You are on page 1of 44

‫محاضرات‬

‫ابستمولوجية العلوم الرياضية‬


‫د‪ .‬محمد الطاغوس‬

‫المحاضرة األولى‬
‫مدخل عام‬
‫من المعلوم لدى دارسي الفلسفة أن هناك صلة وثيقة بين العلم والفلسفة‪ ،‬ففي الفكر القديم حينما‬
‫كانت العلوم أجزاء من الفلسفة‪ ،‬ك""انت الص""لة بين المبح""ثين ص""لة اهتم""ام من الفلس""فة لتحلي""ل‬
‫وتبرير مبادئ العلوم‪ .‬في الفكر الحديث أيضًا وبع""د أن اس""تقلت العل""وم عن الفلس""فة ظلت تل""ك‬
‫الصلة قائمة وتعمقت بعدما نشأ في العلوم نفسها حركات نقد ذاتي لبنائها العلمي من داخله‪ ،‬أي‬
‫محاوالت الختبار األفكار والمبادئ التي يقوم عليها هذا البناء‪ ،‬فقدمت ب""ذلك العل""وم مش""كالتها‬
‫التي تواجهه""ا والموض""وعات ال""تي تثيره""ا إلى الفلس"فة ال""تي ق"امت بوظيفته""ا الدائم""ة في نق""د‬
‫المعرفة المتكونة في األنساق العلمية للوقوف على حقيقة األس""س ال""تي يق""وم عليه""ا وطبيعته""ا‬
‫وقيمتها‪ .‬فظهر للوجود مبحث جديد أخذ اسم "فلسفة العلوم" أو االبستمولوجية ال""تي هي ملتقى‬
‫الباحثين في المعسكرين العلمي والفلسفي ومجال التعاون المثمر بينهما‪.‬‬
‫وإذا كانت األبحاث االبيستمولوجية‪ ،‬التي تع""نى بالمعرف""ة عام""ة والمعرف""ة العلمي""ة على وج""ه‬
‫الخصوص‪ ،‬قد اكتسبت أهمية بالغة الحساسية في ال"وقت الحاض"ر بس"بب اإلس"هامات العميق"ة‬
‫ال""تي ق""دمتها للعلم‪ ،‬فق""د أص""بحت من جه""ة أخ""رى المي""دان ال""رئيس داخ""ل األبح""اث الفلس""فية‬
‫المعاصرة‪ .‬بل يمكن الق""ول إن البحث االبس""تمولوجي في اهتمام""ه بالعالق""ة المركب""ة بين العلم‬
‫والفلسفة يسر لنا فهمًا أعمق وأيسر للفلس""فة المعاص""رة‪ ،‬وبين بوض""وح أن اس""تيعابًا ج""اد له""ذه‬
‫الفلس""فة وتمثًال ملتزم"ًا لتعاليمه""ا المم""يزة ولمدارس""ها الك""برى ال يك""ون إال من خالل اس""تعادة‬

‫‪1‬‬
‫المشكالت الرئيسة واألسئلة الملحة والحاجات الفكرية الحيوية ال""تي فرض""ها العلم وال""تي نمت‬
‫الفلسفة عبر اإلجابة عنها وتطورت بتقديم الحلول لها‪.‬‬
‫ويكفي هنا أن نقدم مثاًال بس""يطًا لنوض""ح ب""ه تع""ذر فهم الخط""اب الفلس""في الح""ديث والمعاص""ر‬
‫خارج إطار عالقته التضايفية م"ع الخط"اب العلمي المعاص"ر ل"ه‪ :‬ف"إذا حاولن"ا مراجع"ة أب"رز‬
‫المقوالت وأهم التص""ورات ال""تي س""يطرت على الخط""اب الفلس""في في تفس""ير الع""الم مثًال قب""ل‬
‫المرحلة الحديثة سنجد أنها تضم المفردات التالية‪ :‬الماهية‪ ،‬الجوهر‪ ،‬العرض‪ ،‬الُمث""ل‪ ،‬الفيض‪،‬‬
‫الغاية‪ ،‬الوجود بالقوة‪ ،‬الوجود بالفعل‪ ،‬الص""ورة‪ ،‬الهي""ولي‪ ....‬إلخ‪ .‬إذا انتقلن""ا اآلن إلى الفلس""فة‬
‫الحديثة سنجد تراجعًا متزايدًا لهذه األفكار لصالح نوع مغاير جديد أخ""ذ يحت""ل موق""ع الص""دارة‬
‫في الخطاب الفلسفي الحديثة مثل‪ :‬المكان‪ ،‬الزمان‪ ،‬الجسم‪ ،‬ال""ذرة‪ ،‬الحرك""ة‪ ،‬الص""فات األولي""ة‬
‫والثانوية‪ ،‬القوانين الطبيعية منها والوضعية‪ ،‬االستقراء‪ ،‬االستنتاج‪...‬إلخ‪.‬‬
‫السؤال هنا هو كيف نفسر هذا التبدل الجذري الذي طرأ على المقوالت والتصورات واألفك""ار‬
‫في الخطاب الفلسفي؟ بكل بساطة يمكننا اإلجابة على هذا السؤال بالطريقة التالية‪ :‬إن المعاين""ة‬
‫السريعة لما هو جديد يبين لنا أنها مستمدة ومش"تقة كله"ا من العلم الح"ديث وخطاب"ه ونظري"ات‬
‫ومش""كالته‪ .‬باختص""ار لق""د فرض""ت الكوزمولوجي""ا العلمي""ة الجدي""دة ت""دريجيًا على الفالس""فة‬
‫(والفلس""فة) خطابه""ا وتص""وراتها ومقوالته""ا كم""ا أملت عليه""ا طبيع""ة المش""كالت والمس""ائل‬
‫واألس""ئلة ال""تي ينبغي عليهم تناوله""ا ومعالجته""ا وح""ددت ربم""ا أيض"ًا ن""وع األجوب""ة المقبول""ة‪.‬‬
‫والواقع أن المحاض""رات ال""تي خصص""ناها له""ذا المبحث س""تتناول مث""اًال واض""حًا لُبع""دي ه""ذه‬
‫العالقة بين العلم والفلسفة من خالل مناقشتنا لعالقة الفلس"فة بأح"د أهم عل"وم العص"ر وه"و علم‬
‫الرياضيات‪.‬‬
‫لكن قب""ل الب""دء في ذل""ك الب""د لن""ا من تمي""يز الدراس""ات االبيس""تمولوجية في التفك""ير الفلس""في‬
‫بخص""وص العالق""ة بين العلم والفلس""فة‪ .‬فق""د قلن""ا إن األبح""اث االبس""تمولوجية تتن""اول قض""ايا‬
‫المعرفة والمعرفة العلمية‪ ،‬وهنا ال بد من التفريق بينها وبين فلس""فة المعرف""ة ال""تي تم""يزت به""ا‬
‫الفلسفة الحديثة بالمقارنة مع الفلسفة القديمة التي كانت في معظمه""ا فلس""فة في الوج""ود؛ فال ب""د‬
‫من التفريق بين فلسفة المعرفة كما دش""نها ديك""ارت وح""دد موض""وعها وش""يد ص""رحها كان""ط‪،‬‬

‫‪2‬‬
‫وبين الدراسات االبستمولوجية المعاصرة التي نشطت عقب الثورة العلمية الحديثة التي شهدها‬
‫العقد األول من القرن العشرين‪ .‬إنه فرق كبير يعكس البون الشاسع بين الفيزي""اء والرياض""يات‬
‫الكالسيكية ال""تي دش""نها كًال من غ""اليليو وديك""ارت واليبن""تز وني""وتن من جه""ة‪ ،‬وبين الفيزي""اء‬
‫والرياضيات الحديثة التي أرشى دعائمها كًال من ماكس بالن""ك وأينش""تين (فيزي""اء)‪ ،‬وج""ورج‬
‫كانتور وديفيد هلبرت (رياضيات) من جه""ة آخ""رى‪ .‬إن الدراس""ات اإلبس""تمولوجية تنتمي إلى‬
‫الفكر المعاصر على نحو يفصلها عن نظرية المعرفة بمعناها الكالسيكي وعن ت""داخل العالق""ة‬
‫بين العلم والفلسفة كما شهدناه في كثير من المذاهب الفلسفية‪.‬‬
‫لتوضيح هذه القضايا والبرهنة على التقارير التي أعلنتها حول عالق"ة الفلس"فة ب"العلم س"نتناول‬
‫في البحث موضوع الفكر الرياضي وتطوره من اليون""ان إلى ال""وقت الحاض""ر‪ ،‬مرك""زين على‬
‫القض"ايا ال"تي تتناوله"ا فلس"فة الرياض"يات‪ ،‬رابطين بين ه"ذه القض"ايا وتط"ور الفك"ر العقالني‬
‫بحيث يفضي بنا هذا الرصد إلى الوقوف على المعالم الرئيس""ة للعقالني""ة المعاص""رة والمفه""وم‬
‫الجديد الذي تشتقه عن الحقيقة‪ .‬ثم سنقف عند بعض القض""ايا المنف""ردة ال""تي تلقي الض""وء على‬
‫كيفية معالجها بعض القضايا الرياضية داخل إطار التفكير االبستمولوجي مثل قض""ية البره""ان‬
‫الرياضي‪ ،‬قضية المعاني الرياضية‪ ،‬ووظيفة الرياضيات وأثرها في العلوم‪.‬‬

‫تاريخ الرياضيات موضوعها وفروعها‬

‫حقيقة أن"ه ال علم أك"ثر عراق"ة في تاريخ"ه من الرياض"يات‪ ،‬فق"د أخ"ذ ه"ذا المبحث ص"فة العلم‬
‫اليقيني منذ أقدم مفكريه "فيثاغورث"‪ .‬وإذا قلنا إننا سنتناول هذا التاريخ بعين االعتبار فإننا مع‬
‫ذلك غير معنيين هنا بالتأريخ للرياضيات ككش""وف وإنج""ازات‪ .‬وإن كن""ا س""نعرض بين الحين‬
‫واألخر لهذا الكشف أو ذاك اإلنجاز بحسب م""ا تتطلب""ه م""ادة البحث ال""تي ترص""د تط""ور الفك""ر‬
‫الرياض""ي (أي فك""ر الرياض""يين وفيم""ا يفك""رون) ف""إن م""ا نرج""وه من وراء ذل""ك ليس الفك""ر‬
‫الرياضي بذاته‪ ،‬بل نموذج المعقولية الذي يرسم معالم""ه بوض""وح‪ .‬فليس تتبعن""ا لتط""ور الفك""ر‬
‫الرياضي إال تتبعًا لتطور المعقولية والفك""ر العقالني من أفالط""ون إلى العص""ور الراهن""ة‪ .‬إن""ه‬

‫‪3‬‬
‫تتبع لنشوء وتطور هذه المسائل وتحليلها تحليًال يبرز قيمتها االبيستمولوجية وداللتها الفلسفية‪.‬‬
‫في هذا التتبع لتطور الفكر الرياضي سنحاول تناول مرحلتين أساسيتين‪:‬‬

‫المرحلة األولى وتتمث"ل فيم"ا سنس"ميه ع"ادة بالرياض"يات الكالس"يكية ال"تي احت"وت نظري"تين‬
‫كب""يرتين ح""ول موض""وع ومنهج الرياض""يات‪ :‬األولى ج""اءت في الفك""ر اليون""اني تحت اس""م‬
‫الرياضيات التأملية والعقالنية الفلسفية التي دعمتها‪ ،‬أما الثانية فقد تأخرت حتى الفكر الح""ديث‬
‫وصاغت الرياضيات االنشائية وعقالنيتها الجديدة‪.‬‬

‫المرحلة الثاني ة وتشمل المرحل""ة االنتقالي""ة بم""ا حملت""ه من تط""ورات وأزم""ات داخ""ل التفك""ير‬
‫والبنيان الرياضيين وصوًال إلى تحقيق نقلة نوعية عبر طرح "أزمة أس""س الرياض""يات" ال""تي‬
‫خلقت نظريات ابستمولوجية جديدة حول طبيع""ة ومنهج الفك""ر الرياض""ي أسس""ت للرياض""يات‬
‫المعاصرة وفلسفتها الجديدة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المحاضرة الثانية‬
‫المرحلة األولى‬
‫الرياضيات الكالسيكية‬
‫عندما نريد تمييز علم عن أخر نقوم عادة بذلك استنادًا لموضوعه ومنهج""ه المتناس""ب م""ع ه""ذا‬
‫الموضوع‪ .‬لكن عندما نريد تميزت الرياضيات الكالسيكية عن الرياضيات الحديثة‪ ،‬فإننا نج""د‬
‫أن ما يميز بينهما هو أن األولى تميز بين الموضوع والمنهج في حين تدمج الثانية بينهما‪.‬‬
‫في الرياضيات الكالسيكية موضوع الرياضيات هي علم الكم والمق""دار‪ .‬المق""دار‪ :‬ك""ل م""ا ه""و‬
‫قابل للزيادة والنقصان‬
‫تبحث الرياضيات فقط في المقادير القابلة للقياس أي المقادير الكمية وهي نوعان‪:‬‬
‫‪1‬ـ) المقادير الكمية المشخصة‪ :‬كالمكان الذي هو موضوع علم الهندس""ة والحرك""ة موض""وع‬
‫علم الميكانيكا وتسمى هذه المقادير بالكم المتصل‪.‬‬
‫‪2‬ـ) المقادير الكمية المجردة‪ :‬كالعدد الذي هو موضوع علم الحساب‪ ،‬وتس""مى ه""ذه المق""ادير‬
‫بالكم المنفصل‬
‫في التطور الفلس"في الكالس"يكي يأخ"ذ ه""ذان النوع""ان ش"كل معطي""ات أولي""ة تمثله""ا "الكائن""ات‬
‫الرياضية"‪ ,‬أي أفكار تشكل المحتوى الخاص للعقل‪ ،‬هذا المحت""وى الخ""اص يأخ""ذ ت""ارة ش""كل‬
‫أفكار كلي""ة كالمث""ل األفالطوني""ة ويأخ""ذ ت""ارة أخ""رى ش""كل األفك""ار الفطري""ة ال""تي ع""بر عنه""ا‬
‫ديكارت‪ .‬ونظ"رًا لطبيع"ة ه"ذا الموض"وع ك"ان المنهج الرياض"ي الكالس"يكي والفك"ر الفلس"في‬
‫عمومًا يعوالن على الحدس واالستنتاج‪ :‬حدس الحقائق البديهية واألفك""ار الفطري""ة‪ ،‬واس""تنتاج‬
‫حق"ائق جدي"دة من تل"ك‪ .‬وذل"ك ب"دعوة أن الح"دس يم"د الرياض"يات بالخص"وبة أم"ا االس"تنتاج‬
‫فيمنحها التماسك المنطقي‪ .‬ومن هنا يمكن لنا الحديث داخل المرحلة الكالس""يكية عن نظري""تين‬

‫‪5‬‬
‫أساسيتين‪ :‬األولى تعود إلى التفكير اليوناني الذي ص""اغ الفك""ر الرياض""ي ض""من إط""ار ت""أملي‬
‫فلسفي وحدسي فأنتج الرياضيات التأملية وعقالنيتها‪ .‬أما النظرية الثاني""ة فت""أخرت ح"تى بداي""ة‬
‫العصور الحديثة وخاصة م"ع ظه"ور علم الج"بر ال"ذي ف"رض تح"وًال جوهري"ًا في فهم طبيع"ة‬
‫ومنهج الرياضيات لتصبح الرياض"يات وش"كل المعقولي"ة ال"ذي تمثل"ه إنش"ائية من فع"ل ال"ذات‬
‫العاقلة بعد أن كانت تأملية مفروضة على هذه الذات‪.‬‬
‫أوًال‪ ):‬الرياضيات التأملية وعقالنيتها عند اليونان‬
‫ت""روي لن""ا كتب الت""اريخ أن حض""ارات الش""رق الق""ديم‪ ،‬خاص""ة منه""ا الحض""ارة المص""رية‬
‫والحضارة البابلية‪ ،‬عرفت أشكال مختلفة من التفكير الرياض""ي كعلم الحس""اب والهندس""ة وعلم‬
‫المس"احة‪ ،‬فت"اريخ ه"يرودوت مثًال يق"ول لن"ا إن ميالد الهندس"ة ك"ان في مص"ر القديم"ة نتيج"ة‬
‫لفيضانات النيل‪ .‬فقد كانت األراضي آنذاك تعود بكليتها إلى فرعون الذي كان يؤجرها مقاب""ل‬
‫عائد على محاصيلها‪ ،‬إال أن فيضانات النيل غيرت مقاس الحصص المتس""اوية باألص""ل‪ ،‬مم""ا‬
‫استوجب وجود مهندس لقياس تناقص حجم القطعة وحساب التناقص النسبي للعائد‪ .‬باإلض""افة‬
‫إلى ذلك عرف المصريون العمليات األربعة في الحساب وقاموا ببعض العمليات المعقدة نوعًا‬
‫ما‪.‬‬
‫كذلك تدلنا بعض األبحاث الجديدة أن الرياضيات كانت متقدم""ة عن""د الب""ابليين‪ ،‬فق""د اس""تخدموا‬
‫الحساب والهندسة في دراسة الكواكب والنجوم وحس"اب ال"زمن وفي تنظيم المالح"ة والفالح"ة‬
‫شؤون الري‪ .‬إال أن هذه األشكال بقيت محصورة في اإلط""ار التط""بيقي العملي الناش""ئ أص"ًال‬

