Professional Documents
Culture Documents
الشافعي ريض
حمتويات الكتاب:
الباب األول :اإلمام الشافعي ،وفيه :الفصل األول :ترمجة الشافعي ،الفصل الثاين :علوم
الباب الثاين :املذهب الشافعي ،وفيه :الفصل األول :التطور التارخيي للمذهب وعلامؤه،
كتاب :الشافعي للعالمة حممد أبو زهرة ،لكنه كان عبارة عن جمموعة من املحارضات لطلبته
يف دار العلوم؛ ولذلك كان العزو وذكر املراجع قليال جدا ،كذلك مل يتعرض إىل التطور
كتاب :الشافعي فقيه السنة األكرب ،للعالمة عبد الغني الدّ قر ،وفيه ترمجة وافية مف ّصلة لإلمام
أقامتها املنطمة اإلسالمية للرتبية والعلوم الثقافية يف ماليزيا ،لكن أبحاثه متداخلة ،وفيها
كتاب :الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد ،ألمحد نحراوي اإلندونييس ،وهو رسالة دكتوراة،
كتاب :الشافعي ومذهبه القديم واجلديد ضمن املنهاج للنووي ،لسلوان عبد اخلالق عيل،
وهي رسالة ماجستري ،وفيها مقارنة بني أقوال الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد من خالل
أيضا.
كتاب املنهاج للنووي ،وهي غري مطبوعة ً
كتاب :الشافعي وأثره يف أصول الفقه ،حسن حممد سليم ،وهي رسالة دكتوراة ،وفيها مقارنة
أيضا.
بني أصول الشافعية وغريهم يف معظم مسائل أصول الفقه ،وهي غري مطبوعة ً
كتاب :الشافعي وأثره يف تأصيل قواعد علم األصول ،أمحد عبطان عباس ،وهي رسالة
ماجستري ،وفيها أصول الشافعي مع يشء من مقارنة بينها وبني أصول غريه ،وهي غري
أيضا.
مطبوعة ً
وهاتان الرسالتان األخريتان جعالين ال أكتب يف هذا الكتاب عن أصول الشافعي ،جتنبا
للتكرار؛ إذ األصل يف البحث العلمي اإلضافة ال اإلعادة ،فقد تطبع الرسالتني أو إحدامها.
الفصل األول :سرية اإلمام الشافعي
مالمح عرص الشافعي سياس ّيا :ولد الشافعي سنة 150هـ ،وتويف سنة 204هـ ،يعني ولد
ومات يف الصدر األول من عرص الدولة العباسية ،فقد عارص ستة من خلفاء دولة بني
العباس :أبو جعفر املنصور ،وحممد املهدي بن أيب جعفر املنصور ،وموسى اهلادي بن حممد
املهدي ،وهارون الرشيد بن حممد املهدي ،وحممد األمني بن هارون الرشيد ،وعبد اهلل املأمون
بن هارون الرشيد .وكانت فرتهتم فرتة استقراء سيايس نسب ّيا ،فالدولة باسطة سلطاهنا يف
الداخل ،وهياهبا األعداء يف اخلارج ،ففي الداخل قضوا عىل من تبقى من اخلوارج ،وكذلك
قضوا عىل حماوالت أبناء عمومتهم من العلوية يف اخلروج ،والتي كان أقواها ثورة النّفس
الزك ّية ،فقد قتل سنة 145هـ ،وكذلك قضوا عىل حركات الزنادقة لالنفصال عن الدولة
القفقاس ،وغريهم .فقد كان هؤالء اخللفاء يسريون عىل هنج أيب العباس الس ّفاح يف قمع
املعارضة ،ولذلك كا نت كل األقاليم تتبع بغداد تباعا حقيقيا ال صوريا ،باستثناء الدولة
األموية يف األندلس .حاشا بعض اخلالفات بني أفراد األرسة العباسية نفسها ،كاخلالف بني
األخوين األمني واملأمون الذي انتهى بمقتل األمني ومبايعة املأمون ،واخلالف بني املأمون
وعمه إبراهيم بن املهدي الذي خرج عليه ،لكن استقر األمر للمأمون بعدها .وأما من اخلارج
ّ
تسمى
ّ فكانت الدولة اإلسالمية خيشاها اجلميع ،وكانت هلا محالت عسكرية منتظمة
بالصوائف ،يوجهوهنا إىل الروم خاصة يف كل صيف لتقويض سلطاهنم ،ومحلهم عىل دفع
اجلزية ،وكان اخللفاء يشاركون بأنفسهم يف هذه احلمالت ،وال ّ
أدل عىل قوة الدولة حينئذ من
أنه ملا أرسل نقفور ملك الروم هلارون الرشيد بأمره بر ّد اجلزية التي أخذها املسلمون من
الروم ،فغضب هارون وأرسل إليه :من هارون أمري املؤمنني إىل نقفور كلب الروم ،وقد قرأت
كتابك يا ابن الكافرة ،واجلواب ما تراه دون ما تسمعه ،والسالم ،ثم سار إليه وغزاه وفرض
عليه اجلزية ،فاخلالصة :أن هذه الفرتة كانت مستقرة سياسيا ومنتعشة اقتصاديا ،وهذا كله
مالمح عرص الشافعي علم ّيا :كان خلفاء بني العباس يغدقون األموال والعطايا عىل أهل
العلم يف سائر الفنون ،وأول من س ّن هذه السنّة حممد املهدي ،ولذلك كان العلامء يشدّ ون إليه
الرحال من كل بلد ،وتابعه عىل ذلك ولده هارون الرشيد ،وكذلك املأمون بن هارون .كذلك
بنوا املكتبات العا ّمة ،ويف مقدمتها :دار احلكمة يف بغداد أسسها هارون الرشيد .كذلك فتحوا
جمالسهم هم والوالة والوزراء أمام العلامء من شتى الفنون ،فكان جملس املأموم مثال ساحة
واسعة للجدال واملناظرة؛ ولذلك كان هذا العرص هو عرص التدوين بعد أن كان يف عرص
األمويني عرص التلقي واالستامع ،فتاميزت العلوم عن بعضها وظهر االختصاص ،ف ً
مثال:
فدون
دونوا الفقه ّ
يدونون السنّة فظهر موطأ مالك يف هذا العرص ،والفقهاء ّ
املحدّ ثون أخذوا ّ
دون الرسالة يف علم أصول الفقه .ومن
حممد بن احلسن الشيباين كتبه ،وكذلك الشافعي ّ
يّست التدوين :استجالب الورق ،فقد كانوا من قبل يكتبون يف اجللود
األسباب التي ّ
والقراطيس املصنوعة من ورق الربدي يف مرص ،فقد أنشأ الفضل بن حيي الربمكي وزير
حركة الرتمجة نتيجة اتساع رقعة الدولة اإلسالمية – حدود الصني رشقا وأطراف املغرب
غربا -وضمت خليطا من األعراق واألجناس من اهلنود والرتك والروم والفرس والرببر،
وقد شاركوا مجيعا يف بناء احلضارة اإلسالمية ،ونتيجة لذلك نشأت تيارات فكرية وسياسية
متقابلة ،فظهرت الشيعة عقد ّيا وفقه ّيا بعد أن كانت فرقة سياسية يف العرص األموي ،ثم
انقسمت نفسها إىل إمامية وزيدية وإسامعيلة وغريها .وظهر املعتزلة كمذهب فكري ،ثم
حتولت إىل فرقة هلا أصوهلا اخلمسة :التوحيد ،والعدل ،والوعد والوعيد ،واملنزلة بني املنزلتني،
ّ
وتقربوا
واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وأذاعوا علم الكالم ،وناظروا عىل معتقداهتمّ ،
وقرهبم ،وأخذ
خصوصا املأمون بن الرشيد الذي اعتنق مذهبهم وأكرمهم ّ
ً من جمالس اخللفاء
يمتحن العلامء يف قوهلم بخلق القرآن ،وجعلها قضية أساسية يف حياة املجتمع .وكذلك حتول
مناطقة اليونان التي عرفت بعد ترمجة كتبهم إىل العربية ،فتالقحت األفكار ونضجت امللكات
الفقهية املثمرة ،وأن علم الفقه استنبط من خالل هذه املناظرات ،وأن هذا العرص كان مستقرا
سياسيا ،ومزدهرا اقتصاديا ،ورعت السلطة العلامء ،وظهرت الفرق ،ونشطت الرتمجة
وتدوين العلوم.
نسب اإلمام الشافعي :هو اإلمام أبو عبد اهلل ،حممد ،بن إدريس ،بن العباس ،بن عثامن ،بن
شافع ،بن السائب ،بن عبيد ،بن عبد يزيد ،بن هاشم ،بن امل ّطلب ،بن عبد مناف ،املطلبي
القريش .واشتهر باسمه أكثر مما اشتهر بكنيته ،خالفا ملا اشتهر به اإلمام أبو حنيفة .وعليه
وأما أبو جدّ ه :عثامن بن شافع فقد عاش إىل خالفة أيب العباس السفاح ،وقام يف وجهه ملا أراد
إخراج بني املطلب من اخلمس الوارد يف قوله تعاىل :واعلموا أنام غنمتم من يشء .وإفراده
لبني هاشم ،فحمله عىل إبقائه كام كان يف زمن النبي صىل اهلل عليه وس ّلم ،والقصة إن ّ
صحت
مشتهرا.
ً فإنام تد ّلل عىل قرشية نسب ذرية عثامن بن شافع وأن هذا النسب كان
عم النبي صىل اهلل عليه قوهلم متأخرا عىل عرص اإلمام -من ّ
أن شاف ًعا كان موىل أليب هلب ّ
وسلم ،فطلب من عمر أن جيعله من موايل قريش فامتنع ،فطلب من عثامن ففعل ،وعليه فذر ّية
شافع بن السائب من املوايل ال من قريش ،وقد أطال الفخر الرازي يف ر ّد هذا الزعم.
فنال رشف صحبته ،وأ ّمه هي الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف ،أخت عبد املطلب بن هاشم
عم عبد املطلب بن هاشم ،وهو الذي ر ّباه فأضيف إليه بعدما
وأما املطلب بن عبد مناف ،فهو ّ
غزة ودفن فيها ،وكان املطلب وهاشم ابنا عبد مناف شقيقني
مات أبوه هاشم يف رحلة إىل ّ
متصادقني متحابني ،واستمرت املصادقة بني أوالدمها يف اجلاهلية واإلسالم ،خال ًفا ملا كان
مع ذر ّية عبد شمس بن عبد مناف جدّ األمويني ،ونوفل بن عبد مناف جدّ جبري بن مطعم.
ورشف نسب الشافعي من جهتني :األوىل :كونه قرشيا وهي منزلة ليست ألحد من األئمة
الثانية :كونه مطلب ّيا ،فعند البخاري عن جبري بن مطعم قال :مشيت أنا وعثامن بن عفان،
أعطيت بني امللطب وتركتنا ،وإنام نحن وهم منك بمنزلة واحدة – يريد
َ فقال :يا رسول اهلل،
ً
ونوفال إخوة كلهم أبناء عبد مناف -فقال النبي صىل اهلل عليه أن هاشام واملطلب وعبد شمس
وسلم :إنام بنو هاشم وبنو املطلب يشء واحد .وهذه املنقبة لبني املطلب ألهنم كانوا
متنارصين مع بني هاشم يف اجلاهلية واإلسالم ،فقد حورصوا معهم يف شعب أيب طالب ،ومل
يكن ذلك لبني عبد شمي وال بني نوفل .وقد استنبط من ذلك :رشعية أخذ بني املطلب من
سهم ذوي القريب مع بني هاشم دون غريهم ،وعدم جواز أخذهم من الصدقات ،وأهنم من
النبي حممد صىل اهلل عليه وسلم فتشملهم الصالة عىل آله.
آل ّ
أ ّم الشافعي :كانت س ّيدة من قبيلة األزد ،ومل يقف هلا عىل اسم ،وأما الرواية التي تقول إن أ ّمه
ومل يكن معها يشء تعطيه املع ّلم ،لكن ريض املعلم أن خيلفه إذا قامّ ،
فلام مجع القرآن دخل
املسجد احلرام ،وكان يسمع احلديث واملسألة فيحفظها ،ومل يكن عنده قراطيس فكان ينظر
(جرة ضخمة).
جرة فاجتمع عنده ُح ّبان ّ
إىل العظم فيأخذه فيكتب فيه ،فإذا امتأل طرحه يف ّ
زمان والدة اإلمام الشافعي ومكاهنا :ولد اإلمام سنة 150هـ ،وتك ّلفت بعض الروايات يف
جعل مولده يوم مات اإلمام أبو حنيفة ،وهذا غري صحيح ،لك ّن أبا حنيفة مات يف السنة التي
ولد فيها الشافعي ،لكن رفض ابن حجر تضعيف تلك الروايات التي تقول إهنام ولدا يف نفس
اليوم ،وو ّفق بينها فقال :هذا اللفظ يقبل التأويل ،فإهنم يطلقون اليوم ويريدون مطلق الزمان.
غزة)،
بغزة ،ويف رواية :ولد بعسقالن (شامل ّ
وأما مكان مولده :فقول األكثرين :أنه ولد ّ
قديام
غزة وعسقالن بأنّه ً
وثالثة :أنّه ولد يف اليمن وهي ضعيفة ،ويمكن اجلمع بني روايتي ّ
بغزة
ولدت ّ
ُ أيضا بقول الشافعي:
وغزة قرية تتبعها ،ويمكن اجلمع ً
كانت عسقالن هي املدينة ّ
ثم حفظ أشعار العرب ،وموطأ مالك ،وكان حا ّد الذكاء رسيع احلفظ،
السابعة وقيل التاسعةّ ،
مجرد فراغه ،ففي هذه املرحلة أخذ
فكان إذا أمىل الشيخ عىل الطلبة حفظ ما يمليه عليهم ب ّ
قراء مكّة يف زمانه ،ومنه تل ّقى الشافعي
عن املقرئ إسامعيل بن عبد اهلل بن ُقسطنطني وكان من ّ
القرآن مسندً ا عن شيخه إىل رسول اهلل صىل اهلل عليه وس ّلم .ثم بعد أن اشتدّ عوده تر ّدد عىل
األقحاح الذين مل خيالط لساهنم العريب يشء من اللحن أو لغات العجم ،فحفظ أشعارهم
وأنساهبم وأخبارهم ،ومعلوم أن اللغة من أهم أدوات االجتهاد لفقه كالم اهلل تعاىل وكالم
بعرب ّيته التي كان يتك ّلم هبا مل ُيقدر عىل قراءة كتبه .كام تع ّلم منهم ً
أيضا علم األنساب
واألسامي والتواريخ ،وقد أقام عرشين سنة يتع ّلم العرب ّية وأ ّيام الناس ،وكان يقول يف ذلك:
ما أردت هبذا إال االستعانة عىل الفقه .ثم تف ّقه يف حلقات املسجد احلرام عىل يد أكابر العلامء
ّأو ًال :سفيان بن عي ْينة (من كبار تابعي التابعني) ،ومنه أخذ علم احلديث وف ْقه أهل احلجاز
الزنجي (ل ّقب بذلك حلمرته) ،ومنه أخذ الشافعي الفقه ،فقد كان
ثان ًيا :مسلم بن خالد َّ
الذي أذن له باإلفتاء وهو ابن مخس عرشة سنة .وهذا أعطاه ثقة كبرية جت ّلت بعد ذلك يف
دخوله عىل اإلمام مالك رمحه اهلل ،وعندما أيت به إىل هارون الرشيد ،وقوة مناظرته ملخالفية
املنورة) :اإلمام مالك ،رحل إليه املدينة وعمره 13سنة ،فقرأ عليه
املرحلة الثانية( :املدينة ّ
املوطأ ،لكنه مل يالزمه إال يف السنوات األخرية من حياة مالك ،أما قبل ذلك فكان يرت ّدد عليه
فقه عمر بن اخل ّطاب ريض اهلل عنه ،وقد ورث التابعون هذا العلم فكان الفقهاء ّ
السبعة :سعيد
ما بدأه عند سفيان ،وكان يف هذه الفرتة مالك ّيا يفتي بآراء وأقوال مالك ،وأما كتاب اختالف
مالك والشافعي فقد صنّفه الشافعي يف مرص بعد أكثر من عرشين عا ًما عىل صحبته ملالك،
ولذلك ال أوافق القول الذي يقول :إن الشافعي كان ال يرت ّدد يف خمالفة مالك يف حلقته رغم
صغر سنّه.
املرحلة الثالثة :رحلته إىل اليمن :كان الشافعي فقريا ،مل يرث ً
ماال ،ومل يشتغل بالتجارة أو
السنة ،وكان وايل الدولة الع ّباسية يف مكّة فأشار عليه بعض القرشيني أن
بن خالد يف نفس ّ
يصطحب الشافعي معه؛ فيوليه ً
عمال يتكسب منه ،فرحل إىل اليمن وعمره 29سنة ،وعمل
يف والية نجران باليمن ً
عمال له صلة بالقضاء ،وكان متقنًا لعمله ،حي ّبه الناس ،حتى كاد له
خمالطته للناس والتعرف عىل خبيئة نفوسهم ودخائل جمتمعاهتم ،وممن أخذ عنهم يف اليمن
من العلامء :هشام بن يوسف ،قايض صنعاء وفقيهها ،أخذ عن سفيان الثوري وغريه.
املرحلة الرابعة :العراقُ :محل الشافعي إىل بغداد بتهمة اخلروج مع العلويني عىل اخلليفة
هارون الرشيد ،وهذا هو السبب يف مغادرته لليمن وتركه للعمل فيها ،ثم نجا الشافعي من
هذه التهمة ووصله هارون بعد ذلك ،وكان ملحمد بن احلسن الشيباين دور يف ذلك ،فقد كانت
له مكانة مرموقة عند خلفاء بني العباس ،وكان يعرف اإلمام الشافعي ولقيه يف احلجاز،
وبعدها استوطن الشافعي العراق ومل يعد إىل اليمن أو احلجاز ،فأخذ فقه مدرسة أهل الرأي
حممد بن
التي كان معظم أعالمها يقيمون يف العراق عامة وبغداد والكوفة خاصة ،فالزم ّ
مدون فقه أيب حنيفة (كتب ظاهر الرواية :األصل،
الرقة ،وهو ّ
احلسن وكان قاض ًيا عىل ّ
واجلامع الصغري ،والكبري ،والسري الصغري ،والكبري ،والزيادات) ،وهو تلميذ أيب حنيفة ،كام
أيضا يف املدينة وهناك عرف الشافعي ،فالزمه الشافعي وأخذ عنه فقه أيب
تعلم من مالك ً
ملحمد بن احلسن.
عيل ملالك ،ثم ّ
حنيفة ،ويف ذلك يقول الشافعي :إين ألعرف األستاذ ّية ّ
األول :وكيع
أيضا الذين أخذ عنهم الشافعي غري حممد بن احلسنّ :
ومن أبرز العلامء يف العراق ً
بن اجلراح (من تابعي التابعني) ،وكان حمدّ ثا ،ويفتي بقول أيب حنيفة ،فأخذ عنه الشافعي،
شكوت إىل وكيع سوء حفظي ،فأرشدين إىل ترك املعايص .الثاين:
ُ وفيه يرجع الشعر املشهور:
الوهاب بن عبد املجيد الثقفي :وكان ثق ًة روى عنه الشافعي وأمحد .الثالث :إسامعيل بن
عبد َّ
إبراهيم البرصي (املشهور بابن ُعل َّية) ،وكان من أئمة احلديث والفقه ،وبقي الشافعي يف
وإن مل يكن خمال ًفا هلام يف كثري من األحكام ،لكن يف األصول وطريقة االستدالل ،وهذا هو
األهم ،أما املسائل نفسها التي انفرد فيها الشافعي عن األئمة الثالثة فريى ابن كثري
ّ الفارق
ُعرفت هذه املرحلة االجتهادية :باملذهب القديم له ،وعندما جاء إىل مرص كان :املذهب
ويف مكة قابل اإلمام أمحد الشافعي ،فالزمه ،وأخذ عنه الفقه ،وقد أكثر اإلمام أمحد يف الثناء
أيضا إسحاق بن راهويه (شيخ البخاري ومسلم) الذي مجع بني الفقه
عىل الشافعي ،كام قابل ً
واحلديث ،فأخذ عن اإلمام الشافعي ،لكنه كان ّ
أقل مما كان من اإلمام أمحد ،وذلك ظاهر يف
وقوع عدّ ة مناظرات بينه وبني الشافعي ،ولعل ذلك بسبب قرص املدة التي أخذ عنه فيها ،لكنه
بعد أن قرأ كتبه املرصية تأسف عىل ما فاته من الشافعي ،وظهر له عظيم علمه واجتهاده.
املرحلة السادسة :إىل العراق من جديد :سافر إىل بغداد بعد أن ّ
تويف مالك ،وبعد أن صار يف
جعفر املنصور ،وكان يفتي ويع ّلم ويناظر أصحاب املدارس األخرى ،فتجلت عظمة
فأحببت أن خيطئ.
ُ ناظرت أحدً ا
ُ أثبت رواة مذهبه القديم ،وهو الذي يروى قولته الشهرية :ما
يف هذه املرحلة ل ّقب الشافعي بنارص السنّة :فقد كتب ما ُعرف بعدُ بمذهبه القديم ،وهو كتاب
سمي األول
احلجة ،وكتاب والرسالة ،وقد أضاف إليها الكثري بعد ذهابه إىل مرص ،ولذلك ّ
ّ
بالرسالة القديمة ،واآلخر بالرسالة اجلديدة ،وقد كتب الرسالة بطلب من عبد الرمحن بن
مهدي ،فقد كان يظهر رأي مالك (عدم بطالن الوضوء باحلجامة ً
مثال) بالبرصة ،فأنكر عليه
الناس ،فاحتاج إىل قواعد عامة يف فهم األدلة ليحاججهم هبا ،فطلب منه أن يؤلف كتا ًبا يف
الرسالة وهو يف مكّة وأرسلها إىل ابن مهدي يف العراق ،لكن تظهر الروايات ّ
أن الشافعي قد
كتب الرسالة وهو يف العراق يف هذه الزيارة الثانية هلا .ولذلك ك ّله ّ
سمي بنارص السنّة؛ فقد
هبا ،أو لتشددهم باألخذ هبا ،ونحو ذلك .فاستطاع الشافعي أن خي ّلص أصحاب احلديث من
املرحلة السابعة :عودته إىل مكّة ثم إىل العراق مرة ثالثة ثم إىل مكّة :عاد الشافعي إىل مكّة بعد
(شهرا
ً أيضا قليال ،ثم عاد إىل العراق فأقام هبا ً
قليال ً أسس مذهبه القديم هناك ،فأقام بمكّة ً
أن ّ
املرة هبا،
واحدً ا) ،ثم غادرها ،وعاد إىل مكّة ،ومنها إىل مرص ،ولعل قرص مدة إقامته هذه ّ
بسبب غلبة العنرص الفاريس عىل العريب يف خالفة املأمون ،وتقريب املعتزلة ،ومعاداة خمالفيهم
وفتن االقتتال بني جند املأمون واألمني ،فنفر اإلمام الفقيه القريش إمام أهل السنة من هذه
أيضا يف هذا التن ّقل هو بحثه عن التالميذ األكفاء الذين حيملون علمه
البيئة ،ومن األسباب ً
الغزير ،خاصة مع سيادة مذهب أيب حنيفة يف العراق ،ومالك يف احلجاز ،وهذا ظاهر يف رأيه
وتأسفه أنه مل يقاب ْله رغم أنه يف الليث بأنه كان أفقه من مالك إال ّ
أن تالميذه مل يقوموا بهّ ،
عارصه ،فأراد الشافعي أن جيد من التالميذ من يقوموا به ،فسافر إىل مرص التي كانت تنعم
املرحلة الثامنة واألخرية :حياته يف مرص ووفاته فيها :وعندما كان الشافعي يف مكّة لقيه وايل
الدولة الع ّباسية عىل مرص ،فاستصحبه معه إليها ،وذلك كان يف أواخر سنة 199هـ ،فقىض
فيها 4سنوات ،وفيها نرش مذهبه اجلديد ،وكان أهل مرص قبل قدوم الشافعي عىل فرقتني:
فرقة تدين بمذهب أيب حنيفة ،واألخرى بمذهب مالك ،فأراد الشافعي أن يأيت بقول جديد
كتبه التي يف مرص؛ ألنه أحكمها ،ومل يكن قد أحكم التي يف العراق ،وهذا ك ّله رغم قرص املدة
التي أقامها يف مرص ،ومرضه الذي كان شديدً ا يف هذه املرحلة ،فقد مرض الشافعي بمرض
الباسور ،واشتدّ عليه حتى مات به نتيجة النزف الشديد واملتواصل ،حتى كان الدم يمأل
رساويله ومركبه وخ ّفه ،وقد فاضت روحه الرشيفة آخر أ ّيام رجب سنة 204هـ ،ليلة اجلمعة
بعد أن ّ
صىل املغرب ،ودفن يوم اجلمعة.
مصنّفاته :امل خترص (اخترصه من كالم الشافعي) ،والفرائض ،وهو من أبرز رواة املذهب
اجلديد ،وهو من املجتهدين ،وقد محل إىل اخلليفة الواثق ملا امتنع عن القول بخلق القرآن،
وسجن حتى مات ،وكان الشافعي يقدّ مه عىل بقية تالميذه ،وحييل عليه يف الفتوى ،وكان
يقول عنه :هذا لساين ،واستخلفه يف مرضه يف حلقة التدريس .الثاين :املُزين ،ومن مصنفاته:
اجلامع الكبري ،والصغري ،واملنثور ،واملسائل املعترب ،وأشهرها املخترص الصغري املشهور
بمخترص املزين ،فهو أصل الكتب املصنّفة عىل مذهب الشافعي فيام بعد ،وكان املزين صاحب
ّ
مستقل ،فام كان منه موافقه للمذهب الشافعي فهو من املذهب ال حمالة ،وما كان خمالفا مذهب
به قول اإلمام فهو من مذهبه ،وهذا من أعظم الدالئل عىل أن اإلمام كان من دعاة االجتهاد،
روايته مع رواية املزين ،وهو أطول تالميذ الشافعي عمرا وأكثرهم بعده مكثا ،ولذلك شدّ
إليه الرحال طل ًبا لإلسناد العايل ،وهو السبب يف تقدّ مه عىل املزين الذي مل يلبث كثريا بعد
للربيع مصنّفات ،بل اقترص عىل
الشافعي ،وحادثة سجنه كام سبق ووفاته فيه رمحه اهلل ،وليس ّ
أهم مقومات
رواية كتب الشافعي دون زيادة أو أن يكون له اختيارات خمالفة ،فهو من ّ
استقرار املذهب ،ومن كثرة مالزمته للشافعي الزمه إىل ثغر األسكندرية مراب ًطا ،فقد كان
الرمي يف صباه ،فرابط يف رمضان ليجمع بني فضائل الرباط والصيام والقيام،
الشافعي جييد ّ
وأحىص له الربيع ستني ختمة يف رمضان.
