You are on page 1of 3

‫تفسير سورة البروج عدد آياتها ‪ ( 22‬آية ‪) 22-1‬‬

‫وهي مكية‬

‫{ َو الَّس َم اِء َذ اِت اْلُب ُر وِج } أي‪[ :‬ذات] المن ازل المش تملة على من ازل الش مس والقم ر‪ ،‬والك واكب المنتظم ة في س يرها‪،‬‬
‫على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة اهلل تعالى ورحمته‪ ،‬وسعة علمه وحكمته‪.‬‬

‫{ َو اْلَي ْو ِم اْلَمْو ُع وِد } وه و ي وم القيام ة‪ ،‬ال ذي وع د اهلل الخل ق أن يجمعهم في ه‪ ،‬ويض م في ه أولهم وآخ رهم‪ ،‬وقاص يهم‬
‫ودانيهم‪ ،‬الذي ال يمكن أن يتغير‪ ،‬وال يخلف اهلل الميعاد‪.‬‬

‫{ َو َش اِهٍد َو َم ْش ُهوٍد } وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي‪ :‬مبصر ومبصر‪ ،‬وحاضر ومحضور‪ ،‬وراء ومرئي‪.‬‬

‫والمقسم عليه‪ ،‬ما تضمنه هذا القسم من آيات اهلل الباهرة‪ ،‬وحكمه الظاهرة‪ ،‬ورحمته الواسعة‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن المقسم عليه قوله { ُقِتَل َأْص َح اُب اُأْلْخ ُد وِد } وهذا دعاء عليهم بالهالك‪.‬‬

‫و { األخدود } الحفر التي تحفر في األرض‪.‬‬

‫وكان أصحاب األخدود هؤالء قوًم ا كافرين‪ ،‬ولديهم قوم مؤمنون‪ ،‬فراودوهم للدخول في دينهم‪ ،‬فامتنع المؤمنون من‬
‫ذلك‪ ،‬فشق الكافرون أخدوًد ا [في األرض]‪ ،‬وقذفوا فيها النار‪ ،‬وقعدوا حولها‪ ،‬وفتنوا المؤمنين‪ ،‬وعرضوهم عليها‪ ،‬فمن‬
‫اس تجاب لهم أطلق وه‪ ،‬ومن اس تمر على اإليم ان ق ذفوه في الن ار‪ ،‬وه ذا في غاي ة المحارب ة هلل ولحزب ه المؤم نين‪ ،‬وله ذا‬
‫لعنهم اهلل وأهلكهم وتوعدهم فقال‪ُ { :‬قِت َل َأْص َح اُب اُأْلْخ ُد وِد } ثم فسر األخدود بقوله‪ { :‬الَّن اِر َذ اِت اْلَو ُق وِد ِإْذ ُهْم َع َلْي َه ا‬
‫ُقُع وٌد َو ُهْم َع َلى َم ا َيْفَع ُل وَن ِب اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ُش ُهوٌد } وه ذا من أعظم م ا يك ون من التج بر وقس اوة القلب‪ ،‬ألنهم جمع وا بين‬
‫الكف ر بآي ات اهلل ومعان دتها‪ ،‬ومحارب ة أهله ا وتع ذيبهم به ذا الع ذاب‪ ،‬ال ذي تنفط ر من ه القل وب‪ ،‬وحض ورهم إي اهم عن د‬
‫إلقائهم فيها‪ ،‬والحال أنهم م ا نقموا من المؤم نين إال خص لة يمدحون عليها‪ ،‬وبه ا س عادتهم‪ ،‬وهي أنهم كانوا يؤمنون‬
‫باهلل العزيز الحميد أي‪ :‬الذي له العزة التي قهر بها كل شيء‪ ،‬وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله‪.‬‬

‫{ اَّلِذ ي َلُه ُم ْلُك الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض } خلًقا وعبيًد ا‪ ،‬يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه ‪َ { ،‬و الَّل ُه َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه يٌد‬
‫} علًم ا وسمًع ا وبصًر ا‪ ،‬أفال خاف هؤالء المتمردون على اهلل‪ ،‬أن يبطش بهم العزيز المقتدر‪ ،‬أو ما علموا أنهم جميعهم‬
‫مماليك هلل ‪ ،‬ليس ألحد على أحد سلطة‪ ،‬من دون إذن المالك؟ أو خفي عليهم أن اهلل محيط بأعمالهم‪ ،‬مجاز لهم على‬
‫فعالهم ؟ كال إن الكافر في غرور‪ ،‬والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل‪.‬‬

