Professional Documents
Culture Documents
مداخلة الملتقى الوطني حول صورة المرأة الجزائرية
مداخلة الملتقى الوطني حول صورة المرأة الجزائرية
2
غير المباشر ،أين تضغط األحداث ويختصر الزمن ويكون المنقول على درجة من
االنتقائية ،أو النقل المباشر ،حيث يتم استدعاء حوار جرى في الماضي محافظا على
9
حرفيته وصيغته الزمنية.
ويمارس الحوار وظيفتين أساسيتين هما :بناء الحدث (من خالل دفع الحركة
القصصية ،واإلسهام في بناء الحكاية بالتمهيد ألحداثها أو باالرتداد إلى ما مضى
منها) 10،وبناء الشخصية ،حيث تنقسم هذه األخيرة إلى ثالثة أنواع هي :بناء
شخصية المتكلم ،والمخاطب ،والغائب 11،كما يمارس الحوار وظائف أخرى ،فهو
يسهم في بناء القصيدة وتالحم أجزائها ،ويزيد من تماسك البناء الشعري 12،ويساعد
13
على إيضاح أبعاد الموقف ،وانطباع صورته في نفس المتلقي.
ويعتمد هذا البحث على وظيفة الحوار في بناء شخصية المتكلم ،ليتمكن من
إبراز الصورة المعنوية للمرأة الجزائرية في شعر 'محمد جربوعة' ،إذ تعنى هذه
الوظيفة في "الكشف عن األحاسيس الداخلية للشخصية ورفع الحجب عن
عواطفها ،اتجاه ما تمر به من حوادث أو اتجاه الشخصيات األخرى" 14،كما
15
للحوار دور في اإليهام بالواقع والوصف واإلخبار ،ورسم مالمح الشخصيات.
.2صورة المرأة في الشعر العربي:
منح الشعر تركيز كبيرا على المرأة منذ القدم ،فقدّمها في صور عديدة
ومتنوعة ،انقسمت إلى ثالثة أنماط هي :الصورة المادية ،والصورة المعنوية،
والصورة العاطفية .ولم يبتعد كثيرا الشعر العربي الحديث والمعاصر عن تلك
الصورة رغم تركيزه على النمطين الثاني والثالث بشكل أكبر.
وقد كانت أولى الصور حضورا للمرأة هي الصورة المادية ،حيث تغنى
الشعراء القدامى بجمال الجسد األنثوي وسحره ،بل وصل األمر بهم إلى أن س ّموا كل
عضو من أعضاء المرأة بأحد الحروف األبجدية في اللغة العربية؛ إذ "شبهوا
الحاجب بالنون ،والعين بالعين ،والصدغ بالواو ،والفم بالميم ،والصاد والثنايا
سين ،والمضفورة بالشْين" 16،فلم يفكر الشاعر العربي في الجمال ،وإنما انفعل بال ْ
بصورة خاصة مع ما استقبل بالعين فكان رائقا ،أو بالفم فكان لذيذا ،أو باليد فكان
ناعما 17،وما كان في الشعر العربي القديم تركيزا على وصف جسد المرأة؛ إال ليبرز
الرجل العربي ملهاته ،ويفاخر أمام رفقاء باديته بقدرته على تصبي قلوب النساء ،فلم
يتكلم الشاعر العربي قديما عن ما وراء جسد المرأة من تلك المعاني العميقة السامية،
ولم يحس بما وراء الجسد من روح جميلة ساحرة تحمل بين جانبيها سعادة الحب
18
ومعنى األمومة.
لكن دراسات كثيرة أثبتت أن بالرغم من تركيز شعراء العرب القدامى على
جسد المرأة ،إال أن للصورة المعنوية حضورها ،حيث مدحوا صفات الحياء والطهر
والعفة لدى الفتاة العربية 19،كما وصفوا وفاءها وإخالصها لزوجها 20،وغيرها من
الصور المعنوية.
كذلك افتخر الشعراء العرب القدامى بنماذج بارزة من النساء الالئي اعتلين
الملك وكان لهن دورا اجتماعيا وسياسيا بارز مثل الملكة بلقيس ،21وملكة تدمر
22
زنوبيا التي بلغت كم العزة درجة ضرب بها المثل.
