Professional Documents
Culture Documents
التواصل والانظمة الرمزية2
التواصل والانظمة الرمزية2
"السلطة الرمزية هي سلطة ال مرئية و ال يمكن أن تمارس إال بتواطؤ أولئك الذين يأبون
االعتراف بأنهم يخضعون لها بل و يمارسونها " بيار بورديو.
1
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
0ـ إحراجات:
إذا كان التواصل بين البشر يحتاج ضرورة الى وسائط يصنعها الانسان ذاته ،أال يدعونا هذا
يؤمن التواصل أم هي التيالى النظر في التواصل من جهة منزلة هذه الوساطة :هل هي ما ّ
تعطله و تنحرف به إلى غير مقاصده؟ وهل هذه الوسائط تقول حقيقة العالم ام تقف دونها؟
وهل الرموز سلطة بيد الانسان ام سلطة عليه ان يأخذها بعين الاعتبار؟ وهل ّ
تحول الانسان
من واضع الى خاضع لها اليوم بعد التقدم التقني والفني الذي عرفته العوملة الرأسمالية؟
وهل تنوع الوسائط وتطورها اغناء لحياة الانسان واثراء لها ام افقار للذات الانسانية حد
الاكراه او القتل الرمزي لها؟ .
2
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
3
نقول في اللغة العربية واصل وتواصل واملصدر وصال ومواصلة ،ويشير فعل تواصل الى
حدوث املشاركة في الفعل بين شخصين ،و يكون نقيضها تنافر و تقاطع ويعني الوصال الرغبة
في اقامة عالقة مع الاخر ذات مضمون عاطفي او نفس ي .ويحدد هانز فير في معجمه الفروق
ّ
احتك به ،to be connectedبينما بين إتصل و تواصل .فإتصل تعني وصل شيئا بش يء اخر
تعني تواصل العالقة املتبادلة بين طرفين . to be interconnected.في الاتصال هناك رغبة من
احد الطرفين باتجاه الاخر وهذا الاخر قد يستجيب ويتفاعل مع تلك الرغبة او انه قد يرفض
وينغلق أما في التواصل فإن الرغبة تحدث من كال الطرفين (.راجع في هذا الشأن املوسوعة
الفلسفية العربية ج.)1
3
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
ومفهوم التواصل تتجاذبه حقول معرفية بالغة التنوع ( علم نفس – سيبرنطيقا-
لسانيات -انثربولوجيا -سيميولوجيا -ميديولوجيا – الخ) تكاد تشمل كل املنتوج إلانساني،
فكل ما يمكن أن يشتغل كرابط بين إلانسان وما يوجد خارجه ،وكل ألاشكال الثقافية التي
تتحدد من خاللها ّ
هوية ألافراد وتخبر عن انتماءاتهم إلى ثقافة بعينها -لغة ولباسا وطقوسا
ونمط عيش -يجب النظر إليها باعتبارها "وقائع إبالغية" أي رسائل تندرج ضمن حاالت
الاجتماع إلانساني الذي يتخلى داخله الفرد طوعا عن عامله الخاص لكي يندمج في عالم
آلاخرين.
وعلى هذا ألاساس ،فإن الظواهر إلانسانية في كليتها ال يمكن أن توجد خارج رغبة
الكائن البشري في التواصل مع غيره بشكل مباشر أو غير مباشر ،فمجموع ما ينتجه إلانسان
عبر لغته وأشيائه وجسده وإيماءاته وطقوسه ومعماره ،يندرج ضمن سيرورة تواصلية متعددة
املظاهر والوجود والتجلي إلى الحد الذي يجعل الثقافة في كليتها سيرورة تواصلية دائمة .وتلك
هي الحالة التي يصفها امبرتو إيكو وهو يتحدث عن حقل السميائيات وموضوعها .فالسميائيات
هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حاالت التواصل إلانساني.
فال يمكن تصور النشاط الثقافي -العنصر املحدد للوجود إلانساني -إال من خالل زاوية
تواصلية.
يقول امربتو ايكو ”:ال نتعرف إىل أنفسنا إال باعتبارنا سيميائية يف حركة و أنظمة من
مدلوالت و عمليات التواصل و اخلارطة السيميائية وحدها هي اليت تقول لنا من نكون و كيف نفكر ”
( -نقال عن كتاب الفلسفة للسّنة الرّابعة آداب ص )-641
والحاصل ان الفعل التواصلي –كتقنية اخبارية – لم يعد يقتصر على علوم السيبرنطيقا
(مع نوربيرت فينر ) 1891 - 1581او هندسة الاتصال ( مع كلود شانون املهندس أمريكي) و ال
حتى املجال اللساني (مع دي سوسير و جاكوبسون) ،بل ليتعدى حقله الداللي والوظيفي
جميع مجاالت الفعل الانساني ،وان كان جاكوبسون سيستفيد من خطاطة شانون،
ليرسم خطاطة تتعدى املجال التقني البحت الى تمثل البعد العاطفي والانفعالي عند الباث
واملتقبل ،يرتسم فيها بين الباث واملتقبل حقوال ابعد للداللة ،تكون الرسالة فيها او ما يراد
4
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
تبليغه على اتصال مباشر بقناة البث او الوسيط مع ما تتركه الرسالة من اثر عند الباث
واملتلقي على السواء كما يلي:
وذهب روالن بارط و غريماس و يلملسلف الى توسيع الحقل الداللي للسيميولوجيا الى
مجاالت ابعد ،تتعلق باملعيش اليومي لإلنسان مثل السرديات والكتابة والصورة
والاشهار واللباس ( ...انظر مثال كتاب مبادئ في علم الادلة éléments de sémiologie
لروالن بارط ترجمة محمد بكري –الدار البيضاء فيفري )1859او (راجع مفردة
سيميولوجيا في الكتاب املدرس ي في نافذة دعائم التفكير ص .)111-119ما سيدفع
الفيلسوف الاملاني يورغن هابرماس الى استنباط مصطلح "تواصلية"
،communicationnelليحيل على بنية الفعل التواصلي بما هو ايتقا للحوار،
” إن القدرة الرمزية انتصارا للحوار الفلسفي الخاضع لضرورات العقل مقابل هيمنة الاهواء
واملصلحة ( .راجع نص هابرماس في الكتاب املدرس ي وحواشيه ص .)111-111 هي أساس
الوظائف املفهومية.
