You are on page 1of 5

‫‪04/11/2022 12:32‬‬ ‫الحداثة‪ -‬ما بعد الحداثة‪ -‬بعد ما بعد الحداثة – مركز ُخ طوة للتوثيق والدراسات‬

‫‪‬‬
‫بحث‬

‫‪      ‬‬ ‫الحداثة‪ -‬ما بعد الحداثة‪ -‬بعد ما بعد الحداثة‬


‫‪ 2,125‬زيارة‬ ‫‪‬مقاالت ثقافية
‬ ‫‪ 20‬سبتمبر‪ 2021 ،‬‬ ‫‪‬مهجة مشهور

‫الحداثة – ما بعد الحداثة – بعد ما بعد الحداثة‬

‫أ‪ .‬مهجة مشهور *‬

‫دخل على معجمنا الثقافي على مر السنوات الكثير من المصطلحات المعبرة عن التطور الحادث على مستوى العالم‪ ،‬وقد‬

‫أصبحت تلك المصطلحات تستخدم كثيرا دون إدراك حقيقي لما تحمله من معان كامنة‪.‬‬

‫ويسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على ثالث مصطلحات تعبر عن األوضاع الفلسفية واالجتماعية واالقتصادية والسياسية‬

‫والثقافية للعالم الذي نعيش فيه‪ .‬هذه المصطلحات هي الحداثة‪ ،‬وما بعد الحداثة‪ ،‬وبعد ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن هذه المصطلحات تعبر فقط عن الرؤية الغربية لكل مرحلة تاريخية وما شهدت من تطورات‪ ،‬فمثال العصور‬

‫الوسطى ينعتها المفكرون الغربيون بأنها العصور المظلمة‪ ،‬في حين أنها كانت في العالم اإلسالمي هي عصور نهضة دينية‬

‫وعلمية واجتماعية هائلة‪ .‬كذلك عصر الحداثة بما شهد من انفصال الكنيسة عن مركز الدولة باإلضافة للتطورات العلمية‬

‫والتكنولوجية ال يعبر مطلقا عن األوضاع في العالم العربي واإلسالمي‪.‬‬

‫ولكن أهمية تفهم الحداثة وما بعد الحداثة نابع من كونها مفاهيم تسللت الينا بكل ما تحمل من معان وسمات ورؤى مناقضة‬

‫ألوضاعنا ولكنها أصبحت في غفلة من الزمان جزء ال يتجزأ من تكويننا العقلي ومن طبيعة حياتنا اليومية‪.‬‬

‫الحداثة ‪Modernism‬‬

‫يعبر مصطلح “الحداثة” عن الحقبة الزمنية التالية لفترة العصور الوسطى بما تحمل هذه األخيرة من سمات أساسية تتلخص في‬

‫سيطرة الكنيسة على الحياة العامة والحياة السياسية‪ ،‬وفي البطء الشديد في التطور العلمي واالقتصادي‪ ،‬وانتشار األوبئة‬

‫والحروب‪ ،‬واالنتقال إلى مرحلة جديدة تحمل قفزات علمية وتكنولوجية واقتصادية كبيرة‪ ،‬ويتحرر فيها الغرب من سلطة الكنيسة‬

‫على كافة مناحي الحياة‪.‬‬

‫‪   ‬ويختلف الفالسفة في تحديد بداية عصر الحداثة ونهاية العصور الوسطى‪ ،‬فيرى البعض أن عصر الحداثة بدأ عام ‪1436‬م مع‬

‫اختراع جوتنبرج آلة الطباعة‪ ،‬والبعض اآلخر يرى أنها بدأت عام ‪1520‬م مع الثورة اللوثرية ضد سلطة الكنيسة‪ ،‬ومجموعة ثالثة تربط‬

‫بين الحداثة والثورة الفرنسية عام ‪1789‬م‪.‬‬

‫وتشتمل الحداثة على مجموعة كبيرة من التغيرات االقتصادية والسياسية واالجتماعية والعلمية والتي تتصدرها اإلنجازات‬

‫التكنولوجية والعلمية الضخمة‪ ،‬أما على المستوى الفلسفي فأدى بروز الفكر المادي العقالني إلى تشكيل الحضارة الغربية‪،‬‬

‫وعلى المستوى االقتصادي ظهرت النظرية الرأسمالية (بقيادة آدم سميث) والنظرية االشتراكية (بقيادة كارل ماركس)‪  .‬‬

‫والرؤية الفلسفية للحداثة أو نموذجها المعرفي هو نموذج عقالني نفعي مادي‪ ،‬وهو النموذج الكامن وراء معظم معارف هذا العصر‬

‫وعلومه‪ .‬ويظن الكثيرون أن نجاح هذا النموذج يثبت أنه نموذج منطقي عقالني عالمي‪ ،‬يعبر عن الطبيعة البشرية في كليتها‪،‬‬

‫ولكنه في حقيقة األمر يعبر عن جانب منها وحسب‪ .‬ويستبطن هذا النموذج سماتا أساسية هي‪:‬‬

‫أواًل ‪ :‬كل ما في هذا العالم له جوهر واحد هو المادة‪ ،‬ويتسم هذا العالم بالسببية الصلبة الكاملة‪ ،‬بمعنى أن كل شيء له سبب‬

‫مادي‪ ،‬وأن (أ) ستؤدي حتما إلى (ب) دائما وأبدا إن تكررت نفس الظروف‪ .‬والكائنات كلها تخضع لمنطق تطوري‪.‬‬

‫في هذا العالم المادي ال يوجد فارق كبير أو جوهري بين اإلنسان والطبيعة‪ .‬فاإلنسان إن كان كيانا مختلفا عن الطبيعة فإنه‬

‫سيشكل ثغرة وانقطاعا في النظام الطبيعي المادي المتماسك المطرد‪ ،‬إذن فالظاهرة اإلنسانية تشكل متصال واحدا مع الظواهر‬
‫‪‬‬
‫الطبيعية التي يسري عليها القوانين نفسها التي تتجاوز الغائيات واألبعاد الدينية واإلنسانية‪.‬‬

