You are on page 1of 233

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الجزء الثاني عشر ‪ /‬الموسوعة الفقهية ‪:‬‬

‫تشبّه *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبّه لغة ‪ :‬مصدر تشبّه ‪ ،‬يقال ‪ :‬تشبّه فلن ‪ :‬بفلن إذا تكلّف أن يكون مثله والمشابهة‬
‫بين الشّيئين ‪ :‬الشتراك بينهما في معنى من المعاني ‪ ،‬ومنه ‪ :‬أشبه الولد أباه ‪ :‬إذا شاركه في‬
‫صفة من صفاته ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫‪ - 2‬منها ‪ :‬التّباع والتّأسّي والتّقليد وقد تقدّم الكلم فيها تحت عنوان ‪ ( :‬اتّباع ) ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ومنها ‪ :‬الموافقة ‪ ،‬وهي ‪ :‬مشاركة أحد الشّخصين للخر في صورة قول أو فعل أو ترك‬
‫أو اعتقاد أو غير ذلك ‪ ،‬سواء أكان ذلك من أجل ذلك الخر أم ل لجله ‪.‬‬
‫فالموافقة أعمّ من التّشبّه ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالتّشبّه ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ -‬التّشبّه بالكفّار في اللّباس ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم ‪ ،‬والمِالكيّة على المذهب ‪ ،‬وجمهور الشّافعيّة إلى ‪ :‬أنّ‬
‫التّشبّه بالكفّار في اللّباس ‪ -‬الّذي هو شعار لهم به يتميّزون عن المسلمين ‪ -‬يحكم بكفر فاعله‬
‫ظاهرا ‪ ،‬أي في أحكام الدّنيا ‪ ،‬فمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه يكفر ‪ ،‬إل إذا فعله‬
‫لضرورة الكراه أو لدفع الحرّ أو البرد ‪ .‬وكذا إذا لبس زنّار النّصارى إلّا إذا فعل ذلك خديعة‬
‫ن اللّباس‬
‫شبّه بقوم فهو منهم » ل ّ‬
‫في الحرب وطليعة للمسلمين ‪ .‬أو نحو ذلك لحديث ‪ « :‬من َت َ‬
‫الخاصّ بالكفّار علمة الكفر ‪ ،‬ول يلبسه إلّا من التزم الكفر ‪ ،‬والستدلل بالعلمة والحكم بما‬
‫دلّت عليه مقرّر في العقل والشّرع ‪ .‬فلو علم أنّه شدّ ال ّزنّار ل لعتقاد حقيقة الكفر ‪ ،‬بل لدخول‬
‫دار الحرب لتخليص السارى مثل لم يحكم بكفره ‪.‬‬
‫ن من يتشبّه‬
‫ويرى الحنفيّة في قول ‪ -‬وهو ما يؤخذ ممّا ذكره ابن الشّاطّ من المالكيّة ‪ -‬أ ّ‬
‫ص به ل يعتبر كافرا ‪ ،‬إل أن يعتقد معتقدهم ‪ ،‬لنّه موحّد بلسانه‬
‫بالكافر في الملبوس الخا ّ‬
‫مصدّق بجنانه ‪ .‬وقد قال المام أبو حنيفة رحمه ال ‪ :‬ل يخرج أحد من اليمان إلّا من الباب‬
‫الّذي دخل فيه ‪ ،‬والدّخول بالقرار والتّصديق ‪ ،‬وهما قائمان ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى حرمة التّشبّه بالكفّار في اللّباس الّذي هو شعار لهم ‪ .‬قال البهوتيّ ‪ :‬إن‬
‫تزيّا مسلم بما صار شعارا لهل ذمّة ‪ ،‬أو علّق صليبا بصدره حرم ‪ ،‬ولم يكفر بذلك كسائر‬
‫ن من لبس ال ّزنّار ونحوه ل يكفر إذا لم تكن نيّة ‪.‬‬
‫المعاصي ‪ .‬ويرى النّوويّ من الشّافعيّة أ ّ‬
‫أحوال تحريم التّشبّه ‪:‬‬
‫وبتتبع عبارات الفقهاء يتبين أنهم يقيدون كفر من يتشبه بالكفار في اللباس الخاص بهم بقيود‬
‫منها ‪:‬‬
‫‪ - 5‬أن يفعله في بلد السلم ‪ ،‬قال أحمد الرّمليّ ‪ :‬كون التّزيّي بزيّ الكفّار ردّة محلّه إذا‬
‫كان في دار السلم ‪ .‬أمّا في دار الحرب فل يمكن القول بكونه ردّة ‪ ،‬لحتمال أنّه لم يجد‬
‫غيره كما هو الغالب ‪ ،‬أو أن يكره على ذلك ‪.‬‬
‫ن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم‬
‫قال ابن تيميّة ‪ :‬لو أ ّ‬
‫ب للرّجل أو يجب‬
‫( للكفّار ) في الهدي الظّاهر ‪ ،‬لما عليه في ذلك من الضّرر بل قد يستح ّ‬
‫عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظّاهر ‪ ،‬إذا كان في ذلك مصلحة دينيّة ‪ ،‬من دعوتهم إلى‬
‫الدّين والطّلع على باطن أمورهم لخبار المسلمين بذلك ‪ ،‬أو دفع ضررهم عن المسلمين‬
‫ونحو ذلك من المقاصد الحسنة ‪ .‬فأمّا في دار السلم والهجرة الّتي أعزّ اللّه فيها دينه ‪،‬‬
‫وجعل على الكافرين فيها الصّغار والجزية ففيها شرعت المخالفة ‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن يكون التّشبّه لغير ضرورة ‪ ،‬فمن فعل ذلك للضّرورة ل يكفر ‪ ،‬فمن شدّ على وسطه‬
‫زنّارا ودخل دار الحرب لتخليص السرى ‪ ،‬أو فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين‬
‫ل يكفر ‪ .‬وكذلك إن وضع قلنسوة المجوس على رأسه لضرورة دفع الحرّ والبرد ل يكفر ‪.‬‬
‫ص بالكافر ‪ ،‬كبرنيطة النّصرانيّ وطرطور اليهوديّ ‪.‬‬
‫‪ - 7‬أن يكون التّشبّه فيما يخت ّ‬
‫ويشترط المالكيّة لتحقّق ال ّردّة بجانب ذلك ‪:‬أن يكون المتشبّه قد سعى بذلك للكنيسة ونحوها‪.‬‬
‫‪ - 8‬أن يكون التّشبّه في الوقت الّذي يكون اللّباس المعيّن شعارا للكفّار ‪ ،‬وقد أورد ابن حجر‬
‫حديث أنس رضي ال عنه أنّه رأى قوما عليهم الطّيالسة ‪ ،‬فقال ‪ ":‬كأنّهم يهود خيبر" ثمّ قال‬
‫ابن حجر ‪ :‬وإنّما يصلح الستدلل بقصّة اليهود في الوقت الّذي تكون الطّيالسة من شعارهم ‪،‬‬
‫وقد ارتفع ذلك فيما بعد ‪ ،‬فصار داخل في عموم المباح ‪.‬‬
‫‪ - 9‬أن يكون التّشبّه ميل للكفر ‪ ،‬فمن تشبّه على وجه اللّعب والسّخرية لم يرتدّ ‪ ،‬بل يكون‬
‫فاسقا يستحقّ العقوبة ‪ ،‬وهذا عند المالكيّة ‪.‬‬
‫‪ - 10‬هذا ‪ ،‬والتّشبّه في غير المذموم وفيما لم يقصد به التّشبّه ل بأس به ‪.‬‬
‫ل شيء ‪ ،‬بل في المذموم‬
‫ن التّشبّه بأهل الكتاب ل يكره في ك ّ‬
‫قال صاحب الدّ ّر المختار ‪ :‬إ ّ‬
‫وفيما يقصد به التّشبّه ‪ .‬قال هشام ‪ :‬رأيت أبا يوسف لبسا نعلين مخصوفين بمسامير فقلت‬
‫ن فيه تشبّها‬
‫أترى بهذا الحديد بأسا ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬قلت ‪ :‬سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك ل ّ‬
‫بالرّهبان ‪ ،‬فقال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يلبس النّعال الّتي لها شعر وإنّها من‬
‫لباس الرّهبان » ‪.‬‬
‫ن الرض ممّا ل‬
‫ن صورة المشابهة فيما تعلّق به صلح العباد ل يضرّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫فقد أشار إلى أ ّ‬
‫يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلّا بهذا النّوع ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬ردّة ‪ ،‬كفر ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬التّشبّه بالكفّار في أعيادهم ‪:‬‬
‫‪ - 11‬ل يجوز التّشبّه بالكفّار في أعيادهم ‪ ،‬لما ورد في الحديث « من تشبّه بقوم فهو منهم‬
‫» ‪ ،‬ومعنى ذلك تنفير المسلمين عن موافقة الكفّار في كلّ ما اختصّوا به ‪ .‬قال اللّه تعالى ‪{ :‬‬
‫ن اتّبعتَ‬
‫وََلنْ َت ْرضَى عنكَ اليهودُ وَل الّنصَارى حتّى َت ّتبِعَ مِّلتَهم قلْ إنّ هُدى الّلهِ هو ال ُهدَى وَلئ ْ‬
‫ي ول نَصِيرٍ }‬
‫ن ول ّ‬
‫ن الّلهِ مِ ْ‬
‫ك مِ َ‬
‫ن العلمِ مَا َل َ‬
‫أَهواءَهم َب ْعدَ الّذي جَا َءكَ مِ َ‬
‫وروى البيهقيّ عن عمر رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬ل تعلّموا رطانة العاجم ‪ ،‬ول تدخلوا على‬
‫المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ‪ ،‬فإنّ السّخطة تنزل عليهم ‪.‬‬
‫وروي عن عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما أنّه قال ‪ :‬من م ّر ببلد العاجم فصنع نيروزهم‬
‫ومهرجانهم وتشبّه بهم حتّى يموت وهو كذلك ‪ ،‬حشر معهم يوم القيامة ‪.‬‬
‫ن العياد من جملة الشّرع والمناهج والمناسك الّتي قال اللّه سبحانه وتعالى ‪ { :‬لِكلّ ُأمّةٍ‬
‫ول ّ‬
‫سكُوه } كالقبلة والصّلة ‪ ،‬والصّيام فل فرق بين مشاركتهم في العيد وبين‬
‫جعَلْنا َمنْسَكا همْ نَا ِ‬
‫َ‬
‫مشاركتهم في سائر المباهج ‪ ،‬فإنّ الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر ‪ ،‬والموافقة في‬
‫بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر ‪ ،‬بل العياد من أخصّ ما تتميّز به الشّرائع ومن‬
‫ص شرائع الكفر وأظهر شعائره ‪ .‬قال‬
‫أظهر ما لها من الشّعائر ‪ ،‬فالموافقة فيها موافقة في أخ ّ‬
‫قاضيخان ‪ :‬رجل اشترى يوم النّيروز شيئا لم يشتره في غير ذلك اليوم ‪ :‬إن أراد به تعظيم‬
‫ذلك اليوم كما يعظّمه الكفرة يكون كفرا ‪ ،‬وإن فعل ذلك لجل السّرف والتّنعّم ل لتعظيم اليوم‬
‫ل يكون كفرا ‪ .‬وإن أهدى يوم النّيروز إلى إنسان شيئا ولم يرد به تعظيم اليوم ‪ ،‬إنّما فعل ذلك‬
‫على عادة النّاس ل يكون كفرا ‪ .‬وينبغي أن ل يفعل في هذا اليوم ما ل يفعله قبل ذلك اليوم‬
‫ول بعده ‪ ،‬وأن يحترز عن التّشبّه بالكفرة ‪.‬‬
‫وكره ابن القاسم ‪ -‬من المالكيّة ‪ -‬للمسلم أن يهدي إلى النّصرانيّ في عيده مكافأة ‪ ،‬ورآه من‬
‫ن المسلم‬
‫تعظيم عيده وعونا له على كفره ‪ .‬وكما ل يجوز التّشبّه بالكفّار في العياد ل ُيعَا ُ‬
‫المتشبّه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك ‪ ،‬فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب‬
‫دعوته ‪ ،‬ومن أهدى من المسلمين هديّة في هذه العياد ‪ ،‬مخالفة للعادة في سائر الوقات غير‬
‫هذا العيد لم تقبل هديّته ‪ ،‬خصوصا إن كانت الهديّة ممّا يستعان بها على التّشبّه بهم ‪ ،‬مثل‬
‫إهداء الشّمع ونحوه في عيد الميلد ‪.‬‬
‫هذا وتجب عقوبة من يتشبّه بالكفّار في أعيادهم ‪.‬‬
‫وأمّا ما يبيعه الكفّار في السواق في أعيادهم فل بأس بحضوره ‪ ،‬نصّ عليه أحمد في رواية‬
‫مهنّا ‪ .‬وقال ‪ :‬إنّما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم ‪ ،‬فأمّا ما يباع في السواق من‬
‫المأكل فل ‪ ،‬وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لجلهم ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬عيد ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬التّشبّه بالكفّار في العبادات ‪:‬‬
‫يكره التّشبّه بالكفّار في العبادات في الجملة ‪ ،‬ومن أمثلة التّشبّه بهم في هذا المجال ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّلة في أوقات الكراهة ‪:‬‬
‫‪ - 12‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن الصّلة في أوقات الكراهة منها للتّشبّه بعبادة الكفّار‬
‫‪ .‬فقد أخرج مسلم من حديث عمرو بن عنبسة رضي ال عنه أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪ « :‬صلّ صلة الصّبح ‪ ،‬ثمّ أقصر عن الصّلة حتّى تطلع الشّمس حتّى ترتفع ‪ ،‬فإنّها‬
‫ن الصّلة مشهودة‬
‫تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ‪ ،‬وحينئذ يسجد لها الكفّار ‪ .‬ثمّ صلّ فإ ّ‬
‫ن حينئذ تسجر جهنّم ‪ ،‬فإذا أقبل‬
‫محضورة حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح ‪ .‬ث ّم أقصر عن الصّلة فإ ّ‬
‫الفيء فصلّ فإنّ الصّلة مشهودة محضورة حتّى تصلّي العصر ‪ .‬ثمّ أقصر عن الصّلة حتّى‬
‫تغرب الشّمس فإنّها تغرب بين قَ ْر َنيْ شيطان وحينئذ يسجد لها الكفّار » ‪ .‬وللتّفصيل في‬
‫الحكام المتعلّقة بأوقات الكراهة ( ر ‪ :‬الموسوعة الفقهيّة ‪ 180 7‬أوقات الصّلة ف ‪) 23‬‬
‫ب ‪ -‬الختصار في الصّلة ‪:‬‬
‫ن اليهود تكثر من فعله ‪ ،‬فنهي‬
‫‪ - 13‬ل خلف بين الفقهاء في كراهة الختصار في الصّلة ل ّ‬
‫عنه كراهة للتّشبّه بهم ‪ ،‬فقد أخرج البخاريّ ومسلم واللّفظ له عن أبي هريرة رضي ال عنه «‬
‫نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يصلّي الرّجل مختصرا » وأخرج البخاريّ أيضا في‬
‫ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضّحى عن مسروق عن عائشة رضي ال عنها أنّها كانت‬
‫ن اليهود تفعله "‬
‫تكره أن يضع يده على خاصرته ‪ ،‬تقول ‪ ":‬إ ّ‬
‫زاد ابن أبي شيبة في رواية له ‪ « :‬في الصّلة »‬
‫وفي رواية أخرى « ل تشبّهوا باليهود » وللتّفصيل ( ر ‪ :‬صلة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وِصال الصّوم ‪:‬‬
‫‪ - 14‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬وجمهور المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة في أحد الوجهين ‪ ،‬والحنابلة إلى كراهة‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وصال الصّوم ‪ ،‬لما روى البخاريّ من حديث أنس رضي ال عنه أ ّ‬
‫ت كأحد منكم ‪ ،‬إنّي أطعم وأسقى أو‬
‫وسلم قال « ل تواصلوا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إنّك تواصل ‪ ،‬قال لس ُ‬
‫إنّي أبيت أطعم وأسقى » ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم « ل تواصلوا » نهي وأدناه يقتضي‬
‫الكراهة ‪ .‬وعلّة النّهي التّشبّه بالنّصارى كما صرّح به في حديث بشير بن الخصاصية رضي‬
‫ال عنه الّذي أخرجه أحمد والطّبرانيّ وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في‬
‫تفسيرهما بإسناد صحيح إلى « ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت ‪ :‬أردت أن أصوم يومين‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم نهى عن هذا ‪ ،‬وقال ‪ :‬يفعل ذلك‬
‫مواصلة ‪ ،‬فمنعني بشير وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫النّصارى ‪ ،‬ولكن صوموا كما أمركم اللّه ‪ ،‬أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ‪ ،‬فإذا كان اللّيل فأفطروا »‬
‫وذهب أحمد وجماعة من المالكيّة إلى جواز الوصال إلى السّحر ‪ ،‬وبهذا قال إسحاق وابن‬
‫المنذر وابن خزيمة ‪ .‬ويرى الشّافعيّة في الوجه الخر ‪ ،‬وهو ما صحّحه ابن العربيّ من‬
‫المالكيّة ‪ :‬تحريم وصال الصّوم ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬صوم ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬إفراد يوم عاشوراء بالصّوم ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو مقتضى كلم أحمد كما يقول ابن تيميّة ‪ -‬إلى كراهة إفراد يوم‬
‫عاشوراء بالصّوم للتّشبّه باليهود ‪ .‬فقد روى مسلم عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه قال ‪« :‬‬
‫حين صام رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪،‬‬
‫إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى ‪ .‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬فإذا كان العام‬
‫المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع » قال ‪ :‬فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ ،‬نقل عن بعض العلماء في تعليقه على الحديث ‪ :‬لعلّ السّبب في صوم التّاسع مع‬
‫العاشر أن ل يتشبّه باليهود في إفراد العاشر ‪ ،‬وفي الحديث إشارة إلى هذا ‪.‬‬
‫ب الشّافعيّة والحنابلة صوم عاشوراء ‪ -‬وهو العاشر من المحرّم ‪ -‬وتاسوعاء ‪-‬‬
‫هذا ‪ ،‬واستح ّ‬
‫وهو التّاسع منه ‪ -‬ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ أن يصوم قبل عاشوراء يوما وبعده يوما ‪ .‬وقال‬
‫المالكيّة ‪ :‬ندب صوم عاشوراء وتاسوعاء والثّمانية قبله ‪.‬‬
‫وتفصيل ر ‪ ( :‬صوم ‪ ،‬وعاشوراء ) ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّشبّه بالفَسَقَة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬قال القرطبيّ ‪ :‬لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم ‪ ،‬فقد يظنّ به‬
‫ن السّوء فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه ‪.‬‬
‫من ل يعرفه أنّه منهم ‪ ،‬فيظنّ به ظ ّ‬
‫وللتّفصيل ر ‪ ( :‬شهادة ‪ ،‬فسق ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ -‬تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه ‪:‬‬
‫‪ - 17‬ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبّه النّساء بالرّجال والرّجال بالنّساء ‪.‬‬
‫فقد روي البخاريّ عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه قال ‪ « :‬لعن رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ‪ ،‬والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في قول ‪ ،‬وجماعة من الحنابلة إلى كراهة تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه ‪.‬‬
‫والتّشبّه يكون في اللّباس والحركات والسّكنات والتّصنّع بالعضاء والصوات ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ :‬تشبّه الرّجال بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ‪ ،‬مثل لبس المقانع‬
‫والقلئد والمخانق والسورة والخلخل والقرط ونحو ذلك ممّا ليس للرّجال لبسه ‪ .‬وكذلك‬
‫ن في الفعال الّتي هي مخصوصة بها كالنخناث في الجسام والتّأنّث في الكلم‬
‫التّشبّه به ّ‬
‫والمشي‪ .‬كذلك تشبّه النّساء بالرّجال في زيّهم أو مشيهم أو رفع صوتهم أو غير ذلك‪.‬‬
‫ل بلد ‪ ،‬فقد ل يفترق زيّ نسائهم عن زيّ رجالهم لكن‬
‫وهيئة اللّباس قد تختلف باختلف عادة ك ّ‬
‫ل من النّوعين‬
‫ن العبرة في لباس وزيّ ك ّ‬
‫تمتاز النّساء بالحتجاب والستتار ‪ .‬قال السنويّ ‪ :‬إ ّ‬
‫ل ناحية ‪.‬‬
‫‪ -‬حتّى يحرم التّشبّه به فيه ‪ -‬بعرف ك ّ‬
‫ص بمن تعمّد ذلك ‪ ،‬وأمّا من كان ذلك من أصل خلقته‬
‫وأمّا ذمّ التّشبّه بالكلم والمشي فمخت ّ‬
‫فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والدمان على ذلك بالتّدريج ‪ ،‬فإن لم يفعل وتمادى دخله ال ّذمّ ‪ ،‬ول‬
‫سيّما إن بدا منه ما يدلّ على الرّضا به ‪.‬‬
‫هذا ويجب إنكار التّشبّه باليد ‪ ،‬فإن عجز فباللّسان مع أمن العاقبة ‪ ،‬فإن عجز فبقلبه كسائر‬
‫المنكرات ‪ .‬ويترتّب على هذا أنّه يجب على الزّوج أن يمنع زوجته ممّا تقع فيه من التّشبّه‬
‫بالرّجال في لبسة أو مشية أو غيرهما ‪ ،‬امتثالً لقوله تعالى ‪ { :‬قُوا َأنْفسَكم وَأَهليك ْم نَارا } أي‬
‫بتعليمهم وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربّهم ونهيهم عن معصيته ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬تشبّه أهل ال ّذمّة بالمسلمين ‪:‬‬
‫‪ - 18‬يؤخذ أهل ال ّذمّة بإظهار علمات يعرفون بها ‪ ،‬ول يتركون يتشبّهون بالمسلمين في‬
‫لباسهم ومراكبهم وهيئاتهم ‪ .‬والصل فيه ما روي" أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه ال مرّ‬
‫على رجال ركوب ذوي هيئة ‪ ،‬فظنّهم مسلمين فسلّم عليهم ‪ ،‬فقال له رجل من أصحابه ‪:‬‬
‫أصلحك اللّه تدري من هؤلء ؟ فقال ‪ :‬من هم ؟ فقال ‪ :‬نصارى بني تغلب ‪ .‬فلمّا أتى منزله‬
‫أمر أن ينادى في النّاس أن ل يبقى نصرانيّ إل عقد ناصيته وركب الكاف "‪ .‬ولم ينقل أنّه‬
‫أنكر عليه أحد ‪ ،‬فيكون كالجماع ‪ .‬ولنّ السّلم من شعائر السلم فيحتاج المسلمون إلى‬
‫إظهار هذه الشّعائر عند اللتقاء ‪ ،‬ول يمكنهم ذلك إلّا بتمييز أهل ال ّذمّة بالعلمة ‪.‬‬
‫ن إذللهم واجب بغير أذى‬
‫هذا ‪ ،‬وإذا وجب التّمييز وجب أن يكون فيه صغار ل إعزاز ‪ ،‬ل ّ‬
‫من ضرب أو صفع بل سبب يكون منه ‪ ،‬بل المراد اتّصافه بهيئة خاصّة ‪.‬‬
‫وكذا يجب أن يتميّز نساء أهل ال ّذمّة عن نساء المسلمين في حال المشي في الطّريق ‪ ،‬وتجعل‬
‫على دورهم علمة كي ل يعاملوا بما يختصّ به المسلمون ‪ ،‬ول يمنعون من أن يسكنوا في‬
‫ن عقد ال ّذمّة شرع ليكون وسيلة‬
‫أمصار المسلمين في غير جزيرة العرب يبيعون ويشترون ‪ ،‬ل ّ‬
‫لهم إلى السلم ‪ .‬وتمكينهم من المقام أبلغ إلى هذا المقصود ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في المور الّتي يمنع تشبّه أهل ال ّذمّة فيه بالمسلمين تنظر أبواب الجزية وعقد ال ّذمّة‬
‫من كتب الفقه ‪.‬‬

‫تشبيب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبيب مصدر شبّب ‪ .‬ومن معانيه ‪ :‬ترقيق أوّل الشّعر بذكر النّساء ‪ ،‬وشبّب بالمرأة ‪:‬‬
‫ي‪.‬‬
‫قال فيها الغزل أو النّسيب ‪ .‬والصطلح الفقهيّ ل يخرج عن هذا المعنى اللّغو ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّشبيب ‪ ،‬والنّسيب ‪ ،‬والغزل ألفاظ مترادفة ‪ ،‬المراد منها ‪ :‬ذكر محاسن النّساء ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬يحرم التّشبيب بامرأة معيّنة محرّمة على المشبّب أو بغلم أمرد ‪.‬‬
‫ول يعرف خلف بين الفقهاء في حرمة ذكر المثير على الفحش من الصّفات الحسّيّة والمعنويّة‬
‫لمرأة أجنبيّة محرّمة عليه ‪ ،‬ويستوي في ذلك ذكر الصّفات الظّاهرة والباطنة لما في ذلك من‬
‫اليذاء لها ولذويها ‪ ،‬وهتك السّتر والتّشهير بمسلمة ‪.‬‬
‫أمّا التّشبّب بزوجته أو جاريته فهو جائز ما لم يصف أعضاءها الباطنة ‪ ،‬أو يذكر ما من حقّه‬
‫الخفاء فإنّه يسقط مروءته ‪ ،‬ويكون حراما أو مكروها ‪ ،‬على خلف في ذلك ‪.‬‬
‫وكذا يجوز التّشبيب بامرأة غير معيّنة ‪ ،‬ما لم يقل فحشا أو ينصب قرينة تدلّ على التّعيين ‪،‬‬
‫ن الغرض من ذلك هو تحسين الكلم وترقيقه ل تحقيق المذكور ‪ ،‬فإن نصب قرينة تدلّ‬
‫لّ‬
‫على التّعيين فهو في حكم التّعيين ‪ .‬وليس ذكر اسم امرأة مجهولة كليلى وسعاد تعيينا ‪ ،‬لحديث‬
‫‪ :‬كعب بن زهير ‪ :‬وإنشاده قصيدته المشهورة « بانت سعاد ‪ . .‬بين يدي الرّسول صلى ال‬
‫عليه وسلم » ‪.‬‬
‫التّشبّب بغلم ‪:‬‬
‫‪ - 3‬يحرم التّشبيب بغلم ‪ -‬إن ذكر أنّه يعشقه وإن لم يكن معيّنا ‪ ،‬لنّه ل يحلّ بحال ‪ .‬وقيل‬
‫‪ :‬إن لم يكن معيّنا فهو كالمرأة غير المعيّنة ‪ .‬هذا في إنشاء القول من شعر أو نثر ‪ .‬أمّا رواية‬
‫ذلك أو إنشاده فإنّه إذا لم يقصد به الحضّ على المحرّم فهو مباح لنحو الستشهاد أو تعلّم‬
‫الفصاحة والبلغة ‪.‬‬
‫وقيّد الحنفيّة تحريم التّشبيب بالمرأة بكونها معيّنة حيّة‪ .‬فلو شبّب بامرأة غير حيّة لم يحرم ‪.‬‬

‫تشبيك *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبيك في اللّغة ‪ :‬المداخلة ‪ ،‬فيقال لكلّ متداخلين أنّهما مشتبكان ‪ .‬ومنه ‪ :‬شبّاك الحديد ‪،‬‬
‫وتشبيك الصابع ‪ -‬وهو المراد هنا ‪ -‬لدخول بعضها في بعض ‪ .‬والشّبك ‪ :‬الخلط والتّداخل ‪،‬‬
‫فيقال ‪ :‬شبك الشّيء يشبكه شبكا ‪ :‬إذا خلطه وأنشب بعضه في بعض ‪.‬‬
‫وتشبيك الصابع ل يخرج في معناه الصطلحيّ عن هذا ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬تشبيك الصابع‬
‫‪ :‬أن يدخل الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الخرى ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬أجمع الفقهاء على أنّ تشبيك الصابع في الصّلة مكروه ‪ ،‬لما روي عن كعب بن عجرة‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رأى رجل قد شبّك أصابعه في الصّلة ‪،‬‬
‫رضي ال عنه « أ ّ‬
‫ففرّج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بين أصابعه » ‪ .‬وقال ابن عمر رضي ال عنهما في‬
‫الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه « تلك صلة المغضوب عليهم »‬
‫وأمّا تشبيكها في المسجد في غير صلة ‪ ،‬وفي انتظارها أي حيث جلس ينتظرها ‪ ،‬أو ماشيا‬
‫إليها ‪ ،‬فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة التّشبيك حينئذ ‪ ،‬لنّ انتظار الصّلة هو في‬
‫حبِسُه » ولما‬
‫حكم الصّلة لحديث الصّحيحين « ل يزال أحدكم في صلة ما دامت الصّل ُة َت ْ‬
‫روى أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا « إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامدا إلى‬
‫ن النّبيّ صلى ال‬
‫المسجد ‪ ،‬فل يشبّك بين يديه فإنّه في صلة » وما روى أبو سعيد الخدريّ أ ّ‬
‫ن التّشبيك من الشّيطان ‪ ،‬وإنّ‬
‫عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا كان أحدكم في المسجد فل يشبّكنّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫أحدكم ل يزال في صلة ما دام في المسجد حتّى يخرج منه »‬
‫وعن كعب بن عجرة رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول‬
‫« إذا توضّأ أحدكم ثمّ خرج عامدا إلى الصّلة ‪ ،‬فل يشبّكنّ بين يديه ‪ ،‬فإنّه في صلة » ‪.‬‬
‫ن النّهي عنه لما فيه‬
‫‪ - 3‬وقد اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫من العبث ‪ .‬وقيل ‪ :‬لما فيه من التّشبّه بالشّيطان ‪ .‬وقيل ‪ :‬لدللة الشّيطان على ذلك ‪ .‬وفي‬
‫ي على مراقي الفلح ‪ :‬حكمة النّهي عن التّشبيك ‪ :‬أنّه من الشّيطان ‪ ،‬وأنّه‬
‫حاشية الطّحاو ّ‬
‫ن الحدث ‪ ،‬ولما نبّه عليه في حديث ابن عمر رضي ال عنهما‬
‫يجلب النّوم ‪ ،‬والنّوم من مظا ّ‬
‫في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه تلك صلة المغضوب عليهم فكره ذلك لما هو في حكم‬
‫الصّلة ‪ ،‬حتّى ل يقع في المنهيّ عنه ‪ .‬وكراهته في الصّلة أشدّ ‪.‬‬
‫ول يكره عند الجمهور التّشبيك بعد الفراغ ولو كان في المسجد ‪ ،‬لحديث ذي اليدين رضي ال‬
‫عنه الّذي رواه أبو هريرة رضي ال عنه ‪ -‬قال « صلّى بنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫شيّ ‪ -‬قال ابن سيرين ‪ :‬سمّاها أبو هريرة ‪ ،‬ولكن نسيت أنا ‪ -‬قال ‪ :‬فصلّى‬
‫إحدى صلتي ال َع ِ‬
‫بنا ركعتين ‪ ،‬ثمّ سلّم ‪ ،‬فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ‪ ،‬ووضع‬
‫يده اليمنى على اليسرى ‪ ،‬وشبّك بين أصابعه ‪ ،‬ووضع خدّه اليمن على ظهر كفّه اليسرى ‪،‬‬
‫ن من أبواب المسجد ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قُصِرت الصّلة ‪ ،‬وفي القوم‬
‫سرْعا ُ‬
‫خ َرجَتِ ال ّ‬
‫وَ‬
‫أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه ‪ ،‬وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال ‪ :‬يا‬
‫رسول اللّه أنسيتَ أم قصرت الصّلة ؟ قال لم أنس ولم تقصر فقال ‪ :‬أكما يقول ذو اليدين ؟‬
‫فقالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬فتقدّم فصلّى ما ترك ‪ ،‬ثمّ سلّم ‪ ،‬ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ثمّ رفع‬
‫رأسه وكبّر ‪ ،‬ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده ‪ -‬أو أطول ‪ ،‬ث ّم رفع رأسه وكبّر ‪ .‬فربّما سألوه ‪ :‬ثمّ‬
‫سلّم ؟ فيقول ‪ :‬نبّئت أنّ عمران بن حصين قال ‪ :‬ثمّ سلّم » ‪.‬‬
‫ول بأس به عند المالكيّة في غير صلة حتّى ولو في المسجد ‪ ،‬لنّ كراهته عندهم إنّما هي‬
‫في الصّلة فقط ‪ ،‬إلّا أنّه خلف الولى على نحو ما ورد بالشّرح الكبير وجواهر الكليل ‪.‬‬
‫وفي مواهب الجليل ما نصّه ‪ :‬وأمّا بالنّسبة لغير الصّلة فالتّشبيك ل بأس به حتّى في المسجد‬
‫‪ .‬قال ابن عرفة ‪ :‬وسمع ابن القاسم ‪ -‬أي من مالك ‪ : -‬ل بأس بتشبيك الصابع يعني في‬
‫المسجد في غير صلة ‪ .‬وأومأ داود بن قيس ليد مالك مشبّكا أصابعه به ‪ -‬أي بالمسجد ‪-‬‬
‫ليطلقه وقال ‪ :‬ما هذا ؟ فقال مالك ‪ :‬إنّما يكره في الصّلة ‪ .‬وقال ابن رشد ‪ :‬صحّ في حديث‬
‫ذي اليدين تشبيكه صلى ال عليه وسلم بين أصابعه في المسجد ‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأمّا تشبيكها خارج الصّلة فيما ليس من توابعها ‪ :‬بأن لم يكن في حال سعي إليها ‪ ،‬أو‬
‫ث بل لغرض‬
‫جلوس في المسجد لجلها ‪ ،‬فإن كان لحاجة نحو إراحة الصابع ‪ -‬وليس لعب ٍ‬
‫صحيح ‪ -‬فإنّه في هذه الحالة ل يكره عند الحنفيّة ‪ ،‬فقد صحّ عنه صلى ال عليه وسلم أنّه قال‬
‫‪ « :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا » وشبّك بين أصابعه ‪ .‬فإنّه لفادة تمثيل المعنى‬
‫سيّة ‪.‬‬
‫‪ ،‬وهو التّعاضد والتّناصر بهذه الصّورة الح ّ‬
‫فلو شبّك لغير حاجة على سبيل العبث كره تنزيها ‪ .‬وفي حاشية الشبراملسي من الشّافعيّة ‪ :‬أنّه‬
‫إذا جلس في المسجد ل للصّلة بل لغيرها ‪ ،‬كحضور درس أو كتابة ‪ ،‬فل يكره ذلك في حقّه‬
‫لنّه لم يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلة ‪ .‬وأمّا إذا انتظرهما معا فينبغي الكراهة ‪ ،‬لنّه يصدق‬
‫عليه أنّه ينتظر الصّلة ‪ .‬وأمّا المالكيّة فقد رأوا كراهة التّشبيك للمصلّي خاصّة ولو في غير‬
‫مسجد ‪ ،‬ول بأس به عندهم في غير الصّلة ولو في المسجد ‪ ،‬لقول مالك ‪ :‬يكره في الصّلة‬
‫حين أومأ داود بن قيس ليده مشبّكا أصابعه ليطلقه وقال ‪ :‬ما هذا ؟ ‪.‬‬
‫ن مستمع الخطبة في‬
‫‪ - 5‬والتّشبيك حال خطبة الجمعة يكره عند غير المالكيّة من الئمّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫انتظار الصّلة ‪ ،‬فهو كمن في الصّلة لما سبق ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬غير مكروه ‪ ،‬لنّ الكراهة عندهم في الصّلة فقط ولو كان في المسجد ‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا هو خلف الولى كما تقدّم ‪.‬‬

‫تشبيه *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبيه في اللّغة ‪ :‬مصدر شبّهت الشّيء بالشّيء ‪ :‬إذا أقمته مقامه بصفة جامعة بينهما ‪.‬‬
‫وتكون الصّفة ذاتيّة ومعنويّة ‪ :‬فالذّاتيّة نحو هذا الدّرهم كهذا الدّرهم أي في القدر ‪ ،‬والمعنويّة‬
‫نحو زيد كالسد ‪ .‬وفي اصطلح علماء البيان ‪ :‬هو الدّللة على اشتراك شيئين في وصف من‬
‫أوصاف الشّيء في نفسه ‪ ،‬كالشّجاعة في السد والنّور في الشّمس ‪.‬‬
‫سبِيلِه صَفّا كَأنّهمْ ُب ْنيَانٌ‬
‫ن في َ‬
‫ن يُقَاتِلُو َ‬
‫ن اللّ َه ُيحِبّ الّذي َ‬
‫وهو إمّا تشبيه مفرد كقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫َمرْصُوصٌ } أو تشبيه مفردات بمفردات ‪ ،‬كقوله صلى ال عليه وسلم « إنّما مثل ما بعثني اللّه‬
‫به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ‪ ،‬فكان منها نقيّة َقبِلت الماءَ فأنبتت الكلَ‬
‫والعشبَ الكثير ‪ ،‬وكان منها أجادبُ أمسكت الما َء ‪ -‬فنفع اللّه بها النّاس فشربوا وسقوا‬
‫ن ل تمسك ماء ول تنبت كل ‪ .‬فذلك َمثَلُ‬
‫وزرعوا ‪ ،‬وأصابت منها طائفة أخرى إنّما هي قِيعا ٌ‬
‫من فَقُه في دين اللّه ونفعه ما بعثني اللّه به َفعَلِم وعلّم ‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ‪ ،‬ولم‬
‫يقبل هدى اللّه الّذي أُرسلتُ به » ‪ .‬فقد شبّه العلم بالغيث ‪ ،‬وشبّه من ينتفع به بالرض‬
‫طيّبة ‪ ،‬ومن ل ينتفع به بالقيعان ‪ .‬فهي تشبيهات مجتمعة ‪ ،‬أو تشبيه مركّب ‪ ،‬كقوله صلى‬
‫ال ّ‬
‫ن َمثَلي مثل النبياء من قبلي ‪ :‬كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ‪ ،‬إل‬
‫ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫ضعَتْ ‪ ،‬هذه‬
‫موضع لبنة من زاوية ‪ ،‬فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون ‪ :‬هل ُو ِ‬
‫الّل ِبنَةُ ؟ قال ‪ :‬فأنا الّل ِبنَةُ ‪ ،‬وأنا خا َتمُ النّبيّين » ‪.‬‬
‫فهذا تشبيه المجموع بالمجموع ‪ ،‬لنّ وجه الشّبه عقليّ منتزع من عدّة أمور ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫القياس ‪:‬‬
‫‪ - 2‬القياس هو ‪ :‬إلحاق فرع بأصل في الحكم لعلّة جامعة بينهما ‪.‬‬
‫حكم التّشبيه ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّشبيه بحسب موقعه والمراد منه على ما سيأتي ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّشبيه في الظّهار ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الظّهار شرعا ‪ :‬تشبيه المسلم زوجته أو جزءا شائعا منها بمحرّم عليه تأبيدا ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫أنت عليّ كظهر أمّي أو نحوه ‪ ،‬أو كبطنها أو كفخذها ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن ِمنْكمْ ِمنْ ِنسَائِهمْ ما هنّ‬
‫وهذا النّوع من التّشبيه حرام نصّا لقوله تعالى ‪ { :‬الّذينَ ُيظَا ِهرُو َ‬
‫ن ُم ْنكَرا مِن القولِ وزورا } ‪.‬‬
‫ُأ ّمهَاتِهم إنْ ُأمّهاتُه ْم إل اللئي وََل ْدنَهم ‪ ،‬وَِإنّهمْ ليقولو َ‬
‫وإذا وقع من الزّوج التّشبيه ‪ ،‬ممّا يعتبر ظهارا ‪ ،‬يحرم عليه وطء امرأته قبل أن يكفّر باتّفاق‬
‫الفقهاء ‪ .‬وكذلك يحرم التّلذّذ بما دون الجماع عن جمهور الفقهاء ‪ :‬الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو‬
‫ن َي َتمَاسّا‬
‫ن قَبلِ أَ ْ‬
‫قول عند الشّافعيّة ‪ ،‬ورواية عند الحنابلة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ف َتحْرِيرُ َرقَبَ ٍة مِ ْ‬
‫ن َقبْلِ أَنْ‬
‫شهْرين ُم َتتَابعين مِ ْ‬
‫جدْ َفصِيامُ َ‬
‫ن لمْ َي ِ‬
‫ن خَبيرٌ فَمَ ْ‬
‫عظُونَ به واللّ ُه ِبمَا َت ْعمَلو َ‬
‫ذلك ْم تُو َ‬
‫َي َتمَاسّا } والتّماسّ شامل للوطء ودواعيه ‪ .‬وفي قول عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو رواية أخرى عند‬
‫الحنابلة ‪ :‬ل يحرم إلّا الوطء ‪ .‬وهذا في صريح ألفاظ الظّهار ‪.‬‬
‫ي مثل أمّي صحّت نيّته برّا أو ظهارا أو طلقا ‪.‬‬
‫أمّا في كناياته ‪ ،‬كقوله ‪ :‬أنت عل ّ‬
‫وفي الموضوع فروع كثيرة ينظر تفصيلها مع اختلف الفقهاء في مصطلح ( ظهار ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّشبيه في القذف ‪:‬‬
‫‪ - 4‬أجمع العلماء على أنّه إذا صرّح القاذف بالزّنى كان قذفا ورميا موجبا للحدّ ‪ ،‬فإن عرّض‬
‫ولم يصرّح ‪ ،‬فقال مالك ‪ :‬هو قذف ‪ ،‬وقال أبو حنيفة والشّافعيّ ‪ :‬ل يكون قذفا حتّى يقول ‪:‬‬
‫أردت به القذف ‪ .‬والدّليل لما قاله مالك هو أنّ موضوع الحدّ في القذف إنّما هو لزالة المعرّة‬
‫الّتي أوقعها القاذف بالمقذوف ‪ ،‬فإذا حصلت المعرّة بالتّعريض وجب أن يكون قذفا‬
‫كالتّصريح ‪ ،‬وذلك راجع إلى الفهم ‪ ،‬وقد قال تعالى على لسان قوم شعيب أنّهم قالوا له { ِإ ّنكَ‬
‫لَنتَ الحَليمُ ال ّرشِيد } أي السّفيه الضّالّ ‪ ،‬فعرّضوا له بالسّبّ بكلم ظاهره المدح في أحد‬
‫التّأويلت ‪ .‬وقد حبس عمر رضي ال عنه الحطيئة لمّا قال لحدهم ‪:‬‬
‫عمُ الكَاسِي‬
‫ك أنتَ الطّا ِ‬
‫وَاقْعدْ َفِإنّ َ‬ ‫َدعِ ال َمكَا ِرمَ ل َت ْرحَلْ ِل ُب ْغ َيتِها‬
‫لنّه شبّهه بالنّساء في أنّهنّ يُط َعمْن ويسقين ويكسين ‪ .‬وعلى ذلك فإذا فهم من تشبيه المرأة أو‬
‫الرّجل بالعفيفة أو العفيف استهزاء ‪ ،‬كان كالرّمي الصّريح في مذهب مالك ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تشبيه الرّجل غيره بما يكره ‪:‬‬
‫‪ - 5‬ل يجوز للمسلم أن يشبّه أخاه المسلم بما يكرهه ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَل َتنَا َبزُوا بِالَلْقَابِ بئسَ‬
‫السمُ ال ُفسُوقُ بعدَ الِيمانِ } وسواء أكان التّشبيه بذكر أداة التّشبيه أو بحذفها كقوله ‪ :‬يا‬
‫مخنّث ‪ ،‬يا أعمى ‪.‬‬
‫واتّفق الفقهاء على أنّه يعزّر بقوله ‪ :‬يا كافر يا منافق يا أعور يا نمّام يا كذّاب يا خبيث يا‬
‫ل ما فيه إيذاء بغير حقّ ‪ ،‬ولو بغمز العين أو إشارة‬
‫مخنّث يا ابن الفاسقة ‪ ،‬ونحو ذلك من ك ّ‬
‫ل معصية ل حدّ فيها فيها التّعزير ‪.‬‬
‫اليد ‪ ،‬لرتكابه معصية ل حدّ فيها ‪ ،‬وك ّ‬
‫وكذلك يعزّر إذا شبّهه بالحيوانات الدّنيئة كقوله ‪ :‬يا حمار ‪ ،‬يا كلب ‪ ،‬يا قرد ‪ ،‬يا بقر ونحو‬
‫ذلك عند جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو المختار عند متأخّري الحنفيّة ‪-‬‬
‫ل من ارتكب منكرا أو آذى مسلما بغير حقّ بقول أو فعل أو إشارة يستحقّ التّعزير ‪.‬‬
‫نكّ‬
‫لّ‬
‫وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ‪ :‬ل يعزّر بقوله ‪ :‬يا حمار‪ ،‬يا كلب ونحو ذلك لظهور كذبه‪.‬‬
‫وفرّق بعض الحنفيّة بين ما إذا كان المسبوب من الشراف فيعزّر ‪ ،‬أو من العامّة فل يعزّر ‪،‬‬
‫كما استحسنه في الهداية والزّيلعيّ ‪.‬‬
‫ب إلى حدّ القذف ‪ ،‬أمّا إذا كان من أنواع القذف ‪ :‬كالرّمي‬
‫وهذا كلّه إذا لم يصل الشّتم والسّ ّ‬
‫بالزّنا من غير بيّنة ‪ ،‬فإنّه يحدّ على تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬قذف ) ‪.‬‬