3
لقد ظل تأثير المرأة في وعي الشعراء في صدر اإلسالم قوياَ ،ولم يتخلص
الشعراء من ذلك التأثير،
فالمقدمة الغزلية ظلت تتصدر القصائد الطوال في مدح الرسول صلى هللا عليه
متيم وسلم ،مثل مقدمة المية كعب بن زهير (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
إثرها لم ي ْفد مكبول) 23،ولم نعرف أن الرسول نهى شعراءه عن تلك المقدمات
الغزلية وإنما نهى الشعراء عن الشعر الذي ينافي الخلق والدين.
ولم تكن المرأة في قصائد الحداثة "رمزا لل ُمتعة ،أو ملهاة يُبتلى بها الرجل ،بل
كانت رمزا بك ّل ما هو جليل ومقدّس ،فهي رمز لألم أو األخت حينا ،ولألرض
والثورة حينا آخر ،وهي حينا ثالثا بحث عن الذات المفقودة أو المستترة وهي من قبل
فإن الشاعر لم يتّكئ على هذا وذاك رمز للخصوبة والوالدة ال ُمتجدّدة ومن هنا ّ
جسدها ،أو يسبح في أحالمه الوردية حيالها ،وإنما اتّخذ منها ذاتا أخرى تتصل بأكثر
من وشيجة بذاته ال ُمبدعة فمنحها أفضل ما يستطيع من اإلجالل ،واإلكبار ،وكان
24
طيفها األثيري ماثال أمام عينيه ومقيما في وجدانه".
وقد تكلم الشعر العربي الحديث والمعاصر عن حرية المرأة تماشيا مع الحركة
التحرر العربية ،إذ منح الشاعر "نزار قباني" النصيب الوافر من شعره في الحديث
25
عن المرأة ،فدعا من خالله إلى تحرر المرأة من ضعفها ومن ديكتاتورية الذكور،
فكانت المرأة بالنسبة له قضية ورسالة ،وهي الوطن والحرية والديمقراطية
والسياسة26،كما اتخذ منها الشاعر "محمود درويش" آلية للحديث عن الوطن،
فامتزجت تجاربه الفنية بنفس عاطفي ،مولدة رؤية حية للقصيدة.
وظف الشعر العربي الحديث والمعاصر المرأة كتقنية شعرية ،فأضحت كما ّ
موضوع قائم بذاته في ظل حركة الحداثة الشعرية ،وصارت أحد مستويات القصيدة،
وارتبطت بكل موضوعاتها ،بل أصبح الشاعر يستخدمها أداة للتعبير عن مواقفه
27
الشعرية ،وبناء قصيدته بناء عضويا متكامال.
وما يه ّمنا في هذا البحث هو تقصي الصور المتنوعة للمرأة الجزائرية في شعر
"محمد جربوعة" ،الذي نادرا مع منح للمرأة الجزائرية خصوصية في شعره ،بل
كان يتعامل معها كعربية ومسلمة .وقد تم اختيار بعض النماذج الشعرية التي وردت
فيها صور المرأة الجزائرية بشكل خاص.
.3صورة المرأة الجزائرية من خالل السرد الحواري في شعر 'محمد جربوعة'
يعد الحوار أحد أشكال البناء الدرامي للقصيدة ،يرقى بها من خيال اللّحن الذاتي
إلى واقع التجربة في شتى ميادين الحياة ،فيجسد "الحوار الخارجي حركة الواقع
28
اإلنساني ،المادي والذهني تجسيدا حيا".
وقد اعتمده 'محمد جربوعة' لوصف عالقة األم الجزائرية بابنها ،حيث ورد
حوار خارجي بين الشاعر ووالدته ،فيقول:
تقول والدتي –هللا يحفظها-
((ضيعت عمرك في األشعار يا كبدي
أال ترى الشيب في المرآة؟)) قلت :بلى
قالتْ (( :وعيناك بعد الموج كالزبد
4
أرضى عليك ،فقلّ ْل من كتابته..
