Professional Documents
Culture Documents
(األغاني)
(ليلى العامرية وجمنونها أمنوذجًا)
وتذكر المصادر أنه "لما شبَّب المجنون بليلى ،وشهر بحبها ،اجتمع إليه أهلها ،فمنعوه من محادثتها ،وزيارتهاَّ ،
وتهددوه ،وأوعدوه بالقتل،
فكان يأتي امرأة ،فتعرف له خبرها ،فنهوا تلك المرأة عن ذلك ،فكان يأتي غفالت الحي في الليل"(.)10وكما تمكن األصفهاني من رسم صورة
(ليلى) ،حيث اندفاع الفتيات وحمقهن ،واتباع الحيل األنثوية الماكرة للتأكد من حب الحبيب ،استطاع المؤلف رسم صورة (ليلى) العاقلة ،بعد
أن تزوجت ،وتأكدت من أن حبها قاتل حبيبها ،حيث أورد على لسانها ما نصه :لما اختلط عقل (قيس بن الملوح) ،وترك الطعام والشراب،
قيسا قد ذهب حبك بعقله ،وترك الطعام والشراب ،فلو جئته وقتًا ،لرجوت أن يثوب إليه بعض عقله،
مضت أمه إلى (ليلى) ،فقالت لها :إن ً
ليال ،فقالت له :يا قيس ،إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي،
ليال ،فأتَ ْت ُه ً
نهار فال؛ ألنني ال آمن قومي على نفسي ،ولكن ً
فقالت ليلى :أما ًا
وتركت المطعم والمشرب ،فاتق هللا ،وأبق على نفسك(.)11كما تمكن األصفهاني– على ضوء ما ورد في الفقرة السابقة -أن يرسم مالمح (ليلى)
بعد زواجها ،حيث بدت عاقلة حكيمة ،قد امتثلت ألمر هللا ،واستطاعت تفهم الموقف ،وأن ال أمل في التالقي بين الحبيبين ،بعد ضياع الفرصة
بزواجها.وقد أظهرت الفقرة ذلك التوجه العقالني ،في قولها( :اتق هللا) ،الذي يبين استسالمها لقضاء هللا ،محاولتها تكذيب ما وصلها عما وصل
إليه (قيس) ،في قولها (إن أمك تزعم) ،مع رجائها الخير ل ـ ـ (قيس)؛ بطلبها – منه -اإلبقاء على نفسه ،فظهرت شخصيتها – في ذلك الموقف-
تعقال لألمور.
نضجا ،وأشد ً
ً أكثر
املطلب الثاني بنية احلدث يف احلكاية
مكتوبا،
ً موطئا للسماع ،أكثر منه بناء دراميًّا
ً تأثر (األصفهاني) بالهدف من كتابه ،وهو مسامرة الملوك والخلفاء ،فجاء رسمه لألحداث
ومن ذلك ما رواه –عن قيس -من أنه أقبل –ذات يوم -على ناقة كريمة له ،وعليه حلتان من حلل الملوك ،فمر بامرأة من قومه يقال لها:
كريمة ،وعندها جماعة نسوٍة يتحدثن فيهن ليلى ،فأعجبهن جماله وكماله ،فدعونه إلى النرول والحديث ،فنرل وجعل يحدثهن ،وأمر ً
عبدا له،
كان معه ،فعقر لهن ناقته ،وظل يحدثهن بقية يومه(.)12اهتم المبدع – في الفقرة السابقة -بوصف البطل على حساب الحدث المسرود ،فرسم
موطئا للحدث الدرامي ،فدار الحدث
ً صورة للفارس الوسيم ،الذي تتهافت عليه الفتيات ،وقد أعجبهن جماله ،فجاء الفعل مهيًئا للسماع أكثر منه
– في الفقرة -ما بين اإلعجاب بجمال البطل ،والمبالغة في كرمه؛ بذبحه ناقته للمعجبات ،ولعل المبدع قد أراد أن يبين أنه قد كان بمقدور
(قيس) االستغناء عن حب (ليلى)؛ إذ يتوافر له الغنى والجمال والحسب ،وهو ما تؤيده المصادر ،من حيث نشأته المترفة ،وطفولته الالهية،
وقد ُسئل " كيف كان سبب عشقك لليلى؟ قال :بينا أنا في عنفوان عزتي وريعان صباي أسحب ذيل اللعب وأرمي الكواعب من كثب ،أصبو
إليهن فيفترقن ،وأه أز بهن فال ينتصفن ،إذا اعتقلتني حبائل فتاة من عذرة فذهلني حبها ،وتيمني عشقها ،وإذا جذبة جذبتني"( ،)13مما يدل على
