You are on page 1of 20

‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على اهلادي إىل صراط هللا املستقيم‪ ،‬سيدان حممد وعلى آله وصحبه‬

‫ومن اهتدى هبديه إىل يوم الدين‪.‬‬


‫أما بعد‪ :‬فمن أصدق وصااي عمر بن اخلطاب أليب موسى األشعري ‪-‬رضي هللا عنهما‪-‬‬
‫قوله‪" :‬وال مينعك من قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع‬
‫فيه احلق‪ ،‬فإن احلق قدمي‪ ،‬وال يبطل احلق شيء‪ ،‬وإن مراجعة احلق خري من التمادي يف‬
‫الباطل"(‪ .)1‬تلك كلمات خالدة؛ فإن مما ميتدح به الشخص يف الدنيا واآلخرة رجوعه إىل احلق‬
‫إذا عرفه‪ ،‬واحلكمة ضالة املؤمن‪.‬‬
‫ومن أشهر النماذج اليت سطرها التاريخ يف الرجوع إىل احلق‪ :‬منوذج الشيخ أيب احلسن‬
‫األشعري‪ ،‬وهو من علماء القرن الرابع اهلجري‪ ،‬ولد يف عام (‪260‬هـ)‪ ،‬وقد كان قريبا إىل‬
‫أصول اإلمام أمحد بن حنبل(‪ ،)2‬وقد تنقل يف حياته من االعتزال إىل طريقة الكالبية‪ ،‬مث إىل‬
‫طريقة السلف؛ حبثا عن احلق ورجوعا إليه(‪ ،)3‬إىل أن تويف ‪-‬رمحه هللا‪ -‬ببغداد سنة (‪324‬هـ)‪.‬‬
‫وكان من قصته يف الرجوع إىل احلق‪ :‬ما أسنده احلافظ ابن عساكر (ت ‪571‬هـ) عن‬
‫ابن عزرة ‪-‬رمحه هللا‪ -‬أنه قال‪" :‬األشعري شيخنا وإمامنا‪ ،‬ومن عليه معولنا‪ ،‬قام على مذاهب‬
‫املعتزلة أربعني سنة‪ ،‬وكان هلم إماما‪ ،‬مث غاب عن الناس يف بيته مخسة عشر يوما‪ .‬فبعد ذلك‬
‫خرج إىل اجلامع‪ ،‬فصعد املنرب‪ ،‬وقال‪ :‬معاشر الناس‪ ،‬إين إمنا تغيبت عنكم يف هذه املدة؛ ألين‬
‫نظرت فتكافأت عندي األدلة‪ ،‬ومل يرتجح عندي حق على ابطل‪ ،‬وال ابطل على حق‪،‬‬
‫فاستهديت هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬فهداين إىل اعتقاد ما أودعته يف كتيب هذه‪ ،‬واخنلعت من مجيع‬
‫ما كنت أعتقده كما اخنلعت من ثويب هذا‪ ،‬واخنلع من ثوب كان عليه ورمى به"(‪.)4‬‬
‫وإىل الشيخ أيب احلسن تنسب الطائفة األشعرية‪ ،‬وهم يف احلقيقة خمالفون له يف أبواب كثرية‬
‫من أبواب االعتقاد؛ ومن أمثلتها صفات الباري ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ .-‬ويف هذه الورقة العلمية‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬اتريخ املدينة البن شبة (‪.)775 /2‬‬


‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬جمموع الفتاوى (‪.)228 /3‬‬
‫(‪ )3‬وكأنه كان ممتثال لوصية عمر بن اخلطاب جلده أيب موسى األشعري رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫(‪ )4‬تبيني كذب املفرتي فيما نسب إىل األشعري (ص‪.)39 :‬‬
‫بيان وتوضيح ملخالفة األشاعرة ملا كان عليه الشيخ أبو احلسن األشعري ‪-‬رمحه هللا‪ -‬يف آخر‬
‫حياته‪ ،‬يف ابب صفات الباري ‪-‬عز وجل‪ ،-‬وتفصيل ذلك يف مبحثني‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬كيف انتقل الشيخ أبو احلسن إىل مذهب السلف؟‬
‫املبحث الثاين‪ :‬نقض الشيخ أيب احلسن ملعتقد األشعرية يف ابب الصفات‪.‬‬
‫وهذا أوان الشروع يف املقصود بعون امللك املعبود ‪-‬سبحانه وحبمده‪.-‬‬
‫املبحث األول‪ :‬كيف انتقل الشيخ أبو احلسن إىل مذهب السلف؟‬
‫السؤال الذي يشغل ابل الكثري من الباحثني هو‪ :‬هل انتقل الشيخ أبو احلسن األشعري‬
‫فعال إىل مذهب السلف يف الصفات؟‬
‫ولإلجابة عن هذا السؤال ‪-‬على جهة الدقة واإلنصاف‪ -‬ال بد من بيان املراحل اليت مر‬
‫هبا الشيخ أبو احلسن يف حياته العلمية؛ ليتسىن لنا تقييم انتقاله إىل مذهب السلف من عدمه‪.‬‬
‫حترير حمل النزاع يف ذلك‪:‬‬
‫أوال‪ :‬اتفق العلماء املرتمجون للشيخ أيب احلسن األشعري على أنه مر يف حياته العلمية‬
‫مبراحل متعددة‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬اتفقوا أيضا على أنه كان يف بداايت حياته العلمية على مذهب االعتزال‪ ،‬متأثرا يف‬
‫ذلك ومتابعا أليب علي اجلبائي املعتزيل‪ ،‬وظل على تلك احلال أربعني سنة‪ ،‬مث اتب ورجع عن‬
‫مذهب االعتزال‪.‬‬
‫يقرر ذلك احلافظ الذهيب (ت ‪748‬هـ) بقوله‪" :‬وبلغنا أن أاب احلسن اتب وصعد منرب‬
‫البصرة‪ ،‬وقال‪ :‬إين كنت أقول خبلق القرآن‪ ،‬وأن هللا ال يرى ابألبصار‪ ،‬وأن الشر فعلي ليس‬
‫بقدر‪ ،‬وإين اتئب‪ ،‬معتقد الرد على املعتزلة"(‪.)1‬‬
‫اثلثا‪ :‬تنوعت أنظار العلماء يف عدد املراحل العلمية اليت مر هبا الشيخ أبو احلسن األشعري‪،‬‬
‫وذلك على قولني‪ ،‬كاان فارقني بني األشاعرة وبني أتباع السلف يف ابب صفات هللا ‪-‬عز‬

