You are on page 1of 71

‫جامعة الشهيد حمه لخضر ‪ -‬الوادي‬

‫معهد العلوم االسالمية‬

‫قسم أصول الدين‬

‫مذكرة تخرج تدخل ضمن متطلبات الحصول على شهادة الماستر‬

‫في العلوم اإلسالمية تخصص‪ :‬دعوة إعالم واتصال‬

‫إشراف ‪:‬‬ ‫إعداد الطالبة‪:‬‬

‫* د‪ .‬عبد الرمحن طييب‬ ‫* الزهرة زواري فرحات‬

‫لجنة المناقشة‬

‫الصفة‬ ‫الجامعة‬ ‫األستاذ‬

‫رئيسا‬ ‫جامعة الشهيد حمه لخضر – بالوادي‪-‬‬ ‫د‪ .‬الجباري عثماني‬

‫مشرفا ومقررا‬ ‫جامعة الشهيد حمه لخضر – بالوادي‪-‬‬ ‫د‪ .‬عبد الرحمن طيبي‬

‫مناقشا‬ ‫جامعة الشهيد حمه لخضر – بالوادي‪-‬‬ ‫أ‪ .‬العيد باللي‬

‫السنة الجامعية‪1439-1438 :‬ه‪ 2018-2017/‬م‬


‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المبحث األول‪ :‬عصر األمير عبد القادر‬


‫المطلب األول‪ :‬األوضاع السياسية‬
‫أوال‪ :‬األوضاع السياسية في مرحلة ما قبل االحتالل‬

‫عايش األمري عبد القادر نظام احلكم الرتكي‪ ،‬إذ مر حكم األتراك يف اجلزائر بأربعة أنواع من األنظمة‬
‫بدأ حبكم الباي الربايات مث الباشوات ومن بعدها األغوات‪ ،‬وانتهى بنظام الدايات‪ ،‬وقد عايش‬
‫األمري عبد القادر حكم الدايات‪.‬‬

‫مرحلة حكم الدايات من ‪1381-1761‬‬

‫يف عهد الدايات وضع األتراك ديوانني‪ ،‬الديوان اخلاص والديوان العام‪.‬‬

‫الديوان اخلاص هو اجمللس التنفيذي للدولة‪ ،‬يرتأسه الداي الذي ينتخب من قبل الديوان مدى احلياة‪،‬‬
‫ويستمد نفوذه أساسا من الرياس ومن الوجاق‪ ،‬ويتمتع الداي حبكم مطلق ال حيد من نفوذه سوى‬
‫القادة العسكريون الكبار واملوظفني الساميون‪ ،1‬وقد تطور حكم الدايات إىل أن أصبح حكما مطلقا‬
‫وصار اجتماع الديوان أمرا شكليا‪ ،‬فالدأي هو الذي خيتار وزراءه الذي يتكون منهم جملس الدولة‬
‫ويأيت يف مقدمة هؤالء الوزراء ما يأيت ‪:2‬‬

‫‪.1‬اخلز ناجي‪ :‬وهو يتكلف بتسيري اخلزينة العمومية وميشي مباشرة وراء الداي وخيلفه يف حالة‬
‫الغياب‪ ،‬وبذلك يعترب الوزير األول للدأي‪.‬‬
‫‪.2‬آغا‪ :‬وهذا الوزير يقوم مبهام باي اجلزائر وهو القائد العام للقوات البحرية‪.‬‬
‫‪.3‬وكيل اخلراج‪ :‬هو وزير البحرية ومسؤول اخلطائر اليت تبىن فيها البواخر‪.‬‬
‫‪.4‬بيت املاجلي املكلف ببيت املال‪ :‬وهو الذي يسهر على تسجيل العقود واملواريث‪.‬‬
‫‪.5‬خوجة اخليل‪ :‬الذي يتلقى ما يدفع للدولة والداي من هدايا وزكاة يقدمها رعاياه من جنوع عرب‬
‫الصحراء‪.‬‬

‫‪ 1‬عمار عمورة‪ ،‬اجلزائر بوابة التاريخ‪ ،‬ما قبل التاريخ اىل غاية ‪ ،1692‬دار املعرفة‪ ،‬اجلزائر‪،2009 ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.232‬‬
‫‪2‬مبارك حممد هلاليل مليلي‪ ،‬تاريخ اجلزائر القدمي وحلديث‪ ،‬مكتبة لنهضة اجلزائرية ‪ ،‬مكتبة لنهضة جلزائرية‪،‬لبنان‪1694 ،‬م‪ ،‬ج‪،3‬‬
‫ص‪.124 _123‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫وبعد مرتبة الوزراء يأيت مرتبة خزائن دار وهو أمني املال اخلاص بالداي وبعد ذلك يأيت مرتبة اخلوجة أو‬
‫الكاتب‪ .1‬وجيتمع مع هذا اجمللس كبار رجال الدين؛ قضاة ومفتيني وأئمة ونقيب اإلشراف وإىل‬
‫جانب هذا اجمللس احلكومي الذي ينظر يف اجمللس العام يوجد جملس ديوان عسكري وفيه رؤساء‬
‫اجلنود وله تأثري عظيم على حياة العامة؛ إذ إنه ال يكاد يصل كرسي البشوية إال من قدمه الديوان‬
‫إليه‪.2‬‬

‫وقد كانت اجلزائر مقسمة إيل أربعة مقاطعات إدارية تتمثل يف ما يلي‪:‬‬

‫‪1‬ـ دار السلطان‪ :‬وهي عبارة مقاطعة إدارية توجد يف اجلزائر العاصمة ونواحيها ‪.‬‬

‫‪2‬ـ بابليك الشرق‪ :‬ويعترب من أكرب الواليات املوجود يف اجلزائر‪.‬‬

‫‪3‬ـ بابليك الغرب ‪:‬وتأيت يف الدوجة الثانية من ناحية املساحة ‪،‬أي بعد والية قسنطينة ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ 4‬ـ بابليك التيطري ‪:‬كانت عاصمة مدينة املدية‪ ،‬وهو أصغر واليات القطر ‪.‬‬

‫يذكر عبد الرمحن اجليالين نقال عن املؤرخ األملاين سيمونوف‪" :‬إن دايات اجلزائر مل يكونوا ملوكا‬
‫يبق هلا قبل آخر عهد إال جمرد عالقة امسية بإسطنبول"‪.‬‬
‫وراثيني‪ ،‬بل كانوا رؤساء مجهورية عسكرية‪ ،‬مل َ‬
‫ويقول املؤرخ الفرنسي دوق رامون‪ " :‬لقد كان الديوان أي احلكومة اجلزائرية يتخذ القرارات بكل‬
‫سيادة يعلن احلرب ويعقد السلم‪ ،‬وميضي معاهدات‪ ،‬ويقوم أخالقا بدون أي تساؤل عما إذا كانت‬
‫‪4‬‬
‫تلك القرارات املتخذة موافقة أو غري مواقفه لسياسة الباي األعلى"‪.‬‬

‫ولقد ذكرت لنا مصادر تارخيية أخرى سلسة من االغتياالت اليت تعرضت هلا الدايات والبايات يف‬
‫اجلزائر‪ ،5‬حيث عرفت احلياة السياسية يف مرحلة ما قبل االحتالل اضطرابات ال سيما يف عهد‬

‫‪ 1‬مبارك بن حممد اهلاليل امليلي‪ ،‬تاريخ اجلزائر القدمي واحلديث‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.124-123‬‬
‫‪ 2‬أمحد توفيق املدين‪ ،‬كتاب اجلزائر‪ ،‬تاريخ اجلزائر ايل يومنا هدا وجرافتيها الطبيعية والسياسية وعناصر سكاهنا ومدهنا ونظاماهتا‬
‫وقوانينها وجمالسها وحالتها االقتصادية والعلمية واالجتماعية‪،‬الط‪ ،‬املطبعة العربية‪ ،‬اجلزائر‪1631 ،‬م‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ 3‬عمار بوحوش ‪ ،‬التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ‪ ،1692‬ط‪ ،1‬دار الغرب االسالمي‪،‬لبنان ‪1661،‬م‪،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪:‬عبد الرمحن بن حممد اجلياليل‪ ،‬تاريخ اجلزائر العام‪ ،‬دار األمة‪ ،‬اجلزائر‪ ،2006 ،‬ج‪ ،4‬ص ‪.64‬‬
‫‪ 5‬حممد بن جبور‪ ،‬االحتالل الفرنسي للجزائر‪ ،‬ومقاومة األمري عبد القادر (‪ ،)1241-1230‬أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه‪،‬‬
‫تاريخ احلديث واملعاصر‪ ،‬جامعة وهران‪ ،‬اجلزائر‪ ،2013/2012،‬ص ‪.22‬‬

‫‪00‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫األغوات والدايات‪ ،‬وهذا جراء سوء تصرفهم‪ ،‬حيث قتل أربعة أغوات ومثانية دايات على يد اجليش‬
‫الرتكي ومنهم‪ :‬الداي مصطفى باشا (‪1205‬م)‪ ،‬والداي أمحد (‪1202‬م)‪ ،‬والداي على غسال‬
‫(‪ ،)1206‬والداي حممد (‪ ،)1214‬والداي عمر باشا (‪ .1)1211‬ويتضح لنا من خالل بعض‬
‫الدراسات انتشار ظاهرة االغتياالت السياسية يف اجلزائر اليت عمت اجلزائر خالل القرن التاسع عشر‬
‫ميالدي والذي يعود إىل فساد االنكشاريني وتدخلهم املستمر يف احلياة السياسية يف اجلزائر‪.2‬‬

‫لقد مر النظام السياسي يف اجلزائر يف عهد العثماين مبراحل تارخيية عربت بشكل أو بآخر عن تعاقب‬
‫السلطات احلاكمة وكذلك صالحيات احلكام يف اجلزائر وعالقتهم مع الباي األعلى‪ ،‬أي دار اخلالفة‬
‫يف إسطنبول‪ ،‬وقد جتلى هذا التطور يف عهد الدايات‪ ،‬ويظهر بشكل كبري يف نسبة الصالحيات‬
‫املمنوحة للدأي وأعوانه داخل السلطة احلاكمة يف إيالة اجلزائر واملتمثلة أساسا يف الباشا أي رئيس‬
‫الدولة وكذلك الديوان الكبري والديوان الصغري واملوظفني السامني‪ ،‬ويتمثل احلكم يف أواخر العهد‬
‫العثماين يف اجلزائر قبل االحتالل الفرنسي بسلطة دخيلة ومستبدة‪ ،‬مشكلة نظاما مجهوريا عسكريا‬
‫مستبدا ال يراعى سوى حتقيق املصلحة اخلاصة مع تغيري الرعية اجلزائرية‪ ،‬وكانت هذه السلطة متمثلة‬
‫يف شخص الداي حسني وكانت غايته وأمهيته باجلزائر حتقيق مصلحة شخصية‪ ،3‬وبعدها مرت اجلزائر‬
‫يف مرحلة ضعف واحنطاط وخاصة بعد حتطيم أسطوهلا يف معركة نافرين املشهورة بسواحل اليونان يف‬
‫‪ 20‬أكتوبر ‪ 1221‬فقدت فيها اإلمرباطورية العثمانية قوهتا وهيبتها‪ ،‬وبذلك أصبحت حمط طمع‬
‫للدول األوروبية وكانت هناية الوجود الرتكي يف اجلزائر على يد فرنسا عام ‪1230‬م يف عهد الداي‬
‫‪4‬‬
‫حسني بعد ثالثة قرون من وجودها‪.‬‬

‫‪ .1‬عمار عمورة‪ ،‬اجلزائر بوابة التاريخ ما قبل التاريخ اىل ‪ ،1692‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.243‬‬
‫‪ 2‬مبارك شوادر‪ ،‬حملة عن االوضاع السياسية للجزائر يف اواخر العهد العثماين‪ ،‬جملة العلوم اإلسالمية واحلضارية‪ ،‬العدد الرابع‪،‬‬
‫اجلزائر‪ ،2009 ،‬ص ‪.221‬‬
‫‪ 3‬مصطفى عبيد‪ ،‬حماضرات يف تاريخ اجلزائر احلديث (العهد العثماين)‪ ،‬كلية العلوم االنسانية واالجتماعية قسم تاريخ‪ ،‬جامعة‬
‫املسيلة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪ 4‬عمار عمورة‪ ،‬موجز يف تاريخ اجلزائر‪ ،‬دار رحيانة للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،1‬اجلزائر‪ ،2009 ،‬ص ‪.103‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫ثانيا‪ :‬مرحلة االحتالل الفرنسي‬

‫النظم اإلدارية اليت أقامها العثمانيون يف اجلزائر مل ختتلف كثريا عن تلك اليت أسستها الدولة العثمانية‬
‫يف إسطنبول‪ ،‬واما تلك اليت أسسوها يف أجزاء أخرى من الدولة العثمانية املرتامية األطراف فعلى الرغم‬
‫من الطابع الشرقي الذي متيز به نظام احلكم الرتكي إال أن الفرنسيني أبقوا على بعض منها أثناء‬
‫االحتالل يف اجلزائر‪ ،‬كما نادى عدد من قيادات احلملة العسكرية الفرنسية بالتطبيق احلريف هلذا‬
‫‪1‬‬
‫النظام‪ ،‬وال سيما العسكرية منها‪.‬‬

‫ومع سقوط اجلزائر يف قبضة االحتالل الفرنسي ويف أول يوم لالحتالل؛ كان أول ما فعله الكونت‬
‫دي بورمون قائد احلملة االستعمارية يف اجلزائر حل املنظمة االنكشارية؛ إذ أمر برتحيل انكشاريني غري‬
‫املتزوجني إىل آسيا الصغرى‪ ،‬بعد جتريدهم من أسلحتهم‪ ،‬مما عمل على إحداث فوضى كبرية يف‬
‫مدينة اجلزائر؛ إذ يقول أحد املؤرخني الفرنسيني‪" :‬ليس هناك مدينة يف العامل قد شهدت عند احتالهلا‬
‫فوضى كاليت شهدهتا مدينة اجلزائر‪ ،‬فقد اختطفت احللق والسالسل‪ ،‬واالخشاب والسنانري من امليناء‪،‬‬
‫وخلعت أبواب احملالت وهنبت األموال واألثاث واحللى من املنازل‪ ،‬وكثر االعتداء على األشخاص‬
‫واألعراض"‪ ،2‬وزاد األمر سوءا أن القائد العام دي بورمون قد جلس على الكرسي متفرجا ومل حيرك‬
‫ساكنا‪ ،‬رغبة منه يف تعقيد األمور أكثر‪ .‬أما يف اليوم الثاين من االحتالل الفرنسي قد عمل دي‬
‫بورمون على إنشاء "جلنة احلكومة" واليت تتلخص مهمتها يف النظر يف حاجيات وإمكانيات البالد‬
‫والنظم اليت جيب تعديلها وإلغاءها والفائدة من استخدام أعيان اجلزائريني من خمتلف الطبقات األهلية‬
‫والفرنسية وإحالهلم حمل املوظفني العثمانيني السابقني‪ ،‬والعمل على إحكام السيطرة على النظام‬
‫السياسي يف مدينة اجلزائر وتسيري وظائف املدينة‪ ،‬ولقد كان جل املناصب العليا واحلساسة يف "جنة‬
‫احلكومة" من نصيب الفرنسيني واليت تضم عددا من الشخصيات املهمة ومنها اجلنرال تولوزي‪،‬‬
‫واجلنريالفيونري‪ ،‬والقنصل الفرنسي السابق ملدينة عنابة دوفال‪ ،‬وغريهم وكانت مهمة "جلنة‬
‫احلكومة"تأسيس اإلدارة الفرنسية يف اجلزائر على أنقاض اإلدارة العثمانية من خالل العمل على حتقيق‬
‫هدفني ومها‪:‬‬

‫‪ 1‬أبو القاسم سعد اهلل‪ ،‬حماضرات يف تاريخ اجلزائر احلديث (بداية االحتالل)‪ ،‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،1622 ، 3‬ص‬
‫‪.41‬‬
‫‪2‬مرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪.1‬مجع املعلومات عن اإلدارة العثمانية السابقة لالستفادة منها يف اإلدارة اجلديدة‪.‬‬


‫‪1‬‬
‫‪.2‬توفري السكن واملستشفيات للجيش الفرنسي‪.‬‬

‫يكتف دي بورمون بإنشاء "جلنة احلكومة"‪ ،‬اليت كانت تعمل بدرجة أوىل على حتقيق أهداف‬ ‫ِ‬ ‫مل‬
‫احلملة الفرنسية بشكل مباشر‪ ،‬وهي جعل اجلزائر مقاطعة تابعة لفرنسا‪ ،‬غري أن هذه اللجنة فشلت‬
‫يف مساعيها؛ وبالتايل عمل اجليش الفرنسي على انشاء جلنة حكومية ثانية‪.2‬‬
‫‪3‬‬
‫مل يكتف احملتل بإنشاء اللجنة املركزية‪ ،‬بل عمد من خالل هده اللجنة إىل إنشاء "هيئة مركزية"‬
‫واليت تضم عددا من املمثلني عن املناطق السبع املهمة يف مدينة اجلزائر‪ ،‬وهم بطيعة احلال جزائريني‬
‫حيث إن بعض أعضاء هذه اهليئة كانت له مهمة يف اجملتمع اجلزائري وبعضهم اآلخر كانت له شهرة‬
‫يف التعاون مع الفرنسيني‪ ،‬كما أن عددا منهم كان يشغل مناصب عليا يف اإلدارة العثمانية السابقة‪،‬‬
‫ولذلك عمدت فرنسا على حكم اجلزائر من خالل عدد من اجلزائريني املوالني هلا‪ ،4‬ولعل الفرنسيني‬
‫قد جلأوا إىل خلق هذه اهليئة إىل ترضية اجلزائريني وال سيما الطبقة اليت تعاونت هلم وكانت تظن إن‬
‫إهناء اإلدارة العثمانية يعين انتقال احلكم إليها‪ ،‬أما السلطة احلقيقية فقد كانت يف يد اللجنة‬
‫احلكومية‪.5‬‬

‫بعد سقوط مدينة اجلزائر يف يد احملتل الفرنسي عمل احملتل الفرنسي على توسيع محلته يف شرق‬
‫اجلزائر وغرهبا مما دفع إىل ظهور عدد من املقاومات احمللية‪ ،‬إال أن جلها باءت بالفشل‪ ،‬ويعود ذلك‬
‫إىل عدة أسباب أمهها قوة االحتالل الفرنسي الذي عرف بكثرة عدده وقوة عتاده وقت دالك‪ ،‬ولعل‬
‫‪6‬‬
‫من أهم تلك املقاومات مقاومة األمري عبد قادر مؤسس الدولة اجلزائرية األوىل‪.‬‬

‫كانت السياسة االستعمارية فاجلزائر منذ االحتالل الفرنسي ‪1230‬م هتدف إىل ثالثة أشياء‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ 1‬ينظر إىل‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.55 _ 42‬‬


‫‪2‬مساعيل يزليخة املولودة علوش‪ ،‬تاريخ اجلزائر من فرتة ما قبل التاريخ إىل االستقالل‪ ،‬دار دزاير انفو‪ ،‬ط‪ ،1‬اجلزائر‪ ،2013 ،‬ص‬
‫‪.311‬‬
‫‪3‬ينظر‪ :‬أبو القاسم سعد اهلل‪ ،‬حماضرات يف تاريخ اجلزائر احلديث (بداية االحتالل)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ 4‬عمار حبوش‪ ،‬التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ‪ ،1692‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.63-62‬‬
‫‪5‬ينظر إىل‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ 6‬ينظر‪ :‬أبو القاسم سعد اهلل‪ ،‬حماضرات يف تاريخ اجلزائر احلديث (بداية االحتالل)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.90-55‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪.1‬جعل اجلزائر مدينة فرنسية بكل ما يعين ذلك من أبعاد‪.‬‬


‫‪.2‬طمس تاريخ والشخصية اجلزائرية وإزالته من االعتبار‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪.3‬قهر أي نوع من أنواع املقاومة اليت ميكن أن تزعج أمن فرنسا يف اجلزائر‪.‬‬

‫‪ 1‬أكرم بومجعة‪ ،‬أوضاع اجلزائر خالل مطلع القرن العشرين‪ ،‬جملة كلية الرتبية األساسية‪ ،‬للعلوم الرتبوية واالنسانية‪ ،‬جامعة ايب بكر‬
‫بلقايد‪ ،‬تلمسان‪ ،‬اجلزائر‪ ،2019 ،‬ص ‪.194‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المطلب الثاني‪ :‬األوضاع االجتماعية‬


‫كان اجملتمع اجلزائري يتكون من جزائريني وأتراك وكرغلة (أب تركي وأم جزائرية)‪ ،‬أما عدد السكان‬
‫فهناك اختالف كبري بني املؤرخني‪ ،‬ألن السلطة الرتكية مل تكن هتتم بعمليات اإلحصاء‪ ،‬ولكن معظم‬
‫املؤرخني يقدرون عددهم بثالثة ماليني نسمة يف الفرتة األخرية للحكم العثماين‪ ،‬بعدما تعرضت‬
‫البالد للعديد من الكوارث الطبيعية‪ ،‬مثل اجملاعات واجلراد‪ ،1‬وعليه سنعرض باختصار الرتكيبة‬
‫السكانية اليت شكلت خميطا واسعا لبيئة األمري عبد القادر وتتكون من عدة فئات منها‪:‬‬

‫‪ .1‬الفئة األرستقراطية التركية‪:‬وهي الفئة املسيطرة علي اجلزائر حيت هناية احلكم العثماين باجلزائر يف‬
‫سنة ‪.1230‬وبالرغم من قلة عدد أفراد هده اجلالية اليت مل يتجاوز عدد أفرادها سنة ‪1230‬م‬
‫‪ 20.000‬نسمة فأهنا كانت قوية وذات نفود واسع يف البالد ‪،‬ومتيز هده الفئة عن غريهم من‬
‫‪2‬‬
‫السكان باتباع تقاليد تركية واالفتخار بأعماهلم العسكرية‬
‫‪ .2‬فئة الكراغلة‪ :‬تكونت هذه الفئة نتيجة زواج أفراد اجليش االنكشاري بنساء جزائريات‪ .3‬وميزة‬
‫هذه الفئة ترفعهم عن باقي السكان عجزهم على االندماج مع األتراك‪.4‬‬
‫‪ .8‬جماعة الحضر وطائفة اليهود‪ :‬يتشكلون من األسر العريقة يف املدن اجلزائرية الرئيسة السيما‬
‫مدن اجلزائر ووهران معسكر والبليدة وتلمسان وقسنطينة وميلة وعنابة‪ .‬ويعترب عدد احلضر ضئيل إذ‬
‫ما يقاس بعدد سكان الريف قليال فهم ال يتعدون ‪ %5‬من إمجايل عدد السكان وقتذاك‪5.‬أما اليهود‬
‫فهم قلة منهم من ترجع أصوهلم إىل الفرتة ما قبل االسالم‪ ،‬كما ارتبط احلضر مع مجاعة اليهود نظرا‬
‫‪6‬‬
‫للمصلحة املشرتكة واملعاملة املتبادلة بني اجملموعتني‪.‬‬

