You are on page 1of 12

‫الملتقى الوطني حول‪ :‬صورة المرأة الجزائرية في الدراسات الوطنية واألجنبية‬

‫محور المشاركة‪ :‬المحور ‪( 05‬حضور المرأة في األدب الجزائري الحديث‬


‫والمعاصر)‬
‫عنوان المداخلة‪ :‬دور السرد الحواري في إبراز صورة المرأة الجزائرية في شعر‬
‫'محمد جربوعة'‪ :‬ديواني "ثم سكت!!" و"اللّوح" أنموذجا‬
‫‪The Role of Dialogic Narration in Highlighting the Image of Algerian Women in‬‬
‫‪the Poetry of 'Mohamed Jarboua': the collection of "Then He Silenced!!" “The‬‬
‫‪Tablet” as a Model.‬‬
‫إعداد‪:‬‬
‫ط‪.‬د‪ .‬حاتم أقطي‪ ،‬مخبر أبحاث في اللغة واألدب الجزائري‪ ،‬جامعة بسكرة‬
‫‪hatem.agti@univ-biskra.dz‬‬
‫ملخص‪:‬‬
‫استعان البحث بوظيفة الحوار في بناء شخصية المتكلم ليصف صورة المرأة‬
‫في شعر 'محمد جربوعة'‪ ،‬الذي اعتمد كل من الحوار الداخلي والخارجي في بناء‬
‫نماذجه الشعرية المدروسة في هذا البحث‪.‬‬
‫وقد اعتمد البحث على المنهج األسلوبي الذي يم ّكن من التدقيق في تفاصيل‬
‫النصوص الشعرية‪ ،‬ومن ثم استعان بالمنهج الوصفي ليشرح صورة المرأة‬
‫الجزائرية في شعر 'محمد جربوعة'‪.‬‬
‫وقد تعددت صورها المعنوية والوجدانية‪ ،‬فهي األم الحنون المسؤولة الواعية‪،‬‬
‫وهي نموذج عن البراءة والفطرة السليمة‪ ،‬وهي المربية التي تسمو بمبادئها اإلسالمية‬
‫فوق كل الحضارات‪ ،‬وهي الجمال الخام ال ُمهمل من قبل الرجل الجزائري‪.‬‬
‫الكلمات المفتاحية‪ :‬سرد حواري‪ ،‬لغة شعرية‪ ،‬صورة المرأة الجزائرية‪ ،‬شعر 'محمد‬
‫جربوعة'‪.‬‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪The research used the function of dialogue in building the character of the‬‬
‫‪speaker to describe the image of women in the poetry of 'Mohamed Jarboua', who‬‬
‫‪relied on both internal and external dialogue in constructing his poetic models, which‬‬
‫‪studied in this research.‬‬
‫‪The research relied on the stylistic approach, which enables scrutinizing the‬‬
‫‪details of poetic texts. It also used the descriptive approach to explain the image of the‬‬
‫‪Algerian woman in the poetry of 'Mohamed Jarboua'.‬‬
‫‪There are many moral and emotional images of the Algerian woman: She is the‬‬
‫‪caring, responsible, and conscious mother. She is a model of innocence and common‬‬
‫‪sense. She is the educator whose Islamic principles transcend all civilizations. She is‬‬
‫‪the raw beauty that neglected by the Algerian man.‬‬
‫‪Keywords: Dialogical narrative, poetic language, image of Algerian women, poetry of‬‬
‫‪'Mohamed Jarboua'.‬‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يزخر الشعر الجزائري المعاصر بقصائده المتنوعة في جميع الموضوعات‪،‬‬
‫وإن اختلفت أبنيتها وصورها الفنية‪ ،‬فكان لشخصية المرأة حضور مميز في النشاط‬
‫‪1‬‬
‫الشعري الجزائري‪ ،‬حيث تضافرت األعمال الشعرية لمختلف الشعراء الجزائريين‬
‫في رسم صورة المرأة الجزائرية من النواحي النفسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والدينية‪،‬‬
‫والسياسية‪ ،‬والفكرية‪...‬الخ‪ ،‬فكان حضورها صورة ورمزا وآلية للوصول إلى مرامي‬
‫الشاعر ووصف مكنوناته‪.‬‬
‫يمكن للغة الشعرية من توظيف تقنيات متنوعة في تشكيل صورة المرأة‪ ،‬ولعل‬
‫لالستعانة بالسرد دورا في إكمال ما اختزلته اآلليات الشعرية المختلفة‪ ،‬أو ما عجزت‬
‫عنه‪ ،‬إذ تتجلى وظيفة السرد الحواري في وصف الشخصية ومواقفها وأحوالها‪ ،‬فكان‬
‫لها أهمية في إبراز شخصية المرأة الجزائرية وصورها في الشعر‪.‬‬
‫وقد وجدنا في شعر 'محمد جربوعة' بروز للمرأة الجزائرية‪ ،‬على الرغم من‬
‫أنه شاعر ال تهمه حدود الدول الجغرافية‪ ،‬بل يتبنى قضايا أمته اإلسالمية والعربية‬
‫في أي بقعة من العالم ُوجدوا‪.‬‬
‫لذلك نحاول من خالل هذا البحث اإلجابة على اإلشكالية اآلتية‪:‬‬
‫كيف أسهم السرد الحواري في إبراز صورة المرأة الجزائرية في شعر 'محمد‬
‫جربوعة'؟‬
‫وقد اعتمد البحث المنهج األسلوبي من خالل التدقيق في النصوص الشعرية‪،‬‬
‫ومن ثم استعان بالمنهج الوصفي لشرح وإيضاح تفاصيل صورة المرأة الجزائرية‪،‬‬