‫ِم ِت‬ ‫ِم ِن‬ ‫ِإ َّلِذ‬


‫ثم وعدهم‪ ،‬وأوعدهم‪ ،‬وعرض عليهم التوبة‪ ،‬فقال‪َّ { :‬ن ا يَن َفَتُنوا اْلُم ْؤ يَن َو اْلُم ْؤ َنا ُثَّم َلْم َيُتوُبوا َفَلُهْم َع َذ اُب َج َهَّنَم‬
‫َو َلُهْم َع َذ اُب اْلَح ِر يِق } أي‪ :‬العذاب الشديد المحرق‪.‬‬

‫قال الحسن رحمه اهلل‪ :‬انظروا إلى هذا الكرم والجود‪ ،‬هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته‪ ،‬وهو يدعوهم إلى التوبة‪.‬‬

‫ِذ يَن آَم ُن وا } بقل وبهم { َو َع ِم ُل وا‬ ‫ولم ا ذك ر عقوب ة الظ المين‪ ،‬ذك ر ث واب المؤم نين‪ ،‬فق ال‪ِ { :‬إَّن اَّل‬
‫ِل‬ ‫ِت‬ ‫ِم‬ ‫ِل ِت‬
‫} ال ذي حص ل ب ه الفوز برض ا اهلل‬ ‫الَّص ا َح ا } بج وارحهم { َلُهْم َج َّن اٌت َتْج ِر ي ْن َتْح َه ا اَأْلْن َه اُر َذ َك اْلَف ْو ُز اْلَك ِب يُر‬
‫ودار كرامته‪.‬‬

‫{ ِإَّن َبْط َش َر ِّب َك َلَش ِد يٌد } أي‪ :‬إن عقوبته ألهل الجرائم والذنوب العظام [لقوية] شديدة‪ ،‬وهو بالمرصاد للظالمين كما‬
‫قال اهلل تعالى‪َ { :‬و َك َذ ِلَك َأْخ ُذ َر ِّبَك ِإَذ ا َأَخ َذ اْلُقَر ى َو ِه َي َظاِلَم ٌة ِإَّن َأْخ َذ ُه َأِليٌم َش ِد يٌد }‬

‫{ ِإَّنُه ُهَو ُيْب ِد ُئ َو ُيِع ي ُد } أي‪ :‬هو المنفرد بإبداء الخلق وإ عادته‪ ،‬فال مشارك له في ذلك ‪َ { ،‬و ُه َو اْلَغ ُف وُر } الذي يغفر‬
‫الذنوب جميعها لمن تاب‪ ،‬ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب‪.‬‬

‫{ اْل َو ُد وُد } الذي يحب ه أحباب ه محب ة ال يش بهها شيء فكم ا أن ه ال يش ابهه ش يء في ص فات الجالل والجم ال‪ ،‬والمع اني‬
‫واألفعال‪ ،‬فمحبته في قلوب خواص خلقه‪ ،‬التابعة لذلك‪ ،‬ال يشبهها شيء من أنواع المحاب‪ ،‬ولهذا كانت محبته أصل‬
‫العبودي ة‪ ،‬وهي المحب ة التي تتقدم جميع المح اب وتغلبها‪ ،‬وإ ن لم يكن غيرها تبًع ا لها‪ ،‬كانت عذاًبا على أهلها‪ ،‬وهو‬
‫تعالى الودود‪ ،‬الواد ألحبابه‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬يِح ُّبُهْم َو ُيِح ُّبوَن ُه } والمودة هي المحبة الصافية‪ ،‬وفي هذا سر لطيف‪،‬‬
‫حيث قرن { الودود } بالغفور‪ ،‬ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى اهلل وأنابوا‪ ،‬غفر لهم ذنوبهم وأحبهم‪ ،‬فال‬
‫يقال‪ :‬بل تغفر ذنوبهم‪ ،‬وال يرجع إليهم الود‪ ،‬كما قاله بعض الغالطين‪.‬‬

