You are on page 1of 22

‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬

‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫مدخل للتفكري يف املسألة‬

‫"السلطة الرمزية هي سلطة ال مرئية و ال يمكن أن تمارس إال بتواطؤ أولئك الذين يأبون‬
‫االعتراف بأنهم يخضعون لها بل و يمارسونها " بيار بورديو‪.‬‬

‫"إن تكنولوجيا االتصال هي السبيل لتفادي سقوط‬


‫اإلنسانية جمددا يف عامل هريوشيما " وينر‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫‪ 2‬ـ على سبيل التقديم‪:‬‬


‫يتحدد التواصل عموما باعتباره ما يصل شيئين متباعدين‪ ،‬ويفيد بين بني البشر التفاهم‬ ‫ّ‬
‫والفهم املتبادل‪ ،‬لذلك يقتض ي التواصل رسائل تتوسلها رموز و وسائل تقنية‪ .‬ذلك أن‬
‫التواصل ال يمكن أن يتحقق بشكل مباشر وإنما يقتض ي دائما وسيطا ‪.‬والوسيط الرمز او‬
‫العالمة ليس بذاته دال‪ ،‬بطريقة ما سالبة او موجبة على الحضور املحض للظواهر التي ّ‬
‫يتم‬
‫تبادلها‪ ،‬بل ان املشكل في مأسسة هذه الرموز و تحولها الى انظمة للفكر و لإلنسان‪ ،‬سلطة‬
‫رمزية بعبارة بورديو‪ ،‬لها استقالليتها الظاهرة‪ ،‬لكنها تتكشف في الحقيقة على مفارقة الخضوع‬
‫والاخضاع‪ ،‬وهو ما يصدق على الفن بل و على ألاسطورة والدين وحتى املعرفة العلمية‪.‬‬
‫فنتسائل ان كانت الرموز سلطة لنا ام علينا ؟ ان كنا واضعين لها ام خاضعين؟ وان كانت‬
‫الرموز بقدر تقدمها في خدمتنا بقدر تغولها علينا ؟‬
‫اذا كان التواصل لقاء بالغير و انفتاح عليه و اشتراك معه في إنتاج املعنى و الداللة ‪ ،‬فإن‬
‫التواصل يشترط وسيطا نتوسل به ومن خالله اللقاء‪ .‬و الوسيط هو ما يحتل منزلة الوسيلة‬
‫التي تصلنا بالعالم و باآلخرين أو يكون بمثابة رؤية من خاللها ندرك ألاشياء‪ ،‬و داخلها ينتظم‬
‫َ‬
‫العالم و يكتسب معنى‪ .‬إن كال من اللغة و العلم والفن و الدين و الفلسفة يمثل اذن بهذا‬
‫املعنى وسائط‪( .‬كتاب الفلسفة للسنة الثالثة آداب ص ‪ ) 85‬من ثمة اكتست الوسائط –‬
‫الرموز والعالمات معنى وقيمة ‪.‬‬

‫‪ 0‬ـ إحراجات‪:‬‬
‫إذا كان التواصل بين البشر يحتاج ضرورة الى وسائط يصنعها الانسان ذاته‪ ،‬أال يدعونا هذا‬
‫يؤمن التواصل أم هي التي‬‫الى النظر في التواصل من جهة منزلة هذه الوساطة ‪ :‬هل هي ما ّ‬
‫تعطله و تنحرف به إلى غير مقاصده؟ وهل هذه الوسائط تقول حقيقة العالم ام تقف دونها؟‬
‫وهل الرموز سلطة بيد الانسان ام سلطة عليه ان يأخذها بعين الاعتبار؟ وهل ّ‬
‫تحول الانسان‬
‫من واضع الى خاضع لها اليوم بعد التقدم التقني والفني الذي عرفته العوملة الرأسمالية؟‬
‫وهل تنوع الوسائط وتطورها اغناء لحياة الانسان واثراء لها ام افقار للذات الانسانية حد‬
‫الاكراه او القتل الرمزي لها؟ ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ .2‬يف السّؤال عن التواصل‬


‫‪ .2‬االنسان والرمز‬
‫‪ .3‬التجليات الرمزية ‪:‬‬
‫أ) اللغة مبا هي نظام رمزي‬
‫ب)املقدس كنظام رمزي‬
‫ت)الصورة – الفرجة ‪ :‬كنظام رمزي‬
‫‪ .4‬االنظمة الرمزية ‪ :‬وساطة ام هيمنة ؟‬

‫‪ .2‬يف السؤال عن التواصل ‪:‬‬

‫نقول في اللغة العربية واصل وتواصل واملصدر وصال ومواصلة ‪ ،‬ويشير فعل تواصل الى‬
‫حدوث املشاركة في الفعل بين شخصين‪ ،‬و يكون نقيضها تنافر و تقاطع ويعني الوصال الرغبة‬
‫في اقامة عالقة مع الاخر ذات مضمون عاطفي او نفس ي ‪ .‬ويحدد هانز فير في معجمه الفروق‬
‫ّ‬
‫احتك به ‪ ،to be connected‬بينما‬ ‫بين إتصل و تواصل‪ .‬فإتصل تعني وصل شيئا بش يء اخر‬
‫تعني تواصل العالقة املتبادلة بين طرفين ‪ . to be interconnected.‬في الاتصال هناك رغبة من‬
‫احد الطرفين باتجاه الاخر وهذا الاخر قد يستجيب ويتفاعل مع تلك الرغبة او انه قد يرفض‬
‫وينغلق أما في التواصل فإن الرغبة تحدث من كال الطرفين ‪(.‬راجع في هذا الشأن املوسوعة‬
‫الفلسفية العربية ج‪.)1‬‬

‫‪3‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫ومفهوم التواصل تتجاذبه حقول معرفية بالغة التنوع ( علم نفس – سيبرنطيقا‪-‬‬
‫لسانيات‪ -‬انثربولوجيا‪ -‬سيميولوجيا ‪ -‬ميديولوجيا – الخ) تكاد تشمل كل املنتوج إلانساني‪،‬‬
‫فكل ما يمكن أن يشتغل كرابط بين إلانسان وما يوجد خارجه‪ ،‬وكل ألاشكال الثقافية التي‬
‫تتحدد من خاللها ّ‬
‫هوية ألافراد وتخبر عن انتماءاتهم إلى ثقافة بعينها ‪ -‬لغة ولباسا وطقوسا‬
‫ونمط عيش ‪ -‬يجب النظر إليها باعتبارها "وقائع إبالغية" أي رسائل تندرج ضمن حاالت‬
‫الاجتماع إلانساني الذي يتخلى داخله الفرد طوعا عن عامله الخاص لكي يندمج في عالم‬
‫آلاخرين‪.‬‬

‫وعلى هذا ألاساس‪ ،‬فإن الظواهر إلانسانية في كليتها ال يمكن أن توجد خارج رغبة‬
‫الكائن البشري في التواصل مع غيره بشكل مباشر أو غير مباشر‪ ،‬فمجموع ما ينتجه إلانسان‬
‫عبر لغته وأشيائه وجسده وإيماءاته وطقوسه ومعماره ‪ ،‬يندرج ضمن سيرورة تواصلية متعددة‬
‫املظاهر والوجود والتجلي إلى الحد الذي يجعل الثقافة في كليتها سيرورة تواصلية دائمة ‪ .‬وتلك‬
‫هي الحالة التي يصفها امبرتو إيكو وهو يتحدث عن حقل السميائيات وموضوعها‪ .‬فالسميائيات‬
‫هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حاالت التواصل إلانساني‪.‬‬
‫فال يمكن تصور النشاط الثقافي ‪ -‬العنصر املحدد للوجود إلانساني ‪ -‬إال من خالل زاوية‬
‫تواصلية‪.‬‬

‫يقول امربتو ايكو ‪ ”:‬ال نتعرف إىل أنفسنا إال باعتبارنا سيميائية يف حركة و أنظمة من‬
‫مدلوالت و عمليات التواصل و اخلارطة السيميائية وحدها هي اليت تقول لنا من نكون و كيف نفكر ”‬
‫(‪ -‬نقال عن كتاب الفلسفة للسّنة الرّابعة آداب ص ‪)-641‬‬

‫والحاصل ان الفعل التواصلي –كتقنية اخبارية – لم يعد يقتصر على علوم السيبرنطيقا‬
‫(مع نوربيرت فينر‪ ) 1891 - 1581‬او هندسة الاتصال ( مع كلود شانون املهندس أمريكي) و ال‬
‫حتى املجال اللساني (مع دي سوسير و جاكوبسون)‪ ،‬بل ليتعدى حقله الداللي والوظيفي‬
‫جميع مجاالت الفعل الانساني‪ ،‬وان كان جاكوبسون سيستفيد من خطاطة شانون‪،‬‬
‫ليرسم خطاطة تتعدى املجال التقني البحت الى تمثل البعد العاطفي والانفعالي عند الباث‬
‫واملتقبل‪ ،‬يرتسم فيها بين الباث واملتقبل حقوال ابعد للداللة‪ ،‬تكون الرسالة فيها او ما يراد‬

