You are on page 1of 3

‫المحور الثالث‪ :‬الشخص بين الضرورة والحرية‬

‫في داللة المفهومين‬


‫الحرية‪ :‬نجد في معجم جميل صليبا املعنى التالي للحرية‪ :‬الحرية خاصية املوجود الخالص من القيود‪ ،‬العامل بإرادته أو طبيعته‪ ...‬وإذا‬
‫كانت الحرية مضادة للحتمية دلت على حرية االختيار‪ ،‬وهي القول إن فعل اإلنسان متولد من إرادته ‪ .‬إذن فالحرية حالة الكائن الذي ال يعاني‬
‫إكراها‪ ،‬والذي يتصرف وفقا ملشيئته وإرادته وطبيعته‪.‬‬
‫لكن يجب التمييز بين داللة مفهوم الحرية أنطولوجيا (وجوديا)‪ ،‬وسياسيا وأخالقيا‪ .‬فالحرية بمعناها األنطولوجي هي غياب كل إكراه خارجي‪،‬‬
‫أي ق درة اإلرادة على الفع ل‪ ،‬وتج اوز الض رورات‪ ،‬وال يح د الحري ة به ذا املع نى إال غي اب الق درة على الفع ل‪ .‬لكن في معناه ا السياسي ت دل على‬
‫التصرف والسلوك وفق ما يسمح به القانون‪ /‬وبالتالي تفيد الحرية فعل كل ما ال يمنعه القانون‪ ،‬فهي مرادف للحرية املدنية‪ .‬أما في معناها‬
‫األخالقي‪ ،‬فهي القدرة على اختيار فعل الخير بدل فعل الشر دون إكراه خارجي‪.‬‬
‫الض رورة‪ :‬تفي د الخض وع وغي اب الحري ة في الفع ل‪ ،‬وبالت الي فهي ت أتي في مقاب ل مفه وم الحري ة‪ ،‬بحيث ت دل على اإلك راه‪ ،‬والحتمي ات‬
‫واإلشراطات التي تجعل من سلوك الشخص سلوكا مفروضا‪ ،‬غير نابع من اختياره أو إرادته‪ .‬لكن الحتمية تختلف عن الضرورة‪ ،‬فالحتمية ال‬
‫يمكن أن نتجاوزها‪ ،‬عكس الضرورة التي يمكن تجاوزها‪.‬وتأخذ الضرورات عدة أشكال‪ ،‬فهناك الضرورة الطبيعة وهناك الضرورة االجتماعية‬
‫والضرورة السيكولوجية‪.‬‬

‫التأطير االشكالي‬
‫يتميز اإلنسان عن كائنات أخرى بوضعه الفريد و وجوده المعقد‪ ...‬فهو كائن مفكر‪ ،‬مريد‪ ،‬فاعل‪ ...‬من جه ة‪ ،‬و من جه ة ثاني ة ه و ك ائن‬
‫يشكل جزءا من الطبيع ة و نظامه ا‪ ،‬و ه و من جه ة ثالث ة ك ائن يعيش في وس ط اجتم اعي ل ه ش روطه و قوانين ه‪ ...‬ل ذلك فه ذا الوض ع‬
‫البش ري ه و وض ع إش كالي يعكس تع دد األبع اد اإلنس انية‪ ...‬و من أب رز القض ايا ال تي أفرزه ا ه ذا الوض ع البش ري نج د‬
‫قضية الحرية اإلنسانية التي تثير مفارقات كثيرة‪ ...‬فاإلنسان باعتباره مفكرا مريدا يبدو فاعال و حرا‪ ،‬لكنه كظاهرة طبيعي ة يب دو خاض عا‬
‫لحتمياتها‪ ،‬و باعتباره يعيش ضمن مجتمع يبدو خاضعا لشروطه و قوانينه‪ ...‬و هذا ي دفع إلى ط رح تس اؤالت ح ول الحري ة اإلنس انية و‬
‫حدودها‪ .‬فهل اإلنسان حر أم أنه خاضع لحتمية ما؟ و إذا كان خاضعا فما هي حدود هذا الخضوع؟ و هل هو خاضع بش كل مطل ق أم أن‬
‫خضوعه محدود و نسبي؟‬

