Professional Documents
Culture Documents
الرقابة البرلمانية في الاسلام
الرقابة البرلمانية في الاسلام
تقديم:
يتميــز النمــوذج االســامى للرقابــة البرملانيــة علــى املوازنــة العامــة بأنــه يصلــح ألن يقــاس عليــه ،مــا
يجــرى اتباعــه مــن نظــم برملانيــة فــى دولنــا العربيــة ،تتعلــق بالرقابــة البرملانيــة علــى املوازنــة العامــة
للدولــة فهــو النمــوذج الــذى أمرنــا اهلل باتباعــه عم ـ ً
ا بقولــه تعالــى َ ( :و َمــا آتَا ُك ـ ُم ال َّر ُســو ُل فَخُ ُذو ُه
َو َمــا نَ َها ُكـ ْم َعنْـ ُه َفانْتَ ُهــوا ) ((( وهــو مــا قــد نبــه إلــى اتباعــه وعــدم اخلــروج عليــه الرســول بقولــه
( :تركــت فيكــم مــا إن متســكتم بــه لــن تضلــوا بعــدى ابــداً ،كتــاب اهلل وســنتى) ((( وقــد وســع النبــى
مــن ســنته فأحلــق بهــا -فــى ضــرورة اتباعهــا -ســن اخللفــاء الراشــدين مــن بعــده فقــال( :عليكــم
(((
بســنتى وســنة اخللفــاء الراشــدين املهديــن مــن بعــدى ،عضــوا عليهــا بالنواجــز)
وعلــى ذلــك فــإن ابــراز هــذا النمــوذج االســامى يتطلــب بيانــه فــى عهــد الرســول ثــم فــى عهــد
اخلليفتــن األول والثانــى :أبــى بكــر الصديــق ،وعمــر بــن اخلطــاب ،وذلــك لنضــرب بهــم املثــل
األعلــى علــى مــدى حســن تطبيــق هــذه الرقابــة فــى الدولــة االســامية ،وهــذا مــا نوزعــه علــى
فصــول ثالثــة نوضــح فيهــا ك ً
ال مــن الرقابــة البرملانيــة املاليــة وحــق الشــعب فــى هــذه الرقابــة علــى
النحــو التالــى :
فصل تمهيدي :بني حق الشعب فى الرقابة البرملانية املالية ومقوماتها .
املبحث األول :حق الشعب فى الرقابة البرملانية املالية.
املبحث الثانى :مقومات الرقابة البرملانية املالية.
الفصل التمهيدى
بين حق الشعب فى الرقابة البرلمانية المالية ومقوماتها
نصــدر هــذا الفصــل مببحــث نتعــرف فيــه علــى مــدى حــق الشــعب فــى الرقابــة البرملانيــة
علــى التصرفــات املاليــة العامــة للحاكــم ،ثــم نوضــح مقومــات هــذه الرقابــة البرملانيــة املاليــة فــى
مبحــث ثــان ،وذلــك بالقــدر الــذى يعــن فــى التعــرض لهــا فــى االســام فــى عصــوره األولــى منــذ عهــد
النبــى ، وعهــد اخلليفــة األول أبــى بكــر الصديــق ،وعهــد اخلليفــة الثانــى عمــر بــن اخلطــاب ـ
رضــى اهلل عنهمــا ـ ،وهــذا علــى النحــو التالــى:
المبحث األول
(((
حق الشعب فى الرقابة البرلمانية المالية
فــى أوروبــا خاصــة فــى القــرون الوســطى ،لــم يعــرف الغــرب مســألة الفصــل بــن أمــاك
احلاكــم وأمــاك الدولــة ،إذ أنهــا كلهــا كانــت مملوكــة للحاكــم (أى امللــك ) ،ســواء فــى إيراداتهــا أو
فــى نفقاتهــا ،يقتطــع مــن أمــوال النــاس بالضرائــب وغيرهــا كيــف يشــاء ! وينفــق منهــا علــى شــئونة
الشــخصية وحاشــيته حســبما أراد .
وكانــت الكيفيــة التــى ينفــق بهــا هــذه األمــوال مــن األســرار امللكيــة التــى ال يجــوز ألحــد أن
يتدخــل فيهــا وال أن يراقبهــا مــن نــواب الشــعب ،مهمــا أســرف فيهــا امللــك وحاشــيته .
وقــد اســتخدم نــواب الشــعب فــى اوروبــا حيـ ً
ا كثيــرة لفــرض رقابتهــم علــى املوازنــة العامــة
للدولــة ،وكان األســلوب التدريجــى فــى حتقيــق ذلــك هــو األســلوب األمثــل واألجــدى ،حيــث بــدأت
بفصــل أمــوال احلاكــم عــن أمــوال الدولــة ،ثــم قامــت فــى عــام 1628فــى اجنلتــرا بتقييــد حــق امللــك
فــى فــرض الضرائــب وحتصيلهــا إال مبوافقــة البرملــان ،ولكــن حــق البرملــان فــى الرقابــة علــى نفقــات
264
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
امللــك تأخــر ملــا يقــرب مــن قرنــن ،ولــم يتقــرر لــه إال فــى عهــد امللكــة فيكتوريــا عــام 1837م ،ونفــس
األمــر حــدث فــى فرنســا وباقــى دول أوربــا .
أمــا فــى االســام فــإن حــق الشــعب فــى الرقابــة علــى امليزانيــة العامــة للدولــة ،ولــد مــع
مولــد الدولــة اإلســامية ،حيــث اســتقلت األمــوال العامــة للدولــة عــن أمــوال احلاكــم وهــو الرســول
، بــل إن النبــى حــرم جانبـاً هامـاً مــن مــوارد الدولــة اإلســامية علــى نفســه وعلــى كل آل بيتــه
ا ( :إن هــذه الصدقــات إمنــا هــى أوســاخ النــاس ،وإنهــا ال حتــل حملمــد وال آلل وهــى الــزكاة قائ ـ ً
(((
محمــد )
وانحصــر حقــه فــى باقــى املــوارد العامــة للدولــة فــى مورديــن اثنــن ،وذلــك لالنفــاق منهمــا
علــى نفســه وعلــى أمــور تســيير احلكــم فــى الدولــة ،وهمــا أمــوال الفــيء والغنائــم ،إذ حــدد القــرآن
اعل َ ُمــوا
نصيبــه فيهمــا بخمــس اخلمــس ،أى % 10فقــط منهمــا ،وذلــك بقولــه تعالــى فــى الغنائــم َ ( :و ْ
الس ـبِيلِ ) ل خُ ُم َس ـ ُه َولِل َّر ُســولِ َولِذِ ي الْ ُق ْربَـىٰ َوالْ َيتَا َم ـىٰ َو ْال َ َســاكِ ِ
ني َوابْــنِ َّ ـيءٍ َف ـ َأ َّن ِ َّ ِ
نــا َغ ِن ْمتُم ِ ّمن َشـ ْأَ َّ َ
ْ َ َ ُ َ ّ َ
(((() كذلــك بقولــه تعالــى فــى توزيــع أمــوال الفــيء َ ( :مــا أ َفــا َء الل َعل ـىٰ َر ُســولِهِ مِ ْن أ ْهــلِ ال ُق ـ َرىٰ
الس ـبِيلِ ) ((( ويالحــظ أن أمــوال الغنائــم ني َوابْــنِ َّ َف ِللَّــهِ َولِل َّر ُســولِ َو ِلــذِ ي الْ ُق ْربَ ـىٰ َوالْ َيتَا َم ـىٰ َو ْال َ َســاكِ ِ
هــى التــى وردت إلــى الدولــة اإلســامية مــن األعــداء عنــوة أى بعــد حــرب ،أمــا أمــوال الفــيء فهــى
التــى حصلــت عليهــا صلحــاً .ويالحــظ أن الباقــى بعــد توزيــع اخلمــس فإنــه يــوزع علــى اجلنــود
الغامنــن أوالفاحتــن.
ومــع أن فتــرة النبــوة كانــت فتــرة تشــريع إلهــى مبقتضــى القــرآن املنــزل مــن عنــد اهلل ،
نط ُق َعنِ الْ َهـ َوى ِإ ْن ُهـ َو إ َِّل َو ْحـ ٌ
ـي والســنة املوصــى بهــا مــن رســوله ، عمـ ً
ا بقولــه تعالــى َ ( :و َما يَ ِ
وحــى) ((( .مــع كل ذلــك إال أن القــرآن قــرر حــق الشــعب فــى الرقابــة علــى كل شــئون احلكــم ومنهــا يُ َ
َ ْ َ
األمــور املاليــة ،وذلــك ملــا أمــر النبــى أن يشــاورهم فــى كل ذلــك بقولــه لــه َ ( :وشــاوِ ْر ُه ْم ِ ف ال ْم ِر)
(((
بــل إن النبــى لــم مينــع الشــعب مــن هــذا احلــق البرملانــى ،وقــد حــدث ذلــك فــى أكثــر
مــن واقعــة ،منهــا ملــا جــاءه ذلــك الرجــل ـ وهــو يــوزع تلــك األمــوال العامــة وتطــاول علــى النبــى
قائـ ً
ا لــه (:اعطنــى يــا محمــد ،فإنــك ال تعطنــى مــن مالــك وال مــن مــال أبيــك !!) فلمــا أراد عمــر أن
ينــال منــه نهــاه النبــى عــن ذلــك بقولــه لــه ( :ال يــا عمــر :مــره بحســن القضــاء ،ومرنــى بحســن
األداء )
مــا تقــدم باختصــار شــديد هــو التطــور الــذى مــر علــى حــق الشــعب فــى الرقابــة البرملانيــة علــى
امليزانيــة العامــة فــى الفكريــن الغربــى واإلســامى ،وننتقــل للمبحــث التالــى لبيــان مقومــات هــذه
الرقابــة .
المبحث الثانى
مقومات الرقابة البرلمانية المالية
تــدور الرقابــة املاليــة مــع املــال العــام وجــوداً وعدمــاً ،فكلمــا زاد حجــم الدولــة واتســع
نشــاطها اإلدارى واملالــى ،كلمــا تطلــب املزيــد مــن الرقابــة البرملانيــة املاليــة الفعالــة ،التــى تكفــل
احملافظــة علــى املــال العــام ،وتهــدف مراقبــة القائمــن عليــه فــى مزاولتهــم أعمالهم ومــدى مطابقتها
(((
للقوانــن واللوائــح والقواعــد املعمــول بهــا ،ومحاســبتهم إذا خرجــوا عنهــا .