ليس التفكري شيئا
-2 االنسان والرمز : آخر سوى هذه
يف تعريف الرمز والعالمة : القدرة على إنشاء
الرمز هو صورة الاحساس ومعناه ،وهو تمثيل مكثف للشكل الخارجي ،للش يء او متثالت لألشياء و
االشتغال عليها”
تعبير عنه ،فليس الرمز نسخة للواقع رغم احتوائه ملقومات الشكل الاساسية بل
اميل بنفنيست ” مسائل
عالمة او اشارة تحيل الى استحضار ش يء غائب .فهو يؤسس عالقة مماثلة بين يف األلسنية العامة“
5
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
شيئين احدهما مرئي يشكل عالمة محسوسة ،و الثاني المرئي وغير محسوس يعد موطن
الداللة التي يحملها الرمز ،و يعمل الذهن على تمثلها( .انظر التدقيقات املفهومية في الكتاب
املدرس ي ص.)115
اما العالمة ،signeفهي ابعد من الرمز قد تكون حسية حركية او بصرية مرئية ،ترمي الى اثارة
سلوك ما في املتلقي ،كصفارة الانذار او اشارات املرور او التعابير الجسدية وقد تكون منطوقة
او مكتوبة كشأن العالمة اللغوية .والعالمة تواضعية او اعتباطية غنية باملعنى والداللة .و إن
كان العلم بها ودراستها في الاصل وليد علم اللسانيات مع دي سوسير ،الا ان تطور وسائل
الاتصال جعل للعالمة علما هو علم العالمة او السيمياء او السيميولوجيا ( sémiologieالعالمة
في اليونانية sémeionوعلم او دراسة ) logosفعلم العالمة ،علم يدرس العالمات ومعانيها
سواء اكانت لسانية او غير لسانية ليشمل الحركات والايماءات والاصوات اللحنية والصور ،اي
مختلف الارساليات والوسائط املؤسسة للتواصل الانساني قصد الكشف عن الانظمة
الداللية الكامنة فيها ( .انظر التدقيقات املفهومية في الكتاب املدرس ي ص.)841 -841
يذهب "كاسيرار" الى فهم إلانسان كجزء من الطبيعة ،لذلك يتجاوز التعريفات التقليدية
والكالسيكية لإلنسان ،عبر إلاقرار بأن الفرق بين إلانسان والحيوان ليس فرقا في الطبيعة
وإنما هو فرق في الدرجة .فاإلنسان هو حيوان أكثر تطورا من بقية الحيوانات ،بل انه يتميز
نوعيا عن الحيوان ،وهذا التميز يكمن في امتالكه "جهازا رمزيا " ،هذه "الاداة الجديدة التي
يملكها الانسان وحده تحول الحياة الانسانية كلها ".فعالم الحيوان كما وصفه البيولوجي
يوهان يوكسكل ،يتميز بامتالكه جهازا مستقبال وجهازا مؤثرا ينجز الكائن
6
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
ّ
من خاللهما اتصاله بالعالم وبني جنسه ،اما عالم الانسان فيزيد على ذلك بتملكه
"إن اخرتاع فن
جهازا رمزيا ،يعطي وجود الانسان ال فقط عاملا جديدا بل " بعدا جديدا من ابعاد تبليغ أفكارنا ليس
لألعضاء مدينًا
الواقع " .
اليت ختدم هذا
التبليغ بقدر ما يرجع
في هذا السياق ،يأتي نقد " كاسيرار" لروسو الذي اعتبر تحول إلانسان نحو إىل ملَكة ختص
اإلنسان هي اليت
املدنية وفقدانه فطرته الطبيعية عالمة فساد إلنسانيته .ف"الانسان املدني حيوان جتعله يستخدم
فاسد" كما يقول في "رسالة في اصل التفاوت بين البشر" .على العكس من ذلك الغاية لتلك
أعضاءه ،بل حتمله
يذهب "كاسيرار" الى أن ألانظمة الرمزية تميز إلانسان باعتبارها نشاطا أصيال ،ال إذا ما انعدمت
يمكن أن يرتبط بش يء آخر غير العقل البشري ،وقدرته على التكيف ،بل أكثر من تلك األعضاء على
ّ استخدام غريها
نتحدث عن واقع إنساني قبل نشأة الرموز ،ذلك أنها ال تمثل ذلك ال يمكن أن لعني تلك الغاية"
روسو-حماولة يف اصل انعكاسا لواقع موجود بصفة مستقلة عنها ،بل إن الواقع ال يصبح معقوال إال
كل الوظائف الروحية لدى إلانسان تشارك بفضل هذه الرموز .وهذا يعني أن ّ اللغات.
ّ
املعرفة في الخاصية ألاساسية ،من جهة كونها مسكونة بقوة مشكلة في ألاصل ،قوة
بمجرد محاكاة الواقع بل إعادة إنتاجه وتشكيله بصورة أخرى ،وهذا يصدق علىّ ال تكتفي
الفن تماما كما يصدق على اللغة و ألاسطورة و الدين.
1
7
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
"
وهذه الاستقاللية والتسيير الذاتي للغة جعل "غوسدورف" ،يعتبرها الوسيلة الجوهرية التي
ّ
تمكن الفرد من تمثل ثقافة املجموعة التي ينتمي إليها .فاللغة هي التي تمكن إلانسان من
تجاوز كينونته البيولوجية ، .وهو ما يعني أن الوظيفة ألاولى للغة هي التواصل بين الناس .فأن
نتكلم هو أن نتواصل ،وفعل الكالم هو فعل تمرير املعلومات ،لذلك فإن اللغة هي قبل ّ ّ
كل
ش يء رابط اجتماعي ،إذ هي منظومة اجتماعية ّ
تكون إلانسان ذاته ،كشبكة للتبادل واملشاركة
ّ
كمقدمة للفهم والتواصل بما هي حوار يقتض ي إفساح املجال أمام الناس للتعارف املتبادل ،
والتفاهم .لذلك يمثل آلاخر طرفا أساسيا في فعل التواصل اللغوي ،ففي هذا التواصل
اللغوي ،يحضر آلاخر حتى عند غيابه ،وحوار الذات مع ذاتها هو أبسط أشكال حضور هذا
آلاخر .وهذا يعني أن وعي الذات بذاتها ّ
يتحقق عبر اللغة كنظام رمزي.