‫‪ 1‬صاحل فركوس ‪ ،‬تاريخ اجلزائر من ما قبل التاريخ إيل غاية االستقالل املراحل الكربى ‪ ،‬دار العلوم للنشر والتوزيع ‪,‬اجلزائر‪2005،‬‬
‫‪،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ 2‬عمار بوحوش‪،‬التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ‪ ،1692‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14-13‬‬
‫‪ 3‬مؤيد حممود محداملشهداين‪ ،‬سلوان رشيد رمضان‪ ،‬أوضاع اجلزائر خالل احلكم العثماين‪ ،‬جملة الدراسات التارخيية واحلضارية‪ ،‬جملة‬
‫علمية حمكمة‪ ،‬اجمللد اخلامس‪ ،‬العدد ‪ ،19‬جامعة تكرت‪ ،‬العراق‪ ،2013 ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ 4‬عائشة بن ساعد ‪،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر‪،‬أطروحة لنيل شهادة املاجستري يف تاريخ احلديث واملعاصر‪ ،‬كلية العلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬اجلزائر‪،‬ص ‪.32‬‬
‫‪5‬نصر الدين سعدوين ‪،‬عصر األمري عبد القادر‪ ،‬مؤسسة جائزة عبد العزيز السعود‪ ،‬الكويت‪2000،‬م ‪،‬ص‪110-106‬‬
‫‪ 6‬مؤيد حممود محداملشهداين‪ ،‬سلوان رشيد رمضان‪ ،‬أوضاع اجلزائر خالل احلكم العثماين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.425‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ .4‬فئة المخزن‪ :‬وهم عشائر تعاملت مع األتراك وصفها نصر الدين سعدوين يف كتابه بأهنا‬
‫جمموعات سكانية متمايزة يف أصوهلا املختلفة‪ ،‬ويف أعرافها ذات طابع ريفي‪ ،‬مهمتها املشاركة يف‬
‫‪1‬‬
‫احلمالت الفصلية‪.‬‬

‫كانت احلياة االجتماعية يف اجلزائر يتحكم فيها عامالن أساسيان يتم عن طريقهما إما الوصول إىل‬
‫السلطة أو احلصول على امتيازات‪ ،‬ومها الرتبة العسكرية واملال ومل يكن هناك متييز ديين أو عرقي‪ ،‬أما‬
‫العديد من العائالت اليهودية فقد كانت تعيش حياة برجوازية مرتفة‪ ،‬وميثل املسلمني ما نسبته ‪%66‬‬
‫من سكان اجلزائر أغلبيتهم على املذهب املالكي وجلهم يزاول الفالحة وتربية املواشي واألقلية متارس‬
‫النشاطات احلرفية والتجارية‪ ،‬ومنهم طبقة برجوازية تسكن املدن السياحية‪ ،‬ومتلك أحسن املنازل‬
‫واألراضي متكونة من األتراك واحلضر خيدموهم ويف بيوهتم العبيد املسحيني من أوروبا الذين كانوا‬
‫يعملون أيضا يف صناعة السفن والبارود واألسلحة‪ ،2‬أما املرأة يف العهد الرتكي مل تكن ختالط الرجال‬
‫أو خترج من املنزل إال عند الضرورة‪ .‬وعموما كان املستوى املعيشي والرتبوي أفضل من نظريه يف الدول‬
‫األوروبية وهذا بشهادة الرحالة األوروبيني والفرنسيني‪ 3.‬وقد اتسمت األوضاع االجتماعية يف العهد‬
‫العثماين يف اجلزائر يف أكثر األحيان بالفوضى واالضطرابات والتوترات اإلنكشارية كما كانت تتأثر‬
‫باألوبئة واألمراض والكوارث وكانت احلياة الريفية أشد قسوة‪ ،‬إذ كثريا ما كانت تتعرض للهجوم من‬
‫طرف القوات الرتكية وذلك بسبب رفضها لالستجابة لدفع الضرائب املفروضة عليها‪ .‬وظلت القبائل‬
‫اجلزائرية خالل احلكم العثماين تعيش الصراعات الدموية نتيجة السياسة الرتكية‪.4‬‬

‫وكان من األخطاء اليت ارتكبها األتراك هو عدم حماولتهم ربط اجملتمع اجلزائري حبكمهم‪ ،‬واستمرت‬
‫عالقتهم باجملتمع اجلزائري تتسم بالسوء وبطابع نفعي حبت‪.5‬‬

‫ويتضح لنا مما سبق أن اجلزائر يف احلكم الرتكي اليت عايشها األمري عبد القادر عرفت أوضاعا إمجاعيه‬
‫صعبة بسبب إنتشار األمراض واألوبئة واحتكار امللكية وظهور الطبقية فزاد تنافر أفراد اجملتمع‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪ 2‬عمار عمورة‪ ،‬اجلزائر بوابة التاريخ ما قبل التاريخ إىل غاية ‪ ،1692‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.253‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫‪ 4‬صالح فركوس‪ ،‬تاريخ اجلزائر من ما قبل التاريخ إىل غاية االستقالل‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ 5‬مؤيد حممود محد‪ ،‬سلوان رشيد رمضان‪ ،‬أوضاع اجلزائر خالل احلكم العثماين‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.421‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫والسلطة‪ ،‬وهذا كان عامال أساسيا يف دخول يد أجنبية لتسيري الشؤون الداخلية ليبدأ االحتالل‬
‫الفرنسي يف اجلزائر‪.‬‬

‫أما األوضاع االجتماعية يف اجلزائر بعد االحتالل الفرنسي‪ ،‬ارتكزت على أربعة حماور وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬تشجيع هجرة األوروبيني إىل اجلزائر‪ ،‬واهلدف منها جتميع أكرب عدد ممكن من املستوطنني‬
‫األوروبيني والفرنسيني وبالتايل تغيري اخلريطة السكانية للجزائر‪.‬‬
‫‪ .2‬العمل على تفكيك اجملتمع اجلزائري بالنفي والتهجري والتجهيل وتشجيع استهالك اخلمور ونشر‬
‫الفساد وبث عقارب الصراع والفوضى‪.‬‬
‫‪ .3‬جتنيس فئة من اجلزائريني باجلنسية الفرنسية ممن تتوفر فيهم بعض الشروط النادرة‪ ،‬واستغالهلم‬
‫للخدمة يف اجليش الفرنسي أو اجمللس املنتخب أو اإلدارة باإلضافة إىل القراءة والكتابة بالفرنسية‪،‬‬
‫والسماح هلم حبيازة بعض املمتلكات‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪.4‬التخلي عن قانون األحوال الشخصية اإلسالمية واستبداهلا بالقانون الشخصي املدين‪.‬‬

‫وكانت نتائج االحتالل الفرنسي على اجملتمع اجلزائري قد تغريت طبيعته وتأثر الفرد اجلزائري مبؤثرات‬
‫جديدة‪ ،‬فاجلزائري أصبح ال خيرج من داره إال وهو ذليال‪ ،‬وأصبح حمجوبا كاملرأة وذلك ألن الشارع‬
‫فيه حضارة غريبة عن حضارته‪ ،‬وأصبح اجلزائري غريبا يف وطنه وجمتمعه‪ .2‬كما قام االستعمار‬
‫الفرنسي بتحطيم أركان اجملتمع اجلزائري سواء أكانت قبلية أم اهليئات القيادية اليت تعتمد على‬
‫األصالة واملال والزعامة الدينية‪ ،‬وحتول معظم السكان إىل مزارعني يف مزارع املعمرين‪ ،‬كما عملت‬
‫سياسة القهر االجتماعي اليت تعرض هلا أهل العاصمة علي زيادة سوء أوضاعهم االجتماعية‬
‫فانتشرت البطالة وارتفعت نسبة اإلجرام وتفشي اآلفات االجتماعية‪ ،‬وزيادة اجملاعة‪ ،‬وكانت نتيجة‬
‫هذا التدهور والتغيري الناتج عن القهر االجتماعي هو أن اجملتمع اجلزائري أُصيب بالركود واخلمول‬
‫‪3‬‬
‫وتدهورت حالة السكان وانتشر يف اجملمع اجلزائري الفقر واجلهل‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬بشري بالح‪ ،‬تاريخ اجلزائر املعاصر (‪ ،)1626 ،1230‬جدار املعرفة‪ ،2009 ،‬اجلزائر‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪.151-155‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪ 3‬أكرم بومجعة ‪،‬أوضاع اجلزائر يف مطلع القرن العشرين ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.196-192‬‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫فعلى الرغم من النهضة اجملتمعية اليت برزت يف العهد العثماين غري أهنا سرعان ما اختفت مع دخول احملتل الفرنسي‬
‫حيث عمل االستعمار الفرنسي على تغيري اخلريطة السكانية بإيفاد عدد كبري من احملتلني من شىت بقاع أوروبا يف‬
‫سعيا منها يف إنشاء قاعدة جمتمعية مدنية تساعد على حناج أهداف االستعمار الفرنسية وترسيخه على املدى‬
‫البعيد يف اجلزائر‪ .‬ومل يكتف املس تعمر الفرنسي بذلك بل عمد أيضا على حتطيم الروابط االجتماعية األساسية‬
‫وعمل على إدخال مفاهيم وأفكار هدامة يف اجملتمع اجلزائري يف رغبة منه يف إحكام سيطرته على كافة أطياف‬
‫اجملتمع اجلزائري‬

‫‪01‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المطلب الثالث‪ :‬األوضاع الثقافية‬


‫كانت احلياة الثقافية يف اجلزائر قبل احلكم العثماين تعاين من الركود الثقايف‪ ،‬غري أنه ومع امتداد‬
‫احلكم العثماين وإحكامه السيطرة على العديد من املدن اجلزائرية‪ ،‬أصبحت هذه املدن تعيش حركة‬
‫‪1‬‬
‫ثقافية وفكرية ودينية تضيء بنور معرفتها على مجيع أرجاء القطر اجلزائري وخارجه‬

‫كان الشعب اجلزائري على املذهب املالكي‪ ،‬أما األتراك والكرا غلة كانوا على املذهب احلنفي‪ ،‬الذي‬
‫أصبح يف عهدهم هو املذهب الرمسي‪ ،‬ولذلك كان يوجد يف اجلزائر مفيت مالكي واملفيت األكرب‬
‫احلنفي‪.2‬‬

‫وكان التعليم يف اجلزائر يف العهد العثماين شبه مستقل عن الدولة وخيضع للمراقبة والتوجيهات من‬
‫نظام األحباس وهذا لكون نفقاته كانت تدفع من أموال األوقاف واملواد اليت كانت تدرس يف املرحلة‬
‫األوىل للصغار القراءة والكتابة والقرآن‪ ،3‬وقد كانت قسنطينة وتلمسان والعاصمة أهم مراكز الثقافة‬
‫يف البالد‪ ،‬فقسنطينة وحدها كانت تشمل على ‪ 42‬مسجدا للتعليم الثانوي يدرس فيه ما بني ‪901‬‬
‫تلميذ و‪ 60‬مدرسة ابتدائية حتوي حوايل ‪ 200‬تلميذ ترتاوح أعمارهم ما بني ‪ 9‬و‪ 10‬سنوات‪.4‬‬
‫وتشهد كتب بعض الرحالة األجانب الذين زاروا اجلزائر خالل العهد العثماين بأن التعليم كان منتشرا‬
‫وأن كل جزائري تقريبا كان يعرف القراءة والكتابة‪ ،‬وقد كان التعليم حرا من سيطرة الدولة‪ ،‬ومن‬
‫سيطرة احلكام العثمانيني فقد كان سكان كل قرية ينظمون بطرقهم ووسائلهم اخلاصة تعليم القرآن‬
‫واحلديث والعلوم العربية واإلسالمية‪ ،‬ألن دراسة هذه العلوم هي السبيل إىل معرفة وفهم أسرار الدين‬
‫‪.‬‬
‫والقرآن؛ ولذلك كان القرآن أساسا للتعليم يف اجلزائر‬

‫وكان لبعض حكام األتراك أيادي بيضاء يف تشجيع بناء املساجد واملدارس على سبيل املثال الباي‬
‫حممد الكبري الذي جعل من مدينة معسكر عاصمة علمية كبرية‪ ،5‬ولقد انتشر التعليم يف كل أحناء‬
‫القطر حيث اضطلع هبذه املهمة الكثري من رجال الدين‪ ،‬وحفاظ القرآن الكرمي يف املساجد والزوايا‬

‫‪1‬صالح فركوس‪ ،‬تاريخ اجلزائر من ما قبل التاريخ إىل غاية االستقالل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ 2‬عمار عمورة‪ ،‬اجلزائر بوابة التاريخ من ما قبل التاريخ اىل غاية ‪ ،1692‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.225‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪ 4‬صالح فركوس‪ ،‬تاريخ اجلزائر من ما قبل التاريخ إىل غاية االستقالل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ 5‬ابو قاسم سعد اهلل‪ ،‬حماضرات يف تاريخ اجلزائر احلديث (بداية االحتالل)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.190-156‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫واملؤسسات التعليمية األخرى‪ .1‬وبفضل نشاط املساجد واملدارس والزوايا عرفت البالد اجلزائرية أواخر‬
‫العهد العثماين حياة فكرية تتميز باحملافظة وواقعا ثقافيا يتصف بالتقليد ويقوم باحملافظة على تراث‬
‫الفرتة اإلسالمية السابقة‪ ،‬ولقد كانت الزوايا الكربى واجلوامع باجلزائر العثمانية مؤسسات تعليمية ال‬
‫يقل مستوى التعليم هبا عن مراكز التعليم الرئيسة بالعامل اإلسالمي‪ ،‬هذا باإلضافة إىل الزوايا الرئيسة‬
‫باملدن واألرياف واليت اشتهرت منها زاويا بالد القبائل ونواحي وهران وجهات الصحراء خاصة‪ ،‬ومنها‬
‫زاوية القطينة حيث درس األمري عبد القادر فيها يف بداية حياته‪2.‬ولعبت الزوايا دورا كبريا يف احلفاظ‬
‫على اللغة والدين وتنشيط احلياة الثقافية‪.‬‬

‫غري أن النهضة الثقافية اليت شهدهتا اجلزائر يف عصر احلكم العثماين واليت بلغت ذروهتا يف بدايات‬
‫القرن التاسع مل تدم طويال؛ مع دخول احملتل الفرنسي للجزائر فقد عمل على هدم األسس الثقافية‬
‫اليت ال تتماشى مع أهدافه‪.‬‬

‫أما األوضاع التعليمية يف اجلزائر يف بداية االحتالل الفرنسي متثلت فيما يأيت‪:‬‬

‫سخرت فرنسا التعليم يف اجلزائر خلدمة أغراضها االستعمارية‪ ،‬فعملت على إجياد نوع من التعليم يفرغ‬
‫الشخصية اجلزائرية من مضموهنا ويقضي على روح املقاومة‪ ،‬لذلك فقد عملت فرنسا على‬
‫نسفمجتمع اجلزائر بضرب اإلسالم واللغة العربية وجتهيل السكان وإفساد أخالقهم ومتكني الديانات‬
‫‪3‬‬
‫املسيحية والثقافية الفرنسية‪.‬‬

‫وقد اعتمد السياسة التعليمية االستعمارية على أربعة قواعد‪:‬‬

‫‪1‬ـ سياسة االدماج ‪:‬كان هدف فرنسا مند دخوهلا اجلزائر ايل إذابة الكيان اجلزائري ودالك باختاذ عدة‬
‫اجراءات قانونية منها منع السكان اجلزائريني من احلصول علي حقوقهم السياسية واالقتصادية‪ .‬ومنح‬
‫اجلنسية الفرنسية لليهود‪.‬‬

‫‪ 1‬صالح فركوس‪ ،‬تاريخ اجلزائر من ما قبل التاريخ إىل غاية االستقالل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.112-111‬‬
‫‪2‬نصر الدين سعدوين‪ ،‬عصر األمري عبد القادر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.133-132‬‬
‫‪3‬بشري بالح ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر‪1230‬ـ‪ ،1626‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.153‬‬

‫‪10‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ 2‬ـ سياسة الفرنسية‪:‬مند االحتالل حلت اللغة الفرنسية وثقافتها حمل اللغة العربية وثقافتها ‪ ،‬كما‬
‫اعتربت اللغة العربية لغة أجنبية باجلزائر ‪،‬وقامت فرنسة بالقضاء علي مجيع مراكز التعليم والثقافة‬
‫العربية وهتدمي األثار االسالمية وحماولة تشويه تاريخ اجلزائر ‪،‬والعمل علي حرق املؤلفات واملخطوطات‬
‫والوثائق ‪.1‬‬

‫لقد صاحب وجود االحتالل الفرنسي مجودا كبريا يف احلركة الثقافية يف اجلزائر‪ ،‬األمر الذي جعل من‬
‫الصعب على األدباء أن يربزوا أو جيدوا مكان هلم يف اجلزائر‪ ،‬وكان االحتالل نفسه ضغطا على‬
‫السيادة اجلزائرية كما يقول القدماء " فقد ضرب التعليم ضربة قاضية على أثر مصادر األوقاف‬
‫(األحباس) فأغلقت املدارس وتوقفت حلقات الدروس احلرة يف املساجد وهجر العلماء وهنبت‬
‫املكتبات وانشغل الباقون من املتعلمني حبفظ الرمق‪ ،‬وخافوا من الكتابة بينما التحق بعضهم باملقاومة‬
‫اليت توالها األمري عبد القادر يف غرب البالد"‪.2‬‬

‫عملت السلطة الفرنسية على اضطهاد املدرسني والطلبة منذ احتالل اجلزائر فتعرض بعضهم إىل القتل‬
‫وبعضهم اآلخر إىل النفي حىت كادت ختتفي الطبقة املثقفة يف املرحلة من االحتالل ويف املقابل عملت‬
‫فرنسا على تأسيس املدارس الشرعية منها املدارس الفرنسية اليت ظهرت منذ ‪ 1250‬يف كل من‬
‫قسنطينة واجلزائر العاصمة ووهران وتلمسان‪ ،‬وهكذا جند اإلدارة الفرنسية مل هتتم بتطوير التعليم‬
‫اجلزائري‪ ،‬لذلك انتشرت األمية بشكل كبري يف أوساط اجلزائر‪3.‬وسلكت فرنسا يف عملها علي‬
‫اجلزائريني املنهج الفرنسي وتشويه تاريخ اجلزائر حيت متكنت تدرجييامن‪:‬‬

‫‪.1‬إحالل اللغة الفرنسية حمل اللغة العربية‪.‬‬


‫‪4‬‬
‫‪.2‬القضاء على الرتاث العريب اإلسالمي‪.‬‬

‫لقد كان اجملتمع اجلزائري يعيش حالة من الرتف الثقايف يف العهد العثماين وخاصة يف مرحلته األخرية‪،‬‬
‫فعلى الرغم من أن نظام التعليم يف ذلك الوقت كان مبين على نظام التكافل االجتماعي؛ حيث كان‬

‫‪1‬إمساعيليزوليخة املولودة علوش ‪ ،‬تاريخ اجلزائر من فرتة ماقبل التاريخ إيل االستقالل ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪320‬‬
‫‪ 2‬أكرم بومجعة‪ ،‬أوضاع اجلزائر يف مطلع القرن العشرين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.111-110‬‬
‫‪ 3‬بشري بالح‪ ،‬تاريخ اجلزائر املعاصر‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.154-146‬‬
‫‪ 4‬عمار عمورة‪ ،‬اجلزائر ما قبل التاريخ اىل غاية ‪ ،1692‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.263‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫اجلزائريني يعتمدون على أنفسهم يف تأسيس املدارس القرآنية وتعليم أطفاهلم‪ ،‬حىت بلغت هبم إىل‬
‫حصر مستوى األمية بني السكان خاصة سكان املدن واألرياف احمليطة هبا‪ .‬غري إن هذا التنور مل يدم‬
‫طويال حيث أنه ومع دخول االستعمار الفرنسي؛ الذي عمل على هدم منابر العلم واملساجد‬
‫وحتويل اغلبها إىل ثكنات عسكرية‪ ،‬كان له صدى كبريا يف نشر سياسة جتهيل الشعب وتفقريه ثقافيا‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المبحث الثاني‪ :‬حياته الشخصية وأثرها‬


‫المطلب األول‪ :‬نسبه ومولده‬
‫أوال‪ :‬نسبه‬

‫يعود أصل األمري عبد القادر وأسرته إىل األدارسة الذين كانوا ملوكا يف املغرب األقصى واألوسط‪،‬‬
‫واألندلس‪.1‬هو عبد القادر بن حمي الدين بن مصطفى بن خمتار بن عبد القادر بن أمحد‬

‫املختار بن عبد القادر بن أمحد املشهور بن خدة بن حممد بن عبد القوي بن علي امحد بن عبد‬
‫القوي بن خالد بن يوسف بن أمحد بن بشار بن حممد بن مسعود بن طاووس بن يعقوب بن عبد‬
‫القوي بن امحد بن حممد بن إدريس األصغر بن إدريس األكرب بن عبد اهلل احملصل بن حسن املثىن بن‬
‫حسن السبط بن علي بن أيب طالب وأمه فاطمة الزهراء بنت سيد الوجود حممد ‪.2‬‬

‫ثانيا‪ :‬مولده‬

‫ولد األمري عبد القادر بن حمي الدين بن مصطفى يوم اجلمعة الثالث والعشرون من رجب سنة ألف‬
‫ومئتان واثنان وعشرون‪ ،‬املوافق لليوم السادس والعشرون من سبتمرب سنة ألف ومثامنئة وسبعة (‪23‬‬
‫رحب ‪ 1222‬هجري‪ 29 ،‬سبتمرب ‪ ،3 )1201‬ببلدية القيطنة قرب مدينة معسكر أحد أجداده‬
‫هو مؤسس دولة األدارسة باملغرب األقصى‪ ،‬ورغم أن نسب األمري عيد القادر نسب شريف إال أنه‬
‫كان يرفض رفضا قاطعا استغالل نسبه وأصله الكتساب االحرتام والتقدير وطاعة الناس‪ ،‬فكان‬
‫يقول‪ " :‬ال تسألوا أبدا ما هو أصل اإلنسان وفصله‪ ،‬بل اسألوا عن حياته وأعماله وشجاعته ومزاياه‬
‫‪4‬‬
‫وعندئذ تدركون من يكون "‬

‫‪ 1‬عبد الرزاق بن سبع‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه‪ ،2000 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪2‬على بن حممد الصاليب‪ ،‬سرية األمري عبد القادر قائد رباين وجماهد إسالمي‪ ،‬دار املعرفة بريوت‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪3‬حممد السيد حممد علي الوزير‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري‪ ،‬ثقافته وأثرها يف أدبه‪ ،‬وزاره الثقافة اجلزائرية‪ ،‬اجلزائر‪ ،2001 ،‬ص‬
‫‪.15‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬فيصل هومة ومرمي سيد علي مبارك ‪ ،‬رجال هلم تاريخ متبوع بنساء هلن تاريخ ‪ ،‬دار املعرفة ‪ ،‬اجلزائر ‪2000،‬م ‪،‬‬
‫ص‪.34‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المطلب الثاني‪ :‬نشأته وصفاته‬


