You are on page 1of 42

‫شرح القصيدة اهلائية‬

‫يف الزهد والرتغيب والرتهيب‬


‫للحافظ حكمي رمحه اهلل‬

‫لفضيلة الشيخ‬

‫عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه الل‬

‫الدرس (‪ )1‬إلى الدرس (‪)3‬‬

‫الشيخ لم يراجع التفريغ‬


‫الدرس األول‬

‫الر ِحي ِم‬ ‫ِ‬


‫بِ ْس ِم اهلل َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ً‬
‫محمدا‬ ‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن‬
‫عبده ورسوله صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬اللهم علمنا ما ينفعنا‬
‫وانفعنا بما علمتنا وزدنا ً‬
‫علما‪ ،‬وأصلح لنا شأننا كله وال تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين‪.‬‬
‫اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪ ،‬وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا‪ ،‬وأصلح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لنا آخرتنا التي فيها معادنا‪ ،‬واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير‪ ،‬واملوت راحة لنا من كل‬
‫شر‪ .‬أما بعد‪:‬‬
‫بين أيدينا معاشر الكرام منظومة نافعة وقصيدة مفيدة للعالمة‪ :‬الشيخ حافظ بن‬
‫أحمد بن علي الحكمي اإلمام َ‬
‫العلم‪ ،‬الشهير بحسن التصانيف وجمال املؤلفات وحسن‬
‫املنظومات العلمية املتنوعة في أبواب الشريعة‪.‬‬
‫وما حوته من علم غزير وتقرير نافع‪ ،‬وحسن استدالل وجمال ترتيب ووضوح عبارة‪،‬‬
‫ً‬
‫وأيضا جمال نصح من هذا اإلمام العالمة رحمه هللا تعالى‪ .‬وهذه املنظومة أو القصيدة‪:‬‬
‫الهائية‪ ،‬نظمها رحمه هللا تعالى في باب شريف ومهم من العلم وهو‪ :‬الزهد في الدنيا‬
‫والتحذير من االفتتان بها والتكالب عليها‪ ،‬وأن تكون أكبر هم املرء ومبلغ علمه وغاية‬
‫مقصوده‪.‬‬
‫ً‬
‫وأن من كان كذلك أضرته الدنيا مضرة عظيمة‪ ،‬وكانت سبب هلكته وحرمانه من الخير‪.‬‬
‫والعلماء رحمهم هللا تعالى قد كتبوا كتابات نافعة في هذا الباب ومؤلفات مفيدة‪ ،‬مثل‬
‫اإلمام‪ :‬أحمد‪ ،‬وابن املبارك‪ ،‬ووكيع‪َّ ،‬‬
‫وهناد بن َّ‬
‫الس ِري‪ ،‬وغيرهم فلهم مؤلفات في هذا‬
‫الباب‪ :‬الزهد‪ ،‬وهي مطبوعة ويستفيد منها طالب العلم الفائدة العظيمة‪.‬‬
‫وطالب العلم بحاجة إلى أن يقرأ ما كتبه أهل العلم في هذا الباب من أجل أن تتهذب‬
‫نفسه‪ ،‬وأن يستقيم قلبه‪ ،‬وأن تصلح حاله‪ ،‬وأال يصاب باالفتتان في الدنيا‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫والناظم‪ :‬الشيخ‪ :‬حافظ حكمي رحمه هللا تعالى في أبيات هذه املنظومة قد أحسن وأجاد‬
‫في بيان ما يتعلق بهذا الباب‪ ،‬فمع اختصار هذا َّ‬
‫النظم وقلة األبيات إال أنها حوت ً‬
‫خيرا‬
‫ً‬
‫عظيما‪.‬‬ ‫كثيرا ً‬
‫ونفعا‬ ‫ً‬
‫قدم في هذا َّ‬
‫النظم وغيره من منظوماته ومؤلفاته‬ ‫فنسأل هللا عز وجل أن يجزيه على ما َّ‬

‫يثقل بها موازينه‪ ،‬وأن ينزله املنازل العالية في الفردوس األعلى‪ ،‬وأن‬
‫خير الجزاء‪ ،‬وأن ِ‬
‫يجزيه عنا وعن طالب العلم وعن املسلمين خير الجزاء‪.‬‬
‫ونبدأ مستعينين باهلل طالبين منه املد والعون في القراءة في هذه املنظومة والتعليق عليها‬
‫بما تيسر‪ ،‬وأحب أن أشير قبل التعليق أن الشيخ زيد بن محمد بن هادي املدخلي رحمه‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وهو من أبرز وأشهر طالب الشيخ له تعليق مطبوع على هذه املنظومة‪ ،‬وفيه‬
‫كفاية في توضيح مضامينها وبيان ما حوته من معان عظيمة وإفادات مباركة‪ ،‬وهو‬
‫مطبوع متداول‪.‬‬

‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬وصلى هللا وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪ .‬اللهم اغفر لنا ولشيخنا وملشايخه وللمسلمين واملسلمات يا رب العاملين‪.‬‬
‫قال اإلمام العالمة حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا تعالى في القصيدة الهائية في‬
‫الترغيب والترهيب‪:‬‬
‫َ ُ ََ َ‬ ‫َو َما لي َول ُّلد ْن َيا َو َل ْي َس ْت ُبب ْغ َيتي ‪َ ...‬وََل ُم ْن َت َه ٰى َق ْ‬
‫ص ِدي َول ْست أنا ل َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ًْ ُ‬
‫اس ِات َها فتنا وق ْب ًحا ِل َح ِال َها‬ ‫َو َل ْس ُت ب َم َّيال إ َل ْي َها َوََل إ َل ٰى ‪ ...‬رَئ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ‬
‫****************‬
‫«و َما لي َول ُّلد ْن َيا َو َل ْي َس ْت ب ُب ْغ َيتي» ً‬
‫مبينا أن‬ ‫َّ‬
‫صدر رحمة هللا عليه هذه األبيات بقوله‪َ :‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الدنيا لم تأسر قلبه‪ ،‬ولم تستحوذ على نفسه كما هو حال كثير من الناس‪ ،‬وال يقول‬
‫ْ‬
‫هذه املقالة‪َ « :‬ما ِلي َو ِل ُّلدن َيا!» إال من فطن لحال الدنيا وما فيها من فتنة وزخرف زائل‬
‫ومتاع الغرور‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ْ‬
‫فصدر أبياته رحمه هللا تعالى بقوله‪َ « :‬ما ِلي َو ِل ُّلدن َيا!» وهذا اللفظ جاء في حديث صح‬
‫َّ‬

‫عن نبينا الكريم عليه الصالة والسالم في مسند اإلمام أحمد وغيره من حديث ابن عباس‬
‫َ‬ ‫رض ي هللا عنهما أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪َ (( :‬مالي َول ُّلد ْن َيا! َما َأ َنا َو ُّ‬
‫الد ْن َيا؟ َّإن َما َمثلي‬ ‫ِ ِ‬
‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ ُّ َ‬
‫اح َوت َرك َها)) فهذه حال العبد في الدنيا‬ ‫الدنيا ك َر ِاكب ظ َّل ت ْحت ِظ ِل ش َجرة ثم ر‬ ‫ومثل‬
‫وإقامته فيها وتمتعه بملذاتها ونحو ذلك‪ ،‬ما مثله إال كمثل رجل استظل في ظل شجرة‬
‫ثم مض ى وانصرف أو راح وتركها‪.‬‬
‫فهذه حال الدنيا!‬
‫فإذن ملاذا تستولي على قلب املرء؟! وملاذا تستحوذ على اهتمامه؟! ملاذا تكون مبلغ علمه‬
‫وغاية مقصوده وهذا مثلها؟!‬
‫َ ْ ْ‬
‫قال‪َ « :‬ول ْي َست ِب ُبغ َي ِتي»؛ أي‪ :‬ليست الدنيا بطلبتي ومقصودي وهمتي‪ ،‬وإنما الهمة‬
‫منصرفة لآلخرة‪ ،‬والرغبة منصرفة لآلخرة‪ ،‬وهي‪ :‬البغية‪ ،‬وهي الرغبة‪ ،‬وهي غاية املنى‪.‬‬
‫« َوََل ُم ْن َت َه ٰى َق ْ‬
‫ص ِدي»؛ أي‪ :‬أن حالي في الدنيا أنها لم تستو ِل على الهمة وال على املقصد‬
‫والغاية‪ ،‬فالقصد رضوان هللا‪ ،‬والفوز بالدرجات العلى في اآلخرة‪ .‬وهذه الدنيا لم تشغل‬
‫عن هذا املقصد العظيم والغاية الجليلة‪.‬‬
‫َ ُ ََ َ‬
‫« َول ْست أنا ل َها» ليست ببغيتي‪ ،‬ولست أنا للدنيا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫« َول ْست ِب َم َّي ٍال ِإل ْي َها» ليس عندي ميل إلى الدنيا‪ ،‬وانشراح صدر إليها‪ ،‬ورغبة في زينتها‬
‫وزخرفها‪ ،‬وال إلى رئاستها‪ ،‬كل ذلك ليس لي فيه همة وال رغبة‪.‬‬
‫َ َ ْ ُ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ٰ َ َ َ ْ ً ُ‬
‫اس ِات َها نتنا َوق ْب ًحا ِل َح ِال َها‬‫ولست ِبمي ٍال ِإليها وَل ِإلى ‪ِ ...‬رئ‬
‫البدء يبين فيه رحمه هللا تعالى ما ينبغي أن يكون عليه حال املسلم الناصح لنفسه‬ ‫فهذا َ‬
‫مع هذه الدنيا‪ ،‬وأال يغتر بمتاعها الزائل وزخرفها الفاني وبهجتها املنقضية‪ .‬فكل فرحة في‬
‫الدنيا تنتهي‪ ،‬وكل عافية في الدنيا تنتهي وكل صحة في الدنيا تنتهي‪ ،‬وكل ً‬
‫غنى في الدنيا‬
‫ينتهي‪ ،‬وكل متاع في الدنيا ينتهي‪ ،‬فال يغتر بها اإلنسان‪.‬‬
‫وال يعني هذا ال في قليل وال كثير أن اإلنسان ال يعمل في تحصيل دنياه ورزقه ومسكنه‬
‫ً‬
‫وملبسه وكسبه‪ ،‬ليس املعنى أن يبقى اإلنسان عالة على اآلخرين‪ ،‬بل يعمل ويكدح‬
‫‪4‬‬
‫ويحصل املال‪ ،‬حتى لو أصبح عنده املال الكثير هذا كله ال يضره‪ ،‬لكن الذي‬ ‫َ‬
‫وينصب‬
‫ِ‬
‫يضر أن تكون الهمة هي الدنيا والبغية هي الدنيا واملقصد هو الدنيا‪ ،‬وأن تكون الدنيا في‬
‫أيضا غاية مقصود اإلنسان ومبلغ علمه؛ ولهذا جاء في الدعاء‬ ‫قلب اإلنسان‪ ،‬وتكون هي ً‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ُّ َ ْ‬
‫الد ْن َيا أك َب َر َه ِم َنا َوال َم ْبل َغ ِعل ِم َنا)) قال‪:‬‬ ‫املأثور عن نبينا عليه الصالة والسالم‪(( :‬وال تجعل‬
‫أكبر همنا ومبلغ علمنا‪.‬‬
‫أما إذا اهتم بالدنيا ال يضره في تحصيل مصالحه وأرزاقه وسكناه وطعامه وشرابه وأن‬
‫ًَ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫يدع أوالده أغنياء (( َّإنك ْإن تذ ْر أ ْوال َد َك أغ ِن َي َاء خ ْي ًرا ِم ْن أ ْن تذ َره ْم َعالة))‪.‬‬
‫ولهذا إذا لم يفهم هذا الباب‪ :‬باب الزهد في الدنيا على وجهه قد يصل باإلنسان إلى‬
‫أيضا لشرع هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫الدخول في نوع من االنحراف واملخالفة ً‬
‫َّ‬
‫وخستها وسرعة زوالها‬ ‫فالحاصل‪ :‬أن اإلنسان ينبغي أن يعرف الدنيا وحقيقتها‬
‫وانقضائها‪ ،‬وأنها ملعونة ملعون ما فيها إال الخير وذكر هللا والعمل الصالح والتقرب إلى‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ .‬وأن يعرف أن الدنيا بما فيها ال تساوي عند هللا جناح بعوضة‪،‬‬
‫فيعرف شأن الدنيا وحقارة الدنيا وهوان الدنيا على هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فال تكون‬
‫مستولية على قلبه مسيطرة على نفسه‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫َ ٌ ََ َ َ ٌ َ ُ‬ ‫ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ه َي َّ‬
‫الد ُار َد ُارال َه ِم َوالغ ِم َوال َعنا ‪ ...‬س ِريع تق ِضيها ق ِر‬
‫يب ز َوال َها‬ ‫ِ‬
‫َ َ ُ َ ُ ْ ٌ َ ُ ْ ٌ ُ ُ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ٌ َ َ ْ ٌ َ َ َُ‬
‫اسيرها عسروحزن سرورها ‪ ...‬وأرباحها خسرونقص كمالها‬ ‫مي ِ‬
‫ص َل َها ‪َ ...‬غب ٌّي َف َيا ُس ْر َع ْانق َطاع و َ‬
‫ص ِال َها‬ ‫ض َح َك ْت َأ َبك ْت َوإ ْن َر َ‬
‫ام َو ْ‬ ‫إ َذا َأ ْ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫****************‬
‫يقول رحمه هللا تعالى في هذه األبيات ً‬
‫مبينا حال الدنيا وحال الناس ً‬
‫أيضا مع هذه الدنيا‪.‬‬
‫ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫يقول‪« :‬ه َي َّ‬
‫الد ُار َد ُارال َه ِم َوالغ ِم َوال َعنا» هذه أمور مجتمعة للناس وحاصلة وال بد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فالدنيا فيها الهموم وفيها املكدرات وفيها املنغصات وفيها اآلالم وفيها األحزان إن أضحكت‬
‫فرحا إال وملئ ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وما ملئ بيت ً‬
‫قليال أحزنت ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‪ ،‬وإن َّ‬ ‫قليال أبكت ً‬‫ً‬
‫ترحا‪ .‬الدنيا‬ ‫سرت‬
‫‪5‬‬
‫فيها الضحك والبكاء‪ ،‬فيها الهم وفيها الحزن‪ ،‬فيها اآلالم‪ ،‬فيها املنغصات‪ ،‬هذه حال‬
‫الدنيا!‬
‫حتى وإن أوتي فيها املال أو أوتي الرئاسات أو أوتي املناصب‪ ،‬أو أوتي ما أوتي من الدنيا؛‬
‫َ‬
‫ال يسلم من هذه األمور‪ :‬الهم والغم والعنا‪ ،‬ال يسلم منها في هذه الحياة الدنيا؛ ألن الدنيا‬
‫هذا شأنها دار الهم والغم والعنا‪ ،‬لكن هذه الهموم والغموم ت َداوى في القلوب‪ :‬بالدين‪،‬‬
‫والشرع‪ ،‬والطاعة هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬والذكر‪.‬‬
‫ولهذا ليس هناك دواء للهموم والغموم إال ذكر هللا واإلقبال على طاعة هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ .‬وهللا كتب الشقاء والغم والهم على من أعرض عن ذكره‪ .‬فإذا أقبل املرء على ذكر‬
‫هللا وعلى طاعته‪ :‬وجد اللذة‪ ،‬وجد الراحة‪ ،‬وجد السعادة‪ ،‬وهناءة القلب‪ ،‬وقرة العين‪.‬‬
‫َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ ً‬ ‫كما قال هللا سبحانه‪َ ﴿ :‬م ْن َعم َل َ‬
‫ص ِال ًحا ِمن ذكر أو أنثى وهو مؤ ِمن فلنح ِيينه حياة‬ ‫ِ‬
‫َ ً‬
‫ط ِي َبة﴾[النحل‪ ]٩٧ :‬فالحياة الطيبة في الدنيا ال تكون إال بالطاعة هلل واإلقبال على هداه‬
‫وذكره وشكره سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ َ َ َ‬
‫اي فال َي ِض ُّل َوال َيش َقى﴾[طه‪]١٢٣ :‬؛ أي‪ :‬يسعد ويهنأ في هذه الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫﴿فم ِن اتبع هد‬
‫َ‬
‫اب َع ْب ًدا َهم َوال‬
‫ص َ‬‫ولهذا تأمل في مداواة الهم والغم‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪َ (( :‬ما َأ َ‬
‫َ َ َ َ َّ‬
‫ال‪ :‬الله َّم ِإني َع ْبد َك‪ ))...‬إلى آخر الدعاء‪ .‬فأرشد إلى أن مداواة الهموم والغموم‬ ‫غم‪ ،‬فق‬
‫إنما هو‪ :‬بذكر هللا‪ ،‬واللجوء إلى هللا‪ ،‬وتالوة القرآن‪ ،‬واإليمان بقضاء هللا وقدره‪ ،‬وإصالح‬
‫املعتقد‪.‬‬
‫َّ‬
‫هذا هو الذي فيه املداواة للهموم والغموم‪ ،‬فقال‪(( :‬الله َّم ِإني َع ْبد َك‪َ ،‬و ْابن َع ْب ِدك‪َ ،‬و ْابن‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َّ َ َ َ َ ْ َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اصي ِتي ِبي ِدك‪ ،‬ماض ِفي حكمك‪ ،‬عدل ِفي قضاؤك‪ ،‬أسألك ِبك ِل اسم هو لك‪،‬‬ ‫أم ِتك‪ ،‬ن ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ ً ْ َ ْ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫اس َتأث ْر َت ِب ِه ِفي ِعل ِم‬ ‫َس َّم ْي َت ِب ِه ن ْف َس َك‪ ،‬أ ْو أ ْن َزل َته ِفي ِكت ِابك‪ ،‬أو علمته أحدا ِمن خل ِقك‪ ،‬أو‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫اب َه ِمي َوغ ِمي‪ِ ،‬إال‬ ‫ص ْدري‪َ ،‬و َذ َه َ‬‫ور َ‬ ‫ْال َغ ْيب ِع ْن َد َك‪َ ،‬أ ْن َت ْج َع َل ْالق ْر َآن ْال َع ِظ َ‬
‫يم َرب َيع َق ْلبي‪ ،‬ون َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫أذ َه َب هللا َه َّمه َوغ َّمه َوأ ْب َدله ف َر ًحا))‪ ،‬وفي رواية‪(( :‬ف َر ًجا))‪.‬‬
‫فهذه األمور املجتمعة في هذا الحديث‪ :‬العقيدة الصحيحة‪ ،‬اإليمان بالقدر‪ ،‬املعرفة‬
‫باهلل وأسمائه وصفاته والتوسل إلى هللا سبحانه وتعالى بها‪ ،‬والعناية بالقرآن واالستشفاء‬
‫‪6‬‬
‫به وأن يكون ربيع قلب اإلنسان ونور صدره‪ ،‬وهذا ال يكون إال إذا اشتغل بالقرآن واعتنى‬
‫به‪.‬‬
‫فهذه األمور هي التي فيها مداواة الهموم‪ ،‬وإال الدنيا ال ينفك املرء فيها عن الهم والغم‬
‫واآلالم والنكد وغير ذلك‪ ،‬وإن أوتي املال وإن أوتي القصور وإن أوتي الحدائق والزهور‬
‫وإن أوتي ما أوتي من الدنيا‪ ،‬فإنه ال ينفك من ذلك وال يسلم منه‪.‬‬
‫َ ٌ ََ َ َ ٌ َ ُ‬ ‫ً‬
‫يب ز َوال َها»‬
‫إضافة إلى هذا أنها كما قال الناظم‪« :‬س ِريع تق ِضيها ق ِر‬
‫ََ‬ ‫مع هذه األشياء التي مجتمعة فيها ً‬
‫أيضا « َس ِر ٌيع تق ِض َيها» سريع ما أن تنقض ي؛ ولهذا‬
‫الرجل فيما أوتي من الدنيا والجاه والرئاسة وما إلى ذلك يفاجأ الناس‪ ،‬يقال‪ :‬فالن مات‪:‬‬
‫انقض ى‪ ،‬أو فالن افتقر‪ ،‬فإما أن تذهب عنه دنياه أو هو يذهب عنها‪.‬‬
‫سواء دنيا كل شخص أو‬ ‫يب َز َو ُال َها» زوالها قريب‪ً ،‬‬ ‫هذه حال الدنيا‪َ « :‬سر ٌيع َت َقض َيها َقر ٌ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ ْ َّ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َّ َّ َ َ‬
‫ّللا وما يد ِريك لعل الساعة‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َّ‬ ‫الدنيا َّ‬
‫برمتها ﴿يسألك الناس ع ِن الساع ِة قل ِإنما ِعلمها ِعند ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تكون ق ِر ًيبا﴾[األحزاب ‪.]6٣‬‬
‫تقضيها قريب زوال الدنيا وانقضاء الدنيا‪ ،‬أمر الدنيا وتقضيها سواء دنيا كل‬ ‫قريب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شخص؛ ألن من مات قامت قيامته ﴿ َو َما ت ْد ِري ن ْفس َّماذا تك ِسب غ ًدا َو َما ت ْد ِري ن ْفس‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫تقض ي الدنيا كلها برمتها هذا أمر ليس ببعيد‪ ،‬بل هو‬ ‫ِبأ ِي أ ْرض تموت﴾[لقمان‪ ]٣4 :‬وأيضا ِ‬
‫ينبه العبد على حال هذه الدنيا‪.‬‬ ‫قريب‪ .‬فهذا كله مما ِ‬
‫ٌ‬
‫اس ُير َها ُع ْس ٌر َو ُح ْزن ُس ُرو ُر َها» ما في الدنيا من أمور ويسر وأشياء من هذا‬ ‫ً ََ‬
‫وأيضا‪« :‬مي ِ‬
‫أيضا وفيها النكد وفيها اآلالم‪ ،‬وفيها املصاعب من قبل تحصيلها ومن‬ ‫القبيل‪ ،‬فيها العسر ً‬
‫بعد تحصيلها وفي وقت تحصيلها‪ ،‬كل ذلك ال ُّ‬
‫ينفك‪.‬‬
‫حصله املرء من الدنيا يعاني معاناة شديدة حتى يحصله في هموم وغموم إلى أن‬ ‫ما ي ِ‬
‫حصله صار في غموم أخرى خوف أن يذهب عنه وأن يذهب من يده‪.‬‬ ‫يحصله‪ ،‬ثم إذا َّ‬
‫ً‬
‫فتجد اإلنسان مثال‪ :‬يطمع في سيارة معينة ويتعب ويجمع لها املال وينصب ويفكر فيها‬
‫حصلها وصارت بيده صار في هم آخر أال تنصدم أال تخرب أال‬ ‫ويهتم ويغتم‪ ،‬ثم إذا َّ‬
‫يصيبه فيها كذا وكذا‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫فما يسلم في أي ش يء من الدنيا‪ ،‬ما يسلم من هذه األمور‪.‬‬
‫ٌ‬
‫اس ُير َها ُع ْس ٌر َو ُح ْزن ُس ُرو ُر َها»‬ ‫ََ‬
‫قال‪« :‬مي ِ‬
‫أيضا يكتنفها ما يكتنفها من أمور يدخل من‬ ‫« ُح ْز ٌن ُس ُرو ُر َها» األمور السا َّرة في الدنيا ً‬

