Professional Documents
Culture Documents
سؤال التراث في الفكر العربي المعاصر عند الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني
سؤال التراث في الفكر العربي المعاصر عند الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني
سمير عيسي
جامعة الجزائر2
ممخص :
إن سؤال التراث في الفكر العربي المعاصر سؤال مركزي ويحتل موقع
ّ
القمب في ىذا الفكر ،إذ تخمّق السؤال عبر ذلك الصدام الحارق مع الفكر
الغربي ،الذي فرض ىاتو العودة إلى التراث ،بل لقد ساىم في تأطير
حد ذاتو لم يأخذ ىذه
إن مصطمح التراث في ّ
ثم ّ
شكل ىاتو العودةّ ،
أن ىذا المفيوم الذي
الحمولة الداللية و المفاىيمية إال داخمو ،والمفارقة ّ
عصيا عمى التطويع وبقي مفيوما زئبقيا يخضع في
خمقو ىذا الفكر ،ظ ّل ّ
تحديد داللتو إلى رؤى متعددة ،تبعا لطبيعة السؤال عند كل باحث ،ومن
ىذا المنطمق جاءت ىذه الورقة البحثية لتبحث في سؤال التراث في الفكر
العربي المعاصر عند ثالث باحثين تحتل دراساتيم موقعا ذا بال في ىذا
162
لتقف عند، حسن حنفي والطيب تيزيني، وىم محمد عابد الجابري،الفكر
وتبعا،فكل باحث كان لو مفيومو لمتراث، منعرجات ىذا السؤال وطبيعتو
. ليذا المفيوم تتحدد طريقة العودة أو المنيج
Résume :
مقدمة:
تعد قضية التراث من القضايا التي أصبحت مثار جدل واسع بين النخب
الثقافية عمى اختالف توجياتيم المعرفية وىو ما تعكسو كثرة الندوات
والدراسات المنشورات التي تناولت التراث ،لكنو لم ُيتناول باعتباره قضية
واشكاال إال لدى القمة من الدارسين والباحثين وىم يمثمون استثناءات بالنظر
إلى الكم اليائل من الدراسات واألطروحات حول الموضوع ،ونذكر عمى سبيل
المثال ال الحصر :محمد عابد الجابري ،حسن حنفي ،الطيب تيزيني ،الذين
بحثوا في القضية التراثية انطالقا من البنيات األساسية المشكمة لمخطاب
التراثي بوجو عام؛ أي حاولوا أن يدرسوا الت ارث في كميتو.
إن سؤال التراث في أي ثقافة "ىو سؤال الصمة التي تربط حاضر الثقافة
ّ
والمجتمع بماضييا ،وال فرق أن تكون الصمة تمك المفكر فييا ،صمة واقعية
تاريخية ...أو صمة مفترضة متوىمة اصطناعية وىو الغالب عمى تفكير
أي مجتمع في ماضيو " 1ويعظم أمر ىذا السؤال ويتضخم أكثر في حالة
الثقافات المكتنزة بالتاريخ والمسكونة بيواجسو ،أي في حال المجتمعات
التاريخية كما يسمييا "عبد اإللو بمقزيز" تمك المجتمعات ذات الميراث
164
التاريخي الضخم والمتنوع ،كحال الثقافة العربية وما يسم ىذه المجتمعات ىو
الشعور باستم اررية الماضي وعدم االنقطاع ،لكن السؤال الذي يطرح ىنا:
لماذا يمتمك الماضي أو التراث كل ىذا السمطان الطاغي في حاضر العرب
االجتماعي والثقافي ؟
ومن أين يستمد كل ىاتو القوة التي تجعمو ينتقل من تاريخيتو ىناك
ليمارس حضو ار قويا في تاريخية الفرد العربي المعاصر أو القارئ المعاصر،
إذ نحن نتحدث عن عالقة الفكر العربي المعاصر بتراثو؟.
"فسؤال التراث ما كان ليظير فجأة عمى سطح الوعي العربي لو لم يجد من
يوقظو أو يوفر النبعاثو األسباب ولقد أيقظو اآلخر األوروبي ،بمدنيتو
()2
وثقافتو ،وأسئمتو التي اندفع الفكر العربي يجيب عنيا"
بينما اتّخذ الحافز الثالث طابعا دينيا ،ميمتو الدفاع عن اإلسالم وتراثو
الديني والثقافي والحضاري
ومن ىذا المنطمق يصبح التراث إشكالية في الفكر العربي المعاصر ،ىذا
الفكر الذي أوجد التراث أو تخمق التراث فيو كإشكالية في ثناياه وأعطافو ،لكن
المفارقة أنو لم يستطع أن يروض ىذا المخموق الذي أوجد.
