You are on page 1of 52

‫حتت إشراف الشيخ‬

‫شرح العقيدة الواسطية‬


‫مقرر األسبوع التاسع‬
‫﴿َل َت ْح َزنْ إِ َّن ال َّل َه َم َع َنا﴾) إىل قوله‪َ ( :‬و َه َذا لِ َسانٌ َع َربِ ٌّي‬
‫من قوله‪َ ( :‬و َق ْولِ ِه‪َ :‬‬
‫ُمبِ ٌ‬
‫ين﴾)‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪2‬‬

‫﴿َل َت ْح َزنْ إِ َّن ال َّل َه َم َع َنا﴾‪.‬‬ ‫َو َق ْولِ ِه‪َ :‬‬


‫س َم ُع َو َأ َرى﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫﴿إِنَّني َم َع ُك ََم َأ ْ‬
‫ين ُه ْم ُُمْ ِسنُونَ ﴾‪.‬‬
‫ين ا َّت َق ْوا َوا َّل ِذ َ‬‫﴿إِ َّن ال َّل َه َم َع ا َّل ِذ َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫الصابِرِ َ‬‫اصبِ ُروا إِ َّن ال َّل َه َم َع َّ‬
‫﴿و ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ ٍ‬
‫﴿ َك ْم م ْن ف َئة َقلي َلة َغ َل َب ْت ف َئ ًة َكث َير ًة بِإِ ْذ ِن ال َّله َوال َّل ُه َم َع َّ‬
‫الصابِرِ َ‬
‫ين﴾)‪.‬‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫أن ال َّله مع مجيع خ ْلقه مع َّي ًة عا َّم ًة‬
‫قرر لك المصنِّف رمحه اهلل َّ‬
‫لما َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫آيات‬ ‫الخاصة‪ ،‬فساق هنا َخمس‬ ‫َّ‬ ‫م َّطل ٌع عليهم؛ بدأ ِّ‬
‫يقرر لك المع َّية‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إلثبات المع َّية‬
‫الخاصة تنقسم إىل قسمين جاءت النصوص هبا‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫والمع َّية‬
‫سماهم ال َّله عز وجل؛ وهذا‬ ‫ٍ‬ ‫خاص ٌة‬ ‫ِ‬
‫ألشخاص َّ‬ ‫األول‪ :‬مع َّي ٌة َّ‬
‫القسم َّ‬
‫من باب التشريف لهم والتعظيم‪ ،‬وقد جاء النَّص يف هذا ألربعة‬
‫ٍ‬
‫أشخاص‪:‬‬
‫أن ال َّله مع الن َِّّبي صىل اهلل عليه وسلم وأبي ٍ‬
‫بكر‬ ‫األول‪ :‬وفيه َّ‬
‫النَّص َّ‬
‫رضي اهلل عنه؛ قال تعاىل‪﴿ :‬إ ْذ ُه َما في ا ْل َغار إ ْذ َي ُق ُ‬
‫ول ل َصاحبه ََل َت ْح َز ْن إ َّن‬

‫ال َّل َه َم َعنَا﴾ [التوبة‪]40 :‬؛ هذه مع َّي ٌة َّ‬


‫خاص ٌة بالحفظ والنَّصر والتَّأييد‪.‬‬
‫‪3‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫والنَّص الثاين‪ :‬جاء يف حق موسى وهارون؛ قال ال َّله لهما‪﴿ :‬إنَّني‬


‫خاص ًة‪َ ﴿ ،‬أ ْس َم ُع َو َأ َرى﴾ [طه‪ ،]46 :‬وسأنصركما‪.‬‬
‫َم َع ُك َما﴾ مع َّي ًة َّ‬
‫خاص ٌة أيض ًا‬ ‫ٍ‬ ‫خاص ٌة لمن ا َّت َ‬ ‫ِ‬
‫صف بأوصاف‪ ،‬وهذه َّ‬ ‫القسم الثاين‪ :‬مع َّي ٌة َّ‬
‫ن﴾ [البقرة‪:‬‬
‫الصابري َ‬
‫َّ‬ ‫اصب ُروا إ َّن ال َّل َه َم َع‬
‫﴿و ْ‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬مثل قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫[النحل‪:‬‬ ‫‪ ،]153‬وقوله‪﴿ :‬إ َّن ال َّل َه َم َع ا َّلذي َن ا َّت َق ْوا َوا َّلذي َن ُه ْم ُم ْحسن َ‬
‫ُون﴾‬
‫مما جاءت به النصوص؛ فقد نال مع َّي ًة‬
‫‪ ،]128‬فمن ح َّقق هذه األوصاف َّ‬
‫ألن ال َّله كان معه َ‬
‫ونص َره وأ َّيدَ ه ونحو ذلك من‬ ‫خاص ًة ُيحمد عليها؛ َّ‬
‫َّ‬
‫المعاين‪.‬‬
‫الخاصة‬ ‫األول ‪ -‬المع َّية‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫فذكر المصنِّف رمحه اهلل يف القسم َّ‬
‫سماهم ال َّله عز وجل ‪ -‬آيتين‪ ،‬فقال يف اآلية األولى‪َ ( :‬و َق ْولِ ِه‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ألشخاص َّ‬
‫﴿َل َت ْح َزنْ إِ َّن ال َّل َه َم َع َنا﴾)‪.‬‬
‫َ‬
‫هذا يف قصة النبي صىل اهلل عليه وسلم مع أبي ٍ‬
‫بكر رضي اهلل عنه‬
‫لما قربوا‬ ‫حينما كانا يف الغار‪ ،‬فخاف أبو ٍ‬
‫بكر رضي اهلل عنه من األعداء َّ‬
‫منهما‪ ،‬فقال‪ :‬لو َّ‬
‫أن أحدهم أبصر تحت قدمه لرآنا‪ ،‬فقال النبي صىل اهلل‬
‫﴿َل َت ْح َزنْ إِ َّن ال َّل َه َم َع َنا﴾) فال َّله معهم حقيق ًة َل بذاته‪.‬‬
‫عليه وسلم‪َ ( :‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪4‬‬

‫ٌ‬
‫رسول وصدِّ ٌيق؟‬ ‫فإذا قيل‪ :‬كيف هو مع هؤَلء الصفوة من خلقه‪،‬‬
‫نقول‪ :‬معهم بنصره وتأييده لهم وكالءته وح ْفظه من األعداء لهم‪.‬‬
‫وأول اآلية‪﴿ :‬إ ََّل َتن ُْص ُرو ُه﴾‪ ،‬فمن مقتضيات المعية الخاصة‪:‬‬
‫َّ‬
‫النُّصرة‪ ،‬والنُّصرة هنا يف اآلية أتت يف ثالثة مواضع‪:‬‬
‫األول‪ :‬قوله‪ ﴿ :‬إ ْذ َأ ْخ َر َج ُه ا َّلذي َن َك َف ُروا َثان َي ا ْثنَ ْين﴾ فال َّله‬
‫إذْ‬

‫الموضع َّ‬
‫لما أرادا الخروج‪.‬‬
‫نصرمها يف اإلخراج‪ ،‬فلم يقتلومها َّ‬
‫والموضع الثاين‪ :‬قوله‪﴿ :‬إ ْذ ُه َما في ال َغار﴾ أيض ًا ال َّله عز وجل‬
‫نصرمها إ ْذ مها يف الغار فلم ينهدم عليهما الغار‪ ،‬ومل يسقط عليهما‪.‬‬
‫والموضع الثالث‪ :‬إ ْذ َهاب الحزن عنهما؛ ﴿إ ْذ َي ُق ُ‬
‫ول ل َصاحبه ََل‬
‫َت ْح َز ْن﴾‪.‬‬
‫ففي هذه الثالثة‪﴿ :‬إ َّن ال َّله معنَا َف َأن َْز َل ال َّله سكينَ َته َع َليه و َأيدَ ه بجن ٍ‬
‫ُود‬ ‫ُ ْ َ َّ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ََ‬
‫الس ْف َلى َوكَل َم ُة ال َّله ه َي ال ُع ْل َيا َوال َّل ُه‬
‫َل ْم َت َر ْو َها َو َج َع َل كَل َم َة ا َّلذي َن َك َف ُروا ُّ‬
‫الخاصة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫أن من مقتضيات المع َّية‬ ‫يم﴾ [التوبة‪]40 :‬؛ َّ‬
‫فدل عىل َّ‬ ‫َعز ٌيز َحك ٌ‬
‫والسكينة‪ ،‬وقد ُينزل ال َّله عز وجل جند ًا من عنده لتثبيت ذلك‬
‫النُّصرة‪َّ ،‬‬
‫الشخص‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫األول‪ ،‬وهي قوله سبحانه‪:‬‬


‫ثم ذكر رمحه اهلل اآلية الثانية يف القسم َّ‬
‫س َم ُع َو َأ َرى﴾)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫(﴿إِنَّني َم َع ُك ََم َأ ْ‬
‫س َم ُع َو َأ َرى﴾) هذا يف موسى وهارون عليهما‬ ‫ِ‬
‫(﴿إِنَّني َم َع ُك ََم َأ ْ‬
‫السالم‪ ،‬ذكر ال َّله عز وجل بأنَّه معهما َّ‬
‫لما أمرمها سبحانه وتعاىل بالذهاب‬
‫َل َل ِّين ًا َل َع َّل ُه َيت ََذك َُّر َأ ْو َي ْخ َشى * َق َاَل َر َّبنَا إ َّننَا‬
‫وَل َل ُه َق ْو ً‬
‫إىل فرعون؛ قال‪َ ﴿ :‬ف ُق َ‬
‫اف َأ ْن َي ْف ُر َط َع َل ْينَا َأ ْو َأ ْن َي ْط َغى * َق َال ََل َت َخا َفا إنَّني َم َع ُك َما َأ ْس َم ُع‬ ‫ن َ‬
‫َخ ُ‬
‫َو َأ َرى﴾ [طه‪.]46-44 :‬‬
‫س َم ُع َو َأ َرى﴾) وسوف أنصركما‪ ،‬فال تخافا‪ ،‬وأنا مع‬
‫(﴿ َم َع ُك ََم َأ ْ‬
‫فرعون بعلمي بما سيمكره ويقوله لكم‪ ،‬ولكني أنا معكم ‪ -‬إضاف ًة إىل‬
‫خاص ٌة‪.‬‬
‫علمي بكم ‪ -‬بتأييدي ونصري لكم؛ فهنا مع َّي ٌة َّ‬
‫ُثم بعد ذلك يذكر رمحه اهلل ثالث آيات يف ِ‬
‫القسم الثاين ‪ -‬المع َّية‬
‫ألولى وهي قوله سبحانه‪:‬‬ ‫بأوصاف ‪ ،-‬فذكر اآلية ا ُ‬ ‫ٍ‬ ‫صف‬‫الخاصة لمن ا َّت َ‬ ‫َّ‬
‫ين ُه ْم ُُمْ ِسنُونَ ﴾)‪.‬‬
‫ين ا َّت َق ْوا َوا َّل ِذ َ‬
‫(﴿إِ َّن ال َّل َه َم َع ا َّل ِذ َ‬

‫ذكر هنا وص َف ْين‪:‬‬


‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪6‬‬

‫األول‪﴿( :‬إِ َّن ال َّل َه َم َع ا َّل ِذ َ‬


‫ين ا َّت َق ْوا﴾) فمن اتقى ال َّله‪ :‬كان‬ ‫الوصف َّ‬
‫ور َزقه من حيث َل يحتسب‪.‬‬ ‫ال َّله معه‪ ،‬وجعل له َف َرج ًا َ‬
‫ين ُه ْم ُُمْ ِسنُونَ ﴾) اإلحسان يف أمرين‪:‬‬
‫والوصف الثاين‪َ ﴿( :‬وا َّل ِذ َ‬
‫إحسان يف إتقان العبادة ل َّله سبحانه‪ ،‬كما قال الن َُّّبي‬
‫ٌ‬ ‫األول‪:‬‬
‫األمر َّ‬
‫عليه الصالة والسالم ‪ -‬يف حديث عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يف‬
‫أن َت ْع ُبدَ ال َّل َه كَأن ََّك َت َرا ُه‪َ ،‬فإ ْن‬
‫ان ْ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ٍ‬
‫مسلم الشهير ‪َ « :-‬ق َال‪ :‬اإل ْح َس ُ‬ ‫صحيح‬
‫َل ْم َت ُك ْن َت َرا ُه فإ َّن ُه َي َر َ‬
‫اك»‪.‬‬

‫واألمر الثاين‪ :‬اإلحسان إىل الخ ْلق؛ َّ‬


‫بالسعي يف تفريج كروهبم‪،‬‬
‫وقضاء حاجاهتم ونحو ذلك‪.‬‬
‫فال َّله سبحانه وتعاىل مع المتقي بتيسير أموره وتسديده وتوفيقه‬
‫المحسن الذي‬
‫ونصرته وتأييده وغير ذلك من صفات الربوبية‪ ،‬ومع ُ‬
‫ُيحسن إىل خلقه ويحسن يف عبادته ال َّله‪ ،‬وهذه المع َّية كما يليق بجالله‬
‫أن القمر ليس ممتزج ًا‬
‫وعظمته‪َ ،‬ل تقتضي امتزاج ًا وَل اختالط ًا‪ ،‬فكما َّ‬
‫وَل مختلط ًا بنا؛ كذلك رب العالمين ليس ممتزج ًا بنا وَل مختلط ًا بنا‪،‬‬

‫(‪ )1‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب اإليمان ما هو وبيان خصاله‪ ،‬رقم (‪.)8‬‬


‫‪7‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫ٍ‬
‫مستو عىل عرشه بائن من خ ْلقه‪ ،‬فهو مع خلقه سبحانه كما يليق‬ ‫فهو‬
‫بجالله وعظمته‪.‬‬
‫اصبِ ُروا إِ َّن ال َّل َه َم َع‬
‫﴿و ْ‬
‫ثم ذكر اآلية الثانية وهي قوله سبحانه‪َ ( :‬‬
‫َّ‬
‫الصابِرِ َ‬
‫ين﴾)‪.‬‬ ‫َّ‬
‫بأن ال َّله عز وجل‬
‫ف‪َّ ،‬‬
‫وص ٌ‬
‫ين﴾) هنا ْ‬ ‫اصبِ ُروا إِ َّن ال َّل َه َم َع َّ‬
‫الصابِرِ َ‬ ‫﴿و ْ‬
‫( َ‬
‫مع َمن ح َّقق الصبر‪ ،‬والصبر له ثالثة أقسا ٍم‪:‬‬
‫األول‪ :‬الصبر عىل الطاعة؛ وهذا أفضلها‪ ،‬مثل‪ :‬الصبر عىل‬ ‫ِ‬
‫القسم َّ‬
‫طلب العلم‪ ،‬والصبر عىل حفظ القرآن‪ ،‬والصبر عىل الصلوات؛ َّ‬
‫ألن هذه‬
‫باختيار المرء‪ ،‬فيصبر؛ لينال األجر‪.‬‬
‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬الصبر عن المعاصي‪ ،‬مثل‪ْ :‬‬
‫أن يصبر اإلنسان عن‬
‫حرم ال َّله ونحو ذلك‪.‬‬
‫السرقة‪ ،‬وعن ُش ْرب الخمر‪ ،‬وعن النَّظر إىل ما َّ‬
‫والقسم الثالث‪ :‬الصبر عىل المصائب‪ ،‬مثل‪ :‬األمراض‪ ،‬أو الوفاة‬ ‫ِ‬

‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫فمن ح َّقق الصبر يف هذه المراتب الثالث‪ :‬كان ال َّله عز وجل معه‪،‬‬
‫ومن ح َّققه وهو من أهل العلم‪ :‬كان إمام ًا يف الدِّ ين؛ قال سبحانه‪:‬‬
‫ون ب َأ ْمرنَا َل َّما َص َب ُروا َوكَانُوا بآ َياتنَا ُيوقن َ‬
‫ُون﴾‬ ‫﴿و َج َع ْلنَا من ُْه ْم َأئ َّم ًة َي ْهدُ َ‬
‫َ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪8‬‬

‫[السجدة‪ ،]24 :‬قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪« :‬وإنَّما ُتنال اإلمامة يف الدين‪:‬‬
‫بالعلم والصبر» ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬

‫يفرج كروبه‪ ،‬ويعطيه ُس ْؤ َله‪ ،‬و ُي َي ِّسر‬ ‫ٍ‬


‫صابر‪ :‬ال َّله عز وجل معه ِّ‬ ‫ُّ‬
‫فكل‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أموره‪ ،‬و ُيح ُّبه الخ ْلق‪ ،‬وهكذا من مقتضيات المع َّية‬
‫ف اآلية الثالثة وفيها نفس الوصف السابق ‪ -‬وهو‬ ‫ُثم ذكر المصنِّ ُ‬
‫الصبر ‪ ،-‬وهي قوله‪َ ﴿( :‬ك ْم ِم ْن فِ َئ ٍة َقلِي َل ٍة َغ َل َب ْت فِ َئ ًة َكثِ َير ًة بِإِ ْذ ِن ال َّل ِه َوال َّل ُه‬
‫ين﴾)‪.‬‬ ‫الصابِرِ َ‬
‫َم َع َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ ٍ‬
‫(﴿ َك ْم م ْن ف َئة َقلي َلة َغ َل َب ْت ف َئ ًة َكث َير ًة بِإِ ْذ ِن ال َّله َوال َّل ُه َم َع َّ‬
‫الصابِرِ َ‬
‫ين﴾)‬
‫أن الصابرين يف حال القتال‪ :‬ال َّله معهم‪،‬‬
‫ِّف رمحه اهلل؛ لبيان َّ‬
‫ساقها المصن ُ‬
‫فاآلية السابقة يف الصابرين يف القتال وغيره‪ ،‬وهنا يف هذه اآلية ُخ َّ‬
‫ص‬
‫القتال بذاته‪.‬‬
‫الخاصة هي‬
‫َّ‬ ‫مما َسبق‪َّ :‬‬
‫أن المع َّية تنقسم إىل قسمين‪ ،‬والمع َّية‬ ‫فتب َّين َّ‬
‫التي يجب عىل المسلم أن َيسعى لتحقيقها‪ ،‬أ َّما المع َّية العا َّمة فهي كائن ٌة‬
‫من ال َّله عز وجل‪ ،‬فهي من مقتضيات ربوبيته سبحانه‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم (‪.)39/10‬‬


‫‪9‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫والخاصة؛‬
‫َّ‬ ‫و ُق ْرب ال َّله عز وجل من خ ْلقه َل َينقسم كالمع َّية العا َّمة‬
‫قرب واحدٌ لعابديه وداعيه؛ لقول النبي صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫وإنَّما هو ٌ‬
‫« َأ ْق َر ُب َما َي ُك ُ‬
‫ون ا ْل َع ْبدُ م ْن َر ِّبه َو ُه َو َساجدٌ » ‪ ،‬ولقول النبي صىل اهلل عليه‬
‫( ‪)1‬‬

‫ون َأ ْق َر ُب إ َلى َأ َحدك ُْم م ْن ُعنُق َراح َلته» ‪.‬‬


‫( ‪)2‬‬ ‫وسلم‪« :‬إ َّن ا َّلذي َتدْ ُع َ‬
‫فالمع َّية صف ٌة‪ ،‬وال ُق ْرب صف ٌة‪ ،‬ونزول ال َّله عز وجل يف الثلث األخير‬
‫والدنو يف َع َر َفة‪ :‬صف ٌة أخرى أيض ًا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫من ال َّليل‪ :‬صف ٌة أيض ًا‪،‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب ما يقال يف الركوع والسجود‪ ،‬رقم (‪،)482‬‬


‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ )19599‬من حديث أبي موسى األشعري رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪10‬‬

‫﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق ِم َن ال َّل ِه َح ِديث ًا﴾‪.‬‬ ‫َو َق ْولِ ِه‪َ :‬‬


‫ال﴾‪.‬‬ ‫﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق ِم َن ال َّل ِه قِي ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫يسى ا ْب َن َم ْر َي َم﴾‪.‬‬ ‫﴿وإِ ْذ َق َال ال َّل ُه َيا ع َ‬ ‫َ‬
‫َل﴾‪.‬‬ ‫﴿و َت َّم ْت َكلِ َم ُت َر ِّب َك ِص ْدق ًا َو َع ْد ً‬ ‫َ‬
‫سى َت ْكلِيَم﴾‪.‬‬ ‫﴿و َك َّل َم ال َّل ُه ُمو َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫﴿م ْنهُ ْم َم ْن َك َّل َم ال َّل ُه﴾‬
‫سى لِ ِمي َقاتِ َنا َو َك َّل َم ُه َر ُّب ُه﴾‪.‬‬ ‫﴿و َل ََّم َجا َء ُمو َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫َيذكر رمحه اهلل يف هذه اآليات‪ :‬صفة الكالم ل َّله‪ ،‬وَل ُيثبت هذه‬
‫السنَّة والجماعة‪.‬‬
‫الصفة سوى أهل ُّ‬
‫موصوف‬
‫ٌ‬ ‫ألن ال َّله عز وجل‬
‫وصفة الكالم‪ :‬صف ٌة ذات َّي ٌة فعل َّي ٌة؛ ذات َّي ُة‪َّ :‬‬
‫بالكالم‪ ،‬وفعل َّي ٌة‪ :‬ألنَّه يتك َّلم إذا شاء‪.‬‬
‫السنَّة والجماعة يثبتون الكالم ل َّله عىل النحو التايل بفقرات‬
‫وأهل ُّ‬
‫ست‪:‬‬
‫الفقرة ا ُ‬
‫ألولى‪« :‬متى شاء»‪ ،‬فتك َّلم سبحانه حين هنى آدم عن أكل‬
‫اس ُك ْن َأن َ‬
‫ْت َو َز ْو ُج َك ا ْل َجنَّ َة َوك َُال من َْها َر َغد ًا‬ ‫﴿و ُق ْلنَا َيا آ َد ُم ْ‬
‫الشجرة‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫‪11‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫الش َج َرةَ﴾ [البقرة‪ ،]35 :‬وسيتك َّلم ال َّله عز وجل‬


‫َح ْي ُث ش ْئت َُما َو ََل َت ْق َر َبا َهذه َّ‬
‫يسى ْاب َن َم ْر َي َم َأ َأن َ‬
‫ْت ُق ْل َت للنَّاس ا َّتخ ُذوني‬ ‫﴿وإ ْذ َق َال ال َّل ُه َيا ع َ‬
‫يف المحشر؛ َ‬
‫َو ُأ ِّم َي إ َل َه ْين م ْن ُدون ال َّله﴾ [المائدة‪َّ ،]116 :‬‬
‫ومما يتك َّلم سبحانه أيض ًا‪ :‬إذا‬

‫أحب شخص ًا أو أبغض شخص ًا؛ يف الحديث‪َ « :‬فإ َذا َأ َح َّ‬


‫ب ال َّل ُه ا ْل َع ْبدَ نَا َدى‬ ‫َّ‬
‫ب ُف َالن ًا َف َأ ْحب ْب ُه» ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ج ْبر َيل‪ :‬إنِّي ُأح ُّ‬
‫أي ٍ‬
‫زمن يشا ُؤه يتك َّلم‪.‬‬ ‫والفقرة الثانية‪« :‬إذا شاء» يعني‪ :‬يف ِّ‬
‫أمر شاء يتك َّلم به؛ م ْن ٍ‬
‫أمر‪،‬‬ ‫بأي ٍ‬
‫والفقرة الثالثة‪« :‬بما شاء» يعني‪ِّ :‬‬
‫اس ُك ْن َأن َ‬
‫ْت َو َز ْو ُج َك ا ْل َجنَّ َة َوك َُال من َْها َر َغد ًا َح ْي ُث‬ ‫﴿و ُق ْلنَا َيا آ َد ُم ْ‬
‫مثل‪َ :‬‬
‫[البقرة‪:‬‬ ‫﴿و ََل َت ْق َر َبا َهذه َّ‬
‫الش َج َرةَ﴾‬ ‫ش ْئت َُما﴾ [البقرة‪ ،]35 :‬وم ْن ٍ‬
‫هني‪ ،‬مثل‪َ :‬‬
‫َان في َق َصصه ْم ع ْب َر ٌة ألُولي ْاألَ ْل َباب﴾‬ ‫‪ ،]35‬وم ْن َق َص ٍ‬
‫ص‪ ،‬مثل‪َ ﴿ :‬ل َقدْ ك َ‬
‫[يوسف‪ ]111 :‬وهكذا‪.‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب بدء الخ ْلق‪ ،‬باب ذكر المالئكة‪ ،‬رقم (‪ ،)3209‬من‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪12‬‬

‫والفقرة الرابعة‪« :‬كيف شاء» أي‪ :‬عىل الكيف َّية التي يشاؤها سبحانه؛‬
‫سواء من األوامر والنَّواهي أو غير ذلك‪ ،‬أو يف الكالم مطلق ًا‪ ،‬أو يف كيف َّيته‬
‫منادا ًة أو مناجا ًة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫«بصوت مسموعٍ»‪.‬‬ ‫والفقرة الخامسة‪:‬‬
‫ف مسموعٍ»‪.‬‬ ‫والفقرة السادسة‪« :‬بحر ٍ‬
‫ْ‬
‫اس ُك ْن َأن َ‬
‫ْت َو َز ْو ُج َك ا ْل َجنَّ َة﴾‬ ‫ألن ال َّله نادى آدم فقال‪َ :‬‬
‫﴿و َيا آ َد ُم ْ‬ ‫َّ‬
‫الش َج َرة َو َأ ُق ْل َل ُك َما إ َّن‬
‫[األعراف‪ ،]19 :‬وقال‪َ ﴿ :‬أ َل ْم َأن َْه ُك َما َع ْن ت ْل ُك َما َّ‬
‫ألن آدم‬‫بصوت؛ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫فدل عىل أنَّه‬‫ان َل ُك َما عَدُ ٌّو ُمبي ٌن﴾ [األعراف‪]22 :‬؛ َّ‬ ‫الش ْي َط َ‬
‫َّ‬
‫وألن ال َّله ََل َم آدم عىل عصيانه‬ ‫َّ‬ ‫بصوت؛ مل يسمعه آدم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سم َعه‪ ،‬ولو مل يكن‬
‫بعد أمره سبحانه له‪.‬‬
‫﴿وا ْت ُل َما ُأوح َي‬
‫كلمات؛ قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ٌ‬ ‫بأن كالم ال َّله‬
‫وجاء النَّص أيض ًا َّ‬
‫إ َل ْي َك م ْن كتَاب َر ِّب َك ََل ُم َبدِّ َل ل َكل َماته﴾ [الكهف‪َّ ،]27 :‬‬
‫ودل أيض ًا عىل أنَّه‬
‫أن‬ ‫﴿وإ َذا ُأنْز َل ْت ُس َ‬
‫ورةٌ﴾ [التوبة‪ ،]86 :‬وسيأيت بإذن ال َّله إثبات َّ‬ ‫سورة؛ قال‪َ :‬‬
‫منز ٌل‪.‬‬
‫القرآن َّ‬
‫‪13‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫حروف يف كتاب ال َّله عز وجل؛ كما يف‬


‫ٌ‬ ‫أن كالم ال َّله‬
‫وجاء أيض ًا َّ‬
‫الحديث‪َ « :‬م ْن َق َر َأ َح ْرف ًا م ْن كتَاب ال َّله َف َل ُه به َح َسنَ ٌة‪َ ،‬وا ْل َح َسنَ ُة ب َع ْشر‬
‫َأ ْم َثال َها» ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬

‫وجاء يف كيف َّية صفة كالم ال َّله‪« :‬ك ََأ َّن ُه س ْلس َل ٌة»؛ أي‪ :‬حديد ٌة‪َ « ،‬ع َلى‬
‫صوت‪ ،‬حتى‬ ‫ٌ‬ ‫ان»‪ :‬حجر أم َلس ‪َ « ،‬ينْ ُف ُذ ُه ْم َذل َك» ؛ يعني‪ :‬له‬ ‫ص ْفو ٍ‬
‫(‪)3‬‬ ‫( ‪)2‬‬
‫َ َ‬
‫المالئكة م ْن صوت ال َّله عز وجل ُيغشى عليهم‪« ،‬فيكون َّأول َمن ُيفيق‬
‫جبر ُيل عليه السالم» ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫الترمذي‪ ،‬أبواب فضائل القرآن‪ ،‬باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ٍ‬
‫مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫ماله من األجر‪ ،‬رقم (‪ ،)2910‬من حديث ابن‬
‫(‪ )2‬غريب الحديث َلبن الجوزي (‪.)596/1‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قول ال َّله تعاىل‪َ ﴿ :‬حتَّى إ َذا ُف ِّز َع َع ْن‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )3‬رواه‬
‫ُق ُلوبه ْم َقا ُلوا َما َذا َق َال َر ُّب ُك ْم َقا ُلوا ا ْل َح َّق َو ُه َو ا ْل َعل ُّي ا ْل َكب ُير﴾‪ ،‬رقم (‪ ،)4800‬من‬
‫الس َماء؛ َض َر َبت‬ ‫حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬إ َذا َق َضى ال َّل ُه األَ ْم َر في َّ‬
‫المالَئ َك ُة ب َأجنحتها ُخ ْضعان ًا ل َقوله‪ ،‬ك ََأ َّنه س ْلس َل ٌة َع َلى ص ْفو ٍ‬
‫ان‪َ ،‬فإ َذا ُف ِّز َع َع ْن ُق ُلوبه ْم‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫َقا ُلوا‪َ :‬ما َذا َق َال َر ُّب ُك ْم؟ َقا ُلوا ل َّلذي َق َال‪َ :‬‬
‫الح َّق‪َ ،‬و ُه َو ال َعل ُّي ال َكب ُير»‪.‬‬
‫السنَّة‪ ،‬باب ذكْر الكالم والصوت والشخص وغير‬ ‫ٍ‬
‫عاصم يف ُّ‬ ‫(‪ )4‬رواه ابن أبي‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪14‬‬

‫السنَّة إلنكار صفة الكالم؛ زعم ًا‬


‫و َذهبت الطوائف مجيع ًا سوى أهل ُّ‬
‫أن يف هذا تشبيه ًا للمخلوق‪ ،‬فمنهم من َأنكر الكالم أصالً؛‬
‫منهم َّ‬
‫كالجهمية والمعتزلة‪.‬‬
‫إن ال َّله‬
‫إن كالم ال َّله ن ْف َسان ٌّي‪ ،‬ومعنى ن ْف َساني قالوا‪َّ :‬‬
‫ومنهم من قال‪َّ :‬‬
‫َل يتك َّلم‪ ،‬وهذا الكالم الذي أتانا من كتاب ال َّله ومن أوامر ال َّله ونواهيه‪:‬‬
‫شي ٌء يف نفس ال َّله أخرجه ال َّله لنا من غير صفة الكالم‪ ،‬وكيف ُأ ْخرج؟‬
‫ٍ‬
‫بعبارة عن كالم ال َّله‪ ،‬ومعنى‪ :‬عبار ٌة عن كالم ال َّله؛‬ ‫منهم من قال‪:‬‬
‫أن جبريل أتى إىل ال َّله عز وجل ون َظر إىل وجه ال َّله‪ ،‬وبدأ ُيع ِّبر يف‬
‫أي‪َّ :‬‬
‫نظرات ال َّله ‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك ‪ -‬ماذا يريد ال َّله‪.‬‬
‫وإذا قيل لهم‪ :‬لماذا تقولون هذا؟‬
‫ألن ال َّله َل يتك َّلم ‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك –‪.‬‬
‫يقولون‪َّ :‬‬
‫أن ال َّله َأ ْخ َرس‪ ،‬وكيف ُيدير الكون ْ‬
‫أخ َرس؟!‬ ‫ومقتضى ذلك‪َّ :‬‬
‫إن كالم ال َّله ح َكا َي ٌة عن ال َّله‪ ،‬ومعنى حكاي ٌة عن‬
‫ومنهم من قال‪َّ :‬‬
‫أن جبريل عليه السالم يحاكي كالم ال َّله‪ ،‬فيقول جبريل ألهل‬
‫ال َّله‪َّ :‬‬