‫حصلها‪.‬‬ ‫خاللها الحزن على قلب من َّ‬


‫َ َ َْ ُ َ ُ ْ ٌ َ َ ْ ٌ َ ُ‬
‫ص ك َمال َها»‬ ‫«وأرباحها خسرونق‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ ُ َ ُ‬
‫حصلها اإلنسان من الدنيا في الغالب أنها‬
‫«أرباحها خسر»؛ ألن األشياء التي يربحها وي ِ‬
‫تكون على حساب دينه وما خلق من أجله إال من وفقه هللا سبحانه وتعالى وهداه‪.‬‬
‫ََْ ٌ َ ُ‬
‫ص ك َمال َها» كمال الدنيا واكتمالها للمرء هذا نقص؛ ألنها تأخذ ش يء وال بد من‬ ‫«ونق‬
‫نصيبه من الطاعة والعبادة والذكر هلل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ‬
‫« ِإذا أضحكت أبكت»؛ إذا أضحكت بما حصله اإلنسان فيها من‪ :‬صحة‪ ،‬أو مال‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫قليال أبكت ً‬
‫كثيرا‪.‬‬ ‫تجارة‪ ،‬أو رئاسة‪ ،‬أبكت‪ .‬إن أضحكت‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َْ َ‬
‫صل َها غ ِب ٌّي»؛ يعني‪ :‬إذا رام وطمع في وصل الدنيا‪ ،‬وأن تكون له «ف َيا ُس ْر َع‬ ‫«و ِإن رام و‬
‫سريعا ما ينقطع هذا الوصال‪ ،‬إن حصل وصال فهو سريع ما‬ ‫ً‬ ‫ْانق َطاع و َ‬
‫ص ِال َها»؛ أي‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ينقض ي وينقطع‪.‬‬

‫يقول ابن القيم رحمه هللا تعالى في زاد املعاد‪:‬‬

‫وإن َس َّر ْت َي ْو ًما‬‫أض َح َك ْت َقل ًيال ْأب َك ْت َكث ًيرا‪ْ ،‬‬ ‫الد ْنيا َأ ْحالم َن ْوم ْأو َكظل زائل‪ْ ،‬إن ْ‬ ‫«سرور ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬ ‫ً َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ ً‬
‫وإن َم َّت َع ْت ق ِليال َم َن َع ْت ط ِويال‪ ،‬وما َمَل ْت دا ًرا َح ْب َرة ِإال َمَل ْت َها َع ْب َرة»‪.‬‬
‫ساء ْت َد ْه ًرا‪ْ ،‬‬
‫َ‬

‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫قال ابن مسعود‪ِ « :‬لك ِل ف ْر َحة ت ْر َحة‪َ ،‬و َما م ِل َئ َب ْيت ف َر ًحا ِإال م ِل َئ ت َر ًحا»‪.‬‬
‫َ‬
‫ان ِم ْن َب ْع ِد ِه بكاء»‪.‬‬ ‫ط إ َّال َك َ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫وقال ابن سيرين‪« :‬ما كان ض ِحك ق ِ‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ََ َ‬
‫فأ ْسأ ُل َرِبي أن ُي ُحو َل ِب َح ْو ِل ِه ‪َ ...‬وق َّو ِت ِه َب ْي ِني َو َب ْين اغ ِت َي ِال َها‬
‫****************‬

‫‪8‬‬
‫هذا دعاء عظيم‪ ،‬ملَّا شرح من حالها َّ‬
‫وبين من أمرها وذكر من شأنها‪ ،‬دعا هذه الدعوة‬
‫قال‪:‬‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ََ َ‬
‫فأ ْسأ ُل َربي أن َي ُحو َل ِب َح ْو ِل ِه ‪َ ...‬وق َّو ِت ِه َب ْي ِني َو َب ْين اغ ِت َي ِالها‬
‫أي‪ :‬وبين أن تغتالني الدنيا‪ ،‬الدنيا كم اغتالت من خلق؟! وكم فتن بها من خلق؟! وكم‬
‫أهلكت من خلق؟! وكم تزينت من خلق فاغتروا بها واغتالتهم؟! وال خالص من اغتيال‬
‫َ‬
‫الدنيا وف ْت ِنها للمرء إال باللجوء إلى هللا‪ ،‬والتعوذ به سبحانه وتعالى من فتنة الدنيا‪.‬‬
‫وفي صحيح اإلمام البخاري رحمه هللا باب في التعوذ من فتنة الدنيا‪ ،‬وأورد حديث سعد‬
‫َّ‬
‫بن أبي وقاص‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يعلمنا هؤالء الكلمات كما تعلم‬
‫الكتابة‪:‬‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫الله َّم إني أعوذ َ‬
‫بك ِم َن البخ ِل‪ ،‬وأعوذ بك ِمن الجب ِن‪ ،‬وأعوذ بك ِمن أن أرد إلى أرذ ِل‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫((‬
‫الد ْن َيا))؛‬ ‫وع َذاب َ‬
‫الق ْبر)) وقيل في معنى قوله‪(( :‬ف ْت َنة ُّ‬ ‫الد ْن َيا‪َ ،‬‬ ‫العمر‪َ ،‬وأعوذ َ‬
‫بك من ف ْت َنة ُّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬أن يبيع اآلخرة بما يتعجله في دنياه من‪ :‬حال‪ ،‬أو مال‪ ،‬أو تجارة‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫ومن الدعوات النافعة ما جاء في حديث ابن عمر في السنن‪ :‬سنن الترمذي والنسائي‬
‫وغيرهما‪ ،‬أن ابن عمر رض ي هللا عنهما قال‪ :‬كان النبي صلى هللا عليه وسلم يدعو بكلمات‬
‫َ‬
‫ق َّل ما يقوم من مجلس إال دعا بهن‪:‬‬
‫يك‪َ ،‬وم ْن َط َ‬
‫اع ِت َك َما ت َب ِلغ َنا ِب ِه‬ ‫الله َّم ْاقس ْم َل َنا م ْن َخ ْش َيت َك َما َيحول َب ْي َن َنا َو َب ْي َن َم َعاص َ‬ ‫َّ‬
‫((‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫صائب ُّ‬ ‫َج َّن َت َك‪َ ،‬وم َن ْال َيقين َما ت َهون به َع َل ْي َنا َم َ‬
‫صا ِرنا‪،‬‬ ‫اعنا‪ ،‬وأب‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫أ‬‫ب‬‫ِ ِ‬‫ا‬‫ن‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫م‬‫ه‬‫الل‬ ‫نيا‪،‬‬ ‫الد‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬
‫َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫اج َع ْل ثأ َرنا َعلى َم ْن ظل َم َنا‪َ ،‬و ْانص ْرنا َعلى َم ْن‬ ‫وقو ِتنا ما أحييتنا‪ ،‬واجعله الوا ِرث ِمنا‪ ،‬و‬
‫َ َ َ َ ْ َ ْ ُّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫َع َادانا‪َ ،‬وال ت ْج َع ْل م ِص َيبت َنا ِفي ِدي ِننا‪ ،‬وال تجعل الدنيا أكبر ه ِمنا وال مبلغ ِعل ِمنا‪ ،‬وال تس ِلط‬
‫وأيضا من الدعوات النافعة في هذا الباب ما ثبت في صحيح مسلم‪،‬‬ ‫َع َل ْي َنا َم ْن َال َي ْر َحم َنا)) ً‬
‫ص َمة َأ ْمري‪َ ،‬و َأ ْ‬
‫ص ِل ْح‬ ‫ص ِل ْح لي ِديني َّال ِذي ه َو ع ْ‬ ‫الله َّم َأ ْ‬‫َّ‬
‫من دعائه عليه الصالة والسالم‪(( :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫صل ْح لي آخ َرتي َّالتي ف َيها َم َعادي َو ْ‬ ‫ََ‬ ‫ْ َ َ َّ‬
‫اج َع ِل ال َح َياة ‪ -‬يعني‪ :‬الدنيا‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫َ َ‬
‫اي ال ِتي ِف َيها مع ِاش ي‪ ،‬و ِ ِ ِ‬ ‫ِلي دني‬
‫َ‬ ‫َْ َ َْ َ َ َ ً‬ ‫ً‬
‫احة ِلي ِم ْن ك ِل شر))‪.‬‬ ‫‪ِ -‬زَي َادة ِلي في ك ِل خير‪ ،‬واملوت ر‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫فالحاصل‪ :‬أن باب الدعاء هو‪ :‬مفتاح الخير‪ ،‬ومفتاح الفرج‪ ،‬ومفتاح النجاة ً‬

‫‪9‬‬
‫قبل العبد على هللا سبحانه وتعالى بالدعاء‪ :‬أن يعيذه من فتن الدنيا‬
‫فلهذا ينبغي أن ي ِ‬
‫وزخرفها‪ ،‬وأن يصلح له دينه ودنياه وأخراه‪ ،‬وأن يهديه سواء السبيل‪ ،‬وهللا سبحانه‬
‫وتعالى ال يرد من دعاه وال يخيب من ناجاه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ َ َ ُّ ْ َ َّ َّ َ ً َ َ ْ‬
‫اط ُل ْب س َو َ‬
‫اها ِإ َّن َها َل َوفا ل َها‬ ‫ِ‬ ‫اهدا ‪ ...‬أَل‬‫فيا ط ِالب الدنيا الد ِني ِة ج ِ‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ ََ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َف َك ْم َق ْد َ َأ ْي َنا م ْن َ‬
‫يص َو ُمش ِف ٍق ‪َ ...‬عل ْي َها فل ْم َيظف ْر ِب َها أن َينال َها‬
‫ِ ٍ‬‫ر‬ ‫ح‬ ‫ر ِ‬
‫************‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫تحذيرا‬ ‫ودها للمسلم ولطالب العلم‬
‫في هذين البيتين يقدم نصيحة من أنفع النصائح وأف ِ‬
‫قبل على‬
‫من الدنيا واالغترار بها‪ ،‬فهو يقدم هذه النصيحة ألجل أن من بدأت نفسه ت ِ‬
‫َ‬
‫الدنيا وتفتن بها‪ ،‬أن يحذر أشد الحذر وأن ينتبه‪.‬‬
‫ً‬
‫اه ًدا»؛ أي‪ :‬مستغرقا جهده ووقته وهمته وعلمه‬ ‫ج‬‫الدن َّية َ‬ ‫يقول‪َ « :‬ف َيا َطال َب ُّ‬
‫الد ْن َيا َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وفطنته وذكاءه‪ ،‬فانصرف إلى هذه الدنيا َّ‬
‫وأكب عليها‪.‬‬
‫ََ ُْ‬
‫«أَل اطل ْب ِس َو َاها» ومراده بسواها؛ أي‪ :‬اآلخرة‪ ،‬ال تكن من أهل الدنيا وكن من أهل‬
‫اآلخرة‪ ،‬ويكون املرء من أهل اآلخرة بطلب العلم والتفقه في الدين واإلقبال على طاعة‬
‫رب العاملين‪.‬‬
‫ولهذا جاء عن ابن مسعود رض ي هللا عنه أنه قال‪ :‬منهومان ال يشبعان‪ :‬طالب علم وطالب‬
‫دنيا‪ ،‬وال يستويان؛ فطالب العلم يزداد رضا الرحمن وطالب الدنيا يزداد من الطغيان‪.‬‬
‫فطالب العلم يزداد رضا الرحمن‪ ،‬وتال قول هللا‪﴿ :‬إ َّن َما َي ْخ َش ى َّ َ‬
‫ّللا ِم ْن ِع َب ِاد ِه‬ ‫ِ‬
‫ان‬‫نس َ‬ ‫ْالع َل َماء﴾[فاطر‪ ،]٢٨ :‬وطالب الدنيا يزداد من الطغيان‪ ،‬ثم تال‪َ ﴿ :‬ك َّال إ َّن ْاإل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ َ َ َّ ْ ْ‬
‫اس َتغ َنى﴾[العلق‪.]٧ -6 :‬‬ ‫ليطغى(‪)6‬أن رآه‬
‫ُْ‬
‫«اطل ْب ِس َو َاها»؛ أي‪ :‬اطلب اآلخرة‪ ،‬وطلب اآلخرة يكون بالعلم والتفقه في دين هللا‬
‫ً‬
‫والفهم لشرعه سبحانه وتعالى عقيدة وعبادة‪ ،‬والعمل على إقامة النفس على الطاعة‪،‬‬
‫واإلقبال على ما فيه رضا هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫َ َ َ‬ ‫ََ ُْ‬
‫«أَل اطل ْب ِس َو َاها ِإ َّن َها»؛ أي‪ :‬الدنيا « ِإ َّن َها َل َوفا ل َها» وإنما أمرها وحالها مع أهلها أنها‬
‫متاع الغرور؛ أي‪ :‬الذي يغر أصحابه وأهله‪ ،‬ثم يزول عنهم فال يبقى لهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫يص َو ُمش ِف ٍق َعل ْي َها» كم رأينا من أشخاص انشغلوا بالدنيا‪،‬‬‫ر‬ ‫«ف َك ْم َق ْد َ َأ ْي َنا م ْن َ‬
‫ح‬
‫َ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫وأصبحت همهم‪ ،‬وشغلتهم عن الطاعة‪ ،‬شغلتهم عن الفرائض‪ ،‬شغلتهم عن العبادات‪،‬‬
‫شغلتهم عن التقرب إلى هللا‪ ،‬شغلتهم عن أعمال الخير والبر‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ َ َْ ْ َ َ ْ ََ َ‬
‫«فلم يظفر ِبها أن ينالها» وإن نال منها شيئا ذهب هذا الش يء عنه أو ذهب هو عن هذا‬
‫الش يء الذي ظفر به من الدنيا‪.‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫ض ْر ِب ِمث ِال َها‬ ‫اح ب َ‬ ‫ونس ‪َ ...‬وفي ْال َك ْهف إ َ‬
‫يض ٌ‬ ‫َُ ُ‬
‫ي‬‫و‬ ‫يد‬‫د‬ ‫ح‬ ‫َل َق ْد َج َاء في آي ْال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫اط ٍر‪َ ...‬و ِفي غا ِف ٍرق ْد َج َاء ِت ْب َيان َح ِال َها‬
‫ور ِة ف ِ‬‫ان َو ُس َ‬ ‫َو ِفي ِآل ِعمر‬
‫َ‬
‫وج ٍب َِل ْع ِتز ِال َها‬ ‫م‬ ‫يث ُ‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫اْل ْح َقاف َأ ْع َظ ُم َواعظ ‪َ ...‬و َك ْم م ْن َ‬ ‫َ ُ َ َْ‬
‫و ِفي سور ِة‬
‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫**************‬

