You are on page 1of 136

1

‫شكر وعرفان‬
‫الحمد هللا العلي القدير على توفيقنا إلتمام هذا العمل‪.‬‬
‫نتوجه بجزيل الشكر إلى أستاذتنا الفاضلة األستاذة الدكتورة" " " التي‬
‫تكرمت علينا بإشرافها وسديد" توجيهاتها إلى غاية إتمام هذه المذكرة ‪.‬‬
‫كما نتقدم بالشكر والتقدير إلى السادة األفاضل أعضاء لجنة المناقشة‬
‫لقبولهم مناقشة مذكرتنا وإثرائها بمالحظاتهم القيمة‪.‬‬
‫وأخيرا نشكر جميع أساتذة كلية الحقوق على مجهوداتهم الجبارة طيلة‬
‫المسار الدراسي والطلبة" السنة ثانية ماستر تخصص قانون جنائي دفعة‬
‫‪.2022/2023‬‬

‫‪2‬‬
‫اإلهداء‬
‫مبارك لك تخرجي‪ ........‬ومبارك لي رضاك‪..........‬‬
‫أيا زمزما روى أيامي‪ ......‬أيا جفنا دثر أحالمي‪.........‬‬

‫‪3‬‬
4
5
6
‫مقدمة‬

‫لقد منح القانون لسلطات الدولة سواء الضبطية القضائية أو قاضي التحقيق أو قاضي الحكم‬
‫عدة امتيازات في مواجهة المتهم من أجل الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬ولينال المتهم جزاءه إذا ثبتت‬
‫إدانته‪ ،‬وفي المقابل يوفر للمتهم ضمانات وحقوق تحفظ له حقه في نفي التهمة المنسوبة إليه‬
‫والدفاع عن نفسه بأي طريق كان‪ ،‬وتمكنه من مواجهة هذه االمتيازات‪ ،‬وقرينة البراءة التي‬
‫تعني افتراض البراءة للمتهم مهما كانت قوة الشكوك التي تحوم حوله ومهما كان وزن األدلة‬
‫التي تحيط به تنقل عبء اإلثبات على عاتق سلطة االتهام ويعفى المتهم من إثبات براءته ألن‬
‫األصل في اإلنسان البراءة‪ ،‬ومن حقه إبداء آراءه بحرية تامة ويتعين على الدولة بأجهزتها‬
‫كافة احترام هذه الحقوق‪.‬‬

‫وبناء على ذلك نادى البعض بضرورة إعطاء المتهم مزيدا من الحقوق انطالقا من قاعدة‬
‫مفادها أن الشخص المتهم هو الطرف الضعيف في الدعوى الجزائية‪ ،‬حيث يجد نفسه وحيدا‬
‫في مواجهة إحدى سلطات الدولة في مراحل الدعوى المختلفة‪ ،‬والتي تملك عديد الوسائل‬
‫التي تمكنها من وظيفتها على أكمل وجه‪ ،‬وألن كل سلطة لها إجراءات تختلف باختالف‬
‫المرحلة التي تكون عليها الدعوى والهدف منها‪ ،‬وما تنطوي عليه من مساس بالحرية الفردية‬
‫يكون قانون اإلجراءات الجزائية المرآة العاكسة ألهمية وقيمة الحريات والحقوق والضمانات‬
‫المنصوص عليها للوصول إلى الحقيقة خدمة للمجتمع وتوطيدا وإرساء لعائم دولة القانون‪،‬‬
‫وعلى هذا األساس تم استبعاد األساليب غير المشروعة لبناء الحقيقة‪.‬‬

‫ونتاجا على ذلك كان من العدل تزويد المتهم بحقوق إضافية تمكنه من مواجهة كل مرحلة من‬
‫مراحل الدعوى الجزائية‪ ،‬وأحد أهم تلك الحقوق ضرورة تمتع المتهم بحقه في الصمت‪ ،‬الذي‬
‫يتيح له الحق في عدم اإلجابة عن األسئلة الموجهة إليه دون الضغط عليه في سبيل‬
‫استخالص ما يضر به‪ ،‬ودون أن يعد صمته قرينة ضده يستند عليها في إدانته‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أهمية الموضوع‬

‫األهمية العلمية‪ :‬تتمثل أهمية هذه الدراسة في تسليط الضوء على موضوع في غاية األهمية‬
‫هو حق المتهم في الصمت‪ ،‬واإلحاطة علما بكافة القواعد القانونية المنظمة له وكذا كافة‬
‫اآلليات الساعية لحمايته‪ ،‬إضافة إلى الممارسات التي قد تنوشه أثناء سير الدعوى الجزائية‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ومن جهة أخرى فحتى ولو كان لهذا الموضوع بعد قانوني هام فإن أغلبية الباحثين يتجنبون‬
‫في دراساتهم التطرق إلى المواضيع التي تعاني نقصا من المادة القانونية‪ ،‬وهو ما يزيد من‬
‫أهمية هذه الدراسة كونها تثري المكتبة القانونية‪.‬‬

‫األهمية العملية تأتي أهمية الحق في الصمت من أهمية حقوق اإلنسان نفسها وكرامته التي‬
‫تحظى باهتمام كبير سواء أكان من جانب الدولة أو األفراد على السواء‪ ،‬كما أنها محل اهتمام‬
‫وعناية خاصة من جانب المؤتمرات الدولية والدساتير والقوانين الوطنية والشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬باعتبارها هدف تسعى الشعوب إلى تحقيقه كي تنعم باألمن والطمأنينة فال يهدر‬
‫حق وال تنتقص حرية‪ .‬وبالتالي فإن الضرورة الواقعية والقانونية التي تفرض تمكين المتهم‬
‫من حقوق دفاعه كاملة أعطت لهذا الحق مكانة في ساحة اإلجراءات يلجأ إليها إبعادا‬
‫للتسرع‪ ،‬وأخذا للوقت الكافي لتحضير دفاعه‪.‬‬

‫كذلك تتجلى أهمية هذا الحق من خالل المساواة أمام القضاء باعتباره عنصرا في مبدأ‬
‫المساواة أمام القانون حيث يتطلب إحداث نوع من التوازن بين االتهام والدفاع‪ ،‬الذي بموجبه‬
‫يتعين تمكين أطراف الخصومة الجزائية من الممارسة الفعلية للحق في الدفاع‪ ،‬كما أنه يشكل‬
‫أسلوبا من أساليب حق الدفاع بحرية في مواجهة السلطة التي تتسلح في مواجهته بالعديد من‬
‫أشكال القوة والتي يستخدمها البعض من أشخاصها للبحث عن الحقيقة والتي تعتبر المسعى‬
‫األساسي للعدالة الجنائية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬أسباب اختيار الموضوع‬

‫إن أحد أهم األسباب الداعية الختيار الموضوع حق المتهم في الصمت‪ -‬هو مركزه الحساس‬
‫في ساحة اإلجراءات الجزائية القترانه بقرينة البراءة من جهة‪ ،‬واعتباره كأحد المقاييس‬
‫الحقيقية الحترام حقوق الدفاع والحريات الفردية‪ ،‬وارتباطه بسالمة التصريحات الصادرة‬
‫عن المتهم من جهة ثانية‪ ،‬كذلك كونه قد ورد بصفة عامة في قانون اإلجراءات الجزائية مما‬
‫يحتم البحث عن موقف كل من الفقه والقضاء لتوضيحه والوقوف على خصائصه ومميزاته‪،‬‬
‫فاللبس الذي يكتنف هذا الحق قد يدفع بالسلطات القائمة على مباشرة الدعوى الجزائية إلى‬
‫إهماله‪ ،‬مما قد يفرض على المتهم المبادرة بالتصريح لنفي التهمة عنه ‪ ،‬مع أن القانون يوفر‬
‫له هذا الحق بصفة دائمة وثابتة‪.‬‬

‫ـ أن اللبس الذي يكتنف هذا الحق قد يدفع بالسلطات القائمة على مباشرة الدعوى الجنائية إلى‬
‫إهماله‪ ،‬مما قد يفرض على المتهم المبادرة بالتصريح لنفي التهمة عنه والتكلم بطريقة توحي‬
‫بأنه يدفع عن نفسه شراً حتى ولو كان بريئاً‪ ،‬مع القانون يوفر له هذا الحق بصفة دائمة وثابته‬
‫كصورة تطبيقية لقرينة البراءة‪.‬‬

‫‪ -‬حق المتهم في الصمت ورد بصفة عامة في قانون اإلجراءات الجنائية مما يحتم علينا‬
‫الغوص والبحث عن االختالف الفقهي والقانوني والقضائي لتوضيحه‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫من حقوق الدفاع وقاعدة جوهرية تتعلق باحترام حريته اإلنسان وكرامته حتى ولو كان محل‬
‫اتهام من جانب السلطات العامة‪ .‬فالمتهم قد يفضل أحيانا الصمت تجاه السؤال أو االستجواب‬
‫الموجه إليه‪ .‬فهل يعتبر صمت المتهم دليل إدانة أم دليل براءة‪ ،‬وهل يجوز للمتهم اإلجابة عن‬
‫بعض األسئلة واالمتناع عن البعض اآلخر أم يجبر المتهم في هذه الحالة على اإلجابة عن‬
‫األسئلة التي توجه إليه‪ ،‬وهل هناك ما يبرر هذا الصمت استناداً على قرينة البراءة‪ ،‬وما هي‬
‫الفائدة التي يحصل عليها المتهم إذا التزم بالصمت‪ ،‬لذا جاء اختيار هذا الموضوع بعدما‬
‫استبان ما يمكن أن يكون لدراسته من أهمية فقهية وقانونية والتي من الممكن أن توفر الحماية‬
‫الكافية ألهم حق من حقوق المتهم‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬األهداف‬

‫إن اإلجابة عن إشكالية البحث وتساؤالته تشكل أهم أهداف البحث إلى جانب األهداف العلمية‬
‫والعملية والتي تتمثل أساسا فيما يلي‪:‬‬

‫األهداف العلمية‪:‬‬

‫البد من تحديد المقصود بحق الصمت المكفول قانونيا للمتهم كونه أحد أهم الحقوق المنبثقة‬
‫عن مبدأ قرينة البراءة‪ ،‬ولكنه كذلك يثير كثير اللبس والغموض‪ .‬دراسة أهم التجاوزات التي‬
‫قد يخضع لها هذا الحق من طرف المتهم وذلك بغية دفعه للتكلم واالعتراف بهدف الوصول‬
‫إلى الحقيقة‪.‬‬

‫تكريس هذا الحق من طرف المشرع الجزائري في كافة مراحل الدعوى الجزائية كونه أحد‬
‫حقوق الدفاع المكرسة قانونا وكذلك مجموع الضمانات الموضوعية واإلجرائية التي كفلها‬
‫المشرع‪.‬‬

‫األهداف العملية‪:‬‬

‫تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على حق المتهم في الصمت وذلك من خالل البحث في‬
‫قانون اإلجراءات الجزائية لمحاولة وضع صورة واضحة عن كيفية مزاولته لكثير الغموض‬
‫حوله‪ ،‬وبالتالي قد يقع ضابط الشرطة القضائية أو قاضي التحقيق في أخطاء أثناء تأدية‬
‫مهامه وهو ما قد يعرض إجراءاته للبطالن‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الدراسات السابقة‬

‫من منطلق ما ذكر‪ ،‬فإن موضوع حق المتهم في الصمت ‪ -‬قد تعرض له عدد قليل من‬
‫الباحثين والدارسين في العلوم القانونية‪ ،‬فنجد مثال دراسة‪ :‬حق المتهم في االمتناع عن‬
‫التصريح والمقدمة لنيل شهادة الماجستير فرع القانون العام تخصص القانون الجنائي والعلوم‬
‫الجنائية من إعداد الطالب محمد بن مشیرح‪ ،‬جامعة منتوري قسنطينة‪ ،‬سنة ‪،2009 -2008‬‬
‫وبرغم تطرقه إلى األساليب الماسة بشرعية التصريحات إال أنه لم يتطرق إلى كيفية معالجة‬

‫‪9‬‬
‫المشرع الجزائري لهذه األساليب عن طريق تجريم بعض السلوكات المرتكبة ضد المتهم‬
‫لدفعه إلى االعتراف عن طريق سن نصوص تجريمية في قانون العقوبات فلم يتطرق إلى‬

‫معالجة هذه السلوكات من خالل األركان التي نص المشرع الجزائري على وجوب توافرها‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬الصعوبات‬

‫إن حق المتهم في الصمت واالمتناع عن التصريح يطرح صعوبات متنوعة من حيث‬

‫طبيعته القانونية وكذا آثاره من حيث استعماله خالل مختلف اإلجراءات الالحقة له‪.‬‬

‫فأما عن الصعوبات من حيث طبيعته القانونية فتمثلت في كونه ممنوعا مرة وحقا مرة أخرى‬
‫ما يفسر صعوبته‪ ،‬كما في حالة الجنحة التي يعاقب عليها القانون في حال رفض الشاهد‬
‫اإلدالء بشهادته طبقا للمادة ‪ 97‬من ق إ ج‪ ،‬كون المشرع الجزائري يسعى إلى الوصول إلى‬
‫الحقيقة دائما وعدم ترك أو إفالت المجرمين ويظهر كحق عندما يوجه االتهام إلى الشخص‪،‬‬
‫فال عبء يقع عليه لمساعدة العدالة في إظهار الحقيقة‪ ،‬ذلك أن صمته عن األفعال المنسوبة‬
‫إليه ال يصيره مقترفا لها‪.‬‬

‫إضافة إلى ذلك قلة المراجع والمؤلفات المتخصصة في الموضوع رغم أهميته إال أن•‬
‫الغموض مازال يشوبه‪ ،‬كذلك قلة المادة القانونية لورود هذا الحق في عدد قليل من‬
‫‪.‬النصوص القانونية األمر الذي ترك المجال األكبر للفقه للخوض في هذا الموضوع‬

‫سابعا‪ :‬اإلشكالية‬

‫بناء على ما سبق فإن اإلشكالية التي يمكن طرحها ومن ثم معالجتها تتمثل أساسا في كيف‬
‫عالج المشرع الجزائري حق المتهم في الصمت ضمن قانون اإلجراءات الجزائية؟‬

‫ثامنا‪ :‬المنهج المتبع‬

‫تم اتباع المنهج الوصفي األحكام المتهم في الصمت خالل مراحل الدعوى الجزائية ودراسة‬
‫أبعاده عند لجوء المتهم إليه والوقوف على عالقته بمبدأ قرينة البراءة كحق من حقوق الدفاع‬
‫والسلطات القضائية كالتزام ملقى على عاتقها تجاه المتهم ضمانا لحمايته‪ ،‬كذلك عند إلقاء‬
‫الضوء على الجوانب العلمية عند ممارسة هذا الحق وذلك عن طريق اإلحاطة الشاملة‬
‫والمتكاملة به‪ ،‬كذلك دعمنا المذكرة بالمنهج التحليلي في عديد الجوانب لدراسة تكريسه‬
‫ومناطه خالل مراحل الدعوى الجزائية وتنظيم اإلجراءات النوعية التي تمكن المتهم من‬
‫االستفادة من هذا الحق في أحسن حال وأفضل صيرورة لإلجراءات بعيدا عن التعقيد‬
‫والغموض‪.‬‬

‫تاسعا‪ :‬التصريح بالخطة‬

‫‪10‬‬
‫لقد تم تقسيم موضوع حق المتهم في الصمت ‪-‬إلى فصلين‪ ،‬حيث يدور فحوى الفصل األول‬
‫حول مفاهيم عامة حول المتهم وحقه الصمت وأهم الدوافع التي تجعله يلجئ إلى الصمت‪،‬‬
‫ومن أبرز هذه الدوافع نستنتج أهم أنواع الصمت التي قد يستخدمها المتهم أثناء المحاكمة‪،‬‬

‫واألساس القانوني الذي استمد منه هذا الحق أال وهو قرينة البراءة‪ ،‬وتأصيله من خالل تبيان‬
‫عالقته بهذا المبدأ‪ ،‬وأساسه في مختلف األنظمة والقوانين الجزائية واإلجرائية‪ ،‬كونه ال‬
‫يستمد تبريره من كونه حقا من حقوق الدفاع فقط وإنما بالحماية التي توفرها له قرينة‬
‫البراءة‪ ،‬كذلك كان لزاما التطرق إلى مختلف التجاوزات التي تلحق المتهم عند ممارسته لهذا‬
‫الحق سواء التقليدية أو الحديثة منها‪.‬‬

‫أما الفصل الثاني فيدور حول كيفية حماية هذا الحق عن طريق توضيح كيفية التعامل معه‬
‫خالل مراحل الدعوى الجنائية سواء من طرف قاضي التحقيق أو المتهم أو قاضي الحكم‪،‬‬
‫وخصوصية كل مرحلة والهدف منها‪ ،‬ثم دراسة الضمانات التي وفرها وسنها المشرع‬
‫الجزائري حماية منه لمثل هذه الحقوق عن طريق تجريم أفعال تمس به وتشكل خطرا عليه‪،‬‬
‫وكذا محاولة التفسير الصحيح لسكوت المتهم وإبطال اإلجراء المخالف له كجزاء في حال‬
‫مخالفته‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫الفصل األول‪ :‬مفهوم حق المتهم في الصمت وقرينة البراءة‬
‫ـ المبحث األول‪ :‬مفهوم حق المتهم في الصمت‬
‫ـ المبحث الثاني‪ :‬قرينة البراءة كأساس قانوني لحق المتهم في الصمت‬

‫الحمد هللا الجليل الوهاب‪ ،‬الذي أنار قلوب عباده بأنوار السنة والكتاب‪ ،‬القائل في محكم كتابه‪:‬‬
‫ت َوفَض َّْلنَاهُ ْم َعلَى َكثِ ٍ‬
‫ير‬ ‫(ولَقَ ْد َك َّر ْمنَا بَنِي آ َد َم َو َح َم ْلنَاهُ ْم فِي ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ِر َو َر َز ْقنَاهُ ْم ِمنَ الطَّيِّبَا ِ‬
‫َ‬
‫ضيال) (‪ )1‬والصالة والسالم علي من أرسله ربه ليفقه الناس كتابه‪ ،‬ويبين لهم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِم َّم ْن َخلَقنَا تَف ِ‬
‫ما أنزل إليهم من ربهم‪ ،‬وأصلي وأسلم على آله األطهار‪ ،‬وصحبه األخيار‪ ،‬أقمار الدجى‬
‫وأنوار الهدى‪ ،‬الذين فقهوا عن هللا كتابة وعن نبيهم سنته‪ ،‬وعلى من جاء بعدهم مقتفيا ً أثرهم‬
‫إلى يوم الدين‪ ،‬إذا كان القانون يمنح السلطات العامة عدة امتيازات في مواجهة المتهم من‬
‫أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة‪ ،‬ولينال المتهم جزاءه إذا ثبتت إدانته‪ ،‬فإنه في‬
‫المقابل يوفر للمتهم ضمانات وحقوق تحفظ له حقه في نفي التهمة المنسوبة إليه والدفاع عن‬

‫‪12‬‬
‫نفسه بأي طريق كان ‪ ،‬وتمكنه من مواجهة امتيازات السلطات العامة‪ ،‬ولعل من أبرز هذه‬
‫الضمانات والحقوق هي حق الدفاع عن بجميع الطرق المتاحة قانوناً‪ ،‬وقرينة البراءة التي‬
‫تعني افتراض البراءة للمتهم مهما كانت قوة الشكوك التي تحوم حوله ومهما كان وزن األدلة‬
‫التي تحيط به تنقل عبء اإلثبات على عاتق سلطة االتهام ويعفى المتهم من إثبات براءته‪،‬‬
‫ألن األصل في اإلنسان البراءة‪ ،‬ومن حقه إبداء أقواله بحرية تامة‪ ،‬ويتعين على الدولة‬
‫بأجهزتها كافة احترام هذه الحقوق‪ .‬لذا نادى البعض بضرورة إعطاء المتهم مزيداً من‬
‫الحقوق انطالقا ً من قاعدة مفادها أن الشخص المتهم هو الطرف الضعيف في الدعوى‬
‫الجنائية‪ ،‬حيث يجد نفسه وحيداً في مواجهة إحدى سلطات الدولة في مراحل الدعوى الجنائية‬
‫المختلفة‪ ،‬والتي تملك العديد من الوسائل التي تمكنها من وظيفتها على أكمل وجه‪ ،‬وألن كل‬
‫سلطة لها إجراءات تختلف باختالف المرحلة التي تكون عليها الدعوى والهدف منها ‪ ،‬وما‬
‫تنطوي عليه من مساس بالحرية الفردية يكون قانون اإلجراءات الجنائية المرآة العاكسة‬
‫ألهمية وقيمة الحريات والحقوق والضمانات المنصوص عليها للوصول إلي الحقيقة خدمة‬
‫للمجتمع وتوطيداً وإرساء لدعائم دولة القانون‪ ،‬وعلى هذا األساس تم استبعاد األساليب غير‬
‫المشروعة لبناء الحقيقة‪ ،‬مما أدى بالكثير من الفقهاء إلي اعتبار قانون اإلجراءات الجنائية‬
‫قانون الشرفاء‪.‬‬

‫فيكون من العدل تزويد المتهم بحقوق إضافية يستطيع أن يواجه المبتكرات الحديثة في كل‬
‫مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية‪ ،‬ومن أهم تلك الحقوق ضرورة تمتع المتهم بحقه في‬
‫الصمت‪ ،‬الذي يبيح له الحق في عدم اإلجابة عن األسئلة الموجهة إليه‪ ،‬وأن يلتزم الصمت‬
‫دون أن يضغط عليه في سبيل استخالص ما يضر به‪ ،‬ومن دون أن يعد صمته قرينة ضده‬
‫يستند إليها في إدانته‪ ،‬فالممتنع عن الكالم لم ينطق ولم يعبر عن إرادته بأي شكل أو إشارة‬
‫متداولة عرفاً‪ ،‬وبذلك فال دليل في هذا الصمت‪ ،‬مما يصعب منه القدرة على تأويله في أي‬
‫اتجاه‪.‬‬

‫وحق المتهم في الصمت غزا القوانين والمواثيق الدولية وقد تم بدالالت لفظية مختلفة (‪)1‬‬
‫ففي القانون األمريكي وطبقا ً للتعديل الخامس لدستورها عام‪ 1791‬تم التعبير عن هذا الحق‬
‫بأن يكون للمتهم الحق في البقاء صامتاً"‪ ،‬وفي القانون اإلنجليزي والكندي يعبر عنه " بالحق‬
‫في أال يكره المتهم على الشهادة ضد نفسه"‪ ،‬وفي القانون اإليطالي تم التعبير عنه بأن "‬
‫يكون لكل متهم الحق في السكوت"‪ ،‬وفي القانون البرتغالي يكون للمتهم " الحق في عدم‬
‫اإلجابة على األسئلة"‪ ،‬وفي القانون الفرنسي "للمتهم الحق في عدم القيام أو اإلدالء بأي قرار‬
‫م ‪ ،)1/114‬وعدم جواز سؤال المشتبه فيه إال بموافقته" (م ‪ 3/116‬إجراءات فرنسي)‪ ،‬وفي‬
‫القانون المصري تم التعبير عن هذا الحق بأنه " ال يجوز استجواب المتهم إال إذا قبل ذلك"‬
‫(م) ‪ 284‬إجـرات مصري) وفي الدستور المصري تم التعبير عنه بأن "وللمتهم الحق في‬
‫الصمت" (م ‪ 3/55‬من الدستور المصري ‪.)2014‬‬

‫ومن ثم يتضح أن أهمية حق المتهم في الصمت تأتي من أهمية حقوق اإلنسان نفسها وكرامته‬
‫التي تحظى باهتمام كبير سواء أكان من جانب الدولة أم األفراد على السواء‪ ،‬كما أنها محل‬
‫اهتمام وعناية خاصة من جانب المؤتمرات الدولية والدساتير والقوانين الوطنية والشريعة‬

‫‪13‬‬
‫اإلسالمية‪ ،‬باعتبارها هدفا ً تسعى الشعوب جميعا ً إلى تحقيقه كي تنعم باألمن واألمان‬
‫والطمأنينة فال يهدر حق وال تنتقص حرية‪.‬‬

