Professional Documents
Culture Documents
بن دقونة
بن دقونة
Toggle navigation
قصص و أشعار
األشعة السبعة
وبعد ...يبدو أن مداخلتي الموسومة بـ "عاشق نور" قراءة في األشعة السبعة والكاتب وقصص أخرى..لن تفلت هي األخرى من أسر هذا التغنيم
الساكني ..ربما أنها محض اتصال حميم ،وقراءة ودود ألثر "ابن هدوقة" هكذا أقرها ودونما تردد في رسمها ،إذ ليس ثمة ما يشينها "ما حفظ القارئ
على مقامه" سيد نفسه ،تتخذ قراءته موقع الحكم الفعلي لميالد النص وخروجه إلى الجمهور ،وما حافظ قارئ القص تحديدا على حريته يتحرك مع
النص كيفما يشاء وفي كل اتجاه...وما هذه القراءة سوى حركة مغامرة صوب أدغال النص والنفس والذاكرة معا..تمتاح سبر األغوار ،واستكناه
الكامن خلف الظاهر قصد استجالء المعنى الخفي الباطن ،ذاك الذي لم يتحدث عنه بعد فيما كتبه 'ابن هدوقة" من قصص ،وربما هو ذاته لم يدركه
وال قرأه عبر أثره على النحو الذي سيجليه هذا االتصال الحدسي في بداياته الكاشف عبر مراحله..
أما المعمول األنسب لبلوغ هذا المأرب ..فقد توسمنا أن يوفره لنا ذلك الضرب من المقاربات الموضوعاتية « » approches thématiques
المتعددة تطبيقاتها بتعدد روادها وفلسفاتهم ،وكذا توجهاتهم الذاتية ،غير أننا سنجنح أكثر إلى موضوعاتية "جان بول فيبر" الذي انصب انشغاله في
البحث عن إيجاد بعض التفسير للمحركات الباطنية للعملية اإلبداعية المستعصي كشفها على القراءة السطحية لظاهر النصوص ،وتمثلت الخالصة
التي وصل إليها "فيبر" بعد تطبيقات عديدة في الشعر والنثر وكذا الفلسفة ( )2أن كل أثر فني إنما هو ثمرة هاجس صاحبه ،وما الهاجس إال
"موضوعة مركزية" « » thème centralتكون المهيمنة الوحيدة la seule dominanteبالنسبة للمبدعين المنسجمين .أما العصابيون فال
تكون آثارهم أحادية الموضوعة monothématiqueوإنما ثنائيتها bithématiqueأو متعددتها ،polythématiqueويحدد "فيبر"
الموضوعة بأنها" :األثر البارز لذكرى راسخة من ذكريات طفولة المبدع الصادمة ترافقه لتلهبه وتلهمه فيها هو آت من مراحل عمره ،لذلك فهي
كثيرا ما تعلن حضورها الثابت بل الالفت أحيانا عبر كامل أثره".
توكأ على هذا المرتكز المنهجي إذن انطلق مسار تقصينا رصدا ومالحقة للهاجس المهيمن على أثر "ابن هدوقة" القصصي ،وكإجراء أولي بدا لنا
عند الشروع تقصي شؤون الكلمة ،لما للكلمة من صدى وأهمية فربما كانت عوالم الكلمات عبر نصوص القص أجل من عوالم األحداث ،فالكلمات
األكثر دورانا لها معنى أكثر إيغاال ...وعادة ما ال يكون في وسعنا تقصي شؤون الكلمات ،لما للكلمة من صدى وأهمية فربما كانت عوالم الكلمات
بمعزل عن سياحة الروح في اآلفاق وإذ أن لغة الكاتب ال تعدو وأن تكون شريحة من باطنه..
كذلك شدنا أطراد « » la récurrenceكلمة "نور" وما في حكمه من موجودات نورانية عبر كامل أثر ابن هدوقة األدبي وإن كنا سنقتصر
على مجموعتين من أعماله في هذا المقام عسى تتيح لنا األيام انجاز دراسة أوفى ألثره في شموليته وكليته.