‫بل اهلل أفرح بتوبة عبده حين يتوب‪ ،‬من رجل له راحلة‪ ،‬عليها طعامه وشرابه وما يصلحه‪ ،‬فأضلها في أرض فالة‬
‫مهلكة‪ ،‬فأيس منها‪ ،‬فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت‪ ،‬فبينما هو على تلك الحال‪ ،‬إذا راحلته على رأسه‪ ،‬فأخذ‬
‫بخطامها‪ ،‬فاهلل أعظم فرًح ا بتوبة العبد من هذا براحلته‪ ،‬وهذا أعظم فرح يقدر‪.‬‬

‫فلله الحمد والثناء‪ ،‬وصفو الوداد‪ ،‬ما أعظم بره‪ ،‬وأكثر خيره‪ ،‬وأغزر إحسانه‪ ،‬وأوسع امتنانه"‬

‫{ ُذ و اْلَع ْر ِش اْلَم ِج ي ُد } أي‪ :‬ص احب الع رش العظيم‪ ،‬ال ذي من عظمت ه‪ ،‬أن ه وس ع الس ماوات واألرض والكرس ي‪ ،‬فهي‬
‫بالنس بة إلى الع رش كحلق ة ملق اة في فالة‪ ،‬بالنس بة لس ائر األرض‪ ،‬وخص اهلل الع رش بال ذكر‪ ،‬لعظمت ه‪ ،‬وألن ه أخص‬
‫المخلوق ات ب القرب من ه تع الى‪ ،‬وه ذا على ق راءة الج ر‪ ،‬يك ون { المجي د } نعت ا للع رش‪ ،‬وأم ا على ق راءة الرف ع‪ ،‬ف إن‬
‫المجيد نعت هلل ‪ ،‬والمجد سعة األوصاف وعظمتها‪.‬‬

‫{ َفَّعاٌل ِلَم ا ُيِر يُد } أي‪ :‬مهما أراد شيًئا فعله‪ ،‬إذا أراد شيًئ ا قال له كن فيكون‪ ،‬وليس أحد فعااًل لما يريد إال اهلل‪.‬‬

‫فإن المخلوقات‪ ،‬ولو أرادت شيًئا‪ ،‬فإنه ال بد إلرادتها من معاون وممانع‪ ،‬واهلل ال معاون إلرادته‪ ،‬وال ممانع له مما‬
‫أراد‪.‬‬

‫ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله‪ ،‬فقال‪َ { :‬هْل َأَتاَك َح ِد يُث اْلُجُن وِد ِفْر َع ْو َن َو َثُم ود } وكيف كذبوا‬
‫المرسلين‪ ،‬فجعلهم اهلل من المهلكين‪.‬‬

‫{ َب ِل اَّلِذ يَن َكَف ُر وا ِف ي َتْك ِذ يٍب } أي‪ :‬ال يزالون مستمرين على التكذيب والعناد‪ ،‬ال تنفع فيهم اآليات‪ ،‬وال تجدي لديهم‬
‫العظات‪.‬‬
‫{ َو الَّلُه ِم ْن َو َر اِئِه ْم ُم ِح يٌط } أي‪ :‬قد أحاط بهم علًم ا وقدرة‪ ،‬كقوله‪ِ { :‬إَّن َر َّبَك َلِباْلِم ْر َص اِد } ففيه الوعيد الشديد للكافرين‪،‬‬
‫من عقوبة من هم في قبضته‪ ،‬وتحت تدبيره‪.‬‬

‫{ َب ْل ُهَو ُقْر آٌن َم ِج يٌد } أي‪ :‬وسيع المعاني عظيمها‪ ،‬كثير الخير والعلم‪.‬‬

‫{ ِف ي َلْو ٍح َم ْح ُفوٍظ } من التغيير والزيادة والنقص‪ ،‬ومحفوظ من الشياطين‪ ،‬وهو‪ :‬اللوح المحفوظ الذي قد أثبت اهلل فيه‬
‫كل شيء‪.‬‬

‫وهذا يدل على جاللة القرآن وجزالته‪ ،‬ورفعة قدره عند اهلل تعالى‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

You might also like