ليصبح التراث بذلك إشكالية تصعب اإلحاطة بيا في الفكر العربي المعاصر
ما جعل الدارسين يحاولون وضع تصورات منيجية يكون اليدف من ورائيا
الوصول إلى اآلليات المؤسسة لو.
وىكذا تعددت الرؤى ،واختمفت الطرق من دارس آلخر حسب زاوية النظر
ونوع األسئمة التي يطرح كل باحث والغاية التي يروم الوصول إلييا.
وىذا ما حاول جابر عصفور طرحو من خالل ثالث زوايا وىي :ما
التراث؟ ،لماذا نق أر التراث؟ كيف نق أر التراث؟ "وىي أسئمة متكررة الطرح
()3
متغيرة اإلجابة متضمنة لمضرورة ،وان اختمف ترتيبيا في كل اتجاه نقدي"
إذن فجابر عصفور يحاول أن ينقل قضية التراث إلى مستويات أعمى لم يتم
التطرق إلييا ،فيو يعطي القضية بعدىا المنيجي الذي يساىم وال شك في
إجالء المشيد من خالل جعل ىذه األسئمة مرتبطة بعضيا ببعض ،وان
اختمف ترتيبيا ،ولعل افتراضو لوجوب وجود ىذه األسئمة في كل اتجاه نقدي
ىو من باب أنو يحاول أن يؤسس لقراءة منيجية لمتراث من جية ،وأنو ال
يتصور خمو أي اتجاه نقدي من طرح ىذه األسئمة التي تعد في نظره من
بديييات القراءة المنيجية الموضوعية.
وىو أمر ال يتوقف عند جابر عصفور فقط ،فمسألة تحديد اإلطار المفاىيمي
والتاريخي لمتراث قد كانت محط اىتمام الجابري أيضا ،فتحديد الموضوع
والتعرف عمى طبيعتو "خطوة ذات أىمية قصوى عندما يتعمق األمر بموضوع
كالتراث")4(.ألن التراث ذا خصوصية ونحتاج في التعامل معو إلى مراعاة
ىاتو الخصوصية ،فضال عمى أن تحديده كمفيوم ال يخضع لمكوناتو الخاصة
167
()5
وليذا كان والداخمية فقط ،بل "أيضا لموقف الناس منو ،وتصوراتيم عنو".
أول ما بدأ بو فصمو األول المعنون بـ" :ما التراث؟ وأي منيج؟" ىو الحديث
عن مفيوم التراث من الناحية المعجمية.
وقبل أن نباشر الحديث عن مفيوم التراث عند بعض المفكرين العرب الذين
نرى أنيم استطاعوا تقديم مقاربات جادة ومنيجية لمتراث جعمت دراساتيم
مصادر لمن أراد الكتابة عن قضية التراث وكيفية قراءتو ،ال بد أن نتناول
كممة التراث من الناحية المعجمية.
لفظ التراث في المغة العربية مأخوذ من مادة (و .ر .ث) وتجعمو المعاجم
القديمة مرادفا (لإلرث) ،و ِ
(الورث) ،و (الميراث) ،وىي مصادر تدل عندما
فرق بعض تطمق اسما عمى ما يرثو اإلنسان من والديو من مال وحسب ،وقد ّ
المغويين القدامى بين ِ
(الورث والميراث) عمى أساس أن الورث والميراث
بالح َسب.فاإلرث :األصل ،فيقال ىو في
خاصان بالمال أما (اإلرث) فخاص َ
()6
إرث صدق أي في أصل صدق ،واإلرث من الشيء البقية من أصمو.
168
أما لفظة التراث فيي أقل ىذه المصادر استعماال وتداوال عند العرب الذين
جمعت منيم المغة ،فقد جعميا ابن األعرابي كالورث واإلرث ،ولم يفرق بينيما
ث ،واإلرث ،و ِ
الوراث ،واألراث ،والتراث، الوْر ُ فعنده كل من ِ
ث ،و َ
الوْر ُ
()7
كل واحد.
ويمتمس المغويون تفسي ار لحرف التاء في لفظ تراث فيقول أن أصمو واو،
وذلك قول الجوىري.
وقد وردت كممة "تراث" في القرآن مرة واحدة في سياق قولو تعالىَ " :كالَّ َب ْل
الم ِ
ُّون عمَى طَع ِام ِ ون ِ
لمـا" سكين َوتَا ُكمُون التَُّر َ
اث أَ ْكال َ َ يم َوال تَ ُحض َ َ ال تُ ْك ِرُم َ َ
اليت َ
سورة الفجر اآلية .02-71
وقد فسر الزمخشري عبارة أكال لما أنيم كانوا يجمعون في أكميم بين
()8
نصيبيم من الميراث ونصيب غيرىم ،فالتراث ىنا ىو المال.