‫باروخ اسبينوزافيلسوف هولندي ‪ .‬ولد ‪ 1632‬في أمستردام‪ ،‬وتوفي ‪1677‬‬


‫يرى اسبينوزا أن الشخص ليس حرا بل يتوهم الحرية‪ ،‬ففي كتاب ه "رس الة في الاله وت و السياس ة" يؤك د أن‬
‫اإلنسان خاضع لضرورة طبيعية‪ ،‬ال يملك خيارا أمامها ‪ ،‬و يعتقد الشخص أنه حر لكونه مدرك ألفعاله لكن ه يجه ل‬
‫السبب الذي يدفعه للقيام به‪ ،‬و يقدم أمثلة على ذلك من بينها مثال الحجر الذي يتح رك بفع ل ق وة خارجي ة‪ ،‬فل و امتل ك‬
‫الوعي العتقد أنه هو الذي يقوم بالفعل بحرية ألنه يجهل السبب المحرك‪ ،‬و األمر نفسه بالنسبة لإلنسان‪ ،‬فالجبان يعتقد‬
‫أنه يهرب بشكل حر غير أن الضرورة الطبيعية المتمثلة في الخ وف هي ال تي تدفع ه ل ذلك‪ ,‬و في ه ذا الص دد يق ول‬
‫سبينوزا الحرية هي وعي الضرورة أي أن تكون حرا معناه ان تدرك أنك لست حرا بل خاضع للضرورة‪.‬‬
‫قيمة التصور‬
‫ال يمكن أن ننكر القيمة الفكرية لهذا التصور الفلسفي‪ ،‬فاإلنسان حقا ال يمكنه أن يمارس حريته حين يتعلق األمر‬
‫بما هو طبيعي‪ ،‬فاإلنسان كما الحيوان مرتبط بطبيعته‪ ،‬بش هواته وغريزيت ه‪ ،‬وبالت الي ال يمكن تص ور حري ة اإلنس ان‬
‫باعتبارها حرية مطلقة‪ ،‬تتجاوز كل اإلشراطات والضرورات‪ .‬وهذا القول انتقاد للتصورات الماهوي ة ال تي جعلت من‬
‫الحرية ماهية لإلنسان وجوهرا له‪ .‬غير أن القول بخضوع الشخص للضرورات واإلشراطات خضوعا مطلق ا‪ ،‬يجع ل‬
‫اإلنسان في نفس مرتبة باقي المجودات األخرى ال تي تظ ل هي األخ رى خاض عة للنظ ام الط بيعي ال ذي يح دد الفع ل‬
‫ويحكم الظواهر‪ .‬فهل الشخص حقا غير قادر على السلوك بحرية؟ أال يمكن لإلنسان وفقا لما له من خصائص كالوعي‬
‫والحرية أن يتجاوز اإلكراهات والضرورات؟ أال يمكن للشخص أن يكون حرا ولو بشكل نسبي؟‬
‫جون بول سارتر‪.‬‬
‫لقد تعرضت األطروحات القائلة بعدم قدرة اإلنسان على السلوك والتصرف بحرية للنقد من طرف مجموعة من‬
‫الفالسفة‪ ،‬نذكر على سبيل المثال ال الحصر رائد الفلسفة الوجودي ة ‪ ،‬الفيلسوف الفرنس ي المعاص ر ج ون‬
‫سارتر‪ ،‬والذي يذهب إلى عكس ما ذهب إليه اسبينوزا الذي يؤكد على خضوع اإلنسان لحتميات واشراطات‪،‬‬ ‫بول‬
‫فسارتر يذهب إلى أن اإلنسان حر‪ ،‬وإلى أن الحرية هي قدر اإلنسان‪ .‬وينطل ق في موقف ه ه ذا من مب دأ وه و اإلق رار‬
‫بأن الوجود يسبق الماهية‪ ،‬بمعنى أن اإلنسان يولد أوال ويالقي ذاته ويبرز إلى العالم‪ ،‬ثم يحدد بعد ذلك ما سيكون‪ .‬إن‬
‫اإلنسان حسب سارتر غير قابل للتعريف عندما يكون الشيء ‪ ،‬وسيكون ما سيصنعه بنفس ه فيم ا بع د‪ .‬إن اإلنس ان في‬
‫نظر سارتر يشكل ذاته وهويته ويحددها في ضوء ما يختاره لنفسه كمشروع في حدود إمكانياته‪ .‬وبهذا الموق ف يك ون‬
‫سارتر قد انتقد كل دعاة الجبرية والضرورة‪.‬‬
‫فاإلنسان كائن حر يمتلك من الحرية ما يجعله قادرا على تحمل مسؤولية م ا يق وم ب ه من أفع ال‪ ،‬ب ل إن حريت ه‬
‫ليس لها حدود‪ ،‬ألنه محكوم عليه بالحرية؛ في كتابه الوجودي ة نزع ة إنس انية‪ ،‬يؤك د س ارتر أن اإلنس ان لن يك ون إال‬
‫وفق ما سيصنع بنفسه‪ ،‬و كما يريد أن يكون‪ ،‬و يشبهه بالمشروع ألن ه ينفتح على المس تقبل‪ ،‬و يمل ك إمكاني ات عدي دة‬
‫لتجاوز الوضع الحاضر من خالل (الشغل –الفعل ‪-‬الحركة‪ ،‬و ذلك ألنه كائن حر متحمل لمسؤولية فعله‪ ،‬كما يؤكد أن‬
‫وجود اإلنسان يسبق ماهيته‪ ،‬مما ينتج عنه حريته و مسؤوليته الكاملة و المطلقة عن هذا الوجود‪.‬‬
‫حدود التصور ات السابقة‬
‫لكن موقف سارتر يمكن انتقاده كذلك‪ ،‬فإذا كان اسبينوزا يؤكد على الخضوع المطلق‪ ،‬وإذا كان سارتر ي رى أن‬
‫اإلنسان حر حرية مطلقة‪ ،‬فهناك من أكد على أن اإلنسان ال هو حر حرية مطلقة وال هو خاضع بشكل مطل ق‪ ،‬ويمكن‬
‫أن نذكر على سبيل المثال ال الحصر الفيلسوف الفرنسي المعاصر "إيمانويل مونييه" رائد اإلتجاه الشخصاني‪.‬‬
‫"إيمانويل مونييه" ( حرية نسبية مشروطة بالوضع الواقعي الذي يعيشه)‬
‫يؤكد إمانويل مونييه أن حرية اإلنسان ككل م ا هي إال حري ة ش خص‪ ،‬وأن الحري ة مالزم ة للوض ع ال واقعي‬
‫ومحصورة في نطاق حدوده‪ ،‬وبهذا فالحرية ليست حرية مطلقة‪ .‬لذلك وجب أوال القبول بالظروف األولي ة‪ ،‬ألن ه ليس‬
‫كل شيء ممكنا‪ ،‬وبعد ذلك البحث عن التحرر من خالل اإلختيار والتض حية‪ ،‬وهن ا يتض ح كي ف أن الحري ة مرتبط ة‬
‫بالحواجز‪ ،‬فال يمكن حسب مونييه الحديث عن حرية دون وجود حواجز‪ ،‬حيث يقول‪" :‬هذه الحدود تشكل قوة عندما ال‬
‫تكون ضيقة جدا"‪.‬‬
‫ولزي ادة اإليض اح يمكن الوق وف عن د بعض المف اهيم المركزي ة في فلس فة مونيي ه وال تي من بينه ا نج د‬
‫مفهوم ا التحرر والشخصنة‪ .‬أم ا بخص وص التح رر‪ ،‬فيع ني أن الحري ة ليس ت معط اة إنم ا هي فعالي ة‪ ،‬وأم ا‬
‫بخصوص الشخصنة فهي عملية يقوم بها الكائن البشري ح تى يص ل إلى مرحل ة اإلنس ان باإلنفت اح على المث ل العلي ا‬
‫وعلى المجتمع وعلى العالم‪.‬‬