‫تشريق *‬
‫انظر ‪ :‬أيّام التّشريق ‪.‬‬

‫تشريك *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشريك في اللّغة ‪ :‬مصدر شرّك ‪ .‬يقال ‪ :‬شرّك فلن فلنا ‪ .‬إذا أدخله في المر وجعله‬
‫شريكا له فيه ‪ .‬ويقال ‪ :‬شرّك غيره في ما اشتراه ليدفع الغير بعض الثّمن ‪ ،‬ويصير شريكا له‬
‫في المبيع ‪ .‬ويقال أيضا ‪ :‬شرّك نعله تشريكا ‪ :‬إذا حمل له شراكا ‪ ،‬والشّراك ‪ :‬سير النّعل‬
‫الّذي على ظهرها ‪ .‬والتّشريك في الصطلح الشّرعيّ ‪ :‬إدخال الغير في السم كالشّراء‬
‫ونحوه ‪ ،‬ليكون شريكا له فيه ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الشراك ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الشراك بمعنى التّشريك ‪ .‬وإذا قيل ‪ :‬أشرك الكافر باللّه ‪ ،‬فالمراد أنّه جعل غير اللّه‬
‫شريكا له ‪ ،‬تعالى اللّه عن ذلك ‪ ( .‬ر ‪ :‬إشراك ) ‪.‬‬
‫حكم التّشريك ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّشريك في الشّراء ونحوه جائز ‪ ،‬وتشريك غير عبادة في نيّة العبادة أو تشريك عبادتين‬
‫في نيّة واحدة جائز على التّفصيل التي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تشريك ما ل يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ل نعلم خلفا بين الفقهاء في جواز تشريك ما ل يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة ‪ ،‬كالتّجارة‬
‫ن كُلّ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ك ِرجَالً وعَلى كُلّ ضَامِ ٍر َي ْأتِي َ‬
‫ن في النّاسِ بِالحَجّ َي ْأتُو َ‬
‫ج لقوله تعالى ‪ { :‬وََأذّ ْ‬
‫مع الح ّ‬
‫ش َهدُوا َمنَافِعَ لَهم َو َي ْذكُروا اسمَ اللّ ِه في َأيّا ٍم َمعْلُومَاتٍ ‪ } . . .‬وقوله في شأن الحجّ‬
‫عمِيق لِي ْ‬
‫فَجّ َ‬
‫ج ‪ .‬والصّوم‬
‫ن َت ْب َتغُوا َفضْلً مِنْ َربّكمْ } نزلت في التّجارة مع الح ّ‬
‫ح أَ ْ‬
‫جنَا ٌ‬
‫أيضا ‪ { :‬لَيسَ عَليكمْ ُ‬
‫ن هذه الشياء‬
‫صحّة ‪ ،‬والوضوء مع نيّة التّبرّد ‪ ،‬والصّلة مع نيّة دفع الغريم ‪ ،‬ل ّ‬
‫مع قصد ال ّ‬
‫تحصل بغير نيّة فلم يؤثّر تشريكها في نيّة العبادة ‪ ،‬وكالجهاد مع قصد حصول الغنيمة ‪ .‬جاء‬
‫في مواهب الجليل نقل عن الفروق للقرافيّ ‪:‬‬
‫من يجاهد لتحصيل طاعة اللّه بالجهاد ‪ ،‬وليحصل له المال من الغنيمة ‪ ،‬فهذا ل يضرّه ول‬
‫ن اللّه تعالى جعل له هذا في هذه العبادة ‪ .‬ففرّق بين جهاده ليقول‬
‫يحرم عليه بالجماع ‪ ،‬ل ّ‬
‫النّاس ‪ :‬هذا شجاع ‪ ،‬أو ليعظّمه المام ‪ ،‬فيكثر عطاءه من بيت المال ‪ .‬فهذا ونحوه رياء حرام‬
‫‪ .‬وبين أن يجاهد لتحصيل الغنائم من جهة أموال العدوّ مع أنّه قد شرّك ‪.‬‬
‫ول يقال لهذا رياء ‪ ،‬بسبب أنّ الرّياء أن يعمل ليراه غير اللّه من خلقه ‪ .‬ومن ذلك أن يجدّد‬
‫وضوءا ليحصل له التّبرّد أو التّنظّف ‪ ،‬وجميع هذه الغراض ل يدخل فيها تعظيم الخلق ‪ ،‬بل‬
‫هي لتشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك ‪ ،‬ول تصلح للدراك ول للتّعظيم ‪ ،‬ذلك ل‬
‫يقدح في العبادات ‪ ،‬فظهر الفرق بين قاعدة الرّياء في العبادات وبين قاعدة التّشريك فيها ‪.‬‬
‫وجاء في مغني المحتاج ‪ :‬من نوى بوضوئه تبرّدا أو شيئا يحصل بدون قصد كتنظّف ‪ ،‬ولو‬
‫في أثناء وضوئه ( مع نيّة معتبرة ) أي مستحضرا عند نيّة التّبرّد أو نحوه نيّة الوضوء أجزأه‬
‫ل نوى الصّلة ودفع الغريم فإنّها‬
‫ذلك على الصّحيح ‪ ،‬لحصول ذلك من غير نيّة ‪ ،‬كمص ّ‬
‫ن اشتغاله عن الغريم ل يفتقر إلى نيّة ‪ .‬والقول الثّاني يضرّ ‪ ،‬لما في ذلك من‬
‫تجزئه ‪ ،‬ل ّ‬
‫التّشريك بين قربة وغيرها ‪ ،‬فإن فقد ال ّنيّة المعتبرة ‪ ،‬كأن نوى التّبرّد أو نحوه وقد غفل عنها ‪،‬‬
‫لم يصحّ غسل ما غسله بنيّة التّبرّد ونحوه ‪ ،‬ويلزمه إعادته دون استئناف الطّهارة ‪ .‬قال‬
‫صحّة ‪ .‬أمّا الثّواب فالظّاهر عدم حصوله ‪ ،‬وقد اختار الغزاليّ‬
‫الزّركشيّ ‪ :‬وهذا الخلف في ال ّ‬
‫ي اعتبار الباعث على العمل ‪ ،‬فإن كان القصد‬
‫فيما إذا شرّك في العبادة غيرها من أمر دنيو ّ‬
‫الدّنيويّ هو الغلب لم يكن فيه أجر ‪ ،‬إن كان القصد الدّينيّ أغلب فله بقدره ‪ ،‬وإن تساويا‬
‫تساقطا ‪ .‬واختار ابن عبد السّلم أنّه ل أجر فيه مطلقا ‪ ،‬سواء أتساوى القصدان أم اختلفا ‪.‬‬
‫وانظر أيضا مصطلح ‪ ( :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تشريك عبادتين في نيّة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬إن أشرك عبادتين في ال ّنيّة ‪ ،‬فإن كان مبناهما على التّداخل كغسلي الجمعة والجنابة ‪ ،‬أو‬
‫الجنابة والحيض ‪ ،‬أو غسل الجمعة والعيد ‪ ،‬أو كانت إحداهما غير مقصودة كتحيّة المسجد مع‬
‫فرض أو سنّة أخرى ‪ ،‬فل يقدح ذلك في العبادة ‪ ،‬لنّ مبنى الطّهارة على التّداخل ‪ ،‬والتّحيّة‬
‫وأمثالها غير مقصودة بذاتها ‪ ،‬بل المقصود شغل المكان بالصّلة ‪ ،‬فيندرج في غيره ‪ .‬أمّا‬
‫ح تشريكهما في نيّة واحدة ‪،‬‬
‫التّشريك بين عبادتين مقصودتين بذاتها كالظّهر وراتبته ‪ ،‬فل يص ّ‬
‫لنّهما عبادتان مستقلّتان ل تندرج إحداهما في الخرى ‪.‬‬
‫وانظر أيضا مصطلح ‪ ( :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّشريك في المبيع ‪:‬‬
‫‪ - 6‬يجوز التّشريك في العقد ‪ ،‬كأن يقول المشتري لعالم بالثّمن ‪ :‬أشركتك في هذا المبيع‬
‫ل اتّفاق بين الفقهاء فإن أشركه في قدر معلوم كالنّصف والرّبع فله‬
‫ويقبل الخر ‪ ،‬وهذا مح ّ‬
‫ن الشّركة المطلقة تقتضي المساواة ‪ ،‬وهو كالبيع‬
‫ذلك في المبيع ‪ ،‬وإن أطلق فله النّصف ‪ ،‬ل ّ‬
‫والتّولية في أحكامه وشروطه ‪.‬‬
‫طلْقة ‪:‬‬
‫د ‪ -‬التّشريك بين نسوة في َ‬
‫ن الطّلقة ل‬
‫‪ - 7‬إذا قال لنسائه الربع ‪ :‬أوقعت عليكنّ طلقة وقع على كلّ واحدة طلقة ‪ ،‬ل ّ‬
‫تتجزّأ ‪.‬‬
‫ولو قال ‪ :‬طلقتين أو ثلثا أو أربعا ‪ ،‬وقع على كلّ واحدة طلقة فقط ‪ ،‬إل أن يريد توزيع كلّ‬
‫ن ‪ ،‬فيقع في " طلقتين " على كلّ واحدة طلقتان ‪ ،‬وفي " ثلث وأربع " ‪ ،‬ثلث ‪.‬‬
‫طلقة عليه ّ‬

‫تشميت *‬
‫شمّت‬
‫ل داع لحد بخير فهو ُم َ‬
‫‪ - 1‬من معاني التّشميت لغة ‪ :‬الدّعاء بالخير والبركة ‪ .‬وك ّ‬
‫ومسمّت بالشّين والسّين ‪ ،‬والشّين أعلى وأفشى في كلمهم ‪ .‬وكلّ دعاء بخير فهو تشميت ‪.‬‬
‫وفي حديث« تزويج عليّ بفاطمة رضي ال عنهما ‪ :‬شمّت عليهما » ‪ :‬أي دعا لهما بالبركة‪.‬‬
‫وفي حديث العطاس ‪ « :‬فشمّت أحدهما ولم يشمّت الخر » ‪ .‬فالتّشميت والتّسميت ‪ :‬الدّعاء‬
‫سمِيته ‪ :‬أن يقول له متى كان مسلما ‪ :‬يرحمك اللّه ‪.‬‬
‫بالخير والبركة ‪ .‬وتشميت العاطس أو َت ْ‬
‫وهو ل يخرج في الصطلح الفقهيّ عن هذا المعنى ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬اتّفق العلماء على أنّه يشرع للعاطس عقب عطاسه أن يحمد اللّه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬الحمد للّه ‪،‬‬
‫ولو زاد ‪ :‬ربّ العالمين كان أحسن كفعل ابن مسعود ‪ .‬ولو قال ‪ :‬الحمد للّه على كلّ حال كان‬
‫أفضل كفعل ابن عمر ‪ .‬وقيل يقول ‪ :‬الحمد للّه حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه ‪ ،‬كفعل غيرهما ‪.‬‬
‫عطَس أحدكم فليقل ‪ :‬الحمد للّه‬
‫وروى أحمد والنّسائيّ من حديث سالم بن عبيد مرفوعا « إذا َ‬
‫ب العالمين » وفي حديث أبي هريرة رضي ال عنه عن النّبيّ‬
‫ل حال أو الحمد للّه ر ّ‬
‫على ك ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا عطس أحدكم فليقل ‪ :‬الحمد للّه على كلّ حال » ومتى حمد‬
‫اللّه بعد عطسته كان حقّا على من سمعه من إخوانه المسلمين غير المصلّين أن يشمّته "‬
‫يرحمك اللّه " فقد روى البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي ال عنه « إذا عطس أحدكم‬
‫ل مسلم سمعه أن يقول ‪ :‬يرحمك اللّه » ‪.‬‬
‫فحمد اللّه فحقّ على ك ّ‬
‫وفي صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪« :‬‬
‫إذا عطس أحدكم فليقل ‪ :‬الحمد للّه ‪ .‬وليقل له أخوه أو صاحبه ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬فإذا قال له ‪:‬‬
‫يرحمك اللّه فليقل ‪ :‬يهديكم اللّه ويصلح بالكم » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬حقّ المسلم على المسلم خمس ‪ :‬ردّ السّلم ‪ ،‬وعيادة‬
‫وعن النّب ّ‬
‫المريض واتّباع الجنائز ‪ ،‬وإجابة الدّعوة ‪ ،‬وتشميت العاطس » وفي رواية لمسلم « حقّ‬
‫المسلم على المسلم ستّ ‪ :‬إذا لقيته فسلّم عليه ‪ ،‬وإذا دعاك فأجبه ‪ ،‬وإذا استنصحك فانصح‬
‫له ‪ ،‬وإذا عطس فحمد اللّه تعالى فشمّته ‪ ،‬وإذا مرض فعده ‪ ،‬وإذا مات فاتّبعه » ‪ .‬وإن لم‬
‫يحمد اللّه بعد عطسته فل يشمّت ‪ .‬فعن أبي موسى الشعريّ رضي ال عنه مرفوعا « إذا‬
‫عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ‪ ،‬فإن لم يحمد اللّه فل تشمّتوه » ‪.‬‬
‫وعن أنس رضي ال عنه قال ‪ « :‬عطس رجلن عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم فشمّت‬
‫ش ّمتّه ‪ ،‬وعطست فلم تشمّتني‬
‫أحدهما ولم يشمّت الخر ‪ .‬فقال الّذي لم يشمّته ‪ :‬عطس فلن فَ َ‬
‫ن هذا حمد اللّه تعالى ‪ ،‬وإنّك لم تحمد اللّه تعالى » وهذا الحكم عامّ وليس مخصوصا‬
‫فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫بالرّجل الّذي وقع له ذلك ‪ .‬يؤيّد العموم ما جاء في حديث أبي موسى‬
‫« إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ‪ ،‬وإن لم يحمد اللّه فل تشمّتوه » ‪.‬‬
‫ن العاطس حمد اللّه‬
‫فالتّشميت قد شرع لمن حمد اللّه دون من لم يحمده ‪ ،‬فإذا عرف السّامع أ ّ‬
‫بعد عطسته شمّته ‪ ،‬كأن سمعه يحمد اللّه ‪ ،‬وإن سمع العطسة ولم يسمعه يحمد اللّه ‪ ،‬بل سمع‬
‫من شمّت ذلك العاطس ‪ ،‬فإنّه يشرع له التّشميت لعموم المر به لمن عطس فحمد ‪ ،‬وقال‬
‫النّوويّ المختار أنّه يشمّته من سمعه دون غيره ‪.‬‬
‫وهذا التّشميت سنّة عند الشّافعيّة ‪ .‬وفي قول للحنابلة وعند الحنفيّة هو واجب ‪.‬‬
‫ن الشهر‬
‫وقال المالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة بوجوبه على الكفاية ‪ .‬ونقل عن البيان أ ّ‬
‫ل مسلم سمعه أن يقول له ‪ :‬يرحمك اللّه » ‪.‬‬
‫أنّه فرض عين ‪ ،‬لحديث « كان حقّا على ك ّ‬
‫فإن عطس ولم يحمد اللّه نسيانا استحبّ لمن حضره أن يذكّره الحمد ليحمد فيشمّته ‪.‬‬
‫وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النّخعيّ ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ويندب للعاطس أن ير ّد على من شمّته ‪ :‬فيقول له ‪ :‬يغفر اللّه لنا ولكم ‪ ،‬أو يهديكم اللّه‬
‫ويصلح بالكم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يجمع بينهما ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم ‪ .‬فقد روي‬
‫عن ابن عمر أنّه كان إذا عطس فقيل له ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬قال ‪ ":‬يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر اللّه‬
‫لنا ولكم "‪ .‬قال ابن أبي جمرة ‪ :‬في الحديث دليل على عظيم نعمة اللّه على العاطس ‪ .‬يؤخذ‬
‫ذلك ممّا رتّب عليه من الخير ‪ .‬وفيه إشارة إلى عظيم فضل اللّه على عبده ‪ .‬فإنّه أذهب عنه‬
‫الضّرر بنعمة العطس ‪ ،‬ثمّ شرع له الحمد الّذي يثاب عليه ‪ ،‬ثمّ الدّعاء بالخير بعد الدّعاء‬
‫بالخير وشرع هذه النّعم المتواليات في زمن يسير فضل منه وإحسانا ‪.‬‬
‫فإذا قيل للعاطس ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ ،‬فمعناه ‪ :‬جعل اللّه لك ذلك لتدوم لك السّلمة ‪ ،‬وفيه إشارة‬
‫إلى تنبيه العاطس على طلب الرّحمة والتّوبة من الذّنب ‪ ،‬ومن َثمّ شرع به الجواب بقوله ‪:‬‬
‫ح بَالَهمْ }‬
‫س َيهْدِيهمْ َو ُيصْلِ ُ‬
‫غفر اللّه لنا ولكم وقوله ‪ :‬ويصلح بالكم أي شأنكم ‪ .‬وقوله تعالى ‪َ { :‬‬
‫أي شأنهم ‪ .‬وهذا ما لم يكن في صلته أو خلئه ‪.‬‬
‫ما ينبغي للعاطس مراعاته ‪:‬‬
‫‪ -‬من آداب العاطس ‪ :‬أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد ‪ .‬وأن يغطّي وجهه لئلّا‬ ‫‪4‬‬

‫يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه ‪ .‬ول يلوي عنقه يمينا ول شمالً لئل يتضرّر بذلك ‪ .‬قال‬
‫ابن العربيّ ‪ :‬الحكمة في خفض الصّوت بالعطاس ‪ :‬أنّ رفعه إزعاجا للعضاء ‪.‬‬
‫وفي تغطية الوجه ‪ :‬أنّه لو بدر منه شيء آذى جليسه ‪ .‬ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن‬
‫من اللتواء ‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ « :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم إذا‬
‫ض بها صوته » ‪.‬‬
‫عطس وضع يده أو ثوبه على فيه ‪ ،‬وخفض أو غ ّ‬
‫حكمة مشروعيّة التّشميت ‪:‬‬
‫‪ - 5‬قال ابن دقيق العيد ‪ :‬من فوائد التّشميت تحصيل المودّة ‪ ،‬والتّأليف بين المسلمين ‪،‬‬
‫وتأديب العاطس بكسر النّفس عن الكبر ‪ ،‬والحمل على التّواضع لما في ذكر الرّحمة من‬
‫الشعار بالذّنب الّذي ل يعرى عنه أكثر المكلّفين ‪.‬‬
‫التّشميت أثناء الخطبة ‪:‬‬
‫‪ - 6‬كره الحنفيّة والمالكيّة التّشميت أثناء الخطبة ‪ ،‬وعند الشّافعيّة في الجديد ‪ :‬أنّ الكلم عند‬
‫ن النصات ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين التّشميت وغيره ‪ ،‬واستدلّ بما‬
‫الخطبة ل يحرم ‪ ،‬ويس ّ‬
‫روى أنس رضي ال عنه قال ‪ « :‬دخل رجل والنّبيّ صلى ال عليه وسلم قائم على المنبر يوم‬
‫الجمعة فقال ‪ :‬متى السّاعة ؟ فأشار النّاس إليه أن اسكت فقال له رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ت » وإذ‬
‫ب اللّه ورسوله قال ‪ :‬إنّك مع من أحبب َ‬
‫وسلم عند الثّالثة ‪ :‬ما أعددت لها ؟ قال ‪ :‬ح ّ‬
‫جاز هذا في الخطبة جاز تشميت العاطس أثناءها ‪.‬‬
‫ن النصات لسماع الخطبة واجب ‪ .‬لما روى جابر‬
‫وعند المالكيّة ‪ ،‬وهو القديم عند الشّافعيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫رضي ال عنه قال ‪ « :‬دخل ابن مسعود رضي ال عنه والنّبيّ صلى ال عليه وسلم يخطب‬
‫فجلس إلى أبيّ رضي ال عنه فسأله عن شيء فلم يردّ عليه ‪ ،‬فسكت حتّى صلّى النّبيّ صلى‬
‫ي ؟ فقال ‪ :‬إنّك لم تشهد معنا الجمعة ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ال عليه وسلم فقال له ‪ :‬ما منعك أن تردّ عل ّ‬
‫ولم ؟ قال ‪ :‬لنّك تكلّمت والنّبيّ صلى ال عليه وسلم يخطب ‪ ،‬فقام ابن مسعود فدخل على‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم فذكر له ‪ ،‬فقال ‪ :‬صدق أبيّ » وإذا كان النصات واجبا كان ما‬
‫خالفه من تشميت العاطس أثناء الخطبة حراما ‪ .‬وللحنابلة روايتان ‪ :‬إحداهما ‪ :‬الجواز مطلقا‬
‫أخذا من قول الثرم ‪ :‬سمعت أبا عبد اللّه أي المام أحمد ‪ -‬سئل ‪ :‬يردّ الرّجل السّلم يوم‬
‫الجمعة ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬ويشمّت العاطس ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬والمام يخطب ‪ .‬وقال أبو عبد‬
‫اللّه قد فعله غير واحد ‪ .‬قال ذلك غير مرّة ‪ ،‬وممّن رخّص في ذلك الحسن والشّعبيّ والنّخعيّ‬
‫وقتادة والثّوريّ وإسحاق ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬إن كان ل يسمع الخطبة شمّت العاطس ‪ ،‬وإن كان يسمع لم يفعل ‪ ،‬قال أبو طالب ‪:‬‬
‫قال أح مد ‪ :‬إذا سمعت الخط بة فا ستمع وأن صت ول تقرأ ول تشمّت ‪ ،‬وإذا لم ت سمع الخط بة‬
‫فاقرأ وشمّت وردّ ال سّلم ‪ .‬وقال أ بو داود ‪ :‬قلت لح مد ‪ :‬يردّ ال سّلم والمام يخ طب ويشمّت‬
‫العاطس ؟ قال ‪ :‬إذا كان ليس يسمع الخطبة فيردّ ‪ ،‬وإذا كان يسمع فل لقول اللّه تعالى ‪:‬‬
‫صتُوا } وروي نحو ذلك عن ابن عمر رضي ال عنهما ‪.‬‬
‫ستَ ِمعُوا لَه وَأ ْن ِ‬
‫{ فَا ْ‬
‫تشميت مَنْ في الخلء لقضاء حاجته ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يكره لمن في الخلء لقضاء حاجته أن يشمّت عاطسا سمع عطسته ‪.‬‬
‫بذلك قال فقهاء المذاهب الربعة ‪ .‬كما كرهوا له إن عطس في خلئه أن يحمد اللّه بلسانه ‪،‬‬
‫وأجازوا له ذلك في نفسه دون أن يحرّك به لسانه ‪ .‬وعن المهاجر بن قنفذ رضي ال عنه قال‬
‫‪ « :‬أتيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم وهو يبول فسلّمت عليه ‪ ،‬فلم يردّ حتّى توضّأ ‪ ،‬ثمّ اعتذر‬
‫إليّ وقال ‪ :‬إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى إل على طهر أو قال ‪ :‬على طهارة »‬
‫تشميت المرأة الجنبيّة للرّجل والعكس ‪:‬‬
‫‪ - 8‬إن كانت المرأة شابّة يخشى الفتنان بها كره لها أن تشمّت الرّجل إذا عطس ‪ ،‬كما يكره‬
‫لها أن تردّ على مشمّت لها لو عطست هي ‪ .‬بخلف لو كانت عجوزا ول تميل إليها النّفوس‬
‫فإنّها تشمّت وتشمّت متى حمدت اللّه ‪ ،‬بذلك قال المالكيّة ومثلهم في ذلك الحنابلة ‪ .‬جاء في‬
‫الداب الشّرعيّة لبن مفلح عن ابن تميم ‪ :‬ل يشمّت الرّجل الشّابّة ول تشمّته ‪.‬‬
‫وقال السّامريّ ‪ :‬يكره أن يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ول يكره ذلك للعجوز ‪.‬‬
‫وقال ابن الجوزيّ ‪ :‬وقد روينا عن أحمد بن حنبل رضي ال عنه أنّه كان عنده رجل من‬
‫العبّاد فعطست امرأة أحمد ‪ ،‬فقال لها العابد ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬فقال أحمد رحمه ال ‪ .‬عابد جاهل‬
‫‪ .‬وقال حرب ‪ :‬قلت لحمد ‪ :‬الرّجل يشمّت المرأة إذا عطست ؟ فقال ‪ :‬إن أراد أن يستنطقها‬
‫ليسمع كلمها فل ‪ ،‬لنّ الكلم فتنة ‪ ،‬وإن لم يرد ذلك فل بأس أن يشمّتهنّ ‪.‬‬
‫وقال أبو طالب ‪ :‬إنّه سأل أبا عبد اللّه ‪ :‬يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ؟ قال ‪ :‬نعم قد شمّت‬
‫أبو موسى امرأته‪ .‬قلت ‪ :‬فإن كانت امرأة تمرّ أو جالسة فعطست أشمّتها ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬وقال‬
‫القاضي ‪ :‬ويشمّت الرّجل المرأة البرزة ويكره للشّابّة ‪ .‬وقال ابن عقيل ‪ :‬يشمّت المرأة البرزة‬
‫وتشمّته ول يشمّت الشّابّة ول تشمّته ‪ ،‬وقال الشّيخ عبد القادر ‪ :‬يجوز للرّجل تشميت المرأة‬
‫البرزة والعجوز ‪ ،‬ويكره للشّابّة ‪ ،‬وفي هذا تفريق بين الشّابّة وغيرها ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة ذكر صاحب الذّخيرة ‪ :‬أنّه إذا عطس الرّجل فشمّتته المرأة ‪ ،‬فإن عجوزا ردّ‬
‫عليها وإل ردّ في نفسه ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وكذا لو عطست هي كما في الخلصة ‪.‬‬
‫تشميت المسلم للكافر ‪:‬‬
‫‪ - 9‬لو عطس كافر وحمد اللّه عقيب عطاسه وسمعه مسلم كان عليه أن يشمّته بقوله ‪ :‬هداك‬
‫اللّه أو عافاك اللّه ‪ ،‬فقد أخرج أبو داود من حديث أبي موسى الشعريّ قال ‪ « :‬كانت اليهود‬
‫يتعاطسون عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم اللّه ‪ ،‬فكان يقول ‪ :‬يهديكم‬
‫اللّه ويصلح بالكم » ‪ .‬وفي قوله ‪ :‬يهديكم اللّه ويصلح بالكم ‪ .‬تعريض لهم بالسلم ‪ :‬أي‬
‫اهتدوا وآمنوا يصلح اللّه بالكم ‪ .‬فلهم تشميت مخصوص ‪ ،‬وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلح‬
‫البال ‪ .‬بخلف تشميت المسلمين ‪ ،‬فإنّهم أهل للدّعاء بالرّحمة بخلف الكفّار ‪ .‬وعن ابن عمر‬
‫رضي ال عنهما قال ‪ « :‬اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النّبيّ صلى ال عليه وسلم فشمّته‬
‫الفريقان جميعا ‪ ،‬فقال للمسلمين يغفر اللّه لكم ويرحمنا وإيّاكم ‪ .‬وقال لليهود ‪ :‬يهديكم اللّه‬
‫ويصلح بالكم »‬
‫تشميت المصلّي غيره ‪:‬‬
‫‪ - 10‬من كان في الصّلة وسمع عاطسا حمد اللّه عقب عطاسه فشمّته بطلت صلته ‪ ،‬لنّ‬
‫تشميته له بقوله ‪ :‬يرحمك اللّه يجري في مخاطبات النّاس ‪ ،‬فكان من كلمهم ‪ ،‬فقد روي عن‬
‫معاوية بن الحكم رضي ال عنه قال « ‪ :‬بينا أنا مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في‬
‫الصّلة إذ عطس رجل من القوم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ ،‬فحدّقني القوم بأبصارهم ‪ ،‬فقلت ‪:‬‬
‫واثكل ُأمّاه ‪ ،‬ما لكم تنظرون إليّ ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم ‪ ،‬فلمّا انصرف رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم دعاني بأبي وأمّي هو ‪ ،‬ما رأيتُ معلّما أحسن تعليما منه ‪ ،‬واللّه ما‬
‫ن صلتنا هذه ل يصلح فيها شيء من‬
‫ضربني صلى ال عليه وسلم ول كهرني ثمّ قال ‪ :‬إ ّ‬
‫كلم الدميّين ‪ ،‬إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » ‪.‬‬
‫هذا قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والمشهور عند الشّافعيّة ‪ ،‬وإن كان تعبير الحنفيّة بالفساد‬
‫وتعبير غيرهم بالبطلن ‪ ،‬إلّا أنّ البطلن والفساد في ذلك بمعنى ‪.‬‬
‫فإن عطس هو في صلته فحمد اللّه وشمّت نفسه في نفسه دون أن يحرّك بذلك لسانه بأن قال‬
‫‪ :‬يرحمك اللّه يا نفسي ل تفسد صلته ‪ ،‬لنّه لمّا لم يكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلم النّاس‬
‫كما إذا قال ‪ :‬يرحمني اللّه ‪ .‬قال به الحنفيّة والحنابلة المالكيّة ‪.‬‬
‫تشميت العاطس فوق ثلث ‪:‬‬
‫‪ - 11‬من تكرّر عطاسه فزاد على الثّلث فإنّه ل يشمّت فيما زاد عنها ‪ ،‬إذ هو بما زاد عنها‬
‫مزكوم ‪ .‬فعن سلمة بن الكوع رضي ال عنه ‪ « :‬شمّت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫رجلً عطس مرّتين بقوله ‪ :‬يرحمك اللّه ث ّم قال عنه في الثّالثة ‪ :‬هذا رجل مزكوم » ‪.‬‬
‫وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة أنّه قال ‪ :‬يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس ‪ ،‬إل أن‬
‫يعرف أنّه مزكوم فيدعو له بالشّفاء ‪ .‬وعند هذا سقط المر بالتّشميت عند العلم بالزّكام ‪ ،‬لنّ‬
‫التّعليل به يقتضي أن ل يشمّت من علم أنّ به زكاما أصلً ‪ ،‬لكونه مرضا ‪ ،‬وليس عطاسا‬
‫محمودا ناشئا عن خفّة البدن وانفتاح المسامّ وعدم الغاية في الشّبع ‪.‬‬

‫تشمير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬للتّشمير في اللّغة معان ‪ :‬منها ‪ :‬الرّفع يقال ‪ :‬شمّر الزار والثّوب تشميرا ‪ :‬إذا رفعه ‪،‬‬
‫ويقال ‪ :‬شمّر عن ساقه ‪ ،‬وشمّر في أمره ‪ :‬أي خفّ فيه وأسرع ‪ ،‬وشمّر الشّيء فتشمّر ‪:‬‬
‫قلّصه فتقلّص ‪ ،‬وتشمّر أي ‪ :‬تهيّأ ‪ .‬وفي الصطلح ل يخرج عن معنى رفع الثّوب ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬السّدل ‪:‬‬
‫‪ - 2‬من معاني السّدل في اللّغة ‪ :‬إرخاء الثّوب ‪ .‬يقال ‪ :‬سدلت الثّوب سدلً ‪ :‬إذا أرخيته‬
‫وأرسلته من غير ضمّ جانبيه ‪.‬‬
‫وسدل الثّوب يسدله ويسدله سدلً ‪ ،‬وأسدله ‪ :‬أرخاه وأرسله ‪ .‬وعن عليّ رضي ال عنه ‪ ":‬أنّه‬
‫خرج فرأى قوما يصلّون قد سدلوا ثيابهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬كأنّهم اليهود خرجوا من فهورهم "‬
‫واصطلحا ‪ :‬أن يجعل الشّخص ثوبه على رأسه ‪ ،‬أو على كتفيه ‪ ،‬ويرسل أطرافه من جوانبه‬
‫من غير أن يضمّها ‪ ،‬أو يردّ أحد طرفيه على الكتف الخرى ‪.‬‬
‫وهو في الصّلة مكروه بالتّفاق ‪ .‬لما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم نهى عن السّدل في الصّلة ‪. » . .‬‬
‫ب ‪ -‬السبال ‪:‬‬
‫‪ - 3‬السبال في اللّغة ‪ :‬الرخاء والطالة ‪ .‬يقال ‪ :‬أسبل إزاره ‪ :‬إذا أرخاه ‪ .‬وأسبل فلن ثيابه‬
‫‪ :‬إذا طوّلها وأرسلها إلى الرض ‪ ،‬وفي الحديث ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال‬
‫‪ :‬ثلثة ل يكلّمهم اللّه يوم القيامة ول ينظر إليهم ول يزكّيهم ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ومن هم ؟ خابوا‬
‫وخسروا ‪ .‬فأعادها رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ثلث مرّات ‪ :‬المسبل ‪ ،‬والمنّان ‪ ،‬والمنفّق‬
‫ي وغيره ‪ :‬المسبل ‪ :‬الّذي يطوّل ثوبه ويرسله إلى‬
‫سلعته بالحلف الكاذب » قال ابن العراب ّ‬
‫الرض إذا مشى ‪ ،‬وإنّما يفعل ذلك كبرا واختيال ‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ل يخرج عن هذا المعنى ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من جرّ ثوبه من الخيلء لم‬
‫وحكمه الكراهة ‪ ،‬لما روي أ ّ‬
‫ينظر اللّه إليه » وعن ابن مسعود قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬من‬
‫ل ذكره في حلّ ول حرام » ‪.‬‬
‫أسبل إزاره في صلته خيلء فليس من اللّه ج ّ‬
‫ي يرفعه « ل ينظر اللّه يوم القيامة إلى من ج ّر إزاره بطرا » ‪.‬‬
‫وحديث أبي سعيد الخدر ّ‬
‫وللتّفصيل ر ‪ ( :‬صلة ‪ -‬عورة ‪ -‬إسبال ) ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّشمير في الصّلة مكروه اتّفاقا ‪ ،‬لما ورد أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « نهى عن كفّ‬
‫الثّياب والشّعر » ‪ .‬إل أنّ المالكيّة قالوا بكراهته فيها إذا كان فعله لجلها ‪.‬‬
‫وأمّا فعله خارجها ‪ ،‬أو فيها ل لجلها ‪ ،‬فل كراهة فيه ‪ .‬ومثل ذلك عندهم تشمير الذّيل عن‬
‫السّاق ‪ :‬فإن فعله لجل شغل ‪ ،‬فحضرت الصّلة ‪ ،‬فصلّى وهو كذلك فل كراهة ‪.‬‬
‫وظاهر المدوّنة أنّه سواء عاد لشغله ‪ ،‬أم ل ‪ .‬وحملها الشّبيبيّ على ما إذا عاد لشغله ‪ ،‬وصوّبه‬
‫ابن ناجي ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬صلة ‪ ،‬عورة ‪ ،‬لباس ) ‪.‬‬

‫تشهّد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشهّد في اللّغة ‪ :‬مصدر تشهّد ‪ ،‬أي ‪ :‬تكلّم بالشّهادتين ‪.‬‬
‫ويطلق في اصطلح الفقهاء على قول كلمة التّوحيد ‪ ،‬وعلى التّشهّد في الصّلة ‪ ،‬وهي قراءة ‪:‬‬
‫التّحيّات للّه ‪ . .‬إلى آخره في الصّلة ‪ .‬وصرّح ابن عابدين نقل عن الحلية ‪ :‬أنّ التّشهّد اسم‬
‫لمجموع الكلمات المرويّة عن ابن مسعود رضي ال عنه وغيره ‪ .‬سمّي به لشتماله على‬
‫الشّهادتين ‪ .‬من باب تسمية الشّيء باسم جزئه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫ن التّشهّد‬
‫ح ‪ ،‬والمالكيّة في قول ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ - 2‬ذهب الحنفيّة في الص ّ‬
‫واجب في القعدة الّتي ل يعقبها السّلم ‪ ،‬لنّه يجب بتركه سجود السّهو ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة في قول ‪ ،‬والمالكيّة في المذهب ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في رواية ‪ :‬س ّنيّة التّشهّد‬
‫في هذه القعدة ‪ ،‬لنّه يسقط بالسّهو فأشبه السّنن ‪.‬‬
‫وأمّا التّشهّد في القعدة الخيرة في الصّلة فواجب عند الحنفيّة ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم في‬
‫حديث العرابيّ ‪ « :‬إذا رفعت رأسك من آخر سجدة ‪ ،‬وقعدت قدر التّشهّد ‪ ،‬فقد َتمّتْ صلتُك‬
‫» علّق التّمام بالقعدة دون التّشهّد ‪ ،‬فالفرض عند الحنفيّة في هذه القعدة هو الجلوس فقط ‪ ،‬أمّا‬
‫التّشهّد فواجب ‪ ،‬يجبر بسجود السّهو إن ترك سهوا ‪ ،‬وتكره الصّلة بتركه تحريما ‪ ،‬فتجب‬
‫إعادتها ‪ .‬والمذهب عند المالكيّة أنّه سنّة ‪ ،‬وفي قول واجب ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ركن من أركان الصّلة ‪ ،‬وهذا ما يسمّيه بعضهم فرضا أو واجبا‬
‫وبعضهم ركنا ‪ ،‬تشبيها له بركن البيت الّذي ل يقوم إل به ‪.‬‬
‫وفي الفرق بين الفرض والواجب عند الحنفيّة ‪ ،‬ومعنى الوجوب عند غيرهم تفصيل يرجع فيه‬
‫إلى مظانّه في كتب الفقه والصول ‪ .‬وانظر أيضا ‪ ( :‬فرض ‪ ،‬وواجب ) ‪.‬‬
‫ألفاظ التّشهّد ‪:‬‬
‫ن أفضل التّشهّد ‪ ،‬التّشهّد الّذي علّمه النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ - 3‬يرى الحنفيّة والحنابلة أ ّ‬
‫طيّبات ‪ ،‬السّلم‬
‫لعبد اللّه بن مسعود رضي ال عنهما ‪ ،‬وهو ‪ « :‬التّحيّات للّه ‪ ،‬والصّلوات وال ّ‬
‫عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬السّلم علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ‪ ،‬أشهد أن ل‬
‫ن محمّدا عبده ورسوله » ‪.‬‬
‫إله إلّا اللّه ‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫ن حمّادا أخذ بيد أبي حنيفة وعلّمه التّشهّد ‪ ،‬وقال أخذ‬
‫ووجه اختيارهم لهذه الرّواية ما روي ‪ :‬أ ّ‬
‫ي بيديّ وعلّمني ‪ ،‬وأخذ علقمة بيد إبراهيم وعلّمه ‪ ،‬وأخذ عبد اللّه بن مسعود‬
‫إبراهيم النّخع ّ‬
‫رضي ال عنه بيد علقمة وعلّمه ‪ « ،‬وأخذ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بيد عبد اللّه بن‬
‫مسعود رضي ال عنه وعلّمه التّشهّد فقال ‪ :‬قل ‪ :‬التّحيّات للّه ‪ » . . .‬إلى آخره ‪ .‬ويؤيّده ما‬
‫روي عن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ « :‬علّمني رسول اللّه صلى ال عليه وسلم التّشهّد‬
‫‪ -‬كفّي بين كفّيه ‪ -‬كما يعلّمني سورة من القرآن ‪ ،‬التّحيّات للّه ‪. » . . .‬‬
‫ن فيه زيادة واو العطف ‪ ،‬وإنّه يوجب تعدّد الثّناء ‪ ،‬لنّ المعطوف غير المعطوف عليه ‪،‬‬
‫لّ‬
‫وبه يقول ‪ :‬الثّوريّ ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وأبو ثور ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة أنّ أفضل التّشهّد تشهّد عمر بن الخطّاب رضي ال عنه وهو ‪ :‬التّحيّات للّه ‪،‬‬
‫الزّاكيات للّه ‪ ،‬الطّيّبات الصّلوات للّه ‪ ،‬السّلم عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬السّلم‬
‫ن محمّدا‬
‫علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ‪ ،‬أشهد أن ل إله إلّا اللّه وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫ن عمر رضي ال عنه قاله على المنبر ‪ ،‬فلم ينكروه ‪ ،‬فجرى مجرى‬
‫عبده ورسوله ‪ .‬وهذا ل ّ‬
‫الخبر المتواتر ‪ ،‬وكان أيضا إجماعا ‪.‬‬
‫وأمّا الشّافعيّة فأفضل التّشهّد عندهم ما روي عن ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪ « :‬كان‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يعلّمنا التّشهّد ‪ ،‬كما يعلّمنا السّورة من القرآن ‪ ،‬فيقول ‪ :‬قولوا‬
‫طيّبات للّه ‪ ،‬السّلم عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ‪،‬‬
‫‪ :‬التّحيّات المباركات ‪ ،‬الصّلوات ال ّ‬
‫ن محمّدا رسول اللّه‬
‫السّلم علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ‪ ،‬أشهد أن ل إله إلّا اللّه ‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫» ‪ .‬أخرجه مسلم والتّرمذيّ ‪ ،‬إل أنّه في رواية مسلم « وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله » ‪.‬‬
‫والخلف بين الئمّة هنا خلف في الولويّة ‪ ،‬فبأيّ تشهّد تشهّد ممّا صحّ عن النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم جاز ‪ .‬ومن النّاس من اختار تشهّد أبي موسى الشعريّ ‪ ،‬وهو أن يقول ‪ :‬التّحيّات‬
‫طيّبات ‪ ،‬والصّلوات للّه ‪ . . .‬والباقي كتشهّد ابن مسعود وذكر ابن عابدين أنّ المصلّي‬
‫للّه ‪ ،‬ال ّ‬
‫يقصد بألفاظ التّشهّد معانيها ‪ ،‬مرادة له على وجه النشاء ‪ ،‬كأنّه يحيّي اللّه تعالى ويسلّم على‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم وعلى نفسه والولياء ‪ ،‬ول يقصد الخبار والحكاية عمّا وقع في‬
‫المعراج منه صلى ال عليه وسلم ومن ربّه سبحانه وتعالى ومن الملئكة ‪.‬‬
‫الزّيادة والنّقصان في ألفاظ التّشهّد والتّرتيب بينها ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اختلفت أقوال الفقهاء في هذه المسألة على النّحو التي ‪:‬‬
‫ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريما أن يزيد في التّشهّد حرفا ‪ ،‬أو يبتدئ بحرف قبل حرف ‪.‬‬
‫ن أذكار الصّلة محصورة‬
‫قال أبو حنيفة ‪ :‬ولو نقص من تشهّده أو زاد فيه ‪ .‬كان مكروها ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ ،‬فل يزاد عليها ‪ .‬ثمّ أضاف ابن عابدين قائل ‪ :‬والكراهة عند الطلق للتّحريم ‪ .‬ويكره كذلك‬
‫عند المالكيّة الزّيادة على التّشهّد ‪ ،‬واختلفوا في ترك بعض التّشهّد ‪ ،‬فالظّاهر من كلم بعض‬
‫سنّة ببعض التّشهّد ‪ ،‬خلفا لبن ناجي في كفاية بعضه ‪ ،‬قياسا على‬
‫شيوخهم عدم حصول ال ّ‬
‫السّورة ‪.‬‬
‫طيّبات والزّاكيات‬
‫وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّ لفظ المباركات والصّلوات ‪ ،‬وال ّ‬
‫سنّة ليس بشرط في التّشهّد ‪ ،‬فلو حذف كلّها واقتصر على الباقي أجزأه من غير خلف عندهم‬
‫‪ .‬وأمّا لفظ ‪ :‬السّلم عليك ‪ . . .‬إلخ فواجب ل يجوز حذف شيء منه ‪ ،‬إلّا لفظ ورحمة اللّه‬
‫وبركاته ‪ .‬وفي هذين اللّفظين ثلثة أوجه ‪ :‬أصحّها عدم جواز حذفهما ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬جواز حذفهما ‪ .‬والثّالث ‪ :‬يجوز حذف وبركاته ‪ ،‬دون رحمة اللّه " ‪.‬‬
‫ب عندهم على الصّحيح من المذهب ‪ ،‬فلو قدّم بعضه على‬
‫وكذلك التّرتيب بين ألفاظها مستح ّ‬
‫بعض جاز ‪ ،‬وفي وجه ل يجوز كألفاظ الفاتحة ‪.‬‬
‫ح تشهّده في‬
‫والحنابلة يرون أنّه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بضع التّشهّدات المرويّة ص ّ‬
‫الصحّ ‪ .‬وفي رواية أخرى ‪ :‬لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصّلة ‪ ،‬لقول السود ‪ :‬فكنّا‬
‫نتحفّظه عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كما نتحفّظ حروف القرآن ‪.‬‬
‫الجلوس في التّشهّد ‪:‬‬
‫ي من الحنفيّة إلى ‪ :‬أنّ‬
‫ي والكرخ ّ‬
‫‪ - 5‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو قول الطّحاو ّ‬
‫الجلوس في التّشهّد الوّل سنّة ‪.‬‬
‫ح عند الحنفيّة ‪ -‬وهو وجه عند الحنابلة ‪ -‬أنّه واجب ‪.‬‬
‫والص ّ‬
‫وأمّا في التّشهّد الثّاني فالجلوس بقدر التّشهّد ركن عند الربعة ‪ ،‬وهو ما عبّر عنه الحنفيّة‬
‫بالفرضيّة ‪ ،‬وغيرهم تارة بالوجوب وتارة بالفرضيّة ‪.‬‬
‫وأمّا هيئة الجلوس في التّشهّد ‪ ،‬فتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬جلوس ) ‪.‬‬
‫التّشهّد بغير العربيّة ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ل خلف بين الفقهاء في جواز التّشهّد بغير العربيّة للعاجز ‪ ،‬واختلفوا فيه للقادر عليها ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬ترجمة ) ‪.‬‬
‫السرار في التّشهّد ‪:‬‬
‫سنّة في التّشهّد السرار ‪ ،‬لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يكن يجهر به ‪ ،‬إذ لو جهر‬
‫‪ - 7‬ال ّ‬
‫سنّة إخفاء التّشهّد‬
‫به لنقل كما نقلت القراءة ‪ ،‬وقال عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه « من ال ّ‬
‫» ‪ .‬قال صاحب المغني ‪ :‬ول نعلم في هذا خلفا ‪.‬‬
‫ما يترتّب على ترك التّشهّد ‪:‬‬
‫‪ - 8‬ل خلف بين الفقهاء في مشروعيّة سجدة السّهو بترك التّشهّد في القعدة الولى ( قبل‬
‫الخيرة ) إن كان تركه سهوا ‪ ،‬على خلف بينهم في الحكم ‪.‬‬
‫واختلفوا في تركه عمدا ‪ :‬فذهب الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة في قول إلى ‪ :‬وجوب إعادة الصّلة ‪.‬‬
‫ن على المصلّي أن يسجد للسّهو في‬
‫ويرى المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في رواية أخرى ‪ ،‬أ ّ‬
‫هذه الحالة أيضا ‪ .‬وأمّا ترك التّشهّد في القعدة الخيرة إن كان عمدا ‪ :‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة‬
‫في وجه ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب العادة ‪ .‬وكذلك إن كان سهوا عند الشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪ .‬ويرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ عليه سجدة السّهو في هذه الحالة ‪.‬‬
‫وأمّا حكم الرّجوع إلى التّشهّد لمن قام إلى الثّالثة في ثنائيّة أو إلى الرّابعة في ثلثيّة ‪ ،‬أو إلى‬
‫خامسة في رباعيّة ‪ ،‬فقد فصّله الفقهاء في كتاب الصّلة عند الكلم عن سجدة السّهو ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم في التّشهّد ‪:‬‬
‫الصّلة على النّب ّ‬
‫‪ - 9‬يرى جمهور الفقهاء أنّ المصلّي ل يزيد على التّشهّد في القعدة الولى بالصّلة على النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وإسحاق ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في الظهر من القوال إلى استحباب الصّلة فيها ‪ ،‬وبه قال الشّعبيّ ‪.‬‬
‫وأمّا إذا جلس في آخر صلته فل خلف بين الفقهاء في مشروعيّة الصّلة على النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم بعد التّشهّد ‪ .‬وأمّا صيغة الصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم في القعدة‬
‫الخيرة ‪ ،‬وما روي في ذلك من الدلّة ‪ ،‬فقد فصّل الفقهاء الكلم عليه في موطنه من كتب‬
‫الفقه ‪ .‬وانظر أيضا ‪ " :‬الصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم " ‪.‬‬

