بين
الوحي ،فالكل حق من هللا سبحانه وتعالىِ .
ويتواصون أيضا فيما بينهم بالعمل الصالح ،وإذا رأى أحدهم من أخيه نقصا أو كسال
أوصاه فيما ُ
بينه وبينه ،وحرص على أن يدعوه إلى الخير؛ ْلنه يحب ْلخيه ما يحب لنفسه،
اْلخالق ،يوصون من يرون فيه تقصيرا خاصا في نفسه وال ينشرون ذلك
وهذه صفات أهل ِ
بين الناس ،وال يعيبونه من وراء ظهره ،وال يوصونه إذا التقوا به ،بل ما دام أن اْلمر
خاص ،فإنهم ال ينشرونه بين الناس ،ومع ذلك ال يتركون صاحبه ،بل ينصحونه ويوصونه
بالحق وبالخيرِ .
قال :والتواص ي بالصبر على طاعة هللا وعن معصية هللا وعلى أقدار هللا اْلؤْلة وهذه
أنواع الصبر الثالثةِ :
.1الصبر على الطاعة :وال شك أن اإلنسان يحتاج إلى الصبر على الطاعة والسيما في
ِّ
املخذلون عن الطاعة :وأنت معقد ،وأنت متشدد ،وأنت ِ زمن الفتن الذي يكثر فيه
تأتينا باإلسالم السعودي ،وأنت ِوأنت ،...فاإلنسان يحتاج إلى صبر على هذه
َّ
الطاعة ،ومن صبر حيث يخذل عن الطاعة عظم أجره حتى قد يبلغ به الحال أن
يثاب ثواب خمسين من صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فالطاعة تحتاج
إلى صبر.
.2والصبر أيضا عن اْلعصية :واملعصية يزخرفها شياطين اإلنس والجن وتزخرفها
النفس اْلمارة بالسوء ،فيحتاج اإلنسان أن يصبر عنها والسيما في الخلوات حيث ال
يراه أحد من الناس ،فيحتاج أن ِّ
يصبر نفسه وأن يذكرها بأن هللا يراه.
ِ
.3والصبر على أقدار هللا عز وجل :ويحتاج املؤمن أن يصبر نفسه عن املصائب،
ونزول املصيبة دليل على املحبة إن لم يكن ذلك استدراجا ،فإن هللا إذا أحب
قوما ابتالهم ،ويبتلى الناس بقدر محبة هللا لهم وبقدر دينهم.
411
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ولذلك بعض السلف إذا مرت عليه أيام لم ُي ْب َت َل بمصيبة يتفقد نفسه ،وإذا
نزلت املصيبة باإلنسان والبالء باإلنسان فإنه يصبر نفسه أن الذي أنزلها هو هللا
املالك له ،فاهلل مالك وهو عبد ،وللمالك أن يفعل بعبده ما يشاء ،وهذا املالك
سبحانه ال يظلم الناس شيئا ،وإنما يفعل عن حكمة ،فال يسأل عما يفعل
سبحانه وتعالى ،وهذا املالك الحكيم إن ابتلى بش يء فقد أنعم بأشياء ،ثم هذا
االبتالء ملصلحة املبتلىِ :
-لتذكيره ليعبد هللاِ .
-لتكفير سيئاتهِ .
-لتعلو درجته في الجنةِ .
فكيف ال يصبر إذا علم املؤمن هذا؟! ِ
ثم إن البالء مار وليس قارا ،البالء يمر وكل عسر يعقبه يسر فيصبر املؤمن على
هذا اْلمر.
قال :فباْلمرين اْلولين يكمل العبد نفسهِ .
يعني :باإليمان والعمل الصالحِ .
وباْلمرين اْلخيرين يكمل غيرهِ .
يعني بالت ِواص ي بالحق والتواص ي بالصبر ،والحق أنه بالتواص ي بالحق والتواص ي بالصبر
يكمل نفسه ويكمل غيره ،فالتواص ي هذا عمل صالح في ذاته ،ومن وص ى غيره فإن في هذا
موعظة لنفسه ،ولذلك العاقل ال يمكن أن يوص ي غيره بش يء ويترك ذلك الش يء إال أال
يكون مطلوبا منه هو ،فبالتواص ي بالحق والتواص ي بالصبر يكمل اإلنسان نفسه وغيرهِ .
قال :وبتكميل اْلمور اْلربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيمِ .وبهذا
يتم تفسير سورة العصر ،ومقصود هذه السورة :أن الناس في الدنيا ينقسمون إلى قسمين:
أهل ربح وأهل خسارة ،وأن أهل الربح هم أهل اإليمان والعمل الصالح والتواص ي بالحق
والتواص ي بالصبر ،وأن أهل الخسارة هم من عدا ذلكِ .
ِ
412
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ِ
ِ
ِِ
413
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الهمزة
بسم هللا الرحمن
َ َّ َ َ َْ َ ً َّ ُّ َ ُ
﴿و ْي ٌل ِلك ِل ُه َم َز ٍة ْل َز ٍة ( )1ال ِذي َج َم َع َماال َو َع َّد َد ُه (َ )2ي ْح َس ُب أ َّن َمال ُه أخل َد ُه ( )3كَّل ۖ
َ
َ َّ َ َّ َ َّ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ
اك َما ال ُحط َمة ( )5ن ُار الل ِه اْلوق َدة ( )6ال ِتي تط ِل ُع َعلى َل ُي َنب َذ َّن في ْال ُح َط َمة (َ )4و َما َأ ْد َ َ
ر ِ ِ
َّ َ َ َ ْ ُّ ْ َ ٌ َْْ
ص َدة (ِ )8في َع َم ٍد ُّم َم َّد َد ٍة (.﴾)9 اْلف ِئ َد ِة (ِ )7إنها علي ِهم مؤ
َِ
املغتاب في هذه السورة املكية باتفاق العلماء يتوعد هللا عزو جل بالنار وشديد العذاب
الطعان الذي يطعن في الناس ويعيب الناس بقوله أو فعله أو إشارته بغير حق ،ويتنقصهم
ويتتبع عيوبهمِ .
ومع ذلك فهو بخيل جماع للمال ،ال يخرج منه حقه ،ويعده دائما ويحسبه دائما خوف
نقصانه ،مع أنه يعلم أنه لم ينفق منه شيئا ،فيعده صباحا ثم يعده مساء ،وهو يعلم أنه
لم ينفق منه شيئاِ .
وهو لجهله يظن أن ماله سيخلده في الدنيا ،ويحميه من املوت ،ويبقى ذكره بين الناس إذا
مات ،فهو يظن أن هذا املال يجلب له الصحة والعافية والقوة والبقاء في الدنيا ،وأنه إذا
جاءه املوت سيبقى ذكره بين الناس؛ ْلنه صاحب أموالِ .
وليس اْلمر كما يظن بل وهللا سيموت ويبعث ويجازى ويطرح في النار طرحا بإهانة،
وتحطمه النار وتطحنه طحناِ .
وما أدراك ما الحطمة؟ إن شأنها عظيم وعذابها شديد ،تطحن أهلها وأهلها في عذاب
شديد ،إنها النار التي أعدها هللا عز وجل لعذاب املستحقين للعذاب ،التي أوقد عليها فهي
سوداء مظلمة ،ومن وقودها الناس والحجارة ،وعذابها شديد ،فهي تحرق أهلها حتى تبلغ
قلوبهم ،فكل اْلعضاء في ظاهرها وباطنها تحرق بنارها ويصل لهبها إلى القلوب التي في
الصدور ،وهي على أهلها مطبقة مغلقة محكمة اْلبواب ،قد جعل هللا على أبوابها أعمدة
إلحكام إغالقها ،ولييأس أهلها من فتح أبوابها ،وفيها أعمدة ُيربط فيها أهل النار وأعمدة من
نار يعذب بها أهل النار ،فهم في ألوان من العذاب ال يألفون العذاب أبدا بل يجدد عليهم،
وهم يائسون من الخروج من هذا العذاب ،فقد يئسوا من املوت ،ويئسوا من سؤال
414
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
إخراجهم منها ،ويئسوا من فتح أبوابها ،وهذا من أشد عذابها على أهلها ،ومع ذلك فلهبها
شديد يحرق اإلنسان من ظاهره وباطنه ،نعوذ باهلل من عذاب النار ،نعوذ باهلل من عذاب
النار ،نعوذ باهلل من عذاب النارِ .
هذا هو املعنى اإلجمالي اإليمان املوضوعي آليات هذه السورة ،ونرجع إلى التفسير التفصيلي
فنقرأ ما ذكره اإلمام السعدي رحمه هللاِ .
﴿ َو ْي ٌل﴾؛ أي :وعيد ووبال وشدة عذابِ .
﴿و ْي ٌل﴾ كلمة وعيد؛ أي :أن لهم وعيدا وشدة عذابِ .
هذا عند أكثر العلماء أن َ
415
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وكلمة املفسرين جميعا على أن الهماز اللماز اْلصل فيه أنه املغتاب الذي يغتاب الناس
ويعيبهم ،وكذلك على الراجح السباب الذي يسب الناس ويطعن فيهم بحضورهمِ .
قال :ومن صفة هذا الهماز اللماز أنه ال هم له سوى جمع اْلال وتعديده والغبطة بهِ .
﴿و َع َّد َد ُه﴾ قيل :إنه من بخله يكثر عده ،فدائما يعد املال وال ينفق منه شيئا ،ولكنه من
َ
هلل ما أخاف من املستقبل ،أنا عندي أموال ،فيعتمد على ماله ،ويعد املال أمانا
للمستقبل ،وال يتوكل على هللا ،وإنما يعتمد على هذا املال ،فهو يجعله ويعده لنوائب الدهر
معتمدا عليهِ .
﴿و َع َّد َد ُه﴾؛ أي :كنزه ولم ينفق منه ال اإلنفاق الواجب وال اإلنفاق
وقال بعض املفسرينَ :
املستحبِ .
وقال بعض املفسرين :وعدده؛ أي :أعده للورثة ،ليس بقصد منه لكنه جمعه جمعه
جمعه ثم مات وتركه ،فهو للورثةِ .
وكل هذه املعاني صحيحة ،فهو يعده عدا ،ويكثر عده ،ويعتمد عليه في اْلمان من مصائب
الدهر ،وال ينفق منه ال النفقة الواجبة وال النفقة املستحبة ،ومع ذلك فإنه ميت عنه
وتاركه للناس إن لم يبتل في حياته بذهاب املال من بين يديهِ .
﴿ي ْح َس ُب﴾
قال :وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة اْلرحام ونحو ذلكَ .
بجهلهِ .
﴿ي ْح َس ُب﴾ يعني يظنِ .َ
َ َ َْ َ
﴿ي ْح َس ُب﴾ بجهله؛ ﴿أ َّن َمال ُه أخل َد ُه﴾ في الدنياِ .
َ
بجسده أو بذكره ،بجسده حيث يحسب أن املال سيبقيه قويا صحيحا سليما؛ ْلن عنده
أموال ،ويحسب لجهله أنه إذا مات سيبقى ذكره بين الناس ْلنه شريف والناس يأتون إليه
وعند بابه ْلنه صاحب مال؛ ْلن الناس في الغالب يميلون إلى صاحب املال ،وال يتنبه
املسكين إلى ما قاله ذاك القائلِ :
416
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
417
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
418
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الفيل
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ ص َحاب ْالفيل (َ )1أ َل ْم َي ْج َع ْل َك ْي َد ُه ْم في َت ْ
ف َف َع َل َرُّب َك ب َأ ْ ََ ْ َ َ َ ْ َ
ض ِل ٍيل (َ )2وأ ْر َس َل ِ ِ ِ ِ ِ ﴿ألم تر كي
ُْ
ف َّمأكو ٍل (ِ .﴾)5 صيل (َ )3ت ْرميهم بح َجا َرة من سجيل (َ )4ف َج َع َل ُه ْم َك َع ْ َ اب َع َل ْيه ْم َط ْي ًرا َأ َ
ب
ٍ ِ ِ ِِ ٍ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
في هذه السورة املكية باالتفاق يخاطب هللا عز وجل نبيه صلى هللا عليه وسلم ومن يصلح
للخطاب :ألم تعلم علم اليقين كأنك ترى بعينيك وإن كنت لم تر؛ لكن الخبر صحيحِ .
كيف فعل ربك بأصحاب الفيل وهم أبرهة اْلشرم وجيشه ،حيث بنى أبرهة في اليمن
كنيسة كبرى وأراد أن يصرف حج العرب من الكعبة إليها ،فغضب العرب جميعا وغضبت
قريش من جملتهم ،فذهب شاب من قريش ودخل تلك الكنيسة وقض ى حاجته فيها ،ثم
عادِ .