فتلك أمنيتي ..ال أن تبوس يدي
في الفجر أدعو عسى الحنّان يقبلني
29
هللا يهديك ..قل (آمين) ..يا ولدي
مارس الحوار الخارجي في المقطع الشعري السابق وظيفته في بناء شخصية
المتكلم (األم الجزائرية) ،حيث تجلى وصف معنوي لها من خالل والدة الشاعر وهي
تحاور ابنها ،فعكست صورة كل أم في هذا العالم تخشى على ابنها من كل خطر
محتمل ،فال تعترف األم الجزائرية بالحرية المطلقة ألوالدها الذين يبقون صغار في
نظرها مهما كبر سنهم ومقامهم ،كما نلمس صورة الحنان واالحترام الذي تلتزم به
األم الجزائرية (يا كبدي ،أرضى عليك) ،لكنه احترام لم يقلل من حيز صراحتها
المطلقة التي تجلت في لغة شعرية متنوعة.
وقد اعتمد الشاعر أحد صيغ الحوار المتمثلة في أسلوب االستفهام الذي "يملك
قدرة جمالية على إدخال المتلقي" 30،حيث استخدمته األم (أال ترى الشيب في
المرآة) كأداة لتبرير وتقريب موقفها اتجاه كتابة الشعر ،وهي تدري أنها تحاور مثقف
ال يقتنع إال بالحجة والبرهان ،وتمكنت من خالل هذا االستفهام من لفت انتباه وتركيز
ابنها ،فأردفت في كالمها صورة تشبيهية (عيناك بعد الموج كالزبد) تشرح من
خاللها نتائج إدمان الكتابة على جسد وروح الشاعر ،ويتصاعد حدة رفضها للوضع
برها باالبتعاد عن الشعر (ال أن تبوس يدي) ،وهي مراوغة تستخدمها حينما أقرنت ّ
كل أم جزائرية حينما ال تجد حل في إقناع االبن.
وقد كان ألسلوب التقديم والتأخير دور في منح االحترام أولوية في الحوار بين
األم واالبن ،وهو قيمة أخالقية تربي به كل أم جزائرية ملتزمة أبناءها ،فأصل الجمل
(فقلل من كتابته أرضى عليك فتلك أمنيتي ال أن تبوس يدي) ،و(أدعو في الفجر
عسى يقبلني الحنان ،يهديك هللا يا ولدى ،قل آمين).
كما اُستدعيت األلفاظ و العبارات التي تم تقديمها من معجم ديني (هللا يحفظها،
أرضى عليك ،قل آمين ،أدعو في الفجر) وهو تسويق لذلك االلتزام بالدين اإلسالمي،
الذي تنقله األم الجزائرية ،فتجعل من حوارها وأفعالها قدوة ألبنائها ودعوة لهم
بالثبات والتمسك بحبل هللا.
يسرح الشاعر للحظات قبل أن يكمل حواره مع والدته ،فيقول:
أ ّمي البسيطة ..روح الروح ..جوهرتي
قررت لم أعد ُّ
تظن أني إذا ّ
ال أستطيع بتاتا أن أخبّرها
مر في جسدي جرح ّ
ٍ ّ
بأن مليون
ولست أجرؤ طبعا أن أقول لها:
31
دون القصيدة ال أرتاح في بلدي
إن كل حوار يقتضي قول ورد قول ،لكن انزاح الحوار بين األم وابنها عن هذه
القاعدة ،فلم يكن جواب الشاعر سوى كلمات قد ال تتجاوز حرفين في تركيبها (بلى)،
وهو ثمرة التربية اإلسالمية الصحيحة؛ لذلك فقد استعان الشاعر بالحور الداخلي
5
ليعبّر عن موقفه من كالم الوالدة ،فأنشأ بذلك حديث فردي صامت –وهو "حديث
تناجي به الشخصية نفسها دون تدخل اآلخر ودون أن يكون هناك سامع ،ويجرى
بصورة مناجاة متحررة من القيود الخارجية" 32،وقد أفادنا هذا الصوت الباطني في
رسم وترسيخ المالمح المعنوية والوجدانية لألم الجزائرية (أمي بسيطة ،روح
الروح ،جوهرتي ،ال أستطيع بتاتا أن أخبرها ،ال أجرؤ طبعا أن أقول لها).
