You are on page 1of 162

1

2
3
4
‫الـمـقدمــة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقاص ِم‬
‫بالعز والقهر‪ ،‬حُمْيص‬
‫ِّ‬ ‫اجلبابرة‬ ‫الس واجلهر‪،‬‬ ‫احلمدُ هلل عاملِ رِّ‬
‫نور الفجر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وباعث ظال ِم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ِري يف الن َّْهر‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ينسخه ُ‬ ‫الليل‬ ‫قطرات املاء وهو جَ ْ‬
‫ِ‬
‫األعني وخافية‬ ‫بخا َئن َِة‬
‫األجر‪ ،‬ال َعاملِ َ‬ ‫ومكمل ْ‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫للعابدي َن‬ ‫مو ِّفر الثواب‬
‫َ‬
‫الفرخ‬ ‫الر ْم ِل وال‬ ‫َ‬
‫النمل يف َّ‬ ‫رت ِك‬ ‫ِ‬
‫مجيع خلقه ف َلم ْي ُ‬
‫ِ‬
‫الصدر‪َ ،‬شمل برزقه َ‬
‫بعض‬ ‫وفضل َ‬ ‫الغنَى وال َفقر‪َّ ،‬‬ ‫وبحكْمتِ ِه وقوع ِ‬ ‫يف ا ْلوكر‪ ،‬أغنى وأ ْف َقر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ألف‬‫أوقات الدَّ هر‪َ ،‬ليل ُة القدْ ر خري ِمن ِ‬ ‫َ‬ ‫املخلوقات عىل بعض حتى‬ ‫ِ‬
‫ٌ ْ‬
‫ب املزيدَ من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يستجل ُ‬ ‫شكرا ْ‬
‫شهر‪ ،‬أمحدُ ه محدً ا ال ُمنتَهى ل َعدَ ده‪ ،‬وأشكره ً‬
‫أن ال إِل َه إِالَّ اهلل وحده ال رشيك له شهادة خملص يف‬ ‫دده‪ ،‬وأشهد ْ‬ ‫م ِ‬
‫َ‬
‫بني أصابع‬ ‫أن حممدً ا عبدُ ه ورسو ُله ا َّل ِذي نَبع املا ُء م ْن َ‬ ‫ُم ْع َت َقده‪ ،‬وأشهدُ َّ‬
‫رخائه وشدائده‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بكر صاحبه يف‬ ‫يده ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ ،-‬وعىل أيب ٍ‬ ‫ِ‬

‫جامع‬‫عثامن ِ‬
‫َ‬ ‫اإلسال ِم و َع ُضده‪ ،‬وعىل‬ ‫ف ِ‬ ‫وعىل عمر بن اخلطاب كه ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫انا بِ ُم ْف َر ِده‪ ،‬وعىل‬‫احلروب وشجع هِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫عيل كايف‬ ‫وموحده‪ ،‬وعىل ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫كتاب اهلل‬
‫ومقصده‪ ،‬وس َّلم تسلي ًام(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫كل منهم يف ِ‬
‫عمله‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫املحسن ٌ‬ ‫آلِ ِه وأصحابِه‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مقتبس من ( جمالس شهر رمضان) لشيخنا ابن عثيمني ‪ -‬رمحه اهلل ‪ -‬ص ‪.120‬‬

‫‪5‬‬
‫أما بعد‪:‬‬

‫فهذه مسائل دونتها‪ ،‬وفضائل سطرهتا يف أعظم وأرشف الليايل ليلة‬


‫القدر‪ ،‬فهي واهلل سيدة ليايل الدنيا‪ ،‬أنزل اهلل سورة خاصة يف فضائلها‪،‬‬
‫فهي الليلة التي أنزل فيها القرآن أعظم الكتب الساموية‪ ،‬وهي خري من‬
‫ألف شهر‪ ،‬وفيها تنزل املالئكة و معهم جربيل ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬وهي‬
‫سال ٌم حتى مطلع الفجر‪ ،‬وهي الليلة املباركة‪ ،‬وهي الليلة التي يفرق‬
‫فيها كل أمر حيكم‪ ،‬وهي ليلة الرشف والقدر العظيم‪ ،‬ومن قامها‬
‫إيامنًا واحتسا ًبا غفر له ما تقدم من ذنبه‪ ،‬وهي الليلة التي كان حيث نبينا‬
‫حترهيا‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وعىل آله وسلم‪ -‬أصحابه واألمة من بعدهم عىل ِّ‬
‫وإدراكها‪ ،‬وهي الليلة التي كان النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وعىل آله وسلم‪-‬‬
‫جيتهد يف طلبها‪ ،‬فكان يعتكف وخيلو بنفسه ويسهر الليل حتى الصباح‬
‫حصل خريها فقد فاز‬
‫حيصل فضلها‪ ،‬فهي ليلة عظيمة جليلة‪ ،‬من َّ‬
‫لكي ِّ‬
‫وسعد‪.‬‬

‫خصها اهلل هبا؛ عزمت عىل‬


‫ألجل تلك الفضائل واملناقب التي َّ‬
‫التفقه والتدبر يف ما أنزله ربنا فيها‪ ،‬وما أخربنا به نبينا ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وعىل آله وسلم‪ -‬من حاهلا وفضلها‪ ،‬فكان هذا الكتاب والذي َس َّم ْيتُه‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫«إطاللة البدر بفضائل وأرسار ليلة القدر»‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‬
‫خريا‬
‫لت ً‬‫وحص ُ‬
‫َّ‬ ‫ومجعت مسائلاً وفضائلاً ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مجة‪،‬‬
‫وقفت عىل فوائد َّ‬
‫ُ‬ ‫فقد‬
‫عظيماً وعلماً ناف ًعا مما ق َّيده العلامء يف تفسري اآليات اخلاصة هبذه الليلة‪،‬‬
‫وهنلت من الفوائد واملسائل التي طرحها العلامء يف رشوحاهتم عىل كتب‬
‫ُ‬
‫السنة وكتب الرقائق و غريها من الكتب‪ ،‬فكم كنت أمتنى أن ُأ ْخ ِر َج‬
‫كثريا مما وقفت عليه‪ ،‬لكن الوقت قد ضاق‪ ،‬ودخل شهر رمضان هلذا‬
‫ً‬
‫العام ‪-‬عام ‪1433‬هـ‪ ،-‬ومل يسعفني الوقت‪ ،‬إذ أن بعض املسائل حتتاج‬
‫إىل حترير‪ ،‬فخشيت أال خيرج الكتاب هذا العام‪ ،‬هذا مع ضعف مهم‬
‫عامة الناس يف القراءة‪ ،‬فكان كتا ًبا وس ًطا أو دون ذلك‪ ،‬ليس بالطويل‬
‫وإخراجا آمل‬ ‫ا ُمل ِم ِّل وال بالقصري ا ُمل ِ‬
‫خ ِّل‪ ،‬اعتمدت فيه أسلو ًبا سهلاً ‪،‬‬
‫ً‬
‫أن يروق اجلميع‪ ،‬عسى أن جيد طالب العلم فيه‪ .‬بغيته‪ ،‬وينال العامي‬
‫خالصا لوجهه الكريم‪ ،‬وأن ينفعني به وكل‬
‫ً‬ ‫مطلبه‪ ،‬واهلل أسأل أن جيعله‬
‫من نظر فيه‪ ،‬وهو واهلل جهد املقل‪ ،‬أسال اهلل أن يقيل به العثرات‪ ،‬ويغفر‬
‫به الزالت‪ ،‬وأسأله أن يبلغني ومجيع املسلمني ليلة القدر كل عام‪ ،‬وأن‬
‫يفيض علينا من خرياهتا وبركاهتا وهو املنَّان الكريم الرمحن‪ ،‬وهلل احلمد‬
‫كله ‪ ،‬والفضل كله‪ ،‬فلوال كرمه وجوده وإحسانه وإعانته ما سطرت يف‬

‫‪7‬‬
‫هذا الكتاب حر ًفا‪ ،‬فال حول وال قوة إال به‪ ،‬وال رب لنا سواه‪ ،‬وما لنا‬
‫(و َما ت َْوفِ ِيقي إِلاَّ بِاللهَِّ َع َل ْي ِه ت ََو َّك ْل ُت َوإِ َل ْي ِه‬
‫غريه من إله‪ ،‬وهو املوفق وحده‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫ُأن ُ‬
‫يب)‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫كتبه‬ ‫ ‬
‫عمر بن حممد العوييض‬ ‫ ‬
‫‪-‬غفر اهلل له ولوالديه‪-‬‬ ‫ ‬
‫يف أطهر البقاع مكة ‪-‬حرسها اهلل‪-‬‬ ‫ ‬
‫يوم اجلمعة‪ ،‬الثامن من رمضان‬ ‫ ‬
‫ٍ‬
‫وثالث وثالثني من اهلجرة‬ ‫سنة ٍ‬
‫ألف وأربعامئة‬ ‫ ‬
‫‪1433-9-8‬هـ‬ ‫ ‬

‫‪8‬‬
‫تـاج الليايل‬

‫قال ‪-‬تعاىل‪} :-‬إِنَّا َأ ْن َز ْلنا ُه ىِف َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر * َو َما َأ ْد َر َ‬


‫اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر *‬
‫وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر ّبـِهم‬ ‫الر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِر َخ رْ ٌي ِّم ْن َأ ْلف َش ْهر * َتنَز َُّل ا مَْلالَئ َك ُة َو ُّ‬
‫ال ٌم ِه َي َحتَّى َم ْط َل ِع ا ْل َف ْج ِر{ سورة القدر‪.‬‬ ‫ِّمن ك ُِّل َأ ْمر * َس َ‬
‫ِ‬
‫اب‪،‬‬ ‫يها ا ْل َب ُ‬ ‫« َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َل ْي َل ٌة ُي ْفت َُح ف َ‬
‫ِ‬
‫يها األَ ْح َب ُ‬
‫اب‪،‬‬ ‫َو ُي َق َّر ُب ف َ‬
‫ِ‬
‫اب‪،‬‬ ‫َو ُي ْس َم ُع الخْ َط ُ‬
‫اب‪،‬‬ ‫َو ُي َر ُّد الجَْ َو ُ‬
‫يم األَ ْج ِر والثواب»‬ ‫و يكتب لِ ْلع ِام ِل َ ِ‬
‫ني َعظ ُ‬ ‫َ ُ ُ َ‬
‫ابن اجلوزي (‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬التبرصة (‪ )104-2‬بترص ٍ‬
‫ف يسري‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪9‬‬
‫�سيدة الليايل‬
‫ليلة القدر سيدة الليايل‪ ،‬وغرة الدهر‪ ،‬أفضل الليايل عىل اإلطالق‪.‬‬
‫ليلة القدر تاج الليايل خري من ألف شهر‪ ،‬ع َّظم اهلل شأهنا يف كتابه‪،‬‬
‫فأنزل يف فضلها سورة كاملة تتىل إىل يوم القيامة‪.‬‬
‫ليلة القدر من قامها إيامنًا واحتسا ًبا غفر له ما تقدم من ذنبه‪.‬‬
‫ليلة القدر ليلة مباركة نزل فيها القرآن‪ ،‬فيها يفرق كل ٍ‬
‫أمر حكي ٍم‪،‬‬
‫تقدر فيها املقادير السنوية‪.‬‬
‫ليلة القدر هي ليلة الرشف والفضل العظيم‪ ،‬ينزل فيها جربيل مع‬
‫املالئكة بالرمحة واخلري واملغفرة‪.‬‬
‫ليلة القدر سالم حتى مطلع الفجر‪ ،‬ليس فيها إال اخلري‪.‬‬
‫ِ‬
‫يها األَ ْح َب ُ‬
‫اب‪،‬‬ ‫ليلة القدر فيها الدعاء جُياب‪ ،‬ويفتح ا ْل َب ُ‬
‫اب‪َ ،‬و ُي َق َّر ُب ف َ‬
‫يم األَ ْج ِر والثواب‪.‬‬ ‫ويسمع الخْ ِ َطاب‪ ،‬ويرد ا واب ويعطى لِ ْلع ِام ِل َ ِ‬
‫ني َعظ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ َ ُّ لجَْ َ ُ‬ ‫َُْ َ ُ‬
‫ليلة القدر ثبت فضلها عىل كل الليايل بالكتاب والسنة‪ ،‬فهي أفضل‬
‫قارن فضلها وعلو مكانتها بليلة‬
‫الليايل‪ ،‬أفضل من ليلة اجلمعة‪ ،‬وال ُي َ‬

‫‪10‬‬
‫اجلمعة‪ ،‬وجاء عن بعض علامء احلنابلة أن ليلة اجلمعة أفضل(‪ ،)1‬وهو‬
‫قول ضعيف‪ ،‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬وليلة القدر أفضل الليايل‪،‬‬
‫ومن العجب أن طائفة من أصحاب أمحد فضلوا ليلة اجلمعة عىل ليلة‬
‫القدر‪ ،‬ورأوا أن إحياءها أفضل من إحياء ليلة القدر‪ ،‬وقد ثبت يف‬
‫الصحيح النهي عن ختصيصها بقيام؛ مع أنه ثبت بالتواتر أن ليلة القدر‬
‫حض عىل قيامها‪ ،‬وأنه‬
‫أمر اهلل بالقيام فيها‪ ،‬وأنه ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪َّ -‬‬
‫ال عدل هلا يف ليايل العام»(‪.)2‬‬
‫وبعض جهلة الصوفية يفضلون ليلة املولد عىل ليلة القدر‪ ،‬وليس‬
‫رب‪.‬‬
‫صحيح معت ٌ‬
‫ٌ‬ ‫هلذا التفضيل ٌ‬
‫أصل‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬وهذا القول قال به من احلنابلة‪ :‬ابن بطة‪ ،‬وأيب احلسن اجلوزي‪ ،‬وأيب حفص الربمكي؛ وحجتهم‬
‫أن يوم اجلمعة أفضل األيام‪ ،‬فليلته تابعة له‪ ،‬وقالوا بأن ليلة اجلمعة تتكرر‪ ،‬ويف يومها فضائل ليست‬
‫باق يف اجلنة‪ ،‬وهو فضل يوم اجلمعة‪ ،‬فهو يوم الزيارة إىل اهلل ‪-‬سبحانه‪-‬‬ ‫يف يوم ليلة القدر‪ ،‬وأن فضلها ٍ‬
‫آن أ ْف َض ُل ِم ْن َل ْي َل ِة الجُْ ُم َع ِة‪َ ،‬ف َأ َّما َأ ْم َثالهَُا ِم ْن َل َياليِ‬
‫يم ُّي‪َ :‬ل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر ا َّلتِي ُأن ِْز َل فِ َيها ا ْل ُق ْر ُ‬
‫و َق َال َأبو ا س ِن الت َِّم ِ‬
‫ُ لحَْ َ‬ ‫َ‬
‫ا ْل َقدْ ر َف َل ْي َل ُة الجُْ ُم َعة أ ْف َض ُل‪ .‬انظر (الفروع) البن مفلح (‪.)129 -5‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وال حجة فيام ذكروا‪ ،‬فام ثبت من فضل ليلة القدر ال يصل إليه فضل ليلة اجلمعة أو يومها‪ ،‬ثم إن فضل‬
‫عظيم وهو أفضل أيام األسبوع‪ ،‬ومع ذلك فام ثبت‬
‫ٌ‬ ‫اليوم غري فضل الليلة‪ ،‬ويوم اجلمعة يوم له ٌ‬
‫فضل‬
‫يف فضله ال يصل إىل فضل ليلة القدر وال ُي َقدَّ م عليه‪.‬‬
‫(‪ )2‬املستدرك عىل جمموع فتاوى شيخ اإلسالم(‪.)179-3‬‬

‫‪11‬‬
‫و�أيهما �أف�ضل‪ :‬ليلة القدر �أو ليلة الإ�سراء؟‬
‫«إن َل ْي َل َة‬
‫جييب عىل هذا شيخ االسالم (‪- )1‬رمحه اهلل‪ -‬بقوله‪َّ :‬‬
‫الإْ ِ سرَْ ِاء َأ ْف َض ُل فيِ َح ِّق النَّبِ ِّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ ،-‬و َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َأ ْف َض ُل‬
‫َص بِ ِه‬ ‫بِالن ِّْس َب ِة إلىَ الأُْ َّم ِة‪َ ،‬ف َح ُّظ النَّبِ ِّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ -‬ا َّل ِذي ْ‬
‫اخت َّ‬
‫اج ِمن َْها َأك َْم ُل ِم ْن َح ِّظ ِه ِم ْن َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر‪.‬‬
‫َل ْي َل َة المِْ ْع َر ِ‬
‫َو َح ُّظ الأُْ َّم ِة ِم ْن َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر َأك َْم ُل ِم ْن َح ِّظ ِه ْم ِم ْن َل ْي َل ِة المِْ ْع َر ِ‬
‫اج‪َ ،‬وإِ ْن‬
‫الر ْت َب ُة ا ْل ُع ْل َيا إ َّنماَ َح َص َل ْت‬
‫ف َو ُّ‬‫يها َأ ْع َظ ُم َح ٍّظ‪َ ،‬ل ِك ْن ا ْل َف ْض ُل َوالشرََّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ك َ‬
‫َان لهَُ ْم ف َ‬
‫يها لمَِ ْن أُسرْ ِ َي بِ ِه ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪. )2(».-‬‬ ‫ِ‬
‫ف َ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تقي الدين أبو ال َعباس أمحد بن عبد احلليم بن عبد السالم بن عبد اهلل بن أيب القاسم بن حممد ابن‬
‫تيمية احلراين احلنبيل الدمشقي (املتوىف سنة ‪728‬هـ)‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفتاوى الكربى (‪.)477 -2‬‬

‫‪12‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫ال�������ق�������در‬ ‫أطِ�����ِّل����يِّ ل����ي����ل���� َة‬
‫ِ‬
‫القدر‬ ‫ال��ده��ر ‪ ..‬أطِ�ِّل�يِّ ليل َة‬
‫ِ‬ ‫أط�ِّل�يِّ غ ّ‬
‫ُ���ر َة‬ ‫ِ‬

‫در َة األي��ام َ‬ ‫ِ‬


‫ال��دري‬
‫ّ‬ ‫مثل الكوكب‬ ‫أط�ِّل�يِّ ّ‬
‫ِ‬
‫البدر‬ ‫أطِ�ِّل�يِّ يف س�ماء العمر إرشا ًق���ا م��ع‬
‫ِ‬
‫الفجر‬ ‫أن��ت يف الليل وحتى مطل ِع‬‫ِ‬ ‫س�لا ٌم‬
‫ِ‬
‫بالطهر‬ ‫َ‬
‫الكون‬ ‫غش‬
‫يغمر الدنيا ُي يِّ‬
‫ُ‬ ‫س�لا ٌم‬
‫ِ‬
‫واخل�ير‬ ‫ِ‬
‫واإلي��م�ان‬ ‫ِ‬
‫ال��ق��رآن‬ ‫وي��ن�شرُ نفح َة‬
‫ألن��ك منتهى أم��ري ف��إين اليوم ال أدري‬‫ِ‬

‫ِ‬
‫الفكر!‬ ‫وعي‪...‬أنا؟ يا ِحري َة‬
‫ٍ‬ ‫أيف ح ُل ٍم؟ أيف‬
‫قيس وما ليىل وما ذاك اهلوى ال ُعذري؟!‬ ‫فام ٌ‬
‫ِ‬
‫الرس‬‫فباحت مهج ُة ِّ‬
‫ْ‬ ‫رسي‪،‬‬
‫حفظت هواك يف ِّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫الصدر‬ ‫سناك يف صدري فش َّع ْت خفق ُة‬ ‫ِ‬ ‫وصنت‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫العطر‬ ‫ِ‬
‫زج��اج��ة‬ ‫ِ‬
‫بقلب‬ ‫ِ‬
‫أداري���ه وأس��ك��بُ�� ُه‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬د‪.‬عبد املعطي الدااليت‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وأصحب ُه م��دى عمري وأمح��لُ��ه إىل قربي‬
‫َ‬
‫احلب يف قرصي‬ ‫فرشت‬
‫ُ‬ ‫ألنك أنت أمنيتي‬‫ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫العمر‬ ‫وصغت قصيد َة‬
‫ُ‬ ‫غت قافيتي‬ ‫ِ‬
‫ألجلك ُص ُ‬
‫ِ‬
‫الشعر‬ ‫فأرحل يف م��دى‬‫ُ‬ ‫أرتّلها وأنشدُ ها‬
‫ٍ‬
‫سطر‬ ‫ٍ‬
‫سطر إىل‬ ‫ٍ‬
‫شطر وم��ن‬ ‫ٍ‬
‫شطر إىل‬ ‫فمن‬
‫ٍ‬
‫لقافية عىل ثغري‬ ‫ٍ‬
‫شغف‬ ‫ُ‬
‫الكون يف‬ ‫ويصغي‬
‫ِ‬
‫ال��زه��ر‬ ‫ِ‬
‫مخ��ائ��ل‬ ‫ِ‬
‫ب��ل��ون‬ ‫ل��ق��اف��ي��ة م��ل��و ٍ‬
‫ن��ة‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫وح��رف حسن ُه يغري‬
‫ٌ‬ ‫فحرف لون ُه ُيغوي‬
‫ٌ‬
‫ُ‬
‫الفضل يل أبدً ا فام عندي سوى فقري‬ ‫وليس‬
‫ٍ‬
‫مالك أمري‬ ‫ل��رب‬ ‫ّ‬
‫وك��ل الفضل والنُعمى‬
‫ٍّ‬
‫ران من ٍ‬
‫وزر عىل ظهري؟!‬ ‫وم ْن يدري بام قد َ‬
‫ِ‬
‫‪..‬آه من وزري‬ ‫فيا رب��ا ُه فارمحني‪..‬فوزري‬
‫ِ‬
‫القدر‬ ‫ِ‬
‫ألن��ك أن��ت أمنيتي‪ ..‬ألن��ك ليلة‬

‫‪14‬‬
‫الليلة املباركة‬
‫فليكن لك من بركة هذه الليلة‬
‫�أوفر احلظ والن�صيب‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫قال –تعاىل‪( :-‬إِنَّآ َأن َز ْلنَـٰ ُه ىِف َل ْي َلة ُّم َبـ َٰركَة إِنَّا ُكنَّا ُمنذ ِر َ‬
‫ين) (‪. )1‬‬
‫ني فيِ ِدينِ ِه ْم‪،‬‬‫َات لِ ْل ُم ْس ِل ِم َ‬
‫«وكَم ( ل َلي َل ِة ا ْل َقدْ ِر) ِمن برك ٍ‬
‫ْ ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫الصالحَِ ِة‬
‫َو َل َع َّل ت ْل َك ا ْلبرََ َك َة ترسي إِلىَ شؤوهنم َّ‬
‫ِ‬

‫اه ْم‪».‬‬ ‫ِم ْن ُأ ُم ِ‬


‫ور ُد ْن َي ُ‬
‫ابن عاشور(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬سورة الدخان آية(‪.)3‬‬
‫(‪ )2‬حممد الطاهر بن حممد بن حممد الطاهر بن عاشور التونيس (املتوىف سنة ‪1393‬هـ) التحرير‬
‫والتنوير (‪.)278 -25‬‬

‫‪15‬‬
‫الليلة املباركة‬
‫املحروم من حرم بركة هذه الليلة‬
‫خص ليلة القدر بربكة خاصة‪ ،‬فمن أ َّدى‬
‫من نعم اهلل علينا ومننه أن َّ‬
‫حقها نال من هذه الربكة التي ال يعلم أحد قدر ما فيها من اخلري والرمحة‬
‫واملغفرة إال اهلل‪ ،‬فهي ليل ٌة مبارك ٌة بارك اهلل فيها‪ ،‬وال يعدم القائم فيها‬
‫الطالب هلا املجد يف حتصيلها أن يفيض عليه مواله حني يراه راك ًعا ساجدً ا‬
‫مستغفرا تائ ًبا من بركة هذه الليلة‪ ،‬فيبارك يف حياته‪ ،‬وحيفظ عليه‬
‫ً‬ ‫مسبحا‬
‫ً‬
‫قلبه من الزالت‪ ،‬ويغفر ذنبه‪ ،‬ويعيل شأنه‪ ،‬ويبارك يف وقته ويف بدنه ويف‬
‫لعاقل َع ِل َم بربكة هذه الليلة أال يتعرض لنفحات ربه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫رزقه‪ ،‬فال ينبغي‬
‫فواهلل من ُيعطى شي ًئا من بركة هذه الليلة فهو الفائز ح ًّقا‪ ،‬وقد يسعد إىل‬
‫األبد‪ ،‬فقد تتغري حاله إىل أحسن حال‪ ،‬وتصبح هذه الليلة نقطة حتول يف‬
‫يدُّ بِ َحدٍّ وال ُي َق َّيدُ بِ َق ْي ٍد‪ ،‬وهني ًئا ملن مجع بني‬
‫حياته‪ ،‬وفضل اهلل واسع ال حُ َ‬
‫بركة الزمان وبركة املكان‪ ،‬فمن وفقه ربه لزيارة البيت احلرام أو مسجد‬
‫نبيه ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬يف ليايل العرش‪ ،‬فقد مجع بني بركة الزمان‬
‫واملكان ومع كثرة اجلموع من املسلمني يزداد الفضل‪ ،‬فيا هلل ما أسعده‬
‫وأرشف مكانه! فهني ًئا له‪ ،‬وليبرش بخريي الدنيا واآلخرة!‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قال –تعاىل‪( :-‬إِنَّآ َأن َز ْل َنـٰ ُه ىِف َل ْي َلة ُّم َبـ َٰركَة إِنَّا ُكنَّا ُمنذ ِر َ‬
‫ين)‪.‬‬
‫والليلة املباركة هي ليلة القدر‪ ،‬وقيل‪ :‬ليلة النصف من شعبان‪ ،‬وهو‬
‫قول ضعيف‪.‬‬
‫قال القرطبي‪« :‬ووصفها بالربكة ملا ينزل اهلل فيها عىل عباده من‬
‫الربكات واخلريات والثواب»(‪. )1‬‬
‫قال الزخمرشي(‪« : )2‬واملباركة‪ :‬الكثرية اخلري؛ ملا يتيح اهلل فيها من‬
‫األمور التي يتعلق هبا منافع العباد يف دينهم ودنياهم‪ ،‬ولو مل يوجد فيها‬
‫إال إنزال القرآن وحده لكفى به بركة»(‪. )3‬‬
‫قال ابن العريب‪« :‬قوله‪(:‬مباركة) الربكة‪ :‬هي النامء والزيادة‪،‬‬
‫وسماَّ ها مبارك ًة ملا يعطي اهلل فيها من املنازل‪ ،‬ويغفر من اخلطايا‪ ،‬ويقسم‬
‫من احلظوظ‪ ،‬ويبث من الرمحة‪ ،‬وينيل من اخلري‪ ،‬وهي حقيقة ذلك‬
‫وتفسريه»(‪. )4‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن فرح األنصاري اخلزرجي شمس الدين القرطبي (املتوىف‬
‫سنة ‪671‬هـ) اجلامع ألحكام القرآن ( ‪.)126 -16‬‬
‫(‪ )2‬أبو القاسم حممود بن عمرو بن أمحد‪ ،‬الزخمرشي جار اهلل (املتوىف سنة ‪538‬هـ) الكشاف عن‬
‫حقائق غوامض التنزيل(‪.)270 -4‬‬
‫(‪ )3‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل لزخمرشي (‪)780-4‬وال انصح بقراءة تفسري الزخمرشي‬
‫اال ملن لديه بصريه بمذهب السلف فهو معتزىل املذهب مع إمامته يف النحو واللغة واألدب‬
‫فيستفاد منه ويؤخذ من تفسريه ما يوفق مذهب السلف‪.‬‬
‫(‪ )4‬القايض حممد بن عبد اهلل أبو بكر بن العريب املعافري اإلشبييل املالكي (املتوىف سنة ‪543‬هـ)‬
‫أحكام القرآن (‪.)117-4‬‬

‫‪17‬‬
‫قال ابن عاشور‪« :‬وتنكري ( َل ْي َل ٍة) للتعظيم‪ ،‬ووصفها بـ ( ُّم َبـ َٰرك ٍَة)‬
‫تنويه هبا وتشويق ملعرفتها‪ .‬فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدأ فيها نزول‬
‫القرآن عىل حممد ‪-‬صىل اهلل عليه وس ّلم‪ -‬يف الغار من َجبل ِح َر ٍاء‬
‫ان)‬ ‫ان ا َّل ِذى ُأ ِنز َل فِ ِيه ا ْل ُق ْر َء ُ‬ ‫يف رمضان‪ ،‬قال –تعاىل‪َ :-‬‬
‫(ش ْه ُر َر َم َض َ‬
‫(البقرة‪.)185 :‬‬
‫والليلة التي ابتدأ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر‪ ،‬قال ‪-‬تعاىل‪:-‬‬
‫(إِنَّآ َأ َنز ْلنَـٰ ُه فىِ َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر) (القدر‪ .)1 :‬واألصح أهنا يف العرش األواخر‬
‫من رمضان‪ ،‬وأهنا يف ليلة الوتر‪ .‬وثبت أن اهلل جعل لنظريهتا من كل سنة‬
‫فضلاً عظيماً ؛ لكثرة ثواب العبادة فيها يف كل رمضان؛ كرامة لذكرى‬
‫نزول القرآن‪ ،‬وابتداء رسالة أفضل الرسل ‪-‬صىل اهلل عليه وس ّلم‪ -‬إىل‬
‫وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر هِّبِم ِّمن ك ُِّل‬ ‫النّاس كافة‪ .‬قال –تعاىل‪َ ( :-‬تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة َو ُّ‬
‫الر ُ‬
‫َأ ْم ٍر * َس َلـ ٌٰم ِه َى َحت َّٰى َم ْط َل ِع ا ْل َف ْج ِر) [القدر‪.]5 ،4 :‬‬
‫وذلك من معاين بركتها وكم هلا من بركات للمسلمني يف دينهم‪،‬‬
‫ولعل تلك الربكة ترسي إىل شؤوهنم الصاحلة من أمور دنياهم‪.‬‬
‫فربكة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّ رها اهلل هلا قبل نزول‬
‫ٍ‬
‫مبارك؛ فيزداد‬ ‫ٍ‬
‫لوقت‬ ‫البسا‬
‫القرآن؛ ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها ُم ً‬

‫‪18‬‬
‫بذلك فضلاً ورش ًفا‪ ،‬وهذا من املناسبات اإللـهية الدقيقة التي أنبأنا اهلل‬
‫ببعضها‪ .‬والظاهر أن اهلل أمدّ ها بتلك الربكة يف كل عام كام أومأ إىل ذلك‬
‫ان) إذ قاله بعد أن مىض عىل‬‫ان ا َّل ِذي ُأ ِنز َل فِ ِيه ا ْل ُق ْر َء ُ‬
‫(ش ْه ُر َر َم َض َ‬
‫قوله‪َ :‬‬
‫بض َع عرشة سنة‪. )1(» .‬‬
‫ابتداء نزول القرآن ْ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير ( ‪277-25‬و ‪.)278‬‬

‫‪19‬‬
‫ملا كانت هذه الليلة ليلة مباركة‪ ،‬واهلل أجود األجودين وأكرم‬
‫األكرمني‪ ،‬جيود ويكرم ويعطي ويتفضل عىل من يشاء من خلقه يف هذه‬
‫الليلة من الربكات واخلريات العظيمة كان من احلرمان أن متيض هذه‬
‫الليلة وال ينال املرء شي ًئا من بركتها‪ ،‬فاملوفق من أغدق عليه ربه من‬
‫واسع فضله يف هذه الليلة؛ فاهلل كريم جواد يعطي بال حدٍّ وال ٍ‬
‫قيد‪ ،‬يكرم‬
‫وإذا أكرم أدهش‪ ،‬وهو املعطي عطا ًء غري ممنون‪ ،‬فيمت ُّن الكريم يف هذه‬
‫الليلة ويعطي وجيود ويكرم وينعم عىل الصادقني يف طلب ليلة القدر‬
‫ومن بذل وسعه يف إدراكها‪ ،‬فهناك أقوام يسعدون هبذه الربكة؛ قاموا هلل‬
‫فحفظوا أوقاهتم له‪ ،‬وأخلصوا نياهتم له‪ ،‬فنالوا منها احلظ الوافر‪ ،‬فكن‬
‫مع القوم‪ ،‬وتعرض لنفحات الرب‪ ،‬لعلك تصيب منها نفحة فتسعد إىل‬
‫وشمر عن ساعد اجلد‪ُ ،‬‬
‫وشدَّ مئزرك فدونك‬ ‫األبد‪ ،‬واطلب من اهلل املزيد‪ِّ ،‬‬
‫الفالح والنجاح الذي ال خييب من يصيبه‪ ،‬وهي واهلل ساعات معدودة‬
‫إن أدركتها أصبحت بعدها وقد حظيت بالربكات واخلريات من رب‬
‫خملصا و ُمدَّ يديك سائلاً‬
‫الربيات‪ ،‬وفزت بخريي الدنيا واآلخرة‪ ،‬فقم هلل ً‬
‫ذليل مترض ٍع له؛ لع َّله يمن عليك بالقبول‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بقلب ٍ‬ ‫الكريم اجلواد‬

‫‪20‬‬
‫ٍ‬
‫ذليــــــل ألرجو به يا إهلـــي القبــوال‬ ‫ٍ‬
‫بقلب‬ ‫نظرت إليك‬
‫لك احلمد واملجد والكبــرياء وأنت اإلله الذي لــن يـزوال‬
‫محيدً ا كريماً عظيماً جـلـيــــل‬ ‫وأنــت اإلله الــــذي مل يزل‬
‫وتنشى اخلالئق جيلاً فجيــل‬ ‫متيت األنام وحتيي العظــــام‬
‫عظيم اجلالل كريم الفـعـــال جزيل النوال تنيل الســؤوال‬
‫حبيب القلوب غفور الذنوب تواري العيوب تقيل اجلهوال‬
‫وتعطي اجلزيل وتويل اجلميـل وتأخذ من ذا وذاك القــليـال‬
‫تعم اجلواد هبا والبخيــــــال‬
‫ّ‬ ‫خزائن جودك ال تـنـقــضـي‬

‫‪21‬‬
‫ليلة ال�شرف والف�ضل‬
‫اكت�سب القدر وال�شرف والف�ضل العظيم‬
‫فـي ليلة القدر‬

‫اها َقدْ ًرا َعظِيماً ْلمَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ب َم ْن َأ ْح َي َ‬‫«س ِّم َي ْت(ليلة القدر) بِ َذل َك لأَِنهََّا ُتكْس ُ‬ ‫ُ‬
‫َي ُك ْن َل ُه من َق ْب ُل‪َ ،‬وت َُر ُّد ُه َعظِيماً ِعنْدَ اللهَِّ ‪َ -‬ت َعالىَ ‪»-‬‬
‫أبوبكر ا ْل َو َّر ُاق (‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري ابن حيان البحر املحيط(‪. )514 -10‬‬

‫‪22‬‬
‫ا�صعد �إىل قمة ال�شرف والف�ضل‬
‫ب�إحياء ليلة القدر‬
‫ليلة القدر هي ليلة الرشف والفضل‪ ،‬فالقدر هو املكانة واملنزلة‬
‫(و َما َقدَ ُرو ْا اللهَّ َح َّق َقدْ ِر ِه)(‪ ، )1‬قال الزهري‬
‫العظيمة‪ ،‬قال –تعاىل‪َ :-‬‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف معنى ليلة القدر‪« :‬ليلة العظمة والرشف‪ ،‬من قول الناس‪:‬‬
‫لفالن عند األمري قدر‪ ،‬أي‪ :‬جاه ومنزلة» (‪.)2‬‬
‫لع ِ‬
‫ظمها و َقدْ رها ورشفها‪،‬‬ ‫قال القرطبي‪« :‬وقيل‪ :‬إنام سميت بذلك ِ‬
‫ُ ِّ‬
‫الز ْه ِر ّي وغريه»(‪. )3‬‬
‫رشف ومنزلة‪ .‬قاله ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫من قوهلم‪ :‬لفالن َقدْ ر‪ ،‬أي‬
‫قال ابن عاشور‪« :‬وال َقدْ ر الذي ُعرفت الليلة باإلضافة إليه هو‬
‫ِ‬
‫الرشف والفضل» (‪. )4‬‬ ‫بمعنى‬
‫ٌ‬
‫حاصل‬ ‫واملعنى‪ :‬أن ليلة القدر ذات ٍ‬
‫قدر عظيم‪ ،‬وهذا القدر العظيم‬
‫مما يقع فيها من الفضائل ذات القدر العايل من نزول القرآن فيها‪ ،‬أو‬
‫خري من ألف ٍ‬
‫شهر‪ ،‬أو‬ ‫ملا يقع فيها من نزول املالئكة‪ ،‬أو لوصفها بأهنا ٌ‬
‫_______________‬
‫سورة األنعام‪.91 :‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر قوله يف تفسري الثعالبي وغريه الثعالبي (‪.)248 -10‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اجلامع ألحكام القرآن ( ‪.)130-20‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫التحرير والتنوير( ‪.)457 -30‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪23‬‬
‫ٍ‬
‫ورشف‪.‬‬ ‫لنزول الربكة واملغفرة والرمحة فيها؛ فهي ليلة عظيمة ذات ٍ‬
‫قدر‬
‫قال الزرقاين(‪« : )1‬سميت بذلك لعظم قدرها أي ذات القدر‬
‫العظيـم لنزول القرآن فـيها ولوصفها بأهنا (خري من ألف شهر) أو‬
‫لتنزل الـمالئكة فـيها أو لنزول الربكة والـمغفرة والرمحة فـيها‪ ،‬أو لـام‬
‫حيصل لـمن أحياها بـالعبـادة من القدر الـجسيـم»(‪. )2‬‬
‫وهذا القدر والرشف من وجهني‪ :‬إما أن يرجع إىل العامل فيها‬
‫بالطاعة أنه صار ذا ٍ‬
‫قدر يف هذه الليلة بقيامه بالطاعة‪ ،‬أو لنفس الطاعة‪،‬‬
‫ورشف ٍ‬
‫زائد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فهي يف هذه الليلة ذات ٍ‬
‫قدر‬
‫ٍ‬
‫وفضل) هو أحد الوجوه الذي‬ ‫ٍ‬
‫رشف‬ ‫وهذا املعنى‪( :‬أهنا ذات‬
‫يت ألجله ليلة القدر هبذا االسم‪.‬‬
‫ُس ِّم ْ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬حممد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاين املرصي األزهري‪.‬‬
‫(‪ )2‬رشح الزرقاين عىل موطأ اإلمام مالك(‪.)317-2‬‬