وقيل :إن فتية من قريش ذهبوا إليها فأوقدوا النار فيها فأصبحت هشيما ،فقيل إن هذا
من فعل قريش ،فجهز أبرهة جيشا عظيما ،وأخذ معه فيال ضخما جدا جاءه من الحبشة،
يقال :له محمود قيل ليرعب العرب؛ ْلنهم ال يعرفون هذه اْلفيال ،وقيل :ليهدم به الكعبة،
وقيل :ليحمل عليه وعلى بعض الفيلة حجر الكعبة ليبني به الكنيسة ،فسار من اليمن في
جيشه ،فقاومه بعض العرب فهزمهم ،حتى إذا بلغ مكة برك الفيل ولزم اْلرض ،فنخزوه
بالحراب فلم يتحرك ،فوجهوه إلى اليمن فقام وهرول ،وأعادوه إلى مكة فبرك في نفس
املكان ،وهكذا؛ فجعل هللا كيدهم حيث جيشوا هذا الجيش وأحضروا الفيلة في ضياع
وخسار وعاقبهم عقوبة عظمى ،فأرسل عليهم طيرا هللا أعلم بصفتها لكنها كثيرة العدد ،تأتي
ً
تباعا وتأتيهم من كل مكان ،هذه الطير ترميهم من فوقهم بحجارة من طين قد أحرقت في نار
جهنم ،فتنفض في أجسادهم فتتفتت أجسادهم ،فمنهم من مات في موضعه ،ومنهم من
بدأ امل ِوت فيه في ذلك املوضع ،ثم سار يتساقط جسده ويخبر عن هذه القضية فمات في
الطريق ،ومنهم من عاد إلى اليمن ومات هناك ،فجعلهم هللا يتساقطون وتتساقط
أعضاءهم جزءا جزءا كالورق الضعيف والقشرة الضعيفة على الثمار التي تتساقط وال
قيمة لهاِ .
419
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
420
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
421
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-بيان عظيم قدرة هللا عز وجل وبيان حماية هللا عز وجل لبيته ،ويفهم من ذلك حماية هللا
ْلوليائه إن توكلوا عليه وأخلصوا له وكانوا أولياء حقا وصدقاِ .
-ومن حكمها العظمى بيان أن هللا هو املستحق للعبادة سبحانه وتعالى ،فهو الذي حمى
بيته سبحانه وتعالىِ .
سورة قريش
بسم هللا الرحمن الرحيم
ٰ َ ْ َْ ﴿إل َيَّلف ُق َرْيش ( )1إ َيَّلفه ْم ر ْح َل َة الش َتاء َو َّ
ف ( )2فل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذا ال َب ْي ِت
ِ
الص ْ
ي ِ ِ ِ ِِ ِ ٍ ِِ ِ
َ َ
(َّ )3الذي أ ْط َع َم ُهم من ُ
وع َو َآم َن ُهم ِم ْن خ ْو ٍف ([ ﴾)4قريشِ .]4-1 : ٍ ج ِ ِ
في هذه السورة املكية يمتن هللا عز وجل على قريش أهل الحرم بما أنعم به عليهم من
النعم العظيمة ومنها ما ألفوه واعتادوه واجتمعوا عليه من رحلة الشتاء إلى اليمن ،وذلك
لطيب هواءها في الشتاء وطيب ثمارها في الشتاء ،ورحلة الصيف إلى الشام وذلك لطيب
هواءها في الصيف ولطيب ثمارها في الصيفِ .
وهم مع ذلك في بلدهم آمنون ،فهم في أمن من الخوف؛ ْلنهم جيران الحرم الذي جعله
هللا عز وجل آمنا ،فأمنوا بأمنه ،وآمنهم هللا فيه من كل خوف عام ،فال يخافون عدوا
يستأصلهم ،وال مرضا يستأصلهم جميعاِ .
ُ
وأطعمهم من جوع فأمنوا من الجوع أيضا ،فهم ُيرزقون من الثمرات ،وتجبى لهم الثمرات
من كل مكانِ .
وهذه النعم العظمى توجب عليهم أن يعبدوا املن ِعم سبحانه وتعالى ،فيوحدوا هللا ويتركوا
عبادة الطاغوت والشرك باهلل سبحانه وتعالى ،ويتبعوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني لهذه السورة ،وأما التفسير التفصيلي فنقرأ ما
سطره اإلمام السعدي رحمه هللا ونعلق عليهِ .
قال اإلمام السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين :قال كثير من اْلفسرين:
إن الجار واْلجرورِ .
422
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
423
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
وع َو َآم َن ُه ْم ِم ْن خ ْو ٍف﴾ فرغد الرزق واْلمن من الخوف من أكبر ﴿الذي َأ ْط َع َم ُه ْم م ْن ُ
ج
َّ
ٍ ِ ِ
النعم الدنيوية اْلوجبة لشكر هللا تعالى ،فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة
والباطنة.
وع﴾؛ فاهلل عز وجل جعل البيت وأهله في أمن من الخوف وأمن من ﴿ َّالذي َأ ْط َع َم ُهم من ُ
ج
ٍ ِ ِ
ُ
الجوع ،فآمنهم من كل خوف ،وأطعمهم من الجوع ،فهم يرزقون من الثمرات ،وتجبى لهم
الثمرات من كل مكانِ .
َ
﴿و َآم َن ُهم ِم ْن خ ْو ٍف﴾؛ خوف هنا عام من كل أمر يخاف منه خوفا عاما؛ من عدو
َ
مستأصل أو مرض مستأصل ،بل وحتى الدجال؛ فإنه ال يدخل مكةِ .
آمن من مكة؛ ُ
آمن مكان على وجه اْلرض على وقال العلماء :ال يوجد مكان في اْلرض َ
اإلطالق هو مكة ،فأمنها متين قوي؛ ْلن هللا هو الذي أمنها سبحانه وتعالى ،فآمن بقعة على
وجه اْلرض هي مكةِ .
وخص هللا الربوبية بالبيت لفضله وشرفه ،وإال فهو رب كل ش يء.
ٰ َ ْ َْ
﴿فل َي ْع ُب ُدوا َر َّب َهذا ال َب ْي ِت﴾ هللا رب كل ش يء ومليكه ،فلماذا خص البيت هنا؟ قالوا:
تشريفا للبيت؛ وْلنه سبب أمنهم ورغد عيشهمِ .
فهذا تذكير بأن جوارهم للبيت هو سبب أمنهم وسبب رغد عيشهم ،لم ينالوا هذا بشرف
نسبهم ،وال بكثرة عددهم ،وال بقوتهم ،وإنما بمجاورتهم لبيت هللا ،وهم جميعا يعلمون أن
البيت -أعني الكعبة -بيت هللا سبحانه وتعالىِ .
ىِ :
ومن مقاصد هذه السورة العظمى وحكمها الكبر ِ
-أن أعظم شكر على النعمة هو عبادة هللا عز وجل بهاِ .
-وأن النعم تقتض ي من العبد أن يعبد هللا سبحانه وتعالىِ .
ِ
ِ
ِِ
424
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة اْلاعون.
بسم هللا الرحمن الرحيم:
﴿أ َرَأ ْي َت َّالذي ُي َكذ ُب بالدين (َ )1ف َٰذل َك َّالذي َي ُد ُّع ْال َيت َ
يم
َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َّ َ ُ ْ َ َ َ َ َْ ٌ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ ُّ َ َ
صَّل ِت ِه ْم ص ِلين ( )4ال ِذين هم عن ض َعل ٰى ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين ( )3فويل ِللم ( )2وال يح
َ َ ْ َ ُ َ َْ ُ َ َ اهو َن (َّ )5الذ َ
اعون ([ ﴾)7اْلاعونِ .]7-1 : ين ُه ْم ُي َر ُاءون ( )6ويمنعون اْل ِ
َس ُ
هذه السورة تسمى :سورة املاعون ،وتسمى :سورة الدين ،وتسمى :سورة اليتيم ،وتسمى:
سورة التكذيب ،وتسمى :سورة أرءيتِ .
وهي سورة مكية عند الجمهور ،بعض أهل العلم قالوا مدنية ،وبعض أهل العلم قال:
بعضها مكي وبعضها مدني ،ولكن الذي عليه الجمهور أنها مكيةِ .
َ َ َ
وفيها يخاطب هللا عز وجل من يصلح للخطاب﴿ ،أ َرأ ْيت﴾ فشاهدت وعلمت حال من
يكذب بيوم البعث والجزاء والحساب والثواب والعقاب؛ فإنه يكون ِّ
مضيعا لحقوق هللا،
ِ
ومضيعا لحقوق خلق هللا ،وقاس ي القلب ،وبخيال باملال؛ ْلنه ال يؤمن بالثواب والعقابِ .
فإنه يدفع اليتيم الذي مات أبوه وهو دون سن البلوغ؛ يدفعه بشدة إذا جاء يطلب حقه
أو يطلب فضله ،فإذا جاءه يطلب ميراثه أو ماله من أبيه دفعه بشدة وكهره ونهره ،وإذا
جاءه يطلب منه شيئا ليعينه دفعه بشدة وكهره ونهره ،فهو يظلمه حقه ،وال يكرمهِ .
وال يأمر غيره بإطعام املسكين الذي ال يجد القوت ،ومن باب أولى أنه ال يطعمه بنفسه،
فإذا كان ال يأمر غيره بإطعامه وهو ال يكلفه ،شيئا فمن باب أولى أنه ال يطعمه بنفسه ،فهو
قاس ي القلب ،شحيح باملالِ .
ثم ت ِوعد هللا عز وجل طائفة من املصلين بالعذاب الشديد وهم الساهون الالهون
املعرضون عن صالتهم ،إماِ :
-بعدم املحافظة على أدائها؛ فهم يصلون ويتركونِ .
-وإما بعدم املحافظة على وقتها؛ فهم يخرجون الصالة عن وقتهاِ .
وصالتها بسرعةِ .
ِ -وإما بجعلها في آخر الوقت ونقرها نقرا،
-وإما بالسرقة من ركوعها وسجودها وخشوعها بعدم إحسان أفعالهاِ .
425
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ومع سوء صالتهم فإنهم غير مخلصين فيها وال في غيرها ،فال يصلون هلل ،وال يذكرون هللا
إال قليال ،وإنما هم يظهرون العبادة أمام الناس من أجل أن يمدحهم الناس ،فهم يصلون
مع املصلين ال إلرضاء رب العاملين ،وإنما ليقال :إنهم من املصلين ،وال يذكرون هللا إال قليال،
وهذا شأن أهل النفاقِ .
وهم مع كل هذا القبح ال يحسنون إلى الخلق ،بل يمنعون ما يجب عليهم أن يبذلوه للناس
أو يستحب لهم أن يبذلوه للناس ولو كان شيئا قليال ،ولوكان بذله للناس ال يضرهم شيئا،
فهم ال يحسنون العبادة وال يحسنون إلى العبادِ .
وهذا شأن أهل الكفر وشأن أهل النفاق الذي يظهرون اإلسالم ويبطنون الكفر ،ومن
اتصف بصفه من هذه الصفات مع اإليمان فهو مشابه لهم وفاعل لكبيرة من كبائر
الذنوبِ .
ومقتض ى هذه السورة ومفهومها أن اإليمان باليوم اآلخر -بيوم الدين -يقتض ي من العبد
أن يكون رحيم القلب ،رفيقا باليتامى ،مؤديا حقوقهم ،مطعما للمساكين ،مهتما بصالته،
صاحب عناية بها يؤديها دائما في وقتها ،ويحرص على إتمام وضوئها وركوعها وسجودها
وخشوعها وجميع أقوالها وأفعالها ،ويكون في ذلك مخلصا هلل عز وجل ،ويحسن إلى خلق
الناس ببذل ما يحتاجونِ إليه من املنافع والسيما إذا كان البذل ال يضره شيئاِ .
هذا هو التفسير املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ،وأما التفسير التفصيلي
فنقرأ ما سطره اإلمام السعدي ونعلق عليهِ .
﴿أ َرَأ ْي َت َّالذي ُي َكذبُ
َ قال رحمه هللا :يقول تعالى ً
ذاما ْلن ترك حقوقه وحقوق عباده:
ِ ِ
الد ِين﴾ أي :بالبعث والجزاء فَّل يؤمن بما جاءت به الرسل.
ِب ِ
َ َ َ
﴿أ َرأ ْيت﴾ قال بعض اْلفسرين :معناها :أشاهدت بعينك حالهم؟ ِ
وقال بعض اْلفسرين :أعلمت؟ ِ
وقال بعض اْلفسرين :معناها أخبرني عن حالهمِ .
الد ِين﴾ قيل :بالبعث والجزاء ،وقيل :بالحساب ،وقيل :بالثواب والعقاب، َّ ُ َ ُ
﴿ال ِذي يك ِذب ِب ِ
وقيل :يكذب بحكم هللا؛ والكل داخل في التكذيب بيوم الدينِ .
426
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ
﴿ف َذل َك َّالذي َي ُد ُّع ْال َيت َ
يم﴾ أي :يدفعه بعنف وشدة وال يرحمه لقساوة قلبه ِ ِ ِ
فيمنعه حقه وال يعطيه من فضله ،ال يمكنه من حقه ،وال يعطيه من ماله هو ،بل يكون
ظاملا له وغير مكرم له؛ ْلنه ال يؤمن بالثواب والعقابِ .