فالتعريف إذن يقدم بعض المعطيات حول الحمولة الداللية لكممة التراث في
القديم يمكن إجماليا فيما يمي :
يتضح أن كممة التراث في القديم لم تكن تحمل ىذا المدلول الثقافي -
والفكري الذي تحممو اآلن ،فمفيومو كما نتداولو اليوم إنما يجد إطاره المرجعي
داخل الفكر العربي المعاصر ومفاىيمو الخاصة.
169
ليس ىناك خصوصية مميزة ليذه الكممة عند العرب القدامى مما -
يوحي أن مفيوم التراث عندىم ال يتعين كقضية إشكالية؛ إذ لم تكن إشكالية
العالقة بين القديم والحديث بنفس الحدة التي تطرح بيا اليوم عمى مستوى
الثقافة العربية.
خمو ىذا المصطمح من أي رابط يربطو بالمجال المعرفي والثقافي -
ألنو كان يدور حول المال والحسب.
فما مفيوم التراث داخل الفكر العربي المعاصر؟
ولنقف عمى مفيوم التراث في ثقافتنا المعاصرة ارتأينا أن نقدم مجموعة مختمفة
من المفاىيم لثمة من المفكرين المشتغمين بالتراث ،كالجابري ،وحسن حنفي،
والطيب تيزيني ،وذلك كي نتبين سؤال التراث عند كل واحد منيم ،ونقف عمى
االختالف والتنوع في تحديد ىذا المفيوم الزئبقي الذي كمما تم االقتراب من
تحديد ماىيتو زاد االبتعاد عنو وتناسمت التساؤالت ،وكثرت االفتراضات
وتعددت ،وتبعا ليذا التعدد في المفيوم ،كان التعدد في جية المقاربة.
وانما اقتصارنا عمى ىؤالء الثالثة ألننا رأينا أن سؤال التراث عندىم يأخذ
طابعو المتميز من اختالف وجيات النظر في مفيوم التراث ومن ثم الكيفية
التي يقارب بيا التراث عندىم ،فدراساتيم مجيودات ذات قيمة عممية كبيرة
170
تعتبر مراجع لكثير من الدراسات في التراث وذلك لطابعيا الشمولي ،كونيا
اتجيت لمتراث كمشروع خصصت لو الجيد والوقت.
ىاتو الخصوصية لمفيوم التراث في الثقافة العربية التي ينطق بيا تعريف
الجابري تجعمو يتمايز عن المفيوم السائد لمكممة في الثقافة العربية القديمة من
جية ،وتجعمو أيضا متماي از عن مفيوم ىذه الكممة في الثقافة الغربية التي
نستورد منيا المصطمحات والمفاىيم الجديدة ،لسبب رئيس عند الجابري كون
التراث ينظر إليو في ثقافتنا العربية عمى أنو تمام ىذه الثقافة وكميتيا ،ىذه
النظرة التبجيمية لمتراث تأسست نتيجة النظرة اإليديولوجية إليو ،المبنية ىي
األخرى عمى عجز الثقافة العربية عمى تجاوز ماضييا أو تراثيا واحتوائو
معرفيا ،مثمما فعل الغرب مع تراثيم احتواء ثم تجاوزا ،فمضوا خطوات كبيرة
إلى األمام وتجاوز النقاش حول ىاتو القضية ،ولعل ىذا مايقصد إليو الجابري
171
بقولو ممفوفا في بطانة وجدانية إيديولوجيا ،فكممة "ممفوفا" في حد ذاتيا كممة
دالة في السياق ،حيث يغمف التراث وجدانيا وايديولوجيا ،وكأن قراءة التراث أو
النظر إليو في الثقافة العربية لم يزد عمى أنو قام بتغطية ىذا التراث مما جعمو
يختفي تحت وطأة ىذا الغالف ،وكان األصل أن ندخل معو في نقاش وحوار
ومسائالت تستفز فيو عناصره فتبعثيا عمى الحياة كخطوة أولى لالحتواء
فالتجاوز ،ال أن نقبر فيو عناصر الحياة ،وىذا ما فشمت فيو الثقافة العربية
حسب الجابري" ،فالتراث قد أصبح بالنسبة لموعي العربي المعاصر عنوانا
عمى حضور األب في االبن حضور لسمف في الخمف ،حضور الماضي في
()10
الحاضر".