لقد سجلت كلمة "نور" وما في حكمه كمونها العالي عبر أثره ،حد أن ما يشيد المتلقي وبإثارة! في األشعة السبعة والكاتب وقصص أخرى شالل
نور منهمر يناسب كلمات يضيء سناها سبيل عيون االستبطان كما تطلع يقظة على تخوم عالم "ابن هدوقة" القصصي ،كما أن الصورة الغريبة
التي كانت من وحي النور مثيرة أسهمت في اإلصرار على التيقظ ،فالنور عند "ابن هدوقة" شراب مستساغ والنور كساء االفتتان والنور مأوى
األمان والنور الجمال ..إن الكلمات "شمس ،قمر ،ضوء ،نجوم ،فجر ،برق ،شموع "...هي العناصر المشكلة لكوكبة لسانية مشعة «
» constellation linguistiqueأطردت بإلحاح مثبتة حضورها القار متلفظا لسانيا صريحا تتخللها عناصر شتى هي في حكم النور ،لما
يثيره وقعها في النفس من إحساس بالنور انعكاسا لظاهر كالمرآة والزجاج والدموع ..أو مصدر باطن ككلمة دراويش ،وحتى تلك العناصر التي
بدت من أضداده ،كالليل والظالم والضباب والسواد ،فكأنما هي قد أثبتت عبر نصوص "ابن هدوقة" في مقابل النور لتعلنه أكثر وتسهم في
انتشاره األوسع واألبلغ عبر النص وربما في النفس أيضا ،فما السواد وما البياض ،أليس هما صنوين مثال زمن تالزم الليل والنهار؟ أليس السواد
أشعة من الشمس التي يحبها جميع الناس ( ) 3بهذا تسنى البن هدوقة إنارة كل نصوصه كل نص بمقداره ،إال أن المؤكد أنه لم يبق ثمة نص من
األشعة وال الكاتب يعاني غبن عتمة يكون قد عاناها "عبد الحميد بن هدوقة" في مراحل عمره ،وربما رافقه بتدرج أقصى حتى كبره ،وكما هو
مقرر نفسيا فالتجارب األولى يظل الشخص متعلقا بها إلى األبد ،وعليه فإن حنينه إلى خيال صبه وارتداده إليه قد يمثل نقطة محورية في معجمه
القصصي ،فال يبرحها حتى يعود إليها على ذلك النحو المطرد ،فال نص يعاني وحشة الظالم مهما بلغت قتامة المأساة نهايات القص الفاجعة.تلك التي
تكاد تكون مالزمة ألغلب نصوص المدونة ..ولألمانة ينبغي اإلشارة إلى أن للدكتور عبد المالك مرتاض فضا السبق إلى دراسة هذه الظاهرة
األسلوبية ( ) 4بيد أن رصده إحصائي تقريبي كما أشار هو نفسه إلى ذلك – أما تعليله فأسلوبي يتعلق بميل القاص الخاص إلى الجميل في النور
مسايرة للقدامى في أساليبهم التي تظهر مدى ولعهم بالمجهودات النورانية.
وربما كان ذلك نتيجة طبيعة لطابع لغته الشعرية الصوفية التي تأتت له بدورها من طبيعة المواضيع الظاهرة لقصصه ( ،)sujetsالتي لم تخرج
عن إطار الوطنية والثورية ،تلك التي تطبع أعمال كل أديب يهتم بوطنه حبا ،وإن كنا انتبهنا إلى سبب آخر ينضاف إلى هذه األسباب يتعلق بتأثر
القاص تأثرا بينا بأساليب القران الكريم حتى أن بعض األساليب تكاد تحقق مستوى التناص الصريح أحيانا ،إال أننا لن نتقصاها إذ أن انطالقنا سيكون
من حيث تعليل الدكتور مرتاض قد وصل ،فنسعى إلى اسكناه سر عشق "ابن هدوقة" للنور كموجود ظاهر وكرمز لجوهر ،فهل أن ولعه بالنور
متعلق حقا بظاهر مواضيع القص الوطنية الثورية؟ قد يكون لكن أما من أساب أخرى باطنية تتعلق بخبايا النفس وما يتخفى من مكنونات عبر
دهاليز الالشعور من أثار أحداث طفولة أولى مرت قاسية بذكرياتها الراسخة؟
إن افتقادنا لبطاقة موضوعاتية عن طفولة القاص « » fiche thématiqueوكذا افتقادنا ألدق التفاصيل عن سيرته المادية وكذا النص الكاشف
« » texte révélateurقد تتضمنه وثيقة من وثائق القاص الخاصة ،بقدر ما كان أمرا مزعجا في البداية ،ألن كل هذه المذكورات المفقودة هي
من اآلليات المسعفة في التحليل الموضوعاتي ،الذي ال يلغي المبدع بقدر ما يستدعيه ويرحب بحضوره سيرة مادية وذهنية – قلنا – رغم كل
المفقودات إال أن ذلك لم يخيبنا بقدر ما حفزنا على تقصي شؤون السيرة الذهنية للمبدع باهتمام أكبر عسى من خالل هذه وتداعياتها نعيد سيرته
األولى كما لم يوفرها بوجه الصريح بها ..إن اطراد الملح األسلوبي النوراني كثابت قار أكد حضوره الالفت عبر نصوص المدونة ألمر محفز على
التعمق في دالالته النفسية ومحاولته فك شفراته الرمزية إلدراك سر هوس القاص وولعه بالنور كل ذاك القدر.