‫حيث تم التركيز على نماذج من ديواني "اللّوح"‪ ،‬و"ثم سكت!!" لصاحبها "محمد‬
‫جربوعة"‪.‬‬
‫‪ .1‬مفهوم الحوار‪:‬‬
‫إن اللغة الحكائية أو القصصية على ثالثة أشكال‪ :‬لغة السرد‪ ،‬لغة الحوار‪،‬‬
‫واألخيرة هي لغة المناجاة أو ما يسمى بالمنولوج‪ ،1‬وقد اعتمد الشعر ذات األنماط‬
‫اللغوية في بناءه الدرامي‪ ،‬إذ يعد السرد الحواري أحد أركان اللغة القصصية‪.‬‬
‫ويشير الحوار إلى "تبادل الكالم بين اثنين أو أكثر‪ ،‬وهو نمط تواصلي‪ ،‬حيث‬
‫يتبادل ويتعاقب األشخاص على اإلرسال والتلقي"‪ 2،‬وغرض الحوار األدبي ليس أن‬
‫يحكي المحادثة حكاية طبيعية‪ ،‬بل أن يقدم في ثوب المحادثة ما ال يوجد في المحادثة‪،‬‬
‫فيكون مسليا‪ ،‬مقتصدا‪ ،‬بينا‪ 3،‬كما يتسم الحوار في الشعر بخاصية االختزال والكثافة‬
‫وتعدد الدالالت والجماليات التي ال يمكن أن تبرز بدونه‪ 4،‬حيث ال "مكان للكلمة‬
‫الزائدة والمعنى المكرر‪ ،‬ألن كل كلمة لها حيز مرقوم ووقت معلوم"‪ 5،‬رغم أن من‬
‫الباحثين من يرى أن الحوار ال يمكن أن يكون جزء من اللغة القصصية في الشعر إال‬
‫‪6‬‬
‫إذا اقترن بحدث معين‪.‬‬
‫وينقسم الحوار إلى داخلي (المنولوج‪ ،‬المنفرد) وخارجي (الديالوج‪ ،‬المزدوج)‪،‬‬
‫حيث يدور الحوار الداخلي بين الشخصية ونفسها أو األصحاب الوهميين واألشياء‬
‫غير الناطقة وسواها‪ ،‬بينما ينقسم الحوار الخارجي إلى حوار مباشر وغير مباشر‪،‬‬
‫فيدور الحوار الخارجي المباشر بين الشخصيات‪ ،‬فيكون كالم موجه مباشرة إلى‬
‫متلق مباشر‪ ،‬ويتبادالن الكالم بينهما‪ 7،‬كما يدور الحوار الخارجي بين شخصيتين أو‬
‫أكثر في إطار المشهد داخل النص الشعري‪ ،‬ويطلق عليه الحوار التناوبي‪ ،‬حيث‬
‫يقوم على تبادل األدوار في اإلرسال والتلقي‪ 8،‬وهو يعتمد على صيغتين إما النقل‬

‫‪2‬‬
‫غير المباشر‪ ،‬أين تضغط األحداث ويختصر الزمن ويكون المنقول على درجة من‬
‫االنتقائية‪ ،‬أو النقل المباشر‪ ،‬حيث يتم استدعاء حوار جرى في الماضي محافظا على‬
‫‪9‬‬
‫حرفيته وصيغته الزمنية‪.‬‬
‫ويمارس الحوار وظيفتين أساسيتين هما‪ :‬بناء الحدث (من خالل دفع الحركة‬
‫القصصية‪ ،‬واإلسهام في بناء الحكاية بالتمهيد ألحداثها أو باالرتداد إلى ما مضى‬
‫منها)‪ 10،‬وبناء الشخصية‪ ،‬حيث تنقسم هذه األخيرة إلى ثالثة أنواع هي‪ :‬بناء‬
‫شخصية المتكلم‪ ،‬والمخاطب‪ ،‬والغائب‪ 11،‬كما يمارس الحوار وظائف أخرى‪ ،‬فهو‬
‫يسهم في بناء القصيدة وتالحم أجزائها‪ ،‬ويزيد من تماسك البناء الشعري‪ 12،‬ويساعد‬
‫‪13‬‬
‫على إيضاح أبعاد الموقف‪ ،‬وانطباع صورته في نفس المتلقي‪.‬‬
‫ويعتمد هذا البحث على وظيفة الحوار في بناء شخصية المتكلم‪ ،‬ليتمكن من‬
‫إبراز الصورة المعنوية للمرأة الجزائرية في شعر 'محمد جربوعة'‪ ،‬إذ تعنى هذه‬
‫الوظيفة في "الكشف عن األحاسيس الداخلية للشخصية ورفع الحجب عن‬
‫عواطفها‪ ،‬اتجاه ما تمر به من حوادث أو اتجاه الشخصيات األخرى"‪ 14،‬كما‬
‫‪15‬‬
‫للحوار دور في اإليهام بالواقع والوصف واإلخبار‪ ،‬ورسم مالمح الشخصيات‪.‬‬
‫‪ .2‬صورة المرأة في الشعر العربي‪:‬‬
‫منح الشعر تركيز كبيرا على المرأة منذ القدم‪ ،‬فقدّمها في صور عديدة‬
‫ومتنوعة‪ ،‬انقسمت إلى ثالثة أنماط هي‪ :‬الصورة المادية‪ ،‬والصورة المعنوية‪،‬‬
‫والصورة العاطفية‪ .‬ولم يبتعد كثيرا الشعر العربي الحديث والمعاصر عن تلك‬
‫الصورة رغم تركيزه على النمطين الثاني والثالث بشكل أكبر‪.‬‬
‫وقد كانت أولى الصور حضورا للمرأة هي الصورة المادية‪ ،‬حيث تغنى‬
‫الشعراء القدامى بجمال الجسد األنثوي وسحره‪ ،‬بل وصل األمر بهم إلى أن س ّموا كل‬
‫عضو من أعضاء المرأة بأحد الحروف األبجدية في اللغة العربية؛ إذ "شبهوا‬
‫الحاجب بالنون‪ ،‬والعين بالعين‪ ،‬والصدغ بالواو‪ ،‬والفم بالميم‪ ،‬والصاد والثنايا‬
‫سين‪ ،‬والمضفورة بالشْين"‪ 16،‬فلم يفكر الشاعر العربي في الجمال‪ ،‬وإنما انفعل‬ ‫بال ْ‬
‫بصورة خاصة مع ما استقبل بالعين فكان رائقا‪ ،‬أو بالفم فكان لذيذا‪ ،‬أو باليد فكان‬
‫ناعما‪ 17،‬وما كان في الشعر العربي القديم تركيزا على وصف جسد المرأة؛ إال ليبرز‬
‫الرجل العربي ملهاته‪ ،‬ويفاخر أمام رفقاء باديته بقدرته على تصبي قلوب النساء‪ ،‬فلم‬
‫يتكلم الشاعر العربي قديما عن ما وراء جسد المرأة من تلك المعاني العميقة السامية‪،‬‬
