You are on page 1of 115

‫خمترص كتاب املدخل إىل مذهب اإلمام ّ‬

‫الشافعي ريض‬

‫للدكتور أكرم القواسمي‬


‫اهلل عنه‪ّ ،‬‬
‫السيد دويدار‬
‫إعداد‪ :‬أمحد ّ‬

‫حمتويات الكتاب‪:‬‬

‫الباب األول‪ :‬اإلمام الشافعي‪ ،‬وفيه‪ :‬الفصل األول‪ :‬ترمجة الشافعي‪ ،‬الفصل الثاين‪ :‬علوم‬

‫الشافعي‪ ،‬الفصل الثالث‪ :‬مصنفات الشافعي‪.‬‬

‫الباب الثاين‪ :‬املذهب الشافعي‪ ،‬وفيه‪ :‬الفصل األول‪ :‬التطور التارخيي للمذهب وعلامؤه‪،‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬مصطلحات الشافعية ومصنفاهتم‪.‬‬

‫من الدراسات السابقة هلذه الدراسة‪:‬‬

‫كتاب‪ :‬الشافعي للعالمة حممد أبو زهرة‪ ،‬لكنه كان عبارة عن جمموعة من املحارضات لطلبته‬

‫يف دار العلوم؛ ولذلك كان العزو وذكر املراجع قليال جدا‪ ،‬كذلك مل يتعرض إىل التطور‬

‫التارخيي للمذهب‪ ،‬والتعريف بأعالمه ومصنفاته ونحو ذلك‪.‬‬

‫كتاب‪ :‬الشافعي فقيه السنة األكرب‪ ،‬للعالمة عبد الغني الدّ قر‪ ،‬وفيه ترمجة وافية مف ّصلة لإلمام‬

‫الشافعي نفسه‪ ،‬دون التوسع يف التعريف باملذهب‪.‬‬


‫كتاب‪ :‬الشافعي فقيها وجمتهدا‪ ،‬الثنني وعرشين عاملا من العلامء املعارصين قدموها يف ندوة‬

‫أقامتها املنطمة اإلسالمية للرتبية والعلوم الثقافية يف ماليزيا‪ ،‬لكن أبحاثه متداخلة‪ ،‬وفيها‬

‫تكرار كثري؛ نظرا ألهنا مل تؤلف بصورة مجاعية‪.‬‬

‫كتاب‪ :‬الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد‪ ،‬ألمحد نحراوي اإلندونييس‪ ،‬وهو رسالة دكتوراة‪،‬‬

‫وفيه نامذج من اجتهادات الشافعي يف كل من مذهبيه القديم واجلديد‪ ،‬واملقارنة بينهام‪.‬‬

‫اعتمدت من قوله القديم‪ ،‬لعبد العزيز قايض زاده‪ ،‬وهي رسالة‬


‫ْ‬ ‫كتاب‪ :‬الشافعي واملسائل التي‬

‫ماجستري‪ ،‬وهي مل تطبع حتى اآلن‪.‬‬

‫كتاب‪ :‬الشافعي ومذهبه القديم واجلديد ضمن املنهاج للنووي‪ ،‬لسلوان عبد اخلالق عيل‪،‬‬

‫وهي رسالة ماجستري‪ ،‬وفيها مقارنة بني أقوال الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد من خالل‬

‫أيضا‪.‬‬
‫كتاب املنهاج للنووي‪ ،‬وهي غري مطبوعة ً‬

‫كتاب‪ :‬الشافعي وأثره يف أصول الفقه‪ ،‬حسن حممد سليم‪ ،‬وهي رسالة دكتوراة‪ ،‬وفيها مقارنة‬

‫أيضا‪.‬‬
‫بني أصول الشافعية وغريهم يف معظم مسائل أصول الفقه‪ ،‬وهي غري مطبوعة ً‬

‫كتاب‪ :‬الشافعي وأثره يف تأصيل قواعد علم األصول‪ ،‬أمحد عبطان عباس‪ ،‬وهي رسالة‬

‫ماجستري‪ ،‬وفيها أصول الشافعي مع يشء من مقارنة بينها وبني أصول غريه‪ ،‬وهي غري‬

‫أيضا‪.‬‬
‫مطبوعة ً‬

‫وهاتان الرسالتان األخريتان جعالين ال أكتب يف هذا الكتاب عن أصول الشافعي‪ ،‬جتنبا‬

‫للتكرار؛ إذ األصل يف البحث العلمي اإلضافة ال اإلعادة‪ ،‬فقد تطبع الرسالتني أو إحدامها‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬سرية اإلمام الشافعي‬

‫مالمح عرص الشافعي سياس ّيا‪ :‬ولد الشافعي سنة ‪ 150‬هـ ‪ ،‬وتويف سنة ‪ 204‬هـ ‪ ،‬يعني ولد‬

‫ومات يف الصدر األول من عرص الدولة العباسية‪ ،‬فقد عارص ستة من خلفاء دولة بني‬

‫العباس‪ :‬أبو جعفر املنصور‪ ،‬وحممد املهدي بن أيب جعفر املنصور‪ ،‬وموسى اهلادي بن حممد‬

‫املهدي‪ ،‬وهارون الرشيد بن حممد املهدي‪ ،‬وحممد األمني بن هارون الرشيد‪ ،‬وعبد اهلل املأمون‬

‫بن هارون الرشيد‪ .‬وكانت فرتهتم فرتة استقراء سيايس نسب ّيا‪ ،‬فالدولة باسطة سلطاهنا يف‬

‫الداخل‪ ،‬وهياهبا األعداء يف اخلارج‪ ،‬ففي الداخل قضوا عىل من تبقى من اخلوارج‪ ،‬وكذلك‬

‫قضوا عىل حماوالت أبناء عمومتهم من العلوية يف اخلروج‪ ،‬والتي كان أقواها ثورة النّفس‬

‫الزك ّية‪ ،‬فقد قتل سنة ‪ 145‬هـ ‪ ،‬وكذلك قضوا عىل حركات الزنادقة لالنفصال عن الدولة‬

‫أيضا‪ ،‬وبابك اخلرمي يف بالد‬


‫كحركة أستاذ سيس يف خراسان‪ ،‬واملقنع الزنديق يف خراسان ً‬

‫القفقاس‪ ،‬وغريهم‪ .‬فقد كان هؤالء اخللفاء يسريون عىل هنج أيب العباس الس ّفاح يف قمع‬

‫املعارضة‪ ،‬ولذلك كا نت كل األقاليم تتبع بغداد تباعا حقيقيا ال صوريا‪ ،‬باستثناء الدولة‬

‫األموية يف األندلس‪ .‬حاشا بعض اخلالفات بني أفراد األرسة العباسية نفسها‪ ،‬كاخلالف بني‬

‫األخوين األمني واملأمون الذي انتهى بمقتل األمني ومبايعة املأمون‪ ،‬واخلالف بني املأمون‬

‫وعمه إبراهيم بن املهدي الذي خرج عليه‪ ،‬لكن استقر األمر للمأمون بعدها‪ .‬وأما من اخلارج‬
‫ّ‬
‫تسمى‬
‫ّ‬ ‫فكانت الدولة اإلسالمية خيشاها اجلميع‪ ،‬وكانت هلا محالت عسكرية منتظمة‬

‫بالصوائف‪ ،‬يوجهوهنا إىل الروم خاصة يف كل صيف لتقويض سلطاهنم‪ ،‬ومحلهم عىل دفع‬
‫اجلزية‪ ،‬وكان اخللفاء يشاركون بأنفسهم يف هذه احلمالت‪ ،‬وال ّ‬
‫أدل عىل قوة الدولة حينئذ من‬

‫أنه ملا أرسل نقفور ملك الروم هلارون الرشيد بأمره بر ّد اجلزية التي أخذها املسلمون من‬

‫الروم‪ ،‬فغضب هارون وأرسل إليه‪ :‬من هارون أمري املؤمنني إىل نقفور كلب الروم‪ ،‬وقد قرأت‬

‫كتابك يا ابن الكافرة‪ ،‬واجلواب ما تراه دون ما تسمعه‪ ،‬والسالم‪ ،‬ثم سار إليه وغزاه وفرض‬
‫عليه اجلزية‪ ،‬فاخلالصة‪ :‬أن هذه الفرتة كانت مستقرة سياسيا ومنتعشة اقتصاديا‪ ،‬وهذا كله‬

‫دافع إىل االزدهار العلمي والثقايف‪.‬‬

‫مالمح عرص الشافعي علم ّيا‪ :‬كان خلفاء بني العباس يغدقون األموال والعطايا عىل أهل‬

‫العلم يف سائر الفنون‪ ،‬وأول من س ّن هذه السنّة حممد املهدي‪ ،‬ولذلك كان العلامء يشدّ ون إليه‬

‫الرحال من كل بلد‪ ،‬وتابعه عىل ذلك ولده هارون الرشيد‪ ،‬وكذلك املأمون بن هارون‪ .‬كذلك‬

‫بنوا املكتبات العا ّمة‪ ،‬ويف مقدمتها‪ :‬دار احلكمة يف بغداد أسسها هارون الرشيد‪ .‬كذلك فتحوا‬

‫جمالسهم هم والوالة والوزراء أمام العلامء من شتى الفنون‪ ،‬فكان جملس املأموم مثال ساحة‬

‫واسعة للجدال واملناظرة؛ ولذلك كان هذا العرص هو عرص التدوين بعد أن كان يف عرص‬
‫األمويني عرص التلقي واالستامع‪ ،‬فتاميزت العلوم عن بعضها وظهر االختصاص‪ ،‬ف ً‬
‫مثال‪:‬‬

‫فدون‬
‫دونوا الفقه ّ‬
‫يدونون السنّة فظهر موطأ مالك يف هذا العرص‪ ،‬والفقهاء ّ‬
‫املحدّ ثون أخذوا ّ‬
‫دون الرسالة يف علم أصول الفقه‪ .‬ومن‬
‫حممد بن احلسن الشيباين كتبه‪ ،‬وكذلك الشافعي ّ‬
‫يّست التدوين‪ :‬استجالب الورق‪ ،‬فقد كانوا من قبل يكتبون يف اجللود‬
‫األسباب التي ّ‬
‫والقراطيس املصنوعة من ورق الربدي يف مرص‪ ،‬فقد أنشأ الفضل بن حيي الربمكي وزير‬

‫والوراقني‪ .‬كام نشأت‬


‫ّ‬ ‫هارون الرشيد مصنعا للورق يف بغداد‪ ،‬ثم ظهرت بعد ذلك مهنة النسخ‬

‫حركة الرتمجة نتيجة اتساع رقعة الدولة اإلسالمية – حدود الصني رشقا وأطراف املغرب‬

‫غربا‪ -‬وضمت خليطا من األعراق واألجناس من اهلنود والرتك والروم والفرس والرببر‪،‬‬

‫وقد شاركوا مجيعا يف بناء احلضارة اإلسالمية‪ ،‬ونتيجة لذلك نشأت تيارات فكرية وسياسية‬

‫متقابلة‪ ،‬فظهرت الشيعة عقد ّيا وفقه ّيا بعد أن كانت فرقة سياسية يف العرص األموي‪ ،‬ثم‬

‫انقسمت نفسها إىل إمامية وزيدية وإسامعيلة وغريها‪ .‬وظهر املعتزلة كمذهب فكري‪ ،‬ثم‬

‫حتولت إىل فرقة هلا أصوهلا اخلمسة‪ :‬التوحيد‪ ،‬والعدل‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬واملنزلة بني املنزلتني‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتقربوا‬
‫واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وأذاعوا علم الكالم‪ ،‬وناظروا عىل معتقداهتم‪ّ ،‬‬
‫وقرهبم‪ ،‬وأخذ‬
‫خصوصا املأمون بن الرشيد الذي اعتنق مذهبهم وأكرمهم ّ‬
‫ً‬ ‫من جمالس اخللفاء‬

‫يمتحن العلامء يف قوهلم بخلق القرآن‪ ،‬وجعلها قضية أساسية يف حياة املجتمع‪ .‬وكذلك حتول‬

‫مترد يف العرص األموي‪ ،‬وأخذوا‬


‫اخلوارج إىل فرقة عقدية وسياسية بعد أن كانوا حركة ّ‬
‫يؤصلون قواعد ألنفسهم بنوا عليها أحكاما وقد انقسموا أيضا عىل أنفسهم إىل أزارقة‬

‫غلوا‪ .‬وإىل جانب ذلك كله كان أهل السنة‬


‫وصفرية ونجدات ويزيدية وميمونية ومها أكثرهم ّ‬
‫يتناظرون ويتحاورون يف املسجد وجمالس اخللفاء يف الفقه واألصول‪ ،‬وبعضهم تأثر بطريقة‬

‫مناطقة اليونان التي عرفت بعد ترمجة كتبهم إىل العربية‪ ،‬فتالقحت األفكار ونضجت امللكات‬

‫ودون الشافعي كتابا يف الرد عىل حممد‬


‫الفقهية‪ ،‬وبدأ يظهر علم جديد هو علم‪ :‬االختالف‪ّ ،‬‬
‫عيل وعبد‬
‫ودون أيضا اختالف أيب حنيفة وابن أيب ليىل‪ ،‬وثالثا اختالف ّ‬
‫بن احلسن الشيباين‪ّ ،‬‬
‫اهلل بن مسعود‪ ،‬وسيأيت تفصيل ذلك‪ .‬فاخلالصة‪ :‬أن عرص الشافعي كان عرص املناظرات‬

‫الفقهية املثمرة‪ ،‬وأن علم الفقه استنبط من خالل هذه املناظرات‪ ،‬وأن هذا العرص كان مستقرا‬

‫سياسيا‪ ،‬ومزدهرا اقتصاديا‪ ،‬ورعت السلطة العلامء‪ ،‬وظهرت الفرق‪ ،‬ونشطت الرتمجة‬

‫وتدوين العلوم‪.‬‬

‫نسب اإلمام الشافعي‪ :‬هو اإلمام أبو عبد اهلل‪ ،‬حممد‪ ،‬بن إدريس‪ ،‬بن العباس‪ ،‬بن عثامن‪ ،‬بن‬

‫شافع‪ ،‬بن السائب‪ ،‬بن عبيد‪ ،‬بن عبد يزيد‪ ،‬بن هاشم‪ ،‬بن امل ّطلب‪ ،‬بن عبد مناف‪ ،‬املطلبي‬

‫القريش‪ .‬واشتهر باسمه أكثر مما اشتهر بكنيته‪ ،‬خالفا ملا اشتهر به اإلمام أبو حنيفة‪ .‬وعليه‬

‫قيص‪ .‬وفيام ييل ترمجة‬


‫فاإلمام يلتقي مع النبي صىل اهلل عليه وسلم يف النسب يف عبد مناف بن ّ‬
‫آبائه وأجداده‪:‬‬

‫املنورة فظهر فيها بعض‬


‫أما أبوه‪ :‬فلم تنقل عنه كتب الرتاجم شي ًئا سوى أنّه كان يقيم يف املدينة ّ‬
‫واستقر هبا حتى مات بعد مولد اإلمام بقليل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(بغزة)‬
‫ما يكرهه فخرج إىل عسقالن ّ‬
‫أيضا يف ترمجته‪.‬‬
‫وأما جدّ ه‪ :‬فلم ينقل عنه يشء ً‬

‫وأما أبو جدّ ه‪ :‬عثامن بن شافع فقد عاش إىل خالفة أيب العباس السفاح‪ ،‬وقام يف وجهه ملا أراد‬

‫إخراج بني املطلب من اخلمس الوارد يف قوله تعاىل‪ :‬واعلموا أنام غنمتم من يشء‪ .‬وإفراده‬

‫لبني هاشم‪ ،‬فحمله عىل إبقائه كام كان يف زمن النبي صىل اهلل عليه وس ّلم‪ ،‬والقصة إن ّ‬
‫صحت‬

‫مشتهرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فإنام تد ّلل عىل قرشية نسب ذرية عثامن بن شافع وأن هذا النسب كان‬

‫يب عىل ما نقله مجهور علامء‬


‫وأما جدّ جدّ ه‪ :‬شافع بن السائب الذي ينتسب إمامنا إليه فهو صحا ّ‬
‫السائب أو العثامين أو اإلدرييس‪ ،‬فهو‬
‫الرتاجم والسري؛ ولذلك نُسب إليه دون أن ُينسب إىل ّ‬
‫ّأول صحايب من أجداد الشافعي‪ ،‬وكذلك ملا أثاره بعض متعصبي احلنف ّية واملالكية – وإن كان‬

‫عم النبي صىل اهلل عليه‬ ‫قوهلم متأخرا عىل عرص اإلمام‪ -‬من ّ‬
‫أن شاف ًعا كان موىل أليب هلب ّ‬
‫وسلم‪ ،‬فطلب من عمر أن جيعله من موايل قريش فامتنع‪ ،‬فطلب من عثامن ففعل‪ ،‬وعليه فذر ّية‬

‫شافع بن السائب من املوايل ال من قريش‪ ،‬وقد أطال الفخر الرازي يف ر ّد هذا الزعم‪.‬‬

‫أيضا وكان وال ًيا عىل مكّة يف‬


‫ولشافع بن السائب أخ هو عبد اهلل بن السائب وهو صحايب ً‬
‫زمنه؛ وواليته هذه من قرائن قرش ّيته‪ ،‬إذ الغالب يف مثل هذه األأزمنة أن تكون الوالية لقريش‬

‫مشهور النسب‪ .‬فاخلالصة أنه قريش بال خالف معترب‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬أسلم بعد بدر‪ ،‬وحسن إسالمه‪ ،‬وكان‬


‫السائب‪ ،‬فكان صحاب ّيا ً‬
‫وأما والد شافع‪ :‬وهو ّ‬
‫شبيها بالنبي صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫يف صورته ً‬

‫أيضا‪ ،‬أ ّمه الشفاء بنت األرقم‪.‬‬


‫وأما والده‪ :‬عبيد بن عبد يزيد فهو صحايب ً‬
‫كبريا‪،‬‬
‫شيخا ً‬ ‫وأما والده عبد يزيد بن هاشم بن امل ّطلب‪ ،‬فقد أدرك ّ‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم ً‬

‫فنال رشف صحبته‪ ،‬وأ ّمه هي الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف‪ ،‬أخت عبد املطلب بن هاشم‬

‫جدّ النبي صىل اهلل عليه وس ّلم‪.‬‬

‫وهكذا اجتمع لإلمام الشافعي أربعة من الصحابة يف أجداده‪.‬‬

‫النبي صىل اهلل عليه وس ّلم‪،‬‬


‫ّ‬ ‫عم عبد املطلب بن هاشم جدّ‬
‫وأما هاشم بن املطلب‪ ،‬فهو ابن ّ‬
‫سمى ابنه باسمه‪.‬‬
‫ولشدّ ة حم ّبة املطلب بن عبد مناف ألخيه هاشم ّ‬

‫عم عبد املطلب بن هاشم‪ ،‬وهو الذي ر ّباه فأضيف إليه بعدما‬
‫وأما املطلب بن عبد مناف‪ ،‬فهو ّ‬
‫غزة ودفن فيها‪ ،‬وكان املطلب وهاشم ابنا عبد مناف شقيقني‬
‫مات أبوه هاشم يف رحلة إىل ّ‬
‫متصادقني متحابني‪ ،‬واستمرت املصادقة بني أوالدمها يف اجلاهلية واإلسالم‪ ،‬خال ًفا ملا كان‬

‫مع ذر ّية عبد شمس بن عبد مناف جدّ األمويني‪ ،‬ونوفل بن عبد مناف جدّ جبري بن مطعم‪.‬‬

‫ورشف نسب الشافعي من جهتني‪ :‬األوىل‪ :‬كونه قرشيا وهي منزلة ليست ألحد من األئمة‬

‫تبع لقريش يف هذا الشأن‪ ،‬مسلمهم ت َبع ملسلمهم‪،‬‬


‫األربعة غريه‪ ،‬فهو مشمول بحديث‪ :‬الناس ٌ‬
‫وكافرهم تبع لكافرهم‪ ،‬والناس معادن خيارهم يف اجلاهلية خيارهم يف اإلسالم إذا فقهوا‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬كونه مطلب ّيا‪ ،‬فعند البخاري عن جبري بن مطعم قال‪ :‬مشيت أنا وعثامن بن عفان‪،‬‬

‫أعطيت بني امللطب وتركتنا‪ ،‬وإنام نحن وهم منك بمنزلة واحدة – يريد‬
‫َ‬ ‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫ً‬
‫ونوفال إخوة كلهم أبناء عبد مناف‪ -‬فقال النبي صىل اهلل عليه‬ ‫أن هاشام واملطلب وعبد شمس‬

‫وسلم‪ :‬إنام بنو هاشم وبنو املطلب يشء واحد‪ .‬وهذه املنقبة لبني املطلب ألهنم كانوا‬

‫متنارصين مع بني هاشم يف اجلاهلية واإلسالم‪ ،‬فقد حورصوا معهم يف شعب أيب طالب‪ ،‬ومل‬

‫يكن ذلك لبني عبد شمي وال بني نوفل‪ .‬وقد استنبط من ذلك‪ :‬رشعية أخذ بني املطلب من‬
‫سهم ذوي القريب مع بني هاشم دون غريهم‪ ،‬وعدم جواز أخذهم من الصدقات‪ ،‬وأهنم من‬

‫النبي حممد صىل اهلل عليه وسلم فتشملهم الصالة عىل آله‪.‬‬
‫آل ّ‬

‫أ ّم الشافعي‪ :‬كانت س ّيدة من قبيلة األزد‪ ،‬ومل يقف هلا عىل اسم‪ ،‬وأما الرواية التي تقول إن أ ّمه‬

‫عيل بن أيب طالب= فهي شا ّذة‪ ،‬ويظهر أثر‬


‫هي‪ :‬فاطمة بنت عبيد اهلل بن احلسن بن احلسني بن ّ‬
‫أ ّمه يف ّ‬
‫أن والد الشافعي مات بعد والدته بقليل‪ ،‬وأنه مل ينشأ يف أرسة علم‪ ،‬وإن كانت أ ّمه حم ّبة‬

‫فقريا‪ .‬ورغم ذلك دفعتْه‬


‫مفّسا‪ ،‬وأنّه نشأ ً‬
‫للعلم‪ ،‬فلم يكن أحد من أقاربه فقهيا أو حمدّ ثا أو ّ ً‬
‫إىل العلم ومصاحبة العلامء ال تع ّلم حرفة أو صنعة‪ ،‬وهو نفسه حيكي ّ‬
‫أن أ ّمه دفعتْه إىل الكتاب‬

‫ومل يكن معها يشء تعطيه املع ّلم‪ ،‬لكن ريض املعلم أن خيلفه إذا قام‪ّ ،‬‬
‫فلام مجع القرآن دخل‬

‫املسجد احلرام‪ ،‬وكان يسمع احلديث واملسألة فيحفظها‪ ،‬ومل يكن عنده قراطيس فكان ينظر‬

‫(جرة ضخمة)‪.‬‬
‫جرة فاجتمع عنده ُح ّبان ّ‬
‫إىل العظم فيأخذه فيكتب فيه‪ ،‬فإذا امتأل طرحه يف ّ‬

‫زمان والدة اإلمام الشافعي ومكاهنا‪ :‬ولد اإلمام سنة ‪ 150‬هـ ‪ ،‬وتك ّلفت بعض الروايات يف‬

‫جعل مولده يوم مات اإلمام أبو حنيفة‪ ،‬وهذا غري صحيح‪ ،‬لك ّن أبا حنيفة مات يف السنة التي‬

‫ولد فيها الشافعي‪ ،‬لكن رفض ابن حجر تضعيف تلك الروايات التي تقول إهنام ولدا يف نفس‬

‫اليوم‪ ،‬وو ّفق بينها فقال‪ :‬هذا اللفظ يقبل التأويل‪ ،‬فإهنم يطلقون اليوم ويريدون مطلق الزمان‪.‬‬

‫غزة)‪،‬‬
‫بغزة‪ ،‬ويف رواية‪ :‬ولد بعسقالن (شامل ّ‬
‫وأما مكان مولده‪ :‬فقول األكثرين‪ :‬أنه ولد ّ‬
‫قديام‬
‫غزة وعسقالن بأنّه ً‬
‫وثالثة‪ :‬أنّه ولد يف اليمن وهي ضعيفة‪ ،‬ويمكن اجلمع بني روايتي ّ‬
‫بغزة‬
‫ولدت ّ‬
‫ُ‬ ‫أيضا بقول الشافعي‪:‬‬
‫وغزة قرية تتبعها‪ ،‬ويمكن اجلمع ً‬
‫كانت عسقالن هي املدينة ّ‬

‫الربيع بن سليامن املرادي (تلميذ الشافعي) يرت ّدد يف والدة‬


‫ومحلتني أ ّمي إىل عسقالن‪ ،‬وكان ّ‬
‫بغزة أم عسقالن‪ .‬وقد وصل اإلمام الشافعي إىل مكّة بعد أن محلته أ ّمه إىل‬
‫الشافعي هل كانت ّ‬
‫هناك بعد مولده بسنتني‪ ،‬يعني سنة ‪152‬هـ‪.‬‬
‫املرحلة األوىل من حياة الشافعي (بمكّة)‪ :‬فيها تع ّلم القراءة والكتابة‪ ،‬وحفظ القرآن يف س ّن‬

‫ثم حفظ أشعار العرب‪ ،‬وموطأ مالك‪ ،‬وكان حا ّد الذكاء رسيع احلفظ‪،‬‬
‫السابعة وقيل التاسعة‪ّ ،‬‬
‫مجرد فراغه‪ ،‬ففي هذه املرحلة أخذ‬
‫فكان إذا أمىل الشيخ عىل الطلبة حفظ ما يمليه عليهم ب ّ‬
‫قراء مكّة يف زمانه‪ ،‬ومنه تل ّقى الشافعي‬
‫عن املقرئ إسامعيل بن عبد اهلل بن ُقسطنطني وكان من ّ‬
‫القرآن مسندً ا عن شيخه إىل رسول اهلل صىل اهلل عليه وس ّلم‪ .‬ثم بعد أن اشتدّ عوده تر ّدد عىل‬

‫خاص‪ ،‬وهي قبيلة عدنانية)؛ ليتلقى اللغة العربية من العرب‬


‫ّ‬ ‫قبائل العرب حول مكّة (هذيل‬

‫األقحاح الذين مل خيالط لساهنم العريب يشء من اللحن أو لغات العجم‪ ،‬فحفظ أشعارهم‬

‫وأنساهبم وأخبارهم‪ ،‬ومعلوم أن اللغة من أهم أدوات االجتهاد لفقه كالم اهلل تعاىل وكالم‬

‫الشافعي حجة يف اللغة‪ ،‬وقيل عنه‪ :‬لو صنّف كتبه‬


‫ّ‬ ‫رسوله صىل اهلل عليه وسلم؛ ولذلك كان‬

‫بعرب ّيته التي كان يتك ّلم هبا مل ُيقدر عىل قراءة كتبه‪ .‬كام تع ّلم منهم ً‬
‫أيضا علم األنساب‬

‫واألسامي والتواريخ‪ ،‬وقد أقام عرشين سنة يتع ّلم العرب ّية وأ ّيام الناس‪ ،‬وكان يقول يف ذلك‪:‬‬

‫ما أردت هبذا إال االستعانة عىل الفقه‪ .‬ثم تف ّقه يف حلقات املسجد احلرام عىل يد أكابر العلامء‬

‫حينها‪ ،‬والذين كان من أبرزهم‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬سفيان بن عي ْينة (من كبار تابعي التابعني)‪ ،‬ومنه أخذ علم احلديث وف ْقه أهل احلجاز‬

‫الرسالة ‪ 43‬حديثأ نبو ّيا يف أبواب الفقه‬


‫(مدرسة أهل احلديث)‪ ،‬وقد روى عنه يف كتاب ّ‬
‫واألصول‪.‬‬

‫الزنجي (ل ّقب بذلك حلمرته)‪ ،‬ومنه أخذ الشافعي الفقه‪ ،‬فقد كان‬
‫ثان ًيا‪ :‬مسلم بن خالد َّ‬

‫فالزنجي أحد أبرز تابعي التابعني الذين أخذوا فقه‬


‫اشتغاله بالفقه أكثر منه باحلديث‪ّ ،‬‬

‫علمه عطاء بن أيب رباح‪،‬‬


‫الصحابة الذين استوطنوا مكّة كعبد اهلل بن ع ّباس الذي ورث َ‬
‫ّ‬
‫وجماهد بن جرب‪ ،‬وعكرمة موىل ابن ع ّباس‪ ،‬وكل هؤالء كانوا يف مكّة‪ ،‬والزنجي هو أكثر َمن‬
‫أخذ عنهم الشافعي يف مكّة‪ ،‬حتى إن النووي مل يذكر سواه أخذ عنه الشافعي قبل مالك‪ ،‬وهو‬

‫الذي أذن له باإلفتاء وهو ابن مخس عرشة سنة‪ .‬وهذا أعطاه ثقة كبرية جت ّلت بعد ذلك يف‬

‫دخوله عىل اإلمام مالك رمحه اهلل‪ ،‬وعندما أيت به إىل هارون الرشيد‪ ،‬وقوة مناظرته ملخالفية‬

‫مع حسن األدب ورفعة اخل ُلق‪.‬‬

‫املنورة)‪ :‬اإلمام مالك‪ ،‬رحل إليه املدينة وعمره ‪ 13‬سنة‪ ،‬فقرأ عليه‬
‫املرحلة الثانية‪( :‬املدينة ّ‬
‫املوطأ‪ ،‬لكنه مل يالزمه إال يف السنوات األخرية من حياة مالك‪ ،‬أما قبل ذلك فكان يرت ّدد عليه‬

‫خاصة‬ ‫نظرا لكوهنا ّ‬


‫حمل إقامة مجهور الصحابة‪ّ ،‬‬ ‫بني احلني واآلخر‪ ،‬وكانت املدينة قبلة العلامء‪ً ،‬‬

‫فقه عمر بن اخل ّطاب ريض اهلل عنه‪ ،‬وقد ورث التابعون هذا العلم فكان الفقهاء ّ‬
‫السبعة‪ :‬سعيد‬

‫الزبري‪ ،‬وخارجة بن زيد بن ثابت‪ ،‬والقاسم بن حممد بن أيب بكر‪ ،‬وعبيد‬


‫املسب‪ ،‬وعروة بن ّ‬
‫بن ّ‬
‫اهلل بن عبد اهلل بن عتبة بن مسعود‪ ،‬وأبو بكر بن عبد الرمحن بن احلارث‪ ،‬وسليامن بن يسار‪.‬‬

‫الرأي (شيخ مالك)‪ ،‬فلم تكن هذه‬


‫وجاء بعدهم تابعو التابعني الذين كان من أبرزهم ربيعة ّ‬
‫فسميت‬
‫املدرسة حتتاج إىل القياس ونحو من صنوف االجتهاد بالرأي لغزارة التحديث ّ‬
‫الرأي‪ ،‬فاخلالصة ّ‬
‫أن املدينة‬ ‫مدرسة أهل احلديث‪ ،‬ويف املقابل يف الكوفة كانت مدرسة أهل ّ‬
‫األول‪ .‬املهم أن‬
‫كانت رائدة وزعيمة العلم‪ ،‬وأهلها كانوا امتدا ًدا للمجتمع اإلسالمي ّ‬
‫الشافعي قابل مالكا وقرأ عليه املوطأ يف أيام يسرية‪ ،‬والزمه فأخذ عنه احلديث والفقه‪ ،‬فأكمل‬

‫ما بدأه عند سفيان‪ ،‬وكان يف هذه الفرتة مالك ّيا يفتي بآراء وأقوال مالك‪ ،‬وأما كتاب اختالف‬

‫مالك والشافعي فقد صنّفه الشافعي يف مرص بعد أكثر من عرشين عا ًما عىل صحبته ملالك‪،‬‬

‫ولذلك ال أوافق القول الذي يقول‪ :‬إن الشافعي كان ال يرت ّدد يف خمالفة مالك يف حلقته رغم‬

‫صغر سنّه‪.‬‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬رحلته إىل اليمن‪ :‬كان الشافعي فقريا‪ ،‬مل يرث ً‬
‫ماال‪ ،‬ومل يشتغل بالتجارة أو‬

‫ليحصل قوته‪ ،‬وبعد وفاة شيخه مالك ومسلم‬


‫ّ‬ ‫الصناعة‪ ،‬لكنه كان يتكسب بني احلني واآلخر‬

‫السنة‪ ،‬وكان وايل الدولة الع ّباسية يف مكّة فأشار عليه بعض القرشيني أن‬
‫بن خالد يف نفس ّ‬
‫يصطحب الشافعي معه؛ فيوليه ً‬
‫عمال يتكسب منه‪ ،‬فرحل إىل اليمن وعمره ‪ 29‬سنة‪ ،‬وعمل‬
‫يف والية نجران باليمن ً‬
‫عمال له صلة بالقضاء‪ ،‬وكان متقنًا لعمله‪ ،‬حي ّبه الناس‪ ،‬حتى كاد له‬

‫يتجهز مع العلويني للخروج عىل اخلالفة العباسية‪ ،‬وقد استفاد‬


‫بعضهم عند هارون الرشيد أنه ّ‬
‫من هذه املرحلة االطالع عىل أحكام اجلزية؛ لكون نجران فيها نصارى‪ ،‬كام استفاد أيضا من‬

‫خمالطته للناس والتعرف عىل خبيئة نفوسهم ودخائل جمتمعاهتم‪ ،‬وممن أخذ عنهم يف اليمن‬

‫من العلامء‪ :‬هشام بن يوسف‪ ،‬قايض صنعاء وفقيهها‪ ،‬أخذ عن سفيان الثوري وغريه‪.‬‬

‫املرحلة الرابعة‪ :‬العراق‪ُ :‬محل الشافعي إىل بغداد بتهمة اخلروج مع العلويني عىل اخلليفة‬

‫هارون الرشيد‪ ،‬وهذا هو السبب يف مغادرته لليمن وتركه للعمل فيها‪ ،‬ثم نجا الشافعي من‬

‫هذه التهمة ووصله هارون بعد ذلك‪ ،‬وكان ملحمد بن احلسن الشيباين دور يف ذلك‪ ،‬فقد كانت‬

‫له مكانة مرموقة عند خلفاء بني العباس‪ ،‬وكان يعرف اإلمام الشافعي ولقيه يف احلجاز‪،‬‬

‫وبعدها استوطن الشافعي العراق ومل يعد إىل اليمن أو احلجاز‪ ،‬فأخذ فقه مدرسة أهل الرأي‬

‫حممد بن‬
‫التي كان معظم أعالمها يقيمون يف العراق عامة وبغداد والكوفة خاصة‪ ،‬فالزم ّ‬
‫مدون فقه أيب حنيفة (كتب ظاهر الرواية‪ :‬األصل‪،‬‬
‫الرقة‪ ،‬وهو ّ‬
‫احلسن وكان قاض ًيا عىل ّ‬
‫واجلامع الصغري‪ ،‬والكبري‪ ،‬والسري الصغري‪ ،‬والكبري‪ ،‬والزيادات)‪ ،‬وهو تلميذ أيب حنيفة‪ ،‬كام‬

‫أيضا يف املدينة وهناك عرف الشافعي‪ ،‬فالزمه الشافعي وأخذ عنه فقه أيب‬
‫تعلم من مالك ً‬
‫ملحمد بن احلسن‪.‬‬
‫عيل ملالك‪ ،‬ثم ّ‬
‫حنيفة‪ ،‬ويف ذلك يقول الشافعي‪ :‬إين ألعرف األستاذ ّية ّ‬
‫األول‪ :‬وكيع‬
‫أيضا الذين أخذ عنهم الشافعي غري حممد بن احلسن‪ّ :‬‬
‫ومن أبرز العلامء يف العراق ً‬
‫بن اجلراح (من تابعي التابعني)‪ ،‬وكان حمدّ ثا‪ ،‬ويفتي بقول أيب حنيفة‪ ،‬فأخذ عنه الشافعي‪،‬‬

‫شكوت إىل وكيع سوء حفظي‪ ،‬فأرشدين إىل ترك املعايص‪ .‬الثاين‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وفيه يرجع الشعر املشهور‪:‬‬

‫الوهاب بن عبد املجيد الثقفي‪ :‬وكان ثق ًة روى عنه الشافعي وأمحد‪ .‬الثالث‪ :‬إسامعيل بن‬
‫عبد َّ‬
‫إبراهيم البرصي (املشهور بابن ُعل َّية)‪ ،‬وكان من أئمة احلديث والفقه‪ ،‬وبقي الشافعي يف‬

‫العراق مدّ ة ‪ 3‬سنوات أو ‪ 5‬سنوات‪ ،‬إىل وفاة حممد بن احلسن‪.‬‬

‫املكرمة من جديد‪ :‬عاد الشافعي من العراق‪ ،‬واختذ حلقة للتدريس يف‬


‫املرحلة اخلامسة‪ :‬مكّة ّ‬
‫ّ‬
‫مستقال عن فقه مالك وأيب حنيفة‪،‬‬ ‫املسجد احلرام يع ّلم الفقه ويفتي‪ ،‬وهنا بدأ مذهبه يظهر‬

‫وإن مل يكن خمال ًفا هلام يف كثري من األحكام‪ ،‬لكن يف األصول وطريقة االستدالل‪ ،‬وهذا هو‬

‫األهم‪ ،‬أما املسائل نفسها التي انفرد فيها الشافعي عن األئمة الثالثة فريى ابن كثري‬
‫ّ‬ ‫الفارق‬

‫متطو ًرا‪ ،‬فلم يأت دفعة واحدة‪ ،‬بل‬


‫ّ‬ ‫أهنا ‪ 280‬مسألة فقط‪ ،‬ومع ذلك فكان اجتهاد الشافعي‬

‫ُعرفت هذه املرحلة االجتهادية‪ :‬باملذهب القديم له‪ ،‬وعندما جاء إىل مرص كان‪ :‬املذهب‬

‫يدون اإلمام شي ًئا يف هذه املرحلة سواء يف الفروع أو‬


‫اجلديد‪ ،‬وسيأيت تفصيل ذلك‪ .‬لكن مل ّ‬
‫مهته يف التأ ّمل الكايف يف استخراج القواعد واالستنباط‪ ،‬وقىض يف مكة‬
‫األصول‪ ،‬وانرصفت ّ‬
‫يف هذه املرحلة ‪ 6‬سنوات يف مكّة‪.‬‬

‫ويف مكة قابل اإلمام أمحد الشافعي‪ ،‬فالزمه‪ ،‬وأخذ عنه الفقه‪ ،‬وقد أكثر اإلمام أمحد يف الثناء‬

‫أيضا إسحاق بن راهويه (شيخ البخاري ومسلم) الذي مجع بني الفقه‬
‫عىل الشافعي‪ ،‬كام قابل ً‬
‫واحلديث‪ ،‬فأخذ عن اإلمام الشافعي‪ ،‬لكنه كان ّ‬
‫أقل مما كان من اإلمام أمحد‪ ،‬وذلك ظاهر يف‬

‫وقوع عدّ ة مناظرات بينه وبني الشافعي‪ ،‬ولعل ذلك بسبب قرص املدة التي أخذ عنه فيها‪ ،‬لكنه‬

‫بعد أن قرأ كتبه املرصية تأسف عىل ما فاته من الشافعي‪ ،‬وظهر له عظيم علمه واجتهاده‪.‬‬
‫املرحلة السادسة‪ :‬إىل العراق من جديد‪ :‬سافر إىل بغداد بعد أن ّ‬
‫تويف مالك‪ ،‬وبعد أن صار يف‬

‫الروايات رصاحة سبب سفره إليها‪ ،‬لكن‬


‫بغداد أهل احلديث والرأي م ًعا‪ ،‬ومل تذكر ّ‬
‫دون كتابيه‪:‬‬ ‫ً‬
‫أصوال وفرو ًعا‪ ،‬وذلك ألنه هناك ّ‬ ‫لعرض مذهبه هناك‬
‫باالستقراء يظهر أنه سافر ْ‬
‫واحلجة يف الفقه‪ ،‬ال أن يكتفي بالتدريس أو إمالء تالميذه‪ ،‬كام كانت‬
‫ّ‬ ‫الرسالة يف األصول‪،‬‬
‫ّ‬
‫بغداد قبلة العلامء وهناك يسهل عرض مذهبه‪ ،‬فاختذ حلقة يف املسجد الكبري الذي بناه أبو‬

‫جعفر املنصور‪ ،‬وكان يفتي ويع ّلم ويناظر أصحاب املدارس األخرى‪ ،‬فتجلت عظمة‬

‫مرة أخرى‪ ،‬وأخذ الشافعي يف‬


‫الشافعي ورسوخه يف العلم‪ ،‬وهناك قابله أمحد بن حنبل ّ‬
‫واستمر عىل‬
‫ّ‬ ‫مدرسته اجلديدة اجلامعة بني مدرسة أهل احلديث واألثر ومدرسة أهل الرأي‪،‬‬

‫عيل‬ ‫ذلك سنتني ّ‬


‫يبث مذهبه (القديم)‪ ،‬وممن أخذ عنه يف هذه الفرتة‪ :‬أبو ثور الكلبي‪ ،‬وأبو ّ‬
‫الكرابييس‪ ،‬وكان من أصحاب مدرسة الرأي إىل أن جاء الشافعي‪ ،‬واحلسن الزعفراين وهو‬

‫فأحببت أن خيطئ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ناظرت أحدً ا‬
‫ُ‬ ‫أثبت رواة مذهبه القديم‪ ،‬وهو الذي يروى قولته الشهرية‪ :‬ما‬

‫يف هذه املرحلة ل ّقب الشافعي بنارص السنّة‪ :‬فقد كتب ما ُعرف بعدُ بمذهبه القديم‪ ،‬وهو كتاب‬

‫سمي األول‬
‫احلجة‪ ،‬وكتاب والرسالة‪ ،‬وقد أضاف إليها الكثري بعد ذهابه إىل مرص‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫ّ‬
‫بالرسالة القديمة‪ ،‬واآلخر بالرسالة اجلديدة‪ ،‬وقد كتب الرسالة بطلب من عبد الرمحن بن‬
‫مهدي‪ ،‬فقد كان يظهر رأي مالك (عدم بطالن الوضوء باحلجامة ً‬
‫مثال) بالبرصة‪ ،‬فأنكر عليه‬

‫الناس‪ ،‬فاحتاج إىل قواعد عامة يف فهم األدلة ليحاججهم هبا‪ ،‬فطلب منه أن يؤلف كتا ًبا يف‬

‫وسمي الرسالة ألنه كان عبارة عن جواب‬


‫ّ‬ ‫هذا املوضوع وهو ما عرف بعد بأصول الفقه‪،‬‬

‫أن الشافعي أ ّلف‬


‫أرسله الشافعي وهو يف بغداد إىل عبد الرمحن بن مهدي‪ ،‬وبعض العلامء يرى ّ‬

‫الرسالة وهو يف مكّة وأرسلها إىل ابن مهدي يف العراق‪ ،‬لكن تظهر الروايات ّ‬
‫أن الشافعي قد‬

‫كتب الرسالة وهو يف العراق يف هذه الزيارة الثانية هلا‪ .‬ولذلك ك ّله ّ‬
‫سمي بنارص السنّة؛ فقد‬

‫لتوسع مصادر الترشيع االجتهادية كالقياس‬


‫ّ‬ ‫كانت السنّة يف بغداد فيها ضع ًفا ً‬
‫نظرا‬
‫واالستحسان واالستصالح ونحوها‪ ،‬عىل حساب األحاديث وآثار الصحابة‪ ،‬إما لعدم العلم‬

‫هبا‪ ،‬أو لتشددهم باألخذ هبا‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فاستطاع الشافعي أن خي ّلص أصحاب احلديث من‬

‫وانقطعت سطوهتم عليهم‪.‬‬


‫ْ‬ ‫شبهات أهل الرأي‪،‬‬

‫املرحلة السابعة‪ :‬عودته إىل مكّة ثم إىل العراق مرة ثالثة ثم إىل مكّة‪ :‬عاد الشافعي إىل مكّة بعد‬

‫(شهرا‬
‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫قليال‪ ،‬ثم عاد إىل العراق فأقام هبا ً‬
‫قليال ً‬ ‫أسس مذهبه القديم هناك‪ ،‬فأقام بمكّة ً‬
‫أن ّ‬
‫املرة هبا‪،‬‬
‫واحدً ا)‪ ،‬ثم غادرها‪ ،‬وعاد إىل مكّة‪ ،‬ومنها إىل مرص‪ ،‬ولعل قرص مدة إقامته هذه ّ‬
‫بسبب غلبة العنرص الفاريس عىل العريب يف خالفة املأمون‪ ،‬وتقريب املعتزلة‪ ،‬ومعاداة خمالفيهم‬

‫وفتن االقتتال بني جند املأمون واألمني‪ ،‬فنفر اإلمام الفقيه القريش إمام أهل السنة من هذه‬

‫أيضا يف هذا التن ّقل هو بحثه عن التالميذ األكفاء الذين حيملون علمه‬
‫البيئة‪ ،‬ومن األسباب ً‬
‫الغزير‪ ،‬خاصة مع سيادة مذهب أيب حنيفة يف العراق‪ ،‬ومالك يف احلجاز‪ ،‬وهذا ظاهر يف رأيه‬

‫وتأسفه أنه مل يقاب ْله رغم أنه‬ ‫يف الليث بأنه كان أفقه من مالك إال ّ‬
‫أن تالميذه مل يقوموا به‪ّ ،‬‬
‫عارصه‪ ،‬فأراد الشافعي أن جيد من التالميذ من يقوموا به‪ ،‬فسافر إىل مرص التي كانت تنعم‬

‫باستقرار‪ ،‬وفيها فقه الليث‪ ،‬ومالك‪.‬‬

‫املرحلة الثامنة واألخرية‪ :‬حياته يف مرص ووفاته فيها‪ :‬وعندما كان الشافعي يف مكّة لقيه وايل‬

‫الدولة الع ّباسية عىل مرص‪ ،‬فاستصحبه معه إليها‪ ،‬وذلك كان يف أواخر سنة ‪ 199‬هـ‪ ،‬فقىض‬

‫فيها ‪ 4‬سنوات‪ ،‬وفيها نرش مذهبه اجلديد‪ ،‬وكان أهل مرص قبل قدوم الشافعي عىل فرقتني‪:‬‬

‫فرقة تدين بمذهب أيب حنيفة‪ ،‬واألخرى بمذهب مالك‪ ،‬فأراد الشافعي أن يأيت بقول جديد‬

‫يدرس ويفتي ويؤلف‪.‬‬


‫يشغلهم عن القولني‪ ،‬فأخذ ّ‬
‫األول‪ :‬العدد الكبري للتالميذ الذين أخذوا عنه مذهبه‪ ،‬الثاين‪:‬‬
‫ومت ّيزت هذه املرحلة بأمرين‪ّ :‬‬
‫تدوينه ملذهبه اجلديد يف كتايب‪ :‬األ ّم والرسالة اجلديدة‪ ،‬وغريمها‪ ،‬ويرى أمحد بن حنبل تفضيل‬

‫كتبه التي يف مرص؛ ألنه أحكمها‪ ،‬ومل يكن قد أحكم التي يف العراق‪ ،‬وهذا ك ّله رغم قرص املدة‬

‫التي أقامها يف مرص‪ ،‬ومرضه الذي كان شديدً ا يف هذه املرحلة‪ ،‬فقد مرض الشافعي بمرض‬

‫الباسور‪ ،‬واشتدّ عليه حتى مات به نتيجة النزف الشديد واملتواصل‪ ،‬حتى كان الدم يمأل‬

‫رساويله ومركبه وخ ّفه‪ ،‬وقد فاضت روحه الرشيفة آخر أ ّيام رجب سنة ‪ 204‬هـ‪ ،‬ليلة اجلمعة‬

‫بعد أن ّ‬
‫صىل املغرب‪ ،‬ودفن يوم اجلمعة‪.‬‬

‫األول‪ :‬أبو يعقوب يوسف البويطي‪ ،‬صحب الشافعي يف‬


‫أشهر تالميذ الشافعي يف مرص‪ّ :‬‬
‫مرص‪ ،‬وخلفه بعده يف حلقة الدرس واإلفتاء‪ ،‬وتر ّدد اسمه يف كل كتب املذهب‪ ،‬ومن‬

‫مصنّفاته‪ :‬امل خترص (اخترصه من كالم الشافعي)‪ ،‬والفرائض‪ ،‬وهو من أبرز رواة املذهب‬

‫اجلديد‪ ،‬وهو من املجتهدين‪ ،‬وقد محل إىل اخلليفة الواثق ملا امتنع عن القول بخلق القرآن‪،‬‬

‫وسجن حتى مات‪ ،‬وكان الشافعي يقدّ مه عىل بقية تالميذه‪ ،‬وحييل عليه يف الفتوى‪ ،‬وكان‬