وقــد اتســع نشــاط الدولــة املالــى واإلدارى باتســاع دورهــا ،مــن الدولــة احملايــدة وميزانيتهــا
احملايــدة التــى كان يــدع إليهــا الفكــر املالــى الكالســيكى ،الــذى كان يحصــر دور الدولــة فــى القيــام
بالــدور احلراســى الــذى يقتصــر علــى القيــام بالــدور األمنــى الداخلــى واخلارجــى للمجتمــع ،والــدور
القضائــى داخلي ـاً ،والدبلوماســى خارجي ـاً ،إلــى الدولــة املتدخلــة واملنتجــة وميزانيتهــا الوظيفيــة
التــى توظــف لتحقيــق أغــراض متعــددة إقتصاديــة واجتماعيــة وسياســية وغيرهــا ،التــى دعــا إليهــا
الفكــر املالــى احلديــث ،ممــا زاد ميزانيتهــا العامــة ،ووســع مــن الرقابــة املاليــة عليهــا ،وتــدور
مقومــات هــذه الرقابــة املاليــة حــول مضمونهــا وصورهــا وهمــا مــا نفــرد املطلبــن التاليــن لبيانهمــا.
املطلب األول :مضمون الرقابة املالية .
املطلب الثانى :صور الرقابة املالية .
المطلب األول
مضمون الرقابة المالية
يختلف مضمون الرقابة فى اللغة وفى القرآن وفى مجال القانون على النحو التالى :
الرقابة لغة (((:
تعنــى االنتظــار والرصــد والرعايــة واحلفــظ ،فيقــال :رقبــه يرقبــه رقبــة ورقبانـاً بالكســر
فيهمــا ،وارتقبــه أى انتظــره ورصــده ،ومنــه ارتقــب أى أشــرف وعــا ،ولذلــك قيــل بــأن الرقيــب هــو
جنــم مــن جنــوم املطــر يراقــب جنم ـاً آخــر .
والرقابة فى القرآن (((:
يذكــر لفــظ الرقيــب كاســم مــن أســماء اهلل احلســنى مبعنــى احلافــظ الــذى ال يغيــب عنــه
((( شــيء ((( .وفيــه يقــول اهلل تعالــى ِ ( :إ َّن َّ َ
الل َكا َن َعلَيْ ُكــ ْم َرقِ ي ًبــا)
َّ ُ
ـيءٍ َرقِ ي ًبــا ) ((( وقولــه علــى لســان ســيدنا عيســى عليــه الســام : وقولــه َ ( :و َكا َن الل َعلَــى ُك ِ ّل َشـ ْ
راجع د .عوف الكفراوى ،الرقابة المالية فى االسالم ،االسكندرية ،مؤسسة شباب الجامعة 1983 ،ص . 11 .1
راجع ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،جـ 4ص . 208 .2
انظر :محمد فؤاد عبد الباقى ،المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم ،القاهرة ،دار الحديث ، 1996 ،ص . 397 .3
جــال الديــن المحلــى ،جــال الديــن الســيوطى ،تفســير الجالليــن الميســر ،القاهـرة ،الشــركة المصريــة العالميــة للنشــر .4
(لونجمــان ) . 2003 ،
سورة النساء من اآلية () 1 .5
سورة األحزاب من اآلية ()52 .6
266
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
احلافــظ ألعمالهــم ((( .وقد ٰ َ ُ ـب َعلَيْهِ ـ ْم) ((( فالرقيــب عليهــم هنــا تعنــى ـت أَنْـ َ
ـت ال َّرقِ يـ َ ( َفل َ َّمــا تَ َو َّفيْتَ ِنــي ُكنْـ َ
((( َ
َ ف ُمؤْمِ ـ ٍـن إ ًِّل َو َل ذِ َّمة َأول ِئــك هــم ْال ُ ْعتَ ـ ُدونَ)
وردت مبعنــى الرعايــة فــى قولــه تعالــى ( :ال يَ ْر ُقبُون ِ
ّ
فــا يرقبــون يعنــى أى ال يراعــون ،كمــا ذكــرت مبعنــى االنتظــار فــى قولــه تعالــى َ ( :وا ْرتَقِ بُــوا ِإ ِنــي
ِس ـ َرائِي َل َولَ ـ ْم تَ ْر ُقـ ْ
ـب ـن بَ ِنــي إ ْ ـيت أَ ْن تَقُو َل َف َّر ْقـ َ
ـت بَـ ْ َ ـب) ((( أى منتظــر وقولــه ( ِإ ِ ّني َخ ِشـ ُ َم َع ُك ـ ْم َرقِ يـ ٌ
(((
َق ْو ِلــي ) ((( أى ولــم تنتظــر قولــى .
(((
الرقابة من الناحية القانونية:
هــى عبــارة عــن حــق دســتورى يخــول صاحبــه ســلطة إصــدار القــرارات الالزمــة الجنــاح
مشــروعات اخلطــة ،إذ هــى متثــل نوعــاً مــن الوصايــة مــن جانــب الدولــة لفــرض حــدود وقيــود
معينــة تــؤدى إلــى حتقيــق أهــداف التنظيــم اإلدارى الــذى تتطلبــه الدولــة .وفــى هــذا يحكــم تعريــف
الرقابــة ثالثــة اجتاهــات :وظيفيــة وإجرائيــة وإداريــة ونوضحهــا تباعــا :
ممــا تقــدم يتضــح أن الرقابــة املاليــة هــى جــزء مــن الرقابــة العامة،وانهــا تتعلــق باخلطــة أو
املوازنــة املاليــة بإيراداتهــا ونفقاتهــا العامــة ،حــال تنفيذهــا أو عقــب تنفيذهــا ،وذلــك للتحقــق مــن
أن تدفــق أموالهــا النقديــة دخــوالً وخروجــاً ،يتــم طبقــاً للخطــة أو امليزانيــة املاليــة (((.
268
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
المطلب الثانى
صــور الرقـــابة الماليـــة
تتعدد صور الرقابة املالية وتختلف باختالف الزاوية املنظور إليها :
270
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
-2الرقابة البرملانية:
وهــذه الرقابــة البرملانيــة هــى املقصــودة بالبحــث هنــا ،وهــى متثــل نوعــاً مــن الرقابــة
السياســية لنــواب الشــعب فــى برملانــه أى ســلطته التشــريعية ،وهــى تعتبــر مــن أهــم وأخطــر أنــواع
الرقابــة ،ألنهــا قــد يترتــب عليهــا حــل احلكومــة أو ســحب الثقــة منهــا أو مــن رئيــس الــوزراء أو
الــوزراء .
مبــا تقــدم نكــون قــد قدمنــا بإيجــاز للرقابــة البرملانيــة املاليــة ســواء فيــه مقوماتهــا أو فــى
مــدى تطــور حــق الشــعب فيهــا ،وهــو مــا ميهــد بحــق للولــوج فــى موضوعــات هــذا البحــث املتعلقــة
الفصل األول
الرقابة البرلمانية فى العهد النبوي
عهــد النبــوة يزخــر مبثــل تلــك الرقابــة املاليــة للبرملــان االســامي علــى التصرفــات املاليــة العامــة
للدولــة ،واألمثلــة علــى ذلــك كثيــرة ،ولكننــا ســنقتصر هنــا علــى منوذجــن ماليــن بــن الفقــراء مــن
املهاجريــن واألغنيــاء مــن األنصــار ،قضــي فيهمــا النبــى rبقضائــه كحاكــم مســلم :مــس أحدهمــا
املهاجريــن ملــا تعــرض النبــى rلظاهــرة الريــع فــى املدينــة ،ومــس األمــر اآلخــر األنصــار فــى توزيعــه
ألراضــى خيبــر علــى املهاجريــن دون االنصــار .
ونوزع هذين النموذجني على مبحثني بالترتيب التالي:
املبحث األول :الرقابة البرملانية للمهاجرين .
املبحث الثانى :الرقابة البرملانية لألنصار.
المبحث األول
الرقابة البرلمانية للمهاجرين
مــن أبــرز املواقــف التــى تــدل علــى الرقابــة البرملانيــة للمهاجريــن ،ملــا جــاء املهاجــرون
يشــكون أكثــر مــن مــرة إلــى رســول اهلل مــن الشــروط اإليجاريــة الريعيــة التــى كان كبــار مــاك
األراضــى مــن األنصــار يفرضونهــا عليهــم عنــد اســتئجارهم ألراضيهــم الزراعيــة .وهــى كانــت
شــروطاً مجحفــة بهــم ،فرضهــا زيــادة الطلــب علــى اســتئجار األراضــى الزراعيــة فــى املدينــة فــى
بدايــة الهجــرة عــن املعــروض منهــا ،ممــا أدى إلــى رفــع قيمــة إيجارهــا ســواء النقــدى أو العينــى
(((
(باملغــاالة فــى شــروط املزارعــة) .
وقــد عبــر عنهــا البخــارى بأنهــا كانــت شــروطاً اســتثنائية وهــى تقابــل فــى االقتصــاد
الشــروط الريعيــة ،التــى يســتغل بهــا املؤجــر حاجــة املســتأجر فيفرضهــا عليــه مســتوليا علــى جــل
دخــل يحققــه املســتأجرمنها .يــروى ذلــك البخــارى فــى صحيحــه إلــى واحــد مــن أكبر مــاك األراضى
الزراعيــة فــى املدينــة هــو وعائلتــه مــن االنصــار ،وهــو رافــع بــن خديــج ،بقولــه ( :كنــا أكثــر أهــل
املدينــة مزدرع ـاً :كنــا نكــرى األرض بالناحيــة منهــا مســمى لســيد األرض ! فقــال :فممــا يصــاب
ذلــك وتســلم األرض ،وممــا يصــاب األرض ويســلم ذلــك ،فنهينــا) ((( .كمــا وضحهــا البخــارى فــى
روايــة رافــع بــن خديــج بصــورة أخــرى مــن أنهــم (كانــوا يكــرون (((األرض علــى عهــد النبــى ، مبــا
ينبــت علــى األربعــاء ،أو شــيء يســتثنيه صاحــب األرض ،فنهــى النبــى عــن ذلــك) (((.واألربعــاء
هــى مســاقى مليــاه مــن تــرع وغيرهــا .
ارجــع تفصيــل هــذه الشــروط الريعيــة وكيــف عالــج رســول اهلل rظاه ـرة الريــع التــى وقعــت فــى المدينــة عنــد نشــأة الدولــة .1
اإلســامية ،لــدى د.صبــرى عبــد العزيــز ،مبــادئ االقتصــاد والتعــاون فــى الفكريــن الوضعــى واإلســامى ،المحلــة الكبــرى
،مكتبــة الصفــا 2008 / 2007 ،ص 270ومــا بعدهــا .