وغير بعيد عن ذلك يذهب اميل بنفنيست ،الى اعتبار اللغة ملكة التعبير الرمزي بامتياز و" كل
انظمة التواصل الاخرى الخطية والحركية والبصرية ...تتفرع عنها وتفترضها مسبقا " .ذلك ان
العالمة اللغوية هي اصل الرموز الاخرى القديمة كلها ،فاألسطورة والخرافة والحكاية وحتى
الدين والفن هي مدونات كتبتها لغة ،بل هي ذاتها لغة وان كانت خاصة .ثم ان العملية
الذهنية املسماة تفكيرا ليست اكثر من تنظيم للغة .فاللغة حسب بنفنيست هي اداة الفكر .
"ليس التفكري شيئا اخر غري هذه القدرة على انشاء متثالت لألشياء واالشتغال على
هذه التمثالت انها يف جوهرها قدرة رمزية .ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او
للتجربة اىل مفاهيم هي العملية اليت يتم بواسطتها اكتمال القدرة املعقلنة للفكر".
فاللغة من جهة كونها بنية كما حددها فرديناند دي سوسير ،تتحدد بما هي عالمة :دال
ومدلول – ثنائية من وجه صوتي ووجه ذهني شكل فيزيائي ومضمون نفس ي يتشكالن معا
بصورة اعتباطية ،بحكم التواضع الاجتماعي الذي يفترضهما .غير ان اميل بنفنيست يذهب
8
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
الى ان لهذه البنية وظيفة بل وظائف ،ال تخلو منها قصديتها الاجتماعية .ألن اللغة كما يراها
حتى سوسير مؤسسة اجتماعية والتأسيس الاجتماعي ،يفترض ان ال تبقى هذه البنية مجرد
عالمة ميتة مغلقة في سياقها الداللي والاجتماعي.
فما هي وظائف اللغة ؟
يمكننا ان نحدد للغة وظائف نذكر منها :
:
اذا كانت اللغة دالة الفكر كما يذهب الى ذلك ديكارت وحتى بنفنيست ،فإن العملية
الذهنية ال تصبح ممكنة الا من خالل اللغة .فالخطاب هو من جعل املعرفة ممكنة لذا
كانت اللغة ال فقط مجرد عالمات لغوية ،تنسج خيوط العالقة فيها بين دالها ومدلولها
بل انها تمثل ذهني منتظم للعالم .يقول بنفنيست "ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او
للتجربة الى مفاهيم هي العملية التي يتم بواسطتها اكتمال القدرة املعقلنة للفكر .ان
الفكر ليس مجرد انعكاس للعالم فهو يحلل الواقع مقوليا وفي هذه الوظيفة املنظمة
يرتبط الفكر شديد الارتباط باللغة ".
ذلك ان عالقة الانسان بالعالم ليست عالقة مباشرة ،بل تحتاج ضرورة الى وسائط،
واللغة هي الوسيط او "التعبير الرمزي بامتياز" الذي يؤسس عالقتنا بالعالم "ذلك انه ال
توجد –كما يقول بنفنيست -عالقة طبيعية آنية ومباشرة بين الانسان والعالم وال بين
الانسان والانسان .فال بد في ذلك من وسيط اي ذاك الجهاز الرمزي ،الذي جعل الفكر
واللغة ممكنين" .غير ان عملية التمثل الذهني تلك معقدة ،بحيث أن وجهي العالمة
اللغوية الدال واملدلول يرتبطان بصورة ضرورية بما يجعل الواحد منهما يستدعي الاخر
بكيفية لم يدركها دي سوسير من قبل .يقول بنفنيست معلقا على ذلك "ان الذهن ال
يتقبل من الاشكال الصوتية الا ذلك الشكل الذي يكون حامال لتمثل يمكنه التعرف
عليه والا رفضه بوصفه مجهوال وغريبا" .فما نتمثله في الذهن هو ما نسميه ،وما نسميه
هو ما نراه فاللغة وسيط بيننا وبين العالم املوضوعي وبفضلها ابتدع الانسان املعرفة،
وعلمه باألشياء .ولوالها لبقي الانسان دون الحضارة كما يقول روسو ( في محاولة في اصل
جدا أن ال نتكلم ً قط غير حاجات طبيعية ألمكننا ًّ ّ
أبدا ،وأن اللغات ) ":لو لم تكن لنا
بمجرد لغة إلاشارة ،ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات ال تختلف ّ نتفاهم على التمام
عما هي عليه اليوم ،أو هي أصوب تد ّر ًجا نحو هدفها " .بل ان نيتشة رغم نقده للغة كثيرا ّ
ً
وفضحه للخطاب املنتج للوهم ،يعترف بدور اللغة في انتاج املعرفة حين يقول (في انساني
مفرط في انسانيته)" :ان اللغة هي فعال اولى درجات السعي الى اكتساب العلم انها الايمان
بالحقيقة املكتشفة التي تفرعت عنها من هنا ايضا منابع القوة الاكثر صالبة " .