‫يقول عنه‪ :‬هذا لساين‪ ،‬واستخلفه يف مرضه يف حلقة التدريس‪ .‬الثاين‪ :‬املُزين‪ ،‬ومن مصنفاته‪:‬‬

‫اجلامع الكبري‪ ،‬والصغري‪ ،‬واملنثور‪ ،‬واملسائل املعترب‪ ،‬وأشهرها املخترص الصغري املشهور‬

‫بمخترص املزين‪ ،‬فهو أصل الكتب املصنّفة عىل مذهب الشافعي فيام بعد‪ ،‬وكان املزين صاحب‬
‫ّ‬
‫مستقل‪ ،‬فام كان منه موافقه للمذهب الشافعي فهو من املذهب ال حمالة‪ ،‬وما كان خمالفا‬ ‫مذهب‬

‫به قول اإلمام فهو من مذهبه‪ ،‬وهذا من أعظم الدالئل عىل أن اإلمام كان من دعاة االجتهاد‪،‬‬

‫الربيع املرادي‪ ،‬وهو أكثر من‬


‫فقد خالفه تالميذه‪ ،‬ووصلوا إىل رتبة االجتهاد املطلق‪ .‬الثالث‪ّ :‬‬
‫املزين إذا تعارض‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬وفقهاء الشافعية يقدّ مونه عىل‬
‫الزم الشافعي‪ ،‬وروى كتبه املرصية ً‬

‫روايته مع رواية املزين‪ ،‬وهو أطول تالميذ الشافعي عمرا وأكثرهم بعده مكثا‪ ،‬ولذلك شدّ‬

‫إليه الرحال طل ًبا لإلسناد العايل‪ ،‬وهو السبب يف تقدّ مه عىل املزين الذي مل يلبث كثريا بعد‬
‫للربيع مصنّفات‪ ،‬بل اقترص عىل‬
‫الشافعي‪ ،‬وحادثة سجنه كام سبق ووفاته فيه رمحه اهلل‪ ،‬وليس ّ‬
‫أهم مقومات‬
‫رواية كتب الشافعي دون زيادة أو أن يكون له اختيارات خمالفة‪ ،‬فهو من ّ‬
‫استقرار املذهب‪ ،‬ومن كثرة مالزمته للشافعي الزمه إىل ثغر األسكندرية مراب ًطا‪ ،‬فقد كان‬

‫الرمي يف صباه‪ ،‬فرابط يف رمضان ليجمع بني فضائل الرباط والصيام والقيام‪،‬‬
‫الشافعي جييد ّ‬
‫وأحىص له الربيع ستني ختمة يف رمضان‪.‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬علوم اإلمام الشافعي وما يتصل هبا‬

‫ّأو ًال‪ :‬املحطات املؤثرة يف التكوين العلمي لإلمام الشافعي‪ّ :‬أوهلا رعاية أ ّمه له‪ ،‬فلم ترصفه إال‬

‫إال العلم ال إىل تعلم حرفة أو صناعة رغم يتمه وفقره‪ ،‬ثم تل ّقيه اللغة عن قبائل العرب‪،‬‬

‫والسنة‪ ،‬ثم تع ّلمه‬


‫حجة يف اللغة بام يمكّنه من فقه نصوص القرآن ُّ‬
‫خصوصا‪ ،‬فأصبح ّ‬
‫ً‬ ‫وهذيل‬

‫يف مكة عىل يد مسلم بن خالد الزنجي‪ ،‬ثم صحبته ملالك يف املدينة‪ ،‬وأخذه عنه الفقه‬

‫واحلديث‪ ،‬ثم مالزمته ملحمد بن احلسن وأخذه عنه فقه أهل الرأي‪ ،‬فالسفر كان حم ّببا إىل‬

‫اإلمام الشافعي ريض اهلل عنه‪ ،‬لكنه مل يذهب إىل دمشق أو بالد فارس (إيران اليوم)‪ ،‬أو بالد‬

‫ما وراء النهر (كازاخستان اليوم)‪ ،‬أو بالد املغرب‪ ،‬ورغم كثرة ما نزل يف هذه البالد من‬

‫الشافعي حصل هبا الكفاية‪.‬‬


‫ّ‬ ‫الصحابة والتابعني‪ ،‬إال ّ‬
‫أن البالد التي سافر إليها‬

‫ومقومات ذلك‪ :‬كان الشافعي موسوعة علم ّية يف علوم الرشيعة‬


‫ّ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬سعة علوم الشافعي‬

‫جيلس يف حلقته‬
‫خاصة ال يعني اقتصاره عليهام‪ ،‬فقد كان ُ‬
‫كلها‪ ،‬وإبداعه يف الفقه واألصول ّ‬
‫إذا صىل الصبح فيجيئه أهل القرآن‪ ،‬فإذا طلعت الشمس جاءه أهل احلديث‪ ،‬فإذا ارتفت‬

‫الشمس قاموا واستوت احللقة للمذاكرة والنظر‪ ،‬فإذا ارتفع الضحى جاء أهل العرب ّية‬

‫يقرب انتصاف النهار‪.‬‬


‫والعروض والنحو والشعر‪ ،‬فال يزالون إىل أن ُ‬
‫مهها‪ّ :‬أو ًال‪ :‬إخالصه هلل تعاىل يف تع ّلمه وتعليمه مع تقواه‬
‫وهذه املوسوعية ترجع إىل أسباب أ ّ‬
‫وورعه‪ ،‬ويف ذلك يقول ليونس بن عبد األعيل‪ :‬يا أبا موسى‪ ،‬لو جهدت كل جهد عىل أن‬

‫تريض الناس كلهم فال سبيل إليه‪ ،‬فإذ كان كذلك فأخلص عملك ون ّيتك هلل عز وجل‪.‬‬

‫والسنة وينرشون ذلك وإن مل‬


‫وددت أن الناس يفهمون ما يف كتبي من معاين الكتاب ّ‬
‫ُ‬ ‫ويقول‪:‬‬

‫ينسبوه إ ّيل‪ .‬ودخل عليه املزين يو ًما فوجده يصنّف فقال له‪ :‬إن أصحاب مالك وأيب حنيفة‬

‫صنفوا الكتب الكثرية وجيتهدون أكثر من اجتهادك‪ ،‬فقال له‪ :‬أليس ترى ما نحن فيه؟! وكان‬

‫يتأذى بالبواسري‪ ،‬ثم قال‪ :‬نصنّف ويصنّفون‪ ،‬وما كان هلل تعاىل يبقى إىل الدهر؛ ولذا ك ّله ذاع‬

‫اسمه‪ ،‬وأصبح قدوة ملاليني املسلمني‪ .‬ثان ًيا‪ :‬امللكة الفقه ّية‪ ،‬وهو االستعداد الفطري لتلقي‬

‫العلم وإبداعه فيه وذكاؤه‪ ،‬وقد تب ّينها فيه اإلمام مالك رمحه اهلل ملا قدم عليه الشافعي وهو‬

‫عقال وذكاء خار ًقا‪.‬‬


‫مرن به نفسه‪ ،‬فقد أويت الشافعي ً‬
‫غالم‪ ،‬وهذا منحة إهلية‪ ،‬ثم املران الذي ّ‬
‫وثالثها‪ :‬العرص الذي عاشه الشافعي من االستقرار السيايس‪ ،‬ونشاط حركة العلم والتدوين‬

‫والرتمجة‪ ،‬وشيوع املناظرات‪ .‬راب ًعا‪ :‬العلامء الذين تل ّقى عنهم كمسلم بن خالد‪ ،‬وحممد بن‬

‫حتّس عىل‬
‫احلسن‪ ،‬ومالك‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬وغريهم؛ وقد أدرك اإلمام هذه النعمة؛ ولذا ّ‬
‫عدم مقابلته لإلمام الليث بن سعد‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬إحاطته باللغة العربية وعلومها‪ :‬وقد تقدّ م علم الشافعي باللغة وتل ّقيه إ ّياها عن قبائل‬

‫حجة يف‬
‫العرب حول مكّة‪ ،‬فقد اشتغل فيها عرشين سنة‪ ،‬وقد بقيت هذه الصفة فيه‪ ،‬فأصبح ّ‬
‫ربد‪،‬‬
‫والفراء واألصمعي وامل ّ‬
‫ّ‬ ‫اللغة‪ ،‬فهو ال ّ‬
‫يقل يف قوله عن فحول اللغة أمثال الكسائي‬

‫واخلليل‪ ،‬وسيبويه‪ ،‬واقتصاره عىل الفقه ال يدل عىل عدم رسوخه يف اللغة‪ ،‬يقول أمحد‪:‬‬

‫الشافعي فيلسوف يف أربعة أشياء‪ :‬يف اللغة‪ ،‬واختالف الناس‪ ،‬واملعاين‪ ،‬والفقه‪ .‬وقد أخرج‬
‫كثريا من الروايات املسندة للشافعي ّ‬
‫تدل عىل إحاطته باللغة وديوان العرب‪ ،‬وذكر‬ ‫البيهقي ً‬
‫أن اإلمام أخطأ يف اللغة فيها‪ ،‬ور ّدها ك ّلها‪ ،‬ومن‬
‫الفخر الرازي عرشين شبهة وردت يف ّ‬
‫املباحث املفيدة يف هذا الشأن‪ :‬كالم اإلمام الشافعي واالحتجاج به وجه من سعة العربية‪،‬‬

‫لعبد الفتاح احلموز‪ ،‬ولغة اإلمام الشافعي وأثره يف نتاجه الفقهي واألصويل‪ ،‬لس ّيد رزق‬
‫الطويل‪ .‬والشافعي نفسه كان يقول‪ :‬ما بلغني ّ‬
‫أن أحدً ا أفهم هلذا الشأن (اللغة العرب ّية) منّي‪،‬‬

‫دون كتا ًبا يف العربية لنسخ ما قبله‪،‬‬


‫أحب أن أرى اخلليل بن أمحد‪ .‬ولو أن الشافعي ّ‬
‫وقد كنت ّ‬
‫قوته يف اللغة‪ ،‬وقد‬
‫فالبد من دراسة أشعار الشافعي وكتاباته واالستشهاد هبا واالستفادة من ّ‬
‫كان الشافعي يرتجم له يف كتاب معجم األدباء لياقوت احلموي‪ ،‬وطبقات النحاة واللغويني‬

‫البن قايض شهبة‪.‬‬

‫سن مبكّرة‪ ،‬سبع أو‬


‫راب ًعا‪ :‬رسوخ قدمه يف تفسري القرآن الكريم‪ :‬حفظ الشافعي القرآن يف ّ‬
‫قراء مكّة يف عرصه‪ ،‬وقد قال يونس‬
‫تسع سنوات‪ ،‬وقرأ عىل إسامعيل بن قسطنطني أحد كبار ّ‬
‫بن عبد األعىل‪ :‬كان الشافعي إذا أخذ يف التفسري كأنه شهد التنزيل‪ ،‬وأخرج احلافظ البيهقي‬

‫يفّس فيها القرآن ّ‬


‫يتجىل فيها رسوخه‬ ‫يف مناقب الشافعي عددا من الروايات املسندة للشافعي ّ‬
‫ومتكّنه من هذا العلم‪ ،‬وكان الشافعي له منهجا مستقال يف التفسري جيمع فيه بني التفسري‬

‫وحري أن‬
‫ّ‬ ‫باملأثور والتفسري بالرأي وهذا واضح فيام نقل إلينا من تفسريه يف الرسالة واأل ّم‪،‬‬
‫يكون هذا ّ‬
‫حمل دراسة الباحثني‪ ،‬ويف رسالة ماجستري‪ :‬منهج اإلمام الشافعي يف تفسري آيات‬

‫ملحب الدين عبد السبحان وعظ‪ ،‬ورسالة دبلوم الدراسات العليا للدكتور عبد‬
‫ّ‬ ‫األحكام‬

‫اخلالق نور‪ :‬اإلمام الشافعي ومذهبه يف التفسري يف كتابيه األ ّم واألحكام‪ .‬وهلذا ك ّله ترجم‬

‫تعرض الشافعي‬
‫املفّسين‪ ،‬فقد ترجم له شمس الدين الداوودي‪ ،‬وقد ّ‬
‫للشافعي يف طبقات ّ‬
‫فحري أن‬
‫ّ‬ ‫إىل تفسري أكثر من ‪ 200‬آية يف كتاب الرسالة‪ ،‬و تفسري ‪ 443‬آية يف كتاب األ ّم‪،‬‬

‫جيمع تفسري الشافعي املنقول عنه يف كتاب واحد‪ ،‬ويف هذا الشأن مجع الشيخ جمدي بن منصور‬

‫الشورى كتا ًبا بعنوان‪ :‬تفسري اإلمام الشافعي‪ ،‬لكنه مل يستوعب مجيع ما قاله اإلمام يف التفسري‪،‬‬

‫فهذه الدراسة حتتاج بحثا كدراسة الشيخ يّسي السيد ملا مجع أقوال ابن الق ّيم يف تفسري آيات‬
‫القرآن الكريم يف كتاب واحد وسامء‪ :‬بدائع التفسري اجلامع لتفسري ابن القيم اجلوزية‪ ،‬يف مخسة‬

‫جملدات‪ .‬مع التنبيه أن اهتامم الشافعي بآيات األحكام أكثر من اهتاممه بغريها؛ مليله نحو الفقه‬

‫واألصول‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬سوخ قدمه يف علم احلديث رواية ودراية‪ :‬أخذ اإلمام الشافعي احلديث عن كبار‬
‫ً‬
‫حمدثي عرصه كسفيان بن عيينة ومالك بن أنس‪ ،‬وقد أجاد يف علم احلديث رواية ودراية‪ ،‬أما‬

‫األصم‬
‫ّ‬ ‫رواية‪ :‬فقد كان الشافعي حاف ًظا متقنًا من رواة األحاديث األثبات‪ ،‬ومجع أبو العباس‬

‫جانبا من األحاديث التي رواه الشافعي يف كتاب‪ :‬مسند ّ‬


‫الشافعي‪ ،‬كام مجع أبو جعفر‬
‫السنن‪ ،‬إال ّ‬
‫أن أمجع‬ ‫أيضا عددا كبريا من األحاديث املرو ّية عن الشافعي يف كتابه‪ّ :‬‬
‫الطحاوي ً‬

‫السنن واآلثار‪ .‬ومن نظر يف‬


‫كتاب يف هذا الشأن هو ما مجعه البيهقي يف مصنّفه الكبري‪ :‬معرفة ّ‬
‫يتبني أن الشافعي من كبار ح ّفاظ احلديث يف زمانه‪ ،‬وأما عن فقه األحاديث‬
‫هذه الكتب الثالثة ّ‬
‫وما فيها من املعاين واألحكام‪ :‬فهذا ميدان الشافعي‪ ،‬ويدرك ذلك من قرأ يف مصنّفات‬

‫خصوصا كتابه‪ :‬اختالف احلديث الذي يعترب ّأول ما صنّف يف علم خمتلف احلديث‬
‫ً‬ ‫الشافعي‬

‫وبني طرق مجعها والتوفيق‬


‫ومشكله‪ ،‬فقد عرض فيه أكثر من ‪ 270‬حديثا خمتلفة يف ظاهرها‪ّ ،‬‬
‫بينها‪ ،‬وقد أخرج البيهقي عددا من تفسريات الشافعي لألحاديث ورشحه هلا رشحا ي ّ‬
‫تجىل‬

‫للسنة‪ .‬وأ ّما احلديث دراية‪ :‬فللشافعي أقوال معتربة يف نقد األسانيد ومتوهنا‪،‬‬
‫فيه عظيم فقهه ّ‬
‫وبيان رشوط احلديث الصحيح‪ ،‬وقواعد اجلرح والتعديل والكالم عىل بعض الرواة‪ ،‬بل ويف‬

‫علل احلديث سواء يف السند أو املتن‪ ،‬ويف كتاب الرسالة باب باسم‪ :‬العلل يف األحاديث‪،‬‬
‫أيضا روايات مسندة عن الشافعي ّ‬
‫تدل عىل متكّنه من هذا العلم‪ ،‬وقد استدرك‬ ‫البيهقي ً‬
‫ّ‬ ‫وأخرج‬
‫الشافعي عىل سفيان ومالك يف بعض رواياهتام ً‬
‫علال دقيقة يف اإلسناد خفيت عليهام‪ ،‬وقد أثنى‬

‫عظيام‪ ،‬فمن‬
‫ً‬ ‫العالمة أمحد شاكر عىل مباحث علوم احلديث املوجودة يف كتاب الرسالة ثناء‬

‫أيضا أن جتمع أقوال الشافعي يف علوم احلديث دراية عىل غرار مجعها رواية‪ ،‬وأن ُيلحق‬
‫املفيد ً‬
‫ً‬
‫شيخا كام قال‬ ‫بالكتاب ترمجة لشيوخ الشافعي الذين روى عنهم احلديث‪ ،‬وعددهم ‪79‬‬

‫احلافظ بن حجر‪ ،‬وكذلك الرواة الذين جرحهم أو عدهلم‪ ،‬وللدكتور عبد الرزاق موسى أبو‬

‫البصل رسا لة ماجستري بعنوان‪ :‬الرواية عىل اإلهبام والتعديل عليها عند اإلمام الشافعي يف‬

‫األحاديث املرفوعة‪ .‬ورسالة املاجستري‪ :‬اإلمام الشافعي ومكانته بني املحدّ ثني‪ ،‬لعبد احلميد‬

‫عبطان ع ّباس‪ ،‬وإن مل يصنّف الشافعي مصنفات مستقلة يف علم احلديث‪ ،‬فقد أدرك أن الغاية‬

‫من علم احلديث هو الفقه‪ ،‬فام احلكم عىل األحاديث إال لتقديمه إىل الفقه ليستنبط منه‬

‫األحكام الرشعية‪ .‬ولكن توجد شبهات حول عدم متكّن الشافعي من احلديث‪ ،‬نرسدها‪:‬‬

‫والرجال منّي‪ ،‬فإن كان احلديث‬


‫الشبهة األوىل‪ :‬قول الشافعي ألمحد‪ :‬أنتم أعلم باحلديث ّ‬
‫صحيحا‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫ً‬ ‫صحيحا فأعلموين كوفيا كان أو برصيا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان‬
‫ً‬
‫هذا يدل عىل عدم متكّنه من علوم احلديث‪ .‬وللجواب عىل هذه الشبهة نقول‪ :‬هذا من قبيل‬
‫التواضع‪ ،‬وهذا خلق العلامء الر ّبانيني‪ ،‬وإال فكالم الشافعي يف احلديث ّ‬
‫يدل عىل رسوخه فيه‪،‬‬

‫كام يمكن أن يقال‪ :‬إن أمحد كان من أكابر حمدثي العراق‪ ،‬فهو أعلم هبم ورواياهتم وأسانيدهم‪،‬‬

‫والشافعي مجع حديث احلجازيني‪ ،‬فيكون أمحد مرج ًعا للشافعي يف معرفة روايات العراقيني‬

‫فينتظم الكالم بمعنى‪ :‬إنكم أعلم روايات وأسانيد ورجال منطقتكم‪ ،‬ولذلك قال‪ :‬كوف ّيا كان‬

‫أو برص ّيا أو شام ّيا‪ ،‬ومل يقل‪ :‬مدن ّيا أو مكّيا أو يمن ّيا؛ ألنه قد أحاط هبا وأخذها عن علامئها‪.‬‬

‫ويمكن أن يقال أيضا‪ :‬إنه قال ذلك ليعلم أمحد أن أصله الذي بنى عليه مذهبه هو االحاديث‬

‫التمسك هبا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واحلث عىل‬ ‫السنن‬
‫واآلثار‪ ،‬فهو يقصد تعظيم ّ‬

‫الشبهة الثانية‪ :‬قول حييى بن معني ملا سئل عن الشافعي‪ :‬ليس بثقة‪ ،‬وجياب عن ذلك‪ :‬بأن هذه‬

‫الرواية مقابلة ألخرى يقول فيها ملا سئل عنه‪ :‬دعنا‪ ،‬لو كان الكذب له مطل ًقا‪ ،‬لكانت مروءته‬

‫أيضا‪ :‬إن هذه الرواية مل تثبت عن حييى وقد قال بذلك اإلمام‬
‫متنعه من الكذب‪ ،‬كام يقال ً‬
‫صحت هذه الرواية فيقال بام قال‬
‫احلاكم النيسابوري ووافقه عىل ذلك احلافظ ابن حجر‪ .‬وإذا ّ‬
‫يعرج عليه‪ ،‬فيمن‬
‫رب‪ :‬وكالم العلامء بعضهم يف بعض جيب أن ال يلتفت إليه‪ ،‬وال ّ‬
‫ابن عبد ال ّ‬
‫أيضا موقف حييى السلبي من‬
‫صحت إمامته وعظمت بالعلم عنايته‪ .‬وقد ر ّد اإلمام أمحد ً‬
‫ّ‬
‫الشافعي بعدم معرفته لعظيم قدره‪ ،‬ويف ذلك يقول صالح بن أمحد‪ :‬لقيني حييى فقال ‪ :‬أما‬

‫يستحي أبوك مما يفعل‪ ،‬رأيته مع الشافعي‪ ،‬والشافعي راكب وهو راجل وقد أخذ بركابه‪،‬‬

‫فقال أمحد لصالح ملا أخربه‪ :‬قل له‪ :‬إن أردت أن تتف ّقه فتعال فخذ بركابه اآلخر‪.‬‬

‫الشبهة الثالثة‪ :‬عدم إخراج البخاري ومسلم ألحاديث الشافعي يف الصحيحني‪ ،‬وهذا يدل‬

‫عىل عدم توثيقهام له‪ .‬وقد ر ّد اخلطيب البغدادي هذه الشبهة فأ ّلف كتابا ّ‬
‫سامه‪ :‬االحتجاج‬

‫بالشافعي فيام أسند إليه‪ ،‬والرد عىل الطاعنني بعظيم جهلهم عليه‪ ،‬وقد أجاب عن هذه الشبهة‬

‫وعلو السند مهم‬


‫ّ‬ ‫تيّس هلام أحاديث الشافعي بأسانيد أعىل من إسناده‪،‬‬
‫بأن البخاري ومسلم قد ّ‬
‫لدى املحدثني‪ ،‬فالبخاري مل يدرك الشافعي‪ ،‬ورغم ذلك روى عمن هو أكرب منه سنّا‪ ،‬وأجاب‬

‫أيضا فقال بام مفاده‪ :‬البخاري ومسلم مل يطعنا يف الشافعي‪ ،‬بل تركا الرواية‬
‫الفخر الرازي ً‬
‫فقط‪ ،‬وترك الرواية ال يدل عىل اجلرح‪ ،‬لكنّهام مدحاه‪ ،‬واملدح ّ‬
‫يدل عىل التعديل‪ ،‬فقد دافع‬

‫اإلمام مسلم عن الشافعي كثريا يف كتاب‪ :‬االنتفاع ب َأهب السباع (وهو مفقود) دفا ًعا ال مثيل‬

‫وبني إمامته ومنزلته بني املحدثني‪.‬‬


‫له ّ‬

‫ومن ذلك ك ّله يعلم جمانبة القايض عياض للصواب يف كتابه‪ :‬ترتيب املدارك‪ ،‬عن اإلمام أيب‬

‫حنيفة والشافعي ملا قارهنام باملك‪ ،‬ملّا ر ّد إمامتهام يف احلديث‪ ،‬وقال‪ :‬إهنام ض ّعفهام أهل الصنعة‪،‬‬

‫ومل خيرج هلام أهل الصحيح‪ ،‬وإن تفتيش الشافعي عن احلديث كان بتقليد منه لغريه‪ .‬وقد‬

‫صنف البيهقي كتابا بعنوان‪ :‬بيان خطأ من أخطأ عىل الشافعي‪ ،‬مجع فيه ‪ 52‬حديثا رواه اإلمام‬
‫وبني أن العلل الواردة فيها ال تثبت عىل مرو ّياته‪ ،‬فدافع فيه عن اإلمام‪ ،‬وأضاف‬
‫الشافعي‪ّ ،‬‬
‫اخللل املزعوم يف روايته إىل غريه‪ ،‬وأورد عىل ذلك أد ّلة دامغة تثبت صدق دعواه‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬إحاطته بفقه اإلمام مالك بن أنس وأصوله‪ :‬ومدرسة مالك يمتد جذورها إىل‬
‫ً‬
‫الصحابة الذين استطونوا احلجاز وماتوا فيه وهم أكثر الصحابة كعمر بن اخلطاب‪ ،‬وعبد اهلل‬

‫بن عمر‪ ،‬وعثامن بن عفان‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وأم املؤمنني عائشة‪ ، ،‬وأبو هريرة‪ ،‬وعنهم أخذ‬

‫فقهاء املدينة السبعة‪ :‬سعيد بن املسيب‪ ،‬وعروة بن الزبري‪ ،‬والقاسم بن حممد بن أيب بكر‪،‬‬

‫وخارجة بن زيد بن ثابت‪ ،‬وعبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة‪ ،‬وسليامن بن يسار‪ ،‬وأبو بكر بن عبد‬

‫الرمحن بن احلارث‪ .‬وأخذ من التابعني صغار التابعني وتابعوا التابعني ومن أبرزهم‪ :‬الزهري‪،‬‬

‫وربيعة الرأي‪ ،‬وأبو الزناد‪ ،‬وابن هرمز‪ ،‬وحييى بن سعيد‪ .‬وعن هؤالء اخلمسة وغريهم أخذ‬

‫اإلمام مالك فقه الصحابة وبرز فيه‪ ،‬ومن مالك أخذ الشافعي فقهه‪ ،‬فصاحبه مدة طويلة‪،‬‬

‫السنة‪ ،‬خال ًفا لبعض املالكية‬


‫كثريا‪ ،‬فأخذ عنه آخر أقواله يف الفقه ومرويات ّ‬
‫والزمه قبل وفاته ً‬
‫أنفسهم كأسد بن الفرات وعبد اهلل بن عبد احلكم‪ .‬ولقد تأثر الشافعي باملك‪ ،‬وكان يقول‬

‫عنه‪ :‬إذا ذكر العلامء فاملك النّجم‪ ،‬فكان الشافعي حينها مالك ّيا‪ ،‬أي‪ :‬يفتي عىل قول مالك‪،‬‬

‫وليس املراد االنتساب للمذهب فام كان معرو ًفا وقتها‪ ،‬وكان يناظر أصحاب أيب حنيفة يف‬

‫مالكي؛ ولذا ترجم له القايض عياض يف‪ :‬ترتيب املدارك‬


‫ّ‬ ‫زيارته األوىل للعراق باعتبار أنّه‬

‫وتقريب املسالك ملعرفة أعالم مذهب مالك‪ ،‬ثم بعد ذلك بدأ خيرج عىل أقوال مالك‪،‬‬

‫أسس مذهبه القديم يف العراق يف زيارته‬


‫وظهرت آراؤه اجلديدة بعد عودته إىل مكّة‪ ،‬حتى ّ‬
‫الثانية هلا‪ ،‬ولو بقيت قدراته االجتهادية كام هي ّ‬
‫الجته إىل مجع أقوال مالك فقط والفتوى عىل‬

‫منواهلا‪ ،‬ولسبق سحنون عندما مجع أجوبة مالك يف أسئلة الفقه يف ‪ 6200‬مسألة‪ ،‬وهو ما‬

‫باملدونة‪ ،‬ورواها سحنون عن عبد الرمحن بن القاسم العتقي عن مالك‪ ،‬وأصبحت فيام‬
‫ّ‬ ‫يعرف‬

‫املدونة‪ ،‬لكن‬
‫بعد أصل الفقه املالكي‪ ،‬فالشافعي كان أقدر عىل مجع وتصنيف ما هو أفضل من ّ‬
‫ّ‬
‫استقل الشافعي عن مالك ومت ّيزت شخصيته‬ ‫اجتهاده قفز إىل ما أبعد من ذلك بكثري‪ .‬وقد‬

‫االجتهادية وال أدل عىل ذلك من تصنيفه لكتاب‪ :‬اختالف مالك والشافعي يف مرص‪ ،‬عرض‬

‫فيه جانبا من املسائل التي اختلف فيها معه‪ ،‬وقد أحىص الباحث مجال عبود الديب اجلزائري‬

‫يف رسالته للامجستري‪ :‬خمالفات الشافعي ملالك يف املسائل األصول ّية ‪ 25‬مسألة أصولية بارزة‬

‫اختلف فيها الشافعي مع مالك‪ ،‬فالشافعي مل خيالف مالكا يف الفروع فحسب بل األصول‬

‫روج هلا – من غري ترصيح‬


‫أيضا‪ ،‬وقد كتب اإلمام هذا الكتاب لينفي عن مالك العصمة التي ّ‬
‫ً‬

‫متعصبي املالكية يف مرص آنذاك كفتيان بن أيب السمح وغريه‪ ،‬وقال الشافعي يف‬
‫ّ‬ ‫هبا‪ -‬بعض‬

‫بالسنة عند مالك‪ ،‬ويف رواية‬


‫بيان سبب التأليف‪ :‬هو عرض ما يراه اضطرابا يف االحتجاج ّ‬
‫باطلة‪ :‬إن اإلمام الشافعي وضع الكتاب ملا بلغه أهنم باألندلس يستسقون بقلنسوة ملالك‪،‬‬

‫وكان يقال هلم‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيقولون‪ :‬قال مالك‪ ،‬وأنه كان يقول‪:‬‬

‫يتبني له‬ ‫كرهت أن أفعل ذلك‪ ،‬ولكني استخرت اهلل يف ذلك سنَة‪ّ .‬‬
‫وكل من قرأ هذا الكتاب ّ‬
‫مدى إدراك اإلمام الشافعي بأصول مالك وفروعه‪ ،‬ومن املفيد دراسة هذه املسائل من كتب‬
‫صحة ما ينسبه إليهم الشافعي‪ ،‬وعظيم متكّنه وأمانته‪ .‬ومما ّ‬
‫يدل‬ ‫ليتبني ّ‬
‫كاملدونة؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫املالك ّية نفسها‬

‫عىل شخصية اإلمام مالك يف هذا الشأن هو املقارنة بينه وبني أشهب بن عبد العزيز العامري‪،‬‬

‫وكان قد صحب مالكًا‪ ،‬والزمه يف الفرتة التي الزمه فيها الشافعي‪ ،‬وكان قري ًبا من الشافعي‬

‫أيضا‪ ،‬كام صحب عبد الرمحن بن القاسم ال ُعتقي (أثبت الناس يف فقه مالك) وانتهت‬
‫يف الس ّن ً‬
‫إىل أشهب الرياسة يف مرص بعد وفاة ابن القاسم‪ ،‬وقد تالقى مع الشافعي مدّ ة األربع السنوات‬

‫التي قضاها يف مرص‪ ،‬لكن أشهب بقي عىل مذهب مالك‪ ،‬وكان الشافعي جي ّله ويقول فيه‪ :‬ما‬

‫تعصبه ملالك الذي دفعه أن‬


‫أخرجت مرص مثل أشهب لوال طيش فيه‪ ،‬ولعله يقصد بالطيش ّ‬
‫فتبسم الشافعي ملا‬
‫يدعو عليه ويقول‪ :‬اللهم أمت الشافعي وإال ذهب علم مالك بن أنس‪ّ ،‬‬
‫عيل بمخ ّلد‪.‬‬
‫مت ما الداعي ّ‬
‫العلم عندهم‪ ،‬لئن ُّ‬
‫ُ‬ ‫بلغه ذلك وأنشأ يقول‪ :‬وقد علموا لو ينفع‬
‫ورغم ذلك فالشافعي مل يمتنع من االستفادة من أشهب فقد طلب كتبه التي عنده لينظر لعلها‬

‫حوت من أقوال مالك ما مل يطلع عليه‪.‬‬

‫ساب ًعا‪ :‬إحاطته بفقه أيب حنيفة وأصوله‪ :‬نشأ فقه الكوفة بعد أن أمر عمر بن اخلاطب ببنائها‬

‫سنة ‪ 17‬هـ‪ ،‬وأرسل إليها عبد اهلل بن مسعود ليعلم الناس أحكام اإلسالم‪ ،‬وقد قوي مركز‬

‫عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنه‪ ،‬فال شك أن عبد اهلل وعل ّيا‬
‫الكوفة العلمي جدا بعد انتقال ّ‬
‫من أكابر فقهاء الصحابة‪ ،‬وقد أخذ الفقه عنهام كبار التابعني يف الكوفة كمّسوق بن األجدع‪،‬‬

‫والقايض رشيح‪ ،‬وعبد الرمحن بن أيب ليىل‪ ،‬وعلقمة بن قيس النخعي وهو أفقه من تلقى عن‬

‫عيل وابن مسعود‪ ،‬وكان بعض الصحابة يستفتونه‪ ،‬وعن هؤالء أخذ تابعوا التابعني الفقه‬
‫ّ‬
‫أيضا‪ .‬وعن‬
‫الشعبي ً‬
‫ّ‬ ‫الذين من أبرزهم إبراهيم النخعي (ابن أخت علقمة)‪ ،‬ومن طبقته‬

‫محاد ابن أيب سليامن (خليفة إبراهيم يف‬


‫إبراهيم أخذ عدد كبري من صغار التابعني من أبرزهم ّ‬
‫محاد‪ :‬حممد بن عبد الرمحن بن أيب ليىل الذي أخذ الفقه عن‬
‫اإلفتاء ألهل الكوفة)‪ ،‬ومن طبقة ّ‬

‫محاد أخذ الفقه‪ :‬اإلمام أبو حنيفة الذي يعترب من كبار تابعي التابعني‬
‫أبيه وعن الشعبي‪ ،‬وعن ّ‬

‫أسسه‬
‫وأحلقه بعضهم بصغار التابعني‪ ،‬وانتهت إليه زعامة الفقه عىل مذهب أهل الرأي الذي ّ‬
‫عيل وابن مسعود‪ .‬وعن أيب حنيفة أخذ الفقه تالميذ كثر‬
‫شيخ شيخه إبراهيم النخعي‪ ،‬إىل ّ‬
‫(مدون فقه احلنفية)‪ ،‬ومنه‬
‫ّ‬ ‫أشهرهم‪ :‬زفر‪ ،‬وأبو يوسف القايض‪ ،‬وحممد بن احلسن الشيباين‬

‫أخذ الشافعي الفقه فأجاد يف متكّنه منه‪ ،‬ويقول الذهبي يف بيان هذه السلسلة‪ :‬فأفقه أهل‬

‫عيل بن أيب طالب‪ ،‬وعبد اهلل بن مسعود‪ ،‬وأفقه أصحاهبام‪ :‬علقمة بن قيس‪ ،‬وأفقه‬
‫الكوفة ّ‬
‫محاد‪ :‬أبو‬
‫أصحابه‪ :‬إبراهيم النخعي‪ ،‬وأفقه أصحابه‪ :‬محاد بن أيب سليامن‪ ،‬وأفقه أصحاب ّ‬

‫حنيفة‪ ،‬وأفقه أصحابه‪ :‬أبو يوسف‪ ،‬وانترش أصحاب أيب يوسف يف اآلفاق‪ ،‬فأفقههم‪ :‬حممد‬

‫بن احلسن‪ ،‬وأفقه أصحابه‪ :‬أبو عبد اهلل حممد بن إدريس الشافعي‪ .‬فقد درس الشافعي يف‬

‫زيارته األوىل االضطرارية إىل العراق كتب حممد بن احلسن‪ ،‬ودرس عنه مشافهة‪ ،‬وذلك بأنه‬
‫سمع بعض كتب حممد بن احلسن (كتب ظاهر الرواية التي ذكرناها من قبل)‪ ،‬واستعار منه‬

‫تطور األمر من أخذه عن حممد بن احلسن‬


‫النساخ يف بغداد‪ ،‬ثم ّ‬
‫بعضها‪ ،‬واشرتى عددا منها من ّ‬
‫أيضا‪ ،‬وكان‬
‫إىل خمالفته بل ومناظرته‪ ،‬فكان إذا قام حممد ناظر أصحابه‪ ،‬وكان يناظره هو ً‬

‫الشافعي متأ ّدبا مع شيخه‪ ،‬فكان يثني عليه الثناء اجلميل‪ ،‬وكان يقول عنه‪ :‬ما رأت عيناي‬

‫مثل حممد بن احلسن‪ ،‬ومل تلد النساء يف زمانه مثله‪ .‬وقد أعجب الشافعي بفقه أهل العراق ويف‬
‫أيضا ً‬
‫ناقال عن مالك ملا سئل عن‬ ‫ذلك يقول‪ :‬من أراد الفقه فهو عيال عىل أيب حنيفة‪ ،‬ويقول ً‬

‫أيب حنيفة‪ :‬لو جاء إىل أساطينكم هذه (يعني السواري يف املسجد) فقايسكم عىل أهنا خشب‪،‬‬

‫لظننتم أهنا خشب‪.‬‬

‫ومن دالئل إحاطة الشافعي بفقه احلنف ّية وأصوهلم أنّه صنّف ثالثة كتب يف هذا الشأن‪ّ ،‬أوهلا‪:‬‬

‫عيل وعبد اهلل بن مسعود ريض اهلل عنهام‪ ،‬وله اسم آخر‪ :‬كتاب ما خالف‬
‫كتاب اختالف ّ‬
‫عيل وابن مسعود التي خالفهام فيه‬
‫العراق ّيون عل ّيا وعبد اهلل‪ ،‬وقد عرض فيه اجتهادات ّ‬
‫مرجحا ما يأخذ به باألد ّلة‪،‬‬
‫أصحاب أيب حنيفة‪ ،‬يروهيا بسنده إليهام‪ ،‬ثم يع ّقب هو باجتهاده ّ‬
‫وكان سبب تصنيفه هلذا الكتاب ّ‬
‫أن أصحاب أيب حنيفة ملا كانوا يناظرونه كانوا يقولون له رأي‬

‫وعيل التي خالفوها‪ ،‬واعتُذر للحنفية يف ذلك‬


‫ّ‬ ‫وعيل‪ ،‬فذكر هلم آراء ابن مسعود‬
‫ّ‬ ‫ابن مسعود‬

‫الصحابة هي األقوى يف هذه املسائل‪ ،‬وإن كان األكثر هو‬ ‫بأهنم رأوا ّ‬
‫أن أقوال غريمها من ّ‬ ‫ّ‬
‫األخذ بآرائهام‪ ،‬وهذا ّ‬
‫يدل عىل إحاطته رمحه اهلل بفقهه التام ألهل العراق ومرجع ّيتهم‪.‬‬

‫الكتاب الثاين‪ :‬اختالف أيب حنيفة وابن أيب ليىل‪ ،‬وله اسم آخر‪ :‬اختالف العراقيني‪ ،‬وأصل‬

‫الكتاب أليب يوسف القايض مجع فيه ما اختلف فيه أبو حنيفة مع ابن أيب ليىل‪ ،‬يروي ذلك‬

‫باألسانيد إ ليهام‪ ،‬مع رواية بعض األحاديث واآلثار املسندة‪ ،‬ويشء من اجتهاده يف املسائل‪،‬‬

‫وقد روى حممد بن احلسن هذا الكتاب‪ ،‬ثم جاء الشافعي فأعاد مجع الكتاب‪ ،‬ورتّبه عىل أبواب‬
‫الفقه‪ ،‬وزاد فيه اجتهاداته هو‪ ،‬يف الرتجيح بني األقوال‪ ،‬أو اخلروج بقول جديد‪ ،‬مد ّعام ذلك‬

‫ك ّله باألد ّلة‪ ،‬وكان يمكن للشافعي أن ينتقي غري أيب حنيفة وأيب ليىل من العراقيني كسفيان‬

‫ألن سلسلة تل ّقيهام عن‬


‫مثال أو عبد اهلل بن شربمة‪ ،‬لكنه اختار يف اختالفهام حتديدً ا ّ‬
‫الثوري ً‬

‫الصحابة خمتلفة‪ ،‬فأبو حنيفة تل ّقى عن ّ‬


‫محاد ابن أيب سليامن عن إبراهيم النخعي عن خاله‬

‫علقمة النخعي عن ابن مسعود‪ .‬وتل ّقى حممد بن أيب ليىل (وهو أكرب سنّا من أيب حنيفة) عن‬

‫وعيل‪ ،‬وال شك أن اجتهادات كبار‬


‫ّ‬ ‫أبيه عبد الرمحن بن أيب ليىل وعن ّ‬
‫الشعبي عن ابن مسعود‬

‫التابعني وصغارهم يف العراق والكوفة خاصة قد أضافت الكثري إىل فقه الصحابيني اجلليلني‪،‬‬

‫مما أدى إىل متايز فقه أيب حنيفة عن ابن أيب ليىل‪ ،‬وإن احتدت املدرسة‪ .‬كذلك من األسباب التي‬

‫دعت الشافعي الختيار اختالفهام حتديدً ا أن ابن أيب ليىل توىل القضاء يف الكوفة للدولة‬

‫العباسية‪ ،‬والقضاء يمثل اجلانب التطبيقي للفقه‪ ،‬بينام قام أبو حنيفة بالتدريس واإلفتاء وهو‬

‫اجلانب النظري للفقه‪ ،‬ورفض القضاء‪ ،‬وقد اشتهرت بعض احلوداث التي استدرك فيها أبو‬
‫حنيفة عىل أقضية ابن أيب ليىل‪ ،‬وهذا ك ّله ّ‬
‫يدل عىل ذكاء الشافعي يف اختيار أيب حنيفة وابن أيب‬

‫ليىل حتديدً ا ليجمعه‪ ،‬ويزيد عليه ترجيحاته‪.‬‬

‫حممد بن احلسن‪ ،‬وعرض فيه الشافعي مئات املسائل يف أحكام‬


‫الكتاب الثالث‪ :‬الر ّد عىل ّ‬
‫القصاص والديات‪ ،‬وذكر اجتهادات أيب حنيفة وغريه من الفقهاء يف عرصه‪ ،‬مع استدالالت‬

‫حممد ابن احلسن عىل أقوال إمامه‪ ،‬وخمالفاته له يف بعضها‪ ،‬ثم يذكر الشافعي رأيه مع دليله‪،‬‬
‫وهو أقدم كتاب وصلنا يف فقه الديات والقصاص املقارن‪ ،‬وهو ّ‬
‫دال بطبيعة احلال عىل متكّن‬

‫الشافعي من فقه احلنفية وأدلتهم وأصوهلم‪ ،‬ورغم ذلك فالشافعي مل يكن حنف ّيا‪ ،‬وكثرت‬

‫خمالفته هلم؛ ولذا مل يرتجم له أحدٌ يف كتبهم يف طبقات فقهائهم‪ ،‬وهذا تقدير منهم ملكانته‬

‫العلمية واالجتهادية املرموقة‪ ،‬فأثناء وجود الشافعي يف العراق وخالل عرضه ملذهبه القديم‬

‫وتدوينه له كان شديد التأثري حينها بفقه مالك‪ ،‬حتى إنه كان يقول‪ :‬أبو حنيفة يضع ّأول املسألة‬
‫خطأ ثم يقيس الكتاب ك ّله عليها‪ .‬وقال‪ :‬لو أن أبا حنيفة بنى عىل أصول أهل املدينة لكان‬
‫الناس عليه ً‬
‫عياال يف الفقه‪ ،‬ولكنه بنى عىل أصول هي يف بعض األحوال أضعف من الفروع‪.‬‬

‫ومن اجلدير بالذكر أن لإلمام أيب إسحاق الشريازي الشافعي كتا ًبا بعنوان‪ :‬النكت يف املسائل‬

‫املختلف فيها بني الشافعي وأيب حنيفة‪ ،‬لكنه مل يطبع حتى اآلن‪ ،‬لكن تم حتقيق جانب كبري منه‬

‫يف ثالث رسائل جامعية‪.‬‬

‫ثامنًا‪ :‬اطالعه عىل فقه اإلمام األوزاعي‪ :‬وفقه اإلمام األوزاعي يم ّثل فقه الصحابة الذين‬

‫استوطنوا الشام‪ ،‬عىل رأسهم‪ :‬معاذ بن جبل‪ ،‬وأبو الدرداء‪ ،‬وعبادة بن الصامت‪ ،‬والنعامن بن‬

‫بشري‪ ،‬وأبو أمامة الباهيل‪ ،‬وواثلة بن األسقع‪ ،‬وكانت الشام قد قوي مركزها بعد أن جعل‬

‫معاوية دمشق عاصمة اخلالفة‪ ،‬وعن هؤالء الصحابة أخذ التابعون‪ :‬أبو إدريس اخلوالين‪،‬‬

‫وشهر بن حوشب‪ ،‬وغريمها‪ ،‬وعنهم صغار التابعني أخذ‪ ،‬ومن أبرزهم‪ :‬رجاء بن حيوة‪،‬‬

‫ومكحول بن عبد اهلل (أفقه أهل الشام يف عرصه)‪ ،‬وعنه أخذ األوزاعي‪ ،‬ليصبح أبرز فقهاء‬

‫عرصه بال منازع‪ ،‬وفقهه هو خالصة فقه الصحابة ريض اهلل عنهم يف بالد الشام‪ .‬واإلمام‬

‫األوزاعي مل يكتف بفقه أهل الشام بل قام برحالت علمية إىل العراق واحلجاز ومرص التقى‬

‫فيها بعلامئه‪ ،‬وقد مجع بني الفقه واحلديث والتفسري‪ ،‬وبلغ مرتبة االجتهاد املطلق‪ ،‬فهو يف درجة‬

‫خاص له فروعه‬
‫ّ‬ ‫أيب حنيفة وسفيان الثوري ومالك وغريهم‪ ،‬حتى إنه استقل بمذهب‬

‫دون يف العلوم اإلسالمية يف‬


‫وأصوله‪ ،‬وهو عىل طريقة مدرسة أهل احلديث‪ ،‬وهو ّأول من ّ‬
‫الشام‪ ،‬وانترش مذهبه يف الشام واألندلس‪ ،‬لكنه اندثر يف الشام بعد قرابة ‪ 200‬عام من وفاته‪،‬‬

‫ويف األندلس بعد قرابة نصف قرن ‪.‬‬

‫وأهم أسباب انقراض مذهبه‪ :‬احرتاق كتبه يف آخر حياته بعد أن أمىض يف تأليفها سنني‪ ،‬وذلك‬

‫دونه حممد بن احلسن‪،‬‬


‫يف زلزال عظيم أصاب الشام‪ ،‬بخالف ما كان أليب حنيفة فمذهبه ّ‬
‫دون كتبه بنفسه‪ ،‬ومل‬
‫للمدونة‪ ،‬وللشافعي حيث ّ‬
‫ّ‬ ‫دون مذهبه سحنون يف مجعه‬
‫وملالك حيث ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ولعل‬
‫يتيّس له إعادة تدوين كتبه بعد الزلزال ّ‬
‫يتيّس ذلك لإلمام األوزاعي‪ ،‬كام مل ّ‬
‫ّ‬
‫اضطراب احلياة السياسية كان له دور يف ذلك نتيجة قضاء العباسني عىل بني أم ّية‪ ،‬وما أتبعه‬

‫أيضا‪ :‬أن تالميذه مل يقوموا بخدمة‬


‫من مواقف لألوزاعي معهم‪ .‬ومن أسباب انقراضها ً‬

‫مذهب غاممهم بعده‪ ،‬إما ألهنم مل يكونوا بمستوى تالميذ أيب حنيفة ومالك (حممد بن احلسن‪،‬‬

‫عز‬
‫وأيب يوسف‪ ،‬وعبد الرمحن بن القاسم‪ ،‬وأشهب)‪ ،‬وإما ألهنم اشتغلوا باجلهاد يف سبيل اهلل ّ‬
‫ّ‬
‫وجل كعبد اهلل بن املبارك وهو أحد أبرز تالميذ اإلمام األوزاعي‪ ،‬فقد كانت الشام هدفا‬

‫مستمرا للحمالت الصليبية املتتالية‪ ،‬ثم االستعامر األورويب يف القرن العرشين الذي انتهى‬

‫بقيام دولة إرسائيل عىل بالد الشام‪ ،‬بل إن األوزاعي نفسه استوطن بريون بن ّية الرباط إىل أن‬

‫مات فيها‪ ،‬ومل يصلنا من مصنّفاته إال كتاب‪ :‬سري األوزاعي‪ ،‬وهو يف أحكام اجلهاد يف‬

‫اإلسالم‪ .‬ورغم اندثار مذهبه رمحه اهلل إال أن فقهاء املذاهب األخرى تناقلوا بعض أقواله‬

‫مدوناهتم‪ ،‬وقام الدكتور عبد اهلل اجلبوري بجمعها يف رسالة دكتوراة بعنوان‪ :‬فقه‬
‫وفتاويه يف ّ‬
‫اإلمام األوزاعي‪ ،‬وقارن فيها بني أقوال األوزاعي وأقوال غريه‪ ،‬مع أد ّلة كل منهم‪ ،‬كام توجد‬