ّأو ًال :املحطات املؤثرة يف التكوين العلمي لإلمام الشافعيّ :أوهلا رعاية أ ّمه له ،فلم ترصفه إال
إال العلم ال إىل تعلم حرفة أو صناعة رغم يتمه وفقره ،ثم تل ّقيه اللغة عن قبائل العرب،
يف مكة عىل يد مسلم بن خالد الزنجي ،ثم صحبته ملالك يف املدينة ،وأخذه عنه الفقه
واحلديث ،ثم مالزمته ملحمد بن احلسن وأخذه عنه فقه أهل الرأي ،فالسفر كان حم ّببا إىل
اإلمام الشافعي ريض اهلل عنه ،لكنه مل يذهب إىل دمشق أو بالد فارس (إيران اليوم) ،أو بالد
ما وراء النهر (كازاخستان اليوم) ،أو بالد املغرب ،ورغم كثرة ما نزل يف هذه البالد من
جيلس يف حلقته
خاصة ال يعني اقتصاره عليهام ،فقد كان ُ
كلها ،وإبداعه يف الفقه واألصول ّ
إذا صىل الصبح فيجيئه أهل القرآن ،فإذا طلعت الشمس جاءه أهل احلديث ،فإذا ارتفت
الشمس قاموا واستوت احللقة للمذاكرة والنظر ،فإذا ارتفع الضحى جاء أهل العرب ّية
تريض الناس كلهم فال سبيل إليه ،فإذ كان كذلك فأخلص عملك ون ّيتك هلل عز وجل.
ينسبوه إ ّيل .ودخل عليه املزين يو ًما فوجده يصنّف فقال له :إن أصحاب مالك وأيب حنيفة
صنفوا الكتب الكثرية وجيتهدون أكثر من اجتهادك ،فقال له :أليس ترى ما نحن فيه؟! وكان
يتأذى بالبواسري ،ثم قال :نصنّف ويصنّفون ،وما كان هلل تعاىل يبقى إىل الدهر؛ ولذا ك ّله ذاع
اسمه ،وأصبح قدوة ملاليني املسلمني .ثان ًيا :امللكة الفقه ّية ،وهو االستعداد الفطري لتلقي
العلم وإبداعه فيه وذكاؤه ،وقد تب ّينها فيه اإلمام مالك رمحه اهلل ملا قدم عليه الشافعي وهو
والرتمجة ،وشيوع املناظرات .راب ًعا :العلامء الذين تل ّقى عنهم كمسلم بن خالد ،وحممد بن
حتّس عىل
احلسن ،ومالك ،وسفيان بن عيينة ،وغريهم؛ وقد أدرك اإلمام هذه النعمة؛ ولذا ّ
عدم مقابلته لإلمام الليث بن سعد.
ثال ًثا :إحاطته باللغة العربية وعلومها :وقد تقدّ م علم الشافعي باللغة وتل ّقيه إ ّياها عن قبائل
حجة يف
العرب حول مكّة ،فقد اشتغل فيها عرشين سنة ،وقد بقيت هذه الصفة فيه ،فأصبح ّ
ربد،
والفراء واألصمعي وامل ّ
ّ اللغة ،فهو ال ّ
يقل يف قوله عن فحول اللغة أمثال الكسائي
واخلليل ،وسيبويه ،واقتصاره عىل الفقه ال يدل عىل عدم رسوخه يف اللغة ،يقول أمحد:
الشافعي فيلسوف يف أربعة أشياء :يف اللغة ،واختالف الناس ،واملعاين ،والفقه .وقد أخرج
كثريا من الروايات املسندة للشافعي ّ
تدل عىل إحاطته باللغة وديوان العرب ،وذكر البيهقي ً
أن اإلمام أخطأ يف اللغة فيها ،ور ّدها ك ّلها ،ومن
الفخر الرازي عرشين شبهة وردت يف ّ
املباحث املفيدة يف هذا الشأن :كالم اإلمام الشافعي واالحتجاج به وجه من سعة العربية،
لعبد الفتاح احلموز ،ولغة اإلمام الشافعي وأثره يف نتاجه الفقهي واألصويل ،لس ّيد رزق
الطويل .والشافعي نفسه كان يقول :ما بلغني ّ
أن أحدً ا أفهم هلذا الشأن (اللغة العرب ّية) منّي،
وحري أن
ّ باملأثور والتفسري بالرأي وهذا واضح فيام نقل إلينا من تفسريه يف الرسالة واأل ّم،
يكون هذا ّ
حمل دراسة الباحثني ،ويف رسالة ماجستري :منهج اإلمام الشافعي يف تفسري آيات
ملحب الدين عبد السبحان وعظ ،ورسالة دبلوم الدراسات العليا للدكتور عبد
ّ األحكام
اخلالق نور :اإلمام الشافعي ومذهبه يف التفسري يف كتابيه األ ّم واألحكام .وهلذا ك ّله ترجم
تعرض الشافعي
املفّسين ،فقد ترجم له شمس الدين الداوودي ،وقد ّ
للشافعي يف طبقات ّ
فحري أن
ّ إىل تفسري أكثر من 200آية يف كتاب الرسالة ،و تفسري 443آية يف كتاب األ ّم،
جيمع تفسري الشافعي املنقول عنه يف كتاب واحد ،ويف هذا الشأن مجع الشيخ جمدي بن منصور
الشورى كتا ًبا بعنوان :تفسري اإلمام الشافعي ،لكنه مل يستوعب مجيع ما قاله اإلمام يف التفسري،
فهذه الدراسة حتتاج بحثا كدراسة الشيخ يّسي السيد ملا مجع أقوال ابن الق ّيم يف تفسري آيات
القرآن الكريم يف كتاب واحد وسامء :بدائع التفسري اجلامع لتفسري ابن القيم اجلوزية ،يف مخسة
جملدات .مع التنبيه أن اهتامم الشافعي بآيات األحكام أكثر من اهتاممه بغريها؛ مليله نحو الفقه
واألصول.
خامسا :سوخ قدمه يف علم احلديث رواية ودراية :أخذ اإلمام الشافعي احلديث عن كبار
ً
حمدثي عرصه كسفيان بن عيينة ومالك بن أنس ،وقد أجاد يف علم احلديث رواية ودراية ،أما
األصم
ّ رواية :فقد كان الشافعي حاف ًظا متقنًا من رواة األحاديث األثبات ،ومجع أبو العباس
خصوصا كتابه :اختالف احلديث الذي يعترب ّأول ما صنّف يف علم خمتلف احلديث
ً الشافعي
للسنة .وأ ّما احلديث دراية :فللشافعي أقوال معتربة يف نقد األسانيد ومتوهنا،
فيه عظيم فقهه ّ
وبيان رشوط احلديث الصحيح ،وقواعد اجلرح والتعديل والكالم عىل بعض الرواة ،بل ويف
علل احلديث سواء يف السند أو املتن ،ويف كتاب الرسالة باب باسم :العلل يف األحاديث،
أيضا روايات مسندة عن الشافعي ّ
تدل عىل متكّنه من هذا العلم ،وقد استدرك البيهقي ً
ّ وأخرج
الشافعي عىل سفيان ومالك يف بعض رواياهتام ً
علال دقيقة يف اإلسناد خفيت عليهام ،وقد أثنى
عظيام ،فمن
ً العالمة أمحد شاكر عىل مباحث علوم احلديث املوجودة يف كتاب الرسالة ثناء
أيضا أن جتمع أقوال الشافعي يف علوم احلديث دراية عىل غرار مجعها رواية ،وأن ُيلحق
املفيد ً
ً
شيخا كام قال بالكتاب ترمجة لشيوخ الشافعي الذين روى عنهم احلديث ،وعددهم 79
احلافظ بن حجر ،وكذلك الرواة الذين جرحهم أو عدهلم ،وللدكتور عبد الرزاق موسى أبو
البصل رسا لة ماجستري بعنوان :الرواية عىل اإلهبام والتعديل عليها عند اإلمام الشافعي يف
األحاديث املرفوعة .ورسالة املاجستري :اإلمام الشافعي ومكانته بني املحدّ ثني ،لعبد احلميد
عبطان ع ّباس ،وإن مل يصنّف الشافعي مصنفات مستقلة يف علم احلديث ،فقد أدرك أن الغاية
من علم احلديث هو الفقه ،فام احلكم عىل األحاديث إال لتقديمه إىل الفقه ليستنبط منه
األحكام الرشعية .ولكن توجد شبهات حول عدم متكّن الشافعي من احلديث ،نرسدها:
كام يمكن أن يقال :إن أمحد كان من أكابر حمدثي العراق ،فهو أعلم هبم ورواياهتم وأسانيدهم،
والشافعي مجع حديث احلجازيني ،فيكون أمحد مرج ًعا للشافعي يف معرفة روايات العراقيني
فينتظم الكالم بمعنى :إنكم أعلم روايات وأسانيد ورجال منطقتكم ،ولذلك قال :كوف ّيا كان
أو برص ّيا أو شام ّيا ،ومل يقل :مدن ّيا أو مكّيا أو يمن ّيا؛ ألنه قد أحاط هبا وأخذها عن علامئها.
ويمكن أن يقال أيضا :إنه قال ذلك ليعلم أمحد أن أصله الذي بنى عليه مذهبه هو االحاديث
التمسك هبا.
ّ ّ
واحلث عىل السنن
واآلثار ،فهو يقصد تعظيم ّ
الشبهة الثانية :قول حييى بن معني ملا سئل عن الشافعي :ليس بثقة ،وجياب عن ذلك :بأن هذه
الرواية مقابلة ألخرى يقول فيها ملا سئل عنه :دعنا ،لو كان الكذب له مطل ًقا ،لكانت مروءته
أيضا :إن هذه الرواية مل تثبت عن حييى وقد قال بذلك اإلمام
متنعه من الكذب ،كام يقال ً
صحت هذه الرواية فيقال بام قال
احلاكم النيسابوري ووافقه عىل ذلك احلافظ ابن حجر .وإذا ّ
يعرج عليه ،فيمن
رب :وكالم العلامء بعضهم يف بعض جيب أن ال يلتفت إليه ،وال ّ
ابن عبد ال ّ
أيضا موقف حييى السلبي من
صحت إمامته وعظمت بالعلم عنايته .وقد ر ّد اإلمام أمحد ً
ّ
الشافعي بعدم معرفته لعظيم قدره ،ويف ذلك يقول صالح بن أمحد :لقيني حييى فقال :أما
يستحي أبوك مما يفعل ،رأيته مع الشافعي ،والشافعي راكب وهو راجل وقد أخذ بركابه،
فقال أمحد لصالح ملا أخربه :قل له :إن أردت أن تتف ّقه فتعال فخذ بركابه اآلخر.
الشبهة الثالثة :عدم إخراج البخاري ومسلم ألحاديث الشافعي يف الصحيحني ،وهذا يدل
عىل عدم توثيقهام له .وقد ر ّد اخلطيب البغدادي هذه الشبهة فأ ّلف كتابا ّ
سامه :االحتجاج
بالشافعي فيام أسند إليه ،والرد عىل الطاعنني بعظيم جهلهم عليه ،وقد أجاب عن هذه الشبهة
أيضا فقال بام مفاده :البخاري ومسلم مل يطعنا يف الشافعي ،بل تركا الرواية
الفخر الرازي ً
فقط ،وترك الرواية ال يدل عىل اجلرح ،لكنّهام مدحاه ،واملدح ّ
يدل عىل التعديل ،فقد دافع
اإلمام مسلم عن الشافعي كثريا يف كتاب :االنتفاع ب َأهب السباع (وهو مفقود) دفا ًعا ال مثيل
ومن ذلك ك ّله يعلم جمانبة القايض عياض للصواب يف كتابه :ترتيب املدارك ،عن اإلمام أيب
حنيفة والشافعي ملا قارهنام باملك ،ملّا ر ّد إمامتهام يف احلديث ،وقال :إهنام ض ّعفهام أهل الصنعة،
ومل خيرج هلام أهل الصحيح ،وإن تفتيش الشافعي عن احلديث كان بتقليد منه لغريه .وقد
صنف البيهقي كتابا بعنوان :بيان خطأ من أخطأ عىل الشافعي ،مجع فيه 52حديثا رواه اإلمام
وبني أن العلل الواردة فيها ال تثبت عىل مرو ّياته ،فدافع فيه عن اإلمام ،وأضاف
الشافعيّ ،
اخللل املزعوم يف روايته إىل غريه ،وأورد عىل ذلك أد ّلة دامغة تثبت صدق دعواه.
سادسا :إحاطته بفقه اإلمام مالك بن أنس وأصوله :ومدرسة مالك يمتد جذورها إىل
ً
الصحابة الذين استطونوا احلجاز وماتوا فيه وهم أكثر الصحابة كعمر بن اخلطاب ،وعبد اهلل
بن عمر ،وعثامن بن عفان ،وزيد بن ثابت ،وأم املؤمنني عائشة ، ،وأبو هريرة ،وعنهم أخذ
فقهاء املدينة السبعة :سعيد بن املسيب ،وعروة بن الزبري ،والقاسم بن حممد بن أيب بكر،
وخارجة بن زيد بن ثابت ،وعبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة ،وسليامن بن يسار ،وأبو بكر بن عبد
الرمحن بن احلارث .وأخذ من التابعني صغار التابعني وتابعوا التابعني ومن أبرزهم :الزهري،
وربيعة الرأي ،وأبو الزناد ،وابن هرمز ،وحييى بن سعيد .وعن هؤالء اخلمسة وغريهم أخذ
اإلمام مالك فقه الصحابة وبرز فيه ،ومن مالك أخذ الشافعي فقهه ،فصاحبه مدة طويلة،
عنه :إذا ذكر العلامء فاملك النّجم ،فكان الشافعي حينها مالك ّيا ،أي :يفتي عىل قول مالك،
وليس املراد االنتساب للمذهب فام كان معرو ًفا وقتها ،وكان يناظر أصحاب أيب حنيفة يف
وتقريب املسالك ملعرفة أعالم مذهب مالك ،ثم بعد ذلك بدأ خيرج عىل أقوال مالك،
منواهلا ،ولسبق سحنون عندما مجع أجوبة مالك يف أسئلة الفقه يف 6200مسألة ،وهو ما
باملدونة ،ورواها سحنون عن عبد الرمحن بن القاسم العتقي عن مالك ،وأصبحت فيام
ّ يعرف
املدونة ،لكن
بعد أصل الفقه املالكي ،فالشافعي كان أقدر عىل مجع وتصنيف ما هو أفضل من ّ
ّ
استقل الشافعي عن مالك ومت ّيزت شخصيته اجتهاده قفز إىل ما أبعد من ذلك بكثري .وقد
االجتهادية وال أدل عىل ذلك من تصنيفه لكتاب :اختالف مالك والشافعي يف مرص ،عرض
فيه جانبا من املسائل التي اختلف فيها معه ،وقد أحىص الباحث مجال عبود الديب اجلزائري
يف رسالته للامجستري :خمالفات الشافعي ملالك يف املسائل األصول ّية 25مسألة أصولية بارزة
اختلف فيها الشافعي مع مالك ،فالشافعي مل خيالف مالكا يف الفروع فحسب بل األصول
متعصبي املالكية يف مرص آنذاك كفتيان بن أيب السمح وغريه ،وقال الشافعي يف
ّ هبا -بعض
وكان يقال هلم :قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ،فيقولون :قال مالك ،وأنه كان يقول:
يتبني له كرهت أن أفعل ذلك ،ولكني استخرت اهلل يف ذلك سنَةّ .
وكل من قرأ هذا الكتاب ّ
مدى إدراك اإلمام الشافعي بأصول مالك وفروعه ،ومن املفيد دراسة هذه املسائل من كتب
صحة ما ينسبه إليهم الشافعي ،وعظيم متكّنه وأمانته .ومما ّ
يدل ليتبني ّ
كاملدونة؛ ّ
ّ املالك ّية نفسها
عىل شخصية اإلمام مالك يف هذا الشأن هو املقارنة بينه وبني أشهب بن عبد العزيز العامري،
وكان قد صحب مالكًا ،والزمه يف الفرتة التي الزمه فيها الشافعي ،وكان قري ًبا من الشافعي
أيضا ،كام صحب عبد الرمحن بن القاسم ال ُعتقي (أثبت الناس يف فقه مالك) وانتهت
يف الس ّن ً
إىل أشهب الرياسة يف مرص بعد وفاة ابن القاسم ،وقد تالقى مع الشافعي مدّ ة األربع السنوات
التي قضاها يف مرص ،لكن أشهب بقي عىل مذهب مالك ،وكان الشافعي جي ّله ويقول فيه :ما
ساب ًعا :إحاطته بفقه أيب حنيفة وأصوله :نشأ فقه الكوفة بعد أن أمر عمر بن اخلاطب ببنائها
سنة 17هـ ،وأرسل إليها عبد اهلل بن مسعود ليعلم الناس أحكام اإلسالم ،وقد قوي مركز
عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنه ،فال شك أن عبد اهلل وعل ّيا
الكوفة العلمي جدا بعد انتقال ّ
من أكابر فقهاء الصحابة ،وقد أخذ الفقه عنهام كبار التابعني يف الكوفة كمّسوق بن األجدع،
والقايض رشيح ،وعبد الرمحن بن أيب ليىل ،وعلقمة بن قيس النخعي وهو أفقه من تلقى عن
عيل وابن مسعود ،وكان بعض الصحابة يستفتونه ،وعن هؤالء أخذ تابعوا التابعني الفقه
ّ
أيضا .وعن
الشعبي ً
ّ الذين من أبرزهم إبراهيم النخعي (ابن أخت علقمة) ،ومن طبقته
محاد أخذ الفقه :اإلمام أبو حنيفة الذي يعترب من كبار تابعي التابعني
أبيه وعن الشعبي ،وعن ّ
أسسه
وأحلقه بعضهم بصغار التابعني ،وانتهت إليه زعامة الفقه عىل مذهب أهل الرأي الذي ّ
عيل وابن مسعود .وعن أيب حنيفة أخذ الفقه تالميذ كثر
شيخ شيخه إبراهيم النخعي ،إىل ّ
(مدون فقه احلنفية) ،ومنه
ّ أشهرهم :زفر ،وأبو يوسف القايض ،وحممد بن احلسن الشيباين
أخذ الشافعي الفقه فأجاد يف متكّنه منه ،ويقول الذهبي يف بيان هذه السلسلة :فأفقه أهل
عيل بن أيب طالب ،وعبد اهلل بن مسعود ،وأفقه أصحاهبام :علقمة بن قيس ،وأفقه
الكوفة ّ
محاد :أبو
أصحابه :إبراهيم النخعي ،وأفقه أصحابه :محاد بن أيب سليامن ،وأفقه أصحاب ّ
حنيفة ،وأفقه أصحابه :أبو يوسف ،وانترش أصحاب أيب يوسف يف اآلفاق ،فأفقههم :حممد
بن احلسن ،وأفقه أصحابه :أبو عبد اهلل حممد بن إدريس الشافعي .فقد درس الشافعي يف
زيارته األوىل االضطرارية إىل العراق كتب حممد بن احلسن ،ودرس عنه مشافهة ،وذلك بأنه
سمع بعض كتب حممد بن احلسن (كتب ظاهر الرواية التي ذكرناها من قبل) ،واستعار منه
الشافعي متأ ّدبا مع شيخه ،فكان يثني عليه الثناء اجلميل ،وكان يقول عنه :ما رأت عيناي
مثل حممد بن احلسن ،ومل تلد النساء يف زمانه مثله .وقد أعجب الشافعي بفقه أهل العراق ويف
أيضا ً
ناقال عن مالك ملا سئل عن ذلك يقول :من أراد الفقه فهو عيال عىل أيب حنيفة ،ويقول ً
أيب حنيفة :لو جاء إىل أساطينكم هذه (يعني السواري يف املسجد) فقايسكم عىل أهنا خشب،
ومن دالئل إحاطة الشافعي بفقه احلنف ّية وأصوهلم أنّه صنّف ثالثة كتب يف هذا الشأنّ ،أوهلا:
عيل وعبد اهلل بن مسعود ريض اهلل عنهام ،وله اسم آخر :كتاب ما خالف
كتاب اختالف ّ
عيل وابن مسعود التي خالفهام فيه
العراق ّيون عل ّيا وعبد اهلل ،وقد عرض فيه اجتهادات ّ
مرجحا ما يأخذ به باألد ّلة،
أصحاب أيب حنيفة ،يروهيا بسنده إليهام ،ثم يع ّقب هو باجتهاده ّ
وكان سبب تصنيفه هلذا الكتاب ّ
أن أصحاب أيب حنيفة ملا كانوا يناظرونه كانوا يقولون له رأي
الصحابة هي األقوى يف هذه املسائل ،وإن كان األكثر هو بأهنم رأوا ّ
أن أقوال غريمها من ّ ّ
األخذ بآرائهام ،وهذا ّ
يدل عىل إحاطته رمحه اهلل بفقهه التام ألهل العراق ومرجع ّيتهم.
الكتاب الثاين :اختالف أيب حنيفة وابن أيب ليىل ،وله اسم آخر :اختالف العراقيني ،وأصل
الكتاب أليب يوسف القايض مجع فيه ما اختلف فيه أبو حنيفة مع ابن أيب ليىل ،يروي ذلك
باألسانيد إ ليهام ،مع رواية بعض األحاديث واآلثار املسندة ،ويشء من اجتهاده يف املسائل،
وقد روى حممد بن احلسن هذا الكتاب ،ثم جاء الشافعي فأعاد مجع الكتاب ،ورتّبه عىل أبواب
الفقه ،وزاد فيه اجتهاداته هو ،يف الرتجيح بني األقوال ،أو اخلروج بقول جديد ،مد ّعام ذلك
ك ّله باألد ّلة ،وكان يمكن للشافعي أن ينتقي غري أيب حنيفة وأيب ليىل من العراقيني كسفيان
علقمة النخعي عن ابن مسعود .وتل ّقى حممد بن أيب ليىل (وهو أكرب سنّا من أيب حنيفة) عن
التابعني وصغارهم يف العراق والكوفة خاصة قد أضافت الكثري إىل فقه الصحابيني اجلليلني،
مما أدى إىل متايز فقه أيب حنيفة عن ابن أيب ليىل ،وإن احتدت املدرسة .كذلك من األسباب التي
دعت الشافعي الختيار اختالفهام حتديدً ا أن ابن أيب ليىل توىل القضاء يف الكوفة للدولة
العباسية ،والقضاء يمثل اجلانب التطبيقي للفقه ،بينام قام أبو حنيفة بالتدريس واإلفتاء وهو
اجلانب النظري للفقه ،ورفض القضاء ،وقد اشتهرت بعض احلوداث التي استدرك فيها أبو
حنيفة عىل أقضية ابن أيب ليىل ،وهذا ك ّله ّ
يدل عىل ذكاء الشافعي يف اختيار أيب حنيفة وابن أيب
حممد ابن احلسن عىل أقوال إمامه ،وخمالفاته له يف بعضها ،ثم يذكر الشافعي رأيه مع دليله،
وهو أقدم كتاب وصلنا يف فقه الديات والقصاص املقارن ،وهو ّ
دال بطبيعة احلال عىل متكّن
الشافعي من فقه احلنفية وأدلتهم وأصوهلم ،ورغم ذلك فالشافعي مل يكن حنف ّيا ،وكثرت
خمالفته هلم؛ ولذا مل يرتجم له أحدٌ يف كتبهم يف طبقات فقهائهم ،وهذا تقدير منهم ملكانته
العلمية واالجتهادية املرموقة ،فأثناء وجود الشافعي يف العراق وخالل عرضه ملذهبه القديم
وتدوينه له كان شديد التأثري حينها بفقه مالك ،حتى إنه كان يقول :أبو حنيفة يضع ّأول املسألة
خطأ ثم يقيس الكتاب ك ّله عليها .وقال :لو أن أبا حنيفة بنى عىل أصول أهل املدينة لكان
الناس عليه ً
عياال يف الفقه ،ولكنه بنى عىل أصول هي يف بعض األحوال أضعف من الفروع.
ومن اجلدير بالذكر أن لإلمام أيب إسحاق الشريازي الشافعي كتا ًبا بعنوان :النكت يف املسائل
املختلف فيها بني الشافعي وأيب حنيفة ،لكنه مل يطبع حتى اآلن ،لكن تم حتقيق جانب كبري منه
ثامنًا :اطالعه عىل فقه اإلمام األوزاعي :وفقه اإلمام األوزاعي يم ّثل فقه الصحابة الذين
استوطنوا الشام ،عىل رأسهم :معاذ بن جبل ،وأبو الدرداء ،وعبادة بن الصامت ،والنعامن بن
بشري ،وأبو أمامة الباهيل ،وواثلة بن األسقع ،وكانت الشام قد قوي مركزها بعد أن جعل
معاوية دمشق عاصمة اخلالفة ،وعن هؤالء الصحابة أخذ التابعون :أبو إدريس اخلوالين،
وشهر بن حوشب ،وغريمها ،وعنهم صغار التابعني أخذ ،ومن أبرزهم :رجاء بن حيوة،
ومكحول بن عبد اهلل (أفقه أهل الشام يف عرصه) ،وعنه أخذ األوزاعي ،ليصبح أبرز فقهاء
عرصه بال منازع ،وفقهه هو خالصة فقه الصحابة ريض اهلل عنهم يف بالد الشام .واإلمام
األوزاعي مل يكتف بفقه أهل الشام بل قام برحالت علمية إىل العراق واحلجاز ومرص التقى
فيها بعلامئه ،وقد مجع بني الفقه واحلديث والتفسري ،وبلغ مرتبة االجتهاد املطلق ،فهو يف درجة
خاص له فروعه
ّ أيب حنيفة وسفيان الثوري ومالك وغريهم ،حتى إنه استقل بمذهب
وأهم أسباب انقراض مذهبه :احرتاق كتبه يف آخر حياته بعد أن أمىض يف تأليفها سنني ،وذلك
مذهب غاممهم بعده ،إما ألهنم مل يكونوا بمستوى تالميذ أيب حنيفة ومالك (حممد بن احلسن،
عز
وأيب يوسف ،وعبد الرمحن بن القاسم ،وأشهب) ،وإما ألهنم اشتغلوا باجلهاد يف سبيل اهلل ّ
ّ
وجل كعبد اهلل بن املبارك وهو أحد أبرز تالميذ اإلمام األوزاعي ،فقد كانت الشام هدفا
مستمرا للحمالت الصليبية املتتالية ،ثم االستعامر األورويب يف القرن العرشين الذي انتهى
بقيام دولة إرسائيل عىل بالد الشام ،بل إن األوزاعي نفسه استوطن بريون بن ّية الرباط إىل أن
مات فيها ،ومل يصلنا من مصنّفاته إال كتاب :سري األوزاعي ،وهو يف أحكام اجلهاد يف
اإلسالم .ورغم اندثار مذهبه رمحه اهلل إال أن فقهاء املذاهب األخرى تناقلوا بعض أقواله
مدوناهتم ،وقام الدكتور عبد اهلل اجلبوري بجمعها يف رسالة دكتوراة بعنوان :فقه
وفتاويه يف ّ
اإلمام األوزاعي ،وقارن فيها بني أقوال األوزاعي وأقوال غريه ،مع أد ّلة كل منهم ،كام توجد
رأيت ً
رجال أشبه فقهه وقد أحاط اإلمام الشافعي رمحه اهلل بفقه األوزاعي ،يقول رمحه اهلل :ما ُ
بحديثه من األوزاعي ،وهذا ّ
دال عىل معرفته وإحاطته به؛ فقد خرج الشافعي من الفسطاط
إىل مدين تنِّيس (قرب دمياط) ليلتقي بتلميذين من تالميذ األوزاعي ومها :أبو عبد اهلل برش
بن بكر البجيل الدمشقي ثم النّييس ،وعمر بن أيب سلمة الدمشقي ثم التنّييس ،ومل يكتف
يوسف بالر ّد عىل األوزعي يف كتاب :الر ّد عىل سري األوزاعي ،ثم جاء الشافعي فأ ّلف :سري
ويرجح قول االوزاعي يف أكثر املسائل ،باألد ّلة،
ّ األوزاعي؛ لري ّد عىل أيب حنيفة وأيب يوسف،
وهو من أقدم كتب الفقه املقارن التي وصلتْنا ،ألنه جيمع أقوال أربعة من كبار أئمة ذلك
العرص وهم :األوزاعي ،وأبو حنيفة ،وأبو يوسف ،والشافعي .واإلمام الشافعي مل خيرت مقابلة
السري إال لعلمه بفقه األوزاعي ،وأنه أفقه أهل الشام يف زمانه،
تلميذي األوزاعي وال كتابه ّ
مصدا ًقا لقول مالك :األوزاعي إمام يقتدى به ،فأراد الشافعي أن ينصفه ،وقد و ّفق يف ذلك.