‫ولم يحس بما وراء الجسد من روح جميلة ساحرة تحمل بين جانبيها سعادة الحب‬
‫‪18‬‬
‫ومعنى األمومة‪.‬‬
‫لكن دراسات كثيرة أثبتت أن بالرغم من تركيز شعراء العرب القدامى على‬
‫جسد المرأة‪ ،‬إال أن للصورة المعنوية حضورها‪ ،‬حيث مدحوا صفات الحياء والطهر‬
‫والعفة لدى الفتاة العربية‪ 19،‬كما وصفوا وفاءها وإخالصها لزوجها‪ 20،‬وغيرها من‬
‫الصور المعنوية‪.‬‬
‫كذلك افتخر الشعراء العرب القدامى بنماذج بارزة من النساء الالئي اعتلين‬
‫الملك وكان لهن دورا اجتماعيا وسياسيا بارز مثل الملكة بلقيس‪ ،21‬وملكة تدمر‬
‫‪22‬‬
‫زنوبيا التي بلغت كم العزة درجة ضرب بها المثل‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫لقد ظل تأثير المرأة في وعي الشعراء في صدر اإلسالم قوياَ‪ ،‬ولم يتخلص‬
‫الشعراء من ذلك التأثير‪،‬‬
‫فالمقدمة الغزلية ظلت تتصدر القصائد الطوال في مدح الرسول صلى هللا عليه‬
‫متيم‬ ‫وسلم‪ ،‬مثل مقدمة المية كعب بن زهير (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول‬
‫إثرها لم ي ْفد مكبول)‪ 23،‬ولم نعرف أن الرسول نهى شعراءه عن تلك المقدمات‬
‫الغزلية وإنما نهى الشعراء عن الشعر الذي ينافي الخلق والدين‪.‬‬
‫ولم تكن المرأة في قصائد الحداثة "رمزا لل ُمتعة‪ ،‬أو ملهاة يُبتلى بها الرجل‪ ،‬بل‬
‫كانت رمزا بك ّل ما هو جليل ومقدّس‪ ،‬فهي رمز لألم أو األخت حينا‪ ،‬ولألرض‬
‫والثورة حينا آخر‪ ،‬وهي حينا ثالثا بحث عن الذات المفقودة أو المستترة وهي من قبل‬
‫فإن الشاعر لم يتّكئ على‬ ‫هذا وذاك رمز للخصوبة والوالدة ال ُمتجدّدة ومن هنا ّ‬
‫جسدها‪ ،‬أو يسبح في أحالمه الوردية حيالها‪ ،‬وإنما اتّخذ منها ذاتا أخرى تتصل بأكثر‬
‫من وشيجة بذاته ال ُمبدعة فمنحها أفضل ما يستطيع من اإلجالل‪ ،‬واإلكبار‪ ،‬وكان‬
‫‪24‬‬
‫طيفها األثيري ماثال أمام عينيه ومقيما في وجدانه"‪.‬‬
‫وقد تكلم الشعر العربي الحديث والمعاصر عن حرية المرأة تماشيا مع الحركة‬
‫التحرر العربية‪ ،‬إذ منح الشاعر "نزار قباني" النصيب الوافر من شعره في الحديث‬
‫‪25‬‬
‫عن المرأة‪ ،‬فدعا من خالله إلى تحرر المرأة من ضعفها ومن ديكتاتورية الذكور‪،‬‬
‫فكانت المرأة بالنسبة له قضية ورسالة‪ ،‬وهي الوطن والحرية والديمقراطية‬
‫والسياسة‪26،‬كما اتخذ منها الشاعر "محمود درويش" آلية للحديث عن الوطن‪،‬‬
‫فامتزجت تجاربه الفنية بنفس عاطفي‪ ،‬مولدة رؤية حية للقصيدة‪.‬‬
‫وظف الشعر العربي الحديث والمعاصر المرأة كتقنية شعرية‪ ،‬فأضحت‬ ‫كما ّ‬
‫موضوع قائم بذاته في ظل حركة الحداثة الشعرية‪ ،‬وصارت أحد مستويات القصيدة‪،‬‬
‫وارتبطت بكل موضوعاتها‪ ،‬بل أصبح الشاعر يستخدمها أداة للتعبير عن مواقفه‬
‫‪27‬‬
‫الشعرية‪ ،‬وبناء قصيدته بناء عضويا متكامال‪.‬‬
‫وما يه ّمنا في هذا البحث هو تقصي الصور المتنوعة للمرأة الجزائرية في شعر‬
‫"محمد جربوعة"‪ ،‬الذي نادرا مع منح للمرأة الجزائرية خصوصية في شعره‪ ،‬بل‬
‫كان يتعامل معها كعربية ومسلمة‪ .‬وقد تم اختيار بعض النماذج الشعرية التي وردت‬
‫فيها صور المرأة الجزائرية بشكل خاص‪.‬‬
‫‪ .3‬صورة المرأة الجزائرية من خالل السرد الحواري في شعر 'محمد جربوعة'‬
‫يعد الحوار أحد أشكال البناء الدرامي للقصيدة‪ ،‬يرقى بها من خيال اللّحن الذاتي‬
‫إلى واقع التجربة في شتى ميادين الحياة‪ ،‬فيجسد "الحوار الخارجي حركة الواقع‬
‫‪28‬‬
‫اإلنساني‪ ،‬المادي والذهني تجسيدا حيا"‪.‬‬
‫وقد اعتمده 'محمد جربوعة' لوصف عالقة األم الجزائرية بابنها‪ ،‬حيث ورد‬
‫حوار خارجي بين الشاعر ووالدته‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫تقول والدتي –هللا يحفظها‪-‬‬
‫((ضيعت عمرك في األشعار يا كبدي‬
‫أال ترى الشيب في المرآة؟)) قلت‪ :‬بلى‬
‫قالتْ ‪(( :‬وعيناك بعد الموج كالزبد‬

‫‪4‬‬
‫أرضى عليك‪ ،‬فقلّ ْل من كتابته‪..‬‬
‫فتلك أمنيتي‪ ..‬ال أن تبوس يدي‬
‫في الفجر أدعو عسى الحنّان يقبلني‬
‫‪29‬‬
‫هللا يهديك‪ ..‬قل (آمين)‪ ..‬يا ولدي‬
‫مارس الحوار الخارجي في المقطع الشعري السابق وظيفته في بناء شخصية‬
‫المتكلم (األم الجزائرية)‪ ،‬حيث تجلى وصف معنوي لها من خالل والدة الشاعر وهي‬
‫تحاور ابنها‪ ،‬فعكست صورة كل أم في هذا العالم تخشى على ابنها من كل خطر‬
‫محتمل‪ ،‬فال تعترف األم الجزائرية بالحرية المطلقة ألوالدها الذين يبقون صغار في‬