‫أيضا يف فقهه رمحه اهلل‪.‬‬


‫بعض األبحاث األخرى ً‬

‫رأيت ً‬
‫رجال أشبه فقهه‬ ‫وقد أحاط اإلمام الشافعي رمحه اهلل بفقه األوزاعي‪ ،‬يقول رمحه اهلل‪ :‬ما ُ‬
‫بحديثه من األوزاعي‪ ،‬وهذا ّ‬
‫دال عىل معرفته وإحاطته به؛ فقد خرج الشافعي من الفسطاط‬

‫إىل مدين تنِّيس (قرب دمياط) ليلتقي بتلميذين من تالميذ األوزاعي ومها‪ :‬أبو عبد اهلل برش‬

‫بن بكر البجيل الدمشقي ثم النّييس‪ ،‬وعمر بن أيب سلمة الدمشقي ثم التنّييس‪ ،‬ومل يكتف‬

‫دون كتا ًبا ينترص فيه ألقوال األوزاعي‪ ،‬وهو‪ :‬سري‬


‫اإلمام الشافعي باألخذ عنهام بل ّ‬
‫األوزاعي‪ ،‬وأصل الكتاب ر ّد لألوزاعي عىل أيب حنيفة يف مسائل من فقه اجلهاد‪ ،‬ثم قام أبو‬

‫يوسف بالر ّد عىل األوزعي يف كتاب‪ :‬الر ّد عىل سري األوزاعي‪ ،‬ثم جاء الشافعي فأ ّلف‪ :‬سري‬
‫ويرجح قول االوزاعي يف أكثر املسائل‪ ،‬باألد ّلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األوزاعي؛ لري ّد عىل أيب حنيفة وأيب يوسف‪،‬‬

‫وهو من أقدم كتب الفقه املقارن التي وصلتْنا‪ ،‬ألنه جيمع أقوال أربعة من كبار أئمة ذلك‬

‫العرص وهم‪ :‬األوزاعي‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأبو يوسف‪ ،‬والشافعي‪ .‬واإلمام الشافعي مل خيرت مقابلة‬

‫السري إال لعلمه بفقه األوزاعي‪ ،‬وأنه أفقه أهل الشام يف زمانه‪،‬‬
‫تلميذي األوزاعي وال كتابه ّ‬
‫مصدا ًقا لقول مالك‪ :‬األوزاعي إمام يقتدى به‪ ،‬فأراد الشافعي أن ينصفه‪ ،‬وقد و ّفق يف ذلك‪.‬‬

‫تاس ًعا‪ :‬ا ّطالعه عىل فقه الليث بن سعد‪ :‬وفقه الليث يرجع إىل الصحابة الذين استوطنوا‬

‫مرص‪ ،‬ومن أبرزهم‪ :‬عمرو بن العاص‪ ،‬وعبد اهلل بن عمرو بن العاص‪ ،‬أحد العبادلة الذين‬

‫انتهى إليهم الفقه من الصحابة (ابن عمر‪ ،‬ابن عباس‪ ،‬ابن عمرو‪ ،‬ابن الزبري)‪ ،‬وعقبة بن عامر‪،‬‬

‫الصنابحي‪ ،‬وعبد اهلل بن مالك‬


‫وعنهم أخذ التابعون ومن أبرزهم‪ :‬عبد الرمحن بن عسية ُّ‬
‫اجليشاين‪ ،‬ومرثد بن عبد اهلل اليزين (قايض األسكندرية)‪ ،‬وعنهم وعن غريهم أخذ صغار‬

‫األشج‪ ،‬وأبو أم ّية عمرو بن احلارث‪ ،‬ثم أخذ عن‬


‫ّ‬ ‫التابعني ومن أبرزهم‪ :‬بكري بن عبد اهلل بن‬

‫هؤالء‪ :‬الليث بن سعد (من طبقة تابعي التابعني)‪ ،‬وكان أبرز فقهاء عرصه‪ ،‬وإليه خيلص فقه‬

‫الصحابة الذين استوطنوا مرص‪ ،‬وعالوة عىل ذلك فقد قام الليث برحالت إىل احلجاز وغريه‪،‬‬

‫فأخذ عن ابن شهاب الزهري‪ ،‬وناظر ربيعة الرأي يف املدينة مناظرات قو ّية‪ ،‬وبلغ من اجتهاده‬

‫أنه كان جمتهدا اجتهادا مطل ًقا له مذهبه اخلاص يف الفروع واألصول‪ ،‬ومدرسته أقرب إىل‬

‫ودون كتابني يف‬


‫مدرسة أهل احلديث من أهل الرأي‪ ،‬ونرش مذهبه بعد استقراره يف مرص‪ّ ،‬‬
‫التاريخ والفقه‪ ،‬ولكنها مفقودة‪ ،‬وممن نقل مذهبه‪ :‬عبد اهلل بن يوسف التنّييس‪ ،‬وحييى بن‬

‫أيضا‪ :‬أشهب بن عبد العزيز‪ ،‬وعبد اهلل بن احلكم‪ ،‬وعبد اهلل‬


‫حسان التنّييس‪ ،‬وممن روى عنه ً‬
‫ً‬
‫طويال‪ ،‬فقد‬ ‫بن وهب (والثالثة من أصحاب مالك)‪ ،‬لكن مل يستمر مذهب الليث بعد وفاته‬

‫انترش مذهب مالك والشافعي‪.‬‬


‫واندثار مذهبه يرجع إىل‪ :‬عدم تدوين فقهه بنفسه‪ ،‬وكتابه إنام كان يف بعض مسائل الفقه‪ ،‬وأن‬

‫تالميذه كانوا أدنى من تالميذ غريه سواء يف مستواهم العلمي أو خدمتهم للمذهب‪ ،‬ويف‬

‫ذلك يقول الشافعي‪ :‬الليث أفقه من مالك إال أن أصحابه مل يقوموا به‪ ،‬وقد جانب الكوثري‬

‫الصواب ملا نسب الليث إىل تالميذ أيب حنيفة‪ ،‬وال دليل عىل ذلك سوى رواية تفيد إعجاب‬

‫أيضا يف الفهرت الصواب‬


‫الليث بفقه أيب حنيفة‪ ،‬وهذا ليس بيشء‪ ،‬كام جانب ابن النديم ً‬
‫ملجرد أن الليث روى‬
‫عندما عدّ الليث من تالميذ مالك‪ ،‬وتابعه عىل ذلك بعض املعارصين‪ّ ،‬‬
‫أحاديث عن مالك‪ ،‬والصواب أن الليث كان من أقران مالك‪ ،‬وكانت بينهام مراسالت نافعة‬

‫منها ر ّد الليث عىل مالك يف احتجاجه بعمل أهل املدينة‪ ،‬ويقول عبد اهلل بن وهب (تلميذ‬
‫مالك والليث)‪ّ :‬‬
‫كل ما كان يف كتب مالك‪ :‬أخربين من أرىض من أهل العلم فهو الليث بن‬

‫سعد‪ .‬واما رواية الليث عن مالك؛ فألن مالكًا عنده من األسانيد احلجازية العالية ما ليس‬

‫عند الليث‪ ،‬وألن الليث كان حيرص عىل سالمة سند احلديث وإن روى عمن هو أصغر منه‬

‫أو عمن هو يف مثل سنّه‪ ،‬كام قال احلافظ الذهبي‪ .‬وقد مجع الدكتور عبد احلليم حممود يف‬

‫خمرجة‬
‫كتاب‪ :‬الليث بن سعد إمام أهل مرص بعض االحاديث التي يروهيا الليث والتي هي ّ‬
‫يف الصحيحني وغريمها من طريقه‪ ،‬ورتبها عىل أبواب الفقه‪ ،‬مع يشء من التعليق والفوائد؛‬

‫استجال ء لفقه اإلمام‪ .‬فمن املفيد أن تستقىص أقوال الليث املوجودة يف كتب الفقه املقارن‬

‫للمذاهب‪ ،‬وجتمع مرتّبة عىل أبواب الفقه مع أد ّلتها‪ ،‬كام فعل الدكتور حممد ّ‬
‫رواس قلعه جي‬
‫وغريه عندما مجع فقه عدد من الصحابة والتابعني ّ‬
‫كل عىل حدة‪.‬‬

‫وقد اطلع اإلمام الشافعي عىل فقه الليث عندما أقام يف مرص‪ ،‬فقد سمع من أشهب بن عبد‬

‫حسان وغريه من تالميذ‬


‫العزيز‪ ،‬وعبد اهلل بن احلكم‪ ،‬وخرج إىل تنّيس ليأخذ عن حييى بن ّ‬
‫الليث‪ ،‬وكان الربيع املرادي يقول‪ :‬كان الشافعي إذا قال‪ :‬أخربنا الثقة‪ ،‬فإنه يريد به حييى بن‬

‫حتّس الشافعي عىل عدم لقائه بالليث كام تقدّ م رغم أنه عارصه‪ ،‬فيقول‪ :‬ما اشتدّ‬
‫حسان‪ .‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫عيل فوت أحد من العلامء مثل فوت ابن أيب ذئب‪ ،‬واليث بن سعد‪ ،‬وذلك ملا انتهى إليه علمه‬
‫ّ‬
‫من سوخ قدم الليث يف الفقه واألصول واحلديث‪ ،‬وتقديم الشافعي له يف قوله (الليث أفقه‬

‫رصح‬ ‫من مالك) ّ‬


‫يدل عىل أمرين‪ :‬أنّه اطلع اطالعا تاما واستوعب فقه الليث وأقواله حتى ّ‬
‫جمرد فتوى أو اثنتني‪ ،‬وأنّه يرى ّ‬
‫أن الليث أكثر صوابا من مالك يف مسائل‬ ‫هبذا التفضيل‪ ،‬وليس ّ‬
‫الفقه وأصوله‪ ،‬رغم ّ‬
‫أن مالكًا شيخه الذي الزمه‪ ،‬والشافعي رغم ثنائه عىل كثري من علامء‬

‫يفضل أحدهم عىل شيخه مالك بمثل ما قاله يف الليث‪ .‬فإذا أخذنا هذا ك ّله‬
‫عرصه‪ ،‬إال أنه مل ّ‬

‫بعني االعتبار‪ ،‬مع عدم تدوين الشافعي لكتاب يستدرك فيه عىل الليث كام فعل مع غريه‪،‬‬

‫أن مذهب الشافعي اجلديد يف مرص قد تأ ّثر بفقه الليث‪.‬‬


‫يتبني ّ‬
‫ّ‬

‫الفصل الثالث‪ :‬آثار اإلمام الشافعي‬

‫دون فقهه وأصوله بنفسه من األئمة األربعة‪ ،‬ولقد عاش‬


‫مقدمة‪ :‬الشافعي هو ّأول من ّ‬
‫الشافعي يف عرص نشاط التدوين والرتمجة كام سبق‪ ،‬وكان منذ البدايات أ ّيام الكتّاب كان‬

‫يكتب احلديث واملسألة يسمعها‪ ،‬وكذلك عندما ذهب إىل العراق قام بتدوين كتب حممد بن‬

‫جزأ الليل عىل الكتابة والصالة والنوم‪ ،‬ويف إقامته يف مرص كان جيمع يف‬
‫احلسن‪ ،‬وكان قد ّ‬
‫جملسه بني التصنيف والتدريس واإلمالء يف جملس واحد‪ ،‬فكان يميل عليهم ما يصنّفه‪،‬‬

‫فيكتبونه بأيدهيم‪ ،‬وكذلك كانوا يكتبون كالمه دون حصول إمالء منه‪ ،‬فهذا ُينسب إليهم ال‬

‫إليه‪ ،‬فقد يزيد الطالب شي ًئا عىل كالمه أو ينقح أو يرتب ونحو ذلك‪ ،‬وذلك مثل ما فعله حممد‬

‫بن احلسن عندما مجع فقه أيب حنيفة‪.‬‬

‫واإلمالء من ق َبل الشافعي عىل تالميذه ظاهر جدّ ا يف كتبه التي وصلت إلينا‪ ،‬كام يأيت يف األ ّم‪:‬‬

‫أخربنا الربيع قال‪ :‬أخربنا الشافعي إمال ًء‪ ،‬وحدثنا الشافعي إمالء‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ومن الكتب‬

‫التي أمالها الشافعي كاملة عىل تلميذه الربيع‪ ،‬كتاب‪ :‬اختالف مالك والشافعي‪ ،‬ومع شيوع‬
‫اإلمالء عن الشافعي لتالميذه‪ ،‬إال أن القسم األكرب من مصنّفاته بقلمه‪ ،‬وما أمىل عىل تالميذه‬

‫أيضا‪ ،‬لكن ربام يزيد خالل اإلمالء شي ًئا من حفظه‪ ،‬فكان التالميذ يكتوب‬
‫فهو مما كان صنّفه ً‬

‫كل ما سمعوه منه‪ ،‬ولقد بدأ الشافعي يف تصنيف مذهبه الذي يعرض فيه أصوله وفروعه مع‬

‫بدء زيارته الثانية إىل بغداد‪ ،‬وكانت طريقته يف ذلك أشبه ما يعرف يف زماننا بالفقه املقارن‪،‬‬

‫فيعرض األقوال املتعددة يف املسألة‪ ،‬وأدلتها‪ ،‬ثم يناقش األدلية‪ ،‬ويرجح بينها‪ ،‬وهذا‬

‫عيل وعبد‬
‫األسلوب ظاهر جدا يف كتب االختالفات‪ :‬اختالف مالك والشافعي‪ ،‬اختالف ّ‬
‫نظرا لطبيعة موضوعه األصويل الذي حيتاج إىل التحليل‬ ‫ّ‬
‫ويقل يف كتب كالرسالة؛ ً‬ ‫اهلل‪،‬‬

‫والتقعيد‪.‬‬

‫ولقد عدّ ابن النديم يف الفهرت أكثر من مائة كتاب عىل ّأهنا من مصنّفات الشافعي رمحه اهلل‪،‬‬

‫ومصنّفات الشافعي تنقسم إىل قسمني‪ :‬املصنّفات العراقية أو ما يعرف بالكتب القديمة‪ ،‬أو‬

‫املذهب القديم‪ .‬القسم الثاين‪ :‬املصنّفات املرصية أو ما يعرف بالكتب اجلديدة‪ ،‬أو املذهب‬
‫اجلديد‪ .‬واملصنفات املرصية قد حوت كت ًبا مل يكن الشافعي قد صنّفها يف العراق ً‬
‫أصال‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫اختالف مالك والشافعي‪ ،‬كذلك فالقسم األكرب من املصنفات املرصية ما هي إال تطوير‬

‫للعراقية وذلك بالتنقيح والزيادة واحلذف منها وتعديل كثري من االجتهادات‬

‫احلجة العراقي‪ ،‬وكتاب‬


‫ّ‬ ‫واالستدالالت؛ فكتاب األ ّم مرصي وما هو إال تطوير لكتاب‬

‫الرسالة اجلديدة مرصي وما هو إال تطوير لكتاب الرسالة القديمة العراقي‪.‬‬
‫ّ‬

‫معني‪ ،‬فهذه‬
‫سمى مصنّفا من مصنفاته باسم ّ‬
‫وينبغي أن يعلم أن اإلمام الشافعي مل يثبت أنه ّ‬
‫األسامء إنام هي من وضع تالميذه الذين نقلوها عنه‪ ،‬كاحلسن الزعفراين والربيع املرادي‪،‬‬

‫ولعل هذا هو سبب وجود عدت تسميات للمصنّف الواحد‪ ،‬مما أوهم أهنا مصنفات خمتلفة‪.‬‬
‫األول‪ :‬نقل ما كتبه‬
‫ولقد اختذت رواية مصنفات الشافعي من ق َبل تالميذه ثالثة أشكال‪ّ :‬‬
‫احلجة‬
‫الشافعي وأماله من غري اجتزاء منه أو اختصار له‪ ،‬وهو ما قام به احلسن الزعفراين يف ّ‬
‫والرسالة القديمة‪ ،‬والربيع املرادي يف األ ّم والرسالة اجلديد ة وغريمها‪ .‬الثاين‪ :‬نقل ما أقواله‬
‫وأد ّلته التي أمالها يف مواضيع مع ّينة‪ ،‬ينقلها بعض تالميذه ّ‬
‫كل واحد منهم بام ال يشاركه فيه‬

‫خمترصا‬
‫ً‬ ‫غريه‪ ،‬وفيها زيادات عىل ما نقله الزعفراين واملرادي‪ .‬الثالث‪ :‬نقل فقه اإلمام الشافعي‬

‫عني ما أمىل‪ ،‬كام فعل املزين يف خمترصه املشهور‪،‬‬


‫من كتبه التي صنّفها وأمالها‪ ،‬دون نقل ْ‬
‫قوة الطالب يف حسن‬
‫والبويطي يف خمترصيه الكبري والصغري‪ ،‬وهذه املخترصات تظهر فيها ّ‬
‫وترصفه يف كالم اإلمام‪ ،‬وزيادته عليه‪ ،‬وأحيانًا خمالفته فيه‪ .‬وقد أحىص نارص حميي‬
‫ّ‬ ‫االختصار‬

‫الدين ناجي يف رسالة املاجستري‪ :‬املزين وخمالفاته لإلمام الشافعي يف كتابه املخترص ‪ 69‬مسألة‬

‫خالفه فيها‪.‬‬

‫والسبب الرئيس يف عدم وصول مصنفات الشافعي القديمة إىل زماننا‪ :‬هنيه نفسه عن رواية‬

‫املصنفات القديمة عىل أهنا مذهب له‪ ،‬وذلك بعد أن رجع عن أقواله فيها‪ ،‬فقد قال‪ :‬ال حيل‬
‫عدّ القديم من املذهب‪ ،‬وقال‪ :‬ال أجعل يف ّ‬
‫حل من رواه عنّي‪ ،‬وأما ما اشتهر عنه من املسائل‬

‫يبني أنه‬
‫غري اجتهاده فيها وبقيت موجودة يف كتبه‪ ،‬فهو اعتامد عىل ذكرها يف موضع آخر ّ‬
‫التي ّ‬
‫قد رجع عنها‪ ،‬ويف املقابل السبب الرئيس يف وصول أكثر املصنّفات املرص ّية هو تبنّي الشافعي‬

‫بعضها قد فقد مما رواه غري الربيع ككتاب‬


‫ألقواله يف مرص فيام عرف بمذهبه اجلديد‪ ،‬وإن كان ُ‬

‫أيضا وجود الربيع املرادي‬


‫لسنن الذي رواه حرملة بن حييى التجيبي‪ ،‬كذلك من األسباب ً‬
‫ا ّ‬
‫ناقل هذه الكتب‪ ،‬فقد كان متم ّيزا بالدقة يف النقل‪ ،‬وقوة احلفظ‪ ،‬وغلبته عىل الفقه‪ ،‬ويف ذلك‬

‫يقول البويطي‪ :‬الربيع يف الشافعي أثبت مني‪ ،‬ولطول عمره‪ ،‬فقد بقي ‪ 66‬سنة بعد وفاة‬

‫اإلمام‪ ،‬مم ا ساعدة عىل رواية هذه املصنفات لعدد كبري من الفقهاء يف عرصه‪ ،‬وقد كان يأتيه‬
‫الناس من ّ‬
‫كل األقطار يطلبون سامعها‪ ،‬والربيع كان طويل املالزمة للشافعي أكثر من أي‬
‫تلميذ آخر‪ ،‬وربام لكونه كان مؤ ّذنا باملسجد اجلامع بفسطاط مرص‪ ،‬وكان الشافعي يلقي فيه‬

‫دروسه‪ ،‬وباإلضافة إىل قيامه بخدمته وقضاء حوائجه‪.‬‬

‫أبرز مصنّفات الشافعي القديمة التي مل تصل إىل زمن كتابة هذه الرسالة‪:‬‬

‫سامه احلسن الزعفراين بذلك؛ ألنه مقصد وضعه الر ّد عىل فقهاء أهل‬
‫احلجة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّأو ًال‪ :‬كتاب‬

‫احلجة عليهم‪ ،‬وهو نفس ما فعله حممد بن احلسن يف كتابه‪ :‬احلجة عىل أهل‬
‫ّ‬ ‫الرأي‪ ،‬إلقامة‬

‫املدينة‪ ،‬والكتاب يف الفروع الفقه ّية وهو مرتّب عىل أبواب الفقه‪ ،‬وفيه تأ ّثر بطريقة حممد بن‬

‫احلسن الشيباين يف ترتيبا ألبواب الفقه ّية‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬الرسالة القديمة‪ ،‬وصنّفه الشافعي يف زيارته الثانية لبغداد‪ ،‬بناء عىل طلب من عبد الرمحن‬

‫بن مهدي كام سبق‪ ،‬وقد أرسله مع تلميذه احلارث بن رسيج الن ّقال لينقله من بغداد إىل ابن‬

‫فسمي الن ّقال لذلك‪ ،‬والكتاب يف أصول الفقه‪ ،‬لكن بصورة موجزة‪،‬‬
‫مهدي يف البرصة‪ّ ،‬‬
‫وطورها ون ّقحها يف مرص‪ ،‬وهي التي بني أيدينا اآلن فيام يعرف بالرسالة اجلديدة‪ ،‬وهي من‬
‫ّ‬
‫رواية الربيع املرادي‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬املبسوط‪ ،‬وهو يف الطهارة والصالة والزكاة‪ ،‬ورواه عنه الزعفراين والربيع املرادي‪ ،‬وهو‬
‫احلجة واأل ّم‪ ،‬وإنام هو اسم أطلق عىل ّ‬
‫كل من الكتابني‪ ،‬وبناء‬ ‫ليس كتا ًبا ثال ًثا يف الفروع غري ّ‬
‫يسمى‪ :‬األ ّم‬
‫يسمى احلجة واملبسوط‪ ،‬وما رواه املرادي ّ‬
‫عىل ذلك فام رواه الزعفراين يف الفقه ّ‬
‫أيضا‪ .‬ولعل تسميته باملبسوط جماراة لكتاب حممد بن احلسن يف أكرب كتب ظاهر‬
‫واملبسوط ً‬

‫احلجة‪ ،‬وكتب االختالفات التي‬


‫الرواية‪ :‬املبسوط‪ .‬فاملبسوط يشمل مرو ّيات الزعفراين وهي‪ّ :‬‬
‫عيل وابن مسعود‪ .‬كام‬
‫صنفها الشافعي يف بغداد كاختالف أيب حنيفة وابن أيب ليىل واختالف ّ‬
‫أيضا مرو ّيات الربيع املرادي وهي‪ :‬األ ّم‪ ،‬وكتب االختالفات التي صنّفها يف مرص‬
‫يشمل ً‬
‫كاختالف مالك والشافعي‪ ،‬وكتب االختالفات التي صنّفها يف العراق ثم أعاد تصنيفها يف‬
‫الرسالة؛ خلصوص ّيته‬ ‫مرص‪ .‬مع العلم ّ‬
‫أن تسمية كتب الشافعي باملبسوط ال تطلق عىل كتابه ّ‬
‫ّ‬
‫مستقل لإلماما لشافعي‬ ‫املميزة له‪ .‬و ّ‬
‫لعل اللبس احلاصل يف عدّ كتاب املبسوط كمصنّف‬

‫مصنف لإلمام البيهقي بعنوان‪ :‬املبسوط‪ ،‬مجع فيه كالم الشافعي ونصوصه‬
‫بسبب وجود ّ‬
‫وأدلته مما وقع بني يديه من املصنفات العراقية واملرصية‪ ،‬بعد ما ضاق صدره بوجود‬

‫االختالفات يف نصوص الشافعي واحلكاية عنه دون تث ّبت‪ ،‬لكن هذا الكتاب الضخم العظيم‬

‫أيضا‪.‬‬
‫مفقود ً‬

‫السنن برواية حرملة التجيبي‪ :‬وحرملة من تالميذ الشافعي يف مرص‪ ،‬ورواة مذهبه‬
‫راب ًعا‪ّ :‬‬
‫اجلديد‪ ،‬مجع يف هذا الكتاب ما رواه عن إمامه من أقوال وأدله كتبها خلفه‪ :‬إمالء‪ ،‬أو قرأها‬

‫عليه من مصنّفاته‪ ،‬وفيه كثري مما رواه الربيع يف األم‪ ،‬باإلضافة إىل بعض الزيادات التي انفرد‬

‫هبا‪ ،‬وهذا الكتاب يشارك حرملة يف راويته أبو إبراهيم املزين‪ ،‬ولعل حرملة أراد هبذا الكتاب‬

‫أيضا هو أهم ما اعتمد‬


‫أن جيمع ما رواه من مصنّفات الشافعي يف مرص‪ ،‬ولعل هذا الكتاب ً‬

‫أي نسخة‬
‫أيضا ّ‬
‫عليه املزين يف إنجاز خمترصه املشهور‪ ،‬ومن املؤسف أن هذا الكتاب مل يصلنا ً‬

‫خمطوطة منه‪ ،‬بل كانت قليلة جدا يف زمن البيهقي نفسه‪ ،‬ولعل ذلك بسبب مت ّيز الربيع املرادي‬

‫السنن للطحاوي‬ ‫ّ‬


‫مستقل عن كتايب ّ‬ ‫باألمور سالفة الذكر‪ .‬وينبغي أن يعلم أن هذا الكتاب‬
‫ّ‬
‫مستقل بذاته‪ ،‬وليس هو عني اآلخر‪.‬‬ ‫والبيهقي (ومها موجودان)‪ّ ،‬‬
‫فكل كتاب منهام‬

‫مصنّفات الشافعي التي وصلتْنا‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬كتاب األ ّم‪ ،‬وهو يف الفقه العام‪ ،‬الذي َ‬


‫يعرض فيه مسائل الفقه يف مجيع األبواب ابتداء‬

‫أيضا‪.‬‬
‫من الطهارة وانتهاء بباب األقضية ونحوه‪ ،‬وهو من رواية الربيع املرادي‪ ،‬ومن تسميته ً‬

‫وكتاب األ ّم يشمل‪ :‬الفروع الفقه ّية فقط دون كتب االختالفات وأصول الفقه وهذا رأي‬

‫احلافظ البيهقي وابن حجر‪.‬‬


‫ولقد قام الدكتور أمحد بدر الدين حسون بتحقيق كتاب األ ّم‪ ،‬فأضاف إىل الفروع الفقه ّية كتب‬
‫االختالفات وكتب أخرى‪ ،‬فهو عبارة عن ّ‬
‫كل ما وصل إلينا من مصنّفات الشافعي‪ ،‬باستثناء‬

‫الرسالة واختالف احلديث‪ ،‬وهو مطبوع يف ‪ 15‬جز ًءا موزعة عىل ‪ 10‬جملدات‪ ،‬دار قتيبة‬

‫عيل وابن‬
‫ببريوت‪ ،‬وهذه الكتب هي‪ :‬الفروع الفقهية‪ ،‬واختالف العراقيني‪ ،‬واختالف ّ‬
‫مسعود‪ ،‬واختالف مالك والشافعي‪ ،‬ومجاع العلم‪ ،‬وبيان فرائض اهلل‪ ،‬وصفة هني رسول اهلل‬

‫حممد بن احلسن الشيباين‪ ،‬وسري‬


‫صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإبطال االستحسان‪ ،‬والر ّد عىل ّ‬
‫األوزاعي‪ .‬وهي كام سبق مصنّفات مستق ّلة بذاهتا‪ ،‬ليست من األ ّم‪ ،‬وإن كان ّ‬
‫الكل برواية‬

‫تكرر بعض املوضوعات يف كتاب األ ّم‪ ،‬وهذا التكرار ليس‬


‫الربيع املرادي‪ .‬مع التنبيه عىل ّ‬
‫بنصه‪ ،‬بل املكرر هو بحث املوضوع بالزيادة عليه أو االختصار منه أو بعدد‬
‫لنفس الكالم ّ‬
‫ّ‬
‫يستدل هبا الشافعي‪ ،‬وهذا دليل عىل د ّقة الربيع وأمانته يف النقل‪ ،‬فال‬ ‫ونوعية األدلة التي‬
‫ّ‬
‫يتدخل فيها بدمع املوضوعات املتشاهبة‪ ،‬فال يتوزع بحثها يف أماكن متعددة من الكتاب‪ .‬ولقد‬

‫يسمى موسوعته باملبسوط ال األ ّم؛ ألن املبسوط هو ما‬


‫كان األوىل بالدكتور حسون أن ّ‬
‫استعمله ابن النديم وغريه للداللة عىل مجيع مصنّفات الشافعي برواية الربيع املرادي‪ ،‬بخالف‬

‫األ ّم الذي هو يف الفروع الفقه ّية فقط‪ ،‬وكذلك كان األوىل أن ال يطلق عليها موسوعة‬

‫الشافعي؛ لعدم اشتامل الكتاب الذي ح ّققه عىل كتايب ّ‬


‫الرسالة واختالف احلديث‪ ،‬ومها من‬

‫أيضا‪.‬‬
‫رواية الربيع ً‬

‫وطريقة تصنيف كتاب األ ّم‪ :‬القسم األكرب منه كتبه الشافعي بقلمه‪ ،‬وهو ما قرأه عليه تالميذه‬

‫الربيع يف بداية كل مسألة أو فقرة‪ :‬أخربنا الشافعي‪ ،‬أو قال الشافعي‪،‬‬


‫فأجازهم به‪ ،‬كقول ّ‬
‫ينص عليه‪ ،‬فالربيع كان يم ّيز‬
‫الربيع عن الشافعي إمال ًء‪ ،‬وهو ّ‬
‫والقسم األصغر منه هو ما أخذه ّ‬
‫بني احلالتني‪ :‬حالة اإلخبار وهي األكثر يف الكتاب‪ ،‬وحالة اإلمالء وهي ّ‬
‫األقل‪ .‬وأما ما يقوله‬

‫الربيع من‪ :‬أخربنا الشافعي رمحه اهلل‪ ،‬فهذا ألنّه روى الكتاب بعد وفاة الشافعي‪ ،‬بعد أن كان‬
‫أخذه عنه يف حياته إجاز ًة أو إمال ًء‪ ،‬فليس يف ذلك ما يشكك يف نسبة األ ّم للشافعي‪ .‬ومن‬
‫يتدخل أحيانًا قليلة مبد ًيا رأيه يف املسألة ّ‬
‫حمل البحث‪.‬‬ ‫اجلدير بالذكر ّ‬
‫أن الربيع كان ّ‬

‫مهها‪ :‬أوال‪ :‬ختريج أحاديث األ ّم للبيهقي‪ ،‬وتوجد منه‬


‫اهتمت به‪ ،‬أ ّ‬
‫ولكتاب األ ّم دراسات ّ‬
‫خمطوطتان‪ .‬ثان ًيا‪ :‬مرويات اإلمام الشافعي يف كتاب األم من أول كتاب البيوع إىل أول كتاب‬

‫النكاح‪ ،‬رسالة ماجستري ليارس إبراهيم أمحد‪ .‬ثال ًثا‪ :‬مرويات اإلمام الشافعي يف األم دراسة‬

‫توثيقية‪ ،‬رسالة ماجستري ملحمد أمحد حسن‪ .‬راب ًعا‪ :‬القواعد والضوابط الفقهية يف األ ّم‪ ،‬رسالة‬

‫خامسا‪ :‬وصل مرسالت الشافعي يف األ ّم‪ ،‬رسالة دكتوراة‬


‫ً‬ ‫ماجستري لعبد الوهاب أمحد خليل‪.‬‬

‫ألمحد عواد الكبييس‪.‬‬

‫شبهة نسبة كتاب األم للشافعي‪ :‬نسبة األم للشافعي برواية الربيع أشهر من أن يشكك هبا‬

‫أحد‪ ،‬فالنقل بذلك متواتر‪ ،‬ومل يرد يف كتب الرتاجم ما خيدش هذه النسبة ال من قريب وال من‬

‫بعيد‪ ،‬بل إن فقهاء الشافعية مل يتطرقوا إىل إثبات هذه النسبة؛ ليقينهم ّأهنا متواترة بحيث ال‬

‫حتتاج إىل إثبات‪ ،‬ومن ذلك ما فعله الفخر الرازي يف مناقب الشافعي حيث تصدّ ى لر ّد‬
‫يتعرض هلذه الشبهة‪ .‬ومن اجلدير بالذكر ّ‬
‫أن أبا طالب املكّي‬ ‫الشبهات عن اإلمام وفقهه‪ ،‬ومل ّ‬
‫التصوف) ّ‬
‫أن مصنّف األ ّم هو البويطي‪ ،‬وأنه اعتزل‬ ‫ّ‬ ‫ذكر يف كتاب قوت القلوب (من كتب‬

‫الناس وأراد اخلمول‪ ،‬فأخرجه للربيع‪ ،‬فزاد فيه وأظهره‪ ،‬ونقل الغزايل يف اإلحياء (من كتب‬

‫أيضا) هذا الكالم؛ فاإلحياء يعتمد عىل هذا الكتاب وعىل رسالة القشريي‪ ،‬فليس‬
‫التصوف ً‬
‫غري ًبا أن ينقل كالمه بحرفه‪ ،‬لكن الغريب أن الغزايل مل يورد شيئا عن هذا االدعاء يف مقدّ مات‬

‫مصنّفاته يف الفقه كالوسيط يف املذهب‪ ،‬أو يف األصول كاملنخول واملستصفى! ومل يأبه أحد‬

‫نمو التعصب املذهبي يف عرص اجلمهود والتقليد منذ سنة ‪ 350‬هـ وما‬
‫هبذا النقل‪ ،‬حتى مع ّ‬
‫املتعصبون يتتبعون سقطات بعض‪ ،‬وأحيانًا يطعنون يف بعض األئمة‪ ،‬كام‬
‫ّ‬ ‫بعدها‪ ،‬وقد كان‬
‫حصل من بعض متعصبي احلنفية واملالكية عندما شكّكوا يف نسب الشافعي القريش‪ ،‬ورغم‬

‫ذلك ك ّله مل يلتفت أحد إىل هذه املقولة‪ ،‬حتى جاء الدكتور‪ :‬زكي مبارك‪ ،‬لينرش يف سنة ‪1934‬م‬

‫كتاب‪ :‬إصالح أشنع خطأ يف تاريخ الترشيع اإلسالمي‪ ،‬كتاب األ ّم مل يؤلفه الشافعي‪ ،‬وإنام‬

‫وترصف فيه الربيع بن سليامن‪ .‬وقد تصدّ ى لر ّد هذه الشبهة عدد من العلامء من‬
‫ّ‬ ‫أ ّلفه البويطي‪،‬‬

‫أبرزهم‪ :‬أمحد شاكر يف مقدّ مة حتقيقه للرسالة‪ ،‬وحممد أبو زهرة يف كتابه الشافعي‪ ،‬وسيد أمحد‬

‫صقر يف مقدمة حتقيقه ملناقب الشافعي للبيهقي‪ ،‬وأمحد نحراوي اإلندونييس يف‪ :‬اإلمام‬

‫الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد‪ ،‬وحسن حممد سليم يف‪ :‬اإلمام الشافعي وأثره يف أصول‬

‫حسون يف حتقيقه لكتاب األ ّم‪.‬‬


‫الفقه‪ ،‬وأمحد بدر الدّ ين ّ‬

‫الردود هي‪ّ :‬‬


‫أن البويطي عىل زهده مل ُخيْف مصنفات أخرى له مثل املخترص الكبري‬ ‫وأبرز هذه ّ‬
‫أي مصنّف‪،‬‬
‫والصغري‪ ،‬ومها يف فقه الشافعي‪ ،‬فإذا كانت القضية قضية ظهور ما كان ليظهر ّ‬
‫أما أن يظهر بعضها وخيفي اآلخر فهذا تناقض‪ ،‬كذلك فال يعترب ذلك من الثناء عىل البويطي؛‬

‫ملا تورده الرواية من أنه علم بأن الربيع نسب الكتاب إىل نفسه يف حياة البويطي‪ ،‬ثم سكت‬

‫يتنزه عنه البويطي وسائر تالميذ اإلمام‪ ،‬كذلك‬


‫عنه‪ ،‬فأعانه بذلك عىل املعصية‪ ،‬ومثل ذلك ّ‬

‫فقول الربيع يف األ ّم‪ :‬أخربنا الشافعي‪ ،‬فهذا يعني – بناء عىل رواية أيب طالب – إما أنه يكذب‬

‫رصاحة‪ ،‬فاإلخبار من البويطي لكن جيعله الربيع من الشافعي‪ ،‬أو أنّه يد ّلس يف روايته‪،‬‬

‫فالكالم للبويطي يروية عن الشافعي‪ ،‬فجاء هو وأسقط البويطي‪ ،‬وهذا باطل؛ فالربيع كان‬

‫معروفا بأمانته الشديدة‪ ،‬وهو ثقة عدل‪ ،‬ليس يف فقه الشافعي فحسب‪ ،‬بل يف رواية السنّة‬

‫املطهرة‪ ،‬وقد أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وغريهم‪ .‬كام أن صيغة‬

‫أخربنا – وهي األكثر استعامال من الربيع يف األم‪ -‬ال حتتمل التدليس عند املحدثني؛ إذ‬

‫التدليس يكون بالعنعنة عندهم‪ ،‬أما صيغة أخربنا مع عدم سامع الرواي من الشيخ= فهي‬

‫الكذب الرصاح الذي يتنزه عنه الربيع‪ ،‬وحتى مع إمكان حصول التدليس هبذه الصيغة‪ ،‬فلم‬
‫يرمه أحد بالتدليس من املحدثني سواء يف عرصه أو بعده‪.‬كام أن مت ّيز الربيع بد ّقته يف بيان‬
‫تعليقاته الشخصية وتوجيهاته‪ّ ،‬‬
‫يدل عىل د ّقته يف نقل كالم شيخه الشافعي‪ ،‬وعدم خلطه‬

‫بغريه‪ ،‬فهذه التعليقات – عىل قلتها – ال تكون سب ًبا للطعن يف نسبة الكتاب‪ ،‬بل األمر عىل‬

‫أيضا‪ :‬إن سياق الرواية عند أيب طالب‬


‫العكس من ذلك‪ ،‬فهي دليل إثبات النسبة له‪ .‬كام يقال ً‬

‫واألخوة‪ ،‬وليس إثبات حقيقة علمية والتدليل‬


‫ّ‬ ‫املكي كان يف سياق التمثيل عىل الزهد يف الدنيا‬

‫عليها‪ ،‬ولبعض الصوفية والو ّعاظ طريق واسع يف باب الرتغيب والرتهيب‪ ،‬يسوقون فيه‬

‫ضعيف األخبار وباطلها‪ ،‬كام يسوقون مقبوهلا‪ ،‬ويستسيغون ذلك‪ ،‬ولذلك يوجد يف هذا‬

‫الكتاب واإلحياء كثري من األخبار الضعيفة واملوضوعة‪ ،‬فإذا كان هذا يف شأن األحاديث‬

‫النبوية‪ ،‬فكيف يف أخبار غريه؟!‬

‫ثان ًيا‪ :‬الكتب التي صنّفها الشافعي يف علم االختالف (ما يعرف يف زماننا بالفقه املقارن)‪:‬‬

‫وهذه الكتب اقترصت عىل موضوعات مع ّينة أو اجتهادات علامء مع ّينني كام سيأيت‪ ،‬ومجيع‬
‫هذه الكتب مرص ّية‪ ،‬وهي أقدم ما وصلنا يف الفقه املقارن‪ّ ،‬‬
‫وكل ما أتى بعدها استفادت من‬

‫طريقتها‪ ،‬مع الزيادة والتحسني‪ ،‬وهي مخسة كتب‪ ،‬وقد عدّ ها البيهقي من مجلة كتب األصول‪،‬‬

‫إال ّأهنا أقرب إىل عنوان مصنّفات الفقه املقارن‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬اختالف أيب حنيفة وابن أيب ليىل (اختالف العراقيني)‪ ،‬وأصله من تصنيف أيب يوسف‬

‫القايض مجع فيه املسائل التي اختلف فيها أبو حنيفة مع حممد بن عبد الرمحن بن أيب ليىل‪،‬‬

‫باإلضافة إىل اجتهاد أيب يوسف‪ ،‬وقد رواه عنه حممد بن احلسن‪ ،‬ثم جاء الشافعي فأعاد‬

‫تصنيفه‪ ،‬مب ّينا فيه اجتهاداته‪ ،‬مع التدليل عليها‪ ،‬وهو موجود يف موسوعة اإلمام الشافعي التي‬

‫حسون‪ ،‬وتشمل معظم أبواب الفقه‪.‬‬


‫أعدّ ها الدكتور ّ‬
‫عيل وعبد اهلل بن مسعود ريض اهلل عنهام (ما خيالف العراقيون عل ّيا وعبد اهلل)‪،‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬اختالف ّ‬
‫ومجع فيه الشافعي املسائل التي خالف فيها العراقيون عل ّيا وابن مسعود‪ ،‬وهو موجود يف‬

‫أيضا‪ ،‬ومعظم مواضيعه يف العبادات‪.‬‬


‫املوسوعة ً‬

‫ثال ًثا‪ :‬اختالف مالك والشافعي‪ ،‬وصنّفه الشافعي بطريقة اإلمالء عىل الربيع؛ بيانًا الضطراب‬

‫أيضا‪ ،‬ويشمل‬
‫مالك يف االستدالل باألحاديث واالحتجاج هبا‪ ،‬وهو موجود يف املوسوعة ً‬
‫معظم أبواب الفقه‪ ،‬لكنها ليست مرتّبة عىل حسب التسلسل املشهور‪.‬‬

‫حممد بن احلسن‪ ،‬ومجع فيه عددا من املسائل التي اختلف فيها مع احلنفية عامة‬
‫راب ًعا‪ :‬الر ّد عىل ّ‬
‫وحممد بن احلسن خاصة‪ ،‬وهو من الكتب التي صنّفت يف العراق ثم أعيد تصنيفها يف مرص‬

‫مرة أخرى‪ ،‬وهو يف فقه القصاص والديات‪ ،‬وهو يف املوسوعة‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬سري األوزاعي ‪ ،‬وهو آخر سلسلة من الردود التي حصلت بني أربعة من أئمة الفقه‬
‫ً‬
‫السري (اجلهاد)‪ ،‬فر ّد‬
‫يف عرص الشافعي‪ ،‬وهو يف أحكام اجلهاد‪ ،‬فقد صنّف أبو حنيفة كتابا يف ّ‬
‫عليه األوزاعي يف كتاب‪ :‬سري األوزاعي‪ ،‬فجاء أبو يوسف فر ّد عىل األوزاعي يف كتاب‪ :‬الر ّد‬

‫عىل سري األوزاعي‪ ،‬ثم جاء الشافعي ليناقش اجتهادات الثالثة‪ ،‬مب ّينا اجتهاده ورأيه‪ ،‬وانترص‬
‫ّ‬
‫مستقال بل‬ ‫فيه لألوزاعي يف أكثر املسائل‪ ،‬وهو يف املوسوعة‪ ،‬واإلمام البيهقي ال يعدّ ه كتا ًبا‬
‫جيعله ضمن األ ّم ويسميه‪ :‬كتاب عىل سري األوزاعي‪ .‬مع التنبيه عىل ّ‬
‫أن ما ورد يف املوسوعة‬

‫يف نحو صفحتني ونصف صفحة حتت عنوان‪ :‬سري الواقدي= خطأ‪ ،‬فكتاب سري الواقدي‬

‫الذي ألفه الشافعي يف أحكام اجلهاد‪ ،‬وفيه استدراكات ومناقشات ملا جاي يف كتاب املغازي‬

‫للواقدي= مفقود‪.‬‬
‫مصنفات الشافعي يف علم أصول الفقه‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ّ :‬‬


‫الرسالة‪ :‬والسبب الرئيس يف تصنيفه هو ما سبق من طلب عبد الرمحن بن مهدي‬

‫للشافعي بكتابته‪ ،‬وهناك أسباب أخرى‪ :‬كاطالعه عىل املدارس األخرى‪ ،‬وقوة شخصيته‬
‫االجتهادية‪ ،‬وبيئته التي كثرت فيها املناظرات‪ ،‬وملسه عدم حترير ّ‬
‫حمل النزاع يف املناظرات‪،‬‬

‫ودخول اللحن عىل اللغة العربية باتساع الدولة‪ ،‬وما أتبعه من جهل بعض املتفقهني بمعاين‬

‫األلفا وداللتها‪ ،‬فوقع اخلطأ يف استنباط األحكام‪.‬‬

‫مرتني‪ :‬األوىل‪ :‬يف بغداد يف زيارته الثانية بطلب من ابن مهدي‬


‫وقد صنّف الشافعي الرسالة ّ‬
‫ومل يصل إلينا يشء منها‪ ،‬والثانية‪ :‬يف مرص‪ ،‬ويعدّ مها أهل العلم كتابني منفصلني كام فعل‬

‫ورجح أمحد شاكر أن كتاب الرسالة صنّف بعد أن صنّف‬


‫احلافظ البيهقي وابن حجر‪ّ ،‬‬
‫أيضا‬
‫رجح ً‬
‫الشافعي أكثر كتبه يف الفقه العام واملقارن‪ ،‬فهو خالصة أصول مذهبه اجلديد‪ ،‬كام ّ‬
‫وسميت بالرسالة يف عرصه بسبب إرساله هلا إىل‬
‫يسمها بالرسالة‪ ،‬وإنام سامها‪ :‬الكتاب‪ّ ،‬‬
‫أنه مل ّ‬
‫أيضا األستاذ رمحه اهلل بأن كتاب الرسالة قد كتبه الربيع بكامله‬
‫عبد الرمحن بن مهدي‪ .‬كام جزم ً‬

‫من إمالء شيخه الشافعي‪ ،‬وأن النسخة التي ح ّقق الكتاب منها هي بخط الربيع نفسه كتبها‬

‫يف حياة الشافعي‪.‬‬

‫وموضوعات الكتاب‪ :‬ليست عىل التسلسل والرتتيب املعروف اآلن‪ ،‬كام أنه مل يستوعب سائر‬

‫املباحث األصولية‪ ،‬لكن ذلك ال يقلل من قيمته لكونه ّأول تدوين يف علم أصول الفقه‪ ،‬وقد‬

‫بدأ موضوعات الكتاب بالكالم عىل‪ :‬مكانة القرآن الكريم وحجيته‪ ،‬وبيانه لألحكام‬

‫الرشعية‪ ،‬ثم السنّة لألحكام وعالقتها بالقرآن‪ ،‬ثم العام واخلاص وصورمها يف النصوص‪ ،‬ثم‬

‫حجية خرب الواحد‪ ،‬ثم حجية اإلمجاع‪ ،‬ثم القياس‪ ،‬ثم‬


‫العلل يف األحاديث وصورها‪ ،‬ثم ّ‬
‫االجتهاد‪ ،‬ثم إبطال االستحسان‪ ،‬ثم االختالف الفقهي وما جيوز منه وما ال جيوز‪.‬‬
‫وللرسالة رشوح لكنها مفقودة‪ ،‬وقد رشحها مخسة من الشافعية‪ :‬أبو بكر الصرييف‪ ،‬وأبو‬

‫الوليد حسان بن حممد القريش ثم النيسابوري‪ ،‬والقفال الكبري الشايش‪ ،‬وأبو بكر حممد بن‬

‫عبد اهلل الشيباين اجلوزقي النيسابوري‪ ،‬وأبو حممد عبد اهلل اجلويني والد إمام احلرمني‪ .‬ويقال‬

‫بوجود نسخة خمطوطة لرشح األخري يف باريس‪.‬‬

‫ومن األبحاث التي خدمت الرسالة‪ :‬التحقيق الرائع هلا من الشيخ أمحد شاكر وتعليقاته‬

‫أيضا للدكتور عبد الفتاح بن ظافر ك ّبارة‬ ‫وتوضيحاته املفيدة‪ ،‬والتحقيق َ‬


‫اآلخر للكتاب ً‬

‫خرج األحاديث‪ ،‬ورشح كثريا من‬


‫استدرك فيه بعض الثغرات التي فاتت الشيخ شاكر‪ ،‬حيث ّ‬
‫مرة منها إال‬
‫مرة‪ ،‬ما من ّ‬
‫املباحث رشحا موجزا‪ ،‬وقد قال املزين‪ :‬قرأت كتاب الرسالة مخسامئة ّ‬
‫واستفدت منها فائدة جديدة مل أستفدْ ها يف األخرى‪.‬‬
‫ُ‬

‫حجية االستحسان الذي‬


‫ثان ًيا‪ :‬كتاب إبطال االستحسان‪ :‬وفيه ّبني الشافعي موقفه من إنكار ّ‬
‫تعرض لر ّد هذه احلجية يف الرسالة‪ ،‬وأمتّها‬
‫كان سائدً ا عن فقهاء أهل الرأي‪ ،‬والشافعي قد ّ‬
‫األول‪ :‬أن احلكم عىل‬
‫بتفصيل يف كتاب‪ :‬إبطال االستحسان‪ ،‬وهو حيتوي عىل موضوعني‪ّ :‬‬
‫حجية االستحسان باألدلة‬
‫املكلفني إنام يكون عىل الظاهر وأقام األدلة عىل ذلك‪ ،‬الثاين‪ :‬ر ّد ّ‬
‫النقلية والعقلية‪ ،‬وهو الكتاب الوحيد الذي صنّفه الشافعي يف ر ّد حجية األدلة املختلف فيها؛‬
‫فلم يصنّف يف ر ّد الذرائع ً‬
‫مثال أو إبطال االستصالح؛ ولذا فهذا الكتاب هو بوابة لفهم حقيقة‬