‫حق المتهم في الصمت يعتبر من حقوق الدفاع التي تعد الزاوية بالنسبة للمحاكمة العادلة‪،‬‬
‫وضمانة أساسية ومهمة لحماية األفراد المصلحة العامة وحقوقهم‪ ،‬كما أنه لصيق الصلة‬
‫بمبدأ البراءة وهو حق الزم لتحقيق التوازن بين المصلحة العامة والحقوق والحريات‬
‫الفردية‪ .‬ومن ثم نتناول هذا الفصل من خالل مبحثين‪:‬‬
‫ـ المبحث األول‪ :‬مفهوم حق المتهم في الصمت‬
‫ـ المبحث الثاني‪ :‬قرينة البراءة كأساس قانوني لحق المتهم في الصمت‬

‫المبحث األول‪ :‬مفهوم حق المتهم في الصمت‬


‫الصمت عامة يعني امتناع الشخص عن التعبير عما بداخله‪ .‬والمقصود بحق المتهم في‬
‫الصمت‪ ،‬هو تلك الحرية المقررة للمتهم باالمتناع عن اإلجابة على الموجهة إليه‪ ،‬أو اإلدالء‬
‫بأية معلومات قد تؤدي إلى تأكيد إدانته أو حتى االقتراب منها‪ ،‬أو تكشف أمورا يفضل‬

‫‪14‬‬
‫االحتفاظ بسريتها‪ ،‬أو العتبارات أخرى تفرض عليه تفضيل السكوت والصمت على اإلجابة‬
‫أو المصارحة‪.‬‬
‫فلم يعد المتهم الموضوع السلبي لإلجراءات الجزائية تنصب عليه أعمال القسر واإلكراه‬
‫التي تباشره السلطات العامة وتهدف عن طريقها إلى انتزاع الحقيقة في صورة االعتراف‬
‫بالجريمة‪ ،‬وله بهذه الصفة حقوق إجرائية يستمدها من القانون مباشرة‪ ،‬وإن جوهر هذه‬
‫الحقوق هو حقه في أن يبدي دفاعه على النحو الذي يقرر مصلحته‪ ،‬ويعني بذلك أن له‬
‫حرية الكالم‪.‬‬
‫ويشمل حق المتهم في حرية الكالم التزامه الصمت‪ ،‬ويعني هذا الحق كما سبقت اإلشارة‬
‫حرية الشخص المتهم في اإلجابة عما يوجه إليه من أسئلة أو االمتناع عن اإلجابة‪ ،‬إذ أن‬
‫القاعدة هي عدم إجبار الشخص على الكالم بأي وسيلة‪ ،‬ألن هذا حق من حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫ومن ثم ال يجوز ألي جهة مخالفته باالعتداء على الشخص وحمله على اإلجابة عن األسئلة‪.‬‬
‫وحق المتهم في الصمت إنما يأتي إعماال لقرينة البراءة ونتيجة من نتائجها‪ ،‬هذه‬
‫القرينة التي تفترض بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات‪ ،‬إذ أن القرينة‬
‫تبقى قائمة طوال جميع إجراءات الدعوى الجزائية‪ ،‬ونتيجة لذلك‪ ،‬ال يطلب من المتهم إثبات‬
‫براءته القائمة أصال بمقتضى قرينة البراءة‪ ".‬وعليه فإن االتجاه الغالب في الفقه يقرر منح‬
‫المتهم الحرية الكاملة في إبداء أي أقوال‪ ،‬وله الحق في أن يلتزم الصمت‪.‬‬
‫وهذا الحق في مقرر لجميع المتهمين سواء أكان المتهم مبتدأ أم من أصحاب السوابق‪،‬‬
‫فالمتهم أيا كان هو شخص إجرائي وليس مجرد موضوع إجرائي‪ ،‬ومن ثم ال يمكن إزالة‬
‫هذه الصفة عنه أو حرمانه من حماية التي يقررها القانون ألطراف الدعوى‪".‬‬
‫وحق المتهم في الصمت يمتد إلى جميع مراحل الدعوى الجزائية‪ ،‬وال يجوز في أية‬
‫مرحلة منها أن يكون صمته قرينة على إدانته‪ ،‬ألن الصمت ليس إال استعماال لحق قرره‬
‫القانون‪.‬‬
‫وصمت المتهم له دوافع وأسباب عديدة‪ ،‬فقد يكون صمته الحرص على إنقاذ شخص‬
‫عزيز هو الفاعل الحقيقي للجريمة‪ ،‬أو التستر على أمور تمثل لديه أهمية خاصة‪ ،‬أو الرغبة‬
‫في إخفاء حقيقة الواقعة المرتكبة خشية أن يؤدي كالمه إلى افتضاح أمره‪ ،‬وصمت االبن‬
‫عندما توجه إليه تهمة ارتكبها والده‪ ،‬أو في حاالت الزنا عندما يضبط الشخص بمنزل‬
‫صديقته فيفضل السكوت إزاء تهمة السرقة حفاظا على شرف صديقته‪ ،‬وقد يكون صمت‬
‫المتهم نتيجة رغبته في استشاره محاميه بسبب الرهبة في مواجهة السلطات‪.‬‬
‫وصمت المتهم إما أن يكون صمتا متعمدا‪ ،‬وتتحقق الحالة األولى عندما يكون الشخص‬
‫أصم وأبكم‪ ،‬أما الصمت المتعمد فيتحقق عندما يكون الشخص طبيعيا متمتعا بكل الحواس‬
‫ولكن يمتنع بإرادته عن اإلجابة عن األسئلة التي توجه إليه لرغبته في ذلك‪ ،‬وقد يلجأ‬

‫‪15‬‬
‫الشخص األصم واألبكم إلى الصمت المتعمد عندما تكون اإلشارات الصادرة منه دالة على‬
‫رفضه أو امتناعه عن اإلجابة عن األسئلة التي توجه إليه‪.‬‬
‫ونخلص إلى أن التزام المتهم الصمت ينسجم مع حق الدفاع‪ ،‬وال يجوز للمحكمة أن‬
‫تستخلص من ذلك الصمت قرينة ضده‪ ،‬وإال كان ذلك إطاحة بأصل البراءة وما تولد عنه‬
‫من حقوق الدفاع‪.‬‬
‫حق المتهم في الصمت غير منصوص عليه بصفة صريحة في اإلعالن العالمي لحقوق‬
‫اإلنسان الذي يعتبر ضوء أنار باقي النصوص الدولية واإلقليمية واحتوى على الخطوط‬
‫العريضة واكتفى في هذا المجال بالتأكيد على قرينة البراءة والحق في الدفاع في المادة ‪11‬‬
‫وهما من أحد أقطاب الحق في الصمت‪ .‬وقد جاء النص على هذا الحق في العهد الدولي‬
‫المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية من خالل المادة ‪ 14‬فقرة ‪ 03‬التي أشارت إلى‬
‫الضمانات التي يستفيد منها المتهم ومن بينها الحق في الصمت‪".‬‬
‫وجاء النص على هذا الحق في توصيات عديدة منها توصية المؤتمر الدولي السادس‬
‫لقانون العقوبات المنعقد في روما سنة ‪ 1953‬والتي جاء فيها‪« :‬ال يجبر المتهم على‬
‫اإلجابة‪ ،‬ومن باب أولى ال يكره عليها‪ ،‬فهو حر في اختيار الطريق الذي يسلكه محققا‬
‫مصلحته "‪ ،‬كما أوصلت لجنة حقوق اإلنسان التابعة لألمم المتحدة بالتصريح‪« ":‬ال يجبر‬
‫أحد على الشهادة ضد نفسه ويجب قبل سؤال واستجواب كل شخص مقوض عليه أو‬
‫محبوس أن يحاط علما بحقه في الصمت "‪ .‬كما كرس هذا المبدأ في العديد من المؤتمرات‬
‫الدولية ومنها المؤتمر الثاني عشر المنعقد في هامبورغ سنة ‪ 1979‬الذي جاء فيه في هذا‬
‫الخصوص أن‪ ":‬التزام الصمت حق مقرر لكل منهم في الجريمة المنصوص عليها في‬
‫قانون العقوبات ويجب إعالم المتهم بهذا الحق‪.‬‬
‫كذلك ورد هذا الحق في المواثيق الدولية واالتفاقيات اإلقليمية ضمن حقين هما الحق في‬
‫افتراض البراءة والحق في عدم االرغام على الشهادة واالعتراف بالذنب‪ ،‬فهو حق مكفول‬
‫حتى في االتهام بأسوأ الجرائم مثل جرائم اإلبادة البشرية‪ .‬كما أنه مكفول صراحة في‬
‫القاعدة ‪ 42‬من قواعد يوغسالفيا والقاعدة ‪ 42‬من قواعد رواندا والمادة ‪ 55‬من النظام‬
‫األساسي للمحكمة الجنائية الدولية وأكدت عليه المحكمة األوروبية‪.‬‬
‫وقد انقسمت التشريعات بين االعتراف بهذا الحق صراحة أو ضمنا‪ ،‬أما تلك التي اعترفت‬
‫صراحة تمثلت في كل من التشريع الفرنسي فقد نص في المادة ‪ 14‬من ق إ ج ف الصادر‬
‫عام ‪ 1958‬على الحق في الصمت‪ ،‬حيث ألزمت هذه المادة القاضي على تنبيه المتهم عند‬
‫المثول األول أمامه في حقه باإلدالء بأي أقوال بما فيها حقه في الصمت وكتابة ذلك في‬
‫المحضر وإال يعرض إجراءه للبطالن‪ ،‬كذلك نظيره اإليطالي حيث نصت المادة ‪ 367‬من‬
‫ق إ ج اإليطالي على أنه " إذا رفض المتهم اإلجابة يشار إلى ذلك في المحضر ويستمر‬
‫القاضي في التحقيق "‪ .‬باإلضافة إلى العديد من التشريعات التي نصت على هذا الحق‬
‫صراحة كالتشريع الكويتي في نص المادة ‪ 158‬من ق إ المحاكمات الجزائية الكويتي‪،‬‬
‫‪16‬‬
‫والسوداني في نص المادة ‪ 218‬من ق إ الجنائية السوداني الصادر سنة ‪ ،1974‬ونص‬
‫المادة ‪ 189‬من ق إ ج العماني‪.‬‬
‫أما تلك التشريعات التي اتخذت موفقا مغايرا وهو النص على المبدأ ضمنا من بينها‬
‫التشريع البلجيكي الذي لم يتضمن أي نص صريح يلزم المتهم باإلدالء بأقواله‪ ،‬غير أنه‬
‫يتضح من اجتهادات الفقه والقضاء أن المتهم يتمتع بالحق في الصمت‪ ".‬إضافة إلى ذلك نجد‬
‫التشريع المصري من التشريعات التي لم تقر بحق المتهم في الصمت صراحة‪ ،‬إال أن‬
‫امتناعه عن اإلجابة ال يعتبر قرينة على اإلدانة وهو حق مستمد من قرينة البراءة‪ ،‬وقد‬
‫قضت محكمة النقض المصرية أنه من المقرر قانونا أن المتهم إذا شاء أن يمتنع عن‬
‫اإلجابة‪ ،‬او االستمرار فيها ال يعد هذا االمتناع قرينة ضده‪.‬‬
‫وتكاد تجمع التشريعات على عدم جواز استخالص القاضي من صمت المتهم شيئا في غير‬
‫صالحه‪ ،‬وبداللة أحرى ال يجوز للمحكمة أن تعتبر الصمت دليال على االعتراف بالذنب أو‬
‫صحة االتهام‪.‬‬
‫الحق في الصمت مقرر للشخص الذي يوصف بالمتهم دون غيره من أطراف الدعوى‬
‫الجنائية‪ ،‬لذا البد أن نتعرف أوال ًعلى ماهية حق المتهم في مطلب أول‪ ،‬ثم نوضح ماهية‬
‫الصمت‪ ،‬وذلك على التالي‪:‬‬
‫المطلب األول‪ :‬مفهوم حق المتهم في الصمت‬
‫األصل في اإلنسان البراءة واالتهام صفة طارئة يوصف بها الشخص‪ ،‬وذلك يعني أن يعني‬
‫هذا الوصف الطارئ للشخص يمثل مرحلة وقتية تتوسط بين وصفي البراءة واإلدانة‪ ،‬وهذا‬
‫الوصف إما أن يزول فيعود الشخص إلى أصله في البراءة أو يتغير إلى اإلدانة عند ثبوت‬
‫التهمة‪ ،‬فمن المعلوم أن الدعوى الجنائية شخصية‪ ،‬ال ترفع إال على ما يعده القانون متهما‬
‫بارتكاب الجريمة سواء بوصفه فاعال لها أم شريكا فيها‪ ،‬فالمتهم هو المدعي عليه في‬
‫الدعوى الجنائية‪ ،‬وله بهذه الصفة حقوقا إجرائية يستمدها من القانون مباشرة‪ ،‬وإن جوهر‬
‫هذه الحقوق هو حقه في أن يبدي دفاعه على النحو الذي يقدر أنه أدعى إلى مصلحته‪،‬‬
‫ويعني ذلك أن له حرية الكالم في التعبير عن وجهة نظره أو حقه في التزام الصمت‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬تعريف حق المتهم‬


‫أوالً‪ :‬تعريف الحق‪:‬‬
‫الحق في اللغة‪ :‬الحق ضد الباطل وهو الموجود الثابت اليقين‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫الحق اصطالحا‪ :‬هو استنثار بشيء أو بقيمة استنثار يحميه القانون وتكون لصاحبة‬
‫مميزات ينفرد بها‬
‫دون غيره من الناس على ما خوله هذه القيمة أو ذاك الشيء‪ .‬والغاية من االستئثار هي‬
‫تحقيق مصلحة أو منفعة أ فائدة لمن يثبت له ذلك‪ ،‬فالحق يفترض دائما وجود مركز ممتاز‬
‫للشخص بالنسبة لألخرين‪ ،‬وحتى يمكنه االستئثار من التمتع بالسلطات التي خولها له فالبد‬
‫منع الغير من التعرض له وإلزامهم" باالمتناع عن كل ما من شانه اإلضرار به في استنثار‬
‫خصوصا إذا كان متهما‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬تعريف المتهم‬
‫المتهم في اللغة‪ :‬هو لفظ مشتق من الفعل تهم بمعنى أدخل التهمة على الشخص وجعله‬
‫مظنة لها‪ ،‬فهو من أدخلت عليه التهمة‪ ،‬وظنت به وتوهم أي ظن‪ ،‬وأوهم غيره إيهاما‬
‫ووهمه أيضا ً توهيما ً وأتهمه بكذا واالسم التهمة وقيل إن التهمة هي الشك والريبة‪.‬‬
‫ـ تعريف المتهم في القانون‪ :‬لم يعرف المشرع المصري المتهم سواء في نصوص‬
‫قانون العقوبات أو قانون اإلجراءات الجنائية رغم استخدمه للفظ المتهم في كل مراحل‬
‫الدعوى الجنائية فاسح المجال الجتهادات الفقهاء التي جاءت تعريفاتهم متشابهة ومتماثلة‪.‬‬
‫ـ تعريف المتهم في الفقه الجنائي ‪ :‬تعددت التعريفات الفقهية للمتهم فعرفه البعض بأن‬
‫المتهم هو كل شخص تثور ضده شبهات بارتكابه فعالً إجراميا ً فيلتزم بمواجهة االدعاء‬
‫بمسؤوليته عنه و الخضوع لإلجراءات التي يحددها القانون و تستهدف تمحيص هذه‬
‫الشبهات و تقدير قيمتها ثم تقدير البراءة أو اإلدانة هلل ‪ ،‬وعرفه ثاني ‪ :‬بأن المتهم هو هلل كل‬
‫شخص تحرك الدعوى الجنائية ضده لشبهة ارتكابه جريمة أو اشتراكه فيها هلل كما قيل بأن‬
‫المتهم هو كل شخص أقامت سلطة تحقيق الدعوى الجنائية ضده امام قضاء الحكم أو رفعت‬
‫الدعوى الجنائية عليه يعد متهما ‪.‬‬
‫ويرى البعض من الفقهاء أن ما يميز المتهم عن المشتبه فيه هو في قيمة الشبهات أو‬
‫األدلة الموجهة إليه‪ .‬فإذا ما وصلت إلى حد الشك في إسناد التهمة إليه كان متهما أما إذا‬
‫كانت من الضعف والبساطة بحيث ال يرجح معها االتهام فيكون الشخص في موضع‬
‫االشتباه ومن جانب آخر فإن المتهم يختلف عن المحكوم عليه قد بوشرت ضده اإلجراءات‬
‫الجنائية وصدر عليه حكم اإلدانة‪ ،‬أما المتهم فيستفيد من قرينة البراءة‪.‬‬
‫ـ االتهام صفة طارئة يوصف بها الشخص‪ ،‬ذلك أن األصل في اإلنسان البراءة‪ ،‬وهذا‬
‫يعني أن هذا الوصف الطارئ للشخص يمثل مرحلة وقتية تتوسط بين وصفي البراءة‬
‫واإلدانة‪ ،‬وهذا الوصف إما أن يزول فيعود الشخص إلى أصله في البراءة أو يتغير إلى‬
‫اإلدانة عند ثبوت التهمة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫والشخص الذي يوصف بهذا الوصف الطارئ (االتهام) يعد متهما‪ ،‬والمتهم لغة من‬
‫التهمة وأصلها الوهمة من الوهم‪ ،‬والتهمة ظن والجمع تهم وأيهم الرجل و اتهمته و أوهمه‪:‬‬
‫أدخل عليه التهمة أي ما يتهم به‪ ،‬و اتهم الرجل إذا صارت به الريبة‪ ،‬و اتهمته ظننت فيه ما‬
‫نسب إليه‪.‬‬

‫ومن الناحية القانونية فقد عرفه البعض) المتهم هو كل شخص تثور ضده شبهات‬
‫بارتكابه فعالً إجرامياً‪ ،‬فيلتزم بمواجهة االدعاء بمسؤوليته عنه والخضوع لإلجراءات التي‬
‫يحددها القانون وتستهدف تمحيص هذه الشبهات وتقدير قيمتها ثم تقدير البراءة أو اإلدانة (‬

‫وعلى الرغم من أهمية هذا المصطلح (المتهم (فإن التشريعات في مختلف الدول لم تعط‬
‫األمر عنايتها الكافية التي يستحقها‪ ،‬كما واختلفت التشريعات بخصوص المرحلة التي يبدأ‬
‫فيها االتهام‪.‬‬

‫ففي المادة (‪( 2‬من قانون أصول المحاكمات الجزائية األردني يعد المدعي عليه في‬
‫دعوى الحق العام هو المشتكي عليه‪ ،‬وهو الشخص الذي تقام الدعوى ضده‪ .‬ويسمى متهما‬
‫إن اتهم بجناية وصدر قرار اتهام بذلك‪ ،‬وأشارت المادة الثامنة من قانون اإلجراءات‬
‫الجزائية الفلسطيني إلى أن "كل شخص تقام عليه دعوى جزائية تسمى متهما "‪ .‬أما ما‬
‫يميز المشتبه فيه عن المتهم فيرى عدد من الفقهاء أن الفارق بينهما هو في القيمة الشبهات‬
‫أو األدلة الموجهة إليه‪ ،‬فإذا وصلت الى حد الشك في إسناد التهمة إليه كان متهما أما إذا‬
‫كانت من الضعف والبساطة بحيث ال يرجح معها االتهام فيكون الشخص في موضع‬
‫االشتباه‪.‬‬
‫أما المشرع العراقي فإنه لم يعط تعريفا للمتهم ولكنه أخذ بمبدأ االتهام ابتداء سواء كان‬
‫في دور التحري عن الجرائم ‪ ،‬أي مرحلة جمع االستدالالت التي يتناولها عضو الضبط‬
‫القضائي ‪ ،‬او في مرحلة التحقيق الذي يجريه المحقق تحت إشراف قاضي التحقيق ‪ ،‬ففي‬
‫مرحلة التحري عن الجرائم وجمع األدلة ذكرت أحكام المادة ‪ 43‬من قانون أصول‬
‫المحاكمات الجزائية عبارة " ‪.............‬ويسأل" المتهم عن التهمة المسندة إليه ‪"............‬‬
‫أما في مرحلة التحقيق االبتدائي فقد تطرقت أحكام المواد ‪ 50‬ـ ‪ 57‬إلى مصطلح ( المتهم (‬
‫في كافة مراحل التحقيق ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وبهذا فإن قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي ال يفرق بين المتهم والمشتبه فيه‪،‬‬
‫فهو يأخذ بالمفهوم الواسع للمتهم‪ ،‬إذ أن المتهم يوصف بهذه الصفة في جميع المراحل قبل‬
‫وبعد إقامة الدعوى ولحين إصدار حكم قضائي باإلدانة أو البراءة‪ ،‬وهذا بخالف بعض‬
‫القوانين األخرى التي تأخذ بالمفهوم الضيق للمتهم إذ يعد الشخص مشتبه به في مرحلة جمع‬
‫االستدالالت ولم تحرك الدعوى الجزائية ضده‪ ،‬فاالشتباه مرحلة سابقة على االتهام‪.‬‬

‫ومن جانب آخر فإن المتهم يختلف عن المحكوم في أن هذا األخير قد بوشرت ضده‬
‫اإلجراءات الجزائية وصدر عليه حكم باإلدانة‪ ،‬فالمتهم يختلف عن المحكوم عليه من حيث‬
‫المركز القانوني مرجعه إلى أن األول دون الثاني يستفيد من قرينة البراءة‪ ".‬أما بالنسبة‬
‫لموقف القضاء من تعريف المتهم فقد قضت محكمة النقض المصرية " أن المتهم في حكم‬
‫الفقرة األولى من المادة ‪ 126‬من قانون العقوبات ‪ ،‬هو كل من وجه إليه االتهام بارتكاب‬
‫جريمة معينة ولو كان ذلك أثناء قيام مأموري الضبط القضائي بمهمة البحث عن الجرائم و‬
‫مرتكبيها و جمع االستدالالت التي تلزم للتحقيق و الدعوى و واضح أن القضاء المصري‬
‫يؤيد االتجاه الذي يأخذ بالمفهوم الواسع للمتهم ‪ ،‬إذ أن في ذلك ضمان لحقوق الشخص‬
‫المتهم بجريمة منذ مرحلة التحري و جمع األدلة كعدم التعرض له أو تعذيبه أو استعمال‬
‫القسوة معه من قبل عضو الضبط القضائي ‪ ،‬إذ أن هذه األفعال مجرمة بموجب قانون‬
‫العقوبات ‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬تعريف حق الصمت‬


‫حق الصمت أو الحق في التزام الصمت هو مبدأ قانوني يضمن ألي شخص الحق في‬
‫رفض اإلجابة على أسئلة الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون أو أسئلة مسؤولي المحكمة‪ .‬يُعتبر‬