وإلثبات هيمنة موضوعه النور على كامل نصوص المدونة ارتأينا أن نسلك التدرج الذي أماله علينا مسار تكشفها الذي يكون قد اتخذ مستويين
بارزين:
المستوى األول:
اطراد كوكبة النور هاجسا لسانيا :من النقاد والدارسين من يرى أنه "إذا لم يرتق إلى مستوى هذه النصية فقد ال ينبغي له أن يرتقي إلى مستوى
األدبية" ( ،) 5أما نصوص "ابن هدوقة" فقد حققت أدبيتها من هذا الجانب إذا تميزت بمعجم فني يشع نورا وانطالقا من عتباتها أحيانا وبولوج
أدغالها يطفح النور باهرا أكثر وأكثر حتى ال يتسنى لمتلقي النص تجاوز هذا النص أو إهماله ،أما المالحقة اإلحصائية التقريبية لعناصر الكوكبة
اللسانية النورانية فقد توصلت إلى اطراد هام نجاوز المئتي والستين مرة عبر كل مجموعة دون اعتبار للضمائر المتصلة والمنفصلة العائدة عليه،
وتجنبا لتعكير أدبية القراء واسترسالها بضجر األرقام وتعقيدات الجداول عزفنا عن إيرادها لهذا السبب وآلخر يتلخص في كون العمليات اإلحصائية
في المجال الموضوعاتي كثيرا ما توسم باالعتباطية أو القصدية في االختيار ،إذ تبطلها اختيارات أخرى كما أن هذه اإلحصاءات على صعوبتها في
ميدان الدراسة األدبية.
بسبب ما تضمنته مسألة الداللة من إشكالية فإنها قد تؤول إلى نتائج مخيبة أحيانا ،غير أن من المؤكد أن اطراد الكوكبة اللسانية النورانية "نور،
شمس ،قمر ،نجوم ،ضوء ،برق ،فجر ،شعاع ،شموع "...كان اطرادا الفتا يثير دواعي البحث عن األسباب العميقة التي حدت القاص إلى مثل ذلك
الهوس المذهل بالنور أن بوعي أو بغير وعي منه مع أن كلمة "نور" تظل محض مادة لسانية جامدة ما لم تبعث الروح فيها مرة ومرة ،أما األولى
ففي تضمينات توظيفها ،وأما الثانية فهي تكشف دالالت تلك التضمينات لملتقى األثر ،ألجل هذا يتعين إعادة قراءة المدونة مرتبطة بالنفس
والذكريات البعيدة التي تعود إلى أبكر مراحل طفولة القاص فمثل هذا الربط كفيل بتجلية بعض األسرار الكامنة وال غرور إذ طالما لعبت تجارب
الطفولة األولى وذكرياتها الصادمة دورا حاسما في تفعيل إبداعية الفنان ،كذلك يظل الطفل أبدا أب اإلنسان ،كما يظل األديب الصحيح أبدا طفال لم
يكبر..