‫عن ضغط الحاجات االقتصادية واالجتماعية والحياتية عمومًا‪ ،‬مم""ا أج""ل ظه""ور الرياض""يات‬
‫كعلم نظري بحت إلى أيام اليونان الذين نقلوا الممارسة الرياضية من عالم المحسوس إلى عالم‬
‫المعقول‪ ،‬من التطبيق العملي إلى التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث بما هو ثابت وأبدي ال ما هو‬
‫متغير ومؤقت‪.‬‬
‫لكن لم تكن هذه النقلة النوعية في الفكر اليوناني بخصوص الرياضيات مباشرًة ودفعًة واح""دًة‪،‬‬
‫وذلك ألنها لم تحدث بالمعنى الدقيق إال في القرن الث""الث قب""ل الميالد على ي""د أفالط""ون‪ .‬فعلى‬
‫الرغم من اهتمام اليونان بالرياضيات وإبداعهم نظرياتها ونظمهم ألولى قواعدها وقوانينها إال‬

‫‪6‬‬
‫إنهم بقوا حتى زمن أفالطون ال يميزون بينها وبين مهارات أخرى (كالنجارة والحدادة) عندما‬
‫يريدون تع"داد العل"وم في عص"رهم‪ .‬وق"د وثقت مح"اورات أفالط"ون ه"ذه الواقع"ة على لس"ان‬
‫ثياتيتوس عندما أراد اإلجابة على سؤال سقراط عن "ماهية العلم" بالتالي‪" :‬يبدو لي أن العل""وم‬
‫هي ما يمكننا تعلمه عند ثيودور‪ ،‬الهندس"ة والعل"وم األخ"رى ال"تي ع"ددتها للت"و ومهن"ة الح"ّذ اء‬
‫أيضًا ليست شيء أخر غير العلم باإلضافة إلى تقنيات الِحَر ف األخرى مجتمع""ة" بحس""ب ه""ذا‬
‫النص العلم هو ما يمكن تعلمه سواء عند الرياضي أو عند الِحرفي‪ ،‬أم""ا العل""وم األخ""رى ال""تي‬
‫أتى على تعدادها سقراط كما أشار ثياتيتوس فهي الحساب‪ ،‬علم الفلك‪ ،‬الموسيقى أي رياضيات‬
‫ذلك العصر‪ .‬وما يمكن مالحظته من هذا النص هو أن الف""رق الج""وهري بين عم""ل المهن""دس‬
‫وعمل الحّذ اء لم يكن واضحًا على نحو كافي في الق""رن الث""الث قب""ل الميالد‪ ،‬فالرياض""يات تعّلم‬
‫مثل حرفة الحّذ اء‪ ،‬وهي قبل ك""ل ش"يء مه""ارة عملي""ة‪ ،‬مه""ارة مس"اح وحاس"ب‪ .‬في الواق"ع إن‬
‫صياغة مفهوم الرياضيات كعلم بالمعنى ال""ذي نفهم""ه الي""وم ك""ان بج"زء كب""ير من""ه م""ا س"يفعله‬
‫أفالطون الحقًا‪ ،‬ألن ظهور هذا المفهوم ارتبط بصورة وثيقة بتفكيره الفلسفي‪.‬‬
‫تبدأ القصة في محاورة مينون وهي المحاورة التي عرض فيها أفالطون نظريته في المعرفة‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ما يميز هذه المحاورة هو أنها على خالف المحاورات السابقات (حيث كان الطب هو النموذج‬
‫الذي استخدمه أفالطون لمناقشة المعرفة األخالقي""ة والسياس""ية)‪ ،‬أعتم""د أفالط""ون فيه""ا للم""رة‬
‫األولى التفكير الرياض"ي الس"ائد في عص"ره نموذج"ًا للمعرف"ة وأداة للبرهن"ة على نظريت"ه في‬
‫المعرفة التي صاغها بقالب أسطورة (تقول إن المعرفة تذكر)‪ ،‬وذل""ك من خالل تناول""ه مش""كلة‬
‫مضاعفة المربع‪ ،‬التي أراد بها أن يبرهن لـ مينون كي""ف اس""تطاع الش""اب الص""غير ت""ذكر ح""ل‬
‫مشكلة رياضية مستخرجًا علمه من ذاته بالرغم من جهله بالهندسة‪.‬‬
‫والواقع أن ما يعنينا في هذا الطرح هو هذا األسلوب الجديد الذي أعتمده أفالطون في البره""ان‬
‫على نظريته‪ ،‬ألن مراجعة هذا النموذج ت""بين لن""ا أن أفالط""ون ط""ور أس""لوبًا جدي""دًا في التفني""د‬
‫وإذا‬ ‫يقترب كثيرًا مما يعرف في الرياضيات بـ "برهان الخلف أو بره""ان نقض الف""رض"‪.‬‬
‫كنا غير معنيين هنا بالبرهان الذي يقدمه أفالط"ون ألطروح"ة "المعرف"ة ت"ذكر" فه"و م"ع ذل"ك‬
‫‪1‬ـ مينون هي أقدم النصوص التي وصلت إلينا والمخصصة للرياض يات في اللغ ة اإلغريقي ة‪ .‬وق د كتبت قب ل مين ون ع دة مؤلف ات عن الرياض يات‪،‬‬
‫والسيما مؤلفات ديموقريدس وإبوقراط مؤلف كتاب المبادئ األولى‪ .‬لكن إيًا من هذه النصوص لم يحفظ لنا‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫يكشف لنا قضيتين هامتين في بحثنا‪ :‬أوالهما أنها تفصح عن المفهوم الذي كونه أفالط""ون عن‬
‫العلم‪ ،‬فللمرة األولى في تاريخ الفكر يمكنن""ا أن نق""ول م""ع أفالط""ون أن "ال علم ب""دون اس"تدالل‬
‫وب""دون بره""ان"‪ ,‬أم""ا القض""ية الثاني""ة فهي أن الرياض""يات كمعرف""ة الأمبيريقي""ة مؤسس""ة على‬
‫االستدالالت هي نموذج هذا العلم‪.‬‬
‫لكن ما الذي يجعل من الرياضيات نموذجًا للعلم عند أفالطون؟‬
‫الحقيق""ة أن الث""ابت في ك""ل المح""اورات ه""و معارض""ة أفالط""ون بين المعرف""ة الحقيقي""ة ال""تي‬
‫موضوعها نوع ومجال الفكر‪ ،‬والرأي البسيط الذي موضوعه المحسوس‪ .‬فهو يرى أن كل ما‬
‫هو مرئي ومحسوس متعدد وغير مستقر وال يمكن أن يكون موضوع معرف""ة حقيقي""ة‪ ،‬أم""ا م""ا‬
‫يعرفه العقل بذاته دون واسطة اإلحساس فهو وحده موضوع معرف""ة حقيقي""ة‪ ،‬وبالت""الي لم يكن‬
‫اعتبار أفالطون الرياضيات نموذج المعرفة الحقيقية إال لع""دم احتوائه""ا على ش""يء أمب""يريقي‪.‬‬
‫والواقع أن هذا ما حاول أفالطون شرحه في قوله‪ :‬إن "الرياضيين يستخدمون األشكال المرئية‬
‫ويقومون باستدالالتهم على هذه األشكال‪ ،‬لكن ليس إليها يفك""رون ب""ل إلى م""ا هي ش""بيهه‪ :‬مثًال‬

‫يقيمون استدالالتهم على المربع بذاته وليس على ذلك الذي يخط ويرسم‪".‬‬
‫إن الرياضيات بهذا المعنى هي التي تقود بشكل طبيعي إلي العقل بمساعدة بعض اإلحساس""ات‬
‫التي ترافق العقل وص"وًال للحقيق"ة الموج"ودة في" ع"الم المث"ل"‪ ,‬معه"ا يتخلص الفيلس"وف من‬
‫الصيرورة ألن عليه االهتمام بالجوهر‪ .‬إنها تجبر النفس على التعلم بواسطة العقل وحده‪ .‬على‬
‫هذا النحو يخلص أفالطون في جمهوريته لنتيجة التالي"ة‪" :‬ليس"ت مهم"ة العلم الرياض"ي خدم"ة‬
‫التجار في عمليات البيع والشراء‪ ،‬كما يعتقد الجّه ال‪ ،‬ب""ل تيس""ير طري""ق النفس في انتقاله""ا من‬
‫دائرة األشياء الفانية على تأمل الحقيقة الثابتة والخالدة‪".‬‬
‫لقد أصبحت مهمة الرياضيات إذن جذب النفس نحو الثابت والمطلق والكامل بقطع النظ""ر عن‬
‫محاكياتها الحسية‪ .‬فموضوع الرياض""يات ماهي ات ذهني ة تتمت ع بوج ود موض وعي مس تقل‬
‫وكامل‪ .‬فالعدد والمربع والمثلث والدائرة وكل الكائنات الرياض""ية األخ"رى هي كائن""ات كامل""ة‬
‫في ذاتها أما صورها الحسية فيعتريها النقص دائمًا‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫بهذا المعنى يمكننا القول إن أفالطون هو من فرض المنظور الجديد الذي يرى في الرياضيات‬
‫علمًا نظريًا بحتًا وينقل الممارسة الرياضية من عالم المحسوس إلى عالم المعقول‪ ،‬من التطبيق‬
‫العملي إلى التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث بما هو ثابت وأبدي ال ما هو متغير ومؤقت‪.‬‬
‫لكن داخل هذا المنظور الجديد الذي جعل من الرياضيات علمًا نظري "ًا خالص "ًا ك""انت االهتم""ام‬
‫األول في هذا العلم منص"ب على كم"ال وبس"اطة وتناس"ق وجم"ال الكائن"ات الرياض"ية بكونه"ا‬
‫صفات ذاتية لها‪ ،‬األمر الذي دفع الفكر اليون""اني باتج""اه األبح""اث التأملي""ة المحض""ة ال""تي تهتم‬
‫بجمال االكتشافات وتناسق العالقات لدرجة أضفوا فيها على األعداد واألش""كال طابع"ًا س""حريًا‬
‫وحص""روا دراس""اتهم في الموض""وعات ال""تي يمكن إض""فاء ه""ذه الص""فة عليه""ا وأبع""دوا من‬
‫اهتماماتهم الموضوعات الرياضية األخرى ال""تي يكتن""ف تص""ورها بعض التش""ويش والنقص‪.‬‬
‫مما خلق عائقًا أمام الفكر الرياضي اليوناني منعه من استكمال عملية التطوير الالزمة‪.‬‬
‫ويكفي أن نذكر هنا الدور الذي لعبه مثل هذا االتجاه في إعاقة إدراك الرياضيين اليونان أهمية‬
‫اكتشافهم لن""وع جدي""د من األع""داد هي األع""داد الص""م؛ إي األع""داد ال""تي ال تقب""ل القي""اس وهي‬
‫األعداد التي عرفت منذ ذلك الوقت باألعداد الالعقلية (التي اليتصورها العق"ل تم"ام التص"ور)‬
‫وتسمى اليوم باألعداد الجذرية‪.‬‬
‫أما قصة هذه األعداد فتعود إلى فيثاغورث الذي أراد أن يطبق نظريت""ه المعروف""ة باس""مه على‬
‫أشكال مختلفة من المثلثات القائمة الزاوي""ة (تق""ول النظري""ة‪ :‬إن مرب""ع ال""وتر في المثلث الق""ائم‬
‫الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين) ولكنه فوجئ بأن وتر المثلث القائم الزاوي""ة‬
‫يكون في بعض الحاالت غير قابل للقياس بوحدات صحيحة‪ .‬فلو كان ل""دينا مثلث ق"ائم الزاوي""ة‬
‫وضلعاه المجاوران يساويان على التوالي ‪ 4 ,3‬فإن مربع وتره يساوي ‪+ 9 = 24 + 23 :‬‬
‫‪ 25 = 5 = 16‬وهو عدد صحيح "معق"ول" يمكن تص"وره بتمام"ه‪ ,‬ولكن إذا ك"ان ض"لعا‬
‫المثلث المذكور يساويان على التتالي ‪ 7 ,5‬فإن مربع الوتر يساوي ‪49 + 25 = 27 + 25‬‬
‫= ‪ 74‬وهو عدد غير صحيح بل يقع بين ‪ 8‬و ‪ 9‬على اعتبار أن ‪81 = 29 ,64 = 82‬‬
‫إذن إن مربع الوتر في هذا المثلث ال يقبل القياس بوحدات صحيحة ألنه يس"اوي ‪ 8‬م""ع كس"ور‬
‫ال نهاية لعدد أرقامه"ا بع"د الفاص"لة‪ ,‬ول"ذلك ال يمكن أن يتص"وره العق"ل بتمام"ه‪ .‬ه"ذه الواقع"ة‬

‫‪9‬‬
‫دفعت الفيثاغورثيين ليس فقط لعدم اعترافهم بغير األعداد الصحيحة وعدم العناية بغيرها‪ ،‬ب""ل‬
‫دفعت بالفكر اليون"اني إلهم"ال دراس"ة الحس"اب لص"الح االقتص"ار على الدراس"ات الهندس"ية‪،‬‬
‫أعراضهم عن األبحاث المعقدة ال"تي تطرحه"ا التجرب"ة وظل"وا مس"جونين في ع"المهم ال"ذهني‬
‫متأملين األفكار والمفاهيم البسيطة التي يدركها العقل بسهولة الحدس‪.‬‬
‫وإذا ك"ان من الممكن ‪-‬كم"ا ي"رى البعض‪ -‬اس"تثناء أعم"ال كًال من أرس"طو واقلي"دس بوص"فها‬
‫أرست الطابع المنطقي في تشييد صروحهم الرياضية النظري""ة وإرس""ائهم البره""ان الرياض""ي‬
‫على قواع"د منطقي"ة ص"ارمة‪ ،‬إال أنن"ا ال نس"تطيع إغف"ال الط"ابع الحدس"ي المف"رط ال"ذي س"اد‬
‫التص""ورات الرياض""ية واألفك""ار الفلس""فية للعقالني""ة اليوناني""ة وأع""اق تطورهم""ا‪ ،‬ح""تى داخ""ل‬
‫الصروح المنطقية عند اقليدس‪:‬‬
‫منطق العالق"ات المكاني""ة عن""د اقلي""دس وارخمي""دس حيث توض""ع التعريف""ات األولي""ة وتص""اغ‬
‫المسلمات والبديهيات استنادًا للحدس المكاني‪ ،‬كما ال يمكن قبول الكثير من براهينه إال بش""هادة‬
‫األشكال والصور الهندسة المرتبطة بالحدس المكاني‪.‬‬
‫خالصة الق""ول بقي الفك""ر الرياض""ي اليون""اني يتعام""ل م""ع موض""وعات الرياض""يات ككائن""ات‬
‫مستقلة كاملة ومعروفة ال نحتاج إال إلى تذكرها تارة‪ ،‬وتأمل خصائص""ها وتوكي""دها وتس""جيلها‬
‫تارة أخرى‪ .‬وبالمقابل بقي الفكر العقالني اليون"اني يتن"اول ه"ذه الكائن"ات بوص"فها المعطي"ات‬
‫أولية التي تشكل المحتوى الخاص للعقل الذي تارة يتناولها بالحدس (حدس األعداد واألشكال)‬
‫وتارة ينظمها مع غيرها من المعطيات والحقائق األخرى عبر االستدالل واالستنتاج المنطقي‪.‬‬
‫على هذا النحو أنتج اليونان الرياضيات التأملية وكما صاغ عقالنيتها الفلس"فية (المؤسس"ة على‬
‫هذا النموذج الرياضي) التي تخصصت في بحثها عن محتوى عقلي ثابت وأزلي‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫المحاضرة الثالثة‬
‫الرياضيات ومعطيات تاريخ العلوم الحديثة‪:‬‬

‫ثانيًا‪ ):‬الرياضيات اإلنشائية وعقالنيتها‬


‫إذا ك""انت المرحل""ة األولى في ص""ياغة مفه""وم علم الرياض""يات ك""انت ق""د ح""دثت في العص""ر‬
‫اليوناني وارتبطت بتص"وراتهم الميتافيزيقي"ة وس"اهمت في بن"اء أولى أفك"ارهم الفلس"فية‪ ،‬ف"إن‬
‫المرحلة الثانية التي تطور هذا المفهوم عن العلم‪ ،‬وتتجاوز في الوقت نفس""ه التص""ور اليون""اني‬
‫الذي طبعه‪ ،‬تأخرت حتى أواخر العصور الوسطى وب""دايات العص""ور الحديث""ة‪ .‬ويمكن الق""ول‬
‫على نحو أدق إن هذا التحول بدأ بالتحديد مع ظهور علم جديد من علوم الرياضيات هو الجبر‪.‬‬
‫إذا ك""ان الكالم عن علم الج""بر يب""دأ م""ع محاول""ة الرياض""ي اإلس""كندري ديوف""انت إيج""اد كمي""ة‬
‫مجهولة نسبة إلى كميات أخرى معلومة‪ ،‬فإن تكوين هذا العلم بالمعنى الص""حيح يع""ود مباش""رة‬
‫إلى التص""ورات ال""تي كونه""ا العلم""اء الع""رب عن الرياض""يات‪ .‬فكلم""ة «‪»algorithme‬‬
‫لوغاريتم ما هي إال التحريف األوروبي السم الرياضي الكبير "الخوارزمي" الذي أبتكر داخل‬
‫الحضارة العربية علم الجبر‪.‬‬
‫وإذا أردنا أن نعطي فكرة عامة عن ه""ذا العلم بالمقارن""ة البس""يطة م""ع علم الحس""اب‪ .‬نق""ول إن‬
‫الج""بر عب""ارة عن علم أك""ثر تجري""د من علم الحس""اب ألن علم الحس""اب يع""بر عن الكمي""ات‬
‫المنفصلة باألعداد‪ ،‬ويبين لنا خصائصها من حيث هي مفاهيم عددي""ة ص""ادقة على ك""ل مع""دود‬
‫‪]2 3 + )3 × 5( 2 +‬‬ ‫‪2‬‬
‫فهو إذن تجريد من الدرجة األولى فالقضية‪5 = 2)3 + 5([ :‬‬
‫صادقة على كل معدود أيًا كانت مادته‪ ،‬أم""ا الج""بر فيتن""اول دراس""ة العالق""ات المج""ردة العام""ة‬