‫وكان سبينوزا ‪ )Spinoza   (1632-1677‬الفيلسوف الهولندي هو رائد هذا التوجه في الفكر الغربي‪ ،‬فرغم أن “هللا” قد أخذ عند‬

‫سبينوزا مساحة عريضة في فلسفته اال أن هللا لديه ليس هو هللا الذي نؤمن به من الكتب السماوية‪ ،‬فاهلل لديه ليس مفارقا عن‬

‫الطبيعة أو عن الوجود‪ ،‬ولكن هللا لديه هو الكون وقوانينه‪ .‬وبالتالي فقد حَّول اسبينوزا العالم إلى منظومة واحدية رياضية مصمتة‬

‫اإلله فيها هو الطبيعة‪ ،‬وقوانينه هي قوانين الطبيعة والمادة‪ ،‬واإلنسان فيها ال يختلف عن أي شيء مادي في الكون‪ .‬واعتبر العديد‬

‫من مؤرخي الفكر الغربي الحديث اسبينوزا أول إنسان علماني‪ ،‬فقد ترك اليهودية ولم يعتنق دينا آخر بل أسس لرؤيته الجديدة‬

‫التي تدور حول تأليه الطبيعة وتأليه اإلله‪  .‬‬

‫ثانًيا‪ :‬تنطلق المنظومة المعرفية المادية الحديثة من إعالن أن مركز الكون كامن فيه وليس متجاوزا له‪ .‬وهذا يعني أن اإلله إما غير‬

‫موجود أساسا‪ ،‬أو أنه موجود وال عالقة له بالمنظومات المعرفية واألخالقية‪ .‬أي أن ثنائية الخالق والمخلوق تصفى تماما‪.‬‬

‫وكان رائد هذا التوجه في الفلسفة الغربية والذي القى رواجا كبيرا في الفكر الغربي هو نيتشه ‪)Nietzsche (1844-1900‬‬

‫الفيلسوف األلماني الذي اكتشف أن العالم الذي يصبح اإلله فيه قانونا طبيعيا والذي تتحكم فيه حركة المادة هو عالم “موت‬

‫اإلله”‪ ،‬أي عالم مادي تماما ال قداسة فيه‪ ،‬محايد ال قيمة فيه وال غاية‪ ،‬ال كليات فيه وال مطلقات‪ .‬وقد جاءت فكرة “موت اإلله”‬

‫كدعوة لتحطيم القيم البالية والقضاء على مفهومي الخير والشر من منظور األديان‪ ،‬وكذلك الثواب والعقاب والجنة والنار‪ .‬ويدعو‬

‫نيتشه عبر هذه الفكرة إلى رفض ما هو مطلق وكذلك كل القيم المستمدة من العالم الميتافيزيقي واالهتمام بالعالم المادي‬

‫وحده‪.‬‬

‫وقد أكد نيتشه أيضا على فكرة “إرادة القوة” وعلى صراع األقوياء الذي هو صراع طبيعي‪ ،‬وأن إرادة القوة هي الوسيلة الوحيدة‬

‫لتحقيق السعادة في هذا العالم‪ .‬فإرادة القوة عنده هي جوهر الحياة‪ .‬أما الحقيقة فهي نسبية ألنها تعتمد على ما تراه إرادة‬

‫القوة محققا ألهدافها‪ .‬ويتغنى نيتشه دائما بـ “اإلنسان األعلى” الذي يحطم كل القيم وكل المقاييس البشرية بحيث ال يكون‬

‫لإلنسان األعلى أي عقبات أمامه بما فيها اإلله‪ .‬فاإلنسان األعلى ليس لطموحه حد فهو دائم التطور‪ .‬ومفهوم “اإلنسان األعلى”‬

‫جاء نتيجة تأثر نيتشه بداروين ‪ )Darwin(1809-1882 ‬ونظرية التطور التي ظهرت في كتاب “أصل األنواع” ‪ Origin of Species‬في‬

‫عام ‪ 1859‬أي قبل تسعة عشر عاما فقط من كتابة نيتشه لكتابه “هكذا تكلم زرادشت” ‪Like this talked   Zoroaster ‬والذي‬

‫يتضمن خالصة فلسفته‪ .‬فاإلنسان –حسب نظرية التطور‪ -‬هو الصورة األكثر تطورا من جميع الكائنات الحية‪  .‬‬

‫ثالًث ا‪ :‬ثم ظهرت الرؤية اإلنسانية الهيومانية التي جعلت اإلنسان مركزا للكون بل وألهته‪ .‬وقد احتفى أدب عصر النهضة في الغرب‬

‫بتلك اللحظة في تاريخ اإلنسان‪ ،‬فهي تصوره على أنه سيد الكون وكل المخلوقات‪ .‬وهنا عادت ثنائية اإلنسان والطبيعة ولكن على‬

‫أسس مادية وداخل إطار مادي‪.‬‬

‫إذن فقد قامت الحداثة على رؤية تركز على العقل المادي وعلى الحقائق الحسية العقلية فقط‪ ،‬تلك الحقائق القابلة للقياس‬

‫ؤق‬ ‫أ‬ ‫ة‬ ‫الط‬ ‫لف‬ ‫ا‬ ‫ةف ط‬ ‫فة‬ ‫فة‬ ‫فال‬ ‫ا‬ ‫ا ذلك فأ‬ ‫ا‬ ‫ل ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ك‬ ‫ال‬
‫‪/‬الحداثة‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحداثة‪-‬بعد‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحد‪www.khotwacenter.com/‬‬ ‫‪1/5‬‬
‫‪04/11/2022 12:32‬‬ ‫الحداثة‪ -‬ما بعد الحداثة‪ -‬بعد ما بعد الحداثة – مركز ُخ طوة للتوثيق والدراسات‬
‫والتي يمكن مشاهدتها وتعقلها وما وراء ذلك فأوهام‪ .‬فالمعرفة هي معرفة حسية فقط‪ .‬وما هو مجهول في الطبيعة هو أمر مؤقت‬