وقد تضمنت المدونة العديد من القرائن النصية الدالة على أن منطلق "ابن هدوقة" في القص وإن كان متمثال في التقاط لحظة التعانق بين
الموضوعي والذاتي إال أن هذا األخير يثبت األقوى ألنه يكاد يستلهم قصة كله من مخزون الذاكرة والذات ،ولعل من أبرز القرائن الدالة على ذلك
هوسه بالجملة الفعلية الماضية بشكل مشاع وعلى النحو المتتابع :كانت اللحظة مرة مؤلمة ،وكانت المفاجأة قاسية ..وكانت الصرخة رهيبة( "..
)6أو :كان بالقرب من الدار ..كان ال يغشاها أحد كان يشاع كانت هذه البركة.)7(..
إن هذا النظام الفعلي في حركيته الزمنية الماضوية يكاد يتخذ شكل ملمح أسلوبي بارز أغلب نصوص القص لدى "ابن هدوقة" ولعل ذلك يرجع إلى
أن القاص كثيرا ما يعمد إلى العملية االسترجاعية عبر تداعي الذكريات كما أن "أنا" الراوي المهيمن على أغلب النصوص يحاذيها "هو" العليم
يظاهر البطل وبما يخفيه الضمير تدعم وجهة نظر ..ولعل في ذلك الفعل الماضي الناقص المنتشر إيماء غير واع إلى ما انقضى ونقص من أيام
العمر.
لعل ما يدعم صحة مذهب التحليل من ربط عشق القاص للنور بطفولته المبكرة وذكرياتها البعيدة تداعيات بثها الراوي العليم بوفرة عبر نصوص
األثر أو على لسان أبطال مرشحين بل مؤهلين لتمثيل عبد الحميد و "كل األشياء التي عاشها من قبل ها هي ذي تتحرك في خياله بال أصوات ،لكن
بالكلمات ) 8( "..ربما ألن الطفولة ال تنتهي ،وال تزول تماما من اإلنسان ،حتى الموت ،إنما تكبحها فيه مشاكل الحياة أكثر وذاك نوع من الكبت
يعيشه إلى األبد" ( ) 9بيد أنه كبت متمرد كثيرا ما سعى إلى االنفالت عبر مسامات الالشعور وفلتاته الدالة ،تلك التي يحملها عبر نصوصه كاهل
األبطال كمثل هذا "روحه سابحة في الماضي ،وعيناه تبحثان عن الذكريات التي غطاها الردم" ( .)10إن مثل التكثيف اللغوي المتكرر واالنزياح
الذي يضاهي الشعر مرات ال شك يحمل مخزونا غنيا من األدلة التي تكشف عن حياة هذا اإلنسان الالواعية ،وتثبت من ثم متانة ذلك الرباط الذي
أكدته القرائن بين كتابات "ابن هدوقة" الواعية المسؤولة وذكريات طفولته البعيدة التي تصر على اإلعالن عن نفسها وأن بغير وعي منه ،يحيلنا كل
ذلك إلى سابق خبرات الطفل "عبد الحميد" بنقيض النور ،ذلك الظالم الذي ال يقل انتشاره وما في حكمه عن انتشار النور ،على أنه تواجد أسهم في
ترسيخ عشق القاص بنور أكثر وأكثر ،حيث ما ورد المقت للظالم إال في مقابل عشق النور مما يتيح شيوع ضرب من الثنائيات المتعارضة عبر
نصوص "ابن هدوقة" تحلق بناء من المعنى أكبر تعقيدا من مفردات عناصره على حد تعبير "جريماس".
