Professional Documents
Culture Documents
2
3
4
الـمـقدمــة
ِ ِ
وقاص ِم
بالعز والقهر ،حُمْيص
ِّ اجلبابرة الس واجلهر، احلمدُ هلل عاملِ رِّ
نور الفجر، ُ وباعث ظال ِم ِ ِ ي ِري يف الن َّْهر، ِ ِ
ينسخه ُ الليل قطرات املاء وهو جَ ْ
ِ
األعني وخافية بخا َئن َِة
األجر ،ال َعاملِ َ ومكمل ْ
ِّ
ِ
للعابدي َن مو ِّفر الثواب
َ
الفرخ الر ْم ِل وال َ
النمل يف َّ رت ِك ِ
مجيع خلقه ف َلم ْي ُ
ِ
الصدرَ ،شمل برزقه َ
بعض وفضل َ الغنَى وال َفقرَّ ، وبحكْمتِ ِه وقوع ِ يف ا ْلوكر ،أغنى وأ ْف َقر ِ
َ َ َ
ألفأوقات الدَّ هرَ ،ليل ُة القدْ ر خري ِمن ِ َ املخلوقات عىل بعض حتى ِ
ٌ ْ
ب املزيدَ من ِ ِ
يستجل ُ شكرا ْ
شهر ،أمحدُ ه محدً ا ال ُمنتَهى ل َعدَ ده ،وأشكره ً
أن ال إِل َه إِالَّ اهلل وحده ال رشيك له شهادة خملص يف دده ،وأشهد ْ م ِ
َ
بني أصابع أن حممدً ا عبدُ ه ورسو ُله ا َّل ِذي نَبع املا ُء م ْن َ ُم ْع َت َقده ،وأشهدُ َّ
رخائه وشدائده، ِ بكر صاحبه يف يده -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم ،-وعىل أيب ٍ ِ
جامععثامن ِ
َ اإلسال ِم و َع ُضده ،وعىل ف ِ وعىل عمر بن اخلطاب كه ِ
ْ َ
انا بِ ُم ْف َر ِده ،وعىلاحلروب وشجع هِ
َ ِ عيل كايف وموحده ،وعىل ٍّ ِّ كتاب اهلل
ومقصده ،وس َّلم تسلي ًام(.)1 ِ كل منهم يف ِ
عمله ْ ِ
املحسن ٌ آلِ ِه وأصحابِه
_______________
( )1مقتبس من ( جمالس شهر رمضان) لشيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل -ص .120
5
أما بعد:
6
«إطاللة البدر بفضائل وأرسار ليلة القدر» ،واحلمد هلل رب العاملني
خريا
لت ًوحص ُ
َّ ومجعت مسائلاً وفضائلاً ،
ُ مجة،
وقفت عىل فوائد َّ
ُ فقد
عظيماً وعلماً ناف ًعا مما ق َّيده العلامء يف تفسري اآليات اخلاصة هبذه الليلة،
وهنلت من الفوائد واملسائل التي طرحها العلامء يف رشوحاهتم عىل كتب
ُ
السنة وكتب الرقائق و غريها من الكتب ،فكم كنت أمتنى أن ُأ ْخ ِر َج
كثريا مما وقفت عليه ،لكن الوقت قد ضاق ،ودخل شهر رمضان هلذا
ً
العام -عام 1433هـ ،-ومل يسعفني الوقت ،إذ أن بعض املسائل حتتاج
إىل حترير ،فخشيت أال خيرج الكتاب هذا العام ،هذا مع ضعف مهم
عامة الناس يف القراءة ،فكان كتا ًبا وس ًطا أو دون ذلك ،ليس بالطويل
وإخراجا آمل ا ُمل ِم ِّل وال بالقصري ا ُمل ِ
خ ِّل ،اعتمدت فيه أسلو ًبا سهلاً ،
ً
أن يروق اجلميع ،عسى أن جيد طالب العلم فيه .بغيته ،وينال العامي
خالصا لوجهه الكريم ،وأن ينفعني به وكل
ً مطلبه ،واهلل أسأل أن جيعله
من نظر فيه ،وهو واهلل جهد املقل ،أسال اهلل أن يقيل به العثرات ،ويغفر
به الزالت ،وأسأله أن يبلغني ومجيع املسلمني ليلة القدر كل عام ،وأن
يفيض علينا من خرياهتا وبركاهتا وهو املنَّان الكريم الرمحن ،وهلل احلمد
كله ،والفضل كله ،فلوال كرمه وجوده وإحسانه وإعانته ما سطرت يف
7
هذا الكتاب حر ًفا ،فال حول وال قوة إال به ،وال رب لنا سواه ،وما لنا
(و َما ت َْوفِ ِيقي إِلاَّ بِاللهَِّ َع َل ْي ِه ت ََو َّك ْل ُت َوإِ َل ْي ِه
غريه من إله ،وهو املوفق وحدهَ ،
ِ
ُأن ُ
يب) ،واحلمد هلل رب العاملني.
كتبه
عمر بن حممد العوييض
-غفر اهلل له ولوالديه-
يف أطهر البقاع مكة -حرسها اهلل-
يوم اجلمعة ،الثامن من رمضان
ٍ
وثالث وثالثني من اهلجرة سنة ٍ
ألف وأربعامئة
1433-9-8هـ
8
تـاج الليايل
_______________
( )1التبرصة ( )104-2بترص ٍ
ف يسري. ّ
9
�سيدة الليايل
ليلة القدر سيدة الليايل ،وغرة الدهر ،أفضل الليايل عىل اإلطالق.
ليلة القدر تاج الليايل خري من ألف شهر ،ع َّظم اهلل شأهنا يف كتابه،
فأنزل يف فضلها سورة كاملة تتىل إىل يوم القيامة.
ليلة القدر من قامها إيامنًا واحتسا ًبا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة القدر ليلة مباركة نزل فيها القرآن ،فيها يفرق كل ٍ
أمر حكي ٍم،
تقدر فيها املقادير السنوية.
ليلة القدر هي ليلة الرشف والفضل العظيم ،ينزل فيها جربيل مع
املالئكة بالرمحة واخلري واملغفرة.
ليلة القدر سالم حتى مطلع الفجر ،ليس فيها إال اخلري.
ِ
يها األَ ْح َب ُ
اب، ليلة القدر فيها الدعاء جُياب ،ويفتح ا ْل َب ُ
ابَ ،و ُي َق َّر ُب ف َ
يم األَ ْج ِر والثواب. ويسمع الخْ ِ َطاب ،ويرد ا واب ويعطى لِ ْلع ِام ِل َ ِ
ني َعظ ُ َ ُ َ ُ َ ُّ لجَْ َ ُ َُْ َ ُ
ليلة القدر ثبت فضلها عىل كل الليايل بالكتاب والسنة ،فهي أفضل
قارن فضلها وعلو مكانتها بليلة
الليايل ،أفضل من ليلة اجلمعة ،وال ُي َ
10
اجلمعة ،وجاء عن بعض علامء احلنابلة أن ليلة اجلمعة أفضل( ،)1وهو
قول ضعيف ،قال شيخ اإلسالم ابن تيمية« :وليلة القدر أفضل الليايل،
ومن العجب أن طائفة من أصحاب أمحد فضلوا ليلة اجلمعة عىل ليلة
القدر ،ورأوا أن إحياءها أفضل من إحياء ليلة القدر ،وقد ثبت يف
الصحيح النهي عن ختصيصها بقيام؛ مع أنه ثبت بالتواتر أن ليلة القدر
حض عىل قيامها ،وأنه
أمر اهلل بالقيام فيها ،وأنه -صىل اهلل عليه وسلمَّ -
ال عدل هلا يف ليايل العام»(.)2
وبعض جهلة الصوفية يفضلون ليلة املولد عىل ليلة القدر ،وليس
رب.
صحيح معت ٌ
ٌ هلذا التفضيل ٌ
أصل
_______________
( )1وهذا القول قال به من احلنابلة :ابن بطة ،وأيب احلسن اجلوزي ،وأيب حفص الربمكي؛ وحجتهم
أن يوم اجلمعة أفضل األيام ،فليلته تابعة له ،وقالوا بأن ليلة اجلمعة تتكرر ،ويف يومها فضائل ليست
باق يف اجلنة ،وهو فضل يوم اجلمعة ،فهو يوم الزيارة إىل اهلل -سبحانه- يف يوم ليلة القدر ،وأن فضلها ٍ
آن أ ْف َض ُل ِم ْن َل ْي َل ِة الجُْ ُم َع ِةَ ،ف َأ َّما َأ ْم َثالهَُا ِم ْن َل َياليِ
يم ُّيَ :ل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر ا َّلتِي ُأن ِْز َل فِ َيها ا ْل ُق ْر ُ
و َق َال َأبو ا س ِن الت َِّم ِ
ُ لحَْ َ َ
ا ْل َقدْ ر َف َل ْي َل ُة الجُْ ُم َعة أ ْف َض ُل .انظر (الفروع) البن مفلح (.)129 -5 َ ِ ِ
وال حجة فيام ذكروا ،فام ثبت من فضل ليلة القدر ال يصل إليه فضل ليلة اجلمعة أو يومها ،ثم إن فضل
عظيم وهو أفضل أيام األسبوع ،ومع ذلك فام ثبت
ٌ اليوم غري فضل الليلة ،ويوم اجلمعة يوم له ٌ
فضل
يف فضله ال يصل إىل فضل ليلة القدر وال ُي َقدَّ م عليه.
( )2املستدرك عىل جمموع فتاوى شيخ اإلسالم(.)179-3
11
و�أيهما �أف�ضل :ليلة القدر �أو ليلة الإ�سراء؟
«إن َل ْي َل َة
جييب عىل هذا شيخ االسالم (- )1رمحه اهلل -بقولهَّ :
الإْ ِ سرَْ ِاء َأ ْف َض ُل فيِ َح ِّق النَّبِ ِّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمَ ،-و َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َأ ْف َض ُل
َص بِ ِه بِالن ِّْس َب ِة إلىَ الأُْ َّم ِةَ ،ف َح ُّظ النَّبِ ِّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم -ا َّل ِذي ْ
اخت َّ
اج ِمن َْها َأك َْم ُل ِم ْن َح ِّظ ِه ِم ْن َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر.
َل ْي َل َة المِْ ْع َر ِ
َو َح ُّظ الأُْ َّم ِة ِم ْن َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر َأك َْم ُل ِم ْن َح ِّظ ِه ْم ِم ْن َل ْي َل ِة المِْ ْع َر ِ
اجَ ،وإِ ْن
الر ْت َب ُة ا ْل ُع ْل َيا إ َّنماَ َح َص َل ْت
ف َو ُّيها َأ ْع َظ ُم َح ٍّظَ ،ل ِك ْن ا ْل َف ْض ُل َوالشرََّ ُ ِ ك َ
َان لهَُ ْم ف َ
يها لمَِ ْن أُسرْ ِ َي بِ ِه -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم. )2(».- ِ
ف َ
_______________
( )1تقي الدين أبو ال َعباس أمحد بن عبد احلليم بن عبد السالم بن عبد اهلل بن أيب القاسم بن حممد ابن
تيمية احلراين احلنبيل الدمشقي (املتوىف سنة 728هـ).
( )2الفتاوى الكربى (.)477 -2
12
()1 ِ
ال�������ق�������در أطِ�����ِّل����يِّ ل����ي����ل���� َة
ِ
القدر ال��ده��ر ..أطِ�ِّل�يِّ ليل َة
ِ أط�ِّل�يِّ غ ّ
ُ���ر َة ِ
ِ
الفكر! وعي...أنا؟ يا ِحري َة
ٍ أيف ح ُل ٍم؟ أيف
قيس وما ليىل وما ذاك اهلوى ال ُعذري؟! فام ٌ
ِ
الرسفباحت مهج ُة ِّ
ْ رسي،
حفظت هواك يف ِّ ُ
ِ
الصدر سناك يف صدري فش َّع ْت خفق ُة ِ وصنت
ُ
ِ
العطر ِ
زج��اج��ة ِ
بقلب ِ
أداري���ه وأس��ك��بُ�� ُه
_______________
( )1د.عبد املعطي الدااليت.
13
وأصحب ُه م��دى عمري وأمح��لُ��ه إىل قربي
َ
احلب يف قرصي فرشت
ُ ألنك أنت أمنيتيِ
َّ
ِ
العمر وصغت قصيد َة
ُ غت قافيتي ِ
ألجلك ُص ُ
ِ
الشعر فأرحل يف م��دىُ أرتّلها وأنشدُ ها
ٍ
سطر ٍ
سطر إىل ٍ
شطر وم��ن ٍ
شطر إىل فمن
ٍ
لقافية عىل ثغري ٍ
شغف ُ
الكون يف ويصغي
ِ
ال��زه��ر ِ
مخ��ائ��ل ِ
ب��ل��ون ل��ق��اف��ي��ة م��ل��و ٍ
ن��ة ٍ
ّ
وح��رف حسن ُه يغري
ٌ فحرف لون ُه ُيغوي
ٌ
ُ
الفضل يل أبدً ا فام عندي سوى فقري وليس
ٍ
مالك أمري ل��رب ّ
وك��ل الفضل والنُعمى
ٍّ
ران من ٍ
وزر عىل ظهري؟! وم ْن يدري بام قد َ
ِ
..آه من وزري فيا رب��ا ُه فارمحني..فوزري
ِ
القدر ِ
ألن��ك أن��ت أمنيتي ..ألن��ك ليلة
14
الليلة املباركة
فليكن لك من بركة هذه الليلة
�أوفر احلظ والن�صيب
_______________
( )1سورة الدخان آية(.)3
( )2حممد الطاهر بن حممد بن حممد الطاهر بن عاشور التونيس (املتوىف سنة 1393هـ) التحرير
والتنوير (.)278 -25
15
الليلة املباركة
املحروم من حرم بركة هذه الليلة
خص ليلة القدر بربكة خاصة ،فمن أ َّدى
من نعم اهلل علينا ومننه أن َّ
حقها نال من هذه الربكة التي ال يعلم أحد قدر ما فيها من اخلري والرمحة
واملغفرة إال اهلل ،فهي ليل ٌة مبارك ٌة بارك اهلل فيها ،وال يعدم القائم فيها
الطالب هلا املجد يف حتصيلها أن يفيض عليه مواله حني يراه راك ًعا ساجدً ا
مستغفرا تائ ًبا من بركة هذه الليلة ،فيبارك يف حياته ،وحيفظ عليه
ً مسبحا
ً
قلبه من الزالت ،ويغفر ذنبه ،ويعيل شأنه ،ويبارك يف وقته ويف بدنه ويف
لعاقل َع ِل َم بربكة هذه الليلة أال يتعرض لنفحات ربه،
ٍ رزقه ،فال ينبغي
فواهلل من ُيعطى شي ًئا من بركة هذه الليلة فهو الفائز ح ًّقا ،وقد يسعد إىل
األبد ،فقد تتغري حاله إىل أحسن حال ،وتصبح هذه الليلة نقطة حتول يف
يدُّ بِ َحدٍّ وال ُي َق َّيدُ بِ َق ْي ٍد ،وهني ًئا ملن مجع بني
حياته ،وفضل اهلل واسع ال حُ َ
بركة الزمان وبركة املكان ،فمن وفقه ربه لزيارة البيت احلرام أو مسجد
نبيه -صىل اهلل عليه وسلم -يف ليايل العرش ،فقد مجع بني بركة الزمان
واملكان ومع كثرة اجلموع من املسلمني يزداد الفضل ،فيا هلل ما أسعده
وأرشف مكانه! فهني ًئا له ،وليبرش بخريي الدنيا واآلخرة!.
16
ِ ٍ ٍ
قال –تعاىل( :-إِنَّآ َأن َز ْل َنـٰ ُه ىِف َل ْي َلة ُّم َبـ َٰركَة إِنَّا ُكنَّا ُمنذ ِر َ
ين).
والليلة املباركة هي ليلة القدر ،وقيل :ليلة النصف من شعبان ،وهو
قول ضعيف.
قال القرطبي« :ووصفها بالربكة ملا ينزل اهلل فيها عىل عباده من
الربكات واخلريات والثواب»(. )1
قال الزخمرشي(« : )2واملباركة :الكثرية اخلري؛ ملا يتيح اهلل فيها من
األمور التي يتعلق هبا منافع العباد يف دينهم ودنياهم ،ولو مل يوجد فيها
إال إنزال القرآن وحده لكفى به بركة»(. )3
قال ابن العريب« :قوله(:مباركة) الربكة :هي النامء والزيادة،
وسماَّ ها مبارك ًة ملا يعطي اهلل فيها من املنازل ،ويغفر من اخلطايا ،ويقسم
من احلظوظ ،ويبث من الرمحة ،وينيل من اخلري ،وهي حقيقة ذلك
وتفسريه»(. )4
_______________
( )1أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن فرح األنصاري اخلزرجي شمس الدين القرطبي (املتوىف
سنة 671هـ) اجلامع ألحكام القرآن ( .)126 -16
( )2أبو القاسم حممود بن عمرو بن أمحد ،الزخمرشي جار اهلل (املتوىف سنة 538هـ) الكشاف عن
حقائق غوامض التنزيل(.)270 -4
( )3الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل لزخمرشي ()780-4وال انصح بقراءة تفسري الزخمرشي
اال ملن لديه بصريه بمذهب السلف فهو معتزىل املذهب مع إمامته يف النحو واللغة واألدب
فيستفاد منه ويؤخذ من تفسريه ما يوفق مذهب السلف.
( )4القايض حممد بن عبد اهلل أبو بكر بن العريب املعافري اإلشبييل املالكي (املتوىف سنة 543هـ)
أحكام القرآن (.)117-4
17
قال ابن عاشور« :وتنكري ( َل ْي َل ٍة) للتعظيم ،ووصفها بـ ( ُّم َبـ َٰرك ٍَة)
تنويه هبا وتشويق ملعرفتها .فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدأ فيها نزول
القرآن عىل حممد -صىل اهلل عليه وس ّلم -يف الغار من َجبل ِح َر ٍاء
ان) ان ا َّل ِذى ُأ ِنز َل فِ ِيه ا ْل ُق ْر َء ُ يف رمضان ،قال –تعاىلَ :-
(ش ْه ُر َر َم َض َ
(البقرة.)185 :
والليلة التي ابتدأ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر ،قال -تعاىل:-
(إِنَّآ َأ َنز ْلنَـٰ ُه فىِ َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر) (القدر .)1 :واألصح أهنا يف العرش األواخر
من رمضان ،وأهنا يف ليلة الوتر .وثبت أن اهلل جعل لنظريهتا من كل سنة
فضلاً عظيماً ؛ لكثرة ثواب العبادة فيها يف كل رمضان؛ كرامة لذكرى
نزول القرآن ،وابتداء رسالة أفضل الرسل -صىل اهلل عليه وس ّلم -إىل
وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر هِّبِم ِّمن ك ُِّل النّاس كافة .قال –تعاىلَ ( :-تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة َو ُّ
الر ُ
َأ ْم ٍر * َس َلـ ٌٰم ِه َى َحت َّٰى َم ْط َل ِع ا ْل َف ْج ِر) [القدر.]5 ،4 :
وذلك من معاين بركتها وكم هلا من بركات للمسلمني يف دينهم،
ولعل تلك الربكة ترسي إىل شؤوهنم الصاحلة من أمور دنياهم.
فربكة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّ رها اهلل هلا قبل نزول
ٍ
مبارك؛ فيزداد ٍ
لوقت البسا
القرآن؛ ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها ُم ً
18
بذلك فضلاً ورش ًفا ،وهذا من املناسبات اإللـهية الدقيقة التي أنبأنا اهلل
ببعضها .والظاهر أن اهلل أمدّ ها بتلك الربكة يف كل عام كام أومأ إىل ذلك
ان) إذ قاله بعد أن مىض عىلان ا َّل ِذي ُأ ِنز َل فِ ِيه ا ْل ُق ْر َء ُ
(ش ْه ُر َر َم َض َ
قولهَ :
بض َع عرشة سنة. )1(» .
ابتداء نزول القرآن ْ
_______________
( )1التحرير والتنوير ( 277-25و .)278
19
ملا كانت هذه الليلة ليلة مباركة ،واهلل أجود األجودين وأكرم
األكرمني ،جيود ويكرم ويعطي ويتفضل عىل من يشاء من خلقه يف هذه
الليلة من الربكات واخلريات العظيمة كان من احلرمان أن متيض هذه
الليلة وال ينال املرء شي ًئا من بركتها ،فاملوفق من أغدق عليه ربه من
واسع فضله يف هذه الليلة؛ فاهلل كريم جواد يعطي بال حدٍّ وال ٍ
قيد ،يكرم
وإذا أكرم أدهش ،وهو املعطي عطا ًء غري ممنون ،فيمت ُّن الكريم يف هذه
الليلة ويعطي وجيود ويكرم وينعم عىل الصادقني يف طلب ليلة القدر
ومن بذل وسعه يف إدراكها ،فهناك أقوام يسعدون هبذه الربكة؛ قاموا هلل
فحفظوا أوقاهتم له ،وأخلصوا نياهتم له ،فنالوا منها احلظ الوافر ،فكن
مع القوم ،وتعرض لنفحات الرب ،لعلك تصيب منها نفحة فتسعد إىل
وشمر عن ساعد اجلدُ ،
وشدَّ مئزرك فدونك األبد ،واطلب من اهلل املزيدِّ ،
الفالح والنجاح الذي ال خييب من يصيبه ،وهي واهلل ساعات معدودة
إن أدركتها أصبحت بعدها وقد حظيت بالربكات واخلريات من رب
خملصا و ُمدَّ يديك سائلاً
الربيات ،وفزت بخريي الدنيا واآلخرة ،فقم هلل ً
ذليل مترض ٍع له؛ لع َّله يمن عليك بالقبول. ٍ
بقلب ٍ الكريم اجلواد
20
ٍ
ذليــــــل ألرجو به يا إهلـــي القبــوال ٍ
بقلب نظرت إليك
لك احلمد واملجد والكبــرياء وأنت اإلله الذي لــن يـزوال
محيدً ا كريماً عظيماً جـلـيــــل وأنــت اإلله الــــذي مل يزل
وتنشى اخلالئق جيلاً فجيــل متيت األنام وحتيي العظــــام
عظيم اجلالل كريم الفـعـــال جزيل النوال تنيل الســؤوال
حبيب القلوب غفور الذنوب تواري العيوب تقيل اجلهوال
وتعطي اجلزيل وتويل اجلميـل وتأخذ من ذا وذاك القــليـال
تعم اجلواد هبا والبخيــــــال
ّ خزائن جودك ال تـنـقــضـي
21
ليلة ال�شرف والف�ضل
اكت�سب القدر وال�شرف والف�ضل العظيم
فـي ليلة القدر
_______________
( )1تفسري ابن حيان البحر املحيط(. )514 -10
22
ا�صعد �إىل قمة ال�شرف والف�ضل
ب�إحياء ليلة القدر
ليلة القدر هي ليلة الرشف والفضل ،فالقدر هو املكانة واملنزلة
(و َما َقدَ ُرو ْا اللهَّ َح َّق َقدْ ِر ِه)( ، )1قال الزهري
العظيمة ،قال –تعاىلَ :-
-رمحه اهلل -يف معنى ليلة القدر« :ليلة العظمة والرشف ،من قول الناس:
لفالن عند األمري قدر ،أي :جاه ومنزلة» (.)2
لع ِ
ظمها و َقدْ رها ورشفها، قال القرطبي« :وقيل :إنام سميت بذلك ِ
ُ ِّ
الز ْه ِر ّي وغريه»(. )3
رشف ومنزلة .قاله ُّ ٌ من قوهلم :لفالن َقدْ ر ،أي
قال ابن عاشور« :وال َقدْ ر الذي ُعرفت الليلة باإلضافة إليه هو
ِ
الرشف والفضل» (. )4 بمعنى
ٌ
حاصل واملعنى :أن ليلة القدر ذات ٍ
قدر عظيم ،وهذا القدر العظيم
مما يقع فيها من الفضائل ذات القدر العايل من نزول القرآن فيها ،أو
خري من ألف ٍ
شهر ،أو ملا يقع فيها من نزول املالئكة ،أو لوصفها بأهنا ٌ
_______________
سورة األنعام.91 : ()1
انظر قوله يف تفسري الثعالبي وغريه الثعالبي (.)248 -10 ()2
اجلامع ألحكام القرآن ( .)130-20 ()3
التحرير والتنوير( .)457 -30 ()4
23
ٍ
ورشف. لنزول الربكة واملغفرة والرمحة فيها؛ فهي ليلة عظيمة ذات ٍ
قدر
قال الزرقاين(« : )1سميت بذلك لعظم قدرها أي ذات القدر
العظيـم لنزول القرآن فـيها ولوصفها بأهنا (خري من ألف شهر) أو
لتنزل الـمالئكة فـيها أو لنزول الربكة والـمغفرة والرمحة فـيها ،أو لـام
حيصل لـمن أحياها بـالعبـادة من القدر الـجسيـم»(. )2
وهذا القدر والرشف من وجهني :إما أن يرجع إىل العامل فيها
بالطاعة أنه صار ذا ٍ
قدر يف هذه الليلة بقيامه بالطاعة ،أو لنفس الطاعة،
ورشف ٍ
زائد. ٍ فهي يف هذه الليلة ذات ٍ
قدر
ٍ
وفضل) هو أحد الوجوه الذي ٍ
رشف وهذا املعنى( :أهنا ذات
يت ألجله ليلة القدر هبذا االسم.
ُس ِّم ْ
_______________
( )1حممد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاين املرصي األزهري.
( )2رشح الزرقاين عىل موطأ اإلمام مالك(.)317-2
24
ول اللهَِّ -صىل اهلل عليه عن أَبيِ ُه َر ْي َر َة -ريض اهلل عنهَ -ق َالَ :ق َال َر ُس ُ
وسلمَ « :-أتَاك ُْم َر َم َض ُ
ان َش ْه ٌر ُم َب َار ٌك َف َر َض اللهَُّ َ -ع َّز َو َج َّلَ -ع َل ْيك ُْم
اب الجَْ ِحي ِمَ ،و ُت َغ ُّل فِ ِيه ِ ِ ِ ِ ِ ِ
السماَ ءَ ،و ُت ْغ َل ُق فيه َأ ْب َو ُ
اب َّص َيا َم ُهُ ،ت ْفت َُح فيه َأ ْب َو ُ
ف َش ْه ٍرَ ،م ْن ُح ِر َم خَيرَْ َها َف َقدْ ني ،للِهَِّ فِ ِيه َلي َل ٌة خ ِمن َأ ْل ِالش َياطِ ِ
َم َر َد ُة َّ
ْ َيرْ ٌ ْ
ُح ِر َم »(. )1
عظيم ال يعلم حقيقة قدره إال اهلل ،واملحروم ٌ فليلة القدر خريها
فحري بنا أن ُن ْع ِمل الفكر ون ُْش ِغل احلواس ون ُْج ِهد
ٌّ َم ْن ُح ِر َم خَيرَْ َها،
شمر
البدن يف طلبها ،فيا طالب اخلريات والفضائل واملراتب العالية ِّ
وساعات معلومة ،فقم
ٌ عن ساعد اجلدِّ يف طلبها ،فهي ٍ
ليال معدودة،
خملصاَّ ،
لعل املنان يم ُّن عليك بالقبول ،فريفع قدرك ،ويعيل فيها جمتهدً ا ً
شأنك ،وتنال مراتب الرشف والفضل يف الدنيا واآلخرة.
_______________
( )1رواه النسائي ( )2106وأمحد ( )9497 – 7148مصنف أبو بكر بن أيب شيبة( )8867
وانظر صحيح الرتغيب (.)999
25
الليلة التي يفرق فيها كل �أمر حكيم
_______________
( )1جامع البيان يف تأويل القرآن (.)9 -22
26
الليلة التي تكتب فيها
الأقدار والأرزاق والآجال
القدر :من التقدير أي تقدير األمور وقضائها ،كام يف قوله –تعاىل:-
(فِيها ُي ْف َر ُق ك ُُّل أ ْم ٍر َح ِكيم) فيقدر يف هذه الليلة أحكام تلك السنة،
فتكتب فيها األقدار واألرزاق واآلجال التي تكون يف السنة ومن يعز
فيها ومن يذل ،وإن الرجل لينكح ويترصف يف أموره ويولد لـه ،وقد
خرج اسمه يف املوتى يف تلك السنة.
قال حممد األمني الشنقيطي(« : )1قوله تعاىل( :فِ َيها ُي ْف َر ُق ك ُُّل َأ ْم ٍر
حكِي ٍم * َأمرا من ِع ِ
ندنَا) . ْ ً ِّ ْ َ
معنى قوله( :يفرق) أي :يفصل ويبني ،ويكتب يف الليلة املباركة،
التي هي ليلة القدر( ،كل أمر حكيم) ،أي :ذي حكمة بالغة؛ ألن كل ما
يفعله اهلل ،مشتمل عىل أنواع احلكم الباهرة.
وقال بعضهم :حكيم ،أي حمكم ،وال تغيري فيه ،وال تبديل.
وكال األمرين حق ألن ما سبق يف علم اهلل ،ال يتغري وال يتبدل،
_______________
( )1حممد األمني بن حممد املختار بن عبد القادر اجلكني الشنقيطي (املتوىف سنة 1393هـ).
27
وألن مجيع أفعاله يف غاية احلكمة.