‫‪4‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫تبليغه على اتصال مباشر بقناة البث او الوسيط مع ما تتركه الرسالة من اثر عند الباث‬
‫واملتلقي على السواء كما يلي‪:‬‬

‫وذهب روالن بارط و غريماس و يلملسلف الى توسيع الحقل الداللي للسيميولوجيا الى‬
‫مجاالت ابعد‪ ،‬تتعلق باملعيش اليومي لإلنسان مثل السرديات والكتابة والصورة‬
‫والاشهار واللباس ‪( ...‬انظر مثال كتاب مبادئ في علم الادلة ‪éléments de sémiologie‬‬
‫لروالن بارط ترجمة محمد بكري –الدار البيضاء فيفري ‪ )1859‬او (راجع مفردة‬
‫سيميولوجيا في الكتاب املدرس ي في نافذة دعائم التفكير ص ‪ .)111-119‬ما سيدفع‬
‫الفيلسوف الاملاني يورغن هابرماس الى استنباط مصطلح "تواصلية"‬
‫‪ ،communicationnel‬ليحيل على بنية الفعل التواصلي بما هو ايتقا للحوار‪،‬‬
‫” إن القدرة الرمزية انتصارا للحوار الفلسفي الخاضع لضرورات العقل مقابل هيمنة الاهواء‬
‫واملصلحة ‪( .‬راجع نص هابرماس في الكتاب املدرس ي وحواشيه ص ‪.)111-111‬‬ ‫هي أساس‬
‫الوظائف املفهومية‪.‬‬
‫ليس التفكري شيئا‬
‫‪ -2 ‬االنسان والرمز ‪:‬‬ ‫آخر سوى هذه‬
‫يف تعريف الرمز والعالمة ‪:‬‬ ‫القدرة على إنشاء‬

‫الرمز هو صورة الاحساس ومعناه‪ ،‬وهو تمثيل مكثف للشكل الخارجي‪ ،‬للش يء او‬ ‫متثالت لألشياء و‬
‫االشتغال عليها”‬
‫تعبير عنه‪ ،‬فليس الرمز نسخة للواقع رغم احتوائه ملقومات الشكل الاساسية بل‬
‫اميل بنفنيست ” مسائل‬
‫عالمة او اشارة تحيل الى استحضار ش يء غائب ‪ .‬فهو يؤسس عالقة مماثلة بين‬ ‫يف األلسنية العامة“‬

‫‪5‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫شيئين احدهما مرئي يشكل عالمة محسوسة‪ ،‬و الثاني المرئي وغير محسوس يعد موطن‬
‫الداللة التي يحملها الرمز‪ ،‬و يعمل الذهن على تمثلها‪( .‬انظر التدقيقات املفهومية في الكتاب‬
‫املدرس ي ص‪.)115‬‬

‫وكلمة ‪ symbole‬في الالتينية اصلها اغريقي ‪ ،sumbolon‬مشتقة من فعل ‪ sumbollein‬ويفيد‬


‫َ َ‬
‫ص َل – َج َم َع‪-‬ق َرن " فالرمز في اصله الداللي اللغوي العالمة‪ ،‬التي تجمع شيئين متباعدين‬
‫َ"و َ‬
‫في معجمه "عالمة تعارف‬ ‫الالند‬ ‫يكونان وحدة واحدة فهي كما يعرفها‬
‫تتكون من نصفين عندما نجمعهما نكون كلمة سر" كما في التقليد‬
‫الاغريقي‪ ،‬ان نتعارف من خالل قطعتي نقود منفصلتين او ميدالية او آنية‪ ،‬يكون جمعهما‬
‫دليل تعارف شخصين ‪ ،‬دائن ومدين او ضيف ومضيف وطرح هويته لألخر ‪.‬‬

‫اما العالمة ‪ ،signe‬فهي ابعد من الرمز قد تكون حسية حركية او بصرية مرئية‪ ،‬ترمي الى اثارة‬
‫سلوك ما في املتلقي‪ ،‬كصفارة الانذار او اشارات املرور او التعابير الجسدية وقد تكون منطوقة‬
‫او مكتوبة كشأن العالمة اللغوية ‪ .‬والعالمة تواضعية او اعتباطية غنية باملعنى والداللة‪ .‬و إن‬
‫كان العلم بها ودراستها في الاصل وليد علم اللسانيات مع دي سوسير‪ ،‬الا ان تطور وسائل‬
‫الاتصال جعل للعالمة علما هو علم العالمة او السيمياء او السيميولوجيا ‪( sémiologie‬العالمة‬
‫في اليونانية ‪ sémeion‬وعلم او دراسة ‪ ) logos‬فعلم العالمة ‪ ،‬علم يدرس العالمات ومعانيها‬
‫سواء اكانت لسانية او غير لسانية ليشمل الحركات والايماءات والاصوات اللحنية والصور‪ ،‬اي‬
‫مختلف الارساليات والوسائط املؤسسة للتواصل الانساني قصد الكشف عن الانظمة‬
‫الداللية الكامنة فيها ‪( .‬انظر التدقيقات املفهومية في الكتاب املدرس ي ص‪.)841 -841‬‬

‫يذهب "كاسيرار" الى فهم إلانسان كجزء من الطبيعة‪ ،‬لذلك يتجاوز التعريفات التقليدية‬
‫والكالسيكية لإلنسان‪ ،‬عبر إلاقرار بأن الفرق بين إلانسان والحيوان ليس فرقا في الطبيعة‬
‫وإنما هو فرق في الدرجة‪ .‬فاإلنسان هو حيوان أكثر تطورا من بقية الحيوانات‪ ،‬بل انه يتميز‬
‫نوعيا عن الحيوان‪ ،‬وهذا التميز يكمن في امتالكه "جهازا رمزيا "‪ ،‬هذه "الاداة الجديدة التي‬
‫يملكها الانسان وحده تحول الحياة الانسانية كلها‪ ".‬فعالم الحيوان كما وصفه البيولوجي‬
‫يوهان يوكسكل‪ ،‬يتميز بامتالكه جهازا مستقبال وجهازا مؤثرا ينجز الكائن‬

‫‪6‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬
‫ّ‬
‫من خاللهما اتصاله بالعالم وبني جنسه ‪ ،‬اما عالم الانسان فيزيد على ذلك بتملكه‬
‫"إن اخرتاع فن‬
‫جهازا رمزيا ‪ ،‬يعطي وجود الانسان ال فقط عاملا جديدا بل " بعدا جديدا من ابعاد‬ ‫تبليغ أفكارنا ليس‬
‫لألعضاء‬ ‫مدينًا‬
‫الواقع " ‪.‬‬
‫اليت ختدم هذا‬
‫التبليغ بقدر ما يرجع‬
‫في هذا السياق‪ ،‬يأتي نقد " كاسيرار" لروسو الذي اعتبر تحول إلانسان نحو‬ ‫إىل ملَكة ختص‬
‫اإلنسان هي اليت‬
‫املدنية وفقدانه فطرته الطبيعية عالمة فساد إلنسانيته‪ .‬ف"الانسان املدني حيوان‬ ‫جتعله يستخدم‬
‫فاسد" كما يقول في "رسالة في اصل التفاوت بين البشر"‪ .‬على العكس من ذلك‬ ‫الغاية‬ ‫لتلك‬
‫أعضاءه‪ ،‬بل حتمله‬
‫يذهب "كاسيرار" الى أن ألانظمة الرمزية تميز إلانسان باعتبارها نشاطا أصيال‪ ،‬ال‬ ‫إذا ما انعدمت‬
‫يمكن أن يرتبط بش يء آخر غير العقل البشري‪ ،‬وقدرته على التكيف‪ ،‬بل أكثر من‬ ‫تلك األعضاء على‬
‫ّ‬ ‫استخدام غريها‬
‫نتحدث عن واقع إنساني قبل نشأة الرموز‪ ،‬ذلك أنها ال تمثل‬ ‫ذلك ال يمكن أن‬ ‫لعني تلك الغاية"‬
‫روسو‪-‬حماولة يف اصل انعكاسا لواقع موجود بصفة مستقلة عنها‪ ،‬بل إن الواقع ال يصبح معقوال إال‬
‫كل الوظائف الروحية لدى إلانسان تشارك‬ ‫بفضل هذه الرموز‪ .‬وهذا يعني أن ّ‬ ‫اللغات‪.‬‬
‫ّ‬
‫املعرفة في الخاصية ألاساسية‪ ،‬من جهة كونها مسكونة بقوة مشكلة في ألاصل‪ ،‬قوة‬
‫بمجرد محاكاة الواقع بل إعادة إنتاجه وتشكيله بصورة أخرى‪ ،‬وهذا يصدق على‬‫ّ‬ ‫ال تكتفي‬
‫الفن تماما كما يصدق على اللغة و ألاسطورة و الدين‪.‬‬

