Professional Documents
Culture Documents
تفريغ شرح القصيدة الهائية في الزهد والترغيب والترهيب للحافظ حكمي
تفريغ شرح القصيدة الهائية في الزهد والترغيب والترهيب للحافظ حكمي
لفضيلة الشيخ
2
والناظم :الشيخ :حافظ حكمي رحمه هللا تعالى في أبيات هذه املنظومة قد أحسن وأجاد
في بيان ما يتعلق بهذا الباب ،فمع اختصار هذا َّ
النظم وقلة األبيات إال أنها حوت ً
خيرا
ً
عظيما. كثيرا ً
ونفعا ً
قدم في هذا َّ
النظم وغيره من منظوماته ومؤلفاته فنسأل هللا عز وجل أن يجزيه على ما َّ
يثقل بها موازينه ،وأن ينزله املنازل العالية في الفردوس األعلى ،وأن
خير الجزاء ،وأن ِ
يجزيه عنا وعن طالب العلم وعن املسلمين خير الجزاء.
ونبدأ مستعينين باهلل طالبين منه املد والعون في القراءة في هذه املنظومة والتعليق عليها
بما تيسر ،وأحب أن أشير قبل التعليق أن الشيخ زيد بن محمد بن هادي املدخلي رحمه
هللا تعالى ،وهو من أبرز وأشهر طالب الشيخ له تعليق مطبوع على هذه املنظومة ،وفيه
كفاية في توضيح مضامينها وبيان ما حوته من معان عظيمة وإفادات مباركة ،وهو
مطبوع متداول.
الحمد هلل رب العاملين ،وصلى هللا وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين .اللهم اغفر لنا ولشيخنا وملشايخه وللمسلمين واملسلمات يا رب العاملين.
قال اإلمام العالمة حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا تعالى في القصيدة الهائية في
الترغيب والترهيب:
َ ُ ََ َ َو َما لي َول ُّلد ْن َيا َو َل ْي َس ْت ُبب ْغ َيتي َ ...وََل ُم ْن َت َه ٰى َق ْ
ص ِدي َول ْست أنا ل َها ِ ِ ِ
ًْ ُ
اس ِات َها فتنا وق ْب ًحا ِل َح ِال َها َو َل ْس ُت ب َم َّيال إ َل ْي َها َوََل إ َل ٰى ...رَئ َ
ِ ِ ِ ٍ ِ
****************
«و َما لي َول ُّلد ْن َيا َو َل ْي َس ْت ب ُب ْغ َيتي» ً
مبينا أن َّ
صدر رحمة هللا عليه هذه األبيات بقولهَ :
ِ ِ ِ ِ
الدنيا لم تأسر قلبه ،ولم تستحوذ على نفسه كما هو حال كثير من الناس ،وال يقول
ْ
هذه املقالةَ « :ما ِلي َو ِل ُّلدن َيا!» إال من فطن لحال الدنيا وما فيها من فتنة وزخرف زائل
ومتاع الغرور.
3
ْ
فصدر أبياته رحمه هللا تعالى بقولهَ « :ما ِلي َو ِل ُّلدن َيا!» وهذا اللفظ جاء في حديث صح
َّ
عن نبينا الكريم عليه الصالة والسالم في مسند اإلمام أحمد وغيره من حديث ابن عباس
َ رض ي هللا عنهما أن النبي صلى هللا عليه وسلم قالَ (( :مالي َول ُّلد ْن َيا! َما َأ َنا َو ُّ
الد ْن َيا؟ َّإن َما َمثلي ِ ِ
َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُّ َ
اح َوت َرك َها)) فهذه حال العبد في الدنيا الدنيا ك َر ِاكب ظ َّل ت ْحت ِظ ِل ش َجرة ثم ر ومثل
وإقامته فيها وتمتعه بملذاتها ونحو ذلك ،ما مثله إال كمثل رجل استظل في ظل شجرة
ثم مض ى وانصرف أو راح وتركها.
فهذه حال الدنيا!
فإذن ملاذا تستولي على قلب املرء؟! وملاذا تستحوذ على اهتمامه؟! ملاذا تكون مبلغ علمه
وغاية مقصوده وهذا مثلها؟!
َ ْ ْ
قالَ « :ول ْي َست ِب ُبغ َي ِتي»؛ أي :ليست الدنيا بطلبتي ومقصودي وهمتي ،وإنما الهمة
منصرفة لآلخرة ،والرغبة منصرفة لآلخرة ،وهي :البغية ،وهي الرغبة ،وهي غاية املنى.
« َوََل ُم ْن َت َه ٰى َق ْ
ص ِدي»؛ أي :أن حالي في الدنيا أنها لم تستو ِل على الهمة وال على املقصد
والغاية ،فالقصد رضوان هللا ،والفوز بالدرجات العلى في اآلخرة .وهذه الدنيا لم تشغل
عن هذا املقصد العظيم والغاية الجليلة.
َ ُ ََ َ
« َول ْست أنا ل َها» ليست ببغيتي ،ولست أنا للدنيا.
َ َ ُ
« َول ْست ِب َم َّي ٍال ِإل ْي َها» ليس عندي ميل إلى الدنيا ،وانشراح صدر إليها ،ورغبة في زينتها
وزخرفها ،وال إلى رئاستها ،كل ذلك ليس لي فيه همة وال رغبة.
َ َ ْ ُ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ٰ َ َ َ ْ ً ُ
اس ِات َها نتنا َوق ْب ًحا ِل َح ِال َهاولست ِبمي ٍال ِإليها وَل ِإلى ِ ...رئ
البدء يبين فيه رحمه هللا تعالى ما ينبغي أن يكون عليه حال املسلم الناصح لنفسه فهذا َ
مع هذه الدنيا ،وأال يغتر بمتاعها الزائل وزخرفها الفاني وبهجتها املنقضية .فكل فرحة في
الدنيا تنتهي ،وكل عافية في الدنيا تنتهي وكل صحة في الدنيا تنتهي ،وكل ً
غنى في الدنيا
ينتهي ،وكل متاع في الدنيا ينتهي ،فال يغتر بها اإلنسان.
وال يعني هذا ال في قليل وال كثير أن اإلنسان ال يعمل في تحصيل دنياه ورزقه ومسكنه
ً
وملبسه وكسبه ،ليس املعنى أن يبقى اإلنسان عالة على اآلخرين ،بل يعمل ويكدح
4
ويحصل املال ،حتى لو أصبح عنده املال الكثير هذا كله ال يضره ،لكن الذي َ
وينصب
ِ
يضر أن تكون الهمة هي الدنيا والبغية هي الدنيا واملقصد هو الدنيا ،وأن تكون الدنيا في
أيضا غاية مقصود اإلنسان ومبلغ علمه؛ ولهذا جاء في الدعاء قلب اإلنسان ،وتكون هي ً
َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ُّ َ ْ
الد ْن َيا أك َب َر َه ِم َنا َوال َم ْبل َغ ِعل ِم َنا)) قال: املأثور عن نبينا عليه الصالة والسالم(( :وال تجعل
أكبر همنا ومبلغ علمنا.
أما إذا اهتم بالدنيا ال يضره في تحصيل مصالحه وأرزاقه وسكناه وطعامه وشرابه وأن
ًَ َ ََ َ َ ْ ََ َ َ
يدع أوالده أغنياء (( َّإنك ْإن تذ ْر أ ْوال َد َك أغ ِن َي َاء خ ْي ًرا ِم ْن أ ْن تذ َره ْم َعالة)).
ولهذا إذا لم يفهم هذا الباب :باب الزهد في الدنيا على وجهه قد يصل باإلنسان إلى
أيضا لشرع هللا سبحانه وتعالى. الدخول في نوع من االنحراف واملخالفة ً
َّ
وخستها وسرعة زوالها فالحاصل :أن اإلنسان ينبغي أن يعرف الدنيا وحقيقتها
وانقضائها ،وأنها ملعونة ملعون ما فيها إال الخير وذكر هللا والعمل الصالح والتقرب إلى
هللا سبحانه وتعالى .وأن يعرف أن الدنيا بما فيها ال تساوي عند هللا جناح بعوضة،
فيعرف شأن الدنيا وحقارة الدنيا وهوان الدنيا على هللا سبحانه وتعالى ،فال تكون
مستولية على قلبه مسيطرة على نفسه.
وإن َس َّر ْت َي ْو ًماأض َح َك ْت َقل ًيال ْأب َك ْت َكث ًيراْ ، الد ْنيا َأ ْحالم َن ْوم ْأو َكظل زائلْ ،إن ْ «سرور ُّ
ِ ِ ِ ِ
ً ً َّ َ َ َ ً َ ً
وإن َم َّت َع ْت ق ِليال َم َن َع ْت ط ِويال ،وما َمَل ْت دا ًرا َح ْب َرة ِإال َمَل ْت َها َع ْب َرة».
ساء ْت َد ْه ًراْ ،
َ
8
هذا دعاء عظيم ،ملَّا شرح من حالها َّ
وبين من أمرها وذكر من شأنها ،دعا هذه الدعوة
قال:
َ ْ ُ َْ ََ َ
فأ ْسأ ُل َربي أن َي ُحو َل ِب َح ْو ِل ِه َ ...وق َّو ِت ِه َب ْي ِني َو َب ْين اغ ِت َي ِالها
أي :وبين أن تغتالني الدنيا ،الدنيا كم اغتالت من خلق؟! وكم فتن بها من خلق؟! وكم
أهلكت من خلق؟! وكم تزينت من خلق فاغتروا بها واغتالتهم؟! وال خالص من اغتيال
َ
الدنيا وف ْت ِنها للمرء إال باللجوء إلى هللا ،والتعوذ به سبحانه وتعالى من فتنة الدنيا.
وفي صحيح اإلمام البخاري رحمه هللا باب في التعوذ من فتنة الدنيا ،وأورد حديث سعد
َّ
بن أبي وقاص :كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يعلمنا هؤالء الكلمات كما تعلم
الكتابة:
َْ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َّ
الله َّم إني أعوذ َ
بك ِم َن البخ ِل ،وأعوذ بك ِمن الجب ِن ،وأعوذ بك ِمن أن أرد إلى أرذ ِل
َّ َ ِ ((
الد ْن َيا))؛ وع َذاب َ
الق ْبر)) وقيل في معنى قوله(( :ف ْت َنة ُّ الد ْن َياَ ، العمرَ ،وأعوذ َ
بك من ف ْت َنة ُّ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
أي :أن يبيع اآلخرة بما يتعجله في دنياه من :حال ،أو مال ،أو تجارة ،أو غير ذلك.
ومن الدعوات النافعة ما جاء في حديث ابن عمر في السنن :سنن الترمذي والنسائي
وغيرهما ،أن ابن عمر رض ي هللا عنهما قال :كان النبي صلى هللا عليه وسلم يدعو بكلمات
َ
ق َّل ما يقوم من مجلس إال دعا بهن:
يكَ ،وم ْن َط َ
اع ِت َك َما ت َب ِلغ َنا ِب ِه الله َّم ْاقس ْم َل َنا م ْن َخ ْش َيت َك َما َيحول َب ْي َن َنا َو َب ْي َن َم َعاص َ َّ
((
ِ ِ ِ ِ ِ
َّ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ صائب ُّ َج َّن َت َكَ ،وم َن ْال َيقين َما ت َهون به َع َل ْي َنا َم َ
صا ِرنا، اعنا ،وأب ِ م س أبِ ِان ع ت م مهالل نيا، الد ِ ِ ِِ ِ ِ ِ
َ َ ََ ْ
َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ
اج َع ْل ثأ َرنا َعلى َم ْن ظل َم َناَ ،و ْانص ْرنا َعلى َم ْن وقو ِتنا ما أحييتنا ،واجعله الوا ِرث ِمنا ،و
َ َ َ َ ْ َ ْ ُّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ
َع َاداناَ ،وال ت ْج َع ْل م ِص َيبت َنا ِفي ِدي ِننا ،وال تجعل الدنيا أكبر ه ِمنا وال مبلغ ِعل ِمنا ،وال تس ِلط
وأيضا من الدعوات النافعة في هذا الباب ما ثبت في صحيح مسلم، َع َل ْي َنا َم ْن َال َي ْر َحم َنا)) ً
ص َمة َأ ْمريَ ،و َأ ْ
ص ِل ْح ص ِل ْح لي ِديني َّال ِذي ه َو ع ْ الله َّم َأ َّْ
من دعائه عليه الصالة والسالم(( :
ِ ِ ِ ِ
ْ َ صل ْح لي آخ َرتي َّالتي ف َيها َم َعادي َو ْ ََ ْ َ َ َّ
اج َع ِل ال َح َياة -يعني :الدنيا ِ ِ ِ
ْ أ َ َ
اي ال ِتي ِف َيها مع ِاش ي ،و ِ ِ ِ ِلي دني
َ َْ َ َْ َ َ َ ً ً
احة ِلي ِم ْن ك ِل شر)). ِ -زَي َادة ِلي في ك ِل خير ،واملوت ر
أيضا. فالحاصل :أن باب الدعاء هو :مفتاح الخير ،ومفتاح الفرج ،ومفتاح النجاة ً
9
قبل العبد على هللا سبحانه وتعالى بالدعاء :أن يعيذه من فتن الدنيا
فلهذا ينبغي أن ي ِ
وزخرفها ،وأن يصلح له دينه ودنياه وأخراه ،وأن يهديه سواء السبيل ،وهللا سبحانه
وتعالى ال يرد من دعاه وال يخيب من ناجاه سبحانه وتعالى.