‫نظرها مهما كبر سنهم ومقامهم‪ ،‬كما نلمس صورة الحنان واالحترام الذي تلتزم به‬
‫األم الجزائرية (يا كبدي‪ ،‬أرضى عليك)‪ ،‬لكنه احترام لم يقلل من حيز صراحتها‬
‫المطلقة التي تجلت في لغة شعرية متنوعة‪.‬‬
‫وقد اعتمد الشاعر أحد صيغ الحوار المتمثلة في أسلوب االستفهام الذي "يملك‬
‫قدرة جمالية على إدخال المتلقي"‪ 30،‬حيث استخدمته األم (أال ترى الشيب في‬
‫المرآة) كأداة لتبرير وتقريب موقفها اتجاه كتابة الشعر‪ ،‬وهي تدري أنها تحاور مثقف‬
‫ال يقتنع إال بالحجة والبرهان‪ ،‬وتمكنت من خالل هذا االستفهام من لفت انتباه وتركيز‬
‫ابنها‪ ،‬فأردفت في كالمها صورة تشبيهية (عيناك بعد الموج كالزبد) تشرح من‬
‫خاللها نتائج إدمان الكتابة على جسد وروح الشاعر‪ ،‬ويتصاعد حدة رفضها للوضع‬
‫برها باالبتعاد عن الشعر (ال أن تبوس يدي)‪ ،‬وهي مراوغة تستخدمها‬ ‫حينما أقرنت ّ‬
‫كل أم جزائرية حينما ال تجد حل في إقناع االبن‪.‬‬
‫وقد كان ألسلوب التقديم والتأخير دور في منح االحترام أولوية في الحوار بين‬
‫األم واالبن‪ ،‬وهو قيمة أخالقية تربي به كل أم جزائرية ملتزمة أبناءها‪ ،‬فأصل الجمل‬
‫(فقلل من كتابته أرضى عليك فتلك أمنيتي ال أن تبوس يدي)‪ ،‬و(أدعو في الفجر‬
‫عسى يقبلني الحنان‪ ،‬يهديك هللا يا ولدى‪ ،‬قل آمين)‪.‬‬
‫كما اُستدعيت األلفاظ و العبارات التي تم تقديمها من معجم ديني (هللا يحفظها‪،‬‬
‫أرضى عليك‪ ،‬قل آمين‪ ،‬أدعو في الفجر) وهو تسويق لذلك االلتزام بالدين اإلسالمي‪،‬‬
‫الذي تنقله األم الجزائرية‪ ،‬فتجعل من حوارها وأفعالها قدوة ألبنائها ودعوة لهم‬
‫بالثبات والتمسك بحبل هللا‪.‬‬
‫يسرح الشاعر للحظات قبل أن يكمل حواره مع والدته‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫أ ّمي البسيطة‪ ..‬روح الروح‪ ..‬جوهرتي‬
‫قررت لم أعد‬ ‫ُّ‬
‫تظن أني إذا ّ‬
‫ال أستطيع بتاتا أن أخبّرها‬
‫مر في جسدي‬ ‫جرح ّ‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫بأن مليون‬
‫ولست أجرؤ طبعا أن أقول لها‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫دون القصيدة ال أرتاح في بلدي‬
‫إن كل حوار يقتضي قول ورد قول‪ ،‬لكن انزاح الحوار بين األم وابنها عن هذه‬
‫القاعدة‪ ،‬فلم يكن جواب الشاعر سوى كلمات قد ال تتجاوز حرفين في تركيبها (بلى)‪،‬‬
‫وهو ثمرة التربية اإلسالمية الصحيحة؛ لذلك فقد استعان الشاعر بالحور الداخلي‬

‫‪5‬‬
‫ليعبّر عن موقفه من كالم الوالدة‪ ،‬فأنشأ بذلك حديث فردي صامت –وهو "حديث‬
‫تناجي به الشخصية نفسها دون تدخل اآلخر ودون أن يكون هناك سامع‪ ،‬ويجرى‬
‫بصورة مناجاة متحررة من القيود الخارجية"‪ 32،‬وقد أفادنا هذا الصوت الباطني في‬
‫رسم وترسيخ المالمح المعنوية والوجدانية لألم الجزائرية (أمي بسيطة‪ ،‬روح‬
‫الروح‪ ،‬جوهرتي‪ ،‬ال أستطيع بتاتا أن أخبرها‪ ،‬ال أجرؤ طبعا أن أقول لها)‪.‬‬
‫وتعكس عبارة (أمي البسيطة) نظرة المثقف الواعي بأحوال بلده لبراءة األمهات‬
‫الجزائريات‪ ،‬لكنها بساطة لم تكن وليدة جهلهن‪ ،‬بل هو تغليب لعاطفة األمومة حينا‪،‬‬
‫ووفاء وإخالص ألجدادنا الشهداء أحيانا أخرى‪.‬‬
‫ل م يستطع الشاعر أن يختم حواره مع والدته بصوته الباطني‪ ،‬بل استدعى‬
‫المتلقي ليساعده على التعبير عن خلجاته العاطفية‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫إذا التقيت بأمي في مناسبة‬
‫فحدّثيها بأسراري ومعتقدي‬
‫ستفهم األمر‪ ..‬كانت في طفولتنا‬
‫‪33‬‬
‫أميرة الحسن‪ ..‬الزالتْ ‪ ..‬إلى األبد‬
‫لع ّل البيت األول من المقطع الشعري يحمل وجه سلبي للمبالغة في اقتضاب‬
‫حوار االبن مع أمه‪ ،‬فكانت الصراحة من جهة واحدة‪ ،‬ولم تعد تستطيع األم الجزائرية‬
‫من خالل بنائها لحاجز متين من الحياء واالحترام أن تصل إلى أفكار وأسرار‬
‫أبناءها‪ ،‬الذين استعانوا باآلخر بحثا عن المفقود‪ ،‬فصارت قيمهم وأفكارهم تعتمد على‬
‫صالح هذا اآلخر صديقا كان‪ ،‬أو حبيبة‪ ،‬أو زوجة‪...‬الخ‪ ،‬لكن رغم هذا الوضع‪ ،‬فإن‬
‫الحذف الذي ورد في آخر القصيدة‪ ،‬كان وصفا مضمرا وتعدادا لمحاسن الوالدة‬
‫السابقة واآلنية‪ ،‬فما وجد من كالم يفيها حقها عبر المدح والثناء والحب الذي يكنه‬
‫لها‪ ،‬لكن حبه للقصيدة كبير أيضا وال يمكنه هجرها‪ .‬وربما يكون لهذا الحذف رغبة‬
‫في إرضائها‪ ،‬وهو على يقين من تفهمها‪ ،‬لذا يمنحها فسحة من الزمن الكفيل بعودتها‬