‫موقفه من هذه األد ّلة‪ ،‬والكتاب موجود يف املوسوعة ً‬


‫أيضا‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬كتاب مجاع العلم‪ ،‬صنّفه بعد الرسالة املرصية‪ ،‬فقد كان حييل عليها فيه‪ ،‬وهذا الكتاب‬

‫فيه تفصيل لبعض ما أمجله الشافعي يف الرسالة‪ ،‬فبينهام صلة قوية؛ ولذا من املفيد أن يطبعا‬

‫السنة ألحكام القرآن‪،‬‬


‫ويرشحا معا‪ ،‬وموضوعات هذا الكتاب‪ :‬حجية خرب الواحد وبيان ّ‬
‫احلجة‪ ،‬واالختالف الفقهي ما جيوز منه وما ال جيوز‪،‬‬
‫ووصف اإلمجاع الصحيح الذي تقوم به ّ‬
‫وأسلوبه يعتمد عىل طريقة احلوار املفرتض مع املخالف‪ ،‬والر ّد عىل أ ّية أدلة متوقعة‪ ،‬والكتاب‬

‫أيضا‪ ،‬كام أنّه مطبوع وحده بتحقيق أمحد عبد العزيز زيدان‪.‬‬
‫موجود يف املوسوعة ً‬

‫راب ًعا‪ :‬كتاب بيان فرائض اهلل‪ :‬وفيه مقارنات لطيفة بني الفرائض‪ :‬الصالة والزكاة والصوم‬

‫السنة لألحكام الرشعية‪ ،‬إما بتفصيل ما أمجله القرآن‪ ،‬أو إنشاء أحكام‬
‫واحلج‪ ،‬ورشح بيان ّ‬
‫جديدة‪ ،‬وسياق األدلة عىل ذلك‪ ،‬فهو ينترص يف هذا الكتاب حلجية خرب الواحد خصوصا‪،‬‬

‫لسنة يف الرسالة ومجاع العلم كام سبق‪،‬‬


‫حجية ا ّ‬
‫والسنة النبوية عمو ًما‪ ،‬مع مالحظة أنه بحث ّ‬
‫ّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫والكتاب موجود يف املوسوعة ً‬

‫النبي صىل اهلل عليه وس ّلم‪ :‬ويرشح فيه قاعدة أصولية‪ ،‬وهي أن النهي‬
‫خامسا‪ :‬كتاب صفة هني ّ‬
‫ً‬
‫املحرم‪ :‬لذاته‪ ،‬ولغريه‪ ،‬ويورد أد ّلة‬
‫ّ‬ ‫ويبني نوعي‬
‫يفيد التحريم ما مل ترصفه قرينة إىل الكراهة‪ّ ،‬‬
‫الرسالة حول هذا‬
‫تلخيصا ملا ذكره الشافعي يف ّ‬
‫ً‬ ‫توضيحية عىل ذلك‪ ،‬ويعدّ هذا الكتاب‬
‫ّ‬
‫مستقل بنفسه‪ ،‬وهو‬ ‫املوضوع حتت عنوان‪ :‬صفة هني اهلل وهني رسوله‪ ،‬ورغم ذلك فهو كتاب‬

‫أيضا‪ ،‬وهو أصغر مصنّفات الشافعي‪.‬‬


‫موجود يف املوسوعة ً‬

‫سادسا‪ :‬كتاب اختالف احلديث‪ :‬وهو ّأول مصنّف يف علم خمتلف احلديث‪ ،‬وهو العلم الذي‬
‫ً‬
‫يبحث يف األحاديث التي ظاهرها التعارض‪ ،‬فيزيل تعارضها أو يوفق بينها‪ ،‬ويوضح‬

‫سمي هذا العلم بعلم‪ :‬مشكل احلديث‪ ،‬واختالف احلديث‪،‬‬


‫حقيقتها‪ ،‬ويزيل إشكاهلا‪ ،‬ولذا ّ‬

‫وتأويل احلديث‪ ،‬واملراد هبا ك ّلها ّ‬


‫مسمى واحد‪ ،‬وهو جزء من علم أصول الفقه؛ ألنه يندرج‬

‫حتت موضوع‪ :‬درء التعارض والرتجيح بني األد ّلة‪ ،‬والشافعي قد ّ‬


‫تعرض هلذا املوضوع يف‬

‫أيضا‪ ،‬لكنه أفرده بالتصنيف ملا رآه يف عرصه من خت ّبط وأخطاء جتاه األحاديث‬
‫الرسالة ً‬

‫املتعارضة يف الظاهر؛ إذ كل حديث جاء خيالف غريه ولو من وجه واحد‪ ،‬كعام وخاص‪،‬‬
‫يسمونه نسخا‪،‬‬
‫ومطلق ومقيد‪ ،‬أو اختالف من جهة املباح‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬فعلامء ذلك العرص ّ‬
‫ليبني ذلك‪.‬‬
‫وهذا يف نظر الشافعي خطأ‪ ،‬فصنّف ّ‬

‫خصوصا‪ ،‬ثم ّبني‬


‫ً‬ ‫السنة عمو ًما‪ ،‬وخرب الواحد‬
‫وموضوعات الكتاب‪ :‬فيه مقدّ مة عن حجية ّ‬
‫موقفه من التعارض بني األحاديث‪ ،‬وذكر القواعد العامة يف دفع هذا التعارض‪ ،‬وأسبابه التي‬

‫من بينها تقصري الرواة يف ذكر بعض األحاديث خمترصة‪ ،‬أو يكون احلديث جوابا عىل سؤال‬

‫فيحدث الراوي باجلواب دون السؤال‪ ،‬ووجود أحاديث ضعيفة ال تعارض الصحيحة‪،‬‬

‫ونحو ذلك‪.‬‬

‫وأبرز هذه القواعد يف معاجلة األحاديث املختلفة‪ :‬اجلمع بني احلديثني ما أمكن‪ ،‬فيعمل هبام‬

‫م ًعا ما دام ذلك ممكنا‪ ،‬وال جيوز إبطاهلام أو إبطال أحدمها‪ ،‬كذلك‪ :‬يف حالة ثبوت النسخ ُيعمل‬

‫بالناسخ‪ ،‬و ُيرتك املنسوخ وذكر األمور التي يعرف هبا الناسخ من املنسوخ يف السنّة‪ ،‬كذلك‬
‫ً‬
‫ناسخا لآلخر فيجب الرتجيح بالدالئل‪،‬‬ ‫من القواعد‪ :‬أنه إذا مل يمكن اجلمع وليس أحدمها‬

‫مرجح والتوقف عن العمل بأحد احلديثني بناء عىل ذلك‪ ،‬فلم‬


‫كذلك‪ :‬يف حالة عدم وجود ّ‬
‫يذكر الشافعي هذا األمر ومل يتعرض له‪ ،‬العتباره أن هذا مرفوع ً‬
‫عقال‪ ،‬وال وجود له يف‬

‫الواقع؛ إذا ال يمكن وجود حديثني متعارضني من كل وجه‪ ،‬وال يمكن اجلمع أو الرتجيح‬

‫بينهام سوى‪ :‬النسخ‬

‫وذكر كذلك نامذج تطبيق ّية من األحاديث التي ظاهرها التعارض‪ ،‬فعرض ‪ 276‬حدي ًثا‬

‫بسنده‪ ،‬وإزال التعارض الظاهري بني هذه األحاديث‪ ،‬بام يعدّ ينبو ًعا ملا جاء بعده من العلامء‪.‬‬

‫ومن الدراسات التي خدمت هذا الكتاب‪ :‬حتقيقه حتقيقا رائ ًعا لألستاذ عامر أمحد حيدر‪ ،‬وقام‬

‫أيضا إبراهيم بن حممد الصبيحي‬


‫أيضا بتحقيقه األستاذ حممد أمحد عبد العزيز زيدان‪ ،‬كام قام ً‬
‫ً‬
‫بتحقيقه يف رسالة ماجستري‪.‬‬
‫وهذه الكتب األربعة‪ :‬مجاع العلم‪ ،‬وبني فرائض اهلل‪ ،‬وصفة هني النبي عليه الصالة والسالم‪،‬‬

‫خصوصا‪ ،‬من‬
‫ً‬ ‫بالسنة النبوية عمو ًما‪ ،‬وخرب اآلحاد‬ ‫واختالف احلديث= ّ‬
‫تدل عىل عظيم عنايته ّ‬
‫حيث إثبات حجيتها‪ ،‬وبيان عالقتها بالقرآن‪ ،‬وتوضيح منهج فقهها‪ ،‬واستنباط األحكام‬

‫سمي الشافعي يف بغداد بنارص السنّة أو نارص احلديث‪.‬‬


‫منها‪ ،‬ولذا ّ‬

‫املصنّفات املجموعة من آثار الشافعي بعد عرصه‪ ،‬واملصنّفات املنسوبة إليه‪:‬‬

‫قديام وحديثا بمصنفات الشافعي‪ ،‬وخدموها خدمة عظيمة‪ ،‬كجمع موضوعات‬


‫اهتم العلامء ً‬
‫مع ّينة منها يف كتب خاصة‪ ،‬وأبرز من خدمها هو احلافظ الكبري البيهقي‪ ،‬حتى قال اجلويني‪:‬‬

‫ما من فقيه شافعي إال وللشافعي عليه منّة‪ ،‬إال أبا بكر البيهقي‪ ،‬فإن املنّة له عىل الشافعي‬

‫لتصانيفه يف نرصه مذهبه‪ .‬وأبرز املصنّفات التي مجعت من آثار الشافعي‪:‬‬

‫ّ‬
‫استدل به الشافعي يف كتبه الفقهية من اآلثار‬ ‫ّأو ًال‪ :‬معرفة ّ‬
‫السنن واآلثار‪ ،‬مجع فيه البيهقي ما‬

‫النبوية وعن الصحابة‪ ،‬ساقها البيهقي بإسناد الشافعي ثم بإسناده هو‪ ،‬ورتّبه عىل ترتيب‬

‫األبواب الفقهية يف خمترص املزين‪ ،‬وهو قريب لرتتيب كتاب األ ّم‪ ،‬وهذا الكتاب فيه‪ :‬مرويات‬

‫الشافعي من األحاديث وآثار الصحابة‪ ،‬وأد ّلته يف اجتهاداته الفقهية‪ ،‬ودراسة علل األحاديث‬
‫دراسة تطبيقية‪ ،‬ومبحث العلل من ّ‬
‫أدق مباحث علوم احلديث كام سبق‪ ،‬وكتاب السنن‬

‫واآلثار صنّفه البيهقي بعد تصنيفه لكتابه املوسوعي‪ :‬املبسوط الذي مجع يف كل ما أثر عن‬

‫اإلمام من أقوال وأدلة يف مذهبيه القديم واجلديد‪ ،‬واصطفى من املبسوط معرفة السنن واآلثار‬

‫حيث خصصه للدراسة احلديثية املتخصصة ألدلة الشافعي من السنة واآلثار‪ .‬وقد قام‬

‫وخرج أحاديثه‪ ،‬وكذلك قام الدكتور‬


‫األستاذ س ّيد كّسوي من مرص بتحقيق هذا الكتاب ّ‬
‫أن هذا الكتاب مع كتاب األ ّم يم ّثالن‬
‫عبد املعطي أمني قلعجي بتحقيقه‪ .‬ومن اجلدير بالذكر ّ‬

‫األول ألد ّلة ذلك‪.‬‬


‫ويتعرض ّ‬
‫ّ‬ ‫أمهية كبرية جدا حيث يتعرض األخري ألقوال اإلمام واجتهاداته‬
‫ومن امللحوظات املهمة‪ :‬أن هذا الكتاب خيتلف عن كتاب ختريج أحاديث األ ّم‪ ،‬فكل منهام‬
‫ّ‬
‫مستقل‪ ،‬وإن كان هذا األخري ما زال خمطو ًطا‪ ،‬لكن يظهر أن موضوعه الرئييس أحاديث‬ ‫كتاب‬

‫السنن الذي فيه استيعاب جلميع مرويات الشافعي يف سائر كتبه‪،‬‬


‫األ ّم فقط‪ ،‬بخالف معرفة ّ‬
‫واملتابعات والشواهد‪ ،‬وذكر العلل‪ ،‬والكالم عىل األسانيد‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬مجعه من آثار الشافعي يف أحكام القرآن‬


‫ثان ًيا‪ :‬أحكام القرآن‪ ،‬وهو كتاب للبيهقي ً‬

‫وتفسريه‪ ،‬وأخرجها بسنده إليه‪ ،‬ورتبها عىل األبواب الفقه ّية ال حسب تسلسل اآليات‬
‫والسور‪ ،‬باإلضافة لبعض األبواب األخرى يف مواضيع العقيدة‪ ،‬والكتاب ّ‬
‫يدل عىل متكّن‬ ‫ّ‬
‫ورسوخ الشافعي من علم التفسري‪ .‬وجيدر اإلشارة إىل ّ‬
‫أن للشافعي نفسه كتا ًبا بنفس العنوان‪:‬‬

‫أحكام القرآن‪ ،‬لكنه مفقود‪ ،‬وال توجد منه نسخ خطية؛ ولذا احتاج البيهقي أن ينشئ‬

‫التصنيف يف هذا املوضوع نفسه‪ ،‬ويف هذا الكتاب ما ليس يف غريه من مصنّفات الشافعي التي‬

‫تعرض فيها لتفسري آي القرآن‪.‬‬


‫ّ‬

‫األصم‪ ،‬مجع فيه عددا غري قليل‬


‫ّ‬ ‫ثال ًثا‪ :‬مسند اإلمام الشافعي‪ ،‬وهو من مجع املحدث أبو العباس‬

‫من مرويا ت الشافعي من األحاديث النبوية وآثار الصحابة‪ ،‬يروي أكثرها عن الربيع املرادي‪،‬‬

‫وأربعة أحاديث فقط عن البويطي‪ ،‬عن الشافعي‪ ،‬ومل يعلق عىل هذه األحاديث‪ ،‬ومل يرتبها‬

‫فتكرر عدد من األحاديث يف أكثر من موضع‪ ،‬وقد فاته‬


‫عىل أبواب الفقه أو مسانيد الصحابة‪ّ ،‬‬
‫أتم تتبع ملرويات اإلمام‪ ،‬وبقي األمر كذلك‬
‫الكثري‪ ،‬ولذلك فكتاب‪ :‬معرفة السنن واآلثار فيه ّ‬
‫املكرر‪،‬‬
‫السندي فرتّبه وهذبه عىل األبواب واملواضيع وحذف ّ‬
‫حتى جاء املحدّ ث‪ :‬حممد عابد ّ‬
‫وهو املوجود بني أيدينا اآلن‪ ،‬وقام بفهرسته األستاذ يوسف املرعيش‪ ،‬وجمموع أحاديث هذا‬

‫الكتاب‪ 1721 :‬حدي ًثا‪ ،‬وفيها ما يقرب من مائة حديث بسلسلة الذهب وهي عن الشافعي‬

‫أصح أسانيد احلديث‪.‬‬


‫عن مالك عن نافع عن ابن عمر‪ ،‬وهي من ّ‬
‫السنن املأثورة ‪ ،‬وهو من مجع أيب جعفر الطحاوي‪ ،‬فيه مرويات الشافعي من‬
‫راب ًعا‪ :‬كتاب ّ‬
‫األحاديث واآلثار عن الصحابة‪ ،‬ورتبها عىل األبواب (املواضيع)‪ ،‬يسوق ذلك بسنده عن‬

‫األصم ما انفرد‬
‫ّ‬ ‫األصم‪ ،‬كام يوجد يف مسند‬
‫ّ‬ ‫خاله أيب إبراهيم املزين‪ ،‬وفيه مرويات انفرد هبا عن‬

‫به عن الطحاوي‪ ،‬وكذلك توجد أحاديث مشرتكة بينهام‪ ،‬ففكرة الكتابني واحدة‪ ،‬ولذلك مجع‬

‫سامه‪ :‬بدائع املنن يف مجع وترتيب‬ ‫ُ‬


‫الشيخ أمحد ابن عبد الرمحن الساعايت يف كتاب واحد ّ‬ ‫الكتابني‬

‫وقرر فيه أن‬


‫والسنن‪ ،‬ثم رشحه يف كتاب‪ :‬القول احلسن يف رشح بدائع املنن‪ّ .‬‬
‫مسند الشافعي ّ‬
‫األصم أكثر من أحاديث الطحاوي‪ .‬كام قام الدكتور عبد املعطي أمني قلعجي‬
‫ّ‬ ‫أحاديث‬

‫السنن للطحاوي منفر ًدا حتقيقا عن ّيا بالفوائد‪.‬‬


‫بتحقيق كتاب ّ‬

‫مهها‪ :‬كتاب البيهقي‪ ،‬ثم‬


‫واألصم‪ ،‬والطحاوي‪ ،‬أ ّ‬
‫ّ‬ ‫السنن للبيهقي‪،‬‬
‫والكتب الثالثة األخرية‪ّ :‬‬
‫مهية كتاب الطحاوي لكونه انتقل من مذهب‬
‫ثم أيب جعفر الطحاوي؛ ولعل تأخر أ ّ‬
‫األصم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الشافعي إىل املذهب احلنفي‪ ،‬حتى أصبح من كبار فقهاء احلنفية يف عرصه‪.‬‬

‫املصنّفات املنسوبة لإلمام الشافعي وليست له‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬كتاب الفقه األكرب‪ ،‬يف العقيدة‪ .‬ثان ًيا‪ :‬كتاب العقيدة املخترصة‪ ،‬أو اعتقاد الشافعي‪ .‬ثال ًثا‪:‬‬

‫تصح نسبتها إىل اإلمام‬


‫ّ‬ ‫التمهيد يف أصول التوحيد أو أصول الدين ومسائل السنّة‪ .‬وك ّلها ال‬

‫الشافعي‪ ،‬فلم يذكر البيهقي يف مناقب الشافعي وال ابن النديم يف الفهرست أ ّيا من هذه‬

‫خصوصا من متكلمي‬
‫ً‬ ‫الكتب مع استيعاهبام ملصنّفاته‪ ،‬وكذلك مل يذكرمها أحد من العلامء‬

‫الشافعية كالفخر الرازي‪ ،‬فلو كانت هذه الكتب له الشتهرت وأفردت بالرشح والنقل‪ ،‬وكل‬

‫ذلك مل حيدث‪ . ،‬رابعا‪ :‬كتاب أدب القايض‪ ،‬وذكره ابن النديم وكذلك البيهقي عىل أنه باب‬

‫خامسا‪ :‬كتاب‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مستقال‪.‬‬ ‫من أبواب كتاب األ ّم‪ ،‬وهو موجود يف املوسوعة فعال‪ ،‬فليس كتابا‬

‫أيضا عىل أنه باب من أبواب األ ّم‪ ،‬وهو موجود‬


‫السبق والرمي‪ ،‬وذكره ابن النديم والبيهقي ً‬
‫يف املوصوعة‪ .‬لكن ذكر الكتابني كارل بروكلامن يف تاريخ األدب العريب وفؤاد سزكني يف‬

‫كتاب تاريخ الرتاث العريب‪ :‬عىل أهنام مصنّفان مستقالن‪ ،‬وهذا خطأ؛ ولعل ذلك راجع إىل‬

‫صحة‬
‫سادسا‪ :‬بعض أشعار اإلمام الشافعي‪ ،‬لكن ال يبعد ّ‬
‫ً‬ ‫عدم ختصصهام يف العلوم الرشعية‪.‬‬

‫ه ذه النسبة؛ ملا اشتهر به الشافعي من نظم الشعر‪ ،‬وقد أورد بعضها ابن حجر يف توايل‬

‫التأسيس بأسانيد ج ّيدة‪ .‬ساب ًعا‪ :‬كتاب يف علم القيافة‪ ،‬فموضوعه فقط هو املعروف ال اسمه‪،‬‬

‫أيضا‪ .‬ثامنًا‪ :‬كتاب الفوائد واحلكايات واألخبار إىل الغامم الشافعي‪ ،‬وال‬
‫تصح نسبته إليه ً‬
‫وال ّ‬
‫واألول‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ .‬تاس ًعا‪ :‬دعاء بعنوان‪ :‬حجاب‪ ،‬ودعاء آخر بعنوان‪ :‬مناجاة‪،‬‬
‫تصح نسبته إليه ً‬
‫ّ‬
‫صحة نسبتهام إليه من عدمها‬
‫قرأه الشافعي عند دخوله عىل هارون الرشيد‪ ،‬ويمكن معرفة ّ‬
‫بمطالعتها ولغتها ومقارنتها بأسلوب الشافعي‪.‬‬
‫الباب الثاين‪ :‬املذهب الشافعي‬

‫األول‪ :‬التطور التارخيي للمذهب الشافعي‬


‫الفصل ّ‬

‫األدوار التارخي ّية لتطور علم احلديث‪ :‬ملا كانت العلوم مرتبطة ببعضها البعض‪ ،‬ويؤثر بعضها‬

‫تطور‬
‫نبني تطور علم احلديث والفقه عمو ًما؛ ملا يف ذلك من متهيد لبيان ّ‬
‫عىل بعض‪ ،‬أردنا أن ّ‬
‫األول‪ :‬دور النشوء‪ ،‬وهو‬
‫تطور تارخي ّيا إىل سبعة أدوار‪ّ :‬‬
‫املذهب الشافعي‪ .‬وعلم احلديث ّ‬
‫األول اهلجري)‪.‬‬
‫عرص الصحابة (يمتد من وفاة النبي عليه الصالة والسالم إىل هناية القرن ّ‬
‫الدور الثاين‪ :‬التكامل (من بداية القرن الثاين إىل ّأول الثالث اهلجري)‪ .‬الدور الثالث‪ :‬التدوين‬

‫املجمع (من‬
‫ّ‬ ‫مفر ًقا (من بداية القرن الثالث إىل منتصف ّ‬
‫الرابع)‪ .‬الدور الرابع‪ :‬التدوين‬ ‫ّ‬
‫منتصف القرن الرابع إىل أوائل السابع)‪ .‬الدور اخلامس‪ :‬النضج واالكتامل يف التدوين (من‬

‫أوائل القرن السابع إىل العارش)‪ .‬الدور السادس‪ :‬الركود واجلمود (من ّأول العارش إىل مطلع‬

‫الرابع عرش)‪.‬‬

‫األول‪ :‬التكوين والطفولية (يمتد من ّأول بعثة سيدنا حممد‬


‫األدوار التارخيية لعلم الفقه‪ :‬الدور ّ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم إىل وفاته سنة ‪ 11‬هـ)‪ .‬الثاين‪ :‬الشباب (من وفاة النبي صىل اهلل عليه‬

‫وسلم إىل آخر القرن الثاين)‪ .‬الثالث‪ :‬الكهولة (من بداية الثالث إىل هناية الرابع)‪ .‬الرابع‪:‬‬

‫األول من القرن الرابع عرش)‪.‬‬


‫الشيخوخة واهلرم (من أ ّول اخلامس إىل النصف ّ‬

‫األول‪:‬‬ ‫وهناك تقسيامت أخرى وك ّلها تتقارب فيام بينها‪ ،‬أ ّ‬


‫مهها‪ :‬تقسيمه إىل ستّة أدوار‪ّ :‬‬
‫الترشيع‪ ،‬وهو يف العهد النبوي‪ .‬الثاين‪ :‬الصحابة (من وفاة النبي صىل اهلل عليه وسلم إىل سنة‬

‫‪ 41‬هـ)‪ .‬الثالث‪ :‬التابعون (من سنة ‪ 41‬هـ إىل قبيل سقوط األمويني ‪ 132‬هـ) ‪ .‬الرابع‪:‬‬

‫جتزأت اخلالفة‬
‫التدوين واألئمة املجتهدون (من ‪ 132‬هـ إىل منتصف القرن الرابع عندما ّ‬
‫العباسية)‪ .‬اخلامس‪ :‬التقليد واجلمود (من منتصف الرابع إىل النصف الثاين من القرن الثالث‬
‫عرش) حيث أقصيت الرشيعة‪ .‬السادس‪ :‬العرص احلارض (من النصف الثاين للقرن الثالث‬

‫عرش إىل اآلن)‪.‬‬

‫لتطور املذهب الشافعي ً‬


‫إمجاال‪:‬‬ ‫األدوار التارخيية ّ‬

‫األول‪ :‬ظهور فقه اإلمام الشافعي ونقله‪ ،‬ويمتد من سنة ‪ 195‬هـ إىل سنة ‪ 270‬هـ‪،‬‬
‫الدور ّ‬
‫وتتضمن ثالثة مراحل‪ :‬املذهب القديم‪ ،‬واملذهب اجلديد‪ ،‬ونقل التالميذ للمذهب وروايته‪،‬‬
‫ّ‬
‫وينتهي ذلك بموت الربيع املرادي‪.‬‬

‫الدور الثاين‪ :‬ظهور مذهب الشافعية واستقراره‪ ،‬ويمتد من سنة ‪ 270‬هـ إىل سنة ‪ 505‬هـ ‪،‬‬

‫ويتضمن مرحلتني‪ :‬ظهور املذهب بشخصيته املستقلة التي هلا فقهاؤها وقضاهتا ومصنّفاهتا‬
‫ّ‬
‫وتنتهي هذه املرحلة بوفاة الغامم أيب الطيب الصعلوكي‪ ،‬واستقرار مذهب الشافعية جغراف ّيا‬

‫استقرارا حال دون اندثار املذهب فيام بعد وتنتهي هذه املرحلة بوفاة اإلمام‬
‫ً‬ ‫يف كثري من البالد‬

‫الغزايل‪.‬‬

‫األول‪ :‬ويمتد من سنة ‪ 505‬هـ إىل وفاة اإلمام النّووي‪.‬‬


‫الدور الثالث‪ :‬التنقيح ّ‬

‫الدور الرابع‪ :‬التنقيح الثاين للمذهب‪ :‬ويمتد من سنة ‪ 676‬هـ إىل وفاة شمس الدين الرميل‬

‫سنة ‪ 1004‬هـ‪ ،‬ويتضمن مرحلتني‪ :‬جهود األئمة السبكي وابن الرفعة واإلسنوي وغريهم‪،‬‬

‫وجهود ابن حجر اهليتمي وشمس الدين الرميل‪.‬‬

‫الدور اخلامس‪ :‬خدمة مصنّفات التنقيحني األول والثاين‪ :‬ويمتد من سنة ‪ 1004‬هـ إىل وفاة‬

‫س ّيد علوي الس ّقاف سنة ‪ 1335‬هـ‪.‬‬

‫وتطور الدراسات الفقهية املعارصة‪:‬‬


‫ّ‬ ‫الدور السادس‪ :‬انحسار التمذهب باملذهب الشافعي‬

‫ويمتد من سنة ‪ 1335‬هـ إىل اآلن‪ .‬وسنتناول بالتفصيل هذه األدوار‪.‬‬


‫األول‪ :‬ظهور فقه اإلمام الشافعي ونقله‬
‫الدور ّ‬

‫ظهور املذهب القديم‪ :‬من سنة ‪ 195‬هـ إىل ‪ 199‬هـ‪ ،‬وذلك بعد مغادر الشافعي لبغداد يف‬

‫املرة األوىل‪ ،‬واختاذه حقلة يف املسجد احلرام لإلفتاء والتدريس‪ ،‬وامتدت إىل زيارته الثانية‬
‫ّ‬
‫احلجة والرسالة القديمة‪ ،‬والتفاف الطالب حوله ويف مقدمتهم احلسن‬
‫لبغداد‪ ،‬وتصنيفه كتايب ّ‬
‫الزعفراين‪ ،‬وخالل هذه الفرتة كانت اجتهادات الشافعي واحدة؛ ولذلك ك ّلها تسمى‬
‫ّ‬
‫ويدل عىل ذلك أن الزيارة الثالثة الّسيعة له إىل بغداد طلب منه احلسني‬ ‫باملذهب القديم‪،‬‬

‫ووجهه ألخذها من احلسن‬


‫الكرابييس أن يقرأ عليه كتبه العراقية‪ ،‬فأبى – ربام النشغاله – ّ‬
‫وجهه ألخذها‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر هنا‪ :‬أن‬
‫غري اجتهاده يف هذه الفرتة ما ّ‬
‫الزعفراين‪ ،‬فلو كان ّ‬
‫نفرق بني مذهب الشافعي وبني املذهب الشافعي أو الشافعية بمعنى ّ‬
‫أدق‪ ،‬فمذهبه هو‪:‬‬

‫اجتهاد اإلمام ومنهجه يف األصول والفروع‪ ،‬وأما املذهب‪ :‬فهو جهود مئات العلامء يف خدمة‬

‫املذهب عرب القرون‪ ،‬الذين ساروا عىل طريقة اإلمام‪ ،‬مع ما أضافوه من خترجيات عىل أقواله‪،‬‬
‫ّ‬
‫فاألدق أن يقال‪ :‬مذهب الشافعية‪ .‬ومن اجلدير بالذكر أن‬ ‫واستدراكاهتم عليه؛ ولذلك‬

‫املذهب القديم وإن فقدت كتبه لكنها كانت متوفرة يف عرص تالميذ الشافعي وتالميذهم‪،‬‬

‫كثريا منها يف كتابه املوسوعي‪ :‬املبسوط‪.‬‬


‫ولذا مجع البيهقي ً‬

‫كثريا‬
‫غري اإلمام ً‬
‫ظهور املذهب اجلديد‪ :‬من سنة ‪ 199‬هـ إىل سنة ‪ 204‬هـ‪ ،‬ويف هذه املرحلة ّ‬
‫والتف حوله الطلبة املرصيون‪ ،‬من أمههم املزين‬
‫ّ‬ ‫من اجتهاداته يف مرص‪ ،‬وأعاد تصنيف كتبه‪،‬‬

‫ودون األ ّم والرسالة اجلديدة فيام عرف باملذهب اجلديد‪ ،‬وبالرغم من أن‬
‫والبويطي والربيع‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫استقل بمعرفة أن له مذهبني‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫كثريا من األئمة غريو اجتهاداهتم إال أن الشافعي‬
‫ّ‬
‫وألن الشافعي‬ ‫يرجع إىل ّ‬
‫أن هذا التغيري صاحبه انتقال مكاين من العراق واحلجاز إىل مرص‪،‬‬

‫مرتني‪ ،‬لينتهي األمر إىل وجود مصنّفات عراقية وأخرى مرص ّية خمتلفتني عن‬
‫دون كتبه ّ‬
‫ّ‬
‫بعضهام‪ ،‬وألن تالميذ الشافعي يف العراق مل ينتقلوا معه إىل مرص‪ ،‬فتو ّلد نوعان من التالميذ‪:‬‬

‫مرصيون وعراقيون‪ ،‬وكل طائفة منهم تروي ما مل يروه اآلخرون من فقه ومصنّفات‪.‬‬

‫ّ‬
‫ولعل الشافعي لو مل ينتقل من بلد إىل بلد‪ ،‬وبقي تالميذه معه‪ ،‬يروون مصنّفاته‪ ،‬ما أطلق أن‬
‫ً‬
‫طويال‪ ،‬وكذلك مالك‬ ‫هناك له مذهبني‪ ،‬عىل غرار اإلمام أيب حنيفة الذي استوطن الكوفة‬

‫الذي مل خيرج من املدينة إال للحج‪.‬‬

‫وأما األسباب التي دعت الشافعي إىل تغيري اجتهاده يف مرص‪ ،‬فمنها‪ :‬اطالعه عىل كثري من‬

‫السنن واآلثار مما مل يكن اطلع عليها من قبل‪ .‬ومنها‪ :‬اعتامده عىل قياس جديد يكون أرجح‬

‫من األول‪ .‬ومنها‪ :‬اختالف البيئة من عادات وحاالت اجتامعية‪ .‬والسبب األول هو األبرز‬

‫الطالع الشافعي عىل فقه األوزاعي كام تقدم‪ ،‬وفقه الليث‪ ،‬وتالميذ مالك يف مرص‪ ،‬وهذا‬
‫ملحوظ بشدة يف كتاب املنهاج للنووي عندما يذكر مذهب الشافعي القديم واجلديد ّ‬
‫أن‬

‫أكثرها يعتمد عىل النصوص‪ ،‬أو القياس عىل نصوص‪ ،‬أما اختالف األعراف فهو سبب‬

‫بالذكرأيضا أن يقال‪ :‬تغيري‬


‫ً‬ ‫ضعيف‪ ،‬لكن يبقى موجو ًدا‪ ،‬وهذا ثابت باالستقراء‪ .‬ومن اجلديد‬

‫اجتهادات الشافعي مل تكن يف الفروع فقط‪ ،‬بل كانت يف األصول أيضا‪ ،‬ودليل ذلك إعادة‬

‫تصنيفه للرسالة‪ ،‬بل عدّ ها اإلمامان البيهقي وابن حجر مصنّفني مستق ّلني‪ .‬وكذلك‪:‬‬

‫يغري يف مذهبه اجلديد آراءه يف مجيع املسائل‪ ،‬بل وجدت أبواب مل يرجع عن‬
‫فالشافعي مل ّ‬
‫اجتهاداته فيها‪.‬‬

‫نقل التالميذ للمذهب‪ :‬من سنة ‪ 204‬هـ إىل سنة ‪ 270‬هـ ‪ ،‬نشط تالميذ الشافعي بعد وفاته‬
‫لنرش مذهبه؛ ولذا قصدهم طلبة العلم من ّ‬
‫كل مكان‪ ،‬وهذا ظاهر لكوهنم آخر من تلقوا عن‬

‫الشافعي‪ ،‬واالجتهادات املتأخرة هي خالصة فكره وفقهه‪ ،‬وهذا عىل الرغم من بقاء التالميذ‬

‫العراقيني يروون مذهبه القديم يف العراق‪ ،‬وقد ضعف ذلك بوفاة احلسن الزعفراين ناقل‬
‫مذهب الشافعي القديم‪ ،‬وأما يف مرص فقد خدم التالميذ مذهب اإلمام أعظم خدمة‪،‬‬
‫وأبزرهم كام سبق‪ :‬البويطي‪ ،‬واملزين‪ ،‬والربيع املرادي‪ّ ،‬‬
‫وكل واحد له بصمته الواضحة يف‬

‫خدمة املذهب‪ .‬أما البويطي‪ :‬فكان أفقه تالميذ اإلمام‪ ،‬وأكربهم سنّا آنذاك‪ ،‬فخلف الشافعي‬

‫يف درسه ملا مرض‪ ،‬وبقي كذلك إىل أن امتحن بفتنة خلق القرآن‪ ،‬ومات يف السجن‪ .‬أما املزين‪:‬‬

‫فهو خليفة البويطي يف حلقة الدرس‪ ،‬وصنّف املخترص الكبري ثم الصغري‪ ،‬وكتابه املخترص هو‬

‫بداية مصنّفات الشافعية‪ ،‬وقد بلغ رتبة االجتهاد املطلق‪ ،‬وكان له مذهب مستقل يف آخر‬

‫حياته‪ .‬وأما الربيع‪ :‬فكان حافظا ملصنفات اإلمام؛ لطول مالزمته له‪ ،‬وعاش ‪ 66‬سنة بعد‬

‫وفاته‪ ،‬يروي مصنفات اإلمام‪ ،‬ويضبطها‪ ،‬ويتقنها‪ ،‬حتى يذكرون أنه كان ببابه تسعامئة رحالة‬

‫ح ّطت ببابه لسامع كتب الشافعي‪ ،‬فالفضل الكبري يرجع إىل هؤالء التالميذ الذين لوالهم‬

‫لر ّبام انقرض مذهب الشافعي واندثر‪ ،‬وعن هؤالء التالميذ انتقل مذهب الشافعي إىل كثري‬

‫من الطلبة يف البالد اإلسالمية‪.‬‬

‫أبرز معامل مرحلة فقه ّ‬


‫الشافعي يف مذهبيه القديم واجلديد‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬مل حيصل يف هذه املرحلة أن تق ّلد أحد من تالميذ اإلمام أو تالميذهم منصب القضاء يف‬

‫خصوصا يف املرشق اإلسالمي‪،‬‬


‫ً‬ ‫أي من بالد اإلسالم؛ إذ بقي األحناف هم األكثر تو ّليا له‬
‫ّ‬
‫استمرارا ملا كان عليه احلال من تو ّليأ يب يوسف القايض‪ ،‬ثم حممد بن احلسن‪ ،‬ثم حييى بن‬
‫ً‬
‫معارصا‬
‫ً‬ ‫احلنفي قضاء الديار املرصية‪ ،‬والذي كان‬
‫ّ‬ ‫أكثم‪ .‬ويف مرص‪ّ :‬‬
‫توىل أمحد بن أيب عمران‬

‫للربيع املرادي‪.‬‬

‫الرسالة‪،‬‬
‫يدون أحد من تالميذ اإلمام شي ًئا يف علم األصول؛ فقد كانوا يعتمدون عىل ّ‬
‫ثان ًيا‪ :‬مل ّ‬
‫يدرسوهنا‪ ،‬وينقلوهنا إىل الطلبة‪ ،‬وأما ما ذكره الشريازي يف طبقات الفقهاء‪ّ :‬‬
‫أن الكرابييس‬ ‫ّ‬
‫عرف أسامؤها‪ ،‬ومل يشتغل‬
‫تلميذ الشافعي صنّف يف أصول الفقه= فهذا مل يذكره غريه‪ ،‬وال ُي َ‬
‫ورشحا‪ ،‬وإال الشتهرت كام اشتهر خمترص املزين‪.‬‬
‫ً‬ ‫هبا أحد من علامء الشافعية رواية‬

‫فأول ما صنّف يف‬ ‫ثال ًثا‪ :‬مل يظهر ً‬


‫أيضا كتب تعنى بالرتمجة لتالميذ اإلمام يف هذه املرحلة‪ّ ،‬‬
‫طبقات الشافع ّية كان بعد أكثر من ‪ 130‬عا ًما عىل وفاة الربيع املرادي‪.‬‬

‫خروج املذهب الظاهري من رحم املذهب الشافعي‪ :‬تل ّقى اإلمام داود بن عيل األصفهاين‬

‫الفقه عىل يد تالميذ اإلمام الشافعي‪ ،‬فتف ّقه عىل مذهب الشافعي يف شبابه‪ ،‬فلتقى عن تالميذه‬

‫العراقيني كأيب ثور الكلبي وإسحاق بن راهويه‪ ،‬إال أنه مل يتلق بتالميذ اإلمام املرصيني‪ ،‬وكان‬
‫ّ‬
‫استقل بمذهب خاص‬ ‫املتعصبني للمذهب حتى صنّف يف فضائله كتابني‪ ،‬وملّا رسخ علمه‬
‫ّ‬ ‫من‬

‫أهم قواعد استنباط األحكام فيه‪،‬‬


‫يف األصول والفروع‪ ،‬وهو‪ :‬املذهب الظاهري؛ نسبة إىل ّ‬
‫حجية القياس‪ .‬وصنّف داود العديد من املصنّفات يف‬
‫وهي أخذه بظواهر النصوص‪ ،‬ونفي ّ‬
‫الفقه واألصول‪ ،‬منها‪ :‬إبطال التقليد‪ ،‬وإبطال القياس‪ ،‬وخرب الواحد‪ ،‬والعموم واخلصوص‪.‬‬

‫وكان للمذهب الظاهري بعد وفاته فقهاء وقضاة ينرصونه وينرشونه ويصنّفون فيه‪ ،‬لكنه يعد‬

‫من املذاهب املندثرة التي انقطع أتباعها‪ ،‬وإن كان بقي العديد من مصنفات علامئه‪.‬‬

‫وخروج مذهب داود من رحم املذهب الشافعي ليس غري ًبا لسببني‪ :‬األول‪ّ :‬‬
‫أن أصول‬

‫االستنباط عند الشافعي هي أقر أصول لداود من بني األئمة األربعة‪ ،‬فالشافعي حيتج بالقرآن‬

‫فاحتج بالقرآن والسنّة وض ّيق‬


‫ّ‬ ‫والسنّة واإلمجاع والقياس ويبطل االستحسان‪ ،‬فجاء داوداد‬

‫حجية القياس؛ فإبطال داود للقياس هو‬


‫من اإلمجاع عند تشدّ ده يف رشوط حصوله ونفى ّ‬
‫متطرف بإبطال اإلمام الشافعي لالستحسان‪ .‬الثاين‪ :‬ما فقهه تالميذ اإلمام عن شيخهم‬
‫امتداد ّ‬
‫وورثوه عنه من دعوته إىل االجتهاد املنضبط‪ ،‬واتباع الدليل الصحيح‪ ،‬وهذا ظاهر يف مصنّفاته‬

‫يف الفقه املقارن‪ ،‬وأقواله الكثرية كقوله‪ :‬إذا صح احلديث فهو مذهبي‪ ،‬وقوله‪ :‬كل مسألة‬
‫صح اخلرب فيها عن النبي عليه الصالة والسالم عند أهل النقل‪ ،‬بخالف ما‬
‫تكلمت فيها‪ّ ،‬‬
‫تكررت ظاهرة خروج علامء من املذهب‬
‫قلت‪ ،‬فأنا راجع عنها يف حيايت وبعد موتى؛ ولذا ّ‬
‫مقترصا عىل داود وحده كام سيأيت‪ ،‬وفقد‬
‫ً‬ ‫يعدّ ون من املجتهدين اجتها ًدا مطل ًقا‪ ،‬فاألمر ليس‬

‫فقه تالميذ اإلمام ذلك أحسن الفقه‪ ،‬خاصة يف املائة ومخسني عا ًما بعد وفاته‪ ،‬قبل شيوع‬

‫عصور اجلمود والتقليد‪.‬‬

‫الدور الثاين‪ :‬ظهور مذهب الشافعية واستقراره‬

‫ظهور مذهب الشافعي وانتشاره‪ :‬ومتتد هذه الفرتة من ‪ 270‬هـ إىل ‪ 404‬هـ‪ ،‬انترش تالميذ‬

‫يدريون ويفتون وجيتهدون‪ ،‬وأصبح لكل منهم تالميذه يف البلد‬


‫اإلمام يف املرشق اإلسالمي‪ّ ،‬‬
‫التي أقام فيها‪ ،‬وكلام ابتعد الزمن عن وفاة الربيع ازداد عدد أولئك العلامء‪ ،‬يتدارسون‬

‫مصنفات الشافعي وتالميذه ويف مقدمتها املخترص للمزين‪ ،‬ومت ّيزوا عن اإلمام أيب حنيفة‬

‫وفقهه الذي متثل يف كتب ظاهر الرواية‪ ،‬وعن اإلمام مالك وفقهه الذي متثل يف املوطأ‬

‫سموا بأتابع املذهب‬


‫واملدونة‪ ،‬وخالل القرن الرابع زادت الرابطة بني هؤالء العلامء‪ ،‬حتى ّ‬
‫الشافعي أو مذهب الشافعية‪ ،‬وتناقلت هذه النسبة عىل األلسن يف املرشق‪ ،‬وقد حرصوا عىل‬

‫أن تكون هذه النسبة علم لطريقتهم يف االجتهاد واإلفتاء‪ ،‬ثم يف القضاء بعد ذلك‪ ،‬فكان خالل‬

‫هذا القرن كان من املألوف أن يقال يف تعريف العامل‪ :‬فالن الشريازي الشافعي‪ ،‬أو القريش‬

‫الشافعي‪ ،‬بينام مل يكن العلامء خالل القرنني األول والثاين ينسبون إىل أحد شيوخهم‪ ،‬وهذا‬
‫ظاهر يف ّ‬
‫كل علامء هذه الطبقة كالشافعي‪ ،‬فلم ينتسب إىل أحد شيوخه‪ ،‬وهذا ظاهر باستقراء‬

‫لكتب الرتاجم التي ترمجت لعلامء القرون األربعة األوىل للهجرة ككتاب طبقات الفقهاء أليب‬

‫إسحاق الشريازي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولعل أوضح دليل عىل انتشار املذهب وذيوعه‪ :‬وجود مصنّفات ترتجم هلؤالء العلامء‬

‫املنتسبني للمذهب دون غريهم من املذاهب‪ ،‬وهو ما عرف فيام بعد بكتب طبقات الفقهاء‪،‬‬

‫وكان ّأول كتاب‪ :‬املُ ْذ َهب يف ذكر أئمة املذهب أليب حفص عمر بن عيل املُ َّط ِّوعي‪ ،‬وبعده‬

‫توالت املصنفات يف هذا الباب‪ ،‬وتعدّ وفاة اإلمام أيب الطيب سهل بن أيب سهل الصعلوكي‬

‫سنة ‪ 404‬هـ اكتامل ظهور املذهب وانتشاره‪ ،‬فأبو حفص املطوعي قد صنف املذهب‬

‫للصعلوكي يف حياته‪ ،‬والذي يرتجح أن يكون الصعلوكي أمىل الكتاب عىل تلميذه املطوعي‬

‫أو عىل األقل كان له دور بارز يف فكرته ومضمونه‪ ،‬فالصعلوكي كان إماما كبريا وكان بعض‬

‫فضعفت شهرته‪ ،‬إذ مل يرتجم‬


‫ْ‬ ‫العلامء يعدّ دونه جمدّ د األمة عىل رأس األربع مائة‪ ،‬أما املطوعي‬

‫له أحد من أصحاب الطبقات‪.‬‬

‫أبرز الناقلني للمذهب وانتشارهم اجلغرايف‪ :‬خدم علامء املذهب الشافعي أعظم خدمة لينقلوا‬

‫مصنفاته إىل سائر املسلمني يف املرشق‪ ،‬وذلك منذ وفاة آخر تالميذ اإلمام حتى سنة ‪ 404‬هـ‪،‬‬

‫األول‪ :‬أبو القاسم عثامن بن سعيد األنامطي‪ ،‬أخذ الفقه عن‬


‫ومن أبرز العلامء يف هذه املرحلة‪ّ :‬‬
‫املزين واملرادي‪ ،‬ثم رحل إىل بغداد حتى تويف فيها‪ ،‬وكان السبب يف نشاط الناس ببغداد فقه‬

‫الشافعي اجلديد‪ ،‬وعنه أخذ كثري من العلامء أبرزهم‪ :‬أبو العباس بن رسيج‪ ،‬وال خيفي أمهية‬

‫نرش املذهب يف بلد اخلالفة حمط األنظار‪ ،‬وقد أدرك الشافعي ذلك وهذا ظاهر يف زيارته الثانية‬

‫لبغداد وعرضه مذهبه القديم يف األصول والفروع‪ .‬الثاين‪ :‬أبو العباس بن رسيج البغدادي‪،‬‬

‫فسمي بشيخ املذهب‪،‬‬


‫أخذ عن أيب القاسم األنامطي‪ ،‬وكان إمام الشافعية يف عرصه بال منازع ّ‬
‫وكان يقال له‪ :‬الباز األشهب‪ ،‬وعنه انترش املذهب يف معظم بالد املسلمني عمو ًما‪ ،‬وهو من‬

‫أوا ئل الشافعية الذين تولوا القضاء (قضاء شرياز يف بالد فارس)‪ ،‬ثم انتقل إىل بغداد وتويف‬

‫فيها‪ ،‬ويرى بعض العلامء أنه املجدد عىل رأس املائة الثالثة‪ ،‬وقد كان توليه القضاء مساعدً ا له‬

‫عىل نرصته للمذهب ونرشه‪ ،‬ولكثرة تصانيفه التي جاوزة األربعامئة‪ ،‬ومن الكتب له‪ :‬الرد‬
‫عىل حممد بن احلسن‪ ،‬والرد عىل عيسى بن أبان‪ ،‬والتقريب بني املزين والشافعي‪ .‬الثالث‪ :‬أبو‬

‫زرعة حممد بن عثامن الدمشقي‪ ،‬أخذ عن الربيع‪ ،‬وسكن مرص‪ ،‬وتوىل القضاء فيها خالل الربع‬

‫األخري من القرن الثالث اهلجري‪ ،‬ولعله أول قاض شافعي يف مرص‪ ،‬ثم انتقل إىل الشام ليكون‬

‫قاض ًيا هناك‪ ،‬ويلزم قضاهتا باملذهب‪ ،‬ويسعى لنرشه‪ ،‬بعد أن كان مذهب األوزاعي هو‬

‫السائد‪ ،‬ومما أثر عنه أنه كان هيب ملن حيفظ خمترص املزين‪ :‬مائة دينار‪ ،‬وكان راسخ القدم يف علم‬