‫‪24‬‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صىل اهلل عليه‬ ‫عن أَبيِ ُه َر ْي َر َة ‪-‬ريض اهلل عنه‪َ -‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫وسلم‪َ « :-‬أتَاك ُْم َر َم َض ُ‬
‫ان َش ْه ٌر ُم َب َار ٌك َف َر َض اللهَُّ ‪َ -‬ع َّز َو َج َّل‪َ -‬ع َل ْيك ُْم‬
‫اب الجَْ ِحي ِم‪َ ،‬و ُت َغ ُّل فِ ِيه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫السماَ ء‪َ ،‬و ُت ْغ َل ُق فيه َأ ْب َو ُ‬
‫اب َّ‬‫ص َيا َم ُه‪ُ ،‬ت ْفت َُح فيه َأ ْب َو ُ‬
‫ف َش ْه ٍر‪َ ،‬م ْن ُح ِر َم خَيرَْ َها َف َقدْ‬ ‫ني‪ ،‬للِهَِّ فِ ِيه َلي َل ٌة خ ِمن َأ ْل ِ‬‫الش َياطِ ِ‬
‫َم َر َد ُة َّ‬
‫ْ َيرْ ٌ ْ‬
‫ُح ِر َم »(‪. )1‬‬
‫عظيم ال يعلم حقيقة قدره إال اهلل‪ ،‬واملحروم‬ ‫ٌ‬ ‫فليلة القدر خريها‬
‫فحري بنا أن ُن ْع ِمل الفكر ون ُْش ِغل احلواس ون ُْج ِهد‬
‫ٌّ‬ ‫َم ْن ُح ِر َم خَيرَْ َها‪،‬‬
‫شمر‬
‫البدن يف طلبها‪ ،‬فيا طالب اخلريات والفضائل واملراتب العالية ِّ‬
‫وساعات معلومة‪ ،‬فقم‬
‫ٌ‬ ‫عن ساعد اجلدِّ يف طلبها‪ ،‬فهي ٍ‬
‫ليال معدودة‪،‬‬
‫خملصا‪َّ ،‬‬
‫لعل املنان يم ُّن عليك بالقبول‪ ،‬فريفع قدرك‪ ،‬ويعيل‬ ‫فيها جمتهدً ا ً‬
‫شأنك‪ ،‬وتنال مراتب الرشف والفضل يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي (‪ )2106‬وأمحد ( ‪ )9497 – 7148‬مصنف أبو بكر بن أيب شيبة( ‪)8867‬‬
‫وانظر صحيح الرتغيب (‪.)999‬‬

‫‪25‬‬
‫الليلة التي يفرق فيها كل �أمر حكيم‬

‫ين‪ ،‬فِيها ُي ْف َر ُق‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫قال –تعاىل‪( :-‬إنَّا أ ْن َز ْلنا ُه يِف َل ْي َلة ُم َ‬
‫باركَة إنَّا ُكنَّا ُمنْذ ِر َ‬
‫ك ُُّل ْأم ٍر َحكِيم) [الدخان‪]4 :‬‬
‫«ينسخ مللك املوت من يموت ليلة القدر إىل مثلها‪،‬‬
‫فتجد الرجل ينكح النساء‪ ،‬ويغرس الغرس‪ ،‬واسمه يف األموات»‬
‫عمر موىل غفرة(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬جامع البيان يف تأويل القرآن (‪.)9 -22‬‬

‫‪26‬‬
‫الليلة التي تكتب فيها‬
‫الأقدار والأرزاق والآجال‬
‫القدر‪ :‬من التقدير أي تقدير األمور وقضائها‪ ،‬كام يف قوله –تعاىل‪:-‬‬
‫(فِيها ُي ْف َر ُق ك ُُّل أ ْم ٍر َح ِكيم) فيقدر يف هذه الليلة أحكام تلك السنة‪،‬‬
‫فتكتب فيها األقدار واألرزاق واآلجال التي تكون يف السنة ومن يعز‬
‫فيها ومن يذل‪ ،‬وإن الرجل لينكح ويترصف يف أموره ويولد لـه‪ ،‬وقد‬
‫خرج اسمه يف املوتى يف تلك السنة‪.‬‬

‫قال حممد األمني الشنقيطي(‪« : )1‬قوله تعاىل‪( :‬فِ َيها ُي ْف َر ُق ك ُُّل َأ ْم ٍر‬
‫حكِي ٍم * َأمرا من ِع ِ‬
‫ندنَا) ‪.‬‬ ‫ْ ً ِّ ْ‬ ‫َ‬
‫معنى قوله‪( :‬يفرق) أي‪ :‬يفصل ويبني‪ ،‬ويكتب يف الليلة املباركة‪،‬‬
‫التي هي ليلة القدر‪( ،‬كل أمر حكيم)‪ ،‬أي‪ :‬ذي حكمة بالغة؛ ألن كل ما‬
‫يفعله اهلل‪ ،‬مشتمل عىل أنواع احلكم الباهرة‪.‬‬

‫وقال بعضهم‪ :‬حكيم‪ ،‬أي حمكم‪ ،‬وال تغيري فيه‪ ،‬وال تبديل‪.‬‬

‫وكال األمرين حق ألن ما سبق يف علم اهلل‪ ،‬ال يتغري وال يتبدل‪،‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬حممد األمني بن حممد املختار بن عبد القادر اجلكني الشنقيطي (املتوىف سنة ‪1393‬هـ)‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫وألن مجيع أفعاله يف غاية احلكمة‪.‬‬

‫وهي يف االصطالح‪ :‬وضع األمور يف مواضعها وإيقاعها يف‬


‫مواقعها‪.‬‬

‫وإيضاح معنى اآلية أن اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬يف كل ليلة قدر من‬
‫السنة يبني للمالئكة ويكتب هلم‪ ،‬بالتفصيل واإليضاح مجيع ما يقع يف‬
‫تلك السنة‪ ،‬إىل ليلة القدر من السنة اجلديدة‪.‬‬

‫فتبني يف ذلك اآلجال واألرزاق والفقر والغنى‪ ،‬واخلصب واجلدب‬


‫والصحة واملرض‪ ،‬واحلروب والزالزل‪ ،‬ومجيع ما يقع يف تلك السنة‬
‫كائن ًا ما كان‪. )1(».‬‬

‫وهذا املعنى‪( :‬أهنا من تقدير األمور وقضائها) هو أحد الوجوه‬


‫يت ألجله ليلة القدر هبذا االسم ‪.‬‬
‫الذي ُس ِّم ْ‬

‫قال اإلمام النووي(‪« : )2‬قال العلامء‪ :‬وسميت ليلة القدر ملا يكتب‬
‫فيها للمالئكة من األقدار واألرزاق واآلجال التي تكون يف تلك السنة‪،‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن (‪172 -7‬و‪.)173‬‬
‫(‪ )2‬أبو زكريا حميي الدين حييى بن رشف النووي (املتوىف سنة ‪676‬هـ)‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫كقوله –تعاىل‪( :-‬فيها يفرق كل أمر حكيم) وقوله –تعاىل‪َ ( :-‬تن ََّز ُل‬
‫يها بِإِ ْذ ِن رَبهِّ ِم ِّمن ك ُِّل َأ ْم ٍر)‪.‬‬‫المَْلاَ ِئ َك ُة والر ِ‬
‫وح ف َ‬
‫َ ُّ ُ‬
‫ومعناه يظهر للمالئكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من‬
‫وظيفتهم‪ ،‬وكل ذلك مما سبق علم اهلل –تعاىل‪ -‬به وتقديره له»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج(‪.)57-8‬‬

‫‪29‬‬
‫ملاذا ُ�س ِّميت ليلة القدر بهذا اال�سم ؟‬
‫سبق أن ذكرنا يف ذلك وجهني‪ ،‬األول‪ :‬أهنا من القدر‪ ،‬أي الرشف‬
‫واملكانة العظيمة‪ ،‬من قوهلم‪ :‬فالن ذو قدر‪.‬‬
‫والوجه الثاين هو‪ :‬أهنا من التقدير‪ ،‬أي تقدير األمور وقضائها‪ ،‬كام‬
‫يف قوله –تعاىل‪( :-‬فِ َيها ُي ْف َر ُق ك ُُّل َأ ْم ٍر َح ِكي ٍم) فيقدر يف هذه الليلة أحكام‬
‫تلك السنة فتكتب فيها األقدار واألرزاق واآلجال‪.‬‬
‫وال منافاة بني الوجه األول والثاين؛ فليلة القدر تشمل املعنيني‪.‬‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ -‬بعد ما ذكر الوجهني‬ ‫(‪)1‬‬
‫قال شيخنا ابن عثيمني‬
‫واملعنيني‪« :‬والصحيح أنه شامل للمعنيني‪ ،‬فليلة القدر ال شك أهنا ذات‬
‫ورشف ٍ‬
‫كبري‪ ،‬وأنه يقدر فيها ما يكون يف تلك السنة من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قدر عظي ٍم‪،‬‬
‫اإلحياء واإلماتة واألرزاق وغري ذلك»(‪. )2‬‬
‫وهناك وج ٌه ٌ‬
‫ثالث‪ :‬وهو أن القدر بمعنى‪ :‬التضييق‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن حجر(‪« : )3‬وقيل‪ :‬القدر هنا التضييق كقولـه –‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬شيخنا فقيه الوقت أبو عبد اهلل حممد بن صالح العثيمني (املتوىف سنة ‪1421‬هـ)‪ ،‬وإذا قلت‪:‬‬
‫(شيخنا) يف هذا الكتاب فال أقصد إال هو‪ ،‬رمحه ريب ومجعنا به يف جنته‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسري جزء عم (ص ‪.)270‬‬
‫(‪ )3‬أمحد بن عيل بن حجر أبو الفضل العسقالين الشافعي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫(و َمن ُق ِد َر َع َل ْي ِه ِر ْز ُق ُه) ومعنى التضييق فيها‪ :‬إخفاؤها عن العلم‬
‫تعاىل‪َ :-‬‬
‫بتعيينها‪ ،‬أو ألن األرض تضيق فيها عن املالئكة‪. )1(».‬‬
‫ومجيع ما ذكر من أقوال يف سبب تسميتها يعود إىل هذه الثالثة أوجه‪.‬‬
‫فائدة‪ :‬التقدير والكتابة التي تكون يف ليلة القدر‪ ،‬هي الكتابة السنوية‪،‬‬
‫فهناك كتابة أوىل قبل خلق السموات واألرض يف اللوح املحفوظ‪ ،‬وهذه‬
‫ال تتغري وال تتبدل‪ ،‬وهناك كتابة عمرية‪ ،‬ما يكتب عىل اجلنني يف بطنه امه‬
‫من الرزق‪ ،‬وشقي أم سعيد‪ ،‬وهناك كتابة سنوية‪ ،‬وهي التي تكون يف‬
‫ليلة القدر(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري رشح صحيح البخاري (‪.)255 -4‬‬
‫(‪ )2‬الرشح املمتع عىل زاد املستقنع(‪.)493 -6‬‬

‫‪31‬‬
‫ليلة القدر ‪ ،‬تقدر فيها اآلجال واألرزاق‪ ،‬ويقىض فيها القضاء‪،‬‬
‫ٍ‬
‫قضاء كتب لك‪ ،‬فال تعلم وأنت يف هذه الليلة هل‬ ‫فتأمل حالك‪ ،‬وأي‬
‫تدرك ليلة قدر بعدها أم ال؟ أم هو األخرية يف حياتك؟ فال تعلم هل‬
‫كتب اسمك مع األموات وسجلت يف صحائف املوتى هلذا العام أم ال؟‬
‫فقف وقفة تأمل وكأنه آخر رمضان لك‪ ،‬وآخر ليلة قدر تدركها‪ ،‬وابذل‬
‫وسعك‪ ،‬وجد واجتهد‪ ،‬وتزود ما استطعت من التقوى ‪.‬‬
‫تـــزود من التقوى فإنك ال تــدري‬
‫ِ‬
‫الفــجـــر‬ ‫إذا ج َّن ٌ‬
‫ليل هل تعيش إىل‬ ‫ ‬
‫فكم من فتى أمسى وأصبـح ضاحكًا‬
‫وقــد ن ُِس َج ْت أكفانُه وهو ال يــدري‬ ‫ ‬
‫وكــم من عروس زينوها لزوجهـــا‬
‫ِ‬
‫القـدر‬ ‫أرواحهم ليــلة‬
‫ُ‬ ‫وقد قبضــت‬ ‫ ‬
‫ٍ‬
‫صغار ُيرجتى طول عمرهـم‬ ‫وكـم من‬
‫وقـد ُأدخلت أجسا ُدهم ظلمــة ِ‬
‫القرب‬ ‫ ‬
‫ٍ‬
‫عـــلة‬ ‫وكم من صحيح مات من غري‬
‫وكم من سقيم عاش حينًا من الدهـر‬ ‫ ‬

‫‪32‬‬
‫ليلة نزول القر�آن العظيم‬

‫قال ‪-‬تعاىل‪} : -‬إِنَّا َأ ْن َز ْلنا ُه ىِف َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر{ (‪. )1‬‬


‫«كان اإلمام مالك إذا دخل رمضان‬
‫يفر من قراءة احلديث‪ ،‬وجمالسة أهل العلم‪،‬‬
‫ويقبل عىل تالوة القرآن من املصحف »‬
‫ابن عبد احلكم(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬سورة القدر آية رقم ‪.1‬‬
‫(‪ )2‬لطائف املعارف ص( ‪.)171‬‬

‫‪33‬‬
‫ليلة نزول القر�آن العظيم‬
‫قال ‪-‬تعاىل‪(: -‬إِنَّا َأن َز ْلنَا ُه يِف َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر)‪.‬‬
‫خصها بأن أنزل فيها أرشف‬
‫من رشف هذه الليلة وبركتها‪ :‬أن اهلل َّ‬
‫كتبه (القرآن العظيم) فهو أعظم الكتب الساموية‪ ،‬وهو كالم اهلل –عز‬
‫وجل‪ ،-‬تكلم به حقيق ًة‪ ،‬وتلقاه جربيل من اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬ونزل‬
‫به عىل قلب نبيينا حممد ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ففي هذه الليلة أنزل‬
‫الفرقان واهلدى والنور والشفاء‪.‬‬
‫وقد تضمن القرآن من العلوم واحلكم واملواعظ والقصص‬
‫والرتغيب والرتهيب وذكر أخبار من سبق وأخبار ما يأيت من البعث‬
‫والنشور واجلنة والنار ما مل يشتمل عليه كتاب غريه‪ ،‬حتى قال بعض‬
‫ٍ‬
‫مصحف يف فالة من األرض‬ ‫العلامء‪« :‬لو أن هذا الكتاب وجد مكتو ًبا يف‬
‫ومل يعلم من وضعه هناك‪ ،‬لشهدت العقول السليمة أنه ٌ‬
‫منزل من عند‬
‫اهلل‪ ،‬وأن البرش ال قدرة هلم عىل تأليف ذلك‪ ،‬فكيف إذا جاء عىل يدي‬
‫أصدق اخللق وأبرهم وأتقاهم؟»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬ابن رجب لطائف املعارف ص (‪.)84‬‬

‫‪34‬‬
‫قوله ‪-‬تعاىل‪( : -‬إِنَّا َأن َز ْلنَا ُه يِف َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر)‪.‬‬
‫قوله‪( :‬إِنَّا َأ َنز ْلنَا ُه) قيل‪ :‬الضمري يعود إىل جربيل‪ ،‬أي‪ :‬أنزل اهلل‬
‫جربيل يف ليلة القدر بام نزل به من الوحي(‪ .)1‬وهو ضعيف‪ ،‬والصواب‬
‫فخمه بإضامره من غري ٍ‬
‫ذكر؛ شهاد ًة له‬ ‫أن الضمرييعود اىل القرآن‪َّ ،‬‬
‫بالنباهة املغنية عن الترصيح‪ ،‬كام ع َّظمه بأن أسند نزوله إليه‪ ،‬وع َّظم‬
‫راك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َخ رْ ٌي‬
‫(وما َأ ْد َ‬
‫الوقت الذي أنزل فيه بقوله‪َ :‬‬
‫ِمن َأ ْل ِ‬
‫ف َش ْه ٍر)(‪.)2‬‬ ‫ْ‬
‫ما معنى إنزاله يف ليلة القدر مع أنه كان ينزل عىل نبينا ‪-‬صىل اهلل‬
‫منج اًم حسب الوقائع واألحداث؟‬
‫عليه وسلم‪َّ -‬‬
‫واجلواب عىل هذا من وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬ما قاله ابن عباس وهو رأي اجلمهور‪« :‬أنه نزل مجلة واحدة‬
‫من اللوح املحفوظ إىل السامء الدنيا يف ليلة القدر‪ ،‬والتعبري باإلنزال يؤيد‬
‫قول ابن عباس؛ ألن لفظ (اإلنزال) ُيستعمل يف الدفعى‪ ،‬أي نزل دفعة‬
‫واحدة ومجلة واحدة اىل السامء الدنيا‪. )3(».‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري املاوردي(‪.)311-6‬‬
‫(‪ )2‬أنوار التنزيل وأرسار التأويل للبيضاوي(‪.)327 -5‬‬
‫(‪ )3‬معجم الفروق اللغوية للعسكري(ص ‪.)79‬‬

‫‪35‬‬
‫الوجه الثاين‪:‬‬
‫قول الشعبي ‪ :‬أنه ابتدأ نزوله يف ليلة القدر‪.‬‬
‫ورجح هذا القول شيخنا ابن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬قال‪« :‬قوله‪( :‬إِنَّا‬
‫َأ َنز ْلنَا ُه) يقتيض إنزاله إىل منتهى إنزاله‪ ،‬وهو قلب النبي ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،-‬ومعلوم أنه مل ينزل عىل قلب النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫مجيع ًا يف ليلة واحدة‪ ،‬بل نزل مفرق ًا‪ ،‬فيكون املعنى‪( :‬إِنَّا َأ َنز ْلنَا ُه) أي‪ :‬إنا‬
‫ابتدأنا إنزاله يف ليلة القدر‪ ،‬ثم صار ينزل مفر ًقا حسب ما تقتضيه حكمة‬
‫اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪.)1(».-‬‬
‫والوجه الثالث‪:‬‬
‫رأي مقاتل بن سليامن ‪« :‬أنه نزل إىل سامء الدنيا ىف ثالث وعرشين‬
‫ليلة قدر من ثالث وعرشين سنة‪ُ ،‬ينزل اهلل ىف كل ليلة قدر ما قدر إنزاله‬
‫ىف تلك السنة‪ ،‬ثم ينزل به جربيل منجماً عىل رسول اهلل ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪. )2(».-‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬هذه االجابه نصا من فتاوى الشيخ ‪ -‬رمحه اهلل ‪ -‬يف برنامج ( نور عىل الدرب) ومل يطبع بعد‬
‫ولعىل ازف البرشى لطالب العلم بقرب طباعة فتاوى الشيخ كاملة يف هذا الربنامج املبارك والتي‬
‫تصل اىل عرشة جملدات اوتزيد وذلك يف األشهر القادمة‪ .‬وانظر ترجيح الشيخ هلذه املسألة يف‬
‫تفسري جزء عم (‪.)279 -1‬‬
‫نجمته عىل‬
‫(‪ )2‬وذكر يف تفسريه رأ ًيا آخر هو‪ :‬أنه نزل من اللوح املحفوظ مجلة واحدة‪ ،‬وأن احلفظة َّ‬
‫نجمه عىل النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬يف عرشين سنة‪ .‬ولكن‬ ‫جربيل ىف عرشين ليلة‪ ،‬وأن جربيل َّ‬
‫األول هو األشهر عنه انظر تفسري مقاتل بن سليامن(‪) 817 -3‬و(‪.)771-4‬‬

‫‪36‬‬
‫وقيل‪ :‬أن التقدير أنزلنا هذا الذكر (فىِ َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر) أي‪ :‬يف فضيلة‬
‫ليلة القدر وبيان رشفها(‪.)1‬‬
‫قال الزخمرشي ‪« :‬عظم القرآن من ثالثة أوجه‪ :‬أحدها‪ :‬أن أسند‬
‫إنزاله إليه وجعله خمتص ًا به دون غريه‪ ،‬والثاين‪ :‬أنه جاء بضمريه دون‬
‫اسمه الظاهر شهاد ًة له بالنباهة واالستغناء عن التنبيه عليه؛ والثالث‪:‬‬
‫الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه(‪.)2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مفاتيح الغيب (‪.)229 – 32‬‬
‫(‪ )2‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل( ‪. )780 -4‬‬

‫‪37‬‬
‫من بركة هذه الليلة نزول القرآن الكريم فيها‪ ،‬فليكن لك نصيب‬
‫من هذه الربكة‪ ،‬وخذ منها احلظ األوفر‪ ،‬واحبس نفسك كل الليايل‬
‫العرش عىل تالوة كتاب اهلل بتدبر‪ ،‬فنزوله يف هذه الليلة يعود بك إىل‬
‫ذكرى أول نزوله وإىل حرص النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬عىل تالوته‬
‫ومذاكرته له مع جربيل يف رمضان‪ ،‬فهو شهر القرآن‪ ،‬ويزداد احلرص‬
‫واجلد واالجتهاد يف العرش األواخر‪ ،‬فالزم كتاب اهلل واحرص عىل‬
‫ختمه وتدبره؛ لعلك تصادف ليلة القدر وأنت مقبل عىل كتاب اهلل‬
‫فالحا ال ختيب بعده‪ ،‬وقد كانت أوقات السلف ‪-‬رمحهم اهلل‪ -‬يف‬
‫فتفلح ً‬
‫رمضان عامرة بكتاب اهلل خاصة يف العرش األواخر منه‪ ،‬فكان األسود‬
‫يقرأ القرآن يف كل ليلتني يف رمضان‪ ،‬وكان النخعي يفعل ذلك يف العرش‬
‫األواخر منه خاصة ويف بقية الشهر يف ثالث‪ ،‬وكان قتادة خيتم يف كل سبع‬
‫دائماً ويف رمضان يف كل ثالث ويف العرش األواخر كل ليلة‪َ ،‬وكان الإْ ِ َما ِم‬
‫الشافِ ِع ِّي‪ ،‬رَحمَِ ُه اللهَُّ يخَ ْتِ ُم فيِ ا ْل َي ْو ِم َوال َّل ْي َل ِة ِم ْن َش ْه ِر َر َم َض َ‬
‫ان َخت َْمتَينْ ِ ‪ ،‬وَفيِ‬ ‫َّ‬
‫غَيرْ ِ ِه َخت َْم ًة‪ ،‬وكان الزهري إذا دخل رمضان قال‪ :‬فإنام هو تالوة القرآن‬
‫وإطعام الطعام‪ .‬و كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة احلديث‬
‫وجمالسة أهل العلم ويقبل عىل تالوة القرآن من املصحف‪ ،‬و ا ْل ُب َخ ِ‬
‫ار ِّي‬

‫‪38‬‬
‫ان َخت َْم ًة‪.‬‬ ‫الص ِح ِ‬
‫يح‪ :-‬يخَ ْتِ ُم فيِ ال َّل ْي َل ِة َو َي ْو ِم َها ِم ْن َر َم َض َ‬ ‫ب َّ‬
‫‪-‬ص ِ‬
‫اح ِ‬ ‫َ‬
‫و كان سفيان الثوري‪ :‬إذا دخل رمضان ترك مجيع العبادة وأقبل‬
‫عىل قراءة القرآن ‪.‬‬
‫وقد يشكل عىل البعض صنيع السلف هذا من ختم القرآن يف يوم أو‬
‫يومني‪ ،‬ملا ورد من حديث َع ْب ِد اللهَِّ ْب ِن َع ْم ٍرو َق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ‬
‫ث »(‪.)1‬‬ ‫اللهَُّ َع َلي ِه وس َّلم‪« :-‬لاَ ي ْف َقه من َقر َأه فيِ َأ َق َّل ِمن ثَلاَ ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ ُ َ ْ َ ُ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫وجييب عىل هذا احلافظ ابن رجب بقوله ‪« :‬وإنام ورد النهي عن‬
‫قراءة القرآن يف أقل من ثالث عىل املداومة عىل ذلك‪ ،‬فأما يف األوقات‬
‫خصوصا الليايل التي يطلب فيها ليلة القدر‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫املفضلة كشهر رمضان‪،‬‬
‫يف األماكن املفضلة كمكة ملن دخلها من غري أهلها‪ ،‬فيستحب اإلكثار‬
‫فيها من تالوة القرآن؛ اغتنا ًما للزمان واملكان‪ ،‬وهو قول أمحد وإسحاق‬
‫وغريمها من األئمة وعليه يدل عمل غريهم كام سبق ذكره»(‪.)2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أمحد يف املسند (‪ ) 6775‬ويف سنن أيب داود برقم (‪ )1394‬ويف سنن الرتمذي‬
‫برقم (‪ )2949‬ويف سنن النسائي الكربى برقم (‪ )8067‬ويف سنن ابن ماجة برقم (‪.)1347‬‬
‫(‪ )2‬ابن رجب لطائف املعارف ص (‪.)171‬‬

‫‪39‬‬
‫امل�شوق �إىل ف�ضل ليلة القدر‬
‫اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر)(‪. )1‬‬
‫(و َما َأ ْد َر َ‬
‫قال –تعاىل‪َ : -‬‬
‫راك ما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر»‬
‫«وما َأ ْد َ‬ ‫‪-‬عز ّ‬
‫وجل‪َ :-‬‬ ‫«قوله ّ‬
‫ّشوق إىل خريها »‬
‫هذا عىل سبيل التعظيم والت ّ‬
‫ابن اجلوزي(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪[ )1‬القدر‪.]2 :‬‬
‫(‪ )2‬مجال الدين أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل بن حممد اجلوزي (املتوىف سنة ‪597‬هـ)‪.‬‬
‫زاد املسري يف علم التفسري (‪.)472-4‬‬

‫‪40‬‬
‫الت�شويق �إىل ما يف ليلة القدر من اخلري العظيم‬
‫اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر)‪.‬‬
‫(و َما َأ ْد َر َ‬
‫قال ‪-‬تعاىل‪َ :-‬‬
‫يف هذه اآلية يعظم ربنا َّ‬
‫‪-‬جل شأنه‪ -‬هذه ليلة القدر‪ ،‬ويفخم أمرها‪،‬‬
‫مع التشويق خلريها‪ ،‬ويبني أن ال أحد يدري عن فضلها حقيقة‪ ،‬وال يبلغ‬
‫أحد من البرش منتهى قدرها‪ ،‬وما ذكره اهلل أهنا أفضل من ألف شهر‪ ،‬هذا‬
‫يش ٌء من رشفها وفضلها‪ ،‬وليس هو حقيق ُة فضلها‪ ،‬وهذا التشويق حيذو‬
‫بصاحب اهلمة العالية إىل التطلع إىل هذا الفضل العظيم والسعي إليه‪.‬‬
‫اك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬و َما َأ ْش َع َر َك َيا‬ ‫«و َما َأ ْد َر َ‬
‫قال الطربي(‪َ : )1‬‬
‫ف َش ْه ٍر »(‪. )2‬‬ ‫حُمَمدُ َأي شيَ ٍء َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫َيرُْ ْ‬ ‫َّ ُّ ْ ْ‬
‫راك ما َل ْي َل ُة ال َقدْ ِر) تنبيه لرسول اهلل ‪-‬صىل‬ ‫قال املاوردي ‪(« :‬وما أ ْد َ‬
‫ّ‬
‫وحث عىل العمل فيها»(‪. )3‬‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ -‬عىل فضلها ‪،‬‬
‫راك ما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) أي‪ :‬وما الذي يعلمك‬
‫(وما َأ ْد َ‬‫قال القاسمي‪َ « :‬‬
‫مبلغ شأهنا ونباهة أمرها؟! َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫ف َش ْه ٍر فكرر ذكرها‬ ‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ْ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلميل‪ ،‬أبو جعفر الطربي (املتوىف‪310 :‬هـ)‬
‫(‪ )2‬جامع البيان يف تأويل القرآن(‪.)533 -34‬‬
‫(‪ )3‬تفسري املاوردي(‪.)312 -6‬‬

‫‪41‬‬
‫ثالث مرات‪ .‬ثم أتى باالستفهام ّ‬
‫الدال عىل أن رشفها ليس مما تسهل‬
‫إحاطة العلم به»(‪. )1‬‬
‫راك َما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) َتن ِْوي ٌه بِ َط ِر ِيق الإْ ِ بهَْا ِم‬‫«(وما َأ ْد َ‬
‫قال ابن عاشور‪َ :‬‬
‫الس ْه ِل لمَِا َينْ َط ِوي َع َل ْي ِه ِم َن ا ْل َف َض ِائ ِل‬ ‫اك ُكن ِْه َها َل ْي َس بِ َّ‬‫اد بِ ِه َأ َّن إِ ْد َر َ‬ ‫المُْر ِ‬
‫َ‬
‫يم ِه‪،‬‬‫الش ِء و َتعظِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬وك َِل َم ُة ( َما َأ ْد َر َ‬ ‫ِ‬
‫اك َما ك ََذا) كَل َم ٌة ُت َق ُال فيِ َت ْفخي ِم يَّ ْ َ ْ‬ ‫الجَْ َّمة َ‬
‫س عَلىَ شيَ ْ ٍء َأ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َوالمَْ ْعنَى‪َ :‬أ ُّي شيَ ْ ء ُي َع ِّر ُف َك َما ه َي َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ر‪َ ،‬أ ْي َي ْع رُُ‬
‫ُي َع ِّر َف َك ِم ْقدَ َار َها»(‪. )2‬‬
‫خارج ع ْن‬ ‫قدرها‬‫علو ِ‬ ‫الداللة َعىل َّ‬ ‫ِ‬ ‫قال أبو السعود(‪ِ :)3‬‬
‫ٌ‬ ‫أن ِّ‬ ‫«فيه م َن‬
‫الغيوب »(‪. )4‬‬‫ِ‬ ‫دراية اخلَ ْل ِق ال يدريهَ ا َوالَ يدريهَ ا إالَّ ع َّ‬
‫ال ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫دائرة‬
‫(و َما َأ ْد َر َ‬
‫اك َما‬ ‫قال السعدي‪« :‬ثم فخم شأهنا‪ ،‬وعظم مقدارها فقال‪َ :‬‬
‫َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) أي‪ :‬فإن شأهنا جليل‪ ،‬وخطرها عظيم »(‪.)5‬‬
‫قال شيخنا‪« :‬هذه اجلملة هبذه الصيغة يستفاد منها التعظيم‬
‫والتفخيم‪(...،‬وما أدراك ما ليلة القدر) أي‪ :‬ما أعلمك ليلة القدر‬

‫_______________‬
‫حماسن التأويل (‪.)516 -9‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫التحرير والتنوير (‪.)458 -30‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أبو السعود العامدي حممد بن حممد بن مصطفى (املتوىف سنة ‪982‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم(‪.)182-9‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان(ص‪.)931‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪42‬‬
‫وشأهنا ورشفها وعظمها »(‪. )1‬‬
‫فائدة‪:‬‬
‫قال سفيان بن عيينة يف صحيح البخاري‪« :‬ما َ‬
‫كان يف القرآن‪َ :‬وما‬
‫يك فإنَّه لمَ ْ ُي ْع ِل ْم ُه »‪.‬‬
‫قال‪َ :‬و َما ُيدْ ِر َ‬ ‫َأ ْد َ‬
‫راك َف َقدْ أ ْع َل َمه‪َ ،‬و َما َ‬

‫قال احلافظ ابن حجر ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬ومقصود ابن عيينة أنه ‪-‬صىل‬
‫اهلل عليه وسلم‪ -‬كان يعرف تعيني ليلة القدر »(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري جزء عم (ص‪.)270‬‬
‫ب َه َذا الحْصرْ بقوله – َت َعالىَ ‪َ ( :-‬ل َع َّله يزكّى)‬ ‫«و َقدْ ُت ُع ِّق َ‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪ .)255-4‬وقال احلافظ‪َ :‬‬
‫ممِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َفإِنهََّا نزلت فيِ بن ُأ ِّم َم ْكتُو ٍم َو َقدْ َع ِل َم ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْيه َو َس َّل َم‪ -‬ب َحاله َوأ َّن ُه َّ ْن ت ََزكَّى َو َن َّف َع ْت ُه ِّ‬
‫الذك َْرى »‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬

‫‪43‬‬
‫فليلة هذا شأهنا يعظمها ربنا‪،‬و يفخم أمرها‪ ،‬ويشوقنا إىل فضلها‪،‬‬
‫وكأنه يبني لنا أننا مهام علمنا شي ًئا من فضلها‪ ،‬ففضلها أعظم من ذلك‪،‬‬
‫فتشتاق النفوس إليها‪ ،‬وتشمر عن ساعد اجلد يف طلبها وحتصيلها‪،‬‬
‫فيا قوم أال خاطب يف هذا الشهر إىل الرمحن؟ أال راغب فيام أعده‬
‫اهلل للطائعني يف اجلنان؟‬
‫َف ْل َيدَ ْع َعنْ ُه الت‬
‫َّــــــوان‬ ‫من ي ِرد م ْل َك الجِْ نـــ ِ‬
‫َـان‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ ُ‬
‫ُور ا ْل ُقــــر ِ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫ـــل إِلىَ ن ِ‬
‫ِ‬ ‫َو ْل ُي ِق ْم فيِ ُظ ْل َم ِة ال َّل ْيــــ‬
‫ْـش َف ِ‬ ‫إِ َّن َه َذا ا ْل َعيـ َ‬ ‫ِ‬
‫ـــان‬ ‫َو ْل َيص ْل َص ْو ًما بِ َص ْ‬
‫ــو ٍم‬
‫ِ‬
‫َـــــان‬ ‫ـ َّل ِه فيِ َد ِار الأَْمـ‬ ‫إِ َّنماَ ا ْل َع ْي ُش ِج َ‬
‫ــو ُار ا ْلــ‬

‫‪44‬‬
‫ف�ضل ليلة القدر املده�ش للعقول‬

‫قال ‪-‬تعاىل‪َ ( :-‬لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َخي ِمن َأ ْل ِ‬


‫ف َش ْه ٍر) ‪.‬‬ ‫رْ ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫‪ 1000‬شهر = ‪ 83‬سنة و‪ 4‬أشهر‪.‬‬
‫ف َر ْك َع ٍة َوك ََذلِ َك َس ِائ ُر‬ ‫«الر ْك َع ُة (يف ليلة القدر) خَيرْ ٌ ِم ْن ثَلاَ ثِ َ‬
‫ني َأ ْل َ‬ ‫َّ‬
‫َأن َْوا ِع ا ْلبرِ ِّ »‪.‬‬
‫القرايف(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أبو العباس شهاب الدين أمحد بن إدريس بن عبد الرمحن املالكي الشهري بالقرايف (املتوىف سنة‬
‫‪684‬هـ) الذخرية ( ‪.)548 -5‬‬

‫‪45‬‬
‫الف�ضل املده�ش للعقول واملحفز للنفو�س‬
‫لإدراك ليلة القدر‬
‫قال ‪-‬تعاىل‪َ ( :-‬لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َخي ِمن َأ ْل ِ‬
‫ف َش ْه ٍر)‪.‬‬ ‫رْ ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫‪ 1000‬شهر = ‪ 83‬سنة و‪ 4‬أشهر‬
‫هذه الليلة العظيمة خري من ألف شهر‪ ،‬خري من ‪ 83‬سنة و‪ 4‬أشهر‪.‬‬
‫ساعات معدودة خري من كل هذه السنوات‪ ،‬وال نعلم فضلها حقيقة‪،‬‬
‫إنام نعلم أهنا أفضل من ألف شهر‪ ،‬وقد ال يقصد باأللف عدد معني‪ ،‬بل‬
‫هو جاري عادة العرب إذ تذكر األلف يف غاية األشياء للتكثري‪ ،‬فيقصد‬
‫َّاس َعلىَ ٰ َح َي ٰو ٍة‬
‫َجدَ هَّنُ ْم َأ ْح َر َص الن ِ‬ ‫(و َلت ِ‬
‫به‪ :‬الدهر كله‪ ،‬كام قال –تعاىل‪َ :-‬‬
‫ف َسن ٍَة َو َما ُه َو بِ ُمز َْح ِز ِح ِه‬
‫شكُوا َي َو ُّد َأ َحدُ ُه ْم َل ْو ُي َع َّم ُر َأ ْل َ‬ ‫َو ِم َن ا َّل ِذ َ َ‬
‫ين أ رْ َ‬
‫ون)(‪ ، )1‬فيكون فضل ليلة القدر‬ ‫اب َأن ُي َع َّم َر َواللهَُّ َب ِص ُري بِ اَم َي ْع َم ُل َ‬‫ِم َن ا ْل َع َذ ِ‬
‫خري من الدهر كله‪ ،‬وهذا فضل عظيم ومنة من اهلل كبرية‪ ،‬ففضل الكريم‬
‫يدُّ بِ َحدٍّ ‪ ،‬وال ُي َق َّيدُ بِ َق ْي ٍد‪ ،‬ففضله واسع وعطاؤه غري ممنون‪.‬‬
‫املنان ال حُ َ‬
‫وهذا تشويق عظيم ترشئب له النفوس األبية‪ ،‬وتعمل عىل حتصيله‪،‬‬
‫وهي واهلل صفقة رابحة‪ ،‬وفرصة العمر‪ ،‬التي ال تعوض وال تقدر بثمن‪،‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬البقرة‪.96 :‬‬

‫‪46‬‬
‫فليلة واحدة خري من ألف شهر‪ ،‬يعني‪ :‬أفضل من عباده ‪ 83‬سنة وأربعة‬
‫قائم ليايل العرش ملدة ‪ 10‬سنوات‪،‬‬
‫اشهر كلها عبادة ال فتور فيها‪ ،‬فلو قام ٌ‬
‫فسيحصل هذا القائم ‪-‬بإذن ربه وفضله‪ -‬عىل ثواب وأجر أفضل من‬
‫عرشة آالف شهر‪ ،‬وهي تزيد عىل ‪ 830‬سنة‪ ،‬وكأنه ُع ِّم َر أكثر من ‪830‬‬
‫سنة يف عبادة ربه‪ .‬أي فضل هذا؟! فيا خيبة املحروم!‪.‬‬
‫خريا من‬
‫ومن قام هذه الليلة ‪ 20‬سنة‪ ،‬يكسب من الثواب واألجر ً‬
‫‪ 20‬ألف شهر يف عبادة اهلل‪ ،‬أي ما يزيد عىل ‪ 1660‬سنة! هل فكرت هبذا‬
‫الفضل؟وكأن عمرك امتد حتى بلغت أكثر من‪ 1660‬سنة كلها يف عبادة‬
‫ربك‪ ،‬نسأل اهلل من فضله‪.‬‬
‫خري من ألف شهر‪َ ،‬وقد‬ ‫قال بدر الدين العيني ‪ « :‬ليلة ا ْلقدر ٌ‬
‫(‪)1‬‬

‫اب الجْ مليِ ‪َ ،‬فتَأمل َه َذا‬


‫دخل فيِ َه ِذه ال َّل ْي َلة َأ ْر َب َعة آلاَ ف جمُُ َعة بِالحِْ َس ِ‬
‫ا ْلفضل الخَْفي»(‪. )2‬‬
‫لو فكَّر العبد أي خسارة هو فيها إن فاته هذا الفضل ملا توانى يف‬
‫اجلد حلظة واحدة يف طلب ليلة القدر يف كل ليلة من ليايل العرش‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أبو حممد حممود بن أمحد بن موسى بن أمحد بن حسني الغيتايب احلنفي بدر الدين العيني‬
‫(املتوىف سنة ‪855‬هـ)‪.‬‬
‫(‪ )2‬عمدة القاري رشح صحيح البخاري (‪.)50 -4‬‬