‫‪20‬‬
‫بشكل عرفي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الحق في التزام الصمت ح ًقا قانونيا معتر ًفا به‪ ،‬بشكل صريح في الدستور أو‬
‫في العديد من األنظمة القضائية حول العالم‪.‬‬
‫بشكل أساسي على حق المتهم أو‬‫ٍ‬ ‫يشتمل الحق في الصمت على عدد من القضايا التي ترتكز‬
‫المدعى عليه في رفض التعليق أو تقديم اإلجابة على أي سؤال يُطرح عليه عند استجوابه‪،‬‬
‫سوا ًء قبل بدء اإلجراءات القانونية في المحكمة أو ح ّتى أثناءها‪ .‬من الممكن أن يكون هذا‬
‫الحق هو حق تجنب تجريم الذات‪ ،‬أو الحق في التزام الصمت أثناء االستجواب‪ .‬من الممكن‬
‫أن يشمل الحق في التزام الصمت أيضًا حكمًا يمنع القاضي أو هيئة المحلفين من أن يقوموا‬
‫باستنتاجات سلبية فيما يتعلق برفض المدعي عليه لإلجابة على األسئلة الموجهة إليه قبل‬
‫المحاكمة أو أثناءها أو أي إجراء قانوني آخر‪ .‬يش ّكل هذا الحق جزءًا صغيرً ا فقط من‬
‫الحقوق التي يمتلكها المدعى عليه‪.‬‬
‫يعود األصل في وضع مبدأ " الحق في الصمت " إلى اعتراض المحامي والقاضي‬
‫البريطاني الشهير إدوارد كوك على المحاكم الكنسية وعلى أحكام االلتزام بالقسم التي‬
‫تصدرها هذه المحاكم بصفتها الرسمية‪ .‬تم اعتماد مبدأ الحق في " التزام الصمت " في‬
‫إنكلترا في أواخر القرن السابع عشر كرد فعل شعبي على تجاوزات المحاكم الملكية في‬
‫التحقيقات التي تجريها مع المتهمين‪ ".‬يشكل إبالغ المشتبه بهم في الواليات المتحدة بحقهم في‬
‫التزام الصمت وبالعواقب المترتبة على تخليهم عن هذا الحق جزءًا رئيسيًا من‪ ‬تحذير‪.‬‬
‫تعتبر أسباب اعتماد مبدأ التزام الصمت وتاريخه أمورً ا مبهمة إلى حد ما‪ .‬أصبح النص‬
‫القانوني الالتيني الذي يقول (الشخص غير ملزم بتعريض نفسه لالتهام) بمثابة صرخة‬
‫مدوية للمعارضين السياسيين ورجال الدين الذين تمت مقاضاتهم في القرن السادس عشر‬
‫في محكمة (غرفة الملك) اإلنكليزية وفي مكتب المفتش العام‪ُ .‬أجبر األشخاص الذي كانوا‬
‫يلجأون إلى هذه المحاكم على أداء قسم يضطرهم إلى اإلجابة بصدق على األسئلة الموجهة‬
‫لهم دون معرفة األمور التي يُتهمون بها‪ .‬أدى هذا األمر إلى خلق ما يطلق عليه »المأزق‬
‫الثالثي القاسي «حيث ُأجبر المتهمون على االختيار بين شهادة الزور (التي كانت عقوبتها‬
‫اإلعدام ) في حال كذبوا تحت القسم بهدف حماية أنفسهم‪ ،‬والعقوبة القاسية على ازدراء‬
‫المحكمة في حال رفضوا اإلجابة‪ ،‬أو خيانة واجبهم الفطري في الحفاظ على الذات في حال‬
‫أجابوا بالحقيقة لكي ال يحنثوا بيمينهم‪ .‬يُعتبر تحدي السير إدوارد كوك للمحاكم الكنسية‬
‫وقسمها ‪-‬التي تفرضه بصفتها الرسمية‪-‬منشأ مبدأ الحق في التزام الصمت‪ ".‬وجّ ه كوك من‬
‫خالل قراره القاضي بإعطاء محاكم القانون الحق في إصدار أوامر حظر لمثل هذه األيمان‬
‫التي تتعارض مع القانون العام (كما هو موجود في تقاريره ومؤلفاته) الضرب َة الحاسمة‬
‫للقسم التي تفرضه المحكمة على المتهمين بحكم سلطتها القضائية ولمكتب المفتش العام‪.‬‬
‫أصبح الحق في الصمت‪ ،‬بعد الثورات البرلمانية التي وقعت وف ًقا لبعض الروايات‬
‫راسخا في القانون كر ّد فعل شعبي على تجاوزات‬‫ً‬ ‫التاريخية‪-‬أواخر القرن السابع عشر‪،‬‬
‫المحاكم الملكية في التحقيقات التي تجريها مع المتهمين‪ ".‬أدى رفض إجراءات محكمة‬
‫(غرفة الملك) وإجراءات مكتب المفتش العام في نهاية المطاف إلى اعتماد هذا المبدأ‪ .‬ال‬
‫يتوجب‪ ،‬وف ًقا للحقوقي وخبير قانون األدلة األمريكي جون هنري ويغمور‪ ،‬على أي شخص‬

‫‪21‬‬
‫أن يدين نفسه‪ ،‬بأي تهمة‪ ،‬بعض النظر عن الوضع القانوني له‪ ،‬وفي أي محكمة (ليس في‬
‫المحاكم الكنسية أو في محكمة» غرفة الملك «فحسب)‪ .‬تمت توسعة نطاق هذا المبدأ خالل‬
‫عصر استرداد الملكية اإلنكليزية (بدءًا من عام ‪ )1660‬ليشمل الشاهد العادي‪ ،‬وليس‬
‫الطرف المتهم فحسب‪.‬‬
‫لم يكن بالرغم مما سبق‪-‬الحق في التزام الصمت حقيقة ملموسة بالنسبة لجميع المتهمين في‬
‫المحاكم اإلنكليزية في الفترة الالحقة‪ ،‬إذ غالبًا ما كان يُعتقد أن المتهم الذي يبقى صام ًتا مع‬
‫األخذ في عين االعتبار محدودية القدرة على الوصول إلى مستشار قانوني (األمر الذي‬
‫يعتمد على الحالة االجتماعية للمتهم)‪ ،‬وتغير معيار األدلة‪ ،‬وعدم الثقة التي يبديها النظام‬
‫القضائي بشكل عام للمتهمين الصامتين مذنبًا ويحكم عليه بالسجن‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد ظل الحق‬
‫في التزام الصمت ح ًقا أساسيًا متاحً ا للمتهمين‪ ،‬وكانت ممارسته أمرً ا مقبواًل على مدى‬
‫القرون القليلة الماضية‪ .‬لم تختف‪ ،‬في إنكلترا‪ ،‬ممارسات االستجواب القضائي لألشخاص‬
‫المتهمين أثناء المحاكمة (باعتبارها مختلفة عن االستجواب قبل محاكمتهم) حتى وقت‬
‫متأخر من القرن الثامن عشر‪ ،‬في الوقت الذي أصبح فيه بحلول القرن التاسع عشرإدالء‬
‫المتهمين لشهاداتهم مع قسم حتى لو أرادوا ذلك أمرً ا غير مقبول‪ .‬ويُقال أيضًا إن ذلك كان‬
‫رد فعل على حاالت عدم اإلنصاف في محكمة "غرفة الملك " وفي مكتب المفتش العام‪.‬‬
‫ظ ّل الحق في التزام الصمت في البلدان التي كانت في السابق جزءًا من اإلمبراطورية"‬
‫البريطانية (كدول الكومنولث والواليات المتحدة وجمهورية أيرلندا) مكرسًا في تقاليد‬
‫القانون العام الموروث من إنكلترا‪ ،‬على الرغم من أ ّنه لم يعد ساريًا في إنكلترا وويلز‪ ،‬حيث‬
‫يمكن أن تعتبر هيئات المحلفين التزا َم الصمت عالمة على الشعور بالذنب‪ .‬ال يزال القانون‬
‫اإلسكتلندي‪ ،‬غير المشتق من القانون اإلنكليزي بل المنفصل عنه تمامًا يدعم الحق الكامل‬
‫في الصمت‪ ".‬كان الحق في التزام الصمت في الواليات المتحدة موجو ًدا قبل الثورة‬
‫األمريكية‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد اعتبر هذا الحق واح ًدا من أهم الضمانات التي تحمي المواطنين‬
‫من اإلجراءات التعسفية للدولة‪ ،‬والتي ضمنها التعديل الخامس للدستور األمريكي تحت بند‬
‫"اإلجراءات القانونية الواجبة " التي ُذكرت ألول مرة في تشريع إدوارد الثالث في عام‬
‫‪ ،1354‬الذي ينطوي على صياغة مماثلة لتلك المنصوصة" في التعديل الخامس‪.‬‬
‫امتد الحق في الصمت إلى العديد من دول اإلمبراطورية البريطانية‪ .‬من الممكن اليوم رؤية‬
‫المسارين المختلفين والمتباينتين اللذان تطورت خاللهما هذه الحقوق وف ًقا للقانون األنجلو‬
‫أمريكي (األول من خالل الحقوق الذي يعبر عنها الدستور الراسخ‪ ،‬والثاني الذي تعبر عنه‬
‫القوانين البرلمانية التي تحدد الحقوق العامة وأشكال الحماية في القانون العام) في دول‬
‫الكومنولث كأستراليا ونيوزلندا حيث ال يزال ضباط الشرطة مطالبين بموجب القانون العام‬
‫بإصدار تحذيرات مشابهة لتحذير ميراندا (دون وجود عالقة مباشرة بين هذه التحذيرات‬
‫وتحذير ميراندا األمريكي) وإبالغ المعتقلين بحقهم في رفض اإلجابة على أي سؤال‪ ،‬وأ ّنه‬
‫من الممكن أن يتم استخدام أي تصريح يدلون به أو فعل يقومون به في المحكمة كدليل‬
‫ضا تحديد فيم إذا فهم المعتقل حقوقه هذه أم لم يفهمها‪ ،‬يمكن‬ ‫ض ّدهم‪ .‬يتوجّ ب على الشرطة أي ً‬
‫أن يعرّ ض أي فشل في أداء هذه المهمة أفراد الشرطة لخطر المالحقة الجنائية‪ .‬على الرغم‬
‫من االختالف بين التحذيرات في دول الكومنولث وتحذير ميراندا األمريكي‪ ،‬لك ّنها تتشارك‬
‫‪22‬‬
‫الهدف الذي يعود بأصله إلى تقاليد القانون العام الموروث‪ ".‬على أي حال‪ ،‬ال يُقبل في‬
‫أستراليا على سبيل المثال أي شيء يقوله المتهم أثناء استجواب الشرطة له خالل عملية‬
‫احتجازه كدليل ض ّده ما لم يت ّم إثباته‪ ،‬من خالل تسجيل صوتي أو فيديو‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬مفهوم الصمت‬


‫مفهوم صمت المتهم‪ :‬لقد تعددت التعريفات الفقهية لبيان المقصود بصمت المتهم‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬تعريف الصمت وأنواعه‬

‫‪23‬‬
‫فعرفه البعض بقوله‪ :‬هو تلك الحرية المقررة للمتهم باالمتناع عن اإلجابة على األسئلة‬
‫الموجهة إليه أو األدالء بأية معلومات قد تؤدي إلى إدانته أو ثبوتها أو حتى مجرد االقتراب‬
‫منها أو تكشف أمور يفضل االحتفاظ بسريتها أو نزوالً على اعتبارات أخرى تفرض عليه‬
‫تفضيل السكون والصمت على اإلجابة أو المصارحة‪.‬‬

‫وعرفه ثاني بقوله هو‪ ":‬حق المتهم في أن يظل صامتا ً ال يتكلم ال بالسلب وال باإليجاب‪،‬‬
‫سواء كان ذلك في مرحلة جمع االستدالالت أمام الشرطة أو في مرحلة التحقيق االبتدائي‬
‫أمام النيابة أو قاضي التحقيق دون أن يعد صمته هذا بأي حال من األحوال قرينة أو دليالً‬
‫ضده "‪ ،‬وعرفه ثالث " بأنه امتناع المتهم عن اإلجابة على األسئلة الموجهة إليه من قبل‬
‫أفراد السلطة العامة وذلك بمحض إرادته دون أن يكون هناك أي عائق صحي أو عاهة‬
‫طبيعية"‪.‬‬

‫وعرفه رابع بأنه‪" :‬حرية الشخص المتهم في اإلجابة عما يوجه إليه من أسئلة أو االمتناع‬
‫عن اإلجابة‪ .‬إذ أن القاعدة هي عدم إجبار الشخص على الكالم بأي وسيلة‪ ،‬ألن هذا حق من‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬ومن ثم ال يجوز ألي جهة مخالفته باالعتداء على المتهم وحمله على‬
‫اإلجابة عن األسئلة‪ ،‬كما أن للمتهم عدم االستمرار في اإلجابة حتى لو أجاب على بعض‬
‫منها‪ ،‬كما أن له الحق في اختيار الوقت الذي يراه مناسبا ً فضالً عن الطريقة التي يبدي بها‬
‫دفاعه‪ ،‬فالمتهم غير ملزم بالدفاع عن نفسه ألنه يستفيد من حق الصمت ووفقا ً لما تقتضيه‬
‫مصلحته"‪.‬‬

‫وترجع صعوبة تعريف حق المتهم في الصمت لكونه يتعلق بجوانب نفسية داخلية ال يمكن‬
‫فهمها بسهولة ولتعلقها بمشاعر وأحاسيس دقيقة ومعقدة تنم عن غريزة المحافظة لدى‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫صمت المتهم إما أن يكون صمتا ً طبيعيا ً إجبارياً‪ ،‬وإما أن يكون صمتا ً متعمداً مقصوداً‪ ،‬وفيما‬
‫يلي نتناول النوعان على النحو التالي‪:‬‬

‫النوع األول‪ :‬الصمت الطبيعي (اإلجباري)‪:‬‬

‫ويتحقق هذا النوع من الصمت عندما يكون المتهم أصم أو أبكم‪ ،‬ومن ثم ال يستطيع اإلجابة‬
‫شفاهه عما يوجه إليه من أسئلة أو استجواب‪ ،‬وفي هذه الحالة يلجأ إلى الكتابة إذا كان يعلمها‪،‬‬
‫وما على المحقق إال أن يأمر كاتب الجلسة بتحرير األسئلة للمتهم‪ ،‬ويقوم المتهم باإلجابة‬
‫عليها كتابة‪ ،‬أما إذا كان المتهم ال يستطيع الكتابة فيُعين له مترجما ً أو خبيراً مختصا ً بالتحدث‬
‫مع الصم والبكم ومن اعتاد مخاطبته أو مخاطبة أمثاله ليترجم اإلشارات الصادرة من المتهم‬
‫لكي يفهم رده ‪ ،‬وال يشترط سن معينة بالنسبة للخبير أو المترجم (‪ ،)۲‬وقد قضت محكمة‬
‫النقض هلل بأن للقاضي أو المحقق ادراك معاني إشارات األبكم واألصم دون االستعانة‬
‫بالخبير طالما أنه كان في االستطاعة تبين ما يعني بهذه اإلشارات هللا‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الصمت العمدي (المقصود)‪:‬‬

‫ويتحقق هذا النوع عندما يكون الشخص متمتعا ً بكل الحواس ودون أن يكون هناك عائق‬
‫صحي أو عاهة طبيعية‪ ،‬ولكن يمتنع بإرادته عن اإلجابة على األسئلة الموجهة إليه وذلك‬
‫بمحض إرادته لرغبته في ذلك حيث يرى مصلحته تكمن في الصمت‪ ،‬وقد يلجأ الشخص‬
‫األصم أو األبكم إلى الصمت المتعمد عندما تكون اإلشارات الصادرة منه دالة على رفضه أو‬
‫امتناعه عن اإلجابة عن األسئلة التي توجه إليه‪ ،‬وهذا النوع الثاني من الصمت وهو العمدي‬
‫من المتهم هو موضوع بحثنا الذي نتناوله‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬دوافع صمت المتهم‬

‫الدوافع أو األسباب الكامنة وراء صمت المتهم وعدم اإلجابة على األسئلة الموجهة إليه في‬
‫جميع مراحل الدعوى الجنائية قد يكون وليد أسباب عديدة غير ارتكابه الجريمة المنسوبة‬
‫إليه‪ ،‬فقد يكون الصمت بسبب احتجاجا ً على واقع معين‪ ،‬أو عجزه عن التعبير لعدم امتالك‬
‫اللغة التي تشرح ما هو قابل للشرح‪ ،‬أو عدم فهمه للسؤال الموجه إلية أو حقيقة إجابته عليه‬
‫لخشيته من التورط في أقوال ال يدرك معناها في عدم وجود محاميه ويرغب في استشارته‬
‫على طريقة اإلجابة على األسئلة ‪ ،‬أو أن محامية الحاضر نصحه بالتزام الصمت متى رأى‬
‫أن صمته أسلم من الرد إدراكا ً منه بأن عبء تقديم الدليل يقع على عاتق النيابة العامة‪ ،‬أو هو‬
‫إحساس بالخوف يصيب المتهم من مواجهة سلطات العدالة‪ ،‬أو رد فعل للموقف العدائي الذي‬
‫أحاط به نتيجة للقبض عليه‪ ،‬أو رغبته في إنقاذ شخص عزيز لديه هو الفاعل الحقيقي‬
‫للجريمة أو التستر على أمور تمثل لديه أهمية خاصة‪ ،‬ومن ثم يفضل اإلبقاء على سريتها‪،‬‬
‫كصمت األبن حينما توجه إليه تهمة ارتكبها والده ‪ ،‬أو إخفاء أمور سرية لو باح بها ألدت‬
‫إلي فضيحة كبيرة كأن يفضل المتهم الصمت إزاء تهمة السرقة عندما يضبط بمنزل صديقته‬
‫التي زنى بها بغية الحفاظ على شرفها ‪ ،‬أو استعمال الصمت كوسيلة مراوغة بهدف إخفاء‬
‫الحقيقة ‪ ،‬و تبدوا كظاهرة معبرة عن خبرة الشخص بالواقع و الموقف الذي يوجد به‬
‫خصوصا إذا كان محترفي اإلجرام ‪ ،‬و أخيراً قد يفسر صمت المتهم بأنه ترك أمر براءته‬
‫لبصيرة القضاء الذي ال يهمه سوى إظهار الحق و كشف الحقيقة سواء لصالح المتهم أو‬

‫ضده‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬قرينةـ البراءة كأساس قانوني لحق المتهم في الصمت‬

‫يعتبر مبدأ قرينة البراءة من بين أهم المبادئ في األنظمة العالمية‪ ،‬كونه أحد أعمدة الشرعية‬
‫الجزائية والضابط الحقيقي لسن القوانين‪ ،‬في الوقت الذي عمت فيه فلسفة حقوق اإلنسان‬
‫ودولة القانون‪ ،‬ونادت فيه األصوات بضرورة تسليط النظر حول حقوق الدفاع كمبدأ عام‪،‬‬
‫وحق المتهم في الصمت واالمتناع عن التصريح خصوصا ‪ ،‬ذلك أن معظم التشريعات‬
‫أشارت إليه بصفة وهو ما يدعو إلى تسليط النظر عليه بكل جدية قصد تحرير نظرية‬
‫واضحة لحقوق الدفاع تكتمل صياغتها من خالل التحليل الجيد والواضح لقانون العقوبات‬
‫وقانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬كذلك من خالل ضمانات مبدأ قرينة البراءة وما نتج عنها من‬
‫حق المتهم في االمتناع عن التصريح والصمت وكذلك كيفية اإلقرار به ومدى أهميته ضمن‬
‫مختلف األنظمة اإلجرائية وتحديد مختلف المخاطر المهددة لهذا الحق ‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم قرينة البراءة‬

‫إن كثير النظم اإلجرائية المعاصرة توفر مجموعة من الضمانات الكافية لحماية حقوق‬
‫األفراد والجماعات من خالل توفير حقوق الدفاع وهو ما يستند أساسا على مبدأ قرينة‬
‫البراءة‪ ،‬خاصة منها 'حق المتهم في الصمت واالمتناع عن التصريح وهو ما نسب إليه من‬
‫وقائع كأحد وسائل الدفاع المكرسة تشريعيا لضمان عدم االعتداء على المتهم وحتى ال تتخذ‬
‫في سبيل الوصول إلى الحقيقة إجراءات جزائية مخالفة لمسار الشرعية‪.‬‬

‫يحتل مبدأ قرينة البراءة أهمية بالغة كمرجعية قانونية أساسية في القانون الجنائي عموما‬
‫وحقوق الدفاع خصوصا‪ ،‬وهو ما دفع مجموعة من الفقهاء والمنظمين القانونيين والدارسين‬
‫للوقوف على تعريفها وأساسها القانوني الفرع األول‪ ،‬وتحديد نتائجها سواء في حالة االحترام‬
‫أو حالة اإلهدار الفرع الثاني)‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬تعريف مبدأ قرينة البراءة‬

‫إن قرينة البراءة دعامة أساسية للشرعية الجزائية والركيزة األساسية في سن القوانين إذ‬
‫نادى بها أغلب الفقهاء‪ ،‬ولم تقف على هذا النحو فقط بل أصبحت من المبادئ العامة في‬
‫معظم االتفاقيات والمعاهدات الدولية وكذا مختلف الدساتير‪.‬‬

‫أوال‪ :‬مدلول مبدأ قرينة البراءة‬

‫‪26‬‬
‫يرى الدارس لمختلف القوانين أن أغلبها لم يتطرق لتعريف مبدأ قرينة البراءة وهو ما أفسح‬
‫المجال الجتهادات الفقهاء فجاءت تعاريفهم متشابهة‪ ،‬وهو ما جعل قرينة البراءة تحوز‬
‫اإلجماع وترقى إلى مستوى المبادئ‪ ،‬ومن أهم هذه التعريفات‪:‬‬

‫تعريف األستاذ مصطفى صادق المرصفاوي‪« :‬أصل البراءة هو أال يجازى الفرد عن فعل‬
‫أسند إليه ما لم يصدر ضده حكم بالعقوبة من جهة ذات والية قانونية " ‪.‬‬

‫تعريف األستاذ أحمد فتحي سرور‪" :‬إن مقتضى البراءة أن كل شخص متهم بجريمة مهما‬
‫بلغت جسامتها‪ ،‬يجب معاملته بوصفه شخصا بريئا حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات"‪.‬‬

‫تعريف األستاذ سليم العوا أن أصل البراءة يعني أن القاضي وسلطات الدولة كافة أن تعامل‬
‫المتهم‪ ،‬وتنظر إليه على أساس أنه لم يرتكب الجريمة محل االهتمام ما لم يثبت عليه ذلك‬
‫بحكم قضائي غير قابل للطعن بالطرق العادية‪.‬‬

‫كما عرف أيضا‪" :‬تعني قرينة البراءة أن كل متهم بجريمة مهما بلغت جسامتها ومهما كانت‬
‫خطورته يعد بريئا حتى تثبت إدانته قانونا‪ ،‬وأن يعامل على هذا األساس طوال المدة التي‬
‫يستغرقها نظر الدعوى الجنائية والفصل فيها"‪.‬‬

‫فمن خالل هذه التعاريف يمكن أن نستخلص أن قرينة البراءة يفترض الحترامها والعمل بها‬
‫المعاملة الحسنة للشخص محل االتهام ضمن حقوقه األساسية ووفق الضمانات التي يفرضها‬
‫القانون في جميع مراحل الدعوى الجزائية إلى غاية صدور حكم قضائي نهائي بات باإلدانة‬
‫يكون مستنفذا لجميع طرق الطعن العادية وغير العادية‪ ،‬ولعل هذا ما قصده األستاذ 'محمد‬
‫محدة' حين عرفها بقوله‪" :‬أن أصل البراءة يعني معاملة الشخص مشتبها فيه كان أو متهما‬
‫في جميع مراحل الدعوى الجزائية ومهما كانت جسامة الجريمة التي نسبت إليه‪ ،‬على أنه‬
‫بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات وفقا للضمانات التي يقررها القانون للشخص في‬
‫كل مراحلها‪.‬‬

‫ويرى أغلب الفقه أن هذا التعريف يشمل كافة العناصر المكونة لقرينة البراءة وهي‪:‬‬

‫أ‪-‬أن أصل البراءة شامل لكل األشخاص فهو حق مكفول لجميع الناس يحفظ لهم‬
‫كرامتهم وحريتهم‪.‬‬

‫ب ـ أن يعامل المتهم أو المشتبه فيه على أنه بريء خالل مراحل الدعوى الجزائية‪.‬‬

‫ت ـ اتساعها لكافة الجرائم مهما كانت خطورتها حسب التقسيم الثالثي الوارد في المادة‬
‫‪ 27‬ق ع ألن العبرة ليست بجسامة الجريمة والطريقة التي ارتكبت بها وإنما بقرينة البراءة‬
‫القائمة في حق المتهم والتطبيق بغض النظر عن نوع الجريمة أو كيفية ارتكابها‪.‬‬

‫ث ـ تقتضي قرينة البراءة صدور حكم حائز لحجية الشيء المقضي فيه إلسقاطها ألنها‬
‫قرينة بسيطة وليست قاطعة ومن ثم فإنه يمكن إثبات عكسها فمضمون هذه القرينة ليس فقط‬

‫‪27‬‬
‫براءة المتهم أمام قضاء الحكم وإنما كذلك في مرحلة التحقيق‪ ،‬حتى ولو انتهت بإحالة المتهم‬
‫على المحاكمة‪ ،‬مع العلم أن مضمون قرينة البراءة يفرض على كل الجهات المختصة‬
‫بتحصيل الدليل أن يكون هذا الدليل قطعيا ويقينيا حتى يقضي القاضي باإلدانة واال حكم‬
‫القاضي بالبراءة‪ ،‬ألن اإلدانة ال تبنى إال على الجزم واليقين‪ ،‬أما البراءة فيجوز أن تبنى على‬
‫الشك كما يجوز للقاضي أن يحكم بالبراءة في حالة انعدام دليل قطعي على اإلدانة‪ ،‬بمعنى أن‬
‫تستوي براءة مبنية على دليل قطعي ويقيني‪ ،‬وبراءة تعتمد على الشك في األدلة وهي التي‬
‫يعبر عنها قانونا بالبراءة لعدم كفاية األدلة‪.‬‬