‫احلديث‪ ،‬ويعدّ من أئمة املحدثني يف عرصه‪ ،‬وعىل ذلك سار ولد أبو عبد اهلل احلسني فويل‬

‫خصوصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫القضاء بعد أبيه وساهم يف نرش املذهب‪ ،‬وال خيفى أثر نرش املذهب يف دمشق‬

‫الرابع‪ :‬أبو حممد عبد اهلل بن حممد املروزي املعروف بعبدان‪ ،‬رحل إىل مرص والزم املزين‬

‫واملرادي‪ ،‬وبعد وفاهتام انتقل إىل مرو (من بالد فارس) ومعه خمترص املزين؛ لينرش املذهب‪.‬‬

‫اخلامس‪ :‬احلافظ أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم النيسابوري اإلسفراييني‪ ،‬وكان‬

‫جامعا بني الفقه واحلديث‪ ،‬وله مسند مشهور باسمه‪ ،‬أخذ عن املزين واملرادي‪ ،‬ورحل إىل‬

‫موطنه إسفرايني (يف نواحي نيسابور يف دولة تركامنستان)‪ ،‬فكان ّأومل ن ادخل املذهب فيها‪.‬‬

‫باألصم‪ ،‬رحل يف مجع احلديث‪،‬‬


‫ّ‬ ‫السادس‪ :‬أبو العباس حممد بن يعقوب النيسابوري املعرفو‬

‫وغلب احلفظ عنده عىل الفقه‪ ،‬سمع مصنّفات اإلمام من الربيع يف أواخر حياة الربيع‪ ،‬وبقي‬

‫لعلو السند‪ .‬ولقد كان هلذا‬ ‫يروهيا إىل أن ّ‬


‫تويف‪ ،‬فكانت الرحلة إليه يف سامع هذه املصنّفات؛ ّ‬
‫كبريا يف نقل مصنّفات اإلمام‬ ‫األصم ً‬
‫عامال ً‬ ‫ّ‬ ‫االتصال املتأخر بعد طول حياة الربيع وطول حياة‬

‫مضبوطة بالسند العايل لقرابة املائة ومخسني عاما بعد وفاته‪ ،‬فال غرابة بعد ذلك أن تكون‬

‫األصم عن الربيع‪ .‬السابع‪ :‬أبو بكر‪ ،‬حممد‬


‫ّ‬ ‫النسخ العرش املخطوطة لكتاب األ ّم هي من رواية‬

‫بن عيل بن إسامعيل الق ّفال الكبري الشايش‪ ،‬ولد ّ‬


‫بالشاش (مدينة طشقند عاصمة أوزبكستان)‪،‬‬

‫الرسالة‪ ،‬وهو‬
‫كثريا‪ ،‬وكانت له تصانيف كثرية منها رشحه عىل ّ‬
‫وأخذ عن ابن رسيج‪ ،‬وبرع ً‬
‫الذي نرش املذهب يف بالد ما وراء النهر (واملقصود به هنر جيحون‪ ،‬وهي بالد‪ :‬أوزبكستان‬
‫أيضا‪ :‬حماسن الرشيعة‪ ،‬وأدب القضاة‪ ،‬ولعل كتاب‬
‫وطاجكستان وقرغيزستان)‪ ،‬وله ً‬
‫املحاسن هذا هو ّأول كتاب وضع يف علم مقاصد الرشيعة‪ ،‬لكنه مل يصل إىل زماننا‪ .‬وهكذا‬

‫أيضا يف‬
‫انترش املذهب يف املرشق من وداي النيل إىل بالد ما وراء النهر‪ ،‬واستمر وجوده ً‬

‫احلجاز‪ ،‬إال أنه مل ينترش يف شامل إفرييا واألندلس‪ ،‬حيث كان السطوة لتالميذ قايض القريون‬

‫أيب سعيد سحنون التنوخي‪ ،‬الذين نشطوا يف نرش مذهب مالك هناك واإلفتاء والقضاء عىل‬

‫فقهه‪.‬‬

‫أبرز معامل هذه املرحلة‪:‬‬

‫أوال‪ :‬بلوغ عدد من علامء املذهب االجتهاد املطلق‪ ،‬وكانت هذه املرحلة ما تزال خصبة‬

‫باالجتهاد الذي أرشد إليه اإلمام وربى عليه تالميذه‪ ،‬فلم يكن التقليد املحض وال العصبية‬

‫املذهبية قد ظهرا‪ ،‬فليس دراسة مصنفات اإلمام وأخذهم عن تالميذه كانت تعني التقيد‬

‫باجتهادات اإلمام وعدم جواز اخلروج عنها إىل غريها‪ ،‬وال تسفيه اجتهادات غري الشافعية‪،‬‬

‫وأظهر الدالئل عىل ذلك‪ :‬بلوغ عدد من هؤالء العلامء الشافعية – حتى أنه مرتجم هلم يف‬

‫طبقات الشافعية‪ -‬درجة االجتهاد املطلق‪ ،‬وكان لبعضهم مذاهب نسبت إليهم‪ :‬كاإلمام داود‬

‫ومذهبه الظاهري وقد تقدّ م بيان ذ لك‪ ،‬واإلمام ابن املنذر النيسابوري‪ ،‬سمع من الربيع‬

‫واحلسن الزعفراين وغريمها‪ ،‬وله من املصنفات الكثري كاإلرشاف عىل مذاهب أهل العلم‬

‫وكتاب اإلمجاع وغريمها‪ ،‬ورغم أن كتب الشافعية ترتجم له‪ ،‬إال أنه بلغ درجة االجتهاد‬

‫سمى طريقته يف االجتهاد‪ :‬باملنذرية‪ .‬واإلمام أبو جعفر حممد بن جرير‬


‫املطلق‪ ،‬بل وجد من ّ‬
‫الطربي‪ ،‬أخذ عن الربيع واحلسن الزعفراين‪ ،‬ثم استقل باجتهاده يف الفروع واألصول‬

‫بمذهب نسب إليه باسم‪ :‬املذهب اجلريري‪ ،‬لكنه من املذاهب املندثرة‪ ،‬لكنه برع جدّ ا يف‬

‫التفسري‪.‬‬
‫أيضا انتسبوا للمذهب يف هذه املرحلة‪ ،‬بل ّ‬
‫كل مراحل‬ ‫ثان ًيا‪ :‬علامء حمدّ ثون من أكابر املحدثني ً‬
‫حياة املذهب املمتدة ألكثر من ألف ومائة عام بعد وفاة اإلمام‪ ،‬وقد ترجم هلم يف كتب‬

‫الطبقات‪ ،‬وهذا ملحوظ يف مراجعة فهارس أحد كتب طبقات الشافعية وأحد كتب طبقات‬

‫املحدثني لتجد االشرتاك الكبري بينهام يف األسامء‪ ،‬وليس هذا بغريب فقد درس الشافعي فقه‬

‫مدرسة احلديث عىل يد سفيان ابن عيينة ومالك‪ ،‬حتى سمي بنارص السنّة‪ ،‬وهذا ظاهر يف‬

‫وحجية السنّة عمو ًما‪ ،‬فكبار أئمة احلديث إمام من مجلة أصحابه‬
‫ّ‬ ‫مباحثه يف خرب الواحد‪،‬‬

‫اآلخذين عنه أو عن أتباعه‪ :‬كاإلمام أمحد والرتمذي والنسائي وابن ماجه وابن املنذر وابن‬

‫ح ّبان وابن خزيمة والبيهقي واحلاكم واخلطايب واخلطيب وأيب نعيم وغريهم إىل زماننا‪ ،‬وإما‬

‫من مجلة الناقلني ألقواله املوافقني عليها املعرضني عن مقالة غريه بالكلية كالبخاري وغريه‬

‫ويكفي رشفا نقل البخاري عنه يف صحيحه ما يذهب إليه يف الركاز والعرايا‪ ،‬وإنام مل ينقل عنه‬

‫علو السند‪ ،‬فقهيها كان أو غري فقيه‪.‬‬


‫يف سلسلة احلديث؛ ألن املحدثني حيرصون عىل ّ‬

‫ومن أشهر هؤالء العلامء املحدّ ثني الذين كانوا شافعية يف هذه املرحلة‪ :‬اإلمام احلافظ أبو بكر‬

‫حممد بن إسحاق ابن خزيمة النيسابوري‪ ،‬أخذ عن املزين واملرادي‪ ،‬ثم أخذ طريق االجتهاد‪،‬‬

‫ول ّقب بإمام األئمة‪ ،‬واشتغاله باحلديث أكثر من الفقه‪ ،‬ومن أبرز مصنفاته صحيح ابن‬

‫خزيمة‪ ،‬وكان إمام خراسان يف عرصه‪ ،‬وتويف فيها‪ .‬واإلمام احلافظ أبو حممد عبد الرمحن بن‬

‫أيب حاتم احلنظيل الرازي‪ ،‬رحل من بالد خراسان مع أبيه يف مجع احلديث‪ ،‬كان من أئمة عرصه‬

‫يف اجلرح و التعديل والعلل‪ ،‬وكان شافعيا‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬آداب الشافعي ومناقبه‪ ،‬وهو‬

‫مطبوع‪ .‬واإلمام احلافظ أبو احلسن عيل بن عمر الدارقطني البغدادي‪ ،‬كان من كبار املحدثني‬

‫يف عرصه‪ ،‬أخذ عن أيب سعيد اإلصطخري الشافعي‪ ،‬ومن أبرز مصنفاته‪ :‬سنن الدار قطني‪،‬‬

‫والعلل‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬تويل علامء الشافعية ملناصب القضاء‪ :‬يف هذه املرحلة توىل عدد غري قليل من الشافعية‬

‫القضاء يف أكثر من مدينة من مدائن املرشق اإلسالمي‪ ،‬وكان اخللفاء واألمراء يراعون املذهب‬

‫انتشارا يف بلد من البلدان‪ ،‬فتختار القايض من فقهائه؛ ضب ًطا ألحوال الناس‪ ،‬ومن ًعا‬
‫ً‬ ‫األكثر‬

‫للفتنة‪ ،‬مع مراعاة سعة علم القايض‪ ،‬وطيب أخالقه‪ ،‬وسريته احلسنة‪ ،‬وقناعة صاحب السلطة‬
‫به وبمذهبه‪ ،‬وتويل القضاء من األمور املساعدة عىل نرش املذهب‪ ،‬ومما ّ‬
‫يدل عىل انتشار املذهب‬

‫يف هذه املرحلة وجود كثري من القضاة الشافعيني‪ ،‬ومنهم‪ :‬األول‪ :‬أبو العباسن بن رسيج توىل‬

‫قضاء شرياز‪ ،‬والثاين‪ :‬أبو زرعة الدمشقي توىل قضاء دمشق‪ ،‬والثالث‪ :‬أبو سعيد اإلصطخري‬

‫توىل قضاء قم (من بالد إيران) ثم سائر بالد سجستان (أفغانستان وباكستان حال ًيا) وصنّف‬

‫يف القضاء‪ :‬الرشوط والوثائق واملحارض والسجالت الذي قيل بأنه مل يصنّف يف بابه مثله‪،‬‬

‫والرابع‪ :‬أبو السائب اهلمذاين قايض أذربيجان ثم انتقل إىل بغداد وتوىل قضاء القضاة‪،‬‬

‫واخلامس‪ :‬أبو رش عمر بن أكثم األسدي قايض بغداد يف أيام املطيع هلل ثم قضاء القضاة بعد‬

‫أيب السائب‪ ،‬والسادس‪ :‬أبو حممد القرميسيني قايض جرجان (قريبة من الساحل اجلنويب‬

‫الرشقي لبحر قزوين)‪ .‬ومل يقترص األمر عىل القضاء فقط‪ ،‬بل توىل علامء الشافعية الوزارة‪،‬‬

‫ومنهم‪ :‬أبو الفضل حممد بن عبيد اهلل التميمي املعروف بالبلعمي‪ ،‬من بلعم ببالد تركيا‪ ،‬وتوىل‬

‫الوزارة يف بالد ما وراء النهر وغريها‪ ،‬وتفقه عىل حممد بن نرص املروزي‪.‬‬

‫استقرار مذهب الشافعية وثباته‪ :‬وهو املرحلة الثانية من الدّ ور الثاين ويمتد من سنة ‪ 404‬هـ‬

‫إىل سنة ‪ 505‬هـ ‪ ،‬و هذه املرحلة متداخلة مع ما قبلها (ظهور املذهب)؛ فاإلمام أبو حامد‬
‫اإلسفراييني ً‬
‫مثال عاش معظم حياته يف املرحلة األوىل لكنه سيكون من أعالم املرحلة الثانية؛‬
‫وذلك ألن هناك فر ًقا بني ظهور املذهب وبني استقراره وثباته‪ّ ،‬‬
‫فكل املذاهب حتى املندثرة‬
‫شك‪ ،‬لكنها مل تستقر‪ ،‬فمذهب الليث ً‬
‫مثال ظهر ما يقرب من ثالثني‬ ‫كان هلا مرحلة ظهور بال ّ‬

‫عا ًما بعد وفاته‪ ،‬ومذهب األوزاعي ظهر ما يزيد عىل املائة ومخسني عا ًما من وفاته‪ ،‬مع‬
‫أيضا الذي بقي موجو ًدا حتى‬
‫مرت بمرحلة استقرار ً‬
‫مالحظة أن بعض املذاهب املندثرة ربام ّ‬
‫منتصف القرن الثامن اهلجري تقريب ًبا‪.‬‬

‫وأبرز العوامل التي أ ّدت إىل استقرار املذهب يف هذه املرحلة أدى إىل استمرار حياة املذهب‬
‫ً‬
‫إمجاال‪ :‬األول‪ :‬وفرة عدد من العلامء املتبحرين فيه وإجادهتم‬ ‫ألكثر من ثامنية قرون أمران‬

‫وخدمتهم للمذهب‪ .‬الثاين‪ :‬رعاية السلطة احلاكمة للمذهب الشافعي‪.‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬وفرة عدد من العلامء املتبحرين يف املذهب‪ ،‬أحسنوا خدمته‪ ،‬وأكثروا التصنيف يف أصوله‬

‫وفروعه تصنيفا مجع ما يف املصنّفات للشافعية خالل القرنني الثالث والرابع‪ ،‬وبقي أثر ذلك‬

‫يف األدوار التي أتت بعده‪ ،‬وال أدل عىل ذلك من اهتامم علامء الشافعية خالل الثامنية قرون‬

‫السابقة بكتب هذه املرحلة رواية هلا ورشحا ملا فيها واختصارها‪ .‬ومما يدل عىل كثرة املصنفات‬

‫يف املذهب يف هذه املرحلة (القرن اخلامس)‪ :‬ظهور طريقتني يف التصنيف يف فقه الشافعية‪:‬‬

‫طريقة العراقيني‪ ،‬وطريقة اخلراسانيني‪ ،‬والفرق بينهام‪ :‬أن طريقة العراقيني لنصوص الشافعي‬

‫وقواعد مذهبه ووجوه أصحابه أتقن وأثبت من طريقة اخلرسانيني‪ ،‬واخلراسانيون أحسن‬

‫ترصفا وتفريعا وترتي ًبا‪.‬‬


‫ّ‬

‫ومن أشهر أعالم طريقة العراقيني‪ّ :‬أو ًال‪ :‬اإلمام أبو حامد اإلسفراييني نسبة إىل إسفرايني‬

‫(دولة تركامنستان)‪ ،‬ثم انتقل إىل بغداد‪ ،‬وهو شيخ طريقة العراقيني‪ ،‬واعترب جمدد األمة ألمر‬

‫دينها عىل رأس األربعامئة‪ ،‬ول ّقب بالشيخ‪ .‬ثان ًيا‪ :‬القايض أبو الطيب طاهر بن عبد اهلل الطربي‪،‬‬

‫أيضا والزم اإلسفراييني‪ّ ،‬‬


‫وتوىل القضاء‬ ‫نسبة إىل طربستان التي ولد فيها‪ ،‬ثم انتقل إىل بغداد َ‬

‫ول ّقب بالقايض‪ .‬ثال ًثا‪ :‬أبو احلسن ّ‬


‫عيل بن حممد املاوردي البرصي‪ ،‬ولد يف البرصة وإليها‬

‫ينتسب‪ ،‬أما املاوردي فهي إىل بيع املاورد وعمله؛ ألن بعض أجداده كان يعمله ويبيعه‪ ،‬أخذ‬
‫أيضا‪ ،‬وصنّف األحكام السلطانية واحلاوي وغريمها كثريا‪ ،‬ول ّقب بأقىض‬
‫عن اإلسفراييني ً‬
‫القضاة بعدما توىل القضاء وبرع فيه‪.‬‬

‫ومن أشهر أعالم طريقة اخلراسانيني‪ :‬أوال‪ :‬اإلمام أبو بكر املروزي املعروف بالق ّفال الصغري‪،‬‬

‫فسمي‬
‫ولد بمرو من بالد خراسان (دولة تركامنستان)‪ ،‬واشتغل يف أول حياته بعمل األقفال ّ‬
‫لذلك بالقفال‪ ،‬ثم درس فقه الشافعية‪ ،‬وهو شيخ طريقة اخلراسانيني‪ ،‬وتسمي هذه الطريقة‬

‫أيضا بطريقة املراوزة نسبة إىل مرو بلد الق ّفال‪ .‬ثان ًيا‪ :‬أبو حممد عبد اهلل بن يوسف اجلويني‪،‬‬
‫ً‬

‫والد إمام احلرمني‪ ،‬ولد يف جوين من ضواحي نيسابور‪ ،‬تف ّقه عىل فقهاء جوين‪ ،‬ثم نيسابور‬

‫مرة أخرى‬
‫ليالزم أبا الطيب الصعلوكي‪ ،‬ثم رحل إىل مرو ليلتقي بأيب بكر املروزي‪ ،‬ثم رجع ّ‬
‫وكثريا من املصنفات‪ .‬ثالثا‪ :‬أبو‬
‫ً‬ ‫إىل نيسابور للتدريس والتصنيف‪ ،‬ورشح رسالة الشافعي‪،‬‬

‫عيل احلسني املروروذي املعروف بالقايض حسني‪ ،‬ولد يف مدينة مروروز من بالد خراسان‪،‬‬

‫والزم القفال الصغري‪ ،‬ومن أبرز مصنفاته‪ :‬أرسار الفقه‪.‬‬

‫ومن أشهر أعالم الطريقة اجلامعة بني طريقتي اخلراسانيني والعراقيني‪ :‬وهي طريقة ينقل فيها‬

‫أصحاهبا عن مصنفات الطريقتني يف حترير املسائل وعرض األدلة وعزو أقوال أئمة املذهب‪،‬‬

‫وأصحاهبا كانوا ينتسبون يف بداية نشأهتم إىل إحدى الطريقتني‪ ،‬وهذا يف حرلة متقدمة من‬

‫القرن اخلامس اهلجري‪ّ :‬أو ًال‪ :‬إمام احلرمني أبو املعايل عبد امللك اجلويني‪ ،‬ولد يف جوين من‬

‫نواحي نيسابور‪ ،‬ثم سافر إىل بغداد‪ ،‬ثم إىل احلجاز‪ ،‬فلقب بإمام احلرمني لتدريسه هناك وإفتائه‬

‫ويدرس يف املدرسة النظامية التي بناها له الوزير نظام‬


‫ّ‬ ‫ومناطراته‪ ،‬ثم عاد إىل نيسابور لسنّف‬

‫امللك‪ ،‬وإذا قيل يف كتب املذهب بإطالق‪ :‬اإلمام‪ ،‬فهو املقصود‪ ،‬ومن كتبه املشهورة‪ :‬هناية‬

‫املطلب يف دراية املذهب‪ .‬الثاين‪ :‬اإلمام أبو حامد الغزايل حجة اإلسالم‪ ،‬ولد يف بلدة الطابران‬

‫من مدينة طوس يف خراسان‪ ،‬رحل إىل نيسابور فأخذ عن اجلويني‪ ،‬ثم إىل بغداد فأخذ عن‬
‫ودرس باملدرسة النظامية‪ ،‬ورحل إىل احلجاز والشام ومرص‪ ،‬وعاد إىل الطابران‬
‫فقهائها‪ّ ،‬‬
‫ومات فيها‪ ،‬وله مصنفات كثرية‪ ،‬ووفاته احلدّ الفاصل بني الدورين‪ :‬الثاين والثالث من أدوار‬

‫التطور التارخيي ملذهب الشافع ّية‪.‬‬


‫ّ‬

‫أيضا الذين ال يقل أثرهم عمن سبق ذكرهم من أعالم‬


‫ومن أعالم الشافعية يف هذه املرحلة ً‬

‫طريقتي العراقيني واخلراسانيني واجلامعني بينهام‪ّ :‬أو ًال‪ :‬أبو بكر البيهقي‪ ،‬ولد يف إحدى قرى‬

‫بيهق من نواحي نيسابور‪ ،‬وسمع احلديث‪ ،‬ورحل إىل العراق واحلجاز جلمعه‪ ،‬فربز فيه‪ ،‬وتفقه‬

‫عىل مذهب الشافعي‪ ،‬وأحسن نرصته يف مصنفات عديدة أبزرها املبسوط‪ ،‬ومعرفة السنن‬
‫واآلثار‪ ،‬حتى قال اجلويني‪ :‬ما من شافعي إال وللشافعي يف عنقه منّة إال البيهقي ّ‬
‫فإن له عىل‬

‫الشافعي منّة؛ لتصانيفه يف نرصته ملذهبه وأقاويله‪ .‬وويل قضاء نيسابور مدّ ة‪ ،‬وكتابه‪ :‬مناقب‬

‫الشافعي أوسع ترمجة للشافعي بالروايات املسندة‪ .‬ثان ًيا‪ :‬أبو إسحاق الشريازي‪ ،‬ولد يف فريوز‬

‫آباد من بالد فارس ونشأ هبا‪ ،‬ثم دخل شرياز من كربى مدن فارس‪ ،‬وأخذ عن فقهائها‪،‬‬

‫وانتسب إليها‪ ،‬ورحل إ ىل البرصة‪ ،‬ثم بغداد ليأخذ عن أيب الطيب الطربي أحد أبرز أعالم‬

‫يدرس ويفتي فيها عىل‬


‫طريقة العراقيني‪ ،‬وبنى له الوزير نظام امللك املدرسة النظامية يف بغداد ّ‬
‫مذهب الشافعية‪ ،‬ومن أعظم مصنّفاته‪ّ :‬‬
‫املهذب يف الفقه‪ ،‬واللمع يف أصول الفقه ورشحه‪،‬‬

‫وغريمها كثري‪ ،‬وإذا أطلق‪ّ :‬‬


‫الشيخ يف كتب املذهب‪ ،‬فهو املراد‪ ،‬وللدكتور حممد عقلة اإلبراهيم‬

‫رسالة دكتوراة بعنوان‪ :‬أبو إسحاق الشريازي وأثره يف الفقه‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬رعاية السلطة احلاكمة ملذهب الشافعية‪ :‬ال خيفى أثر السلطة ممثلة باخللفاء والوالة‬

‫والوزراء يف نرصة مذهب فقهي أو عقدي يف بقاء هذا املذهب وديمومته‪ ،‬وإن كانت وحدها‬

‫ال تكفي لتحقيق الديمومة‪ ،‬فالبد من وجود العلامء القائمني بالتصنيف والتدريس واملناظرة‬
‫ونحوذلك‪ ،‬وال أدل عىل ذلك من أن الدولة الفاطمية نرصت اإلسامعيلية ألكثر من مائتي‬

‫عام‪ ،‬لكنها مل تفلح يف استقرار هذه الفرقة يف مرص بعد زوال هذه الدولة‪.‬‬

‫وأبرز رجال احلكم الذين نرصوا املذهب الشافعي يف هذه املرحلة (من ‪ 404‬إىل ‪ّ :)505‬أو ًال‪:‬‬

‫اخلليفة العبايس القادر باهلل‪ ،‬وكان متف ّقها عىل مذهب الشافعي حتى صنّف كتا ًبا يف أصول‬

‫الفقه‪ ،‬وكان الكتاب ُيقرأ يف كل مجعة بجامع املهدي يف حلقة أصحاب احلديث‪ .‬ثان ًيا‪:‬‬

‫السلطان شمس امللك نرص بن إبراهيم‪ ،‬وكان ملكًا للدولة العباسية لبالد ما وراء هنر‬

‫جيحون‪ ،‬وكان متف ّقها عىل مذهب الشافعي حتى عدّ من فقهائهم‪ .‬ثال ًثا‪ :‬الوزير نظام امللك‬

‫وتدرج يف املناصب اإلدارية حتى أصبح‬


‫أبو عيل احلسن الطويس‪ ،‬وتفقه عىل مذهب الشافعي‪ّ ،‬‬
‫وزيرا للسلطان السلجوقي ألب أرسالن‪ ،‬ومن بعده البنه السلطان ملكشاه‪ ،‬وقد بنى الوزير‬
‫ً‬
‫سميت باملدارس النظامية‪ ،‬كان من أبرزها‪:‬‬
‫نظام امللك تسع مدارس يف كربى املدن اإلسالمية ّ‬
‫يف بغداد وتصدّ ى للتدريس فيها أبو إسحاق الشريازي‪ ،‬ويف نيسابور إلمام احلرمني اجلويني‪.‬‬

‫وكانت خمصصة لدرا سة علوم الرشيعة عامة‪ ،‬والصدارة فيها لعلامء الشافعية خاصة‪ ،‬وكان‬

‫دعام من‬
‫الوزير نظام امللك شديدً ا عىل الفرق الباطنية واإلسامعيلية خاصة والتي كانت تلقى ً‬
‫اخلالفة الفاطمية يف مرص؛ ولذا قامت الدولة الفاطمية يف مرص بالدور نفسه لكن يف اجلهة‬

‫املقابلة‪ ،‬وبنوا اجلامع األزهر ألجل هذه الغاية‪ ،‬وتزامن مع جهود نظام امللك وفرة عدد كبري‬

‫من الفقهاء وقد سبق ذكر بعضهم‪ ،‬ومما يدل عىل مكانة نظام امللك عند علامء الشافعية تصنيف‬

‫وسامه بالنظامي‪ ،‬ثم تصنيفه‬


‫وجهه لنظام امللك ّ‬
‫إمام احلرمني كتا ًبا يف أحكام السياسة الرشعية ّ‬
‫لكتاب الغياثي واملسمى أيضا غياث األمم يف التياث والظلم يف أحكام السياسة الرشعية‬

‫أيضا‪ ،‬ومدح ببعض الشعر‪ .‬ومن‬


‫كذلك‪ ،‬وفيه قسم كبري موجه لنظام امللك‪ ،‬وفيه ثناء عليه ً‬
‫أقارب نظام امللك الذين كانوا من علامء الشافعية‪ :‬ابن أخيه الوزير أبو املعايل عبد الرزاق‬

‫الطويس‪ ،‬وحفيده األمري أبو نرص حممد بن عيل بن أمحد بن الوزير نظام امللك‪.‬‬
‫أبرز معامل هذه املرحلة (مرحلة استقرار املذهب وثبوته)‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬انحسار ظاهرة االجتهاد املطلق بني فقهاء الشافعية‪ ،‬فلم يربز يف هذه املرحلة من فقهاء‬

‫الشافعية من اجتهد اجتها ًدا مطل ًقا يف الفروع واألصول‪ ،‬بالرغم من أ ّن علامء هذه املرحلة‬

‫كانوا أكثر بكثري من املراحل قبلها‪ ،‬ولعل من أسباب ذلك‪ :‬هو العصبية املذهبية والتقليد‬

‫املحض الذي بدأ بالظهور خالل القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬باإلضافة إىل كثرة املصنفات‬

‫كبريا يف االطالع عليها‬


‫استغرقت جهدً ا ً‬
‫ْ‬ ‫الشافعية منذ وفاة اإلمام وحتى زماهنم والتي‬

‫وهضمها‪ ،‬مع مالحظة أن انحسار ظاهرة االجتهاد املطلق ليست خاصة باملذهب الشافعي‪،‬‬

‫بل كانت ظاهرة عامة يف مجيع املذاهب‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬الظهور اجليل للعصبية املذهبية‪ ،‬فلم يقف األمر عند االنتصار للمذهب باألدلة‬

‫الصحيحة املعتربة‪ ،‬بل جاوزه إىل تضعيف وربام تسفيه أقوال املذاهب األخرى‪ ،‬فتحولت‬

‫قديام إىل ميدان للجدل املذموم‪ ،‬بل حصلت فتن واقتتال أحيانًا‪،‬‬
‫املناظرات التي كانت هادئة ً‬
‫ولعل من دالئل ذلك تصنيف اإلمام اجلويني كتاب‪ :‬مغيث اخللق يف ترجيح القول احلق‪،‬‬

‫حيشد فيه األدلة عىل رجحان مذهب الشافعي عىل مذهبي أيب حنيفة ومالك‪ ،‬ولعل أهم‬

‫أسباب تفيش التعصب املذهبي‪ :‬التقليد املحض‪ ،‬واجلهل‪ ،‬وسوء األخالق واتباع اهلوى‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬ظهور موسوعات فقهية شافعية تعنى بالفقه املقارن بشكل جيل‪ :‬وهو ما يسمى بعلم‬

‫اخلالف‪ ،‬ففي هذه املرحلة كان فقهاء الشافعية مع ذكرهم ملذهبهم يتعرضون إىل أقوال وأدلة‬

‫فقهاء غري مذهبهم عىل وجه التفصيل املستوعب أحيانًا‪ ،‬وأبرز كتابني يمثالن هذا النوع من‬

‫التصنيف يف هذه املرحلة‪ :‬احلاوي للاموردي‪ ،‬وهناية املطلب للجويني‪ .‬وهذه الظاهرة يف‬

‫التصنيف يف الفقه املقارن كان موجو ًدا عند عامة املذاهب وليس عند الشافعية فقط‪ ،‬لإلمام‬

‫أيب جعفر الطحاوي مثال كتاب اختالف العلامء (مفقود)‪ ،‬والبن عمروس املالكي كتاب‪:‬‬
‫تعليق يف اخلالف‪ ،‬وغريمها كثري‪ .‬وشيوع هذه الظاهرة تدل عىل تأثر املذاهب ببعضها بعضا‪،‬‬

‫ووجود قنوات اتصال بني فقهائها‪ ،‬بحكم التجاوز اجلغرايف يف األماكن التي انترش فيها أكثر‬

‫من مذهب‪ ،‬كام يف املرشق مثال حيث جتاوز األحناف والشافع ّية‪.‬‬

‫راب ًعا‪ :‬تصنيف علامء الشافعية يف أصول الفقه عىل طريقة املتكلمني‪ :‬وقام منهج هذه الطريقة‬

‫جمردة عن الفروع الفقهية مع االستدالل العقيل ما أمكن عىل تلك القواعد‪،‬‬


‫عىل تقرير القواعد ّ‬
‫من غري اعتبار يف ذلك ملذهب بعينه‪ ،‬وتأثرت هذه الطريقة بعلم املنطق والفلسفة‪ ،‬وهي تقابل‬

‫ما عرف بطريقة‪ :‬الفقهاء أو األحناف‪ ،‬والتي قامت عىل تقرير القواعد األصولية عىل مقتىض‬

‫ما نقل عن األئمة املجتهدين من اجتهادات يف الفروع‪ ،‬باعتبار أن هذه القواعد عي التي‬

‫راعاها هؤالء األئمة عندما اجتهدوا واستنبطوا تلك الفروع‪ .‬وهاتان الطريقتان متتدان إىل‬

‫القرن الرابع‪ ،‬لكنهام متايزتا خالل القرن الخامس‪ ،‬وكان أبرز املصنفني عىل طريقة املتكلمني‬

‫أيضا‪ ،‬وكان القرن اخلامس هو العرص‬


‫سميت بطريقة الشافعية ً‬
‫هم علامء الشافعية؛ ولذا ّ‬
‫الذهبي لعلم األصول‪ ،‬ملا ظهر فيها من مصنّفات إذا قارنّاها مع ما قبلها وما بعدها من‬

‫مصنفات‪ .‬ومن أبرز املصنفات التي عىل طريقة املتكلمني من تصنيف علامء الشافعية‪ :‬اللمع‬

‫أليب إسحاق الشريازي‪ ،‬واملستصفى للغزايل‪ ،‬والربهان للجويني‪.‬‬


‫األول ملذهب الشافعية من سنة ‪ 505‬هـ إىل ‪ 676‬هـ‬
‫الدور الثالث‪ :‬التنقيح ّ‬

‫اجلهود السابقة لعمل النووي والرافعي يف خدمة املذهب‪ :‬استمر علامء الشافعية يف نرش‬

‫املذهب خالل القرن السادس‪ ،‬لكن من األحداث املؤثرة يف هذه املرحلة رجوع املذهب إىل‬

‫مرص بعد زوال الفاطميني ونرصة صالح الدين األيويب له ولعلامء مذهبه وإحسان رعايتهم‪،‬‬

‫فكانت سريته فيهم قريبة من سرية الوزير السلجوقي نظام امللك‪ ،‬ومن أبرز األعامل التي قام‬

‫هبا لنرصة أهل السنة عامة والشافعية خاصة‪ :‬بناؤة ملدرسة النرصية‪ ،‬والتي كانت أول مدرسة‬

‫خمتصلة لتعليم فقه أهل السنة بعد عهد الفاطميني‪ ،‬وبناؤه كذلك للمدرسة الصالحية نسبة‬

‫املدرسني من العلامء يف املدرسة‬


‫إليه‪ ،‬والتي اختصت بتدريس الفقه الشافعي‪ .‬ومن أبرز ّ‬
‫بارزا حتى اشتهرت املدرسة‬
‫النارصية يف هذا العهد‪ :‬أوال‪ :‬اإلمام ابن زين التجار‪ ،‬وكان ً‬
‫باسمه‪ ،‬ثان ًيا‪ :‬اإلمام نجم الدين اخلبوشاين‪ ،‬وهو من أشار عىل صالح الدين ببناء املدرسة‬

‫النارصية‪ ،‬وهو ّأول من دعا للخليفة العبايس املستيضء باهلل معلنًا زوال حكم الفاطميني‪،‬‬

‫وذلك بتوجيه من صالح الدين‪.‬‬

‫وللقايض أبو عيل عبد الرحيم ابن القايض األرشف اللخمي دور بارز يف حفز صالح الدين‬

‫للتمكني إىل فقهاء السنة والشافعية خاصة‪ ،‬فقد كان وزير السلطان‪ ،‬وفقه ًيا عىل مذهب‬

‫منارصا جدّ ا للمذهب‪.‬‬


‫ً‬ ‫مقربا جدا إىل صالح الدين‪ ،‬وكان‬
‫الشافعي‪ ،‬وكان ّ‬

‫ومن أبرز علامء املذهب الذين خدموه خالل القرن السادس اهلجري‪ :‬أ ً‬
‫وال‪ :‬اإلمام احلسني‬

‫بن مسعود البغوي املعروف بالفراء‪ ،‬نسبة إىل عمل الفراء وبيعها‪ ،‬ويلقب بمحيي السنّة‪ ،‬ولد‬

‫يف بغا (إحدى قرى خراسان)‪ ،‬ومجع بني الفقه واحلديث‪ ،‬وكان من أخص تالميذ القايض‬

‫حسني املروروزي‪ ،‬وكان أبرز علامء الشافعية يف خراسان بعد وفاة الغزايل‪ ،‬ومن مصنفاته‪:‬‬

‫رشح السنّة‪ ،‬ومصابيح السنّة‪ ،‬ومعامل التنزيل يف التفسري‪ ،‬والتهذيب يف فقه الشافعي‪.‬‬
‫ثان ًيا ‪ :‬اإلمام حممد بن حيي النيسابوري‪ ،‬تفقه عىل يد الغزايل‪ ،‬وانتهت إليه رياسة الشافعية يف‬

‫نيسابور‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬املحيط يف رشح الوسيط‪ ،‬واإلنصاف يف مسائل اخلالف‪ ،‬قتل شهيدً ا‪.‬‬

‫واستقر يف دمشق‬
‫ّ‬ ‫ثال ًثا‪ :‬اإلمام ابن أيب عرصون‪ ،‬ولد باملوصل‪ ،‬وكانت له رحالة واسعة‪،‬‬

‫يدرس ويفتي عىل مذهب الشافعية‪ ،‬وكان مع ّظام عند السلطان نور الدين زنكي‪ ،‬وح ّثه عىل‬
‫ّ‬
‫بناء مدارس لتعليم الرشيعة يف حلب ومحاة وغريمها‪ ،‬وتوىل قضاء دمشق‪ ،‬وتويف فيها‪ ،‬ودفن‬

‫يف املدرسة التي بناها لنفسه وتسمى بالعرصونية‪ ،‬وله مصنفات كثرية نافعة‪ .‬راب ًعا‪ :‬اإلمام‬

‫الفخر الرازي أبو عبد اهلل حممد بن عمر بن احلسني‪ ،‬نسبة قريش‪ ،‬وأصله من طربستان‪ ،‬وولد‬

‫يف مدينة الري وإليها نسب‪ ،‬وتربى يف حجر والده أيب القاسم ضياء الدين الذي كان من علامء‬

‫الشافعية يف الري‪ ،‬ورحل رحالت علمية كثرية يطلب الفقه واألصول والتفسري والكالم‪،‬‬

‫وله مصنفات رئيسية يف موضوعها‪ ،‬منها‪ :‬املحصول يف علم األصول‪ ،‬ورشح الوجيز للغزايل‬

‫متعص ًبا للمذهب‪ ،‬كام جتىل‬


‫ّ‬ ‫يف الفقه‪ ،‬وهو من بحور العلم يف بالد ما وراء هنر جيحون‪ ،‬وكان‬

‫يف كتابه‪ :‬مناقب الشافعي‪ ،‬وتويف يف مدينة هراة أو هريات (تقع يف أفغانستان)‪.‬‬

‫جهود اإلمامني النووي والرافعي يف تنقيح املذهب‪:‬‬

‫واصطالحا‪ :‬هتذيب املذهب من األقوال‬


‫ً‬ ‫التنقيح‪ :‬لغة‪ :‬التهذيب‪ ،‬وختليص ج ّيده من رديئه‪.‬‬

‫املرجوحة والشا ّذة‪ ،‬وبيان املعتمد عند فقهائه يف الفتوى؛ توحيدً ا ملرجع ّية القضاة واملفتني من‬

‫املذهب يف بيان احلكم الرشعي‪ ،‬وف ًقا الجتهادات أئمتهم‪.‬‬

‫احلاجة إىل تنقيح املذهب‪ :‬ظهرت احلاجة إىل تنقيح املذهب يف هذا الدّ ور (القرن السادس)؛‬

‫بسبب كثرة املصنفات يف املذهب‪ ،‬وكان مصنّفوها يف بقاع متباعدة حيث انترش املذهب‬

‫واس ًعا‪ ،‬وكان فيها بطبيعة احلال عدد غري قليل من التخرجيات املخالفة ألصوال املذهب‪ ،‬أو‬

‫ملحة للقيام بعملية‬


‫االستنباطات املرجوحة‪ ،‬أو االجتهادات الشاذة‪ ،‬فأصبحت احلاجة ّ‬
‫أيضا الداعية هلذا‬
‫خصوصا بعد استقرار املذهب‪ .‬ومن األسباب ً‬
‫ً‬ ‫هتذيب هلذه املصنفات‪،‬‬

‫التعصب املذهبي والتقليد املحض منذ أواخر القرن الرابع‪ ،‬وانحسار ظاهرة‬
‫ّ‬ ‫التنقيح‪ :‬ظهور‬

‫االجتهاد عند سائر املذاهب‪ ،‬كل ذلك جعل فقهاء املذهب حيرصون عىل تنقيح مذهبهم‪،‬‬

‫متعاملني مع نصوص أئمتهم تعامل املجتهد املطلق مع نصوص الرشع‪ ،‬وهذا حيتاج إىل جمهود‬

‫جبار تتمثل يف مراجعة مصنفات عدد كبري من األئمة املجتهدين عرب أربعة قرون‪.‬‬

‫وقد برز يف أواخر القرن السادس اإلمام عبد الكريم الرافعي؛ ليقوم بجهد ضخم يف تنقيح‬

‫مهد به الطريق لإلمام النووي‪ ،‬لتشكّل جهودمها بعد ذلك وحدة واحدة مت ّثل‪:‬‬
‫املذهب‪ّ ،‬‬
‫واألهم لفقه الشافعية يف تاريخ تطور املذهب املمتد ألكثر من ألف ومائتي عام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األول‬
‫التنقيح ّ‬
‫مدوناته وأعالمه‪،‬‬ ‫حمكام ّ‬
‫يدل عىل متكنهام من املذهب وسعة اطالعهام عىل ّ‬ ‫وكان عملهام جام ًعا ً‬
‫لدرجة أن اإلمام عبد الرحيم اإلسنوي يف كتابه‪ :‬طبقات الشافعية كان يرتّب األسامء عىل وفق‬

‫تسلسل احلروف األبجدية‪ ،‬ويف كل حرف فصالن‪ :‬األول لألعالم املذكورين يف كتايب‬

‫الرافعي والنووي‪ :‬الرشح الكبري (العزيز)‪ ،‬وروضة الطالبني‪ ،‬والثاين لألعالم الذين مل يرد‬
‫أي من الكتابني‪ ،‬وهذا ّ‬
‫يدل عىل شمول الكتابني لكثري من أعالم الشافعية‪.‬‬ ‫ذكرهم يف ّ‬

‫ومن اجلدير بالذكر أنه قبل عرص اإلمامني الرافعي والنووي‪ :‬كان كتابا‪ّ :‬‬
‫املهذب للشريازي‪،‬‬
‫والوسيط أليب حامد الغزايل= يعتربان األكثر ً‬
‫متثيال للمذهب من بني املصنّفات األخرى‪.‬‬

‫جهود اإلمام الرافعي يف تنقيح املذهب‪ :‬هو اإلمام أبو القاسم عبد الكريم القزويني الرافعي‪،‬‬

‫ولد يف قزوين (من مدن أصبهان شامل بالد فارس) وإليها ينسب‪ ،‬والرافعي نسبة إىل رافعان‬

‫وهي بلدة من بالد قزوين‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إهنا نسبة إىل الصحايب اجلليل رافع بن خديج‪ ،‬تر ّبى‬

‫يف حجر والده الذي كان فقيها شافعيا‪ ،‬ثم أخذ العلم عن أكابر علامء عرصه حتى أضحى‬

‫املهمة من أبرزها‪ّ :‬أو ًال‪ّ :‬‬


‫املحرر‪ ،‬وهو مأخوذ‬ ‫مرج ًعا للشافعية‪ ،‬وقد صنّف عد ًدا من املصنّفات ّ‬
‫من الوجيز للغزايل‪ ،‬وهو من الكتب املعتمدة يف حتقيق قول املذهب‪ ،‬وهو خمطوط حتى اآلن‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬العزيز رشح الوجيز (الرشح الكبري) وهو مطبوع‪ ،‬ثال ًثا‪ :‬الرشح ّ‬
‫الصغري‪ ،‬وهو رشح‬

‫حجام‪ ،‬وهذه الثالثة الكتب املمثلة جلهد الرافعي يف تنقيح املذهب‪.‬‬


‫ً‬ ‫أيضا لكنه أصغر‬
‫للوجيز ً‬

‫جهود اإلمام النووي يف تنقيح املذهب‪ ،‬هو اإلمام أبو زكريا حييى بن رشف النووي‪ ،‬ولد يف‬

‫نوى التي إليها ينسب‪ ،‬وهي إحدى قرى حوران (من حمافظة السويداء يف سوريا اآلن)‪ ،‬رحل‬

‫إىل دمشق ليالزم كبار فقهاء الشافعية واملحدثني‪ ،‬وبرع يف الفقه واحلديث‪ ،‬وأجاد يف الفقه‪،‬‬

‫ومل يرحتل خارج الشام إال للحج‪ ،‬ورغم ذلك فهو أبرز الشافعيني يف زمانه بال منازع‪ .‬وتتمثل‬

‫جهوده يف تنقيح املذهب يف هذه املصنّفات‪ :‬األول‪ :‬روضة الطالبني وهو اختصار لكتاب‬

‫العزيز رشح الوجيز املسمى بالرشح الكبري للرافعي‪ ،‬والثاين‪ :‬منهاج الطالبني وعمدة املفتني‬

‫املحرر للرافعي‪ ،‬والثالث‪ :‬املجموع وهو موسوعة يف الفقه املقارن لكنه‬


‫وهو اختصار لكتاب ّ‬
‫يتمه‪ .‬وقد عرض رمحه اهلل قواعده يف ترجيحاته يف مقدمات كتبه كاملجموع‪،‬‬
‫تويف قبل أن ّ‬
‫والتي ّ‬
‫تدل عىل انضباطه يف التنقيح واملراجعة‪.‬‬

‫نسيجا واحدً ا ملئات من فقهاء الشافعية عىل مدار‬


‫ً‬ ‫فتمثل هذا التنقيح مع جهد اإلمام الرافعي‬

‫أربعة قرون تلت وفاة اإلمام املؤسس‪ ،‬حتى قال اهليتمي‪ :‬بأن الكتب املتقدمة عىل الشيخني‬

‫النووي والرافعي ال يعتمد يشء منها إال بعد مزيد الفحص والتحرى حتى يغلب عىل الظن‬

‫رت بتتابع كتب متعددة عىل حكم واحد‪ ،‬فهذه الكثرة قد تنتهي إىل واحد‪،‬‬
‫أنه املذهب‪ ،‬وال يغ ّ‬

‫فأصحاب الق ّفال أو أيب حامد مع كثرهتم ال ّ‬


‫يفرعون إال عىل طريقته وإن خالفت سائر‬

‫تعرضا هلام‪ :‬فإن اتفقا‬ ‫األصحاب‪ ،‬وهذا ك ّله يف حكم مل ّ‬


‫يتعرض مل الشيخان أو أحدمها‪ .‬أما ما ّ‬
‫عليه‪ :‬فهو املعتمد‪ ،‬ما مل ُجيمع متعقبو كالمهام عىل أنه سهو (وأنّى به)‪ ،‬وإن اختلفا‪ :‬فاملعمتد‬

‫هو قول النووي‪.‬‬


‫األول للمذهب)‪:‬‬
‫أبرز معامل هذا الدور (التنقيح ّ‬

‫ّأو ًال‪ :‬استمرار شيوع ظاهرة العصبية املذهبية والتقليد‪ ،‬والذي جتاوز إىل احتدام املناظرات‬

‫واجلدل‪ ،‬وتسفيه األقوال املخالفة‪ ،‬وللتدليل عىل ذلك أن اإلمام الفخر الرازي من كبار‬

‫أصوليي الشافعية ومتكلميهم خصص أكثر من ثلث كتابه‪ :‬مناقب الشافعي حلشد أد ّلة‬

‫لرتجيح مذهب الشافعي عىل سائر املذاهب عامة ومذهب أيب حنيفة خاصة‪ ،‬وكان يتن ّقص‬

‫من شأن أيب حنيفة بأساليب شتى‪ ،‬منها أن يقول‪ :‬ذهب أبو فالن‪ ،‬وقال أبو فالن‪ ،‬يشري إىل‬

‫اإلمام أيب حنيفة‪ ،‬ومثل هذا كان له أثر سلبي عىل عالقة أتباع املذاهب مع بعضهم سواء‬

‫خصوصا إذا كانت هذه املذاهب‬


‫ً‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫الفقهاء والقضاء أوعوام الناس‪ ،‬بل األمراء واحلكام ً‬

‫متجاورة جغراف ّيا‪ ،‬فعىل النقيض صنّف املحدث والفقيه احلنفي أبو املظ ّفر شمس الدين‬

‫يوسف بن ُق ْز ُغيل البغدادي (يف نفس عرص الفخر الرازي) كتاب‪ :‬االنتصار والرتجيح‬

‫للمذهب الصحيح‪ ،‬وك ّله يف بيان مناقب أيب حنيفة‪ ،‬ورجحان مذهبه عىل سائر املذاهب عامة‬

‫وعىل مذهب الشافعية خاصة‪ ،‬ومما جاء فيه أنه كان يعرض بعض املسائل يد ّلل من خالهلا أن‬

‫األخذ بمذهب أيب حنيفة هو األصلح للخليفة والوالة‪ ،‬ليحفز احلكام يف اعتناق مذهب‬

‫احلنفية وتولية القضاء منهم‪ ،‬ملا يف ذلك من أثر عظيم يف تثبيت مذهب من املذاهب‪ .‬لكن رغم‬

‫حترروا من العصبية إىل حد كبري‪ ،‬وسعوا إىل‬


‫ذلك برز عدد من أعالم الشافعية يف هذا الدّ ور ّ‬
‫إحياء االجتهاد‪ ،‬ومن أبرزهم عاملان‪ :‬العز بن عبد السالم‪ ،‬وأبو شامة املقديس‪.‬‬