تصاعدا بالتفريق بين الحبيبين ،على النحو الذي أوردناه آنًفا ،وقد بلغ ذروته عند التقاء (قيس)
ً استغنائه ،وتمتعه بطفولة منعمة.ازداد الحدث
زوج (ليلى) ،وسؤاله له عما إذا كان قد قبَّلها أو ضمها إليه ،إذ يقول
اها
الص ْبح أ َْو َقَّبْل َت َف َ
ض َم ْم َت إَل ْي َك َلْيَلى ُق َبْي َل ُّ
ب َرب َك َه ْل َ
اها رون َلْيَلى َرف َ
يف األ ْق ُح َو َانة في َن َد َ َو َه ْل َرَّف ْت َعَل ْي َك ُق ُ
مغشيا عليه ،وسقط الجمر حلفتَني -فنعم ،قال :فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر ،فما فارقهما حتى سقط فقال :اللهم -إذ َّ
ً
متعجبا منه فمضى(.)14وقد دلت الفقرة السابقة على استيالء مشاعر
ً مغموما ،بفعله
ً مع لحم راحتيه ،وعض على شفته فقطعها ،فقام زوج ليلى
معبر عن ذلك ،مثل :ضممت – رَّفت عليك قرون ليلى َ
(شعرها)، الصدمة على (قيس) ،وكأن زوج (ليلى) قد أخطأ بزواجه منها ،وقد جاء اللفظ ًا
خما ال يخلو من مبالغة ،وقد أفسح األصفهاني الطريق أمام
مع قبض (قيس) على الجمر بيديه حتى تساقط اللحم ،فاكتسب الحدث الدرامي ز ً
اغتم لتصرف (قيس) ،وانصرف لشأنه.وقد برع المبدع في ذكر التفصيالت التي تساعد البطل ،مع صدور فعل مختلف آخر من الزوج ،الذي َّ
طرَقنا ذات ٍ
ليلة أضياف ولم على بناء الحدث ،مع عرضها بصورة تجتذب – إليه -السامعين ،ومن ذلك ما أورده على لسان (قيس) ،إذ قالَ َ :
الجمع الغفير الذي سيصحبه هو والشاعر ،وهو ما يعكس اتساع المكان ،وخروج المتكلم إلى مكان مفتوح؛ ليبدي مساندته للشاعر أمام
المصاحبين للركب.وقد أبرز المبدع اتس اع المكان؛ باستخدامه (الجمع) ،وهو ما يدل على كثرة العدد ،مع ورود لفظ (عشيرتك) ،الذي يفيد
الكثرة ،مما ُيحتاج – معه -إلى مكان كبير الستيعاب الواقفين.وهناك ما يبرر ورود األماكن المفتوحة التي أوردها المبدع ،وهو ما ذكرناه آنًفا،
من هيام الشاعر بالمحبوبة المفارق ة ،وهو ما أورده ،حيث قال :فعاد إلى حاله األولى ،قال :فلم تزل تلك حاله ،إال أنه غير مستوحش ،إنما
ثوبا إال خرقه ،ويهذي ويخطط في األرض(.)34وقد برز – في الفقرة السابقة -ما يدل على احتياج
منفردا عارًيا ،ال يلبس ً
ً يكون في جنبات الحي
المبدع للمكان المفتوح ،فالشاعر العاشق يسير عارًيا إال مما يستر عورته ،ولم يكن –على جسده -سوى الثوب البالي المرقع ،بما يضاعف
من حالته التي تسترعي النظر ،وتستجلب الشفقة من السامعين.وقد تضافرت األدوات اللغوية المساعدة مع عنصر المكان ،فقد امتألت الفقرة
باألفعال المضارعة ،التي تستحضر الصورة حية في سمع السامع ،مثل( :يهذي – يخطط -يلبس) ،بما يحافظ على ح اررة الحدث المقرون
منفردا – عارًيا) ،فاستطاع المبدع إشعار
ً بالمكان ،مع شيوع اسم الفاعل في الفقرة ،بما له من قدرة على إفادة االستمرار ،مثل( :مستوحش –
القارئ بالحضور ،وحافظ على طزاجة الحدث المروي ،بما يغذيه ويرفده من مكان.وقد عدم القوم حيلهم في إثناء الشاعر عن موقفه ،واستشفائه
من مرضه ،فبرز المكان المفتوح مرة أخرى ،مع اتشاحه بالوشاح المقدس هذه المرة؛ وذلك بأن نصح القوم والد (قيس) بالتوجه إلى (مكة)،
