Professional Documents
Culture Documents
6
6
المحاضرة األولى
مدخل عام
من المعلوم لدى دارسي الفلسفة أن هناك صلة وثيقة بين العلم والفلسفة ،ففي الفكر القديم حينما
كانت العلوم أجزاء من الفلسفة ،ك""انت الص""لة بين المبح""ثين ص""لة اهتم""ام من الفلس""فة لتحلي""ل
وتبرير مبادئ العلوم .في الفكر الحديث أيضًا وبع""د أن اس""تقلت العل""وم عن الفلس""فة ظلت تل""ك
الصلة قائمة وتعمقت بعدما نشأ في العلوم نفسها حركات نقد ذاتي لبنائها العلمي من داخله ،أي
محاوالت الختبار األفكار والمبادئ التي يقوم عليها هذا البناء ،فقدمت ب""ذلك العل""وم مش""كالتها
التي تواجهه""ا والموض""وعات ال""تي تثيره""ا إلى الفلس"فة ال""تي ق"امت بوظيفته""ا الدائم""ة في نق""د
المعرفة المتكونة في األنساق العلمية للوقوف على حقيقة األس""س ال""تي يق""وم عليه""ا وطبيعته""ا
وقيمتها .فظهر للوجود مبحث جديد أخذ اسم "فلسفة العلوم" أو االبستمولوجية ال""تي هي ملتقى
الباحثين في المعسكرين العلمي والفلسفي ومجال التعاون المثمر بينهما.
وإذا كانت األبحاث االبيستمولوجية ،التي تع""نى بالمعرف""ة عام""ة والمعرف""ة العلمي""ة على وج""ه
الخصوص ،قد اكتسبت أهمية بالغة الحساسية في ال"وقت الحاض"ر بس"بب اإلس"هامات العميق"ة
ال""تي ق""دمتها للعلم ،فق""د أص""بحت من جه""ة أخ""رى المي""دان ال""رئيس داخ""ل األبح""اث الفلس""فية
المعاصرة .بل يمكن الق""ول إن البحث االبس""تمولوجي في اهتمام""ه بالعالق""ة المركب""ة بين العلم
والفلسفة يسر لنا فهمًا أعمق وأيسر للفلس""فة المعاص""رة ،وبين بوض""وح أن اس""تيعابًا ج""اد له""ذه
الفلس""فة وتمثًال ملتزم"ًا لتعاليمه""ا المم""يزة ولمدارس""ها الك""برى ال يك""ون إال من خالل اس""تعادة
1
المشكالت الرئيسة واألسئلة الملحة والحاجات الفكرية الحيوية ال""تي فرض""ها العلم وال""تي نمت
الفلسفة عبر اإلجابة عنها وتطورت بتقديم الحلول لها.
ويكفي هنا أن نقدم مثاًال بس""يطًا لنوض""ح ب""ه تع""ذر فهم الخط""اب الفلس""في الح""ديث والمعاص""ر
خارج إطار عالقته التضايفية م"ع الخط"اب العلمي المعاص"ر ل"ه :ف"إذا حاولن"ا مراجع"ة أب"رز
المقوالت وأهم التص""ورات ال""تي س""يطرت على الخط""اب الفلس""في في تفس""ير الع""الم مثًال قب""ل
المرحلة الحديثة سنجد أنها تضم المفردات التالية :الماهية ،الجوهر ،العرض ،الُمث""ل ،الفيض،
الغاية ،الوجود بالقوة ،الوجود بالفعل ،الص""ورة ،الهي""ولي ....إلخ .إذا انتقلن""ا اآلن إلى الفلس""فة
الحديثة سنجد تراجعًا متزايدًا لهذه األفكار لصالح نوع مغاير جديد أخ""ذ يحت""ل موق""ع الص""دارة
في الخطاب الفلسفي الحديثة مثل :المكان ،الزمان ،الجسم ،ال""ذرة ،الحرك""ة ،الص""فات األولي""ة
والثانوية ،القوانين الطبيعية منها والوضعية ،االستقراء ،االستنتاج...إلخ.
السؤال هنا هو كيف نفسر هذا التبدل الجذري الذي طرأ على المقوالت والتصورات واألفك""ار
في الخطاب الفلسفي؟ بكل بساطة يمكننا اإلجابة على هذا السؤال بالطريقة التالية :إن المعاين""ة
السريعة لما هو جديد يبين لنا أنها مستمدة ومش"تقة كله"ا من العلم الح"ديث وخطاب"ه ونظري"ات
ومش""كالته .باختص""ار لق""د فرض""ت الكوزمولوجي""ا العلمي""ة الجدي""دة ت""دريجيًا على الفالس""فة
(والفلس""فة) خطابه""ا وتص""وراتها ومقوالته""ا كم""ا أملت عليه""ا طبيع""ة المش""كالت والمس""ائل
واألس""ئلة ال""تي ينبغي عليهم تناوله""ا ومعالجته""ا وح""ددت ربم""ا أيض"ًا ن""وع األجوب""ة المقبول""ة.
والواقع أن المحاض""رات ال""تي خصص""ناها له""ذا المبحث س""تتناول مث""اًال واض""حًا لُبع""دي ه""ذه
العالقة بين العلم والفلسفة من خالل مناقشتنا لعالقة الفلس"فة بأح"د أهم عل"وم العص"ر وه"و علم
الرياضيات.
لكن قب""ل الب""دء في ذل""ك الب""د لن""ا من تمي""يز الدراس""ات االبيس""تمولوجية في التفك""ير الفلس""في
بخص""وص العالق""ة بين العلم والفلس""فة .فق""د قلن""ا إن األبح""اث االبس""تمولوجية تتن""اول قض""ايا
المعرفة والمعرفة العلمية ،وهنا ال بد من التفريق بينها وبين فلس""فة المعرف""ة ال""تي تم""يزت به""ا
الفلسفة الحديثة بالمقارنة مع الفلسفة القديمة التي كانت في معظمه""ا فلس""فة في الوج""ود؛ فال ب""د
من التفريق بين فلسفة المعرفة كما دش""نها ديك""ارت وح""دد موض""وعها وش""يد ص""رحها كان""ط،
2
وبين الدراسات االبستمولوجية المعاصرة التي نشطت عقب الثورة العلمية الحديثة التي شهدها
العقد األول من القرن العشرين .إنه فرق كبير يعكس البون الشاسع بين الفيزي""اء والرياض""يات
الكالسيكية ال""تي دش""نها كًال من غ""اليليو وديك""ارت واليبن""تز وني""وتن من جه""ة ،وبين الفيزي""اء
والرياضيات الحديثة التي أرشى دعائمها كًال من ماكس بالن""ك وأينش""تين (فيزي""اء) ،وج""ورج
كانتور وديفيد هلبرت (رياضيات) من جه""ة آخ""رى .إن الدراس""ات اإلبس""تمولوجية تنتمي إلى
الفكر المعاصر على نحو يفصلها عن نظرية المعرفة بمعناها الكالسيكي وعن ت""داخل العالق""ة
بين العلم والفلسفة كما شهدناه في كثير من المذاهب الفلسفية.
لتوضيح هذه القضايا والبرهنة على التقارير التي أعلنتها حول عالق"ة الفلس"فة ب"العلم س"نتناول
في البحث موضوع الفكر الرياضي وتطوره من اليون""ان إلى ال""وقت الحاض""ر ،مرك""زين على
القض"ايا ال"تي تتناوله"ا فلس"فة الرياض"يات ،رابطين بين ه"ذه القض"ايا وتط"ور الفك"ر العقالني
بحيث يفضي بنا هذا الرصد إلى الوقوف على المعالم الرئيس""ة للعقالني""ة المعاص""رة والمفه""وم
الجديد الذي تشتقه عن الحقيقة .ثم سنقف عند بعض القض""ايا المنف""ردة ال""تي تلقي الض""وء على
كيفية معالجها بعض القضايا الرياضية داخل إطار التفكير االبستمولوجي مثل قض""ية البره""ان
الرياضي ،قضية المعاني الرياضية ،ووظيفة الرياضيات وأثرها في العلوم.
حقيقة أن"ه ال علم أك"ثر عراق"ة في تاريخ"ه من الرياض"يات ،فق"د أخ"ذ ه"ذا المبحث ص"فة العلم
اليقيني منذ أقدم مفكريه "فيثاغورث" .وإذا قلنا إننا سنتناول هذا التاريخ بعين االعتبار فإننا مع
ذلك غير معنيين هنا بالتأريخ للرياضيات ككش""وف وإنج""ازات .وإن كن""ا س""نعرض بين الحين
واألخر لهذا الكشف أو ذاك اإلنجاز بحسب م""ا تتطلب""ه م""ادة البحث ال""تي ترص""د تط""ور الفك""ر
الرياض""ي (أي فك""ر الرياض""يين وفيم""ا يفك""رون) ف""إن م""ا نرج""وه من وراء ذل""ك ليس الفك""ر
الرياضي بذاته ،بل نموذج المعقولية الذي يرسم معالم""ه بوض""وح .فليس تتبعن""ا لتط""ور الفك""ر
الرياضي إال تتبعًا لتطور المعقولية والفك""ر العقالني من أفالط""ون إلى العص""ور الراهن""ة .إن""ه
3
تتبع لنشوء وتطور هذه المسائل وتحليلها تحليًال يبرز قيمتها االبيستمولوجية وداللتها الفلسفية.
في هذا التتبع لتطور الفكر الرياضي سنحاول تناول مرحلتين أساسيتين:
المرحلة األولى وتتمث"ل فيم"ا سنس"ميه ع"ادة بالرياض"يات الكالس"يكية ال"تي احت"وت نظري"تين
كب""يرتين ح""ول موض""وع ومنهج الرياض""يات :األولى ج""اءت في الفك""ر اليون""اني تحت اس""م
الرياضيات التأملية والعقالنية الفلسفية التي دعمتها ،أما الثانية فقد تأخرت حتى الفكر الح""ديث
وصاغت الرياضيات االنشائية وعقالنيتها الجديدة.
المرحلة الثاني ة وتشمل المرحل""ة االنتقالي""ة بم""ا حملت""ه من تط""ورات وأزم""ات داخ""ل التفك""ير
والبنيان الرياضيين وصوًال إلى تحقيق نقلة نوعية عبر طرح "أزمة أس""س الرياض""يات" ال""تي
خلقت نظريات ابستمولوجية جديدة حول طبيع""ة ومنهج الفك""ر الرياض""ي أسس""ت للرياض""يات
المعاصرة وفلسفتها الجديدة.
4
المحاضرة الثانية
المرحلة األولى
الرياضيات الكالسيكية
عندما نريد تمييز علم عن أخر نقوم عادة بذلك استنادًا لموضوعه ومنهج""ه المتناس""ب م""ع ه""ذا
الموضوع .لكن عندما نريد تميزت الرياضيات الكالسيكية عن الرياضيات الحديثة ،فإننا نج""د
أن ما يميز بينهما هو أن األولى تميز بين الموضوع والمنهج في حين تدمج الثانية بينهما.
في الرياضيات الكالسيكية موضوع الرياضيات هي علم الكم والمق""دار .المق""دار :ك""ل م""ا ه""و
قابل للزيادة والنقصان
تبحث الرياضيات فقط في المقادير القابلة للقياس أي المقادير الكمية وهي نوعان:
1ـ) المقادير الكمية المشخصة :كالمكان الذي هو موضوع علم الهندس""ة والحرك""ة موض""وع
علم الميكانيكا وتسمى هذه المقادير بالكم المتصل.
2ـ) المقادير الكمية المجردة :كالعدد الذي هو موضوع علم الحساب ،وتس""مى ه""ذه المق""ادير
بالكم المنفصل
في التطور الفلس"في الكالس"يكي يأخ"ذ ه""ذان النوع""ان ش"كل معطي""ات أولي""ة تمثله""ا "الكائن""ات
الرياضية" ,أي أفكار تشكل المحتوى الخاص للعقل ،هذا المحت""وى الخ""اص يأخ""ذ ت""ارة ش""كل
أفكار كلي""ة كالمث""ل األفالطوني""ة ويأخ""ذ ت""ارة أخ""رى ش""كل األفك""ار الفطري""ة ال""تي ع""بر عنه""ا
ديكارت .ونظ"رًا لطبيع"ة ه"ذا الموض"وع ك"ان المنهج الرياض"ي الكالس"يكي والفك"ر الفلس"في
عمومًا يعوالن على الحدس واالستنتاج :حدس الحقائق البديهية واألفك""ار الفطري""ة ،واس""تنتاج
حق"ائق جدي"دة من تل"ك .وذل"ك ب"دعوة أن الح"دس يم"د الرياض"يات بالخص"وبة أم"ا االس"تنتاج
فيمنحها التماسك المنطقي .ومن هنا يمكن لنا الحديث داخل المرحلة الكالس""يكية عن نظري""تين
5
أساسيتين :األولى تعود إلى التفكير اليوناني الذي ص""اغ الفك""ر الرياض""ي ض""من إط""ار ت""أملي
فلسفي وحدسي فأنتج الرياضيات التأملية وعقالنيتها .أما النظرية الثاني""ة فت""أخرت ح"تى بداي""ة
العصور الحديثة وخاصة م"ع ظه"ور علم الج"بر ال"ذي ف"رض تح"وًال جوهري"ًا في فهم طبيع"ة
ومنهج الرياضيات لتصبح الرياض"يات وش"كل المعقولي"ة ال"ذي تمثل"ه إنش"ائية من فع"ل ال"ذات
العاقلة بعد أن كانت تأملية مفروضة على هذه الذات.
أوًال ):الرياضيات التأملية وعقالنيتها عند اليونان
ت""روي لن""ا كتب الت""اريخ أن حض""ارات الش""رق الق""ديم ،خاص""ة منه""ا الحض""ارة المص""رية
والحضارة البابلية ،عرفت أشكال مختلفة من التفكير الرياض""ي كعلم الحس""اب والهندس""ة وعلم
المس"احة ،فت"اريخ ه"يرودوت مثًال يق"ول لن"ا إن ميالد الهندس"ة ك"ان في مص"ر القديم"ة نتيج"ة
لفيضانات النيل .فقد كانت األراضي آنذاك تعود بكليتها إلى فرعون الذي كان يؤجرها مقاب""ل
عائد على محاصيلها ،إال أن فيضانات النيل غيرت مقاس الحصص المتس""اوية باألص""ل ،مم""ا
استوجب وجود مهندس لقياس تناقص حجم القطعة وحساب التناقص النسبي للعائد .باإلض""افة
إلى ذلك عرف المصريون العمليات األربعة في الحساب وقاموا ببعض العمليات المعقدة نوعًا
ما.