9
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
من جهة اخرى ،فإن اللغة ابدعها الانسان للتواصل مع بني جنسه،
وللتعبير عما يختلج فيه من احاسيس وعواطف وافكار ،لذا اعتبر دي سوسير اللغة
مؤسسة اجتماعية ،وذهب بنفنيست الى ابعد من ذلك ،حين اعتبر هذا التركيب
الرمزي الذي نسميه اللسان ،هو انشاء اجتماعي يتعلمه الطفل حين يتربى في حضن
والديه .يقول بنفنيست ":إن اكتساب اللغة تجربة تسير بمحاذاة تشكل الرمز و إنشاء املوضوع
لدى الطفل ،إنه يتعلم ألاشياء من خالل أسمائها ،و يكتشف أن لكل ش يء إسما ،و أن تعلم
ألاسماء يمكنه من تدبرها ،و لكنه يكتشف أيضا أن له هو ذاته اسما و أنه من ثمة يتواصل
مع محيطه " .وعليه ال يمكن تصور مجتمع من دون لغة ،او لغة خارج السياق الاجتماعي ،ألن
الرمز هو بالضرورة انشاء اجتماعي ،لذا اعتبر علماء ألانثروبولوجيا اللغة ّ
مكونا اساسيا لهوية
جماعة ما ،وما كان يمكن قيام ثقافة أمة ما من دونها ،مثلما يذهب الى ذلك عالم
ألانثروبولوجيا املعاصر رالف لينتون حين يقول" :ان اللغة نفسها جزء ال يتجزأ من الثقافة،
فالنطق صار ممكنا بواسطة تركيب الدماغ البشري واعضاء النطق ،ولكن ربط قيم رمزية
بمجموعات من الاصوات والقدرة على اخراج هذه الاصوات ال يشكل لغة "(كتاب الفلسفة
ملدارس ترشيح املعلمين ج 2ص. )238
ويذهب فيلسوف الظاهراتية ادموند هوسرل ،الى تأكيد هذه الوظيفة للغة متحدثا
عن ما سماه "لغة كونية " لإلنسانية املشتركة ،هي أداة التفاهم وشرطه بين بني البشر "،انها
قدرة تعبير جماعية تحدث بشكل متبادل وسوي ،وفي تعقل تام وفي هذه الجماعة يستطيع كل
الناس الكالم ،وكأنهم يتكلمون عن وجود موضوعي بشأن ما يوجد هناك في العالم املحيط
بانسانيته "( .انظر نص هوسرل ص 115في الكتاب املدرس ي).
اضافة لذلك فان اللغة ،هي ما به ومن خالله يكتشف الانسان ذاته ،ويعرف انه موجود
في العالم .فالقدرة على الكالم هي قدرة على اعالن "الذاتية" على تجلي ذاتي لألخر في
11
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
العالم ،والذاتية من منظور بنفنيست هي "قدرة املتكلم على ان يطرح نفسه باعتباره ذاتا
" لذا "يكون انا من يقول انا" ،معلنا بذلك عن كوجيتو جديد لساني تكون اللغة والكالم
شرط وجودنا وشرط انكشافنا لألخر .ف "ال استعمل ضمير انا الا عندما اخاطب احدا
يكون انت في كالمي" فلم نعد نعتقد مع ديكارت ،ان "انا افكر" شرط الوجود بل "انا
اتكلم" اذن فانا موجود .ففي اللغة ومن خاللها يتشكل الانسان ،اذ هي وحدها التي تشكل
حقيقتنا .و لم يجانب نيتشة الصواب ،حين اعتبر اللغة شأنها شأن العقل سالح الانسان
في مواجهة الطبيعة .فالطبيعة لم تمنح الانسان قرونا وال انياب و ال مخالب ،بل منحته
القدرة على ترميز العالم ،وبها اثبت انه قادر على يستمر في وجوده في العالم و يكون
الافضل .
:
اعطى السيميائي روالن بارط ،شأنه شأن غريماس و هلملسف اللغة معاني ابعد من
التعبير والتواصل الاجتماعي .بل اللغة دالة الثقافة و عالمة العالمات ،التي نكتشفها في
كل اشكال املعيش اليومي ،وكل الرموز التي ينتجها الانسان من لباس وسلوك وقيم
.ف"اللغة سلطة تشريعية اللسان قانونها ..فأي لهجة إنما تتعين بما ترغم على قوله
أكثر مما تتعين بما تسمح بقوله" (روالن بارط ” دروس ”) ،بحيث تمارس اللغة إكراها
بنيويا يصعب معه التمييز ،في عملية التواصل ،بين املحتوى والشكل خاصة وأن ّ
كل
تمررها .بل يبدو حسب "ماكوسيلة تقنية للتواصل ،لها فعل ارتدادي على الرسالة التي ّ
لوهان" أن "الرسالة الحقيقية هي الوسيط ذاته" .لذلك فإن تجديد وسائل الاتصال،
بدءا بالكتابة إلى شبكة ألانترنت يؤثر نسقيا في الثقافة والفكر ،ولذلك تحاول
السيميائيات اليوم تحليل الوظائف الداللية املتنوعة ل (الدين /الفن /السياسة /اللغة)،
في عالقاتها بوسائل الاتصال والتواصل و ما تحمله من أفكار تخص مجتمعا من
املجتمعات .خاصة و ّأن نمط الحياة املعاصر يتسم بالتكالب على املصالح ،و بتقديس
التقنية ومنتجاتها في غير اكتراث بالبعد الثقافي والروحي للوجود إلانساني .والفعل الذي
تولده هذه الوسائط على الثقافة بصورة عامة ،ما جعل ميشال هنري ّ ّ
يقر بأن ألامر ال
يتعلق بانحطاط القيم ألاخالقية والدينية والثقافية تحت تأثير وسائل إلاعالم التي تنشر
خطابا رديئا ،بل إن ألامر يتعلق بسيرورة تحطيم إلانساني ،إذ نشهد تراجعا لإلنساني في
كل املستويات.
11
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
2
طهر وتبارك على القداسة والتقديس ،وهي مشتقة من فعل ّ
قدس بمعنى ّ يحيل لفظ
الى مرجعية دينية باألساس ،سواء كان موضوع التقديس اماكن او كتبا او كائنات .ويقال عن
هللا ّ
القدوس ،أي املنزه عن كل نقص وعيب .فال غرابة ان يحيل املقدس على الطهارة وانتفاء
التدنيس ،وهي خاصية السلوك الديني ،وهنا يتداخل الاسطوري بالديني بل ان املقدس يتجلى
كذلك في السحري والطقوس ي ،بل في اشكال تعابير دنيا كالخرافة او الحكاية الشعبية .حيث
يكون مضمونها دوما هو الخيال fictionوالعجيب ،merveilleuxوالخارق ،fantaisieوامليثولوجي
و الالمعقول ، irrationnelواملعقول plausibleأحيانا أخرى .
يتجلى املقدس في صورة اله او قوة خارقة او كائن خرافي او عجيب الواقعي او سحري ،يثير
الرعب والاجالل معا .وفي ذلك ما يشد اليه الاهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او
استسالما له خوفا من انتقامه .يقول روجي كايوا ":انما من املقدس ينتظر املؤمن كل ضروب
العون وكل اشكال التوفيق ،فاإلجالل الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة ،وهو
يعزو املصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما ..الخيرات التي يحلم بها ".