‫ومن خالل هذه المواصفات تتكرس الحقوق المنبثقة عن هذه القرينة وهي حقوق الدفاع‬
‫كتجسيد للشرعية اإلجرائية ومن حق المتهم في الصمت واالمتناع عن التصريح‪ ،‬ألن قاعدة‬
‫افتراض البراءة في المتهم ال تتطلب منه تقديم أو تحضير الدليل على براءته ومن ثم اتخاذ‬
‫موقف سلبي تجاه الدعوى المقامة ضده‪ ،‬وعلى سلطة االتهام تقديم الدليل على التهمة‬
‫المنسوبة إليه‪ ،‬تطبيقا لمبدأ البحث عن الحقيقة المنصوص عليه في المادة ‪ 69‬من ق إ ج ألن‬
‫عبء اإلثبات يقع على النيابة العامة وهذا ما استقر عليه قضاء المحكمة العليا حيث قرر ‪:‬‬
‫على النيابة العامة أن تقدم األدلة التي تثبت إجرام المتهم ال على هذا األخير أن يثبت براءته‬
‫قرار صادر يوم ‪ 07‬أفريل ‪ 1987‬من القسم األول للغرفة الجزائية الثانية في الطعن رقم‬
‫‪. 23166‬‬

‫وبهذا تكون قرينة البراءة مكرسة لحرية المتهم وجميع حقوقه األساسية‪ ،‬فإذا انتهكت هذه‬
‫الحرية فقدت معها قرينة البراءة معناها فتصبح بعد ذلك اإلجراءات الجزائية عنوانا للتحكم‬
‫والتصنيف على حياة الناس مبشرة بدولة بوليسية تسطو على الكرامة والحرية هذه األخيرة‬
‫تعتبر وحدة واحدة ال يمكن أن تتجزأ‪ ،‬ألجل هذا نجد المشرع الجزائري رتب البطالن‬
‫المطلق على جميع اإلجراءات التي ال تحترم كرامة وحقوق اإلنسان وحقه في الدفاع وهذا ما‬
‫نجده واضحا في نص المادة ‪ 157‬من ق إ ج التي تقرر البطالن في حالة عدم احترام‬
‫اإلجراءات المنصوص عليها في المادة ‪ 100‬من ق إ ج وخصوصا من طرف قاضي‬
‫التحقيق‪ ،‬وهذه الحقوق هي‪:‬‬

‫أ ‪-‬إعالم المتهم بالوقائع المنسوبة إليه‪.‬‬

‫ب ـ تنبيه المتهم في حقه بعدم اإلدالء بأي إقرار الحق في الصمت"‪.‬‬

‫ت ـ تنبيه المتهم بحقه في االستعانة بمحام‪.‬‬

‫ج ‪-‬تنبيه المتهم بوجوب إخبار قاضي التحقيق بتغيير عنوانه‪ ،‬واختيار موطن له‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬األساس القانوني لمبدأ قرينة البراءة‬

‫لم يكن مضمون قرينة البراءة بمفهومه الحالي معروفا قبل مجيء الشريعة اإلسالمية‪ ،‬فنجد‬
‫اإلجراءات السائدة وقتها إضافة إلى طبيعة النظام االتهامي الساري في اإلثبات ذلك أن على‬

‫‪28‬‬
‫المدعي اثبات صحة ادعائه‪ ،‬لكن مجيء اإلسالم جعل من هذا المبدأ أصال عاما لعديد فروع‬
‫العبادات والمعامالت وتفرع عنه قواعد أخرى عبر عنها الفقهاء بـ اليقين ال يزول بالشك' و‬
‫'درء الحدود بالشبهات واألصل براءة الذمة األصل براءة الذمة وهو ما يتجلى في قوله‬
‫ق بـنَبَأ فَتَبَيُّنوا أن تصيبوا قوم بجهالة فتصبحوا على‬ ‫تعالى‪ " :‬يَا َأيَّها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِإ َذا َجا َء ُك ْم فَ ِ‬
‫اس ٌ‬
‫ما فَ َع ْلتُ ُم نادمين"‪.‬‬

‫في الوقت نفسه كانت أوروبا تحت سيطرة االقطاع والكنيسة حتى حدثت الثورة الفكرية‬
‫آنذاك بقيادة عدد المفكرين المتتلمذين على يد فقهاء المسلمين في األندلس‪ ،‬وبسبب الصيغة‬
‫الجاذبة لقرينة البراءة فقد القت اهتماما دوليا ووطنيا‪.‬‬

‫‪ -1‬االتفاقيات واالعالنات العالمية ‪ :‬اعتبرت النهضة األوروبية تاريخ تحول كبير في تاريخ‬
‫اإلنسانية نحو األفضل والتمتع بالعديد من الحريات والحقوق النتشار األفكار المنادية باحترام‬
‫الحرية الفردية ومحاربة الماسين بها‪ ،‬وقد نادى اإليطالي بيكاريا" في كتابه في الجرائم‬
‫والعقوبات سنة ‪ 1864‬بأنه‪" :‬ال يجوز وصف الشخص بأنه مذنب قبل صدور حكم القضاء‪،‬‬
‫وأنه ال يجوز للمجتمع أن يسحب حمايته إياه قبل إتمام محاكمته عن الجريمة المنسوبة إليه ‪،‬‬
‫وقال مونتيسكيو‪" :‬عندما ال تضمن براءة المواطنين فلن يكون للحرية وجود ثم توالت بعد‬
‫ذلك الصيحات التي تنادي بإقرار حقوق المتهم في اإلجراءات الجنائية وهي إعالن حقوق‬
‫اإلنسان والمواطن الصادر في فرنسا عام ‪ ،1789‬حيث نصت المادة ‪ 17‬منه على أنه‪" :‬ال‬
‫يجوز اتهام شخص أو القبض عليه إال في األحوال المنصوص عليها في القانون‪ ،‬كما نصت‬
‫المادة ‪ 17‬من دستور ‪ 1791‬على أن‪" :‬الفرد بريء على أن تثبت إدانته بحكم يحوز قوة‬
‫الشيء المقضي فيه‪ ،‬ثم جاء بعد ذلك اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان الذي وافقت عليه‬
‫الجمعية العامة لألمم المتحدة بتاريخ ‪ ، 10-12-1948‬حيث أقرت المادة ‪ 11‬منه بمبدأ قرينة‬
‫البراءة‪" :‬كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن‬
‫له فيها الضمانات الضرورية للدفاع"‪.‬‬

‫ثم جاءت بعد ذلك االتفاقية األوروبية لحقوق اإلنسان والحريات األساسية لعام ‪ ،1950‬تم‬
‫التوقيع عليها في ‪ 04‬مارس ‪ 1950‬من جانب الدول األعضاء في مجلس أوروبا‪ ،‬وأصبحت‬
‫نافذة المفعول في ‪ 03‬جوان ‪ 1953‬حيث احتوت على معظم الضمانات والحقوق التي نص‬
‫عليها اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان وهو‪ :‬اعتبار المتهم بريئا حتى تثبت إدانته طبقا‬
‫للقانون' حسب المادة ‪ 06‬فقرة ‪ 02‬وضمنت لكل متهم بجريمة إما أن يتعرف على سبب‬
‫اتهامه في أقرب وقت‪ ،‬وأن يمنح وقتا كافيا إلعداد دفاعه بذاته أو بواسطة محام يختاره‪ .‬وفي‬
‫سنة ‪ 1966‬وافقت الجمعية العامة لألمم المتحدة على االتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية‬
‫والسياسية‪ ،‬فقد أشارت إلى ضمانات مختلفة للمتهم قبل محاكمته ومنها اعتباره بريئا إلى أن‬
‫تقرر مسؤوليته قانونا حسب المادة ‪ 14‬فقرة ‪ 02‬وكذلك الميثاق اإلفريقي لحقوق اإلنسان‬
‫والشعوب في المادة ‪ 17‬فقرة ‪ 01‬و‪.02‬‬

‫‪-2‬الدساتير‪ :‬يحدد الدستور لكونه القانون األعلى في الدولة مجموعة القواعد األساسية لشكل‬
‫الدولة ونظام الحكم فيها‪ ،‬كما يعمل على تحديد كل سلطة بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات‬
‫ويحدد مجموع الحقوق والواجبات األساسية لألفراد وينص على الضمانات التي يكفلها كونه‬
‫‪29‬‬
‫يقرر الحريات والحقوق ال ينشئها‪ ،‬ولعل مبدأ قرينة البراءة أحد أهم المبادئ التي سعت الدول‬
‫إلى اعتمادها دستوريا فنكاد ال نجد دستورا يخلو منه كانطالقة لصياغة معظم القوانين خاصة‬
‫منها القانون الجنائي بشقيه الموضوعي واإلجرائي‪.‬‬

‫نص الدستور المصري في المادة ‪ 67‬على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة‬
‫قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه‪ ،‬وما يمكن مالحظته في مختلف الدساتير‬
‫العربية أن منها من لم ينص على المبدأ صراحة وإنما اعتمدت على تكريس مظاهر الحياة‬
‫الفردية التي تعبر عن قرينة البراءة ومنها الدستور المغربي (المادة ‪ ،)09‬الدستور األردني‬
‫(المادة (‪ )07‬الدستور اليمني (المادة (‪ )06‬والدستور الكويتي (المادة (‪ )34‬حيث نص هذا‬
‫األخير على المبدأ وضمان حقوق الدفاع التي حظرت إيذاء المتهم سواء جسميا أو معنويا‪.‬‬

‫أما الدستور الجزائري فقد جعل دستور ‪ 1963‬للجمهورية الجزائرية الفتية من بين أهدافه‬
‫األساسية في المادة ‪ 10‬فقرة ‪ 07‬منه‪ :‬استنكار" التعذيب وكل مساس حسي أو معنوي بكيان‬
‫اإلنسان"‪ ،‬كما نص من خالل المبادئ األساسية واألهداف عند تحديد الحقوق األساسية عدم‬
‫االعتداء على حرمة المسكن وسرية المراسالت' في المادة ‪ 14‬منه وعدم تقييد حرية‬
‫الشخص أو إيقافه إال بمقتضى قانون حسب نص المادة ‪ 15‬منه‪.‬‬

‫مما سبق نجد أن دستور ‪ 1963‬لم ينص صراحة على مبدأ قرينة البراءة وإنما اعتمد على‬
‫مظاهره فقط‪ ،‬إلى غاية صدور دستور ‪ 1976‬والذي نص صراحة في المادة ‪ 46‬على أن‪:‬‬
‫"كل فرد يعتبر بريئا حتى يثبت القضاء إدانته‪ ،‬طبقا للضمانات التي يفرضها القانون‪ ،‬وكذلك‬
‫دستور ‪ 1989‬في المادة ‪ 42‬منه ودستور ‪ 1996‬في المادة ‪ 45‬منه بنفس الصياغة‪ .‬ثم تناول‬
‫المشرع هذا المبدأ في التعديل الدستوري الصادر بموجب قانون رقم ‪ 01-16‬المؤرخ في ‪26‬‬
‫جمادى األولى ‪ 1437‬الموافق لـ ‪ 06‬مارس ‪ 2016‬في المادة ‪ 56‬منه "كل" شخص بريء‬
‫حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته في إطار محاكمة عادلة تؤمن له ضمانات الزمة للدفاع‬
‫عن نفسه" وبموجب التعديل حرص المشرع الجزائري على قرينة البراءة من خالل ضمان‬
‫محاكمة عادلة للمتهم وكفالة حق الدفاع له‪ .‬إلى غاية صدور الدستور األخير الصادر في ‪16‬‬
‫سبتمبر ‪ 22020‬في المادة ‪ 41‬منه‪ :‬كل شخص يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية إدانته في‬
‫إطار محاكمة عادلة"‪.‬‬

‫‪ -3‬القوانين‪ :‬يرتبط مبدأ قرينة البراءة بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يعتبر أساس‬
‫قانون العقوبات‪ ،‬وبالتالي فاألصل في اإلنسان البراءة هو أساس قانون اإلجراءات الجزائية‪،‬‬
‫ذلك أن تطبيق قاعدة ال جريمة وال عقوبة إال بنص قانوني يفترض حتما قاعدة أخرى وهي‬
‫افتراض البراءة في المتهم حتى تثبت إدانته وفقا للقانون وبما أن أغلب الدول قد نصت عليه‬
‫في دساتيرها فقد ذهبت أغلب القوانين اإلجرائية لعدم النص عليه معتمدة على ما جاء في‬
‫الدستور لسببين أولهما لكون هذا األخير يعتبر القانون األعلى للدولة وثانيها أنه صار ال‬
‫يحتاج إلى النص عليه فقد أصبح ثابتا وراسخا‪.‬‬

‫ذلك فلقد كرس صراحة في عدة قوانين إجرائية كما هو الحال بالنسبة لدولة بلغاريا إذ نصت‬
‫المادة ‪ 08‬فقرة ‪ 01‬من القانون الصادر في ‪ 05‬فيفري ‪ 1956‬و ‪ 1961‬على أن‪" :‬المتهم‬
‫‪30‬‬
‫بريء إلى غاية إثبات العكس"‪ ،‬أما المشرع الفرنسي الذي نص صراحة على هذا المبدأ في‬
‫نص المادة ‪ 137‬من ق إ ج الفرنسي‪" :‬أن الشخص المتهم المفترض فيه البراءة يبقى حرا‪،‬‬
‫إال أنه بسبب ضرورة التحقيق أو من أجل دواعي أمنية يمكن إلزامه بواحدة أو أكثر من‬
‫التزامات الرقابة القضائية‪ ،‬وعندما تكون هذه األخيرة غير كافية في إطار األهداف‬
‫المذكورة‪ ،‬يمكن وضعه رهن الحبس المؤقت بصفة استثنائية"‪.‬‬

‫أما في التشريعات الجزائرية فأول تشريع نص عليه هو دستور ‪ 1976‬برغم صدور قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية قبله إال أنه لم يتضمن هذا المبدأ ولم يشر إليه‪ ،‬ويبدو أن المشرع‬
‫الجزائري كان يعتقد بسمو المبدأ وقداسته‪ ،‬لذلك كان ال يرى ضرورة للنص عليه في‬
‫النصوص الدنيا خصوصا وأنه أكد في المادة ‪ 11‬من دستور ‪ 1963‬على أن الجزائر" توافق‬
‫على ما جاء في اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان الذي نص صراحة على هذا المبدأ في المادة‬
‫‪ 11‬منه‪ .‬إال أن أهمية الحريات وأثرها على الشرعية فرضت وضوح النصوص القانونية‪،‬‬
‫لذلك فإن الفترة الممتدة ما بين صدور قانون اإلجراءات الجزائية عام ‪ 1966‬وقانون‬
‫العقوبات عام ‪ 1976‬احتوت سهوا تشريعيا تداركه المشرع في الدستور الصادر بنفس السنة‪.‬‬
‫ومن بين هذه النصوص مثال نص المادة ‪ 100‬من ق إ ج التي تعطي المتهم حق الصمت أي‬
‫عدم اإلدالء بأي إقرار عند مثوله أمام قاضي التحقيق كذلك نص المادة ‪ 127‬من ق إ ج التي‬
‫تجيز للمتهم أو محاميه حق طلب اإلفراج وغيرها من النصوص التي نستنتج منها أن‬
‫المشرع يعتبر المتهم بريئا ما لم تقدم في حقه أدلة واقعية تثبت ارتكابه للفعل المجرم وعلى‬
‫من يدعي أن يقدم البينة على ما يدعي‪ .‬كما تقرر المادة ‪ 159‬فقرة ‪ 01‬من ق إ ج‪" :‬يترتب‬
‫البطالن أيضا على مخالفة األحكام الجوهرية المقررة في هذا الباب خالف أحكام المادتين‬
‫‪ 100‬و‪ 105‬إذ ترتب على مخالفتها إخالل بحقوق الدفاع أو خصم في الدعوى"‪.‬‬

‫وبصدور آخر تعديل لقانون اإلجراءات الجزائية الجزائري لسنة ‪ 2017‬بموجب األمر ‪-17‬‬
‫‪ 07‬المؤرخ في ‪ 27‬مارس ‪ 2017‬إذ نص المشرع صراحة على قرينة البراءة في نص‬
‫المادة ‪ 01‬منه‪" :‬كل شخص يعتبر بريئا ما لم تثبت إدانته بحكم قضائي حائز لقوة الشيء‬
‫المقضي فيه"‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬نتائج مبدأ قرينة البراءة‬

‫تحقق قاعدة افتراض براءة المتهم مجموع الضمانات األساسية التي تكفل حق المتهم في‬
‫محاكمة عادلة‪ ،‬ذلك أن إدانة هذا األخير بجريمة يعرضه للمساس بحقه في الحرية وبالتالي‬
‫البد من الموازنة بين حق الفرد في الحرية وحق الدولة في توقيع العقاب‪ ،‬ومن هنا فإن مبدأ‬
‫أصل البراءة وفر مجموعة من الضمانات تكفل ممارسة المتابعة والمحاكمة في إطار‬
‫الشرعية أهمها‪:‬‬

‫أوال‪ :‬ضمان الحرية الشخصية للمتهم‬

‫األصل أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته وعليه يجب معاملته بهذه الصفة أي اعتباره بريئا‬
‫في جميع مراحل الدعوى الجزائية بغض النظر عن جسامة الجريمة المرتكبة ونوعيتها‬

‫‪31‬‬
‫وبذلك يضمن حقه في حماية حريته الشخصية‪ .‬وفي ظل مبدأ الشرعية الدستورية يجب أن‬
‫يحدث التوازن بين الهدف األول لإلجراءات الجنائية والهدف الثاني الذي يتمثل في ضمان‬
‫الحرية الشخصية وحقوق اإلنسان المتعلقة بها‪ .‬والحماية االجتماعية بشقيها الشخصي‬
‫واالجتماعي مع الحالة الواقعية أو الموضوعية للجريمة المرتكبة تتطلب المساس ولو جزئيا‬
‫بحريات األفراد ومصالحهم مما جعل التوفيق بين األمرين دون إفراط أو تفريط ألي منهما‬
‫على حساب اآلخر أمرا ضروريا‪ .‬وبناء على ما سبق فإن اإلجراءات التي تتخذ في أي‬
‫مرحلة من مراحل الدعوى يجب أال تتخذ إال في أضيق الحدود وبما يحافظ على ضمانات‬
‫الحرية الفردية وبما يلبي فقط الضرورة للكشف عن الحقيقة‪.‬‬

‫وعلى ذلك نجد المشرع الجزائري مثال عند اتخاذ إجراء الحبس المؤقت ضد المتهم جعل هذا‬
‫اإلجراء محاطا بعدة ضمانات تصون الحرية الشخصية للمتهم ومنها ما جاء في نص المادة‬
‫‪ 123‬من ق إ ج وما بعدها‪ 4 .‬كذلك منح لقاضي التحقيق سلطة إصدار أوامر قضائية أثناء‬
‫محاولته للكشف عن الحقيقة تسمح بحجز أي متهم وايداعه الحبس لمدة معينة أو إحضاره أو‬
‫القبض عليه وهو ما نصت عليه المواد ‪ 59 ،58 ،51‬من ق إ ج‪ .‬كما منح المشرع لوكيل‬
‫الجمهورية نفس السلطات في حاالت محددة خاصة بالتلبس في الجنايات والجنح مع توافر‬
‫شروط المادة ‪ 59‬من ق إ ج‪ ،‬كما منح القانون لضباط الشرطة القضائية حق توقيف أي‬
‫شخص أو إحضاره لمدة ال تتجاوز ‪ 48‬ساعة مع مراعاة ما ورد في المادة ‪ 52‬من ق إ ج‪.‬‬

‫فالحرية الشخصية مصلحة واقعية وحق قانوني يستهدفه المشرع بتجريم كل سلوك يمثل‬
‫عدوانا عليها فهو يمثل الحقوق التالية‪:‬‬

‫‪ -‬حق األمن الشخصي وحرية التنقل من خالل نص المادة ‪ 09‬من اإلعالن العالمي‬
‫لحقوق اإلنسان والمادة ‪ 49‬من دستور سنة ‪ 2020‬بقولها‪" :‬يحق لكل مواطن يتمتع بحقوقه‬
‫المدنية والسياسية أن يختار بحرية موطن إقامته‪ ،‬وأن يتنقل بحرية عبر التراب الوطني"‪.‬‬

‫‪ -‬حق السالمة البدنية والذهنية‪ :‬وهو ما نصت عليه المادة ‪ 03‬من االتفاقية األوروبية‬
‫لحقوق اإلنسان والدستور الجزائري في المادة ‪" :39‬يحظر أي عنف بدني أو معنوي‪ ،‬أو أي‬
‫مساس بالكرامة"‪.‬‬

‫‪ -‬حرمة السكن‪ :‬حرمة مضمونة من قبل الدولة من خالل نص المادة ‪ 48‬من الدستور‪،‬‬
‫ذلك أن إجراء التفتيش البد أن يصدر من السلطة المختصة عن طريق إذن مكتوب‬

‫بحضور المتهم وفي نطاق المدة القانونية وهو ما أكدته المادة ‪ 47‬من ق إ ج‪.‬‬

‫‪ -‬حرمة الحياة الخاصة نصت المادة ‪ 17‬من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية‬
‫على وجوب توفير السكينة والسرية للحياة الشخصية لألفراد بمنع التجسس‪ ،‬كذلك نص المادة‬
‫‪ 47‬من الدستور بقولها‪ :‬لكل" شخص الحق في حماية حياته الخاصة وشرفه"‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪-‬حرمة المراسالت حفظها الدستور في المادة ‪ 47‬منه وتشتمل على حرمات مكتب البريد‬
‫وكذلك المحادثات التليفونية وال بد من أمر قضائي مسبب في حال التدخل فيها‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬عدم تحميل المتهم أي إثبات‬

‫من النتائج المنطقية التي تترتب على األخذ بقرينة البراءة إعفاء المتهم من إثبات براءته‪ ،‬أي‬
‫أن يعفى المتهم من تقديم األدلة على براءته مما ينسب إليه من جهة االتهام‪ ،‬فعلى السلطة‬
‫القائمة على التحقيق أن توجه التهمة إلى المتهم‪ ،‬ومن ثم ليس عليه أن يقدم األلة التي تثبت‬
‫براءته وعدم صلته بما هو منسوب إليه‪ .‬إنما على الجهة التي تدعي أن الشخص الماثل‬
‫أمامها له عالقة بالجريمة تقديم األدلة التي تثبت صلته بها ويبقى للمتهم الحق في التزام‬
‫الصمت وعدم التفوه بأي تصريح‪.‬‬

‫والقاء البينة على المدعي وطلب المشرع تقديمها من طرفه مؤسس على ادعائه خالف‬
‫الظاهر‪ ،‬فوجوب البينة عليه ألنه بها يظهر الخفي ويكشف المستور‪ .‬ويتضح خالف األصل‬
‫الذي كان عليه المتهم وعدم تكليف المتهم سواء أمام جهة التحقيق أو الحكم بإثبات براءته‬
‫مؤيد ومدعوم باألصل الظاهر لحاله الذي كان عليه وال يزال مادام لم يثبت عكسه بحكم‬
‫يقيني هو عنوان الحقيقة‪ .‬فالنيابة العامة وهي تقوم بدورها في الدعوى الجزائية عليها أن‬
‫تثبت قيام سائر األركان والعناصر المكونة للجريمة‪ ،‬وغياب جميع العناصر يؤدي إلى انعدام‬
‫مسؤولية المتهم عنها‪ ،‬فليس فقط معفيا من تقديم دليل براءته بل انطالقا من براءته المفترضة‬
‫له الحق في عم االقرار بذنبه ‪ LE DROIT DE NE PAS S’ACCUSER‬والحق في‬
‫الصمت ‪ LE DROIT AU SILENCE‬بل والحق في الكذب ‪LE DROIT DU‬‬
‫‪ .MENSSAGE‬وبالتالي فإن عبء الثبات الواقع على النيابة العامة ال يتمثل في إثبات‬
‫النموذج القانوني للواقعة فحسب بل يمتد إلى األركان المفترضة والتي تسبق قانونيا ومنطقيا‬
‫ارتكاب الجريمة كصفة الموظف العمومي في جريمة رشوة الموظفين العموميين من خالل‬
‫نص المادة ‪ 25‬من القانون ‪.01-06‬‬