‫سيصبح معلوما من خالل تراكم المعلومات‪ ،‬وبالتالي ستتراجع رقعة المجهول بشكل مضطرد وتتزايد رقعة المعلوم بما يسمح‬

‫بالمزيد من التحكم المادي عليها‪.‬‬

‫وقد ترجمت هذه العقالنية المادية نفسها إلى ما يسمى بـ (حركة االستنارة)‪ ،‬التي ذهبت إلى أن عقل اإلنسان قادر على‬

‫الوصول إلى قدر من المعرفة ينير له كل شيء‪ ،‬ويعمق من فهمه للواقع ولذاته‪ .‬وكان االفتراض أن هذه المعرفة هي التي تضفي‬

‫على اإلنسان مركزية في الكون‪ ،‬وهي التي ستمكنه من تجاوز عالم الطبيعة ومن تغيير العالم والتحكم فيه‪ ،‬بحيث يصبح‬

‫اإلنسان إلها أو بديال لإلله أو ال حاجة به اليه‪ ،‬يًولد من داخل ذاته معياريته‪ ،‬وهذا هو جوهر النزعة اإلنسانية (الهيومانية)‪.‬‬

‫وهذه الرؤية االستنارية يطلق عليها ماكس فيبر ‪)Max Weber (1864-1920‬اصطالح “ديانة عالمية” ‪ ، World Religion‬بمعنى أنها‬

‫تزود اإلنسان برؤية شاملة للكون‪ .‬فهي تحاول أن تجيب عن معظم األسئلة المباشرة والجزئية الخاصة بتفاصيل حياته‪ ،‬وكذلك عن‬
‫‪‬‬
‫األسئلة النهائية والكلية الخاصة بأسباب وجوده ومسار حياته ومآلها‪ ،‬كما تزوده بأنساق معرفية وأخالقية وجمالية يدير من خاللها‬

‫حياته‪ .‬هذه الرؤية االستنارية تولد لدى اإلنسان ثقة بالغة بنفسه وبمقدراته‪.‬‬

‫وقد نجحت الفلسفة العقالنية المادية في أن تقضي إلى حد كبير على األساس الديني وغير المادي للمعرفة واألخالق‪،‬‬

‫وأسست نظما معرفية وأخالقية تستند إلى نقاط ثبات مثل العقل والطبيعة البشرية والقوانين العلمية‪ ،‬وهي مطلقات مادية تتمتع‬

‫بقدر من الثبات ويفترض أنها تستند إلى مركز تدور حوله األشياء‪.‬‬

‫أما على المستوى األخالقي فإن العالم المادي ال يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات‪ ،‬وال يوجد لدى اإلنسان سوى‬

‫المنفعة واللذة وتعظيم اإلنتاج بهدف تعظيم االستهالك‪.‬‬

‫وقد تشكلت هذه المنظومة على مستوى الممارسة التاريخية اإلمبريالية الغربية‪ ،‬فأصبح الصراع قانون الحياة األوحد‪ ،‬وبدال من أن‬

‫يصبح العالم مادة استعمالية لكل الجنس البشري أصبح العالم ومعظم البشرية مادة استعمالية للجنس األبيض‪ .‬وبدال من أن‬

‫يقف اإلنسان في مركز الكون وقف اإلنسان األبيض فقط فيه وعمل على الحفاظ على هذه المركزية وفرضها على اآلخرين‪ ،‬فحول‬

‫قارتين كاملتين‪ -‬هما آسيا وأفريقيا‪ -‬إلى مصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة والى أسواق لمنتجاته‪.‬‬

‫وأخيرا فقد أفصحت‪  ‬هذه الرؤية عن وجهها المادي من خالل مجموعة من القيم الحاكمة الكبرى مثل “الصراع من أجل البقاء”‪،‬‬

‫“البقاء لألصلح ولألقوى” واإليمان بأن “اإلنسان ذئب ألخيه اإلنسان”‪ ،‬والهجوم على أخالق الضعفاء وتمجيد اإلنسان األقوى‬

‫(السوبرمان)‪ .‬هذه القيم نبعت من الفلسفات المادية الغربية التي وصلت إلى قمتها في أعمال داروين ونيتشه التي تؤكد على‬

‫أن القيم المادية البيولوجية الصراعية تحكم كال من عالم الطبيعة والغابة وعالم اإلنسان والحضارة‪ ،‬وأن آلية التطور الوحيدة هي‬

‫الصراع الدائم والشرس وأن المرجعية الوحيدة لكل من الطبيعة واإلنسان هي القوة‪.‬‬

‫ما بعد الحداثة ‪Postmodernism‬‬

‫“ما بعد الحداثة” ‪Postmodernism‬هي حركة فكرية نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين كرد فعل لعصر الحداثة‪ ،‬وما نتج‬

‫عنها من مشكالت متعددة في كافة المجاالت‪ ،‬بداية من مشكلة التلوث البيئي وتغير المناخ‪ ،‬إلى انتشار الحروب وتطوير أسلحة‬

‫الدمار الشامل ونهب خيرات العالم الثالث‪ ،‬إلى مشكلة تزايد الفجوة بين األغنياء والفقراء وازدواجية المعايير الدولية‪.‬‬

‫فما بعد الحداثة هي تمرد على سطوة التيارات الحداثية الكبرى لعدم قدرتها على تفسير الواقع بمآالته الجديدة سياسيا ونفسيا‬

‫واقتصاديا ولغويا واجتماعيا وفلسفيا‪ .‬فالنظريات الكبرى مثل الماركسية والتقدم والعقالنية والعلم الموحد فقدت جميعها شرعيتها‬

‫في مجتمع ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫وفكر ما بعد الحداثة فكر تقويضي معاد للعقالنية وللكليات‪ ،‬سواء أكانت دينية أم مادية‪ ،‬فهو فكر يحاول أن يهرب تماما من‬

