You are on page 1of 3

‫الحرية والمسؤولية‬

‫‪ -‬هل المسؤولية شرط أساسي إلثبات الحرية؟‬


‫‪ -‬هل خضوع االنسان لمنطق الحتميات يلغي وينفي مسؤوليته؟‬

‫طرح المشكلة‪:‬‬
‫تعتبر الحرية من أعقد المشاكل التي اعترضت االنسان منذ آالف السنين‪ ،‬والتاريخ يثبت نضال االنسان من اجل هذه القضية فأغلب الصراعات الى يومنا هذا‬
‫كانت من اجلها مما يؤكد ان الحرية ليست مشكلة نظرية فقط فهي مشكلة عملية وقضية عالمية حيث تعرف الحرية على انها تجاوز لكل اكراه داخلي (كالميول‬
‫النفسية واالهواء و الرغبات) او خارجي كالكراه االجتماعي والكراه الطبيعي)‪ ،‬ولقد كانت مشكلة الحرية من أهم القضايا العالمية التي أثارت اهتمام‬
‫الفالسفة حيث انقسموا الى نزعتين مختلفتين ‪ :‬األولى تثبت الحرية باالسم الشعور او قصد التبرير األخالقي وبالتالي فالنسان مسؤول عن اختياراته والثانية‬
‫تنفي الحرية باالسم الحتمية أو القضاء والقدر وهذ ا يعني ان مشروعية المسؤولية تفسر وفق مبدأ الجبر والحتمية وعليه فإذا كانت الحرية هي قدرة الفرد على‬
‫الفعل أو الترك‪ .‬فهل هي نابعة من ذات حرة مسؤولة ام ذات مقيدة بإحدى الحتميات؟‬