و ّ
املقدس الديني هو قبل ّ
كل ش يء تجربة ،تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثالت رمزية .وقد
املقدس هي ضرب روحاني من املعانقة للعالم .إنها حدس مؤسس لنوعبين "مايير" ان تجربة ّ
من الحضور الغامض ،لش يء يتجاوز الحدود املعتادة للتجربة إلانسانية .وهذا الش يء املغاير
ّ
واملقدس كرمز يسمح باالنفتاح على العالم تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة املدنسة.
ّ
املطلق ،ذلك أن طقس ما يمكن إلانسان من اكتشاف هذا العالم املطلق ،الذي يفلت باملاهية
يعبر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز كل لغة ،خاصة وأن الدين هو نسق ّ من ّ
وألاسطورة.
لغة املفارق ،عند "غارودي" فهو ال يتحدث عن املفارق وفي هذا املنظور ،تكون
باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية ،فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد رمزي للمطلق ،وهو
ما يجعل من ألاسطورة فعل خلق جماعي ،فاألسطورة ليست ّ
مجرد مشاركة في العالم ،بل هي
رؤية للعالم تميز إلانسان ،لذلك يرى "غارودي" أننا ال نستطيع أن ننعت باألسطورة ما هو
12
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
مجرد إعادة إنتاج ،أو ّ
مجرد مجرد أثر باقي من املاض ي ،كما ال نستطيع أن نعتبر ألاسطورة ّ
ّ
محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك .وهذا يعني أن ألاسطورة ليست من املاض ي بل
أن هناك أساطير ينتجها إلانسان اليوم .ما يخلق تقابال بين املقدس واملدنس حسب مارسيا
الياد ،فعند الانسان املؤمن "املقدس يحاكي املسلك الالهي ،يقيم بالقرب من آلالهة أي في
الحقيقي وذي املعنى" .بينما يرى الانسان الالديني في املقدس "عقبة امام حريته ،ولن يثوب الى
رشده جذريا ،ولن يصير حرا حقا ،الا بأن يقتل الاله الاخير" ،هذا التعالق بين الديني والالديني
بين املقدس واملدنس ،يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز والوثن ،هو ما يخلق ما يسميه
ريكور "الاغتراب الديني " الذي ال يمكن حله الا ب"ـأن يموت الوثن ويحيا الرمز " .فالرمز
صورة تخيلية في ذهن املتدين ال يمكن تمثلها واقعيا الا في موضوع حس ي "هو انهيار العالمة
في موضوع فوق طبيعي وفوق ثقافي" كما يقول ريكور .
ليس بعيد عن هذا الفهم ما ذهب اليه فرويد من ان التقديس الاسطوري ليس اكثر من
اشباع خيالي ،لرغبات ال شعورية شان ما نرى عند العصابي ،لذلك يعتبر فرويد الاسطورة او
الدين ضرب من عصاب جماعي .وتكون الاساطير اشبه باألحالم عند الانسان الالسوي ،حاملة
للرموز وان كانت تختلف عنها في طبيعة الحامل ووظيفته.
لذا يصح أن يكون للمقدس -شأن الرموز الاخرى -وظائف متعددة يمكن حصرها في:
لقد وضعت الشعوب في الاديان ما كانت تفكر فيه بشان العالم عن املطلق عما "
كائن بذاته" هيجل
: أ)
يرى دوركايم ان الافكار الدينية والاسطورية ،تعمل ألجل وظيفة اجتماعية باألساس ال لغاية
الايمان او الاعتقاد ،بل لتحقيق التماسك الاجتماعي للمجتمع وهو ما يفسر حسبه ،خلود
واستمرار الظاهرة الدينية والاسطورية بشكل عام .فهذه الافكار ضرب من "وعي جمعي"،
تعمل على توحيد املجتمع واعادة انتاج عالقاته ،بعد ان يكون قد اصابها الفتور .فاألعياد
الدينية وطقوسها تعمل ك "محرار" اعادة انتاج عالقات الافراد بعضهم ببعض .
13
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
"ليس ممكنا ان يوجد مجتمع ال يشعر بالحاجة الى مشاعر جماعية ،وتصورات يرعاها في
فترات منتظمة ،اذ هي التي تصنع وحدته باالتحادات والجمعيات والتكتالت ،حيث يكون
التقارب وثيقا بين الافراد فيجمعون من جديد على تأكيد مشاعرهم املشتركة".
: ب)
يعتبر فرويد ان لألسطورة والدين ،وظيفة تحقيق الطمأنينة النفسية لإلنسان ،اذ الدين
واملقدس بشكل عام" عصاب جماعي" ،اشباع خيالي لرغبات الشعورية .والصور الطقوسية
تحقق ما ال يستطيع العلم وال الفلسفة تحقيقه ،من الاجابة عن سؤال الانسان .عن مسألة
الهدف من الحياة يقول فرويد ":الش يء الاكيد ان الدين هو وحده املؤهل ملعرفة الجواب عن
السؤال املتعلق بهدف الحياة ".
: ج)
يتفق الفالسفة وعلماء ألانثروبولوجيا والاجتماع ،على ان للمقدس وظيفة هي وظيفته
الاصلية التي من اجلها ظهرت الاسطورة والدين والسحر واشكال الطقوس الاخرى ،ونعني
تفسير العالم .فاألسطورة ظهرت قبل ظهور الفلسفة والعلم ،أي انها كانت بشكل ما ضربا
من املعرفة الفلسفية ان استعرنا عبارة ارسطو ،حين اعتبر ان "الاسطورة كانت بضرب ما
حبا للحكمة" (وحب الحكمة هي التفلسف في اليونانية) .وبالفعل كانت الاسطورة والايمان
باملقدس تفلسفا ،من جهة ما هي تفسير للعالم" .وال تهمنا كثيرا –كما يقول روجي كايوا-
الطريقة التي بها يتخيل املؤمن هذا الاصل الاسمى للنعم او املحن ،سواء اكان اله الكون
اجمع الاله القدير اله الديانات التوحيدية ام كان الالهة التي تحمي املدن وارواح املوتى ام
كان قوة منتشرة غير محددة ،تهب كل ش يء كماله في ادائه وظيفته فتجعل الزورق سريعا،
والسالح قاتال ،والطعام مغذيا" .لكن ما يهمنا في فهم هذه الظاهرة ،ان انتاج الاسطورة
كمنظومة رمزية انما كان ضربا من املعرفة ،حينما غابت املعرفة العقالنية ألن الجهل
باألسباب الحقيقية للظواهر هو ما دفع الانسان ألاول الى الاعتقاد في املقدس.