تاس ًعا :ا ّطالعه عىل فقه الليث بن سعد :وفقه الليث يرجع إىل الصحابة الذين استوطنوا
مرص ،ومن أبرزهم :عمرو بن العاص ،وعبد اهلل بن عمرو بن العاص ،أحد العبادلة الذين
انتهى إليهم الفقه من الصحابة (ابن عمر ،ابن عباس ،ابن عمرو ،ابن الزبري) ،وعقبة بن عامر،
هؤالء :الليث بن سعد (من طبقة تابعي التابعني) ،وكان أبرز فقهاء عرصه ،وإليه خيلص فقه
الصحابة الذين استوطنوا مرص ،وعالوة عىل ذلك فقد قام الليث برحالت إىل احلجاز وغريه،
فأخذ عن ابن شهاب الزهري ،وناظر ربيعة الرأي يف املدينة مناظرات قو ّية ،وبلغ من اجتهاده
أنه كان جمتهدا اجتهادا مطل ًقا له مذهبه اخلاص يف الفروع واألصول ،ومدرسته أقرب إىل
تالميذه كانوا أدنى من تالميذ غريه سواء يف مستواهم العلمي أو خدمتهم للمذهب ،ويف
ذلك يقول الشافعي :الليث أفقه من مالك إال أن أصحابه مل يقوموا به ،وقد جانب الكوثري
الصواب ملا نسب الليث إىل تالميذ أيب حنيفة ،وال دليل عىل ذلك سوى رواية تفيد إعجاب
منها ر ّد الليث عىل مالك يف احتجاجه بعمل أهل املدينة ،ويقول عبد اهلل بن وهب (تلميذ
مالك والليث)ّ :
كل ما كان يف كتب مالك :أخربين من أرىض من أهل العلم فهو الليث بن
سعد .واما رواية الليث عن مالك؛ فألن مالكًا عنده من األسانيد احلجازية العالية ما ليس
عند الليث ،وألن الليث كان حيرص عىل سالمة سند احلديث وإن روى عمن هو أصغر منه
أو عمن هو يف مثل سنّه ،كام قال احلافظ الذهبي .وقد مجع الدكتور عبد احلليم حممود يف
خمرجة
كتاب :الليث بن سعد إمام أهل مرص بعض االحاديث التي يروهيا الليث والتي هي ّ
يف الصحيحني وغريمها من طريقه ،ورتبها عىل أبواب الفقه ،مع يشء من التعليق والفوائد؛
استجال ء لفقه اإلمام .فمن املفيد أن تستقىص أقوال الليث املوجودة يف كتب الفقه املقارن
للمذاهب ،وجتمع مرتّبة عىل أبواب الفقه مع أد ّلتها ،كام فعل الدكتور حممد ّ
رواس قلعه جي
وغريه عندما مجع فقه عدد من الصحابة والتابعني ّ
كل عىل حدة.
وقد اطلع اإلمام الشافعي عىل فقه الليث عندما أقام يف مرص ،فقد سمع من أشهب بن عبد
حتّس الشافعي عىل عدم لقائه بالليث كام تقدّ م رغم أنه عارصه ،فيقول :ما اشتدّ
حسان .وقد ّ
ّ
عيل فوت أحد من العلامء مثل فوت ابن أيب ذئب ،واليث بن سعد ،وذلك ملا انتهى إليه علمه
ّ
من سوخ قدم الليث يف الفقه واألصول واحلديث ،وتقديم الشافعي له يف قوله (الليث أفقه
يفضل أحدهم عىل شيخه مالك بمثل ما قاله يف الليث .فإذا أخذنا هذا ك ّله
عرصه ،إال أنه مل ّ
بعني االعتبار ،مع عدم تدوين الشافعي لكتاب يستدرك فيه عىل الليث كام فعل مع غريه،
يكتب احلديث واملسألة يسمعها ،وكذلك عندما ذهب إىل العراق قام بتدوين كتب حممد بن
جزأ الليل عىل الكتابة والصالة والنوم ،ويف إقامته يف مرص كان جيمع يف
احلسن ،وكان قد ّ
جملسه بني التصنيف والتدريس واإلمالء يف جملس واحد ،فكان يميل عليهم ما يصنّفه،
فيكتبونه بأيدهيم ،وكذلك كانوا يكتبون كالمه دون حصول إمالء منه ،فهذا ُينسب إليهم ال
إليه ،فقد يزيد الطالب شي ًئا عىل كالمه أو ينقح أو يرتب ونحو ذلك ،وذلك مثل ما فعله حممد
واإلمالء من ق َبل الشافعي عىل تالميذه ظاهر جدّ ا يف كتبه التي وصلت إلينا ،كام يأيت يف األ ّم:
أخربنا الربيع قال :أخربنا الشافعي إمال ًء ،وحدثنا الشافعي إمالء ،ونحو ذلك .ومن الكتب
التي أمالها الشافعي كاملة عىل تلميذه الربيع ،كتاب :اختالف مالك والشافعي ،ومع شيوع
اإلمالء عن الشافعي لتالميذه ،إال أن القسم األكرب من مصنّفاته بقلمه ،وما أمىل عىل تالميذه
أيضا ،لكن ربام يزيد خالل اإلمالء شي ًئا من حفظه ،فكان التالميذ يكتوب
فهو مما كان صنّفه ً
كل ما سمعوه منه ،ولقد بدأ الشافعي يف تصنيف مذهبه الذي يعرض فيه أصوله وفروعه مع
بدء زيارته الثانية إىل بغداد ،وكانت طريقته يف ذلك أشبه ما يعرف يف زماننا بالفقه املقارن،
فيعرض األقوال املتعددة يف املسألة ،وأدلتها ،ثم يناقش األدلية ،ويرجح بينها ،وهذا
عيل وعبد
األسلوب ظاهر جدا يف كتب االختالفات :اختالف مالك والشافعي ،اختالف ّ
نظرا لطبيعة موضوعه األصويل الذي حيتاج إىل التحليل ّ
ويقل يف كتب كالرسالة؛ ً اهلل،
والتقعيد.
ولقد عدّ ابن النديم يف الفهرت أكثر من مائة كتاب عىل ّأهنا من مصنّفات الشافعي رمحه اهلل،
ومصنّفات الشافعي تنقسم إىل قسمني :املصنّفات العراقية أو ما يعرف بالكتب القديمة ،أو
املذهب القديم .القسم الثاين :املصنّفات املرصية أو ما يعرف بالكتب اجلديدة ،أو املذهب
اجلديد .واملصنفات املرصية قد حوت كت ًبا مل يكن الشافعي قد صنّفها يف العراق ً
أصال ،مثل:
اختالف مالك والشافعي ،كذلك فالقسم األكرب من املصنفات املرصية ما هي إال تطوير
الرسالة اجلديدة مرصي وما هو إال تطوير لكتاب الرسالة القديمة العراقي.
ّ
معني ،فهذه
سمى مصنّفا من مصنفاته باسم ّ
وينبغي أن يعلم أن اإلمام الشافعي مل يثبت أنه ّ
األسامء إنام هي من وضع تالميذه الذين نقلوها عنه ،كاحلسن الزعفراين والربيع املرادي،
ولعل هذا هو سبب وجود عدت تسميات للمصنّف الواحد ،مما أوهم أهنا مصنفات خمتلفة.
األول :نقل ما كتبه
ولقد اختذت رواية مصنفات الشافعي من ق َبل تالميذه ثالثة أشكالّ :
احلجة
الشافعي وأماله من غري اجتزاء منه أو اختصار له ،وهو ما قام به احلسن الزعفراين يف ّ
والرسالة القديمة ،والربيع املرادي يف األ ّم والرسالة اجلديد ة وغريمها .الثاين :نقل ما أقواله
وأد ّلته التي أمالها يف مواضيع مع ّينة ،ينقلها بعض تالميذه ّ
كل واحد منهم بام ال يشاركه فيه
خمترصا
ً غريه ،وفيها زيادات عىل ما نقله الزعفراين واملرادي .الثالث :نقل فقه اإلمام الشافعي
الدين ناجي يف رسالة املاجستري :املزين وخمالفاته لإلمام الشافعي يف كتابه املخترص 69مسألة
خالفه فيها.
والسبب الرئيس يف عدم وصول مصنفات الشافعي القديمة إىل زماننا :هنيه نفسه عن رواية
املصنفات القديمة عىل أهنا مذهب له ،وذلك بعد أن رجع عن أقواله فيها ،فقد قال :ال حيل
عدّ القديم من املذهب ،وقال :ال أجعل يف ّ
حل من رواه عنّي ،وأما ما اشتهر عنه من املسائل
يبني أنه
غري اجتهاده فيها وبقيت موجودة يف كتبه ،فهو اعتامد عىل ذكرها يف موضع آخر ّ
التي ّ
قد رجع عنها ،ويف املقابل السبب الرئيس يف وصول أكثر املصنّفات املرص ّية هو تبنّي الشافعي
يقول البويطي :الربيع يف الشافعي أثبت مني ،ولطول عمره ،فقد بقي 66سنة بعد وفاة
اإلمام ،مم ا ساعدة عىل رواية هذه املصنفات لعدد كبري من الفقهاء يف عرصه ،وقد كان يأتيه
الناس من ّ
كل األقطار يطلبون سامعها ،والربيع كان طويل املالزمة للشافعي أكثر من أي
تلميذ آخر ،وربام لكونه كان مؤ ّذنا باملسجد اجلامع بفسطاط مرص ،وكان الشافعي يلقي فيه
أبرز مصنّفات الشافعي القديمة التي مل تصل إىل زمن كتابة هذه الرسالة:
سامه احلسن الزعفراين بذلك؛ ألنه مقصد وضعه الر ّد عىل فقهاء أهل
احلجةّ ،
ّ ّأو ًال :كتاب
احلجة عليهم ،وهو نفس ما فعله حممد بن احلسن يف كتابه :احلجة عىل أهل
ّ الرأي ،إلقامة
املدينة ،والكتاب يف الفروع الفقه ّية وهو مرتّب عىل أبواب الفقه ،وفيه تأ ّثر بطريقة حممد بن
ثان ًيا :الرسالة القديمة ،وصنّفه الشافعي يف زيارته الثانية لبغداد ،بناء عىل طلب من عبد الرمحن
بن مهدي كام سبق ،وقد أرسله مع تلميذه احلارث بن رسيج الن ّقال لينقله من بغداد إىل ابن
فسمي الن ّقال لذلك ،والكتاب يف أصول الفقه ،لكن بصورة موجزة،
مهدي يف البرصةّ ،
وطورها ون ّقحها يف مرص ،وهي التي بني أيدينا اآلن فيام يعرف بالرسالة اجلديدة ،وهي من
ّ
رواية الربيع املرادي.
ثال ًثا :املبسوط ،وهو يف الطهارة والصالة والزكاة ،ورواه عنه الزعفراين والربيع املرادي ،وهو
احلجة واأل ّم ،وإنام هو اسم أطلق عىل ّ
كل من الكتابني ،وبناء ليس كتا ًبا ثال ًثا يف الفروع غري ّ
يسمى :األ ّم
يسمى احلجة واملبسوط ،وما رواه املرادي ّ
عىل ذلك فام رواه الزعفراين يف الفقه ّ
أيضا .ولعل تسميته باملبسوط جماراة لكتاب حممد بن احلسن يف أكرب كتب ظاهر
واملبسوط ً
مصنف لإلمام البيهقي بعنوان :املبسوط ،مجع فيه كالم الشافعي ونصوصه
بسبب وجود ّ
وأدلته مما وقع بني يديه من املصنفات العراقية واملرصية ،بعد ما ضاق صدره بوجود
االختالفات يف نصوص الشافعي واحلكاية عنه دون تث ّبت ،لكن هذا الكتاب الضخم العظيم
أيضا.
مفقود ً
السنن برواية حرملة التجيبي :وحرملة من تالميذ الشافعي يف مرص ،ورواة مذهبه
راب ًعاّ :
اجلديد ،مجع يف هذا الكتاب ما رواه عن إمامه من أقوال وأدله كتبها خلفه :إمالء ،أو قرأها
عليه من مصنّفاته ،وفيه كثري مما رواه الربيع يف األم ،باإلضافة إىل بعض الزيادات التي انفرد
هبا ،وهذا الكتاب يشارك حرملة يف راويته أبو إبراهيم املزين ،ولعل حرملة أراد هبذا الكتاب
أي نسخة
أيضا ّ
عليه املزين يف إنجاز خمترصه املشهور ،ومن املؤسف أن هذا الكتاب مل يصلنا ً
خمطوطة منه ،بل كانت قليلة جدا يف زمن البيهقي نفسه ،ولعل ذلك بسبب مت ّيز الربيع املرادي
أيضا.
من الطهارة وانتهاء بباب األقضية ونحوه ،وهو من رواية الربيع املرادي ،ومن تسميته ً
وكتاب األ ّم يشمل :الفروع الفقه ّية فقط دون كتب االختالفات وأصول الفقه وهذا رأي
الرسالة واختالف احلديث ،وهو مطبوع يف 15جز ًءا موزعة عىل 10جملدات ،دار قتيبة
عيل وابن
ببريوت ،وهذه الكتب هي :الفروع الفقهية ،واختالف العراقيني ،واختالف ّ
مسعود ،واختالف مالك والشافعي ،ومجاع العلم ،وبيان فرائض اهلل ،وصفة هني رسول اهلل
األ ّم الذي هو يف الفروع الفقه ّية فقط ،وكذلك كان األوىل أن ال يطلق عليها موسوعة
أيضا.
رواية الربيع ً
وطريقة تصنيف كتاب األ ّم :القسم األكرب منه كتبه الشافعي بقلمه ،وهو ما قرأه عليه تالميذه
الربيع من :أخربنا الشافعي رمحه اهلل ،فهذا ألنّه روى الكتاب بعد وفاة الشافعي ،بعد أن كان
أخذه عنه يف حياته إجاز ًة أو إمال ًء ،فليس يف ذلك ما يشكك يف نسبة األ ّم للشافعي .ومن
يتدخل أحيانًا قليلة مبد ًيا رأيه يف املسألة ّ
حمل البحث. اجلدير بالذكر ّ
أن الربيع كان ّ
النكاح ،رسالة ماجستري ليارس إبراهيم أمحد .ثال ًثا :مرويات اإلمام الشافعي يف األم دراسة
توثيقية ،رسالة ماجستري ملحمد أمحد حسن .راب ًعا :القواعد والضوابط الفقهية يف األ ّم ،رسالة
شبهة نسبة كتاب األم للشافعي :نسبة األم للشافعي برواية الربيع أشهر من أن يشكك هبا
أحد ،فالنقل بذلك متواتر ،ومل يرد يف كتب الرتاجم ما خيدش هذه النسبة ال من قريب وال من
بعيد ،بل إن فقهاء الشافعية مل يتطرقوا إىل إثبات هذه النسبة؛ ليقينهم ّأهنا متواترة بحيث ال
حتتاج إىل إثبات ،ومن ذلك ما فعله الفخر الرازي يف مناقب الشافعي حيث تصدّ ى لر ّد
يتعرض هلذه الشبهة .ومن اجلدير بالذكر ّ
أن أبا طالب املكّي الشبهات عن اإلمام وفقهه ،ومل ّ
التصوف) ّ
أن مصنّف األ ّم هو البويطي ،وأنه اعتزل ّ ذكر يف كتاب قوت القلوب (من كتب
الناس وأراد اخلمول ،فأخرجه للربيع ،فزاد فيه وأظهره ،ونقل الغزايل يف اإلحياء (من كتب
أيضا) هذا الكالم؛ فاإلحياء يعتمد عىل هذا الكتاب وعىل رسالة القشريي ،فليس
التصوف ً
غري ًبا أن ينقل كالمه بحرفه ،لكن الغريب أن الغزايل مل يورد شيئا عن هذا االدعاء يف مقدّ مات
مصنّفاته يف الفقه كالوسيط يف املذهب ،أو يف األصول كاملنخول واملستصفى! ومل يأبه أحد
نمو التعصب املذهبي يف عرص اجلمهود والتقليد منذ سنة 350هـ وما
هبذا النقل ،حتى مع ّ
املتعصبون يتتبعون سقطات بعض ،وأحيانًا يطعنون يف بعض األئمة ،كام
ّ بعدها ،وقد كان
حصل من بعض متعصبي احلنفية واملالكية عندما شكّكوا يف نسب الشافعي القريش ،ورغم
ذلك ك ّله مل يلتفت أحد إىل هذه املقولة ،حتى جاء الدكتور :زكي مبارك ،لينرش يف سنة 1934م
كتاب :إصالح أشنع خطأ يف تاريخ الترشيع اإلسالمي ،كتاب األ ّم مل يؤلفه الشافعي ،وإنام
وترصف فيه الربيع بن سليامن .وقد تصدّ ى لر ّد هذه الشبهة عدد من العلامء من
ّ أ ّلفه البويطي،
أبرزهم :أمحد شاكر يف مقدّ مة حتقيقه للرسالة ،وحممد أبو زهرة يف كتابه الشافعي ،وسيد أمحد
صقر يف مقدمة حتقيقه ملناقب الشافعي للبيهقي ،وأمحد نحراوي اإلندونييس يف :اإلمام
الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد ،وحسن حممد سليم يف :اإلمام الشافعي وأثره يف أصول
ملا تورده الرواية من أنه علم بأن الربيع نسب الكتاب إىل نفسه يف حياة البويطي ،ثم سكت
فقول الربيع يف األ ّم :أخربنا الشافعي ،فهذا يعني – بناء عىل رواية أيب طالب – إما أنه يكذب
رصاحة ،فاإلخبار من البويطي لكن جيعله الربيع من الشافعي ،أو أنّه يد ّلس يف روايته،
فالكالم للبويطي يروية عن الشافعي ،فجاء هو وأسقط البويطي ،وهذا باطل؛ فالربيع كان
معروفا بأمانته الشديدة ،وهو ثقة عدل ،ليس يف فقه الشافعي فحسب ،بل يف رواية السنّة
املطهرة ،وقد أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وغريهم .كام أن صيغة
أخربنا – وهي األكثر استعامال من الربيع يف األم -ال حتتمل التدليس عند املحدثني؛ إذ
التدليس يكون بالعنعنة عندهم ،أما صيغة أخربنا مع عدم سامع الرواي من الشيخ= فهي
الكذب الرصاح الذي يتنزه عنه الربيع ،وحتى مع إمكان حصول التدليس هبذه الصيغة ،فلم
يرمه أحد بالتدليس من املحدثني سواء يف عرصه أو بعده.كام أن مت ّيز الربيع بد ّقته يف بيان
تعليقاته الشخصية وتوجيهاتهّ ،
يدل عىل د ّقته يف نقل كالم شيخه الشافعي ،وعدم خلطه
بغريه ،فهذه التعليقات – عىل قلتها – ال تكون سب ًبا للطعن يف نسبة الكتاب ،بل األمر عىل
عليها ،ولبعض الصوفية والو ّعاظ طريق واسع يف باب الرتغيب والرتهيب ،يسوقون فيه
ضعيف األخبار وباطلها ،كام يسوقون مقبوهلا ،ويستسيغون ذلك ،ولذلك يوجد يف هذا
الكتاب واإلحياء كثري من األخبار الضعيفة واملوضوعة ،فإذا كان هذا يف شأن األحاديث
ثان ًيا :الكتب التي صنّفها الشافعي يف علم االختالف (ما يعرف يف زماننا بالفقه املقارن):
وهذه الكتب اقترصت عىل موضوعات مع ّينة أو اجتهادات علامء مع ّينني كام سيأيت ،ومجيع
هذه الكتب مرص ّية ،وهي أقدم ما وصلنا يف الفقه املقارنّ ،
وكل ما أتى بعدها استفادت من
طريقتها ،مع الزيادة والتحسني ،وهي مخسة كتب ،وقد عدّ ها البيهقي من مجلة كتب األصول،
ّأو ًال :اختالف أيب حنيفة وابن أيب ليىل (اختالف العراقيني) ،وأصله من تصنيف أيب يوسف
القايض مجع فيه املسائل التي اختلف فيها أبو حنيفة مع حممد بن عبد الرمحن بن أيب ليىل،
باإلضافة إىل اجتهاد أيب يوسف ،وقد رواه عنه حممد بن احلسن ،ثم جاء الشافعي فأعاد
تصنيفه ،مب ّينا فيه اجتهاداته ،مع التدليل عليها ،وهو موجود يف موسوعة اإلمام الشافعي التي
ثال ًثا :اختالف مالك والشافعي ،وصنّفه الشافعي بطريقة اإلمالء عىل الربيع؛ بيانًا الضطراب
أيضا ،ويشمل
مالك يف االستدالل باألحاديث واالحتجاج هبا ،وهو موجود يف املوسوعة ً
معظم أبواب الفقه ،لكنها ليست مرتّبة عىل حسب التسلسل املشهور.
حممد بن احلسن ،ومجع فيه عددا من املسائل التي اختلف فيها مع احلنفية عامة
راب ًعا :الر ّد عىل ّ
وحممد بن احلسن خاصة ،وهو من الكتب التي صنّفت يف العراق ثم أعيد تصنيفها يف مرص
خامسا :سري األوزاعي ،وهو آخر سلسلة من الردود التي حصلت بني أربعة من أئمة الفقه
ً
السري (اجلهاد) ،فر ّد
يف عرص الشافعي ،وهو يف أحكام اجلهاد ،فقد صنّف أبو حنيفة كتابا يف ّ
عليه األوزاعي يف كتاب :سري األوزاعي ،فجاء أبو يوسف فر ّد عىل األوزاعي يف كتاب :الر ّد
عىل سري األوزاعي ،ثم جاء الشافعي ليناقش اجتهادات الثالثة ،مب ّينا اجتهاده ورأيه ،وانترص
ّ
مستقال بل فيه لألوزاعي يف أكثر املسائل ،وهو يف املوسوعة ،واإلمام البيهقي ال يعدّ ه كتا ًبا
جيعله ضمن األ ّم ويسميه :كتاب عىل سري األوزاعي .مع التنبيه عىل ّ
أن ما ورد يف املوسوعة
يف نحو صفحتني ونصف صفحة حتت عنوان :سري الواقدي= خطأ ،فكتاب سري الواقدي
الذي ألفه الشافعي يف أحكام اجلهاد ،وفيه استدراكات ومناقشات ملا جاي يف كتاب املغازي
للواقدي= مفقود.
مصنفات الشافعي يف علم أصول الفقه:
للشافعي بكتابته ،وهناك أسباب أخرى :كاطالعه عىل املدارس األخرى ،وقوة شخصيته
االجتهادية ،وبيئته التي كثرت فيها املناظرات ،وملسه عدم حترير ّ
حمل النزاع يف املناظرات،
ودخول اللحن عىل اللغة العربية باتساع الدولة ،وما أتبعه من جهل بعض املتفقهني بمعاين
من إمالء شيخه الشافعي ،وأن النسخة التي ح ّقق الكتاب منها هي بخط الربيع نفسه كتبها
وموضوعات الكتاب :ليست عىل التسلسل والرتتيب املعروف اآلن ،كام أنه مل يستوعب سائر
املباحث األصولية ،لكن ذلك ال يقلل من قيمته لكونه ّأول تدوين يف علم أصول الفقه ،وقد
بدأ موضوعات الكتاب بالكالم عىل :مكانة القرآن الكريم وحجيته ،وبيانه لألحكام
الرشعية ،ثم السنّة لألحكام وعالقتها بالقرآن ،ثم العام واخلاص وصورمها يف النصوص ،ثم
الوليد حسان بن حممد القريش ثم النيسابوري ،والقفال الكبري الشايش ،وأبو بكر حممد بن
عبد اهلل الشيباين اجلوزقي النيسابوري ،وأبو حممد عبد اهلل اجلويني والد إمام احلرمني .ويقال
ومن األبحاث التي خدمت الرسالة :التحقيق الرائع هلا من الشيخ أمحد شاكر وتعليقاته
ثال ًثا :كتاب مجاع العلم ،صنّفه بعد الرسالة املرصية ،فقد كان حييل عليها فيه ،وهذا الكتاب
فيه تفصيل لبعض ما أمجله الشافعي يف الرسالة ،فبينهام صلة قوية؛ ولذا من املفيد أن يطبعا
أيضا ،كام أنّه مطبوع وحده بتحقيق أمحد عبد العزيز زيدان.
موجود يف املوسوعة ً
راب ًعا :كتاب بيان فرائض اهلل :وفيه مقارنات لطيفة بني الفرائض :الصالة والزكاة والصوم
السنة لألحكام الرشعية ،إما بتفصيل ما أمجله القرآن ،أو إنشاء أحكام
واحلج ،ورشح بيان ّ
جديدة ،وسياق األدلة عىل ذلك ،فهو ينترص يف هذا الكتاب حلجية خرب الواحد خصوصا،
النبي صىل اهلل عليه وس ّلم :ويرشح فيه قاعدة أصولية ،وهي أن النهي
خامسا :كتاب صفة هني ّ
ً
املحرم :لذاته ،ولغريه ،ويورد أد ّلة
ّ ويبني نوعي
يفيد التحريم ما مل ترصفه قرينة إىل الكراهةّ ،
الرسالة حول هذا
تلخيصا ملا ذكره الشافعي يف ّ
ً توضيحية عىل ذلك ،ويعدّ هذا الكتاب
ّ
مستقل بنفسه ،وهو املوضوع حتت عنوان :صفة هني اهلل وهني رسوله ،ورغم ذلك فهو كتاب
سادسا :كتاب اختالف احلديث :وهو ّأول مصنّف يف علم خمتلف احلديث ،وهو العلم الذي
ً
يبحث يف األحاديث التي ظاهرها التعارض ،فيزيل تعارضها أو يوفق بينها ،ويوضح
أيضا ،لكنه أفرده بالتصنيف ملا رآه يف عرصه من خت ّبط وأخطاء جتاه األحاديث
الرسالة ً
املتعارضة يف الظاهر؛ إذ كل حديث جاء خيالف غريه ولو من وجه واحد ،كعام وخاص،
يسمونه نسخا،
ومطلق ومقيد ،أو اختالف من جهة املباح ،أو غري ذلك ،فعلامء ذلك العرص ّ
ليبني ذلك.