‫(‪ )1‬سري أعالم النبالء (‪.)89 /15‬‬


‫وجل‪-‬؛ لذا كان من األجدر بنا عرض القولني على بساط البحث؛ للخروج بعد ذلك بنتيجة‬
‫توضح احلال العلمية اليت انتهى إليها الشيخ أبو احلسن األشعري‪ ،‬وتفصيل هذا فيما أييت‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬مر الشيخ أبو احلسن مبرحلتني فقط‪:‬‬
‫يرى بعض األشعرية ‪-‬وخاصة املتأخرين منهم‪ -‬أبن الشيخ أاب احلسن األشعري مر يف‬
‫حياته العلمية مبرحلتني فقط‪ ،‬مها‪ :‬اتباعه ملذهب املعتزلة أوال‪ ،‬مث انتقاله إىل مذهب عبد هللا بن‬
‫سعيد بن كالب‪ ،‬وهم ‪-‬أعين األشعرية‪ -‬يعتقدون أبن ابن كالب على مذهب أهل السنة(‪.)1‬‬
‫وقد استندوا يف دعواهم على بعض األقوال‪ ،‬ولعل ذكر قولني منها يغين عن ذكر غريمها‪:‬‬
‫‪ -‬يقول أبو بكر بن فورك (ت ‪406‬هـ)‪" :‬انتقل الشيخ أبو احلسن علي بن إمساعيل‬
‫األشعري ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬من مذاهب املعتزلة إىل نصرة مذاهب أهل السنة واجلماعة ابحلجج‬
‫العقلية‪ ،‬وصنف يف ذلك الكتب"(‪.)2‬‬
‫‪ -‬ويقول ابن خلكان (ت ‪681‬هـ)‪" :‬وكان أبو احلسن األشعري أوال معتزليا‪ ،‬مث اتب من‬
‫القول ابلعدل وخلق القرآن يف املسجد اجلامع ابلبصرة يوم اجلمعة‪ ،‬ورقي كرسيا واندى أبعلى‬
‫صوته‪ :‬من عرفين فقد عرفين‪ ،‬ومن مل يعرفين فأان أعرفه بنفسي‪ ،‬أان فالن ابن فالن‪ ،‬كنت أقول‬
‫خبلق القرآن‪ ،‬وأن هللا ال تراه األبصار‪ ،‬وأن أفعال الشر أان أفعلها‪ ،‬وأان اتئب مقلع‪ ،‬معتقد للرد‬
‫على املعتزلة‪ ،‬خمرج لفضائحهم ومعايبهم"(‪.)3‬‬
‫واملنصف يرى أن هذه األقوال وغريها مما ذكره األشعرية(‪ )4‬ال تثبت عدد املراحل العلمية‬
‫اليت مر هبا الشيخ أبو احلسن األشعري‪ ،‬وإمنا غاية ما فيها أنه أعلن توبته ورجوعه عن مذهب‬
‫االعتزال‪ ،‬وانشغاله ابلرد عليهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬الصواب‪ :‬أن طريقة ابن كالب أقرب إىل احلق والسنة من قول املعتزلة‪ ،‬على أنه كان مبتدعا عند‬
‫السلف مبا قاله يف مسألة القرآن‪ ،‬ويف إنكار الصفات الفعلية القائمة بذات هللا‪ .‬ينظر‪ :‬جمموع الفتاوى‬
‫(‪ ،)555 /5‬الفتاوى الكربى (‪.)631 /6‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬تبيني كذب املفرتي فيما نسب إىل األشعري البن عساكر (ص‪.)127 :‬‬
‫(‪ )3‬وفيات األعيان (‪.)285 /3‬‬
‫(‪ )4‬ينظر‪ :‬أهل السنة األشاعرة حلمد السنان وفوزي العنجري (ص‪ 43 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫القول الثاين‪ :‬مر الشيخ أبو احلسن بثالث مراحل‪:‬‬
‫صرح مجع من أهل العلم والسري والتواريخ أن الشيخ أاب احلسن األشعري مر بثالث مراحل‬
‫يف حياته العلمية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫املرحلة األوىل‪ :‬اتباعه ملذهب االعتزال‪.‬‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬انتقاله إىل طريقة عبد هللا بن كالب‪.‬‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬انتقاله إىل مذهب السلف يف الصفات‪.‬‬
‫ودونك بعض أقوال أهل العلم املثبتة لذلك األمر‪:‬‬
‫‪ -‬يقول احلافظ الذهيب‪" :‬وكان معتزليا مث اتب‪ ،‬ووافق أصحاب احلديث يف أشياء خيالفون‬
‫فيها املعتزلة‪ ،‬مث وافق أصحاب احلديث يف أكثر ما يقولونه‪ ،‬وهو ما ذكرانه عنه من أنه نقل‬
‫إمجاعهم على ذلك‪ ،‬وأنه موافق هلم يف مجيع ذلك‪.‬‬
‫فله ثالثة أحوال‪ :‬حال كان معتزليا‪ ،‬وحال كان سنيا يف بعض دون البعض‪ ،‬و[حال]‬
‫(‪)1‬‬

‫كان يف غالب األصول سنيا‪ ،‬وهو الذي علمناه من حاله‪ ،‬فرمحه هللا وغفر له ولسائر‬
‫املسلمني"(‪.)2‬‬
‫‪ -‬ويقول احلافظ ابن كثري (ت ‪774‬هـ)‪" :‬ذكروا للشيخ أيب احلسن األشعري ‪-‬رمحه هللا‪-‬‬
‫ثالثة أحوال‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬حال االعتزال‪ ،‬اليت رجع عنها ال حمالة‪.‬‬
‫واحلال الثاين‪ :‬إثبات الصفات العقلية السبعة‪ ،‬وهي‪ :‬احلياة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬واإلرادة‪،‬‬
‫والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والكالم‪ ،‬وأتويل اخلربية؛ كالوجه‪ ،‬واليدين‪ ،‬والقدم‪ ،‬والساق‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫واحلال الثالثة‪ :‬إثبات ذلك كله من غري تكييف وال تشبيه‪ ،‬جراي على منوال السلف‪،‬‬
‫وهي طريقته يف اإلابنة اليت صنفها آخرا‪ ،‬وشرحه القاضي الباقالين‪ ،‬ونقلها أبو القاسم ابن‬

‫(‪ )1‬زايدة على النص لإليضاح‪.‬‬


‫(‪ )2‬العرش (‪.)303-302 /2‬‬
‫عساكر‪ ،‬وهي اليت مال إليها الباقالين وإمام احلرمني وغريمها من أئمة األصحاب املتقدمني يف‬
‫أواخر أقواهلم‪ ،‬وهللا أعلم"(‪.)1‬‬
‫تنبيه‪ :‬جتدر اإلشارة إىل أن شيخ اإلسالم ابن تيمية (ت ‪728‬هـ) قد قام بتقسيم هذه‬
‫احلال الثالثة إىل مرحلتني؛ فقال‪" :‬وأما األشعري فهو أقرب إىل أصول أمحد من ابن عقيل‪،‬‬
‫وأتبع هلا؛ فإنه كلما كان عهد اإلنسان ابلسلف أقرب كان أعلم ابملعقول واملنقول‪.‬‬
‫وكنت أقرر هذا للحنبلية‪ ،‬وأبني أن األشعري وإن كان من تالمذة املعتزلة مث اتب‪ ،‬فإنه‬
‫كان تلميذ اجلبائي‪ ،‬ومال إىل طريقة ابن كالب‪ ،‬وأخذ عن زكراي الساجي أصول احلديث‬
‫ابلبصرة‪ ،‬مث ملا قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورا أخرى‪ ،‬وذلك آخر أمره‪ ،‬كما ذكره هو‬
‫وأصحابه يف كتبهم"(‪.)2‬‬
‫فقد بني ابن تيمية أن انتقال الشيخ أيب احلسن من طريقة ابن كالب إىل مذهب السلف‬
‫يف الصفات مر مبرحلتني‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬أخذه عن الشيخ زكراي الساجي أصول احلديث‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أخذه عن حنبلية بغداد أمورا أخرى‪ ،‬كانت هي آخر أمره الذي تويف عليه ‪-‬رمحه‬
‫هللا‪.-‬‬
‫الراجح من القولني‪:‬‬
‫املتأمل يف القولني السابقني إبنصاف وجترد يتبني له رجحان القول الثاين؛ مبعىن أن الشيخ‬
‫أاب احلسن األشعري ترك طريقة ابن كالب‪ ،‬وانتقل إىل مذهب السلف يف الصفات‪ ،‬بعدما‬
‫اختلط ابلشيخ زكراي الساجي‪ ،‬مث انتقاله إىل بغداد وأتثره مبشايخ احلنابلة هناك‪ .‬ومن أهم‬
‫األسباب الداعية إىل هذا الرتجيح‪:‬‬
‫أوال‪ :‬موافقة القول الثاين ملا تقرر عند مجهور أهل العلم من قواعد الرتجيح‪ ،‬ومن أمثلتها‪:‬‬