14
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
فالفهم الاسطوري للعالم اذن تفلسف ،بهذا املعنى من جهة كونه تفسيرا سببيا وهو ما يقوله
صراحة غارودي بل وحتى فرانسوا جاكوب حين يقارن الاسطورة بالعلم (نص الحاجة الى
رؤية العالم من كتاب انا افكر الكتاب املدرس ي القديم لآلداب ص ) 111فيقول ":تستجيب
الاساطير كما هو الشأن بالنسبة الى النظريات العلمية الى هذا املطلب البشري ،وخالفا ملا
نعتقده عادة فان الامر يتعلق في كل الحاالت ،بتفسير ما نشاهده بما ال نشاهده أي بتفسير
العالم املرئي بعالم ال مرئي هو دوما نتاج املخيلة" .كان نرى مثال في الصاعقة تعبيرا عن
غضب رباني او في املرض نتاجا إلذاية سحرية .
د)
الاسطورة مؤسسة اجتماعية كما رأينا ،انتجها خيال الشعوب في لحظة ما من لحظات تطور
املجتمع ،لذا فاللغة التي نتحدث بها هي بالضرورة قيم املجتمع وسلوكه وعاداته ،وما كل ما
يشكل خصوصياته الثقافية .لذا كان املقدس مكونا اساسيا للهوية الثقافية ،ألي جماعة
وكل الرموز التي تنتجها الاسطورة او يكشف عنها املقدس الديني او السحري ،هي بالضرورة
املجتمع ذاته "اذ ليس الاله في الاخير سوى املجتمع ذاته في قالب رمزي" كما يقول دوركايم.
ولقد اشتغل بعض السيميائيين املعاصرين من امثال بروب وغريماس ،على املحكيات
السردية مثل الحكاية والخرافة والاسطورة وامللحمة التي تنتمي الى التراث الشفوي الشعبي
من جهة ما هي اجالء للعجايبي والخارق ،الذي ينفتح على عالم الخيال ،العالم ألارحب الذي
يتجاوز العالم الواقعي ال فقط ملجرد الامتاع والتلذذ ،بل ربما تذلال وتقربا خوفا منه او رغبة
في عطاياه خاصة حين يتقاطع الاسطوري بالديني في املجتمعات املغلقة (في الريف العربي
مثال) .فتصبح الشجاعة والقوة والنزاهة مراكز القوة عند البطل العجائبي ،يدافع عن قيم
ثابتة مطلقة ينشدها في عالم مفارق كما يذكر لنا ذلك ،د .محمد الجويلي في أنثروبولوجيا
الحكاية( ،دراسة أنثروبولوجية في حكايات شعبية تونسية تونس قرطاج )2112من خالل
تحليله لبعض الرموز الاسطورية في موروثنا الشفوي وفي طقوسنا .مثل خلع الحذاء عند
الدخول الى املسجد او الانحناء عند الصالة ،وهي ظاهرة مادية ترمز الى التقديس والاحترام
او غطاء الراس والجسم عند املرأة رمز العفة في الاسالم ،وتصبح في التقليد الشعبي حياء او
احتراما لقيم املجتمع الذكوري ،حتى اذا ما تعرت امام زوجها ينجدها شعرها الطويل كما في
15
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
اسطورة الجازية الهاللية (.انكشف منقار انفها واصبع رجلها الاكبر فدعت على الاول بضربة
برد والثاني بلطمة حجر) .و الامثلة كثيرة عن التطير والتقديس لبعض الكائنات الحيوانية
التي نألف حضورها بيننا مثلما يذكر لنا د .عزالدين عناية عن ريف في الساحل التونس ي،
( )...كالتطير من طائر الصرد (البوبشير )كونه يبشرنا بقدوم املطر(والحقيقة انه يورد حديث
للنبي يمنع فيه اصطياده) ،او التطير من البوم كون نعيقه يذكرنا بالنحيب عن امليت ،اما
طائر الخطاف او السنونو الذي تفتح له البيوت تبركا وحين يقبض عليه يمسح على رأسه
بالزيت ويضعون في رجله خيطا احمر ويطلقون سراحه مرددين "يا خرطيفة هكة وهكة (.مع
تحريك اليدين يمنة و يسرة في تقليد لحركة جناحيه) ..سلميلي على بيت مكة" 1 .لكون
الانسان الريفي العاجز عن الحج (ملن استطاع اليه سبيال)يعتقد ان هذا الطائر ينوب عنه
هذه الفريضة .
3
في اليونانية ( )Iconتعني التشابه والتماثل ،و ترجمت إلى ( )Imagoفي الالتينية و
( )Imageفي الفرنسية ،مع اختالف في النطق .ويتفق معجما الروس( )Larousseوروبير(، )Robert
على أن الصورة هي إعادة إنتاج ش يء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما ،كما يشيرا إلى أن
الصورة الذهنية ( )Image mentaleتحيل على معنى التمثل ( ،)Répresentationوهو تمثل تخييلي
( )imaginaireومنها ( )imaginationالخيال او التخيل.
فالصورة رسم ذهني تخيلي لش يء يستوحى من الواقع فيعيد تمثله بشكل اخر .2
تتحدد في معناها ألاصلي ،باعتبارها إعادة إنتاج طبق ألاصل .والفلسفة كانت ّ فالصورة
تستبعد الصورة بناء على التقليد ألافالطوني الذي يستبعد العالم الحس ي ،ذلك أن الصورة
واملفهوم يتقابالن راديكاليا .فالصورة في معناها الدقيق تمثل الشكل املحسوس لش يء خاص،
واملفهوم هو الفكرة الكونية او ما يسميه افالطون املثال ( ، )idéeولذلك ارتبطت الصورة
قديما بالعجائبي واملقدس دوما .ما جعلها في ثقافتنا العربية الاسالمية موضع تحريم،
(. 1انظر يف هذا الشان الدراسة اليت اعدها د.عزالدين عناية عن املوروث االسطوري جملتمع املشهد ملنطقة السد القبلي من اوالد علي
من والية سوسة وردت يف جملة كتابات معاصرة العدد 33ايلول 1111بريوت لبنان).