‫‪ -3 ‬التجليات الرمزية ‪:‬‬

‫‪1‬‬

‫عاملا رمزيا متميزا ‪ ،‬يستحضر العالم ولكن ال يشبهه‪ ،‬فالكلمات‬ ‫تؤسس‬


‫ليست ألاشياء‪ ،‬لذلك كانت اللغة نظاما رمزيا ‪ .‬والوظيفة الرمزية للغة تتمظهر في القدرة على‬
‫استعمال العالمات كرموز ‪ ،‬تمكننا من تمثل ش يء آخر رغم غيابه ‪.‬و بالتالي فإن اللغة كنسق‬
‫من العالمات ليست لها عالقة مادية بما تعنيه هذه العالمات‪ .‬وهذا الاختالف عن الواقع‬
‫يعطي اللغة نوعا من الاستقاللية عما هو كائن‪ ،‬وتسمح بالتالي لإلنسان من الارتباط بالعالم و‬
‫باالرتحال عنه‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫"‬

‫ابن جني‬ ‫"‪.‬‬

‫وهذه الاستقاللية والتسيير الذاتي للغة جعل "غوسدورف"‪ ،‬يعتبرها الوسيلة الجوهرية التي‬
‫ّ‬
‫تمكن الفرد من تمثل ثقافة املجموعة التي ينتمي إليها‪ .‬فاللغة هي التي تمكن إلانسان من‬
‫تجاوز كينونته البيولوجية‪ ، .‬وهو ما يعني أن الوظيفة ألاولى للغة هي التواصل بين الناس‪ .‬فأن‬
‫نتكلم هو أن نتواصل‪ ،‬وفعل الكالم هو فعل تمرير املعلومات‪ ،‬لذلك فإن اللغة هي قبل ّ‬ ‫ّ‬
‫كل‬
‫ش يء رابط اجتماعي‪ ،‬إذ هي منظومة اجتماعية ّ‬
‫تكون إلانسان ذاته‪ ،‬كشبكة للتبادل واملشاركة‬
‫ّ‬
‫كمقدمة للفهم‬ ‫والتواصل بما هي حوار يقتض ي إفساح املجال أمام الناس للتعارف املتبادل ‪،‬‬
‫والتفاهم‪ .‬لذلك يمثل آلاخر طرفا أساسيا في فعل التواصل اللغوي‪ ،‬ففي هذا التواصل‬
‫اللغوي‪ ،‬يحضر آلاخر حتى عند غيابه‪ ،‬وحوار الذات مع ذاتها هو أبسط أشكال حضور هذا‬
‫آلاخر‪ .‬وهذا يعني أن وعي الذات بذاتها ّ‬
‫يتحقق عبر اللغة كنظام رمزي‪.‬‬
‫وغير بعيد عن ذلك يذهب اميل بنفنيست‪ ،‬الى اعتبار اللغة ملكة التعبير الرمزي بامتياز و" كل‬
‫انظمة التواصل الاخرى الخطية والحركية والبصرية ‪...‬تتفرع عنها وتفترضها مسبقا "‪ .‬ذلك ان‬
‫العالمة اللغوية هي اصل الرموز الاخرى القديمة كلها‪ ،‬فاألسطورة والخرافة والحكاية وحتى‬
‫الدين والفن هي مدونات كتبتها لغة‪ ،‬بل هي ذاتها لغة وان كانت خاصة‪ .‬ثم ان العملية‬
‫الذهنية املسماة تفكيرا ليست اكثر من تنظيم للغة ‪.‬فاللغة حسب بنفنيست هي اداة الفكر ‪.‬‬

‫"ليس التفكري شيئا اخر غري هذه القدرة على انشاء متثالت لألشياء واالشتغال على‬
‫هذه التمثالت انها يف جوهرها قدرة رمزية ‪.‬ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او‬
‫للتجربة اىل مفاهيم هي العملية اليت يتم بواسطتها اكتمال القدرة املعقلنة للفكر‪".‬‬

‫فاللغة من جهة كونها بنية كما حددها فرديناند دي سوسير‪ ،‬تتحدد بما هي عالمة ‪ :‬دال‬
‫ومدلول – ثنائية من وجه صوتي ووجه ذهني شكل فيزيائي ومضمون نفس ي يتشكالن معا‬
‫بصورة اعتباطية ‪ ،‬بحكم التواضع الاجتماعي الذي يفترضهما ‪ .‬غير ان اميل بنفنيست يذهب‬

‫‪8‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫الى ان لهذه البنية وظيفة بل وظائف ‪،‬ال تخلو منها قصديتها الاجتماعية ‪.‬ألن اللغة كما يراها‬
‫حتى سوسير مؤسسة اجتماعية والتأسيس الاجتماعي‪ ،‬يفترض ان ال تبقى هذه البنية مجرد‬
‫عالمة ميتة مغلقة في سياقها الداللي والاجتماعي‪.‬‬
‫فما هي وظائف اللغة ؟‬
‫يمكننا ان نحدد للغة وظائف نذكر منها ‪:‬‬
‫‪:‬‬
‫اذا كانت اللغة دالة الفكر كما يذهب الى ذلك ديكارت وحتى بنفنيست‪ ،‬فإن العملية‬
‫الذهنية ال تصبح ممكنة الا من خالل اللغة‪ .‬فالخطاب هو من جعل املعرفة ممكنة لذا‬
‫كانت اللغة ال فقط مجرد عالمات لغوية‪ ،‬تنسج خيوط العالقة فيها بين دالها ومدلولها‬
‫بل انها تمثل ذهني منتظم للعالم ‪ .‬يقول بنفنيست "ان التحول الرمزي لعناصر الواقع او‬
‫للتجربة الى مفاهيم هي العملية التي يتم بواسطتها اكتمال القدرة املعقلنة للفكر ‪ .‬ان‬
‫الفكر ليس مجرد انعكاس للعالم فهو يحلل الواقع مقوليا وفي هذه الوظيفة املنظمة‬
‫يرتبط الفكر شديد الارتباط باللغة "‪.‬‬
‫ذلك ان عالقة الانسان بالعالم ليست عالقة مباشرة‪ ،‬بل تحتاج ضرورة الى وسائط‪،‬‬
‫واللغة هي الوسيط او "التعبير الرمزي بامتياز" الذي يؤسس عالقتنا بالعالم "ذلك انه ال‬
‫توجد –كما يقول بنفنيست‪ -‬عالقة طبيعية آنية ومباشرة بين الانسان والعالم وال بين‬
‫الانسان والانسان ‪ .‬فال بد في ذلك من وسيط اي ذاك الجهاز الرمزي‪ ،‬الذي جعل الفكر‬
‫واللغة ممكنين"‪ .‬غير ان عملية التمثل الذهني تلك معقدة‪ ،‬بحيث أن وجهي العالمة‬
‫اللغوية الدال واملدلول يرتبطان بصورة ضرورية بما يجعل الواحد منهما يستدعي الاخر‬
‫بكيفية لم يدركها دي سوسير من قبل‪ .‬يقول بنفنيست معلقا على ذلك "ان الذهن ال‬
‫يتقبل من الاشكال الصوتية الا ذلك الشكل الذي يكون حامال لتمثل يمكنه التعرف‬
‫عليه والا رفضه بوصفه مجهوال وغريبا"‪ .‬فما نتمثله في الذهن هو ما نسميه‪ ،‬وما نسميه‬
‫هو ما نراه فاللغة وسيط بيننا وبين العالم املوضوعي وبفضلها ابتدع الانسان املعرفة‪،‬‬
‫وعلمه باألشياء‪ .‬ولوالها لبقي الانسان دون الحضارة كما يقول روسو ( في محاولة في اصل‬
‫جدا أن ال نتكلم ً‬ ‫قط غير حاجات طبيعية ألمكننا ًّ‬ ‫ّ‬
‫أبدا‪ ،‬وأن‬ ‫اللغات )‪ ":‬لو لم تكن لنا‬
‫بمجرد لغة إلاشارة‪ ،‬ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات ال تختلف‬ ‫ّ‬ ‫نتفاهم على التمام‬
‫عما هي عليه اليوم‪ ،‬أو هي أصوب تد ّر ًجا نحو هدفها "‪ .‬بل ان نيتشة رغم نقده للغة‬ ‫كثيرا ّ‬
‫ً‬
‫وفضحه للخطاب املنتج للوهم‪ ،‬يعترف بدور اللغة في انتاج املعرفة حين يقول (في انساني‬
‫مفرط في انسانيته)‪" :‬ان اللغة هي فعال اولى درجات السعي الى اكتساب العلم انها الايمان‬
‫بالحقيقة املكتشفة التي تفرعت عنها من هنا ايضا منابع القوة الاكثر صالبة " ‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫من جهة اخرى‪ ،‬فإن اللغة ابدعها الانسان للتواصل مع بني جنسه‪،‬‬
‫وللتعبير عما يختلج فيه من احاسيس وعواطف وافكار‪ ،‬لذا اعتبر دي سوسير اللغة‬
‫مؤسسة اجتماعية ‪ ،‬وذهب بنفنيست الى ابعد من ذلك‪ ،‬حين اعتبر هذا التركيب‬
‫الرمزي الذي نسميه اللسان‪ ،‬هو انشاء اجتماعي يتعلمه الطفل حين يتربى في حضن‬
‫والديه‪ .‬يقول بنفنيست‪ ":‬إن اكتساب اللغة تجربة تسير بمحاذاة تشكل الرمز و إنشاء املوضوع‬
‫لدى الطفل‪ ،‬إنه يتعلم ألاشياء من خالل أسمائها‪ ،‬و يكتشف أن لكل ش يء إسما‪ ،‬و أن تعلم‬
‫ألاسماء يمكنه من تدبرها‪ ،‬و لكنه يكتشف أيضا أن له هو ذاته اسما و أنه من ثمة يتواصل‬
‫مع محيطه " ‪ .‬وعليه ال يمكن تصور مجتمع من دون لغة‪ ،‬او لغة خارج السياق الاجتماعي‪ ،‬ألن‬
‫الرمز هو بالضرورة انشاء اجتماعي‪ ،‬لذا اعتبر علماء ألانثروبولوجيا اللغة ّ‬
‫مكونا اساسيا لهوية‬
‫جماعة ما‪ ،‬وما كان يمكن قيام ثقافة أمة ما من دونها‪ ،‬مثلما يذهب الى ذلك عالم‬
‫ألانثروبولوجيا املعاصر رالف لينتون حين يقول‪" :‬ان اللغة نفسها جزء ال يتجزأ من الثقافة‪،‬‬
‫فالنطق صار ممكنا بواسطة تركيب الدماغ البشري واعضاء النطق‪ ،‬ولكن ربط قيم رمزية‬
‫بمجموعات من الاصوات والقدرة على اخراج هذه الاصوات ال يشكل لغة "(كتاب الفلسفة‬
‫ملدارس ترشيح املعلمين ج‪ 2‬ص‪. )238‬‬