قال رحمه هللا تعالى:
َ َ َ َ َ َ َ ُّ ْ َ َّ َّ َ ً َ َ ْ
اط ُل ْب س َو َ
اها ِإ َّن َها َل َوفا ل َها ِ اهدا ...أَلفيا ط ِالب الدنيا الد ِني ِة ج ِ
َْ َ َ َ ََ َْ ْ َف َك ْم َق ْد َ َأ ْي َنا م ْن َ
يص َو ُمش ِف ٍق َ ...عل ْي َها فل ْم َيظف ْر ِب َها أن َينال َها
ِ ٍر ح ر ِ
************
ً ْ
تحذيرا ودها للمسلم ولطالب العلم
في هذين البيتين يقدم نصيحة من أنفع النصائح وأف ِ
قبل على
من الدنيا واالغترار بها ،فهو يقدم هذه النصيحة ألجل أن من بدأت نفسه ت ِ
َ
الدنيا وتفتن بها ،أن يحذر أشد الحذر وأن ينتبه.
ً
اه ًدا»؛ أي :مستغرقا جهده ووقته وهمته وعلمه جالدن َّية َ يقولَ « :ف َيا َطال َب ُّ
الد ْن َيا َّ
ِ ِ ِ ِ
وفطنته وذكاءه ،فانصرف إلى هذه الدنيا َّ
وأكب عليها.
ََ ُْ
«أَل اطل ْب ِس َو َاها» ومراده بسواها؛ أي :اآلخرة ،ال تكن من أهل الدنيا وكن من أهل
اآلخرة ،ويكون املرء من أهل اآلخرة بطلب العلم والتفقه في الدين واإلقبال على طاعة
رب العاملين.
ولهذا جاء عن ابن مسعود رض ي هللا عنه أنه قال :منهومان ال يشبعان :طالب علم وطالب
دنيا ،وال يستويان؛ فطالب العلم يزداد رضا الرحمن وطالب الدنيا يزداد من الطغيان.
فطالب العلم يزداد رضا الرحمن ،وتال قول هللا﴿ :إ َّن َما َي ْخ َش ى َّ َ
ّللا ِم ْن ِع َب ِاد ِه ِ
اننس َ ْالع َل َماء﴾[فاطر ،]٢٨ :وطالب الدنيا يزداد من الطغيان ،ثم تالَ ﴿ :ك َّال إ َّن ْاإل َ
ِ ِ
َ َ ْ َ َ َّ ْ ْ
اس َتغ َنى﴾[العلق.]٧ -6 : ليطغى()6أن رآه
ُْ
«اطل ْب ِس َو َاها»؛ أي :اطلب اآلخرة ،وطلب اآلخرة يكون بالعلم والتفقه في دين هللا
ً
والفهم لشرعه سبحانه وتعالى عقيدة وعبادة ،والعمل على إقامة النفس على الطاعة،
واإلقبال على ما فيه رضا هللا سبحانه وتعالى.
10
َ َ َ ََ ُْ
«أَل اطل ْب ِس َو َاها ِإ َّن َها»؛ أي :الدنيا « ِإ َّن َها َل َوفا ل َها» وإنما أمرها وحالها مع أهلها أنها
متاع الغرور؛ أي :الذي يغر أصحابه وأهله ،ثم يزول عنهم فال يبقى لهم.
َ ْ
يص َو ُمش ِف ٍق َعل ْي َها» كم رأينا من أشخاص انشغلوا بالدنيا،ر «ف َك ْم َق ْد َ َأ ْي َنا م ْن َ
ح
َ
ِ ٍ ِ ر
وأصبحت همهم ،وشغلتهم عن الطاعة ،شغلتهم عن الفرائض ،شغلتهم عن العبادات،
شغلتهم عن التقرب إلى هللا ،شغلتهم عن أعمال الخير والبر.
ً َ ََ ْ َ َْ ْ َ َ ْ ََ َ
«فلم يظفر ِبها أن ينالها» وإن نال منها شيئا ذهب هذا الش يء عنه أو ذهب هو عن هذا
الش يء الذي ظفر به من الدنيا.
قال رحمه هللا تعالى:
َ
ض ْر ِب ِمث ِال َها اح ب َ ونس َ ...وفي ْال َك ْهف إ َ
يض ٌ َُ ُ
يو يدد ح َل َق ْد َج َاء في آي ْال َ
ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ ِ
ُ َ َ َ َْ َ
اط ٍرَ ...و ِفي غا ِف ٍرق ْد َج َاء ِت ْب َيان َح ِال َها
ور ِة ف ِان َو ُس َ َو ِفي ِآل ِعمر
َ
وج ٍب َِل ْع ِتز ِال َها م يث ُ د ح اْل ْح َقاف َأ ْع َظ ُم َواعظ َ ...و َك ْم م ْن َ َ ُ َ َْ
و ِفي سور ِة
ِ ٍ ِ ِ ِ ٍ ِ
**************
هذه األبيات الثالثة تكاد تكون أعظم ما في هذا النظم ،وأهم ما احتوى عليه في التزهيد
في الدنيا ،وبيان حالها ،وأنها متاع الغرور وأنها متاع زائل وبيان األمثال التي تكشف حال
هذه الدنيا حتى يتيقظ العباد ويتنبهوا.
ففي هذه األبيات الثالثة وهي أعظم ما احتوت عليه هذه املنظومة بيان لحال الدنيا من
خالل ما جاء في النصوص واإلشارة إلى األدلة :كالم هللا وكالم رسوله صلوات هللا وسالمه
وبركاته عليه.
ففي البيت األول من هذه األبيات الثالثة يقول:
َ اح ب َ
ض ْر ِب ِمث ِال َها ونس َ ...وفي ْال َك ْهف إ َ
يض ٌ َُ ُ
يو يدد َل َق ْد َج َاء في آي ْال َ
ح
ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ ِ
يقول :في هذه السور الثالث :سورة الحديد ،وسورة يونس ،وسورة الكهف جاء فيها آيات
ضرب فيها مثال لحال الدنيا ،وأن طالب العلم ينبغي حتى يعرف حال الدنيا أن ينظر في
تلك اآليات ،وأن يتأمل في معانيها ،وأن ينظر ً
أيضا في كالم املفسرين رحمهم هللا تعالى في
11
هذه اآليات حتى يعرف حقيقة الدنيا بهذه األمثلة التي ضربها هللا سبحانه وتعالى في هذه
اآليات.
•أما آية الحديد :فقول هللا سبحانه وتعالى:
َْ َ َْ ََ َ َ ُّ َ َْ َ ْ
الد ْن َيا ل ِعب َول ْهو َو ِز َينة َوت َفاخر َب ْي َنك ْم َوتكاثر ِفي األ ْم َو ِال َواأل ْوال ِد اعلموا أ َّن َما ال َح َياة ﴿
َ ْ َ
ص َف ًّرا ث َّم َيكون حط ًاما َو ِفي اآل ِخ َر ِة َعذاب َك َم َثل َغ ْيث َأ ْع َج َب ْالك َّف َار َن َباته ث َّم َيهيج َف َت َراه م ْ
ِ ِ
َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُّ ْ َ َّ َ َ ْ َ
ور﴾[الحديد.]٢٠ :ِ ر غ ال اع ت م الإِ اي ن الد اة ي ح ال امو انو ض رِ و ّللا
ِ ن م
ِ ةرفِ غ م و يد د
ِ ش
َْ جداَّ ، فهذا مثل عظيم ًّ
وصدره هللا جل في عاله بقوله﴿ :اعلموا﴾ واعلموا أو اعلم هذه
كلمة تنبيه يؤتى بها بين يدي األمور العظيمة املهمة التي ينبغي أن يتنبه لها املرء وأن
يحسن فهمها.
َ ْ ُّ َ َ ْ َ َ َّ َ ْ
﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا﴾؛ أي :مثل الحياة الدنيا.
َْ َ َْ ََ َ َ ُّ َ َْ َ ْ
الد ْن َيا ل ِعب َول ْهو َو ِز َينة َوت َفاخر َب ْي َنك ْم َوتكاثر ِفي األ ْم َو ِال َواأل ْوال ِد اعلموا أ َّن َما ال َح َياة ﴿
َ َ َ
ك َمث ِل غ ْيث﴾ فهذه حال الدنيا!
ُّ َ
الد ْن َيا ل ِعب﴾؛ أي :مشغلة ألبدان الناس تضيع فيها األبدان واألوقات باللعب. ﴿
َ َ
﴿ َول ْهو﴾ للقلوب؛ ملهية للقلب وشاغلة له ،وصارفة له عما خلق ألجله فهي﴿ :ل ِعب
َ
َول ْهو﴾ لعب باألبدان :فاألبدان تنصرف إلى الدنيا واملتعة بزخرفها ،والقلوب تلهو بهذه
الدنيا وتنشغل بها حتى تصبح هي أكبر هم اإلنسان ومبلغ علمه ﴿ َو ِز َينة﴾ زينة في امللبس،
وزينة في املركب ،وزينة في املسكن ،وزينة ...أشياء تأسر اإلنسان وربما تستولي ً
أيضا على
همته ومقصده فيصبح ليس له هم إال ذلك.
َ
﴿ َوت َفاخر َب ْي َنك ْم﴾ كل ما كثر ش يء من الدنيا عند اإلنسان أخذ يفخر به على اآلخرين،
ويتعالى فيه على اآلخرين ،وأنه أفضل منهم ،وأحسن من فالن وأوسع وأكثر وأعز ،ونحو
ذلك من عبارات التفضيل.
َّ َ َْ َْ َ َْ ََ
التكاثر(َ )١ح َّتى ﴿ َوتكاثر ِفي األ ْم َو ِال َواأل ْوال ِد﴾ هذه كلها ملهيات مثل ما قال هللا﴿ :أل َهاكم
َْ
ز ْرتم امل َق ِاب َر﴾[التكاثر.]٢ -١ :
12
َ ْ َ َ َ َ
﴿ك َمث ِل غ ْيث أ ْع َج َب الك َّف َار ن َباته﴾[الحديد]٢٠ :؛ يعني :كمثل مطر نزل على أرض أصابها
القحط والجذب ،فأنبتت من كل زوج بهيج ،فأعجب الكفار نباته ،واستولى على قلوبهم
ما في هذا الزخرف وما في هذه األرض من زينة وجمال أسر القلوب.
َ ﴿ َأ ْع َج َب ْالك َّف َار َن َباته ث َّم َيهيج َف َت َراه م ْ
ص َف ًّرا ث َّم َيكون حط ًاما﴾[الحديد ]٢٠ :إذا أردت أن ِ
تعرف هذه الدنيا من خالل هذا املثل انظر إلى األرض في الربيع ثم إذا انقض ى الربيع
ً ً
أيضا مرة أخرى .هذا مثل يوضح لك الدنيا ضربه رب العاملين سبحانه وتعالى. انظر إليها
َ ً
فتجد مثال أرض في الربيع إذا نزلت األمطار اخضرت وزانت وجملت ألهلها وطاب النظر
إليها ،وال تمَل عين املرء :ينظر ويعيد النظر ،ويبتهج وي َسر باملناظر الجميلة.
ثم إذا جئت إلى نفس األرض بعدها بشهر أو بشهرين ربما ما يطيق النظر إليها من الجذب
الذي أصابها ،وال يجد فيها ش يء يشد نظره أو يبهج قلبه أو يؤنسه.
هذا مثل للدنيا ،هذا مثل ضربه رب العاملين سبحانه وتعالى للدنيا في أمر يشاهده الناس
بين حين وآخر وبين وقت ووقت.
ونس»؛ أي :وفي سورة يونس ،وهو مثل ً َُ ُ
أيضا ضربه قال رحمه هللا« :وي ٍ
الد ْن َيا َك َماء َأ َنزْل َناه ِم َن َّ
الس َم ِاء هللا سبحانه تعالى في هذه السورة ،قال﴿ :إ َّن َما َم َثل ْال َح َياة ُّ
ِ ِ
َ ْ ََ َ ََ َْ
األ ْ
ض﴾[يونس]٢4 :؛ أي :أنبتت األرض ملا نزل هذا املاء ورويت األرض ِ ر فاختلط ِب ِه نبات
األ ْن َعام﴾[يونس ]٢4 :أنبتت ً َّ َ ْ َ ْ
نباتا صالح لإلنسان يأكله ويلذ بأكله أنبتت ﴿ ِم َّما َيأكل الناس و
وأيضا لتأكل األنعام منه ،وقل مثل هذا عندما تجمل األرض بالربيع ،فتصبح األرض فيها ً
وأيضا األنعامالربيع الجميل والزروع تجد اإلنسان يجد فيها ما يأكل ويلذ ويطيب لهً ،
تأكل منها وتشبع .هذا حال الدنيا في تزينها وتجملها للمرء .ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال:
َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َْ
ون َعل ْي َها﴾؛ يعني :أن هذا﴿ َح َّتى ِإذا أخذ ِت األ ْرض زخرف َها َوا َّزَّين ْت َوظ َّن أ ْهل َها أ َّنه ْم ق ِادر
َ َ َ َ ْ َ َ ْ ً َ ْ َ َ ً َ َ َ ْ َ َ َ ً َ َ َّ ْ َ ْ َ ْ َ
األ ْ
س ش يء يستمر لهم ويبقى ﴿أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلناها ح ِصيدا كأن لم تغن ِب ِ
م
ون﴾[يونس ]٢4 :وهذا دعوة من رب العاملين أن نتفكر في َك َذل َك ن َفصل ْاآل َيات ل َق ْوم َي َت َف َّكر َ
ِ ِ ِ ِ
مثل هذه اآليات ،وأن نتأمل في مثل هذه األمور املوقظة املحيية للقلوب.