إن الظالم كثيرا ما ورد مقترنا بزمنه الليل ليحيل بدوره إلى رهبة المكان ،وما أوحش ليل القرى النائية وأفضعه! يجثو تقيال بظالمه الكثيب
كالشقاء والمالزم أكواخ البؤساء ،وما استطاب األغنياء الحمراء مستقرا أو مقاما ،فأهلها "مدفوعون إلى السكن فيها رغم فقرها وقبحها
الطبيعي" ( ) 11إن ليلها مقفر إال من الخطر لذلك لم يرد إال مقترنا بالخوف والجراح فقد "جمعنا الخوف والليل وجراحنا" (.)12
ويرد مقترنا بالجريمة أيضا ،فكلما حل الظالم "وكان الجو حالكا فضيعا فهو الجريمة الكبرى" ( )13لذلك فإن البطل "دمعة قديمة" بدا شديد الحذر
إذ يعلن:
"لم تعود سلوك الدروب المظلمة من قبل ،كنت شديد االحتياط والحذر" ( )14وتتمادى مثل هذه التداعيات على لسان (أنا) الراوي في ذكريات
وجراح "لتسفر عما يداني البوح بالمكبوت قسما بالمنفر والمخيف" بأكواخ القصدير وبليالي الظالم الطويلة التي خلقت الخوف ( )15إذ (أنا)" :ال
أطيق أن أنام في الظالم وأستيقظ في الظالم" ( )16ويحلو النكوص إلى ذكريات الطفولة وعالمها بخياالته حد أن يغدو "رجل الصحراء ال يكره
الموت بقدر ما يكره الظالم" ( ) 17وما عهد رجل الصحراء بليلها إال الفتتار بسحر سمائه ولطافة نسائمه بعد وهج الهجيرة ولهيبه ،بيد أن هذا
الدعي الكاره لليل الصحراء ليس إال ضربا من ذلك الصدى الواضح للكره المتأصل في باحة ذاكرة القاص منذ الطفولة األولى التي انقضت فيما
يضاهي الليل البهيم للحمراء مسقط رأس "عبد الحميد بن هدوقة" إذا لم يحمل إليه ليلها الكوني وكذا الرمزي غير الظالم المقيت لما يبثه في
النفس من هواجس الخوف واالكتئاب والقيد وقد كان ال يؤلمه العذاب مثلما يؤلمه ذلك القيد" (.)18
وما تلك الصحراء بصحراء الوجود وإن هي إال تكشف لفيافي الالوعي وباطن يتداعى ليسفر عن ذكرى طفولة صادمة طالما أرهقها وأرعبها
الظالم حقيقة كونه وتضمينا لكل معاني القسوة والحرمان من أدنى حقوق اإلنسان في حياة منيرة آمنة ،فيقول عن كل تلك المعاناة أساس رؤية
وجودته متشائمة تكاد تطفح بها أعمال "ابن هدوقة" الفنان يبثها شخوصه الذين يضعهم في مواجهة مصير حتمي بائس عبر عالمه القصصي
يأتي ذلك ان تلميحا وان تصريحا فتستحيل "الشمس سوداء تدحرجنا إلى هاوية ال قرار لها وتمتصنا امتصاصا في تدحرجنا كثقب أسود رهيب"
( )19بل إن الحياة نفسها جريمة من جرائم اإلنسان" ( )20ويتأزم الموقف فدر ثقل هم السؤال وإدراك المصير اليائس لإلنسان وربما شمل هذا
اإلحساس حتى الحيوان" .فقد كانت عينا هرة تحتضر مفتوحتين يابستين كنجمين بعيدين ..لقد استشفقت من زرقتها العميقة اليابسة المصير اليائس
لإلنسان واللعنة المسلطة عليه من السماء ،ما ذنبها أن تقتل؟ ذنبها أنها خلقت في هذه األرض فعاشت كما يعيش أهلها وماتت كما يموتون ( .)21هكذا
تتخذ دالالت الظالم فيما كتبه "ابن هدوقة" حيزا أوسع ،فالليل ظالم كزمان والقرية ظالم كمكان والفقر ظالم كما القهر ظالم ،كما الجهل ظالم...