‫ويذهب فيلسوف الظاهراتية ادموند هوسرل‪ ،‬الى تأكيد هذه الوظيفة للغة متحدثا‬
‫عن ما سماه "لغة كونية " لإلنسانية املشتركة ‪ ،‬هي أداة التفاهم وشرطه بين بني البشر ‪ "،‬انها‬
‫قدرة تعبير جماعية تحدث بشكل متبادل وسوي‪ ،‬وفي تعقل تام وفي هذه الجماعة يستطيع كل‬
‫الناس الكالم‪ ،‬وكأنهم يتكلمون عن وجود موضوعي بشأن ما يوجد هناك في العالم املحيط‬
‫بانسانيته "‪( .‬انظر نص هوسرل ص ‪ 115‬في الكتاب املدرس ي)‪.‬‬

‫اضافة لذلك فان اللغة‪ ،‬هي ما به ومن خالله يكتشف الانسان ذاته‪ ،‬ويعرف انه موجود‬
‫في العالم‪ .‬فالقدرة على الكالم هي قدرة على اعالن "الذاتية" على تجلي ذاتي لألخر في‬

‫‪11‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫العالم‪ ،‬والذاتية من منظور بنفنيست هي "قدرة املتكلم على ان يطرح نفسه باعتباره ذاتا‬
‫" لذا "يكون انا من يقول انا"‪ ،‬معلنا بذلك عن كوجيتو جديد لساني تكون اللغة والكالم‬
‫شرط وجودنا وشرط انكشافنا لألخر‪ .‬ف "ال استعمل ضمير انا الا عندما اخاطب احدا‬
‫يكون انت في كالمي" فلم نعد نعتقد مع ديكارت‪ ،‬ان "انا افكر" شرط الوجود بل "انا‬
‫اتكلم" اذن فانا موجود ‪.‬ففي اللغة ومن خاللها يتشكل الانسان‪ ،‬اذ هي وحدها التي تشكل‬
‫حقيقتنا‪ .‬و لم يجانب نيتشة الصواب‪ ،‬حين اعتبر اللغة شأنها شأن العقل سالح الانسان‬
‫في مواجهة الطبيعة‪ .‬فالطبيعة لم تمنح الانسان قرونا وال انياب و ال مخالب‪ ،‬بل منحته‬
‫القدرة على ترميز العالم‪ ،‬وبها اثبت انه قادر على يستمر في وجوده في العالم و يكون‬
‫الافضل ‪.‬‬

‫‪:‬‬
‫اعطى السيميائي روالن بارط‪ ،‬شأنه شأن غريماس و هلملسف اللغة معاني ابعد من‬
‫التعبير والتواصل الاجتماعي‪ .‬بل اللغة دالة الثقافة و عالمة العالمات‪ ،‬التي نكتشفها في‬
‫كل اشكال املعيش اليومي‪ ،‬وكل الرموز التي ينتجها الانسان من لباس وسلوك وقيم‬
‫‪.‬ف"اللغة سلطة تشريعية اللسان قانونها‪ ..‬فأي لهجة إنما تتعين بما ترغم على قوله‬
‫أكثر مما تتعين بما تسمح بقوله" (روالن بارط ” دروس ”) ‪ ،‬بحيث تمارس اللغة إكراها‬
‫بنيويا يصعب معه التمييز‪ ،‬في عملية التواصل‪ ،‬بين املحتوى والشكل خاصة وأن ّ‬
‫كل‬
‫تمررها ‪ .‬بل يبدو حسب "ماك‬‫وسيلة تقنية للتواصل‪ ،‬لها فعل ارتدادي على الرسالة التي ّ‬
‫لوهان" أن "الرسالة الحقيقية هي الوسيط ذاته"‪ .‬لذلك فإن تجديد وسائل الاتصال‪،‬‬
‫بدءا بالكتابة إلى شبكة ألانترنت يؤثر نسقيا في الثقافة والفكر‪ ،‬ولذلك تحاول‬
‫السيميائيات اليوم تحليل الوظائف الداللية املتنوعة ل (الدين ‪/‬الفن‪ /‬السياسة‪ /‬اللغة)‪،‬‬
‫في عالقاتها بوسائل الاتصال والتواصل و ما تحمله من أفكار تخص مجتمعا من‬
‫املجتمعات‪ .‬خاصة و ّأن نمط الحياة املعاصر يتسم بالتكالب على املصالح‪ ،‬و بتقديس‬
‫التقنية ومنتجاتها في غير اكتراث بالبعد الثقافي والروحي للوجود إلانساني‪ .‬والفعل الذي‬
‫تولده هذه الوسائط على الثقافة بصورة عامة‪ ،‬ما جعل ميشال هنري ّ‬ ‫ّ‬
‫يقر بأن ألامر ال‬
‫يتعلق بانحطاط القيم ألاخالقية والدينية والثقافية تحت تأثير وسائل إلاعالم التي تنشر‬
‫خطابا رديئا‪ ،‬بل إن ألامر يتعلق بسيرورة تحطيم إلانساني‪ ،‬إذ نشهد تراجعا لإلنساني في‬
‫كل املستويات‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫‪2‬‬
‫طهر وتبارك‬ ‫على القداسة والتقديس‪ ،‬وهي مشتقة من فعل ّ‬
‫قدس بمعنى ّ‬ ‫يحيل لفظ‬
‫الى مرجعية دينية باألساس‪ ،‬سواء كان موضوع التقديس اماكن او كتبا او كائنات‪ .‬ويقال عن‬
‫هللا ّ‬
‫القدوس‪ ،‬أي املنزه عن كل نقص وعيب‪ .‬فال غرابة ان يحيل املقدس على الطهارة وانتفاء‬
‫التدنيس‪ ،‬وهي خاصية السلوك الديني‪ ،‬وهنا يتداخل الاسطوري بالديني بل ان املقدس يتجلى‬
‫كذلك في السحري والطقوس ي ‪ ،‬بل في اشكال تعابير دنيا كالخرافة او الحكاية الشعبية ‪ .‬حيث‬
‫يكون مضمونها دوما هو الخيال ‪ fiction‬والعجيب ‪ ،merveilleux‬والخارق ‪ ،fantaisie‬وامليثولوجي‬
‫و الالمعقول ‪ ، irrationnel‬واملعقول ‪ plausible‬أحيانا أخرى ‪.‬‬
‫يتجلى املقدس في صورة اله او قوة خارقة او كائن خرافي او عجيب الواقعي او سحري‪ ،‬يثير‬
‫الرعب والاجالل معا‪ .‬وفي ذلك ما يشد اليه الاهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او‬
‫استسالما له خوفا من انتقامه ‪.‬يقول روجي كايوا ‪ ":‬انما من املقدس ينتظر املؤمن كل ضروب‬
‫العون وكل اشكال التوفيق ‪ ،‬فاإلجالل الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة‪ ،‬وهو‬
‫يعزو املصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما ‪ ..‬الخيرات التي يحلم بها "‪.‬‬