‫الميتافيزيقا ومن الحقيقة والمركزية والثبات‪ ،‬ويحاول أن يظل غارقا في الصيرورة‪ ،‬فهو تعبير متبلور عن المادية الجديدة السائلة‬

‫التي تعمل على إخراج العقالنية من مركز االهتمام لتصبح مقوالت “الالوعي” و”الالعقالنية” هي أصل األشياء إلى أن أعلن دريدا‬

‫عن خلخلة كل المراكز وانهيار منظومة المعاني تماما‪.‬‬

‫إذن ففي مرحلة “ما بعد الحداثة” يرضخ اإلنسان الغربي تماما إلدراكه إخفاق مشروع التحديث‪ ،‬وقد استلهم مفكري ما بعد‬

‫الحداثة مقوالت نيتشه‪ ،‬كما استلهمها أيضا –وللغرابة‪ -‬مفكري الحداثة‪ ،‬فإذا كانت الحداثة قد اعتمدت على فكرة موت اإلله عند‬

‫نيتشه فقامت برفض المركزية اإللهية والغيبيات وما ترتب عليها من قيم‪ ،‬وتبنت فكرة إرادة القوة ومبدأ الصراع‪ ،‬فقد ألهم نيتشه‬

‫مفكري ما بعد الحداثة بنفس هذه المقولة “موت اإلله”‪ ،‬فقاموا بإنكار وجود أية نقطة ثابتة أو صلبة أو أية مرجعية متجاوزة‪ ،‬والدعوة‬

‫للتحرك داخل إطار مادي طبيعي يتسم بالسيولة الكاملة ويساوي بين األشياء كلها ويسويها‪ .‬فقد قام مفكرو ما بعد الحداثة‬

‫بتحطيم كل ما كان الفالسفة يسمونه مقدسا وخيرا وحقا وجميال ومطلقا وكليا‪ ،‬وقاموا بتطهير اإلنسان من أية قيم وثوابت وكليات‬

‫وغايات‪ ،‬بحيث يصبح العالم نسقا سائال بال يقين أو معنى أو غاية أو هوية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وقد أدى نقد نيتشه الالذع للنظريات الفلسفية إلى إخراج إنسان ما بعد الحداثة من سجن “النظريات الكبرى” إلى سجن الشك‬

‫والريبة والعدمية والعبثية وضياع المعنى والتفكيكية والتعدد الالمتناهي للتأويالت‪ .‬فالنزعة النسبية األخالقية والمعرفية في عالم‬

‫ما بعد الحداثة تجد “تصميمها” األفضل في فكر نيتشه العدمي‪ .‬وهنا اختفى “المفهوم الثابت”‪ ،‬وتم تسديد ضربة قوية لفكر‬

‫الحداثة بتقويض أي نقطة ثبات سواء أكانت العقل أو المادية أو غيره يمكن أن تستند اليها األنساق الفلسفية واألخالقية‪ .‬وهو‬

‫موقف ترجم نفسه إلى عالم ال مركز له‪ ،‬أي غير متمركز حول أي مطلق‪ ،‬عالم يتسم بالسيولة الكاملة‪ ،‬وهنا أصبح اإلنسان‬

‫يبحث عن معنى لحياته من خالل االستهالك والتوجه الحاد نحو اللذة‪.‬‬

‫إذن فاإلنسان عند مفكري ما بعد الحداثة هو مجموعة من الدوافع المادية واالقتصادية والجنسية ال يختلف في سلوكه عن سلوك‬

‫أي حيوان‪ ،‬ولذا فهو ال يستحق أي مركزية في الكون‪ ،‬كما أن إدراك اإلنسان للواقع ليس عقالنيا وإنما تحكمه مصالحه االقتصادية‬

‫وأهواؤه الجسمية‪.‬‬

‫وقد دخل مصطلح “ما بعد الحداثة” إلى معجم الفلسفة ألول مرة عام ‪ 1979‬مع نشر الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار‬

‫‪ )Jean Francois Lyotard (1924-1998 ‬كتابه “الوضع ما بعد الحداثي” “‪  ”The Postmodern Condition‬الذي يعتبر من أهم‬

‫النصوص المؤسسة لحركة ما بعد الحداثة‪ ،‬حيث قام بنقد الحداثة وإعالن سقوط األيديولوجيات الكبرى التي يسميها ليوتار‬

‫“السرديات الكبرى”‪ ،‬ومن خاللها ينتقد فكرة التنوير ألن هذه األيديولوجيات التي هي من نتاج التنوير كانت تهدف إلى التحرر‬

‫وتحقيق سعادة اإلنسان‪ ،‬ولكن ليوتار يرى أنها سقطت وفشلت فشال ذريعا‪.‬‬

‫وقد استمر ظهور نتاج منظري تيار ما بعد الحداثة بقوة في الثمانينات مع ميشيل فوكو‪ ،‬والمفكر الفرنسي جيل دولوز‪ ،‬وجاك دريدا‪،‬‬

‫ثم انتقل إلى علم االجتماع في فرنسا مع جان بودريار‪ ،‬وفي بريطانيا مع سكوت الش وأنتوني جيدنز‪.‬‬

‫ويجب اإلشارة هنا إلى أن نقاد عدة قد وجهوا طاقاتهم لمناهضة فلسفة ما بعد الحداثة‪ ،‬منهم الفيلسوف األلماني يورجن‬

‫هابرماس الذي أصدر أهم كتبه “الحداثة مشروع لم يكتمل” معتمدا على أطروحته في أن تصحيح مسار الحداثة ال يقتضي ردم‬

‫أفكارها بل تدعيمها وإخراجها من عثراتها‪ .‬كذلك نجد كتاب “أوهام ما بعد الحداثة” لتيري إيجلتون وكتاب “حالة ما بعد الحداثة”‬