َ َْ
ف»وقوله« :و ِفي الك ْه ِ
13
َ ْ ْ َ َّ َ َ ْ َ َ ُّ َ
الد ْن َيا ك َماء أيضا ضرب هللا سبحانه وتعالى املثال للدنيا بقوله﴿ :واض ِرب لهم مثل الحي ِاة ً
َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ً َ ْ
ان ّللا َعلى الرياح وكِ وهر ذ ض فأصبح ه ِشيما ت
أنزلناه ِمن السم ِاء فاختلط ِب ِه نبات األر ِ
َ
ك ِل ش ْيء ُّم ْق َت ِد ًرا﴾[الكهف ]4٥ :هذه أمثلة اشتملت عليها هذه اآليات توضح حال الدنيا.
َ اح ب َ
َ ٌ
ض ْر ِب ِمث ِال َها»؛ يعني :في هذه اآليات الثالث و ِضحت وب ِينت قال رحمه هللا«ِ :إيض ِ
حال الدنيا بضرب املثال الذي يكشف عن حقيقتها .وهنا ينبغي أن ننتبه أن من فائدة
األمثال املضروبة أنها تقرب املعاني ،وتجعل األمور املعنوية بمثابة األمور املشاهدة
املحسوسة.
ْ َْ َ
جدا في البيان ،وهللا يقولَ ﴿ :و ِتل َك األ ْمثال ولهذا كثرت األمثال في القرآن؛ ألنها نافعة ًّ
َ َّ ْ َ ْ َ َّ
اس َو َما َي ْع ِقل َها ِإال ال َع ِاملون﴾[العنكبوت.]4٣ :
نض ِربها ِللن ِ
قال:
ُ َ َ َْ َ َ ُ َ َ
اط ٍرَ ...و ِفي غا ِف ٍرق ْد َج َاء ِت ْب َيان َح ِال َها
ور ِة ف ِ َو ِفي ِآل ِعمران وس
وأيضا سورة غافر جاء فيها أي :أن هذه السور الثالث :سورة آل عمران ،وسورة فاطرً ،
تبيان حال الدنيا ،وأن املتاع الذي في الدنيا هو :متاع الغرور املتاع الزائل ،املتاع
املنقض ي الذي ال يبقى ألهله.
ْ ُّ ْ َ َّ َ َ ََ ْ ََ
•و آية آل عمران هي :قول هللا عز وجل﴿ :وما الحياة الدنيا ِإال متاع الغر ِ
ور﴾[آل عمران:
.]١٨٥
ْ ََ َ َّ َ ْ َ َّ
ّللا َحق فال تغ َّرَّنكم ال َح َياة د ع و ن إ اس •و آية فاطر هي :قول هللا عز وجلَ ﴿ :يا َأ ُّي َها َّ
الن
ِ ِ
َّ ْ َ ُّ ْ َ َ َ َ َّ
اّلل الغرور﴾[فاطر.]٥ : الدنيا وال يغ َّرنكم ِب ِ
َ
•و آية غافر :قول هللا عز وجل في النصيحة التي قدمها مؤمن آل فرعون قالَ ﴿ :يا ق ْو ِم
ْ ْ َ إ َّن َما َهذه ْال َح َياة ُّ
الد ْن َيا َم َتاع َو ِإ َّن اآل ِخ َرة ِه َي َدار ال َق َر ِار﴾[غافر.]٣٩ : ِِ ِ
فهذه اآليات فيها أن الدنيا :متاع زائل ،متاع الغرور ،متاع فاني .فإذا كان هذا وصف حال
الدنيا فال يغتر اإلنسان ،ال تغره الدنيا؛ ألن املتاع مهما كبر واتسع وعظم هو في نهايته
متاع زائل ال يبقى.
14
اع ٍظ» ولعله وهللا أعلم! يشير إلى ما جاء في أواخرواْل ْح َقاف َأ ْع َظ ُم َ
َ ُ َ َْ
قال« :و ِفي سور ِة
ِ ِ
سورة األحقاف قول هللا عز وجل:
َ َّ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ً ََ
اعة ِمن َّن َهار َبالغ ف َه ْل ي ْهلك ِإال ال َق ْوم ﴿كأ َّنه ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َما يوعدون لم يلبثوا ِإال س
َ ْال َ
اسقون﴾[األحقاف.]٣٥ : ِ ف
هذا أعظم واعظ وأكبر واعظ أن يعرف اإلنسان أنه إذا وقف يوم القيامة
بين يدي هللا العمر الذي عاشه في الدنيا :ستين سنة ،سبعين سنة ،مائة سنة ،أو أقل
أو أكثر ،كأن لم يلبث إال ساعة من نهار.
َّ
يتصرم وينقض ي ويذهب كيف يغر اإلنسان؟! فمثل هذا الوقت القليل الذي سرعان ما
وكيف يستولي على قلبه؟! وكيف تصبح الدنيا هي أكبر همه وهذه حالها؟!
والحاصل أن هذه األبيات وما حوته من معاني وما أشار إليه في مضامينها من أدلة كله
املراد منه :أال تستولي هذه الدنيا على قلب اإلنسان ،وأال تأسر قلبه ،وأال تستحوذ على
نفسه؛ فتصبح هي أكبر همه ومبلغ علمه وغاية مقصوده .تستولي على الوقت ،تستولي
يحصل فيها ما خلق ألجله
على الحياة ،على العمل ،ثم النهاية أنها تنقض ي وتنتهي ،وال ِ
وهو طاعة هللا سبحانه وتعالى ،فتشغله عما خلق ألجله.
سبحان هللا انتبه هنا! الدنيا خلقت ألجل اإلنسان ،هللا سخرها لإلنسان ،وخلقها
لإلنسان ،وسخرها له ،سخر له ما في السموات وما في األرض ،وهيأ له هذه الدنيا.
فال ينبغي لإلنسان العاقل أن ينشغل بما خلق ألجله عما خلق هو ألجله! أال ينشغل بهذه
األشياء التي خلقت ألجل اإلنسان عما خلق اإلنسان ألجله .الدنيا وما فيها خلقت
لإلنسان وسخرها هللا لإلنسان ،فال ينبغي لإلنسان أن تشغله هذه الدنيا عما خلقه هللا
ألجله.
َ َ َ َ ْ ْ َّ َ ْ َ َّ
نس ِإال ِل َي ْعبدو ِن﴾[الذاريات]٥ :؛ أي :خلقهم للعبادة، اإل
قال هللا تعالى﴿ :وما خلقت ال ِجن و ِ
وأوجدهم للطاعة ،واإلقبال على هللا سبحانه وتعالى.
يأت في النصوص منع من الكسب والرزق ،وتحصيل املسكن واملركب
ولم ِ
يأت منعه ،لكن جاء التحذير من الدنيا من أن تفتن اإلنسان ،وتستولي
لم ِ
15
على قلبه ،وتأسر نفسه ،وتصبح هي غاية همه وأكبر مقصده.
ونسأل هللا الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفعنا
أجمعين بما علمنا ،وأن يزيدنا ً
علما ،وأن يصلح لنا شأننا كله ،وأن ال يكلنا إلى أنفسنا
ً ً
مستقيما ،إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء ،وهو أهل طرفة عين ،وأن يهدينا إليه صراطا
الرجاء ،وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أردت أن أقرأ نصين البن القيم فيهما فائدة عظيمة ًّ
جدا ،لكنني أكتفي باإلحالة إليهما،
أما أحدهما ففي كتابه الفوائد ،واألجهزة الحديثة يسرت اآلن الحصول على الفائدة
والوقوف عليها بسرعة.
ففي كتابه الفوائد ذكر رحمه هللا فائدة ،قال« :ال تتم الرغبة في اآلخرة إال بالزهد في
الدنيا ،وال يستقيم الزهد في الدنيا إال بعد نظرين صحيحين» ذكرهما رحمهما هللا فيهما
نفع عظيم ًّ
جدا ،أنصح بقراءته في كتاب الفوائد البن القيم.
وفي طريق الهجرتين ذكر نفس املعنى وزاد عليه أمر ثالث ،قال« :والذي يصحح هذا
ً ً
أمرا ثالثا. الزهد ثالثة أشياء» فذكر الشيئين الذين ذكرهما في كتابه الفوائد وزاد عليهما
ولعل في هذه الطريقة من التشويق للوقوف على كالم ابن القيم أبلغ مما لو قرأته عليكم
هكذا مباشرة ،وأرجو أن يقع تشويقي لكالم ابن القيم في محله ،وأن يرجع الجميع إلى
كالم ابن القيم في الكتابين املشار إليهما.
وصلى هللا وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
16
الدرس الثان
يبين الناظم رحمه هللا تعالى هنا حال أهل الحق والهدى والفضل ،ومن وفقهم سبحانه
وتعالى ،وشرح صدورهم وهداهم إلى صراطه املستقيم ،أنهم نظروا إلى الدنيا ِ«ب َع ْي ِن
ً ً َ
متبصرا متأمال :في حقيقتها، يرة» وهذا النظر هو النافع للعبد؛ أن ينظر إلى الدنيا
ب ِص ٍ
وفي هوانها على هللا تبارك وتعالى وفي سرعة انقضائها وزوالها وأنها متاع الغرور وأنها زائلة
وليست باقية ،وأنها دار عبور وليست دار قرار.
فيذكر رحمه هللا أن أهل الحق والهداية نظروا إلى الدنيا بعين بصيرة فلم تغررهم.
هذا نتيجة النظر والتأمل في حقيقة الدنيا إذا تأمل املرء وأحسن النظر في حقيقتها لم
يغتر بها ولم تغرره.
17
ْ
ِ«باخ ِت َي ِال َها»؛ أي :بزينتها وزخرفها ومتاعها.
ًّ ُ َٰ َ
قال« :أولـ ِئ َك أ ْه ُل هللا َحقا َو ِح ْزُب ُه» أولئك الذين وفقهم هللا عز وجل لهذه املعرفة
ًّ َ
لحقيقة الدنيا فلم تغررهم الدنيا ،لم يغتروا بها وال بزخرفها هؤالء هم« :أ ْه ُل هللا َحقا»
ُّ
املختصون به، واملراد بأهل هللا؛ أي :خاصة هللا :أولياؤه ،أولياء هللا تبارك وتعالى
اختصهم برحمته وعظيم فضله .قد جاء في الحديث في املسند وغيره عن نبينا صلى هللا َّ
ْ َ َّ َ ْ ْ ْ َ َّ َ َ ْ َ َّ َ َ َّ َ عليه وسلم أنه قالَّ :
هللا
اس ،و ِإن أهل القر ِآن أهل ِ
هلل عز وجل أه ِلين ِمن الن ِ ((إن ِ
ِ
اصته)). َو َخ َّ
فالحاصل :أن هؤالء الذين نظروا إلى الدنيا هذا النظر وعرفوا حقيقتها َّ
وخستها وزوالها ِ
وهوانها على هللا لم تغررهم بزخرفها ومتاعها ،فهم أهل هللا ًّ
حقا.
« َو ِح ْزُب ُه»؛ أي :املقربون ،وأولياء هللا سبحانه وتعالى الذين ال خوف عليهم وال هم
يحزنون.