‫و ّ‬
‫املقدس الديني هو قبل ّ‬
‫كل ش يء تجربة‪ ،‬تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثالت رمزية‪ .‬وقد‬
‫املقدس هي ضرب روحاني من املعانقة للعالم‪ .‬إنها حدس مؤسس لنوع‬‫بين "مايير" ان تجربة ّ‬

‫من الحضور الغامض‪ ،‬لش يء يتجاوز الحدود املعتادة للتجربة إلانسانية‪ .‬وهذا الش يء املغاير‬
‫ّ‬
‫واملقدس كرمز يسمح باالنفتاح على العالم‬ ‫تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة املدنسة‪.‬‬
‫ّ‬
‫املطلق‪ ،‬ذلك أن طقس ما يمكن إلانسان من اكتشاف هذا العالم املطلق‪ ،‬الذي يفلت باملاهية‬
‫يعبر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز‬ ‫كل لغة‪ ،‬خاصة وأن الدين هو نسق ّ‬ ‫من ّ‬
‫وألاسطورة‪.‬‬

‫لغة املفارق‪ ،‬عند "غارودي" فهو ال يتحدث عن املفارق‬ ‫وفي هذا املنظور‪ ،‬تكون‬
‫باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية‪ ،‬فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد رمزي للمطلق‪ ،‬وهو‬
‫ما يجعل من ألاسطورة فعل خلق جماعي‪ ،‬فاألسطورة ليست ّ‬
‫مجرد مشاركة في العالم‪ ،‬بل هي‬
‫رؤية للعالم تميز إلانسان‪ ،‬لذلك يرى "غارودي" أننا ال نستطيع أن ننعت باألسطورة ما هو‬
‫‪12‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬
‫مجرد إعادة إنتاج‪ ،‬أو ّ‬
‫مجرد‬ ‫مجرد أثر باقي من املاض ي‪ ،‬كما ال نستطيع أن نعتبر ألاسطورة ّ‬
‫ّ‬
‫محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك‪ .‬وهذا يعني أن ألاسطورة ليست من املاض ي بل‬
‫أن هناك أساطير ينتجها إلانسان اليوم‪ .‬ما يخلق تقابال بين املقدس واملدنس حسب مارسيا‬
‫الياد‪ ،‬فعند الانسان املؤمن "املقدس يحاكي املسلك الالهي‪ ،‬يقيم بالقرب من آلالهة أي في‬
‫الحقيقي وذي املعنى"‪ .‬بينما يرى الانسان الالديني في املقدس "عقبة امام حريته‪ ،‬ولن يثوب الى‬
‫رشده جذريا‪ ،‬ولن يصير حرا حقا‪ ،‬الا بأن يقتل الاله الاخير‪" ،‬هذا التعالق بين الديني والالديني‬
‫بين املقدس واملدنس‪ ،‬يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز والوثن‪ ،‬هو ما يخلق ما يسميه‬
‫ريكور "الاغتراب الديني " الذي ال يمكن حله الا ب"ـأن يموت الوثن ويحيا الرمز "‪ .‬فالرمز‬
‫صورة تخيلية في ذهن املتدين ال يمكن تمثلها واقعيا الا في موضوع حس ي "هو انهيار العالمة‬
‫في موضوع فوق طبيعي وفوق ثقافي" كما يقول ريكور ‪.‬‬
‫ليس بعيد عن هذا الفهم ما ذهب اليه فرويد من ان التقديس الاسطوري ليس اكثر من‬
‫اشباع خيالي‪ ،‬لرغبات ال شعورية شان ما نرى عند العصابي‪ ،‬لذلك يعتبر فرويد الاسطورة او‬
‫الدين ضرب من عصاب جماعي‪ .‬وتكون الاساطير اشبه باألحالم عند الانسان الالسوي‪ ،‬حاملة‬
‫للرموز وان كانت تختلف عنها في طبيعة الحامل ووظيفته‪.‬‬
‫لذا يصح أن يكون للمقدس‪ -‬شأن الرموز الاخرى‪ -‬وظائف متعددة يمكن حصرها في‪:‬‬

‫لقد وضعت الشعوب في الاديان ما كانت تفكر فيه بشان العالم عن املطلق عما‬ ‫"‬
‫كائن بذاته" هيجل‬

‫‪:‬‬ ‫أ)‬
‫يرى دوركايم ان الافكار الدينية والاسطورية‪ ،‬تعمل ألجل وظيفة اجتماعية باألساس ال لغاية‬
‫الايمان او الاعتقاد‪ ،‬بل لتحقيق التماسك الاجتماعي للمجتمع وهو ما يفسر حسبه‪ ،‬خلود‬
‫واستمرار الظاهرة الدينية والاسطورية بشكل عام‪ .‬فهذه الافكار ضرب من "وعي جمعي"‪،‬‬
‫تعمل على توحيد املجتمع واعادة انتاج عالقاته‪ ،‬بعد ان يكون قد اصابها الفتور‪ .‬فاألعياد‬
‫الدينية وطقوسها تعمل ك "محرار" اعادة انتاج عالقات الافراد بعضهم ببعض ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫"ليس ممكنا ان يوجد مجتمع ال يشعر بالحاجة الى مشاعر جماعية‪ ،‬وتصورات يرعاها في‬
‫فترات منتظمة‪ ،‬اذ هي التي تصنع وحدته باالتحادات والجمعيات والتكتالت‪ ،‬حيث يكون‬
‫التقارب وثيقا بين الافراد فيجمعون من جديد على تأكيد مشاعرهم املشتركة"‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫ب)‬
‫يعتبر فرويد ان لألسطورة والدين‪ ،‬وظيفة تحقيق الطمأنينة النفسية لإلنسان‪ ،‬اذ الدين‬
‫واملقدس بشكل عام" عصاب جماعي"‪ ،‬اشباع خيالي لرغبات الشعورية‪ .‬والصور الطقوسية‬
‫تحقق ما ال يستطيع العلم وال الفلسفة تحقيقه‪ ،‬من الاجابة عن سؤال الانسان‪ .‬عن مسألة‬
‫الهدف من الحياة يقول فرويد ‪":‬الش يء الاكيد ان الدين هو وحده املؤهل ملعرفة الجواب عن‬
‫السؤال املتعلق بهدف الحياة "‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫ج)‬
‫يتفق الفالسفة وعلماء ألانثروبولوجيا والاجتماع‪ ،‬على ان للمقدس وظيفة هي وظيفته‬
‫الاصلية التي من اجلها ظهرت الاسطورة والدين والسحر واشكال الطقوس الاخرى‪ ،‬ونعني‬
‫تفسير العالم‪ .‬فاألسطورة ظهرت قبل ظهور الفلسفة والعلم‪ ،‬أي انها كانت بشكل ما ضربا‬
‫من املعرفة الفلسفية ان استعرنا عبارة ارسطو‪ ،‬حين اعتبر ان "الاسطورة كانت بضرب ما‬
‫حبا للحكمة" (وحب الحكمة هي التفلسف في اليونانية)‪ .‬وبالفعل كانت الاسطورة والايمان‬
‫باملقدس تفلسفا‪ ،‬من جهة ما هي تفسير للعالم‪" .‬وال تهمنا كثيرا –كما يقول روجي كايوا‪-‬‬
‫الطريقة التي بها يتخيل املؤمن هذا الاصل الاسمى للنعم او املحن‪ ،‬سواء اكان اله الكون‬
‫اجمع الاله القدير اله الديانات التوحيدية ام كان الالهة التي تحمي املدن وارواح املوتى ام‬
‫كان قوة منتشرة غير محددة‪ ،‬تهب كل ش يء كماله في ادائه وظيفته فتجعل الزورق سريعا‪،‬‬
‫والسالح قاتال‪ ،‬والطعام مغذيا"‪ .‬لكن ما يهمنا في فهم هذه الظاهرة‪ ،‬ان انتاج الاسطورة‬
‫كمنظومة رمزية انما كان ضربا من املعرفة‪ ،‬حينما غابت املعرفة العقالنية ألن الجهل‬
‫باألسباب الحقيقية للظواهر هو ما دفع الانسان ألاول الى الاعتقاد في املقدس‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫فالفهم الاسطوري للعالم اذن تفلسف‪ ،‬بهذا املعنى من جهة كونه تفسيرا سببيا وهو ما يقوله‬
‫صراحة غارودي بل وحتى فرانسوا جاكوب حين يقارن الاسطورة بالعلم (نص الحاجة الى‬
‫رؤية العالم من كتاب انا افكر الكتاب املدرس ي القديم لآلداب ص ‪) 111‬فيقول ‪":‬تستجيب‬
‫الاساطير كما هو الشأن بالنسبة الى النظريات العلمية الى هذا املطلب البشري‪ ،‬وخالفا ملا‬
‫نعتقده عادة فان الامر يتعلق في كل الحاالت‪ ،‬بتفسير ما نشاهده بما ال نشاهده أي بتفسير‬
‫العالم املرئي بعالم ال مرئي هو دوما نتاج املخيلة"‪ .‬كان نرى مثال في الصاعقة تعبيرا عن‬
‫غضب رباني او في املرض نتاجا إلذاية سحرية ‪.‬‬