وسكون رهيب ووحدة قياسية ال تذكر الطفل القروي إال بأساطير وخرافات يهولها خيال خصب مبدع فال يزيده إال فرقا فال ينقضي ليله على
امتداده إال في الكوابيس ( )22وال يولد كل دلك في النفس إال مقتا للزمان ونفورا من المكان "كنت أكره القرية نفسها لما أحس فيها من وحشة
وغربة بالرغم من أني ولدت فيها ( )23بل يغدو "البقاء في هذه القرية غربة" ( )24يصرخ إلى الليل الذي يحجب النور" ( )25ذاك النور الذي
ينبثق قويا عشقه وعشق زمانه ومكانه وكل مصادره في النص كما في النفس ،بل وتغدو كل المظلمات العالقة به أو العالق بها في حكمه ،وحتى كره
القرية ينقلب حبا بل وعشقا صوفيا كلما جالها ضوء النهار فأشرقت بالنور حقيقة كونية أمام ناظري الطفل النشط في ساحة ذاكرة القاص ورمزا لكل
المعاني المضيئة النيرة التي يحيل إليها ،فالنهار نور كزمان والقرية نور كمكان كما الشمس نور كما الحرية نور كما تغيير المصير وصنعه نور
كما الحقيقة نور وإن أحرق أحيانا ..وقسما بالمحبب واللطيف هذه المرة الثانية بأفق بنفسجي يعشق قريتي الجميلة وبطفولتي التي أحبت القمر
وعشقت النجوم" ( )26وال غرو "فعيناه قد رضعت النجوم وارتوى بنورها قبل أن يروي بحليب أمه" ( )27وقد كانت األشعة المحتشمة التي
ترسلها النجوم تمأل عينيه نورا وسرورا" ( )28وكل المشاهد راسخة في ساحة ذاكرة القاص منذ التقطتها عينا طفل غر في أكبر مراحل العمر،
تنشط عبر عمليات استرجاعية أن بوعي أو بغير وعي منه لتثبت هاجسا قادرا يكشف عن رغبة ملحة في إنارة كل عتمة محيطة مستأنسا مرات
بأشعة النجوم الفضية المحتشمة مستعجال الشمس وحدها الكفيلة بإبانة صبح غد جديد ،وكم يحلو في القرية الصبح ويطيب لذا يستبق الستقباله
الصغار قبل الكبار المرهقهم ،أما أولئك فمنشدون المرح أو الفرح حين تحررهم من أسر الظالم وما يسببه من آالم ...لكن الشمس تتأبى وتغيب" هذه
الشمس تغيب حتى ال تكاد تطلع" ( )29ولعل في هذا الذي سبرناه ما يفسر العنصر الثاني من ثنائية المفارقة المنتشرة بجالء عبر نصوص األثر،
تجلى حب القرية في مقابل إحساسه بالغربة وهو في نتيجة كرهها والنفور منها ليحل مكان ذلك استغراق رومانسي في وصفها بشاعرية مؤثرة ،فال
ترى األرض فيها إال وهي مفروشة بزرابي خضراء من العشب والنور ( )30وهكذا يتجلى أن ثنائية (النور مقابل الظالم) المنتشرة عبر القص
االبدرقي ( ) 31ال تعدو أن تكون استلهاما من ثنائية (الليل مقابل النهار) وذلك عنصران خبرهما الطفل القروي عبد الحميد بن هدوقة في أبكر
مراحل عمره ويفسران بدورهما ثنائية المفارقة التي تأسست عليها عالقة "ابن هدوقة" بإطاري الزمان والمكان القرويين (حب مقابل كره)
(شوق مقابل نفور) ..وال يستقر هذا الوعي الطفولي عند هذا القدر ،إنما ينمو وينضج القاص ليتبلور بشكل أعمق ،يكتشف النور في رؤية القاص
عن رغبة جامحة في تغيير زمان القرية الراهن نهارا ال يغشاه ليل بل تغيير ظالم الوجود نورا سرمديا "ال يحترق وال يتحطم" ( ،)32وربما
تجاوزت الرغبة الزمان لتطال المكان تجتثه لتنغرس قرية النور فتبدو وأبدا جميلة.