‫ذلك‪ ،‬رقم (‪ ،)515/225/1‬من حديث النواس بن سمعان رضي اهلل عنه‪.‬‬


‫‪15‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫أن ُي َص ُّلوا فص ُّلوا‪ ،‬فلو قيل لجبريل ‪ -‬عىل‬


‫السماء‪ :‬ال َّله يريد من الخ ْلق ْ‬
‫َّ‬
‫قولهم ‪ :-‬يا جبريل! هل ال َّله هو الذي تك َّلم لك بذلك؟ قال‪َ :‬ل؛ ألنَّه َل‬
‫أن يتك َّلم‪ ،‬وإنَّما أنا أحاكي ما يقوله ال َّله‪.‬‬
‫يستطيع ْ‬
‫ص للبارئ جل وعال وهو المتَّصف بالصفات ال ُع َلى‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وكل هذا تن ُّق ٌ‬
‫مسمو َع ْين‪ ،‬فإذا قال‬ ‫ٍ‬
‫وحرف‬ ‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫إن ال َّله يتك َّلم حقيق ًة‬
‫فنقول‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫المص ِّلي ‪ -‬مثالً ‪ -‬يف الصالة‪﴿ :‬ا ْل َح ْمدُ ل َّله َر ِّب ا ْل َعا َلمي َن﴾ [الفاتحة‪،]2 :‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ال َّله يتك َّلم حقيق ًة بصوت وحرف‪َ « :‬حمدَ ني َع ْبدي‪َ ،‬وإ َذا َق َال‪َّ :‬‬
‫﴿الر ْح َمن‬
‫الرحيم﴾‪ ،‬يقول‪َ :‬أ ْثنَى َع َل َّي َع ْبدي» ‪ ،‬وكذا إذا نزل ال َّله عز وجل يف ال ُث ُلث‬
‫( ‪)1‬‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫وحرف مسمو َع ْين‪َ « :‬م ْن َيدْ ُعوني‬ ‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫األخير من ال َّليل يتك َّلم‬

‫َف َأ ْستَج َ‬
‫يب َل ُه؟ ‪ »...‬الحديث ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ٍ‬
‫ركعة‪ ،‬وإنه إذا‬ ‫مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب وجوب قراءة الفاتحة يف كل‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ٌ‬
‫مل ُيحسن الفاتحة‪ ،‬وَل أمكنه تع ّلمها قرأ ما َّ‬
‫تيسر له من غيرها‪ ،‬رقم (‪ ،)395‬من‬
‫حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب التهجد‪ ،‬باب الدعاء يف الصالة من آخر ال َّليل‪ ،‬رقم‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب صالة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب الترغيب يف الدعاء‬
‫ٌ‬ ‫(‪،)1145‬‬
‫والذكر يف آخر ال َّليل‪ ،‬واإلجابة فيه‪ ،‬رقم (‪ ،)758‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل‬
‫ِّ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪16‬‬

‫والسنَّة والعقل‪:‬‬ ‫وقد َّ‬


‫دل عىل صفة الكالم الكتاب ُّ‬
‫فمن الكتاب‪ :‬اآليات التي َس َي ُسو ُقها المصنِّف رمحه اهلل‪.‬‬
‫السنَّة‪ :‬مثل قوله صىل اهلل عليه وسلم‪َ « :‬ما منْ ُك ْم م ْن َأ َح ٍد َّإَل‬
‫ومن ُّ‬
‫ان» ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫َس ُي َك ِّل ُم ُه َر ُّب ُه‪َ ،‬ل ْي َس َب ْينَ ُه َو َب ْينَ ُه َحاج ٌ‬
‫ب َو ََل ُت ْر ُج َم ٌ‬
‫يدبر هذا الكون أنه يتك َّلم‪،‬‬
‫ومن العقل‪ :‬من كمال الخالق الذي ِّ‬
‫يدبر هذا الكون ْ‬
‫أخرس‪ ،‬وليس من‬ ‫فليس من صفات الكمال َّ‬
‫أن الذي ِّ‬
‫أن المخلوقين يتك َّلمون والخالق َل يستطيع أن يتك َّلم ‪-‬‬
‫صفات الكمال َّ‬
‫تعاىل ال َّله عن ذلك ‪ ،-‬بل هو المتك ِّلم بما شاء‪ ،‬وكالمه ٌّ‬
‫حق جل وعال‪.‬‬
‫و َأ ْك َث َر المصن ُ‬
‫ِّف رمحه اهلل م ْن ذكر األد َّلة عىل صفة الكالم؛ إ ْذ بلغت‬
‫ونوع ذلك بأربعة أنواعٍ‪:‬‬
‫عشرين دليالً من الكتاب‪َّ ،‬‬
‫أن ال َّله عز وجل يتك َّلم‪.‬‬
‫األول‪ :‬يف إثبات َّ‬
‫النوع َّ‬

‫عنه‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب كالم الرب عز وجل يوم القيامة مع‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الحث عىل الصدقة‬
‫ٌ‬ ‫األنبياء وغيرهم‪ ،‬رقم (‪،)7512‬‬
‫ولو بشق تمرة‪ ،‬أو كلمة طيبة وأهنا حجاب من النار‪ ،‬رقم (‪ ،)1016‬من حديث‬
‫ٍ‬
‫حاتم رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫عدي بن‬
‫‪17‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫والنوع الثاين‪ :‬يف إثبات نو ٍع من أنواع الكالم وهو يف المناداة‬


‫والمناجاة‪.‬‬
‫أن القرآن العظيم من كالم ال َّله‪.‬‬
‫والنوع الثالث‪ :‬بيان َّ‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪.‬‬ ‫منز ٌل غير‬ ‫والنوع الرابع‪ :‬بيان َّ‬
‫أن القرآن الكريم َّ‬
‫وسبب إكثاره من أد َّلة هذه ِّ‬
‫الصفة العظيمة‪ :‬حصول المحنة الكبيرة‬

‫يف عصره وقبل عصره وبعد عصره؛ إ ْذ َقت ََل المأمون َ‬


‫وس َج َن‪ ،‬وكذا‬ ‫(‪)1‬‬

‫المعتصم ‪ ،‬وكذا الواثق بال َّله ‪ ،‬ومل َت ُزل المحنة َّإَل يف عهد المتو ِّكل عىل‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو العباس‪ ،‬عبد ال َّله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي ابن أبي‬
‫جعفر المنصور العباسي‪ ،‬ولد سنة (‪170‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪218‬هـ)‪ .‬سير أعالم‬
‫النبالء للذهبي (‪.)272/10‬‬
‫(‪ )2‬هو‪ :‬أبو إسحاق محمد ابن الرشيد هارون بن محمد المهدي بن المنصور‬
‫العباسي‪ ،‬ولد سنة (‪180‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪227‬هـ)‪ .‬سير أعالم النبالء للذهبي‬
‫(‪.)290/10‬‬
‫(‪ )3‬هو‪ :‬أبو جعفر‪ ،‬وأبو القاسم هارون ابن المعتصم بال َّله أبي إسحاق محمد‬
‫بن هارون الرشيد ابن المهدي محمد بن المنصور العباسي‪ ،‬البغدادي‪ ،‬ولد سنة‬
‫(‪196‬هـ)‪ ،‬وتويف سنة (‪232‬هـ)‪ .‬سير أعالم النبالء للذهبي (‪.)306/10‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪18‬‬

‫إن‬ ‫ال َّله ؛ يعني‪ :‬ثالثة خلفاء من الدولة الع َّباسية فتنوا النَّاس َّ‬
‫وعذبوهم ْ‬ ‫(‪)1‬‬

‫أثبتوا هذه الصفة‪ ،‬وكذا يف عصر شيخ اإلسالم حصلت فتن ٌة عظيم ٌة‬
‫بسبب هذه الصفة وغيرها‪.‬‬
‫ف َأ َك َث َر المصن ُ‬
‫ِّف رمحه اهلل من األد َّلة يف صفة الكالم؛ لكثرة‬
‫والمنَافحين والمجادلين يف إثبات صفة الكالم م ْن األشاعرة‪،‬‬
‫المخالفين ُ‬
‫والما ُتريد َّية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والجهمية‪.‬‬
‫أن ال َّله عز وجل يتك َّلم ‪،-‬‬
‫األول ‪ -‬يف إثبات َّ‬
‫وبدأ رمحه اهلل بالنوع َّ‬
‫آيات‪ ،‬وجاء إثبات الكالم يف اآليات التي سيسوقها‬ ‫فذكر لهذا النوع سبع ٍ‬

‫ِّف رمحه اهلل هنا بعدَّ ة أمور‪:‬‬


‫المصن ُ‬
‫حديث‪ ،‬والحديث َل يكون َّإَل كالم ًا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫األول‪ :‬بأنَّه‬
‫األمر َّ‬
‫واألمر الثاين‪ :‬أنَّه ٌ‬
‫قول‪.‬‬
‫واألمر الثالث‪ :‬أنَّه كال ٌم‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬أبو الفضل جعفر ابن المعتصم بال َّله محمد ابن الرشيد هارون بن‬
‫المهدي بن المنصور القرشي‪ ،‬العباسي‪ ،‬البغدادي‪ ،‬ولد سنة (‪ ،)205‬وقتل سنة‬
‫(‪247‬هـ)‪ .‬سير أعالم النبالء للذهبي (‪.)30/12‬‬
‫‪19‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق ِم َن ال َّل ِه‬


‫ألولى‪َ ( :‬و َق ْولِ ِه‪َ :‬‬
‫فقال رمحه اهلل يف اآلية ا ُ‬

‫َح ِديث ًا﴾)‪.‬‬


‫(﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق ِم َن ال َّل ِه َح ِديث ًا﴾) هذا استفها ٌم بمعنى النفي ويراد‬
‫َ‬
‫به‪ :‬التحدِّ ي‪ ،‬مثل أن تقول‪ :‬هل هناك أعلم من زيد؟ يعني‪َ :‬ل يمكن‪ ،‬وأنا‬
‫دق من ال َّله عز وجل‬
‫أص ُ‬
‫أتحدَّ اك أن تجيء بغيره أعلم منه‪ ،‬فهنا أي‪َ :‬ل ْ‬
‫أحد ًا‪ ،‬وضد الصدق هو الكذب‪ ،‬وال َّله تعاىل ِّ‬
‫متنز ٌه عن الكذب‪ ،‬فحديثه‬
‫﴿و َت َّم ْت كَل َم ُت َر ِّب َك صدْ ق ًا َوعَدْ ً‬
‫َل﴾‬ ‫هو الصدق؛ كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫[األنعام‪ ،]115 :‬وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬إ َّن َأ ْصدَ َق َ‬
‫الحديث ك ََال ُم‬
‫ال َّله» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ويف اآلية إثبات صفة الكالم من وجهين‪:‬‬


‫ُ‬
‫والصدق َل يظهر َّإَل‬ ‫(﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق﴾)‬
‫َ‬ ‫األول‪ :‬قوله‪:‬‬
‫الوجه َّ‬
‫لما‬ ‫ٌ‬
‫صادق أم َل‪ ،‬لكن َّ‬ ‫شخص صامت ًا َل نَعلم هل هو‬
‫ٌ‬ ‫بالكالم‪ ،‬فلو كان‬
‫أظهر الكالم؛ علمنا صدْ قه‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البيهقي يف الشعب‪ ،‬باب اإليمان بالمالئكة‪ ،‬رقم (‪ ،)166‬من حديث‬
‫ٍ‬
‫مسعود موقوف ًا‪.‬‬ ‫ابن‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪20‬‬

‫(﴿م َن ال َّل ِه َح ِديث ًا﴾) والحديث ٌ‬


‫قول وكال ٌم‪.‬‬ ‫الوجه الثاين‪ :‬قوله‪ِ :‬‬

‫(﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق ِم َن ال َّل ِه قِي ً‬


‫ال﴾)‪.‬‬ ‫واآلية الثانية قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫أن الصدق‬ ‫دل عىل إثبات صفة الكالم‪َّ :‬‬ ‫(﴿و َم ْن َأ ْص َد ُق ِم َن ال َّل ِه﴾) َّ‬
‫َ‬
‫َل‪ ،‬والقيل‪ :‬الكالم؛ َّ‬
‫فدل‬ ‫َل يكون َّإَل بظهور الكالم‪﴿( ،‬قِي ً‬
‫ال﴾) أي‪ :‬قو ً‬
‫أن ال َّله يتك َّلم‪ ،‬وأنه يتك َّلم بما شاء‪.‬‬
‫عىل َّ‬

‫(﴿وإِ ْذ َق َال ال َّل ُه َيا ِع َيسى ا ْب َن َم ْر َي َم﴾)‪.‬‬


‫واآلية الثالثة قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫(﴿وإِ ْذ َق َال ال َّل ُه﴾) يدل عىل َّ‬
‫أن ال َّله يتك َّلم‪َ ﴿( ،‬يا ع َ‬
‫يسى ا ْب َن َم ْر َي َم﴾)‬ ‫َ‬
‫بصوت؛ إذ َّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫ويدل أيض ًا عىل أنه‬ ‫ٍ‬
‫بحروف‪،‬‬ ‫أن كالم ال َّله‬‫يدل عىل َّ‬ ‫هذا ُّ‬
‫ْت ُق ْل َت للنَّاس ا َّتخ ُذوني َو ُأ ِّم َي إ َل َه ْين م ْن ُدون‬
‫لما قال لعيسى‪َ ﴿ :‬أ َأن َ‬
‫ال َّله َّ‬
‫ال َّله﴾؛ سمع عيسى عليه السالم كالم ربه؛ فأجابه فقال‪َ ﴿ :‬ق َال ُس ْب َحان َ‬
‫َك‬
‫ون لي َأ ْن َأ ُق َ‬
‫ول َما َل ْي َس لي ب َحق﴾ [المائدة‪.]116 :‬‬ ‫َما َي ُك ُ‬
‫أن ال َّله يتك َّلم بما شاء؛ فك َّلم عيسى هبذا األمر‪.‬‬ ‫وهذه اآلية ُّ‬
‫تدل عىل َّ‬
‫أن ال َّله يتك َّلم متى شاء؛ فهذه اآلية يف كالم ال َّله عز وجل‬ ‫ُّ‬
‫وتدل أيض ًا َّ‬
‫يف المحشر‪.‬‬
‫أن الكالم صف ٌة فعل َّي ٌة؛ ألن ال َّله شاء أن يك ِّلم عيسى‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وتدل عىل َّ‬
‫‪21‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫(﴿و َت َّم ْت َكلِ َم ُت َر ِّب َك ِص ْدق ًا‬