‫د)‬
‫الاسطورة مؤسسة اجتماعية كما رأينا‪ ،‬انتجها خيال الشعوب في لحظة ما من لحظات تطور‬
‫املجتمع‪ ،‬لذا فاللغة التي نتحدث بها هي بالضرورة قيم املجتمع وسلوكه وعاداته‪ ،‬وما كل ما‬
‫يشكل خصوصياته الثقافية‪ .‬لذا كان املقدس مكونا اساسيا للهوية الثقافية‪ ،‬ألي جماعة‬
‫وكل الرموز التي تنتجها الاسطورة او يكشف عنها املقدس الديني او السحري‪ ،‬هي بالضرورة‬
‫املجتمع ذاته "اذ ليس الاله في الاخير سوى املجتمع ذاته في قالب رمزي" كما يقول دوركايم‪.‬‬
‫ولقد اشتغل بعض السيميائيين املعاصرين من امثال بروب وغريماس‪ ،‬على املحكيات‬
‫السردية مثل الحكاية والخرافة والاسطورة وامللحمة التي تنتمي الى التراث الشفوي الشعبي‬
‫من جهة ما هي اجالء للعجايبي والخارق‪ ،‬الذي ينفتح على عالم الخيال‪ ،‬العالم ألارحب الذي‬
‫يتجاوز العالم الواقعي ال فقط ملجرد الامتاع والتلذذ‪ ،‬بل ربما تذلال وتقربا خوفا منه او رغبة‬
‫في عطاياه خاصة حين يتقاطع الاسطوري بالديني في املجتمعات املغلقة (في الريف العربي‬
‫مثال)‪ .‬فتصبح الشجاعة والقوة والنزاهة مراكز القوة عند البطل العجائبي‪ ،‬يدافع عن قيم‬
‫ثابتة مطلقة ينشدها في عالم مفارق كما يذكر لنا ذلك‪ ،‬د‪ .‬محمد الجويلي في أنثروبولوجيا‬
‫الحكاية‪( ،‬دراسة أنثروبولوجية في حكايات شعبية تونسية تونس قرطاج ‪ )2112‬من خالل‬
‫تحليله لبعض الرموز الاسطورية في موروثنا الشفوي وفي طقوسنا‪ .‬مثل خلع الحذاء عند‬
‫الدخول الى املسجد او الانحناء عند الصالة ‪ ،‬وهي ظاهرة مادية ترمز الى التقديس والاحترام‬
‫او غطاء الراس والجسم عند املرأة رمز العفة في الاسالم‪ ،‬وتصبح في التقليد الشعبي حياء او‬
‫احتراما لقيم املجتمع الذكوري‪ ،‬حتى اذا ما تعرت امام زوجها ينجدها شعرها الطويل كما في‬

‫‪15‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫اسطورة الجازية الهاللية ‪(.‬انكشف منقار انفها واصبع رجلها الاكبر فدعت على الاول بضربة‬
‫برد والثاني بلطمة حجر)‪ .‬و الامثلة كثيرة عن التطير والتقديس لبعض الكائنات الحيوانية‬
‫التي نألف حضورها بيننا مثلما يذكر لنا د‪ .‬عزالدين عناية عن ريف في الساحل التونس ي‪،‬‬
‫(‪ )...‬كالتطير من طائر الصرد (البوبشير )كونه يبشرنا بقدوم املطر(والحقيقة انه يورد حديث‬
‫للنبي يمنع فيه اصطياده)‪ ،‬او التطير من البوم كون نعيقه يذكرنا بالنحيب عن امليت‪ ،‬اما‬
‫طائر الخطاف او السنونو الذي تفتح له البيوت تبركا وحين يقبض عليه يمسح على رأسه‬
‫بالزيت ويضعون في رجله خيطا احمر ويطلقون سراحه مرددين "يا خرطيفة هكة وهكة ‪(.‬مع‬
‫تحريك اليدين يمنة و يسرة في تقليد لحركة جناحيه) ‪..‬سلميلي على بيت مكة"‪ 1 .‬لكون‬
‫الانسان الريفي العاجز عن الحج (ملن استطاع اليه سبيال)يعتقد ان هذا الطائر ينوب عنه‬
‫هذه الفريضة ‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫في اليونانية (‪ )Icon‬تعني التشابه والتماثل‪ ،‬و ترجمت إلى (‪ )Imago‬في الالتينية و‬
‫(‪ )Image‬في الفرنسية‪ ،‬مع اختالف في النطق‪ .‬ويتفق معجما الروس(‪ )Larousse‬وروبير(‪، )Robert‬‬
‫على أن الصورة هي إعادة إنتاج ش يء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما‪ ،‬كما يشيرا إلى أن‬
‫الصورة الذهنية (‪ )Image mentale‬تحيل على معنى التمثل (‪ ،)Répresentation‬وهو تمثل تخييلي‬
‫(‪ )imaginaire‬ومنها (‪ )imagination‬الخيال او التخيل‪.‬‬
‫فالصورة رسم ذهني تخيلي لش يء يستوحى من الواقع فيعيد تمثله بشكل اخر ‪.2‬‬
‫تتحدد في معناها ألاصلي‪ ،‬باعتبارها إعادة إنتاج طبق ألاصل‪ .‬والفلسفة كانت‬ ‫ّ‬ ‫فالصورة‬
‫تستبعد الصورة بناء على التقليد ألافالطوني الذي يستبعد العالم الحس ي‪ ،‬ذلك أن الصورة‬
‫واملفهوم يتقابالن راديكاليا‪ .‬فالصورة في معناها الدقيق تمثل الشكل املحسوس لش يء خاص‪،‬‬
‫واملفهوم هو الفكرة الكونية او ما يسميه افالطون املثال (‪ ، )idée‬ولذلك ارتبطت الصورة‬
‫قديما بالعجائبي واملقدس دوما‪ .‬ما جعلها في ثقافتنا العربية الاسالمية موضع تحريم‪،‬‬

‫‪(. 1‬انظر يف هذا الشان الدراسة اليت اعدها د‪.‬عزالدين عناية عن املوروث االسطوري جملتمع املشهد ملنطقة السد القبلي من اوالد علي‬
‫من والية سوسة وردت يف جملة كتابات معاصرة العدد‪ 33‬ايلول ‪1111‬بريوت لبنان)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫التعريف من مقال لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة ‪.‬ورد في موقع انفاس‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫الرتباطها بإعادة الخلق استنادا إلى املخيلة واملصورة ‪ ،‬ما يجعل من املصور او النحات صانعا‬
‫للصور يتشبه في فعله باالله الخالق‪ ( .‬التحريم ورد صراحة في الاحاديث النبوية والتشديد‬
‫على تحريمها دفعا لشبهة الوثنية )‪.‬‬

‫وفي ذلك يرى ابن منظور أن الصورة ترتبط بالتخيل والتوهم‪ ،‬فتصورت الش يء توهمت‬
‫صورته‪ ،‬والتصاوير التماثيل‪.‬‬
‫ولعل هذا ما جعل ريجيس دي براي ّ‬
‫يقسم تاريخ الحضارات‪،‬‬
‫إلى ثالث عصور محكومة بنظم سلطوية متناسبة مع الشكل‬
‫الذي تتخذه الصورة في ّ‬
‫كل عصر‪:‬‬