وإيضاح معنى اآلية أن اهلل -تبارك وتعاىل -يف كل ليلة قدر من
السنة يبني للمالئكة ويكتب هلم ،بالتفصيل واإليضاح مجيع ما يقع يف
تلك السنة ،إىل ليلة القدر من السنة اجلديدة.
قال اإلمام النووي(« : )2قال العلامء :وسميت ليلة القدر ملا يكتب
فيها للمالئكة من األقدار واألرزاق واآلجال التي تكون يف تلك السنة،
_______________
( )1أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن (172 -7و.)173
( )2أبو زكريا حميي الدين حييى بن رشف النووي (املتوىف سنة 676هـ).
28
كقوله –تعاىل( :-فيها يفرق كل أمر حكيم) وقوله –تعاىلَ ( :-تن ََّز ُل
يها بِإِ ْذ ِن رَبهِّ ِم ِّمن ك ُِّل َأ ْم ٍر).المَْلاَ ِئ َك ُة والر ِ
وح ف َ
َ ُّ ُ
ومعناه يظهر للمالئكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من
وظيفتهم ،وكل ذلك مما سبق علم اهلل –تعاىل -به وتقديره له»(. )1
_______________
( )1املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج(.)57-8
29
ملاذا ُ�س ِّميت ليلة القدر بهذا اال�سم ؟
سبق أن ذكرنا يف ذلك وجهني ،األول :أهنا من القدر ،أي الرشف
واملكانة العظيمة ،من قوهلم :فالن ذو قدر.
والوجه الثاين هو :أهنا من التقدير ،أي تقدير األمور وقضائها ،كام
يف قوله –تعاىل( :-فِ َيها ُي ْف َر ُق ك ُُّل َأ ْم ٍر َح ِكي ٍم) فيقدر يف هذه الليلة أحكام
تلك السنة فتكتب فيها األقدار واألرزاق واآلجال.
وال منافاة بني الوجه األول والثاين؛ فليلة القدر تشمل املعنيني.
-رمحه اهلل -بعد ما ذكر الوجهني ()1
قال شيخنا ابن عثيمني
واملعنيني« :والصحيح أنه شامل للمعنيني ،فليلة القدر ال شك أهنا ذات
ورشف ٍ
كبري ،وأنه يقدر فيها ما يكون يف تلك السنة من ٍ ٍ
قدر عظي ٍم،
اإلحياء واإلماتة واألرزاق وغري ذلك»(. )2
وهناك وج ٌه ٌ
ثالث :وهو أن القدر بمعنى :التضييق.
قال احلافظ ابن حجر(« : )3وقيل :القدر هنا التضييق كقولـه –
_______________
( )1شيخنا فقيه الوقت أبو عبد اهلل حممد بن صالح العثيمني (املتوىف سنة 1421هـ) ،وإذا قلت:
(شيخنا) يف هذا الكتاب فال أقصد إال هو ،رمحه ريب ومجعنا به يف جنته.
( )2تفسري جزء عم (ص .)270
( )3أمحد بن عيل بن حجر أبو الفضل العسقالين الشافعي.
30
(و َمن ُق ِد َر َع َل ْي ِه ِر ْز ُق ُه) ومعنى التضييق فيها :إخفاؤها عن العلم
تعاىلَ :-
بتعيينها ،أو ألن األرض تضيق فيها عن املالئكة. )1(».
ومجيع ما ذكر من أقوال يف سبب تسميتها يعود إىل هذه الثالثة أوجه.
فائدة :التقدير والكتابة التي تكون يف ليلة القدر ،هي الكتابة السنوية،
فهناك كتابة أوىل قبل خلق السموات واألرض يف اللوح املحفوظ ،وهذه
ال تتغري وال تتبدل ،وهناك كتابة عمرية ،ما يكتب عىل اجلنني يف بطنه امه
من الرزق ،وشقي أم سعيد ،وهناك كتابة سنوية ،وهي التي تكون يف
ليلة القدر(. )2
_______________
( )1فتح الباري رشح صحيح البخاري (.)255 -4
( )2الرشح املمتع عىل زاد املستقنع(.)493 -6
31
ليلة القدر ،تقدر فيها اآلجال واألرزاق ،ويقىض فيها القضاء،
ٍ
قضاء كتب لك ،فال تعلم وأنت يف هذه الليلة هل فتأمل حالك ،وأي
تدرك ليلة قدر بعدها أم ال؟ أم هو األخرية يف حياتك؟ فال تعلم هل
كتب اسمك مع األموات وسجلت يف صحائف املوتى هلذا العام أم ال؟
فقف وقفة تأمل وكأنه آخر رمضان لك ،وآخر ليلة قدر تدركها ،وابذل
وسعك ،وجد واجتهد ،وتزود ما استطعت من التقوى .
تـــزود من التقوى فإنك ال تــدري
ِ
الفــجـــر إذا ج َّن ٌ
ليل هل تعيش إىل
فكم من فتى أمسى وأصبـح ضاحكًا
وقــد ن ُِس َج ْت أكفانُه وهو ال يــدري
وكــم من عروس زينوها لزوجهـــا
ِ
القـدر أرواحهم ليــلة
ُ وقد قبضــت
ٍ
صغار ُيرجتى طول عمرهـم وكـم من
وقـد ُأدخلت أجسا ُدهم ظلمــة ِ
القرب
ٍ
عـــلة وكم من صحيح مات من غري
وكم من سقيم عاش حينًا من الدهـر
32
ليلة نزول القر�آن العظيم
_______________
( )1سورة القدر آية رقم .1
( )2لطائف املعارف ص( .)171
33
ليلة نزول القر�آن العظيم
قال -تعاىل(: -إِنَّا َأن َز ْلنَا ُه يِف َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر).
خصها بأن أنزل فيها أرشف
من رشف هذه الليلة وبركتها :أن اهلل َّ
كتبه (القرآن العظيم) فهو أعظم الكتب الساموية ،وهو كالم اهلل –عز
وجل ،-تكلم به حقيق ًة ،وتلقاه جربيل من اهلل -عز وجل ،-ونزل
به عىل قلب نبيينا حممد -صىل اهلل عليه وسلم ،-ففي هذه الليلة أنزل
الفرقان واهلدى والنور والشفاء.
وقد تضمن القرآن من العلوم واحلكم واملواعظ والقصص
والرتغيب والرتهيب وذكر أخبار من سبق وأخبار ما يأيت من البعث
والنشور واجلنة والنار ما مل يشتمل عليه كتاب غريه ،حتى قال بعض
ٍ
مصحف يف فالة من األرض العلامء« :لو أن هذا الكتاب وجد مكتو ًبا يف
ومل يعلم من وضعه هناك ،لشهدت العقول السليمة أنه ٌ
منزل من عند
اهلل ،وأن البرش ال قدرة هلم عىل تأليف ذلك ،فكيف إذا جاء عىل يدي
أصدق اخللق وأبرهم وأتقاهم؟»(. )1
_______________
( )1ابن رجب لطائف املعارف ص (.)84
34
قوله -تعاىل( : -إِنَّا َأن َز ْلنَا ُه يِف َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر).
قوله( :إِنَّا َأ َنز ْلنَا ُه) قيل :الضمري يعود إىل جربيل ،أي :أنزل اهلل
جربيل يف ليلة القدر بام نزل به من الوحي( .)1وهو ضعيف ،والصواب
فخمه بإضامره من غري ٍ
ذكر؛ شهاد ًة له أن الضمرييعود اىل القرآنَّ ،
بالنباهة املغنية عن الترصيح ،كام ع َّظمه بأن أسند نزوله إليه ،وع َّظم
راك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َخ رْ ٌي
(وما َأ ْد َ
الوقت الذي أنزل فيه بقولهَ :
ِمن َأ ْل ِ
ف َش ْه ٍر)(.)2 ْ
ما معنى إنزاله يف ليلة القدر مع أنه كان ينزل عىل نبينا -صىل اهلل
منج اًم حسب الوقائع واألحداث؟
عليه وسلمَّ -
واجلواب عىل هذا من وجوه:
األول :ما قاله ابن عباس وهو رأي اجلمهور« :أنه نزل مجلة واحدة
من اللوح املحفوظ إىل السامء الدنيا يف ليلة القدر ،والتعبري باإلنزال يؤيد
قول ابن عباس؛ ألن لفظ (اإلنزال) ُيستعمل يف الدفعى ،أي نزل دفعة
واحدة ومجلة واحدة اىل السامء الدنيا. )3(».
_______________
( )1تفسري املاوردي(.)311-6
( )2أنوار التنزيل وأرسار التأويل للبيضاوي(.)327 -5
( )3معجم الفروق اللغوية للعسكري(ص .)79
35
الوجه الثاين:
قول الشعبي :أنه ابتدأ نزوله يف ليلة القدر.
ورجح هذا القول شيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل -قال« :قوله( :إِنَّا
َأ َنز ْلنَا ُه) يقتيض إنزاله إىل منتهى إنزاله ،وهو قلب النبي -صىل اهلل عليه
وسلم ،-ومعلوم أنه مل ينزل عىل قلب النبي -صىل اهلل عليه وسلم-
مجيع ًا يف ليلة واحدة ،بل نزل مفرق ًا ،فيكون املعنى( :إِنَّا َأ َنز ْلنَا ُه) أي :إنا
ابتدأنا إنزاله يف ليلة القدر ،ثم صار ينزل مفر ًقا حسب ما تقتضيه حكمة
اهلل -تبارك وتعاىل.)1(».-
والوجه الثالث:
رأي مقاتل بن سليامن « :أنه نزل إىل سامء الدنيا ىف ثالث وعرشين
ليلة قدر من ثالث وعرشين سنةُ ،ينزل اهلل ىف كل ليلة قدر ما قدر إنزاله
ىف تلك السنة ،ثم ينزل به جربيل منجماً عىل رسول اهلل -صىل اهلل عليه
وسلم. )2(».-
_______________
( )1هذه االجابه نصا من فتاوى الشيخ -رمحه اهلل -يف برنامج ( نور عىل الدرب) ومل يطبع بعد
ولعىل ازف البرشى لطالب العلم بقرب طباعة فتاوى الشيخ كاملة يف هذا الربنامج املبارك والتي
تصل اىل عرشة جملدات اوتزيد وذلك يف األشهر القادمة .وانظر ترجيح الشيخ هلذه املسألة يف
تفسري جزء عم (.)279 -1
نجمته عىل
( )2وذكر يف تفسريه رأ ًيا آخر هو :أنه نزل من اللوح املحفوظ مجلة واحدة ،وأن احلفظة َّ
نجمه عىل النبي -صىل اهلل عليه وسلم -يف عرشين سنة .ولكن جربيل ىف عرشين ليلة ،وأن جربيل َّ
األول هو األشهر عنه انظر تفسري مقاتل بن سليامن() 817 -3و(.)771-4
36
وقيل :أن التقدير أنزلنا هذا الذكر (فىِ َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر) أي :يف فضيلة
ليلة القدر وبيان رشفها(.)1
قال الزخمرشي « :عظم القرآن من ثالثة أوجه :أحدها :أن أسند
إنزاله إليه وجعله خمتص ًا به دون غريه ،والثاين :أنه جاء بضمريه دون
اسمه الظاهر شهاد ًة له بالنباهة واالستغناء عن التنبيه عليه؛ والثالث:
الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه(.)2
_______________
( )1مفاتيح الغيب (.)229 – 32
( )2الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل( . )780 -4
37
من بركة هذه الليلة نزول القرآن الكريم فيها ،فليكن لك نصيب
من هذه الربكة ،وخذ منها احلظ األوفر ،واحبس نفسك كل الليايل
العرش عىل تالوة كتاب اهلل بتدبر ،فنزوله يف هذه الليلة يعود بك إىل
ذكرى أول نزوله وإىل حرص النبي -صىل اهلل عليه وسلم -عىل تالوته
ومذاكرته له مع جربيل يف رمضان ،فهو شهر القرآن ،ويزداد احلرص
واجلد واالجتهاد يف العرش األواخر ،فالزم كتاب اهلل واحرص عىل
ختمه وتدبره؛ لعلك تصادف ليلة القدر وأنت مقبل عىل كتاب اهلل
فالحا ال ختيب بعده ،وقد كانت أوقات السلف -رمحهم اهلل -يف
فتفلح ً
رمضان عامرة بكتاب اهلل خاصة يف العرش األواخر منه ،فكان األسود
يقرأ القرآن يف كل ليلتني يف رمضان ،وكان النخعي يفعل ذلك يف العرش
األواخر منه خاصة ويف بقية الشهر يف ثالث ،وكان قتادة خيتم يف كل سبع
دائماً ويف رمضان يف كل ثالث ويف العرش األواخر كل ليلةَ ،وكان الإْ ِ َما ِم
الشافِ ِع ِّي ،رَحمَِ ُه اللهَُّ يخَ ْتِ ُم فيِ ا ْل َي ْو ِم َوال َّل ْي َل ِة ِم ْن َش ْه ِر َر َم َض َ
ان َخت َْمتَينْ ِ ،وَفيِ َّ
غَيرْ ِ ِه َخت َْم ًة ،وكان الزهري إذا دخل رمضان قال :فإنام هو تالوة القرآن
وإطعام الطعام .و كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة احلديث
وجمالسة أهل العلم ويقبل عىل تالوة القرآن من املصحف ،و ا ْل ُب َخ ِ
ار ِّي
38
ان َخت َْم ًة. الص ِح ِ
يح :-يخَ ْتِ ُم فيِ ال َّل ْي َل ِة َو َي ْو ِم َها ِم ْن َر َم َض َ ب َّ
-ص ِ
اح ِ َ
و كان سفيان الثوري :إذا دخل رمضان ترك مجيع العبادة وأقبل
عىل قراءة القرآن .
وقد يشكل عىل البعض صنيع السلف هذا من ختم القرآن يف يوم أو
يومني ،ملا ورد من حديث َع ْب ِد اللهَِّ ْب ِن َع ْم ٍرو َق َالَ :ق َال َر ُس ُ
ول اللهَِّ -صَلىَّ
ث »(.)1 اللهَُّ َع َلي ِه وس َّلم« :-لاَ ي ْف َقه من َقر َأه فيِ َأ َق َّل ِمن ثَلاَ ٍ
ْ َ ُ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ
وجييب عىل هذا احلافظ ابن رجب بقوله « :وإنام ورد النهي عن
قراءة القرآن يف أقل من ثالث عىل املداومة عىل ذلك ،فأما يف األوقات
خصوصا الليايل التي يطلب فيها ليلة القدر ،أو
ً املفضلة كشهر رمضان،
يف األماكن املفضلة كمكة ملن دخلها من غري أهلها ،فيستحب اإلكثار
فيها من تالوة القرآن؛ اغتنا ًما للزمان واملكان ،وهو قول أمحد وإسحاق
وغريمها من األئمة وعليه يدل عمل غريهم كام سبق ذكره»(.)2
_______________
( )1أخرجه اإلمام أمحد يف املسند ( ) 6775ويف سنن أيب داود برقم ( )1394ويف سنن الرتمذي
برقم ( )2949ويف سنن النسائي الكربى برقم ( )8067ويف سنن ابن ماجة برقم (.)1347
( )2ابن رجب لطائف املعارف ص (.)171
39
امل�شوق �إىل ف�ضل ليلة القدر
اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر)(. )1
(و َما َأ ْد َر َ
قال –تعاىلَ : -
راك ما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر»
«وما َأ ْد َ -عز ّ
وجلَ :- «قوله ّ
ّشوق إىل خريها »
هذا عىل سبيل التعظيم والت ّ
ابن اجلوزي(. )2
_______________
([ )1القدر.]2 :
( )2مجال الدين أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل بن حممد اجلوزي (املتوىف سنة 597هـ).
زاد املسري يف علم التفسري (.)472-4
40
الت�شويق �إىل ما يف ليلة القدر من اخلري العظيم
اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر).
(و َما َأ ْد َر َ
قال -تعاىلَ :-
يف هذه اآلية يعظم ربنا َّ
-جل شأنه -هذه ليلة القدر ،ويفخم أمرها،
مع التشويق خلريها ،ويبني أن ال أحد يدري عن فضلها حقيقة ،وال يبلغ
أحد من البرش منتهى قدرها ،وما ذكره اهلل أهنا أفضل من ألف شهر ،هذا
يش ٌء من رشفها وفضلها ،وليس هو حقيق ُة فضلها ،وهذا التشويق حيذو
بصاحب اهلمة العالية إىل التطلع إىل هذا الفضل العظيم والسعي إليه.
اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) َي ُق ُ
ولَ :و َما َأ ْش َع َر َك َيا «و َما َأ ْد َر َ
قال الطربي(َ : )1
ف َش ْه ٍر »(. )2 حُمَمدُ َأي شيَ ٍء َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
َيرُْ ْ َّ ُّ ْ ْ
راك ما َل ْي َل ُة ال َقدْ ِر) تنبيه لرسول اهلل -صىل قال املاوردي (« :وما أ ْد َ
ّ
وحث عىل العمل فيها»(. )3 اهلل عليه وسلم -عىل فضلها ،
راك ما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) أي :وما الذي يعلمك
(وما َأ ْد َقال القاسميَ « :
مبلغ شأهنا ونباهة أمرها؟! َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
ف َش ْه ٍر فكرر ذكرها َيرْ ٌ ْ ْ
_______________
( )1حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلميل ،أبو جعفر الطربي (املتوىف310 :هـ)
( )2جامع البيان يف تأويل القرآن(.)533 -34
( )3تفسري املاوردي(.)312 -6
41
ثالث مرات .ثم أتى باالستفهام ّ
الدال عىل أن رشفها ليس مما تسهل
إحاطة العلم به»(. )1
راك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) َتن ِْوي ٌه بِ َط ِر ِيق الإْ ِ بهَْا ِم«(وما َأ ْد َ
قال ابن عاشورَ :
الس ْه ِل لمَِا َينْ َط ِوي َع َل ْي ِه ِم َن ا ْل َف َض ِائ ِل اك ُكن ِْه َها َل ْي َس بِ َّاد بِ ِه َأ َّن إِ ْد َر َ المُْر ِ
َ
يم ِه،الش ِء و َتعظِ ِ ِ ِ .وك َِل َم ُة ( َما َأ ْد َر َ ِ
اك َما ك ََذا) كَل َم ٌة ُت َق ُال فيِ َت ْفخي ِم يَّ ْ َ ْ الجَْ َّمة َ
س عَلىَ شيَ ْ ٍء َأ ْن ِ ِ ٍ
َوالمَْ ْعنَىَ :أ ُّي شيَ ْ ء ُي َع ِّر ُف َك َما ه َي َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ رَ ،أ ْي َي ْع رُُ
ُي َع ِّر َف َك ِم ْقدَ َار َها»(. )2
خارج ع ْن قدرهاعلو ِ الداللة َعىل َّ ِ قال أبو السعود(ِ :)3
ٌ أن ِّ «فيه م َن
الغيوب »(. )4ِ دراية اخلَ ْل ِق ال يدريهَ ا َوالَ يدريهَ ا إالَّ ع َّ
ال ُم ِ ِ
دائرة
(و َما َأ ْد َر َ
اك َما قال السعدي« :ثم فخم شأهنا ،وعظم مقدارها فقالَ :
َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) أي :فإن شأهنا جليل ،وخطرها عظيم »(.)5
قال شيخنا« :هذه اجلملة هبذه الصيغة يستفاد منها التعظيم
والتفخيم(...،وما أدراك ما ليلة القدر) أي :ما أعلمك ليلة القدر
_______________
حماسن التأويل (.)516 -9 ()1
التحرير والتنوير (.)458 -30 ()2
أبو السعود العامدي حممد بن حممد بن مصطفى (املتوىف سنة 982هـ). ()3
إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم(.)182-9 ()4
تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان(ص.)931 ()5
42
وشأهنا ورشفها وعظمها »(. )1
فائدة:
قال سفيان بن عيينة يف صحيح البخاري« :ما َ
كان يف القرآنَ :وما
يك فإنَّه لمَ ْ ُي ْع ِل ْم ُه ».
قالَ :و َما ُيدْ ِر َ َأ ْد َ
راك َف َقدْ أ ْع َل َمهَ ،و َما َ
قال احلافظ ابن حجر -رمحه اهلل« :-ومقصود ابن عيينة أنه -صىل
اهلل عليه وسلم -كان يعرف تعيني ليلة القدر »(. )2
_______________
( )1تفسري جزء عم (ص.)270
ب َه َذا الحْصرْ بقوله – َت َعالىَ َ ( :-ل َع َّله يزكّى) «و َقدْ ُت ُع ِّق َ
( )2فتح الباري ( .)255-4وقال احلافظَ :
ممِ ِ ِ ِ
َفإِنهََّا نزلت فيِ بن ُأ ِّم َم ْكتُو ٍم َو َقدْ َع ِل َم -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْيه َو َس َّل َم -ب َحاله َوأ َّن ُه َّ ْن ت ََزكَّى َو َن َّف َع ْت ُه ِّ
الذك َْرى ». َ ِ
43
فليلة هذا شأهنا يعظمها ربنا،و يفخم أمرها ،ويشوقنا إىل فضلها،
وكأنه يبني لنا أننا مهام علمنا شي ًئا من فضلها ،ففضلها أعظم من ذلك،
فتشتاق النفوس إليها ،وتشمر عن ساعد اجلد يف طلبها وحتصيلها،
فيا قوم أال خاطب يف هذا الشهر إىل الرمحن؟ أال راغب فيام أعده
اهلل للطائعني يف اجلنان؟
َف ْل َيدَ ْع َعنْ ُه الت
َّــــــوان من ي ِرد م ْل َك الجِْ نـــ ِ
َـان
َ َ ْ ُ ْ ُ
ُور ا ْل ُقــــر ِ
ان َ ـــل إِلىَ ن ِ
ِ َو ْل ُي ِق ْم فيِ ُظ ْل َم ِة ال َّل ْيــــ
ْـش َف ِ إِ َّن َه َذا ا ْل َعيـ َ ِ
ـــان َو ْل َيص ْل َص ْو ًما بِ َص ْ
ــو ٍم
ِ
َـــــان ـ َّل ِه فيِ َد ِار الأَْمـ إِ َّنماَ ا ْل َع ْي ُش ِج َ
ــو ُار ا ْلــ
44
ف�ضل ليلة القدر املده�ش للعقول
_______________
( )1أبو العباس شهاب الدين أمحد بن إدريس بن عبد الرمحن املالكي الشهري بالقرايف (املتوىف سنة
684هـ) الذخرية ( .)548 -5
45
الف�ضل املده�ش للعقول واملحفز للنفو�س
لإدراك ليلة القدر
قال -تعاىلَ ( :-لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َخي ِمن َأ ْل ِ
ف َش ْه ٍر). رْ ُ ْ ْ
1000شهر = 83سنة و 4أشهر
هذه الليلة العظيمة خري من ألف شهر ،خري من 83سنة و 4أشهر.
ساعات معدودة خري من كل هذه السنوات ،وال نعلم فضلها حقيقة،
إنام نعلم أهنا أفضل من ألف شهر ،وقد ال يقصد باأللف عدد معني ،بل
هو جاري عادة العرب إذ تذكر األلف يف غاية األشياء للتكثري ،فيقصد
َّاس َعلىَ ٰ َح َي ٰو ٍة
َجدَ هَّنُ ْم َأ ْح َر َص الن ِ (و َلت ِ
به :الدهر كله ،كام قال –تعاىلَ :-
ف َسن ٍَة َو َما ُه َو بِ ُمز َْح ِز ِح ِه
شكُوا َي َو ُّد َأ َحدُ ُه ْم َل ْو ُي َع َّم ُر َأ ْل َ َو ِم َن ا َّل ِذ َ َ
ين أ رْ َ
ون)( ، )1فيكون فضل ليلة القدر اب َأن ُي َع َّم َر َواللهَُّ َب ِص ُري بِ اَم َي ْع َم ُل َِم َن ا ْل َع َذ ِ
خري من الدهر كله ،وهذا فضل عظيم ومنة من اهلل كبرية ،ففضل الكريم
يدُّ بِ َحدٍّ ،وال ُي َق َّيدُ بِ َق ْي ٍد ،ففضله واسع وعطاؤه غري ممنون.
املنان ال حُ َ
وهذا تشويق عظيم ترشئب له النفوس األبية ،وتعمل عىل حتصيله،
وهي واهلل صفقة رابحة ،وفرصة العمر ،التي ال تعوض وال تقدر بثمن،
_______________
( )1البقرة.96 :
46
فليلة واحدة خري من ألف شهر ،يعني :أفضل من عباده 83سنة وأربعة
قائم ليايل العرش ملدة 10سنوات،
اشهر كلها عبادة ال فتور فيها ،فلو قام ٌ
فسيحصل هذا القائم -بإذن ربه وفضله -عىل ثواب وأجر أفضل من
عرشة آالف شهر ،وهي تزيد عىل 830سنة ،وكأنه ُع ِّم َر أكثر من 830
سنة يف عبادة ربه .أي فضل هذا؟! فيا خيبة املحروم!.
خريا من
ومن قام هذه الليلة 20سنة ،يكسب من الثواب واألجر ً
20ألف شهر يف عبادة اهلل ،أي ما يزيد عىل 1660سنة! هل فكرت هبذا
الفضل؟وكأن عمرك امتد حتى بلغت أكثر من 1660سنة كلها يف عبادة
ربك ،نسأل اهلل من فضله.
خري من ألف شهرَ ،وقد قال بدر الدين العيني « :ليلة ا ْلقدر ٌ
()1
_______________
( )1أبو حممد حممود بن أمحد بن موسى بن أمحد بن حسني الغيتايب احلنفي بدر الدين العيني
(املتوىف سنة 855هـ).
( )2عمدة القاري رشح صحيح البخاري (.)50 -4
47
ما املقصود باخلريية يف قوله –تعاىل( :-خري من ألف شهر)؟
قال الطربي« :وأشبه األقوال يف ذلك بظاهر التنزيل قول من قال:
عمل يف ليلة ال َقدْ ر خري من عمل ألف شهر ،ليس فيها ليلة ال َقدْ ر .وأما
معان باطلة ،ال داللة عليها من خرب وال عقل، ٍ فدعاوى األقوال األخر،
َ
وال هي موجودة يف التنزيل» (. )1
قال القرايف« :ومعنَى َقوله َ -تعالىَ ( : -خ ِمن َأ ْل ِ
ف َش ْه ٍر) َأ َّن ا ْل َع َم َل َيرْ ٌ ْ َ ْ َ َْ
الر ْك َع ُة فِ َيها خَيرْ ً ا ِم ْن ثَلاَ ثِ َ
ني ف َش ْه ٍر َف َت ُك ُ
ون َّ
فِيها خ ِمن ا ْلعم ِل فيِ َأ ْل ِ
َ َيرْ ٌ َ َ َ
ف َر ْك َع ٍة َوك ََذلِ َك َس ِائ ُر َأن َْوا ِع ا ْلبرِ ِّ » (. )2
َأ ْل َ
وقوله -رمحه اهلل« :-الركعة خري من ثالثني ألف ركعة» ذلك ألن
خري من ألف شهر ،ولو رضبنا 30يف
الشهر ثالثون يو ًما ،وليلة القدر ٌ
1000لكان الناتج 30أل ًفا ،فلو صىل ركعة يف ليلة القدر ،وحسبنا مثلها
يف ألف شهر ،لكانت ثالثني ألف ركعة ،ثم قال -رمحه اهلل« :-كذلك
سائر أنواع الرب» ،فعىل قوله هذا ،فمن تصدق بريال يف ليلة القدر خري
من ثالثني ألف ريال ،وهكذا مجيع أعامل الرب.
_______________
( )1تفسري الطربي (.)534 -24
( )2الذخرية( .)548 -5
48
قال األلويس(« : )1وخرييتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند
األكثرين عىل معنى أن العبادة فيها خري من العبادة يف ألف شهر ،وال
يعلم مقدار خرييتها منها إال هو -سبحانه وتعاىل ،-وهذا تفضل منه
–تعاىل ،-وله -عز وجل -أن خيص ما شاء بام شاء ،ورب عمل قليل
خري من عمل كثري»(. )2
ف َش ْه ٍر) بَينََّ َف ْض َل َها قال القرطبي(َ (« :)3لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
َيرْ ٌ ْ ْ
ُون بِ َك ْث َر ٍة َما َي َق ُع فِ ِيه ِم َن ا ْل َف َض ِائ ِل .وَفيِ الزم ِ
ان إِ َّنماَ َتك ُ ِ
َوع َظ َم َهاَ .و َفضي َل ُة َّ َ
ِ
ف َش ْه ٍرَ .واللهَُّ تِ ْل َك ال َّلي َل ِة ي َقسم ا ا ْلكَثِري ا َّل ِذي لاَ يوجدُ ِم ْث ُله فيِ َأ ْل ِ
ُ ُ َ ُ ْ ُ َّ ُ لخَْيرُْ
سينَ :أ ِي ا ْلعم ُل فِيها خ ِمن ا ْلعم ِل فيِ َأ ْل ِ ِ ِ
ف َ َيرْ ٌ َ َ َ ََ َأ ْع َل ُمَ .و َق َال كَث ٌري م َن المُْ َف رِّ ِ َ
ف َشه ٍر َليس فِيها َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر .و َق َال َأبو ا ْلعالِي ِةَ :لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
َيرْ ٌ ْ ُ َ َ ْ َ ْ ْ َ َ ْ
ُون فِ ِيه َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر»(. )4
َش ْه ٍر لاَ َتك ُ
قال شيخنا -رمحه اهلل« : -قال -تعاىل« : -ليلة القدر خري من ألف
شهر» أي :من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر ،واملراد باخلريية هنا :ثواب
العمل فيها ،وما ينزل اهلل -تعاىل -فيه من اخلري والربكة عىل هذه األمة».
