Professional Documents
Culture Documents
مـــجــــلــة اهلـــــــند
ّ
مجلة فصلية محكمة
العددان3-2 : املجلد9 :
أبريل-سبتمبر 2222م
مدير التحرير
د .أورنك زيب األعظمي
املشارك في التحرير
د .هيف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء شاك ــري
تصدر عن
موالنا آزاد آئيديل إيجوكيشنال ترست
بولفور ،بنغال الغربية
س ال
ابريل -بتمبر 2222 1 العددان3-2 : مجلد9:
ISSN: 2321-7928
دالالت األلفاظ والتراكيب في سورة الفاتحة
دراسة بيانية تحليلية
-د .محمد وسيم خان1
ملخص البحث
وبين أسباباشتمل هذا البحث على مقدمة أشاد فيها الباحث بأهمية املوضوعّ ،
اختياره ،وذكر الدراسات السابقة عن املوضوع ،وهدف البحث ،وخطته ،واملنهج
املتبع فيه ،وختمها بكلمة الشكر .ثم قسم الباحث بحثه إلى ثالثة مباحث أولها
نص سورة الفاتحة ،وثانيها دراسة األلفاظ ،وثالثها دراسة التراكيب في السورة.
الدالالت اللغوية والبيانية ،وما احتوت عليه الحروف وقد ّركز الباحث على ّ
ِ
معان عميقة دقيقة ،وإشارات لطيفة عجيبة ،وعني والكلمات املفردة في ذاتها من ٍ
ودالالت.
ٍ ببيان األلفاظ ،وشرح التراكيب ،وما اشتملت عليه من مفاهيم
وقد مض ى الباحث ملتزما في دراسته املنهج الوصفي التحليلي ،محاوال من خالله
الوصول إلى الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه ،وهو إبراز الجوانب البالغية
والكشف عن الوجوه البيانية في سورة الفاتحة من خالل دالالت األلفاظ
والتراكيب ،جامعا بين الدراسة اللغوية الداللية والدراسة البيانية البالغية،
ملتزما بهما؛ ملا فيهما من ربط مباشر وثيق غير قابل لالنفصال للكشف عن
جماليات القرآن ودقائقه اللغوية ،وعجائبه البيانية ،ولطائفه البالغية ،معتمدا
على أقوال املفسرين واللغويين والبيانيين.
وانتهى الباحث من خالل البحث والدراسة للموضوع إلى نتائج رصدها في خاتمة البحث.
1أستاذ مساعد في البالغة العربية ،قسم اللغة العربية ،كلية اآلداب والفنون ،جامعة حائل،
اململكة العربية السعودية.
س ال
ابريل -بتمبر 2222 191 العددان3-2 : مجلد9:
ّ
املقدمـة
ِّ
الحمد هلل رب العاملين ،والصالة والسالم على رسوله الكريم ،وعلى آله وصحبه
أجمعين ،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،وبعد:
فهذه دراسة بيانية تحليلية لأللفاظ والتراكيب في سورة الفاتحة ،وهي تحاول
كشف بعض ما فيها من أسرار البيان ،وجمال األسلوب ،وبالغة التعبير مستعينة
بالنظر في كتب علماء التفسير ،واللغة ،ومن ُع ُن ْوا ببيان جماليات التعبير القرآني.
وقد ربطت فيها بين اللغة والبالغة وبين الداللة والبيان؛ حيث قمت بتحليل
الحروف والكلمات ،واملفردات والتراكيب ،والكشف عما فيها من بالغة وبيان؛ إذ
تتجلى فصاحة القرآن الكريم وبالغته وبيانه بداية من اختيار الحروف والكلمات،
ثم الجمل والنظم والتأليف.
أهمية املوضوع :يكفي ألهمية هذا املوضوع أنه متعلق بالقرآن ،بل ّ
بأم القرآن،
يكشف عن بعض ما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة من املعاني الجليلة،
واملطالب العالية ،وينقب عن بعض ما احتوت عليه من ألوان البالغة والبيان،
وتتلخص أهميته في النقاط التالية:
متصل بالقرآن الكريم اتصاال مباشرا يبحث فيه ،ويكشف عن ّ .2أن املوضوع ّ
بعض جمالياته.
.2وأنه متعلق بسورة عظيمة من سور القرآن ،وهي سورة الفاتحة التي هي
فاتحة الكتاب ّ
وأم القرآن.
.3وأنه يبحث في جانب يتصل بإعجاز القرآن الكريم.
أسباب اختيار املوضوع :هذه األسباب السابقة الكاشفة عن أهمية هذا
املوضوع ،ورغبتي في دراسة آيات القرآن دراسة تحليلية تنمي الذوق ،وتساعدني
س ال
ابريل -بتمبر 2222 192 العددان3-2 : مجلد9:
على الوقوف عند دقائق القرآن اللغوية ،وجمالياته البيانية؛ دفعتني إلى اختيار
هذا املوضوع للدرس والبحث.
الدراسات السابقة :أفنى العلماء أعمارهم في دراسة القرآن وتفسيره والعناية به
من جوانب مختلفة ،وال يزالون يستمرون في ذلك مبتغين به وجه هللا تعالى.
فإن مؤلفات التفسير اللغوي والبياني وكتب إعراب القرآن على العموم وعلى هذا ّ
تعد من الدراسات السابقة لهذه السورة حيث تناولتها من جوانب مختلفة. ّ
س ال
ابريل -بتمبر 2222 193 العددان3-2 : مجلد9:
املبحث األول :نص سورة الفاتحة.
املبحث الثاني :دالالت األلفاظ في سورة الفاتحة ،وفيه تسعة مطالب:
َّ
اَّللِ) ودالالتها البيانية.املطلب األول :لفظ الجاللة (
ٱلرِنَٰمۡح َّ
ٱلرحِي ِم) :دالالتهما البيانية ،والفائدة في اقترانهما. املطلب الثاني :صفتا ( َّ
ۡ
ٱۡل ۡم ُد) ،وما فيها من دالالت ،والفرق بينها وبين الشكر.
املطلب الثالث :كلمة ( َ
ۡ ۡ َ
املطلب الرابع :دالالت كلمتي ( َرب ٱل َعٰلم َ
ني) البيانية ،وما في كلمة (ٱل َر ِب) من الدقة ِ ِ ِ
واإليحاء.