‫‪-‬عصر الخطاب او اللوغوسفار ‪ : logosphère‬وشكل صورته هو الصنم الذي يتطلب‬


‫الرهبة‪ ،‬حيث كانت الصور تستعمل اقنعة للموتى او تماثيل للعبادة ‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪-‬عصر ألاشكال او القرافوسفار ‪ :graphosphère‬وشكل صورته الفن الذي يتطلب الحياة‪،‬‬
‫وهو عصر الكتابة ظهر بظهور املطبعة وانتشار الكتاب‪ ،‬فاستعاد املرئي مكانته كفن تشكيلي‪.‬‬

‫‪-‬عصر الشاشة أو الفيديوسفار ‪ :videosphère‬وشكل صورته هو الصورة البصرية التي‬


‫تمتلئ بالحركة والتي ظهرت وانتشرت مع انتشار السينما و التلفزة ثم الحاسوب‪.‬‬

‫هذا التحول في نظام الصورة من مجرد رمز تقديس ي‪ ،‬الى عالمة متعددة الداللة خاصة بعد‬
‫التطور التقني في أنظمة البث الاتصالي الحديث مع ظهور الانترنت واندماج الصورة والحركة‬
‫باملعلومة‪ ،‬في "العصر املرآوي" كما يسميه مطاع صفدي أو عصر "حضارة الصورة " كما سماه‬
‫روالن بارط = وهو العصر الرابع إن شئنا اضافة ملا دونه ديبراي عصر امليدياسفار‬
‫(‪. 3)mèdiasphère‬‬

‫‪3 3‬‬
‫منذ أن تحدث آبل جونز سنة ‪ 1121‬عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا‪ ،‬وقد أشار‬
‫بعده الناقد والمحلل السيميائي روالن بارط (‪ )Roland Barthes‬في مقالته المشهورة "بالغة الصورة" في مجلة "تواصالت" عدد ‪4‬‬
‫سنة ‪ 1114‬بأننا نعيش "حضارة الصورة"‪ ،‬بالرغم من التحفظات التي أبداها بارط بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه‪ ،‬حيث إن حضارة‬
‫الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية‪ ،‬مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا (‪ )Système sémiotique‬ال يمكن‪،‬‬
‫كما يرى بارط‪ ،‬أن يدل أو يخلق تدالال(‪ ) Sémiosis‬تواصليا إال من خالل التسنين اللساني‪ ،‬فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في‬
‫غياب العالمات(‪ ) Signe linguistique‬اللسانية‪ ،‬ألن معانيها عائمة متعددة‪ ،‬والتواصل ال يتم بتاتا من الفراغ ‪(.‬المالحظة من مقال‬
‫لعبد المجيد العابد عن مقاله الدور التربوي والتعليمي للصورة ‪.‬ورد في موقع انفاس‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫من ثم كان التصوير منذ القديم لغة‪ ،‬لها دالالتها والن الصورة تتكلم الحس ي‪ ،‬فإنه أبلغ من‬
‫أي لغة أخرى لذلك قال ألجرداس جوليان غريماس (‪ ،)A.G.Greimas‬رائد السيميائيات السردية‬
‫في تعريفه للصورة "الصورة هي كل دال"‪ ،‬وهذا التعريف هو الشائع في الدراسات السيميائية‪.‬‬

‫اذا اعتبرنا الصورة نظاما للتواصل‪ ،‬فإنها ستكون بذلك حسب‬


‫روالن بارط‪ ،‬حاملة لتمثل اسطوري شأنها شأن الاسطورة او‬
‫الكتابة‪ ،‬غير ان هذا الجمع بين الانظمة التواصلية يفسح بالنسبة‬
‫اليه مجاال لكشف القدرة التأثيرية لألشكال التواصلية‪ ،‬اذ هي‬
‫اشكال لها وظائف دالة ضمن نطاق الوضعية التي ترتبط بها داخل نسيج العالقات بين‬
‫الافراد واملجتمعات‪ .‬اين تتكون عالمات تجمع بين مفهوم وصورة او بين شكل ومعنى وتعبر عن‬
‫نسق تواصلي ‪ ،‬والصورة بالنسبة اليه ال تخلو من "الاكراه البنيوي" الذي يميز اللغة بل ان‬
‫الصورة كما يقول بارط "آمرة اكثر من الكتابة "‪ ،‬بما انها تفرض الداللة دون تحليل ودفعة‬
‫واحدة ‪ .‬ف "الصورة تصبح كتابة في اللحظة التي فيها دالة " انها مثل الكتابة‪ ،‬تدعو الى "حكم‬
‫القوة" ففي نظام الادراك ال تستدعي الصورة نفس نمط الوعي الذي تستدعيه الكتابة ‪ .‬ففي‬
‫الصورة ذاتها ثمة والشك انماط من القراءة فالرسم مهيأ للداللة اكثر من التصوير‪ ،‬واملحاكاة‬
‫اكثر من الاصل‪ ،‬والكاريكاتير اكثر من الصور الذاتية "‪.‬‬

‫ومن هذا املنطلق‪ ،‬فإن سلطة الصورة تكون كبيرة على الحس املشترك خاصة وان الصورة‬
‫تعكس رغبة من قام بأخذها‪ ،‬اكثر مما تعكس الواقع‪ .‬ذلك ان سلطة الصورة‪ ،‬تستند الى ميل‬
‫الانسان الى تحويل حاجاته الى معرفة‪ ،‬أي الاعتقاد في ما يريد رؤيته‪ .‬ومن هنا يتأتى استخدام‬
‫الصور كأداة في الخطاب الديني امال في خلق الخلط بين واقع الصورة والواقع الذي تتمثله‪،‬‬
‫وكذلك الشأن في الحروب الاعالمية املوجهة ايديولوجيا‪ ،‬بل وحتى في الخطاب الاشهاري ونظام‬

‫‪18‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬
‫‪4‬‬
‫املوضة‪ .‬فغدا عصرنا بامتياز عصر "حضارة الصورة " بلغة بارط او هو "العصر املرآوي" ‪.‬‬

‫غير ان ديبور‪ ،‬يذهب الى ابعد من ذلك في تفكيك دالات الصورة نحو ربطها باالجتماعي‪ ،‬حتى‬
‫تتجلى الصورة ك "فرجة" أو "مشهد" ‪ .spectacle‬فهذا التراكم الهائل للصور كبضاعة‬
‫لالستهالك‪ ،‬جعل ديبور يتحدث عن املجتمعات املعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة‪ ،‬و تمثل‬
‫الفرجة‪ ،‬عنده‪ ،‬رؤية كلية للحياة وهي أساسا ترسانة من الصور املؤثرة على املشاهد‪ ،‬ما من‬
‫شأنه أن ينتج ما سماه ب"الاستبعاد املعمم"‪ ،‬الذي يمثل وجها من وجوه الاغتراب‪ .‬اغتراب له‬
‫تطوع الصورة والكلمة لتشكيل‬‫تستمد من ألاساس الاقتصادي‪ ،‬بحيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫قدرة تأثيرية بالغة‪،‬‬
‫الوعي الزائف‪ .‬إنه تأثير يغري الجموع صنعه مخطط الاقتصاد الليبرالي‪ ،‬للتحكم في صفوف‬
‫الناس وإبعادهم عن مشاغلهم الحقيقية عبر التشبه بسلوك املشاهير والنجوم‪ ،‬الذين‬
‫يتصدرون الفرجات الاشهارية‪ .‬وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور الباهرة وأشكال‬
‫الترفيه املغرية‪ ،‬يتحول إلانسان املستهلك للسلع إلى مستهلك لألوهام‪ ،‬والصورة التي كانت في‬
‫تحولت إلى عنصر تأثير مفسد للتواصل الحقيقي‬ ‫ألاصل تبلغ الداللة وتحدث التواصل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ومعطل للحوار بين الذوات‪.‬‬

‫‪ )4‬حدود االنظمة الرمزية ‪:‬‬


‫ان تحول الرمز الى نظام ‪ ،‬يعطيه القوة على الفعل والتأثير‪ ،‬انه يصبح رأسمال رمزي شديد‬
‫التأثير تمتلكه "سلطة رمزية " كما يسميها بيار بورديو‪ ،‬تخترق العالقات الاساسية واملادية‬
‫التي تربط الحاكم باملحكوم ‪ ،‬الباث واملتقبل ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد ‪ 28-28‬لسنة ‪ – 6991‬عن مركز االنماء العربي – بيروت لبنان‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫ولكن كيف تعمل هذه السلطة ؟ وما هي نتائجها على الوسيط واملتقبل؟‬