_______________
شهاب الدين حممود بن عبد اهلل احلسيني األلويس (املتوىف1270 :هـ). ()1
روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين(.)415 -15 ()2
تفسري القرطبي ( .)131 -20 ()3
تفسري جزء عم (ص 270و .)271 ()4
49
هل يشمل فضل ليلة القدر يومها؟
قال بعض العلامء« :الفضل يشمل يومها» ،وعىل هذا قالوا:
«يستحب أن جيتهد يف يومها كاجتهاده يف ليلتها».
قال الشعبيَ « :ي ْو ُم َها َك َل ْي َلتِ َهاَ ،و َل ْي َلت َُها َك َي ْو ِم َها» (. )1
وبه قال الشافعي ،قال النووي يف األذكار« :قال الشافعي -رمحه
أستحب أن يكون اجتها ُده يف يومها كاجتهاده يف ليلتها ،هذا
ّ اهلل: -
نصه»(. )2
ّ
قال النيسابوري(« : )3هذه الليلة هل تضاف إىل يومها الذي بعدها؟
الث َل ٍ
يال َس ِو ًّيا) [مريم]10 : قال الشعبي :نعم يومها كليلتها؛ لقولهَ ( :ث َ
ويف موضعَ ( ،ثال َث َة َأ َّيا ٍم) [آل عمران ]41 :وهلذا لو نذر أن يعتكف
ليلتني ألزمناه يومهام »(. )4
وال دليل يسعف هذا القول وال أثر ،فليلة القدر فضلها خاص
بالليل وال يلحق به يومها وما ذكره النيسابوري يف النذر ال يقاس عىل
ليلة القدر ،فهي ليلة ال تقارن يف أحكامها وفضلها بباقي الليايل ،وقد
_______________
مصنف ابن أيب شيبة (.)8693 ()1
األذكار ( ص .)191 ()2
نظام الدين احلسن بن حممد بن حسني القمي النيسابوري (املتوىف سنة 850هـ). ()3
غرائب القرآن ورغائب الفرقان(.)536-6 ()4
50
نصا يف كتاب اهلل أن فضلها يف الليل خاصة ،وال يشمل يومها ،
جاء ًّ
فقوله –تعاىل( :-سالم هي حتى مطلع الفجر) حيدد هناية ليلة القدر،
خاصا بالليل فقط.
فال حجة هلم فيام ذهبوا إليه ،فيبقى الفضل ًّ
ه�ل فض�ل ليلة الق�در خاص بأم�ة نبين�ا حممد -صلى اهلل عليه
وسلم-؟
اختلف العلامء يف ذلك عىل قولني:
القول األول :أن فضلها خاص هبذه األمة .وهذا قول مجاهري
العلامء.
واستدلوا عىل ذلك بام ذكره َمالِ ٌك يف املوطأ َأ َّن ُه َس ِم َع َم ْن َيثِ ُق بِ ِه
ول اللهَِّ -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمُ -أ ِر َي َأ ْعماَ َر ول« :إِ َّن َر ُس َ ِم ْن َأ ْه ِل ا ْل ِع ْل ِم َي ُق ُ
اص َأ ْعماَ َر ُأ َّمتِ ِه َأ ْن لاَ َي ْب ُل ُغوا ِ ِ
َّاس َق ْب َل ُه َأ ْو َما َشا َء اللهَُّ م ْن َذل َكَ ،ف َك َأ َّن ُه َت َق رََ
الن ِ
ِم َن ا ْل َعم ِل ِم ْث َل ا َّل ِذي َب َل َغ غ ُهم فيِ ُط ِ
ول ا ْل ُع ُم ِرَ ،ف َأ ْع َطا ُه اللهَُّ َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر َيرُْ ْ َ
ف َش ْه ٍر » خ ِمن َأ ْل ِ
َيرْ ٌ ْ
وه ا ْل ِع ْل ِم َأ َّن َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر ْلمَ
قال احلافظ ابن عبد الرب(« : )1وفِ ِيه ِمن وج ِ
ْ ُ ُ َ
_______________
( )1أبو عمر يوسف بن عبد اهلل بن حممد بن عبد الرب بن عاصم النمري القرطبي (املتوىف سنة
463هـ).
51
ُي ْع َط َها إِلاَّ حُم َ َّمدٌ َو ُأ َّم ُت ُه -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم. )1(»-
قال النوويَ « :ل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر مخُ ْت ََّص ًة بهَِ ِذ ِه الأُْ َّم ِة ،وَلمَ ْ َت ُك ْن لمَِ ْن َق ْب َل َهاُ ،ه َو
اه ُري ا ْل ُعلَماَ ِءَ ،و َق َال الص ِحيح المَْ ْشهور ا َّل ِذي َق َطع بِ ِه َأصحابنَا ُك ُّلهم وَجمََ ِ
ُ ْ ْ َ ُ َ ُ ُ َّ ُ
َت َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر لِ أُْ
ل َم ِم َّاس َه ْل كَان ْ ف الن ُ ب ا ْل ُعدَّ ِة ِم ْن َأ ْص َحابِنَاْ :
اخ َت َل َ َصاح ُ
ِ
السالِ َف ِة؟ َق َالَ :والأَْ َص ُّح َأنهََّا لمَ ْ َت ُك ْن إلاَّ لهَِ ِذ ِه الأُْ َّم ِة»(. )2
َّ
والقول الثاين :إهنا كانت قبلنا يف األمم السابقة ،كام هي يف أمتنا،
قال بذلك ابن كثري( ، )3واستدل بحديث أيب ذر ،ملا سأل النبي -صىل اهلل
ول اللهََِّ ،أ ْخبرِ ْ نيِ َع ْن َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر،
عليه وسلم -قال أبو ذرُ « :ق ْل ُتَ :يا َر ُس َ
ان»ُ .ق ْل ُتَ :ت ُك ُ
ون ان ِه َي َأ ْو فيِ غَيرْ ِ ِه؟ َق َالَ « :ب ْل ِه َي فيِ َر َم َض َ أَفيِ َر َم َض َ
اء َما كَانُواَ ،فإِ َذا ُقبِ ُضوا ُرفِ َع ْت؟ َأ ْم ِه َي إِلىَ َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة؟ َق َال: مع الأَْنْبِي ِ
َ َ َ
ِ « َب ْل ِه َي إِلىَ َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة»ُ .ق ْل ُت :فيِ َأ ِّي َر َم َض َ
ان ِه َي؟ َق َال« :ا ْلتَم ُس َ
وها فيِ
ا ْلعَشرْ ِ الأُْو ِل ،وا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ
اخ ِر»(. )4 َ َ َ
ومال إىل هذا القول احلافظ ابن حجر ،وقال« :إن القول بأهنا خاصة
_______________
( )1االستذكار (.)417 -3
( )2املجموع رشح املهذب ( .)448 -6
( )3أبو الفداء إسامعيل بن عمر بن كثري القريش البرصي ثم الدمشقي (املتوىف سنة 774هـ) .تفسري
القرآن العظيم (.)446 -8
( )4أخرجه اإلمام أمحد يف املسند رقم( )21499والنسائي يف السنن الكربى ( .)3413
52
هبذه األمة معرتض بحديث أيب ذر» ،وقال عن أثر مالك الذي رواه
بال ًغا «إنه يحَ ت َِم ُل الت َّْأ ِو َيل ،فَلاَ يدْ َفع ال َّت ِ يح فيِ ح ِد ِ
يث أَبيِ َذ ٍّر»(،)1 َ َ ُ صرْ َ ْ
وتعقب السيوطي( )2احلافظ ابن حجر بأن حديث أيب ذر أيضا حمتمل
حل ِديث َأ ْي ًضا يقبل الت َّْأ ِويلَ ،و ُه َو َأن ُم َراده
«و َأ ُقول َه َذا ا َ
التأويل ،فقالَ :
ِ
ثم ترفع بعد ختتَص بِ َزمن النَّبِي -صىل اهلل َع َل ْيه َوسلمَّ - الس َؤالَ :هل ْ
ُّ
َموته؟ ل َق ِرينَة ُم َقاب َلته َذلِك بقوله« :أم ِه َي إِلىَ َي ْوم ا ْل ِق َيا َمة؟» فَلاَ يكون
ارضة ألثر المُْ َو َّطأَ ،وقد ورد َما يعضدهَ ،ف ِفي َف َو ِائد أيب َطالب فِ ِيه ُم َع َ
ِ
طها من ك َ
َان المُْ َزكي من َحديث أنس َأن اهلل وهب ألمتي َل ْي َلة ا ْلقدر َومل ُي ْع َ
قبلهم»(.)3
واألقرب أهنا خاصة هبذه األمة ،فال ُيعلم هذا الفضل العظيم ألي
أمة من األمم السابقة ،وهذا فضل من اهلل ومنة ،فهي أفضل األمم ونبيها
-صىل اهلل عليه وسلم -أفضل األنبياء ،فلله احلمد واملنة.
ما رس التخصيص بألف شهر؟
يع الدَّ ْه ِر؛ لأَِ َّن ا ْل َع َر َب ت َْذك ُُر الأَْ ْل َِ ِ ِِ ِ
ف ق َيلَ « :أ َرا َد بِ َق ْولهَ « :أ ْلف َش ْه ٍر» جمَ َ
(و َلت ِ ِ ِ ِ ِ
َجدَ نهَُّ ْم فيِ كَث ٍري م َن الأَْ ْش َياء عَلىَ َط ِر ِيق المُْ َبا َل َغة .كام يف قوله –تعاىلَ :-
_______________
( )1فتح الباري (.)263 -4
( )2عبد الرمحن بن أيب بكر ،جالل الدين السيوطي (املتوىف سنة 911هـ).
( )3تنوير احلوالك رشح موطأ مالك(.)237-1
53
فَّاس عَلىَ ٰ َح َي ٰو ٍة َو ِم َن ا َّل ِذي َن أَشرَْ ُكوا َي َو ُّد َأ َحدُ ُه ْم َل ْو ُي َع َّم ُر َأ ْل َ
ص الن ِ َأ ْح َر َ
اب َأن ُي َع َّم َر َواللهَُّ َب ِص ُري بِماَ َي ْع َم ُل َ
ون) َسن ٍَة َو َما ُه َو بِ ُم َز ْح ِز ِح ِه ِم َن ا ْل َع َذ ِ
(البقرة.)96 :
قال القاسمي :ولك أن تقف يف التفضيل عند النص ،وتفوض
األمر يف حتديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر إىل اهلل –تعاىل-؛ فهو
الذي يعلم سبب ذلك ومل يبينه لنا ،ولك أن جتري الكالم عىل عادهتم
يف التخاطب .وذلك يف الكتاب كثري .ومنه االستفهام الواقع يف هذه
راك ما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) فإنه جار عىل عادهتم يف اخلطاب .وإال
(وما َأ ْد َ
السور َ
فالعليم اخلبري ال يقع منه أن يستفهم عن يشء! فيكون التحديد باأللف
ال مفهوم له ،بل الغرض منه التكثري .وإن أقل عدد تفضله هو ألف
شهر .ثم إن درجات فضلها عىل هذا العدد غري حمصورة »(. )1
ف َش ْه ٍر) ُي َرا ُد بِ ِه َح ِقي َق ُة ا ْل َعدَ ِد ،وعىل هذا اهر َأ َّن ( َأ ْل ِ ِ
وقيل« :ال َّظ ُ
قيل :السبب يف ختصيصه بألف شهر ما ذكره َمالِ ٌك يف املوطأَ ،أ َّن ُه َس ِم َع
ول اللهَِّ -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم- ول :إِ َّن َر ُس ََم ْن َيثِ ُق بِ ِه ِم ْن َأ ْه ِل ا ْل ِع ْل ِم َي ُق ُ
اص َأ ْعماَ َر ُأ َّمتِ ِه ِ ِ ُأ ِر َي َأ ْعماَ َر الن ِ
َّاس َق ْب َل ُه َأ ْو َما َشا َء اللهَُّ م ْن َذل َكَ ،ف َك َأ َّن ُه َت َق رََ
َأ ْن لاَ َي ْب ُل ُغوا ِم َن ا ْل َعم ِل ِم ْث َل ا َّل ِذي َب َل َغ غ ُهم فيِ ُط ِ
ول ا ْل ُع ُم ِرَ ،ف َأ ْع َطا ُه اللهَُّ َيرُْ ْ َ
_______________
( )1حماسن التأويل (.)517 -9
54
َلي َل َة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
ف َش ْه ٍر »(. )1 َيرْ ٌ ْ ْ
يث ُي ْر َوى قال احلافظ ابن عبد الرب يف التمهيد(« : )2لاَ َأ ْع َل ُم َه َذا الحَْ ِد َ
وه وَلاَ َأ ْع ِر ُف ُه فيِ غَيرْ ِ المُْ َو َّطأِ ُم ْرسَلاً وَلاَ ُم ْسنَدً ا
مسنَدً ا ِمن وج ٍه ِمن ا ْلوج ِ
َ ُ ُ ْ َ ْ ُ ْ
ب َو َف َض ِائ ٌل ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َو َه َذا َأ َحدُ الأَْ َحاديث ا َّلتي ا ْن َف َر َد بهَِا َمال ٌك َو َلكن ََّها َر َغائ ٌ
َو َل ْي َس ْت َأ ْحكَا ًما وَلاَ َبنَى َع َل ْي َها فيِ ِكتَابِ ِه وَلاَ فيِ ُم َو َّط ِئ ِه ُح ْكماً »(. )3
وقيل يف رس التخصيص« :أن العابد كان فيام مىض ال يسمى عابدً ا
حتى يعبد اهلل ألف شهر ،وذلك ثالث وثامنون سنة وأربعة أشهر،
خريا من عبادة ألف شهر
فجعل اهلل –سبحانه -ألمة حممد عبادة ليلة ً
كانوا يعبدوهنا »(. )4
وقيل السبب يف التخصيص« :ما رواه عطاء عن ابن عباس أن النبي
-صىل اهلل عليه وسلم -ذكر له رجل من بني إرسائيل محل السالح عىل
عاتقه يف سبيل اهلل ألف شهر ،فعجب رسول اهلل -صىل اهلل عليه وسلم-
_______________
( )1املوطأ رقم( .)889
( )2التمهيد (.)373 – 24
( )3فائدة :قال احلافظ ابن عبد الرب يف االستذكار« :لاَ َأ ْع َل ُم َه َذا الحَْ ِد َ
يث ُي ْر َوى ُم ْسنَدً ا وَلاَ ُم ْرسَلاً
ُوجدُ فيِ غَيرْ ِ المُْ َو َّطأِ َأ َحدُ َها ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
م ْن َو ْجه م َن ا ْل ُو ُجوه إِلاَّ َما فيِ المُْ َو َّطأ َو ُه َو َأ َحدُ الأَْ ْر َب َعة الأَْ َحاديث ا َّلتي لاَ ت َ
ِ
الرابِ ُع َه َذا
َّاس ُم َعا َذ ْب َن جبل َو َّ إِنيِّ لأََن َْسى َ -أ ْو ُأن ََّسى َوال َّثانيِ إِ َذا ن ََش َأ ْت َب ْح ِر َّي ٌة َوال َّثالِ ُث َح ِّس ْن ُخ ُل َق َك لِلن ِ
يث ُمنْك ٌَر وَلاَ َما َيدْ َف ُع ُه َأ ْص ٌل ». َو َل ْي َس ِمن َْها َح ِد ٌ
( )4تفسري القرطبي (.)131 -20
55
لذلك ،ومتنى أن يكون ذلك يف أمته ،فأعطاه اهلل ليلة القدر ،وقال :هي
خري من ألف شهر التي محل فيها االرسائييل السالح يف سبيل اهلل »(. )1
وعن جماهد نفس قصة اإلرسائييل ،لكن مجع بني اجلهاد وقيام
الليل ،قال جماهد« :كان يف بني إرسائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح،
العدو بالنهار حتى ُي ْمسيَِ ،ففعل ذلك ألف شهر ،فأنزل اهلل ّ ثم جياهد
هذه اآليةَ ( :لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
ف َش ْه ٍر) قيام تلك الليلة خري من عمل َيرْ ٌ ْ ْ
ذلك الرجل »(. )2
وقيل يف رس التخصيص« :إن َر ُسول اللهَِّ -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم-
ني َعا ًما ،لمَ ْ َي ْع َص ْو ُه َط ْر َف َة ذكر َي ْو ًما َأ ْر َب َع ًة ِم ْن َبنِي إِسرَْ ِائ َيل َع َبدُ وا اللهََّ ثَماَ نِ َ
ون َق َال: وشع بن ُن ٍ
وز َو ُي َ َ ْ َ وب َو َز َك ِر َّيا َو ِح ْز ِق َيل ْب َن ا ْل َع ُج ِ عَينْ ٍ َف َذ َك َر َأ ُّي َ
ول اللهَِّ -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمِ -م ْن َذلِ َك َف َأتَا ُه اب رس ِ
ب َأ ْص َح ُ َ ُ َف َع ِج َ
ِ
ني َسنَ ًة لمَ ْ ِجبرْ ِ ُيل َف َق َالَ :يا حُم َ َّمدُ َع ِج َب ْت ُأ َّمت َُك ِم ْن ِع َبا َد ِة َه ُؤالء النَّ َف ِر ثَماَ نِ َ
َي ْع َص ْو ُه َط ْر َف َة عَينْ ٍ َ ،ف َقدْ َأن َْز َل اللهَُّ خَيرْ ً ا ِم ْن َذلِ َكَ .ف َق َر َأ َع َل ْي ِه( :إِنَّا َأن َْز ْلنَا ُه
اك ما َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ ِ
ف َش ْه ٍر) َه َذا َيرْ ٌ ْ ْ فيِ َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِر َو َما َأ ْد َر َ َ ْ
ول اللهَِّ -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه س بِ َذلِ َك َر ُس ُ َأ ْف َض ُل ممِ َّا َع ِج ْب َت َأن َ
ْت َو ُأ َّمت َُكَ .ف رُ َّ
_______________
( )1الوسيط يف تفسري القرآن املجيد للواحدي(.)537-4
( )2تفسري الطربي (.)533-24
56
َو َس َّل َمَ -والن ُ
َّاس َم َع ُه »(. )1
الوراق« :كان ملك سليامن
وقيل يف رس التخصيص ما ذكره أبو بكر ّ
مخسامئة شهر ،وملك ذي القرنني مخسامئة شهر ،فيحتمل أن يكون معنى
اآليةَ :ل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خَيرْ ٌ ملن أدركها مما ملكه سليامن وذو القرنني -عليهام
السالم. » -
وقيل« :ألف شهر ،مدة ملك بني أمية » ملا أخرجه الرتمذي(. )2
عن يوسف بن مازن الراسبي قال « :قام رجل إىل احلسن بن عيل
سودت وجوه املؤمنني ،عمدت إىل هذا الرجل فبايعته -يعني
فقالّ :
معاوية ،-فقال« :ال تؤنّبني -رمحك اهلل -فإن رسول اهلل -صىل اهلل عليه
وسلم -قد أري بني أم ّية خيطبون عىل منربه رجلاً رجلاً ،فساءه ذلك،
ناك ا ْلك َْو َث َر) ونزلت( :إِنَّا َأن َْز ْلنا ُه فيِ َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر* َوما فنزلت( :إِنَّا َأ ْع َط ْي َ
ف َش ْه ٍر) متلكه بنو أم ّية ». راك ما َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر* َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ
َيرْ ٌ ْ ْ َأ ْد َ ْ
«اللهم فحسبنا ملك بني أم ّية فإذا هو ألف شهر ال
ّ قال القاسم:
يزيد وال ينقص».
يث عَلىَ ك ُِّل َت ْق ِد ٍير ُمنْك ٌَر ِجدًّ ا»،
وهذا ال يصح ،قال ابن كثري« :الحَْ ِد ُ
_______________
( )1تفسري ابن كثري(.)443-8
( )2سنن الرتمذي (.)3350
57
«ه َو َح ِد ٌ
يث ُمنْك ٌَر»(.)1 َق َال َشي ُخنَا الإْ ِ مام ا افِ ُظ ا ج ُة َأبو ا ج ِ ِ
اج المْ ِّز ُّيُ : َ ُ لحَْ لحُْ َّ ُ لحَْ َّ ْ
والظاهر أن هذا الفضل العظيم ،أهنا خري من ألف شهر ،هو منة
وهبة من اهلل تفضل هبا عىل هذه األمة ،وال يلزم أن يكون هلا سبب ،فهو
حمض من الكريم املنان ،خاصة أن ما ذكره العلامء من أسباب فيها ٌ
فضل ٌ
ضعف ،واهلل يتفضل عىل من يشاء من عباده نسأل اهلل من واسع فضله
وبره وإحسانه.
ِّ
_______________
( )1تفسري ابن كثري(.)442 -8
58
انَ ،و ُه َو َو ْحدَ ُه ُع ُم ٌر َط ِو ٌيل لمَِ ْن َرا َم اآلن يف َر َم َض َ ِع َبا َد اهللِ :إِ َّنك ُْم َ
لف َش ْه ٍرَ ،ق َال اهلل – احد ًة خ ا ِمن َأ ِ ال َّثواب اجل ِز َيلَ ،فإِ َّن فيِ َليالِي ِه َلي َل ًة و ِ
َيرْ ً َ ْ ْ َ َ َ َ
ِ
الصِ فاجت َِهدُ وا رَحمَِكُم اهللُ بِ ْ
إخ تعاىلَ ( :-ل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خَيرْ ٌ ِّم ْن َأ ْلف َش ْه ٍر) ْ
االبتهال إِلىَ ِذي
ِ ِ
االستغفار َو اد ُروا بِالت َّْو َب ِة ِو األَ ْع ِل هللِ -ج َّل و َعال -وب ِ
ََ َ َ ماَ
اإلكرا ِم.اجلالل َو ِِ
_______________
( )1الرتمذي (.)2403
59
يا أيـُّــهــــا ال َع ْبدُ ُق ْم للِهَِّ مجُ ْت ِ
َـــهــد ًا
ِ ِ
َوانهَْ ْض كَام نهََ َض ْت م ْن َق ْبل َك ُّ
الس َعدَ ا
الر َضا َوا َف ْت َو َأن َ ِ
ْــت عَل َهذي َلياليِ ِّ
يح مُصرِ ًّ ا َما َج َل ْو َت َصـــدَ ا
فِ ْع ِل ال َقبِ ِ
وس بِـهـَــــا ِ
ُق ْم َفا ْغتَن ْم َل ْي َل ًة تحَ ْ َيا النُّ ُف ُ
ـم َيـ ُك ْن يف َف ْض ِل َها َأ َبدَ ا ِ
َوم ْث ُلـهـَــــا َل ْ
ُطوبـَــى لمَِ ْن َم َّر ًة فيِ ال ُع ْم ِر َأ ْد َركَـهـَـا
َـال ِمـنْـهـــا الـذي يب ِغ ِ
يه مجُ ْت َِهدَ ا َونـ َ
َْ َ
ـــال َخالِ ُقنَاَف َليـْـلـَــ ُة ال َقــدْ ِر خَيرْ ٌ َق َ
ف َش ْه ٍر َهنِي ًئا َم ْن لهََا َشــــهـِدَ ا ِمن َأ ْل ِ
ْ
واملالئ ُك ِم ْن
ِ وح فِـيــها الر ُ َو َينـ ِ
ْــز ُل ُّ
ــن ال ن ُْحصيِ لهَُم عَــدَ َدا ِعنـْـدَ ا ُمل َه ْي ِم ِ
ـد ُحــظِــي فِيــها َف َو َّف َق ُه
يــا َفو َز َعب ٍ
ْ ْ
َـاش ِع َ
يش َة ُّ
الس َعـدَ ا رَبيِّ َق ُبـــوالً َفعــ َ
وفـ ََاز بــِاألَم ِن وال ُغ َفر ِ
ان ُمـ ْغـتَـبِطــًا ْ َ َ َ
تي ِم ْن َر ِّب ِه َأ َبـــــدَ ا
َــال مـَـــا َير جَ ِ
ْ َون َ
60
اطــلـــب ِمن اهلل ْ
إن َوا َف ْيت ََها َس َح ًـرا ْ
ِ ٍ ِ
َجنـَّــات عَدْ ن َت ُك ْن م ْن جمُ ْ َلة ُّ
الس َعدا
َرضع فيِ الدُّ َجى َأ َس ًفا ِ
ونح َوت ْ َوابــك ْ
عَلىَ كَبـَائـ َِر ال تـ ُْحصــِي َلـهـَا عَدَ َدا
ـت الصــالة عىل ا ُمل ْخت ِ
َار َما َط ُل َع ْ ُث َّ
ــم َّ
ار فيِ ال َفال َو َحـدَ ا ـس َو َما َس َار َس ٍ َش ْم ٌ
ال َّل ُه َّم َو ِّف ْقنَا لمَِا َو َّف ْق َت إليه ال َق ْوم ،و َأ ْي ِق ْظنَا من ِسنة ال َغ ْف َل ِة والنَّوم،
ِ
وعاملنَا وارز ْقنَا االستعدا َد لِ َذلِ َك ال َي ْو ِم الذي َي ْر َب ُح فيه ا ُمل َّت ُق َ
ون ،ال َّل ُه َّم
باد َك الذي َن ال بإحسانِ َك ،وجدْ علينا بِ َف ْض ِل َك وامتِنانِ َك ،واجعلنا من ِع ِ
ْ َ ُ ْ َ
َخ ٌ
وف عليهم وال ُه ْم يحَ ْ َزنُون(.)1
_______________
( )1موارد الظمآن لدروس الزمان ،للسلامن(.)437 -1
61
ليلة نزول املالئكة ومعهم جربيل -عليه ال�سالم-
وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر هِّبِم ِّمن ك ُِّل َأ ْم ٍر). قال –تعاىلَ ( :-تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة َو ُّ
الر ُ
«إن اإلنسان يأيت بالطاعات واخلريات
عند حضور األكابر من العلامء والزهاد
أحسن مما يكون يف اخللوة،
فاهلل –تعاىل -أنزل املالئكة املقربني
حتى أن املكلف يعلم أنه إنام يأيت بالطاعات
يف حضور أولئك العلامء العباد الزهاد
فيكون أتم وعن النقصان أبعد»
فخر الدين الرازي(. )1
_______________
( )1أبو عبد اهلل حممد بن عمر بن احلسن بن احلسني التيمي الرازي امللقب بفخر الدين الرازي خطيب
الري (املتوىف سنة 606هـ) مفاتيح الغيب ( ،)233 -32وال ينُصح عامة الناس ،بمطالعة تفسريه؛
فهو من املتكلمني األشاعرة وعليه بعض املآخذ خاصة يف املعتقد.
62
امل�شهد العظيم ملن كان له قلب
نزول املالئكة وجربيل ليلة القدر
وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر هِّبِم ِّمن ك ُِّل َأ ْم ٍر). قال –تعاىلَ ( :-تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة َو ُّ
الر ُ
من خصائص هذه الليلة العظيمة نزول املالئكة ومعهم جربيل ،فهو
عظيم ملن كان له قلب ،واهلل لو تأمل العبد هذا املشهد ،وأن
ٌ واهلل مشهدٌ
خص هذه الليلة هبذا النزول ،واستشعر فقط نزوهلم هبذه الكثرة التي
اهلل َّ
يتنزلون بالرمحة والربكة واخلري ،ملا توانى يف
ال حيصيهم إال رهبم ،وأهنم ّ
إعطاء هذه الليلة حقها ،وقد يصيب العبد فيها من بركاهتم وخرياهتم و
ويرمها ،فيخرس خسارة
يسعد إىل األبد ،وقد ال حيصل منها عىل يشء حُ
ال تعوض ،فهلاَّ ختيلت املشهد! منذ غروب الشمس إىل طلوع الفجر
ونزول املالئكة ال ينقطع ،و كلام كان اجلمع أعظم ،كان نزول الرمحة
هناك أكثر ،وهذا النزول ي ِ
شعر املؤمن بعظمة هذه الليلة ،ولو استشعر ُ
من يف قلبه أدنى إيامن هذا النزول لنهض من سباته ،وخشع قلبه ،وذرفت
ٍ
معتاد للمالئكة؛ خاصة أن معهم الروح عينه ،فاألرض تشهد نزولاً غري
األمني جربيل -عليه السالم.-
قوله تعاىلَ ( :تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة) أي تنزل املالئكة من السامء إىل األرض،
63
وهذا النزول كله خري ،مع أن املالئكة قد تنزل بالعذاب ،ولكن يف هذه
َنزل المَْلاَ ِئك َِة فيِ َه ِذ ِه ال َّل ْي َل ِة
الليلة ما تنزل إال باخلري .قال ابن كثريَ « :ي ْك ُث ُر ت ُ
ونالرحمَْ ِة ،كَماَ َي َتن ََّز ُل َ ِ ِ لِ َك ْث َر ِة َب َركَتِ َهاَ ،والمَْلاَ ِئ َك ُة َي َتن ََّز ُل َ
ون َم َع َتن َُّزل ا ْلبرََ كَة َو َّ
ب ون َأ ْجنِ َحت َُه ْم لِ َطالِ ِ الذك ِْرَ ،و َي َض ُع َ ون ِ
بح َلق ِّ وَيي ُط َ آن حُ ِ ِعنْدَ تِلاَ و ِة ا ْل ُقر ِ
ْ َ
ا ْل ِع ْل ِم بِ ِصدْ ٍق َت ْعظِيماً له»(. )1
قال شيخنا :حممد بن عثيمني -رمحه اهلل« : -نزول املالئكة يف
األرض ،عنوان عىل الرمحة واخلري والربكة ،وهلذا إذا امتنعت املالئكة
من دخول يشء كان ذلك دليلاً عىل أن هذا املكان التي امتنعت املالئكة
من دخوله قد خيلو من اخلري والربكة»( ، )2فهي تنزل ألجل الربكة،
وهذه اللفظة ( َتن ََّز ُل ) تفيد أهنا تنزل مرة تلو املرة ،حتى تنزل إىل األرض
مجيعها ،وال يلزم خلو السموات منها ،فهي تنزل عىل أفواج وأشكال،
علل البعض أن األرض ال حتتملهم من كثرهتم ،وجياب عن هذا بأن
أيضا :إهنا
أجسام املالئكة لطيفة؛ فال يقاس عليها أجسام البرش ،ويقال ً
(تنزل) فهي
وفوج صاعدٌ ،وهذا يفيده لفظ َّ
ٌ فوج ٌ
نازل تنزل عىل أفواجٌ ،
ٍ
دفعات كام يف احلج ،فاحلجاج عىل كثرهتم كلهم يطوفون حول تنزل عىل
ٍ
أفواج ،فوج داخل و فوج خارج ،وألجل كثرة املالئكة يمتد الكعبة عىل
_______________
( )444 -8( )1ابن كثري.