‫َ‬ ‫واآلية الرابعة قوله سبحانه‪:‬‬
‫َو َع ْد ً‬
‫َل﴾)‪.‬‬
‫ربك‪ ،‬فالمفرد إذا أضيف‪ُ :‬يراد‬ ‫كالم‬ ‫أي‪:‬‬ ‫﴾)‬‫ك‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫م‬ ‫(﴿و َتم ْت َكلِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿وإ ْن َت ُعدُّ وا ن ْع َم َة ال َّله﴾ [النحل‪]18 :‬؛ أي‪:‬‬
‫الجمع؛ كما قال سبحانه‪َ :‬‬
‫به َ‬
‫ن َع َم ال َّله‪.‬‬
‫ففيه إثبات الكالم ل َّله سبحانه‪.‬‬
‫مسموع‪،‬‬ ‫أن الكالم‬ ‫ِ‬
‫(﴿ص ْدق ًا﴾) يعني‪ :‬يف األخبار؛ ففيه إثبات َّ‬
‫ٌ‬
‫﴿و َع ْد ً‬
‫َل﴾) يعني‪ :‬يف األحكام‪.‬‬ ‫( َ‬
‫فالصدق َل يكون َّإَل بالكالم‪.‬‬
‫سى َت ْكلِيَمً﴾)‪.‬‬
‫(﴿و َك َّل َم ال َّل ُه ُمو َ‬
‫واآلية الخامسة‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫أن ال َّله يتك َّلم‪.‬‬
‫ساقها لبيان تأكيد َّ‬
‫سى َت ْكلِيَم﴾) هذا تأكيدٌ باسم المصدر‪.‬‬ ‫(﴿و َك َّل َم ال َّل ُه ُمو َ‬
‫َ‬
‫السنَّة‪:‬‬ ‫فكالمه لعيسى ولموسى عليهما السالم ٌ‬
‫بيان لما ذكره أهل ُّ‬
‫إذا شاء‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪22‬‬

‫فهذه اآلية فيها إثبات الكالم ل َّله سبحانه وتعاىل؛ إذ تك َّلم سبحانه‬
‫الرب عز وجل وبين موسى‬
‫فسمعه موسى‪ ،‬لذلك َج َرت محاورات بين ِّ‬
‫عليه السالم‪.‬‬
‫اف َأ ْن ُي َك ِّذ ُبون * َو َيض ُيق‬
‫ففي سورة الشعراء‪َ ﴿ :‬ق َال َر ِّب إنِّي َأ َخ ُ‬
‫ْب َف َأ َخ ُ‬
‫اف‬ ‫َصدْ ري َو ََل َينْ َطل ُق ل َساني َف َأ ْرس ْل إ َلى َه ُار َ‬
‫ون * َو َل ُه ْم َع َل َّي َذن ٌ‬
‫ربه‪ ،‬وقال ال َّله‪﴿ :‬ك ََّال‬ ‫َأ ْن َي ْق ُت ُلون﴾ [الشعراء‪]13 - 12 :‬؛ هذا موسى يك ِّلم َّ‬
‫ول َر ِّب‬ ‫ون * َف ْأت َيا ف ْر َع ْو َن َف ُق َ‬
‫وَل إنَّا َر ُس ُ‬ ‫َفا ْذ َه َبا بآ َياتنَا إنَّا َم َع ُك ْم ُم ْستَم ُع َ‬
‫ا ْل َعا َلمي َن * َأ ْن َأ ْرس ْل َم َعنَا َبني إ ْس َرائ َيل﴾ [الشعراء‪ ،]17 - 15 :‬فهنا ال َّله تك َّلم‬
‫وموسى عليه السالم سمع كالم ال َّله‪ ،‬فأجابه موسى عليه السالم‪.‬‬
‫مسموع‪َّ ،‬‬
‫ودل‬ ‫أن كالم ال َّله‬
‫ودل عىل َّ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت‪َّ ،‬‬ ‫أن كالم ال َّله‬
‫فدل عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬
‫أن ال َّله يتك َّلم متى شاء؛ فك َّلم موسى‬
‫ودل عىل َّ‬ ‫ٍ‬
‫بحروف‪َّ ،‬‬ ‫أن كالم ال َّله‬
‫عىل َّ‬
‫لما شاء‪ ،‬ويتك َّلم بما شاء؛‬ ‫لما شاء‪ ،‬وك َّلم ‪ -‬يف اآلية َّ‬
‫السابقة ‪ -‬عيسى َّ‬ ‫َّ‬
‫فأمر موسى بما أمر به‪ ،‬وأمر عيسى بما أمر به سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫واآلية السادسة قوله سبحانه‪ِ :‬‬
‫(﴿م ْنهُ ْم َم ْن َك َّل َم ال َّل ُه﴾)‪.‬‬
‫ساقها رمحه اهلل إلثبات أن ال َّله ك َّلم بعض الرسل‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫أن هناك رسالً ك َّلمهم ال َّل ُه‪ ،‬فلم يك ِّلم‬ ‫ِ‬


‫(﴿م ْنهُ ْم َم ْن َك َّل َم ال َّل ُه﴾) أي‪َّ :‬‬
‫فقط موسى عليه السالم‪.‬‬
‫اس ُك ْن َأن َ‬
‫ْت َو َز ْو ُج َك‬ ‫فممن ك َّلم ال َّل ُه من ُّ‬
‫الرسل‪ :‬آدم؛ ﴿ َيا آ َد ُم ْ‬ ‫َّ‬
‫ا ْل َجنَّ َة﴾ [األعراف‪ ،]19 :‬وال َّله يقول آلدم‪ْ :‬‬
‫﴿اهب َطا من َْها َجميع ًا﴾ [طه‪.]123 :‬‬
‫﴿وإ ْذ َق َال‬
‫وممن ك َّلم ال َّل ُه أيض ًا‪ :‬عيسى عليه السالم؛ قال سبحانه‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫ال َّل ُه َيا ع َ‬
‫يسى ْاب َن َم ْر َي َم﴾ [المائدة‪.]116 :‬‬
‫يم َأ ْعر ْض‬
‫وممن ك َّلم ال َّل ُه‪ :‬إبراهيم عليه السالم؛ قال ال َّله‪َ ﴿ :‬يا إ ْب َراه ُ‬
‫َّ‬
‫َع ْن َه َذا﴾ [هود‪.]76 :‬‬
‫وممن ك َّلم ال َّل ُه‪ :‬محمد ًا عليه الصالة السالم؛ فك َّلمه ال َّله حين ُعر َج‬
‫َّ‬
‫( ‪)1‬‬
‫«س َأ ْل ُت َر ِّبي َحتَّى ْ‬
‫است َْح َي ْي ُت» ‪.‬‬ ‫به إىل السماء‪ ،‬ففي حديث اإلسراء‪َ :‬‬
‫لكن اشتهر موسى عليه السالم بلقب َكليم الرمحن؛ لكثرة ما جاء يف‬
‫القرآن من كالم ال َّله عز وجل لموسى عليه السالم‪ ،‬لذلك قال سبحانه‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب مناقب األنصار‪ ،‬باب المعراج‪ ،‬رقم (‪ ،)3887‬من‬


‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫حديث مالك بن صعصعة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪24‬‬

‫ٍ‬
‫عظيم‬ ‫َان عنْدَ ال َّله وجيه ًا﴾ [األحزاب‪]69 :‬؛ أي‪ :‬ذا ٍ‬
‫جاه‬ ‫﴿وك َ‬
‫َ‬ ‫عن موسى‪َ :‬‬
‫ٍ‬
‫رفيعة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ومكانة‬
‫السنَّة‪ :‬بما‬ ‫فقوله‪ِ :‬‬
‫(﴿م ْنهُ ْم َم ْن َك َّل َم ال َّل ُه﴾) فيه ٌ‬
‫بيان ل َما ذكره أهل ُّ‬
‫السنَّة‪ :‬إذا شاء؛‬‫بيان ل َما ذكره أهل ُّ‬ ‫شاء؛ فال َّله يك ِّلمهم بما شاء‪ ،‬وكذا فيه ٌ‬
‫َاب ب ُق َّو ٍة﴾‬
‫فال َّله شاء أن يك ِّلم يحيى عليه السالم؛ ﴿ َيا َي ْح َيى ُخذ ا ْلكت َ‬
‫[مريم‪ ،]12 :‬وك َّلم زكريا؛ ﴿ َيا َزكَر َّيا إنَّا ُن َب ِّش ُر َك﴾ [مريم‪ ]7 :‬وهكذا‪.‬‬
‫سى لِ ِمي َقاتِ َنا َو َك َّل َم ُه‬
‫(﴿و َل ََّم َجا َء ُمو َ‬
‫واآلية السابعة قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫َر ُّب ُه﴾)‪.‬‬
‫أن المتك ِّلم يف اآلية التي قبل‬
‫ساقها المصنِّف رمحه اهلل لتأكيد َّ‬

‫سى َت ْكلِيَمً﴾) ‪ -‬هو ال َّله َل موسى كما َّ‬


‫توهمه‬ ‫﴿و َك َّل َم ال َّل ُه ُمو َ‬
‫السابقة ‪َ ( -‬‬
‫يم ًا» أي‪ :‬وك َّلم‬ ‫«و َك َّل َم ال َّل َه ُم َ‬
‫وسى َت ْكل َ‬ ‫أهل التَّعطيل فقالوا‪َّ :‬‬
‫إن أصل اآلية‪َ :‬‬
‫موسى ال َّل َه تكليم ًا ‪ -‬عىل زعمهم ‪ ،-‬فساق هذه اآلية وفيها ُح َّج ٌة دامغ ٌة‬
‫نفسه سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫بأن المتك َّلم هو ال َّله ُ‬
‫َّ‬
‫سى لِ ِمي َقاتِ َنا﴾) الذي وعده ال َّله عز وجل فيه ‪-‬‬‫(﴿و َل ََّم َجا َء ُمو َ‬
‫َ‬
‫(﴿و َك َّل َم ُه َر ُّب ُه﴾) فظهر َّ‬
‫أن الفاعل‬ ‫أربعين ليل ًة ‪ ،-‬ف َب ْعدَ أربعين ليل ًة قال‪َ :‬‬
‫الرب سبحانه‪.‬‬
‫هو ُّ‬
‫‪25‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫أن ال َّله يتك َّلم متى شاء؛ َّ‬


‫فلما جاء‬ ‫السنَّة‪َّ :‬‬ ‫ُّ‬
‫فتدل عىل ما اعتقده أهل ُّ‬
‫موسى ال َّل ُه تك َّلم‪.‬‬
‫السنَّة‪ :‬إذا شاء؛ فال َّله شاء أن يك ِّلم موسى‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وتدل عىل معت َقد أهل ُّ‬
‫(﴿و َك َّل َم ُه َر ُّب ُه﴾)‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وحرف؛ َ‬ ‫وتدل عىل أنه بصوت‬ ‫ُّ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪26‬‬

‫ج ّي ًا﴾‪.‬‬ ‫األ ْي َم ِن َو َق َّر ْب َنا ُه َن ِ‬


‫ور ْ َ‬ ‫ب ال ُّط ِ‬ ‫﴿و َنا َد ْي َنا ُه ِم ْن َجانِ ِ‬ ‫َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ت ا ْل َق ْو َم ال َّظالِ ِم َ‬ ‫﴿وإِ ْذ َنا َدى رب َك موسى َأ ِن ا ْئ ِ‬
‫َ ُّ ُ َ‬ ‫َ‬
‫الش َج َر ِة َو َأ ُق ْل َل ُك ََم إِ َّن َّ‬
‫الش ْي َطانَ‬ ‫﴿و َنا َد ُاه ََم َر ُّبهُ ََم َأ َل ْم َأ ْنهَ ُك ََم َع ْن تِ ْل ُك ََم َّ‬
‫َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫َل ُك ََم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ين ُك ْن ُت ْم َت ْز ُع ُمونَ ﴾‪.‬‬‫ول َأ ْي َن ُش َر َكائِ َي ا َّل ِذ َ‬ ‫﴿وي ْوم ي َن ِ‬
‫ادهي ِْم َف َي ُق ُ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫سلِ َ‬
‫ول َما َذا َأ َج ْب ُت ُم ا ْل ُم ْر َ‬
‫﴿وي ْوم ي َن ِ‬
‫ادهي ِْم َف َي ُق ُ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫َيذكر هنا النوع الثاين من أنواع إثبات صفة الكالم ل َّله‪ ،‬وذلك بذكْر‬
‫نوعين من أنواع الكالم‪ ،‬ومها‪ :‬المناداة والمناجاة‪ ،‬و َذ َكر لهذا النوع‬
‫َخمس ٍ‬
‫آيات‪:‬‬
‫األ ْي َم ِن‬ ‫(﴿و َنا َد ْي َنا ُه ِم ْن َجانِ ِ‬
‫ب ال ُّط ِ‬
‫ور ْ َ‬ ‫َ‬ ‫اآلية ا ُ‬
‫ألولى قوله سبحانه‪:‬‬
‫َو َق َّر ْب َنا ُه َن ِ‬
‫ج ّي ًا﴾)‪.‬‬
‫ور ْ َ‬
‫األ ْي َم ِن﴾) والنداء يكون لمن هو بعيدٌ ‪،‬‬ ‫(﴿و َنا َد ْي َنا ُه ِم ْن َجانِ ِ‬
‫ب ال ُّط ِ‬ ‫َ‬

‫فال َّله عز وجل نادى موسى‪ ،‬وموسى بعيدٌ عنه‪ ،‬ثم َّ‬
‫لما َق ُر َب موسى من‬
‫لما‬ ‫(﴿و َق َّر ْب َنا ُه َن ِ‬
‫ج ّي ًا﴾) َّ‬ ‫ربه ناجاه‪ ،‬والمناجاة للقريب؛ لذلك قال سبحانه‪َ :‬‬
‫ِّ‬
‫‪27‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫أن ال َّله ُينادي و ُيناجي و َيتك َّلم بمط َلق الكالم‬ ‫اج ْينَاه؛ َّ‬
‫فدل عىل َّ‬ ‫َق ُر َب منَّا َن َ‬
‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬وهذا من كمال وتمام صفاته‪.‬‬
‫(﴿وإِ ْذ َنا َدى رب َك موسى َأ ِن ا ْئ ِ‬
‫ت ا ْل َق ْو َم‬ ‫َ‬ ‫واآلية الثانية قوله‪:‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ ُّ‬
‫ال َّظالِ ِم َ‬
‫ين﴾)‪.‬‬
‫هذه أيض ًا يف مناداة موسى عليه السالم‪.‬‬
‫تدل عىل الكيفية التي شاءها ال َّله وهي‪:‬‬
‫سى﴾) ُّ‬ ‫(﴿وإِ ْذ َنا َدى َر ُّب َك ُمو َ‬
‫َ‬
‫ُّ‬
‫وتدل‬ ‫تدل عىل أ َّنه ك َّلمه بما شاء؛‬ ‫ت ا ْل َق ْو َم ال َّظالِ ِم َ‬
‫ين﴾) ُّ‬ ‫(﴿أ ِن ا ْئ ِ‬
‫مناداةً‪َ ،‬‬

‫ُّ‬
‫وتدل عىل أنه‬ ‫عىل أنَّه يتك َّلم إذا شاء‪ ،‬فال َّله شاء أن يك ِّلم موسى اآلن‪،‬‬
‫رف مسموعين؛ وإَل مل يؤمر موسى باَلمتثال؛ ﴿ َأن ائْت‬ ‫بصوت وح ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫ا ْل َق ْو َم ال َّظالمي َن * َق ْو َم ف ْر َع ْو َن َأ ََل َي َّت ُق َ‬
‫ون﴾‪ ،‬فسمعه موسى فقال‪َ ﴿ :‬ر ِّب‬
‫اف َأ ْن ُي َك ِّذ ُبون﴾ [الشعراء‪.]12-10 :‬‬
‫إنِّي َأ َخ ُ‬
‫الش َج َر ِة‬
‫(﴿و َنا َد ُاه ََم َر ُّبهُ ََم َأ َل ْم َأ ْنهَ ُك ََم َع ْن تِ ْل ُك ََم َّ‬
‫واآلية الثالثة قوله‪َ :‬‬
‫َو َأ ُق ْل َل ُك ََم إِ َّن َّ‬
‫الش ْي َطانَ َل ُك ََم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ين﴾)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وجوه‪:‬‬ ‫تدل عىل إثبات الكالم ل َّله من عدَّ ة‬
‫هذه اآلية العظيمة ُّ‬
‫أن ال َّله تك َّلم إذا شاء‪،‬‬ ‫(﴿و َنا َد ُاه ََم َر ُّبهُ ََم﴾) ُّ‬
‫تدل َّ‬ ‫األول‪ :‬قوله‪َ :‬‬
‫الوجه َّ‬
‫وكيف شاء ‪ -‬بالمناداة ‪.-‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪28‬‬