َ َ
ِك يَ ۡو ِم
ِين) البيانية في قوله تعالى( :مٰل ِ املطلب الخامس :دالالت كلمة (مٰل ِ
ِك) و(ٱدل ِ
َۡ
ِين) من ِين) ،والدقة في إضافة امللك إلى اليوم ،وما يحمل التعبير بـ(يو ِم ٱدل ِ
ٱدل ِ
املعاني واإليحاءات.
َّ َ َ
اك ن ۡع ُب ُد املطلب السادس :دالالت (العبادة) و (االستعانة) البيانية في قوله تعالى( :إِي
اك ن َ ۡس َتع ُ
ِني) ،والحكمة من االقتران بينهما. ِإَويَّ َ
ۡ
ٱلص َر ٰ َط ٱل ُم ۡس َتق َ ۡ َ
ِيم). املطلب السابع :دالالت (الهداية) البيانية في قوله تعالى( :ٱهدِنا ِ
ۡ َ ٱلص َر ٰ َط) و (ٱل ۡ ُم ۡس َتق َ
ِيم) البيانية في قوله تعالى( :ٱهدِنا املطلب الثامن :دالالت ( ِ
ٱلص َر ٰ َط ٱل ۡ ُم ۡس َتق َ
ِيم). ِ
َّ َۡ ُ ۡ
َۡۡ َ َ
ٱلضٓال َِني) البيانية في قوله تعالى: وب) و (
املطلب التاسع :دالالت (أنعمت) و (ٱلمغض ِ
َّ َ َ ۡ َ
َ َۡۡ َ َ ۡ ۡ ۡ َۡ ُ َ َ َّ
ٱلضٓال َِني). وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل َ َ
(صِ رٰط ٱَّلِين أنعمت علي ِهم غ ِ
ۡي ٱلمغض ِ
س ال
ابريل -بتمبر 2222 195 العددان3-2 : مجلد9:
املبحث األول
ُ َ َ
ورةُ الف ِ
اُتَةِ نص س
ِك يَ ۡو ِم
َ
ٱلرحِي ِم ٣مٰل ِ ٱلرِنَٰمۡح َّ
ني َّ ٢ ِ ِيم َ ۡ ١
ٱۡل ۡم ُد ِ ََّّللِ َرب ۡٱل َعٰلَم َ ٱلرِنَٰمۡح َّ
ٱلرح ِ
َّ
ٱَّلل ِ َّ ِمۡسِب
ِ
َ
ت ِيم ٦صِ َر ٰ َط َّٱَّل َ
ِين أ ۡن َع ۡم َ ٱلص َر ٰ َط ٱل ۡ ُم ۡس َتق َ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ َّ َ َ ۡ َ ُ
ِين ٤إِياك نع ُبد ِإَوياك نستعِني ٥ٱهدِنا ِ ٱدل ِ
َّ َ َ ۡ
َ َۡ ۡ َ ۡ َ ۡ ُ
ِني ٧ ٱلضٓال َ وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل
علي ِهم غۡيِ ٱلمغض ِ
املبحث الثاني
دالالت األلفاظ في سورة الفاتحة
َّ َّ
اَّلل) ،اسماَّلل) ،ودالالتها البيانية :لفظ الجاللة (املطلب األول :لفظ الجاللة (
جل في عاله .وقد اختلف علماء اللغة في اشتقاقه على أقوال معروف لرب العاملين ّ
كثيرة .فقال الفيروزآبادي" :واختلف فيه -يعني :لفظ الجاللة -على عشرين قوال"1.
ّ
معلقا عليه" :قال شيخنا :بل على أكثر من ثالثين وقال أبو الوفاء نصر الهوريني ِ
قوال ،ذكرها املتكلمون على البسملة" 2.وأشهر األقوال فيها ما يأتي3:
األول :وهو قول أبي بكر ابن دريد صاحب "االشتقاق" ،قالّ :
"فأما اشتقاق القول ّ
وجل فقد أقدم قوم على تفسيره ،وال ّ
أحب أن أقول فيه شيئا"4. عز ّ اسم هللا ّ
والقول الثانيّ :إن أصله "إلـه" ،ثم دخلت األلف والالم عليه فصار "اإللـه" ،ثم
َّ
اَّلل" .فاأللف والالم عوض عنحذفت الهمزة وأدغمت الالم في الالم فصار "
ٱلرِنَٰمۡح َّ
ٱلرحِي ِم) ،ودالالتهما البيانية ،والفائدة في املطلب الثاني :صفتا ( َّ
َ َ
الرحمن ف ْعالن من الرحمة .وصيغة ف ْعالن تفيد الداللة على الحدوث اقترانهماّ :
وجوعان ،كما تفيد أيضا االمتالء بالوصف، والتجدد ،وذلك نحو َعطشان َ
فيقولون :غضبان ملن امتأل غضبا ،وسكران ملن امتأل سكرا2.
والرحمن علم وصفة ،وهي من األعالم الخاصة باهلل ،فال يجوز ألحد أن يسمي
نفسه بالرحمن ،فهو في هذا الباب كلفظ الجاللة ،بخالف الصفات األخرى
كالرحيم والكريم وغير ذلك ،فإنه ال بأس بالتسمي بها ،وشتان بين املوصوفين3.
والرحيم فعيل من الرحمة .وصيغة فعيل تدل على الثبوت في الصفة ،نحو طويل وجميل،
كما تفيد التحول في الوصف إلى ما يقرب من الثبوت ،نحو خطيب وبليغ وكريم4.
فجاء بالوصفين للداللة على ّأن هذه الصفة ثابتة فيه ومتجددة ،وأفاد بالجمع
بين الوصفين ما لم يفده عدمه.
فلو وصف نفسه بأنه رحمن فقط لوقع في النفس ّأن هذا الوصف غير ثابت،
كالغضبان والعطشان ،والواقع ليس كذلك؛ فإنه يغضب ولكنه رحيم بعباده،
ورحمته وسعت كل ش يء ،بل غضبه أيضا مقرون برحمته.
ولو وصف نفسه بالرحيم فقط لوقع في النفس ّأن هذا وصفه الثابت ،والواقع أنه
قد يأتي وقت ال يرحم فيه ،كالكريم قد ال يكرم ،والخطيب قد ال يخطب5.
وقال ابن القيم رحمه هللا تعالى" :وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى هو
أحسن من املعنيين اللذين ذكرهما السهيلي :وهو ّأن الرحمن ّ
دال على الصفة
القائمة به سبحانه ،والرحيم ّ
دال على تعلقها باملرحوم .فكان األول للوصف،
والثاني للفعل.