‫‪/‬الحداثة‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحداثة‪-‬بعد‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحد‪www.khotwacenter.com/‬‬ ‫‪2/5‬‬
‫‪04/11/2022 12:32‬‬ ‫الحداثة‪ -‬ما بعد الحداثة‪ -‬بعد ما بعد الحداثة – مركز ُخ طوة للتوثيق والدراسات‬
‫لديفيد هارفي وغيرهم من الدراسات التي وجهت سهام النقد لتيار ما بعد الحداثة‪    .‬‬

‫ما بعد الحداثة واللغة‪:‬‬

‫من المسلم به أن اإلنسانية بأسرها تستند إلى اللغة كوسيلة للتواصل بين البشر ولالحتفاظ بثمرة الحضارات المتعاقبة‪ ،‬وذلك‬

‫حتى ال تبدأ كل تجربة إنسانية من نقطة الصفر‪ .‬والتواصل اللغوي يعني أن ثمة إنسانية مشتركة وأن ثمة ثقة في أنه يمكن‬

‫توصيل المعنى‪ .‬والهجوم على اللغة كأداة للتواصل بين البشر هو هجوم على المشروع اإلنساني بأسره‪ ،‬وعلى مقدرة اإلنسان‬

‫أن يراكم المعرفة‪ ،‬وباهتزاز فكرة الكليات وإعالء مبدأ السيولة الكاملة في ظل ما بعد الحداثة تنشأ مشكلة عالقة اللغة بالواقع‪.‬‬

‫وقد بدأ األمر على مستوى اللغة بمناقشة إشكالية قد تبدو وكأنها إشكالية لغوية محضة وهي إشكالية عالقة الدال (وهو االسم‬

‫أو اللفظ وما يساويهما من صور مرئية كعالمات المرور والرموز وغيرهم) والمدلول (هو المعنى الذي يشار اليه)‪ .‬وتشكل إشكالية‬

‫الدال بالمدلول المدخل الحقيقي لفكر عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير ‪)Ferdinand De Saussure (1857-1913‬‬

‫الذي ذهب إلى أن عالقة الدال بالمدلول عالقة اعتباطية أو عشوائية وال تستند إلى أية صفات موضوعية كامنة في الدال أو‬

‫االسم‪ .‬ولكن رغم إرهاصات السيولة والنسبية في فكر سوسير يظل هناك مركز‪ ،‬وتظل هناك عالقة بين الدال والمدلول (رغم‬

‫اعتباطية العالقة بينهما) وتظل بالتالي هناك إمكانية توليد المعنى والتواصل بين البشر‪.‬‬

‫هذا يقف على طرف نقيض من خطاب ما بعد الحداثة حينما أعلن انفصال الدال عن المدلول‪ ،‬وهذه العبارة تعني أن األسماء ال‬

‫عالقة لها بمسمياتها‪ ،‬وأن اإلشارات ليس لها عالقة بما تشير اليه‪ .‬وهذا يعني أن النسق اللغوي يسقط في قبضة الصيرورة‬
‫‪‬‬
‫والعدمية‪ .‬وهنا يكون “كل شيء مقبول”‪ ،‬فكل المعاني ممكنة ويمكنها أن تتعايش معا دون تناقضات‪ ،‬حيث تظل في حالة سائلة‪.‬‬

‫ويرى أنصار ما بعد الحداثة أن اللغة ليست أداة جيدة للتواصل‪ ،‬وبالتالي فاإلنسان ال يتحكم في اللغة بل إن اللغة هي التي‬

‫تتحكم فيه‪ ،‬وأن العالقة بين الكلمة ومعناها وبين العالمة والشيء في التوظيف اللغوي تعبير غير مباشر عن السلطة وعالقات‬

‫القوة في المجتمع‪.‬‬

‫هذه األفكار هي ذاتها البنية التحتية الفكرية التفكيكية‪ .‬وقد ظهرت “التفكيكية” على أيدي جاك دريدا ‪Jacques Derrida ( 1930-‬‬

‫‪ )2004‬زعيم التفكيكيين المتمرد على البنيوية‪ .‬فمصطلح “التفكيك” يشير على الصعيد الفلسفي الستراتيجيات محددة في قراءة‬

‫وكتابة النصوص‪ ،‬وقد تم إدخال المصطلح إلى مجال فلسفة األدب مع ثالثة نصوص نشرها جاك دريدا‪ :‬في علم الكتابة (‪،)1974‬‬

‫الكتابة واالختالف (‪ ،)1987‬الصوت والظاهرة (‪ .)1973‬وكان كتاب “في علم الكتابة” أكثر دراسات دريدا شمولية في إرساء خلفية‬

‫للتفكيك كأسلوب في قراءة النظريات الحديثة في اللغة ‪-‬خاصة البنيوية‪-‬‬

‫وتسعى التفكيكية إلى تقويض النص بأن تبحث داخله عما لم يقله بشكل صريح واضح‪ ،‬وهي تعارض منطق النص الواضح المعلن‬

‫وادعاءاته الظاهرة بالمنطق الكامن في النص ذاته‪ .‬كما أن التفكيكية تسعى إلى تفتيت النصوص من المعاني الثابتة وتحويلها إلى‬

‫تفاعل النهائي مع المعنى‪ ،‬فال تستقر الداللة على معنى حتى يهدم ثم يفترض معنى آخر ثم يهدم … وهكذا‬

‫‪ ‬وبالتالي يمكن القول أنه إذا كانت الرؤية الفلسفية هي “ما بعد الحداثة” فإن “التفكيكية” هي منهجها في تفكيك النصوص‬

‫وإظهار التناقض الكامن فيها والبحث عن المسكوت عنه والمنطق الكامن في النص‪ ،‬ال لبيان المعنى الكامن في النص ولكن‬

‫للكشف عن التناقضات داخل النص وتعددية المعنى بحيث يفقد النص حدوده الثابتة ويصبح جزءا من الصيرورة وتختفي الحقيقة‪.‬‬