172
ينتظم تحررنا الثقافي المعاصر في خط التطور التاريخي لمعقل والعقالنية
()11
. في تراثنا"
إن قراءة التراث عنده تحكميا مبدأ التجاوز المعرفي عبر احتواء التراث فيما
ّ
من جميع جياتو ،أي التممك المعرفي لممفيوم" ألن كل شكل من أشكال
المعرفة العممية بموضوع ما ،ىو شكل من أشكال تممكو ولن نمتمك ىذا
التراث إالّ بمعرفتو معرفة عممية ،وذلك بدرسو في سياقو التاريخي
واالجتماعي أي بدراسة منظومة عالقاتو ومشكالتو التي كونت نسيجو
()12
الفكري"
أي منطقو الداخمي ثم الزج بو في حركة الوعي المعاصر عبر فعل القراءة،
أن اليدف األساسي من العودة إلى التراث ىو الحاضر واالنتظام في
وذلك ّ
حركة الوعي المعاصر
إن قراءة الجابري لمتراثي يتنازعيا بعدان :التراث كسؤال إيديولوجي والتراث
ّ
كسؤال معرفي
حاول الجابري أن يقدم نظرية في قراءة التراث تقوم عمى أساس النظر في
بنياتو التأسيسية أي تشريح العقل العربي الذي أنتج ىذه األفكار ،ومن ثم فتح
الباحث مجال معرفي ميم جدا يتطمب نوعا مخصوصا من التفكير الشمولي
أن كل ظاىرة يتطمب وجودىا مجموعة من العناصر
الذي يؤمن بالبنية ،أي ّ
174
فإن الوقوف عمى
أن وجودىا يخضع ليذه العناصر ّ
تساىم في وجودىا ،وكما ّ
حقيقتيا ىو اآلخر يخضع ليا أيضا عبر تفكيكيا .
"فمشروع الجابري قام عمى تحميل نظم المعرفة في الثقافة العربية الوسيطة
ونقدىا أي نقد آليات المعرفة وطرائقيا وما قادت إليو من عوائق "( )14غير
أن ىذه الطريقة تستمزم تحقق مبدأ الموضوعية في القراءة التي ال تحقق إالّ
ّ
إذا نجحنا في فصل الذات عن الموضوع من جية ،وفصل الموضوع عن
الذات من جية أخرى خطوتان متالزمتان ال يمكن أن تقوم إحداىما في غياب
األخرى .
فالبد من خطوة أخرى فصل الموضوع عن الذات :الفصل الذي ّ ثم
ومن ّ
يسمح لمموضوع ىو اآلخر بأن يسترجع استقاللو وىويتو وتاريخيتو ،وال يتم لو
ذلك إالّ من خالل ثالث خطوات منيجية :بنيوية ،وتاريخية ،وايديولوجية .
175
تعني المعالجة البنيوية لمنص التراثي النظر إلى صاحب النص المدروس في
ظل كل الثوابت التي تتحكم فيو باعتباره كال ،أي يتعمق األمر بمحورة فكر
صاحب النص حول إشكالية واضحة.
-أما التحميل التاريخي :يتعمق أساسا بربط فكر صاحب النص بمجالو
التاريخي ،أي بكل األبعاد الثقافية واالجتماعية التي ساىمت في تكوينو من
أجل تحصيل فائدتين اثنتين :الفيم التاريخي لمفكر المدروس ،والتحقق من
المعالجة البنيوية وفيم اإلمكان التاريخي الذي يعني عمى الوقوف عمى
مسكوت النص.
لكن لنفيم بعمق المنيجية التي يقترحيا الجابري عمينا أن ننظر في الرؤية
ألن المنيج ال عمل لو ما لم يتمبس
التي تحكم منيجو في مقاربة التراثّ ،
برؤية معينة يخدم توجييا ويحقق ليا فاعمية الوجود ،وقد حدد ىو نفسو
منطمقاتو القرائية التي تقوم عمى:
()17
ينطمق الجابري من فكرة مؤداىا أن كل وحدة الفكر أو وحدة اإلشكالية
عصر معين يحتوي عمى فكر نظري أو وحدة متميزة من األفكار الكمية تنتظم
أن ىناك وحدة في
تحتيا كل االختالفات والفروق بين األفكار ،بمعنى ّ
176
اإلشكالية التي تنتظم تفكيرىم ويتحركون في إطارىا ،كأنو نوع من النسق
الكمي يحكم تفكير المجتمع.
18
ويقصد بيا الجابري "عمر اإلشكالية" الفترة التي تغطييا تاريخية الفكر
أن الجابري يخمع عمى الواقع
نفس اإلشكالية في تاريخ فكر معين ،معنى ّ
أن عالقة الفكر
أىمية كبيرة في إكساب الفكر مضمونو األيديولوجي ،لكنيا ّ
بالواقع عالقة معقدة نوعا ما وليست بالبساطة التي يفترضيا البعض .