واليتيم :الذي مات أبوه وهو دون سن البلوغ ضعيف مسكين ،فال يخاف سطوة أحد ،وال
َّ
يؤمن بالثواب والعقاب ،فتجده آكاال ملال اليتيمَّ ،نهارا له ظاملا لهِ .
ثوابا وال يخاف ً
عقابا. قال :وْلنه ال يرجو ً
ْ ََ َ ﴿وال َي ُح ُّ
﴿على ط َع ِام ِاْل ْس ِك ِين﴾؛ ومن باب أولى أنه بنفسه ال يطعم اْلسكين. ض﴾ غيره َ
َ َْ ٌ ْ ُ َ َ
ص ِلين﴾. ﴿فويل ِللم
َ
﴿ف َو ْي ٌل﴾ كما تقدم وعيد بالعذاب الشديد ،وقيل :هي جهنم ،وقيل :واد من أودية جهنم،
لكن الذي عليه اْلكثر أنها وعيد؛ كلمة وعيد بالعذاب الشديد.
َ َْ ٌ ْ ُ َ َ
ص ِلين﴾ أي :اْللتزمين إلقامة الصَّلة. ﴿فويل ِللم
امللتزمين إلقامة الصالة أي :أنهم التزموا اإلسالم ولو ظاهرا كحال املنافقين ،ولكنهم ساهون
عن صالتهمِ :
-فإما أنهن يتركونها بالكلية ،هم مصلون باعتبار أنهم التزموا الصالة؛ باعتبار أنهم
التزموا اإلسالم ،ولكنهم في الحقيقة ال يصل ِونِ .
-وإما بعدم املحافظة على أدائها ،فهم يصلون ويخلونِ .
-وإما بإخراجها عن وقتها بالكليةِ .
-وإما بتأخيرها حتى يضيق الوقت ضيقا شديدا فينقرونها نقراِ .
-وإما بأدائها من غير إحسانِ .
فهم الهون عن صالتهمِ .
َ ْ َ ْ َ ُ َ
اهون﴾. َّلت ِهم س
ولكنهم ﴿عن ص ِ
َ ُ َ
اهون﴾ قيل :الهون ،وقيل :معرضون ،واملعنى قريبِ . ﴿س
427
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
أي :مضيعون لها تاركون لوقتها مخلون بأركانها ،وهذا لعدم اهتمامهم بأمر هللا حيث
ضيعوا الصَّلة التي هي أهم الطاعات.
ومن ضيع الصالة كان لسواها أضيع ،من لم يعتن بالصالة فإنه ال يعتني بسائر اْلعمالِ .
قال :والسهو عن الصَّلة هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم.
وأما السهو في الصَّلة فهذا يقع من كل أحد حتى من النبي صلى هللا عليه وسلم.
والسهو عن الصالة قد يكون كما قلناِ :
- -بتركها بالكليةِ .
-وقد يكون بعدم املحافظة عليهاِ .
-وقد يكون بتأخيرها عن وقتهاِ .
-وقد يكون بصالتها في آخر الوقت بسرعةِ .
وهذا كله خارج الصالةِ .
وقد يكون السهو عن الصالة في داخل الصالة ،بحيث يصلي وهو غافل غير مهتم ،فال يهتم
بركوعها وال سجودها وال خشوعها ،فإنه يدخل في هذا الوعيدِ .
أما السهو في الصالة الذي يغلب على اإلنسان فينس ى فهذا ال يسلم منه أحد ،وال يذم به
أحد مادام أنه ليس بتفريط من اإلنسان ،ولذلك النبي صلى هللا عليه وسلم سها في صالته
وهو رسول صلى هللا عليه وسلم ،ولم يقع ذلك منه مرة واحدة بل تكرر منه صلى هللا عليه
وسلمِ .
ومن حكم وقوع السهو من النبي صلى هللا عليه وسلم في الصالة أن ُيعلم أن السهو الغالب
على اإلنسان ال يذم به اإلنسان ،ولذلك اإلمام إذا سها ال يذم بأنه سها ،بل هذا من اْلمور
التي تغلب على اإلنسان وال يؤاخذ بهاِ .
َّ
ين ُه ْم
﴿الذ َ
قال رحمه هللا :ولهذا وصف هللا هؤالء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة فقالِ :
َ
ُي َر ُاءون﴾ أي :يعملون اْلعمال ْلجل رئاء الناس.
428
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
فيظهرون اْلعمال أمام الناس ويزينونها من أجل مدح الناس ،من أجل حمد الناس ،يظهر
الواحد منهم الخشوع ولربما بكى في صالته ال خوفا من هللا؛ وإنما ليقول الناس :بكاء ،فالن
بكاء ،ربما الزموا املسجد ،ال خوفا من هللا وال التماسا لرضا هللا؛ وإنما ليقول الناس:
حمامة مسجد ال يغيب عن املسجد ،وهكذا وال يذكرون هللا إال قليال ،وهذا شأن أهل
النفاق.
َ َ ْ َ ُ َ َْ ُ َ
اعون﴾ أي :يمنعون إعطاء الش يء الذي ال يضر إعطاؤه على وجه العارية﴿ويمنعون اْل
أو الهبة كاإلناء والدلو والفأس ونحو ذلك مما جرت العادة ببذله والسماح به.
يقول ابن مسعود رض ي هللا عنه(( :كنا نعد اْلاعون على عهد النبي صلى هللا عليه وسلم
َع َو َر الدلو والقدر)) رواه أبو داوود وحسنه اْللبانيِ .
يقول ابن مسعود رض ي هللا عنه كنا نعتبر املاعون ونعده أنه إعطاء الدلو على سبيل
العارية ،يأتي جاره ويريد دلوا يعيره الدلو ،يريد قدرا يعيره القدرِ .
فهؤالء يمنعون من هذا مع أنه ال يضرهمِ .
وقال بعض اْلفسرين :املاعون كل ما فيه منفعة كبيرا كان أو صغيرا ،فيأتيه جاره محتاجا
للسيارة وهو يحسن القيادة وال يحتاج اآلن للسيارة ،ويقو ِل :أريد السيارة أوصل زوجتي
للمستشفى ،يقولِ :ال؛ ما أعطيك ،والسيما عند االضطرار فإنه يصبح واجبا ،مثل :رجل
امرأته على وشك الو ِالدة ،وليس عنده سيارة ،ويقول لجاره :أعطني السيارة ،الوالدة
متعسرة أعطنا السيارة نوصل املرأة أو أوصلنا يقولِ :ال؛ أو قليل يقول له :أعطني امللعقة
ْلشرب بها الدواء ،يقو ِل :ال؛ يقو ِل :أعطني السكين ْلقطعن ،يقو ِل :ال؛ فهو منع كل ما فيه
منفعة مما ال يضر إعطاؤه سواء كان كبيرا أو صغيراِ .
وقال بعض اْلفسرين :املاعون هو املال ،فهم يمنعون املال فال يخرجون من املال شيئا ال
واجبا وال مستحباِ .
وقال بعض اْلفسرين :املاعون هو املاء -آخره همز -يمنعون املاء وال يبذلونه للناسِ .
وقال بعض اْلفسرين :املاعون هو الزكاة؛ يمنعون الزكاة وال يؤدونها وال يوصلونها إلى أهلهاِ .
فهؤالء لشدة حرصهم يمنعون اْلاعون ،فكيف بما هو أكثر منه.
429
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال رحمه هللا :وفي هذه السورة الحث على إطعام اليتيم واْلساكين والتحضيض على
ذلك ،ومراعاة الصَّلة واْلحافظة عليها وعلى اإلخَّلص فيها وفي سائر اْلعمال ،والحث
على فعل اْلعروف وبذل اْلمور الخفيفة كعارية اإلناء والدلو والكتاب ونحو ذلك؛ ْلن
هللا ذم من لم يفعل ذلك وهللا سبحانه أعلم.
ىِ :
من فوائد هذه السورة الكبر ِ
-أن التكذيب بيوم الدين سبب لكل شرِ .
-ومن فوائدها الكبرىِ :أن االتصاف بصفة من الصفات املذكورة فيها من كبائر الذنوب،
فزجر اليتيم ومنعه حقه من كبائر الذنوب ،وعدم إطعام املسكين عند الضرورة من كبائر
الذنوبِ .
املسكين يا إخوة هو الذي ال يجد ما يقيته ،إنسان عنده فضل من مال ورأى مسكينا يكاد
يموت وال يعطيه من فضل املال هذا كبيرة من كبائر الذنوبِ .
والرياء كبيرة من كبائر الذنوب ،هذا إذا لم يغلب على جميع اْلعمال؛ وأما غلبته على
جميع أعمال اإلنسان بحيث ال يذكر هللا إال قليال فهذا ال يكون من مؤمن ،هذا من أهل
النفاق فقطِ .
وكذلك منع ما يجب بذله والسيما عند الضرورة من كبائر الذنوبِ .
وكما قلنا في التفسير من فوائد السورة أن من شأن املؤمنين عكس ما ذكر في هذه
السورة ،من شأن املؤمنين في البعث والجزاء عكس ما ذكر في هذه السورة.
ِ
ِ
ِ
ِ
ِ
ِ
ِ
430
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الكوثر.
بسم هللا الرحمن الرحيم:
ََْ َ َ ْ
ص ِل ِل َرِب َك َوان َح ْر (ِ )2إ َّن شا ِنئ َك ُه َو اْل ْبت ُر ([ ﴾)3الكوثرِ .]3-1 : ﴿إ َّنا َأ ْع َط ْي َن َ
اك ْال َك ْو َث َر (َ )1ف َ
ِ
هذه السورة كما يقول العلماء أقصر سورة في القرآن ،وهي يشترك معها في عدد آياتها
سورة العصر وسورة النصر ،ولكنها أقصر سورة في القرآن من جهة عدد الكلمات
والحروف ،فهي أقصر سورة في القرآنِ .
وهي مكية عند الجمهور ،وذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنها مدنية ،وهذا أقرب
وهللا أعلم أنها مدنية ،وذلك لحديث أنس رض ي هللا عنه أنه قال(( :بين رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفا إغفاءة ،ثم رفع رأسه مبتسما ،فقلنا :ما أضحكك
يا رسول هللا؟ فقال صلى هللا عليه وسلم :أنزلت علي آنفا سورة ،ثم قرأ :بسم هللا الرحمان
َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ
اك الك ْوث َر﴾ السورة)) رواه مسلم في الصحيحِ . ﴿إنا أعطين الرحيم ِ
ومعلوم أن أنس رض ي هللا عنه مدني ،وهو يقولِ(( :بين أظهرنا)) وفي بعض الروايات(( :في
ناحية املسجد)) فدل ذلك على أن السورة مدنيةِ .
َّ َّ َ
وفي هذه السورة يمتن هللا عز وجل على رسوله محمد صلى الله َعل ْي ِه َو َس ِل َم وعلى أمته
تبعا له بأنه سبحانه وتعالى قد أعطاه الخير الكثير ،ومن ذلك الخير الكثير نهر الكوثر الذي
َ
أصله في الجنة ،ومنه حوض يكون في املحشر ت ِر ُده أمة محمد صلى هللا عليه وسلم ،آنيته
َّ
عدد نجوم السماء ،وهو أشد بياضا من اللبن ،وأحلى من العسل ،حافتاه قباب اللؤلؤ
املجوفِ .
فاهلل أعطى النبي صلى هللا عليه وسلم وأمته تبعا له الخير الكثير ،ومنه هذا النهر العظيمِ .
فصل لربك واجعل صالتك لربك ،والصالة أشرف عبادات البدن فكن
ومادام ذلك كذلك ِ
مخلصا فيها؛ في فرضها ،وفي نفلها ،وانحر لربك ال شريك له ،فاجمع بين العبادة البدنية
والعبادة املالية مخلصا هلل عز وجل في جميع أعمالك ،إن مبغضك ومبغض دينك وعدوك
وعدو دينك هو اْلذل الحقير املقطوع من كل خير ،فليس في خير وال يصل إلى خيرِ .
هذا هو املعنى اإليماني واإلجمالي املوضوعي لهذه اآليات ،ونعود إلى التفسير التفصيليِ .
431
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ
﴿إناقال رحمه هللا تعالى :يقول هللا تعالى لنبيه محمد صلى هللا عليه وسلم ممتنا عليهِ :
َ ْ ََْ َ ْ َ َ
اك الك ْوث َر﴾.أ ع طين
ممتنا عليه ،واملنة على النبي صلى هللا عليه وسلم منة على أمته؛ منة عليكم أنتمِ .
الكوثر من الكثرة ،فهو الخير الكثير ،إنا أعطيناك الخير الكثير؛ ومن الخير الكثير الذي
ُ
عط َيه النبي صلى هللا عليه وسلم نهر الكوثر ،حيث فسره النبي صلى هللا عليه وسلم بذلكِ . أ ِ
ففي حديث أنس املتقدم بعد أن قرأ النبي صلى هللا عليه وسلم السورة(( ،قال :أتدرون
ما الكوثر؟ قالوا :هللا ورسوله أعلم؟ قال :فإنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير ،وهو
حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ،وآنيته عدد النجومُ ،
فيختلج العبد منهم ،فأقول:
ربي إنه من أمتي ،فيقال أو فيقول :ما تدري ما أحدثت بعدك)) ،والحديث كما قلنا في
صحيح مسلمِ .