وهذا يف نظر الشافعي خطأ ،فصنّف ّ
من بينها تقصري الرواة يف ذكر بعض األحاديث خمترصة ،أو يكون احلديث جوابا عىل سؤال
فيحدث الراوي باجلواب دون السؤال ،ووجود أحاديث ضعيفة ال تعارض الصحيحة،
ونحو ذلك.
وأبرز هذه القواعد يف معاجلة األحاديث املختلفة :اجلمع بني احلديثني ما أمكن ،فيعمل هبام
م ًعا ما دام ذلك ممكنا ،وال جيوز إبطاهلام أو إبطال أحدمها ،كذلك :يف حالة ثبوت النسخ ُيعمل
بالناسخ ،و ُيرتك املنسوخ وذكر األمور التي يعرف هبا الناسخ من املنسوخ يف السنّة ،كذلك
ً
ناسخا لآلخر فيجب الرتجيح بالدالئل، من القواعد :أنه إذا مل يمكن اجلمع وليس أحدمها
الواقع؛ إذا ال يمكن وجود حديثني متعارضني من كل وجه ،وال يمكن اجلمع أو الرتجيح
وذكر كذلك نامذج تطبيق ّية من األحاديث التي ظاهرها التعارض ،فعرض 276حدي ًثا
بسنده ،وإزال التعارض الظاهري بني هذه األحاديث ،بام يعدّ ينبو ًعا ملا جاء بعده من العلامء.
ومن الدراسات التي خدمت هذا الكتاب :حتقيقه حتقيقا رائ ًعا لألستاذ عامر أمحد حيدر ،وقام
خصوصا ،من
ً بالسنة النبوية عمو ًما ،وخرب اآلحاد واختالف احلديث= ّ
تدل عىل عظيم عنايته ّ
حيث إثبات حجيتها ،وبيان عالقتها بالقرآن ،وتوضيح منهج فقهها ،واستنباط األحكام
ما من فقيه شافعي إال وللشافعي عليه منّة ،إال أبا بكر البيهقي ،فإن املنّة له عىل الشافعي
ّ
استدل به الشافعي يف كتبه الفقهية من اآلثار ّأو ًال :معرفة ّ
السنن واآلثار ،مجع فيه البيهقي ما
النبوية وعن الصحابة ،ساقها البيهقي بإسناد الشافعي ثم بإسناده هو ،ورتّبه عىل ترتيب
األبواب الفقهية يف خمترص املزين ،وهو قريب لرتتيب كتاب األ ّم ،وهذا الكتاب فيه :مرويات
الشافعي من األحاديث وآثار الصحابة ،وأد ّلته يف اجتهاداته الفقهية ،ودراسة علل األحاديث
دراسة تطبيقية ،ومبحث العلل من ّ
أدق مباحث علوم احلديث كام سبق ،وكتاب السنن
واآلثار صنّفه البيهقي بعد تصنيفه لكتابه املوسوعي :املبسوط الذي مجع يف كل ما أثر عن
اإلمام من أقوال وأدلة يف مذهبيه القديم واجلديد ،واصطفى من املبسوط معرفة السنن واآلثار
حيث خصصه للدراسة احلديثية املتخصصة ألدلة الشافعي من السنة واآلثار .وقد قام
وتفسريه ،وأخرجها بسنده إليه ،ورتبها عىل األبواب الفقه ّية ال حسب تسلسل اآليات
والسور ،باإلضافة لبعض األبواب األخرى يف مواضيع العقيدة ،والكتاب ّ
يدل عىل متكّن ّ
ورسوخ الشافعي من علم التفسري .وجيدر اإلشارة إىل ّ
أن للشافعي نفسه كتا ًبا بنفس العنوان:
أحكام القرآن ،لكنه مفقود ،وال توجد منه نسخ خطية؛ ولذا احتاج البيهقي أن ينشئ
التصنيف يف هذا املوضوع نفسه ،ويف هذا الكتاب ما ليس يف غريه من مصنّفات الشافعي التي
من مرويا ت الشافعي من األحاديث النبوية وآثار الصحابة ،يروي أكثرها عن الربيع املرادي،
وأربعة أحاديث فقط عن البويطي ،عن الشافعي ،ومل يعلق عىل هذه األحاديث ،ومل يرتبها
الكتاب 1721 :حدي ًثا ،وفيها ما يقرب من مائة حديث بسلسلة الذهب وهي عن الشافعي
األصم ما انفرد
ّ األصم ،كام يوجد يف مسند
ّ خاله أيب إبراهيم املزين ،وفيه مرويات انفرد هبا عن
به عن الطحاوي ،وكذلك توجد أحاديث مشرتكة بينهام ،ففكرة الكتابني واحدة ،ولذلك مجع
ّأو ًال :كتاب الفقه األكرب ،يف العقيدة .ثان ًيا :كتاب العقيدة املخترصة ،أو اعتقاد الشافعي .ثال ًثا:
الشافعي ،فلم يذكر البيهقي يف مناقب الشافعي وال ابن النديم يف الفهرست أ ّيا من هذه
خصوصا من متكلمي
ً الكتب مع استيعاهبام ملصنّفاته ،وكذلك مل يذكرمها أحد من العلامء
الشافعية كالفخر الرازي ،فلو كانت هذه الكتب له الشتهرت وأفردت بالرشح والنقل ،وكل
ذلك مل حيدث . ،رابعا :كتاب أدب القايض ،وذكره ابن النديم وكذلك البيهقي عىل أنه باب
خامسا :كتاب
ً ّ
مستقال. من أبواب كتاب األ ّم ،وهو موجود يف املوسوعة فعال ،فليس كتابا
كتاب تاريخ الرتاث العريب :عىل أهنام مصنّفان مستقالن ،وهذا خطأ؛ ولعل ذلك راجع إىل
صحة
سادسا :بعض أشعار اإلمام الشافعي ،لكن ال يبعد ّ
ً عدم ختصصهام يف العلوم الرشعية.
ه ذه النسبة؛ ملا اشتهر به الشافعي من نظم الشعر ،وقد أورد بعضها ابن حجر يف توايل
التأسيس بأسانيد ج ّيدة .ساب ًعا :كتاب يف علم القيافة ،فموضوعه فقط هو املعروف ال اسمه،
أيضا .ثامنًا :كتاب الفوائد واحلكايات واألخبار إىل الغامم الشافعي ،وال
تصح نسبته إليه ً
وال ّ
واألول
ّ أيضا .تاس ًعا :دعاء بعنوان :حجاب ،ودعاء آخر بعنوان :مناجاة،
تصح نسبته إليه ً
ّ
صحة نسبتهام إليه من عدمها
قرأه الشافعي عند دخوله عىل هارون الرشيد ،ويمكن معرفة ّ
بمطالعتها ولغتها ومقارنتها بأسلوب الشافعي.
الباب الثاين :املذهب الشافعي
األدوار التارخي ّية لتطور علم احلديث :ملا كانت العلوم مرتبطة ببعضها البعض ،ويؤثر بعضها
تطور
نبني تطور علم احلديث والفقه عمو ًما؛ ملا يف ذلك من متهيد لبيان ّ
عىل بعض ،أردنا أن ّ
األول :دور النشوء ،وهو
تطور تارخي ّيا إىل سبعة أدوارّ :
املذهب الشافعي .وعلم احلديث ّ
األول اهلجري).
عرص الصحابة (يمتد من وفاة النبي عليه الصالة والسالم إىل هناية القرن ّ
الدور الثاين :التكامل (من بداية القرن الثاين إىل ّأول الثالث اهلجري) .الدور الثالث :التدوين
املجمع (من
ّ مفر ًقا (من بداية القرن الثالث إىل منتصف ّ
الرابع) .الدور الرابع :التدوين ّ
منتصف القرن الرابع إىل أوائل السابع) .الدور اخلامس :النضج واالكتامل يف التدوين (من
أوائل القرن السابع إىل العارش) .الدور السادس :الركود واجلمود (من ّأول العارش إىل مطلع
الرابع عرش).
وسلم إىل آخر القرن الثاين) .الثالث :الكهولة (من بداية الثالث إىل هناية الرابع) .الرابع:
41هـ) .الثالث :التابعون (من سنة 41هـ إىل قبيل سقوط األمويني 132هـ) .الرابع:
جتزأت اخلالفة
التدوين واألئمة املجتهدون (من 132هـ إىل منتصف القرن الرابع عندما ّ
العباسية) .اخلامس :التقليد واجلمود (من منتصف الرابع إىل النصف الثاين من القرن الثالث
عرش) حيث أقصيت الرشيعة .السادس :العرص احلارض (من النصف الثاين للقرن الثالث
األول :ظهور فقه اإلمام الشافعي ونقله ،ويمتد من سنة 195هـ إىل سنة 270هـ،
الدور ّ
وتتضمن ثالثة مراحل :املذهب القديم ،واملذهب اجلديد ،ونقل التالميذ للمذهب وروايته،
ّ
وينتهي ذلك بموت الربيع املرادي.
الدور الثاين :ظهور مذهب الشافعية واستقراره ،ويمتد من سنة 270هـ إىل سنة 505هـ ،
ويتضمن مرحلتني :ظهور املذهب بشخصيته املستقلة التي هلا فقهاؤها وقضاهتا ومصنّفاهتا
ّ
وتنتهي هذه املرحلة بوفاة الغامم أيب الطيب الصعلوكي ،واستقرار مذهب الشافعية جغراف ّيا
استقرارا حال دون اندثار املذهب فيام بعد وتنتهي هذه املرحلة بوفاة اإلمام
ً يف كثري من البالد
الغزايل.
الدور الرابع :التنقيح الثاين للمذهب :ويمتد من سنة 676هـ إىل وفاة شمس الدين الرميل
سنة 1004هـ ،ويتضمن مرحلتني :جهود األئمة السبكي وابن الرفعة واإلسنوي وغريهم،
الدور اخلامس :خدمة مصنّفات التنقيحني األول والثاين :ويمتد من سنة 1004هـ إىل وفاة
ظهور املذهب القديم :من سنة 195هـ إىل 199هـ ،وذلك بعد مغادر الشافعي لبغداد يف
املرة األوىل ،واختاذه حقلة يف املسجد احلرام لإلفتاء والتدريس ،وامتدت إىل زيارته الثانية
ّ
احلجة والرسالة القديمة ،والتفاف الطالب حوله ويف مقدمتهم احلسن
لبغداد ،وتصنيفه كتايب ّ
الزعفراين ،وخالل هذه الفرتة كانت اجتهادات الشافعي واحدة؛ ولذلك ك ّلها تسمى
ّ
ويدل عىل ذلك أن الزيارة الثالثة الّسيعة له إىل بغداد طلب منه احلسني باملذهب القديم،
اجتهاد اإلمام ومنهجه يف األصول والفروع ،وأما املذهب :فهو جهود مئات العلامء يف خدمة
املذهب عرب القرون ،الذين ساروا عىل طريقة اإلمام ،مع ما أضافوه من خترجيات عىل أقواله،
ّ
فاألدق أن يقال :مذهب الشافعية .ومن اجلدير بالذكر أن واستدراكاهتم عليه؛ ولذلك
املذهب القديم وإن فقدت كتبه لكنها كانت متوفرة يف عرص تالميذ الشافعي وتالميذهم،
كثريا
غري اإلمام ً
ظهور املذهب اجلديد :من سنة 199هـ إىل سنة 204هـ ،ويف هذه املرحلة ّ
والتف حوله الطلبة املرصيون ،من أمههم املزين
ّ من اجتهاداته يف مرص ،وأعاد تصنيف كتبه،
ودون األ ّم والرسالة اجلديدة فيام عرف باملذهب اجلديد ،وبالرغم من أن
والبويطي والربيعّ ،
ّ
استقل بمعرفة أن له مذهبني ،ولعل هذا كثريا من األئمة غريو اجتهاداهتم إال أن الشافعي
ّ
وألن الشافعي يرجع إىل ّ
أن هذا التغيري صاحبه انتقال مكاين من العراق واحلجاز إىل مرص،
مرتني ،لينتهي األمر إىل وجود مصنّفات عراقية وأخرى مرص ّية خمتلفتني عن
دون كتبه ّ
ّ
بعضهام ،وألن تالميذ الشافعي يف العراق مل ينتقلوا معه إىل مرص ،فتو ّلد نوعان من التالميذ:
مرصيون وعراقيون ،وكل طائفة منهم تروي ما مل يروه اآلخرون من فقه ومصنّفات.
ّ
ولعل الشافعي لو مل ينتقل من بلد إىل بلد ،وبقي تالميذه معه ،يروون مصنّفاته ،ما أطلق أن
ً
طويال ،وكذلك مالك هناك له مذهبني ،عىل غرار اإلمام أيب حنيفة الذي استوطن الكوفة
وأما األسباب التي دعت الشافعي إىل تغيري اجتهاده يف مرص ،فمنها :اطالعه عىل كثري من
السنن واآلثار مما مل يكن اطلع عليها من قبل .ومنها :اعتامده عىل قياس جديد يكون أرجح
من األول .ومنها :اختالف البيئة من عادات وحاالت اجتامعية .والسبب األول هو األبرز
الطالع الشافعي عىل فقه األوزاعي كام تقدم ،وفقه الليث ،وتالميذ مالك يف مرص ،وهذا
ملحوظ بشدة يف كتاب املنهاج للنووي عندما يذكر مذهب الشافعي القديم واجلديد ّ
أن
أكثرها يعتمد عىل النصوص ،أو القياس عىل نصوص ،أما اختالف األعراف فهو سبب
اجتهادات الشافعي مل تكن يف الفروع فقط ،بل كانت يف األصول أيضا ،ودليل ذلك إعادة
تصنيفه للرسالة ،بل عدّ ها اإلمامان البيهقي وابن حجر مصنّفني مستق ّلني .وكذلك:
يغري يف مذهبه اجلديد آراءه يف مجيع املسائل ،بل وجدت أبواب مل يرجع عن
فالشافعي مل ّ
اجتهاداته فيها.
نقل التالميذ للمذهب :من سنة 204هـ إىل سنة 270هـ ،نشط تالميذ الشافعي بعد وفاته
لنرش مذهبه؛ ولذا قصدهم طلبة العلم من ّ
كل مكان ،وهذا ظاهر لكوهنم آخر من تلقوا عن
الشافعي ،واالجتهادات املتأخرة هي خالصة فكره وفقهه ،وهذا عىل الرغم من بقاء التالميذ
العراقيني يروون مذهبه القديم يف العراق ،وقد ضعف ذلك بوفاة احلسن الزعفراين ناقل
مذهب الشافعي القديم ،وأما يف مرص فقد خدم التالميذ مذهب اإلمام أعظم خدمة،
وأبزرهم كام سبق :البويطي ،واملزين ،والربيع املراديّ ،
وكل واحد له بصمته الواضحة يف
خدمة املذهب .أما البويطي :فكان أفقه تالميذ اإلمام ،وأكربهم سنّا آنذاك ،فخلف الشافعي
يف درسه ملا مرض ،وبقي كذلك إىل أن امتحن بفتنة خلق القرآن ،ومات يف السجن .أما املزين:
فهو خليفة البويطي يف حلقة الدرس ،وصنّف املخترص الكبري ثم الصغري ،وكتابه املخترص هو
بداية مصنّفات الشافعية ،وقد بلغ رتبة االجتهاد املطلق ،وكان له مذهب مستقل يف آخر
حياته .وأما الربيع :فكان حافظا ملصنفات اإلمام؛ لطول مالزمته له ،وعاش 66سنة بعد
وفاته ،يروي مصنفات اإلمام ،ويضبطها ،ويتقنها ،حتى يذكرون أنه كان ببابه تسعامئة رحالة
ح ّطت ببابه لسامع كتب الشافعي ،فالفضل الكبري يرجع إىل هؤالء التالميذ الذين لوالهم
لر ّبام انقرض مذهب الشافعي واندثر ،وعن هؤالء التالميذ انتقل مذهب الشافعي إىل كثري
ّأو ًال :مل حيصل يف هذه املرحلة أن تق ّلد أحد من تالميذ اإلمام أو تالميذهم منصب القضاء يف
للربيع املرادي.
الرسالة،
يدون أحد من تالميذ اإلمام شي ًئا يف علم األصول؛ فقد كانوا يعتمدون عىل ّ
ثان ًيا :مل ّ
يدرسوهنا ،وينقلوهنا إىل الطلبة ،وأما ما ذكره الشريازي يف طبقات الفقهاءّ :
أن الكرابييس ّ
عرف أسامؤها ،ومل يشتغل
تلميذ الشافعي صنّف يف أصول الفقه= فهذا مل يذكره غريه ،وال ُي َ
ورشحا ،وإال الشتهرت كام اشتهر خمترص املزين.
ً هبا أحد من علامء الشافعية رواية
خروج املذهب الظاهري من رحم املذهب الشافعي :تل ّقى اإلمام داود بن عيل األصفهاين
الفقه عىل يد تالميذ اإلمام الشافعي ،فتف ّقه عىل مذهب الشافعي يف شبابه ،فلتقى عن تالميذه
العراقيني كأيب ثور الكلبي وإسحاق بن راهويه ،إال أنه مل يتلق بتالميذ اإلمام املرصيني ،وكان
ّ
استقل بمذهب خاص املتعصبني للمذهب حتى صنّف يف فضائله كتابني ،وملّا رسخ علمه
ّ من
وكان للمذهب الظاهري بعد وفاته فقهاء وقضاة ينرصونه وينرشونه ويصنّفون فيه ،لكنه يعد
من املذاهب املندثرة التي انقطع أتباعها ،وإن كان بقي العديد من مصنفات علامئه.
وخروج مذهب داود من رحم املذهب الشافعي ليس غري ًبا لسببني :األولّ :
أن أصول
االستنباط عند الشافعي هي أقر أصول لداود من بني األئمة األربعة ،فالشافعي حيتج بالقرآن
يف الفقه املقارن ،وأقواله الكثرية كقوله :إذا صح احلديث فهو مذهبي ،وقوله :كل مسألة
صح اخلرب فيها عن النبي عليه الصالة والسالم عند أهل النقل ،بخالف ما
تكلمت فيهاّ ،
تكررت ظاهرة خروج علامء من املذهب
قلت ،فأنا راجع عنها يف حيايت وبعد موتى؛ ولذا ّ
مقترصا عىل داود وحده كام سيأيت ،وفقد
ً يعدّ ون من املجتهدين اجتها ًدا مطل ًقا ،فاألمر ليس
فقه تالميذ اإلمام ذلك أحسن الفقه ،خاصة يف املائة ومخسني عا ًما بعد وفاته ،قبل شيوع
ظهور مذهب الشافعي وانتشاره :ومتتد هذه الفرتة من 270هـ إىل 404هـ ،انترش تالميذ
مصنفات الشافعي وتالميذه ويف مقدمتها املخترص للمزين ،ومت ّيزوا عن اإلمام أيب حنيفة
وفقهه الذي متثل يف كتب ظاهر الرواية ،وعن اإلمام مالك وفقهه الذي متثل يف املوطأ
أن تكون هذه النسبة علم لطريقتهم يف االجتهاد واإلفتاء ،ثم يف القضاء بعد ذلك ،فكان خالل
هذا القرن كان من املألوف أن يقال يف تعريف العامل :فالن الشريازي الشافعي ،أو القريش
الشافعي ،بينام مل يكن العلامء خالل القرنني األول والثاين ينسبون إىل أحد شيوخهم ،وهذا
ظاهر يف ّ
كل علامء هذه الطبقة كالشافعي ،فلم ينتسب إىل أحد شيوخه ،وهذا ظاهر باستقراء
لكتب الرتاجم التي ترمجت لعلامء القرون األربعة األوىل للهجرة ككتاب طبقات الفقهاء أليب
إسحاق الشريازي.
ّ
ولعل أوضح دليل عىل انتشار املذهب وذيوعه :وجود مصنّفات ترتجم هلؤالء العلامء
املنتسبني للمذهب دون غريهم من املذاهب ،وهو ما عرف فيام بعد بكتب طبقات الفقهاء،
وكان ّأول كتاب :املُ ْذ َهب يف ذكر أئمة املذهب أليب حفص عمر بن عيل املُ َّط ِّوعي ،وبعده
توالت املصنفات يف هذا الباب ،وتعدّ وفاة اإلمام أيب الطيب سهل بن أيب سهل الصعلوكي
سنة 404هـ اكتامل ظهور املذهب وانتشاره ،فأبو حفص املطوعي قد صنف املذهب
للصعلوكي يف حياته ،والذي يرتجح أن يكون الصعلوكي أمىل الكتاب عىل تلميذه املطوعي
أو عىل األقل كان له دور بارز يف فكرته ومضمونه ،فالصعلوكي كان إماما كبريا وكان بعض
أبرز الناقلني للمذهب وانتشارهم اجلغرايف :خدم علامء املذهب الشافعي أعظم خدمة لينقلوا
مصنفاته إىل سائر املسلمني يف املرشق ،وذلك منذ وفاة آخر تالميذ اإلمام حتى سنة 404هـ،
الشافعي اجلديد ،وعنه أخذ كثري من العلامء أبرزهم :أبو العباس بن رسيج ،وال خيفي أمهية
نرش املذهب يف بلد اخلالفة حمط األنظار ،وقد أدرك الشافعي ذلك وهذا ظاهر يف زيارته الثانية
لبغداد وعرضه مذهبه القديم يف األصول والفروع .الثاين :أبو العباس بن رسيج البغدادي،
أوا ئل الشافعية الذين تولوا القضاء (قضاء شرياز يف بالد فارس) ،ثم انتقل إىل بغداد وتويف
فيها ،ويرى بعض العلامء أنه املجدد عىل رأس املائة الثالثة ،وقد كان توليه القضاء مساعدً ا له
عىل نرصته للمذهب ونرشه ،ولكثرة تصانيفه التي جاوزة األربعامئة ،ومن الكتب له :الرد
عىل حممد بن احلسن ،والرد عىل عيسى بن أبان ،والتقريب بني املزين والشافعي .الثالث :أبو
زرعة حممد بن عثامن الدمشقي ،أخذ عن الربيع ،وسكن مرص ،وتوىل القضاء فيها خالل الربع
األخري من القرن الثالث اهلجري ،ولعله أول قاض شافعي يف مرص ،ثم انتقل إىل الشام ليكون
قاض ًيا هناك ،ويلزم قضاهتا باملذهب ،ويسعى لنرشه ،بعد أن كان مذهب األوزاعي هو
السائد ،ومما أثر عنه أنه كان هيب ملن حيفظ خمترص املزين :مائة دينار ،وكان راسخ القدم يف علم
احلديث ،ويعدّ من أئمة املحدثني يف عرصه ،وعىل ذلك سار ولد أبو عبد اهلل احلسني فويل
خصوصا.
ً القضاء بعد أبيه وساهم يف نرش املذهب ،وال خيفى أثر نرش املذهب يف دمشق
الرابع :أبو حممد عبد اهلل بن حممد املروزي املعروف بعبدان ،رحل إىل مرص والزم املزين
واملرادي ،وبعد وفاهتام انتقل إىل مرو (من بالد فارس) ومعه خمترص املزين؛ لينرش املذهب.
اخلامس :احلافظ أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم النيسابوري اإلسفراييني ،وكان
جامعا بني الفقه واحلديث ،وله مسند مشهور باسمه ،أخذ عن املزين واملرادي ،ورحل إىل
موطنه إسفرايني (يف نواحي نيسابور يف دولة تركامنستان) ،فكان ّأومل ن ادخل املذهب فيها.
وغلب احلفظ عنده عىل الفقه ،سمع مصنّفات اإلمام من الربيع يف أواخر حياة الربيع ،وبقي
مضبوطة بالسند العايل لقرابة املائة ومخسني عاما بعد وفاته ،فال غرابة بعد ذلك أن تكون
الرسالة ،وهو
كثريا ،وكانت له تصانيف كثرية منها رشحه عىل ّ
وأخذ عن ابن رسيج ،وبرع ً
الذي نرش املذهب يف بالد ما وراء النهر (واملقصود به هنر جيحون ،وهي بالد :أوزبكستان
أيضا :حماسن الرشيعة ،وأدب القضاة ،ولعل كتاب
وطاجكستان وقرغيزستان) ،وله ً
املحاسن هذا هو ّأول كتاب وضع يف علم مقاصد الرشيعة ،لكنه مل يصل إىل زماننا .وهكذا
أيضا يف
انترش املذهب يف املرشق من وداي النيل إىل بالد ما وراء النهر ،واستمر وجوده ً
احلجاز ،إال أنه مل ينترش يف شامل إفرييا واألندلس ،حيث كان السطوة لتالميذ قايض القريون
أيب سعيد سحنون التنوخي ،الذين نشطوا يف نرش مذهب مالك هناك واإلفتاء والقضاء عىل
فقهه.
أوال :بلوغ عدد من علامء املذهب االجتهاد املطلق ،وكانت هذه املرحلة ما تزال خصبة
باالجتهاد الذي أرشد إليه اإلمام وربى عليه تالميذه ،فلم يكن التقليد املحض وال العصبية
املذهبية قد ظهرا ،فليس دراسة مصنفات اإلمام وأخذهم عن تالميذه كانت تعني التقيد
باجتهادات اإلمام وعدم جواز اخلروج عنها إىل غريها ،وال تسفيه اجتهادات غري الشافعية،
وأظهر الدالئل عىل ذلك :بلوغ عدد من هؤالء العلامء الشافعية – حتى أنه مرتجم هلم يف
طبقات الشافعية -درجة االجتهاد املطلق ،وكان لبعضهم مذاهب نسبت إليهم :كاإلمام داود
ومذهبه الظاهري وقد تقدّ م بيان ذ لك ،واإلمام ابن املنذر النيسابوري ،سمع من الربيع
واحلسن الزعفراين وغريمها ،وله من املصنفات الكثري كاإلرشاف عىل مذاهب أهل العلم
وكتاب اإلمجاع وغريمها ،ورغم أن كتب الشافعية ترتجم له ،إال أنه بلغ درجة االجتهاد
بمذهب نسب إليه باسم :املذهب اجلريري ،لكنه من املذاهب املندثرة ،لكنه برع جدّ ا يف
التفسري.