وتعكس عبارة (أمي البسيطة) نظرة المثقف الواعي بأحوال بلده لبراءة األمهات
الجزائريات ،لكنها بساطة لم تكن وليدة جهلهن ،بل هو تغليب لعاطفة األمومة حينا،
ووفاء وإخالص ألجدادنا الشهداء أحيانا أخرى.
ل م يستطع الشاعر أن يختم حواره مع والدته بصوته الباطني ،بل استدعى
المتلقي ليساعده على التعبير عن خلجاته العاطفية ،فيقول:
إذا التقيت بأمي في مناسبة
فحدّثيها بأسراري ومعتقدي
ستفهم األمر ..كانت في طفولتنا
33
أميرة الحسن ..الزالتْ ..إلى األبد
لع ّل البيت األول من المقطع الشعري يحمل وجه سلبي للمبالغة في اقتضاب
حوار االبن مع أمه ،فكانت الصراحة من جهة واحدة ،ولم تعد تستطيع األم الجزائرية
من خالل بنائها لحاجز متين من الحياء واالحترام أن تصل إلى أفكار وأسرار
أبناءها ،الذين استعانوا باآلخر بحثا عن المفقود ،فصارت قيمهم وأفكارهم تعتمد على
صالح هذا اآلخر صديقا كان ،أو حبيبة ،أو زوجة...الخ ،لكن رغم هذا الوضع ،فإن
الحذف الذي ورد في آخر القصيدة ،كان وصفا مضمرا وتعدادا لمحاسن الوالدة
السابقة واآلنية ،فما وجد من كالم يفيها حقها عبر المدح والثناء والحب الذي يكنه
لها ،لكن حبه للقصيدة كبير أيضا وال يمكنه هجرها .وربما يكون لهذا الحذف رغبة
في إرضائها ،وهو على يقين من تفهمها ،لذا يمنحها فسحة من الزمن الكفيل بعودتها
إليه ،ورغم خصوصية األم الجزائرية بتعامالتها وقناعاتها تظل عالقة الحب
واالرتباط بين األم وابنها فوق كل القراءات النفسية واالجتماعية واألدبية.
ال ينتهي المغزى من الحوار بين طرفين عند مرمى موضوع الجدل بينهما ،بل
يتقمص دورا يتعدى مغزاه إلى قضايا الواقع ،ويرتبط هذا الواقع باألنظمة المعرفية
للمتلقي ،لكن عادة ما تتحد أنظمة المتلقي وكاتب الدور ،فال يكشف التأويل إال
حقيقة واحدة 34،وهذا ما نستشفه في الحوار الذي قدّمه الشاعر في قصيدة "إيفا" بين
جدة الفالح في إحدى بوادي األرياف الجزائرية مع فتاة تدعى إيفا قادمة من بالد
الغرب (فرنسا).
فاتخذت القصيدة منحى دراميا سياسيا ،عالجه الحوار بين امرأة جزائرية تمثل
التربية الشرقية اإلسالمية ،وفتاة من الغرب لم تجد السكينة والحقيقة إال عند المرأة
الجزائرية المسلمة ،فيقول الشاعر:
علّمتها جدّة الفالح أسماء نباتات المراعي:
"زيّني كفّك بالحناء يا بنتي..
35
ورنّي بالخالخلْ"..
6
تجمع البنية النصية بين الوصف والحوار ،لتظهر نقاء الجدة الفالحة (وهي
نموذج عن المرأة الجزائرية البسيطة) وعفويتها وهي تقدم النصيحة بكل أمانة،
حرصا على تلقين الفتاة إيفا معالم الطبيعة البسيطة.
ويبدو التآلف بين الطرفين في هذا الحوار (الشرق والغرب) ،العجوز
الجزائرية التي تمثل الفطرة والطبيعة العذراء ،والفتاة التي تحمل مشاعر الضيق
والكآبة وتبحث عن خالص من ضياعها المستمر.
لقد قدّم المقطع السابق صورة عن المرأة الجزائرية البريئة التي تعيش بفطرتها
اإلسالمية المكتسبة من تربية أجدادها ،ال من قراءات الكتب وال ارتداد الجامعات،
فهن فئة من النساء الجزائريات الالئي كان لهن دور في الحفاظ على مبادئ التربية
اإلسالمية ،فلم تتمكن جهود العلمانية زعزعتها مدة قرن ونصف من المحاوالت.