‫(‪ )1‬طبقات الشافعيني (ص‪.)210 :‬‬


‫(‪ )2‬جمموع الفتاوى (‪.)228 /3‬‬
‫‪ -‬موافقته لقاعدة‪" :‬املثبت مقدم على النايف"(‪)1‬؛ الشتماله على زايدة علم‪ ،‬فالقول‬
‫الثاين مثبت النتقال الشيخ أيب احلسن إىل مذهب السلف يف الصفات‪ ،‬خبالف القول األول‬
‫فإنه انف هلذا االنتقال أو بعبارة أدق ساكت عنه؛ وبناء على القاعدة فإنه يقدم القول الثاين‬
‫على القول األول‪.‬‬
‫‪ -‬موافقته لقاعدة‪" :‬من علم حجة على من مل يعلم"(‪ ،)2‬فإن من نقل حتول الشيخ أيب‬
‫احلسن من مذهب الكالبية إىل مذهب السلف يف الصفات قد علم شيئا قد خفي عمن مل‬
‫ينقل ذلك عنه‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬تصريح أصحاب القول الثاين بتقسيم املراحل إىل ثالثة‪:‬‬
‫صرح أصحاب القول الثاين أبن الشيخ أاب احلسن األشعري قد تدرج يف حياته العلمية‬
‫على ثالث مراحل‪ ،‬بينما أصحاب القول األول مل يستندوا إىل أقوال فيها التصريح بعدم انتقاله‬
‫إىل مذهب السلف‪ ،‬وإمنا غاية ما نقلوه عن العلماء واملؤرخني أن الشيخ أاب احلسن اتب من‬
‫مذهب املعتزلة‪ ،‬ورجع عنه وصنف يف الرد عليهم‪.‬‬
‫على أنه ميكن اجلواب عن تلك النقوالت اليت استند إليها أصحاب القول األول‪ :‬أبن ابن‬
‫فورك وأتباعه مل يذكروا املرحلة الثالثة من حياة أيب احلسن األشعري ‪-‬أعين‪ :‬تركه لطريقة ابن‬
‫كالب‪ ،‬وانتقاله إىل طريقة السلف يف الصفات‪ -‬ألهنم مل يطلعوا على كتابه اإلابنة وحنوه‪،‬‬
‫والذي فيه التصريح مبوافقة مذهب السلف يف الصفات؛ فإن الشيخ أاب احلسن األشعري إمنا‬
‫صنف اإلابنة وحنوه يف بغداد يف آخر عمره؛ ملا زاد استبصاره يف السنة‪ ،‬وابن فورك إمنا ذكر‬
‫تصانيفه قبل ذلك(‪.)3‬‬
‫اثلثا‪ :‬ابلنظر إىل الكتب اليت صنفها الشيخ أبو احلسن يف آخر حياته‪:‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬إيثار اإلنصاف يف آاثر اخلالف لسبط ابن اجلوزي (‪ ،)401 /1‬والفروق للقرايف (‪،)69 /3‬‬
‫وشرح تنقيح الفصول له (‪ ،)258 /2‬وهناية الوصول يف دراية األصول لألرموي (‪ ،)3724 /8‬والبحر‬
‫احمليط للزركشي (‪ ،)154 /4‬والتقرير والتحبري البن أمري حاج (‪.)61 /3‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬التقريب واإلرشاد أليب بكر الباقالين (‪.)110 /1‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬بيان تلبيس اجلهمية البن تيمية (‪.)143 /1‬‬
‫فمن نظر يف كتب الشيخ أيب احلسن األشعري اليت صنفها يف أخرايت حياته ‪-‬كاإلابنة‪،‬‬
‫ورسالته إىل أهل الثغر‪ ،‬ومقاالت اإلسالميني‪ ،‬وغريها‪ -‬علم قطعا موافقة الشيخ أيب احلسن ملا‬
‫كان عليه السلف يف ابب صفات الباري ‪-‬عز وجل‪ ،-‬وهذا ما سنعرض له تفصيال يف املبحث‬
‫الثاين‪.‬‬
‫خالصة ما سبق‪ :‬صحة انتقال الشيخ أيب احلسن األشعري إىل مذهب السلف يف ابب‬
‫الصفات‪:‬‬
‫يتضح جليا مما سبق أن الشيخ أاب احلسن األشعري ‪-‬رمحه هللا‪ -‬انتقل يف آخر حياته إىل‬
‫مذهب السلف يف الصفات‪ ،‬ومصنفاته األخرية ‪-‬كاإلابنة‪ ،‬ومقاالت اإلسالميني‪ ،‬واملوجز‪،‬‬
‫ورسالة إىل أهل الثغر‪ -‬شاهد صدق على ذلك؛ كما أكد على هذا املعىن مجع من أهل العلم‪:‬‬
‫‪ -‬يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬وملا رجع األشعري عن مذهب املعتزلة سلك طريق ابن‬
‫كالب‪ ،‬ومال إىل أهل السنة واحلديث‪ ،‬وانتسب إىل اإلمام أمحد‪ ،‬كما قد ذكر ذلك يف كتبه‬
‫كلها‪ :‬كاإلابنة‪ ،‬واملوجز‪ ،‬واملقاالت‪ ،‬وغريها‪ ،‬وكان القدماء من أصحاب أمحد كأيب بكر بن‬
‫عبد العزيز وأيب احلسني التميمي وأمثاهلما يذكرونه يف كتبهم على طريق املوافق للسنة يف‬
‫اجلملة‪ ،‬ويذكرون رده على املعتزلة وأبدى تناقضهم"(‪.)1‬‬
‫‪ -‬ويقول احلافظ الذهيب‪" :‬رأيت أليب احلسن أربعة تواليف يف األصول‪ ،‬يذكر فيها قواعد‬
‫مذهب السلف يف الصفات‪ ،‬وقال فيها‪ :‬تر كما جاءت‪ .‬مث قال‪ :‬وبذلك أقول‪ ،‬وبه أدين‪،‬‬
‫وال تؤول"(‪.)2‬‬
‫‪ -‬وقريب من هذا قول احلافظ أيب القاسم بن عساكر ‪-‬وهو من أعظم الناس انتصارا‬
‫للشيخ أيب احلسن األشعري‪ -‬حيث قال بعدما ذكر طرفا من كالمه يف اإلابنة‪" :‬وتبينوا فضل‬
‫أيب احلسن‪ ،‬واعرفوا إنصافه‪ ،‬وامسعوا وصفه ألمحد ابلفضل واعرتافه؛ لتعلموا أهنما كاان يف‬
‫االعتقاد متفقني‪ ،‬ويف أصول الدين ومذهب السنة غري مفرتقني"(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬اجتماع اجليوش اإلسالمية البن القيم (‪.)285-284 /2‬‬