‫غير أن وقوع عبء االثبات على عاتق سلطات التحقيق والتهام ال يعني بحال من األحوال‬
‫حرمان المتهم من حقه في إثبات براءته‪ ،‬بل كل ما يعنيه أنه غير مكلف قانونا بإثبات براءته‬
‫فيحق له الدفاع عن نفسه بكل الوسائل وأن يتقدم باألدلة التي يشاء تقديمها بغية توليد القناعة‬
‫لدى القاضي ببراءته أو على األقل إثارة الشكوك حول أدلة االتهام ليصل إلى تطبيق مبدأ‬
‫الشك يفسر لصالح المتهم‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تفسير الشك لصالح المتهم‬

‫‪33‬‬
‫إذا كانت الجهة القائمة على الدعوى العمومية التي أنيطت بها مباشرة الدعوى العمومية‬
‫باعتبارها ممثلة للمجتمع‪ ،‬تملك الدعوى العمومية دون غيرها وهي الجهة المكلفة عليها أن‬
‫تقدم األدلة الكافية التي ينعقد بها الجزم واليقين ويزول الشك‪ .‬وتنقلب قرينة البراءة التي‬
‫وضعها المشرع في صالح المتهم إلى قرينة في غير صالحه حيث يتم دحضها بأدلة كافية‬
‫تثبت صلة المتهم وعالقته بالجريمة التي يجرى التحقيق فيها وبالتالي فإن من المسلم به فقها‬
‫واجتهادا الشك أن وجود يمنع القضاء من الحكم على المتهم‪ ،‬وذلك على اعتبار أن التجريم ال‬
‫يستقيم إال من خالل أدلة جازمة وقاطعة ثابتة الداللة وأكيدة على ارتكاب المجرم لألفعال‬
‫المسندة إليه‪ ،‬فقناعة القاضي ال تبنى على أدلة غير كافية‪ ،‬بل من الواجب أن تستند إلى دليل‬
‫أكيد‪.‬‬

‫هذا ويرى الدكتور أحمد فتحي سرور أنه إذا كان يكفي لبراءة المتهم مجرد الشك في أدلة‬
‫االتهام من قبل المحكمة‪ ،‬فإنه يجب أن يشتمل الحكم بالبراءة ما يثبت أن المحكمة قد أحاطت‬
‫بظروف الدعوى وأدلة االثبات التي قام عليها االتهام عن بصر وبصيرة‪.‬‬

‫وتبعا لذلك‪ ،‬ال تلتزم المحكمة ببيان أدلة قاطعة على البراءة بل يكفي أن يؤسس حكم البراءة‬
‫على الشك فى أدلة االثبات ألن األصل أن األحكام القضائية الجزائية تبنى على الجزم واليقين‬
‫وليس عمر فخري‪ ،‬عبد الرزاق الحديثي‪ ،‬حق المتهم في محاكمة عادلة دراسة مقارنة ‪ ،-‬دار‬
‫الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،‬على الشك واالحتمال‪ .‬وكما يقول الدكتور أسامة قايد أن‬
‫الدعوى الجنائية تبدأ في مرحلتها األولى في صورة شك في إسناد الواقعة إلى المشتبه فيه‪،‬‬
‫وأن هدف إجراءاتها التالية هو تحويل هذا الشك إلى يقين فإذا لم يتحقق ذلك بقي شك‪ ،‬وهو ال‬
‫يكفي عدالة إلدانة الشخص‪.‬‬

‫وهنا يجب مالحظة الخالف بين الحكم باإلدانة والحكم بالبراءة فيما يتعلق ببيان األدلة‪،‬‬
‫فالحكم األول يجب أن يستوفي مضمون األدلة التي يبنى عليها بخالف الحكم الثاني‪ ،‬فإنه‬
‫يكفي فيه مجرد إبداء الرأي حول أدلة االثبات دون أن تلتزم المحكمة ببيان أدلة قاطعة على‬
‫البراءة‪ ،‬ألنه يكفي مجرد تشكيكها في االمتناع بأدلة االثبات‪.‬‬

‫كما يرى الدكتور رضا فرج بأن قاعدة تفسير الشك لصالح المتهم في حالة غموض النص‬
‫الجنائي هي قاعدة متفق عليها‪ ،‬ألن األصل في األفعال اإلباحة وإذا تعذر على القاضي الجزم‬
‫في إدانة المتهم تعين عليه الحكم بالبراءة‪ ،‬غير أنه نادرا ما يكتنف النص الجنائي الغموض‬
‫ذلك ألن المشرع يحاول دائما الوضوح عند وضعه النص الجنائي نظرا لما يتعلق به من‬
‫حقوق أساسية للفرد والمجتمع على السواء‪.‬‬

‫ويمكن استخالص موقف المشرع الجزائري في محال قاعدة الشك وتفسيرها لصالح المتهم‬
‫من نص المادة ‪ 163‬من ق إ ج‪ ،‬التي تقضي بأنه في حال عدم توافر أدلة كافية ضد المتهم أو‬
‫ال يزال المتهم مجهوال فعلى قاضي التحقيق إصدار أمر بأن ال وجه للمتابعة وإخالء سبيل‬
‫المتهم إن كان محبوسا مؤقتا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ملخص الفصل األول‪:‬‬
‫حظى حقوق اإلنسان باهتمام واسع على الصعيدين" الدولي و الوطني األمر الذي انعكس‬
‫باإليجاب على تعزيز حقوق و حريات األفراد داخل المجتمع ‪ ،‬حيث رسمت هذه االتفاقيات‬
‫الدولية حدود ضيقة للمساس بتلك الحقوق ضمن أطر قانونية وطنية تضمن من جهة حق‬
‫الدولة في الكشف عن الحقيقة ومن جهة أخرى حق المتهم بالتمتع بأصل البراءة و التي من‬
‫مقتضياتها أن للمتهم ال يكلف بإثبات براءته و له أن يلتزم الصمت في مواجهة سلطة االتهام‬
‫التي يجب عليها أن تقدم أدلة جازمة و يقينية إذا ارادت أن تهدم هذا األصل ‪ ،‬و في سبيل‬
‫سعيها لذلك قد تحيد سلطة االتهام عن ذلك فتستخدم أساليب تقليدية و علمية تخرج عن اطار‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫انطالقا من قرينة البراءة التي مفادها أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته‪ ،‬تقررت عنها جملة‬
‫من الحقوق تتمثل في "حقوق الدفاع" لتوفر للمتهم الضمانات األساسية عند تعرضه لموقف‬
‫اتهامي من قبل السلطات المختصة‪ ،‬هذه الحقوق تمنح للمتهم قدرا كبيرا من الشعور‬
‫باالطمئنان ضد األعمال التعسفية‪ ،‬ألنه وبحسب األصل غير ملزم بإثبات براءته‪ ،‬ألنها‬
‫متأصلة فيه ونابعة من حريته األساسية‪ ،‬وهذا ما يبرر حقه في التزام الصمت‪ ،‬أين يتخذ‬
‫المتهم موقفا سلبيا في مواجهة االتهامات الموجهة ضده كوسيلة للدفاع عن نفسه‪ ،‬حيث‬
‫يستفيد منها سواء بصفته مشتبها فيه أو متهما‪ ،‬سواء كان مبتدئا أو عائدا‪ ،‬بالغا أو حدثا‬
‫ومهما كانت جسامة الفعل المسند إليه‪ ،‬وذلك على امتداد مراحل الدعوى الجزائية‪ ،‬حيث‬
‫يؤدي عدم احترام حقوق الدفاع ومنها الحق في التزام الصمت إلى بطالن اإلجراءات‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬اآلليات الحامية لحق المتهم في الصمت‬
‫المبحث األول‪ :‬حق المتهم في الصمت خالل مراحل الدعوى الجنائية‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الضمانات" الموضوعية واإلجرائية لحق المتهم في الصمت‬

‫‪36‬‬
‫إن حق المتهم في الصمت من الحقوق المعترف بها للمتهم وهو من أهم دعامات حق‬
‫الدفاع الذي كرسه القانون كصورة تطبيقية لمبدأ قرينة البراءة‪ ،‬وبالتالي فهو يخضع لعديد‬
‫المؤثرات الناتجة عن طبيعة الدعوى الجزائية ذاتها‪ ،‬وكذلك التطور الحاصل في جميع‬
‫مناحي الحياة‪ ،‬ومن خالل هذه المؤثرات أو اآلليات تتضح األهمية القانونية والعملية لهذا‬
‫الحق‪ ،‬وما يترتب عنه من نتائج وما يتحقق من خالله من أهداف تدعم حقوق الدفاع‪ ،‬فهو‬
‫يتأثر بمراحل الدعوى الجزائية المختلفة وبخصوصية كل واحدة منها المبحث األول)‪.‬‬
‫وهو ما دفع بالمشرع الجزائري لتوفير الحماية لهذه الحقوق من التعسف والضياع الذي‬
‫قد يناوشها‪ ،‬عن طريق إحاطتها بسلسلة من الضمانات تمنع القائم على تسييرها من التعسف‬
‫واالعتداء‪ ،‬ذلك ألن هدف هذه الدعوى هو الوصول إلى الحقيقة عن طريق الدليل المعترف‬
‫به قانونا (المبحث الثاني)‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬حق المتهم في الصمت من خالل مراحل الدعوى الجنائية‬
‫إن نظرية الدعوى الجزائية لم تأت دفعة واحدة‪ ،‬وإنما مرت بكثير المراحل حتى تصل‬
‫إلى ما هي عليه اليوم لصيانة حقوق اإلنسان وحماية حريته الفردية‪ ،‬وقد كانت أهم نتائج هذا‬
‫التطور هو تقسيمها إلى عدة مراحل الشائع أنها ثالثة مرحلة البحث والتحري‪ ،‬مرحلة‬
‫التحقيق االبتدائي ويمكن جمعها تحت مسمى مرحلة التحقيق ثم مرحلة المحاكمة الجزائية‬
‫وفي كل مرحلة تتخذ إجراءات خاصة بحيث تكون المرحلة الموالية مكملة للمرحلة السابقة‪،‬‬
‫وعندما أصبحت حقوق الدفاع هي مناط الدعوى الجزائية فالبد من رؤية مدى تكريس حق‬
‫المتهم في االمتناع عن التصريح في مرحلة التحقيق المطلب (األول) ثم في مرحلة المحاكمة‬
‫الجزائية المطلب (الثاني)‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬حق المتهم في الصمت خالل مرحلة التحقيق‬
‫تعد إجراءات التحقيق االبتدائي من اإلجراءات األولية التي تتخذ بشأن الجريمة المرتكبة‪،‬‬
‫تباشرها سلطة قضائية مختصة للبحث والتنقيب عن األدلة والكشف عن الحقيقة‪ ،‬وتقديرها‬
‫والتصرف فيها بحسب ما إذا كانت األدلة كافية إلحالة المتهم على المحاكمة أم أنها غير‬
‫كافية أو منعدمة فتتوقف الدعوى العمومية عند هذا الحد‪ .‬وحتى نتمكن من دراسة حق المتهم‬
‫في الصمت خالل هذه المرحلة‪ ،‬فيمكن تقسيمها إلى مرحلتين مرحلة البحث والتحري (الفرع‬
‫(األول) ومرحلة التحقيق االبتدائي (الفرع الثاني)‪.‬‬
‫الفرع األول‪ :‬حق المتهم في الصمت خالل مرحلة البحث والتحري‬
‫إن مرحلة البحث والتحري من المراحل المهمة في الدعوى الجزائية‪ ،‬إذ هي الفترة التي‬
‫يتم فيها جمع البيانات والمعلومات الممهدة للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬فهي إذن المرحلة التي يصل‬
‫فيها أمر المشتبه فيه إلى علم السلطات المختصة باحتمال ارتكابه للجريمة مرورا بمرحلة‬
‫التحقيق‪ ،‬أين يحمل صفة المتهم والوصول بهذا األخير إلى مرحلة المحاكمة‪ ،‬وهذه المرحلة‬
‫تتخذ عدة تسميات كالتحري والتحقيق األولي‪ ،‬وقد استعمل المشرع الجزائري للتعبير عنها‬
‫مصطلحي‪ :‬البحث والتحري و الضبط القضائي وهما مصطلحان يعبران عن جوهر المرحلة‬

‫‪37‬‬
‫واستعمل أيضا مصطلح التحقيق االبتدائي للتعبير عن نفس المرحلة وهو ترجمة لما ورد في‬
‫النسخة الفرنسية للقانون ‪ Enquête préliminaire‬وهي تعني أيضا البحث والتحري ‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الطبيعة القانونية لمرحلة البحث والتحري‬
‫لم يورد المشرع الجزائري في قانون اإلجراءات الجزائية تعريفا واضحا لمرحلة‬
‫البحث والتحري األولي واكتفى فقط باإلشارة إلى السلطة المكلفة بها‪ ،‬حيث تنص المادة ‪12‬‬
‫ف ‪ 03‬من نفس القانون ما يلي‪" :‬ويناط بالضبط القضائي مهمة البحث عن الجرائم المقررة‬
‫في قانون العقوبات وجمع األدلة عنها والبحث عن مرتكبيها ما دام لم يبدأ فيها بتحقيق‬
‫قضائي"‪.‬‬
‫إال أن الفقهاء اجتهدوا في تعريفهم لمرحلة التحري فنجد أن الدكتور أحمد غاي' عرفها بأنها‪:‬‬
‫"مجموعة اإلجراءات األولية التي يباشرها رجال الضبطية القضائية لمجرد علمهم بارتكاب‬
‫الجريمة والتي تتمثل في البحث عن اآلثار واألدلة والقرائن التي تثبت ارتكاب الجريمة‬
‫والبحث عن الفاعل والقبض عليه وإثبات ذلك في محاضر وتمهيد التصرف في الدعوى‬
‫العمومية من طرف النيابة العامة"‪.‬‬
‫أما الدكتور محمد محدة فقد عرف مرحلة التحري واالستدالل بأنها‪" :‬إجراءات تمهيدية‬
‫إلجراء الخصومة الجنائية ومستمرة بعدها وضرورة الزمة لتجميع اآلثار واألدلة‬
‫والمعلومات بهدف إزالة الغموض والمالبسات المحيطة بالجريمة وملحقة فاعلها"‪.‬‬

‫وحسب رأي اللواء عبد الواحد إمام مرسي فهي‪" :‬مجموعة من اإلجراءات الجوهرية غير‬
‫المنظورة يتوخى فيها مأمور الضبط القضائي أو مرؤوسهم الصدق والدقة في التنقيب عن‬
‫الحقائق المتعلقة لموضوع معين واستخراجها من مكمنها في إطار قانوني"‪.‬‬

‫والبحث والتحري ضروري للكشف عن الجريمة والمجرمين في إطار الصالحيات التي‬


‫منحها القانون للضبطية القضائية للقيام بذلك‪ ،‬وقد حددها المشرع في أحكامه ضمن قانون‬
‫اإلجراءات الجزائية في المواد من ‪ 12‬إلى ‪ 28‬ومن ‪ 42‬إلى ‪ 55‬ومن ‪ 63‬إلى ‪ ،65‬فرغم هذه‬
‫الصالحيات المبينة في المواد السابقة والمتمثلة أساسا في تلقي الشكاوي والبالغات‪ ،‬جمع‬
‫االستدالالت‪ ،‬وإجراء التحقيقات االبتدائية عن الجرائم‪ ،‬واالنتقال إلى مكان وقوع الجريمة‬
‫والبحث عن آثارها‪ ،‬وحجز كل الوسائل التي استعملت فيها‪ ،‬وسماع كل شخص له عالقة أو‬
‫لديه معلومات عن الجريمة ومرتكبيها‪ ،‬واالنتقال إلى مساكن األشخاص الذين يشتبه في‬
‫ارتكابهم الجريمة للقيام بالتفتيشات الالزمة وفقا لألوضاع التي يقررها القانون بموجب‬
‫المادتين ‪ 45 -44‬من ق إ ج ‪ ،‬حيث اشترط المشرع ضمانا للحرية الفردية في هذه المرحلة‬
‫والحياة الخاصة وجوب استظهار ضابط الشرطة القضائية لألمر المكتوب الصادر من طرف‬
‫وكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق حسب نص المادة ‪ 44‬ق إ ج ‪.‬‬

‫ولكن عند قيامه بمهامه في التحقيق وتنفيذ اإلنابات القضائية ال يجوز لضابط الشرطة‬
‫القضائية طلب أو تلقي أوامر أو تعليمات إال من الجهة القضائية التي تتبعها‪ ،‬وذلك بمراعاة‬
‫أحكام المادة ‪ 28‬من ق إ ج‪ ،‬وهذا يعني أن ضابط الشرطة القضائية ال يمكنه توجيه االتهام‪،‬‬
‫فكل ما يجب عليه هو أن يحرر محاضر بنتائج أعماله‪ ،‬بحيث ال يتعرض للحرية الشخصية‬

‫‪38‬‬
‫للمشتبه فيه ويؤيد محاضره بالمستندات وأقوال الشهود وتقارير الخبراء واألشياء‬
‫المضبوطة‪ ،‬ويرسلها على الفور إلى وكيل الجمهورية حسب المادة ‪ 18‬من ق إ ج ‪ ،‬وبذلك‬
‫فإن جهاز الضبطية القضائية ال يملك التصرف في النتائج التي توصل إليها‪ ،‬ألن ذلك من‬
‫اختصاص وكيل الجمهورية حسب نص المادة ‪ 36‬من ق إ ج‪ ،‬فالجهة المخولة بممارسة‬
‫االتهام في مواجهة المتهم هي جهة قضائية ال تخضع إال للقانون وتتميز بالحياد واالستقاللية‬
‫حسب نص المادة ‪ 163‬من التعديل الدستوري لسنة ‪" :2020‬القضاء سلطة مستقلة‪ .‬القاضي‬
‫مستقل‪ ،‬ال يخضع إال للقانون"‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬تكريس حق المتهم في الصمت في مرحلة البحث والتحري‬

‫إن تكريس المشرع لقرينة البراءة في المادة ‪ 41‬من الدستور وحماية الحريات األساسية‬
‫في المادة ‪ ،35‬وكذلك حماية حقوق الدفاع يجعل حق المتهم في االمتناع عن التصريح‬
‫مكرسا استنادا إلى قرينة البراءة على اعتبار أنه حق من حقوق الدفاع‪ ،‬فنجد أن المشرع لم‬
‫ينص على هذا الحق في مرحلة البحث والتحري عكس ما فعل في مرحلة التحقيق من خالل‬
‫المادة ‪ 100‬من ق إ ج رغم ما تتميز به هذه المرحلة شبه القضائية من طابع إداري بوليسي‬
‫يجعل التخوف ممكنا من اإلجراءات التي تتم خاللها‪ ،‬ألن جمع األدلة مهما كانت قيمتها في‬
‫الدعوى يجعل الضبطية القضائية تسعى وراء كل ما تراه دليال فقد يحدث أن تتعدى على‬
‫الحريات الفردية دون مبرر‪ ،‬لذلك كان من الواجب على المشرع أن ينص على هذا الحق في‬
‫مرحلة التحريات تفاديا ألي تجاوز يمكن أن يحدث‪ ،‬خصوصا وأن أفراد الضبطية القضائية‬
‫ال يتمتعون بتكوين قانوني يمكنهم من رعاية حقوق اإلنسان‪ ،‬بل طابع الخشونة والصفة‬
‫العسكرية والبوليسية الرادعة تطبع سلوكاتهم في التعامل مع الفرد‪.‬‬

‫ويرى البعض أنه أمام سكوت المشرع عن تنظيم ذلك الحق سواء أكان بإقراره أم إنكاره فإن‬
‫الحق في الصمت وحرية المتهم في الكالم حق طبيعي‪ ،‬يجوز أن يلتزم الصمت ويمتنع عن‬
‫اإلجابة عن األسئلة التي توجه إليه من ضابط الشرطة القضائية‪ ،‬خاصة أن هذه المرحلة‬
‫تتميز بتغييب الدفاع باعتبار أن المشتبه فيه لم يتحدد اتهامه بعد‪ ، ،‬كذلك أن الدعوى الجزائية‬
‫لم تبدأ بعد فلم يعط له أهمية كبرى خالل هذه المرحلة‪ ،‬وهو بذلك يكون قد عكس مفهوم‬
‫تكريس الضمانات على األقل بما هو مكرس في مرحلة التحقيق كونها أكثر المراحل استجابة‬
‫لتجاوز حقوق الدفاع‪ ،‬كون المشتبه فيه في هذه المرحلة ما زال لم يوجه إليه االتهام بعد‬
‫وبالتالي يتصور استفادته من حق الدفاع كامال وعلى الخصوص حقه في الصمت‪ ،‬على‬
‫الرغم من توفر ضمانات أكبر للمشتبه فيه في هذه المرحلة بموجب األمر ‪02-15‬‬

‫المؤرخ في ‪ 23‬جويلية ‪ 2015‬المعدل لقانون اإلجراءات الجزائية من خالل المادة ‪51‬‬


‫مكرر منه التي منحت للمشتبه فيه الموقف للنظر مجموعة الضمانات الكاملة‪ .‬ولعل هذا ما‬
‫دفع بالقانون األلماني إلى أن يمنح المشتبه فيه الحق في االمتناع عن اإلدالء بأي بيان أمام‬
‫البوليس ويفرض على البوليس التزامات إخطار المشتبه فيه بحقه في الصمت‪ ،‬كما يقضي‬
‫المشتبه فيه باصطحاب مدافع قبل حضوره أمام البوليس‪ ،‬ويسمح للمحامي باالطالع على‬
‫الملف في هذه اللحظة‪ ،‬وهذا ما قال به القانون الهندي المادة ‪ 28‬ف ‪ ،01‬المادة ‪ 29‬ف ‪.)02‬‬

‫‪39‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬حق المتهم في الصمت خالل مرحلة التحقيق االبتدائي‬

‫تعرف مرحلة التحقيق االبتدائي بأنه مجموعة اإلجراءات التي تباشرها سلطة التحقيق‬
‫بالشكل المحدد في القانون بغية تمحيص األدلة والكشف عن الحقيقة قبل الوصول إلى مرحلة‬
‫المحاكمة‪ ،‬وكلمة التحقيق مشتقة من الحقيقة‪ ،‬والتحقيق االبتدائي يعتبر أول مرحلة قضائية‬
‫في الدعوى الجزائية‪ ،‬فهو تلك اإلجراءات الخاصة بتمحيص األدلة التي أسفرت عنها‬
‫المرحلة الممهدة للدعوى الجزائية وهي مرحلة االستدالالت‪.‬‬

‫يعد االستجواب من أهم إجراءات التحقيق في الدعوى الجزائية‪ ،‬ويقصد مناقشة المتهم‬
‫بالتهمة المنسوبة إليه ومواجهته باألدلة القائمة ضده‪ ،‬ومناقشته بها مناقشة تفصيلية‪ ،‬والمتهم‬
‫حر في اإلجابة عن األسئلة المنسوبة إليه‪ ،‬كما لديه مطلق الحرية في االعتراف بالجريمة‬
‫المنسوبة إليه أو نفي ذلك‪.‬‬

‫يتميز االستجواب بطبيعة مزدوجة فهو يعتبر أداة اتهام ووسيلة دفاع في آن واحد بحيث‬
‫يسمح للمتهم بأن يحاط بالتهمة المنسوبة إليه وبكل ما يوجد بالملف من ‪1‬أدلة‪ ،‬ويتيح له الوقت‬
‫لإلدالء بكل اإليضاحات واألدلة التي تساعد على إثبات براءته منه‪ ،‬فاالستجواب إجراء‬
‫جوهري يختص به قاضي التحقيق وحده كأصل عام فال يجوز لغيره أن يقوم به ويترتب‬
‫على إغفاله البطالن‪.‬‬

‫ونظرا لخطورة هذا اإلجراء وما يترتب عليه من نتائج فال بد من تسليط الضوء على‬
‫االستجواب عند الحضور األول واالستجواب في الموضوع‪ ،‬على اعتبار أن االستجواب‬
‫اإلجمالي هو عبارة‬

‫عن وضع حوصلة لما توصل إليه التحقيق‪.‬‬

‫أوال‪ :‬الحق في الصمت عند الحضور األول‬

‫إن استجواب المتهم عند الحضور األول هو الخطوة التي يسيرها قاضي التحقيق في القضية‪،‬‬
‫إذ يتعرف من خالله على المتهم وشخصيته وهويته‪ ،‬وحتى يستطيع هذا األخير كذلك‬
‫تحضير دفاعه‪ ،‬فرغم أهمية االستجواب عند الحضور األول في الكشف عن الحقيقة‪.‬‬