فهذا الحوض العظيم في املحشر ترد عليه أمة محمد صلى هللا عليه وسلم وتشرب منه،
فمنهم من يناوله النبي صلى هللا عليه وسلم بيده؛ فإن النبي صلى هللا عليه وسلم ُيهوي
ليناول بعض الناس بيده فيحال بينه وبينهم ،فدل ذلك على أن من الناس من يناوله النبي
صلى هللا عليه وسلم بيده ،ومن الناس من يشرب بنفسه ،ومن الناس والعياذ باهلل من
يمنع من الشرب ،وتحول املالئكة بينه ِوبين هذا الحوض ،ملاذا؟ ِ
ْلنه أحدث في الدين؛ ْلنه ابتدع في دين هللا؛ ْلنه عبد هللا بالبدعة وترك سنة النبي صلى
هللا عليه وسلم ،فأهل اإلحداث وأهل االبتداع ال يكونون أهال لورود حوض النبي صلى هللا
عليه وسلم ،فكما أنهم لم يشربوا من سنته في الدنيا فإنهم ال يشربون من حوضه في
املحشر ،كما أنهم لم يردوا سنته في الدنيا بل أعرضوا عنها وطلبوا غيرها فإنهم ال يريدون
حوضه صلى هللا عليه وسلم في املحشرِ .
وأصل هذا الحوض نهر في الجنة واسمه الكوثر أيضا ،قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
((رأيت نهرا في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ ،فقلت :ما هذا يا جبريل؟ فقال :هذا الكوثر
الذي أعطاكه هللا)) رواه الترمذي وصححه اْللبانيِ .
إذن الكوثر هو الخير الكثير ،ومنه ومن أشرفه نهر الكوثرِ .
432
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ
اك الك ْوث َر﴾؛ أي :الخير الكثير والفضل الغزير الذي من جملته ما يعطيه هللا﴿إنا أعطين ِ
لنبيه صلى هللا عليه وسلم يوم القيامة من النهر الذي يقال له :الكوثر ،ومن الحوض
ً
بياضا من اللبن ،وأحلى من العسل ،آنيته عدد طوله شهر وعرضه شهر ،ماؤه أشد
نجوم السماء في كثرتها واستنا تها ،من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها ً
أبدا. ر
ْ َ
ص ِل ِل َرِب َك َوان َح ْر﴾.
﴿ف َ وْلا ذكر منته عليه أمره بشكرها فقال:
نعم الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها ،مادام َّأنا أعطيناك الكوثر ِ ِ
فصلِ .
ْ َ
ص ِل ِل َرِب َك َوان َح ْر﴾ خص هاتين العبادتين بالذكر؛ ْلنهما أفضل العبادات وأجل ﴿ف َ
القربات.
إحداهما بدنية واْلخرى ماليةِ .
ُّ
وْلن الصَّلة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح هلل ،وتنقله في أنواع العبودية ،وفي
النحر تقرب إلى هللا بأفضل ما عند العبد من النحائر ،وإخراج للمال الذي جبلت
النفوس على محبته والشح به.
ِّ
فصل صالة العيد وانحر اْلضاحي ،فهي صالة خاصة ،يعنيِ :وقيل املعنىِ :
-على املعنى اْلول :الصالة عامة تشمل كل صالة ،والنحر عام يشمل كل نحر هللِ .
-على القول الثاني :فصل صالة العيد -عيد اْلضحى -وانحر اْلضاحيِ .
َ ْ
﴿وان َح ْر﴾؛ أي :اجعل يديك عند نحرك في الصالة، فصل صالتك
وقال بعض العلماءِ :
فضع اليمنى على اليسرى على الصدرِ .
َ ْ
﴿وان َح ْر﴾ أي :اتجه بنحرك إلى القبلة ،أي :استقبل القبلةِ . وقال بعض اْلفسرين:
َ ْ
﴿وان َح ْر﴾ أي :ارفع يديك عند الدخول في الصالة إلى جهة وقال بعض اْلفسرين :معنى
نحركِ .
واْلول أشهر وأظهر أن الصالة جميع الصلوات ،وأن النحر هو الذبح تقربا إلى هللا عز وجلِ .
َ َ
﴿إ َّن شا ِنئ َك﴾ أي :مبغضك وذامك ومنتقصك.
ِ
َ َ
﴿إ َّن شا ِنئ َك﴾ يعني :إن عدوك ،وقيل إن مبغضك وذامك ومنتقصكِ . وقيل عدوكِ ،
433
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ُ َ َْ
اْلبت ُر﴾ أي :اْلقطوع من كل خير ،مقطوع العمل ،مقطوع الذكر. ﴿هو
وقد قيل :إنه شخص بعينه ،فقيل إنه العاص بن وائل ،وكان إذا ذكر النبي صلى هللا عليه
وسلم قال :دعوكم من هذا اْلبتر فإنه ال عقب لهِ .
وقيل :إنه أبو لهب ،وقيل غير ذلك ،وقيل :إنه كعب بن اْلشرف الذي قدم على أهل مكة
وقال لهم :أنتم خير من محمد ،فنزل ذلك فيه ،وهذا رواه البزار بإسناد صالح ،هذا أصح ما
قيل أنها بسبب قول الكعب بن أشرف ْلهل مكة :أنتم خير من محمدِ .
والعبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب ،فكل من أبغض النبي صلى هللا عليه وسلم أو
كذب النبي صلى هللا عليه وسلم أو ذم النبي صلى هللا عليه وسلم أو عادى النبي صلى هللا
عليه وسلم فإنه اْلذل اْلحقر املقطوع من كل خير ،ويدخل في ذم النبي صلى هللا عليه
وسلم وبغض النبي صلى هللا عليه وسلم ذم دينه وبغض دينه ،فمن أبغض دين محمد
صلى هللا عليه وسلم أو بعضه فهو اْلبتر اْلذل اْلحقر؛ الذليل الحقير املقطوع من كل خيرِ .
ً
وأما محمد صلى هللا عليه وسلم فهو الكامل حقا الذي له الكمال اْلمكن للمخلوق من
رفع الذكر ،وكثرة اْلنصار واْلتباع صلى هللا عليه وسلم.
ِ
ِ
ِِ
434
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الكافرون
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ عبدو َن (َ )2وال َأ ُنتم عابدو َن ما َأ ُ رون ( )1ال َأ ُ
عب ُد ما َت ُ َ ﴿قل يا َأ ُّي َ ُ
عب ُد (َ )3وال أنا ِ ف
ِ الكا اه
دين ُكم َول َ
ُ َُ َ َ
دتم (َ )4وال أ ُنتم عابدو َن ما أ ُ
عب ُ ََ ُ عاب ٌ
دين ([ ﴾)6الكافرون: ِ ي ِ م ك ل ) 5 ( د ِ ب ع ما د ِ
.]٦-١
هذه سورة مكية عند أكثر العلماءِ ،وحكاه بعضهم كابن كثير اتفاقا ،ولكن الخالف موجود
وهي سورة الكافرون وسورة اإلخالص الكبرى وسورة العبادة وسورة الدين ،كل هذه أسماء
لهذه السورةِ .
وهذه السورة تعدل ربع القرآن كما جاء عندي الترمذي وصححه اْللباني في صحيح سنن
الترمذي وقال في السلسلة الصحيحة إنه حسن بمجموع طرقه ،فهي تعدل ربع القرآن،
فمن قرأها في ليلة أربع مرات فكأنما ختم القرآن ويثاب ثواب ختم القرءان كله ،وإن كان
الذي يقرأ القرآن كله أعظم أجرا لكثرة الحروف ،لكن من فضل هللا على أمة محمد صلى
هللا عليه وسلم أن من قرأ هذه السورة سورة اإلخالص الكبرى أربع مرات في ليلة كان كأنه
ٌ َ ُ ْ ُ َ َّ ُ َ
قرأ القرآن في ليلة ،كما أن من قرأ سورة اإلخالص الصغرى ﴿قل هو الله أحد﴾ ثالث
مرات في ليلة كان كأنه قرأ القرآن في ليلة ،وهذا من فضل ربنا على أمة محمد صلى هللا
عليه وسلمِ .
ِوفي هذه السورة تقرير توحيد العبادة والبراءة من الشرك كله حيث أمر هللا عزوجل فيها
ِّ
ييئس الكفار من موافقته لهم فيِ دينهم أو االلتقاء معهم في نقطة في الدينكل مؤمن أن ِ
بأن يقول للكافرين حال كفرهم ال أعبد ما تعبدون؛ فإنكم تعبدون آلهة من دون هللا وأنا
ال أعبدها ،وال أنتم عابدون ما أعبد فإني أعبد هللا مخلصا له الدين وأنتم إن عبدتم هللا
فما تعبدونه إال وأنتم به مشركون ،وال أنتم عابدون ما أعبد فأنتم ثابتون على كفركم إن
لم تخرجوا منه إلى اإلسالم ،وكما أني ال أعبد ما تعبدون في الحاضر فإني لست عابدا ما
تعبدون في املستقبل ،وأنا بريء من دينكم الذي هو الكفر ،كما أنكم بريئون من ديني الذي
هو اإلسالم ،وأنا لي جزائي يوم الدين على إسالمي ،وأنتم لكم جزاؤكم على كفركمِ .
435
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهذا فيه البراءة من دين الكافرين وفيه الوعيد الشديد للكفار ،وليس هذا من حرية
اْلديان في ش يء كما فهمه من ال يفهم ،وإنما هو ضد ذلك ،فهو وعيد للكفار وبراءة من دين
الكفار ،فاملسلم بريء من دين الكافرين ،واإلسالم بريء من الكافرينِ ِ.
هذا معنى وتفسير هذه السورة اإلجمالي املوضوعي اإليماني ،ونعود إلى التفسير التفصيلي
ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللاِ .
قال اإلمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا
ً َ َ ُ
ومصرحا. والسامعين﴿ :قل يا أ ُّي َها الكا ِفرون﴾؛ أي :قل للكافرين معلنا
أي :قل ،قيل أن هذا الخطاب لكل مؤمن ورأس املؤمنين رسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
فاملعنى :قل أيها املؤمن ،قل أيها املسلمِ .
وقال بعض اْلفسرين :الخطاب للنبي صلى هللا عليه وسلم وتدخل أمته تبعا ،فاملعنى :قل
يا محمد صلى هللا عليه وسلم ،وتدخل اْلمة تبعا للنبي صلى هللا عليه وسلم؛ ْلن الخطاب
للنبي صلى هللا عليه وسلم خطاب لألمةِ .
َ َ ُ
قل للكافرين﴿ ،قل يا أ ُّي َها الكا ِفرون﴾ من هم الكافرون هنا؟ ِ
الكافرون هنا هم جنس الكفار فيشمل الكفار بجميع مللهم ،ولكن امل ِواجهين به عند
الخطاب هم كفار قريش؛ ْلنهم هم الذين يخاطبهم النبي صلى هللا عليه وسلمِ .
ٰ
وقد قيل :إن كفار قريش قالوا للنبي صلى هللا عليه وسلم :لنصطلح ،نعبد إلهك سنة
وتعبد آلهتنا سنة ،فأنزل هللا عزوجل هذه السورةِ .
ً ً َ َ ُُْ َ َ ُُْ َ
ن ن ن
﴿ال أعبد ما تعبدو ﴾ أي :تبرأ مما كانوا يعبدو من دو هللا ظاهرا وباطنا.
َ َ ََ َُْ
﴿وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ لعدم إخَّلصكم في عبادتكم هلل.
َ َ ََ َُْ
﴿وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ (ما) هنا بمعنى (من) ،و(ما) إذا ذكرت في حق هللا فإنها بمعنى
(من) دائماِ .
ُ ُ ْ ََ َُْ ْ َ ُ َ َ َ
﴿وال أنتم ع ِابدون ما أعبد﴾ وهو هللا ،فإن قيل :إن املشركين يعبدو هللا ،قيل :إنهم ِال
ن
يعبدون هللا إال وهم مشركون ،إن عبدوا هللا فإنهم ال يعبدون هللا إال وهم مشركون ،وهذا
ال ينفعهم فال إسالم إال بعبادة هللا عزوجل عبادة خالصة ليس معها شركِ .
436
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال :فعبادتكم له اْلقترنة بالشرك ال تسمى عبادة ،وكرر ذلك ليدل اْلول على عدم
ً
وجود الفعل ،والثاني على أن ذلك قد صار وصفا الز ًما.
َ َ َ َ
بمعنى قول هللا عزوجل﴿ :ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾ أي :قل ال أعبد ما تعبدون هذا لنفس
َ َ
عاب ٌد ما
ِ ناأ الفعل فأنا لن أعبد ما تعبدون ،وقول هللا عزوجل في قول املؤمن ﴿وال
ُ
َع َبدتم﴾ِمعناه :أن هذا صار وصفا مالزما لي فال أنفك عنه ال اليوم وال في املستقبل ،فال
تطمعوا أن أعبد ما تعبدون يوماِ .