‫(‪ )2‬سري أعالم النبالء (‪.)86 /15‬‬
‫(‪ )3‬تبيني كذب املفرتي فيما نسب إىل األشعري (ص‪.)163 :‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬نقض الشيخ أيب احلسن ملعتقد األشعرية يف ابب الصفات‪:‬‬
‫من أتمل كالم الشيخ أيب احلسن األشعري يف كتبه‪" :‬اإلابنة"‪ ،‬و"مقاالت اإلسالميني"‪،‬‬
‫و"رسالته إىل أهل الثغر"‪ ،‬توصل مبا ال يدع جماال للشك إىل أن الشيخ أاب احلسن موافق ملعتقد‬
‫السلف يف ابب الصفات‪ ،‬وخمالف ملا عليه األشعرية وخاصة املتأخرين منهم‪.‬‬
‫وفيما أييت أربعة مطالب توضح املقصود؛ وجعلت كل مطلب يف مسائل‪ :‬فأذكر ما عليه‬
‫متأخرو األشعرية‪ ،‬مث أذكر نقض كالمهم مبا أمجع عليه السلف‪ ،‬مث أبني موافقة الشيخ أيب‬
‫احلسن األشعري ملذهب السلف‪ ،‬مث خالصة القول‪ ،‬ورمبا ذكرت بعض الشبه وجواهبا‪.‬‬
‫وقد تعمدت خمالفة الرتتيب الزمين؛ بغية إظهار مناقضة الشيخ أيب احلسن األشعري ملا‬
‫عليه األشعرية يف صفات الباري ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬وأن الشيخ أاب احلسن لو كان حيا ألنكر‬
‫عليهم معتقدهم يف صفات الباري سبحانه‪ ،‬ولرد عليهم ابحلجج الظاهرة‪.‬‬
‫املطلب األول‪ :‬إجراء الصفات على حقيقتها‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬ما عليه األشعرية‪:‬‬
‫يعتقد األشعرية أبن ظواهر النصوص غري مرادة‪ ،‬ويرى بعضهم أن من اعتقد أهنا مرادة فقد‬
‫ضل‪.‬‬
‫يقول أبو حامد الغزايل (ت ‪505‬هـ) ‪-‬تعليقا على قوله تعاىل‪{ :‬الرمحن على العرش‬
‫استـوى} [طه‪" :-]5 :‬وقد حتزب الناس فيه‪ ،‬فضل فريق وأجروه على الظاهر‪ ،‬وتبعهم آخرون‬
‫إذ ترددوا فيه وإن مل جيزموا‪ ،‬وفاز من قطع بنفي االستقرار"(‪.)1‬‬
‫ووصل األمر ببعض متأخري األشعرية إىل اعتبار األخذ بظواهر الكتاب والسنة من‬
‫الكفر(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬املنخول (ص‪.)251 :‬‬


‫(‪ )2‬قاله الصاوي يف حاشيته على تفسري اجلاللني عند تفسري قوله تعاىل‪{ :‬فأما الذين يف قـلوهبم زيغ‬
‫فـيـتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتـنة وابتغاء أتويله} [آل عمران‪.]7 :‬‬
‫كما اعترب بعضهم أن من يعتقد إثبات الصفات على حقيقتها فإنه يعد من اجملسمة؛ يقول‬
‫بعضهم‪" :‬مشكلة اجملسمة [ويقصدون هبذا أهل السنة واجلماعة] أهنم قالوا‪ :‬نثبت معاين األلفاظ‬
‫على حقيقتها‪ ،‬وننسبها هلل سبحانه"(‪.)1‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬منهج السلف يف محل الصفات على احلقيقة والظاهر‪:‬‬
‫أمجع أهل السنة واجلماعة قاطبة على إجراء صفات هللا تعاىل على ظاهرها وحقيقتها‪ ،‬ال‬
‫على اجملاز؛ يقول ابن عبد الرب (ت ‪463‬ه)‪" :‬أهل السنة جممعون على اإلقرار ابلصفات‬
‫الواردة كلها يف القرآن والسنة‪ ،‬واإلميان هبا‪ ،‬ومحلها على احلقيقة ال على اجملاز‪ ،‬إال أهنم ال‬
‫يكيفون شيئا من ذلك‪ ،‬وال حيدون فيه صفة حمصورة"(‪.)2‬‬
‫املسألة الثالثة‪ :‬موافقة الشيخ أيب احلسن ملا أمجع عليه السلف‪:‬‬
‫فقد وافق قول الشيخ أيب احلسن األشعري هذا اإلمجاع؛ فيقول‪" :‬حكم كالم هللا تعاىل أن‬
‫يكون على ظاهره وحقيقته‪ ،‬وال خيرج الشيء عن ظاهره إىل اجملاز إال حبجة؛ أال ترون أنه‬
‫إذا كان ظاهر الكالم العموم‪ ،‬فإذا ورد بلفظ العموم واملراد به اخلصوص فليس هو على حقيقة‬
‫الظاهر‪ ،‬وليس جيوز أن يعدل مبا ظاهره العموم عن العموم بغري حجة‪ ،‬كذلك قوله تعاىل‪{ :‬لما‬
‫خلقت بيدي} [ص‪.)3("]75 :‬‬
‫ويقول‪" :‬وأمجعوا [يعين‪ :‬السلف] على أن صفته ‪-‬عز وجل‪ -‬ال تشبه صفات احملدثني‪،‬‬
‫كما أن نفسه ال تشبه أنفس املخلوقني‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك‪ :‬أبنه لو مل يكن له ‪-‬عز وجل‪ -‬هذه الصفات مل يكن موصوفا بشيء‬
‫منها يف احلقيقة؛ من قبل أن من ليس له حياة ال يكون حيا‪ ،‬ومن مل يكن له علم ال يكون‬
‫عاملا يف احلقيقة‪ ،‬ومن مل يكن له قدرة فليس بقادر يف احلقيقة‪ ،‬وكذلك احلال يف سائر‬
‫الصفات‪.‬‬

‫(‪ )1‬االنتصار ألهل السنة وكشف مذهب أدعياء السلفية أليب املعايل األزهري (ص‪.)171 :‬‬
‫(‪ )2‬التمهيد ملا يف املوطأ من املعاين واألسانيد (‪.)145 /7‬‬
‫(‪ )3‬اإلابنة عن أصول الداينة (ص‪.)139 :‬‬
‫أال ترى من مل يكن له فعل مل يكن فاعال يف احلقيقة‪ ،‬ومن مل يكن له إحسان مل يكن‬
‫حمسنا‪ ،‬ومن مل يكن له كالم مل يكن متكلما يف احلقيقة‪ ،‬ومن مل يكن له إرادة مل يكن يف احلقيقة‬
‫مريدا‪ ،‬وأن من وصف بشيء من ذلك مع عدم الصفات اليت توجب هذه األوصاف له ال‬
‫يكون مستحقا لذلك يف احلقيقة‪ ،‬وإمنا يكون وصفه جمازا أو كذاب؟!‬
‫أال ترى أن وصف هللا ‪-‬عز وجل‪ -‬للجدار أبنه يريد أن ينقض‪ ،‬ملا مل يكن له إرادة يف‬
‫احلقيقة كان جمازا‪ ،‬وذلك أن هذه األوصاف مشتقة من أخص أمساء هذه الصفات ودالة‬
‫عليها؟! فمىت مل توجد هذه الصفات اليت وصف هبا كان وصفه بذلك تلقيبا أو كذاب‪.‬‬
‫فإذا كان هللا ‪-‬عز وجل‪ -‬موصوفا جبميع هذه األوصاف يف صفة احلقيقة وجب إثبات‬
‫الصفات اليت أوجبت هذه األوصاف له يف احلقيقة‪ ،‬وإال كان وصفه بذلك جمازا كما وصف‬
‫اجلدار أبنه يريد ملا مل يكن له إرادة جمازا"(‪.)1‬‬
‫املسألة الرابعة‪ :‬خالصة ما سبق يف محل الصفات على احلقيقة‪:‬‬
‫مما سبق يتضح لنا جليا أن األشعرية خمالفون ملا كان عليه الشيخ أبو احلسن األشعري؛‬
‫فإنه قد صرح أبن صفات هللا تعاىل جيب إثباهتا على ظاهرها وحقيقتها‪ ،‬واألشعرية يعتقدون أن‬
‫ظاهر الصفات غري مراد‪ ،‬فكيف يدعون ‪-‬بعد ذلك البيان‪ -‬انتساهبم إىل الشيخ أيب احلسن‬
‫األشعري وهم خيالفونه‪ ،‬بل ويضللون ويكفرون من يقول بكالمه؟! وإن كانوا صادقني يف‬
‫انتساهبم إليه‪ ،‬فهال قاموا ابتباعه والرجوع إىل مذهب السلف كما رجع شيخهم!!‬
‫املسألة اخلامسة‪ :‬شبهة واجلواب عنها‪:‬‬
‫الشبهة‪ :‬إثبات ظواهر النصوص يلزم منه التشبيه‪:‬‬
‫يدعي األشعرية أن إثبات ظواهر نصوص الصفات يلزم منه التشبيه بصفات املخلوقني‪.‬‬
‫واجلواب عن هذه الشبهة‪:‬‬
‫أنه ال تالزم بني إثبات نصوص الصفات على ظاهرها وبني التشبيه واملماثلة؛ فقد مجع هللا‬
‫تعاىل بني اإلثبات ونفي التشبيه يف آية واحدة؛ فقال سبحانه‪{ :‬ليس كمثله شيء وهو السميع‬