‫‪11‬‬
‫وتغيراتها من غير أن يعنى بقيمتها العددية‪ ،‬فهو إذن تجريد التجريد ألن نسبة الرموز الجبري""ة‬
‫إلى األعداد كنسبة األعداد إلى األش""ياء‪ .‬فالقض""ية [(ب ‪ +‬جـ) ‪ = 2‬ب ‪ 2 + 2‬ب جـ ‪ +‬جـٍ‪]2‬‬
‫قضية صادقة على كل عدد مهما كانت قيمته‪ .‬وقد سمي الجبر جبرًا ألنه يمكننا من نقل الكمي""ة‬
‫السالبة من أحد طرفي المعادلة إلى الطرف األخر وقلبه إلى كمية موجبة‪.‬‬
‫لكن علم الجبر لم يصبح علمًا حقيقي"ًا به"ذا الش"كل وقائم"ًا على اس"تخدام الرم"وز إال في الق"رن‬
‫السادس عشر الميالدي على ي""د ك""ل من ف""ييت وديك""ارت‪ ،‬ألن الع""رب ابتك""روا الج""بر ولكنهم‬
‫عبروا عنه بواسطة الكالم ال باستخدام الرموز‪.‬‬
‫يقول الخوارزمي صاحب كتاب "مفاتيح العلوم" وهو كاتب أديب غير عالم الرياضيات‪:‬‬
‫" سمي الجبر بهذا االسم لما يقع فيه من جبر النقصانات واالس"تثناءات‪ .....‬مث"ال ذل"ك أن يق"ع‬
‫في المسألة مال إال ثالثة أجذاره يعدل جذرًا‪ ،‬فجبره أن نقول م""ال يع""دل أربع""ة أج""ذار‪ ،‬وذل""ك‬
‫ستة عشر ألنك تممت المال وزدت عليه ما كان مستثنى من""ه فص""ار م""اًال تام "ًا‪ ،‬ثم احتجت أن‬
‫تزيد مثل ذلك المستثنى على معادله فصار المعادل أربعة أج""ذار‪ ".‬الم""ال في ه""ذا االص""طالح‬
‫‪2‬‬
‫هو مربع العدد‪ ،‬فالعدد ‪ 25‬مال للجذر ‪ .5‬يمكن صياغة المسألة السابقة بالطريقة التالي""ة‪ :‬س‬
‫– ‪ 3‬س = س (مال إال ثالثة أجذاره يعدل جذرًا) أي س‪ 4 = 2‬س وبالتالي‪ :‬س = ‪ 4‬ومالها‬
‫أي مربعها ‪.16‬‬
‫لقد كان العرب يتكلمون الجبر ولذلك صعب عليهم تطويره وتنميته‪ ،‬وبقي األوربيين يتن""اولون‬
‫علم الجبر على هذا الشكل حتى جاء الرياضي فرانسوا فييت (‪ )1603-1540‬الذي اس""تعمل‬
‫الحروف الهجائية كرموز للكميات الحس"ابية‪ ،‬وأدخ"ل بعض العالم"ات ال"تي تج"ري على تل"ك‬
‫الحروف‪.‬‬
‫م"ع ذل"ك لم يقم ف"ييت إال ب"الخطوة األولى دون مواص"لة الطري"ق لتق"ديم الج"بر كعلم تجري"دي‬
‫محض‪ ،‬خصوصًا أن العمليات الجبرية بقيت في ذهن فييت مقترنة باألشكال الهندسية وحدسها‬
‫كما كانت عند اليونان‪ .‬وكان ال بد من تخليصه منها بعد أن خلصه فييت من الكالم العادي وما‬
‫يقوم مقامها من أعداد حسابية‪ .‬والواقع أن هذا ما قام به فعًال ديكارت بعد ح""والي نص""ف ق""رن‬

‫‪12‬‬
‫من خالل التعبير عن األش"كال الهندس"ية بواس"طة مع"ادالت جبري"ة‪ ،‬أي دمج الهندس"ة ب"الجبر‬
‫وإنتاج الهندسة التحليلية والتي أسست "التحليل" أهم فروع الجبر الحديث‪.‬‬
‫هذا المبحث الجديد يقوم في الواقع على فكرة التي صاغها ديكارت في الجزء الثاني من كت اب‬
‫الهندسة‪ " :‬كل النقاط التي نستطيع تسميتها هندسية‪ ،‬أي تلك ال"تي يمكن قياس ها بدق ة ويقين‪،‬‬
‫ل"ديها بالض"رورة بعض العالق"ة م"ع ك"ل النق"اط في الخ"ط المس"تقيم القاب"ل ألن يص"اغ ببعض‬
‫المعادالت‪" .‬‬
‫في الهندسة التقليدية مثًال لمحاولة ح""ل المس""ألة المتعلق""ة بإيج""اد مس""احة ش""كل م""ا ولكن ش""كًال‬
‫رباعي‪ ،‬كان ال بد من رسم الشكل الرباعي أ ب جـ د الذي يضم األشكال الرباعية ‪+ 2 + 1‬‬
‫‪ :3 + 2‬والوصول إلى القول إن المساحة تساوي هذا الجمع‪.‬‬
‫ب‬ ‫أ‬
‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬
‫د‬ ‫جـ‬
‫أما في الهندسة التحليلية فال ننظر في أش""كال مربع""ة ب""ل بمج""رد مس""تقيمات نرم""ز إليه""ا به""ذا‬
‫الشكل‪:‬‬
‫ب‬ ‫ص‬ ‫أ س‬

‫س×ص‬ ‫‪2‬‬
‫س‬
‫س‬
‫ص‬
‫ص‬
‫‪2‬‬
‫ص‬ ‫×‬
‫س‬

‫د‬ ‫جـ‬
‫‪.2‬‬
‫وعليه تحل المسألة بواسطة المعادلة التالية‪( :‬س ‪ +‬ص)‪ = 2‬س‪ 2 + 2‬س ص ‪ +‬ص‬

‫‪13‬‬
‫بهذه الطريقة استبعد ديكارت جميع األشكال الهندسية بإرجاعها كلها بدوال "التحليل" إلى خ""ط‬
‫مس""تقيم يح""دد أبع""اده وش""كله بواس""طة إح""داثيات‪ ،‬مبين"ًا ب""ذلك كي""ف يمكن ح""ل مش""كل متعلق""ة‬
‫بالمقادير واألشكال الهندسية بواسطة العمليات الجبرية بطريقة عقلية يقينية ومنتظمة‪ .‬ويمكننا‬
‫أن نالحظ هنا أن ه""ذه المس"تقيمات ال""تي اس"تبقاها ديك""ارت ت""ذكرنا باالمت""داد ال""ذي جع""ل من""ه‬
‫ديكارت جوهر العالم المادي أو الخارجي في فلسفته‪.‬‬
‫هذا األمر دفع ديكارت العتماد الجبر منهج"ًا عام"ًا للعلم وإح"داث قطيع"ة عميق"ة م"ع التص"ور‬
‫اليوناني للرياضيات‪ .‬فمع الجبر لم نعد نتعامل مع أشكال أو كائن""ات رياض""ية موج""ودة مس""بقًا‬
‫وتمتلك كل صفات الكمال كما كانت عند اليونان‪ ،‬بل مع رموز نتناولها وكأنها غير معروفة أو‬
‫أنها كميات مجهولة فعًال نستخرجها بمعادلتها بكميات معلومة بواسطة الجهد العقلي المحض‪.‬‬
‫هذا المعنى الجديد الذي أضافه الجبر على الرياضيات غير من طبيعة موضوع ومنهج كليًا‪.‬‬
‫في هذا المنهج الجديد تتميز الحقيقة الرياضية ذاتيًا باألسلوب الذي به تكون معط""اة "بالح""دس"‬
‫أي التجربة المباشرة التي تخرج بها من االستخدام المحض للفكر‪ ،‬وتتم""يز الحقيق""ة الرياض""ية‬
‫موضوعيًا بالبساطة والتجرد عن موضوعاتها؛ أي كطبائع بسيطة أو كجواهر بس""يطة مدرك""ة‬
‫بالفكر وحده‪ .‬أما العمليات العقلية ال"تي تق"ود إلى مث"ل ه"ذه الحق"ائق فهي الح"دس واالس"تنتاج‪:‬‬
‫فالكل يستطيع أن يرى بالحدس أن المثلث ببس""اطة مح""دود بثالث أض""الع‪ .‬وه""ذا ال يس""تخرج‬
‫باستدالل يعتمد معطيات الحس‪ ،‬بل استنادًا لطبائع بسيطة مدركة مباشرة بالعقل‪ ،‬والحدس هن""ا‬
‫ال يناقض االستدالل بل يقوده‪ ،‬ألن االستنتاج هو هذه الحركة المستمرة دون انقطاع لفكر لدي""ه‬
‫حدس واضح عن كل حد فيها‪.‬‬
‫باإلجمال لم يعد العلم والجهل عند ديكارت مرتبطان بطبيعة الموض"وعات أو بم"ا ه"و مح"دد‬
‫وغير محدد فيها‪ ،‬بل أصبحا مرتبطين فقط بطبيعة ال""ذات المفك""رة في وح""دتها اإلنش""ائية ال""تي‬
‫غدت مركز المعرف""ة الجدي""د‪ .‬فم""ا في الموض""وعات من ص""دق وص""حة يع""ود إلى مش""اركتها‬
‫للبداه""ة أو للح""دس العقلي‪ .‬بمع""نى أن حقيقته""ا تكمن في كونه""ا موض""وعة تحت نظ""ر ال""ذات‬
‫المفكرة‪ ،‬وعلى هذه ال"ذات أن تف"رض النظ"ام بين موض"وعاتها‪ .‬وب"ذلك يغ"دو العلم الرياض"ي‬

‫‪14‬‬
‫المهمة الخاصة للفكر اإلنس"اني بحيث ال يوج"د قبل"ه وال يوج"د خارج"ه‪ ،‬وتص"بح الرياض"يات‬
‫والعقالنية المرتبطة بها إنشائية بعد أن كانت تأملية‪.‬‬
‫إن الهندسة التحليلية التي تعالج المنحنيات ب"الجبر فتحت أف"اق واس"عة أم"ام الرياض"يات ال"تي‬
‫أصبح الج"بر عموده""ا الفق""ري‪ .‬ض""من ه""ذا اإلط""ار وع""بر تص""نيف المع""ادالت اس"تنادًا لع""دد‬
‫جذورها تم اإلعداد للنظرية العامة للخطوط المنحنية التي ستستمر بالص""عود بال""درجات ح""تى‬
‫الالنهاية‪ .‬لكن ديكارت الذي وضع معيار قابلية القياس بدق ة ويقين في النق""اط الهندس""ة ال""تي‬
‫طبق عليها نظريته‪ ،‬وضع حدًا لتطبيقات نظريته عن""د القيم المتناهي""ة‪ ،‬ورفض فك""رة التس""اوي‬
‫بالتقريبي (مثًال ‪ )π‬لصالح فكرة التساوي التام التي تفرضها مع""ايير الوض""وح والتمي""يز‪ .‬كم""ا‬
‫أن إبقائه المستقيم الذي يرد إليه جميع األشكال الهندس"ية جعل"ه أم"ام مش"كلة رياض"ية وفلس"فية‬
‫قديمة وهي مشكلة الالنهاية التي بقيت تعيق تقدم الفكر الرياضي منذ اليونان إلى أن جاء الح""ل‬
‫على يد عالمين كب""يرين هم""ا اليبن""تز وني""وتن من خالل إب""داعهما حس"اب التفاض""ل والتكام""ل‪.‬‬
‫والح"ق أن التطبيق"ات في مي"دان الميكانيك"ا هي ال"تي عجلت بتق"دم الج"بر والتحلي"ل في الق"رن‬
‫الثامن عشر‪ ،‬للبحث في مسار جسم متحرك يقس""م ه""ذا المس""ار إلى مجموع""ات من المحط""ات‬
‫الثابتة تفصلها مسافات ال حد لصغرها‪ .‬وباستعمال حساب الالنهائيات الصغرى تمكن العلم""اء‬
‫من التغلب على المشكالت التي تثيرها مسائل الحركة في علم الميكانيكا‪ .‬وهكذا تفرعت أنواع‬
‫الدوال إلى [(متصلة) و(منفصلة تس""تغني عن أي ح""دس هندس""ي)] وأص""بح باإلمك""ان دراس""ة‬
‫جمي""ع الظ""واهر المتغ""يرة المتط""ورة بواس""طة المع""ادالت التفاض""لية‪ :‬فالحص""ول على معادل""ة‬
‫تفاضلية لظاهرة ما‪ ،‬معناه فهم ديناميكيتها والتحكم بها‪.‬‬
‫لقد فتح التحليل أفاقًا خص""بة في الرياض""يات النظري""ة‪ ،‬وتمكن الرياض""يون من تج""اوز مش""كلة‬
‫الالنهاية واالستغناء عن الحدس الهندسي حتى في المجال الضيق ال""ذي اس""تبقاه ديك""ارت‪ .‬لق""د‬
‫تحولت الرياضيات كلها إلى عمليات جبرية ال تخضع إال لقواعد المنطق األم""ر ال""ذي أدى إلى‬
‫ظهور كائنات وفروع رياضية جديدة مشروعة منطقيًا لكن ليس لها ما يقابلها في الواقع األم""ر‬
‫الذي خلق أزم""ة جدي""دة في بين""ة العلم الرياض""ي وأف""رز مح""اوالت جدي""دة لمعالجته""ا وتدش""ين‬
‫مرحلة جديدة في الفكر الرياضي والفلسفي‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫المحاضرة الرابعة‬

‫المرحلة الثانية‬
‫الرياضيات المعاصرة‬
‫طريقة ومبادئ البرهان الرياضي والتطورات المعاصرة‪:‬‬
‫منذ نشوئها وصوًال إلى القرن التاسع عشر بقيت الرياض""يات النم""وذج األعلى للمعقولي""ة‪ ،‬لكن‬
‫مع انتشار الجبر والتحليل‪ ،‬غدت الرياضيات علم يب""دأ من العناص""ر البس""يطة يص""عد ت""دريجيًا‬
‫نحو الصروح المعقدة بطريق""ة برهاني""ة متماس""كة‪ .‬وك""ان من نت""ائج انتش""ار الطريق""ة الجبري""ة‬
‫ظه""رت ف روع وكائن ات جدي دة وغريب ة ح""ولت النم""وذج الرياض""ي إلى جمل""ة من التأليف""ات‬
‫الجبرية الصورية المنطقية التي تتم حسب قواعد معينة‪ ،‬وتصف صروحًا ال صلة لها ب""الواقع‪.‬‬
‫أي أصبحت الرياضيات أش"به بلعب"ة الش"طرنج ال إنت"اج في"ه‪ .‬األم"ر ال"ذي أدت إلى زع"زعت‬
‫وحدة هذا العلم وإنتاجيته‪ ،‬ودفعت الرياضيين إلى إعادة النظر في المب""ادئ ال""تي ش""يدوا عليه""ا‬
‫صروحهم الرياضية وأفرزت فلسفات جديدة للرياضيات وللنموذج الذي تمثله في المعقولية‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫قبل الدخول في تفاصيل هذه الفلسفات ال بد أوًال من الوقوف قليًال عن""د التح""والت ال""تي ح""دثت‬
‫داخل التفكير الرياضي وأدت لظهور كائنات وفروع رياضية غريبة داخل النموذج الرياض""ي‬
‫المعاصر‪ .‬وسوف نتناول هنا فقط قضيتين امتدادات مفهوم الع""دد وطبيع""ة البره""ان الرياض""ي‬
‫ومبادئه‪:‬‬
‫أما الكائنات الجديدة والغريبة التي ظهرت في الفكر الرياضي فتتمثل أوًال في امتدادات مفهوم‬
‫العدد‪ :‬في سلسلة غير من منتهية من األعداد الصحيحة الموجبة }‪ n{ .... ,3 ,2 ,1‬وعندما‬
‫نقوم بجمع أي عددين نحصل دائمًا على ع""دد من السلس""لة نفس""ها‪ ,‬لكن في حال""ة الط""رح فإنن""ا‬
‫نقف عند حاالت ال يعود الطرح فيها ممكننا‪ ,‬ه""ذا األم""ر ف""رض إض""افة مفه""وم الع""دد الس""الب‬
‫وزيادة سلسلة األعداد‪ .‬كذلك أدت استحالة عملية القسمة بدون باقي بين األعداد الص""حيحة في‬
‫حاالت معنية إلى التوسع في فكرة العدد عن طريق خلق األع""داد الكس""رية وإض""افة مجموع""ة‬
‫األعداد الجذري""ة (األع""داد الص""حيحة والكس""رية الموجب""ة والس""البة) ه""ذه المجموع""ة تحت""وي‬
‫أعدادًا ال يمكن أن توضع في صورة كسر‪ ,‬بل من الممكن حس""ابها باس""تخدام الج""ذر ال""تربيعي‬
‫ليكون الحساب تقريبيًا على الدوام مثل ‪ √2‬وهو جذر المعادلة‪( :‬س‪ )∴ = 2 - 2‬وقد أطلق‬
‫عليها اسم األعداد الصماء‪ ,‬وهي بدورها نوعين‪ :‬أعداد جبرية تكون حاًال لمعادلة جبرية كـ‬
‫‪ ,√2‬وأعداد غير جبرية ال تمثل حًال لمعادلة جبرية مثل العدد ( ‪ ,)π‬وتسمى أعداد (عالية أو‬
‫ترانسندانتالية)‪ ,‬وتؤلف مع األعداد الجبرية مجموعة األعداد الحقيقية‪ .‬إلى جانب هذه‬
‫المجموعة أضاف الرياضيون مجموعة األعداد الخيالية كحل لبعض المعادالت التي ليس لها‬
‫جذر حقيقي مثل المعادلة‪( :‬س‪ )∴ = 1 + 2‬التي تحل بالطريقة التالية‪( :‬س‪ 1- = 2‬إذن‪ :‬س =‬
‫‪ .)√1 -‬لنحصل بذلك على مجموعة أعم تشتمل على األعداد الحقيقية واألعداد الخيالية وهي‬
‫مجموعة األعداد المركبة (والعدد المركب هو عدد يشمل على عددين حقيقيين وعدد خيالي)‪.‬‬
‫باختصار كان نتاج هذا كله تحولت العبارات الجبرية إلى عبارات مشروعة منطقيًا وأصبح‬
‫باإلمكان القيام بتألفيات جبرية تخيلية بغض النظر فيها عن األشياء الحقيقية المصورة‪.‬‬
‫مع ظهور أهمية المشروعية المنطقية إلى سطح اهتمامات الرياضيين المنهمكين بالتأليفات‬
‫الجبرية الصورية بدأ االهتمام بطبيعة البرهان الرياضي المحض ومقوماته ومبادئه‪ ،‬وقامت‬