رواه البخارى فى صحيحه ،م س ،جـ 2ص 49 .2
يكرون أى يؤجرون .3
رواه البخارى فى صحيحه ،مرجع سابق ،جـ 2ص 49 .4
272
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
وقــد روى أحمــد عــن ســعد بــن أبــى وقــاص مــا يؤكــد هــذه الشــروط الريعيــة التــى شــكا منهــا
املهاجــرون بقولــه ( :إن أصحــاب املــزارع كانــوا يكــرون مزارعهــم ،مبــا يكــون علــى الســواقى ومــا
ســعد باملــاء ممــا حــول النبــت فجــاءوا رســول اهلل فاختصمــوا بعــد ذلــك فنهاهــم أن يكــروا بذلــك
(((
،وقــال :أكــروا بالذهــب والفضــة) .
بــل إن النبــى اســتدعى رافــع بــن خديــج وســأله فــى ذلــك ،يــروى ذلــك رافــع بــن خديــج نفســه
فيقــول ( :دعانــى رســول اهلل ، قــال :مــا تصنعــون مبحافلكــم ؟ قلــت :نؤجرهــا علــى :الربــع
وعلــى األوثــق مــن التمــر والشــعير ،قــال :ال تفعلــوا إزرعوهــا أو أزرعوهــا أو أمســكوها ،قــال رافــع
(((
:قلــت :ســمعاً وطاعــة) .
فلقــد مثلــت هــذه املشــكلة الريعيــة ،أكبــر املشــاكل االقتصاديــة اخلطيــرة التــى واجهــت الدولــة
االســامية فــى نشــأتها .ومــع كل تلــك احللــول التــى دعــا إليهــا رســول اهلل rفإنهــا قــد خففــت
فحســب مــن ظاهــرة الريــع ،ولكنهــا لــم تنــه عليهــا نهائيـاً فــى بدايــة األمــر ،لذلــك عضدهــا النبــى
بحــل آخــر خفــف أكثــر مــن ظاهــرة الريــع ،إعتمــد فيــه علــى عقيــدة األنصــار وقــوة إميانهــم ،
وذلــك ملــا رغــب النبــى rفــى ثــواب اآلخــرة ليكــون حافــزاً أساســياً لعــاج هــذه املشــكلة ،فدعــى
مــاك األراضــى مــن أغنيــاء األنصــار إلــى أن مينحــوا أراضيهــم أو شــطراً منهــا إلخوانهــم املهاجريــن
لفقرهــم ،دون أن يأخــذوا عليهــا إيجــاراً (أى خرج ـاً ) معين ـاً .
فاســتجاب األنصــار لدعــوة فيمــا ســمى بعــد ذلــك (باملنيحــة) ،التــى هــى جــزء مــن عمليــة
(املؤاخــاة) التــى أجراهــا النبــى بــن األنصــار واملهاجريــن فــى املدينــة ،ولــم يشــهد التاريــخ لهــا
مثــاالً .وذلــك ملــا قــال لهــم النبــى ( : أن مينــح أحدكــم أخــاه ،خيــر لــه مــن أن يأخــذ عليــه خرجـاً
(((
معلوم ـاً) .
ولــم يكتــف النبــى مبــا تقــدم بــل عضدهــا بحــل ناجــع قضــى بــه نهائيــا علــى ظاهــرة الريــع فــى
الدولــة اإلســامية ،وذلــك ملــا ملــك األراضــى الفضــاء بــدون مقابــل ملــن يســتصلحها ،فقــال ( :مــن
أحيــا أرضــا ميتــة فهــي لــه صدقــة) ((( ولقــد اســتخدم يف ذلــك أســلوب الدعــوة االقتصاديــة والدعــوة
اإلميانيــة :االقتصاديــة بتمليــك األرض حملييهــا ،واإلميانيــة بوعــده بالثــواب عمــن يــأكل مــن اخلــارج
منهــا .وهــي مــع إميانيتهــا إال أنهــا تنطــوي يف حقيقتهــا علــي حافــز لــه علــي العمــل فيهــا بعــد إحيائها
حتــى ينتفــع بثمارهــا شــخصيا ويســتفيد إميانيــا بانتفــاع غيــره منهــا .فذلــك احلــل أدى علــى املــدى
الطويــل إلــى زيــادة عــرض األراضــى ليتــوازى مــع الطلــب عليهــا ،مقضيــا بذلــك علــى أهــم شــروط
قيــام الريــع .
يــدل مــا تقــدم علــى أن أول وأخطــر املشــاكل اإلقتصاديــة واإلجتماعيــة التــى ظهــرت فــى مهــد الدولــة
اإلســامية ،قــد نوقشــت فــى البرملــان اإلســامى .حيــث إســتمع فيــه النبــى rإلــى طرفــى النــزاع
مــن املهاجريــن واألنصــار ،ووضــع احللــول اإلقتصاديــة املالئمــة حتــى قضــى عليهــا .
المبحث الثاني
الرقابة البرلمانية لألنصار
ننتقــى مــن تلــك األمثلــة للرقابــة البرملانيــة لألنصــار مــا حــدث فــى توزيــع النبــى ألمــوال
خيبــر علــى املهاجريــن فقــط ،ولــم يــوزع علــى األنصــار منهــا أى شــيء ،ســوى علــى اثنــن مــن
األنصــار فقــط لفقرهــم ،فاعتــرض األنصــار علــى ذلــك ،فعقــد النبــى rاجتماع ـاً برملاني ـاً خاص ـاً
باألنصــار وحدهــم وفــى مقــر خــاص بهــم .ليــس فــى مقــر البرملــان االســامى الرئيســى وهــو املســجد
،ولكــن فــى مقــر خــاص عبــر عنــه مســلم فــى صحيحــه بأنــه (قبــة).
ومــا عقــد النبــى هــذا االجتمــاع لألنصــار وحدهــم فــى مقــر خــاص إال ليبــن لهــم مــدى
إهتمامــه بشــكواهم مــن ناحيــة ،ثــم لكــى يعطــى لهــم احلريــة الكاملــة كــى يتحدثــوا عنهــا دون تدخــل
مــن اجلنــاح اآلخــر لألمــة اإلســامية وهــم املهاجــرون مــن ناحيــة أخــرى .خاصــة وأن هنــاك شــبهة
ميكــن أن يدخــل منهــا الشــيطان وأعوانــه مــن املنافقــن كــى يحدثــوا الوقيعــة بــن جناحــى األمــة مــن
املهاجريــن واألنصــار ،نظــرا ألن املهاجريــن هــم أقــارب رســول اهلل وإيثــاره بهــم وحدهــم بالتوزيــع
يثيــر شــبهة محاباتــه لهــم علــى حســاب األنصــار ،وحــاش لــه أن يفعــل ذلــك فهــو منــزه عــن الهــوى
وحــى) نط ُق َعنِ الْ َه ـ َوى ِإ ْن ُه ـ َو إ َِّل َو ْحـ ٌ
ـي يُ َ ،وفق ـاً لقولــه تعالــى ( َو َما يَ ِ
(((
يشــير إلــى هــذه الواقعــة مســلم فــى صحيحــه ،الــذى رواه عــن أنــس بــن مالــك بقولــه :
(وأصــاب رســول اهلل غنائــم كثيــرة فقســم فــى املهاجريــن والطلقــاء ،ولــم يعــط االنصــار شــيئاً ،
فقــال األنصــار :إذا كانــت الشــدة فنحــن ندعــى ،وتعطــى الغنائــم غيرنــا ،فبلغــه ذلــك ،فجمعهــم
فــى قبــة فقــال :يــا معشــر األنصــار مــا حديــث بلغنــى منكــم ؟ فســكتوا ،فقــال يــا معشــر األنصــار
أمــا ترضــون أن يذهــب النــاس بالدنيــا ،وتذهبــون مبحمــد حتوزونــه إلــى بيوتكــم ؟ قالــوا :بلــى يــا
رســول اهلل رضينــا ((()
فيالحــظ هنــا أن النبــى لــم يتــرك املشــكلة تســتفحل ،بــل بــادر فــوراً مبواجهتهــا ،فعقــد االجتمــاع
فــى قبــة وهــى مقــر مســتدير مقــوس مجــوف ،مثــل املقــرات البرملانيــة احلديثــة ((( ،وســمح لهــم بــأن
يناقشــوه ،ولكنهــم الحترامهــم لرســول اهلل ، أبــوا أن يناقشــوه فــى األمــر ـ رغــم قــوة حجتهــم ـ
فخيرهــم بــن الدنيــا (أى األمــوال) وبــن مــا هــو أغلــى مــن أمــوال الدنيــا كلهــا وهــو رســول اهلل ،
فاختــاروا الفــوز برســول اهلل .
ورغــم أن اجلائــزة التــى أعطاهــا رســول اهلل rلألنصــار وأرضاهــم بهــا هــى جائــزة معنويــة ،
وهــى حــب رســول اهلل rومجاورتــه ،وقــد رضــوا وفرحــوا بهــا وفضلوهــا علــى األمــوال التــى وزعهــا
علــى املهاجريــن دونهــم .إال أن النبــى عوضهــم عنهــا بجائــزة ماليــة أخــرى ،تتمثــل فــى أنهــم ملــا
اســتجابوا لدعــوة رســول اهلل rلهــم بــأن مينحــوا جــزءا مــن أراضيهــم الزراعيــة إلخوانهــم الفقــراء
مــن املهاجريــن ،دون أن يأخــذوا عليهــا خرجـاً معلومـاً ،أى دون مقابــل إيجــارى معــن ( فيمــا ســمى
باملنيحــة).
ملــا فعــل األنصــار ذلــك واســتجابوا لدعــوة الرســول فــى موضــوع املنيحــة ،ثــم ملــا اســتجابوا لــه
مــرة أخــرى فــى توزيعــه ألراضــى الفتــح علــى املهاجريــن فقــط دون األنصــار ،هنــا أجــرى الرســول
.1سورة النجم اآلية ()3
.2رواه مسلم فى صحيحه ،طبعة دار التحرير ،مرجع سابق ،جـ 3ص 107
.3راجع :المعجم الوجيز ،مرجع سابق ،ص .487
274
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
عمليــة إعــادة توزيــع للثــروة القوميــة بــن األنصــار واملهاجريــن كانــت هــى اجلائــزة التــى منحهــا
لألنصــار .وهــى أنــه أمــر املهاجريــن أن يــردوا إلــى األنصــار منائحهــم مــن األراضــى التــى أخذوهــا
منهــم دون مقابــل .يــروى هــذا البخــارى عــن أنــس بــن مالــك ( :أن النبــى ملــا فــرغ مــن قتــل أهــل
خيبــر ،فانصــرف إلــى املدينــة ،رد املهاجــرون إلــى األنصــار منائحهــم التــى كانــوا منحوهــم مــن ثمــار
(((
،فــرد النبــى إلــى أمــه عذاقهــا ((( وأعطــى رســول اهلل أم أميــن مكانهــن مــن حائطــه) .
بذلــك تكــون مشــاكل األنصــار املاليــة قــد نوقشــت حتــت قبــة البرملــان اإلســامى ،وأجــرى
النبــى احللــول املالئمــة لهــا ،ليحقــق بذلــك عدالــة اقتصاديــة واجتماعيــة بــن جناحــى األمــة
اإلســامية فــى ذلــك الوقــت مــن األنصــار واملهاجريــن .