‫هذه األبيات الثالثة تكاد تكون أعظم ما في هذا النظم‪ ،‬وأهم ما احتوى عليه في التزهيد‬
‫في الدنيا‪ ،‬وبيان حالها‪ ،‬وأنها متاع الغرور وأنها متاع زائل وبيان األمثال التي تكشف حال‬
‫هذه الدنيا حتى يتيقظ العباد ويتنبهوا‪.‬‬
‫ففي هذه األبيات الثالثة وهي أعظم ما احتوت عليه هذه املنظومة بيان لحال الدنيا من‬
‫خالل ما جاء في النصوص واإلشارة إلى األدلة‪ :‬كالم هللا وكالم رسوله صلوات هللا وسالمه‬
‫وبركاته عليه‪.‬‬
‫ففي البيت األول من هذه األبيات الثالثة يقول‪:‬‬
‫َ‬ ‫اح ب َ‬
‫ض ْر ِب ِمث ِال َها‬ ‫ونس ‪َ ...‬وفي ْال َك ْهف إ َ‬
‫يض ٌ‬ ‫َُ ُ‬
‫ي‬‫و‬ ‫يد‬‫د‬ ‫َل َق ْد َج َاء في آي ْال َ‬
‫ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يقول‪ :‬في هذه السور الثالث‪ :‬سورة الحديد‪ ،‬وسورة يونس‪ ،‬وسورة الكهف جاء فيها آيات‬
‫ضرب فيها مثال لحال الدنيا‪ ،‬وأن طالب العلم ينبغي حتى يعرف حال الدنيا أن ينظر في‬
‫تلك اآليات‪ ،‬وأن يتأمل في معانيها‪ ،‬وأن ينظر ً‬
‫أيضا في كالم املفسرين رحمهم هللا تعالى في‬

‫‪11‬‬
‫هذه اآليات حتى يعرف حقيقة الدنيا بهذه األمثلة التي ضربها هللا سبحانه وتعالى في هذه‬
‫اآليات‪.‬‬
‫•أما آية الحديد‪ :‬فقول هللا سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫الد ْن َيا ل ِعب َول ْهو َو ِز َينة َوت َفاخر َب ْي َنك ْم َوتكاثر ِفي األ ْم َو ِال َواأل ْوال ِد‬ ‫اعلموا أ َّن َما ال َح َياة‬ ‫﴿‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ص َف ًّرا ث َّم َيكون حط ًاما َو ِفي اآل ِخ َر ِة َعذاب‬ ‫َك َم َثل َغ ْيث َأ ْع َج َب ْالك َّف َار َن َباته ث َّم َيهيج َف َت َراه م ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ُّ ْ َ َّ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ور﴾[الحديد‪.]٢٠ :‬‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫اع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ال‬‫إ‬‫ِ‬ ‫ا‬‫ي‬ ‫ن‬ ‫الد‬ ‫اة‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫م‬‫و‬ ‫ان‬‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ّللا‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ة‬‫ر‬‫ف‬‫ِ‬ ‫غ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫يد‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ش‬
‫َْ‬ ‫جدا‪َّ ،‬‬ ‫فهذا مثل عظيم ًّ‬
‫وصدره هللا جل في عاله بقوله‪﴿ :‬اعلموا﴾ واعلموا أو اعلم هذه‬
‫كلمة تنبيه يؤتى بها بين يدي األمور العظيمة املهمة التي ينبغي أن يتنبه لها املرء وأن‬
‫يحسن فهمها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َّ َ ْ‬
‫﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا﴾؛ أي‪ :‬مثل الحياة الدنيا‪.‬‬
‫َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫الد ْن َيا ل ِعب َول ْهو َو ِز َينة َوت َفاخر َب ْي َنك ْم َوتكاثر ِفي األ ْم َو ِال َواأل ْوال ِد‬ ‫اعلموا أ َّن َما ال َح َياة‬ ‫﴿‬
‫َ َ َ‬
‫ك َمث ِل غ ْيث﴾ فهذه حال الدنيا!‬
‫ُّ َ‬
‫الد ْن َيا ل ِعب﴾؛ أي‪ :‬مشغلة ألبدان الناس تضيع فيها األبدان واألوقات باللعب‪.‬‬ ‫﴿‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ َول ْهو﴾ للقلوب؛ ملهية للقلب وشاغلة له‪ ،‬وصارفة له عما خلق ألجله فهي‪﴿ :‬ل ِعب‬
‫َ‬
‫َول ْهو﴾ لعب باألبدان‪ :‬فاألبدان تنصرف إلى الدنيا واملتعة بزخرفها‪ ،‬والقلوب تلهو بهذه‬
‫الدنيا وتنشغل بها حتى تصبح هي أكبر هم اإلنسان ومبلغ علمه ﴿ َو ِز َينة﴾ زينة في امللبس‪،‬‬
‫وزينة في املركب‪ ،‬وزينة في املسكن‪ ،‬وزينة‪ ...‬أشياء تأسر اإلنسان وربما تستولي ً‬
‫أيضا على‬
‫همته ومقصده فيصبح ليس له هم إال ذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿ َوت َفاخر َب ْي َنك ْم﴾ كل ما كثر ش يء من الدنيا عند اإلنسان أخذ يفخر به على اآلخرين‪،‬‬
‫ويتعالى فيه على اآلخرين‪ ،‬وأنه أفضل منهم‪ ،‬وأحسن من فالن وأوسع وأكثر وأعز‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك من عبارات التفضيل‪.‬‬
‫َّ َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬
‫التكاثر(‪َ )١‬ح َّتى‬ ‫﴿ َوتكاثر ِفي األ ْم َو ِال َواأل ْوال ِد﴾ هذه كلها ملهيات مثل ما قال هللا‪﴿ :‬أل َهاكم‬
‫َْ‬
‫ز ْرتم امل َق ِاب َر﴾[التكاثر‪.]٢ -١ :‬‬

‫‪12‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫﴿ك َمث ِل غ ْيث أ ْع َج َب الك َّف َار ن َباته﴾[الحديد‪]٢٠ :‬؛ يعني‪ :‬كمثل مطر نزل على أرض أصابها‬
‫القحط والجذب‪ ،‬فأنبتت من كل زوج بهيج‪ ،‬فأعجب الكفار نباته‪ ،‬واستولى على قلوبهم‬
‫ما في هذا الزخرف وما في هذه األرض من زينة وجمال أسر القلوب‪.‬‬
‫َ‬ ‫﴿ َأ ْع َج َب ْالك َّف َار َن َباته ث َّم َيهيج َف َت َراه م ْ‬
‫ص َف ًّرا ث َّم َيكون حط ًاما﴾[الحديد‪ ]٢٠ :‬إذا أردت أن‬ ‫ِ‬
‫تعرف هذه الدنيا من خالل هذا املثل انظر إلى األرض في الربيع ثم إذا انقض ى الربيع‬
‫ً ً‬
‫أيضا مرة أخرى‪ .‬هذا مثل يوضح لك الدنيا ضربه رب العاملين سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫انظر إليها‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫فتجد مثال أرض في الربيع إذا نزلت األمطار اخضرت وزانت وجملت ألهلها وطاب النظر‬
‫إليها‪ ،‬وال تمَل عين املرء‪ :‬ينظر ويعيد النظر‪ ،‬ويبتهج وي َسر باملناظر الجميلة‪.‬‬
‫ثم إذا جئت إلى نفس األرض بعدها بشهر أو بشهرين ربما ما يطيق النظر إليها من الجذب‬
‫الذي أصابها‪ ،‬وال يجد فيها ش يء يشد نظره أو يبهج قلبه أو يؤنسه‪.‬‬
‫هذا مثل للدنيا‪ ،‬هذا مثل ضربه رب العاملين سبحانه وتعالى للدنيا في أمر يشاهده الناس‬
‫بين حين وآخر وبين وقت ووقت‪.‬‬
‫ونس»؛ أي‪ :‬وفي سورة يونس‪ ،‬وهو مثل ً‬ ‫َُ ُ‬
‫أيضا ضربه‬ ‫قال رحمه هللا‪« :‬وي ٍ‬
‫الد ْن َيا َك َماء َأ َنزْل َناه ِم َن َّ‬
‫الس َم ِاء‬ ‫هللا سبحانه تعالى في هذه السورة‪ ،‬قال‪﴿ :‬إ َّن َما َم َثل ْال َح َياة ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ ََ َ ََ َْ‬
‫األ ْ‬
‫ض﴾[يونس‪]٢4 :‬؛ أي‪ :‬أنبتت األرض ملا نزل هذا املاء ورويت األرض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫فاختلط ِب ِه نبات‬
‫األ ْن َعام﴾[يونس‪ ]٢4 :‬أنبتت ً‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫ْ‬
‫نباتا صالح لإلنسان يأكله ويلذ بأكله‬ ‫أنبتت ﴿ ِم َّما َيأكل الناس و‬
‫وأيضا لتأكل األنعام منه‪ ،‬وقل مثل هذا عندما تجمل األرض بالربيع‪ ،‬فتصبح األرض فيها‬ ‫ً‬

‫وأيضا األنعام‬‫الربيع الجميل والزروع تجد اإلنسان يجد فيها ما يأكل ويلذ ويطيب له‪ً ،‬‬

‫تأكل منها وتشبع‪ .‬هذا حال الدنيا في تزينها وتجملها للمرء‪ .‬ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال‪:‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ َ َْ‬
‫ون َعل ْي َها﴾؛ يعني‪ :‬أن هذا‬‫﴿ َح َّتى ِإذا أخذ ِت األ ْرض زخرف َها َوا َّزَّين ْت َوظ َّن أ ْهل َها أ َّنه ْم ق ِادر‬
‫َ َ َ َ ْ َ َ ْ ً َ ْ َ َ ً َ َ َ ْ َ َ َ ً َ َ َّ ْ َ ْ َ ْ َ‬
‫األ ْ‬
‫س‬ ‫ش يء يستمر لهم ويبقى ﴿أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلناها ح ِصيدا كأن لم تغن ِب ِ‬
‫م‬
‫ون﴾[يونس‪ ]٢4 :‬وهذا دعوة من رب العاملين أن نتفكر في‬ ‫َك َذل َك ن َفصل ْاآل َيات ل َق ْوم َي َت َف َّكر َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مثل هذه اآليات‪ ،‬وأن نتأمل في مثل هذه األمور املوقظة املحيية للقلوب‪.‬‬
‫َ َْ‬
‫ف»‬‫وقوله‪« :‬و ِفي الك ْه ِ‬
‫‪13‬‬
‫َ ْ ْ َ َّ َ َ ْ َ َ ُّ َ‬
‫الد ْن َيا ك َماء‬ ‫أيضا ضرب هللا سبحانه وتعالى املثال للدنيا بقوله‪﴿ :‬واض ِرب لهم مثل الحي ِاة‬ ‫ً‬
‫َ َ َ َ َّ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ً َ ْ‬
‫ان ّللا َعلى‬ ‫الرياح وك‬‫ِ‬ ‫وه‬‫ر‬ ‫ذ‬ ‫ض فأصبح ه ِشيما ت‬
‫أنزلناه ِمن السم ِاء فاختلط ِب ِه نبات األر ِ‬
‫َ‬
‫ك ِل ش ْيء ُّم ْق َت ِد ًرا﴾[الكهف‪ ]4٥ :‬هذه أمثلة اشتملت عليها هذه اآليات توضح حال الدنيا‪.‬‬
‫َ‬ ‫اح ب َ‬
‫َ ٌ‬
‫ض ْر ِب ِمث ِال َها»؛ يعني‪ :‬في هذه اآليات الثالث و ِضحت وب ِينت‬ ‫قال رحمه هللا‪«ِ :‬إيض ِ‬
‫حال الدنيا بضرب املثال الذي يكشف عن حقيقتها‪ .‬وهنا ينبغي أن ننتبه أن من فائدة‬
‫األمثال املضروبة أنها تقرب املعاني‪ ،‬وتجعل األمور املعنوية بمثابة األمور املشاهدة‬
‫املحسوسة‪.‬‬
‫ْ َْ َ‬
‫جدا في البيان‪ ،‬وهللا يقول‪َ ﴿ :‬و ِتل َك األ ْمثال‬ ‫ولهذا كثرت األمثال في القرآن؛ ألنها نافعة ًّ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ ْ َ َّ‬
‫اس َو َما َي ْع ِقل َها ِإال ال َع ِاملون﴾[العنكبوت‪.]4٣ :‬‬
‫نض ِربها ِللن ِ‬
‫قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َ َ ُ َ َ‬
‫اط ٍر‪َ ...‬و ِفي غا ِف ٍرق ْد َج َاء ِت ْب َيان َح ِال َها‬
‫ور ِة ف ِ‬ ‫َو ِفي ِآل ِعمران وس‬
‫وأيضا سورة غافر جاء فيها‬ ‫أي‪ :‬أن هذه السور الثالث‪ :‬سورة آل عمران‪ ،‬وسورة فاطر‪ً ،‬‬

‫تبيان حال الدنيا‪ ،‬وأن املتاع الذي في الدنيا هو‪ :‬متاع الغرور املتاع الزائل‪ ،‬املتاع‬
‫املنقض ي الذي ال يبقى ألهله‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُّ ْ َ َّ َ َ‬ ‫ََ ْ ََ‬
‫•و آية آل عمران هي‪ :‬قول هللا عز وجل‪﴿ :‬وما الحياة الدنيا ِإال متاع الغر ِ‬
‫ور﴾[آل عمران‪:‬‬

‫‪.]١٨٥‬‬
‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫َّ َ ْ َ َّ‬
‫ّللا َحق فال تغ َّرَّنكم ال َح َياة‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫اس‬ ‫•و آية فاطر هي‪ :‬قول هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها َّ‬
‫الن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ْ َ‬ ‫ُّ ْ َ َ َ َ َّ‬
‫اّلل الغرور﴾[فاطر‪.]٥ :‬‬ ‫الدنيا وال يغ َّرنكم ِب ِ‬
‫َ‬
‫•و آية غافر‪ :‬قول هللا عز وجل في النصيحة التي قدمها مؤمن آل فرعون قال‪َ ﴿ :‬يا ق ْو ِم‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫إ َّن َما َهذه ْال َح َياة ُّ‬
‫الد ْن َيا َم َتاع َو ِإ َّن اآل ِخ َرة ِه َي َدار ال َق َر ِار﴾[غافر‪.]٣٩ :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫فهذه اآليات فيها أن الدنيا‪ :‬متاع زائل‪ ،‬متاع الغرور‪ ،‬متاع فاني‪ .‬فإذا كان هذا وصف حال‬
‫الدنيا فال يغتر اإلنسان‪ ،‬ال تغره الدنيا؛ ألن املتاع مهما كبر واتسع وعظم هو في نهايته‬
‫متاع زائل ال يبقى‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫اع ٍظ» ولعله وهللا أعلم! يشير إلى ما جاء في أواخر‬‫و‬‫اْل ْح َقاف َأ ْع َظ ُم َ‬
‫َ ُ َ َْ‬
‫قال‪« :‬و ِفي سور ِة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سورة األحقاف قول هللا عز وجل‪:‬‬
‫َ َّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ً‬ ‫ََ‬
‫اعة ِمن َّن َهار َبالغ ف َه ْل ي ْهلك ِإال ال َق ْوم‬ ‫﴿كأ َّنه ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َما يوعدون لم يلبثوا ِإال س‬
‫َ‬ ‫ْال َ‬
‫اسقون﴾[األحقاف‪.]٣٥ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ف‬
‫هذا أعظم واعظ وأكبر واعظ أن يعرف اإلنسان أنه إذا وقف يوم القيامة‬
‫بين يدي هللا العمر الذي عاشه في الدنيا‪ :‬ستين سنة‪ ،‬سبعين سنة‪ ،‬مائة سنة‪ ،‬أو أقل‬
‫أو أكثر‪ ،‬كأن لم يلبث إال ساعة من نهار‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتصرم وينقض ي ويذهب كيف يغر اإلنسان؟!‬ ‫فمثل هذا الوقت القليل الذي سرعان ما‬
‫وكيف يستولي على قلبه؟! وكيف تصبح الدنيا هي أكبر همه وهذه حالها؟!‬
‫والحاصل أن هذه األبيات وما حوته من معاني وما أشار إليه في مضامينها من أدلة كله‬
‫املراد منه‪ :‬أال تستولي هذه الدنيا على قلب اإلنسان‪ ،‬وأال تأسر قلبه‪ ،‬وأال تستحوذ على‬
‫نفسه؛ فتصبح هي أكبر همه ومبلغ علمه وغاية مقصوده‪ .‬تستولي على الوقت‪ ،‬تستولي‬
‫يحصل فيها ما خلق ألجله‬
‫على الحياة‪ ،‬على العمل‪ ،‬ثم النهاية أنها تنقض ي وتنتهي‪ ،‬وال ِ‬
‫وهو طاعة هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فتشغله عما خلق ألجله‪.‬‬
‫سبحان هللا انتبه هنا! الدنيا خلقت ألجل اإلنسان‪ ،‬هللا سخرها لإلنسان‪ ،‬وخلقها‬
‫لإلنسان‪ ،‬وسخرها له‪ ،‬سخر له ما في السموات وما في األرض‪ ،‬وهيأ له هذه الدنيا‪.‬‬
‫فال ينبغي لإلنسان العاقل أن ينشغل بما خلق ألجله عما خلق هو ألجله! أال ينشغل بهذه‬
‫األشياء التي خلقت ألجل اإلنسان عما خلق اإلنسان ألجله‪ .‬الدنيا وما فيها خلقت‬
‫لإلنسان وسخرها هللا لإلنسان‪ ،‬فال ينبغي لإلنسان أن تشغله هذه الدنيا عما خلقه هللا‬
‫ألجله‪.‬‬
‫َ َ َ َ ْ ْ َّ َ ْ َ َّ‬
‫نس ِإال ِل َي ْعبدو ِن﴾[الذاريات‪]٥ :‬؛ أي‪ :‬خلقهم للعبادة‪،‬‬ ‫اإل‬
‫قال هللا تعالى‪﴿ :‬وما خلقت ال ِجن و ِ‬
‫وأوجدهم للطاعة‪ ،‬واإلقبال على هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫يأت في النصوص منع من الكسب والرزق‪ ،‬وتحصيل املسكن واملركب‬
‫ولم ِ‬
‫يأت منعه‪ ،‬لكن جاء التحذير من الدنيا من أن تفتن اإلنسان‪ ،‬وتستولي‬
‫لم ِ‬
‫‪15‬‬
‫على قلبه‪ ،‬وتأسر نفسه‪ ،‬وتصبح هي غاية همه وأكبر مقصده‪.‬‬
‫ونسأل هللا الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفعنا‬
‫أجمعين بما علمنا‪ ،‬وأن يزيدنا ً‬
‫علما‪ ،‬وأن يصلح لنا شأننا كله‪ ،‬وأن ال يكلنا إلى أنفسنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مستقيما‪ ،‬إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء‪ ،‬وهو أهل‬ ‫طرفة عين‪ ،‬وأن يهدينا إليه صراطا‬
‫الرجاء‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬
‫أردت أن أقرأ نصين البن القيم فيهما فائدة عظيمة ًّ‬
‫جدا‪ ،‬لكنني أكتفي باإلحالة إليهما‪،‬‬
‫أما أحدهما ففي كتابه الفوائد‪ ،‬واألجهزة الحديثة يسرت اآلن الحصول على الفائدة‬
‫والوقوف عليها بسرعة‪.‬‬
‫ففي كتابه الفوائد ذكر رحمه هللا فائدة‪ ،‬قال‪« :‬ال تتم الرغبة في اآلخرة إال بالزهد في‬
‫الدنيا‪ ،‬وال يستقيم الزهد في الدنيا إال بعد نظرين صحيحين» ذكرهما رحمهما هللا فيهما‬
‫نفع عظيم ًّ‬
‫جدا‪ ،‬أنصح بقراءته في كتاب الفوائد البن القيم‪.‬‬
‫وفي طريق الهجرتين ذكر نفس املعنى وزاد عليه أمر ثالث‪ ،‬قال‪« :‬والذي يصحح هذا‬
‫ً ً‬
‫أمرا ثالثا‪.‬‬ ‫الزهد ثالثة أشياء» فذكر الشيئين الذين ذكرهما في كتابه الفوائد وزاد عليهما‬
‫ولعل في هذه الطريقة من التشويق للوقوف على كالم ابن القيم أبلغ مما لو قرأته عليكم‬
‫هكذا مباشرة‪ ،‬وأرجو أن يقع تشويقي لكالم ابن القيم في محله‪ ،‬وأن يرجع الجميع إلى‬
‫كالم ابن القيم في الكتابين املشار إليهما‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الدرس الثان‬