ىذه ىي أىم معالم المنيج والرؤية التي تحكم تعامل الجابري مع النص
التراثي كما حددىا ىو نفسو ،وكما تتجمى في كتاباتو المتنوعة ،ويبقى أن
أن التراث كسؤال معرفي ظل يستقطب الجابري ويحوز اىتمامو
نشير إلى ّ
"فالتحدي األكبر في مواجية سؤال التراث يكمن بالذات في مواجية الوجو
المعرفي من ذلك السؤال ،إذ ىاىنا ميدان المنازلة الكبرى بين الباحثين في
()19
،استطاع أن يحوز الجابري عمى جميور عريض من الباحثين الموضوع"
بآرائو النظرية في تماسكيا وانسجاميا ،لكن وقع في ما تقع فيو ىذه الدراسات
التي تأخذ عمى عاتقيا البحث في الكميات والنظم المعرفية ما يجعميا معرضة
أكثر من أي مقاربة أخرى لمتناقض بين منطمقاتيا النظرية وتطبيقاتيا عمى
20
وقع فييا عد الباحث عبد اإللو بمقزيز عشرة أخطاء
أرض الميدان ،ولقد ّ
177
ألن طبيعة الورقة
الباحث ،ال يمكن بحال من األحوال التعرض إلييا ىاىناّ ،
البحثية تتعارض مع ذلك .
يعرف التراث عمى أنو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة
فيو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر ،فيو يركز
عمى عالقة التداخل بين التراث والواقع في الحضارة العربية ويبني تعريفو
عمى ضرورة أن يكون تركيزنا عمى العناصر التي تستحق البقاء وتقبل أن
تنتقل من الماضي إلى الحاضر "ألن التراث ليس قيمة في ذاتو إال بقدر ما
يعطيو من نظرية عممية في تفسير الواقع والعمل عمى تطويره ،فيو ليس
متحفا لألفكار نفتخر بيا وننظر إلييا بإعجاب ونقف أماميا في انبيار
وندعو العالم معنا لممشاىدة والسياحة الفكرية بل ىو نظرية لمعمل وموجو
لمسموك وذخيرة قومية يمكن اكتشافيا أو استغالليا أو استثمارىا من أجل
()21
إعادة بناء اإلنسان".
إذن فالتراث عنده ال ينظر إليو كأنو غاية في نفسو ،وانما وسيمة يتوسل بيا
لموصول إلى الغاية وىي التجديد والتطوير ،فيناك حمقة مفقودة في الحضارة
العربية البد من اكتشافيا ووضعيا في إطارىا الصحيح كي تسير الحضارة
إلى األمام سي ار طبيعيا تطوريا ،فاالحتواء من أجل التجاوز ركيزة أساسية
178
أيضا في تعريف حسن حنفي لمتراث ،وىو مبني عمى النظر إليو من الزاوية
النفعية خاصة وأن التراث مازال كقيمة حية في وجدان العصر يؤثَر فيو
وتصدر الكثير من السموكيات تبعا ليذا التأثير ،فاالنتقال من النظر إليو
كغاية إلى النظر إليو كوسيمة من شأنو أن يحقق فيما موضوعيا لمتراث
باعتبار أن التراث "ليس موجودا صوريا لو استقالل عن الواقع الذي نشأ
فيو وبصرف النظر عن الواقع الذي ييدف إلى تطويره ،بل ىو تراث يعبر
()22
عن الواقع الذي ىو جزء من مكوناتو".
179
ومن ىنا يأخذ تعريف حسن حنفي لمتراث شرعيتو وىو التعريف الذي يقول أن
"التراث ليس مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي ال
تتغير ،بل ىو مجموع تحققات ىذه النظرية في ظرف معين ،وفي موقف
تاريخي محدد وعند جماعة خاصة تضع رؤيتيا وتكون تصوراتيا
لمعالم"()24وكأننا ىنا أمام إشكالية عالقة الواقع بالفكر وضرورة أن يتكيف
الفكر مع الواقع أو إن شئنا ضرورة أن نكيف رؤيتنا لمتراث تبعا ليذه العالقة
بين الواقع والفكر ،وألجل ىذا يطرح حسن حنفي قضية تجديد التراث كضرورة
واقعية إلطالق طاقات مختزنة عند الجماىير بدال من وجود التراث كمصدر
لطاقة مختزنة ساكنة ،لذلك فيو يرفض االتجاه القائل بإحداث قطيعة معرفية
مع الماضي ،فربط الماضي بالحاضر ضرورة ممحة ترتبط بقضية التجانس
في الزمان وايجاد وحدة التاريخ المفتقدة عندنا ،ألن الحضارة العربية إلى اآلن
لم تستطع لغياب ىذا االنسجام وىاتو الوحدة أن تؤسس لمحداثة التي طالما
طمحت إلييا ،كما أن قضية التراث والتجديد ىي الكفيمة بإظيار البعد
التاريخي في وجداننا المعاصر ،واكتشاف جذورنا في القديم حتى نصل إلى
اإلجابة عمى سؤال محوري يتعمق بوجودنا التاريخي ،ففي أي مرحمة تاريخية
نحن نعيش؟
180
سؤال لو وجاىتو الخاصة ،فمشكمة الثقافة العربية إلى اآلن ىي تحديد ىذا
اإلطار الزمني التاريخي الذي نعيش فيو ،وال أدل عمى ذلك بأن قضية التراث
والتجديد تطرح لمنقاش وبحدة إلى اآلن ،في حين أن الثقافة الغربية بالمقابل
لما استطاعت أن تحدد وضعيا تجاه تراثيا نجحت في أن تؤسس لنفسيا
ّ
حداثتيا الخاصة.