وألن مصادر النور الكونية تأفل قد كان عليه السعي حثيثا في البحث عن مصدر نوراني أزلي أدوم يحقق من خالله متنفسا لرغبته تلك ،ولم يشكل
ذلك المصدر بالنسبة إليه إال منابع الذات ،ذات اإلنسان الفاعلة "فقد صار يبعد عمره ليس بما مضى وانقضى وال بما هو آت ،إنما بما أنجز وينجز
من أفعال ،فال معنى للعمر الزماني ولو طال إذا خال من الفعل ،ألن الفعل هو العمر الحقيقي لإلنسان والفعل هو الحقيقة الواقعية لإلنسان ،والفعل هو
المظهر المادي لحقيقة الكون ( ) 33وليس ثمة فعل أسمى وال أبقى من نور الكلمة لذا فقد سعد هذا اإلنسان البطل باكتشافه الجديد" :لكم أنا سعيد
باكتشافي حقيقة الكلمة وحقيقة نفسي ،فما أصغر اإلنسان وأعظم الكلمة" ()34
فكانت قدره "ظل يجري وراءها إلى أن تفقده أو يفقدها" ( )35منشدا أن يدرب روح اإلنسان تدريبا يقربها من الروح المطلق لهذه الحياة" ()36
مواصال سيره المغامر مهما كلفه" ترى ماذا سيجد أمامه؟ هو ال يدري؟ ..هو يبحث عن النور )37( "..وتتكشف تلك الرغبة الملحة في التغيير عبر
النصوص من خالل البحث المضني والمغامر ألبطال القص عن سبيل تفضي بهم إلى العنصر المضيء النير من ثنائيات المفارقات المبثوثة عبر
األثر (نور الحرية مقابل ظالم القيد بكل أشكاله)( ،نور المعرفة مقابل ظالم الجهل) (نور الكوامة مقابل ظالم المذلة والهوان) (نور االنتماء مقابل
ظالم التيه والدوران) ..وقد كان مسعاهم حثيثا مهما حفت رحلتهم الوجودية المكاره ومهما حدقت بهم األخطار ،وإن إخفاقهم المتكرر لم يثبطهم وال
أثناهم عن عزمهم بقدر ما دفعهم إلى إلحاح أكثر دون أن يعينهم القاص في تحقيق بعض مبتغاهم ودون أن يأخذ بأيديهم إنما اثر أن تتواصل
محاوالتهم وكذا معاناتهم دونما وصول حاسم مريح ،ألنه لو يرتح وربما كان هو نفسه أحد هؤالء األبطال األشقياء بوجودهم أو ربما هو كلهم في
محاولته الدؤوب تغيير وضعه منذ انبثاقه األول في الوجود ،من طفل فقير إلى شاب بورجوازي صغير ناهض ومن قروي ساذج إلى حضري متيقظ
ومن إنسان عادي إلى نجوى ..ولم تتوقف محاوالته أبدا وال معاناته سعيا إلى بلوغ مصدر نور ال يأفل،وربما توهم من هم حوله أنه قد وصله وعب
من نبعه حد االرتواء ..إال أن ظمأه ما فتئ يزداد كلما عب أكثر ،فلم يعدو ذلك بالنسبة إلى المبدع أن يكون انطالقا شاقا في متاهات الكون الرحيب
وروب الكلمة الصعب مخاضها بأسرارها الساحرة واآلسرة في آن ..ولعل هذا الشعور القلق بوطئ األسر وثقله الرازح في كيانه قد دعاه إلى البحث
الجاد عن ممرات انفالت أوسع يجسدها تجلي النور توقا لإلنعتاق.
تجلي النور توقا لإلنعتاق :من أسر البشر ،وقهر القدر وقلق السؤال في آن "فقد حاول عبثا أن يفهم لماذا هو في هذا البيت المظلم؟"(.)38
ولكن هذا اإلنسان عاجز "متى استطاع أن يقول كل شيء" ( )39ومع ذلك يظل "اإلصرار والثبات والتصميم والعزم كلمات كلها تحمل في ثناياها
بذرة المصير وتنبثق من قوة واحدة هي اإلدارة ومن شعور واحد هو الشعور بالحرية" ( )40ولم تكن هذه المعاني خواطر حائمة أو أفكار عابرة،
إنما هي فكرة ثابتة استقرت في نفسه ورسخت رسوخ اإليمان فلن يكون هناك ما يرده عنها ولن يكون هناك ما يصده عنها ( )41إلى أن تنبثق
في كل ذرة من جسمه عين من نور فإذا وجوده المظلم يستحيل إلى وجود من نور" ( )42وربما إذ ذاك يكون قد حقق بعض مبتغاه .وإال فأهون
عليه أن يسير حافيا ضامنا على العقارب والنار على أن يضيق ذرعا بالحدود واألوامر ..بل أنه يفضل الحرية على الماء" (.)43
لذلك يفضل بطل دمعة قديمة أن يظل سائرا في النور إلى نهاية الطريق حيث يجد الفجر الذي حلم به منذ فجر حياته فيشرب من أشعته حتى الثمل" (