‫محاولة حل المشكلة‪:‬‬
‫الموقف الثاني‪ :‬في مقابل ذلك يرى أصحاب االطروحة الثانية بما أن االنسان‬ ‫الموقف األول‪ :‬يرى أصحاب االطروحة األولى أن االنسان حر في اختيار‬
‫كائن عاقل وواعي فغنه مقدر عليه أن يكون مسؤوال حتى ولو كان مسيرا‬ ‫افعاله التي يقوم بها فحريته بعيدة الي أي اكراه او قيود‪.‬‬
‫ومن بين المدافعين عن هذا الطرح‪ :‬الجهمية‪ ،‬سبينوزا‪ ،‬الطرح الحتمي‬ ‫ومن بين المدافعين عن هذا الطرح‪ :‬ديكارت‪ ،‬برغسون‪ ،‬افالطون‪ ،‬كانط‪،‬‬
‫المعتزلة‪.‬‬
‫ويبررون موقفهم بالحجج والبراهين التالية‪:‬‬ ‫ويبررون موقفهم بالحجج والبراهين التالية‪:‬‬
‫‪ -‬ترى الجبرية ان االنسان مجبر في كل افعاله وال قدرة له وال إرادة وال‬ ‫‪ -‬يؤكد ديكارت ان الحرية حالة شعورية والشعور بها دليل على وجودها فهي‬
‫اختيار فاهلل تعالى هو من يخلق األفعال في االنسان ولقد اعتمدت الجبرية على‬ ‫تدرك بال برهان ألنها خاصية من خصائص الذات الشاعرة حيث يقول‪ " :‬أنا‬
‫ادلة منها ان هللا وحده هو الخالق وال يجب ان يكون خالقا غيره‪ ،‬وان الثواب‬ ‫أعيش تجربة الحرية وال يمكن البرهنة عليها ألنها شعور مباشر"‪ .‬ويقول‬
‫والعقاب قضاء وقدر وفي هذا يقول جهم بن صفوان‪ " :‬انه ال فاعل في‬ ‫أيضا‪ " :‬الحرية تقتضي الموازنة بين هذا الفعل وذاك‪ ،‬وتفضيل أحدهما على‬
‫الحقيقة اال هللا وحده وان الناس انما تنسب إليهم افعالهم على سبيل المجاز"‬ ‫اآلخر بناء على مبررات ذاتية"‪.‬‬
‫أي ان األفعال تنسب الى االنسان على سبيل المجاز فقط كما تنسب الى‬ ‫‪ -‬ويتفق معه في نفس الفكرة برغسون فهو ير ان الحرية احدى مسلمات‬
‫الجماد‪.‬‬ ‫الشعور والتي ندركها عن طريق الحدس انها ذلك الفعل الذي يتبع الديمومة أو‬
‫يقول الشهرستاني‪ " :‬التكليف متوجه الى العبد ب افعل وال تفعل فإن لم‬ ‫االنا العميق‪ .‬وفي هذا يقول‪ " :‬حين اشعر بأفعالي تجري في نفسي متجددة‬
‫يتحقق من العبد فعل يكون التكليف سفها من المكلف" ومعنى هذا ان االنسان‬ ‫اشعر في نفس اللحظة بأنني حر"‪.‬‬
‫مكلف تكليفا ربانيا لذلك فالمسؤولية قدرا محتوما على االنسان منذ الخلق‬ ‫‪ -‬كما نجد كذلك دي بيران الذي يؤكد ان أساس الوجود النساني قائم على‬
‫الحرية أي حرية الرادة الفاعلة فشعور االنسان بذاته اثناء قيامه بجهد عضلي لقوله تعالى‪ " :‬وما خلقت الجن واالنس اال ليعبدون"‪ .‬إضافة الى ذلك‬
‫فالنسان مكلف أيضا تكليفا أخالقيا فالتفسير الديني يفسر لنا ان االنسان مكلف‬ ‫دليل على ان ارادته الحرة قادرة على التأثير في جسده ومقاومة آالمه‪.‬‬
‫ذلك انه مطالب بأداء عمل معين وجب ان يكون ممكنا وقادرا على فعله لقوله‬ ‫‪ -‬اما افالطون فيرى ان الفرد مسؤول مسؤولية تامة عن افعاله واخطاءه‬
‫تعالى‪ " :‬وال يكلف هللا نفسا اال وسعها"‪.‬‬ ‫وجزاء لذلك يعاقب بل وجب ان يكون العقاب من جنس العمل فهو يؤكد ان‬
‫الحرية متجذرة في االنسان لذلك فهو مسؤول فهو من يصنع مصيره وال دخل ‪ -‬كما يرى فالسفة الطرح الحتمي ان االنسان يخضع لعديد من الحتميات في‬
‫حياته من بينها‪:‬‬ ‫للقضاء والقدر هنا في هذا يقول‪ " :‬ان هللا برئ من أفعال الشر والبشر هم‬
‫الحتمية الطبيعية‪ :‬يرى البالس ان االنسان مقيد بقوانين طبيعية هذا فالكون‬ ‫المسؤولون عن اختيارهم الحر"‪.‬‬
‫خاضع لمجوعة من الشروط والقوانين الثابتة التي تتحكم في سيره وفي ضبط‬ ‫‪ -‬تبرهن المعتزلة على موقفها من منطلق ان العدالة الالهية تتجلى في منح‬
‫ظ واهره وبما ان هذا االنسان جزء من الوجود فهو أيضا خاضع ومقيد بها‪.‬‬ ‫االنسان الحرية التامة في تصرفاته وافعاله وسلوكياته فالمسؤولية تقتضي ان‬
‫الحتمية البيولوجية‪ :‬ان االنسان كائن بيولوجي وبذلك فهو خاضع لعدة قوانين‬ ‫يكون الفاعل حرا‪ .‬فلو كانت أفعال العباد من صنع هللا كما تدعي الجبرية‬
‫بيولوجية مثل النمو‪ :‬فالنسان في البداية يكون جنينا ثم رضيعا ثم طفال ثم شابا‬ ‫فلماذا يحاسبهم هللا عليها يوم القيامة؟ يقول أبو الهذيل‪ " :‬االنسان يحس من‬