‫تشهير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشهير في اللّغة مأخوذ من شهّره ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬أعلنه وأذاعه ‪ ،‬وشهّر به ‪ :‬أذاع عنه السّوء‬
‫‪ ،‬وشهّره تشهيرا فاشتهر ‪ .‬والشّهرة ‪ :‬وضوح المر ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء له عن‬
‫المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّعزير ‪ :‬التّأديب والهانة دون الحدّ ‪ .‬وهو أعمّ من التّشهير ‪ ،‬إذ يكون بالتّشهير وبغيره‬
‫‪ .‬فالتّشهير نوع من أنواع التّعزير ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السّتر ‪:‬‬
‫‪ - 3‬السّتر ‪ :‬المنع والتّغطية ‪ .‬وهو ضدّ التّشهير ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬يختلف حكم التّشهير باعتبار من يصدر منه ‪ ،‬وباعتبار المشهّر به ‪ .‬فالتّشهير قد يكون‬
‫من النّاس بعضهم ببعض ‪ ،‬على جهة العداوة أو الغيبة ‪ ،‬أو على جهة النّصيحة والتّحذير ‪.‬‬
‫وقد يكون من الحاكم في الحدود أو في التّعازير ‪ .‬وبيان ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬تشهير النّاس بعضهم ببعض ‪:‬‬
‫ن تشهير النّاس بعضهم ببعض بذكر عيوبهم والتّنقّص منهم حرام ‪.‬‬
‫الصل أ ّ‬
‫وقد يكون مباحا أو واجبا ‪ .‬وذلك راجع إلى ما يتّصف به المشهّر به ‪.‬‬
‫‪ - 4‬فيكون حراما في الحوال التية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا كان المشهّر به بريئا ممّا يشاع ع نه ويقال ف يه ‪ .‬وال صل في ذلك قوله تعالى ‪ { :‬إنّ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ في الدّنيا والخِرةِ والّلهُ َيعْلمُ وأ ْنتُمْ‬
‫حشَ ُة في الّذينَ آ َمنُوا لهمْ َ‬
‫حبّونَ َأنْ َتشِيعَ الفَا ِ‬
‫الّذينَ ُي ِ‬
‫ل َتعَْلمُون } ‪ .‬وقول النّبيّ ‪ « :‬أيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء ‪ ،‬يرى‬
‫أن يشينه بها في الدّنيا ‪ ،‬كان حقّا على اللّه تعالى أن يرميه بها في النّار ‪ .‬ث ّم تل مصداقه من‬
‫حشَةُ } » ‪.‬‬
‫حبّونَ أنْ َتشِيعَ الفَا ِ‬
‫ن الّذينَ ُي ِ‬
‫كتاب اللّه تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫وقد ذمّ اللّه سبحانه وتعالى الّذين فعلوا ذلك ‪ ،‬وتوعّدهم بالعذاب العظيم ‪ ،‬وذلك في اليات الّتي‬
‫سيّدة عائ شة ر ضي ال عن ها ح ين رما ها أ هل ال فك والبهتان ب ما قالوه من‬
‫نزلت في شأن ال ّ‬
‫عصْبَ ٌة ِم ْن ُكمْ ‪. } . . .‬‬
‫ن جَاءوا بِال ْفكِ ُ‬
‫الكذب والفتراء ‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪ { :‬إنّ الّذي َ‬
‫ن المُؤمني نَ والمؤمنَا تِ ِبغَيرِ ما ا ْكتَ سَبُوا ف قد‬
‫وقال ا بن كث ير في قوله تعالى ‪ { :‬وَالّذي نَ ُي ْؤذُو َ‬
‫ح َتمَلُوا بُهتَانا وإِثما ُمبِينَا } أي ينسنبون إليهنم منا هنم برآء مننه لم يعملوه ولم يفعلوه ‪ ،‬يحكون‬
‫اْ‬
‫على المؤمنين والمؤمنات ذلك على سبيل العيب والتّنقّص منهم ‪ ،‬وقد قال رسول اللّه فيه ‪« :‬‬
‫ْمنينن‬
‫َ‬ ‫ُونن ال ُمؤ‬
‫ّذينن يُ ْؤذ َ‬
‫ثمن قرأ ‪ { :‬وَال َ‬
‫أربنى الرّبنا عنند اللّه اسنتحللُ عِرض امرئ مسنلم ّ‬
‫سمّعَ الّل هُ به » أي‬
‫سمّعَ َ‬
‫ن َ‬
‫وَال ُمؤْمنا تِ } » وقد قيل في معنى قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مَ ْ‬
‫من سمّع بعيوب النّاس وأذاعها أظهر اللّه عيوبه ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬الهجو بالشّعر ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬ما كان من الشّعر يتضمّن هجو المسلمين والقدح‬
‫في أعراضهم فهو محرّم على قائله ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا كان المشهّر به يتّصف بما يقال عنه ‪ ،‬ولكنّه ل يجاهر به ‪ ،‬ول يقع به ضرر على‬
‫غيره ‪ .‬فالتّشهير به حرام أيضا ‪ ،‬لنّه يعتبر من الغيبة الّتي نهى اللّه سبحانه وتعالى عنها في‬
‫ي صلى‬
‫قوله ‪ { :‬ول َي ْغتَ بْ َب ْعضُكم َبعْضَا } ‪ .‬وقد روى أبو هريرة رضي ال عنه « أ نّ النّب ّ‬
‫ال عل يه و سلم قال ‪ :‬أتدرون ما الغي بة ؟ قالوا ‪ :‬اللّه ور سوله أعلم ‪ .‬قال ‪ِ :‬ذ ْكرُ كَ أخا كَ ب ما‬
‫غ َت ْبتَه ‪ ،‬وإن‬
‫ل فقد ا ْ‬
‫َيكْره ‪ .‬قيل ‪ :‬أفرأي تَ إن كان في أخي ما أقولُ ؟ قال ‪ :‬إن كان فيه ما تقو ُ‬
‫لم يكن فيه ما تقول فقد َب َهتّه » ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬قول العالم ‪ :‬قال فلن كذا مريدا التّشنيع عل يه ‪ .‬أو قول النسان ‪ :‬فعل كذا ب عض‬
‫النّاس ‪ ،‬أو بعض من يدّعي العلم ‪ ،‬أو بعض من ينسب إلى الصّلح والزّهد ‪ ،‬أو نحو ذلك إذا‬
‫كان المخاطب يفهمه بعينه ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن السّتر على المسلم واجب لمن ليس معروفا بالذى والفساد ‪.‬‬
‫ومن المقرّر شرعا ‪ :‬أ ّ‬
‫س َترَه اللّه عزّ وجلّ يو مَ القيامة » قال‬
‫س َترَ مُ سْلما َ‬
‫ن َ‬
‫فقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مَ ْ‬
‫في شرح مسلم ‪ :‬وهذا السّتر في غير المشتهرين ‪.‬‬
‫وقال ابن العربيّ ‪ :‬إذا رأيت إنسانا على معصية فعظه فيما بينك وبينه ‪ ،‬ول تفضحه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ويحرم كذلك تشهير النسان بنفسه ‪ ،‬إذ المسلم مطالب بالسّتر على نفسه ‪.‬‬
‫ففي ال صّحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫ن من الجهار أن يع مل الع بد باللّ يل عملً ‪ ،‬ث مّ‬
‫يقول ‪ « :‬كلّ أمّ تي ُمعَا فى إل المجاهر ين ‪ ،‬وإ ّ‬
‫ت البارحة كذا وكذا ‪ .‬وقد بات يستره اللّه‬
‫يصبح وقد ستره عليه اللّه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬عمل ُ‬
‫عزّ وجلّ ويصبح يكشف ستر اللّه عزّ وجلّ عنه »‬
‫والسّتر واجب على المسلم في خاصّة نفسه إذا أتى فاحشة ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه » ‪.‬‬
‫‪ - 5‬ويكون التّشهير جائزا لمن يجاهر بالمعصية في الحوال التية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬بالنّسبة لمن يجاهر بالمعصية ‪ ،‬فيجوز ذكر من يتجاهر بفسقه ‪ ،‬لنّ المجاهر بالفسق ل‬
‫ن من ألقى جلباب الحياء ل غيبة له‪.‬‬
‫يستنكف أن يذكر به ‪ ،‬ول يعتبر هذا غيبة في حقّه ‪ ،‬ل ّ‬
‫قال القرافيّ ‪ :‬المعلن بالفسوق ‪ -‬كقول امرئ القيس ‪ ":‬فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع "‬
‫فإنّه يفتخر بالزّنا في شعره ‪ -‬فل يضرّ أن يحكى ذلك عنه ‪ ،‬لنّه ل يتألّم إذا سمعه ‪ ،‬بل قد‬
‫يسرّ بتلك المخازي ‪ ،‬وكثير من اللّصوص تفتخر بالسّرقة والقتدار على التّسوّر على الدّور‬
‫العظام والحصون الكبار ‪ ،‬فذكر مثل هذا عن هذه الطّوائف ل يحرم ‪.‬‬
‫وفي الكمال في شرح حديث مسلم ‪ « :‬مَنْ سَترَ مسلما ستره اللّه » قال ‪ :‬وهذا السّتر في غير‬
‫المشتهرين ‪ .‬وقال الخلل ‪ :‬أخبرني حرب ‪ :‬سمعت أحمد يقول ‪ :‬إذا كان الرّجل معلنا بفسقه‬
‫فليست له غيبة ‪.‬‬
‫وذكر ابن عبد البرّ في كتاب بهجة المجالس عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ثلث ٌة ل غِيبة‬
‫فيهم ‪ :‬الفاسقُ المعلن بفسقه ‪ ،‬وشارب الخمر ‪ ،‬والسّلطان الجائر » ‪.‬‬
‫‪ - 6‬ب ‪ -‬إذا كان التّشهير على سبيل نصيحة المسلمين وتحذيرهم ‪ ،‬وذلك كجرح الرّواة‬
‫والشّهود والمناء على الصّدقات والوقاف واليتام ‪ ،‬والتّشهير بالمصنّفين والمتصدّين لفتاء‬
‫أو إقراء مع عدم أهليّة ‪ ،‬أو مع نحو فسق أو بدعة يدعون إليها ‪ ،‬وأصحاب الحديث وحملة‬
‫سيّئة لمن عرفها ممّن يقلّد في ذلك‬
‫العلم المقلّدين ‪ ،‬هؤلء يجب تجريحهم وكشف أحوالهم ال ّ‬
‫ويلتفت إلى قوله ‪ ،‬لئل يغترّ بهم ويقلّد في دين اللّه من ل يجوز تقليده ‪ ،‬وليس السّتر هنا‬
‫بمرغّب فيه ول مباح ‪ .‬على هذا اجتمع رأي المّة قديما وحديثا ‪.‬‬
‫يقول القرافيّ ‪ :‬أرباب البدع والتّصانيف المضلّة ينبغي أن يشهّر النّاس فسادها وعيبها ‪ .‬وأنّهم‬
‫على غير الصّواب ‪ ،‬ليحذرها النّاس الضّعفاء فل يقعوا فيها ‪ ،‬وينفر عن تلك المفاسد ما‬
‫أمكن ‪ ،‬بشرط أن ل يتعدّى فيها الصّدق ‪ ،‬ول يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم‬
‫يفعلوه ‪ ،‬بل يقتصر على ما فيهم من المنفّرات خاصّة ‪ ،‬فل يقال في المبتدع ‪ :‬إنّه يشرب‬
‫الخمر ‪ ،‬ول أنّه يزني ‪ ،‬ول غير ذلك ممّا ليس فيه ‪.‬‬
‫ويجوز وضع الكتب في جرح المجروحين من رواة الحديث والخبار بذلك لطلبة العلم‬
‫الحاملين لذلك لمن ينتفع به وينقله ‪ ،‬بشرط أن تكون ال ّنيّة خالصة للّه تعالى في نصيحة‬
‫المسلمين في ضبط الشّريعة ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان لجل عداوة أو تَ َفكّهٍ بالعراض وجريا مع الهوى فذلك حرام ‪ ،‬وإن حصلت به‬
‫المصلحة عند الرّواة ‪.‬‬
‫ويقول الخطيب الشّربينيّ ‪ :‬لو قال العالم لجماعة من النّاس ‪ :‬ل تسمعوا الحديث من فلن فإنّه‬
‫يخلط أو ل تستفتوا منه فإنّه ل يحسن الفتوى فهذا نصح للنّاس ‪ .‬نصّ عليه في المّ ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫وليس هذا بغيبة إن كان يقوله لمن يخاف أن يتبعه ويخطئ باتّباعه ‪ .‬ومثله في الفواكه الدّواني‬
‫شرّ ونصيحتهم ‪ ،‬وذلك من وجوه منها ‪ :‬جرح‬
‫‪ .‬ويقول النّوويّ ‪ :‬يجوز تحذير المسلمين من ال ّ‬
‫المجروحين من الرّواة للحديث والشّهود ‪ ،‬وذلك جائز بإجماع المسلمين ‪ ،‬بل واجب للحاجة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو مشاركته أو إيداعه أو اليداع عنده أو معاملته‬
‫بغير ذلك ‪،‬وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النّصيحة‪ .‬وفي مغني المحتاج ‪:‬‬
‫ينكر على من تصدّى للتّدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله ‪ ،‬ويشهّر أمره لئلّا يغترّ به‬
‫‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّشهير من الحاكم ‪:‬‬
‫تشهير الحاكم لبعض النّاس يكون في الحدود أو في التّعزير ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬بالنّسبة للحدود ‪:‬‬
‫عذَابَهما‬
‫شهَدْ َ‬
‫‪ - 7‬قال الفقهاء ‪ :‬ينبغي أن تقام الحدود في مل من النّاس ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَ ْل َي ْ‬
‫ن النّصّ الوارد فيه‬
‫طَائِ َفةٌ من المُؤْمنين } ‪ ،‬قال الكاسانيّ ‪ :‬والنّصّ وإن ورد في حدّ الزّنى ‪ ،‬لك ّ‬
‫يكون واردا في سائر الحدود دللة ‪ ،‬لنّ المقصود من الحدود كلّها واحد ‪ ،‬وهو زجر العامّة ‪،‬‬
‫ن الحضور ينزجرون بأنفسهم‬
‫وذلك ل يحصل إلّا وأن تكون القامة على رأس العامّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالمعاينة ‪ ،‬والغائبين ينزجرون بإخبار الحضور ‪ ،‬فيحصل الزّجر للكلّ ‪ .‬وقال عبد الملك بن‬
‫حبيب ‪ :‬ينبغي أن يكون إقامة الحدّ علنية وغير سرّ ‪ ،‬ليتناهى النّاس عمّا حرّم اللّه عليهم ‪.‬‬
‫وقال مطرّف ‪ :‬ومن أمر النّاس عندنا الشّهر لهل الفسق رجال ونساء ‪ ،‬والعلم بجلدهم في‬
‫الحدود وما يلزمهم من العقوبة وكشف وجه المرأة ‪.‬‬
‫شرّاب الخمر ؟ قال‬
‫وسئل المام مالك عن المجلود في الخمر والفِرية ‪ :‬أترى أن يطاف بهم وب ُ‬
‫‪ :‬إذا كان فاسقا مدمنا فأرى أن يطاف بهم ‪ ،‬ونعلن أمرهم ويفضحون ‪.‬‬
‫ن في ذلك‬
‫وفي حدّ السّرقة قال الفقهاء ‪ :‬يندب أن يعلّق العضو المقطوع في عنق المحدود ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أُتيَ‬
‫ن النّب ّ‬
‫ردعا للنّاس ‪ ،‬وقد روى فضالة بن عبيد رضي ال عنه « أ ّ‬
‫بسارق قطعت يده ‪ ،‬ثمّ أمر بها فعلّقت في عنقه » وفعل ذلك عليّ رضي ال عنه‪.‬‬
‫ل العاملِ نبعثه ‪ ،‬فيأتي فيقول ‪ :‬هذا لك وهذا لي ‪ .‬فهل‬
‫وذكر في ال ّدرّ المختار حديث ‪ « :‬ما با ُ‬
‫جلس في بيت أبيه وأمّه فينظرُ أيهدى له أم ل ؟ والّذي نفسي بيده ل يأتي بشيء إل جاء به‬
‫يوم القيامة يحمله على رقبته ‪ ،‬إن كان بعيرا له رُغاء ‪ ،‬أو بقرة لها خُوار ‪ ،‬أو شاة َت ْي َعرُ » ‪.‬‬
‫ن الحكّام أخذوا بالتّجريس‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬ويؤخذ من هذا الحديث ‪ -‬كما قال ابن المنير ‪ -‬أ ّ‬
‫بالسّارق ونحوه من هذا الحديث ‪.‬‬
‫كذلك قال الفقهاء في قاطع الطّريق إذا صلب ‪ :‬يصلب ثلثة أيّام ليشتهر الحال ويتمّ النّكال ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬إنّما شرع الصّلب ردعا لغيره ليشتهر أمره ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بالنّسبة للتّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 8‬التّشهير نوع من أنواع التّعزير ‪ ،‬أي أنّه عقوبة تعزيريّة ‪.‬‬
‫ن التّعزير يرجع في تحديد جنسه وقدره إلى نظر الحاكم ‪ ،‬فقد يكون بالضّرب أو‬
‫ومعلوم أ ّ‬
‫الحبس أو التّوبيخ أو التّشهير أو غير ذلك ‪ ،‬حسب اختلف مراتب النّاس ‪ ،‬واختلف‬
‫المعاصي ‪ ،‬واختلف العصار والمصار ‪ .‬وعلى ذلك فالتّعزير بالتّشهير جائز إذا علم‬
‫الحاكم أنّ المصلحة فيه ‪ ،‬وهذا الحكم هو بالنّسبة لكلّ معصية ل حدّ فيها ول كفّارة في الجملة‬
‫‪ .‬يقول الماورديّ ‪ :‬للمير إذا رأى من الصّلح في ردع السّفلة ‪ :‬أن يشهّرهم وينادي عليهم‬
‫بجرائمهم ‪ ،‬ساغ له ذلك ‪ .‬ويقول ‪ :‬يجوز في نكال التّعزير أن يجرّد من ثيابه ‪ ،‬إل قدر ما‬
‫يستر عورته ‪ ،‬ويشهّر في النّاس ‪ ،‬وينادى عليه بذنبه إذا تكرّر منه ولم يتب ‪.‬‬
‫وفي التّبصرة لبن فرحون ‪ :‬إن رأى القاضي المصلحة في قمع السّفلة بإشهارهم بجرائمهم‬
‫فعل ‪ .‬ويقول ابن فرحون أيضا ‪ :‬إذا حكم القاضي بالجور ‪ ،‬وثبت ذلك عليه بالبيّنة ‪ ،‬فإنّه‬
‫يعاقب العقوبة الموجعة ‪ ،‬وعزل ويشهّر ويفضح ‪.‬‬
‫وفي كشّاف القناع ‪ :‬القوّادة ‪ -‬الّتي تفسد النّساء والرّجال ‪ -‬أقلّ ما يجب فيها الضّرب البليغ ‪،‬‬
‫وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في الرّجال والنّساء لتجتنب ‪.‬‬
‫ن الفقهاء دائما يذكرون التّشهير في تعزير شاهد الزّور ممّا يوحي بأنّ‬
‫غير أنّه يلحظ أ ّ‬
‫التّشهير واجب بالنّسبة لشاهد الزّور ‪ ،‬وذلك لعتبار هذه المعصية من الكبائر ‪.‬‬
‫قال المام أبو حنيفة في شاهد الزّور في المشهور ‪ :‬يطاف به ويشهّر ‪ ،‬ول يضرب استنادا‬
‫إلى ما فعله القاضي شريح ‪ ،‬وزاد الصّاحبان ضربه وحبسه ‪.‬‬
‫ويذكر ابن قدامة حديث النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أل ُأ َنبّئكُم بأكبر الكبائر ؟ قالوا ‪ :‬بلى يا‬
‫ل الزّور‬
‫رسولَ اللّه قال ‪ :‬الشراكُ باللّه وعقوق الوالدين ‪ ،‬وكان متّكئا فجلس ‪ ،‬فقال ‪ :‬أل وقو ُ‬
‫وشهادة الزّور ‪ .‬فما زال يكرّرها حتّى قلنا ‪ :‬ليته سكت » ‪.‬‬
‫ثمّ يقول ابن قدامة ‪ :‬فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمدا عزّره وشهّره في‬
‫قول أكثر أهل العلم ‪ .‬روي ذلك عن عمر رضي ال عنه ‪ ،‬وبه يقول شريح والقاسم بن محمّد‬
‫ي وابن أبي ليلى ومالك والشّافعيّ وعبد الملك بن يعلى قاضي‬
‫وسالم بن عبد اللّه والوزاع ّ‬
‫البصرة ‪ .‬وفي كشّاف القناع ‪ :‬إذا عزّر من وجب عليه التّعزير وجب على الحاكم أن يشهّره‬
‫لمصلحة كشاهد زور ليجتنب ‪.‬‬
‫وجاء في التّبصرة ‪ :‬التّعزير ل يختصّ بالسّوط واليد والحبس ‪ ،‬وإنّما ذلك موكول إلى اجتهاد‬
‫المام ‪ .‬قال أبو بكر الطّرطوشيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين ‪ :‬إنّهم كانوا يعاملون الرّجل على‬
‫قدره وقدر جنايته ‪ ،‬فمنهم من يضرب ‪ ،‬ومنهم من يحبس ‪ ،‬ومنهم من يقام واقفا على قدميه‬
‫ن التّعزير يختلف باختلف العصار‬
‫في المحافل ‪ ،‬ومنهم من تنزع عمامته ‪ .‬قال القرافيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫والمصار ‪ ،‬فربّ تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر ‪ ،‬كقطع الطّيلسان ليس تعزيرا في‬
‫الشّام فإنّه إكرام ‪ ،‬وكشف الرّأس بالندلس ليس هوانا وبمصر والعراق هوان ‪ .‬ثمّ قال صاحب‬
‫ص بفعل معيّن ول قول معيّن ‪ ،‬فقد « عزّر رسول اللّه صلى ال‬
‫التّبصرة ‪ :‬والتّعزير ل يخت ّ‬
‫عليه وسلم بالهجر » ‪ ،‬وذلك في حقّ الثّلثة الّذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن الكريم ‪،‬‬
‫فهجروا خمسين يوما ل يكلّمهم أحد ‪ « .‬وعزّر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالنّفي ‪ ،‬فأمر‬
‫بإخراج المخنّثين من المدينة ونفيهم » ‪.‬‬
‫وفي مغني المحتاج ‪ :‬يجتهد المام في جنس التّعزير وقدره ‪ ،‬لنّه غير مقدّر شرعا ‪ ،‬فيجتهد‬
‫في سلوك الصحّ ‪ ،‬فله أن يشهّر في النّاس من أدّى اجتهاده إليه ‪.‬‬
‫ويجوز له حلق رأسه ‪ ،‬ويجوز أن يصلب حيّا ‪ ،‬وهو ربطه في مكان عال لما ل يزيد عن‬
‫ثلثة أيّام ثمّ يرسل ‪ ،‬ول يمنع في تلك المدّة عن الطّعام والشّراب والصّلة ‪.‬‬
‫وهذه النّصوص تدلّ على أنّه يجوز أن يكتفى بالتّشهير كعقوبة تعزيريّة إذا رأى المام ذلك ‪،‬‬
‫ويجوز أن يضمّ إليه عقوبة أخرى كالضّرب والحبس ‪.‬‬
‫وقد كان أبو بكر البحتريّ ‪ -‬وهو أمير المدينة ‪ -‬إذا أتي برجل ‪ ،‬قد أخذ معه الجرّة من‬
‫المسكر ‪ ،‬أمر به فصبّ على رأسه عند بابه ‪ ،‬كيما يعرف بذلك ويشهّر به ‪.‬‬

‫تشوّف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل ‪ :‬إذا علت رءوس الجبال تنظر‬
‫‪ - 1‬التّشوّف لغة ‪ :‬مصدر تشوّف ‪ .‬يقال ‪ :‬تشوّفتِ الوعا ُ‬
‫السّهل وخلوّه ممّا تخافه ل َت ِردَ الماء ‪.‬‬
‫ومنه قيل تشوّف فلن لكذا ‪ :‬إذا طمح بصره إليه ‪ .‬ثمّ استعمل في تعلّق المال ‪ ،‬والتّطلّب ‪.‬‬
‫والمُشوّفة من النّساء ‪ :‬الّتي تظهر نفسها ليراها النّاس ‪.‬‬
‫وتشوّفت المرأة ‪ :‬تزيّنت وتطلّعت للخطاب ‪ -‬من شفّت الدّرهم ‪ :‬إذا جلوته ‪ .‬ودينار مشوّف ‪:‬‬
‫أي مجلوّ ‪ -‬وهو أن تجلو المرأة وجهها وتصقل خدّيها ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ للفظ تشوّف عن معانيه الواردة في اللّغة ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬التّشوّف بمعنى التّزيّن خاصّ بالوجه ‪ ،‬والتّزيّن عامّ يستعمل في الوجه وغيره ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تشوّف الشّارع لثبات النّسب ‪:‬‬
‫ن الشّارع متشوّف للحاق النّسب ‪ ،‬لنّ‬
‫‪ - 2‬من القواعد المقرّرة في الشّريعة السلميّة ‪ :‬أ ّ‬
‫النّسب أقوى الدّعائم الّتي تقوم عليها السرة ‪ ،‬ويرتبط به أفرادها ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَهو الّذي‬
‫ن َر ّبكَ قَدِيرَا } ‪.‬‬
‫ص ْهرَا َوكَا َ‬
‫سبَا َو ِ‬
‫شرَا َفجَعَلَ ُه َن َ‬
‫ن المَاءِ َب َ‬
‫خََلقَ مِ َ‬
‫شكّ‬
‫ولعتناء الشّريعة بحفظ النّسب وتشوّفها لثباته تكرّر فيها المر بحفظه عن تطرّق ال ّ‬
‫إليه ‪ ،‬والتّحذير من ذرائع التّهاون به ‪ .‬ولمراعاة هذا المقصد اتّفق الفقهاء على اعتبار الحوال‬
‫النّادرة في إلحاق النّسب ‪ ،‬لتشوّف الشّارع لثباته ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬نسب ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّشوّف إلى العتق ‪:‬‬
‫‪ - 3‬من محاسن العتاق أنّه إحياء حكميّ ‪ ،‬يخرج العبد من كونه ملحقا بالجمادات إلى كونه‬
‫أهل للكرامات البشريّة ‪ ،‬من قبول الشّهادة والولية والقضاء ‪.‬‬
‫ل ‪ :‬مكلّف مسلم ‪ -‬ولو سكران أو هازل ولو دون نيّة ‪ -‬لتشوّف‬
‫ويقع العتق عند الفقهاء من ك ّ‬
‫الشّارع إلى الح ّريّة بل خلف بين الفقهاء ‪.‬‬
‫وقد أجمعوا على أنّه من حيث الصل تصرّف مندوب إليه ‪ ،‬ويجب لعارض ‪ ،‬ويحصل به‬
‫القربة لقوله تعالى ‪ { :‬فتحرير رقبة مؤمنة } وقوله عزّ وجلّ { فكّ رقبة } ‪ .‬ولخبر « أيّما‬
‫مسلم أعتق مؤمنا أعتق اللّه بكلّ عضو منه عضوا من النّار » ( ر ‪ :‬عتق ‪ ،‬إعتاق ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّشوّف في العدّة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬المطلّقة الرّجعيّة لها أن تتزيّن ‪ ،‬لنّها حلل للزّوج ‪ ،‬لقيام نكاحها ما دامت في العدّة ‪،‬‬
‫والرّجعة مستحبّة ‪ ،‬والتّزيّن حامل عليها فيكون مشروعا ‪.‬‬
‫وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪.‬‬
‫ب لها التّزيّن ‪ .‬ومنهم من قال ‪:‬‬
‫أمّا الشّافعيّة ‪ :‬فيرون أنّه يستحبّ لها الحداد ‪ .‬فل يستح ّ‬
‫الولى أن تتزيّن بما يدعو الزّوج إلى رجعتها ‪ ( .‬ر ‪ :‬عدّة ) ول خلف بين الفقهاء في تحريم‬
‫الزّينة على المتوفّى عنها زوجها مدّة عدّتها ‪ ،‬لوجوب الحداد عليها ‪.‬‬
‫وأمّا المبانة في الحياة بينونة كبرى ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء فيها على أقوال ‪ :‬فذهب الحنفيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة في قول إلى أنّه يحرم عليها الزّينة ‪ ،‬حدادا وأسفا على زوجها ‪ ،‬وإظهارا للتّأسّف‬
‫على فوت نعمة النّكاح ‪ ،‬الّذي هو سبب لصونها وكفاية مئونتها ‪ ،‬ولحرمة النّظر إليها ‪ ،‬وعدم‬
‫مشروعيّة الرّجعة ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬يستحبّ لها الحداد ‪.‬‬
‫وفي قول ‪ :‬الحداد واجب على ما تقدّم ‪ ،‬وأمّا المالكيّة فقالوا ‪ :‬ل إحداد إل على المتوفّى عنها‬
‫زوجها فقط ‪ .‬ومفاده ‪ :‬ل إحداد على المبانة وإن استحبّ لها في عدّتها ‪.‬‬
‫ول يسنّ لها الحداد عند الحنابلة ‪ ،‬ولهذا ل يلزمها أن تتجنّب ما يرغّب في النّظر إليها من‬
‫الزّينة ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬عدّة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّشوّف للخطاب ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يرى الفقهاء أنّه ل يجوز للّتي تكون صالحة للخطبة والزّواج أن تتزيّن استعدادا لرؤية‬
‫من يرغب في خطبتها والزّواج بها ‪.‬‬
‫وأجمعوا على أنّه يجوز للخاطب أن يرى بنفسه من يرغب في زواجها لكي يقدم على العقد‬
‫إن أعجبته ‪ ،‬ويحجم عنه إن لم تعجبه ‪ ،‬لخبر « إذا خطب أحدكم امرأة ‪ ،‬فإن استطاع أن‬
‫ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل » وذلك لنّه من أسباب اللفة والوئام ‪.‬‬
‫وعن المغيرة بن شعبة رضي ال عنه « أنّه خطب امرأة ‪ ،‬فقال له النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ :‬أنظرتَ إليها ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬فقال ‪ :‬اذهب فانظر إليها ‪ ،‬فإنّه أحرى أن يُ ْؤدَم بينكما » ‪.‬‬
‫ن رؤيتهما تحقّق‬
‫ن للخاطب أن ينظر إلى الوجه والكفّين فقط ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويرى أكثر الفقهاء أ ّ‬
‫المطلوب من الجمال وخصوبة الجسد وعدمها ‪ .‬فيدلّ الوجه على الجمال أو ضدّه لنّه مجمع‬
‫المحاسن ‪ ،‬والكفّان على خصوبة البدن ‪ .‬وأجاز بعض الحنفيّة النّظر إلى الرّقبة والقدمين ‪.‬‬
‫وأجاز الحنابلة النّظر إلى ما يظهر عند القيام بالعمال ‪ ،‬وهي ستّة أعضاء ‪ :‬الوجه ‪ ،‬والرّأس‬
‫‪ ،‬والرّقبة ‪ ،‬واليد ‪ ،‬والقدم ‪ ،‬والسّاق ‪ ،‬لنّ الحاجة داعية إلى ذلك ‪ ،‬ولطلق الحاديث السّابقة‬
‫‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬نكاح ‪ ،‬خطبة ) ‪.‬‬

‫تشييع الجنازة *‬
‫انظر ‪ :‬جنازة ‪.‬‬

‫تصادق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصادق لغة واصطلحا ‪ :‬ضدّ التّكاذب يقال ‪ :‬تصادقا في الحديث والمودّة ض ّد تكاذبا‬
‫ومادّة تفاعل ل تكون غالبا إل بين اثنين يقال ‪ :‬تحابّا وتخاصما ‪ ،‬أي أحبّ أو خاصم كلّ منهما‬
‫الخر ‪ .‬واستعمل المالكيّة أيضا ( التّقارر ) بمعنى التّصادق ‪.‬‬
‫حكم التّصادق ‪:‬‬
‫ق المتصادقين إذا تعلّقت به حقوق العباد ‪ ،‬أو كان في‬
‫‪ - 2‬حكم التّصادق في الجملة ‪ -‬في ح ّ‬
‫حقوق اللّه الّتي ل تدرأ بالشّبهات ‪ -‬اللّزوم ‪ ،‬وهو أبلغ من الشّهادة ‪ ،‬لنّه نوع من القرار ‪.‬‬
‫قال أشهب ‪ :‬قول كلّ أحد على نفسه أوجب من دعواه على غيره ‪.‬‬
‫أمّا بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى الّتي تدرأ بالشّبهات فليس بلزم ‪.‬‬
‫من يعتبر تصادقه ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّصادق الّذي يعتدّ به ويترتّب عليه حكم يكون من البالغ العاقل المختار ‪ ،‬فل يعتبر‬
‫تصديق الصّغير وغير العاقل ‪.‬‬
‫صفة التّصادق ‪:‬‬
‫‪ - 4‬صفة التّصديق لفظ أو ما يقوم مقامه يدلّ على توجّه الحقّ قبل المق ّر ( المصدّق ) ‪.‬‬
‫ويقوم مقام اللّفظ ‪ :‬الشارة والكتابة والسّكوت ‪ .‬فالشارة من البكم ومن المريض ‪ .‬فإذا قيل‬
‫للمريض ‪ :‬لفلن عندك كذا ‪ ،‬فأشار برأسه أن نعم ‪ ،‬فهذا تصديق إذا فهم عنه مراده ‪.‬‬
‫ما يشترط في المصادق ‪:‬‬
‫ل للستحقاق ‪ ،‬وأل يكذّبه المصادق ‪ ،‬فإذا كذّب‬
‫‪ - 5‬يشترط في المصادق أن يكون أه ً‬
‫المصادق المصادق ثمّ رجع لم يفد رجوعه ‪ ،‬إلّا أن يرجع المصادق إلى ما أقرّ به ‪.‬‬
‫محلّ التّصادق ‪:‬‬
‫‪ - 6‬يكون التّصديق في النّسب والمال ‪ .‬والتّصديق في النّسب ينظر تحت عنوان ( نسب ) ‪.‬‬
‫والتّصديق في المال نوعان ‪ :‬مطلق ومقيّد ‪.‬‬
‫فالمطلق ‪ :‬ما صدر غير مقترن بما يقيّده أو يرفع حكمه أو حكم بعضه ‪ ،‬فإذا كان التّصديق‬
‫على هذا الوجه فهو ملزم لمن صدّق‪ ،‬وعليه أداء ما صدّق فيه ‪ ،‬ول يجوز له الرّجوع عنه‪.‬‬
‫وإذا كان التّصديق مقيّدا بقيد ففي لزومه أو عدمه تفصيل ينظر في مصطلح ( إقرار ) ‪.‬‬
‫التّصادق في حقوق اللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ - 7‬إذا تصادق اثنان أو أكثر على إسقاط حقّ من حقوق اللّه تعالى فل عبرة بتصادقهم ‪ ،‬ول‬
‫يترتّب عليه حكم ‪ ،‬إلّا إذا قامت بيّنة على هذا التّصادق ‪ ،‬فيكون الحكم في هذه الحال ثابتا‬
‫بالبيّنة ل بالتّصادق ‪ ،‬ويتّضح ذلك من المثلة التية ‪:‬‬
‫إن طلّق الزّوج زوجته قبل الدّخول ‪ ،‬وكان قد خل بها ‪ ،‬لزمتها العدّة إن كان الزّوج بالغا ‪،‬‬
‫وكانت المرأة مطيقة للوطء ‪ ،‬سواء أكانت خلوة اهتداء أم خلوة زيارة ‪.‬‬
‫وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ .‬وتجب العدّة حينئذ ولو تصادقا على نفي الوطء ‪ ،‬لنّ‬
‫العدّة حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬فل تسقط بالتّصادق ‪.‬‬
‫ويؤخذ بتصادقهما على نفي الوطء فيما هو حقّ لهما ‪ :‬فل نفقة لها ‪ ،‬ول يتكمّل لها الصّداق ‪،‬‬
‫ول رجعة له عليها ‪ .‬أي كلّ من أقرّ منهما أخذ بإقراره اجتماعا أو انفرادا ‪.‬‬
‫ويترتّب على قبول التّصادق أو ردّه أحكام كثيرة ‪ ،‬كثبوت النّسب من تاريخ الخلوة ‪ ،‬وتأكيد‬
‫المهر ‪ ،‬والنّفقة والسّكن والعدّة ‪ ،‬وحرمة نكاح أختها في عدّتها وأربع سواها ‪ .‬وفي هذه‬
‫المذاهب اختلف في الحقوق الّتي تترتّب على الخلوة ‪ .‬تفصيله في باب ‪ ( :‬النّكاح ) ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة في القديم قولن أحدهما ‪ :‬الخلوة مؤثّرة ‪ ،‬وتصدّق المرأة في ادّعاء الصابة‬
‫( الوطء ) والقول الثّاني أنّها كالوطء ‪ .‬وفي الجديد ‪ :‬إنّ الخلوة وحدها ل تؤثّر في المهر ‪.‬‬
‫وعلى هذا لو اتّفقا على حصول الخلوة ‪ ،‬وادّعت الصابة لم يترجّح جانبها ‪ ،‬بل القول قوله‬
‫بيمينه ‪ .‬ويفهم من ذلك أنّه لو صدّقها يتقرّر المهر كلّه ‪.‬‬
‫التّصادق في النّكاح ‪:‬‬
‫ن الشّهادة شرط فيه ‪ ،‬ووقتها عند غير المالكيّة وقت العقد ‪،‬‬
‫‪ - 8‬ل يثبت النّكاح بالتّصادق ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعند المالكيّة يندب الشهاد وقت العقد ‪ ،‬فإن لم يشهد عند العقد اشترط وجوبا عند الدّخول ‪،‬‬
‫ول حدّ عندهم إن فشا النّكاح بوليمة أو ضرب دفّ أو دخان ‪ ،‬أو كان على العقد أو الدّخول‬
‫شاهد واحد غير الوليّ ‪ ،‬لصحّة النّكاح في هذه الصّور ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬تثبت الزّوجيّة بالتّقارر ‪ -‬أي التّصادق ‪ -‬حقّ الزّوجين إذا كانا بلديّين ‪ ،‬أو‬
‫كان أحدهما بلديّا ‪ ،‬وأمّا الطّارئان ‪ -‬أي من لم يكونا من أهل البلد ‪ ،‬سواء قدما معا أو‬
‫مفترقين ‪ -‬فل تثبت الزّوجيّة بينهما بمجرّد التّصادق ‪.‬‬
‫حكم تصادق الزّوجين على طلق سابق ‪:‬‬
‫صحّة بطلق بائن أو رجعيّ متقدّم على وقت إقراره ‪ ،‬ول بيّنة‬
‫‪ - 9‬إذا أقرّ رجل في حالة ال ّ‬
‫له ‪ ،‬استأنفت امرأته العدّة من وقت إقراره ‪ ،‬فيصدّق في الطّلق ‪ ،‬ل في إسناده للوقت السّابق‬
‫ولو صدّقته ‪ ،‬لنّه يتّهم على إسقاط العدّة وهي حقّ للّه تعالى ‪ .‬فإن كانت له بيّنة ‪ ،‬فالعدّة من‬
‫الوقت الّذي أسندت إليه البيّنة ‪ .‬هذا بالنّسبة للعدّة لنّها حقّ اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ل ح سب إقراره ‪ ،‬فلو ما تت الزّو جة ‪ ،‬وكا نت العدّة قد‬
‫أمّا بالنّ سبة لحقوق الزّوج ين فيعا مل ك ّ‬
‫انق ضت بح سب إقراره ‪ ،‬فل يرث ها لنّ ها صارت أجنبيّة على مقت ضى دعواه ‪ ،‬ول رج عة له‬
‫عليها إن كان الطّلق رجعيّا ‪ ،‬وورثته إن مات في العدّة المستأنفة ‪ ،‬حيث كان الطّلق رجعيّا‬
‫إن لم تصندّقه ‪ .‬ول يتزوّج أختهنا ول أربعنا سنواها فني العدّة ‪ ،‬ولو صنادقته على حصنول‬
‫الطّلق في الماضي نفيا لتهمة التّواطؤ بينهما ‪.‬‬
‫وإن صدّقته فل نفقة لها معاملة لها بتصديقها إيّاه ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه لو أسند الزّوج الطّلق إلى زمن ماض ‪ ،‬وصدّقت الزّوجة الزّوج في‬
‫السناد ‪ ،‬فالعدّة من التّاريخ الّذي أسند إليه الطّلق ‪ ،‬ولو لم يقم على ذلك بيّنة ‪.‬‬
‫والمفهوم من كلم الحنابلة أنّ الحكم عندهم كذلك ‪ .‬فقد جاء في شرح منتهى الرادات ‪ :‬لو‬
‫ن زوجها طلّقها وانتهت عدّتها ‪ ،‬فله تزويجها بشرطه إن ظنّ‬
‫جاءت امرأة حاكما وادّعت أ ّ‬
‫صدقها ‪ ،‬ول سيّما إن كان الزّوج ل يعرف ‪ ،‬لنّ القرار ( أي بالزّوجيّة ) لمجهول ل يصحّ‪.‬‬
‫وأيضا الصل صدقها ‪ -‬أي فيما ادّعته من خلوّها عن الزّوجيّة ‪ -‬ول منازع ‪.‬‬
‫حكم مصادقة الزّوجة على إعسار الزّوج ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يكتفى بتصديق الزّوجة زوجها في دعواه العسار ‪ ،‬وتصديقها يقوم مقام البيّنة ‪،‬‬
‫ويترتّب عليه ما يترتّب على ثبوت العسار بالبيّنة من حيث الحكم بالتّطليق بشروطه‬
‫المفصّلة في أبوابها وينظر ( إعسار ‪ ،‬نفقة ‪ ،‬مهر ) ‪.‬‬
‫الرّجوع في التّصديق ‪:‬‬
‫ن التّصديق ملزم لمن صدّق ‪ ،‬وعلى ذلك فل يجوز الرّجوع فيه بالنّسبة لحقوق‬
‫‪ - 11‬تقدّم أ ّ‬
‫العباد وحقوق اللّه الّتي ل تدرأ بالشّبهات ‪ ،‬كالزّكاة ‪ ،‬فمن صدّق المدّعي فيما ادّعاه عليه من‬
‫حقّ فل يجوز له الرّجوع متى توافرت شروط التّصديق ‪.‬‬
‫ولو أقرّ بنسب ‪ ،‬وصدّقه المق ّر له ‪ ،‬ثمّ رجع المقرّ عن إقراره ل يقبل منه الرّجوع ‪.‬‬
‫أمّا بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى الّتي تدرأ بالشّبهات كالحدود فإنّه إذا ثبت الحدّ بالقرار فقط ‪،‬‬
‫ن النّبيّ‬
‫فإنّه يجوز للمق ّر الرّجوع ‪ ،‬سواء أكان الرّجوع قبل الحدّ أم بعده ‪ ،‬وسقط الحدّ ‪ « ،‬ل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم عرّض لماعز بالرّجوع » ‪ ،‬فلول أنّه يفيد لما عرّض له به ‪.‬‬
‫وعلّل الفقهاء عدم جواز الرّجوع في التّصديق بحقوق الدميّين وحقوق اللّه الّتي ل تدرأ‬
‫ن رجوعه نقض لما صدر منه وتعلّق به حقّ الغير ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬هذه الدّار لزيد ‪،‬‬
‫بالشّبهات ‪ :‬بأ ّ‬
‫ل بل لعمرو ‪ ،‬أو ادّعى زيد على ميّت شيئا معيّنا من تركته فصدّقه ابنه ‪ ،‬ثمّ ادّعاه عمرو‬
‫فصدّقه ‪ ،‬حكم به لزيد ‪ ،‬ووجبت عليه غرامته لعمرو ‪ ،‬وهذا ظاهر أحد قولي الشّافعيّ ‪ .‬وفي‬
‫القول الخر ‪ :‬ل يغرم لعمرو شيئا ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬لنّه أقرّ له بما عليه القرار به‬
‫وإنّما منعه الحكم من قبوله وذلك ل يوجب الضّمان ‪.‬‬

‫تصحيح *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصحيح لغة ‪ :‬مصدر صحّح ‪ ،‬يقال ‪ :‬صحّحت الكتاب والحساب تصحيحا ‪ :‬إذا أصلحت‬
‫صحّة ‪ ،‬إذا‬
‫خطأه ‪ ،‬وصحّحته فصحّ ‪ .‬والتّصحيح عند المحدّثين هو ‪ :‬الحكم على الحديث بال ّ‬
‫صحّة الّتي وضعها المحدّثون ‪ .‬ويطلق التّصحيح أيضا عندهم على كتابة‬
‫استوفى شرائط ال ّ‬
‫شكّ بأن كرّر لفظ مثل ل يخلّ تركه ‪.‬‬
‫( صحّ ) على كلم يحتمل ال ّ‬
‫والتّصحيح عند أهل الفرائض ‪ :‬إزالة الكسور الواقعة بين السّهام والرّءوس ‪.‬‬
‫والتّصحيح عند الفقهاء هو ‪ :‬رفع أو حذف ما يفسد العبادة أو العقد ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعديل ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعديل ‪ :‬مصدر عدّل ‪ ،‬يقال ‪ :‬عدّلت الشّيء تعديل فاعتدل ‪ :‬إذا سوّيته فاستوى ‪ .‬ومنه‬ ‫‪2‬‬