كذلك تدلنا بعض األبحاث الجديدة أن الرياضيات كانت متقدم""ة عن""د الب""ابليين ،فق""د اس""تخدموا
الحساب والهندسة في دراسة الكواكب والنجوم وحس"اب ال"زمن وفي تنظيم المالح"ة والفالح"ة
شؤون الري .إال أن هذه األشكال بقيت محصورة في اإلط""ار التط""بيقي العملي الناش""ئ أص"ًال
عن ضغط الحاجات االقتصادية واالجتماعية والحياتية عمومًا ،مم""ا أج""ل ظه""ور الرياض""يات
كعلم نظري بحت إلى أيام اليونان الذين نقلوا الممارسة الرياضية من عالم المحسوس إلى عالم
المعقول ،من التطبيق العملي إلى التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث بما هو ثابت وأبدي ال ما هو
متغير ومؤقت.
لكن لم تكن هذه النقلة النوعية في الفكر اليوناني بخصوص الرياضيات مباشرًة ودفعًة واح""دًة،
وذلك ألنها لم تحدث بالمعنى الدقيق إال في القرن الث""الث قب""ل الميالد على ي""د أفالط""ون .فعلى
الرغم من اهتمام اليونان بالرياضيات وإبداعهم نظرياتها ونظمهم ألولى قواعدها وقوانينها إال
6
إنهم بقوا حتى زمن أفالطون ال يميزون بينها وبين مهارات أخرى (كالنجارة والحدادة) عندما
يريدون تع"داد العل"وم في عص"رهم .وق"د وثقت مح"اورات أفالط"ون ه"ذه الواقع"ة على لس"ان
ثياتيتوس عندما أراد اإلجابة على سؤال سقراط عن "ماهية العلم" بالتالي" :يبدو لي أن العل""وم
هي ما يمكننا تعلمه عند ثيودور ،الهندس"ة والعل"وم األخ"رى ال"تي ع"ددتها للت"و ومهن"ة الح"ّذ اء
أيضًا ليست شيء أخر غير العلم باإلضافة إلى تقنيات الِحَر ف األخرى مجتمع""ة" بحس""ب ه""ذا
النص العلم هو ما يمكن تعلمه سواء عند الرياضي أو عند الِحرفي ،أم""ا العل""وم األخ""رى ال""تي
أتى على تعدادها سقراط كما أشار ثياتيتوس فهي الحساب ،علم الفلك ،الموسيقى أي رياضيات
ذلك العصر .وما يمكن مالحظته من هذا النص هو أن الف""رق الج""وهري بين عم""ل المهن""دس
وعمل الحّذ اء لم يكن واضحًا على نحو كافي في الق""رن الث""الث قب""ل الميالد ،فالرياض""يات تعّلم
مثل حرفة الحّذ اء ،وهي قبل ك""ل ش"يء مه""ارة عملي""ة ،مه""ارة مس"اح وحاس"ب .في الواق"ع إن
صياغة مفهوم الرياضيات كعلم بالمعنى ال""ذي نفهم""ه الي""وم ك""ان بج"زء كب""ير من""ه م""ا س"يفعله
أفالطون الحقًا ،ألن ظهور هذا المفهوم ارتبط بصورة وثيقة بتفكيره الفلسفي.
تبدأ القصة في محاورة مينون وهي المحاورة التي عرض فيها أفالطون نظريته في المعرفة. 1
ما يميز هذه المحاورة هو أنها على خالف المحاورات السابقات (حيث كان الطب هو النموذج
الذي استخدمه أفالطون لمناقشة المعرفة األخالقي""ة والسياس""ية) ،أعتم""د أفالط""ون فيه""ا للم""رة
األولى التفكير الرياض"ي الس"ائد في عص"ره نموذج"ًا للمعرف"ة وأداة للبرهن"ة على نظريت"ه في
المعرفة التي صاغها بقالب أسطورة (تقول إن المعرفة تذكر) ،وذل""ك من خالل تناول""ه مش""كلة
مضاعفة المربع ،التي أراد بها أن يبرهن لـ مينون كي""ف اس""تطاع الش""اب الص""غير ت""ذكر ح""ل
مشكلة رياضية مستخرجًا علمه من ذاته بالرغم من جهله بالهندسة.
والواقع أن ما يعنينا في هذا الطرح هو هذا األسلوب الجديد الذي أعتمده أفالطون في البره""ان
على نظريته ،ألن مراجعة هذا النموذج ت""بين لن""ا أن أفالط""ون ط""ور أس""لوبًا جدي""دًا في التفني""د
وإذا يقترب كثيرًا مما يعرف في الرياضيات بـ "برهان الخلف أو بره""ان نقض الف""رض".
كنا غير معنيين هنا بالبرهان الذي يقدمه أفالط"ون ألطروح"ة "المعرف"ة ت"ذكر" فه"و م"ع ذل"ك
1ـ مينون هي أقدم النصوص التي وصلت إلينا والمخصصة للرياض يات في اللغ ة اإلغريقي ة .وق د كتبت قب ل مين ون ع دة مؤلف ات عن الرياض يات،
والسيما مؤلفات ديموقريدس وإبوقراط مؤلف كتاب المبادئ األولى .لكن إيًا من هذه النصوص لم يحفظ لنا.
7
يكشف لنا قضيتين هامتين في بحثنا :أوالهما أنها تفصح عن المفهوم الذي كونه أفالط""ون عن
العلم ،فللمرة األولى في تاريخ الفكر يمكنن""ا أن نق""ول م""ع أفالط""ون أن "ال علم ب""دون اس"تدالل
وب""دون بره""ان" ,أم""ا القض""ية الثاني""ة فهي أن الرياض""يات كمعرف""ة الأمبيريقي""ة مؤسس""ة على
االستدالالت هي نموذج هذا العلم.
لكن ما الذي يجعل من الرياضيات نموذجًا للعلم عند أفالطون؟
الحقيق""ة أن الث""ابت في ك""ل المح""اورات ه""و معارض""ة أفالط""ون بين المعرف""ة الحقيقي""ة ال""تي
موضوعها نوع ومجال الفكر ،والرأي البسيط الذي موضوعه المحسوس .فهو يرى أن كل ما
هو مرئي ومحسوس متعدد وغير مستقر وال يمكن أن يكون موضوع معرف""ة حقيقي""ة ،أم""ا م""ا
يعرفه العقل بذاته دون واسطة اإلحساس فهو وحده موضوع معرف""ة حقيقي""ة ،وبالت""الي لم يكن
اعتبار أفالطون الرياضيات نموذج المعرفة الحقيقية إال لع""دم احتوائه""ا على ش""يء أمب""يريقي.
والواقع أن هذا ما حاول أفالطون شرحه في قوله :إن "الرياضيين يستخدمون األشكال المرئية
ويقومون باستدالالتهم على هذه األشكال ،لكن ليس إليها يفك""رون ب""ل إلى م""ا هي ش""بيهه :مثًال
يقيمون استدالالتهم على المربع بذاته وليس على ذلك الذي يخط ويرسم".
إن الرياضيات بهذا المعنى هي التي تقود بشكل طبيعي إلي العقل بمساعدة بعض اإلحساس""ات
التي ترافق العقل وص"وًال للحقيق"ة الموج"ودة في" ع"الم المث"ل" ,معه"ا يتخلص الفيلس"وف من
الصيرورة ألن عليه االهتمام بالجوهر .إنها تجبر النفس على التعلم بواسطة العقل وحده .على
هذا النحو يخلص أفالطون في جمهوريته لنتيجة التالي"ة" :ليس"ت مهم"ة العلم الرياض"ي خدم"ة
التجار في عمليات البيع والشراء ،كما يعتقد الجّه ال ،ب""ل تيس""ير طري""ق النفس في انتقاله""ا من
دائرة األشياء الفانية على تأمل الحقيقة الثابتة والخالدة".
لقد أصبحت مهمة الرياضيات إذن جذب النفس نحو الثابت والمطلق والكامل بقطع النظ""ر عن
محاكياتها الحسية .فموضوع الرياض""يات ماهي ات ذهني ة تتمت ع بوج ود موض وعي مس تقل
وكامل .فالعدد والمربع والمثلث والدائرة وكل الكائنات الرياض""ية األخ"رى هي كائن""ات كامل""ة
في ذاتها أما صورها الحسية فيعتريها النقص دائمًا.
8
بهذا المعنى يمكننا القول إن أفالطون هو من فرض المنظور الجديد الذي يرى في الرياضيات
علمًا نظريًا بحتًا وينقل الممارسة الرياضية من عالم المحسوس إلى عالم المعقول ،من التطبيق
العملي إلى التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث بما هو ثابت وأبدي ال ما هو متغير ومؤقت.
لكن داخل هذا المنظور الجديد الذي جعل من الرياضيات علمًا نظري "ًا خالص "ًا ك""انت االهتم""ام
األول في هذا العلم منص"ب على كم"ال وبس"اطة وتناس"ق وجم"ال الكائن"ات الرياض"ية بكونه"ا
صفات ذاتية لها ،األمر الذي دفع الفكر اليون""اني باتج""اه األبح""اث التأملي""ة المحض""ة ال""تي تهتم
بجمال االكتشافات وتناسق العالقات لدرجة أضفوا فيها على األعداد واألش""كال طابع"ًا س""حريًا
وحص""روا دراس""اتهم في الموض""وعات ال""تي يمكن إض""فاء ه""ذه الص""فة عليه""ا وأبع""دوا من
اهتماماتهم الموضوعات الرياضية األخرى ال""تي يكتن""ف تص""ورها بعض التش""ويش والنقص.
مما خلق عائقًا أمام الفكر الرياضي اليوناني منعه من استكمال عملية التطوير الالزمة.
ويكفي أن نذكر هنا الدور الذي لعبه مثل هذا االتجاه في إعاقة إدراك الرياضيين اليونان أهمية
اكتشافهم لن""وع جدي""د من األع""داد هي األع""داد الص""م؛ إي األع""داد ال""تي ال تقب""ل القي""اس وهي
األعداد التي عرفت منذ ذلك الوقت باألعداد الالعقلية (التي اليتصورها العق"ل تم"ام التص"ور)
وتسمى اليوم باألعداد الجذرية.
أما قصة هذه األعداد فتعود إلى فيثاغورث الذي أراد أن يطبق نظريت""ه المعروف""ة باس""مه على
أشكال مختلفة من المثلثات القائمة الزاوي""ة (تق""ول النظري""ة :إن مرب""ع ال""وتر في المثلث الق""ائم
الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين) ولكنه فوجئ بأن وتر المثلث القائم الزاوي""ة
يكون في بعض الحاالت غير قابل للقياس بوحدات صحيحة .فلو كان ل""دينا مثلث ق"ائم الزاوي""ة
وضلعاه المجاوران يساويان على التوالي 4 ,3فإن مربع وتره يساوي + 9 = 24 + 23 :
25 = 5 = 16وهو عدد صحيح "معق"ول" يمكن تص"وره بتمام"ه ,ولكن إذا ك"ان ض"لعا
المثلث المذكور يساويان على التتالي 7 ,5فإن مربع الوتر يساوي 49 + 25 = 27 + 25
= 74وهو عدد غير صحيح بل يقع بين 8و 9على اعتبار أن 81 = 29 ,64 = 82
إذن إن مربع الوتر في هذا المثلث ال يقبل القياس بوحدات صحيحة ألنه يس"اوي 8م""ع كس"ور
ال نهاية لعدد أرقامه"ا بع"د الفاص"لة ,ول"ذلك ال يمكن أن يتص"وره العق"ل بتمام"ه .ه"ذه الواقع"ة
9
دفعت الفيثاغورثيين ليس فقط لعدم اعترافهم بغير األعداد الصحيحة وعدم العناية بغيرها ،ب""ل
دفعت بالفكر اليون"اني إلهم"ال دراس"ة الحس"اب لص"الح االقتص"ار على الدراس"ات الهندس"ية،
أعراضهم عن األبحاث المعقدة ال"تي تطرحه"ا التجرب"ة وظل"وا مس"جونين في ع"المهم ال"ذهني
متأملين األفكار والمفاهيم البسيطة التي يدركها العقل بسهولة الحدس.
وإذا ك"ان من الممكن -كم"ا ي"رى البعض -اس"تثناء أعم"ال كًال من أرس"طو واقلي"دس بوص"فها
أرست الطابع المنطقي في تشييد صروحهم الرياضية النظري""ة وإرس""ائهم البره""ان الرياض""ي
على قواع"د منطقي"ة ص"ارمة ،إال أنن"ا ال نس"تطيع إغف"ال الط"ابع الحدس"ي المف"رط ال"ذي س"اد
التص""ورات الرياض""ية واألفك""ار الفلس""فية للعقالني""ة اليوناني""ة وأع""اق تطورهم""ا ،ح""تى داخ""ل
الصروح المنطقية عند اقليدس:
منطق العالق"ات المكاني""ة عن""د اقلي""دس وارخمي""دس حيث توض""ع التعريف""ات األولي""ة وتص""اغ
المسلمات والبديهيات استنادًا للحدس المكاني ،كما ال يمكن قبول الكثير من براهينه إال بش""هادة
األشكال والصور الهندسة المرتبطة بالحدس المكاني.
خالصة الق""ول بقي الفك""ر الرياض""ي اليون""اني يتعام""ل م""ع موض""وعات الرياض""يات ككائن""ات
مستقلة كاملة ومعروفة ال نحتاج إال إلى تذكرها تارة ،وتأمل خصائص""ها وتوكي""دها وتس""جيلها
تارة أخرى .وبالمقابل بقي الفكر العقالني اليون"اني يتن"اول ه"ذه الكائن"ات بوص"فها المعطي"ات
أولية التي تشكل المحتوى الخاص للعقل الذي تارة يتناولها بالحدس (حدس األعداد واألشكال)
وتارة ينظمها مع غيرها من المعطيات والحقائق األخرى عبر االستدالل واالستنتاج المنطقي.
على هذا النحو أنتج اليونان الرياضيات التأملية وكما صاغ عقالنيتها الفلس"فية (المؤسس"ة على
هذا النموذج الرياضي) التي تخصصت في بحثها عن محتوى عقلي ثابت وأزلي.