َ َ َ َُْ
وقول هللا عزوجلَ ﴿ :وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ يعني :في الفعلِ .
َ َ َ َُْ
﴿ َوال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ الثانية؛ أي :أن هذا صار وصفا الز ًما لكم ،فأنتم ماكثون على
كفركم إال أن يرحمكم هللا باإلسالمِ .
وقال بعض العلماء :التكرار بالنسبة للكفار للتأكيد وأنهم مستمرون على كفرهم،
َ َ َ َ
وبالنسبة إلى املؤمنين اختلفت الصيغة؛ الحظوا ﴿ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾ ،الصيغة الثانية
ُ َ َ ﴿ َوال َأ ُنتم عابدو َن ما َأ ُ
عب ُ
عاب ٌد ما َع َبدتم ( ﴾)4فصيغة جديدة ،قالوا فاملعنى ِ ناأ الو ) 3 ( د ِ
جديد ،إذن ما املعنى؟ ِ
َ َ ُُْ َ َ ُُْ َ
ن ن
﴿ال أعبد ما تعبدو ﴾ فكما أني ال أعبد ما تعبدو اليوم فإني لن أعبد ما تعبدو في ن
املستقبل ما دمتم على كفركمِ .
وقال بعض العلماء :الجملتان اْلوليان باعتبار الفعل ،والجملتان الثانيتان باعتبار
َ َ َ َُْ َ َ َ َ
القبول﴿ ،ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾ يعني :ال أفعل هذه العبادةَ ﴿ ،وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾
ََ ُ ٌ َ َ
عابد ما عبدتم﴾ يعني :وال أنا قابل أن أعبد ما يعنى ال تفعلون هذه العبادة﴿ ،وال أنا ِ
َ َ َ َُْ
تعبدونَ ﴿ ،وال أنت ْم َع ِاب ُدون َما أ ْع ُب ُد﴾ يعني وال أنتم قابلون أن تعبدوا ما أعبد ،وهذا
املقصود به حال كونهم على كفرهمِ .
قال :ولهذا ميز بين الفريقين ،وفصل بين الطائفتين:
َ َ َ ُ ُ ُُ َُ
فقال﴿ :لك ْم ِدينك ْم َو ِل َي ِد ِين﴾ كما قال تعالى﴿ :ق ْل ك ٌّل َي ْع َم ُل َعلى ش ِاكل ِت ِه﴾ [اإلسراء:
َ ُ َ ََ َ ُ َ َُْ
﴿ ،]84أنت ْم َب ِريئون ِم َّما أ ْع َم ُل َوأنا َب ِري ٌء ِم َّما ت ْع َملون﴾ [يونس.]41 :
437
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
دين ُكم﴾ قال بعض اْلفسرين :يعني لكم ملتكم وهي الكفرَ ﴿ ،ول َ
ُ َُ
دين﴾ لي ملتي وهي
ِ ِي م ك﴿ل
اإلسالم ،فال التقاء بيننا ،فأنتم لكم ملتكم الكفر وأنا لي ملتي اإلسالم ،فال يمكن أن تلتقي
امللتان كالثريا وسهيلِ .
﴿ول َدين ُكم﴾ يعني :لكم جزاؤكم يوم الدينَ ،
ُ َُ
دين﴾ لي جزائي
ِ ي ِ م كوقال بعض اْلفسرين﴿ :ل
يوم الدين ،وشتان بين جزاء املسلم وجزاء الكافرِ .
فتضمنت اآلية الوعيد للكافرينِ .
ِوالحكمة الكبرى من السورة ظاهرة جدا وهي تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك ،وهما
متالزمان ،ال يمكن أنه يوجد التوحيد بدون البراءة من الشرك ،البد من تحقيق التوحيد
من البراءة من الشركِ .
وهذا هو مقصود هذه السورةِ .
ِ
ِِ
438
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة النصر.
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ الله َأ ً
فواجا ( )2ف َس ِبح
َّ
دين في
َ َ ُ َ
نلودخ ي اس الن
َ َر َ َ
يتتح ( )1و أ
َ َ ُ َّ َ َ
الف ُ ﴿إذا جاء نصر الل ِه و
ِ ِ ِ
َ َ َ َ َ َ َ ُ َّ
ره ِإن ُه كان تو ًابا ([ ﴾)3اْلسد.]3-1 :غف
مد رِبك واست ِ
ِبح ِ
هذه سورة النصر ،وسورة إذا جاء نصر هللا والفتح ،وسورة الفتح ،وسورة التوديع هذه
أسماء لهذه السورةِ .
وهي سورة مدنية باالتفاق ،وهي آخر سورة نزلت كاملة ،قال ابن عباس رض ي هللا عنهما
لت َجم ً ورة َن َز ُْ َ َ َْ
يعا؟)) يعني :تعلم آخر سورة نزلت كاملة ،فقال: ِ لعبيد هللا(( :تعل ُم ِآخ َر س ٍ
َ ْ الله َو ْال َف ْت ُحَ ،َ َ َ َ َ ْ َّ
ت)) رواه مسلم في الصحيح ،فهي ص َدق َ ِ ال ابن عباس: فق َ ((نع ْم؛ ِإذا ج َاء نص ُر ِ
آخر سورة من القرآن نزلت كاملةِ .
ِوهي ناعية لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومبينة قربة أجله صلى هللا عليه وسلمَ ،ع ْن
َ َ ُ
ال بعضهمِ :ل َم ت ْد ِخ ُل َهذا َم َع َنا َول َنا ان ُع َم ُر ُي ْد ِخ ُلني َم َع َأ ْش َياخ َب ْدرَ ،ف َق َ
ال َك َْابن َع َّباس َق َ
ِ ِ ِ ٍ ِ
ُْ َ
أ ْب َن ٌاء ِمثل ُه؟)) يعني :االعتراض من وجهينِ :
-ملاذا تدخله معنا وهو شاب صغير ونحن شيوخِ .
-والوجه الثاني ملاذا تدخله وال تدخل أبنائنا فنحن لنا أبناء مثلهِ .
َ َ َ َ ْ َّ ْ َ ْ
ص ُر الل ِه َوالفت ُح﴾ حتى قال :فدعاهم ذات يوم ودعاني ،فقال :ما تقولون فيِ ﴿ :إذا جاء ن
ختم السورة ،فقال بعضهم :أمرنا أن نحمد هللا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ،على
َ َ َ
ال ف َما ظاهر الكالم ،وقال بعضهم :ال ندري ،فقال لي عمر :أتقول مثلما قالوا؟ قلت :ال ،ق
َ ُ َ َ َ َ ْ َّ َّ َ َ َّ َ َّ َّ َ َ ُْ َ
ص ُر الل ِه صلى الل ُه َعل ْي ِه َو َسل َم أ ْعل َم ُه هللا لهِ ،إذا جاء ن تُ :ه َو أ َج ُل َر ُسو ِل الل ِه ت ُقو ُل؟ قل ُ ِ
ال ُع َم ُر رض ي هللاان َت َّو ًاباَ ،ف َق َ اك َع ِال َم ُة َأ َجل َك َف َس ِّب ْح ب َح ْمد َرِّب َك َو ْ
اس َت ْغف ْر ُه إ َّن ُه َك َ فذ َ َ َُْْ َ
والفتح
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َ
عنه :ال أ ْعل ُم ِم ْن َها ِإال َما تعلم)) رواه البخاري في الصحيحِ .
ُ
ومعنى هذه السورة :أنه إذا جاء عون هللا لك على الكافرين ونصرت عليهم فذاك تمهيد
لفتح مكة ،فإذا جاء الفتح بعد النصر فإن الناس سيدخلون في دين هللا أفواجا،
فاالنتصارات للمسلمين على الكفار مقدمة لفتح مكة ،وفتح مكة مقدمة إلسالم الناس
439
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
جماعات جماعات ،وهذا ما وقع ،فإن فتح مكة كان في السنة الثامنة ِوفي السنة التاسعة
كثرت الوفود على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لإلسالم حتى َّ
سمي العام بعام الوفود،
فإذا رأيت ذلك فإن أجلك قد اقترب ،فاستعد لذلك بتنزيه ربك عما ال يليق بجالله،
ً
استعدادا للقائه ،فسبح باسم ربك واستغفره إنه وبحمده ً
شكرا على آالئه ،وباستغفاره
كان تواباِ .
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني لهذه السورة ،وأما التفسير التفصيلي ،فقبل أن
نقرأ كالم الشيخ أذكر تفسيرا تفصيليا ْلن الشيخ أجمل الكالمِ .
َ َ ُ َّ
صر الل ِه﴾ النصر :هو معونة هللا على الكفار لهزمهمِ . ﴿ ِإذا جاء ن
َ َ
الف ُ
تح﴾ هو فتح مكةِ . ﴿و
َ َ
الف ُ َ َ ُ َّ
تح﴾ فتح صر الل ِه﴾ أي :نصر هللا للمؤمنين مطلقا﴿ ،و وقال بعض العلماءِ ﴿ :إذا جاء ن
البالد مطلقاِ .
لكن اْلول أقوى ،أنه نصر هللا للنبي صلى هللا عليه وسلم واملؤمنين على كفار قريش وفتح
مكةِ .
ً َّ َ َ َ ُ َ َ َر َ َ
دين الل ِه أفواجا﴾ أي :جماعات جماعات ،وهذه بشارة للنبي ن
﴿و أيت الناس يدخلو في ِ
صلى هللا عليه وسلم أنه بعد فتح مكة سيدخل الناس في دين هللا أفواجا ،وأنه صلى هللا
عليه وسلم لن يموت حتى يرى ظهور اإلسالم ودخول الناس في دين هللا أفواجاِ .
َ
﴿ف َس ِبح﴾ أي :نزه ربك عما ال يليق بجاللهِ ِ.
مد َرِب َك﴾ أي :احمد ربك واشكره على نعمه وآالئهِ . َ
﴿ ِبح ِ
َ َ
استغف ُ
ره﴾ أي :أكثر من االستغفار واطلب مغفرته استعدادا للقائهِ . ِ ﴿و
وقد فعل النبي صلى هللا عليه وسلم ذلك عند رؤية العالمة ،فكان صلى هللا عليه وسلم
يكثر أن يقول قبل موته(( :سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك)) ،فالحظت أمنا
عائشة رض ي هللا عنها أن النبي صلى هللا عليه وسلم أحدث هذا الكالم وصار يكررِه كثيرا،
فقالت :يا رسول هللا؛ ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها وتقولها ،فقال صلى هللا عليه
َ َ ُ َّ َ َ
الف ُ
تح﴾)) إلى آخر ﴿إذا جاء نصر الل ِه ووسلم(( :جعلت لها عَّلمة في أمتي إذا رأيتها قلتهاِ :
السورة ،يعني وقد رأيتها رواه مسلم في الصحيحِ .
440
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال رحمه هللا تعالى :في هذه السورة الكريمة بشارة وأمر لرسوله عند حصولها وإشارة
وتنبيه على ما يترتب على ذلك.
ً
أفواجا فالبشارة هي البشارة بنصر هللا لرسوله وفتحه مكة ،ودخول الناس في دين هللا
بحيث يكون كثير منهم من أهله وأنصاره بعد أن كانوا من أعدائه ،وقد وقع هذا اْلبشر
به.
وأما اْلمر بعد حصول النصر والفتح ،فأمر هللا رسوله أن يشكر ربه على ذلك ،ويسبح
بحمده ويستغفره.
وأما اإلشارة فإن في ذلك إشارتين:
-إشارة أن يستمر النصر لهذا الدين ،ويزداد عند حصول التسبيح بحمد هللا واستغفاره
َ ْ َ َ ُ َ َ َّ ُ
من رسوله ،فإن هذا من الشكر ،وهللا يقول﴿ :ل ِئن شك ْرت ْم ْل ِز َيدنك ْم﴾ ،وقد وجد ذلك
ً
مستمرا حتى وصل في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه اْلمة لم يزل نصر هللا
اإلسَّلم إلى ما لم يصل إليه دين من اْلديان ،ودخل فيه من لم يدخل في غيره ،حتى
حدث من اْلمة من مخالفة أمر هللا ما حدث ،فابتلوا بتفرق الكلمة وتشتت اْلمر،
فحصل ما حصل ومع هذا فلهذه اْلمة وهذا الدين من رحمة هللا ولطفه ما ال يخطر
بالبال أو يدور في الخيال.
-وأما اإلشارة الثانية :فهي اإلشارة إلى أن أجل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد قرب
ودنا ،ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم هللا به ،وقد عهد أن اْلمور الفاضلة تختم
باالستغفار ،كالصَّلة والحج ،وغير ذلك.
فأمر هللا لرسوله بالحمد واالستغفار في هذه الحال ،إشارة إلى أن أجله قد انتهى،
فليستعد ويتهيأ للقاء ربه ،ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات هللا وسَّلمه عليه.
فكان صلى هللا عليه وسلم يتأول القرآن ،ويقول ذلك في صَّلته ،يكثر أن يقول في ركوعه
وسجوده(( :سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ،اللهم اغفر لي)).