‫‪17‬‬
‫بناءًا على ذلك حركة واسعة في أوساط الرياضيين تركزت حول مراجعة مبادئ البرهان‬
‫الرياضي ونقده وفحص مدى صدقها ونوعية هذا الصدق‪ .‬لفهم طبيعة ونتائج هذه الحركة‬
‫الداخلية في الفكر الرياضي ال بد أوًال من التوقف عند التطورات التي أدت إلى هذه المراجعة‬
‫الداخلية لطبيعة البرهان الرياضي ومبادئه وبالتالي أدت إلى ظهور فروع جديدة في‬
‫الرياضيات‪.‬‬
‫عند الحديث عن البرهان الرياضي ال بد من العودة إلى اقليدس‪ ،‬ألن صياغته للهندسة‬
‫الكالسيكية كما جاءت في كتابه " المبادئ" بقيت لوقت طويل النموذج الذي ال يمكن تجاوزه‬
‫للنظرية االستنتاجية‪ .‬وهذا في الواقع ما يؤكده جملة من الرياضيين والفالسفة‪ :‬ففي رأي‬
‫اليبنتز مثًال "إن اإلغريق نجحوا في بلوغ كل الدقة الممكنة في الرياضيات‪ ،‬وقدموا بذلك‬
‫للبشرية نماذج مهمة في فن البرهان" من جهة أخرى كتب برونشفيك‪ ":‬إن اقليدس بالنسبة لكل‬
‫األجيال التي تعلمت من فكره كان أستاذ في المنطق أكثر منه أستاذ بالهندسة‪".‬‬
‫في صياغته للهندسة أقام اقليدس البره ان العقلي المحض أو االس تنتاج الرياض ي على جمل ة‬
‫من المبادئ وهي‪ :‬البديهيات‪ ،‬التعريفات‪ ،‬المسلمات‪.‬‬
‫أوًال البديهيات‪:‬‬
‫وهي قض ايا أولي ة يص دق به ا العق ل لوض وحها ب ذاتها وألن إنكاره ا ي وجب الوق وع في‬
‫تناقض‪ ،‬أما صفاتها فهي‪:‬‬
‫البديهيات صادقة بذاتها‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫ال يمكن البرهان عليها‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫تصدق على كل العلوم‬ ‫‪.3‬‬
‫منها على سبيل المثال‪:‬‬
‫األشياء المساوية لشيء واحد متساوية‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫أنصف األشياء المتساوية متساوية‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫أضعاف األشياء المتساوية متساوية‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫الكل أكبر من الجزء‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫ثانيًا التعريفات‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫وهي قضايا غير العرفة تشرح معاني الح دود األولي ة وتح دد المع اني الرياض ية وتوض حها‬
‫وهي تختلف باختالف العلوم‪ .‬فللهندسة تعريف ات خاص ة كمفه وم النقط ة والخ ط واالس تقامة‬
‫والتوازي واالتجاه‪ .‬وللجبر مفاهيم خاصة وتعريفات خاص ة كمفه وم الع دد الم وجب والع دد‬
‫السالب والقيمة المطلقة إلخ‬
‫ثالثًا المسلمات‪ :‬وهي قضايا غير واضحة بذاتها وغير صادقة بذاتها على خالف الب ديهيات‪،‬‬
‫ال يمكن البرهنة عليها بل يسلم بصحتها تسليم وهي بذلك تشبه البديهيات‪ ،‬خاصة كالتعريف ات‬
‫لكل علم من العلوم الرياضيات مسلماته‪.‬‬
‫المسلمات منها صريح ومنها مضمر‪ :‬في الهندسة االقليدسية مسلمات صريحة مثًال‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ يمكن مد أي مستقيم إلى أي طول‪.‬‬
‫‪3‬ـ من نقطة خار مستقيم ال يمكن رسم سوى موازي واحد‪.‬‬
‫ومسلمات ض منية مث ل المك ان ثالثي األبع اد وهي كافي ة لتحدي د نقط ة في فض اء اقليدس ي‪،‬‬
‫تجانس المكان أي أجزاء متجانسة في جميع الجهات‪.‬‬
‫للميكانيك مسلمات صريحة مثل‪ :‬مبدأ العطالة‪ ،‬القصور الذاتي‪ ،‬الفعل ورد الفعل‪ .‬أما مسلماته‬
‫الكتلة‪.‬‬ ‫المضمرة فهي‪ :‬تجانس الزمان وانحفاظ‬
‫حقيقة المسلمات‪:‬‬
‫اختل ف المناطق ة والرياض يون في حقيق ة المس لمات أو الموض وعات فق ال العقلي ون‪ :‬إن‬
‫المسلمات حقائق أولية شبيهة بالبديهيات أو هي كما قال كانط‪ :‬حقائق عقلية ضرورية وقبلية‪،‬‬
‫ولكن تاريخ الرياضيات يضعف هذا القول ويبين لنا‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الموضوعات المسلمات ليس ت من الض روريات المالزم ة للعق ل البش ري ألن العق ل‬
‫اهتدى إليها بالتدريج فمبدأ العطالة يرجع إلى كبلر ومبدأ استقالل الحركات إلى غاليليو ومب دأ‬
‫تساوي الفعل ورد الفعل إلى نيوتن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن العق ل ق د تخي ل موض وعات أو مس لمات مخالف ة لموض وعات ومس لمات اقلي دس‬
‫واستطاع أن يؤسس علمًا هندسيًا حمل اسم الهندسات الالقليدس ية‪ ،‬وق د اهت دى إلى ه ذا العلم‬
‫عالمان في القرن التاسع عشر هما‪ :‬لوباتشفس كي (‪1849‬ـ ‪ )1925‬وريم ان (‪1854‬ـ ‪)1912‬‬

‫‪19‬‬
‫وذلك من خالل دراستهما ونقدهما للمسلمة االقليديسية التي أث ارت الش كوك واالرتي اب وهي‬
‫مسلمة المتوازي التي برهن على أساسها اقليدس عدة قضايا في بناءه الهندسي ومنها القض ية‬
‫القائلة‪ :‬إن مجموع زوايا المثلث يساوي دوم ُا ‪ 180‬درج ة‪ .‬ويمكن تحدي د الخالف بين ه ذين‬
‫النموذجين والنموذج االقليدسي بالنقاط التالية‪:‬‬
‫المكان عند اقليدس سطح مستوي‪ ،‬عند لوباتشفسكي سطح منحني‪ ،‬عند ريمان سطح كروي‪.‬‬
‫مجموع زوايا المثلث عند اقليدس يساوي ‪ 2‬قا‪ ،‬عند لوباتشفسكي تساوي أصغر من ‪ 2‬قا‪ ،‬عند‬
‫ريمان أعظم من ‪ 2‬قا‪.‬‬
‫ع دد الموازي ات ال تي يمكن رس مها من نقط ة خ ارج مس تقيم ه و عن د اقلي دس = ‪,1‬عن د‬
‫لوباتشفسكي = ∞‪ ,‬عند ريمان = ‪. ‬‬
‫ينتج من ذلك أن المسلمات ليست من الضروريات العقلي ة وإال لم ا أمكن العق ل أن يتص ور‬
‫ضدها‪.‬‬
‫لكن هل يعني أن الموضوعات حقائق اختبارية محضة كما زعم أنصار هذا الم ذهب؟ الواق ع‬
‫أن هذا القول أيضًا غير دقي ق ألن ه ذا يخ الف طبيع ة المع اني الرياض ية وص فتها االمثلي ة‬
‫الخيالية‪ .‬يقول بوانكاريه أن الرياضيين ال يختبرون المستقيمات والدوائر بل األشياء المادي ة‪،‬‬
‫ومبدأ العطالة غير قابل للقياس‪ ،‬ثم إن انطباق الهندسة االقليدسية على الواقع لم يعطها ص دق‬
‫أكثر من الهندسيات األخرى‪ .‬لذلك نجد بعض الرياضيين يذهب للقول إن الموضوعات ليست‬
‫ص ادقة ب ذاتها‪ ،‬وإنم ا هي اص طالحات موافق ة وال يمكن أن يك ون هن اك هندس ة أص ح من‬
‫هندسة بل يكون هناك هندسة أوفق من هندسة‪ ،‬وهندسة اقليدس أوفق من غيرها ألنها أبسط‪.‬‬
‫قصارى القول إن الموضوعات المسلم بها شرط من شرائط معقولية الحقائق الرياضية ألنه ا‬
‫تساعد على دراسة العالقات الرياض ية في ح االت البس يطة وهي مقتبس ة من ع الم التجرب ة‬
‫والخبرة‪.‬‬
‫بكل األحوال أن ما تقدم يدعونا إلى مراجعة المفاهيم التي يقوم عليها البرهان الرياضي‪:‬‬
‫أوال م""ع قي""ام الهندس""يات الالقليدس""ية أص""بح التمي""يز بين الب""ديهيات والمس""لمات في البره""ان‬
‫ً‬
‫الرياضي أمرًا ثانويًا‪ ،‬بحيث أص""بحت تؤخ""ذ جميعه""ا كف""روض أو أولي""ات افتراض""ية توض""ع‬
‫خارج إطار الصدق والكذب‪ .‬ألن التمييز بين البديهية والمسلمة كان يق""وم على درج""ة البداه""ة‬

‫‪20‬‬
‫العقلية من حيث أن البديهيات قضايا تحليلية تف""رض نفس""ها على العق""ل‪ ،‬في حين المس""لمات ال‬
‫تتصف بمثل هذه الدرجة‪ ،‬ولكن مع تط""ور العل""وم الرياض""ية أظه""ر أن معي""ار البداه""ة لم يع""د‬
‫صالح للتمييز فالبداهة ليست واح""دة عن""د الجمي""ع وهي تختل""ف ب""اختالف مي""ادين البحث‪ ،‬فل""و‬
‫أخذنا مثاًال إحدى ب"ديهيات اقلي"دس (الك"ل أك"بر من الج"زء) من منظ"ور نظري"ة المجموع"ات‬
‫لجورج كانتور لوجدنا أنها لم تعد بديهية إال في مجال المجموعات المتناهي""ة‪ .‬وبالت""الي لم يع""د‬
‫من الممكن االحتفاظ بالتمييز السابق ولم يعد هناك اعتب""ار للبديهي""ة على المس""لمة ب""ل هم""ا في‬
‫الفكر الرياضي الحديث مجرد فرض يتم قبوله على أساس اختي"ار وا ال على أس"اس طبيعت"ه‬
‫ٍٍع‬
‫الخاصة‪ .‬المهم في قضية من القضايا التي تؤخذ كأساس للبره"ان ه""و ال""دور أو الوظيف""ة ال""تي‬
‫تلعبها في هذا البناء المقدار ما تتمتع به من وضوح وبداه""ة‪ .‬من الواض""ح أن الموق""ف الجدي""د‬
‫إزاء المبادئ الرياضية يشكل تح""وًال ج""ذريًا في األف""اق الرياض""ية ف""إذا أص""بح دور أو وظيف""ة‬
‫قضية ما ه""و المهم في بن""اء منظوم""ة م""ا دون النظ""ر إلى الطبيع""ة الداخلي""ة له""ذه القض""ية فمن‬
‫الممكن تنوع المنظومات الرياضية بتنوع اختيار المبادئ‪.‬‬
‫هذا التصور الجديد لطبيعة المبادئ انعكس أيض "ًا على تص""ورنا للبره""ان الرياض""ي وللحقيق""ة‬
‫الرياضية‪:‬‬
‫‪ )1‬ـ بالنسبة للبرهان الرياضي‪:‬‬
‫كان ينظر للبرهان قديمًا على أنه برهان يؤدي إلى نتائج ضرورة ومطلقة بحيث نقول‪ :‬بم""ا أن‬
‫ه""ذه المب""ادئ ص""ادقة ص""دق مطل""ق فالقض""ايا الناتج""ة عنه""ا ص""ادقة ص""دق مطل""ق (القي""اس‬
‫الضروري عند أرسطو)‪ .‬أما اآلن فقد أصبح األمر أكثر نسبية فهو يشير فق""ط أن""ه إذا وض""عنا‬
‫هذه المبادئ أساسًا لالستنتاج فهاهي النتائج الصورية التي تترتب عليها‪ .‬إن الض""رورة هن""ا لم‬
‫تعد تخص القضايا بل الرواب""ط المنطقي""ة ال""تي تجم""ع بينه""ا في النس""ق االس""تنباطي‪ .‬على ه""ذا‬
‫النحو أصبحت المنهج الرياضي اليوم يعرف بأنه نظام فرضيـي _استنتاجي‪.‬‬
‫‪ )2‬ـ بالنسبة للحقيقة الرياضية‪:‬‬
‫إن التصور الجدي"د لمب"ادئ البره"ان الرياض"ي ولطبيع"ة ه"ذا البره"ان أدى إلى تص"ور جدي"د‬
‫للحقيقة الرياضية عمومًا والحقيقة الهندسية خصوصًا‪ .‬فقد كان ينظر ع""ادة إلى نظري""ة م""ا من‬

‫‪21‬‬
‫نظريات الهندسة على أنها بناء فكري مجرد وتعبر في ال""وقت نفس"ه عن الواق"ع الموض""وعي؛‬
‫أي أن الحقيقة الهندسية تعبر عن حقيقة واقعية وحقيقة فكرية معًا‪ .‬أما اليوم فإن الهندسة تهم""ل‬
‫الجانب الذي يتعلق بالواقع وتتركه للهندسة التطبيقية وال تهتم إال الج""انب التعل""ق بالعق""ل‪ .‬مم""ا‬
‫أدى إلى ظهور خالف بين الرياضيين حول معيار الصدق والحقيقة الرياضية‪ :‬هل ه""و ص""دق‬
‫وحقيقة فكرية يضمنها االتساق المنطقي فق""ط م""ع ع""دم انطباقه""ا على الواق""ع المع""اش كم""ا في‬
‫الهندسة الالاقليدسية أم هو صدق وحقيقة واقعية يضمنها انطباقها على الواق""ع على ال""رغم من‬
‫احتوائها على بعض النقص في االتساق واعتمادها على البداهة والحدس المكاني؟‬
‫ثانيًا إن ظهور الهندسيات الالقليدسية مثل تحديًا مباشرًا لتصور الرياضي للمكان بوصفه كمًا‬
‫متصًال‪ .‬ظل حدس االتصال أساسًا لعلم التحليل حتى بعد أن تحولت الهندسة ذاتها إلى الج""بر‪،‬‬
‫وبقي مألوفًا حتى نهايات القرن التاسع عشر أن كل الداالت الرياضية متصلة (الدالة من وضع‬
‫اليبنتز وهي المنحنى الهندسي الذي يعبر عن عالقات متص""لة متتابع""ة بين كمي""تين متغ""يرتين‬
‫هما إحداثيات) وبقي أيضًا التحليل مرتبط بالهندسة واالتصال المكاني إلى أن اكتش""ف كوش""ي‬
‫الداالت المنفصلة واالعداد التخيلية في الدوال مما عمق الشك بالحدس المكاني وبرزت الدعوة‬
‫لقراءة المتصل بالمنفصل‪.‬‬
‫وقد عزز هذه ال"دعوة ظه"ور أن"واع جدي"دة من الع"دد كالع"دد المنط"وق أو المعق"ول ‪,2+/1+‬‬
‫العدد األصم أو الالمعقول ‪ ,√2‬العدد التخيلي ـ ‪ .√1‬وأدى ذلك بالرياضيين إلى طرح مش""كلة‬
‫العدد الصحيح وتعريفه كبديل لفكرة االتصال الهندسي وصوًال إلى البحث عن وحدة علم العدد‬
‫برد هذه األنواع إلى العدد الصحيح‪ ،‬وظهر لهم من ذلك إمكاني""ة رد الرياض""يات كله""ا لمفه""وم‬
‫العدد من أجل تحقيق وحدتها التي تشتت مع هذه االكتش""افات الجدي""دة‪ .‬وظه""رت ب""ذلك مش""كلة‬
‫تحس""يب الرياض""يات والبحث عن اليقين الرياض""ي في اليقين الموج""ود في علم الحس""اب (رد‬
‫المتصل إلى المنفصل)‪ ،‬وفي هذا تح""ول ج""ذري في التفك""ير الرياض""ي وطبيع""ة الرياض""يات‪،‬‬
‫التي كانت تؤسس كما هو معلوم على أساسين اثنين‪ :‬مفهوم العدد (المنفص""ل)‪ ،‬ومفه""وم الخ""ط‬
‫(المتصل)‪ ،‬ولكن عندما تحول الخط إلى أعداد‪ ،‬بتقدم التحليل‪ ،‬أصبح العدد هو األساس الوحيد‬
‫لكل فروع الرياضيات‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وكما يحدث دائمًا‪ ،‬فإن االهتمام بميدان م""ا من المي""ادين ي""ؤدي دائم "ًا إلى توس""يعه وأحيان "ًا إلى‬
‫الكشف عن صعوبات جديدة فيه‪ .‬وهذا ما حدث بالفعل‪ ،‬فقد أدى االهتمام باألع""داد إلى توس""يع‬
‫ميدانها عبر جهود الرياضي جورج كانتور في إنش""اء نظري""ة المجموع""ات ال""تي ك""انت حج""ر‬
‫الزاوية لحركة التحسيب‪ ،‬لكن ما لبث أن ب""دأت تظه""ر الص""عوبات داخ""ل ه""ذه النظري""ة لتأخ""ذ‬
‫صيغة متناقضات (كمتناقضة مجموعة جميع المجموعات كانتور‪ ،‬ومتناقضة رسل)‪.‬‬
‫وهكذا غدت النظرية التي تطلع لها الرياضيون من أجل تأسيس الرياض""يات وتحقي""ق وح""دتها‬
‫وانسجام فروعها تعاني نقائض خطيرة‪ .‬مما أدى إلى احتدام النقاش بين الرياضيين والفالس""فة‬
‫ح"ول (أزم"ة األس"س)‪ ،‬فظه رت ثالث وجه ات نظ ر‪ ،‬أسس ت لفلس فات جدي دة للرياض يات‪:‬‬
‫النظري ة اللوجس تيقية (االنكل يزي رس ل)‪ ،‬النظري ة االكس يوماتيكية (األلم اني هل برت)‪،‬‬
‫والنظرية الحدسية (الهولندي بروور)‪.‬‬