10
المحاضرة الثالثة
الرياضيات ومعطيات تاريخ العلوم الحديثة:
11
وتغيراتها من غير أن يعنى بقيمتها العددية ،فهو إذن تجريد التجريد ألن نسبة الرموز الجبري""ة
إلى األعداد كنسبة األعداد إلى األش""ياء .فالقض""ية [(ب +جـ) = 2ب 2 + 2ب جـ +جـٍ]2
قضية صادقة على كل عدد مهما كانت قيمته .وقد سمي الجبر جبرًا ألنه يمكننا من نقل الكمي""ة
السالبة من أحد طرفي المعادلة إلى الطرف األخر وقلبه إلى كمية موجبة.
لكن علم الجبر لم يصبح علمًا حقيقي"ًا به"ذا الش"كل وقائم"ًا على اس"تخدام الرم"وز إال في الق"رن
السادس عشر الميالدي على ي""د ك""ل من ف""ييت وديك""ارت ،ألن الع""رب ابتك""روا الج""بر ولكنهم
عبروا عنه بواسطة الكالم ال باستخدام الرموز.
يقول الخوارزمي صاحب كتاب "مفاتيح العلوم" وهو كاتب أديب غير عالم الرياضيات:
" سمي الجبر بهذا االسم لما يقع فيه من جبر النقصانات واالس"تثناءات .....مث"ال ذل"ك أن يق"ع
في المسألة مال إال ثالثة أجذاره يعدل جذرًا ،فجبره أن نقول م""ال يع""دل أربع""ة أج""ذار ،وذل""ك
ستة عشر ألنك تممت المال وزدت عليه ما كان مستثنى من""ه فص""ار م""اًال تام "ًا ،ثم احتجت أن
تزيد مثل ذلك المستثنى على معادله فصار المعادل أربعة أج""ذار ".الم""ال في ه""ذا االص""طالح
2
هو مربع العدد ،فالعدد 25مال للجذر .5يمكن صياغة المسألة السابقة بالطريقة التالي""ة :س
– 3س = س (مال إال ثالثة أجذاره يعدل جذرًا) أي س 4 = 2س وبالتالي :س = 4ومالها
أي مربعها .16
لقد كان العرب يتكلمون الجبر ولذلك صعب عليهم تطويره وتنميته ،وبقي األوربيين يتن""اولون
علم الجبر على هذا الشكل حتى جاء الرياضي فرانسوا فييت ( )1603-1540الذي اس""تعمل
الحروف الهجائية كرموز للكميات الحس"ابية ،وأدخ"ل بعض العالم"ات ال"تي تج"ري على تل"ك
الحروف.
م"ع ذل"ك لم يقم ف"ييت إال ب"الخطوة األولى دون مواص"لة الطري"ق لتق"ديم الج"بر كعلم تجري"دي
محض ،خصوصًا أن العمليات الجبرية بقيت في ذهن فييت مقترنة باألشكال الهندسية وحدسها
كما كانت عند اليونان .وكان ال بد من تخليصه منها بعد أن خلصه فييت من الكالم العادي وما
يقوم مقامها من أعداد حسابية .والواقع أن هذا ما قام به فعًال ديكارت بعد ح""والي نص""ف ق""رن
12
من خالل التعبير عن األش"كال الهندس"ية بواس"طة مع"ادالت جبري"ة ،أي دمج الهندس"ة ب"الجبر
وإنتاج الهندسة التحليلية والتي أسست "التحليل" أهم فروع الجبر الحديث.
هذا المبحث الجديد يقوم في الواقع على فكرة التي صاغها ديكارت في الجزء الثاني من كت اب
الهندسة " :كل النقاط التي نستطيع تسميتها هندسية ،أي تلك ال"تي يمكن قياس ها بدق ة ويقين،
ل"ديها بالض"رورة بعض العالق"ة م"ع ك"ل النق"اط في الخ"ط المس"تقيم القاب"ل ألن يص"اغ ببعض
المعادالت" .
في الهندسة التقليدية مثًال لمحاولة ح""ل المس""ألة المتعلق""ة بإيج""اد مس""احة ش""كل م""ا ولكن ش""كًال
رباعي ،كان ال بد من رسم الشكل الرباعي أ ب جـ د الذي يضم األشكال الرباعية + 2 + 1
:3 + 2والوصول إلى القول إن المساحة تساوي هذا الجمع.
ب أ
2 1
3 2
د جـ
أما في الهندسة التحليلية فال ننظر في أش""كال مربع""ة ب""ل بمج""رد مس""تقيمات نرم""ز إليه""ا به""ذا
الشكل:
ب ص أ س
س×ص 2
س
س
ص
ص
2
ص ×
س
د جـ
.2
وعليه تحل المسألة بواسطة المعادلة التالية( :س +ص) = 2س 2 + 2س ص +ص
13
بهذه الطريقة استبعد ديكارت جميع األشكال الهندسية بإرجاعها كلها بدوال "التحليل" إلى خ""ط
مس""تقيم يح""دد أبع""اده وش""كله بواس""طة إح""داثيات ،مبين"ًا ب""ذلك كي""ف يمكن ح""ل مش""كل متعلق""ة
بالمقادير واألشكال الهندسية بواسطة العمليات الجبرية بطريقة عقلية يقينية ومنتظمة .ويمكننا
أن نالحظ هنا أن ه""ذه المس"تقيمات ال""تي اس"تبقاها ديك""ارت ت""ذكرنا باالمت""داد ال""ذي جع""ل من""ه
ديكارت جوهر العالم المادي أو الخارجي في فلسفته.
هذا األمر دفع ديكارت العتماد الجبر منهج"ًا عام"ًا للعلم وإح"داث قطيع"ة عميق"ة م"ع التص"ور
اليوناني للرياضيات .فمع الجبر لم نعد نتعامل مع أشكال أو كائن""ات رياض""ية موج""ودة مس""بقًا
وتمتلك كل صفات الكمال كما كانت عند اليونان ،بل مع رموز نتناولها وكأنها غير معروفة أو
أنها كميات مجهولة فعًال نستخرجها بمعادلتها بكميات معلومة بواسطة الجهد العقلي المحض.
هذا المعنى الجديد الذي أضافه الجبر على الرياضيات غير من طبيعة موضوع ومنهج كليًا.
في هذا المنهج الجديد تتميز الحقيقة الرياضية ذاتيًا باألسلوب الذي به تكون معط""اة "بالح""دس"
أي التجربة المباشرة التي تخرج بها من االستخدام المحض للفكر ،وتتم""يز الحقيق""ة الرياض""ية
موضوعيًا بالبساطة والتجرد عن موضوعاتها؛ أي كطبائع بسيطة أو كجواهر بس""يطة مدرك""ة
بالفكر وحده .أما العمليات العقلية ال"تي تق"ود إلى مث"ل ه"ذه الحق"ائق فهي الح"دس واالس"تنتاج:
فالكل يستطيع أن يرى بالحدس أن المثلث ببس""اطة مح""دود بثالث أض""الع .وه""ذا ال يس""تخرج
باستدالل يعتمد معطيات الحس ،بل استنادًا لطبائع بسيطة مدركة مباشرة بالعقل ،والحدس هن""ا
ال يناقض االستدالل بل يقوده ،ألن االستنتاج هو هذه الحركة المستمرة دون انقطاع لفكر لدي""ه
حدس واضح عن كل حد فيها.
باإلجمال لم يعد العلم والجهل عند ديكارت مرتبطان بطبيعة الموض"وعات أو بم"ا ه"و مح"دد
وغير محدد فيها ،بل أصبحا مرتبطين فقط بطبيعة ال""ذات المفك""رة في وح""دتها اإلنش""ائية ال""تي
غدت مركز المعرف""ة الجدي""د .فم""ا في الموض""وعات من ص""دق وص""حة يع""ود إلى مش""اركتها
للبداه""ة أو للح""دس العقلي .بمع""نى أن حقيقته""ا تكمن في كونه""ا موض""وعة تحت نظ""ر ال""ذات
المفكرة ،وعلى هذه ال"ذات أن تف"رض النظ"ام بين موض"وعاتها .وب"ذلك يغ"دو العلم الرياض"ي
14
المهمة الخاصة للفكر اإلنس"اني بحيث ال يوج"د قبل"ه وال يوج"د خارج"ه ،وتص"بح الرياض"يات
والعقالنية المرتبطة بها إنشائية بعد أن كانت تأملية.
إن الهندسة التحليلية التي تعالج المنحنيات ب"الجبر فتحت أف"اق واس"عة أم"ام الرياض"يات ال"تي
أصبح الج"بر عموده""ا الفق""ري .ض""من ه""ذا اإلط""ار وع""بر تص""نيف المع""ادالت اس"تنادًا لع""دد
جذورها تم اإلعداد للنظرية العامة للخطوط المنحنية التي ستستمر بالص""عود بال""درجات ح""تى
الالنهاية .لكن ديكارت الذي وضع معيار قابلية القياس بدق ة ويقين في النق""اط الهندس""ة ال""تي
طبق عليها نظريته ،وضع حدًا لتطبيقات نظريته عن""د القيم المتناهي""ة ،ورفض فك""رة التس""اوي
بالتقريبي (مثًال )πلصالح فكرة التساوي التام التي تفرضها مع""ايير الوض""وح والتمي""يز .كم""ا
أن إبقائه المستقيم الذي يرد إليه جميع األشكال الهندس"ية جعل"ه أم"ام مش"كلة رياض"ية وفلس"فية
قديمة وهي مشكلة الالنهاية التي بقيت تعيق تقدم الفكر الرياضي منذ اليونان إلى أن جاء الح""ل
على يد عالمين كب""يرين هم""ا اليبن""تز وني""وتن من خالل إب""داعهما حس"اب التفاض""ل والتكام""ل.
والح"ق أن التطبيق"ات في مي"دان الميكانيك"ا هي ال"تي عجلت بتق"دم الج"بر والتحلي"ل في الق"رن
الثامن عشر ،للبحث في مسار جسم متحرك يقس""م ه""ذا المس""ار إلى مجموع""ات من المحط""ات
الثابتة تفصلها مسافات ال حد لصغرها .وباستعمال حساب الالنهائيات الصغرى تمكن العلم""اء
من التغلب على المشكالت التي تثيرها مسائل الحركة في علم الميكانيكا .وهكذا تفرعت أنواع
الدوال إلى [(متصلة) و(منفصلة تس""تغني عن أي ح""دس هندس""ي)] وأص""بح باإلمك""ان دراس""ة
جمي""ع الظ""واهر المتغ""يرة المتط""ورة بواس""طة المع""ادالت التفاض""لية :فالحص""ول على معادل""ة
تفاضلية لظاهرة ما ،معناه فهم ديناميكيتها والتحكم بها.
لقد فتح التحليل أفاقًا خص""بة في الرياض""يات النظري""ة ،وتمكن الرياض""يون من تج""اوز مش""كلة
الالنهاية واالستغناء عن الحدس الهندسي حتى في المجال الضيق ال""ذي اس""تبقاه ديك""ارت .لق""د
تحولت الرياضيات كلها إلى عمليات جبرية ال تخضع إال لقواعد المنطق األم""ر ال""ذي أدى إلى
ظهور كائنات وفروع رياضية جديدة مشروعة منطقيًا لكن ليس لها ما يقابلها في الواقع األم""ر
الذي خلق أزم""ة جدي""دة في بين""ة العلم الرياض""ي وأف""رز مح""اوالت جدي""دة لمعالجته""ا وتدش""ين
مرحلة جديدة في الفكر الرياضي والفلسفي.
15
المحاضرة الرابعة
المرحلة الثانية
الرياضيات المعاصرة
طريقة ومبادئ البرهان الرياضي والتطورات المعاصرة:
منذ نشوئها وصوًال إلى القرن التاسع عشر بقيت الرياض""يات النم""وذج األعلى للمعقولي""ة ،لكن
مع انتشار الجبر والتحليل ،غدت الرياضيات علم يب""دأ من العناص""ر البس""يطة يص""عد ت""دريجيًا
نحو الصروح المعقدة بطريق""ة برهاني""ة متماس""كة .وك""ان من نت""ائج انتش""ار الطريق""ة الجبري""ة
ظه""رت ف روع وكائن ات جدي دة وغريب ة ح""ولت النم""وذج الرياض""ي إلى جمل""ة من التأليف""ات
الجبرية الصورية المنطقية التي تتم حسب قواعد معينة ،وتصف صروحًا ال صلة لها ب""الواقع.
أي أصبحت الرياضيات أش"به بلعب"ة الش"طرنج ال إنت"اج في"ه .األم"ر ال"ذي أدت إلى زع"زعت
وحدة هذا العلم وإنتاجيته ،ودفعت الرياضيين إلى إعادة النظر في المب""ادئ ال""تي ش""يدوا عليه""ا
صروحهم الرياضية وأفرزت فلسفات جديدة للرياضيات وللنموذج الذي تمثله في المعقولية.
16
قبل الدخول في تفاصيل هذه الفلسفات ال بد أوًال من الوقوف قليًال عن""د التح""والت ال""تي ح""دثت
داخل التفكير الرياضي وأدت لظهور كائنات وفروع رياضية غريبة داخل النموذج الرياض""ي
المعاصر .وسوف نتناول هنا فقط قضيتين امتدادات مفهوم الع""دد وطبيع""ة البره""ان الرياض""ي
ومبادئه:
أما الكائنات الجديدة والغريبة التي ظهرت في الفكر الرياضي فتتمثل أوًال في امتدادات مفهوم
العدد :في سلسلة غير من منتهية من األعداد الصحيحة الموجبة } n{ .... ,3 ,2 ,1وعندما
نقوم بجمع أي عددين نحصل دائمًا على ع""دد من السلس""لة نفس""ها ,لكن في حال""ة الط""رح فإنن""ا
نقف عند حاالت ال يعود الطرح فيها ممكننا ,ه""ذا األم""ر ف""رض إض""افة مفه""وم الع""دد الس""الب
وزيادة سلسلة األعداد .كذلك أدت استحالة عملية القسمة بدون باقي بين األعداد الص""حيحة في
حاالت معنية إلى التوسع في فكرة العدد عن طريق خلق األع""داد الكس""رية وإض""افة مجموع""ة
األعداد الجذري""ة (األع""داد الص""حيحة والكس""رية الموجب""ة والس""البة) ه""ذه المجموع""ة تحت""وي
أعدادًا ال يمكن أن توضع في صورة كسر ,بل من الممكن حس""ابها باس""تخدام الج""ذر ال""تربيعي
ليكون الحساب تقريبيًا على الدوام مثل √2وهو جذر المعادلة( :س )∴ = 2 - 2وقد أطلق
عليها اسم األعداد الصماء ,وهي بدورها نوعين :أعداد جبرية تكون حاًال لمعادلة جبرية كـ
,√2وأعداد غير جبرية ال تمثل حًال لمعادلة جبرية مثل العدد ( ,)πوتسمى أعداد (عالية أو
ترانسندانتالية) ,وتؤلف مع األعداد الجبرية مجموعة األعداد الحقيقية .إلى جانب هذه
المجموعة أضاف الرياضيون مجموعة األعداد الخيالية كحل لبعض المعادالت التي ليس لها
جذر حقيقي مثل المعادلة( :س )∴ = 1 + 2التي تحل بالطريقة التالية( :س 1- = 2إذن :س =
.)√1 -لنحصل بذلك على مجموعة أعم تشتمل على األعداد الحقيقية واألعداد الخيالية وهي
مجموعة األعداد المركبة (والعدد المركب هو عدد يشمل على عددين حقيقيين وعدد خيالي).