‫ويعد االستجواب عند الحضور األول إجراء جوهري من إجراءات الدعوى الجزائية ال بد‬
‫لقاضي التحقيق أن يقوم به‪ ،‬فهو الخطوة األولى التي يخطوها عند مثول المتهم أمامه ألول‬
‫مرة‪ ،‬وعليه أن يسأل عن هويته الكاملة من خالل تفحص وثيقة الهوية الموجودة عنده‪،‬‬
‫ويطابق ذلك بما هو موجود بالملف‪1،‬ويحيطه علما بكل واقعة منسوبة إليه والمواد التي تنظم‬
‫تجريمها‪ ،‬والعناصر المكونة لها وينبهه بأن حر في عدم اإلدالء بأي تصريح حول التهمة‬
‫المنسوبة إليه بدون حضور محاميه‪ ،‬هذا إن سبق له اختيار محامي‪ ،‬وإن لم يكن له محامي‬
‫يتولى قاضي التحقيق تعيين محامي له تلقائيا ‪ ،‬وهذا ما تنص عليه المادة ‪ 100‬من ق إ ج‪:‬‬
‫‪.1‬‬

‫‪40‬‬
‫"يتحقق قاضي التحقيق حيث مثول المتهم لديه ألول مرة من هويته ويحيطه علما صراحة‬
‫بكل واقعة من الوقائع المنسوبة إليه وينبهه بأنه حر في عدم اإلدالء بأي إقرار وينوه عن ذلك‬
‫التنبيه في المحضر فإذا أراد المتهم أن يدلي بأقوال تلقاها قاضي التحقيق منه على الفور كما‬
‫ينبغي للقاضي أن يوجه المتهم بأن له الحق في اختيار محام عنه فإن لم يختر محاميا عين له‬
‫قاضي التحقيق محاميا من تلقاء نفسه إذا طلب منه ذلك وينوه عن ذلك بالمحضر كما ينبغي‬
‫للقاضي عالوة على ذلك أن ينبه المتهم إلى وجوب إخطار بكل تغيير يطرأ على عنوانه‬
‫ويجوز للمتهم اختيار موطن له في دائرة اختصاص المحكمة"‪.‬‬

‫ولعل الهدف الذي قصده المشرع من النص على حق المتهم في الصمت من خالل نص‬
‫المادة ‪ 100‬من ق إ ج السالفة الذكر ضمن القسم الخاص باالستجواب والمواجهة هو قضائية‬
‫المرحلة‪ ،‬كذلك مجموعة الضمانات التي تنص عليها‪ ،‬ألن قاضي التحقيق مستقل في عمله‬
‫طبقا للمواد ‪ 68 ،67 ،66‬من ق إ ج وبالتالي فيتمكن من أداء أعماله بكل حرية في إطار‬
‫الشرعية‪ ،‬كما يحق للمتهم في هذه المرحلة طلب إبطال االستجواب إذا كان فيه إخالل‬
‫باإلجراءات الجوهرية للتحقيق أو حقوق دفاعه الشرعية‪ .‬فقاضي التحقيق مطالب بالتقيد‬
‫باإلجراءات والترتيبات الواردة ضمن المادة ‪ 100‬من ق إ ج وتذكير المتهم بها خصوصا‬
‫الحق في عدم اإلدالء بالتصريحات عند بدء التحقيق والذي ال يكون له إال عن طريق الطلب‬
‫االفتتاحي الصادر من وكيل الجمهورية حسب المادة ‪ 67‬من ق إ ج‪ ،‬تكريسا لمبدأ الفصل بين‬
‫سلطة التحقيق واالتهام الذي أخذ به المشرع الجزائري حماية لحقوق المتهمين‪.‬‬

‫وبالتالي وتدعيما لحقوق دفاع المتهم في هذه المرحلة وتكريسا لحقه في االمتناع عن‬
‫التصريح لتحضير دفاعه وتحرره من الضغوطات التي قد يتعرض لها‪ ،‬فقد أوجب القانون‬
‫على قاضي التحقيق من واجب حماية كرامة المتهم من جهة‪ ،‬ومعاملته كبريء من جهة ثانية‬
‫خالل مراحل الدعوى الجزائية إلى أن يصدر حكم نهائي فيها ‪ ،‬أن يخطر المتهم بأن له‬
‫الحرية الكاملة في اإلدالء بتصريحاته حول التهمة الموجهة إليه دون حضور محاميه أو عدم‬
‫اإلدالء بها إلى غاية حضوره‪ ،‬أو أخذ الوقت الالزم من أجل تحضير الدفاع المناسب‪ ،‬فإذا‬
‫اختار االمتناع عن التصريح إلعداد دفاعه أعطاه قاضي التحقيق مهلة وفي كثير من الحاالت‬
‫تكون ما بين ‪ 03‬أيام وأسبوع‪ ،‬حيث ترك المشرع تقدير ذلك لقاضي التحقيق حسب‬
‫مقتضيات التحقيق ‪ ،1‬كما أجازت المادة ‪ 100‬من ق إ ج لقاضي التحقيق أن يعين له محاميا‬
‫إذا طلب منه ذلك فإذا ترك قاضي التحقيق هذا اإلعالم بالتهمة عرض إجراءاته للبطالن‪،‬‬
‫وهذا ما قضى به المجلس األعلى للقضاء حيث قرر بطالن االستجواب وما تاله من‬
‫إجراءات اعتمادا على أن قاضي التحقيق لم يذكر كتابة وصراحة تنبيه المتهم بأنه حر في‬
‫اإلدالء أو عدم اإلدالء بأي تصريح‪.‬‬

‫ويتضح من هذا كله أن القاضي في االستجواب يقتصر دوره فقط على توجيه التهمة‬
‫إلى المتهم ال غير‪ ،‬دون أن يحثه على الكالم تحت أي ظرف كان‪ ،‬فإذا امتنع عن التصريح‬
‫يسمح بمناقشته في التهمة في هذه المرحلة فيكون قاضي التحقيق في وضع المتلقي‬
‫لتصريحات المتهم فقط سواء باإلقرار أو اإلنكار‪.‬‬

‫استثناء المادة ‪ 100‬حيث يجوز لقاضي التحقيق أن يستغني عن أحكام هذه‬


‫‪41‬‬
‫المادة وأن يقوم بإجراء االستجواب إن قضت الضرورة ذلك كحالة االستعجال الناجمة عن‬
‫وجود خطر محدق بالشاهد مثال أو وجود عالمات على وشك االختفاء ويجب اإلشارة إلى‬
‫مقتضيات حاالت االستعجال في المحضر وفقا لنص المادة ‪ 101‬من ق إ ج‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الحق في الصمت عند االستجواب في الموضوع‬

‫االستجواب هو محاصرة المتهم باألدلة القائمة ضده ومناقشته فيها تفصيليا فيفندها إن كان‬
‫منكرا للتهمة أو يعترف بها وهو يختلف في ذلك عن سؤال المتهم‪ ،‬والذي يعني مجرد‬
‫استيضاح المتهم أمر الجريمة واالستماع إلى إجابته‪ ،‬ومطالبته بجالء الغموض في أقواله وال‬
‫يتضمن المناقشة التفصيلية أو المواجهة بأدلة االتهام‪.‬‬

‫إذا كان االستجواب عند الحضور األول هو مجرد توجيه التهمة إلى المتهم وتلقي‬
‫التصريحات دون طرح األسئلة في الموضوع فإن االستجواب في الموضوع ال يقل أهمية‬
‫عن االستجواب في الحضور األول بل هو أوسع منه‪.‬‬

‫ويعد االستجواب من أهم إجراءات التحقيق‪ ،‬فهو الذي يربط بين جميع وقائعها ويبحث مدى‬
‫جديتها لتحقيق هدفها األول وهو الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وتوقيع العقاب على المذنب‪،‬‬
‫واستجواب المتهم ذو طبيعة خاصة تميزه عن إجراءات التحقيق األخرى‪ ،‬إذ أنه ال يعتبر‬
‫إجراء بحث عن أدلة االتهام فقط أو سعى وراء الحصول على اعترافات من المتهم‪ ،‬بل ينظر‬
‫إليه أيضا على أنه وسيلة دفاع حيث يسمح له بأن يحاط علما باالتهامات المضافة عليه‪ ،‬وبكل‬
‫ما يوجد ضده في ملف الدعوى من قرائن وأدلة ‪ ،‬ويتيح الفرصة أمامه لكي يدلي‬
‫باإليضاحات التي تساعد في كشف براءته‪.‬‬

‫لذلك فحق المتهم في الصمت يعتبر من الحقوق المقررة للمتهم سواء نص عليه في القانون أم‬
‫لم ينص عليه صراحة‪ ،‬فهو حق ليس في حاجة إلى تقرير‪ ،‬ومن العبث عدم االعتراف به‪،‬‬
‫ألنه ال توجد جدوى من القبول بغير ذلك‪ ،‬فليس هناك طريقة مشروعة إلخراج المتهم الذي‬
‫يرغب في التزام الصمت عن موقفه‪.‬‬

‫إال أن المتمعن في نص المادة ‪ 100‬من ق إ ج والمواد التالية يجد أن التزام المتهم واحتماءه‬
‫باالمتناع عن التصريح ال يوقف قاضي التحقيق من االستمرار في اإلجراءات حتى ولو‬
‫اعترف المتهم بالوقائع المنسوبة إليه وهو في كامل قواه العقلية‪ ،‬فإن قاضي التحقيق يجب أن‬
‫يكرس الضمانات الواردة في النصوص الدستورية وقانون اإلجراءات الجزائية‪ ،‬وذلك بأن‬
‫يتحرى أسباب االعتراف دون أن يعتمد عليه وحده كون بواعثه تختلف من متهم آلخر‪،‬‬
‫ويبحث أيضا في أدلة اإلثبات األخرى‪ 2.‬إال أن ما يمكن مالحظته على فحوى هذه المادة‬
‫المقررة لهذا الحق أنها لم تفرق بين حق المتهم في الصمت كحق من حقوق الدفاع يمارسه‬
‫المتهم طيلة االستجواب‪ ،‬وبين حقه في عدم الرد الفردي على أسئلة قاضي التحقيق‪.‬‬

‫والتنبيه بحق المتهم في التزام الصمت‪ ،‬فيما يخص موضوع الدعوى فقط فال يتعلق بالتثبت‬
‫من شخصية المتهم‪ 3.‬غير أنه في حالة ما إذا قرر المتهم التصريح بأقواله في حالة ما رأى‬

‫‪42‬‬
‫أن ذلك ينصب في مصلحته أو كان يريد االعتراف فعلى قاضي التحقيق تلقي أقواله دون‬
‫مناقشته‪ ،‬بمعنى يتركه يدلي بأقواله بصفة عفوية وذلك بحضور محاميه أو في غيابه إذا ما‬
‫تنازل صراحة عن ذلك‪.‬‬

‫وبالتالي فإن اتجاه المشرع إلى إقرار حق المتهم في االمتناع عن التصريح ومالزمة الصمت‬
‫وعد الرد الفردي في الحضور األول هو تجنب االستجواب في أصل التهمة حتى ال يدلي‬
‫المعني باعترافات تضره‪ ،‬وتقييد قاضي التحقيق عند االستجواب في الموضوع من اللجوء‬
‫إلى الوسائل غير المشروعة لنزع اعتراف المتهم‪ ،‬كما أنه من الممكن أن يكون المتهم ممن‬
‫ال يفهمون اللغة وال يحسنون الدفاع عن أنفسهم فيدلون باعترافات وتصريحات خاطئة قد‬
‫تؤدي بهم لإلدانة في مرحلة المحاكمة‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬حق المتهم في الصمت خالل مرحلة المحاكمة الجزائية‬

‫تتضمن المحاكمة العادلة عدة معايير لضمانها كلها تهدف إلى حماية حقوق‬
‫األشخاص ومن أهم هذه المعايير احترام حقوق الدفاع بصفة عامة وحق المتهم في عدم‬
‫اإلدالء بالتصريحات والصمت بصفة خاصة‪ ،‬فنجد المشرع قد كرسها في عديد النصوص‬
‫التشريعية اعترافا منه بأهميتها كونها قادرة على تغيير مجريات الدعوى وإظهار الحقيقة‬
‫التي هي الهدف من اللجوء إلى القضاء‪ ،‬وبالتالي ال بد من التطرق إلى الطبيعة القانونية‬
‫لمرحلة المحاكمة (الفرع األول) ثم كيفية تكريس المشرع الجزائري لهذا الحق في هذه‬
‫المرحلة (الفرع الثاني)‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬الطبيعة القانونية لمرحلة المحاكمة‬

‫إن هذه المرحلة هي آخر مرحلة تبلغها الدعوى الجزائية‪ ،‬فمن خاللها يتحدد وضع‬
‫المتهم في القضية عبر الحكم الذي يصدره القاضي سواء باإلدانة أو بالبراءة‪ ،‬فيشترط لبلوغ‬
‫هذه المرحلة األخيرة وحصول المحاكمة العادلة التي تكفل حقوق الدفاع كاملة غير منقوصة‪،‬‬
‫أن تكون الترتيبات التي تمت في المراحل السابقة لها قد تمت في إطار سليم من عيوب‬
‫االنتقاص من الشرعية وقرينة البراءة‪ ،‬حيث تقوم المحكمة بحسم موضوع النزاع المتعلق‬
‫باقتضاء حق الدولة في العقاب قبل المتهم‪ ،‬فتقوم بإجراءات التحقيق النهائي‪ ،‬ثم تصدر حكمها‬
‫باإلدانة أو بالبراءة أو بعدم المسؤولية‪.‬‬

‫ونظرا ألهمية هذه المرحلة منح المشرع للمتهم حرية اإلدالء بأقواله‪ ،‬كما أعطى له الحق في‬
‫الكذب دفاعا عن نفسه كما أعطى له الحق في الصمت دون اعتبار سكوته دليال ضده أو دليل‬
‫إدانته‪.‬‬

‫ولتجسيد حق المتهم في الصمت في مرحلة المحاكمة ال بد من توافر عدة ضمانات هي‪ :‬أن‬
‫تكون المحاكمة عالنية‪ ،‬حضورية وشفوية ألن هذه المرحلة تعتبر مرحلة الحسم في الدعوى‬
‫ففيها يتم تقرير مصير المتهم‪ ،‬والهدف من حضور المتهم إجراءات المحاكمة هو االستماع‬

‫‪43‬‬
‫إلى مرافعة االدعاء حتى يتمكن من درء االتهام الموجه إليه‪ ،‬والدفاع عن نفسه‪ ،‬إذ ال يمكن‬
‫إدانة المتهم قبل سماع أقواله وإبداء دفاعه‪.‬‬

‫وعالنية المحاكمة من الضمانات األساسية التي تضمن حق المتهم في الدفاع‪ ،‬إضافة إلى‬
‫تقرير المصلحة العامة‪ ،‬وذلك من خالل تمكين الجمهور من حضور إجراءات المحاكمة‪،‬‬
‫والعلم بسير إجراءاتها مما يدعم ثقته في القضاء‪ .‬هذه العالنية هي الضمانة التي تمنع القضاة‬
‫من إرغام المتهم المعروض أمامهم على الحديث على عكس سكوت المشرع الجزائري على‬
‫عدم ذكره ذلك صراحة فقد اتجهت بعض التشريعات إلى النص صراحة على منع القاضي‬
‫من استنباط اإلدانة من سكوت المتهم بل أن التشريع األمريكي يمنح للمتهم حق تقديم طلب‬
‫بأن ينبه المحلفون بأن سكوته يجب أال يؤخذ قرينة ضده‪.‬‬

‫أما فيما يخص مبدأ شفوية إجراءات المحاكمة فهو مكمل لمبدأ الحضورية‪ ،‬حيث بهما تتحقق‬
‫الوجاهية وقناعة القاضي ال تبنى على أسس صحيحة في ظل الشفوية والحضورية‪ ،‬فالشفوية‬
‫هي إنجاز المحكمة إلجراءاتها بطريقة مسموعة ودون واسطة‪ ،‬فالمحكة ال تكتفي بما هو‬
‫مدون في محاضر المراحل السابقة على المحاكمة وهذا ما نصت عليه المادة ‪ 212‬ف ‪02‬‬
‫من ق إ ج‪.‬‬

‫هذه الصفات أو الخصائص التي تميز هذه المرحلة نجدها مشتركة بين جميع جهات الحكم‬
‫الجزائي سواء على مستوى محكمة المخالفات والجنح أو على مستوى محكمة الجنايات‪ ،‬غير‬
‫أن محكمة الجنايات تنفرد بوجوب حضور محام أثناء المرافعة‪ ،‬وبحكم أن القضية صارت‬
‫في المرحلة الحاسمة لها‪ ،‬أي مرحلة الفصل بين خيارين سيرجح القاضي أحدهما في النهاية‬
‫سواء باإلدانة أو بالبراءة‪ ،‬فلم يعد هناك داع إلخفاء كل أو بعض التحقيق‪ ،‬إال إذا اقتضت‬
‫ضرورة المحافظة على النظام العام واآلداب العامة ذلك‪.‬‬

‫وبالنظر للضمانات الممنوحة للمتهم والمشتبه فيه في مرحلة البحث والتحري ومرحلة‬
‫التحقيق نجد أنها ذات الضمانات التي يتمتع بها في مرحلة المحاكمة وهي ضمانات الدفاع‬
‫سواء بنفسه‪ ،‬أي عن طريق المحاججة والمواجهة والمناقشة وكذلك حقه في االمتناع عن‬
‫التصريح كأسلوب دفاع‪ ،‬أو عن طريق االستعانة بمحام كآثار هامة لتطبيق قرينة البراءة‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬تكريس حق المتهم في الصمت في مرحلة المحاكمة‬


‫إن المتمعن في مختلف اإلجراءات الجزائية يجدها تسير في اتجاه تسيير حماية كاملة‬
‫للمتهم في حالة إحالته على المحاكمة ‪ ،‬لذلك من باب أولى أن تكون قرينة البراءة وحقوق‬
‫الدفاع مكرسة أكثر في هذه المرحلة ألنها مرحلة الحسم وإصدار الحكم فالمتهم في حالة‬
‫إدانته من محكمة درجة أولى يبقى له الحق في الطعن باالستئناف أو استعمال اطرق األخرى‬
‫العادية أو غير العادية وهي في الواقع حق من حقوق الدفاع التي كفلها المشرع تطبيقا لمبدأ‬
‫التقاضي على درجتين وإمكانية إعادة نظر القضية من جديد أمام المحكمة األعلى درجة‬
‫حسب نص المادة ‪ 420‬ف ‪ 02‬من ق إ ج‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ويستنتج مما تقدم أن المتهم له الحق في الصمت في مرحلة المحاكمة استنادا إلى قرينة‬
‫البراءة‪ ،‬ولكن قد يصدر حكم في غير صالحه وتفوته فرصة الدفاع عن نفسه ألن إجراءات‬
‫المحاكمة مرتبة أساسا لكي يتكلم المتهم ويقدم دفاعه‪ ،‬فمحور اإلثبات في نهاية المطاف يدور‬
‫حول االقتناع الوجداني للقاضي باألدلة المقدمة في معرض المرافعات من طرف الخصوم‬
‫عندها قد يؤدي امتناع المتهم عن التصريح إلى أن يسيء القاضي تفسيره‪.‬‬
‫فمن الثابت أن المشرع الجزائري قد مكن المتهم من الحق في االمتناع عن التصريح‬
‫تطبيقا لقرينة البراءة فيكون بذلك مصونا ومضمونا خالل جميع مراحل الدعوى الجزائية‪ ،‬إال‬
‫أن المشرع الجزائري لم يحدد قواعد تأويله من حيث اإلثبات وترك ذلك لالقتناع الشخصي‬
‫للقاضي الجزائي والذي يتمثل في ذلك التأثير الذي يحدثه في الذهن الدليل الواضح والتأكيد‬
‫العقالني المتهم من أعماق الشعور ‪ ،‬أو أنه في حالة ذهنية ذاتية تستنتج من الوقائع‬
‫المعروضة على البحث‪ ،‬وبالتالي فهو يتعلق بضمير القاضي والضمير كما عرفه رجال الفقه‬
‫ضوء داخلي ينعكس على وقائع الحياة‪ ،‬ومن ثم فإن هذا االقتناع يكون نسبيا ذاتيا والنتائج‬
‫التي يتوصل إليها تختلف من قاض آلخر ألن تأثير الوقائع المعروضة يختلف بحسب هذا‬
‫االختالف‪.‬‬
‫إن قاضي التحقيق ال يوقف إجراءاته نتيجة اعتصام المتهم باالمتناع عن التصريح ما يفهم‬
‫من نص المادة ‪ 100‬من ق إ ج وما بعدها‪ ،‬كما ال يوقف قاضي الحكم المرافعة أيضا بحيث‬
‫يكون الحكم الصادر حضوريا في مواجهة المتهم‪ ،‬وهذا ما قصده المشرع في المادة ‪ 347‬من‬
‫ق إ ج التي تنص على أن يكون الحكم حضوريا على المتهم الطليق‪:‬‬
‫أ‪-‬الذي يجيب على نداء اسمه ويغادر باختياره قاعة الجلسة‪.‬‬
‫ب ـ والذي رغم حضوره الجلسة يرفض اإلجابة ويقرر التخلف عن الحضور‪.‬‬
‫جـ ـ والذي بعد حضوره بإحدى الجلسات األولى يمتنع باختياره عن الحضور‪.‬‬
‫بالجلسات التي تؤجل إليها الدعوى أو جلسة الحكم"‪.‬‬
‫هذا االمتناع عن اإلجابة أو الكالم المنوه عنه في هذه المادة يظهر الحرية الكاملة في‬
‫استعماله في مرحلة المحاكمة‪ ،‬خصوصا وأن المشرع يؤكد في حالة على عبارة "باختياره"‬
‫أي انتفاء التأثير والضغط عليه‪ ،‬ولكن بالمقابل ال يكون إجراء أو سالحا في يد المتهم‬
‫يستعمله في تعطيل إتمام المحاكمة والتي تستمر رغم غيابه وامتناعه الذي يبرر حقه في‬
‫تحضير دفاعه‪.‬‬
‫وبالتالي فإن حق في االمتناع عن التصريح وإن كان صورة تطبيقية لقرينة البراءة‬
‫األصلية‪ ،‬فإن هذا ال يؤدي بالضرورة إلى القول بأن استعمال المتهم لهذا الحق هو الذي دفع‬
‫القاضي إلى إصدار حكمه بالبراءة‪ ،‬ولكن الواقع يقول أن القاضي عندما يحكم بالبراءة فإنه‬
‫يكون قد اقتنع بأن األدلة المطروحة في معرض المرافعة غير كافية إلدانة المتهم‪ ،‬ومن ثم‬
‫رجح البراءة على اإلدانة‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون المتناع المتهم أثر ويكون مبررا ومجديا‬
‫وفعاال‪ ،‬ألنه قد يدلي بأقوال تؤثر في قناعة القاضي فيميل إلى اإلدانة بعدما اقتنع بالبراءة‪.‬‬
‫إذن ما يمكن استخالصه من هذه المرحلة هو محاولة إعطاء المتهم الفرصة الكافية لدفع‬
‫االتهام عنه‪ ،‬ونفي أدلة الخصوم‪ ،‬وتعزيز براءته عن طريق اتخاذ موقف إيجابي تجاه‬