أيضا انتسبوا للمذهب يف هذه املرحلة ،بل ّ
كل مراحل ثان ًيا :علامء حمدّ ثون من أكابر املحدثني ً
حياة املذهب املمتدة ألكثر من ألف ومائة عام بعد وفاة اإلمام ،وقد ترجم هلم يف كتب
الطبقات ،وهذا ملحوظ يف مراجعة فهارس أحد كتب طبقات الشافعية وأحد كتب طبقات
املحدثني لتجد االشرتاك الكبري بينهام يف األسامء ،وليس هذا بغريب فقد درس الشافعي فقه
مدرسة احلديث عىل يد سفيان ابن عيينة ومالك ،حتى سمي بنارص السنّة ،وهذا ظاهر يف
وحجية السنّة عمو ًما ،فكبار أئمة احلديث إمام من مجلة أصحابه
ّ مباحثه يف خرب الواحد،
اآلخذين عنه أو عن أتباعه :كاإلمام أمحد والرتمذي والنسائي وابن ماجه وابن املنذر وابن
ح ّبان وابن خزيمة والبيهقي واحلاكم واخلطايب واخلطيب وأيب نعيم وغريهم إىل زماننا ،وإما
من مجلة الناقلني ألقواله املوافقني عليها املعرضني عن مقالة غريه بالكلية كالبخاري وغريه
ويكفي رشفا نقل البخاري عنه يف صحيحه ما يذهب إليه يف الركاز والعرايا ،وإنام مل ينقل عنه
ومن أشهر هؤالء العلامء املحدّ ثني الذين كانوا شافعية يف هذه املرحلة :اإلمام احلافظ أبو بكر
حممد بن إسحاق ابن خزيمة النيسابوري ،أخذ عن املزين واملرادي ،ثم أخذ طريق االجتهاد،
ول ّقب بإمام األئمة ،واشتغاله باحلديث أكثر من الفقه ،ومن أبرز مصنفاته صحيح ابن
خزيمة ،وكان إمام خراسان يف عرصه ،وتويف فيها .واإلمام احلافظ أبو حممد عبد الرمحن بن
أيب حاتم احلنظيل الرازي ،رحل من بالد خراسان مع أبيه يف مجع احلديث ،كان من أئمة عرصه
يف اجلرح و التعديل والعلل ،وكان شافعيا ،ومن مصنفاته :آداب الشافعي ومناقبه ،وهو
مطبوع .واإلمام احلافظ أبو احلسن عيل بن عمر الدارقطني البغدادي ،كان من كبار املحدثني
يف عرصه ،أخذ عن أيب سعيد اإلصطخري الشافعي ،ومن أبرز مصنفاته :سنن الدار قطني،
والعلل.
ثال ًثا :تويل علامء الشافعية ملناصب القضاء :يف هذه املرحلة توىل عدد غري قليل من الشافعية
القضاء يف أكثر من مدينة من مدائن املرشق اإلسالمي ،وكان اخللفاء واألمراء يراعون املذهب
انتشارا يف بلد من البلدان ،فتختار القايض من فقهائه؛ ضب ًطا ألحوال الناس ،ومن ًعا
ً األكثر
للفتنة ،مع مراعاة سعة علم القايض ،وطيب أخالقه ،وسريته احلسنة ،وقناعة صاحب السلطة
به وبمذهبه ،وتويل القضاء من األمور املساعدة عىل نرش املذهب ،ومما ّ
يدل عىل انتشار املذهب
يف هذه املرحلة وجود كثري من القضاة الشافعيني ،ومنهم :األول :أبو العباسن بن رسيج توىل
قضاء شرياز ،والثاين :أبو زرعة الدمشقي توىل قضاء دمشق ،والثالث :أبو سعيد اإلصطخري
توىل قضاء قم (من بالد إيران) ثم سائر بالد سجستان (أفغانستان وباكستان حال ًيا) وصنّف
يف القضاء :الرشوط والوثائق واملحارض والسجالت الذي قيل بأنه مل يصنّف يف بابه مثله،
والرابع :أبو السائب اهلمذاين قايض أذربيجان ثم انتقل إىل بغداد وتوىل قضاء القضاة،
واخلامس :أبو رش عمر بن أكثم األسدي قايض بغداد يف أيام املطيع هلل ثم قضاء القضاة بعد
أيب السائب ،والسادس :أبو حممد القرميسيني قايض جرجان (قريبة من الساحل اجلنويب
الرشقي لبحر قزوين) .ومل يقترص األمر عىل القضاء فقط ،بل توىل علامء الشافعية الوزارة،
ومنهم :أبو الفضل حممد بن عبيد اهلل التميمي املعروف بالبلعمي ،من بلعم ببالد تركيا ،وتوىل
الوزارة يف بالد ما وراء النهر وغريها ،وتفقه عىل حممد بن نرص املروزي.
استقرار مذهب الشافعية وثباته :وهو املرحلة الثانية من الدّ ور الثاين ويمتد من سنة 404هـ
إىل سنة 505هـ ،و هذه املرحلة متداخلة مع ما قبلها (ظهور املذهب)؛ فاإلمام أبو حامد
اإلسفراييني ً
مثال عاش معظم حياته يف املرحلة األوىل لكنه سيكون من أعالم املرحلة الثانية؛
وذلك ألن هناك فر ًقا بني ظهور املذهب وبني استقراره وثباتهّ ،
فكل املذاهب حتى املندثرة
شك ،لكنها مل تستقر ،فمذهب الليث ً
مثال ظهر ما يقرب من ثالثني كان هلا مرحلة ظهور بال ّ
عا ًما بعد وفاته ،ومذهب األوزاعي ظهر ما يزيد عىل املائة ومخسني عا ًما من وفاته ،مع
أيضا الذي بقي موجو ًدا حتى
مرت بمرحلة استقرار ً
مالحظة أن بعض املذاهب املندثرة ربام ّ
منتصف القرن الثامن اهلجري تقريب ًبا.
وأبرز العوامل التي أ ّدت إىل استقرار املذهب يف هذه املرحلة أدى إىل استمرار حياة املذهب
ً
إمجاال :األول :وفرة عدد من العلامء املتبحرين فيه وإجادهتم ألكثر من ثامنية قرون أمران
ّأو ًال :وفرة عدد من العلامء املتبحرين يف املذهب ،أحسنوا خدمته ،وأكثروا التصنيف يف أصوله
وفروعه تصنيفا مجع ما يف املصنّفات للشافعية خالل القرنني الثالث والرابع ،وبقي أثر ذلك
يف األدوار التي أتت بعده ،وال أدل عىل ذلك من اهتامم علامء الشافعية خالل الثامنية قرون
السابقة بكتب هذه املرحلة رواية هلا ورشحا ملا فيها واختصارها .ومما يدل عىل كثرة املصنفات
يف املذهب يف هذه املرحلة (القرن اخلامس) :ظهور طريقتني يف التصنيف يف فقه الشافعية:
طريقة العراقيني ،وطريقة اخلراسانيني ،والفرق بينهام :أن طريقة العراقيني لنصوص الشافعي
وقواعد مذهبه ووجوه أصحابه أتقن وأثبت من طريقة اخلرسانيني ،واخلراسانيون أحسن
ومن أشهر أعالم طريقة العراقينيّ :أو ًال :اإلمام أبو حامد اإلسفراييني نسبة إىل إسفرايني
(دولة تركامنستان) ،ثم انتقل إىل بغداد ،وهو شيخ طريقة العراقيني ،واعترب جمدد األمة ألمر
دينها عىل رأس األربعامئة ،ول ّقب بالشيخ .ثان ًيا :القايض أبو الطيب طاهر بن عبد اهلل الطربي،
ينتسب ،أما املاوردي فهي إىل بيع املاورد وعمله؛ ألن بعض أجداده كان يعمله ويبيعه ،أخذ
أيضا ،وصنّف األحكام السلطانية واحلاوي وغريمها كثريا ،ول ّقب بأقىض
عن اإلسفراييني ً
القضاة بعدما توىل القضاء وبرع فيه.
ومن أشهر أعالم طريقة اخلراسانيني :أوال :اإلمام أبو بكر املروزي املعروف بالق ّفال الصغري،
فسمي
ولد بمرو من بالد خراسان (دولة تركامنستان) ،واشتغل يف أول حياته بعمل األقفال ّ
لذلك بالقفال ،ثم درس فقه الشافعية ،وهو شيخ طريقة اخلراسانيني ،وتسمي هذه الطريقة
أيضا بطريقة املراوزة نسبة إىل مرو بلد الق ّفال .ثان ًيا :أبو حممد عبد اهلل بن يوسف اجلويني،
ً
والد إمام احلرمني ،ولد يف جوين من ضواحي نيسابور ،تف ّقه عىل فقهاء جوين ،ثم نيسابور
مرة أخرى
ليالزم أبا الطيب الصعلوكي ،ثم رحل إىل مرو ليلتقي بأيب بكر املروزي ،ثم رجع ّ
وكثريا من املصنفات .ثالثا :أبو
ً إىل نيسابور للتدريس والتصنيف ،ورشح رسالة الشافعي،
عيل احلسني املروروذي املعروف بالقايض حسني ،ولد يف مدينة مروروز من بالد خراسان،
ومن أشهر أعالم الطريقة اجلامعة بني طريقتي اخلراسانيني والعراقيني :وهي طريقة ينقل فيها
أصحاهبا عن مصنفات الطريقتني يف حترير املسائل وعرض األدلة وعزو أقوال أئمة املذهب،
وأصحاهبا كانوا ينتسبون يف بداية نشأهتم إىل إحدى الطريقتني ،وهذا يف حرلة متقدمة من
القرن اخلامس اهلجريّ :أو ًال :إمام احلرمني أبو املعايل عبد امللك اجلويني ،ولد يف جوين من
نواحي نيسابور ،ثم سافر إىل بغداد ،ثم إىل احلجاز ،فلقب بإمام احلرمني لتدريسه هناك وإفتائه
امللك ،وإذا قيل يف كتب املذهب بإطالق :اإلمام ،فهو املقصود ،ومن كتبه املشهورة :هناية
املطلب يف دراية املذهب .الثاين :اإلمام أبو حامد الغزايل حجة اإلسالم ،ولد يف بلدة الطابران
من مدينة طوس يف خراسان ،رحل إىل نيسابور فأخذ عن اجلويني ،ثم إىل بغداد فأخذ عن
ودرس باملدرسة النظامية ،ورحل إىل احلجاز والشام ومرص ،وعاد إىل الطابران
فقهائهاّ ،
ومات فيها ،وله مصنفات كثرية ،ووفاته احلدّ الفاصل بني الدورين :الثاين والثالث من أدوار
طريقتي العراقيني واخلراسانيني واجلامعني بينهامّ :أو ًال :أبو بكر البيهقي ،ولد يف إحدى قرى
بيهق من نواحي نيسابور ،وسمع احلديث ،ورحل إىل العراق واحلجاز جلمعه ،فربز فيه ،وتفقه
عىل مذهب الشافعي ،وأحسن نرصته يف مصنفات عديدة أبزرها املبسوط ،ومعرفة السنن
واآلثار ،حتى قال اجلويني :ما من شافعي إال وللشافعي يف عنقه منّة إال البيهقي ّ
فإن له عىل
الشافعي منّة؛ لتصانيفه يف نرصته ملذهبه وأقاويله .وويل قضاء نيسابور مدّ ة ،وكتابه :مناقب
الشافعي أوسع ترمجة للشافعي بالروايات املسندة .ثان ًيا :أبو إسحاق الشريازي ،ولد يف فريوز
آباد من بالد فارس ونشأ هبا ،ثم دخل شرياز من كربى مدن فارس ،وأخذ عن فقهائها،
وانتسب إليها ،ورحل إ ىل البرصة ،ثم بغداد ليأخذ عن أيب الطيب الطربي أحد أبرز أعالم
ثان ًيا :رعاية السلطة احلاكمة ملذهب الشافعية :ال خيفى أثر السلطة ممثلة باخللفاء والوالة
والوزراء يف نرصة مذهب فقهي أو عقدي يف بقاء هذا املذهب وديمومته ،وإن كانت وحدها
ال تكفي لتحقيق الديمومة ،فالبد من وجود العلامء القائمني بالتصنيف والتدريس واملناظرة
ونحوذلك ،وال أدل عىل ذلك من أن الدولة الفاطمية نرصت اإلسامعيلية ألكثر من مائتي
عام ،لكنها مل تفلح يف استقرار هذه الفرقة يف مرص بعد زوال هذه الدولة.
وأبرز رجال احلكم الذين نرصوا املذهب الشافعي يف هذه املرحلة (من 404إىل ّ :)505أو ًال:
اخلليفة العبايس القادر باهلل ،وكان متف ّقها عىل مذهب الشافعي حتى صنّف كتا ًبا يف أصول
الفقه ،وكان الكتاب ُيقرأ يف كل مجعة بجامع املهدي يف حلقة أصحاب احلديث .ثان ًيا:
السلطان شمس امللك نرص بن إبراهيم ،وكان ملكًا للدولة العباسية لبالد ما وراء هنر
جيحون ،وكان متف ّقها عىل مذهب الشافعي حتى عدّ من فقهائهم .ثال ًثا :الوزير نظام امللك
وكانت خمصصة لدرا سة علوم الرشيعة عامة ،والصدارة فيها لعلامء الشافعية خاصة ،وكان
دعام من
الوزير نظام امللك شديدً ا عىل الفرق الباطنية واإلسامعيلية خاصة والتي كانت تلقى ً
اخلالفة الفاطمية يف مرص؛ ولذا قامت الدولة الفاطمية يف مرص بالدور نفسه لكن يف اجلهة
املقابلة ،وبنوا اجلامع األزهر ألجل هذه الغاية ،وتزامن مع جهود نظام امللك وفرة عدد كبري
من الفقهاء وقد سبق ذكر بعضهم ،ومما يدل عىل مكانة نظام امللك عند علامء الشافعية تصنيف
الطويس ،وحفيده األمري أبو نرص حممد بن عيل بن أمحد بن الوزير نظام امللك.
أبرز معامل هذه املرحلة (مرحلة استقرار املذهب وثبوته):
ّأو ًال :انحسار ظاهرة االجتهاد املطلق بني فقهاء الشافعية ،فلم يربز يف هذه املرحلة من فقهاء
الشافعية من اجتهد اجتها ًدا مطل ًقا يف الفروع واألصول ،بالرغم من أ ّن علامء هذه املرحلة
كانوا أكثر بكثري من املراحل قبلها ،ولعل من أسباب ذلك :هو العصبية املذهبية والتقليد
املحض الذي بدأ بالظهور خالل القرن اخلامس اهلجري ،باإلضافة إىل كثرة املصنفات
وهضمها ،مع مالحظة أن انحسار ظاهرة االجتهاد املطلق ليست خاصة باملذهب الشافعي،
ثان ًيا :الظهور اجليل للعصبية املذهبية ،فلم يقف األمر عند االنتصار للمذهب باألدلة
الصحيحة املعتربة ،بل جاوزه إىل تضعيف وربام تسفيه أقوال املذاهب األخرى ،فتحولت
قديام إىل ميدان للجدل املذموم ،بل حصلت فتن واقتتال أحيانًا،
املناظرات التي كانت هادئة ً
ولعل من دالئل ذلك تصنيف اإلمام اجلويني كتاب :مغيث اخللق يف ترجيح القول احلق،
حيشد فيه األدلة عىل رجحان مذهب الشافعي عىل مذهبي أيب حنيفة ومالك ،ولعل أهم
أسباب تفيش التعصب املذهبي :التقليد املحض ،واجلهل ،وسوء األخالق واتباع اهلوى.
ثال ًثا :ظهور موسوعات فقهية شافعية تعنى بالفقه املقارن بشكل جيل :وهو ما يسمى بعلم
اخلالف ،ففي هذه املرحلة كان فقهاء الشافعية مع ذكرهم ملذهبهم يتعرضون إىل أقوال وأدلة
فقهاء غري مذهبهم عىل وجه التفصيل املستوعب أحيانًا ،وأبرز كتابني يمثالن هذا النوع من
التصنيف يف هذه املرحلة :احلاوي للاموردي ،وهناية املطلب للجويني .وهذه الظاهرة يف
التصنيف يف الفقه املقارن كان موجو ًدا عند عامة املذاهب وليس عند الشافعية فقط ،لإلمام
أيب جعفر الطحاوي مثال كتاب اختالف العلامء (مفقود) ،والبن عمروس املالكي كتاب:
تعليق يف اخلالف ،وغريمها كثري .وشيوع هذه الظاهرة تدل عىل تأثر املذاهب ببعضها بعضا،
ووجود قنوات اتصال بني فقهائها ،بحكم التجاوز اجلغرايف يف األماكن التي انترش فيها أكثر
من مذهب ،كام يف املرشق مثال حيث جتاوز األحناف والشافع ّية.
راب ًعا :تصنيف علامء الشافعية يف أصول الفقه عىل طريقة املتكلمني :وقام منهج هذه الطريقة
ما عرف بطريقة :الفقهاء أو األحناف ،والتي قامت عىل تقرير القواعد األصولية عىل مقتىض
ما نقل عن األئمة املجتهدين من اجتهادات يف الفروع ،باعتبار أن هذه القواعد عي التي
راعاها هؤالء األئمة عندما اجتهدوا واستنبطوا تلك الفروع .وهاتان الطريقتان متتدان إىل
القرن الرابع ،لكنهام متايزتا خالل القرن الخامس ،وكان أبرز املصنفني عىل طريقة املتكلمني
مصنفات .ومن أبرز املصنفات التي عىل طريقة املتكلمني من تصنيف علامء الشافعية :اللمع
اجلهود السابقة لعمل النووي والرافعي يف خدمة املذهب :استمر علامء الشافعية يف نرش
املذهب خالل القرن السادس ،لكن من األحداث املؤثرة يف هذه املرحلة رجوع املذهب إىل
مرص بعد زوال الفاطميني ونرصة صالح الدين األيويب له ولعلامء مذهبه وإحسان رعايتهم،
فكانت سريته فيهم قريبة من سرية الوزير السلجوقي نظام امللك ،ومن أبرز األعامل التي قام
هبا لنرصة أهل السنة عامة والشافعية خاصة :بناؤة ملدرسة النرصية ،والتي كانت أول مدرسة
خمتصلة لتعليم فقه أهل السنة بعد عهد الفاطميني ،وبناؤه كذلك للمدرسة الصالحية نسبة
النارصية ،وهو ّأول من دعا للخليفة العبايس املستيضء باهلل معلنًا زوال حكم الفاطميني،
وللقايض أبو عيل عبد الرحيم ابن القايض األرشف اللخمي دور بارز يف حفز صالح الدين
للتمكني إىل فقهاء السنة والشافعية خاصة ،فقد كان وزير السلطان ،وفقه ًيا عىل مذهب
ومن أبرز علامء املذهب الذين خدموه خالل القرن السادس اهلجري :أ ً
وال :اإلمام احلسني
بن مسعود البغوي املعروف بالفراء ،نسبة إىل عمل الفراء وبيعها ،ويلقب بمحيي السنّة ،ولد
يف بغا (إحدى قرى خراسان) ،ومجع بني الفقه واحلديث ،وكان من أخص تالميذ القايض
حسني املروروزي ،وكان أبرز علامء الشافعية يف خراسان بعد وفاة الغزايل ،ومن مصنفاته:
رشح السنّة ،ومصابيح السنّة ،ومعامل التنزيل يف التفسري ،والتهذيب يف فقه الشافعي.
ثان ًيا :اإلمام حممد بن حيي النيسابوري ،تفقه عىل يد الغزايل ،وانتهت إليه رياسة الشافعية يف
نيسابور ،ومن مصنفاته :املحيط يف رشح الوسيط ،واإلنصاف يف مسائل اخلالف ،قتل شهيدً ا.
واستقر يف دمشق
ّ ثال ًثا :اإلمام ابن أيب عرصون ،ولد باملوصل ،وكانت له رحالة واسعة،
يدرس ويفتي عىل مذهب الشافعية ،وكان مع ّظام عند السلطان نور الدين زنكي ،وح ّثه عىل
ّ
بناء مدارس لتعليم الرشيعة يف حلب ومحاة وغريمها ،وتوىل قضاء دمشق ،وتويف فيها ،ودفن
يف املدرسة التي بناها لنفسه وتسمى بالعرصونية ،وله مصنفات كثرية نافعة .راب ًعا :اإلمام
الفخر الرازي أبو عبد اهلل حممد بن عمر بن احلسني ،نسبة قريش ،وأصله من طربستان ،وولد
يف مدينة الري وإليها نسب ،وتربى يف حجر والده أيب القاسم ضياء الدين الذي كان من علامء
الشافعية يف الري ،ورحل رحالت علمية كثرية يطلب الفقه واألصول والتفسري والكالم،
وله مصنفات رئيسية يف موضوعها ،منها :املحصول يف علم األصول ،ورشح الوجيز للغزايل
يف كتابه :مناقب الشافعي ،وتويف يف مدينة هراة أو هريات (تقع يف أفغانستان).
املرجوحة والشا ّذة ،وبيان املعتمد عند فقهائه يف الفتوى؛ توحيدً ا ملرجع ّية القضاة واملفتني من
احلاجة إىل تنقيح املذهب :ظهرت احلاجة إىل تنقيح املذهب يف هذا الدّ ور (القرن السادس)؛
بسبب كثرة املصنفات يف املذهب ،وكان مصنّفوها يف بقاع متباعدة حيث انترش املذهب
واس ًعا ،وكان فيها بطبيعة احلال عدد غري قليل من التخرجيات املخالفة ألصوال املذهب ،أو
التعصب املذهبي والتقليد املحض منذ أواخر القرن الرابع ،وانحسار ظاهرة
ّ التنقيح :ظهور
االجتهاد عند سائر املذاهب ،كل ذلك جعل فقهاء املذهب حيرصون عىل تنقيح مذهبهم،
متعاملني مع نصوص أئمتهم تعامل املجتهد املطلق مع نصوص الرشع ،وهذا حيتاج إىل جمهود
جبار تتمثل يف مراجعة مصنفات عدد كبري من األئمة املجتهدين عرب أربعة قرون.
وقد برز يف أواخر القرن السادس اإلمام عبد الكريم الرافعي؛ ليقوم بجهد ضخم يف تنقيح
مهد به الطريق لإلمام النووي ،لتشكّل جهودمها بعد ذلك وحدة واحدة مت ّثل:
املذهبّ ،
واألهم لفقه الشافعية يف تاريخ تطور املذهب املمتد ألكثر من ألف ومائتي عام،
ّ األول
التنقيح ّ
مدوناته وأعالمه، حمكام ّ
يدل عىل متكنهام من املذهب وسعة اطالعهام عىل ّ وكان عملهام جام ًعا ً
لدرجة أن اإلمام عبد الرحيم اإلسنوي يف كتابه :طبقات الشافعية كان يرتّب األسامء عىل وفق
تسلسل احلروف األبجدية ،ويف كل حرف فصالن :األول لألعالم املذكورين يف كتايب
الرافعي والنووي :الرشح الكبري (العزيز) ،وروضة الطالبني ،والثاين لألعالم الذين مل يرد
أي من الكتابني ،وهذا ّ
يدل عىل شمول الكتابني لكثري من أعالم الشافعية. ذكرهم يف ّ
ومن اجلدير بالذكر أنه قبل عرص اإلمامني الرافعي والنووي :كان كتاباّ :
املهذب للشريازي،
والوسيط أليب حامد الغزايل= يعتربان األكثر ً
متثيال للمذهب من بني املصنّفات األخرى.
جهود اإلمام الرافعي يف تنقيح املذهب :هو اإلمام أبو القاسم عبد الكريم القزويني الرافعي،
ولد يف قزوين (من مدن أصبهان شامل بالد فارس) وإليها ينسب ،والرافعي نسبة إىل رافعان
وهي بلدة من بالد قزوين ،وقال بعضهم :إهنا نسبة إىل الصحايب اجلليل رافع بن خديج ،تر ّبى
يف حجر والده الذي كان فقيها شافعيا ،ثم أخذ العلم عن أكابر علامء عرصه حتى أضحى
ثان ًيا :العزيز رشح الوجيز (الرشح الكبري) وهو مطبوع ،ثال ًثا :الرشح ّ
الصغري ،وهو رشح
جهود اإلمام النووي يف تنقيح املذهب ،هو اإلمام أبو زكريا حييى بن رشف النووي ،ولد يف
نوى التي إليها ينسب ،وهي إحدى قرى حوران (من حمافظة السويداء يف سوريا اآلن) ،رحل
إىل دمشق ليالزم كبار فقهاء الشافعية واملحدثني ،وبرع يف الفقه واحلديث ،وأجاد يف الفقه،
ومل يرحتل خارج الشام إال للحج ،ورغم ذلك فهو أبرز الشافعيني يف زمانه بال منازع .وتتمثل
جهوده يف تنقيح املذهب يف هذه املصنّفات :األول :روضة الطالبني وهو اختصار لكتاب
العزيز رشح الوجيز املسمى بالرشح الكبري للرافعي ،والثاين :منهاج الطالبني وعمدة املفتني
أربعة قرون تلت وفاة اإلمام املؤسس ،حتى قال اهليتمي :بأن الكتب املتقدمة عىل الشيخني
النووي والرافعي ال يعتمد يشء منها إال بعد مزيد الفحص والتحرى حتى يغلب عىل الظن
رت بتتابع كتب متعددة عىل حكم واحد ،فهذه الكثرة قد تنتهي إىل واحد،
أنه املذهب ،وال يغ ّ
ّأو ًال :استمرار شيوع ظاهرة العصبية املذهبية والتقليد ،والذي جتاوز إىل احتدام املناظرات
واجلدل ،وتسفيه األقوال املخالفة ،وللتدليل عىل ذلك أن اإلمام الفخر الرازي من كبار
أصوليي الشافعية ومتكلميهم خصص أكثر من ثلث كتابه :مناقب الشافعي حلشد أد ّلة
لرتجيح مذهب الشافعي عىل سائر املذاهب عامة ومذهب أيب حنيفة خاصة ،وكان يتن ّقص
من شأن أيب حنيفة بأساليب شتى ،منها أن يقول :ذهب أبو فالن ،وقال أبو فالن ،يشري إىل
اإلمام أيب حنيفة ،ومثل هذا كان له أثر سلبي عىل عالقة أتباع املذاهب مع بعضهم سواء
متجاورة جغراف ّيا ،فعىل النقيض صنّف املحدث والفقيه احلنفي أبو املظ ّفر شمس الدين
يوسف بن ُق ْز ُغيل البغدادي (يف نفس عرص الفخر الرازي) كتاب :االنتصار والرتجيح
للمذهب الصحيح ،وك ّله يف بيان مناقب أيب حنيفة ،ورجحان مذهبه عىل سائر املذاهب عامة
وعىل مذهب الشافعية خاصة ،ومما جاء فيه أنه كان يعرض بعض املسائل يد ّلل من خالهلا أن
األخذ بمذهب أيب حنيفة هو األصلح للخليفة والوالة ،ليحفز احلكام يف اعتناق مذهب
احلنفية وتولية القضاء منهم ،ملا يف ذلك من أثر عظيم يف تثبيت مذهب من املذاهب .لكن رغم
السلمي
واإلمام عز الدين بن عبد السالم ،هو أبو حممد عز الدين ،عبد العزيز بن عبد السالم ًّ
الدمشقي ،امللقلب بسلطان العلامء وبائع امللوك ،ولد يف دمشق ،تعلم عىل يد كبار علامئها،
وويل اخلطابة والتدريس يف اجلامع األموي ،واشتغل بالفقه واألصول أكثر من غريمها ،وبدأ
حياته شافع ّيا ،ثم ملا رسخت قدم ه اجته نحو االجتهاد املطلق ،وكان من دعاة اجلهاد يف سبيل
يدرس
اهلل تعاىل ،وله مواقف مشهوده مع ملوك وأمراء زمانه ،رحل إىل القاهرة واستوطنها ّ
ويفتي إىل أن ّ
تويف فيها ،ومن أشهر مصنّفاته :الغاية يف اختصار النهاية ،اخترص فيه كتاب هناية
املطلب للجويني ،وله يف األصول :اإلملام يف بيان أدلة األحكام ،وأبرز مصنفاته :قواعد
واإلمام أبو شامة املقديس ،هو أبو القاسم شهاب الدين ،عبد الرمحن بن إسامعيل املقديس
الدمشقي ،املعروف بأيب شامة لشامة كبرية كانت فوق حاجبه ،أصله من القدس ،وولد يف
دمشق ،وتلقى عن كبائر علامئها ،فجمع القراءات ،وسمع احلديث وكان اشتغاله به أكثر،
وتفقه عىل املذهب الشافعي عن العز بن عبد السالم وكان من خواص تالميذه ،وأتقن النحو
واللغة وصنّف فيها ،ثم رسخت قدمه حتى بلغ مرتبة االجتهاد املطلق ،من مصنفاته :تاريخ
دمشق وخمترصه ،واملرشد الوجيز يف علوم تتعلق بالكتاب العزيز ،والوصول يف األصول،
ورشح لسنن البيهقي ،ومن مصنّفاته التي وصلت إلينا :خمترص كتاب املؤ َّمل للر ّد إىل األمر
األول ،وفيه استقراء ج ّيد لتطور مسرية الفقه منذ وفاة سيدنا حممد صىل اهلل عليه وسلم إىل
ّ
النصف األول من القرن السابع اهلجري ،وفيه دعوة رصحية فتح باب االجتهاد املنضبط
بالقواعد املعتربة يف علم أصول الفقه ،ونبذ العصبية املذهبية والتقليد املحض.