( )2تفسري جز عم (ص .) 271
64
هذا النزول إىل الفجر.
«صنف من (الروح) الصحيح :إنه جربيل -عليه السالم .-وقيلِ :
املالئكةُ ،ج ِعلوا حف َظة عىل سائرهم ،وأن املالئكة ال يروهنم ،كام ال نرى
نحن املالئكة » .وقيل« :هم أرشف املالئكة وأقرهبم من اهلل -تعاىل.» -
وقيل« :إهنم جند من جند اهلل -عز وجل -من غري املالئكة » .وقيل:
أيد وأرجل؛ وليسوا «هم ِصنف من خلق اهلل يأكلون الطعام ،وهلم ٍ
مالئكة» .وقيل« :خلق عظيم يقوم ص ًّفا ،واملالئكة كلهم ص ًّفا» .وقيل:
«الروح هي الرمحة ينزل هبا جربيل -عليه السالم -مع املالئكة يف هذه
الليلة عىل أهلها»،
قوله -تعاىل( :-بإذن رهبم) :أي بأمر رهبم ،وهذا اإلذن :اإلذن
الكوين ال الرشعي( ، )1ومعنى (بِإِ ْذ ِن رَبهِّ ِم) :أن هذا التنزل كرامة أكرم
اللـه هبا املسلمني بأن أنزل لـهم يف تلك الليلة مجاعات من مالئكته،
وفيهم أرشفهم ،وكأن نزول جربيل يف تلك الليلة ليعود عليها من
_______________
( )1قال شيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل ( : -بإذن رهبم أي :بأمره ،واملراد به اإلذن الكوين ،ألن إذن
اهلل أي أمره ينقسم إىل قسمني :إذن كوين ،وإذن رشعي ،فقوله –تعاىل :-رشعوا هلم من الدين ما مل
قدرا ،فقد رشع من دون اهلل لكنه
يأذن به اهلل [الشورى ]21:أي :ما مل يأذن به رش ًعا؛ ألنه قد أذن به ً
ليس بإذن اهلل الرشعي ،وإذن قدري كام يف هذه اآلية :بإذن رهبم أي :بأمره القدري(.تفسري جزء عم
ص .)271
65
الفضل مثل الذي حصل يف مماثلتها األوىل ،ليلة نزولـه بالوحي يف غار
ِحراء. )1().
قوله –تعاىل( :-من كل أمر) أي من ّ
كل أمر قضاه اهلل يف تلك السنة،
من رزق وأجل وغري ذلك .وهذا قول قتادة( ، )2وهو الصواب.
_______________
( )1التحرير والتنوير البن عاشور (.)463 -30
( )2تفسري الطربي ( .)534-24
66
إن امللوك والسادات ال حيبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينون
دارهم بالفرش والبسط ،ويزينوا عبيدهم بالثياب واألسلحة ،فإذا كان
ليلة القدر أمر الرب -تبارك وتعاىل -املالئكة بالنزول إىل األرض؛ ألن
العباد زينوا أنفسهم بالطاعات ،بالصوم والصالة يف ليايل رمضان،
ومساجدهم بالقناديل واملصابيح ،فيقول الرب –تعاىل : -أنتم طعنتم
يف بني آدم و قلتم( :أجتعل فيها من يفسد فيها) اآلية فقلت لكم( :إين
أعلم ما ال تعلمون) اذهبوا إليهم يف هذه الليلة حتى تروهم قائمني
ساجدين راكعني ،لتعلموا أين اخرتهتم عىل علم عىل العاملني(.)1
_______________
( )1لطائف املعارف(ص.)192
67
ليلة ال�سالم
_______________
( )1تفسري الطربي (.)534 -24
68
ليلة ال�سالم
(سال ٌم ِه َي َحتَّى َم ْط َل ِع ا ْل َف ْج ِر).
قال –تعاىلَ :-
ليلة القدر :هي ليلة اخلري كله ال رش فيها ،وهذا من خصائص هذه
الليلة العظيمة أهنا سالم حتى مطلع الفجر ،فام ظنك بليلة خيربنا ربنا
عنها أهنا سالم من الرش ما فيها إال اخلري من بدايتها إىل هنايتها؟ أفال
تستحق هذه الليلة اجلد واالجتهاد؟ فال نامت أعني الكساىل!
قوله( :سالم هي) هنا السالم ُمنَك ٌَّر للتعظيم و قدَّ مه وهو اخلرب،
وأخر املبتدأ ،مما يفيد احلرصَ ،أ ْي َما ِه َي إِلاَّ سَلاَ ٌم ، .وكأهنا بيان ملا سبق
يف قوله( :من كل أمر) أي أن يف هذه الليلة ما حيدث إال كل أمر سالم،
ألن املالئكة قد تنزل بالعذاب ،لكن يف هذه الليلة األمر خمتلف ،هي
نازلة بكل خري ،وهذا اخلري والسالم خاص بأهل اإلسالم من القائمني
الصائمني الطالبني لليلة القدر ،وهذه كالبشارة هلم من رهبم ،تبعث
اهلمة يف نفوسهم عىل القيام واجلد واملثابرة يف حتصيل فضل هذه الليلة .
ما املقصود بالسالم؟
الرش كلـه من ّأولـها إىل طلوع
قال الطربي« :سالم ليلة القدر من ّ
الفجر من ليلتها» وهذا الصواب يف معنى السالم ،فام فيها إال اخلري،
فينزل فيها من اخلري و الربكة والسعادة ما اهلل به عليم ،فال يكون فيها
69
رش ،بل كلها خري ،من غفران الذنوب ،ويعطى العبد فيها عظيم الثواب،
وإجابة الدعاء ،وكل خري من الدنيا واآلخرة.
قوله( :حتى مطلع الفجر) أي :يمتد هذا اخلري من بداية الليلة من
مغيب الشمس إىل طلوع الفجر ،ومن هنا تعلم أن ليلة القدر تشمل مجيع
الليل ،ال كام يظنه البعض أهنا خاص يف وقت القيام أو الثلث األخري ،بل
فضلها يشمل كل أجزاء الليل ،فهي خري من ألف شهر من حني مغيب
الشمس إىل مطلع الفجر ،فإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر( )1وقيل:
«إن وقت ليلة القدر يمتد حتى تشمل صالة الفجر» ،قال ابن عاشور:
(حتَّى) ِ
إلدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر متتد بعد مطلع «وجيء بحرف َ
الفجر ،بحيث أن صالة الفجر تعترب واقعة يف تلك الليلة ،لئال يتوهم أن
الفطر بآخر جزء من الليل ،وهذا توسعة من اهلل يف امتداد هنايتها كنهاية ِ
الليلة إىل ما بعد طلوع الفجر».
ويستفاد من غاية َتن َُّز ِل املالئكة فيها ،أن تلك غاية الليلة ،وغاية
خريا من ألف شهر ،وغاية
ملا فيها من األعامل الصاحلة التابعة؛ لكوهنا ً
السالم فيها)(. )2
_______________
( )1تفسري جزء عم لشيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل( -ص.)272
( )2ابن عاشور التحرير والتنوير(.)466 – 30
70
ِ ِ
ابَ ،و ُي َق َّر ُب ف َيها األَ ْح َب ُ
ابَ ،و ُي ْس َم ُع َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َل ْي َل ٌة ُي ْفت َُح ف َ
يها ا ْل َب ُ
يم األَ ْج ِر (سالم هي حتى الخْ ِ َطاب ،ويرد ا واب ،ويسنَى لِ ْلع ِام ِل َ ِ
ني َعظ ُ َ ُ َ ُ َ ُّ لجَْ َ ُ َ ُ ْ
مطلع الفجر) .
71
اد ِه ُك ُّل َم ْن َجدَّ وَسرََ ىَ ،و ُي َف ُّك فِ َيها ا ْل َعانيِ َو ُت ْط َل ُق األَسرَْ ى،
وي ِص ُل إِلىَ مر ِ
َُ ََ
ْ َت َقدَّ َم ا ْل َق ْو ُم وأنت راجع إىل وراء ،أو ليس ك ُُّل َه َذا َقدْ َج َرى َوك ََأ َّن ُه لمَ
ي ِر؟! (سالم هي حتى مطلع الفجر)(. )1
جَ ْ
_______________
( )1التبرصة البن اجلوزي(.)104 -2
72
ليلة املغفرة
النبي -صىل اللـه عليه وس ّلم- عن ِّ -ريض اللـ ُه عنهِ -
َ عن أيب هرير َة
قال« :من قام ليل َة ال َقدْ ِر إِيامنًا واحتِسابا ُغ ِفر لـه ما َت َّقدم ِمن َذن ِ
ْبه» متفق َ ْ ً َ ُ َ َ
عليه.
(ليلة القدر) الليلة التي يقومها القائمون ،فإذا أصبحوا غفرت
ذنوهبم فرجعوا كيوم ولدهتم أمهاهتم».
الشيخ حممد املختار الشنقيطي(. )1
ُـــــر ُّد
َ ُر َّب دا ٍع ال يـ يا رجال الليل ِجدُّ وا
َمــ ْن لــه َع ْز ٌم َو ِجدٌّ مـــا يقـوم َ
الليل إال
_______________
( )1الشيخ حممد املختار الشنقيطي عضو هيئة كبار العلامء باململكة العربية السعودية ،وما نقلته عن
الشيخ هو ضمن أسئلة عن االعتكاف وليلة القدر ،مفرغ من األرشطة املوجودة يف املوقع االلكرتوين
(صيد الفوائد) عىل الرابط التايل:
http://www.saaid.net/mktarat/ramadan/143.html
73
ليلة املغفرة
النبي -صىل اللـه عليه وس ّلم- عن ِّ -ريض اللـ ُه عنهِ -
َ عن أيب هرير َة
قال« :من قام ليل َة ال َقدْ ِر إِيامنًا واحتِسابا ُغ ِفر لـه ما َت َّقدم ِمن َذن ِ
ْبه » ،متفق َ ْ ً َ ُ َ َ
عليه( . )1زاد أمحد يف املسند «وما تأخر»(. )2
من قام هذه الليلة إيامنًا واحتسا ًبا جاد اهلل عليه بفضل عظيم ومنة
كربى ،أال وهي مغفرة ذنبه وخطاياه ،وهذه الفضيلة العظيمة من أعظم
املنن ،واحلاجة إليها ماسة؛ فمغفرة الذنوب غاية العباد ،وهي رشف
تتشوق إليه النفوس املؤمنة ،فإذا قام العبد ليلة القدر إيامنًا واحتسا ًبا
رش ما صنع يف ماضيه ،فيقف العبد شاخمًا بعدها بثياب
يغفر له مواله َّ
بيضاء نقية ،ويبدأ صفحة جديدة من حياته ،فيستقبل أيامه وما بقي من
حياته يف عز الطاعة ،و حيفظه ربه بمنِّه وكرمه من ذل املعصية إىل أن
يلقاه ،فأي رشف بعد هذا الرشف؟!
_______________
( )1البخاري( )1901مسلم (.)760
( )2املسند (.)22386
74
هل البد من قيام كل الليل بال�صالة
حتى نح�صل على مغفرة الذنوب؟
ال يشرتط حلصول الفضل من مغفرة الذنوب قيام الليل كله ،بل
حيصل بقيام بعض الليل ،فلو صىل العبد يف املسجد مع اإلمام حتى
ينرصف فهذا يطلق عليه أنه قام الليل ،وحيصل عىل هذا الفضل العظيم
بإذن اهلل ،وكذا النساء يف البيوت تقوم بعض الليل ،فهي داخلة يف
احلديث( :من قام ليلة القدر) ،وقال بعض العلامء :إن ظاهر احلديث
يفيد قيام كل الليل أو أغلبه .نقول هذا الظاهر غري مراد؛ ملا أخرجه
اإلمام مسلم من حديث عائشة -ريض اهلل عنها -أهنا قالتَ « :ما َر َأ ْي ُت
ِ
ول اهللِ -صَلىَّ اهللُ َع َل ْيه َو َس َّل َمَ -قا َم َل ْي َل ًة َحتَّى َّ
الص َب ِ
اح »(. )1 َر ُس َ
_______________
( )1صحيح مسلم ( .)746
75
وسلم -إذا دخل العرش شدّ مئزره ،وأحيا ليله ،وأيقظ أهله» ويف رواية:
«أحيا الليل ،وأيقظ أهله ،وجد ،وشد املئزر »(. )1
وقوهلا« :أحيا ليله» ال يتعارض مع قوهلاَ َ « :ما َر َأ ْي ُت َر ُس َ
ول اهللِ
ِ
اح» ،بل جيمع بينهام، -صَلىَّ اهللُ َع َل ْيه َو َس َّل َمَ -قا َم َل ْي َل ًة َحتَّى َّ
الص َب ِ
مقصورا
ً خاصة أن عائشة هي الراوية هلام ،يقال بأن إحياء الليل ليس
عىل الصالة فقط ،بل يشمل الصالة والذكر وقراءة القران ،وغريها من
الطاعات فطالب ليلة القدر مشغول ليس عنده وقت يضيعه يف تلك
ذاكرا ملواله، الليلة العظيمة ،فال جتده إال قائماً يصيل أو مع كتاب ربه ،أو ً
ال بني ما حيبه اهلل ويرضاه. وباجلملة ال جتده إال متنق ً
ان ِق َيا ُم جمَ ِي ِع َل ْي ِل ِه،
قال زين الدين العراقيَ « :ل ْي َس المُْ َرا ُد بِ ِق َيا ِم َر َم َض َ
ب ْل يحَ ص ُل َذلِ َك بِ ِقيا ٍم ي ِس ٍري ِمن ال َّلي ِل ،ك فيِ م ْط َل ِق ال َّتهج ِد وبِص ِ
الة َ ُّ َ َ ُ ْ ْ َماَ َ َ َ ْ ُ
الترََّ ِاو ِ
يح »(. )2
ويف حديث عائشة السابق فائدة يف وصف حال نبينا -صىل اهلل عليه
منهجا نبو ًّيا يف العمل يف هذه الليلة مع
ً سلم -يف ليايل العرش ،ويعطينا
النفس و األهل.
_______________
( )1البخاري( )2024ومسلم ( .)1174
( )2طرح التثريب يف رشح التقريب ( )164-4وهذا الكتاب لزين الدين العراقي ومل يكمله
وأكمله ابنه ويل الدين العراقي.
76
وبوب البخاري عىل هذا احلديث ،فقال[ :باب العمل يف العرش
َّ
األواخر من رمضان].
فقوهلا« :كان رسول اهلل – صىل اهلل عليه وسلم -إذا دخل العرش
شدّ مئزره ،وأحيا ليله ،وأيقظ أهله » ويف رواية« :أحيا الليل ،وأيقظ
أهله ،وجد ،وشد املئزر».
قوهلا« :شد مئزره »كناية عن اجلد واالجتهاد ،يوضحه الرواية
األخرى والتي فيها «جد وشد املئزر».
وقيل :املقصود اعتزال النساء ،وقد يشمل املعنيني ،خاصة أن النبي
-صىل اهلل عليه و سلم -كان يعتكف العرش ،ومن البدهيي أال يأيت
النساء.
وقوهلا« :أيقظ أهله » فيه معنى مجيل ،فلم يقترص النبي -صىل اهلل
عليه وسلم -عىل نفسه وأخذ احلزم معها يف هذه الليايل العرش ،بل تتبع
أفراد األرسة كلهم حيثهم عىل العمل واجلد واالجتهاد يف ليايل العرش،
بل ال جيعل أحدً ا ممن يطيق القيام إال أقامه إلحياء هذه الليايل بطاعة اهلل.
أخرج الرتمذي( )1من حديث زينب بنت أم سلمة ،قالت« :مل يكن النبي
_______________
( )1الرتمذي (.)795
77
-صىل اهلل عليه وسلم -إذا بقي من رمضان عرشة أيام يدع أحدً ا من
أهله يطيق القيام إال أقامه».
وت ََأ َّم ْل قوهلا -ريض اهلل عنها« :-أحيا ليله» يستفاد منه أن الوقت إن
مل تشغله بطاعة اهلل هو ميت ال حياة فيه ،وال يصري ح ًّيا حتى تقضيه يف
طاعة اهلل.
78
من �شرط غفران الذنوب �أن يكون القيام �إميا ًنا واحت�سا ًبا
فما املراد بالإميان واالحت�ساب؟
املراد باإليامن :هو أن تقوم هذه الليلة مؤمنًا باهلل مصد ًقا بوعده،
وبأهنا ح ًّقا من عنده ،وقربة إليه ،وفضيلة وطاعة ،مؤمنًا بأن اهلل قد أعطى
الثواب العظيم ملن يقومها ،فمن قام كام يقوم الناس ال يدري وال يوقن
بفضل اهلل العظيم يف هذه الليلة فهذا مل يؤ ِّد الرشط حقه ،فتصديقك
بوعد اهلل بأن هناك ثوا ًبا عظيماً عىل قيامك هذه الليلة هو الذي يصل بك
إىل املراتب العالية ،فمن شك يف فضل اهلل العظيم فهذا أساء الظن بربه
وحرم فضله.
واملراد باالحتساب :هو ابتغاء وجه اهلل بقيام هذه الليلة ،وتنقية
العمل من الشوائب املنافية لإلخالص ،فاالحتساب طلب األجر من
اهلل وحده ،ال لغرض الرياء أو يشء آخر غري اهلل ،فيحتسب األجر من
اهلل ،فنفس املحتسب راغبة يف الثواب ،طيبة نفسه وهو قائم بالعبادة،
مهام لقي يف من نصب وتعب فتجده يف قيامه منرشح الصدر غري مستثقل
يمل وال ُّ
يكل ،يتمنى لو أن وقته كله قيام ،جيد األنس لطول القيام ،ال ُّ
والراحة يف قيامه.
79
هل ت�شمل مغفرة الذنوب الكبائر وال�صغائر؟
ظاهر قوله -صىل اهلل عليه وسلم« : -غفر له ما تقدم من ذنبه» يشمل
مجيع الذنوب ،فكلمة (ذنبه) اسم جنس مضاف ،فيتناول مجيع الذنوب،
وإىل هذا ذهب ابن املنذر ،قال -رمحه اهلل« :-هذا قول عام يرجى ملن
قامها إيامنًا واحتسا ًبا أن تغفر له مجيع ذنوبه صغريها وكبريها»(. )1
الص َغ ِائ َر ِ ِ ِ
قال العراقيُ (« :غف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم م ْن َذنْبِه) َظاه ُر ُه َتن ُ
َاو ُل ُه َّ
َوا ْل َك َب ِائ َرَ ،وإِلىَ َذلِ َك َجن ََح ا ْب ُن المُْن ِْذ ِر»(.)2
ِ ِ ِ
قال القاريُ (« :غف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم م ْن َذنْبِه) َ :زا َد أَحمَْدُ َ :
(و َما ت ََأ َّخ َر)،
ان ا ْل َك َب ِائ ِر»(.)3
الص َغ ِائ ِرَ ،و ُي ْر َجى ُغ ْف َر ُ ِ
َأ ْي :م َن َّ
قال الشيخ حممد الشنقيطي -حفظه اهلل« : -من قام ليلة القدر إيامنًا
واحتسا ًبا» :إيامنًا باهلل ،واحتسا ًبا للثواب عند اهلل -تعاىل ، -حيتسب
األجر واملثوبة عند اهلل -تعاىل « . -غفر له ما تقدم من ذنبه « :وظاهر
احلديث صغائر الذنوب وكبائرها ،حاشا حقوق الناس ،هذه ال ُت ْغ َفر إال
_______________
( )1ابن املنذر كتاب اإلرشاف عىل مذاهب العلامء.
( )2طرح التثريب (.)162 -4
( )3مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح( )966-3وذكر ذلك عىل حديث الصيام ونفس املعنى يف
قيام ليلة القدر.
80
بمساحمة صاحب احلق ،وهذا يدل عىل عظم فضلها ،فيجتهد اإلنسان يف
قيامها»(. )1
واملشهور من مذهب اجلمهور أن املغفرة تشمل الصغائر فقط ،أما
الكبائر فتحتاج إىل توبة خاصة هبا.
قال النووي« :قولـه -صىل اللـه عليه وس ّلم« :-غفر لـه ما تقدم من
ذنبه» املعروف عند الفقهاء أن هذا خمتص بغفران الصغائر دون الكبائر،
قال بعضهم :وجيوز أن خيفف من الكبائر ما مل يصادف صغرية»(. )2
وال بن القيم( )3تفصيل مجيل يف األعامل املكفرة وهو األقرب
عندي ،يقول -رمحه اهلل« : -وهذه األعامل املكفرة هلا ثالث درجات،
أحدها :أن تقرص عن تكفري الصغائر لضعفها وضعف اإلخالص فيها
والقيام بحقوقها بمنزلة الدواء للضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء
كمية وكيفية ،الثانية :أن تقاوم الصغائر وال ترتقي إىل تكفري يشء من
الكبائر ،الثالثة :أن تقوى عىل تكفري الصغائر وتبقى فيها قوة تكفر هبا
بعض الكبائر ،فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكاالت كثرية»(. )4
_______________
موقع صيد الفوائد كام تقدم يف الصفحة السابقة. ()1
املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج(.)40-6 ()2
حممد بن أيب بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم اجلوزية (املتوىف سنة 751هـ). ()3
اجلواب الكايف ص .125 ()4
81
وصدق -رمحه اهلل ،-فمن تأمله زالت عنه إشكاالت كثرية ،فالناس
يتفاوتون يف أداء هذه املكفرات من صالة وصيام وقيام لليلة القدر ،فال
يمكن أن يقوم مجيع الناس بدرجة واحدة ،فعىل حسب ما يف قلب العبد
من االيامن واالحتساب يكون التكفري.
فعىل هذا التفصيل فقيام ليلة القدر قد يكفر مجيع الذنوب الصغائر
والكبائر إذا قامها العبد صاد ًقا وقد حقق اإليامن واالحتساب فيها ،
وفضل اهلل واسع -نسأل اهلل من فضله -وظاهر هذه املغفرة أهنا تشمل
حتى حق العباد ،لكن جاء النص بأن حقوق العباد ال بد من رضا
صاحب احلق ،فتبقى املغفرة خاصة بحق اهلل لكن من قام هذه الليلة
وحصل فضلها فقد يوفق ويعان عىل قضاء حق اخللق ،فاهلل
َّ وقام بح ِّقها
كريم شكور جيازي عبده وييرس أمره مع خلقه.
82
مغفرة ما ت�أخر من الذنب
أخرج اإلمام أمحد يف املسند عن عبادة بن الصامت أن رسول اهلل
-صىل اهلل عليه وس ّلم -قال« :ليلة القدر يف العرش البواقي ،من قامهن
ابتغاء حسبتهن فإن اهلل -تبارك وتعاىل -يغفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر»(. )1
احتِ َسا ًبا ُث َّم ُو ِّف َق ْت َل ُه ِ
أيضاَ « :ف َم ْن َقا َم َها ا ْبت َغا َء َها إيماَ نًا َو ْ وعند أمحد ً
ُغ ِف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذنْبِ ِه َو َما ت ََأ َّخ َر»(. )2
أصل احلديث يف الصحيحني« :كام تقدم» ،من غري زيادة «وما تأخر»
وعند اإلمام أمحد زيادة «ما تأخر» أي يغفر ملن قام ليلة القدر ذنبه املتقدم
واملتأخر ،وهذا فضل عظيم تفيده رواية أمحد يف املسند ،وهذه الرواية
أثبتها مجع من العلامء واحتجوا هبا كاحلافظ ابن حجر أثبت صحتها ورد
عىل من قال بضعفها كام هو مفصل يف كتابه (معرفـة اخلصـال املكفـرة
_______________
( )1أخرجه أمحد يف املسند ( ،)22386واملقديس يف األحاديث املختارة رقم( ،)342وقال
اهليثمي يف جممع الزوائد عند حديث رقم ( َ :) 5041ر َوا ُه أَحمَْدُ َ ،و ِر َجا ُل ُه ثِ َق ٌ
ات .و حسنه املنذري
حديث رقم ( ،) 1472وأخرجه النسائي يف السنن الكربى عن أيب هريرة رقم(.)2523
( )2املسند(.) 22713
83
للذنـوب املقـدمة واملؤخـرة)( ، )1وقال بعض العلامء« :إهنا شاذة» وقال
بعضهم« :كل حديث ورد فيه (وما تأخر) غري صحيح؛ ألن هذا من
خصائص النبي -صىل اهلل عليه وسلم »-وجياب عن هذا بأن يقال :
خصه اهلل لنبيه
«إن هذا الفضل احلاصل بقيام ليلة القدر ال يشابه ما َّ
-صىل اهلل عليه سلم -من مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،وذلك ألن
هذا الفضل مرتتب عىل القيام بعمل وهو قيام ليلة القدر ،وقد يقبل وقد
ال يقبل ،وال بد فيه من اإليامن واالحتساب وإال ال حيصل هذا الفضل،
فالعبد حيتاج إىل جهد وعمل وإخالص وصدق حتى حيصل عىل هذه
املغفرة ،ثم بعد هذا ال يمكن أن نجزم ألحد هبذا الفضل ،بخالف النبي
-صىل اهلل عليه سلم -فإننا نجزم له هبذا»
«و َما
قريب من هذا كام جاء عند البخاريَ : ٌ وقد حصل ألهل بدر
لعل اهلل قد اطلع عىل أهل بدر َف َق َال « :ا ْع َم ُلوا َما ِش ْئتُم قد غفرت
يدْ ريك ّ
لكم»(. )2
_______________
( )1انظر كتاب احلافظ ابن حجر معرفة اخلصال املكفرة الصفحات (من 53إىل ، )62وذكرهذه
الزيادة (وما تأخر) واستشهد هبا مجع من العلامء كابن اجلوزي يف التبرصة ،وابن رجب يف لطائف
أيضا اهليثمي واحلاكم واملنذري وويل الدين العراقي يف كتاب رشح الصدر بذكر ليلة
املعارف ،وأثبتها ً
القدر(ص ،)28والشيخ ابن باز انظر ( جمموع الفتاوى.)398 - 6
( )2البخاري (.)3007
84
وهذا الفضل واملغفرة من بركة هذه الليلة العظيمة ،وظاهر هذه
الرواية مغفرة الذنوب املتأخرة الدهر كله إىل املامت ،وال ُيستَبعد هذا؛
يدُّ بحدٍّ ،لكن ال حيصل عىل هذا الفضل كل قائم
ففضل اهلل واسع ال حُ َ
هلذه الليلة ،بل برشط اإليامن واالحتساب ،فبحسب ما يقع يف القلب
من االيامن واالحتساب تكون املغفرة.
85
كيف تكفر الذنوب املت�أخرة؟
عىل الزيادة الواردة عند أمحد أشكل عىل البعض كيف تكفر الذنوب
املتأخرة؟
فقيل يف ذلك« :إن الذنوب تقع مغفورة ،أو إن اهلل حيفظهم من
كبائر الذنوب».
ُوب َحتَّى ال َي َق ُع فِ َيها، الذن ِ قال العراقي« :إ َّما َأ ْن ُي َرا َد بهَِا ا ْل ِع ْص َم ُة ِم ْن ُّ
ِ ِ ِ
ُون المُْ َك ِّف ُر ُم َت َقدِّ ًما عَلىَ المُْ َك َّف ِر
يهاَ ،و َيك َُوإِ َّما َأ ْن ُي َرا َد بِه َتكْف ُري َها َو َل ْو َو َق َع ف َ
َواَللهَُّ َأ ْع َل ُم»(.)1
قال احلافظ ابن حجر« :وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن
املغفرة تستدعي سبق يشء يغفر واملتأخر من الذنوب مل يأت فكيف
يغفر؟ واجلواب عن ذلك يأيت يف قولـه -صىل اللـه عليه وس ّلم -حكاية
وجل -أنه قال يف أهل بدر« :اعملوا ما شئتم فقد غفرت-عز َّ
عن اللـه َّ
لكم» وحمصل اجلواب أنه قيل :إنه كناية عن حفظهم من الكبائر ،فال
تقع منهم كبرية بعد ذلك ،وقيل :إن معناه أن ذنوهبم تقع مغفورة ،وهبذا
أجاب مجاعة منهم املاوردي يف الكالم عىل حديث صيام عرفة وأنه يكفر
سنتني سنة ماضية وسنة آتية»(. )2
_______________
( )1طرح التثريب يف رشح التقريب(.)164-4
( )2فتح الباري (.)252-4
86
يا ليلة القدر للعابدين اشهدي ،يا أقدام القانتني اركعي لربك
واسجدي ،يا ألسنة السائلني جدِّ ي يف املسألة واجتهدي.