باختصار كان نتاج هذا كله تحولت العبارات الجبرية إلى عبارات مشروعة منطقيًا وأصبح
باإلمكان القيام بتألفيات جبرية تخيلية بغض النظر فيها عن األشياء الحقيقية المصورة.
مع ظهور أهمية المشروعية المنطقية إلى سطح اهتمامات الرياضيين المنهمكين بالتأليفات
الجبرية الصورية بدأ االهتمام بطبيعة البرهان الرياضي المحض ومقوماته ومبادئه ،وقامت
17
بناءًا على ذلك حركة واسعة في أوساط الرياضيين تركزت حول مراجعة مبادئ البرهان
الرياضي ونقده وفحص مدى صدقها ونوعية هذا الصدق .لفهم طبيعة ونتائج هذه الحركة
الداخلية في الفكر الرياضي ال بد أوًال من التوقف عند التطورات التي أدت إلى هذه المراجعة
الداخلية لطبيعة البرهان الرياضي ومبادئه وبالتالي أدت إلى ظهور فروع جديدة في
الرياضيات.
عند الحديث عن البرهان الرياضي ال بد من العودة إلى اقليدس ،ألن صياغته للهندسة
الكالسيكية كما جاءت في كتابه " المبادئ" بقيت لوقت طويل النموذج الذي ال يمكن تجاوزه
للنظرية االستنتاجية .وهذا في الواقع ما يؤكده جملة من الرياضيين والفالسفة :ففي رأي
اليبنتز مثًال "إن اإلغريق نجحوا في بلوغ كل الدقة الممكنة في الرياضيات ،وقدموا بذلك
للبشرية نماذج مهمة في فن البرهان" من جهة أخرى كتب برونشفيك ":إن اقليدس بالنسبة لكل
األجيال التي تعلمت من فكره كان أستاذ في المنطق أكثر منه أستاذ بالهندسة".
في صياغته للهندسة أقام اقليدس البره ان العقلي المحض أو االس تنتاج الرياض ي على جمل ة
من المبادئ وهي :البديهيات ،التعريفات ،المسلمات.
أوًال البديهيات:
وهي قض ايا أولي ة يص دق به ا العق ل لوض وحها ب ذاتها وألن إنكاره ا ي وجب الوق وع في
تناقض ،أما صفاتها فهي:
البديهيات صادقة بذاتها. .1
ال يمكن البرهان عليها. .2
تصدق على كل العلوم .3
منها على سبيل المثال:
األشياء المساوية لشيء واحد متساوية. .1
أنصف األشياء المتساوية متساوية. .2
أضعاف األشياء المتساوية متساوية. .3
الكل أكبر من الجزء. .4
ثانيًا التعريفات:
18
وهي قضايا غير العرفة تشرح معاني الح دود األولي ة وتح دد المع اني الرياض ية وتوض حها
وهي تختلف باختالف العلوم .فللهندسة تعريف ات خاص ة كمفه وم النقط ة والخ ط واالس تقامة
والتوازي واالتجاه .وللجبر مفاهيم خاصة وتعريفات خاص ة كمفه وم الع دد الم وجب والع دد
السالب والقيمة المطلقة إلخ
ثالثًا المسلمات :وهي قضايا غير واضحة بذاتها وغير صادقة بذاتها على خالف الب ديهيات،
ال يمكن البرهنة عليها بل يسلم بصحتها تسليم وهي بذلك تشبه البديهيات ،خاصة كالتعريف ات
لكل علم من العلوم الرياضيات مسلماته.
المسلمات منها صريح ومنها مضمر :في الهندسة االقليدسية مسلمات صريحة مثًال:
1ـ الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين.
2ـ يمكن مد أي مستقيم إلى أي طول.
3ـ من نقطة خار مستقيم ال يمكن رسم سوى موازي واحد.
ومسلمات ض منية مث ل المك ان ثالثي األبع اد وهي كافي ة لتحدي د نقط ة في فض اء اقليدس ي،
تجانس المكان أي أجزاء متجانسة في جميع الجهات.
للميكانيك مسلمات صريحة مثل :مبدأ العطالة ،القصور الذاتي ،الفعل ورد الفعل .أما مسلماته
الكتلة. المضمرة فهي :تجانس الزمان وانحفاظ
حقيقة المسلمات:
اختل ف المناطق ة والرياض يون في حقيق ة المس لمات أو الموض وعات فق ال العقلي ون :إن
المسلمات حقائق أولية شبيهة بالبديهيات أو هي كما قال كانط :حقائق عقلية ضرورية وقبلية،
ولكن تاريخ الرياضيات يضعف هذا القول ويبين لنا:
1ـ أن الموضوعات المسلمات ليس ت من الض روريات المالزم ة للعق ل البش ري ألن العق ل
اهتدى إليها بالتدريج فمبدأ العطالة يرجع إلى كبلر ومبدأ استقالل الحركات إلى غاليليو ومب دأ
تساوي الفعل ورد الفعل إلى نيوتن.
2ـ أن العق ل ق د تخي ل موض وعات أو مس لمات مخالف ة لموض وعات ومس لمات اقلي دس
واستطاع أن يؤسس علمًا هندسيًا حمل اسم الهندسات الالقليدس ية ،وق د اهت دى إلى ه ذا العلم
عالمان في القرن التاسع عشر هما :لوباتشفس كي (1849ـ )1925وريم ان (1854ـ )1912
19
وذلك من خالل دراستهما ونقدهما للمسلمة االقليديسية التي أث ارت الش كوك واالرتي اب وهي
مسلمة المتوازي التي برهن على أساسها اقليدس عدة قضايا في بناءه الهندسي ومنها القض ية
القائلة :إن مجموع زوايا المثلث يساوي دوم ُا 180درج ة .ويمكن تحدي د الخالف بين ه ذين
النموذجين والنموذج االقليدسي بالنقاط التالية:
المكان عند اقليدس سطح مستوي ،عند لوباتشفسكي سطح منحني ،عند ريمان سطح كروي.
مجموع زوايا المثلث عند اقليدس يساوي 2قا ،عند لوباتشفسكي تساوي أصغر من 2قا ،عند
ريمان أعظم من 2قا.
ع دد الموازي ات ال تي يمكن رس مها من نقط ة خ ارج مس تقيم ه و عن د اقلي دس = ,1عن د
لوباتشفسكي = ∞ ,عند ريمان = .
ينتج من ذلك أن المسلمات ليست من الضروريات العقلي ة وإال لم ا أمكن العق ل أن يتص ور
ضدها.
لكن هل يعني أن الموضوعات حقائق اختبارية محضة كما زعم أنصار هذا الم ذهب؟ الواق ع
أن هذا القول أيضًا غير دقي ق ألن ه ذا يخ الف طبيع ة المع اني الرياض ية وص فتها االمثلي ة
الخيالية .يقول بوانكاريه أن الرياضيين ال يختبرون المستقيمات والدوائر بل األشياء المادي ة،
ومبدأ العطالة غير قابل للقياس ،ثم إن انطباق الهندسة االقليدسية على الواقع لم يعطها ص دق
أكثر من الهندسيات األخرى .لذلك نجد بعض الرياضيين يذهب للقول إن الموضوعات ليست
ص ادقة ب ذاتها ،وإنم ا هي اص طالحات موافق ة وال يمكن أن يك ون هن اك هندس ة أص ح من
هندسة بل يكون هناك هندسة أوفق من هندسة ،وهندسة اقليدس أوفق من غيرها ألنها أبسط.
قصارى القول إن الموضوعات المسلم بها شرط من شرائط معقولية الحقائق الرياضية ألنه ا
تساعد على دراسة العالقات الرياض ية في ح االت البس يطة وهي مقتبس ة من ع الم التجرب ة
والخبرة.
بكل األحوال أن ما تقدم يدعونا إلى مراجعة المفاهيم التي يقوم عليها البرهان الرياضي:
أوال م""ع قي""ام الهندس""يات الالقليدس""ية أص""بح التمي""يز بين الب""ديهيات والمس""لمات في البره""ان
ً
الرياضي أمرًا ثانويًا ،بحيث أص""بحت تؤخ""ذ جميعه""ا كف""روض أو أولي""ات افتراض""ية توض""ع
خارج إطار الصدق والكذب .ألن التمييز بين البديهية والمسلمة كان يق""وم على درج""ة البداه""ة
20
العقلية من حيث أن البديهيات قضايا تحليلية تف""رض نفس""ها على العق""ل ،في حين المس""لمات ال
تتصف بمثل هذه الدرجة ،ولكن مع تط""ور العل""وم الرياض""ية أظه""ر أن معي""ار البداه""ة لم يع""د
صالح للتمييز فالبداهة ليست واح""دة عن""د الجمي""ع وهي تختل""ف ب""اختالف مي""ادين البحث ،فل""و
أخذنا مثاًال إحدى ب"ديهيات اقلي"دس (الك"ل أك"بر من الج"زء) من منظ"ور نظري"ة المجموع"ات
لجورج كانتور لوجدنا أنها لم تعد بديهية إال في مجال المجموعات المتناهي""ة .وبالت""الي لم يع""د
من الممكن االحتفاظ بالتمييز السابق ولم يعد هناك اعتب""ار للبديهي""ة على المس""لمة ب""ل هم""ا في
الفكر الرياضي الحديث مجرد فرض يتم قبوله على أساس اختي"ار وا ال على أس"اس طبيعت"ه
ٍٍع
الخاصة .المهم في قضية من القضايا التي تؤخذ كأساس للبره"ان ه""و ال""دور أو الوظيف""ة ال""تي
تلعبها في هذا البناء المقدار ما تتمتع به من وضوح وبداه""ة .من الواض""ح أن الموق""ف الجدي""د
إزاء المبادئ الرياضية يشكل تح""وًال ج""ذريًا في األف""اق الرياض""ية ف""إذا أص""بح دور أو وظيف""ة
قضية ما ه""و المهم في بن""اء منظوم""ة م""ا دون النظ""ر إلى الطبيع""ة الداخلي""ة له""ذه القض""ية فمن
الممكن تنوع المنظومات الرياضية بتنوع اختيار المبادئ.
هذا التصور الجديد لطبيعة المبادئ انعكس أيض "ًا على تص""ورنا للبره""ان الرياض""ي وللحقيق""ة
الرياضية:
)1ـ بالنسبة للبرهان الرياضي:
كان ينظر للبرهان قديمًا على أنه برهان يؤدي إلى نتائج ضرورة ومطلقة بحيث نقول :بم""ا أن
ه""ذه المب""ادئ ص""ادقة ص""دق مطل""ق فالقض""ايا الناتج""ة عنه""ا ص""ادقة ص""دق مطل""ق (القي""اس
الضروري عند أرسطو) .أما اآلن فقد أصبح األمر أكثر نسبية فهو يشير فق""ط أن""ه إذا وض""عنا
هذه المبادئ أساسًا لالستنتاج فهاهي النتائج الصورية التي تترتب عليها .إن الض""رورة هن""ا لم
تعد تخص القضايا بل الرواب""ط المنطقي""ة ال""تي تجم""ع بينه""ا في النس""ق االس""تنباطي .على ه""ذا
النحو أصبحت المنهج الرياضي اليوم يعرف بأنه نظام فرضيـي _استنتاجي.
)2ـ بالنسبة للحقيقة الرياضية:
إن التصور الجدي"د لمب"ادئ البره"ان الرياض"ي ولطبيع"ة ه"ذا البره"ان أدى إلى تص"ور جدي"د
للحقيقة الرياضية عمومًا والحقيقة الهندسية خصوصًا .فقد كان ينظر ع""ادة إلى نظري""ة م""ا من
21
نظريات الهندسة على أنها بناء فكري مجرد وتعبر في ال""وقت نفس"ه عن الواق"ع الموض""وعي؛
أي أن الحقيقة الهندسية تعبر عن حقيقة واقعية وحقيقة فكرية معًا .أما اليوم فإن الهندسة تهم""ل
الجانب الذي يتعلق بالواقع وتتركه للهندسة التطبيقية وال تهتم إال الج""انب التعل""ق بالعق""ل .مم""ا
أدى إلى ظهور خالف بين الرياضيين حول معيار الصدق والحقيقة الرياضية :هل ه""و ص""دق
وحقيقة فكرية يضمنها االتساق المنطقي فق""ط م""ع ع""دم انطباقه""ا على الواق""ع المع""اش كم""ا في
الهندسة الالاقليدسية أم هو صدق وحقيقة واقعية يضمنها انطباقها على الواق""ع على ال""رغم من
احتوائها على بعض النقص في االتساق واعتمادها على البداهة والحدس المكاني؟
ثانيًا إن ظهور الهندسيات الالقليدسية مثل تحديًا مباشرًا لتصور الرياضي للمكان بوصفه كمًا
متصًال .ظل حدس االتصال أساسًا لعلم التحليل حتى بعد أن تحولت الهندسة ذاتها إلى الج""بر،
وبقي مألوفًا حتى نهايات القرن التاسع عشر أن كل الداالت الرياضية متصلة (الدالة من وضع
اليبنتز وهي المنحنى الهندسي الذي يعبر عن عالقات متص""لة متتابع""ة بين كمي""تين متغ""يرتين
هما إحداثيات) وبقي أيضًا التحليل مرتبط بالهندسة واالتصال المكاني إلى أن اكتش""ف كوش""ي
الداالت المنفصلة واالعداد التخيلية في الدوال مما عمق الشك بالحدس المكاني وبرزت الدعوة
لقراءة المتصل بالمنفصل.