‫(‪ )1‬رسالة إىل أهل الثغر بباب األبواب (ص‪.)123-122 :‬‬


‫البصري} [الشورى‪]11 :‬؛ وقد فسر الشيخ أبو منصور معمر بن أمحد األصبهاين (ت ‪418‬ه)‬
‫هذه اآلية بقوله‪" :‬فـ{ليس كمثله شيء} ينفي كل تشبيه وتثيل‪{ ،‬وهو السميع البصري} ينفي‬
‫كل تعطيل وأتويل‪ ،‬فهذا مذهب أهل السنة واجلماعة واألثر‪ ،‬فمن فارق مذهبهم فارق السنة‪،‬‬
‫ومن اقتدى هبم وافق السنة"(‪.)1‬‬
‫ودونك عدة أجوبة صحيحة تدفع هذا التالزم املزعوم‪:‬‬
‫‪ -1‬التشبيه‪ :‬أن يقال‪ :‬يد هللا كيد اإلنسان‪ ،‬أو يقال‪ :‬مسع هللا كسمع اإلنسان‪ ،‬تعاىل هللا عن‬
‫ذلك علوا كبريا؛ وقد نفى اإلمام إسحاق بن راهويه (ت ‪238‬ه) ذلك عن صفات هللا‬
‫بقوله‪" :‬إمنا يكون التشبيه إذا قال‪ :‬يد كيد‪ ،‬أو مثل يد‪ ،‬أو مسع كسمع‪ ،‬أو مثل مسع‪ ،‬فإذا‬
‫قال‪ :‬مسع كسمع‪ ،‬أو مثل مسع‪ ،‬فهذا التشبيه‪ ،‬وأما إذا قال كما قال هللا تعاىل‪ :‬يد‪،‬‬
‫ومسع‪ ،‬وبصر‪ ،‬وال يقول‪ :‬كيف‪ ،‬وال يقول‪ :‬مثل مسع‪ ،‬وال كسمع‪ ،‬فهذا ال يكون‬
‫تشبيها‪ ،‬وهو كما قال هللا تعاىل يف كتابه‪{ :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصري}"(‪.)2‬‬
‫‪ -2‬التشبيه إمنا يكون يف تكييف الصفة‪ ،‬وليس يف اعتقاد معناها؛ يقول ابن عبد الرب املالكي‪:‬‬
‫"وحمال أن يكون من قال عن هللا ما هو يف كتابه منصوص مشبها؛ إذ مل يكيف شيئا‪،‬‬
‫وأقر أنه ليس كمثله شيء"(‪.)3‬‬
‫‪ -3‬اتباع قاعدة أهل السنة واجلماعة‪" :‬القول يف صفات هللا تعاىل كالقول يف الذات"(‪،)4‬‬
‫فإذا كنا نثبت هلل تعاىل ذاات ال تشبه الذوات‪ ،‬فكذلك نثبت هلل تعاىل صفات ال تشبه‬
‫صفات املخلوقني؛ يقول ابن تيمية‪" :‬وهكذا سائر األئمة قوهلم يوافق قول مالك‪ :‬يف أان‬
‫ال نعلم كيفية استوائه كما ال نعلم كيفية ذاته‪ ،‬ولكن نعلم املعىن الذي دل عليه اخلطاب‪،‬‬
‫فنعلم معىن االستواء وال نعلم كيفيته‪ ،‬وكذلك نعلم معىن النزول وال نعلم كيفيته‪ ،‬ونعلم معىن‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬احلجة يف بيان احملجة لقوام السنة أيب القاسم األصبهاين (‪.)260 /1‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬سنن الرتمذي (‪.)42 /3‬‬
‫(‪ )3‬االستذكار (‪.)528 /2‬‬
‫(‪ )4‬يف مركزان ورقة علمية بعنوان‪" :‬قاعدة‪ :‬القول يف صفات هللا تعاىل كالقول يف الذات ‪ -‬دراسة وحتليل"‪،‬‬
‫وهذا رابطها‪/2356https://salafcenter.org/ :‬‬
‫السمع والبصر والعلم والقدرة وال نعلم كيفية ذلك‪ ،‬ونعلم معىن الرمحة والغضب والرضا‬
‫والفرح والضحك وال نعلم كيفية ذلك"(‪.)1‬‬
‫‪ -4‬االشرتاك يف مطلق االسم ال يقتضي التشبيه؛ يقول أبو نصر السجزي احلنفي (ت‬
‫‪444‬ه)‪" :‬واألصل الذي جيب أن يعلم‪ :‬أن اتفاق التسميات ال يوجب اتفاق املسمني‬
‫هبا‪ ،‬فنحن إذا قلنا‪ :‬إن هللا موجود‪ ،‬رؤوف‪ ،‬واحد‪ ،‬حي‪ ،‬عليم‪ ،‬بصري‪ ،‬متكلم‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم كان موجودا‪ ،‬حيا‪ ،‬عالـما‪ ،‬مسيعا‪ ،‬بصريا‪ ،‬متكلما‪ ،‬مل يكن ذلك‬
‫تشبيها‪ ،‬وال خالفنا به أحدا من السلف واألئمة‪ ،‬بل هللا موجود مل يزل‪ ،‬واحد حي قدي‬
‫قيوم عامل مسيع بصري متكلم فيما مل يزل‪ ،‬وال جيوز أن يوصف أبضداد هذه الصفات‪،‬‬
‫واملوجود منا إمنا وجد عن عدم‪ ،‬وحيي مبعىن حله‪ ،‬مث يصري ميتا بزوال ذلك املعىن‪ ،‬وعلم‬
‫بعد أن مل يعلم‪ ،‬وقد ينسى ما علم‪ ،‬ومسع وأبصر وتكلم جبوارح قد تلحقها اآلفات‪ ،‬فلم‬
‫يكن فيما أطلق للخلق تشبيه مبا أطلق للخالق سبحانه وتعاىل‪ ،‬وإن اتفقت مسميات‬
‫هذه الصفات"(‪.)2‬‬
‫املطلب الثاين‪ :‬إثبات صفة االستواء‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬مذهب األشعرية يف صفة االستواء‪:‬‬
‫الذي استقر عليه مذهب األشعرية هو أتويل صفة االستواء‪ ،‬أو تفويض الكيف واملعىن‪،‬‬
‫وهلم يف هذا مقاالت متعددة؛ فقد أوهلا ابن فورك (ت ‪406‬هـ) بقوله‪" :‬مث ذكر صاحب‬
‫التصنيف [يعين‪ :‬ابن خزمية يف التوحيد] اباب ترمجه ابستوائه على العرش‪ ،‬وأوهم معىن التمكني‬
‫واالستقرار‪ .‬وذلك منه خطأ؛ ألن استواءه على العرش سبحانه ليس على معىن التمكني‬
‫واالستقرار‪ ،‬بل هو على معىن العلو ابلقهر والتدبري وارتفاع الدرجة ابلصفة على الوجه الذي‬
‫يقتضي مباينة اخللق"(‪ .)3‬وهلم أتويالت أخر‪ ،‬ال نطيل البحث بذكرها‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬معتقد السلف يف إثبات صفة االستواء‪:‬‬

‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪.)365 /5‬‬


‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬درء تعارض العقل والنقل البن تيمية (‪.)90-89 /2‬‬
‫(‪ )3‬مشكل احلديث وبيانه (ص‪.)389 :‬‬
‫يقول الشيخ أبو عمر الطلمنكي (ت ‪429‬هـ) ‪-‬أحد أئمة املالكية قبل ابن عبد الرب‬
‫والباجي وطبقتهما‪ -‬يف كتاب "الوصول إىل معرفة األصول"‪" :‬أمجع املسلمون من أهل السنة‬
‫على أن معىن {وهو معكم أين ما كنـتم} [احلديد‪ ]4 :‬وحنو ذلك من القرآن‪ :‬أن ذلك علمه‪،‬‬
‫وأن هللا فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء‪.‬‬
‫وقال أيضا‪ :‬قال أهل السنة‪ :‬يف قول هللا تعاىل‪{ :‬الرمحن على العرش استـوى} [طه‪:]5 :‬‬
‫إن االستواء من هللا على عرشه اجمليد على احلقيقة؛ ال على اجملاز"(‪.)1‬‬
‫وقد نقل عن ربيعة الرأي ومالك بن أنس وغريمها عندما سئلوا عن آية االستواء قوهلم‪:‬‬
‫"االستواء معلوم‪ ،‬والكيف جمهول"(‪.)2‬‬
‫املسألة الثالثة‪ :‬موافقة أيب احلسن األشعري ملا كان عليه السلف‪:‬‬
‫يقول الشيخ أبو احلسن األشعري‪" :‬وقال أهل السنة وأصحاب احلديث‪ :‬ليس جبسم‪ ،‬وال‬
‫[طه‪:‬‬ ‫يشبه األشياء‪ ،‬وأنه على العرش كما قال ‪-‬عز وجل‪{ :-‬الرمحن على العرش استـوى}‬
‫‪ ،]5‬وال نقدم بني يدي هللا يف القول‪ ،‬بل نقول‪ :‬استوى بال كيف"(‪.)3‬‬
‫ويقول‪" :‬وقال [تعاىل]‪{ :‬الرمحن على العرش استـوى} [طه‪ ،]5 :‬وليس استواؤه على‬
‫العرش استيالء كما قال أهل القدر؛ ألنه ‪-‬عز وجل‪ -‬مل يزل مستوليا على كل شيء"(‪.)4‬‬
‫املسألة الرابعة‪ :‬خالصة القول يف صفة االستواء‪:‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬جمموع الفتاوى (‪.)220-219 /3‬‬


‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬االقتصاد يف االعتقاد البن قدامة (ص‪ ،)85 :‬ودرء تعارض العقل والنقل (‪.)207 /1‬‬
‫تنبيه‪ :‬روي هذا اجلواب عن أم سلمة رضي هللا عنها موقوفا ومرفوعا‪ ،‬ولكن ليس إسناده مما يعتمد‬
‫عليه‪ .‬قاله ابن تيمية يف جمموع الفتاوى (‪.)365 /5‬‬
‫(‪ )3‬مقاالت اإلسالميني (‪.)168 /1‬‬
‫(‪ )4‬رسالة إىل أهل الثغر بباب األبواب (ص‪.)131 :‬‬
‫مما سبق يتضح ملن له مسكة من عقل مدى املباينة بني مذهب األشعرية وقول الشيخ أيب‬
‫احلسن األشعري‪ ،‬وأنه بريء تاما من انتساهبم إليه؛ ألنه صرح إبثبات صفة االستواء بال كيف‪،‬‬
‫ونفى التأويل عنها‪.‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬إثبات صفة النزول هلل تعاىل(‪:)1‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬مذهب األشعرية يف صفة النزول‪:‬‬
‫املتأولة من األشعرية يتأولون صفة النزول على وجوه متعددة‪ ،‬أشهرها عندهم ثالثة(‪:)2‬‬
‫األول‪ :‬أن هللا تعاىل فعل فعال مساه نزوال‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن املراد منه‪ :‬نزول ملك من املالئكة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن املراد منه‪ :‬نزول أمر هللا تعاىل‪ ،‬فحذف املضاف وأقام املضاف إليه مقامه‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬مذهب السلف يف إثبات صفة النزول هلل تعاىل‪:‬‬
‫يقول اإلمام الرتمذي‪" :‬وقد قال غري واحد من أهل العلم يف هذا احلديث(‪ )3‬وما يشبه هذا‬
‫من الرواايت من الصفات‪ ،‬ونزول الرب تبارك وتعاىل كل ليلة إىل السماء الدنيا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد‬
‫تثبت الرواايت يف هذا‪ ،‬ويؤمن هبا‪ ،‬وال يتوهم‪ ،‬وال يقال‪ :‬كيف؟ هكذا روي عن مالك‪ ،‬وسفيان‬
‫بن عيينة‪ ،‬وعبد هللا بن املبارك‪ ،‬أهنم قالوا يف هذه األحاديث‪ :‬أمروها بال كيف"(‪.)4‬‬
‫ويقول احلافظ ابن عبد الرب املالكي‪" :‬وأما قوله صلى هللا عليه وسلم يف هذا احلديث‪:‬‬
‫«ينزل ربنا»‪ :‬الذي عليه أهل العلم من أهل السنة واحلق هو اإلميان مبثل هذا وشبهه من‬