ثانيا :من أبرز معامل هذه املرحلة :ابتعاد التصنيف يف أصول الفقه عند الشافعية عن الفروع
الفقهية ابتعا ًدا أظهر احلاجة لتخريج الفروع عىل األصول ،فاستمر األصوليون يصنفون عىل
طريقة املتكلمني أو ما يسمى بطريقة الشافعية ،فظهر املحصول يف علم األصول للفخر
الرازي ،واإلحكام يف أصول األحكام لسيف الدين اآلمدي ،وكانت طريقتهم تقابل طريقة
خمرجة
الفقهاء أو طريقة احلنفية يف التصنيف والتي امتازت بعرض قواعد ومسائل األصول ّ
ظهرت يف القرن السابع طريقتان جديدتان يف
ْ من القواعد الفقهية لألئمة والبناء عليها ،ثم
التصنيف يف أصول الفقه :األوىل :اجلمع بني طريقتي املتكلمني والفقهاء ،والثانية :ختريج
أما طريقة اجلمع بني املتكلمني والفقهاء :فتعرض القواعد وتناقشها وتقيم األد ّلة مقارنة بني
املخرجة عىل تلك القواعد ،و ّ
لعل ّ ما قاله املتكلمون والفقهاء ،مع اإلتيان ببعض الفروع
االبتعاد بني طريقتي الفقهاء واملتكلمني قد بلغ أوجه يف بداية القرن السابع ،مما دعا إىل
التصنيف هبذه الطريقة اجلديدة ،ومن أبرز املصنفات يف هذه الطريقة :بديع النظام اجلامع بني
أصول البزدوي واإلحكام ملظ ّفر الدين أمحد بن عيل الساعايت احلنفي ،مجع فيه بني كتايب :كنز
الوصول إىل معرفة األصول لفخر اإلسالم البزدوي ،واإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي.
وأما طريقة ختريج الفروع عىل األصول :فتقوم عىل ربط الفروع الفقهية بالقواعد األصولية
التي استنبطت تلك الفروع منها ،مع مناقشة القاعدة وما حصل من اختالف بني العلامء
إمج ًاال ،ونشأت نتيجة رغبة علامء كل مذهب يف الدفاع عن آرائهم ،ور ّد استنباطاهتم الفقهية
واألصول ،مما يزيل االنفكاك الذي خ ّيم عليهام قرونًا كثرية .والشافعية كانوا األحوج إىل
التصنيف عىل هذه الطريقة؛ ملا امتازت به كتب األصول عندهم من املناقشات العقلية املتأثرة
بأسلوب املناطقة حتى تكاد ختلو من الفروع ،فكان من الطبيعي أن يكون ّأول من يصنّف عىل
هذه الطريقة الشافعية ،وهو اإلمام شهاب الدين حممود بن أمحد الزنجاين يف كتاب :ختريج
الفروع عىل األصول ،ويرى بعض العلامء ّ
أن أول من صنّف فيه هو اإلمام أبو زيد الدبويس
والفروع وبني احلديث وقد حصل ذلك من قبل كام سبق ذكره ،فالشافعي هو من أئمة اهلدى
وسمي بنارص احلديث ،مع رسوخ قدمه يف هذا العلم ،ومن أبرز
ّ عند أهل السنّة واجلامعة
املحدثني يف هذا الدور الشافعية :األول :اإلمام ابن األثري اجلزري ،ولد يف منطقة اجلزيرة
وإليها ينتسب (تقع بني الفرات ودجلة من بالد الشام) ،زار بغداد وتف ّقه باملذهب الشافعي،
األصول ،والنهاية يف غريب احلديث ،والشايف يف رشح مسند الشافعي ،والبديع يف فرشح
الدين عبد الرمحن بن عثامن ،ثم طلب احلديث ،وتلقى عن أكابر علامء الشافعية ،وزار املوصل
احلديث :فهو املراد ،ومن مصنّفاته :معرفة أنواع علم احلديث (املقدّ مة) ،وتعليقات عىل
الوسيط للغزايل ،وطبقات الفقهاء الشافعية .الثالث :ابن أيب الدم ،شهاب الدين أبو إسحاق
إبراهيم بن عبد اهلل احلموي ،ولد يف مدينة محاة ،ورحل إىل بغداد وحلب والقاهرة يتفقه عىل
واشتغل بالتدريس والتصنيف ،ومن مصنفاته :رشح مشكل الوسيط للغزايل ،وأدب القضاء،
وتدقيق العناية يف حتقيق الرواية .الرابع :احلافظ املنذري ،زكي الدين عبد العظيم بن عبد
القوي املنذري املرصي ،ولد يف القاهرة ،وتف ّقه عىل املذهب الشافعي ،وسمع احلديث ،ورحل
إىل الشام واحلجاز واألسكندرية يتلقى الفقه وجيمع احلديث ،فربع فيهام ،وكان راسخ القدم
يف معرفة غريب احلديث ،ومن مصنفاته :الرتغيب والرتهيب يف احلديث ،وخمترص صحيح
وأخريا :فلقد عصفت أحداث سياسية عنيفة باملسلمني يف بالد العراق والشام ومرص يف هذا
ً
الدّ ور حتديدً ا ،متثلت بالغزو الصليبي لبالد الشام يف محالت متتالية ،ثم الغزو الترتى للعراق
والشام ،وما ختلل ذلك من حروب واقتتال بني أمراء املاملك ،حتى ختالف بعضهم مع
الصليبيني أو التتار عىل حرب املسلمني ،وكان سقوط بغداد بيد هوالكو سنة 656هـ ،وما
جرى فيه من قتل وأهوال ،ونزلت بأهل هذا العرص حمن وابتالءات شديدة ،لكن عىل الرغم
من ذلك مل ينرصف العلامء عن التصنيف ،وتعليم الناس أمور دينهم ،ونقل مرياث النبوة إىل
طلبة العلم ،فربز من أهل الشام ومرص عدد كبري من األعالم ،فذهبت تلك الدول واملحن،
اجلهود السابقة لعمل اإلمامني ابن حجر اهليتمي وشمس الدين الرميل يف خدمة املذهب:
وذلك من سنة 676هـ إىل سنة 926هـ ،وهي الفرتة من وفاة اإلمام النووي رمحه اهلل وحتى
وفاة شيخ اإلسالم زكريا األنصاري ،وكانت أبرز هذه اجلهود لعلامء مرص ّ
والشام ،وإن كان
متجاورا مع
ً املذهب قد استمر يف املرشق يف بالد فارس وما وراء نحر جيحون وبالد السند
مذهب احلنفية أحيانًا ،ومع مذاهب الشيعة أحيانًا أخرى كام يف بالد فارص والعراق ،وملا كان
حكم املامليك ملرص والشام الذي انقسم إىل مرحلتني :األوىل :دولة املامليك البحرية
(الصاحلية) ،ابتداء من السلطان عز الدين أيبك إىل السلطان الصالح حاجي ،والثانية :دولة
املامليك الربجية (اجلراكسة) ،ابتداء من السلطان الظاهر برقوق إىل السلطان قانصوه الغوري
ً
منعزال عن العامل اخلارجي ،وضعف الذي قتل يف معركته مع العثامنيني ،وكان هذا احلكم
االتصال مع احلضارات آنذاك ،بسبب احلروب ضد الصليبيني والتتار وغريهم ،واضطراب
األمن ،وتعطيل الصناعة ،واإلرضار بالزراعة ،وانعكس ذلك سل ًبا عىل احلياة االجتامعية يف
مرص ،فانترش الفقر واحلاجة بني الناس ،ويزداد األمر سو ًءا يف أزمنة االضطرابات الداخلية
علم الفقه ،خاصة أن هذا العرص ورث تراكامت سلبية من العصور السابقة املتمثلة يف
ورغم ذلك فقد سار علامء الشافعية خالل العهد اململوكي عىل خطى أسالفهم يف خدمة
مذهبهم والتصنيف فيه يف األصول والفروع ،ومن أبرزهم يف هذه املرحلة بعد وفاة اإلمام
الرفعة ،ولد يف مرص ،واشتهر بابن الرفعة نسبة إىل أحد أجداده،
األول :اإلمام نجم الدين ابن ّ
سمع احلديث ،وطلب الفقه وكان اشتغاله به أكثر ،أخذ عن علامء الشافعية يف مرص ،وانتهت
إليه رياسة الشافعية بمرص ،ومن مصنفاته :املطلب يف رشح الوسيط للغزايل ،والكفاية يف
يف اجلامع األموي ،ومن مصنفاته :االبتهاج يف رشح املنهاج للنووي يف الفقه ،واإلهباج يف
رشح املنهاج للبضاوي يف األصول ،وأكمله ولده تاج الدين بعده ،ورحل إىل مرص آخر حياته
وتويف فيها .وبعده :ولده تاج الدين عبد الوهاب بن عيل السبكي ،تف ّقه عىل والده ورحل معه
إىل دمشق فأخذ عن كبائر علامئها كاإلمام الذهبي ،وويل القضاء يف الشام بعد والده ،ورسخ
ً
أصوال وفرو ًعا ،ومن مصنفاته :طبقات الشافعية الكربى ،ومجع اجلوامع يف مذهب الشافعية
وأتم اإلهباج يف رشح املنهاج للبيضاوي لوالده ،وقد امتحن ملا كان قاض ًيا
يف أصول الفقهّ ،
قوي احلجة فطنًا
مكر ًما ،وكان ّ ً
عادال عفي ًفا فعزل وسجن لكنه صرب حتى عاد إىل القضاء ّ
ذكيا ،وتويف يف دمشق .ومن آل السبكي كذلك :اإلمام هباء الدين أبو حامد أمحد بن عيل
ً
أصوال الشبكي ،شقيق التاج السبكي ،ويل القضاء يف بالد الشام ،وأتقن الفقه الشافعي
تقي
عم اإلمام ّ
أيضا :هباء الدين أبو البقاء حممد بن عبد الرب السبكي ،ابن ابن ّ
وفرو ًعا .ومنهم ً
الدين ،رحل إىل طلب العلم يف بالد الشام ،وويل قضاء القاهرة ،وكان من كبار الشافعية يف
الثالث :اإلمام مجال الدين اإلسنوي ،ولد يف إسنا (بلدة صغرية يف صعيد مرص) ،وإليها
ينتسب ،رحل إىل القاهرة لطلب العلم ،حفظ التنبيه للشريازي يف سن مبكرة ،وسمع
احلديث ،وأتقن علوم العربية ،وأخذ عن كبار فقهاء الشافعية يف مرص ،وقي مقدمتهم اإلمام
تقي الدين السبكي ،وكان راسخ القدم يف علم أصول الفقه ،ومن مصنفاته :هناية السول رشح
منهاج علم األصول للبيضاوي ،والتمهيد يف ختريج الفروع عىل األصول ،واملبهامت عىل
الروضة للنوي (وهو يف الفقه استدرك فيه عىل النووي عددا من حتقيقاته وتوجيهاته يف كتاب
الروضة) ،وطبقات الشافية ،وغري ذلك ،وتوىل احلسبة ،ووكالة بيت املال يف مرص ،ثم عزل
للتفرغ للتدريس والتصنيف واإلفتاء ،وكان زاهدً ا كثري العطف عىل الفقراء واملساكني،
نفسه ّ
وتويف يف القاهرة.
الرابع :اإلمام شهاب الدين األذرعي ،ولد يف أذرعات الشام وإليها ينتسب ،رحل إىل القاهرة
ً
راسخا يف الفقه الشافعي ،توىل قضاء حلب طل ًبا للعلم ،فأخذ عن كبار علامئها حتى أصبح
مدّ ة ،ثم انرصف إىل اإلفتاء والتدريس والتصنيف ،ومن مصنفاته :مجع التوسط والفتح بني
الروضة والرشح يف الفقه ،وهو مجع بني كتايب الروضة للنووي والرشح الكبري للرافعي مع
االختصار واإلجياز ،ورشح املنهاج للنووي يف كتابني :غنية املحتاج ،وقوت املحتاج ،وتر ّدد
اخلامس :بدر الدين الزركيش ،ولد يف القاهرة ،وكان أبوه تركي األصيل ،وتعلم صنعة
الزركشة يف صغره واشتغل هبا وإليها ينسب ،وانرصف يف شبابه إىل العلم وأكثر اشتغاله كان
يف الفقه واألصول ،أخذ عن مجال الدين اإلسنوي يف مرص ،ثم رحل إىل دمشق وحلب فأخذ
ً
أصوال وفرو ًعا ،ومن مصنفاته :البحر املحيط وهو عن األذرعي ،وأتقن املذهب الشافعي
موسوعة يف أصول الفقه ،وتشنيف املسامع بجمع اجلوامع وهو يف األصول ،والديباج يف
توضيح املنهاج للنووي وهو يف الفقه ،وإعالم الساجد بأحكام املساجد ،وغريها من
املصنفات.
السادس :اإلمام رساج الدين ال ُبلقيني ،أصله من عسقالن ،ولد يف بلدة ُبلقينة (يف حمافظة
وسافر إىل حلب ،ثم عاد إىل القاهرة فاستوطنها لإلفتاء والتدرس والتصنيف ،ول ّقب بشيخ
اإلسالم ،ومن أكابر تالمذته :احلافظ ابن حجر ،وقال بعضهم عنه :إنه استجمع رشوط
االجتهاد املطلق ،وأنه كان املجدد لألمة دينها عىل رأس املائة التاسعة ،ومن مصنفاته:
تصحيح املنهاج ،وامللامت برد املهامت ،ومها يف الفقه ،وحماسن الرشيعة ،ورشح سنن
وإليها ينتسب ،أخذ عن علامء عرصه ،وبرع يف العربية وعلوم الرشيعة عامة ،واملذهب
الشافعي خاصة ،غلب الفهم عنده عىل احلفظ ،فكان مفرط الذكاء ،رفض تويل القضاء،
وعاش متقش ًفا يأكل من كسب يده يف التجارة ،مهي ًبا عند العامة واخلاصة ،شديدً ا يف احلق ال
خيشى لومة الئم ،ومن مصنفاته :البدر الطالع يف حل مجع اجلوامع ،ورشح الورقات
للجويني ،ومها يف أصول الفقه ،ومنز الراغبني رشح منهاج الطالبني ،وهو يف الفقه ،وكان
مقررا للتدريس يف األزهر الرشيف ،وله تفسري للقرآن أكمله بعده جالل الدين السيوطي،
ّ
وهو معروف بتفسري اجلاللني ،وتويف يف القاهرة.
إىل قبيلة اخلزرج من األنصار باملدينة ،حفظ القرآن يف سن مبكرة ،ثم انتقل إىل اجلامع األزهر
يف القاهرة يطلب العلم عىل فقر وشدة يف احلال ،أخذ عن كبار علامء عرصه ومن أبرزهم:
احلافظ ابن حجر ،برع يف األصول والفروع واحلديث والعربية ،وغدا فقيه الديار املرصية بال
املائة العارشة ،ومن مصنفاته :الغرر البهية رشح البهجة الوردية يف الفقه ،واملنهج اختصار
للمنهاج للنووي ،وغاية الوصول إىل علم األصول ،وله جمموع فتاوى مطبوعة بعنوان:
األناضول (تركيا اليوم) ،وأجزاء من أوروبا والعراق واجلزيرة العربية ،ومن اجلدير بالذكر
أن يعرف ّ
أن احلكم عىل جهود ما بأهنا تنقيح للمذهب تأيت من العلامء الذين يأتون بعدهم،
ومن عالمة تقديمهم واعتامدهم لعلامء باعتبارهم من ّقحني للمذهب :كثرة االهتامم
جهود اإلمام ابن حجر اهليتمي :هو اإلمام شهاب الدين أبو العباس أمحد بن حجر اهليتمي،
الطالبني للنووي ،ودرس عىل علامء مدينة طنطا ،ثم انتقل إىل األزهر الرشيف يف القاهرة،
فأخذ عن الشيخ زكريا األنصاري ،وشهاب الدين أمحد الرميل ،وكثري غريهم ،وبرع يف علوم
جهود اإلمام شمس الدين الرميل :هو حممد بن أمحد الرميل املنويف املرصي ،املشهور بالشافعي
الصغري ،نسبة إىل قرية الرملة من قرى املنوفية بمرص ،وتربى يف حجر والده الفقيه الشافعي
شهاب الرميل ،فحفظ القرآن والكثري من متون الشافعية وأتقن علوم العربية ،وأخذ عن
الشيخ حممد الرشبيني ،وبعد وفاة أبيه أصبح مفتي الشافعية يف مرص ،حتى أصبح فقيه الديار
املرصية يف عرصه ومرجعها يف الفتوى بال منازع ،وقيل :إنه املجدد لألمة دينها عىل رأس املائة
العارشة ،ومن مصنفاته :هناية املحتاج يف رشح املنهاج ،وغاية البيان رشح زبد ابن رسالن،
ورشح التحرير لزكريا األنصاري ،ورشح اإليضاح يف مناسك احلج ،ورشح العقود يف النحو،
الفروق بني التنقيح األول والثاين للمذهب :التنقيحان يشرتكان يف كوهنام مراجعة شاملة
ملصنفات املذهب الفقه ية ،بقصد تنقيتها مما خالف املذهب من آراء واجتهادات ،لكن تتجىل
الفروق يف ثالثة أمور :األول :أن اهليتمي والرميل كانا متعارصين ومل يكونا كام كان النووي
املحرر
أتى بعد الرافعي وبنى عليه يف اختصار الرشح الكبري له يف روضة الطالبني واختصار ّ
يتم أحدمها عمل اآلخر .الثاين :أن تنقيح النووي
يف املنهاج ،أما ابن حجر واهليتمي فلم ّ
والرافعي كان بمراجعة ما سبقهام من مصنفات فقهية خالل أربعة قرون خلت من وفاة
اإلمام ،أما تنقيح اهليتمي والرميل فاقترص عىل مراجعة اجتهادات الشافعية خالل القرنني
الثامن والتاسع فقط والتي دارت يف فلك تنقيح النووي والرافعي .الثالث :بنى اهليتمي
والرميل جهدمها عىل جهد الرافعي والنووي ،فكتاهبام الرئيسان رشح للمنهاج للنوي ،كام
تعرضا فيهام ملا خالف فيه النووي الرافعي ،واجتهدا يف الرتجيح بينهام ،باإلضافة إىل االجتهاد
ّ
يف املسائل التي مل يبحثها النووي والرافعي.
ّأو ًال :االبتعاد الواضح يف التصنيف عن طريقة الشافعي ومنهجه ،والتي اتسمت بتجيل
حيث اكتظت بعرض أقوال أئمة املذهب والرتجيح بينها بام يشبه الفقه املقارن لكن داخل
دائرة املذهب نفسه ،ومن األدلة عىل ما سبق ً
مثال :قول العالمة عبد اهلل احلرضمي يف املقدمة
احلرضمية :وما كثرت مجاعته أفضل إال إذا كان إمامها حنفيا أو فاسقا أو مبتدعا .فاملصنفات
يف هذا الدور تفيد القايض واملفتي املتمذهبني باملذهب لريجع إليها يف القضاء واإلفتاء ،ال
لكن وجد يف هذا الدور رغم االضطرار السيايس الذي اتصف به العهد اململوكي بعض
املحدثني الشافعية الذين كانت هلم جهود متميز ة يف التجديد يف التصنيف ،ومن أبرز هؤالء
األول :اإلمام تقي الدين أبو الفتح حممد بن عيل املنفلوطي املرصي (أصله من منفلوط بمرص)
ويعرف كأبيه وجدّ ه بابن دقيق العيد ،ولد يف ينبع ملا سافر أبوه به إىل احلج ،ونشأ حم ّبا للعلم،
ورحل إىل دمشق لطلبه واألسكندرية والقاهرة ،فربع يف احلديث رواية ودراية ،وتفقه عىل
املذهب املالكي وأجاد فيه ،ثم انتقل إىل الشيخ فأخذ عن العز بن عبد السالم ،فأتقن املذهب
القضاة ،وتويف يف القاهرة ،وقارن االجتهاد املطلق ،ومن مصنفاته املشهور :إحكام األحكام
رشح عمدة األحكام ،فرشح أحاديث العمدة متعرضا ألقوال الفقهاء من املذاهب ،وناقشها
حجر وهو لقب ألحد أجداده ،وأصله من عسقالن بفلسطني وإليها ينتسب ،ومولده يف
القاهرة ،نشأ يتيم األبوين ،فقام أحد أوصيائه برعايته ،فحفظ القرآن يف سن مبكرة ،وأخذ
عن علامء القاهرة ،ثم رحل إىل الشام واحلجاز واليمن لسامع احلديث ،وكانت عنده األسانيد
العالية ،وتفقه عىل املذهب الشافعي فأخذ عن رساج الدين البلقيني وغريه من األئمة يف
وعني قاضيا عىل القاهرة وما حوهلا عدة مرات ،ومن أبرز مصنفاته:
عرصه فأتقن املذهبّ ،
تعجيل املنفعة بزوائد رجال األئمة األربعة ،ولسان امليزان ،هتذيب التهذيب ،كل ذلك يف
أسامء رواة احلديث وأحواهلم ،وتوايل التأسيس ملعايل حممد بن إدريس يف مناقب الشافعي،
والتلخيص احلبري يف ختريج أحاديث الرافعي الكبري ،فخدم به أحد أهم كتب الشافعية ،وبلوغ
املرام يف أحاديث األحكام ،ورشح صحيح البخاري املسمى بفتح الباري وهو أهم كتبه عىل
اإلطالق ،وأهم رشح لصحيح البخاري كذلك؛ ملا فيه من فقه ابن حجر وأعرضه ألقوال
تعصبه
ومناقشة كل ذلك ،والتعرض للمسائل األصولية خالل توجيهاته لألدلة ،وعدم ّ
للمذهب ،فكان أقرب يف تصنيفه إىل منهج الشافعي.
الثالث :احلافظ جالل الدين السيوطي عبد الرمحن ،ولد يف القاهرة ،ومات والده يف عمر
مخس سنوات ،حفظ القرآن يف سن مبكرة ،أخذ عن كبار علامء عرصه ،ثم رحل إىل بالد الشام
ً
أصوال واحلجاز واليمن واملغرب ،فسمع احلديث وأتقنه رواية ودراية ،وأتقن املذهب
وفرو ًعا ،وأصبح إمام يف التفسري ،وعلوم القرآن ،والعربية ،فكان بحرا ال ساحل له ،وقال
لت عندي آالت االجتهاد ،وملا بلغ أربعني سنة اعتزال الناس وانقطع للتصنيف
كم ْ
عن نفسهُ :
عىل ضفاف النيل وبقي كذلك إىل أن توفاه اهلل ،ويف تلك اخللوة صنف أكثر كتبه التي زادت
عىل 600مصنف ،وكان األمراء واألغنياء يزورونه يف خلوته ويعرضون عليه األموال
واهلدايا فريدها ،وكان يرفض دعوة السلطان اململوكي حلضور جملسه ،ومن أبرز مصنفاته:
اإلتقان يف علوم القرآن ،والدر املنثور يف التفسري باملأثور ،والديباج عىل صحيح مسلم بن
احلجاج ،وتدريب الراوي رشح تقريب النووي ،وخمترص روضة الطالبني ،ورشح التنبيه
للشريزاي ،واألشباه والنظائر يف قواعد وفروع الشافعية ،وهو أبرز كتب القواعد الفقهية يف
املذهب ،وتاريخ اخللفاء ،والرد عىل من أخلد إىل األرض وجهل أن االجتهاد يف كل عرص
فرض ،وهو من أهم الكتب التي تدل عىل حترره من التعصب املذهبي ومناداته بفتح باب
ثانيا :من أبرز معامل هذه املرحلة :ظهور التصنيف يف القواعد الفقهية :مل يكن التصنيف يف
األصول بأحسن حاال من التصنيف يف الفروع يف هذا الدور ،فكان اختصار أمهات الكتب
األصولية ،حتى وصلت إىل متون بلغت من شدة اختصارها حد األلغاز ،ورشح هذه املتون
ثم رشح الرشح بوضع احلوايش ،مما أبعد هذا العلم عن أهدافه وغاياته التي انطلق منها
الشافعي ملا صنّف كتاب الرسالة .لكن برز يف هذا الدور كتاب اإلمام البيضاوي :منهاج
الوصول إىل علم األصول (منهاج البيضاوي) ،فأصبحت رشوح هذا الكتاب هلا الصدارة
من بني املصنفات األصولية الشافعية بصورة تقرب من االهتامم برشوح منهاج الطالبني
للنووي يف الفقه.