‫نفسه وقوع الفعل فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن"‪ .‬ومعنى ثم كهال ثم الشيخوخة ثم الموت كما ان هذا الكائن البيولوجي عبارة عن وحدة‬
‫عضوية تتحكم في سيرها غدد وكروموزومات ومورثات وفي هذا يقول ريبو‪:‬‬ ‫هذا ان األفعال التي يقوم بها االنسان نابعة عن ارادته الحرة وبالتالي فهو‬
‫" نحن نعيش تحت رحمة غددنا الصماء"‪.‬‬ ‫مكلف ومسؤول عن افعاله‪.‬‬
‫الحتمية االجتماعية‪ :‬يؤكد عالم االجتماع دوركايم ان المجتمع يمارس قسرا‬ ‫‪ -‬يؤكد كانط ان الحرية هي أساس الحياة األخالقية بالتالي فهي شرط‬
‫ضروري للواجب والمسؤولية معا‪ .‬فكلما كانت إرادة االنسان حرة حرية تامة على افراده فالمجتمع يلزمنا في الكثير من األحيان على القيام بأفعال و‬
‫سلوكات ال نريدها وال نرغب فيها كما اننا مقيدون بعادات و تقاليد لها مئات‬ ‫كلما أدى واجبه األخالقي كما يجب لهذا يقول‪ " :‬إذا اردت فأنت تستطيع"‬
‫السنين اال اننا ال نستطيع التخلي عنها فالطفل على حسب دوركايم هو دمية‬ ‫ويقول أيضا‪ ":‬إن معنى الواجب يتضمن معنى االستطاعة"‪.‬‬
‫‪ -‬يرى سارتر ان االنسان حر حرية مطلقة في افعاله واختياراته وبالتالي فهو يحرك خيوطها المجتمع‪.‬‬
‫الحتمية النفسية‪ :‬أكد عالم النفس فرويد ان االنسان تتحكم فيه مجموعة من‬ ‫مسؤول عن كل ما يصدر منه‪ .‬فالنسان على حسب سارتر هو عبارة عن‬
‫الرغبات والمكبوتات والشهوات وهي التي تسير حياته وتقودها‪.‬‬ ‫مشروع وهذا المشروع يتحقق في المستقبل عبر اختيارات الشخص وارادته‬
‫وبذلك فهو مضطر الى تحمل مسؤولية اختياراته يقول سارتر‪ " :‬إن االنسان ‪ -‬يقول سبينوزا‪ " :‬فكما نرجع األفعال التي نجهل افعالها للمصادفة وكذلك‬
‫نرجع األفعال ا لتي نجهل أسبابها الخارجية والداخلية الى الحرية"‪ .‬ومعنى هذا‬ ‫باعتباره محكوما بالحرية يحمل على عاتقه عبء العالم ككل‪ :‬انه مسؤول‬
‫فلو كان االنسان حرا في اختيار افعاله لختار لنفسه دائما االحسن‪.‬‬ ‫عن العالم وعن ذاته من خالل طريقة وجوده"‪.‬‬
‫‪ -‬اما مالبرانش فيضيف قائال‪ ":‬إن جزاء االستحقاق وعقوبة الخطيئة يقتضيهما‬
‫النظام الضروري للعدل" فالمسؤولية ترتبط بالقانون األخالقي‪.‬‬
‫النقد والمناقشة‪:‬‬ ‫النقد والمناقشة‪:‬‬
‫على الرغم مما قدمه أصحاب االطروحة األولى لتبرير موقفهم اال انهم بالغوا صحيح ما ذهبت اليه النزعة الجبرية وأصحاب الطرح الحتمي لكنهم بالغوا‬
‫لنهم أ كدوا على الحرية المطلقة لإلنسان التي تتحدى قوانين الكون و هذا وهم ذلك ان وجهة نظر الجبرية تتناقض مع الدين في مسألة االيمان بالقضاء‬
‫والقدر‪ .‬كما انه طرح يدعو الى االستسالم واالعتماد على الغير‪.‬‬ ‫فالنسان خاضع لعدة حتميات وعدة ظروف تحكمه‪.‬‬
‫التركيب‪:‬‬
‫بعد عرضنا للموقفين السابقين اتضح لنا ان االنسان كائن عاقل ف هو يملك القدرة على كسب األفعال وتوجيهها فاهلل هو الخالق لإلنسان وافعاله لكنه يستطيع‬
‫التمييز بين الخير والشر وبذلك فهو مسؤول عن اختيارا ته‪ ،‬فعظمة االنسان تكمن في انه مسؤول حتى ولو يكن حرا وهذا ما تؤكده االشعرية‪ .‬كما ان االنسان‬
‫على رغم من خضوعه لعدة حتميات اال ان له القدرة على التحرر والدليل على ذلك ان من خالل التطورات العلمية استطاع االنسان ان يكتشف مختلف‬
‫القوانين التي تتحكم في الظواهر الطبيعية والبيولوجية وكذلك االنسانية وفي هذا يقول انجلز‪ " :‬ولكن من المؤكد ان كل خطوة خطاها في سبيل الحضارة لم‬
‫تكن سوى مرحلة من مراحل تحرره‪"...‬‬
‫حل المشكلة‪:‬‬
‫وكحل لهذه المشكلة نرى ان‪ :‬مشكلة الحرية والمسؤولية تبقى من اعقد المشاكل الفلسفية ذلك ان العالقة بين الحرية والمسؤولية هي عالقة جدلية فالنسان‬
‫مسؤول على كل افعاله وسلوكياته المتاحة له مع التزامه بمنطق الجبر ووعيه بأن هناك حتميات تسير حياته‪.‬‬

You might also like