وقد عزز هذه ال"دعوة ظه"ور أن"واع جدي"دة من الع"دد كالع"دد المنط"وق أو المعق"ول ,2+/1+
العدد األصم أو الالمعقول ,√2العدد التخيلي ـ .√1وأدى ذلك بالرياضيين إلى طرح مش""كلة
العدد الصحيح وتعريفه كبديل لفكرة االتصال الهندسي وصوًال إلى البحث عن وحدة علم العدد
برد هذه األنواع إلى العدد الصحيح ،وظهر لهم من ذلك إمكاني""ة رد الرياض""يات كله""ا لمفه""وم
العدد من أجل تحقيق وحدتها التي تشتت مع هذه االكتش""افات الجدي""دة .وظه""رت ب""ذلك مش""كلة
تحس""يب الرياض""يات والبحث عن اليقين الرياض""ي في اليقين الموج""ود في علم الحس""اب (رد
المتصل إلى المنفصل) ،وفي هذا تح""ول ج""ذري في التفك""ير الرياض""ي وطبيع""ة الرياض""يات،
التي كانت تؤسس كما هو معلوم على أساسين اثنين :مفهوم العدد (المنفص""ل) ،ومفه""وم الخ""ط
(المتصل) ،ولكن عندما تحول الخط إلى أعداد ،بتقدم التحليل ،أصبح العدد هو األساس الوحيد
لكل فروع الرياضيات.
22
وكما يحدث دائمًا ،فإن االهتمام بميدان م""ا من المي""ادين ي""ؤدي دائم "ًا إلى توس""يعه وأحيان "ًا إلى
الكشف عن صعوبات جديدة فيه .وهذا ما حدث بالفعل ،فقد أدى االهتمام باألع""داد إلى توس""يع
ميدانها عبر جهود الرياضي جورج كانتور في إنش""اء نظري""ة المجموع""ات ال""تي ك""انت حج""ر
الزاوية لحركة التحسيب ،لكن ما لبث أن ب""دأت تظه""ر الص""عوبات داخ""ل ه""ذه النظري""ة لتأخ""ذ
صيغة متناقضات (كمتناقضة مجموعة جميع المجموعات كانتور ،ومتناقضة رسل).
وهكذا غدت النظرية التي تطلع لها الرياضيون من أجل تأسيس الرياض""يات وتحقي""ق وح""دتها
وانسجام فروعها تعاني نقائض خطيرة .مما أدى إلى احتدام النقاش بين الرياضيين والفالس""فة
ح"ول (أزم"ة األس"س) ،فظه رت ثالث وجه ات نظ ر ،أسس ت لفلس فات جدي دة للرياض يات:
النظري ة اللوجس تيقية (االنكل يزي رس ل) ،النظري ة االكس يوماتيكية (األلم اني هل برت)،
والنظرية الحدسية (الهولندي بروور).
المحاضرة الخامسة
23
2ـ إعداد موسوعة من التعريفات المنطقية للتصورات في كل العلوم
إال أن مشروع اليبنتز عانى من مشكالت عدة أهمها:
1ـ لم تكن الرياضيات قد تتطور على نحو كافي لتتيح المجال لمثل هذه المحاولة.
2ـ احترام اليبنتز لتعاليم أرسطو في المنطق منعته من تجاوز ه ذا األخ ير رغم عث وره على
بعض األخطاء في هذا المنطق.
المحاولة الثانية في الربط بين المنطق والرياضيات كانت مع جورج بول إال أن محاول ة ه ذا
األخير كانت عبارة عن قراءة للمنط ق األرس طي اس تنادًا إلى العملي ات الجبري ة أي تط بيق
الرياضيات على المنطق واستخدام الرموز الجبرية لتعبير عن العالقات الفكرية .بهذا الش كل
قدم جورج بول أولى صياغات "جبر المنطق".
أما النزعة المنطقية التي حملت اسم لوجس تيقا فك انت على نقيض أطروح ة ج ورج ب ول من
حيث أرادت اختزال الرياضيات إلى جملة من القضايا والقواعد المنطقي ة .وق د ب رهن رس ل
على هذه النزعة بواس طة عملي تين متك املتين :تحلي ل الرياض يات تحليًال منطقي ًا برده ا إلى
أصولها المنطقية ،ثم تحليل المبادئ المنطقية نفسها إلى الفروض األولي ة ال تي نس تطيع منه ا
استنباط جميع قواعد المنطق ،وجميع قواعد الرياضيات معًا .في كتابه (أصول الرياضيات
)1903يشرح رسل معنى نزعته المنطقية هذه بالطريقة التالية" :إن الرياض يات البحت ة هي
فئة القضايا التي صورتها (ق ك) حيث ق ,ك قضيتان تشمالن على متغير واح د أو جمل ة
متغيرات هي بذاتها في القضيتين ,علمًا بأن كال من ق ,ك ال تشتمل على ثوابت غير الث وابت
المنطقية .إن ما يجمع بين المنطق والرياضيات في نظر رسل هو الصورية الكاملة لذلك كان
اهتمام رسل في بناء نس ق ص وري من خالل تط ويره المنط ق األرس طي ليك ون ق ادر على
التعبير على كل القضايا الرياضية وهذا ما فعله في الفصل األول من كتابه (أصول
الرياضيات) بخصوص حساب القضايا وحساب الفئات وحساب العالقات .بعد ذلك عمد
رسل أوُال إلى تعريف األعداد الطبيعية تعريفًا منطقيًا؛ أي رده ا إلى ألف اظ دال ة على مف اهيم
منطقية مستندًا إلى حساب الفئات ومعرفًا العدد كفئة مثًال العدد ( )1هو فئة جميع الفئات ال تي
تحتوي عنصر ال أكثر ،ويصاغ منطقيًا بالطريقة التالية:
24
( Eس)( .س∋ ف)( .ص) [(ص ∋ ف) ⊐ (ص = س)] ،ثم انتق ل ثاني ًا إلى بي ان أن
الرياضيات كلها ترد إلى فكرة العدد الطبيعي المقروء منطقي ًا ،وق د أعطى الص يغة المكتمل ة
لهذا المشروع في كتابه (برنكيبا ماتيماتيكا).
في الواقع إن استخدام رس ل لحس اب الفئ ات أو المجموع ات وض عه مباش رة أم ام متناقض ة
المجموعات (بالخصوص متناقضة مجموعة كل المجموعات) التي حاول حلها عبر تط ويره
نظرية في األنماط المنطقية ونظرية في األوصاف ،لكن الص عوبات ال تي أفرزته ا مث ل ه ذه
النظريات أدت في نظر الكثيرين إلى إعالن فشل النظرية المنطقية عند رسل .وس وف نكتفي
هنا باإلشارة إلى القيمة اإلبستمولوجية لهذه النظرية:
1ـ إن هذه النظرية فشلت كم ا ي رى الكث يرون في بل وغ اله دف األساس ي له ا وه و اخ تزال
الرياضيات إلى المنطق وذلك لعدة اعتبارات:
)aإن محاولة رس ل في رد الرياض يات إلى نظري ة المجموع ات لم تطب ق إال على
الرياضيات الكالسيكية ولم تنسحب على باقي الرياضيات.
)bفي ص ياغته للمنط ق الجدي د اس تند رس ل على جمل ة من المف اهيم مث ل الفئ ة أو
المجموعة وهي مفاهيم رياضية باألصل مما جعل مش روع اخ تزال الرياض يات
للمنطق مشروع متناقض.
)cعن دما تط ور رس ل نظريت ه في األنم اط المنطقي ة كح ل لمتناقض ات نظري ة
المجموع ات (ال تي أس س عليه ا نظريت ه المنطقي ة) اس تند فيه ا على بعض
الموضوعات التي ال تدخل في إطار المنطق األم ر ال ذي دف ع الكث يرين ل رفض
هذه النظرية وبالتالي إعالن فشل رسل بتقديم حل لهذه المتناقضة.
2ـ ب الرغم من العي وب ال تي ع انت منه ا نظري ة رس ل إال أنه ا أث رت بال ش ك في فلس فة
الرياضيات المعاصرة وفي الدراسات المنطقية عمومًا .وال بد لنا ،من أج ل إعط اء النظري ة
اللوجستيقية عند رسل دالالتها الحقيقية ،من الفصل بين بنيتها والمهمة التي ش كلت من أجله ا
وهي اختزال الرياضيات إلى المنطق .ألن قيمة هذه البنية كم ا تب دو للعي ان مس تقلة عن ه ذه
المهمة .هذه القيمة تبدو أوًال في دفع الصورية في دراس ة المنط ق والرياض يات إلى مرحل ة
متقدمة وتقديم الصيغة األساسية األولى للغة وقواع د المنط ق الرياض ي ،انطالق ًا من اعتم اد
25
القضايا األولية بدًال من التصورات ،ثم في إدخال مفاهيم أساسية كال دوال القض ائية وحس اب
العالقات التي ندين بها لرسل .وإن كانت لم تنجح في بلوغ هدفها ال رئيس في رد الرياض يات
إلى المنطق فقد قدمت مع ذلك مقترح فلسفة جديدة للرياضيات تس تغني عن األع داد بوص فها
كائنات ميتافيزيقية ،وبردها إلى حدود منطقية خالصة.
المحاضرة السادسة
ثالثًا :النظرية الحدسية ()L’intuitionisme
هذه النظرية ظهرت كرد فعل على النزع تين الس ابقتين أو باإلجم ال ك رد فع ل على النزع ة
التي تربط عضويًا بين الرياضيات والمنطق ،ومبدأ هذه النزعة يقوم على القول بعدم إمكاني ة
مثل هذا الربط ،العتقادهم بوج ود ش يء في الرياض يات يتج اوز مج رد الص ياغة المنطقي ة
وقواعدها ،وال يمكن التعبير عن هذا الشيء بواسطة قض ايا وقواع د المنط ق .يص ر أنص ار
هذه األطروحة على تسمية هذا الشيء بـ "الحدس" بوصفه الملكة التي توجه عمل الرياضي.
يميز المؤرخون لهذه النزع ة بين مرحل تين أساس يتين :المرحل ة األول ظه رت ع بر أعم ال
الرياضيين الفرنسيين بوريل ،لوبيغ ،وب اير ،باإلض افة إلى كتاب ات الرياض ي الكب ير ه نري
بوانكاريه التي تصدى للنزعة المنطقية عبر سلسلة من المقاالت تحمل عنوان "الرياضيات
والمنطق" ما بين عام ( 1904و .)1912أما أطروحته التي دافع عنها فهي أن في
الرياضيات مادة تقابل الصورة المنطقية ،هذه المادة تظهر في التجرب ة ال تي تس بق أي عم ل
منطقي ،إنها التجربة الحدس ية ال تي يق وم ك ل إب داع على أساس ها ،أم ا وظيف ة المنط ق فهي
مجرد شرح وعرض هذه التجربة والبرهنة عليها.
26
أما المرحلة الثانية فقد عبرت عنها أعمال الرياضي الهولن دي ب روور وتلمي ذه هيتن غ ،ال ذين
سموا بالحدسيين الجدد .ويمكن عرض أراء ه ذه النزع ة من خالل م وقفهم إزاء موض وعين
اثنين1 :ـ) طبيعة الموضوعات الرياضية2 ,ـ) مبدأ الثالث المرفوع.
بصدد الموضوع األول :يعتقد هؤالء بأن موضوعات الرياض يات ذات طبيع ة مثالي ة ،بحيث
يرتبط وجودها بوجود ذات الرياضي التي تنتجها ،فالموضوعات الرياضية في نظرهم عبارة
عن إنشاءات أو بناءات ذهنية محضة يقوم الفكر بتركيبها في التجربة الرياض ية وهي ليس ت
لها وجود خارج أو سابق على الذات التي تؤلفها.
يشترك الحدسيون الجدد مع بوانكاريه في هذا االعتقاد ،فقد سبق للرياضي الفرنس ي أن ع بر
عن هذا الموقف عندما حاول توضيح أس باب المتناقض ات ال تي أفرزته ا نظري ة ك انتور في
المجموعات ،موضحًا أن ه ذه المتناقض ات تع ود للرياض يات ال تي ح اول المناطق ة أنص ار
كانتور صياغتها استنادًا للمنطق فقط .فهؤالء هم المسؤولون عن هذه المتناقض ات العتق ادهم
أن موضوعات الرياضيات عبارة عن ج واهر خالص ة موج ودة وج ود مس تقل وس ابق على
الفكر الذي يكتشفها .ألنه لم ا ك انت ه ذه الموض وعات موج ودة بأع داد النهائي ة ك ان عليهم
االعتقاد بوجود فكرة الالنهائي الفعلي الذي فرض وجود المتناقضات في صورة "تعريفات
الحملية" .فمثًال في تعريف "مجموعة كل المجموعات" يقول بوانكاريه أن معنى كلمة "كل"
سيكون واضح بجالء عندما نتحدث عدد متناهي من المجموعات ،ولكن عندما يكون الح ديث
عن عدد ال نهائي فال بد من افتراض النهائي فعلي أي افتراض وجود هذه المجموع ات كله ا
وجودًا سابقًا على تعريفها ليكون لما نقوله معنى.
بالمقابل فإن كل هذه المشكلة تحل في رأي بوانكاريه عندما ال نعتقد إال بوجود الموض وعات
ال تي يمكن أن تك ون معرف ة بأع داد متناهي ة؛ أي عن دما ال نعتق د بوج ود موض وع م ا من
الموضوعات سابق على ال ذات المفك رة ال تي تنتج ه ،ولم ا ك انت ه ذه ال ذات متناهي ة ،ف إن
الالنهائي ليس له معنى إال في تعبيره عن قدرة هذه الذات على خلق موضوعات متناهية بقدر
م ا تري د .باختص ار إن أص حاب ه ذه النظري ة يص رون على تعمي ق تص ور الرياض يات
االنشائية ،من حيث هي بناءات ذهني ة تك ون فيه ا النظري ة الرياض ية تعب ير عن النج اح في
تشييد فعلي لبناء معين .فهم يقولون مثًال أن القضية القائلة ( )1 + 3 = 2 + 2ليس ت إلى
27
اختزال للقضية التالية " :لقد شيدت البناء الذهني الذي فيه ( ،)2 + 2ثم شيدت البناء الذهني
الذي فيه ( ،)1 + 3ووجدت أن أنهما يؤديان للنتيجة نفسها".