‫وبناء على مبدأ الهدم والتفكيك الالنهائي للنصوص أصبح الدين متاحا للتفسير والبحث‪ ،‬فال يمكن حسب رأيهم اإليمان بالوحي‬

‫مصدرا للمعرفة وال تأويل النصوص الدينية بقواعد محددة‪ ،‬بل هي نصوص مفتوحة المعنى يمكن تأويلها حسب ما يريد حامل‬

‫مبضع التفكيك‪.‬‬

‫العنصرية الغربية في عصر ما بعد الحداثة‪:‬‬

‫في مرحلة الحداثة كان الغرب يؤمن بـ “عنصرية التفاوت”‪ ،‬فهم يؤمنون بوجود تمايز ثقافي بين األجناس‪ ،‬ثم ينتصرون للجنس‬

‫الغربي باعتباره جنسا متفوقا‪ ،‬منطلقين من عقيدة أن الشعوب غير الغربية تختلف عرقيا عن الشعوب الغربية‪ ،‬وهذا االختالف‬

‫وراثي‪ ،‬وأن الحضارات غير الغربية أدنى بكثير من الحضارة الغربية على المستوى السياسي واالجتماعي واألخالقي‪ .‬وقد دعم‬

‫اإلنسان الغربي دعوى المركزية لنفسه بمجموعة من النظريات الخاصة بعالم األخالق والهوية والحضارة‪ .‬هذه العنصرية هي تجل‬

‫للرؤية المعرفية العلمانية اإلمبريالية‪.‬‬

‫أما في مرحلة ما بعد الحداثة فقد ظهر في الغرب ما يمكن تسميته بـ “عنصرية التسوية”‪ ،‬حيث يتم تماما رفض التفاوت بين‬

‫البشر بل بين البشر والكائنات الحية األخرى من حيوان ونبات‪ .‬وهي تسوية مفهومة تماما في إطار الرؤية ما بعد الحداثية حيث‬

‫اإلنسان هو مجرد إنسان طبيعي (اقتصادي‪-‬جسماني)‪  .‬‬

‫هذه العنصرية الجديدة تأخذ شكل دعوة مساواة وتسامح وتعددية‪ ،‬ومن هنا اإلصرار على الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة‬

‫والشواذ جنسيا والنسوية وحقوق الحيوانات والحق المطلق ألي فرد في أن يفعل ما يشاء‪ .‬فالدفاع هنا في حقيقة األمر ليس عن‬

‫اإلنسان وإنما هو هجوم على أية معيارية إنسانية‪ ،‬وهي عملية تسوية لإلنسان بالكائنات الطبيعية ورده إلى القاسم المشترك‬

‫الطبيعي المادي‪.‬‬

‫ونالحظ أن هناك إصرارا غير عادي على استخدام مصطلح “أقلية” لإلشارة إلى كل جماعة بشرية‪ ،‬فأعضاء الجماعات اإلثنية أقلية‪،‬‬

‫وكذلك أعضاء األقليات الدينية‪ ،‬والنساء أقلية‪ ،‬واألطفال أقلية‪ ،‬والشواذ جنسيا أقلية‪ ،‬والمعوقون أقلية‪ ،‬والبدينون والمسنون أقلية‪..‬‬
‫‪‬‬
‫ويصر أعضاء كل جماعة من هؤالء على أنهم أقلية لها سمات فريدة وهوية متفردة تستحق الحفاظ عليها والمطالبة بحقوقها‪.‬‬

‫وإن قمنا بتحليل الخطاب ما بعد الحداثي الخاص باألقليات الكتشفنا أنه قائم على ديباجات التسامح والسيولة‪ ،‬ولكن في حقيقة‬

‫األمر هو خطاب ال عالقة له بالتسامح أو بقضية الحقوق‪ ،‬وإنما هو محاولة لهدم المعيارية اإلنسانية وإنكار وجود أي جوهر إنساني‬

‫مشترك‪.‬‬

‫أثر ما بعد الحداثة على المرأة‪:‬‬

‫يظن البعض أن مصطلح “النسوية” ‪ Feminism‬هو مرادف أو مجرد تنويع على مصطلح “حركة تحرير المرأة ‪Women’s Liberation‬‬

‫‪ .”Movement‬ولكن لو دققنا النظر لوجدنا أن هناك اختالف جذري بين المصطلحين‪ .‬فاألول ينتمي إلى فكر ما بعد الحداثة‪ ،‬أما‬

‫الثاني فهو يدور في إطار إنساني هيوماني‪ ،‬حيث تحاول هذه الحركة أن تدافع عن حقوق المرأة باعتبارها كائن اجتماعي يضطلع‬

‫بدور اجتماعي‪ ،‬ولذا فهي حركة تهدف إلى تحقيق قدر من العدالة الحقيقية داخل المجتمع‪ ،‬بحيث تنال المرأة ما يطمح اليه أي‬

‫إنسان (رجال كان أم إمرأة) من تحقيق لذاته والحصول على مكافأة عادلة (مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل‪ .‬وتطالب حركات‬

‫تحرير المرأة بأن تحصل المرأة على حقوقها كاملة‪ ،‬سياسية كانت (حق المرأة في االنتخاب والمشاركة في السلطة) أم اقتصادية‬

‫(مساواة المرأة في األجور مع الرجل)‪ .‬إذن فإن برنامج حركة تحرير المرأة يتحرك داخل إطار من المفاهيم اإلنسانية المشتركة‪،‬‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫‪/‬الحداثة‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحداثة‪-‬بعد‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحد‪www.khotwacenter.com/‬‬ ‫‪3/5‬‬
‫‪04/11/2022 12:32‬‬ ‫الحداثة‪ -‬ما بعد الحداثة‪ -‬بعد ما بعد الحداثة – مركز ُخ طوة للتوثيق والدراسات‬
‫مثل مفهوم األسرة باعتبارها أهم المؤسسات اإلنسانية ومثل مفهوم المرأة باعتبارها العمود الفقري لهذه المؤسسة‪.‬‬