ثم ظهرت طريقة جديدة يف التصنيف :جتمع بني الفقه واألصول ،وهي إىل األول أقرب،
وتسمى :األشباه والنظائر ،أو القواعد الفقهية وهو ما يمكن تعريفه بأنه :حكم رشعي يف
ّ
قضية أغلبية يتعرف منها أحكام ما دخل حتتها ،أو أصل فقهي يتضمن أحكا ًما ترشيعية عامة
من أبواب متعددة يف القضايا التي تدخل حتت موضوعه ،ومن أبرز فوائد هذا العلم :تيسري
دراسة الفقه ،ومل ّ شعثه ،بحيث تنتظم الفرع الكثرية يف سلك واحد حتت قاعدة فقهية واحدة،
كام يساعد عىل احلفظ والضبط للمسائل الكثرية املتناظرة ،بحيث تكون القاعدة وسيلة
وييّس
الستحضار األحكام ،ويريب امللكة الفقهية والقدرة عىل التخريج ملعرفة األحكامّ ،
للباحثني تتبع جزئيات األحكام واستخراجها من موضوعاهتا املختلفة ،وإدراك مقاصد
تاريخ التصنيف يف هذا العلم :القرن الرابع اهلجري يف رسالة اإلمام أيب احلسن الكرخي
احلنفي ،مجع فيه تس ًعا وثالثني قاعدة يف الفقه احلنفي ،إال أن القرن الثامن اهلجري هو عرص
والقواعد الفقهية ،لكن تغلب عليه طريقة ختريج الفروع عىل قواعد األصول .ثم كتاب:
األشباه والنظائر لتاج الدين السبكي ،وهو يشبه الكتاب السابق يف طريقته ،ثم كتاب :املنثور
يف ترتيب القواعد الفقهية أو القواعد يف الفروع لإلمام الزركيش ،ورشحه رساج الدين
العبادي ،وهو من أهم كتب القواعد يف املذهب ،ثم كتاب :األشباه والنظائر لإلمام رساج
الدين ابن املل ِّقن ،وهو ّأول كتاب يف القواعد مرتّب عىل األبواب الفقهية يف كتب الفقه،
وضمن كل باب القواعد ذات الصلة به ،فكان جديدً ا يف ترتيبه وتنظيمه للمعلومات ،ثم جاء
ّ
جيا بني القواعد األصولية والقواعد
كتاب :القواعد لإلمام تقي الدين احلصني ،وكان مز ً
الفقهية ،وأصله :اختصار لكتاب العالئي سابق الذكر ،ثم كتاب :األشباه والنظائر يف قواعد
وفروع الشافعية للسيوطي ،وهو أحسن وأفضل كتاب صنّفه الشافعية خالل هذا الدور من
حياة املذهب ،وقد مجع فيه مؤ ّلفه ما تناثر فيام قبله من املؤلفات سالفة الذكر ،ورتبه يف سبعة
الدور اخلامس :خدمة مصنّفات التنقيحني األول والثاين من سنة 1004هـ إىل 1335هـ
ّأو ًال :أبرز األمور السياسية املؤثرة يف املذهب يف هذا الدور :هذا الدور الذي استمر لثالثة
قرون يقع يف حكم العثامنيني ،وينتهي بوفاة العالمة علوي الس ّقاف املكّي ،يف الوقت الذي
سقطت فيه اخلالفة ،واالحتالل األورويب الصليبي لبالد املسلمني ،وظهر فيه أن أبرز أعالم
أيضا كانوا يف الشام ومرص احلجاز ،وإن بقي موجو ًدا يف بقاع شتّى من العامل
الشافعية ً
اإلسالمي ،ونتيجة لوقوع بالد الشام ومرص حتت سيطرة العثامنيني فقد تأثر املذهب بأحواهلم
السياسية ،والتي من أمهها :أن العاطفة اإلسالمية كانت ظاهرة يف الدولة العثامنية ،فقد تصدّ وا
للغزو الصليبي عىل العامل اإلسالمي كبالربتغاليني واإلسبان وروسيا ،خاصة يف املائة األوىل
من حكمهم ،وحارصوا فينّا عاصمة النمسا أربع مرات ،وكانت عدّ ة ممالك أوروبية تدفع
اجلزية هلم ،لكن كانت السمة العسكرية هي السمة الغالبة عىل الدولة ،مع قلة اهتاممها بالعلم
وأسباب احلضارة املدنية عمو ًما ،وكان هذا له أثره السلبي عىل احلياة العلمية ،خاصة يف عرص
ضعف الدولة يف القرن احلادي عرش ،حتى اعترب بعض الباحثني أن احلملة الفرنسية بقيادة
يو ّفقوا يف اختيار عاصمتهم ،وكذلك كون اخلليفة ترك ّيا ليس عرب ّيا من قريش ،مع اهتاممهم
باللغة الرتكية وجعلها الرسمية يف مجيع الواليات عىل حساب العربية رغم كوهنا لغة
املصدرين الرئيسني للترشيع ،وكان لذلك ك ّله األثر السلبي عىل مسرية الفقه عمو ًما
خصوصا .كام ّ
أن الدولة جعلت املذهب احلنفي مذه ًبا رسميا هلا ،وكان منصب ً والشافعية
مقصورا عىل احلنفية ،والقضاة كذلك ،حتى ملا عمدت
ً شيخ اإلسالم أعىل منصب ديني
الدولة يف آخر عهدها إىل تقنني الفقه اإلسالمي كلفوا فقهاء احلنفية بإعداد ما عرف بمج ّلة
األحكام العدلية ،وال خيفي تبنّي السلطة ملذهب من املذاهب من األثر ،مما يضعف املذاهب
األخرى كالشافعية ،لكن بقي وجود للمذهب يف عدّ ة بقاع من بالد ما وراء هنر جيحون،
لكن مل خيرج من تلك البالد علامء بارزون ،رغم أهنم أخرجوا يف الدورين الثالني والثالث من
املتناحرة ،وانتشار اجلهل ،وق ّلة الوعي اإلسالمي ،وتأخر تلك البالد عن احلضارة املدن ّية ،أما
بالنسبة لبالد فارس :فقد كان قيام الدولة الصفوية عىل يد الشاه إسامعيل الصفوي سنة 930
هـ ،وتبنيها ملذهب الشيعة اإلمامية (اجلعفرية) آثاره السلبية عىل وجود املذهب الشافعي.
لكن بدأ انتشار املذهب يف بالد جنوب رشق آسيا :إندونيسيا ،وماليزيا ،وتايلند ،والفلبني،
وكان ذلك بسبب جهد شافعية اليمن يف نرشه يف تلك البالد ،وقد وجد بعض أعالم الشافعية
ترجع أصوهلم إىل تلك البالد كالعالمة زين الدين ابن عبد العزيز املليباري صاحب كتاب
أيضا ،وما
قرة العني يف الفقه الشافعي ،إال أن ابتالء هذه البالد باالستعامر ً
فتح املعني برشح ّ
مسوغات اإلبداع العلمي
نتج عنه من ثورات املسلمني يف وجههم ،كل هذه األحوال جعلت ّ
ضعيفة يف تلك البالد.
ثان ًيا :التعريف بعدد من علامء الشافعية يف هذا الدور :استمر علامء الشافعية يف خدمة املذهب
بتصنيف احلوايش وربام الرشوح اخلادمة للتنقيحني األول والثاين ،فدارت اجلهود يف فلكهام،
تنقيحا ثال ًثا يف هذا الدور ،ولعل السبب يف ذلك :أن التنقيحني
ً ومل يرب ما يمكن أن يكون
عىل ذلك ،ولذلك فاألحسن تسمية هذا الدور :بدور خدمة التنقيحني األول والثاين .ومن
األول :شهاب الدين أبو العباس أمحد بن سالمة القليويب ،نسبة إىل قريبة قليوب يف حمافظة
ّ
بالطب وصنّف فيه ،ودرس الفقه الشافعي وأتقنه ،ومن مصنّفاته:
ّ الرشقية بمرص ،اشتغل
ّ
للمحيل وهو أشهر حاشية عىل متن الغاية والتقريب البن القاسم ،وحاشية عىل كنز الراغبني
نشأ يف اجلام ع األزهر يف القاهرة ،درس املذهب وأتقنه ،ومن مصنفاته :حاشية عىل رشح
املقدمة اجلزرية يف التجويد ،وحاشية عىل رشح ابن قاسم للورقات للجويني ،وأشهر
للرميل.
مصنّفاته :حاشية عىل هناية املحتاج ّ
الثالث :حممد بن سليامن الكردي ،ولد يف دمشق ،ومحل إىل املدينة وهو ابن سنة ،فأخذ عن
كبار علامئها ،واشتغل بالفقه أكثر من غريها ،وأتقن املذهب ،وتوىل إفتاء الشافعية يف املدينة
إىل أن تويف فيها ،ومن مصنفاته :رشح فرائض التحفة (رشح ألحكام املرياث يف حتفة املحتاج
للهيتمي) ،وحاشيتان كربى وصغرى عىل رشح املقدمة احلرضمية للهيتمي ،والفوائد املدن ّية
الرابع :أبو داود سليامن بن عمر ال ُعجييل املرصي املعروف باجلمل ،ولد يف منية عجيل (إحدى
قرى حمافظة الغربية بمرص) ،انتقل إىل القاهرة ،ودرس يف األزهر ،وأتقن املذهب ،والتفسري،
وعلوم القرآن ،ومن مصنفاته :الفتوحات اإلهلية بتوضيح تفسري اجلاللني بالدقائق اخلفية
(حاشية اجلمل عىل تفسري اجلاللني) ،وحاشية عىل رشح املنهج (منهج الطالب لزكريا
األنصاري).
اخلامس :سلميان بن حممد البجريمي املرصي ،ولد يف ُب َج ْريم (من قرى حمافظة الغربية) ،انتقل
إىل القاهرة فدرس يف األزهر ،وحفظ املذهب ،ومن مصنفاته :حتفة احلبيب عىل رشح اخلطيبة
السادس :عبد اهلل بن حجازي الرشقاوي املرصي ،ولد يف الطويلة (من قرى حمافظة الرشقية)،
وإليها ينتسب ،حفظ القرآن يف صباه ،انتقل إىل اجلامع األزهر ليأخذ عن كبار علامئه ،عىل قلة
الطالب رشح حترير تنقيح اللباب لزكريا األنصاري (حاشية الرشقاوي عىل رشح التحرير)،
أيضا.
وهي من الكتب املعتمدة عند املتأخرين ً
السابع :إبراهيم بن حممد الباجوري املرصي ،ولد يف الباجور (تتبع حمافظة املنوفية بمرص)،
ق دم القاهرة ،وأخذ عن الشيخ عبد اهلل الرشقاوي وغريه من علامء األزهر ،أتقن املذهب،
وانتهت إليه رياسة الشافعية ،وتوىل مشيخة األزهر ،وكان حيرض جملس مجهور غفري من العامة
واخلاصة ،ومن مصنفاته :حاشية عىل رشح ابن القاسم ،والتحفية اخلريية عىل الفوائد
الثامن :أبو بكر عثامن بن حممد شطا الدمياطي البكري ،أصله من دمياط ،وأتقن املذهب،
متصوفا ،ومن
ّ ورحل إىل مكة ،وبقي معتك ًفا فيها عىل التصنيف والتدريس ،وكان زاهدً ا
مصنفاته :كفاية األتقياء ومنهج األصفياء ،وحاشية باسم إعانة الطالبني عىل ّ
حل ألفاظ فتح
قرة العني ملهامت الديني للعالمة املليباري ،وهي من املراجع املعتمدة عند
املعني برشح ّ
املتأخرين ،وتويف يف مكة.
التاسع :شهاب الدين أمحد بن أمحد احلسيني املرصي املشهور بأمحد بك احلسيني ،ولد يف
مرص ،ودرس يف األزهر ،وبرع يف املذهب ،واشتغل باملحاماة ،وذاع صيته يف مرص وخارجها،
وصنّف املصنفات منها :هبجية املشتاق يب بيان حكم زكاة األوراق ،وإعالم الباحث بقبح أم
اخلبائث (اخلمر) ،ودليل املسافر يف مسائل قرص الصالة واملسافات وأحكام النية ،والقول
الفصل يف قيام الفرع مقام األصل ،وحتفة الرأي السديد يف االجتهاد والتقليد ،وهذان
األخريان يف األصول ،وأشهر مصنفاته :مرشد األنام رشح قسم العبادات من كتاب األم يف
أربعة وعرشين جم ّلدا ،ومن املؤسف أن هذا الكتاب ما زال خمطو ًطا.
العارش :علوي الس ّقاف املكّي ،ولد بمكّة ،ودرس يف املسجد احلرام ،وبرع يف املذهب ،وتوىل
نقابة العلويني (آل البيت) يف مكّة ،وهاجر إىل حج يف اليمن بدعوة من أمريها ،ثم رجع إىل
ويدرس ويفتي ،حتى تويف ،ومن مصنفاته :حاشية بعنوان ترشيح املستفيدين
ّ مكة يصنف
قرة العني للمليباري ،والفوائد املكية فيام حيتاجه طلبة الشافعية من
عىل فتح املعني رشح ّ
املسائل والضوابط والقواعد الكلية ،وغريها من املصنفات.
ّأو ًال :هو العرص الذهبي لتصنيف احلوايش عىل كتب املذهب ،واحلاشية هي التي تنتقي
املتصلة بموضوع العبارة املرشوحة بعد كلمة :فائدة أو تنبيه ،وعليه :فاحلاشية ال يمكن
االنتفاع هبا بمعزل عن الكتاب الذي وضعت عليه .واحلوايش وإن ظهرت قبل الدور
اخلامس إال أهنا كثريت فيه حتى أصبحت السمة الغالبة عىل التصنيف يف هذا الدور ،ومن
أشهر احلوايش :حاشيتا قليوب وعمرية عىل كنز الراغبني رشح منهاج الطالبني للمحيل،
وحاشية الشربامليس عىل هناية املحتاج للرميل ،وحاشية اجلمل عىل رشح منهج الطالب
لزكريا األنصاري ،وحاشية الرشقاوي عىل حتفة الطالب برشح حترير تنقيح اللباب لزكريا
األنصاري ،وحاشية إعانة الطالبني للدمياطي عىل حل ألفاظ فتح املعني برشح قرة العني
بمهامت الدين للمليباري ،وحاشية ترشيح املستفيدين لعلوي السقاف عىل فتح املعني برشح
قرة العني بمهامت الدين للمليباري .وهذه احلوايش استمدت قيمتها العلمية بوصفها من
الكتب املعتمدة لدى املتأخرين يف الفتوى من الكتب التي وضعت عليها ،وهي من مصنفات
والسبب يف التصنيف عىل طريقة احلوايش :وفرة املصنفات الشافعية ورشوحها املقتنة،
باإلضافة إىل انحسار ظاهرة االجتهاد ،وضعف احلياة العلمية ،وصريورة املذهب احلنفي هو
الرسمي للدولة ،فكان انحصار علامء املذهب يف االقتصار عىل خدمة مصنفات السابقني
كالعالمة مصطفى العرويس الذي توىل مشيخة األزهر يؤلف كتا ًبا بعنوان :األنوار البهية يف
هذا الدور بداية احلدود السياسية بني الدول ،متمثلة يف عقد املعاهدات الثنائية والدولية التي
بني مناطق نفوذ كل دولة ،وغالبا ما تكون بعد حروب طاحنة ،والدولة العثامنية كانت طرفا
يف هذه املعاهدات مع جرياهنا ،مما كان له األثر اليسء عىل حرية انتقال الناس وطالب العلم،
خاصة أن العثامنيني مل يبسطوا سلطاهنم عىل مجيع بالد املسلمني ،مع ما حصل من فتن داخلية
يف مناطق كمرص والشام واجلزيرة ،واحلروب اخلارجية ضد الصليبني رش ًقا وغربا ،والتي
أهنكت الدولة العثامنية ،ونتيجة ذلك كله:ضعف اتصال العلامء ببعضهم ،ما انعدام وسائل
االتصال احلديثة وقتها ،فصار العامل اهلندي ال يعرف املغريب ،وهذا ال يعرف املرصيّ ،
فقل
منهج الرواية والتل ّقي ،ومل يعد إال الكتاب الصامت اجلامد.
املذهب احلنفي ،وهذا يعود إىل سببني :األول :سيطرة الشافعية عىل مشيخة اجلامع األزهر يف
القاهرة وهو أكرب مدرسة متخصصة يف العلوم الرشعية يف املرشق وكان ينظر إىل شيخ األزهر
عىل أنه رئيس العلامء يف مرص وخارجها .الثاين :وجود علامء الشافعية يف احلرمني الرشيفني،
وإليهام يفد احلجيج واملعتمرون كل عام ،فكانت دروسهم سببا يف اهتامم املسلمني بالفقه
الشافعي ،ومحلهم له إىل بالدهم التي جاؤوا منهاـ خاصة املرشق اإلسالمي ،خاصة وأن
احلجاج واملعتمرين من طلبة العلم أكثرهم كانوا جياورون يف احلرمني لسنوات ،ومن أبرز
علامء احلجاز يف هذا الدور :حممد بن عبد الرسول الربزنجي ،وحممد بن سليامن الكردي
أيضا الضعف ،وظهرت فيه طريقة احلوايش ،مما أبعدها عن غاية علم أصول
علم األصول ً
الفقه وفائدته ،وأبرز ما يمثل املصنفات يف األصول يف هذا الدور :حاشية العالمة حسن
ّ
املحيل عىل مجع اجلوامع للسبكي ،ومما جاء فيها :وجيوز خلو الزمان عن الع ّطار عىل رشح
جمتهد ،وقوله :فإن بلوغ رتبة االجتهاد يف األزمنة املتأخرة ربام نقطع بعدم وقوعه ،وإن كان
ً
داخال يف ح ّيز اإلمكان .فاملدقق يف هذه املصنفات يف هذا الدور :يدرك مدى ابتعادها عن أهم
مقاصد علم أصول الفقه ،وهو رسم طريق االجتهاد ،وبيان خطته ،وهو ما خيالف ما كان
يدعو إليه اإلمام املؤسس ،فاالجتهاد رضوري لتطور الفقه اإلسالمي عامة ،والقضاء خاصة،
ومسايرته ملستجدات احلياة ،واملذهب الشافعي كان ثاين أكرب املذاهب يف العرص العثامين،
االقتصادي والعسكري أمام الدول األوروبية ،وبدأت يف أواخر عهدهم تظهر القوانني
وقسمت
الوضعية املأخوذة عن األوروبية لتحل حمل الفقه اإلسالمي ويف مقدّ مته احلنفيّ ،
املحاكم إىل نظامية حتكم بتلك القوانني ،وأخرى رشعية ،وال حول وال قوة إال باهلل العيل
العظيم.
الدور السابع :انحسار التمذهب باملذهب الشافعي وتطور الدراسات الفقهية املعارصة من
ّأو ًال :انحسار التمذهب باملذهب الشافعي :مع بداية القرن الرابع عرش بدأت معامل احلياة
اإلسالمية تتغري ،نتيجة الغزو الثقايف الصليبي ،وسنّت القوانني الوضعية ،وبلغت األحوال
الذروة يف السوء بعد انسالخ البالد العربية عن اخلالفة العثامنية ،نتيجة خلروج رشيف مكّة
احلسني بن عيل عليها ،بمساعدة بريطانيا خالل احلرب العاملية األوىل ،وع ّطلت أحكام
الرشيعة ،فظهرت املحاكم النظامية التي حتكم بالقوانني الوضعية يف سائر املعامالت بني
حركات فكرية هدّ امة مثل الشيوعية والعلامنية والبعثية ،وهذا ك ّله أدى إىل قلة اهتامم عوام
املسلمني بمعرفة األحكام الرشعية خاصة يف غري أحكام العبادات ،كم أ ّدى إىل انحسار
يعد يرجع إىل املذهب الفقهي للقايض ،وال ألن مذهبه هو السائد ،بل أصبح من رشوط تويل
القضاء يف املحاكم النظامية حصول القايض عىل إجازة جامعية يف القانون الوضعي ،حتى
املحاكم الرشعية فقد صيغت أحكام الزواج والطالق والطالق فيها عىل شكل قوانني عرفت
باألحوال الشخصية ،أخذت أكثر موا ّدها يف الفقه احلنفي ،وأصبح حكم القايض مق ّيدا بمواد
هذه القوانني .لكن بقي التمذهب باملذهب موجو ًدا يف بعض حلقات الفقه يف عدد من
املساجد يف بالد الشام وشامل العراق ومرص واليمن وجنوب رشق آسيا يف ماليزيا
وأندونيسيا ،حيث يقوم بتدريسه علامء شافعية أخذوا بالسند املتصل عمن قبلهم من العلامء،
ومن أمثلة هذه احللقات يف زمن كتابة هذه الرسالة :بعض حلقات دروس املذهب الشافعي
يف اجلامع األزهر ،وحلقة الدكتور مصطفى ديب البغا يف مسجد زين العابدين بدمشق يرشح
فيها مغني املحتاج ،وحلقة األستاذ نذير مكتبي يف مسجد احلمزة والعباس بدمشق ،وأوضح
األمثلة املعارصة عىل بقاء التمذهب باملذهب هو :تدريس الفقه يف حلقات العلم يف مدينة
تطور الدراسات الفقهية املعارصة يف هذا الدور :ظهر يف هذا الدور ما يسمى بكليات
ثان ًياّ :
الرشيعة ،اختصت بدراسة علوم الرشيعة ومنها الفقه ،وهلا نظامها املعروف ،ومن أبرز هذه
الكليات :كلية الرشيعة يف األزهر ،افتتحت بجهد شيخ األزهر حممد األمحدي الظواهري ،ثم
أصبح اسم الكلية :كلية الرشيعة والقانون ،وكلية الرشيعة والدراسات اإلسالمية يف مكة
املكرمة ،ثم أتبعت بجامعة أم القرى يف مكة فيام بعد ،وكلية الرشيعة يف جامعة اإلمام حممد
بن سعود يف الرياض ،وكلية الرشيعة يف جامعة دمشق ،وكلية الرشيعة يف اجلامعة اإلسالمية
عامن وانضمت فيام بعد إىل كليات اجلامعة األردنية ،واملعهد العايل
باملدينة ،وكلية الرشيعة يف ّ
تطورا يف طريقة دراسة الفقه
ً للقضاء يف الرياض وهو لتخريج القضاة .وهذه الكليات تعدّ
بعدما كانت طريقة احللقات يف املساجد ،وكان هلذه الكليات أثر يف ختفيف منابع التعصب
ً
حاصال من قبل مما سبق بيانه ،لكن من أكرب املعوقات هو املذموم؛ إذ ختتلف طبيعتها عام كان
تعطيل أحكام الرشيعة يف بالد املسلمني ،وتقديم القوانني الوضعية عليها ،مما جعل كليات
مجي ًعا أو أغلبهم عىل احلكم بعد التشاور ،فهو يف منزلة بني االجتهاد الفردي وبني اإلمجاع،
ويتم ّيز بأنه يكون بعد تشاور وتباحث ،وبعدها عن التعصب املذهبي ،واستعانتها بعلامء من
كثري من البالد ،مثل املجامع الفقه ّية التي دعا إليها األستاذ مصطفى الزرقا رمحه اهلل ،والتي
أيضا :املجمع الفقهي التابع لرابطة العامل اإلسالمي بمكّة املكرمة ،ويعقد املجمع دورة
ومنها ً
كل سنة أو سنتني ،يتداول خالهلا أعضاء هيئته موضو ًعا فقهيا أو أكثر ،ليتبنى يف ختام الدورة
رأيا واضحا يف احلكم الرشعي للمسائل املتناولة ،ومنها :جممع الفقه اإلسالمي بجدّ ة ،ومنها:
ومنها :مؤمترات الفقه اإلسالمي وندواته ،ويكونون من أكثر من بلد؛ ليتباحثوا يف جمموعة
واستحدث خالل هذا الدور وسائل جديدة يف خدمة الرتاث الفقهي ،مما كان له أثر إجيايب يف
تيسري وصول املعلومة إىل طلبة العلم ،ومن أبرز هذه الوسائل :الطباعة ،والتي ظهرت يف
مدينة فانو اإليطالية سنة 920هـ كأول مطبعة عربية ،أما يف املرشق موطن املذهب فلم يعرف
الطباعة العربية إال يف وقت متأخر جدا ،حيث ظهرت خالل القرن احلادي عرش اهلجري يف
كل من استنبول وحلب والقاهرة ،والكتب العربية التي كانت تطبع يف أوائل نشوء دور
الطباعة تلك مل يكن هلا عالقة بعلوم الرشيعة ،إذ تأخر اهتامم طباعة كتاب الفقه إىل بداية القرن
الثالث عرش اهلجري ،ألسباب منها :خوف املسلمني عىل القرآن والسنّة وعلوم الرشيعة من
التحريف؛ أل ن املرشفني عىل تلك اآلالت يف بداية ظهورها مل يكونوا من املسلمني ،حتى إن
شيخ اإلسالم يف الدولة العثامنية أفتى بجواز إدخال املطابع إىل ديار املسلمني برشط عدم
طباعة كتب الرشيعة والفقه .ومن أوائل املطابع التي طبعت كتب الفقه :مطبقة بوالق يف مرص
وهي ّأول دار طباعة عربية قامت بطباعة كتاب األ ّم للشافعي ،واملطبعة األهلية القبطية يف
مرص ومما طبعته األحكام السلطانية للاموردي ،واملطبعة احلسينية املرصية وهي ّأول دار
طبعت طبقات الشافعية الكربى البن السبكي ،وما زالت دور الطباعة يف تقدّ م مستمر ،حيث
أمكن إصدار آالف النسخ من الكتاب الواحد دون الوقوع يف عيوب النسخ اليدوي.
أيضا :حتقيق كتب الرتاث الفقهي وفهرستها ،واملقصود بذلك :إخراج
ومن هذه الوسائل ً
املخطوطات الفقهية واألصولية مطبوعة مع رشح ألفاظها وعباراهتا الغامضة وبيان
مصطلحاهتا اخلاصة إجيازا أو تفصيال حسب منهج املحقق ،وكثريا ما يقوم املح ّقق بخدمة
متنوعة ملحتوياته
الكتاب بمقدّ مات ترشح أمهيته ومكانته العلمية وترتجم ملصنّفه ،وبفهارس ّ
مثل فهار اآليات واألحاديث واألعالم وموضوعات الكتاب ،ونتيجة لذلك بدأ كثري من
املحققني يتنافسون يف حتقيق هذه الكتاب ،حتى ظهر للكتاب الواحد أكثر من طبعة ،ومن
اجلدير بالذكر أنّه ظهر عدد من فهارس املخطوطات العربية تشري إىل أمكان وجود كل خمطوط
كام ظهرت أي ًضا :املوسوعات الفقهية ،وهي املؤلفات الشاملة جلميع املعلومات يف علم أو
بعرضها مرتبة عىل حروف املعجم ال تسلسل املوضوعات ،كام ألفت كتب الفقه ،حيث كانت
تبدأ بموضوع الطهارة لتنتهي بموضوع ّ
الرق غال ًبا ،ومن فوائد هذه املوسوعات :تسهيل
الوصول إىل الأحاكم يف الكتب الفهية ،وتيسري االطالع عىل املادة الفقهية يف املوضوع الواحد
يف مكان واحد مهامك ان ترتيبه خمتل ًفا يف كتب الفقه ،وتوفري الوقت واملال بتمكينهم من
االطالع عىل األحكام واملصادر التي أخذت منها عن طريق مرجع واحد وهو املوسوعة،
وأبرز موسوعتني موجودتن :موسوعة الفقه اإلسالمي بالقاهرة وتسمى بموسوعة مجال عبد
النارص يف الفقه اإلسالمي ،وتذكر آراء فقهاء املذاهب من مصادرهم املعتمدة ،واملوسوعة
تراجم الشافعية ثالثة كتب :األول :التحفة البهية يف طبقات الشافعية للعالمة عبد اهلل
الرشقاوي ،الثاين :املقدمة الكبرية لكتاب مرشد األنام للعالمة أمحد بك احلسيني حيث صدّ ره
بمقدمة كبرية يف تراجم الشافعية ،الثالث :طبقات الشافعية (كربى وصغرى) للعالمة علم
الدين حممد ياسني الفاداين اإلندونييس ً
أصال املكي والدة ،وهذه الكتب مهمة جدا لكوهنا
األول :العالمة عيسى َمنّون املقديس الشامي ثم املرصي ،ولد يف بلدة عني كارم إىل الغرب
من مدينة القدس ،وملا بلغ اخلامسة عرش شدّ الرحال إىل اجلامع األزهر ،وأقام يف رواق الشوام
به يطلب الفقه واحلديث والتفسري واللغة ،وأخذ عن العالمة سليم البرشي شيخ اجلامع
األزهر ،والعالمة حممد حسنني خملوف العدوي ،والعالمة حممد بخيث املطيعي مفتي مرص،
مدرسا يف القسم االبتدائي باألزهر ،ثم الثانوي ،ثم العايل ،وصنّف :نرباس العقول
وأصبح ّ
وعني عميدا
وعني شيخا لرواق الشوام يف األزهرّ ،
يف حتقيق القياس عند علامء األصولّ ،
وعني عميدا لكلية الرشيعة ،ثم أحيل إىل التقاعد بطلب منه ،وأرشف
لكلية أصول الدينّ ،
عىل طباعة كتاب العزيز رشح الوجيز للرافعي ،والتلخيص احلبري يف ختريج الرافعي الكبري
البن حجر ،وقطعة من املجموع للنووي ،وكان قد عزم عىل إكامل املجموع للنووي لكنه
وافته املن ّية قبل إنجازه ،ودفن يف املقربة التي دفن فيها الشافعي ريض اهلل عنه.