‫السلمي‬
‫واإلمام عز الدين بن عبد السالم‪ ،‬هو أبو حممد عز الدين‪ ،‬عبد العزيز بن عبد السالم ًّ‬
‫الدمشقي‪ ،‬امللقلب بسلطان العلامء وبائع امللوك‪ ،‬ولد يف دمشق‪ ،‬تعلم عىل يد كبار علامئها‪،‬‬

‫وويل اخلطابة والتدريس يف اجلامع األموي‪ ،‬واشتغل بالفقه واألصول أكثر من غريمها‪ ،‬وبدأ‬

‫حياته شافع ّيا‪ ،‬ثم ملا رسخت قدم ه اجته نحو االجتهاد املطلق‪ ،‬وكان من دعاة اجلهاد يف سبيل‬
‫يدرس‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وله مواقف مشهوده مع ملوك وأمراء زمانه‪ ،‬رحل إىل القاهرة واستوطنها ّ‬
‫ويفتي إىل أن ّ‬
‫تويف فيها‪ ،‬ومن أشهر مصنّفاته‪ :‬الغاية يف اختصار النهاية‪ ،‬اخترص فيه كتاب هناية‬

‫املطلب للجويني‪ ،‬وله يف األصول‪ :‬اإلملام يف بيان أدلة األحكام‪ ،‬وأبرز مصنفاته‪ :‬قواعد‬

‫األحكام يف مصالح األنام‪ ،‬وموضوعه مقاصد الرشيعة‪ّ ،‬‬


‫وجتىل فيه رسوخ قدمه يف علم أصول‬
‫الفقه‪ ،‬وكان ً‬
‫نابذا للتقليد األعمى‪ ،‬ساع ًيا نحو االجتهاد املطلق بضوابطه ورشوطه‪.‬‬

‫واإلمام أبو شامة املقديس‪ ،‬هو أبو القاسم شهاب الدين‪ ،‬عبد الرمحن بن إسامعيل املقديس‬

‫الدمشقي‪ ،‬املعروف بأيب شامة لشامة كبرية كانت فوق حاجبه‪ ،‬أصله من القدس‪ ،‬وولد يف‬

‫دمشق‪ ،‬وتلقى عن كبائر علامئها‪ ،‬فجمع القراءات‪ ،‬وسمع احلديث وكان اشتغاله به أكثر‪،‬‬

‫وتفقه عىل املذهب الشافعي عن العز بن عبد السالم وكان من خواص تالميذه‪ ،‬وأتقن النحو‬

‫واللغة وصنّف فيها‪ ،‬ثم رسخت قدمه حتى بلغ مرتبة االجتهاد املطلق‪ ،‬من مصنفاته‪ :‬تاريخ‬

‫دمشق وخمترصه‪ ،‬واملرشد الوجيز يف علوم تتعلق بالكتاب العزيز‪ ،‬والوصول يف األصول‪،‬‬

‫ورشح لسنن البيهقي‪ ،‬ومن مصنّفاته التي وصلت إلينا‪ :‬خمترص كتاب املؤ َّمل للر ّد إىل األمر‬

‫األول‪ ،‬وفيه استقراء ج ّيد لتطور مسرية الفقه منذ وفاة سيدنا حممد صىل اهلل عليه وسلم إىل‬
‫ّ‬
‫النصف األول من القرن السابع اهلجري‪ ،‬وفيه دعوة رصحية فتح باب االجتهاد املنضبط‬

‫بالقواعد املعتربة يف علم أصول الفقه‪ ،‬ونبذ العصبية املذهبية والتقليد املحض‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬من أبرز معامل هذه املرحلة‪ :‬ابتعاد التصنيف يف أصول الفقه عند الشافعية عن الفروع‬

‫الفقهية ابتعا ًدا أظهر احلاجة لتخريج الفروع عىل األصول‪ ،‬فاستمر األصوليون يصنفون عىل‬

‫طريقة املتكلمني أو ما يسمى بطريقة الشافعية‪ ،‬فظهر املحصول يف علم األصول للفخر‬

‫الرازي‪ ،‬واإلحكام يف أصول األحكام لسيف الدين اآلمدي‪ ،‬وكانت طريقتهم تقابل طريقة‬

‫خمرجة‬
‫الفقهاء أو طريقة احلنفية يف التصنيف والتي امتازت بعرض قواعد ومسائل األصول ّ‬
‫ظهرت يف القرن السابع طريقتان جديدتان يف‬
‫ْ‬ ‫من القواعد الفقهية لألئمة والبناء عليها‪ ،‬ثم‬

‫التصنيف يف أصول الفقه‪ :‬األوىل‪ :‬اجلمع بني طريقتي املتكلمني والفقهاء‪ ،‬والثانية‪ :‬ختريج‬

‫الفروع عىل األصول‪ ،‬وفيام ييل بياهنام‪:‬‬

‫أما طريقة اجلمع بني املتكلمني والفقهاء‪ :‬فتعرض القواعد وتناقشها وتقيم األد ّلة مقارنة بني‬
‫املخرجة عىل تلك القواعد‪ ،‬و ّ‬
‫لعل‬ ‫ّ‬ ‫ما قاله املتكلمون والفقهاء‪ ،‬مع اإلتيان ببعض الفروع‬

‫االبتعاد بني طريقتي الفقهاء واملتكلمني قد بلغ أوجه يف بداية القرن السابع‪ ،‬مما دعا إىل‬

‫التصنيف هبذه الطريقة اجلديدة‪ ،‬ومن أبرز املصنفات يف هذه الطريقة‪ :‬بديع النظام اجلامع بني‬

‫أصول البزدوي واإلحكام ملظ ّفر الدين أمحد بن عيل الساعايت احلنفي‪ ،‬مجع فيه بني كتايب‪ :‬كنز‬

‫الوصول إىل معرفة األصول لفخر اإلسالم البزدوي‪ ،‬واإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي‪.‬‬

‫وأما طريقة ختريج الفروع عىل األصول‪ :‬فتقوم عىل ربط الفروع الفقهية بالقواعد األصولية‬

‫التي استنبطت تلك الفروع منها‪ ،‬مع مناقشة القاعدة وما حصل من اختالف بني العلامء‬

‫إمج ًاال‪ ،‬ونشأت نتيجة رغبة علامء كل مذهب يف الدفاع عن آرائهم‪ ،‬ور ّد استنباطاهتم الفقهية‬

‫بقوة األصول‪ ،‬فبذلك‬


‫قوة الفروع ّ‬
‫إىل أصول مع ّينة‪ ،‬ثم الدفاع عن تلك األصول؛ لتسلم هلم ّ‬
‫أخرج علم األصول من اجلانب النظري إىل التطبيقي‪ ،‬فح ّقق الربط بني علمي الفقه‬

‫واألصول‪ ،‬مما يزيل االنفكاك الذي خ ّيم عليهام قرونًا كثرية‪ .‬والشافعية كانوا األحوج إىل‬

‫التصنيف عىل هذه الطريقة؛ ملا امتازت به كتب األصول عندهم من املناقشات العقلية املتأثرة‬

‫بأسلوب املناطقة حتى تكاد ختلو من الفروع‪ ،‬فكان من الطبيعي أن يكون ّأول من يصنّف عىل‬

‫هذه الطريقة الشافعية‪ ،‬وهو اإلمام شهاب الدين حممود بن أمحد الزنجاين يف كتاب‪ :‬ختريج‬
‫الفروع عىل األصول‪ ،‬ويرى بعض العلامء ّ‬
‫أن أول من صنّف فيه هو اإلمام أبو زيد الدبويس‬

‫احلنفي يف كتاب‪ :‬تأسيس النظر‪.‬‬


‫ثال ًثا‪ :‬تف ّقه عدد من كبار املحدّ ثني يف هذا العرص باملذهب الشافعي‪ :‬فجمعوا بني األصول‬

‫والفروع وبني احلديث وقد حصل ذلك من قبل كام سبق ذكره‪ ،‬فالشافعي هو من أئمة اهلدى‬

‫وسمي بنارص احلديث‪ ،‬مع رسوخ قدمه يف هذا العلم‪ ،‬ومن أبرز‬
‫ّ‬ ‫عند أهل السنّة واجلامعة‬

‫املحدثني يف هذا الدور الشافعية‪ :‬األول‪ :‬اإلمام ابن األثري اجلزري‪ ،‬ولد يف منطقة اجلزيرة‬

‫وإليها ينتسب (تقع بني الفرات ودجلة من بالد الشام)‪ ،‬زار بغداد وتف ّقه باملذهب الشافعي‪،‬‬

‫استقر يف املوصل فأقبل الناس عليه‪ ،‬ومن مصنّفاته‪ :‬جامع‬


‫ّ‬ ‫وأتقن علوم العربية واألدب ثم‬

‫األصول‪ ،‬والنهاية يف غريب احلديث‪ ،‬والشايف يف رشح مسند الشافعي‪ ،‬والبديع يف فرشح‬

‫الصالح الشهرزوري الرشخاين‪ ،‬ولد‬


‫فصول ابن الدهان يف النحو‪ ،‬وغريها‪ .‬الثاين‪ :‬اإلمام ابن ّ‬
‫يف رشخان (قرية قريبة من شهرزور يف بالد األكراد شامل العراق)‪ ،‬تفقه عىل والده صالح‬

‫الدين عبد الرمحن بن عثامن‪ ،‬ثم طلب احلديث‪ ،‬وتلقى عن أكابر علامء الشافعية‪ ،‬وزار املوصل‬

‫يدرس ويصنّف بعد أن أتقن‬


‫وبغداد وفارس وخراسان وحلب والقدس‪ ،‬واستوطن دمشق ّ‬
‫ً‬
‫أصوال وفرو ًعا‪ ،‬وبرع يف احلديث رواية ودراية‪ ،‬وإذا أطلق الشيخ يف علوم‬ ‫املذهب الشافعي‬

‫احلديث‪ :‬فهو املراد‪ ،‬ومن مصنّفاته‪ :‬معرفة أنواع علم احلديث (املقدّ مة)‪ ،‬وتعليقات عىل‬

‫الوسيط للغزايل‪ ،‬وطبقات الفقهاء الشافعية‪ .‬الثالث‪ :‬ابن أيب الدم‪ ،‬شهاب الدين أبو إسحاق‬

‫إبراهيم بن عبد اهلل احلموي‪ ،‬ولد يف مدينة محاة‪ ،‬ورحل إىل بغداد وحلب والقاهرة يتفقه عىل‬

‫واستقر يف محاة وتوىل قضاءها‪،‬‬


‫ّ‬ ‫علامء الشافعية‪ ،‬ويسمع احلديث‪ ،‬فكان جام ًعا بني العلمني‪،‬‬

‫واشتغل بالتدريس والتصنيف‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬رشح مشكل الوسيط للغزايل‪ ،‬وأدب القضاء‪،‬‬

‫وتدقيق العناية يف حتقيق الرواية‪ .‬الرابع‪ :‬احلافظ املنذري‪ ،‬زكي الدين عبد العظيم بن عبد‬

‫القوي املنذري املرصي‪ ،‬ولد يف القاهرة‪ ،‬وتف ّقه عىل املذهب الشافعي‪ ،‬وسمع احلديث‪ ،‬ورحل‬

‫إىل الشام واحلجاز واألسكندرية يتلقى الفقه وجيمع احلديث‪ ،‬فربع فيهام‪ ،‬وكان راسخ القدم‬
‫يف معرفة غريب احلديث‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬الرتغيب والرتهيب يف احلديث‪ ،‬وخمترص صحيح‬

‫مسلم‪ ،‬ورشح التنبيه للشريازي يف الفقه‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫وأخريا‪ :‬فلقد عصفت أحداث سياسية عنيفة باملسلمني يف بالد العراق والشام ومرص يف هذا‬
‫ً‬
‫الدّ ور حتديدً ا‪ ،‬متثلت بالغزو الصليبي لبالد الشام يف محالت متتالية‪ ،‬ثم الغزو الترتى للعراق‬

‫والشام‪ ،‬وما ختلل ذلك من حروب واقتتال بني أمراء املاملك‪ ،‬حتى ختالف بعضهم مع‬

‫الصليبيني أو التتار عىل حرب املسلمني‪ ،‬وكان سقوط بغداد بيد هوالكو سنة ‪ 656‬هـ‪ ،‬وما‬

‫جرى فيه من قتل وأهوال‪ ،‬ونزلت بأهل هذا العرص حمن وابتالءات شديدة‪ ،‬لكن عىل الرغم‬

‫من ذلك مل ينرصف العلامء عن التصنيف‪ ،‬وتعليم الناس أمور دينهم‪ ،‬ونقل مرياث النبوة إىل‬

‫طلبة العلم‪ ،‬فربز من أهل الشام ومرص عدد كبري من األعالم‪ ،‬فذهبت تلك الدول واملحن‪،‬‬

‫النبوة‪ ،‬واملصنفات النافعة‪.‬‬


‫وبقي دين اإلسالم ومرياث ّ‬

‫الدور الرابع‪ :‬التنقيح الثاين للمذهب من سنة ‪ 676‬هـ إىل ‪ 1004‬هـ‬

‫اجلهود السابقة لعمل اإلمامني ابن حجر اهليتمي وشمس الدين الرميل يف خدمة املذهب‪:‬‬

‫وذلك من سنة ‪ 676‬هـ إىل سنة ‪ 926‬هـ‪ ،‬وهي الفرتة من وفاة اإلمام النووي رمحه اهلل وحتى‬

‫وفاة شيخ اإلسالم زكريا األنصاري‪ ،‬وكانت أبرز هذه اجلهود لعلامء مرص ّ‬
‫والشام‪ ،‬وإن كان‬

‫متجاورا مع‬
‫ً‬ ‫املذهب قد استمر يف املرشق يف بالد فارس وما وراء نحر جيحون وبالد السند‬

‫مذهب احلنفية أحيانًا‪ ،‬ومع مذاهب الشيعة أحيانًا أخرى كام يف بالد فارص والعراق‪ ،‬وملا كان‬

‫حكم املامليك ملرص والشام الذي انقسم إىل مرحلتني‪ :‬األوىل‪ :‬دولة املامليك البحرية‬

‫(الصاحلية)‪ ،‬ابتداء من السلطان عز الدين أيبك إىل السلطان الصالح حاجي‪ ،‬والثانية‪ :‬دولة‬

‫املامليك الربجية (اجلراكسة)‪ ،‬ابتداء من السلطان الظاهر برقوق إىل السلطان قانصوه الغوري‬
‫ً‬
‫منعزال عن العامل اخلارجي‪ ،‬وضعف‬ ‫الذي قتل يف معركته مع العثامنيني‪ ،‬وكان هذا احلكم‬
‫االتصال مع احلضارات آنذاك‪ ،‬بسبب احلروب ضد الصليبيني والتتار وغريهم‪ ،‬واضطراب‬

‫األمن‪ ،‬وتعطيل الصناعة‪ ،‬واإلرضار بالزراعة‪ ،‬وانعكس ذلك سل ًبا عىل احلياة االجتامعية يف‬

‫مرص‪ ،‬فانترش الفقر واحلاجة بني الناس‪ ،‬ويزداد األمر سو ًءا يف أزمنة االضطرابات الداخلية‬

‫كثريا ما كنت تنتهي والية أحدهم بقتله أو خلعه‪ ،‬وهذه‬


‫املتمثلة باقتتال املامليك عىل احلكم؛ إذ ً‬
‫الظروف ك ّلها‪ :‬ال تساعد عىل احلياة العلمية بشكل يؤدي إىل ظهور جتديد يف العلوم‪ ،‬وأمهها‬

‫علم الفقه‪ ،‬خاصة أن هذا العرص ورث تراكامت سلبية من العصور السابقة املتمثلة يف‬

‫التعصب املذهبي والتقليد املحض واملناداة بإغالق باب االجتهاد الفقهي‪.‬‬

‫ورغم ذلك فقد سار علامء الشافعية خالل العهد اململوكي عىل خطى أسالفهم يف خدمة‬

‫مذهبهم والتصنيف فيه يف األصول والفروع‪ ،‬ومن أبرزهم يف هذه املرحلة بعد وفاة اإلمام‬

‫النووي وانتهاء بوفاة شيخ اإلسالم زكريا األنصاري‪:‬‬

‫الرفعة‪ ،‬ولد يف مرص‪ ،‬واشتهر بابن الرفعة نسبة إىل أحد أجداده‪،‬‬
‫األول‪ :‬اإلمام نجم الدين ابن ّ‬
‫سمع احلديث‪ ،‬وطلب الفقه وكان اشتغاله به أكثر‪ ،‬أخذ عن علامء الشافعية يف مرص‪ ،‬وانتهت‬

‫إليه رياسة الشافعية بمرص‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬املطلب يف رشح الوسيط للغزايل‪ ،‬والكفاية يف‬

‫رشح التنبيه للشريازي‪ ،‬وويل حسبة الوجه القبيل يف مرص‪.‬‬

‫عيل السبكي‪ ،‬ولد يف بلدة ُسبك‬


‫تقي الدين ّ‬
‫السبكي‪ ،‬ويف مقدمتهم‪ :‬اإلمام ّ‬
‫الثاين‪ :‬علامء آل ُّ‬
‫مههم ابن الرفعة‪ ،‬ورحل إىل‬
‫(يف حمافظة املنوفية)‪ ،‬وإليها ينتسب‪ ،‬أخذ عن علامء عرصه وأ ّ‬
‫عظيام‪ ،‬وويل القضاء يف الشام‪ ،‬واخلطابة‬ ‫ً‬
‫رسوخا ً‬ ‫احلجاز والشام لطلب العلم‪ ،‬حتى رسخ فيه‬

‫يف اجلامع األموي‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬االبتهاج يف رشح املنهاج للنووي يف الفقه‪ ،‬واإلهباج يف‬

‫رشح املنهاج للبضاوي يف األصول‪ ،‬وأكمله ولده تاج الدين بعده‪ ،‬ورحل إىل مرص آخر حياته‬

‫وتويف فيها‪ .‬وبعده‪ :‬ولده تاج الدين عبد الوهاب بن عيل السبكي‪ ،‬تف ّقه عىل والده ورحل معه‬
‫إىل دمشق فأخذ عن كبائر علامئها كاإلمام الذهبي‪ ،‬وويل القضاء يف الشام بعد والده‪ ،‬ورسخ‬
‫ً‬
‫أصوال وفرو ًعا‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬طبقات الشافعية الكربى‪ ،‬ومجع اجلوامع‬ ‫يف مذهب الشافعية‬

‫وأتم اإلهباج يف رشح املنهاج للبيضاوي لوالده‪ ،‬وقد امتحن ملا كان قاض ًيا‬
‫يف أصول الفقه‪ّ ،‬‬
‫قوي احلجة فطنًا‬
‫مكر ًما‪ ،‬وكان ّ‬ ‫ً‬
‫عادال عفي ًفا فعزل وسجن لكنه صرب حتى عاد إىل القضاء ّ‬
‫ذكيا‪ ،‬وتويف يف دمشق‪ .‬ومن آل السبكي كذلك‪ :‬اإلمام هباء الدين أبو حامد أمحد بن عيل‬
‫ً‬
‫أصوال‬ ‫الشبكي‪ ،‬شقيق التاج السبكي‪ ،‬ويل القضاء يف بالد الشام‪ ،‬وأتقن الفقه الشافعي‬

‫تقي‬
‫عم اإلمام ّ‬
‫أيضا‪ :‬هباء الدين أبو البقاء حممد بن عبد الرب السبكي‪ ،‬ابن ابن ّ‬
‫وفرو ًعا‪ .‬ومنهم ً‬
‫الدين‪ ،‬رحل إىل طلب العلم يف بالد الشام‪ ،‬وويل قضاء القاهرة‪ ،‬وكان من كبار الشافعية يف‬

‫عرصه‪ ،‬وتويف يف دمشق‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬اإلمام مجال الدين اإلسنوي‪ ،‬ولد يف إسنا (بلدة صغرية يف صعيد مرص)‪ ،‬وإليها‬

‫ينتسب‪ ،‬رحل إىل القاهرة لطلب العلم‪ ،‬حفظ التنبيه للشريازي يف سن مبكرة‪ ،‬وسمع‬

‫احلديث‪ ،‬وأتقن علوم العربية‪ ،‬وأخذ عن كبار فقهاء الشافعية يف مرص‪ ،‬وقي مقدمتهم اإلمام‬

‫تقي الدين السبكي‪ ،‬وكان راسخ القدم يف علم أصول الفقه‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬هناية السول رشح‬

‫منهاج علم األصول للبيضاوي‪ ،‬والتمهيد يف ختريج الفروع عىل األصول‪ ،‬واملبهامت عىل‬

‫الروضة للنوي (وهو يف الفقه استدرك فيه عىل النووي عددا من حتقيقاته وتوجيهاته يف كتاب‬

‫الروضة)‪ ،‬وطبقات الشافية‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬وتوىل احلسبة‪ ،‬ووكالة بيت املال يف مرص‪ ،‬ثم عزل‬

‫للتفرغ للتدريس والتصنيف واإلفتاء‪ ،‬وكان زاهدً ا كثري العطف عىل الفقراء واملساكني‪،‬‬
‫نفسه ّ‬
‫وتويف يف القاهرة‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬اإلمام شهاب الدين األذرعي‪ ،‬ولد يف أذرعات الشام وإليها ينتسب‪ ،‬رحل إىل القاهرة‬
‫ً‬
‫راسخا يف الفقه الشافعي‪ ،‬توىل قضاء حلب‬ ‫طل ًبا للعلم‪ ،‬فأخذ عن كبار علامئها حتى أصبح‬
‫مدّ ة‪ ،‬ثم انرصف إىل اإلفتاء والتدريس والتصنيف‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬مجع التوسط والفتح بني‬

‫الروضة والرشح يف الفقه‪ ،‬وهو مجع بني كتايب الروضة للنووي والرشح الكبري للرافعي مع‬

‫االختصار واإلجياز‪ ،‬ورشح املنهاج للنووي يف كتابني‪ :‬غنية املحتاج‪ ،‬وقوت املحتاج‪ ،‬وتر ّدد‬

‫كثريا يف كتب متأخري الشافعية‪.‬‬


‫اسمه ً‬

‫اخلامس‪ :‬بدر الدين الزركيش‪ ،‬ولد يف القاهرة‪ ،‬وكان أبوه تركي األصيل‪ ،‬وتعلم صنعة‬

‫الزركشة يف صغره واشتغل هبا وإليها ينسب‪ ،‬وانرصف يف شبابه إىل العلم وأكثر اشتغاله كان‬

‫يف الفقه واألصول‪ ،‬أخذ عن مجال الدين اإلسنوي يف مرص‪ ،‬ثم رحل إىل دمشق وحلب فأخذ‬
‫ً‬
‫أصوال وفرو ًعا‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬البحر املحيط وهو‬ ‫عن األذرعي‪ ،‬وأتقن املذهب الشافعي‬

‫موسوعة يف أصول الفقه‪ ،‬وتشنيف املسامع بجمع اجلوامع وهو يف األصول‪ ،‬والديباج يف‬

‫توضيح املنهاج للنووي وهو يف الفقه‪ ،‬وإعالم الساجد بأحكام املساجد‪ ،‬وغريها من‬

‫املصنفات‪.‬‬

‫السادس‪ :‬اإلمام رساج الدين ال ُبلقيني‪ ،‬أصله من عسقالن‪ ،‬ولد يف بلدة ُبلقينة (يف حمافظة‬

‫املحرر للرافعي‪ ،‬رحل‬


‫الغربية بمرص)‪ ،‬وإليها ينتسب‪ ،‬حفظ القرآن وهو ابن سبع‪ ،‬ثم حفظ ّ‬
‫به أبوه للقاهرة لطلب العلم وهو ابن اثنتي عرشة سنة‪ ،‬كان رسيع احلفظ قوي الذاكرة‪ ،‬سمع‬

‫وعني فيها قاضيا‪،‬‬ ‫ً‬


‫أصوال وفرو ًعا‪ ،‬قدم دمشق ّ‬ ‫احلديث‪ ،‬وأتقن علوم العربية‪ ،‬وبرع يف املذهب‬

‫وسافر إىل حلب‪ ،‬ثم عاد إىل القاهرة فاستوطنها لإلفتاء والتدرس والتصنيف‪ ،‬ول ّقب بشيخ‬

‫اإلسالم‪ ،‬ومن أكابر تالمذته‪ :‬احلافظ ابن حجر‪ ،‬وقال بعضهم عنه‪ :‬إنه استجمع رشوط‬

‫االجتهاد املطلق‪ ،‬وأنه كان املجدد لألمة دينها عىل رأس املائة التاسعة‪ ،‬ومن مصنفاته‪:‬‬

‫تصحيح املنهاج‪ ،‬وامللامت برد املهامت‪ ،‬ومها يف الفقه‪ ،‬وحماسن الرشيعة‪ ،‬ورشح سنن‬

‫الرتمذي‪ ،‬ومها يف احلديث‪ ،‬وتويف يف القاهرة‪.‬‬


‫ّ‬
‫املحيل‪ ،‬ولد يف القاهرة‪ ،‬وأصله من املحلة الكربى بمحافظة الغربية‬ ‫السابع‪ :‬جالل الدين‬

‫وإليها ينتسب‪ ،‬أخذ عن علامء عرصه‪ ،‬وبرع يف العربية وعلوم الرشيعة عامة‪ ،‬واملذهب‬

‫الشافعي خاصة‪ ،‬غلب الفهم عنده عىل احلفظ‪ ،‬فكان مفرط الذكاء‪ ،‬رفض تويل القضاء‪،‬‬

‫وعاش متقش ًفا يأكل من كسب يده يف التجارة‪ ،‬مهي ًبا عند العامة واخلاصة‪ ،‬شديدً ا يف احلق ال‬

‫خيشى لومة الئم‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬البدر الطالع يف حل مجع اجلوامع‪ ،‬ورشح الورقات‬

‫للجويني‪ ،‬ومها يف أصول الفقه‪ ،‬ومنز الراغبني رشح منهاج الطالبني‪ ،‬وهو يف الفقه‪ ،‬وكان‬

‫مقررا للتدريس يف األزهر الرشيف‪ ،‬وله تفسري للقرآن أكمله بعده جالل الدين السيوطي‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهو معروف بتفسري اجلاللني‪ ،‬وتويف يف القاهرة‪.‬‬

‫السنيكي‪ ،‬ولد يف بلدة‬


‫الثامن‪ :‬شيخ اإلسالم زكريا األنصاري‪ ،‬أبو حييى زكريا األنصاري ّ‬
‫سنيكة (بمحافظة الرشقية) يف مرص‪ ،‬وإليها ينتسب‪ ،‬وأما نسبة األنصاري فألن أصوله تعود‬

‫إىل قبيلة اخلزرج من األنصار باملدينة‪ ،‬حفظ القرآن يف سن مبكرة‪ ،‬ثم انتقل إىل اجلامع األزهر‬

‫يف القاهرة يطلب العلم عىل فقر وشدة يف احلال‪ ،‬أخذ عن كبار علامء عرصه ومن أبرزهم‪:‬‬

‫احلافظ ابن حجر‪ ،‬برع يف األصول والفروع واحلديث والعربية‪ ،‬وغدا فقيه الديار املرصية بال‬

‫فقريا‪ ،‬فكان كثري‬ ‫نزهيا ً‬


‫عادال‪ ،‬جائته الدنيا بعدما نشأ ً‬ ‫منازع‪ ،‬ويل قضاء القضاة يف مرص وكان ً‬
‫الصدقات‪ ،‬وتالميذه كانوا أبرز علامء عرصهم‪ ،‬ووصف بأنه املجدد لألمة أمر دينها عىل رأس‬

‫املائة العارشة‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬الغرر البهية رشح البهجة الوردية يف الفقه‪ ،‬واملنهج اختصار‬

‫للمنهاج للنووي‪ ،‬وغاية الوصول إىل علم األصول‪ ،‬وله جمموع فتاوى مطبوعة بعنوان‪:‬‬

‫املعمرين‪ ،‬ودفن إىل جوار الشافعي‪.‬‬


‫اإلعالم واالهتامم بجمع فتاوى شيخ اإلسالم‪ ،‬وكان من ّ‬
‫والرميل يف التنقيح الثاين للمذهب‪ :‬وذلك من سنة ‪ 926‬هـ إىل سنة‬
‫جهود اإلمامني اهليتمي ّ‬
‫يسريا من عهد الدولة اململوكية‪ ،‬لكن إبداعهام يف خدمة املذهب‬
‫‪ 1004‬هـ‪ ،‬وقد عارصا جز ًءا ً‬
‫األول من عهد العثامنيني‪ ،‬عهد قوة الدولة يف الداخل واخلارج‪ ،‬حيث‬
‫كان خالل القرن ّ‬
‫بسطت الدولة سيطرهتا عىل مجيع البالد التي كانت خاضعة للملوكيني باإلضافة لبالد‬

‫األناضول (تركيا اليوم)‪ ،‬وأجزاء من أوروبا والعراق واجلزيرة العربية‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر‬
‫أن يعرف ّ‬
‫أن احلكم عىل جهود ما بأهنا تنقيح للمذهب تأيت من العلامء الذين يأتون بعدهم‪،‬‬

‫ومن عالمة تقديمهم واعتامدهم لعلامء باعتبارهم من ّقحني للمذهب‪ :‬كثرة االهتامم‬

‫بمصنفاهتم‪ ،‬وخدمتها بالرشح واحلوايش واالختصار‪ ،‬واعتامدها يف الفتوى‪.‬‬

‫جهود اإلمام ابن حجر اهليتمي‪ :‬هو اإلمام شهاب الدين أبو العباس أمحد بن حجر اهليتمي‪،‬‬

‫صغريا‪ ،‬ثم منهاج‬


‫ً‬ ‫ولد يف حم ّلة أيب اهليتم من إقليم الغربية يف مرص وإليها ينتسب‪ ،‬حفظ القرآن‬

‫الطالبني للنووي‪ ،‬ودرس عىل علامء مدينة طنطا‪ ،‬ثم انتقل إىل األزهر الرشيف يف القاهرة‪،‬‬

‫فأخذ عن الشيخ زكريا األنصاري‪ ،‬وشهاب الدين أمحد الرميل‪ ،‬وكثري غريهم‪ ،‬وبرع يف علوم‬

‫ويدرس ويفتي‪ ،‬فذاع‬


‫الرشيعة والفقه خاصة‪ ،‬واستوطن مكّة وجاور املدينة سنوات‪ ،‬يصنف ّ‬
‫األول للشافعية يف بالد احلجاز واليمن‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬حتفة املحتاج‬
‫صيته حتى غدا املرجع ّ‬
‫يف رشح املنهاج‪ ،‬واملنهاج القويم رشح املقدمة احلرضمية (املسامة بمسائل التعليم)‪ ،‬وله فتاوى‬

‫بعنوان الفتاوى املكّية‪ ،‬وتويف يف مكّة املكرمة‪.‬‬

‫جهود اإلمام شمس الدين الرميل‪ :‬هو حممد بن أمحد الرميل املنويف املرصي‪ ،‬املشهور بالشافعي‬

‫الصغري‪ ،‬نسبة إىل قرية الرملة من قرى املنوفية بمرص‪ ،‬وتربى يف حجر والده الفقيه الشافعي‬

‫شهاب الرميل‪ ،‬فحفظ القرآن والكثري من متون الشافعية وأتقن علوم العربية‪ ،‬وأخذ عن‬

‫الشيخ حممد الرشبيني‪ ،‬وبعد وفاة أبيه أصبح مفتي الشافعية يف مرص‪ ،‬حتى أصبح فقيه الديار‬
‫املرصية يف عرصه ومرجعها يف الفتوى بال منازع‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه املجدد لألمة دينها عىل رأس املائة‬

‫العارشة‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬هناية املحتاج يف رشح املنهاج‪ ،‬وغاية البيان رشح زبد ابن رسالن‪،‬‬

‫ورشح التحرير لزكريا األنصاري‪ ،‬ورشح اإليضاح يف مناسك احلج‪ ،‬ورشح العقود يف النحو‪،‬‬

‫وغريها من املصنفات‪ ،‬وتويف يف القاهرة‪.‬‬

‫الفروق بني التنقيح األول والثاين للمذهب‪ :‬التنقيحان يشرتكان يف كوهنام مراجعة شاملة‬

‫ملصنفات املذهب الفقه ية‪ ،‬بقصد تنقيتها مما خالف املذهب من آراء واجتهادات‪ ،‬لكن تتجىل‬

‫الفروق يف ثالثة أمور‪ :‬األول‪ :‬أن اهليتمي والرميل كانا متعارصين ومل يكونا كام كان النووي‬

‫املحرر‬
‫أتى بعد الرافعي وبنى عليه يف اختصار الرشح الكبري له يف روضة الطالبني واختصار ّ‬
‫يتم أحدمها عمل اآلخر‪ .‬الثاين‪ :‬أن تنقيح النووي‬
‫يف املنهاج‪ ،‬أما ابن حجر واهليتمي فلم ّ‬
‫والرافعي كان بمراجعة ما سبقهام من مصنفات فقهية خالل أربعة قرون خلت من وفاة‬

‫اإلمام‪ ،‬أما تنقيح اهليتمي والرميل فاقترص عىل مراجعة اجتهادات الشافعية خالل القرنني‬

‫الثامن والتاسع فقط والتي دارت يف فلك تنقيح النووي والرافعي‪ .‬الثالث‪ :‬بنى اهليتمي‬

‫والرميل جهدمها عىل جهد الرافعي والنووي‪ ،‬فكتاهبام الرئيسان رشح للمنهاج للنوي‪ ،‬كام‬

‫تعرضا فيهام ملا خالف فيه النووي الرافعي‪ ،‬واجتهدا يف الرتجيح بينهام‪ ،‬باإلضافة إىل االجتهاد‬
‫ّ‬
‫يف املسائل التي مل يبحثها النووي والرافعي‪.‬‬

‫أبرز معامل هذا الدور‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬االبتعاد الواضح يف التصنيف عن طريقة الشافعي ومنهجه‪ ،‬والتي اتسمت بتجيل‬

‫يفّس اآليات ويرشح األحاديث‪،‬‬


‫شخصيته االجتهادية خالل تناوله للمسائل‪ ،‬فتجده ّ‬
‫ويستنبط األحكام‪ ،‬ومناقشة مسائل أصول الفقه إن اقتىض األمر‪ ،‬بام يبني عند الطالب ملكة‬

‫فقهية‪ ،‬وتربيه عىل االجتهاد املنضبط‪.‬‬


‫أما املصنفات يف هذا الدور فقد اتسمت‪ :‬بالتأثر بالعصبية املذهبية‪ ،‬وقلة عرض أدلة األحكام‬

‫الفقهية من اآليات واألحاديث واإلمجاعات املعتربة واألقيسة الصحيحة ونحوها من األدلة‪،‬‬

‫حيث اكتظت بعرض أقوال أئمة املذهب والرتجيح بينها بام يشبه الفقه املقارن لكن داخل‬
‫دائرة املذهب نفسه‪ ،‬ومن األدلة عىل ما سبق ً‬
‫مثال‪ :‬قول العالمة عبد اهلل احلرضمي يف املقدمة‬

‫احلرضمية‪ :‬وما كثرت مجاعته أفضل إال إذا كان إمامها حنفيا أو فاسقا أو مبتدعا‪ .‬فاملصنفات‬

‫يف هذا الدور تفيد القايض واملفتي املتمذهبني باملذهب لريجع إليها يف القضاء واإلفتاء‪ ،‬ال‬

‫لرتيب عىل ملكة االستنباط‪.‬‬


‫ّ‬

‫لكن وجد يف هذا الدور رغم االضطرار السيايس الذي اتصف به العهد اململوكي بعض‬

‫املحدثني الشافعية الذين كانت هلم جهود متميز ة يف التجديد يف التصنيف‪ ،‬ومن أبرز هؤالء‬

‫ثالثة من العلامء‪ :‬ابن دقيق العيد‪ ،‬وابن حجر العسقالين‪ ،‬والسيوطي‪:‬‬

‫األول‪ :‬اإلمام تقي الدين أبو الفتح حممد بن عيل املنفلوطي املرصي (أصله من منفلوط بمرص)‬

‫ويعرف كأبيه وجدّ ه بابن دقيق العيد‪ ،‬ولد يف ينبع ملا سافر أبوه به إىل احلج‪ ،‬ونشأ حم ّبا للعلم‪،‬‬

‫ورحل إىل دمشق لطلبه واألسكندرية والقاهرة‪ ،‬فربع يف احلديث رواية ودراية‪ ،‬وتفقه عىل‬

‫املذهب املالكي وأجاد فيه‪ ،‬ثم انتقل إىل الشيخ فأخذ عن العز بن عبد السالم‪ ،‬فأتقن املذهب‬

‫مرات‪ ،‬كام ويل قضاء‬


‫وفروعا‪ ،‬وأفتى وصنف يف املذهبني‪ ،‬وويل القضاء يف مرص ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أصوال‬

‫القضاة‪ ،‬وتويف يف القاهرة‪ ،‬وقارن االجتهاد املطلق‪ ،‬ومن مصنفاته املشهور‪ :‬إحكام األحكام‬

‫رشح عمدة األحكام‪ ،‬فرشح أحاديث العمدة متعرضا ألقوال الفقهاء من املذاهب‪ ،‬وناقشها‬

‫كثريا‪ :‬وقولنا يف املسألة‬


‫متحررا من التعصب املذهبي الذي ساد عرصه‪ ،‬وكان يقول ً‬
‫ّ‬ ‫وحررها‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫رسوخا قارب االجتهاد‪ ،‬وهذا الكتاب حماولة للعودة‬ ‫كذا‪ ،‬مما يدل عىل رسوخ قدمه يف العلم‬

‫إىل طريقة اإلمام الشافعي يف التصنيف‪.‬‬


‫الثاين‪ :‬ابن حجر العسقالين شهاب الدين أبو الفضل أمحد بن عيل العسقالين‪ ،‬املعروف بابن‬

‫حجر وهو لقب ألحد أجداده‪ ،‬وأصله من عسقالن بفلسطني وإليها ينتسب‪ ،‬ومولده يف‬

‫القاهرة‪ ،‬نشأ يتيم األبوين‪ ،‬فقام أحد أوصيائه برعايته‪ ،‬فحفظ القرآن يف سن مبكرة‪ ،‬وأخذ‬

‫عن علامء القاهرة‪ ،‬ثم رحل إىل الشام واحلجاز واليمن لسامع احلديث‪ ،‬وكانت عنده األسانيد‬

‫العالية‪ ،‬وتفقه عىل املذهب الشافعي فأخذ عن رساج الدين البلقيني وغريه من األئمة يف‬

‫وعني قاضيا عىل القاهرة وما حوهلا عدة مرات‪ ،‬ومن أبرز مصنفاته‪:‬‬
‫عرصه فأتقن املذهب‪ّ ،‬‬
‫تعجيل املنفعة بزوائد رجال األئمة األربعة‪ ،‬ولسان امليزان‪ ،‬هتذيب التهذيب‪ ،‬كل ذلك يف‬

‫أسامء رواة احلديث وأحواهلم‪ ،‬وتوايل التأسيس ملعايل حممد بن إدريس يف مناقب الشافعي‪،‬‬

‫والتلخيص احلبري يف ختريج أحاديث الرافعي الكبري‪ ،‬فخدم به أحد أهم كتب الشافعية‪ ،‬وبلوغ‬

‫املرام يف أحاديث األحكام‪ ،‬ورشح صحيح البخاري املسمى بفتح الباري وهو أهم كتبه عىل‬

‫اإلطالق‪ ،‬وأهم رشح لصحيح البخاري كذلك؛ ملا فيه من فقه ابن حجر وأعرضه ألقوال‬

‫فقهاء املذاهب والصحابة واملجتهدين من التابعني‪ ،‬وسوقه للروايات األخرى للحديث‪،‬‬

‫تعصبه‬
‫ومناقشة كل ذلك‪ ،‬والتعرض للمسائل األصولية خالل توجيهاته لألدلة‪ ،‬وعدم ّ‬
‫للمذهب‪ ،‬فكان أقرب يف تصنيفه إىل منهج الشافعي‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬احلافظ جالل الدين السيوطي عبد الرمحن‪ ،‬ولد يف القاهرة‪ ،‬ومات والده يف عمر‬

‫مخس سنوات‪ ،‬حفظ القرآن يف سن مبكرة‪ ،‬أخذ عن كبار علامء عرصه‪ ،‬ثم رحل إىل بالد الشام‬
‫ً‬
‫أصوال‬ ‫واحلجاز واليمن واملغرب‪ ،‬فسمع احلديث وأتقنه رواية ودراية‪ ،‬وأتقن املذهب‬

‫وفرو ًعا‪ ،‬وأصبح إمام يف التفسري‪ ،‬وعلوم القرآن‪ ،‬والعربية‪ ،‬فكان بحرا ال ساحل له‪ ،‬وقال‬

‫لت عندي آالت االجتهاد‪ ،‬وملا بلغ أربعني سنة اعتزال الناس وانقطع للتصنيف‬
‫كم ْ‬
‫عن نفسه‪ُ :‬‬
‫عىل ضفاف النيل وبقي كذلك إىل أن توفاه اهلل‪ ،‬ويف تلك اخللوة صنف أكثر كتبه التي زادت‬

‫عىل ‪ 600‬مصنف‪ ،‬وكان األمراء واألغنياء يزورونه يف خلوته ويعرضون عليه األموال‬
‫واهلدايا فريدها‪ ،‬وكان يرفض دعوة السلطان اململوكي حلضور جملسه‪ ،‬ومن أبرز مصنفاته‪:‬‬

‫اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬والدر املنثور يف التفسري باملأثور‪ ،‬والديباج عىل صحيح مسلم بن‬

‫احلجاج‪ ،‬وتدريب الراوي رشح تقريب النووي‪ ،‬وخمترص روضة الطالبني‪ ،‬ورشح التنبيه‬

‫للشريزاي‪ ،‬واألشباه والنظائر يف قواعد وفروع الشافعية‪ ،‬وهو أبرز كتب القواعد الفقهية يف‬

‫املذهب‪ ،‬وتاريخ اخللفاء‪ ،‬والرد عىل من أخلد إىل األرض وجهل أن االجتهاد يف كل عرص‬

‫فرض‪ ،‬وهو من أهم الكتب التي تدل عىل حترره من التعصب املذهبي ومناداته بفتح باب‬

‫االجتهاد املنضبط‪ ،‬وكذلك كتاب‪ :‬تقرير االستناد يف تفسري االجتهاد‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬من أبرز معامل هذه املرحلة‪ :‬ظهور التصنيف يف القواعد الفقهية‪ :‬مل يكن التصنيف يف‬

‫األصول بأحسن حاال من التصنيف يف الفروع يف هذا الدور‪ ،‬فكان اختصار أمهات الكتب‬

‫األصولية‪ ،‬حتى وصلت إىل متون بلغت من شدة اختصارها حد األلغاز‪ ،‬ورشح هذه املتون‬

‫ثم رشح الرشح بوضع احلوايش‪ ،‬مما أبعد هذا العلم عن أهدافه وغاياته التي انطلق منها‬

‫الشافعي ملا صنّف كتاب الرسالة‪ .‬لكن برز يف هذا الدور كتاب اإلمام البيضاوي‪ :‬منهاج‬

‫الوصول إىل علم األصول (منهاج البيضاوي)‪ ،‬فأصبحت رشوح هذا الكتاب هلا الصدارة‬

‫من بني املصنفات األصولية الشافعية بصورة تقرب من االهتامم برشوح منهاج الطالبني‬

‫للنووي يف الفقه‪.‬‬

‫ثم ظهرت طريقة جديدة يف التصنيف‪ :‬جتمع بني الفقه واألصول‪ ،‬وهي إىل األول أقرب‪،‬‬

‫وتسمى‪ :‬األشباه والنظائر‪ ،‬أو القواعد الفقهية وهو ما يمكن تعريفه بأنه‪ :‬حكم رشعي يف‬
‫ّ‬
‫قضية أغلبية يتعرف منها أحكام ما دخل حتتها‪ ،‬أو أصل فقهي يتضمن أحكا ًما ترشيعية عامة‬

‫من أبواب متعددة يف القضايا التي تدخل حتت موضوعه‪ ،‬ومن أبرز فوائد هذا العلم‪ :‬تيسري‬

‫دراسة الفقه‪ ،‬ومل ّ شعثه‪ ،‬بحيث تنتظم الفرع الكثرية يف سلك واحد حتت قاعدة فقهية واحدة‪،‬‬
‫كام يساعد عىل احلفظ والضبط للمسائل الكثرية املتناظرة‪ ،‬بحيث تكون القاعدة وسيلة‬

‫وييّس‬
‫الستحضار األحكام‪ ،‬ويريب امللكة الفقهية والقدرة عىل التخريج ملعرفة األحكام‪ّ ،‬‬
‫للباحثني تتبع جزئيات األحكام واستخراجها من موضوعاهتا املختلفة‪ ،‬وإدراك مقاصد‬

‫الرشيعة‪ ،‬وفهم مناهج الفتوى‪.‬‬

‫تاريخ التصنيف يف هذا العلم‪ :‬القرن الرابع اهلجري يف رسالة اإلمام أيب احلسن الكرخي‬

‫احلنفي‪ ،‬مجع فيه تس ًعا وثالثني قاعدة يف الفقه احلنفي‪ ،‬إال أن القرن الثامن اهلجري هو عرص‬

‫وتفوق الشافعية عىل غريهم فيه‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬كتاب األشباه‬


‫التدوين الذهبي يف هذا العلم‪ّ ،‬‬
‫وأول مصدر‬
‫والنظائر لصدر الدين بن الوكيل الشافعي‪ ،‬وهو أول كتاب حيمل هذا االسم‪ّ ،‬‬
‫مدون من مصادر القواعد الفقهية يف املذهب الشافعي‪ ،‬ثم كتاب‪ :‬املجموع‬
‫متخصص ّ‬
‫املُ ْذ َهب يف قواعد املذهب لصالح الدين أيب سعيد العالئي‪ ،‬وهو جيمع بني قواعد أصول الفقه‬

‫والقواعد الفقهية‪ ،‬لكن تغلب عليه طريقة ختريج الفروع عىل قواعد األصول‪ .‬ثم كتاب‪:‬‬

‫األشباه والنظائر لتاج الدين السبكي‪ ،‬وهو يشبه الكتاب السابق يف طريقته‪ ،‬ثم كتاب‪ :‬املنثور‬

‫يف ترتيب القواعد الفقهية أو القواعد يف الفروع لإلمام الزركيش‪ ،‬ورشحه رساج الدين‬

‫العبادي‪ ،‬وهو من أهم كتب القواعد يف املذهب‪ ،‬ثم كتاب‪ :‬األشباه والنظائر لإلمام رساج‬

‫الدين ابن املل ِّقن‪ ،‬وهو ّأول كتاب يف القواعد مرتّب عىل األبواب الفقهية يف كتب الفقه‪،‬‬

‫وضمن كل باب القواعد ذات الصلة به‪ ،‬فكان جديدً ا يف ترتيبه وتنظيمه للمعلومات‪ ،‬ثم جاء‬
‫ّ‬
‫جيا بني القواعد األصولية والقواعد‬
‫كتاب‪ :‬القواعد لإلمام تقي الدين احلصني‪ ،‬وكان مز ً‬
‫الفقهية‪ ،‬وأصله‪ :‬اختصار لكتاب العالئي سابق الذكر‪ ،‬ثم كتاب‪ :‬األشباه والنظائر يف قواعد‬

‫وفروع الشافعية للسيوطي‪ ،‬وهو أحسن وأفضل كتاب صنّفه الشافعية خالل هذا الدور من‬

‫حياة املذهب‪ ،‬وقد مجع فيه مؤ ّلفه ما تناثر فيام قبله من املؤلفات سالفة الذكر‪ ،‬ورتبه يف سبعة‬

‫يتخرج عليها ما ال ينحرص من الصور اجلزئية‬


‫ّ‬ ‫كتب‪ :‬رشح القواعد اخلمس‪ ،‬وقواعد ك ّلية‬
‫(أربعون قاعدة)‪ ،‬والقواعد املختلف فيها‪ ،‬وظنائر األبواب التي هي من باب واحد مرتّبة عىل‬

‫أبواب الفقه‪ ،‬وفيام افرتقت فيه األبواب املتشاهبة‪ ،‬ونظائر شتّى‪.‬‬

‫الدور اخلامس‪ :‬خدمة مصنّفات التنقيحني األول والثاين من سنة ‪ 1004‬هـ إىل ‪ 1335‬هـ‬

‫ّأو ًال‪ :‬أبرز األمور السياسية املؤثرة يف املذهب يف هذا الدور‪ :‬هذا الدور الذي استمر لثالثة‬

‫قرون يقع يف حكم العثامنيني‪ ،‬وينتهي بوفاة العالمة علوي الس ّقاف املكّي‪ ،‬يف الوقت الذي‬

‫سقطت فيه اخلالفة‪ ،‬واالحتالل األورويب الصليبي لبالد املسلمني‪ ،‬وظهر فيه أن أبرز أعالم‬