وتواصل الجدة نصحها ،فتقول:
"وإذا حدثت يا إيفا
فقولي الصدق في كل الكال ْم
يغضب هللا إذا نحن كذبنا
نبي اله في يوم الزحا ْم ويجافينا ّ
36
فلتقولي :فعليه هللا صلى والسالم"..
فتتكلم الفطرة السليمة على الصدق بوصفه أساس الطهر والبراءة ،محذرة من
قبح الزور واإلفك ،مرهبة من عذاب اليوم اآلخر ،مشيرة إلى وجوب الصالة على
النبي الصادق الشفيع األمي.
ونتفاجئ بجواب الفتاة إيفا المختصر الحامل لمعنى االقتناع والتسليم:
قالت البنت" :أقول الصدق..
أهوى)...( ..
37
إنني أهواه"...
يتجلى في اإلجابة استعداد الفتاة لسماع ما قيل ،وكأنها كانت تخفي شيئا في
صدرها ،وما قدومها من بعيد إال تلبية لنداء قلبها .وتترك عالمات الحذف فراغا
يجعلنا نرتاب في أمر الحبيب الذي تقصده الفتاة.
وكان في هذا الرد اعترافا عن قناعة للغرب ولفرنسا على وجه التحديد عن
صحة وقوة المبادئ اإلسالمية ،فكان للمرأة الجزائرية دورها البارز في تسويق
سمعة طيبة لإلسالم.
بينما تقاطعها الفالحة فال تترك لها مجاال لتخرج ضيق صدرها ،لكنها تركتها
تفكر في نصائحها ،فتقول:
"يا إيفا تعالي نحلب الشاة
دعينا يا (فتاة الحب) من هذا
فنحن اآلن في شهر الصيا ْم"
"يغضب هللا من الفالح
يصطاد قبيل الصيف يا بنتي الحما ْم
العش؟
ّ من لبيض
7
لألفراخ في العش يتامى..
وبال أي طعا ْم؟
من لقلب الفرخ حزن مساءٍ
دون أ ٍ ّم؟!
صغير..
ٍ من لمنقار
يشرح الجوع..
38
ويبقى ممسكا بالحبل إن ح َّل الظال ْم؟!
يقدّم الحوار درسا آخر عن اإلنسانية والرفق بالحيوان تلقيه العجوز الجزائرية
المتشبعة بقيم دينها اإلسالمي لتعلمه لفتاة الحضارة .وهي صورة يمكن امتدادها
لتشمل زمننا اآلني ،إذ يمكن أن يأخذ الصياد دور القوى الغربية االستعمارية المستبدة
للشعوب المقهورة ،السارقة لثرواتها ،مخلفة اليتامى والمشردين وراءها دون أدنى
اعتبار.
وتستمر منظومة الحكم التي تلقنها المرأة الجزائرية لفتاة الحضارة ،فتقول:
نحن يا إيفا هنا..
كالريح في كل اتجا ٍه
وبال أي قيو ٍد
وبال أي إطار
وبال أي ظال ٍل للعصا أو للحسا ْم
عبور
ٍ نحن يا إيفا هنا دون ممرات
...مثل قطعان الغما ْم
نحن كالبدر إذا يسري
وكالنجمات إذا تجري..
بليل الشفع والوتر
39
ومثل الخيل من دون لجا ْم
ت ُحدّث الفالحة الجزائرية الفتاة عن الحرية الحقيقية موجهة كالمها لكل من
حرر البشرية من العبودية وحفظ للمرأة حقوقها، يدّعي التحرر ،مشيرة إلى دين قد ّ
يحرر األجساد ،ومنح لإلنسان كرامته ،وتلك حرية فعلية حرر األفكار قبل أن ّ كما ّ
وليست زائفة في ثوب العلمانية ،تدمر الشعوب وتمارس مختلف أشكال االضطهاد
والقمع.