‫تدل عىل‬ ‫الش َج َر ِة﴾) ُّ‬


‫(﴿أ َل ْم َأ ْنهَ ُك ََم َع ْن تِ ْل ُك ََم َّ‬
‫والوجه الثاين‪ :‬قوله‪َ :‬‬

‫وتدل عىل أنَّه تك َّلم بما شاء إذا شاء‪.‬‬ ‫رف مسموعين‪ُّ ،‬‬ ‫بصوت وح ٍ‬
‫ٍ‬ ‫أنه‬
‫َ‬
‫أن ال َّله تك َّلم يف‬
‫تدل عىل َّ‬ ‫(﴿و َأ ُق ْل َل ُك ََم﴾) ُّ‬ ‫الوجه الثالث‪ :‬قوله‪َ :‬‬
‫الماضي‪.‬‬
‫تدل أنَّه‬ ‫ين﴾) ُّ‬ ‫الش ْي َطانَ َل ُك ََم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬ ‫والوجه الرابع‪ :‬قوله‪﴿( :‬إِ َّن َّ‬
‫رف مسموعين‪ ،‬وبما شاء‪.‬‬ ‫بصوت وح ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تك َّلم‬
‫َ‬
‫ين ُك ْن ُت ْم‬‫ول َأ ْي َن ُش َر َكائِ َي ا َّل ِذ َ‬‫ادهي ِْم َف َي ُق ُ‬‫(﴿وي ْوم ي َن ِ‬
‫واآلية الرابعة قوله‪ُ َ َ َ :‬‬
‫َت ْز ُع ُمونَ ﴾)‪.‬‬
‫أن ال َّله عز وجل يك ِّلم خ ْلقه يف المحشر‪.‬‬ ‫ذكرها لبيان َّ‬
‫أن ال َّله عز وجل يتك َّلم يوم القيامة‬ ‫ادهي ِْم﴾) فيها إثبات َّ‬ ‫(﴿وي ْوم ي َن ِ‬
‫ََ َ ُ‬
‫ول َأ ْي َن ُش َر َكائِ َي ا َّل ِذ َ‬
‫ين ُك ْن ُت ْم َت ْز ُع ُمونَ ﴾)‪.‬‬ ‫و ُينادي المشركين‪َ ﴿( ،‬ف َي ُق ُ‬

‫أن ال َّله عز وجل يتك َّلم متى شاء‪ ،‬فتك َّلم من قبل‪ ،‬ويتك َّلم‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫اآلن بما شاء‪ ،‬وسيتك َّلم يوم القيامة‪.‬‬
‫وكالمه يوم القيامة‪ :‬منه ما هو ندا ٌء‪.‬‬
‫ومن كالمه يف المحشر أيض ًا‪ :‬أنَّه بالكالم المط َلق؛ كما يف‬
‫الس َم َوات َي ْو َم ا ْلق َيا َمة‪ُ ،‬ث َّم َي ْأ ُخ ُذ ُه َّن ب َيده‬
‫الحديث‪َ « :‬ي ْطوي ال َّل ُه عز وجل َّ‬
‫‪29‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫ول‪َ :‬أنَا ا ْل َمل ُك» ‪ ،‬فيتك َّلم ويقول‪َ « :‬أنَا ا ْل َمل ُك» سبحانه‬
‫(‪)1‬‬ ‫ا ْل ُي ْمنَى‪ُ ،‬ث َّم َي ُق ُ‬
‫وتعاىل‪.‬‬
‫ول َما َذا َأ َج ْب ُت ُم‬ ‫(﴿وي ْوم ي َن ِ‬
‫ادهي ِْم َف َي ُق ُ‬ ‫واآلية الخامسة قوله‪:‬‬
‫ََ َ ُ‬
‫سلِ َ‬
‫ين﴾)‪.‬‬ ‫ا ْل ُم ْر َ‬
‫أن ال َّله عز وجل يك ِّلم خ ْلقه يف المحشر‪.‬‬ ‫ذكرها كذلك لبيان َّ‬
‫بصوت وح ٍ‬
‫رف‬ ‫ٍ‬ ‫ول﴾)‬ ‫ادهي ِْم﴾) كيف شاء‪َ ﴿( ،‬ف َي ُق ُ‬ ‫(﴿وي ْوم ي َن ِ‬
‫َ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫نجى‪،‬‬
‫ين﴾) فمن آمن واتبع رسوله َ‬ ‫سلِ َ‬
‫مسموعين‪َ ﴿( :‬ما َذا َأ َج ْب ُت ُم ا ْل ُم ْر َ‬
‫ومن كفر ُز َّج عىل قفاه‪.‬‬
‫فهذه اآليات العظيمة تدل عىل إثبات الكالم ل َّله عز وجل بالفقرات‬
‫الس ِّت السابقة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫أن ال َّله عز وجل يتك َّلم بكال ٍم حقيقي مسموعٍ‪ ،‬ويف هذا‬
‫فد َّلت عىل َّ‬
‫إعمال للنصوص‪ ،‬وفيه طاع ٌة ل َّله سبحانه وتعاىل؛ إ ْذ أثبتنا من اآليات ما‬
‫ٌ‬

‫والجنة والنار‪ ،‬رقم (‪ ،)2788‬من حديث ابن‬


‫مسلم‪ ،‬كتاب صفة القيامة َ‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫عمر رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪30‬‬

‫َأن َْزل ال َّله عز وجل لنا‪ ،‬وسيأيت ‪ْ -‬‬


‫إن شاء ال َّله ‪ -‬بيان َّ‬
‫أن القرآن من كالم‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪.‬‬ ‫منز ٌل غير‬ ‫ال َّله‪ ،‬ثم بعد ذلك إثبات َّ‬
‫أن القرآن َّ‬
‫السنَّة‪ :‬أنه يثبت الكالم للطفل‬
‫ومن نقصان عقل المخالفين ألهل ُّ‬
‫وينفيه عن ال َّله عز وجل‪.‬‬

‫أن إثبات األشاعرة لكالم ال َّله‪ :‬يف حقيقته ٌ‬


‫نفي للكالم‪.‬‬ ‫لذا َتعلم َّ‬
‫تدل عىل كمال ال َّله إَل أهل‬
‫لذا فال يثبت هذه الصفة العظيمة التي ُّ‬
‫السنَّة والجماعة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫َان ا ْل َب ْح ُر مدَ اد ًا ل َكل َمات َر ِّبي َلنَفدَ ا ْل َب ْح ُر َق ْب َل‬
‫ال َّله يقول‪ُ ﴿ :‬ق ْل َل ْو ك َ‬
‫َأ ْن َتنْ َفدَ كَل َم ُ‬
‫ات َر ِّبي َو َل ْو ج ْئنَا بم ْثله َمدَ د ًا﴾ [الكهف‪.]109 :‬‬
‫شخص أن َيكتب كالم ال َّله بماء البحر ‪ -‬من‬
‫ٌ‬ ‫معنى اآلية‪ :‬لو أراد‬
‫كثرته؛ ألن أكثر الماء هو ماء البحر ‪ -‬ينتهي ماء البحر‪ ،‬ولو أتينا بعده‬
‫أبح ٍر وأكثر ينتهي المدَ اد ‪ -‬يعني الحبر ‪-‬؛ أي‪ :‬لو كان الحبر هو‬
‫بسبعة ُ‬
‫﴿و َل ْو‬
‫ماء البحر ونكتب كالم ال َّله‪ :‬تنتهي البحور وما نفدت كلمات ال َّله‪َ ،‬‬
‫وبحر ‪ -‬ما ينتهي كالم‬
‫ٌ‬ ‫وبحر‬
‫ٌ‬ ‫ج ْئنَا بم ْثله َمدَ د ًا﴾‪ :‬بمثل هذا البحر ‪ٌ -‬‬
‫بحر‬
‫‪31‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫( ‪)1‬‬
‫ال َّله؛ لذلك النبي صىل اهلل عليه وسلم يقول‪َ « :‬ي ْر َف ُع الق ْس َط َو َي ْخف ُض ُه»‬
‫سبحانه‪﴿ ،‬إن ََّما َأ ْم ُر ُه إ َذا َأ َرا َد َش ْيئ ًا َأ ْن َي ُق َ‬
‫ول َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ‬
‫ون﴾ [يس‪.]82:‬‬
‫يدبر الكون أخرس؟! ‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك‬ ‫فكيف يقولون َّ‬
‫أن الذي ِّ‬
‫‪-‬؛ يعني‪ :‬المالئكة يتك َّلمون‪ ،‬والرسل يتك َّلمون‪ ،‬والذي خ َلقهم ما‬
‫يتك َّلم؟!‬
‫فإذا قيل‪ :‬لماذا يقولون هذا الكالم؟‬

‫ألن أصل المقاَلت هذه من اليهود‪ ،‬واليهود يتن َّقصون َّ‬


‫الرب‬ ‫نقول‪َّ :‬‬

‫دائم ًا ‪ -‬حتى يتن َّقصون الخ ْلق ‪ ،-‬و َيطعنون حتى يف ذات ِّ‬
‫الرب عز وجل؛‬
‫﴿و َقا َلت ال َي ُهو ُد َيدُ ال َّله َم ْغ ُلو َل ٌة﴾ [المائدة‪﴿ ،]64 :‬إ َّن ال َّل َه َفق ٌير َون َْح ُن‬
‫َ‬
‫‪،]116‬‬ ‫[البقرة‪:‬‬ ‫﴿و َقا ُلوا ا َّت َخ َذ ال َّل ُه َو َلد ًا﴾‬
‫‪َ ،]181‬‬ ‫[آل عمران‪:‬‬ ‫َأ ْغن َيا ُء﴾‬
‫ن ال َّله﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫﴿ َو َقا َلت ا ْل َي ُهو ُد ُع َز ْي ٌر ْاب ُن ال َّله َو َقا َلت الن ََّص َارى ا ْل َمس ُ‬
‫يح ْاب ُ‬
‫‪ ،]30‬وهكذا‪.‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب يف قوله عليه السالم‪« :‬إ َّن ال َّل ُه ََل َينَا ُم»‪ ،‬وفي‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ُّور َل ْو ك ََش َف ُه َألَ ْح َر َق ُس ُب َح ُ‬
‫ات َو ْجهه َما ا ْنت ََهى إ َل ْيه َب َص ُر ُه م ْن‬ ‫قوله‪« :‬ح َج ُاب ُه الن ُ‬
‫َخ ْلقه»‪ ،‬رقم (‪ ،)179‬من حديث أبي موسى رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪32‬‬

‫أن ال َّله يتك َّلم‪ ،‬ثم بعدها‪َّ :‬‬


‫أن القرآن‬ ‫والمصنِّف رمحه اهلل ذكَر اآلن َّ‬
‫حصلت بسببه فتن ٌة عظيم ٌة‪ ،‬وهو‪ :‬خ ْلق‬
‫ْ‬ ‫من مجلة كالم ال َّله‪ ،‬ثم ٌ‬
‫أمر آخر‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪.‬‬ ‫منز ٌل غير‬ ‫القرآن‪ ،‬فذكر َّ‬
‫أن القرآن َّ‬
‫‪33‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫س َت َج َار َك َف َأ ِج ْر ُه َح َّتى َي ْس َم َع َك َال َم‬ ‫﴿وإِنْ َأ َح ٌد ِم َن ا ْل ُم ْشرِكِ َ‬


‫ين ا ْ‬ ‫َو َق ْولِ ِه‪َ :‬‬
‫ال َّل ِه﴾‪.‬‬
‫﴿و َق ْد َكانَ َفرِ ٌيق ِم ْنهُ ْم َي ْس َم ُعونَ َك َال َم ال َّل ِه ُث َّم ُي َح ِّر ُفو َن ُه ِم ْن َب ْع ِد َما‬
‫َ‬
‫َع َق ُلو ُه َو ُه ْم َي ْع َل ُمونَ ﴾‪.‬‬
‫﴿ ُيرِ ُيدونَ َأنْ ُي َب ِّد ُلوا َك َال َم ال َّل ِه﴾‪.‬‬
‫اب َر ِّب َك ََل ُم َب ِّد َل لِ َكلِ ََمتِ ِه﴾‪.‬‬
‫وح َي إِ َل ْي َك ِم ْن كِ َت ِ‬ ‫﴿وا ْت ُل ما ُأ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س َرائِ َيل َأ ْك َث َر ا َّل ِذي ُه ْم فِ ِيه‬ ‫ِ‬
‫﴿إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْرآنَ َي ُق ُّص َع َلى َبني إِ ْ‬
‫َي ْخ َتلِ ُفونَ ﴾‪.‬‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫موصوف‬
‫ٌ‬ ‫أن ال َّله عز وجل‬
‫لما ذكر رمحه اهلل اآليات السابقة يف َّ‬
‫َّ‬
‫أن القرآن من كالم ال َّله‪ ،‬فليس مجيع كالم ال َّله هو‬
‫بالكالم؛ ذكر بعد ذلك َّ‬
‫القرآن فقط؛ وإنَّما القرآن شي ٌء منه‪.‬‬
‫فكالمه سبحانه ينقسم إىل قسمين‪:‬‬
‫شرعي؛ ككالمه يف القرآن العظيم‪ ،‬وما جاء يف‬ ‫األول‪ :‬كال ٌم‬ ‫ِ‬
‫ٌّ‬ ‫القسم َّ‬
‫التوراة‪ ،‬وما جاء يف اإلنجيل‪.‬‬
‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪َ :‬قدَ ر ٌّي‪ ،‬وهو ما يقضيه يف الكون من األوامر وتدبير‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪34‬‬