ُـــــر ُّد
َ ُر َّب دا ٍع ال يـ يا رجال الليل ِجدُّ وا
َمــ ْن لــه َع ْز ٌم َو ِجدٌّ مـــا يقـوم َ
الليل إال
ليلة القدر عند املحبني ليلة احلظوة بأنس موالهم وقربه ،وإنام
يفرون من ليايل البعد واهلجر.
يا أقدام املتهجدين اسجدي لربك واركعي ،يا عيون املجتهدين ال
هتجعي ،يا ذنوب التائبني ال ترجعي ،يا أرض اهلوى ابلعي ماءك ويا
سامء النفوس أقلعي ،يا بروق العشاق للعشاق املعي ،يا خواطر العارفني
ارتعي ،يا مهم املحبني بغري اهلل ال تقنعي.
وأبصــروا احلق وقلبي قد عمـي يا نفس فاز الصاحلون بالتـقـــى
ونـــورهم يفوق نور األنــجــم يا حسنــهـــم والليل قد جنَّهـم
فعيــشــهـــم قد طاب بالرتنـم ترنمـــوا بالـــذكر فـي ليـــلهم
دمـوعهـم كــلـؤلؤ منـتــظـــم قلوبــهـــم للذكر قد تفرغـــت
87
وخـلــع الـغـفــران خري القسم أسـحــارهم هبم هلم قد أرشقت
ينـفـــع قبــل أن تزل قدمــــي ويـحك يا نـفـــس أال تـيـقــظ
فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
()1
مضــى الزمان يف توان وهـــوى
_______________
( )1لطائف املعارف ص( )191بترصف يسري.
88
�أمارات ليلة القدر
ول اهللِ -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمَ -ق َال: َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ
تَ ،أ َّن َر ُس َ َّ ْ َ َ ْ
«إن أمارة ليلة القدر أهنا صافية بلجة،
قمراساط ًعا،
كأن فيها ً
ساكنة ساجية،
ال برد فيها وال حر،
وال حيل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح»(. )1
_______________
( )1أخرجه أمحد يف املسند رقم (.)22386
89
العالمات التي تعرف بها ليلة القدر
العالمات التي تكون يف أثناء ليلة القدر:
أخرج اإلمام أمحد يف املسند( )1من حديث عبادة بن الصامت« :إن
قمرا ساط ًعا ،ساكنة ساجية،
أمارة ليلة القدر أهنا صافية بلجة ،كأن فيها ً
ال برد فيها وال حر ،وال حيل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح».
بلجة :أي مرشقة مضيئة.
رب ِد ِ
ساجية :قال يف لسان العرب :وليل ٌة ساجي ٌة :إذا كانت ساكنَة ال ْ
والسحاب غري ُم ّظ ِل َمة(.)2
يح َّوالر ِ
ِّ
قال ابن اجلوزي يف غريب احلديث(َ « : )3ق َال ا ْبن َع َّباسَ :ه َواء الجْ نَّة
يها وَلاَ قرَ .ومثله فيِ صفة َل ْي َلة ا ْلقدر َأنهََّاِ
َس ْج َسجَ ،أي :معتدل ،لاَ حر ف َ
ساجية».
_______________
( )1اإلمام أمحد يف املسند رقم ( )22386وقال اهليثمي :رجاله ثقات .قال احلافظ ابن عبد الرب
الش ِام ِّي َ
نيُ ،ر َوا ُت ُه يث َّيث َغ ِريب ،وهو ِمن ح ِد ِ
ْ َ ٌ َ يث َح َس ٌنَ ،ح ِد ٌ
«هذا َح ِد ٌ عن هذا احلديث بعد ما ذكرهَ :
ِ ِ ِ ِ ُك ُّلهم ثِ َق ٌ
ات وبق َّي ُة إِ َذا َروى َع ِن ال ِّث َقات َف َل ْي َس بِ َحديثه َب ْأ ٌس » .االستذكار (.)417 -3
( )2لسان العرب البن منظور (.)371-14
( )3غريب احلديث (.)461-1
90
فليلة القدر ليلة معتدلة ،ال قوية حر وال قوية برد( ، )1مرشقة مضيئة،
ال يرمى فيها بكوكب ،وقد ُي ْش ِكل عىل البعض إذا كان شهر رمضان يف
الصيف؛ فكل الليل حر ،وكذلك إذا كان يف الشتاء؛ فكل الليل برد،
نقول :هذه العالمة ال تعني ال حر و ال برد فيها إطال ًقا ،بل فيها احلر
إذا كانت يف الصيف ،لكن ليست قوية احلر ،هي أفضل اللياىل العرش
اعتدالاً ،فهي متوسطة يف احلر ،جو معتدل مالحظ يف اعتداله عن بقية
ليايل الصيف ،وكذلك إذا كانت يف الشتاء كل الليايل باردة ،جتد بردها
خفي ًفا غري شديد ،متوسطة بني بقية الليايل.
ومع ذلك فإن هذه العالمة ال يمكن ضبطها بشكل يقيني ،خاصة
مع وجود آالت التكيف يف الصيف -سواء يف املساجد أو البيوت أو
السيارات -وآالت التدفئة يف الشتاء ،فمن الصعب ضبط اجلو الطبيعي.
وكذا عالمة أهنا مضيئة ،ال يمكن ضبطها بشكل يقيني يف ظل قوة
اإلضاءة يف املدن ،فلربام تُالحظ اإلضاءة اخلاصة بليلة القدر خارج
حدود املدينة والعمران -يف الصحراء.-
وهناك بعض العالمات الثابتة يف أثناء هذه الليلة لكنها خاصة
بالسنة التي حصلت فيها يف عهد النبي -صىل اهلل عليه وسلم ،-وال
_______________
( )1الفتاوى الكربى لشيخ اإلسالم ابن تيمية (.)476-2
91
يمكن القول بأهنا عالمة تعرف هبا ليلة القدر يف كل زمان ،مثل كوهنا
ليلة مطر ،فهذه ال تعمم ،والواقع خيالفها ،فهي خاصة بذاك العام الذي
وقعت فيه يف عهد الرسول -صىل اهلل عليه وسلم.-
وكذا ما أخرجه االمام مسلمَ ،ع ْن أَبيِ ُه َر ْي َر َة -رَضيَِ اهللُ َعنْ ُهَ -ق َال:
ول اهللِ -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمَ -ف َق َالَ « :أ ُّيك ُْم
ت ََذاكَرنَا َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر ِعنْدَ رس ِ
َ ُ ْ
ني َط َل َع ا ْل َق َم ُرَ ،و ُه َو ِم ْث ُل ِش ِّق َج ْفن ٍَة؟»(. )1
َي ْذك ُُر ِح َ
وهذه العالمة خاصة بتلك السنة؛ ألن ليلة القدر تنتقل كل سنة،
وهذا احلديث قد يفيد أهنا يف العرش األواخر ؛ ألن القمر ال خيرج عىل
هيئة شق جفنة إال آخر الشهر ،وشق اجلفنة هي نصف اجلفنة ،واجلفنة:
قصعة الطعام(. )2
وهناك عالمات تذكر لكن ال تصح من سقوط األشجار يف تلك
الليلة إىل األرض ،ثم تعود إىل منابتها ،وأن كل يشء يسجد فيها .و
أن املياه املاحلة تعذب تلك الليلة .أو ال يسمع فيها نباح الكالب ،كل
هذا ال يصح ،إضافة إىل خمالفته للواقع املحسوس،
بقيت عالمة يذكرها العلامء ،منضبطة ملن وفق هلا وشعر هبا ،أال
_______________
( )1أخرجه مسلم؛ كتاب :الصيام ،باب :فضل ليلة القدر ،برقم (.)1170
( )2املنهاج – النووي.
92
وهي :طمأنينة القلب ،وانرشاح صدر املؤمن ،فإنه جيد راحة وطمأنينة،
وانرشاح صدر يف تلك الليلة ،أكثر مما جيده يف بقية الليايل( .)1مما يبعث
يف نفسه نشا ًطا غري معهود يف القيام ،مع لذة العبادة ،وهذا الشعور يف
القلب ال يتغري ،وهو حق؛ ألن هذه الليلة تنزل فيها املالئكة بكثرة،
ووجود املالئكة جيلب السكينة والطمأنينة ،خاصة ملن هو مشتغل يف
الطاعة ،نسأل اهلل من فضله.
ُس�ئل الش�يخ األلباين -رمحه اهلل : -كيف يعرف اإلنسان املسلم
أن�ه قد صادفت�ه ليلة القدر م�ع حتريه الليايل املذك�ورة عنه -صىل اهلل
عليه وسلم-؟
اجلواب:
ذلك أمر وجداين يشعر به كل من أنعم اهلل -تبارك وتعاىل -عليه
برؤية ليلة القدر؛ ألن اإلنسان يف هذه الليلة يكون مقب ً
ال عىل عبادة اهلل
-عز وجل ،-وعىل ذكره والصالة له ،فيتجىل اهلل -عز وجل -عىل
بعض عباده بشعور ليس يعتاده حتى الصاحلون ،ال يعتادونه يف سائر
أوقاهتم ،فهذا الشعور هو الذي يمكن االعتامد عليه؛ بأن صاحبه يرى
_______________
( )1الرشح املمتع (.)496 -6
93
ليلة القدر ،والسيدة عائشة -ريض اهلل عنها -قد سألت الرسول -عليه
الصالة والسالم -سؤالاً ينبئ عن إمكان شعور اإلنسان برؤيته لليلة
القدر ،حينام توجهت بسؤاهلا للنبي -عليه الصالة والسالم -بقوهلا« :يا
رسول اهلل! إذا أنا رأيت ليلة القدر ماذا أقول؟ » قال :قويل« :اللهم إنك
عفو حتب العفو فاعف عني» ففي هذا احلديث فائدتان :الفائدة األوىل:
شعورا ذات ًيا شخص ًّيا بمالقاته لليلة القدر.
ً أن املسلم يمكن أن يشعر
والفائدة الثانية :أنه إن شعر بذلك فخري ما يدعو به هو هذا الدعاء:
«اللهم إنك عفو حتب العفو فاعف عني»(. )1
_______________
( )1دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة اإلسالمية http://www.islamweb.net
94
معرفة ليلة القدر عن طريق الر�ؤيا
قد يرى املسلم رؤيا تفيد بأن ليلة القدر ليلة معينة ،أو تتواطأ رؤى
بعض املسلمني عىل حتديد ليلة القدر ،فيعمل هبا ألن الرؤيا ثابتة رش ًعا
ال إشكال فيها ،والرؤيا ال ُت ْثبِ ُت حكماً رشع ًيا جديدً ا ،إنام حتدد األمر
املرشوع مسب ًقا ،وهذا ال إشكال فيه ،وقد حصل هذا من الصحابة كام
ثبت من حديث ا ْبن ُع َمر-رَضيَِ اللهَُّ َعنْهُماَ َ :-أ َّن ِر َجالاً ِم ْن َأ ْص َح ِ
اب
اخ ِر، النَّبِي -صَلىَّ اهللُ َع َلي ِه وس َّلمُ ،-أروا َلي َل َة ال َقدْ ِر فيِ ا َملنَا ِم فيِ السب ِع األَو ِ
َ َّ ْ ْ َ َ َ ُ ْ ِّ
ول اللهَِّ -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمَ « :-أ َرى ُر ْؤ َياك ُْم َقدْ ت ََوا َط َأ ْت فيِ
َف َق َال َر ُس ُ
اخ ِر» متفق َان متَحرهيا َف ْليتَحرها فيِ السب ِع األَو ِ ِ
َ َّ ْ الس ْب ِع األَ َواخ ِرَ ،ف َم ْن ك َ ُ َ ِّ َ َ َ َّ َ َّ
عليه(. )1
علق املهلب عىل حديث ابن عمر -ريض اهلل عنهام -بقوله :فيه
احلكم عىل صحة الرؤيا بتواطئها وتكريرها ،وهذا أصل ىف ذلك جيب
لنا أن نحكم به إذا ترادفت الرؤى وتواطأت بالصحة؛ كام حكم النبي
-عليه السالم. )2(-
_______________
( )1البخاري 2015ومسلم رقم .1165
( )2رشح صحيح البخاري البن بطال(.)522-9
95
اء َو َأ ْه ِل الإْ ِ يماَ ِن، قال احلافظ ابن عبد الرب( :الرؤيا ِمن ع ُلو ِم الأَْنْبِي ِ
َ ُّ ْ َ ْ ُ
ِ ِ ِ
السلاَ ُمَ ،-و َما َجا َء ف َ -ع َل ْيه َّ وس َ َو َح ْس ُب َك بِماَ َأ ْخبرََ اللهَُّ م ْن َذل َك َع ْن ُي ُ
اح فِ َيها َع ِن النَّبِ ِّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمَ ،-وأَجمَْ َع َأ ِئ َّم ُة الص َح ِ ار ِّ فيِ الآْ َث ِ
السن َِّة ِ
ني َأ ْه ِل ُّ ني َو َم ْن َب ْعدَ ُه ْم ِم ْن ُعلَماَ ء المُْ ْس ِل ِم َ الص َحا َب ِة َوالتَّابِ ِع َ ِ
الهُْدَ ى م َن َّ
َوالجَْماَ َع ِة عَلىَ الإْ ِ يماَ ِن بهَِاَ ،وعَلىَ َأنهََّا ِحك َْم ٌة َبالِ َغ ٌةَ ،ونِ ْع َم ٌة َي ُم ُّن اللهَُّ بهَِا عَلىَ
اق َي ُة َب ْعدَ النَّبِ ِّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم.)1()- ات ا ْلب ِ ِ
َم ْن َي َشا ُءَ ،وه َي المُْبَشرَِّ ُ َ
قال ابن دقيق العيد عند رشحه حلديث ابن عمر السابق« :فِ ِيه َدلِ ٌيل
ودي ِ ِ الر ْؤ َياَ ،والاِ ْستِنَا ُد إ َل ْي َها فيِ الاِ ْستِدْ لاَ ِل عَلىَ ُأ ُم ِ ِ
ات، ور ا ْل ُو ُج َّ عَلىَ ع َظ ِم ُّ
اعدَ ا ْل ُك ِّل َّي َة ِم ْن غَيرْ ِ َها.ف ا ْل َقو ِ ِ
َوعَلىَ َما لاَ يخَُال ُ َ
والاِ ستِنَاد إلىَ الر ْؤيا ههنَا :فيِ َأم ٍر َثب َت ِ
ب است ْح َبا ُب ُه ُم ْط َل ًقاَ ،و ُه َو َط َل ُ ْ َ ْ ُّ َ َ ُ َ ْ ُ
ب المَْ َر ِائي الدَّ ا َّل ِة عَلىَ ك َْونا فيِاخ ُر لِ َس َب َِلي َل ِة ا ْل َقدْ ِر .وإِ َّن تُرجح السبع الأَْو ِ
َ ماَ َ َّ ُ َّ ْ ُ َ ْ
هَِ
اب شرَ ْ ِع ٌّي ودي ،إ َّنه ِ
است ْح َب ٌ
ِ
استدْ لاَ ٌل عَلىَ َأ ْم ٍر ُو ُج ٍّ ُ ْ
اخ ِر ،وهو ِ
َ ُ َ ْ
السب ِع الأَْو ِ
َ َّ ْ
اعدَ ِة َاف لِ ْل َق ِ
يد ،بِالنِّسب ِة إلىَ ه ِذ ِه ال َّلياليِ ،مع كَونِ ِه غ من ٍ
َ َ ْ َيرَْ ُ َ َ ْ َ
مخَ ْصوص بِالت َّْأ ِك ِ
ُ ٌ
ب َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر)(. )2 استِ ْح َب ِ
اب َط َل ِ ِ ِ ِ
ا ْل ُك ِّل َّية ال َّثابِتَة ،م ْن ْ
_______________
( )1التمهيد (.)49 -24
( )2إحكام األحكام (.)38 -2
96
�أ�صح العالمات الدالة على ليلة القدر
من العالمات الصحيحة الثابتة الدالة عىل ليلة القدر :أن الشمس
صبيحة ليلة القدر خترج مستوية ليس هلا شعاعَ ،
مثل القمر ليلة البدر،
ودليل هذه األمارة والعالمة ما أخرجه مسلم يف صحيحهَ ،ع ْن َع ْبدَ َة و
ب «س َأ ْل ُت أُبيََّ ْب َن َك ْع ٍولَ : ش َي ُق ُ ود َس ِم َعا ِز َّر ْب َن ُح َب ْي ٍاص ِم ب ِن أَبيِ النَّج ِ
ُ ْ
َع ِ
اك ابن مسع ٍ
ولَ :م ْن َي ُق ِم الحَْ ْو َل ود َي ُق ُ -رَضيَِ اللهُّ َعنْ ُهَ ،-ف ُق ْل ُت :إِ َّن َأ َخ َ ْ َ َ ْ ُ
اسَ ،أ َما إِ َّن ُه َقدْ َع ِل َم ِ ِ
ب َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِرَ .ف َق َال :رَحمَِ ُه اللهِّ َأ َرا َد َأ ْن الَ َي َّتك َل النَّ ُ
ُيص ْ
اخ ِرَ ،و َأنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َنُ ،ث َّم ان ،و َأنا فيِ ا ْلعَشرْ ِ األَو ِ
َ َأنهََّا َر َم َض َ َ هََّ
فيِ
ول َذلِ َك ف الَ َي ْس َت ْثنِيَ ،أنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َنَ .ف ُق ْل ُت :بِ َأ ِّي شيَ ْ ٍء َت ُق ُ َح َل َ
ول اللهِّ َأنهََّا َت ْط ُل ُع ال َم ِةَ ،أ ْو بِاآل َي ِة ا َّلتِي َأ ْخبرََ نَا َر ُس ُ
َيا َأ َبا المُْن ِْذ ِر؟ َق َال :بِا ْل َع َ
ٍِ
اع لهََا»(. )1َي ْو َمئذ ،الَ ُش َع َ
يف هذا احلديث عالمة تعرف هبا ليلة القدر أخرب هبا النبي -صىل
اهلل عليه وعىل آله وسلم -لكنها بعد انتهاء ليلة القدر ،وهي أن الشمس
ٍِ
َت ْط ُل ُع َي ْو َمئذ ،الَ ُش َع َ
اع لهََا وحتى نفهم هذه العالمة ال بد أن نعرف ما
هو الشعاع.
_______________
( )1مسلم (.) 2730
97
ُّ
«والشعاع -بضم الشني -قال أهل اللغة :هو ما ُيرى قال النووي:
من ضوئها عند بروزها مثل احلبال والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت
إليها ،قال صاحب املحكم بعد أن ذكر هذا املشهور :وقيل :هو الذي
تراه ممتدً ا بعد الطلوع ،قال :وقيل :هو انتشار ضوئها ،ومجعه ِ
أش َّعة
الشمس أي نرشت شعاعها».
ُ وش ُعع بضم الشني والعنيَ ،
وأش َّع ْت ُ
98
ملاذا تكون ال�شم�س ال �شعاع لها �صبيحة ليلة القدر؟
قيل :السبب يف ذلك كثرة صعود املالئكة يف صبيحتها ،فتسرت أشعة
الشمس بأجنحتها وأجسامها(. )1
و َت َع َّق َ
ب هذا القول عيل القاري بقوله« :األجسام اللطيفة ال تسرت
شي ًئا من األشياء الكثيفة ،نعم لو قيل :غلب نور تلك الليلة ضوء
الشمس ،مع بعد املسافة الزمانية مبالغة يف إظهار أنوارها الربانية لكان
نبيها»(. )2
وتنبيها ً
ً وجيها
ً وجها
ً
وقيل« :السبب يف ذلك أن الشيطان ال خيرج صبيحة تلك الليلة
مع الشمس » ،فكل يوم خترج الشمس بني قرين شيطان كام هو ثابت يف
الصحيحني( ، )3قالوا« :إال صبيحة ليلة القدر ،فال خيرج معها شيطان »،
وهذا هو السبب يف كوهنا بال شعاع ،ويدل عىل ذلك قول ابن عباس:
س ك َُّل َل ْي َل ٍة ،إِلاَّ َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِرَ ،و َذلِ َك َأنهََّا َت ْط ُل ُع
الش ْم ِ
ان َي ْط ُل ُع َم َع َّ «إِ َّن َّ
الش ْي َط َ
ٍِ
َي ْو َمئذ َب ْي َضا َء لاَ ُش َع َ
اع لهََا»(. )4
_______________
املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج( .)65 -8 ()1
مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح(.)1440 -4 ()2
البخاري رقم ( )3273ومسلم رقم (.)612 ()3
مصنف ابن أيب شيبة ( )8666والبيهقي يف فضائل األعامل رقم (.)104 ()4
99
تِ ْل َك ال َّل ْي َل ِة َت ْغ ِل ُب َها »(. )1 وقيل« :ك ََأ َّن َأن َْو َار الخْ لق فيِ
100
ألحس الناس هبا ،كلهم املسلم والكافر ،وألصبحت عالمة قطعية عىل
ليلة القدر ،وهذا خالف الواقع ،وخيالف األحاديث الصحيحة التي
أهبمت التعيني»(. )1
والقول إهنا عالمة اختصت هبا هذه الليلة هو األقرب عندي،
حيا ،أو عل ًة واضح ًة َب ِّينَ ًة ال
صحيحا رص ً
ً وغريه من األقوال حيتاج دليلاً
إشكال فيها.
_______________
( )1اجلامع ألحكام الصيام ملحمود بن عبد اللطيف بن حممود ( عويضة ) ص (.)290
101
ما الفائدة من معرفة هذه العالمة
وهي ال تعرف �إال بانق�ضاء الليلة؟
قال املال عىل القاري يف مرقاة املفاتيح « :قال ابن حجر :وفائدة
كون هذا عالمة مع أنه يوجد بعد انقضاء الليلة ،ألنه ُي َس ُّن إحياء يومها
كام ُي َس ُّن إحياء ليلها .اهـ .ويف قوله( :يسن إحياء يومها) نظر حيتاج إىل
أثر ،واألظهر أن فائدة العالمة أن يشكر عىل حصول تلك النعمة إن
قام بخدمة الليلة ،وإال فيتأسف عىل ما فاته من الكرامة ،ويتدارك يف
السنة اآلتية ،وإنام مل جيعل عالمة يف ّأول ليلها؛ إبقا ًء هلا عىل إهبامها واهلل
–سبحانه -أعلم»(. )1
قال شيخنا ابن عثيمني« :فإن قال قائل :ما الفائدة من العالمات
الالحقة؟ فاجلواب :استبشار املجتهد يف تلك الليلة وقوة إيامنه
وتصديقه ،وأنه يعظم رجاؤه فيام فعل يف تلك الليلة»(. )2
_______________
( )1مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح(.)1440-4
( )2الرشح املمتع (498 -6و.)499
102
هل الثواب والف�ضل اخلا�ص بليلة القدر
ال يناله �إال من علم بها و�شعر بها؟
قال بعض العلامء :ال بد من حصول الثواب أن يعلم هبا العبد
ويشعر هبا ،حتى وإن قامها ال حيصل الفضل إال بأن يدركها و يعلمه
اهلل إياها .قال هبذا النووي(- )1رمحه اهلل ،-واستدل عىل هذا بام وقع
عند مسلم من حديث أيب هريرة بلفظ« :من يقم ليلة القدر فيوافقها»
()2
حيث فرس املوافقة بالعلم هبا ،وكذا يف حديث عبادة عند أمحد «من قامها
إيامنًا واحتسا ًبا ثم وفقت له»( ،)3فقال :وفقت له :أي علمها .ويوافق
احلافظ ابن حجر ( )4النووي يف معنى املوافقة ،لكن ال ينكر حصول
الثواب اجلزيل ملن قامها وإن مل يعلم هبا ،لكن عند احلافظ ان الثواب
املعني املوعد به ال حيصل إال من علمها ،وأكثر العلامء عىل خالف ذلك
وأن معرفتها والعلم هبا غري ملزم حلصول الثواب والفضل العظيم الذي
وعد اهلل به وأخرب به نبيه -صىل اهلل عليه وسلم ،-فمن قامها طال ًبا هلا
جمتهدً ا يف حتصليها فهذا حيصل له الثواب ،سواء علمها أم مل يعلمها،
_______________
املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج(.)41 -6 ()1
مسلم (.)760 ()2
مسند امحد (.)22713 ()3
فتح الباري ( .)267 -4 ()4
103
ومعنى املوافقة يف احلديث املراد :يوافقها يف نفس األمر وإن مل يعلم هبا
،فيوافق قيامه تلك الليلة أهنا هي ليلة القدر ،فمن وافقها ومل يعلم هبا
حصل له الثواب برشط اإليامن واالحتساب .قال زين الدين العراقي:
ول المَْ ْغ ِف َر ِة بِ ِق َيا ِم َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر عَلىَ َم ْع ِر َفتِ َهاَ ،ب ْل َل ْو َقا َم َها ف ُح ُص ُ «وَلاَ َي َت َو َّق ُ
ون إ َّنماَ َقا َم ط َأ ْن َي ُك َ ف ا ُغ ِفر َله ما َت َقدَّ م ِمن َذنْبِ ِهَ ،ل ِكن بِشرَ ِ غ َع ِ ٍ
ْ ْ َ ْ ار بهَِ َ ُ َ َيرَْ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
الصامت عنْدَ بِ َق ْصد ا ْبت َغائ َهاَ .و َقدْ َو َر َد ا ْعت َب ُار َذل َك فيِ َحديث ُع َبا َد َة ْب ِن َّ
احتِ َسا ًبا ُث َّم ُو ِّف َق ْت َل ُه ِ
أَحمَْدَ َوال َّطبرََ انيِ ُّ َم ْر ُفو ًعا « َف َم ْن َقا َم َها ا ْبت َغا َء َها إيماَ نًا َو ْ
آخ َر َو ُه َو ُغ ِف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذنْبِ ِه َو َما ت ََأ َّخ َر» ( َفإِ ْن ُق ْلت) َقدْ ُا ْعتُبرَِ شرَ ْ ًطا َ
«م ْن َي ُق ْم َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر َف ُي َوافِ ُق َها» يح مس ِل ٍم فيِ ِرواي ِة ِ
َ َ
ِ
َأ ْن ت َُو َّف َق َل ُه َوك ََذا فيِ َصح ِ ُ ْ
َق َال الن ََّو ِو ُّي فيِ شرَ ْ ِح ُم ْس ِل ٍمَ :م ْعنَى ُي َوافِ ُق َها َي ْع َل ُم َأنهََّا َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِرُ ( ،ق ْلت)
ُون ا ْل َو ِاق ُع َأ َّن تِ ْل َك ال َّل ْي َل َة ا َّلتِي إ َّنماَ َم ْعنَى ت َْوفِي ُق َها َل ُه َأ ْو ُم َوا َف َق ُت ُه لهََا َأ ْن َيك َ
س الأَْ ْم ِر َوإِ ْن لمَ ْ َي ْع َل ْم ُه َو َقا َم َها بِ َق ْص ِد َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر ِه َي َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر فيِ َن ْف ِ
َذلِ َك َو َما َذك ََر ُه الن ََّو ِو ُّي ِم ْن َأ َّن َم ْعنَى المُْ َوا َف َق ُة ا ْل ِع ْل ُم بِ َأنهََّا َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َم ْر ُدو ٌد
ظ ما ي ْقتَضيِ ه َذا وَلاَ المَْعنَى يس ِ ِ
اعدُ ُه»(. )1 ْ َُ َ َو َل ْي َس فيِ ال َّل ْف َ َ
فالقول املعترب أن الفضل حاصل ملن قام هذه الليلة إيامنًا واحتسا ًبا
وإن مل يعلمها ويشعر هبا ،لكن هل يمكن أن تظهر ألحد؟ نعم يمكن أن
_______________
( )1طرح التثريب يف رشح التقريب (.)164 -4
104
يظهرها اهلل ألحد؟
قال النووي -رمحه اهلل« :-ا ْع َل ْم َأ َّن َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر َي َر َاها َم ْن َشا َء اللهَُّ
اد ُ ان ك َت َظاهر ْت َع َلي ِه الأَْح ِ
يث َ ْ ََ َ -ت َعالىَ -من بني آدم كل سنة يف َر َم َض َ َماَ
ني ا ور ْؤيتُهم ا َأ ْك َثر ِمن َأ ْن حُ ْت ( ،و َأما) َقو ُل ا ْل َقاضيِ لحِِ
صرََ َ َّ ْ الصا َ بهَِ َ ُ َ ُ ْ لهََ ُ ْ َو َأ ْخ َب ُار َّ
ب ْب ِن أَبيِ ُص ْف َر َة ا ْل َف ِق ِيه المَْالِ ِك ِّي« :لاَ تمُ ْ ِك ُن ُر ْؤ َيت َُها َح ِقي َق ًة» ِع َي ٍ
اض َع ْن المُْ َه َّل ِ
اح ٌش َن َّب ْه ُت َع َل ْي ِه لِئَلاَّ ُي ْغترَ َّ بِ ِه»(. )1 َف َغ َل ٌط َف ِ
_______________
( )1املهذب للنووي.