لخص هذا الدرس موقف المرأة الجزائرية األصيلة اتجاه قضايا حرية المرأة
وحقوق اإلنسان .وقد استعان الشاعر بالحوار ليبرهن دور المرأة الجزائرية األصيلة
التي تملك فطرة سليمة في تبرئة اإلسالم من االتهامات الموجهة له من قبل الغرب،
بل وتغيير قناعاته ،فقد أضحى يدرك تماما صحة ديننا الحنيف ،لكن بعضا منهم
اعترف واآلخر يمنعه الغرور.
وقد منح 'محمد جربوعة' حيزا من شعره ليصف جمال المرأة العربية ،ومن
خالله يقف عند محطة المرأة الجزائرية ،فعن جمالها المغتال أورد حوار خارجيا بينه
8
وبين سائلة عن مكمن الجمال في البلدان العربية ،في قصيدة "سؤال خطير حول قبيلة
بني عذرة":
قالتْ :
((برأيك
أي أرض هللا ُّ
ْ
الحسان) (مملكة
....
قلت :الحقيقة
رغم ما قد قيل
فاجأني السؤا ْل
على بساطته
ْ
االفتتان ودوخني لح ّد ّ
......
إني ُّ
أظن
بأن أهلي في الجزائر ّ
عنده ْم (خام الجمال)
وربما ذنب الرجال بأنه ْم
ال يعرفون طريقة للموت
في ذاك الجما ْل
في مقبرات الموت واإلهمال
ترقد (سيّدات السحر)
األنثوي
ّ َّ
بخورهن دون
ودون حرفٍ
نرجسي ٍ
ّ كالم
من ٍ
يخرج الوردات
من عقد الحبا ْل
الورد ممنوع
شعر ال يهدى وبيت ال ّ
40
وهذا الوضع يرفضه الغزا ْل
يظهر الشاعر في بداية الحوار حائرا متوترا من السؤال ،وقد ترجم ذلك في
البناء المعماري للسطر األول من القصيدة ،الذي ُرسم في شكل مثلث:
قالتْ :
((برأيك
أي أرض هللاُّ
ْ
الحسان) (مملكة
9
تهيكل األسطر مثلثا رأسيا ،ينم عن هدف الشاعر في البحث عن الجمال ،إذ
تولد الفكرة رأسا ،ثم تتضخم ،وعلى القاعدة يُجسد الهدف في السعي وراء تحقيق
الغاية ،وال غرابة من بدء الشاعر في بحثه عن الجمال من بنات بلده (الجزائر)،
وهي قاعدة االنتماء العاطفي التي تغلب كل أنماط االنتماءات األخرى.
يصف الشاعر جمال المرأة الجزائرية بـ (الخام) ،وهي لفظة تحمل معنى
األصل األولي للشيء ،الذي لم يجرى عليه تعديل أو معالجة ،حال جمال الجزائرية
األصيل النقي ،كما ترتبط كلمة الخام بالمورد األولي ،وذلك ين ّم إلى أن المرأة
الجزائرية هي مصدر أولي ألي جمال آخر ،وفي ذلك مواساة لها ،وهي التي يُغتال
جمالها من قبل الرجل الجزائري (في مقبرات الموت واإلهمال) ،الذي ال يدرك
أهميته ،بل يتهمها بإهماله ،فـأضحت الضحية والجانية في ذات الوقت.
وظف الشاعر لعبة التراسل الحسي فبادل بين السمعي والش ّمي (كالم وقد ّ
نرجسي) ،ليصف طريقة قتل الجمال الجزائري ،بل لعله يحاول من خالل هذه اللعبة
تلقين الرجل الجزائري كيفية توظيف الحواس في رؤية الجمال.
وختم الشاعر المقطع بتشبيه المرأة الجزائرية بالغزال ،ذلك الكائن الذي تغزل
به شعراء العرب قديما وحديثا ،لكن الغزال الجزائري يموت تدريجيا فال يغذى بكلمة
وال بورد.