‫المحاضرة الخامسة‬

‫أراء معاصرة في تأسيس علم الرياضيات‬

‫أوًال‪ :‬النظرية اللوجيستيقية‪)Le logicisme( :‬‬


‫بدأت هذه النزعة مع أطروحة المنطقي األلماني فريج ه في محاولت ه ق راءة علم الحس اب في‬
‫كتابه (التصورات) بواسطة عدد محدد من القضايا والقواعد المنطقي ة‪ ،‬ه ذه المحاول ة أخ ذت‬
‫صيغتها األكثر اكتمال مع برتراند رسل في كتاب (مبادئ الرياضيات ‪ )1903‬ثم في كتابه‬
‫(برنكيبيا ماتيماتيكا ‪1910‬ـ‪ )1913‬بالتعاون مع هوايتد‪ .‬تقوم هذه النزعة على فكرة المطابقة‬
‫بين الرياضيات والمنطق وإع ادة تأس يس الرياض يات اس تنادًا للغ ة وقواع د المنط ق‪ ،‬إال أن‬
‫فكرة الربط بين الرياضيات والمنط ق ليس ت جدي دة تمام ًا‪ ،‬فق د ط رحت س ابقًا ع بر أعم ال‬
‫اليبنتز من خالل محاولته بناء "الرياضيات الكلية" هذه المحاولة ألزمت اليبنتز بمطلبين‬
‫أساسيين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تقدم ألفبائية عن التصورات بحيث يعبر عن كل تصور برمز‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪2‬ـ إعداد موسوعة من التعريفات المنطقية للتصورات في كل العلوم‬
‫إال أن مشروع اليبنتز عانى من مشكالت عدة أهمها‪:‬‬
‫‪1‬ـ لم تكن الرياضيات قد تتطور على نحو كافي لتتيح المجال لمثل هذه المحاولة‪.‬‬
‫‪2‬ـ احترام اليبنتز لتعاليم أرسطو في المنطق منعته من تجاوز ه ذا األخ ير رغم عث وره على‬
‫بعض األخطاء في هذا المنطق‪.‬‬
‫المحاولة الثانية في الربط بين المنطق والرياضيات كانت مع جورج بول إال أن محاول ة ه ذا‬
‫األخير كانت عبارة عن قراءة للمنط ق األرس طي اس تنادًا إلى العملي ات الجبري ة أي تط بيق‬
‫الرياضيات على المنطق واستخدام الرموز الجبرية لتعبير عن العالقات الفكرية‪ .‬بهذا الش كل‬
‫قدم جورج بول أولى صياغات "جبر المنطق"‪.‬‬
‫أما النزعة المنطقية التي حملت اسم لوجس تيقا فك انت على نقيض أطروح ة ج ورج ب ول من‬
‫حيث أرادت اختزال الرياضيات إلى جملة من القضايا والقواعد المنطقي ة‪ .‬وق د ب رهن رس ل‬
‫على هذه النزعة بواس طة عملي تين متك املتين‪ :‬تحلي ل الرياض يات تحليًال منطقي ًا برده ا إلى‬
‫أصولها المنطقية‪ ،‬ثم تحليل المبادئ المنطقية نفسها إلى الفروض األولي ة ال تي نس تطيع منه ا‬
‫استنباط جميع قواعد المنطق‪ ،‬وجميع قواعد الرياضيات معًا‪ .‬في كتابه (أصول الرياضيات‬
‫‪ )1903‬يشرح رسل معنى نزعته المنطقية هذه بالطريقة التالية‪" :‬إن الرياض يات البحت ة هي‬
‫فئة القضايا التي صورتها (ق ‪ ‬ك) حيث ق‪ ,‬ك قضيتان تشمالن على متغير واح د أو جمل ة‬
‫متغيرات هي بذاتها في القضيتين‪ ,‬علمًا بأن كال من ق‪ ,‬ك ال تشتمل على ثوابت غير الث وابت‬
‫المنطقية‪ .‬إن ما يجمع بين المنطق والرياضيات في نظر رسل هو الصورية الكاملة لذلك كان‬
‫اهتمام رسل في بناء نس ق ص وري من خالل تط ويره المنط ق األرس طي ليك ون ق ادر على‬
‫التعبير على كل القضايا الرياضية وهذا ما فعله في الفصل األول من كتابه (أصول‬
‫الرياضيات) بخصوص حساب القضايا وحساب الفئات وحساب العالقات‪ .‬بعد ذلك عمد‬
‫رسل أوُال إلى تعريف األعداد الطبيعية تعريفًا منطقيًا؛ أي رده ا إلى ألف اظ دال ة على مف اهيم‬
‫منطقية مستندًا إلى حساب الفئات ومعرفًا العدد كفئة مثًال العدد (‪ )1‬هو فئة جميع الفئات ال تي‬
‫تحتوي عنصر ال أكثر‪ ،‬ويصاغ منطقيًا بالطريقة التالية‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫(‪ E‬س)‪( .‬س∋ ف)‪( .‬ص) [(ص ∋ ف) ⊐ (ص = س)]‪ ،‬ثم انتق ل ثاني ًا إلى بي ان أن‬
‫الرياضيات كلها ترد إلى فكرة العدد الطبيعي المقروء منطقي ًا‪ ،‬وق د أعطى الص يغة المكتمل ة‬
‫لهذا المشروع في كتابه (برنكيبا ماتيماتيكا)‪.‬‬
‫في الواقع إن استخدام رس ل لحس اب الفئ ات أو المجموع ات وض عه مباش رة أم ام متناقض ة‬
‫المجموعات (بالخصوص متناقضة مجموعة كل المجموعات) التي حاول حلها عبر تط ويره‬
‫نظرية في األنماط المنطقية ونظرية في األوصاف‪ ،‬لكن الص عوبات ال تي أفرزته ا مث ل ه ذه‬
‫النظريات أدت في نظر الكثيرين إلى إعالن فشل النظرية المنطقية عند رسل‪ .‬وس وف نكتفي‬
‫هنا باإلشارة إلى القيمة اإلبستمولوجية لهذه النظرية‪:‬‬
‫‪1‬ـ إن هذه النظرية فشلت كم ا ي رى الكث يرون في بل وغ اله دف األساس ي له ا وه و اخ تزال‬
‫الرياضيات إلى المنطق وذلك لعدة اعتبارات‪:‬‬
‫‪ )a‬إن محاولة رس ل في رد الرياض يات إلى نظري ة المجموع ات لم تطب ق إال على‬
‫الرياضيات الكالسيكية ولم تنسحب على باقي الرياضيات‪.‬‬
‫‪ )b‬في ص ياغته للمنط ق الجدي د اس تند رس ل على جمل ة من المف اهيم مث ل الفئ ة أو‬
‫المجموعة وهي مفاهيم رياضية باألصل مما جعل مش روع اخ تزال الرياض يات‬
‫للمنطق مشروع متناقض‪.‬‬
‫‪ )c‬عن دما تط ور رس ل نظريت ه في األنم اط المنطقي ة كح ل لمتناقض ات نظري ة‬
‫المجموع ات (ال تي أس س عليه ا نظريت ه المنطقي ة) اس تند فيه ا على بعض‬
‫الموضوعات التي ال تدخل في إطار المنطق األم ر ال ذي دف ع الكث يرين ل رفض‬
‫هذه النظرية وبالتالي إعالن فشل رسل بتقديم حل لهذه المتناقضة‪.‬‬
‫‪2‬ـ ب الرغم من العي وب ال تي ع انت منه ا نظري ة رس ل إال أنه ا أث رت بال ش ك في فلس فة‬
‫الرياضيات المعاصرة وفي الدراسات المنطقية عمومًا‪ .‬وال بد لنا‪ ،‬من أج ل إعط اء النظري ة‬
‫اللوجستيقية عند رسل دالالتها الحقيقية‪ ،‬من الفصل بين بنيتها والمهمة التي ش كلت من أجله ا‬
‫وهي اختزال الرياضيات إلى المنطق‪ .‬ألن قيمة هذه البنية كم ا تب دو للعي ان مس تقلة عن ه ذه‬
‫المهمة‪ .‬هذه القيمة تبدو أوًال في دفع الصورية في دراس ة المنط ق والرياض يات إلى مرحل ة‬
‫متقدمة وتقديم الصيغة األساسية األولى للغة وقواع د المنط ق الرياض ي‪ ،‬انطالق ًا من اعتم اد‬

‫‪25‬‬
‫القضايا األولية بدًال من التصورات‪ ،‬ثم في إدخال مفاهيم أساسية كال دوال القض ائية وحس اب‬
‫العالقات التي ندين بها لرسل‪ .‬وإن كانت لم تنجح في بلوغ هدفها ال رئيس في رد الرياض يات‬
‫إلى المنطق فقد قدمت مع ذلك مقترح فلسفة جديدة للرياضيات تس تغني عن األع داد بوص فها‬
‫كائنات ميتافيزيقية‪ ،‬وبردها إلى حدود منطقية خالصة‪.‬‬

‫المحاضرة السادسة‬
‫ثالثًا‪ :‬النظرية الحدسية (‪)L’intuitionisme‬‬
‫هذه النظرية ظهرت كرد فعل على النزع تين الس ابقتين أو باإلجم ال ك رد فع ل على النزع ة‬
‫التي تربط عضويًا بين الرياضيات والمنطق‪ ،‬ومبدأ هذه النزعة يقوم على القول بعدم إمكاني ة‬
‫مثل هذا الربط‪ ،‬العتقادهم بوج ود ش يء في الرياض يات يتج اوز مج رد الص ياغة المنطقي ة‬
‫وقواعدها‪ ،‬وال يمكن التعبير عن هذا الشيء بواسطة قض ايا وقواع د المنط ق‪ .‬يص ر أنص ار‬
‫هذه األطروحة على تسمية هذا الشيء بـ "الحدس" بوصفه الملكة التي توجه عمل الرياضي‪.‬‬
‫يميز المؤرخون لهذه النزع ة بين مرحل تين أساس يتين‪ :‬المرحل ة األول ظه رت ع بر أعم ال‬
‫الرياضيين الفرنسيين بوريل‪ ،‬لوبيغ‪ ،‬وب اير‪ ،‬باإلض افة إلى كتاب ات الرياض ي الكب ير ه نري‬
‫بوانكاريه التي تصدى للنزعة المنطقية عبر سلسلة من المقاالت تحمل عنوان "الرياضيات‬
‫والمنطق" ما بين عام (‪ 1904‬و‪ .)1912‬أما أطروحته التي دافع عنها فهي أن في‬
‫الرياضيات مادة تقابل الصورة المنطقية‪ ،‬هذه المادة تظهر في التجرب ة ال تي تس بق أي عم ل‬
‫منطقي‪ ،‬إنها التجربة الحدس ية ال تي يق وم ك ل إب داع على أساس ها‪ ،‬أم ا وظيف ة المنط ق فهي‬
‫مجرد شرح وعرض هذه التجربة والبرهنة عليها‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫أما المرحلة الثانية فقد عبرت عنها أعمال الرياضي الهولن دي ب روور وتلمي ذه هيتن غ‪ ،‬ال ذين‬
‫سموا بالحدسيين الجدد‪ .‬ويمكن عرض أراء ه ذه النزع ة من خالل م وقفهم إزاء موض وعين‬
‫اثنين‪1 :‬ـ) طبيعة الموضوعات الرياضية‪2 ,‬ـ) مبدأ الثالث المرفوع‪.‬‬
‫بصدد الموضوع األول‪ :‬يعتقد هؤالء بأن موضوعات الرياض يات ذات طبيع ة مثالي ة‪ ،‬بحيث‬
‫يرتبط وجودها بوجود ذات الرياضي التي تنتجها‪ ،‬فالموضوعات الرياضية في نظرهم عبارة‬
‫عن إنشاءات أو بناءات ذهنية محضة يقوم الفكر بتركيبها في التجربة الرياض ية وهي ليس ت‬
‫لها وجود خارج أو سابق على الذات التي تؤلفها‪.‬‬
‫يشترك الحدسيون الجدد مع بوانكاريه في هذا االعتقاد‪ ،‬فقد سبق للرياضي الفرنس ي أن ع بر‬
‫عن هذا الموقف عندما حاول توضيح أس باب المتناقض ات ال تي أفرزته ا نظري ة ك انتور في‬
‫المجموعات‪ ،‬موضحًا أن ه ذه المتناقض ات تع ود للرياض يات ال تي ح اول المناطق ة أنص ار‬
‫كانتور صياغتها استنادًا للمنطق فقط‪ .‬فهؤالء هم المسؤولون عن هذه المتناقض ات العتق ادهم‬
‫أن موضوعات الرياضيات عبارة عن ج واهر خالص ة موج ودة وج ود مس تقل وس ابق على‬
‫الفكر الذي يكتشفها‪ .‬ألنه لم ا ك انت ه ذه الموض وعات موج ودة بأع داد النهائي ة ك ان عليهم‬
‫االعتقاد بوجود فكرة الالنهائي الفعلي الذي فرض وجود المتناقضات في صورة "تعريفات‬
‫الحملية"‪ .‬فمثًال في تعريف "مجموعة كل المجموعات" يقول بوانكاريه أن معنى كلمة "كل"‬
‫سيكون واضح بجالء عندما نتحدث عدد متناهي من المجموعات‪ ،‬ولكن عندما يكون الح ديث‬
‫عن عدد ال نهائي فال بد من افتراض النهائي فعلي أي افتراض وجود هذه المجموع ات كله ا‬
‫وجودًا سابقًا على تعريفها ليكون لما نقوله معنى‪.‬‬
‫بالمقابل فإن كل هذه المشكلة تحل في رأي بوانكاريه عندما ال نعتقد إال بوجود الموض وعات‬
‫ال تي يمكن أن تك ون معرف ة بأع داد متناهي ة؛ أي عن دما ال نعتق د بوج ود موض وع م ا من‬
‫الموضوعات سابق على ال ذات المفك رة ال تي تنتج ه‪ ،‬ولم ا ك انت ه ذه ال ذات متناهي ة‪ ،‬ف إن‬
‫الالنهائي ليس له معنى إال في تعبيره عن قدرة هذه الذات على خلق موضوعات متناهية بقدر‬
‫م ا تري د‪ .‬باختص ار إن أص حاب ه ذه النظري ة يص رون على تعمي ق تص ور الرياض يات‬
‫االنشائية‪ ،‬من حيث هي بناءات ذهني ة تك ون فيه ا النظري ة الرياض ية تعب ير عن النج اح في‬
‫تشييد فعلي لبناء معين‪ .‬فهم يقولون مثًال أن القضية القائلة (‪ )1 + 3 = 2 + 2‬ليس ت إلى‬