2
التعريف من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
16
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
الرتباطها بإعادة الخلق استنادا إلى املخيلة واملصورة ،ما يجعل من املصور او النحات صانعا
للصور يتشبه في فعله باالله الخالق ( .التحريم ورد صراحة في الاحاديث النبوية والتشديد
على تحريمها دفعا لشبهة الوثنية ).
وفي ذلك يرى ابن منظور أن الصورة ترتبط بالتخيل والتوهم ،فتصورت الش يء توهمت
صورته ،والتصاوير التماثيل.
ولعل هذا ما جعل ريجيس دي براي ّ
يقسم تاريخ الحضارات،
إلى ثالث عصور محكومة بنظم سلطوية متناسبة مع الشكل
الذي تتخذه الصورة في ّ
كل عصر:
هذا التحول في نظام الصورة من مجرد رمز تقديس ي ،الى عالمة متعددة الداللة خاصة بعد
التطور التقني في أنظمة البث الاتصالي الحديث مع ظهور الانترنت واندماج الصورة والحركة
باملعلومة ،في "العصر املرآوي" كما يسميه مطاع صفدي أو عصر "حضارة الصورة " كما سماه
روالن بارط = وهو العصر الرابع إن شئنا اضافة ملا دونه ديبراي عصر امليدياسفار
(. 3)mèdiasphère
3 3
منذ أن تحدث آبل جونز سنة 1121عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا ،وقد أشار
بعده الناقد والمحلل السيميائي روالن بارط ( )Roland Barthesفي مقالته المشهورة "بالغة الصورة" في مجلة "تواصالت" عدد 4
سنة 1114بأننا نعيش "حضارة الصورة" ،بالرغم من التحفظات التي أبداها بارط بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه ،حيث إن حضارة
الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية ،مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا ( )Système sémiotiqueال يمكن،
كما يرى بارط ،أن يدل أو يخلق تدالال( ) Sémiosisتواصليا إال من خالل التسنين اللساني ،فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في
غياب العالمات( ) Signe linguistiqueاللسانية ،ألن معانيها عائمة متعددة ،والتواصل ال يتم بتاتا من الفراغ (.المالحظة من مقال
لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة .ورد في موقع انفاس.
17
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
من ثم كان التصوير منذ القديم لغة ،لها دالالتها والن الصورة تتكلم الحس ي ،فإنه أبلغ من
أي لغة أخرى لذلك قال ألجرداس جوليان غريماس ( ،)A.G.Greimasرائد السيميائيات السردية
في تعريفه للصورة "الصورة هي كل دال" ،وهذا التعريف هو الشائع في الدراسات السيميائية.
ومن هذا املنطلق ،فإن سلطة الصورة تكون كبيرة على الحس املشترك خاصة وان الصورة
تعكس رغبة من قام بأخذها ،اكثر مما تعكس الواقع .ذلك ان سلطة الصورة ،تستند الى ميل
الانسان الى تحويل حاجاته الى معرفة ،أي الاعتقاد في ما يريد رؤيته .ومن هنا يتأتى استخدام
الصور كأداة في الخطاب الديني امال في خلق الخلط بين واقع الصورة والواقع الذي تتمثله،
وكذلك الشأن في الحروب الاعالمية املوجهة ايديولوجيا ،بل وحتى في الخطاب الاشهاري ونظام
18
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
4
املوضة .فغدا عصرنا بامتياز عصر "حضارة الصورة " بلغة بارط او هو "العصر املرآوي" .
غير ان ديبور ،يذهب الى ابعد من ذلك في تفكيك دالات الصورة نحو ربطها باالجتماعي ،حتى
تتجلى الصورة ك "فرجة" أو "مشهد" .spectacleفهذا التراكم الهائل للصور كبضاعة
لالستهالك ،جعل ديبور يتحدث عن املجتمعات املعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة ،و تمثل
الفرجة ،عنده ،رؤية كلية للحياة وهي أساسا ترسانة من الصور املؤثرة على املشاهد ،ما من
شأنه أن ينتج ما سماه ب"الاستبعاد املعمم" ،الذي يمثل وجها من وجوه الاغتراب .اغتراب له
تطوع الصورة والكلمة لتشكيلتستمد من ألاساس الاقتصادي ،بحيث ّ ّ قدرة تأثيرية بالغة،
الوعي الزائف .إنه تأثير يغري الجموع صنعه مخطط الاقتصاد الليبرالي ،للتحكم في صفوف
الناس وإبعادهم عن مشاغلهم الحقيقية عبر التشبه بسلوك املشاهير والنجوم ،الذين
يتصدرون الفرجات الاشهارية .وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور الباهرة وأشكال
الترفيه املغرية ،يتحول إلانسان املستهلك للسلع إلى مستهلك لألوهام ،والصورة التي كانت في
تحولت إلى عنصر تأثير مفسد للتواصل الحقيقي ألاصل تبلغ الداللة وتحدث التواصلّ ،
ّ
ومعطل للحوار بين الذوات.
4
انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 28-28لسنة – 6991عن مركز االنماء العربي – بيروت لبنان.
19
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
ولكن كيف تعمل هذه السلطة ؟ وما هي نتائجها على الوسيط واملتقبل؟
يجيب بورديو بأننا لسنا مخيرين في اعتماد واحد من نموذجين :النموذج الطاقي او النموذج
السيبرنطيقي .الاول يعتمد براديغم ميكانيكي يفهم الحركة الاجتماعية لألفراد واملجموعات وما
ينتجونه بما هو مولد لطاقة فعل يستغلها الحاكم او املتحكم بهذه الوسائط ،والثاني يعتمد
براديغم أداتي يعمل على توجيه السلوك والتحكم فيه نحو ما يخدم مشروعا ما ( ،سياس ي او
اقتصادي او اجتماعي )...ما يجعل الافراد كالكائنات الروبوتية امام الوسائط (.البروباغاندا
السياسية – سبر الاراء-الاشهار .)..ما يجعل من هذه الوسائط "سلطة رمزية قادرة على التأثير
5
الفعلي دون بذل للطاقة ).