‫األمور ونحو ذلك‪.‬‬


‫ٍ‬
‫مخلوق‪ ،‬منه بدأ‪ ،‬وإليه‬ ‫منز ٌل‪ ،‬غير‬ ‫وجاءت النصوص َّ‬
‫بأن القرآن َّ‬
‫السنَّة‪.‬‬
‫يعود‪ ،‬هذه أربعة عناصر هي معتَقد أهل ُّ‬
‫«منز ٌل»؛ ألن ال َّله عز وجل قال‪﴿ :‬إنَّا َأن َْز ْلنَا ُه في َل ْي َلة‬ ‫فقولهم‪َّ :‬‬
‫ا ْل َقدْ ر﴾ [القدر‪ ،]1 :‬وقال‪﴿ :‬إنَّا َأن َْز ْلنَا ُه في َل ْي َل ٍة ُم َب َارك ٍَة﴾ [الدخان‪.]3 :‬‬
‫مخلوق»؛ ألن ال َّله عز وجل قال‪َ ﴿ :‬أ ََل َل ُه ا ْل َخ ْل ُق‬ ‫ٍ‬ ‫وقولهم‪« :‬غير‬
‫وأمر‪ ،‬وب َّين يف‬
‫خلق ٌ‬‫َو ْاألَ ْم ُر﴾ [األعراف‪ ،]54 :‬فب َّين سبحانه وتعاىل جزأين‪ٌ :‬‬
‫﴿وك ََذل َك َأ ْو َح ْينَا‬ ‫آية أخرى َّ‬
‫أن القرآن من األ ْمر؛ كما يف قوله سبحانه‪َ :‬‬
‫[الشورى‪:‬‬ ‫يم ُ‬
‫ان﴾‬ ‫إ َل ْي َك ُروح ًا م ْن َأ ْمرنَا َما ُكن َْت َتدْ ري َما الكت ُ‬
‫َاب َو ََل اإل َ‬
‫‪.]52‬‬
‫أن ال َّله عز وجل هو الذي تك َّلم به ابتدا ًء؛‬
‫وقولهم‪« :‬منه بدأ»؛ أي‪َّ :‬‬
‫﴿حتَّى َي ْس َم َع ك ََال َم ال َّله﴾ [التوبة‪.]6 :‬‬
‫كما يف قوله‪َ :‬‬
‫أن القرآن هو قول جبريل عليه السالم؛ كما يف قوله سبحانه‪:‬‬ ‫وجاء َّ‬
‫آية أخرى‬‫يم * ذي ُقو ٍة﴾ [التكوير‪ ،]20 - 19 :‬وجاء يف ٍ‬ ‫ول كَر ٍ‬ ‫﴿إ َّن ُه َل َق ْو ُل رس ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ ُ‬
‫بأنه قول محم ٍد صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬كما يف قول ال َّله‪﴿ :‬إ َّن ُه َل َق ْو ُل رس ٍ‬
‫ول‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ‬
‫يم * َو َما ُه َو ب َق ْول َشاع ٍر﴾ [الحاقة‪.]41 - 40:‬‬
‫كَر ٍ‬
‫‪35‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫أن ال َّله هو الذي‬ ‫ففي اآلية األُوىل ‪َ -‬‬


‫﴿حتَّى َي ْس َم َع ك ََال َم ال َّله﴾ ‪َّ -‬‬
‫تك َّلم به ابتدا ًء‪ ،‬ويف اآلية الثانية والثالثة أنَّه قول جبريل ومحمد عليهما‬
‫الصالة والسالم؛ لكوهنما مب ِّل َغ ْين عن ال َّله‪.‬‬
‫وقولهم‪« :‬وإليه يعود»؛ أي‪ :‬أنَّه يف آخر الزمان ‪ -‬كما جاء يف بعض‬
‫آن َو َأ ْع َر ُضوا َعن الدِّ ين‪ - :‬تشريف ًا لكتاب‬ ‫َّاس ال ُق ْر َ‬ ‫اآلثار ‪ -‬إ َذ َا َت َر َك الن ُ‬ ‫( ‪)1‬‬

‫ٍ‬
‫الصدُ ور م َن ا ْل ُقرآن‪ ،‬و َيفت َُح‬ ‫يح في َلي َلة َفت َْأ ُخ َذ َجم َ‬
‫يع َما في ُّ‬ ‫ال َّله ‪َ -‬ت ْسري ر ٌ‬
‫يها كت ََاب ًة؛ فتشريف ًا لمقام القرآن‪َ :‬ل يبقى‬ ‫ف َف َال َيجدُ َ‬
‫ون ف َ‬ ‫الم َصاح َ‬
‫النَّاس َ‬
‫ذلك القرآن عندهم؛ ل َت ْركهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ومسلم ‪-‬؛‬ ‫البخاري‬
‫ِّ‬
‫(‪)2‬‬
‫وكذا يف آخر الزمان ُتهدَ م ال َك ْع َبة ‪ -‬كما يف‬
‫لعدم وجود من يص ِّلي إليها‪ ،‬إلعراض الناس عنها‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مسعود رضي ال َّله عنه‬ ‫(‪ )1‬رواه الحاكم (‪ ،)8538/549/4‬من حديث ابن‬
‫آن َب ْي َن َأ ْظ ُهرك ُْم ُيوش ُك َأ ْن ُي ْر َف َع‪َ ،‬ف َقا ُلوا‪َ :‬ك ْي َ‬
‫ف َو َقدْ‬ ‫«وإ َّن َه َذا ا ْل ُق ْر َ‬
‫موقوف ًا‪ ،‬ولفظه‪َ :‬‬
‫َأ ْث َب َت ُه ال َّل ُه في ُق ُلوبنَا‪َ ،‬و َأ ْث َب ْتنَا ُه في َم َصاحفنَا؟ َق َال‪ُ :‬ي ْس َرى َع َل ْيه َل ْي َل ًة َف ُي ْذ َه ُ‬
‫ب ب َما في‬

‫ُق ُلوب ُك ْم‪َ ،‬و ُي ْذ َه ُ‬


‫ب ب َما في َم َصاحف ُك ْم»‪.‬‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب‬
‫ٌ‬ ‫البخاري‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬باب هدم الكعبة‪ ،‬رقم (‪،)1596‬‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب َل تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل‪ ،‬فيتمنى‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪36‬‬

‫ٌ‬
‫مخلوق؛ والذي دعاهم إىل هذا‪ :‬لنفي‬ ‫وذهب المعتزلة إىل َّ‬
‫أن القرآن‬
‫إن القران كالم ال َّله؛ ألثبتوا صفة الكالم ل َّله‪،‬‬
‫صفة الكالم ل َّله؛ فلو قالوا‪َّ :‬‬
‫وهم ينفون صفة الكالم‪.‬‬
‫بأن القرآن هو كالم ال َّله عز وجل‪ - :‬حتى‬
‫ولما جاءت النصوص َّ‬
‫َّ‬
‫مخلوق‪ ،‬ويتر َّتب عىل هذا القول‬
‫ٌ‬ ‫مخرج ًا – قالوا َّ‬
‫بأن القرآن‬ ‫يجدوا لهم َ‬
‫ٍ‬
‫محاذير‪:‬‬ ‫عدة‬
‫تكذيب للقرآن العظيم؛ ألن ال َّله يقول‪﴿ :‬إنَّا‬
‫ٌ‬ ‫األول‪ :‬فيه‬
‫المحذور َّ‬
‫َأن َْز ْلنَا ُه﴾ [الدخان‪ ،]3 :‬واإلنزال معلو ٌم يف لغة العرب‪ :‬بأنَّه من أعىل إىل‬
‫أسفل‪.‬‬
‫أن مجيع صفات ال َّله مخلوق ٌة ‪ -‬تعاىل‬
‫والمحذور الثاين‪ُ :‬يبنى عليه َّ‬
‫ٌ‬
‫منفصل‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق‬ ‫ٌ‬
‫منفصل عنه‪ ،‬وكالمه‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق‬ ‫ال َّله عن ذلك ‪-‬؛ ْ‬
‫فسمعه‬
‫ٌ‬
‫ومنفصل عنه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق‬ ‫عنه‪ ،‬والعلم‬

‫أن يكون مكان الميت من البالء‪ ،‬رقم (‪ ،)2909‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل‬

‫الس َو ْي َق َت ْين م َن َ‬
‫الح َب َشة»‪.‬‬ ‫عنه‪ ،‬ولفظه‪ُ « :‬ي َخ ِّر ُب ال َك ْع َب َة ُذو ُّ‬
‫‪37‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫والمحذور الثالث‪ :‬يتر َّتب عليه َّ‬


‫أن مجيع األوامر يف القرآن والنواهي‬
‫أي معنى؛ وإنَّما هي مخلوق ٌة‬
‫واألخبار واَلستخبار فيه‪ :‬ليس لها ُّ‬
‫معنى فيها‬
‫ً‬ ‫كالسموات‪ ،‬واألرض‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ُ ،‬ينظر إليها من غير‬
‫يف األمر والنهي‪.‬‬
‫نظرت إىل القمر‪ ،‬فليس معناه أنَّك تص ِّلي أو َيأمرك القمر‬
‫َ‬ ‫فمثالً‪ :‬لو‬
‫تدب ٍر‪ ،‬وتأ ُّملٍ‪ ،‬وتف ُّك ٍر فقط‪،‬‬
‫أن تص ِّلي‪ ،‬وإنَّما تنظر إىل هذا القمر نظرة ُّ‬
‫ْ‬
‫للزخرفة فقط‪ ،‬وَل نص ِّلي‪ ،‬وَل‬
‫وكذلك القرآن لو كان مخلوق ًا يكون َّ‬
‫للج َمال؛ كما ذكر ذلك ابن‬ ‫ٍ‬
‫أخبار‪ ،‬وإنَّما َ‬ ‫نصوم‪ ،‬وَل نصدِّ ق ما فيه من‬
‫القيم رمحه اهلل‪.‬‬
‫والمحذور الرابع‪ :‬يتضمن أنَّه َل َفرق بين كالم البشر وبين كالم‬
‫مت بكال ٍم؛ كأنه هو كالم ال َّله‪،‬‬
‫مخلوق‪ ،‬وعليه فلو تك َّل َ‬
‫ٌ‬ ‫ال َّله؛ َّ‬
‫ألن كالمها‬
‫مخلوق من كالم ال َّله‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قلت للناس‪َ :‬ل تص ُّلون‪ ،‬فمعناه‪:‬‬
‫فلو َ‬
‫والمصنِّف رمحه اهلل ساق مخسة أد َّل ٍة من القرآن إلثبات َّ‬
‫أن القرآن‬
‫ٍ‬
‫بمخلوق‪:‬‬ ‫منز ٌل وليس‬
‫َّ‬
‫س َت َج َار َك‬ ‫﴿وإِنْ َأ َح ٌد ِم َن ا ْل ُم ْشرِكِ َ‬
‫ين ا ْ‬ ‫ألولى‪َ ( :‬و َق ْولِ ِه‪َ :‬‬ ‫فقال يف اآلية ا ُ‬

‫َف َأ ِج ْر ُه َح َّتى َي ْس َم َع َك َال َم ال َّل ِه﴾)‪.‬‬


‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪38‬‬

‫س َت َج َار َك﴾) يعني‪ :‬طلب محايتك؛‬ ‫(﴿وإِنْ َأ َح ٌد ِم َن ا ْل ُم ْشرِكِ َ‬


‫ين ا ْ‬ ‫َ‬
‫(﴿ح َّتى َي ْس َم َع َك َال َم ال َّل ِه﴾) وهو‬
‫(﴿ َف َأ ِج ْر ُه﴾) يعني‪ :‬اقبل ما طلب منك‪َ ،‬‬
‫أن القرآن هو كالم ال َّله وليس مخلوق ًا‪.‬‬ ‫فدل عىل َّ‬ ‫القرآن؛ َّ‬
‫ِ‬
‫وقوله‪َ ﴿( :‬ف َأ ِج ْر ُه َح َّتى َي ْس َم َع َك َال َم ال َّله﴾) َل أن َّ‬
‫يمس كالم ال َّله؛‬
‫نج ٌس‪ ،‬وإنَّما ُيتىل عليه القرآن العظيم أو ُيعطى تفسير‬
‫ألن المشركين َ‬
‫يمس المصحف فال‪ ،‬فلو شخص كافر قال‪:‬‬
‫معاين القرآن العظيم‪ ،‬أما أن َّ‬
‫أريد أن آخذ المصحف وأتلو فيه؛ نقول‪ :‬ما نعطيك إياه‪ ،‬وإنما نعطيك‬
‫وتمسه بيدك‪َ ،‬ل؛ ألنك‬
‫َّ‬ ‫تفسير معانيه فقط‪ ،‬أو نتلوه عليك‪ ،‬أ َّما أن تأخذه‬
‫نجس‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أن سماع القرآن يتأ َّثر به حتى الكافر‪،‬‬ ‫ويف هذه اآلية ٌ‬
‫دليل عىل َّ‬
‫فمجرد سماعه يؤ ِّثر فيه؛ لذا قال ال َّله‪َ ﴿ :‬و َق َال ا َّلذي َن َك َف ُروا ََل َت ْس َم ُعوا‬
‫َّ‬
‫ل َه َذا ا ْل ُق ْرآن﴾؛ ألنه يؤثر‪َ ﴿ ،‬وا ْل َغ ْوا فيه َل َع َّل ُك ْم َت ْغل ُب َ‬
‫ون﴾ [فصلت‪.]26 :‬‬
‫لذا من أعظم أسباب دعوة غير المسلمين إىل هذا الدين‪ْ :‬‬
‫أن‬
‫ُتسمعهم كالم ال َّله سواء كان مسموع ًا‪ ،‬أو تعطيهم تفسير القرآن العظيم؛‬
‫فبإذن ال َّله يؤ ِّثر عىل نفوسهم َل س َّيما إذا سمعوه‪ ،‬لماذا؟ َّ‬
‫ألن القرآن‬
‫‪39‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫مواف ٌق للفطرة‪ ،‬فأتى القرآن العظيم يف نسق آياته وترتيبه ومعانيه موافق‬

‫ل َما يف القلب‪ ،‬فالقلب يتع َّطش له‪ ،‬فإذا سمع ذلك‪َّ :‬‬
‫يتحرك القلب له‪.‬‬
‫حمى‪ :‬ال َّله قال‪َ ﴿( :‬ف َأ ِج ْر ُه‬
‫كافر لو اعتصم بالمسلمين ل ُي َ‬ ‫رجل ٌ‬ ‫فهنا ٌ‬
‫َح َّتى َي ْس َم َع َك َال َم ال َّل ِه﴾) ألنَّه سوف يؤ ِّثر عليه كالم ال َّله عز وجل‪.‬‬
‫وإذا كان القرآن يؤثر يف المشركين؛ فمن باب َأوىل ْ‬
‫أن يسعى‬

‫اإلنسان المسلم يف تأثيره عىل قلبه‪ ،‬وال َّله عز وجل ذ َّم من مل ِّ‬
‫يحرك القرآن‬
‫آن َع َلى َج َب ٍل َل َر َأ ْي َت ُه َخاشع ًا‬
‫العظيم قلبه؛ قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ل ْو َأن َْز ْلنَا َه َذا ا ْل ُق ْر َ‬
‫ُمت ََصدِّ ع ًا م ْن َخ ْش َية ال َّله َوت ْل َك ْاألَ ْم َث ُال ن َْضر ُب َها للنَّاس َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُر َ‬
‫ون﴾‬
‫[الحشر‪.]21 :‬‬
‫أن تعرف ‪ -‬كما قال ابن القيم رمحه اهلل ‪ -‬مح َّبتك ل َّله‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬ ‫أردت ْ‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫تتلذذ بسماع كالم ال َّله؛‬
‫فاختبر نفسك يف سماعك لكالم ال َّله‪ ،‬إذا كنت َّ‬
‫فهذا عالمة مح َّبتك ل َّله‪.‬‬
‫أحب زوجته مثالً‪ ،‬ويف بداية الخطوبة ‪ -‬بعد‬
‫َّ‬ ‫أن شخص ًا‬
‫لذلك لو َّ‬
‫العقد عليها ‪ -‬قد ُيك ِّلمها كثير ًا يتمتَّع بكالمها وألفاظها‪ ،‬لماذا؟ لوجود‬