‫‪27‬‬
‫اختزال للقضية التالية‪ " :‬لقد شيدت البناء الذهني الذي فيه ( ‪ ،)2 + 2‬ثم شيدت البناء الذهني‬
‫الذي فيه (‪ ،)1 + 3‬ووجدت أن أنهما يؤديان للنتيجة نفسها"‪.‬‬
‫أما عن الموضوع الثاني‪ :‬فهو الموقف من المنطق ومبادئ ه والس يما مب دأ الث الث المرف وع‬
‫(الذي يقوم على افتراض قيمتي اثنتين ال ثالث لها‪ ،‬صدق وكذب أو وجود وال وجود)‪.‬‬
‫يتف ق الحدس يون الج دد على رفض النظري تين الس ابقتين (المنطقي ة والص ورية) ويؤسس ون‬
‫رفضهم هذا على فكرة أن المنطق ال صلح أن يكون أساس للرياضيات ألن مبادئه أكثر تعقيد‬
‫أقل مباشرة من مبادئ الرياضيات نفسها‪ .‬وإذا كان أحد بعض أنصار ه ذه النظري ة ال ي رون‬
‫ضير من انشاء منطق ما فإنهم يؤكدون على ضرورة أن يكون مستوحى من الرياضيات‪.‬‬
‫كذلك رفض أنصار هذه النظري ة إطالق ص الحية أولي ة لمب دأ الث الث المرف وع والس يما أن‬
‫نق ائض نظري ة المجموع ات تس تند كله ا له ذا المب دأ‪ .‬ه ذا ال رفض في الواق ع مؤس س على‬
‫تصورهم للرياضيات باعتبارها "تشييد فعلي لبناء ذهني ما"‪ ,‬ه ذا التص ور يف رض مراجع ة‬
‫المبادئ والبرهنة عليها فعليًا‪ .‬والحال أن تناول مبدأ الثالث المرفوع ضمن ه ذا المنظ ور بين‬
‫أنه قد نس تطيع البرهن ة علي ه إذا كن ا نتناول ه في المج االت المتناهي ة‪ ،‬لكن عن دما ننتق ل إلى‬
‫مجاالت المتناهية فإن البرهنة عليه تصبح مستحيلة وبالتالي يصبح مبدأ غير قابل للتطبيق‪.‬‬
‫ويمكن أن نأخذ مثال بروور نفسه لتوضيح هذه الفكرة‪ :‬فقد افتراض بروور وجود حقيبة فيه ا‬
‫كرات بلي اردو‪ ،‬وراح يس أل إذا م ا ك انت في الحقيب ة ك رات بيض اء‪ .‬ورأى أن مب دأ الث الث‬
‫المرف وع ال يق دم لن ا إال احتم الين أم ا موج ود أو غ ير موج ود‪ .‬ثم ح اول أن يخت بر ه ذه‬
‫االحتم االت بالقي ام بتجرب ة إخ راج الك رات واح دة تل و األخ رى‪ ،‬لكن ه قب ل إتم ام االختب ار‬
‫يعترض بالقول إن التجربة يمكن لها أن تنجح إذا ما كان ع دد الك رات متن اهي لكن في ح ال‬
‫امتد عدد الكرات إلى ما ال نهاية فالتجربة مستحيلة والمبدأ غير قابل للتطبيق‪.‬‬
‫القيمة االبستمولوجية للنظرية الحدسية‪ :‬إنه ا ال ت رفض المنط ق ب اإلطالق لكنه ا ترجئ ه إلى‬
‫المرتبة الثانية في العمل الرياضي وترفض اعتماده مبدأ أو أساسًا للرياضيات‪ ،‬م ع ذل ك تبقى‬
‫أراء أنصار هذه النزعة غير مكتملة وتع اني من بعض العي وب والس يما فيم ا يتعل ق بمع نى‬
‫الحدس أي المفه وم ال ذي أسس ت علي ه ك ل أطروحته ا إذ يبقى ه ذا المفه وم غ امض وغ ير‬

‫‪28‬‬
‫وواضح في استخداماتهم‪ .‬كما أن اقتراحهم بناء الرياضيات اس تنادًا له ذا المفه وم الفض فاض‬
‫عن الحدس أدى على إلغاء قسم كبير من الرياضيات الكالسيكية‪.‬‬

‫المحاضرة السابعة‬
‫ثانيًا‪ :‬النظرية األكسيوماتيكية (‪:)L’axiomatique‬‬
‫هي نزعة تقوم على الربط بين المنطق والرياض يات دون اخ تزال أح دها لألخ ر‪ ،‬مس تخدمة‬
‫منهجًا جديدًا يطلق عليه اسم األكسيوماتيك وهو منظومة من األوليات ال تي يق وم عليه ا بن اء‬
‫رياضي أو منطقي معين‪ ،‬بحيث يختلف بناء رياضي م ا عن غ يره ب اختالف األولي ات ال تي‬
‫يقوم عليها كل منهما‪ .‬أهم أعالم ه ذه النظري ة ديفي د هل برت‪ ،‬ب ول برن ييس‪ ،‬ك ارت غ ودل‬
‫وآخرون‪ .‬أما أهم خصائص هذه النظرية فهي التالية‪:‬‬
‫‪1‬ـ) رفضها لنزعة اللوجستيقة التي تريد اختزال الرياضيات إلى قضايا منطقية صرفه‪.‬‬
‫‪2‬ـ) تأكيدها أن المهم في األوليات هو الدور الذي تلعبه في البن اء الرياض ي المش يد عليه ا ال‬
‫طبيعتها الخاصة‪ .‬بعبارة أخرى‪ :‬إن المهم ليس األولي ات‪ ،‬ب ل العالق ة ال تي تق وم بينه ا‪ ،‬ومن‬
‫أجل االنصراف التام إلى العالقات وحدها والتحرر التام من تأثير المعنى ال واقعي المش خص‬
‫ال بد من اللجوء إلى الرموز‪ .‬لقد انتهت ه ذه النزع ة إلى تفري غ التفك ير الرياض ي والمنطقي‬
‫من أي محتوى أو مضمون انطولوجي‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫إذا كان فريج ه ورس ل في النزع ة اللوجس تيقية ق د دفع وا الص ورية إلى مرحل ة متقدم ة في‬
‫دراسة المنطق والرياضيات بحيث قدموا لغة خاصة تشرح كل قضايا الرياضيات فقد أصروا‬
‫رغم ذلك على وجود حدوس منطقي ة أولي ة وعلى أن تق ول القض ية ش يء يخص الواق ع من‬
‫حيث هي رموز لمضمون‪ .‬بالنسبة لـ هلبرت الصورية كانت تعني إلغ اء المض مون لص الح‬
‫الصورة‪ ،‬فرفع بذلك درجة الصورية إلى أعلى مس توى‪ .‬الرم وز في الص يغ الرياض ية ليس‬
‫لها معنى محدد بذاتها بل تأخذ معناه ا من قواع د اس تخدامها‪ ،‬ألن االس تدالل يق وم على ه ذه‬
‫الرم وز ال على م ا تش ير إلي ه‪ .‬ه ذا م ا س مي فيم ا بع د الص ورية أو الرمزي ة الص رفة (‬
‫‪ )formalisme‬التي ال تعت بر المس لمات أو األولي ات من حيث هي حدس ية بديهي ة أو ح تى‬
‫صادقة بل من حيث هي متسقة مع غيرها من أوليات النسق‪.‬‬
‫المطلب األول في هذه النزعة كان البرهنة على اتس اق أي نس ق اس تنباطي أي ع دم تناقض ه‬
‫وهذا أول مظاهر برامج هلبرت الذي اقترح منذ عام ‪ .1900 _1899‬ه ذا البرن امج س يأخذ‬
‫صورته المكتملة عام ‪ 1904‬عندما يفترض النظرة اإلجمالية إلى الرياض يات أي تق ديم ق ول‬
‫ص وري عن الرياض يات (رياض يات الرياض يات) أو "م ا بع د الرياض يات"‪ :‬بحيث تنتمي‬
‫الصيغة ‪ 5 = 3 + 2‬إلى علم الحساب‪ ،‬في حين ينتمي التأكيد أن [‪ 5=3+2‬صيغة حسابية]‬
‫إلى ما بعد الرياضيات من حيث هو يقول شيء عن الرياضيات‪.‬‬
‫أما المطلب الثاني للنزعة الصورية كما يرى هلبرت فهو أن "ما بعد الرياض يات" ليس ت إال‬
‫تناول ميكانيكي للرموز استنادًا إلى قواعد؛ أي مكننة االستدالل من خالل اختزاله إلى حساب‬
‫خالص على الرموز‪.‬‬
‫من هذين المطل بين ول دت "نظري ة البره ان" ال تي تع نى بإع داد القواع د الص ورية لص حة‬
‫البرهان بشكل عام‪ .‬تنص نظري ة البره ان ه ذه أن ه عن دما نق وم بتش ييد بن اء رياض ي معين‬
‫مستندين لمجموعة من األوليات‪ ،‬فإن على ه ذه األولي ات وه ذا البن اء (منظ ور إليه ا كنس ق‬
‫استنباطي متماسك) أن تحقق جملة من الشروط المنطقية‪:‬‬
‫‪1‬ـ) استقالل أولياتها‪.‬‬
‫‪2‬ـ) عدم تناقضها‪.‬‬
‫‪3‬ـ) تتامها أو مجرد إشباعها‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وتكون األوليات مستقلة عندما ال يكون من الممكن البرهنة على أي أولي ة بواس طة األولي ات‬
‫الباقية‪ ،‬ألن إمكان ذلك يعني أن األولية المبرهن عليها تصبح نظرية‪ .‬أما ع دم التن اقض فه و‬
‫ينش أ من خالل بن اء نس ق ال يك ون ممكن ًا في ه البرهن ة على قض ية ونقيض ها اس تنادًا لنفس‬
‫األوليات‪ .‬أخيرًا يكون النسق تتامي عندما يك ون باالمك ان دائم ًا البرهن ة على أي قض ية في‬
‫النسق أو على نقيضها استنادًا لمسلمات النسق‪ .‬لكن مبرهنة غودل ع ام ‪ 1930‬بينت اس تحالة‬
‫تحقق هذا الشرط من خالل تقديم برهان على ال تتامية أي نس ق اس تنباطي‪ .‬ل ذلك نلج أ ع ادة‬
‫إلى برهان بدرجة أقل كبرهنة إش باع النس ق من خالل البرهن ة أن ه مغل ق ال يحتم ل إض افة‬
‫أولية جديدة دون إحداث تناقض‪.‬‬
‫هناك خصائص أخرى ليست بضرورة الخصائص السابقة‪ ،‬لكن قد يتصف بها البناء النظري‬
‫الذي من هذا النوع‪ ،‬منها‪ :‬االنغالق واالنفتاح‪ ،‬التكافؤ‪ ،‬التقابل‪.‬‬
‫أخيرًا القيمة االبستمولوجية للنزعة األكسيوماتيكية‪:‬‬
‫‪1‬ـ) إن المنهج قديم لكن الطريق ة جدي دة أم ا أهميت ه فتكمن في اعتم اد منهج مقنن ل ه أص ول‬
‫وقواع د وه ذا يفي د على ص عيد التفك ير في التجري د والتعميم والتنظيم والمقارن ة والمن اظرة‬
‫واستخالص البنية‪ .‬إن االنتقال إلى هذا المستوى من التجريد يفتح أفاقًا جدي دة بم ا يرافق ه من‬
‫تقدم في مجال التعميم ال ذي يح ول كم ا ق ال رس ل الث وابت إلى متغ يرات‪ ،‬ويمكن الفك ر من‬
‫معالجة أكثر القضايا تعقيدًا وغموضًا بمرونة ووضوح‪ .‬كما أنه يساعد على اكتشاف التن اظر‬
‫بين النظريات المتفرقة التي يضمها علم واح د وذل ك باس تخالص البني ة المتغ يرة المش تركة‬
‫بينها‪ .‬باإلضافة إلى أن الطابع اآللي للخطوات األكسيوماتيكية سمح بإدخال التقانة االلكترونية‬
‫وصناعة حواسيب وعقول آلية‪.‬‬
‫‪2‬ـ) البد من اإلشارة إلى حدود ه ذه النزع ة من حيث أن بعض الخص ائص المنطقي ة للنس ق‬
‫االستنباطي لم تعد قابلة للتحقق بموجب مبرهنة غودل وخاصة تتامية هذا النسق‪.‬‬
‫‪3‬ـ) إن نمط التفكير هذا أكمل م ا ب دأه رس ل في تغي ير مع نى الرياض يات على نح و ج ذري‬
‫وكلي‪ ،‬فمع النظرية األكسيوماتيكية لم تعد رياضيات علمًا للكم المتصل والمنفص ل ب ل علم ًا‬
‫العالقات والبنيات التي تتشكل منها هذه العالقات‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫بعد استعراض مجموع هذه التيارات والمحاوالت يمكننا القول إن مشكلة أسس الرياضيات لم‬
‫تعد تطرح اليوم بفضل تقدم األبحاث األكسيوماتيكية التي أدت إلى قي ام علمين جدي دين هم ا‪:‬‬
‫"ما بعد الرياضيات"‪" ,‬ما بعد المنطق" وتحولت أنظار الرياضيين من الكائنات إلى البنيات‪.‬‬

‫المحاضرة الثامنة‬

‫العقالنية المعاصرة من الكائنات إلى البنيات‬


‫إن ما يميز الرياضيات المعاصر عن الرياضيات السابقة هو ذلك التصور الجديد الذي تقدم ه‬
‫عن موض وع العلم الرياض ي ومنهاجه ا م ع قي ام الص ياغات األكس يومية لمختل ف ف روع‬
‫الرياض يات‪ .‬فق د بقيت الرياض يات ح تى منتص ف الق رن التاس ع عش ر ت درس م ا أس ميناه‬
‫"الكائنات الرياضية" األعداد واألطوال واألشكال‪ .‬وك ان هن ا ش به إجم اع أن موض وع ه ذا‬
‫العلم هو هذه الكائنات نفسها بما فيها من خصائص من حيث هي معطاة لنا وليست من إنش اء‬
‫الفكر‪ ،‬وتتمتع بوجود موضوعي مستقل عن الذات التي تتأملها‪ ،‬وبالت الي فهي تف رض نفس ها‬
‫على العقل فرضًا‪ ،‬وليس باإلمكان تجاهلها أو إعطائها خصائص غير تلك التي تتصف بها‪.‬‬
‫كان هذا تص ور أفالط ون المس تمد من نظريت ه بالمث ل‪ ،‬وه و التص ور نفس ه ال ذي س اد في‬
‫القرون الوسطى ل دى كث ير من الفالس فة الواقع يين ال ذين اعتق دوا أن الكلي ات‪ ،‬أي المف اهيم‬

‫‪32‬‬
‫العامة‪ ،‬ذات وجود موضوعي مستقل عن كونها موض وعات للفك ر (وذل ك مقاب ل األس ميين‬
‫الذين رأوا أن موضوعات الفكر تعبير عن مجرد ألفاظ‪ ،‬وأن االسم الكلي ليس له مع نى أك ثر‬
‫من مجموع األشياء التي ينطبق عليها‪ ).‬كذلك في العصر الحديث فقد اعتق د ديك ارت بوج ود‬
‫مبادئ وأفكار عقلية فطرية على رأسها الكائنات الرياضية نفسها‪ ،‬ولم ي تردد باس كال ب القول‬
‫إن الكائنات الرياضية كالمثلث مثًال تتمتع بوجود مستقل كوجود الحجر‪ .‬وق د كتب م البرانش‬
‫أيضًا‪ :‬إذا فكرت في الدائرة أو العدد فإني أفكر في أشياء واقعي ة‪ ،‬إذ ل و ك انت غ ير موج ودة‬
‫لكنت أفكر في الشيء‪ .‬أما سبينوزا الذي بنى فلس فيته بن اء هندس يًا فق د ك ان منطلق ه "وح دة‬
‫الفكر والوجود"‪ .‬كانط أيضًا نظر للقضايا الرياضية كقضايا قبلية أولي ة تركيبي ة‪ ،‬والمق والت‬
‫التي منها مقولة الكم قبلية وهي التي تجعل المعرفة ممكنة‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬ما يمكن مالحظته مما تقدم أن الخاصية المميزة للعقالنية الكالسيكية هي اعتقادهم‬
‫بوجود محتوى ثابت خاص بالعقل‪ ،‬أن النموذج الواض ح له ذا المحت وى العقلي الخ الص ه و‬
‫الكائنات الرياضية‪ .‬وقد انعكس هذا التصور لموضوع العلم الرياضي على منهجه فك ان ه ذا‬
‫المنهج يقوم دائمًا على نوع من الحدس‪ ،‬حدس هذا المحتوى العقلي أو تلك الحقائق‪.‬‬
‫غير أن تحوًال جذريًا طرأ على هذا التصور‪ ،‬وعلى العقالنية الكالسيكية كله ا‪ .‬فم ع النظري ة‬
‫األكسيوماتيكية التي استبدلت الرياضيات (كعلم للكم المتص ل والمنفص ل) بالرياض يات كعلم‬
‫للعالقات والبنيات التي تتشكل منه ا ه ذه العالق ات‪ ،‬لم يع د من الممكن الح ديث عن محت وى‬
‫عقلي دائم للعق ل وال عن معطي ات عقلي ة محض ة‪ .‬ألن العق ل لم يع د في التص ور الجدي د‬
‫مجموعة من المبادئ‪ ،‬بل أصبح قوة تمارس نشاطُا معينًا حسب قواع د معين ة‪ .‬إن ه باألس اس‬
‫فاعلية‪ .‬ومن ثمة أصبحت العقالنية هي االقتناع أن النش اط العقلي يمكن ه أن يب ني منظوم ات‬
‫بمقدار الظواهر المختلفة‪ .‬هذه المنظومات الفكرية التي ينشئها العق ل اس تنادًا إلى المنظوم ات‬
‫األولي ة يمكن له ا أن تك ون مس تمدة من النش اط العملي والتج ارب في الطبيع ة والحي اة في‬
‫المجتمع وبالت الي تك ون مطابق ة للواق ع‪ .‬كم ا يمكن له ا أن تك ون بن اءات نظري ة اكس يومية‬
‫متماسكة وصحيحة من الناحية المنطقية لكن ال تنطبق على واقع معين‪ .‬ب ل تس تلزم اف تراض‬
‫واقع ما تنطبق عليه (كما فعل ريمان مثًال عندما افترض مكانًا كروي الشكل بدًال من المك ان‬
‫المستوي الذي بنى عليه اقليدس هندسته) لتغدو المسألة تحويًال لمفهوم الحقيقة الذي يقوم على‬