دال على ّأن الرحمة صفته ،والثاني ّ
دال على أنه يرحم خلقه برحمته ،وإذا فاألول ّ
أردت فهم هذا فتأمل قولهَ ( :و ََك َن بٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ
ِني َرحِيما)( 2،إنَّ ُهۥ به ۡم َر ُءوف َّرحِيم)3.
ِِ ِ ِ
ولم يجئ قط "رحمن بهم" ،فعلم ّأن "رحمن" هو املوصوف بالرحمة ،و"رحيم" هو
ُ الراحم برحمتـه ،وهذه نكتة ال تكاد تجدها في كتاب ،وإن ّ
تنفست عندها مرآة
ُ
صورتها"4. قلبك لم َتنجل َ
لك ِ
وقد ذكروا ّأن الرحمن عام للناس ،والرحيم خاص باملؤمنين ،وتحصل في الدنيا
كما تحصل في اآلخرة5.
قال العالمة الشنقيطي" :هما -أي :الرحمن والرحيم -وصفان هلل تعالى ،واسمان
من أسمائه الحسنى ،مشتقان من الرحمة على وجه املبالغة ،والرحمن أشد
مبالغة من الرحيم؛ ّ
ألن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخالئق في الدنيا،
وقال السمين الحلبي بعدما ذكر الخالف الواقع في أيهما أبلغ ،الرحمن أو الرحيم؟
"والظاهر ّأن جهة املبالغة فيهما مختلفة ،فمبالغة "فعالن" من حيث االمتالء
الرحمة"2. ّ
بمحال ّ والغلبة ،ومبالغة "فعيل" من حيث التكرار والوقوع
ۡ
ٱۡل ۡم ُد) ،وما فيها من دالالت ،والفرق بينها وبين املدح والشكر:
املطلب الثالث :كلمة ( َ
ۡ
ٱۡل ۡم ُد) :األلف والالم في الحمد لتعريف الجنس على سبيل
أوال :داللة (أل) في ( َ
عز ّ
وجل ،أو للعهد ،أي :الحمد املعهود بين االستغراق ،أي :جميع أنواع الحمد هلل ّ
عز ّ
وجل3. الناس هلل ّ
ثانيا :داللة كلمة ( ۡ َ
ٱۡل ۡم ُد) والفرق بينها وبين املدحْ :
الحمد نقيض الذم 4،وهو الثناء
على الجميل من نعمة أو غيرها مع املحبة واإلجالل 5.وهو هنا ّ
أدق وأوفى باملراد من
املدح والشكر.
فأما من ناحية املدح فالحمد ال يكون إال للحي العاقل ،بخالف املدح فقد يكون
للحي العاقل وقد يكون للحي غير العاقل ،كما يكون للجمادات أحيانا ،فقد تمدح
إنسانا ،وقد تمـدح حيوانا ،وقد تمدح جمادا ،ويستحيل أن تحمدها6.
فدل " ۡ َ
ٱۡل ۡم ُد ِ ََّّللِ" ّأن هللا حي ،له الصفات العليا ،واألفعال الجميلة يحمد عليها. ّ
ّ ّ
أخص من املدح ،وضده الذم، ولو قال" :املدح هلل" لم يفد شيئا من ذلك .فالحمد
ومعنى ذلكّ :أن الحمد يكون ملا هو حاصل من املحاسن في الصفات وفي الفعل ،فال
يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد ،وال يحمد من لم يفعل جميال ،بخالف
املدح فقد يكون بغير ذلك ،فتمدح إنسانا ولم يفعل شيئا من املحاسن والجميل.
ثالثا :الفرق بين الحمد والشكر :وأما من ناحية الشكر ّ
فإن الحمد قد يكون
لصنيعة جميلة حصلت لك ،وقد يكون ابتداء ملا هو حاصل من املحمود لغيرك أو
ثابت فيه من الصفات العليا ،والشكر ال يكون إال ثناء ل َيد َ
أوليتها4.
ِ ٍ
كما ّأن الشكر خاص بالنعمة ،وال يكون على الصفات الذاتية ،بخالف الحمد
ُ
فإنه يعم الجميع 5.فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر؛ ألنه أعم؛ إذ تـثني
وجل لنعمه الواصلة إليك ،وإلى الخلق أجمعين ،كما تثني عليه عز ّ على هللا ّ
بصفاته العليا الذاتية ،وإن لم يتعلق ش يء منها بك6.
فإن الشكر يقع باللسان وال يكون الشكر أعم من الحمد إال من جهة ما يقعان بهّ :
وبغيره من الجوارح ،والحمد ال يقع إال باللسان .كما يكون الحمد أعم من الشكر-
فإن الشكر ال يكون إال على نعمة أصابتكما سبق -باعتبار ما يقعان عليهّ :
الشاكر من املشكور له ،بخالف الحمد فإنه يكون على النعمة أصابت الحامد أو
غيره ،أو على الصفات الذاتية.
فثبت ّأن اختيار كلمة الحمد هنا كان أولى من كلمة املدح والشكر.
وجل ،وليستّ والالم الجارة في ( ِ ََّّللِ) لالستحقاق 2،أي :يستحقه هللا ّ
عز
ْ ّ ّ ّ
للملك وغيره من املعاني
لالختصاص؛ ألن املدح ليس خاصا باهلل عز وجل ،وليس ِ
لعدم مطابقتها مقتض ى الكالم.
ۡ َ
املطلب الرابع :دالالت كلمتي ( َرب ٱل َعٰلم َ
ني) البيانية ،وما في كلمة (الرب) من ِ ِ ِّ
الدقة واإليحاء :قال ابن فارس" :الراء والباء يدل على أصول .فاألول إلصالح
الش يء والقيام عليه .فالرب :املالك ،والخالق ،والصاحب .والرب املصلح للش يء.
ّ
والرب :املالك ،والسيد، رب فالن ضيعته ،إذا أقام على إصالحها3."... يقالّ :
واملربيّ ،
والقيم ،واملنعم4.
عز ّ
وجل ،وإذا أريد بها غيره أضيفت إليه وكلمة الرب إذا أطلقت انصرفت إلى هللا ّ
غالبا ،فقيل مثال :رب البيت ،ورب ّ
الدابة5.
والعاملين جمع عالم ،وهو كل موجود سوى هللا تعالى .ويجمع على العاملين للعقالء
أو ملا غلب فيه العقالء6.