‫إليه‪ ،‬ورغم خصوصية األم الجزائرية بتعامالتها وقناعاتها تظل عالقة الحب‬
‫واالرتباط بين األم وابنها فوق كل القراءات النفسية واالجتماعية واألدبية‪.‬‬
‫ال ينتهي المغزى من الحوار بين طرفين عند مرمى موضوع الجدل بينهما‪ ،‬بل‬
‫يتقمص دورا يتعدى مغزاه إلى قضايا الواقع‪ ،‬ويرتبط هذا الواقع باألنظمة المعرفية‬
‫للمتلقي‪ ،‬لكن عادة ما تتحد أنظمة المتلقي وكاتب الدور‪ ،‬فال يكشف التأويل إال‬
‫حقيقة واحدة‪ 34،‬وهذا ما نستشفه في الحوار الذي قدّمه الشاعر في قصيدة "إيفا" بين‬
‫جدة الفالح في إحدى بوادي األرياف الجزائرية مع فتاة تدعى إيفا قادمة من بالد‬
‫الغرب (فرنسا)‪.‬‬
‫فاتخذت القصيدة منحى دراميا سياسيا‪ ،‬عالجه الحوار بين امرأة جزائرية تمثل‬
‫التربية الشرقية اإلسالمية‪ ،‬وفتاة من الغرب لم تجد السكينة والحقيقة إال عند المرأة‬
‫الجزائرية المسلمة‪ ،‬فيقول الشاعر‪:‬‬
‫علّمتها جدّة الفالح أسماء نباتات المراعي‪:‬‬
‫"زيّني كفّك بالحناء يا بنتي‪..‬‬
‫‪35‬‬
‫ورنّي بالخالخلْ"‪..‬‬

‫‪6‬‬
‫تجمع البنية النصية بين الوصف والحوار‪ ،‬لتظهر نقاء الجدة الفالحة (وهي‬
‫نموذج عن المرأة الجزائرية البسيطة) وعفويتها وهي تقدم النصيحة بكل أمانة‪،‬‬
‫حرصا على تلقين الفتاة إيفا معالم الطبيعة البسيطة‪.‬‬
‫ويبدو التآلف بين الطرفين في هذا الحوار (الشرق والغرب)‪ ،‬العجوز‬
‫الجزائرية التي تمثل الفطرة والطبيعة العذراء‪ ،‬والفتاة التي تحمل مشاعر الضيق‬
‫والكآبة وتبحث عن خالص من ضياعها المستمر‪.‬‬
‫لقد قدّم المقطع السابق صورة عن المرأة الجزائرية البريئة التي تعيش بفطرتها‬
‫اإلسالمية المكتسبة من تربية أجدادها‪ ،‬ال من قراءات الكتب وال ارتداد الجامعات‪،‬‬
‫فهن فئة من النساء الجزائريات الالئي كان لهن دور في الحفاظ على مبادئ التربية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فلم تتمكن جهود العلمانية زعزعتها مدة قرن ونصف من المحاوالت‪.‬‬
‫وتواصل الجدة نصحها‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫"وإذا حدثت يا إيفا‬
‫فقولي الصدق في كل الكال ْم‬
‫يغضب هللا إذا نحن كذبنا‬
‫نبي اله في يوم الزحا ْم‬ ‫ويجافينا ّ‬
‫‪36‬‬
‫فلتقولي‪ :‬فعليه هللا صلى والسالم"‪..‬‬
‫فتتكلم الفطرة السليمة على الصدق بوصفه أساس الطهر والبراءة‪ ،‬محذرة من‬
‫قبح الزور واإلفك‪ ،‬مرهبة من عذاب اليوم اآلخر‪ ،‬مشيرة إلى وجوب الصالة على‬
‫النبي الصادق الشفيع األمي‪.‬‬
‫ونتفاجئ بجواب الفتاة إيفا المختصر الحامل لمعنى االقتناع والتسليم‪:‬‬
‫قالت البنت‪" :‬أقول الصدق‪..‬‬
‫أهوى‪)...( ..‬‬
‫‪37‬‬
‫إنني أهواه‪"...‬‬
‫يتجلى في اإلجابة استعداد الفتاة لسماع ما قيل‪ ،‬وكأنها كانت تخفي شيئا في‬
‫صدرها‪ ،‬وما قدومها من بعيد إال تلبية لنداء قلبها‪ .‬وتترك عالمات الحذف فراغا‬
‫يجعلنا نرتاب في أمر الحبيب الذي تقصده الفتاة‪.‬‬
‫وكان في هذا الرد اعترافا عن قناعة للغرب ولفرنسا على وجه التحديد عن‬
‫صحة وقوة المبادئ اإلسالمية‪ ،‬فكان للمرأة الجزائرية دورها البارز في تسويق‬
‫سمعة طيبة لإلسالم‪.‬‬
‫بينما تقاطعها الفالحة فال تترك لها مجاال لتخرج ضيق صدرها‪ ،‬لكنها تركتها‬
‫تفكر في نصائحها‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫"يا إيفا تعالي نحلب الشاة‬
‫دعينا يا (فتاة الحب) من هذا‬
‫فنحن اآلن في شهر الصيا ْم"‬
‫"يغضب هللا من الفالح‬
‫يصطاد قبيل الصيف يا بنتي الحما ْم‬
‫العش؟‬
‫ّ‬ ‫من لبيض‬

‫‪7‬‬
‫لألفراخ في العش يتامى‪..‬‬
‫وبال أي طعا ْم؟‬
‫من لقلب الفرخ حزن مساءٍ‬
‫دون أ ٍ ّم؟!‬
‫صغير‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫من لمنقار‬
‫يشرح الجوع‪..‬‬
‫‪38‬‬
‫ويبقى ممسكا بالحبل إن ح َّل الظال ْم؟!‬
‫يقدّم الحوار درسا آخر عن اإلنسانية والرفق بالحيوان تلقيه العجوز الجزائرية‬
‫المتشبعة بقيم دينها اإلسالمي لتعلمه لفتاة الحضارة‪ .‬وهي صورة يمكن امتدادها‬
‫لتشمل زمننا اآلني‪ ،‬إذ يمكن أن يأخذ الصياد دور القوى الغربية االستعمارية المستبدة‬
‫للشعوب المقهورة‪ ،‬السارقة لثرواتها‪ ،‬مخلفة اليتامى والمشردين وراءها دون أدنى‬
‫اعتبار‪.‬‬
‫وتستمر منظومة الحكم التي تلقنها المرأة الجزائرية لفتاة الحضارة‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫نحن يا إيفا هنا‪..‬‬