ىِ :
ومن فوائد هذه السورة الكبر ِ
441
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
-أن النصر والتمكين مبني على القيام بحق رب العاملين والبعد عن الذنوب ،فهذه
اْلمة منصورة ممكنة ما قامت بحق ربها وابتعدت عن الذنوب فعال أو بالتوبة عند
َ
الوقوع( ،فعال) يعني :بأن ابتعدت فعال عن الذنوب فلم تفعلها ،أو بالتوبة منها إذا
فعلتها.
-والفائدة الثانية الكبرى :أن تسبيح هللا وحمده واستغفاره خير ما تختم به اْلعمار،
فيتأكد اإلكثار من ذلك للكبير في سنه ،من بلغ الستين ،اإلكثار مطلوب من الجميع
لكن يتأكد اإلكثار ملن كبر في سنه كأن بلغ الستين ،وملن مرض مرضا مخوفا يتأكد
في حقه أن يكثر من تسبيح هللا وحمد هللا واستغفار هللا سبحانه وتعالى.
ِ
ِ
442
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة اْلسد.
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ
نه مال ُه َوما ك َس َب (َ )2س َيصلى نا ًرا ذات ل َه ٍب ()3 ﴿ت َّبت َيدا أبي ل َه ٍب َوت َّب ( )1ما أغنى ع
جيدها َح ٌ َ ََُ ُ َ َ َ َ َ
بل ِمن َم َس ٍد ([ ﴾)5اْلسد.]٥-١ : ِ في ) 4 ( بوامرأته حمالة الح ِ
ط
هذه السورة سورة املسد ،وسورة تبت ،وسورة أبي لهب ،وسورة اللهب ،هذه أسماؤهاِ .
وهذه السورة نزلت ملا جمع النبي صلى هللا عليه وسلم قومه وأمرهم بالتوحيد ،فقال أبو
لهب وهو ِِّعم النبي صلى هللا عليه وسلم :تبا لك ألهذا جمعتنا؟! ونفض يديه ،فأنزل هللا عز
َ َ َ َ
وجل﴿ :ت َّبت َيدا أبي ل َه ٍب َوت َّب﴾ إلى آخر السورة ،رواه البخاري في الصحيحِ .
فدعا هللا عز وجل على أبي لهب بالخسارة والهالك ،وأخبر أنه خاسر هالك وأنه لم ينفعه
ولن يدفع عنه ماله و ِال جاهه وال ولده الخسران والضياع والهالك ،وسيموت على الكفر،
ويدخل جهنم ويحترق بنارها ويصيبه لهبها من كل جانب هو وامرأته التي كانت تحثه على
أذية النبي صلى هللا عليه وسلم وتعينه على ذلك ،وتحمل اْلشواك على عاتقها لتضعها في
طريق النبي صلى هللا عليه وسلم ،وتحمل على ظهرها الذنوب العظيمة بسبب أذيتها لرسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،فكان من جزائها في جهنم أنها تحمل الحطب وتلقيه على زوجها،
كما كانت تلقي الحقد على محمد صلى هللا عليه وسلم في قلب زوجها فإنها في جهنم تحمل
الحطب وتلقيه على زوجهاِ ،وفي عنقها حبل من نار ،فكما كانت تحمل الشوك بالحبل على
كتفها لتؤذي به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان من جزائها في النار أن ِّ
صير في عنقهاِ
حبل من النار تعذب بهِ .
هذا املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني آليات هذه السورة ونعود إلى التفسير التفصيليِ .
قال رحمه هللا :أبو لهب هو عم النبي صلى هللا عليه وسلم.
واسمه عبد العزى ،وكنيته أبو عتيبة ،لم يكن يكنى بأبي لهب ،لكن لقب بأبي لهب قيل:
الحمرار وجهه ،كان وجهه أحمر فلقب بأبي لهب كأن اللهب يخرج من وجهه ،وكان كثير
اْلذى والتكذيب لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وكان يتبع النبي صلى هللا عليه وسلم
ويأمر الناس بتكذيبه ،وكانت امرأته تعينه على ذلكِ .
443
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال :وكان شديد العداوة واْلذية له ،فَّل فيه دين ،وال حمية للقرابة -قبحه هللا.-
َ َ
لم يكن ذا دين وال حمية ومروءة ،لم يكن مثال مثل أبي طالب ،نعم لم يكن ذا دين لكنه
َ
كان ذا حمية ومروءة ،فحمى النبي صلى هللا عليه وسلم وكان يقولِ :أعلم أن دين محمد
خير اْلديان ،أما هذا فلم يكن عنده دين وال مروءة وال حميةِ ِ.
َ ْ
قال :فذمه هللا بهذا الذم العظيم الذي هو خزي عليه إلى يوم القيامة فقال﴿ :ت َّبت َي َدا
َ َ
أ ِبي ل َه ٍب﴾ أي :خسرت يداه وشقي.
أي :خسرت يداه وضلت ،وشقي وهلك وهذا دعاء عليهِ .
ََ
﴿وت َّب﴾ فلم يربح.
َّ ََ َ َ َّ َ َ َ
وهذا خبر﴿ ،تبت يدا أبي له ٍب﴾ هذا دعاء﴿ ،وتب﴾ هذا خبر أي أنه هلك وخسر ،بالفعل
هلك وخسرِ .
َ َ َْ ْ ُ
﴿ما أغنى َعن ُه َمال ُه﴾ الذي كان عنده وأطغاه.
َ َْ
﴿ َما أغنى﴾ يعني ما دفع عنه وال نفعه ،و(ما) هنا نافية؛ يعني :ما نفعه وال دفع عنهِ .
ِوقيل( :ما) استفهامية ،طيب إذا كانت استفهامية ما املعنى؟ ِ
أي :ماذا أغنى عنه ماله وما كسبِ ِ ِ.
قال :وال ما كسبه فلم يرد عنه ً
شيئا من عذاب هللا.
َ
﴿ َما ك َس َب﴾ (ما) هنا موصولة؛ يعني :الذي كسب ،ما هو؟ ِ
َ َ َْ ْ ُ
قال بعض العلماءَ ﴿ :ما أغنى َعن ُه َمال ُه﴾ الذي ورثهَ ﴿ ،ما ك َس َب﴾ املال الذي اكتسبهِ .
َ َ َ َ ُ َ َ َْ َُْ َ ُ
وقال بعض أهل العلم﴿ :ما أغنى عنه ماله﴾ هذا واضح﴿ ،ما كسب﴾ أي :ما اكتسب
من الجاه والرئاسةِ .
َ
وقال بعض أهل العلمَ ﴿ :ما ك َس َب﴾ ،يعني :الولد ،فما أعنى عنه ماله وال ولده وال جاهه
شيئاِ .
فلم يرد عنه ً
شيئا من عذاب هللا إذ نزل به.
َ َ َْ َ َ َ َ
صلى نا ًرا ذات ل َه ٍب﴾. ﴿سي
ص َلى﴾ دائما يصلى معناها يدخل ويحترقِّ ،
الص ِّلي هو الدخول واالحتراقِ . ﴿ َس َي ْ
ِ
444
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
َ َ َْ َ
صلى نا ًرا﴾ أي :سيدخل نارا ويحترق فيهاِ . ﴿سي
أي :ستحيط به النار من كل جانب.
َ َ َ
﴿ذات ل َه ٍب﴾ أي :أن لها لهبا شديدا محرقا محيطاِ .
ََ ْ َ َ َُ
﴿و ْام َرأت ُه َح َّمالة ال َحط ِب﴾. أي :ستحيط به النار من كل جانب ،هو
الواو هنا عاطفة على الضمير :سيصلى هو وامرأته حمالة الحطب ،واسمها أروى وكنيتها أم
جميل ،ولقبت بالعوراءِ .
ََ ْ َ ََ ْ َ
﴿ َح َّمالة ال َحط ِب﴾ قيل :معنى ﴿ َح َّمالة ال َحط ِب﴾ أنها في الدنيا كانت تحث أبا لهب على
أذية رسول هللا فتشعل النار في قلبه ،إذن الحطب هنا معنوي تشعل النار في قلب أبي لهبِ .
وقيل :حمالة الحطب في النار ليس في الدنيا ،تحمل الحطب وتلقيه على أبي لهبِ .
وكال املعنيان صحيح ،فهي في الدنيا كانت تشعل الحقد في قلب زوجها على الرسول صلى
هللا عليه وسلم ،وجزاء ذلك أنها يوم القيامة تحمل الحطب وتلقيه في جهنمِ ِ ِ ِ.
أيضا شديدة اْلذية لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،تتعاون هي وزوجها قال :وكانت ً
على اإلثم والعدوان ،وتلقي الشر ،وتسعى غاية ما تقدر عليه في أذية الرسول صلى هللا
عليه وسلم ،وتجمع على ظهرها اْلوزارِ .
ََ ْ َ
يعني :على هذا القول ﴿ َح َّمالة ال َحط ِب﴾ يعني :التي تحمل اْلوزار على ظهرها وستقودها إلى
النار ،فكأنها تحمل حطبا لتشعل النار في نفسها ،هي تحمل اْلوزار بسبب أذيتها لرسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ،فكأنها تحمل حطبا لتحرق نفسها؛ ْلنها بحملها اْلوزار ستدخل النار.
ً
﴿م ْن َم َس ٍد﴾ أي :من ليف. ً
قال :بمنزلة من يجمع حطبا ،قد أعد له في عنقه حبَّلِ ،
جيدها﴾ في عنقهاِ .
﴿في ِ
بل ِمن َم َس ٍد﴾ قال بعض العلماء :أي في عنقها حبل من ليف لحمل الشوك لتضعه ﴿ َح ٌ
في طريق رسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
وقيل :في عنقها حبل من صوف لتحمل به الشوكِ .
وقيل :في عنقها حبل من شجر في اليمن يقال له املسدِ .
445
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
املهم أنه في كل هذه اْلقوال أنه هذا في الدنيا ،في عنقها حبل تحمل به اْلشواك ْلذية
رسول هللا صلى هللا عليه وسلمِ .
جيدها َح ٌ
بل ِمن َم َس ٍد﴾ أي :في عنقها وهي في النار حبل من نارِ . وقال بعض العلماء﴿ :في ِ
وقيل :في عنقها طوق من حديد في جهنم تعذب بهِ .
وكال اْلمرين صحيح ،ففي الدنيا كان في عنقها حبل من صوف أو من جلد أو من شجر
يقال له املسد أو من ليف ،املهم أنه حبل تحمل به الشوكِ ،وفي جهنم من جزائها أن يكون
في عنقها حبل من نار أو طوق من حديد تعذب بهِ .
ً
قال :أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها متقلدة في عنقها حبَّل من مسد.
قال :وعلى كل ففي هذه السورة آية باهرة من آيات هللا ،فإن هللا أنزل هذه السورة وأبو
لهب وامرأته لم يهلكا ،وأخبر أنهما سيعذبان في النار وال بد ،ومن الزم ذلك أنهما ال
يسلمان ،فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة.
ومقصود السورة ظاهر جدا وهو نصر هللا عزوجل لرسوله صلى هللا عليه وسلم وإذالل
أعدائهِ .
ِ
ِ
ِِ
446
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة اإلخَّلص
بسم هللا الرحمن الرحيم
َ ُ َّ ُ ُ َ َ َ َ َّ َّ َ ُ
الص َم ُد ( )2ل ْم َي ِل ْد َول ْم ُيول ْد (َ )3ول ْم َيكن ل ُه كف ًوا أ َح ٌد
الل ُه َّ ﴿ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد ()1
([ ﴾)4اإلخَّلصِ .]4-1 :
هذه السورة سورة اإلخالص ،ويسميها بعض أهل العلم بسورة اإلخالص الصغرى ،وسورة
اإلخالص الكبرى كما تقدم معنا هي سورة الكافرون ،وهي سورة قل هو هللا أحد ،وسورة
التوحيد ،وسورة الصمد ،وسورة اْلساس ،هذه أسماء هذه السورةِ .
وهذه السورة تعدل ثلث القرآن ،فمن قرأها في ليلة فقد قرأ ثلث القرآن في ليلة ،ومن قام
بها فقد قام بثلث القرآن ،ومن قرأها ثالث مرات في ليلة فكأنما قرأ القرآن كله ،وهي كما
تقدم معنا في سورة الكافرون ال تغني عن قراءة القرآن ،ولكنه فضل هللا عز وجل على أمة
محمد صلى هللا عليه وسلم من جهة اْلجر والثوابِ .
وقد روى الترمذي أن املشركين قالوا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :انسب لنا ربك،
َّ َ ُ
فأنزل هللا عز وجل﴿ :ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد﴾ السورة ،وحسنه اْللبانيِ .