الخاتمة:
م ّكن الحوار الداخلي والخارجي 'محمد جربوعة' من تقديم صور عديدة للمرأة
فوظف خالل هذا السرد الحواري لغة شعرية متنوعة ،حيث استعان ّ الجزائرية،
بالتشبيه والعدول التركيبي وصيغ االستفهام والتراسل الحسي وغيرها من التقنيات
الشعرية ،ليكون وصفه للمرأة الجزائرية دقيقا ومختزال ،مناسبا لصورها المعنوية
والوجدانية ،ونوجز أهم هذه الصور فيما يأتي:
-من خالل حواره مع والدته قدّم الشاعر أحوال متنوعة لألم الجزائرية ،التي
تظهر حنونة خائفة على ولدها ،وقوية صريحة في كالمها معه ،كما كانت
مراوغة في تبرير مواقفها.
-كان ألسلوب التقديم والتأخير دور في منح االحترام أولوية في الحوار بين
األم واالبن ،وهو قيمة أخالقية تلتزم وتربي به كل أم جزائرية ملتزمة
أبناءها.
-عبّر الشاعر عن الوجه السلبي للمبالغة في اقتضاب حوار االبن مع األم،
فكانت الصراحة من جهة واحدة ،ولم تعد تستطيع األم الجزائرية من خالل
بنائها لحاجز متين من الحياء واالحترام أن تصل إلى أفكار وأسرار أبناءها،
الذين استعانوا باآلخر بحثا عن المفقود ،فصارت قيمهم وأفكارهم تعتمد على
صالح هذا اآلخر.
-اعتمد الشاعر ألفاظا وعبارات استعارها من المعجم الديني ،ليسوق إلى
االلتزام بالدين اإلسالمي ،الذي تنقله األم الجزائرية ،فتجعل من حوارها
وأفعالها قدوة ألبنائها ودعوة لهم بالثبات والتمسك بحبل هللا.
10
قدّم الشاعر نموذج عن المرأة الجزائرية البريئة التي تعيش بفطرتها -
اإلسالمية المكتسبة من تربية أجدادها ،ال من قراءات الكتب وال ارتداد
الجامعات ،فهن فئة من النساء الجزائريات الالئي كان لهن دور في الحفاظ
على مبادئ التربية اإلسالمية ،فلم تتمكن جهود االحتالل الفرنسي زعزعتها
مدة قرن ونصف من المحاوالت.
تظهر المرأة الجزائرية البسيطة حكيمة خبيرة بأمور دينها ،فتتكلم عن الصدق -
بوصفه أساس الطهر والبراءة ،محذرة من قبح الزور واإلفك ،مرهبة من
عذاب اليوم اآلخر ،مشيرة إلى وجوب الصالة على النبي الصادق الشفيع
األمي.
أبرز الشاعر موقف المرأة الجزائرية األصيلة اتجاه قضايا حرية المرأة -
وحقوق اإلنسان .وقد استعان الشاعر بالحوار ليبرهن إسهامها في تبرئة
اإلسالم من االتهامات الموجهة له من قبل الغرب ،بل وتغيير قناعاته ،فكان
للمرأة الجزائرية دورها البارز في تسويق سمعة طيبة عن اإلسالم.
وصف الشاعر جمال المرأة الجزائرية الصافي النقي ،الذي يموت تدريجيا، -
نتيجة إهمال الرجل الجزائري له ،وهو ال يتقن لغة الورود ،بل لعله ال يقتنع
بمفعولها أصال.