وال شك ّأن هللا رب العاملين ،رب السموات واألرض وما بينهما .بيده ملكوت كل
ش يء وهو على كل ش يء قديرّ .
فرب العاملين :مالكهم وسيدهم ،ومربيهم ،واملنعم عليهم.
كذلك فإن في كلمة الرب داللة على ّأن جميع العاملين مفتقر إليه افتقارا تاما ،في
حال حدوثها وبقائها ،كما يفتقر املربوب إلى ربه2.
ني) ردا على اليهود الذين يدعون أن هللا رب بني أن في قولهَ ( :رب ۡٱل َعٰلَم َ
كما ّ
ِ ِ
إسرائيل خاصة ،وليس رب الخلق اآلخرين من البشر ،فرد عليهم بأنه رب العاملين
جميعا .فحسن اختيار ( َرب ۡٱل َعٰلَم َ
ني) من كل وجه3.
ِ ِ
َ
املطلب الخامس :دالالت كلمة (مالك) و(الدين) البيانية في قوله تعالى( :مٰل ِ
ِك
َۡ َۡ
ِين) ،والدقة في إضافة امللك إلى اليوم ،وما يحمل التعبير بـ(يو ِم ٱدل ِ
ِين) من يو ِم ٱدل ِ
املعاني واإليحاءات:
الدين مشتق من دان يدين ،قال ابن فارس" :الدال والياء والنون أصل واحد إليه ّ
ّ
والذل"ّ 4. ل
وسمي يوم القيامة بيوم الدين- يرجع فروعه كلها .وهو جنس من االنقياد
ّ
والذل5. أي :يوم الجزاء والحساب -ملا فيه من مظاهر االنقياد
ۡ
ِين" دون "يَ ۡو ِم ٱلق َِيٰ َمةِ" فيه من املعاني واإليحاءات التي ال َۡ
كما أن التعبير بـ"يو ِم ٱدل ِ
توجد في غيرها :فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء
النشور إلى السرمد الدائم ،بل يكاد يتناول النشأة األولى بأسرها على أن يوم
القيامة ال يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين6.
معان شاع استعماله فيها كالطاعة والشريعة،ٍ وقال اآللوس ي" :وأيضا للدين
فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ ،وقد قال بكل هذين املعنيين بعض،
واملعنى حينئذ على تقدير مضاف ،فعلى األول يوم الجزاء الكائن للدين ،وعلى
الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين.
وإذا أريد بالطاعة في األول االنقياد املطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرا وباطنا،
وجعل إضافة "يوم" للدين في الثاني ملا بينهما من املالبسة باعتبار الجزاء؛ لم يحتج
إلى تقدير"2.
ني)؛ وذلكأن قوله( :يَ ۡو ِم ٱدلِين) أنسب لقولهَ ( :رب ۡٱل َعٰلَم َ
وهناك أمر آخر وهو ّ
ِ ِ ِ
الشتمال العاملين يوم القيامة على املكلفين وال بد ،وأنسب ألصناف املكلفين التي
منعم عليهم ،ومغضوب عليهم وضالين؛ ألن من معنى "الدين" ذكرتهم السورة من َ
الجزاء والحساب والطاعة والقهر ،وهذه كلها إنما تكون لهؤالء ،فهو أنسب من
يوم القيامة الذي ال يفهم من معناه اللغوي ما يفهم من يوم الدين3.
ثم إذا تأملنا في هذه األسماء والصفات املذكورة واقترانها بالحمد رأينا ما أحسن
اقترانها به وما أجمله! .فاستغرق الحمد الزمان كله من األزل إلى األبد ،ولم يترك
وَّل َوٱٓأۡلخ َِرةِۖ) 4،وشمل ذلك قولهَ ( :وقُ ِ َ ُۡ َ منه شيئا ،فكان كقولهُُ َ ( :ل ۡ َ
ِض ٱۡل ۡم ُد ِِف ٱۡل ٰ
َ
َّ ني) 5،وقولهَ ( :و َءاخ ُِر َد ۡع َوى ٰ ُه ۡم أ ِن ۡ َ
ٱۡل ۡم ُد َِّلل ِ ِ ِيل ۡ َ
ٱۡل ۡم ُد ِ ََّّللِ َرب ۡٱل َع ٰلَم َ َۡ َ َ َۡ
بَين ُهم بِٱۡل ِ ِۚ
ق وق
ِ
وقال ابن القيم رحمه هللا تعالى" :في ذكر هذه األسماء بعد الحمد ،وإيقاع الحمد على
مضمونها ومقتضاها ما ّ
يدل على أنه محمود في إلهيته ،محمود في ربوبيته ،محمود في
رب محمود ،ورحمن محمود ،وملك محمود"3. رحمانيته ،محمود في ملكه ،وأنه إله محمودّ ،
َّ َ َ
اك ن ۡعبُ ُد املطلب السادس :دالالت (العبادة) و (االستعانة) البيانية في قوله تعالى( :إِي
ِني) ،والحكمة من االقتران بينهما :العبادة في اللغة التذلل والخضوع ،وهو اك ن َ ۡستَع ُ
ِإَويَّ َ
يعبد .قال ابن فارس" :العين والباء والدال أصالن صحيحان كأنهما عبد ُ مشتق من َ
ّ ْ ُ
متضادان ،واألول منهما يدل على لين وذ ّل ،واآلخر على شدة ِ
وغلظ" 4.وفي االصطالح:
عز ّ
وجل ويرضاه من األقوال واألعمال الباطنة هي اسم جامع لكل ما يحبه هللا ّ
والظاهرة 5.وهي مالزمة للحب والتذلل والخضوع .فعبادة هللا تستلزم الحب مع التذلل
والخضوع .قال ابن القيم رحمه هللا تعالى:
"والعبادة تجمع أصلين :غاية الحب بغاية الذل والخضوع .والعرب تقول :طريق
معبد ،أي :مذلل ،والتعبد :التذلل والخضوع .فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم
تكن عابدا له ،ومن خضعت له بال محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا له"6.
وعلى هذا فقد أفادت اآلية ّأن من شأن املؤمن أن ال يعبد إال هللا ،وال يستعين إال
والزكاة والصيام والحج والذبح والنذر وغير به ،فجميع أنواع عبادته من الصالة ّ
ذلك خاضعة هلل ،خالصة له ابتغاء لوجهه ومرضاته ،وهذا تجريد توحيد
األلوهية .كما من شأنه أيضا أن ال تكون االستعانة بمختلف أصنافها في شؤونه
املتنوعة من طلب األمور املعنوية واملادية إال به ،وهذا تجريد توحيد الربوبية.