‫‪45‬‬
‫الدعوى المرفوعة ضده‪ ،‬وممارسة كافة حقوقه وحتى ال تبقى ادعاءات النيابة العامة ال دليل‬
‫بشأنها‪ ،‬وبالتالي إذا قرر المتهم االمتناع عن الكالم في هذه المرحلة‪ ،‬فال بد للقاضي أن يبحث‬
‫عن الحقيقة في أدلة أخرى خارج شخص المتهم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الضمانات الموضوعية واإلجرائية لحق المتهم في الصمت‬
‫إن عملية البحث عن الدليل واكتشاف الحقيقة ليست الهدف الوحيد من اإلجراءات الجنائية‪،‬‬
‫بل ال بد من احترام حرية المتهم ومعاملته على هذا األساس طيلة هذه اإلجراءات طالما لم‬
‫يصدر في حقه حكم قضائي بات باإلدانة‪ ،‬مما يتعين معه تأكيد ضمانة هذه الحرية‪ ،‬فال قيمة‬
‫للوصول إلى الحقيقة دون احترامها وبالتالي فإن الممارسات والمخاطر التي قد تمس بهذه‬
‫الحريات بصفة عامة وحق المتهم في الصمت بصفة خاصة ال بد لها من ضمانات تكفل‬
‫للمتهم عدم االعتداء عليها وتعزز موقفه في جميع إجراءات الدعوى‪ ،‬وهذه الضمانات تتنوع‬
‫بين ضمانات موضوعية (المطلب األول وضمانات إجرائية (المطلب الثاني)‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬الضمانات الموضوعية‬
‫إن إضفاء حماية على الحق في الصمت ال يتأتى إال بتوفير حماية جنائية ضد كل األعمال‬
‫التي من شأنها المساس بهذا الحق وعليه فقد اتفقت أغلب التشريعات على تكريس حماية‬
‫موضوعية عن طريق تجريم كل ما يتصل بهذا الحق من تجريم االعتداء الجسدي أو التعذيب‬
‫الفرع األول)‪ ،‬كذلك تجريم إعطاء مواد ضارة للمتهم (الفرع الثاني)‪.‬‬
‫الفرع األول‪ :‬حظر التعذيب‬
‫إن التعذيب محرم دستوريا وقانونيا ‪،‬وشرعيا‪ ،‬ويتمثل السبب في التحريم من الناحية‬
‫القانونية‪ ،‬أنه إذا كان تقدير الدليل في المسائل الجزائية هو أمر يخضع للمالئمة والتقدير‬
‫الشخصي للقاضي‪ ،‬إال أن الحصول على هذا الدليل نفسه مسألة مشروعية ال تقدير فيها وال‬
‫مالئمة‪ ،‬ومن بديهيات القانون أن تعذيب المتهم لحمله على االعتراف يهدم مشروعية‬
‫اإلجراء ومشروعية الدليل‪ ،‬من جانب آخر فإنه ال يكفي لتقرير حق المتهم في الصمت أن‬
‫نعترف بوجود هذا الحق ونقرر له الضمانات اإلجرائية الكفيلة بتحقيقه‪ ،‬فقد يحصل إخالل‬
‫بهذا الحق وانتهاك له‪ ،‬فكان ال بد من وجود حماية من هذا اإلخالل‪ ،‬فإذا كان القانون‬
‫اإلجرائي الجزائي يحرم اللجوء إلى الوسائل غير المشروعة النتزاع أقوال المتهم فال بد من‬
‫وجود عقاب لمن يخالف هذا األمر‪ ،‬فتجريم التعذيب والعنف ضمانة أخرى للمتهم لاللتزام‬
‫بالصمت واطمئنانه لعدم وجود وسيلة إلجباره على الكالم‪.‬‬
‫أقرت العديد من القوانين الجزائية في العديد من الدول على مناهضتها وتجريمها لفعل‬
‫التعذيب‪ ،‬ومن بينها التشريع الجنائي الجزائري الذي نص على التعذيب منذ صدور قانون‬
‫العقوبات بموجب األمر ‪ 156-66‬المؤرخ في ‪ 08‬جوان ‪ ،1966‬غير أنه لم يأخذ به كجريمة‬
‫قائمة بأركانها القانونية‪ ،‬فكان التعذيب مجرد ظرف مشدد لجرائم معينة‪ ،‬وبقي األمر كذلك‬
‫حتى تعديل قانون العقوبات بموجب القانون رقم ‪ 04-82‬المؤرخ في ‪ 13‬فيفري ‪ ،1982‬أين‬
‫نص المشرع الجزائري على تجريم التعذيب والمعاقبة عليه في المادة ‪ 110‬مكرر من قانون‬
‫العقوبات بصورة مستقلة غير أنه كان تجريما محددا وضيق النطاق‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ولم يفرد المشرع الجزائري التعذيب كجريمة مستقلة األركان‪ ،‬ولم يضع لها تعريفا مستقال‬
‫إال في ظل قانون العقوبات المعدل لسنة ‪ 2006‬وبالتحديد المادة ‪ ،263‬والتي تنص على أن‬
‫يقصد بالتعذيب‪" :‬كل عمل ينتج عنه عذاب أو ألم شديد جسديا كان أو عقليا يلحق عمدا‬
‫بشخص ما‪ ،‬مهما كان سببه"‪.‬‬
‫فهو ال يشترط لتحقق هذا الفعل وتجريمه أن يكون الجاني صاحب وظيفة رسمية‪ ،‬بل إن‬
‫التعذيب يجرم سواء كان الجاني موظفا رسميا‪ ،‬حيث يرتكب التعذيب لغرض الحصول على‬
‫المعلومات كما يحدث أثناء التحقيق الجنائي مثال‪ ،‬أو سواء كان الشخص عاديا حيث يرتكب‬
‫التعذيب ألغراض أخرى‪.‬‬
‫كما ورد تعريفه في توصية المؤتمر الخامس لألمم المتحدة الخاص بمنع الجريمة ومعاملة‬
‫المجرمين‪ ،‬إذ أقرت الجمعية العامة لألمم المتحدة عام ‪ 1975‬بأنه‪ :‬أي فعل يحل من جرائه‬
‫ألم مبرح أو معاناة شديدة جسدية أو معنوية‪ ،‬وذلك لبعض األغراض مثل الحصول منه أو‬
‫من طرف ثالث على معلومات أو اعترافات أو لمعاقبته على فعل ارتكبه‪ ،‬أو فعل يشتبه في‬
‫أنه قام بارتكابه‪ ،‬أو إلرهاب غيره من الناس"‪.‬‬
‫فهو كل يؤدي إلى إحداث آالم جسدية أو معنوية بغرض الحصول على المعلومات أو على‬
‫أساس العقاب أو إلرهاب الغير‪.‬‬
‫وهو تقريبا نفس التعريف الذي وضعه إعالن طوكيو الصادر عام ‪ 1975‬الذي يعرفه بأنه‪:‬‬
‫إلحاق األذى الجسدي أو العقلي‪ ،‬المتعمد أو المنظم أو الجائر من قبل شخص أو أكثر يعمل‬
‫لوحده أو بناء على أوامر أي سلطة كانت‪ ،‬بهدف إجبار شخص آخر على تقديم معلومات أو‬
‫االعتراف أو ألي سبب آخر"‪.‬‬
‫وحسب هذا التعريف فإن التعذيب يرتكب بصفة متعمدة أو منظمة‪ ،‬وبصورة مباشرة أو عن‬
‫طريق تلقي األوامر‪ ،‬وقد يكون الغرض منه الحصول على المعلومات‪ ،‬وقد يمارس دون‬
‫غرض محدد‪ ،‬وهو تعريف واسع لهذا الفعل‪.‬‬
‫وهو نفس التعريف الذي جاء في الفقرة األولى من نص المادة من اتفاقية مناهضة التعذيب‬
‫وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو الالإنسانية أو المهيمنة‪ ،‬والتي اعتمدتها‬
‫الجمعية العامة لألمم المتحدة في ‪ 10‬ديسمبر ‪ ،1984‬حيث نصت على أنه‪" :‬يقصد بالتعذيب‬
‫أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد‪ ،‬جسديا كان أم عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد‬
‫الحصول من هذا الشخص‪ ،‬أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف‪ ،‬أو معاقبته‬
‫على عمل ارتكبه‪ ،‬أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث‪ ،‬أو تخويفه أو إرغامه هو أو‬
‫أي شخص ثالث‪ ،‬أو عندما يلحق مثل هذا األلم أو العذاب ألي سبب من األسباب يقوم على‬
‫التمييز أيا كان نوعه‪ ،‬أو يحرض أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص‬
‫آخر يتصرف بصفته الرسمية‪ ،‬وال يتضمن ذلك األلم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات‬
‫قانونية‪ ،‬أو المالزم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها"‪.‬‬
‫فإذا كان التعذيب بهذا المعنى الذي نصت عليه المادة ‪ 263‬مكرر ‪ 02‬من ق ع فإن‬
‫القانون يتطلب توافر األركان األساسية لقيام هذه الجريمة‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫‪1‬ـ الركن المفترض‪:‬‬
‫ويجب أن يكون مرتكب الجريمة موظفا عاما يؤدي خدمة عمومية ويتمتع بسلطة وظيفته‪،‬‬
‫ويدخل في ذلك الموظفون العموميون في أجهزة الدولة ومن في حكمهم‪ ،‬ويستوي في ذلك أن‬
‫يكون الموظف قد عذب بنفسه أو أصدر أمره بالتعذيب والوظيفة شرط أساسي في الركن‬
‫المفترض في جريمة التعذيب وإن بدت مستقلة عن نشاط صاحبها إال أنها تعتبر عامال مهيئا‬
‫لنشاطه اإلجرامي‪.‬‬
‫‪2‬ـ الركن المادي‪:‬‬
‫إن جريمة التعذيب تقتصي من الجاني القيام بأفعال إيجابية متمثلة في السلوك اإلجرامي‪،‬‬
‫وهو ما يؤدي إلى إحداث نتيجة جرمية هي العذاب واأللم العقلي أو الجسدي وأن تقوم عالقة‬
‫سببية بين السلوك والنتيجة‪.‬‬
‫السلوك اإلجرامي‪ :‬يتمثل في إتيان الجاني عمال يؤدي إلى تحقيق نتيجة يعاقب عليها‬
‫القانون‪ ،‬وقد يأخذ عدة صور إما ممارسة التعذيب من قبل الجاني أو التحريض عليه أو األمر‬
‫بممارسته‪.‬‬
‫الصورة األولى تتمثل في ممارسة الجاني بنفسه ألعمال التعذيب على الضحية باستعمال‬
‫وسائل مختلفة ال يمكن حصرها كضرب المتهم‪ ،‬كما قد يكون التعذيب معنويا مثل مشاهدة‬
‫أحد أفراد العائلة وهو خاضع للتعذيب‪ 1.‬والصورة الثانية ففيها الجاني ال يقوم بعمل مادي‬
‫وبالتالي فهو ال يمارس التعذيب مباشرة وإنما يؤثر على اإلرادة فيوجهها الوجهة التي‬
‫يريدها‪ ،‬فالمحرض يعد شريكا في بعض األنظمة القانونية السيما المشرع الفرنسي‬
‫والمصري عكس المشرع الجزائري الذي يجعل منه فاعال أصليا‪ .‬أما الصورة الثالثة فتتمثل‬
‫في إصدار أوامر للقيام بتعذيب الضحية وهنا تكون للجاني سلطة إصدار أوامر مستمدة من‬
‫القانون كوجود عالقة تبعية بين اآلمر ومنفذ األمر كأن تكون عالقة رئيس بمرؤوسيه‪،‬‬
‫والمشرع هنا يعتبر المرؤوس فاعال أصليا في الجريمة على عكس بعض األنظمة التي‬
‫تعتبره شريكا‪ .‬وأما الصورة الرابعة هي أن يوافق أو يسكت عن أفعال التعذيب والموافقة هي‬
‫تصرف إيجابي يعكس رضاء الشخص عن أعمال التعذيب بالرغم أنه لم يقم أو يحرض أو‬
‫يأمر بالتعذيب إال أن رضاءه يجعل منه مجرما‪ ،‬والسكوت هو اتخاذ الجاني موقفا سلبيا مع‬
‫علمه بضرورة منع السلوك اإلجرامي مما يجعل منه مقرا للجريمة في الوقت الذي فرض‬
‫عليه المشرع واجبا قانونيا هو اإلبالغ عن الجريمة وعليه تقوم في حقه المسؤولية الجنائية‬
‫عن األعمال السلبية وهو نفس المنحى الذي سار عليه القانون الدولي في اتفاقية مناهضة‬
‫التعذيب‪.‬‬
‫النتيجة‪ :‬باعتبار جريمة التعذيب جريمة مادية فإنه يتطلب لوقوعها حدوث النتيجة التي‬
‫مؤداها إحداث عذاب وألم شديد جسديا كان أو عقليا‪ ،‬أما من يأمر بالتعذيب أو يحرض عليه‬
‫فلم يشترط المشرع وقوع النتيجة‪ ،‬فتقوم الجريمة بمجرد إتيان الفعل المجرم‪1 .‬‬
‫عالقة السببية‪ :‬ومقتضاها أن يكون النشاط الذي ارتكبه الجاني هو المؤدي إلى تحقيق‬
‫النتيجة الجرمية في جريمة التعذيب‪ ،‬وقد تبنى المشرع الجزائري في هذا الصدد نظرية‬
‫السبب المباشر في تحقيق النتيجة دون االعتداد بباقي العوامل الخارجية األخرى وهو ما‬
‫نصت عليه المادة ‪ 263‬مكرر ‪ 02‬من ق ع ج‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫‪ 3‬ـ الركن المعنوي‪ :‬تعتبر جريمة التعذيب جريمة عمدية تتطلب لقيامها القصد الجنائي‬
‫الخاص‪ ،‬وهو الغاية التي يقصدها الجاني متمثلة في إيالم المجني عليه والتسبب له في معاناة‬
‫شديدة للوصول إلى نتيجة أو غاية معلومة لديه سلفا‪ ،‬وهي حمل المتهم على االعتراف‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ العقوبة‪:‬‬
‫تتنوع ما بين عقوبة أصلية متمثلة في السجن المؤقت من ‪ 10‬إلى ‪ 20‬سنة وبغرامة تتراوح‬
‫ما بين ‪ 150000‬دج إلى ‪ 800000‬دج وتشدد العقوبة في حالة ما إذا سبقت أو صاحبت‬
‫جريمة التعذيب جناية غير القتل العمد لتصبح العقوبة السجن المؤبد‪ .‬وقد عاقب المشرع‬
‫الموظف الذي لم يرتكب التعذيب لكنه وافق عليه بالسجن المؤقت من ‪ 05‬سنوات إلى ‪10‬‬
‫سنوات وغرامة تتراوح ما بين ‪ 100000‬دج إلى ‪ 500000‬دج‪.‬‬
‫كما يمكن الحكم بعقوبات تكميلية متمثلة في الحجر القانوني والحرمان من الحقوق الوطنية‪.‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬تجريم إعطاء مواد ضارة‬
‫يتمثل التحليل التحذيري في حقن الشخص محل االختبار بمادة مخدرة بطريقة طبية في داخل‬
‫مجرى الدم‪ ،‬ويكون لهذه المادة تأثير على مراكز معينة في المخ دون غيرها‪ ،‬مما يفضي إلى‬
‫استغراقه في نوم عميق لفترة تتراوح ما بين خمس دقائق إلى عشرين دقيقة تقريبا‪ ،‬ويظل‬
‫الجانب اإلدراكي سليما خالل عملية التحذير‪ ،‬كل ما هنالك أنه يفقد القدرة على السيطرة‬
‫واالختبار والتحكم اإلرادي مما يجعله أكثر قابلية لإليحاء‪ ،‬كما تزداد لديه الرغبة في‬
‫المصارحة واإلفصاح عما بداخله‪.‬‬
‫يمكن القول بأن تأثير المواد المخدرة يشبه إلى حد ما تأثير الكحول‪ ،‬وإن كان الفرق بينهما‬
‫يتمثل في أن متعاطي العقاقير المخدرة يفقد السيطرة على الكالم‪ ،‬بينما يتعلق تأثير الكحول‬
‫باألفعال أكثر من األقوال‪ ،‬وهو أشبه ما يكون بحالة المريض عقب إجراء عملية جراحية له‬
‫حينما يدخل فترة اإلفاقة من تأثير التخدير‪ ،‬حيث ينطلق عقله الباطن الذي يتحرر من الرقيب‪،‬‬
‫فيتفوه بأمور ما كان ليفصح عنها في الحالة العادية فيؤثر بذلك على التحكم اإلرادي‪ ،‬فتحل‬
‫هنا إرادة القائم على االستجواب محل إرادة المستجوب مما يؤدي إلى االعتراف بالجريمة أو‬
‫إلى أدلة إدانة أخرى وهنا يكمن الخطر المحدق بأهم الحقوق األساسية للمتهم أال وهي حريته‬
‫في اإلجابة على ما يوجه إليه من أسئلة والتزام الصمت‪.‬‬
‫واألمر ال يقف عند هذا الحد بل يتجاوزه للمساس بالسالمة المعنوية والجسدية للشخص‬
‫المستجوب‪ ،‬وذلك لما تتركه المادة المخدرة من آثار على حرية اإلدراك وحرية االختيار إذ‬
‫تقوم بتعطيل ملكات الحس لدى الشخص المستجوب فيخاطب فيها الجان الالشعوري‬
‫باستعمال كافة أنواع التحليل النفسي‪ ،‬هذا فضال عن األلم الذي تتركه وخزة اإلبرة في جسم‬
‫الشخص واآلثار التي تتركها المادة المخدرة باعتبارها من المواد الضارة بجسم اإلنسان على‬
‫نحو يعرض سالمته الجسدية للخطر‪.‬‬
‫لذلك حرصت أغلب التشريعات على تجريم هذا الفعل بموجب قانون العقوبات كما فعل‬
‫المشرع الجزائري في نص المادة ‪ 275‬من ق ع ج‪ ،‬ولقيام هذه الجريمة ال بد من توافر‬
‫العناصر واألركان التالية‪:‬‬

‫‪49‬‬
‫المادة المستعملة‪ :‬تقتضي هذه الجريمة إعطاء مواد ضارة بالصحة من شأنها أن تسبب‬
‫للغير مرضا أو عجزا عن العمل ال غير‪ ،‬ويرجع لقضاة الموضوع تقدير مدى إضرار المادة‬
‫المستعملة في الصحة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الركن المادي‪:‬‬
‫السلوك اإلجرامي‪ :‬اعتبر المشرع الجزائري إعطاء المواد الضارة في حكم الجرح‬
‫والضرب‪ ،‬بحيث يتوفر الركن المادي في هذه الجريمة بتناول المجني عليه مادة ضارة تؤدي‬
‫إلى عجز‪ ،‬المادة الضارة هي التي تؤدي إلى ارتباك واضطراب خاليا وأعضاء الجسم‬
‫ووظائفها‪.‬‬
‫النتيجة الجرمية‪ :‬ال يجرم فعل إعطاء مواد ضارة بالصحة إال إذا سبب للغير مرضا أو‬
‫عجزا عن العمل الشخصي‪ ،‬ذلك أن هذه الجريمة وهي من الجرائم المادية ال تتم إال بحصول‬
‫النتيجة المذكورة‪ ،‬وتقتضي هذه النتيجة قيام الرابطة السببية بين إعطاء المادة ومرض‬
‫الضحية أو عجزها‪ ،‬وال يشترط القانون مدة معينة في العجز عن العمل‪ ،‬أما المرض فيجب‬
‫أن يكون فعليا‪ ،‬ومن ثم ال تقوم الجريمة لمجرد وعكة عابرة‪ ،‬ومع ذلك فقد تطبق على هذه‬
‫‪.‬الحالة أحكام العنف العمد‬
‫العالقة السببية‪ :‬ومعناها أن يكون السلوك اإلجرامي الذي تم ارتكابه من طرف الجاني هو‬
‫الذي أدى إلى تحقيق النتيجة الجرمية في جريمة إعطاء مواد ضارة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الركن المعنوي‪:‬‬
‫تعتبر جريمة إعطاء مواد ضارة جريمة عمدية يفترض فيها الخطأ يتطلب لقيامها وجود‬
‫القصد العام المتمثل في عنصري العلم بأن هذه المادة المعطاة ضارة بشخص المجني عليه‪،‬‬
‫وإرادة إتيان هذا الفعل برغم ذلك‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ العقوبة‪:‬‬
‫تختلف العقوبة باختالف خطورة النتيجة المترتبة عن إعطاء المادة المضرة بالصحة‪،‬‬
‫كما يلي‪:‬‬
‫أ‪-‬إذا نتج عنه مرض أو عجز عن العمل لمدة ال تتجاوز ‪ 15‬يوما فتكون العقوبة الحبس‬
‫من شهرين إلى ثالث سنوات وغرامة من ‪ 500‬دج إلى ‪ 2000‬دج‪.‬‬
‫ب ـ إذا نتج عنه مرض أو عجز عن العمل لمدة تتجاوز ‪ 15‬يوما فتكون العقوبة‬
‫الحبس من سنتين إلى ‪ 05‬سنوات‪.‬‬
‫ج ـ إذا نتج عنه مرض يستحيل برؤه أو عجز في استعمال عضو أو عاهة مستديمة فتكون‬
‫العقوبة السجن من ‪ 05‬إلى ‪ 10‬سنوات‪.‬‬
‫إذا أدى إلى الوفاة دون قصد إحداثها تكون العقوبة من ‪ 10‬إلى ‪ 20‬سنة‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬الضمانات اإلجرائية‬

‫‪50‬‬
‫إذا كان محور الضمانات الموضوعية يتضمن تجريم األفعال التي تشكل انتهاكا للحق في‬
‫الصمت‪ ،‬فإن جوهر الضمانات اإلجرائية ينصب على ضمان عدم الخروج عن شرعية‬
‫القاعدة الجنائية بضمان التفسير الصحيح والسليم للقاعدة اإلجرائية (الفرع األول) وتقرير‬
‫جزاء إجرائي يطال العمل المخالف للشرعية (الفرع الثاني)‪.‬‬
‫الفرع األول‪ :‬التفسير الصحيح لحق المتهم في الصمت‬
‫إن من مقتضيات قرينة البراءة أن المتهم ال يكلف بإثبات براءته‪ ،‬فله أن يلتزم‬
‫الصمت ويقع على عاتق النيابة العامة أن تثبت عكس ذلك بأدلة جازمة وقطعية لكي تهدم‬
‫األصل‪ ،‬هذا الموقف السلبي الذي يتخذه المتهم ينبغي أن يعامل على نحو ال يتعارض مع‬
‫المساس بحقوقه األساسية التي تصطدم في كثير من األحيان مع أهم المبادئ القانونية المتمثلة‬
‫في االقتناع الشخصي للقاضي الجنائي‪ ،‬لذلك تحرص أغلب التشريعات الجنائية في هذا‬
‫المجال على إضفاء حماية للحق في الصمت من خالل حظر عملية القياس من جهة ومن‬
‫جهة أخرى النص على ضرورة عدم تأويل الصمت على أنه دليل ضده‪.‬‬
‫وبالتالي فيقرر القانون للمتهم الحق في التزام الصمت‪ ،‬ويضمن له ذلك بتحريم لجوء‬
‫السلطات للوسائل غير المشروعة في الحصول على إقراره‪ ،‬لذلك كان من الطبيعي أن عدم‬
‫اتخاذ الصمت دليال ضده ضمانة أخرى للمتهم في ممارسة حقه في الصمت‪ ،‬إذ القول بخالف‬
‫ذلك سوف يضطر المتهم إلى الكالم تجنبا التخاذ صمته دليال ضده أو إدانته‪ ،2‬بل إن ذلك‬
‫سوف يؤدي إلى تناقض قانوني‪ ،‬إذ أن اعتبار الصمت قرينة على إدانة المتهم يعد وسيلة غير‬
‫مشروعة في الوقت الذي يجرم فيه القانون اللجوء إلى الوسائل غير المشروعة للحصول‬
‫على أقوال المتهم‪ .‬كما أن الصمت حق مقرر للمتهم فهو إنما يستعمل حقا خوله القانون‪ ،‬أي‬
‫أن المحكمة ال يجوز لها أن تبني على استعمال حقه في االمتناع عن اإلجابة أي نتيجة‪ .‬كما ال‬
‫يجوز عد صمته اعترافا ضمنيا‪ ،‬وذلك ألن االعتراف يجب أ‪ ،‬يكون صريحا وواضحا ال‬
‫لبس فيه وال غموض وبحيث يكون قاطعا في أن المتهم يقر بارتكاب الجريمة وأنه ال يحتمل‬
‫أي تأويل آخر‪ .‬فالمتهم يتمتع بالحرية التامة في اإلجابة عن األسئلة التي توجه إليه ومن حقه‬
‫أ‪ ،‬يلتزم الصمت إذا شاء ألن الموقف يخضع كليا لتقديره الخاص وال عقاب عليه إذا امتنع‬
‫عن اإلجابة عن أي سؤال‪.‬‬
‫وقد أشارت االتفاقيات والمؤتمرات الدولية إلى هذه الضمانة في توصياتها فعلى سبيل المثال‬
‫قررت اللجنة الدولية للمسائل الجنائية المنعقدة في بورما سنة ‪" :1939‬أنه من المرغوب فيه‬
‫أن تقرر القوانين بوضوح مبدأ عدم إلزام الشخص باتهام نفسه‪ ،‬وإذا رفض المتهم اإلجابة‬
‫فإن تصرفه يكون محل تقدير المحكمة باإلضافة إلى باقي األدلة التي جمعت دون اعتبار‬
‫الصمت كدليل على اإلدانة"‪ ،‬وفي الحلقة الدراسية التي نظمتها األمم المتحدة لدراسة حماية‬
‫حقوق اإلنسان أثناء اإلجراءات الجنائية والتي عقدت في فيينا" في جويلية سنة ‪:1960‬‬
‫"أجمع األعضاء على أن للمتهم أن يرفض اإلجابة وال يؤثر هذا الرفض على قرار اإلدانة"‪.‬‬
‫وكان موضوع حق المتهم في السكوت وعدم اإلجابة عن األسئلة التي توجه إليه من‬
‫الموضوعات التي تطرقت إليها المفوضية الملكية للقضاء الجنائي في إنجلترا ضمن‬
‫دراساتها ومقترحاتها التي تقدمت بتاريخ ‪ 06‬جويلية ‪ 1993‬وأوصت هذه الدراسة بإبقاء حق‬
‫المتهم في الصمت أثناء التحقيق معه في مراكز الشرطة‪ ،‬ولكنها أوصت بتنبيه المتهم أثناء‬