‫خالصة تركيبية‬
‫نخلص في األخير إلى أن الشخص بما هو ذات إنس انية عاقل ة وواعي ة‪ ،‬يخض ع إلى مجموع ة من اإلش راطات‬
‫والضرورات منها ما هو طبيعي بحكم انتماء اإلنسان إلى عالم الطبيعة‪ ،‬ومنها م ا ه و اجتم اعي بحكم ك ون اإلنس ان‬
‫كائنا اجتماعيا‪ ،‬ومنها ما سيكولوجي بحكم كون اإلنسان يشكل بنية سيكولوجية ‪ ،‬غير أن الشخص يمتلك ما يمكنه من‬
‫تجاوز كل تلك الض رورات واإلش راطات ول و بش كل نس بي‪ ،‬فالش خص كم ا عرف ه ج ون ل وك ك ائن مفك ر وذكي‪،‬‬
‫وخاصية الفكر والوعي تمكن الشخص من التعالي ومن تجاوز وضعه‪ .‬فالقول بالخضوع المطلق للشخص سيجعله في‬
‫نفس درج ة ب اقي الموج ودات‪ ،‬أك ثر من ذل ك ف القول بالحري ة ه و ال ذي س يجعل الش خص يتحم ل مس ؤولية أفعال ه‬
‫واختياراته‪.‬‬

You might also like