‫أما الحركة النسوية فهي تنطلق من مفهوم صراعي للعالم بين الرجل والمرأة وكأنه ال توجد إنسانية مشتركة تجمع بينهما‪ ،‬فدور‬

‫المرأة كأم ليس أمرا مهما‪ ،‬ومؤسسة األسرة عبئا ال يطاق‪ .‬وهنا ينادي دعاة هذه الحركة إلى إعادة صياغة كل شيء من وجهة‬

‫نظر أنثوية‪ :‬التاريخ‪ ،‬اللغة‪ ،‬الرموز‪ ،‬بل الطبيعة البشرية نفسها‪ .‬فيجب إعادة سرد التاريخ من وجهة نظر أنثوية‪ ،‬بل رفضت هذه‬

‫الحركة كلمة ‪  History‬نفسها‪ ،‬معتبرين أن معناها ‪ His Story ‬أي أنها تاريخ الذكور فقط‪ .‬وتقوم الحركة بالهجوم على ما يسمى‬

‫بذكورة اللغة والدعوة إلى تأنيثها‪ ،‬والى تهذيب اللغات التي تفضل صيغة التذكير على صيغة التأنيث‪ ،‬لكي يعاد بناؤها بحيث‬

‫تستخدم صيغا محايدة أو صيغا ذكورية أنثوية معا‪ .‬وتصل هذه الرؤية إلى قمتها حينما تدير األنثى ظهرها للذكر وتعلن استقاللها‬

‫الكامل عنه وحينئذ يصبح السحاق التعبير النهائي عن نسويتها‪ ،‬ويصبح من الطبيعي أال تلجأ المرأة إلى الرجل إلنجاب األطفال بل‬

‫تلجأ إلى المعامل واإلجراءات العلمية التي تستبعد الرجل كشريك في اإلنسانية‪ .‬كل هذا يؤدي إلى ظهور الجنس الواحد ‪Unisex‬‬

‫وتختفي األم والزوجة واألخت والحبيبة وبالتالي تسقط األسرة ويتهاوى المجتمع‪.‬‬

‫‪ ‬إذن فالهدف األساسي لحركة النسوية هو رفع وعي النساء بأنفسهن كنساء وتحسين أدائهن في المعركة األزلية مع الرجل‪،‬‬

‫وجعل كل شيء تعبيرا عن هذا الصراع الكوني بين الذكور واإلناث‪.‬‬

‫بعد ما بعد الحداثة ‪Post- postmodernism‬‬

‫خالل العقدين السابقين شهد العالم كم هائل من التنظير يتحدث عن احتضار ما بعد الحداثة‪ ،‬بل إن بعض الكتابات أصبحت تعلن‬

‫عن موت ما بعد الحداثة ونهايتها‪ ،‬وتحاول استشراف مالمح المرحلة الجديدة‪ .‬ويرى البعض أن ما بدأ يتشكل من منظومة متكاملة‬

‫لعالقة البشر بأنفسهم وباآلخرين وبالعالم له عالقة ما بمرحلة الحداثة األولى‪ ،‬بحيث يمكن اعتبار ما بعد الحداثة مجرد فترة‬

‫انتقالية عابرة بين هاتين الحداثتين‪ ،‬فترة فارغة ِسمتها النفي والرفض والالمعنى‪.‬‬

‫هذه المرحلة الجديدة‪ ،‬مرحلة بعد ما بعد الحداثة‪ -‬تعبر عن نفسها كما لو كانت عصر نهضة ذهبي يمجد العقل واإلبداع والتميز‬

‫واالحترافية والتمرد على القيم الموروثة واالرتقاء بالفردانية‪ ،‬وكان لمنتجات التكنولوجيا الحديثة والسيبرانية التأثير األعظم في هذه‬

‫المرحلة‪ ،‬فقامت التكنولوجيا الحديثة بإعادة ترتيب أوراق العالم من جديد‪ ،‬وانطلقت تعيد تعريف كل شيء‪ ،‬المنِتج والمنَتج‬

‫والمستهلك‪.‬‬

‫وقد قام راؤول ايشلمان ‪ Raoul Eshelman‬بإصدار كتابه ‪ Performatism or the End of Postmodernism‬عام ‪( 2008‬األدائية أو‬

‫نهاية ما بعد الحداثة) الذي الحظ فيه أن جملة الكتابات التي تراكمت منذ بداية األلفية الثانية تحيد عن قواعد ما بعد الحداثة بأنها‬
‫‪‬‬
‫تحكي قصصا يصل فيها األبطال إلى مرحلة التجاوز والتعالي على العالم المادي‪ ،‬وهذا يتناقض تماما مع فكر ما بعد الحداثة‪ .‬ويؤكد‬

‫ايشلمان أن هناك قوة متزايدة لألحداث الثقافية في العقدين األخيرين قد تدفع إلى الخروج من عصر ما بعد الحداثة بآلية منيعة‬

‫تستعصي على نموذج التشظي والتفكيك‪ ،‬ويمكن توظيف فكرة اآلداء أو اإلنجاز لفهم هذه اآللية‪.‬‬

‫ويشير األداء –كما يراه إيشلمان‪ -‬إلى فعل التجاوز الذي هو في لب جميع األعمال السردية بعد ما بعد الحداثية‪ ،‬وفعل التجاوز هذا‬

‫يأخذ بالضرورة شكل الحدث أو الواقعة المدهشة‪ ،‬كما أنه يؤكد أيضا حقيقة أن هذه األفعال التجاوزية تتجلى لنا من خالل أداء‬

‫(‪ )performance‬وهذا الجانب األدائي هو الذي يلهمنا فنتذكره ونقلده‪.‬‬

‫وتوظف فكرة اآلداء للحفاظ على اإلنسان بوصفه وحدة كلية غير قابلة لالختزال وتعتمد على مبدأ اإللزام‪ ،‬هذه الوحدة الكلية‬