‫قسمة التّعديل ‪ .‬وعدّلت الشّاهد ‪ :‬نسبته إلى العدالة ‪ .‬وتعديل الشّيء ‪ :‬تقويمه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّصويب ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّصويب ‪ :‬مصدر صوّب من الصّواب ‪ ،‬الّذي هو ضدّ الخطأ ‪ ،‬والتّصويب بهذا المعنى‬
‫يرادف التّصحيح ‪ ،‬وصوّبت قوله ‪ :‬قلت ‪ :‬إنّه صواب ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّهذيب ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّهذيب كالتّنقية ‪ ،‬يقال ‪ :‬هذّب الشّيء ‪ ،‬إذا نقّاه وأخلصه ‪ .‬وقيل ‪ :‬أصلحه ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الصلح ‪:‬‬
‫‪ - 5‬الصلح ضدّ الفساد ‪ ،‬وأصلح الشّيء بعد فساده ‪ :‬أقامه‪ ،‬وأصلح الدّابّة ‪ :‬أحسن إليها‪.‬‬
‫هن – التّحرير ‪:‬‬
‫‪ - 6‬تحرير الكتابة ‪ :‬إقامة حروفها وإصلح السّقط وتحرير الحساب ‪ :‬إثباته مستويا ل غلت‬
‫فيه ‪ ،‬ول سقط ول محو ‪ .‬وتحرير الرّقبة ‪ :‬عتقها ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 7‬تصحيح الفساد والخطأ أمر واجب شرعا متى عرفه النسان ‪ ،‬سواء أكان ذلك في‬
‫العبادات ‪ :‬كمن اجتهد في معرفة القبلة وصلّى ‪ ،‬ثمّ تبيّن الخطأ أثناء الصّلة ‪ ،‬فيجب تصحيح‬
‫هذا الخطأ بالتّجاه إلى القبلة ‪ ،‬وإل فسدت الصّلة ‪.‬‬
‫ح البيع ‪،‬‬
‫أم كان ذلك في المعاملت ‪ :‬كالبيع بشرط مفسد للعقد ‪ ،‬فيجب إسقاط هذا الشّرط ليص ّ‬
‫وإل وجب فسخ البيع دفعا للفساد‪.‬‬
‫ما يتعلّق بالتّصحيح من أحكام ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬تصحيح الحديث ‪:‬‬
‫صحّة لتوافر شروط خاصّة اشترطها علماء الحديث‬
‫‪ - 8‬تصحيح الحديث هو ‪ :‬الحكم عليه بال ّ‬
‫‪ .‬وقد يختلف المحدّثون في صحّة بعض الحاديث لختلفهم في بعض الشّروط ‪ ،‬وفي تقديم‬
‫بعضها على بعض ‪.‬‬
‫ي وغيرهما أنّه يحكم بصحّة الحديث المسند الّذي يتّصل إسناده‬
‫فقد قرّر ابن الصّلح والنّوو ّ‬
‫بنقل العدل الضّابط عن العدل الضّابط إلى منتهاه ‪ ،‬ول يكون شاذّا ول معلّلً ‪.‬‬
‫صحّة بل خلف بين أهل الحديث ‪ .‬فإذا‬
‫قال ابن الصّلح ‪ :‬فهذا هو الحديث الّذي يحكم له بال ّ‬
‫صحّة ‪ ،‬ما لم يظهر بعد ذلك أنّ فيه شذوذا ‪ .‬والحكم‬
‫وجدت الشّروط المذكورة حكم للحديث بال ّ‬
‫بتواتر الحديث حكم بصحّته ‪ .‬وقال بعض المحدّثين ‪ :‬يحكم للحديث بالصّحّة إذا تلقّاه النّاس‬
‫بالقبول ‪ ،‬وإن لم يكن له إسناد صحيح ‪ .‬قال ابن عبد البرّ ‪ -‬لما حكى عن التّرمذيّ أنّ‬
‫البخاريّ صحّح حديث البحر ‪ « :‬هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » وأهل الحديث ل يصحّحون‬
‫ن الحديث عندي صحيح ‪ ،‬لنّ العلماء تلقّوه بالقبول ‪.‬‬
‫مثل إسناده ‪ -‬لك ّ‬
‫وقال الستاذ أبو إسحاق السفرايينيّ ‪ :‬تعرف صحّة الحديث إذا اشتهر عند أئمّة الحديث بغير‬
‫نكير منهم ‪ .‬وقال نحوه ابن فورك ‪.‬‬
‫صحّة ‪ ،‬كاشتراط الحاكم أن يكون راوي الحديث‬
‫على أنّ هناك من اشترط غير ذلك للحكم بال ّ‬
‫مشهورا بالطّلب ‪ -‬أي طلب الحديث وتتبّع رواياته ‪ -‬وعن مالك نحوه ‪ ،‬وكاشتراط أبي حنيفة‬
‫فقه الرّاوي ‪ ،‬وكاشتراط بعض المحدّثين العلم بمعاني الحديث ‪ ،‬حيث يروى بالمعنى ‪ ،‬قال‬
‫السّيوطيّ ‪ :‬وهو شرط ل بدّ منه ‪ ،‬لكنّه داخل في الضّبط ‪ ،‬وكاشتراط البخاريّ ثبوت السّماع‬
‫لكلّ راو من شيخه ‪ ،‬ولم يكتف بإمكان اللّقاء والمعاصرة ‪.‬‬
‫أثر عمل العالم وفتياه في التّصحيح ‪:‬‬
‫‪ - 9‬قال النّوويّ والسّيوطيّ ‪ :‬عمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكما منه بصحّة‬
‫الحديث ول بتعديل رواته ‪ ،‬لمكان أن يكون ذلك منه احتياطا ‪ ،‬أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر‬
‫‪ .‬وصحّح المديّ وغيره من الصوليّين أنّه حكم بذلك ‪ .‬وقال إمام الحرمين ‪ :‬إن لم يكن في‬
‫مسالك الحتياط ‪ -‬أي لم تكن الفتيا بمقتضى صحّة الحديث ‪ ،‬بل للحتياط ‪ . -‬وفرّق ابن‬
‫تيميّة بين أن يعمل به في التّرغيب وغيره ‪ .‬كما أنّ مخالفة العالم للحديث ل تعتبر قدحا منه‬
‫في صحّته ول في رواته ‪ ،‬لمكان أن يكون ذلك لمانع من معارض أو غيره ‪.‬‬
‫وقد روى المام مالك حديث الخيار ‪ ،‬ولم يعمل به لعمل أهل المدينة بخلفه ‪ ،‬ولم يكن ذلك‬
‫قدحا في نافعٍ راويه ‪ .‬وممّا ل يدلّ على صحّة الحديث أيضا ‪ -‬كما ذكر أهل الصول ‪-‬‬
‫ح ‪ ،‬لجواز أن يكون المستند غيره ‪.‬‬
‫موافقة الجماع له على الص ّ‬
‫وقيل ‪ :‬يدلّ على صحّة الحديث ‪.‬‬
‫تصحيح المتأخّرين من علماء الحديث ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يرى الشّيخ ابن الصّلح أنّه قد انقطع التّصحيح في هذه العصار ‪ ،‬فليس لحد أن‬
‫يصحّح ‪ ،‬بل يقتصر في الحكم بصحّة الحديث على ما اعتمده السّابقون ‪ ،‬كما يرى عدم اعتبار‬
‫الحديث صحيحا بمجرّد صحّة إسناده ما لم يوجد في مصنّفات أئمّة الحديث المعتمدة المشهورة‬
‫ن أنّه لو صحّ عندهم لما أهملوه لشدّة فحصهم واجتهادهم ‪.‬‬
‫‪ ،‬فأغلب الظّ ّ‬
‫ي ابن الصّلح في ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬والظهر عندي جوازه لمن تمكّن‬
‫وقد خالف المام النّوو ّ‬
‫وقويت معرفته ‪ .‬قال الحافظ العراقيّ ‪ :‬وهو الّذي عليه عمل أهل الحديث ‪.‬‬
‫وقد صحّح جماعة من العلماء المتأخّرين أحاديث لم يعرف تصحيحهما عن القدمين ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تصحيح العقد الفاسد ‪:‬‬
‫‪ - 11‬الفقهاء عدا الحنفيّة ل يفرّقون في الجملة بين العقد الباطل والعقد الفاسد ‪ ،‬فالحكم عند‬
‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّ العقد ل ينقلب صحيحا برفع المفسد ‪.‬‬
‫ففي كتب الشّافعيّة ‪ :‬لو حذف العاقدان المفسد للعقد ‪ -‬ولو في مجلس الخيار ‪ -‬لم ينقلب العقد‬
‫صحيحا ‪ ،‬إذ ل عبرة بالفاسد ‪.‬‬
‫وفي المغني لبن قدامة ‪ :‬لو باعه بشرط أن يسلّفه أو يقرضه ‪ ،‬أو شرط المشتري ذلك عليه ‪،‬‬
‫فهو محرّم والعقد باطل ‪ ،‬لما روى عبد اللّه بن عمرو رضي ال عنهما « أنّ النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن ‪ ،‬وعن بيع ما لم يقبض ‪ ،‬وعن بيعتين في بيعة ‪ ،‬وعن‬
‫شرطين في بيع ‪ ،‬وعن بيع وسلف » ‪ .‬ولنّه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ‪،‬‬
‫ولنّه إذا اشترط القرض زاد في الثّمن لجله ‪ ،‬فتصير الزّيادة في الثّمن عوضا عن القرض‬
‫وربحا له ‪ ،‬وذلك ربا محرّم ‪ ،‬ففسد كما لو صرّح به ‪ ،‬ولنّه بيع فاسد فل يعود صحيحا كما‬
‫لو باع درهما بدرهمين ثمّ ترك أحدهما ‪ .‬وفي باب الرّهن قال ‪ :‬لو بطل العقد لما عاد‬
‫صحيحا ‪ .‬وفي شرح منتهى الرادات ‪ :‬العقد الفاسد ل ينقلب صحيحا ‪.‬‬
‫ح العقد إذا حذف الشّرط المفسد للعقد ‪ ،‬سواء أكان شرطا ينافي مقتضى‬
‫وعند المالكيّة يص ّ‬
‫ح البيع معها ولو حذف‬
‫ل بالثّمن في البيع ‪ ،‬إلّا أربعة شروط فل يص ّ‬
‫العقد ‪ ،‬أم كان شرطا يخ ّ‬
‫الشّرط ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬من ابتاع سلعة بثمن مؤجّل على أنّه إن مات فالثّمن صدقة عليه ‪ ،‬فإنّه يفسخ البيع ولو‬
‫أسقط هذا الشّرط لنّه غرر ‪ ،‬وكذا لو شرط ‪ :‬إن مات فل يطالب البائع ورثته بالثّمن ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬شرط ما ل يجوز من أمد الخيار‪ ،‬فيلزم فسخه وإن أسقط لجواز كون إسقاطه أخذا به‪.‬‬
‫ج ‪ -‬من باع أمة وشرط على المبتاع أن ل يطأها ‪ ،‬وأنّه إن فعل فهي حرّة ‪ ،‬أو عليه دينار‬
‫مثل ‪ ،‬فيفسخ ولو أسقط الشّرط لنّه يمين ‪.‬‬
‫د ‪ -‬شرط الثّنيا يفسد البيع ولو أسقط الشّرط ‪ .‬وزاد ابن الحاجب شرطا خامسا وهو ‪:‬‬
‫هن ‪ -‬شرط النّقد ( أي تعجيل الثّمن ) في بيع الخيار قال ابن الحاجب ‪ :‬لو أسقط شرط النّقد‬
‫فل يصحّ ‪ .‬وفي الجارة جاء في الشّرح الصّغير ‪ :‬تفسد الجارة بالشّرط الّذي يناقض مقتضى‬
‫ل الفساد إن لم يسقط الشّرط ‪ ،‬فإن أسقط الشّرط صحّت ‪.‬‬
‫العقد ‪ ،‬ومح ّ‬
‫ويوضّح ابن رشد سبب اختلف الفقهاء في صحّة العقد بارتفاع المفسد أو عدم صحّته ‪ .‬فيقول‬
‫‪ :‬هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشّرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشّرط ‪ ،‬أو ل يرتفع ؟ كما‬
‫ل يرتفع الفساد اللحق للبيع الحلل من أجل اقتران المحرّم العين به ‪ ،‬كمن باع غلما بمائة‬
‫دينار وزقّ خمر ‪ ،‬فلمّا عقد البيع قال ‪ :‬أدّع ال ّزقّ ‪ .‬وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع ‪.‬‬
‫وهذا أيضا ينبني على أصل آخر ‪ .‬هو ‪ :‬هل هذا الفساد معقول المعنى أو غير معقول ؟ فإن‬
‫قلنا ‪ :‬هو غير معقول المعنى ‪ ،‬لم يرتفع الفساد بارتفاع الشّرط ‪.‬‬
‫وإن قلنا ‪ :‬معقول ‪ ،‬ارتفع الفساد بارتفاع الشّرط ‪ .‬فمالك رآه معقول ‪ ،‬والجمهور رأوه غير‬
‫معقول ‪ ،‬والفساد الّذي يوجد في بيوع الرّبا والغرر هو أكثر ذلك غير معقول المعنى ‪ ،‬ولذلك‬
‫ليس ينعقد عندهم أصل ‪ ،‬وإن ترك الرّبا بعد البيع وارتفع الغرر ‪.‬‬
‫‪ - 12‬ويفرّق الحنفيّة بين العقد الباطل والعقد الفاسد فيصحّ عندهم ‪ -‬خلفا لزفر ‪ -‬تصحيح‬
‫العقد الفاسد ‪ ،‬بارتفاع المفسد دون الباطل ‪ ،‬ويقولون في عقد البيع ‪ :‬إنّ ارتفاع المفسد في‬
‫الفاسد يردّه صحيحا ‪ ،‬لنّ البيع قائم مع الفساد ‪ ،‬ومع البطلن لم يكن قائما بصفة البطلن ‪،‬‬
‫بل كان معدوما ‪ .‬وعند زفر ‪ :‬العقد الفاسد ل يحتمل الجواز برفع المفسد ‪.‬‬
‫ن تصحيح العقد الفاسد عند الحنفيّة مقيّد بما إذا كان الفساد ضعيفا ‪ .‬يقول الكاسانيّ ‪ :‬الصل‬
‫لك ّ‬
‫عندنا أنّه ينظر إلى الفساد ‪ ،‬فإن كان قويّا بأن دخل في صلب العقد ‪ -‬وهو البدل أو المبدل ‪-‬‬
‫ل يحتمل الجواز برفع المفسد ‪ ،‬كما إذا باع عبدا ألف درهم ورطل من خمر ‪ ،‬فحطّ الخمر‬
‫عن المشتري فهو فاسد ول ينقلب صحيحا ‪.‬‬
‫وإن كان الفساد ضعيفا ‪ ،‬وهو ما لم يدخل في صلب العقد ‪ ،‬بل في شرط جائز يحتمل الجواز‬
‫برفع المفسد ‪ ،‬كما في البيع بشرط خيار لم يوقّت ‪ ،‬أو وقّت إلى وقت مجهول كالحصاد ‪ ،‬أو‬
‫لم يذكر الوقت ‪ ،‬وكما في البيع بثمن مؤجّل إلى أجل مجهول ‪ ،‬فإذا أسقط الجل من له الحقّ‬
‫فيه قبل حلوله وقبل فسخه جاز البيع لزوال المفسد ‪ ،‬ولو كان إسقاط الجل بعد الفتراق على‬
‫ما حرّره ابن عابدين ‪.‬‬
‫وعلى هذا سائر البياعات الفاسدة بسبب ضرر يلحق بالبائع في التّسليم إذا سلّم البائع برضاه‬
‫واختياره ‪ -‬كما إذا باع جذعا له في سقف ‪ ،‬أو آجرّا له في حائط ‪ ،‬أو ذراعا في ديباج ‪ -‬أنّه‬
‫ل يجوز لنّه ل يمكنه تسليمه إلّا بالنّزع والقطع ‪ ،‬وفيه ضرر بالبائع ‪ ،‬والضّرر غير مستحقّ‬
‫بالعقد ‪ ،‬فكان هذا على التّقدير بيع ما ل يجب تسليمه شرعا ‪ ،‬فيكون فاسدا ‪ .‬فإن نزعه البائع‬
‫أو قطعه وسلّمه إلى المشتري قبل أن يفسخ المشتري البيع جاز البيع ‪ ،‬لنّ المانع من الجواز‬
‫ضرر البائع بالتّسليم ‪ ،‬فإذا سلّم باختياره ورضاه فقد زال المانع ‪ ،‬فجاز البيع ولزم ‪ .‬وعلى‬
‫هذا سائر العقود الفاسدة عند الحنفيّة طبقا لقاعدة ‪ :‬إذا زال المانع مع وجود المقتضي عاد‬
‫ن هبة المشاع فاسدة ‪ ،‬فإن قسّمه وسلّمه جاز ‪ .‬واللّبن في الضّرع ‪،‬‬
‫الحكم ‪ .‬ومن ذلك أ ّ‬
‫والصّوف على ظهر الغنم ‪ ،‬والزّرع والنّخل في الرض ‪ ،‬والتّمر في النّخيل بمنزلة المشاع ‪،‬‬
‫لنّها موجودة ‪ ،‬وامتناع الجواز للتّصال ‪ ،‬فإذا فصّلها وسلّمها جاز لزوال المانع ‪ .‬ومثل ذلك‬
‫‪ :‬إذا رهن الرض بدون البناء ‪ ،‬أو بدون الزّرع والشّجر ‪ ،‬أو رهن الزّرع والشّجر بدون‬
‫الرض ‪ ،‬أو رهن الشّجر بدون الثّمر ‪ ،‬أو رهن الثّمر بدون الشّجر أنّه ل يجوز ‪ ،‬لنّ‬
‫المرهون متّصل بما ليس بمرهون ‪ ،‬وهذا يمنع صحّة القبض ‪ .‬ولو ج ّذ الثّمر وحصد الزّرع‬
‫وسلّم منفصل جاز لزوال المانع ‪.‬‬
‫تصحيح العقد باعتباره عقدا آخر ‪:‬‬
‫‪ - 13‬هذا ‪ ،‬ويمكن تصحيح العقد الفاسد إذا أمكن تحويله إلى عقد آخر صحيح لتوافر أسباب‬
‫صحّة عن طريق المعنى عند بعض الفقهاء ‪ ،‬أم عن طريق اللّفظ‬
‫صحّة فيه ‪ ،‬سواء أكانت ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫عند البعض الخر نظرا لختلفهم في قاعدة " هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها " ‪ .‬ونوضّح‬
‫ذلك بالمثلة التية ‪:‬‬
‫‪ - 14‬في الشباه لبن نجيم ‪ :‬العتبار للمعنى ل لللفاظ ‪ ،‬صرّحوا به في مواضع منها ‪:‬‬
‫الكفالة ‪ ،‬فهي بشرط براءة الصيل حوالة ‪ ،‬وهي بشرط عدم براءته كفالة ‪.‬‬
‫وفي الختيار ‪ :‬شركة المفاوضة يشترط فيها أن يتساوى الشّريكان في التّصرّف والدّين والمال‬
‫الّذي تصحّ فيه الشّركة ‪ . .‬فل تنعقد المفاوضة بين المسلم وال ّذ ّميّ عند أبي حنيفة ومحمّد ‪،‬‬
‫فإذا عقد المسلم وال ّذمّيّ المفاوضة صارت عنانا عندهما ‪ ،‬لفوات شرط المفاوضة ووجود‬
‫ل ما فات من شرائط المفاوضة يجعل عنانا إذا أمكن ‪ ،‬تصحيحا‬
‫شرط العنان ‪ ،‬وكذلك ك ّ‬
‫لتصرّفهما بقدر المكان ‪.‬‬
‫وفي الختيار أيضا ‪ :‬عقد المضاربة ‪ ،‬إن شرط فيه الرّبح للمضارب فهو قرض ‪ ،‬لنّ كلّ‬
‫ربح ل يملك إلّا بملك رأس المال ‪ ،‬فلمّا شرط له جميع الرّبح فقد ملّكه رأس المال ‪ ،‬وإن‬
‫شرط الرّبح لربّ المال كان إبضاعا ‪ ،‬وهذا معناه عرفا وشرعا ‪.‬‬
‫وجاء في منح الجليل ‪ :‬من أحال على من ليس له عليه دين ‪ ،‬وأعلم المحال ‪ ،‬صحّ عقد‬
‫الحوالة ‪ ،‬فإن لم يعلمه لم تصحّ ‪ ،‬وتنقلب حمالة أي كفالة ‪ .‬وفي أشباه السّيوطيّ ‪ :‬هل العبرة‬
‫بصيغ العقود أو معانيها ؟ خلف ‪ .‬التّرجيح مختلف في الفروع ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬إذا قال ‪ :‬أنت حرّ غدا على ألف ‪ .‬إن قلنا ‪ :‬بيع فسد ول تجب قيمة العبد ‪ ،‬وإن‬
‫قلنا ‪ :‬عتق بعوض ‪ ،‬صحّ ووجب المسمّى ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثّمن الوّل ‪ ،‬فهو إقالة بلفظ البيع ‪ ،‬وخرّجه‬
‫السّبكيّ على القاعدة ‪ ،‬والتّخريج للقاضي حسين قال ‪ :‬إن اعتبرنا اللّفظ لم يصحّ ‪ ،‬وإن‬
‫اعتبرنا المعنى فإقالة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬تصحيح العبادة إذا طرأ عليها ما يفسدها ‪:‬‬
‫‪ - 15‬من المور الّتي تطرأ على العبادة ما ل يمكن إزالته أو تلفيه كالكل والشّرب والكلم‬
‫والحدث والجماع ‪ ،‬فهذه المور ل يمكن تلفيها‪ ،‬وهي تعتبر من مفسدات العبادة في الجملة‪.‬‬
‫هذا مع اختلف الفقهاء في التّفصيل فيها بين القليل والكثير ‪ ،‬وبين العمد والسّهو والجهل ‪،‬‬
‫وما هو معفوّ عنه أو غير معفوّ عنه ‪ .‬فإذا طرأ شيء من ذلك على العبادة ففسدت فعل ‪ -‬عند‬
‫من يعتبر ذلك مفسدا ‪ -‬فل مجال لتصحيح هذه العبادة ‪ ،‬ويلزم إعادتها إن اتّسع وقتها ‪ ،‬أو‬
‫قضاؤها إن خرج الوقت ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬إعادة ‪ -‬قضاء ) ‪.‬‬
‫والكلم هنا إنّما هو فيما يطرأ على العبادة ممّا يعتبر من المفسدات مع إمكان إزالة المفسد أو‬
‫تلفيه لتصحّ العبادة ‪ ،‬مثل طروء النّجاسة أو كشف العورة وما شابه ذلك ‪.‬‬
‫والفقهاء متّفقون في الجملة على ‪ :‬أنّه إذا طرأ على العبادة ما شأنه أن يفسدها لو استمرّ‬
‫وأمكن تلفيه وإزالته وجب فعل ذلك لتصحيح العبادة ‪ .‬ونظرا لتعذّر حصر مثل هذه المسائل‬
‫لكثرة فروعها في أبواب العبادة المختلفة ‪ ،‬فيكتفى بذكر بعض المثلة الّتي توضّح ذلك ‪:‬‬
‫‪ - 16‬من اجتهد في معرفة القِبلة ‪ ،‬وتغيّر اجتهاده أثناء الصّلة استدار إلى الجهة الثّانية الّتي‬
‫تغيّر اجتهاده إليها ‪ ،‬وبنى على ما مضى من صلته ‪.‬‬
‫وكذلك إذا اجتهد فأخطأ ‪ ،‬وبان له يقين الخطأ وهو في الصّلة ‪ ،‬بمشاهدة أو خبر عن يقين‬
‫فإنّه يستدير إلى جهة الصّواب ويبني على ما مضى ‪.‬‬
‫والدّليل على ذلك أنّ أهل قباء لمّا بلغهم نسخ القبلة وهم في صلة الفجر استداروا إليها ‪،‬‬
‫« واستحسن النّبيّ صلى ال عليه وسلم فعل أهل قباء ‪ ،‬ولم يأمرهم بالعادة » ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬استقبال ‪ -‬قبلة ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 17‬من وقعت عليه نجاسة يابسة ‪ -‬وهو في الصّلة ‪ -‬فأزالها سريعا صحّت صلته ‪،‬‬
‫لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي ال عنه قال ‪ « :‬بينما رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يصلّي‬
‫بأصحابه ‪ ،‬إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ‪ ،‬فلمّا رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم ‪ ،‬فلمّا قضى‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم صلته قال ‪ :‬ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ ‪ .‬قالوا ‪ :‬رأيناك‬
‫ن فيهما‬
‫ن جبريل أتاني ‪ ،‬فأخبرني أ ّ‬
‫ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إ ّ‬
‫قذرا » ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نجاسة ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 18‬من انكشفت عورته وهو في الصّلة ‪ -‬بأن أطارت الرّيح سترته فانكشفت عورته ‪-‬‬
‫فإن أعادها سريعا صحّت صلته ‪.‬‬
‫ولو صلّى عريانا لعدم وجود سترة ‪ ،‬ثمّ وجد سترة قريبة منه ستر بها ما وجب ستره ‪ ،‬وبنى‬
‫على ما مضى من صلته ‪ ،‬قياسا على أهل قباء لمّا علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتمّوا‬
‫صلتهم ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬عورة ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 19‬إن خفّ في الصّلة معذور بعذر مسوّغ للستناد أو الجلوس أو الضطجاع انتقل‬
‫للعلى ‪ ،‬كمستند قدر على الستقلل ‪ ،‬وجالس قدر على القيام انتقل وجوبا ‪ ،‬فإن تركه بطلت‬
‫صلته ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬عذر ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 20‬من علم في أثناء طوافه بنجس في بدنه أو ثوبه طرحه أو غسلهما ‪ ،‬وبنى على ما تقدّم‬
‫من طوافه إن لم يطل ‪ ،‬وإل بطل طوافه لعدم الموالة ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ( طواف ) ‪.‬‬
‫‪ - 21‬هذا ‪ ،‬ومن تصحيح العبادة ما يدخل تحت قاعدة ‪ :‬بطلن الخصوص ل يبطل العموم ‪.‬‬
‫جاء في المنثور ‪ :‬لو تحرّم بالفرض منفردا فحضرت جماعة ‪ ،‬قال الشّافعيّ ‪ :‬أحببت أن يسلّم‬
‫من ركعتين وتكون نافلة ‪ ،‬ويصلّي الفرض ‪ ،‬فصحّح النّفل مع إبطال الفرض ‪.‬‬
‫وإذا تحرّم بالصّلة المفروضة قبل وقتها ظانّا دخوله بطل خصوص كونها ظهرا ‪ ،‬ويبقى‬
‫ح‪.‬‬
‫عموم كونها نفل في الص ّ‬
‫ج قبل أشهره ففي انعقاده عمرة قولن أصحّهما ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫وإذا أحرم بالح ّ‬
‫وحكاه في المهذّب قولً واحدا ‪ ،‬قال ‪ :‬لنّها عبادة مؤقّتة ‪ ،‬فإذا عقدها في غير وقتها انعقد‬
‫غيرها من جنسها ‪ ،‬كصلة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال ‪ ،‬فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل ‪.‬‬
‫‪ - 22‬وهذه القاعدة تكاد تكون مطّردة في بقيّة المذاهب في الجملة ‪ ،‬ففي شرح منتهى‬
‫الرادات ‪ :‬من أتى بما يفسد الفرض في الصّلة ‪ -‬كترك القيام بل عذر ‪ -‬انقلب فرضه‬
‫نفل ‪ ،‬لنّه كقطع نيّة الفرضيّة ‪ ،‬فتبقى نيّة الصّلة ‪ .‬وينقلب نفل كذلك من أحرم بفرض ‪ ،‬ثمّ‬
‫تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ‪ ،‬لنّ الفرض لم يصحّ ‪ ،‬ولم يوجد ما يبطل النّفل ‪.‬‬
‫‪ - 23‬وهذه القاعدة عند الحنفيّة من قبيل ما ذكروه من أنّه ‪ :‬ليس من ضرورة بطلن الوصف‬
‫بطلن الصل ‪ .‬جاء في الهداية ‪ :‬من صلّى العصر وهو ذاكر أنّه لم يصلّ الظّهر فهي‬
‫فاسدة ‪ ،‬إل إذا كان في آخر الوقت ‪ ،‬وهي مسألة التّرتيب ‪.‬‬
‫وإذا فسدت الفرضيّة ل يبطل أصل الصّلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه تعالى ‪،‬‬
‫ن التّحريمة عقدت لصل الصّلة بوصف الفرضيّة ‪ ،‬فلم يكن من ضرورة بطلن الوصف‬
‫لّ‬
‫بطلن الصل ‪ .‬وقال الكاسانيّ في باب الزّكاة ‪ :‬حكم المعجّل من الزّكاة ‪ ،‬إذا لم يقع زكاة أنّه‬
‫إن وصل إلى يد الفقير يكون تطوّعا ‪ ،‬سواء وصل إلى يده من يد ربّ المال ‪ ،‬أو من يد‬
‫المام ‪ ،‬أو نائبه وهو السّاعي ‪ ،‬لنّه حصل أصل القربة ‪ ،‬وصدقة التّطوّع ل يحتمل الرّجوع‬
‫فيها بعد وصولها إلى يد الفقير ‪.‬‬
‫رابعا ‪ -‬تصحيح المسائل في الميراث ‪:‬‬
‫ل عدد يمكن على وجه ل يقع الكسر‬
‫‪ - 24‬تصحيح مسائل الفرائض ‪ :‬أن تؤخذ السّهام من أق ّ‬
‫على واحد من الورثة ‪ ،‬سواء كان ذلك بدون الضّرب ‪ -‬كما في صورة الستقامة ‪ -‬أو بعد‬
‫ل الرّءوس ‪ -‬كما في صورة‬
‫ضرب بعض الرّءوس ‪ -‬كما في صورة الموافقة ‪ -‬أو في ك ّ‬
‫المباينة ‪.‬‬
‫ما يحتاج إليه في تصحيح المسائل الفرضيّة ‪:‬‬
‫‪ - 25‬لتصحيح المسائل الفرضيّة قواعد يكتفى منها بما أورده عنها شارح السّراجيّة من‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬قال ‪ :‬يحتاج ذلك إلى سبعة أصول ‪:‬‬
‫ثلثة منها بين السّهام المأخوذة من مخارجها وبين الرّءوس من الورثة ‪.‬‬
‫وأربعة منها بين الرّءوس والرّءوس ‪.‬‬
‫أمّا الصول الثّلثة ‪:‬‬
‫ل فريق من الورثة منقسمة عليهم بل كسر ‪ ،‬فل حاجة إلى‬
‫‪ - 26‬فأحدها ‪ :‬إن كانت سهام ك ّ‬
‫الضّرب ‪ ،‬كأبوين وبنتين ‪ .‬فإنّ المسألة حينئذ من ستّة ‪ ،‬فلكلّ من البوين سدسها وهو واحد ‪،‬‬
‫وللبنتين الثّلثان أعني أربعة ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهما اثنان ‪ ،‬فاستقامت السّهام على رءوس الورثة‬
‫بل انكسار ‪ ،‬فل يحتاج إلى التّصحيح ‪ ،‬إذ التّصحيح إنّما يكون إذا انكسرت السّهام بقسمتها‬
‫على الرّءوس ‪.‬‬
‫‪ - 27‬والثّاني من الصول الثّلثة ‪ :‬أن يكون الكسر على طائفة واحدة ‪ ،‬ولكن بين سهامهم‬
‫ورءوسهم موافقة بكسر من الكسور ‪ ،‬فيضرب وفق عدد رءوسهم ‪ -‬أي عدد رءوس من‬
‫انكسرت عليهم السّهام ‪ ،‬وهم تلك الطّائفة الواحدة ‪ -‬في أصل المسألة إن لم تكن عائلة ‪ ،‬وفي‬
‫أصلها وعولها معا إن كانت عائلة ‪ ،‬كأبوين وعشر بنات‪ ،‬أو زوج وأبوين وستّ بنات‪.‬‬
‫فالوّل ‪ :‬مثال ما ليس فيها عول ‪ .‬إذ أصل المسألة من ستّة ‪ .‬السّدسان وهما اثنان للبوين‬
‫ويستقيمان عليهما ‪ ،‬والثّلثان وهما أربعة للبنات العشرة ول يستقيم عليهنّ ‪ ،‬لكن بين الربعة‬
‫ن العدد العادّ لهما هو الثنان ‪ ،‬فرددنا عدد الرّءوس أعني‬
‫والعشرة موافقة بالنّصف ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ستّة الّتي هي أصل المسألة فصار الحاصل‬
‫العشرة إلى نصفها وهو خمسة ‪ ،‬وضربناها في ال ّ‬
‫ح المسألة ‪.‬‬
‫ثلثين ‪ ،‬ومنه تص ّ‬
‫إذ قد كان للبوين من أصل المسألة سهمان ‪ ،‬وقد ضربناهما في المضروب الّذي هو خمسة‬
‫فصار عشرة ‪ ،‬لك ّل منهما خمسة ‪ ،‬وكان للبنات العشر ‪ ،‬منه أربعة ‪ ،‬وقد ضربناها أيضا في‬
‫ن اثنان ‪.‬‬
‫خمسة فصار عشرين ‪ ،‬لكلّ واحدة منه ّ‬
‫ن أصلها من اثني عشر لجتماع الرّبع والسّدسين والثّلثين‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬مثال ما فيها عول ‪ .‬فإ ّ‬
‫ت ثلثاها وهما ثمانية ‪.‬‬
‫فللزّوج ربعها وهو ثلثة ‪ ،‬وللبوين سدساها وهما أربعة ‪ ،‬وللبنات السّ ّ‬
‫فقد عالت المسألة إلى خمسة عشر ‪ ،‬وانكسرت سهام البنات ‪ -‬أعني الثّمانية ‪ -‬على عدد‬
‫ن فقط ‪ .‬لكن بين عدد السّهام وعدد الرّءوس توافق بالنّصف ‪ ،‬فرددنا عدد رءوسهنّ‬
‫رءوسه ّ‬
‫إلى نصفه وهو ثلثة ‪ ،‬ثمّ ضربناها في أصل المسألة مع عولها وهو خمسة عشر ‪ ،‬فحصل‬
‫خمسة وأربعون ‪ ،‬فاستقامت منها المسألة ‪.‬‬
‫إذ قد كان للزّوج من أصل المسألة ثلثة ‪ ،‬وقد ضربناها في المضروب الّذي هو ثلثة فصار‬
‫تسعة فهي له ‪ ،‬وكان للبوين أربعة وقد ضربناها في ثلثة فصار اثني عشر فلكلّ منهما‬
‫ستّة ‪ ،‬وكان للبنات ثمانية فضربناها في ثلثة فحصل أربعة وعشرون ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهنّ‬
‫أربعة ‪.‬‬
‫‪ - 28‬والثّالث من الصول الثّلثة ‪ :‬أن تنكسر السّهام أيضا على طائفة واحدة فقط ‪ ،‬ول يكون‬
‫بين سهامهم وعدد رءوسهم موافقة ‪ ،‬بل مباينة ‪ ،‬فيضرب حينئذ عدد رءوس من انكسرت‬
‫عليهم السّهام في أصل المسألة إن لم تكن عائلة ‪ ،‬وفي أصلها مع عولها إن كانت عائلة ‪،‬‬
‫كزوج وخمس أخوات لب وأمّ‪ ،‬فأصل المسألة من ستّة ‪ :‬النّصف وهو ثلثة للزّوج‪ ،‬والثّلثان‬
‫وهو أربعة للخوات ‪ ،‬فقد عالت إلى سبعة ‪ ،‬وانكسرت سهام الخوات فقط عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد‬
‫ن في أصل المسألة مع عولها وهو‬
‫ن مباينة ‪ ،‬فضربنا عدد رءوسه ّ‬
‫سهامهنّ وعدد رءوسه ّ‬
‫ح المسألة ‪.‬‬
‫سبعة ‪ ،‬فصار الحاصل خمسة وثلثين ‪ ،‬ومنه تص ّ‬
‫وقد كان للزّوج ثلثة ‪ ،‬وقد ضربناها في المضروب وهو خمسة فصار خمسة عشر فهي له ‪،‬‬
‫وكان للخوات الخمس أربعة ‪ ،‬وقد ضربناها أيضا في خمسة فصار عشرين ‪ ،‬فلكلّ واحدة‬
‫منهنّ أربعة ‪ .‬ومثال غير المسائل العائلة ‪ :‬زوج وجدّة وثلث أخوات لمّ ‪.‬‬
‫فالمسألة من ستّة ‪ ،‬للزّوج منها نصفها وهو ثلثة ‪ ،‬وللجدّة سدسها وهو واحد ‪ ،‬وللخوات لمّ‬
‫ن ‪ ،‬بل بينهما تباين ‪ ،‬فضربنا عدد رءوس‬
‫ثلثها وهو اثنان ‪ ،‬ول يستقيمان على عدد رءوسه ّ‬
‫الخوات في أصل المسألة فصار الحاصل ثمانية عشر ‪ ،‬فتصحّ المسألة منها ‪.‬‬
‫وقد كان للزّوج ثلثة فضربناها في المضروب الّذي هو ثلثة فصار تسعة ‪ ،‬وضربنا نصيب‬
‫الجدّة في المضروب أيضا فكان ثلثة ‪ ،‬وضربنا نصيب الخوات لمّ في المضروب فصار‬
‫ن اثنين ‪ .‬وينبغي أن يعلم أنّه متى كانت الطّائفة المنكسرة عليهم‬
‫ستّة ‪ ،‬فأعطينا كلّ واحدة منه ّ‬
‫ذكورا وإناثا ‪ -‬ممّن يكون للذّكر مثل حظّ النثيين ‪ ،‬كالبنات وبنات البن الخوات لب وأمّ أو‬
‫لب ‪ -‬ينبغي أن يضعّف عدد الذّكور ‪ ،‬ويضمّ إلى عدد الناث ‪ ،‬ثمّ تصحّ المسألة على هذا‬
‫العتبار ‪ ،‬كزوج وابن وثلث بنات ‪ .‬أصل المسألة من أربعة ‪ :‬للزّوج سهم عليه يستقيم ‪،‬‬
‫ظ النثيين ‪ ،‬فيجعل عدد رءوسهم خمسة بأن ينزّل البن‬
‫والباقي ثلثة ‪ ،‬للولد للذّكر مثل ح ّ‬
‫منزلة بنتين ‪ ،‬ول تستقيم الثّلثة على الخمسة ‪ ،‬فتضرب الخمسة في أصل المسألة ‪ ،‬فتبلغ‬
‫ح‪.‬‬
‫عشرين ‪ ،‬ومنها تص ّ‬
‫وأمّا الصول الربعة الّتي بين الرّءوس والرّءوس ‪:‬‬
‫‪ - 29‬فأحدها ‪ :‬أن يكون انكسار السّهام على طائفتين من الورثة أو أكثر ‪ ،‬ولكن بين أعداد‬
‫رءوس من انكسر عليهم مماثلة ‪ ،‬فالحكم في هذه الصّورة أن يضرب أحد العداد المماثلة في‬
‫ت بنات ‪ ،‬وثلث‬
‫أصل المسألة ‪ ،‬فيحصل ما تصحّ به المسألة على جميع الفرق ‪ .‬مثل ‪ :‬س ّ‬
‫جدّات ‪ :‬أمّ أمّ أمّ ‪ ،‬وأمّ أ ّم أب ‪ ،‬وأ ّم أب أب مثل على مذهب من يورّث أكثر من جدّتين ‪،‬‬
‫ت الثّلثان وهو أربعة ‪ ،‬ول يستقيم عليهنّ ‪ ،‬لكن‬
‫وثلثة أعمام ‪ .‬المسألة من ستّة ‪ :‬للبنات السّ ّ‬
‫بين الربعة وعدد رءوسهنّ موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو ثلثة ‪.‬‬
‫وللجدّات الثّلث السّدس وهو واحد ‪ ،‬فل يستقيم عليهنّ ول موافقة بين الواحد وعدد‬
‫رءوسهنّ ‪ ،‬فأخذنا جميع عدد رءوسهنّ وهو أيضا ثلثة ‪ .‬وللعمام الثّلثة الباقي وهو واحد‬
‫أيضا ‪ ،‬وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة ‪ ،‬فأخذنا جميع عدد رءوسهم ‪ .‬ثمّ نسبنا هذه العداد‬
‫المأخوذة بعضها إلى بعض فوجدناها متماثلة ‪ ،‬فضربنا أحدها وهو ثلثة في أصل المسألة ‪-‬‬
‫ستّة ‪ -‬فصار ثمانية عشر ‪ ،‬فمنها تستقيم المسألة ‪ .‬وكان للبنات أربعة سهام ضربناها‬
‫أعني ال ّ‬
‫في المضروب الّذي هو ثلثة ‪ ،‬فصار اثني عشر ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهنّ اثنان ‪ .‬وللجدّات سهم‬
‫واحد ضربناه أيضا في ثلثة فكان ثلثة ‪ ،‬فلكلّ واحدة واحد ‪ .‬وللعمام واحد أيضا ضربناه‬
‫ل واحد سهما واحدا ‪ .‬ولو فرضنا في الصّورة المذكورة عمّا‬
‫أيضا في الثّلثة ‪ ،‬وأعطينا ك ّ‬
‫واحدا بدل العمام الثّلثة ‪ ،‬كان النكسار على طائفتين فقط ‪ ،‬وكان وفق عدد رءوس البنات‬
‫مماثل لعدد رءوس الجدّات ‪ ،‬إذ كلّ منهما ثلثة ‪ ،‬فيضرب الثّلثة في أصل المسألة ‪ ،‬فيصير‬
‫ل كما مرّ ‪.‬‬
‫ح السّهام على الك ّ‬
‫ثمانية عشر ‪ ،‬وتص ّ‬
‫‪ - 30‬والصل الثّاني من الصول الربعة ‪ :‬أن يكون بعض العداد ‪ -‬أي بعض أعداد‬
‫رءوس الورثة المنكسرة عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر ‪ -‬متداخل في البعض ‪ ،‬فالحكم‬
‫فيها أن يضرب ما هو أكثر تلك العداد في أصل المسألة ‪ ،‬كأربع زوجات وثلث جدّات‬
‫واثني عشر عمّا ‪ .‬فأصل المسألة من اثني عشر ‪ :‬للجدّات الثّلث السّدس وهو اثنان ‪ ،‬فل‬
‫ن مباينة ‪ ،‬فأخذنا مجموع عدد رءوسهنّ وهو ثلثة ‪.‬‬
‫يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين رءوسهنّ وسهامه ّ‬
‫وللزّوجات الربع الرّبع وهو ثلثة ‪ ،‬فبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ مباينة ‪ ،‬فأخذنا عدد‬
‫الرّءوس بتمامه ‪ .‬وللعمام الثني عشر الباقي وهو سبعة ‪ ،‬فل يستقيم عليهم بل بينهما تباين ‪،‬‬
‫فأخذنا عدد الرّءوس بأسره ‪ .‬فنجد الثّلثة والربعة متداخلين في الثني عشر الّذي هو أكبر‬
‫أعداد الرّءوس ‪ ،‬فضربناه في أصل المسألة ‪ ،‬وهو أيضا اثنا عشر فصار مائة وأربعة‬
‫وأربعين ‪ ،‬فتصحّ منها المسألة ‪.‬‬
‫وقد كان للجدّات من أصل المسألة اثنان ‪ ،‬ضربناهما في المضروب ‪ -‬الّذي هو اثنا عشر ‪-‬‬
‫ن ثمانية ‪ .‬وللزّوجات من أصلها ثلثة ضربناها في‬
‫فصار أربعة وعشرين ‪ ،‬فلكلّ واحدة منه ّ‬
‫المضروب المذكور فصار ستّة وثلثين ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهنّ تسعة ‪ .‬وللعمام سبعة ضربناها‬
‫في اثني عشر أيضا فحصل أربعة وثمانون ‪ ،‬فلكلّ واحد منهم سبعة ‪.‬‬
‫ولو فرضنا في هذه الصّورة زوجة واحدة بدل الزّوجات الربع ‪ ،‬كان النكسار على طائفتين‬
‫فقط ‪ ،‬أعني الجدّات الثّلث والعمام الثني عشر ‪ ،‬وكان عدد رءوس الجدّات متداخل في‬
‫عدد رءوس العمام ‪ ،‬فيضرب أكثر هذين العددين المتداخلين ‪ ،‬أي الثني عشر في أصل‬
‫ل قياس ما سبق ‪.‬‬
‫المسألة ‪ ،‬فيحصل مائة وأربعة وأربعون ‪ ،‬فيقسم على الك ّ‬
‫‪ - 31‬والصل الثّالث من الصول الربعة ‪ :‬أن يوافق بعض أعداد رءوس من انكسرت‬
‫عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر بعضا ‪ .‬والحكم في هذه الصّورة أن يضرب وفق أحد‬
‫أعداد رءوسهم في جميع العدد الثّاني ‪ ،‬ثمّ يضرب جميع ما بلغ في وفق العدد الثّالث ‪ -‬إن‬
‫وافق ذلك المبلغ العدد الثّالث ‪ -‬وإن لم يوافق المبلغ الثّالث فحينئذ يضرب المبلغ في جميع‬
‫العدد الثّالث ‪ .‬ثمّ يضرب المبلغ الثّاني في العدد الرّابع كذلك ‪ ،‬أي في وفقه إن وافقه المبلغ‬
‫الثّاني ‪ ،‬أو في جميعه إن لم يوافقه ‪ .‬ثمّ يضرب المبلغ الثّالث في أصل المسألة ‪ ،‬كأربع‬
‫زوجات وثماني عشرة بنتا وخمس عشرة جدّة وستّة أعمام ‪ .‬أصل المسألة أربعة وعشرون ‪:‬‬
‫للزّوجات الربع الثّمن وهو ثلثة ‪ ،‬فل يستقيم عليهنّ وبين عدد سهامهنّ وعدد رءوسهنّ‬
‫مباينة ‪ ،‬فحفظنا جميع عدد رءوسهنّ ‪ .‬وللبنات الثّماني عشرة ‪ :‬الثّلثان وهو ستّة عشر فل‬
‫ن موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو‬
‫يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين رءوسهنّ وسهامه ّ‬
‫تسعة وحفظناه ‪ .‬وللجدّات الخمس عشرة السّدس وهو أربعة فل يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد‬
‫ستّة الباقي وهو‬
‫ن مباينة ‪ ،‬فحفظنا جميع عدد رءوسهنّ ‪ .‬وللعمام ال ّ‬
‫ن وعدد سهامه ّ‬
‫رءوسه ّ‬
‫واحد ل يستقيم عليهم ‪ ،‬وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة ‪ ،‬فحفظنا عدد رءوسهم ‪ .‬فحصل لنا‬
‫ستّة‬
‫من أعداد الرّءوس المحفوظة ‪ :‬أربعة وستّة وتسعة وخمسة عشر ‪ .‬والربعة موافقة لل ّ‬
‫بالنّصف فرددنا إحداهما إلى نصفها وضربناه في الخرى ‪ ،‬فحصل اثنا عشر ‪ ،‬وهو موافق‬
‫للتّسعة بالثّلث ‪ ،‬فضربنا ثلث أحدهما في جميع الخر فحصل ستّة وثلثون ‪ ،‬وبين هذا المبلغ‬
‫الثّاني وبين خمسة عشر موافقة بالثّلث أيضا ‪ ،‬فضربنا ثلث خمسة عشر ‪ -‬وهو خمسة ‪ -‬في‬
‫ستّة وثلثين فحصل مائة وثمانون ‪ ،‬ثمّ ضربنا هذا المبلغ الثّالث في أصل المسألة ‪ -‬أعني‬
‫أربعة وعشرين ‪ -‬فحصل أربعة آلف وثلثمائة وعشرون ‪ ،‬ومنها تصحّ المسألة ‪ .‬كان‬
‫للزّوجات من أصل المسألة ثلثة ‪ ،‬ضربناها في المضروب ‪ -‬وهو مائة وثمانون ‪ -‬فحصل‬
‫خمسمائة وأربعون ‪ ،‬فلكلّ من الزّوجات الربع مائة وخمسة وثلثون ‪ .‬وكان للبنات الثّماني‬
‫عشرة ستّة عشر ‪ ،‬وقد ضربناها في ذلك المضروب ‪ ،‬فصار ألفين وثمانمائة وثمانين ‪ ،‬لكلّ‬
‫واحدة منهنّ مائة وستّون ‪ .‬وكان للجدّات الخمس عشرة أربعة ‪ ،‬وقد ضربناها في المضروب‬
‫ستّة‬
‫ن ثمانية وأربعون ‪ .‬وكان للعمام ال ّ‬
‫المذكور فصار سبعمائة وعشرين ‪ ،‬لكلّ واحدة منه ّ‬
‫ل واحد منهم ثلثون ‪ .‬وإذا جمعت جميع‬
‫واحد ضربناه في المضروب ‪ ،‬فكان مائة وثمانين لك ّ‬
‫أنصباء الورثة بلغ أربعة آلف وثلثمائة وعشرين سهما ‪ - 32 .‬والصل الرّابع من الصول‬
‫الربعة ‪ :‬أن يكون أعداد رءوس من انكسر عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر متباينة ل‬
‫يوافق بعضها بعضا ‪ .‬والحكم فيها ‪ :‬أن يضرب أحد العداد في جميع الثّاني ‪ ،‬ثمّ يضرب ما‬
‫بلغ في جميع الثّالث ‪ ،‬ثمّ ما بلغ في جميع الرّابع ‪ ،‬ثمّ يضرب ما اجتمع في أصل المسألة ‪.‬‬
‫ت جدّات وعشر بنات وسبعة أعمام ‪ .‬أصل المسألة ‪ :‬أربعة وعشرون ‪.‬‬
‫كزوجتين وس ّ‬
‫للزّوجتين الثّمن وهو ثلثة ل يستقيم عليهما ‪ ،‬وبين عدد رءوسهما وعدد سهامهما مباينة ‪،‬‬
‫ت ‪ :‬السّدس وهو أربعة ل يستقيم عليهنّ ‪،‬‬
‫فأخذنا عدد رءوسهما وهو اثنان ‪ .‬وللجدّات السّ ّ‬
‫وبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو ثلثة ‪،‬‬
‫ن وعدد سهامهنّ‬
‫وللبنات العشر ‪ :‬الثّلثان هو ستّة عشر فل يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد رءوسه ّ‬
‫موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو خمسة ‪ .‬وللعمام السّبعة الباقي وهو‬
‫واحد ‪ ،‬ل يستقيم عليهم ‪ ،‬وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة فأخذنا عدد رءوسهم وهو سبعة ‪.‬‬
‫فصار معنا من العداد المأخوذة للرّءوس ‪ :‬اثنان وثلثة وخمسة وسبعة ‪ .‬وهذه كلّها أعداد‬
‫ستّة في خمسة فحصل ثلثون ‪،‬‬
‫متباينة ‪ .‬فضربنا الثنين في الثّلثة فحصل ستّة ‪ ،‬ثمّ ضربنا ال ّ‬
‫ثمّ ضربنا هذا المبلغ في سبعة فصار مائتين وعشرة ‪ ،‬ثمّ ضربنا هذا المبلغ في أصل المسألة‬
‫‪ -‬وهو أربعة وعشرون ‪ -‬فصار المجموع خمسة آلف وأربعين ‪ .‬ومنها تستقيم المسألة على‬
‫جميع الطّوائف ‪ .‬إذ كان للزّوجتين من أصل المسألة ثلثة ‪ ،‬فضربناها في المضروب ‪ -‬الّذي‬
‫ل واحدة منهما ثلثمائة وخمسة عشر ‪.‬‬
‫هو مائتان وعشرة ‪ -‬فحصل ستّمائة وثلثون ‪ ،‬لك ّ‬
‫ت أربعة ‪ ،‬فضربناها في ذلك المضروب المذكور فصار ثمانمائة وأربعين ‪،‬‬
‫وكان للجدّات السّ ّ‬
‫لكلّ واحدة منهم مائة وأربعون ‪ .‬وكان للبنات العشر ستّة عشر ‪ ،‬ضربناها في المضروب‬
‫المذكور فبلغ ثلثة آلف وثلثمائة وستّين ‪ ،‬لكلّ واحدة منهنّ ثلثمائة وستّة وثلثون ‪ .‬وكان‬
‫ل واحد منهم‬
‫للعمام السّبعة واحد ‪ ،‬ضربناه في ذلك المضروب فكان مائتين وعشرة ‪ ،‬لك ّ‬
‫ثلثون ‪ .‬ومجموع هذه النصباء خمسة آلف وأربعون ‪ .‬وذكر بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّه‬
‫ن انكسار السّهام ل يقع على أكثر من أربع طوائف ‪.‬‬
‫قد علم بالستقراء أ ّ‬
‫‪ - 33‬هذا ول يختلف فقهاء المذاهب الخرى عن الحنفيّة ‪ ،‬فيما ذهبوا إليه في تصحيح‬
‫المسائل الفرضيّة ‪ ،‬توصّل إلى معرفة نصيب كلّ وارث على نحو ما ذكر ‪.‬‬