امة َّ
أعدها هللا سبحانه
ً ً ً
س»؛ أي :نزال عند هللا ومثوبة وكر و« َل ُه ْم َجن ُة الف ْر َد ْ
ِ ِ
َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ْ ً َ َ ََ
س ِإرثا ويا لها»؛ أي :يا لها من إرث ،ويا لها
الفردو ِ
وتعالى لهؤالء« .لهم جنة ِ
َْ َ َ َ ً
من نعمة وعطية «إرثا لهم» كما قال هللا سبحانه وتعالى﴿ :أولـ ِئك هم الوا ِرثون﴾[املؤمنون:
َّ
س» ويا و«جن ُة الف ْر َد ْ ]١٠فهؤالء هم الوارثون لهذه َامل ْكرمة العظيمة والنعمة العظيمةَ :
ِ ِ
لها من مكرمة ويا لها من نعمة عظيمة .فهذا قسم ،القسم اآلخر:
قال رحمه هللا:
َ ْ َ ُّ َ َ َ ََ َ َ ََ َ َ
ال ِإل ْي َها آخ ُرون ِل َج ْه ِل ِه ْم ...فل َّما اط َمأنوا أ ْرشق ْت ُه ْم ِن َبال َهاوم
اْل ْخ َر ٰى َو َذ ُاقوا َو َب َالهاَ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ َٰ َ َ ْ ٌ َ ُ َ َ ُ
ي
أولـ ِئك قوم آثروها فأع ِقبوا ِ ...بها ال ِخز ِفي
****************
ْ
هذا قسم آخر غير األول :غرتهم الدنيا ،وفتنوا بزخرفها ،وأل َهتهم م َتعها وسلبت أعينهم
زينتها ،فاغتروا بها ،اغتروا بمتاع الغرور فمالوا إليها ،مالوا إلى الدنيا فأصبحت هي املنية
والبغية ،وهي أكبر الهم ،ومنتهى القصد عند هؤالء.
18
مال هؤالء إليها ِ«ل َج ْه ِل ِه ْم» لجهلهم باهلل سبحانه وتعالى ،وبالواجب في حقه ،ولجهلهم
أيضا بحقيقة الدنيا ،فلم ينظروا إليها نظر األولين ،وإنما فتنوا بالدنيا وفتنوا بزخرفها،ً
فمالوا إليها.
ْ َ ُّ ََ
«فل َّما اط َمأنوا» ملا اطمأنوا إلى هذا الزخرف الزائل واملتاع الفاني ،وظنوا ألنفسهم البقاء
َ َ َ َ
في هذا املتاع وهذا الزخرف «أرشق ْت ُه ْم ِنبالها» والرشق هو :الرمي؛ أي :رمتهم الدنيا
بنبالها؛ فذاك هلك على عصيانه وغروره وإعراضه عن طاعة ربه سبحانه وتعالى ،وذاك
ً
افتتانا بهذه ً
طغيانا بما أوتي من متاع الدنيا وزخرفها ،وذاك سلب عقله وذهب لبه ازداد
ً
محروما من لذة الطاعة وهناءة القربة وقرة العين الدنيا ،وذاك عاش حياته فيها
بالتقرب إلى هللا سبحانه وتعالى ،فأهلكتهم الدنيا أشد الهلكة.
َ َ َ
هذا معنى قوله رحمه هللا تعالى« :أ ْرشق ْت ُه ْم ِن َبال َها»
ُ َ
«أ ْول ِئ َك»؛ يعني :هؤالء القوم.
وها»؛ أي :على اآلخرة ،آثروا الحياة الدنيا ،وأصبحت هي الرغبة ،فليس لهم مراد إال «آثر َ
ُ
َ َ َ ْ ََ ْ َ ﴿من َك َ
ان ي ِريد ال َع ِاجلة َع َّجل َنا له ِف َيها َما نشاء ِملن ُّن ِريد هي ،كما قال هللا سبحانه وتعالىَّ :
ورا﴾[اإلسراء.]١٨ : وما َّم ْدح ً ص َال َها َم ْذم ً
ث َّم َج َع ْل َنا َله َج َه َّن َم َي ْ
فآثروا الدنيا ،فماذا كانت النتيجة؟!
ُْ ْ َُ
«فأ ْع ِق ُبوا ِب َها ال ِخ ْز َي ِفي اْلخ َرى»
ُْ َُ
«فأ ْع ِق ُبوا»؛ أي :كانت العاقبة واملآل :الخزي ِ«في اْلخ َرى»؛ أي :في الدار اآلخرة ﴿ث َّم
ص َال َها َم ْذم ً
وما َّم ْدح ً
ورا﴾[اإلسراء ]١٨ :أعقبوا الخزي في األخرى. َج َع ْل َنا َله َج َه َّن َم َي ْ
ََ ُ ْ َ
«وذاقوا َو َبال َها»؛ الوبال :سوء العاقبة.
ََ ُ ْ َ
«فذاقوا َو َبال َها»؛ أي :باءوا بالعاقبة السيئة واملآل الوخيم يوم الخزي يوم الوقوف بين
يدي هللا تبارك وتعالى.
قال ابن القيم رحمه هللا:
«ومتى رأيت القلب َّ
ترحل عنه حب هللا واالستعداد للقائه َّ
وحل فيه حب املخلوق والرضا
بالحياة الدنيا والطمأنينة بها؛ فاعلم أنه قد خ ِسف به»
19
فإذن هما نظران:
ً عقب ً - ١نظر بصيرة وتأمل َوت َب ُّ
خيرا ويثمر سعادة. صر في الدنيا وحالها؛ في ِ
- ٢ونظر آخر وهو :نظر افتتان بالدنيا وبزخرف الدنيا.
في النظر األول سعادة املرء وفالحه في الدنيا واآلخرة ،وفي النظر اآلخر
عطبه وهالكه في الدنيا واآلخرة.
وقد ذكر اإلمام النووي رحمه هللا تعالى في أوائل ومقدمته لكتابه العظيم النافع :رياض
الصالحين ،ذكر ً
أبياتا وهي تنسب لإلمام الشافعي ،وهي مثبتة ً
أيضا في ديوانه رحمه هللا
تعالى ،وفيها هذا املعنى الذي أشار إليه الناظم قال فيها:
الف َت َنا
ُّ ْ َ َ َ َ ُّ َ ً ََ َّ
هلل ِعبادا فطنا ...طلقوا الدنيا وخافوا ِ ِإن ِ
َن َظروا ف َيها َف َل َّما َعلموا َ ...أ َّن َها َل ْي َس ْت ل َحي َو َطناَ
ِ ِ ِ
َ َْ ً َ
ص ِال َح األ ْع َم ِال ِف َيها سف َنا وها ل َجة َو َّاتخذوا ... َج َعل َ
فهؤالء أهل النظر الثاقب والبصيرة النافذة وأهل حسن التأمل؛ فلهم العاقبة الحميدة
واملآل الكريم في الدنيا واآلخرة.
قال رحمه هللا:
َ ُ َ ُ ْ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ َو ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُّ َّ
الس َّم الن ِق َيع ُزَلل َها فقل ِلل ِذين استعذبوها ر يدكم ...سينق ِلب
ُ
ص َر ْم ِح َبال َها ل َي ْل َه ْوا َو َي ْغ َت ُّروا ب َها َما َب َدا َل ُه ْم َ ...م َتى َت ْب ُلغ ْال ُح ْل ُق َ
وم ُت ْ
ِ ِ ِ
****************
َُ
في هذا البيت يقول الناظم رحمه هللا تعالى« :فق ْل»؛ أي :يا من وفقك هللا لحسن البصيرة
واملعرفة بحال الدنيا وعدم االفتتان بها ،قل ملن افت ِتن بالدنيا واستعذبها.
ُ اس َت ْع َذ ُب َ
وها ُر َو ْي َدك ْم» تمهلوا.
ُ
«ق ْل للذ َ
ين ْ
ِ
ُ ُ
«ر َو ْي َدك ْم»؛ أي :تمهلوا وانظروا في العواقب ،إياكم وهذا الطيش ،وهذا السفه وهذا
االفتتان والغرور.
رويدكم؛ تمهلوا ،انظروا في العواقب قبل أن تندموا في موطن ال ينفع فيه الندم.
20
ً ً َ ُ َ «س َي ْن َقل ُب ُّ
عذبا زالال فتنتم به من متع الس َّم الن ِق َيع ُزَلل َها»؛ يعني :هذا الذي ترونه ِ
َ
بزخرفها املعرض عما خلقه هللا ألجله ،يقال له :إلى متى؟! ماذا تنتظر؟!
أتنتظر إلى أن يأتي هذا املوعد ،ويداهمك األجل ،فتبلغ الروح الحلقوم؟!
أتنتظر الى هذا الوقت؟! بادر!
املراد بهذا الكالم الحث على املبادرة إلى التوبة ،واإلنابة ،والرجوع إلى هللا سبحانه وتعالى.
قال رحمه هللا:
َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ٰ ُ ُّ َ ْ
س ِبك ْس ِب َها ...ت َو ُّد ِف َد ًاء ل ْو َب ِن َيها َو َمال َها
ويوم توفى كل ن ٍ
ف
22
َ َ َ َ ْ َ َ ْ َْ ُ ُ
َوتأخذ ِإ َّما ِبال َي ِم ِين ِكت َابها ِ ...إذا أ ْح َسنت أ ْو ِض َّد ذا ِب ِش َم ِال َها
َ َ ْ َ ْ َ ََ ْ َ
َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت َ ...و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها
****************
ً ً
ومذكرا: يقول رحمه هللا تعالى واعظا
َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َّ ٰ ُ ُّ َ ْ
س ِبك ْس ِب َها ...ت َو ُّد ِف َد ًاء ل ْو َب ِن َيها َو َمال َها
ويوم توفى كل ن ٍ
ف
يعني :ولو كان الفداء بنيها ومالها ،تفدي بكل ش يء حتى تنجو من العذاب وسخط الجبار.
فيوم القيامة هو يوم َّتوفى فيه كل نفس ما كسبت .وينبغي على العبد أن يدرك ذلك،
َّ
وأن أيامه وشهوره وأعوامه ،كل ما يقع فيها من أقوال وأعمال محصاة عليه ،ويوفى ذلك
القيامة. يوم
حصلت في هذه الحياة الدنيا ،قال «و َي ْو َم ُت َو َّف ٰى ُك ُّل َن ْفس ب َك ْسب َها»؛ أي :بما كسبت وبما َّ
َ
ٍ ِ ِ
َ َ َّ ََ َ َ
هللا سبحانه وتعالى﴿ :فك ْيف ِإذا َج َم ْع َناه ْم ِل َي ْوم ال َرْي َب ِف ِيه َوو ِف َي ْت ك ُّل ن ْفس َّما ك َس َب ْت
َ َْ َ
َوه ْم ال يظلمون﴾[آل عمران.]٢٥ :
َ َْ َ َ َ َّ
قال عز وجل﴿ :ث َّم ت َوفى ك ُّل ن ْفس َّما ك َس َب ْت َوه ْم ال يظلمون﴾[آل عمران.]١6١ :
ُ َّ َّ َ
﴿ما ك َس َب ْت﴾؛ أي :من عمل؛ ما قدمته في هذه الحياة من أعمال ،كل ذلك «ت َوفى»؛ أي:
وافيا يوم القيامة ،يوم الوقوف بين يدي هللا عز وجل. الجزاء عليه ً
شديدا على تفريطه وتضييعه ،ويود في ذلك اليوم وال ً ندما املعرض الظالم املفرط يندم ً
ِ
فداء أن يفدي نفسه من العذاب وسخط هللا سبحانه ينفعه هذا الو ُّد وهذه الرغبة ،يود ً
َ َ
وتعالى «ل ْو َب ِن َيها َو َمال َها»؛ يعني :لو كان الفداء بنيها ومالها ،كما قال هللا سبحانه وتعالى:
َ َ َ َّ َ َ َ ََ ْ ََ ﴿ي َو ُّد ْامل ْجرم َل ْو َي ْف َ
اب َي ْو ِم ِئذ ِب َب ِن ِيه ( )١١وص ِاحب ِت ِه وأ ِخ ِيه ( )١٢وف ِصيل ِت ِه ال ِتي ِ ذ ع ن م
ِ ي دِ ت ِ
َ
َْ
نج ِيه﴾[املعارج ]١4 -١١ :يود الفداء. ِ ي م األ ْرض َجم ً
يعا ث َّ
ِ ِ ت ْؤ ِو ِيه (َ )١٣و َمن ِفي
األ ْرض َجم ً َْ ين َل ْم َي ْس َتجيبوا َله َل ْو َأ َّن َلهم َّاس َت َجابوا ل َربهم ْالح ْس َنى َو َّالذ َ ين ْ﴿ل َّلذ َ
يعا ِ ِ يفِ ام ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
َ ْ َْ
َو ِمثله َم َعه الف َت َد ْوا ِب ِه﴾[الرعد]١٨ :؛ أي :من عذاب هللا وعقوبته
23
في ذلك اليوم.
َ ً َ«ت َو ُّد ِف َد ًاء»؛ أيً :
فداء لنفسها ،تفدية لنفسها من عذاب هللا تبارك وتعالى «ل ْو َب ِن َيها
َ
َو َمال َها»؛ أي :لو كان الفداء َب ِنيها ومالها .وفي ذلك اليوم الذي هو يوم التوفية :توفية
َ َ َ ْ َ ْ ََْ ُ ُ
«وتأخذ ِإ َّما ِبال َي ِم ِين ِكت َابها ِإذا أ ْح َسنت» وهم من األعمال والجزاء على األعمال قال:
وفقهم هللا سبحانه وتعالى للعمل الصالح ولم يغتروا بالدنيا وزخرفها ،يأخذون كتبهم
بأيمانهم؛ جزاء اإلحسان الذي كان منهم في هذه الحياة الدنيا.
َ ْ َّ َ
«ب ِش َم ِال َها» يكون األخذ للكتاب ِ اإلساءة وهو اإلحسان ضد يعني: ا»؛ ذ « أو ِضد
بالشمال.