أما عن الموضوع الثاني :فهو الموقف من المنطق ومبادئ ه والس يما مب دأ الث الث المرف وع
(الذي يقوم على افتراض قيمتي اثنتين ال ثالث لها ،صدق وكذب أو وجود وال وجود).
يتف ق الحدس يون الج دد على رفض النظري تين الس ابقتين (المنطقي ة والص ورية) ويؤسس ون
رفضهم هذا على فكرة أن المنطق ال صلح أن يكون أساس للرياضيات ألن مبادئه أكثر تعقيد
أقل مباشرة من مبادئ الرياضيات نفسها .وإذا كان أحد بعض أنصار ه ذه النظري ة ال ي رون
ضير من انشاء منطق ما فإنهم يؤكدون على ضرورة أن يكون مستوحى من الرياضيات.
كذلك رفض أنصار هذه النظري ة إطالق ص الحية أولي ة لمب دأ الث الث المرف وع والس يما أن
نق ائض نظري ة المجموع ات تس تند كله ا له ذا المب دأ .ه ذا ال رفض في الواق ع مؤس س على
تصورهم للرياضيات باعتبارها "تشييد فعلي لبناء ذهني ما" ,ه ذا التص ور يف رض مراجع ة
المبادئ والبرهنة عليها فعليًا .والحال أن تناول مبدأ الثالث المرفوع ضمن ه ذا المنظ ور بين
أنه قد نس تطيع البرهن ة علي ه إذا كن ا نتناول ه في المج االت المتناهي ة ،لكن عن دما ننتق ل إلى
مجاالت المتناهية فإن البرهنة عليه تصبح مستحيلة وبالتالي يصبح مبدأ غير قابل للتطبيق.
ويمكن أن نأخذ مثال بروور نفسه لتوضيح هذه الفكرة :فقد افتراض بروور وجود حقيبة فيه ا
كرات بلي اردو ،وراح يس أل إذا م ا ك انت في الحقيب ة ك رات بيض اء .ورأى أن مب دأ الث الث
المرف وع ال يق دم لن ا إال احتم الين أم ا موج ود أو غ ير موج ود .ثم ح اول أن يخت بر ه ذه
االحتم االت بالقي ام بتجرب ة إخ راج الك رات واح دة تل و األخ رى ،لكن ه قب ل إتم ام االختب ار
يعترض بالقول إن التجربة يمكن لها أن تنجح إذا ما كان ع دد الك رات متن اهي لكن في ح ال
امتد عدد الكرات إلى ما ال نهاية فالتجربة مستحيلة والمبدأ غير قابل للتطبيق.
القيمة االبستمولوجية للنظرية الحدسية :إنه ا ال ت رفض المنط ق ب اإلطالق لكنه ا ترجئ ه إلى
المرتبة الثانية في العمل الرياضي وترفض اعتماده مبدأ أو أساسًا للرياضيات ،م ع ذل ك تبقى
أراء أنصار هذه النزعة غير مكتملة وتع اني من بعض العي وب والس يما فيم ا يتعل ق بمع نى
الحدس أي المفه وم ال ذي أسس ت علي ه ك ل أطروحته ا إذ يبقى ه ذا المفه وم غ امض وغ ير
28
وواضح في استخداماتهم .كما أن اقتراحهم بناء الرياضيات اس تنادًا له ذا المفه وم الفض فاض
عن الحدس أدى على إلغاء قسم كبير من الرياضيات الكالسيكية.
المحاضرة السابعة
ثانيًا :النظرية األكسيوماتيكية (:)L’axiomatique
هي نزعة تقوم على الربط بين المنطق والرياض يات دون اخ تزال أح دها لألخ ر ،مس تخدمة
منهجًا جديدًا يطلق عليه اسم األكسيوماتيك وهو منظومة من األوليات ال تي يق وم عليه ا بن اء
رياضي أو منطقي معين ،بحيث يختلف بناء رياضي م ا عن غ يره ب اختالف األولي ات ال تي
يقوم عليها كل منهما .أهم أعالم ه ذه النظري ة ديفي د هل برت ،ب ول برن ييس ،ك ارت غ ودل
وآخرون .أما أهم خصائص هذه النظرية فهي التالية:
1ـ) رفضها لنزعة اللوجستيقة التي تريد اختزال الرياضيات إلى قضايا منطقية صرفه.
2ـ) تأكيدها أن المهم في األوليات هو الدور الذي تلعبه في البن اء الرياض ي المش يد عليه ا ال
طبيعتها الخاصة .بعبارة أخرى :إن المهم ليس األولي ات ،ب ل العالق ة ال تي تق وم بينه ا ،ومن
أجل االنصراف التام إلى العالقات وحدها والتحرر التام من تأثير المعنى ال واقعي المش خص
ال بد من اللجوء إلى الرموز .لقد انتهت ه ذه النزع ة إلى تفري غ التفك ير الرياض ي والمنطقي
من أي محتوى أو مضمون انطولوجي.
29
إذا كان فريج ه ورس ل في النزع ة اللوجس تيقية ق د دفع وا الص ورية إلى مرحل ة متقدم ة في
دراسة المنطق والرياضيات بحيث قدموا لغة خاصة تشرح كل قضايا الرياضيات فقد أصروا
رغم ذلك على وجود حدوس منطقي ة أولي ة وعلى أن تق ول القض ية ش يء يخص الواق ع من
حيث هي رموز لمضمون .بالنسبة لـ هلبرت الصورية كانت تعني إلغ اء المض مون لص الح
الصورة ،فرفع بذلك درجة الصورية إلى أعلى مس توى .الرم وز في الص يغ الرياض ية ليس
لها معنى محدد بذاتها بل تأخذ معناه ا من قواع د اس تخدامها ،ألن االس تدالل يق وم على ه ذه
الرم وز ال على م ا تش ير إلي ه .ه ذا م ا س مي فيم ا بع د الص ورية أو الرمزي ة الص رفة (
)formalismeالتي ال تعت بر المس لمات أو األولي ات من حيث هي حدس ية بديهي ة أو ح تى
صادقة بل من حيث هي متسقة مع غيرها من أوليات النسق.
المطلب األول في هذه النزعة كان البرهنة على اتس اق أي نس ق اس تنباطي أي ع دم تناقض ه
وهذا أول مظاهر برامج هلبرت الذي اقترح منذ عام .1900 _1899ه ذا البرن امج س يأخذ
صورته المكتملة عام 1904عندما يفترض النظرة اإلجمالية إلى الرياض يات أي تق ديم ق ول
ص وري عن الرياض يات (رياض يات الرياض يات) أو "م ا بع د الرياض يات" :بحيث تنتمي
الصيغة 5 = 3 + 2إلى علم الحساب ،في حين ينتمي التأكيد أن [ 5=3+2صيغة حسابية]
إلى ما بعد الرياضيات من حيث هو يقول شيء عن الرياضيات.
أما المطلب الثاني للنزعة الصورية كما يرى هلبرت فهو أن "ما بعد الرياض يات" ليس ت إال
تناول ميكانيكي للرموز استنادًا إلى قواعد؛ أي مكننة االستدالل من خالل اختزاله إلى حساب
خالص على الرموز.
من هذين المطل بين ول دت "نظري ة البره ان" ال تي تع نى بإع داد القواع د الص ورية لص حة
البرهان بشكل عام .تنص نظري ة البره ان ه ذه أن ه عن دما نق وم بتش ييد بن اء رياض ي معين
مستندين لمجموعة من األوليات ،فإن على ه ذه األولي ات وه ذا البن اء (منظ ور إليه ا كنس ق
استنباطي متماسك) أن تحقق جملة من الشروط المنطقية:
1ـ) استقالل أولياتها.
2ـ) عدم تناقضها.
3ـ) تتامها أو مجرد إشباعها.
30
وتكون األوليات مستقلة عندما ال يكون من الممكن البرهنة على أي أولي ة بواس طة األولي ات
الباقية ،ألن إمكان ذلك يعني أن األولية المبرهن عليها تصبح نظرية .أما ع دم التن اقض فه و
ينش أ من خالل بن اء نس ق ال يك ون ممكن ًا في ه البرهن ة على قض ية ونقيض ها اس تنادًا لنفس
األوليات .أخيرًا يكون النسق تتامي عندما يك ون باالمك ان دائم ًا البرهن ة على أي قض ية في
النسق أو على نقيضها استنادًا لمسلمات النسق .لكن مبرهنة غودل ع ام 1930بينت اس تحالة
تحقق هذا الشرط من خالل تقديم برهان على ال تتامية أي نس ق اس تنباطي .ل ذلك نلج أ ع ادة
إلى برهان بدرجة أقل كبرهنة إش باع النس ق من خالل البرهن ة أن ه مغل ق ال يحتم ل إض افة
أولية جديدة دون إحداث تناقض.
هناك خصائص أخرى ليست بضرورة الخصائص السابقة ،لكن قد يتصف بها البناء النظري
الذي من هذا النوع ،منها :االنغالق واالنفتاح ،التكافؤ ،التقابل.
أخيرًا القيمة االبستمولوجية للنزعة األكسيوماتيكية:
1ـ) إن المنهج قديم لكن الطريق ة جدي دة أم ا أهميت ه فتكمن في اعتم اد منهج مقنن ل ه أص ول
وقواع د وه ذا يفي د على ص عيد التفك ير في التجري د والتعميم والتنظيم والمقارن ة والمن اظرة
واستخالص البنية .إن االنتقال إلى هذا المستوى من التجريد يفتح أفاقًا جدي دة بم ا يرافق ه من
تقدم في مجال التعميم ال ذي يح ول كم ا ق ال رس ل الث وابت إلى متغ يرات ،ويمكن الفك ر من
معالجة أكثر القضايا تعقيدًا وغموضًا بمرونة ووضوح .كما أنه يساعد على اكتشاف التن اظر
بين النظريات المتفرقة التي يضمها علم واح د وذل ك باس تخالص البني ة المتغ يرة المش تركة
بينها .باإلضافة إلى أن الطابع اآللي للخطوات األكسيوماتيكية سمح بإدخال التقانة االلكترونية
وصناعة حواسيب وعقول آلية.
2ـ) البد من اإلشارة إلى حدود ه ذه النزع ة من حيث أن بعض الخص ائص المنطقي ة للنس ق
االستنباطي لم تعد قابلة للتحقق بموجب مبرهنة غودل وخاصة تتامية هذا النسق.
3ـ) إن نمط التفكير هذا أكمل م ا ب دأه رس ل في تغي ير مع نى الرياض يات على نح و ج ذري
وكلي ،فمع النظرية األكسيوماتيكية لم تعد رياضيات علمًا للكم المتصل والمنفص ل ب ل علم ًا
العالقات والبنيات التي تتشكل منها هذه العالقات.
31
بعد استعراض مجموع هذه التيارات والمحاوالت يمكننا القول إن مشكلة أسس الرياضيات لم
تعد تطرح اليوم بفضل تقدم األبحاث األكسيوماتيكية التي أدت إلى قي ام علمين جدي دين هم ا:
"ما بعد الرياضيات"" ,ما بعد المنطق" وتحولت أنظار الرياضيين من الكائنات إلى البنيات.
المحاضرة الثامنة
32
العامة ،ذات وجود موضوعي مستقل عن كونها موض وعات للفك ر (وذل ك مقاب ل األس ميين
الذين رأوا أن موضوعات الفكر تعبير عن مجرد ألفاظ ،وأن االسم الكلي ليس له مع نى أك ثر
من مجموع األشياء التي ينطبق عليها ).كذلك في العصر الحديث فقد اعتق د ديك ارت بوج ود
مبادئ وأفكار عقلية فطرية على رأسها الكائنات الرياضية نفسها ،ولم ي تردد باس كال ب القول
إن الكائنات الرياضية كالمثلث مثًال تتمتع بوجود مستقل كوجود الحجر .وق د كتب م البرانش
أيضًا :إذا فكرت في الدائرة أو العدد فإني أفكر في أشياء واقعي ة ،إذ ل و ك انت غ ير موج ودة
لكنت أفكر في الشيء .أما سبينوزا الذي بنى فلس فيته بن اء هندس يًا فق د ك ان منطلق ه "وح دة
الفكر والوجود" .كانط أيضًا نظر للقضايا الرياضية كقضايا قبلية أولي ة تركيبي ة ،والمق والت
التي منها مقولة الكم قبلية وهي التي تجعل المعرفة ممكنة.
باختصار ،ما يمكن مالحظته مما تقدم أن الخاصية المميزة للعقالنية الكالسيكية هي اعتقادهم
بوجود محتوى ثابت خاص بالعقل ،أن النموذج الواض ح له ذا المحت وى العقلي الخ الص ه و
الكائنات الرياضية .وقد انعكس هذا التصور لموضوع العلم الرياضي على منهجه فك ان ه ذا
المنهج يقوم دائمًا على نوع من الحدس ،حدس هذا المحتوى العقلي أو تلك الحقائق.
غير أن تحوًال جذريًا طرأ على هذا التصور ،وعلى العقالنية الكالسيكية كله ا .فم ع النظري ة
األكسيوماتيكية التي استبدلت الرياضيات (كعلم للكم المتص ل والمنفص ل) بالرياض يات كعلم
للعالقات والبنيات التي تتشكل منه ا ه ذه العالق ات ،لم يع د من الممكن الح ديث عن محت وى
عقلي دائم للعق ل وال عن معطي ات عقلي ة محض ة .ألن العق ل لم يع د في التص ور الجدي د
مجموعة من المبادئ ،بل أصبح قوة تمارس نشاطُا معينًا حسب قواع د معين ة .إن ه باألس اس
فاعلية .ومن ثمة أصبحت العقالنية هي االقتناع أن النش اط العقلي يمكن ه أن يب ني منظوم ات
بمقدار الظواهر المختلفة .هذه المنظومات الفكرية التي ينشئها العق ل اس تنادًا إلى المنظوم ات
األولي ة يمكن له ا أن تك ون مس تمدة من النش اط العملي والتج ارب في الطبيع ة والحي اة في
المجتمع وبالت الي تك ون مطابق ة للواق ع .كم ا يمكن له ا أن تك ون بن اءات نظري ة اكس يومية
متماسكة وصحيحة من الناحية المنطقية لكن ال تنطبق على واقع معين .ب ل تس تلزم اف تراض
واقع ما تنطبق عليه (كما فعل ريمان مثًال عندما افترض مكانًا كروي الشكل بدًال من المك ان
المستوي الذي بنى عليه اقليدس هندسته) لتغدو المسألة تحويًال لمفهوم الحقيقة الذي يقوم على
33
المطابقة بين الفكر والواقع ،واس تبداله بمطلب التالقي بين عملي ات الفك ر وعملي ات الطبيع ة
بعدما فقد الحدس امتيازه (كضامن التساق معطيات التجرب ة م ع محت وى الفك ر) بفع ل تع دد
المنظومات األكسيوماتية.