‫‪47‬‬
‫ما املقصود باخلريية يف قوله –تعاىل‪( :-‬خري من ألف شهر)؟‬
‫قال الطربي‪« :‬وأشبه األقوال يف ذلك بظاهر التنزيل قول من قال‪:‬‬
‫عمل يف ليلة ال َقدْ ر خري من عمل ألف شهر‪ ،‬ليس فيها ليلة ال َقدْ ر‪ .‬وأما‬
‫معان باطلة‪ ،‬ال داللة عليها من خرب وال عقل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فدعاوى‬ ‫األقوال األخر‪،‬‬
‫َ‬
‫وال هي موجودة يف التنزيل» (‪. )1‬‬
‫قال القرايف‪« :‬ومعنَى َقوله ‪َ -‬تعالىَ ‪( : -‬خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫ف َش ْه ٍر) َأ َّن ا ْل َع َم َل‬ ‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬
‫الر ْك َع ُة فِ َيها خَيرْ ً ا ِم ْن ثَلاَ ثِ َ‬
‫ني‬ ‫ف َش ْه ٍر َف َت ُك ُ‬
‫ون َّ‬
‫فِيها خ ِمن ا ْلعم ِل فيِ َأ ْل ِ‬
‫َ َيرْ ٌ َ َ َ‬
‫ف َر ْك َع ٍة َوك ََذلِ َك َس ِائ ُر َأن َْوا ِع ا ْلبرِ ِّ » (‪. )2‬‬
‫َأ ْل َ‬
‫وقوله ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬الركعة خري من ثالثني ألف ركعة» ذلك ألن‬
‫خري من ألف شهر‪ ،‬ولو رضبنا ‪ 30‬يف‬
‫الشهر ثالثون يو ًما‪ ،‬وليلة القدر ٌ‬
‫‪ 1000‬لكان الناتج ‪ 30‬أل ًفا‪ ،‬فلو صىل ركعة يف ليلة القدر‪ ،‬وحسبنا مثلها‬
‫يف ألف شهر‪ ،‬لكانت ثالثني ألف ركعة‪ ،‬ثم قال ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬كذلك‬
‫سائر أنواع الرب»‪ ،‬فعىل قوله هذا‪ ،‬فمن تصدق بريال يف ليلة القدر خري‬
‫من ثالثني ألف ريال‪ ،‬وهكذا مجيع أعامل الرب‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري الطربي (‪.)534 -24‬‬
‫(‪ )2‬الذخرية( ‪.)548 -5‬‬

‫‪48‬‬
‫قال األلويس(‪« : )1‬وخرييتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند‬
‫األكثرين عىل معنى أن العبادة فيها خري من العبادة يف ألف شهر‪ ،‬وال‬
‫يعلم مقدار خرييتها منها إال هو ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬وهذا تفضل منه‬
‫–تعاىل‪ ،-‬وله ‪-‬عز وجل‪ -‬أن خيص ما شاء بام شاء‪ ،‬ورب عمل قليل‬
‫خري من عمل كثري»(‪. )2‬‬
‫ف َش ْه ٍر) بَينََّ َف ْض َل َها‬ ‫قال القرطبي(‪َ (« :)3‬لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ْ‬
‫ُون بِ َك ْث َر ٍة َما َي َق ُع فِ ِيه ِم َن ا ْل َف َض ِائ ِل‪ .‬وَفيِ‬ ‫الزم ِ‬
‫ان إِ َّنماَ َتك ُ‬ ‫ِ‬
‫َوع َظ َم َها‪َ .‬و َفضي َل ُة َّ َ‬
‫ِ‬

‫ف َش ْه ٍر‪َ .‬واللهَُّ‬ ‫تِ ْل َك ال َّلي َل ِة ي َقسم ا ا ْلكَثِري ا َّل ِذي لاَ يوجدُ ِم ْث ُله فيِ َأ ْل ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ َّ ُ لخَْيرُْ‬
‫سين‪َ :‬أ ِي ا ْلعم ُل فِيها خ ِمن ا ْلعم ِل فيِ َأ ْل ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف‬ ‫َ َيرْ ٌ َ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َأ ْع َل ُم‪َ .‬و َق َال كَث ٌري م َن المُْ َف رِّ ِ َ‬
‫ف‬ ‫َشه ٍر َليس فِيها َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر‪ .‬و َق َال َأبو ا ْلعالِي ِة‪َ :‬لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ُ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ ْ‬
‫ُون فِ ِيه َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر»(‪. )4‬‬
‫َش ْه ٍر لاَ َتك ُ‬
‫قال شيخنا ‪-‬رمحه اهلل‪« : -‬قال ‪-‬تعاىل‪« : -‬ليلة القدر خري من ألف‬
‫شهر» أي‪ :‬من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر‪ ،‬واملراد باخلريية هنا‪ :‬ثواب‬
‫العمل فيها‪ ،‬وما ينزل اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬فيه من اخلري والربكة عىل هذه األمة»‪.‬‬
‫_______________‬
‫شهاب الدين حممود بن عبد اهلل احلسيني األلويس (املتوىف‪1270 :‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين(‪.)415 -15‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تفسري القرطبي ( ‪.)131 -20‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تفسري جزء عم (ص ‪270‬و ‪.)271‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪49‬‬
‫هل يشمل فضل ليلة القدر يومها؟‬
‫قال بعض العلامء‪« :‬الفضل يشمل يومها»‪ ،‬وعىل هذا قالوا‪:‬‬
‫«يستحب أن جيتهد يف يومها كاجتهاده يف ليلتها»‪.‬‬
‫قال الشعبي‪َ « :‬ي ْو ُم َها َك َل ْي َلتِ َها‪َ ،‬و َل ْي َلت َُها َك َي ْو ِم َها» (‪. )1‬‬
‫وبه قال الشافعي‪ ،‬قال النووي يف األذكار‪« :‬قال الشافعي ‪-‬رمحه‬
‫أستحب أن يكون اجتها ُده يف يومها كاجتهاده يف ليلتها‪ ،‬هذا‬
‫ّ‬ ‫اهلل‪: -‬‬
‫نصه»(‪. )2‬‬
‫ّ‬
‫قال النيسابوري(‪« : )3‬هذه الليلة هل تضاف إىل يومها الذي بعدها؟‬
‫الث َل ٍ‬
‫يال َس ِو ًّيا) [مريم‪]10 :‬‬ ‫قال الشعبي‪ :‬نعم يومها كليلتها؛ لقوله‪َ ( :‬ث َ‬
‫ويف موضع‪َ ( ،‬ثال َث َة َأ َّيا ٍم) [آل عمران‪ ]41 :‬وهلذا لو نذر أن يعتكف‬
‫ليلتني ألزمناه يومهام »(‪. )4‬‬
‫وال دليل يسعف هذا القول وال أثر‪ ،‬فليلة القدر فضلها خاص‬
‫بالليل وال يلحق به يومها وما ذكره النيسابوري يف النذر ال يقاس عىل‬
‫ليلة القدر‪ ،‬فهي ليلة ال تقارن يف أحكامها وفضلها بباقي الليايل‪ ،‬وقد‬
‫_______________‬
‫مصنف ابن أيب شيبة (‪.)8693‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫األذكار ( ص ‪.)191‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫نظام الدين احلسن بن حممد بن حسني القمي النيسابوري (املتوىف سنة ‪850‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫غرائب القرآن ورغائب الفرقان(‪.)536-6‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪50‬‬
‫نصا يف كتاب اهلل أن فضلها يف الليل خاصة‪ ،‬وال يشمل يومها ‪،‬‬
‫جاء ًّ‬
‫فقوله –تعاىل‪( :-‬سالم هي حتى مطلع الفجر) حيدد هناية ليلة القدر‪،‬‬
‫خاصا بالليل فقط‪.‬‬
‫فال حجة هلم فيام ذهبوا إليه‪ ،‬فيبقى الفضل ًّ‬
‫ه�ل فض�ل ليلة الق�در خاص بأم�ة نبين�ا حممد ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪-‬؟‬
‫اختلف العلامء يف ذلك عىل قولني‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن فضلها خاص هبذه األمة‪ .‬وهذا قول مجاهري‬
‫العلامء‪.‬‬
‫واستدلوا عىل ذلك بام ذكره َمالِ ٌك يف املوطأ َأ َّن ُه َس ِم َع َم ْن َيثِ ُق بِ ِه‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ُ -‬أ ِر َي َأ ْعماَ َر‬ ‫ول‪« :‬إِ َّن َر ُس َ‬ ‫ِم ْن َأ ْه ِل ا ْل ِع ْل ِم َي ُق ُ‬
‫اص َأ ْعماَ َر ُأ َّمتِ ِه َأ ْن لاَ َي ْب ُل ُغوا‬ ‫ِ ِ‬
‫َّاس َق ْب َل ُه َأ ْو َما َشا َء اللهَُّ م ْن َذل َك‪َ ،‬ف َك َأ َّن ُه َت َق رََ‬
‫الن ِ‬
‫ِم َن ا ْل َعم ِل ِم ْث َل ا َّل ِذي َب َل َغ غ ُهم فيِ ُط ِ‬
‫ول ا ْل ُع ُم ِر‪َ ،‬ف َأ ْع َطا ُه اللهَُّ َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر‬ ‫َيرُْ ْ‬ ‫َ‬
‫ف َش ْه ٍر »‬ ‫خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫َيرْ ٌ ْ‬
‫وه ا ْل ِع ْل ِم َأ َّن َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر ْلمَ‬
‫قال احلافظ ابن عبد الرب(‪« : )1‬وفِ ِيه ِمن وج ِ‬
‫ْ ُ ُ‬ ‫َ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أبو عمر يوسف بن عبد اهلل بن حممد بن عبد الرب بن عاصم النمري القرطبي (املتوىف سنة‬
‫‪463‬هـ)‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ُي ْع َط َها إِلاَّ حُم َ َّمدٌ َو ُأ َّم ُت ُه ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪. )1(»-‬‬
‫قال النووي‪َ « :‬ل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر مخُ ْت ََّص ًة بهَِ ِذ ِه الأُْ َّم ِة‪ ،‬وَلمَ ْ َت ُك ْن لمَِ ْن َق ْب َل َها‪ُ ،‬ه َو‬
‫اه ُري ا ْل ُعلَماَ ِء‪َ ،‬و َق َال‬ ‫الص ِحيح المَْ ْشهور ا َّل ِذي َق َطع بِ ِه َأصحابنَا ُك ُّلهم وَجمََ ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫َت َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر لِ أُْ‬
‫ل َم ِم‬ ‫َّاس َه ْل كَان ْ‬ ‫ف الن ُ‬ ‫ب ا ْل ُعدَّ ِة ِم ْن َأ ْص َحابِنَا‪ْ :‬‬
‫اخ َت َل َ‬ ‫َصاح ُ‬
‫ِ‬

‫السالِ َف ِة؟ َق َال‪َ :‬والأَْ َص ُّح َأنهََّا لمَ ْ َت ُك ْن إلاَّ لهَِ ِذ ِه الأُْ َّم ِة»(‪. )2‬‬
‫َّ‬
‫والقول الثاين‪ :‬إهنا كانت قبلنا يف األمم السابقة‪ ،‬كام هي يف أمتنا‪،‬‬
‫قال بذلك ابن كثري(‪ ، )3‬واستدل بحديث أيب ذر‪ ،‬ملا سأل النبي ‪-‬صىل اهلل‬
‫ول اللهَِّ‪َ ،‬أ ْخبرِ ْ نيِ َع ْن َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر‪،‬‬
‫عليه وسلم‪ -‬قال أبو ذر‪ُ « :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ان»‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬ت ُك ُ‬
‫ون‬ ‫ان ِه َي َأ ْو فيِ غَيرْ ِ ِه؟ َق َال‪َ « :‬ب ْل ِه َي فيِ َر َم َض َ‬ ‫أَفيِ َر َم َض َ‬
‫اء َما كَانُوا‪َ ،‬فإِ َذا ُقبِ ُضوا ُرفِ َع ْت؟ َأ ْم ِه َي إِلىَ َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة؟ َق َال‪:‬‬ ‫مع الأَْنْبِي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫« َب ْل ِه َي إِلىَ َي ْو ِم ا ْل ِق َيا َم ِة»‪ُ .‬ق ْل ُت‪ :‬فيِ َأ ِّي َر َم َض َ‬
‫ان ِه َي؟ َق َال‪« :‬ا ْلتَم ُس َ‬
‫وها فيِ‬
‫ا ْلعَشرْ ِ الأُْو ِل‪ ،‬وا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ‬
‫اخ ِر»(‪. )4‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ومال إىل هذا القول احلافظ ابن حجر‪ ،‬وقال‪« :‬إن القول بأهنا خاصة‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬االستذكار (‪.)417 -3‬‬
‫(‪ )2‬املجموع رشح املهذب ( ‪.)448 -6‬‬
‫(‪ )3‬أبو الفداء إسامعيل بن عمر بن كثري القريش البرصي ثم الدمشقي (املتوىف سنة ‪774‬هـ)‪ .‬تفسري‬
‫القرآن العظيم (‪.)446 -8‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه اإلمام أمحد يف املسند رقم( ‪ )21499‬والنسائي يف السنن الكربى ( ‪.)3413‬‬

‫‪52‬‬
‫هبذه األمة معرتض بحديث أيب ذر»‪ ،‬وقال عن أثر مالك الذي رواه‬
‫بال ًغا «إنه يحَ ت َِم ُل الت َّْأ ِو َيل‪ ،‬فَلاَ يدْ َفع ال َّت ِ يح فيِ ح ِد ِ‬
‫يث أَبيِ َذ ٍّر»(‪،)1‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ صرْ َ‬ ‫ْ‬
‫وتعقب السيوطي(‪ )2‬احلافظ ابن حجر بأن حديث أيب ذر أيضا حمتمل‬
‫حل ِديث َأ ْي ًضا يقبل الت َّْأ ِويل‪َ ،‬و ُه َو َأن ُم َراده‬
‫«و َأ ُقول َه َذا ا َ‬
‫التأويل‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ثم ترفع بعد‬ ‫ختتَص بِ َزمن النَّبِي ‪-‬صىل اهلل َع َل ْيه َوسلم‪َّ -‬‬ ‫الس َؤال‪َ :‬هل ْ‬
‫ُّ‬
‫َموته؟ ل َق ِرينَة ُم َقاب َلته َذلِك بقوله‪« :‬أم ِه َي إِلىَ َي ْوم ا ْل ِق َيا َمة؟» فَلاَ يكون‬
‫ارضة ألثر المُْ َو َّطأ‪َ ،‬وقد ورد َما يعضده‪َ ،‬ف ِفي َف َو ِائد أيب َطالب‬ ‫فِ ِيه ُم َع َ‬
‫ِ‬
‫طها من ك َ‬
‫َان‬ ‫المُْ َزكي من َحديث أنس َأن اهلل وهب ألمتي َل ْي َلة ا ْلقدر َومل ُي ْع َ‬
‫قبلهم»(‪.)3‬‬
‫واألقرب أهنا خاصة هبذه األمة‪ ،‬فال ُيعلم هذا الفضل العظيم ألي‬
‫أمة من األمم السابقة‪ ،‬وهذا فضل من اهلل ومنة‪ ،‬فهي أفضل األمم ونبيها‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬أفضل األنبياء‪ ،‬فلله احلمد واملنة‪.‬‬
‫ما رس التخصيص بألف شهر؟‬
‫يع الدَّ ْه ِر؛ لأَِ َّن ا ْل َع َر َب ت َْذك ُُر الأَْ ْل َ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ق َيل‪َ « :‬أ َرا َد بِ َق ْوله‪َ « :‬أ ْلف َش ْه ٍر» جمَ َ‬
‫(و َلت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َجدَ نهَُّ ْم‬ ‫فيِ كَث ٍري م َن الأَْ ْش َياء عَلىَ َط ِر ِيق المُْ َبا َل َغة‪ .‬كام يف قوله –تعاىل‪َ :-‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)263 -4‬‬
‫(‪ )2‬عبد الرمحن بن أيب بكر‪ ،‬جالل الدين السيوطي (املتوىف سنة ‪911‬هـ)‪.‬‬
‫(‪ )3‬تنوير احلوالك رشح موطأ مالك(‪.)237-1‬‬

‫‪53‬‬
‫ف‬‫َّاس عَلىَ ٰ َح َي ٰو ٍة َو ِم َن ا َّل ِذي َن أَشرَْ ُكوا َي َو ُّد َأ َحدُ ُه ْم َل ْو ُي َع َّم ُر َأ ْل َ‬
‫ص الن ِ‬ ‫َأ ْح َر َ‬
‫اب َأن ُي َع َّم َر َواللهَُّ َب ِص ُري بِماَ َي ْع َم ُل َ‬
‫ون)‬ ‫َسن ٍَة َو َما ُه َو بِ ُم َز ْح ِز ِح ِه ِم َن ا ْل َع َذ ِ‬
‫(البقرة‪.)96 :‬‬
‫قال القاسمي‪ :‬ولك أن تقف يف التفضيل عند النص‪ ،‬وتفوض‬
‫األمر يف حتديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر إىل اهلل –تعاىل‪-‬؛ فهو‬
‫الذي يعلم سبب ذلك ومل يبينه لنا‪ ،‬ولك أن جتري الكالم عىل عادهتم‬
‫يف التخاطب‪ .‬وذلك يف الكتاب كثري‪ .‬ومنه االستفهام الواقع يف هذه‬
‫راك ما َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر) فإنه جار عىل عادهتم يف اخلطاب‪ .‬وإال‬
‫(وما َأ ْد َ‬
‫السور َ‬
‫فالعليم اخلبري ال يقع منه أن يستفهم عن يشء! فيكون التحديد باأللف‬
‫ال مفهوم له‪ ،‬بل الغرض منه التكثري‪ .‬وإن أقل عدد تفضله هو ألف‬
‫شهر‪ .‬ثم إن درجات فضلها عىل هذا العدد غري حمصورة »(‪. )1‬‬
‫ف َش ْه ٍر) ُي َرا ُد بِ ِه َح ِقي َق ُة ا ْل َعدَ ِد ‪ ،‬وعىل هذا‬ ‫اهر َأ َّن ( َأ ْل ِ‬ ‫ِ‬
‫وقيل‪« :‬ال َّظ ُ‬
‫قيل‪ :‬السبب يف ختصيصه بألف شهر ما ذكره َمالِ ٌك يف املوطأ‪َ ،‬أ َّن ُه َس ِم َع‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪-‬‬ ‫ول‪ :‬إِ َّن َر ُس َ‬‫َم ْن َيثِ ُق بِ ِه ِم ْن َأ ْه ِل ا ْل ِع ْل ِم َي ُق ُ‬
‫اص َأ ْعماَ َر ُأ َّمتِ ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُأ ِر َي َأ ْعماَ َر الن ِ‬
‫َّاس َق ْب َل ُه َأ ْو َما َشا َء اللهَُّ م ْن َذل َك‪َ ،‬ف َك َأ َّن ُه َت َق رََ‬
‫َأ ْن لاَ َي ْب ُل ُغوا ِم َن ا ْل َعم ِل ِم ْث َل ا َّل ِذي َب َل َغ غ ُهم فيِ ُط ِ‬
‫ول ا ْل ُع ُم ِر‪َ ،‬ف َأ ْع َطا ُه اللهَُّ‬ ‫َيرُْ ْ‬ ‫َ‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬حماسن التأويل (‪.)517 -9‬‬

‫‪54‬‬
‫َلي َل َة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫ف َش ْه ٍر »(‪. )1‬‬ ‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ْ‬
‫يث ُي ْر َوى‬ ‫قال احلافظ ابن عبد الرب يف التمهيد(‪« : )2‬لاَ َأ ْع َل ُم َه َذا الحَْ ِد َ‬
‫وه وَلاَ َأ ْع ِر ُف ُه فيِ غَيرْ ِ المُْ َو َّطأِ ُم ْرسَلاً وَلاَ ُم ْسنَدً ا‬
‫مسنَدً ا ِمن وج ٍه ِمن ا ْلوج ِ‬
‫َ ُ ُ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫ب َو َف َض ِائ ٌل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َو َه َذا َأ َحدُ الأَْ َحاديث ا َّلتي ا ْن َف َر َد بهَِا َمال ٌك َو َلكن ََّها َر َغائ ٌ‬
‫َو َل ْي َس ْت َأ ْحكَا ًما وَلاَ َبنَى َع َل ْي َها فيِ ِكتَابِ ِه وَلاَ فيِ ُم َو َّط ِئ ِه ُح ْكماً »(‪. )3‬‬
‫وقيل يف رس التخصيص‪« :‬أن العابد كان فيام مىض ال يسمى عابدً ا‬
‫حتى يعبد اهلل ألف شهر‪ ،‬وذلك ثالث وثامنون سنة وأربعة أشهر‪،‬‬
‫خريا من عبادة ألف شهر‬
‫فجعل اهلل –سبحانه‪ -‬ألمة حممد عبادة ليلة ً‬
‫كانوا يعبدوهنا »(‪. )4‬‬
‫وقيل السبب يف التخصيص‪« :‬ما رواه عطاء عن ابن عباس أن النبي‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬ذكر له رجل من بني إرسائيل محل السالح عىل‬
‫عاتقه يف سبيل اهلل ألف شهر‪ ،‬فعجب رسول اهلل ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬املوطأ رقم( ‪.)889‬‬
‫(‪ )2‬التمهيد (‪.)373 – 24‬‬
‫(‪ )3‬فائدة‪ :‬قال احلافظ ابن عبد الرب يف االستذكار‪« :‬لاَ َأ ْع َل ُم َه َذا الحَْ ِد َ‬
‫يث ُي ْر َوى ُم ْسنَدً ا وَلاَ ُم ْرسَلاً‬
‫ُوجدُ فيِ غَيرْ ِ المُْ َو َّطأِ َأ َحدُ َها‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫م ْن َو ْجه م َن ا ْل ُو ُجوه إِلاَّ َما فيِ المُْ َو َّطأ َو ُه َو َأ َحدُ الأَْ ْر َب َعة الأَْ َحاديث ا َّلتي لاَ ت َ‬
‫ِ‬
‫الرابِ ُع َه َذا‬
‫َّاس ُم َعا َذ ْب َن جبل َو َّ‬ ‫إِنيِّ لأََن َْسى ‪َ -‬أ ْو ُأن ََّسى َوال َّثانيِ إِ َذا ن ََش َأ ْت َب ْح ِر َّي ٌة َوال َّثالِ ُث َح ِّس ْن ُخ ُل َق َك لِلن ِ‬
‫يث ُمنْك ٌَر وَلاَ َما َيدْ َف ُع ُه َأ ْص ٌل »‪.‬‬ ‫َو َل ْي َس ِمن َْها َح ِد ٌ‬
‫(‪ )4‬تفسري القرطبي (‪.)131 -20‬‬

‫‪55‬‬
‫لذلك‪ ،‬ومتنى أن يكون ذلك يف أمته‪ ،‬فأعطاه اهلل ليلة القدر‪ ،‬وقال‪ :‬هي‬
‫خري من ألف شهر التي محل فيها االرسائييل السالح يف سبيل اهلل »(‪. )1‬‬
‫وعن جماهد نفس قصة اإلرسائييل‪ ،‬لكن مجع بني اجلهاد وقيام‬
‫الليل‪ ،‬قال جماهد‪« :‬كان يف بني إرسائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح‪،‬‬
‫العدو بالنهار حتى ُي ْمسيَِ ‪ ،‬ففعل ذلك ألف شهر‪ ،‬فأنزل اهلل‬ ‫ّ‬ ‫ثم جياهد‬
‫هذه اآلية‪َ ( :‬لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫ف َش ْه ٍر) قيام تلك الليلة خري من عمل‬ ‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ْ‬
‫ذلك الرجل »(‪. )2‬‬
‫وقيل يف رس التخصيص‪« :‬إن َر ُسول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪-‬‬
‫ني َعا ًما‪ ،‬لمَ ْ َي ْع َص ْو ُه َط ْر َف َة‬ ‫ذكر َي ْو ًما َأ ْر َب َع ًة ِم ْن َبنِي إِسرَْ ِائ َيل َع َبدُ وا اللهََّ ثَماَ نِ َ‬
‫ون َق َال‪:‬‬ ‫وشع بن ُن ٍ‬
‫وز َو ُي َ َ ْ َ‬ ‫وب َو َز َك ِر َّيا َو ِح ْز ِق َيل ْب َن ا ْل َع ُج ِ‬ ‫عَينْ ٍ َف َذ َك َر َأ ُّي َ‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ِ -‬م ْن َذلِ َك َف َأتَا ُه‬ ‫اب رس ِ‬
‫ب َأ ْص َح ُ َ ُ‬ ‫َف َع ِج َ‬
‫ِ‬
‫ني َسنَ ًة لمَ ْ‬ ‫ِجبرْ ِ ُيل َف َق َال‪َ :‬يا حُم َ َّمدُ َع ِج َب ْت ُأ َّمت َُك ِم ْن ِع َبا َد ِة َه ُؤالء النَّ َف ِر ثَماَ نِ َ‬
‫َي ْع َص ْو ُه َط ْر َف َة عَينْ ٍ ‪َ ،‬ف َقدْ َأن َْز َل اللهَُّ خَيرْ ً ا ِم ْن َذلِ َك‪َ .‬ف َق َر َأ َع َل ْي ِه‪( :‬إِنَّا َأن َْز ْلنَا ُه‬
‫اك ما َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َش ْه ٍر) َه َذا‬ ‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ْ‬ ‫فيِ َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِر َو َما َأ ْد َر َ َ ْ‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه‬ ‫س بِ َذلِ َك َر ُس ُ‬ ‫َأ ْف َض ُل ممِ َّا َع ِج ْب َت َأن َ‬
‫ْت َو ُأ َّمت َُك‪َ .‬ف رُ َّ‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬الوسيط يف تفسري القرآن املجيد للواحدي(‪.)537-4‬‬
‫(‪ )2‬تفسري الطربي (‪.)533-24‬‬

‫‪56‬‬
‫َو َس َّل َم‪َ -‬والن ُ‬
‫َّاس َم َع ُه »(‪. )1‬‬
‫الوراق‪« :‬كان ملك سليامن‬
‫وقيل يف رس التخصيص ما ذكره أبو بكر ّ‬
‫مخسامئة شهر‪ ،‬وملك ذي القرنني مخسامئة شهر‪ ،‬فيحتمل أن يكون معنى‬
‫اآلية‪َ :‬ل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خَيرْ ٌ ملن أدركها مما ملكه سليامن وذو القرنني ‪-‬عليهام‬
‫السالم‪. » -‬‬
‫وقيل‪« :‬ألف شهر‪ ،‬مدة ملك بني أمية » ملا أخرجه الرتمذي(‪. )2‬‬
‫عن يوسف بن مازن الراسبي قال‪ « :‬قام رجل إىل احلسن بن عيل‬
‫سودت وجوه املؤمنني‪ ،‬عمدت إىل هذا الرجل فبايعته ‪-‬يعني‬
‫فقال‪ّ :‬‬
‫معاوية‪ ،-‬فقال‪« :‬ال تؤنّبني ‪-‬رمحك اهلل‪ -‬فإن رسول اهلل ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬قد أري بني أم ّية خيطبون عىل منربه رجلاً رجلاً ‪ ،‬فساءه ذلك‪،‬‬
‫ناك ا ْلك َْو َث َر) ونزلت‪( :‬إِنَّا َأن َْز ْلنا ُه فيِ َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر* َوما‬ ‫فنزلت‪( :‬إِنَّا َأ ْع َط ْي َ‬
‫ف َش ْه ٍر) متلكه بنو أم ّية »‪.‬‬ ‫راك ما َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر* َلي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خ ِمن َأ ْل ِ‬
‫َيرْ ٌ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َأ ْد َ ْ‬
‫«اللهم فحسبنا ملك بني أم ّية فإذا هو ألف شهر ال‬
‫ّ‬ ‫قال القاسم‪:‬‬
‫يزيد وال ينقص»‪.‬‬
‫يث عَلىَ ك ُِّل َت ْق ِد ٍير ُمنْك ٌَر ِجدًّ ا»‪،‬‬
‫وهذا ال يصح‪ ،‬قال ابن كثري‪« :‬الحَْ ِد ُ‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري ابن كثري(‪.)443-8‬‬
‫(‪ )2‬سنن الرتمذي (‪.)3350‬‬

‫‪57‬‬
‫«ه َو َح ِد ٌ‬
‫يث ُمنْك ٌَر»(‪.)1‬‬ ‫َق َال َشي ُخنَا الإْ ِ مام ا افِ ُظ ا ج ُة َأبو ا ج ِ ِ‬
‫اج المْ ِّز ُّي‪ُ :‬‬ ‫َ ُ لحَْ لحُْ َّ ُ لحَْ َّ‬ ‫ْ‬
‫والظاهر أن هذا الفضل العظيم‪ ،‬أهنا خري من ألف شهر‪ ،‬هو منة‬
‫وهبة من اهلل تفضل هبا عىل هذه األمة‪ ،‬وال يلزم أن يكون هلا سبب‪ ،‬فهو‬
‫حمض من الكريم املنان‪ ،‬خاصة أن ما ذكره العلامء من أسباب فيها‬ ‫ٌ‬
‫فضل ٌ‬
‫ضعف‪ ،‬واهلل يتفضل عىل من يشاء من عباده نسأل اهلل من واسع فضله‬
‫وبره وإحسانه‪.‬‬
‫ِّ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري ابن كثري(‪.)442 -8‬‬

‫‪58‬‬
‫ان‪َ ،‬و ُه َو َو ْحدَ ُه ُع ُم ٌر َط ِو ٌيل لمَِ ْن َرا َم‬ ‫اآلن يف َر َم َض َ‬ ‫ِع َبا َد اهللِ‪ :‬إِ َّنك ُْم َ‬
‫لف َش ْه ٍر‪َ ،‬ق َال اهلل –‬ ‫احد ًة خ ا ِمن َأ ِ‬ ‫ال َّثواب اجل ِز َيل‪َ ،‬فإِ َّن فيِ َليالِي ِه َلي َل ًة و ِ‬
‫َيرْ ً‬ ‫َ ْ ْ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ‬
‫الص‬‫ِ‬ ‫فاجت َِهدُ وا رَحمَِكُم اهللُ بِ ْ‬
‫إخ‬ ‫تعاىل‪َ ( :-‬ل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر خَيرْ ٌ ِّم ْن َأ ْلف َش ْه ٍر) ْ‬
‫االبتهال إِلىَ ِذي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫االستغفار َو‬ ‫اد ُروا بِالت َّْو َب ِة ِو‬ ‫األَ ْع ِل هللِ ‪-‬ج َّل و َعال‪ -‬وب ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ماَ‬
‫اإلكرا ِم‪.‬‬‫اجلالل َو ِ‬‫ِ‬

‫ون عَلىَ ِز َيا َد ٍة‬


‫س َ‬ ‫ِ ِ‬
‫وا ْع َل ُموا ‪-‬رَحمَِك ُُم اهللُ‪َ -‬أ َّن ا َمل ْوتَى يف ُق ُبوره ْم َيت ََح رَُّ‬
‫يح ٍة َأ ْو تحَ ْ ِميدَ ٍة َأ ْو َر ْك َع ٍة‪ُ ،‬ر ِئ َي َب ْع ُض ُه ْم فيِ ا َملنَا ِم َف َق َال‪َ :‬ما‬ ‫ماَلهِِ‬
‫فيِ َأ ْع م بِت َْسبِ َ‬
‫امة‪َ ،‬و َما ِعندكُم َأ ْك َث َر ِم َن ال ْغ َف َل ِة‪َ ،‬و ُر ِئ َي َب ْع ُض ُهم َف َق َال‪:‬‬ ‫ِعنْدَ نَا َأ ْك َثر ِمن النَّدَ ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫ون َوال َت ْع َم ُلون واهللِ‬ ‫يم َن ْع َل ْم َوال َن ْع َمل‪ ،‬وأنتم َت ْع َل ُم َ‬ ‫َقد ْمنَا عَلىَ َأ ْم ٍر َع ْظ ْ‬
‫ان فيِ َص ِحي َف ِة َأ َح ِد َنا خَيرْ ٌ ِم َن‬ ‫َان‪َ ،‬أو ر ْكع ٌة َأو ر ْكع َت ِ‬
‫ْ َ َ ْ َ َ‬
‫َلتَسبِيح ٌة َأو تَسبِيحت ِ‬
‫ْ َ ْ ْ َ‬
‫يها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الدُّ ْن َيا َو َما ف َ‬
‫َان حُم ْ ِسنًا ن َِد َم أن‬
‫وت إِال ن َِد َم‪ ،‬إِ ْن ك َ‬ ‫ت َي ُم ُ‬ ‫ويف الرتمذي(‪ : )1‬ما ِمن مي ٍ‬
‫َ ْ َ ِّ‬
‫َب‪.‬‬ ‫اس َت ْعت َ‬‫كون ْ‬ ‫يكون ْاز َدا َد‪َ ،‬وإن كان ُم ِسي ًئا ن َِد َم َأن ال َي َ‬ ‫َ‬ ‫ال‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الرتمذي (‪.)2403‬‬

‫‪59‬‬
‫يا أيـُّــهــــا ال َع ْبدُ ُق ْم للِهَِّ مجُ ْت ِ‬
‫َـــهــد ًا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوانهَْ ْض كَام نهََ َض ْت م ْن َق ْبل َك ُّ‬
‫الس َعدَ ا‬ ‫ ‬
‫الر َضا َوا َف ْت َو َأن َ‬ ‫ِ‬
‫ْــت عَل‬ ‫َهذي َلياليِ ِّ‬
‫يح مُصرِ ًّ ا َما َج َل ْو َت َصـــدَ ا‬
‫فِ ْع ِل ال َقبِ ِ‬ ‫ ‬
‫وس بِـهـَــــا‬ ‫ِ‬
‫ُق ْم َفا ْغتَن ْم َل ْي َل ًة تحَ ْ َيا النُّ ُف ُ‬
‫ـم َيـ ُك ْن يف َف ْض ِل َها َأ َبدَ ا‬ ‫ِ‬
‫َوم ْث ُلـهـَــــا َل ْ‬ ‫ ‬
‫ُطوبـَــى لمَِ ْن َم َّر ًة فيِ ال ُع ْم ِر َأ ْد َركَـهـَـا‬
‫َـال ِمـنْـهـــا الـذي يب ِغ ِ‬
‫يه مجُ ْت َِهدَ ا‬ ‫َونـ َ‬ ‫ ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ـــال َخالِ ُقنَا‬‫َف َليـْـلـَــ ُة ال َقــدْ ِر خَيرْ ٌ َق َ‬
‫ف َش ْه ٍر َهنِي ًئا َم ْن لهََا َشــــهـِدَ ا‬ ‫ِمن َأ ْل ِ‬
‫ْ‬ ‫ ‬
‫واملالئ ُك ِم ْن‬
‫ِ‬ ‫وح فِـيــها‬ ‫الر ُ‬ ‫َو َينـ ِ‬
‫ْــز ُل ُّ‬
‫ــن ال ن ُْحصيِ لهَُم عَــدَ َدا‬ ‫ِعنـْـدَ ا ُمل َه ْي ِم ِ‬ ‫ ‬
‫ـد ُحــظِــي فِيــها َف َو َّف َق ُه‬
‫يــا َفو َز َعب ٍ‬
‫ْ ْ‬
‫َـاش ِع َ‬
‫يش َة ُّ‬
‫الس َعـدَ ا‬ ‫رَبيِّ َق ُبـــوالً َفعــ َ‬ ‫ ‬
‫وفـ ََاز بــِاألَم ِن وال ُغ َفر ِ‬
‫ان ُمـ ْغـتَـبِطــًا‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫تي ِم ْن َر ِّب ِه َأ َبـــــدَ ا‬
‫َــال مـَـــا َير جَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َون َ‬ ‫ ‬

‫‪60‬‬
‫اطــلـــب ِمن اهلل ْ‬
‫إن َوا َف ْيت ََها َس َح ًـرا‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َجنـَّــات عَدْ ن َت ُك ْن م ْن جمُ ْ َلة ُّ‬
‫الس َعدا‬ ‫ ‬
‫َرضع فيِ الدُّ َجى َأ َس ًفا‬ ‫ِ‬
‫ونح َوت ْ‬ ‫َوابــك ْ‬
‫عَلىَ كَبـَائـ َِر ال تـ ُْحصــِي َلـهـَا عَدَ َدا‬ ‫ ‬
‫ـت‬ ‫الصــالة عىل ا ُمل ْخت ِ‬
‫َار َما َط ُل َع ْ‬ ‫ُث َّ‬
‫ــم َّ‬
‫ار فيِ ال َفال َو َحـدَ ا‬ ‫ـس َو َما َس َار َس ٍ‬ ‫َش ْم ٌ‬ ‫ ‬
‫ال َّل ُه َّم َو ِّف ْقنَا لمَِا َو َّف ْق َت إليه ال َق ْوم‪ ،‬و َأ ْي ِق ْظنَا من ِسنة ال َغ ْف َل ِة والنَّوم‪،‬‬
‫ِ‬
‫وعاملنَا‬ ‫وارز ْقنَا االستعدا َد لِ َذلِ َك ال َي ْو ِم الذي َي ْر َب ُح فيه ا ُمل َّت ُق َ‬
‫ون‪ ،‬ال َّل ُه َّم‬
‫باد َك الذي َن ال‬ ‫بإحسانِ َك‪ ،‬وجدْ علينا بِ َف ْض ِل َك وامتِنانِ َك‪ ،‬واجعلنا من ِع ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫َخ ٌ‬
‫وف عليهم وال ُه ْم يحَ ْ َزنُون(‪.)1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬موارد الظمآن لدروس الزمان‪ ،‬للسلامن(‪.)437 -1‬‬