‫أوال‪ :‬نشأته‬

‫نشأ األمري عبد القادر يف حميط ديين علمي ثقايف‪ ،‬وكان موضع اهتمام وعناية كبرية من طرف والده‬
‫الذي مال إليه "ميال" خاصا‪ ،‬برأفته وحنانه املميزين‪ ،‬لكأنه كان يتوسم فيه اجملد‪ ،‬وحيسن أنه سيكون‬
‫هلذا الفتاه شأنا عظيما فحاول أن ينشئه نشأة تؤهله لتحمل مسؤولية قيادة األسرة بعد وفاته‪ .‬ختم‬
‫القرآن الكرمي فبل أن يبلغ احلادية عشر‪ ،‬وأصبح فارسا يشار إليه وبارع يف تلقي العلوم التارخيية‬
‫والفقهية وتعلم مبادئ شىت العلوم اللغوية والشرعية‪ ،‬ونال درجة الطالب وكلف بتحفيظ القرآن‬
‫لألطفال والقاء الدروس والتفسري يف الزاوية‪ ،‬ومن أجل امتام دراسته سافر عام ‪1221‬اىل مدينة أرزيو‬
‫الساحلية اليت تقع مشال مدينة معسكر‪ ،‬وذلك على يد القاضي الشيخ أمحد بن الطاهر البطوي الذي‬
‫كان مشهور بغزارة العلم وسعة االطالع‪ ،‬وبعدها رحل اىل مدينة وهران اىل مدرسة العامل الفقيه أمحد‬
‫بن خوجة‪ 1.‬وقد دامت رحلة األمري عبد القادر العلمية هذه ما يقارب السنتني (‪)1241-1236‬‬
‫(‪ ،)1223-1221‬ليعود بعدها إىل بلديته القيطنة‪ ،‬اليت مل ميكث هبا طويال‪ ،‬حىت بادر والده‬
‫الشيخ حمي الدين وقد رأى عالمات الرجولة اجلسمية والعقلية قد اكتملت يف ولده إىل لتزوجيه‪،‬‬
‫واختار له فتاة مجعت حماسن اخللق واخللق والنسب والشريف وهي ابنة عم عبد القادر‪ ،‬واليت كانت‬
‫‪2‬‬
‫مثله تتمتع جبمال وأخالق عالية‪ ،‬وقد كان عمره آنذاك ‪ 15‬سنة‪.‬‬

‫تزامنت شهرته العلمية مع فروسيته اخلاصة‪ ،‬وكان األمري عبد القادر يعيش مرحلة شبابه احلقة مبا فيها‬
‫من قوة وشجاعة وحتمل‪ ،‬وعلى الرغم من الثراء الذي كانت تتمتع به اسرة األمري عبد القادر إال أن‬
‫ذلك مل يدفعه للهو والرتف‪ ،‬بل كان متواضعا ووسطيا يف كل األمور‪ ،‬وكانت هوايات األمري احملببة اىل‬
‫نفسه كثريا رياضة الصيد؛ اليت كان ميارسها برغبة وحب شديدين‪ ،‬ويف هذا السن بدأت ملكة الشعر‬
‫‪3‬‬
‫ومل يبلغ العشرين من عمره بعد‪ ،‬على الرغم من أنه مل يسبق له تعلم موازيني الشعر ومقاييسه‪.‬‬

‫‪1‬فيصل هومة ومرمي سيدعلي مبارك‪ ،‬رجال هلم تاريخ متبوع بنساء هلن تاريخ ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ 2‬على بن حممد الصاليب‪ ،‬سرية األمري عبد القادر اجلزائري ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.102-101‬‬
‫‪3‬عبد الرزاق بن سبع‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.15-14‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫ويف أواخر سنة ‪ 1229‬ميالدي سافر حمي الدين مع ابنه عبد القادر بقصد حتقيق امنيته كان تراودمها‬
‫منذ وقت طويل وهي زيارة األماكن املقدسة ألداء فريضة احلج‪.‬‬

‫وعندما رجوعهما‪ ،‬عرجا على البالد الشامية‪ ،‬حيث أقاما بدمشق عدة شهور‪ ،‬متكن األمري أثناءها‬
‫من احلضور يف احللقات الدروس العلمية اليت كان يدرس فيها كبار العلماء باجلامع األموي وغريه‪،‬‬
‫ومن هناك توجها اىل بالد الرافدين (العراق)‪ ،‬ونزال بغداد عاصمة الرشيد‪ ،‬فزارا خمتلف املشاهد‬
‫التارخيية مث عادا اىل دمشق وذهبا اىل احلج مرة ثانية‪ ،‬مث قفال راجعني اىل الوطن عن طريق طرابلس‬
‫وتونس‪ .‬وقد وتيحت هذه الرحلة املباركة لألمري فرصة االطالع على انظمة البلدان العربية وسري‬
‫‪1‬‬
‫حياهتم يف احلكم واإلدارة وخمتلف امليادين السياسية واالجتماعية وغريها‪.‬‬

‫كانت هذه الرحلة ذات أثر كبري يف حياة األمري عبد القادر‪ ،‬الذي أخذ مباشرة بعد عودته يف‬
‫االعتزال عن الناس واالنصراف إىل العبادة والدراسة‪.2‬‬

‫ويف التاسع عشر من جوان ‪1230‬م‪ ،‬نزلت القوات الغازية مناء سيدي فرج قادمة من ميناء طولون‬
‫احلريب‪ ،‬واعتقدت فرنسا أن االحتالل للبالد قد حتقق‪ ،‬فبمغادر الداي اشتعل فتيل املعركة وتسارع‬
‫الناس للجهاد‪ ،‬فبدأت املقاومات الشعبية تأخذ مكاهنا بإمكانيات بسيطة تفتقر اىل التنظيم‬
‫واإلعداد‪ ،‬ومع ذلك القت فرنسا دروسا خالدة يف الشجاعة والفداء‪ ،‬فكان امحد باي يف الشرق‬
‫واألمري عبد القادر يف الغرب الذي دخل االحداث من باهبا األوسع بتحمل مسؤولية اجلهاد واثقال‬
‫‪3‬‬
‫اإلمارة‬

‫ثانيا‪ :‬صفاته‬

‫لقد حظي األمري عبد القادر بوصف العديد مما اتصل ببهم وتعرف عليهم او تعامل معهم‪ ،‬فكانوا يف‬
‫جممله يشيدون خبصاله ويفتخرون بسجيته‪ ،‬ويقدرون مواقفه ويعتزون ببطولته‪ ،‬وهذا مما يتطلب منا يف‬

‫‪1‬حيي بوعزيز‪ ،‬األمري عبد القادر رائد الكفاح اجلزائر‪ ،‬الدار العربية للكتاب ‪،‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ‪،‬تونس‪ ،1623 ،‬ط‬
‫‪ ، 3‬ص ‪.43-42‬‬
‫‪2‬عبد الرزاق بن سبع‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫إطار رسم صورة صادقة ومعربة هلذه الشخصية املتميزة‪ .1‬لقد وصف العديد من املؤرخني األذواق‬
‫والعادات والسلوك االجتماعية لألمري عبد القادر منها‪:‬‬

‫كان يرتدي الرتف من امللبس‪ ،‬فكانت كسوته بسيطة ولكنها نظيفة كانت غايته يف التدين وحيمل‬
‫دوما مسبحة ال يتوقف عن التسبيح هبا ذاكرا اهلل‪ ،‬كان باستطاعته امتطاء الفرس ملدة يوم او يومني‬

‫كان زاهدا مثاليا‪ ،‬كان األكل عنده على االكثر رويبة وهي نوع من أنواع العصائد مصنوعة من‬
‫الطحني واحلليب يف كمية صغرية‪ ،‬وما كان يقبل الطعام إال لقوته وليس لذاته (يف قلة وفرة للصحة‬
‫‪2‬‬
‫هذا ما كان يقوله)‪.‬‬

‫كان األمري رجال معتدل القامة وعظيم واهلمة وممتلئ اجلسم وأبيض اللون ومشربا حبمرة‪ ،‬وأسود‬
‫الشعر وكث اللحية‪ ،‬وأنقى االنف اشهل لعينني خيضب بالسواد‪ .‬وكان عاكفا على شهود صالة‬
‫اجلماعة يف اوقاهتا يالزم صالة الفجر يف املسجد‪ 3.‬مل يكن قاسيا بطبعه وخريات األرض مل تسيطر‬
‫على قلبه‪ ،‬وقتاله للمسيحيني لكوهنم معتدين غاصبني ال لدينهم‪ ،‬كان يأمر جنوده للصالة يوميا‪،‬‬
‫وكان يتأمل يف معاين القرآن الكرمي وكان يستلهم الصالبة والثبات والصمود من اميانه العميق واملنهج‬
‫الرباين يف العسر ويف السري والنشط واملكره والرخاء والشدة‪4‬أما فيما خيص تصرفاته ومعامالته فقد مجع‬
‫االمري عبد القادر فيها بني اخالق العامل وتصرفات البطل وسلوك زعيم اجلماعة وشيخ الطريقة؛‬
‫‪5‬‬
‫فاألمري عبد القادر كان متمسكا بتقاليد اسرته معروف بطاعته لوالده‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرزاق بن سبع ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪2‬امساعيل العريب‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري مؤسس دولة وقائد جيش‪ ،‬املؤسسة الوطنية للفنون املطبعية‪ ،‬اجلزائر‪ ،1624 ،‬ص ‪.1‬‬
‫‪ 3‬نصر الدين سعدوين‪ ،‬عصر االمري عبد القادر اجلزائري‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪4‬نزار أباضة‪ ،‬األمري عبد القادر العامل اجملاهد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬سوريا‪ ،1664 ،‬ط‪ ، 1‬ص‪.104-103‬‬
‫‪ 5‬عبد الرزاق بن سبع‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.121‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المطلب الثالث ‪ :‬وفاته‬


‫نشأ األمري يف صحة كاملة ‪ ،‬وعافية شاملة ‪ ،‬مل يتغري عليه يف أيام شوبتيه وكهولته ‪ ،‬شيء من قوته ‪،‬‬
‫وال من أحواله ‪،‬مث عرضت له أمراض حال شيخوخته ‪ ،‬فتلقاها بقوة القلب ‪،‬وحسن البصر ‪،‬ولكثرة‬
‫األدوية وتعاقبها مع اختالف موادها ‪،‬حدثت له أمراض أخري‪ .‬من أشدها ‪،‬ورم يف خصيتيه ‪،‬مينعه‬
‫من اإلسراع يف املشي‪1.‬ويف بداية شهر ماي ‪1223‬م حيث انه كان معتكفا داره يتهجد ويتبتل لربه‬
‫أشتد عليه مرض املثاين ‪،‬فزاده الضعف واهلرم‪2.‬حيث عرض علي مجاعة من االطباء يف دمشق‬
‫يتناوبون ملعاجلته صباحاً ومساءاً ‪،‬ومع ما كان يقاسيه من شدة األمل ويعانيه يف معاجلته‪ ،‬مل يظهر‬
‫ضجراً‪ ،‬وال يرتك الصالة يف وقت من األوقات ويف أخر مرضه كان قليل الكالم ‪،‬إيل أن دعاه مواله‬
‫‪،‬إيل سعة رمحته ونقله إيل فسيح جنته يف السابعة من ليلة يوم السبت ‪16‬من رجب ‪1300‬ه املوافق‬
‫‪24‬ماي ‪1223‬م‪،3‬عن عمر يناهز ‪19‬سنة وهو قضاه يف اجلهاد ضد االستعمار ويف العبادة وطلب‬
‫‪4‬‬
‫العلم ففاز يف الدنيا وألخره‪.‬‬

‫مل يشعر الناس إال والصياح قد قام والعويل عم اخلاص والعام ‪،‬فياهلا من ليلة سوداء ‪ ،‬شقت فيها‬
‫اجليوب ‪،‬وكادت تنفطر من شدة هوهلا ـ األكباد والقلوب ‪،‬ويف حال شاع خرب وفاة األمري عبد القادر‬
‫فاهتزت دمشق خلرب وفاة األمري عبد القادر بعموم أهلها ‪،‬وبعد جتهيز األمري عبد القادر والصالة عليه‬
‫‪5‬‬
‫يف جامع بين أميه محلت جنازته إىل الصاحلية ‪،‬حيفها سائر علماء البلد وأشراف حكامها‬

‫وبقي جهاد األمري عبد القادر شعلة تنري الطريق يف اجلزائر أثناء فرتة االستعمار ‪،‬فشارك ابنه حمي‬
‫الدين يف ثورة املقراين عام‪1211‬م وناضل حفيده خالد بن اهلامشي ضد االستعمار الفرنسي بعد‬
‫احلرب العاملية االويل ‪،‬ويبقي األمري واحداً من عظماء اجلزائر الذين صنعوا استقالهلا وجمدها وثورهتا‬

‫‪ 1‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪،‬حتقيق ممدوح حقي‪ ،‬حتفة الزائر يف تاريخ اجلزائر واألمري عبد القادر ‪،‬دار اليقظة العربية ‪،‬ط‪،2‬‬
‫‪،1694‬لبنان ‪،‬ج‪، 2‬ص ‪.259‬‬
‫‪2‬علي حممد الصاليب ‪،‬سرية األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪. 393‬‬
‫‪3‬حممد بن عبد القادر ‪ ،‬حتفة الزائر يف تاريخ اجلزائر واألمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.259‬‬
‫‪4‬رابح لونيسي ‪،‬بشري بالح ‪،‬العريب منور ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر ‪ ،1626\1230‬دار املعرفة ‪،‬اجلزائر ‪ ، 2010،‬ج‪ ، 2‬ص ‪.14‬‬
‫‪5‬ينظر‪ :‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪،‬حتفة الزائر يف تاريخ اجلزائر واألمري عبد القادر‪ ،‬ج‪، 2‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.251‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫العمالقة‪1.‬نقل رفات األمري عبد القادر إىل اجلزائر عام ‪1699‬م ويف احتفال شعيب ومسي نقلت رفات‬
‫األمري عبد القادر ‪ ،‬وهو يف الواقع ليس رفات بل تراثا ‪،‬من دمشق إيل مدينة اجلزائر البيضاء بعد أن‬
‫‪2‬‬
‫أصبحت دار سالم يرفرف يف مسائها واية االستقالل ‪،‬لريوي يف تراهبا الذ ي روته يف دماء جروحه ‪.‬‬

‫وبعد االستقالل اختذت صورة عبد القادر األمري رمزاً للدولة اجلزائرية فكانت توضع علي األوراق‬
‫النقدية ‪3.‬ووضع له متثال بالعاصمة ليبقي عالقا يف ذهن اجليل الصاعد كواحد من عظماء اجلزائر‬
‫‪4‬‬
‫الذين صنعوا استقالهلا وجمدها وثورهتا العمالقة اليت صنعت اجلزائر املستقلة‪.‬‬

‫‪1‬رابح لونيسي‪ ،‬بشري بالح ‪ ،‬العريب منور ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر ‪، 1626\1230‬ج‪، 2‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ 2‬األمرية بديعة احلسين اجلزائري‪ ،‬األمري عبد القادر حقائق ووثائق بني احلقيقة والتحريف ‪،‬دار املعرفة ‪ ،‬اجلزائر ‪، 2002،‬ص‬
‫‪.353‬‬
‫‪3‬بشري بالح‪ ،‬تاريخ اجلزائر املعاصر‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪. 122‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬أراء العلماء والباحثين حول شخصية األمير عبد‬


‫القادر‬
‫يعترب األمري عبد القادر من أهم وأعظم الشخصيات اليت عرفتها اجلزائر خالل القرن ‪16‬م ‪ ،‬نظراً‬
‫لدور الذي لعبه يف مقاومته لالستعمار الفرنسي ويف إعادة بعث وإحياء الدولة اجلزائرية احلديثة ‪.‬‬

‫ورغم ما كتب عنه وما سيكتب عنه فإننا كباحثني لن نصف الرجل حقه ‪ ،‬حيث مجع بني السيف‬
‫والقلم وبني الفقه والسياسة وبني احلرب والدهاء السياسي ‪ ،‬وبني التصوف املدنية القائمة علي فكرة‬
‫‪1‬‬
‫الدولة وتسري احلكم فيها ‪.‬‬

‫وعليه سوف أعرض بعض اآلراء باحثني وعلماء حول شخصية األمري عبد القادر حيث أنه ترك لنا‬
‫ثراء عظيما يف العمق الذي تركه لنا األمري يف آثاره ومصنفاته من منطلق رقيق وأخالق رفيعة وتصور‬
‫بارع ‪.‬‬

‫المطلب األول ‪:‬أراء شخصيات عربية‬


‫شهدوا املؤرخون والعلماء من أمثال مفيت املالكية العالمة حممد عليش وولده الشيخ األزهري عبد‬
‫الرمحن عليش‪ ،‬والعالمة عبد الرزاق البيطار وحفيده الشيخ حممد هبجة البيطار والعالمة مجال الدين‬
‫القامسي ‪،‬ومفيت احلنابلة الشيخ حممد مجيل الشطي ‪،‬وأخرون كثريون شهدوا لألمري بالفضل والديانة‬
‫والغرية علي اإلسالم وأشادوا حبرصه علي إقامة أحكام الشريعة وحدودها وسيع احلثيث لنشر علوم‬
‫الدين‪ ،‬كان لألمري دوراً كبري يف إحياء وجتديد فريضة اجلهاد‪2.‬املالكما‬

‫‪ 1‬ـ الحسن بن عزوز ‪ :‬يقول يف رسالته ألمحد باشا التونسي " أن األمري صاحب والية وما هو إال‬
‫رجل عدد‪ ،‬نقي طاهر يصوم النهار ويقوم الليل منصف وفحل ‪ ،‬وهو على نفسه وال تأخذه يف اهلل‬
‫‪3‬‬
‫لومة الئم‪".‬‬

‫‪1‬قاصري حممد السعيد ‪،‬دارسات وأحباث يف تاريخ اجلزائر املعاصر ‪ ،1692\1230‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪2‬علي حممد الصاليب ‪ ،‬سرية األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.301‬‬
‫‪3‬ينظر‪ :‬أملختار حساين ‪،‬ثورة األمري عبد القادر من خالل خمطوطات ‪،‬دار احلكمة ‪ ،‬اجلزائر ‪ ،2001،‬ص ‪.16‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ 2‬ـ الملك فيصل ‪:‬ملك العراق سنة ‪1620‬م كتب مالحظة لكاتب فرنسي يدعي "ديسنا‬
‫يورسانرتان" [يعد احلاج عبد القادر واحدا من أكرب رجاالت اإلسالم وأكثرهم مدعاة لالحرتام‬
‫‪1‬‬
‫وأجدرهم بتقدير اإلسالم وإجالله‪].‬‬

‫‪8‬ـ محمد البشير ظافر األزهري‪ :‬قال عنه [اإلمام الواحد والعلم الفرد عامل األمراء وأمري العلماء‪].‬‬

‫‪ 4‬ـ محي الدين الطعمي ‪ [ :‬األمري عبد القادر ‪.....‬القطب الرباين واهليكل الصمداين ‪.....‬‬
‫العارف باهلل ‪].....‬‬

‫‪ 5‬ـ الحاج مصطفي بن التهامي ‪[ :‬السيد اجلليل العافف ‪...‬الناسك العامل العامل الزاهد املتورع‪].‬‬

‫‪ 7‬ـ يوسف بن إسماعيل النبهاني ‪ [:‬هو اإلمام العارف ‪....‬كان من أكرب العارفني باهلل تعايل مع‬
‫‪2‬‬
‫األخالق احملمدية والكماالت الدينية والدنيوية‪].‬‬

‫‪ ]1‬ينظر ‪:‬علي حممد الصاليب ‪،‬سرية األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.321‬‬
‫‪ 2‬فضيلة بلدي عثمان ‪ ،‬املنهج الصويف عند كل من النفري واألمري عبد القادر من خالل كتاهبما "املواقف " ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬‬
‫ص‪.22‬‬

‫‪10‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المطلب الثاني ‪ :‬شهادات شخصيات أجنية‬


‫‪ 1‬ـ الكولونيل اإلنجليزي اسكوب ‪ :‬يقول إن أعظم الشخصيات يف العامل اإلسالمي يف العصر‬
‫احلاضر مها‪[:‬شخصية حممد علي وشخصية األمري عبد القادر‪].‬‬

‫‪ 2‬ـ جاك بيرك ‪:‬املفكر الفرنسي يقول ‪ [:‬إنه أكثر من قائد سياسي ـ ديين إنه حيرك مبدأ الوطنيات‬
‫الرومنطيقي ‪،‬وجيمع يف شخصية الفروسية البدوية واهلام اإلسالم وديناميكية القرن التاسع عشر‪].‬‬

‫‪ 8‬ـ دوفيقي ‪:‬اجلنرال الفرنسي الذي حاربه يقول ‪[:‬إن القوة احلقيقية لعبد القادر ‪،‬القوة اليت تقاومنا‬
‫هلا جذوره يف فكره ‪...‬إن قد وضعت ثقتها إن عبد القادر كان أمرياً‪ ،‬ألن احلرية قد وضعت ثقتها فيه‬
‫‪1‬‬
‫إن احلرية أعطته سيفها ‪....‬أنه كان رجل التاريخ ‪،‬إن احلرية سوف لن تنساه إهنا سرتدد امسه‪].‬‬

‫‪ 4‬ـ يوهان كارل بي رنت األلماني ‪ :‬الذي أصبح من املقربني له يقول ‪[:‬أن األمري عبد القادر مجع‬
‫بني الدهاء العريب والشجاعة احلربية والطموح ولكنه يتسم باحللم والعدل علي قدر ما تسمح به‬
‫مواقفه وتطلعاته ‪ ،‬وهو حييا من الوجهة الدينية حياة ورعة متمسكاً بالعادات ‪.‬ويؤكد سلوكه يف كل‬
‫مناسبة مدي تساحمه وخلوه التام من األحكام املسبقة علي من خيالفه يف الرأي‪،‬كان يشعر يف نفسه‬
‫على ما يظهر القدرة على أن يعيد للهالل من غلبة وعظمة ‪،‬يعيش عيشة أكثر بساطة وتواضعا من‬
‫‪2‬‬
‫معيشة العريب ال يرتدي أبدا ألبسة مذهبة أو مفضضة ‪].‬‬

‫‪ 5‬ـ تشرشل ‪ :‬املؤرخ الربيطاين يقول ‪[:‬عجب الفرنسيون من شجاعة عبد القادر وسرعة اختفائه‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫فكأنه يطري يف اهلواء‪].‬‬

‫‪ 7‬ـ النقيب كلير‪ :‬يقول عنه [إن احلملة اليت قام هبا هذا األمري أثارت إعجاب كل العسكرين الذين‬
‫‪4‬‬
‫ينحنون بالرغم عنهم أمام هذه العبقري ‪].‬‬

‫‪1‬عمار عموره ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر ‪1230‬ـ‪،1626‬مرجع سابق‪،‬ج‪،2‬ص‪.310‬‬


‫‪2‬خمتار حساين‪،‬ثورة األمري عبد القادر من خالل ثالثة خمطوطات‪،‬دار احلكمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪3‬علي حممد الصاليب‪ ،‬كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتالل الفرنسي وسرية األمري عبد القادر‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص ‪.320‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.505‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ 6‬ـ لورانس كايف ‪ :‬املؤرخ اإلجنليزي كتب عنه‪[:‬إن مسعة األمري قد أصبحت أوروبية منذ‬
‫‪1‬‬
‫‪1235‬م وهذا اإلعجاب بعبقرية األمري احلربية ووطنية الفياضة ‪].‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬ـ القائد سولت ‪[:‬إن األمري يستحق عن جداره وتقدير قوه لقب العظيم لتخليده ذكراه دوليا‪].‬‬

‫‪ 9‬ـ الحبر باقي ‪ :‬بعث رسالة إىل األمري عبد القادر يف ‪1290\2\10‬م يعرب فيها عن إعجابه‬
‫بسموه ومبوقفه اجلريء‪ ،‬الشجاع حلماية املسيحني قائال له‪[:‬ما قمتم به من أجل املسحني يف املشرق‬
‫بفضل العناية الربانية جعلكم حتتلون من اآلن فصاعداً مكانة يف الصف األمامي لكبار رجالت هذا‬
‫‪3‬‬
‫القرن وكبار املتساحمني واملدافعني عن العدالة وعن اإلنسانية‪].‬‬
‫‪4‬‬
‫‪11‬ـ فاليوت ‪:‬يقول [عدو كرمي األخالق فأن كان أسريا عنده أثين عليه‪].‬‬