بل ال يتوقف األمر عمى ذلك فقضية التراث تطرح قضية البحث عن
اليوية إجابة عن السؤال الثاني الذي طرحو حسن حنفي من نحن؟ "واذا كان
البحث عن اليوية يأتي عن طريق تحديد الصمة بين األنا واألخر فإن
عممية التراث والتجديد ىي الكفيمة بتحقيق ذلك ألنيا اكتشاف األنا
وتأصيميا وتحريرىا من سيطرة الثقافات الغازية ( )...وتساعد أيضا عمى
مواجية التحديات الحضارية والغزوات الثقافية التي نحن ضحية ليا في ىذا
القرن وتنقمنا من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخمق
()25
واالبتكار".
أو من مبدأ الضرورة إلى مبدأ الحرية عمى حسب جابر عصفور.
إذا فحسن حنفي يصر عمى المبدأ النفعي في التراث فقيمة التراث عنده نابعة
مما يقدمو من إضافات دالة لمحاضر ،لكن يطرح ىنا إشكال ماذا عن
181
مفاصل التراث التي قد ال تتجاوب مع قراءة معينة وتتجاوب مع أخرى إذا
يحتاج ىذا المبدأ إلى ضبط أكثر.
إن حسن حنفي ال يفتأ أن يشدد عمى رباط التواشج بين الحاضر الراىن
ّ
تكيف رؤيتو اإلجمالية إلى
موجية عنده ،وىي ّ
والتراث "،والفكرة عنده ّ
مسألة التراث ،وتدفعو دفعا إلى التمسك بو بوصفو كيانا قابال لتزويد
()26
. الحاضر بإجابات مطابقة لظروفو"
من أجل أن تحقق قضية التراث والتجديد فاعميتيا من منظور حسن حنفي
يجب أن نتجنب الوقوع في الخطأين الشائعين:
الخطأ األول الذي يتحدث عن العصر وكأنو يحتوي حمولو في ذاتو -
بمعزل عن الماضي متناسيا أن الواقع أكثر تعقيدا ألنو يقوم عمى الزمان
وبالتالي ال يمكن فيمو إلى داخل مسار التاريخ أي الوحدة الكمية.
الخطأ الثاني وىو الذي يستنبط الواقع من نظرية مسبقة" ،فالتراث -
والتجديد ليس المقصود منو التعامل مع معطيات ثقافية ،واإلصالح بينيا،
()27
ال فرض نظرية تجريدية بل المقصود منو إدراك الواقع بنظرية عممية"
معينة عمى الواقع ،فالواقع ال يستنبط من الفكر ،كما أن الفكر بدوره ال يأتي
من الواقع السطحي ،ومن ثم ففيم الواقع عند حسن حنفي ينطمق من االتفاق
182
حول "كون التراث ىو نظرية الواقع ،وأن التجديد ىو إعادة فيم التراث حتى
()28
يمكن رؤية الواقع ومكوناتو".
فإذا وصمنا إلى ىذه القناعة استطعنا أن نقدم قراءة جدية لمواقع ولمتراث
عمى حد سواء ،ال أن نقدم ما يسميو حسن حنفي محاوالت فكرية ،لكن
ألم يسقط حسن حنفي فريسة التناقض الصارخ ،حين يجعل التراث نظرية
الواقع وىو الذي يرفض إسقاط نظرية موروثة عمى الواقع" وليس ىذا
التناقض سوى من فعل نظرة تخمط بين أزمنة الفكر والمعرفة"( .)29ثم أال
يعد تعريفو لمتراث عمى أنو مجموعة التفاسير التي يعطييا أبناء كل جيل،
إلغاءا لوجوده التاريخي؟
الينات التي سقط فييا الرجل في مقاربتو لمتراث ،ومن ىنا
يبدو أنيا من ّ
نصل إلى أن مفيوم التراث عنده يتأطر داخل ىذه المحاور الثالث:
ربط الماضي بالحاضر إليجاد قضية التجانس في الزمان ووحدة -
التاريخ المفتقدة.