‫(‪ )1‬الجواب الكايف (ص‪.)549‬‬


‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪40‬‬

‫تحب ْ‬
‫أن تسمع‬ ‫ُّ‬ ‫الرجل الذي َل ُتح ُّبه؛ َل‬
‫المح َّبة يف قلبه لها‪ ،‬وكذلك ُ‬
‫صوته أصالً‪.‬‬
‫لذة اإليمان بإذن ال َّله‪ ،‬ومح َّبة ال َّله‪:‬‬
‫والمسلم الصادق الذي يجد َّ‬
‫يتلذذ به؛ فهو بإذن ال َّله أمار ٌة من‬
‫ليختبر نفسه يف سماع كالم ال َّله‪ ،‬إذا كان َّ‬
‫أمارات مح َّبتك ل َّله سبحانه‪.‬‬
‫﴿و َق ْد َكانَ َفرِ ٌيق ِم ْنهُ ْم َي ْس َم ُعونَ َك َال َم ال َّل ِه ُث َّم ُي َح ِّر ُفو َن ُه‬
‫واآلية الثانية‪َ ( :‬‬
‫ِم ْن َب ْع ِد َما َع َق ُلو ُه َو ُه ْم َي ْع َل ُمونَ ﴾)‪.‬‬
‫ألن َّأول اآلية‪:‬‬ ‫(﴿و َق ْد َكانَ َفرِ ٌيق ِم ْنهُ ْم﴾) يعني‪ :‬من أهل الكتاب؛ َّ‬ ‫َ‬
‫ون ك ََال َم ال َّله﴾‬ ‫ون َأ ْن ُي ْؤمنُوا َل ُك ْم َو َقدْ ك َ‬
‫َان َفر ٌيق من ُْه ْم َي ْس َم ُع َ‬ ‫﴿ َأ َف َت ْط َم ُع َ‬
‫بصوت‪َ ﴿( ،‬ك َال َم ال َّل ِه﴾)‬‫ٍ‬ ‫[البقرة‪ ،]75 :‬فقوله‪َ ﴿( :‬ي ْس َم ُعونَ ﴾) َّ‬
‫دل عىل أنَّه‬
‫المفسرون كابن جرير ال َّطبري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فأضاف الكالم هنا إليه سبحانه‪ ،‬ومل َيذكر‬
‫أن المقصود من كالم ال َّله هنا هو‬
‫والسيوطي ‪ -‬يف الدُّ ر المنثور ‪َّ :-‬‬
‫ُّ‬
‫أن التوراة كالم ال َّله‬
‫القرآن‪ ،‬وإنَّما يقولون‪ :‬التوراة ‪ ،‬وعليه نُثبت أيض ًا َّ‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ ،)141/2‬الدر المنثور للسيوطي (‪.)198/1‬‬


‫‪41‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫ِّف رمحه اهلل يرى أن المراد بكالم ال َّله يف هذه‬


‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬لكن المصن ُ‬
‫اآلية‪ :‬هو القرآن العظيم‪.‬‬
‫(﴿ ُث َّم ُي َح ِّر ُفو َن ُه ِم ْن َب ْع ِد َما َع َق ُلو ُه َو ُه ْم َي ْع َل ُمونَ ﴾) َّ‬
‫دل عىل َّ‬
‫أن معاين‬

‫القرآن أيض ًا من ال َّله عز وجل؛ لذلك ُي ِّ‬


‫حرفون تلك األلفاظ‪ ،‬فألفاظه‬

‫ومعانيه من ال َّله؛ ألنَّهم فهموا معنى ما ذكره ال َّله ِّ‬


‫فيحرفون المعنى‪.‬‬
‫وأن لفظه ومعناه حقيق ٌة من ال َّله‬
‫مسموع‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫أن كالم ال َّله‬ ‫َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن القرآن الذي بين الدِّ فتين تك َّلم ال َّله‬ ‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬وإذا َعل َم المسلم َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫به بصوت وحرف؛ َيع ُظم قدْ ر القرآن يف قلبه ف ُيع ِّظم َّ‬
‫ربه‪.‬‬
‫واآلية الثالثة‪ُ ﴿( :‬يرِ ُيدونَ َأنْ ُي َب ِّد ُلوا َك َال َم ال َّل ِه﴾)‪.‬‬
‫الم َخ َّلفون يف غزوة األحزاب‪َ ،‬‬
‫(﴿أنْ ُي َب ِّد ُلوا‬ ‫(﴿ ُيرِ ُيدونَ ﴾) أي‪ُ :‬‬
‫َك َال َم ال َّل ِه﴾) َّ‬
‫بأن من غزا له المغنَم دون من مل يغزوا‪ ،‬فذكر ال َّله عز وجل‬
‫يحرفوا‬ ‫أن ال َّله يتك َّلم‪ ،‬وهم يريدون ْ‬
‫أن ِّ‬ ‫بأن القرآن هو كالم ال َّله‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫ألفاظه‪.‬‬
‫نسب إىل من قاله مبتدئ ًا َل مب ِّلغ ًا‪ ،‬فمثالً لو َّ‬
‫أن ملك ًا قال‪:‬‬ ‫والكالم ُي ُ‬
‫عمل‪ ،‬وإنَّما إجازةٌ‪ ،‬فخرج المذيع وتك َّلم يف اإلذاعة أمام‬
‫غد ًا َل يوجد ٌ‬
‫النَّاس‪ ،‬فقال‪ :‬قال الملك‪ :‬غد ًا إجازة‪ ،‬هل يقول النَّاس‪ :‬المذيع قال غد ًا‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪42‬‬

‫الملك‪ ،‬فالكالم ُينسب إىل من قاله مبتدئ ًا‪ ،‬فكالم ال َّله‬


‫إجازة أم الملك؟ َ‬
‫‪ -‬أي‪ :‬القرآن ‪ -‬هو الذي ابتدأ ال َّله به‪ ،‬فهو المتك ِّلم سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫وليس جبريل عليه السالم؛ لذلك قال‪ُ ﴿( :‬يرِ ُيدونَ َأنْ ُي َب ِّد ُلوا َك َال َم‬
‫ال َّل ِه﴾)‪.‬‬
‫وح َي إِ َل ْي َك ِم ْن كِ َت ِ‬
‫اب َر ِّب َك ََل ُم َب ِّد َل‬ ‫(﴿وا ْت ُل ما ُأ ِ‬
‫َ‬ ‫واآلية الرابعة‪َ :‬‬
‫لِ َكلِ ََمتِ ِه﴾)‪.‬‬
‫مخلوق‪ ،‬وأنه كالم ال َّله؛‬ ‫ٍ‬ ‫منز ٌل‪ ،‬غير‬ ‫أن القرآن َّ‬ ‫يف هذه اآلية إثبات َّ‬
‫من وجهين‪:‬‬
‫وحي‬ ‫دل عىل َّ‬ ‫(﴿وا ْت ُل ما ُأ ِ‬
‫وح َي﴾) َّ‬
‫أن القرآن ٌ‬ ‫َ‬ ‫األول‪ :‬يف قوله‪َ :‬‬‫الوجه َّ‬
‫وحي ‪ -‬وليس‬
‫ٌ‬ ‫اب َر ِّب َك﴾) فدل عىل أنه َّ‬
‫منز ٌل ‪-‬‬ ‫(﴿م ْن كِ َت ِ‬
‫ِ‬ ‫من ال َّله‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بمخلوق‪.‬‬
‫(﴿َل ُم َب ِّد َل لِ َكلِ ََمتِ ِه﴾) أي‪ :‬لكالم ال َّله‪ ،‬وهو‬
‫والوجه الثاين‪ :‬قوله‪َ :‬‬
‫الشرعية أيض ًا‪ ،‬و َيدخل فيه أيض ًا‬ ‫(﴿َل ُم َب ِّد َل لِ َكلِ ََمتِ ِه﴾) َّ‬
‫ويصح‪َ :‬‬
‫ُّ‬ ‫القرآن‪،‬‬
‫الكون َّية‪.‬‬
‫س َرائِ َيل َأ ْك َث َر‬ ‫ِ‬
‫واآلية الخامسة‪﴿( :‬إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْرآنَ َي ُق ُّص َع َلى َبني إِ ْ‬
‫ا َّل ِذي ُه ْم فِ ِيه َي ْخ َتلِ ُفونَ ﴾)‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫س َرائِ َيل َأ ْك َث َر ا َّل ِذي ُه ْم فِ ِيه‬ ‫ِ‬


‫(﴿إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْرآنَ َي ُق ُّص َع َلى َبني إِ ْ‬
‫ِ‬
‫رب العالمين‬
‫ص ذلك‪ :‬هو ُّ‬ ‫َي ْخ َتل ُفونَ ﴾) والذي ي ُق ُّ‬
‫ص‪ :‬يتك َّلم‪ ،‬والذي َق َّ‬
‫ص َع َل ْي َك َأ ْح َس َن ا ْل َق َصص ب َما‬
‫سبحانه‪ ،‬فال َّله عز وجل قال‪﴿ :‬ن َْح ُن َن ُق ُّ‬
‫َأ ْو َح ْينَا إ َل ْي َك َه َذا ا ْل ُق ْر َ‬
‫آن َوإ ْن ُكن َْت م ْن َق ْبله َلم َن ا ْل َغافلي َن﴾ [يوسف‪،]3 :‬‬
‫أن‬ ‫ص هو الكالم‪َّ ،‬‬
‫فدل عىل َّ‬ ‫قص عىل بني إسرائيل أيض ًا‪ ،‬وال َق ُّ‬
‫وهو الذي َّ‬
‫القرآن هو كالم ال َّله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬هل مجيع كالم ال َّله فقط هو القرآن؟‬
‫وإَل فال َّله عز وجل له كال ٌم‬
‫نقول‪َ :‬ل‪ ،‬ال َّله تك َّلم بكال ٍم‪ ،‬منه القرآن‪َّ ،‬‬
‫آخر غير القرآن‪﴿ ،‬ك َُّل َي ْو ٍم ُه َو في َش ْأ ٍن﴾ [الرمحن‪ ،]29 :‬يرفع هذا ويخفض‬
‫هذا؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إن ََّما َأ ْم ُر ُه إ َذا َأ َرا َد َش ْيئ ًا َأ ْن َي ُق َ‬
‫ول َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ‬
‫ون﴾‬
‫[يس‪.]82 :‬‬
‫وأن القرآن والتوراة كالم ال َّله‪،‬‬
‫فتب َّين مما سبق‪ :‬أن ال َّله يتك َّلم‪َّ ،‬‬
‫وأن القرآن كالم ال َّله‪ ،‬فهو يريد أن‬
‫قرر لك أن ال َّله يتك َّلم‪َّ ،‬‬
‫وسيأيت لما َّ‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪ ،‬فأتى‬ ‫منز ٌل غير‬
‫يصل إىل هذه النتيجة وهي‪ :‬أن القرآن َّ‬
‫أن ال َّله يتكلم‪ ،‬والقرآن من كالمه سبحانه‬
‫بالمقدِّ متين السابقتين ‪ -‬ومها‪َّ :‬‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪ ،‬وسيأيت بإذن‬ ‫منز ٌل غير‬ ‫‪-‬؛ ليصل إىل النتيجة وهي‪َّ :‬‬
‫أن القرآن َّ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪44‬‬

‫ال َّله‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫﴿و َه َذا كِ َت ٌ‬
‫اب َأ ْن َز ْل َنا ُه ُم َب َار ٌك﴾‪.‬‬ ‫َو َق ْولِ ِه‪َ :‬‬
‫اشع ًا ُم َت َص ِّدع ًا ِم ْن َخ ْش َي ِة‬
‫﴿ َل ْو َأ ْن َز ْل َنا َه َذا ا ْل ُقرآنَ َع َلى َجب ٍل َلر َأي َت ُه َخ ِ‬
‫َ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ال َّل ِه﴾‪.‬‬
‫﴿وإِ َذا َبدَّ ْل َنا آ َي ًة َم َكانَ آ َي ٍة َوال َّل ُه َأ ْع َل ُم بِ ََم ُي َن ِّز ُل َقا ُلوا إِن َََّم َأ ْن َت ُم ْف َترٍ َب ْل‬
‫َ‬
‫س ِم ْن َر ِّب َك بِا ْل َح ِّق لِ ُي َث ِّب َت ا َّل ِذ َ‬
‫ين‬ ‫وح ا ْل ُق ُد ِ‬ ‫َأ ْك َث ُر ُه ْم ََل َي ْع َل ُمونَ * ُق ْل َن َّز َل ُه ُر ُ‬
‫ين * َو َل َق ْد َن ْع َل ُم َأنَّهُ ْم َي ُقو ُلونَ إِن َََّم ُي َع ِّل ُم ُه َب َش ٌر‬ ‫دى َو ُب ْش َرى لِ ْل ُم ْسلِ ِم َ‬ ‫آ َم ُنوا َو ُه ً‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ح ُدونَ إِ َل ْي ِه َأ ْع َج ِم ٌّي َو َه َذا لِ َسانٌ َع َربِ ٌّي ُمبِ ٌ‬ ‫لِسانُ ا َّل ِذي ي ْل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫منز ٌل‪،‬‬ ‫ِّف رمحه اهلل هنا ثالث آيات؛ إلثبات‪َّ :‬‬
‫أن القرآن َّ‬ ‫ساق المصن ُ‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪.‬‬ ‫وأنَّه غير‬
‫ٌ‬
‫مخلوق؟‬ ‫منز ٌل‪ ،‬وإنَّه‬
‫وال َفرق بين قولنا‪ :‬إنَّه َّ‬
‫تصديق بالقرآن العظيم‪ ،‬كما‬
‫ٌ‬ ‫منز ً‬
‫َل؛ فهذا‬ ‫األول‪ :‬أنَّه إذا قلنا‪َّ :‬‬
‫األمر َّ‬
‫يف هذه اآليات وما سيأيت‪.‬‬
‫مخلوق؛ فمعنى ذلك‪َّ :‬‬
‫أن صفة الكالم‬ ‫ٌ‬ ‫واألمر الثاين‪ :‬إذا قلنا‪ :‬أنَّه‬
‫جعلناها َع ْين ًا قائم ًة بنفسها‪ ،‬مثالً أنت تتك َّلم‪ ،‬فهل صفة الكالم خارج ٌة ‪-‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪46‬‬

‫أن هذا الكالم صف ٌة من صفات‬


‫جز ٌء يف يدك‪ ،‬أو جز ٌء يمشي معك ‪ -‬أو َّ‬
‫المتك ِّلم؟ هو صف ٌة من صفات المتك ِّلم‪.‬‬
‫كريم‪ ،‬فهل معنى الكرم هذا عىل كتفك شيء؟ أو يف‬
‫ٌ‬ ‫مثل‪ :‬أنت‬
‫بطنك شي ٌء بائ ٌن – كاليد ‪-‬؟ َل؛ َّ‬
‫فدل عىل أنَّه صف ٌة متع ِّلقة بالموصوف‪،‬‬
‫فليست مخلوق ًة‪.‬‬
‫وكذلك العلم‪ ،‬مثل‪ :‬أنت عال ٌم بالقراءة‪ ،‬فهل هذه الصفة ‪ -‬التي هي‬
‫عال ٌم بالقراءة ‪ -‬تمشي معك وأنت تمسكها بيدك مثالً؟ َل؛ وإنَّما هي‬
‫صف ٌة قائم ٌة بك‪.‬‬
‫وكذلك القرآن ال َّله تك َّلم به‪ ،‬ومن صفات ال َّله‪ :‬الكالم‪ ،‬والكالم‬