الهوامش:
1عبد المالك مرتاض ،في نظرية الرواية ،بحث في تقنيات السرد،عالم المعرفة ،الكويت ،1998 ،ص .114
2سعيد علوش ،معجم المصطلحات األدبية المعاصرة ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،1985 ،ص .78
3تشارلس مورجان ،الكاتب وعالمه( ،ترجمة :شكري محمد عياد) ،المركز القومي للترجمة ،2010 ،ص .246
4صالح بن أحمد بن محمد السهيمي ،الحوار في شعر الهذليين ،دراسة وصفية تحليلية ،رسالة غير منشور مقدمة
كجزء من متطابات نيل شهادة الماجستير ،جامعة أم القرى ،2009 ،ص .22
5توفيق الحكيم ،فن األدب ،دار مصر للطباعة ،1988 ،ص .140
6ساهرة محمود يونس ،الحوار في شعر أبي الفراس الحمداني ،دراسة تحليلية ،مجلة أبحاث كلية التربية
األساسية ،جامعة الموصل ،المجلد ،3العدد ،2005 ،3ص .232
7سعيد يقطين ،تحليل الخطاب الروائي (الزمن ،السرد ،التبئير) ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء،1989 ،
ص .67
8فاتح عبد السالم ،الحوار القصصي (تقنياته وعالقاته السردية) ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت،
،1999ص .41
9المرجع نفسه ،ص .92
10محمد القاضي وآخرون ،معجم السرديات ،دار محمد علي للنشر ،تونس ،2010 ،ص .159
11محمد يوسف نجم ،فن القصة ،دار بيروت للطباعة والنشر ،بيروت ،1955 ،ص .112
12صالح بن أحمد بن محمد السهيمي ،مرجع سابق ،ص .13
13عز الدين اسماعيل ،الشعر العربي المعاصر ،قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ،دار الفكر العربي ،د ت ،ص
.299
11
14محمد يوسف نجم ،مرجع سابق ،ص .113
15محمد القاضي وآخرون ،مرجع سابق ،ص .159
16فريد الزاهي ،الجسد والصورة والمقدس في اإلسالم ،إفريقيا الشرق ،المغرب ،1999 ،ص .22
17يحي عبد الجليل يوسف ،عند شعراء صدر اإلسالم ،دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة،2002 ،
ص .13
18أبو القاسم الشابي ،الخيال الشعري عند العرب ،دار الحكمة ،العلمة ،الجزائر ،2013 ،ص،ص .42 ،40
19أحمد سلمان مهنا ،المرأة في شعر صعاليك الجاهلية واإلسالم ،رسالة غير منشورة مقدمة كجزء من متطلبات
نيل شهادة الماجستير ،كلية اآلداب ،الجامعة اإلسالمية ،غزة ،2007 ،ص .82
20اإلبشيهي ،المستطرف في كل فن مستظرف ،تح :تقي الدين الحنفي ،مكتبة الجمهورية العربية ،د ت ،ص
.255
21أحمد محمد الحوفي ،المرأة في الشعر الجاهلي ،دار الفكر العربي ،ط ،2د ت ،ص .527
22علي الهاشمي ،المرأة في الشهر الجاهلي ،دار المعارف ،مصر ،1988 ،ص .52
23ديوان كعب بن زهير ،رواية ابن سعيد السكري ،دار القاموس الحدي ،بيروت ،1968 ،ص .12
24لؤي العاني ،المعذب في الشعر العراقي الحديث ،أطروحة دكتوراه ،كلية التربية ابن راشد ،جامعة بغداد،
،2005ص .4
25صالح الدين الهواري ،المرأة في شعر نزار قباني ،دار البحار ،بيروت ،2008 ،ص .43
26التهامي الهاني ،الوطن والمرأة في شعر نزار قبانيصامد للنشر والتوزيع ،ط ،2006 ،2ص .75
27حفظية روانية ،صورة المرأة وداللتها في ثالثة مقطوعات شعرية جاهلية ،مجلة العلوم االجتماعية واإلنسانية،
جامعة عنابة ،1990 ،ص .50
28صالح فضل ،أساليب الشعرية المعاصرة ،دار قباء للطباعة الونشر والتوزيع ،القاهرة ،1998 ،ص .122
29محمد جربوعة ،ديوان :ثم سكت!! ،البدر الساطع للطباعة والنشر ،الجزائر ،2014 ،ص .91
30ساهرة محمود يونس ،مرجع سابق ،ص .234
31محمد جربوعة ،ديوان :ثم سكت!! ،مصدر سابق ،ص .92
32ساهرة محمود يونس ،مرجع سابق ،ص .232
33محمد جربوعة ،ديوان :ثم سكت!! ،مصدر سابق ،ص .93
34نهاد صليحة ،المسرح بين الفن والفكر ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،اإلسكندرية ،1986 ،ص .23
35محمد جربوعة ،ديوان :اللّوح ،البدر الساطع للطباعة والنشر ،الجزائر ،2014 ،ص .154
36المصدر نفسه ،ص .155
37المصدر نفسه ،ص .155
38المصدر نفسه ،ص-ص .158-157
39المصدر نفسه ،ص-ص .159-158
40محمد جربوعة ،ديوان :ثم سكت!! ،مصدر سابق ،ص-ص.75-74 ،
12