‫(‪ )1‬يف مركز سلف للبحوث والدراسات تفصيل مهم ألهم الشبهات الواردة على هذه الصفة بعنوان‪" :‬ما‬
‫قيل يف أتويل اإلمام مالك حلديث النزول‪ ..‬شبهة ورد"‪ ،‬ودونك رابطه‪:‬‬
‫‪/2702https://salafcenter.org/‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬القول التمام إبثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام‪ ،‬لسيف بن علي (ص‪.)83-82 :‬‬
‫(‪ )3‬يعين‪ :‬حديث‪« :‬إن هللا يقبل الصدقة وأيخذها بيمينه»‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن الرتمذي (‪.)41 /3‬‬
‫القرآن والسنن‪ ،‬دون كيفية‪ ،‬فيقولون‪ :‬ينزل‪ ،‬وال يقولون‪ :‬كيف النزول؟ وال يقولون‪ :‬كيف‬
‫االستواء؟ وال كيف اجمليء؟"(‪.)1‬‬
‫املسألة الثالثة‪ :‬موافقة أيب احلسن األشعري ملا كان عليه السلف‪:‬‬
‫يقول الشيخ أبو احلسن األشعري‪" :‬وقال أهل السنة وأصحاب احلديث‪ :‬ليس جبسم‪ ،‬وال‬
‫يشبه األشياء‪ ...‬وأنه ينزل إىل السماء الدنيا كما جاء يف احلديث‪ ،‬ومل يقولوا شيئا إال ما‬
‫وجدوه يف الكتاب‪ ،‬أو جاءت به الرواية عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم"(‪.)2‬‬
‫ويقول أيضا‪" :‬ونصدق جبميع الرواايت اليت يثبتها أهل النقل عن النزول إىل مساء الدنيا‪،‬‬
‫وأن الرب عز وجل يقول‪ :‬هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه‪ ،‬خالفا ملا‬
‫قاله أهل الزيغ والتضليل"(‪.)3‬‬
‫املسألة الرابعة‪ :‬خالصة القول يف صفة النزول‪:‬‬
‫يظهر جليا لكل ذي عينني أن األشعرية خالفوا شيخهم الذي ينتسبون إليه ‪-‬الشيخ أاب‬
‫احلسن األشعري‪ -‬فقد أتولوا صفة النزول‪ ،‬بينما نرى أن شيخهم ال يتأوهلا ويثبتها على وجهها‬
‫من غري تكييف‪ ،‬بل وقد مسى الشيخ أبو احلسن من أتوهلا أبهل الزيغ والتضليل!!‬
‫املطلب الرابع‪ :‬إثبات الصفات اخلربية‪:‬‬
‫الصفات اخلربية السمعية هي‪ :‬اليت ال سبيل إىل إثباهتا إال بطريق السمع‪ :‬كالوجه‪ ،‬واليدين‪،‬‬
‫والعينني‪ ،‬وحنوها(‪.)4‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬معتقد األشعرية يف الصفات اخلربية‪:‬‬

‫(‪ )1‬االستذكار (‪.)529 /2‬‬


‫(‪ )2‬مقاالت اإلسالميني (‪.)168 /1‬‬
‫(‪ )3‬اإلابنة (ص‪.)29 :‬‬
‫(‪ )4‬ينظر‪ :‬الصفات اإلهلية يف الكتاب والسنة النبوية‪ ،‬للدكتور حممد أمان اجلامي (ص‪ ،)207 :‬والصفات‬
‫اإلهلية‪ :‬تعريفها وأقسامها‪ ،‬للدكتور حممد بن خليفة التميمي (‪.)72-65‬‬
‫املتأولة من األشعرية يتأولون الصفات اخلربية كاليدين والعينني والوجه وحنوها؛ ويصرفوهنا‬
‫عن معناها‪.‬‬
‫يقول أبو املعايل اجلويين (ت ‪478‬هـ)‪" :‬والذي يصح عندان‪ :‬محل اليدين على القدرة‪،‬‬
‫ومحل العينني على البصر‪ ،‬ومحل الوجه على الوجود"(‪.)1‬‬
‫وهلم يف هذا أتويالت أخرى ال داعي لذكرها‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬اعتقاد السلف يف الصفات اخلربية‪:‬‬
‫يقول أبو عثمان الصابوين (ت‪449 :‬ه)‪" :‬وكذلك يقولون [أي‪ :‬أصحاب احلديث] يف‬
‫مجيع الصفات اليت نزل بذكرها القرآن‪ ،‬ووردت هبا األخبار الصحاح‪ ،‬من السمع والبصر‪،‬‬
‫والعني والوجه‪ ،‬والعلم والقوة والقدرة‪ ،‬والعزة والعظمة‪ ،‬واإلرادة واملشيئة‪ ،‬والقول والكالم‪ ،‬والرضا‬
‫والسخط‪ ،‬واحلياة واليقظة‪ ،‬والفرح والضحك‪ ،‬وغريها‪ ،‬من غري تشبيه لشيء من ذلك بصفات‬
‫املربوبني املخلوقني‪ ،‬بل ينتهون فيها إىل ما قاله هللا تعاىل‪ ،‬وقاله رسوله صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫من غري زايدة عليه وال إضافة إليه‪ ،‬وال تكييف له وال تشبيه‪ ،‬وال حتريف وال تبديل وال تغيري‪،‬‬
‫وال إزالة للفظ اخلرب عما تعرفه العرب وتضعه عليه‪ ،‬بتأويل منكر يستنكر‪ ،‬وجيرونه على الظاهر‪،‬‬
‫ويكلون علمه إىل هللا تعاىل‪ ،‬ويقرون أبن أتويله ال يعلمه إال هللا"(‪.)2‬‬
‫املسألة الثالثة‪ :‬موافقة الشيخ أيب احلسن للسلف‪:‬‬
‫يقول الشيخ أبو احلسن األشعري ‪-‬رمحه هللا‪" :-‬وأمجعوا على أنه ‪-‬عز وجل‪ -‬يسمع‬
‫ويرى‪ ،‬وأن له تعاىل يدين مبسوطتني‪ ،‬وأن األرض مجيعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطوايت‬
‫بيمينه‪ ،‬من غري أن يكون جوارح‪ ،‬وأن يديه تعاىل غري نعمته"(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬اإلرشاد (ص‪.)155 :‬‬


‫(‪ )2‬عقيدة السلف أصحاب احلديث (ص‪.)165 :‬‬
‫(‪ )3‬رسالة إىل أهل الثغر (ص‪.)127 :‬‬
‫ويقول‪" :‬قد سئلنا‪ :‬أتقولون‪ :‬إن هلل يدين؟ قيل‪ :‬نقول ذلك بال كيف‪ ،‬وقد دل عليه قوله‬
‫تعاىل‪{ :‬يد اّلل فـوق أيديهم} [الفتح‪.)1("]10 :‬‬
‫وقال أيضا يف إثبات صفة العني هلل تعاىل‪" :‬فأخرب تعاىل أن له وجها وعينا‪ ،‬وال تكيف‪،‬‬
‫وال حتد"(‪.)2‬‬
‫وقال أيضا يف إثبات صفة الساق هلل تعاىل‪" :‬ويقال هلم‪ :‬أليس قد قال هللا تعاىل‪{ :‬يـوم‬
‫يكشف عن ساق ويدعون إىل السجود فال يستطيعون} [القلم‪]42 :‬؟! أليس قد أمرهم هللا تعاىل‬
‫ابلسجود يف اآلخرة؟!"(‪.)3‬‬
‫ويقول‪" :‬هذه حكاية مجلة قول أصحاب احلديث وأهل السنة‪ ...‬وأن له يدين بال كيف‬
‫كما قال‪{ :‬خلقت بيدي} [ص‪ ،]75 :‬وكما قال‪{ :‬بل يداه مبسوطتان} [املائدة‪ ،]64 :‬وأن له‬
‫عينني بال كيف كما قال‪{ :‬جتري أبعيننا} [القمر‪ ،]14 :‬وأن له وجها كما قال‪{ :‬ويـبـقى وجه‬
‫ربك ذو اجلالل واإلكرام} [الرمحن‪.)4("]27 :‬‬
‫وقال أيضا‪" :‬وقال أهل السنة وأصحاب احلديث‪ :‬ليس جبسم‪ ،‬وال يشبه األشياء‪ ...‬وأنه‬
‫نور كما قال تعاىل‪{ :‬اّلل نور السماوات واألرض} [النور‪ ،]35 :‬وأن له وجها كما قال هللا‪:‬‬
‫{ويـبـقى وجه ربك} [الرمحن‪ ،]27 :‬وأن له يدين كما قال‪{ :‬خلقت بيدي} [ص‪ ،]75 :‬وأن له‬
‫عينني كما قال‪{ :‬جتري أبعيننا} [القمر‪ ...]14 :‬ومل يقولوا شيئا إال ما وجدوه يف الكتاب‪ ،‬أو‬
‫جاءت به الرواية عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم"(‪.)5‬‬
‫املسألة الرابعة‪ :‬خالصة القول يف الصفات اخلربية‪:‬‬