‫كالريح في كل اتجا ٍه‬
‫وبال أي قيو ٍد‬
‫وبال أي إطار‬
‫وبال أي ظال ٍل للعصا أو للحسا ْم‬
‫عبور‬
‫ٍ‬ ‫نحن يا إيفا هنا دون ممرات‬
‫‪...‬مثل قطعان الغما ْم‬
‫نحن كالبدر إذا يسري‬
‫وكالنجمات إذا تجري‪..‬‬
‫بليل الشفع والوتر‬
‫‪39‬‬
‫ومثل الخيل من دون لجا ْم‬
‫ت ُحدّث الفالحة الجزائرية الفتاة عن الحرية الحقيقية موجهة كالمها لكل من‬
‫حرر البشرية من العبودية وحفظ للمرأة حقوقها‪،‬‬ ‫يدّعي التحرر‪ ،‬مشيرة إلى دين قد ّ‬
‫يحرر األجساد‪ ،‬ومنح لإلنسان كرامته‪ ،‬وتلك حرية فعلية‬ ‫حرر األفكار قبل أن ّ‬ ‫كما ّ‬
‫وليست زائفة في ثوب العلمانية‪ ،‬تدمر الشعوب وتمارس مختلف أشكال االضطهاد‬
‫والقمع‪.‬‬
‫لخص هذا الدرس موقف المرأة الجزائرية األصيلة اتجاه قضايا حرية المرأة‬
‫وحقوق اإلنسان‪ .‬وقد استعان الشاعر بالحوار ليبرهن دور المرأة الجزائرية األصيلة‬
‫التي تملك فطرة سليمة في تبرئة اإلسالم من االتهامات الموجهة له من قبل الغرب‪،‬‬
‫بل وتغيير قناعاته‪ ،‬فقد أضحى يدرك تماما صحة ديننا الحنيف‪ ،‬لكن بعضا منهم‬
‫اعترف واآلخر يمنعه الغرور‪.‬‬
‫وقد منح 'محمد جربوعة' حيزا من شعره ليصف جمال المرأة العربية‪ ،‬ومن‬
‫خالله يقف عند محطة المرأة الجزائرية‪ ،‬فعن جمالها المغتال أورد حوار خارجيا بينه‬

‫‪8‬‬
‫وبين سائلة عن مكمن الجمال في البلدان العربية‪ ،‬في قصيدة "سؤال خطير حول قبيلة‬
‫بني عذرة"‪:‬‬
‫قالتْ ‪:‬‬
‫((برأيك‬
‫أي أرض هللا‬ ‫ُّ‬
‫ْ‬
‫الحسان)‬ ‫(مملكة‬
‫‪....‬‬
‫قلت‪ :‬الحقيقة‬
‫رغم ما قد قيل‬
‫فاجأني السؤا ْل‬
‫على بساطته‬
‫ْ‬
‫االفتتان‬ ‫ودوخني لح ّد‬ ‫ّ‬
‫‪......‬‬
‫إني ُّ‬
‫أظن‬
‫بأن أهلي في الجزائر‬ ‫ّ‬
‫عنده ْم (خام الجمال)‬
‫وربما ذنب الرجال بأنه ْم‬
‫ال يعرفون طريقة للموت‬
‫في ذاك الجما ْل‬
‫في مقبرات الموت واإلهمال‬
‫ترقد (سيّدات السحر)‬
‫األنثوي‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫بخورهن‬ ‫دون‬
‫ودون حرفٍ‬
‫نرجسي ٍ‬
‫ّ‬ ‫كالم‬
‫من ٍ‬
‫يخرج الوردات‬
‫من عقد الحبا ْل‬
‫الورد ممنوع‬
‫شعر ال يهدى‬ ‫وبيت ال ّ‬
‫‪40‬‬
‫وهذا الوضع يرفضه الغزا ْل‬
‫يظهر الشاعر في بداية الحوار حائرا متوترا من السؤال‪ ،‬وقد ترجم ذلك في‬
‫البناء المعماري للسطر األول من القصيدة‪ ،‬الذي ُرسم في شكل مثلث‪:‬‬

‫قالتْ ‪:‬‬
‫((برأيك‬
‫أي أرض هللا‬‫ُّ‬
‫ْ‬
‫الحسان)‬ ‫(مملكة‬

‫‪9‬‬
‫تهيكل األسطر مثلثا رأسيا‪ ،‬ينم عن هدف الشاعر في البحث عن الجمال‪ ،‬إذ‬
‫تولد الفكرة رأسا‪ ،‬ثم تتضخم‪ ،‬وعلى القاعدة يُجسد الهدف في السعي وراء تحقيق‬
‫الغاية ‪ ،‬وال غرابة من بدء الشاعر في بحثه عن الجمال من بنات بلده (الجزائر)‪،‬‬
‫وهي قاعدة االنتماء العاطفي التي تغلب كل أنماط االنتماءات األخرى‪.‬‬
‫يصف الشاعر جمال المرأة الجزائرية بـ (الخام)‪ ،‬وهي لفظة تحمل معنى‬
‫األصل األولي للشيء‪ ،‬الذي لم يجرى عليه تعديل أو معالجة‪ ،‬حال جمال الجزائرية‬
‫األصيل النقي‪ ،‬كما ترتبط كلمة الخام بالمورد األولي‪ ،‬وذلك ين ّم إلى أن المرأة‬
‫الجزائرية هي مصدر أولي ألي جمال آخر‪ ،‬وفي ذلك مواساة لها‪ ،‬وهي التي يُغتال‬
‫جمالها من قبل الرجل الجزائري (في مقبرات الموت واإلهمال)‪ ،‬الذي ال يدرك‬
‫أهميته‪ ،‬بل يتهمها بإهماله‪ ،‬فـأضحت الضحية والجانية في ذات الوقت‪.‬‬
‫وظف الشاعر لعبة التراسل الحسي فبادل بين السمعي والش ّمي (كالم‬ ‫وقد ّ‬
‫نرجسي)‪ ،‬ليصف طريقة قتل الجمال الجزائري‪ ،‬بل لعله يحاول من خالل هذه اللعبة‬
‫تلقين الرجل الجزائري كيفية توظيف الحواس في رؤية الجمال‪.‬‬
‫وختم الشاعر المقطع بتشبيه المرأة الجزائرية بالغزال‪ ،‬ذلك الكائن الذي تغزل‬
‫به شعراء العرب قديما وحديثا‪ ،‬لكن الغزال الجزائري يموت تدريجيا فال يغذى بكلمة‬
‫وال بورد‪.‬‬
‫الخاتمة‪:‬‬
‫م ّكن الحوار الداخلي والخارجي 'محمد جربوعة' من تقديم صور عديدة للمرأة‬
‫فوظف خالل هذا السرد الحواري لغة شعرية متنوعة‪ ،‬حيث استعان‬ ‫ّ‬ ‫الجزائرية‪،‬‬
‫بالتشبيه والعدول التركيبي وصيغ االستفهام والتراسل الحسي وغيرها من التقنيات‬
‫الشعرية‪ ،‬ليكون وصفه للمرأة الجزائرية دقيقا ومختزال‪ ،‬مناسبا لصورها المعنوية‬
‫والوجدانية‪ ،‬ونوجز أهم هذه الصور فيما يأتي‪:‬‬
‫‪ -‬من خالل حواره مع والدته قدّم الشاعر أحوال متنوعة لألم الجزائرية‪ ،‬التي‬