جملــة مــا تقــدم ينطــوى علــى وقائــع برملانيــة حدثــت فــى عهــد النبــى ، تــدل علــى أن حــق
الشــعب فــى الرقابــة البرملانيــة املاليــة ،كان مكفــوالً لهــم منــذ ميــاد الدولــة اإلســامية .وكانــت
الواقعــة البرملانيــة األولــى ملــا اســتجاب النبــى لشــكاوى املهاجريــن مــن الشــروط الريعيــة التــى
فرضهــا عليهــم كبــار مــاك األنصــار ،ليســتمع إلــى طرفــى النــزاع ويضــع احللــول االقتصاديــة الكفيلة
بالقضــاء علــى ظاهــرة الريــع أخطــر املشــاكل االقتصاديــة التــى واجهــت الدولة اإلســامية فــى املدينة
.وكانــت الواقعــة البرملانيــة الثانيــة ملــا اســتمع النبــى داخــل البرملــان إلــى شــكوى األنصــار املاليــة
،واعتراضهــم املبدئــى علــى إنفــاق جانــب مــن األمــوال العامــة للدولــة علــى املهاجريــن فقــط دون
األنصــار ،ومــع إقناعــه لهــم إال أنــه اســتجاب لدعواهــم بــأن أعــاد توزيــع الثــروة القوميــة لصاحلهــم
محدثـاً توزانـاً فــى توزيــع الدخــول والثــروات بــن الفئــات االجتماعيــة مــن األنصــار واملهاجريــن ،ممــا
حقــق العدالــة االقتصاديــة واالجتماعيــة بينهــم.
الفصل الثاني
الرقابة البرلمانية فى العهد البكري
متيــزت فتــرة خالفــة أبــى بكــر الصديــق ،بأنهــا شــهدت رقابــة إداريــة أو ذاتيــة شــديدة
ونظــراً لوجــود كبــار الصحابــة كعمــر وعلــى وعثمــان حولــه ،فكانــوا يــردوه فــى العديــد مــن قراراتــه
ا عمــا واجهــه فــى عهــده مــن أخطــر القضايــا التــى تعرضــت لهــا الدولــة اإلســامية املاليــة ! فض ـ ً
وهــى قضيــة الــردة عــن اإلســام ،ومــا اقتــرن بهــا مــن قضيــة الــردة املاليــة املتمثلــة فــى اإلمتنــاع عــن
دفــع الــزكاة ،ومــا دار حولهــا مــن مناقشــات برملانيــة كبيــرة .
لذلــك فســيتم التعــرض لهاتــن الرقابتــن :الرقابــة اإلداريــة فــى عهــد أبــى بكــر الصديــق مــن ناحيــة
،ومنــوذج الرقابــة البرملانيــة املاليــة فــى عهــده مــن ناحيــة أخــرى ،وذلــك فــى مبحثــن علــى النحــو
التالــى :
املبحث األول :الرقابة اإلدارية املالية فى العهد البكري.
املبحث الثانى :منوذج الرقابة البرملانية املالية فى العهد البكري.
.1العزق كل غصن له شعب ،راجع المعجم المفهرس ص . 411
.2رواه البخارى فى صحيحه ،جـ 2ص . 97
المبحث األول
الرقابة اإلدارية المالية فى العهد البكري
تعرضنــا فــى الفصــل التمهيــدى ألنــواع الرقابــة املاليــة بالنظــر إلــى جهــة الرقابــة ،وأنهــا
تتمثــل فــى ثالثــة أنــواع مــن الرقابــة هــى :الرقابــة اإلداريــة والرقابــة البرملانيــة ،والرقابــة املســتقلة
(((.
فالرقابــة اإلداريــة :تتوالهــا احلكومــة علــى نفســها بنفســها ،حيــث تقــوم بهــا إدارة تابعــة للســلطة
التنفيذيــة ،ممثلــة فــى وزارة املاليــة ،لتراقــب األداء املالــى لغيرهــا مــن الــوزارات أو املصالــح
احلكوميــة األخــرى ،وذلــك عــن طريــق قســمها املالــى املنتشــر فــى كل الــوزارات واملصالــح (((.
وفــى عهــد أبــى بكــر الصديــق كان قــد ولــى عمــر بــن اخلطــاب هــذه املهمــة ،ليقــوم بالرقابــة
علــى التصرفــات املاليــة للحكومــة ،فيراجعهــا ويعتمدهــا بخــامت الدولــة الــذى كان عهدتــه وحــده.
وكمــا أشــرنا ســلفاً فــإن فتــرة خالفــة أبــى بكــر الصديــق متيــزت بنشــاط هــذه الرقابــة اإلداريــة
أو الذاتيــة ،بســبب كثــرة كبــار الصحابــة حولــه ،ومتيــزه باشــراكهم فــى احلكــم ،فكانــت الرقابــة
اإلداريــة مــن أبــرز أنــواع الرقابــة املاليــة التــى ظهــرت فــى عهــد أبــى بكــر ،لذلــك تعــددت وقائعهــا
التــى ننتقــى منهــا واقعتــن ،لنــرى مــدى التــزام أبــى بكــر الصديــق بــرأى املنتقديــن لــه فيهــا ،وهمــا :
ارجــع :د.شــوقى عبــده الســاهى ،مراقبــة الموازنــة العامــة للدولــة فــى ضــوء اإلســام ،القاهـرة ،بــدون ناشــر 1403 ،ه ـ .1
1983 ،م ص 31ومــا بعدهــا
نفس المرجع السابق .2
أبو عبيد ،األموال ،القاهرة ،مكتبة الكليات األزهرية ،ودار الفكر 1401 ،هـ ـ 1981م ،ص . 457 – 453 .3
ارجــع فــى معنــى الخصخصــة :د .أحمــد جمــال الديــن موســى ،قضيــة الخصخصــة ،د ارســة تحليليــة ،المنصــورة ، .4
مجلــة كليــة الحقــوق جامعــة المنصــورة ،عــدد إبريــل . 1993
أبو عبيد ،األموال ،مرجع سابق ،ص 256ورواه عن معاذ وأزهر السمان . .5
276
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
وقــد تكــرر هــذا األمــر مــع عيينــه بــن حصــن ،فيمــا رواه أبــو عبيــد :أن أبــا بكــر قطــع
لعيينــه بــن حصــن قطعــة ،وكتــب لــه بهــا كتاب ـاً ،فقــال لــه طلحــة ـ أو غيــره ـ إنــا نــرى هــذا الرجــل
ســيكون مــن هــذا األمــر بســبيل ـ يعنــى عمــر ـ فلــو أقرأتــه كتابــك ،فأتــى عيينــه عمــر ،فأقــرأه كتابــه
،ثــم ذكــر مثــل حديــث ابــن عــوف ،وزاد فيــه ،أنــه بصــق فــى الكتــاب ومحــاه ،قــال :فســأل عيينــه
(((
أبــا بكــر أن يجــدد لــه كتابـاً ،فقــال :واهلل ال أجــدد شــيئاً رده عمــر) .
فهاتــان الواقعتــان تــدالن علــى أنــه كانــت هنــاك رقابــة ذاتيــة (أو إداريــة ) مــن داخــل
احلكومــة اإلســامية علــى تصرفــات احلاكــم املاليــة ،وأن عمــر بصفتــه مســئوالً عــن اعتمــاد مثــل
هــذه التصرفــات بخــامت الدولــة ،فقــد ردهــا ،ولــم يجزهــا .ولعــل فــى موقــف أبــى بكــر الصديــق ،
وموافقتــه علــى رأى عمــر املخالــف لرأيــه مــا يــدل علــى أن هــذه الرقابــة اإلداريــة كانــت فعالــة ،وأن
الشــورى وحريــة التعبيــر عــن الــرأى كانــت متاحــة ،وأن الشــورى وحريــة التعبيــر عــن الــرأى ولــو فــى
مواجهــة احلاكــم ،كانــا ســائدين ومعمــوالً بهمــا لــدى اخللفــاء الراشــدين .
المبحث الثاني
نموذج الرقابة البرلمانية المالية فى العهد البكري
مــن أبــرز القضايــا التــى نوقشــت فــى البرملــان االســامى فــى عهــد اخلليفــة األول أبــى
بكــر الصديــق ،قضيــة مانعــى الــزكاة ،فالــزكاة هــى أحــد أهــم املــوارد املاليــة العامــة الدوريــة فــى
االســام ،حتــى أنــه إذا مــا ذكــرت الصــاة إال وذكــرت الــزكاة ردفهــا ،وقــد ورد ذلــك فــى القــرآن فــى
ســبع وعشــرين آيــة اقترنــت بهــا فــى آيــة واحــدة ،وثــاث آيــات أخــرى ذكــرت مــع الصــاة ولكــن فــى
ســياقها ،فذكــرت الــزكاة ثالثــن مــرة فــى القــرآن وذكــرت الصدقــة والصدقــات فــى إثنتــى عشــرة
مــرة (((.
فهنــاك مــن القبائــل مــن ارتــدت إرتــداداً جزئيـاً ،إذ بقــوا علــى عقيدتهــم اإلســامية ،ولكنهــم أبــوا
أن يــؤدوا الــزكاة ألبــى بكــر ،ومــن أبرزهــم قبائــل عبــس وذبيــان وغطفــان وذى الفضــة ،وكانــت
حجتهــم التــى ذكرتهــا وفودهــم التــى حضــرت إلــى املدينــة ،أن اهلل تعالــى أمــر بــأداء الــزكاة إلــى
النبــى كــى يطهرهــم بهــا فــى قولــه تعالــى ( :خُ ـ ْذ مِ ـ ْن أَ ْم َوالِهِ ـ ْم َ
ص َد َق ـ ًة ت َُط ِّه ُر ُه ـ ْم َوتُ َز ِّكيهِ ـ ْم ِب َهــا
اللُ َســمِ ي ٌع َعلِيـ ٌم ) ((( فقالــوا ال نرضــى بطهــارة أبــى بكــر بديـ ً ـك سـ َك ٌن لَ ُهـم َو َّ صـ ِّل َعلَيْهِ ـ ْم إ َِّن َ
ا ْ صالتَـ َ َ َو َ
عــن طهــارة النبــى وامتنعــوا عــن أداء الــزكاة .
وإلــى جانــب قضيــة مانعــى الــزكاة فقــد بــرزت قضيــة الــردة وهــى مــن أكبــر القضايــا التــى
واجهــت اخلليفــة األول بعــد وفــاة الرســول ،((( إذ مــا لبثــت بعــض القبائــل العربيــة أن علمــوا أن
املدينــة بــا غطــاء عســكرى بعــد أن ارســل أبــو بكــر الصديــق جيشـاً كبيــرا بقيــادة أســامة بــن زيــد
علــى الــروم ،حتــى بــدأوا يتمــردون عليــه ،وظهــر بينهــم مدعــوا النبــوة مثــل مســيلمة فــى بنــى حنيفــة
،وطليحــة فــى بنــى أســد (((.