‫(‪ )1‬اإلابنة (ص‪.)125 :‬‬


‫(‪ )2‬اإلابنة (ص‪.)121 :‬‬
‫(‪ )3‬اإلابنة (ص‪.)193 :‬‬
‫(‪ )4‬مقاالت اإلسالميني (‪.)226 /1‬‬
‫(‪ )5‬مقاالت اإلسالميني (‪.)168 /1‬‬
‫تبني لنا أن األشعرية خيالفون إمامهم الذي ينتسبون إليه يف الصفات اخلربية‪ ،‬ففي الوقت‬
‫الذي نراه يثبت الصفات اخلربية على وجهها من غري تكييف وال تعطيل‪ ،‬وينكر على من أوهلا‬
‫وصرفها عن ظاهرها وحقيقتها‪ ،‬جند األشعرية يصرفوهنا عن ظاهرها‪.‬‬
‫وليس الشيخ أبو احلسن األشعري وحده الذي خالفه األشعرية‪ ،‬فقد أتثر به بعض تالمذته‪،‬‬
‫فقالوا بقوله‪ ،‬ومنهم‪ :‬أبو احلسن الطربي‪ ،‬والقاضي أبو بكر الباقالين؛ يقول شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية‪" :‬واألشعري وأئمة أصحابه ‪-‬كأيب احلسن الطربي وأيب عبد هللا بن جماهد الباهلي‬
‫والقاضي أيب بكر‪ -‬متفقون على إثبات الصفات اخلربية اليت ذكرت يف القرآن‪ :‬كاالستواء‬
‫والوجه واليد‪ ،‬وإبطال أتويلها‪ ،‬وليس له يف ذلك قوالن أصال‪ ،‬ومل يذكر أحد عن األشعري يف‬
‫ذلك قولني أصال‪ ،‬بل مجيع من حيكي املقاالت من أتباعه وغريهم يذكر أن ذلك قوله‪ ،‬ولكن‬
‫ألتباعه يف ذلك قوالن"(‪.)1‬‬
‫وهلذا جند القاضي أبو بكر الباقالين (ت ‪403‬هـ) يقول يف كتاب "الذب عن أيب احلسن‬
‫األشعري"‪" :‬كذلك قولنا يف مجيع املروي عن رسول هللا يف صفات هللا إذا صح من إثبات‬
‫اليدين والوجه والعينني‪ ،‬ونقول‪ :‬إنه أييت يوم القيامة يف ظلل من الغمام‪ ،‬وإنه ينزل إىل السماء‬
‫الدنيا كما يف احلديث‪ ،‬وإنه مستو على عرشه‪ ...‬إىل أن قال‪ :‬وقد بينا دين األئمة وأهل السنة‬
‫أن هذه الصفات تر كما جاءت بغري تكييف وال حتديد وال جتنيس وال تصوير‪ ،‬كما روي عن‬
‫الزهري وعن مالك يف االستواء‪ ،‬فمن جتاوز هذا فقد تعدى وابتدع وضل"(‪.)2‬‬
‫وما أمجل أن خنتم هذه الورقة البحثية بكالم نفيس للشيخ شهاب الدين حممود بن عبد هللا‬
‫اآللوسي (ت ‪1270‬هـ) ‪-‬وفيه مدح وثناء على الشيخ أيب احلسن األشعري‪ -‬فيقول‪" :‬ومنهم‪:‬‬
‫اإلمام أبو احلسن األشعري‪ ،‬فإن آخر أمره الرجوع إىل ذلك املذهب اجلليل‪ ،‬بل الرجوع إىل‬
‫ما عليه السلف يف مجيع املعتقدات؛ قال يف كتابه اإلابنة ‪-‬الذي هو آخر مؤلفاته بعد كالم‬
‫طويل‪( :-‬الذي نقول به وداينتنا اليت ندين هبا‪ :‬التمسك بكتاب هللا تعاىل‪ ،‬وسنة نبيه صلى‬

‫(‪ )1‬درء تعارض العقل والنقل (‪.)17 /2‬‬


‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬العلو للعلي الغفار للذهيب (ص‪.)238 :‬‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وما روي عن الصحابة والتابعني وأئمة احلديث‪ ،‬وحنن بذلك معتصمون‪ ،‬ومبا‬
‫كان عليه أمحد بن حنبل ‪-‬نضر هللا تعاىل وجهه‪ -‬قائلون‪ ،‬وملن خالف قوله جمانبون) اهـ‪.‬‬
‫وهو ظاهر يف أنه سلفي العقيدة‪ ،‬وكيف ال واإلمام أمحد علم يف ذلك؟! وهلذا [نص‬
‫عليه](‪ )1‬من بني أئمة احلديث‪ ،‬ويعلم من هذا أن ما عليه األشعرية غري ما رجع إليه إمامهم‬
‫يف آخر أمره من اتباع السلف الصاحل‪ ،‬فليتهم رجعوا كما رجع‪ ،‬واتبعوا ما اتبع"(‪.)2‬‬
‫ويف كالم اآللوسي بعض املبالغات‪ ،‬ولعل الصواب أن يقال‪ :‬إن الشيخ أاب احلسن‬
‫األشعري أقرب إىل السنة والسلف؛ خاصة يف ابب صفات الباري ‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬؛ يقول‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬وهلذا يوجد يف كالم هؤالء [يعين‪ :‬ابن عقيل‪ ،‬وابن اجلوزي وغريمها]‬
‫من نفي الصفات اخلربية‪ ،‬ومنعهم أن تسمى اآلايت واألحاديث آايت الصفات وأحاديث‬
‫الصفات‪ ،‬بل آايت اإلضافات‪ ،‬ونصوص اإلضافات‪ ،‬وحنو ذلك من الكالم املوافق ألقوال‬
‫املعتزلة‪ ،‬ما يبني به أن األشعري وأئمة أصحابه من املثبتني للصفات اخلربية وحنو ذلك أقرب‬
‫إىل السنة والسلف واألئمة ‪-‬كأمحد بن حنبل وغريه‪ -‬من كالم هؤالء الذين مالوا يف هذا‬
‫إىل طريقة املعتزلة"(‪.)3‬‬
‫ولكن ما أمجلها من كلمة قول اآللوسي‪" :‬فليتهم [أي‪ :‬الطائفة األشعرية] رجعوا كما‬
‫رجع‪ ،‬واتبعوا ما اتبع"‪.‬‬
‫اللهم ردان واملسلمني إىل دينك مردا مجيال‪ ،‬وصلى هللا على نبينا حممد وعلى آله وصحبه‪،‬‬
‫وسلم تسليما كثريا‪.‬‬

‫(‪ )1‬كذا على الصواب‪ ،‬ووقع يف املطبوع‪" :‬نعص مليه"‪ ،‬وكأنه خطأ يف أثناء الطباعة‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬غرائب االغرتاب (ص‪.)386-385 :‬‬
‫(‪ )3‬درء تعارض العقل والنقل (‪.)160 /9‬‬

You might also like