‫‪1‬علي حممد الصاليب ‪،‬سرية األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سباق ‪،‬ص ‪.320‬‬
‫‪2‬مسعود جماهد اجلزائري ‪،‬تاريخ اجلزائر ‪،‬ج‪ ، 1‬مرجع سباق ‪،‬ص ‪.146‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬دوان بوعفالة ‪،‬األمري عبد القادر عبقري زمان واملكان ‪،‬مكتبة الرشاد للطباعة والنشر ‪،‬اجلزائر ‪،2014،‬ص ‪.14‬‬
‫‪44‬بركات حممد مراد‪ ،‬األمري عبد القادر اجملاهد ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.21‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫المطلب الثالث‪ :‬أثاره العلمية‬


‫أوال‪ :‬مؤلفاته‬

‫ظهرت مثار األمري عبد القادر مما تركه لنا من مؤلفات يف علوم شىت وفنون متنوعة تشهد له بالعلم‪،‬‬
‫وهذه قائمة كتبه إىل تنقسم إىل قسمني نثرية وشعرية‪:‬‬

‫‪ .1‬اآلثار النثرية‬
‫‪ -‬تعليقات على حاشية جده عبد القادر املعروف بنب خدة يف علم الكالم‪ :‬دون األمري هذه التعليقات‬
‫على حاشية جده يف املرحلة االوىل من حياته بعد عودته من املشرق بعد تأديته للحج عام ‪-1243‬‬
‫‪ 1222‬هذا يدل أن األمري كان متمكنا من علم الكالم‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب ذكر العاقل وتنبيه الغافل‪ :‬ألفه األمري سنة ‪1211‬ه ونشره ابنه حممد باشا يف مطلع العشرين‪،‬‬
‫وهي رسالة يف فوائد العلم والدين واالخالق وفن الكتابة‪.‬‬
‫‪ -‬املقراض احلاد (لقطع لسان منتقد دين االسالم بالباطل واالحلاد) وهو اشبه برسالة تصدى فيها االمري‬
‫عبد القادر للتدليل حبجة دامغة وادلة منطقية عقليا وكونيا على وجود اهلل سبحانه وتعاىل خالق هذا‬
‫‪1‬‬
‫الكون‬
‫‪ -‬رسائل أخرى واجابات متعدد يف خمتلف االغراض وشىت الفنون وعديد املشاكل العلمية وغريها‬
‫‪ -‬كتاب املواقف وهو اهم كتاب ألفه األمري ويقع فيه ثالثة أجزاء‪ ،‬والكتاب يشمل تفسري لبعض آيات‬
‫‪2‬‬
‫القرآن الكرمي وشرح لألحاديث الشريفة‬
‫‪ -‬مذكرات األمري عبد القادر‪ :‬هو عمل أديب يتلقى فيه التحرير الشخصي لألمري مع اإلنشاء اجلماعي‬
‫حيث ترك اإلشراف إلجناز هذا العمل لصهره وصديقه مصطفى بن التهامي‪ ،‬وقد كتب األمري هذه‬
‫املذكرات تلبية لرغبة بعض املرتددين عليه من املثقفني واملستشرقني؛ حيث شرح األمري من خالل هذه‬
‫املذكرات واقعه وحياته وعاجل بصراحة تعداده للعراقيل اليت واجهته وظاهرة التباعد بني الضمري‬

‫‪ 1‬فضيلة بلدي عثمان‪ ،‬املنهج الصويف عند كل من النفري واألمري عبد القادر من خالل كتاهبما "املوقف "‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬‬
‫ص‪.21‬‬
‫‪2‬حيي بوعزيز‪ ،‬االمري عبد القادر رائد الكفاح اجلزائري‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.132‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫السياسي الوجودي الذي تبناه وكافح ألجله‪ ،‬وسلوك التشتت والعصبية واألعداء والعمالء مربراً مدى‬
‫تقيده يف معاملته‪.‬‬
‫كما شرح فيه عدداً من املبادئ السياسية باإلضافة إىل املبادئ الدينية كنظرة الدين والعقيدة اإلسالمية‬
‫‪1‬‬
‫وموقفها من املسيحية‪.‬‬
‫‪ .2‬اآلثار الشعرية‪ :‬تقرتب الفروسية دائما من الشعر وهلذا كان االمري عبد القادر رب سيف وصاحب‬
‫شعر‪ ،‬رائق يف نفس الوقت تطرب له االمساع وتستهوي األلباب‪ ،‬حيث بدأ عبد القادر يف قرض‬
‫الشعر منذ الصغر وبرز يف ذلك وهو اليزال دون اخلامسة والعشرين من عمره‪ .‬إذ الشعر كان بالنسبة‬
‫لألمري وسيلة لتخليد البطولة وإذكاء احلماس عند اجملاهدين يف ميدان القتل ووسيلة للتعبري عن‬
‫‪2‬‬
‫األحاسيس واجلمال‪.‬‬
‫ومن آثاره الشعرية نذكر اآليت‪:‬‬
‫‪ -‬الديوان وهو أكرب أثاره الشعرية ومل ينظم هذا الديوان يف فرتة زمنية معينة وال يف بقعة جغرافية حمدودة‬
‫بل نظم على فرتات منقطعة‪ ،‬فقد رافقت حياة االمري منذ شبابه يف االراضي اجلزائرية اىل وفاته يف‬
‫دمشق‪.‬‬
‫وقد رتب الديوان تبعاً لفنونه يف الطبعة األوىل‪ ،‬فإذا هي مخسة‪ :‬الفخر والغزل واملساجالت‪،‬‬
‫واملناسبات والتصوف ومن هنا كانت ترتيب الديوان ترتيباً موضوعياً واألمري يف قصائده يف الديوان‬
‫طرق كل أبواب الشعر من املدح والعتاب والفخر والتوسل والشوق والتغزل والتهنئة واملطارحة وما إىل‬
‫ذلك من أغراض الشعر‪.‬‬
‫وعلى كل حال فالديوان يعطينا صورة واضحة عن قيمة األمري األدبية وقوته الشعرية ومقدرته الفنية يف‬
‫‪3‬‬
‫الفخر واحلماس واملدح والتغزل والتصوف وغريها‪.‬‬
‫‪ -‬نزهة اخلاطر يف قريض االمري عبد القادر‪ :‬فيه شعر االمري قام جبمعه ولده األمري حممد‪ ،‬حيث عمد‬
‫على مجع القصائد الواردة يف اخر مقدمة كتابه املواقف‪ ،‬يف بعض اشارات القرآن الكرمي‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد‪ ،‬البعد الروحي املقاومة االمري عبد القادر اجلزائري ‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪111.122‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪3‬بركات حممد مراد‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.42‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫هذا جممل ما ألفه االمري يف حياته السفيه والعلمية‪ ،‬أذ دلت هذه املؤلفات على عبقرية األمري يف فنون‬
‫‪1‬‬
‫وعلوم شىت من سياسة وفلسفة وتوحيد وكالم وتصوف وهذا ما جعله شخصية عاملية‪.‬‬

‫‪1‬فضيلة بلدي عثمان‪ ،‬املنهج الصويف عند كل من النفري واألمري عبد القادر من خالل كتاهبما "املواقف"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪21‬‬

‫‪11‬‬
‫األمير عبد القادر حياته وسيرته‬ ‫الفصل األول‬

‫‪11‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المبحث األول‪ :‬جهاد األمير عبد القادر‬


‫المطلب األول‪ :‬البيعة وتنظيمات دولته‬

‫تمهيد‬

‫اجلهاد بالدعوة اىل اهلل هو أساس اجلهاد وعماده والذي استغرق من حياة الرسول "صلى اهلل عليه‬
‫وسلم"‪ .‬الفرتة األوىل‪ ،‬وهو اجلهاد املاضي اىل يوم القيامة واملستمر يف كل الظروف واالحوال‪ ،‬هذا ما‬
‫‪1‬‬
‫قاله البوطي يف كتاب اجلهاد يف االسالم‪.‬‬

‫كثريا ما خيتلط عند الناس مفهوم اجلهاد بالقتل واملرابطة فقط‪ ،‬بينما اجلهاد هو البذل الواسع وحتمل‬
‫املشقة سعادة مبا حيملها من معاين قدسية روحية قد تتحقق يف السلم أو احلرب على حد سواء‪ ،‬كما‬
‫يتبني يف القرآن الكرمي ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡﭼ[التوبة‪[ 14 :‬‬

‫وقال أيضا‪:‬ﭽﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﭼ[الفرقان‪]25:‬‬
‫‪2‬‬
‫فاجلهاد إذا جزء ال يتجزأ من اإلميان‪.‬‬

‫ومعىن اجلهاد يف اإلسالم أيضا ليس هدفا يف السيطرة والقتل‪ ،‬فقد كانت الفتوحات اإلسالمية هتدف‬
‫‪3‬‬
‫إىل نشر الشريعة املباركة باملوعظة احلسنة والعدالة واملساواة من دون إكراه يف الدين‬

‫ﭧﭨﭽﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼﯽﭼ[البقرة‪]491:‬وبذلك فرضت الضرورة على األمري عبد القادر إعالن اجلهاد‬
‫خاصة يف اإلطار الفكري الذي حتكمه النخوة الدينية املتمثلة للقوة األساسية وراء العمل السياسي‬
‫والعسكري‪،‬وكان األمري عبد القادر مؤمنا بأن الدين هو العنصر الوحيد على إعطاء الفعل والتصرف‬

‫‪1‬هشام عليون وفادي الغوش ‪ ،‬البوطي الدعوة واجلهاد واإلسالم السياسي ‪،‬مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ‪،‬ط‪ ،4‬لبنان‬
‫‪،5145،‬ص ‪.411-411‬‬
‫‪2‬عائشة بن ساعد‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.561‬‬
‫‪3‬األمرية بديعة احلسين اجلزائري ‪،‬فكر األمري عبد القادر اجلزائري حقائق ووثائق ‪،‬دار الفكر ‪،‬ط‪،4‬دمشق ‪، 5111،‬ص ‪.411‬‬

‫‪83‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫اإلنساين (كاملقاومة) أبعادها احلقيقية واجتاهاهتا الصحيحة واملقابلة هلذا استمد األمري شرعية القيادة‬
‫من مجيع املؤمنني الذين اعتربوه املدافع األول عن اإلسالم‪.1‬‬

‫كان اهلدف األمسى لألمري عبد القادر هو أن جيعل اجلزائريني شعبا واحدا باستمالتهم إىل املبادئ‬
‫اإلسالمية واستدعائهم إىل فضائل أهل القرون األوىل من اهلجرة وإيقاظهم من الغفلة‪ ،‬فقد كانت‬
‫املعارك اجلهادية بالنسبة لألمري عبد القادر صراعا بني اخلري والشر والعدالة والظلم‪ ،‬وأن إميان‬
‫وإخالص األمري عبد القادر جعله يقدم كافة التضحيات وال يرتدد يف ذلك أبدا مهما كان الثمن‬
‫لدرجة أنه كان ال ينام وال يغمد سيفه ألسابيع طويلة وكان يعتقد أن الساعة الواحدة يف قتال الكفار‬
‫أحسن من املكوث يف مكة سبعني سنة‪ ،‬ولذلك كان هدفه األمسى إعادة األمة اجملاهدة احملاربة‬
‫‪2‬‬
‫للوجود واملعتمدة على اجليش النظامي وجعل اجلهاد حيتل مرتبة عظيمة‪.‬‬

‫أوال‪ :‬البيعة‬

‫تعريف البيعة‪:‬‬

‫لغة‪ :‬نقول باعه يبيعه بيعا ‪،‬ومبيعا والقياس مباعا إذا اشرتاه‪ ،‬والصفقة علي إجياب البيع وعلي املبايعة‬
‫‪3‬‬
‫والطاعة‪.‬‬

‫اصطالحا‪:‬‬

‫ابن خلدون‪ :‬البيعة على أهنا العهد على الطاعة لويل‪.‬‬

‫وعرفت كذلك على أهنا أخذ العهد وامليثاق‪ ،‬واملعاهدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة وإقامه ما‬
‫‪4‬‬
‫أقامه‪.‬‬

‫وللبيعة معنيان أساسيان يف القرآن الكرمي‪ ،‬البيعة املشهورة بيعة الرضوان حتت الشجرة وفيها متت‬
‫مبايعة الرسول من قبل ‪ 4011‬اىل‪ 4111‬من املسلمني الذين أرادوا تأدية مناسك العمرة يف ذي‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقامة األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.562‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه ‪،‬ص‪-561‬ـ‪.569‬‬
‫‪3‬أمحد حممود ال حممود ‪،‬البيعة يف اإلسالم تارخيها وأقسامها بني النظرية ‪،‬دار الرازي ‪ ،‬البحرين‪ ،‬د‪.‬ت ‪،‬ص ‪.49‬‬
‫‪4‬علي بن حممد الصاليب ‪ ،‬كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتالل الفرنسي وسرية األمري عبد القادر ‪،‬دار املعرفة ‪ ،‬ص ‪.061‬‬

‫‪83‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫القعدة يف ‪ 6‬ه واليت جاء النص فيها‪،‬ﭧﭨﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬


‫ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭼ[الفتح‪،]41 :‬والبيعة الثانية وهي اجلهاد‪ ،‬ﭧﭨﭽﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﭼ [التوبة‪]444:‬ومن‬
‫‪1‬‬
‫هنا نستنتج أن البيعة مرتبطة باملبايعة املشتقة من البيعة‪.‬‬

‫أوال‪ :‬مبايعة األمير عبد القادر‪:‬‬

‫‪ .1‬البيعة األولى ‪:‬‬

‫بعد انسحاب قوات حمي الدين من ضواحي وهران بتاريخ ‪4105‬م تأزم الوضع األمين يف املقاطعة‬
‫الغربية وساءت األحوال االجتماعية فيها‪ ،‬اجتمعت قبائل سهل "غريس" واتفقت على إسناد القيادة‬
‫إىل حمي الدين جمددا ‪،2‬وذلك للجهود العظيمة اليت بذهلا السيد حمي الدين للتصدي للغزوات وقيادة‬
‫القبائل للجهاد يف سبيل اهلل‪ ،‬ولكنه اعتذر لكرب سنه ودفع املواطنني يف التفكري يف مبايعة ابنه عبد‬
‫القادر لقناعته بقدرته‪ ،3‬كان حمي الدين مقتنعا يف كفاءة ابنه ومن أسباب اختيار حمي الدين لعبد‬
‫القادر دون باقي أوالده‪ ،‬أنه سأله بعد اقرتاح زعماء غريس "كيف ستحكم بالعدل واحلق بني الناس‬
‫عندما تصبح زعيمهم" فأجابه عبد القادر "سأمحل عصا من حديد وكتاب اهلل وسنة رسوله" فابتسم‬
‫الوالد واطمأن"‪ 4‬وهكذا احنىن حمي الدين ملشيئة اهلل وحتت وطأة العمر وطلب من اجلميع اختيار ابنه‬
‫عبد القادر سلطان بديال عنه‪ ،‬وبتاريخ ‪ 51‬نوفمرب ‪ 4105‬م عقد مؤمتر حتت شجرة الدرداوة‬
‫حضره رؤساء قبائل بين عامر وبين جماهر والغربة وبايعوا عبد القادر بسلطته‪ .‬ولقبوه "بناصر‬

‫‪1‬زعيم خنشالوي ‪،‬إذ يبايعونك حتت الشجرة ‪،‬وحدة الرغاية ‪،‬اجلزائر ‪،5144 ،‬ص ‪. 09‬‬
‫‪2‬أديب حرب ‪ ،‬التاريخ العسكري واالداري لألمري عبد القادر اجلزائري ‪،‬ج ‪ ،4‬دار الرائد ‪ ،‬ط‪،5111. 5‬ص ‪.12‬‬
‫‪3‬علي بن حممد الصاليب ‪،‬كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتالل الفرنسي وسرية األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.019‬‬
‫‪4‬ينظر ‪ :‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.556‬‬

‫‪04‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الدين"وكان عمره حينئذ ‪ 51‬سنة‪ .‬ومع مبايعة األمري عبد القادر بدأت مهمتة السياسة العسكرية‬
‫‪1‬‬
‫طريقها الطويل حنو توحيد البالد‪.‬‬

‫وبعد املبايعة خرج األمريإىل املسجد فصلى الظهر بالناس وقرر يف خطبته برناجمه القائم على القرآن‬
‫والسنة واملتمثل فيما ما يأيت ‪:‬‬

‫‪4‬السمع والطاعة ‪.‬‬

‫‪ 5‬الثبات على اجلهاد إلعالء كلمة اهلل ودينه‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫‪ 0‬الكفاح ضد العدو دفاعا عن الوطن ‪.‬‬

‫وقد احتوت خطبة البيعة األوىل على عدد من املواضيع اهلامة اليت تتعلق بأسس احلكم يف دولة األمري‬
‫‪3‬‬
‫عبد القادر‪ ،‬وفيما يأيت سنلخص عددا من تلك املواضيع‪:‬‬

‫‪ .4‬رغبة األمري يف تطبيق الشريعة اإلسالمية واألخذ بالعدالة واحلق‬


‫‪ .5‬البيعة مبفهومها تعين قيام دولة‬
‫‪ .0‬اختالف حكمه عن حكم االتراك‬
‫‪ .1‬حرصه على أموال الدولة‬
‫‪ .2‬التأكيد على حترير االراضي اجلزائرية ويتطلب وجود قائد ينظم اجلهاد ويتطلب أيضا وقوف‬
‫الشعب جبانبه‬
‫‪ .6‬ضرورة بناء الدولة وتقومي النظام واستباب االمن‬
‫‪ .1‬التحذير من شق عصا الطاعة‪.‬‬
‫‪ .2‬البيعة الثانية ‪:‬أرسل األمري الوفود والرسائل إىل بقية القبائل واألعيان الذمي مل حيضروا البيعة‬
‫إلبالغهم بذلك‪ ،‬ودعوهتم إىل مبايعته‪ ،‬وأسوة مبن أدى واجب الطاعة‪ ،‬فلىب اجلميع النداء وهرع‬
‫الناس وبدأت الوفود تتواىل ألداء واجب البيعة لألمري الثانية وانعقد بذلك جملس عام حضرته‬

‫‪1‬أديب حرب ‪ ،‬التاريخ العسكري واالداري لألمري عبد القادر اجلزائري‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪2‬عائشة بن ساعد ‪،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عيد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.511‬‬
‫‪3‬عبد الرزاق بن سبع ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.50‬‬

‫‪04‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫مجاهريعريضة من أفراد الشعب‪ ،‬يتقدمهم األعيان واألشراف وزعماء القبائل والعشائر‪ ،1‬حيث‬
‫وقعت البيعة الثانية يف ‪ 40‬رمضان ‪ 4511‬هجري املوافق ل ‪ 1‬فرباير ‪4100‬م‪ .2‬وفيها انتقلت‬
‫السلطة اجلزائرية إىل األمري عبد القادر ليس عن طريق الوراثة أو التعيني وإمنا عن طريق االنتخاب‬
‫والبيعة ورضا األهايل‪ .‬وبذلك تعترب سلطة األمري سلطة شرعية قانونية ألنه قد وضع هبذا االجراء‬
‫‪3‬‬
‫احلجر االساسي لبناء دولة اجلزائر املعاصرة على أسس ثابتة وقواعد سليمة‪.‬‬

‫نالحظ أن البيعة األوىل والثانية لألمري عبد القادر متت دون أن يكون هناك رأي لكل أهل غريس‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫إمنا متت باجتماع شيوخ سهل "غريس" واختيارهم عبد القادر سلطانا عليهم‪.‬‬

‫ثانيا ‪:‬تنظيمات دولته‬

‫بعد املبايعة الثانية رأي األمري من الضروري تنظيم دولته إداريا وعسكريا ‪،‬وتوحيد صفوف الشعب‬
‫اجلزائري يف كنف دولة حديثة يف إطار املبادئ اإلسالمية ‪،‬وتوجيهه حنو اهلدف األمسى أال وهو‬
‫‪5‬‬
‫"اجلهاد يف سبيل اهلل"‪.‬‬

‫وقد كانت مرحلة اهلدوء واالستقرار يف البالد فرصة لألمري لتأسس دولة وانشاء مؤسساهتا ومتكن‬
‫بفضل حكمته وقوته العسكرية يف ترسيخ مبادئ العدالة واملساواة وتوفري املوارد املالية الضرورية‬
‫ملختلف األجهزة للقيام باملهمات املنوطة هبا ‪،‬حيث سعي األمري إىل جتنب أخطاء احلكم الرتكي‬
‫الذي جعل ممثله يف اجلزائر عرضة للخطر وكراهية الناس‪ ،‬فعمل يف بناء إمارة أساسها اإلخالص‬
‫‪7‬‬
‫للحاكم وثقة احملكومني‪6.‬حيث اختذ األمري عبد القادر معسكر عاصمة لدولته ومقرا حلكمه‪.‬‬

‫واملوقع اجلغرايف لدولة األمري عبد القادر يتمثل يف رقعة جغرافية تقع يف الشمال الغريب للجزائر ومتتد‬
‫من احلدود مع املغرب إىل احلدود مع بايلك الشرق ‪،‬حيث ترتبع دولة األمري علي مساحة واسعة‬

‫‪1‬عبد الرزاق بن سبع ‪،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.50‬‬
‫‪2‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬حتفة الزائر يف تاريخ اجلزائر واألمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪.462‬‬
‫‪3‬ابراهيم املدين ‪ ،‬املقاومة الشعبية ‪،‬دار املدين‪ ،‬اجلزائر ‪،5119 ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪4‬ينظر‪ :‬ديب حرب ‪،‬تاريخ العسكري واالداري لألمري عبد القادر اجلزائري‪ ،‬ج ‪، 4‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.11‬‬
‫‪5‬إبراهيم مياسي ‪ ،‬املقاومة الشعبية ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.51‬‬
‫‪6‬ينظر‪ :‬أديب حرب ‪،‬التاريخ العسكري واإلداري لألمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬ج‪ ،5‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪09‬ـ‪.11‬‬
‫‪ 7‬ابراهيم مياسي ‪ ،‬املقاومة الشعبية ‪،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.51‬‬

‫‪04‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫تشكل أكثر من ‪%11‬من مساحة مشال اجلزائر‪1،‬حيث اختذ األمري عبد القادر علما لدولته الناشئة‬
‫تدعيما لنفوده وسلطته‪2.‬فكانت راية األمري عبد القادر من كتان احلرير أعالها وأسفلها خضراوان ‪،‬‬
‫أما لون القسم األوسط أبيض رمست فيه يد مبسوطة وكتب حوهلا بشكل دائري عبارة‪" :‬نصر من اهلل‬
‫‪3‬‬
‫فتح قريب ‪،‬ناصر الدين عبد القادر بن حمي الدين‪"،‬والرسم والكتابة كالمها مطرزان باللون الذهيب" ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬‬
‫التنظيم اإلداري والعسكري لدولة األمير عبد القادر‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ التنظيم االداري‪:‬لقد مسحت فرتة السالم القصرية اليت أعقبت معاهدة التافنة لألمري عبد القادر‬
‫بأن يضع اللينات األويل لدولته ‪4109\4101‬م فأنشأ تنظيما إداريا حمكما يقوم على نطام‬
‫‪4‬‬
‫املقاطعات ‪ ،‬وقد كان هذا التقسيم مفيدا يف وصول أوامر وتعليمات األمري إىل القاعدة الشعبية ‪.‬‬