‫الر ِحي ِم‬ ‫ِ‬


‫بِ ْس ِم اهلل َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ً‬
‫محمدا‬ ‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن‬
‫عبده ورسوله‪ ،‬صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين اللهم علمنا ما ينفعنا‬
‫وانفعنا بما علمتنا وزدنا ً‬
‫علما‪ ،‬وأصلح لنا شأننا كله وال تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫نواصل القراءة في هذه املنظومة النافعة والقصيدة املفيدة للعالمة حافظ حكمي رحمه‬
‫هللا تعالى‪ ،‬ونسأل هللا عز وجل أن ينفعنا أجمعين بما حوته من خير ونفع وفائدة‪.‬‬
‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬وصلى هللا وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪ .‬اللهم اغفر لنا ولشيخنا وملشايخه وللمسلمين واملسلمات يا رب العاملين‪ ،‬قال‬
‫اإلمام العالمة‪ :‬حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا تعالى في القصيدة الهائية في الترغيب‬
‫والترهيب‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ ََ ْ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ ْ َْ َ‬
‫يرة ‪ِ ...‬إل ْي َها فل ْم تغ ُر ْر ُه ُم ِباخ ِت َي ِال َها‬
‫لقد نظ ُروا قو ٌم ِبعي ٍن ب ِص ٍ‬
‫الف ْر َد ْوس إ ْرًثا َو َيا َلهاَ‬ ‫َ ًّ َ ْ ُ ُ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َٰ َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫أولـ ِئك أهل هللا حقا و ِحزبه ‪ ...‬لهم جنة ِ‬
‫****************‬

‫يبين الناظم رحمه هللا تعالى هنا حال أهل الحق والهدى والفضل‪ ،‬ومن وفقهم سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وشرح صدورهم وهداهم إلى صراطه املستقيم‪ ،‬أنهم نظروا إلى الدنيا ِ«ب َع ْي ِن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫متبصرا متأمال‪ :‬في حقيقتها‪،‬‬ ‫يرة» وهذا النظر هو النافع للعبد؛ أن ينظر إلى الدنيا‬
‫ب ِص ٍ‬
‫وفي هوانها على هللا تبارك وتعالى وفي سرعة انقضائها وزوالها وأنها متاع الغرور وأنها زائلة‬
‫وليست باقية‪ ،‬وأنها دار عبور وليست دار قرار‪.‬‬
‫فيذكر رحمه هللا أن أهل الحق والهداية نظروا إلى الدنيا بعين بصيرة فلم تغررهم‪.‬‬
‫هذا نتيجة النظر والتأمل في حقيقة الدنيا إذا تأمل املرء وأحسن النظر في حقيقتها لم‬
‫يغتر بها ولم تغرره‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ْ‬
‫ِ«باخ ِت َي ِال َها»؛ أي‪ :‬بزينتها وزخرفها ومتاعها‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ُ َٰ َ‬
‫قال‪« :‬أولـ ِئ َك أ ْه ُل هللا َحقا َو ِح ْزُب ُه» أولئك الذين وفقهم هللا عز وجل لهذه املعرفة‬
‫ًّ‬ ‫َ‬
‫لحقيقة الدنيا فلم تغررهم الدنيا‪ ،‬لم يغتروا بها وال بزخرفها هؤالء هم‪« :‬أ ْه ُل هللا َحقا»‬
‫ُّ‬
‫املختصون به‪،‬‬ ‫واملراد بأهل هللا؛ أي‪ :‬خاصة هللا‪ :‬أولياؤه‪ ،‬أولياء هللا تبارك وتعالى‬
‫اختصهم برحمته وعظيم فضله‪ .‬قد جاء في الحديث في املسند وغيره عن نبينا صلى هللا‬ ‫َّ‬
‫ْ‬ ‫َ َّ َ ْ ْ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ َ َ َّ َ‬ ‫عليه وسلم أنه قال‪َّ :‬‬
‫هللا‬
‫اس‪ ،‬و ِإن أهل القر ِآن أهل ِ‬
‫هلل عز وجل أه ِلين ِمن الن ِ‬ ‫((إن ِ‬
‫ِ‬
‫اصته))‪.‬‬ ‫َو َخ َّ‬
‫فالحاصل‪ :‬أن هؤالء الذين نظروا إلى الدنيا هذا النظر وعرفوا حقيقتها َّ‬
‫وخستها وزوالها‬ ‫ِ‬
‫وهوانها على هللا لم تغررهم بزخرفها ومتاعها‪ ،‬فهم أهل هللا ًّ‬
‫حقا‪.‬‬
‫« َو ِح ْزُب ُه»؛ أي‪ :‬املقربون‪ ،‬وأولياء هللا سبحانه وتعالى الذين ال خوف عليهم وال هم‬
‫يحزنون‪.‬‬
‫امة َّ‬
‫أعدها هللا سبحانه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫س»؛ أي‪ :‬نزال عند هللا ومثوبة وكر‬ ‫و‬‫« َل ُه ْم َجن ُة الف ْر َد ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ ْ َ ُ ْ َ ْ ْ ً َ َ ََ‬
‫س ِإرثا ويا لها»؛ أي‪ :‬يا لها من إرث‪ ،‬ويا لها‬
‫الفردو ِ‬
‫وتعالى لهؤالء‪« .‬لهم جنة ِ‬
‫َْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬
‫من نعمة وعطية «إرثا لهم» كما قال هللا سبحانه وتعالى‪﴿ :‬أولـ ِئك هم الوا ِرثون﴾[املؤمنون‪:‬‬
‫َّ‬
‫س» ويا‬ ‫و‬‫«جن ُة الف ْر َد ْ‬‫‪ ]١٠‬فهؤالء هم الوارثون لهذه َامل ْكرمة العظيمة والنعمة العظيمة‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لها من مكرمة ويا لها من نعمة عظيمة‪ .‬فهذا قسم‪ ،‬القسم اآلخر‪:‬‬
‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ َ ُّ َ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫ال ِإل ْي َها آخ ُرون ِل َج ْه ِل ِه ْم ‪ ...‬فل َّما اط َمأنوا أ ْرشق ْت ُه ْم ِن َبال َها‬‫وم‬
‫اْل ْخ َر ٰى َو َذ ُاقوا َو َب َالهاَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َٰ َ َ ْ ٌ َ ُ َ َ ُ‬
‫ي‬
‫أولـ ِئك قوم آثروها فأع ِقبوا ‪ِ ...‬بها ال ِخز ِفي‬
‫****************‬
‫ْ‬
‫هذا قسم آخر غير األول‪ :‬غرتهم الدنيا‪ ،‬وفتنوا بزخرفها‪ ،‬وأل َهتهم م َتعها وسلبت أعينهم‬
‫زينتها‪ ،‬فاغتروا بها‪ ،‬اغتروا بمتاع الغرور فمالوا إليها‪ ،‬مالوا إلى الدنيا فأصبحت هي املنية‬
‫والبغية‪ ،‬وهي أكبر الهم‪ ،‬ومنتهى القصد عند هؤالء‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مال هؤالء إليها ِ«ل َج ْه ِل ِه ْم» لجهلهم باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وبالواجب في حقه‪ ،‬ولجهلهم‬
‫أيضا بحقيقة الدنيا‪ ،‬فلم ينظروا إليها نظر األولين‪ ،‬وإنما فتنوا بالدنيا وفتنوا بزخرفها‪،‬‬‫ً‬

‫فمالوا إليها‪.‬‬
‫ْ َ ُّ‬ ‫ََ‬
‫«فل َّما اط َمأنوا» ملا اطمأنوا إلى هذا الزخرف الزائل واملتاع الفاني‪ ،‬وظنوا ألنفسهم البقاء‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫في هذا املتاع وهذا الزخرف «أرشق ْت ُه ْم ِنبالها» والرشق هو‪ :‬الرمي؛ أي‪ :‬رمتهم الدنيا‬
‫بنبالها؛ فذاك هلك على عصيانه وغروره وإعراضه عن طاعة ربه سبحانه وتعالى‪ ،‬وذاك‬
‫ً‬
‫افتتانا بهذه‬ ‫ً‬
‫طغيانا بما أوتي من متاع الدنيا وزخرفها‪ ،‬وذاك سلب عقله وذهب لبه‬ ‫ازداد‬
‫ً‬
‫محروما من لذة الطاعة وهناءة القربة وقرة العين‬ ‫الدنيا‪ ،‬وذاك عاش حياته فيها‬
‫بالتقرب إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فأهلكتهم الدنيا أشد الهلكة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫هذا معنى قوله رحمه هللا تعالى‪« :‬أ ْرشق ْت ُه ْم ِن َبال َها»‬
‫ُ َ‬
‫«أ ْول ِئ َك»؛ يعني‪ :‬هؤالء القوم‪.‬‬
‫وها»؛ أي‪ :‬على اآلخرة‪ ،‬آثروا الحياة الدنيا‪ ،‬وأصبحت هي الرغبة‪ ،‬فليس لهم مراد إال‬ ‫«آثر َ‬
‫ُ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ ََ ْ َ‬ ‫﴿من َك َ‬
‫ان ي ِريد ال َع ِاجلة َع َّجل َنا له ِف َيها َما نشاء ِملن ُّن ِريد‬ ‫هي‪ ،‬كما قال هللا سبحانه وتعالى‪َّ :‬‬
‫ورا﴾[اإلسراء‪.]١٨ :‬‬ ‫وما َّم ْدح ً‬ ‫ص َال َها َم ْذم ً‬
‫ث َّم َج َع ْل َنا َله َج َه َّن َم َي ْ‬
‫فآثروا الدنيا‪ ،‬فماذا كانت النتيجة؟!‬
‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬
‫«فأ ْع ِق ُبوا ِب َها ال ِخ ْز َي ِفي اْلخ َرى»‬
‫ُْ‬ ‫َُ‬
‫«فأ ْع ِق ُبوا»؛ أي‪ :‬كانت العاقبة واملآل‪ :‬الخزي ِ«في اْلخ َرى»؛ أي‪ :‬في الدار اآلخرة ﴿ث َّم‬
‫ص َال َها َم ْذم ً‬
‫وما َّم ْدح ً‬
‫ورا﴾[اإلسراء‪ ]١٨ :‬أعقبوا الخزي في األخرى‪.‬‬ ‫َج َع ْل َنا َله َج َه َّن َم َي ْ‬
‫ََ ُ ْ َ‬
‫«وذاقوا َو َبال َها»؛ الوبال‪ :‬سوء العاقبة‪.‬‬
‫ََ ُ ْ َ‬
‫«فذاقوا َو َبال َها»؛ أي‪ :‬باءوا بالعاقبة السيئة واملآل الوخيم يوم الخزي يوم الوقوف بين‬
‫يدي هللا تبارك وتعالى‪.‬‬
‫قال ابن القيم رحمه هللا‪:‬‬
‫«ومتى رأيت القلب َّ‬
‫ترحل عنه حب هللا واالستعداد للقائه َّ‬
‫وحل فيه حب املخلوق والرضا‬
‫بالحياة الدنيا والطمأنينة بها؛ فاعلم أنه قد خ ِسف به»‬
‫‪19‬‬
‫فإذن هما نظران‪:‬‬
‫ً‬ ‫عقب ً‬ ‫‪ - ١‬نظر بصيرة وتأمل َوت َب ُّ‬
‫خيرا ويثمر سعادة‪.‬‬ ‫صر في الدنيا وحالها؛ في ِ‬
‫‪ - ٢‬ونظر آخر وهو‪ :‬نظر افتتان بالدنيا وبزخرف الدنيا‪.‬‬
‫في النظر األول سعادة املرء وفالحه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وفي النظر اآلخر‬
‫عطبه وهالكه في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وقد ذكر اإلمام النووي رحمه هللا تعالى في أوائل ومقدمته لكتابه العظيم النافع‪ :‬رياض‬
‫الصالحين‪ ،‬ذكر ً‬
‫أبياتا وهي تنسب لإلمام الشافعي‪ ،‬وهي مثبتة ً‬
‫أيضا في ديوانه رحمه هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وفيها هذا املعنى الذي أشار إليه الناظم قال فيها‪:‬‬
‫الف َت َنا‬
‫ُّ ْ َ َ َ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ ً ََ‬ ‫َّ‬
‫هلل ِعبادا فطنا ‪ ...‬طلقوا الدنيا وخافوا ِ‬ ‫ِإن ِ‬
‫َن َظروا ف َيها َف َل َّما َعلموا ‪َ ...‬أ َّن َها َل ْي َس ْت ل َحي َو َطناَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ‬ ‫ً َ‬
‫ص ِال َح األ ْع َم ِال ِف َيها سف َنا‬ ‫وها ل َجة َو َّاتخذوا ‪...‬‬ ‫َج َعل َ‬

‫فهؤالء أهل النظر الثاقب والبصيرة النافذة وأهل حسن التأمل؛ فلهم العاقبة الحميدة‬
‫واملآل الكريم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ ُ ْ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ َو ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُّ َّ‬
‫الس َّم الن ِق َيع ُزَلل َها‬ ‫فقل ِلل ِذين استعذبوها ر يدكم ‪ ...‬سينق ِلب‬
‫ُ‬
‫ص َر ْم ِح َبال َها‬ ‫ل َي ْل َه ْوا َو َي ْغ َت ُّروا ب َها َما َب َدا َل ُه ْم ‪َ ...‬م َتى َت ْب ُلغ ْال ُح ْل ُق َ‬
‫وم ُت ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫****************‬
‫َُ‬
‫في هذا البيت يقول الناظم رحمه هللا تعالى‪« :‬فق ْل»؛ أي‪ :‬يا من وفقك هللا لحسن البصيرة‬
‫واملعرفة بحال الدنيا وعدم االفتتان بها‪ ،‬قل ملن افت ِتن بالدنيا واستعذبها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اس َت ْع َذ ُب َ‬
‫وها ُر َو ْي َدك ْم» تمهلوا‪.‬‬
‫ُ‬
‫«ق ْل للذ َ‬
‫ين ْ‬
‫ِ‬
‫ُ ُ‬
‫«ر َو ْي َدك ْم»؛ أي‪ :‬تمهلوا وانظروا في العواقب‪ ،‬إياكم وهذا الطيش‪ ،‬وهذا السفه وهذا‬
‫االفتتان والغرور‪.‬‬
‫رويدكم؛ تمهلوا‪ ،‬انظروا في العواقب قبل أن تندموا في موطن ال ينفع فيه الندم‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫ً ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫«س َي ْن َقل ُب ُّ‬
‫عذبا زالال فتنتم به من متع‬ ‫الس َّم الن ِق َيع ُزَلل َها»؛ يعني‪ :‬هذا الذي ترونه‬ ‫ِ‬
‫َ‬

‫الدنيا هو في الحقيقة سينقلب إلى السم النقيع‪.‬‬


‫يقال‪ :‬سم نقيع‪ ،‬وسم ناقع‪ ،‬وسم منقوع؛ أي‪ :‬سم بالغ وشديد وثابت‪.‬‬
‫فهذا الذي يراه هؤالء الذين فتنوا في الدنيا أنها عذب زالل‪ ،‬واطمئنوا إليها ومالت إليها‬
‫نفوسهم‪ ،‬قولوا لهم‪:‬‬
‫ً ً‬
‫عذبا زالال سينقلب إلى السم النقيع‪.‬‬ ‫رويدكم! هذا الذي ترونه‬
‫َْ‬ ‫ْ‬
‫ِ«ل َيل ُهوا َويغت ُّروا ِب َها َما َب َدا ُله ْم»‬
‫ْ‬
‫ِ«ل َيل ُهوا» ليلهوا بمتع الدنيا ويغتروا بفتنها ما بدا لهم‪ ،‬لكن هذا ضياع وحرمان‪.‬‬
‫َْ‬ ‫ْ‬
‫ِ«ل َيل ُهوا َويغت ُّروا ِب َها َما َب َدا ُله ْم»‬
‫ما النتيجة؟!‬
‫جدا يقال للمفتون واملغتر بالدنيا‪ :‬لو لهيت بهذه الدنيا واغتررت‬ ‫هذا كالم عظيم ًّ‬
‫مغترا ً‬
‫الهيا بهذه الدنيا إلى أن‬ ‫ومضيت في هذه املتع! إلى متى؟! ماذا تنتظر؟! هل ستستمر ًّ‬
‫يفجأك املوت؟! إلى أن يداهمك املوت؟! واملوت ال يفرق بين صغير وكبير! ال يقول‬
‫اإلنسان‪ :‬أنا شاب! كم أخذ املوت من الشباب؟! وكم أتى إلى بيت فيه مسن يتوقع أهل‬
‫البيت بين عشية وضحاها‬
‫َ ْ‬
‫﴿و َما َت ْد ِري َن ْفس َّماذا َتك ِسب َغ ًدا َو َما َت ْد ِري‬
‫صغيرا من صغار البيت َ‬ ‫ً‬ ‫أن يفقدوه فيأخذ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ن ْفس ِبأ ِي أ ْرض تموت﴾[لقمان‪.]٣4 :‬‬
‫فيقال لهذا الالهي املفتتن بالدنيا‪ ،‬املغتر بمتعها‪ ،‬املنشغل بزخرفها‪ ،‬املعرض بسبب ذلك‬
‫عما خلق ألجله وأوجد لتحقيقه‪:‬‬
‫إلى متى؟! إلى متى هذا اللهو؟! وإلى متى هذا الغرور؟! ماذا تنتظر؟! أتنتظر أن يداهمك‬
‫املوت‪ ،‬ويبغتك األجل وأنت على هذا اللهو وعلى هذه الغفلة؟!‬
‫ً‬
‫صالحا غير الذي‬ ‫وهؤالء الذين على هذا اللهو لو عاينوا املوت لتمنوا أن َّ‬
‫يؤجل ليعملوا‬
‫َ‬
‫املفرطين‬
‫ِ‬ ‫املقصرين‬ ‫أحد‬ ‫وعظ‬ ‫اد‬‫ر‬‫أ‬ ‫أنه‬ ‫السلف‬ ‫أحد‬ ‫عن‬ ‫ر‬‫ذك‬ ‫كانوا يعملونه‪ .‬ولهذا ي‬
‫املعرضين فأخذه إلى القبور‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫‪21‬‬
‫ً‬
‫مدفونا مع هؤالء في‬ ‫يا فالن! لو كنت مكان هؤالء ماذا تتمنى؟! لو كنت مكان هؤالء؛ أي‪:‬‬
‫هذه الحفر ماذا تتمنى؟!‬
‫ً‬
‫صالحا غير الذي كنت أعمل‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬ ‫قال‪ :‬وهللا أتمنى أن يعيدني هللا للدنيا؛ ألعمل‬
‫لهوك وصدودك وإعراضك‪.‬‬ ‫هذا! أنت فيما تتمناه؛ يعني‪ :‬اعمل‪ ،‬ال تستمر في غرورك وفي ِ‬
‫فالناظم يقول‪« :‬ل َي ْل ُهوا َوي ْغ َت ُّروا ب َها»؛ أي‪ :‬الدنيا َ‬
‫«ما َب َدا ُله ْم»‪ ،‬لكن ما النتيجة؟! وما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املآل في هذا الغرور؟!‬
‫ُ‬ ‫وم ُت ْ‬ ‫«م َتى َت ْب ُلغ ْال ُح ْل ُق َ‬
‫ص َر ْم ِح َبال َها»‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ ُُْ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫«متى ت ْبل ِغ»؛ أي‪ :‬الروح «الحلقوم» تصرم حبال الدنيا؛ كل ما يراه اإلنسان من بهرج‬
‫ُ‬ ‫ُ ْ ْ‬
‫«ح َبال َها» العالئق‬
‫وزخرف وزينة وغير ذلك كله ينتهي وينقطع «تص َرم»؛ أي‪ :‬تنقطع ِ‬
‫والصالت التي يرتبط اإلنسان بها في الدنيا‪ :‬هذه تجارة‪ ،‬وهذا مال‪ ،‬وهذه قصور‪ ،‬وهذا‬ ‫ِ‬
‫كذا إلى آخره‪ .‬كلها تنتهي‪ ،‬تصرم حبالها‪.‬‬
‫ص َر ْم ح َب ُال َها» لكن إذا بلغت الحلقوم األمر خطير ًّ‬
‫جدا!‬ ‫«م َتى َت ْب ُلغ ْال ُح ْل ُق َ‬
‫وم ُت ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ًّ‬
‫إذا بلغت؛ أي‪ :‬الروح الحلقوم فاألمر خطير جدا؛ ألن النبي عليه الصالة والسالم كما في‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫هللا َي ْق َبل ت ْو َبة ال َع ْب ِد َما ل ْم يغ ْرغ ْر))‪.‬‬
‫املسند وغيره يقول‪(( :‬إ َّن َ‬
‫ِ‬
‫َ َ َ َ‬
‫((ما ل ْم يغ ْرغ ْر))؛ أي‪ :‬ما لم تبلغ الروح الحلقوم‪.‬‬
‫ْ‬
‫ال ِإ ِني ت ْبت اآل َن﴾[النساء‪ ]١٨ :‬هذا ما ينفع! إذا حضر املوت‬ ‫ض َر َأ َح َدهم ْاملَ ْوت َق َ‬ ‫﴿ َح َّتى إ َذا َح َ‬
‫ِ‬
‫معاينا للموت التوبة حينئذ ال تنفع صاحبها فهذا الالهي في الدنيا املغتر‪،‬‬ ‫وغرغر وأصبح ً‬