وحتمـاً كان البــد مــن أن يواجــه أبــو بكــر الصديــق هــذا التمــرد مــن الفريقــن املرتديــن كليـاً
أو جزئيـاً ،فجمــع أبــو بكــر كبــار الصحابــة فــى البرملــان اإلســامى ،كــى يشــاورهم فــى االمــر ،إذ لــو
تــرك الفريقــن دون مواجهــة وهادنهــم حتــى يرجــع جيــش أســامة ،فــإن أمرهــم سيســتفحل ويتســع
(الَ ْعـ َر ُ
اب أَ َشـ ّ ُد ُك ْفـ ًرا َو ِن َفا ًقــا) ليشــمل باقــى اجلزيــرة العربيــة ،خاصــة وأن اهلل تعالــى قــال فيهــم ْ :
(((
فاتفــق الطرفــان علــى قتــال املرتديــن ارتــداداً كلي ـاً ،ولكنهــم اختلفــوا فــى قتــال مانعــى
الــزكاة إلــى طائفتــن ،أكثرهــم بقيــادة عمــر بــن اخلطــاب tورأوا عــدم قتالهــم ،والطائفــة الثانيــة
بقيــادة أميــر املؤمنــن أبــى بكــر الصديــق وذهبــت إلــى قتالهــم .
وكانــت حجــة الكثــرة حجــة كبيــرة ،إذ قــال عمــر ألبــى بكــر ( :يــا خليفــة رســول اهلل ،
تألــف النــاس وارفــق بهــم ،كيــف تقاتــل النــاس وقــد قــال رســول اهلل أمــرت أن أقاتــل النــاس
حتــى يقولــوا ال إلــه إال اهلل وأن محمــداً رســول اهلل ،فمــن قالهــا عصــم منــى مالــه ودمــه إال بحقهــا
وحســابهم علــى اهلل) ((( .ولكــن رد ابــى بكــر كان حاســماً وحجتــه هــو اآلخــر كانــت قويــة ،إذ قــال
( :واهلل ألقاتلــن مــن فــرق بــن الصــاة والــزكاة ،فــإن الــزكاة حــق اهلل فــى املــال ،وقــد قــال :إال
بحقهــا) ((( .وكأن أبــا بكــر التقــط حجــة عمــر فــى احلديــث الــذى استشــهد بــه مــن أن قتــال املســلمني
ال يكــون إال بحقــه ليقــول بــأن حقــه هــو منعهــم حلــق اهلل فــى املــال وهــو الــزكاة ! وليعضــد ذلــك ابــو
راجع :د .يوسف القرضاوى ،فقه الزكاة ،بيروت 1406هـ ـ 1985م ،ص . 42 .1
سورة التوبة من اآلية 103 .2
أبو الحسن الندوى ،ردة وال أبو بكر لها القاهرة ،المختار اإلسالمى 1398 ،هـ ـ 1978م . .3
محمد حسين هيكل ،أبو بكر الصديق 1402 ،هـ ـ 1982م ،ص . 49 .4
سورة التوبة من اآلية 97 .5
عباس العقاد ،عبقرية الصديق 1385 ،هـ ـ 1965م ص 132 .6
نفس المرجع السابق .7
278
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
ا ( :واهلل لــو منعونــى عقــاالً ـ وفــى روايــة عناق ـاً ـ كانــوا يؤدونــه
بكــر الصديــق بحجــة أخــرى قائ ـ ً
لرســول اهلل لقاتلتهــم علــى منعــه ) والعقــال هــو احلبــل الــذى يربــط بــه رأس البعيــر ،أمــا العنــاق
فهــو ولــد املاعــز الصغيــر ((( ،وكالهمــا ال تؤخــذ منــه اللــزكاة ،ومــع ذلــك فهــو قــد ضــرب بهمــا
أبــو بكــر املثــل فــى عــدم التهــاون فــى حــق اهلل فــى املــال وهــو الــزكاة ،التــى مــن أهميتهــا اقترنــت
بالصــاة ـ رأس العبــادات ـ فــى القــرآن فــى هــذه املواضــع الكثيــرة ! والتــى مــن خطــورة منــع إيتائهــا
اعتبرهــا اهلل تعالــى فــى قرآنــه نوعـاً مــن الشــرك فقــال (وويــل للمشــركني ،الذيــن ال يؤتــون الــزكاة
(((
)...
وهنــا علــت حجــة فريــق أبــى بكــر ،واقتنــع الفريــق اآلخــر برأيهــم فــى قتــال مانعــى الــزكاة ،ويؤكــد
ا ( :فــواهلل مــا هــو إال أن رأيــت اهللذلــك عمــر بــن اخلطــاب إذ أثنــى علــى رأي أبــى بكــر قائـ ً
شــرح صــدر أبــى بكــر للقتــال ،فعرفــت أنــه احلــق ((()
وهنــا اســتقر الــرأى علــى قتــال مانعــى الــزكاة ،التــى هــى أحــد أهــم املــوارد املاليــة الهامــة للدولــة
االســامية ،لتكــون الدولــة اإلســامية هــى الدولــة الوحيــدة فــى التاريــخ التــى قاتلــت مــن أجــل
الفقــراء .
وانتصــرت الدولــة اإلســامية ،وتكالبــت كل القبائــل العربيــة املمتنعــة وغيــر املمتنعــة عــن آداء الــزكاة
إلــى املدينــة ،ليــؤدوا فــروض الطاعــة والــوالء ،وهنــا يســجل عمــر بــن اخلطــاب صــواب رأى ابــى بكــر
وفريــق القتــال ،ليقبــل رأس أبــى بكــر أمــام املجتمعــن فــى البرملــان اإلســامى .
يصــور ذلــك أبــو رجــاء البصــرى قائــا ً ( :دخلــت املدينــة فرأيــت النــاس مجتمعــن ((( ،ورأيــت رجـ ً
ا
يقبــل رأس رجــل ويقــول لــه :أنــا فــداؤك ولــوال أنــت لهلكنــا ! قلــت :مــن املق ِّبــل ،ومــن املق َّبــل ؟! قالــوا
(((
:هــو عمــر يقبــل رأس أبــى بكــر فــى قتــال أهــل الــردة ،إذ منعــوا الــزكاة حتــى أتــوا بهــا صاغريــن) .
ولعــل مــا تقــدم يــدل علــى منــوذج برملانــى حــول مــورد مــن مــوارد امليزانيــة العامــة للدولــة ،إحتــدم
النقــاش حولــه ،وانتهــت بإقــرار رأى القلــة ،الــذى ثبــت بعــد نفــاذه صحتــه ،مدلـ ً
ا علــى أن الرقابــة
املاليــة فــى الدولــة إلســامية كانــت فعالــة فــى العهــد البكــرى ،فهــل هــى كانــت علــى ذلــك فــى العهــد
العمــرى ؟! هــذا مــا ســنجيب عليــه فــى ســطور الفصــل التالــي.
الفصل الثالث
الرقابة البرلمانية فى العهد العمري
القضايــا البرملانيــة املاليــة فــى عهــد عمــر بــن اخلطــاب كثيــرة جــداً ،بســبب كثــرة الفتوحــات واتســاع
الدولــة اإلســامية فــى عهــده ،ممــا انعكــس علــى موازنتهــا العامــة بإيراداتهــا ونفقاتهــا العامــة ،
ا عــن اجتهــادات عمــر بــن اخلطــاب املاليــة ،التــى ثــار النقــاش حولهــا بــن كبــار الصحابــة فــى فضـ ً
عصــره .
وتتعــرض هنــا ألهــم إجنــازات عمــر بــن اخلطــاب املاليــة فــى عهــده ،ثــم نبــرز أحــد أهــم القضايــا
راجع :ابن منظور ،لسان العرب ،مجلد 6ص ، 375ص ، 478والمعجم الوجيز ص . 478 ، 429 .1
سورة فصلت من اآليتين 7 ، 6 .2
حامد الجوهرى ،الصديق أبو بكر تحليل ودراسة ،مؤسسة اخبار اليوم ،كتاب اليوم 1407هـ 1987م ص 51 .3
الحظ قوله :مجتمعين ،ويعنى أنه كان اجتماعاً برلمانياً على مستوى األمة .4
عباس العقاد ،عبقرية الصديق ،مرجع سابق ص . 131 .5
املاليــة البرملانيــة التــى نالــت نقاشـاً وجــدالً كبيــراً فيــه داخــل البرملــان اإلســامى ،ونــوزع ذلــك علــى
مبحثــن علــى النحــو التالــى:
املبحث األول :اهم إجنازات عمر فى مجال املالية العامة.
املبحث الثانى :منوذج الرقابة البرملانية املالية فى العهد العمري.
المبحث األول
أهم إنجازات عمر فى مجال المالية العامة
إجنــازات عمــر بــن اخلطــاب املاليــة العامــة فــى عصــره كثيــرة جــداً ،ويصعــب اإلحاطــة
بهــا جميعـاً فــى هــذه املســاحة الضيقــة مــن البحــث ممــا قــد يعرضــه إلــى عــدم التــوازن فــى عــرض
موضوعاتــه ،لذلــك ومــن هــذا املنطلــق فســنركز علــى أهــم تلــك اإلجنــازات وهــى املتعلقــة بأمريــن
همــا:
-1تدوين املوازنة العامة للدولة.
-2إتخاذ خزانة عامة للدولة (بيت املال).
ونوضحهما تباعاً فى مطلبني على الترتيب.
المطلب األول
تدوين الموازنة العامة
وجــود ميزانيــة عامــة للدولــة اإلســامية ،ولــد مبولــد الدولــة اإلســامية ((( ،فــى عهــد
النبــى ، حيــث كانــت للدولــة اإلســامية ،مواردهــا املاليــة العامــة ،منهــا مــا هــو دورى ،مثــل دخــل
أمــاك الدولــة والــزكاة ،والضرائــب ( كاجلزيــة /هــى ضريبــة شــخصية ) والضرائــب علــى االمــوال
،كاخلــراج والعشــور ( التــى هــى ضريبــة جمركيــة ) والتــى فرضــت فــى عهــد عمــر بــن اخلطــاب
ومــن هــذه اإليــرادات العامــة مــا هــو غيــر دورى مثــل :أمــوال الفــيء التــى حصلــت عليهــا الدولــة
اإلســامية صلح ـاً ،وأمــوال الغنائــم التــى اكتســبتها مــن األعــداء عنــوة أى بعــد قتــال .