‫وقد اشتملت دوله األمري عبد القادر يف أول أمرها علي مقاطعتني رئيستني مها‪ :‬خليفيك الشرق‬
‫ومقره معسكر وخلفيك الغرب ومقرها تلمسان ‪ ،‬وبعدها تعددت املقاطعات وتوسعت دولة األمري‬
‫‪5‬‬
‫عبد القادر وانتظم أمرها‪.‬‬

‫مث تأيت بعد ذلك مقاطعات إدارية للدولة األمري عبد القادر على أسس فيدرالية عني على رأس كل‬
‫‪6‬‬
‫مقاطعة خليفة علي النحو االيت ‪:‬‬

‫‪ 4‬ـ مقاطعة تلمسان‪ :‬وخليفته حممد البو محيديالوهلامي ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ مقاطعة معسكر‪ :‬وخلفته احلاج مصطفي بن أمحد التهامي‪.‬‬

‫‪ 0‬ـ مقاطعة مليانة‪ :‬وخلفته حمي الدين عالل القليعي مث حممد بن عالل‪.‬‬

‫‪1‬سهري محالوي ‪ ،‬اجلوانب االقتصادية واالجتماعية يف دولة األمري عبد القادر اجلزائري ‪،4111 \4105‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪2‬ابراهيم مياسي ‪،‬املقاومة الشعيبة ‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪3‬أديب حرب ‪،‬التاريخ العسكري واإلداري لألمري عبد القادر اجلزائري‪ ،‬ج‪، 5‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪4‬سهري محالوي ‪،‬اجلوانب االقتصادية واالجتماعية لدولة األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪5‬ناصر الدين سعيدوين ‪ ،‬عصر األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.541‬‬
‫‪6‬قاصري حممد السعيد ‪،‬دراسات وأحباث يف التاريخ اجلزائر احلديث واملعاصر ‪4965\4101‬م ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬ص ‪.41‬‬

‫‪08‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ 1‬ـ مقاطعة التيطري ‪ :‬وخلفته مصطفي بن حمي الدين مث حممد بن عيسي الربكاين ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مقاطعة جمانة ‪ :‬وخليفة حممد بن عبد السالم املقرايب مث حممد اخلرويب ‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ مقاطعة الزابيان والصحراء الشرقية ‪:‬وخليفته فرحات بن سعيد مث احلسن بن عزوز مث حممد الصغري‬
‫بن عبد الرمحان بن أمحد بن احلاج ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ مقاطعة برج محزة ‪ :‬وخليفته أمحد الطيب بن سامل ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ مقاطعة األغواط والصحراء الغربية ‪ :‬وخليفته قدور بن عبد الباقي ‪.‬‬

‫وكانت املقطعات أيضا مقسمة إىل دوائر وكل دائرة كانت تنقسم إىل وحدات إدارية صغرية حيكمها‬
‫‪1‬‬
‫قائدا‬

‫وقد أعتمد األمري عبد القادر يف تعني هؤالء القادة على أسس جديدة وقواعد ثابته فكان خيتار‬
‫‪2‬‬
‫العاملني مببادئ اإلسالمي والشريعة واملتفوقني يف ساحات القتال‪.‬‬

‫ويف ظل التسلسل اإلداري يقوم األمري عبد القادر بإنشاء هياكل إدارية أخرى واليت تتمثل يف‬
‫السلطات اليت أستخدمها األمري يف دولته واملتمثل يف ما يأيت ‪ :‬السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية‬
‫‪3‬‬
‫والسلطة القضائية‪.‬‬

‫كما أهتم األمري عبد القادر يف تنظم دولته جبانب الثقايف ‪،‬حيث عرفت إمارة األمري عبد القادر‬
‫بثالث مراحل تعليمية وهي ‪ :‬االبتدائي والثانوي والعايل‪ ،‬وقد خص عبد القادر كافة املعلمني برواتب‬
‫ثابته نقدا أو عينا‪ ،‬ومنح الطالب املتفوقني مبلغا ماليا ملتابعة التحصيل يف صفوف العالية‪ ،‬وعمل‬
‫‪4‬‬
‫جاهدا لتأسيس املكتبات ومجع املخطوطات‪.‬‬

‫واهتم األمري عبد القادر مبراقبة اآلداب واألخالق العامة ‪،‬حيث استتب األمن يف أجاء دولته بفضل‬
‫تنفيد أحكام القضاء بسرعة وقد منع أفراد الشعب من معاقرة اخلمور وممارسة البغاء‪ .‬وحرم التدخني‬

‫‪1‬عمار بوحوش ‪ ،‬التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ‪ ،4965‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.441‬‬
‫‪2‬أديب حرب ‪ ،‬التاريخ العسكري واإلداري لألمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬ج‪ ،5‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪3‬قاصري حممد السعيد ‪،‬دارسات وأحباث يف التاريخ اجلزائر احلديث واملعاصر ‪،4965\4101‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪41‬ـ‪.49‬‬
‫‪4‬أنظر‪:‬أديب حرب ‪ ،‬التاريخ العسكري واإلداري لألمري عبد القادر اجلزائري ‪،‬ج‪ ،5‬مرجع سابق ‪،‬ص‪11‬ـ‪.14‬‬

‫‪00‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ولعب امليسر خصوصا يف اجليش ‪،‬وكان كذلك يعاقب الرجال الدين يرتدون الثياب األنيقة أو يتزينون‬
‫‪1‬‬
‫بالذهب والفضة ‪،‬وقد اعتبار هذه املظاهر خاصة بالنساء ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ التنظيم العسكري ‪ :‬اعتين األمري عبد القادر بالشؤون العسكرية ‪ ،‬فكان له جيش دائم حقق له‬
‫أهداف بالشؤون الداخلية واخلارجية ‪ ،‬وحرص على حشد طاقاته البشرية واملادية يف سبيل حتديث‬
‫‪2‬‬
‫امارته واغنائها ‪ ،‬فنجح إيل حد بعيد بفضل األمن الذي نعمت به مقاطعاته‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫كان جيش األمري منظم وقد بلغ عدده يف بعض األوقات ‪42.011‬جندي ‪.‬‬

‫وقد أشرف األمري عبد القادر بنفسه على الرتتيبات األوىل لتنظيم اجليش ‪،‬وقد قسمه إىل ثالثة‬
‫أسلحة‪:‬‬

‫‪ 4‬ـ اخليالة ‪:‬وهم الذين يركبون اخليول ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ املشاة أو العسكر احملمدي ‪ :‬حيث يتشكل جيش املشاة من كتائب عدة يرأسهم أغا‪ ،‬وتضم كل‬
‫كتيبة جماهدين‪ ،‬وتتشكل الكتيبة من ثالث وحدات صغري‪.‬‬

‫‪ 0‬ـ املدفعية أو الرماة أو الطبجية‪ :‬ويرتأس الرماة قائد ‪،‬ويدير كل مدافع ‪45‬جندي‪ 4.‬اهتمام األمري‬
‫عبد القادر جبيشه اجملند من قوات النظامية والغري النظامية‪ ،‬ملواجهة اجليش الفرنسي ‪ ،‬فعمل علي‬
‫ترتيب وتنظيم جيشه ‪،‬فأتقن تنظيمه ‪.‬‬

‫وقد شرع األمري عبد القادر يف إنشاء دولته ذات سيادة خاص على قاعدة شعبية وحدد أهداف اليت‬
‫‪5‬‬
‫يرمي إيل حتقيها من خالل تنظيم املقاومة اجلزائرية أمهها‪:‬‬

‫‪ 4‬نشر األمن وتأديب اخلونة العصاة ‪.‬‬

‫‪ 5‬توحيد القبائل حول مبدأ اجلهاد ‪.‬‬

‫‪1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.15-14‬‬


‫‪2‬أديب حرب ‪،‬التاريخ العسكري واإلداري لألمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.15‬‬
‫‪3‬حيي بوعزيز‪ ،‬األمري عبد القادر رائد الكفاح املسلح ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.11‬‬
‫‪4‬أنظر‪ :‬ابراهيم مياسي ‪،‬املقاومة الشعبية‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪-55‬ـ‪.50‬‬
‫‪ 5‬علي حممد الصاليب ‪ ،‬سرية األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.451‬‬

‫‪04‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ 0‬مقاومة الفرنسني بكل الوسائل‪.‬‬

‫‪ 1‬دفع الفرنسني إيل االعرتاف باجلزائر كدولة وبعبد القادر أمريا للبالد‪.‬‬

‫‪04‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المطلب الثاني‪ :‬مقاومة األمير عبد القادر‬

‫كان الصراع بني االحتالل الفرنسي واألمري عبد القادر عنيفا فاألول كان يعمل من أجل توسيع‬
‫سيطرته علي اجلزائر واحتالهلا أما عبد القادر فكان يسعي إليقاف االحتالل وبناء دولة قوية قادرة‬
‫على طرد املستعمر‪1.‬مما أدي إىل ظهور مقاومة األمري عبد القادر يف اجلزائر‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫دوافع مقاومة األمير عبد القادر‪ :‬وميكن تلخيص دوافع األمري عبد القادر إىل ما يأيت‪:‬‬

‫‪4‬ـ احتالل فرنسا عاصمة اجلزائر ومدن الساحلية اهلامة ‪،‬خاصة عاصمة الغرب وهران ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ انتهاء السيادة العثمانية على اجلزائر وسقوط احلكم العثماين ‪،‬وإشداد احلاجة إىل قيام سلطة‬
‫جزائرية تقود اجلهاد ضد الغزاة الفرنسني‪.‬‬

‫‪ 0‬ـ الغرية الشديدة على اإلسالم والوطن ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ انتشار الفوضى يف املناطق الغربية وحرص األمري على توحيد القبائل وتنظيمها‪.‬‬

‫و مرت مقاومة األمري عبد القادر مبراحل هامة من مراحل الكفاح املسلح ضد االحتالل الفرنسي ‪،‬‬
‫فبعد مبايعة األمري عبد القادر يف ‪51‬نوفمرب ‪4105‬م‪،‬شرع يف بناء دولة حديثة فكان حياته مليئة‬
‫باإلاجنازات العسكرية والسياسية ‪.‬وميكن تقسيم مقاومة األمري عبد القادر إىل ثالثة مراحل وهي‪:‬‬

‫‪ 4‬ـ مرحلة االنطالق والقوة ‪ :1388\1382‬ظلت املبادرة العسكرية يف هذه املرحلة لصاحل قوات‬
‫األمري عبد القادر ‪،‬أدي هذا إيل إبرام معاهدة تافنة "واليت سوف نتحدث عنها يف املطلب املوايل"‬
‫اليت اعرتف فيها الفرنسيون بدولة األمري عبد القادر‪.‬ومتكن األمري عبد القادر يف هذه املرحلة علي‬
‫‪3‬‬
‫مايأيت‪:‬‬

‫‪ 4‬ـ بسط نفوذه على خمتلف القبائل وإخضاعها حيت يتسىن له مواجهة الفرنسني جببهة قوية‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ اعتماد حرب العصابات ‪.‬‬

‫‪1‬بشري بالح ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر ‪،4119-4101‬ج‪ ،4‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.416‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 10‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪04‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ 0‬ـ معسكر عاصمة له واستالئه على ميناء أرزيو‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ بناء جيش نظامي وتوحيد اللباس هلم واصدار األوامر والقوانني العسكرية الدالة على االنضباط‬
‫والصرامة ‪1.‬ومتكن األمري عبد القادر يف املرحلة األويل من مقاومة اجليش الفرنسي واجباره علي‬
‫التوقف‪ ،‬حيث عمد األمري عبد القادر إىل فرض حصار على املدن الثالثة‪ :‬مستغامن وأرزيو ووهران ‪.‬‬

‫مرحلة تنظيم الدولة‪.1381\1388 :‬‬

‫استغل األمري عبد القادر معاهدة التافنة لتعزيز قواته العسكرية وتنظيم حكومته من خالل‬
‫اإلصالحات اإلدارية والعسكرية اآلتية ‪:‬‬

‫‪ 4‬تشكيل جملس وزاري مصغر يضم رئيس الوزراء ‪ ،‬ونائب الرئيس ‪،‬وزير اخلارجية ‪،‬وزير اخلزينة‬
‫اخلاصة ووزير األوقاف‪.‬‬

‫‪ 5‬تأسيس جملس الشوري األمريي ويتكون من ‪ 44‬عضوا ميثلون مناطق خمتلفة‪.‬‬

‫‪ 0‬تقسيم البالد إىل مثاين واليات وكل والية حيكمها خليفة ‪،‬‬

‫‪ 1‬ربط عالقات دبلوماسية مع بعض الدول ‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫‪ 2‬تصميم علم وطين وشعار ومسي لدولة‪.‬‬

‫مرحلة الضعف ‪.1388\1381:‬‬

‫شعر الفرنسيون خبطورة نشاطات األمري عبد القادر علي مستقبل وجودهم باجلزائر‪ ،‬خاصة بعدما‬
‫دانت له بالد القبائل ومناطق أخرى من شرق البالد ‪،‬فاحتجوا لدى األمري على توسعه حنو الشرق‬
‫باعتبار خرقا التفاقه تافنة "واليت سوف نتحدث عنها يف املطلب املوايل" فعملوا على إبطاهلا وإيقاد‬

‫‪1‬ابراهيم مياسي ‪ ،‬املقاومة الشعبية ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 41 - 41‬‬


‫‪2‬ينظر‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪. 49‬‬

‫‪03‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫نار احلرب ثانية‪.‬فبادر املارشال فايل إىل خرق معاهدة التافنة بعبور قواته إىل األراضي التابعة لألمري‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫فتوالت النكسات خاصتا بعد انتهاج الفرنسني سياسة األراضي احملروقة‪.‬‬

‫‪1‬بشري بالح ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪03‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المطلب الثالث‪ :‬المعارك والمعاهدات‬

‫أوال‪ :‬المعارك التي خاضها األمير عبد القادر ضد قوات االحتالل الفرنسي‪:‬‬

‫لقد عمل األمري عبد القادر على مقاومة احملتل الفرنسي منذ دخول االستعمار‪ ،‬وهذه بعض النماذج‬
‫من املعارك اليت خاضها األمري عبد القادر ضد قوات االحتالل الفرنسي ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ معركة المقطع ‪ 23‬جوان ‪:1381‬يعترب اجلزائريني معركة املقطع من أهم املعارك اليت خضها‬
‫األمري عبد القادر ‪.‬حيث خرج اجلنرال تريزل ‪،‬قايد محلة وهران يف وقت كان السالم يسود البالد بني‬
‫األمري عبد القادر وفرنسا يف ظل معاهدة دي ميشال ‪،‬خرج اجلنرال الفرنسي من مدينة وهران يف‬
‫حركة استعراضية للتحدي واالستفزاز ‪،‬جمتاز أراضي األمري بقوة تتكون من ‪2111‬جندي وضابط‪،‬‬
‫وملا بلغ األمري خرب هده املناورة هنض من معسكر علي رأس قوة تتكون من ألفني من الفرسان وألف‬
‫من املشاة‪ ،‬ونزال يراقب حركة اجليش الفرنسي ‪ 1.‬فانطلقت املعركة ظهرية يوم ‪ 51‬جوان‬
‫‪4102‬م‪،‬وبدأت املشادات هبجوم اجليش األمري عبد القادرعلي قوات االحتالل الفرنسي بطلقات‬
‫نارية من مجيع اجلهات‪ ،‬فقام اجليش األمري بدحرجة الصخور وتشبيك وقطع الطرق‪ ،‬ونتيجة هذه‬
‫التوغل اضطربت صفوف اجليش الفرنسي من قوات اجليش األمري‪ ،‬حيث تكبدت خسائر كبرية‬
‫الحتالل الفرنسي‪2.‬حيث وصف ال مورسيري حالة اجليش بعد معركة املقطع ‪،‬حالة اجليش مؤملة لغاية‬
‫فإن الروح املعنوية قد هبطت إىل أقصى درجة ‪،3‬حيث كانت معركة املقطع ذات صدي كبري دويل‬
‫وخاصة لدي الرأي العام الفرنسي واليت مسها الفرنسيون يف كتاهبم "مبأساة املقطع" مبا أحلقته هبزمية‬
‫ثقيلة جليوشهم‪ ،‬وزادت شهرة األمري عبد القادر ونفوده‪ ،4‬حيث ساعدت نتائج املعركة علي توطيد‬
‫‪5‬‬
‫دعائم الدولة اجلزائرية اليت كان األمري عبد القادر يسعى لتأسيسها ‪.‬‬

‫‪1‬ينظر‪ :‬إمساعيل العريب ‪،‬األمري عبد القادر اجلزائري مؤسس دولة وقائد جيش ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪22‬ـ‪.26‬‬
‫‪2‬ينظر‪ :‬سالمايت عبد القادر‪ ،‬االسرتاتيجية الفرنسية إلجهاض مشروع الدولة اجلزائرية احلديث ‪4105‬ـ‪4111‬م‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬‬
‫ص ‪.14‬‬
‫‪3‬ينظر‪ :‬امساعيل العريب ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري مؤسس دولة وقائد جيش ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪4‬العريب منور‪ ،‬تاريخ املقاومة اجلزائرية ‪،‬دار املعرفة‪ ،‬اجلزائر ‪ ،5116،‬ص‪.414‬‬
‫‪5‬سالمايت عبد القادر ‪ ،‬االسرتاتيجية الفرنسية إلجهاض مشروع الدولة اجلزائرية احلديثة ‪4105‬ـ‪4111‬م‪ ،.‬مرجع سابق ‪،‬ص‬
‫‪.15‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ 8‬ـ معركة سيدي ابراهيم ‪22‬سبتمبر ‪1381‬م‪ :‬هزمت قوات االحتالل الفرنسي مبعركة جبل كركور‬
‫ومل ينج منها إال ‪15‬جندي ‪ ،‬حيث تراجعت هده القوات الفرنسية بضريح سيدي ابراهيم ‪ ،‬فقامت‬
‫قوات اجليش الوطين الشعيب مبحاصرة ضريح سيدي ابراهيم وطلب األمري عبد القادر من القوات‬
‫الفرنسية بقيادة النقيب جارو االستسالم ‪،‬وارسل هلم النقيب دوترت الذي أسر معركة جبل كركور‬
‫‪1‬‬
‫لطلبهم بتسليم أنفسهم لكنهم رفضوا ‪،‬وبادروا بإطالق النار فقتل النقيب دوترت‪.‬‬

‫ومن خالل املعارك اليت خاضها األمري عبد القادر ضد االحتالل الفرنسي ‪ ،‬يظهر أبرز مواقف إنساين‬
‫لألمري وهو معاملته لألسري من خالل العناية الكرمية والعاطفة الرمحة ‪.‬‬

‫ثانيا ‪:‬االتفاقيات العسكرية بين األمير عبد القادر والقادة العسكريين الفرنسين‪.‬‬

‫كان األمري عبد القادر بطبعه مييل للسلم وال يلجأ إىل احلرب ويدخل املعارك إال عندما تكون‬
‫مصاحلة العليا مهددة‪ ،‬وقد كان األمري عبد القادر يف حاجة إىل السلم واهلدوء لبناء وتشيد وتنظيم‬
‫إدارته علي أسس حديثة ولتسليح جيشه وتعزيز فعاليته يف القتال ‪ ،‬ولقد كان لألمري طرق دقيقة بارعة‬
‫يستعملها إلغراء العدو أو حلمله علي طلب الدخول يف مفوضات معه ‪،‬ولكنه مل يبادر العدو بطلب‬
‫التفاوض‪.2‬ومن أهم هذه املفوضات واملعاهدات اليت صارت بني األمري عبد القادر والفرنسني ما يلي‪:‬‬

‫‪4‬ـ معاهدة دي ميشال ‪: 31388‬استطاع األمري عبد القادر بفضل جيشه الذي بلغ قرابة‬
‫‪61111‬رجل أن يواجه ضربات قاتلة ومرهبة جليوش االحتالل واألعوان اخلونة ‪،‬األمر الذي مكنه‬
‫‪4‬‬
‫من نشر األمن والثقة يف النفس يف ربوع دولته الوطنية‪.‬‬

‫حيث استخدم دي ميشال احلاكم الفرنسي لواهران من أجل عقد هدنة مع األمري‪ ،‬فلجأ إيل حيلة‬
‫تسمح له باالتصال مع األمري عبد القادر واقرتاح اهلدنة عليه‪ ،‬حيث أرسل دي ميشال إىل مرافقة‬

‫‪1‬ينظر‪ :‬سالمي عبد القادر ‪ ،‬االسرتاتيجية الفرنسية إلجهاض مشروع الدولة اجلزائرية احلديث ‪4105‬ـ‪، 4111‬مرجع سابق‬
‫‪،‬ص ‪.25‬‬
‫‪2‬إمساعيل العريب‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مؤسس دولة وقائد جيش ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.92‬‬
‫‪3‬دمييشال ‪:‬هو لويس الكسي دي ميشال ولد ‪:‬بالرين فرنسا يف [‪ 42\4490‬مارس ‪4119‬م ]‬
‫‪4‬العريب منور ‪،‬املقاومة الشعبية اجلزائري ‪،‬دار املعرفة ‪ ،5116،‬اجلزائر‪ ،‬ص ‪.409‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫بعض جنده خلونة جزائريني‪ ،‬فألقي اجليش القبض عليهم ‪ ،‬فصار دي ميشال فرحا األن ذلك كانت‬
‫‪1‬‬
‫الوسيلة لالتصال باألمري عبد القادر وحمادثته بشأن األسرى واقرتاح هدنة عليه‪.‬‬

‫حيث محل االستعمار الفرنسي علي إبرام معاهدة دي ميشال واليت جاءيف مضموهنا التزام الطرفني‬
‫‪2‬‬
‫علي ما يأيت‪:‬‬

‫‪4‬ـ إهناء القتال بني الطرفني منذ هذا التاريخ ‪56‬فيفري ‪4101‬م‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ احرتام العادات والدين اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ 0‬ـ حرية التجار التامة‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تبادل األسرى بني الطرفني‪.‬‬

‫اعتربت املعاهدة انتصارا كبريا لألمري فازدادت شعبيته ‪ ،‬وانضم إليه املرتددون ‪،‬واستفاد من ذلك يف‬
‫شراء السالح وحتديث اجليش النظامي ‪،‬ولكن املعاهدة أثارت املتحمسني لالستعمار من الفرنسني‪،‬‬
‫فقد رأوا فيها خطرا علي مستقبلهم يف اجلزائر والحظوا أن أهداف األمري لن تتوقف عند شروط‬
‫املعاهدة ‪،‬فأردوا أن يفسدوا عليه خططه قبل أن يستفحل أمره‪ 3،‬فقاموا بنقض املعاهدة دي ميشال ‪.‬‬

‫نقضالمعاهدة ‪:‬لو أتيحت لألمري فسحة من الوقت ال صبحت دولته من أكرب الدول يف العامل‪،‬‬
‫ولكن الفرنسني قوم غدارين ال يعرفون للعهود قيمة‪ ،‬وال يقدرون املواقف اإلنسانية ‪،‬فعمدوا إىل انقض‬
‫‪4‬‬
‫اهلدنة جبملة من االلتواءات واالباطيل ‪ ،‬وذلك يرجع إىل فرض السيطرة الفرنسية علي القبائل‪.‬‬