عز ّ
وجل وحده. فجمع بين األلوهية والربوبية أحسن جمع ،وصرفهما هلل ّ
ولو عبر بغير كلمة العبادة واالستعانة ملا ّأد ى هذا املفهوم الشامل كما هو
واضح :فالعبادة شملت جميع األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة يحبها هللا
ويرضاها ،واالستعانة شملت جميع أنواع ما يحتاج إليه العبد في تحصيله من
نصرة ومعاونة ومساعدة.
والفرق بين املتعدي بنفسه واملتعدي بالحرف -كما قالواّ -أن املتعدي بنفسه يقال
ملن يكون في الطريق وملن ال يكون فيه ،واملتعدي بالحرف يقال ملن ال يكون فيه،
8
فيوصل بالهداية إليه.
يعد بالحرف؛ وذلك ليشمل املعنيين :فكانعدي هنا بنفسه ،ولم ّ وفعل الهداية ّ
ِ
طلب الهداية ملن كان في الطريق فيعرف به ويبصر بشأنه ،وملن ضل من املؤمنين
ّ
الجادة. ّ
الجادة فيرد إلى عن
ۡ
ٱلص َر ٰ َط ٱل ُم ۡس َتق َ ۡ َ
ِيم) :عرفنا الطريق الحق ،وردنا إليه ردا جميال فيكون معنى (ٱهدِنا ِ
إذا ما ضللنا أو انحرفنا ،وثبتنا على الهدى وزدنا هدى3.
وقال ابن القيم رحمه هللا بعدما ذكر ما يتعلق بتعدية فعل الهداية بالحرف
وبغيره خاصة ،وبتعدية األفعال بالحرف وبغيره عامة ،وما فيه من لطائف بيانية
ودقائق لغوية" :فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى ّ
عدي بـ"إلى" تضمن اإليصال إلى
ِ
عدي بالالم تضمن التخصيص بالش يء الغاية املطلوبة ،فأتي بحرف الغاية ،ومتى ّ
ِ
املطلوب ،فأتي بالالم الدالة على االختصاص والتعيين ،فإذا قلت :هديته لكذا،
تعدى بنفسه تضمن املعنى الجامع فهم معنى :ذكرته له ،وهيأته ،ونحو هذا .وإذا ّ
لذلك كله ،وهو التعريف والبيان واإللهام .فالقائل إذا قال( :اهدنا الصراط
املستقيم) ،فهو طالب من هللا أن يعرفه إياه ،ويبينه له ،ويلهمه إياه ،ويقدره
عليه ،فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه ،فجرد الفعل من الحرف ،وأتى
1ينظر :البحر املحيط ،12/2 ،وتفسير القرآن العظيم ،232/2 ،وروح املعاني.226/2 ،
2بدائع الفوائد.172/2 ،
3ينظر :تفسير القرآن العظيم ،12/2 ،وبدائع الفوائد ،115-117/2 ،وروح املعاني،226/2 ،
وملسات بيانية ،ص .77
س ال
ابريل -بتمبر 2222 211 العددان3-2 : مجلد9:
عدي بحرف تعين معناه، معدى بنفسه؛ ليتضمن هذه املراتب كلها ،ولو ّ
به مجردا ّ
ِ
وتخصص بحسب معنى الحرف ،فتأمله! فإنه من دقائق اللغة وأسرارها"1.
ۡ َ
املطلب الثامن :دالالت (الصراط) و (املستقيم) البيانية في قوله تعالى( :ٱهدِنا
َ ُ ّ
طت الطعام ،إذا "الصراط" فهو مشتق من "سر ّ ٱلص َر ٰ َط ٱل ۡ ُم ۡس َتق َ
ِيم) :وأما كلمة ِ
ِ
ّ بلعته؛ ألنه إذا ُسرط غاب .واشتقاق ّ
الصراط من ذلك ألن الذاهب فيه يغيب ِ
"صرطتُ
ست َرط 2.قال ابن القيم رحمه هللا" :املشهور أنه من َ ُ َ َ
غيبة الطعام امل
َّ أصرطه" إذا بلعته بلعا سهالُ ،
املارة فيه. فس ِ ّمي الطريق صراطا ألنه يسترط الش يء ُ
ّ
والصراط ما جمع خمسة أوصاف :أن يكون طريقا ،مستقيما ،سهال ،واسعا،
ِ
موصال إلى املقصود ،فال تسمي العرب الطريق املعوج صراطا ،وال الصعب املشق،
وال املسدود غير املوصل ،ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له
ذلك .قال جرير3:
1ينظر :لسان العرب مادة "سبل" ،262/6 ،ومعاني األبنية في العربية ،ص .71-73
2ينظر :بدائع الفوائد ،125-126/2 ،وملسات بيانية ،ص .75
3سورة األنعام.273 :
س ال
ابريل -بتمبر 2222 212 العددان3-2 : مجلد9:
عليهم مسدودة ،واألبواب عليهم مغلقة ،إال من هذا الطريق الواحد ،فإنه متصل
باهلل ،موصل إلى هللا"1.
وقال الرازي" :اعلم ّأن أهل الهندسة قالوا :الخط املستقيم هو أقصر خط يصل
بين نقطتين .فالحاصل ّأن الخط املستقيم أقصر من جميع الخطوط املعوجة،
ۡ
ٱلص َر ٰ َط ٱل ُم ۡس َتق َ ۡ َ
ِيم) لوجوه: فكأن العبد يقول( :ٱهدِنا ِ
األول :أنه أقرب الخطوط وأقصرها ،وأنا عاجز فال يليق بضعفي إال الطريق املستقيم.
والثاني :أن املستقيم واحد ،وما عداه معوجة ،وبعضها يشبه بعضا في االعوجاج،
فيشتبه الطريق علي ،أما املستقيم فال يشابهه غيره ،فكان أبعد عن الخوف
واآلفات ،وأقرب إلى األمان.
والثالث :الطريق املستقيم يوصل إلى املقصود ،واملعوج ال يوصل إليه.
والرابع :املستقيم ال يتغير ،واملعوج يتغير.
فلهذه األسباب سأل الصراط املستقيم ،وهللا أعلم".!2.