‫‪61‬‬
‫ليلة نزول املالئكة ومعهم جربيل ‪-‬عليه ال�سالم‪-‬‬

‫وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر هِّبِم ِّمن ك ُِّل َأ ْم ٍر)‪.‬‬ ‫قال –تعاىل‪َ ( :-‬تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة َو ُّ‬
‫الر ُ‬
‫«إن اإلنسان يأيت بالطاعات واخلريات‬
‫عند حضور األكابر من العلامء والزهاد‬
‫أحسن مما يكون يف اخللوة‪،‬‬
‫فاهلل –تعاىل‪ -‬أنزل املالئكة املقربني‬
‫حتى أن املكلف يعلم أنه إنام يأيت بالطاعات‬
‫يف حضور أولئك العلامء العباد الزهاد‬
‫فيكون أتم وعن النقصان أبعد»‬
‫فخر الدين الرازي(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أبو عبد اهلل حممد بن عمر بن احلسن بن احلسني التيمي الرازي امللقب بفخر الدين الرازي خطيب‬
‫الري (املتوىف سنة ‪606‬هـ) مفاتيح الغيب (‪ ،)233 -32‬وال ينُصح عامة الناس ‪ ،‬بمطالعة تفسريه؛‬
‫فهو من املتكلمني األشاعرة وعليه بعض املآخذ خاصة يف املعتقد‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫امل�شهد العظيم ملن كان له قلب‬
‫نزول املالئكة وجربيل ليلة القدر‬
‫وح فِ َيها بِإِ ْذ ِن َر هِّبِم ِّمن ك ُِّل َأ ْم ٍر)‪.‬‬ ‫قال –تعاىل‪َ ( :-‬تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة َو ُّ‬
‫الر ُ‬
‫من خصائص هذه الليلة العظيمة نزول املالئكة ومعهم جربيل‪ ،‬فهو‬
‫عظيم ملن كان له قلب‪ ،‬واهلل لو تأمل العبد هذا املشهد‪ ،‬وأن‬
‫ٌ‬ ‫واهلل مشهدٌ‬
‫خص هذه الليلة هبذا النزول‪ ،‬واستشعر فقط نزوهلم هبذه الكثرة التي‬
‫اهلل َّ‬
‫يتنزلون بالرمحة والربكة واخلري‪ ،‬ملا توانى يف‬
‫ال حيصيهم إال رهبم‪ ،‬وأهنم ّ‬
‫إعطاء هذه الليلة حقها‪ ،‬وقد يصيب العبد فيها من بركاهتم وخرياهتم و‬
‫ويرمها‪ ،‬فيخرس خسارة‬
‫يسعد إىل األبد‪ ،‬وقد ال حيصل منها عىل يشء حُ‬
‫ال تعوض‪ ،‬فهلاَّ ختيلت املشهد! منذ غروب الشمس إىل طلوع الفجر‬
‫ونزول املالئكة ال ينقطع‪ ،‬و كلام كان اجلمع أعظم‪ ،‬كان نزول الرمحة‬
‫هناك أكثر‪ ،‬وهذا النزول ي ِ‬
‫شعر املؤمن بعظمة هذه الليلة‪ ،‬ولو استشعر‬ ‫ُ‬
‫من يف قلبه أدنى إيامن هذا النزول لنهض من سباته‪ ،‬وخشع قلبه‪ ،‬وذرفت‬
‫ٍ‬
‫معتاد للمالئكة؛ خاصة أن معهم الروح‬ ‫عينه‪ ،‬فاألرض تشهد نزولاً غري‬
‫األمني جربيل ‪-‬عليه السالم‪.-‬‬
‫قوله تعاىل‪َ ( :‬تنَز َُّل ا مَْل َلـٰـِٕ َك ُة) أي تنزل املالئكة من السامء إىل األرض‪،‬‬

‫‪63‬‬
‫وهذا النزول كله خري‪ ،‬مع أن املالئكة قد تنزل بالعذاب‪ ،‬ولكن يف هذه‬
‫َنزل المَْلاَ ِئك َِة فيِ َه ِذ ِه ال َّل ْي َل ِة‬
‫الليلة ما تنزل إال باخلري‪ .‬قال ابن كثري‪َ « :‬ي ْك ُث ُر ت ُ‬
‫ون‬‫الرحمَْ ِة‪ ،‬كَماَ َي َتن ََّز ُل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لِ َك ْث َر ِة َب َركَتِ َها‪َ ،‬والمَْلاَ ِئ َك ُة َي َتن ََّز ُل َ‬
‫ون َم َع َتن َُّزل ا ْلبرََ كَة َو َّ‬
‫ب‬ ‫ون َأ ْجنِ َحت َُه ْم لِ َطالِ ِ‬ ‫الذك ِْر‪َ ،‬و َي َض ُع َ‬ ‫ون ِ‬
‫بح َلق ِّ‬ ‫وَيي ُط َ‬ ‫آن حُ ِ‬ ‫ِعنْدَ تِلاَ و ِة ا ْل ُقر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ا ْل ِع ْل ِم بِ ِصدْ ٍق َت ْعظِيماً له»(‪. )1‬‬
‫قال شيخنا ‪:‬حممد بن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪« : -‬نزول املالئكة يف‬
‫األرض‪ ،‬عنوان عىل الرمحة واخلري والربكة‪ ،‬وهلذا إذا امتنعت املالئكة‬
‫من دخول يشء كان ذلك دليلاً عىل أن هذا املكان التي امتنعت املالئكة‬
‫من دخوله قد خيلو من اخلري والربكة»(‪ ، )2‬فهي تنزل ألجل الربكة‪،‬‬
‫وهذه اللفظة ( َتن ََّز ُل ) تفيد أهنا تنزل مرة تلو املرة‪ ،‬حتى تنزل إىل األرض‬
‫مجيعها‪ ،‬وال يلزم خلو السموات منها‪ ،‬فهي تنزل عىل أفواج وأشكال‪،‬‬
‫علل البعض أن األرض ال حتتملهم من كثرهتم‪ ،‬وجياب عن هذا بأن‬
‫أيضا‪ :‬إهنا‬
‫أجسام املالئكة لطيفة؛ فال يقاس عليها أجسام البرش‪ ،‬ويقال ً‬
‫(تنزل) فهي‬
‫وفوج صاعدٌ ‪ ،‬وهذا يفيده لفظ َّ‬
‫ٌ‬ ‫فوج ٌ‬
‫نازل‬ ‫تنزل عىل أفواج‪ٌ ،‬‬
‫ٍ‬
‫دفعات كام يف احلج‪ ،‬فاحلجاج عىل كثرهتم كلهم يطوفون حول‬ ‫تنزل عىل‬
‫ٍ‬
‫أفواج‪ ،‬فوج داخل و فوج خارج‪ ،‬وألجل كثرة املالئكة يمتد‬ ‫الكعبة عىل‬
‫_______________‬
‫(‪ )444 -8( )1‬ابن كثري‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسري جز عم (ص ‪.) 271‬‬

‫‪64‬‬
‫هذا النزول إىل الفجر‪.‬‬
‫«صنف من‬ ‫(الروح) الصحيح‪ :‬إنه جربيل ‪-‬عليه السالم‪ .-‬وقيل‪ِ :‬‬
‫املالئكة‪ُ ،‬ج ِعلوا حف َظة عىل سائرهم‪ ،‬وأن املالئكة ال يروهنم‪ ،‬كام ال نرى‬
‫نحن املالئكة »‪ .‬وقيل‪« :‬هم أرشف املالئكة وأقرهبم من اهلل ‪-‬تعاىل‪.» -‬‬
‫وقيل‪« :‬إهنم جند من جند اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬من غري املالئكة »‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫أيد وأرجل؛ وليسوا‬ ‫«هم ِصنف من خلق اهلل يأكلون الطعام‪ ،‬وهلم ٍ‬

‫مالئكة»‪ .‬وقيل‪« :‬خلق عظيم يقوم ص ًّفا‪ ،‬واملالئكة كلهم ص ًّفا»‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫«الروح هي الرمحة ينزل هبا جربيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬مع املالئكة يف هذه‬
‫الليلة عىل أهلها»‪،‬‬
‫قوله ‪-‬تعاىل‪( :-‬بإذن رهبم)‪ :‬أي بأمر رهبم‪ ،‬وهذا اإلذن‪ :‬اإلذن‬
‫الكوين ال الرشعي(‪ ، )1‬ومعنى (بِإِ ْذ ِن رَبهِّ ِم)‪ :‬أن هذا التنزل كرامة أكرم‬
‫اللـه هبا املسلمني بأن أنزل لـهم يف تلك الليلة مجاعات من مالئكته‪،‬‬
‫وفيهم أرشفهم‪ ،‬وكأن نزول جربيل يف تلك الليلة ليعود عليها من‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬قال شيخنا ابن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪ ( : -‬بإذن رهبم أي‪ :‬بأمره‪ ،‬واملراد به اإلذن الكوين‪ ،‬ألن إذن‬
‫اهلل أي أمره ينقسم إىل قسمني‪ :‬إذن كوين‪ ،‬وإذن رشعي‪ ،‬فقوله –تعاىل‪ :-‬رشعوا هلم من الدين ما مل‬
‫قدرا‪ ،‬فقد رشع من دون اهلل لكنه‬
‫يأذن به اهلل [الشورى‪ ]21:‬أي‪ :‬ما مل يأذن به رش ًعا؛ ألنه قد أذن به ً‬
‫ليس بإذن اهلل الرشعي‪ ،‬وإذن قدري كام يف هذه اآلية‪ :‬بإذن رهبم أي‪ :‬بأمره القدري‪(.‬تفسري جزء عم‬
‫ص ‪.)271‬‬

‫‪65‬‬
‫الفضل مثل الذي حصل يف مماثلتها األوىل‪ ،‬ليلة نزولـه بالوحي يف غار‬
‫ِحراء‪. )1().‬‬
‫قوله –تعاىل‪( :-‬من كل أمر) أي من ّ‬
‫كل أمر قضاه اهلل يف تلك السنة‪،‬‬
‫من رزق وأجل وغري ذلك‪ .‬وهذا قول قتادة(‪ ، )2‬وهو الصواب‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير البن عاشور (‪.)463 -30‬‬
‫(‪ )2‬تفسري الطربي ( ‪.)534-24‬‬

‫‪66‬‬
‫إن امللوك والسادات ال حيبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينون‬
‫دارهم بالفرش والبسط‪ ،‬ويزينوا عبيدهم بالثياب واألسلحة‪ ،‬فإذا كان‬
‫ليلة القدر أمر الرب ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬املالئكة بالنزول إىل األرض؛ ألن‬
‫العباد زينوا أنفسهم بالطاعات‪ ،‬بالصوم والصالة يف ليايل رمضان‪،‬‬
‫ومساجدهم بالقناديل واملصابيح‪ ،‬فيقول الرب –تعاىل‪ : -‬أنتم طعنتم‬
‫يف بني آدم و قلتم‪( :‬أجتعل فيها من يفسد فيها) اآلية فقلت لكم‪( :‬إين‬
‫أعلم ما ال تعلمون) اذهبوا إليهم يف هذه الليلة حتى تروهم قائمني‬
‫ساجدين راكعني‪ ،‬لتعلموا أين اخرتهتم عىل علم عىل العاملني(‪.)1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬لطائف املعارف(ص‪.)192‬‬

‫‪67‬‬
‫ليلة ال�سالم‬

‫(سال ٌم ِه َي َحتَّى َم ْط َل ِع ا ْل َف ْج ِر)‪.‬‬


‫قال –تعاىل‪َ :-‬‬
‫الرش كلـه‬
‫«سالم ليلة القدر من ّ‬
‫من ّأولـها إىل طلوع الفجر من ليلتها»‬
‫ابن جرير الطربي(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري الطربي (‪.)534 -24‬‬

‫‪68‬‬
‫ليلة ال�سالم‬
‫(سال ٌم ِه َي َحتَّى َم ْط َل ِع ا ْل َف ْج ِر)‪.‬‬
‫قال –تعاىل‪َ :-‬‬
‫ليلة القدر‪ :‬هي ليلة اخلري كله ال رش فيها‪ ،‬وهذا من خصائص هذه‬
‫الليلة العظيمة أهنا سالم حتى مطلع الفجر‪ ،‬فام ظنك بليلة خيربنا ربنا‬
‫عنها أهنا سالم من الرش ما فيها إال اخلري من بدايتها إىل هنايتها؟ أفال‬
‫تستحق هذه الليلة اجلد واالجتهاد؟ فال نامت أعني الكساىل!‬
‫قوله‪( :‬سالم هي) هنا السالم ُمنَك ٌَّر للتعظيم و قدَّ مه وهو اخلرب‪،‬‬
‫وأخر املبتدأ‪ ،‬مما يفيد احلرص‪َ ،‬أ ْي َما ِه َي إِلاَّ سَلاَ ٌم‪ ، .‬وكأهنا بيان ملا سبق‬
‫يف قوله‪( :‬من كل أمر) أي أن يف هذه الليلة ما حيدث إال كل أمر سالم‪،‬‬
‫ألن املالئكة قد تنزل بالعذاب‪ ،‬لكن يف هذه الليلة األمر خمتلف‪ ،‬هي‬
‫نازلة بكل خري‪ ،‬وهذا اخلري والسالم خاص بأهل اإلسالم من القائمني‬
‫الصائمني الطالبني لليلة القدر‪ ،‬وهذه كالبشارة هلم من رهبم‪ ،‬تبعث‬
‫اهلمة يف نفوسهم عىل القيام واجلد واملثابرة يف حتصيل فضل هذه الليلة ‪.‬‬
‫ما املقصود بالسالم؟‬
‫الرش كلـه من ّأولـها إىل طلوع‬
‫قال الطربي‪« :‬سالم ليلة القدر من ّ‬
‫الفجر من ليلتها» وهذا الصواب يف معنى السالم‪ ،‬فام فيها إال اخلري‪،‬‬
‫فينزل فيها من اخلري و الربكة والسعادة ما اهلل به عليم‪ ،‬فال يكون فيها‬

‫‪69‬‬
‫رش‪ ،‬بل كلها خري‪ ،‬من غفران الذنوب‪ ،‬ويعطى العبد فيها عظيم الثواب‪،‬‬
‫وإجابة الدعاء‪ ،‬وكل خري من الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫قوله‪( :‬حتى مطلع الفجر) أي‪ :‬يمتد هذا اخلري من بداية الليلة من‬
‫مغيب الشمس إىل طلوع الفجر‪ ،‬ومن هنا تعلم أن ليلة القدر تشمل مجيع‬
‫الليل‪ ،‬ال كام يظنه البعض أهنا خاص يف وقت القيام أو الثلث األخري‪ ،‬بل‬
‫فضلها يشمل كل أجزاء الليل‪ ،‬فهي خري من ألف شهر من حني مغيب‬
‫الشمس إىل مطلع الفجر‪ ،‬فإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر(‪ )1‬وقيل‪:‬‬
‫«إن وقت ليلة القدر يمتد حتى تشمل صالة الفجر»‪ ،‬قال ابن عاشور‪:‬‬
‫(حتَّى) ِ‬
‫إلدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر متتد بعد مطلع‬ ‫«وجيء بحرف َ‬
‫الفجر‪ ،‬بحيث أن صالة الفجر تعترب واقعة يف تلك الليلة‪ ،‬لئال يتوهم أن‬
‫الفطر بآخر جزء من الليل‪ ،‬وهذا توسعة من اهلل يف امتداد‬ ‫هنايتها كنهاية ِ‬
‫الليلة إىل ما بعد طلوع الفجر»‪.‬‬
‫ويستفاد من غاية َتن َُّز ِل املالئكة فيها‪ ،‬أن تلك غاية الليلة‪ ،‬وغاية‬
‫خريا من ألف شهر‪ ،‬وغاية‬
‫ملا فيها من األعامل الصاحلة التابعة؛ لكوهنا ً‬
‫السالم فيها)(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري جزء عم لشيخنا ابن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪( -‬ص‪.)272‬‬
‫(‪ )2‬ابن عاشور التحرير والتنوير(‪.)466 – 30‬‬

‫‪70‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‪َ ،‬و ُي َق َّر ُب ف َيها األَ ْح َب ُ‬
‫اب‪َ ،‬و ُي ْس َم ُع‬ ‫َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َل ْي َل ٌة ُي ْفت َُح ف َ‬
‫يها ا ْل َب ُ‬
‫يم األَ ْج ِر (سالم هي حتى‬ ‫الخْ ِ َطاب‪ ،‬ويرد ا واب‪ ،‬ويسنَى لِ ْلع ِام ِل َ ِ‬
‫ني َعظ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ َ ُّ لجَْ َ ُ َ ُ ْ‬
‫مطلع الفجر) ‪.‬‬

‫يها المُْ َج ِام ُل‪َ ،‬ف َيا‬‫ِ‬ ‫ِ‬


‫يها الحَْاص ُل‪َ ،‬و َي ْق َب ُل ف َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َي ْس َعدُ بهَِا المُْ َواص ُل‪َ ،‬و َيت ََو َّف ُر ف َ‬
‫ِر ْب َح المُْ َع ِام ِل فيِ ا ْل َب ْح ِر (سالم هي حتى مطلع الفجر) ‪.‬‬
‫َل ْي َل ٌة ُت َت َل َّقى فِ َيها ا ْل ُو ُفو ُد‪ ،‬وَيحَ ُص ُل م المَْ ْق ُصو ُد بِا ْل َق ُب ِ‬
‫ول َوا ْل َف ْو ِز‬ ‫لهَُ ُ‬ ‫ْ‬
‫(سال ٌم ِه َي َحتَّى َم ْط َل ِع‬ ‫ِ‬
‫الس ُعود‪َ ،‬أت َُرى َما ُي ْؤلمُِ َك أَيهَُّا المَْ ْط ُرو ُد َه َذا الهَْ ْج ُر‪َ ،‬‬
‫َو ُّ‬
‫الفجر) َأ ْخ َل ُصوا َو َما َأ ْخ َل ْص َت َق ْصدَ َك‪َ ،‬و َب َل ُغوا المُْ َرا َد َو َما َب َل ْغ َت َأ ُشدَّ َك‪،‬‬
‫َو ُك َّلماَ ِج ْئ َت بِال نِ َّي ٍة َر َّد َك‪ ،‬أو ليس َما ُي َؤ ِّث ُر ِعنْدَ َك َش ِديدُ َه َذا َّ‬
‫الز ْج ِر َ‬
‫(سال ٌم‬
‫هي حتى مطلع الفجر) ‪.‬‬

‫َأ ْي ِق ْظ َن ْف َس َك لمَِا بَينَْ َيدَيهَْا‪َ ،‬وا ْن َتظِ ْر َما َس َي ْأتيِ َع ْن َق ِل ٍ‬


‫يل إِ َل ْي َها‪َ ،‬و َأ ْس ِم ْع َها‬
‫اع َظ َف َقدْ حَضرََ ْت َلدَيهَْا‪َ ،‬وا ْق َب ْل ن ُْص ِحي َو ُخ ْذ َع َل ْي َها‪ ،‬ضرَ ْ َب احلجر‬ ‫المَْو ِ‬
‫َ‬
‫ات َي ْر َب ُح فِ َيها َم ْن َف ِه َم َو َد َرى‪،‬‬ ‫(سالم هي حتى مطلع الفجر) ‪َ .‬ه ِذ ِه َأ ْو َق ٌ‬

‫‪71‬‬
‫اد ِه ُك ُّل َم ْن َجدَّ وَسرََ ى‪َ ،‬و ُي َف ُّك فِ َيها ا ْل َعانيِ َو ُت ْط َل ُق األَسرَْ ى‪،‬‬
‫وي ِص ُل إِلىَ مر ِ‬
‫َُ‬ ‫ََ‬

‫ْ‬ ‫َت َقدَّ َم ا ْل َق ْو ُم وأنت راجع إىل وراء‪ ،‬أو ليس ك ُُّل َه َذا َقدْ َج َرى َوك ََأ َّن ُه لمَ‬
‫ي ِر؟! (سالم هي حتى مطلع الفجر)(‪. )1‬‬
‫جَ ْ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬التبرصة البن اجلوزي(‪.)104 -2‬‬

‫‪72‬‬
‫ليلة املغفرة‬

‫النبي ‪-‬صىل اللـه عليه وس ّلم‪-‬‬ ‫عن ِّ‬ ‫‪-‬ريض اللـ ُه عنه‪ِ -‬‬
‫َ‬ ‫عن أيب هرير َة‬
‫قال‪« :‬من قام ليل َة ال َقدْ ِر إِيامنًا واحتِسابا ُغ ِفر لـه ما َت َّقدم ِمن َذن ِ‬
‫ْبه» متفق‬ ‫َ‬ ‫ْ ً َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عليه‪.‬‬
‫(ليلة القدر) الليلة التي يقومها القائمون‪ ،‬فإذا أصبحوا غفرت‬
‫ذنوهبم فرجعوا كيوم ولدهتم أمهاهتم»‪.‬‬
‫الشيخ حممد املختار الشنقيطي(‪. )1‬‬
‫ُـــــر ُّد‬
‫َ‬ ‫ُر َّب دا ٍع ال يـ‬ ‫يا رجال الليل ِجدُّ وا‬
‫َمــ ْن لــه َع ْز ٌم َو ِجدٌّ‬ ‫مـــا يقـوم َ‬
‫الليل إال‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الشيخ حممد املختار الشنقيطي عضو هيئة كبار العلامء باململكة العربية السعودية ‪ ،‬وما نقلته عن‬
‫الشيخ هو ضمن أسئلة عن االعتكاف وليلة القدر‪ ،‬مفرغ من األرشطة املوجودة يف املوقع االلكرتوين‬
‫(صيد الفوائد) عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪http://www.saaid.net/mktarat/ramadan/143.html‬‬

‫‪73‬‬
‫ليلة املغفرة‬
‫النبي ‪-‬صىل اللـه عليه وس ّلم‪-‬‬ ‫عن ِّ‬ ‫‪-‬ريض اللـ ُه عنه‪ِ -‬‬
‫َ‬ ‫عن أيب هرير َة‬
‫قال‪« :‬من قام ليل َة ال َقدْ ِر إِيامنًا واحتِسابا ُغ ِفر لـه ما َت َّقدم ِمن َذن ِ‬
‫ْبه‪ » ،‬متفق‬ ‫َ‬ ‫ْ ً َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عليه(‪ . )1‬زاد أمحد يف املسند «وما تأخر»(‪. )2‬‬
‫من قام هذه الليلة إيامنًا واحتسا ًبا جاد اهلل عليه بفضل عظيم ومنة‬
‫كربى‪ ،‬أال وهي مغفرة ذنبه وخطاياه‪ ،‬وهذه الفضيلة العظيمة من أعظم‬
‫املنن‪ ،‬واحلاجة إليها ماسة؛ فمغفرة الذنوب غاية العباد‪ ،‬وهي رشف‬
‫تتشوق إليه النفوس املؤمنة‪ ،‬فإذا قام العبد ليلة القدر إيامنًا واحتسا ًبا‬
‫رش ما صنع يف ماضيه‪ ،‬فيقف العبد شاخمًا بعدها بثياب‬
‫يغفر له مواله َّ‬
‫بيضاء نقية‪ ،‬ويبدأ صفحة جديدة من حياته‪ ،‬فيستقبل أيامه وما بقي من‬
‫حياته يف عز الطاعة‪ ،‬و حيفظه ربه بمنِّه وكرمه من ذل املعصية إىل أن‬
‫يلقاه‪ ،‬فأي رشف بعد هذا الرشف؟!‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري( ‪ )1901‬مسلم (‪.)760‬‬
‫(‪ )2‬املسند (‪.)22386‬‬

‫‪74‬‬
‫هل البد من قيام كل الليل بال�صالة‬
‫حتى نح�صل على مغفرة الذنوب؟‬
‫ال يشرتط حلصول الفضل من مغفرة الذنوب قيام الليل كله‪ ،‬بل‬
‫حيصل بقيام بعض الليل‪ ،‬فلو صىل العبد يف املسجد مع اإلمام حتى‬
‫ينرصف فهذا يطلق عليه أنه قام الليل‪ ،‬وحيصل عىل هذا الفضل العظيم‬
‫بإذن اهلل‪ ،‬وكذا النساء يف البيوت تقوم بعض الليل‪ ،‬فهي داخلة يف‬
‫احلديث‪( :‬من قام ليلة القدر)‪ ،‬وقال بعض العلامء‪ :‬إن ظاهر احلديث‬
‫يفيد قيام كل الليل أو أغلبه‪ .‬نقول هذا الظاهر غري مراد؛ ملا أخرجه‬
‫اإلمام مسلم من حديث عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪ -‬أهنا قالت‪َ « :‬ما َر َأ ْي ُت‬
‫ِ‬
‫ول اهللِ ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْيه َو َس َّل َم‪َ -‬قا َم َل ْي َل ًة َحتَّى َّ‬
‫الص َب ِ‬
‫اح »(‪. )1‬‬ ‫َر ُس َ‬

‫وهذا نص رصيح صحيح يف أن النبي ‪-‬صىل اهلل عليه سلم‪ -‬مل‬


‫يكن من عادته أن يقوم الليل كله‪ ،‬فعىل هذا من قام بعض الليل صح‬
‫أنه قام ليله القدر‪ .‬وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة ‪-‬ريض‬
‫اهلل عنها‪ -‬وهي حتكي لنا حال النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬إذا دخل‬
‫العرش‪ ،‬قالت ‪-‬ريض اهلل عنها‪« :-‬كان رسول اهلل‪-‬صىل اهلل عليه‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم ( ‪.)746‬‬

‫‪75‬‬
‫وسلم ‪ -‬إذا دخل العرش شدّ مئزره‪ ،‬وأحيا ليله‪ ،‬وأيقظ أهله» ويف رواية‪:‬‬
‫«أحيا الليل‪ ،‬وأيقظ أهله‪ ،‬وجد‪ ،‬وشد املئزر »(‪. )1‬‬
‫وقوهلا‪« :‬أحيا ليله» ال يتعارض مع قوهلا‪َ َ « :‬ما َر َأ ْي ُت َر ُس َ‬
‫ول اهللِ‬
‫ِ‬
‫اح» ‪ ،‬بل جيمع بينهام‪،‬‬ ‫‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْيه َو َس َّل َم‪َ -‬قا َم َل ْي َل ًة َحتَّى َّ‬
‫الص َب ِ‬
‫مقصورا‬
‫ً‬ ‫خاصة أن عائشة هي الراوية هلام‪ ،‬يقال بأن إحياء الليل ليس‬
‫عىل الصالة فقط‪ ،‬بل يشمل الصالة والذكر وقراءة القران‪ ،‬وغريها من‬
‫الطاعات فطالب ليلة القدر مشغول ليس عنده وقت يضيعه يف تلك‬
‫ذاكرا ملواله‪،‬‬ ‫الليلة العظيمة‪ ،‬فال جتده إال قائماً يصيل أو مع كتاب ربه‪ ،‬أو ً‬
‫ال بني ما حيبه اهلل ويرضاه‪.‬‬ ‫وباجلملة ال جتده إال متنق ً‬
‫ان ِق َيا ُم جمَ ِي ِع َل ْي ِل ِه‪،‬‬
‫قال زين الدين العراقي‪َ « :‬ل ْي َس المُْ َرا ُد بِ ِق َيا ِم َر َم َض َ‬
‫ب ْل يحَ ص ُل َذلِ َك بِ ِقيا ٍم ي ِس ٍري ِمن ال َّلي ِل‪ ،‬ك فيِ م ْط َل ِق ال َّتهج ِد وبِص ِ‬
‫الة‬ ‫َ ُّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ َماَ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫الترََّ ِاو ِ‬
‫يح »(‪. )2‬‬
‫ويف حديث عائشة السابق فائدة يف وصف حال نبينا ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫منهجا نبو ًّيا يف العمل يف هذه الليلة مع‬
‫ً‬ ‫سلم‪ -‬يف ليايل العرش‪ ،‬ويعطينا‬
‫النفس و األهل‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري(‪ )2024‬ومسلم ( ‪.)1174‬‬
‫(‪ )2‬طرح التثريب يف رشح التقريب (‪ )164-4‬وهذا الكتاب لزين الدين العراقي ومل يكمله‬
‫وأكمله ابنه ويل الدين العراقي‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وبوب البخاري عىل هذا احلديث‪ ،‬فقال‪[ :‬باب العمل يف العرش‬
‫َّ‬
‫األواخر من رمضان]‪.‬‬
‫فقوهلا‪« :‬كان رسول اهلل – صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬إذا دخل العرش‬
‫شدّ مئزره‪ ،‬وأحيا ليله‪ ،‬وأيقظ أهله » ويف رواية‪« :‬أحيا الليل‪ ،‬وأيقظ‬
‫أهله‪ ،‬وجد‪ ،‬وشد املئزر»‪.‬‬
‫قوهلا‪« :‬شد مئزره »كناية عن اجلد واالجتهاد‪ ،‬يوضحه الرواية‬
‫األخرى والتي فيها «جد وشد املئزر»‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬املقصود اعتزال النساء‪ ،‬وقد يشمل املعنيني‪ ،‬خاصة أن النبي‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه و سلم‪ -‬كان يعتكف العرش‪ ،‬ومن البدهيي أال يأيت‬
‫النساء‪.‬‬
‫وقوهلا‪« :‬أيقظ أهله » فيه معنى مجيل‪ ،‬فلم يقترص النبي ‪-‬صىل اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬عىل نفسه وأخذ احلزم معها يف هذه الليايل العرش‪ ،‬بل تتبع‬
‫أفراد األرسة كلهم حيثهم عىل العمل واجلد واالجتهاد يف ليايل العرش‪،‬‬
‫بل ال جيعل أحدً ا ممن يطيق القيام إال أقامه إلحياء هذه الليايل بطاعة اهلل‪.‬‬
‫أخرج الرتمذي(‪ )1‬من حديث زينب بنت أم سلمة‪ ،‬قالت‪« :‬مل يكن النبي‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الرتمذي (‪.)795‬‬

‫‪77‬‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬إذا بقي من رمضان عرشة أيام يدع أحدً ا من‬
‫أهله يطيق القيام إال أقامه»‪.‬‬
‫وت ََأ َّم ْل قوهلا ‪-‬ريض اهلل عنها‪« :-‬أحيا ليله» يستفاد منه أن الوقت إن‬
‫مل تشغله بطاعة اهلل هو ميت ال حياة فيه‪ ،‬وال يصري ح ًّيا حتى تقضيه يف‬
‫طاعة اهلل‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫من �شرط غفران الذنوب �أن يكون القيام �إميا ًنا واحت�سا ًبا‬
‫فما املراد بالإميان واالحت�ساب؟‬
‫املراد باإليامن‪ :‬هو أن تقوم هذه الليلة مؤمنًا باهلل مصد ًقا بوعده‪،‬‬
‫وبأهنا ح ًّقا من عنده‪ ،‬وقربة إليه‪ ،‬وفضيلة وطاعة‪ ،‬مؤمنًا بأن اهلل قد أعطى‬
‫الثواب العظيم ملن يقومها‪ ،‬فمن قام كام يقوم الناس ال يدري وال يوقن‬
‫بفضل اهلل العظيم يف هذه الليلة فهذا مل يؤ ِّد الرشط حقه‪ ،‬فتصديقك‬
‫بوعد اهلل بأن هناك ثوا ًبا عظيماً عىل قيامك هذه الليلة هو الذي يصل بك‬
‫إىل املراتب العالية‪ ،‬فمن شك يف فضل اهلل العظيم فهذا أساء الظن بربه‬
‫وحرم فضله‪.‬‬
‫واملراد باالحتساب‪ :‬هو ابتغاء وجه اهلل بقيام هذه الليلة‪ ،‬وتنقية‬
‫العمل من الشوائب املنافية لإلخالص‪ ،‬فاالحتساب طلب األجر من‬
‫اهلل وحده‪ ،‬ال لغرض الرياء أو يشء آخر غري اهلل‪ ،‬فيحتسب األجر من‬
‫اهلل‪ ،‬فنفس املحتسب راغبة يف الثواب‪ ،‬طيبة نفسه وهو قائم بالعبادة‪،‬‬
‫مهام لقي يف من نصب وتعب فتجده يف قيامه منرشح الصدر غري مستثقل‬
‫يمل وال ُّ‬
‫يكل‪ ،‬يتمنى لو أن وقته كله قيام‪ ،‬جيد األنس‬ ‫لطول القيام‪ ،‬ال ُّ‬
‫والراحة يف قيامه‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫هل ت�شمل مغفرة الذنوب الكبائر وال�صغائر؟‬
‫ظاهر قوله ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪« : -‬غفر له ما تقدم من ذنبه» يشمل‬
‫مجيع الذنوب‪ ،‬فكلمة (ذنبه) اسم جنس مضاف‪ ،‬فيتناول مجيع الذنوب‪،‬‬
‫وإىل هذا ذهب ابن املنذر‪ ،‬قال ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬هذا قول عام يرجى ملن‬
‫قامها إيامنًا واحتسا ًبا أن تغفر له مجيع ذنوبه صغريها وكبريها»(‪. )1‬‬
‫الص َغ ِائ َر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال العراقي‪ُ (« :‬غف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم م ْن َذنْبِه) َظاه ُر ُه َتن ُ‬
‫َاو ُل ُه َّ‬
‫َوا ْل َك َب ِائ َر‪َ ،‬وإِلىَ َذلِ َك َجن ََح ا ْب ُن المُْن ِْذ ِر»(‪.)2‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال القاري‪ُ (« :‬غف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم م ْن َذنْبِه) ‪َ :‬زا َد أَحمَْدُ ‪َ :‬‬
‫(و َما ت ََأ َّخ َر)‪،‬‬
‫ان ا ْل َك َب ِائ ِر»(‪.)3‬‬
‫الص َغ ِائ ِر‪َ ،‬و ُي ْر َجى ُغ ْف َر ُ‬ ‫ِ‬
‫َأ ْي‪ :‬م َن َّ‬
‫قال الشيخ حممد الشنقيطي ‪-‬حفظه اهلل‪« : -‬من قام ليلة القدر إيامنًا‬
‫واحتسا ًبا»‪ :‬إيامنًا باهلل‪ ،‬واحتسا ًبا للثواب عند اهلل ‪-‬تعاىل‪ ، -‬حيتسب‬
‫األجر واملثوبة عند اهلل ‪-‬تعاىل‪ « . -‬غفر له ما تقدم من ذنبه «‪ :‬وظاهر‬
‫احلديث صغائر الذنوب وكبائرها‪ ،‬حاشا حقوق الناس‪ ،‬هذه ال ُت ْغ َفر إال‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬ابن املنذر كتاب اإلرشاف عىل مذاهب العلامء‪.‬‬
‫(‪ )2‬طرح التثريب (‪.)162 -4‬‬
‫(‪ )3‬مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح(‪ )966-3‬وذكر ذلك عىل حديث الصيام ونفس املعنى يف‬
‫قيام ليلة القدر‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫بمساحمة صاحب احلق‪ ،‬وهذا يدل عىل عظم فضلها‪ ،‬فيجتهد اإلنسان يف‬
‫قيامها»(‪. )1‬‬
‫واملشهور من مذهب اجلمهور أن املغفرة تشمل الصغائر فقط‪ ،‬أما‬
‫الكبائر فتحتاج إىل توبة خاصة هبا‪.‬‬
‫قال النووي‪« :‬قولـه ‪-‬صىل اللـه عليه وس ّلم‪« :-‬غفر لـه ما تقدم من‬
‫ذنبه» املعروف عند الفقهاء أن هذا خمتص بغفران الصغائر دون الكبائر‪،‬‬
‫قال بعضهم‪ :‬وجيوز أن خيفف من الكبائر ما مل يصادف صغرية»(‪. )2‬‬
‫وال بن القيم(‪ )3‬تفصيل مجيل يف األعامل املكفرة وهو األقرب‬
‫عندي‪ ،‬يقول ‪-‬رمحه اهلل‪« : -‬وهذه األعامل املكفرة هلا ثالث درجات‪،‬‬
‫أحدها‪ :‬أن تقرص عن تكفري الصغائر لضعفها وضعف اإلخالص فيها‬
‫والقيام بحقوقها بمنزلة الدواء للضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء‬
‫كمية وكيفية‪ ،‬الثانية‪ :‬أن تقاوم الصغائر وال ترتقي إىل تكفري يشء من‬
‫الكبائر‪ ،‬الثالثة‪ :‬أن تقوى عىل تكفري الصغائر وتبقى فيها قوة تكفر هبا‬
‫بعض الكبائر‪ ،‬فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكاالت كثرية»(‪. )4‬‬
‫_______________‬
‫موقع صيد الفوائد كام تقدم يف الصفحة السابقة‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج(‪.)40-6‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حممد بن أيب بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم اجلوزية (املتوىف سنة ‪751‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫اجلواب الكايف ص ‪.125‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪81‬‬
‫وصدق ‪-‬رمحه اهلل‪ ،-‬فمن تأمله زالت عنه إشكاالت كثرية‪ ،‬فالناس‬
‫يتفاوتون يف أداء هذه املكفرات من صالة وصيام وقيام لليلة القدر‪ ،‬فال‬
‫يمكن أن يقوم مجيع الناس بدرجة واحدة‪ ،‬فعىل حسب ما يف قلب العبد‬
‫من االيامن واالحتساب يكون التكفري‪.‬‬
‫فعىل هذا التفصيل فقيام ليلة القدر قد يكفر مجيع الذنوب الصغائر‬
‫والكبائر إذا قامها العبد صاد ًقا وقد حقق اإليامن واالحتساب فيها ‪،‬‬
‫وفضل اهلل واسع ‪-‬نسأل اهلل من فضله‪ -‬وظاهر هذه املغفرة أهنا تشمل‬
‫حتى حق العباد‪ ،‬لكن جاء النص بأن حقوق العباد ال بد من رضا‬
‫صاحب احلق‪ ،‬فتبقى املغفرة خاصة بحق اهلل لكن من قام هذه الليلة‬
‫وحصل فضلها فقد يوفق ويعان عىل قضاء حق اخللق‪ ،‬فاهلل‬
‫َّ‬ ‫وقام بح ِّقها‬
‫كريم شكور جيازي عبده وييرس أمره مع خلقه‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫مغفرة ما ت�أخر من الذنب‬
‫أخرج اإلمام أمحد يف املسند عن عبادة بن الصامت أن رسول اهلل‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وس ّلم‪ -‬قال‪« :‬ليلة القدر يف العرش البواقي‪ ،‬من قامهن‬
‫ابتغاء حسبتهن فإن اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬يغفر له ما تقدم من ذنبه وما‬
‫تأخر»(‪. )1‬‬
‫احتِ َسا ًبا ُث َّم ُو ِّف َق ْت َل ُه‬ ‫ِ‬
‫أيضا‪َ « :‬ف َم ْن َقا َم َها ا ْبت َغا َء َها إيماَ نًا َو ْ‬ ‫وعند أمحد ً‬
‫ُغ ِف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذنْبِ ِه َو َما ت ََأ َّخ َر»(‪. )2‬‬
‫أصل احلديث يف الصحيحني‪« :‬كام تقدم»‪ ،‬من غري زيادة «وما تأخر»‬
‫وعند اإلمام أمحد زيادة «ما تأخر» أي يغفر ملن قام ليلة القدر ذنبه املتقدم‬
‫واملتأخر‪ ،‬وهذا فضل عظيم تفيده رواية أمحد يف املسند‪ ،‬وهذه الرواية‬
‫أثبتها مجع من العلامء واحتجوا هبا كاحلافظ ابن حجر أثبت صحتها ورد‬
‫عىل من قال بضعفها كام هو مفصل يف كتابه (معرفـة اخلصـال املكفـرة‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أمحد يف املسند (‪ ،)22386‬واملقديس يف األحاديث املختارة رقم( ‪ ،)342‬وقال‬
‫اهليثمي يف جممع الزوائد عند حديث رقم ( ‪َ :) 5041‬ر َوا ُه أَحمَْدُ ‪َ ،‬و ِر َجا ُل ُه ثِ َق ٌ‬
‫ات‪ .‬و حسنه املنذري‬
‫حديث رقم (‪ ،) 1472‬وأخرجه النسائي يف السنن الكربى عن أيب هريرة رقم(‪.)2523‬‬
‫(‪ )2‬املسند(‪.) 22713‬‬