‫‪1‬بشري بالح ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.411‬‬


‫‪2‬سالمايت عبد القادر ‪،‬االسرتاتيجية الفرنسية إلجهاض مشروع الدولة اجلزائرية احلديثة‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.21‬‬

‫‪3‬أبو القاسم سعد هلل ‪،‬خالصة تاريخ اجلزائر املقاومة والتحرير ‪4101‬ـ‪،4965‬دار الغرب اإلسالمي ‪،‬ط‪،4،5111‬بريوت‬
‫‪،‬ص‪.01‬‬
‫‪4‬ينظر ‪:‬حيي بوعزيز‪ ،‬االمري عبد القادر رائد الكفاح املسلح‪ ،،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.21‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وملا وصل األمر إىل هذا احلد وعلم األمري عبد القادر أن املعاهدة قد طوي ببساطها وانقطع نياطها‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫فنادي أهل دولته ودعهم إىل اجلهاد‪ ،‬وقد استجاب الناس إلىندائه ‪ ،‬وجتندوا للجهاد‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ معاهدة التافنة‪83‬ماي ‪1388‬م ‪:‬متت هذه املعاهدة بني األمري عبد القادر واجلنرال الفرنسي‬
‫بيجو مبنطقة وادي التافنة وتضمنت ‪ 42‬بندا علي وثيقة بتوقيع األمري عبد القادر واجلنرال الفرنسي‬
‫‪3‬‬
‫بيجو‪.2‬ومن أهم ما تضامنت بيه الوثيقة ما يأيت‪:‬‬

‫‪4‬ـ اعرتاف األمري عبد القادر بسلطنة فرنسا علي مدينة اجلزائر ووهران‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ علي فرنسا أن تعرتف بإمارة األمري عبد القادر‪.‬‬

‫‪ 0‬ـ يسمح لألمري أن يشرتي من فرنسا البارود وما حيتاجه من األسلحة‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تكوين جتارة حرة بني العرب والفرنسني ‪ .‬وهذه بعض من مواد معاهدة تافتة‪.‬‬

‫أتاحت معاهدة تافنة مكاسب معتربة لألمري‪ ،‬أمهها أنه نال فرتة من اهلدوء والسالم وهو أشد ما‬
‫‪4‬‬
‫يكونبحاجة اليها لتدعيم سلطانه علي القبائل ولتنظيم جيشه ‪.‬‬

‫نقضالمعاهدة‪ :‬نقض اجليش الفرنسي املعاهدة كعادته وذلك عندما عرب أراضي دولة االمري دون إذن‬
‫‪5‬‬
‫منه‪ ،‬فأدرك األمري أن اجليش الفرنسي كان يعمل من أجل مهامجته خوفا من تزايد قوة دولته‪.‬‬

‫فأعترب األمري عبد القادر هذه التصرف خرقا لبنود "معاهدة تافنة"‪،‬حيث بعث األمري يف ‪ 41‬نوفمرب‬
‫برسالة هتديد وحتدير من عواقب هذا التصرف ‪.‬وهكذا بدأت مرحلة جديدة وحامسة بني األمري عبد‬

‫‪1‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬حتفة الزائر يف تاريخ اجلزائر واألمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ج‪، 4‬ص‪.506‬‬
‫‪2‬سالمايت عبد القادر‪ ،‬االسرتاتيجية الفرنسية إلجهاض مشروع الدولة اجلزائرية احلديث ‪4105‬ـ‪4111‬م ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪3‬أنظر‪ :‬علي بن حممد الصاليب ‪،‬سرية األمري عبد القادر قائد رباين وجماهد إسالمي‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪491‬ـ‪.494‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬بشري بالح ‪،‬تاريخ اجلزائر املعاصر‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.419‬‬

‫‪48‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪1‬‬
‫القادر والقوات الفرنسية ‪،‬لتجديد وتقرير مصري اجلزائر وملن تكون له الغلبة والسلطة علي هذا البلد‪.‬‬

‫وهذه حملة موجزة عن بعض املعارك واملعاهدات اليت جرت بني اجليش األمري والعدو الفرنسي ‪ ،‬فكان‬
‫األمري حماربا قاسيا أمام كل من محل السالح ضده ‪،‬وعطوفا حنونا أمام كل من أسري ‪.‬‬

‫‪1‬حممد بن جبور ‪،‬االحتالل الفرنسي للجزائر ومقاومة األمري عبد القادر ‪،4111\4101‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.491‬‬

‫‪40‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المبحث الثاني‪ :‬النشاط الدعوي لألمير عبد القادر‬


‫المطلب األول‪ :‬مراسالته‬

‫استعان األمري عبد القادر بالرسائل لتقومي مقام بعض الفنون النثرية األخرى‪ ،‬كاخلطابة مثال يف الدعوة‬
‫للجهاد وتوضيح بعض األمور السياسية والدينية‪ ،‬وتوعية الشباب‪ .‬ووضعه أمام الصورة احلقيقة يف هذا‬
‫الصراع بينه وبني العدو‪ ،‬ذلك ألن فن كتابة الرسائل يتشابه مع اخلطابة الفنية‪ ،‬فهو يتفق معها كذلك‬
‫يف الغرض األساسي‪ .‬فكلما كان الغرض األساسي يف بداية ظهورها فقد ينشأ فن الكتابة الدنيوية‬
‫لرعاية أحوال األمة اإلسالمية ومصاحلها‪ .‬إذ كان يستخدم الرسائل يف تسجيل شؤون الدولة الرمسية‬
‫إبان احلرب والسلم‪ ،‬وهذا يتعلق مبصاحل األمة وأحكام الشريعة‪. 1‬‬

‫وهذه بعض مناذج من رسائل األمري عبد القادر إىل قبائل وقادة اجليش حيث جاء مضمون هذه‬
‫الرسائل موحدة‪ ،‬تدور حول فكرة الدعوة للجهاد واحلث عليه من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى تدعو هذه‬
‫الرسائل إىل بعض القبائل بغرض الدعوة للخري واجلهاد‪.2‬‬

‫‪.4‬رسالته ألهل فيجح ‪ 18(:‬شوال ‪ 1211‬هجري الموافق لـ ‪ 1‬فيفري ‪1382‬م) وكان الغرض‬
‫‪3‬‬
‫األساسي هلذه الرسالة أو النداء هو طلب العون وتأديته وتلبية النداء للجهاد يف سبيل اهلل والوطن‪.‬‬
‫ويستهل األمري عبد القادر رسالته حبمد اهلل والصالة والسالم على رسوله الكرمي‪ ،‬مث يتوجه باحلديث‬
‫إىل أشراف هذه القبيلة وأعياهنا وعلمائها‪ .‬يقول‪ ......" :‬أصلحكم اهلل حالكم واستقباال وسدد‬
‫رأيكم ووفقكم إلمارات العصمة ‪ .4 ".......‬وقد رمى األمري عبد من خالل هذه املقدمة إلقاء‬
‫السالم على أهل فجيح ‪ ،‬هادفا إىل إلقاء الطمأنينة يف نفوسهم‪ .5‬فالغرية الدينية والوطنية دفعت‬

‫‪1‬عبد الرزاق بن سبع ‪،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 501‬‬
‫‪2‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.541‬‬
‫‪3‬عبد الرزاق بن سبع ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 509‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 511‬‬
‫‪5‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 410‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫القائد األمري عبد القادر إىل توضيح أبعاد القضية الدينية والوطنية‪ ،‬حيث دفع األمري إىل توضيح أبعاد‬
‫القضية وجتلى األمر يف هذا الصدد "أما بعد فأن الغرية اإلسالمية حتق ألمثالكم واالعرتاضات األنفية‬
‫جتب على قولكم وأفعالكم وكيف ال والعدو الكافر ـ أذله اهلل ـ جال يف بالد املسلمني وصال ‪،‬‬
‫وحراب مدهنم وقصورهم مبساجدها املعدة للغدو واألصال ‪".......‬يعرض األمري بعد هذا الوصف‬
‫حال البالد للحديث عن جهاده وتصديه ملقاومة الظلم والعدوان على الرغم من إمكانياته البسيطة‬
‫إال أنه مل يتوارى ولو حلظة للدفاع عن الوطن وشرف الدين‪ .1‬هذا الدين الذي ارتكز عليه األمري عبد‬
‫القادر وارتضاه سبيال للدعوة هذه القبيلة باعتبار أن العدو كافر داس على كل مقومات هذا الشعب‬
‫ودنس مساجد أذن اهلل أن ترفع ويذكر فيه امسه بالغدو واالصالة‪ .2‬ويلجأ األمري يف رسالته إىل الرتكيز‬
‫على اجلانب العقائدي والديين‪ ،‬فأثرت رسالته بآيات من الذكر احلكيم واألحاديث النبوية اليت تدعو‬
‫كلها وحتث على التعاون والتكافل واإلخوة واجلهاد وبالتايل فإن االعتماد على اجلانب الديين من‬
‫طرف األمري تدل على الذكاء ومدى سعته‪ ،‬فوصف األمري الكثري من األحاديث النبوية وأدق ما‬
‫خيدمه يف اخلطابة من القرآن الكرمي مركزا على اجلانب العقائدي كقوله عن االخوة "إن املؤمنون‬
‫إخوة‪ .".....‬ويؤكد عبد القادر أن دعوته هذه ال خترج عن دعوته الكربى لتوحيد صفوف املسلمني‬
‫وتعزيز الروابط بينهم‪ ،‬زيادة يف قوهتم وهيبتهم ملواجهة العدو املرتبص بديار املسلمني‪3‬ا‪.‬‬
‫وقد يكون أبرز شيء يف هذه الرسالة هو وضوح أهداف األمري فبعد عرضه هلذه القوية يواصل يف‬
‫إبراز عنصر هام يف اجلهاد؛ وهو الشهادة بأن اإلميان يدفع باجملاهدة إىل البسملة يف القتال‪.4‬‬
‫‪.5‬رسالته للوزير مصطفى خازندار (في رجب ‪ 1282‬هجري الموافق لـ ‪1311‬م) أرسلهااألمري‬
‫خياطب الوزير مصطفى خازندار يف شأن قرابة هلم من جهة األم هاجروا إىل تونس أمال أن متنحهم‬
‫السلطات التونسية أرضا زراعية يعيشون فيها‪ ،‬فيقول " فأن يل قرابة من جهة األم هاجروا إىل تونس‬
‫وهم من أشرف العلماء والفقراء فنطلب من سيادتكم أن تشملوهم برمحتكم ‪ .......‬كما هي‬
‫عاداتكم وتنتظرون أرضا يعيشون برعايتها ويستقرون هبا ولكم األجر والشكر من الداعية باخلري‬

‫‪1‬عبد الرزاق بن سبع ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 511‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 514‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 510‬‬
‫‪4‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪. 411‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وسائر األمراء امللة احملمدية" ‪ .1‬واهلدف األساسي من هذه الرسالة كان حمدودا وهو االهتمام‬
‫باجلزائريني املهاجرين إىل تونس وقد لعبت هذه الرسالة وغريها دورا يف تسهيل فرصة العيش الكرمي‬
‫للجزائريني يف تونس‪ ،‬ملا كان حيظوا به األمري من حب وتقدير من طرف اجلميع مباضيه املشرف‬
‫وحاضره النبيل الزاخر باألعمال اجلليلة‪ ،‬اليت مل جيعلها األمري منوطة بتحقيق أغراضه الشخصية بل‬
‫خلدمة أبناءه ووطنه يف مجيع األقطار اليت هاجروا إليها فرارا من العدو وبطشه‪.2‬‬

‫أما النوع الثاين من الرسائل كانت يف زمن احلرب حيث تبادل األمري عبد القادر جمموعة من الرسائل‬
‫مع جنراالت فرنسا وشخصيات غربية وأوروبية‪ ،‬يدور مضمون هذه املراسالت تارة يف السياسة تتعلق‬
‫بشؤون احلرب واملعاهدات‪ ،‬وتارة أخرى ختص بعض القضايا اليت متس عالقات األمري وإمارته مع‬
‫بعض هذه الدول‪ ،‬من طلب العون والعتاد والتدخل لدى فرنسا لوقف عدواهنا‪ .3‬واحلقيقة أن الدراسة‬
‫هلذه الرسائل يكشف أن األمري عبد القادر مفاوض قدير ودبلوماسي حمنك من الطراز األول‪ ،‬خاصة‬
‫وأنه تصدى ملسائل متس وطنه أو عقيدته‪ ،‬ولذلك فهو يسخى كل ما ميلك من براهني وأدلة‬
‫وحكمة‪ ،‬ويعطي كل مقام ما يلزمه من صنوف الكالم‪ ،‬ألنه يعلم بأن هذه املراسالت جزء منه‬
‫ودفاعا عن الدين والوطن‪ .4‬وقد اخرتنا أقوى النماذج تعبريا لدراستها وحتليلها كالتايل‪:‬‬

‫‪ -4‬رسالتهللجنرالدي ميشيل‪ :‬تبادل األمري عبد القادر مع قوات فرنسا خاصة دي مشيل الذي‬
‫نال نصيب األسد من مراسالت األمري لوجوده على رأس القوة املتعدية هذه الفرتة‪ .5‬حيث جاءت‬
‫هذه الرسالة كرد لرسائل دي مشيل السابقة واليت مل جتد رد هلا عند األمري لسبب األعمال اليت قام‬
‫هبا اجليش الفرنسي من ترغيب وترهيب للقبائل وسبب يف ردهتا عن اإلسالم‪ ،‬بالتعامل مع العدو‬
‫الفرنسي وبذلك نالحظ أن هدف هذه الرسالة اليت كتبها األمري عن قضية األسرى الفرنسيني‬
‫املتواجدين عند األمري‪ ،‬فيؤكد يف رسالته عن وصول رسائل خصمه بكل ثقة ويطمئنه عن حال‬
‫األسرى مؤكد له حالتهم اجليدة اليت ضمنها هلم الشرع اإلسالمي‪ 6‬فيقول‪ " :‬فقد وصلنا كتابكم‬

‫‪1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 494‬‬


‫‪2‬عبد الرزاق بن سبع ‪،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ 524‬ـ‪. 525‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 560‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 560‬‬
‫‪5‬عبد الرزاق بن سبع ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.561‬‬
‫‪6‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 491‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫املتضمن أفضل النصائح فقدرناها قدرها وعلمنا أنكم حتثون يف كتابكم الثالثة على اإلفساح عن‬
‫األسرى مع أننا نعتين بشأهنم غاية االعتناء واإلفساح عنهم ليس له أمهية لدينا غري أن احلال اليت حنن‬
‫هبا ال تسمح لنا أن نردهم بدون فدية"‪ .1‬يؤكد األمري من خالل الرسالة عن االستعداد بالتفاهم‬
‫بشأن السالم عادل يرضي كافة األطراف‪ 2‬فقول‪ " :‬فإن رغبتم يف االتفاق قبل تسليم األسرى إليكم‬
‫عند املعاهدة بيننا"‪ .3‬حيث وضح األمري عبد القادر نقطة هامة وهي أنه وتطبيقا لشريعة اإلسالم فلن‬
‫يكون البادئ بالصلح ولكنه لن يرفضه إذا عرض عليه مصدقا لقوله تعاىل‪:‬‬
‫ﭽﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰉﭼ[األنفال‪ ،]64 :‬على أن يكون هذا السلم أو الصلح‬
‫مبنيا على شروط حمرتمة‪ ،‬تكفل لكل طرف حقه وكرامته‪ .‬ويف األخري ميكن أن نستنج أن األمري عبد‬
‫القادر عرب يف هذه الرسالة على قوته يف التخاطب واستعداده إلطالق سراح األسرى ضمن شروط‬
‫ممكنة وليست باملستحيلة تضمن الرضى لكل األطراف‪ ،‬ومل يفكر األمري يف اجلنوح للسلم إال بعد‬
‫إحلاح من طرف اخلصم‪ ،‬إذن ختتلف هذه الرسالة عن غريها يف هلجتها املباشرة اخلالية من الثناء‬
‫احلاملة لروح احلرب وقوة املواقف‪.4‬‬

‫مل يكتف األمري عبد القادر مبراسلة الفرنسيني فقط بل راسل ملوك وحكام األخرين معرفا بقضيته‬
‫وجهاده املشروع فاضحا للعدو جتاوزاته طالبا املد والدعم‪ ،‬هادفا إىل كسب الرأي العام‪ .‬وقد اخرتنا‬
‫منوذج من هذه املراسالت اليت تعود لألمري عبد القادر‪:‬‬

‫‪ -5‬رسالته لملكةإسبانياإيزابيالالثانية (‪ 45‬جمادى األولى ‪ 4520‬هـ الموافق لـ ‪51‬‬


‫أفريل‪ 1388‬م) حرص األمري على مصاحلة اجلميع فتوجه هبذه الرسالة مللكة إسبانيا خماطبا إياها‬
‫بعد احلمد والصالة على سول اهلل ‪‬وأتباعه مستهال رسالته بعبارة من أمري املسلمني ليؤكد للملكة‬
‫أنه املتحدث باسم شعبه قائدا لألمارة واجلهاد فيقول إىل امللكة العظيمة ‪ 5‬قائال ‪":‬من ملك املسلمني‬
‫املسلمني عبد القادر بن حمي الدين إىل جاللة ملكة إسبانيا من مسلم به لدى مجيع الناس أن‬

‫‪1‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬حتفة الزائر ‪،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.411‬‬
‫‪2‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 491‬‬
‫‪3‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬حتفة الزائر ‪،‬املرجع نفسه ‪،‬ص ‪.411‬‬
‫‪4‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 491‬‬
‫‪5‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 491‬‬

‫‪43‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫اإلسبان أمة قوية وقديرة مشهورة بأعماهلا الكبرية منذ أزمنة بعبدة وبناء على وضعيتهم هذه مبقدورهم‬
‫مالحظة مقاومتنا ضد الفرنسيني والوضعية اليت أنزلونا إليها وإذ ليس من الفائدة إطالقا أن حنكي‬
‫ونقص جلاللتكم تفاصيل هذه املقاومة وما حدث وما مضى منذ عدة سنوات بيننا ألننا ال نشك‬
‫‪1‬‬
‫بأنكم على علم بذلك مثلنا‪".‬‬
‫‪2‬‬
‫أغراضمراسالتاألميرعبدالقادر‪:‬متحورت رسائل األمري على ما يأيت‪:‬‬

‫‪4‬ـ الدعوة إىل اجلهاد واحلث علي مقاومة العدو ‪ ،‬وهي املراسالت اليت كان يبعثها األمري عبد القادر‬
‫إيل خلفائه وقواد اجليشة ورؤساء بعض القبائل ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ طلب الدعم والتأييد والعون باسم األخوة اإلسالمية‬

‫‪ 0‬ـ التشاور وتبادل اآلراء مع الرؤساء وسلطني ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ توضيح موقفه وموقف اإلسالم من أحداث فتنة دمشق يف رسالته ‪.‬‬

‫‪1‬عبد الرزاق بن سبع ‪ ،‬األمري عبد القادر اجلزائري وأدبه ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪. 512‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 501‬‬

‫‪43‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المطلب الثاني‪ :‬دعوة األمير إلى التعليم‬

‫كان األمري عبد القادر عاملا فذا ومصلحا اجتماعيا كبريا بشهادة أعدائه فإنه مل تشغله رسائله احلربية‬
‫والتحررية عن أن ينظم البالد إداريا ويكون يف الشعب روح التحرر من اجلهل كما بعث فيه محاس‬
‫التحرر من االستعمار‪ ،1‬ولقد أدرك األمري من أول مرة أن اجناح املعرك احلربية يتوقف على انتشار‬
‫الوعي القومي يف خمتلف الطبقات‪ ،‬والوعي القومي عبارة عن فشو الثقافة وانتشارها‪ 2‬حيث اهتم‬
‫األمري عبد القادر خالل بناء دولته اهتماما كبريا بالتعليم والعلم فيعد التعليم والعلم بالنسبة لألمري‬
‫نشاطا أساسيا للنهضة وذلك من خالل ما يأيت‪:‬‬

‫أ‪ -‬بناء المدارس‪ :‬انتبه األمري إىل أمهية التعلم وخاصة بعد أن الحظ اجلهل املخيم على املسلمني‬
‫وأدرك أن القوة املادية وحدها عاجزة عن تبليغ رسالته اإلصالحية فأخذ على عاتقه بعث روح التحرر‬
‫من اجلهل يف شعبه‪ ،‬وهلذا مل يغفل عن إنشاء املدارس يف أحناء الوطن لكي يتعلم فيها الشباب إىل‬
‫جانب املساجد والزوايا املنتشرة يف البالد‪ 3،‬حيث أسس األمري منذ البداية نظاما للتعليم العام بني‬
‫مجيع القبائل‪ ،‬وقال فيه‪" :‬واجيب كحاكم ومسلم أن أؤيد بعض العلوم والدين لذلك فتحت املدارس‬
‫يف املدن وبني القبائل" ويف هذه املدارس كانوا يتعلمون الصلوات وحيفظون تعاليم القرآن وفروضه‬
‫ويعرفون جيدا القراءة والكتابة واحلساب‪ .4‬كانت املراحل التعليمية عند األمري عبد القادر أساسها‬
‫القرآن الكرمي يف كل املستويات التعليم‪ .5‬وقد بلغ عدد املدارس اليت بناها األمري عبد القادر يف‬
‫تلمسان وحدها ‪ 21‬مدرسة ابتدائية ومعهدان كبريان للتعليم الثانوي والعايل ومها‪ :‬مدرسة اجلامع‬
‫األعظم ومدرسة أوالد اإلمام وهذا يدل على أن التعليم كان منتشرا جدا وحيتل املقام األول يف دولة‬
‫األمري الذي أوىل عنايته باملدارس واملساجد والزوايا‪.6‬‬

‫‪1‬حيي بوعزيز ‪ ،‬رائد الكفاح املسلح ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 411‬‬


‫‪2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 411‬‬
‫‪3‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 411‬‬
‫‪ 4‬شارل هنري ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬تقدمي أبو القاسم سعد هلل ‪ ،‬الدار التونسية لنشر ‪ ،‬تونس ‪ ، 4911 ،‬ص ‪. 425‬‬
‫‪5‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 425‬‬
‫‪6‬حيي بوعزيز ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ 411‬ـ ‪. 414‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ب‪ -‬تشجيع العلم‪ :‬لقد دعم األمري عبد القادر العلم وجعل التعليم جمانا لرغبة بعض الطلبة اجملتهدين‬
‫يف مواصلة دراستهم حيث خصص األمري عبد القادر رواتب للطبلة على حسب معارفهم ودرجاهتم‪،‬‬
‫وأدرك األمري عبد القادر أن العلم هام جدا فعمد على تشجيعه ودعم الطالب بالعلم واملعرفة‪.1‬‬
‫لقد كان األمري عبد القادر مؤمنا بضرورة التعليم وهو يقول‪ " :‬يف كل علم نافع أن يف املعاد أو يف‬
‫املعاش‪ ،‬أو الكمال اإلنساين إذ كل علم يفيد النظر عقال مزيدا ومجيع العلوم للصناعة والنظرية تفيد‬
‫عقال" ويقول أيضا ‪" :‬نتائج األفكار ال تقف عند احلد وتصرفات العقول ال هناية هلا" ‪ .2‬فقد كان‬
‫األمري هو من املنشغلني بالعلم والتعليم ويدرك أن العلم والثقافة عنصر أساسي يف بناء اجملتمع ومن‬
‫أجل هذا كان يتسامح يف تعامله مع طلبة العلم فيعفيهم من الضرائب ويكافئ اجملتهد منهم مكافآت‬
‫نقدية وعينية سخية وله أقوال يف هذا الصدد تبني مدى اهتمامه بطالب العلم‪ ،‬فكان يقول‪" :‬أشعر‬
‫شعورا قويا بأمهية العلم لدرجة أين عفوت مرات عديدة عن بعض الطلبة الذين استحقوا املوت"‪.3‬‬
‫وميكن اعتبار األمري عبد القادر هلذه الصنيعة احملددة الدينية للقرن الثالث عشر يف املغرب العريب‬
‫حيث أنه كان رجل السيف والقلم معا‪ ،‬واجملاهد الذي احنىن له لواء اجلهاد والعلم يف وقت واحد‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي كان جياهد فيه العدو الغريب واحملتل الفرنسي كان يقدم برنامج اإلسالمي‬
‫اإلصالحي يف جمال الرتبية والتعليم وينشر الفكر والثقافة بني أهل البالد‪.4‬‬
‫جـ‪ -‬جمعالكتبوالمحافظةعليها‪ :‬ومن النشاط الدعوي الذي قام به األمري عبد القادر والذي بذل‬
‫فيه قصارى جهده هو مجع الكتب واحملافظة على املخطوطات من الضياع‪5‬؛ حيث أنه كان يقدر‬
‫جيدا الزمن الذي يلزم لكتابة نسخة واحدة فاحلفاظ عليها أفضل من بذل ذلك اجملهود الذي ميكن‬
‫توجيهه ملساعي جديدة وعلوم جديدة‪ .‬وملا علم جنوده مبدى اهتمام األمري هبذا املوضوع فقد حرصوا‬
‫على مجع املخطوطات أثناء الغزوات‪ .6‬فنظم األمري عبد القادر مكتبة كبرية يف الزمانة‪.7‬‬