‫يجيب بورديو بأننا لسنا مخيرين في اعتماد واحد من نموذجين‪ :‬النموذج الطاقي او النموذج‬
‫السيبرنطيقي ‪.‬الاول يعتمد براديغم ميكانيكي يفهم الحركة الاجتماعية لألفراد واملجموعات وما‬
‫ينتجونه بما هو مولد لطاقة فعل يستغلها الحاكم او املتحكم بهذه الوسائط ‪ ،‬والثاني يعتمد‬
‫براديغم أداتي يعمل على توجيه السلوك والتحكم فيه نحو ما يخدم مشروعا ما ‪( ،‬سياس ي او‬
‫اقتصادي او اجتماعي ‪ )...‬ما يجعل الافراد كالكائنات الروبوتية امام الوسائط ‪(.‬البروباغاندا‬
‫السياسية – سبر الاراء‪-‬الاشهار ‪.)..‬ما يجعل من هذه الوسائط "سلطة رمزية قادرة على التأثير‬
‫‪5‬‬
‫الفعلي دون بذل للطاقة )‪.‬‬

‫ويجيب ديبراي عن السؤال ذاته كيف تعمل السلطة ؟ سلطة الرموز‪ ،‬بأن طبيعة الوسيط‬
‫(النظام الرمزي بشكل عام)انه قابل لالنعكاس‪ ،‬بما "يسمح للعقل ان يصبح قوة‪ ،‬وللقوة بأن‬
‫ّ‬
‫تنش ئ لها عقال "‪ ،‬والكالم لديبراي مشكال "جانوس"‪( JANUS‬كائن خرافي عند الرومان هو اله‬
‫البدايات عندهم بوجهين ملتصقين واحد ينظر للماض ي والاخر للمستقبل)‪ ،‬شبيه بالتنين عند‬
‫هوبز يمسك بيد سيفا و باألخرى مرشة املاء املقدس‪ .‬فعالقة القوة والعقل تختصر اليوم في‬
‫عالقة املثقف بالسلطة‪ ،‬او كما تريد السلطة للمثقف ان يكون ‪.‬ففعل الهيمنة ذو حدين كما‬
‫يرى ديبراي‪ ،‬ألن " التعميم والخصخصة‪ ،‬يصطدم كالهما بأداة التحول املادي او الوسيط‪،‬‬
‫فهو موضع صراع مرير بين الدولة و الانتلجنسيا (املثقفون)‪ .‬ألن السلطة السياسية تؤثر من‬
‫خالل الوسيط"‪ ،‬ودور الوسيط أنه يحول الفعل التواصلي (اي الفكر) الى عامل سياس ي‪ ،‬و‬
‫السلطة السياسية الى فكر هدفه وغايته املشتركة هي املحكومون‪ .‬وهكذا فإن "الصور التي‬
‫ترينا العالم – كما يقول ديبراي ‪ -‬هي ايضا ما يعمينا عن النظر اليه "‪.‬‬

‫اذن‪ ،‬فليست الرموز غاية في ذاتها بل في ما تنتجه من سلطة وقوة ‪ ،‬وفي تحولها الى رأسمال‬

‫‪5‬‬
‫يسميها الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير االجهزة االيديولوجية للدولة على نقيض االجهزة المادية القمعية وهي تصنع قمعا اشد‬
‫وطأة من االجهزة المادية‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫رمزي او جهاز أيديولوجي ‪ ،‬يعمل على التحكم في الجماهير وتوجيههم الى ما يريده و يرضاه رأس‬
‫املال املادي ‪.‬‬

‫الى ذلك ستتحول وسائل الاتصال الحديثة – خاصة مع ظهور مجتمعات الوفرة والاستهالك‬
‫ثم زمن العوملة – الى ما يشبه القيتوات ‪( ghetto‬محتشدات او سجون مغلقة )‪ ،‬تعزل فيها‬
‫الافراد ويتم اغراقهم في ايديولوجيا معممة‪ ،‬يتم التحكم بها عن بعد كما يكشف عن ذلك كل‬
‫من فيلسوفا مدرسة فرانكفورت النقدية تيودور ادورنو و ماكس هوركهايمر‪( ،‬انظر‬
‫النص في الكتاب املدرس ي ازمة التواصل اليوم ص ‪ .)111‬ففي نقدهما للمجتمع املفتوح‪ ،‬مجتمع‬
‫الرأسمالية املعاصرة بين فيلسوفا النقدية املعاصرة أن وسائل التواصل بقدر ما عملت على‬
‫ربط الصلة بين الافراد في ما بينهم عن طريق وسائل الاتصال الحديثة‪ ،‬بقدر ما عزلتهم‬
‫واعمتهم بخطابات مضللة كاذبة‪ ،‬فأضحى التقدم يفرق بين الناس " كما يقوالن ‪" :‬فالخطاب‬
‫الكاذب ملذيع الراديو ينطبع في ادمغة الناس ويمنعهم من التحدث ودعاية البيبس ي كوال‬
‫تحجب الاخبار املتعلقة بانهيار قارات باسرها‪...‬ولم يعد يسمح زجاج املكاتب الحديدية (ملكاتب‬
‫البريد او املحطات)للموظف بالثرثرة واملزاح مع زميله"‪ ،‬بل لم يعد املوظف قادرا على اضاعة‬
‫الوقت "انهم منعزلون داخل الجماعة "‪.‬‬

‫كذلك فعلت السيارة الخاصة او التلفزيون اليوم لألسرة‪ ،‬اذ عمل على عزل افرادها بعضهم‬
‫عن بعض تماما فلم يعد ثمة وقت للحوار او للجلسات الحميمية داخل العائلة‪ .‬فتنكشف لنا‬
‫مفارقة عجيبة ألنظمة التواصل الحديثة‪ ،‬يعبر عنها ادورنو و هوركهايمر بقولهم‪" :‬ان‬
‫الاتصاالت تحقق التماثل بين الناس وذلك بعزلهم"‪.‬‬

‫وغير بعيد عن ذلك ما يذهب اليه بودريارد‪ ،‬من ان كل الوسائط تمثل رسائل تخضع املشاهد‬
‫لإلكراه والقصر‪ ،‬فاإلنسان املعاصر محكوم بنظام عالمات تمثل بدائل عن الواقع"‪ ،‬ذلك ان‬
‫املضمون يحجب عنا في معظم الاحيان الوظيفة الحقيقية للوسيط ‪ ،‬فهو يقدم نفسه كرسالة‬
‫" وفي الاخير يكون "استهالك الرسالة هو ذاته الرسالة " ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫األستاذ‪ :‬اهلادي عبد احلفيظ‬
‫قابس ‪0200/0202‬‬ ‫معهد حي االمل‪-‬‬

‫انها رسالة تمجيد املضمون‪ ،‬بوصفه عالمة‪ ،‬فنسقط هكذا في عبودية جديدة‪ ،‬وشكل اخر‬
‫لالغتراب يكون الانسان فيه هو ذاته الاداة واملشروع‪ ،‬ويصبح مجتمع املشهد هو ذاته الصنم ‪.‬‬
‫استنتاجات‪:‬‬
‫وهذا يعني أن ّ‬
‫كل نظام رمزي‪ ،‬بقدر ما ينتج صورة هي مجال وسائطي‪ ،‬فإنه يشكل في الوقت‬
‫نفسه وعيا زائفا‪ ،‬فأزمة الوسائط ‪ -‬كما يبدو‪ -‬ال تتعلق بكثرتها وباختالفها و ال بتعدد وظائفها ‪،‬‬
‫وال بهيمنة أحدها على ألاخرى‪ ،‬بل بمحاوالت توظيفها وتحويلها الى أدوات سلطة‪ .‬و أزمة‬
‫التواصل اليوم ترتبط ايضا بهذا الصعود القوي للصورة‪ ،‬واملكانة التي أصبحت تحتلها‬
‫كوسيط أساس ي‪ ،‬وكوسيط ال يعكس فقط إرادة التواصل في أخالقياته إلانسانية‪ ،‬بقدر ما‬
‫يعكس إرادة املهيمن على التأثير عبر الصورة كنسخة تدعي التطابق مع الواقع ‪.‬‬

‫ما يدعونا مجددا الى اعالء الخطاب الفلسفي خطاب العقل‪ ،‬في وجه الخطاب ألاداتي من‬
‫اجل "إتيقا للحوار والتواصل " نراها ضرورية اليوم ‪ ،‬لفن "عيش مشترك" ممكن‪ ،‬هو شرط‬
‫وغاية الكوني الانساني ‪.‬‬

‫‪Abunadem.marzouki@gmail.com‬‬

‫‪22‬‬

You might also like