( )2الفتاوى الكربى (.)476 _ 2
105
من علمها هل يخرب بها �أو يكتمها؟
تَ ،ق َالَ :خ َر َج النَّبِ ُّي -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم- َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ
َّ ْ َ َ ْ
«خ َر ْج ُت نيَ ،ف َق َالَ : لِ ُي ْخبرَِ نَا بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِرَ ،ف َتال ََحى َر ُجال َِن ِم َن ا ُمل ْس ِل ِم َ
ال َحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَنَ ،ف ُرفِ َع ْت َو َع َسى َأ ْن َيك َ
ُون لأُِ ْخبرَِ ُك ْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِرَ ،ف َت َ
السابِ َع ِةَ ،واخلَ ِام َس ِة»(. )1 ِ ِ
وها فيِ التَّاس َعةَ ،و َّ
ِ
خَيرْ ً ا َلك ُْمَ ،فا ْلتَم ُس َ
ات ِم ْن قال احلافظ ابن حجر« :اس َتنْب َط السب ِكي ا ْلكَبِري فيِ ا َلبِي ِ
ُ لحَْ َّ ُّ ْ ُّ ْ َ
ِ ِ ه ِذ ِه ا ْل ِقص ِة (التي يف حديث عبادة) ِ
آها، اب ك ْتماَ ِن َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِر لمَِ ْن َر َ است ْح َب َ ْ َّ َ
َق َالَ :و َو ْج ُه الدَّ لاَ َل ِة َأ َّن اللهََّ َقدَّ َر لِنَبِ ِّي ِه َأ َّن ُه لمَ ْ يخُ ْ برَ ْ بهَِا َوالخَْيرُْ ُك ُّل ُه فِيماَ ُقدِّ َر
اوي اج َذلِ َك َع ِن الحَْ ِ ب ا ِّت َبا ُع ُه فيِ َذلِ َكَ ،و َذك ََر فيِ شرَ ْ ِح المِْن َْه ِ َل ُه َف ُي ْست ََح ُّ
ف بَينَْ َأ ْه ِل َق َال :والحِْ كْم ُة فِ ِيه َأنا كَرام ٌة ،وا ْل َكرام ُة ينْب ِغي ِك ْت نا بِلاَ ِخلاَ ٍ
ماَ هَُ هََّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ
بَ ،و ِم ْن ِج َه ِة َأ ْن لاَ َي ْأ َم َن الس ْل َس فَلاَ َي ْأ َم ُن َّ ال َّط ِر ِيق ِم ْن ِج َه ِة ُر ْؤ َي ِة النَّ ْف ِ
الشك ِْر للِهَِّ بِالنَّ َظ ِر إِ َل ْي َها َو ِذك ِْر َها ب فَلاَ َيت ََشا َغ ُل َع ِن ُّ الر َيا َءَ ،و ِم ْن ِج َه ِة الأَْ َد ِ ِّ
ورَ ،و ُي ْست َْأن َُس وق ُع غ ُه فيِ المَْ ْح ُذ ِ َّاس ،و ِمن ِجه ِة َأ َّنه لاَ ي ْأمن ا سدَ َفي ِ ِ
َيرَْ للن ِ َ ْ َ ُ َ َ ُ لحَْ َ ُ
اك عَلىَ إِ ْخ َوتِ َك» ص ُر ْؤ َي َ السلاَ مَ « :يا ُبن ََّي لاَ َت ْق ُص ْ
ِ
وب َع َل ْيه َّ َل ُه بِ َق ْو ِل َي ْع ُق َ
الآْ َي َة»(. )2
_______________
( )1البخاري (.)2023
( )2الفتح ( .)268 -4
106
ب الحَْ ِ ِ
ب لمَِ ْن رأى ليلة القدر اويُ :ي ْست ََح ُّ قال النوويَ « :ق َال َصاح ُ
ب ِم ْن ِد ٍ
ين َو ُد ْن َيا، ص َونِ َّي ٍة َو ِص َّح ِة َي ِق ٍ
ني بِماَ َأ َح َّ أن يكتمها ،ويدعو بِإِ ْخلاَ ٍ
ين َوالآْ ِخ َر ِة»(. )1
ُون َأ ْك َث ُر ُد َع ِائ ِه لِلدِّ ِ
َو َيك ُ
واخلري كل اخلري يف إخفائها؛ ملا يلحق الناس من األجر العظيم يف
االجتهاد يف طلبتها ،بخالف من علم أهنا ليلة معينة فيجتهد فيها ويدع
الباقي ،أو يقوم بكسل بقية الشهر ،والقول بكتامهنا يوافق احلكمة من
إخفائها؛ ألن الصحيح أهنا ال تعلم أبدً ا أي ليلة هي يقينًا ،حتى ملا َه َّم
أمر ومل خيربث ٌ النبي -صىل اهلل عليه وسلم -بأن خيرب هبا ،قدَّ ر اهلل أن يحَ ْ دُ َ
-حفظه اهلل« :-لو ثبت تعيني هبا ،قال الشيخ عبد الكريم اخلضري
()2
_______________
( )1املجموع رشح املهذب(.)461 -6
( )2الشيخ عبد الكريم اخلضري -حفظه اهلل -عضو هيئة كبار العلامء باململكة العربية السعودية.
107
الضعيفة عىل الكسل»(. )1
والقول بكتامهنا هو احلق ،إال أنه لو قيل بنرشها وبثها بشكل خاص
بني من ُي ْع َرف عنهم التفريط يف طلب ليلة القدر ممن انشغل بدنياه يف
ليايل العرش لكان أوىل وأحسن؛ ألن هذا املفرط لو ُأ ْخبرَِ َّ
أن ليلة كذا هي
لدَّ و اجتهد فيها ،وقد ال تكون هي ليلة القدر ،لكن هذا ليلة القدر جَ َ
خري له؛ ألنه ال يقوم أبدً ا ،فكونه يقوم ليلة واحدة وهو يرتقب ليلة القدر
ٌ
خري من أال يقوم أبدً ا! وقد تكون هذه الليلة سب ًبا يف
متطل ًعا لفضل اهلل ٌ
هدايته و صالحه.
_______________
( )1رشح كتاب الصيام من بلوغ املرام ،دروس مفرغة من موقع الشيخ اخلضري الدرس رقم 66
.525/http://www.khudheir.com/audio
108
هذه ليلة القدر وهذه بعض أماراهتا ،فشمر عن ساعد اجلد إلدراكها،
قد يظهرها اهلل لك ،وقد ال تظهر ،قد تعرفها بعالماهتا أو قد تغيب عنك،
فاملعول هو اإلخالص والصدق يف طلبها بجد وعزم ،وابذل كل وقتك
يف طلبها ،ال ت ُِض ْع حلظات عمرك فيام ال ينفع ،واعلم أن الراحة ال تنال
بالراحة ،وأن املجد ال ينال بالكسل والبطالة ،وال َي ْط َم َع َّن ا ْل َب َّط ُال فيِ
من َِاز ِل األَ ْب َط ِ
ال. َ
ف ين َُال المَْجدُ والجِْ سم و ِ
اد ٌع ْ َ ْ ُ َ َو َك ْي َ ُ
يا ُء الحَْ ْمدُ َوا ْل َو ْف ُر َوافِ ُـر َو َك ْي َ
ف جَُ
وب لمَ ْ َت ْب ُعدْ عَلىَ َطالِبِ ِه وب نِ َيل ِم ْن غَيرْ ِ َم َش َّق ٍةَ ،و َأ ُّي َم ْر ُغ ٍ َأ ُّي َم ْط ُل ٍ
اس ُم بَ ،و ْ بَ ،وا ْل ِع ْل ُم ال ُيدْ َر ُك إِال بِالن ََّص ِ ي َّص ُل إِال بِال َّت َع ِ الش َّق ُة ،المَْ ُال ال حُ َ
ُّ
ب َط ِو ٍ الش َجا ِع ال يحَ ْ ُص ُل إِال َب ْعدَ َت َع ٍ ِ ِ
يل. ب ُّ الجَْ َواد ال َينَا ُل ُه َبخ ٌيلَ ،و َل َق ُ
ات َفعـ َُّالال يدْ ِر ُك المَْجدَ إِال سيدٌ َفطـِــن لِـمـَا ي ُش ُّق عَلىَ الساد ِ
َّ َ َ ٌ َ ِّ ْ ُ
الس ْم ُر ُضـلاَّ ُل ِ َوا ْلبِ ُ َأ ْمضىَ ا ْل َف ِريقَينْ ِ فيِ َأ ْق َرانِ ِه ُظـ َبــ ًة
يض َهاد َي ٌة َو ُّ
ال َف ِفيهـَا المَْا ُء َو ُ
اآلل َبيـْـ َن الر َج ِ
ِّ ـر ِه ـــاف َمنْ َظ ِ
َ ُي ِر َ
يك مخَ ْبرَُ ُه َأ ْض َع
109
َّــال الجُْو ُد ُي ْف ِق ُر َو ِ
اإل ْقــدَ ا ُم َقتــ ُ َّاس ُك ُّل ُ
ــهـمُ َل ْوال المَْ َش َّق ُة َسا َد الن ُ
الر ْح ِل ِش ْم ُ
الل ِ ٍ
َمــا ك ُُّل َماش َية بِ َّ َــان َطا َقتُــــ ُ ه
اإلنْسـ ُ َوإِ َّنماَ َي ْب ُل ُغ ِ
_______________
( )1التبرصة البن اجلوزي .بترصف يسري (.)402-1
110
اطلب ليلة القدر يف الع�شر الأواخر
_______________
( )1البخاري () 2020مسلم (.)1169
111
التم�س ليلة القدر يف الع�شر الأواخر من رم�ضان
ليله القدر يف العرش األواخر من رمضان ،منحرصة فيه ،وهي تنتقل
يف العرش غري حمددة بليلة معينة ،وهي باقية مل ترفع( ، )1وتطلب يف مجيع
ليايل العرش ،الشفع والوتر ،ال نجزم بليلة معينة أهنا ليلة القدر ،وهذا
القول هو الصواب الذي جتتمع عليه اآلثار والنصوص ،ومن قال
بخالف هذا القول ال يسلم من معارض .وبه يضمن طالب ليلة القدر
أنه أدركها ،فعىل املسلم أن جيتهد يف كل الليايل عىل حدٍّ سواء لكي يدرك
هذه الليلة العظيمة ،وهذا هو هدي النبي -صىل اهلل عليه وسلم -حيث
كان جيتهد يف العرش كلها عىل حد سواء ،ال يعلم عنه أنه خص ليلة من
ليايل العرش بمزيد اجتهاد.
أما إهنا يف العرش( ، )2فعىل هذا أدلة كثرية ،منها :قوله -صىل اهلل
«حتروا ليل َة القدر
عليه وسلم -من حديث عائشة -ريض اهلل عنهاَّ :-
_______________
( )1وقال بعضهم بأهنا ُرفِ َع ْت .قال ابن امللقن وأعزاه الفاكهي -أي القول بالرفع -إىل أيب حنيفة
وهو غريب ،وإنام هو معزي إىل الرافض .األعالم (.)5-397
( )2جاء عن ابن مسعود أهنا تطلب يف السنة كلها ،وأجاب عن هذا أيب بن كعب -ريض اهلل عنه-
َّاس .أما إن ُه َقدْ َع ِل َم َأنا فيِ ِ
هََّ ووضح مقصود ابن مسعود -ريض اهلل عنه -بقولهَ « :أ َرا َد َأ ْن الَ َيتَّك َل الن ُ
َر َم َض َ
ان» مسلم رقم (.)2730
112
يف العرش األواخر من رمضان » متفق عليه( .)1ومل ِ
يأت دليل رصيح
صحيح يف حتديد أي ليلة هي من العرش؛ فهي تنتقل فيها كل عام ،قال
ابن عبد الرب يف التمهيد« :وهي عندنا تنتقل ،وهبذا يصح استعامل اآلثار
املرفوعة وغريها»( )2قال ابن رشد« :والقول الثالث:إهنا ليست يف ليلة
بعينها ،وإهنا تنتقل يف األعوام ،وإىل هذا ذهب مالك -رَحمَِ ُه اللهَُّ َت َعالىَ -
والشافعي وأمحد بن حنبل وأكثر أهل العلم ،وهو أصح األقاويل
وأوالها بالصواب واهلل أعلم ،ألن األحاديث كلها تستعمل عىل هذا،
واستعامهلا كلها أوىل من استعامل بعضها واطراح سائرها ،ال سيام وهي
كلها أحاديث صحيحة ثابتة ال مطعن فيها ألحد»(. )3
قال ابن رشد« :وذهب ابن حبيب إىل أن تتحرى الليلة يف مجيع ليايل
العرش عىل نقصان الشهر وكامله»(. )4
ونقل الرافعي يف الرشح الكبري عن مالك« :إهنا يف العرش وال ترجيح
لبعض الليايل عىل البعض»(. )5
_______________
البخاري ( )2017ومسلم (.)1169 ()1
التمهيد (.)63 -23 ()2
ابن رشد ،املقدمات املمهدات (.)267 -1 ()3
ابن رشد ،املقدمات املمهدات (.)267 -1 ()4
الرشح الكبري للرافعي(.)478 -6 ()5
113
أما إهنا تطلب يف الشفع كام تطلب يف الوتر؛ فلحديث أيب سعيد
اخ ِر -ريض اهلل تعاىل عنه -والذي جاء فيهَ « :فا ْلت َِمسوها فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ
َ ُ َ
السابِ َع ِة َوالخَْ ِام َس ِة». ِ ِ
وها فيِ التَّاس َعة َو َّ
ِ
ان ،ا ْلتَم ُس َ ِم ْن َر َم َض َ
يد :إ َّنك ُْم َأ ْع َل ُم بِا ْل َعدَ ِديثُ :ق ْلت لأَِبيِ س ِع ٍ َق َال َأبو ن َة ر ِاوي ا ِد ِ
َ لحَْ ُ َضرَْ َ
ِمنَّاَ .ق َالَ :أج ْل ،نَحن َأح ُّق بِ َذلِ َك ِمنْكُمَ .ق َالَ :ف ُق ْلت :ف الت ِ
َّاس َع ُة َماَ ْ ْ ُ َ َ
ونَ ،فا َّلتِي ت َِل َيها احدَ ٌة َو ِعشرُْ َ والسابِع ُة وا ِامس ُة؟ َق َال« :إِ َذا م َض ْت و ِ
َ َ َ َّ َ َ لخَْ َ
ونَ ،فا َّلتِي ث َو ِعشرُْ َ ثِنْت ِ و ِعشرْ ِ ين و ِهي الت ِ
َّاس َع ُةَ ،فإِ َذا َم َض ْت ثَلاَ ٌ َ َ َ َينْ َ
ون َفا َّلتِي ت َِل َيها الخَْ ِام َس ُة» أخرجه السابِ َع ُةَ ،فإِ َذا مَضىَ خمَ ْ ٌس َو ِعشرُْ َ
يها َّ
ِ
تَل َ
مسلم(.)1
وهذا تفسري أيب سعيد -ريض اهلل عنه -أهنا يف األشفاع ،وهو حسبها
عىل أن الشهر كامل ،وأهنا فيام بقي من الشهر ،أي من آخر الشهر ،فلو
حسبنا آخر تسع ٍ
ليال والشهر كامل نبدأ من ليلة ثالثني ،لوجدنا ليلة
الثاين والعرشين هي التاسعة ،وهي تاسعة تبقى كام جاء الترصيح يف
حديث ابن عباس -ريض اهلل عنه -أن النبي -صىل اهلل عليه وسلم-
ٍ
تاسعة تبقى قال« :التمسوها يف العرش األواخر من رمضان ليل َة القدر يف
_______________
( )1مسلم ( .)1167
114
ٍ
خامسة تبقى» رواه البخاري( .)1فإذا كان الشهر كاملاً ٍ
سابعة تبقى يف يف
كانت يف الشفع ،إذا حسبناها عىل ما بقي كام حسبها أبو سعيد -ريض اهلل
عنه ،-وإن حسبناها عىل ما مىض من الشهر وكان الشهر كاملاً فيكون
قوله( :تاسعة) أي تاسع ليلة من أول العرش ،وهي ليلة تسع وعرشين،
ناقصا فهي يف األوتار ،سوا ًء
فتكون يف األوتار ،وهلذا إذا كان الشهر ً
حسبناها عىل ما بقي أو ما مىض ،وإذا كان كاملاً كانت يف األشفاع كام
بينه ،وهلذا نقول :تطلب ليلة القدر يف مجيع ليايل العرش.
ناقصا أم كاملاً ؟ رجح بعض
واختلف العلامء هل نحسب الشهر ً
العلامء أهنا حتسب عىل متام الشهر؛ ألنه هو األصل ،وإىل هذا مال
احلافظ ابن عبد الرب( .)2ورجح بعضهم أهنا حتسب والشهر ناقص؛ ألنه
هو اليقني ،وهلذا االختالف فهي حمتملة يف كل الليايل.
صح يف السنة الترصيح
وقال بعض العلامء :إهنا يف األوتار؛ ملا َّ
بذلك كام يف قوله صىل اهلل عليه وسلم «:فالتمسوها يف العَشرْ األواخر
يف الوتر»( ،)3و َع ْن َع ِائ َش َة -رَضيَِ اللهَُّ َعن َْهاَ : -أ َّن َر ُس َ
ول اللهَِّ -صَلىَّ اهللُ
_______________
( )1البخاري ( .) 2021
( )2االستذكار (.)412 -3
( )3رواه اإلمام البخاري ( ) 2040 ( ) 2036 ( )2018( )2016ومسلم ( .) 2772 ( ) 2769
115
اخ ِر ِم ْن
الوت ِْرِ ،من العَشرْ ِ األَو ِ
َ َ َع َل ْي ِه َو َس َّل َمَ -ق َال« :تحََ َّر ْوا َل ْي َل َة ال َقدْ ِر فيِ ِ
ان». َر َم َض َ
وقول العلامء« :إهنا يف األوتار» ،أي أهنا ترجى فيه أكثر من غريه،
ال أهنا متعينة فيه ال تنتقل عنه ،مع ذلك نقول :إن الوتر يكون باعتبار ما
مىض ،ويكون باعتبار ما بقي.
ان، اخ ِر ِم ْن َش ْه ِر َر َم َض َ قال شيخ اإلسالمَ :لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ
َ ْ
«ه َي فيِ ا ْلعَشرْ ِ َهك ََذا صح َعن النَّبِي-صَلىَّ اللهَُّ َع َلي ِه وس َّلمَ -أ َّنه َق َالِ :
ُ ْ َ َ َ ِّ َ َّ ْ
ُون فيِ ا ْل ِوت ِْر ِمن َْها.
ان» َ .و َتك ُ اخ ِر ِم ْن َر َم َض َ الأَْو ِ
َ
إحدَ ى َو ِعشرْ ِ ي َن، ب َل ْي َل َة ْ
ُون بِا ْعتِب ِ ضيِ
ار المَْا َ ،ف ُت ْط َل ُ َ َل ِك َّن ا ْل ِوت َْر َيك ُ
س َو ِعشرْ ِ ي َنَ ،و َل ْي َل َة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َنَ ،و َل ْي َل َة ث َو ِعشرْ ِ ي َنَ ،و َل ْي َل َة خمَ ْ ٍ و َلي َل َة ثَلاَ ٍ
َ ْ
تِ ْس ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن.
ار َما َب ِق َي ،كَماَ َق َال النَّبِ ُّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم: - ُون بِا ْعتِ َب ِ
َو َيك ُ
َاس َع ٍة َت ْب َقى ،لِ َسابِ َع ٍة َت ْب َقى ،لخَِ ِام َس ٍة َت ْب َقى ،لِ َثالِ َث ٍة َت ْب َقى»َ .فعَلىَ َه َذا إ َذا
«لِت ِ
ُون الاِ ْثنَينْ ِ َو ِعشرْ ِ ي َنُون َذلِ َك َل َياليِ الأَْ ْش َفاعَِ .و َتك ُ ني َيك ُ الش ْه ُر ثَلاَ ثِ َ ك َ
َان َّ
يدَاسع ًة َتب َقى ،و َلي َل ُة َأرب ٍع و ِعشرْ ِ ين سابِع ًة َتب َقى .وهك ََذا َفسه َأبو س ِع ٍ ِ
رََّ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ َْ َ ت َ ْ
يحَ .و َهك ََذا َأ َقا َم النَّبِ ُّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم-
الص ِح ِ ِ ِ
الخُْدْ ِر ِّي فيِ الحَْديث َّ
فيِ َّ
الش ْه ِر.
116
اقي .كَالت ِ يخ بِا ْلب ِ َان الت ِالش ْه ُر تِ ْس ًعا َو ِعشرْ ِ ي َن ،ك َ َوإِ ْن ك َ
يخ َّار ِ َّار ُ َ َان َّ
المَْاضيِ .
َان الأَْمر هك ََذا َفينْب ِغي َأ ْن يتَحراها المُْ ْؤ ِمن فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ
اخ ِر َ ُ َ َ َّ َ َ َ َوإِ َذا ك َ ْ ُ َ
وها فيِ ا ْلعَشرْ ِ ِ ِ ِ
جمَ يعها .كَماَ َق َال النَّبِ ُّي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْيه َو َس َّل َم« : -تحََ ُّر َ
الأَْو ِ
اخ ِر»(.)1 َ
وقال بعض العلامء :ليلة القدر يف السبع األواخر؛ حلديث ابن عمر
-ريض اهلل تعاىل عنهام« :-أن رجالاً من أصحاب النبي -صىل اهلل عليه
وسلمُ -أروا ليل َة القدر يف املنام يف السبع األواخر ،فقال رسول اهلل
-صىل اهلل عليه وسلم : -أرى رؤياكم قد تواطأت يف السبع األواخر،
فمن كان ُمت ََح ِّرهيا ف ْليت ََح َّرها يف السبع األواخر» متفق عليه(. )2
وجياب عىل هذا بأن قول النبي -صىل اهلل عليه وسلم« :-فمن كان
ُمت ََح ِّرهيا ف ْليت ََح َّرها يف السبع األواخر» متوجه إىل ذلك العام وليست هي
يف كل عام.
قال احلافظ ابن عبد الرب« :واألغلب يف قوله( :يف السبع األواخر)
_______________
( )1جمموع الفتاوى (.)285 -25
( )2رواه البخاري ( )2015ومسلم (.)1165
117
أنه يف ذلك العام ،واهلل أعلم لئال يتضاد مع قوله يف العرش األواخر»(.)1
وقال ابن بطال« :يريد يف ذلك العام الذي تواطأت فيه الرؤيا عىل
ذلك»(. )2
فهي يف العرش األواخر من غري تعيني ليلة معينة ،وعدم تعيينها
مطلب رشعي؛ ففيه خري للعبد ملا حيصل عليه من إعامر وقته كل ليايل
العرش بالطاعات.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية« :وبكل حال فال نجزم لليلة بعينها
أهنا ليلة القدر عىل اإلطالق ،بل هي مبهمة يف العرش كام دلت عليه
النصوص»(. )3
قال ابن القيم« :وأيضا فاألحاديث التي يف ليلة القدر ليس فيها
حديث رصيح بأهنا ليلة كذا وكذا ،بخالف أحاديث ساعة اجلمعة فظهر
الفرق بينهام»(. )4
قال شيخنا ...« :وإذا تأملنا األدلة الواردة يف ليلة القدر تبني لنا
أهنا تنتقل من ليلة إىل أخرى ،وأهنا ال تكون يف ليلة معينة كل عام،
_______________
االستذكار ص (.)10-328 ()1
رشح صحيح البخارى البن بطال(.)151 -4 ()2
رشح العمدة كتاب الصيام ( )697-2بتحقيق زايد النشريي. ()3
زاد املعاد (.)384 -1 ()4
118
فالنبي -صىل اهلل عليه وسلم -أري ليلة القدر يف املنام وأنه يسجد يف
صبيحتها يف ماء وطني ،وكانت تلك الليلة ليلة إحدى وعرشين(،)1
وقال -عليه الصالة والسالم« : -حتروا ليلة القدر يف العرش األواخر
من رمضان»وهذا يدل عىل أهنا ال تنحرص يف ليلة معينة ،وهبذا جتتمع
األدلة ،ويكون اإلنسان يف كل ليلة من ليايل العرش يرجو أن يصادف
ليلة القدر»(. )2
_______________
( )1البخاري( )2016مسلم (.)1167
( )2جمموع الفتاوى (.)228 -14
119
وقفة مع خالف العلماء يف تعيني ليلة القدر
اختلف العلامء يف تعيينها عىل أقوال كثرية ،مما يدل عىل ضعف
التعيني والتحديد بليلة معينة ،إذ لو كان هناك دليل رصيح صحيح مل
يقع اخلالف هبذه الكثرة من األقوال ،عدَّ احلافظ بن حجر ست ًة وأربعني
قولاً ،ثم ذكر قول ابن ا ْل َعرَبيِ ِّ « :إِنهََّا لاَ ُت ْع َل ُم» وقالَ :
«و َه َذا َي ْص ُل ُح َأ ْن
ف َأ َّن ُه َي َرى َأنهََّا
وس َ او ُّي َع ْن أَبيِ ُي ُ آخ َر ،ثم ذكر ما نقله ال َّط َح ِ
ُون َق ْولاً َ َيك َ
« َل ْي َل ُة َأ ْر َب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن َأ ْو َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن»وقالَ :فإِ ْن َث َب َت َذلِ َك َعنْ ُه َف ُه َو
آخر ما َو َق ْف ُت َع َل ْي ِه ِم َن الأَْ ْق َو ِ َق ْو ٌل َ
ال»( . )1فيصبح «ه َذا َ ُ َ
آخ ُر» ،ثم قالَ :
جمموع ما ذكره احلافظ ثامنية وأربعني قولاً ،لكن يف احلقيقة هي أقل من
«و َب ْع ُض َها
ذلك؛ ألنه يمكن ر ُّد بعضها إىل بعض ،كام قال احلافظ نفسهَ :
َان َظ ِ
اه ُر َها ال َّت َغا ُي َر». ُي ْم ِك ُن َر ُّد ُه إِلىَ َب ْع ٍ
ض َوإِ ْن ك َ
قال القاري« :وقد اختلف العلامء يف تعيينها عىل أقوال كثرية ،بلغها
احلافظ يف الفتح إىل أكثر من أربعني قولاً ،وأكثرها يتداخل ،ويف احلقيقة
يقرب من مخسة وعرشين»(. )2
_______________
( )1الفتح ()266 -4
( )2مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح.)118-7( .
120
وبعضهم أوصلها نحو اخلمسني ،وبعض املعارصين أوصلها إىل
أربع وستني قولاً ،فنظرت فيها فوجدت أهنا ال تصل إىل هذا العدد أبدً ا،
ٍ
بعض ملا وصل إىل هذا العدد ،فتجد فيام ذكر أقوالاً ولو ُر َّد بعضها إىل
تتكرر لكن بصيغ خمتلفة.
121
ليلة �سبع وع�شرين
تعترب ليلة سبع وعرشين هي الليلة األشهر عند عامة املسلمني أهنا
ليلة القدر.