َ َ َ ْ َ ََ
﴿فأ َّما َم ْن أو ِت َي ِك َت َابه ِب َي ِمي ِن ِه ف َيقول َهاؤم اق َرءوا ِك َت ِاب َي ْه(ِ )١٩إ ِني ظ َننت أ ِني مالق
ْ
اض َية(ِ )٢١في َج َّنة َع ِال َية()٢٢قطوف َها َدا ِن َية()٢٣كلوا َواش َربوا َه ِن ًيئا
َ َ َْ َ َ
ِحس ِابيه()٢٠فهو ِفي ِعيشة َّر ِ
األ َّيام ْال َخال َية(َ )٢4و َأ َّما َم ْن أوت َي ك َت َابه بش َماله َف َيقول َيا َل ْي َتني َل ْم أ َ
وت
َْ
ي ف مب َما َأ ْس َل ْفت ْ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ ْ َ َ َ ْ َ َ
َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َْ َ َ َ
اض َية(َ )٢٧ما أغ َنى َع ِني َم ِال َي ْه(َ )٢٨هل َك َع ِني ِكت ِابيه()٢٥ولم أد ِر ما ِحس ِابيه()٢6يا ليت َها كان ِت الق ِ
ص ُّلوه()٣١ث َّم في س ْلس َلة َذ ْرع َها َس ْبعو َن ذ َر ً
اعا ِ
يم َ س ْل َطا ِن َي ْه()٢٩خذوه َفغ ُّلوه()٣٠ث َّم ْال َج ِح َ
ِ ِ ِ
اسلكوه﴾ [الحاقة.]٣٢ - ١٩ : َف ْ
ففي ذاك اليوم العظيم تتطاير الصحف؛ فآخذ كتابه باليمين وآخذ كتابه بالشمال.
أيضا تبدو لإلنسان األعمال التي قدمها: وفي ذلك اليوم ً
َ َ ْ َ ْ َ ََ ْ َ
َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت َ ...و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها
َ َ َ
﴿ع ِل َم ْت ن ْفس َّما ق َّد َم ْت َوأ َّخ َر ْت﴾[االنفطار ]٥ :في ذاك اليوم يقف اإلنسان َ
حاضرا ،ويجازى عليه ،فيرى أعماله كلها في كتاب ال يغادر ً على عمله ،ويكون عمله كله
ً ً ً
حاضرا ،ثم يجازى على العمل من أعماله صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ،وكل ذلك يجده
َ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ
﴿ليج ِزي ال ِذين أساءوا ِبما ع ِملوا ويج ِز ال ِذين أحسنوا
ي كما قال هللا سبحانه وتعالىِ :
َ َ
﴿لت ْج َزى ك ُّل ن ْفس ِب َما ت ْس َعى﴾[طه.]١٥ : ْ ْ َ
ِبالحسنى﴾[النجمِ ،]٣١ :
24
فهذا كله مما يدعو العبد إلى التيقظ والتفطن ،وأن يأخذ نفسه بأخذ الحزم والعزم،
يزم زمامه بزمام الحق والهدى ،وأن يحذر أشد الحذر من التفريط والتهاون وأن َّ
والتسويف والتأجيل ،يحذر من ذلك أشد الحذر.
َ َ ْ َ ْ َ ََ ْ َ
َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت َ ...و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها
كل ذلك سيراه ،ويلقاه في كتاب مسطور ،حوى كل ما قدم املرء في هذه الحياة الدنيا من
َ َّ َ َّ ْ
﴿ما َيل ِفظ ِمن ق ْول ِإال ل َد ْي ِه َر ِقيب َع ِتيد﴾[ق.]١٨ : أقوال أو أعمال:
قال رحمه هللا تعالى:
ب َأ ْي ِدي ْال ِك َرام ْال َكا ِتب َين ُم َس َّط ٌرَ ...ف َل ْم ُي ْغن َع ْن َها ُع ْذ ُرها َوج َد ُالهاَ
ِ ِ ِ ِ ِ
ُ َ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َْ َ
اك تلقى َما ِإل ْي ِه َمآل َها هن ِالك تد ِري ِربحها وخسارها ...و ِإذ ذ
َ َ ْ َ ُّ َ
الس َع ِاد ِة َوالتقى ...ف ِإ َّن ل َها ال ُح ْسنى ِب ُح ْس ِن ِف َع ِال َها َفإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ
ِ ِ ِ
َ النعيم َو ُحور َها َ ...و ُت ْح َب ُرفي َر ْو َ َّ َ ُ ُ َ َّ
ض ِات َها َو ِظَل ِل َها ِ ِ ات ِ ِ تفوز ِبجن ِ
َُ َو ُت ْر َز ُق م َّما َت ْش َتهي م ْن َنعيم َها َ ...و َت ْش َر ُب م ْن َت ْ
يم َها َوزَل ِلها ِ ِن س ِ ِ ِ ِ ِ ِ
****************
َّ َْ َ ْ َ
يقول رحمه هللا تعالى«ِ :بأ ْي ِدي ال ِك َر ِام الكا ِت ِبين ُم َسط ٌر»؛ الجار واملجرور هنا متعلق بما
جاء في البيت الذي قبله :قال:
َ َ ْ َ ْ َ ََ ْ َ
َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت َ ...و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها
َّ َْ َ ْ َ
ِبأ ْي ِدي ال ِك َر ِام الكا ِت ِبين ُم َسط ٌر
مسطرا ،س ِطر بأيدي املالئكة الكاتبين كما قال هللا ً ً
مكتوبا فكل ما قدمه العبد يجده
سبحانه وتعالى:
َ َ َّ َ َّ ْ
﴿ما َيل ِفظ ِمن ق ْول ِإال ل َد ْي ِه َر ِقيب َع ِتيد﴾[ق ]١٨ :وهللا سبحانه وتعالى َوكل إلى املالئكة
َ
خصهم بهذا األمرَ ،وكل إليهم كتابة األعمال وتسطيرها ونسخها فيكتبون كل ما الذين َّ
25
مسطرا من أقوال وأفعال، ً ً
مكتوبا قدم يقوله العبد وكل ما يفعله العبد ،فيرى العبد ما َّ
َّ ً
مكتوبا ،كتبته املالئكة بأيديها وسطرته على العبد كل أقواله وأعماله. يجد ذلك
ْ َ
وفي ذلك اليوم الشأن كما قال هللا﴿ :ك ُّل أ َّمة ت ْد َعى ِإلى ِك َت ِاب َها ال َي ْو َم ت ْج َز ْو َن َما كنت ْم
ْ ََْ َ
نسخ ما كنتم تعملون﴾[الجاثية-٢٨ :
َ تَت ْع َملو َن(َ )٢٨ه َذا ك َتاب َنا َينطق َع َل ْيكم ب ْال َح ِّۚق إ َّنا ك َّنا َن ْس َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ً َّ ً َ ْ َ
نسخ﴾؛ أي :مالئكتنا تكتب أعمالكم فتحص ى عليكم مسطرة مدونة مكتوبة ﴿ ،]٢٩نست ِ
حاضرا وحينئذ فاألمر كما يقول رحمه هللا: ً في كتاب يجده العبد يوم القيامة
ُ ْ ََ ْ
«فل ْم ُيغ ِن َع ْن َها ُعذ ُرها َو ِج َدال َها» إذا قامت تعتذر وتجادل فال ينفع يومئذ املعذرة وال
وضيع ،فال يفيد الجدال وال يفيد العذر في ذلك اليوم؛ ألن ذلك فرط َّ ينفع الجدال؛ ألنه َّ
اليوم هو يوم الجزاء ويوم الحساب.
َ َ ل َُ
«هن ِال َك ت ْد ِري ِرْب َح َها َوخ َسا َر َها» هنالك إذا أخذ الكتاب ،ووجد فيه األعمال يقو :
محصاة عليه ،ولم َ ً
يبق إال حلول العقوبة.
َ َ َُ
«هن ِال َك ت ْد ِري ِرْب َح َها َوخ َسا َر َها» هنالك يظهر الرابح الذي ينقلب إلى أهله مسرو ًرا
والخاسر والعياذ باهلل.
ُ َ َ ْ َ َ َْ َ
اك تلقى َما ِإل ْي ِه َمآل َها»؛ أي :ما تؤول إليه؛ ألن ذاك اليوم هو يوم الجزاء: «و ِإذ ذ
انفاملحسن يؤول أمره إلى الفوز باإلحسان ،واملس يء يؤول أمره إلى العقوبة﴿ :ث َّم َك َ
ُّ َ َ َ َ َّ َ َ
السوأى﴾[الروم.]١٠ : ين أ َساءوا عا ِقبة ال ِذ
ْ َ َ ْ َ َّ َ َ
ين أ ْح َسنوا ِبالح ْس َنى﴾[النجم.]٣١ : وفي املحسن قال﴿ :ويج ِزي ال ِذ
َ ْ َ َ ْ ْ َ َّ ْ
اإل ْح َسان﴾[الرحمن.]6٠ : اإلحس ِان ِإال ِ ﴿هل جزاء ِ
َ َ َُ
«هن ِال َك ت ْد ِري ِرْب َح َها َوخ َسا َر َها»؛ هناك الرابح وهناك الخاسر، فصل ذلك قال: ثم َّ
أوال :بالقسم الرابح ،وذكر ما أ َّ ً َّ
عد لهم :املآل الذي يؤول إليه أمرهم؛ ففصل ذلك ،فبدأ
ألن هذا اآلن :األبيات اآلتية كلها تفصيل في املآل :مآل الرابح ،ومآل الخاسر.
أما مآل الرابح فيقول في تبيانه رحمه هللا:
الت َقى َ ...فإ َّن َل َها ْال ُح ْس َنى ب ُح ْسن ِف َع ِالهاَ
َّ َ َ ُّ ْ َ ْ َ ُ ْ َ
ِ ِ ِ ف ِإن تك ِمن أه ِل السع ِاد ِة و
26
ُّ َ
الس َع ِاد ِة َوالتقى» إذا كان العبد من أهل السعادة الذين كتب هللا «فإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ َ
ِ ِ ِ
َ
سبحانه وتعالى لهم السعادة ،وسلك بهم طريق السعادة وأهل املالزمة لتقوى هللا «ف ِإ َّن
َ ْ َ
ل َها ال ُح ْسنى ِب ُح ْس ِن ِف َع ِال َها»
﴿ه ْل َج َزاءين َأ ْح َسنوا ب ْالح ْس َنى﴾[النجم ،]٣١ :وكما قالَ : ﴿و َي ْجز َي َّالذ َ مثل ما قال هللاَ :
ِ ِ ِ
ْ ْ َ َّ ْ
اإل ْح َسان﴾[الرحمن.]6٠ : اإلحس ِان ِإال ِ ِ
فأهل السعادة والتقى لهم عند هللا الحسنى بحسن الفعال التي قدموها في هذه الحياة
َّ َ ُ ُ َ َّ الدنيا .ثم َّ
ات الن ِع ِيم» التي أعدها هللا سبحانه وتعالى فصل في الثواب قال« :تفوز ِبجن ِ
ً
نزال لعباده املتقين وأوليائه املقربين.
ض ِات َهانعم «في َر ْو َ «و ُت ْح َب ُر»؛ أي :ت َّ
«و ُحور َها»؛ أي :ما أعد هللا لهم فيها من الحور العين َ َ
ِ ِ
نعمونَ ،وت ْح َبر؛ أي :ت َّ ضة ي ْح َبر َ ﴿فه ْم في َر ْو َ َ َ
نعم ِ«في ون﴾[الروم]١٥ :؛ أي :ي َّ
ِ َو ِظَل ِل َها»
َر ْو َ
ض ِات َها»؛ أي :روضات الجنة.
َ َ
«و ِظَل ِل َها»؛ أي :يتنعمون ويهنئون ويتلذذون بنعيم الجنة.
َُ « َو ُت ْر َز ُق»؛ أي :في الجنة «م َّما َت ْش َتهي م ْن َنع َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ
يم َها َوزَل ِلها» يمها وتشرب ِمن تس ِن ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ
﴿و ِم َزاجه ِمن ت ْس ِنيم﴾[املطففين.]٢٧ : َ
ُ َ
يم َها َوزَل ِلها َو ُت ْر َز ُق م َّما َت ْش َتهي م ْن َنع َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ
يمها ...وتشرب ِمن تس ِن ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َ َ َ َْ َ َ َ
أي :أنهم يهنئون بنعيم الجنةِ (( :ف َيها َما ال َع ْين َرأ ْت ،وال أذن َس ِم َع ْتَ ،وال خط َر َعلى قل ِب
َ َ َ ْ َ ََ َ َ َ َ
َبشر))﴿ ،فال ت ْعلم ن ْفس َّما أخ ِف َي لهم ِمن ق َّر ِة أ ْعين َج َز ًاء ِب َما كانوا َي ْع َملون﴾[السجدة.]١٧ :
ثم ذكر بعد ذلك أعظم النعيم ،وهو :النظر إلى وجه هللا الكريم سبحانه وتعالى وهو
ْ َّ َ َ
ين أ ْح َسنوا الح ْس َنى َو ِزَي َادة﴾[يونس.]٢6 : ﴿لل ِذالزيادةِ :
فصل بعض الش يء في النعيم :نعيم الجنة ،وما أعده هللا سبحانه وتعالى ألهلها ً
وأيضا َّ
من صنوف النعيم وأنواع ِاملنن.