‫تظهر حنونة خائفة على ولدها‪ ،‬وقوية صريحة في كالمها معه‪ ،‬كما كانت‬
‫مراوغة في تبرير مواقفها‪.‬‬
‫‪ -‬كان ألسلوب التقديم والتأخير دور في منح االحترام أولوية في الحوار بين‬
‫األم واالبن‪ ،‬وهو قيمة أخالقية تلتزم وتربي به كل أم جزائرية ملتزمة‬
‫أبناءها‪.‬‬
‫‪ -‬عبّر الشاعر عن الوجه السلبي للمبالغة في اقتضاب حوار االبن مع األم‪،‬‬
‫فكانت الصراحة من جهة واحدة‪ ،‬ولم تعد تستطيع األم الجزائرية من خالل‬
‫بنائها لحاجز متين من الحياء واالحترام أن تصل إلى أفكار وأسرار أبناءها‪،‬‬
‫الذين استعانوا باآلخر بحثا عن المفقود‪ ،‬فصارت قيمهم وأفكارهم تعتمد على‬
‫صالح هذا اآلخر‪.‬‬
‫‪ -‬اعتمد الشاعر ألفاظا وعبارات استعارها من المعجم الديني‪ ،‬ليسوق إلى‬
‫االلتزام بالدين اإلسالمي‪ ،‬الذي تنقله األم الجزائرية‪ ،‬فتجعل من حوارها‬
‫وأفعالها قدوة ألبنائها ودعوة لهم بالثبات والتمسك بحبل هللا‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫قدّم الشاعر نموذج عن المرأة الجزائرية البريئة التي تعيش بفطرتها‬ ‫‪-‬‬
‫اإلسالمية المكتسبة من تربية أجدادها‪ ،‬ال من قراءات الكتب وال ارتداد‬
‫الجامعات‪ ،‬فهن فئة من النساء الجزائريات الالئي كان لهن دور في الحفاظ‬
‫على مبادئ التربية اإلسالمية‪ ،‬فلم تتمكن جهود االحتالل الفرنسي زعزعتها‬
‫مدة قرن ونصف من المحاوالت‪.‬‬
‫تظهر المرأة الجزائرية البسيطة حكيمة خبيرة بأمور دينها‪ ،‬فتتكلم عن الصدق‬ ‫‪-‬‬
‫بوصفه أساس الطهر والبراءة‪ ،‬محذرة من قبح الزور واإلفك‪ ،‬مرهبة من‬
‫عذاب اليوم اآلخر‪ ،‬مشيرة إلى وجوب الصالة على النبي الصادق الشفيع‬
‫األمي‪.‬‬
‫أبرز الشاعر موقف المرأة الجزائرية األصيلة اتجاه قضايا حرية المرأة‬ ‫‪-‬‬
‫وحقوق اإلنسان‪ .‬وقد استعان الشاعر بالحوار ليبرهن إسهامها في تبرئة‬
‫اإلسالم من االتهامات الموجهة له من قبل الغرب‪ ،‬بل وتغيير قناعاته‪ ،‬فكان‬
‫للمرأة الجزائرية دورها البارز في تسويق سمعة طيبة عن اإلسالم‪.‬‬
‫وصف الشاعر جمال المرأة الجزائرية الصافي النقي‪ ،‬الذي يموت تدريجيا‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫نتيجة إهمال الرجل الجزائري له‪ ،‬وهو ال يتقن لغة الورود‪ ،‬بل لعله ال يقتنع‬
‫بمفعولها أصال‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ 1‬عبد المالك مرتاض‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬بحث في تقنيات السرد‪،‬عالم المعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،1998 ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪ 2‬سعيد علوش‪ ،‬معجم المصطلحات األدبية المعاصرة‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت‪ ،1985 ،‬ص ‪.78‬‬
‫‪ 3‬تشارلس مورجان‪ ،‬الكاتب وعالمه‪( ،‬ترجمة‪ :‬شكري محمد عياد)‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪ ،2010 ،‬ص ‪.246‬‬
‫‪ 4‬صالح بن أحمد بن محمد السهيمي‪ ،‬الحوار في شعر الهذليين‪ ،‬دراسة وصفية تحليلية‪ ،‬رسالة غير منشور مقدمة‬
‫كجزء من متطابات نيل شهادة الماجستير‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ،2009 ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 5‬توفيق الحكيم‪ ،‬فن األدب‪ ،‬دار مصر للطباعة‪ ،1988 ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪ 6‬ساهرة محمود يونس‪ ،‬الحوار في شعر أبي الفراس الحمداني‪ ،‬دراسة تحليلية‪ ،‬مجلة أبحاث كلية التربية‬
‫األساسية‪ ،‬جامعة الموصل‪ ،‬المجلد ‪ ،3‬العدد ‪ ،2005 ،3‬ص ‪.232‬‬
‫‪ 7‬سعيد يقطين‪ ،‬تحليل الخطاب الروائي (الزمن‪ ،‬السرد‪ ،‬التبئير)‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪،1989 ،‬‬
‫ص ‪.67‬‬
‫‪ 8‬فاتح عبد السالم‪ ،‬الحوار القصصي (تقنياته وعالقاته السردية)‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪ ،1999‬ص ‪.41‬‬
‫‪ 9‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪ 10‬محمد القاضي وآخرون‪ ،‬معجم السرديات‪ ،‬دار محمد علي للنشر‪ ،‬تونس‪ ،2010 ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ 11‬محمد يوسف نجم‪ ،‬فن القصة‪ ،‬دار بيروت للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،1955 ،‬ص ‪.112‬‬