ََّ َ ۡ َ
ۡ َۡ ُ
ٱلضٓال َِني)، وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل
ۡي ٱلمغض ِ
ثم ميز هللا هذا الصراط وزاده بيانا وتوضيحا بقوله( :غ ِ
فهو غير صراط الذين غضب هللا عليهم -وهم اليهود ،-وال الذين ضلوا -وهم النصارى.-
فعرفه بأل واإلضافة .ثم وصفه باملستقيم .واملستقيم اسم فاعل من استقام ،ومن ّ
قومته فاستقام3. معاني "استفعل" املطاوعة ،وهو هنا مطاوع أقمته فاستقام ،أو ّ
واملستقيم هو املعتدل املستوي الذي ال عوج فيه 4،فإذا كان الصراط متضمنا
ملعنى االستقامة -كما سبق قريبا -صار الوصف بها تأكيدا مزيدا لهذا املعنى،
وتوضيحا أكثر له.
وعلى هذا فكان اإلنعام هنا أوفى باملراد ،وأليق بالسياق؛ إذ فيه ذكر إلنعام هللا على
األنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ،وطلب الصراط املستقيم الذي أنعم هللا
به على هؤالء في جملة النعم املنعمة بها عليهم ،فإذا حصل ذلك استوجب الشكر
منهم؛ ألن اإلنعام يستوجب الشكر .فجمعت السورة بين الحمد والشكر.
فإن السياق أدعى للغضب؛ ألن املغضوب عليهم غضب هللا عليهم ،وغضب ومن هنا ّ
عباده الصالحون عليهم ،ومن العباد من كان صغيرا غضب على الكبير ،ومنهم من كان
كبيرا غضب على األصغر منه ،فاشتملت على الجميع ،بخالف لو عبر بالسخط أو نحوه.
ّ ّ
والقوة -كما سبق ،-وهي في نفسها شديدة ثم إن كلمة "الغضب" تدل على الشدة
ملا اشتملت على الغين والضاد والباء ،وكلها من الحروف املجهورة 3.بخالف كلمة
"السخط" فهي أقل درجة من الغضب -كما سبق ،-وهي في نفسها أضعف من
السخط الشتمالها على السين والخاء ،وهما من الحروف املهموسة ،وليس فيها
من الحروف املجهورة إال الطاء4.
فكلمة الغضب هي املناسبة لفظا ومعنى للمقام ،وهي املطابقة ملقتض ى الحال.
فائدة :قالوا ّإن الغضب عند حكماء األخالق مبدأ الشجاعة ،والشجاعة جزء من
مجموع األخالق الثالثة األصلية ،وهي الحكمة ،وال ِع ّفة ،والشجاعة التي يعبر عن
جميعها بالعدالة.
ألن املقام ليس مقام الشك أو اإلنكار املقتض ي للتوكيد ،بل هو بتأكيد؛ وذلك ّ
(أحمد هللا)؛ لكونها جملة اسمية تدل على الثبوت ُ و( ۡ َ
ٱۡل ۡم ُد ِ ََّّللِ) كذلك أولى من
والدوام ،بخالف الجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث؛ ّ
فإن املحامد كلها
ثابتة له ّ
جل في عاله ،كما أنها دائمة مستمرة.
ثم نجد أنه تعالى لم يقل هنا (هلل الحمد)؛ ألنه يدل على االختصاص ،والحمد ليس
جل لصنيعه الجميل.الر َ
جل ّالر ُ
خاصا باهلل :فقد يحمد ّ
وهذا ال يعني أنه ال يقال( :وهلل الحمد) مطلقا؛ ّ
ألن الحاكم هو السياق ،فقد يكون
ٱۡل ۡم ُد ِ ََّّللِ)؛ القتضاء املقام ذلك ،فإذا اقتض ى املقام ّ ۡ
(هلل الحمد) أولى من ( َ
قدم،ِ
ّ
وإذا اقتض ى املقام ِأخر ،وباب التقديم والتأخير في البالغة باب دقيق لطيف كما
هو مشهور ،والبالغة هي مطابقة الكالم ملقتض ى الحال كما هو معروف.
َ َ َّ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ ۡ َ ۡ
املطلب الثاني :دالالت التراكيب في قوله تعالى( :صِ رٰط ٱَّلِين أنعمت علي ِهم غ ِ
ۡي
َّ َ َ َۡ ۡ ُ
ٱلضٓال َِني) :نالحظ ّأن هللا تعالى أضاف الصراط هنا إلى الذين وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل
ٱلمغض ِ
أنعم عليهم ،فعرفه باإلضافة بعدما عرفه بأل -كما سبق آنفا ،-ثم ميزه ّ
بضده
ِ
َّ َ َ
َۡ ُ ۡ َ
ٱلضٓال َِني) -،وبضدها تتميز األشياء ،-فصار وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل
ۡي ٱلمغض ِ
ۡ
بقوله( :غ ِ
معروفا متميزا عن غيره أحسن تمييز.
َۡ َ َ َّ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ ۡ
وإذا تأملنا في التعبير الدقيق في قوله( :صِ رٰط ٱَّلِين أنعمت علي ِهم) وفي قوله( :غۡيِ
َّ َ َ َۡ ۡ ُ
ٱلضٓال َِني) وجدنا ّأن التعبير في األول بالفعل املاض ي ،وفي وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل
ٱلمغض ِ
الثاني بالجملة االسمية.
وليتبين ّأن املقصود صراط الذين ثبت إنعام هللا عليهم وتحقق ،وهم األنبياء
ِين َأ ۡن َع َم َّ ُ
ٱَّلل ك َم َع َّٱَّل َ َ ُ ْ َ َٰٓ َ
والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى( :فأولئ ِ
َ َ َ ُ َ ُ ْ َٰٓ َ
َ َّ ُّ َ ٓ َ ََ
ك َرفِيقا)1.
حنيَۚ وحسن أولئ ِ ٱلصدِيقِني َوٱلش َهداءِ َوٱلصٰل ِ ِ
عل ۡي ِهم م َِن ٱنلَّب ِ ِي َن َو ِ
كل من مض ى من رسل هللا ولو قال( :صراط الذين تنعم عليهم) ألغفل ّ
والصالحين ،بل لم يفد أنه أنعم على أحد قبله ،بخالف املاض ي ،فإنه أحاط بمن
مض ى من الرسل والصالحين ،وأفاد بإنعامه على من مض ى.