‫‪83‬‬
‫للذنـوب املقـدمة واملؤخـرة)(‪ ، )1‬وقال بعض العلامء‪« :‬إهنا شاذة» وقال‬
‫بعضهم‪« :‬كل حديث ورد فيه (وما تأخر) غري صحيح؛ ألن هذا من‬
‫خصائص النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ »-‬وجياب عن هذا بأن يقال ‪:‬‬
‫خصه اهلل لنبيه‬
‫«إن هذا الفضل احلاصل بقيام ليلة القدر ال يشابه ما َّ‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه سلم‪ -‬من مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬وذلك ألن‬
‫هذا الفضل مرتتب عىل القيام بعمل وهو قيام ليلة القدر‪ ،‬وقد يقبل وقد‬
‫ال يقبل‪ ،‬وال بد فيه من اإليامن واالحتساب وإال ال حيصل هذا الفضل‪،‬‬
‫فالعبد حيتاج إىل جهد وعمل وإخالص وصدق حتى حيصل عىل هذه‬
‫املغفرة‪ ،‬ثم بعد هذا ال يمكن أن نجزم ألحد هبذا الفضل‪ ،‬بخالف النبي‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه سلم‪ -‬فإننا نجزم له هبذا»‬
‫«و َما‬
‫قريب من هذا كام جاء عند البخاري‪َ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫وقد حصل ألهل بدر‬
‫لعل اهلل قد اطلع عىل أهل بدر َف َق َال‪ « :‬ا ْع َم ُلوا َما ِش ْئتُم قد غفرت‬
‫يدْ ريك ّ‬
‫لكم»(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب احلافظ ابن حجر معرفة اخلصال املكفرة الصفحات (من‪ 53‬إىل‪ ، )62‬وذكرهذه‬
‫الزيادة (وما تأخر) واستشهد هبا مجع من العلامء كابن اجلوزي يف التبرصة‪ ،‬وابن رجب يف لطائف‬
‫أيضا اهليثمي واحلاكم واملنذري وويل الدين العراقي يف كتاب رشح الصدر بذكر ليلة‬
‫املعارف‪ ،‬وأثبتها ً‬
‫القدر(ص‪ ،)28‬والشيخ ابن باز انظر ( جمموع الفتاوى‪.)398 - 6‬‬
‫(‪ )2‬البخاري (‪.)3007‬‬

‫‪84‬‬
‫وهذا الفضل واملغفرة من بركة هذه الليلة العظيمة‪ ،‬وظاهر هذه‬
‫الرواية مغفرة الذنوب املتأخرة الدهر كله إىل املامت‪ ،‬وال ُيستَبعد هذا؛‬
‫يدُّ بحدٍّ ‪ ،‬لكن ال حيصل عىل هذا الفضل كل قائم‬
‫ففضل اهلل واسع ال حُ َ‬
‫هلذه الليلة‪ ،‬بل برشط اإليامن واالحتساب‪ ،‬فبحسب ما يقع يف القلب‬
‫من االيامن واالحتساب تكون املغفرة‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫كيف تكفر الذنوب املت�أخرة؟‬
‫عىل الزيادة الواردة عند أمحد أشكل عىل البعض كيف تكفر الذنوب‬
‫املتأخرة؟‬
‫فقيل يف ذلك‪« :‬إن الذنوب تقع مغفورة‪ ،‬أو إن اهلل حيفظهم من‬
‫كبائر الذنوب»‪.‬‬
‫ُوب َحتَّى ال َي َق ُع فِ َيها‪،‬‬ ‫الذن ِ‬ ‫قال العراقي‪« :‬إ َّما َأ ْن ُي َرا َد بهَِا ا ْل ِع ْص َم ُة ِم ْن ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُون المُْ َك ِّف ُر ُم َت َقدِّ ًما عَلىَ المُْ َك َّف ِر‬
‫يها‪َ ،‬و َيك ُ‬‫َوإِ َّما َأ ْن ُي َرا َد بِه َتكْف ُري َها َو َل ْو َو َق َع ف َ‬
‫َواَللهَُّ َأ ْع َل ُم»(‪.)1‬‬
‫قال احلافظ ابن حجر‪« :‬وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن‬
‫املغفرة تستدعي سبق يشء يغفر واملتأخر من الذنوب مل يأت فكيف‬
‫يغفر؟ واجلواب عن ذلك يأيت يف قولـه ‪-‬صىل اللـه عليه وس ّلم‪ -‬حكاية‬
‫وجل‪ -‬أنه قال يف أهل بدر‪« :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت‬‫‪-‬عز َّ‬
‫عن اللـه َّ‬
‫لكم» وحمصل اجلواب أنه قيل‪ :‬إنه كناية عن حفظهم من الكبائر‪ ،‬فال‬
‫تقع منهم كبرية بعد ذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬إن معناه أن ذنوهبم تقع مغفورة‪ ،‬وهبذا‬
‫أجاب مجاعة منهم املاوردي يف الكالم عىل حديث صيام عرفة وأنه يكفر‬
‫سنتني سنة ماضية وسنة آتية»(‪. )2‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬طرح التثريب يف رشح التقريب(‪.)164-4‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)252-4‬‬

‫‪86‬‬
‫يا ليلة القدر للعابدين اشهدي‪ ،‬يا أقدام القانتني اركعي لربك‬
‫واسجدي‪ ،‬يا ألسنة السائلني جدِّ ي يف املسألة واجتهدي‪.‬‬
‫ُـــــر ُّد‬
‫َ‬ ‫ُر َّب دا ٍع ال يـ‬ ‫يا رجال الليل ِجدُّ وا‬
‫َمــ ْن لــه َع ْز ٌم َو ِجدٌّ‬ ‫مـــا يقـوم َ‬
‫الليل إال‬
‫ليلة القدر عند املحبني ليلة احلظوة بأنس موالهم وقربه‪ ،‬وإنام‬
‫يفرون من ليايل البعد واهلجر‪.‬‬
‫يا أقدام املتهجدين اسجدي لربك واركعي‪ ،‬يا عيون املجتهدين ال‬
‫هتجعي‪ ،‬يا ذنوب التائبني ال ترجعي‪ ،‬يا أرض اهلوى ابلعي ماءك ويا‬
‫سامء النفوس أقلعي‪ ،‬يا بروق العشاق للعشاق املعي‪ ،‬يا خواطر العارفني‬
‫ارتعي‪ ،‬يا مهم املحبني بغري اهلل ال تقنعي‪.‬‬
‫وأبصــروا احلق وقلبي قد عمـي‬ ‫يا نفس فاز الصاحلون بالتـقـــى‬
‫ونـــورهم يفوق نور األنــجــم‬ ‫يا حسنــهـــم والليل قد جنَّهـم‬
‫فعيــشــهـــم قد طاب بالرتنـم‬ ‫ترنمـــوا بالـــذكر فـي ليـــلهم‬
‫دمـوعهـم كــلـؤلؤ منـتــظـــم‬ ‫قلوبــهـــم للذكر قد تفرغـــت‬

‫‪87‬‬
‫وخـلــع الـغـفــران خري القسم‬ ‫أسـحــارهم هبم هلم قد أرشقت‬
‫ينـفـــع قبــل أن تزل قدمــــي‬ ‫ويـحك يا نـفـــس أال تـيـقــظ‬
‫فاستدركي ما قد بقي واغتنمي‬
‫(‪)1‬‬
‫مضــى الزمان يف توان وهـــوى‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬لطائف املعارف ص(‪ )191‬بترصف يسري‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫�أمارات ليلة القدر‬

‫ول اهللِ ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ -‬ق َال‪:‬‬ ‫َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ‬
‫ت‪َ ،‬أ َّن َر ُس َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ َ ْ‬
‫«إن أمارة ليلة القدر أهنا صافية بلجة‪،‬‬
‫قمراساط ًعا‪،‬‬
‫كأن فيها ً‬
‫ساكنة ساجية‪،‬‬
‫ال برد فيها وال حر‪،‬‬
‫وال حيل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أمحد يف املسند رقم (‪.)22386‬‬

‫‪89‬‬
‫العالمات التي تعرف بها ليلة القدر‬
‫العالمات التي تكون يف أثناء ليلة القدر‪:‬‬
‫أخرج اإلمام أمحد يف املسند(‪ )1‬من حديث عبادة بن الصامت‪« :‬إن‬
‫قمرا ساط ًعا‪ ،‬ساكنة ساجية‪،‬‬
‫أمارة ليلة القدر أهنا صافية بلجة‪ ،‬كأن فيها ً‬
‫ال برد فيها وال حر‪ ،‬وال حيل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح»‪.‬‬
‫بلجة‪ :‬أي مرشقة مضيئة‪.‬‬
‫رب ِد‬ ‫ِ‬
‫ساجية‪ :‬قال يف لسان العرب‪ :‬وليل ٌة ساجي ٌة‪ :‬إذا كانت ساكنَة ال ْ‬
‫والسحاب غري ُم ّظ ِل َمة(‪.)2‬‬
‫يح َّ‬‫والر ِ‬
‫ِّ‬
‫قال ابن اجلوزي يف غريب احلديث(‪َ « : )3‬ق َال ا ْبن َع َّباس‪َ :‬ه َواء الجْ نَّة‬
‫يها وَلاَ قر‪َ .‬ومثله فيِ صفة َل ْي َلة ا ْلقدر َأنهََّا‬‫ِ‬
‫َس ْج َسج‪َ ،‬أي‪ :‬معتدل‪ ،‬لاَ حر ف َ‬
‫ساجية»‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬اإلمام أمحد يف املسند رقم (‪ )22386‬وقال اهليثمي‪ :‬رجاله ثقات‪ .‬قال احلافظ ابن عبد الرب‬
‫الش ِام ِّي َ‬
‫ني‪ُ ،‬ر َوا ُت ُه‬ ‫يث َّ‬‫يث َغ ِريب‪ ،‬وهو ِمن ح ِد ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫يث َح َس ٌن‪َ ،‬ح ِد ٌ‬
‫«هذا َح ِد ٌ‬ ‫عن هذا احلديث بعد ما ذكره‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُك ُّلهم ثِ َق ٌ‬
‫ات وبق َّي ُة إِ َذا َروى َع ِن ال ِّث َقات َف َل ْي َس بِ َحديثه َب ْأ ٌس‪ » .‬االستذكار (‪.)417 -3‬‬
‫(‪ )2‬لسان العرب البن منظور (‪.)371-14‬‬
‫(‪ )3‬غريب احلديث (‪.)461-1‬‬

‫‪90‬‬
‫فليلة القدر ليلة معتدلة‪ ،‬ال قوية حر وال قوية برد(‪ ، )1‬مرشقة مضيئة‪،‬‬
‫ال يرمى فيها بكوكب‪ ،‬وقد ُي ْش ِكل عىل البعض إذا كان شهر رمضان يف‬
‫الصيف؛ فكل الليل حر‪ ،‬وكذلك إذا كان يف الشتاء؛ فكل الليل برد‪،‬‬
‫نقول‪ :‬هذه العالمة ال تعني ال حر و ال برد فيها إطال ًقا‪ ،‬بل فيها احلر‬
‫إذا كانت يف الصيف‪ ،‬لكن ليست قوية احلر‪ ،‬هي أفضل اللياىل العرش‬
‫اعتدالاً ‪ ،‬فهي متوسطة يف احلر‪ ،‬جو معتدل مالحظ يف اعتداله عن بقية‬
‫ليايل الصيف‪ ،‬وكذلك إذا كانت يف الشتاء كل الليايل باردة‪ ،‬جتد بردها‬
‫خفي ًفا غري شديد‪ ،‬متوسطة بني بقية الليايل‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن هذه العالمة ال يمكن ضبطها بشكل يقيني‪ ،‬خاصة‬
‫مع وجود آالت التكيف يف الصيف ‪-‬سواء يف املساجد أو البيوت أو‬
‫السيارات‪ -‬وآالت التدفئة يف الشتاء‪ ،‬فمن الصعب ضبط اجلو الطبيعي‪.‬‬
‫وكذا عالمة أهنا مضيئة‪ ،‬ال يمكن ضبطها بشكل يقيني يف ظل قوة‬
‫اإلضاءة يف املدن‪ ،‬فلربام تُالحظ اإلضاءة اخلاصة بليلة القدر خارج‬
‫حدود املدينة والعمران ‪-‬يف الصحراء‪.-‬‬
‫وهناك بعض العالمات الثابتة يف أثناء هذه الليلة لكنها خاصة‬
‫بالسنة التي حصلت فيها يف عهد النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وال‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬الفتاوى الكربى لشيخ اإلسالم ابن تيمية (‪.)476-2‬‬

‫‪91‬‬
‫يمكن القول بأهنا عالمة تعرف هبا ليلة القدر يف كل زمان‪ ،‬مثل كوهنا‬
‫ليلة مطر‪ ،‬فهذه ال تعمم‪ ،‬والواقع خيالفها‪ ،‬فهي خاصة بذاك العام الذي‬
‫وقعت فيه يف عهد الرسول ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫وكذا ما أخرجه االمام مسلم‪َ ،‬ع ْن أَبيِ ُه َر ْي َر َة ‪-‬رَضيَِ اهللُ َعنْ ُه‪َ -‬ق َال‪:‬‬
‫ول اهللِ ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ -‬ف َق َال‪َ « :‬أ ُّيك ُْم‬
‫ت ََذاكَرنَا َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر ِعنْدَ رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ني َط َل َع ا ْل َق َم ُر‪َ ،‬و ُه َو ِم ْث ُل ِش ِّق َج ْفن ٍَة؟»(‪. )1‬‬
‫َي ْذك ُُر ِح َ‬
‫وهذه العالمة خاصة بتلك السنة؛ ألن ليلة القدر تنتقل كل سنة‪،‬‬
‫وهذا احلديث قد يفيد أهنا يف العرش األواخر ؛ ألن القمر ال خيرج عىل‬
‫هيئة شق جفنة إال آخر الشهر‪ ،‬وشق اجلفنة هي نصف اجلفنة‪ ،‬واجلفنة‪:‬‬
‫قصعة الطعام(‪. )2‬‬
‫وهناك عالمات تذكر لكن ال تصح من سقوط األشجار يف تلك‬
‫الليلة إىل األرض‪ ،‬ثم تعود إىل منابتها‪ ،‬وأن كل يشء يسجد فيها ‪ .‬و‬
‫أن املياه املاحلة تعذب تلك الليلة ‪ .‬أو ال يسمع فيها نباح الكالب‪ ،‬كل‬
‫هذا ال يصح‪ ،‬إضافة إىل خمالفته للواقع املحسوس‪،‬‬
‫بقيت عالمة يذكرها العلامء‪ ،‬منضبطة ملن وفق هلا وشعر هبا‪ ،‬أال‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم؛ كتاب‪ :‬الصيام‪ ،‬باب‪ :‬فضل ليلة القدر‪ ،‬برقم (‪.)1170‬‬
‫(‪ )2‬املنهاج – النووي‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وهي‪ :‬طمأنينة القلب‪ ،‬وانرشاح صدر املؤمن‪ ،‬فإنه جيد راحة وطمأنينة‪،‬‬
‫وانرشاح صدر يف تلك الليلة‪ ،‬أكثر مما جيده يف بقية الليايل(‪ .)1‬مما يبعث‬
‫يف نفسه نشا ًطا غري معهود يف القيام‪ ،‬مع لذة العبادة‪ ،‬وهذا الشعور يف‬
‫القلب ال يتغري‪ ،‬وهو حق؛ ألن هذه الليلة تنزل فيها املالئكة بكثرة‪،‬‬
‫ووجود املالئكة جيلب السكينة والطمأنينة‪ ،‬خاصة ملن هو مشتغل يف‬
‫الطاعة‪ ،‬نسأل اهلل من فضله‪.‬‬
‫ُس�ئل الش�يخ األلباين ‪-‬رمحه اهلل‪ : -‬كيف يعرف اإلنسان املسلم‬
‫أن�ه قد صادفت�ه ليلة القدر م�ع حتريه الليايل املذك�ورة عنه ‪-‬صىل اهلل‬
‫عليه وسلم‪-‬؟‬
‫اجلواب‪:‬‬
‫ذلك أمر وجداين يشعر به كل من أنعم اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬عليه‬
‫برؤية ليلة القدر؛ ألن اإلنسان يف هذه الليلة يكون مقب ً‬
‫ال عىل عبادة اهلل‬
‫‪-‬عز وجل‪ ،-‬وعىل ذكره والصالة له‪ ،‬فيتجىل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عىل‬
‫بعض عباده بشعور ليس يعتاده حتى الصاحلون‪ ،‬ال يعتادونه يف سائر‬
‫أوقاهتم‪ ،‬فهذا الشعور هو الذي يمكن االعتامد عليه؛ بأن صاحبه يرى‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الرشح املمتع (‪.)496 -6‬‬

‫‪93‬‬
‫ليلة القدر‪ ،‬والسيدة عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪ -‬قد سألت الرسول ‪-‬عليه‬
‫الصالة والسالم‪ -‬سؤالاً ينبئ عن إمكان شعور اإلنسان برؤيته لليلة‬
‫القدر‪ ،‬حينام توجهت بسؤاهلا للنبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬بقوهلا‪« :‬يا‬
‫رسول اهلل! إذا أنا رأيت ليلة القدر ماذا أقول؟ » قال‪ :‬قويل‪« :‬اللهم إنك‬
‫عفو حتب العفو فاعف عني» ففي هذا احلديث فائدتان‪ :‬الفائدة األوىل‪:‬‬
‫شعورا ذات ًيا شخص ًّيا بمالقاته لليلة القدر‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن املسلم يمكن أن يشعر‬
‫والفائدة الثانية‪ :‬أنه إن شعر بذلك فخري ما يدعو به هو هذا الدعاء‪:‬‬
‫«اللهم إنك عفو حتب العفو فاعف عني»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة اإلسالمية ‪http://www.islamweb.net‬‬

‫‪94‬‬
‫معرفة ليلة القدر عن طريق الر�ؤيا‬
‫قد يرى املسلم رؤيا تفيد بأن ليلة القدر ليلة معينة‪ ،‬أو تتواطأ رؤى‬
‫بعض املسلمني عىل حتديد ليلة القدر ‪ ،‬فيعمل هبا ألن الرؤيا ثابتة رش ًعا‬
‫ال إشكال فيها‪ ،‬والرؤيا ال ُت ْثبِ ُت حكماً رشع ًيا جديدً ا‪ ،‬إنام حتدد األمر‬
‫املرشوع مسب ًقا‪ ،‬وهذا ال إشكال فيه‪ ،‬وقد حصل هذا من الصحابة كام‬
‫ثبت من حديث ا ْبن ُع َمر‪-‬رَضيَِ اللهَُّ َعنْهُماَ ‪َ :-‬أ َّن ِر َجالاً ِم ْن َأ ْص َح ِ‬
‫اب‬
‫اخ ِر‪،‬‬ ‫النَّبِي ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َلي ِه وس َّلم‪ُ ،-‬أروا َلي َل َة ال َقدْ ِر فيِ ا َملنَا ِم فيِ السب ِع األَو ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫ْ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ِّ‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ « :-‬أ َرى ُر ْؤ َياك ُْم َقدْ ت ََوا َط َأ ْت فيِ‬
‫َف َق َال َر ُس ُ‬
‫اخ ِر» متفق‬ ‫َان متَحرهيا َف ْليتَحرها فيِ السب ِع األَو ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫الس ْب ِع األَ َواخ ِر‪َ ،‬ف َم ْن ك َ ُ َ ِّ َ َ َ َّ َ‬ ‫َّ‬
‫عليه(‪. )1‬‬
‫علق املهلب عىل حديث ابن عمر ‪-‬ريض اهلل عنهام‪ -‬بقوله‪ :‬فيه‬
‫احلكم عىل صحة الرؤيا بتواطئها وتكريرها‪ ،‬وهذا أصل ىف ذلك جيب‬
‫لنا أن نحكم به إذا ترادفت الرؤى وتواطأت بالصحة؛ كام حكم النبي‬
‫‪-‬عليه السالم‪. )2(-‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري ‪ 2015‬ومسلم رقم ‪.1165‬‬
‫(‪ )2‬رشح صحيح البخاري البن بطال(‪.)522-9‬‬

‫‪95‬‬
‫اء َو َأ ْه ِل الإْ ِ يماَ ِن‪،‬‬ ‫قال احلافظ ابن عبد الرب‪( :‬الرؤيا ِمن ع ُلو ِم الأَْنْبِي ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ ْ َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫السلاَ ُم‪َ ،-‬و َما َجا َء‬ ‫ف ‪َ -‬ع َل ْيه َّ‬ ‫وس َ‬ ‫َو َح ْس ُب َك بِماَ َأ ْخبرََ اللهَُّ م ْن َذل َك َع ْن ُي ُ‬
‫اح فِ َيها َع ِن النَّبِ ِّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ ،-‬وأَجمَْ َع َأ ِئ َّم ُة‬ ‫الص َح ِ‬ ‫ار ِّ‬ ‫فيِ الآْ َث ِ‬
‫السن َِّة‬ ‫ِ‬
‫ني َأ ْه ِل ُّ‬ ‫ني َو َم ْن َب ْعدَ ُه ْم ِم ْن ُعلَماَ ء المُْ ْس ِل ِم َ‬ ‫الص َحا َب ِة َوالتَّابِ ِع َ‬ ‫ِ‬
‫الهُْدَ ى م َن َّ‬
‫َوالجَْماَ َع ِة عَلىَ الإْ ِ يماَ ِن بهَِا‪َ ،‬وعَلىَ َأنهََّا ِحك َْم ٌة َبالِ َغ ٌة‪َ ،‬ونِ ْع َم ٌة َي ُم ُّن اللهَُّ بهَِا عَلىَ‬
‫اق َي ُة َب ْعدَ النَّبِ ِّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪.)1()-‬‬ ‫ات ا ْلب ِ‬ ‫ِ‬
‫َم ْن َي َشا ُء‪َ ،‬وه َي المُْبَشرَِّ ُ َ‬
‫قال ابن دقيق العيد عند رشحه حلديث ابن عمر السابق‪« :‬فِ ِيه َدلِ ٌيل‬
‫ودي ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ْؤ َيا‪َ ،‬والاِ ْستِنَا ُد إ َل ْي َها فيِ الاِ ْستِدْ لاَ ِل عَلىَ ُأ ُم ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‪،‬‬ ‫ور ا ْل ُو ُج َّ‬ ‫عَلىَ ع َظ ِم ُّ‬
‫اعدَ ا ْل ُك ِّل َّي َة ِم ْن غَيرْ ِ َها‪.‬‬‫ف ا ْل َقو ِ‬ ‫ِ‬
‫َوعَلىَ َما لاَ يخَُال ُ َ‬
‫والاِ ستِنَاد إلىَ الر ْؤيا ههنَا‪ :‬فيِ َأم ٍر َثب َت ِ‬
‫ب‬ ‫است ْح َبا ُب ُه ُم ْط َل ًقا‪َ ،‬و ُه َو َط َل ُ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ُّ َ َ ُ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ب المَْ َر ِائي الدَّ ا َّل ِة عَلىَ ك َْونا فيِ‬‫اخ ُر لِ َس َب ِ‬‫َلي َل ِة ا ْل َقدْ ِر‪ .‬وإِ َّن تُرجح السبع الأَْو ِ‬
‫َ ماَ َ َّ ُ َّ ْ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫هَِ‬
‫اب شرَ ْ ِع ٌّي‬ ‫ودي‪ ،‬إ َّنه ِ‬
‫است ْح َب ٌ‬
‫ِ‬
‫استدْ لاَ ٌل عَلىَ َأ ْم ٍر ُو ُج ٍّ ُ ْ‬
‫اخ ِر‪ ،‬وهو ِ‬
‫َ ُ َ ْ‬
‫السب ِع الأَْو ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬
‫اعدَ ِة‬ ‫َاف لِ ْل َق ِ‬
‫يد‪ ،‬بِالنِّسب ِة إلىَ ه ِذ ِه ال َّلياليِ ‪ ،‬مع كَونِ ِه غ من ٍ‬
‫َ َ ْ َيرَْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫مخَ ْصوص بِالت َّْأ ِك ِ‬
‫ُ ٌ‬
‫ب َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر)(‪. )2‬‬ ‫استِ ْح َب ِ‬
‫اب َط َل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ا ْل ُك ِّل َّية ال َّثابِتَة‪ ،‬م ْن ْ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬التمهيد (‪.)49 -24‬‬
‫(‪ )2‬إحكام األحكام (‪.)38 -2‬‬

‫‪96‬‬
‫�أ�صح العالمات الدالة على ليلة القدر‬
‫من العالمات الصحيحة الثابتة الدالة عىل ليلة القدر‪ :‬أن الشمس‬
‫صبيحة ليلة القدر خترج مستوية ليس هلا شعاع‪َ ،‬‬
‫مثل القمر ليلة البدر‪،‬‬
‫ودليل هذه األمارة والعالمة ما أخرجه مسلم يف صحيحه‪َ ،‬ع ْن َع ْبدَ َة و‬
‫ب‬ ‫«س َأ ْل ُت أُبيََّ ْب َن َك ْع ٍ‬‫ول‪َ :‬‬ ‫ش َي ُق ُ‬ ‫ود َس ِم َعا ِز َّر ْب َن ُح َب ْي ٍ‬‫اص ِم ب ِن أَبيِ النَّج ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َع ِ‬
‫اك ابن مسع ٍ‬
‫ول‪َ :‬م ْن َي ُق ِم الحَْ ْو َل‬ ‫ود َي ُق ُ‬ ‫‪-‬رَضيَِ اللهُّ َعنْ ُه‪َ ،-‬ف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َّن َأ َخ َ ْ َ َ ْ ُ‬
‫اس‪َ ،‬أ َما إِ َّن ُه َقدْ َع ِل َم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر‪َ .‬ف َق َال‪ :‬رَحمَِ ُه اللهِّ َأ َرا َد َأ ْن الَ َي َّتك َل النَّ ُ‬
‫ُيص ْ‬
‫اخ ِر‪َ ،‬و َأنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ان‪ ،‬و َأنا فيِ ا ْلعَشرْ ِ األَو ِ‬
‫َ‬ ‫َأنهََّا َر َم َض َ َ هََّ‬
‫فيِ‬
‫ول َذلِ َك‬ ‫ف الَ َي ْس َت ْثنِي‪َ ،‬أنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪ :‬بِ َأ ِّي شيَ ْ ٍء َت ُق ُ‬ ‫َح َل َ‬
‫ول اللهِّ َأنهََّا َت ْط ُل ُع‬ ‫ال َم ِة‪َ ،‬أ ْو بِاآل َي ِة ا َّلتِي َأ ْخبرََ نَا َر ُس ُ‬
‫َيا َأ َبا المُْن ِْذ ِر؟ َق َال‪ :‬بِا ْل َع َ‬
‫ٍِ‬
‫اع لهََا»(‪. )1‬‬‫َي ْو َمئذ‪ ،‬الَ ُش َع َ‬
‫يف هذا احلديث عالمة تعرف هبا ليلة القدر أخرب هبا النبي ‪-‬صىل‬
‫اهلل عليه وعىل آله وسلم‪ -‬لكنها بعد انتهاء ليلة القدر‪ ،‬وهي أن الشمس‬
‫ٍِ‬
‫َت ْط ُل ُع َي ْو َمئذ‪ ،‬الَ ُش َع َ‬
‫اع لهََا وحتى نفهم هذه العالمة ال بد أن نعرف ما‬
‫هو الشعاع‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مسلم (‪.) 2730‬‬

‫‪97‬‬
‫ُّ‬
‫«والشعاع ‪-‬بضم الشني‪ -‬قال أهل اللغة‪ :‬هو ما ُيرى‬ ‫قال النووي‪:‬‬
‫من ضوئها عند بروزها مثل احلبال والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت‬
‫إليها‪ ،‬قال صاحب املحكم بعد أن ذكر هذا املشهور‪ :‬وقيل‪ :‬هو الذي‬
‫تراه ممتدً ا بعد الطلوع‪ ،‬قال‪ :‬وقيل‪ :‬هو انتشار ضوئها‪ ،‬ومجعه ِ‬
‫أش َّعة‬
‫الشمس أي نرشت شعاعها»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وش ُعع بضم الشني والعني‪َ ،‬‬
‫وأش َّع ْت‬ ‫ُ‬

‫‪98‬‬
‫ملاذا تكون ال�شم�س ال �شعاع لها �صبيحة ليلة القدر؟‬
‫قيل‪ :‬السبب يف ذلك كثرة صعود املالئكة يف صبيحتها‪ ،‬فتسرت أشعة‬
‫الشمس بأجنحتها وأجسامها(‪. )1‬‬

‫و َت َع َّق َ‬
‫ب هذا القول عيل القاري بقوله‪« :‬األجسام اللطيفة ال تسرت‬
‫شي ًئا من األشياء الكثيفة‪ ،‬نعم لو قيل‪ :‬غلب نور تلك الليلة ضوء‬
‫الشمس‪ ،‬مع بعد املسافة الزمانية مبالغة يف إظهار أنوارها الربانية لكان‬
‫نبيها»(‪. )2‬‬
‫وتنبيها ً‬
‫ً‬ ‫وجيها‬
‫ً‬ ‫وجها‬
‫ً‬
‫وقيل‪« :‬السبب يف ذلك أن الشيطان ال خيرج صبيحة تلك الليلة‬
‫مع الشمس »‪ ،‬فكل يوم خترج الشمس بني قرين شيطان كام هو ثابت يف‬
‫الصحيحني(‪ ، )3‬قالوا‪« :‬إال صبيحة ليلة القدر‪ ،‬فال خيرج معها شيطان »‪،‬‬
‫وهذا هو السبب يف كوهنا بال شعاع‪ ،‬ويدل عىل ذلك قول ابن عباس‪:‬‬
‫س ك َُّل َل ْي َل ٍة‪ ،‬إِلاَّ َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر‪َ ،‬و َذلِ َك َأنهََّا َت ْط ُل ُع‬
‫الش ْم ِ‬
‫ان َي ْط ُل ُع َم َع َّ‬ ‫«إِ َّن َّ‬
‫الش ْي َط َ‬
‫ٍِ‬
‫َي ْو َمئذ َب ْي َضا َء لاَ ُش َع َ‬
‫اع لهََا»(‪. )4‬‬

‫_______________‬
‫املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج( ‪.)65 -8‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح(‪.)1440 -4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫البخاري رقم (‪ )3273‬ومسلم رقم (‪.)612‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مصنف ابن أيب شيبة (‪ )8666‬والبيهقي يف فضائل األعامل رقم (‪.)104‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪99‬‬
‫تِ ْل َك ال َّل ْي َل ِة َت ْغ ِل ُب َها »(‪. )1‬‬ ‫وقيل‪« :‬ك ََأ َّن َأن َْو َار الخْ لق فيِ‬

‫تِ ْل َك ال َّل ْي َل ِة»(‪. )2‬‬ ‫«م ْن َك ْث َر ِة الأَْن َْو ِار فيِ‬


‫وقيل‪ِ :‬‬

‫وقيل‪« :‬غلب نور تلك الليلة ضوء الشمس »(‪. )3‬‬


‫وقيل‪« :‬إهنا عالمة جعلها اهلل لليلة القدر»‪ .‬قاله القايض عياض(‪.)4‬‬
‫قال العيني‪« :‬قيل‪ :‬حيتمل أن هذه الصفة اختصت بعالمة صبيحة‬
‫[الليلة] التي أنبأهم النبي‪ -‬عليه السالم‪ -‬أهنا ليلة القدر‪ ،‬وجعلها دليلاً‬
‫هلم عليها يف ذلك‪ ،‬ال أن تلك الصفة خمتصة بصبيحة كل ليلة قدر‪ ،‬كام‬
‫أعلمهم‪ -‬عليه السالم‪ -‬أنه يسجد يف صبيحتها يف ماء وطني‪ ،‬وحيتمل‬
‫أهنا صفة خاصة هلا»(‪. )5‬‬
‫وقيل‪« :‬إن الشمس خترج كام خترج كل يوم ال تتغري‪ ،‬لكن ضعفها‬
‫ٍ‬
‫وان‪ ،‬ليس هلا شعاع؛ بسبب حالة اجلو من رطوبة أو سحب رقيقة أو‬
‫ضباب خفيف‪ ،‬وهذه األشياء يرسلها اهلل صبيحة ليلة القدر؛ حتى تكون‬
‫أمارة عليها‪ ،‬ولو أن الشمس خترج عىل غري طبيعتها يف صبيحة ليلة القدر‬
‫_______________‬
‫الذخرية للقرايف ( ‪.)550 -2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أحكام القرآن البن العريب(‪.)434-4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح لعيل قاري(‪.)1440 -4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج (‪.)65-8‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫رشح سنن أيب داود للعيني (‪.)283 -5‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪100‬‬
‫ألحس الناس هبا‪ ،‬كلهم املسلم والكافر‪ ،‬وألصبحت عالمة قطعية عىل‬
‫ليلة القدر‪ ،‬وهذا خالف الواقع‪ ،‬وخيالف األحاديث الصحيحة التي‬
‫أهبمت التعيني»(‪. )1‬‬
‫والقول إهنا عالمة اختصت هبا هذه الليلة هو األقرب عندي‪،‬‬
‫حيا‪ ،‬أو عل ًة واضح ًة َب ِّينَ ًة ال‬
‫صحيحا رص ً‬
‫ً‬ ‫وغريه من األقوال حيتاج دليلاً‬
‫إشكال فيها‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬اجلامع ألحكام الصيام ملحمود بن عبد اللطيف بن حممود ( عويضة ) ص (‪.)290‬‬

‫‪101‬‬
‫ما الفائدة من معرفة هذه العالمة‬
‫وهي ال تعرف �إال بانق�ضاء الليلة؟‬
‫قال املال عىل القاري يف مرقاة املفاتيح ‪« :‬قال ابن حجر‪ :‬وفائدة‬
‫كون هذا عالمة مع أنه يوجد بعد انقضاء الليلة‪ ،‬ألنه ُي َس ُّن إحياء يومها‬
‫كام ُي َس ُّن إحياء ليلها‪ .‬اهـ‪ .‬ويف قوله‪( :‬يسن إحياء يومها) نظر حيتاج إىل‬
‫أثر‪ ،‬واألظهر أن فائدة العالمة أن يشكر عىل حصول تلك النعمة إن‬
‫قام بخدمة الليلة‪ ،‬وإال فيتأسف عىل ما فاته من الكرامة‪ ،‬ويتدارك يف‬
‫السنة اآلتية‪ ،‬وإنام مل جيعل عالمة يف ّأول ليلها؛ إبقا ًء هلا عىل إهبامها واهلل‬
‫–سبحانه‪ -‬أعلم»(‪. )1‬‬
‫قال شيخنا ابن عثيمني‪« :‬فإن قال قائل‪ :‬ما الفائدة من العالمات‬
‫الالحقة؟ فاجلواب‪ :‬استبشار املجتهد يف تلك الليلة وقوة إيامنه‬
‫وتصديقه‪ ،‬وأنه يعظم رجاؤه فيام فعل يف تلك الليلة»(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح(‪.)1440-4‬‬
‫(‪ )2‬الرشح املمتع (‪498 -6‬و‪.)499‬‬

‫‪102‬‬
‫هل الثواب والف�ضل اخلا�ص بليلة القدر‬
‫ال يناله �إال من علم بها و�شعر بها؟‬
‫قال بعض العلامء‪ :‬ال بد من حصول الثواب أن يعلم هبا العبد‬
‫ويشعر هبا‪ ،‬حتى وإن قامها ال حيصل الفضل إال بأن يدركها و يعلمه‬
‫اهلل إياها‪ .‬قال هبذا النووي(‪- )1‬رمحه اهلل‪ ،-‬واستدل عىل هذا بام وقع‬
‫عند مسلم من حديث أيب هريرة بلفظ‪« :‬من يقم ليلة القدر فيوافقها»‬
‫(‪)2‬‬

‫حيث فرس املوافقة بالعلم هبا‪ ،‬وكذا يف حديث عبادة عند أمحد «من قامها‬
‫إيامنًا واحتسا ًبا ثم وفقت له»(‪ ،)3‬فقال‪ :‬وفقت له‪ :‬أي علمها‪ .‬ويوافق‬
‫احلافظ ابن حجر (‪ )4‬النووي يف معنى املوافقة‪ ،‬لكن ال ينكر حصول‬
‫الثواب اجلزيل ملن قامها وإن مل يعلم هبا‪ ،‬لكن عند احلافظ ان الثواب‬
‫املعني املوعد به ال حيصل إال من علمها‪ ،‬وأكثر العلامء عىل خالف ذلك‬
‫وأن معرفتها والعلم هبا غري ملزم حلصول الثواب والفضل العظيم الذي‬
‫وعد اهلل به وأخرب به نبيه ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فمن قامها طال ًبا هلا‬
‫جمتهدً ا يف حتصليها فهذا حيصل له الثواب‪ ،‬سواء علمها أم مل يعلمها‪،‬‬
‫_______________‬
‫املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج(‪.)41 -6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مسلم (‪.)760‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مسند امحد (‪.)22713‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫فتح الباري ( ‪.)267 -4‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪103‬‬
‫ومعنى املوافقة يف احلديث املراد‪ :‬يوافقها يف نفس األمر وإن مل يعلم هبا‬
‫‪ ،‬فيوافق قيامه تلك الليلة أهنا هي ليلة القدر‪ ،‬فمن وافقها ومل يعلم هبا‬
‫حصل له الثواب برشط اإليامن واالحتساب‪ .‬قال زين الدين العراقي‪:‬‬
‫ول المَْ ْغ ِف َر ِة بِ ِق َيا ِم َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر عَلىَ َم ْع ِر َفتِ َها‪َ ،‬ب ْل َل ْو َقا َم َها‬ ‫ف ُح ُص ُ‬ ‫«وَلاَ َي َت َو َّق ُ‬
‫ون إ َّنماَ َقا َم‬ ‫ط َأ ْن َي ُك َ‬ ‫ف ا ُغ ِفر َله ما َت َقدَّ م ِمن َذنْبِ ِه‪َ ،‬ل ِكن بِشرَ ِ‬ ‫غ َع ِ ٍ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ار بهَِ َ ُ َ‬ ‫َيرَْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصامت عنْدَ‬ ‫بِ َق ْصد ا ْبت َغائ َها‪َ .‬و َقدْ َو َر َد ا ْعت َب ُار َذل َك فيِ َحديث ُع َبا َد َة ْب ِن َّ‬
‫احتِ َسا ًبا ُث َّم ُو ِّف َق ْت َل ُه‬ ‫ِ‬
‫أَحمَْدَ َوال َّطبرََ انيِ ُّ َم ْر ُفو ًعا « َف َم ْن َقا َم َها ا ْبت َغا َء َها إيماَ نًا َو ْ‬
‫آخ َر َو ُه َو‬ ‫ُغ ِف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذنْبِ ِه َو َما ت ََأ َّخ َر» ( َفإِ ْن ُق ْلت) َقدْ ُا ْعتُبرَِ شرَ ْ ًطا َ‬
‫«م ْن َي ُق ْم َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر َف ُي َوافِ ُق َها»‬ ‫يح مس ِل ٍم فيِ ِرواي ِة ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫َأ ْن ت َُو َّف َق َل ُه َوك ََذا فيِ َصح ِ ُ ْ‬
‫َق َال الن ََّو ِو ُّي فيِ شرَ ْ ِح ُم ْس ِل ٍم‪َ :‬م ْعنَى ُي َوافِ ُق َها َي ْع َل ُم َأنهََّا َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر‪ُ ( ،‬ق ْلت)‬
‫ُون ا ْل َو ِاق ُع َأ َّن تِ ْل َك ال َّل ْي َل َة ا َّلتِي‬ ‫إ َّنماَ َم ْعنَى ت َْوفِي ُق َها َل ُه َأ ْو ُم َوا َف َق ُت ُه لهََا َأ ْن َيك َ‬
‫س الأَْ ْم ِر َوإِ ْن لمَ ْ َي ْع َل ْم ُه َو‬ ‫َقا َم َها بِ َق ْص ِد َل ْي َل ِة ا ْل َقدْ ِر ِه َي َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر فيِ َن ْف ِ‬
‫َذلِ َك َو َما َذك ََر ُه الن ََّو ِو ُّي ِم ْن َأ َّن َم ْعنَى المُْ َوا َف َق ُة ا ْل ِع ْل ُم بِ َأنهََّا َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ِر َم ْر ُدو ٌد‬
‫ظ ما ي ْقتَضيِ ه َذا وَلاَ المَْعنَى يس ِ‬ ‫ِ‬
‫اعدُ ُه»(‪. )1‬‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ‬ ‫َو َل ْي َس فيِ ال َّل ْف َ َ‬
‫فالقول املعترب أن الفضل حاصل ملن قام هذه الليلة إيامنًا واحتسا ًبا‬
‫وإن مل يعلمها ويشعر هبا‪ ،‬لكن هل يمكن أن تظهر ألحد؟ نعم يمكن أن‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬طرح التثريب يف رشح التقريب (‪.)164 -4‬‬