‫‪1‬هنري تشرشل ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 425‬‬
‫‪2‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 041‬‬
‫‪3‬بركات حممد مراد ‪ ،‬األمري عبد القادر اجملاهد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 51‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 51‬‬
‫‪5‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ 041 ،‬ـ ‪. 049‬‬
‫‪6‬هنري تشرشل ‪ ،‬مرجع سابق ‪ 425 ،‬ـ ‪. 420‬‬
‫‪7‬حيي بوعزيز ‪ ،‬رائد الكفاح املسلح ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 414‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المطلب الثالث‪ :‬دور الخطبة في النشاط الدعوي لألمير عبد القادر ‪.‬‬

‫بعد اجلهود العظيمة واملساعي الكبرية اليت بذهلا السيد حميي الدين يف حماولته للتصدي للمحتل‬
‫الفرنسي وقيادة القبائل للجهاد يف سبيل اهلل من أجل الدفاع عن الوطن واسرتدادها من بني أيادي‬
‫املستعمر الغاصب؛ رأى الناس بأمهية مبايعته ليكون قائدهم يف حرهبم ضد املستعمر الغاصب‪ ،‬ولكنه‬
‫اعتذر بكرب سنه‪ ،‬مما جعل األعني تلتف حول ابنه عبد القادر ملا وصله من قوة وشدة بأس وقوة‬
‫احلجة‪ ،‬مما دفع باملواطنني للتفكري يف مبايعته لقناعتهم بقدرته على ذلك‪ ،‬وذلك بعد أن أشار عليهم‬
‫السيد حمي الدين بأن يقوموا مببايعة ابنه األمري عبد القادر‪ ،‬وكان قد اتفق مع األهايل على أن يكون‬
‫موعد عقد موافقا لـ ‪51‬نوفمرب‪4105‬م وفيما كان حمي الدين جالسا مع بعض من ضيوفه حتت‬
‫شجرة الدردار مل يفاجأ سكان مناطق غريس بقدوم زعماء مناطق بعيدة إذ كثريا ما كانوا يأتون‬
‫لالجتماع بالشريف حميي الدين يف هذا املكان‪ ،‬وجيلسون حتت الدرارة للتشاور معه أو لعقد ندوات‬
‫فقهية أو حلل مشكلة اجتماعية وعندما علموا أن اجنل الشريف حميي الدين مرشح سلطانا على البالد‬
‫كربوا بأعلى أصواهتم "اهلل أكرب"؛ فلم يعرتض أحد عن الفكرة وذلك لكون عبد القادر شاب قوي‬
‫على درجة عالية من العلم وفارس شجاع‪ ،‬وسيم الطلعة‪ ،‬شريف النسب‪ ،‬كرمي ومتواضع‪ ،‬ومعظم‬
‫غص املكان بوفود زعماء‬ ‫القبائل تكن لسيدي حمي الدين وأوالده حمبة واحرتاما‪ ،‬وبعد ساعات ّ‬
‫القبائل وأعيان املدن واألشراف والعلماء وزعماء القبائل الشرقية والغربية‪ ،‬عطاف وسنجاس‬
‫وبنوالقصريومرابطواجباية ومجيع بنو خديد وبنو العباس وعكرمة وفليتةواملطاملية وجماهر والربجية والدوائر‬
‫والزمالة والغرابة واليعقوبية وخيموا يف مناطق أرحية من مناطق غريس حول شجرة الدردار وكان جيلس‬
‫يف ظلها بصدر املكان الشريف حميي الدين وحوله ابنه األمري عبد القادر وإخوانه ومجوع الوفود الوافدة‬
‫لعقد البيعة األوىل‪.‬‬

‫جلس عبد القادر إىل جانب والده وإخوته الذين علت وجوههم ابتسامة الرضا ألن كال منهم كان‬
‫يدرك أن شقيقهم عبد القادر كان أكثرهم شجاعة وقوة حتمل وكانوا حيبونه ويفخرون به‪ ،‬ومل يبد أي‬
‫منهم اعرتاضا على اختيار أبيهم له وعندما اكتمل هذا االجتماع التارخيي تقدم الوالد من عبد القادر‬
‫مبايعا وشد على يده قائال‪ :‬كيف ستحكم البالد ي ولدي‪،‬؟ أجاب عبد القادر‪ :‬بالعدل واحلق‬
‫الذي أمر به رب العاملني‪ ،‬سأمحل القرآن بيد وعصا من حديد بيد أخرى‪ ،‬وسأسري على هدي كتاب‬
‫اهلل وسنة رسوله‪ ،‬مث التفت الوالد سيدي حميي الدين خماطبا اجلموع قائال هلم‪ :‬إنه ناصر الدين عبد‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫القادر بنمحيي الدين لقب ليس سلطانا وال ملكا وإمنا أمريا عليكم أيها األخوة املؤمنون‪ ،‬مث تقدمت‬
‫عائلته تشد على يده مبايعة وتالهم األعيان ورؤساء القبائل حسب مراكزهم والعلماء واألشراف وكل‬
‫من حضر ذلك االجتماع التارخيي العظيم‪.‬‬

‫قبل مغادرة تلك اجلموع املكان وقف الشريف حميي الدين فيهم إماما وصلى صالة العصر وبعد أن‬
‫صلى ركعتني صالة االستخارة اقرتح أن يكون التوقيع على نص املبايعة يف مسجد احلسن يف عني‬
‫البيضاء‪ ،‬فوافق اجلميع ملا هلذا املسجد من مكانة تارخيية حافلة باألجماد‪.‬‬

‫ويف يوم املبايعة ويف املوعد احملدد وبعد صالة الفجر انطلقت عائلة الشريف حميي الدين من القيطنة‬
‫على منت جيادهم مالقني زعماء القبائل يف املسجد‪ .‬وما إن وصل الشريف حميي الدين وإىل جانبه‬
‫أوالده املسجد جلس منتظرا دخول رؤساء القبائل اجلزائرية‪.‬‬

‫وبعد اجتماع اجلميع وقف عبد القادر بن حميي الدين ويف عينيه بريق العزم واإلخالص واإلميان وقد‬
‫‪1‬‬
‫تزمل برداء اهليبة ليلقي أحد أهم خطبه وهي خطبة البيعة األوىل‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخطبة‪:‬‬

‫خاطب األمري عبد القادر بن سيدي حمي الدين زعماء القبائل واألعيان وممثلي العشائر والعلماء‬
‫فقال‪":‬بعد ذكر اسم اهلل الرمحن الرحيم والصالة على رسوله ‪ -‬مث بادرهم بقوله‪ -‬إنين لست أفضلكم‬
‫خلقا وشجاعة وحكمة‪ ،‬ومل خيطر يل هذا املنصب يوما ولكنين أجربت عليه كما تعلمون فهو‬
‫مسؤولية أمام اهلل وأمامكم‪ ،‬أرجو منه تعاىل التوفيق والعون لتطهري البالد من الغزاة ورفع راية اإلسالم‬
‫عالية يف مساء بالدنا‪ ،‬فاإلسالم هو الذي وح ّد قبائلنا بعد شتات وجعلها قوة ال تقهر‪ ،‬تدفعنا ميادين‬
‫اجملد والشرف وجعلنا إخوة حيب أحدنا ألخيه ما حيب لنفسه وال فرق بني عريب وأعجمي وال أبيض‬
‫وال أسود إال بالتقوى‪ ،‬وأمرنا بالعدل واملساواة وإذا عدنا إىل التاريخ اجند كل من دخل هذه البالد‬
‫غازي من رومان وفاندالوإسبان هزمتهم قوة بأس وشجاعة األجداد‪ ،‬وكان هدف غزوهم لبالدنا‬
‫إخضاع شعوبنا وإذالهلا وهنب خريات بالدنا لزيادة رفاهية شعوهبم والذين حالف النصر أعالمهم من‬

‫‪1‬ينظر‪:‬حممد علي الصاليب‪ ،‬سرية األمري عبد القادر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.441-419‬‬

‫‪48‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫الفاحتني محلوا إىل هذه البالد حضارة إهلية‪ ،‬وشيدوا صروحا من القيم باقية إىل األبد ال ينضب معينها‬
‫ودخلوا هذه البالد‪1.‬لتكون دعوة اإلسالم حرة فيها‪.‬‬

‫ﭧ ﭨ ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭼ[األنبياء‪ .]411 :‬ومدينة راقية ال تزال‬


‫آثارها تشهد عليها يف مدننا يف فاس‪ ،‬وقرطبة‪ ،‬وغرناطة‪ ،‬وإشبيلية‪ ،‬ويف وهران‪ ،‬وقسنطينة‪ ،‬إخويت يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬أيها السادة زعماء القبائل والعلماء أيها اجملاهدون من أبناء هذا الوطن العظيم سنكون‬
‫أقوياء سندافع عن الراية والرسالة اليت محلها لنا طارق بن زيد وموسى بن نصري وسيظل ارتباطنا وثيقا‬
‫بدولة اخلالفة العثمانية ارتباطا روحيا بنظامها اإلسالمي‪ ،‬ولن نكون جاحدين ألعمال األخيار من‬
‫الوالة يف خدمة اإلسالم وحماربتهم لقوى الشر يف بالدنا ولن خترج دولتنا عن طاعة اخلليفة‪ ،‬ولن‬
‫نكون عونا ألعدائها عليها‪ ،‬وكما قال والدي‪ :‬هذا املنصب الذي اخرتتَوين له لن يكون متوارثا‬
‫وأرفض لقب سلطان أو ملك ﭧ ﭨ ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ[التوبة‪ ..]459 :‬والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫تحليل الخطبة‬

‫‪ .1‬البعد الروحي لخطبة األمير عبد القادر‬

‫لقد كان خلطبة األمري عبد القادر أثرا بالغا يف نفوس املستمعني‪ ،‬حيث أنه وملا فرغ من خطبته جعل‬
‫احلاضرين مبسجد احلسن يف عني البيضاء يرددون "اهلل أكرب" "اهلل أكرب"‪ ،‬وميكن القول بأن قوة ردة‬
‫الفعل اإلجيابية على خطبة األمري عبد القادر إىل بالغ تأثري العبارة املستخدمة يف اخلطبة وقوة األقناع‪.‬‬
‫كما ويرجع اجناح األمري عبد القادر يف اقناع احلاضرين خلطبته األوىل إىل ثقافته وتفقهه يف الدين‬
‫واستخدامه لعبارات قوية ومؤثر واستعانته بفن اخلطابة واألساليب واملناهج اليت استقاها من خالل‬
‫حياة التزهد والتفقه يف الدين اليت نشأة عليها منذ طفولته ‪.‬‬

‫‪1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.444‬‬

‫‪40‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ .2‬دعوة األمير عبد القادر لجموع الحاضرين من خالل خطبة بيعته األولى ‪:‬‬
‫الدعوة للتمسك بدين اهلل‬ ‫‪-‬‬
‫الدعوة للجهاد‬ ‫‪-‬‬
‫الدعوة إىل املساوات والعدالة‬ ‫‪-‬‬
‫الدعوة إىل طاعة أوىل األمر‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬الدعوة إىل التوحد ونبذ التفرقة‬

‫بدأ األمري عبد القادر اخلطبة مبا كان يبدأ به اخللفاء الراشدين خطبهم؛ فقال‪" :‬إنين لست أفضلكم‬
‫خلقا وشجاعة وحكمة‪ ،‬ومل خيطر يل هذا املنصب يوما ولكنين أجربت عليه كما تعلمون فهو‬
‫مسؤولية أمام اهلل وأمامكم"‪ .‬كما قال أبو بكر الصديق حني توىل اخلالفة بعد وفاة الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪" :‬أال إين قد وليت عليكم ولست خبريكم"‪ .‬وهذه إشارة منه على النهج الذي سيتبعه يف‬
‫ويل عليهم‪.‬‬
‫والية أمر املسلمني من السري على هنج صحابة رسول اهلل يف تسيري أمور من ّ‬
‫مث يذكر األمري عبد القادر اهلدف والسبب الرئيس الذي من أجله توىل أعباء هذه املسؤولية العظيمة‪،‬‬
‫وهي ِّرد العزاة الطامعني ورفع الظلم عن الناس‪ ،‬وملِّ شتات املسلمني وتوحيد الكلمة والصف من أجل‬
‫املواجهة‪ ،‬ويقول يف ذلك‪" :‬أرجو منه تعاىل التوفيق والعون لتطهري البالد من الغزاة ورفع راية اإلسالم‬
‫عالية يف مساء بالدنا‪ ،‬فاإلسالم هو الذي وح ّد قبائلنا بعد شتات وجعلها قوة ال تقهر‪ ،‬تدفعنا ميادين‬
‫اجملد والشرف وجعلنا إخوة حيب أحدنا ألخيه ما حيب لنفسه وال فرق بني عريب وأعجمي وال أبيض‬
‫وال أسود إال بالتقوى"‪ .‬وهذه الوحدة اليت ينشدها األمري عبد القادر ال تنحصر يف فئة معينة وال‬
‫تقتصر على عرق دون آخر فال فرق بني عريب وعجمي عنده إال بالتقوى‪ ،‬وهو مبدأ قرره خري الربية‬
‫سيدنا حممد ‪‬يف خطبة الوداع حني قال‪" :‬ال فرق بني عريب وال عجمي إال بالتقوى"‪.‬‬

‫ويقرر األمري عبد القادر أمرا من أمور احلكم وأساسا ال غىن عنه لتحقيق ما يسعى إليه وهو العدل‪،‬‬
‫فيقول‪" :‬وأمرنا بالعدل واملساواة"‪ .‬فالعدل أساس احلكم وميزانه ودعامته اليت يستند إليها‪.‬‬

‫وبعد ذلك يشري األمري إىل التاريخ النضايل للشعب اجلزائري فهذه األرض تعرضت على مر العصور‬
‫واألزمان لطمع الغزاة‪ ،‬فما كان من أهلها األحرار إال أن وقفوا يف وجههم وردوا املعتدين بشجاعة‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وقوة‪ ،‬ويقول يف ذلك‪" :‬وإذا عدنا إىل التاريخ اجند كل من دخل هذه البالد غازي من رومان‬
‫وفاندالوإسبان هزمتهم قوة بأس وشجاعة األجداد‪ ،‬وكان هدف غزوهم لبالدنا إخضاع شعوبنا‬
‫وإذالهلا وهنب خريات بالدنا لزيادة رفاهية شعوهبم"‪ .‬فالتاريخ يعيد نفسه واملطلوب من أهل هذه‬
‫استكمال املسرية يف املقاومة واجلهاد واحلفاظ على األرض اليت بذل األجداد الغايل والنفيس من أجل‬
‫حريتها وحفظ كرامة أهلها‪ .‬وهنا حياول األمري عبد القادر أن يستنهض اهلمم ويثري محاسة الناس ومن‬
‫اجتمع لبيعته من أجل اجلهاد‪ ،‬وهو يف الوقت نفسه إعالن عن النهج واملصري الذي قرره األمري لنفسه‬
‫وملن التف حوله من الناس بأن اخليار األفضل هو املقاومة واجلهاد وبغري املقاومة لن حتفظ الكرامة‬
‫ولن تصان األرض‪.‬‬

‫وبعد ذلك يذ ّكر األمري الناس بأن الفتح اإلسالمي الذي شهدته هذه األرض هو فتح هداية ورمحة‬
‫كرمنا اهلل هبا لنكون أخوة يف اإلسالم؛ إذ يقول‪"" :‬والذين حالف النصر أعالمهم من‬
‫ورسالة عاملية ّ‬
‫الفاحتني محلوا إىل هذه البالد حضارة إهلية‪ ،‬وشيدوا صروحا من القيم باقية إىل األبد ال ينضب معينها‬
‫ودخلوا هذه البالد لتكون دعوة اإلسالم حرة فيها‪ ،‬ﭧ ﭨ ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﭼ[األنبياء‪ .]411 :‬ومدينة راقية ال تزال آثارها تشهد عليها يف مدننا يف فاس‪،‬‬
‫وقرطبة‪ ،‬وغرناطة‪ ،‬وإشبيلية‪ ،‬ويف وهران‪ ،‬وقسنطينة‪ ،‬إخويت يف اإلسالم"‪.‬‬

‫وعليه جيب أن حنافظ على هذه الدعوة ونسري على هنج اإلسالم الذي كرمنا اهلل به‪ ،‬فندافع عن‬
‫مبادئنا اليت استقيناها من ديننا احلنيف فال نفرط هبا‪.‬‬

‫مث يتوجه األمري عبد القادر إىل اجلمع الغفري من الناس من زعماء وعلماء وجماهدين من أبناء اجلزائر‬
‫فيذكرهم بالرسالة اليت جيب أن يستكملوها وحيملوا لواء اإلسالم الذي محله الفاحتون العظماء إليهم‪،‬‬
‫مثل‪ :‬طارق بن زياد‪ ،‬وموسى بن نصري‪ ،‬ويقول يف ذلك‪" :‬أيها السادة زعماء القبائل والعلماء أيها‬
‫اجملاهدون من أبناء هذا الوطن العظيم سنكون أقوياء سندافع عن الراية والرسالة اليت محلها لنا طارق‬
‫بن زيد وموسى بن نصري"‪.‬‬

‫ويؤكد األمري عبد القادر يف هناية خطبته االرتباط الوثيق الذي ال انفصام له‪ ،‬وهو اخلالفة اإلسالمية‬
‫اليت جتمع مشل املسلمني يف مجيع أصقاع األرض‪ ،‬فال خروج على اخلليفة‪ ،‬فيقول‪" :‬وسيظل ارتباطنا‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وثيقا بدولة اخلالفة العثمانية ارتباطا روحيا بنظامها اإلسالمي‪ ،‬ولن نكون جاحدين ألعمال األخيار‬
‫من الوالة يف خدمة اإلسالم وحماربتهم لقوى الشر يف بالدنا ولن خترج دولتنا عن طاعة اخلليفة‪ ،‬ولن‬
‫نكون عونا ألعدائها عليها"‪.‬‬

‫وخيتم األمري خطبته برفضه ان يكون منصب اإلمارة اليت بايعه الناس عليها منصبا متوارثا كما يرفض‬
‫أي لقب كسلطان أو ملك‪ ،‬فهو ينظر إىل هذه اإلمارة على أهنا تكليف من الناس للقيام بأعباء‬
‫اجلهاد ورفع راية اإلسالم‪ ،‬فهي ليست منصب رئاسة وتشريف له بل هي مهمة يطلب من اهلل أن‬
‫يعينه عليها ويسدد خطاه على الطريق الصحيح‪ ،‬ويقول يف ذلك‪ " :‬وكما قال والدي‪ :‬هذا املنصب‬
‫الذي اخرتتَوين له لن يكون متوارثا وأرفض لقب سلطان أو ملك ﭧ ﭨ ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ[التوبة‪.]459 :‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المبحث الثالث‪ :‬المنهج الدعوي لألمير عبد القادر‬


‫كان األمري عبد القادر متأثرا مبآثر السلف الصاحل نظرا لرتبيته الدينية‪ ،‬وكان يدعوا وحياول جاهدا‬
‫االقتداء هبم‪ ،‬فكان معجبا أشد إعجاب باخلليفة الفاروق عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه يف عدالته‬
‫ويف اختالطه برعيته‪.1‬‬

‫هذا ما اشار اليه يف شعره هباذين البيتني‪:‬‬

‫وقد سرت فيهم سرية عمرية‬

‫وأسقيت ظميها اهلداية فارتوي‬

‫وإين أرجو أن أكون أنا الذي‬


‫‪2‬‬
‫ينري الدياجيبأمتنابعدما لوى‬

‫المطلب األول‪ :‬الدعوة األمير عبد القادر للعبادة‬

‫تعد العبادة الوسيلة الوحيدة اليت تكفل يف اجلانب الروحي من حياة االنسان لتطهري النفوس وتنقيتها‬
‫من الشوائب حىت تسري وفق العقيدة ولتسمح بالنهوض بالواجبات‪ 3.‬حيث تفرغ األمري عبد القادر‬
‫للعبادة واحللقات العلمية يف مدة إقامته بدمشق كان متفرغا للصالة والذكر‪.4‬‬

‫فأثر الصالة مثال أثر ورحي تطيب به النفس املتعبدة‪ ،‬وتصل خبالقها وتواجهها إىل مراقبة سلوكها‬
‫ونزعتها‪ ،‬حىت تسود املعاين اإلنسانية يف حياة املؤمنني‪ .5‬هلذا كان األمري عبد القادر يلزم الناس حبضور‬
‫الصلوات اخلمس يف املساجد‪ ،‬لتعويدهم على هذه الرياضة الروحية اليت تدعو إىل طاعة اهلل وأوامره‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد ‪،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.004‬‬
‫‪2‬نصر الدين سعدوين ‪ ،‬عصر األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪. 446‬‬
‫‪3‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.556‬‬
‫‪4‬حممد بن حممد الصاليب ‪ ،‬سرية األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.541‬‬
‫‪5‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص‪.056‬‬

‫‪43‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫ونواهيه‪ ،‬حني يستقبل املصلي ربه طاهرا بعد أن أزال على جسده اجناسة البدن والثوب واملكان‪،‬‬
‫لتكون هبا النفس صاحلة صافية‪ ،‬إن الصالة تنهى بذلك عن الفحشاء واملنكر وتأمر باملعروف‪،‬‬
‫فالصالة عماد للدين‪.1‬‬

‫فإذا حضر وقت الصالة وأذن املؤذن خيرج األمري فيصلي هبم إماما ويعاقب كل من ختلى عن صالة‬
‫اجلماعة بغري عذر‪.2‬‬

‫اقتدى األمري بالعمالت اليت كانت موجودة بدولة االسالم إذ كان إذا بقي التاجر يف دكانه وقت‬
‫‪3‬‬
‫الصالة جتلد الشرطة حىت ال يعود إىل إمهاهلا‪ ،‬فالصالة هي عماد الدين كما سبق وأن ذكرنا‪.‬‬

‫ﭧ ﭨ ﭽﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ[األنفال‪]51 :‬‬

‫فإهتم األمري عبد القادر كثريا بالصالة حىت إنه كان يتوىل اإلمامة يف األماكن اليت يقوم بزيارهتا‪ ،‬وإن‬
‫صادف يوم اجلمعة حيثهم يف خطبه عن فضائل الصالة ودورها‪ 4.‬وهلذا إهتم باملساجد كثريا اليت‬
‫كانت على عهد احلروب خيم كبرية هبا مطاب تعقد هبا الندوات الدينية‪ ،‬ورغم ظروف احلرب حرص‬
‫األمري على الصالة ألهنا تعلم اجلميع كيفية احملافظة على أكاهنا وشروطها وعلى إخالص النية فيها‬
‫قبل كل شيء‪ ،‬فمن خيلص النية يف الصالة خيلص على أعداء اهلل داخل نفسه وخيلصها ليكون قادرا‬
‫‪5‬‬
‫على مواجهة أعداء اهلل يف اخلارج‪.‬‬

‫فالصالة كانت ومازالت مرتبطة بالعبادات األخرى كاجلهاد‪ ،‬فمن غري املعقول أن يرتك اجملاهد‬
‫صلوات وتقبل منه الشهادة‪ ،‬ألن اجلهاد احلق يتطلب إميانا عميقا‪ ،‬ومتواصال باهلل سبحانه وتعاىل‪،6‬‬
‫كما أن أول أبواب اجلهاد هي جهاد النفس‪.‬‬

‫‪1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 051‬‬


‫‪2‬حممد بن عبد القادر ‪ ،‬حتفة الزائر‪ ،‬ج ‪ ، 4‬مرجع سابق ‪،‬ص‪-544‬ـ‪.545‬‬
‫‪3‬عائشة بن ساعد ‪،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 051‬‬
‫‪4‬أبو القاسم سعد اهلل ‪،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.422‬‬
‫‪5‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 051‬‬
‫‪6‬املرجع نفسه ‪،‬ص ‪. 051‬‬

‫‪43‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الدعوة لالبتعاد عن المحرمات‬

‫كانت دولة اإلسالم وتبقى دولة عقائدية‪ ،‬مهمتها احملافظة على األخالق اإلسالمية عن طريق إرشاد‬
‫وتوجيه األفراد‪ ،‬فدولة اإلسالم مل تقتصر يف وظائفها على األعمال الدنيوية بل أيضا على أعمال‬
‫االخرة‪ .‬بالرجوع إىل ما يأمر به الشرع اإلسالمي وهلذا يبقى اإلصالح كمصطلح كضرورة دائمة لتقومي‬
‫‪1‬‬
‫اجملتمع‪.‬‬

‫هذا ما ذهب إليه األمري عبد القادر اجلزائري من خالل اإلصالح ودعوة شعبه‪ ،‬وقد عمد على إتباع‬
‫سلوبني يف عمله الدعوي ألبناء شعبه‪:‬‬

‫أوال‪ :‬هادي بالنهي عن طريق التأمل والفصاحة والدهاء وصواب الرأي‪ ،‬حلمل خصومه على طريق‬
‫هادئ‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬بالرتهيب حني جيد املخالفة والتعنت والعصيان‪.‬‬

‫يقول صاحب حتفة الزائر‪" :‬ومن العجب أن متكن إمارهتم كانت بقوتني قوة رغبة وقوة رهبة‪ ،‬إال أن‬
‫القوة االوىل كانت هي املعول عليها‪.2 "......‬‬

‫يعود األمري للجوهرة لتطبيق قانون الشرعي دون رفض القانون الوضعي الذي قد حيقق املنفعة لألمة‪،‬‬
‫فاالجتهاد املعتمد على العقل واحلكمة والتكيف واملرونة مع كل املواقف اليت ختص الفرد واجملتمع هام‬
‫جدا وهذا ما سعى إليه األمري برتبية شعبه وهتذيبه أخالقيا‪ ،‬من خالل بعض األحكام اليت أصدرها‬
‫خبصوص بعض احملاذير واحملرمات وأمهها‪:3‬‬

‫‪.4‬منع المحرمات ومحاربة اآلفات‪ :‬لقد سعى األمري عبد القادر من أجل إصالح جمتمعه‪ ،‬إىل‬
‫جتنب ارتكاب احملرمات وعقوبة من يرتكب هذه احملرمات من خالل إرشادهم وإصالحهم إىل الطريق‬
‫الصحيح‪ .‬فعلى سبيل املثال‪:‬‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.050‬‬
‫‪2‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬حتفة الزائر ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪. 551‬‬
‫‪3‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 050‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫‪ ‬عقوبة معاقرة الخمور والقمار واستعمال التبغ‪ :‬رأى األمري أن إصالح اجملتمع ال يأيت فجأة بل‬
‫عليه إصالح الفرد بتعريفه بذاته وبناءها‪ ،‬فيقول يف موقفه‪" :‬إن كل من مل يسلك طريق ويتحقق‬
‫بعلومهم حىت يعرف نفسه ال يصح إخالص ولو كان أعبد الناس وأروعهم وأزهدهم وأشهدهم هروبا‬
‫من اخللق واختفاء وأكثرهم تدقيقا وحبثا عن دسائس النفوس وخفايا العيوب فإن رمحة اهلل مبعرفة‬
‫النفس صح له اإلخالص"‪ 1.‬وقد منع األمري عبد القادر أيضا الناس من التدخني وفرض عقوبات‬
‫صارمة على شاريب اخلمور والعيب القمار‪ ،2‬حيث كان يقول يف هذا الصدد‪ " :‬أما اخلمر وامليسر فقد‬
‫منعتهما متاما كما منعت التدخني ليس معىن ذلك أن ديننا مينع التدخني ولكن جنودي كانوا فقراء‬
‫‪3‬‬
‫ولذلك كنت حريصا على أن أبعدهم عن عادة معروفة بزيادة الفقر"‪.‬‬
‫‪ ‬قضاء على الزنى والسرقة‪ :‬لقد فسر لنا األمري عبد القادر يف موقفه آية مهمة قال تعاىل‪:‬‬
‫"أفرأيت من اختذ إاله هوى واضله اهلل على علم" (صورة اجلاثية اآلية ‪ ،)50‬فاألمري يرى أن النفس‬
‫هلا ميل إىل ما يؤذيها ألن اإلنسان بطبعه ثائرا على الروح‪ ،‬يف مملكته اإلنسانية يتبع هواه وهو فراغ‬
‫وضاللة‪ ،‬وهلذا حارب األمري العهر بشدة‪ ،4‬ملا فيه من مضار للمجتمع ومن ضياع لألنساب ومن‬
‫تفكك لألسر‪ ،‬بل إنه ابتعاد عن القرآن واعتناق للمحرمات اليت هنى عنها الشرع وجعل هلا حدود‬
‫وتنتهي بالرجم والقصاص‪ ،‬حيث كان األمري عبد القادر ال يرتدد يف معاقبة املخالفني ليكونوا بالفعل‬
‫اسوأ عربة للباقني‪ .5‬أما السرقة فقد كلف األمري خلفاءه وأعوانه وقادته لتحمل املسؤولية كاملة عن‬
‫جرائم السرقات اليت تقع يف مناطقهم‪ ،‬وبالتايل حرص كل واحد منع حدود النهب‪ ،‬حيث جعل‬
‫األمري مهمة األمن واالستقرار هي مهمة الدولة وليست مهمة الناس‪ .6‬ومع هذا ظهر األمن بعد‬
‫الفوضى وزالت سرقات اخليول ليال وأصبحت املرأة تستطيع اخلروج وحدها دون خوف أو إهانة‪.7.‬‬
‫وضل حتذير األمري ملن تسول له نفسه للسرقة‪ ،‬إذ يذكر لنا "الكولوناإلسكوب" أنه تعرض للسرقة‬

‫‪1‬األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬املواقف ‪ ،‬موفم للنشر ‪ ،‬اجلزائر ‪[ ، 5119 ،‬موقف ‪ ، ]1‬ج‪ ، 4‬ص ‪. 02‬‬
‫‪2‬حيي بوعزيز ‪ ،‬رائد الكفاح املسلح ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 415‬‬
‫‪3‬أبو القاسم سعد اهلل ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 421‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 420‬‬
‫‪5‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪،‬مرجع سباق ‪،‬ص ‪. 052‬‬
‫‪6‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 052‬‬
‫‪7‬أبو القاسم سعد اهلل ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪، 420‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫وتلقى تأكيد من األمري عبد القادر أنه لو عثر على أصغر أمتعته عند عريب لقطع رأسه على الفور‪،‬‬
‫ويعود هذا األمن لنجاح األمري يف ترسيخ التصورات اإلسالمية يف جمتمعه‪ ،‬تنظيما له على هدى‬
‫‪2‬‬
‫القرآن والسنة‪ .1‬أدت إصالحات األمري عبد القادر يف جمتمعه إىل ارتفاع الروح العامة‪.‬‬
‫‪.5‬موقفه من استعمال الذهب والفضة‪ :‬هنى األمري عبد القادر عن استعمال الذهب والفضة إال يف‬
‫األسلحة عمال مبا تفتضيه أحكام الشريعة بتحرميها الستعمال الرجل للذهب والفضة‪ ،‬إال باملقدار‬
‫احملدد يف الدين‪ .3‬حيث كان يقول األمري عبد القادر‪" :‬لقد منعت منعا باتا استعمال الذهب والفضة‬
‫والفضة يف ثياب الرجال‪ ،‬ألين كنت أكره التبذير والتحلل‪ ،‬الذي يؤدي إليه‪ ،‬ومل اتسامح إال بتزيني‬
‫‪4‬‬
‫األسلحة والسروج"‪.‬‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 056‬‬
‫‪2‬أبو القاسم سعد هلل ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 420‬‬
‫‪3‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 052‬‬
‫‪4‬أبو القاسم سعد هلل ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ 420‬ـ‪. 421‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫المطلب الثالث‪ :‬الدعوة للعدالة والمساواة‬

‫ضل العدالة وال يزال ضد اجلور حماكيا لالستقامة املتوسطة دائما بني طريف االفراط والتفريط‪ ،‬واملساواة‬
‫هي عدم التفريق والتمييز‪ ،‬وما إن جتتمع هذه الصفات حىت يكسب صاحبها الثقة والوالء‪ ،‬وهذا ما‬
‫أدركه األمري عبد القادر بعد أن أصبح املالئم األخري لقومه‪ ،‬خاصة بعد أن وضعوا فيه كل ثقتهم‬
‫فأوجب على نفسه إتباع سياسة العدل واملصلحة العامة اليت أمره اهلل هبا‪.1‬‬

‫وجدت العدالة واملساوات يف ظل هذا النظام اليت تبلورت عليها لكوهنا مبدأ مستوحى من الشريعة‬
‫اإلسالمية وعلى هذا األساس مل خيشى األمري أي قوة أخرى ما عدا اهلل يف تنفيذ القوانني‪ ،‬وقد ال‬
‫نستطيع حصر كل االاجنازات اليت قام هبا األمري عبد القادر من خالل العدالة واملساواة وكن سنحاول‬
‫تسليط بعض امليادين منها‪:2‬‬

‫‪ ‬المساواة‪:‬‬

‫أوال لمساواة في المشاركة في الحرب والجهاد‪ :‬لعل أول دالئل العدالة مشاركة األمري يف احلرب‬
‫بسيفه وجوده غري مستثىن منها أهله وقبيلته وهو الذي يقول يف ذلك‪" :‬ما فعلت ذلك خوفا من متييز‬
‫نفسي أمام ضربات قنابل العدو ولكين فعلته ألين كنت أرغب أال أفرض على العرب إال ما أفرضه‬
‫‪3‬‬
‫على نفسي"‬

‫ثانيا إلغاء االمتيازات والضرائب غير الشرعية‪ :‬حاول األمري إزالة مظاهر الالمساواة وعدم التقارب‬
‫بني أفراد شعبه‪ ،‬من خالل التزامه بالعدل واملساواة يف حتصيل ما يلزم ويتوجب على رعيته‪ ،‬فكسب‬
‫ثقتهم واهلب محاسهم الديين ملناصرته‪ ،‬كما عمل جاهدا على ختفيف األعباء اليت كانت موجودة يف‬
‫العهد العثماين‪ ،‬كضريبيت الالزمة والغرامة املخالفتني للشريعة اإلسالمية‪ .‬لكنه احتفظ بضريبيت العشور‬
‫والزكاة االوىل يف املزروعات موسم اخلريف والثانية من االنعام بنسبة معينة‪ .‬أما املعونة اليت استحدثها‬
‫األمري عبد القادر لتجديد يف احلرب وخلق التكافل داخل اجملتمع فجاءت ملساعدة احملتاجني وخلق‬
‫التوازن املادي داخل اجملتمع‪ ،‬كما أبطل االمتيازات اليت كانت حتظى هبا بعض القبائل كاملخزن‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 591‬‬
‫‪2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 591‬‬
‫‪3‬أبو القاسم سعد اهلل ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 421‬‬

‫‪48‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫والكراغلة والدوائر والزمالة‪ .‬وقد دفع مثن هذا اإلبطال غاليا بثورهتم عليهم نظرا لتعودها على املكانة‬
‫العالية يف اجملتمع‪ ،‬وبذلك دفع مثن انسالخها من اجملتمع‪ ،‬وبعد هذا القرار الشجاع مل تعد هناك‬
‫استثناءات من دفع املؤونة احلربية‪ ،‬ومل يقم األمري بفرضها إال بعد إن استشار العلماء والفقهاء لكي ال‬
‫يتجاوز يف ذلك حدود الشرع‪ .1‬فحني توقف اجلهاد يف فرتة السلم امتنع بنو عامر عن دفع الضريبة‬
‫رغم أهنم أول من دعي للجهاد‪ ،‬فخاطبهم األمري يف خطبة اجلمعة قائال‪ ...." :‬ألستم انتم أول من‬
‫رجاين أن أسس حكومة منظمة توحي إىل اخلريين بالثقة وإىل األشرار باخلوف‪ ....‬كيف تستطيع أي‬
‫حكومة أن تواصل عملها بدون ضرائب"‪ .2‬ويواصل األمري شرحه على منرب اخلطبة فائدة هذه‬
‫الضريبة الستمرارية اجلهاد واجلهاد البناء‪ 3‬قائال‪ " :‬هل تضن أن أصغر قطعة نقدية يف الضريبة اليت‬
‫أطلبها تستخدم يف مصاريف الشخصية ‪ .......‬إنكم مجيعا تعلمون أن أمالك والذي تكفي حلاجيت‬
‫الشخصية ‪ ،‬إن أطلبه هو ما فرضه قانون الرسول عليكم كمسلمني حقيقيني‪ ،‬وإين أقسم باهلل العظيم‬
‫أن ما يدخل يدي سأحتفظ به كأمانة مقدسة من أجل انتصار اإلسالم‪ .4‬وقد تأثر شيوخ بين عامر‬
‫‪5‬‬
‫هبذا النداء الصريح وقد وعدوه باسم قبيلتهم بدفع الضريبة‪.‬‬

‫‪ ‬العدالة‪:‬‬

‫أوال العدالة في اختيار موظفي الدولة‪:‬‬

‫عمل األمري على بناء جسر شرعي بينه وبني شعبه‪ ،‬والتزم ملد هذا اجلسر بتطبيق العدالة يف أحكامه‬
‫وبث روحه يف كل املؤسسات‪ ،‬وأوهلا احلكومة اليت يستخلف كل موظفيها على صحيح البخاري دون‬
‫استثناء‪ 6‬مؤمنا بأنه ال فرق لعريب على اعجمي وال أبيض على أسود إال بالتقوى وأن املؤمنني إخوة‬
‫سواسيةكأسنان املشط يف قوله تعاىل‪:‬ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ[احلجرات‪ ،]40 :‬وقد‬

‫‪1‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 591‬‬
‫‪ 2‬هنري تشرشل ‪ ،‬حياة األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 10‬‬
‫‪ 3‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 591‬‬
‫‪ 4‬هنري تشرشل ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 10‬‬
‫‪ 5‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 10‬‬
‫‪ 6‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 014‬‬

‫‪40‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫أعطى األمري عبد القادر املثال الثابت والتارخيي الذي ال يزول‪ ،‬حيث أنه مل يعطى األفضلية الختيار‬
‫موظفيه العرب واألرياف لكوهنم مسلمني وهو منهم‪ ،‬بل منحها ألصحاهبا فلم يبعد "الكراغلة‬
‫""ورجال املخرن " بل حاول كسبهم ووضعهم يف مناصب هامة لعمق نظرته‪ .‬أما القانون بالنسبة‬
‫لألمري فلم يرتبط بأي اعتبار آخرألنه استمد معانيه من الكتاب والسنة ومل يرتدد يف فتح الباب‬
‫للمواهب والطاقات غري املشرتطة يف ذلك نسبا أو أصال أو سوابق أو ماالَ بل اشرتط الشخصية‬
‫القوية والسمعة النظيفة والكفاءة وحسن السرية والعلم واحلزم حىت يستوثق منهم اليمن لعمله مببدأ‬
‫التولية وعمله باآلثار الواردة عن عمر بن اخلطاب وأداء اليمن على صحيح البخاري‪ 1.‬ومل يتوقف‬
‫األمري عند تعيني الرجال فحسب بل كان يراقبهم ويطلع على تصرفاهتم لكي ال خيتل العدل بني‬
‫الناس‪ ،‬على غرار ما كان يقوم به اخلليفة الراشد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ .2‬ويتمثل التقسيم‬
‫اإلداري الذي أحدثه األمري عبد القادر يف دولته على ما يأيت‪:‬‬

‫• وقد كانت تحت امرة الخليفة‬


‫المقاطعات‬

‫• وقد كان اآلغا يمثل السلطة العليا في كل دائرة‬


‫الدوائر‬

‫• ويمثل القياد هرم السلطة في القبائل‪ ،‬وهم ينوبون عن السلطات‬


‫القبائل‬ ‫االخرى العليا‬

‫• والشائر تمثل قاعدة الدولة حيث يتم تعيين شيخ عن كلواداريا‪.‬‬


‫العشائر‬ ‫عشيرة يمثلها سياسيا‬

‫مل هبمل األمري توضيح أمر مرتبات موظفيه بل جعلها ثابتة ليتجنب ابتزاز األموال حيث جعل‬
‫للخليفة مرتبة كاملة ولألغا عشر ما جيمعه من الزكاة والضرائب وكذلك األمر بالنسبة للقائد والشيخ‪،‬‬
‫فيأخذ كل ذي حقا حقه‪.3‬‬

‫ثانيا العدالة في النظام القضائي‪:‬‬

‫‪ 1‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ 014‬ـ ‪. 015‬‬
‫‪ 2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 010‬‬
‫‪3‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 010‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫اهتم األمري عبد القادر بالقضاء اهتماما بالغا‪ ،‬حيث يعد القضاء املرآة الصادقة املعربة عن العدالة‪،‬‬
‫ولكي حيقق األمري هذه املعادلة املهمة يف بناء الدولة جعل القاضي يستمد نصوصه من القرآن الكرمي‪،‬‬
‫وهذا ما أدى بالفعل إىل انتعاش العاطفة الدينية لدى السكان‪ .1‬فمنع األمري عبد القادر الظلم وهو‬
‫أساس لبناء الدولة حيث جعل للعدالة بيوتا عامرة جيد املشتكي فيها من يستمع إليه وينصفه إن كان‬
‫على حق‪ .2‬جعل األمري الوالء والقضاء وموظفي الدولة حتت مراقبة مستمرة ومشددة حىت حيقق‬
‫األمري عبد القادر الغرض من ذلك أعطى عناية خاصة باختيار سلك القضاة‪ ،‬فقد جاء يف سريته‬
‫اخلاصة به‪ " :‬إن أول شيء ابتدأ به األمري هو النظر يف أمر القضاء‪ ،‬واختار العدل هلا يف‬
‫موطن‪ .3".....‬ومل يكتفي األمري بذلك بل حفز املظلوم على طلب العدل لكونه حق مشروع‪ ،‬فعني‬
‫هلذا الغرض منادين جيبون األسواق يعلنون أنه من له شكوى ضد خليفة او أغا أو شيخ فلريفعها إىل‬
‫‪4‬‬
‫ديوان األمري من غري وساطة‪ ،‬فإن األمري ينصفه عن من ظلمه‪.‬‬

‫وقد أحيا األمري بذلك والية املظلوم املشهورة يف التاريخ اإلسالمي حبيث ال يضيع حق أحد بعد تنفيذ‬
‫األحكام خصوصا إذا كانت التهمة ثابتة على مرتكبها‪ ،‬فقد خلص صاحب حتفة الزائر عدل األمري‬
‫عبد القادر بقوله "كان األمري حمافظا على إقامة احلق ناشرا لواء العدل على عموم الرعية‪ ،‬جيري‬
‫القصاص الشرعي والسياسي على أصحاب اجلنايات ملا يستحقونه"‪.5‬‬

‫ثالثا العدل في اقتسام األرزاق‪:‬‬

‫انتقل األمري من منع الظلم املعنوي إىل منع الظلم املادي يف اقتسام األرزاق يف زمن احلرب‪ ،‬منطلقا‬
‫من إميانه بضرورة التقشف وبذل األموال يف سبيل اهلل والوطن مثبتا ذلك بالفعل ال بالقول‪ ،‬حني باع‬
‫مصنوعات أسرته ووضعها يف بيت املال ليشارك فيها كل شعبه املسلم‪.6‬‬

‫‪1‬املرجع نفسه ص ‪. 010‬‬


‫‪2‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 011‬‬
‫‪3‬نصر الدين سعدوين ‪ ،‬عصر األمري عبد القادر ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 542‬‬
‫‪4‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 542‬‬
‫‪5‬حممد بن عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬حتفة الزائر ‪ ،‬مرجع سابق ‪. 552 ،‬‬
‫‪6‬عائشة بن ساعد ‪ ،‬البعد الروحي ملقاومة األمري عبد القادر اجلزائري ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 012‬‬

‫‪44‬‬
‫المنهج الدعوي ومعالمه عند األمير عبد القادر‬ ‫الفصل الثاني‬

‫فدعي األمري لتدريب رجاله على الصرب وكان يلزمهم بالشروع بنفسه يف إعطاء املثل يف التواضع‬
‫والورع‪ ،‬بالعمل جنبا إىل جنب مع الرعية والسهر ليال واجلوع والصرب على األذى‪ ،‬وتقدمي حق‬
‫اآلخرين قبل حقه‪ ،‬واملخاطرة بنفسه مع رفاق اجلهاد‪ ،‬جاعال بذلك من املساواة روحا عالية تفوق‬
‫القانون‪ ،‬كما حرص أيضا على تفقد شعبه ليعرف أخبارهم‪ ،‬فكان خيتلط بالرعية ليطمئن على‬
‫أحواهلم وحيل ما يراه عالقا‪.1‬‬

‫وفعال صدق من قال‪" :‬ال عدالة بدون مساواة وال مساواة بال حرية"‪ ،‬وقد حقق األمري هذه املعادلة‬
‫الصعبة إرضاء لربه واستجابة لواجبه وضمريه وصدقت اآلية الكرمية القائلة بعدم استواء احلكام يف‬
‫حكمهم وال يف تطبيقهم ملبدأ املساواة وال يف تعويد الناس عليهم؛ ﭧ ﭨ ﭽﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﭼ[السجدة‪.]41 :‬‬

‫‪ 1‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪. 016‬‬

‫‪44‬‬

You might also like