ثم بعد ذلك انتقل رحمه هللا تعالى للكالم على القسم الثاني وهم :املفرطون املضيعون،
َ ْ َُ ُْْ
«و ِإن تك ِن اْلخ َرى». فأخذ يتحدث عنه عند قوله:
27
ويبقى هذا القدر من َّ
النظم يستكمل بإذن هللا سبحانه وتعالى في لقاء الغد ونسأل هللا
الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفعنا أجمعين بما علمنا
وأن يزيدنا ً
علما ،وأن يصلح لنا شأننا كله ،وأن ال يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ،وأن يهدينا
ً ً
مستقيما ،إنه تبارك وتعالى سميع قريب مجيب. إليه صراطا
صل
سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ال إله إال أنت ،أستغفرك وأتوب إليك اللهم ِ
وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه.
28
الدرس الثالث
أما بعد:
نواصل القراءة في هذه القصيدة الهائية للعالمة حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا
تعالى ،ونسأل هللا عز وجل أن ينفعنا أجمعين ،وأن يلهمنا رشد أنفسنا ،وأن يصلح لنا
شأننا كله ،إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا و ِنعم الوكيل.
الحمد هلل رب العاملين ،وصلى هللا وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين .اللهم اغفر لنا ولشيخنا وملشايخه وللمسلمين واملسلمات يا رب العاملين .قال
رحمه هللا تعالى:
قال اإلمام العَلمة حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا تعالى في القصيدة الهائية في
الترغيب والترهيب:
َ َ ُ َ َْ َ َْ ََ َ
َو ِإ َّن ل ُه ْم َي ْو َم اْل ِز ِيد ْل ْو ِع ًدا ِ ...زَي َادة ُزلف ٰى غ ْي ُر ُه ْم َل َينال َها
َّ َ َ َ ُ
الد ْم ِع كان ْاب ِتَلل َها ال َما ِباظ ٌرَ ...ل َق ْد َط َ ووه إل ٰى َو ْجه ْاإل َلٰـه َن َ َ ُ ٌ
ِ ِ ِ ِ وج ِ ِ
ُ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ َت َج َّل ٰى َل َها َّ
اك الت َج ِلي َج َمال َها يم ُم َس ِل ًما ...فيزداد ِمن ذ الرح ُ
الر ُّب َّ ِ
******************
29
في هذه األبيات الثالثة يذكر الناظم رحمه هللا تعالى النعيم العظيم الذي هو أكمل
يكرم هللا سبحانه وتعالى به أهل اإليمان في جنات النعيم أال وهو ُّ
النعيم وأتمه ،والذي ِ
النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.
َ
قالَ « :و ِإ َّن ل ُه ْم»؛ أي :أهل الجنة.
َ َ ُ َ َْ َ َْ ََ
َي ْو َم اْل ِز ِيد ْل ْو ِع ًدا ِ ...زَي َادة ُزلف ٰى غ ْي ُر ُه ْم َل َينال َها
ويشرفهم بالنظر ِإليه ِ املراد بيوم املزيد :يوم الجمعة ،وفيه يكرمهم هللا سبحانه وتعالى،
َّ سبحانه وتعالى ،كما جاء في مسند َّ
البزار ومعجم الطبراني وغيرهما في الحديث عن نبينا
َْ ََ ْ َ ْ
اآلخ َر ِة َي ْو َم امل ِز ِيد)).
عليه الصالة والسالم ،وفيه أن جبريل قال(( :ونحن ندعوه ِفي ِ
اآلخ َر ِة))؛ يعني :يوم الجمعة :يوم املزيد .وجاء في الحديث أن هللا ََ ْ َ ْ
((ونحن ندعوه ِفي ِ
نظرا إلى وجه هللا سبحانه وتعالى يزيد املؤمنين في ذلك اليوم من الكرامة؛ فيزدادون فيه ً
سبحانه وتعالى.
َ ََ َ
قالَ « :و ِإ َّن ل ُه ْم َي ْو َم اْل ِز ِيد ْل ْو ِع ًدا»
ً َ َْ
يادة على النعيم واإلكرام ،الذي ُّ
يمن هللا سبحانه وتعالى به عليهم في « ِزَي َادة ُزلفى»؛ أي :ز
ً َ َ َ َ َ َْ َ َ َ
الجنة ،فـِ (( :ف َيها َما ال َع ْين َرأ ْت ،وال أذن َس ِم َع ْتَ ،وال خط َر َعلى قل ِب َبشر)) زيادة على
حسنوا الحسنى ذين َأ َ
ذلك يكرمهم هللا بالرؤيا .وفي هذا يقول هللا عز وجل﴿ :ل َّل َ
ِ
َ َ
و ِزيادة﴾[يونس.]٢6 :
وقد جاءت السنة بتفسير الزيادة :بالنظر إلى وجه هللا سبحانه وتعالى الكريم.
ً ً َ َْ
مكانة ً
وقربا ومنزلة. « ِزَي َادة ُزلفى»؛ أي:
َ َّ َ َ ُ َ
«غ ْي ُر ُه ْم َل َينال َها» وفي هذا يقول هللا سبحانه وتعالى﴿ :كال ِإ َّنه ْم َعن َّ ِرب ِه ْم َي ْو َم ِئذ
َ َّ َ
مل ْحجوبون﴾[املطففين ،]١٥ :فال ينال هذه الرؤيا وال يشرف بها إال أهل اإليمان ،فهم من
َّ َ َ وعدوا بذلك(( :إ َّنك ْم َس َت َر ْو َن َرَّبك ْم َي ْو َم ْالق َي َامة ،في َغ ْير َ
ض َّر َاء م ِض َّرةَ ،وال ف ْت َنة م ِضلة)). ِ ِ ِ ِ ِ
30
اظ ٌر» وه إ َلى َو ْجه َ َ َ
ُ ُ ٌ
اإلل ِه نو ِ
ِ ِ «وج ِ
« ُو ُج ٌ
وه»؛ أي :وجوه أهل اإليمان.
اظ ٌر»؛ أي :بأبصارها حقيقة ،كما قال هللا سبحانه وتعالى﴿ :وجوه «إ َلى َو ْجه اإل َله َن َ
و
ِ ِ ِ ِ ِ
َ َ َ ْ َ َّ
اض َرة(ِ )٢٢إلى َ ِرب َها ن ِ
اظ َرة﴾[القيامة.]٢٣ -٢٢ : يوم ِئذ ن ِ
فكم اشتاقت قلوب في الدنيا وتاقت نفوسهم ،وطمعوا غاية الطمع ،وعظم رجاؤهم باهلل
ودعاؤهم إياه سبحانه وتعالى أن يكرمهم بهذا النظر ،م ْؤتسين بنبيهم عليه الصالة
ض َّر َاء م ِض َّرة، الله َّم إني َأ ْس َأل َك َل َّذ َة َّ
الن َظر إ َلى َو ْجه َك ْال َكريم ،في َغ ْير َ َّ
والسالم في دعائه(( :
ِ ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
َّ َ َ
َوال ف ْت َنة م ِضلة)).
َ َّ َ « َت َج َّلى َل َها َّ
يم ُم َس ِل ًما»؛ التجلي :الظهور ،بل هو كمال الظهور« .ت َجلى ل َها»؛
الرح ُ
الر ُّب َّ ِ
أي :لتلك الوجوه؛ فأكرمت بالنظر إلى الرب الكريم.
الرح ُ
يم»؛ ِوذكر هذا االسم هنا :الرحيم؛ ً
تنبيها إلى أن هذه الكرامة العظمى إنما الر ُّب َّ ِ
« َّ
ََ َ ْ
ان ِبامل ْؤ ِم ِن َين َر ِح ًيما﴾[األحزاب.]4٣ :نالوها برحمة هللا ﴿وك
وقد جاء في صحيح مسلم في حديث جابر ،وفيه قال النبي صلى هللا عليه وسلم:
((ف َي َت َج َّلى َله ْم َي ْ
ض َحك)).
َ (( َف َي َت َج َّلى َله ْم))؛ أي :هللاَ ،
((ي ْ
ض َحك))،
31
َ َ ً
وقول الناظمُ « :م َس ِل ًما»؛ أي :عليهم .وهذا جاء في القرآن الكريمَ ﴿ :سالم ق ْوال ِمن َّرب
َ
ضمنه البيت ،قالُ « :م َس ِل ًما» ،وفي اآليةَ ﴿ :سالم
َّر ِحيم﴾[يس ]٥٨ :املضمون الذي في اآلية َّ
َ ً
ق ْوال ِمن َّرب َّر ِحيم ﴾[يس.]٨٥ :
َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ
اك الت َج ِلي»؛ أي :الظهور :ظهور الرب لهؤالء ،فيرونه.«فيزداد ِمن ذ
سنا وجماال ،فكلما كان هذا النظر زاد الحسن والجمال ،وإذا
ً «ج َم ُال َها»؛ أي :يزدادون ح ً
َ
ً َ
رجعوا إلى أهليهم كما جاء في الحديث يقولون لهم(( :ا ْز َد ْد ُّت ْم َب ْع َدنا ح ْس ًنا َو َج َماال)).
َ َ ْ َ َّ ً
اض َرة(ِ )٢٢إلى َ ِرب َها
وهذا املعنى أيضا تدل عليه اآلية الكريمة املتقدم ذكرها﴿ :وجوه يوم ِئذ ن ِ
َ
اظ َرة﴾[القيامة.]٢٣ -٢٢ :
ن ِ
َ
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب أن النبي صلى هللا عليه وسلم قالِ (( :إذا
ال هللاَ :ه ْل تريدو َن َش ْي ًئا َأزيدك ْم؟ َف َيقولو َنَ :أ َل ْم ت َنج َنا منََ َ َ َ َ ْ ْ َ َّ ْ َ َّ َ َ
دخل أهل الجن ِة الجنة ،ق
ِ ِ ِ ِ
َ ََ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ
اب ،ف َما أ ْعطوا ش ْي ًئا ض وجوهنا؟ قال :فيكشف ال ِحج النار؟ َأ َل ْم ت ْد ِخ ْل َنا ْال َج َّن َة؟ َأ َل ْم ت َبي ْ
َّ
ِ ِ
عز َّ
وجل)). الن َظر إ َلى هللا َّ َأ َح َّب إ َل ْيه ْم م َن َّ
ِِ ِ ِ ِ ِ
****************
في هذه األبيات يذكر الناظم حمه هللا تعالى ً
شيئا من أوصاف الجنة في ضوء ما دلت ر
عليه النصوص وجاءت به األدلة ،فيقول :أن هذا النعيم الذي يفوز به هؤالء:
32
ْ ْ
« ِب َمق َع ِد ِص ْد ٍق» واملراد بمقعد الصدق :الجنة ﴿ ِإ َّن امل َّت ِق َين ِفي َج َّنات َو َن َهر(ِ )٥4في َم ْق َع ِد
ند َم ِليك ُّم ْق َت ِدر﴾[القمر ]55 - 54 :والجنة سميت :مقعد صدق؛ لحصول كل ما يراد ص ْدق ع َ
ِ ِ
تاما يوصف بهذا الوصف من املقعد الحسن فيها فالش يء التام الذي حصل فيه املراد ًّ
مثل ما يقولون :محبة صادقة ،مودة صادقة ،تعامل صادق.
ْ
« َمق َع ِد ِص ْد ٍق»؛ أي :يجد من يفوز به كل ما يريد من :املقعد الحسن ،والنعيم ،واللذة،
والهناءة ،وقرة العين.
ْ َ ْ
« َح َّبذا ال َج ُار رُّب ُه ْم»؛ وهذا فيه أن املعنى الذي جاء في اآليةِ ﴿ :إ َّن امل َّت ِق َين ِفي َج َّنات
ند َم ِليك ُّم ْق َت ِدر﴾[القمر ]55 - 54 :وفي دعاء مريم ابنة عمران قالت: َو َن َهر()٥4في َم ْق َعد ص ْدق ع َ
ِ ِ ِ ِ
ْ
﴿ َر ِب ْاب ِن ِلي ِع ْن َد َك َب ْي ًتا ِفي ال َج َّن ِة﴾[التحريم ]١١ :اختارت -كما ذكر أئمة التفسير وأهل العلم
-الجار قبل الدار ،قالت :عندك في الجنة؛ فاختارت الجار قبل الدار.
ْ َ ْ
فقولهَ « :ح َّبذا ال َج ُاررُّب ُه ْم»؛ هذا مأخوذ من اآليةِ ﴿ :إ َّن امل َّت ِق َين ِفي َج َّنات َو َن َهر(ِ )٥4في َم ْق َع ِد
ِص ْدق ِع ْن َد َم ِليك م ْق َت ِدر﴾[القمر.]٥٥ - ٥4 :
ََ ُُ َ َ ُ َ َ
ود ل ْم َيخافوا ز َوال َها»؛ أي :الدار التي هي :الجنة ،والتي أكرمهم هللا سبحانه
«ود ِار خل ٍ
وتعالى هي دار خلود ،خالدين فيها أبد اآلباد ،في نعيم ال يحول وال يزول وال ينقطع وال
يفنى.