‫تصحيف *‬
‫انظر ‪ :‬تحريف ‪.‬‬

‫تصدّق *‬
‫انظر ‪ :‬صدقة ‪.‬‬

‫تصديق *‬
‫انظر ‪ :‬تصادق ‪.‬‬

‫تصرّف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصرّف لغة ‪ :‬التّقلّب في المور والسّعي في طلب الكسب ‪.‬‬
‫وأمّا في الصطلح فلم يذكر الفقهاء في كتبهم تعريفا للتّصرّف ‪ ،‬ولكن يفهم من كلمهم أنّ‬
‫التّصرّف هو ‪ :‬ما يصدر عن الشّخص بإرادته ‪ ،‬ويرتّب الشّرع عليه أحكاما مختلفة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اللتزام ‪:‬‬
‫‪ - 2‬اللتزام مصدر التزم ‪ .‬ومادّة لزم تأتي في اللّغة بمعنى ‪ :‬الثّبوت والدّوام والوجوب‬
‫والتّعلّق بالشّيء أو اعتناقه ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬إلزام الشّخص نفسه ما لم يكن لزما له ‪ ،‬أي ما لم يكن واجبا عليه قبل فهو‬
‫ن التّصرّف إنّما يكون بالختيار والرادة ‪.‬‬
‫أعمّ من التّصرّف ‪ ،‬ل ّ‬
‫ب ‪ -‬العقد ‪:‬‬
‫‪ - 3‬العقد في اللّغة ‪ :‬الضّمان والعهد ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬ارتباط اليجاب بالقبول اللتزاميّ ‪ ،‬كعقد‬
‫البيع والنّكاح وغيرهما على وجه تترتّب عليه آثاره ‪.‬‬
‫ن العقد باعتبار الستقلل به وعدمه على ضربين ‪ :‬ضرب ينفرد به العاقد ‪،‬‬
‫وذكر الزّركشيّ أ ّ‬
‫كالتّدبير والنّذور وغيرها ‪ .‬وضرب ل بدّ فيه من متعاقدين كالبيع والجارة والنّكاح وغيرها‪.‬‬
‫الفرق بين التّصرّف واللتزام والعقد ‪:‬‬
‫‪ - 4‬يتّضح ممّا قاله الفقهاء في معنى اللتزام والعقد والتّصرّف ‪ :‬أنّ التّصرّف أعمّ من العقد‬
‫بمعنييه العامّ والخاصّ ‪ ،‬لنّ التّصرّف قد يكون في تصرّف ل التزام فيه كالسّرقة والغصب‬
‫ونحوهما ‪ ،‬وهو كذلك أعمّ من اللتزام ‪.‬‬
‫أنواع التّصرّف ‪:‬‬
‫ي وتصرّف قوليّ ‪.‬‬
‫‪ - 5‬التّصرّف نوعان ‪ :‬تصرّف فعل ّ‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬التّصرّف الفعليّ ‪:‬‬
‫‪ - 6‬هو ما كان مصدره عمل فعليّا غير اللّسان ‪ ،‬بمعنى أنّه يحصل بالفعال ل بالقوال ‪.‬‬
‫ومن أمثلته ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الغصب ‪ :‬وهو في اللّغة ‪ :‬أخذ الشّيء قهرا وظلما ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬أخذ مال قهرا تعدّيا بل حرابة ‪ .‬فالغصب فعل وليس قولً ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬قبض البائع الثّمن من المشتري ‪ ،‬وتسلّم المشتري المبيع من البائع ‪.‬‬
‫وهكذا سائر التّصرّفات الّتي يعتمد المتصرّف في مباشرتها على الفعال دون القوال ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬التّصرّف القوليّ ‪:‬‬
‫‪ - 7‬وهو الّذي يكون منشؤه اللّفظ دون الفعل ‪ ،‬ويدخل فيه الكتابة والشارة ‪ ،‬وهو نوعان ‪:‬‬
‫تصرّف قوليّ عقديّ ‪ ،‬وتصرّف قوليّ غير عقديّ ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّصرّف القوليّ العقديّ ‪:‬‬
‫‪ - 8‬وهو الّذي يتمّ باتّفاق إرادتين ‪ ،‬أي أنّه يحتاج إلى صيغة تصدر من الطّرفين وتبيّن‬
‫اتّفاقهما على أمر ما ‪ ،‬ومثال هذا النّوع ‪ :‬سائر العقود الّتي ل تت ّم إل بوجود طرفين أي‬
‫ن هذه العقود ل تتمّ إلّا برضا الطّرفين‬
‫الموجب والقابل ‪ ،‬كالجارة والبيع والنّكاح والوكالة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪ .‬وتفصيل ذلك محلّه المصطلحات الخاصّة بتلك العقود ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّصرّف القوليّ غير العقديّ ‪ .‬وهو ضربان ‪:‬‬
‫‪ - 9‬أحدهما ‪ :‬ما يتضمّن إرادة إنشائيّة وعزيمة مبرمة من صاحبه على إنشاء حقّ أو إنهائه‬
‫أو إسقاطه ‪ ،‬وقد يسمّى هذا الضّرب تصرّفا عقديّا لما فيه من العزيمة والرادة المنشئة أو‬
‫المسقطة للحقوق ‪ ،‬وهذا على قول من يرى أنّ العقد بمعناه العامّ يتناول العقود الّتي تكون بين‬
‫طرفين كالبيع والجارة ‪ ،‬والعقود الّتي ينفرد بها المتصرّف كالوقف والطّلق والبراء‬
‫والحلف وغيرها كما سبق ‪ ،‬ومن أمثلته الوقف والطّلق ‪ ،‬وتفصيل ذلك في المصطلحات‬
‫الخاصّة بهما ‪.‬‬
‫‪ - 10‬الضّرب الثّاني ‪ :‬تصرّف قوليّ ل يتضمّن إرادة منشئة ‪ ،‬أو منهيّة ‪ ،‬أو مسقطة‬
‫للحقوق ‪ ،‬بل هو صنف آخر من القوال الّتي تترتّب عليها أحكام شرعيّة ‪ ،‬وهذا الضّرب‬
‫تصرّف قوليّ محض ليس له شبه بالعقود ‪ ،‬ومن أمثلته ‪ :‬الدّعوى ‪ ،‬والقرار ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في المصطلحات الخاصّة بهما ‪.‬‬
‫‪ - 11‬هذا والعبرة في تميّز التّصرّف القوليّ عن الفعليّ مرجعها موضوع التّصرّف‬
‫وصورته ‪ ،‬ل مبناه الّذي بني عليه ‪.‬‬
‫‪ - 12‬والتّصرّف بنوعيه القوليّ والفعليّ يندرج فيه جميع أنواع التّصرّفات ‪ ،‬سواء أكانت تلك‬
‫التّصرّفات عبادات كالصّلة والزّكاة والصّوم والحجّ ‪.‬‬
‫أم تمليكات ومعاوضات كالبيع ‪ ،‬والقالة ‪ ،‬والصّلح والقسمة ‪ ،‬والجارة ‪ ،‬والمزارعة ‪،‬‬
‫والمساقاة ‪ ،‬والنّكاح ‪ ،‬والخلع ‪ ،‬والجازة ‪ ،‬والقراض ‪.‬‬
‫أم تبرّعات كالوقف ‪ ،‬والهبة ‪ ،‬والصّدقة ‪ ،‬والبراء عن الدّين ‪ .‬أم تقييدات كالحجر ‪ ،‬والرّجعة‬
‫‪ ،‬وعزل الوكيل ‪.‬‬
‫أم التزامات كالضّمان ‪ ،‬والكفالة ‪ ،‬والحوالة ‪ ،‬واللتزام ببعض الطّاعات ‪.‬‬
‫أم إسقاطات كالطّلق ‪ ،‬والخلع ‪ ،‬والتّدبير ‪ ،‬والبراء عن الدّين ‪ .‬أم إطلقات كالذن للعبد‬
‫بالتّجارة ‪ ،‬والذن المطلق للوكيل بالتّصرّف ‪.‬‬
‫أم وليات كالقضاء ‪ ،‬والمارة ‪ ،‬والمامة ‪ ،‬واليصاء ‪ .‬أم إثباتات كالقرار ‪ ،‬والشّهادة ‪،‬‬
‫واليمين ‪ ،‬والرّهن ‪ .‬أم اعتداءات على حقوق الغير الماليّة وغيرها كالغصب والسّرقة ‪.‬‬
‫ن تلك التّصرّفات على اختلف أنواعها‬
‫أم جنايات على النّفس والطراف والموال أيضا ‪ .‬ل ّ‬
‫ل تخرج عن كونها أقوال أو أفعال فيكون التّصرّف بنوعيه القوليّ والفعليّ شاملً لها ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وأمّا شروط صحّة التّصرّف ونفاذه فليس هذا البحث محلّ ذكرها ‪ ،‬سواء ما كان منها‬
‫ن محلّ ذكر تلك الشّروط المصطلحات‬
‫يرجع إلى المتصرّف أم إلى نفس التّصرّف ‪ ،‬ل ّ‬
‫الخاصّة بكلّ من هذه التّصرّفات ‪.‬‬

‫تصريح *‬
‫انظر ‪ :‬صريح ‪.‬‬

‫صرِية *‬
‫َت ْ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصرية لغة ‪ :‬مصدر صرّى ‪ ،‬يقال ‪ :‬صرّ النّاقة أو غيرها تصرية ‪ :‬إذا ترك حلبها ‪،‬‬
‫فاجتمع لبنها في ضرعها ‪ .‬وفي الصطلح ‪ :‬ترك البائع حلب النّاقة أو غيرها عمدا مدّة قبل‬
‫بيعها ‪ ،‬ليوهم المشتري كثرة اللّبن ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّصرية حرام باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬إذا قصد البائع بذلك إيهام المشتري كثرة اللّبن ‪ ،‬لحديث ‪:‬‬
‫غشّنا فليس منّا » وحديث ‪ { :‬بَيعُ المحفّلت خِلبة ‪ ،‬ول َتحِلّ الخلبة لمسلم } ‪ .‬ولما‬
‫« مَنْ َ‬
‫فيه من التّدليس والضرار ‪.‬‬
‫الحكم الوضعيّ ( الثر ) ‪:‬‬
‫‪ - 3‬ذهب الئمّة ‪ :‬مالك والشّافعيّ وأحمد ‪ ،‬وأبو يوسف إلى أنّ تصرية الحيوان عيب يثبت‬
‫الخيار للمشتري ‪ .‬ويستوي في ذلك النعام وغيرها ممّا يقصد إلى لبنه ‪ .‬وذلك لما فيه من‬
‫الغشّ والتّغرير الفعليّ ‪ ،‬ولحديث ‪ « :‬ل تصرّوا البل والغنم ‪ ،‬فمن ابتاعها بعد فإنّه بخير‬
‫النّظرين بعد أن يحتلبها ‪ :‬إن شاء أمسك ‪ ،‬وإن شاء ردّها وردّ معها صاعا من تمر » ويردّ‬
‫معها عوضا عن لبنها إن احتلب ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين هؤلء الئمّة ‪ ،‬وإن اختلفوا في نوع‬
‫العوض كما سيأتي ‪ .‬كما اتّفقوا على أنّ العوض خاصّ بالنعام ‪.‬‬
‫ن التّصرية‬
‫وذهب أبو حنيفة إلى أنّه ل يردّ الحيوان بالتّصرية ‪ ،‬ول يثبت الخيار بها ‪ ،‬ل ّ‬
‫ليست بعيب ‪ ،‬بدليل أنّه لو لم تكن مصرّاة فوجدها أقلّ لبنا من أمثالها لم يملك ردّها ‪،‬‬
‫والتّدليس بما ليس بعيب ل يثبت الخيار ‪ .‬ول يردّ معها صاعا من تمر ‪ ،‬لنّ ضمان العدوان‬
‫بالمثل أو القيمة ‪ ،‬والتّمر ليس مثل ول قيمة ‪ ،‬بل يرجع المشتري بأرش النّقصان على البائع‬
‫‪ -‬والرش هنا ‪ :‬هو التّعويض عن نقصان المبيع ‪. -‬‬
‫نوع العوض عن اللّبن ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اختلف الفقهاء في ردّ العوض ‪ ،‬وفي نوعه ‪.‬‬
‫ن العوض هو صاع من تمر ‪ ،‬وذلك‬
‫فذهب المام أحمد ‪ ،‬وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ‪ ،‬إلى أ ّ‬
‫للحديث السّابق ‪ ،‬وقد نصّ فيه على التّمر ‪ « :‬وإن شاء ردّها وردّ معها صاعا من تمر » ‪.‬‬
‫ن العوض هو صاع من غالب قوت البلد ‪ ،‬وهو القول الخر للشّافعيّة‬
‫وذهب المام مالك إلى أ ّ‬
‫‪ .‬وقال مالك ‪ :‬إنّ بعض ألفاظ الحديث جاء فيها ‪ « :‬فإن ردّها ردّ معها صاعا من طعام »‬
‫وتنصيص التّمر في الحديث ليس لخصوصه ‪ ،‬وإنّما كان غالب قوت المدينة آنذاك ‪ .‬وعند أبي‬
‫يوسف يردّ قيمة اللّبن المحتلب ‪ ،‬لنّه ضمان متلف ‪ ،‬فكان مقدّرا بقيمته كسائر المتلفات ‪ .‬ثمّ‬
‫عند الجمهور ‪ :‬هل يجب ردّ اللّبن نفسه إذا كان موجودا ؟ ذهب أحمد إلى أنّ للمشتري ردّ‬
‫اللّبن إذا لم يتغيّر ‪ ،‬ول يلزمه شيء آخر ‪ ،‬ول يجوز للبائع رفضه ‪.‬‬
‫الواجب عند انعدام التّمر ‪:‬‬
‫‪ - 5‬ذهب الحنابلة إلى أنّ الواجب في هذا الحال قيمة التّمر في الموضع الّذي وقع فيه العقد‬
‫ح ‪ -‬إلى أنّ عليه قيمة التّمر في أقرب البلد الّتي فيها‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ -‬في الوجه الص ّ‬
‫تمر ‪ ،‬وفي الوجه الخر عليه قيمة التّمر بالحجاز ‪ .‬ول يختلف الحكم عند مالك بانعدام التّمر ‪،‬‬
‫لنّ الواجب عنده مطلقا صاع من غالب قوت أهل البلد ‪.‬‬
‫هل يختلف الحكم بين كثرة اللّبن وقلّته ؟‬
‫‪ - 6‬ل خلف بين من يرى ردّ صاع مع المصرّاة في أنّه ل عبرة بكثرة اللّبن وقلّته ‪ ،‬ول بين‬
‫أن يكون الصّاع مثل قيمة لبن الحيوان أو أقلّ أو أكثر ‪ ،‬لنّه بدل قدّره الشّرع ‪ .‬ويشترط في‬
‫جواز ردّ المصرّاة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن ل يعلم المشتري أنّها مصرّاة ‪ ،‬فإن علم قبل الشّراء وقبل حلبها فل يثبت له الخيار ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يقصد البائع التّصرية ‪ ،‬فإن لم يقصد ذلك كأن ترك حلبها ناسيا أو لشغل ‪ ،‬أو‬
‫تصرّت بنفسها فوجهان عند الشّافعيّة في ثبوت الخيار ‪ .‬وعند الحنابلة يثبت له الخيار لدفع‬
‫الضّرر اللّاحق بالمشتري ‪ ،‬والضّرر واجب الدّفع شرعا ‪ ،‬قصد أم لم يقصد ‪ ،‬فأشبه العيب ‪.‬‬
‫ن الصّاع إنّما‬
‫ج ‪ -‬وأن يردّها بعد الحلب ‪ ،‬فإن ردّها قبل الحلب فل شيء عليه بالتّفاق ‪ ،‬ل ّ‬
‫وجب عوضا عن اللّبن المحلوب ولم يحلب ‪.‬‬
‫وللخبر الّذي قيّد ردّ الصّاع بالحتلب ‪ ،‬ولم يوجد ‪.‬‬
‫وإذا أراد المشتري إمساك المصرّاة وطلب الرش لم يكن له ذلك ‪ ،‬لنّ النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم لم يجعل للمصرّاة أرشا ‪ ،‬وإنّما خيّر المشتري بين شيئين ‪ « :‬إن شاء أمسك ‪ ،‬وإن شاء‬
‫ردّها وصاعا من تمر » ولنّ التّصرية ليست بعيب ‪ ،‬فلم يستحقّ من أجلها عوضا ‪.‬‬
‫ل مصرّاة صاعا ‪ ،‬وبهذا‬
‫‪ - 7‬وإذا اشترى مصرّاتين أو أكثر في عقد واحد فردّهنّ ‪ ،‬ردّ مع ك ّ‬
‫قال الشّافعيّ وبعض أصحاب مالك ‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬في الجميع صاع واحد ‪ ،‬لنّ رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من اشترى غنما مصرّاة فاحتلبها ‪ ،‬فإن رضيها أمسكها ‪ ،‬وإن‬
‫سخطها ففي حلبتها صاع من تمر » ‪ .‬وللحنابلة عموم قوله صلى ال عليه وسلم « من اشترى‬
‫ن ما جعل عوضا عن الشّيئين‬
‫مصرّاة » و « من اشترى محفّلة » وهذا يتناول الواحدة ‪ ،‬ول ّ‬
‫في صفقتين ‪ ،‬وجب إذا كانا في صفقة واحدة كأرش العيب ‪.‬‬
‫مدّة الخيار ‪:‬‬
‫‪ - 8‬ال ّردّ يكون على الفور كالرّ ّد في خيار العيب عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وللحنابلة في المدّة ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أنّها مقدّرة بثلثة أيّام ‪ ،‬وليس له الرّدّ قبل مضيّها ‪ ،‬ول إمساكها بعدها ‪ ،‬وهو ظاهر‬
‫قول أحمد ‪ .‬لحديث مسلم ‪ « :‬فهو بالخيار ثلث َة أيّامٍ » ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أنّه متى ثبتت التّصرية جاز له ال ّردّ قبل الثّلثة وبعدها ‪ ،‬لنّه تدليس يثبت الخيار ‪،‬‬
‫فملك ال ّردّ إذا تبيّنه كسائر التّدليس ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أنّه متى علم التّصرية ثبت له الخيار في اليّام الثّلثة إلى تمامها ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬ل يردّ إن حلبها في اليوم الثّالث إن حصل الختيار في اليوم الثّاني ‪.‬‬

‫تصفيق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬للتّصفيق في اللّغة معان ‪ ،‬منها ‪ :‬الضّرب الّذي يسمع له صوت ‪ .‬وهو كالصّفق في ذلك‬ ‫‪1‬‬

‫‪ .‬يقال ‪ :‬صفّق بيديه وصفّح سواء ‪.‬‬


‫وفي الحديث ‪ « :‬التّسبيح للرّجال ‪ ،‬والتّصفيق للنّساء » والمعنى ‪ :‬إذا ناب المصلّي شيء في‬
‫صلته فأراد تنبيه من بجواره صفّقت المرأة بيديها ‪ ،‬وسبّح الرّجل بلسانه ‪.‬‬
‫ع ْن َد البَيتِ‬
‫ن صَلتُهم ِ‬
‫والتّصفيق باليد ‪ :‬التّصويت بها ‪ .‬كأنّه أراد معنى قوله تعالى ‪ { :‬وما كا َ‬
‫صدِيةً } ‪ .‬كانوا يصفّقون ويصفّرون وقد كان ذلك عبادة في ظنّهم ‪.‬‬
‫إل ُمكَاءً و َت ْ‬
‫وقيل في تفسيرها أيضا ‪ :‬إنّهم أرادوا بذلك أن يشغلوا النّبيّ صلى ال عليه وسلم والمسلمين‬
‫في القراءة والصّلة ‪.‬‬
‫ويجوز أن يكون أراد الصّفق على وجه اللّهو واللّعب ‪ .‬ويقال ‪ :‬صفّق له بالبيع والبيعة ‪ :‬أي‬
‫ضرب يده على يده عند وجوب البيع ‪ ،‬ث ّم استعمل ولو لم يكن هناك ضرب يد على يد ‪.‬‬
‫وربحت صفقتك للشّراء ‪ .‬وصفقة رابحة وصفقة خاسرة ‪.‬‬
‫وصفّق بيديه بالتّثقيل ‪ :‬ضرب إحداهما على الخرى ‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ‪ :‬ل يخرج عن هذا المعنى ‪ .‬وسواء كان من المرأة في الصّلة ‪ ،‬بضرب‬
‫كفّ على كفّ على نحو ما سيأتي في بيان كيفيّته ‪ .‬أو كان منها ومن الرّجل بضرب باطن‬
‫كفّ بباطن الكفّ الخرى ‪ ،‬كما هو الحال في المحافل والفراح ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬قد يكون التّصفيق من مصلّ ‪ ،‬وقد يكون من غيره ‪.‬‬
‫فما كان من مصلّ ‪ :‬فإمّا أن يكون لتنبيه إمامه على سهو في صلته ‪ ،‬أو لدرء مارّ أمامه‬
‫لتنبيهه على أنّه في صلة ‪ ،‬ومنعه عن المرور أمامه ‪ .‬أو يكون منه فيها على وجه اللّعب ‪.‬‬
‫وما كان من غير المصلّي ‪ :‬فإمّا أن يكون في المحافل كالموالد والفراح ‪ ،‬أو في أثناء خطبة‬
‫ل من ذلك حكمه ‪.‬‬
‫الجمعة ‪ ،‬أو لطلب الذن له من مصلّ بالدّخول ‪ ،‬أو للنّداء ‪ .‬ولك ّ‬
‫تصفيق المصلّي لتنبيه إمامه على سهو في صلته ‪:‬‬
‫ب لمن هم مقتدون‬
‫‪ - 3‬اتّفق الفقهاء على أنّه لو عرض للمام شيء في صلته سهوا منه استح ّ‬
‫به تنبيهه ‪.‬‬
‫ل من الرّجل والمرأة ‪ .‬هل يكون بالتّسبيح أو بالتّصفيق ؟‬
‫واختلفوا في طريقته بالنّسبة لك ّ‬
‫فاتّفقوا على استحبابه بالتّسبيح بالنّسبة للرّجل ‪ ،‬واختلفوا في التّصفيق بالنّسبة للمرأة ‪.‬‬
‫فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إنّه يكون منها بالتّصفيق ‪ .‬لما روى سهل بن سعد رضي‬
‫ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا نابكم شيء في صلتكم فليسبّح‬
‫الرّجال ولتصفّق النّساء » ولما روى أبو هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى‬
‫ن الخناثى في ذلك ‪.‬‬
‫ال عليه وسلم ‪ « :‬التّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء » ومثله ّ‬
‫وكره المالكيّة تصفيق المرأة في الصّلة لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من نابه شيء في‬
‫صلته فليقل سبحان اللّه » ( ومَنْ ) ِمنْ صيغ العموم فشملت النّساء في التّنبيه بالتّسبيح ‪ .‬ولذا‬
‫ن لحاجة ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم ‪« :‬‬
‫قال خليل ‪ :‬ول يصفّقن ‪ .‬أي النّساء في صلته ّ‬
‫التّصفيق للنّساء » ذمّ له ‪ ،‬ل إذن لهنّ فيه بدليل عدم عملهنّ به ‪.‬‬
‫تصفيق المصلّي لمنع المارّ أمامه ‪:‬‬
‫‪ - 4‬يختلف حكم درء المارّ بين يدي المصلّي بين كونه رجلً أو امرأة ‪ .‬فإذا كان المصلّي‬
‫رجل كان درؤه للمارّ أمامه بالتّسبيح أو بالشارة بالرّأس أو العين ‪ ،‬لما روى أبو هريرة‬
‫رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬التّسبيح للرّجال » وعن سهل‬
‫بن سعد رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا نابكم في صلتكم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بولدي أمّ سلمة وهما عمر‬
‫شيء فليسبّح الرّجال » ‪ .‬وكما « فعل النّب ّ‬
‫وزينب رضي ال عنهما حيث كان صلى ال عليه وسلم يصلّي في بيتها فقام ولدها عمر ليمرّ‬
‫بين يديه ‪ ،‬فأشار إليه أن قف فوقف ‪ .‬ثمّ قامت بنتها زينب لتم ّر بين يديه ‪ ،‬فأشار إليها أن قفي‬
‫فأبت ومرّت ‪ ،‬فلمّا فرغ صلى ال عليه وسلم من صلته قال ‪ :‬هنّ أغلب »‬
‫وإن كان المصلّي امرأة كان درؤها للمارّ بالشارة أو بالتّصفيق ببطن كفّها اليمنى على ظهر‬
‫ن مبنى حال‬
‫ن لها التّصفيق ‪ .‬ل ترفع صوتها بالقراءة والتّسبيح ‪ ،‬ل ّ‬
‫أصابع كفّها اليسرى ‪ ،‬ل ّ‬
‫النّساء على السّتر ‪ ،‬ول يطلب منها الدّرء به لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬والتّصفيقُ للنّساء‬
‫» وقوله ‪ « :‬ولْيصفّق النّساء » وهذا هو المسنون عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫أمّا الشّافعيّة والحنابلة فلم يقولوا بالتّسبيح للرّجل ‪ ،‬ول بالتّصفيق للمرأة في دفع المارّ ‪ ،‬بل‬
‫قالوا ‪ :‬يدفعه المصلّي بما يستطيعه ويقدّم في ذلك السهل فالسهل ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يندب للمصلّي دفع المارّ بين يديه دفعا خفيفا ل يتلف له شيء ول يشغله ‪ ،‬فإن‬
‫كثر منه ذلك أبطل صلته ‪ .‬وتفصيل ذلك في الكلم على ( سترة الصّلة ) ‪.‬‬
‫تصفيق الرّجل في الصّلة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على كراهة تصفيق الرّجل في الصّلة مطلقا لما روي عن سهل بن سعد‬
‫ن بني عمرو بن عوف‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بلغه أ ّ‬
‫السّاعديّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫كان بينهم شيء ‪ ،‬فخرج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه ‪ ،‬فحبس‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وحانت الصّلة ‪ ،‬فجاء بلل رضي ال عنه إلى أبي بكر‬
‫رضي ال عنه فقال ‪ :‬يا أبا بكر إنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قد حبس ‪ ،‬وقد حانت‬
‫الصّلة ‪ ،‬فهل لك أن تؤمّ النّاس ؟ قال ‪ :‬نعم إن شئت ‪ .‬فأقام بلل وتقدّم أبو بكر رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬فكبّر للنّاس ‪ .‬وجاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يمشي في الصّفوف ‪ ،‬حتّى قام في‬
‫الصّفّ فأخذ النّاس في التّصفيق ‪ ،‬وكان أبو بكر رضي ال عنه ل يلتفت في صلته ‪ ،‬فلمّا‬
‫أكثر النّاس التفت فإذا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فأشار إليه رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم يأمره أن يصلّي ‪ ،‬فرفع أبو بكر رضي ال عنه يديه ‪ ،‬فحمد اللّه ورجع القهقرى وراءه‬
‫صفّ ‪ .‬فتقدّم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فصلّى للنّاس ‪ .‬فلمّا فرغ أقبل‬
‫حتّى قام في ال ّ‬
‫على النّاس فقال ‪ :‬يا أيّها النّاس ما لكم حين نابكم شيء في الصّلة أخذتم في التّصفيق ؟ إنّما‬
‫التّصفيق للنّساء ‪ .‬من نابه شيء في صلته فليقل ‪ :‬سبحان اللّه ‪ ،‬فإنّه ل يسمعه أحد حين يقول‬
‫‪ :‬سبحان اللّه إل التفت ‪ .‬يا أبا بكر ما منعك أن تصلّي للنّاس حين أشرت إليك ؟ فقال أبو بكر‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬ما كان ينبغي لبن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنكر عليهم التّصفيق ‪ ،‬ولم‬
‫ن النّب ّ‬
‫وسلم ‪ " » .‬ففي هذا الحديث « أ ّ‬
‫يأمرهم بإعادة الصّلة » ‪ .‬وفيه الدّليل على كراهة التّصفيق للرّجل في الصّلة ‪.‬‬
‫التّصفيق من مصلّ للذن للغير بالدّخول ‪:‬‬
‫‪ - 6‬أجاز المالكيّة والشّافعيّة تنبيه المصلّي غيره ‪ .‬وذلك عند المالكيّة بالتّسبيح مطلقا ‪ ،‬وأمّا‬
‫الشّافعيّة فالتّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء لما سبق بيانه ‪ ،‬وكرهه الحنفيّة والحنابلة‪.‬‬
‫التّصفيق في الصّلة على وجه اللّعب ‪:‬‬
‫‪ - 7‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬وهو أحد قولي الحنابلة ‪ :‬إنّ التّصفيق في الصّلة على وجه اللّعب يبطلها‬
‫وإن كان قليل ‪ ،‬لمنافاة اللّعب للصّلة ‪ .‬والصل في ذلك حديث الصّحيحين ‪ « :‬من نابه شيء‬
‫في صلته فليسبّح ‪ ،‬وإنّما التّصفيق للنّساء » ‪ .‬ولمنافاته للصّلة ‪.‬‬
‫والقول الخر للحنابلة ‪ :‬أنّه ل يبطلها إن قلّ ‪ ،‬وإن كثر أبطلها ‪ ،‬لنّه عمل من غير جنسها ‪،‬‬
‫ن ما يعمل عادة باليدين يكون‬
‫فأبطلها كثيره عمدا كان أو سهوا ‪ .‬وأمّا الحنفيّة فقد قالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫كثيرا ‪ ،‬بخلف ما يعمل باليد الواحدة فقد يكون قليلً ‪ ،‬والعمل الكثير الّذي ليس من أفعال‬
‫الصّلة ول لصلحها يفسدها ‪ .‬والتّصفيق ل يتأتّى عادة إل باليدين كلتيهما ‪ ،‬فإنّه والحالة هذه‬
‫يكون عمل كثيرا في الصّلة تبطل به ‪ ،‬لمنافاته لفعالها ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ل يخلو عن كو نه عبثا فيها ‪ ،‬ويجري عليه حكم الفعل الكثير ‪ ،‬لنّه ليس من‬
‫جنس أفعال ال صّلة كالنّفخ من الفم فيها فإنّه يبطلها ‪ ،‬كالكلم فيها ‪ ،‬يدلّ عليه قول ابن عبّاس‬
‫رضي ال عنهما ‪ :‬النّفخ في الصّلة كالكلم ‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم لرباح وهو ينفخ في التّراب ‪ « :‬من نفخ في الصّلة فقد تكلّم » وإذ‬
‫جرى على التّصفيق في الصّلة على وجه اللّعب حكم الفعل الكثير فيها كان مبطلً لها ‪.‬‬
‫كيفيّة التّصفيق ‪:‬‬
‫‪ - 8‬للمرأة في كيفيّة تصفيقها في الصّلة طريقتان عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫إحداهما ‪ :‬أن تضرب بظهور أصابع اليد اليمنى على صفحة الكفّ اليسرى ‪.‬‬
‫ثانيتهما ‪ :‬أن تضرب ببطن كفّها اليمنى على ظهر كفّها اليسرى ‪ ،‬وهو اليسر والقلّ عملً ‪،‬‬
‫وهذا هو المشهور عندهم ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة على القول به أن تضرب بظهر أصبعين من يمينها على باطن كفّها اليسرى ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬أن تضرب ببطن كفّ على ظهر الخرى ‪.‬‬
‫التّصفيق أثناء الخطبة ‪:‬‬
‫‪ - 9‬ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب النصات للخطيب ‪ -‬وهو عند الشّافعيّة مستحبّ ‪-‬‬
‫وعليه يحرم عند الجمهور كلّ ما ينافي النصات إلى الخطيب ‪ ،‬من أكل وشرب ‪ ،‬وتحريك‬
‫شيء يحصل منه صوت كورق أو ثوب أو سبحة أو فتح باب أو مطالعة في كرّاس ‪.‬‬
‫والتّصفيق في أثناء الخطبة يحدث صوتا يشوّش على الخطيب والسّامعين لخطبته ‪ ،‬ولذا كان‬
‫حراما لخلله بآداب الستماع وانتهاكه لحرمة المسجد ‪ .‬والحرمة على من صفّق بالمسجد في‬
‫أثناء الخطبة أو في رحبته آكد ممّن فعل ذلك خارج المسجد ممّن ل يسمعون الخطيب ‪.‬‬
‫التّصفيق في غير الصّلة والخطبة ‪:‬‬
‫‪ - 10‬التّصفيق في غير الصّلة والخطبة جائز إذا كان لحاجة معتبرة كالستئذان والتّنبيه ‪ ،‬أو‬
‫ن ‪ .‬أمّا إذا كان لغير حاجة ‪ ،‬فقد صرّح‬
‫تحسين صناعة النشاد ‪ ،‬أو ملعبة النّساء لطفاله ّ‬
‫بعض الفقهاء بحرمته ‪ ،‬وبعضهم بكراهته ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّه من اللّهو الباطل ‪ ،‬أو من التّشبّه‬
‫ن صلتهم عند البيت إلّا مكاء‬
‫بعبادة أهل الجاهليّة عند البيت كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا كَا َ‬
‫وتصدية } ‪ .‬أو هو من التّشبّه بالنّساء ‪ ،‬لما جاء في الحديث من اختصاص النّساء بالتّصفيق‬
‫ن التّسبيح للرّجال ‪.‬‬
‫إذا ناب المام شيء في الصّلة ‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫تصفية *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصفية لغة ‪ :‬مأخوذ من صفّى الشّيء ‪ :‬إذا أخذ خلصته ‪ .‬ومنه ‪ :‬صفّيت الماء من‬
‫القذى تصفية ‪ :‬أزلته عنه ‪ .‬كما في لسان العرب والمصباح المنير ‪.‬‬
‫ويراد بالتّصفية في الصطلح ‪ :‬مجموع العمال الّتي غايتها حصر حقوق المتوفّى والتزاماته‬
‫وأداء الحقوق المتعلّقة بالتّركة لصحابها من الدّائنين والموصى لهم والورثة ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّصفية بهذا المعنى اصطلح حديث تعارف عليه أهل القانون ‪.‬‬
‫ولم يتكلّم عنه الفقهاء بالعنوان المذكور ‪ ،‬وإن كانوا قد عنوا عناية شديدة ببيان أحكام الحقوق‬
‫الّتي للتّركة أو عليها وحقوق القصر ضمانا لصحاب تلك الحقوق حتّى ل يبغي بعضهم على‬
‫بعض ‪ ،‬وضمانا بصفة خاصّة لحقوق الدّائنين والموصى لهم بشيء من التّركة‪.‬‬
‫وهذه الحكام مفصّلة في مصطلح ‪ ( :‬تركة ‪ ،‬إرث ‪ ،‬وصيّة ‪ ،‬وإيصاء ) ‪.‬‬