وقال بذلك مجع من العلامء ،وترتب عىل هذا القول ختصيص ليلة
سبع وعرشين بمزيد اجتهاد وترك بقية الليايل ،أو الكسل يف بقية ليايل
العرش والفتور فيها؛ ألنه يعتقد أنه ال يوافق ليلة القدر إال بقيام ليلة سبع
وعرشين ،وبقية الليايل ليس فيها ليلة القدر ،فإذا قام ليلة سبع وعرشين
جيد نفسه أنه قام ليلة القدر ،فيدع بقية الليايل وال ينشط هلا ،ويرتتب
خيصها بعمرة( ، )1فال يعتمر إال يف هذه
أيضا أن بعضهم ُّ
عىل هذا القول ً
_______________
( )1قال شيخنا حممد بن صالح بن عثيمني -رمحه اهلل« :-تنبيه :هنا مسألة يفعلها كثري من الناس،
يظنون أن للعمرة يف ليلة القدر مزية ،فيعتمرون يف تلك الليلة ،ونحن نقول :ختصيص تلك الليلة
بالعمرة بدعة؛ ألنه ختصيص لعبادة يف زمن مل خيصصه الشارع هبا ،والذي حث عليه النبي -صلىّ
اهلل عليه وس ّلم -ليلة القدر هو القيام الذي قال الرسول -صلىّ اهلل عليه وس ّلم -فيه« :من قام ليلة
القدر إيامنًا واحتسا ًبا غفر له ما تقدم من ذنبه» ومل يرغب يف العمرة تلك الليلة ،بل رغب فيها يف
حجا» فتخصيص العمرة بليلة القدر ،أو ختصيص ليلة القدر الشهر ،فقال« :عمرة يف رمضان تعدل ً
بعمرة هذا من البدع .وملا كانت بدعة صار يلحق املعتمرين فيها من املشقة اليشء العظيم ،حتى إن
وكثريا ما ن ُْس َأ ُل عن هذا ،شخص
ً بعضهم إذا رأى املشقة يف الطواف ،أو يف السعي انرصف إىل أهله،
جاء يعتمر ليلة السابع والعرشين ،فلام رأى الزحام حتلل ،فانظر كيف يؤدي اجلهل بصاحبه إىل هذا
العمل املحرم ،وهو التحلل من العمرة بغري سبب رشعي.إ ًذا ينبغي لطلبة العلم ،بل جيب عليهم أن
يبينوا هذه املسألة للناس.أما إكامل هذه العمرة فواجب؛ ألنه ملا رشع فيها صارت واجبة ،كالنذر أصله
مكروه وجيب الوفاء به إذا التزمه ،وال حيل له أن حيل منها ،وإنام البدعة هي ختصيص العمرة بتلك
الليلة» الرشح املمتع (494 -6و .)495
122
الليلة ،وختصيص العمرة يف هذه الليلة بدعة؛ ألنه ختصيص عبادة يف
زمن مل خيصصه الرشع هلا ،ويرتتب عىل هذا حرج شديد من تدافع
ثمة دليل صحيح رصيح
الناس إىل بيت اهلل احلرام ألداء العمرة .وليس َّ
عىل القول بأن ليلة سبع وعرشين هي ليلة القدر ،غاية ما استدلوا به
ود َس ِم َعا
اص ِم ب ِن أَبيِ النَّج ِ
ُ ْ
حديث أ يف صحيح مسلم َعن َعبدَ َة و َع ِ
ْ ْ ُبيَ ّ
ب -رَضيَِ اللهُّ َعنْ ُهَ ،-ف ُق ْل ُت :إِ َّن «س َأ ْل ُت أُبيََّ ْب َن َك ْع ٍولَ : ش َي ُق ُ ِز َّر ْب َن ُح َب ْي ٍ
ب َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِرَ .ف َق َال :رَحمَِ ُه ِ اك ابن مسع ٍ
ولَ :م ْن َي ُق ِم الحَْ ْو َل ُيص ْ ود َي ُق ُ َأ َخ َ ْ َ َ ْ ُ
َّاس .أما إن ُه َقدْ َع ِل َم َأنهََّا فيِ َر َم َض َ
انَ .و َأنهََّا فيِ ا ْلعَشرْ ِ ِ
اللهِّ َأ َرا َد َأ ْن الَ َيتَّك َل الن ُ
ف الَ َي ْس َت ْثنِيَ .أنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع اخ ِرَ .و َأنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َنُ .ث َّم َح َل َ
األَو ِ
َ
ال َم ِةَ ،أ ْو
ول َذلِ َك؟ َيا َأ َبا المُْن ِْذ ِر َق َال :بِا ْل َع َ َو ِعشرْ ِ ي َنَ .ف ُق ْل ُت :بِ َأ ِّي شيَ ْ ٍء َت ُق ُ
ٍِ بِاآل َي ِة ا َّلتِي َأ ْخبرََ نَا َر ُس ُ
اع لهََا »(. )1ول اللهِّ َأنهََّا َت ْط ُل ُع َي ْو َمئذ ،الَ ُش َع َ
وأيب -ريض اهلل عنه -مل يقسم عىل أن النبي -صىل اهلل عليه وسلم-
أخربه أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعرشين ،وإنام هو سمع هذه العالمة
من النبي -صىل اهلل عليه وسلم -كام سمعها غريه من الصحابة ،واجتهد
هو يف تطبقيها عىل الواقع املحسوس ،وهذا اجتهاد ظن ٌِّّي منه ،والنبي
-صىل اهلل عليه وسلم -مل خيرب أحدً ا بليلة القدر.
_______________
( )1مسلم (.)2730
123
يب -ريض اهلل عنه -ظنِّ ًّيا ال يلزم األخذ به ،و ال حجة
هلذا كان قول أ ٍّ
فيه مقابل النصوص الكثرية الصحيحة والتي تثبت إهنا غري معلومة
وغري حمددة بليلة معينة ،حتى نبينا -صىل اهلل عليه وسلم -ملا خرج ليخرب
«خ َر ْج ُت هبا نسيها ،ومل يعلم أي ليلة هي ،وقال كام عند البخاري(َ : )1
النَ ،ف ُرفِ َع ْتَ ،و َع َسى َأ ْن َيك َ
ُون الن َو ُف ٌ َالحى ُف ٌ ِ
ألخبرَِ ك ُْم بِ َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِرَ ،فت َ
ْ
ب ْب ُن َع ْب ِد اللهَِّ المَْ َعافِ ِر ُّيَ ،أ َّن ُه ِ
خَيرْ ً ا َلك ُْم» .وأخرج حممد بن نرص عن َواه ُ
ِ ِ ُ
َب ا ْبنَ َة أ ِّم َس َل َم َة -رَضيَِ اللهَُّ َعن َْهاَ -ع ْن َل ْي َلة ا ْل َقدْ ر َف َقا َل ْت « :لمَ ْ َس َأ َل َز ْين َ
ِ ِ
َّاس ول اللهَِّ -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْيه َو َس َّل َمَ -ي ْع َل ُم َهاَ ،و َل ْو َعل َم َها لمَ ْ َت ُق ِم الن ُ َي ُك ْن َر ُس ُ
غَيرَْ َها »( . )2وكان -صىل اهلل عليه وسلم -كل عام يف رمضان جيتهد
يف طلبها ،وحيث عىل التامسها يف العرش األواخر ،ومل ُيع ِّينها ألحد ،ولو
كانت معينة يف ليلة معينة لكان أوىل الناس بمعرفتها النبي -صىل اهلل
عليه وسلم -وما خفيت عليه ،فكيف ختفى -عليه صىل اهلل وسلم-
يب -ريض اهلل عنه-؟.
ويعلمها أ ّ
واستدل بعضهم عىل أهنا ليلة سب ٍع وعرشين بأن كلمة (هي) يف
قوله( :سالم هي) يف السورة هي الكلمة السابعة والعرشون « .ولكن
_______________
( )1البخاري ()2023
( )2قيام رمضان ملحمد بن نرص املروزي (.)247 -1
124
هذا ليس بيشء وهو من ُم َلح التفاسري وليس من متني العلم»(. )1
واستنبط بعضهم ذلك يف جهة أخرى ،فقال :ليلة القدر تسعة
أحرف ،وقد كرر اهلل ذكر ليلة القدر ثالث مرات ،وتسع إذا رضبت
يف ثالث فالناتج سبع وعرشون .وكل ذلك غلط ال يمت للعلم بيشء.
_______________
( )1تفسري من عطية(.)61 -1
125
بدعة �صالة القدر
وهذه من البدع املحدثة ،وتسمى صالة القدر نسبة إىل ليلة القدر،
وتكون هذه الصالة يف الليلة التي يظنون أهنا ليلة القدر.
وسئل شيخ اإلسالم ابن تيمية عن َق ْو ٍم ُي َص ُّلون َب ْعدَ الترََّ ِاو ِ
يح
آخ ِر ال َّل ْي ِل ُي َص ُّلون تمََا َم ِمائ َِة َر ْك َع ٍةَ ،و ُي َس ُّم َ
ون ر ْكعت ِ فيِ ا َع ِةُ ،ثم فيِ ِ
َّ لجَْماَ َ َ َينْ
َذلِ َك صَلاَ َة ا ْل َقدْ ِر.
ِ ِ ِ ِ ِ
اب َم َع َم ْن َي ْف َع ُل َها َأ ْو
الص َو ُ َو َقدْ ا ْم َتن ََع َب ْع ُض الأَْئ َّمة م ْن ف ْعل َهاَ :ف َه ْل َّ
ِ ِ ٍ ِ ِ
وه ٌة؟َم َع َم ْن يَترُْ ك َُها؟ َو َه ْل ِه َي ُم ْست ََح َّب ٌة عنْدَ َأ َحد م ْن الأَْئ َّمة َأ ْو َمك ُْر َ
َو َه ْل َينْ َب ِغي فِ ْع ُل َها َوالأَْ ْم ُر بهَِاَ ،أ ْو ت َْرك َُها َوالن َّْه ُي َعن َْها؟
يب َه َذا المُْ ْمتَنِ ُع ِم ْن فِ ْع ِل َهاَ ،و َا َّل ِذي ِ
فأجاب :الحَْ ْمدُ للِهََِّ ،ب ْل المُْص ُ
نيَ ،ب ْل ِه َي بِدْ َع ٌة َح َّب َها َأ َحدٌ ِم ْن َأ ِئ َّم ِة المُْ ْس ِل ِم َ
تَركَها َفإِ َّن ه ِذ ِه الصلاَ َة لمَ يست ِ
َْ ْ َّ َ َ َ
ِ ِ مكْروه ٌة بِا ِّت َف ِ ِ ِ
ول اللهَِّ -صَلىَّ اللهَُّ الصلاَ َة لاَ َر ُس ُ اق الأَْئ َّمة ،وَلاَ َف َع َل َهذه َّ َ ُ َ
ني ،وَلاَ َي ْس َت ِح ُّب َها َأ َحدٌ ِم ْن الص َحا َب ِة ،وَلاَ التَّابِ ِع َ ِ ِ
َع َل ْيه َو َس َّل َم -وَلاَ َأ َحدٌ م ْن َّ
ني َو َا َّل ِذي َينْ َب ِغي َأ ْن تُترَْ َك َو َين َْهى َعن َْها»(. )1 َأ ِئ َّم ِة المُْ ْس ِل ِم َ
_______________
( )1جمموع الفتاوى (.)122 -23
126
�إذا �أردت �أن تدرك ف�ضل ليلة القدر
فاحذر املخا�صمة وامل�شاحنة
تَ ،ق َالَ :خ َر َج النَّبِ ُّي -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم- َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ
َّ ْ َ َ ْ
«خ َر ْج ُت ني َف َق َالَ : لِ ُي ْخبرَِ نَا بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر َف َتال ََحى َر ُجال َِن ِم َن ا ُمل ْس ِل ِم َ
ال َحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَنَ ،ف ُرفِ َع ْت َو َع َسى َأ ْن َيك َ
ُون لأُِ ْخبرَِ ُك ْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِرَ ،ف َت َ
السابِ َع ِةَ ،واخلَ ِام َس ِة»(. )1 ِ ِ
وها فيِ التَّاس َعةَ ،و َّ
ِ
خَيرْ ً ا َلك ُْمَ ،فا ْلتَم ُس َ
واملالحاة هي املخاصمة واملنازعة واملشامتة.
تأمل بسبب تالحي الرجلني ،حرم الصحابة معرفة هذه الليلة.
قال ابن بطال« :وهذا يدل أن املالحاة واخلالف يرصف فضائل
أجرا عظيماً »(. )2
كثري من الدين ،وحيرم ً
قال الشيخ حممد بن إبراهيم آل الشيخ -رمحه اهلل« :-ومن التوبة
اخلروج من املظامل ،والتخيل من حقوق اخللق ،يف الدماء واألموال
واألعراض ،وترك التشاحن; ويف احلديث عن النبي -صىل اهلل عليه
وسلم -قال :أريت ليلة القدر ،فخرجت ألخربكم ،فتالحى رجالن
_______________
( )1البخاري ( .)2023
( )2رشح صحيح البخارى البن بطال(.)158 -4
127
فرفعت فهذا يدل عىل أن التشاحن من أسباب موانع حصول اخلري»(.)1
فقد حيرم العبد فضل هذه الليلة بسبب خصومة مع أحد من
املسلمني ،فمن أراد النجاة فليخرج من قلبه كل ضغينة أو شحناء،
وليصفح عن إخوانه ،وليطلب العفو من كل من أخطأ يف حقه ،وليدعو
هلم بظهر الغيب ،لعل اهلل يم ُّن عليه بفضل هذه الليلة العظيمة.
_______________
( )1الدرر السنية (.)476 - 14
128
االعتكاف من �أقوى الأ�سباب لإدراك ليلة القدر
من استطاع أن يعكتف العرش األواخر من رمضان فقد حاز أعظم
األسباب إلدراك ليلة القدر مع ما يف االعتكاف من اخلري العظيم،
حريصا عىل إدراك ليلة القدر كل
ً فكان نبينا -صىل اهلل عليه وسلم-
احلرص ،حتى إنه اعتكف العرش األول من رمضان يطلبها ،ثم اعتكف
العرش األوسط يطلبها ،ثم ُأخبرِ أهنا يف العرش األواخر ،فاعتكف العرش
األواخر ،كام جاء يف صحيح مسلم( )1من حديث أيب سعيد اخلدري
ِ
-ريض اهلل عنه -قوله -صىل اهلل عليه وسلم« :-إنيِّ ا ْع َت َك ْف ُت ا ْلعَشرَْ
يتَ ،ف ِق َيل
الأَْ َّو َلَ ،أ ْلت َِم ُس َه ِذ ِه ال َّل ْي َل َةُ ،ث َّم ا ْع َت َك ْف ُت ا ْلعَشرَْ الأَْ ْو َس َطُ ،ث َّم ُأتِ ُ
ف َف ْليعت ِ ِ اخ ِرَ ،فمن َأح ِ ليِ :إِنا فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ
ف». َك ْ ب منْك ُْم َأ ْن َي ْعتَك َ َ ْ َ ْ َ َّ َ هََّ
وهذا كله من احلرص الشديد عىل أال تفوته ليلة القدر ،ملا يف
االعتكاف من اخللوة بربه وقلة اخللطة بالناس.
قال شيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل« :-واملقصود باالعتكاف:
ِ
مساجده ٍ
مسجد من ِ
لطاعة اهلل يف الناس؛ لِ َي َت َف َّر َغ
ِ نسان عناإل ِ انقطاع ِ
ُ
ِ
للمعتكف ْ
أن وإدراك ليلة ال َقدْ ِر ،ولذلك ين ِ
ْبغي ِ لفض ِل ِه وثوابِ ِه
طل ًبا ْ
_______________
( )1مسلم (.)1167
129
والعبادة ،وأن يتَجنَّب ما ال َيعنيه ِ ِ
والصالة ِ
والقراءة ِ
بالذكر َ
يشتغل
أه ِله بحديث ٍٍ يتحدث قليلاً
َ بأس ْ ِ
مباح مع ْ أن من حديث الدن َيا ،وال َ
املؤمنني -ريض اهلل عنها -قالت: َ ملصلحة ،حلديث َص ِف َّي َة أ ِّم
ٍ أو غريهم
ال فحدثتُه أزوره لي ً
ُ «كان النبي -صىل اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم -معتك ًفا فأ َت ْيتُه
النبي -صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه
ألنرصف إىل بيتي) فقا َم ُّ َ ب (أي: ِ
قمت أل ْن َقل َ
ثم ُ
معي» (احلديث)»(. )1 وس َّلمِ -
َ َ َ
قال احلافظ ابن رجب« :وإنام كان يعتكف النبي -صىل اهلل عليه
وسلم -يف هذا العرش التي يطلب فيها ليلة القدر قط ًعا إلشغاله وتفري ًغا
حصريا يتخىل فيها
ً للياليه وختل ًيا ملناجاة ربه وذكره ودعائه ،وكان حيتجر
عن الناس فال خيالطهم وال يشتغل هبم ،وهلذا ذهب اإلمام أمحد إىل أن
املعتكف ال يستحب له خمالطة الناس حتى وال لتعلم علم وإقراء قرآن
بل األفضل له االنفراد بنفسه والتخيل بمناجاة ربه وذكره ودعائه ،وهذا
االعتكاف هو اخللوة الرشعية وإنام يكون يف املساجد لئال يرتك به اجلمع
واجلامعات ،فإن اخللوة القاطعة عن اجلمع واجلامعات منهي عنها،
سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل وال يشهد اجلمعة
واجلامعة ،قال :هو يف النار .فاخللوة املرشوعة هلذه األمة هي االعتكاف
_______________
( )1جمالس شهر رمضان( ص )118وحديث صفية متفق عليه.
130
خصوصا يف شهر رمضان ،يف العرش األواخر منه ،كام كان
ً يف املساجد
النبي -صىل اهلل عليه وسلم -يفعله فاملعتكف قد حبس نفسه عىل طاعة
اهلل وذكره ،وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه ،وعكف بقلبه وقالبه
عىل ربه وما يقربه منه ،فام بقي له هم سوى اهلل وما يرضيه عنه... ،
فمعنى االعتكاف وحقيقته :قطع العالئق عن اخلالئق لالتصال بخدمة
اخلالق ،وكلام قويت املعرفة باهلل واملحبة له واألنس به أورثت صاحبها
االنقطاع إىل اهلل -تعاىل -بالكلية عىل كل حال»(. )1
_______________
( )1لطائف املعارف ص( .)190
131
احلكمة من �إخفاء ليلة القدر
تَ ،ق َالَ :خ َر َج النَّبِ ُّي -صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم- َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ
َّ ْ َ َ ْ
«خ َر ْج ُت نيَ ،ف َق َالَ : لِ ُي ْخبرَِ نَا بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر َف َتال ََحى َر ُجال َِن ِم َن ا ُمل ْس ِل ِم َ
ال َحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَنَ ،ف ُرفِ َع ْت َو َع َسى َأ ْن َيك َ
ُون لأُِ ْخبرَِ ُك ْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِرَ ،ف َت َ
السابِ َع ِةَ ،واخلَ ِام َس ِة»(. )1 ِ ِ
وها فيِ التَّاس َعةَ ،و َّ
ِ
خَيرْ ً ا َلك ُْمَ ،فا ْلتَم ُس َ
«و َع َسى َأ ْن َيك َ
ُون خَيرْ ً ا َلك ُْم» بيان فقوله -صىل اهلل عليه وسلمَ :-
يف أن اخلري يف عدم معرفتها ،فاخلري يف إعامر ليايل العرش بالقيام والذكر
ومجيع الطاعات رجاء إدراكها ،وقولهَ ( :ف ُرفِ َع ْت) املقصود :رفع العلم
ِ
هبا ،ال رفع ليلة القدر وأهنا غري موجودة ؛ بدليل قولهَ « :فا ْلتَم ُس َ
وها
السابِ َع ِةَ ،واخلَ ِام َس ِة».ففي احلديث أن اخلري يف إخفائها، ِ ِ
فيِ التَّاس َعةَ ،و َّ
وذلك باجلد يف طلبها يف العرش كاملة ،فتعمر أوقات العرش بالعبادة.
قال النيسابوري« :احلكمة يف إخفاء ليلة القدر يف الليايل ،كاحلكمة
يف إخفاء وقت الوفاة ويوم القيامة؛ حتى يرغب املكلف يف الطاعات
ويزيد يف االجتهاد وال يتغافل وال يتكاسل وال يتكل»(. )2
_______________
( )1البخاري ( )49و( )2023و(.)6049
( )2غرائب القرآن ورغائب الفرقان( .)537 -6
132
وقال شيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل« : -وإنام أهبمها اهلل -عز وجل-
لفائدتني عظيمتني :الفائدة األوىل :بيان الصادق يف طلبها من املتكاسل؛
ألن الصادق يف طلبها ال هيمه أن يتعب عرش ليال من أجل أن يدركها،
واملتكاسل قد يكسل ويقول :ما دام ال أدري أي ليلة هي يكسل أن يقوم
عرش ليايل من أجل ليلة واحدة .الفائدة الثانية :كثرة ثواب املسلمني
بكثرة األعامل ،ألنه كلام كثر العمل كثر الثواب»(. )1
_______________
( )1تفسري جزء عم (ص.)273
133
ا�ستحباب االغت�سال والطيب ليلة القدر
ج ٍد) وقال ابن عمر :اهلل
(خ ُذوا ِزينَ َتك ُْم ِعنْدَ ك ُِّل َم ْس ِ
قال -تعاىلُ :-
أحق أن يتزين له.
واألصل يف املسلم أن يتزين بكل ما يستطيع من زينة اللباس وأن
يغتسل ويتطيب عند رواحه إىل الصالة يف املسجد .وكام قال ابن عمر:
(اهلل أحق أن يتزين له) .وهذا الفهم ال خيرج إال ممن عظم قدر ربه،
وكلام ع َّظمت ربك يف قلبك تزينت له بأحسن زينة وأنت تقف بني يديه،
فاخرت لنفسك أحسن زينة يراها ربك عليك وأنت واقف بني يديه ،ومن
املؤسف ح ًقا أنك جتد من يتزين للمخلوقني بأحسن زينة ،وال ترى عليه
هذه الزينة ّملا يقف بني يدي ربه ،بل وصل ببعض املسلمني أن يأيت
خصصها للنوم ،و جتده يستحي أن يقابل هبا ضيفه!
للمسجد بثياب َّ
وهذا من جهله بقدر ربه.
والبعض جتد الطيب يفوح منه يف كل مناسبة ،أما يف املسجد ال جتد
منه شي ًئا ،هذا إن مل تشم منه ما تكره! وبيت اهلل أحق بكل طيب.
فأخذ الزينة عند املساجد والنظافة بشكل عام يف البدن وامللبس
والطيب هو ديدن املسلم يف كل وقت ،وإذا اجتمع هذا مع زمن ومكان
134
مبارك ومجع للمسلمني كان آكد ،ففي العرش األواخر من رمضان يتأكد
األمر؛ الجتامع فضائل ال جتتمع إال يف هذه الليايل ،وهي أفضل ليايل
السنة ،وفيها ليلة القدر التي يتحراها املسلم ،هلذا ُأثِ َر عن مجع من سلف
هذه األمة تعظيم هذه الليايل باالغتسال هلا واالستعداد بأحسن ما يمكن
من زينة من الطيب ولبس أحسن الثياب واالغتسال.
فقد كان النخعي يغتسل يف العرش كل ليلة ،ومن السلف من كان
يغتسل ويتطيب يف الليايل التي تكون أرجى لليلة القدر.
وروي عن أنس بن مالك -ريض اهلل عنه :-أنه إذا كان ليلة أربع
وعرشين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء ،فإذا أصبح طوامها
فلم يلبسهام إىل مثلها من قابل.
وقال محاد بن سلمة :كان ثابت البناين ومحيد الطويل يلبسان أحسن
ثياهبام ويتطيبان ويطيبون املسجد بالنضوح والدخنة يف الليلة التي ترجى
فيها ليلة القدر.
وقال ثابت :كان لتميم الداري حلة اشرتاها بألف درهم وكان
يلبسها يف الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
وقد جاءت بعض األحاديث عن النبي -صىل اهلل عليه وسلم-
يف االغتسال ليايل العرش ،لكن فيها ضعف ،ولكن أصل االستحاب
135
موجود ،وفعل السلف يؤيد هذا ،وقد يلتمس استحباب التطيب
والنظافة من نزول املالئكة ليلة القدر حيث متأل األرض ،وهي تتأذى مما
يتأذى منه بنو آدم ،فمن استشعر هذا املعنى مل يدع الطيب والزينة طيلة
ليايل العرش يف كل وقت ويف أي مكان.
قال احلافظ ابن رجب بعد ذكر ما جاء عند السلف يف االغتسال
والتطيب« :فتبني هبذا أنه يستحب يف الليايل التي ترجى فيها ليلة
القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس احلسن،
كام يرشع ذلك يف اجلمع واألعياد ،وكذلك يرشع أخذ الزينة بالثياب
(خ ُذوا ِزينَ َتك ُْم ِعنْدَ ك ُِّل َم ْس ِج ٍد)
يف سائر الصلوات ،كام قال –تعاىلُ :-
[األعراف ،]31 :وقال ابن عمر « :اهلل أحق أن يتزين له» ،وروي عنه
مرفو ًعا« :وال يكمل التزين الظاهر إال بتزين الباطن» بالتوبة واإلنابة
إىل اهلل -تعاىل-وتطهريه من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة
الظاهر مع خراب الباطن ال تغني شي ًئا ،قال اهلل -تعاىلَ ( :-يا َبنِي آ َد َم
اس ال َّت ْق َوى َذلِ َك خَيرْ ٌ ) َقدْ َأن َْز ْلنَا َع َليكُم لِباسا يو ِاري سوآتِكُم و ِر ً ِ
يشا َول َب ُ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ً َُ
[األعراف.]26 :
إذا املرء مل يلبس ثيا ًبا من التقى
تقلب عريانًا وإن كان كاسيــًا
136
ال يصلح ملناجاة امللك يف اخللوات إال من زين ظاهره وباطنه
خصوصا مللك امللوك الذي يعلم الرس وأخفى ،وهو ال ينظر
ً وطهرمها
إىل صوركم وإنام ينظر إىل قلوبكم وأعاملكم ،فمن وقف بني يديه فليزين
له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى»(. )1
_______________
( )1لطائف املعارف البن رجب (ص .)189
137
االحتفال بليلة القدر
ملا كانت ليلة القدر أفضل الليايل ونزل فيها القرآن العظيم قال
البعض :ينبغي أن تكون عيدً ا للمسلمني وحيتفل هبا ،وحصل من بعض
اجلهال االحتفال ببعض الليايل مثل ليلة سبع وعرشين عىل أهنا ليلة
القدر ،فتلقى فيها اخلطب وتوزع فيها اهلدايا واألطعمة ،وهذا كله من
البدع( . )1و اجلهل يف الدين ،فالذي نزل عليه القرآن وجاء بفضلها
-صىل اهلل عليه وسلم -مل يفعل هذا ،ومل يقل يو ًما أو حيث عىل االحتفال
هبا ،ثم هي ال تُعلم ،فيكف نحتفل بليلة ال تُعلم؟ ثم االحتفال احلق
بليلة القدر هو االجتهاد فيها بقيامها وبذل اجلهد يف ليايل العرش بالقيام
ومجيع أعامل الرب ،هذا هو هدي النبي -صىل اهلل عليه وسلم ،-فكان
جيتهد يف ليايل العرش ما ال جيتهد يف غريها .تقول عائشة -ريض اهلل
عنها« :-كان النبي -صىل اهلل عليه وسلم -إذا دخل العرش األخرية من
-ريض اللـ ُه عنهِ -
عن َ رمضان شد مئزره وأحيا ليله» ،وعن أيب هرير َة
واحتِسا ًبا
النبي -صىل اللـه عليه وس ّلم -قالَ « :من قا َم ليل َة ال َقدْ ِر إِيامنًا ْ ِّ
ْبه» رواه البخاري ومسلم. ُغ ِفر لـه ما َت َّقدم ِمن َذن ِ
َ َ ُ
_______________
( )1انظر فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (.)15882
138
فاالجتهاد بقيامها واالعتكاف فيها وبذل أقىص ما يمكن من جهد
فيها بأعامل الرب التي تقرب إىل اهلل هو العمل املطلوب فيها وهو هدي
النبي -صىل اهلل عليه وسلم -وسلف هذه األمة وخري اهلدي حممد
-صىل اهلل عليه وسلم.-
139
احلائ�ض والنف�ساء يف ليلة القدر
هل للحائض والنفساء حظ من فضائل ليلة القدر؟ نعم ،ال شك.
قال الضحاك « :كل من تقبل اهلل عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر»
واهلل ال خييب أحدً ا طلبه بصدق ،وقد حتصل احلائض عىل ثواب قيام
ليلة القدر من املغفرة وإن مل ِّ
تصل ،وذلك إذا قويت نيتها وكانت مواظبة
عىل القيام من قبل ،ومل يمنعها إال العذر الرشعي ،ونفسها تتوق للقيام،
فمثل هذه يرجى هلا حتصيل الثواب كاملاً وفضل اهلل واسع.
ويشهد هلذا ما جاء يف الصحيح « :إِ َّن بِالمَْ ِدين َِة َأ ْق َوا ًما َما سرِ ْ ت ُْم َم ِس ًريا،
اد ًيا إِلاَّ كَانُوا َم َعك ُْمَ ،قا ُلواَ :و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة؟ َق َالَ :و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة،
وَلاَ َق َطعتُم و ِ
ْ ْ َ
َح َب َس ُه ُم ا ْل ُع ْذ ُر».
ففي احلديث الترصيح أن من حبسه العذر ُيكتب له األجر كاملاً
صح ْت ن َّيته.
إذا َّ
اج َز َع ِن ال َّطا َع ِةار ُع َقدْ ن ََّز َل ا ْل َع ِ
الش ِ «...وإِ َذا ك َ
َان َّ َ قال ابن القيم:
الص ِح ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
يح« :إِ َذا َمن ِْز َل َة ا ْل َفاع ِل لهََا ،إِ َذا َص َّح ْت ن َّي ُت ُهَ ،ك َق ْوله فيِ الحَْديث َّ
يح الص ِح ِ ِ
يحا ُمقيماً » وَفيِ َّ
ِ
َان َي ْع َم ُل َصح ً ب َل ُه َما ك َ ِ
َم ِر َض ا ْل َع ْبدُ َأ ْو َسا َف َر كُت َ
َأي ًضا َعنْه« :إِ َّن بِالمَْ ِدين َِة َأ ْقواما ما سرِ تُم م ِسريا ،وَلاَ َق َطعتُم و ِ
اد ًيا إِلاَّ كَانُوا ْ ْ َ َ ً َ ْ ْ َ ً ُ ْ
140
َم َعك ُْمَ ،قا ُلواَ :و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة؟ َق َالَ :و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِةَ ،ح َب َس ُه ُم ا ْل ُع ْذ ُر»(. )1
وكذا املريض ممن منعه مرضه عن قيام ليلة القدر أو املسافر الذي
منعه سفره وهو ممن يقومها ومل يمنعه إال السفر واملرض ،فهذا له األجر
ِ
َان َي ْع َم ُل كاملاً بالنص السابق «إِ َذا َم ِر َض ا ْل َع ْبدُ َأ ْو َسا َف َر كُت َ
ب َل ُه َما ك َ
يحا ُم ِقيماً ». ِ
َصح ً
ثم للحائض والنفساء إحياء الليل بكل طاعة غري الصالة ،و فمن
أفضل القرب والطاعات قراءة القرآن يف رمضان ،وخاصة ليايل العرش،
وال يمنعها احليض والنفاس من قراءة القرآن فالصحيح من أقوال
مس له ،وهلا أن متسكه بحائل مثل
العلامء أن هلا أن تقرأ القرآن من غري ٍّ
القفازين وغريها ،ومن أعامل الرب الدعاء والذكر ،خاصة قول« :ال َّل ُه َّم
ِ
ف َعنِّي» وباجلملة عليها أن تشغل نفسها بكل إِن ََّك ُع ُف ٌّو حُت ُّ
ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ
ما يريض رهبا وسوف يرضيها رهبا بفضله وكرمه.