وهذه السورة في التوحيد االعتقادي ،ففيها وصف ربنا سبحانه وتعالى ،وقد كان أحد
ِّ ِّ الصحابة ضوان هللا عليهم يختم بها قراءته في الصالة ،فذكر أصحابه ذلك ِّ
للنبي صلى الله ر
ُ ِّ
عليه وسلم فقال(( :سلوه ْلي ش يء يفعل ذلك؟)) ،فقالْ :لنها ِصفة الرحمن وأنا أحب
أن أقرأ بها ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم(( :أخبروه أن الله يحبه)) متفق عليه،
ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ
النبي صلى الله عليه وسلمِ . صفة ِّ
الرحمن ،وأقره والشاهد أن الرجل قالِّ :إنها ِ ِ
ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ
النبي صلى الله عليه وسلم رجال يدعو وهو يقولِ :اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك وسمع
ِّ
أنت الله ال إله إال أنت اْلحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ،فقال
ِّ ِّ ِّ ِّ
النبي صلى الله عليه وسلم(( :والذي نفس ي بيده لقد سأل الله باسمه اْلعظم الذي إذا
ُ ُ ُ
عطي)) رواه الترمذي وغيره وصححه اْللبانيِ . د ِعي به أجاب ،وإذا سئل به أ ِ
وسلم ُوك َّل مؤمن ً ِّ ِّ
تبعا له صلى الله عز وجل ِّ
نبيه صلى هللا عليه ففي هذه السورة ُيخاطب
ِّ
وسلمُ ،
فقل يا محمد قوال تعرف معناه وتعتقده بقلبك :رِّبي هو املألوه املعب ِود هللا عليه
447
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
توحد في صفاته، توحد في أسمائه ،واملُ ِّ املُنفرد بالكمال في جميع الوجوه؛ فهو اْلحد املُ ِّ
ِ ِ
توحد في ألوهيته؛ فال مثل له في أسمائه وصفاته وأفعاله ،وال توحد في أفعاله ،واملُ ِّ واملُ ِّ
ِ ِ
شريك له في ألوهيتهِ .
ُ َ َ
وهو الصمد الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله ،والغ ُّني ال ِغ َنى املطلق ال يحتاج إلى ش يء
ومفت َق ٌر إليه افتقا ًرا ُمطلقا ،وهو املقصود في ِّ
كل ويحتاج إليه كل ش يء؛ َغ ٌّني غ ًنى مطلقا َ
ِ ِ
الحوائج سبحانه وتعالىِ .
َ ِّ ُ ِّ
ولد الذي لم يكن فكان؛ بل هو اْلول الذي ليس قبله ش يء؛ فلم ُي ِ ولكمال ِغناه فهو ِ
فتقر إلى ش يء؛ فلم َيلد سبحانه وتعالى ،وكل من نسب إليه الولد فهو َ
سبحانه وتعالى ،وال ي ِ
ِّ ِّ ِّ
كذاب ِأشر وكافر ،كقول املشركينِّ :إن املالئكة بنات الله ،وقول اليهودُ :ع ْزير ابن الله،
الله ،وهو سبحانه لم ُيكن له ٌ ِّ
مثيل ُيكا ِفئه في أسمائه ،أو وقول النصارىِ :املسيح ابن
ْ
الس ِم ُيع ال َب ِص ُير﴾ [الشورىِ .]11 : س َكم ْثله َش ْي ٌء َو ُه َو َّ َ صفاته ،أو أفعاله ﴿ َل ْ
ي
ِ ِِ
َ َ ُ ِّ
ستحق العبادة سواه ،هو الغ ُّني ستحق للعبادة ،وال ي ِ وما دام أن رَّبنا كذلك فهو املعبود امل ِ
عبد غيره من غيره معه فض ِال أن ُي َ
عبد ُ وكل من سواه ُمفتقر إليه ،فكيف ُي َ
ِ ِ ال ِغنى املُطلق ُّ
دونه؟! ِ
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني آليات هذه السورة ،ونعود إلى التفسير التفصيلي
ونقرأ ما سطره اإلمام السعدي رحمه هللا وسائر علماء املسلمينِ .
قال اإلمام عبد الرحمان بن ناصر السعدي رحمه هللا تعالى وغفر له ولشيخنا والسامعين:
ٌ َ ُ ْ ُ َ َّ ُ َ
﴿قل هو الله أحد﴾ أي :قل قوال جازما به معتقدا له عارفا بمعناه.
ومن املخاطب؟ املخاطب محمد صلى هللا عليه وسلم ثم تتبعه أمته ،فأنت مخاطب بهذه
السورة تبعا لنبيك صلى هللا عليه وسلمِ .
والقول هنا قول إعالم وبالغ؛ أي :قل قوال عارفا بمعناه معتقدا له بقلبك معلما إياه
الناس ومبلغا الناس به ،فالقول هنا قول إبالغ وتعليم مع االعتقاد والعلمِ .
َّ َ ُ
﴿ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد﴾ أي :قد انحصر فيه اْلحدية ،فهو اْلحد اْلنفرد بالكمال الذي له
اْلسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا واْلفعال اْلقدسة الذي ال نظير له وال مثيل.
448
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وهو أيضا املتوحد باْللوهية فال شريك له في ألوهيته ،وال أحد إال هللا سبحانه وتعالى،
يعني :املنفرد باْلحدية املطلقة ،املنفرد باْلحدية املطلقة هو هللا سبحانه وتعالىِ .
َّ
الص َم ُد﴾؛ أي :اْلقصود في جميع الحوائج ،فأهل العالم العلوي والسفلي الل ُه َّ ﴿
مفتقرون إليه غاية االفتقار ،يسألونه حوائجهم ،ويرغبون إليه في مهماتهم؛ ْلنه الكامل
في أوصافه العليم الذي قد كمل في علمه الحليم الذي قد كمل في حلمه ،الرحيم الذي
قد كمل في رحمته الذي وسعت رحمته كل ش يء ،وهكذا سائر أوصافه.
فذكر الشيخ معنيين للصمدِ :
.1اْلعنى اْلول :أنه املقصود في كل ش يءِ .
.2واْلعنى الثاني :أنه الكامل في كل ش يء ،كامل في جميع أسمائه وصفاته وأفعاله
وشرعه.
وقيل :إن الصمد هو السيد الكامل في سؤدده والغني الكامل في غناهِ .
وقيل :إن الصمد هو الذي ال جوف لهِ .
وقيل :إن الصمد الذي ال يخرج منه ش يءِ .
وقيل :الصمد هو الباقي الذي ال يفنىِ .
ويجمع كل هذه املعاني أنه الكامل الكمال املطلق ،فهذه أنواع لكماله ،املعاني التي ذكرها
املفسرون أنواع لكماله سبحانه وتعالى ،فهو ذو الكمال املطلق سبحانه وتعالى هذا معنى
الصمدِ .
َ َ َ
قال :ومن كماله أنه ﴿ل ْم َي ِل ْد َول ْم ُيول ْد﴾ لكمال غناه.
﴿ل ْم َيل ْد﴾ فهو الغني الغنى املطلق ،وال يفتقر إلى غيره ،والولد ُي َ َ
فتقر إليه ،ولذلك يستكمل ِ
الوالد حاله بأوالده ،وهللا عز وجل الغني الغنى املطلق والكامل الكمال املطلق فلم يلد ،وهو
اْلول الذي ليس قبله ش يء ،لم يكن فكان ،فهو لم يولد سبحانه وتعالىِ .
َ َ ُ َّ ُ ُ َ
﴿ول ْم َيكن ل ُه كف ًوا أ َح ٌد﴾ ال في أسمائه؛ وال في صفاته؛ وال في أفعاله تبارك وتعالىِ .
س﴿ َو َل ْم َي ُكن َّل ُه ُك ُف ًوا﴾ يعني :لم يكن له مثيال ،فليس له مثيل سبحانه وتعالىَ ﴿ :ل ْي َ
ْ َكم ْثله َش ْي ٌء ۖ َو ُه َو َّ
الس ِم ُيع ال َب ِص ُير﴾ [الشورىِ .]11 : ِ ِِ
449
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
450
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الفلق.
بسم هللا الرحمن الرحيم.
َ َ َ َ َ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َرب ْال َف َلق ( )1من َشر َما َخ َل َق (َ )2
اس ٍق ِإذا َوق َب (َ )3و ِمن ش ِرغ
ِ ِ رش نمِ و ِ ِ ِ ﴿قل أع ِ ِ
َ َ َ ْ َُ َّ َّ َ
اس ٍد ِإذا َح َس َد ([ ﴾)5الفلق.]5-1 : َ
ات ِفي العق ِد ( )4و ِمن ش ِر ح ِ النفاث ِ
هذه السورة عند جمهور العلماء مدنية ،وقد نزلت على النبي صلى هللا عليه وسلم عندما
سحر؛ فكان يخيل إليه أنه أتى أهله وهو لم يفعل صلى هللا عليه وسلم ،وآياتها عظام جداِ .
فعن عقبة بن عامر رض ي هللا عنه أنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم(( :ألم تر
َّ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َ ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ
اس﴾))ِ الن ب ر
ِ ِ ع أ ل و﴿ق ﴾، قآيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط ﴿قل أعوذ ِبر ِب الف ِ
ل
رواه مسلم في الصحيح ،وقال النبي صلى هللا عليه وسلم لجابر رض ي هللا عنه﴿(( :اقرأ يا
جابر ،فقال جابر رض ي هللا عنه :وماذا أقرأ بأبي وأمي أنت يا رسول هللا؟ فقال صلى هللا
َّ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َ ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ
اس﴾ ولن تقرأ بمثلهما)) ِ الن ب ر
ِ ِ ع أ لو﴿ق ﴾، قعليه وسلم :اقرأ ﴿قل أعوذ ِبر ِب الف ِ
ل
رواه النسائي وصححه اْللباني ،وقال لعقبة رض ي هللا عنه(( :إنك لن تقرأ شيئا أبلغ عند
َّ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َ ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ
اس﴾)) رواه النسائي وصححه ِ الن بر
ِ ِ ع أ ل و﴿ق ﴾ قهللا من ﴿قل أعوذ ِبر ِب الف ِ
ل
اْللباني ،وقال البن عباس رض ي هللا عنهما(( :أال أخبرك بأفضل ما يتعوذ به اْلتعوذون؟
َّ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َ ُ ْ َ ُ ُ َ ََْ
اس﴾))
ِ الن ب ر
ِ ِ ع أ ل و﴿ق ﴾، ققال :بلى يا رسول هللا ،قال :قل﴿:قل أعوذ ِبر ِب الف ِ
ل
رواه النسائي وصححه اْللبانيِ .
واملؤمن إذا تعوذ بهاتين السورتين فإنه يحفظ بهما من الشر بإذن هللا ،ويعافى من الشر
َ ُ ْ َ ُ ُ
بإذن هللا ،فهي حرز وشفاء وما تعوذ متعوذ بأفضل من هاتين السورتين﴿ :قل أعوذ ِبر ِب
َّ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َ ََْ
اس﴾ِ .
ِ الن بر
ِ ِ ع أ ل ق و﴿ ﴾،قالف ِ
ل
ً
فيها :قل يا محمد ممتثال ومتعوذا :ألجأ وألوذ وأعتصم وأستجير برب الصبح فالق اإلصباح
ُ
والحب والنوى من شر جميع املخلوقات ،فأستعيذ بخالقها من شرها ،هذا على وجه
العمومِ .
ثم خص هللا بعضها :ومن شر الليل إذا دخل ،فإنه تنتشر الشياطين عند دخوله وتكثر فيه
الهوام والحيوانات الضارة ،ومن شر القمر إذا غاب ،فإنه إذا غاب أظلمت الدنيا وخرجت
451
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
الدواب والهوام التي تضر اإلنسان ،ومن شر الساحرات الالتي يسحرن في الخيوط ،ويعقدن
العقد مع النفث ،ويذكرن الطالسم التي فيها االستعانة بالشياطين ،ومن شر الحاسد الذي
مكر َ
سحر أو ٍ
بعين أو ٍ يكره ِنعم هللا على العباد إذا حسد فتمنى زوال النعمة وسعى في ذلك ٍ
أو غير ذلكِ .
ُ
ويجمع الليل والنفاثات والحسدة أن شرهم خفي وضررهم خفي ،فخصوا بالذكر في هذه
االستعاذة؛ ْلن شرهم وضررهم يصل إلى اإلنسان خفيةِ .
هذا هو املعنى اإلجمالي املوضوعي اإليماني آليات هذه السورة ،ثم نعود إلى التفسير
التفصيليِ .
ً ُ
قال رحمه هللا :أي﴿ :ق ْل﴾ متعوذا.
ُ
قل والخطاب للنبي صلى هللا عليه وسلم وتتبعه أمته في هذاِ .
َّ َ ُ ُ
قل قول امتثال وتعوذ ،في ﴿ق ْل ُه َو الل ُه أ َح ٌد﴾ قلنا :قول إعالم وإبالغ ،في املعوذات هو
ً ُ
قول امتثال وتعوذ ،قل ممتثال ومتعوذا بهذه املعوذاتِ .
َ ُ
﴿أ ُعوذ﴾ أي :ألجأ وألوذ وأعتصم.
ََْ
﴿ب َر ِب الفل ِق﴾ أي :فالق الحب والنوى وفالق اإلصباح. ِ
الفلق :أصله الشق؛ أي :شاق الحب والنوى واإلصباحِ .