‫‪104‬‬
‫يظهرها اهلل ألحد؟‬
‫قال النووي ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬ا ْع َل ْم َأ َّن َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر َي َر َاها َم ْن َشا َء اللهَُّ‬
‫اد ُ‬ ‫ان ك َت َظاهر ْت َع َلي ِه الأَْح ِ‬
‫يث‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫‪َ -‬ت َعالىَ ‪ -‬من بني آدم كل سنة يف َر َم َض َ َماَ‬
‫ني ا ور ْؤيتُهم ا َأ ْك َثر ِمن َأ ْن حُ ْت ‪( ،‬و َأما) َقو ُل ا ْل َقاضيِ‬ ‫لحِِ‬
‫صرََ َ َّ ْ‬ ‫الصا َ بهَِ َ ُ َ ُ ْ لهََ ُ ْ‬ ‫َو َأ ْخ َب ُار َّ‬
‫ب ْب ِن أَبيِ ُص ْف َر َة ا ْل َف ِق ِيه المَْالِ ِك ِّي‪« :‬لاَ تمُ ْ ِك ُن ُر ْؤ َيت َُها َح ِقي َق ًة»‬ ‫ِع َي ٍ‬
‫اض َع ْن المُْ َه َّل ِ‬
‫اح ٌش َن َّب ْه ُت َع َل ْي ِه لِئَلاَّ ُي ْغترَ َّ بِ ِه»(‪. )1‬‬ ‫َف َغ َل ٌط َف ِ‬

‫َّاس فيِ المَْنَا ِم‪َ ،‬أ ْو‬


‫ض الن ِ‬ ‫«و َقدْ َيك ِْش ُف َها اللهَُّ لِ َب ْع ِ‬‫قال شيخ اإلسالم‪َ :‬‬
‫«ه ِذ ِه َل ْي َل ُة ا ْل َقدْ ر»‪َ ،‬و َقدْ ُي ْفت َُح‬ ‫ا ْل َي ِق َظ ِة‪ .‬فَيرََ ى َأن َْو َار َها‪َ ،‬أ ْو َي َرى َم ْن َي ُق ُ‬
‫ول َل ُه‪َ :‬‬
‫اهدَ ِة َما َي َتبَينَُّ بِ ِه الأَْ ْم ُر‪َ .‬واَللهَُّ – َت َعالىَ ‪َ -‬أ ْع َل ُم»(‪. )2‬‬ ‫ِ ِ‬
‫عَلىَ َق ْلبِه م ْن المُْ َش َ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬املهذب للنووي‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفتاوى الكربى (‪.)476 _ 2‬‬

‫‪105‬‬
‫من علمها هل يخرب بها �أو يكتمها؟‬
‫ت‪َ ،‬ق َال‪َ :‬خ َر َج النَّبِ ُّي ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪-‬‬ ‫َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ َ َ ْ‬
‫«خ َر ْج ُت‬ ‫ني‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬‬ ‫لِ ُي ْخبرَِ نَا بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر‪َ ،‬ف َتال ََحى َر ُجال َِن ِم َن ا ُمل ْس ِل ِم َ‬
‫ال َحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَن‪َ ،‬ف ُرفِ َع ْت َو َع َسى َأ ْن َيك َ‬
‫ُون‬ ‫لأُِ ْخبرَِ ُك ْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر‪َ ،‬ف َت َ‬
‫السابِ َع ِة‪َ ،‬واخلَ ِام َس ِة»(‪. )1‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وها فيِ التَّاس َعة‪َ ،‬و َّ‬
‫ِ‬
‫خَيرْ ً ا َلك ُْم‪َ ،‬فا ْلتَم ُس َ‬
‫ات ِم ْن‬ ‫قال احلافظ ابن حجر‪« :‬اس َتنْب َط السب ِكي ا ْلكَبِري فيِ ا َلبِي ِ‬
‫ُ لحَْ َّ‬ ‫ُّ ْ ُّ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه ِذ ِه ا ْل ِقص ِة (التي يف حديث عبادة) ِ‬
‫آها‪،‬‬ ‫اب ك ْتماَ ِن َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِر لمَِ ْن َر َ‬ ‫است ْح َب َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫َق َال‪َ :‬و َو ْج ُه الدَّ لاَ َل ِة َأ َّن اللهََّ َقدَّ َر لِنَبِ ِّي ِه َأ َّن ُه لمَ ْ يخُ ْ برَ ْ بهَِا َوالخَْيرُْ ُك ُّل ُه فِيماَ ُقدِّ َر‬
‫اوي‬ ‫اج َذلِ َك َع ِن الحَْ ِ‬ ‫ب ا ِّت َبا ُع ُه فيِ َذلِ َك‪َ ،‬و َذك ََر فيِ شرَ ْ ِح المِْن َْه ِ‬ ‫َل ُه َف ُي ْست ََح ُّ‬
‫ف بَينَْ َأ ْه ِل‬ ‫َق َال‪ :‬والحِْ كْم ُة فِ ِيه َأنا كَرام ٌة‪ ،‬وا ْل َكرام ُة ينْب ِغي ِك ْت نا بِلاَ ِخلاَ ٍ‬
‫ماَ هَُ‬ ‫هََّ َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‪َ ،‬و ِم ْن ِج َه ِة َأ ْن لاَ َي ْأ َم َن‬ ‫الس ْل َ‬‫س فَلاَ َي ْأ َم ُن َّ‬ ‫ال َّط ِر ِيق ِم ْن ِج َه ِة ُر ْؤ َي ِة النَّ ْف ِ‬
‫الشك ِْر للِهَِّ بِالنَّ َظ ِر إِ َل ْي َها َو ِذك ِْر َها‬ ‫ب فَلاَ َيت ََشا َغ ُل َع ِن ُّ‬ ‫الر َيا َء‪َ ،‬و ِم ْن ِج َه ِة الأَْ َد ِ‬ ‫ِّ‬
‫ور‪َ ،‬و ُي ْست َْأن َُس‬ ‫وق ُع غ ُه فيِ المَْ ْح ُذ ِ‬ ‫َّاس‪ ،‬و ِمن ِجه ِة َأ َّنه لاَ ي ْأمن ا سدَ َفي ِ‬ ‫ِ‬
‫َيرَْ‬ ‫للن ِ َ ْ َ ُ َ َ ُ لحَْ َ ُ‬
‫اك عَلىَ إِ ْخ َوتِ َك»‬ ‫ص ُر ْؤ َي َ‬ ‫السلاَ م‪َ « :‬يا ُبن ََّي لاَ َت ْق ُص ْ‬
‫ِ‬
‫وب َع َل ْيه َّ‬ ‫َل ُه بِ َق ْو ِل َي ْع ُق َ‬
‫الآْ َي َة»(‪. )2‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري (‪.)2023‬‬
‫(‪ )2‬الفتح ( ‪.)268 -4‬‬

‫‪106‬‬
‫ب الحَْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب لمَِ ْن رأى ليلة القدر‬ ‫اوي‪ُ :‬ي ْست ََح ُّ‬ ‫قال النووي‪َ « :‬ق َال َصاح ُ‬
‫ب ِم ْن ِد ٍ‬
‫ين َو ُد ْن َيا‪،‬‬ ‫ص َونِ َّي ٍة َو ِص َّح ِة َي ِق ٍ‬
‫ني بِماَ َأ َح َّ‬ ‫أن يكتمها‪ ،‬ويدعو بِإِ ْخلاَ ٍ‬
‫ين َوالآْ ِخ َر ِة»(‪. )1‬‬
‫ُون َأ ْك َث ُر ُد َع ِائ ِه لِلدِّ ِ‬
‫َو َيك ُ‬
‫واخلري كل اخلري يف إخفائها؛ ملا يلحق الناس من األجر العظيم يف‬
‫االجتهاد يف طلبتها‪ ،‬بخالف من علم أهنا ليلة معينة فيجتهد فيها ويدع‬
‫الباقي‪ ،‬أو يقوم بكسل بقية الشهر‪ ،‬والقول بكتامهنا يوافق احلكمة من‬
‫إخفائها؛ ألن الصحيح أهنا ال تعلم أبدً ا أي ليلة هي يقينًا‪ ،‬حتى ملا َه َّم‬
‫أمر ومل خيرب‬‫ث ٌ‬ ‫النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬بأن خيرب هبا‪ ،‬قدَّ ر اهلل أن يحَ ْ دُ َ‬
‫‪-‬حفظه اهلل‪« :-‬لو ثبت تعيني‬ ‫هبا‪ ،‬قال الشيخ عبد الكريم اخلضري‬
‫(‪)2‬‬

‫ليلة القدر عند ٍ‬


‫أحد من الناس برؤيا فإنه ال ينبغي أن يشيع ذلك‪ ،‬ألن‬
‫إخفاءها له ِحك ٌَم عظيم ٌة‪ ،‬والرسول ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬املؤ َّيد‬
‫بالوحي أراد أن خيربهم بعني هذه الليلة فتالحى فالن وفالن ُفرفِ َعت‪،‬‬
‫ورفعها من مصلحة العباد؛ ليجتهدوا يف مجيع رمضان ال س َّيام يف العرش‬
‫أيضا‪« :‬الذين يتبادلون رسائل اجلوال يف‬
‫األواخر» وقال الشيخ اخلضري ً‬
‫تعيني ليلة القدر يعارضون احلكمة من إخفائها‪ ،‬ويعينون بعض النفوس‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬املجموع رشح املهذب(‪.)461 -6‬‬
‫(‪ )2‬الشيخ عبد الكريم اخلضري ‪-‬حفظه اهلل‪ -‬عضو هيئة كبار العلامء باململكة العربية السعودية‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫الضعيفة عىل الكسل»(‪. )1‬‬
‫والقول بكتامهنا هو احلق‪ ،‬إال أنه لو قيل بنرشها وبثها بشكل خاص‬
‫بني من ُي ْع َرف عنهم التفريط يف طلب ليلة القدر ممن انشغل بدنياه يف‬
‫ليايل العرش لكان أوىل وأحسن؛ ألن هذا املفرط لو ُأ ْخبرَِ َّ‬
‫أن ليلة كذا هي‬
‫لدَّ و اجتهد فيها‪ ،‬وقد ال تكون هي ليلة القدر‪ ،‬لكن هذا‬ ‫ليلة القدر جَ َ‬
‫خري له؛ ألنه ال يقوم أبدً ا‪ ،‬فكونه يقوم ليلة واحدة وهو يرتقب ليلة القدر‬
‫ٌ‬
‫خري من أال يقوم أبدً ا! وقد تكون هذه الليلة سب ًبا يف‬
‫متطل ًعا لفضل اهلل ٌ‬
‫هدايته و صالحه‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬رشح كتاب الصيام من بلوغ املرام‪ ،‬دروس مفرغة من موقع الشيخ اخلضري الدرس رقم ‪66‬‬
‫‪.525/http://www.khudheir.com/audio‬‬

‫‪108‬‬
‫هذه ليلة القدر وهذه بعض أماراهتا‪ ،‬فشمر عن ساعد اجلد إلدراكها‪،‬‬
‫قد يظهرها اهلل لك‪ ،‬وقد ال تظهر‪ ،‬قد تعرفها بعالماهتا أو قد تغيب عنك‪،‬‬
‫فاملعول هو اإلخالص والصدق يف طلبها بجد وعزم‪ ،‬وابذل كل وقتك‬
‫يف طلبها‪ ،‬ال ت ُِض ْع حلظات عمرك فيام ال ينفع‪ ،‬واعلم أن الراحة ال تنال‬
‫بالراحة‪ ،‬وأن املجد ال ينال بالكسل والبطالة‪ ،‬وال َي ْط َم َع َّن ا ْل َب َّط ُال فيِ‬
‫من َِاز ِل األَ ْب َط ِ‬
‫ال‪.‬‬ ‫َ‬
‫ف ين َُال المَْجدُ والجِْ سم و ِ‬
‫اد ٌع‬ ‫ْ َ ْ ُ َ‬ ‫َو َك ْي َ ُ‬
‫يا ُء الحَْ ْمدُ َوا ْل َو ْف ُر َوافِ ُـر‬ ‫َو َك ْي َ‬
‫ف جَُ‬ ‫ ‬
‫وب لمَ ْ َت ْب ُعدْ عَلىَ َطالِبِ ِه‬ ‫وب نِ َيل ِم ْن غَيرْ ِ َم َش َّق ٍة‪َ ،‬و َأ ُّي َم ْر ُغ ٍ‬ ‫َأ ُّي َم ْط ُل ٍ‬
‫اس ُم‬ ‫ب‪َ ،‬و ْ‬ ‫ب‪َ ،‬وا ْل ِع ْل ُم ال ُيدْ َر ُك إِال بِالن ََّص ِ‬ ‫ي َّص ُل إِال بِال َّت َع ِ‬ ‫الش َّق ُة‪ ،‬المَْ ُال ال حُ َ‬
‫ُّ‬
‫ب َط ِو ٍ‬ ‫الش َجا ِع ال يحَ ْ ُص ُل إِال َب ْعدَ َت َع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل‪.‬‬ ‫ب ُّ‬ ‫الجَْ َواد ال َينَا ُل ُه َبخ ٌيل‪َ ،‬و َل َق ُ‬
‫ات َفعـ َُّال‬‫ال يدْ ِر ُك المَْجدَ إِال سيدٌ َفطـِــن لِـمـَا ي ُش ُّق عَلىَ الساد ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫الس ْم ُر ُضـلاَّ ُل‬ ‫ِ‬ ‫َوا ْلبِ ُ‬ ‫َأ ْمضىَ ا ْل َف ِريقَينْ ِ فيِ َأ ْق َرانِ ِه ُظـ َبــ ًة‬
‫يض َهاد َي ٌة َو ُّ‬
‫ال َف ِفيهـَا المَْا ُء َو ُ‬
‫اآلل‬ ‫َبيـْـ َن الر َج ِ‬
‫ِّ‬ ‫ـر ِه‬ ‫ـــاف َمنْ َظ ِ‬
‫َ‬ ‫ُي ِر َ‬
‫يك مخَ ْبرَُ ُه َأ ْض َع‬

‫‪109‬‬
‫َّــال‬ ‫الجُْو ُد ُي ْف ِق ُر َو ِ‬
‫اإل ْقــدَ ا ُم َقتــ ُ‬ ‫َّاس ُك ُّل ُ‬
‫ــهـمُ ‬ ‫َل ْوال المَْ َش َّق ُة َسا َد الن ُ‬
‫الر ْح ِل ِش ْم ُ‬
‫الل‬ ‫ِ ٍ‬
‫َمــا ك ُُّل َماش َية بِ َّ‬ ‫َــان َطا َقتُــــ ُ ه‬
‫اإلنْسـ ُ‬ ‫َوإِ َّنماَ َي ْب ُل ُغ ِ‬

‫ـان َوإِجمَْ ُال‬ ‫ِم ْن َأ ْك َث ِر الن ِ‬


‫َّاس إِ ْح َس ٌ‬ ‫يـــح بِ ِ‬
‫ــه‬ ‫إِنَّا َل ِفي َز َم ٍن ت َْر ُك ا ْل َقبِ ِ‬
‫ْش َأ ْش َغ ُال‬ ‫ول ا ْل َعيـ ِ‬ ‫ِذك ُْر ا ْل َفتَى ُع ْم ُر ُه الثاين وحاجته ما فاته َو ُف ُض ُ‬

‫ني‪َ ،‬وأَلحَْ َق ُه ْم بِت َْوفِ ِيق ِه‬


‫ني‪َ ،‬و َخ َل َع َع َل ْي ِه ْم ِخ َل َع ا ْل َي ِق ِ‬ ‫ان َم ْن َأ ْي َق َظ المُْت َِّق َ‬
‫ُس ْب َح َ‬
‫ني(‪.)1‬‬‫اب الجِْ دِّ ُمت ََسابِ ِق َ‬ ‫ني‪َ ،‬ف َباتُوا فيِ ِج ْل َب ِ‬ ‫السابِ ِق َ‬ ‫بِ َّ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬التبرصة البن اجلوزي‪ .‬بترصف يسري (‪.)402-1‬‬

‫‪110‬‬
‫اطلب ليلة القدر يف الع�شر الأواخر‬

‫او ُر فيِ‬‫ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫َع ْن َع ِائ َش َة‪َ ،‬قا َل ْت‪ :‬ك َ‬


‫ول اللهَِّ صَلىَّ اهللُ َع َل ْيه َو َس َّل َم جَُ‬
‫َان َر ُس ُ‬
‫اخ ِر‬ ‫ول‪« :‬تحََ روا َلي َل َة ال َقدْ ِر فيِ العَشرْ ِ األَو ِ‬ ‫اخ ِر ِم ْن َر َم َض َ‬
‫ان َو َي ُق ُ‬ ‫العَشرْ ِ األَو ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ ْ‬ ‫َ‬
‫ان» متفق عليه(‪.)1‬‬ ‫ِم ْن َر َم َض َ‬
‫تكتسب الـمعــايل‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بقدر الكدِّ‬
‫ومن طلب العال سهر الليــايل‬ ‫ ‬
‫ومن رام العال من غري كــــدٍّ‬
‫أضاع العــمر يف طلب املحال‬ ‫ ‬
‫تـــروم العــز ثم تنام ليـــل‬
‫يغوص البحر من طلب الآليل‬ ‫ ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري (‪) 2020‬مسلم (‪.)1169‬‬

‫‪111‬‬
‫التم�س ليلة القدر يف الع�شر الأواخر من رم�ضان‬
‫ليله القدر يف العرش األواخر من رمضان‪ ،‬منحرصة فيه‪ ،‬وهي تنتقل‬
‫يف العرش غري حمددة بليلة معينة‪ ،‬وهي باقية مل ترفع(‪ ، )1‬وتطلب يف مجيع‬
‫ليايل العرش ‪ ،‬الشفع والوتر‪ ،‬ال نجزم بليلة معينة أهنا ليلة القدر‪ ،‬وهذا‬
‫القول هو الصواب الذي جتتمع عليه اآلثار والنصوص‪ ،‬ومن قال‬
‫بخالف هذا القول ال يسلم من معارض‪ .‬وبه يضمن طالب ليلة القدر‬
‫أنه أدركها‪ ،‬فعىل املسلم أن جيتهد يف كل الليايل عىل حدٍّ سواء لكي يدرك‬
‫هذه الليلة العظيمة‪ ،‬وهذا هو هدي النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬حيث‬
‫كان جيتهد يف العرش كلها عىل حد سواء‪ ،‬ال يعلم عنه أنه خص ليلة من‬
‫ليايل العرش بمزيد اجتهاد‪.‬‬
‫أما إهنا يف العرش(‪ ، )2‬فعىل هذا أدلة كثرية‪ ،‬منها‪ :‬قوله ‪-‬صىل اهلل‬
‫«حتروا ليل َة القدر‬
‫عليه وسلم‪ -‬من حديث عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪َّ :-‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬وقال بعضهم بأهنا ُرفِ َع ْت‪ .‬قال ابن امللقن وأعزاه الفاكهي ‪-‬أي القول بالرفع‪ -‬إىل أيب حنيفة‬
‫وهو غريب‪ ،‬وإنام هو معزي إىل الرافض‪ .‬األعالم (‪.)5-397‬‬
‫(‪ )2‬جاء عن ابن مسعود أهنا تطلب يف السنة كلها‪ ،‬وأجاب عن هذا أيب بن كعب ‪-‬ريض اهلل عنه‪-‬‬
‫َّاس‪ .‬أما إن ُه َقدْ َع ِل َم َأنا فيِ‬ ‫ِ‬
‫هََّ‬ ‫ووضح مقصود ابن مسعود ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬بقوله‪َ « :‬أ َرا َد َأ ْن الَ َيتَّك َل الن ُ‬
‫َر َم َض َ‬
‫ان» مسلم رقم (‪.)2730‬‬

‫‪112‬‬
‫يف العرش األواخر من رمضان » متفق عليه(‪ .)1‬ومل ِ‬
‫يأت دليل رصيح‬
‫صحيح يف حتديد أي ليلة هي من العرش؛ فهي تنتقل فيها كل عام‪ ،‬قال‬
‫ابن عبد الرب يف التمهيد‪« :‬وهي عندنا تنتقل‪ ،‬وهبذا يصح استعامل اآلثار‬
‫املرفوعة وغريها»(‪ )2‬قال ابن رشد‪« :‬والقول الثالث‪:‬إهنا ليست يف ليلة‬
‫بعينها‪ ،‬وإهنا تنتقل يف األعوام‪ ،‬وإىل هذا ذهب مالك ‪-‬رَحمَِ ُه اللهَُّ َت َعالىَ ‪-‬‬
‫والشافعي وأمحد بن حنبل وأكثر أهل العلم‪ ،‬وهو أصح األقاويل‬
‫وأوالها بالصواب واهلل أعلم‪ ،‬ألن األحاديث كلها تستعمل عىل هذا‪،‬‬
‫واستعامهلا كلها أوىل من استعامل بعضها واطراح سائرها‪ ،‬ال سيام وهي‬
‫كلها أحاديث صحيحة ثابتة ال مطعن فيها ألحد»(‪. )3‬‬
‫قال ابن رشد‪« :‬وذهب ابن حبيب إىل أن تتحرى الليلة يف مجيع ليايل‬
‫العرش عىل نقصان الشهر وكامله»(‪. )4‬‬
‫ونقل الرافعي يف الرشح الكبري عن مالك‪« :‬إهنا يف العرش وال ترجيح‬
‫لبعض الليايل عىل البعض»(‪. )5‬‬

‫_______________‬
‫البخاري (‪ )2017‬ومسلم (‪.)1169‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫التمهيد (‪.)63 -23‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬املقدمات املمهدات (‪.)267 -1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬املقدمات املمهدات (‪.)267 -1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫الرشح الكبري للرافعي(‪.)478 -6‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪113‬‬
‫أما إهنا تطلب يف الشفع كام تطلب يف الوتر؛ فلحديث أيب سعيد‬
‫اخ ِر‬ ‫‪-‬ريض اهلل تعاىل عنه‪ -‬والذي جاء فيه‪َ « :‬فا ْلت َِمسوها فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫السابِ َع ِة َوالخَْ ِام َس ِة»‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وها فيِ التَّاس َعة َو َّ‬
‫ِ‬
‫ان‪ ،‬ا ْلتَم ُس َ‬ ‫ِم ْن َر َم َض َ‬
‫يد‪ :‬إ َّنك ُْم َأ ْع َل ُم بِا ْل َعدَ ِد‬‫يث‪ُ :‬ق ْلت لأَِبيِ س ِع ٍ‬ ‫َق َال َأبو ن َة ر ِاوي ا ِد ِ‬
‫َ‬ ‫لحَْ‬ ‫ُ َضرَْ َ‬
‫ِمنَّا‪َ .‬ق َال‪َ :‬أج ْل‪ ،‬نَحن َأح ُّق بِ َذلِ َك ِمنْكُم‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف ُق ْلت‪ :‬ف الت ِ‬
‫َّاس َع ُة‬ ‫َماَ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ون‪َ ،‬فا َّلتِي ت َِل َيها‬ ‫احدَ ٌة َو ِعشرُْ َ‬ ‫والسابِع ُة وا ِامس ُة؟ َق َال‪« :‬إِ َذا م َض ْت و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ لخَْ َ‬
‫ون‪َ ،‬فا َّلتِي‬ ‫ث َو ِعشرُْ َ‬ ‫ثِنْت ِ و ِعشرْ ِ ين و ِهي الت ِ‬
‫َّاس َع ُة‪َ ،‬فإِ َذا َم َض ْت ثَلاَ ٌ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َينْ َ‬
‫ون َفا َّلتِي ت َِل َيها الخَْ ِام َس ُة» أخرجه‬ ‫السابِ َع ُة‪َ ،‬فإِ َذا مَضىَ خمَ ْ ٌس َو ِعشرُْ َ‬
‫يها َّ‬
‫ِ‬
‫تَل َ‬
‫مسلم(‪.)1‬‬
‫وهذا تفسري أيب سعيد ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬أهنا يف األشفاع‪ ،‬وهو حسبها‬
‫عىل أن الشهر كامل‪ ،‬وأهنا فيام بقي من الشهر‪ ،‬أي من آخر الشهر‪ ،‬فلو‬
‫حسبنا آخر تسع ٍ‬
‫ليال والشهر كامل نبدأ من ليلة ثالثني‪ ،‬لوجدنا ليلة‬
‫الثاين والعرشين هي التاسعة‪ ،‬وهي تاسعة تبقى كام جاء الترصيح يف‬
‫حديث ابن عباس ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬أن النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫ٍ‬
‫تاسعة تبقى‬ ‫قال‪« :‬التمسوها يف العرش األواخر من رمضان ليل َة القدر يف‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مسلم ( ‪.)1167‬‬

‫‪114‬‬
‫ٍ‬
‫خامسة تبقى» رواه البخاري(‪ .)1‬فإذا كان الشهر كاملاً‬ ‫ٍ‬
‫سابعة تبقى يف‬ ‫يف‬
‫كانت يف الشفع‪ ،‬إذا حسبناها عىل ما بقي كام حسبها أبو سعيد ‪-‬ريض اهلل‬
‫عنه‪ ،-‬وإن حسبناها عىل ما مىض من الشهر وكان الشهر كاملاً فيكون‬
‫قوله‪( :‬تاسعة) أي تاسع ليلة من أول العرش‪ ،‬وهي ليلة تسع وعرشين‪،‬‬
‫ناقصا فهي يف األوتار‪ ،‬سوا ًء‬
‫فتكون يف األوتار‪ ،‬وهلذا إذا كان الشهر ً‬
‫حسبناها عىل ما بقي أو ما مىض‪ ،‬وإذا كان كاملاً كانت يف األشفاع كام‬
‫بينه‪ ،‬وهلذا نقول‪ :‬تطلب ليلة القدر يف مجيع ليايل العرش‪.‬‬
‫ناقصا أم كاملاً ؟ رجح بعض‬
‫واختلف العلامء هل نحسب الشهر ً‬
‫العلامء أهنا حتسب عىل متام الشهر؛ ألنه هو األصل‪ ،‬وإىل هذا مال‬
‫احلافظ ابن عبد الرب(‪ .)2‬ورجح بعضهم أهنا حتسب والشهر ناقص؛ ألنه‬
‫هو اليقني‪ ،‬وهلذا االختالف فهي حمتملة يف كل الليايل‪.‬‬
‫صح يف السنة الترصيح‬
‫وقال بعض العلامء‪ :‬إهنا يف األوتار؛ ملا َّ‬
‫بذلك كام يف قوله صىل اهلل عليه وسلم ‪«:‬فالتمسوها يف العَشرْ األواخر‬
‫يف الوتر»(‪ ،)3‬و َع ْن َع ِائ َش َة ‪-‬رَضيَِ اللهَُّ َعن َْها‪َ : -‬أ َّن َر ُس َ‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اهللُ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري ( ‪.) 2021‬‬
‫(‪ )2‬االستذكار (‪.)412 -3‬‬
‫(‪ )3‬رواه اإلمام البخاري (‪ ) 2040 ( ) 2036 ( )2018( )2016‬ومسلم ( ‪.) 2772 ( ) 2769‬‬

‫‪115‬‬
‫اخ ِر ِم ْن‬
‫الوت ِْر‪ِ ،‬من العَشرْ ِ األَو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪َ -‬ق َال‪« :‬تحََ َّر ْوا َل ْي َل َة ال َقدْ ِر فيِ ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫َر َم َض َ‬
‫وقول العلامء‪« :‬إهنا يف األوتار»‪ ،‬أي أهنا ترجى فيه أكثر من غريه‪،‬‬
‫ال أهنا متعينة فيه ال تنتقل عنه‪ ،‬مع ذلك نقول‪ :‬إن الوتر يكون باعتبار ما‬
‫مىض‪ ،‬ويكون باعتبار ما بقي‪.‬‬
‫ان‪،‬‬ ‫اخ ِر ِم ْن َش ْه ِر َر َم َض َ‬ ‫قال شيخ اإلسالم‪َ :‬لي َل ُة ا ْل َقدْ ِر فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫«ه َي فيِ ا ْلعَشرْ ِ‬ ‫َهك ََذا صح َعن النَّبِي‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َلي ِه وس َّلم‪َ -‬أ َّنه َق َال‪ِ :‬‬
‫ُ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َّ ْ‬
‫ُون فيِ ا ْل ِوت ِْر ِمن َْها‪.‬‬
‫ان» ‪َ .‬و َتك ُ‬ ‫اخ ِر ِم ْن َر َم َض َ‬ ‫الأَْو ِ‬
‫َ‬
‫إحدَ ى َو ِعشرْ ِ ي َن‪،‬‬ ‫ب َل ْي َل َة ْ‬
‫ُون بِا ْعتِب ِ ضيِ‬
‫ار المَْا ‪َ ،‬ف ُت ْط َل ُ‬ ‫َ‬ ‫َل ِك َّن ا ْل ِوت َْر َيك ُ‬
‫س َو ِعشرْ ِ ي َن‪َ ،‬و َل ْي َل َة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن‪َ ،‬و َل ْي َل َة‬ ‫ث َو ِعشرْ ِ ي َن‪َ ،‬و َل ْي َل َة خمَ ْ ٍ‬ ‫و َلي َل َة ثَلاَ ٍ‬
‫َ ْ‬
‫تِ ْس ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن‪.‬‬
‫ار َما َب ِق َي‪ ،‬كَماَ َق َال النَّبِ ُّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪: -‬‬ ‫ُون بِا ْعتِ َب ِ‬
‫َو َيك ُ‬
‫َاس َع ٍة َت ْب َقى‪ ،‬لِ َسابِ َع ٍة َت ْب َقى‪ ،‬لخَِ ِام َس ٍة َت ْب َقى‪ ،‬لِ َثالِ َث ٍة َت ْب َقى»‪َ .‬فعَلىَ َه َذا إ َذا‬
‫«لِت ِ‬

‫ُون الاِ ْثنَينْ ِ َو ِعشرْ ِ ي َن‬‫ُون َذلِ َك َل َياليِ الأَْ ْش َفاعِ‪َ .‬و َتك ُ‬ ‫ني َيك ُ‬ ‫الش ْه ُر ثَلاَ ثِ َ‬ ‫ك َ‬
‫َان َّ‬
‫يد‬‫َاسع ًة َتب َقى‪ ،‬و َلي َل ُة َأرب ٍع و ِعشرْ ِ ين سابِع ًة َتب َقى‪ .‬وهك ََذا َفسه َأبو س ِع ٍ‬ ‫ِ‬
‫رََّ ُ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫ت َ ْ‬
‫يح‪َ .‬و َهك ََذا َأ َقا َم النَّبِ ُّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪-‬‬
‫الص ِح ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الخُْدْ ِر ِّي فيِ الحَْديث َّ‬
‫فيِ َّ‬
‫الش ْه ِر‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫اقي‪ .‬كَالت ِ‬ ‫يخ بِا ْلب ِ‬ ‫َان الت ِ‬‫الش ْه ُر تِ ْس ًعا َو ِعشرْ ِ ي َن‪ ،‬ك َ‬ ‫َوإِ ْن ك َ‬
‫يخ‬ ‫َّار ِ‬ ‫َّار ُ َ‬ ‫َان َّ‬
‫المَْاضيِ ‪.‬‬
‫َان الأَْمر هك ََذا َفينْب ِغي َأ ْن يتَحراها المُْ ْؤ ِمن فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ‬
‫اخ ِر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َوإِ َذا ك َ ْ ُ َ‬
‫وها فيِ ا ْلعَشرْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫جمَ يعها‪ .‬كَماَ َق َال النَّبِ ُّي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْيه َو َس َّل َم‪« : -‬تحََ ُّر َ‬
‫الأَْو ِ‬
‫اخ ِر»(‪.)1‬‬ ‫َ‬
‫وقال بعض العلامء‪ :‬ليلة القدر يف السبع األواخر؛ حلديث ابن عمر‬
‫‪-‬ريض اهلل تعاىل عنهام‪« :-‬أن رجالاً من أصحاب النبي ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ُ -‬أروا ليل َة القدر يف املنام يف السبع األواخر‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ : -‬أرى رؤياكم قد تواطأت يف السبع األواخر‪،‬‬
‫فمن كان ُمت ََح ِّرهيا ف ْليت ََح َّرها يف السبع األواخر» متفق عليه(‪. )2‬‬
‫وجياب عىل هذا بأن قول النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪« :-‬فمن كان‬
‫ُمت ََح ِّرهيا ف ْليت ََح َّرها يف السبع األواخر» متوجه إىل ذلك العام وليست هي‬
‫يف كل عام‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن عبد الرب‪« :‬واألغلب يف قوله‪( :‬يف السبع األواخر)‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪.)285 -25‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ )2015‬ومسلم (‪.)1165‬‬

‫‪117‬‬
‫أنه يف ذلك العام‪ ،‬واهلل أعلم لئال يتضاد مع قوله يف العرش األواخر»(‪.)1‬‬
‫وقال ابن بطال‪« :‬يريد يف ذلك العام الذي تواطأت فيه الرؤيا عىل‬
‫ذلك»(‪. )2‬‬
‫فهي يف العرش األواخر من غري تعيني ليلة معينة‪ ،‬وعدم تعيينها‬
‫مطلب رشعي؛ ففيه خري للعبد ملا حيصل عليه من إعامر وقته كل ليايل‬
‫العرش بالطاعات‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬وبكل حال فال نجزم لليلة بعينها‬
‫أهنا ليلة القدر عىل اإلطالق‪ ،‬بل هي مبهمة يف العرش كام دلت عليه‬
‫النصوص»(‪. )3‬‬
‫قال ابن القيم‪« :‬وأيضا فاألحاديث التي يف ليلة القدر ليس فيها‬
‫حديث رصيح بأهنا ليلة كذا وكذا‪ ،‬بخالف أحاديث ساعة اجلمعة فظهر‬
‫الفرق بينهام»(‪. )4‬‬
‫قال شيخنا‪ ...« :‬وإذا تأملنا األدلة الواردة يف ليلة القدر تبني لنا‬
‫أهنا تنتقل من ليلة إىل أخرى‪ ،‬وأهنا ال تكون يف ليلة معينة كل عام‪،‬‬
‫_______________‬
‫االستذكار ص (‪.)10-328‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫رشح صحيح البخارى البن بطال(‪.)151 -4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫رشح العمدة كتاب الصيام (‪ )697-2‬بتحقيق زايد النشريي‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫زاد املعاد (‪.)384 -1‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪118‬‬
‫فالنبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬أري ليلة القدر يف املنام وأنه يسجد يف‬
‫صبيحتها يف ماء وطني‪ ،‬وكانت تلك الليلة ليلة إحدى وعرشين(‪،)1‬‬
‫وقال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪« : -‬حتروا ليلة القدر يف العرش األواخر‬
‫من رمضان»وهذا يدل عىل أهنا ال تنحرص يف ليلة معينة‪ ،‬وهبذا جتتمع‬
‫األدلة‪ ،‬ويكون اإلنسان يف كل ليلة من ليايل العرش يرجو أن يصادف‬
‫ليلة القدر»(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري(‪ )2016‬مسلم (‪.)1167‬‬
‫(‪ )2‬جمموع الفتاوى (‪.)228 -14‬‬

‫‪119‬‬
‫وقفة مع خالف العلماء يف تعيني ليلة القدر‬
‫اختلف العلامء يف تعيينها عىل أقوال كثرية‪ ،‬مما يدل عىل ضعف‬
‫التعيني والتحديد بليلة معينة‪ ،‬إذ لو كان هناك دليل رصيح صحيح مل‬
‫يقع اخلالف هبذه الكثرة من األقوال‪ ،‬عدَّ احلافظ بن حجر ست ًة وأربعني‬
‫قولاً ‪ ،‬ثم ذكر قول ابن ا ْل َعرَبيِ ِّ ‪« :‬إِنهََّا لاَ ُت ْع َل ُم» وقال‪َ :‬‬
‫«و َه َذا َي ْص ُل ُح َأ ْن‬
‫ف َأ َّن ُه َي َرى َأنهََّا‬
‫وس َ‬ ‫او ُّي َع ْن أَبيِ ُي ُ‬ ‫آخ َر‪ ،‬ثم ذكر ما نقله ال َّط َح ِ‬
‫ُون َق ْولاً َ‬ ‫َيك َ‬
‫« َل ْي َل ُة َأ ْر َب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن َأ ْو َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن»وقال‪َ :‬فإِ ْن َث َب َت َذلِ َك َعنْ ُه َف ُه َو‬
‫آخر ما َو َق ْف ُت َع َل ْي ِه ِم َن الأَْ ْق َو ِ‬ ‫َق ْو ٌل َ‬
‫ال»(‪ . )1‬فيصبح‬ ‫«ه َذا َ ُ َ‬
‫آخ ُر»‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫جمموع ما ذكره احلافظ ثامنية وأربعني قولاً ‪ ،‬لكن يف احلقيقة هي أقل من‬
‫«و َب ْع ُض َها‬
‫ذلك؛ ألنه يمكن ر ُّد بعضها إىل بعض‪ ،‬كام قال احلافظ نفسه‪َ :‬‬
‫َان َظ ِ‬
‫اه ُر َها ال َّت َغا ُي َر»‪.‬‬ ‫ُي ْم ِك ُن َر ُّد ُه إِلىَ َب ْع ٍ‬
‫ض َوإِ ْن ك َ‬