‫‪33‬‬
‫المطابقة بين الفكر والواقع‪ ،‬واس تبداله بمطلب التالقي بين عملي ات الفك ر وعملي ات الطبيع ة‬
‫بعدما فقد الحدس امتيازه (كضامن التساق معطيات التجرب ة م ع محت وى الفك ر) بفع ل تع دد‬
‫المنظومات األكسيوماتية‪.‬‬
‫هنا يتضح لنا ذلك االنقالب الذي أحدثته الصياغة األكسيومية للرياض يات ال تي لم تع د قائم ة‬
‫على الحدس بل على منهج فرضي استنتاجي ينطلق من فرض يات ويب ني منظوم ات اس تنادًا‬
‫لقواعد المنطق الجديد‪ .‬إن موضوع الرياض يات لم يع د الكائن ات ب ل اإلج راءات والعملي ات‬
‫والعالقات نفسها‪ ،‬ولم يعد علم للكم بل نظرية في البنيات من مختلف األنواع وعلى رأسها م ا‬
‫يعرف بالبنيات األولية والبنيات األم‪.‬‬

‫المغزى الفلسفي لنظرية األكسيوماتيكية بوصفها نظرية في البنية‪:‬‬

‫إن تطور المنهج األكسيوماتيكي لم يقتصر فقط على العمل العلمي‪ ،‬ب ل امت د أيض ًا إلى بعض‬
‫المش كالت الفلس فية‪ :‬فلس فة الرياض يات‪ ،‬فلس فة العلم‪ ،‬وفلس فة المعرف ة‪ .‬بخص وص فلس فة‬
‫الرياضيات تحدثنا عن ذلك عندما شرحنا النظرية األكسيوماتيكية التي حاولت أن تقدم فلس فة‬
‫للرياضيات تتجاوز المتناقضات التي فرضتها نظرية المجموعات‪.‬‬
‫‪1‬ـ فلسفة العلم‪:‬‬
‫على الرغم من أن مبرهات المنطق وعلم الحساب يمكن لها أن تنطبق على الواقع فإننا ننظ ر‬
‫عادة لهذه العلوم كعلوم عقلية اس تنباطية خالص ة‪ ،‬وعلى ال رغم من أن الفيزي اء تش رح بلغ ة‬
‫الرياضيات فإنه ا تبقى علم ًا تجريبي ًا يس تمد ج وهره من التجرب ة‪ .‬على ه ذا األس اس ك انت‬
‫مشكلة التقسيم الكالسيكي للعلوم إلى علوم عقلية وأخرى تجريبية‪ ،‬ولم تكن محاول ة كان ط في‬
‫صياغة األحكام التركيبية القبلية إال رغبة في تجاوز هذه المشكلة‪.‬‬
‫المنهج األكس يوماتيكي ق دم ح ل له ذه المش كلة بطريق ة أخ رى عن دما ق دم هل برت نم وذج‬
‫أكس يوماتيكي للهندس ة الكالس يكية دون أي اس تعانة بالح دس‪ ،‬وه و به ذه المحاول ة بين أن‬

‫‪34‬‬
‫الهندسة الكالسيكية التي كانت تبدو في الوقت نفسه عقلية وحدسية تجريبية‪ ،‬ليست في الحقيقة‬
‫إال خليط يجمع بين علمين متميزين لم يكونا واضحين وهما‪:‬‬
‫الهندسة المحضة التي صاغها هلبرت في صورة حدود وقض ايا تس تمد حقيقته ا من االتس اق‬
‫المنطقي مستبعدًا أي معنى حدسي تجريبي‪.‬‬
‫الهندس ة التطبيقي ة ال تي ال تب دو فيه ا الص ور البرهاني ة إال مس اعدات للتعب ير عن ق وانين‬
‫الفيزياء‪.‬‬
‫مع تطور األبحاث األكسيوماتيكية أصبحت المسألة تقوم على النح و الت الي‪ :‬ب دًال من القس مة‬
‫بين علوم تجريبية وأخرى عقلية من الممكن عرض أو شرح أو ق راءة نفس الخط اب العلمي‬
‫ألي علم كان بطريقة مزدوجة‪ :‬م رة ص ورية وأخ رى تطبيقي ة‪ .‬وه ذا يع ني أن ك ل علم من‬
‫العلوم يمكن أن بنظر له كلغ ة قابل ة أن تق رأ بطريقي تين مختلف تين‪ :‬في الق راءة األولى نك ون‬
‫بصدد نسق صوري خالي من أي مضمون تجريبي تم ض بطه بالوس ائل المنطقي ة للتأك د من‬
‫خلوه من المتناقضات‪ .‬أما القراءة الثانية فتمكننا من اعطاء أوليات النس ق ت أويالت ص حيحة‬
‫في مجال محدد للواقع بحيث تأخذ الرموز معنى عيني وتعبر الصياغات المؤلف ة من الرم وز‬
‫حقيقة أمبيريقية‪.‬‬
‫وبالتالي لم يعد صحيحًًا تقسيم العلوم إلى علوم عقلية وعلوم تجريبية ب ل ال ب د لن ا من النظ ر‬
‫إلى العلوم كسلسلة واحدة بدراجات مختلفة في التجريد والمعقولية‪ ،‬كما يمكن النظ ر لك ل علم‬
‫في هذه السلسلة على أنه قابل للقراءة المزدوجة عقلية وتجريبية‪.‬‬
‫‪2‬ـ فلسفة المعرفة‪:‬‬
‫إن التعارض بين العقل والتجربة هو التع ارض األساس ي للفلس فة‪ :‬إن ه تع ارض بين األفك ار‬
‫والوقائع‪ ،‬الفكر والشيء‪ ،‬المعرفة والوجود‪ ،‬المعق ول والمحس وس‪ ،‬المج رد والعي ني‪ ،‬القبلي‬
‫والبعدي‪ .‬المنهج األكسيوماتيكي ليس فقط أسلوب تقني في الرياضيات بل طريقة يمكن للفك ر‬
‫فيها أن يتعامل مع المعرفة ويمكننا من معالجة التعارض المذكور بطريقة جديدة‪.‬‬
‫مبدأ هذه الطريقة يقوم على أساس أن العيني ليس إال المجرد وق د أص بح مألوف ًا باالس تخدام‪.‬‬
‫وعليه ال يمكن فهم التعارض الس ابق بين العق ل والتجرب ة إال ع بر العالق ة بينهم ا فالمعرف ة‬
‫ليست إال التوافق بين البنية المجردة والتحقق العيني‪ ،‬بين المخطط والمجسم‪ .‬إن المعرفة التي‬

‫‪35‬‬
‫تفرضها االكسمة هي المعرفة العقالنية التي ال ترى ضير في تس ميتها تجريبي ة فك ل معرف ة‬
‫لها مخطط أو هيكل رمزي وومجسم أو تحقيق عيني‪.‬‬

‫المحاضرة التاسعة‬
‫طبيعة الوجود الرياضي‬
‫لم تطرح مشكلة وجود الكائنات المنطقية إال في بدايات القرن العشرين في حين طرحت ه ذه‬
‫المشكلة منذ اليونان بصدد الكائنات الرياضية‪ ،‬وكان الطرح على النحو التالي‪ :‬ما ه و الواق ع‬
‫الذي يعبر عنه العدد ‪ 3‬مثًال أو المثلث المساوي األضالع؟ إن السؤال المطروح ال يخص من‬
‫جهة الوقائع التجريبية الفردية العينية بل الكيانات أو الكائنات العامة المج ردة ال تي تس تعملها‬
‫وتحمل عليها الرياضيات‪ ،‬وال يخص من جهة أخرى الفكرة التي امتلكها اآلن كذات فرد لكن‬
‫ما يجعل موضوع هذه الفكرة عام وخارج إطار الزمان‪.‬‬
‫بدأ السؤال عندما استبدل فيثاغورث الرياض يات التجريبي ة العملي ة عن د المص ريين الق دماء‬
‫برياضيات عقلي ة‪ .‬لم يكن ه ذا االس تبدال إال انتق اًال من مج رد الفائ دة العملي ة إلى العلم‪ ،‬من‬
‫الحس إلى العق ل‪ ،‬من الع الم التجري بي إلى ع الم األفك ار أو ع الم الج واهر‪ .‬وق د وص فت‬
‫أسطورة الكهف األفالطونية ببراعة هذا التحول فلم تكتشف فقط وجود ع الم أخ ر إلى ج انب‬
‫العالم الم ألوف ب ل اكتش فت أيض ًا أن ه ذا الع الم أك ثر س مو وأهمي ة من الع الم ال ذي تقدم ه‬

‫‪36‬‬
‫الحواس‪ ،‬عالم هو أكثر شبهًا بعالم الكم ال ال ذي وص فته األدي ان من الزاوي ة اإليماني ة فق ط‪.‬‬
‫وبذلك لم ننتقل عند اليونان من اإليمان والرأي إلى العلم فقط بل إن ه ذا العلم يس مو ب الروح‬
‫ألنه يدخلنا في عالم من الوقائع الفوق حسية حامُال على هذا النحو قيمة ميتافيزيقية شبه دينية‪,‬‬
‫يقول أفالطون في كتابه الجمهوري ة [ ليس مهم ة العلم الرياض ي خدم ة التج ار في عملي ات‬
‫البيع والشراء كما كان يعتقد الجّهال بل تيس ير طري ق النفس في االنتق ال من دائ رة األش ياء‬
‫الفانية إلى تأمل الحقيقة الثابتة الخالدة] وعلى ذلك كان موض وع الرياض يات ماهي ات ذهني ة‬
‫تتمتع بوجود موضوعي مستقل [مثل]‪ ,‬وهذا ما دف ع أفالط ون ل يرى في الرياض يات م دخل‬
‫ضروري للفلسفة‪ .‬في أيامنا المعاصرة يطلق اسم األفالطونية على النزعة التي تقول بواقعي ة‬
‫الج واهر الرياض ية وهي واح دة من أهم الم دارس المهتم ة بفلس فة الرياض يات م ع ظه ور‬
‫نظرية المجموعات‪.‬‬
‫وقد عبرت العقالنية الكالسيكية عن هذا التوجه الفلسفي‪ ،‬يعتقد ديكارت بوجود أفك ار فطري ة‬
‫عقلية على رأسها الكائنات الرياضية‪ .‬مالبرانش يتساءل هل أستطيع أن أغ ير مجم وع زواي ا‬
‫المثلث بحس ب رغب تي؟ الج واب عن د ال ألن موض وعات الرياض يات موج ودة وج ود‬
‫موضوعي‪ .‬فإذا فكرت في الدائرة أو العدد يقول مالبرانش فأنا أفكر في أشياء واقعية ألن ه ل و‬
‫لم تكن موجودة فأنا أفكر في الالشيء‪ .‬القضايا الرياضية عند كانط قضايا قبلية تركيبية‪ .‬بمثل‬
‫هذه الميتافيزيقا بإمكاننا أيضًا أن نتناول كث ير من المف اهيم الفلس فية المعاص رة مث ل الحقيق ة‬
‫بذاتها عند بولزانوا أو دوام األفكار الرياضية على نقيض الوجود الزائ ل في األش ياء الحس ية‬
‫عند رسل‪ .‬بدأ رسل نظريته المنطقية بهذا النوع من االعتقاد شبه الديني بعالم أزلي أفالطوني‬
‫تتمتع به الرياضيات بوجود موضوعي مس تقل عن أي عالق ة بال ذات المفك رة ال تي تكتش فه‬
‫بواسطة المنطق‪.‬‬
‫مقابل هذه النزعة األفالطونية المتطرف ة ظه رت نزع ة أس مية متطرف ة للوض عية المنطقي ة‬
‫كنتيجة لكسوف المطلقات المنطقية الرياض ية لألفالطوني ة في بداي ة الق رن العش رين بس بب‬
‫وجود متناقضات نظرية المجموعات‪ .‬عند االسميين الحقائق الرياضية نسبية فهي تتب ع نس ق‬
‫المبادئ المخت ارة اعتباط ًا بحيث تأخ ذ الح دود معناه ا فيه ا من القواع د ال تي تح دد طريق ة‬
‫استخدامها بموجب مبادئ النسق‪ .‬عند أنصار ه ذا التص ور ال تس تهدف الرياض يات األفك ار‬

‫‪37‬‬
‫خارج إطار الرموز فهي مرتبطة بهذه الرموز وبالقواعد ال تي تح دد ترابط ات الرم وز‪ .‬إلى‬
‫ه ذه النزع ة أنتق ل رس ل بع د رفض ه للنزع ة األفالطوني ة م دافعًا عن اس مية تري د اخ تزال‬
‫الرياضيات إلى المنطق مع فريجه‪ ،‬ثم اختزال المنطق إلى تحص يل حاص ل م ع فيتجنش تين‪.‬‬
‫هذه النزعة االختزالية االسمية قادت إلى اشتقاق صدق القضايا الرياضية من ص دق القض ايا‬
‫المنطقية بحيث لم تعد وظيفة الصيغ الرياضية المنطقية تقديم معرف ة جدي دة ب ل تعطين ا فق ط‬
‫أداة تسمح لنا بتحويل النص الرياضي وقول الشيء نفس ه بح دود مختلف ة‪ .‬مثًال ق ‪ ‬ك ‪..‬‬
‫~ق ‪ ‬ك ‪( ~ ..‬ق‪~ .‬ك)‪ .‬على ذلك لم يعد للصيغ الرياضية المنطقية األك ثر تعقي د من دور‬
‫إال ضمان صحة تكافؤات كهذه‪ .‬جوهرياً هذه الصيغ ليست إال قواعد لغ ة وهن ا تكمن فائ دتها‬
‫للعلم‪ .‬أح د أهم االس ميين المعاص رين ال ذين رفض وا ال دخول في مغ امرات الميتافيزيق ا‬
‫األفالطونية كان كارناب في وضعيته المنطقية ال تي تفص ل بين الق راءة الص ورية والق راءة‬
‫الواقعية للعلم من حيث أن األولى ليس لها موضوع فهي نسق من القض ايا المس اعدة الخالي ة‬
‫من أي مضمون انطولوجي‪.‬‬
‫انتقد سابقًا فريجه االسميين األلمان الذين يفضلون مقارن ة الفاعلي ة الرياض ية بالفاعلي ة ال تي‬
‫يقوم فيه ا ال ذهن في لعب ة الش طرنج‪ .‬بالنس بة لفريج ه إن تنظيم القط ع في لعب ة الش طرنج ال‬
‫يشرح شيء وقواعد اللعبة تشكل نظام مغلق ليس له أي تطبيق خارج إطار هذه اللعب ة‪ ،‬بينم ا‬
‫تشرح الصيغ الحسابية أفكارًا‪ ،‬وقوانينها قابلة لتطوير بدون حد وله ا تطبيق ات غ ير مح دودة‬
‫خارج إطار علم الحساب‪.‬‬
‫بين واقعي ة الج واهر واالس مية الخالص ة ظه رت نزع ة وس طية أرادت تجنب الميتافيزيقي ا‬
‫األفالطونية دون أن تفرغ القضايا العلم من معنى رياضي‪ .‬عّر ف أنصار هذه النزعة الوجود‬
‫الرياضي بغياب التناقض‪ :‬فالقول بوجود مفهوم من المفاهيم الرياض ية يع ني عن د ه ؤالء أن‬
‫ه ذا المفه وم يمتل ك الح ق باالنتس اب إلى نس ق بش رط أال يس بب وج ود في ه ذا النس ق أي‬
‫تناقض‪ .‬هلبرت هو صاحب هذه النظري ة وق د بين اختالف ه عن فريج ه في ه ذه النقط ة على‬
‫النحو التالي‪ :‬عند فريجه أن عدم التناقض ينشأ من وجود المفاهيم الرياضية بينما عند هلبرت‬
‫وجود المف اهيم الحقيقي يتب ع ع دم تناقض ها‪ .‬إن ه ذا التص ور األخ ير يق رر وج ود المف اهيم‬
‫الرياض ية نس بة لع دم تناقض ها ففي الهندس ة االقليدس ية ال يوج د مثًال مثلث ق ائم الزاوي ة‬