وفــى املقابــل فــإن ميزانيــة الدولــة اإلســامية كانــت تتضمــن إلــى جانــب إيراداتهــا العامــة نفقاتهــا
العامــة ،التــى تنفقهــا علــى الشــئون العامــة املدنيــة للمســلمني أو العســكرية (فــى ســبيل اهلل) ،أو
مصــارف الــزكاة والفــيء والغنائــم احملــددة حصــراً فــى القــرآن الكــرمي ،وغيرهــا مــن النفقــات العامــة
(((
.
ولكــن يالحــظ أن املوازنــة العامــة للدولــة اإلســامية ،لــم تــدون كتابــة بإيراداتهــا ونفقاتهــا العامــة
فــى عهــد الرســول ، وذلــك ألن اإليــرادات العامــة للدولــة كانــت تــوزع أوالً بــأول بصفــة يوميــة ،
وال يــزد حفظهــا فــى بيــت مــال املســلمني دون أن تــوزع علــى مســتحقيها علــى ثالثــة أيــام ،وهــو مــا
.1ارجــع د .صبــرى عبــد العزيــز ،الماليــة العامــة د ارســة مقارنــة إســامياً ،المحلــة الكبــرى ،مكتبــة الصفــا 2010 ،ص
115ومــا بعدهــا ،ص 279
.2ارجــع هــذه النفقــات تفصيـاً لــدى :د.عــوف الكفـراوى ،سياســة اإلنفــاق العــام فــى اإلســام وفــى الفكــر المالــى الحديــث ،
د ارســة مقارنــة ،اإلســكندرية ، 1983مؤسســة شــباب الجامعــة .
280
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
المطلب الثاني
اتخــاذ خــزانة عامة ( بيت المال )
علــى الرغــم مــن أن النبــى اتخــذ بيتـاً ملــال املســلمني وســار علــى ذلــك أبــو بكــر الصديــق فــى
عهــده ،إال أنــه يالحــظ أن األمــوال العامــة لــم تكــن حتفــظ لفتــرة طويلــة فــى بيــت املــال يف العهديــن
النبــوي والبكــرى ،إذ كانــت تــوزع فــى مصارفهــا أول بــأول وال يحتفــظ بهــا إال أليــام معــدودة .
ولكــن يحســب لعمــر بــن اخلطــاب أنــه مــع توســع الدولــة اإلســامية فــى عهــده ،فقــد اتســعت
امليزانيــة العامــة للدولــة وبــدأ يحتفــظ باألمــوال العامــة ملــدة ســنة ،ينفقهــا خــال الســنة ليرســى
بذلــك مبــدأ الســنوية للميزانيــة العامــة .
راجع :د.بدوى عبد اللطيف ،الميزانية األولى فى اإلسالم ،القاهرة 1990سلسلة الثقافة اإلسالمية ص 18 .1
راجع :أبا يوسف ،الخراج ،بيروت ـ لبنان ،دار المعرفة ،بدون عام نشر ،ص ، 45كذلك :الماوردى ،األحكام .2
السلطانية والواليات الدينية ،القاهرة ،دار النصر ، 1983 ،ص . 172
راجع :أبا يوسف في الخراج ،مرجع سابق ص .44 .3
ارجــع :شــوقى عبــده الســاهى ،مراقبــة الموازنــه العامــه للدولــه فــى ضــوء اإلســام ،القاهـره ،بــدون ناشــر 1403 ،ه ـ ، .4
1983م ص .297
أنظر :بدوى عبد اللطيف ،الميزانية األولي في اإلسالم ،القاهره ،سلسلة الثقافة األسالمية 1990 -1379 ،م . .5
كذلك :قطب إبراهيم ،النظم المالية فى اإلسالم ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،ص .180 -
كذلك قطب إبراهيم ،النظم السياسية الماليه لعمر بن الخطاب ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب .1984 ، -
يــروي أبــو يوســف مــا يــدل علــى ذلــك بقولــة ( :وحدثنــا املجالــد بــن ســعيد عــن الشــعبى عمــن شــهد
عمــر بــن اخلطــاب قــال :ملــا فتــح اهلل عليــه وفتــح فــارس والــروم ،جمــع أناس ـاً مــن أصحــاب
رســول اهلل فقــال مــا تــرون فإنــى أرى أن أجعــل عطــاء النــاس فــى كل ســنة وأجمــع املــال فإنــه
(((
أعظــم البركــة قالــوا :إصنــع مــا رأيــت فإنــك إن شــاء اهلل موفــق )
كمــا يــروى أبــو يوســف مــا يفصــل ذلــك فيمــا رواه عــن أبــى هريــرة قــال ( :قدمــت مــن البحــر
بخمســمائة ألــف درهــم ،فأتيــت عمــر بــن اخلطــاب ممســياً ،فقلــت يــا أميــر املؤمنــن إقبــض
هــذا املــال ،قــال :وكــم هــو ؟ قلــت :خمســمائة ألــف درهــم ،قــال وكــم تــدرى كــم خمســمائة الــف
؟ قــال قلــت :نعــم مائــة الــف خمــس مــرات ،قــال :أنــت ناعــس ،أذهــب فبــت الليلــة حتــى تصبــح ،
فلمــا أصبحــت أتيتــه فقلــت إقبــض منــي هــذا املــال ،قــال وكــم هــو ؟ قــال قلــت خمســمائة ألــف درهــم
،قــال :أمــن طيــب هــو ؟ قــال قلــت :ال أعلــم إال ذاك ،فقــال عمــر رضــى اهلل عنــه :أيهــا النــاس ،
إنــه قــد جــاء مــال كثيــر فــإن شــئتم أن نكيــل لكــم كلنــا ،وإن شــئتم أن نعــد لكــم عددنــا ،وإن شــئتم أن
نــزن لكــم وزنــا لكــم ،فقــال رجــل مــن القــوم :يــا أميــر املؤمنــن ،دون للنــاس دواويــن يعطــون عليهــا
،فاشــتهي عمــر ذلــك :ففــرض للمهاجريــن خمســة أالف و لألنصــار ثالثــة أالف وألزواج النبــى
(((
إثنــى عشــر ألفـاً ((( ...وقــد تكــرر ذلــك املوقــف مــع أبــى موســى األشــعرى .
وهنــا أنشــأ عمــر بــن اخلطــاب مــا ميثــل اخلزانــة العامــة للدولــة حديثـاً ،وســمى بالديــوان ،لذلــك
(((
قــال املــاوردي (:وأول مــن وضــع الديــوان يف اإلســام عمــر بــن اخلطــاب رضــى اهلل عنــه)
وقــد مت التوســع فــى الدواويــن فــى عهــد عمــر حيــث قســمها إلــى أربعــة دواويــن هــى :ديــوان اجليــش
،وديــوان األعمــال ،وديــوان العمــال ،وديــوان بيــت مــال املســلمني مــن دخــل وخــراج ،الــذى قســمه إلــى
(((
أربعــة أقســام هــى :الــزكاة ،اجلزيــة ،واخلــراج ،واخلمــس ،وآخرهــا للضوائــع ومــن ال وارث لــه .
تلــك باختصــار كانــت أهــم إجنــازات عمــر بــن اخلطــاب tيف مجــال املاليــة العامــة للدولــة ،وهــو
مــا ميهــد لبيــان النمــوذج العمــرى للرقابــة البرملانيــة علــى هــذه امليزانيــة ،والــذي ميكــن أن يســتدل
بــه بحــق علــى مــدى احتــرام عمــر لــرأى ورقابــة نــواب الشــعب علــى التصرفــات املاليــة للحاكــم
واحلكومــة اإلســامية .
المبحث الثاني
نموذج الرقابة البرلمانية المالية في العهد العمري
القضايــا البرملانيــة املاليــة يف عهــد عمــر بــن اخلطــاب كثيــرة جــداً ،بســبب كثــرة الفتوحــات فــى عهده
،وأتســاع بالتالــي األحــوال العامــة وامليزانيــة العامــة للدولــة اإلســامية ،فضـ ً
ا عــن اجتهــادات عمــر
بــن اخلطــاب املاليــة العقالنيــة ،التــى ثــار النقــاش حولهــا فــى عصــره بــن كبــار الصحابــه مــن نــواب
282
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
(((
األمــة .
ومــن أخطــر تلــك القضايــا املاليــة توزيــع أراضــى الفــيء علــى الفاحتــن ،إذ أن القــرآن يقضــى
بتوزيــع أربعــة أخماســها علــى اجلنــود الذيــن فتحــوا تلــك البــاد صلحـاً ،بعــد أن يــوزع خمســها علــى
اللُ َعلَـىٰ َر ُســولِهِ مِ ـ ْن أَ ْهــلِ الْ ُقـ َرىٰاملصــارف التــى حددتهــا اآليــة الكرميــة فــى قولــه تعالــى َ ( :مــا أَ َفــاء َّ
َ ّ
ـن ْالَ ْغ ِن َيــاءِ
ـي َل يَ ُكــو َن ُدولَ ـ ًة بَـ ْ َ
ْ ـ َ
ك ب
ِيلِ ـ الس َف ِللَّــهِ َولِل َّر ُســولِ َو ِلــذِ ي الْ ُق ْربَ ـىٰ َوالْ َيتَا َم ـىٰ َو ْال َ َســاكِ ِ
ني َوابْــنِ َّ
(((
مِ ن ُكـ ْم ۚ)
فظاهــر اآليــة واضــح الداللــة علــى أن أمــوال الفــيء يقســم خمســها علــى تلــك املصــارف ،واألربعــة
أخمــاس علــى الفاحتــن ،وهــذا مــا فعلــه الرســول فــى توزيعــه ألرض خيبــر ،إذ أعطــى األربعــة
أخمــاس للفاحتــن(((.
ولكــن تأويــل اآليــة يقــود إلــى أن يتــم وقــف األربعــة أخمــاس كفــيء عــام أو أمــوال عامــة متلــك للدولــة
اإلســامية بــدالً مــن الفاحتــن ،ويخصــص خراجهــا (أى دخلهــا ) ،كمــورد عــام يصــرف علــى
الشــئون العامــة للمســلمني ! هــذا التأويــل يحتــاج إلــى اجتهــاد ومشــورة ألعضــاء البرملــان اإلســامى
(((
.
وقــد بــدأت املشــكلة مــع الفتوحــات اإلســامية الكبيــرة ،خاصــة فتــح العــراق علــى يــد ســعد بــن أبــى
وقــاص ،وفتــح مصــر علــى يــد عمــرو بــن العــاص (((.
وقــد حــذر معــاذ بــن جبــل عمــر ملــا قــدم اجلابيــة ،وأراد عمــر أن يقســم األرض علــى الفاحتــن ،
فقــال لــه معــاذ ( :واهلل إذن ليكونــن مــا تكــره ،إن قســمتها صــار الريــع العظيــم فــى أيــدى القــوم ،ثــم
يبيــدون ،فيصيــر ذلــك إلــى الرجــل الواحــد أو املــرأة الواحــدة ،ثــم يأتــى مــن بعدهــم قــوم يســدون
(((
مــن اإلســام مســداً وهــم ال يجــدون شــيئاً ! فانظــر أمــراً يســع أولهــم وآخرهــم) .