‫بزخرفها املعرض عما خلقه هللا ألجله‪ ،‬يقال له‪ :‬إلى متى؟! ماذا تنتظر؟!‬
‫أتنتظر إلى أن يأتي هذا املوعد‪ ،‬ويداهمك األجل‪ ،‬فتبلغ الروح الحلقوم؟!‬
‫أتنتظر الى هذا الوقت؟! بادر!‬
‫املراد بهذا الكالم الحث على املبادرة إلى التوبة‪ ،‬واإلنابة‪ ،‬والرجوع إلى هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫قال رحمه هللا‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َّ ٰ ُ ُّ َ ْ‬
‫س ِبك ْس ِب َها ‪ ...‬ت َو ُّد ِف َد ًاء ل ْو َب ِن َيها َو َمال َها‬
‫ويوم توفى كل ن ٍ‬
‫ف‬

‫‪22‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ ُ‬
‫َوتأخذ ِإ َّما ِبال َي ِم ِين ِكت َابها ‪ِ ...‬إذا أ ْح َسنت أ ْو ِض َّد ذا ِب ِش َم ِال َها‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ ََ ْ‬ ‫َ‬
‫َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت ‪َ ...‬و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها‬

‫****************‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومذكرا‪:‬‬ ‫يقول رحمه هللا تعالى واعظا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ َّ ٰ ُ ُّ َ ْ‬
‫س ِبك ْس ِب َها ‪ ...‬ت َو ُّد ِف َد ًاء ل ْو َب ِن َيها َو َمال َها‬
‫ويوم توفى كل ن ٍ‬
‫ف‬

‫يعني‪ :‬ولو كان الفداء بنيها ومالها‪ ،‬تفدي بكل ش يء حتى تنجو من العذاب وسخط الجبار‪.‬‬
‫فيوم القيامة هو يوم َّتوفى فيه كل نفس ما كسبت‪ .‬وينبغي على العبد أن يدرك ذلك‪،‬‬
‫َّ‬
‫وأن أيامه وشهوره وأعوامه‪ ،‬كل ما يقع فيها من أقوال وأعمال محصاة عليه‪ ،‬ويوفى ذلك‬
‫القيامة‪.‬‬ ‫يوم‬
‫حصلت في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬قال‬ ‫«و َي ْو َم ُت َو َّف ٰى ُك ُّل َن ْفس ب َك ْسب َها»؛ أي‪ :‬بما كسبت وبما َّ‬
‫َ‬
‫ٍ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ َ‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪﴿ :‬فك ْيف ِإذا َج َم ْع َناه ْم ِل َي ْوم ال َرْي َب ِف ِيه َوو ِف َي ْت ك ُّل ن ْفس َّما ك َس َب ْت‬
‫َ َْ َ‬
‫َوه ْم ال يظلمون﴾[آل عمران‪.]٢٥ :‬‬
‫َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫قال عز وجل‪﴿ :‬ث َّم ت َوفى ك ُّل ن ْفس َّما ك َس َب ْت َوه ْم ال يظلمون﴾[آل عمران‪.]١6١ :‬‬
‫ُ َّ‬ ‫َّ َ‬
‫﴿ما ك َس َب ْت﴾؛ أي‪ :‬من عمل؛ ما قدمته في هذه الحياة من أعمال‪ ،‬كل ذلك «ت َوفى»؛ أي‪:‬‬
‫وافيا يوم القيامة‪ ،‬يوم الوقوف بين يدي هللا عز وجل‪.‬‬ ‫الجزاء عليه ً‬
‫شديدا على تفريطه وتضييعه‪ ،‬ويود في ذلك اليوم وال‬ ‫ً‬ ‫ندما‬ ‫املعرض الظالم املفرط يندم ً‬
‫ِ‬
‫فداء أن يفدي نفسه من العذاب وسخط هللا سبحانه‬ ‫ينفعه هذا الو ُّد وهذه الرغبة‪ ،‬يود ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وتعالى «ل ْو َب ِن َيها َو َمال َها»؛ يعني‪ :‬لو كان الفداء بنيها ومالها‪ ،‬كما قال هللا سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫َ َ َ َّ‬ ‫َ َ َ ََ‬ ‫ْ ََ‬ ‫﴿ي َو ُّد ْامل ْجرم َل ْو َي ْف َ‬
‫اب َي ْو ِم ِئذ ِب َب ِن ِيه (‪ )١١‬وص ِاحب ِت ِه وأ ِخ ِيه (‪ )١٢‬وف ِصيل ِت ِه ال ِتي‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َْ‬
‫نج ِيه﴾[املعارج‪ ]١4 -١١ :‬يود الفداء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫األ ْرض َجم ً‬
‫يعا ث َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ت ْؤ ِو ِيه (‪َ )١٣‬و َمن ِفي‬
‫األ ْرض َجم ً‬ ‫َْ‬ ‫ين َل ْم َي ْس َتجيبوا َله َل ْو َأ َّن َلهم َّ‬‫اس َت َجابوا ل َربهم ْالح ْس َنى َو َّالذ َ‬ ‫ين ْ‬‫﴿ل َّلذ َ‬
‫يعا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ي‬‫ف‬‫ِ‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َْ‬
‫َو ِمثله َم َعه الف َت َد ْوا ِب ِه﴾[الرعد‪]١٨ :‬؛ أي‪ :‬من عذاب هللا وعقوبته‬

‫‪23‬‬
‫في ذلك اليوم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ«ت َو ُّد ِف َد ًاء»؛ أي‪ً :‬‬
‫فداء لنفسها‪ ،‬تفدية لنفسها من عذاب هللا تبارك وتعالى «ل ْو َب ِن َيها‬
‫َ‬
‫َو َمال َها»؛ أي‪ :‬لو كان الفداء َب ِنيها ومالها‪ .‬وفي ذلك اليوم الذي هو يوم التوفية‪ :‬توفية‬
‫َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ ُ ُ‬
‫«وتأخذ ِإ َّما ِبال َي ِم ِين ِكت َابها ِإذا أ ْح َسنت» وهم من‬ ‫األعمال والجزاء على األعمال قال‪:‬‬
‫وفقهم هللا سبحانه وتعالى للعمل الصالح ولم يغتروا بالدنيا وزخرفها‪ ،‬يأخذون كتبهم‬
‫بأيمانهم؛ جزاء اإلحسان الذي كان منهم في هذه الحياة الدنيا‪.‬‬
‫َ ْ َّ َ‬
‫«ب ِش َم ِال َها» يكون األخذ للكتاب‬ ‫ِ‬ ‫اإلساءة‬ ‫وهو‬ ‫اإلحسان‬ ‫ضد‬ ‫يعني‪:‬‬ ‫ا»؛‬ ‫ذ‬ ‫« أو ِضد‬
‫بالشمال‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿فأ َّما َم ْن أو ِت َي ِك َت َابه ِب َي ِمي ِن ِه ف َيقول َهاؤم اق َرءوا ِك َت ِاب َي ْه(‪ِ )١٩‬إ ِني ظ َننت أ ِني مالق‬
‫ْ‬
‫اض َية(‪ِ )٢١‬في َج َّنة َع ِال َية(‪)٢٢‬قطوف َها َدا ِن َية(‪)٢٣‬كلوا َواش َربوا َه ِن ًيئا‬
‫َ‬ ‫َ َْ َ َ‬
‫ِحس ِابيه(‪)٢٠‬فهو ِفي ِعيشة َّر ِ‬
‫األ َّيام ْال َخال َية(‪َ )٢4‬و َأ َّما َم ْن أوت َي ك َت َابه بش َماله َف َيقول َيا َل ْي َتني َل ْم أ َ‬
‫وت‬
‫َْ‬
‫ي‬ ‫ف‬ ‫م‬‫ب َما َأ ْس َل ْفت ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اض َية(‪َ )٢٧‬ما أغ َنى َع ِني َم ِال َي ْه(‪َ )٢٨‬هل َك َع ِني‬ ‫ِكت ِابيه(‪)٢٥‬ولم أد ِر ما ِحس ِابيه(‪)٢6‬يا ليت َها كان ِت الق ِ‬
‫ص ُّلوه(‪)٣١‬ث َّم في س ْلس َلة َذ ْرع َها َس ْبعو َن ذ َر ً‬
‫اعا‬ ‫ِ‬
‫يم َ‬ ‫س ْل َطا ِن َي ْه(‪)٢٩‬خذوه َفغ ُّلوه(‪)٣٠‬ث َّم ْال َج ِح َ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫اسلكوه﴾ [الحاقة‪.]٣٢ - ١٩ :‬‬ ‫َف ْ‬
‫ففي ذاك اليوم العظيم تتطاير الصحف؛ فآخذ كتابه باليمين وآخذ كتابه بالشمال‪.‬‬
‫أيضا تبدو لإلنسان األعمال التي قدمها‪:‬‬ ‫وفي ذلك اليوم ً‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ ََ ْ‬ ‫َ‬
‫َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت ‪َ ...‬و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ع ِل َم ْت ن ْفس َّما ق َّد َم ْت َوأ َّخ َر ْت﴾[االنفطار‪ ]٥ :‬في ذاك اليوم يقف اإلنسان‬ ‫َ‬

‫حاضرا‪ ،‬ويجازى عليه‪ ،‬فيرى أعماله كلها في كتاب ال يغادر‬ ‫ً‬ ‫على عمله‪ ،‬ويكون عمله كله‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حاضرا‪ ،‬ثم يجازى على العمل‬ ‫من أعماله صغيرة وال كبيرة إال أحصاها‪ ،‬وكل ذلك يجده‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َّ َ َ‬
‫﴿ليج ِزي ال ِذين أساءوا ِبما ع ِملوا ويج ِز ال ِذين أحسنوا‬
‫ي‬ ‫كما قال هللا سبحانه وتعالى‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿لت ْج َزى ك ُّل ن ْفس ِب َما ت ْس َعى﴾[طه‪.]١٥ :‬‬ ‫ْ ْ َ‬
‫ِبالحسنى﴾[النجم‪ِ ،]٣١ :‬‬

‫‪24‬‬
‫فهذا كله مما يدعو العبد إلى التيقظ والتفطن‪ ،‬وأن يأخذ نفسه بأخذ الحزم والعزم‪،‬‬
‫يزم زمامه بزمام الحق والهدى‪ ،‬وأن يحذر أشد الحذر من التفريط والتهاون‬ ‫وأن َّ‬
‫والتسويف والتأجيل‪ ،‬يحذر من ذلك أشد الحذر‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ ََ ْ‬ ‫َ‬
‫َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت ‪َ ...‬و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها‬

‫كل ذلك سيراه‪ ،‬ويلقاه في كتاب مسطور‪ ،‬حوى كل ما قدم املرء في هذه الحياة الدنيا من‬
‫َ َّ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫﴿ما َيل ِفظ ِمن ق ْول ِإال ل َد ْي ِه َر ِقيب َع ِتيد﴾[ق‪.]١٨ :‬‬ ‫أقوال أو أعمال‪:‬‬
‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫ب َأ ْي ِدي ْال ِك َرام ْال َكا ِتب َين ُم َس َّط ٌر‪َ ...‬ف َل ْم ُي ْغن َع ْن َها ُع ْذ ُرها َوج َد ُالهاَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َْ َ‬
‫اك تلقى َما ِإل ْي ِه َمآل َها‬ ‫هن ِالك تد ِري ِربحها وخسارها ‪ ...‬و ِإذ ذ‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫ُّ َ‬
‫الس َع ِاد ِة َوالتقى ‪ ...‬ف ِإ َّن ل َها ال ُح ْسنى ِب ُح ْس ِن ِف َع ِال َها‬ ‫َفإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫النعيم َو ُحور َها ‪َ ...‬و ُت ْح َب ُرفي َر ْو َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ ُ َ َّ‬
‫ض ِات َها َو ِظَل ِل َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِ ِ‬ ‫تفوز ِبجن ِ‬
‫َُ‬ ‫َو ُت ْر َز ُق م َّما َت ْش َتهي م ْن َنعيم َها ‪َ ...‬و َت ْش َر ُب م ْن َت ْ‬
‫يم َها َوزَل ِلها‬ ‫ِ ِ‬‫ن‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫****************‬
‫َّ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يقول رحمه هللا تعالى‪«ِ :‬بأ ْي ِدي ال ِك َر ِام الكا ِت ِبين ُم َسط ٌر»؛ الجار واملجرور هنا متعلق بما‬
‫جاء في البيت الذي قبله‪ :‬قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َ ََ ْ‬ ‫َ‬
‫َو َي ْب ُدو ل َد ْي َها َما أ َس َّرت َوأ ْعلنت ‪َ ...‬و َما ق َّد َمت ِم ْن ق ْو ِل َها َو ِف َع ِال َها‬
‫َّ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِبأ ْي ِدي ال ِك َر ِام الكا ِت ِبين ُم َسط ٌر‬
‫مسطرا‪ ،‬س ِطر بأيدي املالئكة الكاتبين كما قال هللا‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مكتوبا‬ ‫فكل ما قدمه العبد يجده‬
‫سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫﴿ما َيل ِفظ ِمن ق ْول ِإال ل َد ْي ِه َر ِقيب َع ِتيد﴾[ق‪ ]١٨ :‬وهللا سبحانه وتعالى َوكل إلى املالئكة‬
‫َ‬
‫خصهم بهذا األمر‪َ ،‬وكل إليهم كتابة األعمال وتسطيرها ونسخها فيكتبون كل ما‬ ‫الذين َّ‬

‫‪25‬‬
‫مسطرا من أقوال وأفعال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مكتوبا‬ ‫قدم‬ ‫يقوله العبد وكل ما يفعله العبد‪ ،‬فيرى العبد ما َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫مكتوبا‪ ،‬كتبته املالئكة بأيديها وسطرته على العبد كل أقواله وأعماله‪.‬‬ ‫يجد ذلك‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وفي ذلك اليوم الشأن كما قال هللا‪﴿ :‬ك ُّل أ َّمة ت ْد َعى ِإلى ِك َت ِاب َها ال َي ْو َم ت ْج َز ْو َن َما كنت ْم‬
‫ْ ََْ َ‬
‫نسخ ما كنتم تعملون﴾[الجاثية‪-٢٨ :‬‬
‫َ‬ ‫ت‬‫َت ْع َملو َن(‪َ )٢٨‬ه َذا ك َتاب َنا َينطق َع َل ْيكم ب ْال َح ِّۚق إ َّنا ك َّنا َن ْس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫َ ْ َ‬
‫نسخ﴾؛ أي‪ :‬مالئكتنا تكتب أعمالكم فتحص ى عليكم مسطرة مدونة مكتوبة‬ ‫‪﴿ ،]٢٩‬نست ِ‬
‫حاضرا وحينئذ فاألمر كما يقول رحمه هللا‪:‬‬ ‫ً‬ ‫في كتاب يجده العبد يوم القيامة‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ‬
‫«فل ْم ُيغ ِن َع ْن َها ُعذ ُرها َو ِج َدال َها» إذا قامت تعتذر وتجادل فال ينفع يومئذ املعذرة وال‬
‫وضيع‪ ،‬فال يفيد الجدال وال يفيد العذر في ذلك اليوم؛ ألن ذلك‬ ‫فرط َّ‬ ‫ينفع الجدال؛ ألنه َّ‬
‫اليوم هو يوم الجزاء ويوم الحساب‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َُ‬
‫«هن ِال َك ت ْد ِري ِرْب َح َها َوخ َسا َر َها» هنالك إذا أخذ الكتاب‪ ،‬ووجد فيه األعمال‬ ‫يقو ‪:‬‬
‫محصاة عليه‪ ،‬ولم َ‬ ‫ً‬
‫يبق إال حلول العقوبة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫«هن ِال َك ت ْد ِري ِرْب َح َها َوخ َسا َر َها» هنالك يظهر الرابح الذي ينقلب إلى أهله مسرو ًرا‬
‫والخاسر والعياذ باهلل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َْ َ‬
‫اك تلقى َما ِإل ْي ِه َمآل َها»؛ أي‪ :‬ما تؤول إليه؛ ألن ذاك اليوم هو يوم الجزاء‪:‬‬ ‫«و ِإذ ذ‬
‫ان‬‫فاملحسن يؤول أمره إلى الفوز باإلحسان‪ ،‬واملس يء يؤول أمره إلى العقوبة‪﴿ :‬ث َّم َك َ‬
‫ُّ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ‬
‫السوأى﴾[الروم‪.]١٠ :‬‬ ‫ين أ َساءوا‬ ‫عا ِقبة ال ِذ‬
‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫ين أ ْح َسنوا ِبالح ْس َنى﴾[النجم‪.]٣١ :‬‬ ‫وفي املحسن قال‪﴿ :‬ويج ِزي ال ِذ‬
‫َ ْ َ َ ْ ْ َ َّ ْ‬
‫اإل ْح َسان﴾[الرحمن‪.]6٠ :‬‬ ‫اإلحس ِان ِإال ِ‬ ‫﴿هل جزاء ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫«هن ِال َك ت ْد ِري ِرْب َح َها َوخ َسا َر َها»؛ هناك الرابح وهناك الخاسر‪،‬‬ ‫فصل ذلك قال‪:‬‬ ‫ثم َّ‬
‫أوال‪ :‬بالقسم الرابح‪ ،‬وذكر ما أ َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫عد لهم‪ :‬املآل الذي يؤول إليه أمرهم؛‬ ‫ففصل ذلك‪ ،‬فبدأ‬
‫ألن هذا اآلن‪ :‬األبيات اآلتية كلها تفصيل في املآل‪ :‬مآل الرابح‪ ،‬ومآل الخاسر‪.‬‬
‫أما مآل الرابح فيقول في تبيانه رحمه هللا‪:‬‬
‫الت َقى ‪َ ...‬فإ َّن َل َها ْال ُح ْس َنى ب ُح ْسن ِف َع ِالهاَ‬
‫َّ َ َ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ِإن تك ِمن أه ِل السع ِاد ِة و‬