)44حتى وإن تهدده ذلك الخطر المترصد والمصير اليائس لإلنسان واللعنة المسلطة عليه" ( .)45فإن كل ذلك لن يثنيه عن عزمه إلى أن يصل
التبغ الصافي "فيغب من النور عبا وال عليه إذ ذاك من ظالم يطوق جسمه الفاني ما دام الضياء يمأل أعماقه" (.)46
أما وصول السبر فيمكن تلخيصه في أن النور وعناصره قد شكال عبر نصوص "ابن هدوقة" رمزا مكتنزا داللة مفتوحة على تأويالت شتى قد
تسمح للنص األبدوقي االنفتاح على الغد البعيد إال أنه رمز وإن ارتبط بجوانب منطقية واعية فإن ما أكدته هذه القراءة الموضوعاتية أنه مرتبط
أيضا وربما أكثر بجوانب أخرى باطنية غير واعية تمنح تضمينه عبر األثر سمة فريدة تجعل من عالم ابن هدوقة القصصي عالما متفردا ومتميزا
أيضا يضاهي البصمة « » empreinteالدالة على صاحبها دون سواه ،وأن الطفولة األولى مثلث عالمه الدالة على صاحبها دون سواه ،السيما
وأن الطفولة األولى مثلث عالمه الخاص الذي كثيرا ما حامت حوله الذاكرة رغم أم ما يبدو من ظاهر مواضيع القص « » sujetsأنها ال تمت
بصلة إلى الطفولة ومع ذلك فقد حقق ابن هدوقة الكتابة عن الطفولة في حياته تحقيقا فعليا « » concrétisation réelleوبطريقة تنتمي إليه
وحده.
أما ذلك االخفاق المتكرر ألبطال القص الذين تاقوا للتغيير وأولئك الذين تاقوا لالنعتاق ،فقد عبر عن رؤية القاص وضعفه المالزم له كالقدر الحتمي
يتقفى أثره حيثما ولى قهره ،رغم اإلدارة التي تسكنه هي األخرى لتشقية أكثر كلما تدفع به إلى اإلمام واالقتحام في مواجهة قوى تترصد فتعطله عن
غاياته بل وتمنعه ..هذا اإلنسان ما أشقاه في رحلته – يقهره القدر ويظلمه البشر ويطارده حائرا ذاك السؤال عن المأوى اآلمن والمستقر..؟ فيعلن
الراوي أنه "هو اإلنسان" منهزم والجميع مقتدر منتصر ..ومع كل ذلك ال يسدل الستار تماما على المشهد القاتم فعلم "عبد الحميد بن هدوقة"
القصصي ال يغشاه السواد ويلبسه كل هذا الحد البعيد بقدر ما يلوح مشعا بأنوار أمل وتفاؤل بغد يولد من صميم الموقف المتأزم وينبثق كالنور
الطافح من عمق المأساة فينبلج غد يوم جديد ليبين الصبح وتهب ريح تنتشر األمس البعيد تضيء سماه أشعة سبعة في نورانية الجازية
والدراويش وذلك العالم الصوفي الذي أرسى أسسه "عبد الحميد بن هدوقة" فرسختها أكثر ذكرياته والجراح وكل أثره األدبي في مجاالت النثر
وحتى تلك األرواح الشاغرة قد دعمته في مجال الشعر.
الهوامش:
النقد والحقيقة ،روالن بارت ،ص ،55تن إبراهيم الخطيب ،مراجعة محمد برادة ،الشركة المغربية للناشرين المتحدين ،ط.1/85
Domaines thématiques – Stendhal les structures de l’œuvre et du destin – thème et système chez
Henri Bergson.
الكاتب وقصص أخرى ،عبد الحميد بن هدوقة :الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ،الجزائر ،ص .128
ينظر :القضية الجزائرية المعاصرة ،عبد المالك مرتاض ،المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر ،دت .ص من .200 – 180
ينظر :دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة "أين ليالي" لمحمد العيد آل خليفة عبد المالك مرتاض ،ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر أكتوبر ،1992
ص .10
م.ن ،ص.78
user@example.com
تواصل معنا
سيرة و حياة
أغلفة الكتب
األكثر قراءة
الممارسة النقدية في الرواية الجزائرية بين الذاتية والموضوعية قراءة في نماذج نقدية لروايات جزائرية
تداخل األجناس فى الرواية الجزائرية بين عبد الحميد بن هدوقة وواسينى األعرج