وقد انقسم الصحابة من نواب الشعب من توزيع هذا الفىء إلى فريقني (((:
أحدهمــا :بقيــادة بــال بــن ربــاح :ومعــه عــدد مــن كبــار الصحابــة أمثــال :عبــد الرحمــن بــن عــوف
،والزبيــر بــن العــوام ،ويــروا تخميســها وقســمة الباقــى علــى الفاحتــن .
واآلخــر :بقيــادة عمــر بــن اخلطــاب :يعضــده هــو اآلخــر عــدد مــن كبــار الصحابــة أمثــال :عثمــان
وعلــى وطلحــة وابــن عمــر ،ومعــاذ بــن جبــل ،وعمــرو بــن العــاص ،وســعد بــن أبــى وقــاص رضــى
اهلل عنهــم أجمعــن.
وهنــا ال ينفــرد عمــر برأيــه بــل يبــدأ فــى استشــارة كبــار الصحابــة ،ويعقــد جلســات برملانيــة
موســعة ومصغــرة ،للوصــول إلــى الــرأى الصحيــح ،مســتعيناً بــاهلل تعالــى وتوفيقــه ،وكان يدعــو اهلل
ال ( :اللهم اكفنى بالالً وأصحابه ((() قائ ً
وبــدأ هــذه املناقشــات بــن الفريقــن ،خاصــة مــن عمــر تــدل علــى منتهــى الدميقراطيــة وعــدم
ا ( :إنــى دعوتكــم لتشــاركونى أمانــة مــا حملــت التعصــب للــرأى مــن رجــل هــو رئيــس الدولــة ،قائـ ً
مــن أموركــم ،فإنــى واحــد كأحدكــم ،وأنتــم اليــوم تقــرون باحلــق ،خالفنــى مــن خالفنــى ،ووافقنــى
مــن وافقنــى ،ولســت أريــد أن تتبعــوا هــواى ،فمعكــم مــن اهلل كتــاب ينطــق باحلــق ،فــواهلل لئــن كنــت
(((
نطقــت بأمــر أريــده ،فمــا أريــد بــه إال احلــق)
وقــد خلــص بــال وصحبــه حجتهــم بقولــه لعمــر :إقســمها بيننــا أى بــن اجلنــود وخــذ خمســها
علــى اعتبــار أن تلــك البــاد فتحــت عنــوة ،وهــى غنائــم تــوزع علــى اجلنــود بعــد تخميســها ،عمـ ً
ا
ـيءٍ َفـ َأ َّن ِ َّ ِ
ل خُ ُم َسـ ُه َولِل َّر ُســولِ َو ِلــذِ ي الْ ُق ْربَـىٰ َوالْيَتَا َمـىٰ اعل َ ُمــوا أَ َّ َ
نــا َغ ِن ْمتُم ِ ّمن َشـ ْ بقولــه تعالــى َ ( :و ْ
ا بعمــل الرســول فــى تخميســه ألرض خيبــر. الس ـبِيلِ ) ((( وعم ـ ً َو ْال َ َســاكِ ِ
ني َوابْــنِ َّ
وعمــر وفريقــه يــرون أن الــذى يفــرق وفق ـاً لــرأى بــال ومــن معــه هــى أمــوال الفــىء املنقولــة ،أمــا
األمــوال (العقاريــة ) فتظــل فيئ ـاً عام ـاً جلميــع املســلمني .لذلــك رد عمــر علــى بــال قائــا لــه ( :
ال ،هــذا عــن املــال ،ولكنــى أحبســه فيمــا يجــرى عليهــم وعلــى املســلمني) ((( .ويســتدل عمــر بآيــة
الفــيء ،فيــرد عليــه بــال إقســمها بيننــا وخــذ خمســها ،فيــرد عمــر بدعــاء اهلل قائــا ( :اللهــم
اكفنــى بــاالً وذويــه ) (((.
وحتتــدم حــدة النقــاش بــن عمــر وعبــد الرحمــن بــن عــوف ،فيقــول عمــر ( :فكيــف فمــن يأتــى مــن
املســلمني فيجــدون األرض بعلوجهــا ((( قــد قتســمت وورثــت عــن اآلبــاء وحيــزت ،مــا هــذا بــرأى ) ،
فيــرد عليــه عبــد الرحمــن بــن عــوف ( :فمــا الــرأى؟ مــا األرض والعلــوج إال ممــا أفــاء اهلل عليهــم )
،وهنــا يــرد عليــه عمــر ( :مــا هــو إال كمــا تقــول ولســت أرى ذلــك ،واهلل ال يفتــح بعــدى بلــد فيكــون
ال علــى املســلمني ،فــإذا قســمت أرض العــراق بعلوجهــا ، فيــه كبيــر نيــل ،بــل عســى أن يكــون ك ً
وأرض الشــام بعلوجهــا ،فمــا يســد بــه الثغــور ،ومــا يكــون للذريــة واألرامــل بهــذا البلــد وبغيــره مــن
أرض الشــام والعــراق)
وهنــا أكثــر الفريــق اآلخــر علــى عمــر وقالــوا لــه ( :أتقــف مــا أفــاء اهلل علينــا بأســيافنا علــى قــوم لــم
يحضــروا ولــم يشــهدوا ،وألبنــاء قــوم وألبنــاء أبنائهــم ولــم يحضــروا ؟ فــكان عمــر ال يزيــد علــى أن
284
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
ـاب) ((( ثــم قــال تعالــى ِ ( :لل ْ ُف َقـ َراءِ الل َشــدِ ي ُد الْعِ َقـ ِالل ۖ إ َِّن َّ َ فَخُ ـ ُذوهُ َو َمــا نَ َها ُكـم َعنْـ ُه َفانتَ ُهــوا ۚ َوا َّت ُقــوا َّ َ
ْ
اللَضوا ًنــا َويَنصــرو َن َّ َ ّ
ضــا ِ ّمــ َن ِ ً َ َ ُ
اج ِريــ َن ا ّلَذِ يــ َن أخْ ِر ُجوا مِ ن دِ يَارِ ِهــ ْم َوأ ْم َوالِهِ ْم يَبْتَغُــو َن ف ْ ْال ُ َه ِ
ُ ُ الل َورِ ْ َ
الصادِ ُقــونَ) ((( ثــم لــم يــرض حتــى خلــط بهــم غيرهــم فقــال َ ( :وا َّلذِ يـ َن تَبَـ َّوءُوا ـك ُهـ ُم َّ َو َر ُســولَ ُه ۚ أُو َ ٰل ِئـ َ
مــا أُوتُــوا اج ـ ًة ِّ َّ
صدُورِ ِه ـ ْم َح َ اج ـ َر ِإلَيْهِ ـ ْم َو َل يَ ِج ـ ُدو َن ِف ُ ميــا َن مِ ــن َقبْلِهِ ـ ْم يُ ِح ُّبــو َن َم ـ ْن َه َ ال َ الـ َّـدا َر َو ْ ِ
ـك ُهـ ُم ْال ُ ْفل ُِحــونَ) ((( اصـ ٌة ۚ َو َمــن يُــو َق ُشـ َّـح نَف ِْســهِ َفأُو َ ٰل ِئـ َ ص َ َويُ ْؤ ِثـ ُرو َن َعل َـىٰ أَنف ُِســهِ ْم َولَـ ْو َكا َن بِهِ ـ ْم َخ َ
فهــذا فيمــا بلغنــا ـ واهلل أعلــم) .
ويضيــف عمــر معضــداً رأيــه يقولــه :ثــم لــم يــرض حتــى خلــط بهــم غيرهــم فقــال َ ( :وا َّلذِ يــ َن
ت َع ـ ْل ِف ُقلُو ِبنَــا ميــانِ َو َل َ ْ اغفِ ـ ْر لَنَــا َو ِ ِلخْ َوا ِننَــا ا َّلذِ ي ـ َن َس ـ َبقُونَا ب ْ ِ
ِال َ َجــاءُوا مِ ــن بَ ْعدِ ِه ـ ْم يَقُولُــو َن َر َّبنَــا ْ
وف َّر ِحيـ ٌم ) يقــول عمــر ( :فكانــت هــذه عامــة ملــن جــاء بعدهــم ((( ـك َرءُ ٌ ِغـ ًّـا ِّللَّذِ يـ َن آ َمنُــوا َر َّبنَــا ِإ َّنـ َ
،فقــد صــار هــذا الفــيء بــن هــؤالء جميعـاً ،فكيــف نقســمه لهــؤالء ونــدع مــن تخلــف بعدهــم بغيــر
(((
قســم؟ ) .
وبعــد هــذا العــرض املســتفيض مــن عمــر لرأيــه علــى مــن عارضــوه فــإن الذيــن عارضــوه اســتدلوا
بآيــة الغنائــم ،واســتدل هــو بآيــات الفــيء ،حيــث اعتبــر هــذه األراضــى العقاريــة وقفـاً عامـاً لصالــح
جميــع املســلمني ،وأن خراجهــا هــو يفء لعامــة املســلمني حاضرهــم ومســتقبلهم ،وهنــا أصــدر
اجلميــع قــراراً باإلجمــاع بتأييــد رأى عمــر ،وتــرك هــذه األراضــى ملــكاً عام ـاً للمســلمني وجمــع
(((
خراجهــا ،وفــى هــذا يقــول أبــو يوســف ( :فاجمــع علــى تركــه (((وجمــع خراجــه ) .
ويوفــق أبــو عبيــد بــن الرأيــن :فيقــول معقبـاً عليهمــا معتبــراً أن رأى بــال اتبــع فعــل النبــى rفــى
تقســيم أرض خيبــر ،وكال احلكمــن فيــه قــدوة ومنبــع مــن الغنيمــة والفــيء إال أن الــذى اختــاره مــن
ذلــك :يكــون النظــر فيــه إلــى اإلمــام ،كمــا قــال ســفيان ،وذلــك أن الوجهــن جميعـاً داخــان فيــه ،
وليــس فعلــى النبــى rيــراد لفعــل عمــر ((( ،ولكنــه rاتبــع آيــة مــن كتــاب اهلل تبــارك وتعالــى فعمــل بهــا
((( ،واتبــع عمــر آيــة أخــرى فعمــل بهــا ( ،((1وهمــا آيتــان محكمتــان فيمــا ينــال املســلمون مــن أمــوال
املشــركني ،فيصيــر غنيمــة وفيئـاً (.((1
ا ( :((1فــكان عمــر يبنــى اجتهــاده علــىكمــا علــق الدكتــور ســليمان الطمــاوى :علــى رأى عمــر ،قائـ ً
ثالثــة أمــور مصلحيــة:
أوالً :منــع امللكيــة الكبيــرة :إذ أن أراضــى العــراق تعــد بألــوف األلــوف مــن األفدنــة ،وســوف تقســم
286
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
علــى عشــرات األلــوف مــن النــاس ،وبذلــك يكــون احتــكاراً لــأرض الزراعيــة.