ويجيب ديبراي عن السؤال ذاته كيف تعمل السلطة ؟ سلطة الرموز ،بأن طبيعة الوسيط
(النظام الرمزي بشكل عام)انه قابل لالنعكاس ،بما "يسمح للعقل ان يصبح قوة ،وللقوة بأن
ّ
تنش ئ لها عقال " ،والكالم لديبراي مشكال "جانوس"( JANUSكائن خرافي عند الرومان هو اله
البدايات عندهم بوجهين ملتصقين واحد ينظر للماض ي والاخر للمستقبل) ،شبيه بالتنين عند
هوبز يمسك بيد سيفا و باألخرى مرشة املاء املقدس .فعالقة القوة والعقل تختصر اليوم في
عالقة املثقف بالسلطة ،او كما تريد السلطة للمثقف ان يكون .ففعل الهيمنة ذو حدين كما
يرى ديبراي ،ألن " التعميم والخصخصة ،يصطدم كالهما بأداة التحول املادي او الوسيط،
فهو موضع صراع مرير بين الدولة و الانتلجنسيا (املثقفون) .ألن السلطة السياسية تؤثر من
خالل الوسيط" ،ودور الوسيط أنه يحول الفعل التواصلي (اي الفكر) الى عامل سياس ي ،و
السلطة السياسية الى فكر هدفه وغايته املشتركة هي املحكومون .وهكذا فإن "الصور التي
ترينا العالم – كما يقول ديبراي -هي ايضا ما يعمينا عن النظر اليه ".
اذن ،فليست الرموز غاية في ذاتها بل في ما تنتجه من سلطة وقوة ،وفي تحولها الى رأسمال
5
يسميها الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير االجهزة االيديولوجية للدولة على نقيض االجهزة المادية القمعية وهي تصنع قمعا اشد
وطأة من االجهزة المادية.
21
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
رمزي او جهاز أيديولوجي ،يعمل على التحكم في الجماهير وتوجيههم الى ما يريده و يرضاه رأس
املال املادي .
الى ذلك ستتحول وسائل الاتصال الحديثة – خاصة مع ظهور مجتمعات الوفرة والاستهالك
ثم زمن العوملة – الى ما يشبه القيتوات ( ghettoمحتشدات او سجون مغلقة ) ،تعزل فيها
الافراد ويتم اغراقهم في ايديولوجيا معممة ،يتم التحكم بها عن بعد كما يكشف عن ذلك كل
من فيلسوفا مدرسة فرانكفورت النقدية تيودور ادورنو و ماكس هوركهايمر( ،انظر
النص في الكتاب املدرس ي ازمة التواصل اليوم ص .)111ففي نقدهما للمجتمع املفتوح ،مجتمع
الرأسمالية املعاصرة بين فيلسوفا النقدية املعاصرة أن وسائل التواصل بقدر ما عملت على
ربط الصلة بين الافراد في ما بينهم عن طريق وسائل الاتصال الحديثة ،بقدر ما عزلتهم
واعمتهم بخطابات مضللة كاذبة ،فأضحى التقدم يفرق بين الناس " كما يقوالن " :فالخطاب
الكاذب ملذيع الراديو ينطبع في ادمغة الناس ويمنعهم من التحدث ودعاية البيبس ي كوال
تحجب الاخبار املتعلقة بانهيار قارات باسرها...ولم يعد يسمح زجاج املكاتب الحديدية (ملكاتب
البريد او املحطات)للموظف بالثرثرة واملزاح مع زميله" ،بل لم يعد املوظف قادرا على اضاعة
الوقت "انهم منعزلون داخل الجماعة ".
كذلك فعلت السيارة الخاصة او التلفزيون اليوم لألسرة ،اذ عمل على عزل افرادها بعضهم
عن بعض تماما فلم يعد ثمة وقت للحوار او للجلسات الحميمية داخل العائلة .فتنكشف لنا
مفارقة عجيبة ألنظمة التواصل الحديثة ،يعبر عنها ادورنو و هوركهايمر بقولهم" :ان
الاتصاالت تحقق التماثل بين الناس وذلك بعزلهم".
وغير بعيد عن ذلك ما يذهب اليه بودريارد ،من ان كل الوسائط تمثل رسائل تخضع املشاهد
لإلكراه والقصر ،فاإلنسان املعاصر محكوم بنظام عالمات تمثل بدائل عن الواقع" ،ذلك ان
املضمون يحجب عنا في معظم الاحيان الوظيفة الحقيقية للوسيط ،فهو يقدم نفسه كرسالة
" وفي الاخير يكون "استهالك الرسالة هو ذاته الرسالة " .
21
األستاذ :اهلادي عبد احلفيظ
قابس 0200/0202 معهد حي االمل-
انها رسالة تمجيد املضمون ،بوصفه عالمة ،فنسقط هكذا في عبودية جديدة ،وشكل اخر
لالغتراب يكون الانسان فيه هو ذاته الاداة واملشروع ،ويصبح مجتمع املشهد هو ذاته الصنم .
استنتاجات:
وهذا يعني أن ّ
كل نظام رمزي ،بقدر ما ينتج صورة هي مجال وسائطي ،فإنه يشكل في الوقت
نفسه وعيا زائفا ،فأزمة الوسائط -كما يبدو -ال تتعلق بكثرتها وباختالفها و ال بتعدد وظائفها ،
وال بهيمنة أحدها على ألاخرى ،بل بمحاوالت توظيفها وتحويلها الى أدوات سلطة .و أزمة
التواصل اليوم ترتبط ايضا بهذا الصعود القوي للصورة ،واملكانة التي أصبحت تحتلها
كوسيط أساس ي ،وكوسيط ال يعكس فقط إرادة التواصل في أخالقياته إلانسانية ،بقدر ما
يعكس إرادة املهيمن على التأثير عبر الصورة كنسخة تدعي التطابق مع الواقع .
ما يدعونا مجددا الى اعالء الخطاب الفلسفي خطاب العقل ،في وجه الخطاب ألاداتي من
اجل "إتيقا للحوار والتواصل " نراها ضرورية اليوم ،لفن "عيش مشترك" ممكن ،هو شرط
وغاية الكوني الانساني .
Abunadem.marzouki@gmail.com
22