‫‪26‬‬
‫ُّ َ‬
‫الس َع ِاد ِة َوالتقى» إذا كان العبد من أهل السعادة الذين كتب هللا‬ ‫«فإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫سبحانه وتعالى لهم السعادة‪ ،‬وسلك بهم طريق السعادة وأهل املالزمة لتقوى هللا «ف ِإ َّن‬
‫َ ْ َ‬
‫ل َها ال ُح ْسنى ِب ُح ْس ِن ِف َع ِال َها»‬
‫﴿ه ْل َج َزاء‬‫ين َأ ْح َسنوا ب ْالح ْس َنى﴾[النجم‪ ،]٣١ :‬وكما قال‪َ :‬‬ ‫﴿و َي ْجز َي َّالذ َ‬ ‫مثل ما قال هللا‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ ْ َ َّ ْ‬
‫اإل ْح َسان﴾[الرحمن‪.]6٠ :‬‬ ‫اإلحس ِان ِإال ِ‬ ‫ِ‬
‫فأهل السعادة والتقى لهم عند هللا الحسنى بحسن الفعال التي قدموها في هذه الحياة‬
‫َّ‬ ‫َ ُ ُ َ َّ‬ ‫الدنيا‪ .‬ثم َّ‬
‫ات الن ِع ِيم» التي أعدها هللا سبحانه وتعالى‬ ‫فصل في الثواب قال‪« :‬تفوز ِبجن ِ‬
‫ً‬
‫نزال لعباده املتقين وأوليائه املقربين‪.‬‬
‫ض ِات َها‬‫نعم «في َر ْو َ‬ ‫«و ُت ْح َب ُر»؛ أي‪ :‬ت َّ‬
‫«و ُحور َها»؛ أي‪ :‬ما أعد هللا لهم فيها من الحور العين َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نعمون‪َ ،‬وت ْح َبر؛ أي‪ :‬ت َّ‬ ‫ضة ي ْح َبر َ‬ ‫﴿فه ْم في َر ْو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نعم ِ«في‬ ‫ون﴾[الروم‪]١٥ :‬؛ أي‪ :‬ي َّ‬
‫ِ‬ ‫َو ِظَل ِل َها»‬
‫َر ْو َ‬
‫ض ِات َها»؛ أي‪ :‬روضات الجنة‪.‬‬
‫َ َ‬
‫«و ِظَل ِل َها»؛ أي‪ :‬يتنعمون ويهنئون ويتلذذون بنعيم الجنة‪.‬‬
‫َُ‬ ‫« َو ُت ْر َز ُق»؛ أي‪ :‬في الجنة «م َّما َت ْش َتهي م ْن َنع َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ‬
‫يم َها َوزَل ِلها»‬ ‫يمها وتشرب ِمن تس ِن ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫﴿و ِم َزاجه ِمن ت ْس ِنيم﴾[املطففين‪.]٢٧ :‬‬ ‫َ‬
‫ُ َ‬
‫يم َها َوزَل ِلها‬ ‫َو ُت ْر َز ُق م َّما َت ْش َتهي م ْن َنع َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ‬
‫يمها ‪ ...‬وتشرب ِمن تس ِن ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬أنهم يهنئون بنعيم الجنة‪ِ (( :‬ف َيها َما ال َع ْين َرأ ْت‪ ،‬وال أذن َس ِم َع ْت‪َ ،‬وال خط َر َعلى قل ِب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫َبشر))‪﴿ ،‬فال ت ْعلم ن ْفس َّما أخ ِف َي لهم ِمن ق َّر ِة أ ْعين َج َز ًاء ِب َما كانوا َي ْع َملون﴾[السجدة‪.]١٧ :‬‬

‫ثم ذكر بعد ذلك أعظم النعيم‪ ،‬وهو‪ :‬النظر إلى وجه هللا الكريم سبحانه وتعالى وهو‬
‫ْ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ين أ ْح َسنوا الح ْس َنى َو ِزَي َادة﴾[يونس‪.]٢6 :‬‬ ‫﴿لل ِذ‬‫الزيادة‪ِ :‬‬
‫فصل بعض الش يء في النعيم‪ :‬نعيم الجنة‪ ،‬وما أعده هللا سبحانه وتعالى ألهلها‬ ‫ً‬
‫وأيضا َّ‬
‫من صنوف النعيم وأنواع ِاملنن‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك انتقل رحمه هللا تعالى للكالم على القسم الثاني وهم‪ :‬املفرطون املضيعون‪،‬‬
‫َ ْ َُ ُْْ‬
‫«و ِإن تك ِن اْلخ َرى»‪.‬‬ ‫فأخذ يتحدث عنه عند قوله‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫ويبقى هذا القدر من َّ‬
‫النظم يستكمل بإذن هللا سبحانه وتعالى في لقاء الغد ونسأل هللا‬
‫الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفعنا أجمعين بما علمنا‬
‫وأن يزيدنا ً‬
‫علما‪ ،‬وأن يصلح لنا شأننا كله‪ ،‬وأن ال يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين‪ ،‬وأن يهدينا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مستقيما‪ ،‬إنه تبارك وتعالى سميع قريب مجيب‪.‬‬ ‫إليه صراطا‬
‫صل‬
‫سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك اللهم ِ‬
‫وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الدرس الثالث‬

‫الر ِحي ِم‬ ‫ِ‬


‫بِ ْس ِم اهلل َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ً‬
‫محمدا‬ ‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن‬
‫عبده ورسوله صلى هللا وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬اللهم علمنا ما ينفعنا‬
‫وانفعنا بما علمتنا وزدنا ً‬
‫علما‪ ،‬وأصلح لنا شأننا كله وال تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫نواصل القراءة في هذه القصيدة الهائية للعالمة حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا‬
‫تعالى‪ ،‬ونسأل هللا عز وجل أن ينفعنا أجمعين‪ ،‬وأن يلهمنا رشد أنفسنا‪ ،‬وأن يصلح لنا‬
‫شأننا كله‪ ،‬إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا و ِنعم الوكيل‪.‬‬

‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬وصلى هللا وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪ .‬اللهم اغفر لنا ولشيخنا وملشايخه وللمسلمين واملسلمات يا رب العاملين‪ .‬قال‬
‫رحمه هللا تعالى‪:‬‬

‫قال اإلمام العَلمة حافظ بن أحمد الحكمي رحمه هللا تعالى في القصيدة الهائية في‬
‫الترغيب والترهيب‪:‬‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َْ ََ‬ ‫َ‬
‫َو ِإ َّن ل ُه ْم َي ْو َم اْل ِز ِيد ْل ْو ِع ًدا ‪ِ ...‬زَي َادة ُزلف ٰى غ ْي ُر ُه ْم َل َينال َها‬
‫َّ َ َ َ ُ‬
‫الد ْم ِع كان ْاب ِتَلل َها‬ ‫ال َما ِب‬‫اظ ٌر‪َ ...‬ل َق ْد َط َ‬ ‫و‬‫وه إل ٰى َو ْجه ْاإل َلٰـه َن َ‬ ‫َ ُ ٌ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫وج ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ‬ ‫َت َج َّل ٰى َل َها َّ‬
‫اك الت َج ِلي َج َمال َها‬ ‫يم ُم َس ِل ًما ‪ ...‬فيزداد ِمن ذ‬ ‫الرح ُ‬
‫الر ُّب َّ ِ‬

‫******************‬

‫‪29‬‬
‫في هذه األبيات الثالثة يذكر الناظم رحمه هللا تعالى النعيم العظيم الذي هو أكمل‬
‫يكرم هللا سبحانه وتعالى به أهل اإليمان في جنات النعيم أال وهو‬ ‫ُّ‬
‫النعيم وأتمه‪ ،‬والذي ِ‬
‫النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َ‬
‫قال‪َ « :‬و ِإ َّن ل ُه ْم»؛ أي‪ :‬أهل الجنة‪.‬‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َْ ََ‬
‫َي ْو َم اْل ِز ِيد ْل ْو ِع ًدا ‪ِ ...‬زَي َادة ُزلف ٰى غ ْي ُر ُه ْم َل َينال َها‬

‫ويشرفهم بالنظر ِإليه‬ ‫ِ‬ ‫املراد بيوم املزيد‪ :‬يوم الجمعة‪ ،‬وفيه يكرمهم هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫َّ‬ ‫سبحانه وتعالى‪ ،‬كما جاء في مسند َّ‬
‫البزار ومعجم الطبراني وغيرهما في الحديث عن نبينا‬
‫َْ‬ ‫ََ ْ َ ْ‬
‫اآلخ َر ِة َي ْو َم امل ِز ِيد))‪.‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬وفيه أن جبريل قال‪(( :‬ونحن ندعوه ِفي ِ‬

‫اآلخ َر ِة))؛ يعني‪ :‬يوم الجمعة‪ :‬يوم املزيد‪ .‬وجاء في الحديث أن هللا‬ ‫ََ ْ َ ْ‬
‫((ونحن ندعوه ِفي ِ‬
‫نظرا إلى وجه هللا‬ ‫سبحانه وتعالى يزيد املؤمنين في ذلك اليوم من الكرامة؛ فيزدادون فيه ً‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫قال‪َ « :‬و ِإ َّن ل ُه ْم َي ْو َم اْل ِز ِيد ْل ْو ِع ًدا»‬
‫ً‬ ‫َ َْ‬
‫يادة على النعيم واإلكرام‪ ،‬الذي ُّ‬
‫يمن هللا سبحانه وتعالى به عليهم في‬ ‫« ِزَي َادة ُزلفى»؛ أي‪ :‬ز‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الجنة‪ ،‬فـ‪ِ (( :‬ف َيها َما ال َع ْين َرأ ْت‪ ،‬وال أذن َس ِم َع ْت‪َ ،‬وال خط َر َعلى قل ِب َبشر)) زيادة على‬
‫حسنوا الحسنى‬ ‫ذين َأ َ‬
‫ذلك يكرمهم هللا بالرؤيا‪ .‬وفي هذا يقول هللا عز وجل‪﴿ :‬ل َّل َ‬
‫ِ‬
‫َ َ‬
‫و ِزيادة﴾[يونس‪.]٢6 :‬‬

‫وقد جاءت السنة بتفسير الزيادة‪ :‬بالنظر إلى وجه هللا سبحانه وتعالى الكريم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َْ‬
‫مكانة ً‬
‫وقربا ومنزلة‪.‬‬ ‫« ِزَي َادة ُزلفى»؛ أي‪:‬‬
‫َ َّ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫«غ ْي ُر ُه ْم َل َينال َها» وفي هذا يقول هللا سبحانه وتعالى‪﴿ :‬كال ِإ َّنه ْم َعن َّ ِرب ِه ْم َي ْو َم ِئذ‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫مل ْحجوبون﴾[املطففين ‪ ،]١٥ :‬فال ينال هذه الرؤيا وال يشرف بها إال أهل اإليمان‪ ،‬فهم من‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫وعدوا بذلك‪(( :‬إ َّنك ْم َس َت َر ْو َن َرَّبك ْم َي ْو َم ْالق َي َامة‪ ،‬في َغ ْير َ‬
‫ض َّر َاء م ِض َّرة‪َ ،‬وال ف ْت َنة م ِضلة))‪.‬‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪30‬‬
‫اظ ٌر»‬ ‫وه إ َلى َو ْجه َ َ َ‬
‫ُ ُ ٌ‬
‫اإلل ِه نو ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫«وج ِ‬
‫« ُو ُج ٌ‬
‫وه»؛ أي‪ :‬وجوه أهل اإليمان‪.‬‬

‫اظ ٌر»؛ أي‪ :‬بأبصارها حقيقة‪ ،‬كما قال هللا سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وجوه‬ ‫«إ َلى َو ْجه اإل َله َن َ‬
‫و‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬
‫اض َرة(‪ِ )٢٢‬إلى َ ِرب َها ن ِ‬
‫اظ َرة﴾[القيامة‪.]٢٣ -٢٢ :‬‬ ‫يوم ِئذ ن ِ‬

‫اض َرة﴾ من النضرة‪ :‬وهي الحسن والبهاء‪.‬‬ ‫َّ‬


‫﴿ن ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حسنة َّ‬
‫بهية وهي تنظر إلى هللا‬ ‫اظ َرة﴾؛ أي‪ :‬بأبصارها‪ ،‬وح َّق لها أن تكون ناظرة‬ ‫﴿ ِإلى َ ِرب َها ن ِ‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ َ َ َ ُ‬ ‫« َل َق ْد َط َ‬
‫بالد ْم ِع كان ِا ْب ِتَلل َها»؛ أي‪ :‬كم ابتلت أعينهم في الدنيا‬ ‫ال»؛ أي‪ :‬في الدنيا « َما‬
‫بالدمع‪ ،‬ولعل املراد بالدمع هنا ما هو متعلق باملذكور في البيت وهو هذا النعيم‪ :‬النظر‬
‫إلى هللا سبحانه وتعالى‪ .‬قد ذكر اإلمام ابن القيم رحمه هللا تعالى في كتابه‪ :‬الزاد‪ ،‬أن البكاء‬
‫أنواع‪ ،‬وذكر رحمه هللا تعالى من جملتها‪ :‬بكاء املحبة‪ ،‬والشوق‪.‬‬

‫فكم اشتاقت قلوب في الدنيا وتاقت نفوسهم‪ ،‬وطمعوا غاية الطمع‪ ،‬وعظم رجاؤهم باهلل‬
‫ودعاؤهم إياه سبحانه وتعالى أن يكرمهم بهذا النظر‪ ،‬م ْؤتسين بنبيهم عليه الصالة‬
‫ض َّر َاء م ِض َّرة‪،‬‬ ‫الله َّم إني َأ ْس َأل َك َل َّذ َة َّ‬
‫الن َظر إ َلى َو ْجه َك ْال َكريم‪ ،‬في َغ ْير َ‬ ‫َّ‬
‫والسالم في دعائه‪(( :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫َوال ف ْت َنة م ِضلة))‪.‬‬
‫َ َّ َ‬ ‫« َت َج َّلى َل َها َّ‬
‫يم ُم َس ِل ًما»؛ التجلي‪ :‬الظهور‪ ،‬بل هو كمال الظهور‪« .‬ت َجلى ل َها»؛‬
‫الرح ُ‬
‫الر ُّب َّ ِ‬
‫أي‪ :‬لتلك الوجوه؛ فأكرمت بالنظر إلى الرب الكريم‪.‬‬
‫الرح ُ‬
‫يم»؛ ِوذكر هذا االسم هنا‪ :‬الرحيم؛ ً‬
‫تنبيها إلى أن هذه الكرامة العظمى إنما‬ ‫الر ُّب َّ ِ‬
‫« َّ‬
‫ََ َ ْ‬
‫ان ِبامل ْؤ ِم ِن َين َر ِح ًيما﴾[األحزاب‪.]4٣ :‬‬‫نالوها برحمة هللا ﴿وك‬

‫وقد جاء في صحيح مسلم في حديث جابر‪ ،‬وفيه قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫((ف َي َت َج َّلى َله ْم َي ْ‬
‫ض َحك))‪.‬‬
‫َ‬ ‫(( َف َي َت َج َّلى َله ْم))؛ أي‪ :‬هللا‪َ ،‬‬
‫((ي ْ‬
‫ض َحك))‪،‬‬
‫‪31‬‬
‫َ َ ً‬
‫وقول الناظم‪ُ « :‬م َس ِل ًما»؛ أي‪ :‬عليهم‪ .‬وهذا جاء في القرآن الكريم‪َ ﴿ :‬سالم ق ْوال ِمن َّرب‬
‫َ‬
‫ضمنه البيت‪ ،‬قال‪ُ « :‬م َس ِل ًما»‪ ،‬وفي اآلية‪َ ﴿ :‬سالم‬
‫َّر ِحيم﴾[يس‪ ]٥٨ :‬املضمون الذي في اآلية َّ‬
‫َ ً‬
‫ق ْوال ِمن َّرب َّر ِحيم ﴾[يس‪.]٨٥ :‬‬
‫َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َّ‬
‫اك الت َج ِلي»؛ أي‪ :‬الظهور‪ :‬ظهور الرب لهؤالء‪ ،‬فيرونه‪.‬‬‫«فيزداد ِمن ذ‬