‫قال القاري‪« :‬وقد اختلف العلامء يف تعيينها عىل أقوال كثرية‪ ،‬بلغها‬
‫احلافظ يف الفتح إىل أكثر من أربعني قولاً ‪ ،‬وأكثرها يتداخل‪ ،‬ويف احلقيقة‬
‫يقرب من مخسة وعرشين»(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الفتح (‪)266 -4‬‬
‫(‪ )2‬مرقاة املفاتيح رشح مشكاة املصابيح‪.)118-7( .‬‬

‫‪120‬‬
‫وبعضهم أوصلها نحو اخلمسني‪ ،‬وبعض املعارصين أوصلها إىل‬
‫أربع وستني قولاً ‪ ،‬فنظرت فيها فوجدت أهنا ال تصل إىل هذا العدد أبدً ا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بعض ملا وصل إىل هذا العدد‪ ،‬فتجد فيام ذكر أقوالاً‬ ‫ولو ُر َّد بعضها إىل‬
‫تتكرر لكن بصيغ خمتلفة‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ليلة �سبع وع�شرين‬
‫تعترب ليلة سبع وعرشين هي الليلة األشهر عند عامة املسلمني أهنا‬
‫ليلة القدر‪.‬‬
‫وقال بذلك مجع من العلامء‪ ،‬وترتب عىل هذا القول ختصيص ليلة‬
‫سبع وعرشين بمزيد اجتهاد وترك بقية الليايل‪ ،‬أو الكسل يف بقية ليايل‬
‫العرش والفتور فيها؛ ألنه يعتقد أنه ال يوافق ليلة القدر إال بقيام ليلة سبع‬
‫وعرشين‪ ،‬وبقية الليايل ليس فيها ليلة القدر‪ ،‬فإذا قام ليلة سبع وعرشين‬
‫جيد نفسه أنه قام ليلة القدر‪ ،‬فيدع بقية الليايل وال ينشط هلا‪ ،‬ويرتتب‬
‫خيصها بعمرة(‪ ، )1‬فال يعتمر إال يف هذه‬
‫أيضا أن بعضهم ُّ‬
‫عىل هذا القول ً‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬قال شيخنا حممد بن صالح بن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬تنبيه‪ :‬هنا مسألة يفعلها كثري من الناس‪،‬‬
‫يظنون أن للعمرة يف ليلة القدر مزية‪ ،‬فيعتمرون يف تلك الليلة‪ ،‬ونحن نقول‪ :‬ختصيص تلك الليلة‬
‫بالعمرة بدعة؛ ألنه ختصيص لعبادة يف زمن مل خيصصه الشارع هبا‪ ،‬والذي حث عليه النبي ‪-‬صلىّ‬
‫اهلل عليه وس ّلم‪ -‬ليلة القدر هو القيام الذي قال الرسول ‪-‬صلىّ اهلل عليه وس ّلم‪ -‬فيه‪« :‬من قام ليلة‬
‫القدر إيامنًا واحتسا ًبا غفر له ما تقدم من ذنبه» ومل يرغب يف العمرة تلك الليلة‪ ،‬بل رغب فيها يف‬
‫حجا» فتخصيص العمرة بليلة القدر‪ ،‬أو ختصيص ليلة القدر‬ ‫الشهر‪ ،‬فقال‪« :‬عمرة يف رمضان تعدل ً‬
‫بعمرة هذا من البدع‪ .‬وملا كانت بدعة صار يلحق املعتمرين فيها من املشقة اليشء العظيم‪ ،‬حتى إن‬
‫وكثريا ما ن ُْس َأ ُل عن هذا‪ ،‬شخص‬
‫ً‬ ‫بعضهم إذا رأى املشقة يف الطواف‪ ،‬أو يف السعي انرصف إىل أهله‪،‬‬
‫جاء يعتمر ليلة السابع والعرشين‪ ،‬فلام رأى الزحام حتلل‪ ،‬فانظر كيف يؤدي اجلهل بصاحبه إىل هذا‬
‫العمل املحرم‪ ،‬وهو التحلل من العمرة بغري سبب رشعي‪.‬إ ًذا ينبغي لطلبة العلم‪ ،‬بل جيب عليهم أن‬
‫يبينوا هذه املسألة للناس‪.‬أما إكامل هذه العمرة فواجب؛ ألنه ملا رشع فيها صارت واجبة‪ ،‬كالنذر أصله‬
‫مكروه وجيب الوفاء به إذا التزمه‪ ،‬وال حيل له أن حيل منها‪ ،‬وإنام البدعة هي ختصيص العمرة بتلك‬
‫الليلة» الرشح املمتع (‪494 -6‬و ‪.)495‬‬

‫‪122‬‬
‫الليلة‪ ،‬وختصيص العمرة يف هذه الليلة بدعة؛ ألنه ختصيص عبادة يف‬
‫زمن مل خيصصه الرشع هلا‪ ،‬ويرتتب عىل هذا حرج شديد من تدافع‬
‫ثمة دليل صحيح رصيح‬
‫الناس إىل بيت اهلل احلرام ألداء العمرة‪ .‬وليس َّ‬
‫عىل القول بأن ليلة سبع وعرشين هي ليلة القدر‪ ،‬غاية ما استدلوا به‬
‫ود َس ِم َعا‬
‫اص ِم ب ِن أَبيِ النَّج ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫حديث أ يف صحيح مسلم َعن َعبدَ َة و َع ِ‬
‫ْ ْ‬ ‫ُبيَ ّ‬
‫ب ‪-‬رَضيَِ اللهُّ َعنْ ُه‪َ ،-‬ف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َّن‬ ‫«س َأ ْل ُت أُبيََّ ْب َن َك ْع ٍ‬‫ول‪َ :‬‬ ‫ش َي ُق ُ‬ ‫ِز َّر ْب َن ُح َب ْي ٍ‬
‫ب َل ْي َل َة ا ْل َقدْ ِر‪َ .‬ف َق َال‪ :‬رَحمَِ ُه‬ ‫ِ‬ ‫اك ابن مسع ٍ‬
‫ول‪َ :‬م ْن َي ُق ِم الحَْ ْو َل ُيص ْ‬ ‫ود َي ُق ُ‬ ‫َأ َخ َ ْ َ َ ْ ُ‬
‫َّاس‪ .‬أما إن ُه َقدْ َع ِل َم َأنهََّا فيِ َر َم َض َ‬
‫ان‪َ .‬و َأنهََّا فيِ ا ْلعَشرْ ِ‬ ‫ِ‬
‫اللهِّ َأ َرا َد َأ ْن الَ َيتَّك َل الن ُ‬
‫ف الَ َي ْس َت ْثنِي‪َ .‬أنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع‬ ‫اخ ِر‪َ .‬و َأنهََّا َل ْي َل ُة َس ْب ٍع َو ِعشرْ ِ ي َن‪ُ .‬ث َّم َح َل َ‬
‫األَو ِ‬
‫َ‬
‫ال َم ِة‪َ ،‬أ ْو‬
‫ول َذلِ َك؟ َيا َأ َبا المُْن ِْذ ِر َق َال‪ :‬بِا ْل َع َ‬ ‫َو ِعشرْ ِ ي َن‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪ :‬بِ َأ ِّي شيَ ْ ٍء َت ُق ُ‬
‫ٍِ‬ ‫بِاآل َي ِة ا َّلتِي َأ ْخبرََ نَا َر ُس ُ‬
‫اع لهََا »(‪. )1‬‬‫ول اللهِّ َأنهََّا َت ْط ُل ُع َي ْو َمئذ‪ ،‬الَ ُش َع َ‬
‫وأيب ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬مل يقسم عىل أن النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫أخربه أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعرشين‪ ،‬وإنام هو سمع هذه العالمة‬
‫من النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬كام سمعها غريه من الصحابة‪ ،‬واجتهد‬
‫هو يف تطبقيها عىل الواقع املحسوس‪ ،‬وهذا اجتهاد ظن ٌِّّي منه‪ ،‬والنبي‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬مل خيرب أحدً ا بليلة القدر‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مسلم (‪.)2730‬‬

‫‪123‬‬
‫يب ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬ظنِّ ًّيا ال يلزم األخذ به‪ ،‬و ال حجة‬
‫هلذا كان قول أ ٍّ‬
‫فيه مقابل النصوص الكثرية الصحيحة والتي تثبت إهنا غري معلومة‬
‫وغري حمددة بليلة معينة‪ ،‬حتى نبينا ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬ملا خرج ليخرب‬
‫«خ َر ْج ُت‬ ‫هبا نسيها‪ ،‬ومل يعلم أي ليلة هي‪ ،‬وقال كام عند البخاري(‪َ : )1‬‬
‫الن‪َ ،‬ف ُرفِ َع ْت‪َ ،‬و َع َسى َأ ْن َيك َ‬
‫ُون‬ ‫الن َو ُف ٌ‬ ‫َالحى ُف ٌ‬ ‫ِ‬
‫ألخبرَِ ك ُْم بِ َل ْي َلة ا ْل َقدْ ِر‪َ ،‬فت َ‬
‫ْ‬
‫ب ْب ُن َع ْب ِد اللهَِّ المَْ َعافِ ِر ُّي‪َ ،‬أ َّن ُه‬ ‫ِ‬
‫خَيرْ ً ا َلك ُْم»‪ .‬وأخرج حممد بن نرص عن َواه ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫َب ا ْبنَ َة أ ِّم َس َل َم َة ‪-‬رَضيَِ اللهَُّ َعن َْها‪َ -‬ع ْن َل ْي َلة ا ْل َقدْ ر َف َقا َل ْت‪ « :‬لمَ ْ‬ ‫َس َأ َل َز ْين َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس‬ ‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْيه َو َس َّل َم‪َ -‬ي ْع َل ُم َها‪َ ،‬و َل ْو َعل َم َها لمَ ْ َت ُق ِم الن ُ‬ ‫َي ُك ْن َر ُس ُ‬
‫غَيرَْ َها »(‪ . )2‬وكان ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬كل عام يف رمضان جيتهد‬
‫يف طلبها‪ ،‬وحيث عىل التامسها يف العرش األواخر‪ ،‬ومل ُيع ِّينها ألحد‪ ،‬ولو‬
‫كانت معينة يف ليلة معينة لكان أوىل الناس بمعرفتها النبي ‪-‬صىل اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬وما خفيت عليه‪ ،‬فكيف ختفى ‪-‬عليه صىل اهلل وسلم‪-‬‬
‫يب ‪-‬ريض اهلل عنه‪-‬؟‪.‬‬
‫ويعلمها أ ّ‬
‫واستدل بعضهم عىل أهنا ليلة سب ٍع وعرشين بأن كلمة (هي) يف‬
‫قوله‪( :‬سالم هي) يف السورة هي الكلمة السابعة والعرشون ‪« .‬ولكن‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري (‪)2023‬‬
‫(‪ )2‬قيام رمضان ملحمد بن نرص املروزي (‪.)247 -1‬‬

‫‪124‬‬
‫هذا ليس بيشء وهو من ُم َلح التفاسري وليس من متني العلم»(‪. )1‬‬
‫واستنبط بعضهم ذلك يف جهة أخرى‪ ،‬فقال‪ :‬ليلة القدر تسعة‬
‫أحرف‪ ،‬وقد كرر اهلل ذكر ليلة القدر ثالث مرات‪ ،‬وتسع إذا رضبت‬
‫يف ثالث فالناتج سبع وعرشون‪ .‬وكل ذلك غلط ال يمت للعلم بيشء‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري من عطية(‪.)61 -1‬‬

‫‪125‬‬
‫بدعة �صالة القدر‬
‫وهذه من البدع املحدثة‪ ،‬وتسمى صالة القدر نسبة إىل ليلة القدر‪،‬‬
‫وتكون هذه الصالة يف الليلة التي يظنون أهنا ليلة القدر‪.‬‬
‫وسئل شيخ اإلسالم ابن تيمية عن َق ْو ٍم ُي َص ُّلون َب ْعدَ الترََّ ِاو ِ‬
‫يح‬
‫آخ ِر ال َّل ْي ِل ُي َص ُّلون تمََا َم ِمائ َِة َر ْك َع ٍة‪َ ،‬و ُي َس ُّم َ‬
‫ون‬ ‫ر ْكعت ِ فيِ ا َع ِة‪ُ ،‬ثم فيِ ِ‬
‫َّ‬ ‫لجَْماَ‬ ‫َ َ َينْ‬
‫َذلِ َك صَلاَ َة ا ْل َقدْ ِر‪.‬‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫اب َم َع َم ْن َي ْف َع ُل َها َأ ْو‬
‫الص َو ُ‬ ‫َو َقدْ ا ْم َتن ََع َب ْع ُض الأَْئ َّمة م ْن ف ْعل َها‪َ :‬ف َه ْل َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ٌة؟‬‫َم َع َم ْن يَترُْ ك َُها؟ َو َه ْل ِه َي ُم ْست ََح َّب ٌة عنْدَ َأ َحد م ْن الأَْئ َّمة َأ ْو َمك ُْر َ‬
‫َو َه ْل َينْ َب ِغي فِ ْع ُل َها َوالأَْ ْم ُر بهَِا‪َ ،‬أ ْو ت َْرك َُها َوالن َّْه ُي َعن َْها؟‬
‫يب َه َذا المُْ ْمتَنِ ُع ِم ْن فِ ْع ِل َها‪َ ،‬و َا َّل ِذي‬ ‫ِ‬
‫فأجاب‪ :‬الحَْ ْمدُ للِهَِّ‪َ ،‬ب ْل المُْص ُ‬
‫ني‪َ ،‬ب ْل ِه َي بِدْ َع ٌة‬ ‫َح َّب َها َأ َحدٌ ِم ْن َأ ِئ َّم ِة المُْ ْس ِل ِم َ‬
‫تَركَها َفإِ َّن ه ِذ ِه الصلاَ َة لمَ يست ِ‬
‫َْ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫مكْروه ٌة بِا ِّت َف ِ ِ ِ‬
‫ول اللهَِّ ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ‬ ‫الصلاَ َة لاَ َر ُس ُ‬ ‫اق الأَْئ َّمة‪ ،‬وَلاَ َف َع َل َهذه َّ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ني‪ ،‬وَلاَ َي ْس َت ِح ُّب َها َأ َحدٌ ِم ْن‬ ‫الص َحا َب ِة‪ ،‬وَلاَ التَّابِ ِع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َل ْيه َو َس َّل َم‪ -‬وَلاَ َأ َحدٌ م ْن َّ‬
‫ني َو َا َّل ِذي َينْ َب ِغي َأ ْن تُترَْ َك َو َين َْهى َعن َْها»(‪. )1‬‬ ‫َأ ِئ َّم ِة المُْ ْس ِل ِم َ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪.)122 -23‬‬

‫‪126‬‬
‫�إذا �أردت �أن تدرك ف�ضل ليلة القدر‬
‫فاحذر املخا�صمة وامل�شاحنة‬
‫ت‪َ ،‬ق َال‪َ :‬خ َر َج النَّبِ ُّي ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪-‬‬ ‫َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ َ َ ْ‬
‫«خ َر ْج ُت‬ ‫ني َف َق َال‪َ :‬‬ ‫لِ ُي ْخبرَِ نَا بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر َف َتال ََحى َر ُجال َِن ِم َن ا ُمل ْس ِل ِم َ‬
‫ال َحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَن‪َ ،‬ف ُرفِ َع ْت َو َع َسى َأ ْن َيك َ‬
‫ُون‬ ‫لأُِ ْخبرَِ ُك ْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر‪َ ،‬ف َت َ‬
‫السابِ َع ِة‪َ ،‬واخلَ ِام َس ِة»(‪. )1‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وها فيِ التَّاس َعة‪َ ،‬و َّ‬
‫ِ‬
‫خَيرْ ً ا َلك ُْم‪َ ،‬فا ْلتَم ُس َ‬
‫واملالحاة هي املخاصمة واملنازعة واملشامتة‪.‬‬
‫تأمل بسبب تالحي الرجلني ‪ ،‬حرم الصحابة معرفة هذه الليلة‪.‬‬
‫قال ابن بطال‪« :‬وهذا يدل أن املالحاة واخلالف يرصف فضائل‬
‫أجرا عظيماً »(‪. )2‬‬
‫كثري من الدين‪ ،‬وحيرم ً‬
‫قال الشيخ حممد بن إبراهيم آل الشيخ ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬ومن التوبة‬
‫اخلروج من املظامل‪ ،‬والتخيل من حقوق اخللق‪ ،‬يف الدماء واألموال‬
‫واألعراض‪ ،‬وترك التشاحن; ويف احلديث عن النبي ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬قال‪ :‬أريت ليلة القدر‪ ،‬فخرجت ألخربكم‪ ،‬فتالحى رجالن‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري ( ‪.)2023‬‬
‫(‪ )2‬رشح صحيح البخارى البن بطال(‪.)158 -4‬‬

‫‪127‬‬
‫فرفعت فهذا يدل عىل أن التشاحن من أسباب موانع حصول اخلري»(‪.)1‬‬
‫فقد حيرم العبد فضل هذه الليلة بسبب خصومة مع أحد من‬
‫املسلمني‪ ،‬فمن أراد النجاة فليخرج من قلبه كل ضغينة أو شحناء‪،‬‬
‫وليصفح عن إخوانه‪ ،‬وليطلب العفو من كل من أخطأ يف حقه‪ ،‬وليدعو‬
‫هلم بظهر الغيب‪ ،‬لعل اهلل يم ُّن عليه بفضل هذه الليلة العظيمة‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الدرر السنية (‪.)476 - 14‬‬

‫‪128‬‬
‫االعتكاف من �أقوى الأ�سباب لإدراك ليلة القدر‬
‫من استطاع أن يعكتف العرش األواخر من رمضان فقد حاز أعظم‬
‫األسباب إلدراك ليلة القدر مع ما يف االعتكاف من اخلري العظيم‪،‬‬
‫حريصا عىل إدراك ليلة القدر كل‬
‫ً‬ ‫فكان نبينا ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫احلرص‪ ،‬حتى إنه اعتكف العرش األول من رمضان يطلبها‪ ،‬ثم اعتكف‬
‫العرش األوسط يطلبها‪ ،‬ثم ُأخبرِ أهنا يف العرش األواخر‪ ،‬فاعتكف العرش‬
‫األواخر‪ ،‬كام جاء يف صحيح مسلم(‪ )1‬من حديث أيب سعيد اخلدري‬
‫ِ‬
‫‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬قوله ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪« :-‬إنيِّ ا ْع َت َك ْف ُت ا ْلعَشرَْ‬
‫يت‪َ ،‬ف ِق َيل‬
‫الأَْ َّو َل‪َ ،‬أ ْلت َِم ُس َه ِذ ِه ال َّل ْي َل َة‪ُ ،‬ث َّم ا ْع َت َك ْف ُت ا ْلعَشرَْ الأَْ ْو َس َط‪ُ ،‬ث َّم ُأتِ ُ‬
‫ف َف ْليعت ِ‬ ‫ِ‬ ‫اخ ِر‪َ ،‬فمن َأح ِ‬ ‫ليِ ‪ :‬إِنا فيِ ا ْلعَشرْ ِ الأَْو ِ‬
‫ف»‪.‬‬ ‫َك ْ‬ ‫ب منْك ُْم َأ ْن َي ْعتَك َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫هََّ‬
‫وهذا كله من احلرص الشديد عىل أال تفوته ليلة القدر‪ ،‬ملا يف‬
‫االعتكاف من اخللوة بربه وقلة اخللطة بالناس‪.‬‬
‫قال شيخنا ابن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬واملقصود باالعتكاف‪:‬‬
‫ِ‬
‫مساجده‬ ‫ٍ‬
‫مسجد من‬ ‫ِ‬
‫لطاعة اهلل يف‬ ‫الناس؛ لِ َي َت َف َّر َغ‬
‫ِ‬ ‫نسان عن‬‫اإل ِ‬ ‫انقطاع ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫للمعتكف ْ‬
‫أن‬ ‫وإدراك ليلة ال َقدْ ِر‪ ،‬ولذلك ين ِ‬
‫ْبغي‬ ‫ِ‬ ‫لفض ِل ِه وثوابِ ِه‬
‫طل ًبا ْ‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مسلم (‪.)1167‬‬

‫‪129‬‬
‫والعبادة‪ ،‬وأن يتَجنَّب ما ال َيعنيه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والصالة‬ ‫ِ‬
‫والقراءة‬ ‫ِ‬
‫بالذكر‬ ‫َ‬
‫يشتغل‬
‫أه ِله‬ ‫بحديث ٍ‬‫ٍ‬ ‫يتحدث قليلاً‬
‫َ‬ ‫بأس ْ‬ ‫ِ‬
‫مباح مع ْ‬ ‫أن‬ ‫من حديث الدن َيا‪ ،‬وال َ‬
‫املؤمنني ‪-‬ريض اهلل عنها‪ -‬قالت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ملصلحة‪ ،‬حلديث َص ِف َّي َة أ ِّم‬
‫ٍ‬ ‫أو غريهم‬
‫ال فحدثتُه‬ ‫أزوره لي ً‬
‫ُ‬ ‫«كان النبي ‪-‬صىل اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ -‬معتك ًفا فأ َت ْيتُه‬
‫النبي ‪-‬صَلىَّ اللهَُّ َع َل ْي ِه‬
‫ألنرصف إىل بيتي) فقا َم ُّ‬ ‫َ‬ ‫ب (أي‪:‬‬ ‫ِ‬
‫قمت أل ْن َقل َ‬
‫ثم ُ‬
‫معي» (احلديث)»(‪. )1‬‬ ‫وس َّلم‪ِ -‬‬
‫َ َ َ‬
‫قال احلافظ ابن رجب‪« :‬وإنام كان يعتكف النبي ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬يف هذا العرش التي يطلب فيها ليلة القدر قط ًعا إلشغاله وتفري ًغا‬
‫حصريا يتخىل فيها‬
‫ً‬ ‫للياليه وختل ًيا ملناجاة ربه وذكره ودعائه‪ ،‬وكان حيتجر‬
‫عن الناس فال خيالطهم وال يشتغل هبم‪ ،‬وهلذا ذهب اإلمام أمحد إىل أن‬
‫املعتكف ال يستحب له خمالطة الناس حتى وال لتعلم علم وإقراء قرآن‬
‫بل األفضل له االنفراد بنفسه والتخيل بمناجاة ربه وذكره ودعائه‪ ،‬وهذا‬
‫االعتكاف هو اخللوة الرشعية وإنام يكون يف املساجد لئال يرتك به اجلمع‬
‫واجلامعات‪ ،‬فإن اخللوة القاطعة عن اجلمع واجلامعات منهي عنها‪،‬‬
‫سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل وال يشهد اجلمعة‬
‫واجلامعة‪ ،‬قال‪ :‬هو يف النار‪ .‬فاخللوة املرشوعة هلذه األمة هي االعتكاف‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬جمالس شهر رمضان( ص ‪ )118‬وحديث صفية متفق عليه‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫خصوصا يف شهر رمضان‪ ،‬يف العرش األواخر منه‪ ،‬كام كان‬
‫ً‬ ‫يف املساجد‬
‫النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬يفعله فاملعتكف قد حبس نفسه عىل طاعة‬
‫اهلل وذكره‪ ،‬وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه‪ ،‬وعكف بقلبه وقالبه‬
‫عىل ربه وما يقربه منه‪ ،‬فام بقي له هم سوى اهلل وما يرضيه عنه‪... ،‬‬
‫فمعنى االعتكاف وحقيقته‪ :‬قطع العالئق عن اخلالئق لالتصال بخدمة‬
‫اخلالق‪ ،‬وكلام قويت املعرفة باهلل واملحبة له واألنس به أورثت صاحبها‬
‫االنقطاع إىل اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬بالكلية عىل كل حال»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬لطائف املعارف ص( ‪.)190‬‬

‫‪131‬‬
‫احلكمة من �إخفاء ليلة القدر‬
‫ت‪َ ،‬ق َال‪َ :‬خ َر َج النَّبِ ُّي ‪-‬صَلىَّ اهللُ َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪-‬‬ ‫َعن ُعباد َة ب ِن الص ِام ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ َ َ ْ‬
‫«خ َر ْج ُت‬ ‫ني‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬‬ ‫لِ ُي ْخبرَِ نَا بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر َف َتال ََحى َر ُجال َِن ِم َن ا ُمل ْس ِل ِم َ‬
‫ال َحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَن‪َ ،‬ف ُرفِ َع ْت َو َع َسى َأ ْن َيك َ‬
‫ُون‬ ‫لأُِ ْخبرَِ ُك ْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِر‪َ ،‬ف َت َ‬
‫السابِ َع ِة‪َ ،‬واخلَ ِام َس ِة»(‪. )1‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وها فيِ التَّاس َعة‪َ ،‬و َّ‬
‫ِ‬
‫خَيرْ ً ا َلك ُْم‪َ ،‬فا ْلتَم ُس َ‬
‫«و َع َسى َأ ْن َيك َ‬
‫ُون خَيرْ ً ا َلك ُْم» بيان‬ ‫فقوله ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪َ :-‬‬
‫يف أن اخلري يف عدم معرفتها‪ ،‬فاخلري يف إعامر ليايل العرش بالقيام والذكر‬
‫ومجيع الطاعات رجاء إدراكها‪ ،‬وقوله‪َ ( :‬ف ُرفِ َع ْت) املقصود‪ :‬رفع العلم‬
‫ِ‬
‫هبا ‪ ،‬ال رفع ليلة القدر وأهنا غري موجودة ؛ بدليل قوله‪َ « :‬فا ْلتَم ُس َ‬
‫وها‬
‫السابِ َع ِة‪َ ،‬واخلَ ِام َس ِة»‪.‬ففي احلديث أن اخلري يف إخفائها‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫فيِ التَّاس َعة‪َ ،‬و َّ‬
‫وذلك باجلد يف طلبها يف العرش كاملة‪ ،‬فتعمر أوقات العرش بالعبادة‪.‬‬
‫قال النيسابوري‪« :‬احلكمة يف إخفاء ليلة القدر يف الليايل‪ ،‬كاحلكمة‬
‫يف إخفاء وقت الوفاة ويوم القيامة؛ حتى يرغب املكلف يف الطاعات‬
‫ويزيد يف االجتهاد وال يتغافل وال يتكاسل وال يتكل»(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬البخاري ( ‪ )49‬و( ‪)2023‬و(‪.)6049‬‬
‫(‪ )2‬غرائب القرآن ورغائب الفرقان( ‪.)537 -6‬‬

‫‪132‬‬
‫وقال شيخنا ابن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪« : -‬وإنام أهبمها اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫لفائدتني عظيمتني‪ :‬الفائدة األوىل‪ :‬بيان الصادق يف طلبها من املتكاسل؛‬
‫ألن الصادق يف طلبها ال هيمه أن يتعب عرش ليال من أجل أن يدركها‪،‬‬
‫واملتكاسل قد يكسل ويقول‪ :‬ما دام ال أدري أي ليلة هي يكسل أن يقوم‬
‫عرش ليايل من أجل ليلة واحدة‪ .‬الفائدة الثانية‪ :‬كثرة ثواب املسلمني‬
‫بكثرة األعامل‪ ،‬ألنه كلام كثر العمل كثر الثواب»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسري جزء عم (ص‪.)273‬‬

‫‪133‬‬
‫ا�ستحباب االغت�سال والطيب ليلة القدر‬
‫ج ٍد) وقال ابن عمر‪ :‬اهلل‬
‫(خ ُذوا ِزينَ َتك ُْم ِعنْدَ ك ُِّل َم ْس ِ‬
‫قال ‪-‬تعاىل‪ُ :-‬‬
‫أحق أن يتزين له‪.‬‬
‫واألصل يف املسلم أن يتزين بكل ما يستطيع من زينة اللباس وأن‬
‫يغتسل ويتطيب عند رواحه إىل الصالة يف املسجد‪ .‬وكام قال ابن عمر‪:‬‬
‫(اهلل أحق أن يتزين له)‪ .‬وهذا الفهم ال خيرج إال ممن عظم قدر ربه‪،‬‬
‫وكلام ع َّظمت ربك يف قلبك تزينت له بأحسن زينة وأنت تقف بني يديه‪،‬‬
‫فاخرت لنفسك أحسن زينة يراها ربك عليك وأنت واقف بني يديه‪ ،‬ومن‬
‫املؤسف ح ًقا أنك جتد من يتزين للمخلوقني بأحسن زينة‪ ،‬وال ترى عليه‬
‫هذه الزينة ّملا يقف بني يدي ربه‪ ،‬بل وصل ببعض املسلمني أن يأيت‬
‫خصصها للنوم‪ ،‬و جتده يستحي أن يقابل هبا ضيفه!‬
‫للمسجد بثياب َّ‬
‫وهذا من جهله بقدر ربه‪.‬‬
‫والبعض جتد الطيب يفوح منه يف كل مناسبة‪ ،‬أما يف املسجد ال جتد‬
‫منه شي ًئا‪ ،‬هذا إن مل تشم منه ما تكره! وبيت اهلل أحق بكل طيب‪.‬‬
‫فأخذ الزينة عند املساجد والنظافة بشكل عام يف البدن وامللبس‬
‫والطيب هو ديدن املسلم يف كل وقت‪ ،‬وإذا اجتمع هذا مع زمن ومكان‬

‫‪134‬‬
‫مبارك ومجع للمسلمني كان آكد‪ ،‬ففي العرش األواخر من رمضان يتأكد‬
‫األمر؛ الجتامع فضائل ال جتتمع إال يف هذه الليايل‪ ،‬وهي أفضل ليايل‬
‫السنة‪ ،‬وفيها ليلة القدر التي يتحراها املسلم‪ ،‬هلذا ُأثِ َر عن مجع من سلف‬
‫هذه األمة تعظيم هذه الليايل باالغتسال هلا واالستعداد بأحسن ما يمكن‬
‫من زينة من الطيب ولبس أحسن الثياب واالغتسال‪.‬‬
‫فقد كان النخعي يغتسل يف العرش كل ليلة‪ ،‬ومن السلف من كان‬
‫يغتسل ويتطيب يف الليايل التي تكون أرجى لليلة القدر‪.‬‬
‫وروي عن أنس بن مالك ‪-‬ريض اهلل عنه‪ :-‬أنه إذا كان ليلة أربع‬
‫وعرشين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء‪ ،‬فإذا أصبح طوامها‬
‫فلم يلبسهام إىل مثلها من قابل‪.‬‬
‫وقال محاد بن سلمة‪ :‬كان ثابت البناين ومحيد الطويل يلبسان أحسن‬
‫ثياهبام ويتطيبان ويطيبون املسجد بالنضوح والدخنة يف الليلة التي ترجى‬
‫فيها ليلة القدر‪.‬‬
‫وقال ثابت‪ :‬كان لتميم الداري حلة اشرتاها بألف درهم وكان‬
‫يلبسها يف الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر‪.‬‬
‫وقد جاءت بعض األحاديث عن النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫يف االغتسال ليايل العرش‪ ،‬لكن فيها ضعف‪ ،‬ولكن أصل االستحاب‬

‫‪135‬‬
‫موجود‪ ،‬وفعل السلف يؤيد هذا‪ ،‬وقد يلتمس استحباب التطيب‬
‫والنظافة من نزول املالئكة ليلة القدر حيث متأل األرض‪ ،‬وهي تتأذى مما‬
‫يتأذى منه بنو آدم‪ ،‬فمن استشعر هذا املعنى مل يدع الطيب والزينة طيلة‬
‫ليايل العرش يف كل وقت ويف أي مكان‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن رجب بعد ذكر ما جاء عند السلف يف االغتسال‬
‫والتطيب‪« :‬فتبني هبذا أنه يستحب يف الليايل التي ترجى فيها ليلة‬
‫القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس احلسن‪،‬‬
‫كام يرشع ذلك يف اجلمع واألعياد‪ ،‬وكذلك يرشع أخذ الزينة بالثياب‬
‫(خ ُذوا ِزينَ َتك ُْم ِعنْدَ ك ُِّل َم ْس ِج ٍد)‬
‫يف سائر الصلوات‪ ،‬كام قال –تعاىل‪ُ :-‬‬
‫[األعراف‪ ،]31 :‬وقال ابن عمر‪ « :‬اهلل أحق أن يتزين له»‪ ،‬وروي عنه‬
‫مرفو ًعا‪« :‬وال يكمل التزين الظاهر إال بتزين الباطن» بالتوبة واإلنابة‬
‫إىل اهلل ‪-‬تعاىل‪-‬وتطهريه من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة‬
‫الظاهر مع خراب الباطن ال تغني شي ًئا‪ ،‬قال اهلل ‪-‬تعاىل‪َ ( :-‬يا َبنِي آ َد َم‬
‫اس ال َّت ْق َوى َذلِ َك خَيرْ ٌ )‬ ‫َقدْ َأن َْز ْلنَا َع َليكُم لِباسا يو ِاري سوآتِكُم و ِر ً ِ‬
‫يشا َول َب ُ‬ ‫َ ْ ْ َ‬ ‫ْ ْ َ ً َُ‬
‫[األعراف‪.]26 :‬‬
‫إذا املرء مل يلبس ثيا ًبا من التقى‬
‫تقلب عريانًا وإن كان كاسيــًا‬ ‫ ‬

‫‪136‬‬
‫ال يصلح ملناجاة امللك يف اخللوات إال من زين ظاهره وباطنه‬
‫خصوصا مللك امللوك الذي يعلم الرس وأخفى‪ ،‬وهو ال ينظر‬
‫ً‬ ‫وطهرمها‬
‫إىل صوركم وإنام ينظر إىل قلوبكم وأعاملكم‪ ،‬فمن وقف بني يديه فليزين‬
‫له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى»(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬لطائف املعارف البن رجب (ص ‪.)189‬‬

‫‪137‬‬
‫االحتفال بليلة القدر‬
‫ملا كانت ليلة القدر أفضل الليايل ونزل فيها القرآن العظيم قال‬
‫البعض‪ :‬ينبغي أن تكون عيدً ا للمسلمني وحيتفل هبا‪ ،‬وحصل من بعض‬
‫اجلهال االحتفال ببعض الليايل مثل ليلة سبع وعرشين عىل أهنا ليلة‬
‫القدر‪ ،‬فتلقى فيها اخلطب وتوزع فيها اهلدايا واألطعمة‪ ،‬وهذا كله من‬
‫البدع(‪ . )1‬و اجلهل يف الدين‪ ،‬فالذي نزل عليه القرآن وجاء بفضلها‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬مل يفعل هذا‪ ،‬ومل يقل يو ًما أو حيث عىل االحتفال‬
‫هبا ‪ ،‬ثم هي ال تُعلم‪ ،‬فيكف نحتفل بليلة ال تُعلم؟ ثم االحتفال احلق‬
‫بليلة القدر هو االجتهاد فيها بقيامها وبذل اجلهد يف ليايل العرش بالقيام‬
‫ومجيع أعامل الرب‪ ،‬هذا هو هدي النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فكان‬
‫جيتهد يف ليايل العرش ما ال جيتهد يف غريها‪ .‬تقول عائشة ‪-‬ريض اهلل‬
‫عنها‪« :-‬كان النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬إذا دخل العرش األخرية من‬
‫‪-‬ريض اللـ ُه عنه‪ِ -‬‬
‫عن‬ ‫َ‬ ‫رمضان شد مئزره وأحيا ليله»‪ ،‬وعن أيب هرير َة‬
‫واحتِسا ًبا‬
‫النبي ‪-‬صىل اللـه عليه وس ّلم‪ -‬قال‪َ « :‬من قا َم ليل َة ال َقدْ ِر إِيامنًا ْ‬ ‫ِّ‬
‫ْبه» رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫ُغ ِفر لـه ما َت َّقدم ِمن َذن ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬انظر فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (‪.)15882‬‬

‫‪138‬‬
‫فاالجتهاد بقيامها واالعتكاف فيها وبذل أقىص ما يمكن من جهد‬
‫فيها بأعامل الرب التي تقرب إىل اهلل هو العمل املطلوب فيها وهو هدي‬
‫النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬وسلف هذه األمة وخري اهلدي حممد‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪.-‬‬

‫‪139‬‬
‫احلائ�ض والنف�ساء يف ليلة القدر‬
‫هل للحائض والنفساء حظ من فضائل ليلة القدر؟ نعم‪ ،‬ال شك‪.‬‬
‫قال الضحاك ‪« :‬كل من تقبل اهلل عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر»‬
‫واهلل ال خييب أحدً ا طلبه بصدق‪ ،‬وقد حتصل احلائض عىل ثواب قيام‬
‫ليلة القدر من املغفرة وإن مل ِّ‬
‫تصل‪ ،‬وذلك إذا قويت نيتها وكانت مواظبة‬
‫عىل القيام من قبل‪ ،‬ومل يمنعها إال العذر الرشعي‪ ،‬ونفسها تتوق للقيام‪،‬‬
‫فمثل هذه يرجى هلا حتصيل الثواب كاملاً وفضل اهلل واسع‪.‬‬
‫ويشهد هلذا ما جاء يف الصحيح ‪« :‬إِ َّن بِالمَْ ِدين َِة َأ ْق َوا ًما َما سرِ ْ ت ُْم َم ِس ًريا‪،‬‬
‫اد ًيا إِلاَّ كَانُوا َم َعك ُْم‪َ ،‬قا ُلوا‪َ :‬و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة؟ َق َال‪َ :‬و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة‪،‬‬
‫وَلاَ َق َطعتُم و ِ‬
‫ْ ْ َ‬
‫َح َب َس ُه ُم ا ْل ُع ْذ ُر»‪.‬‬
‫ففي احلديث الترصيح أن من حبسه العذر ُيكتب له األجر كاملاً‬
‫صح ْت ن َّيته‪.‬‬
‫إذا َّ‬
‫اج َز َع ِن ال َّطا َع ِة‬‫ار ُع َقدْ ن ََّز َل ا ْل َع ِ‬
‫الش ِ‬ ‫«‪...‬وإِ َذا ك َ‬
‫َان َّ‬ ‫َ‬ ‫قال ابن القيم‪:‬‬
‫الص ِح ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يح‪« :‬إِ َذا‬ ‫َمن ِْز َل َة ا ْل َفاع ِل لهََا‪ ،‬إِ َذا َص َّح ْت ن َّي ُت ُه‪َ ،‬ك َق ْوله فيِ الحَْديث َّ‬
‫يح‬ ‫الص ِح ِ‬ ‫ِ‬
‫يحا ُمقيماً » وَفيِ َّ‬
‫ِ‬
‫َان َي ْع َم ُل َصح ً‬ ‫ب َل ُه َما ك َ‬ ‫ِ‬
‫َم ِر َض ا ْل َع ْبدُ َأ ْو َسا َف َر كُت َ‬
‫َأي ًضا َعنْه‪« :‬إِ َّن بِالمَْ ِدين َِة َأ ْقواما ما سرِ تُم م ِسريا‪ ،‬وَلاَ َق َطعتُم و ِ‬
‫اد ًيا إِلاَّ كَانُوا‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ ً َ ْ ْ َ ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫‪140‬‬
‫َم َعك ُْم‪َ ،‬قا ُلوا‪َ :‬و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة؟ َق َال‪َ :‬و ُه ْم بِالمَْ ِدين َِة‪َ ،‬ح َب َس ُه ُم ا ْل ُع ْذ ُر»(‪. )1‬‬
‫وكذا املريض ممن منعه مرضه عن قيام ليلة القدر أو املسافر الذي‬
‫منعه سفره وهو ممن يقومها ومل يمنعه إال السفر واملرض‪ ،‬فهذا له األجر‬
‫ِ‬
‫َان َي ْع َم ُل‬ ‫كاملاً بالنص السابق «إِ َذا َم ِر َض ا ْل َع ْبدُ َأ ْو َسا َف َر كُت َ‬
‫ب َل ُه َما ك َ‬
‫يحا ُم ِقيماً »‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َصح ً‬
‫ثم للحائض والنفساء إحياء الليل بكل طاعة غري الصالة ‪،‬و فمن‬
‫أفضل القرب والطاعات قراءة القرآن يف رمضان‪ ،‬وخاصة ليايل العرش‪،‬‬
‫وال يمنعها احليض والنفاس من قراءة القرآن فالصحيح من أقوال‬
‫مس له‪ ،‬وهلا أن متسكه بحائل مثل‬
‫العلامء أن هلا أن تقرأ القرآن من غري ٍّ‬
‫القفازين وغريها‪ ،‬ومن أعامل الرب الدعاء والذكر‪ ،‬خاصة قول‪« :‬ال َّل ُه َّم‬
‫ِ‬
‫ف َعنِّي» وباجلملة عليها أن تشغل نفسها بكل‬ ‫إِن ََّك ُع ُف ٌّو حُت ُّ‬
‫ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ‬
‫ما يريض رهبا وسوف يرضيها رهبا بفضله وكرمه‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مدارج السالكني ( ‪.)296 -1‬‬