هنا يتضح لنا ذلك االنقالب الذي أحدثته الصياغة األكسيومية للرياض يات ال تي لم تع د قائم ة
على الحدس بل على منهج فرضي استنتاجي ينطلق من فرض يات ويب ني منظوم ات اس تنادًا
لقواعد المنطق الجديد .إن موضوع الرياض يات لم يع د الكائن ات ب ل اإلج راءات والعملي ات
والعالقات نفسها ،ولم يعد علم للكم بل نظرية في البنيات من مختلف األنواع وعلى رأسها م ا
يعرف بالبنيات األولية والبنيات األم.
إن تطور المنهج األكسيوماتيكي لم يقتصر فقط على العمل العلمي ،ب ل امت د أيض ًا إلى بعض
المش كالت الفلس فية :فلس فة الرياض يات ،فلس فة العلم ،وفلس فة المعرف ة .بخص وص فلس فة
الرياضيات تحدثنا عن ذلك عندما شرحنا النظرية األكسيوماتيكية التي حاولت أن تقدم فلس فة
للرياضيات تتجاوز المتناقضات التي فرضتها نظرية المجموعات.
1ـ فلسفة العلم:
على الرغم من أن مبرهات المنطق وعلم الحساب يمكن لها أن تنطبق على الواقع فإننا ننظ ر
عادة لهذه العلوم كعلوم عقلية اس تنباطية خالص ة ،وعلى ال رغم من أن الفيزي اء تش رح بلغ ة
الرياضيات فإنه ا تبقى علم ًا تجريبي ًا يس تمد ج وهره من التجرب ة .على ه ذا األس اس ك انت
مشكلة التقسيم الكالسيكي للعلوم إلى علوم عقلية وأخرى تجريبية ،ولم تكن محاول ة كان ط في
صياغة األحكام التركيبية القبلية إال رغبة في تجاوز هذه المشكلة.
المنهج األكس يوماتيكي ق دم ح ل له ذه المش كلة بطريق ة أخ رى عن دما ق دم هل برت نم وذج
أكس يوماتيكي للهندس ة الكالس يكية دون أي اس تعانة بالح دس ،وه و به ذه المحاول ة بين أن
34
الهندسة الكالسيكية التي كانت تبدو في الوقت نفسه عقلية وحدسية تجريبية ،ليست في الحقيقة
إال خليط يجمع بين علمين متميزين لم يكونا واضحين وهما:
الهندسة المحضة التي صاغها هلبرت في صورة حدود وقض ايا تس تمد حقيقته ا من االتس اق
المنطقي مستبعدًا أي معنى حدسي تجريبي.
الهندس ة التطبيقي ة ال تي ال تب دو فيه ا الص ور البرهاني ة إال مس اعدات للتعب ير عن ق وانين
الفيزياء.
مع تطور األبحاث األكسيوماتيكية أصبحت المسألة تقوم على النح و الت الي :ب دًال من القس مة
بين علوم تجريبية وأخرى عقلية من الممكن عرض أو شرح أو ق راءة نفس الخط اب العلمي
ألي علم كان بطريقة مزدوجة :م رة ص ورية وأخ رى تطبيقي ة .وه ذا يع ني أن ك ل علم من
العلوم يمكن أن بنظر له كلغ ة قابل ة أن تق رأ بطريقي تين مختلف تين :في الق راءة األولى نك ون
بصدد نسق صوري خالي من أي مضمون تجريبي تم ض بطه بالوس ائل المنطقي ة للتأك د من
خلوه من المتناقضات .أما القراءة الثانية فتمكننا من اعطاء أوليات النس ق ت أويالت ص حيحة
في مجال محدد للواقع بحيث تأخذ الرموز معنى عيني وتعبر الصياغات المؤلف ة من الرم وز
حقيقة أمبيريقية.
وبالتالي لم يعد صحيحًًا تقسيم العلوم إلى علوم عقلية وعلوم تجريبية ب ل ال ب د لن ا من النظ ر
إلى العلوم كسلسلة واحدة بدراجات مختلفة في التجريد والمعقولية ،كما يمكن النظ ر لك ل علم
في هذه السلسلة على أنه قابل للقراءة المزدوجة عقلية وتجريبية.
2ـ فلسفة المعرفة:
إن التعارض بين العقل والتجربة هو التع ارض األساس ي للفلس فة :إن ه تع ارض بين األفك ار
والوقائع ،الفكر والشيء ،المعرفة والوجود ،المعق ول والمحس وس ،المج رد والعي ني ،القبلي
والبعدي .المنهج األكسيوماتيكي ليس فقط أسلوب تقني في الرياضيات بل طريقة يمكن للفك ر
فيها أن يتعامل مع المعرفة ويمكننا من معالجة التعارض المذكور بطريقة جديدة.
مبدأ هذه الطريقة يقوم على أساس أن العيني ليس إال المجرد وق د أص بح مألوف ًا باالس تخدام.
وعليه ال يمكن فهم التعارض الس ابق بين العق ل والتجرب ة إال ع بر العالق ة بينهم ا فالمعرف ة
ليست إال التوافق بين البنية المجردة والتحقق العيني ،بين المخطط والمجسم .إن المعرفة التي
35
تفرضها االكسمة هي المعرفة العقالنية التي ال ترى ضير في تس ميتها تجريبي ة فك ل معرف ة
لها مخطط أو هيكل رمزي وومجسم أو تحقيق عيني.
المحاضرة التاسعة
طبيعة الوجود الرياضي
لم تطرح مشكلة وجود الكائنات المنطقية إال في بدايات القرن العشرين في حين طرحت ه ذه
المشكلة منذ اليونان بصدد الكائنات الرياضية ،وكان الطرح على النحو التالي :ما ه و الواق ع
الذي يعبر عنه العدد 3مثًال أو المثلث المساوي األضالع؟ إن السؤال المطروح ال يخص من
جهة الوقائع التجريبية الفردية العينية بل الكيانات أو الكائنات العامة المج ردة ال تي تس تعملها
وتحمل عليها الرياضيات ،وال يخص من جهة أخرى الفكرة التي امتلكها اآلن كذات فرد لكن
ما يجعل موضوع هذه الفكرة عام وخارج إطار الزمان.
بدأ السؤال عندما استبدل فيثاغورث الرياض يات التجريبي ة العملي ة عن د المص ريين الق دماء
برياضيات عقلي ة .لم يكن ه ذا االس تبدال إال انتق اًال من مج رد الفائ دة العملي ة إلى العلم ،من
الحس إلى العق ل ،من الع الم التجري بي إلى ع الم األفك ار أو ع الم الج واهر .وق د وص فت
أسطورة الكهف األفالطونية ببراعة هذا التحول فلم تكتشف فقط وجود ع الم أخ ر إلى ج انب
العالم الم ألوف ب ل اكتش فت أيض ًا أن ه ذا الع الم أك ثر س مو وأهمي ة من الع الم ال ذي تقدم ه
36
الحواس ،عالم هو أكثر شبهًا بعالم الكم ال ال ذي وص فته األدي ان من الزاوي ة اإليماني ة فق ط.
وبذلك لم ننتقل عند اليونان من اإليمان والرأي إلى العلم فقط بل إن ه ذا العلم يس مو ب الروح
ألنه يدخلنا في عالم من الوقائع الفوق حسية حامُال على هذا النحو قيمة ميتافيزيقية شبه دينية,
يقول أفالطون في كتابه الجمهوري ة [ ليس مهم ة العلم الرياض ي خدم ة التج ار في عملي ات
البيع والشراء كما كان يعتقد الجّهال بل تيس ير طري ق النفس في االنتق ال من دائ رة األش ياء
الفانية إلى تأمل الحقيقة الثابتة الخالدة] وعلى ذلك كان موض وع الرياض يات ماهي ات ذهني ة
تتمتع بوجود موضوعي مستقل [مثل] ,وهذا ما دف ع أفالط ون ل يرى في الرياض يات م دخل
ضروري للفلسفة .في أيامنا المعاصرة يطلق اسم األفالطونية على النزعة التي تقول بواقعي ة
الج واهر الرياض ية وهي واح دة من أهم الم دارس المهتم ة بفلس فة الرياض يات م ع ظه ور
نظرية المجموعات.
وقد عبرت العقالنية الكالسيكية عن هذا التوجه الفلسفي ،يعتقد ديكارت بوجود أفك ار فطري ة
عقلية على رأسها الكائنات الرياضية .مالبرانش يتساءل هل أستطيع أن أغ ير مجم وع زواي ا
المثلث بحس ب رغب تي؟ الج واب عن د ال ألن موض وعات الرياض يات موج ودة وج ود
موضوعي .فإذا فكرت في الدائرة أو العدد يقول مالبرانش فأنا أفكر في أشياء واقعية ألن ه ل و
لم تكن موجودة فأنا أفكر في الالشيء .القضايا الرياضية عند كانط قضايا قبلية تركيبية .بمثل
هذه الميتافيزيقا بإمكاننا أيضًا أن نتناول كث ير من المف اهيم الفلس فية المعاص رة مث ل الحقيق ة
بذاتها عند بولزانوا أو دوام األفكار الرياضية على نقيض الوجود الزائ ل في األش ياء الحس ية
عند رسل .بدأ رسل نظريته المنطقية بهذا النوع من االعتقاد شبه الديني بعالم أزلي أفالطوني
تتمتع به الرياضيات بوجود موضوعي مس تقل عن أي عالق ة بال ذات المفك رة ال تي تكتش فه
بواسطة المنطق.
مقابل هذه النزعة األفالطونية المتطرف ة ظه رت نزع ة أس مية متطرف ة للوض عية المنطقي ة
كنتيجة لكسوف المطلقات المنطقية الرياض ية لألفالطوني ة في بداي ة الق رن العش رين بس بب
وجود متناقضات نظرية المجموعات .عند االسميين الحقائق الرياضية نسبية فهي تتب ع نس ق
المبادئ المخت ارة اعتباط ًا بحيث تأخ ذ الح دود معناه ا فيه ا من القواع د ال تي تح دد طريق ة
استخدامها بموجب مبادئ النسق .عند أنصار ه ذا التص ور ال تس تهدف الرياض يات األفك ار
37
خارج إطار الرموز فهي مرتبطة بهذه الرموز وبالقواعد ال تي تح دد ترابط ات الرم وز .إلى
ه ذه النزع ة أنتق ل رس ل بع د رفض ه للنزع ة األفالطوني ة م دافعًا عن اس مية تري د اخ تزال
الرياضيات إلى المنطق مع فريجه ،ثم اختزال المنطق إلى تحص يل حاص ل م ع فيتجنش تين.
هذه النزعة االختزالية االسمية قادت إلى اشتقاق صدق القضايا الرياضية من ص دق القض ايا
المنطقية بحيث لم تعد وظيفة الصيغ الرياضية المنطقية تقديم معرف ة جدي دة ب ل تعطين ا فق ط
أداة تسمح لنا بتحويل النص الرياضي وقول الشيء نفس ه بح دود مختلف ة .مثًال ق ك ..
~ق ك ( ~ ..ق~ .ك) .على ذلك لم يعد للصيغ الرياضية المنطقية األك ثر تعقي د من دور
إال ضمان صحة تكافؤات كهذه .جوهرياً هذه الصيغ ليست إال قواعد لغ ة وهن ا تكمن فائ دتها
للعلم .أح د أهم االس ميين المعاص رين ال ذين رفض وا ال دخول في مغ امرات الميتافيزيق ا
األفالطونية كان كارناب في وضعيته المنطقية ال تي تفص ل بين الق راءة الص ورية والق راءة
الواقعية للعلم من حيث أن األولى ليس لها موضوع فهي نسق من القض ايا المس اعدة الخالي ة
من أي مضمون انطولوجي.
انتقد سابقًا فريجه االسميين األلمان الذين يفضلون مقارن ة الفاعلي ة الرياض ية بالفاعلي ة ال تي
يقوم فيه ا ال ذهن في لعب ة الش طرنج .بالنس بة لفريج ه إن تنظيم القط ع في لعب ة الش طرنج ال
يشرح شيء وقواعد اللعبة تشكل نظام مغلق ليس له أي تطبيق خارج إطار هذه اللعب ة ،بينم ا
تشرح الصيغ الحسابية أفكارًا ،وقوانينها قابلة لتطوير بدون حد وله ا تطبيق ات غ ير مح دودة
خارج إطار علم الحساب.
بين واقعي ة الج واهر واالس مية الخالص ة ظه رت نزع ة وس طية أرادت تجنب الميتافيزيقي ا
األفالطونية دون أن تفرغ القضايا العلم من معنى رياضي .عّر ف أنصار هذه النزعة الوجود
الرياضي بغياب التناقض :فالقول بوجود مفهوم من المفاهيم الرياض ية يع ني عن د ه ؤالء أن
ه ذا المفه وم يمتل ك الح ق باالنتس اب إلى نس ق بش رط أال يس بب وج ود في ه ذا النس ق أي
تناقض .هلبرت هو صاحب هذه النظري ة وق د بين اختالف ه عن فريج ه في ه ذه النقط ة على
النحو التالي :عند فريجه أن عدم التناقض ينشأ من وجود المفاهيم الرياضية بينما عند هلبرت
وجود المف اهيم الحقيقي يتب ع ع دم تناقض ها .إن ه ذا التص ور األخ ير يق رر وج ود المف اهيم
الرياض ية نس بة لع دم تناقض ها ففي الهندس ة االقليدس ية ال يوج د مثًال مثلث ق ائم الزاوي ة
38
ومتساوي األضالع ألن وجود مثل هذا الكائن في هذه الهندسة يؤدي إلى تن اقض م ع مس لمة
اقليدس أن مجموع زوايا المثلث يساوي 2قا ،ولكن في هندسة ريمان مثل هذا المثلث موجود
ألن مجموع زوايا المثلث في هذه الهندسة يتغير ليصل إلى 3قا .إن خاص ية تن اقض أو ع دم
تناقض قضية ما ال يتبع فقط المسلمات في نسق ما لكن أيضًا القانون المنطقي الذي تخضع له
المسلمات.