‫‪51‬‬
‫المحاكمة إلى اإلجابة عن األسئلة وبخالفه فإن سكوته هذا سيشار إليه من قبل المحكمة إلى‬
‫هيئة المحلفين ألخذ نتيجة سلبية من هذا السكوت‪.‬‬
‫وعليه فإن الدور االيجابي الذي يتمتع به القاضي الجنائي في البحث عن الحقيقة وبناء‬
‫قناعته من األدلة المطروحة في الجلسة والتي جرى مناقشتها أمامه ليكون قناعته منها ال‬
‫يخول له أن يبني قناعته باإلدانة على أساس تأويل صمت المتهم إلى قرينة إدانة ضده‪،‬‬
‫فالقانون يوجب على القاضي احترام ضمانات قرينة البراءة التي من أهم نتائجها أن المتهم ال‬
‫يكلف بإثبات براءته وله أن يلتزم الصمت‪ ،‬فهدم هدا األصل في اإلنسان ال يكون إال على‬
‫أدلة جازمة وقاطعة في الدعوى وعليه تحرص جل التشريعات المقارنة على حظر تفسير‬
‫صمت المتهم کدلیل ضده‪ ،‬فعلى سبيل المثال نص المشرع الفرنسي في المادة ‪ 328‬من‬
‫قانون اإلجراءات الجزائية على عدم جواز تفسير صمت المتهم كدليل ضده‪.‬‬
‫ويلتزم بهذا المفهوم ليس قضاة الحكم فحسب وإنما قضاة التحقيق أيضا‪ ،‬ذلك أنه إذا رفض‬
‫المتهم اإلجابة عما يوجه إليه من أسئلة فإنه ال يجوز للمحقق أو المحكمة أن يتخذ من امتناعها‬
‫هذه قرينة ضده أو إكراهه على الكالم وإال ترتب على ذلك بطالن االستجواب وكل ما يترتب‬
‫عليه‪ ،‬والجدير بالمالحظة أن المشرع الجزائري اكتفى بالنص على الحق في الصمت بصفة‬
‫مقتضبة في نص المادة ‪ 100‬من ق إ ج‪.‬‬
‫وال بد من اإلشارة إلى أنه بالرغم من حرص عدد من التشريعات على النص على ضرورة‬
‫قيام المحقق بتنبيه المتهم إلى حقه في الصمت‪ ،‬وأن صمته هذا ال يتخذ قرينة ضده‪ ،‬نجد‬
‫الواقع العملي في معظم الدول عكس ذلك‪ ،‬فنجد بعض المحققين يحث المتهم على الكالم قائال‬
‫له‪" :‬إن عدم الكالم ليس في مصلحتك‪ ،‬والسكوت لن ينفعك‪ ،‬وعليك أن تتكلم وتساعدنا حتى‬
‫نتمكن من مساعدتك‪ ."....‬إلى آخره من العبارات التي يطلب فيها المحقق من المتهم الكالم‬
‫واإلجابة عن أسئلته‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬بطالن العمل اإلجرائي المخالف لحق المتهم في الصمت‬


‫إن االعتداء على حق المتهم في الصمت ال يرتب فقط جزاءات موضوعية‪ ،‬بل يتعداه إلى‬
‫تقرير جزاءات إجرائية تطال العمل اإلجرائي الذي حصل بمناسبته االعتداء على الحق في‬
‫الصمت وتعرف األنظمة اإلجرائية نظامين للبطالن نظام بطالن قانوني مقرر بنصوص‬
‫القانون ونظام بطالن جوهري مقرر في حالة مخالفة قواعد جوهرية تمس حقوق الدفاع‪.‬‬
‫وقد أورد األستاذ إلياس أبو عيد تعريفا للبطالن بقوله‪ ":‬البطالن تعبير بسيط هو جزاء تخلف‬
‫كل أو بعض شروط صحة اإلجراء وهو يفترض عيبا قانونيا شاب اإلجراء‪ .‬والبطالن جزاء‬
‫إجرائي كونه يبطل اإلجراءات الجزائية‪ ،‬أي مجموعة األعمال المتتابعة زمنيا والالزمة‬
‫إلحداث نتيجة معينة‪ ،‬فاإلجراء هو شكل مخطوطة الزمة إلثبات أو لصحة صيغة قانونية‪،‬‬
‫أما أساسه فهو تعبير عن إرادة من شأنه أن ينتج مفاعيل قانونية"‪.‬‬
‫عرفه الفقيه كروكز على أنه‪" :‬الجزاء الذي يلحق باإلجراءات فيلغيها كليا أو جزئيا إما ألنه‬
‫جزاء من اإلجراءات الذي اشترط القانون أو المبادئ القيام به‪ ،‬قد أغفل أو أنه أنجز بطريقة‬

‫‪52‬‬
‫قانونية"‪ ،‬كما عرفه فقيه آخر أنه‪" :‬جزاء سلبي يتمثل في منع إجراء قانوني من إنتاج أثره‬
‫القانوني"‪.‬‬
‫ورغم تعدد تعاريف البطالن غير أنه يمكن األخذ بالتعريف الذي أوجده الدكتور محي محمد‬
‫الدين عوض بقوله‪" :‬عدم ترتب األثر الشرعي أو النظامي الذي نصت عليه القاعدة‬
‫اإلجرائية‪ ،‬ألن العمل اإلجرائي المتخذ لم يستكمل مقوماته البنائية أو شروط صحته وشكله‬
‫الذي يجب نفرغ فيه الصيغة أو الكيفية الذي يجب أن نفرغ فيه الصيغة أو الكيفية التي ينص‬
‫عليها النظام‪ ،‬فيصبح اإلجراء وما يترتب عليه من إجراءات أخرى ال اعتبار له شرعا وال‬
‫قيمة له نظاما"‪ ،‬فهذا التعريف يعتبر تعريفا شامال ونظاميا لتعريف البطالن‪.‬‬
‫ومن المقرر قانونا أن اإلجراءات التي كفلت حق المتهم في الدفاع هي من اإلجراءات‬
‫الجوهرية‪ ،‬ويعد الحق في الصمت أحد أهم تلك الحقوق‪ ،‬ولذلك فإن المساس به يفضي إلى‬
‫البطالن كجزاء النتهاك هذا األخير وهو ما نصت عليه المادة ‪ 157‬من ق إ ج‪ ":‬تراعى‬
‫األحكام المقررة في المادة ‪ 100‬المتعلقة باستجواب المتهمين والمادة ‪ 105‬المتعلقة بسماع‬
‫المدعي المدني وإال ترتب على مخالفتها بطالن اإلجراء نفسه وما يتلوه من إجراءات‪ ،"..‬إذ‬
‫رتبت البطالن على مخالفة األحكام الجوهرية المقررة في المادتين ‪ 100‬و ‪ 105‬من ق إ ج‪،‬‬
‫وعلى نفس المنحى سار المشرع المصري إذ نص في المادة ‪ 331‬من ق إ ج المصري على‬
‫ترتيب البطالن ‪ " :‬يترتب البطالن على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بأي إجراء‬
‫جوهري"‪ ،‬كما أكد المشرع الفرنسي نفس هذه األحكام في نص المادة ‪ 171‬من ق إ ج‬
‫الفرنسي‪:‬‬
‫{‪: II y a 24-08-1993 en vigueur le 02 septembre 1993‬‬
‫‪Nullité lorsque la substantielle prévue par d'une formalité‬‬
‫‪méconnaissance d'une disposition du présent code ou toute‬‬
‫‪autre disposition de procédure pénale a porté atteinte aux‬‬
‫‪.}intérêts de la partie qu'elle concerne‬‬

‫وبالتالي فإن النتيجة المنطقية التي تترتب على اإلجراء الذي أهدر حق الدفاع أو انتقص منه‪،‬‬
‫هي فقدان هذا اإلجراء لقيمته القانونية‪ ،‬وتجريده من ترتيب آثاره القانونية وبطالن جميع‬
‫اإلجراءات المترتبة عليه والتالية له مباشرة‪ ،‬وفي هذا السياق أبطلت محكمة النقض الفرنسية‬
‫جميع اإلجراءات التي تمت تحت التنويم المغناطيسي وكذلك اإلجراءات التالية لها من‬
‫استجواب واعتبرت أن قرار غرفة التحقيق ( غرفة االتهام) باستبعاد محضر الخبرة الذي قام‬
‫به الخبير النفساني تحت تأثير التنويم المغناطيسي‪ ،‬وكذلك محضر التنميط النفسي من‬
‫‪.‬البطالن يعد مخالفا للنصوص القانونية المتعلقة باإلثبات وخرقا لحقوق الدفاع‬
‫وفي نفس السياق قامت محكمة النقض الفرنسية بنقض قرار صادر عن محكمة االستئناف‬
‫وهذا نتيجة لعدم تنبيه المتهم بحقه في الصمت أمام محكمة االستئناف باعتباره واجبا يقع على‬
‫عاتق القضاة وأن تنبه قضاة الدرجة األولى ال يعفي قضاة المجلس من إعادة تنبيهه عن حقه‬
‫‪.‬في الصمت مما يتعين معه نقض القرار المطعون فيه‬

‫‪53‬‬
‫ملخص الفصل الثاني‪:‬‬
‫يعد حق المتهم في الصمت من أهم دعامات حق الدفاع المكرسة قانونا باعتباره أحد‬
‫أهم نتائج قرينة البراءة‪ ،‬وبالتالي فهو يخضع للمؤثرات الناتجة عن طبيعة الدعوى الجزائية‬
‫بمختلف مراحلها بداية بمرحلة البحث والتحري وهي التي يتم فيها جمع المعلومات والبيانات‬
‫الممهدة للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬حيث لم يعط المشرع لهذا الحق أهمية كبرى في هذه المرحلة‬
‫باعتبار أن المشتبه فيه لم يتحدد اتهامه بعد‪ ،‬ثم تليها مرحلة التحقيق االبتدائي المعرفة بكونها‬
‫مجموعة اإلجراءات المباشرة من طرف سلطة التحقيق بالشكل المحدد قانونا‪ ،‬وتضم‬
‫الحضور األول عند قاضي التحقيق بغية التعرف على المتهم وهويته وحتى يتمكن هذا‬
‫األخير من تحضير دفاعه‪ ،‬حيث يمنح له الحق الكامل في عدم اإلدالء بأي تصريح وفق‬
‫المادة ‪ 100‬من ق إ ج ‪ ،‬ثم االستجواب في الموضوع والذي يتم فيه محاصرة المتهم باألدلة‬
‫القائمة ضده ومنا قشته فيها تفصيليا‪ ،‬ويعد من أهم إجراءات التحقيق فهو الذي يربط بين‬

‫‪54‬‬
‫جميع وقائع الجريمة بهدف الوصول إلى الحقيقة ولذلك يعتبر حق المتهم في الصمت أحد أهم‬
‫الحقوق المقررة للمتهم ضمن هذه المرحلة‪.‬‬
‫وأخيرا مرحلة المحاكمة الجزائية وهي آخر مرحلة تبلغها الدعوى الجزائية يتحدد فيها وضع‬
‫المتهم في القضية سواء بالبراءة أو باإلدانة‪ ،‬ونظرا ألهميتها فقد منح المشرع للمتهم هذا‬
‫الحق استنادا إلى مبدأ قرينة البراءة‪.‬‬
‫وحتى يتمتع المتهم بحقه في االمتناع عن التصريح فقد منحه المشرع مجموعة من‬
‫الضمانات بنوعيها ضمانات موضوعية متمثلة في تجريم بعض السلوكات التي قد تصدر من‬
‫عم له سلطة من خالل مواد من قانون العقوبات الجزائري‪ ،‬التي تحظر كل من التعذيب‬
‫وإعطاء مواد ضارة التي قد تحدث أثناء التحقيق مثال لغرض الحصول على المعلومات‪،‬‬
‫وضمانات إجرائية تنصب على ضمان عدم الخروج عن شرعية القاعدة الجنائية عن طريق‬
‫التفسير الصحيح لحق المتهم في الصمت‪ ،‬فال يقع عليه عبء إثبات براءته وال ينبغي أن‬
‫يعامل على نحو يتعارض مع المساس بحقوقه األساسية وكذلك تقرير بطالن العمل اإلجرائي‬
‫المخالف للشرعية‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫ما نخلص إليه بعد دراستنا لموضوع حق المتهم ف الصمت ‪ -‬على أنه يعتبر من بين أهم‬
‫المبادئ التي ترتكز عليها العدالة الجنائية عموما‪ ،‬والحق في محاكمة عادلة خصوصا‪،‬‬
‫بالنظر لإليجابيات الكثيرة التي تعود على المتهم ‪ ،‬واحتواء قانون اإلجراءات الجزائية‬
‫الجزائري على نص صريح يقر الحق في االمتناع عن اإلدالء بأي تصريح لمكسب كبير‬
‫ومهم للمنظومة القانونية اإلجرائية‪ ،‬في انتظار دسترته صراحة نظرا لما يكفله من حقوق‬
‫للمتهم‪ ،‬كونه يبين قداسة مبدأ األصل في اإلنسان البراءة‪ ،‬والحرية الشخصية تبرز حقوق‬
‫الدفاع عامة وحق المتهم في االمتناع عن التصريح خاصة كضابط إجرائي يجب مراعاته في‬
‫جميع مراحل الدعوى الجزائية ضمانا للمحاكمة العادلة‪ ،‬وتحقيقا لهذا الهدف وجب على‬
‫المشرع أن يوفر للمتهم كافة الوسائل التي تمكنه من الدفاع عن نفسه في مواجهة امتيازات‬

‫‪55‬‬
‫النيابة العامة في الدعوى الجزائية وضمانا له من كل تعسف‪ ،‬لكن هذا ال يعني بقاء المتهم‬
‫جامدا ال يدافع عن نفسه أمام ما ينسب له من اتهام‪ ،‬خصوصا عندما ال يقتنع القاضي في‬
‫إطار حريته في االقتناع‪ ،‬ومن ثم فإن المتهم إذا صمت وذلك ضر بمصلحته فالبد من التكلم‬
‫وتحضير دفاعه قصد دحض ادعاءات النيابة العامة وتكريس االتجاه الحديث الرامي إلى‬
‫تعزيز حقوق الدفاع‪ ،‬لضمان نوع من التوازن بين مركز النيابة العامة من جهة‪ ،‬وحقوق‬
‫المتهم في الدعوى الجزائية من جهة ثانية‪.‬‬

‫ومن خالل ما سبق ارتأينا تقديم بعض االقتراحات والتوصيات‪:‬‬

‫ندرة النصوص القانونية المتعلقة بحق المتهم في الصمت في قانون اإلجراءات الجزائية‪،‬‬
‫وبالتالي البد للمشرع الجزائري من النص عليه والتطرق له بشكل مباشر وواضح محددا‬
‫بذلك األبعاد المختلفة ‪،‬له خصوصا خالل مرحلة البحث والتحري التي قد تتجاوز فيها حقوق‬
‫الدفاع عامة من طرف الضبطية القضائية‪ ،‬ومساواتها على األقل بما هو منصوص عليه في‬
‫مرحلة التحقيق لضمان حسن ودقة مراعاته من البداية حتى النهاية‪ ،‬نظرا لخصوصية هذا‬
‫الحق من حيث مراعاة حقوق الدفاع‪ ،‬أو من ناحية اإلثبات فالبد من النص عليه ضمن قواعد‬
‫ملزمة واالبتعاد عن التعميم والغموض في النص درءا للتأويل والتفسير الخاطئين‪.‬‬

‫إن التطور التكنولوجي كان له األثر البارز على حق المتهم في الصمت‪ ،‬فقد تلجأ السلطات‬
‫الخاصة بالتحقيق إلى االستعانة بوسائل اإلكراه بهدف تضليل المتابع جنائيا وإرغامه على‬
‫التصريح واالعتراف وهذا أمر غير جائز باعتباره تعديا على حقوق المتهم ومساسا بحريته‬
‫في الدفاع لذا وجب تشديد العقوبات على مرتكبي مثل هذه السلوكات‪ .‬برغم نص المشرع‬
‫على إبطال أي استجواب تحت تأثير الوسائل غير المشروعة وتجريم بعض األفعال‬
‫كالتعذيب واستعمال الوسائل الضارة بغية الحصول على اعترافات من المتهم‪ ،‬إال أن‬
‫المشرع البد عليه من النص صراحة على عدم جواز تفسیر صمت المتهم على أنه قرينة‬
‫ضده‪ ،‬وإدانته بناء على استخدامه لحقه في الصمت وعدم اإلجابة على األسئلة الموجهة إليه‪.‬‬

‫تماشيا مع مبدأ النزاهة والموضوعية التي من المفروض أن تطبع سلوك قاضي التحقيق‪،‬‬
‫على هذا األخير االبتعاد عن استعمال بعض العبارات الشائعة التي تحمل معنى النصح‬
‫واإلرشاد إلى قول الحقيقة وعدم الكذب‪ ،‬التي قد توهم المتهم بأنه سيستفيد من ذلك أو‬
‫سيتحسن مركزه في الدعوى بتخفيف الحكم عليه‪ ،‬وضرورة اعتماد عبارات قانونية تحمل‬
‫في طياتها الوضوح والدقة حتى ال تنتهك حقوق اإلنسان ومن ثم حقوق الدفاع‪.‬‬

‫خالصة الموضوع‬

‫يقضي مبدأ قرينة البراءة بمعاملة الشخص على أساس لبراءة ما دام لم يصدر في حقه حكم‬
‫قضائي بات باإلدانة‪ ،‬وهو ما نتج عنه عديد الضمانات أهمها حق المتهم في عدم اإلدالء بأي‬
‫تصريح فهو غير ملزم بإثبات براءته مادامت هذه األخيرة مفترضة فيه‪ ،‬وهو ما أقرته الكثير‬
‫من المواثيق الدولية واالتفاقيات اإلقليمية والتشريعات الجزائية التي من بينها التشريع‬
‫الجزائي المقر لحق الصمت بدعم من نصوص دستورية وجزائية وهذا حماية لحقوق الدفاع‬

‫‪56‬‬
‫بصفة عامة ولحق االمتناع عن التصريح والكالم بصفة خاصة‪ .‬كون عملية البحث عن‬
‫الدليل واكتشاف الحقيقة قد يؤدي في بعض األحيان إلى سلوك طرق غير شرعية كاستعمال‬
‫األساليب التقليدية والحديثة الماسة بهذا الحق‪ ،‬التقليدية متمثلة في اإلكراه بنوعيه األول إكراه‬
‫مادي يشمل اللجوء إلى وسائل التعذيب أو إطالة االستجواب بغرض الحصول على أقوال‬
‫نتيجة إرهاق المتهم‪ ،‬والثاني إكراه معنوي يستهدف قدرات الشخص النفسية فتضعف إرادته‬
‫ويستجيب إلرادة المحقق من خالل الوعد‪ ،‬التهديد ‪ ،‬تحليف المتهم اليمين واستعمال الكالب‬
‫البوليسية‪ ،‬باإلضافة إلى استعمال وسائل حديثة نتيجة التقدم العلمي في هذا المجال من جهاز‬
‫كشف كذب وتنويم مغناطيسي‪ ،‬ناهيك عن كثير المخاطر األخرى كتأويل صمت المتهم في‬
‫غير محله ومبدأ االقتناع الشخصي للقاضي الجنائي‪.‬‬

‫إال أن المشرع الجزائري وحفاظا منهم على دعائم حق الدفاع المكرسة قانونا فقد حاول‬
‫حماية هذا الحق خالل جميع مراحل الدعوى الجزائية بداية بمرحلة التحقيق إلى غاية‬
‫الوصول إلى مرحلة المحاكمة وصدور حكم باإلدانة أو بالبراءة‪ ،‬وذلك من خالل تكريس حق‬
‫الدفاع وعدم إلزام المتهم بإثبات براءته أو التصريح بأية معلومات مادام البراءة مفترضة‬
‫فيه‪ ،‬إضافة إلى إقرار مجموعة من الضمانات الحامية لهذا الحق‪ ،‬أولها الضمانات‬
‫الموضوعية والمتمثلة في تجريم السلوكات التي تهدد هذا الحق من بينها التعذيب وإعطاء‬
‫مواد ضارة‪ ،‬وثانيها ضمانات إجرائية تضم التأويل الصحيح لهذا الحق عن طريق عدم اتخاذ‬
‫هذا األخير دليال ضده‪ ،‬وكذا بطالن العمل اإلجرائي المخالف لحق الصمت إذا حصل‬
‫االعتداء عليه‪.‬‬

‫‪Résumé‬‬

‫‪Le principe de la présomption d'innocence stipule qu'une personne‬‬


‫‪doit être traitée sur la base de l'innocence tant qu'elle n'a pas reçu une‬‬

‫‪57‬‬
décision judiciaire définitive de condamnation, ce qui a abouti à de
nombreuses garanties, dont la plus importante est le droit du accusé de
ne faire aucune déclaration, car il n'est pas obligé de prouver son
innocence tant que ce dernier y est présumé, ce qui a été approuvé par
de nombreux pactes internationaux, accords régionaux et législation
pénale, parmi lesquels la législation pénale approuvée pour le droit
faire taire, avec le soutien de textes constitutionnels et pénaux, c'est
une protection des droits de la défense en général et du droit de
s'abstenir de déclarer et de parler en particulier. Le fait que le
processus de recherche de preuves et de découverte de la vérité peut
parfois conduire à des comportements illicites, tels que l'utilisation de
méthodes traditionnelles et modernes affectant ce droit, le traditionnel
représenté dans la coercition, sous ses deux formes, la coercition
physique qui inclut le recours à méthodes de torture ou prolonger
l'interrogatoire afin d'obtenir des déclarations résultant de l'épuisement
de l'accusé, et la seconde contrainte morale qui cible les capacités
psychologiques de la personne et affaiblit sa volonté et répond à la
volonté de l'enquêteur par une promesse, une menace, un serment
l'accusé, et l'utilisation de chiens policiers, en plus de l'utilisation de
méthodes modernes résultant des progrès scientifiques dans ce
domaine de la détection du mensonge et de l'hypnose, sans oublier de
nombreux autres dangers tels que l'interprétation du silence de l'accusé
Mal placé et le principe du condamnation du juge pénal.

Cependant, le législateur algérien, afin de préserver les fondements du


droit de la défense légalement consacré, a tenté de protéger ce droit à
tous les stades de l'affaire pénale, en commençant par le stade de
l'enquête jusqu'au stade du procès et en prononçant un jugement. de
culpabilité ou d'acquittement, en établissant le droit de la défense et en
n'obligeant pas l'accusé à prouver son innocence ou à déclarer Avec
toute information tant que l'innocence y est présumée, en plus de
l'adoption d'un ensemble de garanties protégeant ce droit, la première
dont les garanties objectives de criminalisation des comportements qui
menacent ce droit, y compris la torture et l'introduction de substances
nocives, et le second est les garanties procédurales qui incluent
l'interprétation correcte de ce droit en ne prenant pas ce dernier
comme preuve contre lui, ainsi que l'invalidité de l'acte procédural qui
viole le droit de garder le silence s'il est attaqué.

58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136

You might also like