‫‪141‬‬
‫كانت امرأة حبيب أيب حممد تقول له بالليل‪ :‬قد ذهب الليل‪ ،‬وبني‬
‫أيدينا طريق بعيد وزاد قليل‪ ،‬وقوافل الصاحلني قد سارت قدامنا ونحن‬
‫قد بقينا‪.‬‬
‫قم يا حبيبي قد دنا املوعــد‬ ‫يا نائـــم الليل كم ترقــــد‬
‫وردا إذا مـــا هجع الرقــد‬ ‫وخـــذ من الليل و أوقـاته‬
‫لـم يبلــغ املنزل أو يـجهـد‬ ‫مــن نام حتى ينقيض ليلــه‬
‫قنطرة العرض لكم موعــد‬ ‫قل لذوي األلباب أهل التقى‬
‫دونكم فرصة العمر ليلة القدر‪ ،‬واهلل هي ح ًّقا ليلة العمر‪ ،‬من فاته‬
‫فضلها فاته اخلري وكان من املحرومني‪ ،‬وهي يف عرش ٍ‬
‫ليال فقط ال غري‪،‬‬
‫وهي واهلل ساعات نعدُّ ها عدًّ ا‪ ،‬فام عليك إال عقد النية الصادقة يف‬
‫حتصيلها‪ ،‬ثم النهوض بقوة وعزم‪ ،‬ومنافسة القوم لبلوغ قمة جمدها‪.‬‬
‫وإن رأيت من نفسك كسلاً فتأمل حال نبيك ‪-‬صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬وهو أفضل البرش‪ ،‬كيف كان يسهر الليايل يطلب ليلة القدر‪،‬‬
‫االول ثم‬
‫وكان يعتكف طل ًبا هلا‪ ،‬وكان من حرصه أنه اعتكف العرش ُ‬

‫‪142‬‬
‫األوسط ثم العرش اآلواخر‪ ،‬كل هذا سع ًيا يف إدراكها‪ ،‬وكان جيدُّ وجيتهد‬
‫يف ليايل العرش ما ال جيتهد يف غريها‪.‬‬
‫وتذكر يوم يقال‪« :‬غدً ا العيد!» ياهلل! كم هي فرحتك إن كنت من‬
‫اجلادين يف طلبها وأتعبت نفسك يف حتصيلها!‪ ،‬وكم هو حزنك وخيبتك‬
‫لو كنت من املفرطني وقد انتهى الوقت وذهب التعب والنصب‪ ،‬وما‬
‫بقي إال الفوز والفالح لطالهبا‪ ،‬واخليبة واخلرسان للبطالني املتكاسلني!‪.‬‬
‫َأ ْين من حيذر ا ْل َع َذاب وخيشى َأن ُيصَليِّ الجَْ ِحيم مأوى اللئام‬
‫بحـور يف جنان اخللود َبني الخْ يـــام‬ ‫ٍ‬ ‫َأ ْين من َي ْشت َِهي التذا ًذا‬
‫التامسا لهََا لــذيـــذ المَْـنـــَام‬
‫ً‬ ‫التمس فِ ِيه َل ْي َلة ا ْلقدر واتـرك‬
‫واجتـهد فيِ ع َبا َدة اهلل واسأل َفضــلــه ِعنْد َغف َلة النـــوام‬
‫يا ا خيبـــة لـمن َخاب فِ ِ‬
‫َعـن ُب ُلوغ املنى بدار ّ‬
‫الســَلاَ م‬ ‫يـه‬ ‫َ‬ ‫َ لهََ‬
‫ســاترا َشــره بِ َث ْوب الظـالم‬ ‫َان فِ ِيه‬
‫َيا لهََا حـســـرة لـمن ك َ‬
‫َعامل فاهدين َسبِيل الــقـــوام‬ ‫َيا إِ َلــه الجَْ ِميــع َأنْــت بحايل‬

‫‪143‬‬
‫�أف�ضل ما يطلبه العبد من ربه يف ليلة القدر‬

‫«لو علمت أي ليلة ليلة القدر؛ لكان أكثر دعائي فيها أن أسأل اهلل‬
‫العفو والعافية»(‪. )1‬‬
‫(أم املؤمنني عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪)-‬‬

‫اهلل مـــن ذنـبــــك أكرب‬ ‫يا كبيــر الذنب عــفــــو‬


‫جنــب عفو اهلل يصغــر‬ ‫أكـبـــــر األوزار فـــــي‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي يف الكربى (‪ ، )10648‬والبيهقي يف الشعب ‪َ « 3428‬ما َس َأ ْل ُت اهللَ فِ َيها إِلاَّ‬
‫ا ْل َعافِ َي َة» وأخرجه ابن أيب شيبة (‪.)29189‬‬

‫‪144‬‬
‫�أف�ضل ما يقال ليلة القدر‬
‫ول اللهَِّ َأ َر َأ ْي َت إِ ْن َع ِل ْم ُت َأ ُّي َل ْي َل ٍة‬ ‫َع ْن َع ِائ َش َة‪َ ،‬قا َل ْت‪ُ « :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ِ‬ ‫َلي َل ُة ال َقدْ ِر ما َأ ُق ُ ِ‬
‫ف‬ ‫ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ‬ ‫ول ف َيها؟ َق َال‪ُ :‬قوليِ ‪ :‬ال َّل ُه َّم إِن ََّك ُع ُف ٌّو حُت ُّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َعنِّي »(‪.)1‬‬
‫ريض اهلل عن أم املؤمنني الصديقة بنت الصديق‪ ،‬فقد سألت سؤالاً‬
‫عظيماً كل األمة بحاجة إليه‪ ،‬وقد جاءت اإلجابة بأوجز عبارة ممن أويت‬
‫_______________‬
‫يح ‪ .‬وابن ماجه (‪ . )3850‬وأمحد‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الرتمذي (‪ )3513‬وقال‪َ :‬ه َذا َح ِد ٌ‬
‫يث َح َس ٌن َصح ٌ‬
‫رقم( ‪ )25495- 25384‬وابن أيب شيبة (‪ ،)29189‬والبيهقي يف شعب اإليامن (‪ )3426‬ويف‬
‫فضائل األوقات (‪ 113‬و‪ )114‬ويف األسامء والصفات رقم( ‪ )92‬ويف الدعوات الكبري ( ‪)234‬‬
‫يث ص ِحيح عَلىَ شرَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ط‬ ‫ْ‬ ‫ويف السنن الصغرى للبيهقي( ‪) 1403‬واحلاكم يف املستدرك وقال ‪َ :‬ه َذا َحد ٌ َ ٌ‬
‫يخَُر َجا ُه « رقم( ‪ )1942‬والنسائي يف الكربى رقم (‪ ) 10646 - 7665‬وعنه ابن‬ ‫الش ْيخَينْ ِ ‪ ،‬وَلمَ ْ ِّ‬
‫َّ‬
‫السني يف عمل اليوم والليلة( ‪ )690-1‬وإسحاق ابن راهويه يف مسنده (‪)1361‬ويف قيام الليل‬
‫للمروزي (املخترص ج ‪ 1‬ص ‪ )259‬و معجم أبو يعىل املوصيل رقم (‪) 43‬و الدعاء للطرباين رقم‬
‫(‪ )916‬والتوحيد البن منده رقم (‪ )300‬ومسند الشهاب القضاعي رقم( ‪). 1474‬‬
‫واحلديث صحيح وال حجة ملن أعله‪ ،‬وكل من أعله تبع الدارقطني يف ذلك كالبيهقي ومن جاء بعده‬
‫إىل اليوم وقد أعله الدارقطني بأن عبد اهلل بن بريدة (مل يسمع من عائشة شيئ ًا) ولكن عبد اهلل بن بريدة‬
‫عارص عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪ -‬وهذا يكفي يف إمكانية سامعه منها‪ ،‬فهو عارصه يقينًا‪ ،‬وهو ثقة‪ ،‬ومل‬
‫يعرف بالتدليس‪ ،‬بل هو من رجال الصحيح‪ ،‬وهلذا صحح احلديث علامء كثر من املحققني عىل مر‬
‫التاريخ وأخذوا به واحتجوا به إىل يومنا هذا‪ .‬وانظر كالم املحدث األلباين ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬حول هذا‬
‫احلديث‪ ،‬وقد كان الشيخ األلباين ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬قد تبع االدارقطني يف تضعيفه‪ ،‬ثم رجع عن ذلك وقال‬
‫بصحته‪ .‬انظره يف السلسلة الصحيحة (‪.)1010 -7‬‬

‫‪145‬‬
‫جوامع الكلم ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،-‬واستفدنا فائدة عظيمة عن أعظم‬
‫األدعية يف أفضل األوقات وأبركها‪ ،‬ولك أن تتخيل هذا املشهد العظيم‬
‫اجلميل بني سيد األنبياء والرسل ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬و زوجته‬
‫أحب الناس إليه‪ ،‬وختيل معي تلك اللحظات التي تأيت عائشة ‪-‬ريض‬
‫اهلل عنها‪ -‬وهي أطوع نساء األمة وأحبهن للخري تسأل زوجها و من‬
‫حيبها ويقدمها عىل كل الناس وهو النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وما‬
‫هناك أنصح منه ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬لألمة‪ ،‬وختيل تلك الساعة التي‬
‫جتلس فيها عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪ -‬عند زوجها وأحب الناس إليها‪،‬‬
‫وهو وال يقدم يف احلب غريها‪ ،‬تطلب منه النصح وهو نبي اهلل املؤيد‬
‫بالوحي‪ ،‬وهي تسأل‪ :‬ما تقول يف ليلة القدر أعظم الليايل؟ وعائشة ريض‬
‫اهلل عنها حريصة عىل أن تفعل أفضل يشء يمكن فعله يف هذه الليلة‪،‬‬
‫ونبينا ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬سوف يوصيها بأعظم وصية وأفضل ما‬
‫يقال‪ ،‬وسوف ينصح هلا أعظم النصح‪ ،‬سوف يقول أفضل كلامت تقال‬
‫يف تلك الساعة‪ ،‬كل األمة مرتقبة هلذه اإلجابة التي خترج من مشكاة‬
‫النبوة إىل أم املؤمنني أحب اخللق إليه‪ ،‬فكانت هذه الكلامت العظيمة‬
‫ِ‬
‫التي هي من جوامع الكلم‪( :‬ال َّل ُه َّم إِن ََّك ُع ُف ٌّو حُت ُّ‬
‫ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ‬
‫ف َعنِّي)‪،‬‬
‫وهي ليست خاصة بليلة القدر فقط ‪ ،‬أو يف رمضان وحده‪ ،‬بل ينبغي أن‬
‫تصبح ديدن املسلم يف كل وقت‪ .‬وعلم من هذه الوصية أن طلب العفو‬

‫‪146‬‬
‫من اهلل من أعظم األدعية التي ينبغي أن ال يفرت عنها العبد؛ ألن من عفا‬
‫عنه ربه فقد فاز‪ ،‬وأي يشء يطلبه العبد بعد العفو عنه؟! قال ابن الق ّيم‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ :-‬ال سبيل له (أي للعبد ) إىل النّجاة إلاّ بعفوه ومغفرته ّ‬
‫‪-‬جل‬
‫يتغمده بعفوه ومغفرته‪ ،‬وإلاّ فهو من‬
‫وعال‪ -‬وأنّه رهني بح ّقه‪ ،‬فإن مل ّ‬
‫اهلالكني ال حمالة‪ ،‬فليس أحد من خلقه إلاّ وهو حمتاج إىل عفوه ومغفرته‬
‫كام هو حمتاج إىل فضله ورمحته(‪. )1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مفتاح دار السعادة (‪.)291 -1‬‬

‫‪147‬‬
‫اع ُف عَ ِّني‬ ‫ال َّله َُّم ِ�إ َّن َك عَ ُف ٌّو حُ ِ‬
‫ت ُّب ا ْل َع ْف َو َف ْ‬
‫اللهم‪ :‬أي ياهلل!‪.‬‬
‫إنك عفو حتب العفو‪ :‬وهذه كاملقدمة ملا تطلب‪ ،‬تدخل فيها عىل‬
‫اهلل‪ ،‬وتتوسل إليه بأسامئه وصفاته املناسبة للدعوة‪ ،‬فطلب العفو يناسب‬
‫التوسل باسم العفو‪ ،‬وهذا من أسباب اإلجابة أن تطلب وختتار اسماً‬
‫يناسب الدعاء‪ ،‬واهلل حيب املدح فتمدحه بام حيب‪.‬‬
‫فاعف عني‪ :‬هذا هو غاية ما تطلب‪ ،‬العفو‪ ،‬وكأنك تقول‪ :‬يا اهلل‬
‫إنك حتب العفو وأنا عبدك املقرص يف حقك‪ ،‬أطلب عفوك وال يملك‬
‫العفو عني إال أنت‪.‬‬
‫أي تطلب من اهلل أن يتجاوز عن كل ذنب فعلته ويرتك عقابك‪ ،‬فال‬
‫ٍ‬
‫لذنب أثر بعد العفو‪.‬‬ ‫يبقى‬
‫قال ابن األثري ‪« :‬فيِ َأ ْسماَ ِء اللهَِّ – َت َعالىَ ‪« -‬ال َع ُف ّو» ُه َو َف ُعول‪ِ ،‬م َن ال َع ْفو‬
‫الع َقاب َع َل ْي ِه» (‪.)1‬‬‫وترك ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّجاوز َع ِن َّ‬
‫الذنْب‬ ‫ُ‬ ‫َو ُه َو الت‬
‫قال ابن عالن الشافعي‪« :‬قوله‪( :‬قويل اللهم إنك عفو) بصيغة‬
‫فعول املوضوعة للمبالغة ألبلغية عفوه ‪-‬سبحانه‪ -‬كي ًفا وكماًّ يعفو عن‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬النهاية البن األثري (‪.)265 \ 3‬‬

‫‪148‬‬
‫الكبائر غري الرشك‪ ،‬وعنه بعد اإلسالم‪ ،‬وعام ال يعلم عدده سواه‪( ،‬حتب‬
‫العفو) خرب بعد خرب‪ ،‬أو حال من ضمري اخلرب قبله‪ ،‬أو مجلة مستأنفة أتى‬
‫هبا إطنا ًبا‪( ،‬فاعف عني) وفيه إيامء إىل أن أهم املطالب انفكاك اإلنسان‬
‫من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب‪ ،‬فإنه بالطهارة من ذلك‬
‫يتأهل لالنتظام يف سلك حزب اهلل وحزب اهلل هم املفلحون»(‪. )1‬‬
‫قال ابن رجب‪« :‬العفو من أسامء اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬وهو يتجاوز عن‬
‫سيئات عباده‪ ،‬املاحي ألثارها عنهم‪ ،‬وهو حيب العفو‪ ،‬فيحب أن يعفو‬
‫عن عباده وحيب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض‪ ،‬فإذا عفا بعضهم‬
‫عن بعض عاملهم بعفوه‪ ،‬وعفوه أحب إليه من عقوبته‪ ،‬وكان النبي‬
‫‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬يقول‪« :‬أعوذ برضاك من سخطك وعفوك من‬
‫عقوبتك»(‪ )2‬قال حييى بن معاذ‪« :‬لو مل يكن العفو أحب األشياء إليه مل‬
‫كثريا من أوليائه وأحبابه‬
‫يبتل بالذنب أكرم الناس عليه» يشري إىل أنه ابتىل ً‬
‫بيشء من الذنوب؛ ليعاملهم بالعفو‪ ،‬فإنه حيب العفو»‪.‬‬
‫قال بعض السلف الصالح‪ :‬لو علمت أحب األعامل إىل اهلل –تعاىل‪-‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬دليل الفاحلني لطرق رياض الصاحلني(‪.)657-6‬‬
‫اك ِم ْن َس َخط َك‪َ ،‬وبِ ُم َعا َفات َك م ْن ُع ُقو َبت َك‪َ ،‬و َأ ُعو ُذ بِ َك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(لله َّم َأ ُعو ُذ بِ ِر َض َ‬ ‫(‪ )2‬اخرجه مسلم بلفظ ُ‬
‫ْت كَماَ َأ ْثنَ ْي َت عَلىَ َن ْف ِس َك)‪.‬‬
‫ِمن َْك لاَ ُأ ْحصيِ َثنَا ًء َع َل ْي َك َأن َ‬

‫‪149‬‬
‫ألجهدت نفيس فيه‪ ،‬فرأى قائلاً يقول له يف منامه‪ :‬إنك تريد ما ال يكون‪،‬‬
‫إن اهلل حيب أن يعفو ويغفر‪ ،‬وإنام أحب أن يعفو ليكون العباد كلهم حتت‬
‫عفوه‪ ،‬وال يدل عليه أحدً ا منهم بعمل‪.‬‬
‫وقد جاء يف حديث ابن عباس مرفو ًعا‪« :‬إن اهلل ينظر ليلة القدر إىل‬
‫املؤمنني من أمة حممد ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬فيعفو عنهم ويرمحهم إال‬
‫أربعة‪ :‬مدمن مخر‪ ،‬وعا ًّقا‪ ،‬ومشاحنًّا‪ ،‬وقاطع رحم»‪.‬‬
‫ملا عرف العارفون بجالله خضعوا‪ ،‬وملا سمع املذنبون بعفوه‬
‫ثم إال عفو اهلل أو النار‪ ،‬لوال طمع املذنبني يف العفو الحرتقت‬
‫طمعوا‪ ،‬ما َّ‬
‫قلوهبم باليأس من الرمحة‪ ،‬ولكن إذا ذكرت عفو اهلل اسرتوحت إىل برد‬
‫عفوه‪.‬‬
‫كان بعض املتقدمني يقول يف دعائه‪« :‬اللهم إن ذنويب قد عظمت‬
‫فج َّلت عن الصفة‪ ،‬وإهنا صغرية يف جنب عفوك‪ ،‬فاعف عني»‪.‬‬
‫وقال آخر منهم‪« :‬جرمي عظيم‪ ،‬وعفوك كثري‪ ،‬فامجع بني جرمي‬
‫وعفوك يا كريم»‪.‬‬
‫اهلل مـــن ذنبــك أكرب‬ ‫يا كبري الذنب عفــو‬
‫جنب عفو اهلل يصغر‬
‫(‪)1‬‬
‫أكرب األوزار فــــي‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬لطائف املعارف ( ص ‪205‬و‪.)206‬‬

‫‪150‬‬
‫السْت�رْ ِ ‪،‬‬‫ُ�ون بِ َم ْعنَى َّ‬ ‫�و‪ :‬الَّت�رَّ ْ ُك‪َ ،‬و َيك ُ‬ ‫«و َم ْعنَ�ى ا ْل َع ْف ِ‬ ‫ق�ال ابن مفل�ح‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫�ف َعنِّي» َأ ِي‪ :‬ات ُْر ْك‬ ‫َوال َّت ْغطيَ�ة‪َ ،‬ف َم ْعنَ�ى «ال َّل ُه َّم إِن ََّك َع ُف ٌّو حُت ُّ‬
‫ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫اص ْ‬ ‫ب َعنِّ�ي َع َذا َب َك‪َ ،‬و رْ ِ‬ ‫اسُت�رُ ْ عَليَ َّ َذنْبِ�ي‪َ ،‬و َأ ْذه ْ‬ ‫ُم َؤاخَ�ذَتيِ بِ ُج ْرمي‪َ ،‬و ْ‬
‫َعنِّي ِع َقا َب َك‪.‬‬
‫«س ُلوا اللهََّ ا ْل َع ْف َو َوا ْل َعافِ َي َة‬ ‫ِ ِ‬
‫َوللن ََّسائ ِّي م ْن َحديث أَبيِ ُه َر ْي َر َة َم ْر ُفو ًعا‪َ :‬‬
‫ِ ِ (‪ِ )1‬‬

‫ول‬ ‫ني خَيرْ ً ا ِم ْن ُم َعا َف ٍاة» َفالشرَّ ُّ المَْاضيِ َي ُز ُ‬ ‫َوالمُْ َعا َفاةَ‪ ،‬فَماَ ُأوتيَِ َأ َحدٌ َب ْعدَ َي ِق ٍ‬
‫بِا ْل َع ْف ِو‪َ ،‬والحَْاضرُِ بِا ْل َعافِ َي ِة‪َ ،‬والمُْ ْس َت ْق َب ُل بِالمُْ َعا َف ِاة لِت ََض ُّمنِ َها َد َوا َم ا ْل َعافِ َي ِة»(‪. )2‬‬
‫الزيادة عىل هذا الدعاء بام فيه مصالح الدنيا واآلخرة‪:‬‬
‫ال شك أن اآلخرة أوىل من الدنيا‪ ،‬والدعاء بام ينفع يف اآلخرة ال‬
‫يقارن بمتاع الدنيا‪ ،‬لكن ال مانع من الزيادة عىل هذا الدعاء الذي ع َّلمه‬
‫النبي –صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬لعائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪ -‬والدعاء بام فيه‬
‫صح عن عائشة –ريض اهلل عنها‪ -‬قوهلا‪:‬‬
‫مصالح الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقد َّ‬
‫«لو علمت أي ليلة ليلة القدر‪ ،‬لكان أكثر دعائي فيها أن أسأل اهلل العفو‬
‫والعافية»‪ .‬و هي هبذه الدعوة تكون قد مجعت بني الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهذه‬
‫غاية السعادة‪ ،‬فمن وفق هلذا الدعاء َس ِعد‪ ،‬فليكثر العبد يف هذه الليلة من‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬السنن الكربى (‪) 10651‬ومسند أبو يعىل( ‪.)49‬‬
‫(‪ )2‬املبدع يف رشح املقنع البن مفلح ( ‪.) 59 -3‬‬

‫‪151‬‬
‫ِ‬
‫قول‪« :‬ال َّل ُه َّم إِن ََّك َع ُف ٌّو حُت ُّ‬
‫ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ‬
‫ف َعنِّي» ومن دعاء عائشة –ريض‬
‫اهلل عنها‪« -‬العفو والعافية» وال بأس بالزيادة عىل ذلك بام فيه صالح‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وال يغفل العبد يف هذه الليلة أن ُيكثِر فيها من الدعوات‬
‫بمهامت املسلمني‪ ،‬فهذا شعار الصاحلني وعباد اهلل العارفني(‪.)1‬‬
‫قال شيخنا ابن عثيمني ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬وال يمنع من الزيادة عىل ما‬
‫ورد» (‪. )2‬‬
‫وقال ‪-‬رمحه اهلل‪« :-‬والناس هلم طلبات خمتلفة متنوعة‪ ،‬فهذا مثلاً‬
‫يريد عافية من سقم‪ ،‬وهذا يريد غنى من فقر‪ ،‬وهذا يريد النكاح من‬
‫إعدام‪ ،‬وهذا يريد الولد‪ ،‬وهذا يريد علماً ‪ ،‬وهذا يريد مالاً ‪ ،‬فالناس‬
‫خيتلفون‪.‬وليعلم أن األدعية الواردة خري وأكمل وأفضل من األدعية‬
‫سطرا أو‬
‫املسجوعة‪ ،‬التي يسجعها بعض الناس‪ ،‬وجتده يطيل‪ ،‬ويذكر ً‬
‫سطرين يف دعاء بيشء واحد ليستقيم السجع‪ ،‬لكن الدعاء الذي جاء‬
‫يف القرآن أو يف السنة‪ ،‬خري بكثري مما صنع مسجو ًعا‪ ،‬كام يوجد يف بعض‬
‫املنشورات» (‪. )3‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬األذكار للنووي (‪.)191‬‬
‫(‪ )2‬الرشح املمتع عىل زاد املستقنع(‪.)498 -6‬‬
‫(‪ )3‬املصدر السابق‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫ملاذا ن�س�أل اهلل العفو بعد االجتهاد يف الأعمال؟‬
‫قال احلافظ ابن رجب‪ :‬وإنام أمر بسؤال العفو يف ليلة القدر بعد‬
‫االجتهاد يف األعامل فيها ويف ليايل العرش؛ ألن العارفني جيتهدون‬
‫حلا‪ ،‬وال حالاً وال مقالاً ‪،‬‬
‫يف األعامل ثم ال يرون ألنفسهم عملاً صا ً‬
‫فريجعون إىل سؤال العفو كحال املذنب املقرص‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعارف من مل يكن غاية أمله من اهلل‬ ‫قال حييى بن معاذ‪« :‬ليس‬
‫العفو»‪.‬‬
‫فشأنــك عفو عن الذنب‬ ‫إن كنت ال أصلح للقرب‬
‫كان مطرف يقول يف دعائه‪« :‬اللهم ارض عنَّا‪ ،‬فإن مل ترض عنَّا‬
‫فاعف عنَّا»‪.‬‬
‫من عظمت ذنوبه يف نفسه مل يطمع يف الرضا‪ ،‬وكان غاية أمله أن‬
‫يطمع يف العفو‪ ،‬ومن كملت معرفته مل ير نفسه إال يف هذه املنزلة‪.‬‬
‫ك وقد أســاء وقد هفا‬ ‫يـا رب عبدك قـد أتــا‬
‫من سوء ما قد أسـلفـا‬ ‫يكفيــه منـك حيــاؤه‬
‫ب الـموبقات وأسـرفا‬ ‫محل الذنوب عىل الذنو‬

‫‪153‬‬
‫ك من عقــابك ملحفـا‬ ‫وقد استجار بذيل عفو‬
‫(‪)1‬‬
‫فألنت أوىل من عفـا‬ ‫رب اعــف وعــافــه‬
‫فائدة‪:‬‬
‫قال األلباين –رمحه اهلل‪:-‬‬
‫«(تنبيه) ‪:‬وقع يف (سنن الرتمذي) بعد قوله‪( :‬عفو) زيادة‪( :‬كريم)!‬
‫وال أصل هلا يف يشء من املصادر املتقدمة‪ ،‬وال يف غريها ممن نقل عنها‪،‬‬
‫فالظاهر أهنا مدرجة من بعض الناسخني أو الطابعني؛ فإهنا مل ترد يف‬
‫الطبعة اهلندية من (سنن الرتمذي) التي عليها رشح (حتفة األحوذي)‬
‫للمباركفوري (‪ ،)264/4‬وال يف غريها‪ .‬وإن مما يؤكد ذلك أن النسائي‬
‫يف بعض رواياته أخرجه من الطريق التي أخرجها الرتمذي‪ ،‬كالمها عن‬
‫شيخهام (قتيبة بن سعيد) بإسناده دون الزيادة »(‪. )2‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬ابن رجب لطائف املعارف (ص‪.)206‬‬
‫(‪ )2‬سلسلة األحاديث الصحيحة ويشء من فقهها وفوائدها (‪ -7‬ص ‪1011‬و‪.)1012‬‬

‫‪154‬‬
‫�إ�ضاءة وختام‬
‫فكم سعد يف هذه الليلة أقوام!‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن بن نارص السعدي ‪-‬رمحه اهلل‪:-‬‬
‫قالت عائشة ‪-‬ريض اهلل عنها‪« : -‬يا رسول اهلل‪ :‬إن وافقت ليلة‬
‫القدر فبم أدعو؟ قال‪ :‬قويل اللهم إنك عفو حتب العفو فاعف عني»‪.‬‬
‫هكذا كانت حالة الصفوة األخيار‪ ،‬يتنافسون يف هذه الليلة‪،‬‬
‫ويلتجئون إىل امللك الغفار‪.‬‬
‫أما حيق لك أهيا املؤمن أن جترد قلبك يف هذه الليلة من مجيع األشغال‪،‬‬
‫وأن تقبل بكليتك إىل طاعة ذي العظمة واجلالل‪ ،‬وأن تعرتف بذنوبك‬
‫خملصا يف خضوعك وانكسارك؟‬
‫ً‬ ‫وفاقتك وافتقارك‪ ،‬وأن تتوسل إليه‬
‫تقول‪ :‬يا رب قد عظمت مني الذنوب‪ ،‬يا رب قد تكاثرت عيل اخلطايا‬
‫والعيوب‪ ،‬يا رب أنا الفقري املعدم املضطر إليك‪ ،‬يا رب ال ملجأ منك‬
‫إال إليك‪ ،‬إن رددتني من يقبلني؟ وإن خيبتني من يصلني؟ وإن حرمتني‬
‫من يعطيني؟ وإن أبعدتني فمن الذي يقربني ويدنيني؟ ال رب يل غريك‪،‬‬
‫وال إله يل سواك‪ ،‬وال أستعني بغريك‪ ،‬وال أعبد إال إياك‪ .‬أنت الذي‬
‫خلقتني ورزقتني‪ ،‬وأنت الذي واليت عيل النعم وعافيتني‪ .‬آالؤك تتواىل‬

‫‪155‬‬
‫الليل والنهار‪ ،‬ونعمك ليس هلا حد وال منتهى وال انحصار‪ .‬أرجوك يف‬
‫هذه الليلة الكريمة أن تغفر ذنويب‪ ،‬وأن تصلح فاسدي وناقيص وعيويب‪،‬‬
‫وأن تسعفني يا موالي بمطلويب‪.‬‬
‫وحيق لك أن تدعو بدعاء النبي ‪-‬صىل اهلل عليه وسلم‪ -‬الذي مجع‬
‫خري الدنيا واآلخرة‪ ،‬وشمل حصول النعم الباطنة والظاهرة‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫«اللهم أصلح يل ديني الذي هو عصمة أمري‪ ،‬وأصلح يل دنياي التي‬
‫فيها معايش‪ ،‬وأصلح يل آخريت التي إليها معادي‪ ،‬واجعل احلياة زيادة‬
‫يل يف كل خري‪ ،‬واملوت راحة يل من كل رش‪ ،‬اللهم رمحتك أرجو فال‬
‫تكلني إىل نفيس طرفة عني‪ ،‬وأصلح يل شأين كله ال إله إال أنت »‬
‫(‪)1‬‬

‫لعلك تصادف ساعة إجابة تسعد فيها سعادة ال تشقى بعدها‪ ،‬ولعلك‬
‫توافق نفحة من نفحات الكريم تصلح أمورك هبا‪ .‬فكم سعد يف هذه‬
‫الليلة أقوام؟! وكم هلل فيها من جزيل الفضل وواسع اإلنعام؟! وكم‬
‫أعتق فيها املرسفون من النار؟! حني أخلصوا لرهبم وأكثروا من التوبة‬
‫واالستغفار‪ ،‬وكم صفى فيها للصفوة من قلوب نرية وأرسار؟! وكم‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬هذا الدعاء ورد يف صحيح مسلم (‪ )2720‬إىل قوله‪( :‬واملوت راحة يل من كل رش) وما أورده‬
‫الشيخ بعده من دعاء إىل قوله‪( :‬وأصلح يل شأين كله ال إله إال أنت) فهو يف حديث آخر منفصل‬
‫عن هذا أخرجه أمحد (‪ )20430‬وأبو داود (‪ )5090‬والنسائي يف السنن (‪ )10412‬والبخاري يف‬
‫االدب املفرد(‪.)701‬‬

‫‪156‬‬
‫أغدق عىل قلوهبم من املعارف العالية فصاروا من خرية األبرار؟!‪.‬‬
‫اللهم وما قسمت يف هذه الليايل املباركة من خري وبر وفضل‬
‫وإحسان فاجعل لنا منه أوفر احلظ وأشمل االمتنان‪ ،‬وما قسمت فيها‬
‫من رش وبالء فارصفه عنا يف كل وقت وأوان‪ ،‬اللهم خذ بنواصينا إليك‪،‬‬
‫وأقبل بقلوبنا عليك‪ ،‬وال حترمنا خري ما عندك برش ما عندنا‪ ،‬يا أرحم‬
‫الرامحني(‪.)1‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الفواكه الشهية يف اخلطب املنربية (‪.)172 -1‬‬

‫‪157‬‬
158
‫الفهر�س‬
‫‪5‬‬ ‫الـمـقدمــة‬
‫‪9‬‬ ‫تـاج الليايل‬
‫‪10‬‬ ‫سيدة الليايل‬
‫‪12‬‬ ‫وأهيام أفضل‪ :‬ليلة القدر أو ليلة اإلرساء؟‬
‫الليلة املباركة فليكن لك من بركة هذه الليلة أوف��ر احلظ‬
‫‪15‬‬ ‫والنصيب‬
‫‪16‬‬ ‫الليلة املباركة املحروم من حرم بركة هذه الليلة‬
‫ليلة الرشف والفضل اكتسب القدر والرشف والفضل العظيم‬
‫‪22‬‬ ‫فـي ليلة القدر‬
‫‪23‬‬ ‫اصعد إىل قمة الرشف والفضل بإحياء ليلة القدر‬
‫‪26‬‬ ‫الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم‬
‫‪27‬‬ ‫الليلة التي تكتب فيها األقدار واألرزاق واآلجال‬
‫‪30‬‬ ‫ملاذا ُس ِّميت ليلة القدر هبذا االسم ؟‬
‫‪33‬‬ ‫ليلة نزول القرآن العظيم‬
‫‪34‬‬ ‫ليلة نزول القرآن العظيم‬

‫‪159‬‬
‫‪40‬‬ ‫املشوق إىل فضل ليلة القدر‬
‫‪41‬‬ ‫التشويق إىل ما يف ليلة القدر من اخلري العظيم‬
‫‪45‬‬ ‫فضل ليلة القدر املدهش للعقول‬
‫الفضل املدهش للعقول واملحفز للنفوس إلدراك ليلة القدر ‪46‬‬
‫‪62‬‬ ‫ليلة نزول املالئكة ومعهم جربيل ‪-‬عليه السالم‪-‬‬
‫املشهد العظيم ملن كان له قلب نزول املالئكة وجربيل ليلة القدر ‪63‬‬
‫‪68‬‬ ‫ليلة السالم‬
‫‪73‬‬ ‫ليلة املغفرة‬
‫هل البد من قيام كل الليل بالصالة حتى نحصل عىل مغفرة‬
‫‪75‬‬ ‫الذنوب؟‬
‫من رشط غفران الذنوب أن يكون القيام إيامنًا واحتسا ًبا‬
‫‪79‬‬ ‫فام املراد باإليامن واالحتساب؟‬
‫‪80‬‬ ‫هل تشمل مغفرة الذنوب الكبائر والصغائر؟‬
‫‪83‬‬ ‫مغفرة ما تأخر من الذنب‬
‫‪86‬‬ ‫كيف تكفر الذنوب املتأخرة؟‬
‫‪89‬‬ ‫أمارات ليلة القدر‬

‫‪160‬‬
‫‪90‬‬ ‫العالمات التي تعرف هبا ليلة القدر‬
‫‪95‬‬ ‫معرفة ليلة القدر عن طريق الرؤيا‬
‫‪97‬‬ ‫أصح العالمات الدالة عىل ليلة القدر‬
‫‪99‬‬ ‫ملاذا تكون الشمس ال شعاع هلا صبيحة ليلة القدر؟‬
‫ما الفائدة من معرفة هذه العالمة وهي ال تعرف إال بانقضاء‬
‫‪102‬‬ ‫الليلة؟‬
‫هل الثواب والفضل اخلاص بليلة القدر ال يناله إال من علم هبا‬
‫‪103‬‬ ‫وشعر هبا؟‬
‫‪106‬‬ ‫من علمها هل خيرب هبا أو يكتمها؟‬
‫‪111‬‬ ‫اطلب ليلة القدر يف العرش األواخر‬
‫‪112‬‬ ‫التمس ليلة القدر يف العرش األواخر من رمضان‬
‫‪120‬‬ ‫وقفة مع خالف العلامء يف تعيني ليلة القدر‬
‫‪122‬‬ ‫ليلة سبع وعرشين‬
‫‪126‬‬ ‫بدعة صالة القدر‬
‫إذا أردت أن تدرك فضل ليلة القدر فاحذر املخاصمة واملشاحنة ‪127‬‬
‫‪129‬‬ ‫االعتكاف من أقوى األسباب إلدراك ليلة القدر‬

‫‪161‬‬
‫‪132‬‬ ‫احلكمة من إخفاء ليلة القدر‬
‫‪134‬‬ ‫استحباب االغتسال والطيب ليلة القدر‬
‫‪138‬‬ ‫االحتفال بليلة القدر‬
‫‪140‬‬ ‫احلائض والنفساء يف ليلة القدر‬
‫‪144‬‬ ‫أفضل ما يطلبه العبد من ربه يف ليلة القدر‬
‫‪145‬‬ ‫أفضل ما يقال ليلة القدر‬
‫ِ‬
‫‪148‬‬ ‫ف َعنِّي‬ ‫ال َّل ُه َّم إِن ََّك َع ُف ٌّو حُت ُّ‬
‫ب ا ْل َع ْف َو َفا ْع ُ‬
‫‪153‬‬ ‫ملاذا نسأل اهلل العفو بعد االجتهاد يف األعامل؟‬
‫‪155‬‬ ‫إضاءة وختام‬
‫‪159‬‬ ‫الفهرس‬

‫‪162‬‬

You might also like