‫صف ٌة قائم ٌة بالموصوف وهو ُّ‬


‫الرب عز وجل‪.‬‬
‫أن كالم ال َّله َل‬ ‫مخلوق؛ َّ‬
‫دل عىل َّ‬ ‫ٌ‬ ‫واألمر الثالث‪ :‬أنَّنا إذا قلنا‪ :‬إنَّه‬
‫الص َالةَ﴾ [البقرة‪ ]43 :‬لو‬
‫يموا َّ‬ ‫﴿و َأق ُ‬
‫معنى له أصالً‪ ،‬كيف؟ يعني‪ :‬مثالً َ‬
‫﴿وآ ُتوا َّ‬
‫الزكَاةَ﴾ [البقرة‪،]43 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وجدناها مكتوبة عىل عمود‪ ،‬وعىل عمود ثاين َ‬
‫ٍ‬
‫عمود آخر ﴿ ُق ْل ل ْل ُم ْؤمني َن َي ُغ ُّضوا م ْن َأ ْب َصاره ْم﴾ [النور‪،]30 :‬‬ ‫وعىل‬
‫ونقول‪ :‬ال َّله ما تك َّلم به وإنَّما وجدنا هذه موجود ًة مخلوق ًة هكذا‪ ،‬هل‬
‫شك نُع ِّطله‪ ،‬لماذا؟ سنقول‪:‬‬
‫سنَ ْم َتثل هذه األوامر أم نُع ِّطل القرآن؟ َل َّ‬
‫‪47‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫ألن ال َّله ما أمر هبا؛ وإنَّما وجدنا هذه مخلوق ًة‪ ،‬قد يكون ٌ‬
‫بشر كتبها‬ ‫َّ‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫الص َال َة‬ ‫﴿و َأق ُ‬
‫يموا َّ‬ ‫إن ال َّله هو الذي تك َّلم به وقال لنا‪َ :‬‬
‫لك ْن إذا قلنا‪َّ :‬‬
‫الزكَاةَ﴾ [البقرة‪]43 :‬؛ فنقول‪َ :‬ل تخالف كالم ال َّله‪ ،‬وَل تخالف‬
‫َوآ ُتوا َّ‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪.‬‬ ‫نواهي ال َّله؛ َّ‬
‫فدل عىل أنَّه غير‬
‫مخلوق‪َ :‬ل َلزم منه َّ‬
‫أن‬ ‫ٌ‬ ‫المنزل‬
‫َّ‬ ‫أن كالم ال َّله‬
‫واألمر الرابع‪ :‬لو قلنا‪َّ :‬‬
‫مجيع صفات ال َّله مخلوق ٌة‪.‬‬
‫فمثالً‪ :‬لو قلنا‪ :‬القدرة مخلوق ٌة‪ ،‬والحكمة مخلوق ٌة‪ ،‬والخبرة‬
‫حليم‪ ،‬هل الحلم‬
‫ٌ‬ ‫مخلوق ٌة؛ وهذا غير صحيحٍ ‪َ ،‬ل ُيمكن‪ ،‬مثالً أنت‬
‫ٌ‬
‫منفصل عنك؟ واإلبصار‬ ‫ٌ‬
‫منفصل عنك؟ والكرم‬ ‫ٌ‬
‫منفصل عنك؟ والعلم‬
‫ٌ‬
‫منفصل عنك؟ َل‪.‬‬
‫فإذا كان هذا منتفي عن الخالق والمخلوق؛ َّ‬
‫دل عىل أنَّه غير صحيحٍ‬
‫وأن القرآن العظيم الذي هو كالم ال َّله َل يمكن‬
‫أن صفات ال َّله مخلوق ٌة‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫أن يكون مخلوق ًا‪ ،‬فلو قلنا‪ :‬أنَّه مخلوق؛ لكانت صفاته مخلوقة‪.‬‬
‫ْ‬
‫وقد يجد طالب العلم يف بعض الكتب وبعض اإلجازات يف القرآن‬
‫السنَد قول‪« :‬عن ُأ َبي عن النبي صىل اهلل عليه وسلم عن جبريل عن‬
‫يف َّ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪48‬‬

‫ال َّلوح المحفوظ» فيتو َّقفون هنا؛ لنفي الكالم عن ال َّله‪ ،‬فال يثبتون أن‬

‫القرآن من كالم ال َّله‪ ،‬والصحيح أن يقال يف َّ‬


‫السنَد‪« :‬عن النبي صىل اهلل‬
‫عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين‪ ،‬وجبريل عليه السالم سمعه‬
‫من ال َّله عز وجل‪ ،‬ثم جبريل ب َّلغه إىل النبي صىل اهلل عليه وسلم»‪ ،‬فال يقال‬
‫أن جبريل أخذه من ال َّلوح المحفوظ‪.‬‬ ‫َّ‬

‫﴿و َه َذا كِ َت ٌ‬
‫اب َأ ْن َز ْل َنا ُه ُم َب َار ٌك﴾)‪.‬‬ ‫قال رمحه اهلل‪َ ( :‬و َق ْولِ ِه‪َ :‬‬
‫اب﴾) أي‪ :‬القرآن العظيم‪َ ،‬‬
‫(﴿أ ْن َز ْل َنا ُه﴾) والنزول من‬ ‫(﴿و َه َذا كِ َت ٌ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‪ ،‬كما‬ ‫منزل من عند ال َّله‪ ،‬وأنَّه غير‬ ‫فدل عىل أنه َّ‬ ‫العلو إىل السفل؛ َّ‬
‫قال سبحانه‪﴿ :‬إنَّا َأن َْز ْلنَا ُه في َل ْي َلة ا ْل َقدْ ر﴾ [القدر‪ ،]1 :‬وقال‪﴿ :‬إنَّا َأن َْز ْلنَا ُه في‬
‫َل ْي َل ٍة ُم َب َارك ٍَة﴾ [الدخان‪.]3 :‬‬

‫(﴿ ُم َب َار ٌك﴾) َ‬


‫البركة‪ :‬كثرة النفع‪ ،‬فإذا نفع ال َّله عز وجل يف عملٍ؛ َّ‬
‫دل‬
‫أن ال َّله عز وجل َجعل فيه َبرك ًة‪ ،‬فمن بركته‪ :‬أنَّه شفا ٌء لما يف القلوب‪،‬‬
‫عىل َّ‬
‫وشفا ٌء لما يف األبدان‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حسنات ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ٍ‬
‫حرف منه بعشر‬ ‫أن َّ‬
‫كل‬ ‫ومن َبركته‪َّ :‬‬

‫ٍ‬
‫مسعود رضي اهلل عنه‪ ،‬أن النبي صىل اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫(‪ )1‬كما يف حديث ابن‬
‫‪49‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫ومن َبركته‪ :‬كثرة العلوم فيه‪.‬‬


‫أن من َق ُر َب منه؛ َر َف َعه ال َّله عز وجل؛ كما قال تعاىل‪:‬‬
‫ومن َبركته‪َّ :‬‬
‫﴿ ُيض ُّل به كَثير ًا َو َي ْهدي به كَثير ًا﴾ [البقرة‪ ،]26 :‬فيهدي به ال َّله عز وجل‬

‫كثير ًا من الناس‪َ ،‬‬


‫ببركة هذا القرآن‪.‬‬
‫واآلية الثانية قوله سبحانه‪َ ﴿( :‬ل ْو َأ ْن َز ْل َنا َه َذا ا ْل ُق ْرآنَ َع َلى َج َب ٍل َل َر َأ ْي َت ُه‬
‫اشع ًا ُم َت َص ِّدع ًا ِم ْن َخ ْش َي ِة ال َّل ِه﴾)‪.‬‬
‫َخ ِ‬

‫مخلوق‪ ،‬وأنه من عند‬ ‫ٍ‬ ‫منز ٌل غير‬ ‫أن القرآن َّ‬ ‫دل عىل َّ‬ ‫(﴿ َل ْو َأ ْن َز ْل َنا﴾) َّ‬
‫ال َّله‪.‬‬
‫(﴿ه َذا ا ْل ُق ْرآنَ َع َلى َج َب ٍل َل َر َأ ْي َت ُه﴾) لو جعل ال َّله فيك بصر ًا ُيبصر ما‬
‫َ‬
‫اشع ًا﴾) يعني‪ :‬متذ ِّلالً ل َّله‪ُ ﴿( ،‬م َت َص ِّدع ًا ِم ْن‬
‫(﴿خ ِ‬
‫َ‬ ‫يحدث يف الجمادات‪،‬‬
‫َخ ْش َي ِة ال َّل ِه﴾) ومن شدة خشيته يتصدَّ ع من خشية ال َّله‪ ،‬وإذا كان الجبل‬
‫يتصدَّ ع‪ ،‬بل َيهبط من خشية ال َّله؛ فق ْلب ابن آدم َأوىل؛ ألنه ُأنزل عىل ابن‬

‫الترمذي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫« َم ْن َق َر َأ َح ْرف ًا م ْن كتَاب ال َّله َف َل ُه به َح َسنَ ٌة‪َ ،‬وا ْل َح َسنَ ُة ب َع ْشر َأ ْم َثال َها»‪ .‬رواه‬
‫أبواب فضائل القرآن‪ ،‬باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من األجر‪ ،‬رقم‬
‫(‪.)2910‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪50‬‬

‫الملينة للقلب‪ :‬طلب العلم‪ ،‬واإلكثار من ذكْر‬


‫آدم‪ ،‬ومن أعظم األسباب ُ‬
‫ال َّله‪.‬‬
‫﴿و َل ْو َأ َّن ُق ْرآن ًا ُس ِّي َر ْت به ا ْلج َب ُال﴾؛ يعني‪ :‬سارت‬
‫وكذا قال سبحانه‪َ :‬‬
‫كت‪َ ﴿ ،‬أ ْو ُق ِّط َع ْت به ْاألَ ْر ُض﴾؛ يعني‪ :‬تش َّققت به األرض‬
‫وتحر ْ‬
‫َّ‬ ‫به الجبال‬
‫محذوف تقديره‪َ :‬ل َما‬
‫ٌ‬ ‫َأ ْو ُك ِّل َم به ا ْل َم ْو َتى﴾ [الرعد‪ ،]31 :‬وجواب الشرط‬

‫قرآن أفضل من هذا القرآن‪ ،‬والتقدير اآلخر‪َ :‬ل َما أتاهم ٌّ‬
‫نبي أفضل‬ ‫أتاهم ٌ‬
‫من هذا النبي صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫فلو ُأنزل هذا القرآن عىل الحجارة َّ‬


‫الص َّماء؛ لتش َّققت؛ ف َت َح ُّرك‬
‫والتحرك واَلتعاظ؛ كما قال‬
‫ُّ‬ ‫القلوب المخلوقة من ال َّلحم َأوىل بالتش ُّقق‬
‫ُون ب ْاآلخ َرة‬ ‫﴿وإ َذا ُذك َر ال َّل ُه َو ْحدَ ُه ْاش َم َأ َّز ْت ُق ُل ُ‬
‫وب ا َّلذي َن ََل ُي ْؤمن َ‬ ‫سبحانه‪َ :‬‬
‫ون﴾ [الزمر‪.]45 :‬‬ ‫َوإ َذا ُذك َر ا َّلذي َن م ْن ُدونه إ َذا ُه ْم َي ْس َت ْبش ُر َ‬
‫(﴿وإِ َذا َبدَّ ْل َنا آ َي ًة َم َكانَ آ َي ٍة َوال َّل ُه َأ ْع َل ُم بِ ََم ُي َن ِّز ُل‬
‫واآلية الثالثة قوله‪َ :‬‬
‫س ِم ْن َر ِّب َك‬ ‫وح ا ْل ُق ُد ِ‬ ‫َقا ُلوا إِن َََّم َأ ْن َت ُم ْف َترٍ َب ْل َأ ْك َث ُر ُه ْم ََل َي ْع َل ُمونَ * ُق ْل َن َّز َل ُه ُر ُ‬
‫ين * َو َل َق ْد َن ْع َل ُم َأنَّهُ ْم‬ ‫دى َو ُب ْش َرى لِ ْل ُم ْسلِ ِم َ‬ ‫ين آ َم ُنوا َو ُه ً‬ ‫بِا ْل َح ِّق لِ ُي َث ِّب َت ا َّل ِذ َ‬
‫ح ُدونَ إِ َل ْي ِه َأ ْع َج ِم ٌّي َو َه َذا لِ َسانٌ َع َربِ ٌّي‬ ‫ي ُقو ُلونَ إِنََّم ي َع ِّلم ُه ب َشر لِسانُ ا َّل ِذي ي ْل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ ُ َ ٌ َ‬ ‫َ‬
‫ُمبِ ٌ‬
‫ين﴾)‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫مقرر األسبوع التاسع‬

‫(﴿وإِ َذا َبدَّ ْل َنا آ َي ًة َم َكانَ آ َي ٍة َوال َّل ُه َأ ْع َل ُم بِ ََم ُي َن ِّز ُل﴾) من اآليات؛‬ ‫َ‬
‫(﴿ َقا ُلوا إِن َََّم َأ ْن َت ُم ْف َترٍ َب ْل َأ ْك َث ُر ُه ْم ََل َي ْع َل ُمونَ * ُق ْل َن َّز َل ُه ُر ُ‬
‫وح ا ْل ُق ُد ِ‬
‫س﴾)‬
‫دليل عىل َّ‬
‫أن جبريل عليه‬ ‫جبريل عليه السالم‪ِ ،‬‬
‫(﴿م ْن َر ِّب َك بِا ْل َح ِّق﴾) هذا ٌ‬
‫منز ٌل من ال َّله‪ ،‬كما قال‬ ‫السالم تل َّقاه من رب العالمين؛ َّ‬
‫فدل عىل َّ‬
‫أن القرآن َّ‬
‫السنَّة‪« :‬منه بدأ»‪.‬‬
‫أهل ُّ‬
‫ومن عجائب هذا القرآن‪ :‬أنه ليس له مقدِّ م ٌة‪ ،‬وليس له خاتم ٌة‪ ،‬بل‬
‫َّأوله وآخره يف اإلعجاز سواء‪.‬‬
‫أن من الحكمة يف إنزاله‪ :‬تثبيت قلوب‬ ‫وذكَر ال َّله يف هذه اآلية َّ‬

‫المؤمنين؛ قال ال َّله‪﴿( :‬لِ ُي َث ِّب َت ا َّل ِذ َ‬


‫ين آ َم ُنوا﴾) فأعظم أسباب الثبات عىل‬
‫الدين والبعد عن الفتن‪ :‬اإلكثار من تالوة القرآن العظيم‪.‬‬
‫تدبر َق َصص األنبياء؛ قال‬
‫وكذلك من أسباب الثبات‪ :‬اإلكثار من ُّ‬
‫ك﴾ [هود‪:‬‬ ‫ص َع َل ْي َك م ْن َأ ْن َباء ُّ‬
‫الر ُسل َما ُن َث ِّب ُت به ُف َؤا َد َ‬ ‫﴿وك ُّالً َن ُق ُّ‬
‫سبحانه‪َ :‬‬
‫‪.]120‬‬
‫﴿و ََل َت ْط ُرد‬
‫ومن أسباب الثبات‪ :‬الصحبة الصالحة؛ قال سبحانه‪َ :‬‬
‫ون َر َّب ُه ْم با ْل َغدَ اة َوا ْل َعش ِّي ُيريدُ َ‬
‫ون َو ْج َه ُه﴾ [األنعام‪.]52 :‬‬ ‫ا َّلذي َن َيدْ ُع َ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪52‬‬

‫منز ٌل‪،‬‬
‫السنَّة والجماعة يف القرآن‪ :‬أنه َّ‬ ‫مما َسبق‪َّ :‬‬
‫أن عقيدة أهل ُّ‬ ‫فتب َّين َّ‬
‫مخلوق‪ ،‬منه بدأ‪ ،‬وإليه يعود؛ ومع وضوح هذا األمر ‪ -‬وهو أ َّنه‬ ‫ٍ‬ ‫غير‬
‫ٍ‬
‫كثيرة ممن‬ ‫ٍ‬
‫أعداد‬ ‫ٍ‬
‫مخلوق‪ ،‬وأ َّنه من ال َّله ‪ -‬إَل أنه خفي عىل‬ ‫منز ٌل‪ ،‬غير‬
‫َّ‬
‫منز ٌل‪،‬‬
‫يدَّ عي العلم من المعتزلة والجهمية‪ ،‬فنفوا أنَّه من ال َّله‪ ،‬ونفوا أنه َّ‬
‫مخلوق؛ كل ذلك لنفي صفة الكالم عن ال َّله‬
‫ٌ‬ ‫وجعلوا شبه ًة يف قلوهبم أنه‬
‫َ‬
‫‪ -‬تعاىل ال َّله عن ذلك ‪.-‬‬

You might also like