َ َ ُ َ َ
«ل ْم َيخافوا ز َوال َها»؛ بخالف النعيم الذي يظفر به اإلنسان في الدنيا فإنه عن قريب
ينقطع ويزول ،أما نعيم الجنة فهو نعيم دائم أبدي ،ال يحول وال يزول وال ينقطع.
ون ُه ْم»؛ يعني :في الجنة من الفواكه والطعام ما لذ وطاب ،كما قال « َف َو اك ُه َها م َّما َت َل ُّذ ُع ُي ُ
ِ ِ
َ َ َ َ َ ُّ ْ َ َْ َ ْ
هللا سبحانه وتعالىَ ﴿ :و ِف َيها َما تش َت ِه ِيه األنفس َوتلذ األ ْعين َوأنت ْم ِف َيها خ ِالدون﴾[الزخرف.]٧١ :
َ َ َ َّ ْ َ َف َو اك ُه َها م َّما َت َل ُّذ ُع ُي ُ
ون ُه ْم َ ...وتط ِر ُد اْل ْن َه ُار َب ْين ِخَل ِل َها ِ ِ
33
َْ َ َ
أي :تجري األنهار من خالل هذه الجنة ﴿ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت ِهم األ ْن َهار﴾ كما جاء في غير ما آية
من كتاب هللا سبحانه وتعالى.
َ َ َ ََٰ ُ ُ َ ْ ُ َ
ضون ٍة» كما في اآلية الكريمةَ ﴿ :على سرر َّم ْوضونة (ُّ )15م َّت ِك ِئ َين َعل ْي َها قال« :على سر ٍر مو
َْ ُ َ
ضون ٍة»؛ أي :منسوجة بالذهب والجوهر ،فتكون في م َت َق ِاب ِل َين﴾[الواقعة ]١6 -١٥ :ومعنى «مو
غاية الحسن وتمام الجمال.
َ َ ٰ ُ ُ َ ْ ُ َ ُ َّ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ً َ
اصفا ل َها
على سر ٍرموضون ٍة ثم فرشهم ...كما قال ِفيها ربنا و ِ
َ ٌ َ
« َبطا ِئ ُن َها ِإ ْست ْب َرق»؛ الفرش التي ينامون عليها أو الفرش التي يتكئون عليها بطائنها
َ َ
استبرق كما في قوله سبحانه وتعالى﴿ :م َّت ِك ِئ َين َعلى فرش َبطا ِئن َها ِم ْن ِإ ْس َت ْب َرق َو َج َنى
ْ
ال َج َّن َت ْي ِن َدان﴾[الرحمن.]٥4 :
إذا كان البطائن من إستبرق في غاية الحسن والجمال ،فكيف ظنكم ظواهرها؟! إذا
كانت هذه البواطن فكيف الظواهر؟!
ولهذا جاء عن ابن عباس رض ي هللا عنهما أنه قال في تفسير هذه اآلية :فما الظن
بالظواهر؟ وجاء عن ابن مسعود رض ي هللا عنه في تفسير هذه اآلية قال :هذه البطائن،
فكيف لو رأيتم الظواهر؟ أي أنها في غاية الحسن والجمال
َ َْ
«َل ُمنت َهى ِل َج َم ِال َها»؛ أي :جمال الظواهر؛ إذا كان البطائن من إستبرق فكيف
الظواهر؟! ال منتهى لجمال الظواهر.
َ ً َ َ
ض ِاج ِع َي ْدعون َرَّبه ْم خ ْوفا َوط َم ًعا َو ِم َّما قد قال هللا سبحانهَ ﴿ :ت َت َج َافى جنوبه ْم َعن ْاملَ َ
ِ
َ َ َ ْ َ ََ َ َ َ ْ
َر َزق َناه ْم ي ِنفقون()١6فال ت ْعلم ن ْفس َّما أخ ِف َي لهم ِمن ق َّر ِة أ ْعين َج َز ًاء ِب َما كانوا
34
َ َ َ َ َ
َي ْع َملون﴾[لسجدة ،]١٧ -١6 :وفي الحديث قالِ (( :ف َيها َما ال َع ْين َرأ ْت ،وال أذن َس ِم َع ْتَ ،وال
َ َ َ َْ َ
خط َر َعلى قل ِب َبشر)).
نسأل هللا عز وجل أن يكرمنا أجمعين بدخولها ،والفوز بهذا النعيم ،نسأله تبارك وتعالى
الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
****************
ً ْ َُ ُْْ
قوله رحمه هللاَ « :و ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى» هذا معطوف على ما سبق؛ ألنه في ما سبق ذكر أوال:
الس َع ِاد ِة» ،ثم ذكر أوصاف النعيم الذي أعده هللا ألهل قالَ « :فإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ
ِ ِ ِ
ْ ُ ْ ْ َُ
السعادة ،ثم عطف ،فقالَ « :و ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى»؛ أي :أهل الشقاوة؛ ألن ما سبق هو ما
ُّ َ أعده هللا سبحانه وتعالى ألهل السعادة؛ ألنه قالَ « :فإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ
الس َع ِاد ِة َوالتقى ِ ِ ِ
ْ َُ ُْْ َ َ
ف ِإ َّن ل َها» كذا وكذا إلى آخره .ثم قالَ « :و ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى» األخرى؛ أي :ضد السعادة:
الشقاوة.
ْ َُ ُْْ
« َو ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى»؛ أي :أهل الشقاوة.
ٌ َ
«ف َو ْي ٌل َو َح ْس َرة»؛ أي :ويل لها وحسرة.
35
والويل؛ قيل :الخزي .وقيل :العذاب .وقيل :الهالك .وقيل :واد في جهنم .قد جاءت هذه
ْ َ
اللفظة في مواطن عديدة في الوعيد للمكذبين املعرضينَ ﴿ :و ْيل َي ْو َم ِئذ ِللمك ِذ ِب َين﴾َ ﴿ ،و ْيل
ُّ َ ْ َ
ِللمط ِف ِف َين﴾َ ﴿ ،و ْيل ِلك ِل ه َم َزة مل َزة﴾.
ٌ
« َو َح ْس َرة»؛ أي :ندامة وأسف ،حيث ال تنفع الندامة وال يفيد األسف .ويوم القيامة
ْ َ
يسمى :يوم الحسرة ﴿ َوأ ِنذ ْره ْم َي ْو َم ال َح ْس َر ِة﴾[مريم]٣٩ :؛ ألنهم يتحسرون وتتقطع أفئدتهم
أسفا وندامة ،لكن ال يفيدهم ذلك وال ينفعهم. ً
َ
« َون ُار َج ِح ٍيم»؛ أي :أعدت لهم.
َ َ َ َ َّ َ َ َ
«ما أشد نكالها» النكال :العقوبة ،ما أشد العقوبة التي أعدت لهؤالء أهل الشقاوة في
النار .ثم ذكر بعض األمثلة من ذلك .قال:
َ ُ َل ُه ْم َت ْح َت ُه ْم م ْن َها م َه ٌاد َو َف ْو َق ُه ْم َ ...غ َواش َوم ْن َي ْح ُم َ
وم َس َاء ِظَلل َها ٍ ِ ِ ِ
َ
في هذا البيت جمع رحمه هللا تعالى ما تضمنه قول هللا سبحانه في سورة األعراف﴿ :لهم
َّ َ َ َ َ َ
ِمن َج َه َّن َم ِم َهاد َو ِمن ف ْو ِق ِه ْم غ َواش َوكذ ِل َك ن ْج ِزي الظ ِ ِامل َين﴾ [األعراف.]4١ :
َ
﴿لهم ِمن َج َه َّن َم ِم َهاد﴾؛ أي :فراش ،فالفراش الذي يفترشونه من جهنم.
تلحفون به من فوقهم ً
أيضا من جهنم. ﴿ومن َف ْوقه ْم َغ َواش﴾؛ أي :اللحاف الذي َي ُّ
ِِ ِ
لهم من جهنم مهاد ولهم منها من فوقهم غواش؛ فالفراش الذي يفترشونه هو من جهنم،
َّ َ َ َ
والغطاء الذي يتغطونه من جهنم ﴿ َوكذ ِل َك ن ْج ِزي الظ ِ ِامل َين﴾.
ضمن هذا ما دل عليه قول هللا سبحانه وم َس َاء ِظ ََل ُل َها» َّ
وقوله رحمه هللاَ « :وم ْن َي ْح ُم َ
ِ
الش َم ِال(ِ )4١في َسموم َو َح ِميم(َ )4٢و ِظل ِمن اب حصَص َحاب الش َمال َما َأ ْ وتعالىَ ﴿ :و َأ ْ
ِ ِ ِ
َ َ َّ
َي ْحموم()4٣ال َبا ِرد َوال ك ِريم﴾[الواقعة.]44 - 4١ :
36
َ ُ فقولهَ « :وم ْن َي ْح ُم َ
وم َس َاء ِظَلل َها»؛ أي :الظل الذي يستظلون به ظل من يحموم، ِ
ً
وصفه هللا سبحانه وتعالى بأنه من يحموم ،واليحموم :الدخان شديد السواد .إضافة
َ َ َّ َ َ َّ
إلى ذلك﴿ :ال َبا ِرد َوال ك ِريم﴾؛ ﴿ال َبا ِرد﴾؛ أي :املنزلَ ﴿ ،وال ك ِريم﴾؛ أي :املنظر .فهذا ظالل
هؤالء في جهنم.
ُ ْ َ
ثم قال« :ط َع ُام ُه ُم ال ِغ ْس ِلين» طعامهم؛ أي :الش يء الذي يطعمونه :الغسلين كما قال
َ َ َ َ َّ ْ ْ هللا سبحانه وتعالىَ ﴿ :ف َل ْي َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ
س له اليوم هاهنا ح ِميم()٣٥وال طعام ِإال ِمن ِغس ِلين﴾[الحاقة٣٥ :
.]٣6 -
َ َ ْ َ ُ َْ َط َع ُام ُه ُم ْال ِغ ْس ِل ُين ِف َيها َوإ ْن ُس ُقوا َ ...حم ً
يما ِب ِه اْل ْم َع ُاء كان ان ِحَلل َها ِ ِ
َ َّ َ
أي :تتقطع بشربهم له األمعاء ﴿ َوسقوا َم ًاء َح ِم ًيما ف َقط َع أ ْم َع َاءه ْم﴾[محمد ،]١٥ :ثم ختم
رحمه هللا تعالى ذكره لَلوصاف :أوصاف النار ،أعاذنا هللا عز وجل أجمعين منها وأهلينا
وذرياتنا ،ختمها بقوله:
َ َ ََ َ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ٌ َ
وج َوَل َم ْو ٌت ك َما َل فنا ل َهاأما ِنيهم ِفيها الهَلك وما لهم ...خر
هذه أربعة أمور ذكرها عن حال أهل النار ،وهم في النار يذوقون فيها أشد العذاب:
ْ َ َ
اْلول« :أ َما ِن ُّي ُه ُم ِف َيها ال َهَل ُك»؛ يعني :أكبر أمنية عنده في النار أن يهلك أن يموت ،أن
يقض ى عليه فيموت ،هذه أكبر أمنية.
َ َ َ َ
﴿ َيا ل ْي َت ِني كنت ت َر ًابا﴾[النبأ﴿ ،]4٠ :ال ي ْق َض ى َعل ْي ِه ْم ف َيموتوا﴾[فاطر ]٣6 :فأمنيته أن يموت،
ُ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ َ
هذه «أما ِنيهم ِفيها الهَلك».
َ
وج»؛ أي :من النار كما قال هللا سبحانهَ ﴿ :و َما هم ِبخا ِر ِج َين ِم َن الثانيَ « :و َما َل ُه ْم ُخ ُر ٌ
َّ
الن ِار﴾[البقرة.]١6٧ :
َ َّ َ َ
ين ك َفروا أيضا في آيات منها قول هللا سبحانه﴿ :وال ِذ واْلمرالثالثَ « :وََل َم ْو ٌت» وهذا جاء ً
َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ
له ْم نار َج َه َّن َم ال ي ْق َض ى َعل ْي ِه ْم ف َيموتوا َوال يخ َّفف َع ْنهم ِم ْن َعذ ِاب َها كذ ِل َك ن ْج ِزي ك َّل
37
َ ِّۚ َ َ َ َّ ص َطرخو َن ف َيها َرَّب َنا َأ ْخر ْج َنا َن ْع َم ْل ََكفور(َ )٣6وه ْم َي ْ
ص ِال ًحا غ ْي َر ال ِذي ك َّنا ن ْع َمل أ َول ْم ن َع ِم ْركم ِ ِ ِ
َّ َ َ َّما َي َت َذ َّكر فيه َمن َت َذك َر َو َج َاءكم َّ
َّ
الن ِذير فذوقوا ف َما ِللظ ِ ِامل َين ِمن َّن ِصير﴾[فاطر.]٣٧ - ٣6 : ِ ِ
َ َ ََ َ
«ك َما َل فنا ل َها»؛ أي :أن هذه النار :نار هؤالء الكفار ال تفنى ،بل هي باقية أبد اآلباد،
ين ِف َيهاوهم مخلدون في هذا العذاب أبد اآلباد ،كما جاء في غير آية من القرآنَ ﴿ :خالد َ
ِِ
َ
أ َب ًدا﴾[النساء.]٥٧ :
****************
ً
ملا ذكر رحمه هللا تعالى -فيما تقدم -ما أعده هللا ألهل السعادة ،وذكر جملة من أوصاف
ً ً
مشيرا في كل نعيم الجنة ،وما أعده هللا ألهل الشقاوة ،وذكر جملة من أوصاف النار،
ذلك إلى ما قد دلت عليه األدلة.