‫‪38‬‬
‫ومتساوي األضالع ألن وجود مثل هذا الكائن في هذه الهندسة يؤدي إلى تن اقض م ع مس لمة‬
‫اقليدس أن مجموع زوايا المثلث يساوي ‪ 2‬قا‪ ،‬ولكن في هندسة ريمان مثل هذا المثلث موجود‬
‫ألن مجموع زوايا المثلث في هذه الهندسة يتغير ليصل إلى ‪ 3‬قا‪ .‬إن خاص ية تن اقض أو ع دم‬
‫تناقض قضية ما ال يتبع فقط المسلمات في نسق ما لكن أيضًا القانون المنطقي الذي تخضع له‬
‫المسلمات‪.‬‬
‫الواقع إن هذا الموقف الذي يربط الوجود الرياضي باتساق النسق الذي يرد في ه لم يكن ك افي‬
‫من وجه ة نظ ر المدرس ة الحدس ية (ب روور_ هيتن غ) على ال رغم من ابتع اد ه ؤالء عن‬
‫اإلطالقية األفالطونية فإن االتساق المنطقي وإن كان ش رط ض روري للوج ود الرياض ي إال‬
‫إنه شرط غير كافي‪ .‬يض يف أنص ار ه ذا التص ور إلى االتس اق المنطقي مفه وم التجرب ة أو‬
‫االختبار‪ .‬ففي نظرهم مثلما إن عدم قدرتنا على إثبات التهم ة على متهم ال تع ني براءت ه ف إن‬
‫البرهان على عدم وجود تن اقض في مفه وم أو في قض ية رياض ية ال يع ني أن ه ذا المفه وم‬
‫موجود أو هذه القضية صادقة‪ .‬فمن أجل التأكد الوجود الرياضي ال بد من إنشائها بالحدس أو‬
‫على األقل تقديم قاع دة تس مح فعًال بإنش ائه بع دد مح دد من المراح ل‪ .‬في الواق ع م ع أهمي ة‬
‫الرياضيات التي تنشأ من أسس الحدسيين أعترض الرياض يون على مث ل ه ذا التص ور ألن ه‬
‫يلحق الرياضيات بواقعة عرضية مرتبطة بذات الرياضي وتحوالته ا وينفي عن الرياض يات‬
‫موضوعيتها‪5 .‬‬
‫خالصة القول‪ :‬على الرغم من تنوع واختالف ه ذه الم ذاهب ال يمكن فهم أي م ذهب بمع زل‬
‫عن المذاهب األخرى ذل ك أن القص د العمي ق للنزع ة االس مية لم يكن إال رفض ك ل أش كال‬
‫الميتافيزيقا الواقعية األفالطونية فاالسمية المنطقية عند كواين وغودمان تعبر عن رغبة ببناء‬
‫منطق بدون انطولوجيا‪ .‬من جهة أخرى إن التناقض م ع انطولوجي ا الج واهر الرياض ية ه و‬
‫مح رك النزع ة الحدس ية‪ .‬بالمقاب ل يتح رك األفالطون يين بم وجب مب دأ ي دافع دائم ُا عن‬
‫الموض وعية في الرياض يات واس تقاللها عن أع راض تطوره ا الت اريخي‪ .‬ف القول بج واهر‬
‫ترانس ندانتالية يع ني ض د االس ميين أن الحق ائق الرياض ية ليس ت عبثي ة وال تتب ع فنتازياتن ا‬
‫الخاصة وال تختزل إلى لعبة لغة‪ ،‬ويع ني ض د الحدس يين أن الحق ائق الرياض ية مس تقلة عن‬
‫المعرفة التي نأخذها منها عند الحدث الطارئ الذي يكتشفه الرياضي‪ .‬إن صيغ هذه الج واهر‬

‫‪39‬‬
‫ال الجواهر نفسها هي موضوع البحث‪ .‬وعليه فكما كانت أفالطونية فريجه هي رفض السمية‬
‫هين سابقُا‪ ،‬فأفالطونية تشيرش هي رفض السمية كواين‪.‬‬

‫المحاضرة العاشرة‬

‫أهمية الرياضيات وفلسفة الرياضيات‬


‫بدون أدنى شك ليس من الصعب على من يريد أن يتكلم عن أهمي ة الرياض يات أن يج د فيه ا‬
‫مجاًال خالقًا يستجيب لحاجات اجتماعية واقتصادية‪ ،‬فضًال عن أنها الي وم تم د العلم الط بيعي‬
‫بالتنظيم العقلي للظ واهر الطبيعي ة‪ ،‬وق د أص بح منهجه ا وتص وراتها ونتائجه ا ق وام العل وم‬
‫الفيزيقية من حيث يمكن دائمًا الحديث عن دور المثل األعلى الرياضي في‪:‬‬
‫‪1‬ـ تثبيت األحداث‪ :‬وذلك عبر دراسة هذه األحداث دراسة كمي ة تس تبدل المالحظ ة البس يطة‬
‫بالمالحظة المسلحة بالمنهج الدقيق الذي يبين لنا أن ال علم إال البرهان‪.‬‬
‫‪2‬ـ تنظيم الح وادث‪ :‬وذل ك من خالل تزي د العل وم األخ رى بمف اهيم كلي ة (الزم ان والمك ان‪،‬‬
‫(الحركة عالقة رياضية بين الزمان والمكان))‪ ،‬وتنظيم الدليل العلمي‪.‬‬
‫‪3‬ـ تنظيم القوانين العلمية تنظيمًا رياضيًا‪ :‬من خالل إخضاع الطريقة االستقرائية إلى الطريقة‬
‫االستنتاجية عبر أكسمة العل وم وض بط ص ياغاتها ض بطًا ي بين خلوه ا من التناقض ات‪ ،‬كم ا‬

‫‪40‬‬
‫تمكن العلماء من القريب بين القوانين من خالل دراسة التقاب ل والتن اظر والتش ابه بين الب نى‬
‫المنطقية التي ترسمها هذه الطريقة االكسيوماتيكية‪.‬‬
‫لكن االسترسال في الح ديث عن أهمي ة الرياض يات من ه ذه الزاوي ة يبقين ا في أط ار البحث‬
‫الميتودولوجي‪ ،‬وال يوص لنا إلى البحث االبس تمولوجي ال ذي ه و موض وع بحثن ا األساس ي‪.‬‬
‫لذلك البد لنا من تخصيص الحديث عن أهمية الرياضيات فيما يخص الفلسفة ليدخل بحثنا في‬
‫اإلطار االبستمولوجي‪.‬‬
‫وم دخلنا لمث ل ه ذا المبحث ه و العب ارة ال تي ك ان ق د كتبه ا أفالط ون فيم ا يق ال على ب اب‬
‫األكاديمية "ال يدخل علينا من لم يكن رياضيًا" وهي عبارة أراد منه ا اإلش ارة إلى ش رط من‬
‫شروط االلتحاق بمدرسته‪ .‬والواقع أن هذه العبارة تضع بين أيدينا أمر له داللته ومغ زاه فيم ا‬
‫يخص العالقة بين الفلسفة والرياضيات على نحو ن رى مع ه كي ف غ دت الرياض يات مقدم ة‬
‫ض رورية للفلس فة‪ ،‬وش رط ض روريًا لتعلم الفلس فة ولص حة التفلس ف الحقيقي‪ .‬ض من ه ذا‬
‫المعنى رأينا كيف بنيت الفلسفة األفالطونية على أساس رياضي‪ ،‬وكيف طبق ديك ارت النهج‬
‫الرياضي على كل مناحي التفكير الفيزيقي والميتافيزيقي‪ ،‬ومن هنا أيضًا نجد العذر لـ اليبنتز‬
‫في حلم ه ال ذي ظ ل يالزم ه ط وال حيات ه في أن يك ون ك ل تفك ير إنس اني ش بيها ب التفكير‬
‫الرياضي‪ ،‬ونفهم لماذا بنى سبينوزا كتابه "األخالق" بناءًا هندسية‪ ،‬ولماذا ك انت نقط ة الب دء‬
‫واألساس في "نق د العق ل المحض" لكان ط كي ف يمكن لألحك ام الرياض ية أن تك ون ممكن ة؟‬
‫باختصار‪ ،‬يمكن لنا أن نفهم أهمية الرياض يات بالنس بة للفلس فة من حيث هي المص در ال ذي‬
‫اعتادت أن تجد فيه الفلسفة نموذج معقوليتها واألشكال المتطورة المتتالية لعقالنيتها‪.‬‬
‫لكن العالقة بين الفلسفة والرياض يات لم تقتص ر على ه ذا الش كل ب ل إن تط ور الرياض يات‬
‫باتجاه الصياغات الجبرية والصورية الخالصة من جه ة وتط ور ف رع كب ير في الفلس فة ه و‬
‫المنط ق من جه ة أخ رى أعطى أش كاًال مختلف ة للعالق ة بين الفلس فة والرياض يات‪ .‬من ه ذه‬
‫األشكال كان الشكل الذي يربط بين المنطق والرياضيات ربطًا عضويًا يزعم في ه أن العلم ان‬
‫أصبحا شيء واحد (للوجستيقة)‪ ،‬والش كل ال ذي يرب ط بين الرياض يات والمنط ق ع بر منهج‬
‫جديد هو األكسيوماتيك الذي أدى إلى التمييز بين الرياضيات البحتة والرياضيات التطبيقية‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الجديد في هذه األشكال هي صورة العالقة بين الفلسفة والرياضيات التي تجعل ه ذه األخ يرة‬
‫موضوع الفلسفة وليس فقط مجرد أساس األمر الذي خلق ف رع جدي د في الفلس فة ه و فلس فة‬
‫الرياضيات‪.‬‬
‫الفرق بين الرياضيات وفلسفة الرياضيات‪:‬‬
‫إن الرياضيات دراسة إذا بدأنا بأكثر أجزائها ألف ة وهي األع داد‪ ،‬لك ان بإمكانن ا أن نس ير في‬
‫أحد اتجاهين متقابلين‪ :‬االتجاه األول هو االتجاه البن ائي ال ذي يتج ه بالت دريج نح و مزي د من‬
‫ال تركيب نب دأ من الع دد الط بيعي ثم الع دد الص حيح فاألع داد الكس رية واألع داد الحقيقي ة‬
‫واألع داد المركب ة‪ ،‬ومن الجم ع والط رح إلى التفاض ل والتكام ل‪ ،‬وهك ذا إلى الرياض يات‬
‫العالية‪ .‬االتجاه الثاني وهو االتجاه األقل ألفة من االتجاه األول ويقوم على التقدم بالتحلي ل إلى‬
‫التجريد أكثر فأكثر وإلى البس اطة أك ثر ف أكثر‪ .‬فبينم ا نكتفي في االتج اه األول ب البحث عم ا‬
‫يمكن تعريفه واستنباطه من ذلك الذي افترضناه‪ ،‬نجد أنفسنا في االتجاه الثاني نط رح األس ئلة‬
‫التالية‪ :‬هل توجد أفكار ومبادئ أعم يمكن منها تعريف واستنباط ما بدأنا به؟ إن السير في هذا‬
‫االتجاه األخير هو الذي يميز فلسفة الرياضيات عن الرياضيات العادية‪.‬‬
‫إن فلسفة الرياضيات تبحث فيما وراء البدايات التي بدأنا منه ا ال تركيب وتس أل عن المب ادئ‬
‫التي تكمن وراء هذه البدايات أنه سؤال عن المصدر واألساس واألص ل والوج ود والماهي ة‪.‬‬
‫بعبارة أخرى إذا كان الطريق باتجاه ال تركيب والتق دم إلى األم ام لكي نب ني الرياض يات ه و‬
‫طريق الرياضيات العادية فإن الطريق باتجاه التحليل والنظر إلى الوراء لنحل ل الب دايات ه و‬
‫طريق فلسفة الرياضيات التي تفلسف أسس ومناهج وطبيعة الرياضيات‪.‬‬
‫وال يخفى علينا األهمية الكبيرة لمثل ه ذا المبحث بخص وص الرياض يات والفلس فة على ح د‬
‫سواء‪ .‬في الرياضيات من خالل حل مشكلة أسس الرياضيات وإعادة الوحدة لعلم الرياض يات‬
‫ومنهج ه ب التطورات المتالحق ة للنظري ة األكس يوماتيكية‪ .‬ونق ل الرياض يات من المع نى‬
‫الكالسيكي كعلم للكم والمقدار للمعنى المعاصر كعلم للبنيات والعالقات التي تتكون منه ا ه ذه‬
‫البني ات‪ .‬ولم يكن له ذا التط ور إال أن ينعكس على الفلس فة من خالل م ا تقدم ه الرياض يات‬
‫المقروءة بالمنهج األكسيوماتيكي أو الرياضيات البنيوية من تطوير للمف اهيم الفلس فية في فهم‬
‫طبيعة العلم والمعرفة على السواء‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أحد جوانب هذه الفلسفة تظهر في مناقشة تعريف الرياضيات ب المعنى الجدي د‪ .‬واح د من أهم‬
‫التعريفات الجديدة للرياضيات من حيث هي علم للبنيات هو تعريف برتراند رسل الذي ي رى‬
‫فيه أن‪ " :‬الرياض يات هي العلم ال ذي ال نع رف في ه عم ا نتح دث‪ ,‬وال م ا إذا ك ان م ا نقول ه‬
‫صادق أو كاذب" هذه العبارة التي يملئها الشك يجب أن تفهم بمعنى مختل ف عم ا تب دو علي ه‬
‫فهي تعني أن التص ورات األولي ة المقدم ة في النظري ة الرياض ية ال يمكن أن تح دد بطريق ة‬
‫قطعية ووحيدة بل يمكن أن نفسر بطرق متعددة (ال نع رف عم ا نتكلم ألنن ا يمكن أن نس تخدم‬
‫هذا الكالم بصدد عدة موضوعات) كذلك فالرياضي في هذا المع نى ال ينبغي أن يش غل نفس ه‬
‫بما إذا كانت نظرية معينة متحققة بالتجربة أو غير متحققة وعلي ه (ال نع رف أو ال ينبغي لن ا‬
‫أن نهتم فيما إذا كان ما نقوله في الرياضيات البحتة صادق أو كاذب)‪.‬‬
‫وفق هذا التعريف الرياضيات المحضة مستقلة في بنيتها عن التجربة ومعطياتها وثباته ا إنم ا‬
‫يتحدد بصحة استنباط النظريات من المقدمات التي يبدأ منها الرياضي ويعمل على خلوها من‬
‫التناقضات‪ .‬هذا األمر يعنى كما أشرنا س ابقًا أن من الممكن إنش اء منظوم ات بع دد الظ واهر‬
‫المدروس ة كم ا يمكن إلنش اء منظوم ات تحليلي ة خالص ة وعلي ه تك ون الرياض يات نس ق‬
‫استنباطي فرضي يتبع مبدأ التسامح الذي أقره كارناب عندما قال‪:‬‬
‫" قضيتنا ليست في إمالء محظ ورات بالوص ول إلى توافق ات‪ ... ،‬فال أخالقي ة في المنط ق‪..‬‬
‫كل واحد حر في بناء منطقه أي بناء شكل لغته الخاص‪".‬‬
‫ما عناه كارناب في قوله هذا هو أن النس ق االس تنباطي االفتراض ي ليس نظري ة ب ل لغ ة أي‬
‫نظ ام إش ارات م ع قواع د اس تخدام‪ .‬إال أن ه ذا التص ور لم يكن دون بعض االنتق ادات ال تي‬
‫وجهت له من جانب بعض الفالسفة المحدثين‪ .‬فقد اعترض أدوارد ل وروا على ه ذا التص ور‬
‫بالتسائل عن الفائدة من العلم الرياضية المطروح بهذه الصورة‪ ،‬وهو ال يرى جدوى من تقديم‬
‫الرياضيات بوصفها مجرد لعبة بالرموز‪ .‬وأنصار هذا التيار يرفض ون أن ي روا في الحق ائق‬
‫الرياضية مجرد تحصيل حاصل وبأنها متروكة لحرية العالم الرياضي يلهو بها ويختار منه ا‬
‫ما يشاء‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫كذلك يرى باشالر أن العالم الرياضي عندما يتحدث دون أن ي دري م ا يتح دث عن ه فإن ه في‬
‫الحقيقة يتعمد أال يدري أو يعرف إذ أن من واجبه أن يتحدث كما لو كان ال يع رف فه و يق وم‬
‫بعملية كبت الدراكاته الحسية ويرتفع بالتجربة الحسية إلى مستوى عقلي خالص‪.‬‬
‫من الواضح أن هذه النظرة تجعل للرياض يات اتص اال مباش رًا ب الواقع المحس وس والطبيع ة‬
‫الخارجية وقد تسلم باتصال ما بينهما‪ ،‬لكن ال يمكن مع ذل ك االنتق ال على الق ول إن الحق ائق‬
‫الرياضية انعكاسا للطبيعة ووقائع الحس يكتبها الرياضي في نفسه ويرتف ع به ا على مس توى‬
‫عقلي خالص ألن الكبت هنا ال يمكن أن يعني القيام بعملية تجري د للواق ع ألن األم ر ل و ك ان‬
‫كذلك لما كان لنا أن ننشأ أكثر من منظوم ة واح دة ألن الواق ع واح د‪ .‬والحقيق ة أن مث ل ه ذه‬
‫النظرة ال يمكن لها أن تقوم إال ألنها لم تدرك الفصل ال ذي فرض ته النظري ة األكس يوماتيكية‬
‫داخل العلم الواحد بين القراءة الخالصة والقراءة التطبيقي ة بحيث ال نطلب من الق راءة األولى‬
‫سوى اإلجابة عن سؤال االتس اق وع دم التن اقض ون ترك للق راءة الثاني ة اإلجاب ة عن س ؤال‬
‫الفائدة بطريقة ال تمس من قريب أو بعيد صحة ويقين اتساق الرياضيات البحتة‪.‬‬
‫ألن الحقائق الرياضية في هذا المجال ليست اكتشاف وإنما اختراع وليست مقدماتها وقائع بل‬
‫فروض وليست ضرورتها حدسية أو تجريبية بل شرطية‪ .‬وإذا كانت التجربة الحس ية ت وحي‬
‫للرياضي ببعض مسلماته فإنها ال توحي له إال بالقدر ال ذي ي وحي به ا ص فاء القم ر للش اعر‬
‫المرهف الذي بنظم قصيدة لمن يحب‪.‬‬

‫‪44‬‬

You might also like