االنتقال من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخمق واالبتكار، -
أي من مبدأ الضرورة إلى مبدأ الحرية.
التراث ذات وموضوع ،ألنو مخزون نفسي عند الجميور ،ومن ىنا -
يقع التراث في ىذه االزدواجية أو الجدلية وتبادل المواقع ،ما يجعل مقاربة
183
التراث من الصعوبة بمكان نظير ىذه الخصوصية التي تجعل من الصعب
فصمو عنا لتفكيكو ونقده ،أي يصبح موضوعا خارج ذواتنا نمتمكو قبل أن
يمتمكنا.
يدور مشروع التراث والتجديد عند حسن حنفي عمى فكرتين مترابطتين ىما:
فكرة األصالة وفكرة إعادة البناء وىما فكرتان تأسيسيتان في المشروع وفي
ىذا ىو إذا مفيوم التراث عند حسن حنفي ،والذي يؤطر مشروعو ككل ،فما
184
سؤال التراث عند الطيب تيزيني:
إن الطيب تيزيني ىو اآلخر مفكر عربي كبير ال يمكن تجاوز إسياماتو
حول التراث كمفيوم وكمنيجية لمتعامل معو ،وذلك في مشروعو "من التراث
إلى الثورة رؤية جديدة لمفكر العربي المعاصر من العصر الجاىمي حتى
المرحمة المعاصرة" وىو المشروع الذي جعل ىدفو األول التنظير المنيجي
إلشكالية التراث من حيث المبدأ قبل الدخول في التحميل والنقد ألنو كان يرى
والمثقفين العرب عموما كما تعامل الخالة زوجة األب الغيورة السيئة أطفالو
بكثير من التعسف وذلك رغبة في إخضاعو سمبا أو إيجابا عمى نحو مباشر
()30
ومبتذل لمصالح وحاجات معينة"
والحاجات ،وانما يرفض النظر إليو فقط عبر ىذه األخيرة ،مما يؤدي إلى
185
التضحية بالعنصر المعرفي فيو والى اإلساءة إلى الوحدة الجدلية لمحقيقة
التراثية بعنصرييا المعرفي والنفعي ،وىو مبدأ أساس في المنيجية التي يدعو
إلييا الباحث في التعامل مع التراث ،بل وعمى أساسيا أسقط الطيب تيزيني
إذا فمفيوم التراث عنده ينبني عمى أساس مراعاة جانب الزمن ،التاريخ
في سياقيا التراثي الحقيقي ،وأي تغييب ليذه العناصر يقود إلى فقدان الدراسة
التي يسميا بكونيا ال تراثية ال تاريخية ،وأن تطبيقيا عمى التراث العربي
الفكري "أفقده عناصر أساسية من بنيتو كما جعل منو عمى أيدي المفكرين
()31
اجتماعي حضاري متماسك"
186
فالتركيز عمى الجزئيات في ىاتو المقاربات جعل التراث رىين النظرة
التجزيئية التسطيحية التي تفتقد لمنظرة الشمولية الدقيقة التي تحافظ عمى
التمايز بين عناصر التراث من جية وتخمق االنسجام بين عناصره من جية
وال يخفى أن مقاربة التراث عند الطيب تيزيني انطمقت من مواقع فكرية
ماركسية ىيمنت عمى خطابو الفكري وجعمتو ينتقد القراءات السابقة عميو من
نحوه ،األمر الذي جعمو يرى أن النفاذ إلى المنظومة النظرية والمنيجية
التراث القومي عموما في الحدود القصوى في العصر الراىن التي ألح طيب
تيزيني عمى وجوب مراعاتيا أو "أخذىا بعين االعتبار العميق تمك الحركة
()32
باعتبار أن الذاتية الداخمية لذلك التراث في سياقيا التراثي الحقيقي"
187
المبدأ الذي يجب أن يراعى حين البحث في التراث ىو الوصول لمحقيقة
يرتضيو الطيب تيزيني .أما فيما يخص معطيات ىاتو النظرية فيمكن إجماليا
إنسانية.