الثاين :العالمة حممد ياسني الفاداين املكي ،نسبة إىل فادان وهو إقليم يف إندونيسيا ،ولد يف مكّة
ونشأ هبا ،يف السنة التي تويف فيها العالمة علوي الس ّقاف ،ونشأ حمبا للعلم ،والزم حلقات
املسجد احلرام ،وأتم دراسته بدار العلوم الدينية يف مكة ،وأخذ عن عدد كبري من علامء عرصه،
من أبرزهم :حممد عيل بن حسني املالكي املكي ،وعمر بن محدان املحريس املكي ،وعمر
باجنيد مفتي الشافعية يف مكة قرأ عليه كت ًبا كاإلقناع ،وحتفة املحتاج ،ومنهاج الطالبني برشح
املحيل وحاشيتي قليوب وعمرية ،ومغني املحتاج ،كام أخذ عن سعيد بن حممد اليامين ،وولده
حسن اليامين ،من كبار فقهاء الشافعية ،ومال إىل احلديث أكثر من غريه ،وكان له حلقة يف
مدرسا يف دار العلوم الدينية ،ثم أصبح وكيال هلا ،وكان كثري التأليف
وعني ّ
املسجد احلرامّ ،
من كتبه :بغية املشتاق رشح ملع الشيخ أيب إسحاق ،وحاشية عىل األشباه والنظائر للسيوطي،
وقرة العني يف أسانيد أعالم احلرمني ،وإمتاع أويل النظر ببعض أعيان القرن الرابع عرش ،وتويف
مصطلحات ّ
الشافعية ومظاهنا :يقال :اصطلح القوم :أي :زال ما بينهم من خالف،
واصطلحوا عىل األمر :أي :تعارفوا واتفقوا عليه ،فاالصطالح مصدر :اصطلح ،وهو اتفاق
ّ
فلكل علم اصطالحاته ،ولعلامء الشافعية مصطلحات يف طائفة عىل يشء خمصوص،
مصنفاهتم أرادوا هبا معاين حمدّ دة ،ال يستطيع أحدٌ أن يفهم املراد منها إال بمعرفة معانيها وما
يراد هبا ،وقد قام عدد من أئمة الشافعية ببيان هذه املصطلحات وماذا يقصدون هبا ،ومن
ّ
مظان هذه املصطلحات :النووي يف مقدّ مة املجموع ،ورشوحات منهاج الطالبني أشهر
األبحاث املعارصة :مقدّ مة الوسيط يف املذهب للغزايل الذي ح ّققه عيل القره داغي ،ومقدّ مة
املهذب للشريازي الذي ح ّققه حممد الزحييل ،ورشح الوجيز للرافعي الذي ح ّققه عيل
ّ
القول القديم (املذهب القديم) :اجتهادات الشافعي قبل انتقاله إىل مرص (تصني ًفا أو إفتاء)،
سواء أكان رجع عنه وهو كثري ،أو مل يرجع .وأبرز رواته :الزعفراين والكرابييس وأبو ثور.
القول اجلديد (املذهب اجلديد) :اجتهادات الشافعي بمرص (تصني ًفا أو إفتاء) ،وأبرز رواته:
عىل اجلديد والفتوى ،إال بعض املسائل (من ثالث إىل عرشين مسألة عىل خالف يف حتديدها)
يفتى فيها بالقديم ،وقد مجعها ودرسها عبد العزيز قايض زاده يف كتاب :الشافعي واملسائل
األظهر :هو الرأي الراجح من قويل أو أقوال الشافعي ،إذا كان اخلالف بني هذين القولني أو
قوة دليل ّ
كل منها ،ويقابله :الظاهر .مع مالحظة أن الغزايل يستعمل األقوال قو ّيا ،بالنظر إىل ّ
أيضا مع أقوال أصحاب الشافعي ال الشافعي وحده.
هذا املصطلح ً
املشهور :هو الرأي الراجح من قويل أو أقوال الشافعي ،إذا كان اخلالف بني هذين القولني أو
األصحاب :هم فقهاء الشافعية الذين بلغوا يف العلم مبل ًغا عظيام حتى كانت هلم اجتهاداهتم
الرازي عندما يقول :أصحابنا ،تارة يقصد هبم الشافعية ،وتارة يقصد هبم األشاعرة ،فإذا
كانت املسألة املتك ّلم فيها فقهية فإنه يقصد هبم الشافعية ،وإذا كانت كالمية فاملقصود
األشاعرة.
الوجوه (األوجه) :اجتهادات األصحاب املنتسبني إىل املذهب ،التي استنبطوها عىل ضوء
أصول الشافعي وقواعده ،وال خترج عن نطاق املذهب ،وهي ال تنسب إىل الشافعي؛ ألنه
وجها يف املذهب.
ً
الطرق :هو اختالف األصحاب يف حكاية املذهب ،فبعضهم يقول :فيه قوالن ،ويقول
آخرون :فيه قول واحد ،أو وجه واحد ،ويقول أحدهم :يف املسألة تفصيل ،ونحو ذلك.
األصح :هو الرأي الراجح من الوجهني أو األوجه ألصحاب اإلمام ،إذا كان اخلالف بني
ّ
الصحيح .مع مالحظة أن الغزايل ومن قوة دليل ّ
كل منهام .ويقابلهّ : الوجهني قو ّيا ،بالنظر إىل ّ
أيضا.
األصح والصحيح مع أقوال اإلمام ً
ّ قبله يستعملون هذين املصطلحني:
املخرج.
القدر بتنصيص اإلمام عليه ،ويقابله :القول ّ
يصلح
ُ التخريج :أن جييب ّ
الشافعي بحكمني خمتلفني يف صورتني متشاهبتني ،ومل يظهر ما
كل صورة إىل األخرى ،فيحصل يف ّ
كل صورة منهام للفرق بينهام ،فينقل األصحاب جوابه يف ّ
والرشوح لإلشارة إىل قصور يف األصل أو اشتامله عىل حشو أو لزيادة توضيح .تأ ّمل :إشارة
يبني أي املعنني قصده املصنّف .واعلم :لبيان شدّ ة إىل د ّقة املقام ،أو إىل خدش فيهّ ،
والسياق ّ
االعتناء بام بعده من تفصيل لآلراء وأد ّلتها .ولو قيل كذا مل ي ُبعد وليس ببعيد أو لكان قري ًبا أو
هو أقرب :ك ّلها من صيغ الرتجيح .وعليه العمل :صيغة ترجيح ً
أيضا للنووي والرافعي.
واتفقوا وهذا جمزوم به :اتفاق فقهاء املذهب فقط .وجممع عليه :اتفاق الفقه عمو ًما فيكون
والسياق
املقصود به :اإلمجاع .وينبغي :تستعمل تارة للداللة عىل الوجوب ،وتارة للندبّ ،
يبني .وال ينبغي :تستعمل تارة للتحريم ،وتارة للكراهة.
ّ
كان القائل هو اخلطيب الرشبيني ،وشيخي :هو الشهاب الرميل إذا كان القائل هو اخلطيب
أيضا من قول ّ
الشمس الرميل :أفتى به الوالد .وأبو الع ّباس :فهو أيضا ،وهو املراد ً
الرشبيني ً
ابن رسيج ،وأبو سعيد :فهو اإلصطخري ،وأبو إسحاق :فهو املرزوي ،وهذه الثالثة األخرية
املهذب .والق ّفال :فهو املرزوي ،أما إذا أريد :الق ّفال الشايش فإنّه
اصطالحات للشريزاي يف ّ
املصنّفات الفقهية ّ
الشافعية :متتاز مصنفات املذهب الشافعي بارتباطها ،فتبدأ احللقة األوىل
منها بكتاب األ ّم للشافعي ،اخترصه املزين يف خمترصه املشهور ،ثم رشح هذا املخترص اجلويني
يف هناية املطلب ،ثم جاء تلميذه الغزايل فاخترصه يف البسيط ،ثم اخترص البسيط يف الوسيط،
ترتيب األبواب الفقه ّية متقار ًبا جدّ ا يف أكثر هذه املصنّفات .ومن اجلدير بالذكر :أنّه يف كل
وتدريسا؛
ً رشحا
ً مرحلة كان يربز كتاب فقهي أو أكثر يكون هو حمور اهتامم فقهاء الشافعية
ملزيد إتقان فيه من حيث حتريره ،وبيانه للمعتمد يف املذهب ،فكانت هذه الكتب حم ّطات هامة،
ّ
واملهذب للشريازي، والتي من أبرزها :خمترص املزين وقد فاق سائر مصنّفات تالميذ اإلمام،
الشافعية فعليه أن يتّجه إىل مصنّفاهتام ،فالعزو إليهام بيانًا للمفتى به عند الشافعية ال حيتاج إىل
توثيقه من املصنّفات األخرى للشافعية سواء التي صنّفت قبلهام أو بعدمها ،إال إذا كانا مل
أصال يف كتبهام ،وقد تقدّ م ذكر ّ
أن املعتمد هو اتفاقهام ،فإن اختلفا يتطرقا إىل بحث تلك املسألة ً
ّ
الصغري عىل الوجيز للغزايل
والرشح ّ
ّ املحررر للرافعي،
ّ قدّ م النّووي ،وهذه املصنّفات:
أهم كتبه،
للرافعي ،والرشح الكبري (ويسمى بالعزيز) عىل الوجيز للغزايل للرافعي وهو ّ
األول،
أهم كتب التنقيح ّ
للمحرر للرافعي وهو ّ
ّ ومنهاج الطالبني للنووي وهو خمترص
وروضة الطالبني وعمدة املفتني للنووي وهو اختصار للرشح الكبري عىل الوجيز للرافعي،
ّ
للمهذب ويعدّ من كتب الفقه وأهم رشح
ّ واملجموع رشح ّ
املهذب للنووي وهو أعظم كتبه
الوجهني ،وهي :األوىل :ترجيح تصحيح األكثر واألعلم واألورع من األصحاب ،ويقدّ م
األعلم عند التعارض .الثانية :اعتبار صفات الناقلني للقولني الوجهنيً ،
فمثال :يقدّ م ما رواه
الربيع واملزين والبويطي عىل ما رواه الربيع اجليزي وحرملة التجيبي .الثالثة :ترجيح ما وافق
رأي أكثر أئمة املذاهب الفقهية األخرى .الرابعة :ترجيح القول املذكور يف بابه ومظنّته عىل
القول املذكور يف غري بابه ،فم ًثا :يتعارض قوالن يف مسألة من الوضوء ،والقوالن ذكر األول
منهام يف باب الوضوء والثاين ذكر يف باب الصيام ،فيقدّ م ما ذكر يف باب الوضوء.
ّ
فمظان ذلك يف مصنّفات الرافعي فاخلالصة :أ ّن من أراد أن يبحث عن املعتمد يف املذهب:
يتعرضا للمسألة ً
أصال أو والنووي ،وعند اختالفهام فيكون يف مصنّفات النووي ،فإن مل ّ
بحثاها خمترصة فيكون يف مصنّفات التنقيح الثاين.
يعتمدون ترجيح اهليتمي؛ ملا فيه من إحاطة بنصوص اإلمام مع مزيد تتبع املؤلف هلا ،ولقراءة
التنقيح :كتاب حتفة املحتاج رشح املنهاج البن حجر اهليتمي ،ومعه حاشيتان للعبادي
والرشواين ،وكتاب هناية املحتاج رشح املنهاج لشمس الدين الرميل،ومعه حاشيتان
ّ
للشربامليس والرشيدي ،ويأيت بعدمها :املنهج لزكريا األنصاري ،والغرر البه ّية يف رشح
منظومة البهجة الورد ّية لألنصاري أيضا ،ثم مغني املحتاج للخطيب الرشبيني.
يوجد ترجيح واضح لرأي أحدمها عىل اآلخر ،ولعل السبب يف ذلك :تعارصمها ،فلم يبن
رأي ّ
كل منهام معتمدً ا أحدمها اجتهاده عىل اآلخر كام فعل النووي مع الرافعي ،فيمكن اعتبار ّ
للفتوى ،فيكون للمذهب رأيان يف املسألة ،وللعالمة عيل بن أمحد باصربين كتاب بعنوان:
إثمد العينني يف بعض اختالف الشيخني اهليتمي والرميل ،فيه مجع الختالفهام يف أبواب
مذهب الشافعية يف مسألة ما من كتايب :التحفة والنهاية ،إذا كانت املسألة مبحوثة فيها ،دون
وفوائدها عظيمة جدّ ا ،فهي مظان لتوثيق أد ّلة الشافعية ،وردودهم عىل خمالفيهم ،وهي من
أيضا معرفة أقوال املذاهب التي اندثرت ،وربام كانت أقواهلم هي الراجحة يف احلكم،
مظان ً
وأبرز هذه املصنّفات :احلاوي الكبري للاموردي رشح فيه خمترص املزين ،واملجموع رشح
امله ّذب وسبق الكالم عليه ،وحلية العلامء يف معرفة مذاهب الفقهاء للشايش الق ّفال ،وهذا
مع ّينة ،ومن أبرزها :األول :األحكام السلطانية والواليات الدينية لإلمام املاوردي وهو من
أشهر كتب النظم اإلسالمية السياسية واملالية والقضائية واإلدراية مما يسمى اآلن :السياسة
الرشعية ،وهو عىل طريقة الفقه املقارن .الثاين :غياث األمم يف التيث ال ُّظ َلم ،ويسمى ً
أيضا
بالغياثي ،إلمام احلرمني اجلويني ،صنّفه للوزير غياث الدولة نظام املُلك ،وهو قريب من
واحلكومات ،صنّفه القايض ابن أيب الدّ م احلموي ،وهو من أهم الكتب يف أحكام الدّ عاوى
والب ّينات والتوثيقات ،وهو ما ُيعرف يف زماننا بأصول املحاكامت ،وهو عىل مذهب الشافعية،
إال أنه كان يقارن أحيانًا بني فقهاء مذهبه من جهة ،وبني فقهاء املذاهب من جهة أخرى ،من
تعصب .الرابع :هناية اهلداية إىل حترير الكفاية ،لشيخ اإلسالم زكر ّيا األنصاري ،وهو يف
غري ّ
ّ
مظان أحكام املواريث ،ومن أوسع املصنّفات يف بابه وأحسنها .وهذا النّوع من املصنّفات من
معرفة اجتهادات الشافعية يف املوضوعات التي تبحثها؛ لعظم قدر مؤلفيها ،واشتامهلا عىل
األولّ :
املهذب املصنّفات الفقهية التي ال تندرج حتت واحدة من املجموعات السابقةّ :
للشريازي ،الثاين :الوسيط يف املذهب للغزايل ،الثالث :الوجيز للغزايل ،الرابع :التهذيب يف
فقه اإلمام الشافعي لإلمام البغوي ،واخلامس :عجالة املحتاج إىل توجيه املنهاج لّساج الدين
بن املل ّقن وهو رشح ملنهاج الطالبني للنووي ،السادس :كنز الراغبني يف رشح منهاج الطالبني
مهمتان:
أهم رشح للمنهاج قبل رشحي التحفة والنهاية وعليه حاشيتان ّ للجالل ّ
املحيل وهو ّ
الوهاب بتوضيح رشح منهج ّ
الطالب لل ُعجييل املعروف قليوب وعمرية .السابع :فتوحات ّ
باجلمل ،رشح فيه منهج الطالب (خمترص منهاج الطالبني) لزكريا األنصاري ،ورشحه
ويسمى رشح العجييل :بحاشية اجلمل عىل رشح املنهج .الثامن :حاشية
ّ األنصاري بنفسه،
الرشقاوي عىل حتفة الطالب برشح حترير تنقيح اللباب للعالمة عبد اهلل الرشقاوي ،وكتاب
حترير تنقيح اللباب ورشحه حتفة ّ
الطالب من تصنيف شيخ اإلسالم األنصاري .التاسع:
إعانة الطالبني ،وهي حاشية للعالمة عثامن بن حممد شطا الدمياطي عىل كتاب :فتح املعني
املعني للمليباري .وهذه املصنّفات وإن كانت ال تعترب من الكتب املعتمدة يف بيان املفتى به يف
املذهب ،بعد ظهور مصنّفات النووي والرافعي ثم اهليتمي والرميل ،إال أن قيمتها تكمن يف
تضمنت فقها خص ًبا يتجىل يف عرض كثري من األقوال لفقهاء الشافعية ممن اندثرت
ّ أهنا
هو املفتى به يف املذهب ،وألن بعض العلامء املعارصين بام أنجزوه من حتقيقات نافعة هلذه
املصنّفات الفقه ّية املعارصة :وهذا النوع من املصنّفات امتاز بسهولة األسلوب ،ووضوح
العبارة ،والعناية بإبراز الدّ ليل عىل األحكام دون إطناب وإطالة ،مع عدم بحث املسائل
الفقهية التي ال وجود هلا يف هذا العرص مثل أحكام العبيد واإلماء ونحوها ،وذلك إما بعدم
ً
أصال ،أو بعرضها عىل وجه اإلمجال دون التفصيل .وفائدة هذا النوع من التطرق هلا
ّ
حتسن سهولة
املصنّفات :أهنا خري ما يبدأ به طلبة العلم يف دراستهم للفقه الشافعي ،حيث إهنا ّ
التدرج يف الفقه ،وهو األصوب
املدونات الشافعية الكربى ،وهذا هو منهج ّ
انتقاهلم منها إىل ّ
األول :زاد املحتاج يف رشح املنهاج للشيخ عبد اهلل
واألجدى نف ًعا .ومن أبرز هذه املصنّفاتّ :
آل حسن الكوهجي ،ولد يف كوهج يف إيران ،ورشحه يعتمد عىل مغني املحتاج للخطيب،
لكنه أقرب منه إىل روح العرص يف أسلوبه وعبارته .الثاين :فقه املنهجي عىل مذهب اإلمام
مقررا عىل
الدكتور نرص فريد واصل والدكتور عبد احلميد السيد عبد احلميد ،ليكون كتا ًبا ّ
مبسط
طالب املرحلة اإلعدادية يف املعاده األزهرية ،وهو عىل صورة سؤال وجواب بأسلوب ّ
جدّ ا
معامل أصول الفقه ومباحثه واضحة متا ًما عندهم؛ مما ساعدهم عىل تطوير هذا العلم وخدمته
اختصار لكتاب الربهان للجويني ،التاسع :شفاء الغليل يف بيان الشبه واملخيل ومسالك
التعليل أليب حامد الغزايل ،العارش :املستصفى من علم األصول للغزايل ،احلادي عرش:
أساس القياس للغزايل ،الثاين عرش :الوصول إىل األصول البن َبرهان البغدادي وتأ ّثر فيه
بالربهان للجويني ،الثالث عرش :املحصول يف علم أصول الفقه للفخر الرازي وهو موسوعة
أصولية ،الرابع عرش :املعامل يف أصول الفقه للرازي ،اخلامس عرش :الكاشف عن أصول
الدالئل وفصول العلل للرازي ،السادس عرش :التنقيح للمظ ّفر التربيزي وهو اختصار
ملحصول الرازي ،السابع عرش :اإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي ،الثامن عرش :احلاصل
لتاج الدين األرموي وهو اختصار للمحصول للرازي ،التاسع عرش :املحقق يف علم األصول
فيام يتعلق بأفعال الرسول صىل اهلل عليه وس ّلم أليب شامة املقديس ،العرشون :التحصيل يف
علم أصول الفقه لّساج الدين األرموي وهو اختصار للمحصول للرازي ،احلادي
للمحصول للرازي ،الثالث والعرشون :معراج املنهاج رشح منهاج الوصول للبيضاوي
لصفي
ّ لإلمام شمس الدين اجلزري ،الرابع والعرشون :هناية الوصول يف دراية الوصول
الدين اهلندي ،اخلامس والعرشون :الّساج الوهاج يف رشح املنهاج للبيضاوي لإلمام فخر
الدين اجلاربردي ،السادس والعرشون :رشح املنهاج يف علم األصول للبيضاوي لإلمام
شمس الدين األصفهاين ،السابع والعرشون :تلقيح الفهوم يف تنقيح صيغ العموم لإلمام
صالح الدين حممد بن كيكلدي العالئي ،الثامن والعرشون :حتقيق املراد يف ّ
أن النهي يقتيض
للتقي
ّ الفساد لصالح الدين العالئي ،التاسع والعرشون :اإلهباج يف رشح املنهاج للبيضاوي
السبكي ،وأمتّه بعده ولده التّاج السبكي ،وهم من أهم رشوح املنهاج ،الثالثون :رفع احلاجب
عن خمترص ابن احلاجب للتاج السبكي ،وهو رشح ملخترص منتهى السول واألمل املشهوى
بمخترص ابن احلاجب ،احلادي والثالثون :مجع اجلوامع للتاج السبكي وهو من أشهر
املخترصات يف األصول عند الشافعية وعليه رشوحات وحوايش كثرية ،الثاين والثالثون:
هناية السول يف رشح منهاج الوصول للبيضاوي لإلمام مجال الدين عبد الرحيم اإلسنوي
وهو من الرشوح املشهورة للمنهاج ومعه حاشية للشيخ بخيت املطيعي ،الثالث والثالثون:
البحر املحيط يف أصول الفقه لبدر الدين الزركيش ،هو موسوعة يف أصول الفقه ،وهو آخر
كتاب ال يرتبط بورقات اجلويني أو مجع اجلوامع للسبكي ،فجميع ما كتب بعده يتعلق هبذين
نظام هلام.
رشحا أو حاشية أو ً
الكتابني ،كان ً
ومن أشهر املصنّفات األصولية املتعلقة بكتاب الورقات :رشح الورقات لتاج الدين الفزاري
ّ
املحيل ومعه حاشية للدمياطي ،واألنجم املعروف بابن الفركاح ،ورشح الورقات للجالل
الزاهرات عىل ّ
حل ألفاظ الورقات لشمس الدين املارديني ،ورشح الورقات لكامل الدين
القاهري املشهور بابن إمام الكاملية ،والتحقيقات يف رشح الورقات لإلمام احلسني بن أمحد
الكيالين ،وتسهيل الطرقات يف نظم الورقات للعالمي حييى بن موسى العمريطي ،وحاشية
ّ
للمحيل للعالمة أمحد بن عبد اللطيف اخلطيب اجلاوي. النفحات عىل رشح الورقات
املصنفات األصولية املتع ّلقة بكتاب مجع اجلوامع :منع املوانع عن مجع اجلوامع للتاج السبكي،
وتشنيف السامع بجمع اجلوامع للزركيش ،والغيث اهلامع رشح مجع اجلوامع لإلمام ويل
الدين الكردي املشهور بأيب زرعة ،والبدر الطالع برشح مجع اجلوامع للجالل املحيل وهو من
أتقن وأشهر رشوح مجع اجلوامع ومعه حاشية للعالمة العطار ،والضياء الالمع رشح مجع
اجلوامع لإلمام أمحد اليزلطيني القروياملعروف بحلولو ،والكوكب الساطع نظم مجع اجلوامع
ّ
املحيل ،والفصول البديعة يف أصول الرشيعة للعالمة الباجوري وهو اختصار جلمع رشح
اجلوامع ،والرتياق النافع يف إيضاح وتكميل مجع اجلوامع لشهاب الدين أيب بكر العلوي
الدراسات املعارصة يف أصول فقه الشافعية :اإلمام الشافعي وأثره يف أصول الفقه للدكتور
حسن حممد سليم ،وفيه مقارنة بني أصوليي الشافعية وأصوليي غريهم يف معظم مسائل
أصول الفقه ،واإلمام الشافعي وأثره يف تأصيل قواعد علم األصول ألمحد عبطان عباس،
ومنهاج الترشيع اإلسالمي يف القرن الثاين اهلجر للدكتور حممد بلتاجي ،ومناهج االجتهاد يف
اإلسالم للدكتور حممد سالم مدكتور ،وتاج الدين السبكي ومنهجه يف أصول الفقه ،ألمحد
إبراهيم احلسنات.
مصنّفات القواعد الفقهية عند الشافعية :األول :األشباه والنظائر البن الوكيل املرصي،
والثاين :املجموع ْ
املذهب يف قواعد املذهب لإلمام صالح الدين ابن كيكلدي العالئي،
والثالث :األشباه والنظائر للتاج السبكي وهو من أبرز الكتب يف هذا الباب ،والرابع :املنثور
يف ترتيب القواعد الفقهية للزركيش ،واخلامس :القواعد لتقي الدين احلصني وأصله اختصار
لكتاب العالئي السابق ،والسادس :خمترص من قواعد العالئي وكالم اإلسنوي لإلمام حممود
بن أمحد احلموي الفيومي املعروف بابن خطيب الدهشة مجع فيه مؤلفه بني ثالثة كتب:
املجموع املذهب ،والتمهيد ،والكوكب الدّ ري ،واألخريان لإلسنوي ،فهو كتاب فريد،
والسابع :ا ألشباه والنظائر للسيوطي وهو موسوعة يف بابه ،والثامن :الفرائد البهية يف نظم
القواعد الفقهية يف األشباه والنظائر عىل مذهب الشافعية للعالمة أيب بكر األهدل احلسيني
اليمني وهي قصيدة يف قواعد الفقه الشافعي ،ورشحها بعده العالمة عبد اهلل بن سليامن
اجلرهزي يف كتاب :املواهب السنية رشح الفرائد البه ّية ،ثم جاء العالمة حممد ياسني الفاداين