‫سنا وجماال‪ ،‬فكلما كان هذا النظر زاد الحسن والجمال‪ ،‬وإذا‬
‫ً‬ ‫«ج َم ُال َها»؛ أي‪ :‬يزدادون ح ً‬
‫َ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫رجعوا إلى أهليهم كما جاء في الحديث يقولون لهم‪(( :‬ا ْز َد ْد ُّت ْم َب ْع َدنا ح ْس ًنا َو َج َماال))‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫ً‬
‫اض َرة(‪ِ )٢٢‬إلى َ ِرب َها‬
‫وهذا املعنى أيضا تدل عليه اآلية الكريمة املتقدم ذكرها‪﴿ :‬وجوه يوم ِئذ ن ِ‬
‫َ‬
‫اظ َرة﴾[القيامة‪.]٢٣ -٢٢ :‬‬
‫ن ِ‬
‫َ‬
‫وقد جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ِ (( :‬إذا‬
‫ال هللا‪َ :‬ه ْل تريدو َن َش ْي ًئا َأزيدك ْم؟ َف َيقولو َن‪َ :‬أ َل ْم ت َنج َنا منَ‬‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ْ َ َّ ْ َ َّ َ َ‬
‫دخل أهل الجن ِة الجنة‪ ،‬ق‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ََ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ‬
‫اب‪ ،‬ف َما أ ْعطوا ش ْي ًئا‬ ‫ض وجوهنا؟ قال‪ :‬فيكشف ال ِحج‬ ‫النار؟ َأ َل ْم ت ْد ِخ ْل َنا ْال َج َّن َة؟ َأ َل ْم ت َبي ْ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عز َّ‬
‫وجل))‪.‬‬ ‫الن َظر إ َلى هللا َّ‬ ‫َأ َح َّب إ َل ْيه ْم م َن َّ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫ْ َ َّ َ ْ َ ُ ُّ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ود ل ْم َيخافوا ز َوال َها‬ ‫ِب َمقع ِد ِصد ٍق حبذا الجارربهم ‪ ...‬ود ِارخل ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ َ‬ ‫َف َو اك ُه َها م َّما َت َل ُّذ ُع ُي ُ‬
‫ون ُه ْم ‪َ ...‬وتط ِر ُد اْل ْن َه ُار َب ْين ِخَل ِل َها‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ ٰ ُ ُ َ ْ ُ َ ُ َّ ُ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ً َ‬
‫اصفا ل َها‬ ‫على سر ٍرموضون ٍة ثم فرشهم ‪ ...‬كما قال ِفيها ربنا و ِ‬
‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ َ َ َ ُّ ُ‬ ‫َ‬
‫َبطا ِئ ُن َها ِإ ْست ْب َرق ك ْيف ظنك ْم ‪ ...‬ظ َو ِاه ُر َها َل ُمنت َهى ِل َج َم ِال َها‬

‫****************‬
‫في هذه األبيات يذكر الناظم حمه هللا تعالى ً‬
‫شيئا من أوصاف الجنة في ضوء ما دلت‬ ‫ر‬
‫عليه النصوص وجاءت به األدلة‪ ،‬فيقول‪ :‬أن هذا النعيم الذي يفوز به هؤالء‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫« ِب َمق َع ِد ِص ْد ٍق» واملراد بمقعد الصدق‪ :‬الجنة ﴿ ِإ َّن امل َّت ِق َين ِفي َج َّنات َو َن َهر(‪ِ )٥4‬في َم ْق َع ِد‬
‫ند َم ِليك ُّم ْق َت ِدر﴾[القمر‪ ]55 - 54 :‬والجنة سميت‪ :‬مقعد صدق؛ لحصول كل ما يراد‬ ‫ص ْدق ع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تاما يوصف بهذا الوصف‬ ‫من املقعد الحسن فيها فالش يء التام الذي حصل فيه املراد ًّ‬
‫مثل ما يقولون‪ :‬محبة صادقة‪ ،‬مودة صادقة‪ ،‬تعامل صادق‪.‬‬
‫ْ‬
‫« َمق َع ِد ِص ْد ٍق»؛ أي‪ :‬يجد من يفوز به كل ما يريد من‪ :‬املقعد الحسن‪ ،‬والنعيم‪ ،‬واللذة‪،‬‬
‫والهناءة‪ ،‬وقرة العين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫« َح َّبذا ال َج ُار رُّب ُه ْم»؛ وهذا فيه أن املعنى الذي جاء في اآلية‪ِ ﴿ :‬إ َّن امل َّت ِق َين ِفي َج َّنات‬
‫ند َم ِليك ُّم ْق َت ِدر﴾[القمر‪ ]55 - 54 :‬وفي دعاء مريم ابنة عمران قالت‪:‬‬ ‫َو َن َهر(‪)٥4‬في َم ْق َعد ص ْدق ع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫﴿ َر ِب ْاب ِن ِلي ِع ْن َد َك َب ْي ًتا ِفي ال َج َّن ِة﴾[التحريم‪ ]١١ :‬اختارت ‪ -‬كما ذكر أئمة التفسير وأهل العلم‬
‫‪ -‬الجار قبل الدار‪ ،‬قالت‪ :‬عندك في الجنة؛ فاختارت الجار قبل الدار‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫فقوله‪َ « :‬ح َّبذا ال َج ُاررُّب ُه ْم»؛ هذا مأخوذ من اآلية‪ِ ﴿ :‬إ َّن امل َّت ِق َين ِفي َج َّنات َو َن َهر(‪ِ )٥4‬في َم ْق َع ِد‬
‫ِص ْدق ِع ْن َد َم ِليك م ْق َت ِدر﴾[القمر‪.]٥٥ - ٥4 :‬‬
‫ََ ُُ َ َ ُ َ َ‬
‫ود ل ْم َيخافوا ز َوال َها»؛ أي‪ :‬الدار التي هي‪ :‬الجنة‪ ،‬والتي أكرمهم هللا سبحانه‬
‫«ود ِار خل ٍ‬
‫وتعالى هي دار خلود‪ ،‬خالدين فيها أبد اآلباد‪ ،‬في نعيم ال يحول وال يزول وال ينقطع وال‬
‫يفنى‪.‬‬
‫َ َ ُ َ َ‬
‫«ل ْم َيخافوا ز َوال َها»؛ بخالف النعيم الذي يظفر به اإلنسان في الدنيا فإنه عن قريب‬
‫ينقطع ويزول‪ ،‬أما نعيم الجنة فهو نعيم دائم أبدي‪ ،‬ال يحول وال يزول وال ينقطع‪.‬‬
‫ون ُه ْم»؛ يعني‪ :‬في الجنة من الفواكه والطعام ما لذ وطاب‪ ،‬كما قال‬ ‫« َف َو اك ُه َها م َّما َت َل ُّذ ُع ُي ُ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬و ِف َيها َما تش َت ِه ِيه األنفس َوتلذ األ ْعين َوأنت ْم ِف َيها خ ِالدون﴾[الزخرف‪.]٧١ :‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ َ‬ ‫َف َو اك ُه َها م َّما َت َل ُّذ ُع ُي ُ‬
‫ون ُه ْم ‪َ ...‬وتط ِر ُد اْل ْن َه ُار َب ْين ِخَل ِل َها‬ ‫ِ ِ‬

‫‪33‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬تجري األنهار من خالل هذه الجنة ﴿ت ْج ِري ِمن ت ْح ِت ِهم األ ْن َهار﴾ كما جاء في غير ما آية‬
‫من كتاب هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََٰ ُ ُ َ ْ ُ َ‬
‫ضون ٍة» كما في اآلية الكريمة‪َ ﴿ :‬على سرر َّم ْوضونة (‪ُّ )15‬م َّت ِك ِئ َين َعل ْي َها‬ ‫قال‪« :‬على سر ٍر مو‬
‫َْ ُ َ‬
‫ضون ٍة»؛ أي‪ :‬منسوجة بالذهب والجوهر‪ ،‬فتكون في‬ ‫م َت َق ِاب ِل َين﴾[الواقعة‪ ]١6 -١٥ :‬ومعنى «مو‬
‫غاية الحسن وتمام الجمال‪.‬‬
‫َ َ ٰ ُ ُ َ ْ ُ َ ُ َّ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ُّ َ َ ً َ‬
‫اصفا ل َها‬
‫على سر ٍرموضون ٍة ثم فرشهم ‪ ...‬كما قال ِفيها ربنا و ِ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ‬
‫« َبطا ِئ ُن َها ِإ ْست ْب َرق»؛ الفرش التي ينامون عليها أو الفرش التي يتكئون عليها بطائنها‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫استبرق كما في قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬م َّت ِك ِئ َين َعلى فرش َبطا ِئن َها ِم ْن ِإ ْس َت ْب َرق َو َج َنى‬
‫ْ‬
‫ال َج َّن َت ْي ِن َدان﴾[الرحمن‪.]٥4 :‬‬

‫واإلستبرق هو‪ :‬ما غلظ من الديباج‪.‬‬


‫َ‬ ‫َ ٌ َ َ َ ُّ ُ‬ ‫َ‬
‫َبطا ِئ ُن َها ِإ ْست ْب َرق ك ْيف ظنك ْم ‪ ...‬ظ َو ِاه ُر َها‬

‫إذا كان البطائن من إستبرق في غاية الحسن والجمال‪ ،‬فكيف ظنكم ظواهرها؟! إذا‬
‫كانت هذه البواطن فكيف الظواهر؟!‬

‫ولهذا جاء عن ابن عباس رض ي هللا عنهما أنه قال في تفسير هذه اآلية‪ :‬فما الظن‬
‫بالظواهر؟ وجاء عن ابن مسعود رض ي هللا عنه في تفسير هذه اآلية قال‪ :‬هذه البطائن‪،‬‬
‫فكيف لو رأيتم الظواهر؟ أي أنها في غاية الحسن والجمال‬
‫َ َْ‬
‫«َل ُمنت َهى ِل َج َم ِال َها»؛ أي‪ :‬جمال الظواهر؛ إذا كان البطائن من إستبرق فكيف‬
‫الظواهر؟! ال منتهى لجمال الظواهر‪.‬‬
‫َ ً َ‬ ‫َ‬
‫ض ِاج ِع َي ْدعون َرَّبه ْم خ ْوفا َوط َم ًعا َو ِم َّما‬ ‫قد قال هللا سبحانه‪َ ﴿ :‬ت َت َج َافى جنوبه ْم َعن ْاملَ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫َر َزق َناه ْم ي ِنفقون(‪)١6‬فال ت ْعلم ن ْفس َّما أخ ِف َي لهم ِمن ق َّر ِة أ ْعين َج َز ًاء ِب َما كانوا‬

‫‪34‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َي ْع َملون﴾[لسجدة‪ ،]١٧ -١6 :‬وفي الحديث قال‪ِ (( :‬ف َيها َما ال َع ْين َرأ ْت‪ ،‬وال أذن َس ِم َع ْت‪َ ،‬وال‬
‫َ َ َ َْ َ‬
‫خط َر َعلى قل ِب َبشر))‪.‬‬

‫نسأل هللا عز وجل أن يكرمنا أجمعين بدخولها‪ ،‬والفوز بهذا النعيم‪ ،‬نسأله تبارك وتعالى‬
‫الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫َ َ ََ َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫ْ َُ ُْْ َ‬
‫َو ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى ف َو ْي ٌل َو َح ْس َرة ‪َ ...‬ون ُار َج ِح ٍيم َما أش َّد نكال َها‬
‫َ ُ‬
‫وم َس َاء ِظَلل َها‬ ‫َل ُه ْم َت ْح َت ُه ْم م ْن َها م َه ٌاد َو َف ْو َق ُه ْم ‪َ ...‬غ َواش َوم ْن َي ْح ُم َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ان ْان ِح ََل ُلهاَ‬ ‫َْْ َ ُ َ َ‬ ‫َط َع ُام ُه ُم ْال ِغ ْس ِل ُين ِف َيها َوإ ْن ُس ُقوا ‪َ ...‬حم ً‬
‫يما ِب ِه اْلمعاء ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ََ َ‬ ‫َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ٌ َ‬
‫وج َوَل َم ْو ٌت ك َما َل فنا ل َها‬ ‫أما ِنيهم ِفيها الهَلك وما لهم ‪ ...‬خر‬

‫****************‬
‫ً‬ ‫ْ َُ ُْْ‬
‫قوله رحمه هللا‪َ « :‬و ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى» هذا معطوف على ما سبق؛ ألنه في ما سبق ذكر أوال‪:‬‬
‫الس َع ِاد ِة»‪ ،‬ثم ذكر أوصاف النعيم الذي أعده هللا ألهل‬ ‫قال‪َ « :‬فإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َُ‬
‫السعادة‪ ،‬ثم عطف‪ ،‬فقال‪َ « :‬و ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى»؛ أي‪ :‬أهل الشقاوة؛ ألن ما سبق هو ما‬
‫ُّ َ‬ ‫أعده هللا سبحانه وتعالى ألهل السعادة؛ ألنه قال‪َ « :‬فإ ْن َت ُك م ْن َأ ْهل َّ‬
‫الس َع ِاد ِة َوالتقى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َُ ُْْ‬ ‫َ َ‬
‫ف ِإ َّن ل َها» كذا وكذا إلى آخره‪ .‬ثم قال‪َ « :‬و ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى» األخرى؛ أي‪ :‬ضد السعادة‪:‬‬
‫الشقاوة‪.‬‬
‫ْ َُ ُْْ‬
‫« َو ِإن تك ِن اْلخ َر ٰى»؛ أي‪ :‬أهل الشقاوة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫«ف َو ْي ٌل َو َح ْس َرة»؛ أي‪ :‬ويل لها وحسرة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫والويل؛ قيل‪ :‬الخزي‪ .‬وقيل‪ :‬العذاب‪ .‬وقيل‪ :‬الهالك‪ .‬وقيل‪ :‬واد في جهنم‪ .‬قد جاءت هذه‬
‫ْ َ‬
‫اللفظة في مواطن عديدة في الوعيد للمكذبين املعرضين‪َ ﴿ :‬و ْيل َي ْو َم ِئذ ِللمك ِذ ِب َين﴾‪َ ﴿ ،‬و ْيل‬
‫ُّ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِللمط ِف ِف َين﴾‪َ ﴿ ،‬و ْيل ِلك ِل ه َم َزة مل َزة﴾‪.‬‬
‫ٌ‬
‫« َو َح ْس َرة»؛ أي‪ :‬ندامة وأسف‪ ،‬حيث ال تنفع الندامة وال يفيد األسف‪ .‬ويوم القيامة‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫يسمى‪ :‬يوم الحسرة ﴿ َوأ ِنذ ْره ْم َي ْو َم ال َح ْس َر ِة﴾[مريم‪]٣٩ :‬؛ ألنهم يتحسرون وتتقطع أفئدتهم‬
‫أسفا وندامة‪ ،‬لكن ال يفيدهم ذلك وال ينفعهم‪.‬‬ ‫ً‬

‫َ‬
‫« َون ُار َج ِح ٍيم»؛ أي‪ :‬أعدت لهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ‬
‫«ما أشد نكالها» النكال‪ :‬العقوبة‪ ،‬ما أشد العقوبة التي أعدت لهؤالء أهل الشقاوة في‬
‫النار‪ .‬ثم ذكر بعض األمثلة من ذلك‪ .‬قال‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫َل ُه ْم َت ْح َت ُه ْم م ْن َها م َه ٌاد َو َف ْو َق ُه ْم ‪َ ...‬غ َواش َوم ْن َي ْح ُم َ‬
‫وم َس َاء ِظَلل َها‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫في هذا البيت جمع رحمه هللا تعالى ما تضمنه قول هللا سبحانه في سورة األعراف‪﴿ :‬لهم‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِمن َج َه َّن َم ِم َهاد َو ِمن ف ْو ِق ِه ْم غ َواش َوكذ ِل َك ن ْج ِزي الظ ِ ِامل َين﴾ [األعراف‪.]4١ :‬‬
‫َ‬
‫﴿لهم ِمن َج َه َّن َم ِم َهاد﴾؛ أي‪ :‬فراش‪ ،‬فالفراش الذي يفترشونه من جهنم‪.‬‬
‫تلحفون به من فوقهم ً‬
‫أيضا من جهنم‪.‬‬ ‫﴿ومن َف ْوقه ْم َغ َواش﴾؛ أي‪ :‬اللحاف الذي َي ُّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬

‫لهم من جهنم مهاد ولهم منها من فوقهم غواش؛ فالفراش الذي يفترشونه هو من جهنم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ‬
‫والغطاء الذي يتغطونه من جهنم ﴿ َوكذ ِل َك ن ْج ِزي الظ ِ ِامل َين﴾‪.‬‬

‫ضمن هذا ما دل عليه قول هللا سبحانه‬ ‫وم َس َاء ِظ ََل ُل َها» َّ‬
‫وقوله رحمه هللا‪َ « :‬وم ْن َي ْح ُم َ‬
‫ِ‬
‫الش َم ِال(‪ِ )4١‬في َسموم َو َح ِميم(‪َ )4٢‬و ِظل ِمن‬ ‫اب‬ ‫ح‬‫صَ‬‫ص َحاب الش َمال َما َأ ْ‬ ‫وتعالى‪َ ﴿ :‬و َأ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫َي ْحموم(‪)4٣‬ال َبا ِرد َوال ك ِريم﴾[الواقعة‪.]44 - 4١ :‬‬

‫‪36‬‬
‫َ ُ‬ ‫فقوله‪َ « :‬وم ْن َي ْح ُم َ‬
‫وم َس َاء ِظَلل َها»؛ أي‪ :‬الظل الذي يستظلون به ظل من يحموم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫وصفه هللا سبحانه وتعالى بأنه من يحموم‪ ،‬واليحموم‪ :‬الدخان شديد السواد‪ .‬إضافة‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫إلى ذلك‪﴿ :‬ال َبا ِرد َوال ك ِريم﴾؛ ﴿ال َبا ِرد﴾؛ أي‪ :‬املنزل‪َ ﴿ ،‬وال ك ِريم﴾؛ أي‪ :‬املنظر‪ .‬فهذا ظالل‬
‫هؤالء في جهنم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ثم قال‪« :‬ط َع ُام ُه ُم ال ِغ ْس ِلين» طعامهم؛ أي‪ :‬الش يء الذي يطعمونه‪ :‬الغسلين كما قال‬
‫َ َ َ َ َّ ْ ْ‬ ‫هللا سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬ف َل ْي َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ‬
‫س له اليوم هاهنا ح ِميم(‪)٣٥‬وال طعام ِإال ِمن ِغس ِلين﴾[الحاقة‪٣٥ :‬‬

‫‪.]٣6 -‬‬
‫َ َ ْ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َط َع ُام ُه ُم ْال ِغ ْس ِل ُين ِف َيها َوإ ْن ُس ُقوا ‪َ ...‬حم ً‬
‫يما ِب ِه اْل ْم َع ُاء كان ان ِحَلل َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ‬
‫أي‪ :‬تتقطع بشربهم له األمعاء ﴿ َوسقوا َم ًاء َح ِم ًيما ف َقط َع أ ْم َع َاءه ْم﴾[محمد‪ ،]١٥ :‬ثم ختم‬
‫رحمه هللا تعالى ذكره لَلوصاف‪ :‬أوصاف النار‪ ،‬أعاذنا هللا عز وجل أجمعين منها وأهلينا‬
‫وذرياتنا‪ ،‬ختمها بقوله‪:‬‬
‫َ َ ََ َ‬ ‫َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ َ ُ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ٌ َ‬
‫وج َوَل َم ْو ٌت ك َما َل فنا ل َها‬‫أما ِنيهم ِفيها الهَلك وما لهم ‪ ...‬خر‬