حيث أورد المبدع ما نصه :فقال له قومه :احجج إلى (مكة) ،وادع هللا – عز وجل -ومره أن يتعلق بأستار الكعبة ...فلما بلغوا (منى)،
صائحا يصيح :يا ليلى ،فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت ،وسقط مغشيًّا عليه( ،)35وذكرت مصادر أنه لم يزل كذلك حتى أصبح، ً سمعوا
وقال له أبوه :تعلق بأستار الكعبة ،واسأل هللا عز وجل أن يعافيك من حب ليلى ،فتعلق باألستار وقال :اللهم زدني لليلى حبا وبها كلفا ،وال
تنسني ذكرها أبدا ،فهام حينئذ واختلط ولم يضبط ،فكان يهيم في البرية مع الوحش(.)36
وقد برز المكان المفتوح في الفقرة السابقة ،فظل الشاعر على حاله رغم قداسة المكان ،فانشغل بمن أذهبت عقله ،مع ورود مكان آخر،
وهو (منى) ،وقد أراد المبدع إبراز شدة اللوثة التي أصابت الحبيب العاشق ،فصارت المناسك وقداسة المكان بعيدة عن إدراكه ،مستعصية
عليه ،فاستطاع المبدع– بذلك -توظيف المكان بالشكل الذي يخدم الحدث.وقد بالغ المبدع في وصف ما أصاب (قيس) من لوثة ،وفقدانه
لصوابه ،فقال على لسان أبيه :ثم قال له أبوه :تعلق بأستار الكعبة ،واسأل هللا أن يعافيك من حب (ليلى) ،فتعلق بأستار الكعبة ،وقال :اللهم
زدني لليلى حبًّا(.)37وتشير الفقرة السابقة إلى استحكام حب (ليلى) في قلب من يحبها ،وبدا وكأنه مجنون ال يحب – لعقله -اإلفاقة من جنونها،
( )1وهبة ،مجدي – المهندس ،كمال ،معجم المصطلحات األدبية في اللغة واألدب ،الناشر :مكتبة لبنان (ص.)208
( )2برجسون ،هنري ،الضحك ،ترجمة :سامي الدروبي وعبد هللا عبد الدائم ،دار العلم للماليين ،بيروت ،ط 1983م( ،ص.)130-129
( )3م .فوستر ،أركان القصة ،ت :كمال عياد جاد ،دار الكرنك ،القاهرة1960 ،م( ،ص.)86-83
( )4رشدي ،رشاد ،فن القصة القصيرة ،مكتبة األنجلو المصرية ،ط1964 ،2م( ،ص.)30
( )5األصفهاني ،علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني األموي القرشي ،أبو الفرج (المتوفى356 :هـ) األغاني ،تحقيق:
سمير جابر ،الناشر :دار الفكر -بيروت /الطبعة :الثانية (ص.)221
( )6األصفهاني ،األغاني( ،ص.)225
( )7الدينوري ،ابن قتيبة ،أبو محمد عبد هللا بن مسلم ،الشعر والشعراء ،دار الحديث ،القاهرة1423 ،هـ.)551/2( ،
( )8األصفهاني ،األغاني( ،ص.)226
( )9األصفهاني ،األغاني( ،ص.)230
( )10التنوخي ،المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم داود البصري ،أبو علي ،نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة1391 ،هـ.)108/5( ،
( )11األصفهاني ،األغاني( ،ص.)232
( )12األصفهاني ،األغاني( ،ص.)221
( )13النيسابوري ،أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب ،عقالء المجانين ،تحقيق :أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط1405 ،1هـ 1985 -م( ،ص.)47
( )14األصفهاني ،األغاني( ،ص.)227
( )15األصفهاني ،األغاني( ،ص.)230
( )16تودروف ،تزفيتان ،فاهيم سردية ،ترجمة :عبد الرحمن مزيان ،منشورات االختالف ،ط2005 ،1م( ،ص.)76
( )17ينظر :باختين ،ميخائيل ،أشكال الزمان والمكان في الرواية ،ت :يوسف حالق ،منشورات و ازرة الثقافة السورية ،دمشق1990 ،م،
(ص .)6