‫تصليب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصليب في اللّغة ‪ :‬مصدر صلّب ‪ ،‬وهو يأتي لمعان ‪ :‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬القتلة المعروفة يقال ‪ :‬صلب فلن صلبا ‪ ،‬وصلّب تصليبا ‪ .‬ففي التّنزيل العزيز ‪َ { :‬ومَا‬
‫شبّهَ لهم } وفيه حكاية قول فرعون ‪ { :‬وَلصَلّ َبنّكم في جُذوعِ ال ّنخْلِ }‬
‫ن ُ‬
‫َقتَلُوه ومَا صََلبُوه ولك ْ‬
‫وأصله على ما في لسان العرب " الصّليب " وهو في اللّغة دهن النسان أو الحيوان ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ن ودك المصلوب ( أي دهنه ) يسيل ‪.‬‬
‫والصّلب هذه القِتلة المعروفة ‪ ،‬مشتقّ من ذلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫ومنه سمّي الصّليب ‪ .‬وهو الخشبة الّتي يصلب عليها من يقتل كذلك ث ّم استعمل لما يتّخذه‬
‫النّصارى على ذلك الشّكل وجمعه الصّلبان ‪ ،‬والصُلُب ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬والتّصليب أيضا صناعة الصّليب ‪ ،‬أو عمل نقش في ثوب أو جدار أو قرطاس أو‬
‫غيرها بشكل الصّليب ‪ ،‬أو التّصليب بالشارة ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬والصّليب خطّان متقاطعان ‪.‬‬
‫وفي حديث عائشة رضي ال عنها « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا‬
‫فيه تصاليب إل نقضه » أي قطع موضع التّصليب فيه ‪ ،‬وفي رواية « نهى عن الصّلة في‬
‫الثّوب المصلّب » ‪ .‬وهو الّذي فيه نقش كالصّلبان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ورد في الحديث ‪ « :‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن الصّلب في الصّلة » وهيئة‬
‫الصّلب في الصّلة أن يضع المصلّي يديه على خاصرتيه ‪ ،‬ويجافي عضديه عن جنبيه في‬
‫القيام ‪ .‬وإنّما نهى عنه لمشابهته شكل المصلوب ‪ .‬وتنظر أحكام ذلك في الصّلة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّمثيل ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّمثيل ‪ :‬مصدر مثّل من مثّلت بالقتيل مثلً ‪ :‬إذا جدعته وظهرت آثار فعلك عليه‬
‫تنكيلً ‪ ،‬والتّشديد في مثّل للمبالغة فبين التّصليب والتّمثيل مباينة ‪ ،‬لنّ التّصليب ربط للعقوبة ‪،‬‬
‫أمّا التّمثيل فهو مجرّد الجدع والتّقطيع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الصّبر ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الصّبر من معانيه في اللّغة ‪ :‬نصب النسان للقتل ‪ ،‬أو أن يمسك الطّائر أو غيره من‬
‫ذوات الرّوح يصبر حيّا ‪ ،‬ثمّ يرمى بشيء حتّى يقتل ‪.‬‬
‫فالصّبر أعمّ من التّصليب ‪ ،‬لنّه قد يكون بل صلب ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يتناول الحكم أمرين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّلب ‪ ،‬وهو القتلة المعروفة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الحكام المتعلّقة بالصّليب ‪.‬‬
‫أوّل ‪ :‬حكم التّصليب " بمعنى القِتلة المعروفة "‬
‫‪ - 4‬الصّلب قتلة معروفة ‪ ،‬وهي أن يرفع المراد قتله على جذع أو شجرة أو خشبة قائمة ‪،‬‬
‫وتمدّ يداه على خشبة معترضة ‪ ،‬وتربط رجله بالخشبة القائمة ‪ ،‬ويترك عليها هكذا حتّى‬
‫ل ‪ ،‬ويصلب بعد زهوق روحه على‬
‫يموت ‪ .‬وقد تسمّر يداه ورجله بالخشب ‪ .‬وقد يقتل أ ّو ً‬
‫الخشبة للتّشهير به ‪ .‬وكانت هذه القتلة شائعة في المم السّابقة كالفرس والرّومان ومن قبلهم ‪.‬‬
‫سجْنِ‬
‫حبَي ال ّ‬
‫ص القرآن على أنّها كانت من فعل فرعون بأعدائه ‪ .‬وفي قصّة يوسف { يَا صَا ِ‬
‫ون ّ‬
‫ن رَأْسِه } وقد حرّم السلم‬
‫ب فَتَأكُلُ الطّيرُ م ْ‬
‫خرُ َفيُصْلَ ُ‬
‫خمْرَا ‪ ،‬وَأمّا ال َ‬
‫ح ُدكُما فَ َيسْقِي َربّه َ‬
‫أمّا َأ َ‬
‫هذه القتلة لما فيها من التّعذيب الشّديد والمثلة والتّشهير ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم « إنّ‬
‫سنُوا القتلة ‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ‪،‬‬
‫حِ‬‫ل شيء ‪ ،‬فإذا َقتَ ْلتُم فأَ ْ‬
‫اللّه كتب الحسان على ك ّ‬
‫حدّ أحدُكم شَ ْف َرتَه ‪ ،‬وَ ْل ُيرِحْ ذبيحته » « ونهى عن ال ُمثْلَة ولو بالكلب العَقُور » ‪.‬‬
‫و ْل ُي ِ‬
‫‪ - 5‬ويستثنى من هذا الصل جرائم محدّدة جعلت عقوبتها الصّلب بعد القتل لعوارض خاصّة‬
‫اقتضتها ‪ .‬وهذه الجرائم هي ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الفساد في الرض ‪:‬‬
‫جعلت عقوبة الفساد في الرض بالمحاربة " قطع الطّريق " الصّلب ‪ ،‬لقوله تعالى { ِإ ّنمَا‬
‫ن يُ َقتّلُوا أو ُيصَّلبُوا أو ُت َقطّعَ‬
‫ض فَسَادَا أ ْ‬
‫ن في الَر ِ‬
‫سعَو َ‬
‫ن اللّ َه َورَسُولَه َو َي ْ‬
‫ن ُيحَا ِربُو َ‬
‫جزَاءُ الّذي َ‬
‫َ‬
‫خرَةِ‬
‫خ ْزيٌ في ال ّدنْيا وَلَهمْ في ال ِ‬
‫ن الرضِ ذَلكَ لَهمْ ِ‬
‫ن خِلفٍ أَو ُينْفَوْا مِ َ‬
‫أَيدِيهمْ وََأ ْرجُلُهمْ مِ ْ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ َرحِيمٌ } ‪.‬‬
‫ن تَابُوا ِمنْ َقبْلِ َأنْ تَ ْق ِدرُوا عَلَيهمْ فَاعَْلمُوا أَ ّ‬
‫عظِيمٌ إل الّذي َ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫َ‬
‫ن قطّاع الطّرق يستأسدون على النّاس ‪،‬‬
‫وإنّما كان الصّلب عقوبة في هذه الجريمة ‪ ،‬ل ّ‬
‫فيروّعون المنين ‪ ،‬ويظهرون الفساد ‪ ،‬فجعل الصّلب عقوبة لهم ‪ ،‬ليرتدع به من سواهم من‬
‫المفسدين ‪ .‬وقد اختلف الفقهاء في الصّلب ‪:‬‬
‫فقيل ‪ :‬هو حدّ ل بدّ من إقامته ‪ .‬وقيل ‪ :‬المام مخيّر فيه وفي غيره من العقوبات المذكورة في‬
‫الية ‪ .‬على ترتيب وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬حرابة ) ‪.‬‬
‫كيفيّة تنفيذ عقوبة الصّلب في قاطع الطّريق ‪:‬‬
‫‪ - 6‬باستقراء كلم الفقهاء يتبيّن اتّفاقهم على أنّه ليس المراد بصلب قاطع الطّريق ‪ :‬أن يحمل‬
‫على الخشبة حيّا ‪ ،‬ثمّ يترك عليها حتّى يموت ‪ .‬ثمّ اختلفوا ‪ :‬فقال أبو حنيفة ومالك والوزاعيّ‬
‫ن الصّلب عقوبة ‪ ،‬وإنّما يعاقب الحيّ ل‬
‫‪ :‬يصلب حيّا ‪ ،‬ثمّ يقتل مصلوبا بطعنه بحربة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الميّت ‪ ،‬ولنّه جزاء على المحاربة ‪ ،‬فيشرع في الحياة كسائر الجزاءات ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ وأحمد ‪ :‬يقتل أوّل ‪ ،‬ثمّ يصلب بعد قتله ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى قدّم ذكر القتل على‬
‫ذكر الصّلب ‪ ،‬فيلتزم هذا التّرتيب حيث اجتمعا ‪ ،‬ولنّ القتل إذا أطلق في الشّرع كان قتلً‬
‫بالسّيف ‪ ،‬ولنّ في قتله بالصّلب تعذيبا له ومثلة ‪ ،‬وقد نهى الشّرع عن المثلة ‪.‬‬
‫أمّا المدّة الّتي يبقى فيها المصلوب على الخشبة بعد قتله ‪ ،‬فقال أبو حنيفة والشّافعيّ ‪ :‬يصلب‬
‫ثلثة أيّام ‪ .‬وقال الحنابلة ‪ :‬يصلب قدر ما يشتهر أمره ‪ ،‬دون تحديد بمدّة ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ينزل إذا خيف تغيّره ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬من قتل غيره عمدا بالصّلب حتّى مات ‪:‬‬
‫‪ - 7‬مذهب مالك والشّافعيّ ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد ‪ :‬أنّ لوليّ المقتول أن يطالب بقتل الجاني‬
‫قصاصا بمثل ما قتل به ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهذا معنى القصاص ‪ ،‬وهو المساواة والمماثلة ‪ ،‬وله أن‬
‫يقتله بالسّيف ‪ .‬فإن قتل بالسّيف ‪ ،‬وكان الجاني قد قتل بأشدّ منه كان الوليّ قد ترك المماثلة ‪،‬‬
‫وهي شيء من حقّه ‪ .‬ومقتضى هذا القول ‪ :‬أنّه يجوز للوليّ صلب القاتل حتّى الموت ‪ ،‬إن‬
‫كانت جنايته بالصّلب ‪ .‬ومذهب أبي حنيفة ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد ‪ :‬أنّه ل قَ َودَ إلّا بالسّيف ‪،‬‬
‫فعلى هذا ل يتأتّى عقوبة الصّلب قصاصا ‪.‬‬
‫ومع ذلك صرّح الحنفيّة بأنّ الوليّ إذا اقتصّ بغير السّيف عزّر ‪ ،‬ووقع القصاص موقعه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّصليب في عقوبة التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 8‬قال الماورديّ من الشّافعيّة ‪ :‬يجوز صلب المعزّر حيّا ثلثة أيّام فقط " أي ويطلق بعدها "‬
‫فقد « صَلَب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجلً على جبل يقال له أبو ناب » قال ‪ :‬ول‬
‫يمنع مدّة صلبه من طعام ول شراب ول وضوء لصلة ‪ .‬ويصلّي مومئا ‪ ،‬ويعيد الصّلة بعد‬
‫أن يطلق سراحه ‪ .‬ونقل ذلك متأخّرو الشّافعيّة وأقرّوه ‪ .‬وقال صاحب مغني المحتاج ‪ :‬ينبغي‬
‫أن يقال بتمكين المصلوب في هذه الحال من الصّلة مطمئنّا ‪ ،‬يعني أن يصلّي مرسل صلة‬
‫تامّة ‪ ،‬ثمّ يعاد صلبه ‪ .‬ونقل ابن فرحون من المالكيّة في التّبصرة قول الماورديّ وأقرّه ‪.‬‬
‫ويجوز التّعزير بالصّلب عند الحنابلة ‪ ،‬ويراعى ما ذكره الماورديّ ‪ .‬وقالوا ‪ :‬يصلّي‬
‫المصلوب حينئذ باليماء إن لم يمكنه إلّا ذلك ‪ ،‬ول إعادة عليه بعد إطلقه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الحكام المتعلّقة بالصّلبان‬
‫صناعة الصّليب واتّخاذه ‪:‬‬
‫‪ - 9‬ل يجوز للمسلم أن يصنع صليبا ‪ ،‬ول يجوز له أن يأمر بصناعته ‪ ،‬والمراد صناعة ما‬
‫يرمز به إلى التّصليب ‪ .‬وليس له اتّخاذه ‪ ،‬وسواء علّقه أو نصبه أو لم يعلّقه ولم ينصبه ‪ .‬ول‬
‫يجوز له إظهار هذا الشّعار في طرق المسلمين وأماكنهم العامّة أو الخاصّة ‪ ،‬ول جعله في‬
‫ثيابه ‪ ،‬لما روى عديّ بن حاتم رضي ال عنه قال ‪ « :‬أتيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم وفي‬
‫ي ! اطرح عنك هذا الوثن » وعن أبي أمامة رضي ال‬
‫عنقي صليب من ذهب ‪ .‬فقال ‪ :‬يا عد ّ‬
‫ن اللّه بعثني رحمة وهدى للعالمين ‪،‬‬
‫عنه قال ‪ " :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « إ ّ‬
‫وأمرني بمحق المزامير والمعازف والوثان والصّلب وأمر الجاهليّة » ‪.‬‬
‫‪ - 10‬يكره الصّليب في الثّوب ونحوه كالقلنسوة والدّراهم والدّنانير والخواتم ‪.‬‬
‫قال ابن حمدان ‪ :‬ويحتمل التّحريم ‪ ،‬وهو ظاهر ما نقله صالح عن المام أحمد ‪ ،‬وصوّبه‬
‫صاحب النصاف ‪ .‬ودليل ذلك حديث عائشة رضي ال عنها الّذي يفيد « أنّ النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم كان يقطع صورة الصّليب من الثّوب » ‪ ،‬وفي بعض رواياته عند أحمد عن أمّ عبد‬
‫الرّحمن بن أذينة قالت ‪ « :‬كنّا نطوف مع عائشة أمّ المؤمنين رضي ال عنها فرأت على‬
‫ن رسول اللّه صلى ال‬
‫امرأة بردا فيه تصليب ‪ ،‬فقالت أمّ المؤمنين ‪ :‬اطرحيه ‪ .‬اطرحيه ‪ .‬فإ ّ‬
‫عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا في الثّوب قضبه » ‪ .‬وقال إبراهيم ‪ ":‬أصاب أصحابنا‬
‫خمائص فيها صلب فجعلوا يضربونها بالسّلوك يمحونها بذلك "‪.‬‬
‫المصلّي والصّليب ‪:‬‬
‫ن فيه تشبّها بالنّصارى في عبادتهم ‪،‬‬
‫‪ - 11‬يكره للمصلّي أن يكون في قبلته صليب ‪ ،‬ل ّ‬
‫والتّشبّه بهم في المذموم مكروه ‪ ،‬وإن لم يقصده ‪.‬‬
‫ولم نجد عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة نصّا في ذلك ‪.‬‬
‫القطع في سرقة الصّليب ‪:‬‬
‫‪ - 12‬ل قطع عند الحنفيّة والحنابلة في سرقة الصّليب ولو كان من ذهب أو فضّة ‪ ،‬ولو‬
‫جاوزت قيمته نصابا ‪ .‬وذلك لنّه منكر ‪ ،‬فتتأوّل الباحة للسّارق بتأويل نيّة الكسر نهيا عن‬
‫المنكر ‪ .‬قال في فتح القدير ‪ :‬بخلف الدّرهم الّذي عليه الصّورة ‪ ،‬فإنّه ما أع ّد للعبادة ‪ ،‬فل‬
‫تثبت شبهة إباحة الكسر ‪ .‬وعن أبي يوسف يقطع به إن كان في يد رجل في حرز ل شبهة فيه‬
‫‪ ،‬لكمال الماليّة ولوجود الحرز ‪ .‬أمّا إن كان في مصلّاهم فسرقه ‪ ،‬فل قطع لعدم الحرز ‪ .‬قال‬
‫ن ال ّذ ّميّ ل تأويل‬
‫ابن عابدين ‪ :‬وعلى الوّل لو كان السّارق ذ ّميّا وسرق من حرز فيقطع ‪ ،‬ل ّ‬
‫له ‪ .‬قال ‪ :‬إل أن يقال تأويل غيره يكفي في وجود الشّبهة فل يقطع ‪.‬‬
‫ن مذهب المالكيّة جار على مثل ما قال ابن عابدين في آخر كلمه ‪ ،‬فإنّه ل قطع‬
‫ويظهر أ ّ‬
‫عندهم في سرقة الخمر ‪ ،‬ولو سرقها ذ ّميّ من ذمّيّ ‪ ،‬فيكون الحكم في سرقة الصّليب كذلك‪.‬‬
‫وفرّق الشّافعيّة في سرقة المحرّم من صليب وغيره بين حالتين ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن سرقه بقصد‬
‫ح ‪ -‬على ما قاله النّوويّ ‪ -‬أنّه يقطع به إن بلغ مكسوره نصابا‪.‬‬
‫النكار فل قطع‪ ،‬وإل فالص ّ‬
‫إتلف الصّليب ‪:‬‬
‫‪ - 13‬من كسر صليبا لمسلم فل ضمان فيه اتّفاقا ‪ .‬وإن كان لهل ال ّذمّة ‪ ،‬فإن أظهروه كانت‬
‫إزالته واجبة ‪ ،‬ول ضمان أيضا ‪ .‬وإن كان اقتناؤهم له على وجه يقرّون عليه ‪ ،‬كالّذي‬
‫يجعلونه في داخل كنائسهم أو بيوتهم ‪ ،‬يسرّونه عن المسلمين ول يظهرونه ‪ ،‬فإن غصبه‬
‫غاصب وجب ردّه اتّفاقا ‪ .‬أمّا إن أتلفه متلف ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في وجوب الضّمان بذلك ‪:‬‬
‫فعند الحنفيّة ‪ :‬فيه الضّمان ‪ ،‬بناء على أصلهم في ضمان المسلم خمر ال ّذمّيّ ‪ ،‬لنّه مال متقوّم‬
‫ل في حقّنا ‪ .‬وقد أمرنا بتركهم وما يدينون ‪.‬‬
‫في حقّهم كتقوّم الخ ّ‬
‫وعند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل يضمن المسلم الخمر والخنزير لمسلم ول لذ ّميّ ‪ ،‬وهكذا إذا‬
‫أتلفهما ذ ّميّ على ذ ّميّ ‪ ،‬لنّه سقط تقوّمهما في حقّ المسلم فكذا في حقّ ال ّذ ّميّ ‪ ،‬لنّهم تبع لنا‬
‫في الحكام ‪ ،‬فل يجب بإتلفهما مال متقوّم ‪ ،‬وهو الضّمان ‪ ،‬فكذا ينبغي أن يكون الحكم في‬
‫ن الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة ‪ ،‬فالتّحريم ثابت في حقّهم ‪ ،‬لكنّا أمرنا بترك‬
‫الصّليب ‪ ،‬ول ّ‬
‫التّعرّض لهم فيما ل يظهرونه من ذلك ‪ ،‬وهذا ل يقتضي الضّمان نظرا إلى أصل التّحريم ‪.‬‬
‫ن الصنام والصّلبان ل يجب في إبطالها شيء ‪ ،‬لنّها محرّمة‬
‫وفي شرح المنهاج ‪ :‬إ ّ‬
‫ح أنّها ل تكسر الكسر‬
‫ن الص ّ‬
‫الستعمال ‪ ،‬ول حرمة لصنعتها ‪ -‬أي ليست محترمة ‪ -‬وإ ّ‬
‫الفاحش ‪ ،‬بل تفصل لتعود كما كانت قبل التّأليف ‪ ،‬لزوال السم بذلك ‪.‬‬
‫والقول الثّاني ‪ :‬تكسر وترضّض حتّى تنتهي إلى حدّ ل يمكن إعادته صنما أو صليبا أو غير‬
‫ذلك من المحرّمات ‪ .‬ونقل صاحب كشّاف القناع من الحنابلة عن القاضي ابن عقيل أنّ‬
‫الصّليب إن كان من الذّهب أو الفضّة فل يضمن إذا كسر ‪ ،‬أمّا إذا أتلف فيضمن مكسورا ‪.‬‬
‫ن الصّنعة في الذّهب والفضّة تابعة ‪ ،‬لنّها أقلّ قيمة ‪،‬‬
‫وفرّق بينه وبين الصّليب من الخشب بأ ّ‬
‫وفي الخشب أو الحجر هي الصل فل يضمن ‪.‬‬
‫فعليه يضمن الصّليب المستور لل ّذ ّميّ إن كان من ذهب أو فضّة إذا أتلف بمثله ذهبا بالوزن ‪،‬‬
‫وتلغى صنعته ‪ .‬قال الحارثيّ ‪ :‬ول خلف فيه ‪.‬‬
‫أهل ال ّذمّة والصّلبان ‪:‬‬
‫‪ - 14‬يجوز إقرار أهل ال ّذمّة والصّلح معهم على إبقاء صلبانهم ‪ ،‬ولكن يشترط عليهم أن ل‬
‫يظهروها ‪ ،‬بل تكون في كنائسهم ومنازلهم الخاصّة ‪ .‬وفي فتح القدير ‪ :‬إنّ المراد بكنائسهم‬
‫كنائسهم القديمة الّتي أقرّوا عليها ‪ .‬وفي عهد عمر رضي ال عنه الّذي أخذه على نصارى‬
‫الشّام " بسم ال الرحمن الرحيم ‪ .‬هذا كتاب لعمر أمير المؤمنين من نصارى الشّام ‪ :‬لما قدمتم‬
‫علينا سألناكم المان ‪ .‬إلى أن قالوا ‪ :‬وشرطنا لكم على أنفسنا أن ل نظهر صليبا ول كتابا "‬
‫أي من كتب دينهم " في شيء من طرق المسلمين ول أسواقهم ‪ ،‬ول نظهر الصّليب في‬
‫كنائسنا إلخ " وقولهم ‪ " :‬في كنائسنا " المراد به خارجها ممّا يراه المسلم ‪ .‬قال ابن القيّم ‪ :‬ل‬
‫يمكّنون من التّصليب على أبواب كنائسهم وظواهر حيطانها ‪ ،‬ول يتعرّض لهم إذا نقشوا‬
‫داخلها ‪.‬‬
‫ن عمر بن عبد العزيز كتب ‪ :‬أن يمنع نصارى الشّام أن يضربوا‬
‫وعن ميمون بن مهران أ ّ‬
‫ناقوسا ‪ ،‬ول يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم ‪ ،‬فإن قدر على من فعل ذلك منهم فإنّ سلبه لمن‬
‫وجده ‪ .‬وكذا لو جعلوا ذلك في منازلهم وأماكنهم الخاصّة ل يمنعون منه‪ .‬ويمنعون من لبس‬
‫الصّليب وتعليقه في رقابهم أو أيديهم ‪ ،‬ول ينتقض عهدهم بذلك الظهار ‪ ،‬ولكن يؤدّب من‬
‫فعله منهم ‪ .‬ويلحظون في مواسم أعيادهم بالذّات ‪ ،‬إذ قد يحاولون إظهار الصّليب فيمنعون‬
‫من ذلك ‪ ،‬لما في عهد عمر عليهم عدم إظهاره في أسواق المسلمين ‪.‬‬
‫ويؤدّب من فعله منهم ‪ ،‬ويكسر الصّليب الّذي يظهرونه ‪ ،‬ول شيء على من كسره ‪.‬‬
‫الصّليب في المعاملت الماليّة ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ل يصحّ لمسلم بيع الصّليب شرعا ‪ ،‬ول الجارة على عمله ‪.‬‬
‫ولو استؤجر عليه فل يستحقّ صانعه أجرة ‪ ،‬وذلك بموجب القاعدة الشّرعيّة العامّة في حظر‬
‫بيع المحرّمات ‪ ،‬إجارتها ‪ ،‬والستئجار على عملها ‪.‬‬
‫ح بيع الصّور والصّلبان ولو من ذهب أو فضّة أو حلوى ‪.‬‬
‫وقال القليوبيّ ‪ :‬ل يص ّ‬
‫ول يجوز بيع الخشبة لمن يعلم أنّه يتّخذها صليبا ‪.‬‬
‫وسئل ابن تيميّة عن خيّاط خاط للنّصارى سير حرير فيه صليب ذهب فهل عليه إثم في‬
‫خياطته ؟ وهل تكون أجرته حلل أم ل ؟ فقال ‪ :‬إذا أعان الرّجل على معصية اللّه كان آثما ‪.‬‬
‫‪ . .‬ثمّ قال ‪ :‬والصّليب ل يجوز عمله بأجرة ول غير أجرة ‪ ،‬كما ل يجوز بيع الصنام ول‬
‫ن اللّه حرّم بيع‬
‫عملها ‪ .‬كما ثبت في الصّحيح عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫الخمر والميتة والخنزير والصنام » ‪ .‬وثبت أنّه « لعن المصوّرين » ‪.‬‬
‫وصانع الصّليب ملعون لعنه اللّه ورسوله ‪.‬‬
‫ومن أخذ عوضا عن عين محرّمة مثل أجرة حامل الخمر وأجرة صانع الصّليب وأجرة البغيّ‬
‫ونحو ذلك ‪ ،‬فليتصدّق به ‪ ،‬وليتب من ذلك العمل المحرّم ‪ ،‬وتكون صدقته بالعوض كفّارة لما‬
‫فعله ‪ ،‬فإنّ هذا العوض ل يجوز النتفاع به ‪ ،‬لنّه عوض خبيث ‪ .‬نصّ عليه المام أحمد في‬
‫مثل حامل الخمر ‪ ،‬ونصّ عليه أصحاب مالك وغيرهم ‪.‬‬

‫تصوير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّصوير لغة ‪ :‬صنع ال صّورة ‪ .‬وصورة الشّيء هي هيئته الخا صّة الّتي يتميّز بها عن‬ ‫‪1‬‬

‫غيره ‪ .‬وفني أسنمائه تعالى ‪ ":‬المصنوّر "‪ ،‬ومعناه ‪ :‬الّذي صنوّر جمينع الموجودات ورتّبهنا ‪،‬‬
‫فأعطى ك ّل شيء منها صورته الخاصّة وهيئته المفردة ‪ ،‬على اختلفها وكثرتها ‪.‬‬
‫وورد في حديث ابن عمر تسمية الوجه صورة ‪ ،‬قال رضي ال عنه ‪ « :‬نهى النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم أن تضرب الصّورة ‪ ،‬أو نهى عن الوسم في الوجه » أي ‪ :‬أن يضرب الوجه أو‬
‫يوسم الحيوان في وجهه ‪ .‬والتّصوير أيضا ‪ :‬ذكر صورة الشّيء ‪ ،‬أي ‪ :‬صفته ‪ ،‬يقال ‪:‬‬
‫صوّرت لفلن المر ‪ ،‬أي ‪ :‬وصفته له ‪ .‬والتّصوير أيضا ‪ :‬صنع الصّورة الّتي هي تمثال‬
‫الشّيء ‪ ،‬أي ‪ :‬ما يماثل الشّيء ويحكي هيئته الّتي هو عليها ‪ ،‬سواء أكانت الصّورة مجسّمة أو‬
‫غير مجسّمة ‪ ،‬أو كما يعبّر بعض الفقهاء ‪ :‬ذات ظلّ أو غير ذات ظلّ ‪.‬‬
‫والمراد بالصّورة المجسّمة أو ذات الظّلّ ما كانت ذات ثلثة أبعاد ‪ ،‬أي لها حجم ‪ ،‬بحيث‬
‫تكون أعضاؤها نافرة يمكن أن تتميّز باللّمس ‪ ،‬بالضافة إلى تميّزها بالنّظر ‪.‬‬
‫وأمّا غير المجسّمة ‪ ،‬أو الّتي ليس لها ظلّ ‪ ،‬فهي المسطّحة ‪ ،‬أو ذات البعدين ‪ ،‬وتتميّز‬
‫أعضاؤها بالنّظر فقط ‪ ،‬دون اللّمس ‪ ،‬لنّها ليست نافرة ‪ ،‬كالصّور الّتي على الورق ‪ ،‬أو‬
‫القماش ‪ ،‬أو السّطوح الملساء ‪.‬‬
‫والتّصوير والصّورة في اصطلح الفقهاء يجري على ما جرى عليه في اللّغة ‪.‬‬
‫سنّة حديث عائشة‬
‫وقد تسمّى الصّورة تصويرة ‪ ،‬وجمعها تصاوير ‪ ،‬وقد ورد من ذلك في ال ّ‬
‫رضي ال عنها في شأن السّتر قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أميطي عنّا قرامك هذا ‪ ،‬فإنّه ل‬
‫تزال تصاويره تعرض في صلتي » ‪.‬‬
‫أنواع الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 2‬إنّ الصّورة ‪ -‬بالضافة إلى ما ذكرناه من الصّور الثّابتة ‪ -‬قد تكون صورة مؤقّتة‬
‫كصورة الشّيء في المرآة ‪ ،‬وصورته في الماء والسّطوح اللمعة ‪ ،‬فإنّها تدوم ما دام الشّيء‬
‫مقابلً للسّطح ‪ ،‬فإن انتقل الشّيء عن المقابلة انتهت صورته ‪.‬‬
‫ومن الصّور غير الدّائمة ‪ :‬ظلّ الشّيء إذا قابل أحد مصادر الضّوء ‪ .‬ومنه ما كانوا يستعملونه‬
‫في بعض العصور السلميّة ‪ ،‬ويسمّونه ‪ :‬صور الخيال ‪ ،‬أو صور خيال الظّلّ ‪ .‬فإنّهم كانوا‬
‫يقطعون من الورق صورا للشخاص ‪ ،‬ثمّ يمسكونها بعصيّ صغيرة ‪ ،‬ويحرّكونها أمام‬
‫السّراج ‪ ،‬فتنطبع ظللها على شاشة بيضاء يقف خلفها المتفرّجون ‪ ،‬فيرون ما هو في الحقيقة‬
‫صورة الصّورة ‪ .‬ومن الصّور غير الدّائمة ‪ :‬الصّور التّليفزيونيّة ‪ ،‬فإنّها تدوم ما دام الشّريط‬
‫متحرّكا فإذا وقف انتهت الصّورة ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ثمّ إنّ الصّورة قد تكون لشيء حيّ عاقل ذي روح ‪ ،‬كصورة النسان ‪.‬‬
‫أو غير عاقل ‪ ،‬كصورة الطّائر أو السد ‪ .‬أو لحيّ غير الحيوان كصور الشجار والزّهور‬
‫والعشاب ‪ .‬أو للجمادات كصور الشّمس والقمر والنّجوم والجبال ‪ ،‬أو صور المصنوعات‬
‫النسانيّة كصورة منزل أو سيّارة أو منارة أو سفينة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّماثيل ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّماثيل جمع تمثال " بكسر التّاء " وتمثال الشّيء ‪ :‬صورته في شيء آخر ‪ .‬وهو من‬
‫المماثلة ‪ ،‬وهي المساواة بين الشّيئين ‪ .‬والتّمثيل ‪ :‬التّصوير ‪ .‬يقال ‪ :‬مثّل له الشّيء إذا صوّره‬
‫له كأنّه ينظر إليه ‪ ،‬ومثّلت له كذا ‪ :‬إذا صوّرت له مثاله بكتابة أو غيرها ‪ ،‬وفي الحديث ‪« :‬‬
‫ل كلّ شيء تمثاله ‪ .‬فالفرق بين التّمثال‬
‫أشدّ النّاس عذابا ممثّل من الممثّلين » أي مصوّر ‪ .‬وظ ّ‬
‫وبين الصّورة ‪ :‬أنّ صورة الشّيء قد يراد بها الشّيء نفسه ‪ ،‬وقد يراد به غيره ممّا يحكي هيئة‬
‫الصل ‪ ،‬أمّا التّمثال فهو الصّورة الّتي تحكي الشّيء وتماثله ‪ ،‬ول يقال لصورة الشّيء في‬
‫نفسه ‪ :‬إنّها تمثاله ‪.‬‬
‫‪ - 5‬وممّا يبيّن أنّ التّمثال أيضا في اللّغة يستعمل لصور الجمادات ما ورد في صحيح‬
‫ن المسيح ال ّدجّال يأتي ومعه تمثال الجنّة والنّار ‪.‬‬
‫البخاريّ أ ّ‬
‫ن أكثرهم ل يفرّقون في الستعمال بين‬
‫أمّا في عرف الفقهاء ‪ ،‬فإنّه باستقراء كلمهم تبيّن أ ّ‬
‫ص التّمثال بصورة ما كان ذا روح ‪ ،‬أي‬
‫ن بعضهم خ ّ‬
‫لفظي ( الصّورة ) ( والتّمثال ) ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫صورة النسان أو الحيوان ‪ ،‬سواء أكان مجسّما أو مسطّحا ‪ ،‬دون صورة شمس أو قمر أو‬
‫بيت ‪ ،‬وأمّا الصّورة فهي أع ّم من ذلك ‪ .‬نقله ابن عابدين عن المغرب ‪.‬‬
‫وهذا البحث جار على الصطلح الغلب عند الفقهاء ‪ ،‬وهو أنّ الصّورة الّتي تحكي الشّيء ‪،‬‬
‫والتّمثال بمعنى واحد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الرّسم ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّسم في اللّغة ‪ :‬أثر الشّيء ‪ .‬وقيل ‪ :‬بقيّة الثر ‪ .‬وأثر الشّيء قد يشاكله في الهيئة ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫ومن هنا سمّوا " الرّوسم " ‪ ،‬وهو الخشبة الّتي فيها نقوش يختم بها الشياء المراد بقاؤها مخفاة‬
‫‪ ،‬لئل ت ستعمل ‪ .‬وقال ا بن سيده ‪ " :‬الرّو سم الطّا بع " ‪ .‬وم نه " المر سوم " لنّه يخ تم بخا تم ‪.‬‬
‫والرّسم في الستعمال المعاصر بمعنى ‪ :‬ال صّورة المسطّحة ‪ ،‬أو التّصوير المسطّح ‪ ،‬إذا كان‬
‫معمول بال يد ‪ .‬ول تسمّى ال صّورة الفوتوغرافيّة رسما ‪ .‬بل يقال ‪ :‬ر سمت دارا ‪ ،‬أو إنسانا ‪،‬‬
‫أو شجرة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّزويق ‪ ،‬والنّقش ‪ ،‬والوشي ‪ ،‬والرّقم ‪:‬‬
‫‪ - 7‬هذه الكلمات الربع تكاد تكون بمعنى واحد ‪ ،‬وهو تجميل الشّيء المسطّح أو غير‬
‫المسطّح بإضافة أشكال تجميليّة إليه ‪ ،‬سواء أكانت أشكال هندسيّة أو نمنمات أو صورا أو‬
‫غير ذلك ‪ .‬قال صاحب اللّسان ‪ :‬ثوب منمنم أي ‪ :‬موقوم موشّى ‪ ،‬وقال ‪ :‬النّقش ‪ :‬النّمنمة ‪.‬‬
‫فكلّ منها يكون بالصّور أو بغيرها ‪.‬‬
‫د ‪ -‬النّحت ‪:‬‬
‫سكّين ‪ ،‬حتّى‬
‫‪ - 8‬النّحت ‪ :‬الخذ من كتلة صلبة كالحجر أو الخشب بأداة حادّة كالزميل أو ال ّ‬
‫يكون ما يبقى منها على الشّكل المطلوب ‪ ،‬فإن كان ما بقي يمثّل شيئا آخر فهو تمثال أو‬
‫صورة ‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫ترتيب هذا البحث ‪:‬‬
‫‪ - 9‬يحتوي هذا البحث على ما يلي ‪:‬‬
‫ل ‪ :‬ما يتعلّق من الحكام بالصّورة النسانيّة ‪.‬‬
‫أ ّو ً‬
‫ثانيا ‪ :‬أحكام التّصوير ‪ ،‬أي ‪ :‬صناعة الصّور ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أحكام اقتناء الصّور ‪ ،‬أي ‪ :‬اتّخاذها واستعمالها ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أحكام الصّور من حيث التّعامل والتّعرّف فيها ‪.‬‬
‫القسم الوّل ‪ :‬ما يتعلّق من الحكام بالصّورة النسانيّة ‪:‬‬
‫‪ - 10‬ينبغي للنسان أن يعتني بتجميل صورته الظّاهرة ‪ ،‬بالضافة إلى اعتنائه بتكميل‬
‫صورته الباطنة ‪ ،‬ويقوم بحقّ اللّه تعالى بشكره على أنّه جمّل صورته ‪.‬‬
‫والعناية بالصّورة الباطنة تكون باليمان والتّطهّر من الذّنوب والشّكر للّه ‪ ،‬والتّجمّل بالخلق‬
‫الحميدة ‪.‬‬
‫والعناية بالصّورة الظّاهرة تكون بالتّطهّر بالوضوء والغتسال والتّنظّف وإزالة التّفث ‪،‬‬
‫والتّزيّن بالزّينة المشروعة من العناية بالشّعر والملبس الحسنة وغير ذلك ‪ ( ،‬ر ‪ :‬زينة ) ‪.‬‬
‫‪ - 11‬ول يحلّ للنسان أن يشوّه جسمه بإتلف عضو من أعضائه ‪ ،‬أو إخراجه عن وضعه‬
‫الّذي خلقه اللّه عليه ‪ .‬كما ل يحلّ له أن يفعل ذلك بغيره ‪ ،‬إل حيث أذن اللّه تعالى بذلك وقد «‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عن ال ُنهْبى والمثلة » ‪ ( .‬ر ‪ :‬مثلة ) ‪ .‬كما ل يحلّ له أن‬
‫نهى النّب ّ‬
‫يقصد تشويه نفسه بلبس ما ينفر النّاس منه ويخرجه عن المعتاد ( ر ‪ :‬ألبسة ) ‪.‬‬
‫ومن ذلك أنّ « النّبيّ صلى ال عليه وسلم نهى أن يمشي الرّجل في نعل واحدة » أي ‪ :‬في‬
‫إحدى قدميه دون الخرى ‪ .‬وشرع للمسلم أن يتطيّب ويتعطّر ‪ .‬وللمرأة زينتها الخاصّة ‪.‬‬
‫وراجع مباحث ( اكتحال ‪ .‬اختضاب ‪ .‬حليّ ‪ ،‬إلخ ) ‪.‬‬
‫‪ - 12‬أمّا الزّينة الباطنة ‪ ،‬فقد قال ابن القيّم ‪ :‬الجمال الباطن هو محلّ نظر اللّه من عبده‬
‫ن اللّه ل ينظر إلى صوركم وأموالكم ‪ ،‬ولكن ينظر إلى‬
‫وموضع محبّته ‪ ،‬كما في الحديث ‪ « :‬إ ّ‬
‫قلوبكم وأعمالكم » ‪ .‬وهذا الجمال الباطن يزيّن الصّورة الظّاهرة وإن لم تكن ذات جمال ‪،‬‬
‫فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصّفات ‪ .‬فإنّ‬
‫المؤمن يعطى مهابة وحلوة بحسب إيمانه ‪ ،‬فمن رآه هابه ‪ ،‬ومن خالطه أحبّه ‪ ،‬وهذا أمر‬
‫مشهود بالعيان ‪ .‬فإنّك ترى الرّجل الصّالح ذا الخلق الجميلة من أحلى النّاس صورة ‪ ،‬وإن‬
‫كان غير جميل ‪ ،‬ول سيّما إذا رزق حظّا من صلة اللّيل ‪ ،‬فإنّها تنوّر الوجه ‪.‬‬
‫ص اللّه بها بعض الصّور عن بعض ‪ ،‬وهي من زيادة‬
‫قال ‪ :‬وأمّا الجمال الظّاهر فزينة خ ّ‬
‫الخلق الّتي قال اللّه فيها ‪َ { :‬يزِيدُ في الخَ ْلقِ مَا َيشَاءُ } قال المفسّرون ‪ :‬هو الصّوت الحسن‬
‫والصّورة الحسنة ‪ .‬والقلوب مطبوعة على محبّته ‪ ،‬كما هي مفطورة على استحسانه ‪.‬‬
‫ل من الجمال الظّاهر والجمال الباطن نعمة من اللّه تعالى توجب على العبد شكرا‬
‫قال ‪ :‬وك ّ‬
‫ل على جماله ‪.‬‬
‫بالتّقوى والصّيانة ‪ ،‬وبهما يزداد جما ً‬
‫وإن استعمل جماله في معاصي اللّه قلب اللّه محاسنه شينا وقبحا ‪ .‬وكان النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم يدعو النّاس إلى جمال الباطن بجمال الظّاهر ‪ « ،‬قال جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي‬
‫ن خُلُ َقكَ‬
‫ال عنه ‪ :‬قال لي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنت امرؤ حسّن اللّه خَ ْلقَك ‪ ،‬فحسّ ْ‬
‫» ‪ « .‬وكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم أجمل الخلق وأحسنهم وجها » ‪ « .‬وقد سئل البراء بن‬
‫عازب ‪ :‬أكان وجه النّبيّ صلى ال عليه وسلم مثل السّيف ؟ فقال ‪ :‬ل ‪ ،‬بل مثل القمر » ‪.‬‬
‫ب أن يكون الرّسول الّذي يرسل إليه حسن الوجه حسن السم‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم يستح ّ‬
‫‪ ،‬فكان يقول ‪ « :‬إذا َأ ْب َردْتُم إليّ َبرِيدا فاجعلوه حسنَ الوجه حسنَ السم » وقد أمتع اللّه عباده‬
‫المؤمنين في دار كرامته بحسن الصّور ‪ ،‬كما في الحديث « أوّل ُزمْرة تدخل الجنّ َة على‬
‫ب رجل‬
‫صورةِ القمر ليل َة البدر ‪ ،‬والّذين على أثرهم كأشدّ كوكبٍ إضاء ًة ‪ ،‬قلوبُهم على قل ِ‬
‫واحد ‪ ،‬يسبّحون اللّه بُكرة وعشيّة ‪ .‬صورهم على صورة القمر ليلة البدر »‪.‬‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬حكم التّصوير " صناعة الصّور "‬
‫أ ‪ -‬تحسين صورة الشّيء المصنوع ‪:‬‬
‫‪ - 13‬يستحسن للصّانع إذا صنع شيئا أن يحسّن صورة ذلك الشّيء ‪ ،‬إذ إنّ ذلك من إتقان‬
‫شهَاد ِة العَزيزُ الرّحيمُ‬
‫العمل وإحسانه ‪ .‬وقد مدح اللّه تعالى نفسه بقوله ‪ { :‬ذَلكَ عَاِلمُ الغَيبِ وال ّ‬
‫سمَوَاتِ والرضَ‬
‫ن طِينٍ } وقال ‪ { :‬خََلقَ ال ّ‬
‫نمْ‬
‫ل شَيءٍ خَلَقَه َو َبدَأَ خَ ْلقَ النسا ِ‬
‫الّذي َأحْسنَ ك ّ‬
‫ن اللّه‬
‫حسَنَ صُ َورَكم وإليه ال َمصِيرُ } وفي الحديث عن النّبيّ أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫ص ّورَكم فََأ ْ‬
‫بِالحَقّ و َ‬
‫ن اللّه َكتَبَ الحسانَ على كلّ شيء ‪ ،‬فإذا‬
‫ن يُتقنه » وقال ‪ « :‬إ ّ‬
‫عمِلَ أحدُكم عملً أ ْ‬
‫ُيحِبّ إذا َ‬
‫سنُوا القِتلة ‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ‪ . . .‬الحديث » ‪.‬‬
‫قتلتم فأَح ِ‬
‫ب ‪ -‬تصوير المصنوعات ‪:‬‬
‫سيّارة والسّفينة‬
‫‪ - 14‬ل بأس بتصوير الشياء الّتي يصنعها البشر ‪ ،‬كصورة المنزل وال ّ‬
‫ن للنسان أن يصنعها ‪ ،‬فكذلك له أن يصوّرها ‪.‬‬
‫والمسجد وغير ذلك اتّفاقا ‪ ،‬ل ّ‬
‫ج ‪ -‬صناعة تصاوير الجمادات المخلوقة ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ل بأس بتصوير الجمادات الّتي خلقها اللّه تعالى ‪ -‬على ما خلقها عليه ‪ -‬كتصوير‬
‫الجبال والودية والبحار ‪ ،‬وتصوير الشّمس والقمر والسّماء والنّجوم ‪ ،‬دون اختلف بين أحد‬
‫ن ذلك ل يعني جواز صناعة شيء منها إذا علم أنّ‬
‫من أهل العلم ‪ ،‬إلّا من شذّ ‪ .‬غير أ ّ‬
‫الشّخص المصنوعة له يعبد تلك الصّورة من دون اللّه ‪ ،‬وذلك كعبّاد الشّمس أو النّجوم ‪ .‬أشار‬
‫إلى ذلك ابن عابدين ‪ .‬ويستدلّ لحكم هذه المسألة وأنّ ذلك ليس بداخل في التّصوير المنهيّ‬
‫عنه بما يأتي في المسألة التّالية وما بعدها ‪.‬‬
‫و قد ن قل ا بن ح جر في الف تح عن أ بي محمّد الجوين يّ أنّه ن قل وجها بم نع ت صوير الشّ مس‬
‫والقمر ‪ ،‬لنّ من الكفّار من عبدهما من دون اللّه ‪ ،‬فيمتنع تصويرهما لذلك ‪.‬‬
‫ووجّهه ابن حجر بعموم قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الّذين يضاهون بخلق اللّه »‬
‫وقوله في الحديث القدسيّ ‪ « :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلُق خلقا كخلقي » فإنّه يتناول ما فيه‬
‫روح وما ل روح فيه ‪ .‬غير أنّ هذا مُؤوّل وخاصّ بما فيه روح كما يأتي ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تصوير النّباتات والشجار ‪:‬‬
‫‪ -‬جمهور الفقهاء على أنّه ل بأس شرعا بت صوير العشاب والشجار والثّمار و سائر‬ ‫‪16‬‬