‫هذه أربعة أمور ذكرها عن حال أهل النار‪ ،‬وهم في النار يذوقون فيها أشد العذاب‪:‬‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫اْلول‪« :‬أ َما ِن ُّي ُه ُم ِف َيها ال َهَل ُك»؛ يعني‪ :‬أكبر أمنية عنده في النار أن يهلك أن يموت‪ ،‬أن‬
‫يقض ى عليه فيموت‪ ،‬هذه أكبر أمنية‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ َيا ل ْي َت ِني كنت ت َر ًابا﴾[النبأ‪﴿ ،]4٠ :‬ال ي ْق َض ى َعل ْي ِه ْم ف َيموتوا﴾[فاطر‪ ]٣6 :‬فأمنيته أن يموت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ َ‬
‫هذه «أما ِنيهم ِفيها الهَلك»‪.‬‬
‫َ‬
‫وج»؛ أي‪ :‬من النار كما قال هللا سبحانه‪َ ﴿ :‬و َما هم ِبخا ِر ِج َين ِم َن‬ ‫الثاني‪َ « :‬و َما َل ُه ْم ُخ ُر ٌ‬
‫َّ‬
‫الن ِار﴾[البقرة‪.]١6٧ :‬‬
‫َ َّ َ َ‬
‫ين ك َفروا‬ ‫أيضا في آيات منها قول هللا سبحانه‪﴿ :‬وال ِذ‬ ‫واْلمرالثالث‪َ « :‬وََل َم ْو ٌت» وهذا جاء ً‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫له ْم نار َج َه َّن َم ال ي ْق َض ى َعل ْي ِه ْم ف َيموتوا َوال يخ َّفف َع ْنهم ِم ْن َعذ ِاب َها كذ ِل َك ن ْج ِزي ك َّل‬
‫‪37‬‬
‫َ ِّۚ َ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ص َطرخو َن ف َيها َرَّب َنا َأ ْخر ْج َنا َن ْع َم ْل َ‬‫َكفور(‪َ )٣6‬وه ْم َي ْ‬
‫ص ِال ًحا غ ْي َر ال ِذي ك َّنا ن ْع َمل أ َول ْم ن َع ِم ْركم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّما َي َت َذ َّكر فيه َمن َت َذك َر َو َج َاءكم َّ‬
‫َّ‬
‫الن ِذير فذوقوا ف َما ِللظ ِ ِامل َين ِمن َّن ِصير﴾[فاطر‪.]٣٧ - ٣6 :‬‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ ََ َ‬
‫«ك َما َل فنا ل َها»؛ أي‪ :‬أن هذه النار‪ :‬نار هؤالء الكفار ال تفنى‪ ،‬بل هي باقية أبد اآلباد‪،‬‬
‫ين ِف َيها‬‫وهم مخلدون في هذا العذاب أبد اآلباد‪ ،‬كما جاء في غير آية من القرآن‪َ ﴿ :‬خالد َ‬
‫ِِ‬
‫َ‬
‫أ َب ًدا﴾[النساء‪.]٥٧ :‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬


‫َ‬ ‫َ ََْ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َم َح َّل ْين ُق ْل ِل َّلن ْفس َل ْي َ‬
‫س ِس َو ُاه َما ‪ِ ...‬لتك ِس ْب أ ْو فلتكت ِس ْب َما َب َدا ل َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ً َ َ َ َ‬ ‫َ ُ َٰ َ ْ‬
‫س َج َّوزت وتخففت ‪ ...‬فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها‬
‫فطوبى ِلن ٍ‬
‫ف‬

‫****************‬
‫ً‬
‫ملا ذكر رحمه هللا تعالى ‪ -‬فيما تقدم ‪ -‬ما أعده هللا ألهل السعادة‪ ،‬وذكر جملة من أوصاف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشيرا في كل‬ ‫نعيم الجنة‪ ،‬وما أعده هللا ألهل الشقاوة‪ ،‬وذكر جملة من أوصاف النار‪،‬‬
‫ذلك إلى ما قد دلت عليه األدلة‪.‬‬
‫سس ُ‬
‫واه َما»‬ ‫للنف َ ْ‬
‫ً َ َ َّ ْ ُ ْ ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫س لي َ ِ‬‫ِ‬ ‫ل‬‫ق‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ي‬‫ل‬‫ح‬ ‫م‬‫«‬ ‫‪:‬‬‫ا‬‫ومذكر‬ ‫ا‬ ‫وواعظا ً‬
‫ومنبه‬ ‫ناصحا‬ ‫قال رحمه هللا تعالى‬
‫إما هذا أو هذا‪ ،‬يجب على كل إنسان أن ينصح لنفسه؛‬

‫ألن هذه الدار ال بد من االنتقال إليها واالرتحال إليها‪ ،‬وليس فيها إال محلين ال بد من‬
‫أحدهما‪.‬‬
‫سس ُ‬
‫واه َما» إما الجنة أو‬ ‫ومذكرا ً َ ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ َّ ْ ُ ْ َّ ْ‬
‫ومنبها «لي َ ِ‬ ‫ً‬ ‫ناصحا وواعظا‬ ‫س»؛ أي‪:‬‬ ‫«محلي ِن قل ِللن ِ‬
‫ف‬
‫الس ِع ِير﴾[الشورى‪ ]٧ :‬ليس هناك محل ثالث‪ ،‬ال يوجد بعد‬ ‫النار ﴿ َفريق في ْال َج َّن ِة َو َفريق في َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫االرتحال إلى الدار اآلخرة إال أحد هذين املحلين‪ :‬إما إلى الجنة‪ ،‬وإما إلى النار‪.‬‬
‫سس ُ‬
‫واه َما»؛ يعني‪ :‬ال يوجد محل ثالث سوى هذين املحلين‪ .‬إذن فماذا علينا؟!‬ ‫َْ‬
‫« لي َ ِ‬

‫‪38‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫ناصحا‪ِ « :‬لتك ِس ْب أ ْو فلتكت ِس ْب َما َب َدا ل َها» فإن هللا سبحانه وتعالى يقول‪﴿ :‬ل َها َما‬ ‫ً‬ ‫قال‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك َس َب ْت َو َعل ْي َها َما اكت َس َب ْت﴾[البقرة‪.]٢٨6 :‬‬
‫َْ‬
‫« ِلتك ِس ْب»؛ أي‪ :‬الحسنات‪ ،‬تكسب الحسنات والطاعات والق َرب التي يفوز اإلنسان‬
‫بفعلها بالجنات والدرجات العالية في الجنة‪.‬‬
‫َ ََْ ْ َ‬
‫«أ ْو فلتكت ِس ْب»؛ أي‪ :‬السيئات املوجبة لسخط الجبار ودخول النار‪ ،‬فإن األمر كما قال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هللا‪﴿ :‬ل َها َما ك َس َب ْت﴾[البقرة‪]٢٨6 :‬؛ أي‪ :‬من خير؛ فلها أجره وثوابه‪َ ﴿ ،‬و َعل ْي َها َما‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬
‫اكت َس َب ْت﴾[البقرة‪]٢٨6 :‬؛ أي‪ :‬من شر؛ فعليها وزره وعقابه‪ .‬هذا أو هذا « ِلتك ِس ْب أ ْو‬
‫َ‬ ‫ََْ ْ َ‬
‫فلتكت ِس ْب َما َب َدا ل َها»‬
‫َ ْ َ َّ َ َ‬
‫ين أ َساءوا ِب َما َع ِملوا َو َي ْج ِز َي‬ ‫فإن املوعد للمجازاة على األعمال يوم لقاء هللا ﴿ ِليج ِزي ال ِذ‬
‫ْ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ين أ ْح َسنوا ِبالح ْس َنى﴾[النجم‪ ،]٣١ :‬فهذا نصح عظيم من الشيخ رحمه هللا تعالى في أن‬ ‫ال ِذ‬
‫العبد إذا تأمل في هذه املواعظ وهذه‬

‫التذكيرات وما حواه ما سبق من ترغيب وترهيب ورجاء وخوف ورغبة ورهبة‪ ،‬ينتبه! وينبه‬
‫نفسه‪ ،‬ويذكرها باملصير واملآل‪ ،‬وأن األمر يوم القيامة ما ثمة إال جنة ونار‪ ،‬والجنة لها‬
‫أعمال والنار لها أعمال‪.‬‬
‫َ ََْ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫« ِلتك َس ْب أ ْو فلتكت ِس ْب» واحدة منها‪ :‬إن كسب األعمال الصالحة فاز بثوابها وأجرها‪،‬‬
‫س‬‫وإن اكتسب والعياذ باهلل! السيئات فاز بعقوبتها ووزرها‪ ،‬وال تنفع األماني‪َّ ﴿ :‬ل ْي َ‬
‫ب َأ َما ِنيك ْم َوَال َأ َما ِني َأ ْهل ْال ِك َتاب َمن َي ْع َم ْل س ً‬
‫وءا ي ْج َز ِب ِه﴾[النساء‪ ،]١٢٣ :‬ثم ختم رحمه هللا‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تعالى هذا النظم النافع املفيد بقوله‪:‬‬
‫َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ً َ َ َ َ‬ ‫َ ُ َٰ َ ْ‬
‫س َج َّوزت وتخففت ‪ ...‬فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها‬
‫فطوبى ِلن ٍ‬
‫ف‬
‫ْ َ ْ ْ‬
‫النظم إلى أوله؛ ألنه بدأ النظم بقوله‪َ « :‬و َما ِلي َو ِل ُّلدن َيا َول ْي َست ُببغ َي ِتي»‬
‫وفي هذا رد آلخر َّ‬

‫فختم بهذا البيت برد َعجز هذا النظم وآخره إلى صدره وأوله‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫َ ْ َ َ َّ َ ْ‬ ‫َ ُ َٰ َ ْ‬
‫س َج َّوزت وتخففت‬
‫قال‪ :‬فطوبى ِلن ٍ‬
‫ف‬

‫وب ٰى»؛ أي‪ :‬حال طيبة كريمة ومآل طيب وكريم في جنات الرضوان والفوز العظيم‬ ‫« ُط َ‬
‫الص ِال َح ِ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫ات طوبى لهم وحسن مآب﴾[الرعد‪.]٢٩ :‬‬
‫ين َآمنوا َو َعملوا َّ‬ ‫املقيم ﴿ َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ُ َٰ َ ْ‬
‫س»؛ أي‪ :‬تنبهت وتيقظت‪ ،‬ولم تغتر بهذه الحياة الدنيا وزخرفها « َج َّوزت‬ ‫«فطوبى ِلن ٍ‬
‫ف‬
‫جوزت؛ التجوز هو‪ :‬التخفيف‪ ،‬فلم تنهمك في هذه الدنيا وتكون حالها حال‬ ‫َوت َخ َّف َف ْت» َّ‬
‫الغافلين‪ ،‬الذين ال هم لهم إال الدنيا‪ ،‬فهي‬

‫شغلهم الشاغل‪ ،‬وهمهم العظيم‪ ،‬وهي أكبر همهم‪ ،‬ومبلغ علمهم‪ ،‬ومنتهى مقصودهم‪،‬‬
‫فسلم من ذلك‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ ْ َ َ َّ َ ْ‬ ‫َ ُ َ َْ‬
‫س َج َّوزت وتخففت» جوزت في هذه الدنيا‪ ،‬وتخففت من هذه الدنيا ولم‬
‫«فطوب ٰى ِلنف ٍ‬
‫تنهمك فيها وفي زخرفها ومتعها‪.‬‬
‫ََْ‬
‫«فتن ُجو»؛ أي‪ :‬يوم اللقاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ََ ً َ َ َ َ‬
‫سواء بسواء‪ ،‬ال يوجد موجب للعقاب‪ ،‬وال‬ ‫ً‬ ‫«كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها» يقال‪ :‬كفافا؛ أي‪:‬‬
‫ً ََْ َ َ ً َ َ َ َ‬
‫أيضا موجب للثواب‪ .‬هذا معنى كفافا «فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها»‬ ‫يوجد ً‬

‫ولعل مما يعين إعانة تامة في فهم املعنى الذي يشير إليه رحمه هللا تعالى أن نتأمل في‬
‫حديث خرجه الترمذي في جامعه‪ ،‬وقال عنه األلباني رحمه هللا‪ :‬صحيح اإلسناد‪ ،‬من‬
‫ً‬
‫حديث أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها‪ :‬أن رجال قعد بين يدي النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا إن لي مملوكين؛ أي‪ :‬عبيد أرقة‪ ،‬يكذبونني ويخونونني‬
‫ويعصونني‪ ،‬وأشتمهم وأضربهم‪ ،‬هذا الذي يكون منهم لي‪ ،‬وهذا الذي يكون مني لهم‪،‬‬
‫فكيف أنا منهم؟ كيف يكون أمري من هؤالء؟ هم هذا فعلهم‪ ،‬وهذا ً‬
‫أيضا أنا فعلي في‬
‫مقابل ما يفعلون قال النبي عليه الصالة والسالم‪(( :‬ي ْح َسب ‪ -‬يعني‪ :‬يوم القيامة ‪َ -‬ما‬
‫أيضا هذا في جهة أخرى يحسب ‪َ -‬فإ ْن َك َ‬
‫ان‬ ‫وك َو َك َذب َ‬
‫وك َوع َقاب َك إ َّياه ْم ‪ً -‬‬ ‫َخان َ‬
‫وك َو َعص َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪40‬‬
‫َ َ َ ً‬
‫ان ك َفافا‬ ‫مساويا لذنوبهم دون زيادة ودون نقصان ‪ -‬ك‬ ‫ً‬ ‫ِع َقاب َك ِإ َّياه ْم ِب َق ْد ِر ذن ِوب ِه ْم ‪-‬يعني‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ال ل َك َوال َعل ْي َك))؛ ألن هذه بهذه‪ ،‬سواء بسواء‪َ ﴿ .‬و ِإ ْن َعاق ْبت ْم ف َعا ِقبوا ِب ِمث ِل َما عو ِق ْبتم‬
‫ِب ِه﴾[النحل‪ ]١٢6 :‬هذا سواء بسواء‪ ،‬ال لك‬
‫ْ َ َ َ ً َ َ َ َ‬ ‫وال عليك‪ .‬قال‪َ (( :‬فإ ْن َك َ‬
‫ان ك َفافا ال ل َك َوال َعل ْي َك‪َ ،‬و ِإ ْن‬ ‫ان ِع َقاب َك ِإ َّياه ْم ِب َق ْد ِر ذن ِوب ِهم ك‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ان ِع َقاب َك إ َّياه ْم ف ْوق ذن ِوبه ْم اقت َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضال ل َك‪َ ،‬وإ ْن ك َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ان ف ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ان ع َقاب َك إ َّياه ْم دون ذنوبه ْم ك َ‬ ‫َك َ‬
‫ص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تماما فماذا فعل؟ فتنحى الرجل فجعل يبكي‬ ‫ض َل)) استوعب الرجل املعنى ً‬ ‫َله ْم م ْن َك ال َف ْ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ضع ْاملَ َواز َ‬ ‫اب هللا‪َ ﴿ :‬و َن َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ويهتف فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬أ َما َت ْق َرأ ِك َت َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ً َ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ‬
‫ال ِقسط ِليو ِم ال ِقيام ِة فال تظلم نفس شيئا و ِإن كان ِمثقال حبة ِمن خردل أتينا ِبها وكفى‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫اس ِب َين﴾[األنبياء‪ ]4٧ :‬حبة من خردل فكيف بأمور كبيرة؟! ﴿أت ْي َنا ِب َها َوك َفى ِب َنا‬ ‫َ َ‬
‫ِبنا ح ِ‬
‫شيئا ‪-‬يعني‪ :‬من حل في هذا‬ ‫َحاسب َين﴾‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬وهللا يا سول هللا! ما أجد لي ولهؤالء ً‬
‫ر‬ ‫ِ ِ‬
‫خيرا من مفارقتهم‪ ،‬أشهدكم أنهم أحرار كلهم‪.‬‬ ‫األمر‪ً -‬‬

‫فهذا الحديث يوضح لنا املعنى الذي يشير إليه الشيخ رحمة هللا عليه بقوله‪:‬‬
‫َ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ً َ َ َ َ‬ ‫َ ُ َٰ َ ْ‬
‫س َج َّوزت وتخففت ‪ ...‬فتن ُجو كفافا َل َعل ْي َها َوَل ل َها‬
‫فطوبى ِلن ٍ‬
‫ف‬

‫يبقى األمر هنا في هذا الباب أن يسبر املرء نفسه ويتأمل في أعماله‪ .‬هذا مثال اآلن فقط‬
‫يوضح املسألة فيما يتعلق بالرقيق‪ ،‬لكن قل مثله في البيع في الشراء في الخدم في السائق‬
‫في إلى آخره‪ ،‬في كل ما تتعامل به مع الناس والتعامل مع الناس تعامل مع أجناس في‬
‫معادنهم وأخالقهم وصفاتهم فلينظر املرء في هذا الباب‪ ،‬إن كان صار إلى هذا السبيل‬
‫والتجوز والتخفف حتى يكون بهذه الحال‪ :‬ال عليه وال له‪ ،‬أو يكون في غاية اليقظة يعمل‬
‫نصف؛ ألن الحساب باملوازين مثقال‬ ‫ويتعامل ويكون عنده الخدم وال حرج عليه‪ ،‬لكنه ي ِ‬
‫أحدا على إساءة إن لم يتفضل فإياه والظلم‪ ،‬فالظلم ظلمات يوم‬ ‫ذرة‪ .‬وإذا عاقب ً‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َّ‬
‫ّللا ِإ َّنه ال ي ِح ُّب‬
‫القيامة ﴿وجزاء س ِيئة س ِيئة ِمثلها فمن عفا وأصلح فأجره على ِ‬
‫َّ‬
‫الظ ِ ِامل َين﴾[الشورى‪ ]4٠ :‬هذه مراتب‪ ،‬املراتب ثالثة‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ - 1‬إما أن يجازي باْلثل‪ ،‬فهذا ال عليه وال له‪.‬‬

‫‪ - 2‬وإما أن يعفو‪ ،‬وهذا فضل منه على من عفا عنه‪.‬‬

‫عقوبة أشد‪ ،‬هذا ال يحبه هللا‪ ،‬ويعاقبه هللا سبحانه وتعالى‬


‫ٍ‬ ‫‪ - 3‬وإما أن يعاقبه بظلم‪:‬‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫يذكر نفسه ً‬
‫دائما‬ ‫فالحاصل‪ :‬أن العبد ينبغي أن يكون في هذا الباب في تمام اليقظة‪ ،‬وأن ِ‬
‫بالوقوف بين يدي هللا وبالحساب‪ ،‬وأن املوازين تنصب يوم القيامة‪ ،‬وأن الحقوق تؤدى‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫((لتؤ ُّد َّن الحقوق َي ْو َم ال ِق َي َام ِة)) فيكون في غاية الحيطة وتمام الحذر‪ ،‬ويسأل ربه تبارك‬
‫وتعالى النجاة واملعونة والتوفيق والسداد‪ ،‬فإن األمر بيده وحده ال شريك له‪.‬‬

‫نسأل هللا الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهدينا أجمعين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مستقيما‪ ،‬وأن يصلح لنا شأننا كله‪ ،‬وأن ال يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين‪ ،‬وأن‬ ‫إليه صراطا‬
‫يغفر لنا ولوالدينا وملشايخنا ولوالة أمرنا وللمسلمين واملسلمات واملؤمنين واملؤمنات‬
‫األحياء منهم واألموات‪ ،‬إنه تبارك وتعالى سميع قريب مجيب‪ ،‬سبحانك اللهم وبحمدك‪،‬‬
‫أشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك‪ ،‬اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك‬
‫نبينا محمد وآله وصحبه‪.‬‬

‫‪42‬‬

You might also like