‫أيضا كانوا يف الشام ومرص احلجاز‪ ،‬وإن بقي موجو ًدا يف بقاع شتّى من العامل‬
‫الشافعية ً‬

‫اإلسالمي‪ ،‬ونتيجة لوقوع بالد الشام ومرص حتت سيطرة العثامنيني فقد تأثر املذهب بأحواهلم‬

‫السياسية‪ ،‬والتي من أمهها‪ :‬أن العاطفة اإلسالمية كانت ظاهرة يف الدولة العثامنية‪ ،‬فقد تصدّ وا‬

‫للغزو الصليبي عىل العامل اإلسالمي كبالربتغاليني واإلسبان وروسيا‪ ،‬خاصة يف املائة األوىل‬

‫من حكمهم‪ ،‬وحارصوا فينّا عاصمة النمسا أربع مرات‪ ،‬وكانت عدّ ة ممالك أوروبية تدفع‬

‫اجلزية هلم‪ ،‬لكن كانت السمة العسكرية هي السمة الغالبة عىل الدولة‪ ،‬مع قلة اهتاممها بالعلم‬

‫وأسباب احلضارة املدنية عمو ًما‪ ،‬وكان هذا له أثره السلبي عىل احلياة العلمية‪ ،‬خاصة يف عرص‬

‫ضعف الدولة يف القرن احلادي عرش‪ ،‬حتى اعترب بعض الباحثني أن احلملة الفرنسية بقيادة‬

‫يسمى بعرص النهضة؛ ملا جاءوا به من أمور جديدة يف مقدمتها‬


‫نابليون بونابرت بداية ما ّ‬
‫املطبعة احلديثة‪ ،‬ولعل هذا بسبب‪ :‬خروج عاصمة اخلالفة عن البالد العربية مهد العلم‪ ،‬فلم‬

‫يو ّفقوا يف اختيار عاصمتهم‪ ،‬وكذلك كون اخلليفة ترك ّيا ليس عرب ّيا من قريش‪ ،‬مع اهتاممهم‬

‫باللغة الرتكية وجعلها الرسمية يف مجيع الواليات عىل حساب العربية رغم كوهنا لغة‬

‫املصدرين الرئيسني للترشيع‪ ،‬وكان لذلك ك ّله األثر السلبي عىل مسرية الفقه عمو ًما‬
‫خصوصا‪ .‬كام ّ‬
‫أن الدولة جعلت املذهب احلنفي مذه ًبا رسميا هلا‪ ،‬وكان منصب‬ ‫ً‬ ‫والشافعية‬
‫مقصورا عىل احلنفية‪ ،‬والقضاة كذلك‪ ،‬حتى ملا عمدت‬
‫ً‬ ‫شيخ اإلسالم أعىل منصب ديني‬

‫الدولة يف آخر عهدها إىل تقنني الفقه اإلسالمي كلفوا فقهاء احلنفية بإعداد ما عرف بمج ّلة‬

‫األحكام العدلية‪ ،‬وال خيفي تبنّي السلطة ملذهب من املذاهب من األثر‪ ،‬مما يضعف املذاهب‬

‫األخرى كالشافعية‪ ،‬لكن بقي وجود للمذهب يف عدّ ة بقاع من بالد ما وراء هنر جيحون‪،‬‬

‫لكن مل خيرج من تلك البالد علامء بارزون‪ ،‬رغم أهنم أخرجوا يف الدورين الثالني والثالث من‬

‫والفراء البغوي‪ ،‬والفخر الرازي‪ ،‬وكثري‬


‫ّ‬ ‫كبريا من األعالم كالغزايل‪،‬‬
‫حياة املذهب عد ًدا ً‬
‫غريهم‪ .‬ولعل السبب يف ذلك احلروب الطاحنة التي عصفت بتلك البالد‪ ،‬وظهور القوميات‬

‫املتناحرة‪ ،‬وانتشار اجلهل‪ ،‬وق ّلة الوعي اإلسالمي‪ ،‬وتأخر تلك البالد عن احلضارة املدن ّية‪ ،‬أما‬

‫بالنسبة لبالد فارس‪ :‬فقد كان قيام الدولة الصفوية عىل يد الشاه إسامعيل الصفوي سنة ‪930‬‬

‫هـ‪ ،‬وتبنيها ملذهب الشيعة اإلمامية (اجلعفرية) آثاره السلبية عىل وجود املذهب الشافعي‪.‬‬

‫لكن بدأ انتشار املذهب يف بالد جنوب رشق آسيا‪ :‬إندونيسيا‪ ،‬وماليزيا‪ ،‬وتايلند‪ ،‬والفلبني‪،‬‬

‫وكان ذلك بسبب جهد شافعية اليمن يف نرشه يف تلك البالد‪ ،‬وقد وجد بعض أعالم الشافعية‬

‫ترجع أصوهلم إىل تلك البالد كالعالمة زين الدين ابن عبد العزيز املليباري صاحب كتاب‬

‫أيضا‪ ،‬وما‬
‫قرة العني يف الفقه الشافعي‪ ،‬إال أن ابتالء هذه البالد باالستعامر ً‬
‫فتح املعني برشح ّ‬
‫مسوغات اإلبداع العلمي‬
‫نتج عنه من ثورات املسلمني يف وجههم‪ ،‬كل هذه األحوال جعلت ّ‬
‫ضعيفة يف تلك البالد‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬التعريف بعدد من علامء الشافعية يف هذا الدور‪ :‬استمر علامء الشافعية يف خدمة املذهب‬

‫بتصنيف احلوايش وربام الرشوح اخلادمة للتنقيحني األول والثاين‪ ،‬فدارت اجلهود يف فلكهام‪،‬‬

‫تنقيحا ثال ًثا يف هذا الدور‪ ،‬ولعل السبب يف ذلك‪ :‬أن التنقيحني‬
‫ً‬ ‫ومل يرب ما يمكن أن يكون‬

‫نقصا أو خلال حيتاج‬


‫األول والثاين قد أكمال الصياغة الفقهية الواضحة للمذهب‪ ،‬بام مل يرتك ً‬
‫إىل ترميم وذلك مما تفوق فيه املذهب عىل غريه‪ ،‬كام أن احلالة السياسية املذكورة آن ًفا مل تساعد‬

‫عىل ذلك‪ ،‬ولذلك فاألحسن تسمية هذا الدور‪ :‬بدور خدمة التنقيحني األول والثاين‪ .‬ومن‬

‫أبرز علامء هذا الدور‪:‬‬

‫األول‪ :‬شهاب الدين أبو العباس أمحد بن سالمة القليويب‪ ،‬نسبة إىل قريبة قليوب يف حمافظة‬
‫ّ‬
‫بالطب وصنّف فيه‪ ،‬ودرس الفقه الشافعي وأتقنه‪ ،‬ومن مصنّفاته‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الرشقية بمرص‪ ،‬اشتغل‬

‫ّ‬
‫للمحيل وهو أشهر‬ ‫حاشية عىل متن الغاية والتقريب البن القاسم‪ ،‬وحاشية عىل كنز الراغبني‬

‫رب ُّليس امللقب بعمرية‪ ،‬والكتاب‬


‫مصنّفاته‪ ،‬وهي مطبوعة مع حاشية العالمة شهاب الدين ال ُ‬
‫معروف باسم‪ :‬حاشيتي قلبوب وعمرية عىل كنز الراغبني‪ ،‬ومها من احلوايش املعتمدة يف‬

‫الفتوى عند متأخري الشافعية‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬نور الدين أبو الضياء عيل ّ‬


‫الشربامليس‪ ،‬نسبة إىل شرباملس يف حمافظة الغربية بمرص‪،‬‬

‫نشأ يف اجلام ع األزهر يف القاهرة‪ ،‬درس املذهب وأتقنه‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬حاشية عىل رشح‬

‫املقدمة اجلزرية يف التجويد‪ ،‬وحاشية عىل رشح ابن قاسم للورقات للجويني‪ ،‬وأشهر‬

‫للرميل‪.‬‬
‫مصنّفاته‪ :‬حاشية عىل هناية املحتاج ّ‬

‫الثالث‪ :‬حممد بن سليامن الكردي‪ ،‬ولد يف دمشق‪ ،‬ومحل إىل املدينة وهو ابن سنة‪ ،‬فأخذ عن‬

‫كبار علامئها‪ ،‬واشتغل بالفقه أكثر من غريها‪ ،‬وأتقن املذهب‪ ،‬وتوىل إفتاء الشافعية يف املدينة‬

‫إىل أن تويف فيها‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬رشح فرائض التحفة (رشح ألحكام املرياث يف حتفة املحتاج‬

‫للهيتمي)‪ ،‬وحاشيتان كربى وصغرى عىل رشح املقدمة احلرضمية للهيتمي‪ ،‬والفوائد املدن ّية‬

‫فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أبو داود سليامن بن عمر ال ُعجييل املرصي املعروف باجلمل‪ ،‬ولد يف منية عجيل (إحدى‬

‫قرى حمافظة الغربية بمرص)‪ ،‬انتقل إىل القاهرة‪ ،‬ودرس يف األزهر‪ ،‬وأتقن املذهب‪ ،‬والتفسري‪،‬‬
‫وعلوم القرآن‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬الفتوحات اإلهلية بتوضيح تفسري اجلاللني بالدقائق اخلفية‬

‫(حاشية اجلمل عىل تفسري اجلاللني)‪ ،‬وحاشية عىل رشح املنهج (منهج الطالب لزكريا‬

‫األنصاري)‪.‬‬

‫اخلامس‪ :‬سلميان بن حممد البجريمي املرصي‪ ،‬ولد يف ُب َج ْريم (من قرى حمافظة الغربية)‪ ،‬انتقل‬

‫إىل القاهرة فدرس يف األزهر‪ ،‬وحفظ املذهب‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬حتفة احلبيب عىل رشح اخلطيبة‬

‫(حاشية البجريمي عىل اخلطيب)‪.‬‬

‫السادس‪ :‬عبد اهلل بن حجازي الرشقاوي املرصي‪ ،‬ولد يف الطويلة (من قرى حمافظة الرشقية)‪،‬‬

‫وإليها ينتسب‪ ،‬حفظ القرآن يف صباه‪ ،‬انتقل إىل اجلامع األزهر ليأخذ عن كبار علامئه‪ ،‬عىل قلة‬

‫مدرسا للفقه عىل اجلامعة األزهر‪ ،‬وتوىل‬


‫يف املال وخشونة يف العيش‪ ،‬وأتقن املذهب‪ ،‬وأصبح ّ‬
‫مشيخة األزهر‪ ،‬وصنف املصنفات منها‪ :‬التحفة البهية يف طبقات الشافعية‪ ،‬ورشح احلكم‬

‫التصوف‪ ،‬وخمترص املغني يف النحو‪ ،‬وأشهر كتبه‪ :‬حاشية عىل حتفة‬


‫ّ‬ ‫والوصايا الكردية يف‬

‫الطالب رشح حترير تنقيح اللباب لزكريا األنصاري (حاشية الرشقاوي عىل رشح التحرير)‪،‬‬

‫أيضا‪.‬‬
‫وهي من الكتب املعتمدة عند املتأخرين ً‬

‫السابع‪ :‬إبراهيم بن حممد الباجوري املرصي‪ ،‬ولد يف الباجور (تتبع حمافظة املنوفية بمرص)‪،‬‬

‫ق دم القاهرة‪ ،‬وأخذ عن الشيخ عبد اهلل الرشقاوي وغريه من علامء األزهر‪ ،‬أتقن املذهب‪،‬‬

‫وانتهت إليه رياسة الشافعية‪ ،‬وتوىل مشيخة األزهر‪ ،‬وكان حيرض جملس مجهور غفري من العامة‬

‫واخلاصة‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬حاشية عىل رشح ابن القاسم‪ ،‬والتحفية اخلريية عىل الفوائد‬

‫الشنشورية يف الفرائض‪ ،‬وفتح الفتاح يف أحكام النكحا‪ ،‬ورشح اجلوهرة يف التوحيد‪.‬‬

‫الثامن‪ :‬أبو بكر عثامن بن حممد شطا الدمياطي البكري‪ ،‬أصله من دمياط‪ ،‬وأتقن املذهب‪،‬‬

‫متصوفا‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫ورحل إىل مكة‪ ،‬وبقي معتك ًفا فيها عىل التصنيف والتدريس‪ ،‬وكان زاهدً ا‬
‫مصنفاته‪ :‬كفاية األتقياء ومنهج األصفياء‪ ،‬وحاشية باسم إعانة الطالبني عىل ّ‬
‫حل ألفاظ فتح‬

‫قرة العني ملهامت الديني للعالمة املليباري‪ ،‬وهي من املراجع املعتمدة عند‬
‫املعني برشح ّ‬
‫املتأخرين‪ ،‬وتويف يف مكة‪.‬‬

‫التاسع‪ :‬شهاب الدين أمحد بن أمحد احلسيني املرصي املشهور بأمحد بك احلسيني‪ ،‬ولد يف‬

‫مرص‪ ،‬ودرس يف األزهر‪ ،‬وبرع يف املذهب‪ ،‬واشتغل باملحاماة‪ ،‬وذاع صيته يف مرص وخارجها‪،‬‬

‫وصنّف املصنفات منها‪ :‬هبجية املشتاق يب بيان حكم زكاة األوراق‪ ،‬وإعالم الباحث بقبح أم‬

‫اخلبائث (اخلمر)‪ ،‬ودليل املسافر يف مسائل قرص الصالة واملسافات وأحكام النية‪ ،‬والقول‬

‫الفصل يف قيام الفرع مقام األصل‪ ،‬وحتفة الرأي السديد يف االجتهاد والتقليد‪ ،‬وهذان‬

‫األخريان يف األصول‪ ،‬وأشهر مصنفاته‪ :‬مرشد األنام رشح قسم العبادات من كتاب األم يف‬

‫أربعة وعرشين جم ّلدا‪ ،‬ومن املؤسف أن هذا الكتاب ما زال خمطو ًطا‪.‬‬

‫العارش‪ :‬علوي الس ّقاف املكّي‪ ،‬ولد بمكّة‪ ،‬ودرس يف املسجد احلرام‪ ،‬وبرع يف املذهب‪ ،‬وتوىل‬

‫نقابة العلويني (آل البيت) يف مكّة‪ ،‬وهاجر إىل حج يف اليمن بدعوة من أمريها‪ ،‬ثم رجع إىل‬

‫ويدرس ويفتي‪ ،‬حتى تويف‪ ،‬ومن مصنفاته‪ :‬حاشية بعنوان ترشيح املستفيدين‬
‫ّ‬ ‫مكة يصنف‬

‫قرة العني للمليباري‪ ،‬والفوائد املكية فيام حيتاجه طلبة الشافعية من‬
‫عىل فتح املعني رشح ّ‬
‫املسائل والضوابط والقواعد الكلية‪ ،‬وغريها من املصنفات‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬أبرز معامل هذا الدور‪:‬‬

‫ّأو ًال‪ :‬هو العرص الذهبي لتصنيف احلوايش عىل كتب املذهب‪ ،‬واحلاشية هي التي تنتقي‬

‫وتفصل القول يف موضوعها‪ ،‬باإلتيان بالنقوالت املؤيدة‬


‫ّ‬ ‫العبارات الغامضة لترشحها‪،‬‬

‫وكثريا ما يورد بعض األفكار‬


‫ً‬ ‫لفكرهتا وباألمثلة التوضيحية واملناقشات اللفظية ونحو ذلك‪،‬‬

‫املتصلة بموضوع العبارة املرشوحة بعد كلمة‪ :‬فائدة أو تنبيه‪ ،‬وعليه‪ :‬فاحلاشية ال يمكن‬
‫االنتفاع هبا بمعزل عن الكتاب الذي وضعت عليه‪ .‬واحلوايش وإن ظهرت قبل الدور‬

‫اخلامس إال أهنا كثريت فيه حتى أصبحت السمة الغالبة عىل التصنيف يف هذا الدور‪ ،‬ومن‬

‫أشهر احلوايش‪ :‬حاشيتا قليوب وعمرية عىل كنز الراغبني رشح منهاج الطالبني للمحيل‪،‬‬

‫وحاشية الشربامليس عىل هناية املحتاج للرميل‪ ،‬وحاشية اجلمل عىل رشح منهج الطالب‬

‫لزكريا األنصاري‪ ،‬وحاشية الرشقاوي عىل حتفة الطالب برشح حترير تنقيح اللباب لزكريا‬

‫األنصاري‪ ،‬وحاشية إعانة الطالبني للدمياطي عىل حل ألفاظ فتح املعني برشح قرة العني‬

‫بمهامت الدين للمليباري‪ ،‬وحاشية ترشيح املستفيدين لعلوي السقاف عىل فتح املعني برشح‬

‫قرة العني بمهامت الدين للمليباري‪ .‬وهذه احلوايش استمدت قيمتها العلمية بوصفها من‬

‫الكتب املعتمدة لدى املتأخرين يف الفتوى من الكتب التي وضعت عليها‪ ،‬وهي من مصنفات‬

‫التنقيح األول والثاين‪.‬‬

‫والسبب يف التصنيف عىل طريقة احلوايش‪ :‬وفرة املصنفات الشافعية ورشوحها املقتنة‪،‬‬

‫باإلضافة إىل انحسار ظاهرة االجتهاد‪ ،‬وضعف احلياة العلمية‪ ،‬وصريورة املذهب احلنفي هو‬

‫الرسمي للدولة‪ ،‬فكان انحصار علامء املذهب يف االقتصار عىل خدمة مصنفات السابقني‬

‫يسمى بالتقريرات‪ ،‬لكن هذه احلوايش‬


‫بعمل احلوايش هلا‪ ،‬ثم وضعت عىل تلك احلوايش ما ّ‬
‫والتقريرات من عيوهبا أهنا مشحونة بكثري من األمور اخلارجة عن مقصد الكتاب نفسه‪ ،‬مع‬
‫أيضا‪ ،‬كام جاء يف حاشية القليويب من ّ‬
‫أن من أسباب سجود‬ ‫شيوع التعصب املذهبي فيها ً‬
‫حنفي يرشب ً‬
‫نبيذا‪ ،‬وشيوع التعصب نفسه يف هذه املرحلة‪ ،‬مما يدفع إما ًما كبريا‬ ‫ّ‬ ‫الشكر‪ :‬رؤية‬

‫كالعالمة مصطفى العرويس الذي توىل مشيخة األزهر يؤلف كتا ًبا بعنوان‪ :‬األنوار البهية يف‬

‫أحقية مذهب الشافعية‪.‬‬


‫ثانيا‪ :‬ضعف االتصال بني علامء الشافعية عىل امتداد البالد التي انترش فيها املذهب‪ :‬فظهر يف‬

‫هذا الدور بداية احلدود السياسية بني الدول‪ ،‬متمثلة يف عقد املعاهدات الثنائية والدولية التي‬

‫بني مناطق نفوذ كل دولة‪ ،‬وغالبا ما تكون بعد حروب طاحنة‪ ،‬والدولة العثامنية كانت طرفا‬

‫يف هذه املعاهدات مع جرياهنا‪ ،‬مما كان له األثر اليسء عىل حرية انتقال الناس وطالب العلم‪،‬‬

‫خاصة أن العثامنيني مل يبسطوا سلطاهنم عىل مجيع بالد املسلمني‪ ،‬مع ما حصل من فتن داخلية‬

‫يف مناطق كمرص والشام واجلزيرة‪ ،‬واحلروب اخلارجية ضد الصليبني رش ًقا وغربا‪ ،‬والتي‬

‫أهنكت الدولة العثامنية‪ ،‬ونتيجة ذلك كله‪:‬ضعف اتصال العلامء ببعضهم‪ ،‬ما انعدام وسائل‬
‫االتصال احلديثة وقتها‪ ،‬فصار العامل اهلندي ال يعرف املغريب‪ ،‬وهذا ال يعرف املرصي‪ّ ،‬‬
‫فقل‬

‫منهج الرواية والتل ّقي‪ ،‬ومل يعد إال الكتاب الصامت اجلامد‪.‬‬

‫انتشارا يف املرشق بعد‬


‫ً‬ ‫لكن رغم ذلك ك ّله‪:‬بقي املذهب الشافعي ثاين أكرب املذاهب الفقهية‬

‫املذهب احلنفي‪ ،‬وهذا يعود إىل سببني‪ :‬األول‪ :‬سيطرة الشافعية عىل مشيخة اجلامع األزهر يف‬

‫القاهرة وهو أكرب مدرسة متخصصة يف العلوم الرشعية يف املرشق وكان ينظر إىل شيخ األزهر‬

‫عىل أنه رئيس العلامء يف مرص وخارجها‪ .‬الثاين‪ :‬وجود علامء الشافعية يف احلرمني الرشيفني‪،‬‬

‫وإليهام يفد احلجيج واملعتمرون كل عام‪ ،‬فكانت دروسهم سببا يف اهتامم املسلمني بالفقه‬

‫الشافعي‪ ،‬ومحلهم له إىل بالدهم التي جاؤوا منهاـ خاصة املرشق اإلسالمي‪ ،‬خاصة وأن‬

‫احلجاج واملعتمرين من طلبة العلم أكثرهم كانوا جياورون يف احلرمني لسنوات‪ ،‬ومن أبرز‬

‫علامء احلجاز يف هذا الدور‪ :‬حممد بن عبد الرسول الربزنجي‪ ،‬وحممد بن سليامن الكردي‬

‫املدين‪ ،‬وعثامن بن حممد شطا الدمياطي‪ ،‬وعلوي بن أمحد الس ّقاف‪.‬‬


‫ثال ًثا‪ :‬الرتاجع ّ‬
‫البني يف منهج التصنيف األصويل عن مقاصد علم أصول الفقه‪ ،‬فقد أصاب‬

‫أيضا الضعف‪ ،‬وظهرت فيه طريقة احلوايش‪ ،‬مما أبعدها عن غاية علم أصول‬
‫علم األصول ً‬

‫الفقه وفائدته‪ ،‬وأبرز ما يمثل املصنفات يف األصول يف هذا الدور‪ :‬حاشية العالمة حسن‬

‫ّ‬
‫املحيل عىل مجع اجلوامع للسبكي‪ ،‬ومما جاء فيها‪ :‬وجيوز خلو الزمان عن‬ ‫الع ّطار عىل رشح‬

‫جمتهد‪ ،‬وقوله‪ :‬فإن بلوغ رتبة االجتهاد يف األزمنة املتأخرة ربام نقطع بعدم وقوعه‪ ،‬وإن كان‬
‫ً‬
‫داخال يف ح ّيز اإلمكان‪ .‬فاملدقق يف هذه املصنفات يف هذا الدور‪ :‬يدرك مدى ابتعادها عن أهم‬

‫مقاصد علم أصول الفقه‪ ،‬وهو رسم طريق االجتهاد‪ ،‬وبيان خطته‪ ،‬وهو ما خيالف ما كان‬

‫يدعو إليه اإلمام املؤسس‪ ،‬فاالجتهاد رضوري لتطور الفقه اإلسالمي عامة‪ ،‬والقضاء خاصة‪،‬‬

‫ومسايرته ملستجدات احلياة‪ ،‬واملذهب الشافعي كان ثاين أكرب املذاهب يف العرص العثامين‪،‬‬

‫تطور املجتمع‪ ،‬وانضم إىل ذلك ضعف الوعي‬


‫فضعف االجتهاد يف هذا الدور عن مسايرة ّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وظهور املخالفات يف سياسة الدولة الداخلية واخلارجية الرشعية‪ ،‬والضعف‬

‫االقتصادي والعسكري أمام الدول األوروبية‪ ،‬وبدأت يف أواخر عهدهم تظهر القوانني‬

‫وقسمت‬
‫الوضعية املأخوذة عن األوروبية لتحل حمل الفقه اإلسالمي ويف مقدّ مته احلنفي‪ّ ،‬‬
‫املحاكم إىل نظامية حتكم بتلك القوانني‪ ،‬وأخرى رشعية‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل العيل‬

‫العظيم‪.‬‬
‫الدور السابع‪ :‬انحسار التمذهب باملذهب الشافعي وتطور الدراسات الفقهية املعارصة من‬

‫سنة ‪ 1335‬هـ إىل وقت كتابة هذه الدّ راسة‬

‫ّأو ًال‪ :‬انحسار التمذهب باملذهب الشافعي‪ :‬مع بداية القرن الرابع عرش بدأت معامل احلياة‬

‫اإلسالمية تتغري‪ ،‬نتيجة الغزو الثقايف الصليبي‪ ،‬وسنّت القوانني الوضعية‪ ،‬وبلغت األحوال‬

‫الذروة يف السوء بعد انسالخ البالد العربية عن اخلالفة العثامنية‪ ،‬نتيجة خلروج رشيف مكّة‬

‫احلسني بن عيل عليها‪ ،‬بمساعدة بريطانيا خالل احلرب العاملية األوىل‪ ،‬وع ّطلت أحكام‬

‫الرشيعة‪ ،‬فظهرت املحاكم النظامية التي حتكم بالقوانني الوضعية يف سائر املعامالت بني‬

‫تركت للمحاكم الرشعية‪ ،‬وأنشئت‬


‫ْ‬ ‫الناس‪ ،‬باستثناء أحكام الزواج والطالق واملرياث‪ ،‬حيث‬

‫لتخرج القضاة واملحامني ورجال الترشيع وفق القانون الوضعي‪ ،‬وظهور‬


‫ّ‬ ‫كليات احلقوق‬

‫حركات فكرية هدّ امة مثل الشيوعية والعلامنية والبعثية‪ ،‬وهذا ك ّله أدى إىل قلة اهتامم عوام‬

‫املسلمني بمعرفة األحكام الرشعية خاصة يف غري أحكام العبادات‪ ،‬كم أ ّدى إىل انحسار‬

‫التعصب املذهبي بينهم شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬فلم‬


‫ّ‬ ‫متذهب عوام املسلمني باملذاهب‪ ،‬وضعف مظاهر‬
‫يعد شائ ًعا أن يقال‪ :‬فالن بن فالن الشافعي ً‬
‫مثال‪ ،‬كام أصبح تعيني القضاة يف بالد املسلمني مل‬

‫يعد يرجع إىل املذهب الفقهي للقايض‪ ،‬وال ألن مذهبه هو السائد‪ ،‬بل أصبح من رشوط تويل‬

‫القضاء يف املحاكم النظامية حصول القايض عىل إجازة جامعية يف القانون الوضعي‪ ،‬حتى‬

‫املحاكم الرشعية فقد صيغت أحكام الزواج والطالق والطالق فيها عىل شكل قوانني عرفت‬

‫باألحوال الشخصية‪ ،‬أخذت أكثر موا ّدها يف الفقه احلنفي‪ ،‬وأصبح حكم القايض مق ّيدا بمواد‬

‫هذه القوانني‪ .‬لكن بقي التمذهب باملذهب موجو ًدا يف بعض حلقات الفقه يف عدد من‬

‫املساجد يف بالد الشام وشامل العراق ومرص واليمن وجنوب رشق آسيا يف ماليزيا‬

‫وأندونيسيا‪ ،‬حيث يقوم بتدريسه علامء شافعية أخذوا بالسند املتصل عمن قبلهم من العلامء‪،‬‬

‫ومن أمثلة هذه احللقات يف زمن كتابة هذه الرسالة‪ :‬بعض حلقات دروس املذهب الشافعي‬
‫يف اجلامع األزهر‪ ،‬وحلقة الدكتور مصطفى ديب البغا يف مسجد زين العابدين بدمشق يرشح‬

‫فيها مغني املحتاج‪ ،‬وحلقة األستاذ نذير مكتبي يف مسجد احلمزة والعباس بدمشق‪ ،‬وأوضح‬

‫األمثلة املعارصة عىل بقاء التمذهب باملذهب هو‪ :‬تدريس الفقه يف حلقات العلم يف مدينة‬

‫تريم يف حرضموت اليمن‪.‬‬

‫تطور الدراسات الفقهية املعارصة يف هذا الدور‪ :‬ظهر يف هذا الدور ما يسمى بكليات‬
‫ثان ًيا‪ّ :‬‬
‫الرشيعة‪ ،‬اختصت بدراسة علوم الرشيعة ومنها الفقه‪ ،‬وهلا نظامها املعروف‪ ،‬ومن أبرز هذه‬

‫الكليات‪ :‬كلية الرشيعة يف األزهر‪ ،‬افتتحت بجهد شيخ األزهر حممد األمحدي الظواهري‪ ،‬ثم‬

‫أصبح اسم الكلية‪ :‬كلية الرشيعة والقانون‪ ،‬وكلية الرشيعة والدراسات اإلسالمية يف مكة‬

‫املكرمة‪ ،‬ثم أتبعت بجامعة أم القرى يف مكة فيام بعد‪ ،‬وكلية الرشيعة يف جامعة اإلمام حممد‬

‫بن سعود يف الرياض‪ ،‬وكلية الرشيعة يف جامعة دمشق‪ ،‬وكلية الرشيعة يف اجلامعة اإلسالمية‬

‫عامن وانضمت فيام بعد إىل كليات اجلامعة األردنية‪ ،‬واملعهد العايل‬
‫باملدينة‪ ،‬وكلية الرشيعة يف ّ‬
‫تطورا يف طريقة دراسة الفقه‬
‫ً‬ ‫للقضاء يف الرياض وهو لتخريج القضاة‪ .‬وهذه الكليات تعدّ‬

‫بعدما كانت طريقة احللقات يف املساجد‪ ،‬وكان هلذه الكليات أثر يف ختفيف منابع التعصب‬
‫ً‬
‫حاصال من قبل مما سبق بيانه‪ ،‬لكن من أكرب املعوقات هو‬ ‫املذموم؛ إذ ختتلف طبيعتها عام كان‬

‫تعطيل أحكام الرشيعة يف بالد املسلمني‪ ،‬وتقديم القوانني الوضعية عليها‪ ،‬مما جعل كليات‬

‫يسمى‪ :‬باالجتهاد اجلامعي‪ ،‬وهو أن‬


‫احلقوق تزاحم كليات الرشيعة وتنافسها‪ .‬كذلك ظهر ما ّ‬
‫يقوم مجاعة من الفقهاء باستفراغ اجلهد لتحصيل حكم رشعي بطريق االستنباط‪ ،‬واتفاقهم‬

‫مجي ًعا أو أغلبهم عىل احلكم بعد التشاور‪ ،‬فهو يف منزلة بني االجتهاد الفردي وبني اإلمجاع‪،‬‬

‫ويتم ّيز بأنه يكون بعد تشاور وتباحث‪ ،‬وبعدها عن التعصب املذهبي‪ ،‬واستعانتها بعلامء من‬

‫كثري من البالد‪ ،‬مثل املجامع الفقه ّية التي دعا إليها األستاذ مصطفى الزرقا رمحه اهلل‪ ،‬والتي‬

‫عضوا من كبار العلامء من‬


‫ً‬ ‫من أبرزها‪ :‬جممع البحوث اإلسالمية بمرص ويتألف من مخسني‬
‫بينهم عدد من خارج مرص ومن أنشطتها إصدار جم ّلة األزهر ورعاية مؤمترات فقهية دورية‪،‬‬

‫أيضا‪ :‬املجمع الفقهي التابع لرابطة العامل اإلسالمي بمكّة املكرمة‪ ،‬ويعقد املجمع دورة‬
‫ومنها ً‬

‫كل سنة أو سنتني‪ ،‬يتداول خالهلا أعضاء هيئته موضو ًعا فقهيا أو أكثر‪ ،‬ليتبنى يف ختام الدورة‬

‫رأيا واضحا يف احلكم الرشعي للمسائل املتناولة‪ ،‬ومنها‪ :‬جممع الفقه اإلسالمي بجدّ ة‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫معني مثل‪ :‬دار اإلفتاء املرصية‪ ،‬وهيئة كبار العلامء السعودية‪،‬‬


‫ختتص ببلد ّ‬
‫ّ‬ ‫جمالس دور إفتاء‬

‫ومنها‪ :‬مؤمترات الفقه اإلسالمي وندواته‪ ،‬ويكونون من أكثر من بلد؛ ليتباحثوا يف جمموعة‬

‫من األبحاث الفقهية يف مواضيع معينة‪ ،‬ويصدر عنها توصيات‪.‬‬

‫واستحدث خالل هذا الدور وسائل جديدة يف خدمة الرتاث الفقهي‪ ،‬مما كان له أثر إجيايب يف‬

‫تيسري وصول املعلومة إىل طلبة العلم‪ ،‬ومن أبرز هذه الوسائل‪ :‬الطباعة‪ ،‬والتي ظهرت يف‬

‫مدينة فانو اإليطالية سنة ‪ 920‬هـ كأول مطبعة عربية‪ ،‬أما يف املرشق موطن املذهب فلم يعرف‬

‫الطباعة العربية إال يف وقت متأخر جدا‪ ،‬حيث ظهرت خالل القرن احلادي عرش اهلجري يف‬

‫كل من استنبول وحلب والقاهرة‪ ،‬والكتب العربية التي كانت تطبع يف أوائل نشوء دور‬

‫الطباعة تلك مل يكن هلا عالقة بعلوم الرشيعة‪ ،‬إذ تأخر اهتامم طباعة كتاب الفقه إىل بداية القرن‬

‫الثالث عرش اهلجري‪ ،‬ألسباب منها‪ :‬خوف املسلمني عىل القرآن والسنّة وعلوم الرشيعة من‬

‫التحريف؛ أل ن املرشفني عىل تلك اآلالت يف بداية ظهورها مل يكونوا من املسلمني‪ ،‬حتى إن‬

‫شيخ اإلسالم يف الدولة العثامنية أفتى بجواز إدخال املطابع إىل ديار املسلمني برشط عدم‬

‫طباعة كتب الرشيعة والفقه‪ .‬ومن أوائل املطابع التي طبعت كتب الفقه‪ :‬مطبقة بوالق يف مرص‬

‫وهي ّأول دار طباعة عربية قامت بطباعة كتاب األ ّم للشافعي‪ ،‬واملطبعة األهلية القبطية يف‬

‫مرص ومما طبعته األحكام السلطانية للاموردي‪ ،‬واملطبعة احلسينية املرصية وهي ّأول دار‬

‫طبعت طبقات الشافعية الكربى البن السبكي‪ ،‬وما زالت دور الطباعة يف تقدّ م مستمر‪ ،‬حيث‬

‫أمكن إصدار آالف النسخ من الكتاب الواحد دون الوقوع يف عيوب النسخ اليدوي‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬حتقيق كتب الرتاث الفقهي وفهرستها‪ ،‬واملقصود بذلك‪ :‬إخراج‬
‫ومن هذه الوسائل ً‬
‫املخطوطات الفقهية واألصولية مطبوعة مع رشح ألفاظها وعباراهتا الغامضة وبيان‬

‫مصطلحاهتا اخلاصة إجيازا أو تفصيال حسب منهج املحقق‪ ،‬وكثريا ما يقوم املح ّقق بخدمة‬

‫متنوعة ملحتوياته‬
‫الكتاب بمقدّ مات ترشح أمهيته ومكانته العلمية وترتجم ملصنّفه‪ ،‬وبفهارس ّ‬
‫مثل فهار اآليات واألحاديث واألعالم وموضوعات الكتاب‪ ،‬ونتيجة لذلك بدأ كثري من‬

‫املحققني يتنافسون يف حتقيق هذه الكتاب‪ ،‬حتى ظهر للكتاب الواحد أكثر من طبعة‪ ،‬ومن‬

‫اجلدير بالذكر أنّه ظهر عدد من فهارس املخطوطات العربية تشري إىل أمكان وجود كل خمطوط‬

‫ملهمة إخراجه مطبوعا حم ّقا‪ ،‬ومن هذه الفهارس‪ :‬فهرس خمطوطات‬


‫تسريا ّ‬ ‫يف مكتبات َ‬
‫العامل ً‬
‫الفقه الشافعي يف املكتبة الظاهرية بدمشق لألستاذ عبد الغني الدقر‪.‬‬

‫كام ظهرت أي ًضا‪ :‬املوسوعات الفقهية‪ ،‬وهي املؤلفات الشاملة جلميع املعلومات يف علم أو‬

‫مبسط‪ ،‬وغالبا يقوم‬


‫يسهل الرجوع إليها من قبل الباحثني‪ ،‬وأسلوهبا ّ‬
‫أكثر‪ ،‬معروضة برتتيب ّ‬
‫عليها جمموعة من الباحثني أو هيئة خمتصة‪ ،‬وهي عبادة عن إعادة تدوين موضوعات الفقه‪،‬‬

‫بعرضها مرتبة عىل حروف املعجم ال تسلسل املوضوعات‪ ،‬كام ألفت كتب الفقه‪ ،‬حيث كانت‬
‫تبدأ بموضوع الطهارة لتنتهي بموضوع ّ‬
‫الرق غال ًبا‪ ،‬ومن فوائد هذه املوسوعات‪ :‬تسهيل‬

‫الوصول إىل الأحاكم يف الكتب الفهية‪ ،‬وتيسري االطالع عىل املادة الفقهية يف املوضوع الواحد‬

‫يف مكان واحد مهامك ان ترتيبه خمتل ًفا يف كتب الفقه‪ ،‬وتوفري الوقت واملال بتمكينهم من‬

‫االطالع عىل األحكام واملصادر التي أخذت منها عن طريق مرجع واحد وهو املوسوعة‪،‬‬

‫وأبرز موسوعتني موجودتن‪ :‬موسوعة الفقه اإلسالمي بالقاهرة وتسمى بموسوعة مجال عبد‬

‫النارص يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬وتذكر آراء فقهاء املذاهب من مصادرهم املعتمدة‪ ،‬واملوسوعة‬

‫الفقهية الكوينية التي أصدرهتا وزارة األوقاف الكويتية‪.‬‬


‫أيضا‪ :‬حوسبة الفقه اإلسالمي‪ ،‬واملراد به‪ :‬ختزين الكتب عىل برامجع خاصة‬
‫كام ظهرت ً‬
‫وأجهزة الكمبيوتر‪ ،‬بطريقة متكّن الباحث من الوصول إىل املعلومات املخزنة عليها‪،‬‬

‫وانترشت كثري من الربامج واملوسوعات‪.‬‬

‫ثال ًثا‪:‬مصري التصنيف يف طبقات الشافعية وترامجهم‪ :‬من ّ‬


‫أهم املصنفات يف هذا الدور يف‬

‫تراجم الشافعية ثالثة كتب‪ :‬األول‪ :‬التحفة البهية يف طبقات الشافعية للعالمة عبد اهلل‬

‫الرشقاوي‪ ،‬الثاين‪ :‬املقدمة الكبرية لكتاب مرشد األنام للعالمة أمحد بك احلسيني حيث صدّ ره‬

‫بمقدمة كبرية يف تراجم الشافعية‪ ،‬الثالث‪ :‬طبقات الشافعية (كربى وصغرى) للعالمة علم‬
‫الدين حممد ياسني الفاداين اإلندونييس ً‬
‫أصال املكي والدة‪ ،‬وهذه الكتب مهمة جدا لكوهنا‬

‫قل التمذهب‪ ،‬وأصبح من التك ّلف اآلن‬


‫آخر ما يرتجم لعلامء الشافعية‪ ،‬الذين من بعدهم ّ‬

‫التصنيف يف هذا العلم‪ ،‬لعدم انضباط تعريف من هو الشافعي ومتييزه عن غريه‪.‬‬

‫من أبرز علامء الشافعية يف هذا الدور‪:‬‬

‫األول‪ :‬العالمة عيسى َمنّون املقديس الشامي ثم املرصي‪ ،‬ولد يف بلدة عني كارم إىل الغرب‬

‫من مدينة القدس‪ ،‬وملا بلغ اخلامسة عرش شدّ الرحال إىل اجلامع األزهر‪ ،‬وأقام يف رواق الشوام‬

‫به يطلب الفقه واحلديث والتفسري واللغة‪ ،‬وأخذ عن العالمة سليم البرشي شيخ اجلامع‬

‫األزهر‪ ،‬والعالمة حممد حسنني خملوف العدوي‪ ،‬والعالمة حممد بخيث املطيعي مفتي مرص‪،‬‬

‫شافعي املذهب‪ ،‬واجتاز امتحان العاملية‪،‬‬


‫ّ‬ ‫والشيخ عبد احلكم عطا‪ ،‬وكان الشيخ عيسى‬

‫مدرسا يف القسم االبتدائي باألزهر‪ ،‬ثم الثانوي‪ ،‬ثم العايل‪ ،‬وصنّف‪ :‬نرباس العقول‬
‫وأصبح ّ‬
‫وعني عميدا‬
‫وعني شيخا لرواق الشوام يف األزهر‪ّ ،‬‬
‫يف حتقيق القياس عند علامء األصول‪ّ ،‬‬
‫وعني عميدا لكلية الرشيعة‪ ،‬ثم أحيل إىل التقاعد بطلب منه‪ ،‬وأرشف‬
‫لكلية أصول الدين‪ّ ،‬‬
‫عىل طباعة كتاب العزيز رشح الوجيز للرافعي‪ ،‬والتلخيص احلبري يف ختريج الرافعي الكبري‬
‫البن حجر‪ ،‬وقطعة من املجموع للنووي‪ ،‬وكان قد عزم عىل إكامل املجموع للنووي لكنه‬

‫وافته املن ّية قبل إنجازه‪ ،‬ودفن يف املقربة التي دفن فيها الشافعي ريض اهلل عنه‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬العالمة حممد ياسني الفاداين املكي‪ ،‬نسبة إىل فادان وهو إقليم يف إندونيسيا‪ ،‬ولد يف مكّة‬

‫ونشأ هبا‪ ،‬يف السنة التي تويف فيها العالمة علوي الس ّقاف‪ ،‬ونشأ حمبا للعلم‪ ،‬والزم حلقات‬

‫املسجد احلرام‪ ،‬وأتم دراسته بدار العلوم الدينية يف مكة‪ ،‬وأخذ عن عدد كبري من علامء عرصه‪،‬‬

‫من أبرزهم‪ :‬حممد عيل بن حسني املالكي املكي‪ ،‬وعمر بن محدان املحريس املكي‪ ،‬وعمر‬

‫باجنيد مفتي الشافعية يف مكة قرأ عليه كت ًبا كاإلقناع‪ ،‬وحتفة املحتاج‪ ،‬ومنهاج الطالبني برشح‬

‫املحيل وحاشيتي قليوب وعمرية‪ ،‬ومغني املحتاج‪ ،‬كام أخذ عن سعيد بن حممد اليامين‪ ،‬وولده‬

‫حسن اليامين‪ ،‬من كبار فقهاء الشافعية‪ ،‬ومال إىل احلديث أكثر من غريه‪ ،‬وكان له حلقة يف‬

‫مدرسا يف دار العلوم الدينية‪ ،‬ثم أصبح وكيال هلا‪ ،‬وكان كثري التأليف‬
‫وعني ّ‬
‫املسجد احلرام‪ّ ،‬‬
‫من كتبه‪ :‬بغية املشتاق رشح ملع الشيخ أيب إسحاق‪ ،‬وحاشية عىل األشباه والنظائر للسيوطي‪،‬‬

‫وقرة العني يف أسانيد أعالم احلرمني‪ ،‬وإمتاع أويل النظر ببعض أعيان القرن الرابع عرش‪ ،‬وتويف‬

‫سنة ‪ 1410‬هـ ‪.‬‬


‫الفصل الثاين‪ :‬مصطلحات الشافعية وأوجوه االنتفاع بمصنّفاهتم‬

‫مصطلحات ّ‬
‫الشافعية ومظاهنا‪ :‬يقال‪ :‬اصطلح القوم‪ :‬أي‪ :‬زال ما بينهم من خالف‪،‬‬

‫واصطلحوا عىل األمر‪ :‬أي‪ :‬تعارفوا واتفقوا عليه‪ ،‬فاالصطالح مصدر‪ :‬اصطلح‪ ،‬وهو اتفاق‬
‫ّ‬
‫فلكل علم اصطالحاته‪ ،‬ولعلامء الشافعية مصطلحات يف‬ ‫طائفة عىل يشء خمصوص‪،‬‬

‫مصنفاهتم أرادوا هبا معاين حمدّ دة‪ ،‬ال يستطيع أحدٌ أن يفهم املراد منها إال بمعرفة معانيها وما‬

‫يراد هبا‪ ،‬وقد قام عدد من أئمة الشافعية ببيان هذه املصطلحات وماذا يقصدون هبا‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫مظان هذه املصطلحات‪ :‬النووي يف مقدّ مة املجموع‪ ،‬ورشوحات منهاج الطالبني‬ ‫أشهر‬

‫أيضا‪ ،‬والفوائد املكّية فيام حيتاجه طلبة الشافعية‬


‫للنووي‪ ،‬وهتذيب األسامء واللغات للنووي ً‬
‫لعلوي الس ّقاف‪ ،‬واملصباح املنري يف غريب الرشح الكبري للرافعي أليب الع ّباس احلموي‪ ،‬ومن‬

‫األبحاث املعارصة‪ :‬مقدّ مة الوسيط يف املذهب للغزايل الذي ح ّققه عيل القره داغي‪ ،‬ومقدّ مة‬

‫املهذب للشريازي الذي ح ّققه حممد الزحييل‪ ،‬ورشح الوجيز للرافعي الذي ح ّققه عيل‬
‫ّ‬

‫معوض وعادل عبد املوجود‪.‬‬


‫ّ‬

‫أبرز معاين هذه املصطلحات‪:‬‬

‫األقوال‪ :‬هي اجتهادات الشافعي سواء كانت قديمة أو جديدة‪ .‬ا‬

‫القول القديم (املذهب القديم)‪ :‬اجتهادات الشافعي قبل انتقاله إىل مرص (تصني ًفا أو إفتاء)‪،‬‬

‫سواء أكان رجع عنه وهو كثري‪ ،‬أو مل يرجع‪ .‬وأبرز رواته‪ :‬الزعفراين والكرابييس وأبو ثور‪.‬‬

‫القول اجلديد (املذهب اجلديد)‪ :‬اجتهادات الشافعي بمرص (تصني ًفا أو إفتاء)‪ ،‬وأبرز رواته‪:‬‬

‫البويطي واملزين والربيع‪.‬‬


‫كل قول جديد خيالف القديم‪ ،‬وليس ّ‬
‫كل قول قديم مرجو ًعا عنه‪ ،‬بل‬ ‫مهمة‪ :‬ليس ّ‬
‫ملحوظة ّ‬
‫قديم وجديد‪ :‬فالعمل‬
‫ٌ‬ ‫هناك يف اجلديد ما خيالف القديم‪ ،‬وما يوافقه‪ّ ،‬‬
‫وكل مسألة ورد فيها‬

‫عىل اجلديد والفتوى‪ ،‬إال بعض املسائل (من ثالث إىل عرشين مسألة عىل خالف يف حتديدها)‬

‫يفتى فيها بالقديم‪ ،‬وقد مجعها ودرسها عبد العزيز قايض زاده يف كتاب‪ :‬الشافعي واملسائل‬

‫اعتمدت من قوله القديم‪.‬‬


‫ْ‬ ‫التي‬

‫األظهر‪ :‬هو الرأي الراجح من قويل أو أقوال الشافعي‪ ،‬إذا كان اخلالف بني هذين القولني أو‬
‫قوة دليل ّ‬
‫كل منها‪ ،‬ويقابله‪ :‬الظاهر‪ .‬مع مالحظة أن الغزايل يستعمل‬ ‫األقوال قو ّيا‪ ،‬بالنظر إىل ّ‬
‫أيضا مع أقوال أصحاب الشافعي ال الشافعي وحده‪.‬‬
‫هذا املصطلح ً‬

‫املشهور‪ :‬هو الرأي الراجح من قويل أو أقوال الشافعي‪ ،‬إذا كان اخلالف بني هذين القولني أو‬

‫األقوال ضعي ًفا‪ ،‬ويقابله‪ :‬الغريب‪.‬‬

‫األصحاب‪ :‬هم فقهاء الشافعية الذين بلغوا يف العلم مبل ًغا عظيام حتى كانت هلم اجتهاداهتم‬

‫خرجوها عىل أصول الشافعي‪ ،‬واستنبطوها من خالل تطبيق قواعده‪،‬‬


‫الفقه ّية اخلاصة‪ ،‬التي ّ‬
‫ويسمون أصحاب الوجوه‪ .‬مع التنبيه عىل أن اإلمام الفخر‬
‫ّ‬ ‫وهم منتسبون إىل اإلمام ومذهبه‪،‬‬

‫الرازي عندما يقول‪ :‬أصحابنا‪ ،‬تارة يقصد هبم الشافعية‪ ،‬وتارة يقصد هبم األشاعرة‪ ،‬فإذا‬

‫كانت املسألة املتك ّلم فيها فقهية فإنه يقصد هبم الشافعية‪ ،‬وإذا كانت كالمية فاملقصود‬

‫األشاعرة‪.‬‬

‫الوجوه (األوجه)‪ :‬اجتهادات األصحاب املنتسبني إىل املذهب‪ ،‬التي استنبطوها عىل ضوء‬