وثانيها :أن خراج هذه األراضى إذا منعت قسمتها يكون ملصالح الدولة واجلهاد فى سبيل اهلل.
وثالثها :أنها لو قسمت ما كان مال ينفق منه على الضعفاء من اليتامى واألرامل واملساكني .
هــذا هــو النمــوذج العمــرى الــذى يــدل بحــق علــى أنــه أول صياغــة مكتوبــة للموازنــة العامــة للدولــة
فــى العالــم وليــس فــى اإلســام فحســب ،كمــا يــدل علــى مــدى احترامــه لنــواب الشــعب وحلقهــم فــى
الرقابــة البرملانيــة علــى التصرفــات املاليــة للحاكــم املســلم واحلكومــة اإلســامية الــذى تقتــرن فيــه
املبــادئ بالتطبيــق فــى منــوذج لــم يصــل إليــه الغــرب إال مؤخــراً فــى العصــر احلديــث.
ختــام البحـــث
يف ختــام مــا تقــدم فقــد ثبــت أن حــق الشــعب فــى الرقابــة البرملانيــة علــى املوازنــة العامــة
للدولــة ،مقــرر فــى اإلســام قبــل ظهــوره فــى النظــم الغربيــة ،حيــث شــهد العصــر النبــوى أسس ـاً
لهــذه الرقابــة البرملانيــة ،أرســاها النبــى ، وظهــرت تطبيقاتهــا العمليــة مــع جناحــى هــذه األمــة :
األنصــار واملهاجريــن .
وهــو مــا قــد ســار عليــه خليفتــه األول أبــو بكــر الصديــق فيمــا أرســاه فــى عهــده مــن أســس
للرقابــة املاليــة اإلداريــة واحترامــه للمعارضــن فــى تصرفاتــه املاليــة العامــة فــى واقعتــى :إقطاعــه
لبعــض األراضــى العامــة املهجــورة ملــن يرعاهــا ويســتصلحها ويســتزرعها مــن املســلمني ،وكذلــك فــى
قضيــة تخصيصــه جــزءاً مــن االمــوال العامــة العقاريــة للمؤلفــة قلوبهــم ،ليؤلفهــم علــى اإلســام .
حيــث اعتــرض عليــه فيهمــا عمــر بــن اخلطــاب فأقــره وتراجــع عــن رأيــه نــزوالً علــى رأى عمــر .
ومــع ذلــك فإنــه فــى منوذجــه البكــرى لــم ينــزل علــى رأى عمــر فــى واقعــة رفــض عمــر لقتــال مانعــى
الــزكاة ،حيــث وافــق أبــو بكــر علــى رأى مــن ذهبــوا إلــى قتالهــم حتــى ال يــؤدى ذلــك إلــى ارتــداد كثيــر
مــن أهــل اجلزيــرة العربيــة عــن اإلســام ،وفقــدان املوازنــة العامــة اإلســامية لواحــدة مــن أهــم
مواردهــا املاليــة وهــى الــزكاة .
وقــد ضــرب عمــر بــن اخلطــاب فــى عهــده املثــل األعلــى فــى هــذا املجــال بإجنازاتــه فيــه :بتدوينــه
املبكــر للموازنــة العامــة للدولــة فــى وثيقــة مكتوبــة قبــل أن يعرفهــا الغــرب ،واتخــاذه خلزانــة عامــة
للدولــة ،وفــى منوذجــه الفريــد الــذى احتــرم فيــه رأى معارضيــه فــى البرملــان اإلســامى بقيــادة
بــال بــن ربــاح ، حــن رفــض عمــر أن يــوزع أراضــى الفــيء علــى الفاحتــن ،ليتجنــب بحــق ظهــور
اإلقطــاع مبســاوئه املعروفــة فــى الدولــة اإلســامية ،وهــو مــا لــم يصــل إليــه إال بعــد نقــاش طويــل
مــع معارضيــه حتــى توصــل اجلميــع إلــى رأى واحــد عــن اقتنــاع .
وهــو مــا نعتقــد فــى ختــام هــذا البحــث بــأن النمــوذج اإلســامى فــى الرقابــة البرملانيــة علــى املوازنــة
ا ألن يقــاس عليــه العامــة للدولــة ،بعهــوده الثالثــة األولــى النبويــة والبكريــة والعمريــة ،يصلــح فع ـ ً
وتقتــدى بــه النظــم البرملانيــة املعاصــرة .
قائمة المراجـــــع
ابن جرير الطبرى ،تاريخ األمم وامللوك ،القاهرة ،املطبعة احلسينية املصرية جـ . 3 -1
ابن منظور ،لسان العرب ،مجلد 6ص -2
أبــو احلســن النــدوى ،ردة وال أبــو بكــر لهــا القاهــرة ،املختــار اإلســامى 1398 ،هـــ ـ 1978 -3
م .
أبــو عبيــد ،األمــوال ،القاهــرة ،مكتبــة الكليــات األزهريــة ،ودار الفكــر 1401 ،هـــ ـ 1981 -4
م.
أبو يوسف ،اخلراج ،بيروت ـ لبنان ،دار املعرفة ،بدون عام نشر -5
أحمــد التاجى،ســيرة عمــر بــن اخلطــاب اخلليفــة الرائــد ،القاهــرة ،مكتبــة احللبــى1404 ، -6
هـــ 1984 ،م .
أحمــد احلصــرى ،السياســة االقتصاديــة ،والنظــم املاليــة فــى الفقــه اإلســامى ،القاهــرة ، -7
مكتبــة الكليــات األزهريــة 1984 ،ص 529ومــا بعدهــا .
أحمد جامع ،علم املالية العامة ، -8
أحمــد جمــال الديــن موســى ،قضيــة اخلصخصــة ،دراســة حتليليــة ،املنصــورة ،مجلــة كليــة -9
احلقــوق جامعــة املنصــورة ،عــدد إبريــل . 1993
-10بــدوى عبــد اللطيــف ،امليزانيــة األولــى فــى اإلســام ،القاهــرة 1990سلســلة الثقافــة
اإلســامية
-11بــدوى عبــد اللطيــف ،امليزانيــة األولــي يف اإلسالم،القاهره،سلســلة الثقافــة األســامية،
1990-1379م
-12جــال الديــن احمللــى ،جــال الديــن الســيوطى ،تفســير اجلاللــن امليســر ،القاهــرة ،
الشــركة املصريــة العامليــة للنشــر (لوجنمــان ) . 2003 ،
-13خالد محمد خالد ،بني يدى عمر ،القاهرة ولبنان ،دار املعارف ،بدون عام نشر .
-14سليمان الطماوى :عمر بن اخلطاب وأصول السياسة واإلدارة احلديثة
-15ســليمان الطمــاوى ،عمــر بــن اخلطــاب وأصــول السياســة واإلدارة احلديثــة ،دراســة مقارنــة
،القاهــرة ،دار الفكــر العربــى . 1976 ،
-16شــوقى عبــده الســاهى ،مراقبــة املوازنــة العامــة للدولــة فــى ضــوء اإلســام ،القاهــرة ،بــدون
ناشــر 1403 ،هـــ 1983 ،م
-17شــوقى عبــده الســاهى ،مراقبــة املوازنــه العامــه للدولــه فــى ضــوء اإلســام ،القاهــره ،بــدون
ناشــر 1403 ،هـــ 1983 ،م
-18الشــيخ محمــد املدنــى :نظــرات فــى فقــه الفــاروق عمــر بــن اخلطــاب ،القاهــرة ،املجلــس
األعلــى للشــئون اإلســامية 1428 ،هـــ 2007 ،م .
288
الرقابة البرلمانية على الموازنة العامة فى اإلسالم
-19صبــرى عبــد العزيــز ،املاليــة العامــة دراســة مقارنــة إســامياً ،احمللــة الكبــرى ،مكتبــة
الصفــا 2010 ،
-20صبــرى عبــد العزيــز ،مبــادئ االقتصــاد والتعــاون فــى الفكريــن الوضعــى واإلســامى ،احمللــة
الكبــرى ،مكتبــة الصفــا . 2008 / 2007 ،
-21عباس العقاد ،عبقرية الصديق 1385 ،هـ ـ 1965م .
-22عباس العقاد ،عبقرية عمر 1399 ،هـ 1979 ،م .
-23عبــد العزيــز دنيــا ،العدالــة العمريــة ومبــادئ اإلســام ،القاهــرة ،مجمع البحوث اإلســامية
،سلســلة البحــوث اإلســامية 1408 ،هـــ 1988 ،م ،الســنة .19
-24عــزت البرعــى ،د.مصطفــى حســنى ،محاضــرات فــى مبــادئ االقتصــاد املالــى ،بــدون مــكان
نشــر أو ناشــر 1999 / 89ص 591
-25عــوف الكفــراوى ،الرقابــة املاليــة فــى االســام ،االســكندرية ،مؤسســة شــباب اجلامعــة ،
1983ص 11
-26عــوف الكفــراوى ،سياســة اإلنفــاق العــام فــى اإلســام وفــى الفكــر املالــى احلديــث ،دراســة
مقارنــة ،اإلســكندرية ، 1983مؤسســة شــباب اجلامعــة .
-27قطــب إبراهيــم ،النظــم السياســية املاليــه لعمــر بــن اخلطــاب ،القاهــرة ،الهيئــة املصريــة
العامــة للكتــاب .1984 ،
-28قطب إبراهيم ،النظم املالية فى اإلسالم ،القاهرة ،الهيئة املصرية العامة للكتاب .
-29املاوردى ،األحكام السلطانية والواليات الدينية ،القاهرة ،دار النصر 1983 ،
-30املاوردى،املرجــع الســابق ،ود .عــوف الكفــراوى ،الرقابــة املاليــة يف األســام ،مرجــع ســابق
ص .99
-31محمد حسني هيكل ،أبو بكر الصديق 1402 ،هـ ـ 1982م
-32محمد حلمى مراد ،مالية الدولة ،
-33محمــد ضيــاء الديــن الريس،اخلــراج لنظــم املاليــة للدولــة اإلســامية،القاهرة ،مكتبــة دار
التــراث 1985 ،
-34محمــد فــؤاد عبــد الباقــى ،املعجــم املفهــرس أللفــاظ القــرآن الكرمي،القاهــرة،دار احلديــث،
.1996
-35يوسف القرضاوى ،فقه الزكاة ،بيروت ـ لبنان ـ جـ 2