مر الزمن كثر عدد الذين أنعم هللاكما أن اإلتيان بالفعل املاض ي يدل على أنه كلما ّ
عليهم؛ وذلك اللتحاق الحاضر باملاض ي ،فتتسع دائر املنعم عليهم ،بخالف (صراط
الذين تنعم عليهم) فإن الزمن فيه محدد ،ولربما كان عدد املنعم عليهم قليال.
َّ َ َ
ۡ َۡ ُ ۡ َ
ٱلضٓال َِني) فذلك ليشمل وب َعل ۡي ِه ۡم َوَل
ۡي ٱلمغض ِوأما التعبير بالجملة االسمية في (غ ِ
سائر األزمنةّ ،
ويدل على الثبوت والدوام.
نعم عليهم)؛ ليشمل سائر األزمنة ،ويدل على فإن قيل :ول َم َل ْم ُيقل( :صراط املُ َ
ِ
ّ
الثبوت والدوام؟ .فالجواب :أن لكل مقام مقاال ،ولكل تعبير موضعا.
نعم عليهم) لم يتبين املن ِعم الذي أنعم عليهم ،والنعمة إنما تقدر بقدرفلو قال( :املُ َ
املن ِعم ،فيختلف مستوى اإلنعام باختالف املن ِعم :فإنعام األمير غير إنعام أحد
الرعية ،وإنعام السلطان غير إنعام أحد أفراد املجتمع.
وكذلك من حيث التكريم ،فإن الذي يكرمه األمير وينعم عليه غير الذي يكرمه
أحد أفراد الرعية2.
كذلك نالحظ أنه أتى في أهل الغضب باسم املفعول ،وفي الضالين باسم الفاعل؛
ألن املغضوب عليهم من غضب هللا عليهم ،ومن غضب عليهم عباده وذلك ّ
الصالحون هلل وفي هللا ،فهم مغضوب عليهم.
وأما أهل الضالل فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضالل واكتسبوه؛ ولهذا
ُ َّ
ضلين مبنيا للمفعول؛ ملا في استحقوا العقوبة عليه ،وال يليق أن يقال :وال امل
ُ
ائحته من إقامة عذرهم ،وأنهم لم يكتسبوا الضالل من أنفسهم بل فعل فيهم3.
ِ ر
قال ابن القيم رحمه هللا" :فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه ،والضالل منسوبا
إلى من قام به ،والغضب محذوفا فاعله"4.
"أن مدار اعتالل القلوب وأسقامها على أصلين :فساد العلم ،وفساد ثم اعلم ّ
القصد ،ويترتب عليهما داءان قاتالن ،وهما الضالل ،والغضب .فالضالل نتيجة
فساد العلم ،والغضب نتيجة فساد القصد .وهذان املرضان هما مالك أمراض
القلوب جميعها ،فهداية الصراط املستقيم يتضمن الشفاء من مرض الضالل...
الخـاتمـة
الحمد هلل الذي بنعمته تتم الصالحات ،والصالة والسالم على رسوله األمين
محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين ،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،وبعد:
ٍ
فهذه دراسة بيانية تحليلية تدور حول سورة الفاتحة في ألفاظها وتراكيبها،
وتحاول الكشف عن بعض وجوهها البالغية ،وقد توصلت -وهلل الحمد -من خالل
ّ
الدراسة والبحث في املوضوع إلى نتائج ،منها:
ِ
.2األلفاظ والتراكيب في سورة الفاتحة لها دالالت واسعة عميقة تلفت نظر
املتأمل ،وتدهش الدارس.
ّ
تشد سورة الفاتحة االنتباه إلى الجوانب البالغة والوجوه البيانية واملعاني .2
البديعة التي اشتملت عليها السورة لكثرتها مع قصرها.
1بدائع التفسير .12/2 ،وقد ذكر ابن القيم رحمه هللا تعالى في كتابه املمتع املسمى بـ"بدائع
ٱلص َر ٰ َط ٱل ۡ ُم ۡس َتق َ
ِيم
ۡ َ
الفوائد" أكثر من عشرين وجها لغويا تكشف عن دقائق قولـه تعالى( :ٱهدِنا ِ
َ َ ۡ ۡ َ َ َّ َ َ َّ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ ۡ َ ۡ ۡ َ ۡ ُ
ٱلضٓال َِني ،)٧وهي في غاية الجودة ونهاية ٦صِ رٰط ٱَّلِين أنعمت علي ِهم غۡيِ ٱلمغض ِ
وب علي ِهم وَل
اإلفادة ،جديرة بالقراءة والدرس( .ينظر على سبيل املثال :بدائع الفوائد ،372-372/2 ،و
،173-126/2و .)527/2
س ال
ابريل -بتمبر 2222 221 العددان3-2 : مجلد9:
.3الدقائق اللغوية ،والتراكيب اللطيفة ،ل
والنظم البديعة التي اشتملت عليها
سورة الفاتحة كثيرة ،جديرة بالنظر والبحث والدراسة التفصيلية.
أشكر هللا مرة أخرى على ما وفقني إلنجاز هذا العمل املبارك املتعلق بكتابه
العزيز ،داعيا ْأن ينفعنا به ،ويوفقنا دائما ملا فيه خيرا الدنيا واآلخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العاملين.
س ال
ابريل -بتمبر 2222 222 العددان3-2 : مجلد9:
املصادرواملراجع
.2ارتشاف الضرب من لسان العرب ألبي حيان األندلس ي (تحقيق :الدكتور رجب
عثمان محمد) ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،مصر ،ط 2125 ،2هـ2995-م.
.2االشتقاق البن دريد (تحقيق :عبد السالم محمد هارون) ،مكتبة الخانجي،
القاهرة ،مصر ،ط .3
.3أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعالمة محمد األمين الشنقيطي ،دار
عالم الفوائد للنشر والتوزيع ،مكة املكرمة ،السعودية ،ط 2126 ،2هـ،
.1أنوار التنـزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي) للقاض ي البيضاوي ،دار
الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط 2125 ،3هـ2226-م.
.7البحر املحيط ألبي حيان األندلس ي (تحقيق :عبد الرزاق املهدي) ،دار إحياء
التراث العربي ،بيروت ،لبنان ،ط 2123 ،2هـ2222-م.
.6بدائع التفسير الجامع ملا فسره اإلمام ابن قيم الجوزية (جمعه :يسري السيد
محمد) ،دار ابن الجوزي ،الدمام ،السعودية ،ط 2125 ،2هـ.