العمل عمى خمق مزيد من الوضوح المعمق حول البنية االجتماعية -
االيجابيات ،إذ عمى األقل كشف عن الدور الميم الذي تقوم بو العناصر
188
المادية في حركة المجتمع العربي وطبيعة التكوينات االجتماعية والصراع
المجتمعي الذي صنع حركة التاريخ لكن المشكمة كما يقول :جابر عصفور
()33
مفتقدة".
لمنظرية التراثية التي دعا إلييا وتتعمق أساسا بالشروط االجتماعية إلنتاج
التراث ومعرفتو لتندرج تحت اإليديولوجيا الماركسية ونظرية االنعكاس ،وىو ما
يتناسب مع الدعوة إلى التوحيد الجدلي بين الفكر والواقع لتحقيق الغاية
األساسية في فكرة النظرية التراثية "وىي الوصول إلى تقديم فيم عممي
()34
متماسك لمتراث العربي في شقو الفكري"
189
فيل وصل الطيب تيزيني إلى ىذه الغاية أم لم يصل؟ ىو سؤال ال يدخل
في دائرة اىتمامات البحث ألن الغرض األساسي ىو إعطاء فكرة عن مفيوم
و ازوية النظر ،وان كنا قد أسيبنا أحيانا في ضبط شرح خطوات المنيج عند
الجابري أو حسن حنفي أو الطيب تيزيني ،فذاك راجع ألن مفيوم التراث
يتحدد أكثر بعرض المنيج ،فباحث كالطيب تيزيني لم يعط تعريفا واضحا منذ
نتبين أن مفيوم التراث أو سؤال التراث يمثل قضية إشكالية في الفكر العربي
المعاصر.
190
إذا ىذه ىي الخطوط العامة التي كانت تؤطر سؤال التراث عند كل من
متميز
ّ الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني ،وتطبع مقاربتيم لو بطابع
يختمف عن المقاربات األخرى ،وتجعل سؤال التراث عندىم سؤال مركزيا في
المميزة ليذه المشاريع الفكرية الكبرى التي عادت إلى التراث ،و ّأنى ليا ذلك
ىم واحد
واألمر يحتاج إلى كتب ،ولكن ىاتو الورقة كان يوجييا منذ البداية ّ
ىو الوقوف عمى مفيوم التراث ،وعمى طبيعة تخمق السؤال عندىم.
191
اليوامش:
()1
عبد اإللو بمقزيز :نقد التراث ـ العرب والحداثة ـ مركز الوحدة العربية ،ط ،7
،0272ص .71
()2
المرجع نفسو ،ص .02
()3
جابر عصفور :قراءة التراث النقدي ،مؤسسة عيبال لمدراسات والنشر ،ط،7
،7117ص .02
()4
محمد عابد الجابري :التراث والحداثة ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،ط،7
،7117ص .07
()5
المرجع نفسو ،ص .07
()6
أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور االفريقي المصري :لسان
العرب ،مج ،0دار صادر ،بيروت( ،د.ط)( ،د.ت)،مادة (ورث) ،ص .770
()7
المصدر نفسو ،مج ،0ص .022
()8
محمد عابد الجابري :التراث والحداثة ،ص .00
()9
محمد عابد الجابري :التراث والحداثة ،ص .02
()10
محمد عابد الجابري :التراث والحداثة ،ص .02
192
()11
عبد اإللو بمقزيز :نقد التراث ،ص .202
()12
عمي البطل :إشكالية القديم والجديد في الوساطة بين المتنبي وخصومو ،مقال في
كتاب قراءة جديدة لتراثنا النقدي ،النادي األدبي جدة ،المجمد ،7112 ،0ص .282
()14
المرجع نفسو :ص .220
()17
المصدر نفسو ،ص .01
()18
المصدر نفسو ،ص .01
()20
ينظر المرجع نفسو ،من ص 252إلى ص .220
()21
حسن حنفي :التراث والتجديد ،المؤسسة الجامعية لمدراسات والنشر والتوزيع،
()22
حسن حنفي :التراث والتجديد ،ص .75
()23
عبد اإللو بمقزيز :نقد التراث ،ص .722
193
()24
المرجع نفسو ،ص .75
()25
حسن حنفي :التراث والتجديد ،ص .07
()27
حسن حنفي :التراث والتجديد ،ص .22
()28
المصدر نفسو ،ص .22
()29
عبد اإللو بمقزيز :نقد التراث ،ص.722
()30
الطيب تيزيني :من التراث إلى الثورة حول نظرية مقترحة في قضية التراث
()31
المرجع نفسو ،ص.1
()32
الطيب تيزيني :من التراث إلى الثورة ،ص.2
()33
جياد فاضل :أسئمة النقد حورات مع النقاد العرب ،الدار العربية لمكتاب ،ص .28
()34
المرجع نفسو ،ص.77
194