‫وأنن ذلك ل يدخنل فيمنا نهني عننه منن‬


‫ّ‬ ‫المخلوقات النّباتي ّة ‪ ،‬وسنواء أكاننت مثمرة أم ل ‪،‬‬
‫التّصاوير ‪ .‬ولم ينقل في ذلك خلف ‪ ،‬إل ما روي عن مجاهد أنّه رأى تحريم تصوير الشّجر‬
‫المثمر دون الشّجر غير المثمر ‪ .‬قال عياض ‪ :‬هذا لم يقله أحد غير مجاهد ‪.‬‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬وأظنّ مجاهدا سمع حديث أبي هريرة ‪ ،‬ففيه ‪ « :‬فَ ْل َيخْلقوا ذرّة ‪ ،‬وليخلقوا‬
‫شعيرة » فإنّ في ذكر الذّرّة إشارة إلى ما فيه روح ‪ ،‬وفي ذكر الشّعيرة إشارة إلى ما ينبت‬
‫ممّا يؤكل ‪ ،‬وأمّا ما ل روح فيه ول يثمر فلم تقع الشارة إليه ‪.‬‬
‫وكراهة تصوير النّباتات والشجار وجه في مذهب أحمد ‪ ،‬والمذهب على خلفه ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من صوّر صورة في الدّنيا كلّف‬
‫ج الجمهور بأ ّ‬
‫وقد احت ّ‬
‫أن ينفخ فيها الرّوح ‪ ،‬وليس بنافخ » فخصّ النّهي بذوات الرواح وليس الشّجر منها ‪،‬‬
‫وبحديث ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه نهى المصوّر عن التّصوير ‪ ،‬ثمّ قال له ‪ " :‬إن كنت‬
‫ن صورة الحيوان لمّا أبيحت بعد‬
‫فاعلً فصوّر الشّجر وما ل روح فيه "قال الطّحاويّ ‪ :‬ول ّ‬
‫ل ذلك على إباحة تصوير ما ل روح فيه أصلً ‪.‬‬
‫قطع رأسها ‪ -‬لنّها ل تعيش بدونه ‪ -‬د ّ‬
‫بل إنّ في بعض روايات حديث عائشة رضي ال عنها « أنّ جبريل عليه السلم قال للنّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم مر برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » فهذا تنبيه على أنّ‬
‫الشّجرة في الصل ل يتعلّق النّهي بتصويرها ‪.‬‬
‫هذا ما يذكره الفقهاء في الستدلل على أنّه ل يحرم تصوير الشّجر والنّبات وما ل روح فيه‬
‫وفي مسند أحمد من حديث عليّ رضي ال عنه « أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫إنّها ثلث‪ ،‬لن يلج عليك مََلكٌ ما دام فيها واحد منها ‪ :‬كلب ‪ ،‬أو جنابة ‪ ،‬أو صورة روح » ‪.‬‬
‫هن – تصوير صورة الحيوان أو النسان ‪:‬‬
‫‪ – 17‬هذا النّوع من التّصوير فيه اختلف بين الفقهاء وتفصيل يتبيّن فيما يلي ‪ ،‬وإلى هذا‬
‫النّوع خاصّة ينصرف قول من يطلق تحريم التّصوير ‪ ،‬دون غيره من النواع المتقدّم ذكرها‪.‬‬
‫التّصوير في الدّيانات السّابقة ‪:‬‬
‫ن لَ ُه مَا‬
‫‪ - 18‬قال مجاهد قوله تعالى في حقّ سليمان عليه السلم وطاعة الجنّ له ‪َ { :‬ي ْعمَلُو َ‬
‫ن َمحَارِيبَ َو َتمَاثِيلَ َوجِفَانٍ كَالجَوَابِ } قال ‪ :‬كانت صورا من نحاس ‪ .‬أخرجه الطّبريّ‬
‫َيشَاءُ مِ ْ‬
‫‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬كانت من الزّجاج والخشب أخرجه عبد الرّزّاق ‪.‬‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬كان ذلك جائزا في شريعتهم ‪ ،‬وكانوا يعملون أشكال النبياء والصّالحين منهم‬
‫على هيئتهم في العبادة ليتعبّدوا كعبادتهم ‪ .‬وقال أبو العالية ‪ :‬لم يكن ذلك في شريعتهم حراما ‪.‬‬
‫وقال مثل ذلك الجصّاص ‪.‬‬
‫ن أمّ حبيبة وأمّ سلمة رضي ال عنهما ذكرتا‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬ولكن ثبت في الصّحيحين « أ ّ‬
‫للنّبيّ صلى ال عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة ‪ ،‬فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ‪،‬‬
‫فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره‬
‫مسجدا ‪ ،‬وصوّروا فيه تلك الصّور ‪ .‬أولئك شرار الخلق عند اللّه » ‪.‬‬
‫ن ذلك يشعر بأنّه لو كان جائزا في شريعتهم ما أطلق على الّذي فعله أنّه شرّ الخلق ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فإ ّ‬
‫ن الظهر أنّه ذمّهم لبناء المساجد على القبور ‪ ،‬ولجعلهم الصّور في المساجد ‪،‬‬
‫هكذا قال ‪ .‬لك ّ‬
‫ل لمطلق التّصوير ‪ ،‬ليوافق الية ‪ ،‬واللّه أعلم ‪.‬‬
‫تصوير صورة النسان والحيوان في الشّريعة السلميّة ‪:‬‬
‫‪ - 19‬اختلف العلماء في حكم تصوير ذوات الرواح من النسان أو الحيوان على ثلثة أقوال‬
‫‪:‬‬
‫‪ - 20‬القول الوّل ‪ :‬إنّ ذلك غير حرام ‪ .‬ول يحرم منه إل أن يصنع صنما يعبد من دون‬
‫ن واللّ ُه خَلَقَكم وما َت ْعمَلونَ } ولقول النّبيّ‬
‫حتُو َ‬
‫ن ما َت ْن ِ‬
‫اللّه تعالى ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬قال َأ َت ْعبُدو َ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ اللّه ورسولَه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والصنام » ‪.‬‬
‫ق سليمان عليه السلم ‪َ { :‬ي ْعمَلونَ له مَا َيشَا ُء مِنْ‬
‫ج القائلون بالباحة بقوله تعالى في ح ّ‬
‫‪ -‬واحت ّ‬
‫َمحَارِيبَ َو َتمَاثِيلَ َوجِفَانٍ كَا ْلجَوَابِ } ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وشرع من قبلنا شرع لنا لقوله تعالى ‪ { :‬أولئك الّذين هدى اللّه فبهداهم اقتده } ‪.‬‬
‫واستدلّوا بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في حقّ المصوّرين « الّذين يضاهون بخلق اللّه »‬
‫وفي بعض الرّوايات « الّذين يشبّهون بخلق اللّه » وقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم فيما يرويه‬
‫عن ربّه تبارك وتعالى ‪ « :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا حبّة ‪ ،‬أو ليخلقوا‬
‫ذرّة » قالوا ‪ :‬ولو كان هذا على ظاهره لقتضى تحريم تصوير الشّجر والجبال والشّمس‬
‫ن ذلك ل يحرم بالتّفاق ‪ ،‬فتعيّن حمله على من قصد أن يتحدّى صنعة الخالق‬
‫والقمر ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫عزّ وجلّ ويفتري عليه بأنّه يخلق مثل خلقه ‪.‬‬
‫ن أشدّ النّاس عذابا عند اللّه‬
‫‪ - 21‬واستدلّوا بقوله صلى ال عليه وسلم في حقّ المصوّرين « إ ّ‬
‫يوم القيامة المصوّرون » قالوا ‪ :‬لو حمل على التّصوير المعتاد لكان ذلك مشكلً على قواعد‬
‫ن أشدّ ما فيه أن يكون معصية كسائر المعاصي ليس أعظم من الشّرك وقتل‬
‫الشّريعة ‪ .‬فإ ّ‬
‫النّفس والزّنا ‪ ،‬فكيف يكون فاعله أشدّ النّاس عذابا ‪ ،‬فتعيّن حمله على من صنع التّماثيل لتعبد‬
‫من دون اللّه ‪.‬‬
‫‪ -‬واحتجّوا أيضا بما يأتي من استعمال الصّور في بيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم وبيوت‬
‫أصحابه ‪ ،‬ومن جملة ذلك تعاملهم بالدّنانير الرّوميّة والدّراهم الفارسيّة دون نكير ‪ ،‬وبالحوال‬
‫الفرديّة للستعمال الواقع منهم ممّا يرد ذكره في تضاعيف هذا البحث ‪ ،‬دون تأويل ‪ .‬وقد نقل‬
‫ن ال ّنحّاس‬
‫اللوسيّ هذا القول في تفسيره عند تفسير الية " ‪ " 13‬من سورة سبأ ‪ ،‬حيث ذكر أ ّ‬
‫وم ّكيّ بن أبي طالب وابن الفرس نقلوه عن قوم ولم يعيّنهم ‪.‬‬
‫ن هذا القول يغفل ذكره الفقهاء في كتبهم المطوّلة والمختصرة ‪ ،‬ويقتصرون‬
‫من أجل ذلك فإ ّ‬
‫في ذكر الخلف على القوال التية ‪:‬‬
‫‪ - 22‬القول الثّاني ‪ :‬وهو مذهب المالكيّة وبعض السّلف ‪ ،‬ووافقهم ابن حمدان من الحنابلة ‪،‬‬
‫أنّه ل يحرم من التّصاوير إل ما جمع الشّروط التية ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬أي تكون تمثالً مجسّدا ‪،‬‬
‫الشّرط الوّل ‪ :‬أن تكون صورة النسان أو الحيوان ممّا له ظ ّ‬
‫فإن كانت مسطّحة لم يحرم عملها ‪ ،‬وذلك كالمنقوش في جدار ‪ ،‬أو ورق ‪ ،‬أو قماش ‪.‬‬
‫ن تصوير ما له ظلّ حرام ‪.‬‬
‫بل يكون مكروها ‪ .‬ومن هنا نقل ابن العربيّ الجماع على أ ّ‬
‫الشّرط الثّاني ‪ :‬أن تكون كاملة العضاء ‪ ،‬فإن كانت ناقصة عضو ممّا ل يعيش الحيوان مع‬
‫فقده لم يحرم ‪ ،‬كما لو صوّر الحيوان مقطوع الرّأس أو مخروق البطن أو الصّدر ‪.‬‬
‫الشّرط الثّالث ‪ :‬أن يصنع الصّورة ممّا يدوم من الحديد أو النّحاس أو الحجارة أو الخشب أو‬
‫نحو ذلك ‪ ،‬فإن صنعها ممّا ل يدوم كقشر بطّيخ أو عجين لم يحرم ‪ ،‬لنّه إذا نشف تقطّع ‪.‬‬
‫على أنّ في هذا النّوع عندهم خلفا ‪ ،‬فقد قال الكثر منهم ‪ :‬يحرم ولو كان ممّا ل يدوم ‪.‬‬
‫ونقل قصر التّحريم على ذوات الظّلّ عن بعض السّلف أيضا كما ذكره النّوويّ ‪.‬‬
‫وقال ا بن حمدان من الحنابلة ‪ :‬المراد بال صّورة أي ‪ :‬المحرّ مة ما كان ل ها ج سم م صنوع له‬
‫طول وعرض وعمق ‪.‬‬
‫‪ - 23‬القول الثّالث ‪ :‬أنّه يحرم تصوير ذوات الرواح مطلقا ‪ ،‬أي سواء أكان للصّورة ظلّ‬
‫أو لم يكن ‪ .‬وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وتشدّد النّوويّ حتّى ادّعى الجماع عليه ‪ .‬وفي دعوى الجماع نظر يعلم ممّا يأتي ‪.‬‬
‫وقد شكّك في صحّة الجماع ابن نجيم كما في الطّحطاويّ على الدّرّ ‪ ،‬وهو ظاهر ‪ ،‬لما تقدّم‬
‫ن المالكيّة ل يرون تحريم الصّور المسطّحة ‪ .‬ل يختلف المذهب عندهم في ذلك ‪.‬‬
‫من أ ّ‬
‫وهذا التّحريم عند الجمهور هو من حيث الجملة ‪.‬‬
‫ويستثنى عندهم بعض الحالت المتّفق عليها أو المختلف فيها ممّا سيذكر فيما بعد ‪.‬‬
‫‪ -‬والتّصوير المحرّم صرّح الحنابلة بأنّه من الكبائر ‪ .‬قالوا ‪ :‬لما في الحديث من التّوعّد عليه‬
‫بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم « إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون » ‪ .‬أدلّة‬
‫القولين الثّاني والثّالث بتحريم التّصوير من حيث الجملة ‪:‬‬
‫‪ - 24‬استند العلماء في تحريم التّصوير من حيث الجملة إلى الحاديث التّالية ‪:‬‬
‫الحديث الوّل ‪ :‬عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬قدم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫من سفر ‪ ،‬وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ‪ ،‬فلمّا رآه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫هتكه ‪ ،‬وتلوّن وجهه ‪ .‬فقال ‪ :‬يا عائشة ‪ :‬أش ّد النّاس عذابا يوم القيامة الّذين يضاهون بخلق‬
‫ن من‬
‫اللّه ‪ .‬قالت عائشة ‪ :‬فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين » ‪ .‬وفي رواية أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة الّذين يشبّهون بخلق اللّه » ‪ .‬وفي رواية أخرى قال ‪ « :‬إنّ‬
‫أصحاب هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة ‪ ،‬ويقال لهم ‪ :‬أحيوا ما خلقتم »‪ .‬وفي رواية ‪« :‬‬
‫إنّها قالت ‪ :‬فأخذت السّتر فجعلته مرفقة أو مرفقتين ‪ ،‬فكان يرتفق بهما في البيت » ‪ .‬وهذه‬
‫الرّوايات متّفق عليها ‪.‬‬
‫ن قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون » رواه‬
‫هذا وإ ّ‬
‫الشّيخان أيضا مرفوعا من حديث ابن مسعود رضي ال عنه ‪.‬‬
‫وقوله ‪ « :‬إنّ أصحاب هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم » روياه أيضا‬
‫من حديث عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما ‪.‬‬
‫الحديث الثّاني ‪ :‬عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬واعد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫جبريل أن يأتيه في ساعة ‪ ،‬فجاءت تلك السّاعة ولم يأته ‪ .‬قالت ‪ :‬وكان بيده عصا فطرحها ‪،‬‬
‫وهو يقول ‪ :‬ما يخلف اللّه وعده ول رسله ‪ .‬ثمّ التفت ‪ ،‬فإذا جرو كلب تحت سرير ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫متى دخل هذا الكلب ؟ فقلت ‪ :‬واللّه ما دريت به ‪ .‬فأمر به فأخرج ‪ ،‬فجاءه جبريل ‪ ،‬فقال له‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬وعدتني فجلست لك ولم تأتني ؟ فقال ‪ :‬منعني الكلب الّذي‬
‫كان في بيتك ‪ .‬إنّا ل ندخل بيتا فيه كلب ول صورة » ‪.‬‬
‫وروت ميمونة رضي ال عنها حادثة مثل هذه ‪ ،‬وفيها قول جبريل ‪ « :‬إنّا ل ندخل بيتا فيه‬
‫كلب ول صورة » ‪ .‬وروى عليّ بن أبي طالب رضي ال عنه أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫أخبره بحادثة جبريل ‪ ،‬وما قال له ‪ .‬وروى القصّة أيضا أبو هريرة رضي ال عنه ‪.‬‬
‫الحديث الثّالث ‪ :‬عن أبي هريرة رضي ال عنه « أنّه دخل دارا تبنى بالمدينة لسعيد ‪ ،‬أو‬
‫لمروان ‪ ،‬فرأى مصوّرا يصوّر في الدّار ‪ ،‬فقال سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول‬
‫‪ :‬قال اللّه تعالى ‪ :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي ‪ ،‬فليخلقوا ذرّة ‪ ،‬أو ليخلقوا حبّة ‪،‬‬
‫أو ليخلقوا شعيرة » ‪.‬‬
‫الحديث الرّابع ‪ :‬عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه جاءه رجل فقال ‪ :‬إنّي رجل أصوّر‬
‫هذه الصّور فأفتني فيها ‪ .‬فقال ‪ :‬ادن منّي ‪ ،‬فدنا منه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ادن منّي ‪ ،‬فدنا منه ‪ ،‬حتّى‬
‫وضع يده على رأسه ‪ ،‬وقال ‪ :‬أنبّئك بما سمعت من رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬سمعت‬
‫ل صورة‬
‫ل مصوّر في النّار ‪ ،‬يجعل له بك ّ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬ك ّ‬
‫صوّرها نفسا ‪ ،‬فيعذّبه في جهنّم » ثمّ قال ‪ :‬إن كنت ل بدّ فاعلً فاصنع الشّجر وما ل نفس له‬
‫‪.‬‬
‫الحديث الخامس ‪ :‬عن أبي الهيّاج السديّ أ ّ‬
‫ن عليّا رضي ال عنه قال له ‪ « :‬أل أبعثك على‬
‫ما بعثني عليه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أل تدع صورة إل طمستها ‪ ،‬ول قبرا مشرفا‬
‫إل سوّيته » ‪.‬‬
‫تعليل تحريم التّصوير ‪:‬‬
‫‪ - 25‬اختلف العلماء في علّة تحريم التّصوير على وجوه ‪:‬‬
‫الوجه الوّل ‪ :‬أنّ العلّة هي ما في التّصوير من مضاهاة خلق اللّه تعالى وأصل التّعليل بذلك‬
‫وارد في الحاديث المتقدّمة ‪ ،‬كلفظ حديث عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬الّذين يضاهون بخلق‬
‫اللّه » وحديث أبي هريرة رضي ال عنه ‪ « :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي »‬
‫ويشهد لذلك حديث ‪ « :‬من صوّر صورة كلّف أن ينفخ فيها الرّوح »‬
‫وحديث ‪ « :‬أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون ‪ .‬يقال لهم ‪ :‬أحيوا ما خلقتم » ‪.‬‬
‫وممّا يكدّر على التّعليل بهذا أمران ‪:‬‬
‫ن التّعليل بهذا يقتضي منع تحريم تصوير الشّمس والقمر والجبال والشّجر وغير ذلك‬
‫الوّل ‪ :‬أ ّ‬
‫من غير ذوات الرواح ‪.‬‬
‫ن التّعليل بذلك يقتضي أيضا منع تصوير لعب البنات والعضو المقطوع ‪ ،‬وغير‬
‫والثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫ذلك ممّا استثناه العلماء من قضيّة التّحريم‬
‫ن المقصود بالتّعليل بهذه العلّة من صنع الصّورة‬
‫‪ -‬من أجل ذلك ذهب بعض العلماء إلى أ ّ‬
‫متحدّيا قدرة الخالق عزّ وجلّ ‪ ،‬ورأى أنّه قادر أن يخلق كخلقه ‪ ،‬فيريه اللّه تعالى عجزه يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬بأن يكلّفه أن ينفخ الرّوح في تلك الصّور ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬أمّا رواية « أشدّ النّاس عذابا » فهي محمولة على من فعل الصّورة لتعبد ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬هي فيمن قصد المعنى الّذي في الحديث من مضاهاة خلق اللّه ‪ ،‬واعتقد ذلك ‪ ،‬فهذا‬
‫ن اللّه‬
‫كافر له من أشدّ العذاب ما للكفّار ‪ ،‬ويزيد عذابه بزيادة كفره " ‪ .‬ويتأيّد التّعليل بهذا بأ ّ‬
‫تعالى قال شبيها بذلك في حقّ من ادّعى أنّه ينزّل مثل ما أنزل اللّه ‪ ،‬وأنّه ل أحد أظلم منه ‪،‬‬
‫ي ولمْ يُوحَ إليهِ شَيءٌ َومَنْ‬
‫حيَ إل ّ‬
‫ن ا ْفتَرَى عَلَى اللّ ِه َك ِذبَا أو قَالَ أُو ِ‬
‫ن َأظْلَمُ ِممّ ْ‬
‫فقال تعالى ‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ل مَا َأ ْنزَلَ اللّهُ } فهذا فيمن ادّعى مساواة الخالق في أمره ووحيه ‪ ،‬والوّل فيمن‬
‫سُأنْزِلُ مِث َ‬
‫قَالَ َ‬
‫ادّعى مساواته في خلقه ‪ ،‬وكلهما من أشدّ النّاس عذابا ‪.‬‬
‫وممّا يحقّق هذا ما توحي به رواية أبي هريرة رضي ال عنه أنّ اللّه تعالى يقول في الحديث‬
‫ن " ذهب " بمعنى قصد ‪ ،‬بذلك فسّرها‬
‫القدسيّ ‪ « :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي » فإ ّ‬
‫ابن حجر ‪ .‬وبذلك يكون معناها أنّه أظلم النّاس بهذا القصد ‪ ،‬وهو أن يقصد أن يخلق كخلق‬
‫ن المراد بهذه الحاديث " من شبّه اللّه بخلقه"‪.‬‬
‫اللّه تعالى‪ .‬ونقل الجصّاص قولً أ ّ‬
‫‪ - 26‬الوجه الثّاني ‪ :‬كون التّصوير وسيلة إلى الغل ّو في غير اللّه تعالى بتعظيمه حتّى يئول‬
‫ن النّبيّ صلى ال‬
‫المر إلى الضّلل والفتنان بالصّور ‪ ،‬فتعبد من دون اللّه تعالى ‪ .‬وذلك أ ّ‬
‫عليه وسلم بعث والنّاس ينصبون تماثيل يعبدونها ‪ ،‬يزعمون أنّها تقرّبهم إلى اللّه زلفى ‪ ،‬فجاء‬
‫ن شعاره الكبر " ل إله إل اللّه " ومسفّها لعقول‬
‫السلم محطّما للشّرك والوثنيّة ‪ ،‬معلنا أ ّ‬
‫هؤلء ‪ .‬ومن المناهج الّتي سلكتها الشّريعة الحكيمة لذلك ‪ -‬بالضافة إلى الحجّة والبيان‬
‫والسّيف والسّنان ‪ -‬أن جاءت إلى ما من شأنه أن يكون وسيلة إلى الضّلل ول منفعة ‪ ،‬أو‬
‫منفعته أقلّ ‪ ،‬فمنعت إتيانه ‪ ،‬قال ابن العربيّ ‪ :‬والّذي أوجب النّهي عن التّصوير في شرعنا ‪-‬‬
‫واللّه أعلم ‪ -‬ما كانت العرب عليه من عبادة الوثان والصنام ‪ ،‬فكانوا يصوّرون ويعبدون ‪،‬‬
‫فقطع اللّه الذّريعة ‪ ،‬وحمى الباب ‪.‬‬
‫ن التّعليل بالمضاهاة وهو منصوص ‪ ،‬ل يمنع من التّعليل بهذه العلّة‬
‫ثمّ أشار ابن العربيّ أ ّ‬
‫المستنبطة ‪ ،‬قال ‪ :‬نهى عن الصّورة ‪ ،‬وذكر علّة التّشبّه بخلق اللّه ‪ ،‬وفيها زيادة على هذا‬
‫ن عملها معصية ‪ ،‬فما ظنّك بعبادتها ‪.‬‬
‫عبادتها من دون اللّه ‪ ،‬فنبّه على أ ّ‬
‫واستند القائلون بهذا الوجه في التّعليل إلى ما في صحيح البخاريّ في تفسير سورة نوح ‪،‬‬
‫معلّقا ‪ .‬عن عطاء عن ابن عبّاس في ‪ :‬ودّ ‪ ،‬وسواع ‪ ،‬ويغوث ‪ ،‬ويعوق ‪ ،‬ونسر ‪ .‬قال ‪" :‬‬
‫هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ‪ ،‬فلمّا هلكوا أوحى الشّيطان إلى قومهم ‪ :‬أن انصبوا‬
‫إلى مجالسهم الّتي كانوا يجلسون إليها أنصابا ‪ ،‬وسمّوها بأسمائهم ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬فلم تعبد ‪ ،‬حتّى‬
‫إذا هلك أولئك ‪ ،‬وتنسخ العلم ‪ ،‬عبدت "‪.‬‬
‫لكن إلى أيّ مدى أرادت الشّريعة المنع من التّصوير لتكفل سدّ الذّريعة ‪ :‬هل إلى منع‬
‫التّصوير مطلقا ‪ ،‬أو منع الصّور المنصوبة دون غير المنصوبة ‪ ،‬أو منع الصّور المجسّمة‬
‫الّتي لها ظلّ ‪ ،‬لنّها الّتي كانت تعبد ؟ هذا موضع الخلف بين العلماء ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم شدّد أ ّولً وأمر بكسر‬
‫ن النّب ّ‬
‫وبناء على هذا الوجه رأى بعض العلماء أ ّ‬
‫الوثان ولطّخ الصّور ‪ ،‬ثمّ لمّا عرف ذلك المر واشتهر رخّص في الصّور المسطّحة وقال ‪:‬‬
‫« إل رقما في ثوب » ‪.‬‬
‫‪ - 27‬الوجه الثّالث ‪ :‬أنّ العلّة مجرّد الشّبه بفعل المشركين الّذين كانوا ينحتون الصنام‬
‫ويعبدونها ‪ ،‬ولو لم يقصد المصوّر ذلك ‪ ،‬ولو لم تعبد الصّورة الّتي يصنعها ‪ ،‬لكنّ الحال‬
‫شبيهة بالحال ‪ .‬كما نهينا عن الصّلة عند طلوع الشّمس وعند غروبها ‪ ،‬لئل نكون في ذلك‬
‫مثل من يسجد لها حينئذ ‪ .‬كما قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬فإنّه يسجد لها حينئذ الكفّار‬
‫» فكرهت الصّلة حينئذ لما تجرّه المشابهة من الموافقة ‪.‬‬
‫أشار إلى هذا المعنى ابن تيميّة ‪ .‬ونبّه عليه ابن حجر حيث قال ‪ :‬إنّ صورة الصنام هي‬
‫الصل في منع التّصوير لكن إذا قيل بهذه العلّة فهي ل تقتضي أكثر من الكراهة ‪.‬‬
‫‪ - 28‬الوجه الرّابع ‪ :‬أنّ وجود الصّورة في مكان يمنع دخول الملئكة إليه ‪.‬‬
‫وقد ورد الّنصّ على ذلك في حديث عائشة وحديث عليّ ‪.‬‬
‫ن تنصيص الحديث‬
‫وردّ التّعليل بهذا كثير من العلماء ‪ ،‬منهم الحنابلة ‪ ،‬كما يأتي ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫على أنّ الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة ل يقتضي منع التّصوير ‪ ،‬كالجنابة ‪ ،‬فإنّها تمنع‬
‫دخول الملئكة أيضا لما في بعض الرّوايات « ل تدخل الملئكة بيتا فيه صورة ول كلب ول‬
‫جنب » فل يلزم من ذلك منع الجنابة ‪.‬‬
‫ولع ّل امتناع دخول الملئكة إنّما هو لكون الصّورة محرّمة ‪ ،‬كما يحرم على المسلم أن يجلس‬
‫على مائدة يدار عليها الخمر ‪ .‬فامتناع دخولهم أثر التّحريم ‪ ،‬وليس علّة‪ .‬واللّه أعلم‪.‬‬
‫تفصيل القول في صناعة الصّور ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الصّور المجسّمة " ذوات الظّلّ "‬
‫‪ - 29‬صنعة الصّور المجسّمة محرّمة عند جمهور العلماء أخذا بالدلّة السّابقة ‪.‬‬
‫ويستثنى منها ما كان مصنوعا كلعبة للصّغار ‪ ،‬أو كان ممتهنا ‪ ،‬أو كان مقطوعا منه عضو ل‬
‫يعيش بدونه ‪ ،‬أو كان ممّا ل يدوم كصور الحلوى أو العجين ‪ ،‬على خلف وتفصيل يتبيّن في‬
‫المباحث التّالية ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬صناعة الصّور المسطّحة ‪:‬‬
‫القول الوّل في صناعة الصّور المسطّحة‬
‫‪ - 30‬مذهب المالكيّة ومن ذكر معهم جواز صناعة الصّور المسطّحة مطلقا ‪ ،‬مع الكراهة ‪.‬‬
‫لكن إن كانت فيما يمتهن فل كراهة بل خلف الولى ‪.‬‬
‫وتزول الكراهة إذا كانت الصّور مقطوعة عضو ل تبقى الحياة مع فقده ‪.‬‬
‫‪ - 31‬ومن الحجّة لهذا المذهب ما يلي ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬حديث أبي طلحة وعنه زيد بن خالد الجهنيّ ‪ ،‬ورواه سهل بن حنيف الصّحابيّ رضي‬
‫ال عنهم ‪ ،‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل تدخل الملئكة بيتا فيه صورة ‪ ،‬إل رقما‬
‫ل ما ورد من النّهي عن التّصاوير ولعن‬
‫في ثوب » فهذا الحديث مقيّد ‪ ،‬فيحمل عليه ك ّ‬
‫المصوّرين ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يقول اللّه تعالى ‪ :‬في‬
‫‪ - 2 -‬حديث أبي هريرة مرفوعا أ ّ‬
‫الحديث القدسيّ « ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي ‪ ،‬فليخلقوا ذرّة ‪ ،‬أو ليخلقوا حبّة »‬
‫ووجه الحتجاج به ‪ :‬أنّ اللّه تعالى لم يخلق هذه الحياء سطوحا ‪ ،‬بل اخترعها مجسّمة ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬استعمال الصّور في بيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم كما تقدّم أنّها جعلت السّتر مرفقتين‬
‫‪ ،‬فكان يرتفق بهما ‪ ،‬وفي بعض الرّوايات " وإنّ فيهما الصّور " ‪.‬‬
‫وفي بعض روايات الحديث قالت ‪ « :‬كان لنا ستر فيه تمثال طائر ‪ ،‬وكان الدّاخل إذا دخل‬
‫استقبله ‪ ،‬فقال لي النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬حوّلي هذا ‪ ،‬فإنّي كلّما دخلت فرأيته ‪ ،‬ذكرت‬
‫الدّنيا » فعلّل بذلك ‪ ،‬وكان صلى ال عليه وسلم حريصا على أل يشغله أمر الدّنيا وزهرتها‬
‫عن الدّعوة إلى اللّه والتّفرّغ لعبادته ‪ .‬وذلك ل يقتضي التّحريم على أمّته ‪ .‬وفي رواية أنس‬
‫ن تصاويره ل تزال تعرض لي في‬
‫رضي ال عنه أنّه قال لها ‪ « :‬أميطي عنّا قرامك هذا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫صلتي » وعلّل في رواية ثالثة بغير هذا عندما هتك السّتر فقال « يا عائشة ل تستري الجدار‬
‫» وقال « إنّ اللّه لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطّين » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « أنّ‬
‫ويوضّح هذا المعنى جليّا حديث سفينة رضي ال عنه مولى النّب ّ‬
‫عليّ بن أبي طالب رضي ال عنه دعا النّبيّ صلى ال عليه وسلم إلى بيته ‪ ،‬فجاء فوضع يده‬
‫فرجع ‪ ،‬فقالت فاطمة لعليّ ‪ :‬الحقه فانظر ما رجعه ‪ .‬فتبعه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ما ردّك ؟‬
‫قال ‪ :‬إنّه ليس لي ‪ -‬أو قال ‪ :‬لنبيّ ‪ -‬أن يدخل بيتا مزوّقا » ‪.‬‬
‫ورواه عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما عند البخاريّ وأبي داود وفي روايته ‪ « :‬فرأى سترا‬
‫موشيّا ‪ ،‬وفيها أنّه صلى ال عليه وسلم قال ما لنا وللدّنيا ‪ ،‬ما لنا وللرّقم فقالت فاطمة فما‬
‫تأمرنا فيه ؟ قال ‪ :‬ترسلين به إلى أهل حاجة » ‪.‬‬
‫وفي رواية النّسائيّ أنّه كان في السّتر تصاوير ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬استعمال النّبيّ صلى ال عليه وسلم وأصحابه الدّنانير الرّوميّة والدّراهم الفارسيّة‬
‫وعليها صور ملوكهم ولم يكن عندهم نقود غيرها إلّا الفلوس ‪.‬‬
‫وقد ضرب عمر بن الخطّاب رضي ال عنه ‪ -‬على ما تذكره الكتب المؤلّفة في تاريخ النّقود‬
‫سكّة الفارسيّة ‪ ،‬فكان فيها الصّور ‪ ،‬وضرب الدّنانير معاوية رضي ال عنه‬
‫‪ -‬الدّراهم على ال ّ‬
‫وعليها الصّور بعد أن محا منها الصّليب ‪ ،‬وضربها عبد الملك وعليها صورته متقلّدا سيفا ‪،‬‬
‫ثمّ ضربها عبد الملك والوليد خالية من الصّور ‪.‬‬
‫‪ -‬ما ن قل عن ب عض ال صّحابة والتّابع ين من ا ستعمال ال صّور في ال سّتور وغير ها من‬ ‫‪5‬‬ ‫‪-‬‬
‫الم سطّحات ‪ .‬من ذلك ا ستعمال ز يد بن خالد الجهن يّ ر ضي ال ع نه لل سّتور ذات ال صّور ‪،‬‬
‫وحديثه في ال صّحيحين ‪ .‬واستعمله أبو طلحة رضي ال عنه وأقرّه سهل بن حنيف رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬وحديثهما في الموطّأ وعند التّرمذيّ والنّسائيّ ‪.‬‬
‫واعتمدوا على ما رووه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم من قوله « إل رقما في ثوب » ‪.‬‬
‫ن عروة كان يتّكئ على المرافق " الوسائد " الّتي‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن عروة بن الزّبير أ ّ‬
‫ي بأسانيده أنّ نقش خاتم عمران بن حصين‬
‫فيها تصاوير الطّير والرّجال ‪ .‬وروى الطّحاو ّ‬
‫ل متقلّدا سيفا ‪ .‬وأنّ نقش خاتم النّعمان بن مقرّن رضي ال‬
‫الصّحابيّ رضي ال عنه كان رج ً‬
‫عنه قائد فتح فارس ‪ ،‬كان إيل قابضا إحدى يديه باسطا الخرى ‪ ،‬وعن القاسم قال كان نقش‬
‫خاتم عبد اللّه ذبّابان ‪ ،‬وكان نقش خاتم حذيفة بن اليمان رضي ال عنه كركيّان ‪ ،‬وروي أنّ‬
‫نقش خاتم أبي هريرة رضي ال عنه ذبابتان ‪.‬‬
‫صدّيق‬
‫ونقل ابن أبي شيبة بسنده عن ابن عون أنّه دخل على القاسم بن محمّد بن أبي بكر ال ّ‬
‫رضي ال عنهم وهو بأعلى مكّة ببيته ‪ ،‬قال ‪ :‬فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس‬
‫والعنقاء ‪ .‬قال ابن حجر ‪ :‬والقاسم بن محمّد أحد فقهاء المدينة ‪ ،‬وهو راوي حديث عائشة ‪،‬‬
‫وكان من أفضل أهل زمانه ‪.‬‬
‫وروى أحمد بسنده عن المسور بن مخرمة رضي ال عنه قال ‪ :‬دخلت على ابن عبّاس رضي‬
‫ال عنهما أعوده من وجع كان به ‪ .‬قلت ‪ :‬فما هذه التّصاوير في الكانون ؟ قال ‪ :‬أل ترى قد‬
‫أحرقناها بالنّار ‪ .‬فلمّا خرج المسور قال ‪ :‬اقطعوا رءوس هذه التّماثيل ‪ .‬قالوا ‪ :‬يا أبا العبّاس‬
‫لو ذهبت بها إلى السّوق كان أنفق لها قال ‪ :‬ل ‪ .‬فأمر بقطع رءوسها ‪.‬‬
‫القول الثّاني في صناعة الصّور غير ذوات الظّلّ " أي المسطّحة " ‪:‬‬
‫‪ - 32‬إنّها محرّمة كصناعة ذوات الظّلّ ‪ .‬وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬ونقل عن كثير من السّلف ‪ .‬واستثنى بعض أصحاب هذا القول الصّور المقطوعة‬
‫والصّور الممتهنة وأشياء أخرى كما سيأتي في بقيّة هذا البحث ‪.‬‬
‫واحتجّوا للتّحريم بإطلق الحاديث الواردة في لعن النّبيّ صلى ال عليه وسلم للمصوّرين ‪،‬‬
‫وأنّ المصوّر يعذّب يوم القيامة بأن يكلّف بنفخ الرّوح في كلّ صورة صوّرها ‪ .‬خرج من ذلك‬
‫صور الشجار ونحوها ممّا ل روح فيه بالدلّة السّابق ذكرها‪ ،‬فيبقى ما عداها على التّحريم‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وأمّا الحتجاج لباحة صنع الصّور المسطّحة باستعمال النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ن الستعمال للصّورة‬
‫الوسادتين اللّتين فيهما الصّور ‪ ،‬واستعمال الصّحابة والتّابعين لذلك ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ص ورد بتحريم التّصوير ولعن المصوّر ‪ ،‬وهو‬
‫ن النّ ّ‬
‫حيث جاز ل يعني جواز تصويرها ‪ ،‬ل ّ‬
‫شيء آخر غير استعمال ما فيه الصّورة ‪ .‬وقد علّل في بعض الرّوايات بمضاهاة خلق اللّه‬
‫والتّشبيه به ‪ ،‬وذلك إثم غير متحقّق في الستعمال ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الصّور المقطوعة والصّور النّصفيّة ونحوها ‪:‬‬
‫‪ - 33‬تقدّم أنّ المالكيّة ل يرون تحريم تصوير النسان أو الحيوان ‪ -‬سواء أكانت الصّورة‬
‫تمثال مجسّما أو صورة مسطّحة إن كانت ناقصة عضو من العضاء الظّاهرة ممّا ل يعيش‬
‫الحيوان بدونه ‪ .‬كما لو كان مقطوع الرّأس ‪ ،‬أو كان مخروق البطن أو الصّدر ‪.‬‬
‫وكذلك يقول الحنابلة ‪ ،‬كما جاء في المغني" إذا كان في ابتداء التّصويرة صورة بدن بل رأس‬
‫أو رأس بل بدن ‪ ،‬أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان ‪ ،‬لم يدخل في النّهي "‪.‬‬
‫وفي الفروع ‪ :‬إن أزيل من الصّور ما ل تبقى الحياة معه لم يكره ‪ ،‬في المنصوص ‪ .‬ومثله‬
‫صورة شجرة ونحوه وتمثال ‪ ،‬وكذا تصويره ‪.‬‬
‫وهذا مذهب الشّافعيّة أيضا ‪ ،‬ولم ينقل بينهم في ذلك خلف إل ما شذّ به المتولّي ‪ ،‬غير أنّهم‬
‫اختلفوا فيما إذا كان المقطوع غير الرّأس وقد بقي الرّأس ‪ .‬والرّاجح عندهم في هذه الحالة‬
‫التّحريم ‪ ،‬جاء في أسنى المطالب وحاشيته للرّمليّ ‪ :‬وكذا إن قطع رأس الصّورة ‪.‬‬
‫قال الكوهكيوني ‪ :‬وكذا حكم ما صوّر بل رأس ‪ ،‬وأمّا الرّءوس بل أبدان فهل تحرم ؟ فيه‬
‫تردّد ‪ .‬والحرمة أرجح ‪ .‬قال الرّمليّ ‪ :‬وهما وجهان في الحاوي وبناهما على أنّه هل يجوز‬
‫تصوير حيوان ل نظير له ‪ :‬إن جوّزناه جاز ذلك ‪ ،‬وإل فل ‪ ،‬وهو الصّحيح ‪.‬‬
‫ويشملهما قوله ‪ :‬ويحرم تصوير حيوان ‪.‬‬
‫وظاهر ما في تحفة المحتاج جوازه ‪ ،‬فإنّه قال ‪ :‬وكفقد الرّأس فقد ما ل حياة بدونه ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬صنع الصّور الخياليّة‬
‫ص الشّافعيّة على أنّ الصّور الخياليّة للنسان أو الحيوان داخلة في التّحريم ‪.‬‬
‫‪ - 34‬ين ّ‬
‫قالوا ‪ :‬يحرم ‪ ،‬كإنسان له جناح ‪ ،‬أو بقر له منقار ‪ ،‬ممّا ليس له نظير في المخلوقات ‪ .‬وكلم‬
‫صاحب روض الطّالب يوحي بوجود قول بالجواز ‪.‬‬
‫وواضح أنّ هذا في غير اللّعب الّتي للطفال ‪ ،‬وقد ورد في حديث عائشة رضي ال عنها ‪« :‬‬
‫أنّه كان في لعبها فرس له جناحان ‪ ،‬وأنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم ضحك لمّا رآها حتّى بدت‬
‫نواجذه » ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬صنع الصّور الممتهنة‬
‫‪ - 35‬يأتي أنّ أغلب العلماء على جواز اقتناء واستعمال الصّور المجسّمة والمسطّحة ‪ .‬سواء‬
‫أكانت مقطوعة أم كاملة ‪ ،‬إذا كانت ممتهنة ‪ ،‬كالّتي على أرض أو بساط أو فراش أو وسادة‬
‫أو نحو ذلك ‪ .‬وبناء على هذا ‪ ،‬ذهب بعض العلماء إلى جواز صنع ما يستعمل على ذلك‬
‫الوجه ‪ ،‬كنسج الحرير لمن يحلّ له ‪.‬‬
‫وهو في الجملة مذهب المالكيّة ‪ ،‬إل أنّه عندهم خلف الولى ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة وجهان ‪ :‬أصحّهما التّحريم ‪ .‬وهو مذهب الحنفيّة كما صرّح به ابن عابدين ‪.‬‬
‫ونقل ابن حجر عن المتولّي من الشّافعيّة أنّه أجاز التّصوير على الرض ‪.‬‬
‫ولم نجد للحنابلة تصريحا في هذه المسألة فالظّاهر أنّه عندهم مندرج في تحريم التّصوير ‪.‬‬
‫وسيأتي تفصيل القول في معنى المتهان ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬صناعة الصّور من الطّين والحلوى وما يسرع إليه الفساد‬
‫‪ - 36‬للمالكيّة قولن في صناعة الصّور الّتي ل تتّخذ للبقاء ‪ ،‬كالّتي تعمل من العجين‬
‫وأشهر القولين المنع ‪ .‬وكذا نقلهما العدويّ وقال ‪ :‬إنّ القول بالجواز هو لصبغ ‪ .‬ومثّل له بما‬
‫يصنع من عجين أو قشر بطّيخ ‪ ،‬لنّه إذا نشف تقطّع ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬يحرم صنعها ول يحرم بيعها ‪ .‬ولم نجد عند غيرهم نصّا في ذلك ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬صناعة لعب البنات‬
‫‪ - 37‬استثنى أكثر العلماء من تحريم التّصوير وصناعة التّماثيل صناعة لعب البنات ‪.‬‬
‫وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وقد نقل القاضي عياض جوازه عن أكثر العلماء ‪،‬‬
‫ي في شرح مسلم ‪ ،‬فقال ‪ ":‬يستثنى من منع تصوير ما له ظلّ ‪ ،‬ومن اتّخاذه لعب‬
‫وتابعه النّوو ّ‬
‫البنات ‪ ،‬لما ورد من الرّخصة في ذلك "‪.‬‬
‫وهذا يعني جوازها ‪ ،‬سواء أكانت اللّعب على هيئة تمثال إنسان أو حيوان ‪ ،‬مجسّمة أو غير‬
‫مجسّمة ‪ ،‬وسواء أكان له نظير في الحيوانات أم ل ‪ ،‬كفرس له جناحان ‪.‬‬
‫وقد اشترط الحنابلة للجواز أن تكون مقطوعة الرّءوس ‪ ،‬أو ناقصة عضو ل تبقى الحياة بدونه‬
‫‪ .‬وسائر العلماء على عدم اشتراط ذلك ‪.‬‬
‫‪ - 38‬واستدلّ الجمهور لهذا الستثناء بحديث عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كنت ألعب‬
‫بالبنات عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي ‪ ،‬فكان رسول اللّه صلى‬
‫ن إليّ ‪ ،‬فيلعبن معي » ‪.‬‬
‫ال عليه وسلم إذا دخل يتقمّعن منه ‪ ،‬فيسرّبه ّ‬
‫وفي رواية قالت ‪ « :‬قدم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر ‪ ،‬وفي‬
‫سهوتها ستر ‪ ،‬فهبّت ريح ‪ ،‬فكشفت ناحية السّتر عن بنات لعائشة لعب ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا يا‬
‫عائشة ؟ قالت ‪ :‬بناتي ‪ .‬ورأى بينهنّ فرسا لها جناحان من رقاع ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا الّذي أرى‬
‫وسطهنّ ؟ قالت ‪ :‬فرس ‪ .‬قال ‪ :‬وما هذا الّذي عليه ؟ قالت ‪ :‬جناحان ‪ .‬فقال ‪ :‬فرس له‬
‫ن لسليمان خيلً لها أجنحة ؟ قالت ‪ :‬فضحك رسول اللّه صلى‬
‫جناحان ؟ قالت ‪ :‬أما سمعت أ ّ‬
‫ال عليه وسلم حتّى رأيت نواجذه » ‪ .‬وقد علّل المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة هذا الستثناء‬
‫لصناعة اللّعب بالحاجة إلى تدريبهنّ على أمر تربية الولد ‪.‬‬
‫وهذا التّعليل يظهر فيما لو كانت اللّعب على هيئة إنسان ‪ ،‬ول يظهر في أمر الفرس الّذي له‬
‫ص كلمه ‪ ،‬قال ‪ :‬للصّبايا في ذلك فائدتان‬
‫جناحان ‪ ،‬ولذا علّل الحليميّ بذلك وبغيره ‪ ،‬وهذا ن ّ‬
‫‪ :‬إحداهما عاجلة والخرى آجلة ‪ .‬فأمّا العاجلة ‪ ،‬فالستئناس الّذي في الصّبيان من معادن‬
‫النّشوء والنّم ّو ‪ .‬فإنّ الصّبيّ إن كان أنعم حالً وأطيب نفسا وأشرح صدرا كان أقوى وأحسن‬
‫ن السّرور يبسط القلب ‪ ،‬وفي انبساطه انبساط الرّوح ‪ ،‬وانتشاره في البدن ‪،‬‬
‫نموّا ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫ن سيعلمن من ذلك معالجة الصّبيان‬
‫وقوّة أثره في العضاء والجوارح ‪ .‬وأمّا الجلة فإنّه ّ‬
‫ن تسرّين به‬
‫وحبّهم والشّفقة عليهم ‪ ،‬ويلزم ذلك طبائعهنّ ‪ ،‬حتّى إذا كبرن وعاين لنفسهنّ ما ك ّ‬
‫ن لتلك الشباه بالباطل ‪ .‬هذا وقد نقل ابن حجر في الفتح عن‬
‫ن لهم بالحقّ كما ك ّ‬
‫من الولد ك ّ‬
‫ل ‪ ،‬ثمّ نسخ بعموم النّهي عن‬
‫ن جوازها كان أ ّو ً‬
‫البعض دعوى أنّ صناعة اللّعب محرّمة ‪ ،‬وأ ّ‬
‫التّصوير ‪ .‬ويردّه أنّ دعوى النّسخ معارضة بمثلها ‪ ،‬وأنّه قد يكون الذن باللّعب لحقا ‪ .‬على‬
‫ن ذلك كان عند‬
‫ن فيه أ ّ‬
‫ن في حديث عائشة رضي ال عنها في اللّعب ما يدلّ على تأخّره ‪ ،‬فإ ّ‬
‫أّ‬
‫رجوع النّبيّ صلى ال عليه وسلم من غزوة تبوك ‪ ،‬فالظّاهر أنّه كان متأخّرا ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬التّصوير للمصلحة كالتّعليم وغيره ‪:‬‬
‫‪ - 39‬لم نجد أحدا من الفقهاء تعرّض لشيء من هذا ‪ ،‬عدا ما ذكروه في لعب الطفال ‪:‬‬
‫ن العلّة في استثنائها من التّحريم العا ّم هو تدريب البنات على تربية الطفال كما قال جمهور‬
‫أّ‬
‫الفقهاء ‪ ،‬أو التّدريب واستئناس الطفال وزيادة فرحهم لمصلحة تحسين النّموّ كما قال‬
‫ن صناعة الصّور أبيحت لهذه المصلحة ‪ ،‬مع قيام سبب التّحريم ‪ ،‬وهي كونها‬
‫الحليميّ ‪ ،‬وأ ّ‬
‫تماثيل لذوات الرواح ‪ .‬والتّصوير بقصد التّعليم والتّدريب نحوهما ل يخرج عن ذلك ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪:‬‬
‫اقتناء الصّور واستعمالها ‪:‬‬
‫‪ - 40‬يذهب جمهور العلماء إلى أنّه ل يلزم من تحريم تصوير الصّورة تحريم اقتنائها أو‬
‫ن عمليّة التّصوير لذوات الرواح ورد فيها النّصوص المشدّدة السّابق‬
‫تحريم استعمالها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ذكرها ‪ ،‬وفيها لعن المصوّر ‪ ،‬وأنّه يعذّب في النّار ‪ ،‬وأنّه أش ّد النّاس أو من أشدّ النّاس عذابا ‪.‬‬
‫ولم يرد شيء من ذلك في اقتناء الصّور ‪ ،‬ولم تتحقّق في مستعملها علّة تحريم التّصوير من‬
‫المضاهاة لخلق اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ن الحاديث الواردة في‬
‫ومع ذلك فقد ورد ما يدلّ على منع اقتناء الصّورة أو استعمالها ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫ن اقتناءها من الكبائر ‪ .‬وبهذا يكون حكم‬
‫ذلك ليس فيها ذكر عذاب أو أيّ قرينة تدلّ على أ ّ‬
‫مقتني الصّورة الّتي يحرم اقتناؤها ‪ :‬أنّه قد فعل صغيرة من الصّغائر ‪ ،‬إل على القول بأنّ‬
‫الصرار على الصّغيرة كبيرة ‪ ،‬فيكون كبيرة إن تحقّق الصرار ل إن لم يتحقّق ‪ ،‬أو لم نقل‬
‫بأنّ الصرار على الصّغيرة من الكبائر ‪.‬‬
‫وقد نبّه إلى الفرق بين التّصوير وبين اقتناء الصّور في الحكم النّوويّ في شرحه لحديث‬
‫الصّور في صحيح مسلم ‪ ،‬ونبّه إليه الشبراملسي من الشّافعيّة أيضا ‪ ،‬وعليه يجري كلم أكثر‬
‫الفقهاء ‪ .‬والحاديث الدّالّة على منع اقتناء الصّور منها ‪:‬‬
‫‪ « - 1 -‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم هتك السّتر الّذي فيه الصّورة » وفي رواية قال‬
‫لعائشة ‪ « :‬أخّريه عنّي » ‪ .‬وتقدّم ‪.‬‬
‫ن البيت الّذي فيه الصّور ل تدخله الملئكة » ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬ومنها أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أرسله‬
‫ن النّب ّ‬
‫ي بن أبي طالب رضي ال عنه « أ ّ‬
‫‪ - 3 -‬ومنها حديث عل ّ‬
‫إلى المدينة وقال ‪ :‬ل تدع صورة إل طمستها » وفي رواية ‪" « :‬إل لطّختها " ول قبرا مشرفا‬
‫إل سوّيته » وفي رواية ‪ « :‬ول صنما إل كسرته » ‪.‬‬
‫‪ - 41‬وفي مقابل ذلك نقل استعمال النّبيّ صلى ال عليه وسلم وأصحابه والتّابعين لنواع من‬
‫الصّور لذوات الرّوح ‪ .‬وقد تقدّم ذكر الرّوايات المبيّنة لذلك فيما تقدّم ( ف ‪ ) 31/‬ونزيد هنا‬
‫ما روي أنّ خاتم دانيال النّبيّ ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬كان عليه أسد ولبؤة وبينهما صبيّ يلمسانه ‪.‬‬
‫ل مولود يولد ‪.‬‬
‫وذلك أنّ بختنصّر قيل له ‪ :‬يولد مولود يكون هلكك على يده ‪ ،‬فجعل يقتل ك ّ‬
‫فلمّا ولدت أ ّم دانيال ألقته في غيضة رجاء أن يسلم ‪ .‬فقيّض اللّه له أسدا يحفظه ولبؤة ترضعه‬
‫‪ .‬فنقشه على خاتمه ليكون بمرأى منه ليتذكّر نعمة اللّه ‪.‬‬
‫ووجدت جثّة دانيال والخاتم في عهد عمر رضي ال عنه فدفع الخاتم إلى أبي موسى الشعريّ‬
‫‪ .‬فهذا فعل صحابيّين ‪ .‬وسيأتي بيان أقوال الفقهاء فيما يجوز استعماله من الصّور وما ل‬
‫يجوز ‪ ،‬وتوفيقهم بين هذه الحاديث المتعارضة ‪.‬‬
‫البيت الّذي فيه الصّور ل تدخله الملئكة ‪:‬‬
‫‪ - 42‬ثبت هذا بهذا اللّفظ من قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في الصّحيحين وغيرهما من‬
‫رواية عائشة ‪ ،‬وابن عبّاس ‪ ،‬وابن عمر ‪ .‬وفي غير الصّحيحين من رواية عليّ وميمونة وأبي‬
‫سعيد وأبي طلحة وزيد بن خالد وغيرهم رضي ال عنهم أجمعين ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬قال العلماء ‪ :‬سبب امتناعهم من دخول بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة‪،‬‬
‫وفيها مضاهاة لخلق اللّه تعالى ‪ ،‬وبعضها في صورة ما يعبد من دون اللّه ‪ ،‬فعوقب متّخذها‬
‫بحرمانه دخول الملئكة بيته ‪ ،‬وصلتها فيه ‪ ،‬واستغفارها له ‪ ،‬وتبريكها عليه وفي بيته ‪،‬‬
‫ودفعها أذى الشّيطان ‪ .‬وقال القرطبيّ كما في الفتح ‪ :‬إنّما لم تدخل لنّ متّخذ الصّور قد تشبّه‬
‫بالكفّار الّذين يتّخذون الصّور في بيوتهم ويعظّمونها ‪ ،‬فكرهت الملئكة ذلك ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬وهؤلء الملئكة الّذين ل يدخلون بيتا فيه صورة هم ملئكة الرّحمة ‪.‬‬
‫ح َفظَة فيدخلون كلّ بيت ‪ ،‬ول يفارقون بني آدم في حال ‪ ،‬لنّهم مأمورون بإحصاء‬
‫وأمّا ال َ‬
‫أعمالهم وكتابتها ‪ .‬ثمّ قال النّوويّ ‪ :‬وهو عامّ في كلّ صورة حتّى ما يمتهن ‪.‬‬
‫ونقل الطّحطاويّ عنه ‪ :‬أنّها تمتنع من الدّخول حتّى من الصّور الّتي على الدّراهم والدّنانير ‪.‬‬
‫ي هذا مبالغة وتشدّد ظاهر ‪ ،‬فإنّ في حديث عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أنّها‬
‫وفي قول النّوو ّ‬
‫هتكت السّتر وجعلت منه وسادتين ‪ ،‬فكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يتّكئ عليهما وفيهما‬
‫الصّور » ‪ .‬وكان ل يتحرّج من إبقاء الدّنانير أو الدّراهم في بيته وفيها الصّور ‪ .‬ولو كان ذلك‬
‫يمنع دخول الملئكة بيته ما أبقاها فيه ‪ .‬ولذا قال ابن حجر ‪ :‬يترجّح قول من قال ‪ :‬إنّ‬
‫الصّورة الّتي تمتنع الملئكة من دخول المكان الّذي تكون فيه هي الّتي تكون على هيئتها‬
‫مرتفعة غير ممتهنة ‪ ،‬فأمّا لو كانت ممتهنة ‪ ،‬أو غير ممتهنة لكنّها غيّرت هيئتها بقطعها من‬
‫نصفها أو بقطع رأسها ‪ ،‬فل امتناع ‪.‬‬
‫ل صورة ل يكره إبقاؤها‬
‫ن ظاهر مذهب الحنفيّة ‪ :‬أنّ ك ّ‬
‫وفي كلم ابن عابدين ما يدلّ على أ ّ‬
‫في البيت ‪ ،‬ل تمنع دخول الملئكة ‪ ،‬سواء الصّور المقطوعة أو الصّور الصّغيرة أو الصّور‬
‫المهانة ‪ ،‬أو المغطّاة ونحو ذلك ‪ ،‬ولنّه ليس في هذه النواع تشبّه بعبّادها ‪ ،‬لنّهم ل يعبدون‬
‫الصّور الصّغيرة أو المهانة ‪ ،‬بل ينصبونها صورة كبيرة ‪ ،‬ويتوجّهون إليها ‪.‬‬
‫وقال ابن حبّان ‪ :‬إنّ عدم دخول الملئكة بيتا فيه صور خاصّ بالنّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهو نظير الحديث الخر ‪ « :‬ل تصحب الملئكة رفقة فيها جرس » إذ هو محمول‬
‫ج والمعتمر لقصد‬
‫على رفقة فيها رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذ محال أن يخرج الحا ّ‬
‫البيت على رواحل ل تصحبها الملئكة وهم وفد اللّه ‪ .‬ومآل هذا القول أنّ المراد بالملئكة‬
‫ملئكة الوحي ‪ ،‬وهو جبريل عليه السلم دون غيره من الملئكة ‪.‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ونقله ابن حجر عن الدّاوديّ وابن وضّاح ‪ ،‬ومآله إلى اختصاص النّهي بعهد النّب ّ‬
‫عليه وسلم وبالمكان الّذي يكون فيه ‪ ،‬وأنّ الكراهة انتهت بوفاته صلى ال عليه وسلم لنّ‬
‫الوحي قد انقطع من السّماء ‪.‬‬
‫اقتناء واستعمال صور المصنوعات البشريّة والجوامد والنّباتات ‪:‬‬
‫‪ - 43‬يجوز اقتناء واستعمال صور المصنوعات البشريّة والجوامد والنّباتات ‪ ،‬وسواء أكانت‬
‫منصوبة أو معلّقة أو موضوعة ممتهنة ‪ ،‬وكذلك لو كانت منقوشة في الحوائط أو السّقوف أو‬
‫الرض ‪ ،‬وسواء كانت مسطّحة كما هو معهود ‪ ،‬أو مجسّمة كالزّهور والنّباتات‬
‫سيّارات والمنازل والجبال وغيرها ‪ ،‬ومجسّمات‬
‫الصطناعيّة ‪ ،‬ونماذج السّفن والطّائرات وال ّ‬
‫تماثيل القبّة السّماويّة بما فيها من الكواكب والنّجوم والقمرين ‪ .‬وسواء استعمل ذلك لحاجة‬
‫ونفع ‪ ،‬أو لمجرّد الزّينة والتّجميل ‪ :‬فكلّ ذلك ل حرج فيه شرعا ‪ ،‬إل أن يحرم لعارض ‪ ،‬كما‬
‫لو كان خارجا عن المعتاد إلى حدّ السراف ‪ ،‬على الصل في سائر المقتنيات ‪.‬‬
‫اقتناء واستعمال صور النسان والحيوان ‪:‬‬
‫‪ - 44‬يجمع العلماء على تحريم استعمال نوع من الصّور ‪ ،‬وهو ما كان صنما يعبد من دون‬
‫اللّه تعالى ‪ .‬وأمّا ما عدا ذلك فإنّه ل يخلو شيء منه من خلف ‪.‬‬
‫إل أنّ الّذي تكاد تتّفق كلمة الفقهاء على منعه ‪ :‬هو ما جمع المور التّالية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون صورة لذي روح إن كانت الصّورة مجسّمة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن تكون كاملة العضاء ‪ ،‬غير مقطوعة عضو من العضاء الظّاهرة الّتي ل تبقى‬
‫الحياة مع فقدها ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن تكون منصوبة أو معلّقة في مكان تكريم ‪ ،‬ل إن كانت ممتهنة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن ل تكون صغيرة ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬أن ل تكون من لعب الطفال أو نحوها ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أن ل تكون ممّا يسرع إليه الفساد ‪ .‬وقد خالف فيما جمع هذه الشّروط قوم لم يسمّوا ‪،‬‬
‫كما تقدّم نقله إلّا أنّه خلف ضعيف ‪ .‬ونحن نبيّن حكم كلّ نوع ممّا خرج عن هذه الشّروط ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬استعمال واقتناء الصّور المسطّحة ‪:‬‬
‫ن استعمال الصّور المسطّحة ليس محرّما ‪ ،‬بل هو مكروه إن‬
‫‪ - 45‬يرى المالكيّة ومن وافقهم أ ّ‬
‫كانت منصوبة ‪ ،‬فإن كانت ممتهنة فاستعمالها خلف الولى ‪.‬‬
‫أمّا عند غير المالكيّة ‪ :‬فالصّور المسطّحة والمجسّمة سواء في التّحريم من حيث الستعمال‪،‬‬
‫إذا تمّت الشّروط على ما تقدّم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬استعمال واقتناء الصّور المقطوعة ‪:‬‬
‫‪ - 46‬إذا كانت الصّورة ‪ -‬مجسّمة كانت أو مسطّحة ‪ -‬مقطوعة عضو ل تبقى الحياة معه ‪،‬‬
‫ن استعمال الصّورة حينئذ جائز ‪ ،‬وهذا قول جماهير العلماء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‬
‫فإ ّ‬
‫والحنابلة ‪ .‬وقد وافق على الباحة هنا بعض من خالف ‪ ،‬فرأى تحريم التّصوير ولكن لم يرد‬
‫تحريم القتناء ‪ ،‬كالشّافعيّة ‪.‬‬
‫وسواء أكانت الصّورة قد صنعت مقطوعة من الصل ‪ ،‬أو صوّرت كاملة ثمّ قطع منها شيء‬
‫ل تبقى الحياة معه ‪ .‬وسواء أكانت منصوبة أو غير منصوبة كما يأتي في المسألة التّالية ‪.‬‬
‫ن جبريل قال للنّبيّ صلى ال عليه وسلم ُمرْ برأس التّمثال‬
‫‪ - 47‬والحجّة لذلك ما مرّ « أ ّ‬
‫ن في البيت سترا ‪ ،‬وفي الحائط‬
‫فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » وفي رواية أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫تماثيل ‪ ،‬فاقطعوا رءوسها فاجعلوها بساطا أو وسائد فأوطئوه ‪ ،‬فإنّا ل ندخل بيتا فيه تماثيل »‬
‫ول يكفي أن تكون قد أزيل منها العينان أو الحاجبان أو اليدي أو الرجل ‪ ،‬بل ل بدّ أن يكون‬
‫العضو الزّائل ممّا ل تبقى الحياة معه ‪ ،‬كقطع الرّأس أو محو الوجه ‪ ،‬أو خرق الصّدر أو‬
‫البطن ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وسواء أكان القطع بخيط خيّط على جميع الرّأس حتّى لم يبق له أثر‬
‫‪ ،‬أو بطليه بمغرة ‪ ،‬أو بنحته ‪ ،‬أو بغسله ‪.‬‬
‫وأمّا قطع الرّأس عن الجسد بخيط مع بقاء الرّأس على حاله فل ينفي الكراهة ‪ ،‬لنّ من‬
‫الطّيور ما هو مطوّق فل يتحقّق القطع بذلك ‪ .‬وقال صاحب شرح القناع من الحنابلة ‪ :‬إن‬
‫قطع من الصّورة رأسها فل كراهة ‪ ،‬أو قطع منها ما ل تبقى الحياة بعد ذهابه فهو كقطع‬
‫ن ذلك لم يدخل في النّهي‪.‬‬
‫الرّأس كصدرها أو بطنها ‪ ،‬أو جعل لها رأسا منفصل عن بدنها ل ّ‬
‫وقال صاحب منح الجليل من المالكيّة ‪ :‬إنّ ما يحرم ما يكون كامل العضاء الظّاهرة الّتي ل‬
‫ن الشّافعيّة اختلفوا فيما لو كان الباقي الرّأس ‪ ،‬على وجهين ‪:‬‬
‫يعيش بدونها ولها ظلّ ‪ .‬غير أ ّ‬
‫أحدهما ‪ :‬يحرم وهو الرّاجح ‪ ،‬والخر ‪ :‬ل يحرم ‪ .‬وقطع أيّ جزء ل تبقى الحياة معه يبيح‬
‫الباقي ‪ ،‬كما لو قطع الرّأس وبقي ما عداه ‪ .‬جاء في أسنى المطالب وحاشيته ‪ :‬وكذا إن قطع‬
‫رأسها ‪ ،‬قال ‪ :‬الكوهكيوني ‪ :‬وكذا حكم ما صوّر بل رأس ‪ ،‬وأمّا الرّءوس بل أبدان فهل‬
‫تحرم ؟ فيه تردّد ‪ .‬والحرمة أرجح ‪ .‬قال الرّمليّ ‪ :‬وهو وجهان في الحاوي ‪ ،‬وبناهما على أنّه‬
‫هل يجوز تصوير حيوان ل نظير له ‪ :‬إن جوّزناه جاز ذلك وإلّا فل ‪ ،‬وهو الصّحيح‪ .‬وفي‬
‫حاشية الشّروانيّ وابن قاسم ‪ :‬إنّ فقد النّصف السفل كفقد الرّأس ‪.‬‬
‫‪ - 48‬ويكفي للباحة أن تكون الصّورة قد خرق صدرها أو بطنها ‪ ،‬بذلك صرّح الحنفيّة‬
‫والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬هل من ذلك ما لو كانت مثقوبة البطن‬
‫مثل ‪ :‬الظّاهر أنّه لو كان الثّقب كبيرا يظهر به نقصها فنعم ‪ ،‬وإل فل ‪ ،‬كما لو كان الثّقب‬
‫لوضع عصا تمسك بها ‪ ،‬كمثل صور خيال الظّلّ الّتي يلعب بها ‪ ،‬لنّها تبقى معه صورة تامّة‬
‫ن الخرق الّذي يكون في‬
‫‪ ،‬وهذا الّذي قاله في صور الخيال خالفه فيه بعض الشّافعيّة ‪ ،‬فرأوا أ ّ‬
‫وسطها كاف في إزالة الكراهة كما صرّح بذلك الشّيخ إبراهيم الباجوريّ ‪ ،‬ويأتي النّقل عنه‬
‫في بحث النّظر إلى الصّور‬
‫ج ‪ -‬استعمال واقتناء الصّور المنصوبة والصّور الممتهنة ‪:‬‬
‫‪ - 49‬يرى الجمهور أنّ الصّور لذوات الرواح ‪ -‬مجسّمة كانت أو غير مجسّمة ‪ -‬يحرم‬
‫اقتناؤها على هيئة تكون فيها معلّقة أو منصوبة ‪ ،‬وهذا في الصّور الكاملة الّتي لم يقطع فيها‬
‫عضو ل تبقى الحياة معه ‪ ،‬فإن قطع منها عضو ‪ -‬على التّفصيل المتقدّم في الفقرة السّابقة ‪-‬‬
‫جاز نصبها وتعليقها ‪ ،‬وإن كانت مسطّحة جاز تعليقها مع الكراهة عند المالكيّة ‪ .‬ونقل عن‬
‫القاسم بن محمّد إجازة تعليق الصّور الّتي في الثّياب ‪ ،‬وهو راوي حديث عائشة في لعن‬
‫المصوّرين ‪ ،‬وكان من خير أهل المدينة فقها وورعا ‪.‬‬
‫وأمّا إذا اقتنيت الصّورة ‪ -‬وهي ممتهنة ‪ -‬فل بأس بذلك عند الجمهور ‪ ،‬كما لو كانت في‬
‫ص الحنابلة والمالكيّة على أنّها‬
‫الرض أو في بساط مفروش أو فراش أو نحو ذلك ‪ .‬وقد ن ّ‬
‫ن المالكيّة قالوا ‪ :‬إنّها حينئذ خلف الولى ‪.‬‬
‫غير مكروهة أيضا ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫ووجّهوا التّفريق بين المنصوب والممتهن ‪ :‬بأنّها إذا كانت مرفوعة تكون معظّمة وتشبه‬
‫ن أهل الصنام ينصبونها ويعبدونها ول‬
‫الصنام ‪ .‬أمّا الّذي في الرض ونحوه فل يشبهها ‪ ،‬ل ّ‬
‫يتركونها مهانة ‪ .‬وقد يظنّ أنّه ل يجوز بقاء الصّورة المقطوعة منصوبة ‪ ،‬إل أنّه قد ورد في‬
‫سنّة ما يدلّ على جوازها ‪ ،‬وهو ما نقلناه سابقا من « أنّ جبريل عليه السلم قال للنّبيّ صلى‬
‫ال ّ‬
‫ال عليه وسلم ُمرْ برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » وقوله في حديث آخر ‪« :‬‬
‫فإن كنت ل بدّ فاعلً فاقطع رءوسها أو اقطعها وسائد أو اجعلها بسطا » فإنّها تدلّ على جواز‬
‫بقائها بعد القطع منصوبة ‪ .‬ومن الدّليل على بقاء الصّورة الممتهنة في البيت الحديث المتقدّم‬
‫عن عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أنّها قطعت السّتر وجعلته وسادتين ‪ ،‬وكان النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم يتّكئ عليهما وفيهما الصّور » ‪.‬‬
‫وقد ورد عن عكرمة قال ‪ :‬كانوا يكرهون ما نصب من التّماثيل ول يرون بأسا بما وطئته‬
‫القدام ‪ .‬وكان القاسم بن محمّد يتّكئ على مخدّة فيها تصاوير ‪.‬‬
‫ولذا قال ابن حجر بعد ذكر قطع رأس التّمثال ‪ :‬في هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أنّ‬
‫الصّورة الّتي تمتنع الملئكة من دخول البيت الّذي هي فيه ‪ :‬ما تكون فيه منصوبة باقية على‬
‫هيئتها ‪ .‬أمّا لو كانت ممتهنة ‪ ،‬أو كانت غير ممتهنة لكنّها غيّرت هيئتها إمّا بقطع رأسها أو‬
‫بقطعها من نصفها فل امتناع ‪.‬‬
‫ن استعمال إبريق فيه‬
‫‪ - 50‬والنّصب المنهيّ عنه قال بعض الشّافعيّة ‪ :‬أيّ نصب كان ‪ .‬حتّى إ ّ‬
‫صور تردّد فيه صاحب المهمّات ‪ ،‬ومال إلى المنع ‪ ،‬أي لنّه يكون منصوبا ‪.‬‬
‫وقالوا في الوساد ‪ :‬إن استعملت منصوبة حرم ‪ ،‬وإن استعملت غير منصوبة جاز ‪.‬‬
‫ن النّصب المنهيّ عنه خاصّة ما يظهر فيه التّعظيم ‪ ،‬فقد‬
‫وذهب بعض آخر من العلماء إلى أ ّ‬
‫ن ما على السّتور والثّياب من الصّور ل يحرم ‪ ،‬لنّ ذلك امتهان له ‪.‬‬
‫قال الجوينيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫وهذا يوافق ما تقدّم عن القاسم بن محمّد ‪.‬‬
‫وقال الرّافعيّ ‪ :‬إنّ نصب الصّور في حمّام أو ممرّ ل يحرم ‪ ،‬بخلف ما كان منصوبا في‬
‫المجالس وأماكن التّكريم ‪ .‬أي لنّها في الممرّ والحمّام مهانة ‪ ،‬وفي المجالس مكرّمة ‪ .‬وظاهر‬
‫ن نصب الصّور في الحمّام ونحوه محرّم ‪.‬‬
‫كلم صاحب المغني من الحنابلة أ ّ‬
‫هذا ‪ ،‬وممّا نصّ الشّافعيّة على أنّه من الصّور المهانة ‪ :‬ما كان في نحو قصعة وخوان وطبق‬
‫‪ .‬ويلتحق بالممتهنة ‪ -‬عند بعض الشّافعيّة ‪ -‬الصّور الّتي على النّقود ‪ .‬قال الرّمليّ ‪ :‬وعندي‬
‫ن الدّنانير الرّوميّة الّتي عليها الصّور من القسم الّذي ل ينكر ‪ ،‬لمتهانها بالنفاق والمعاملة ‪،‬‬
‫أّ‬
‫وقد كان السّلف رضي ال عنهم يتعاملون بها من غير نكير ‪ ،‬ولم تحدث الدّراهم السلميّة إل‬
‫في عهد عبد الملك بن مروان كما هو معروف ‪ .‬وقال مثله الزّركشيّ ‪.‬‬
‫‪ - 51‬هذا بيان حكم ما ظهر فيه التّعظيم ‪ ،‬أو ظهرت فيه الهانة ‪ .‬أمّا ما لم يظهر فيه أيّ من‬
‫المعنيين ‪ ،‬وذلك في مثل الصّورة المطبوعة في كتاب ‪ ،‬أو الموضوعة في درج أو خزانة أو‬
‫على منضدة ‪ ،‬من غير نصب ‪ .‬ففي كلم القليوبيّ نقل عن ابن حجر وغيره ‪ :‬يجوز لبس ما‬
‫عليه صورة الحيوان ودوسه ووضعه في صندوق أو مغطّى ‪.‬‬
‫وفي مختصر المزنيّ ما يدلّ على قصر التّحريم على المنصوب ‪ ،‬وذلك في قوله ‪ :‬وصورة‬
‫ذات روح إن كانت منصوبة ‪.‬‬
‫وروى ابن شيبة عن حمّاد عن إبراهيم أنّه قال ‪ :‬ل بأس في حلية السّيف ول بأس بها ‪ -‬أي‬
‫بالتّماثيل ‪ -‬في سماء البيت ‪ -‬أي السّقف ‪ ، -‬وإنّما يكره منها ما نصب نصبا ‪.‬‬
‫وأصل ذلك مرويّ عن سالم بن عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهم ‪ ،‬ففي مسند المام أحمد عن‬
‫ليث بن أبي سليم أنّه قال ‪ :‬دخلت على سالم وهو متّكئ على وسادة فيها تماثيل طير ووحش ‪،‬‬
‫فقلت ‪ :‬أليس يكره هذا ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬إنّما يكره منها ما نصب نصبا ‪.‬‬
‫استعمال لعب الطفال المجسّمة وغير المجسّمة ‪:‬‬
‫‪ - 52‬تقدّم أنّ قول الجمهور جواز صناعة اللّعب المذكورة ‪ .‬فاستعمالها جائز من باب أولى ‪،‬‬
‫ونقل القاضي عياض جوازه عن العلماء ‪ ،‬وتابعه النّوويّ في شرح صحيح مسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫القاضي ‪ :‬يرخّص لصغار البنات ‪ .‬والمراد بصغار البنات من كان غير بالغ منهنّ ‪ .‬وقال‬
‫الخطّابيّ ‪ :‬وإنّما أرخص لعائشة فيها لنّها إذ ذاك كانت غير بالغ ‪ .‬قال ابن حجر ‪ :‬وفي‬
‫الجزم به نظر ‪ ،‬لكنّه محتمل ‪ ،‬لنّ عائشة رضي ال عنها كانت في غزوة خيبر بنت أربع‬
‫ن التّرخيص ليس قاصرا‬
‫عشرة ‪ ،‬وأمّا في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فهذا يدلّ على أ ّ‬
‫على من دون البلوغ منهنّ‪ ،‬بل يتعدّى إلى مرحلة ما بعد البلوغ ما دامت الحاجة قائمة لذلك‪.‬‬
‫‪ - 53‬والعلّة في هذا التّرخيص تدريبهنّ عن شأن تربية الولد ‪ ،‬وتقدّم النّقل عن الحليميّ ‪:‬‬
‫ن ذلك يحصل لهم به النّشاط والقوّة والفرح‬
‫ن من العلّة أيضا استئناس الصّبيان وفرحهم ‪ .‬وإ ّ‬
‫أّ‬
‫وحسن النّشوء ومزيد التّعلّم ‪ .‬فعلى هذا ل يكون المر قاصرا على الناث من الصّغار ‪ ،‬بل‬
‫يتعدّاه إلى الذّكور منهم أيضا ‪.‬‬
‫وممّن صرّح به أبو يوسف ‪ :‬ففي القنية عنه ‪ :‬يجوز بيع اللّعبة ‪ ،‬وأن يلعب بها الصّبيان ‪.‬‬
‫‪ - 54‬وممّا يؤكّد جواز اللّعب المصوّرة للصّبيان ‪ -‬بالضافة إلى البنات ‪ -‬ما ثبت في‬
‫الصّحيحين عن الرّبيّع بنت معوّذ النصاريّة رضي ال عنها أنّها قالت ‪:‬‬
‫« أرسل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى النصار الّتي حول المدينة‬
‫‪ :‬من كان أصبح صائما فليتمّ صومه ‪ ،‬ومن كان أصبح مفطرا فليتمّ بقيّة يومه ‪ .‬فكنّا بعد ذلك‬
‫نصومه ونصوّم صبياننا الصّغار منهم إن شاء اللّه ‪ ،‬ونذهب بهم إلى المسجد ‪ ،‬فنجعل ‪ -‬وفي‬
‫رواية ‪ :‬فنصنع ‪ -‬لهم اللّعبة من العهن ‪ ،‬فإذا بكى أحدهم على الطّعام أعطيناه إيّاه حتّى يكون‬
‫عند الفطار » ‪.‬‬
‫‪ - 55‬وانفرد الحنابلة باشتراط أن تكون اللّعبة المصوّرة بل رأس ‪ ،‬أو مقطوعة الرّأس كما‬
‫تقدّم ‪ ،‬ومرادهم أنّه لو كان الباقي الرّأس ‪ ،‬أو كان الرّأس منفصل عن الجسد جاز ‪ ،‬كما تقدّم‬
‫‪ .‬وقالوا ‪ :‬للوليّ شراء لعب غير مصوّرة لصغيرة تحت حجره من مالها نصّا‪ ،‬للتّمرين‪.‬‬
‫لبس الثّياب الّتي فيها الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 56‬يكره عند الحنفيّة والمالكيّة لبس الثّياب الّتي فيها الصّور ‪ ،‬قال صاحب الخلصة من‬
‫الحنفيّة ‪ :‬صلّى فيها أو ل ‪ .‬لكن تزول الكراهة عند الحنفيّة بما لو لبس النسان فوق الصّورة‬
‫ثوبا آخر يغطّيها ‪ ،‬فإن فعل فل تكره الصّلة فيه ‪.‬‬
‫ن الصّورة في الثّوب‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬يجوز لبس الثّياب الّتي فيها صور حيث نصّوا على أ ّ‬
‫ن اللّبس امتهان له فيجوز حينئذ ‪ .‬كما لو كان ملقى بالرض ويداس ‪.‬‬
‫الملبوس منكر ‪ ،‬لك ّ‬
‫والوجه كما قال الشّروانيّ أنّه ل يكون من المنكر إذا كان ملقى بالرض ( أي مطلقا ) ‪.‬‬
‫أمّا الحنابلة ‪ :‬فقد اختلف قولهم في لبس الثّوب الّذي فيه الصّورة على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬التّحريم ‪ ،‬وهو قول أبي الخطّاب قدّمه في الفروع والمحرّر ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬أنّه مكروه فقط وليس محرّما ‪ ،‬قدّمه ابن تميم ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إل رقما في ثوب » ‪.‬‬
‫ووجه القول بعدم التّحريم أ ّ‬
‫استعمال واقتناء الصّور الصّغيرة في الخاتم والنّقود أو نحو ذلك ‪:‬‬
‫ن الصّور الصّغيرة ل يشملها تحريم القتناء والستعمال ‪ ،‬بناء على أنّه‬
‫‪ - 57‬يصرّح الحنفيّة أ ّ‬
‫ليس من عادة عبّاد الصّور أن يستعملوها كذلك ‪ .‬وضبطوا حدّ الصّغر بضوابط مختلفة ‪ .‬قال‬
‫بعضهم ‪ :‬أن تكون بحيث ل تبدو للنّاظر إل بتبصّر بليغ ‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬أن ل تبدو من بعيد ‪ .‬وقال صاحب ال ّدرّ ‪ :‬هي الّتي ل تتبيّن تفاصيل أعضائها‬
‫للنّاظر قائما وهي على الرض ‪ .‬وقيل ‪ :‬هي ما كانت أصغر من حجم طائر ‪ .‬وهذا يذكرونه‬
‫في بيان أنّها ل تكره للمصلّي ‪ .‬لكن قال ابن عابدين ‪ :‬ظاهر كلم علمائنا أنّ ما ل يؤثّر‬
‫ن الصّورة الصّغيرة ل تكره‬
‫كراهة في الصّلة ل يكره إبقاؤه ‪ .‬وقد صرّح في الفتح وغيره بأ ّ‬
‫في البيت ‪ ،‬ونقل أنّه كان على خاتم أبي هريرة ذبابتان ‪.‬‬
‫وفي التتارخانية ‪ :‬لو كان على خاتم فضّة تماثيل ل يكره ‪ ،‬وليست كتماثيل في الثّياب ‪ ،‬لنّه‬
‫صغير ‪ .‬وقد تقدّم النّقل عن بعض الصّحابة أنّهم استعملوا الصّور في الخواتم ‪ ،‬فكان نقش‬
‫خاتم عمران بن حصين رضي ال عنه رجلً متقلّدا سيفا ‪ ،‬وكان نقش خاتم حذيفة رضي ال‬
‫عنه كركيّين ‪ ،‬وكان على خاتم النّعمان بن مقرّن رضي ال عنه إيّل ‪.‬‬
‫ول يختلف حكم الصّور الصّغيرة عن الصّور الكبيرة عند غير الحنفيّة ‪ .‬إل أنّ الصّور الّتي‬
‫على الدّراهم والدّنانير جائزة عند الشّافعيّة ل لصغرها ‪ ،‬ولكن لنّها ممتهنة كما تقدّم ‪.‬‬
‫وقد صرّح الحنابلة أنّه ل ينبغي لبس الخاتم الّذي فيه الصّورة ‪.‬‬
‫النّظر إلى الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 58‬يحرم التّفرّج على الصّور المحرّمة عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ .‬لكن إذا كانت مباحة‬
‫الستعمال ‪ -‬كما لو كانت مقطوعة أو مهانة ‪ -‬فل يحرم التّفرّج عليها ‪.‬‬
‫قال الدّردير في تعليل تحريم النّظر ‪ :‬لنّ النّظر إلى الحرام حرام ‪.‬‬
‫ول يحرم النّظر إلى الصّورة المحرّمة من حيث هي صور عند الحنابلة ‪.‬‬
‫ن النّصارى صنعوا لعمر رضي ال عنه حين قدم الشّام طعاما فدعوه ‪ ،‬فقال‬
‫ونقل ابن قدامة أ ّ‬
‫‪ ":‬أين هو ؟ قال ‪ :‬في الكنيسة ‪ .‬فأبى أن يذهب ‪ :‬وقال لعليّ رضي ال عنه ‪ :‬امض بالنّاس‬
‫فليتغدّوا ‪ .‬فذهب عليّ رضي ال عنه بالنّاس فدخل الكنيسة ‪ ،‬وتغدّى هو والنّاس ‪ ،‬وجعل عليّ‬
‫ينظر إلى الصّور ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل "‪.‬‬
‫ولم نجد نصّا عند الحنفيّة في ذلك ‪ .‬لكن قال ابن عابدين ‪ :‬هل يحرم النّظر بشهوة إلى‬
‫ل تردّد ‪ ،‬ولم أره ‪ ،‬فليراجع ‪.‬‬
‫الصّورة المنقوشة ؟ مح ّ‬
‫فظاهره أنّه مع عدم الشّهوة ل يحرم ‪ .‬على أنّه قد علم من مذهب الحنفيّة دون سائر المذاهب‬
‫ن الرّجل إذا نظر إلى فرج امرأة بشهوة ‪ ،‬فإنّها تنشأ بذلك حرمة المصاهرة ‪ ،‬لكن لو نظر‬
‫‪:‬أّ‬
‫إلى صورة الفرج في المرآة فل تنشأ تلك الحرمة ‪ ،‬لنّه يكون قد رأى عكسه ل عينه ‪ .‬ففي‬
‫النّظر إلى الصّورة المنقوشة ل تنشأ حرمة المصاهرة من باب أولى ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬ل يحرم النّظر ‪ -‬ولو بشهوة ‪ -‬في الماء أو المرآة ‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫ن هذا مجرّد خيال امرأة وليس امرأة ‪.‬‬