‫‪ 12‬صالح بن أحمد بن محمد السهيمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ 13‬عز الدين اسماعيل‪ ،‬الشعر العربي المعاصر‪ ،‬قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬د ت‪ ،‬ص‬
‫‪.299‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ 14‬محمد يوسف نجم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫‪ 15‬محمد القاضي وآخرون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ 16‬فريد الزاهي‪ ،‬الجسد والصورة والمقدس في اإلسالم‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬المغرب‪ ،1999 ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 17‬يحي عبد الجليل يوسف‪ ،‬عند شعراء صدر اإلسالم‪ ،‬دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،2002 ،‬‬
‫ص ‪.13‬‬
‫‪ 18‬أبو القاسم الشابي‪ ،‬الخيال الشعري عند العرب‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬العلمة‪ ،‬الجزائر‪ ،2013 ،‬ص‪،‬ص ‪.42 ،40‬‬
‫‪ 19‬أحمد سلمان مهنا‪ ،‬المرأة في شعر صعاليك الجاهلية واإلسالم‪ ،‬رسالة غير منشورة مقدمة كجزء من متطلبات‬
‫نيل شهادة الماجستير‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬الجامعة اإلسالمية‪ ،‬غزة‪ ،2007 ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪ 20‬اإلبشيهي‪ ،‬المستطرف في كل فن مستظرف‪ ،‬تح‪ :‬تقي الدين الحنفي‪ ،‬مكتبة الجمهورية العربية‪ ،‬د ت‪ ،‬ص‬
‫‪.255‬‬
‫‪ 21‬أحمد محمد الحوفي‪ ،‬المرأة في الشعر الجاهلي‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬ط ‪ ،2‬د ت‪ ،‬ص ‪.527‬‬
‫‪ 22‬علي الهاشمي‪ ،‬المرأة في الشهر الجاهلي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ،1988 ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ 23‬ديوان كعب بن زهير‪ ،‬رواية ابن سعيد السكري‪ ،‬دار القاموس الحدي‪ ،‬بيروت ‪ ،1968 ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ 24‬لؤي العاني‪ ،‬المعذب في الشعر العراقي الحديث‪ ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬كلية التربية ابن راشد‪ ،‬جامعة بغداد‪،‬‬
‫‪ ،2005‬ص ‪.4‬‬
‫‪ 25‬صالح الدين الهواري‪ ،‬المرأة في شعر نزار قباني‪ ،‬دار البحار‪ ،‬بيروت‪ ،2008 ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ 26‬التهامي الهاني‪ ،‬الوطن والمرأة في شعر نزار قبانيصامد للنشر والتوزيع‪ ،‬ط ‪ ،2006 ،2‬ص ‪.75‬‬
‫‪ 27‬حفظية روانية‪ ،‬صورة المرأة وداللتها في ثالثة مقطوعات شعرية جاهلية‪ ،‬مجلة العلوم االجتماعية واإلنسانية‪،‬‬
‫جامعة عنابة‪ ،1990 ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪ 28‬صالح فضل‪ ،‬أساليب الشعرية المعاصرة‪ ،‬دار قباء للطباعة الونشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1998 ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ 29‬محمد جربوعة‪ ،‬ديوان‪ :‬ثم سكت!!‪ ،‬البدر الساطع للطباعة والنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،2014 ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪ 30‬ساهرة محمود يونس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.234‬‬
‫‪ 31‬محمد جربوعة‪ ،‬ديوان‪ :‬ثم سكت!!‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪ 32‬ساهرة محمود يونس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.232‬‬
‫‪ 33‬محمد جربوعة‪ ،‬ديوان‪ :‬ثم سكت!!‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ 34‬نهاد صليحة‪ ،‬المسرح بين الفن والفكر‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،1986 ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ 35‬محمد جربوعة‪ ،‬ديوان‪ :‬اللّوح‪ ،‬البدر الساطع للطباعة والنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،2014 ،‬ص ‪.154‬‬
‫‪ 36‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ 37‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ 38‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪-‬ص ‪.158-157‬‬
‫‪ 39‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪-‬ص ‪.159-158‬‬
‫‪ 40‬محمد جربوعة‪ ،‬ديوان‪ :‬ثم سكت!!‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪-‬ص‪.75-74 ،‬‬

‫‪12‬‬

You might also like