You are on page 1of 37

‫املعرف الرقمي ‪DOI‬‬

‫‪https://doi.org/10.59151/.v7i2.299‬‬
‫‪280‬‬

‫‪OPEN ACCESS‬‬
‫تاريخ االستالم‪19-4-2023 :‬‬
‫تاريخ القبول‪6-6-2023 :‬‬

‫حوار القراءات الحداثية للنص القرآني‬

‫مع أ‪.‬د‪ .‬إلياس قويسم‬


‫)‪(1‬‬

‫‪gouissemilyess@yahoo.fr‬‬
‫يحاوره‪:‬‬
‫د‪ .‬يوسف عكراش‬
‫)‪(2‬‬

‫‪y.aakrache@gmail.com‬‬
‫ملخص‪:‬‬

‫يهــدف هــذا الحــوار الــذي أج ـراه األســتاذ يوســف عك ـراش مــع األســتاذ الدكتــور إليــاس قويســم حــول‬
‫الق ـراءات الحداثيــة للنــص القرآنــي إلــى تســليط الضــوء علــى هــذا املوضــوع الــذي بــات ً‬
‫مهمــا علــى املســتوى‬
‫العــام والبحثــي الخــاص ‪ ،‬وذلــك ببيــان عــدة أمــور منهــا مفهــوم الق ـراءات الحداثيــة وإب ـراز عناصرهــا‪،‬‬
‫ـرقا ً‬ ‫ً‬
‫وغربــا‪ ،‬مــع حديـ ٍـث عــن الواقــع العملــي لتلــك‬ ‫وتاريــخ ظهورهــا‪ ،‬وموقعهــا فــي خارطــة االهتمــام بالعلــوم شـ‬
‫القـراءات بشــقيها النظــري والتطبيقــي‪ ،‬وأبــرز جذورهــا ومنطلقاتهــا املؤطــرة لهــا‪ ،‬وأغـراض أصحابهــا‪ ،‬ونقــاش‬
‫ً‬
‫نموذجــا حاضـ ًـرا فــي تلــك‬ ‫بعــض دعــاوى أصحــاب تلــك القـراءات‪ ،‬مــع تعـ ٍ‬
‫ـرض لنصــر حامــد أبــو زيــد باعتبــاره‬
‫التوجهــات‪ ،‬ومــدى تقاطــع تلــك الق ـراءات واســتلهامها للمناهــج الغربيــة فــي الق ـراءة‪ ،‬وقــد اختتــم األســتاذ‬
‫الدكتــور املحـ َـاور كالمــه بعــدد مــن النصائــح والتوجيهــات املنهجيــة فــي هــذا البــاب‪.‬‬

‫الكلمات المفتاحية‪:‬‬

‫النص القرآني‪ ،‬الحداثة‪ ،‬القراءة‪ ،‬التأويل‪ ،‬املناهج‪.‬‬

‫(‪ )1‬نائب رئيس جامعة الزيتونة‪ ،‬أستاذ علوم القرآن والتفسير باملعهد العالي للحضارة اإلسالمية‪.‬‬
‫(‪ )2‬أستاذ باألكاديمية الجهوية للتربية والتكوين‪ ،‬وباحث في الدراسات القرآنية والقضايا الفكرية والتربوية‪( .‬املغرب)‪.‬‬
‫لالقتبــاس‪ :‬عك ـراش‪ ،‬يوســف‪ ،‬حــوار الق ـراءات الحداثيــة للنــص القرآنــي مــع أ‪ .‬د‪ .‬إليــاس قويســم‪ ،‬مجلــة نمــاء‪ ،‬مركــز نمــاء‪ ،‬مصــر‪ ،‬مــج ‪،7‬‬
‫ع‪.316-280 ،2023 ،2‬‬
‫© نشــر هــذا البحــث بموجــب ترخيــص (‪ )CC BY-NC 4.0‬املفتــوح‪ ،‬الــذي يســمح ألي شــخص تنزيــل البحــث وقراءتــه والتصــرف بــه ً‬
‫مجانــا‪ ،‬مــع‬
‫ُ‬
‫ضــرورة نســبته إلــى صاحبــه بطريقــة مناســبة‪ ،‬مــع بيــان إذا مــا قــد أجــري عليــه أي تعديــات‪ ،‬وال يمكــن اســتخدام هــذا البحــث ألغـراض تجاريــة‬
281 Volume 7- Issue 2 / 2 ‫ العدد‬- 7 ‫املجلد‬
Spring 2023 ‫ربيع‬

OPEN ACCESS
Received: 2023-4-19
Accepted: 2023-6-6

Dialogue modernist readings of the Quranic text


With Prof. Dr. Elias Qwesim(3)

By: Youssef Aakrache(4)


y.aakrache@gmail.com

Abstract
This dialogue was conducted by Prof. Youssef Akrash with Prof. Elias Qweism about the mod-
ern readings of the Qur’anic text in order to shed light on this issue, which has become important
at the level of general and specific research. The dialogue focused on several issues, including the
concept of modern readings with highlighting its elements, the history of its emergence, and its
status in the map of western and eastern scholarly work. The discussion also covered the current
status of those readings, at the theoretical and applied level, the most prominent roots and starting
points underpinning them, and the purposes of readings’ owners. Reference was also made to
some of the claims of the owners of those readings, focusing on Nasr Hamid Abu Zaid as a con-
temporary model of these trends, and how far these readings intersect and are inspired by Western
approaches to reading. Prof. Elias Qweism concluded the dialogue with some advice on methodo-
logical issues related to the topic under discussion.
Keywords:

Qur’anic text, modernity, reading, interpretation, approach.

(4) Vice President of Al-Zaytoonah University, Professor of Qur’anic Sciences and Interpretation at the Higher
Institute of Islamic Civilization.
(5) Lecturer at the Regional Academy for Education and Training; and Researcher in Quranic studies and intellectu-
al and educational issues. (Morocco)
Cite this article as: Aakrache, Youssef, A Dialogue with Prof. Elias Qwesim about Modern Readings of the Qur’anic text, Journal of
Namaa, Nama Center, Egypt, V 7, issue 2, 2023, 280-316.
© This research is published under an open license (CC BY-NC 4.0), which allows anyone to download, read and
use the research for free, provided it is properly acknowledged, indicating if any modification has been made to it.
This research shall not be used for commercial purposes.
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪282‬‬

‫بدايــة نرحــب بكــم حضــرة األســتاذ الدكتــور إليــاس قويســم ونشــكركم علــى قبــول دعــوة دوريــة نمــاء‬
‫إلج ـراء هــذا الحــوار العلمــي‪.‬‬
‫وبعــد‪ ،‬فممــا ال يخفــى علــى فضيلتكــم الضبــط املنهجــي ملختلــف القـراءات التفسي ــرية أمــر يســتلزم بنــاء‬
‫نســق نظــري يكتنــف فــي طياتــه مجموعــة الضوابــط والشــروط والقواعــد الحاكمــة لهــذه املمارســات علــى‬
‫اختــاف منطلقاتهــا‪ ،‬ال�شــيء الــذي يتحقــق مــن خاللــه االنضبــاط املقصــود‪ ،‬ومــن تأمــل ســاحة الــدرس‬
‫القرآنــي املعاصــر يلفــي جهـ ً‬
‫ـودا هنــا وهنــاك تســعى لق ـراءات جديــدة وتأويــات حداثيــة؛ ممــا جعــل النقــاش‬
‫يثــور حــول مــدى موضوعيــة هــذه الق ـراءات وحيادهــا العلمــي‪ ،‬ومــا موقعهــا ضمــن خارطــة التفسي ــر‬
‫املنضبــط؟ وفــي ضــوء ذلــك توجهنــا إلــى فضيلتكــم فــي هــذا الحــوار املوســوم بــ‪( :‬الق ـراءات الحداثيــة للنــص‬
‫القرآنــي) الــذي اكتنــف ثلــة مــن األســئلة املتنوعــة حــول القـراءات الحداثيــة حتــى نتعــرف علــى وجهتكــم إزاء‬
‫هــذا الطــرح النشــغالكم املشــهود بــه‪.‬‬

‫نص الحوار‬

‫الســؤال األول‪ :‬يعــد ضبــط مفهــوم القــراءة الحداثيــة مقدمة رئيســة لهذا‬
‫الحــوار العلمــي‪ ،‬فمــا المقصــود بالقــراءات الحداثية؟ وما أبــرز عناصرها؟‬
‫دورا فاعـ ًـا فــي مســألة تكوي ــن حقــل املعرفــة بمــا هــي حمولــة ّ‬
‫دالليــة‪-‬‬ ‫ال مشــاحة فــي ّأن املصطلــح يمــارس ً‬
‫ثقافيــة‪ ،‬ولكــن مثــل هــذه الصــورة لهــا وجههــا التبادلي‪-‬الجدلــي‪ ،‬بمــا ّأن املصطلــح ال ي ـ ّ‬
‫ـند عــن االنزيــاح نحــو‬ ‫ّ‬
‫مقولــة ّأن املعرفــة بمــا هــي بيئــة تتكاثــف فيهــا الــدالالت وتتوالــد وتتنــاص تحــت ضاغطــة الحاجــة اإلجر ّ‬
‫ائيــة‪،‬‬
‫الفكريــة‪ ،‬لذلــك‬‫ّ‬ ‫هــذا يســهم فــي صياغــة شــكل املصطلــح ومفهومــه فــي حــدود مــا تســمح بــه حــدود التجاذبــات‬
‫ّ‬ ‫يكــون املصطلــح َ‬
‫ثقافيــا ال يغــادر ضوابطهــا أو معايي ــرها‪ ،‬علــى اعتبــار أنــه وجــه مــن وجــوه‬ ‫ًّ‬ ‫منت ًجا‪/‬من ِت ًجــا‬
‫ممــن لهــم ّ‬
‫أهليــة التوليــد والصياغــة املنتسبي ــن إلــى فضــاء داللــي لــه‬ ‫التواضــع التوافقــي بي ــن زمــرة أو مجموعــة ّ‬
‫خصوصيتــه‪ ،‬دافعهــم حاجــة مشت ــركة إلــى توحيــد الخطــاب أو تخصيصــه ضمــن ســياق ّ‬
‫معيــن تميي ـ ًـزا لــه عــن‬ ‫ّ‬

‫العفويــة أو املتــداول الجمعي‪-‬العامــي‪ ،‬ومثــل هــذا االشــتغال فــي حقــل صناعــة داللــة املصطلــح قــد‬ ‫ّ‬ ‫الداللــة‬
‫يمتـ ّـد ويســتطيل وقــد يتنكـ ّـب ســبيله نظـرا إلــى الصعوبــات التــي تعت ــريه وذلــك حــال حــدوث حالــة مــن الت ـراجع‬
‫ّ‬
‫التضخــم الداللــي عبــر فعــل الت ـ ّ‬ ‫الحضــاري‪ ،‬ومــن أماراتــه اإلجر ّ‬
‫ـرسب والت ـراكم‪ ،‬وال‬ ‫ائيــة الضمــور الداللــي أو‬
‫ّ‬
‫وحاكميــة الت ــرجمة ال‬ ‫نعــدم كذلــك االنح ـراف الداللــي عــن ســياق نشــأته‪ ،‬تعليــل ذلــك التنــاص والتثاقــف‬
‫‪283‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫ّ‬
‫معرفيــة تقــف‬ ‫آليــات الحجــب أو اإلبانــة ضمــن ســياقات‬ ‫آليــة مــن ّ‬
‫مــن حيــث هــي تقنيــة نقــل بقــدر مــا هــي ّ‬
‫ّ‬
‫عاكفــة فــي ظـ ّـل التقنيــة أو املستت ــرة بهــا‪ ،‬بمــا ّأن املصطلــح مجــال حيــو ّي يتأثــر بجملــة العوامــل الحافــة بــه‬
‫ّ‬
‫مصطلحيــة‬ ‫وبمســتعمله وباملشــتغل بــه وعليــه‪ .‬مثــل هــذا الح ـراك الداللــي ال يعــوزه القــول بإنتــاج أجهــزة‬
‫ّ‬
‫املفهوميــة‪ -‬تســتدعيها الحاجــة املباشــرة أو غي ــر املباشــرة لضبــط‬ ‫ّ‬
‫دوريــة أو قابلــة للتعديــل ‪-‬نظـ ًـرا إلــى مرونتهــا‬
‫ّ‬
‫الخصوصيــة فيمــا بي ــنها‪ ،‬وذلــك عبــر‬ ‫املســائل ضمــن حقــول ّ‬
‫دالليــة بعي ــنها لتميي ــز الحقــول وإضفــاء ســمة‬
‫ّ‬
‫الثقافيــة مــن‬ ‫فعــل املواضعــة حــول أشــكال االصطالحــات ومفاهيمهــا مــن خــال االنضبــاط ملعيــار البنيــة‬
‫جهــة‪ ،‬ومعيــار الشــرط املعرفــي مــن جهــة أخــرى‪ ،‬أخي ـ ًـرا الخضــوع ملعيــار التــداول الداخلــي والتثاقــف البي ــن‪/‬‬
‫ّ‬
‫الثقافيــة لهــا‬ ‫ّ‬
‫املركزيــة‬ ‫افيــة املصطلــح علــى اعتبــار ّأن‬
‫ضمن‪-‬ثقافــي‪ ،‬وهــذا املعيــار لــه داللتــه فــي مجــال جغر ّ‬
‫ـرعية التــداول‪ ،‬نظ ـرا إلــى ّأنهــا تعبي ــر عــن تاريــخ نشــوء املصطلــح‬
‫أث ــرها فــي مســألة الشــيوع واالســتعمال وشـ ّ‬
‫واالنزيــاح نحــو الهــدر‪ ،‬أو االرتفــاع الدورانــي نحــو الحلــول فــي وجــه آخــر أو صيغــة أخــرى غي ــر تلــك التــي‬
‫ّ‬
‫بفاعليــة القــول الثقافــي‬ ‫توافــق عليهــا هــذا فــي حــال القــول بهجــرة املصطلــح مــن محضــن إلــى آخــر‪ ،‬وهــذا رهي ــن‬
‫فــي عالقتــه باالمتــداد الحضــاري ملقوالتهــا وإال تغــدو مســتعمرة فــي جغر ّ‬
‫افيتهــا بمعنييهــا املــادي والحضــاري‪،‬‬
‫واالصطالحيــة فت ــركن قصـ ًـرا إلــى جهــة ّ‬
‫التلقــي واالســتهالك الداللــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املعنويــة‬ ‫ّ‬
‫واملديونيــة‬ ‫وتنـزاح نحــو االســتعارة‬
‫هينــاً‬ ‫ّ‬
‫أكث ــر مــن كونهــا جهــة توليــد‪ ،‬ويضمــر ضمنهــا معنــى الت ـراسل ويبقــى معنــى تلقــي الرســالة والفــارق ليــس ّ‬
‫املعنييــن‪ ،‬فهــو إفشــاء عــن ضمــور معنــى الجــدل واملســاءلة ودخــول الثقافــة ضمــن ســياق تعــارض‬ ‫ْ‬ ‫بي ــن‬
‫حلقيــة مقفــرة ومقفلــة‪ ،‬مثــل هــذا الوضع‪-‬املشــكل أف�ضــى إلــى تنامــي مســألة‬ ‫انيتهــا فــي ّ‬
‫املفاهيــم وتداخلهــا ودور ّ‬
‫املصطلــح وأصولــه وامتداداتــه بمــا هــو تاريــخ تشـ ّـكل وممارســة إجر ّ‬
‫ائيــة وتطـ ّـور فــي مســتوى الشــكل والداللــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـص القرآنــي فــي املنظومــة الرسـ ّ‬‫حي ــنما نتحـ ّـدث عــن النـ ّ‬
‫ـمية املتداولــة فإننــا نقـ ّـر بوجــود معادلــة واضحــة‬
‫ـص مــن حيــث هــو‬ ‫ّ‬
‫(املتلقي‪-‬القــارئ) وبي ــنهما النـ ّ‬ ‫طرفهــا ّ‬
‫األول هــو هللا (املرســل) وطرفهــا الثانــي هــو اإلنســان‬
‫ّ‬
‫فخصوصيــة هــذا املحضــن تكمــن فــي‬ ‫رســالة‪ ،‬وعليــه فاملســألة منضبطــة ّ‬
‫وبينــة املعالــم واألطر‪-‬األقانيــم‪،‬‬
‫إيقاعــه اإلجرائــي لنــوع مــن التفاعــل بي ــن اإللهــي واإلنســاني مــن دون مفارقــة أو منازعــة أو تنافــس أو نفــي‬
‫ّ‬ ‫قصــد إيقــاع نســق مغاي ــر لألفــكار بمنــأى عــن ر ّ‬
‫اصديــة اإللــه‪ ،‬ويلخــص الحبابــي طبيعــة الرســم التفاعلــي‬
‫القائــم مــن خــال هــذه املعايي ــر الضابطــة للمســارات وللمهــام‪:‬‬
‫•هللا ‪-‬بمحــض إرادتــه‪ -‬هــو الــذي ق�ضــى بــأن تكــون قواني ــن (الطبيعــة) وق�ضــى بــأن يخضــع لهــا سي ــر‬
‫الكــون‪.‬‬
‫الطبيعية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫•يتـرك هللا للكائن البشري‬
‫املحددة‪.‬‬ ‫إمكانية اتباع استعداداته‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪284‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫«موضوعية» ومحسوسة‪.‬‬ ‫•القوانيـن التي تتحكم في سيـر الكون‬
‫ّ‬
‫بالتكيف معه‪.‬‬ ‫•على الكائن البشري أن ّ‬
‫يتبنى العالم‬
‫•يتكـ ّـون الشــخص بفضــل الفكــر وهــو يصنــع عاملــه‪ ،‬ويصنــع العالــم علــى مســتواه باإلســهام فــي الخلــق‬
‫اإللهــي؛ إذ يعمــل علــى إكمالــه‪ .‬فبفضــل العقــل يتعــاون اإلنســان مــع هللا‪ ،‬ويصي ــر إنسـ ًـانا آخــر لــه‬
‫األنطولوجيــة‪ّ ،‬إنــه مخلــوق ّ‬
‫ولكنــه يســهم فــي كي ــنونة العالــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كثافتــه‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫• ّإننــا فــي عالــم لــم نخلقــه‪ ،‬ولكــن ّ‬
‫كل �شــيء فــي العالــم يحتــم علي ــنا أن نبدعــه فــي حلــة جديــدة‪ ،‬فنحــن‬
‫نغيــره‪ ،‬بــل نالحظــه ّ‬
‫لنغيــره‪.‬‬ ‫نالحــظ العالــم‪ ،‬ثـ ّـم ّ‬
‫• ّإن العالــم حــدث‪ ،‬واإلنســان هــو كذلــك حــدث‪ ،‬وعــن عالقــة الحــدث الثانــي بـ ّ‬
‫ـاألول ي ــنتج حــدث‬
‫يحتــم علي ــنا أن نكــون عاملي ــن‪ :‬نصنــع‪ ،‬ونصلــح ّ‬
‫وننســق‪،‬‬ ‫متفرجي ــن؛ إذ ّ‬ ‫ثالــث يمنعنــا فــي أن نبقــى ّ‬
‫ّ‬
‫وننظــم مــا هــو موجــود لنجعــل منــه شـ ًـيئا كامـ ًـا‪ .‬تلــك هــي ّ‬
‫املهمــة املجيــدة لإلنســان‪ ،‬أي‪« :‬األمانــة»‬
‫التــي حملــه هللا ّإياهــا‪.‬‬
‫بهــذه الطبيعــة التأسيسـ ّـية فــي الفكــر اإلســامي‪ ،‬نجــد ّأن النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي ي ــنفتح علــى أفقي ــن‪ :‬أفــق هللا‪/‬‬
‫ـص القرآنــي‪ ،‬وأفــق ّ‬
‫املتلقــي الــذي هــو‬ ‫ّ‬
‫الغيبيــة للنـ ّ‬ ‫املرســل مــن حيــث هــو متعـ ٍـال ومفــارق حيــث املعالجــة‬
‫ـص مــن دون أن يفقــد صفتــه القمي ــنة وهــي تعالــي‬ ‫بخصائصــه املحايثــة بمــا هــو محضــن االنبثــاق اإلجرائــي للنـ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫النص القرآني تفسي ـ ًـرا وتأوياًل ودراســة وممارســة انطالقا من األمر‬ ‫النشــأة‪ ،‬ولكن حال تفاعله مع مقوالت‬
‫ـنص عليهــا النـ ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلجرائــي فــي الحقــل الشــهودي «اقـرأ»‪ ،‬فإنــه يحــاول أجـرأة الحقائــق الثابتــة التــي ي ـ ّ‬
‫ـص القرآنــي‬
‫فــي محيطــه املحايــث املوقــوت والنســبي‪ ،‬بحســب القــدرة البشـ ّـرية مــن دون ّادعــاء ّأنهــا تفصــح عــن املعنــى‬
‫ً‬
‫املـراد مــن قبــل هللا إال مــن جهــة مــا ثبــت وروده نقــا عــن الرســول ﷺ‪.‬‬
‫نوعــا مضـ ًـادا للبدايــات‪،‬‬
‫بالحداثيــة أو املعاصــرة‪ ،‬تنتــج ً‬
‫ّ‬ ‫فــي مقابــل ذلــك نجــد ّأن القـراءات املصطلــح عليهــا‬
‫ّ‬
‫فــإذا جــاز لنــا اختصــار موقــف الحداثــة‪ ،‬فإننــا نقــف أمــام عبــارة «نهايــة اليقي ــن» (‪)La fin de la certitude‬‬
‫معرفيــا يحيــل مثــل هــذه املعنــى إلــى تجريــد الحقيقــة أو اليقي ــن مــن «ألــف الم» التعريــف‪ ،‬فنغــدو نتحـ ّـدث‬
‫ًّ‬
‫ظرفي قابل للنقض أو االســتبدال أو التجاوز بحكم طبيعة الفكر النســبي‬ ‫عن حقيقة أو يقي ــن موقوت أو ّ‬
‫ّ‬
‫الــذي نتحـ ّـدث عنــه مــع وضــع الحداثــة‪ ،‬فلــم يعــد باإلمــكان الحديــث عــن املعنــى الكونــي أو الكلــي أو اليقي ــني‪،‬‬
‫تاريخيــة محايثــة للممارســات‬‫ّ‬ ‫معب ـرات عــن خطابــات أو مقــوالت‬ ‫بــل غــدا الحديــث عــن دالالت متشـ ّـظية ّ‬
‫االجتماعيــة واألفعــال والســلوكات ذات الطابــع الظرفي‪-‬التاريخــي‪ ،‬بحيــث تدفــع هــذه األفــكار أو‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرديــة أو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املناهــج خارجهــا ّ‬
‫ثيولوجيــة تســعى إلــى التحكــم فــي نظامهــا ونســقها بصــورة متعاليــة عــن املحايــث‬ ‫كل فكــرة‬
‫‪285‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫أو التاريخــي‪ .‬بهــذا املعنــى نكــون أمــام نظــام يقــوم علــى أســاس نسـ ّ‬
‫ـبوية العقــل والقيــم واملبــادئ‪ ،‬وفكــر عدمـ ّـي‬
‫مكونــات الحقيقــة إلــى حقائــق متعـ ّـددة ومتضاربــة ومتداخلــة‪ ،‬ويجـ ّـزئ املعنــى إلــى دالالت متشــابكة‬ ‫يفـ ّـكك ّ‬
‫ّ‬ ‫ومتشـ ّ‬
‫ـظية‪ ،‬تلــك هــي دالالت تهافــت اليقي ــن وحلــول عصــر االرتيــاب والف ـراغ‪ .‬باختصــار تتعلــق املســألة‬
‫ّ‬
‫فاعليــة العقــل املنعكــس حيــث يســعى إلــى إيقــاع هامــش مختلــف بي ــن‬ ‫بتبيــان ّأن تاريــخ الحداثــة يكمــن فــي‬
‫ّ‬
‫تتطلــب مثــل هــذه الخيــارات الفلسـ ّ‬
‫ـفية أن‬ ‫وصــف أصــل ونشــأة األفــكار وبي ــن حركــة إبــداع الفكــر النقــدي‪.‬‬
‫ً‬ ‫كل العبــارات ّ‬ ‫تكــون ّ‬
‫املعبــرة عــن العالــم وجملــة املفاهيــم الحافــة‪ -‬متخارجــة مــن رحــم هــذا الوجــود‪ ،‬أي‪ :‬مــن‬
‫تجربــة الــذات فــي العالــم وبالعالــم‪ ،‬هنــا يكمــن املعنــى الحقيقــي للفكــر الظهوراتي‪-‬اإلمبي ــريقي فــي مطالبتــه‬
‫أي افت ـراض مســبق‪ .‬ومثــل هــذا القــول عــن تحييــد ّ‬ ‫ّ‬
‫بالتخلــي عــن ّ‬
‫كل افت ـراض يعنــي أن يكــون هــو البدايــة‬
‫َّ‬
‫والتبري ــر‪ ،‬وهنــا يفت ــرض بدايــة أاَّل تبلــغ الــذات ســمة املعرفــة إال ابتــداء مــن هــذه التجربــة ومــن هــذه الرؤيــة‪،‬‬
‫تتضمــن افت ـراضاتها الخاصــة وتوضيحاتهــا املالئمــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أي‪ :‬اإلق ـرار بـ ّ‬
‫ـأن التجربــة‬

‫الســؤال الثانــي‪ :‬بعــد تقديمكــم لهــذا التعريــف يأتــي ســؤال التاريــخ‪،‬‬


‫لــو تقدمــون لنــا دكتــور نظــرة عامــة عــن تاريــخ بــروز ظاهــرة تطبيــق‬
‫القــراءات الحداثيــة فــي النــص القرآنــي‪ ،‬ومــا موقعهــا فــي خارطــة‬
‫اهتمــام الغــرب بدراســة الشــرق؟‬
‫ّ‬
‫أنبــه إلــى ملمــح أسا�سـ ّـي يتهـ ّـدد األجيــال الجديــدة فيمــا يتعلــق بدراســتها‬ ‫رمــت مــن خــال هــذه املداخلــة أن ّ‬
‫نصنــا املرجعــي بالتحليــل‬ ‫مميــزة بي ــن املناهــج ومقاصدهــا التــي تتنــاول ّ‬ ‫ـص للقرآنــي‪ ،‬وهــي ما زالــت غي ــر ّ‬ ‫للنـ ّ‬
‫كل ذي فكــر‬ ‫تبنيهــا مــن دون قـراءة فاحصــة ملــا وراء املنطــوق وامللفــوظ‪ ،‬نظـ ًـرا إلــى ّأن ّ‬ ‫والد اســة‪ ،‬فتتجــه إلــى ّ‬
‫ر‬
‫مقوماتــه أو أقانيــم فكــره‪ ،‬إن كانــت تعــارض الســائد أو تحرجــه‪ ،‬لذلــك تأخــذ نهــج ّ‬
‫التقيــة‬ ‫ي ــروم التسـ ّـتر عــن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اللغويــة‪ ،‬ومــن ثـ ّـم كانــت لــي وقفــة مــع مفهــوم الدنيــوة فــي دالالتــه اإلجر ّ‬
‫ائيــة‪ ،‬نظـرا إلــى أنــه شــكل‬ ‫ِ‬ ‫أو املراوغــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مفصليــة فــي مســتوى تعاملنــا مــع النـ ّ‬ ‫إدراجــه فــي الدراســات اإلسـ ّ‬
‫ـص ومــا ت ــرتب عــن ذلــك مــن‬ ‫ـامية انعطافــة‬
‫ـانية املنتميــة إلــى منظومتــه فــي مســتوى ّ‬
‫الهويــة والبنــاء‬ ‫ـص القرآنــي وبالــذات اإلنسـ ّ‬ ‫تنــازالت أليمــة خاصــة بالنـ ّ‬
‫املدونــة علــى اعتبــار ّأن املناهــج التــي‬ ‫الحضاري‪-‬الكونــي‪ ،‬ومــا رافــق ذلــك مــن ّ‬
‫تغيــر فــي نظــرة العديــد إلــى هــذه ّ‬
‫ـص األدبــي مــن‬ ‫تعاملــت معــه تنامــت فــي حقــل غي ــر حقــل الدراســات اإلسـ ّ‬
‫ـامية بــل ظهــرت مــع ق ـراءات النـ ّ‬
‫حيــث هــو منتــج بشــري نســبي‪ ،‬مــن ثـ ّـم يغــدو التكييــف اإلجرائــي واملعرفــي صعــب املنــال أو فعـ ًـا ّ‬
‫متعسـ ًـفا يأتــي‬
‫آليــات‬ ‫ـص إن فهــم هــذه املناهــج علــى ّأنهــا عقائــد ّ‬
‫مقدســة ال علــى ّأنهــا ّ‬ ‫بنتائــج فــي تضــاد تــام مــع مقصــود النـ ّ‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪286‬‬

‫ّ‬
‫اآلليــات املوظفــة فــي نطــاق اشــتغالها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫محدوديــة ّ‬ ‫ّ‬
‫ومحدوديتــه‬ ‫مســاعدة ورافــدة للفهــم فــي مســتوى نسـ ّـبيته‬
‫قبليــات القــارئ وانتظاراتــه مــن دون اعتبــار لوضــع النـ ّ‬
‫ـص‬ ‫نظـ ًـرا إلــى ّأن املحـ ّـرك ليــس النـ ّ‬
‫ـص بقــدر مــا هــي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألن القـراءة ّ‬‫املصدريــة ّ‬
‫ّ‬
‫فمحمــد العزي ــز الحبابــي ي ــرى أننــا نقـرأ‬ ‫تغيــر املقــروء حســب وضــع القــارئ‪،‬‬ ‫مــن حيــث‬
‫بالبصــر وبالحــدس‪ ،‬ونقـرأ فــي اآلن نفســه بســابقات علــى البصــر‪ ،‬أي‪ :‬بمــا يقت ــرح تســميته ّ‬
‫بقبليــات القـراءة‪،‬‬
‫وقبليــات الثانــي‪.‬‬ ‫ضمنيــات ّ‬
‫األول ّ‬ ‫ّ‬ ‫فالتواصــل بي ــن كاتــب وقــارئ يحصــل فــي الواقــع بي ــن ّ‬
‫خلفيــات أو‬
‫ّ‬
‫املتجســد‬ ‫فالطــارئ الجديــد املحـ ّـرك ملقــوالت التجديــد هــو تنا�ســي املصــدر واالهتمــام بالتشــكيل الداللــي‬
‫ّ‬
‫املضمونيــة‬ ‫ًّ‬
‫نصــا‪ ،‬فالنصــوص فــي مســتوى املنظومــات الجديــدة ســواء ال تميي ــز بي ــنها إال مــن حيــث الكثافــة‬
‫وتوجهاتــه ذات البعــد‬ ‫ـرعية التــداول مــا خضعــت لشــروط القــارئ ّ‬ ‫وغناهــا الداللــي‪ ،‬بالقــدر الــذي يعطيهــا شـ ّ‬
‫تعبــر عــن جـ ّـدة وثــورة وإث ـراء فــي‬
‫ـص ّ‬ ‫ّ‬
‫ة‪-‬التأويلية للنـ ّ‬ ‫الواقعي‪-‬التاريخــي‪ّ .‬إن مثــل هــذه املمارســات التشـ ّ‬
‫ـريحي‬
‫ّ‬
‫يتمثــل فــي املســاهمة فــي فهــم النـ ّ‬ ‫ً‬
‫ـص‪ ،‬مــا إن عرفــت حدودهــا‬ ‫وتحقيقــا الســتحقاق خليفــي‬ ‫مجــال التعامــل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلجر ّ‬
‫ائيــة ونعنــي بذلــك حــدود النتــاج البشــري مــن النصــوص‪ ،‬باعتبــار أنــه صــادر عــن مؤلــف ضمــن ســياق‬
‫ـص الدي ــني يكتســب ّ‬
‫هويــة أخــرى نظـ ًـرا إلــى تعاليــه وانزياحــه مــن املفــارق إلــى املحايــث‬ ‫معيــن‪ ،‬فــي حي ــن ّأن النـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بغــرض الفعــل فيــه تشـ ً‬
‫ة‪-‬الفكريــة فهــو ي ــريد‬ ‫ة‪-‬العقدي‬ ‫القيمي‬ ‫وتوجيهــا وتعديــا‪ ،‬علــى اعتبــار طبيعتــه‬ ‫ـخيصا‬
‫ـص‪ ،‬هــذا إن أخذنــا باملعنــى املعتــدل‬ ‫إعــادة شــخصنة الــذات بالقــدر الــذي تســتقيم فيــه مــع منطــوق النـ ّ‬
‫ّ‬
‫الغربية‪-‬الوافــدة‪.‬‬ ‫يتبنــاه الســياق اإلســامي‪ ،‬عكــس املعنــى الــذي ي ــرومه الحداثـ ّـي فــي صيغتــه‬ ‫الــذي ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـص األدبــي خصوصــا إذا تعلــق األمــر‬ ‫ـص القرآنــي والنـ ّ‬‫هي ًنــا بي ــن النـ ّ‬
‫فارقــا ليــس ّ‬ ‫لذلــك نجــد ّأن هنــاك‬
‫ّ‬ ‫ـص‪ ،‬ومــن هنــا تبــرز قيمــة نـ ّ‬ ‫ّ‬
‫باملصدريــة ثـ ّـم بث ـراء النـ ّ‬
‫ـص عــن غي ــره مــن النصــوص‪ ،‬إنــه انفتــاح ال نهائــي وحركــة‬
‫ـص مــن القــارئ نفســه قــد تجــد معنــى آخــر وتفسي ـ ًـرا آخــر‪،‬‬ ‫كل قـراءة أخــرى للنـ ّ‬ ‫لغويــة ال تقــف عنــد حـ ّـد؛ إذ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـص ّ‬
‫الجيــد ال‬ ‫ـص مــن خــال الق ـراءات املتعـ ّـددة‪ ،‬فالنـ ّ‬ ‫ـدل علــى مــدى الث ـراء الــذي يكتســبه النـ ّ‬ ‫وهــذا ّكلــه يـ ّ‬
‫ـلوبية يملؤهــا القــارئ عبــر تجــاوز ّ‬
‫حرفيــة النـ ّ‬ ‫ألنــه يت ــرك فراغــات فــي شــكل حيــل أسـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـص إلــى‬ ‫يســتهلك نفســه‬
‫ًّ‬ ‫ـخصيا بــه ّ‬ ‫ً‬
‫ـكل قــارئ معامــا شـ ًّ‬ ‫ـكالياته‪ ،‬فـ ّ‬
‫ـإن لـ ّ‬ ‫إبـراز إشـ ّ‬
‫تلقائيــا مــا يالئــم طبعــه واهتماماتــه ومضمراتــه‬ ‫يميــز‬
‫وتســاؤالته‪ ،‬هــذا إن أخذنــا الفهــم العــام للنـ ّ‬
‫ـص‪.‬‬
‫ّ‬
‫املرجعيــة ســعى إلــى‬ ‫التجديديــة التــي ّميــزت الفكــر الغربــي فــي تعاملــه مــع نصوصــه‬
‫ّ‬ ‫مثــل هــذه الطف ـرات‬
‫التجديديــة مــع املحافظــة علــى األســس واملبــادئ ّ‬
‫املميــزة‬ ‫ّ‬ ‫ّبثهــا فــي األط ـراف قصــد مســاعدتها علــى بنــاء ثورتهــا‬
‫ـص القرآنــي‪ ،‬وهــو النمــوذج الدنيــوي باإلضافــة‬‫لرؤيتهــا للنصــوص‪ ،‬هــذا أفــرز مسـ ًـارا آخــر فــي التعامــل مــع النـ ّ‬
‫‪287‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫ـودا متز ً‬
‫امنــا لتياري ــن‬ ‫ممــا أفــرز وجـ ً‬ ‫ّ‬
‫العقديــة‪ّ ،‬‬ ‫إلــى النســق املتــداول املحافــظ علــى قدسـ ّـية النـ ّ‬
‫ـص وثوابتــه‬
‫ـرعية ق ـراءة النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي وتأويلــه وحراســة رأســماله الرمــزي‪.‬‬ ‫متصارعي ــن علــى التمســك بشـ ّ‬
‫ـردد‪ -‬التــي تكتنــف فعــل التجديــد الوافــد مــن الغــرب‪ّ ،‬إنمــا ّ‬
‫مردهــا إرادة‬ ‫مثــل هــذه الريبــة ‪-‬أو املوقــف املت ـ ّ‬
‫ـص‪ّ ،‬‬
‫وكل املفــردات املحيلــة علــى اإللــه ومــا يتبــع ذلــك مــن‬ ‫تشــخصن الــذات التابعــة خــارج حقــل الدي ــن والنـ ّ‬
‫مكبلــة للفكــر والنطالقــة التجديــد املتـ ّ‬
‫ـدوم فــي نســق التاريــخ‪،‬‬ ‫ـودا ّ‬ ‫ـرعية ي ـراها الفكــر املتحـ ّـرر قيـ ً‬
‫ضوابــط شـ ّ‬
‫ِ‬
‫نظـ ًـرا إلــى ّأن العــودة إلــى البدايــات تشي ــر إلــى ّأن الفكــر الغربــي أعلــن عــن إنــكاره لإللــه بمفهومــه املســيحي أثنــاء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫اإلنجيليــة‬ ‫منافســا لإللــه‪ ،‬وتلخــص العبــارة‬ ‫ممارســته للعقــل النقــدي الــذي اعتبــره محـ ّـر ًرا لــه كفــرد وصــار‬
‫هــذا النفــي وهــذه املفارقــة «مملكتــي ليســت فــي هــذا العالــم» وهنــاك صفحــات عديــدة مــن اإلنجيــل أي ــن يعلــن‬
‫فيهــا اإللــه انســحابه «نعــم‪ ،‬فأنــا أخفــي ذاتــي فــي هــذا اليــوم بســبب ّ‬
‫كل الشـ ّـر الناتــج عــن عبــادة آلهــة أخــرى»‪،‬‬
‫وهــو ملمــح يشي ــر إلــى والدة العقــل املنعكــس كمنافــس للعقــل ّ‬
‫املتديــن الســائد‪.‬‬
‫يعلــن الفكــر الغربــي نفســه فــي االختفــاء اإلرادي لإللــه وحي ــرة اإلنســان نظـ ًـرا إلــى تحويــل مج ـراه خــارج‬
‫ّ‬
‫املتديــن‪ .‬مثــل هــذه املغامــرة خــارج النســق الدي ــني هــي التــي تخــارج مــن رحمهــا مفهــوم‬ ‫اإلنســان املســيحي‬
‫الدنيــوة‪ ،‬أي ــن تنعكــس حقيقــة العقــل الغربــي كص ـراع أزلــي بي ــن الدي ــني‪-‬اإللهي وبي ــن اإلنسـ ّ‬
‫ـاني‪ ،‬أو بي ــن‬
‫ّ‬
‫علمانيـ�ة أو علمنـ�ة �‪Laï‬‬ ‫األول مـ�ن خـلال تجربـ�ة‬‫املقـ ّ�دس والدنيـ�وي‪ ،‬بحيـ�ث يسـ�عى الثانـ�ي إلـ�ى الحلـ�ول محـ ّ�ل ّ‬
‫ـانية ‪ Sécularisation‬حيــث‬ ‫وضعيــة إنسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫علمانيــة‬ ‫‪ cisation‬أو تحويــل األخــاق الدي ـ ّـنية واملتعاليــة إلــى قيــم‬
‫يحــاول إرجــاع تاريــخ األفــكار إلــى ذاتــه مــن دون إحالــة إلــى غي ــره‪ ،‬ومثــل هــذه املحــاوالت ّ‬
‫تعبــر عــن حي ــرة هــذه‬
‫الــذات فــي إدراك املعنــى املفقــود أو سـ ّـد الفـراغ الناتــج عــن غيــاب اإللــه ومــا يتبــع ذلــك مــن محــاوالت تبديــد‬
‫أوهامــه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ة‪-‬الغربيــة‪ ،‬إلــى‬ ‫ّ‬
‫التحديثي‬ ‫ّ‬
‫التوجهــات‬ ‫وفــي حقلنــا األهلــي رصدنــا محــاوالت مــن قبــل بعــض ّ‬
‫املثقفي ــن ذوي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫انطالقــا مــن إعــادة ق ـراءة ّ‬
‫البنيويــة واملقــوالت‬ ‫نصنــا القرآنــي مستأنسي ــن بالفلســفة‬ ‫التجديــد والتحديــث‬
‫ـانية وغي ــر تلــك مــن املناهــج الحديثــة‪ ،‬فكانــت نتاجــات ّ‬
‫محمــد أركــون الــذي ســعى إلــى تأســيس ق ـراءة‬ ‫اللسـ ّ‬
‫جديــدة يطمــح مــن خاللهــا إلــى إدخــال العقــل املســلم إلــى الحداثــة عي ــر خلخلــة الثوابــت الباليــة التــي ّ‬
‫يتمســك‬
‫مهــدت‬‫ـص التوراتــي واإلنجيلــي‪ ،‬والتــي ّ‬ ‫ـص كتلــك التــي طالــت النـ ّ‬‫بهــا‪ ،‬ومنطلقــه فــي ذلــك ق ـراءات أليمــة للنـ ّ‬
‫ّ‬
‫اإليجابيــة للنمــاذج‬ ‫‪-‬حســب قولــه‪ -‬للعقــل الغربــي تأســيس حداثتــه الخاصــة بــه‪ ،‬فــا بـ ّـد مــن املحــاكاة‬
‫ـص فــي حقيقتــه‬ ‫الناجحــة‪ ،‬وكذلــك نجــد أعمــال نصــر حامــد أبــو يــد املنطلقــة مــن مقولتــه األساسـ ّـية ّ‬
‫«إن النـ ّ‬ ‫ز‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪288‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وجوهــره منتــج ثقافــي‪ ،‬واملقصــود بذلــك أنــه تشــكل فــي الواقــع والثقافــة خــال فت ــرة تزيــد علــى العشري ــن‬
‫عامــا»‪ .‬وهــو ي ــروم البحــث عــن اإلنســان والتاريــخ الغائبي ــن فــي ثقافتنــا املنشـ ّـدة إلــى اإللــه‪ّ ،‬‬
‫ممــا يعنــي محاولــة‬ ‫ً‬
‫إن ـزال غربــة الــذات مــن املفــارق إلــى التاريــخ‪.‬‬
‫ـص القرآنــي مــن خــال املناهــج‬ ‫ّإن مثــل هــذه الق ـراءات املعاصــرة فــي نطــاق انخراطهــا لدراســة النـ ّ‬
‫ـروعية التفسي ــر والتأويــل لــدى الســلف‪ ،‬علــى اعتبــار‬ ‫ـروعية كمشـ ّ‬ ‫الجديــدة ت ــرى ّأن ممارســتها هــذه لهــا مشـ ّ‬
‫ـأي حــال القــول بالتطابــق‬ ‫ـص املرجعــي والنصــوص الثوانــي ّ‬
‫املفســرة فــا يمكــن بـ ّ‬ ‫املســافة الفاصلــة بي ــن النـ ّ‬
‫ّ‬ ‫متولــد عــن حاجــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــام؛ ّ‬
‫تاريخيــة وقائــم علــى النســبي واملمكــن‪ ،‬فهــو‬ ‫ثقافيــة‬ ‫ألن القـراءة أو خطــاب التفسي ــر‬
‫ً‬
‫خطابــا أو‬ ‫بتاريخيــة القـراءة باعتبارهــا‬ ‫ّ‬ ‫ذاتيــة وإنسـ ّ‬
‫ـانية‪ّ ،‬‬
‫ممــا يعنــي القــول‬ ‫التاريخيــة وبظــروف ّ‬
‫ّ‬ ‫رهــن بشــروطنا‬
‫وتاريخيــة‪ ،‬أي‪ :‬ممكنــة التجــاوز نظـ ًـرا إلــى نسـ ّـبيتها نسـ ّـبية‬
‫ّ‬ ‫ثقافيــا‪ ،‬فأدواتهــا املعتمــدة بالضــرورة ّ‬
‫ثقافيــة‬ ‫ً‬
‫منتجــا ًّ‬
‫انيــة للفهــم والق ـراءة‪ ،‬التــي‬ ‫ـروعيتها حيــث الحركــة الدور ّ‬ ‫منتــج الق ـراءة‪ .‬مــن هنــا تأخــذ الق ـراءة املعاصــرة مشـ ّ‬
‫اثية املقــروء أو مــا فــوق الت ـراثي إن رمنــا‬ ‫تأويليــة تحــاول التكييــف بي ــن حداثــة القـراءة وت ـر ّ‬
‫تحــاول إيجــاد دورة ّ‬
‫مزيــد التدقيــق والخــروج مــن دائــرة الخــاف‪ ،‬وإقامــة جســر تواصــل بي ــن وعــي املطلــق ووعــي التاريــخ كمــا ّ‬
‫عبــر‬
‫ـص القرآنــي مــن الجملــة إلــى العالــم»‪.‬‬ ‫عــن ذلــك وليــد مني ــر فــي كتابــه «النـ ّ‬

‫الســؤال الثالــث‪ :‬ال شــك أن معرفــة الجانــب العلمــي لــه أهميــة‬


‫كبــرى فــي إدراك مســار مختلــف الممارســات التفسيـــرية‪ ،‬فكيــف‬
‫تـــرون الواقــع العلمــي للقــراءات الحداثيــة مــن حيــث الشــق النظــري‬
‫والتطبيقــي‪ ،‬ومــا تقييمكــم لــه؟‬

‫تبقى عيوب مثل هذه القراءات‪:‬‬


‫الوضعيــة التــي ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ألحــت عليهــا تلــك املناهــج‪ ،‬تلــك النزعــة التــي تناقــض بشــكل صــارخ‬ ‫أواًل‪ :‬تجاهلهــا للنزعــة‬
‫إلطالقية األحكام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اإللهية‪ ،‬الذي ّ‬
‫يشرع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املصدرية‬ ‫النص القرآني وتصطدم مع البعد ّ‬
‫األهم وهو‬ ‫ّ‬ ‫خصائص‬
‫ـتقر‪ِ ،‬مــن ثـ ّـم‬
‫كنظريــات لــم تسـ ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثانيــا‪ :‬تعاملهــا مــع هــذه األدوات واملناهــج كأنهــا حقائــق ثابتــة وليســت‬
‫ـريعا لدراســة‬‫ـص تشـ ً‬ ‫فالناقلــون ملثــل هــذه املناهــج دعــوا إلــى تنســيب دالالت الفهــم ونزعــة القداســة علــى النـ ّ‬
‫ـص إلــى‬‫تحولــت مــن النـ ّ‬ ‫لكنهــم وقعــوا فــي اإلشــكال الــذي أرادوا تحييــده‪ ،‬أال وهــو القداســة‪ ،‬التــي ّ‬ ‫علميــة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ومــن ثـ ّـم فهــو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املناهــج‪ ،‬حيــث نجــد أن املحــاوالت التــي قصــرت عــن إدراك غاياتهــا تعيــب النــص ال األداة‪ِ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األصوليــة ّ‬
‫ّ‬
‫العلميــة ووظــف البعــد‬ ‫ولكنــه يقــف علــى أرضهــا‪ ،‬نظـ ًـرا إلــى بعــده عــن الــروح‬ ‫خطــاب ي ــناهض‬
‫‪289‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫األيديولوجــي ّ‬
‫املوجــه لــأدوات‪.‬‬
‫ً‬
‫انطالقــا مــن هــذا التشــخيص لواقــع القـراءات املعاصــرة وأدواتهــا التفسي ـ ّـرية يبــدو ّأن توجيههــا إلــى إعــادة‬
‫ـص القرآنــي قـراءة معاصــرة تســتبطن مرامــي غي ــر تلــك املعلنــة‪ ،‬بحيــث تتبـ ّـدى لنــا جملــة مــن مــآالت‬
‫قـراءة النـ ّ‬
‫فعــل الدنيــوة أو أنســنة النـ ّ‬
‫ـص‪:‬‬
‫ّ‬
‫بحاكميــة صنــف فقــط مــن املعــارف بقــدر مــا غدونــا نقــول بتداخــل أصنــاف املعرفــة‬ ‫• لــم نعــد نقــول‬
‫املصدريــة؛ ّ‬
‫ألن املعيــار الناظــم ليــس النظــر فــي‬ ‫ّ‬ ‫مــن دون إقصــاء أو حجــب ومــن دون نظــر إلــى‬
‫ّ‬
‫الفكريــة للتواجــد‪ ،‬فالنصــوص‬ ‫ّ‬
‫األهليــة‬ ‫ّ‬
‫والنفعيــة أي‪ :‬اكتســابه‬ ‫ّ‬
‫الفاعليــة‬ ‫املصــدر بقــدر النظــر فــي‬
‫اتبية‪ ،‬وغــدت‬‫فــي مســتوى حداثــة العقــل املنعكــس قــد اســتوت ُونزعــت عنهــا ســمة القداســة والت ـر ّ‬
‫تحولــت مــن دائــرة االعتقــاد إلــى دائــرة التفكي ــر العلمــي‪ ،‬أي‪ :‬مــن‬ ‫نصوصــا ذات صلــة باإلنســان؛ ّ‬
‫ألنهــا ّ‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫وضعياتــه‬ ‫دائــرة اإللــه إلــى دائــرة اإلنســان‪ ،‬بحيــث ي ــروم بانتقــاء النصــوص بطريقــة ّ‬
‫نفعيــة بحســب‬
‫وخصوصياتــه‪ ،‬أي‪ّ :‬أننــا نشــهد تاريــخ هــدم للنصــوص وبنــاء نمــوذج لنـ ّ‬
‫ـص متداخــل بعيــد عــن‬ ‫ّ‬
‫مقــوالت االعتقــاد األخــروي واملقـ ّـدس‪.‬‬
‫ّ‬
‫التفكيكيــة وغي ــرها فــي غيــاب تــام للبعــد القيمــي‪-‬‬ ‫• حصــر النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي ضمــن دائــرة الدراســات‬
‫ـص‪ ،‬علــى اعتبــار انضمامهــا إلــى املصلحــة‪ ،‬ومــن ثـ ّـم تتال�شــى‬
‫تضمنــه النـ ّ‬
‫األخالقي‪-‬التشــريعي الــذي ّ‬
‫ـص حيــاة وآخــرة‪ ،‬ومــن ثـ ّـم تكــون املناهــج آســرة لــذات القــارئ‬
‫ـص القرآنــي باعتبــاره نـ ّ‬ ‫ّ‬
‫خصوصيــة النـ ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحضاريــة‪ ،‬فيكــون الناقــل العربــي ناقــا‬ ‫املعرفيــة بــل ضمــن حدودهــا الكبــرى‬ ‫ال ضمــن حدودهــا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الغربيــة‪،‬‬ ‫باملركزيــة‬ ‫العربيــة مرتهنــة‬ ‫للمناهــج والقيــم املتعلقــة بهــا‪ ،‬وهــذا مــا يجعــل حــدود الحداثــة‬
‫ّ‬
‫الكونيــة إلــى وضــع العوملــة‪ ،‬أي‪ :‬مــن الحــوار مــن خــال‬ ‫ممــا يســمح بالقــول بالتحـ ّـول مــن وضــع‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الخصوصيــة وخطــاب الــذات إلــى تعميــم نمــوذج الغالــب‪ :‬مناهــج وقيــم وقواعــد‪.‬‬
‫• هنــاك إرادة جامحــة تنتــاب الفكــر للتغيي ــر وللثــورة وللتجديــد وللتفكيــك وللهــدم وللتجــاوز وإلعــادة‬
‫كل املرجعيــات وإســقاط حجــب التقديــس عنهــا وتطبيــق الصرامــة‬ ‫الصياغــة مــن خــال طــرح ّ‬
‫املنهجيــة والنقديــة عليهــا؛ ألجــل فســح املجــال أمــام تصـ ّـورات جديــدة ي ـراد لهــا أن تكــون البديــل‬ ‫ّ‬
‫كل متعـ ٍـال عنــه ُيعـ ّـد مــن قبيــل املجاز‪،‬‬ ‫الفكر ّي‪-‬الحضــاري فــي هــذا الوجــود التاريخي‪-‬اإلنسـ ّ‬
‫ـاني حيــث ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫العلميــة‬ ‫باإلضافــة إلــى اعتبــار ّأن التعالــي واملفارقــة مــن املفاهيــم التــي تشـ ّـوش علــى املفكــر دراســته‬
‫ـص‪ ،‬إن أخذناهــا مــن املفهــوم الســلفي‪-‬املحافظ‪ّ ،‬أمــا إن اتخذنــا نهــج التعالــي املؤنســن ضمــن‬ ‫للنـ ّ‬
‫فإنهــا تغــدو دافعــة للتنــاول العلمــي وتنســيب الــدالالت املطلقــة‬ ‫حــدود األفــق التاريخي‪-‬اإلنســاني ّ‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪290‬‬

‫ّ‬
‫الذهنيــات مــن حصــار مفاهيــم «املحظــور» و‬ ‫ومحاولــة تدجي ــنها وأنســنتها‪ ،‬ومــن ثـ ّـم وجــب تحري ــر‬
‫ّ‬
‫التقحــم واملواجهــة لنفــي صبغــة‬ ‫ّ‬
‫«للنص‪-‬التابــو»‪ ،‬فوجــب‬ ‫كل تنــاول ومعالجــة‬ ‫«الحـرام» املانعــة مــن ّ‬
‫التقديــس والتعالــي واملفارقــة عبــر اســتبدال هــذا الديالكتيــك صاعــد مــن املحايــث إلــى املفــارق دون‬
‫هجــرة للعالــم هنــا بالدياليكتيــك النــازل مــن املفــارق إلــى املحايــث‪.‬‬
‫ْ‬
‫العامليــن «عالــم اإللــه»‬ ‫•اســتبدال البدايــات‪ ،‬يطــرح إشــكال «املجــاز» فــي الفكــر اإلســامي‪ ،‬بمعنــى ّ‬
‫أي‬
‫ّ‬
‫أو «عالــم اإلنســان‪-‬الهنا» يمثـ ّـل الحقيقــة واآلخــر يمثــل املجــاز؟ ومــن ثـ ّـم يخــرج إشــكال املجــاز مــن‬
‫حقلــه اللغــوي إلــى حقلــه الحضــاري فــي مجــال «صياغــة رؤيــة للعالــم»‪ ،‬وعبــر ذلــك تتحـ ّـدد الــرؤى ّإمــا‬
‫ممــا يعنــي انتصـ ًـارا للموقــف املتــداول‬ ‫الهجــرة مــن عالــم الهنا‪-‬املجــازي إلــى عالــم الحقيقــة الفوقــي‪ّ ،‬‬
‫الرســمي‪ّ ،‬‬
‫وإمــا اإلقـرار بحقيقــة الوجــود اإلنســاني‪-‬في الهنــا واعتبــار العالــم الفوقــي الكامــن فــي الوعــي‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫مجازيــا‪ ،‬وهــو مــا يعنــي انتصـ ًـارا للموقــف الحداثي‪-‬العلمــي‪ ،‬ولعـ ّـل تعبي ـرات النخــب اآلخــذة‬ ‫عاملــا‬
‫بالنمــوذج الغربــي وتحليالتهــا تشي ــر بداهــة ليــس إلــى انتصارهــا إلــى املوقــف الثانــي فحســب‪ ،‬بــل‬
‫وتؤكــد ســعيها إلــى إضعــاف حجــج املوقــف الســلفي وســلبه ّ‬ ‫ّ‬
‫أهليــة حضــوره وتداولــه عبــر القــول‬
‫بتاريخيــة أفــكاره وفقدانهــا مشـ ّ‬
‫ـروعية التــداول‪.‬‬ ‫ّ‬
‫•اســتبدال ّ‬
‫هويــة النـ ّ‬
‫ـص عبــر تحويلــه مــن ناطــق باســم اإللــه إلــى ناطــق باســم تأويــات اإلنســان‬
‫برمتهــا وجهــود األقدمي ــن الذي ــن‬ ‫ّ‬
‫العقديــة ّ‬ ‫وانتظاراتــه‪ ،‬وهــي مغامــرة تســتهدف تحييــد املنظومــة‬
‫ـص القرآنــي إلــى مناويــل التحليــل‬ ‫كل الظواهــر بمــا فيهــا النـ ّ‬
‫أصلــوا تلــك الحقائــق عبــر إخضــاع ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بفاعليــة‬ ‫ـص‪ ،‬ومــن ثـ ّـم العــودة إلــى القــول‬ ‫ّ‬
‫تاريخيــة داللــة النـ ّ‬ ‫التاريخــي لنشــأة األفــكار للتأكيــد علــى‬
‫النصــوص‪ ،‬وبالتالــي إلــى نســف قــول املنظومــة األشـ ّ‬
‫ـعرية بمفارقــة‬ ‫ـاني فــي صياغــة ّ‬ ‫الواقــع اإلنسـ ّ‬
‫ـاني بــه مــن حيــث كونــه الوجــود الحقيقــي ّ‬
‫وكل‬ ‫ـص القرآنــي واســتبداله مقولــة الوجــود اإلنسـ ّ‬ ‫النـ ّ‬
‫تغيــر جــذري فــي مســتوى التعامــل مــع موجــدات‬‫مفــارق لــه هــو مجــاز‪ .‬مثــل هــذه التأكيــد يف�ضــي إلــى ّ‬
‫األرثوذكسية‪-‬اإلسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـص القرآنــي‪ ،‬نعنــي بذلــك ّ‬ ‫النـ ّ‬
‫ـامية وهــي الوحــي‪،‬‬ ‫قضيــة مســلم بهــا فــي املنظومــة‬
‫تغيــر يعتبــر مدخـ ًـا أساسـ ًّـيا لتحقيــق وعــي علمــي بالنـ ّ‬
‫ـص املقـ ّـدس وتجــاوز الوعــي األيديولوجــي‬ ‫وهــو ّ‬
‫ـعرية أو حـ ّـراس الرأســمال الرمــزي‪.‬‬ ‫الــذي تتسـ ّـتر وراءه الخطابــات األشـ ّ‬
‫ّ‬
‫التاريخيــة كان الولــوج إليــه مــن علــم‬ ‫•لتطويــع النـ ّ‬
‫ـص املتعالــي ملبــادئ الدنيــوة القائمــة علــى أســاس‬
‫ّ‬
‫اجتماعيــة لتشــريع نزولهــا‪ ،‬قصــد نقــض‬ ‫كل آيــة ّ‬
‫تتوســل بواقعــة‬ ‫أســباب النــزول مــن خــال جعــل ّ‬
‫ّ‬
‫واقعيــة الوســط االجتماعــي باعتبــاره الحاضــن لــه‬ ‫ـص ي ـ ّ‬
‫ـنشد إلــى‬ ‫ـداء‪ ،‬وجعــل النـ ّ‬
‫مبــدأ النــزول ابتـ ً‬
‫‪291‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫ّ‬
‫وظيفيــة علــوم القـرآن فــي الفكــر‬ ‫والفاعــل األسا�ســي لبلــورة موضوعاتــه‪ ،‬وهنــا ُيطــرح إشــكال تبـ ّـدل‬
‫ّ‬
‫بالتاريخيــة‬ ‫آليــات تشــريع القــول‬ ‫آليــة مــن ّ‬ ‫ـص إلــى ّ‬
‫املعاصــر مــن وســيلة مســاعدة علــى فهــم النـ ّ‬
‫ـداء مــن خــال تجــاوزه‪ ،‬نظـ ًـرا إلــى ّأن العقــل‬ ‫االجتماعيــة‪ ،‬تشـ ً‬
‫ـريعا لالجتهــاد فيــه ابتـ ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والخصوصيــة‬
‫مؤس ّســة‪ّ ،‬‬ ‫تحتيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫املتولــدة عــن بنــى ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنعكــس يؤمــن بـ ّ‬
‫ـأن النـ ّ‬
‫ممــا يعنــي‬ ‫الفوقيــة‬ ‫ـص ي ــنتمي إلــى البنــى‬
‫تغيــر يطــال الثانيــة يلحــق باألولــى ضــرورة‪ ،‬ســواء فــي مســتوى اإللغــاء أو التبديــل أو التحوي ــر‪،‬‬ ‫ّأن ّ‬
‫كل ّ‬
‫ـص الــذي غــدا ً‬
‫تابعــا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حاكميــة النـ ّ‬ ‫حاكميــة القــارئ والواقــع واملصلحــة ّ‬
‫املاديــة ال‬ ‫ّ‬ ‫وهــذا مــا يحيــل إلــى‬
‫ّ‬
‫يتضمــن معنــى‬ ‫ـأن الق ـرآن خطــاب تاريخــي ال‬ ‫•يت ـ ّـرتب علــى هــذا ال ـرأي نتيجــة أخــرى وهــو القــول بـ ّ‬
‫ّ‬ ‫جوهريــا ً‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫جوهريــة ثابتــة فــي النصــوص‪ ،‬بــل لـ ّ‬
‫ـكل ق ـراءة باملعنــى‬ ‫ثابتــا‪ ،‬وليــس ّثمــة عناصــر‬ ‫مفارقــا‬
‫أي معــان أو مفاهيــم أو أحــكام للقـرآن وجعلنــا لـ ّ‬
‫ـكل‬ ‫أي ثبــات عــن ّ‬ ‫التاريخــي االجتماعــي‪ ،‬وإذا انتفــى ّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحريــة فــي كشــف جوهــر قراءتــه‪ ،‬وإذا علمنــا مــع ألتوسي ــر بأنــه ال توجــد ّثمــة‬ ‫ق ـراءة ولـ ّ‬
‫ـكل قــارئ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قـراءة بريئــة‪ ،‬فهــل يبقــى مــن قدسـ ّـية النـ ّ‬
‫فاعليــة‬ ‫ـص القرآنــي �شــيء؟ والهــدف مــن ذلــك التخلــص مــن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومــن ثـ ّـم‬ ‫ّ‬
‫أحــكام النــص علــى واقــع اإلنســان الــذي ي ــريد التحـ ّـرر والتخلــص مــن املرجعيــة الدي ــنية‪ِ ،‬‬
‫كل الضوابــط املحيلــة علــى الدي ــني‪-‬اإللهي والقــول بمشـ ّ‬
‫ـروعية أحــكام‬ ‫تشــريع منطــق التحـ ّـرر مــن ّ‬
‫ّ‬
‫تاريخيــة متحفيــة ســواء فــي‬ ‫اإلنســان املتجـ ّـددة‪ّ ،‬‬
‫ممــا يعنــي تحـ ّـول كثي ــر مــن األحــكام إلــى مقــوالت‬
‫مســتوى العبــادة أو العقائــد أو غي ــرها‪ ،‬فلـ ّ‬
‫ـكل جيــل فهومــه ملثــل هــذه املقــوالت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫•ولعـ ّـل النتيجــة األكث ــر بــرو ًزا فــي مجــال الجهــد التنظي ــري لدنيــوة النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي تلــك متعلقــة‬
‫ـص القرآنــي بمــا هــو‬ ‫اجتماعيــة‪ ،‬وعليــه فـ ّ‬
‫ـإن النـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وضعيــة‬ ‫ّ‬
‫ة‪-‬إيمانية إلــى‬ ‫بتحويلــه مــن ممارســة طقوسـ ّـي‬
‫ّ‬
‫وموضوعيــة مــع املجتمــع‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تاريخيــة‬ ‫مرجــع إلنتــاج املمارســة الدي ـ ّـنية ال يمكــن إال أن ي ــرتبط بعالقــة‬
‫وضعيــة املحــاكاة والنفــي التــي مارســها اإلنســان «الحديــث» فــي مســتوى عالقتــه‬ ‫ّ‬ ‫علــى اعتبــار‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتبعيــة هــذا األخي ــر لــه‪ ،‬ومــن‬ ‫باإللــه‪ ،‬وانطالقــا مــن الوضــع الجديــد يغــدو العقــل ســابقا للدي ــن‬
‫ّ‬
‫ولوضعياتــه الطارئــة ّ‬
‫وكل مــا عــدا‬ ‫بخلفيــة ّ‬
‫وظفيتــه للمجتمــع‬ ‫ّ‬ ‫ثـ ّـم يكــون التعامــل مــع املنتــج الدي ــني‬
‫ـص‬ ‫ا‪-‬روحيــا؛ ّ‬
‫ألن املعتمــد هنــا ّ‬
‫النصــوص فــي ســياقاتها وليــس النـ ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫معرفي‬ ‫ذلــك ال يشـ ّـكل أث ـ ًـرا أو ً‬
‫وزنــا‬
‫ـروعيته مــن حيــث هــو نســق تحديثــي قابــل للممارســة‬ ‫ـص مشـ ّ‬ ‫ّ‬
‫مصدريتــه‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يفقــد النـ ّ‬ ‫فــي‬
‫متحفيــة ّ‬
‫محيــدة قابلــة للتوظيــف وللتفعيــل فــي حــال ارتــأى حـ ّـراس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وضعيــة‬ ‫التاريخيــة‪ ،‬ويتحـ ّـول إلــى‬
‫ّ‬
‫الرأســمال الرمــزي االحتــكام إليــه أو االرتقــاء ببعــض مقوالتــه إلــى وضــع اإلدراج واإلدمــاج ضمــن‬
‫ّ‬
‫للمصدريــة‪.‬‬ ‫الح ـراك االجتماعــي‪ ،‬وتمــاس تــام مــع ّ‬
‫بقيــة النصــوص فــي تسـ ٍـاو تــام وفــي نســيان مقصــود‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪292‬‬

‫ّ‬
‫والنظريات التي أنتجت‬ ‫ّ‬
‫النص القرآني ملثل هذه املناهج‬ ‫• ّإن مثل هذه القراءات والجهود في تطويع‬
‫ّ‬
‫والخصوصيــة إال‬ ‫ـص القرآنــي‪ ،‬ومــا إضاعــة هــذه ّ‬
‫الهويــة‬ ‫لنصــوص بشـ ّـرية ت ــريد إضاعــة ّ‬
‫هويــة النـ ّ‬
‫لخصوصيــة الــذات املســلمة ّ‬
‫وتميزهــا‪ ،‬ومــن ثـ ّـم حشــرها ضمــن الــذوات التابعــة املنبهــرة‬ ‫ّ‬ ‫إضاعــة‬
‫ّ‬
‫خصوصيــة املرجــع املتــداول لديهــا‪،‬‬ ‫ـكل جديــد وحديــث مــن دون نظــر وتفكي ــر فــي تكييفهــا مــع‬‫بـ ّ‬
‫وهــذا يعــود باألســاس إلــى الرغبــة فــي التجديــد واالنبهــار بالغــرب ومحاولــة تقليــده للظفــر بالحداثــة‬
‫ّ‬
‫ومرجعياتــه‪.‬‬ ‫والتقـ ّـدم حتــى وإن كان ذلــك علــى حســاب تشــخصن الــذات وت ـراثها وقيمهــا‬

‫الســؤال الرابــع‪ :‬فــي ضــوء هــذا الواقــع العلمــي للقــراءات الحداثيــة‬


‫كمــا ســلف‪ ،‬لــو تقدمــون لنــا أهــم الجــذور والمنطلقــات الفكريــة‬
‫المؤطــرة لهــذه القــراءات؟ ومــا أبــرز المرامــي التــي يســعى أربــاب هــذا‬
‫الشــأن إلــى بلوغهــا؟‬
‫الت ّ‬ ‫يهمنا هنا هو األزمة التي ّ‬ ‫ّإن الذي ّ‬
‫ممتدة إلى يومنا هذا وتنذر‬ ‫تفجرت في أواسط القرن املا�ضي وما ز‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫باالســتمرار‪ ،‬وهــي تلــك التــي ّ‬
‫وخصوصــا املتعلقــة‬ ‫تميــزت بســقوط العديــد مــن األيديولوجيــات واملفاهيــم‪،‬‬
‫ّ ّ‬
‫ممــا يؤكــد ّأن طبيعــة االهتمــام ّتتجــه نحــو‬ ‫ـص املقـ ّـدس»‬
‫بــإرادات القـراءة ونســقها وآفاقهــا ضمــن دائــرة «النـ ّ‬
‫نصــا «مؤنســنا» لحظــة‬‫ـص املقـ ّـدس الــذي غــدا ًّ‬ ‫ـص القرآنــي‪ ،‬بمعنــى ّأن القــارئ ّ‬
‫يوجــه النـ ّ‬ ‫اســتبدال ّ‬
‫هويــة النـ ّ‬
‫نزولــه وحضــوره فــي حلقــة التاريــخ البشــري علــى اعتبــار نزولــه بلغــة بشـ ّـرية وخضــوع تلــك النصــوص لشــروط‬
‫ّ‬
‫«قبليــات الق ـراءة»‬ ‫الوضــع االجتماعي–التاريخــي الحــاف بوالدتهــا‪ ،‬وهــذا التوجيــه نحــو الدنيــوة كائــن عبــر‬
‫املضمــرة فــي فكــر القــارئ‪ ،‬بمعنــى ّأنــه لــن يبحــث فــي النـ ّ‬
‫ـص إال عــن الــذي ي ــنتظره هــو منــه‪ ،‬لذلــك سيســعى إلــى‬
‫نصــا ً‬
‫ناطقــا بلســان القــارئ‬ ‫ـكل أشــكال حضــوره ًّ‬ ‫جعلــه ً‬
‫ناطقــا بإجابــات بعي ــنها ي ــريدها‪ ،‬وهــو مــا يجعــل النـ ّ‬
‫ـص بـ ّ‬
‫لقبلياتــه‪ ،‬وإن تعـ ّـذر مثــل ذلــك يغــدو العيــب فــي النـ ّ‬
‫ـص ال فــي الواقــع‪ ،‬مثــل هــذا القــول يقلــب‬ ‫نصــا ّ‬
‫مغيـ ًـرا ّ‬ ‫ال ًّ‬
‫ّ‬
‫الفكريــة ذات‬ ‫ـص إلــى ســلطة القارئ‪-‬املـ ّ‬
‫ـؤول‪ ،‬فــإرادة النخــب‬ ‫ّ‬
‫بحاكميــة النـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ة‪-‬األهلية القائلــة‬ ‫املعادلــة الت ـر ّ‬
‫اثي‬
‫االتجــاه الحداثــوي ت ــريد الخــروج بنــص الوحــي مــن دائــرة األســطورة إلــى دائــرة التاريــخ ومــن دائــرة اإليمــان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫النقديــة‪ ،‬مــن خــال جعلــه قابــا للقـراءة‪ ،‬باعتبــاره فعــا ي ــنحو ناحيــة‬ ‫والتســليم إلــى دائــرة العلــم واملراجعــات‬
‫ّ‬
‫واملتغيــر‬ ‫ـص ثابــت املعانــي والــدالالت علــى واقــع القــارئ املتشـ ّـعب‬ ‫ّ‬
‫الحاكميــة لنـ ّ‬ ‫القــارئ‪ ،‬فــا يعقــل أن تكــون‬
‫ّ‬
‫حاكميــة النـ ّ‬
‫ـص‬ ‫واملتطـ ّـور واملنخــرط ضمــن صي ــرورة تنفــر مــن الحـ ّـل وتميــل إلــى الت ــرحال‪ ،‬فالتســليم بمثــل‬
‫إهــدار لــه وللواقــع الــذي يحكمــه بحســب تعبي ــر نصــر حامــد أبــو زيــد‪ ،‬لذلــك وجــب نســخ مقــوالت الخطــاب‬
‫‪293‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫الدي ــني املحافــظ «حـ ّـراس الرأســمال الرمــزي» قصــد االنخ ـراط فــي اســتقطار الــدالالت واملفاهيــم املعتقلــة‬
‫ّ‬
‫التاريخيــة املعيشــة‪ ،‬عبــر هــذا الفعــل التفكيكــي‪ ،‬أي‪ :‬بواســطة‬ ‫ـص القرآنــي التــي ّتتفــق واللحظــة‬ ‫فــي جســد النـ ّ‬
‫ً‬
‫ـص القرآنــي ّأواًل‬ ‫ّ‬
‫التأويليــة‪ ،‬التــي تصــل إلــى املغــزى عبــر الداللــة ال ً‬
‫وثبــا عليهــا‪ ،‬يمكــن أن يســتعيد النـ ّ‬ ‫القـراءة‬
‫النص القرآني وأوقفوه‬ ‫ّ‬ ‫حراس الرأسمال الرمزي‬ ‫الطبيعيين بعد أن قلب ّ‬‫ْ‬ ‫ثانيا وضعهما‬ ‫ونصوصه الثواني ً‬
‫الذهنيــات والتاريــخ‪ّ .‬إن الكشــف‬
‫ّ‬ ‫النصــوص فحســب بــل يحـ ّـرر‬ ‫علــى رأســه‪ ،‬هــذا العمــل التفكيكــي لــن يحـ ّـرر ّ‬
‫املثب َتــة لهــذه‬
‫عــن الخفــي ال يتـ ّـم بمجـ ّـرد اســتبدال التســميات بــل بالقطيعــة املعرفيــة والكشــف عــن اإلرادات ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫األنســاق‪ ،‬فــا بـ ّـد مــن إيقــاع الت ــرتيب اإلبســتمولوجي الــذي ي ـراجع التولــد التدريجــي لألفــكار وتجددهــا أو‬
‫ّ‬
‫ـانية ذلــك‪ ،‬لكــن دون قفـزات مراهقــة‪ .‬مثــل هــذه املراجعــات ّ‬
‫تعبــر عــن‬ ‫تجاوزهــا إن اقتضــت الضــرورة اإلنسـ ّ‬
‫ميــاد «حداثــة العقــل املنعكــس»‪ ،‬لــو اســتخدمنا مصطلــح ميشــال فوشــو‪.‬‬
‫بهــذا التحديــد اإلشــكالي للتصــورات وللمفاهيــم يتسـ ّـنى تحديــد املفارقــة بي ــن املنظومتي ــن القديمــة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫املحافظــة والناشــئة حديثــا ضمــن مجــال دراســة النصــوص‪ ،‬واملتمثلــة فــي مشــكل البدايــة باعتبــار ّأن هــذا‬
‫التحديــد هــو الــذي يتسـ ّـنى بمقتضــاه رســم خــط سي ــر التفكي ــر للمفاهيــم واإلشــكاالت التــي تتحـ ّـرك ضمنهــا‬
‫وبهــا هــذه املنظومــة أو تلــك‪ ،‬بهــذا املعنــى بــدأت مرحلــة الجــزر للفكــر امليتافزيقــي أمــام الدفــق الــذي غــدا‬
‫ّ‬
‫يمثلــه الفكــر الحديــث الظهوراتــي فكــر الواقــع فــي «العالــم» والتفكي ــر فــي ال«هنــا»‪ ،‬أي‪ :‬مــن مرحلــة الواقــع‬
‫كفكــر أو كأمثولــة إلــى مرحلــة الواقــع كعالــم ح�ســي لــه وضعــه الزمنــي فــي حلقــة التاريــخ‪ّ ،‬إن هــذا ّ‬
‫التغيــر أنشــأ‬
‫كل هــذه التعبي ـرات‬‫منظومــة الحضــور القائــم «فــي» العالــم والتــوق إلــى التقـ ّـدم «في» ــه وهــو معنــى الدنيــوة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫عــن التــوق والتقـ ّـدم وتعبي ــره مــا يجــب أن يكــون قــد انفصلــت عــن نســق التجريــد لتغــدو صي ــرورة وميــا‬
‫للتعالــي املســتمر داخــل العالــم الح�ســي‪ ،‬عالــم اإلنســان عالــم الـ«هنــا»‪ ،‬وهــذا مــا دفــع إلــى إق ـرار حلقــة فــن‬
‫عبــر عــن ذلــك ميشــال فوشــو‪ ،‬أي ــن تتأســس حركــة االنعطــاف‬ ‫التأويــل‪ ،cercle herméneutique‬كمــا ّ‬
‫ّ‬
‫املتغيــرة التــي تت ـراءى ًّ‬
‫جليــا فــي انبجــاس مســحة القلــق والحي ــرة والتوت ــر العاليــة علــى جبي ــن الفكــر الحديــث؟‬
‫ّ‬ ‫أي‪ :‬العالــم الــذي هجــره اإللــه‪ّ ،‬‬
‫واملعبــرة عــن �شــيء دفي ــن فــي الفكــر وفــي النفسـ ّـية‪ ،‬إنــه مخــاض مــأزوم لفكــر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بمركزيــة فكــرة اإللــه‪ ،‬الــذي يفكــر ‪-‬أي‪ :‬اإلنســان‪ -‬فــي ذاتــه‬ ‫مركزيــة اإلنســان‬ ‫الحداثــة بعــد أن اســتبدلت‬
‫تغيــر نظــم‬ ‫ملنظوريــة الفهــم املعلنــة صعـ ًـدا‪ ،‬مــن هنــا تفقــد الحقيقــة مشــروعيتها ً‬
‫تبعــا إلــى ّ‬ ‫ّ‬ ‫كحلقيــة‪ً ،‬‬
‫تبعــا‬
‫ّ‬
‫إمكانيــة أخــذ صفــة‬ ‫االســتدالل بهــا‪ ،‬أي‪ :‬مــن الحقيقــة إلــى حقيقــة مــن جملــة حقائــق أو لنقــل معــارف لهــا‬
‫ّ‬
‫وحاكميتــه ســيكون ًّ‬
‫مبنيــا علــى معيــار التوافــق‬ ‫اليقي ــن‪ ،‬مهمــا كان مصــدر هــذه الحقائــق‪ّ ،‬‬
‫ألن طبيعــة القــادم‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مــع أقانيــم الواقــع اإلنسـ ّ‬
‫بحلقيــة القبــول والرفــض للمقــوالت‪ ،‬فلــم نعــد‬ ‫ـاني‪ ،‬لــذا يغــدو اإلنســان ماســكا‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪294‬‬

‫بحاكميــة صنــف فقــط مــن املعــارف بقــدر مــا غدونــا نقــول بتداخــل أصنــاف املعرفــة مــن دون إقصــاء‬ ‫ّ‬ ‫نقــول‬
‫ّ‬
‫الفاعليــة‬ ‫املصدريــة؛ ّ‬
‫ألن املعيــار الناظــم ليــس النظــر فــي املصــدر بقــدر النظــر فــي‬ ‫ّ‬ ‫أو حجــب ومــن دون نظــر إلــى‬
‫ّ‬
‫فالنصــوص فــي مســتوى حداثــة العقــل املنعكــس قــد‬ ‫ّ‬
‫الفكريــة للتواجــد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫األهليــة‬ ‫ّ‬
‫والنفعيــة‪ ،‬أي‪ :‬اكتســابه‬
‫تحولــت مــن‬ ‫نصوصــا ذات صلــة باإلنســان؛ ّ‬
‫ألنهــا ّ‬ ‫ً‬ ‫اســتوت ُونزعــت عنهــا ســمة القداســة والت ـر ّ‬
‫اتبية‪ ،‬وغــدت‬
‫دائــرة االعتقــاد إلــى دائــرة التفكي ــر العلمــي‪ ،‬أي‪ :‬مــن دائــرة اإللــه إلــى دائــرة اإلنســان‪ ،‬مــن فكــر ميتافي ــزيقي إلــى‬
‫فكــر في ــزيقي‪-‬ظهوراتي يبتغــي الدنيــوة‪.‬‬
‫ّإنهــا إرادة جامحــة تنتــاب الفكــر للتغيي ــر وللثــورة وللتجديــد وللتفكيــك وللهــدم وللتجــاوز وإلعــادة‬
‫ّ‬
‫املنهجيــة‬ ‫كل املرجعيــات وإســقاط حجــب التقديــس عنهــا وتطبيــق الصرامــة‬ ‫الصياغــة مــن خــال طــرح ّ‬
‫والنقديــة عليهــا‪ ،‬ألجــل فســح املجــال أمــام تصـ ّـورات جديــدة ي ـراد لهــا أن تكــون البديــل الفكر ّي‪-‬الحضــاري فــي‬
‫عد من قبيل املجاز‪ ،‬باإلضافة إلى اعتبار ّأن التعالي‬ ‫كل متعال عنه ُي ّ‬
‫ٍ‬
‫التاريخي‪-‬اإلنساني حيث ّ‬
‫ّ‬ ‫هذا الوجود‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫العلميــة للنـ ّ‬
‫ـص‪ ،‬إن أخذناهــا مــن املفهــوم الســلفي‪-‬‬ ‫واملفارقــة مــن املفاهيــم التــي تشـ ّـوش علــى املفكــر دراســته‬
‫املحافــظ‪ّ ،‬أمــا إن اتخذنــا نهــج التعالــي املؤنســن ضمــن حــدود األفــق التاريخي‪-‬اإلنســاني ّ‬
‫فإنهــا تغــدو دافعــة‬
‫ّ‬
‫الذهنيــات‬ ‫للتنــاول العلمــي وتنســيب الــدالالت املطلقــة ومحاولــة تدجي ــنها وأنســنتها‪ ،‬ومــن ثـ ّـم وجــب تحري ــر‬
‫ّ‬
‫«للنص‪-‬التابــو»‪ ،‬فوجــب‬ ‫كل تنــاول ومعالجــة‬ ‫مــن حصــار مفاهيــم «املحظــور» و»الح ـرام» املانعــة مــن ّ‬
‫ّ‬
‫التقحــم واملواجهــة لنفــي صبغــة التقديــس والتعالــي واملفارقــة عبــر اســتبدال هــذا الدياليكتيــك النــازل مــن‬
‫املفــارق إلــى املحايــث بديالكتيــك صاعــد مــن املحايــث إلــى املفــارق دون هجــرة للعالــم هنــا؛ لذلــك فـ ّ‬
‫ـإن هــذا‬
‫الكتــاب حي ــن يقتحــم ببعــض أســئلته دوائــر «املحظــور» و»املحــرم» فــي الوعــي الدي ــني الســائد واملســيطر‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫خطابــا بــدوره ال ي ــزعم امتــاك الحقيقــة‪ ...‬إنــه خطــاب يحــاول مــن خــال مــا يثي ــر مــن‬ ‫يقتحمهــا إال بوصفــه‬
‫أســئلة مضمــرة فــي بنيــة الخطابــات األخــرى‪ ...‬مقاربــة بعــض جوانــب الحقيقــة باملعنــى النســبي‪ ،‬أي‪ :‬الثقافــي‬
‫التاريخــي‪ .‬كمــا عبــر عــن ذلــك علــي حــرب‪.‬‬
‫كل العقائــد واألنظمــة‬ ‫تلــك هــي حقيقــة التفكيــك التــي أريــد لهــا أن تكــون صبغــة هــذا العصــر‪ ،‬تفكيــك ّ‬
‫ّ‬
‫اإلطالقيــة إلــى‬ ‫الالهوتيــة اآلتيــة مــن العصــور الوســطى قصــد محاولــة تأهيلهــا مــن خــال تعديــل نســقها مــن‬
‫املعرفيــة أو التداخــل‪ ،‬نظـ ًـرا إلــى الجمــود الــذي طالهــا‪ ،‬وقــد ّ‬
‫عبــر هاشــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األحاديــة إلــى ّ‬
‫املعيــة‬ ‫النسـ ّـبية‪ ،‬ومــن‬
‫التوجــه الحداثــوي الغربــي الــذي ي ــريد خلخلــة ّ‬
‫كل الثوابــت واألصــول املدمجــة التــي تقــوم‬ ‫ّ‬ ‫صالــح عــن هــذا‬
‫‪295‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫الثالثيــة‪ ،‬ومنهــا الــذات اإلسـ ّ‬


‫ـامية والعمــل علــى إدخالهــا‬ ‫ّ‬ ‫عليهــا الــذات اإلنسـ ّ‬
‫ـانية لــدى العديــد مــن الثقافــات‬
‫ْ‬
‫املصطلحيــن عبــر فــرض نســق‬ ‫هي ًنــا بي ــن‬
‫ضمــن مســار جديــد هــو مســار العوملــة ال الكونيــة‪ ،‬والفــارق ليــس ّ‬

‫التجديــد وإيجــاد بدائــل لنمــوذج اإليمــان القروســطي بنمــوذج إليمــان يســتجيب ملواصفــات حداثــة اإلنســان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فاعليــة العقــل املنعكــس الــذي بلــور مفهــوم‬ ‫ال ملواصفــات املعبــود ســبحانه‪ ،‬أي أننــا مــع هــذه الحداثــة نشــهد‬
‫تكييــف مفهــوم اإللــه بحســب مواصفــات اإلنســان بــدل اســتجابة اإلنســان ملواصفــات هللا التــي أثبتهــا ألجــل‬
‫متماهيــا معهــا أو سـ ً‬
‫ـاعيا المتالكهــا ولــو نسـ ًّـبيا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أن يكــون‬
‫العقــل املنعكــس الــذي بلــور مفهــوم مــن هنــا ّ‬
‫تحولــت العقائــد التــي هــي جوهــر النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي إلــى مجـ ّـرد‬
‫ً‬ ‫ذهنيــة ّ‬
‫تصـ ّـورات ّ‬
‫موجهــة للســلوك بعــد أن كانــت دليــا علــى وجــود إلــه مفارق‪-‬رقيــب‪ ،‬بحيــث غــدت مثــل‬
‫نظامــا‬ ‫ّ‬
‫العقائديــة املتعاليــة ‪-‬فــي عــرف نصــر حامــد أبــي زيــد اآلخــذ بنســق العقــل املنعكــس‪ً -‬‬ ‫هــذه األنظمــة‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬
‫واقعيــا هدفهــا االســتجابة ملصالــح النــاس أو تبري ــرها بعدمــا كانــت تســعى إلــى إقامــة مصالــح النــاس وفــق‬
‫ّ‬
‫التوجــه‬ ‫ـص املقـ ّـدس‪ ،‬بصــرف النظــر عــن املصــدر وداللتــه علــى وجــود مفــارق‪ ،‬مثــل هــذا‬ ‫ّ‬
‫نظريــة مقاصــد النـ ّ‬
‫ّ‬
‫التصحيحيــة التــي انخــرط فيهــا عقــل الحداثــة أو العقــل املنعكــس عبــر اعتبــار‬ ‫يبـ ّـرره نصــر حامــد باملراجعــة‬
‫ـاني هــو األصــل‪ ،‬أي‪ :‬الوجــود الحقيقــي «الديالكتيــك الصاعــد»‪ّ ،‬‬
‫وكل وجــود فــي الوعــي هــو‬ ‫الوجــود اإلنسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫وجــود باملجــاز‪ ،‬فاإلنســان هــو مبــدع اللغــة لذلــك فـ ّ‬
‫ـكل مفاهيمهــا تنطبــق بالحقيقــة علــى اإلنســان ألنــه هــو‬
‫األول بمعانيهــا ومفاهيمهــا‪ّ ،‬أمــا غي ــره فتطلــق عليــه مجـ ًـازا ً‬
‫قياســا علــى إطالقهــا علــى الوجــود اإلنسـ ّ‬
‫ـاني‪،‬‬ ‫املعنـ ّـي ّ‬
‫وخــاف ذلــك يعـ ّـد ً‬
‫عائقــا أمــام التفاعــل املثمــر الــذي ي ـراد لإلنســان أن ي ــنخرط فيــه‪.‬‬
‫مثــل هــذا التصـ ّـور فــي مجــال اســتبدال البدايــات يطــرح إشــكال «املجــاز» فــي الفكــر اإلســامي‪ ،‬بمعنــى‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫العامليــن «عالــم اإللــه» أو «عالــم اإلنســان‪-‬الهنا» يمثـ ّـل الحقيقــة واآلخــر يمثــل املجــاز‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يخــرج‬ ‫ّ‬
‫أي‬
‫إشــكال املجــاز مــن حقلــه اللغــوي إلــى حقلــه الحضــاري فــي مجــال «صياغــة رؤيــة للعالــم»‪ ،‬وعبــر ذلــك تتحـ ّـدد‬
‫ممــا يعنــي انتصـ ًـارا للموقــف الســلفي‪-‬‬ ‫الــرؤى ّإمــا الهجــرة مــن عالــم الهنا‪-‬املجــازي إلــى عالــم الحقيقــة الفوقــي‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫األشــعري‪ّ ،‬‬
‫وإمــا اإلق ـرار بحقيقــة الوجــود اإلنســاني‪-‬في الهنــا واعتبــار العالــم الفوقــي الكامــن فــي الوعــي عاملــا‬
‫مجازيــا‪ ،‬وهــو مــا يعنــي انتصـ ًـارا للموقــف الحداثي‪-‬العلمــي‪ ،‬ولعـ ّـل تعبي ـرات النخــب اآلخــذة بالنمــوذج الغربــي‬ ‫ًّ‬
‫ّ‬
‫وتحليالتهــا تشي ــر بداهــة ال إلــى انتصارهــا إلــى املوقــف الثانــي فحســب‪ ،‬بــل وتؤكــد ســعيها إلــى إضعــاف حجــج‬
‫بتاريخيــة أفــكاره وفقدانهــا مشـ ّ‬
‫ـروعية التــداول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املوقــف الســلفي وســلبه ّ‬
‫أهليــة حضــوره وتداولــه عبــر القــول‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪296‬‬

‫الســؤال الخامــس‪ :‬يـــزعم العديــد مــن رواد القــراءات الحداثيــة للقرآن‬


‫أن هــذه المناهــج قــد أســهمت فــي تثويـــر معانــي القــرآن وإيصالهــا‬
‫إلــى آفــاق لــم يصلهــا المعنــى القرآنــي مــن قبــل‪ ،‬وأن تطبيقهــا جــزء ال‬
‫يتجــزأ مــن الدراســات البيـــنية‪ ،‬فمــا مــا مــدى واقعية هــذه الدعاوى في‬
‫الــدرس التفسيـــري المعاصــر؟ ومــا وجهــة نظركــم تجــاه هــذا القــول؟‬
‫َّ‬
‫ّإننــا ي ــنبغي أاَّل يغيــب عــن أفــق منظورنــا ّأن بعــض املمارسي ــن للفعــل التفسي ــري املعاصــر ال ي ـزالون‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منهجيــة عبــر الحفــاظ علــى النســق التفسي ــري التحليلــي الت ــرتيبي منــذ لحظــة ابــن ســام‬ ‫ماضويــة‬ ‫يعانــون مــن‬
‫ـتصحابية‪ :‬سجي ــن رؤيــة ومفاهيــم ومناهــج وأفــكار‬‫ّ‬ ‫ممــا يعنــي الوقــوع تحــت ضاغطــة نزعــة اسـ‬ ‫(‪200‬هــ)‪ّ ،‬‬

‫ممتـ ّـدة ومســتطيلة مــن املا�ضــي تف�ضــي إلــى توجيــه الخطــاب ورســم االتجاهــات‪ ،‬والشــأن نفســه بالنســبة إلــى‬
‫ّ‬
‫الغربيــة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫املفســر–الحداثي أو القــارئ املتــواري وراء املقــوالت الوافــدة مــن الســلفية‬
‫ّ‬
‫يحلــل بهــا ّ‬
‫املفســر جســم النـ ّ‬
‫ـص إلــى‬ ‫لذلــك فأهـ ّـم خصوصيــات هــذا املنهــج تتجــاوز اعتبــاره مجـ ّـرد آلــة‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـص مــن حيــث طبيعتــه وحركتــه ووظيفتــه‪ .‬مــن ثـ ّـم‬ ‫تؤطــر النـ ّ‬ ‫كونــه يمثــل جملــة املفاهيــم األساسـ ّـية التــي‬
‫ّ‬
‫التوصــل إلــى إدراك دالالت النـ ّ‬ ‫ّ‬
‫يتمكــن املنهــج مــن إحاطــة النـ ّ‬
‫ـص إال‬ ‫ـص القرآنــي بســياج مفاهيمـ ّـي ال يمكــن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بتمثــل ّ‬
‫وخصوصيــة رؤيتهــا‪ .‬وهــو مــا يخلــع علــى الت ـراث الــذي أبـ ِـدع‬ ‫آليــة فكرهــا‬ ‫باســتيعاب تلــك املفاهيــم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ـص ثـ ٍـان‪ .‬لذلــك تتحــول املمارســة التفسي ـ ّـرية‬ ‫املؤســس ســلطة شــبه تقديســية تجعلــه بمثابــة نـ ّ‬
‫ٍ‬
‫لفهــم النــص ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اثية إلــى شــبه ّ‬
‫الت ـر ّ‬
‫جمعيــة تؤطــر التفكي ــر واملمارســة‪ ،‬فتأتــي املنتجــات مــن قبيــل التكـرار املنهجــي مــع‬ ‫ذهنيــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تغيــر جزئــي فــي التفاصيــل‪ ،‬بمــا أنــه يأتــي ضمــن ســياق التحـ ّـرك فــي ذات الدائــرة الحافــة‪ ،‬وهــو الفعــل ذاتــه‬
‫الــذي يأتيــه القــارئ املوســوم باملعاصــرة التابعــة وليــس املعاصــرة األصيلــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املنهجيــة» للمفكــر الحداثــي مــن خــال تمســكه‬ ‫النتيجــة التــي نصــل إليهــا بعــد هــذه الدراســة «األصوليــة‬
‫الدوغمائــي باملنهــج األدبــي فــي تعاملــه مــع النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي‪ ،‬فهــو يتعامــل مــع أصولــه ومناهجــه كأقانيــم معرفيــة‬
‫أصنامــا لهــا قداســتها‪ ،‬وهنــا بالضبــط تكمــن نقطــة ضعفــه‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫ً‬ ‫أزليــة ال يطالهــا التغيي ــر أو التحوي ــر‪ ،‬فغــدت‬
‫مــع توظيــف منهــج واحــد فــي دراســة ظاهــرة متشــعبة ستت ـراءى لنــا العديــد مــن الفراغــات والنتــوءات فــي نتائــج‬
‫ـص األدبــي‬ ‫ـص الدي ــني‪ ،‬فهــو قــد ُأســس لدراســة النـ ّ‬
‫الدراســة‪ ،‬فهــذا املنهــج قــد بــرز بعيـ ًـدا عــن منطقــة النـ ّ‬
‫‪297‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫مــن وجهــة نظــر ّ‬


‫معينــة ونتيجــة لرغبــة ملحــة فــي القــرن الحالــي علــى تجــاوز املنطــق القروســطي فــي دراســته‬
‫للنصــوص‪ ،‬ومــن ورائــه تصــوره للكــون‪ ،‬ونعنــي بذلــك وحــدة املعنــى املعبــرة عــن وحــدة اإللــه‪ ،‬لكــن املنطــق‬
‫كل هــذه التصــورات األدبيــة والدي ـ ّـنية‪ ،‬وعمــد إلــى قلــب املوازي ــن لصالــح الواقــع‬
‫الحديــث قــد آث ــر القطيعــة مــع ّ‬
‫ومــن ورائــه لصالــح املتلقــي‪ ،‬مــن خــال تغييــب املرســل واعتبــاره ً‬
‫ميتــا منــذ لحظــة تلقــي القــارئ للنــص‪ .‬هــذا‬
‫َ‬
‫ـص وال يمكــن ِمــن ثـ ّـم توظيفهــا‬ ‫يفت ــرض أن مثــل هــذه املناهــج الدخيلــة قــد ال تســتجيب ً‬
‫تمامــا لطبيعــة النـ ّ‬

‫ـص‪ ،‬لذلــك كان مــن واجــب نصــر حامــد أن يعتبــر جهــوده هــذه مجــرد اجتهــاد تدخــل ضمــن منظومــة‬ ‫لفهــم النـ ّ‬
‫ّ‬
‫إمكانيــة النجــاح كمــا اإلخفــاق‪ ،‬نظـ ًـرا ألن مســاحة الضــوء‬ ‫تجديــد الرؤيــة للنــص الدي ــني‪ ،‬وأن هــذه الرؤيــة لهــا‬
‫كل تضاريســه وطبقاتــه‪ .‬بهــذه‬‫ـص‪ ،‬وال تتوغــل فــي ّ‬ ‫كل املناطــق املعتمــة فــي النـ ّ‬‫التــي يلقيهــا منهجــه ال ت�ضــيء ّ‬
‫النظــرة النســبية يمكــن أن تصبــح مقولــة نصــر حامــد قابلــة للتوظيــف «الوعــي العلمــي بالنـ ّ‬
‫ـص القرآنــي‪،‬‬
‫والفهــم املوضوعــي لــه» وإن اســتحالة تطبيــق هــذه املقولــة كان مــرده تلــك األصوليــة‪ ،‬بحيــث ال يمكــن أن‬
‫تتــواءم العلميــة باأليديولوجيــا‪.‬‬
‫ـص القرآنــي ّ‬
‫وهويتــه بــأن ألحقــه بالنـ ّ‬
‫ـص‬ ‫فالقارئ ّ‬
‫‪-‬املفســر املعاصــر قــد عمــد إلــى اســتبدال خصوصيــة النـ ّ‬
‫ـص اإللهــي منزلــة النـ ّ‬
‫ـص‬ ‫ـكل نــص هويتــه‪ ،‬فإن ـزال النـ ّ‬
‫األدبــي وتعامــل معــه بالطريقــة نفســه‪ ،‬والحــال أن لـ ّ‬
‫البشــري لــه غاياتــه‪ ،‬فبتطبيــق منطــق الجــدل والتناقــض‪ ،‬يســعى إلــى طمــس معالــم اإللهــي وأنســنة النـ ّ‬
‫ـص‬
‫مــن خــال إفقــاده صفــة الثبــات‪ ،‬الفاتحــة ملنطــق التحلــل مــن األحــكام نظـ ًـرا إلــى طبيعــة التغي ــر التــي تحكــم‬
‫العالــم‪ ،‬وهــو تشــريع مــن قبلــه للهــروب ولحــرب أيديولوجيــة‪ ،‬فاســتعمال منطــق الغائــب مــن طــرف الســلفي‬
‫ـاني‪ّ ،‬إنهــا معركــة مــن‬
‫قابلــه اســتخدام منطــق الشــاهد‪ ،‬وتوظيــف القد�ســي واإللهــي قابلــه بالدنيــوي واإلنسـ ّ‬
‫ّ‬
‫أجــل كســب معركــة الحقيقــة‪ ،‬فهــو رفــض للتعايــش املختلــف‪ ،‬والحــال أنــه داعيــة للحريــة‪ ،‬للعــدل‪ ،‬للفهــم‬
‫العلمــي‪ ،‬لكــن اإلعــان عــن ذلــك ال يكفــي‪ ،‬فــا بــد مــن التجســيد العملـ ّـي لهــذه املقــوالت‪ ،‬وإال وقــع فــي تناقــض‬
‫ّ‬
‫إشكالية التفسيـر املعاصر‬ ‫التم�شي يفرض بداهة سوق‬ ‫ّ‬ ‫مع ذاته‪ ،‬وهو ما سقط فيه بالفعل‪ّ .‬إن مثل هذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهنيتــه‪ :‬هــل املعاصــرة املقصــودة فــي ّ‬ ‫ّ‬
‫تمثــل ر ّ‬
‫ة‪-‬الزمنيــة دون مقتضيــات‬ ‫ة‪-‬املرحلي‬ ‫التاريخي‬ ‫ذاتيتهــا‬ ‫مــن خــال‬
‫ّ‬
‫األصليــة‬ ‫الحقــة ســواء مــن حيــث املنهــج أو املضمــون أو األســلوب أو األدوات‪ ،‬قصــد اســتعادة بـراءة القـرآن‬
‫ّ‬
‫ـتئصالية أو النافيــة لجهــود‬ ‫ّ‬
‫اإليجابيــة ال االسـ‬ ‫ّ‬
‫وتتبــع مكامــن اإلضافــة وفــق منظــور خليفــي دافــع نحــو املغاي ــرة‬
‫وضعــا ً‬
‫مقارنــا قصــد تحديــد مالمــح الجـ ّـدة والطرافــة واإلضافــة فــي التفسي ــر‬ ‫مــن ســبق؟ ّإن املعالجــة تقت�ضــي ً‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪298‬‬

‫املعاصــر لتســبغ عليهــا ســمتها وتحـ ّـرر مالمحــه‪ ،‬ال أن يكــون مجـ ّـرد انســكاب لفظــي ملقــوالت مــن ســبق فــي وعــاء‬
‫معاصــر ليقتفــي أث ــر السابقي ــن‪ّ ،‬إن التكليــف اإللهــي يقت�ضــي اســتفراغ الجهــد قصــد إثبــات حــدث الختــم‬
‫ّ‬
‫وإعجازيــة القـرآن وممكنــات امتــداده فــي التاريــخ لتحقيــق غــرض الدعــوة والهدايــة‪.‬‬
‫مثــل هــذا التصـ ّـور يطــرح مســار التعـ ّـدد املنهجــي والفكــري فــي مجــال التعامــل مــع الق ـرآن مــن ناحيــة‬
‫ّ‬
‫تفسي ــره وبيانــه‪ ،‬والتعـ ّـدد ال ي ـرابط عنــد حــدود التكثــر العــددي ألســفار التفسي ــر‪ ،‬بقــدر مــا يقت�ضــي تعـ ّـد ًدا‬
‫يعكــس روح العصــر وهامــش الزمــن املقطــوع مــن الســالف إلــى املعاصــر‪ّ ،‬إنهــا ليســت منازعــة نحــو االنفصــال‬
‫ـتقاللية فــي ت ـرابط‪ّ ،‬إن الغــرض مــن هــذا االنكبــاب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخصوصيــة واالسـ‬ ‫وفــك االرتبــاط بقــدر مــا تســعى إلــى‬
‫نحو تقويم «الت ـراث التفسي ــري‪-‬املعاصر» هو االنجذاب نحو أفق جديد ي ــنهي العالقة مع «ثقافة الفرقة‬
‫ًّ‬
‫منهجيــا‪ ،‬التــي هيمنــت‬ ‫الناجيــة» الســابقة أو الوافــدة مــن الغــرب مــن خــال حصــر املعاصــرة ضمنهــا وبهــا‬
‫علــى مجتمعاتنــا بمختلــف فصائلهــا ومشــاربها‪ .‬وهــو فــي الوقــت نفســه نشــوء لتعبي ــر نقــدي صــارم للمدرســة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ظلــت منجذبــة نحــو ت ـراث يحتويهــا معتمــدة بنــاء ًّ‬ ‫الت ـر ّ‬
‫ذهنيــا «يفكــر» مــن‬ ‫اثية باتجاهيهــا األهلــي والغربــي التــي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التحرر منه‪ .‬من هذا التشابك املفاهيمي بي ــن وحدة‬ ‫خالل الت ـراث وليس بقادر على أن يفكر فيه بما يتيح‬
‫التاريــخ «أو حضــور املا�ضــي فــي الحاضــر واســتطالته» واملثاقفــة وبنــاء الــذات‪ ،‬تصي ــر ثقافــة التعـ ّـدد ً‬
‫أساســا‬
‫ملكونــات عصــره وإحراجاتــه تلــك التــي تدفــع نحــو صياغــة‬ ‫لوعــي مختلــف ولتفسي ــر معاصــر مســتوعب ّ‬
‫ّ‬
‫فاعليتــه الكامنــة فــي قـ ّـد نســق الهدايــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إجابــات جديــدة وحــث نحــو نخــل للمــوروث واســتعادة‬
‫ّإن التحـ ّـدي الكبي ــر للتفسي ــر املوســوم بالحداثــة واملعاصــرة وفــق تصـ ّـور د‪ .‬أحميــدة النيفــر يكمــن فــي‬
‫ّ‬
‫«املفسري ــن» مــن البحــث التفسي ــري ضمــن دائــرة‬ ‫الوعــي ضمــن وحــدة الزمــن التاريخــي بمــا يتيــح للنخــب‬
‫ّ‬
‫الفكريــة‪ ،‬قصــد االنفــات مــن نســق اإللفــة بمــا تحقــق فــي املا�ضــي‬ ‫الفكــر العالمــي‪ :‬عقائدهــا وخطوطهــا‬
‫ً‬
‫ونتاجــا إنسـ ًّ‬
‫ـانيا يطــرح مــن زاويــة الوعــي الكونــي مــن حيــث‬ ‫القبليــة لتصي ــر مفاهيــم ّ‬
‫عامليــة‬ ‫ّ‬ ‫بقيمــه وأفــكاره‬
‫ً‬
‫«مهيمنــا‬ ‫ً‬
‫جميعــا»‬ ‫كونــه مجـ ًـااًل فسـ ً‬
‫ـيحا لدعــوة العاملي ــن‪ ،‬وفــق ّ‬
‫هويــة الرســالة‪« :‬العاملي ــن» «رســول هللا إليكــم‬
‫عليــه»‪...‬‬
‫ُ‬
‫ـص قــد أنهــك ً‬ ‫ق ً‬
‫بيانــا» أي‪ّ :‬أن الجهــود‬ ‫ِ‬
‫بحثــا ونـ ّ‬ ‫ّإن علــم التفسي ــر يبــدو اليــوم كأنــه علــم قــد «احت ــر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫املنهجيــة التــي طبــع بهــا كبــار املفسري ــن القدامــى‬ ‫العصريــة املكثفــة لــم تتمكــن مــن تجــاوز الســمة‬ ‫التفسي ـ ّـرية‬
‫كل تفسي ــر مــن التفاسي ــر الحديثــة‬ ‫هــذا العلــم [الســقوط فــي نهــج حكايــة التفسي ــر بــدل إنتــاج التفسي ــر]‪ .‬فــي ّ‬
‫‪299‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫ّ‬
‫واملعاصــرة‪ :‬مــن األلو�ســي إلــى الشــيخ مختــار الســامي فــي كتابــه «نهــج البيــان فــي تفسي ــر الق ـرآن» مــرو ًرا‬
‫بتفسي ــر ابــن عاشــور ووهبــة الزحيلــي وآخري ــن نجــد أث ـ ًـرا مــن آثــار «املعاصــرة « فــي بعــض مــا يقــع تناولــه مــن‬
‫ّ‬
‫املعرفيــة القديمــة‬ ‫ـص العـ ّـدة‬
‫مســائل‪ .‬لكـ ّـن هــذه «املعاصــرة « تبقــى هامشــية ضني ــنة الحضــور إذ هــي ال تخـ ّ‬
‫ً‬
‫بحثــا‪ .‬ثـ ّـم ‪-‬وهــذا هــو األهـ ّـم‪ -‬ال نــرى‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫املذهبيــة املعروفــة والقضايــا الكبــرى التــي ســبق أن «قتلــت»‬ ‫والتصنيفــات‬
‫باملفســر وطبيعــة اآللــة التــي ي ــنبغي أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تجديديــة تتصــل‬ ‫مــن خــال هــذا املنــاخ العلمــي واملذهبــي أي تســاؤالت‬
‫ّ‬
‫يؤســس عليهــا عالقتــه مــع النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي‪[ .‬إشــكال املنهــج وليــس الفكــرة]‬
‫الســؤال الســادس‪ :‬تعــددت القــراءات الحداثيــة بتعــدد القــراء‪،‬‬
‫ً‬
‫عائقا‬ ‫ومعظمهــا يـــرى عــدم اســتحضار قدســية القــرآن أو يعتبــر ذلــك‬
‫كمــا يعبــر عنــه الحداثيــون‪ ،‬الشــيء الــذي يــؤول إلــى اســتبدال هويّــة‬
‫ّ‬
‫النــص القرآنــي مــن القداســة إلــى التاريخيّــة‪ ،‬وقــد كان لفضيلتكــم‬
‫عمــل علمــي فــي هــذا الصــدد يعنــى بقــراءة فــي فكــر نصــر حامــد أبــو‬
‫زيــد‪ ،‬فمــا أبــرز المســالك والــرؤى التــي ســلكها نصــر حامــد أبــو زيــد‬
‫لتحقيــق هــذا االســتبدال كمــا ورد فــي قراءتكــم لفكــره؟‬
‫نصــر حامــد قــد ّاتجــه صــوب أنســنة النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي مــن خــال الفصــل فــي مجــال البدايــة‪ ،‬بحيــث يغــدو‬
‫نمــط التعامــل معــه علــى أســاس ّأنــه نـ ّ‬
‫ـص لغــوي أو منتــج ثقافــي أو ظاهــرة ً‬
‫تمامــا كمــا فهمــه أدونيــس‪ ،‬بمعنــى‬
‫ّ‬
‫العلميــة مــن نقــد وتفكيــك وإعــادة بنــاء‬ ‫كل بعــد دي ــني‪-‬إيماني‪ ،‬وإخضاعــه للصرامــة‬ ‫التعامــل معــه خــارج ّ‬
‫ّ‬
‫املعرفيــة األخــرى‪.‬‬ ‫وتغيي ــر‪ ...‬التــي تخضــع لهــا النتاجــات‬
‫إذن‪ ،‬فهــو عمــل يســتهدف االســتبدال ّ‬
‫بهويــة النـ ّ‬
‫ـص عبــر تحويلــه مــن ناطــق باســم اإللــه إلــى ناطــق باســم‬
‫برمتهــا وجهــود األقدمي ــن‬ ‫ّ‬
‫العقديــة ّ‬ ‫تأويــات اإلنســان وانتظاراتــه‪ ،‬وهــي مغامــرة تســتهدف تحييــد املنظومــة‬
‫النص القرآني إلى مناويل التحليل التاريخي‬ ‫ّ‬ ‫كل الظواهر بما فيها‬ ‫أصلوا تلك الحقائق‪ ،‬عبر إخضاع ّ‬ ‫الذيـن ّ‬
‫ّ‬
‫بفاعليــة الواقــع اإلنسـ ّ‬
‫ـاني فــي‬ ‫ـص‪ ،‬ومــن ثـ ّـم العــودة إلــى القــول‬ ‫ّ‬
‫تاريخيــة داللــة النـ ّ‬ ‫لنشــأة األفــكار للتأكيــد علــى‬
‫ـص القرآنــي واســتبدال مقولــة‬‫ـعرية بمفارقــة النـ ّ‬‫النصــوص‪ ،‬وبالتالــي إلــى نســف قــول املنظومــة األشـ ّ‬ ‫صياغــة ّ‬
‫ـاني بــه مــن حيــث كونــه الوجــود الحقيقــي ّ‬
‫وكل مفــارق لــه هــو مجــاز‪ .‬مثــل هــذه التأكيــد يف�ضــي‬ ‫الوجــود اإلنسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ـص القرآنــي نعنــي بذلــك ّ‬ ‫إلــى ّ‬
‫تغيــر جــذري فــي مســتوى التعامــل مــع موجــدات النـ ّ‬
‫قضيــة مســلم بهــا فــي املنظومــة‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪300‬‬

‫ـص املقـ ّـدس‬‫تغيــر يعتبــر مدخـ ًـا أساسـ ًّـيا لتحقيــق وعــي علمــي بالنـ ّ‬
‫ـامية وهــي الوحــي‪ ،‬وهــو ّ‬
‫األرثوذكسية‪-‬اإلسـ ّ‬
‫ّ‬
‫وتجــاوز الوعــي األيديولوجــي الــذي تتسـ ّـتر وراءه الخطابــات األشـ ّ‬
‫ـعرية أو حـ ّـراس الرأســمال الرمــزي‪.‬‬
‫كل ظاهــرة دي ــنية عامــة‪ ،‬ســواء أكانــت فــي أديــان‬‫ّإن املتأمــل فــي ظاهــرة الوحــي يالحــظ ّأنهــا تمثــل فاتحــة ّ‬
‫الوحــي التوحيــدي أو فــي غي ــرها مــن التجــارب الدي ـ ّـنية األخــرى‪ ،‬فالوحــي يمثــل حجــر الزاويــة فــي إثبــات صــدق‬
‫ّ‬
‫النبــوة‪ ،‬وهــي التــي صــارت قنــاة الوصــل بي ــن الســماء واألرض «إنــه يدعــى بالتنزيــل أي‪ :‬الهبــوط مــن فــوق إلــى‬
‫ـكل النظــرة العموديــة لإلنســان املدعــو بــدوره‬ ‫ًّ‬
‫مركزيــا وأساسـ ًّـيا‪ ،‬يشـ ّ‬ ‫ـكل مجـ ًـازا‬
‫تحــت‪ ،‬وهــذا املفهــوم يشـ ّ‬
‫لالرتفــاع إلــى هللا‪ ،‬أي‪ :‬إلــى التعالــي»‬
‫املقدمــة ضروريــة ألجــل بيــان أن مســلك دراســتنا لظاهــرة الوحــي يتجــاوز معالــم التحديــدات‬‫ّإن هــذه ّ‬
‫ً‬
‫املدرسـ ّـية للوحــي‪ ،‬وهــذا بالضبــط ســبب إحراجهــا وجدتهــا فــي اآلن نفســه‪ ،‬فنصــر حامــد ‪-‬مثــا‪ -‬وإن كان‬
‫َ‬
‫ي ــنطلق فــي دراســته للوحــي مــن ذلــك الت ـراث التوحيــدي املثبــت بشــكل تقــوي ورع ‪-‬لــو اســتخدمنا مصطلــح‬
‫ّ‬
‫أركــون‪ -‬فــي املخيــال الجمعــي فإنــه يؤســس نظــرة متمي ــزة مــن خــال مجانبــة النتائــج املكــرورة‪ ،‬فهــو يســعى‬
‫كل هــذا إلــى فهــم ّ‬
‫وتبيــن املنشــأ التاريخــي والثقافي‪-‬الواقعــي لهــذه الظاهــرة بعدمــا اســتنفد الســلف‬ ‫مــن وراء ّ‬
‫دراســة املنشــأ اإللهــي لهــا إلــى حــد االحت ـراق‪ .‬وفــي خضـ ّـم هــذه الدراســة يحــاول ّ‬
‫تتبــع الوظيفــة األيديولوجيــة‬
‫للوحــي‪ ،‬وكيفيــة تسخي ــر مثــل هــذه اآلليــة ألجــل إضفــاء التقديــس علــى بعــض التعاليــم ذات األصــل التاريخــي‪-‬‬
‫الثقافــي‪ .‬وهــو فــي هــذا يوظــف املفاهيــم الجديــدة التــي أفرزتهــا الحداثــة قصــد تعقــل ظاهــرة الوحي من الناحية‬
‫ـتمهد الســبيل نحــو «دنيــوة» النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي بمعنــى تحويلــه‬ ‫ألن مثــل هــذه الدراســة سـ ّ‬‫–العلميــة؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫املعرفيــة‬
‫ّ‬
‫مرجعيــة‪.‬‬ ‫تاريخيــة ومــا يعنــي ذلــك مــن مــآالت فــي مجــال مشـ ّ‬
‫ـروعية تداولــه كشــرعة‬ ‫ّ‬ ‫فعاليــة بشـ ّـرية‬
‫إلــى ّ‬
‫ّ‬
‫إن األمــر يتعلــق ب�شــيء ال ُيســأل عنــه فــي املنظومــة السلفية‪/‬األشــعرية وهــو مصــدر الوحــي؛ ألنــه �شــيء‬
‫النــاس واعتــادوا قبولــه‪ ،‬بحيــث لــم يفكــر أحــد داخــل الحقــل الســلفي أن يضعــه موضــع تســاؤل‬ ‫ألفــه ّ‬
‫ّ‬
‫التجديديــة‪ ،‬فهــو‬ ‫أو اســتفهام أو مراجعــة‪ ،‬لكــن األمــر يختلــف إذا مــا اختلفنــا إلــى منظومــة نصــر حامــد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حداثيــة‪ ،‬بصــورة تأمــل فــي‬ ‫يضــع هــذه املســلمة وغي ــرها موضــع الســؤال قصــد إعــادة اإلجابــة عنهــا بصــورة‬
‫أن تنشـ ّـد إلــى الحقيقــة‪ ،‬بمــا هــي حقيقــة‪ ،‬وتتباعــد عــن األيديولوجيــا التــي ي ــنتجها الخطــاب الســلفي –فيمــا‬
‫ي ــزعم هــو‪ ،-‬يقــول نصــر حامــد فــي هــذا املجــال‪« :‬لذلــك فـ ّ‬
‫ـإن هــذا الكتــاب حي ــن يقتحــم ببعــض أســئلته دوائــر‬
‫ً‬
‫خطابــا بــدوره ال ي ــزعم‬ ‫«املحظــور» و«املحــرم» فــي الوعــي الدي ــني الســائد واملســيطر‪ ،‬ال يقتحمهــا إال بوصفــه‬
‫ّ‬
‫امتــاك الحقيقــة‪ ...‬إنــه خطــاب يحــاول مــن خــال مــا يثي ــر مــن أســئلة مضمــرة فــي بنيــة الخطابــات األخــرى‪...‬‬
‫مقاربــة بعــض جوانــب الحقيقــة باملعنــى النســبي‪ ،‬أي‪ :‬الثقافــي التاريخــي»‪ .‬ضمــن هــذه الرؤيــا الحديثــة للعلــوم‬
‫‪301‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫إمكانيــة دمــج مــا اعتبــر «بمعطــى الوحــي» ضمــن‬ ‫ّ‬ ‫العربيــة ذات النزعــة االستشـر ّ‬
‫اقية‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسـ ّ‬
‫ـانية ت ــرى النخــب‬
‫ـانية‬ ‫ّ‬
‫الفكريــة اإلنسـ ّ‬ ‫الغربيــة‪ ،‬هــذه التجربــة التــي ســارت ضمــن مســار دنيــوة املســارات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمانيــة‬ ‫التجربــة‬
‫ّ‬
‫احتضانــه ّ‬ ‫ّ‬
‫ألنهــا لــم‬ ‫وتجاربهــا عبــر رفــض املعطــى الدي ــني‪-‬املفارق‪ ،‬إال ّأن أركــون اعتبــر ّأنهــا ما زالــت تميــل إلــى‬
‫تصــل إلــى مرحلــة الرفــض الجــذري للبعــد الدي ــني وليــس الدي ــن ومجمــل عقائــده‪.‬‬
‫ـص القرآنــي انبثقــت ممــا هــو‬ ‫ّ‬
‫لخصوصيــة النـ ّ‬ ‫نتبيــن مــن خــال مــا ورد صعـ ًـدا ّأن منطلــق الدراســة‬ ‫ّ‬
‫ثابــت ّ‬
‫متعيــن‪ ،‬وهــو الواقــع األر�ضــي ألجــل أن ي ــنفتح علــى املجهــول‪ ،‬علــى امليتافي ــزيقا‪ ،‬علــى املتعالــي الذهنــي‪-‬‬
‫االعتبــاري بمــا هــو تصـ ّـور بشــري‪ ،‬وهــذا يثبــت لنــا منــذ البــدء أن الحقيقــة الثابتــة لديــه هــي الواقــع األر�ضــي‬
‫كل مــا وراء ذلــك‪ ،‬فالوجــود «فــي» العالــم‬ ‫ـني‪ ،-‬فهــو الشــاهد‪ ،‬أمــا الغائــب أو املجــاز أو املجهــول فهــو ّ‬ ‫‪-‬العي ـ ّ‬
‫قــد صــار األســاس الــذي تقــوم عليــه فلســفة نصــر حامــد‪ ،‬فــإذا عرفنــا أن العالــم هــو أرضنــا‪ ،‬فمــن ثـ ّـم فهــو‬
‫كذلــك الت ــربة التــي تنمــو وتنبجــس علــى ســطحها الحقيقــة «الواقــع إذن هــو األصــل وال ســبيل إلهــداره‪ ،‬مــن‬
‫ـص‪ ،‬ومــن لغتــه وثقافتــه صيغــت مفاهيمــه‪ ،‬ومــن خــال حركتــه بفاعليــة البشــر تتجــدد‬ ‫الواقــع تكــون النـ ّ‬
‫داللتــه‪ ،‬فالواقــع أوًاًل والواقــع ً‬
‫ثانيــا والواقــع أخي ـ ًـرا»‪ .‬ضمــن هــذا املنظــور الواقعــي يتحــرك الخطــاب «العلمي»‬
‫فــي معالجــة قضيــة الوحــي‪ ،‬فبمــا أننــا نعيــش فــي هــذا العالــم األر�ضــي ونجربــه‪ ،‬فمــا الــذي يت ــرتب علــى القــول‬
‫بأننــا قــادرون علــى وضــع مشــكلة التعبي ــر عــن تجربتنــا بالعالــم وحقيقتهــا بهــذه الصــورة؟ ي ــرى نصــر حامــد‬
‫ً‬
‫مثــا أن علــى الوحــي بمــا هــو تجربــة وتعبي ــر تقديــم العبــارة األولــى عــن العالــم‪ ،‬لكــن فــي الوقــت ذاتــه نعــرف‬
‫ّ‬
‫ّأن هــذه العبــارة األولــى ذاتهــا هــي فــي الواقــع �شــيء ثـ ٍـان بالنســبة إلــى التجربــة العي ـ ّـنية بالعالــم‪ ،‬وتتطلــب هــذه‬
‫وكل املفاهيــم مســتوحاة مــن التجربــة‪ ،‬أي‪ :‬مــن‬ ‫كل العبــارات املعبــرة عــن التجربــة العي ـ ّـنية ّ‬ ‫ّ‬
‫املنهجيــة أن تكــون ّ‬
‫تجربتنــا بالعالــم‪ ،‬هكــذا ي ــرى نصــر حامــد تجربــة الوحــي املحمــدي‪ ،‬فهــو ي ــرى ّأن املعنــى الحقيقـ ّـي كامــن فــي‬
‫كل �شــيء‪،‬‬‫هــذه التجربــة‪ ،‬ومــن ثـ ّـم ُيطالــب بالتخلــي عــن أي افت ـراض مســبق أو متعــال‪ ،‬أي افت ـراض يســبق ّ‬
‫ٍ‬
‫وخاصــة التجربــة فــي الواقــع‪ ،‬أي‪ :‬يكــون هــو البدايــة والتبري ــر‪.‬‬
‫ي ــنطلق نصــر حامــد مــن نقطــة أساســية فــي دراســة الوحــي‪ ،‬وهــي بيئــة مــا قبــل الوحــي ‪،avant révélation‬‬
‫ّ‬
‫وبمــا أن الوحــي نــزل فــي بيئــة عربيــة وبلســان عربــي‪ ،‬فإنــه لــزم لفهــم هــذه الظاهــرة الحفــر فــي مخــزون الثقافــة‬
‫ّ‬
‫التأثيليــة‬ ‫العربيــة الســابق لهــذه الظاهــرة الناشــئة والبحــث عــن املشــابه الســابق لهــا‪ ،‬ومثــل هــذه األبحــاث‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬
‫مجديــا‪،‬‬ ‫الزمــة فــي نظــر دار�ســي اآلثــار األدبيــة‪ ،‬وال بــد منهــا لفهــم النصــوص املدروســة واالتصــال بهــا اتصــااًل‬
‫ـاض ســحيق‪ ،‬وتاريــخ‬
‫ومــن هنــا لزمــت املعرفــة الكاملــة بهــذه البيئــة العربيــة‪ ،‬مــع مــا يتصــل بالبيئــة مــن مـ ٍ‬
‫معــروف‪ ،‬ونظــام أســرة‪ ،‬أو قبيلــة‪ ...‬أو عقيــدة بــأي لــون تلونــت ‪-‬كمــا عبــر أمي ــن الخولــي‪ -‬أي‪ :‬هــي مغامــرة مــن‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪302‬‬

‫ّ‬
‫إلمكانيــة التواصــل اللغــوي ضمــن‬ ‫ّ‬
‫–االجتماعيــة‬ ‫ّ‬
‫ة‪-‬الثقافيــة‬ ‫ّ‬
‫املعرفي‬ ‫ّ‬
‫املرجعيــات‬ ‫قبلــه للكشــف عــن جملــة‬
‫املميــزة لــه املصــادرة فــي النســق السلفي‪-‬األشــعري‪ ،‬وهــي‬ ‫النص ّيــة ّ‬
‫حقــل ثقافــي‪ ،‬ومــن ثـ ّـم إب ـراز الخصائــص ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحقائــق البشــرية واالجتماعيــة والثقافيــة واللغويــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫بهــذا يكــون نصــر حامــد وحســن حنفــي وأمثالهمــا قــد وظفــوا منهــج التفسي ــر االجتماعي‪-‬التاريخــي فــي‬
‫ّ‬
‫تفسي ــر ظاهــرة الوحــي‪ ،‬لذلــك وقــع عندهــم أنــه لفهــم ظاهــرة جديــدة فــي املجتمــع وجــب الرجــوع إلــى األشــكال‬
‫نصعــد السلســلة املنحــدرة حتــى نصــل إلــى الشـ ّ‬
‫ـكل الحديــث املت ــرتب عمــا قبلــه‪،‬‬ ‫األوليــة للوحــي‪ ،‬وبعــد ذلــك ّ‬
‫كل مــرة نحــاول تفسي ــر ظاهــرة إنســانية مأخــوذة فــي لحظــة محــددة مــن الزمــن ســواء‬ ‫يقــول دوركايــم‪ :‬فــي ّ‬
‫ً‬
‫متعلقــا بمعتقــد دي ــني أو بقاعــدة أخالقيــة أو بأمــر قانونــي أو بفــن جمالــي أو بنظــام اقتصــادي‪،‬‬ ‫أكان األمــر‬
‫ّ‬
‫فإنــه يجــب أن نصعــد إلــى شــكله األكث ــر بدائيــة وبســاطة‪ ،‬وأن نفتــش عــن الخاصيــات التــي تتحــد بواســطتها‬
‫الظاهــرة فــي تلــك اللحظــة مــن وجودهــا ثـ ّـم أن تبــرر كيــف تطــورت وتعقــدت وأصبحــت علــى مــا هــي عليــه فــي‬
‫ذلــك الوقــت بالــذات‪ .‬ممــا ورد صعـ ًـدا تبــرز نتيجــة محوريــة فــي النهــج التفسي ــري‪-‬التاريخي وهــي أن الوحــي لــم‬
‫يكــن ليقــع أو ُيحت ــرم أو ُيتبــع لــو لــم تكــن هنــاك جــذور مثاليــة ُمثبتــة فــي الذهنيــة العربيــة‪ ،‬هــذا هــو الشــرط‬
‫األسا�سي لقبول فكرة نزول الوحي على الرسول ‪ ،‬فالشرط املادي‪-‬االجتماعي صار له حضور أسا�سي في‬
‫قبــول فكــرة الوحــي‪ ،‬وبدهـ ّـي إذن أن غيــاب مثــل هــذا الشــرط يت ــرتب عليــه ً‬
‫حتمــا رفــض ظاهــرة الوحــي اعتبـ ًـارا‬
‫ّ‬
‫للجدليــة القائمــة بي ــن الواقــع والوحــي‪ ،‬والســتحالة قبــول الذهــن العربــي لظواهــر لــم يجربهــا أو لــم يمارســها‬
‫أو لم يعهدهــا فــي محيطــه الثقافــي‪ .‬لذلــك يغــدو الوحــي ظاهــرة ثقافيــة خاضعــة لقواني ــن الواقــع باعتبارهــا‬
‫ّ‬
‫إلحداثياتــه‪ .‬إن هــذا التفسي ــر لظاهــرة الوحــي هــو تفسي ــر ظهوراتــي‪ ،‬بمعنــى‬ ‫صــارت متخارجــة منــه ال مفارقــة‬
‫ّ‬
‫أنــه يقــف علــى أرضيــة اإلمبي ــريقية وهــذا يف�ضــي بــه إلــى االلتحــام باملنهــج الديالكتيكــي املارك�ســي‪ ،‬فنصــر‬
‫حامــد قــد اســتثمر هــذه املقــوالت ألجــل تفسي ــر ظاهــرة كانــت تعتبــر فــي الفكــر الســلفي‪/‬املحافظ ظاهــرة‬
‫ماديا في حركتها وتحوالتها وتغيـراتها وفي عالقاتها املتميـزة‪ ،‬وهذا التفسيـر ‪-‬في نظره‪-‬‬ ‫ميتافيـزيقية‪ ،‬تفسي ًـرا ًّ‬
‫ـكل ظواهــره‪ ،‬دون االلتجــاء إلــى‬ ‫ّ‬
‫وواقعيتــه املهــدورة واإلملــام بـ ّ‬ ‫هــو األجــدى للكشــف عــن حركيــة هــذا املفهــوم‬
‫التجريــد والبحــث فــي املجهــول عــن تفسي ـرات واهيــة ال عقليــة ‪-‬فــي نظــره‪ -‬ت ــرى أن تحقــق الوحــي متوقــف علــى‬
‫الشــرط املثالــي املفــارق ال املحايــث‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يكــون قــد خطــى الخطــوة األولــى واألهـ ّـم فــي مســار دنيــوة ّ‬
‫هويــة‬
‫ّ‬
‫التاريخيــة للفاعــل االجتماعــي‪.‬‬ ‫النـ ّ‬
‫ـص القرآنــي وتســطيح تعاليــه وإدراجــه ضمــن السي ــرورة‬
‫مــن خــال هــذا التأســيس ي ــرى نصــر حامــد تمي ــزه وتفــرده عــن غي ــره‪ ،‬مــن خــال تمكنــه مــن تخطــي‬
‫الطــوق الفكــر ّي الســلفي‪ ،‬وإيجــاد «تفسي ــر علمــي» للظواهــر التــي ُيظــن ّأنهــا ســاكنة فــي امليتافي ــزيقا‪ ،‬والحــال‬
‫‪303‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫أن أصلهــا ثابــت فــي االجتماعــي والثقافــي‪ ،‬وبهــذا نصــل إلــى نتيجــة أخــرى‪ ،‬وهــي أن نصــر حامــد ي ــريد الكشــف‬
‫عــن زيــف التعالــي الــذي أضيــف إلــى الظواهــر املاديــة‪ .‬ويت ــرتب علــى النتيجــة الســابقة نتيجــة الحقــة‪ ،‬وهــي‬
‫ً‬
‫أن اإلســام ليــس مســقطا علــى الواقــع العربــي فــي الجزي ــرة العربيــة‪ ،‬بــل لــه شــروط إمــكان فهنــاك إرهاصــات‬
‫ســبقت ظهــوره‪ ،‬ممــا يؤكــد فرضيــة ّ‬
‫جدليــة املــوروث والجديــد الوافــد واالســتناد إلــى قاعــدة توليــد النصــوص‬
‫مــن نصــوص ســابقة عبــر ّ‬
‫آليــة التنــاص‪ ،‬التــي تقـ ّـر مبــدأ التداخــل واالســتيعاب ومــن ثـ ّـم تخريــج نـ ّ‬
‫ـص جديــد‪،‬‬
‫فليــس القـرآن بمنقطــع الصلــة مــع الثقافــة العربيــة الســابقة لظهــوره‪ ،‬وهــو لــم يتحــول إلــى حامــل أيديولوجــي‬
‫جديد إال عبر السيـرورة الدي ّـنية التي اكتمل بها تكون اإلسالم‪ ،‬وإذا أخذنا بعيـن االعتبار األصل االجتماعي‬
‫ـكل مــوروث ثقافــي‪ ،‬لتوضــح لنــا الجديــد الــذي أتتــه النبــوة املحمديــة علــى صعيــد‬ ‫السيا�ســي والنفســاني لـ ّ‬
‫ً‬
‫عمومــا‪ .‬بحســب تعبي ــر أبــي زيــد‪.‬‬ ‫الثقافــة العربيــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الديالكتيكيــة ال تختلــف مــن حيــث األســاس‬ ‫إذن‪ ،‬يت ــرتب علــى هــذا القــول أن الطريقــة التفسي ـ ّـرية‬
‫تماما‪ ،‬فحركة الوحي التي يشــخصها الفكر الســلفي‬ ‫ضدها ً‬ ‫ـلفية‪ ،‬بل ّ‬ ‫فحســب عن الطريقة التفسي ـ ّـرية السـ ّ‬
‫ً‬
‫صانعــا للواقــع‪ ،‬ويغــدو الواقــع ضمــن‬ ‫تنحــدر مــن أعلــى إلــى أســفل‪ ،‬بمعنــى أن الغيــب أو امليتافي ــزيقا يصي ــر‬
‫هــذه املنظومــة الشــكل الحداثــي للفكــرة‪ ،‬للوحــي‪ ،‬للمثــال‪ ،‬للنظــام املتعالــي‪ ،‬أمــا فــي نظــر نصــر حامــد فعلــى‬
‫النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬فحركــة الوحــي ليســت ســوى انعــكاس للحركــة الواقعيــة‪.‬‬
‫بهــذا املوقــف ّ‬
‫نتحســس الجهــود املضنيــة فــي ســبيل إيجــاد أســلوب قســري لتطويــع النـ ّ‬
‫ـص املتعالــي ملبــادئ‬
‫كل آيــة‬ ‫ّ‬
‫التاريخيــة والولــوج إليهــا مــن علــم أســباب النــزول‪ ،‬مــن خــال جعــل ّ‬ ‫الدنيــوة القائمــة علــى أســاس‬
‫ّ‬
‫واقعية‬ ‫النص ي ـ ّ‬
‫ـنشد إلى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ابتداء‪ ،‬وجعل‬ ‫اجتماعية لتشريع نزولها قصد نقض مبدأ النزول‬ ‫ّ‬ ‫تتوسل بواقعة‬ ‫ّ‬
‫الوســط االجتماعــي باعتبــاره الحاضــن لــه والفاعــل األسا�ســي لبلــورة موضوعاتــه ّ‬
‫كل آيــات الوحــي نزلــت فــي‬
‫حــوادث بعي ــنها‪ ،‬وال توجــد آيــات أو ســور لــم تنــزل بــا أســباب‪ ،‬والســبب هــو الظــرف أو الحادثــة أو البيئــة‬
‫التــي نزلــت فيهــا اآليــة‪ ،‬وإن كان لفــظ النــزول يعنــي الهبــوط مــن أعلــى إلــى أســفل‪ ،‬فلفــظ الســبب إنمــا يعنــي‬
‫الصعــود مــن أســفل إلــى أعلــى‪ ،‬وملــا كانــت اآليــة ال تنــزل إال بعــد وقــوع الســبب‪ ،‬كان األدنــى شــرط األعلــى‪ ،‬وإن‬
‫كث ــرة الحديــث الخطابــي عــن واقعيــة اإلســام إنمــا نشــأ مــن هــذا املوضــوع وهــو «أســباب النــزول» أســبقية‬
‫النــاس أوًاًل والق ـرآن ً‬
‫ثانيــا‪،‬‬ ‫الواقــع علــى الفكــر‪ ،‬وأولويــة الحادثــة علــى اآليــة‪ ،‬واملجتمــع أوًاًل والوحــي ً‬
‫ثانيــا‪ّ ،‬‬
‫الحيــاة أوًاًل والفكــر ً‬
‫ثانيــا‪ ،‬وفــق مــا أقـ ّـره أســتاذه حســن حنفــي‪.‬‬
‫ً‬
‫يتضــح إذن اإلشــكال عنــد نصــر حامــد مثــا فــي محاولتــه إيجــاد املســوغات االجتماعية‪-‬التاريخيــة‬
‫للظاهرة الدي ّـنية‪ ،‬فهو يـرفض االعتـراف بوجود ظاهرة مسقطة تفتقر إلى مقدمات اجتماعية‪ ،‬فالواجب‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪304‬‬

‫االعت ـراف بمحوريــة الواقــع والنشــاط االجتماعي‪-‬املــادي‪ ،‬فــي ظهــور مثــل هــذه األنمــاط مــن املعرفــة‪ ،‬ويمكــن‬
‫ً‬
‫أن أســتثمر هــذه املقولــة قصــد التدليــل علــى هــذه الفكــرة وتوضيحهــا أكث ــر قــد يكــون الدي ــن حجـ ًـرا مقذوفــا‬
‫ً‬
‫محسوســا وأن يقذفــه شــخص مــا‪.‬‬ ‫فــي العالــم‪ ،‬ولكــن ال بــد مــن أن يكــون حجـ ًـرا‬
‫إن هــذا يذكرنــا باملبــدأ العلمــي القديــم «ال �شــيء فــي العقــل مــا لــم يكــن مــن قبــل فــي الحــس»‪ .‬بمعنــى أن‬
‫والنــاس بوهمهــم ُ«يغدقــون» عليهــا صفــة التعالــي والقداســة‬ ‫األشــياء املؤلهــة ذات أصــول واقعية‪-‬طبيعيــة‪ّ ،‬‬

‫حي ــن تثي ــر فيهــم مشــاعر غي ــر عاديــة‪ ،‬إن هــذا الــذي يف�ضــي إلــى إقـرار صـراع حقيقــي بي ــن اتجــاه نصــر حامــد‬
‫الواقعي‪-‬الظهوراتــي الجدلــي وبي ــن االتجــاه الســلفي املحافــظ‪ ،‬مــن ثـ ّـم فاإلشــكال فــي نظــر باحثنــا هــو كيــف‬
‫يتسـ ّـنى التعامــل سوســيولوجيا مــع الفكــرة أو الحقيقــة غي ــر املاديــة‪ ،‬كفكــرة الوحــي أو فكــرة اللــوح املحفــوظ‬
‫ّ‬
‫وكل مــا يشــكل أصــول الفكــر الســلفي ذي االتجــاه املتعالــي؟‬
‫إن النظريــة التقليديــة بمــا هــي نظريــة تنشــد إلــى املتعالــي‪ ،‬تجعــل بعــض الظواهــر الدي ـ ّـنية خــارج حــدود‬
‫ً‬
‫الدراســة العلميــة‪ ،‬بدعــوى ّأنهــا مواضيــع احت ــرقت بحثــا مــن جهــة‪ ،‬وأن البشــري ال يمكنــه اإلحاطــة املدركــة‬
‫باملتعالــي مــن جهــة أخــرى‪ ،‬مــن ثـ ّـم فاملوضــوع املحــوري فــي املنظومــة التقليديــة هــو اإليمــان بــاهلل الواحــد‬
‫ّ‬
‫املتعالــي‪ ،‬ويعتبــر هــذا االتجــاه أن التســليم بتلــك الحقيقــة جوهــري ألنــه يباشــر الــدور نفســه الــذي مارســته‬
‫ً‬
‫األيديولوجيــا الغربيــة املضــادة (الدنيويــة) التــي وضعــت اإلنســان فــي مركــز املجتمــع والكــون بــداًل مــن هللا‬
‫وفــق عقيــدة التوحيــد اإلســامية‪ .‬إن هــذه النظريــة وبهــذه الطريقــة تصــل إلــى اإلقـرار بــأن املجتمــع اإلســامي‬
‫ّ‬
‫يتمي ــز عــن غي ــره مــن املجتمعــات بأنــه ال يخضــع ملــا تخضــع إليــه مــن قواني ــن التطــور‪ ،‬ومثــل هــذا الفهــم‬
‫يف�ضــي باملجتمــع اإلســامي إلــى االرتفــاع بظواهــره عــن مســتوى البحــث اإلنسـ ّ‬
‫ـاني‪ ،‬يقــول أحــد أنصــار‬
‫هــذه النزعــة –عمــر عــودة الخطيــب‪ :-‬إن املجتمــع فــي اإلســام إنمــا ي ــنبثق مــن التــازم الوثيــق بي ــن التصــور‬
‫االعتقــادي وطبيعــة النظــام االجتماعــي‪ ..‬ذلــك التــازم الــذي ال ي ــنفصل وال يتعلــق بمالبســات العصــر‬
‫والبيئــة‪ ..‬يتمي ــز املجتمــع اإلســامي عــن املجتمعــات األخــرى التــي نشــأت وفــق مقتضيــات أرضيــة ونتيجــة‬
‫ص ـراع داخلــي‪ ،‬ومصالــح متعارضــة‪ ..‬ولــذا فليــس ي ــندرج تحــت تأريــخ التطــور االجتماعــي وال تصــدق عليــه‬
‫القواني ــن االجتماعيــة التــي تصــدق علــى أوروبــا‪ ،‬فهــو مجتمــع شــريعة كاملــة‪ .‬مــن ثـ ّـم ّيتهــم الفكــر الســلفي‬
‫حي ــنما يتطــرق إلــى الظاهــرة الدي ـ ّـنية بقصــر تدخلــه علــى االتجــاه الوظيفــي أو الخــاص بأث ــر الدي ــن فــي بقيــة‬
‫الظواهــر االجتماعيــة أو التغي ـرات الحادثــة‪ ،‬وال وجــود لــردة فعــل مــن الواقــع تجــاه هــذه الظاهــرة‪ ،‬بمعنــى ال‬
‫ّ‬
‫لجدليــة بي ــن املقــدس والدنيــوي‪.‬‬ ‫وجــود‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أمــا النظريــة الخلــف فإنهــا تحشــر الوحــي كظاهــرة دي ــنية ضمــن البعــد التاريخــي والوعــاء االجتماعــي‬
‫‪305‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫الــذي تتفاعــل فيــه وتنمــو الظاهــرة داخلــه وبحســب شــروطه ومعايي ــره الثقافيــة‪ ،‬بحيــث تعالجــه ً‬
‫غالبــا‬
‫كموضــوع «أنت ــروبولوجي» ال «تيولوجــي»‪ ،‬أي‪ :‬كموضــوع يخضــع للشــروط التاريخيــة املتحكمــة فــي الظواهــر‬
‫االجتماعيــة األخــرى‪ ،‬بمعنــى ّأنهــا تبحــث عــن التأثي ــر املتبــادل بي ــن الدي ــن والظواهــر الثقافيــة املحايثــة لــه‪،‬‬
‫ورغم أن املنهج املؤنسن‪ :‬االجتماعي‪-‬التاريخي يواجه إشكالية املتعالي واألر�ضي‪ ،‬أو الطبيعي وامليتافيـزيقي‪،‬‬
‫أو البشــري واإللهــي‪ ،‬إال أن قــول الشهرســتاني‪« :‬إن النصــوص متناهيــة وإن الوقائــع غي ــر متناهيــة‪ ،‬وإن‬
‫ـص‪ ،‬ومــن ثـ ّـم يمكــن تنــاول الظواهــر‬ ‫ّ‬
‫إمكانيــة غلبــة الواقــع علــى النـ ّ‬ ‫املتناهــي ال يحكــم غي ــر املتناهــي»‪ ،‬يعــرض‬
‫ـص املقــدس‪ ،‬وهــذا مدخــل يتسـ ّـنى‬ ‫اجتماعيــا‪ ،‬أي‪ :‬البحــث فــي الوشــائج الكامنــة بي ــن الواقــع والنـ ّ‬
‫ًّ‬ ‫الدي ـ ّـنية‬
‫ّ‬
‫املفكريــن العــرب صالحيــة هــذه الفكــرة‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫مــن خاللــه تقليــص املســافة بي ــن املطلــق والنســبي‪ ،‬وي ــرى أحــد‬
‫ـص والواقــع وي ــرى أن أســباب النــزول دليــل علــى أســبقية الواقــع علــى النـ ّ‬
‫ـص‪ .‬مــن هــذه‬ ‫متانــة العالقــة بي ــن النـ ّ‬
‫النقطــة بالــذات ي ــنطلق نصــر حامــد فــي مقاربــة الظاهــرة الدي ـ ّـنية فــي املجتمــع العربــي اإلســامي مــن خــال‬
‫طــرح هــذا الســؤال‪ :‬ملــاذا تظهــر أفــكار أو عقائــد بذاتهــا فــي زمــان ومــكان ّ‬
‫معيني ــن؟ هــل نشــوء هــذه الظواهــر‬
‫متولــد عــن ف ـراغ أم إن هنــاك إرهاصــات اجتماعية‪-‬تاريخيــة مهــدت انبجاســها فــي املجتمــع بتلــك الصفــة‬
‫وبتلــك الكيفيــة؟‬
‫ّ‬
‫إن إجابــة نصــر حامــد كانــت مشــبعة باملنهــج الواقعــي‪ ،‬فآث ــر عــدم التســليم واإليمــان باملســلم بــه‪ ،‬وأكــد‬
‫أن الوحــي كظاهــرة دي ــنية جــاء فــي بيئــة محــددة وفــي زمــن تاريخــي لــه شــروطه الخاصــة‪ ،‬هــذا وقــد ظهــر اإلســام‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بإمكانيــة قبولــه اعتبـ ًـارا للحاجــة إلــى منقــذ‬ ‫بواســطة آليــة الوحــي‪ ،‬واألحــوال فــي مكــة والجزي ــرة العربيــة تنبــئ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومخلــص‪ ،‬وتنجــح الظاهــرة الدي ـ ّـنية عندمــا تكــون الظــروف مهيــأة لقبــول واتبــاع ذلــك املنقــذ واالمتثــال‬ ‫ِ‬
‫ملقوالتــه وتعاليمهــا التــي جــاءت معبــرة عــن الحاجيــات الروحيــة واملاديــة املتعطشي ــن لهــا‪ .‬وتتســاند اللحظــة‬
‫التاريخيــة مــع عوامــل ذاتيــة تكمــن فــي شــخصية املنقــذ ومضمــون تعاليمــه وســبل تطبيقهــا وإبالغهــا فــي‬
‫ّ‬
‫عمليــة نجــاح الدعــوة‪.‬‬
‫إن أولــى املســوغات التــي توســل بهــا نصــر حامــد ألجــل إثبــات واقعيــة الوحــي وتاريخيتــه‪ ،‬هــي األوضــاع‬
‫ّ‬
‫الفكريــة والعقديــة التــي كانــت ســائدة فــي مكــة قبــل اإلســام‪ ،‬مــن هــذه املؤث ـرات شــيوع ظاهــرة‬ ‫واملؤث ـرات‬
‫الكهانــة واإليمــان بالجــن هــذا القــول بوجــود ّ‬
‫جدليــة بي ــن آلهــة العــرب وآلهــة القـرآن –لــو اســتعملنا مصطلــح‬
‫ـاف للســابق‪ ،‬بــل علــى‬
‫خليــل أحمــد خليــل‪ -‬قــد اتخــذ شــكل سي ــرورة فــي خــط تصاعــدي‪ ،‬فليــس التالــي بنـ ٍ‬
‫ّ‬
‫وجدليــة علــى مســتوى املفاهيــم‪ ،‬فلــوال وجــود تصــور ســابق فــي‬ ‫النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬فهــو ي ــرى وجــود ت ـرابط‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫بإمكانيــة وقــوع الوحــي‪ ،‬هكــذا‬ ‫إمكانيــة االتصــال بي ــن البشــر والجــن الســتحال اإليمــان‬ ‫الذهنيــة العربيــة عــن‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪306‬‬

‫نعــود إلــى املقولــة الرئيســية فــي فكــر نصــر حامــد وهــي أولويــة الواقــع‪ ،‬فالواقــع أوًاًل والواقــع ً‬
‫ثانيــا والواقــع‬
‫أخي ـ ًـرا كمــا يصــرح هــو فــي كتبــه‪ .‬هنــا يكمــن املعنــى الحقيقــي فــي منظومــة نصــر حامــد حــول الوحــي‪ ،‬فهــو‬
‫ومــن ثـ ّـم يدفــع بتحليالتــه نحــو إيقــاع تصـ ّـور مناقــض‬
‫يطالــب بالتخلــي عــن أي افت ـراض متعـ ٍـال مســبق‪ِ ،‬‬
‫ـص القرآنــي‪ ،‬أي القــول بدنيوتــه بــدل مفارقتــه‪.‬‬‫للســائد حــول النـ ّ‬

‫الســؤال الســابع‪ :‬إن المتأمــل فــي نتــاج تطبيــق المناهــج الحداثيــة‬


‫علــى النــص القرآنــي يجــده مشـ ً‬
‫ـبعا بالفكــر الغربي الذي يســعى لقطع‬
‫الماضــي العلمــي لإلســام والمسلميـــن‪ ،‬فمــا أبــرز ســمات التــي‬
‫ي ُْعــرف بهــا نتــاج تطبيــق المناهــج المذكــورة؟ وكيــف يمكــن للقــارئ‬
‫ِ‬
‫غيـــر المتخصــص التعامــل مــع مــا تُنتجــه هــذه القــراءات؟‬

‫ـؤرخ عــن صناعتــه فيعنــي‬ ‫العربيــة فــي مــادة «تاريــخ» مــا يلــي‪« :‬يتســاءل املـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ورد فــي املوســوعة الفلسـ ّ‬
‫ـفية‬
‫ً‬
‫بالتاريــخ تحقيــق وســرد مــا جــرى فعــا فــي املا�ضــي‪ .‬ويتســاءل الفيلســوف عــن هــدف األحــداث فيعنــي بالتاريــخ‬
‫جدليــا‪ .‬ويتســاءل الفيلســوف ً‬
‫أيضــا عــن‬ ‫تدريجيــا أو ًّ‬
‫ًّ‬ ‫مجمــوع القواني ــن التــي تشي ــر إلــى مقصــد خفـ ّـي ّ‬
‫يتحقــق‬
‫ّ‬ ‫عمــا ّ‬
‫يميــزه عــن ســائر الكائنــات فيقــول إنــه التاريــخ‪ ...‬هــذه هــي أهـ ّـم املفاهيــم التــي تتداخــل‬ ‫ماهيــة اإلنســان ّ‬
‫حتمــا فــي أذهاننــا عندمــا نســتعمل ‪-‬ولــو ً‬
‫عرضــا‪ -‬كلمــة تاريــخ»‪.‬‬ ‫ً‬
‫األصلية باعتبار ّأن املتداول اإلجرائي‬
‫ّ‬ ‫آنفا ّأن مادة «أرخ» لم تعد تحتمل داللتها‬ ‫ندرك من خالل ما ورد ً‬
‫ّ‬
‫املفكــرة ّ‬
‫ممــا‬
‫ّ‬
‫ـرد ذلــك قلــق التحديــث وتوتــر التجــاوز الــذي يســكن الــذات‬ ‫لهــا قــد افتتــح حقـوًاًل ّ‬
‫دالليــة أخــرى مـ ّ‬
‫ّ‬
‫ـفية مختلفــة‪،‬‬ ‫ومعرفيــة وفلسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منهجيــة‬ ‫متولــدة ً‬
‫أساســا عــن تســاؤالت‬ ‫اضطرهــا إلــى صياغــة معـ ٍـان متعـ ّـددة‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫األصليــة ملــادة أرخ‪ ،‬بدأنــا نشــهد والدات هجي ــنة ملفاهيــم‬ ‫اللغويــة‬ ‫انطالقــا مــن هــذا االنزيــاح مــن الداللــة‬
‫محمــد العزي ــز الحبابــي اســتعماالت‬ ‫مســتقاة مــن رحــم هــذه املــادة‪ ،‬فنجــد مثــا عنــد الفيلســوف املغربــي ّ‬
‫ّ‬
‫و«التآريخيــة» ‪ ،Historicité‬وبي ــن هــذه االســتعماالت‬ ‫مــن مثــل «التأريــخ» ‪ histoire‬و«التآريــخ» ‪l’Histoire‬‬
‫اســتقالل فــي ت ـرابط‪ ،‬بمعنــى ّأن لـ ّ‬
‫ـكل مــادة داللتهــا الخاصــة ولكــن ليــس فــي تماي ــز أو فــي قطيعــة أو فــي تعــارض‬
‫ائيــا عنــد ّ‬
‫محمــد‬ ‫أو تصــادم مــع الــدالالت الوليــدة املجــاورة‪ ،‬باإلضافــة إلــى التوليــدات األخــرى التــي نجدهــا إجر ًّ‬
‫ّ‬
‫والتاريخانيــة‪...‬‬ ‫ّ‬
‫التاريخيــة‬ ‫أركــون ونصــر حامــد أبــو زيــد وطيــب تيـزي ــني وعبــد املجيــد الشــرفي‪ ...‬مــن مثــل‬
‫ً‬
‫اللفظيــة فــي حي ــن ّأن‬
‫ّ‬ ‫اختالفــا شـ ًّ‬
‫ـكليا فــي مســتوى املحامــل‬ ‫وهــذا االختــاف فــي التســميات ليــس إال‬
‫ّ‬
‫املفكــر‪ّ ،‬‬ ‫الــدالالت ّتتجــه ر ً‬
‫يعبــر مــن خاللهــا عــن طبيعــة النســق التاريخي‬ ‫أســا نحــو معـ ٍـان بعي ــنها مـرادة مــن قبــل‬
‫‪307‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫التأثيليــة ‪ Archéologique‬ملــادة «أرخ» ّ‬


‫تعبــر‬ ‫ّ‬ ‫الــذي غــدا يســم نمــط التفكي ــر واإلج ـراء‪ ،‬حيــث ّإن الق ـراءة‬
‫ّ‬
‫واملتدومــة ‪ Tourbillonnées‬تنـ ّـم عــن الطابــع الحلقــي لـ ّ‬
‫ـكل عصــر مــن‬ ‫التجليــات الدور ّ‬
‫انيــة‬ ‫ّ‬ ‫عــن نــوع مــن‬
‫ّ‬
‫حلزونيــة‪ ،‬التــي ّتتخــذ شــكل دوائــر متشــظية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املعرفيــة غــدت كطفـرات ‪Mutations‬‬ ‫ّ‬ ‫العصــور‪ ،‬فاملنظومــات‬
‫ّ‬
‫واالتحــاد باملاورائــي أو الحلــول‬ ‫إلــى أن انتهــت فــي عصــور الحداثــة إلــى القطــع مــع أنظمــة الرؤيــة والتعبي ــر‬
‫ّ‬
‫تتكلــم عــن ّ‬
‫مكونــات الوجــود‪:‬‬ ‫فيــه‪ ،‬حيــث بدأنــا نلحــظ ميــاد قـ ّـوة بديلــة (الحيــاة بمعناهــا الواقعي‪-‬املــادي)‬
‫تحولــت مــن حقيقــة إلــى‬‫الغيبيــة املفارقــة التــي ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنســان واللغــة والتاريــخ واإللــه‪ ...‬بمعــزل عــن تأثي ــر القــوى‬
‫ّ‬ ‫مجــاز أو إلــى ْ‬
‫وهــم أو ميثولوجيــا‪ ،‬مثــل هــذا الهجــر للميتافي ــزيقا جعــل الــذات املفكــرة تتحـ ّـول فــي إدراكهــا‬
‫والتماميــة إلــى التشـ ّـظي والتشـ ّـتت والتبـ ّـدل الحي ــني أو ّ‬
‫املؤجــل فلــم يعــد الحديــث فــي هــذا‬ ‫ّ‬ ‫للمعانــي مــن ّ‬
‫الكليــة‬
‫دالليــة ّ‬
‫وإنمــا عــن صياغــات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكلــي فــي ّ‬‫ّ‬
‫ممزقــة‬ ‫تماميتــه‪،‬‬ ‫املنهــج التاريخــي عــن الـ»حقيقــة» والـ»معنــى» الكونــي‬
‫ّ‬
‫ومشوشــة وآيلــة إلــى التجــاوز والنســخ املحمــول علــى معنــى اإللغــاء التاريخــي واملحــو املوقوتــي القابــل للعــودة‬
‫ّ‬
‫األفقيــة‪،‬‬ ‫ائية‪-‬األيديولوجيــة‬ ‫والثقافيــة واإلجر ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫والتــداول واملحايثــة بحســب طبيعــة الحاجــة‬
‫خز ًانــا وذاكــرة تحفــظ الت ـراث وتبقــى علــى الــدوام والخلــود‪ّ .‬إنهــا علــى العكــس مــن ذلــك‪،‬‬
‫ليســت الوثيقــة إذن ّ‬
‫ال تعمــل إال علــى تأكيــد االختــاف بي ــن الحاضــر الــذي يمنحنــا أفــق التفكي ــر والتســاؤل‪ ،‬وبي ــن املا�ضــي الــذي‬
‫ّ‬
‫كــف عــن شــحذ هــذا الحاضــر‬
‫ّ‬
‫الغربيــة تخلــو مــن مراكــز علــى اعتبــار تلــك‬ ‫ذلــك ّأن طبيعــة األنظمــة الوليــدة ضمــن دائــرة الحداثــة‬
‫حيويــة املحايــث والواقــع األر�ضــي فــي تعـ ّـدده‪ ،‬وهــي داللــة واضحــة علــى‬ ‫القطيعــة مــع املتعالــي واإلبقــاء علــى ّ‬
‫نهايــة تاريــخ امليتافي ــزيقا املطلــق واملغلــق‪ ،‬أي‪ّ :‬أن مثــل هــذه األنظمــة وجملــة ممارســاتها التنظي ـ ّـرية تدفــع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خــارج حقلهــا ّ‬
‫وتصوراتهــا بصــورة‬ ‫ثيولوجيــة تســعى إلــى التحكــم فــي نســق تفكي ــرها أو صياغاتهــا‬ ‫كل فكــرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يــخ يحــاول ّ‬ ‫ّ‬
‫التذكاريــة التــي تعمــل علــى‬ ‫الحتميــة‬ ‫تجنــب‬ ‫متعاليــة ومفارقــة‪ ،‬مــن ثـ ّـم فاملفكــر فــي التاريــخ أو بالتار‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحادية‪ ،‬بمعنى أنه‬ ‫محاولة ســرد خطي أمي ــن أو أفقي أو بســيط ســاذج للمعنى من خالل تثبيته عند داللة‬
‫ً‬
‫ًّ‬
‫موضوعيــا‬ ‫ّ‬
‫مصدريتهــا ليــس انخراطــا‬ ‫يصـ ّـرح ّأن انخراطــه فــي التعامــل مــع التاريــخ أو مــع النصــوص مهمــا كانــت‬
‫موجــه وغي ــر بــريء وغائـ ّـي وفيــه انتهــاك معلــن ملقوالتــه بالطريقــة التــي‬ ‫بريئــا أو محايـ ًـدا‪ ،‬بــل هــو عمــل ّ‬ ‫أو ً‬
‫ّ‬
‫البدائيــة ملحامــل‬ ‫التاريخيــة ال تهــدف إلــى االســتعادة الســاذجة أو‬ ‫ّ‬ ‫ألن املمارســة‬‫يدركهــا القــارئ فــي تعـ ّـدده‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخارجيــة أي مـراد البــاث أو املؤلــف والبقــاء فــي حقــل اإلصــدار ومحاولــة تلوي ــن مقوالتــه‬ ‫النصــوص وعتباتــه‬
‫ـص أو الحــدث إلــى جهــة القــارئ‬ ‫بمــا ّيتفــق واملقصــود األحــادي للمرســل‪-‬الباث‪ ،‬بــل يســعى إلــى اســتمالة النـ ّ‬
‫ّ‬
‫الالمفكــر فيــه مــن النـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـص قصــد توظيفهــا فــي‬ ‫بالقــدر الــذي يمكنــه مــن اســتنهاض كوامنــه الرابضــة فــي منطقــة‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪308‬‬

‫ُ‬
‫واملحكمــة للنـ ّ‬
‫ـص األصلـ ّـي‬ ‫حقلــه االجتماعــي أو الفكــري‪ ،...‬فالقــول باالســتعادة الواعيــة والصريحــة واألمي ــنة‬
‫التاريخيــة هــي ممارســة ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يمثــل ســوى وهــم ميتافي ــزيقي‪ّ ،‬‬
‫تأويليــة رابضــة علــى ســطح رخــو قابــل‬ ‫ألن املمارســة‬ ‫ال‬
‫ّ‬
‫ومرجعياتــه ّ‬
‫ممــا يعنــي انعــدام االلت ـزام الكامــل‬ ‫للتشــكيل وإعــادة الصياغــة‪ ،‬وتتفاعــل مــع متلـ ٍ ّـق لــه ظروفــه‬
‫ًّ‬
‫تلقائيــا‬ ‫يميــزه‬ ‫ـكل قــارئ معامـ ًـا شـ ًّ‬
‫ـخصيا بــه ّ‬ ‫املوضوعيــة فــي فضــاء بشــري موســوم بالنسـ ّـبية‪ّ ،‬‬
‫ألن لـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والحياديــة‬
‫ّ‬
‫بجوانيــة الــذات‬ ‫ألن الفهــم ملتصــق‬ ‫الحياديــة؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فاعليــة‬ ‫مــا يالئــم طبعــه واهتماماتــه‪ ،‬وهــذا يفت ــرض تحييــد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومتأثــر بجملــة العوامــل الدافعــة نحــو التفكي ــر بطريقــة أو بمخطــط دون آخــر ومــا انطــوى عليــه حدســه‬
‫ّ‬ ‫املوقوتة‪-‬التاريخيــة‪ً ،‬‬
‫ّ‬
‫تبعــا لذلــك تخلصــت‬ ‫مــن مضمـرات وتســاؤالت واســتفهامات ووجــه مــن وجــوه اإلجابــات‬
‫ّ‬
‫واألحاديــة وااللت ـزام اإليمانــي إلــى فكــرة الفهــم والتأويــل‬ ‫الــذات مــن فكــرة االعتقــاد التــي تحيــل إلــى الصرامــة‬
‫ّ‬
‫ة‪-‬الجمعية‪،‬‬ ‫الفرديــة واملعشـ ّـري‬
‫ّ‬ ‫آليــة الق ـراءة‪ ،‬وهــذا يعكــس تحـ ّ ًـواًل ًّ‬
‫جذريــا فــي مســتوى ت ــركيبة الــذات‬ ‫عبــر ّ‬
‫حيــث حـ ّـول أفــق مســتقبله مــن البعــد الزمنــي الــذي يقــع بعــد املــوت –املاورائــي‪ -‬إلــى ُبعــد محايــث ال يغــادر‬
‫ّ‬
‫العلميــة‬ ‫ّ‬
‫اإليمانيــة إلــى الدائــرة‬ ‫األر�ضــي‪ ،‬وفــي مســتوى الفهــم أحــدث طفــرة مــن خــال االنتقــال مــن الدائــرة‬
‫ممــا يعنــي التحـ ّـول مــن نظــرة القداســة إلــى الدنيــوة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫«التاريخيــة»‬ ‫نريــد مــن وراء هــذه املمارســة ّ‬
‫التأم ّليــة التأكيــد علــى أســاس نبنــي مــن خاللــه فكرتنــا حــول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الغربيــة‪ ،‬املنطلقــة‬ ‫األهليــة أو‬ ‫وهــي «الالمفكــر فيــه ‪ L’impensé‬فــي املنظومــة املتداولــة أو األرثوذكسـ ّـية»‬
‫كل ذرى‬ ‫ّ‬
‫النقديــة التــي طالــت ّ‬ ‫ً‬
‫أساســا مــن الطبيعــة املنعكســة للفكــر الغربــي الــذي ي ــنكر اإللــه فــي ممارســاته‬
‫ّ‬
‫النقديــة النافيــة لحضــور اآلخــر «اإللــه» تحـ ّـرره كفــرد‬ ‫الوجــود التــي تحتضــن اإلنســان‪ ،‬مثــل هــذه الخطــوة‬
‫ّ‬
‫تتضمــن هــذه املمارســة تحويــل سي ــرورة الوجــود خــارج اإلطــار الدي ــني وتحويــل مســار‬ ‫ً‬
‫منافســا لــه‪،‬‬ ‫وتجعلــه‬
‫ّ‬
‫وحيويــة تاريــخ األفــكار خــارج اإلطــار التقليــدي‪ ،‬هــذا األبق‪/‬االنزيــاح الفكــري مــن قبــل اإلنســان الغربــي‬ ‫املعنــى‬
‫ّ‬ ‫عــن اإللــه‪ ،‬هــو الحــدث املركــزي الــذي تعلــن فيــه الــذات عــن حضورهــا الحـ ّـر واملســتقل عــن ّ‬
‫تبعيــة اإللــه‪ ،‬إنــه‬
‫تأســيس لهــذه الــذات خــارج الحقــل الدي ــني‪ ،‬حيــث االختفــاء اإلرادي لإللــه أو الســقوط أو الخــروج وبدايــة‬
‫الحـ ّـل إلــى الت ــرحال‪ ،‬أي‪ :‬مــن حلقــة إلــى أخــرى ومــن نشــأة إلــى أخــرى‬‫حي ــرة اإلنســان‪ ،‬هــذه البدايــة ســتنقله مــن ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ولكــن خــارج إطــار املعتقــد الدي ــني الــذي يحـ ّـول إلــى منتــج ثقافـ ّـي‪ّ ،‬‬
‫ممــا يعنــي تســطيح األبعــاد املتعاليــة واملفارقــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بحيثيــات واقعــه التاريخــي‪ ،‬إنــه يفكــر فــي اإلنســان ومــن أجلــه ضمــن حــدود وعيــه املحايــث‪.‬‬ ‫واالكتفــاء‬
‫«التاريخيــة» ال كمصطلــح فحســب‪ ،‬بــل كمنهــج ومذهــب حـ ّـول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إمكانيــة تنــاول‬ ‫مــن هــذه النقطــة‪ ،‬أرى‬
‫وجهــة الفكــر والوجــود مــن املتعالــي إلــى املحايــث‪ ،‬ومــن التفكي ــر بحضــور اإللــه إلــى التفكي ــر فــي غيابــه‪ .‬ومــن‬
‫ـجاما مــع طبيعــة اإلنســان ّ‬
‫املتغيــرة‬ ‫املوقوتيــة والحي ـ ّـنية لألفــكار‪ ،‬انسـ ً‬
‫ّ‬ ‫فكــرة االمتــداد والتجــاوز إلــى فكــرة‬
‫‪309‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫ـدوم حلزونـ ّـي حيــث يسـ ّ‬


‫ـتمر الالتناســق بي ــن‬ ‫الكونيــة‪ّ ،‬إنــه تاريــخ نفــي وتـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالتماميــة أو‬ ‫واملتجـ ّـددة التــي ال تقبــل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإللهــي واإلنســاني الــذي تلخصــه عبــارة اإلنجيــل «مملكتــي ليســت فــي هــذا العالــم» مثــل هــذه العبــارة شــكلت‬
‫املتديــن‪ ،‬عبــر زوال ْ‬
‫وهــم اإللــه أو العالــم‬ ‫ّ‬ ‫حجــر األســاس لبــدء حضــور اإلنســان خــارج النمــوذج اإلنســان‬
‫املاورائي‪-‬القروســطي‪ ،‬وعلمنــة أنمــاط الحيــاة واملعــارف‪ ،‬حيــث يتحـ ّـول تاريــخ األفــكار إلــى دورات وانعطافــات‬
‫«إن قومــك‬ ‫ـكأن العالــم الغربــي يكـ ّـرر عبــارة يحيــى ملو�ســى‪ّ :‬‬
‫متكـ ّـررة وقــول ونســيان ونفــي وعــود علــى بــدء‪ ،‬فـ ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ســيتولون عبــادة آلهــة أخــرى» كمــا ّ‬
‫عبــر عــن ذلــك ميشــال فوشــو‪ .‬مثــل هــذه االنعطافــة لــم تشــكل تحـ ّـواًل فــي‬
‫قويــة لتغيي ــر معنــى الكلمــات واألشــياء‪ ،‬مــن ذلــك معنــى التاريــخ‬‫مســتوى الوجــود فحســب بــل شـ ّـكلت دعامــة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ً‬
‫ـاض وإنمــا يصــف املا�ضــي املســتحضر‬ ‫الــذي صــار يعنــي كالمــا عــن الحاضــر‪ .‬إن املــؤرخ ال يصــف املا�ضــي كمـ ٍ‬
‫ّ‬
‫التاريخيــة‪ ،‬ومــن ثـ ّـم ال يمكــن للقــارئ املغامــرة‬ ‫ّ‬
‫التآريخيــة أو‬ ‫فــي ذهنــه‪ .‬وهــو إيــذان بالتحـ ّـول مــن التأريــخ إلــى‬
‫ً‬
‫بوعيــه وبعقيدتــه مــا لــم يكــن مــدركا لألقانيــم املؤسســة ملثــل هــذه الق ـراءات‪ ،‬علــى اعتبــار أحبولــة امل ـراودة‬
‫التــي تمارســها علــى القــارئ ألجــل اســتدراجه نحــو كنفهــا املسـ ّـيج‪ ،‬ومــن ثـ ّـم صعوبــة التحلــل مــن غوايتهــا مــا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫واملرجعيــات‪ ،‬وهــو مــا يطــرح إشــكال تجديــد مناهــج التدريــس ومضامي ــنه ضمــن‬ ‫للخلفيــات‬ ‫لــم يكــن مــدركا‬
‫مســاقات التعليــم الدي ــني أو الفكــر الدي ــني قصــد تجديــد العنايــة بمثــل هــذه القضايــا ومــلء الفـراغ بالــردود‬
‫ّ‬
‫ة‪-‬سلفية‪.‬‬ ‫بــدل البقــاء ضمــن حــدود االســتهالك أو املعالجــة بمناويــل ت ـر ّ‬
‫اثي‬

‫الســؤال الثامــن‪ :‬ال يخفــى علــى فضيلتكــم أن عــددًا مــن الباحثيـــن‬


‫وخاصــة المنتسبيـــن للجامعــات العربيــة والغربيــة يعتنــون بالــدرس‬
‫التفسيـــري المعاصر بلغات عدة‪ ،‬الشــيء الذي يلزم منهم المتابعة‬
‫العلميــة لهــذا الطــرح مــن القــراءات الحداثيــة‪ ،‬فمــا توجيهكــم لهــذه‬
‫الفئــة مــن الباحثيـــن؟ وكيــف تتعامــل مــع نتــاج القــراءات الحداثيــة‬
‫ِ‬
‫للقــرآن بحثًــا وردًّا؟‬

‫ـص قبــل‬ ‫ـص عــن كونــه حالــة إمــكان إلــى حالــة إنجــاز‪ ،‬نظـ ًـرا إلــى ّأن النـ ّ‬ ‫مثــل هــذا التصـ ّـور ي ــزحزح النـ ّ‬
‫ّ‬ ‫يمثــل حالــة كمــون داللــي‪ ،‬تحتــاج إلــى دي ـ ّ‬ ‫ّ‬
‫التحقــق‪ ،‬مثــل‬ ‫ـنامية القــارئ ليخرجهــا إلــى نطــاق‬ ‫مباشــرة القــارئ لــه‬
‫ّ‬
‫ونهائيــة‪ ،‬بقــدر مــا يقـ ّـر بمبــدأ‬ ‫ـص ال يحمــل داللــة جاهــزة وثابتــة‬ ‫هــذا التصـ ّـور يف�ضــي إلــى اإلق ـرار بـ ّ‬
‫ـأن النـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املشـ ّ‬
‫العدميــة ووهــم األحــكام والقيــم‬ ‫الدالليــة املتولــدة عــن أقانيــم العقــل املنعكــس املقـ ّـرة بمبــدأ‬ ‫ـاعية‬
‫ّ‬
‫التضمــن الداللــي املطلــق والنهائــي إلــى‬ ‫ـكل فــي حركــة ونفــي دائمي ــن‪ ،‬ومــن ثـ ّـم نتحـ ّـول مــن وضــع‬ ‫والثوابــت فالـ ّ‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪310‬‬

‫دالليــة تحتــاج إلــى ّ‬


‫تحققهــا الــدوري واملوقوتــي للقــارئ بمــا‬ ‫ـص ملجـ ّـرد إمكانــات ّ‬
‫وضــع يفت ــرض احتضــان النـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ـص ومنتــج للمعنــى‪ ،‬هــذا املعنــى الــذي يبقــى ً‬
‫مرتهنــا بالقارئ‪-‬الطــارئ‪ّ ،‬‬ ‫هــو محــاور للنـ ّ‬
‫ممــا يعنــي أننــا أمــام‬
‫هيــكل ن�صــي جـ ّـردت عبارتــه مــن معانيــه‪ ،‬ومثــل هــذا الهيــكل الجغرافــي يبقــى فــي حالــة كمــون إلــى أن ت ــرد عليــه‬
‫الــدالالت مــن خارجــه‪ ،‬بحيــث ي ــنزاح بطريقــة ّ‬
‫متدومــة عــن منازلــه الســابقة بفعــل القــارئ‪ ،‬مثــل هــذه النسـ ّـبية‬
‫ّ‬ ‫والعدميــة فــي مســتوى الق ـراءة تحـ ّـول فعــل ّ‬
‫ّ‬
‫التلقــي إلــى مســاهمة مــع املؤلــف فــي التأليــف والتأثيــث‪ ،‬وإن لــم‬
‫ً‬ ‫إقصائيــا للنـ ّ‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫حاجبــا‬ ‫ـص القرآنــي أو‬ ‫نـ ِـع حــدود مثــل هــذه املمارســة فســنجعل مــن الفعــل التفسي ــري فعــا‬
‫‪-‬املفســر‪ ،‬فهنــاك إذن عالقــة وثيقــة بي ــن مفهــوم الق ـراءة فــي‬ ‫لــه بالقــدر الــذي يجلــي معــه مقــوالت القارئ ّ‬
‫الكتابــات املعاصــرة التــي تتحــدث عــن النقــد األدبــي وبي ــن نظريــة التلقــي مــن جهــة أولــى ألن «القـراءة شــدت‬
‫إليهــا اهتمــام النقــد اليــوم‪ ،‬وشــددت علــى دور املتلقــي فاعتبــرت قراءتــه إعــادة إنتــاج للنــص الــذي يق ـرأه‪،‬‬
‫بــل إنهــا جعلــت النــص يفقــد شــرعية وجــوده دون قـراءة‪ ،‬ثــم إن االعتنــاء بالقـراءة والقــارئ قــد مثــل فــي أحــد‬
‫وجوهــه نتيجــة لتطــور «التأويليــة» فــي الغــرب منــذ العقــود األولــى مــن هــذا القــرن وســاعد علــى هــذا ت ـراجع‬
‫البنيوية في العقود األخي ــرة‪ ،‬وهناك عالقة أوثق من جهة ثانية بي ــن نظرية التلقي والحداثة‪ ،‬بل إن التلقي‬
‫ال يعــدو أن يكــون أحــد أهــم انتصــارات الحداثــة ومــا بعــد الحداثــة‪ ،‬وذلــك بنقلهمــا مــن مجــال االهتمــام‬
‫ّ‬
‫النظريــة مــن إثبــات موضوعـ ّـي لصاحبهــا «هانــس روبــرت‬ ‫بالكاتــب والنــص‪ ،‬إلــى املتلقــي والقــارئ»‪ .‬تنطلــق هــذه‬
‫ّ‬
‫تاريخيــة وماركسـ ّـية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النقديــة الســائدة مــن‬ ‫جــوس ‪ ،»Hans Robert Jauss‬يتمثــل فحــواه فــي ّأن املقاربــات‬
‫ّ‬
‫األدبيــة‪:‬‬ ‫قيــدت اهتمامهــا بثالثــة عناصــر ّإمــا متفاعلــة أو بت ـر ّ‬
‫اتبية تنبنــي عليهــا الظاهــرة‬ ‫ـكالنية‪ ،‬قــد ّ‬
‫وشـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـص‪ ،‬مهملــة بذلــك عنصــر القــارئ ّ‬ ‫ّ‬
‫املؤلــف والســياق والنـ ّ‬
‫باملتلقــي‬ ‫اإلبداعيــة فــي عالقتهــا‬ ‫ممــا يجعــل الــدورة‬
‫ّ‬
‫جماليــة اإلنتــاج والتصوي ــر املغلقــة‪ ،‬ومــن‬ ‫لم تكتمــل بعــد‪ ،‬فهــذا القصــور يجعــل الفعــل األدبــي ضمــن حلقــة‬
‫ّ‬
‫جماليتــه‪ ،‬وهــو‬ ‫ثـ ّـم تغييــب عنصــر فاعــل فــي مســتوى االرتفــاع بالعمــل األدبــي نحــو اإلبــداع أو ّ‬
‫تق�صــي مكامــن‬
‫الجمهور‪-‬القــارئ‪ ،‬حيــث يتسـ ّـنى بــه قيــس األث ــر الــذي ي ــنتجه واملعنــى الــذي يمنحــه لــه هــذا الجمهــور‪ ،‬وفــي‬
‫ً‬
‫خاضعــا ملنطــق املعضلــة والحـ ّـل‪ ،‬أو الســؤال‬ ‫ضــوء هــذا التصـ ّـور يصبــح النهــج العلقــي بي ــن النـ ّ‬
‫ـص والقــارئ‬
‫وقبليــات القــارئ الحدسـ ّـية أو الســابقة عــن البصــر‪ ،‬بتعبي ــر‬
‫ـص ّ‬ ‫ّ‬
‫وضمنيــات النـ ّ‬ ‫والجــواب‪ ،‬أو بي ــن ّ‬
‫خلفيــات‬
‫النص حقل اشــتغال ال يدرك منه القارئ ســوى ما يعنيه‪ ،‬ومثل هذه‬ ‫ّ‬ ‫محمد العزي ــز الحبابي‪ ،‬وعليه يغدو‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫النص‬ ‫اإلجابــات قــد تكــون قاصــرة عــن اإلملــام بانتظــارات القــارئ‪ ،‬وهــو مــا يجعــل القــارئ يباشــر االشــتغال في‬
‫ّ‬
‫ـنوطيقية‪،‬‬ ‫عبــر تحويلــه إلــى ورشــة لصناعــة املعنــى عبــر فعــل تشـ ّ‬
‫ـاركي‪-‬تبادلي يأخــذ أنمــوذج الدائــرة الهرمي ـ‬
‫ـص فــي دائــرة ّ‬
‫تأويليــة‪.‬‬ ‫ومــن ثـ ّـم ي ــنخرط النـ ّ‬
‫‪311‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫ـص قبــل مباشــرة‬ ‫ـص عــن كونــه حالــة إمــكان إلــى حالــة إنجــاز‪ ،‬نظـ ًـرا إلــى النـ ّ‬ ‫مثــل هــذا التصـ ّـور ي ــزحزح النـ ّ‬
‫ّ‬ ‫يمثــل حالــة كمــون داللــي‪ ،‬تحتــاج إلــى دي ـ ّ‬ ‫ّ‬
‫التحقــق‪ ،‬مثــل هــذا‬ ‫ـنامية القــارئ ليخرجهــا إلــى نطــاق‬ ‫القــارئ لــه‬
‫ونهائيــة‪ ،‬بقــدر مــا يقـ ّـر بمبــدأ املشـ ّ‬
‫ـاعية‬ ‫ـص ال يحمــل داللــة جاهــزة وثابتــة ّ‬ ‫ـأن النـ ّ‬‫التصـ ّـور يف�ضــي إلــى اإلقـرار بـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فالكل‬ ‫العدميــة ووهــم األحــكام والقيــم والثوابت‬ ‫الدالليــة املتولــدة عــن أقانيــم العقــل املنعكــس املقـ ّـرة بمبــدأ‬
‫التضمــن الداللــي املطلــق والنهائــي إلــى وضــع يفت ــرض‬ ‫ّ‬ ‫فــي حركــة ونفــي دائمي ــن‪ ،‬ومــن ثـ ّـم نتحـ ّـول مــن وضــع‬
‫تحققهــا الــدوري واملوقوتــي للقــارئ بمــا هــو محــاور‬ ‫دالليــة تحتــاج إلــى ّ‬
‫إمكانيــات ّ‬
‫ّ‬ ‫احتضــان النـ ّ‬
‫ـص ملجـ ّـرد‬
‫ّ‬ ‫مرتهنــا بالقارئ‪-‬الطــارئ‪ّ ،‬‬ ‫ـص‪ ،‬ومنتــج للمعنــى‪ ،‬هــذا املعنــى الــذي يبقــى ً‬ ‫للنـ ّ‬
‫ممــا يعنــي أننــا أمــام هيــكل ن�صــي‬
‫جـ ّـردت عبارتــه مــن معانيــه‪ ،‬ومثــل هــذا الهيــكل الجغرافــي يبقــى فــي حالــة كمــون إلــى أن ت ــرد عليــه الــدالالت مــن‬
‫ّ‬
‫والعدميــة‬ ‫متدومــة عــن منازلــه الســابقة بفعــل القــارئ‪ ،‬مثــل هــذه النسـ ّـبية‬ ‫خارجــه‪ ،‬بحيــث ي ــنزاح بطريقــة ّ‬
‫ّ‬ ‫فــي مســتوى القـراءة تحـ ّـول فعــل ّ‬
‫التلقــي إلــى مســاهمة مــع املؤلــف فــي التأليــف والتأثيــث‪ .‬فهنــاك إذن عالقــة‬
‫وثيقــة بي ــن مفهــوم القـراءة فــي الكتابــات املعاصــرة التــي تتحــدث عــن النقــد األدبــي وبي ــن نظريــة التلقــي مــن‬
‫جهــة أولــى ألن القـراءة شــدت إليهــا اهتمــام النقــد اليــوم‪ ،‬وشــددت علــى دور املتلقــي فاعتبــرت قراءتــه إعــادة‬
‫إنتــاج للنــص الــذي يقـرأه‪ ،‬بــل إنهــا جعلــت النــص يفقــد شــرعية وجــوده دون قـراءة‪ ،‬ثــم إن االعتنــاء بالقـراءة‬
‫والقــارئ قــد مثــل فــي أحــد وجوهــه نتيجــة لتطــور «التأويليــة» فــي الغــرب منــذ العقــود األولــى مــن هــذا القــرن‪،‬‬
‫وســاعد علــى هــذا ت ـراجع البنيويــة فــي العقــود األخي ــرة‪ ،‬وهنــاك عالقــة أوثــق مــن جهــة ثانيــة بي ــن نظريــة التلقــي‬
‫والحداثــة بــل إن التلقــي ال يعــدو أن يكــون أحــد أهــم انتصــارات الحداثــة ومــا بعــد الحداثــة‪ ،‬وذلــك بنقلهمــا‬
‫التم�شــي الــذي تقـ ّـد معاملــه مثــل هــذه‬
‫ّ‬ ‫مــن مجــال االهتمــام بالكاتــب والنــص إلــى املتلقــي والقــارئ‪ .‬مثــل هــذه‬
‫ّ‬
‫العبثيــة والالمعنــى‪ ،‬فــا وجــود ملعنــى مسـ ّ‬
‫ـتقر ثابــت‪ ،‬بقــدر مــا نجــد معانــي‬ ‫ّ‬
‫النظريــات تف�ضــي إلــى إيقــاع مفهــوم‬
‫أسســها اإلنســان الغربــي خــارج أنمــوذج‬ ‫مســافرة مرتحلــة فــي الوجــود‪ ،‬وهــذا يعكــس حالــة االغت ـراب التــي ّ‬
‫املتديــن‪ ،‬فمنطــق النفــي واالختفــاء واالغت ـراب الــذي أوقعــه الفكــر املنعكــس كنمــط جديــد فــي‬ ‫ّ‬ ‫اإلنســان‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫حلزونيــة‬ ‫الوجــود تســلل إلــى مناهــج التنــاول فغــدت الق ـراءة مغامــرة عجيبــة وغي ــر محـ ّـددة‪ ،‬فتتأكـ ّـد بذلــك‬
‫ً‬ ‫النفــي واالنعــكاس املســتمر واالســتبدال الــدوري للمســتويات‪ّ ،‬‬
‫ممــا يجعــل تاريــخ هــذه الق ـراءات تاريخــا‬
‫ألن زوال وهــم الثوابــت وعلمنــة‬‫متغيــرة؛ ّ‬
‫متدو ًمــا يقــوم علــى منطــق الالتناســق‪ ،‬أي ــن يظهــر فــي شــكل حلقــات ّ‬
‫ّ‬
‫أنمــاط الحيــاة واملعــارف ي ــنبغي إدراكهــا كانعطــاف أو التفــاف علــى منطــق الثوابــت والقيــم واملثــل‪ .‬مثــل هــذه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫العبثيــة فــي مســتوى الق ـراءة ليســت ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وضعــا طارئــا أو حادثــا بقــدر مــا هــو اســتعادة حديثــة‬ ‫الفوضويــة أو‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ـص مشــتتة بي ــن املعنــى وظاللــه‪ ،‬والظــال مــا هي‬ ‫بالباطنيــة‪ ،‬حيــث داللــة النـ‬ ‫لتيــارات ســابقة فــي التاريــخ تعـ َـرف‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪312‬‬

‫ّ‬
‫ألنــه بقــي ً‬ ‫اًّلًّ‬ ‫ّ‬
‫الخارجيــة للنـ ّ‬
‫عائمــا فــي الظــال‪،‬‬ ‫ـص‪ ،‬وهــو مــا جعــل املســلم ضــا فــي عبادتــه وعقيدتــه‬ ‫إال العتبــات‬
‫ّ‬ ‫لذلــك وجــب اخت ـراق جغر ّ‬
‫افيــة النـ ّ‬
‫ـص والتوغــل فــي تضاريســه للقبــض علــى املعنــى‪ ،‬مثــل هــذه الشــطحات‬
‫ّ‬
‫املراهقــة وقــع إحياؤهــا مــن جديــد‪ ،‬كأننــا فــي وضــع براغماتي‪-‬مصلحــي تجــاه املناهــج‪ .‬مثــل هــذه النتائــج تفــرض‬
‫ّ‬
‫الحضاريــة ولكــن نســتخدمه هنــا فــي مســتوى‬ ‫علي ــنا إيقــاع مفهــوم اســتعمله الحبابــي فــي مســتوى الصياغــات‬
‫الغديــة‪ ،‬بالنظــر إلــى ّأنهــا تواجــه فــي الحقيقــة املوقــف التقنــي الــذي أصبــح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النظريــة‪ ،‬وهــو مفهــوم‬ ‫الصياغــات‬
‫ســمة الواقــع املعاصــر‪ ،‬وهــذا املوقــف ال يعنــي مجـ ّـرد اســتعمال اآللــة وشــيوع اســتخدام التقنيــة فــي مختلــف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حياتيــة أفقــدت اإلنســان قيمــه‬ ‫مكونــات حياتنــا‪ ،‬بــل مــا تولــد عنــه مــن صيــغ وطبائــع وقيــم وســلوكات ونمــاذج‬
‫دوامــة مــن‬ ‫ألن التقنيــة قــد اســتعمرت اإلنســان وأدخلتــه فــي ّ‬ ‫ومبادئــه وجعلتهــا مجـ ّـرد شــعا ات فضفاضــة؛ ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫ـتهالكية تفقــد‬ ‫فطريتــه واطمئنانــه وســكونه وســعادته وأعطتــه ً‬
‫قيمــا اسـ‬ ‫التبـ ّـدل ذات طابــع ســريع‪ ،‬أفقدتــه ّ‬
‫ً‬
‫عصابــا متواصــا جعلــه ّيتجــه نحــو حلــول تدمي ـ ّـرية لذاتــه‬ ‫ً‬ ‫ممــا يجعــل اإلنســان يعايــش‬ ‫ّ‬
‫فاعليتهــا بســرعة‪ّ ،‬‬
‫ـرقيه‪ ،‬مثــل هــذه الفو�ضــى تعكــس فو�ضــى فــي مســتوى الفكــر الــذي أفــرز ً‬ ‫ّ‬
‫كونــا مــن‬ ‫يعــدم معهــا تشــخصنه وت ـ‬
‫ـص كمنتــج ثقافــي» ومثــل‬ ‫ـص القرآنــي» إلــى «النـ ّ‬‫حولــت فعــل االشــتغال مــن «علــى النـ ّ‬‫املناهــج والقـراءات التــي ّ‬
‫ّ‬
‫املوقوتيــة بمــا هــي فعــل متناغــم مــع النمــط االســتهالكي الــذي أفرزتــه حداثــة العقــل‬ ‫هــذه املناهــج تأخــذ طابــع‬
‫ممــا يعنــي أننــا أمــام موقــف يلغــي األحــكام واملواقــف واملنظومــات ويدفــع نحــو التغاي ــر‬ ‫املنعكــس الغربــي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ـتقلة واملنعتقــة مــن ّ‬
‫أي رابــط أو التـزام‪ ،‬فهــي قـراءة دون قيمــة عكــس‬ ‫والتيــه وفتــح املجــال أمــام الفهــوم املسـ‬
‫الضبــط القرآنــي للمصطلــح‪ ،‬حيــث يدفــع باإلنســان إلــى االلتـزام وتقعيــد مســألة القـراءة بطرائــق تدفــع نحــو‬
‫الضـ ّـم والتأليــف ال التيــه والتصــادم الــذي نجــده مــع قـراءات العقــل املنعكــس‪ ،‬فمــا بي ــن االلتـزام والعبثيــة‬
‫بــون شاســع يعكــس طرائــق الفعــل والرؤيــة والتصـ ّـور‪.‬‬
‫لعـ ّـل األث ــر اإلجرائــي الــذي يمكــن أن ّ‬
‫نتلقفــه مــن فكــرة الضبــط املصطلحــي املقــارن بي ــن القـرآن والعقــل‬
‫كل ّأمــة أو ثقافــة أو حضــارة‪ ،‬مــن خــال إثبــات‬ ‫املنعكــس هــو ذاك األث ــر الحضــاري املطلــوب لتأكيــد ّ‬
‫حيويــة ّ‬
‫حضورهــا الخصــب والفاعــل فــي مجــال الحـراك املعجمــي والعلمــي عبــر االجتهــاد فــي فعــل التفسي ــر والقـراءة‬
‫ضمــن آفــاق تتجــه نحــو التفكي ــر خــارج الدائــرة السـ ّ‬
‫ـلفية اآلســرة للفكــر وللغــة واملنهــج‪ ،‬الــذي تبذلــه حتــى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتتخلــى عــن فكــرة مديوي ـ ّـنة املعنــى ّ‬ ‫ًّ‬ ‫يســتقيم أودهــا ّ‬
‫فالحضاريــة لآلخــر‬ ‫املعجميــة‬ ‫وتبعيتهــا‬ ‫تدريجيــا‬ ‫وتتنحــى‬
‫الــذي يســعى إلــى اســتعمار الجغرافيــا والتاريــخ والذاكــرة عبــر رصــد مواطــن الخلــل والضعــف فــي الحضــارة‬
‫املنهكــة قصــد اســتالبها‪ ،‬ومــن ثـ ّـم اســتيعابها مــن خــال رســم مالمــح وجودهــا غي ــر تلــك التــي تســتقيم‬
‫الواقعيــة كائنــة نتيجــة انزياحهــا نحــو التقـ ّـوض والتال�شــي والفشــل بســبب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وخصوصياتهــا‪ ،‬ومثــل هــذه اآلثــار‬
‫‪313‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫اضطـراب داللــة املصطلــح‪ ،‬وتعــارض املفاهيــم‪ ،‬وشــيوع الغمــوض والقلــق فــي الت ـراسل العلمــي بي ــن مصــادر‬
‫املعرفــة وجهــات التلقــي وهــو مــا نلحظــه لــدى الفئــة الهشــة مــن املثقفي ــن الذي ــن ّ‬
‫فرطــوا فــي املســاق الحضــاري‬
‫ـلفية الغربيــة املتجــاوزة‪ ،‬فبقــي فــي منزلــة الرمــاد الحضــاري‪ .‬األمــر الــذي‬‫التبعيــة للسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫األهلــي ورضــوا بتلــك‬
‫يعـ ّـرض ت ـراكم املعرفــة ذاتــه إلــى كثي ــر مــن الصعــاب ومنهــا عــدم اســتقرار املفاهيــم‪ ،‬ومــا يقــوده ذلــك مــن‬
‫ّ‬
‫اضط ـراب ليــس فــي الوصــف والتحليــل واالســتقراء‪ ،‬إنمــا فــي االســتنباط واســتخراج النتائــج التــي يهــدف إلــى‬
‫العربية‪-‬اإلسـ ّ‬
‫ـامية هــو آفــة انســداد الت ـراسل‬ ‫ّ‬ ‫كل بحــث‪ ،‬ومــن ثـ ّـم فـ ّ‬
‫ـإن مــا تعانــي منــه الثقافــة‬ ‫الوصــول إليهــا ّ‬
‫الطبيعــي والحــوار والجــدل واملســاءلة الجــادة‪ ،‬نتيجــة اختــال فــي الت ـراسل الطبيعــي بي ــن األف ـراد‪ ،‬وبي ــنهم‬
‫آنفــا غائــب والحاضــر هــو الشــاذ‪ ،‬وهــو مــا انعكــس سـ ًـلبا‬‫ونصهــم املرجعــي‪ :‬القـرآن‪ ،‬حيــث ّإن البدهـ ّـي املذكــور ً‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫االصطالحيــة التــي اتســمت بالخلــط والغمــوض واالرتبــاك‪ .‬وكــذا فــي القـراءة‪ ،‬فــا جـ ّـدد وال نقــد‬
‫ّ‬ ‫علــى املمارســة‬
‫ّ‬
‫التبعيــة للغــرب‪.‬‬ ‫بــل بقــي ضمــن حــدود الحكايــة واســتصحاب‬
‫فكريــا يعمــد إلــى توصيــف طبيعــة ثقافتنــا ّ‬
‫بأنهــا تطبيــق إجرائــي لعالقــة‬ ‫نضيــف إلــى ذلــك أن ّثمــة ّ‬
‫توج ًهــا ًّ‬
‫ّ‬
‫التاريخيــة بمــا‬ ‫كل ممارســاتنا‬‫صوفيــة تجمــع بي ــن الشــيخ واملريــد‪ ،‬مثــل هــذا الشــكل العالئقــي تسـ ّـلل إلــى ّ‬
‫ّ‬
‫فيهــا الفعــل التفسي ــري والقرائــي‪ّ ،‬‬
‫ممــا أوقعــه فــي أزمــة تعكــس بجــاء الوضــع املــأزوم الــذي ت ــرزح ضمنــه‬
‫ّ‬
‫إال مــن خــال حلــول‬ ‫العربيــة ّ‬
‫ّ‬
‫برمتهــا‪ ،‬لذلــك ال خــاص للق ـراءات التفسي ــرية مــن أزمتهــا الراهنــة‬ ‫املنظومــة‬
‫اضية ّ‬
‫رمزيــة‬ ‫عمليــة تســعى إلــى زحزحــة الفكــر مــن وضــع العزلــة واالنصيــاع لقــول الشــيخ بمــا هــو صــورة افت ـر ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للســلطة ّ‬
‫تفاعليــة‬ ‫املوجهــة‪ ،‬ومحاولــة التخلــص مــن هــذا األنمــوذج الســلبي‪ ،‬قصــد االنخ ـراط فــي ممارســة‬
‫تؤمــن بوجــود اآلخــر املختلــف كشــريك فاعــل وطــرف محــاور وناقــد ومحـ ّـور وراســم ملالمــح املمارســة املعاصــرة‬
‫ـامية فــي بعدهــا االستش ـرافي‪ ،‬أي‪ :‬كمــا يجــب أن تكــون‬ ‫العربيــة اإلسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫للتفسي ــر‪ ،‬ومــن ورائهــا لوحــة الثقافــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إجر ًّ‬
‫املفعوليــة التــي أفضــت بهــا إلــى وضــع‬ ‫الحضاريــة وتتخلــص مــن تبعــات‬ ‫الفاعليــة‬ ‫ائيــا حتــى ت ــرقى إلــى مرتبــة‬
‫املديونيــة واالســتالب واســتعمار الجغرافيــا بمفهومهــا الحقيقــي واملجــازي‪ ،‬نقــول مثــل هــذا الــكالم نظـ ًـرا إلــى‬ ‫ّ‬
‫العضويــة القائمــة بي ــن العقــل واللغــة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أيضــا بالظواهــر‬ ‫وتتصــل ً‬ ‫ّ‬ ‫ّأن املصطلــح هــو صــورة مكثفــة للعالقــة‬
‫املركزيــة التــي يمتـ ّـد بهــا مجــال اإلشــعاع‬
‫ّ‬ ‫املعرفيــة ّ‬
‫ألن املصطلحــات فــي ّ‬
‫كل علــم مــن العلــوم هــي بمثابــة النــواة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫خصوصيــة‬ ‫مرتهنــا إلــى حي ــن الوعــي بـ ّ‬
‫ـأن‬ ‫ـرسخ بهــا االســتقطاب الفكــري مثــل هــذا الضبــط يبقــى ً‬ ‫املعرفـ ّـي ويت ـ ّ‬

‫الطــرح القرآنــي فــي مســتوى الضبــط تتعـ ّـدى مجــال املصطلــح إلــى مجــال اإلنســان الــذي خلقــه هللا فــي أحســن‬
‫ـاكرا ّ‬
‫وإمــا كفـ ً‬
‫ـورا‪.‬‬ ‫تقويــم‪ ،‬فمــا عليــه ســوى اختيــار الســبيل ّإمــا شـ ً‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪314‬‬

‫الســؤال التاســع‪ :‬ال شــك أن درس القــراءات الحداثيــة تحليـ ًلا ونقـدًا‬
‫وتقويمً ــا ال يخلــو مــن فجــوات بحثيــة متنوعــة تحتــاج إلــى جهــد جهيــد‬
‫حتــى تعطــي أكلهــا‪ ،‬فهل يمكنكم اإلدالء بمقتـــرحات لمشــاريع بحثية‬
‫بهــذا الصــدد؟ ومــا مــدى درجــة أولويــة البحــث فيهــا؟‬
‫ّ‬
‫وضعيــة يصطلــح عليهــا املستشــرق األملانــي تومــاس بــاور بـ«االلتبــاس»‪ ،‬علــى اعتبــار ّأن‬
‫ّ‬ ‫إننــا اليــوم فــي‬
‫التوجــه الت ـراثي قــد ّاتســم بالتنـ ّـوع والتســامح واالنفتــاح‪ ،‬فــي حي ــن ّأن الوضــع املعاصــر قــد ورث نسـ ّ‬
‫ـقية‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أحاديــة الفهــم املــوروث‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫منهجيــا‪ ،‬وهــذا مــا أف�ضــى إلــى إق ـرار منطــق‬ ‫الفرقــة الناجيــة‬
‫”يقــارن الكاتــب األملانــي ً‬
‫أيضــا بي ــن أفــكار فقهــاء قدامــى ومعاصري ــن‪ ،‬مثــل ابــن الجــزري الدمشــقي‬
‫(‪ )1350-1343‬وبي ــن أفــكار ابــن عثيمي ــن (‪ ،)2001-1929‬فــاألول كان متسـ ً‬
‫ـامحا تجــاه أي التبــاس‪ ،‬والــذي‬
‫ّ‬
‫بالتعصــب‬ ‫ً‬
‫مفتوحــا ال يمكــن بلــوغ معنــاه النهائــي والالمحــدود‪ ،‬بي ــنما يصــف اآلخــر‬ ‫رأى فــي الق ـرآن ًّ‬
‫نصــا‬
‫ً‬
‫وضوحــا ال يقبــل تعــدد‬ ‫والتخـ ّـوف تجــاه االلتبــاس الــذي اعتبــره خطـ ًـرا وكان يخشــاه‪ ،‬معتبـ ًـرا أن هنــاك‬
‫ّ‬
‫املتعصبي ــن مــن املسلمي ــن اليــوم ونظــرة‬ ‫التأويــل فــي نــص القـرآن‪ ،‬ويبــدو هــذا األخي ــر كمــا لــو كان رأي أغلــب‬
‫غي ــر املسلمي ــن لإلسالم والنـ ّ‬
‫ـص القرآنــي فــي عصرنــا”‪ .‬هــذا يفتــح أمامنــا طــرح البدائــل املعاصــرة‬
‫التشخيصية للمنجز التفسيـري املعاصر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محصلة هذه املعالجة‬
‫ّ‬
‫ـرتيبية‪ ،‬وكـ ّـم هائــل مــن املعــارف واملدلــوالت القر ّ‬
‫آنيــة‪ ،‬لكــن فــي‬ ‫تجزيئيــة ت ـ ّ‬
‫ّ‬ ‫إننــا أمــام ممارســة تفسي ـ ّـرية‬
‫حالــة تناث ــر وت ـراكم عــددي دون أن نكتشــف أوجــه االرتبــاط‪ ،‬ودون أن نكتشــف الت ـراكيب العضويــة لهــذه‬
‫ـكل مجــال مــن مجــاالت الحيــاة‪ ،‬أي‪:‬‬‫آنيــة لـ ّ‬ ‫الدالليــة‪ ،‬ودون أن نحـ ّـدد فــي نهايــة املطــاف ّ‬
‫نظريــة قر ّ‬ ‫ّ‬ ‫املجاميــع‬
‫فكريــة‪ ،‬أي‪ :‬االنتقــال إلــى وضــع ّ‬
‫نظريــة ومجاميــع ّ‬
‫مركبــات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروابــط والعالقــات التــي ّ‬
‫نظريــة القـرآن‬ ‫تحولهــا إلــى‬
‫املقت ــرحة كبديــل حضــاري‪.‬‬
‫ممــا حـ ّـول بعــض املنجــز‬ ‫ّ‬
‫املذهبيــة‪ّ ،‬‬ ‫القصــور عــن هــذا االشــتغال النوعــي فتــح البــاب أمــام التناقضــات‬
‫التفسي ــري إلــى ممارســة تبري ـ ّـرية للمذهــب الفقهــي أو الكالمــي أو الصوفــي أو الفكــري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نســارع إلــى القــول بـ ّ‬
‫ـأن هــذا الثبــات الــذي يبــدو َم ْدعــاة العتـزاز عــدد مــن الباحثي ــن رغــم أنــه يصــدق علــى‬
‫ّ ّ‬
‫جـ ّـل األعمــال التفسي ــرية التــي نشــرت منــذ منتصــف القــرن املا�ضــي إال أنــه لــم َي ُحـ ْـل دون ظهــور محــاوالت‬
‫فإننــا نعتبــر ّأنــه مــن املمكــن ًّ‬
‫عمليــا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تجديديــة فــي مســتوى املنهــج وهــو مــا نـراه ًّ‬
‫حريــا بالــدرس والتحليــل‪ .‬لذلــك‬
‫نوعــا مــن التحـ ّـول ظهــر فــي مجــال التجديــد املنهجـ ّـي لتفسي ــر الق ـرآن الكريــم‪ .‬حصــل هــذا رغــم‬ ‫القــول‪ّ :‬إن ً‬
‫‪315‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 2 / 2‬‬
‫ربيع ‪Spring 2023‬‬

‫املفسري ــن املعاصري ــن وعلــى مناهــج الدراســات القر ّ‬


‫آنيــة فــي الجامعــات‬ ‫املنهجيــة الت ـراثية علــى أعمــال ّ‬
‫ّ‬ ‫هيمنــة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ـامية بالبــاد العربيــة‪ .‬هــذه املحــاوالت الحديثــة ‪-‬وإن لــم تنجــز عمــا تفسي ـ ًّـريا كامــا‪ّ -‬‬
‫اإلسـ ّ‬
‫فإنهــا أدركــت‬
‫ـتمدت ً‬
‫جانبــا‬ ‫تجديديــة لق ـراءة النــص القرآنــي‪ .‬األهـ ّـم فــي هــذه املحــاوالت ّأنهــا اسـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ضــرورة تأســيس منهجيــة‬
‫مــن وعيهــا هــذا مــن الت ـراث التفسي ــر ّي نفســه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـص‬ ‫ّ‬
‫ة–املنهجيــة لتنــاول النـ ّ‬ ‫ّ‬
‫املعرفي‬ ‫إننــا أمــام وضــع منهجــي يقت�ضــي التعــدد والتكثــر لتخصيــب العـ ّـدة‬
‫الحضاريــة والبدائــل املمكنــة املقت ــرحة‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫ّ‬ ‫القرآنــي‪ ،‬ومــن ثـ ّـم جعلــه ضمــن مجــال االقت ـراح للمنظومــات‬
‫معنيــا فــي ذاتــه‪ ،‬بقــدر تمكي ــن القــارئ مــن مقت ــرحات قصــد تشــكيل التصـ ّـور الحضــاري‬
‫التفسي ــر ليــس ًّ‬
‫القرآنــي للعم ـران‪.‬‬
‫ّ‬
‫بعد‪-‬نصيــة‪ ،‬أي املقت ــرح‬ ‫ً‬
‫مضيفــا مــن خــال التأكيــد علــى األبعــاد مــا‬ ‫فالق ـراءة املقت ــرحة تحقــق ً‬
‫توازنــا‬
‫ّ‬
‫ولعلنــا نختــزل اإلشـ ّ‬
‫ـكالية‬ ‫املنظومــي للقـرآن فــي ظـ ّـل التدافــع الحضــاري واملقت ــرحات إلعــادة تشــكيل اإلنســان‪.‬‬
‫الراهنــة فيمــا اختصــره املفكــر أحميــدة النيفــر بضــرورة االنتقــال مــن وضــع التفاسي ــر املنجــزة على القراءات‬
‫عبــر عنــه فــي اإلشــكاليات التاليــة‬ ‫املقت ــرحة‪ ،‬وهــو مــا ّ‬
‫امتداديــة املنهــج التفسي ــر ّي «الت ـر ّ‬
‫اثي» فــي الحاضــر واســتطالته‬ ‫ّ‬ ‫بهــذا التســاؤل بــدا ّأنــه ال �شــيء يب ـ ّـرر‬
‫ّ‬
‫وإطالقيتــه وســلطته‪.‬‬
‫ـزءا مــن أج ـزاء اإلشــكالية التــي تطــرح علــى الباحــث عنــد دراســة املنهــج‬ ‫ّأول األســئلة التــي تعتبــر جـ ً‬
‫التفسي ــر ّي املعاصــر ّيتصــل بطبيعــة العالقــة مــع الت ـراث التفسي ــر ّي القديــم‪ .‬فمــا لــم يحـ ّـدد ّ‬
‫املفســر‪/‬القارئ‬
‫َ ّ‬
‫توقــع تجديــد منهجـ ّـي مــن ق َبلــه‪ :‬واقــع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫املعاصــر ً‬
‫إميــة ّإمــا‬ ‫ِ ِ‬ ‫واضحــا مــن هــذا الت ـراث فإنــه مــن املســتبعد‬ ‫موقفــا‬
‫وإمــا االحتــواء املعرفي–التاريخــي ‪.‬‬ ‫التعامــل التفاعلــي ّ‬
‫بالعدة املعرفية‬‫املهتم ّ‬
‫ّ‬ ‫باإلشكالية التي نحاول بسطها وهو‬ ‫ّ‬ ‫ثان موصول‬ ‫ي ّ‬
‫ـنجر عن هذا السؤال سؤال ٍ‬
‫منهجية حديثة لتفسيـر القرآن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املفسر اليوم إلرساء‬ ‫التي يحتاج إليها ّ‬
‫ّ‬
‫بالنص القر ّ‬
‫آني‪.‬‬ ‫ّأما ثالث األسئلة فهو الذي يعتني بتحديد وظيفة ّ‬
‫املفسر وطبيعة العالقة‬
‫ّ‬
‫املنظوميــة‪ ،‬ليــس‬ ‫ولكــن أضيــف علــى األســئلة املتداولــة فــي حقــل الق ـراءات املعاصــرة‪ّ :‬‬
‫غائيــة الق ـراءة‬
‫مجـ ّـرد بيــان بقــدر مــا هــو صناعــة وعــي حضــاري واعت ـزاز بالوحــي فــي ظـ ّـل الت ــرذيل لقيمــة الغيــب والوحــي‬
‫وكل متعلقاتــه‪.‬‬ ‫والنـ ّ‬
‫ـص القرآنــي ّ‬
‫ً‬
‫كيــف يكــون فعــل التفسي ــر‪/‬أو الق ـراءات املقت ــرحة معانــاة للحكمــة اإللهيــة بمشــاغل الواقــع؟ أو‬
‫كيــف يصبــح التفسي ــر هــو جــدل الوحــي مــع التاريــخ؟ تلــك هــي أهـ ّـم املوجهــات املقت ــرحة قصــد تحقيــق فعــل‬
‫نآرقلا صنلل ةيثادحلا تاءارقلا راوح‬ ‫‪316‬‬

‫التفسي ــر الخليفــي عبــر الوعــي بـ ّ‬


‫ـأن التفسي ــر ليــس حكايــة للمنجــز الت ـراثي بشــقيه األهلــي والغربــي‪ ،‬بــل هــو‬
‫محاولــة لالســتمرار فــي الكشــف عــن املعنــى املتدفــق مــن الكلــم اإللهــي مــن لحظــة «اقـرأ» إلــى لحظــة يــوم يأتــي‬
‫تأويلــه‪ ،‬ومــن ثـ ّـم االلتفــات إلــى مــن وضــع ّ‬
‫املفســر املفــرد إلــى وضــع التفسي ــر املؤس�ســي‪.‬‬

You might also like