سس ُ
واه َما» للنف َ ْ
ً َ َ َّ ْ ُ ْ ْ ً ً
س لي َ ِِ لق نِ يلح م« :اومذكر ا وواعظا ً
ومنبه ناصحا قال رحمه هللا تعالى
إما هذا أو هذا ،يجب على كل إنسان أن ينصح لنفسه؛
ألن هذه الدار ال بد من االنتقال إليها واالرتحال إليها ،وليس فيها إال محلين ال بد من
أحدهما.
سس ُ
واه َما» إما الجنة أو ومذكرا ً َ ْ ً ً َ َ َّ ْ ُ ْ َّ ْ
ومنبها «لي َ ِ ً ناصحا وواعظا س»؛ أي: «محلي ِن قل ِللن ِ
ف
الس ِع ِير﴾[الشورى ]٧ :ليس هناك محل ثالث ،ال يوجد بعد النار ﴿ َفريق في ْال َج َّن ِة َو َفريق في َّ
ِ ِ ِ ِ
االرتحال إلى الدار اآلخرة إال أحد هذين املحلين :إما إلى الجنة ،وإما إلى النار.
سس ُ
واه َما»؛ يعني :ال يوجد محل ثالث سوى هذين املحلين .إذن فماذا علينا؟! َْ
« لي َ ِ
38
َ َ َ ََْ ْ َ َْ
ناصحاِ « :لتك ِس ْب أ ْو فلتكت ِس ْب َما َب َدا ل َها» فإن هللا سبحانه وتعالى يقول﴿ :ل َها َما ً قال
َْ َ َ
ك َس َب ْت َو َعل ْي َها َما اكت َس َب ْت﴾[البقرة.]٢٨6 :
َْ
« ِلتك ِس ْب»؛ أي :الحسنات ،تكسب الحسنات والطاعات والق َرب التي يفوز اإلنسان
بفعلها بالجنات والدرجات العالية في الجنة.
َ ََْ ْ َ
«أ ْو فلتكت ِس ْب»؛ أي :السيئات املوجبة لسخط الجبار ودخول النار ،فإن األمر كما قال
َ َ َ
هللا﴿ :ل َها َما ك َس َب ْت﴾[البقرة]٢٨6 :؛ أي :من خير؛ فلها أجره وثوابهَ ﴿ ،و َعل ْي َها َما
َ َْ َْ
اكت َس َب ْت﴾[البقرة]٢٨6 :؛ أي :من شر؛ فعليها وزره وعقابه .هذا أو هذا « ِلتك ِس ْب أ ْو
َ ََْ ْ َ
فلتكت ِس ْب َما َب َدا ل َها»
َ ْ َ َّ َ َ
ين أ َساءوا ِب َما َع ِملوا َو َي ْج ِز َي فإن املوعد للمجازاة على األعمال يوم لقاء هللا ﴿ ِليج ِزي ال ِذ
ْ َّ َ َ
ين أ ْح َسنوا ِبالح ْس َنى﴾[النجم ،]٣١ :فهذا نصح عظيم من الشيخ رحمه هللا تعالى في أن ال ِذ
العبد إذا تأمل في هذه املواعظ وهذه
التذكيرات وما حواه ما سبق من ترغيب وترهيب ورجاء وخوف ورغبة ورهبة ،ينتبه! وينبه
نفسه ،ويذكرها باملصير واملآل ،وأن األمر يوم القيامة ما ثمة إال جنة ونار ،والجنة لها
أعمال والنار لها أعمال.
َ ََْ ْ َ َْ
« ِلتك َس ْب أ ْو فلتكت ِس ْب» واحدة منها :إن كسب األعمال الصالحة فاز بثوابها وأجرها،
سوإن اكتسب والعياذ باهلل! السيئات فاز بعقوبتها ووزرها ،وال تنفع األمانيَّ ﴿ :ل ْي َ
ب َأ َما ِنيك ْم َوَال َأ َما ِني َأ ْهل ْال ِك َتاب َمن َي ْع َم ْل س ً
وءا ي ْج َز ِب ِه﴾[النساء ،]١٢٣ :ثم ختم رحمه هللا ِ ِ ِ ِ ِ
تعالى هذا النظم النافع املفيد بقوله:
َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ ُ َٰ َ ْ
س َج َّوزت وتخففت ...فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها
فطوبى ِلن ٍ
ف
ْ َ ْ ْ
النظم إلى أوله؛ ألنه بدأ النظم بقولهَ « :و َما ِلي َو ِل ُّلدن َيا َول ْي َست ُببغ َي ِتي»
وفي هذا رد آلخر َّ
فختم بهذا البيت برد َعجز هذا النظم وآخره إلى صدره وأوله.
39
َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ُ َٰ َ ْ
س َج َّوزت وتخففت
قال :فطوبى ِلن ٍ
ف
وب ٰى»؛ أي :حال طيبة كريمة ومآل طيب وكريم في جنات الرضوان والفوز العظيم « ُط َ
الص ِال َح ِ َ َ ْ َ ْ َ
ات طوبى لهم وحسن مآب﴾[الرعد.]٢٩ :
ين َآمنوا َو َعملوا َّ املقيم ﴿ َّالذ َ
ِ ِ
َ ْ َ ُ َٰ َ ْ
س»؛ أي :تنبهت وتيقظت ،ولم تغتر بهذه الحياة الدنيا وزخرفها « َج َّوزت «فطوبى ِلن ٍ
ف
جوزت؛ التجوز هو :التخفيف ،فلم تنهمك في هذه الدنيا وتكون حالها حال َوت َخ َّف َف ْت» َّ
الغافلين ،الذين ال هم لهم إال الدنيا ،فهي
شغلهم الشاغل ،وهمهم العظيم ،وهي أكبر همهم ،ومبلغ علمهم ،ومنتهى مقصودهم،
فسلم من ذلك.
ِ
َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ُ َ َْ
س َج َّوزت وتخففت» جوزت في هذه الدنيا ،وتخففت من هذه الدنيا ولم
«فطوب ٰى ِلنف ٍ
تنهمك فيها وفي زخرفها ومتعها.
ََْ
«فتن ُجو»؛ أي :يوم اللقاء.
ً ََ ً َ َ َ َ
سواء بسواء ،ال يوجد موجب للعقاب ،وال ً «كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها» يقال :كفافا؛ أي:
ً ََْ َ َ ً َ َ َ َ
أيضا موجب للثواب .هذا معنى كفافا «فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها» يوجد ً
ولعل مما يعين إعانة تامة في فهم املعنى الذي يشير إليه رحمه هللا تعالى أن نتأمل في
حديث خرجه الترمذي في جامعه ،وقال عنه األلباني رحمه هللا :صحيح اإلسناد ،من
ً
حديث أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها :أن رجال قعد بين يدي النبي صلى هللا عليه
وسلم فقال :يا رسول هللا إن لي مملوكين؛ أي :عبيد أرقة ،يكذبونني ويخونونني
ويعصونني ،وأشتمهم وأضربهم ،هذا الذي يكون منهم لي ،وهذا الذي يكون مني لهم،
فكيف أنا منهم؟ كيف يكون أمري من هؤالء؟ هم هذا فعلهم ،وهذا ً
أيضا أنا فعلي في
مقابل ما يفعلون قال النبي عليه الصالة والسالم(( :ي ْح َسب -يعني :يوم القيامة َ -ما
أيضا هذا في جهة أخرى يحسب َ -فإ ْن َك َ
ان وك َو َك َذب َ
وك َوع َقاب َك إ َّياه ْم ً - َخان َ
وك َو َعص َ
ِ ِ ِ
40
َ َ َ ً
ان ك َفافا مساويا لذنوبهم دون زيادة ودون نقصان -ك ً ِع َقاب َك ِإ َّياه ْم ِب َق ْد ِر ذن ِوب ِه ْم -يعني:
ْ َ َ َ َ َ َ
ال ل َك َوال َعل ْي َك))؛ ألن هذه بهذه ،سواء بسواءَ ﴿ .و ِإ ْن َعاق ْبت ْم ف َعا ِقبوا ِب ِمث ِل َما عو ِق ْبتم
ِب ِه﴾[النحل ]١٢6 :هذا سواء بسواء ،ال لك
ْ َ َ َ ً َ َ َ َ وال عليك .قالَ (( :فإ ْن َك َ
ان ك َفافا ال ل َك َوال َعل ْي َكَ ،و ِإ ْن ان ِع َقاب َك ِإ َّياه ْم ِب َق ْد ِر ذن ِوب ِهم ك ِ
ْ َ َ
ان ِع َقاب َك إ َّياه ْم ف ْوق ذن ِوبه ْم اقت َّ َ َ
ضال ل َكَ ،وإ ْن ك َ ً َ
ان ف ْ َ َ
ان ع َقاب َك إ َّياه ْم دون ذنوبه ْم ك َ َك َ
ص ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
تماما فماذا فعل؟ فتنحى الرجل فجعل يبكي ض َل)) استوعب الرجل املعنى ً َله ْم م ْن َك ال َف ْ
ْ
ِ
ضع ْاملَ َواز َ اب هللاَ ﴿ :و َن َ ْ َ
ويهتف فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم(( :أ َما َت ْق َرأ ِك َت َ
ين ِ ِ
َ ْ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ً َ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ
ال ِقسط ِليو ِم ال ِقيام ِة فال تظلم نفس شيئا و ِإن كان ِمثقال حبة ِمن خردل أتينا ِبها وكفى
َ ََ
اس ِب َين﴾[األنبياء ]4٧ :حبة من خردل فكيف بأمور كبيرة؟! ﴿أت ْي َنا ِب َها َوك َفى ِب َنا َ َ
ِبنا ح ِ
شيئا -يعني :من حل في هذا َحاسب َين﴾ ،فقال الرجل :وهللا يا سول هللا! ما أجد لي ولهؤالء ً
ر ِ ِ
خيرا من مفارقتهم ،أشهدكم أنهم أحرار كلهم. األمرً -
فهذا الحديث يوضح لنا املعنى الذي يشير إليه الشيخ رحمة هللا عليه بقوله:
َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ً َ َ َ َ َ ُ َٰ َ ْ
س َج َّوزت وتخففت ...فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها
فطوبى ِلن ٍ
ف
يبقى األمر هنا في هذا الباب أن يسبر املرء نفسه ويتأمل في أعماله .هذا مثال اآلن فقط
يوضح املسألة فيما يتعلق بالرقيق ،لكن قل مثله في البيع في الشراء في الخدم في السائق
في إلى آخره ،في كل ما تتعامل به مع الناس والتعامل مع الناس تعامل مع أجناس في
معادنهم وأخالقهم وصفاتهم فلينظر املرء في هذا الباب ،إن كان صار إلى هذا السبيل
والتجوز والتخفف حتى يكون بهذه الحال :ال عليه وال له ،أو يكون في غاية اليقظة يعمل
نصف؛ ألن الحساب باملوازين مثقال ويتعامل ويكون عنده الخدم وال حرج عليه ،لكنه ي ِ
أحدا على إساءة إن لم يتفضل فإياه والظلم ،فالظلم ظلمات يوم ذرة .وإذا عاقب ً
َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َّ
ّللا ِإ َّنه ال ي ِح ُّب
القيامة ﴿وجزاء س ِيئة س ِيئة ِمثلها فمن عفا وأصلح فأجره على ِ
َّ
الظ ِ ِامل َين﴾[الشورى ]4٠ :هذه مراتب ،املراتب ثالثة:
41
- 1إما أن يجازي باْلثل ،فهذا ال عليه وال له.
نسأل هللا الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهدينا أجمعين
ً ً
مستقيما ،وأن يصلح لنا شأننا كله ،وأن ال يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ،وأن إليه صراطا
يغفر لنا ولوالدينا وملشايخنا ولوالة أمرنا وللمسلمين واملسلمات واملؤمنين واملؤمنات
األحياء منهم واألموات ،إنه تبارك وتعالى سميع قريب مجيب ،سبحانك اللهم وبحمدك،
أشهد أن ال إله إال أنت ،أستغفرك وأتوب إليك ،اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك
نبينا محمد وآله وصحبه.
42