‫أصول الشافعي وقواعده‪ ،‬وال خترج عن نطاق املذهب‪ ،‬وهي ال تنسب إىل الشافعي؛ ألنه‬

‫خارجا عن أصول الشافعي ال يعترب هذا الرأي‬


‫ً‬ ‫اجتهاد صاحب الوجه‪ ،‬وإذا كان هذا االجتهاد‬

‫وجها يف املذهب‪.‬‬
‫ً‬
‫الطرق‪ :‬هو اختالف األصحاب يف حكاية املذهب‪ ،‬فبعضهم يقول‪ :‬فيه قوالن‪ ،‬ويقول‬

‫آخرون‪ :‬فيه قول واحد‪ ،‬أو وجه واحد‪ ،‬ويقول أحدهم‪ :‬يف املسألة تفصيل‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫الراجح يف حكاية املذهب من بني ال ّطرق‪ ،‬فإذا كان يف املسألة طريقان ً‬


‫مثال‪:‬‬ ‫املذهب‪ :‬الرأي ّ‬
‫األول يقول‪ :‬فيها قوالن‪ ،‬والثاين يقول‪ :‬فيها قول واحد‪ ،‬وأحدمها أرجح من اآلخر‪ ،‬فيقال‬

‫يف هذا األرجح‪ :‬عىل املذهب‪.‬‬

‫األصح‪ :‬هو الرأي الراجح من الوجهني أو األوجه ألصحاب اإلمام‪ ،‬إذا كان اخلالف بني‬
‫ّ‬
‫الصحيح‪ .‬مع مالحظة أن الغزايل ومن‬ ‫قوة دليل ّ‬
‫كل منهام‪ .‬ويقابله‪ّ :‬‬ ‫الوجهني قو ّيا‪ ،‬بالنظر إىل ّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫األصح والصحيح مع أقوال اإلمام ً‬
‫ّ‬ ‫قبله يستعملون هذين املصطلحني‪:‬‬

‫الراجح من الوجهني أو األوجه ألصحاب اإلمام‪ ،‬إذا كان اخلالف بني‬


‫الصحيح‪ :‬الرأي ّ‬
‫الوجهني ضعي ًفا‪ ،‬ويقابله‪ :‬الضعيف‪ ،‬أو الفاسد‪ ،‬ويعرب عنه بقوهلم‪ :‬ويف ٍ‬
‫وجه كذا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫نصا؛ ألنه مرفوع‬


‫وسمي ّ‬
‫ّ‬ ‫النّص‪ :‬هو القول املنصوص عليه يف كتب األ ّم لإلمام الشافعي‪،‬‬

‫املخرج‪.‬‬
‫القدر بتنصيص اإلمام عليه‪ ،‬ويقابله‪ :‬القول ّ‬

‫يصلح‬
‫ُ‬ ‫التخريج‪ :‬أن جييب ّ‬
‫الشافعي بحكمني خمتلفني يف صورتني متشاهبتني‪ ،‬ومل يظهر ما‬
‫كل صورة إىل األخرى‪ ،‬فيحصل يف ّ‬
‫كل صورة منهام‬ ‫للفرق بينهام‪ ،‬فينقل األصحاب جوابه يف ّ‬

‫املخرج يف تلك‪ ،‬ويكون املنصوص‬


‫وخمرج‪ ،‬فيكون املنصوص يف هذه= هو ّ‬
‫قوالن‪ :‬منصوص ّ‬
‫املخرج ال ينسب‬
‫املخرج يف هذه‪ ،‬فيقال‪ :‬فيهام قوالن بالنّقل والتخريج‪ .‬والقول ّ‬
‫يف تلك= هو ّ‬
‫للشافعي؛ ألنه ربام يروجع فيه فذكر فر ًقا‪ .‬والغالب عدم إطباق األصحاب عىل التخريج‪ ،‬بل‬

‫خيرج‪ ،‬ومنهم من يبدي فر ًقا بني ّ‬


‫الصورتني‪.‬‬ ‫منهم من ّ‬
‫شبها بالع ّلة‪ ،‬وذلك فيام لو كان للمسألة حكامن مبن ّيان عىل قياسني‪،‬‬
‫األشبه‪ :‬احلكم األقوى ً‬
‫والع ّلة يف أحدمها أقوى من اآلخر‪.‬‬

‫تبني ضعف هذه االجتهادات أو ضعف‬


‫صيغ التضعيف‪ :‬املراد هبا عدد من املصطلحات ّ‬
‫أد ّلتها‪ ،‬ومن أبرزها‪ :‬زعم فالن‪ ،‬وقيل‪ ،‬وحمتمل‪ ،‬بمعنى‪ :‬ذي احتامل‪ ،‬أي‪ :‬قابل للتأويل‪ ،‬أما‬

‫رصحوا بعده برتجيح أو‬


‫حمتمل فتشعر بالرتجيح؛ ألنه بمعنى‪ :‬قريب‪ ،‬ووقع لفالن كذا‪ ،‬فإن ّ‬
‫َ‬
‫يرصحوا‪ :‬كان رأ ًيا ضعي ًفا‪ ،‬وإن ّ‬
‫صح هذا فكذا‪.‬‬ ‫تضعيف وهو األكثر‪ :‬فهو كام قالوا‪ ،‬وإن مل ّ‬

‫توضح مرادهم‪ ،‬أو التنبيه عىل أمور دقيقة‪،‬‬


‫صيغ التوضيح‪ :‬واملراد هبا‪ :‬بعض التعبريات التي ّ‬

‫عرض املسألة‪ .‬وحاصل الكالم‪:‬‬


‫حمصل الكالم‪ ،‬واملراد هبا‪ :‬إمجال بعد تفصيل يف ْ‬
‫ومن أبرزها‪ّ :‬‬
‫تفصيل بعد إمجال يف عرض املسألة‪ .‬وحتريره أو تنقيحه‪ :‬يستعملها أصحاب احلوايش‬

‫والرشوح لإلشارة إىل قصور يف األصل أو اشتامله عىل حشو أو لزيادة توضيح‪ .‬تأ ّمل‪ :‬إشارة‬

‫يبني أي املعنني قصده املصنّف‪ .‬واعلم‪ :‬لبيان شدّ ة‬ ‫إىل د ّقة املقام‪ ،‬أو إىل خدش فيه‪ّ ،‬‬
‫والسياق ّ‬
‫االعتناء بام بعده من تفصيل لآلراء وأد ّلتها‪ .‬ولو قيل كذا مل ي ُبعد وليس ببعيد أو لكان قري ًبا أو‬

‫هو أقرب‪ :‬ك ّلها من صيغ الرتجيح‪ .‬وعليه العمل‪ :‬صيغة ترجيح ً‬
‫أيضا للنووي والرافعي‪.‬‬

‫واتفقوا وهذا جمزوم به‪ :‬اتفاق فقهاء املذهب فقط‪ .‬وجممع عليه‪ :‬اتفاق الفقه عمو ًما فيكون‬

‫والسياق‬
‫املقصود به‪ :‬اإلمجاع‪ .‬وينبغي‪ :‬تستعمل تارة للداللة عىل الوجوب‪ ،‬وتارة للندب‪ّ ،‬‬
‫يبني‪ .‬وال ينبغي‪ :‬تستعمل تارة للتحريم‪ ،‬وتارة للكراهة‪.‬‬
‫ّ‬

‫عوضا‬ ‫مصطلحات األعالم‪ :‬يقصد هبا بعض األلقاب والكنى التي ّ‬


‫تدل عىل علامء املذهب ً‬
‫عن ذكر اسم العامل ً‬
‫كامال بقصد االختصار‪ ،‬ومن أبرزها‪ :‬اإلمام‪ :‬هو اجلويني‪ ،‬والقايض‪ :‬هو‬

‫والربيع‪ :‬فهو املرادي تلميذ اإلمام‪ ،‬فإذا‬


‫القايض حسني‪ ،‬والقاضيان‪ :‬الروياين واملاوردي‪ّ ،‬‬
‫الشارح املح ّقق‪ :‬فهو جالل الدين ّ‬
‫املحيل‪ ،‬وشارح‬ ‫والشارح أو ّ‬
‫الربيع اجليزي ق ّيدوه به‪ّ ،‬‬
‫أرادوا ّ‬
‫ألي كتاب كان‪ ،‬والشيخان‪ :‬النووي‬
‫الرشاح ّ‬
‫هكذا من غري تعريف‪ :‬فاملراد به واحد من ّ‬
‫والتقي السبكي‪ ،‬وشيخنا‪ :‬هو زكريا األنصاري إذا‬
‫ّ‬ ‫والرافعي‪ ،‬والشيوخ‪ :‬النووي والرافعي‬

‫كان القائل هو اخلطيب الرشبيني‪ ،‬وشيخي‪ :‬هو الشهاب الرميل إذا كان القائل هو اخلطيب‬

‫أيضا من قول ّ‬
‫الشمس الرميل‪ :‬أفتى به الوالد‪ .‬وأبو الع ّباس‪ :‬فهو‬ ‫أيضا‪ ،‬وهو املراد ً‬
‫الرشبيني ً‬

‫ابن رسيج‪ ،‬وأبو سعيد‪ :‬فهو اإلصطخري‪ ،‬وأبو إسحاق‪ :‬فهو املرزوي‪ ،‬وهذه الثالثة األخرية‬

‫املهذب‪ .‬والق ّفال‪ :‬فهو املرزوي‪ ،‬أما إذا أريد‪ :‬الق ّفال الشايش فإنّه‬
‫اصطالحات للشريزاي يف ّ‬

‫واملحمدون األربعة‪ :‬حممد بن نرص‪ ،‬وحممد بن إبراهيم بن املنذر‪ ،‬وحممد بن جرير‬


‫ّ‬ ‫يق ّيد به‪،‬‬

‫الطربي‪ ،‬وحممد بن إسحاق بن خزيمة‪.‬‬

‫املصنّفات الفقهية ّ‬
‫الشافعية‪ :‬متتاز مصنفات املذهب الشافعي بارتباطها‪ ،‬فتبدأ احللقة األوىل‬

‫منها بكتاب األ ّم للشافعي‪ ،‬اخترصه املزين يف خمترصه املشهور‪ ،‬ثم رشح هذا املخترص اجلويني‬

‫يف هناية املطلب‪ ،‬ثم جاء تلميذه الغزايل فاخترصه يف البسيط‪ ،‬ثم اخترص البسيط يف الوسيط‪،‬‬

‫املحرر‪ ،‬ثم جاء النووي‬


‫ّ‬ ‫الرافعي فاخترص الوجيز يف‬
‫ثم اخترص الوسيط يف الوجيز‪ ،‬فجاء ّ‬
‫املحرر يف املنهاج‪ ،‬والذي أصبح العمدة يف حتقيق االجتهادات املفتى هبا يف املذهب؛‬
‫فاخترص ّ‬
‫ولذلك تتابعت عليه الرشوح‪ ،‬وعىل الرشوح الكثري من احلوايش‪ .‬وهلذا االرتباط كانت‬

‫ترتيب األبواب الفقه ّية متقار ًبا جدّ ا يف أكثر هذه املصنّفات‪ .‬ومن اجلدير بالذكر‪ :‬أنّه يف كل‬

‫وتدريسا؛‬
‫ً‬ ‫رشحا‬
‫ً‬ ‫مرحلة كان يربز كتاب فقهي أو أكثر يكون هو حمور اهتامم فقهاء الشافعية‬

‫ملزيد إتقان فيه من حيث حتريره‪ ،‬وبيانه للمعتمد يف املذهب‪ ،‬فكانت هذه الكتب حم ّطات هامة‪،‬‬
‫ّ‬
‫واملهذب للشريازي‪،‬‬ ‫والتي من أبرزها‪ :‬خمترص املزين وقد فاق سائر مصنّفات تالميذ اإلمام‪،‬‬

‫للرافعي‪ ،‬ومنهاج ال ّطالبني للنّووي‪ ،‬ورشوح املنهاج‬


‫والوسيط للغزايل‪ ،‬والعزيز رشح الوجيز ّ‬
‫ونتعرض اآلن ألبرز مصنّفات الشافعية الفقهية حسب الرتتيب الزمني هلا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫والرميل‪.‬‬
‫للهيتمي ّ‬
‫مصنّفات الشافعي الفقه ّية‪ :‬الذي وصلنا منها‪ :‬كتاب األ ّم‪ ،‬وتسعة كتب أخرى‪ :‬اختالف أيب‬

‫عيل وابن مسعود‪ ،‬واختالف مالك والشافعي‪ ،‬ومجاع العلم‪،‬‬


‫حنيفة وابن أيب ليىل‪ ،‬واختالف ّ‬
‫وبيان فرائض اهلل‪ ،‬وصفة هني رسول اهلل صىل اهلل عليه وس ّلم‪ ،‬وإبطال االستحسان‪ ،‬والر ّد‬

‫حسون قام بتحقيقها ك ّلها يف‬


‫عىل حممد بن احلسن الشيباين‪ ،‬وسري األوزاعي‪ .‬والدكتور ّ‬
‫موسوعة اإلمام الشافعي‪ ،‬فمظان معرفة أقوال اإلمام يف هذه الكتب‪ ،‬مع مالحظة أن رأيه يف‬

‫استقرت عليه الفتوى عند أتباعه‪ ،‬فمعرفة املفتى به عند الشافعية‬


‫ّ‬ ‫مسألة ما قد ال يكون هو ما‬

‫مظاهنا التي سنذكرها‪ ،‬وهي غري كتاب األ ّم‪.‬‬


‫ّ‬ ‫هلا‬

‫األول للمذهب‪ :‬واملراد به جهد اإلمامني النووي والرافعي يف بيان معتمد‬


‫مصنّفات التنقيح ّ‬
‫ّ‬
‫مظان معرفة املعتمد للفتوى عىل املذهب‪ ،‬فمن أراد معرفة الرأي املعترب عند‬ ‫املذهب‪ ،‬وكتبهام‬

‫الشافعية فعليه أن يتّجه إىل مصنّفاهتام‪ ،‬فالعزو إليهام بيانًا للمفتى به عند الشافعية ال حيتاج إىل‬

‫توثيقه من املصنّفات األخرى للشافعية سواء التي صنّفت قبلهام أو بعدمها‪ ،‬إال إذا كانا مل‬
‫أصال يف كتبهام‪ ،‬وقد تقدّ م ذكر ّ‬
‫أن املعتمد هو اتفاقهام‪ ،‬فإن اختلفا‬ ‫يتطرقا إىل بحث تلك املسألة ً‬
‫ّ‬
‫الصغري عىل الوجيز للغزايل‬
‫والرشح ّ‬
‫ّ‬ ‫املحررر للرافعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قدّ م النّووي‪ ،‬وهذه املصنّفات‪:‬‬

‫أهم كتبه‪،‬‬
‫للرافعي‪ ،‬والرشح الكبري (ويسمى بالعزيز) عىل الوجيز للغزايل للرافعي وهو ّ‬
‫األول‪،‬‬
‫أهم كتب التنقيح ّ‬
‫للمحرر للرافعي وهو ّ‬
‫ّ‬ ‫ومنهاج الطالبني للنووي وهو خمترص‬

‫وروضة الطالبني وعمدة املفتني للنووي وهو اختصار للرشح الكبري عىل الوجيز للرافعي‪،‬‬
‫ّ‬
‫للمهذب ويعدّ من كتب الفقه‬ ‫وأهم رشح‬
‫ّ‬ ‫واملجموع رشح ّ‬
‫املهذب للنووي وهو أعظم كتبه‬

‫أيضا؛ فهو من آخر ما صنّف؛ ألنه رمحه اهلل تويف‬


‫أهم مظان معرفة املعتمد ً‬
‫املقارن‪ ،‬وهو من ّ‬
‫أيضا‪،‬‬
‫ونظرا لذلك‪ ،‬ولكرب حجمه ً‬
‫ً‬ ‫الربا من كتاب البيوع‪،‬‬
‫يتمه حيث وصل إىل باب ّ‬
‫قبل أن ّ‬
‫والروضة للوقوف عىل املعتمد للفتوى عند الشافعية‪ .‬وبعد وفاة‬
‫جعل العلامء يكتفون باملنهاج ّ‬
‫اإلمام حاول التقي السبكي أن يتمه‪ ،‬فصنّف ثالثة جم ّلدات ثم تويف‪ ،‬ثم سعى بعض الفقهاء‬
‫انتشارا‪ ،‬وكتاب‬
‫ً‬ ‫إىل إمتامه كالعالمة عيسى منّون ونجيب املطيعي‪ ،‬وطبعة املطيعي هي األكثر‬

‫أهم رشوحه لكن الكتاب ليس فقهيا‪ ،‬فال يكتفى به‬


‫رشح صحيح مسلم للنووي‪ ،‬وهو من ّ‬
‫يتحرر من التزامه بمذهبه يف رشح األحاديث‪،‬‬
‫كثريا ما ّ‬
‫يف معرفة معتمد املذهب؛ ألن النووي ً‬
‫وألن الكتاب نفسه اعتمد عىل اإلكامل يف رشح مسلم للقايض عياض املالكي‪ .‬ومن اجلدير‬
‫بالذكر‪ّ :‬‬
‫أن مصنفات النووي قد يوجد بعض االختالفات اليسرية يف عدد من املسائل‪ ،‬فيثبت‬

‫يف أحدها ما خيالفه يف آخر‪ ،‬لكن هذا قليل‪.‬‬

‫نظرا لتعدّ د أقوال اإلمام‪ ،‬وأوجه أصحابه‪،‬‬


‫قواعد الرتجيح بني األقوال واألوجه يف املذهب‪ً :‬‬
‫الراجح واملعتمد منها‪ ،‬وقد سارا عىل منهج‬
‫كبريا يف بيان ّ‬
‫بذل اإلمام الرافعي والنووي جهو ًدا ً‬
‫ديام‬
‫معني يف هذا التنقيح يقوم عىل ثامين قواعد‪ :‬األوىل‪ :‬القول املعضد بالدليل سواء أكان ق ً‬
‫ّ‬
‫صح احلديث فهو مذهبي‪ .‬الثانية‪ :‬القول‬
‫لإلمام أو جديدً ا هو مذهبه؛ فهو نفسه يقول‪ :‬إذا ّ‬
‫يتعرض‬
‫اجلديد هو مذهبه إذا كان عىل خالف القديم‪ ،‬أما إذا مل يتعارض القديم واجلديد أو مل ّ‬
‫يف اجلديد هلا‪ :‬فالقديم هو مذهبه‪ .‬الثالثة‪ :‬إذا تساوى القوالن جدّ ة وقدَ ًما وأد ّلة ُعمل بآخرها‬

‫املرجحة بني القولني‬


‫رجحه الشافعي‪ .‬الرابعة‪ :‬إذا انعدمت القرائن ّ‬
‫إن ُعلم‪ ،‬فإن مل ُيعلم بالذي ّ‬
‫الزمن (قديم أو جديد ‪ /‬سابق أو الحق)‪ ،‬مع جهل ترجيح اإلمام الشافعي‬
‫من جهة ّ‬
‫ألحدمها= يرجع إىل أقرهبام إىل أصول الشافعي يف االستنباط يف مذهبه اجلديد‪ .‬وهذه القواعد‬

‫الرتجيح والتخريج‪ ،‬أما من مل يكن منهم‪ :‬فله أربع قرائن‬


‫األربعة يط ّبقها من كان من أهل ّ‬

‫يستعملها يف الرتجيح إذا وجد خال ًفا بني األصحاب يف حتديد ّ‬


‫الراجح من القولني أو‬

‫الوجهني‪ ،‬وهي‪ :‬األوىل‪ :‬ترجيح تصحيح األكثر واألعلم واألورع من األصحاب‪ ،‬ويقدّ م‬
‫األعلم عند التعارض‪ .‬الثانية‪ :‬اعتبار صفات الناقلني للقولني الوجهني‪ً ،‬‬
‫فمثال‪ :‬يقدّ م ما رواه‬

‫الربيع واملزين والبويطي عىل ما رواه الربيع اجليزي وحرملة التجيبي‪ .‬الثالثة‪ :‬ترجيح ما وافق‬

‫رأي أكثر أئمة املذاهب الفقهية األخرى‪ .‬الرابعة‪ :‬ترجيح القول املذكور يف بابه ومظنّته عىل‬
‫القول املذكور يف غري بابه‪ ،‬فم ًثا‪ :‬يتعارض قوالن يف مسألة من الوضوء‪ ،‬والقوالن ذكر األول‬

‫منهام يف باب الوضوء والثاين ذكر يف باب الصيام‪ ،‬فيقدّ م ما ذكر يف باب الوضوء‪.‬‬

‫ّ‬
‫فمظان ذلك يف مصنّفات الرافعي‬ ‫فاخلالصة‪ :‬أ ّن من أراد أن يبحث عن املعتمد يف املذهب‪:‬‬
‫يتعرضا للمسألة ً‬
‫أصال أو‬ ‫والنووي‪ ،‬وعند اختالفهام فيكون يف مصنّفات النووي‪ ،‬فإن مل ّ‬
‫بحثاها خمترصة فيكون يف مصنّفات التنقيح الثاين‪.‬‬

‫والرميل خاصة رشح املنهاج‬


‫مصنفات التنقيح الثاين للمذهب‪ :‬واملراد هبا مصنّفات اهليتمي ّ‬
‫هلام يف كتايب‪ :‬حتفة املحتاج وهناية املحتاج‪ ،‬مع التنبيه عىل ّ‬
‫أن علامء مرص يعتمدون ترجيح‬

‫وصححوها فبلغت حد‬


‫ّ‬ ‫الرميل؛ ألهنا قرئت عليه إىل آخرها يف أربعامئه من العلامء فنقدوها‬
‫ّ‬
‫التواتر‪ ،‬وأما علامء حرضموت والشام واألكراد وداغستان وأكثر علامء اليمن واحلجاز‪:‬‬

‫يعتمدون ترجيح اهليتمي؛ ملا فيه من إحاطة بنصوص اإلمام مع مزيد تتبع املؤلف هلا‪ ،‬ولقراءة‬

‫يتعرضا هلا‪ ،‬فيفتى‬


‫املحققني هلا عليه‪ ،‬فال جيوز الفتوى بام خيالف التحفة والنهاية‪ ،‬إال إذا مل ّ‬
‫بكالم شيخ اإلسالم زكريا األنصاري‪ ،‬ثم بكالم اخلطيب الرشبيني‪ .‬وأبرز مصنّفات هذا‬

‫التنقيح‪ :‬كتاب حتفة املحتاج رشح املنهاج البن حجر اهليتمي‪ ،‬ومعه حاشيتان للعبادي‬

‫والرشواين‪ ،‬وكتاب هناية املحتاج رشح املنهاج لشمس الدين الرميل‪،‬ومعه حاشيتان‬
‫ّ‬
‫للشربامليس والرشيدي‪ ،‬ويأيت بعدمها‪ :‬املنهج لزكريا األنصاري‪ ،‬والغرر البه ّية يف رشح‬

‫منظومة البهجة الورد ّية لألنصاري أيضا‪ ،‬ثم مغني املحتاج للخطيب الرشبيني‪.‬‬

‫يتعرض له النووي والرافعي‪ :‬فعليه‬ ‫فاخلالصة‪ّ :‬‬


‫أن من أراد معرفة املعتمد يف املذهب مما مل ّ‬
‫بمصنّفي اهليتمي والرميل‪ .‬ومن اجلدير بالذكر‪ :‬أن خال ًفا وقع بني اهليتمي والرميل يف حتقيق‬
‫املعتمد يف بعض املسائل متا ًما كام حدث مع النووي والرافعي‪ ،‬لكنّه هنا أضيق ّ‬
‫وأقل‪ ،‬وال‬

‫يوجد ترجيح واضح لرأي أحدمها عىل اآلخر‪ ،‬ولعل السبب يف ذلك‪ :‬تعارصمها‪ ،‬فلم يبن‬
‫رأي ّ‬
‫كل منهام معتمدً ا‬ ‫أحدمها اجتهاده عىل اآلخر كام فعل النووي مع الرافعي‪ ،‬فيمكن اعتبار ّ‬
‫للفتوى‪ ،‬فيكون للمذهب رأيان يف املسألة‪ ،‬وللعالمة عيل بن أمحد باصربين كتاب بعنوان‪:‬‬

‫إثمد العينني يف بعض اختالف الشيخني اهليتمي والرميل‪ ،‬فيه مجع الختالفهام يف أبواب‬

‫أيضا أن يقال‪ :‬يف جمال البحث العلمي يمكن االكتفاء يف توثيق‬


‫العبادات‪ .‬ومن اجلدير بالذكر ً‬

‫مذهب الشافعية يف مسألة ما من كتايب‪ :‬التحفة والنهاية‪ ،‬إذا كانت املسألة مبحوثة فيها‪ ،‬دون‬

‫احلاجة لتوثيقها من مصنّفات النووي أو الرافعي‪.‬‬

‫قديام بعلم اخلالف‪ ،‬وهي هتتم بعرض اجتهادات‬


‫تسمى ً‬
‫مصنّفات الفقه املقارن‪ :‬وكانت ّ‬
‫املذاهب الفقهية األخرى‪ ،‬مع بيان أد ّلة كل منها‪ ،‬ومناقشتها‪ ،‬بقصد الرتجيح من بينها‪،‬‬

‫وفوائدها عظيمة جدّ ا‪ ،‬فهي مظان لتوثيق أد ّلة الشافعية‪ ،‬وردودهم عىل خمالفيهم‪ ،‬وهي من‬

‫أيضا معرفة أقوال املذاهب التي اندثرت‪ ،‬وربام كانت أقواهلم هي الراجحة يف احلكم‪،‬‬
‫مظان ً‬
‫وأبرز هذه املصنّفات‪ :‬احلاوي الكبري للاموردي رشح فيه خمترص املزين‪ ،‬واملجموع رشح‬

‫امله ّذب وسبق الكالم عليه‪ ،‬وحلية العلامء يف معرفة مذاهب الفقهاء للشايش الق ّفال‪ ،‬وهذا‬

‫نادرا‪ ،‬وهذا مما ق ّلل‬


‫اختصارا لكتاب آخر‪ ،‬لكنه ال يذكر األد ّلة إال ً‬
‫ً‬ ‫رشحا وال‬
‫ً‬ ‫األخري ليس‬

‫القيمة العلمية له‪.‬‬

‫متخصصة يف بحث موضوعات فقه ّية‬


‫ّ‬ ‫املصنّفات الفقه ّية املتخصصة‪ :‬واملراد هبا أن تكون‬

‫مع ّينة‪ ،‬ومن أبرزها‪ :‬األول‪ :‬األحكام السلطانية والواليات الدينية لإلمام املاوردي وهو من‬

‫أشهر كتب النظم اإلسالمية السياسية واملالية والقضائية واإلدراية مما يسمى اآلن‪ :‬السياسة‬

‫الرشعية‪ ،‬وهو عىل طريقة الفقه املقارن‪ .‬الثاين‪ :‬غياث األمم يف التيث ال ُّظ َلم‪ ،‬ويسمى ً‬
‫أيضا‬

‫بالغياثي‪ ،‬إلمام احلرمني اجلويني‪ ،‬صنّفه للوزير غياث الدولة نظام املُلك‪ ،‬وهو قريب من‬

‫اختص أكثر ببيان نظرية اخلالفة اإلسالمية‪ ،‬وما‬


‫ّ‬ ‫كتاب األحكام السلطانية يف موضوعه إال أنه‬
‫يتعلق هبا من أحكام فقهية وأصولية‪ ،‬وأحداث تارخيية‪ ،‬ويعترب أهم كتاب يف الفكر السيايس‬

‫أيضا بالدّ ر املنظامت يف األقضية‬


‫ونظام احلكم يف اإلسالم‪ .‬الثالث‪ :‬أدب القضاء‪ ،‬ويسمى ً‬

‫واحلكومات‪ ،‬صنّفه القايض ابن أيب الدّ م احلموي‪ ،‬وهو من أهم الكتب يف أحكام الدّ عاوى‬

‫والب ّينات والتوثيقات‪ ،‬وهو ما ُيعرف يف زماننا بأصول املحاكامت‪ ،‬وهو عىل مذهب الشافعية‪،‬‬

‫إال أنه كان يقارن أحيانًا بني فقهاء مذهبه من جهة‪ ،‬وبني فقهاء املذاهب من جهة أخرى‪ ،‬من‬

‫تعصب‪ .‬الرابع‪ :‬هناية اهلداية إىل حترير الكفاية‪ ،‬لشيخ اإلسالم زكر ّيا األنصاري‪ ،‬وهو يف‬
‫غري ّ‬
‫ّ‬
‫مظان‬ ‫أحكام املواريث‪ ،‬ومن أوسع املصنّفات يف بابه وأحسنها‪ .‬وهذا النّوع من املصنّفات من‬

‫معرفة اجتهادات الشافعية يف املوضوعات التي تبحثها؛ لعظم قدر مؤلفيها‪ ،‬واشتامهلا عىل‬

‫تفصيالت مل تذكر يف املصنّفات األخرى‪.‬‬

‫األول‪ّ :‬‬
‫املهذب‬ ‫املصنّفات الفقهية التي ال تندرج حتت واحدة من املجموعات السابقة‪ّ :‬‬
‫للشريازي‪ ،‬الثاين‪ :‬الوسيط يف املذهب للغزايل‪ ،‬الثالث‪ :‬الوجيز للغزايل‪ ،‬الرابع‪ :‬التهذيب يف‬

‫فقه اإلمام الشافعي لإلمام البغوي‪ ،‬واخلامس‪ :‬عجالة املحتاج إىل توجيه املنهاج لّساج الدين‬

‫بن املل ّقن وهو رشح ملنهاج الطالبني للنووي‪ ،‬السادس‪ :‬كنز الراغبني يف رشح منهاج الطالبني‬

‫مهمتان‪:‬‬
‫أهم رشح للمنهاج قبل رشحي التحفة والنهاية وعليه حاشيتان ّ‬ ‫للجالل ّ‬
‫املحيل وهو ّ‬
‫الوهاب بتوضيح رشح منهج ّ‬
‫الطالب لل ُعجييل املعروف‬ ‫قليوب وعمرية‪ .‬السابع‪ :‬فتوحات ّ‬
‫باجلمل‪ ،‬رشح فيه منهج الطالب (خمترص منهاج الطالبني) لزكريا األنصاري‪ ،‬ورشحه‬

‫ويسمى رشح العجييل‪ :‬بحاشية اجلمل عىل رشح املنهج‪ .‬الثامن‪ :‬حاشية‬
‫ّ‬ ‫األنصاري بنفسه‪،‬‬

‫الرشقاوي عىل حتفة الطالب برشح حترير تنقيح اللباب للعالمة عبد اهلل الرشقاوي‪ ،‬وكتاب‬
‫حترير تنقيح اللباب ورشحه حتفة ّ‬
‫الطالب من تصنيف شيخ اإلسالم األنصاري‪ .‬التاسع‪:‬‬

‫إعانة الطالبني‪ ،‬وهي حاشية للعالمة عثامن بن حممد شطا الدمياطي عىل كتاب‪ :‬فتح املعني‬

‫ورشحه فتح املعني من تصنيف العالمة‬


‫ُ‬ ‫قرة العني‬
‫بمهامت الدين‪ ،‬وكتاب ّ‬
‫قرة العني ّ‬
‫برشح ّ‬
‫امل ّليباري‪ .‬العارش‪ :‬ترشيح املستفيدين‪ ،‬وهي حاشية للعالمة علوي الس ّقاف عىل كتاب فتح‬

‫املعني للمليباري‪ .‬وهذه املصنّفات وإن كانت ال تعترب من الكتب املعتمدة يف بيان املفتى به يف‬

‫املذهب‪ ،‬بعد ظهور مصنّفات النووي والرافعي ثم اهليتمي والرميل‪ ،‬إال أن قيمتها تكمن يف‬

‫تضمنت فقها خص ًبا يتجىل يف عرض كثري من األقوال لفقهاء الشافعية ممن اندثرت‬
‫ّ‬ ‫أهنا‬

‫قوة الدليل‪ ،‬فقد يكون‬


‫يتحرون حكم الراجح بالنظر إىل ّ‬
‫مصنّفاهتم الفقهية‪ ،‬وهذا مفيد ملن ّ‬
‫الراجح عىل هذا املعنى هو ما قاله الشريازي يف ّ‬
‫املهذب‪ ،‬أو الغزايل يف الوسيط‪ ،‬وإن مل يكن‬

‫هو املفتى به يف املذهب‪ ،‬وألن بعض العلامء املعارصين بام أنجزوه من حتقيقات نافعة هلذه‬

‫خرجوا أحاديثها‪ ،‬وذكورا يف اهلوامش املعتمد يف الفتوى يف املذهب مو ّثقا‬


‫املصنّفات‪ ،‬حيث ّ‬
‫من مظانّه‪ ،‬كام فعل الدكتور الزحييل يف حتقيق املهذب والقره داغي يف حتقيق الوسيط‪ ،‬فهذا مما‬

‫يرفع القيمة العلمية هلذه الكتب‪.‬‬

‫املصنّفات الفقه ّية املعارصة‪ :‬وهذا النوع من املصنّفات امتاز بسهولة األسلوب‪ ،‬ووضوح‬

‫العبارة‪ ،‬والعناية بإبراز الدّ ليل عىل األحكام دون إطناب وإطالة‪ ،‬مع عدم بحث املسائل‬

‫الفقهية التي ال وجود هلا يف هذا العرص مثل أحكام العبيد واإلماء ونحوها‪ ،‬وذلك إما بعدم‬
‫ً‬
‫أصال‪ ،‬أو بعرضها عىل وجه اإلمجال دون التفصيل‪ .‬وفائدة هذا النوع من‬ ‫التطرق هلا‬
‫ّ‬
‫حتسن سهولة‬
‫املصنّفات‪ :‬أهنا خري ما يبدأ به طلبة العلم يف دراستهم للفقه الشافعي‪ ،‬حيث إهنا ّ‬
‫التدرج يف الفقه‪ ،‬وهو األصوب‬
‫املدونات الشافعية الكربى‪ ،‬وهذا هو منهج ّ‬
‫انتقاهلم منها إىل ّ‬
‫األول‪ :‬زاد املحتاج يف رشح املنهاج للشيخ عبد اهلل‬
‫واألجدى نف ًعا‪ .‬ومن أبرز هذه املصنّفات‪ّ :‬‬
‫آل حسن الكوهجي‪ ،‬ولد يف كوهج يف إيران‪ ،‬ورشحه يعتمد عىل مغني املحتاج للخطيب‪،‬‬

‫لكنه أقرب منه إىل روح العرص يف أسلوبه وعبارته‪ .‬الثاين‪ :‬فقه املنهجي عىل مذهب اإلمام‬

‫خلن‪ ،‬ومصطفى ديب البغا‪ ،‬وعيل‬


‫الشافعي‪ ،‬صنّفه ثالثة من كبار علامء دمشق‪ :‬مصطفى ا ّ‬
‫الرشبجي‪ ،‬وهو كتاب موجز مد ّلل ملسائل الفقه الشافعي‪ .‬الثالث‪ :‬الدّ رر النق ّية يف فقه السادة‬
‫مقررا عىل طالب املرحلة الثانوية يف األزهر‪،‬‬
‫الشافعية‪ ،‬للشيخ حممد الصادق قمحاوي‪ ،‬وكان ّ‬
‫الرابع‪ :‬تيسري فتح القريب املجيب للطالب األزهري النجيب يف صورة سائل وجميب‪ ،‬صنفه‬

‫مقررا عىل‬
‫الدكتور نرص فريد واصل والدكتور عبد احلميد السيد عبد احلميد‪ ،‬ليكون كتا ًبا ّ‬
‫مبسط‬
‫طالب املرحلة اإلعدادية يف املعاده األزهرية‪ ،‬وهو عىل صورة سؤال وجواب بأسلوب ّ‬
‫جدّ ا‬

‫مؤس َسه كتب‬


‫أن ّ‬‫أهم مميزات املذهب الشافعي عن غريه ّ‬
‫املصنّفات األصولية الشافعية‪ :‬من ّ‬
‫حتري معرفة أصول إمامهم يف استنباط‬
‫أصوله بنفسه‪ ،‬فلم يبذل علامء الشافعية عناء يف ّ‬
‫األحكام الفقهية؛ إذ مل يكونوا بحاجة إىل خترجيها عىل اجتهاداته يف الفروع؛ ولذلك كانت‬

‫معامل أصول الفقه ومباحثه واضحة متا ًما عندهم؛ مما ساعدهم عىل تطوير هذا العلم وخدمته‬

‫وسنتعرض اآلن هلذه املصنّفات مرتّبة ترتي ًبا‬


‫ّ‬ ‫عرب التاريخ اإلسالمي خدمة مل يسبقوا إليها‪.‬‬

‫يسهل مهمة تتبع التطور التارخيي للمصطلحات واملباحث‬


‫زمن ّيا؛ ألن ترتيبها تارخي ّيا ّ‬
‫األصولية عند الشافعية‪.‬‬

‫األول‪ :‬الرسالة لإلمام الشافعي‪ ،‬الثاين‪ :‬التبرصة يف أصول الفقه لإلمام‬


‫وأبرز هذه املصنّفات‪ّ :‬‬
‫أيضا وهو‬
‫أيب إسحاق الشريازي‪ ،‬الثالث‪ :‬اللمع يف أصول الفقه لإلمام أيب إسحاق الشريازي ً‬
‫أيضا‪ ،‬اخلامس‪ :‬الربهان يف أصول الفقه‬
‫اختصار للتبرصة‪ ،‬الرابع‪ :‬رشح اللمع للشريزاي ً‬

‫أيضا‪ ،‬السابع‪ :‬الورقات يف‬


‫لإلمام اجلويني‪ ،‬السادس‪ :‬التلخيص يف أصول الفقه للجويني ً‬
‫أصول الفقه للجويني‪ ،‬الثامن‪ :‬املنخول من تعليقات األصول أليب حامد الغزايل وهو‬

‫اختصار لكتاب الربهان للجويني‪ ،‬التاسع‪ :‬شفاء الغليل يف بيان الشبه واملخيل ومسالك‬

‫التعليل أليب حامد الغزايل‪ ،‬العارش‪ :‬املستصفى من علم األصول للغزايل‪ ،‬احلادي عرش‪:‬‬

‫أساس القياس للغزايل‪ ،‬الثاين عرش‪ :‬الوصول إىل األصول البن َبرهان البغدادي وتأ ّثر فيه‬
‫بالربهان للجويني‪ ،‬الثالث عرش‪ :‬املحصول يف علم أصول الفقه للفخر الرازي وهو موسوعة‬

‫أصولية‪ ،‬الرابع عرش‪ :‬املعامل يف أصول الفقه للرازي‪ ،‬اخلامس عرش‪ :‬الكاشف عن أصول‬

‫الدالئل وفصول العلل للرازي‪ ،‬السادس عرش‪ :‬التنقيح للمظ ّفر التربيزي وهو اختصار‬

‫ملحصول الرازي‪ ،‬السابع عرش‪ :‬اإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي‪ ،‬الثامن عرش‪ :‬احلاصل‬

‫لتاج الدين األرموي وهو اختصار للمحصول للرازي‪ ،‬التاسع عرش‪ :‬املحقق يف علم األصول‬

‫فيام يتعلق بأفعال الرسول صىل اهلل عليه وس ّلم أليب شامة املقديس‪ ،‬العرشون‪ :‬التحصيل يف‬

‫علم أصول الفقه لّساج الدين األرموي وهو اختصار للمحصول للرازي‪ ،‬احلادي‬

‫أهم املخترصات األصولية‬


‫والعرشون‪ :‬منهاج الوصول إىل علم األصول للبيضاوي وهو من ّ‬
‫عند الشافعية‪ ،‬الثاين والعرشون‪ :‬الكاشف عن املحصول لشمس الدين األصفهاين وهو رشح‬

‫للمحصول للرازي‪ ،‬الثالث والعرشون‪ :‬معراج املنهاج رشح منهاج الوصول للبيضاوي‬

‫لصفي‬
‫ّ‬ ‫لإلمام شمس الدين اجلزري‪ ،‬الرابع والعرشون‪ :‬هناية الوصول يف دراية الوصول‬

‫الدين اهلندي‪ ،‬اخلامس والعرشون‪ :‬الّساج الوهاج يف رشح املنهاج للبيضاوي لإلمام فخر‬

‫الدين اجلاربردي‪ ،‬السادس والعرشون‪ :‬رشح املنهاج يف علم األصول للبيضاوي لإلمام‬

‫شمس الدين األصفهاين‪ ،‬السابع والعرشون‪ :‬تلقيح الفهوم يف تنقيح صيغ العموم لإلمام‬
‫صالح الدين حممد بن كيكلدي العالئي‪ ،‬الثامن والعرشون‪ :‬حتقيق املراد يف ّ‬
‫أن النهي يقتيض‬

‫للتقي‬
‫ّ‬ ‫الفساد لصالح الدين العالئي‪ ،‬التاسع والعرشون‪ :‬اإلهباج يف رشح املنهاج للبيضاوي‬

‫السبكي‪ ،‬وأمتّه بعده ولده التّاج السبكي‪ ،‬وهم من أهم رشوح املنهاج‪ ،‬الثالثون‪ :‬رفع احلاجب‬

‫عن خمترص ابن احلاجب للتاج السبكي‪ ،‬وهو رشح ملخترص منتهى السول واألمل املشهوى‬

‫بمخترص ابن احلاجب‪ ،‬احلادي والثالثون‪ :‬مجع اجلوامع للتاج السبكي وهو من أشهر‬

‫املخترصات يف األصول عند الشافعية وعليه رشوحات وحوايش كثرية‪ ،‬الثاين والثالثون‪:‬‬

‫هناية السول يف رشح منهاج الوصول للبيضاوي لإلمام مجال الدين عبد الرحيم اإلسنوي‬
‫وهو من الرشوح املشهورة للمنهاج ومعه حاشية للشيخ بخيت املطيعي‪ ،‬الثالث والثالثون‪:‬‬

‫البحر املحيط يف أصول الفقه لبدر الدين الزركيش‪ ،‬هو موسوعة يف أصول الفقه‪ ،‬وهو آخر‬

‫كتاب ال يرتبط بورقات اجلويني أو مجع اجلوامع للسبكي‪ ،‬فجميع ما كتب بعده يتعلق هبذين‬

‫نظام هلام‪.‬‬
‫رشحا أو حاشية أو ً‬
‫الكتابني‪ ،‬كان ً‬

‫ومن أشهر املصنّفات األصولية املتعلقة بكتاب الورقات‪ :‬رشح الورقات لتاج الدين الفزاري‬

‫ّ‬
‫املحيل ومعه حاشية للدمياطي‪ ،‬واألنجم‬ ‫املعروف بابن الفركاح‪ ،‬ورشح الورقات للجالل‬
‫الزاهرات عىل ّ‬
‫حل ألفاظ الورقات لشمس الدين املارديني‪ ،‬ورشح الورقات لكامل الدين‬

‫القاهري املشهور بابن إمام الكاملية‪ ،‬والتحقيقات يف رشح الورقات لإلمام احلسني بن أمحد‬

‫الكيالين‪ ،‬وتسهيل الطرقات يف نظم الورقات للعالمي حييى بن موسى العمريطي‪ ،‬وحاشية‬

‫ّ‬
‫للمحيل للعالمة أمحد بن عبد اللطيف اخلطيب اجلاوي‪.‬‬ ‫النفحات عىل رشح الورقات‬

‫املصنفات األصولية املتع ّلقة بكتاب مجع اجلوامع‪ :‬منع املوانع عن مجع اجلوامع للتاج السبكي‪،‬‬

‫وتشنيف السامع بجمع اجلوامع للزركيش‪ ،‬والغيث اهلامع رشح مجع اجلوامع لإلمام ويل‬

‫الدين الكردي املشهور بأيب زرعة‪ ،‬والبدر الطالع برشح مجع اجلوامع للجالل املحيل وهو من‬

‫أتقن وأشهر رشوح مجع اجلوامع ومعه حاشية للعالمة العطار‪ ،‬والضياء الالمع رشح مجع‬

‫اجلوامع لإلمام أمحد اليزلطيني القروياملعروف بحلولو‪ ،‬والكوكب الساطع نظم مجع اجلوامع‬

‫ولب األصول لزكريا األنصاري وهو‬


‫أيضا‪ّ ،‬‬
‫للسيوطي‪ ،‬ورشح الكوكب الساطع للسيوطي ً‬
‫أيضا‪ ،‬والبدر الالمع‬
‫لب األصول لألنصاري ً‬
‫اختصار جلمع اجلوامع‪ ،‬وغاية الوصول رشح ّ‬
‫يف نظم مجع اجلوامع لإلمام نور الدين األشموين‪ ،‬واآليات الب ّينات للعالمة أمحد بن قاسم‬

‫العبادي وهو أكرب حاشية وضعت عىل رشح ّ‬


‫املحيل عىل مجع اجلوامع‪ ،‬وحاشية البناين للعالمة‬

‫أيضا‪ ،‬وحاشية‬ ‫ّ‬


‫املحيل عىل مجع اجلوامع ً‬ ‫عبد الرمحن البناين املغريب وهو حاشية عىل رشح‬
‫ً‬
‫تداوال من بني حوايش‬ ‫العطار عىل رشح ّ‬
‫املحيل عىل مجع اجلوامع للعالمة العطار‪ ،‬وهي األكثر‬

‫ّ‬
‫املحيل‪ ،‬والفصول البديعة يف أصول الرشيعة للعالمة الباجوري وهو اختصار جلمع‬ ‫رشح‬

‫اجلوامع‪ ،‬والرتياق النافع يف إيضاح وتكميل مجع اجلوامع لشهاب الدين أيب بكر العلوي‬

‫احلسيني وهو رشح جلمع اجلوامع‪.‬‬

‫الدراسات املعارصة يف أصول فقه الشافعية‪ :‬اإلمام الشافعي وأثره يف أصول الفقه للدكتور‬

‫حسن حممد سليم‪ ،‬وفيه مقارنة بني أصوليي الشافعية وأصوليي غريهم يف معظم مسائل‬

‫أصول الفقه‪ ،‬واإلمام الشافعي وأثره يف تأصيل قواعد علم األصول ألمحد عبطان عباس‪،‬‬

‫ومنهاج الترشيع اإلسالمي يف القرن الثاين اهلجر للدكتور حممد بلتاجي‪ ،‬ومناهج االجتهاد يف‬

‫اإلسالم للدكتور حممد سالم مدكتور‪ ،‬وتاج الدين السبكي ومنهجه يف أصول الفقه‪ ،‬ألمحد‬

‫إبراهيم احلسنات‪.‬‬

‫مصنّفات القواعد الفقهية عند الشافعية‪ :‬األول‪ :‬األشباه والنظائر البن الوكيل املرصي‪،‬‬
‫والثاين‪ :‬املجموع ْ‬
‫املذهب يف قواعد املذهب لإلمام صالح الدين ابن كيكلدي العالئي‪،‬‬

‫والثالث‪ :‬األشباه والنظائر للتاج السبكي وهو من أبرز الكتب يف هذا الباب‪ ،‬والرابع‪ :‬املنثور‬

‫يف ترتيب القواعد الفقهية للزركيش‪ ،‬واخلامس‪ :‬القواعد لتقي الدين احلصني وأصله اختصار‬

‫لكتاب العالئي السابق‪ ،‬والسادس‪ :‬خمترص من قواعد العالئي وكالم اإلسنوي لإلمام حممود‬

‫بن أمحد احلموي الفيومي املعروف بابن خطيب الدهشة مجع فيه مؤلفه بني ثالثة كتب‪:‬‬

‫املجموع املذهب‪ ،‬والتمهيد‪ ،‬والكوكب الدّ ري‪ ،‬واألخريان لإلسنوي‪ ،‬فهو كتاب فريد‪،‬‬

‫والسابع‪ :‬ا ألشباه والنظائر للسيوطي وهو موسوعة يف بابه‪ ،‬والثامن‪ :‬الفرائد البهية يف نظم‬

‫القواعد الفقهية يف األشباه والنظائر عىل مذهب الشافعية للعالمة أيب بكر األهدل احلسيني‬

‫اليمني وهي قصيدة يف قواعد الفقه الشافعي‪ ،‬ورشحها بعده العالمة عبد اهلل بن سليامن‬
‫اجلرهزي يف كتاب‪ :‬املواهب السنية رشح الفرائد البه ّية‪ ،‬ثم جاء العالمة حممد ياسني الفاداين‬

‫سمها‪ :‬الفوائد اجلن ّية حاشية املواهب السن ّية‪.‬‬


‫املكي فوضع حاشية عىل املواهب ّ‬

‫النبي حممد وآله وأزواجه وس ّلم‪.‬‬ ‫ّ‬


‫وصىل اهلل عىل ّ‬ ‫تم بحمد اهلل‪،‬‬
‫ّ‬

You might also like