وقال بعض اْلفسرين :الفلق :هو الصبح خاصة ،يعني برب الصبح؛ ْلن الصبح ينجلي به
الليل والليل مظنة حصول الضرر ،يعني مناسبة ذكر الصبح هنا أن الصبح ينجلي به
الليل ،والليل مظنة حصول الضرر ،فهنا تفاؤل بزوال الضر ِرِ .
وقال بعض اْلفسرين :الفلق جهنم ،هذا من أسماء جهنم.
ُ
وقال بعض أهل العلم :الفلق :بيت في جهنم إذا فتح بابه استعاذ أهل النار مع ما هم فيه
من حر من حرهِ .
وقال بعض اْلفسرين :الفلق هو :الخلق ،واْلقوى هو ما ذكره اإلمام السعدي أنه رب
الفلق يعني؛ رب الشق للحب والنوى واإلصباحِ .
452
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وجن وحيوانات فيستعاذ إنس من هللا خلق ما جميع يشمل وهذا ﴾؛ ﴿من َشر ما َخ َل َ
ق
ٍ ٍ ِ ِ
بخالقها من الشر الذي فيها.
ِّ
ويدخل في ذلك نفس اإلنسان؛ فإنه بهذا يتعوذ باهلل من شر نفسه ،والنفس لها ٌِ
شر .وقال
ََ َ
بعض أهل العلم :معنى ﴿ ِمن ش ِر ما خل َق﴾؛ يعني من شر الشيطان ،فيكون املعنى من أشر
ما خلق؛ أستعيذ باهلل من أشر ما خلق وهو الشيطانِ .
ولكن الذي ذكره الشيخ هو اْلرجح واْلصح في تفسير اآليةِ .
َ َ
غاس ٍق ِإذا َوق َب﴾. َ
قال رحمه هللا :ثم خص بعدما عم فقال﴿ :و ِمن ش ِر ِ
َ َ
غاس ٍق ِإذا َوق َب﴾؛ يعني :ومن شر الليل إذا دخل، َ
قال بعض اْلفسرين﴿ :و ِمن ش ِر ِ
شرا لكن فيه شر ،تنتشر الشياطين في أوله، واملقصود من شر ما فيه؛ الليل نفسه ليس ً
ْلن الشياطين تنتشر عند أول دخول ولذلك املشروع أن ُيحفظ الصبيان عند الغروب؛ ِّ
453
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سنة ِّ الصواب؛ ْل ِّنه تفسير من القرآن ومن ِّ الليل والقمر هو ِّ ِّ ِّ ِّ
ولد
سي ِد ِ ِ ِ ِ ِ ِ فسير ِبأنه ولكن الت ِ ِ
ِّ ِّ ِّ
عليه وسلمِ . ِ ه الل عدنان صلى
ْ
الليل حين يغش ى الناس وتنتشر
ْ من شر ما يكون في ْ أيْ : اسق إ َذا َو َق َب﴾ ْ َ َ َ
﴿و ِمن ش ِر ِ ٍ ِ
غ
ْ َ َ َّ َّ َ ْ ْ ْ ْ ْ
ات ِفي ال ُعق ِد﴾. َ
فيه كثير من اْل ْرواح الشريرة والحيوانات اْلؤذية ﴿و ِمن ش ِر النفاث ِ
ابها ِفي ين َقال :الغاسق ُه َنا ه َي ْال َح َّية ﴿ َوإ َذا َو ْق َب﴾َ :ي ْعني َإذا َأ ْد َخ َل ْت َأ ْن َي َ ض ْاْلُ َفسر َ َب ْع ُ
ِ ِ ِ ِ ِ
بال ْيل َو ْال َق َمر ُه َو َّ َ اللديغَ ،لكن َّ َّ
الص َو ُ ِ
اب ِ الت ْف ِسير ِ ِ
َ َّ َ ْ َُ َ َّ َّ َ
وم ْن ش ِر السواحر الَّل ِتي َي ْست ِع ْن على سحرهن ِ : أي ﴾؛ دِ ق ع ال ي ف ﴿و ِمن ش ِر النف ِ ِ
ات اث َ
ََ ْ َ ْ َّ َّ ْ
الس ْح ِر. ِبالنفث ِفي العق ِد ال ِتي يعقدنها على ِ
َ َّ
الس َح َرة أال ُي ْس َت َعاذ ِم ْن ش ِّ ِر ِه ْم؟ ِ الر َجال َّ َ ِّ
و ِ
َ َ َ ْ ُ َ ْ ْ ْ َ َّ ِّ
الن َس ُاء هنا ْلنهن أكثر من يسحر بهذه الطريقة؛ وْلن سحرهن قال بعض أه ِل ال ِعل ِم :خص ِ
أقوى ،فهذا من باب ذكر الغالب ،وذكر الغالب ال يقتض ي التخصيص فيدخل الرجال
أيضاِ .
َ َّ َّ َ َ
ات﴾ يعني ومن شر اْلنفس النفاثات ،فيدخل في
وقال بعض أهل العلم ﴿و ِمن ش ِر النفاث ِ
ذلك الرجال والنساءِ .
وعلى كل حال فالرجال كالنساء ُيستعاذ باهلل من شرهم إذا َسحرواِ .
والحاسد :هو الذي يحب زوال النعمة عن اْلحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من
اْلسبابِ .
اس ٍد﴾ الحسد :هو كره النعمة على العباد وتمني زوالهاِ . َ َ َ
﴿و ِمن ش ِر ح ِ
َ َ ﴿ومن َشر َ
اس ٍد ِإذا َح َس َد﴾؟ ِل َم ل ْم يقل هللا :ومن شر حاسد؟ ِح
ِ ِ
َ
ملاذا قال هللا ِ
َ
﴿إذا َح َس َد﴾
قالواْ :لن الحاسد قد يكره النعمة على غيره لكن ال يسعى في زوالها ،فمعنى ِ
ُ
يعني إذا سعى في زوال تلك النعمة إما بعين ،والعين حق وتورد الجمل القدر وتجر شرورا
كثيرة ،والعين كما تدل عليه النصوص نوعانِ :
عين حاسدة :وهذه أخبث العيونِ .
454
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
وعين معجبة :ال يلزم أن تكون حاسدة ،ولكن يعجبها ش يء فتصيبه بالضرر ،وهذه
أخطر من اْلولى من جهة أن اإلنسان ال يتنبه لهاِ .
اْلولى أخبث والثانية أخطر على اإلنسان؛ ْلن اإلنسان قد يعجب بحفظه فيصيب نفسه
بالعين ،قد يعجب بتجارته فيصيب تجارته بالعين إذا لم ُي َب ِّ ِرك ،قد يعجب بابنه فيصيب
ابنه بالعين ،ولذلك املشروع لإلنسان إذا رأى ما يعجبه من نفسه أو ماله أو ولده أو غيره
أن ُي َب ِّ ِرك ،فيقو ِل :تبارك هللا ،اللهم بارك ،وإن قال :ما شاء هللاِال قوة إال باهلل اللهم بارك
فحسن ،لكن ال يقتصر على قوله :ما شاءِهللاِال قوة إال باهلل؛ البد من التبريكِ .
وبعض الناس إذا قلت لهَ :ب ِّ ِرك يا أخي ،قال :وهل أنا حاسد؟ إذا قال :فالن كذا ،قلت :يا
أخي قل تبارك هللا ،قال :وهل أنا حاسد ،ال؛ ما يلزم من إصابة العين أن تكون عن حسد،
بل قد تكون عن إعجابِ .
ومن عجيب أني مرة في درس ي هنا تكلمت عن هذه املسألة ،وأن العين قد تكون عين حسد
وقد تكون عين إعجاب ،وأن اإلنسان قد يصيب نفسه بالعين وهو ال يشعر ،فأرسل لي
أحد اإلخوة من بلد أوروبي رسالة ،وقال :يا شيخ أنا ابتليت بالخسارات في تجارتي بعد أن
مستغربا حتى سمعت كالمك عن املسألة ،فتنبهت أني أصيب نفس يً كنت ناجحا ،وكنت
بالعين ،فأصبحت أقو ِل :تبارك هللا ،فرجعت تجارتي إلى الربح والحمد هلل وزال هذا اْلمرِ .
فهذا ينبغي أن ُيتنبه له إذا رأيت من نفسك من مالك من زوجتك من أبنائك من جيرانك
ما يعجبك فبرك ،فإنك قد تصيب بالعين وأنت ال تشعر ،ولكن عين الحاسد أخبث من
عين املعجبِ .
قال رحمه هللا :فاحتيج إلى االستعاذة باهلل من شره وإبطال كيده ،ويدخل في الحاسد
العائن؛ ْلنه ال تصدر العين إال من حاسد شرير الطبع خبيث النفسِ .
وهذا غير صحيح ،فالعين قد تصدر من غير الحاسد ،ولكن الحاسد خبيث العين مظنة
اإلصابة بالعينِ .
455
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
قال رحمه هللا :فهذه السورة تضمنت االستعاذة من جميع أنواع الشرور عموما
وخصوصا ،ودلت على أن السحر له حقيقة يخش ى من ضرره ويستعاذ باهلل منه ومن
أهله.
-من فوائد هذه السورة الكبرىِ :أن االستعاذة عبادة؛ فال يستعاذ إال باهلل عز وجلِ .
-ومن فوائد هذه السورة أن املؤمن يتعوذ بها تحصينا وشفاء ،فيتعوذ بها تحصينا من
ً
شفاء من اْلدواء الحسية واملعنويةِ . الشر ،ويتعوذ بها
ِ
ِ
ِِ
456
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
سورة الناس
بسم هللا الرحمن الرحيم
ْ َ َّ الناس ( )٣من َشر ْال َو ْس َ َٰ َّ َّ الناس (َ )١ َّ َ ُ ْ َ ُ ُ
اس
ِ ن خ ال اس
ِ و ِ ِ ِ ه
ِ ِ ل إ ) ٢ ( اسِ الن ك ل
ِ ِ م ِ ب
﴿قل أع ِ ِ
ر ب وذ
َ ْ َّ َ َّ ُ ُ ر َّ (َّ )٤ال ِذي ُي َو ْسو ُ
اس ([ ﴾)٦الناس .]٦-١: ِ الن و ة ِ ن جِ ال ن مِ ) ٥ ( اس ِ الن ِ و دص ي فِ س ِ
ما ذكرناه من فضل في سورة الفلق نذكره هنا ،فهما مقترنتانِ .
ً
يقول هللا عز وجل :قل يا محمد ممتثال ومتعوذا ألجأ وأعتصم وأستجير برب الناس الذي
يربيهم بالنعم ويدبر أمورهم ،وهو سبحانه مالكهم الذي يتصرف فيهم ،وهو إلههم الحق
املستحق للعبادة من شر شياطين اإلنس والجن الذين يوسوسون في الصدور بما يضر
وبالشر خفية إذا غفل اإلنسان عنهم ،وعن ذكر هللا عز وجل ،فإذا ذكر هللا اختفوا عنه
وفروا منه وابتعدوا عنهِ .
هذا هو املعنى املوضوعي اإلجمالي اإليماني آليات هذه السورة ونعود إلى التفسير التفصيليِ .
َّ ُ ْ َ ُ ُ
وذ ب َ
اس﴾ هللا رب كل ش يء ،رب الناس ،رب املالئكة،
ِ الن بيقول هللا عز وجل﴿ :قل أع ِ ِ
ر
رب الجن ،رب الحيوانات ،فلماذا خص هللا عز وجل الناس هنا؟ ِ
ٌ
قالوا :للمناسبة؛ ْلن الناس متعوذون ومستعاذ من شرهمِ .
َّ َ
اس﴾ ملاذا ذكر ا ِمللك هنا؟ ِ
﴿م ِل ِك الن ِ
قويا له ملك وله جاه وله سطوة ،فهذا هللا مالكه،قال العلماءْ :لن من الناس من يكون ً
فاهلل مالك الناس جميعا ،فإذا استعذت باهلل من شر الناس فإن هللا يعيذك من شرهم
جميعا ،من شر امللك ،ومن شر الخفي ،من شر القوي ،ومن شر الضعيف ،فاهلل يملكهم
جميعا سبحانه وتعالىِ .
َ َٰ َّ
اس﴾ ذكر اْللوهية هنا ُليعلم أن املستعاذ به هو هللا اإلله الحق ،وأن االستعاذة ِ الن ﴿ ِإل ِه
بغير هللا فيما ال يقدر عليه املستعاذ كفر وشرك باهلل عز وجل ،فاملستعاذ به إله ،فمن
استعاذ باملقبورين فقد جعلهم آلة من دون هللا ،ومن استعاذ بالحي فيما ال يقدر عليه فقد
جعله إله من دون هللا عز وجلِ .
457
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
458
شرح تفسير اإلمام السعدي للجزء األخير من القرآن
ْلجلها فَّل تتم لهم إال بدفع شر عدوهم الذي يريد أن يقتطعهم عنها ويحول بينهم وبينها،
ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
َ ْ َّ َ َّ
اس (﴾)6 والوسواس كما يكون من الجن يكون من اإلنس ،ولهذا قالِ :
﴿من ال ِجن ِة و ِ
الن
ً ً
وظاهرا وباطنا. والحمد هلل رب العاْلين أوال وآخرا
ِ
459