.5بدائع الفوائد لإلمام ابن القيم (تحقيق :علي بن محمد العمران) ،دار عالم
الفوائد للنشر والتوزيع ،مكة املكرمة ،السعودية ،ط 2125 ،2هـ.
.5التحرير والتنوير ملحمد الطاهر ابن عاشور ،دار سحنون للنشر والتوزيع،
تونس ،د.ت.
.9تسهيل الفوائد وتكميل املقاصد البن مالك (تحقيق :محمد كامل بركات)،
دار الكاتب العربي للطباعة والنشر2355 ،هـ2965-م.
.22تفسير أسماء هللا الحسنى ل ّلزجاج (تحقيق :أحمد يوسف دقاق) ،دار الثقافة
العربية ،دمشق ،سوريا ،د.ت.
ّ
.22تفسير القرآن العظيم البن كثير الدمشقي (تحقيق :عبد الرزاق املهدي) ،دار
الكتاب العربي ،بيروت ،لبنان ،ط 2123 ،2هـ2222-م.
.22التفسير الكبير = مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي ،دار الكتب العلمية،
بيروت ،لبنان ،ط 2127 ،2هـ_2221م.
س ال
ابريل -بتمبر 2222 223 العددان3-2 : مجلد9:
.23تهذيب اللغة ألبي منصور األزهري (تحقيق :عبد السالم محمد هارون
وزمالئه) ،الدار املصرية للتأليف والترجمة ،مصر ،في عدة سنوات.
.21جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) البن جرير الطبري
(تحقيق :محمود محمد شاكر) ،دار املعارف ،مصر ،ط .2
.27الجامع ألحكام القرآن (تفسير القرطبي) ألبي بكر القرطبي (تحقيق :عبد هللا
عبد املحسن التركي) ،مؤسسة الريالة ،بيروت ،لبنان ،ط 2125 ،2هـ2226م.
للزمخشري (بهامش كتاب الكشاف) ،طبعة .26حاشية الجرجاني على الكشاف ّ
دار املعرفة ،بيروت ،لبنان ،د.ت.
.25حاشية الهوريني على القاموس املحيط (املطبوع مع القاموس املحيط) ،دار
الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط 2125 ،2هـ2225-م.
.25الدر املصون في علوم الكتاب املكنون للسمين الحلبي (تحقيق :الدكتور
أحمد محمد الخراط) ،دار القلم ،دمشق ،سوريا2121 ،هـ2223-م.
.29ديوان جرير ،دار صادر ،بيروت ،لبنان ،د.ت.
.22روح املعاني لشهاب الدين السيد محمود اآللوس ي (تحقيق :محمد أحمد
األمد وعمر عبد السالم ّ
السالمي) ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،لبنان،
ط2122 ،2هـ2999-م.
.22سر صناعة اإلعراب البن جني (تحقيق :الدكتور حسن هنداوي) ،دار القلم،
دمشق ،سوريا ،ط 2123 ،2هـ2993-م.
السخاوي (تحقيق :الدكتور محمد أحمد ّ
الدالي)، .22سفر السعادة لعلم الدين ّ
دار صادر ،بيروت ،لبنان ،ط 2127 ،2هـ2997-م.
.23الضوء املنير على التفسير (مباحث تفسيرية من كتب اإلمام ابن القيم)،
جمعه :علي الحمد الصالحي ،مؤسسة النور للطباعة والنشر ،دخنة،
القصيم ،السعودية ،بالتعاون مع مكتبة السالم ،الرياض ،السعودية.
.21فتح القدير الجامع بين ّ
فني الرواية والدراية من علم التفسير ملحمد بن علي
الشوكاني (تحقيق :عبد الرزاق املهدي) ،دار الكتاب العربي ،بيروت ،لبنان،
ط 2122 ،2ه2999-م.
س ال
ابريل -بتمبر 2222 224 العددان3-2 : مجلد9:
.27الفروق اللغوية ألبي الهالل العسكري (تحقيق :باسل عيون السود) ،دار
الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط 2122 ،2هـ2222-م.
.26القاموس املحيط للفيروزآبادي (تعليق وحاشية :أبو الوفاء نصر الهوريني)،
دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط 2125 ،2هـ2225-م.
.25كتاب سيبويه (تحقيق :عبد السالم محمد هارون) ،دار الجيل ،بيروت،
لبنان ،ط .2
.25الكشاف ل ّلزمخشري (تحقيق :عبد الرزاق املهدي) ،دار إحياء التراث العربي،
بيروت ،لبنان ،ط 2122 ،2هـ2222-م.
.29لسان العرب البن منظور ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،لبنان ،ط ،3
2129ه2999-م.
.32ملسات بيانية في نصوص من التنـزيل للدكتور فاضل صالح السامرائي ،دار
عمار للنشر والتوزيع ،عمان ،األردن ،ط 2125 ،1هـ2225-م.
.32املحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها البن جني (تحقيق:
علي النجدي الناصف وزمالئه) ،دار سزكين للطباعة والنشر ،إستانبول،
تركيا ،ط 2126 ،2ه2956-م.
.32املخصص البن سيده األندلس ي ،دار الفكر ،بيروت ،لبنان2395 ،هـ2955-م.
.33معاني األبنية في العربية للدكتور فاضل صالح السامرائي ،دار عمار للنشر
والتوزيع ،عمان ،األردن ،ط 2125 ،2هـ2225-م.
.31مغني اللبيب عن كتب األعاريب البن هشام األنصاري (تحقيق :الدكتور مازن
املبارك ومحمد علي حمد هللا ،مراجعة :الدكتور سعيد األفغاني) ،دار الفكر،
بيروت ،لبنان ،ط 2126-2127 ،2هـ2227-م.
.37املغني في تصريف األفعال للدكتور محمد عبد الخالق عظيمة ،دار الحديث،
القاهرة ،مصر ،ط 2122 ،2هـ2999-م.
.36مقاييس اللغة البن فارس (تحقيق :عبد السالم محمد هارون) ،دار الجيل،
بيروت ،لبنان ،ط 2122 ،2هـ2992-م.
السهيلي (تحقيق :محمد إبراهيم البنا) ،مكة .35نتائج الفكر ألبي القاسم ل
املكرمة ،السعودية2951 ،م.
س ال
ابريل -بتمبر 2222 225 العددان3-2 : مجلد9: