You are on page 1of 2

‫قيمة االختالف‬

‫يبدو أننا نعيش اليوم في عالم أصبح فيه ما هو فكري مصدر العديد من النزاع ات‪ .‬األم ر ال ذي‬
‫ذهب بالعديد من المحللين إلى التأكيد على أن الصراعات المستقبلية ستحسم على المستوى الفكري‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫يمكن القول بأن الصراعات اليوم بين نموذج يتبنى النظرة األحادية‪ ،‬ويرى أن السبيل لحل النزاعات وحس م‬
‫الخالف أو االختالف هو اعتماد القوة من جه ة و نم وذج ي رفض ك ل أش كال النمذج ة والتنمي ط‪ ،‬س واء من‬
‫حيث النظر أو العمل‪ ،‬ويدافع عن التعددي ة في ك ل أبعاده ا من جه ة اخ رى‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يعت بر الح وار الس بيل‬
‫األمثل لحسم الخالف أو االختالف بين األطراف المتنازعة‪ ،‬مع حق كل طرف في حفظ خصوصياته‪.‬‬

‫يتضح بموجب ما ذكر أن المواقف السائدة في عالم اليوم تجعلنا أمام تص ورين‪ .‬االول ي رفض االختالف ام ا‬
‫الثاني فيدافع عن االختالف و يقول بالتعددية‪.‬‬

‫فما هي حقيقة االختالف? هل يجب رفض االختالف والقول بالنمذج ة ام يجب الق ول بالتعددي ة‬
‫والقبول باالختالف ?‬

‫نعني بالقيمة تقدير الشيء واعتباره‪ ،‬ومن الوجه ة الفلس فية البع د الخلقي ال ذي يتطل ع إلي ه‬
‫المرء علما وعمال‪ .‬والمبتغى من إيراد مفهوم القيمة هو رفع االختالف إلى درجة يصبح فيها قيمة إنس انية‪،‬‬
‫وليس مجرد حقي الذي أستند فيه إلى خلفية دينية أو عرقية أو لغوية‪ ،‬إلخ‪ .‬ومن ثم‪ ،‬وجب النظر إلى اآلخ ر‬
‫دون تمييز يقوم على الجنس أو الدين أو اللغة أو اللون‪ ،‬إلخ‪ .‬ذلك أن االستناد إلى إحدى المرجعيات ق د ُيفهم‬
‫منه أنني أنتظر من غ يري أن يعطي ني ه ذا الح ق‪ ،‬بينم ا جعل ه قيم ة إنس انية‪ ،‬يع ني أن لك ل من ا الح ق في‬
‫االختالف مع غيره‪ ،‬دون تمييز أو انتظ ار إذن من غ يره‪ .‬فلك ل من ا الح ق في االختالف بعي دا عن أي نظ رة‬
‫ضيقة يمكن أن ينظر إليها اآلخر من منطلق عنصري؛ فمن حقي كإنسان أن اختلف مع اآلخ ر ض من حق وق‬
‫وواجبات مصونة لكل طرف‪.‬‬

‫رغم اسناد هذا المفهوم النبيل "القيمة" الى مفهوم االختالف اال انه هنالك توجه يتبنى النظرة االحادية‪.‬‬
‫تتميز تصورات هذا الطرف ومواقفه بالنظرة األحادية في التفكير والسلوك‪ .‬فهو يسعى إلى جعل الكل على‬
‫نموذج واحد‪ .‬ولتحقيق هذا الوضع عمد إلى فرض نموذج اجتماعي وثقافي واحد‪ ،‬ومنظومة قيم عالمية‬
‫واحدة‪ ،‬قادرة على خلق "مواطن عالمي"‪ .‬ولما كان الهدف هو نمذجة العالم‪ ،‬بشقيه الطبيعي واإلنساني‪،‬‬
‫‪.‬فقد ادعى أنه هو من يمتلك الحقيقة‪ ،‬ومن خاللها السلطة التي تخول له فرض تصوراته‪ ،‬رغبا أو رهبا‬
‫لقد دفع هذا التصور بأص حابه (دوال‪ ،‬وجماع ات‪ ،‬وطوائ ف) إلى بن اء الع الم على أس س فكري ة قائم ة على‬
‫ثنائيات تصادمية من قبيل‪ :‬صديق ‪/‬عدو؛ مؤمن ‪/‬كافر؛ معي ‪/‬ضدي؛ خير‪/‬شر‪ .‬وبم ا أن م واقفهم تنطل ق من‬
‫تصور ينبني على وجود مركز وهامش‪ ،‬فهم يركزون على إل زام ك ل من يختل ف معهم‪ .‬والنتيج ة م ا نعاين ه‬
‫اليوم من استحضار مفاهيم تستهدف الت برير األخالقي للعدي د من الممارس ات‪ ،‬من قبي ل أخالقي ات الح رب‪،‬‬
‫والحرب العادلة‪ ،‬وحماية األمن القومي‪ .‬وبالجملة‪ ،‬ينظ ر ه ذا التوج ه إلى التعددي ة على أنه ا فوض ى‪ ،‬وإلى‬
‫االختالف على أنه تآمر‪ ،‬وإلى التسامح على أنه ضعف‪ .‬فه و ال ي ؤمن ال بالتعددي ة وال ب الحق في االختالف‪.‬‬
‫فهو يتعامل مع اآلخر وفق ضوابط حصرها في‪ :‬الرقابة‪ ،‬والضبط‪ ،‬والتحكم‪.‬‬

‫في المقابل نجد توجه يتبنى التعددية ‪ .‬فقد أثارت المواقف الفكرية التي تبناها التوجه األول ردود أفعال لدى‬
‫العديد من األطراف التي رفضت محاولة بناء العالم وفق نموذج أحادي؛ واعتبرت هذا المسعى غلوا وتطرفا‪.‬‬
‫فإذا كان الهدف هو إقصاء اآلخر واستبعاد كل الخصوصيات لصالح نموذج عالمي موحد‪ ،‬فإن الوضع‬
‫يقتضي أن يكون لكل طائفة أو جماعة أو أمة الحق في أن تكون لها معتقداتها وثقافتها وقيمها ونظرتها‬
‫للحياة‪ .‬إن العيش في عالم يسوده التسامح يقتضي التخلي عن المفاهيم األحادية (النظام العالمي الجديد)‪،‬‬
‫والتصورات الكلية (العدالة المطلقة)‪ ،‬والنظرة إلى العالم وفق ثنائيات مضادة (المركز والهامش)‪ .‬ولن‬
‫يتحقق ذلك إال متى سلمنا باالختالف كقيمة إنسانية‪ ،‬والذي يستدعي بدوره التسليم بالتعددية القائمة على‬
‫اختالف التجارب وتفاوت التقديرات‪ ،‬إلخ‪ .‬وبالجملة‪ ،‬إن تجاوز النظرة التصادمية يتطلب أن يكف كل طرف‬
‫على اعتبار الطرف اآلخر عدوا ال يصلح معه إال العنف‪ ،‬وال يستحق إال الموت‪ .‬وبالجملة‪ ،‬يقتضي الوضع‬
‫الخروج من ثقافة المطلق‪ ،‬والقبول بالرأي اآلخر‪.‬‬

‫هكذا صار مطلب التعددية من مطالب العديد من الرافضين ألحادية التفكير والسلوك‪ .‬إنهم يطالبون بعالم قائم‬
‫على التعددية؛ ألن األنساق الفكرية التي تسلم بالتعددية واالختالف تصمد أكثر من تلك التي تسعى إلى‬
‫محوها‪ .‬يعني هذا أن األنساق الفكرية المنفتحة تتطور بفعل دخولها في حوار مع األنساق الفكرية األخرى‪،‬‬
‫بينما تتحول األنساق ذات البعد األحادي إلى أنظمة تسلطية‪ -‬شمولية‪ ،‬ترى أن استمرارها يتوقف على‬
‫القضاء على كل من يخالفها الرأي؛ فال اختالف وال تسامح وال تعددية‪.‬‬

‫إن الوضع يتطلب بناء عالم يقوم على تعددية الثقافات وتعدد التي ارات وتع دد المرجعي ات‪ ،‬إلخ‪ .‬ولن يتحق ق‬
‫ذلك إال متى اتخذنا الحوار سبيال لفك النزاعات‪ ،‬وجعل العدي د من المف اهيم تأخ ذ داللته ا الحقيقي ة‪ .‬فال يمكن‬
‫التسليم بمشروعية التعددية وبمبدإ الح ق في االختالف وم ا ي ترتب عنهم ا إال ب الحوار الق ائم على التع اون‬
‫وتدبير االختالف بطرائق عقالنية ‪-‬نقدية‪.‬‬

‫أمام هذه السمات الطاغية على ع الم الي وم أص بحنا نواج ه بخي ارين‪ .‬ام ا ان نس عى إلى حس م‬
‫اختالفاتها مع اآلخر بالعنف والقهر اما ان نتوجه الى فكر يتبنى الحوار سبيال لتدبير االختالف‪.‬‬

You might also like