الواقع إن هذا الموقف الذي يربط الوجود الرياضي باتساق النسق الذي يرد في ه لم يكن ك افي
من وجه ة نظ ر المدرس ة الحدس ية (ب روور_ هيتن غ) على ال رغم من ابتع اد ه ؤالء عن
اإلطالقية األفالطونية فإن االتساق المنطقي وإن كان ش رط ض روري للوج ود الرياض ي إال
إنه شرط غير كافي .يض يف أنص ار ه ذا التص ور إلى االتس اق المنطقي مفه وم التجرب ة أو
االختبار .ففي نظرهم مثلما إن عدم قدرتنا على إثبات التهم ة على متهم ال تع ني براءت ه ف إن
البرهان على عدم وجود تن اقض في مفه وم أو في قض ية رياض ية ال يع ني أن ه ذا المفه وم
موجود أو هذه القضية صادقة .فمن أجل التأكد الوجود الرياضي ال بد من إنشائها بالحدس أو
على األقل تقديم قاع دة تس مح فعًال بإنش ائه بع دد مح دد من المراح ل .في الواق ع م ع أهمي ة
الرياضيات التي تنشأ من أسس الحدسيين أعترض الرياض يون على مث ل ه ذا التص ور ألن ه
يلحق الرياضيات بواقعة عرضية مرتبطة بذات الرياضي وتحوالته ا وينفي عن الرياض يات
موضوعيتها5 .
خالصة القول :على الرغم من تنوع واختالف ه ذه الم ذاهب ال يمكن فهم أي م ذهب بمع زل
عن المذاهب األخرى ذل ك أن القص د العمي ق للنزع ة االس مية لم يكن إال رفض ك ل أش كال
الميتافيزيقا الواقعية األفالطونية فاالسمية المنطقية عند كواين وغودمان تعبر عن رغبة ببناء
منطق بدون انطولوجيا .من جهة أخرى إن التناقض م ع انطولوجي ا الج واهر الرياض ية ه و
مح رك النزع ة الحدس ية .بالمقاب ل يتح رك األفالطون يين بم وجب مب دأ ي دافع دائم ُا عن
الموض وعية في الرياض يات واس تقاللها عن أع راض تطوره ا الت اريخي .ف القول بج واهر
ترانس ندانتالية يع ني ض د االس ميين أن الحق ائق الرياض ية ليس ت عبثي ة وال تتب ع فنتازياتن ا
الخاصة وال تختزل إلى لعبة لغة ،ويع ني ض د الحدس يين أن الحق ائق الرياض ية مس تقلة عن
المعرفة التي نأخذها منها عند الحدث الطارئ الذي يكتشفه الرياضي .إن صيغ هذه الج واهر
39
ال الجواهر نفسها هي موضوع البحث .وعليه فكما كانت أفالطونية فريجه هي رفض السمية
هين سابقُا ،فأفالطونية تشيرش هي رفض السمية كواين.
المحاضرة العاشرة
40
تمكن العلماء من القريب بين القوانين من خالل دراسة التقاب ل والتن اظر والتش ابه بين الب نى
المنطقية التي ترسمها هذه الطريقة االكسيوماتيكية.
لكن االسترسال في الح ديث عن أهمي ة الرياض يات من ه ذه الزاوي ة يبقين ا في أط ار البحث
الميتودولوجي ،وال يوص لنا إلى البحث االبس تمولوجي ال ذي ه و موض وع بحثن ا األساس ي.
لذلك البد لنا من تخصيص الحديث عن أهمية الرياضيات فيما يخص الفلسفة ليدخل بحثنا في
اإلطار االبستمولوجي.
وم دخلنا لمث ل ه ذا المبحث ه و العب ارة ال تي ك ان ق د كتبه ا أفالط ون فيم ا يق ال على ب اب
األكاديمية "ال يدخل علينا من لم يكن رياضيًا" وهي عبارة أراد منه ا اإلش ارة إلى ش رط من
شروط االلتحاق بمدرسته .والواقع أن هذه العبارة تضع بين أيدينا أمر له داللته ومغ زاه فيم ا
يخص العالقة بين الفلسفة والرياضيات على نحو ن رى مع ه كي ف غ دت الرياض يات مقدم ة
ض رورية للفلس فة ،وش رط ض روريًا لتعلم الفلس فة ولص حة التفلس ف الحقيقي .ض من ه ذا
المعنى رأينا كيف بنيت الفلسفة األفالطونية على أساس رياضي ،وكيف طبق ديك ارت النهج
الرياضي على كل مناحي التفكير الفيزيقي والميتافيزيقي ،ومن هنا أيضًا نجد العذر لـ اليبنتز
في حلم ه ال ذي ظ ل يالزم ه ط وال حيات ه في أن يك ون ك ل تفك ير إنس اني ش بيها ب التفكير
الرياضي ،ونفهم لماذا بنى سبينوزا كتابه "األخالق" بناءًا هندسية ،ولماذا ك انت نقط ة الب دء
واألساس في "نق د العق ل المحض" لكان ط كي ف يمكن لألحك ام الرياض ية أن تك ون ممكن ة؟
باختصار ،يمكن لنا أن نفهم أهمية الرياض يات بالنس بة للفلس فة من حيث هي المص در ال ذي
اعتادت أن تجد فيه الفلسفة نموذج معقوليتها واألشكال المتطورة المتتالية لعقالنيتها.
لكن العالقة بين الفلسفة والرياض يات لم تقتص ر على ه ذا الش كل ب ل إن تط ور الرياض يات
باتجاه الصياغات الجبرية والصورية الخالصة من جه ة وتط ور ف رع كب ير في الفلس فة ه و
المنط ق من جه ة أخ رى أعطى أش كاًال مختلف ة للعالق ة بين الفلس فة والرياض يات .من ه ذه
األشكال كان الشكل الذي يربط بين المنطق والرياضيات ربطًا عضويًا يزعم في ه أن العلم ان
أصبحا شيء واحد (للوجستيقة) ،والش كل ال ذي يرب ط بين الرياض يات والمنط ق ع بر منهج
جديد هو األكسيوماتيك الذي أدى إلى التمييز بين الرياضيات البحتة والرياضيات التطبيقية.
41
الجديد في هذه األشكال هي صورة العالقة بين الفلسفة والرياضيات التي تجعل ه ذه األخ يرة
موضوع الفلسفة وليس فقط مجرد أساس األمر الذي خلق ف رع جدي د في الفلس فة ه و فلس فة
الرياضيات.
الفرق بين الرياضيات وفلسفة الرياضيات:
إن الرياضيات دراسة إذا بدأنا بأكثر أجزائها ألف ة وهي األع داد ،لك ان بإمكانن ا أن نس ير في
أحد اتجاهين متقابلين :االتجاه األول هو االتجاه البن ائي ال ذي يتج ه بالت دريج نح و مزي د من
ال تركيب نب دأ من الع دد الط بيعي ثم الع دد الص حيح فاألع داد الكس رية واألع داد الحقيقي ة
واألع داد المركب ة ،ومن الجم ع والط رح إلى التفاض ل والتكام ل ،وهك ذا إلى الرياض يات
العالية .االتجاه الثاني وهو االتجاه األقل ألفة من االتجاه األول ويقوم على التقدم بالتحلي ل إلى
التجريد أكثر فأكثر وإلى البس اطة أك ثر ف أكثر .فبينم ا نكتفي في االتج اه األول ب البحث عم ا
يمكن تعريفه واستنباطه من ذلك الذي افترضناه ،نجد أنفسنا في االتجاه الثاني نط رح األس ئلة
التالية :هل توجد أفكار ومبادئ أعم يمكن منها تعريف واستنباط ما بدأنا به؟ إن السير في هذا
االتجاه األخير هو الذي يميز فلسفة الرياضيات عن الرياضيات العادية.
إن فلسفة الرياضيات تبحث فيما وراء البدايات التي بدأنا منه ا ال تركيب وتس أل عن المب ادئ
التي تكمن وراء هذه البدايات أنه سؤال عن المصدر واألساس واألص ل والوج ود والماهي ة.
بعبارة أخرى إذا كان الطريق باتجاه ال تركيب والتق دم إلى األم ام لكي نب ني الرياض يات ه و
طريق الرياضيات العادية فإن الطريق باتجاه التحليل والنظر إلى الوراء لنحل ل الب دايات ه و
طريق فلسفة الرياضيات التي تفلسف أسس ومناهج وطبيعة الرياضيات.
وال يخفى علينا األهمية الكبيرة لمثل ه ذا المبحث بخص وص الرياض يات والفلس فة على ح د
سواء .في الرياضيات من خالل حل مشكلة أسس الرياضيات وإعادة الوحدة لعلم الرياض يات
ومنهج ه ب التطورات المتالحق ة للنظري ة األكس يوماتيكية .ونق ل الرياض يات من المع نى
الكالسيكي كعلم للكم والمقدار للمعنى المعاصر كعلم للبنيات والعالقات التي تتكون منه ا ه ذه
البني ات .ولم يكن له ذا التط ور إال أن ينعكس على الفلس فة من خالل م ا تقدم ه الرياض يات
المقروءة بالمنهج األكسيوماتيكي أو الرياضيات البنيوية من تطوير للمف اهيم الفلس فية في فهم
طبيعة العلم والمعرفة على السواء.
42
أحد جوانب هذه الفلسفة تظهر في مناقشة تعريف الرياضيات ب المعنى الجدي د .واح د من أهم
التعريفات الجديدة للرياضيات من حيث هي علم للبنيات هو تعريف برتراند رسل الذي ي رى
فيه أن " :الرياض يات هي العلم ال ذي ال نع رف في ه عم ا نتح دث ,وال م ا إذا ك ان م ا نقول ه
صادق أو كاذب" هذه العبارة التي يملئها الشك يجب أن تفهم بمعنى مختل ف عم ا تب دو علي ه
فهي تعني أن التص ورات األولي ة المقدم ة في النظري ة الرياض ية ال يمكن أن تح دد بطريق ة
قطعية ووحيدة بل يمكن أن نفسر بطرق متعددة (ال نع رف عم ا نتكلم ألنن ا يمكن أن نس تخدم
هذا الكالم بصدد عدة موضوعات) كذلك فالرياضي في هذا المع نى ال ينبغي أن يش غل نفس ه
بما إذا كانت نظرية معينة متحققة بالتجربة أو غير متحققة وعلي ه (ال نع رف أو ال ينبغي لن ا
أن نهتم فيما إذا كان ما نقوله في الرياضيات البحتة صادق أو كاذب).
وفق هذا التعريف الرياضيات المحضة مستقلة في بنيتها عن التجربة ومعطياتها وثباته ا إنم ا
يتحدد بصحة استنباط النظريات من المقدمات التي يبدأ منها الرياضي ويعمل على خلوها من
التناقضات .هذا األمر يعنى كما أشرنا س ابقًا أن من الممكن إنش اء منظوم ات بع دد الظ واهر
المدروس ة كم ا يمكن إلنش اء منظوم ات تحليلي ة خالص ة وعلي ه تك ون الرياض يات نس ق
استنباطي فرضي يتبع مبدأ التسامح الذي أقره كارناب عندما قال:
" قضيتنا ليست في إمالء محظ ورات بالوص ول إلى توافق ات ... ،فال أخالقي ة في المنط ق..
كل واحد حر في بناء منطقه أي بناء شكل لغته الخاص".
ما عناه كارناب في قوله هذا هو أن النس ق االس تنباطي االفتراض ي ليس نظري ة ب ل لغ ة أي
نظ ام إش ارات م ع قواع د اس تخدام .إال أن ه ذا التص ور لم يكن دون بعض االنتق ادات ال تي
وجهت له من جانب بعض الفالسفة المحدثين .فقد اعترض أدوارد ل وروا على ه ذا التص ور
بالتسائل عن الفائدة من العلم الرياضية المطروح بهذه الصورة ،وهو ال يرى جدوى من تقديم
الرياضيات بوصفها مجرد لعبة بالرموز .وأنصار هذا التيار يرفض ون أن ي روا في الحق ائق
الرياضية مجرد تحصيل حاصل وبأنها متروكة لحرية العالم الرياضي يلهو بها ويختار منه ا
ما يشاء.
43
كذلك يرى باشالر أن العالم الرياضي عندما يتحدث دون أن ي دري م ا يتح دث عن ه فإن ه في
الحقيقة يتعمد أال يدري أو يعرف إذ أن من واجبه أن يتحدث كما لو كان ال يع رف فه و يق وم
بعملية كبت الدراكاته الحسية ويرتفع بالتجربة الحسية إلى مستوى عقلي خالص.
من الواضح أن هذه النظرة تجعل للرياض يات اتص اال مباش رًا ب الواقع المحس وس والطبيع ة
الخارجية وقد تسلم باتصال ما بينهما ،لكن ال يمكن مع ذل ك االنتق ال على الق ول إن الحق ائق
الرياضية انعكاسا للطبيعة ووقائع الحس يكتبها الرياضي في نفسه ويرتف ع به ا على مس توى
عقلي خالص ألن الكبت هنا ال يمكن أن يعني القيام بعملية تجري د للواق ع ألن األم ر ل و ك ان
كذلك لما كان لنا أن ننشأ أكثر من منظوم ة واح دة ألن الواق ع واح د .والحقيق ة أن مث ل ه ذه
النظرة ال يمكن لها أن تقوم إال ألنها لم تدرك الفصل ال ذي فرض ته النظري ة األكس يوماتيكية
داخل العلم الواحد بين القراءة الخالصة والقراءة التطبيقي ة بحيث ال نطلب من الق راءة األولى
سوى اإلجابة عن سؤال االتس اق وع دم التن اقض ون ترك للق راءة الثاني ة اإلجاب ة عن س ؤال
الفائدة بطريقة ال تمس من قريب أو بعيد صحة ويقين اتساق الرياضيات البحتة.
ألن الحقائق الرياضية في هذا المجال ليست اكتشاف وإنما اختراع وليست مقدماتها وقائع بل
فروض وليست ضرورتها حدسية أو تجريبية بل شرطية .وإذا كانت التجربة الحس ية ت وحي
للرياضي ببعض مسلماته فإنها ال توحي له إال بالقدر ال ذي ي وحي به ا ص فاء القم ر للش اعر
المرهف الذي بنظم قصيدة لمن يحب.
44