_______________
( )1مدارج السالكني ( .)296 -1
141
كانت امرأة حبيب أيب حممد تقول له بالليل :قد ذهب الليل ،وبني
أيدينا طريق بعيد وزاد قليل ،وقوافل الصاحلني قد سارت قدامنا ونحن
قد بقينا.
قم يا حبيبي قد دنا املوعــد يا نائـــم الليل كم ترقــــد
وردا إذا مـــا هجع الرقــد وخـــذ من الليل و أوقـاته
لـم يبلــغ املنزل أو يـجهـد مــن نام حتى ينقيض ليلــه
قنطرة العرض لكم موعــد قل لذوي األلباب أهل التقى
دونكم فرصة العمر ليلة القدر ،واهلل هي ح ًّقا ليلة العمر ،من فاته
فضلها فاته اخلري وكان من املحرومني ،وهي يف عرش ٍ
ليال فقط ال غري،
وهي واهلل ساعات نعدُّ ها عدًّ ا ،فام عليك إال عقد النية الصادقة يف
حتصيلها ،ثم النهوض بقوة وعزم ،ومنافسة القوم لبلوغ قمة جمدها.
وإن رأيت من نفسك كسلاً فتأمل حال نبيك -صىل اهلل عليه
وسلم -وهو أفضل البرش ،كيف كان يسهر الليايل يطلب ليلة القدر،
االول ثم
وكان يعتكف طل ًبا هلا ،وكان من حرصه أنه اعتكف العرش ُ
142
األوسط ثم العرش اآلواخر ،كل هذا سع ًيا يف إدراكها ،وكان جيدُّ وجيتهد
يف ليايل العرش ما ال جيتهد يف غريها.
وتذكر يوم يقال« :غدً ا العيد!» ياهلل! كم هي فرحتك إن كنت من
اجلادين يف طلبها وأتعبت نفسك يف حتصيلها! ،وكم هو حزنك وخيبتك
لو كنت من املفرطني وقد انتهى الوقت وذهب التعب والنصب ،وما
بقي إال الفوز والفالح لطالهبا ،واخليبة واخلرسان للبطالني املتكاسلني!.
َأ ْين من حيذر ا ْل َع َذاب وخيشى َأن ُيصَليِّ الجَْ ِحيم مأوى اللئام
بحـور يف جنان اخللود َبني الخْ يـــام ٍ َأ ْين من َي ْشت َِهي التذا ًذا
التامسا لهََا لــذيـــذ المَْـنـــَام
ً التمس فِ ِيه َل ْي َلة ا ْلقدر واتـرك
واجتـهد فيِ ع َبا َدة اهلل واسأل َفضــلــه ِعنْد َغف َلة النـــوام
يا ا خيبـــة لـمن َخاب فِ ِ
َعـن ُب ُلوغ املنى بدار ّ
الســَلاَ م يـه َ َ لهََ
ســاترا َشــره بِ َث ْوب الظـالم َان فِ ِيه
َيا لهََا حـســـرة لـمن ك َ
َعامل فاهدين َسبِيل الــقـــوام َيا إِ َلــه الجَْ ِميــع َأنْــت بحايل
143
�أف�ضل ما يطلبه العبد من ربه يف ليلة القدر
«لو علمت أي ليلة ليلة القدر؛ لكان أكثر دعائي فيها أن أسأل اهلل
العفو والعافية»(. )1
(أم املؤمنني عائشة -ريض اهلل عنها)-
_______________
( )1رواه النسائي يف الكربى ( ، )10648والبيهقي يف الشعب َ « 3428ما َس َأ ْل ُت اهللَ فِ َيها إِلاَّ
ا ْل َعافِ َي َة» وأخرجه ابن أيب شيبة (.)29189
144
�أف�ضل ما يقال ليلة القدر
ول اللهَِّ َأ َر َأ ْي َت إِ ْن َع ِل ْم ُت َأ ُّي َل ْي َل ٍة َع ْن َع ِائ َش َةَ ،قا َل ْتُ « :ق ْل ُتَ :يا َر ُس َ
ِ َلي َل ُة ال َقدْ ِر ما َأ ُق ُ ِ
ف ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ ول ف َيها؟ َق َالُ :قوليِ :ال َّل ُه َّم إِن ََّك ُع ُف ٌّو حُت ُّ َ ْ
َعنِّي »(.)1
ريض اهلل عن أم املؤمنني الصديقة بنت الصديق ،فقد سألت سؤالاً
عظيماً كل األمة بحاجة إليه ،وقد جاءت اإلجابة بأوجز عبارة ممن أويت
_______________
يح .وابن ماجه ( . )3850وأمحد ِ ( )1أخرجه الرتمذي ( )3513وقالَ :ه َذا َح ِد ٌ
يث َح َس ٌن َصح ٌ
رقم( )25495- 25384وابن أيب شيبة ( ،)29189والبيهقي يف شعب اإليامن ( )3426ويف
فضائل األوقات ( 113و )114ويف األسامء والصفات رقم( )92ويف الدعوات الكبري ( )234
يث ص ِحيح عَلىَ شرَ ِ ِ
ط ْ ويف السنن الصغرى للبيهقي( ) 1403واحلاكم يف املستدرك وقال َ :ه َذا َحد ٌ َ ٌ
يخَُر َجا ُه « رقم( )1942والنسائي يف الكربى رقم ( ) 10646 - 7665وعنه ابن الش ْيخَينْ ِ ،وَلمَ ْ ِّ
َّ
السني يف عمل اليوم والليلة( )690-1وإسحاق ابن راهويه يف مسنده ()1361ويف قيام الليل
للمروزي (املخترص ج 1ص )259و معجم أبو يعىل املوصيل رقم () 43و الدعاء للطرباين رقم
( )916والتوحيد البن منده رقم ( )300ومسند الشهاب القضاعي رقم( ). 1474
واحلديث صحيح وال حجة ملن أعله ،وكل من أعله تبع الدارقطني يف ذلك كالبيهقي ومن جاء بعده
إىل اليوم وقد أعله الدارقطني بأن عبد اهلل بن بريدة (مل يسمع من عائشة شيئ ًا) ولكن عبد اهلل بن بريدة
عارص عائشة -ريض اهلل عنها -وهذا يكفي يف إمكانية سامعه منها ،فهو عارصه يقينًا ،وهو ثقة ،ومل
يعرف بالتدليس ،بل هو من رجال الصحيح ،وهلذا صحح احلديث علامء كثر من املحققني عىل مر
التاريخ وأخذوا به واحتجوا به إىل يومنا هذا .وانظر كالم املحدث األلباين -رمحه اهلل -حول هذا
احلديث ،وقد كان الشيخ األلباين -رمحه اهلل -قد تبع االدارقطني يف تضعيفه ،ثم رجع عن ذلك وقال
بصحته .انظره يف السلسلة الصحيحة (.)1010 -7
145
جوامع الكلم -صىل اهلل عليه وسلم ،-واستفدنا فائدة عظيمة عن أعظم
األدعية يف أفضل األوقات وأبركها ،ولك أن تتخيل هذا املشهد العظيم
اجلميل بني سيد األنبياء والرسل -صىل اهلل عليه وسلم -و زوجته
أحب الناس إليه ،وختيل معي تلك اللحظات التي تأيت عائشة -ريض
اهلل عنها -وهي أطوع نساء األمة وأحبهن للخري تسأل زوجها و من
حيبها ويقدمها عىل كل الناس وهو النبي -صىل اهلل عليه وسلم ،-وما
هناك أنصح منه -صىل اهلل عليه وسلم -لألمة ،وختيل تلك الساعة التي
جتلس فيها عائشة -ريض اهلل عنها -عند زوجها وأحب الناس إليها،
وهو وال يقدم يف احلب غريها ،تطلب منه النصح وهو نبي اهلل املؤيد
بالوحي ،وهي تسأل :ما تقول يف ليلة القدر أعظم الليايل؟ وعائشة ريض
اهلل عنها حريصة عىل أن تفعل أفضل يشء يمكن فعله يف هذه الليلة،
ونبينا -صىل اهلل عليه وسلم -سوف يوصيها بأعظم وصية وأفضل ما
يقال ،وسوف ينصح هلا أعظم النصح ،سوف يقول أفضل كلامت تقال
يف تلك الساعة ،كل األمة مرتقبة هلذه اإلجابة التي خترج من مشكاة
النبوة إىل أم املؤمنني أحب اخللق إليه ،فكانت هذه الكلامت العظيمة
ِ
التي هي من جوامع الكلم( :ال َّل ُه َّم إِن ََّك ُع ُف ٌّو حُت ُّ
ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ
ف َعنِّي)،
وهي ليست خاصة بليلة القدر فقط ،أو يف رمضان وحده ،بل ينبغي أن
تصبح ديدن املسلم يف كل وقت .وعلم من هذه الوصية أن طلب العفو
146
من اهلل من أعظم األدعية التي ينبغي أن ال يفرت عنها العبد؛ ألن من عفا
عنه ربه فقد فاز ،وأي يشء يطلبه العبد بعد العفو عنه؟! قال ابن الق ّيم
-رمحه اهلل :-ال سبيل له (أي للعبد ) إىل النّجاة إلاّ بعفوه ومغفرته ّ
-جل
يتغمده بعفوه ومغفرته ،وإلاّ فهو من
وعال -وأنّه رهني بح ّقه ،فإن مل ّ
اهلالكني ال حمالة ،فليس أحد من خلقه إلاّ وهو حمتاج إىل عفوه ومغفرته
كام هو حمتاج إىل فضله ورمحته(. )1
_______________
( )1مفتاح دار السعادة (.)291 -1
147
اع ُف عَ ِّني ال َّله َُّم ِ�إ َّن َك عَ ُف ٌّو حُ ِ
ت ُّب ا ْل َع ْف َو َف ْ
اللهم :أي ياهلل!.
إنك عفو حتب العفو :وهذه كاملقدمة ملا تطلب ،تدخل فيها عىل
اهلل ،وتتوسل إليه بأسامئه وصفاته املناسبة للدعوة ،فطلب العفو يناسب
التوسل باسم العفو ،وهذا من أسباب اإلجابة أن تطلب وختتار اسماً
يناسب الدعاء ،واهلل حيب املدح فتمدحه بام حيب.
فاعف عني :هذا هو غاية ما تطلب ،العفو ،وكأنك تقول :يا اهلل
إنك حتب العفو وأنا عبدك املقرص يف حقك ،أطلب عفوك وال يملك
العفو عني إال أنت.
أي تطلب من اهلل أن يتجاوز عن كل ذنب فعلته ويرتك عقابك ،فال
ٍ
لذنب أثر بعد العفو. يبقى
قال ابن األثري « :فيِ َأ ْسماَ ِء اللهَِّ – َت َعالىَ « -ال َع ُف ّو» ُه َو َف ُعولِ ،م َن ال َع ْفو
الع َقاب َع َل ْي ِه» (.)1وترك ِ ُ َّجاوز َع ِن َّ
الذنْب ُ َو ُه َو الت
قال ابن عالن الشافعي« :قوله( :قويل اللهم إنك عفو) بصيغة
فعول املوضوعة للمبالغة ألبلغية عفوه -سبحانه -كي ًفا وكماًّ يعفو عن
_______________
( )1النهاية البن األثري (.)265 \ 3
148
الكبائر غري الرشك ،وعنه بعد اإلسالم ،وعام ال يعلم عدده سواه( ،حتب
العفو) خرب بعد خرب ،أو حال من ضمري اخلرب قبله ،أو مجلة مستأنفة أتى
هبا إطنا ًبا( ،فاعف عني) وفيه إيامء إىل أن أهم املطالب انفكاك اإلنسان
من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب ،فإنه بالطهارة من ذلك
يتأهل لالنتظام يف سلك حزب اهلل وحزب اهلل هم املفلحون»(. )1
قال ابن رجب« :العفو من أسامء اهلل -تعاىل -وهو يتجاوز عن
سيئات عباده ،املاحي ألثارها عنهم ،وهو حيب العفو ،فيحب أن يعفو
عن عباده وحيب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض ،فإذا عفا بعضهم
عن بعض عاملهم بعفوه ،وعفوه أحب إليه من عقوبته ،وكان النبي
-صىل اهلل عليه وسلم -يقول« :أعوذ برضاك من سخطك وعفوك من
عقوبتك»( )2قال حييى بن معاذ« :لو مل يكن العفو أحب األشياء إليه مل
كثريا من أوليائه وأحبابه
يبتل بالذنب أكرم الناس عليه» يشري إىل أنه ابتىل ً
بيشء من الذنوب؛ ليعاملهم بالعفو ،فإنه حيب العفو».
قال بعض السلف الصالح :لو علمت أحب األعامل إىل اهلل –تعاىل-
_______________
( )1دليل الفاحلني لطرق رياض الصاحلني(.)657-6
اك ِم ْن َس َخط َكَ ،وبِ ُم َعا َفات َك م ْن ُع ُقو َبت َكَ ،و َأ ُعو ُذ بِ َك
ِ ِ ِ ِ (لله َّم َأ ُعو ُذ بِ ِر َض َ ( )2اخرجه مسلم بلفظ ُ
ْت كَماَ َأ ْثنَ ْي َت عَلىَ َن ْف ِس َك).
ِمن َْك لاَ ُأ ْحصيِ َثنَا ًء َع َل ْي َك َأن َ
149
ألجهدت نفيس فيه ،فرأى قائلاً يقول له يف منامه :إنك تريد ما ال يكون،
إن اهلل حيب أن يعفو ويغفر ،وإنام أحب أن يعفو ليكون العباد كلهم حتت
عفوه ،وال يدل عليه أحدً ا منهم بعمل.
وقد جاء يف حديث ابن عباس مرفو ًعا« :إن اهلل ينظر ليلة القدر إىل
املؤمنني من أمة حممد -صىل اهلل عليه وسلم -فيعفو عنهم ويرمحهم إال
أربعة :مدمن مخر ،وعا ًّقا ،ومشاحنًّا ،وقاطع رحم».
ملا عرف العارفون بجالله خضعوا ،وملا سمع املذنبون بعفوه
ثم إال عفو اهلل أو النار ،لوال طمع املذنبني يف العفو الحرتقت
طمعوا ،ما َّ
قلوهبم باليأس من الرمحة ،ولكن إذا ذكرت عفو اهلل اسرتوحت إىل برد
عفوه.
كان بعض املتقدمني يقول يف دعائه« :اللهم إن ذنويب قد عظمت
فج َّلت عن الصفة ،وإهنا صغرية يف جنب عفوك ،فاعف عني».
وقال آخر منهم« :جرمي عظيم ،وعفوك كثري ،فامجع بني جرمي
وعفوك يا كريم».
اهلل مـــن ذنبــك أكرب يا كبري الذنب عفــو
جنب عفو اهلل يصغر
()1
أكرب األوزار فــــي
_______________
( )1لطائف املعارف ( ص 205و.)206
150
السْت�رْ ِ ،ُ�ون بِ َم ْعنَى َّ �و :الَّت�رَّ ْ ُكَ ،و َيك ُ «و َم ْعنَ�ى ا ْل َع ْف ِ ق�ال ابن مفل�حَ :
ِ ِ ِ
�ف َعنِّي» َأ ِي :ات ُْر ْك َوال َّت ْغطيَ�ةَ ،ف َم ْعنَ�ى «ال َّل ُه َّم إِن ََّك َع ُف ٌّو حُت ُّ
ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ
ِ ِ
ف اص ْ ب َعنِّ�ي َع َذا َب َكَ ،و رْ ِ اسُت�رُ ْ عَليَ َّ َذنْبِ�يَ ،و َأ ْذه ْ ُم َؤاخَ�ذَتيِ بِ ُج ْرميَ ،و ْ
َعنِّي ِع َقا َب َك.
«س ُلوا اللهََّ ا ْل َع ْف َو َوا ْل َعافِ َي َة ِ ِ
َوللن ََّسائ ِّي م ْن َحديث أَبيِ ُه َر ْي َر َة َم ْر ُفو ًعاَ :
ِ ِ (ِ )1
ول ني خَيرْ ً ا ِم ْن ُم َعا َف ٍاة» َفالشرَّ ُّ المَْاضيِ َي ُز ُ َوالمُْ َعا َفاةَ ،فَماَ ُأوتيَِ َأ َحدٌ َب ْعدَ َي ِق ٍ
بِا ْل َع ْف ِوَ ،والحَْاضرُِ بِا ْل َعافِ َي ِةَ ،والمُْ ْس َت ْق َب ُل بِالمُْ َعا َف ِاة لِت ََض ُّمنِ َها َد َوا َم ا ْل َعافِ َي ِة»(. )2
الزيادة عىل هذا الدعاء بام فيه مصالح الدنيا واآلخرة:
ال شك أن اآلخرة أوىل من الدنيا ،والدعاء بام ينفع يف اآلخرة ال
يقارن بمتاع الدنيا ،لكن ال مانع من الزيادة عىل هذا الدعاء الذي ع َّلمه
النبي –صىل اهلل عليه وسلم -لعائشة -ريض اهلل عنها -والدعاء بام فيه
صح عن عائشة –ريض اهلل عنها -قوهلا:
مصالح الدنيا واآلخرة ،وقد َّ
«لو علمت أي ليلة ليلة القدر ،لكان أكثر دعائي فيها أن أسأل اهلل العفو
والعافية» .و هي هبذه الدعوة تكون قد مجعت بني الدنيا واآلخرة ،وهذه
غاية السعادة ،فمن وفق هلذا الدعاء َس ِعد ،فليكثر العبد يف هذه الليلة من
_______________
( )1السنن الكربى () 10651ومسند أبو يعىل( .)49
( )2املبدع يف رشح املقنع البن مفلح ( .) 59 -3
151
ِ
قول« :ال َّل ُه َّم إِن ََّك َع ُف ٌّو حُت ُّ
ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ
ف َعنِّي» ومن دعاء عائشة –ريض
اهلل عنها« -العفو والعافية» وال بأس بالزيادة عىل ذلك بام فيه صالح
الدنيا واآلخرة ،وال يغفل العبد يف هذه الليلة أن ُيكثِر فيها من الدعوات
بمهامت املسلمني ،فهذا شعار الصاحلني وعباد اهلل العارفني(.)1
قال شيخنا ابن عثيمني -رمحه اهلل« :-وال يمنع من الزيادة عىل ما
ورد» (. )2
وقال -رمحه اهلل« :-والناس هلم طلبات خمتلفة متنوعة ،فهذا مثلاً
يريد عافية من سقم ،وهذا يريد غنى من فقر ،وهذا يريد النكاح من
إعدام ،وهذا يريد الولد ،وهذا يريد علماً ،وهذا يريد مالاً ،فالناس
خيتلفون.وليعلم أن األدعية الواردة خري وأكمل وأفضل من األدعية
سطرا أو
املسجوعة ،التي يسجعها بعض الناس ،وجتده يطيل ،ويذكر ً
سطرين يف دعاء بيشء واحد ليستقيم السجع ،لكن الدعاء الذي جاء
يف القرآن أو يف السنة ،خري بكثري مما صنع مسجو ًعا ،كام يوجد يف بعض
املنشورات» (. )3
_______________
( )1األذكار للنووي (.)191
( )2الرشح املمتع عىل زاد املستقنع(.)498 -6
( )3املصدر السابق.
152
ملاذا ن�س�أل اهلل العفو بعد االجتهاد يف الأعمال؟
قال احلافظ ابن رجب :وإنام أمر بسؤال العفو يف ليلة القدر بعد
االجتهاد يف األعامل فيها ويف ليايل العرش؛ ألن العارفني جيتهدون
حلا ،وال حالاً وال مقالاً ،
يف األعامل ثم ال يرون ألنفسهم عملاً صا ً
فريجعون إىل سؤال العفو كحال املذنب املقرص.
ٍ
بعارف من مل يكن غاية أمله من اهلل قال حييى بن معاذ« :ليس
العفو».
فشأنــك عفو عن الذنب إن كنت ال أصلح للقرب
كان مطرف يقول يف دعائه« :اللهم ارض عنَّا ،فإن مل ترض عنَّا
فاعف عنَّا».
من عظمت ذنوبه يف نفسه مل يطمع يف الرضا ،وكان غاية أمله أن
يطمع يف العفو ،ومن كملت معرفته مل ير نفسه إال يف هذه املنزلة.
ك وقد أســاء وقد هفا يـا رب عبدك قـد أتــا
من سوء ما قد أسـلفـا يكفيــه منـك حيــاؤه
ب الـموبقات وأسـرفا محل الذنوب عىل الذنو
153
ك من عقــابك ملحفـا وقد استجار بذيل عفو
()1
فألنت أوىل من عفـا رب اعــف وعــافــه
فائدة:
قال األلباين –رمحه اهلل:-
«(تنبيه) :وقع يف (سنن الرتمذي) بعد قوله( :عفو) زيادة( :كريم)!
وال أصل هلا يف يشء من املصادر املتقدمة ،وال يف غريها ممن نقل عنها،
فالظاهر أهنا مدرجة من بعض الناسخني أو الطابعني؛ فإهنا مل ترد يف
الطبعة اهلندية من (سنن الرتمذي) التي عليها رشح (حتفة األحوذي)
للمباركفوري ( ،)264/4وال يف غريها .وإن مما يؤكد ذلك أن النسائي
يف بعض رواياته أخرجه من الطريق التي أخرجها الرتمذي ،كالمها عن
شيخهام (قتيبة بن سعيد) بإسناده دون الزيادة »(. )2
_______________
( )1ابن رجب لطائف املعارف (ص.)206
( )2سلسلة األحاديث الصحيحة ويشء من فقهها وفوائدها ( -7ص 1011و.)1012
154
�إ�ضاءة وختام
فكم سعد يف هذه الليلة أقوام!
قال الشيخ عبد الرمحن بن نارص السعدي -رمحه اهلل:-
قالت عائشة -ريض اهلل عنها« : -يا رسول اهلل :إن وافقت ليلة
القدر فبم أدعو؟ قال :قويل اللهم إنك عفو حتب العفو فاعف عني».
هكذا كانت حالة الصفوة األخيار ،يتنافسون يف هذه الليلة،
ويلتجئون إىل امللك الغفار.
أما حيق لك أهيا املؤمن أن جترد قلبك يف هذه الليلة من مجيع األشغال،
وأن تقبل بكليتك إىل طاعة ذي العظمة واجلالل ،وأن تعرتف بذنوبك
خملصا يف خضوعك وانكسارك؟
ً وفاقتك وافتقارك ،وأن تتوسل إليه
تقول :يا رب قد عظمت مني الذنوب ،يا رب قد تكاثرت عيل اخلطايا
والعيوب ،يا رب أنا الفقري املعدم املضطر إليك ،يا رب ال ملجأ منك
إال إليك ،إن رددتني من يقبلني؟ وإن خيبتني من يصلني؟ وإن حرمتني
من يعطيني؟ وإن أبعدتني فمن الذي يقربني ويدنيني؟ ال رب يل غريك،
وال إله يل سواك ،وال أستعني بغريك ،وال أعبد إال إياك .أنت الذي
خلقتني ورزقتني ،وأنت الذي واليت عيل النعم وعافيتني .آالؤك تتواىل
155
الليل والنهار ،ونعمك ليس هلا حد وال منتهى وال انحصار .أرجوك يف
هذه الليلة الكريمة أن تغفر ذنويب ،وأن تصلح فاسدي وناقيص وعيويب،
وأن تسعفني يا موالي بمطلويب.
وحيق لك أن تدعو بدعاء النبي -صىل اهلل عليه وسلم -الذي مجع
خري الدنيا واآلخرة ،وشمل حصول النعم الباطنة والظاهرة ،فتقول:
«اللهم أصلح يل ديني الذي هو عصمة أمري ،وأصلح يل دنياي التي
فيها معايش ،وأصلح يل آخريت التي إليها معادي ،واجعل احلياة زيادة
يل يف كل خري ،واملوت راحة يل من كل رش ،اللهم رمحتك أرجو فال
تكلني إىل نفيس طرفة عني ،وأصلح يل شأين كله ال إله إال أنت »
()1
لعلك تصادف ساعة إجابة تسعد فيها سعادة ال تشقى بعدها ،ولعلك
توافق نفحة من نفحات الكريم تصلح أمورك هبا .فكم سعد يف هذه
الليلة أقوام؟! وكم هلل فيها من جزيل الفضل وواسع اإلنعام؟! وكم
أعتق فيها املرسفون من النار؟! حني أخلصوا لرهبم وأكثروا من التوبة
واالستغفار ،وكم صفى فيها للصفوة من قلوب نرية وأرسار؟! وكم
_______________
( )1هذا الدعاء ورد يف صحيح مسلم ( )2720إىل قوله( :واملوت راحة يل من كل رش) وما أورده
الشيخ بعده من دعاء إىل قوله( :وأصلح يل شأين كله ال إله إال أنت) فهو يف حديث آخر منفصل
عن هذا أخرجه أمحد ( )20430وأبو داود ( )5090والنسائي يف السنن ( )10412والبخاري يف
االدب املفرد(.)701
156
أغدق عىل قلوهبم من املعارف العالية فصاروا من خرية األبرار؟!.
اللهم وما قسمت يف هذه الليايل املباركة من خري وبر وفضل
وإحسان فاجعل لنا منه أوفر احلظ وأشمل االمتنان ،وما قسمت فيها
من رش وبالء فارصفه عنا يف كل وقت وأوان ،اللهم خذ بنواصينا إليك،
وأقبل بقلوبنا عليك ،وال حترمنا خري ما عندك برش ما عندنا ،يا أرحم
الرامحني(.)1
_______________
( )1الفواكه الشهية يف اخلطب املنربية (.)172 -1
157
158
الفهر�س
5 الـمـقدمــة
9 تـاج الليايل
10 سيدة الليايل
12 وأهيام أفضل :ليلة القدر أو ليلة اإلرساء؟
الليلة املباركة فليكن لك من بركة هذه الليلة أوف��ر احلظ
15 والنصيب
16 الليلة املباركة املحروم من حرم بركة هذه الليلة
ليلة الرشف والفضل اكتسب القدر والرشف والفضل العظيم
22 فـي ليلة القدر
23 اصعد إىل قمة الرشف والفضل بإحياء ليلة القدر
26 الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم
27 الليلة التي تكتب فيها األقدار واألرزاق واآلجال
30 ملاذا ُس ِّميت ليلة القدر هبذا االسم ؟
33 ليلة نزول القرآن العظيم
34 ليلة نزول القرآن العظيم
159
40 املشوق إىل فضل ليلة القدر
41 التشويق إىل ما يف ليلة القدر من اخلري العظيم
45 فضل ليلة القدر املدهش للعقول
الفضل املدهش للعقول واملحفز للنفوس إلدراك ليلة القدر 46
62 ليلة نزول املالئكة ومعهم جربيل -عليه السالم-
املشهد العظيم ملن كان له قلب نزول املالئكة وجربيل ليلة القدر 63
68 ليلة السالم
73 ليلة املغفرة
هل البد من قيام كل الليل بالصالة حتى نحصل عىل مغفرة
75 الذنوب؟
من رشط غفران الذنوب أن يكون القيام إيامنًا واحتسا ًبا
79 فام املراد باإليامن واالحتساب؟
80 هل تشمل مغفرة الذنوب الكبائر والصغائر؟
83 مغفرة ما تأخر من الذنب
86 كيف تكفر الذنوب املتأخرة؟
89 أمارات ليلة القدر
160
90 العالمات التي تعرف هبا ليلة القدر
95 معرفة ليلة القدر عن طريق الرؤيا
97 أصح العالمات الدالة عىل ليلة القدر
99 ملاذا تكون الشمس ال شعاع هلا صبيحة ليلة القدر؟
ما الفائدة من معرفة هذه العالمة وهي ال تعرف إال بانقضاء
102 الليلة؟
هل الثواب والفضل اخلاص بليلة القدر ال يناله إال من علم هبا
103 وشعر هبا؟
106 من علمها هل خيرب هبا أو يكتمها؟
111 اطلب ليلة القدر يف العرش األواخر
112 التمس ليلة القدر يف العرش األواخر من رمضان
120 وقفة مع خالف العلامء يف تعيني ليلة القدر
122 ليلة سبع وعرشين
126 بدعة صالة القدر
إذا أردت أن تدرك فضل ليلة القدر فاحذر املخاصمة واملشاحنة 127
129 االعتكاف من أقوى األسباب إلدراك ليلة القدر
161
132 احلكمة من إخفاء ليلة القدر
134 استحباب االغتسال والطيب ليلة القدر
138 االحتفال بليلة القدر
140 احلائض والنفساء يف ليلة القدر
144 أفضل ما يطلبه العبد من ربه يف ليلة القدر
145 أفضل ما يقال ليلة القدر
ِ
148 ف َعنِّي ال َّل ُه َّم إِن ََّك َع ُف ٌّو حُت ُّ
ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ
153 ملاذا نسأل اهلل العفو بعد االجتهاد يف األعامل؟
155 إضاءة وختام
159 الفهرس
162