‫تتطلب فاعلية ال يمكن تحديدها اال بمصطلحات ثيولوجية‪ ،‬وبذلك يخلق مالذا يلتجأ اليه‪ ،‬وهو ما اعتقدت ما بعد الحداثة أنه قد‬

‫انحل نهائيا‪ ،‬فهناك الغايات والعقيدة واليقين والمؤلف والحب وغيرها من المعاني الثابتة‪ .‬وهنا سيعبر اإلنسان عن نفسه بواسطة‬

‫اإلنجاز الكلي بمعنى تحقيق ما يؤمن به‪.‬‬

‫ويرى إيشلمان أن األدائية قد حققت قدرا من االنتصار في اقتحام الدراسات األدبية والثقافية منذ أوائل القرن الحالي‪ ،‬كما أن هناك‬

‫وعي عام أن تقانات ما بعد الحداثة أصبحت مستنفدة ومرهقة‪ ،‬ولكن يجب االعتراف أن نظرية ما بعد البنيوية أو التفكيكية ما زالت‬

‫هي المهيمنة على الدراسات األدبية والثقافية‪.‬‬

‫ويرى إيشلمان أنه إذا كانت هناك ردة فعل تاريخية على ما بعد الحداثة فال بد أن تكون بتحقيق نوع من الوحدة بين العالمات‬

‫واألشياء‪ .‬وقد وجد إيشلمان ضالته في عالج هذه اإلشكالية في كتاب ‪  Signs of Paradox‬إليريك جانس (‪ )Eric Gans 1941‬الذي‬

‫طور فيه جانس مفهوما واحديا عن العالمة يعارض ما بعد البنيوية بصورة جذرية‪.‬‬

‫ويفترض جانس في كتابه أن السلوك اإلنساني قبيل اللغة يستند إلى التقليد والمحاكاة‪ ،‬واللغة‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬هي التي تفصل‬

‫اإلنسان عن الحيوان‪ .‬وبمعنى آخر‪ ،‬فإن توظيف اللغة هو ما يسمح لنا بتجاوز الحالة الحيوانية وأن نصبح بشرا‪ .‬إذن فإن اختراع‬

‫اللغة أو العالمة األولى يجب أن يكون حدثا متعاليا متجاوزا أو دينيا‪.‬‬

‫يمكن القول هنا –تبعا إليشلمان‪ -‬أن المتابع للمشهد العالمي على مدى السنوات العشر الماضية يجد مشكلة في تحديد‬

‫التطورات التي يصعب التلفيق بينها وبين النظرية ما بعد الحداثية‪ .‬وتشمل هذه التطورات –في كافة المجاالت الفلسفية واألدبية‬

‫والفنية والهندسة المعمارية‪ -‬تجدد االهتمام بالجمال واالنضباط في علم الجمال‪ ،‬والجدية والوحدة والشمولية في األعمال الفنية‬

‫واألدبية‪ .‬ولكن لم يبد أي ناقد أو فنان استعدادا لتوصيل النقاط لتشكيل صورة لعصر بأكمله يعارض ما بعد الحداثة ويحل محلها‬

‫تدريجيا‪ .‬ويرى إيشلمان أن كافة المجاالت السابق اإلشارة اليها قد دخلت في المرحلة التي يمكن أن تفهم أفضل بتوظيف مفهوم‬

‫الواحدية ‪. Monist‬‬

‫تعتبر الواحدية هي الصيغة السيميائية (عالقة الدال بالمدلول) لألداتية‪ ،‬وهي تتطلب تكامل األشياء ضمن مفهوم العالمة‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫يمكن مالحظة أن االنتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة ثم إلى مرحلة بعد ما بعد الحداثة هي انتقاالت تصحيحية ألوضاع‬

‫عانى منها اإلنسان في كل مرحلة‪ ،‬فحاول جاهدا التخلص من مشاكله باللجوء إلى حلول كانت في حقيقة األمر مجرد ردود أفعال‬

‫انفعالية جنى منها اإلنسان مزيد من المعاناة‪ .‬كما تجدر اإلشارة إلى أن االنتقال من مرحلة إلى أخرى ال تعني اختفاء المرحلة‬

‫السابقة تماما‪ ،‬إذ يتم استصحاب العديد من مكونات المرحلة السابقة‪    .‬‬

‫إن الغرب يجب أن يصبح مرة أخرى “غربيا” ال “عالميا” ويجب أن ندرك خصوصيته الحضارية‪ ،‬وأن ننفتح عليه بطريقة نقدية إبداعية‪،‬‬

‫وهذا ال يمكن أن يتم اال بإعادة اكتشاف مخزوننا الحضاري الخاص وإصالح التشوه المعرفي الذي لحق بنا بعد سنوات طويلة من‬
‫‪‬‬
‫االستعمار الغربي تم فيها ترسيخ فكرة مركزية الغرب‪ .‬وبالتالي فاستقبالنا ألي معارف جديدة يجب اال نتلقاها بسلبية على أنها‬

‫معرفة عالمية عامة وإنما نخضعها للتقييم النقدي ونعمل فيها العقل لنكشف النماذج المعرفية والرؤى الفلسفية الكامنة فيها‬

‫لنميز بين الحق والباطل وبين ما ينفع الناس وما يبدد البشر‪ .‬‬

‫‪ ‬ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫* مدير مركز ُخ طوة للتوثيق والدراسات‪ ،‬وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر‪.‬‬

‫‪/‬الحداثة‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحداثة‪-‬بعد‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحد‪www.khotwacenter.com/‬‬ ‫‪4/5‬‬
‫‪04/11/2022 12:32‬‬ ‫الحداثة‪ -‬ما بعد الحداثة‪ -‬بعد ما بعد الحداثة – مركز ُخ طوة للتوثيق والدراسات‬

‫‪‬‬

‫‪/‬الحداثة‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحداثة‪-‬بعد‪-‬ما‪-‬بعد‪-‬الحد‪www.khotwacenter.com/‬‬ ‫‪5/5‬‬

You might also like