‫قالوا ‪ :‬ل ّ‬
‫الباجورين ‪ :‬يجوز التّفرّج على صنور حيوان غينر مرفوعنة ‪ .‬أو على هيئة ل‬
‫ّ‬ ‫وقال الشّينخ‬
‫تعيش معها ‪ ،‬كأن كانت مقطوعة الرّأس أو الوسط ‪ ،‬أو مخرّقة البطون ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ومنه يعلم جواز التّفرّج على خيال الظّلّ المعروف ‪ ،‬لنّها شخوص مخرّقة البطون ‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاريّ عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬قال لي رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ :‬أريتك في المنام ‪ ،‬يجيء بك الملك في سرقة من حرير ‪ ،‬فقال لي ‪ :‬هذه امرأتك ‪،‬‬
‫فكشفت عن وجهك الثّوب ‪ ،‬فإذا أنت هي » قال ابن حجر ‪ :‬عند الج ّريّ من وجه آخر عن‬
‫عائشة ‪ « :‬لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن‬
‫ل له النّظر إليها ‪ ،‬ما لم تكن‬
‫يتزوّجني » ففي هذا الحديث نظر الرّجل إلى المرأة الّتي يح ّ‬
‫الصّورة محرّمة ‪ ،‬على ما تقدّم من التّفصيل والخلف ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬
‫الدّخول إلى مكان فيه صور ‪:‬‬
‫‪ - 60‬يجوز الدّخول إلى مكان يعلم الدّاخل إليه أنّ فيه صورا منصوبة على وضع محرّم ‪،‬‬
‫ولو كان يعلم بذلك قبل الدّخول ‪ ،‬ولو دخل ل يجب عليه الخروج ‪.‬‬
‫هذا كلّه مذهب الحنابلة ‪ .‬قال أحمد في رواية الفضل عنه ‪ ،‬لمن سأله قائلً ‪ :‬إن لم ير الصّور‬
‫إل عند وضع الخوان بين أيديهم ‪ .‬أيخرج ؟ قال ‪ :‬ل تضيّق علينا ‪ .‬إذا رأى الصّور وبّخهم‬
‫ونهاهم ‪ .‬يعني ‪ :‬ول يخرج ‪ .‬قال المرداويّ في تصحيح الفروع ‪ :‬هذا هو الصّحيح من قولين‬
‫ي صلى ال‬
‫ن « النّب ّ‬
‫عندهم ‪ ،‬وهو ظاهر كلم المام أحمد ‪ .‬وقطع به في المغني ‪ ،‬قال ‪ :‬ل ّ‬
‫عليه وسلم دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالزلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬قاتلهم‬
‫اللّه ‪ ،‬لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ » قالوا ‪ :‬ولنّه كان في شروط عمر رضي ال عنه‬
‫على أهل ال ّذمّة أن يوسّعوا أبواب كنائسهم للمسلمين ‪ ،‬ليدخلوها للمبيت بها ‪ ،‬وللمارّة بدوابّهم ‪.‬‬
‫وذكروا قصّة عليّ في دخولها بالمسلمين ونظره إلى الصّورة كما تقدّم ‪ .‬قالوا ‪ :‬ول يمنع من‬
‫ن ذلك ل يوجب علينا تحريم دخوله‬
‫ن الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة » ‪ ،‬ل ّ‬
‫ذلك ما ورد « أ ّ‬
‫‪ ،‬كما ل يوجب علينا المتناع من دخول بيت فيه كلب أو جنب أو حائض ‪ ،‬مع أنّه قد ورد أنّ‬
‫الملئكة ل تدخله ‪.‬‬
‫‪ - 61‬ومثل هذا مذهب المالكيّة في الصّور المجسّمة الّتي ليست على وضع محرّم عندهم ‪ ،‬أو‬
‫غير المجسّمة ‪ .‬أمّا المحرّمة فإنّها تمنع وجوب إجابة الدّعوة على ما يأتي ‪.‬‬
‫ولم نجد في كلمهم ما يبيّن حكم الدّخول إلى مكان هي فيه ‪.‬‬
‫‪ - 62‬واختلف مذهب الشّافعيّة في ذلك ‪ ،‬والرّاجح عندهم ‪ -‬وهو القول المرجوح عند الحنابلة‬
‫‪ -‬أنّه يحرم الدّخول إلى مكان فيه صور منصوبة على وضع محرّم ‪.‬‬
‫ن الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة ‪ .‬قال الشّافعيّ رحمه ال ‪ ":‬إن رأى صورا في‬
‫قالوا ‪ :‬ل ّ‬
‫الموضع ذوات أرواح لم يدخل المنزل الّذي فيه تلك الصّور إن كانت منصوبة ل توطأ ‪ ،‬فإن‬
‫كانت توطأ فل بأس أن يدخله "‪ .‬والقول الثّاني للشّافعيّة ‪ :‬عدم تحريم الدّخول ‪ ،‬بل يكره ‪.‬‬
‫وهو قول صاحب التّقريب والصّيدلنيّ ‪ ،‬والمام ‪ ،‬والغزاليّ في الوسيط ‪ ،‬والسنويّ ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وهذا إن كانت الصّور في محلّ الجلوس ‪ ،‬فإن كانت في الممرّ أو خارج باب الجلوس‬
‫ل يكره الدّخول ‪ ،‬لنّها تكون كالخارجة من المنزل ‪ .‬وقيل ‪ :‬لنّها في الممرّ ممتهنة ‪.‬‬
‫إجابة الدّعوة إلى مكان فيه صور ‪:‬‬
‫‪ - 63‬إجابة الدّعوة إلى الوليمة ‪ -‬وهي طعام العرس ‪ -‬واجبة عند الجمهور ‪ ،‬لحديث‬
‫« من لم يجب الدّعوة فقد عصى اللّه ورسوله » وقيل هي ‪ :‬سنّة ‪ .‬وإجابة الدّعوة لغيرها‬
‫مستحبّة ‪ .‬وفي جميع الحوال إذا كان في المكان صور على وضع محرّم ‪ -‬ومثلها أي منكر‬
‫ن الجابة ل تكون واجبة ‪،‬‬
‫ظاهر ‪ -‬وعلم بذلك المدع ّو قبل مجيئه ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫ن الدّاعي يكون قد أسقط حرمة نفسه بارتكابه المنكر ‪ ،‬فتترك الجابة عقوبة له وزجرا عن‬
‫لّ‬
‫فعله ‪ .‬وقال البعض ‪ -‬كالشّافعيّة ‪ : -‬تحرم الجابة حينئذ ‪.‬‬
‫ثمّ قيل ‪ :‬إنّه إذا علم أنّها بحضوره تزال ‪ ،‬أو يمكنه إزالتها ‪ ،‬فيجب الحضور لذلك ‪.‬‬
‫وفي المسألة اختلف وتفصيل ينظر تحت عنوان ( دعوة )‬
‫ما يصنع بالصّورة المحرّمة إذا كانت في شيء ينتفع به ‪:‬‬
‫‪ - 64‬ينبغي إخراج الصّورة عن وضعها المحرّم إلى وضع تخرج فيه عن الحرمة ‪ ،‬ول يلزم‬
‫إتلفها بالكّليّة ‪ ،‬بل يكفي حطّها إن كانت منصوبة ‪ .‬فإن كان ل بدّ من بقائها في مكانها ‪،‬‬
‫فيكفي قطع الرّأس عن البدن ‪ ،‬أو خرق الصّدر أو البطن ‪ ،‬أو حكّ الوجه من الجدار ‪ ،‬أو‬
‫محوه أو طمسه بطلء يذهب معالمه ‪ ،‬أو يغسل الصّورة إن كانت ممّا يمكن غسله ‪ .‬وإن‬
‫كانت في ثوب معلّق أو ستر منصوب ‪ ،‬فيكفي أن ينسج عليها ما يغطّي رأسها ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬ولو أنّه قطع الرّأس عن الجسد بخيط ‪ -‬مع بقاء الرّأس على حاله ‪ -‬فل‬
‫ينفي الكراهة ‪ ،‬لنّ من الطّيور ما هو مطوّق ‪ ،‬فل يتحقّق القطع بذلك ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن النّب ّ‬
‫‪ - 65‬والدّليل لهذه المسألة ما في حديث عليّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫ل صورة » ‪ .‬وفي‬
‫ل صنم ‪ ،‬ويطمس ك ّ‬
‫ل قبر ‪ ،‬ويكسر ك ّ‬
‫بعثه إلى المدينة وأمره أن يسوّي ك ّ‬
‫روايات مسند أحمد للحديث وردت العبارات التية ‪ :‬أن يلطّخ الصّورة ‪ ،‬أو أن يلطّخها ‪ ،‬أو‬
‫ينحتها ‪ ،‬أو يضعها ‪ ،‬ورواية الوضع صحيحة ‪ .‬وليس في شيء من تلك الرّوايات كسر‬
‫ص على كسر الصنام ‪ .‬ومن الدّليل أيضا حديث عائشة رضي ال‬
‫الصّورة أو إتلفها كما ن ّ‬
‫عنها في شأن السّتر الّذي فيه الصّور ‪ ،‬وفيه أنّه قال ‪ « :‬أخّريه عنّي » ‪ ،‬وفي رواية « أنّه‬
‫هتكه بيده » ‪ ،‬وفي أخرى « أنّه أمر بجعله وسائد » ‪.‬‬
‫الصّور والمصلّي ‪:‬‬
‫ن من صلّى وفي قبلته صورة حيوان محرّمة فقد فعل‬
‫‪ - 66‬اتّفقت كلمة الفقهاء على أ ّ‬
‫مكروها ‪ ،‬لنّه يشبه سجود الكفّار لصنامهم ‪ ،‬وإن لم يقصد التّشبّه ‪.‬‬
‫أمّا إن كانت الصّورة في غير القبلة ‪ :‬كأن كانت في البساط ‪ ،‬أو على جانب المصلّي في‬
‫الجدار ‪ ،‬أو خلفه ‪ ،‬أو فوق رأسه في السّقف ‪ ،‬فقد اختلفت كلمتهم في ذلك ‪ .‬فقال الحنفيّة ‪-‬‬
‫كما في الدّرّ وحاشية الطّحطاويّ ‪ -‬يكره للمصلّي لبس ثوب فيه تماثيل ذي روح ‪ ،‬وأن يكون‬
‫فوق رأسه ‪ ،‬أو بين يديه ‪ ،‬أو بحذائه يمنة أو يسرة ‪ ،‬أو محلّ سجوده تمثال ‪.‬‬
‫واختلف فيما إذا كان التّمثال خلفه ‪ .‬والظهر ‪ :‬الكراهة ‪ .‬ول يكره لو كانت تحت قدميه أو‬
‫محلّ جلوسه إن كان ل يسجد عليها ‪ ،‬أو في يده ‪ ،‬أو كانت مستترة بكيس أو صرّة أو ثوب ‪،‬‬
‫ن الصّغيرة ل تعبد ‪ ،‬فليس لها حكم الوثن ‪.‬‬
‫أو كانت صغيرة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ص الشّافعيّة ‪ -‬كما في أسنى المطالب ‪ -‬على أنّه يكره للمصلّي أن يلبس ثوبا فيه تصوير ‪،‬‬
‫ون ّ‬
‫وأن يصلّي إليه أو عليه ‪ .‬ونصّ الحنابلة على أنّه تكره الصّلة إلى صورة منصوبة ‪ ،‬نصّ‬
‫عليه أحمد ‪ .‬قال البهوتيّ ‪ :‬وظاهره ولو كانت الصّورة صغيرة ل تبدو للنّاظر إليها ‪ ،‬ول‬
‫تكره إلى غير منصوبة ‪ ،‬ول يكره سجود ولو على صورة ‪ ،‬ول صورة خلفه في البيت ‪ ،‬ول‬
‫فوق رأسه في السّقف أو عن أحد جانبيه ‪ .‬وأمّا السّجود على الصّورة فيكره عند الشّيخ تقيّ‬
‫الدّين يعني ابن تيميّة ‪ ،‬وقال في الفروع ‪ :‬ل يكره ‪ ،‬لنّه ل يصدق عليه أنّه صلّى إليها‪.‬‬
‫ويكره حمله فصّا فيه صورة أو حمله ثوبا ونحوه كدينار أو درهم فيه صورة ‪.‬‬
‫ولم نجد للمالكيّة تعرّضا لهذه المسألة ‪ ،‬إل أنّهم ذكروا تزويق قبلة المسجد أو أيّ جزء منه‬
‫كما يأتي بعد هذا ‪.‬‬
‫الصّور في الكعبة والمساجد وأماكن العبادة ‪:‬‬
‫‪ - 67‬ينبغي تنزيه أماكن العبادة عن وجود الصّور فيها ‪ ،‬لئل يئول المر إلى عبادتها ‪ ،‬كما‬
‫ن أصل عبادة قوم نوح لصنامهم ‪ ،‬أنّهم كانوا رجالً صالحين ‪،‬‬
‫تقدّم من قول ابن عبّاس ‪ :‬أ ّ‬
‫ن من الفقهاء من يقول بكراهة الصّلة مع‬
‫فلمّا ماتوا صوّروهم ثمّ عبدوهم ‪ .‬وأيضا فقد تقدّم أ ّ‬
‫وجود الصّورة ‪ ،‬ولو كانت إلى جانب المصلّي أو خلفه أو في مكان سجوده ‪.‬‬
‫والمساجد تجنّب المكروهات كما تجنّب المحرّمات ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم دخل‬
‫ن النّب ّ‬
‫‪ - 68‬وقد ورد من حديث ابن عبّاس رضي ال عنهما « أ ّ‬
‫الكعبة فوجد فيها صورة إبراهيم وصورة مريم عليهما السلم فقال ‪ :‬أمّا هم فقد سمعوا أنّ‬
‫الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة ‪ ،‬هذا إبراهيم مصوّر فما له يستقسم » وفي رواية « أنّه لمّا‬
‫رأى الصّور في البيت لم يدخل حتّى أمر بها فمحيت ‪ ،‬ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم‬
‫ي أمر‬
‫ن النّب ّ‬
‫بأيديهما الزلم ‪ .‬فقال ‪ :‬قاتلهم اللّه ‪ ،‬واللّه إن استقسما بالزلم قطّ » ‪ .‬وورد « أ ّ‬
‫بالصّور كلّها فمحيت ‪ ،‬فلم يدخل الكعبة وفيها من الصّور شيء » ‪ .‬وفي الصّحيحين عن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لمّا اشتكى ذكر بعض نسائه كنيسة‬
‫ن النّب ّ‬
‫عائشة رضي ال عنها « أ ّ‬
‫رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية ‪ ،‬وكانت أمّ سلمة وأ ّم حبيبة أتتا أرض الحبشة ‪ ،‬فذكرتا‬
‫من حسنها وتصاوير فيها ‪ ،‬فرفع رأسه فقال ‪ :‬أولئك إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على‬
‫قبره مسجدا ‪ ،‬ثمّ صوّروا فيه تلك الصّور ‪ ،‬أولئك شرار الخلق » فهذا يفيد تحريم الصّور في‬
‫المساجد ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬
‫الصّور في الكنائس والمعابد غير السلميّة ‪:‬‬
‫‪ - 69‬الكنائس والمعابد الّتي أقرّت في بلد السلم بالصّلح ل يتعرّض لما فيها من الصّور ما‬
‫دامت في الدّاخل ‪ .‬ول يمنع ذلك من دخول المسلم الكنيسة عند الجمهور ‪ .‬وتقدّم ما نقله‬
‫صاحب المغني أنّ عليّا رضي ال عنه دخل الكنيسة بالمسلمين ‪ ،‬وأخذ يتفرّج على الصّور ‪.‬‬
‫وأنّ عمر رضي ال عنه أخذ على أهل ال ّذمّة أن يوسّعوا أبواب كنائسهم ‪ ،‬ليدخلها المسلمون‬
‫والمارّة ‪ .‬ولذا قال الحنابلة ‪ :‬للمسلم دخول الكنيسة والبيعة ‪ ،‬والصّلة فيهما من غير كراهة‬
‫على الصّحيح من المذهب ‪.‬‬
‫وفي قول آخر للحنابلة ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪ :‬يكره دخولها لنّها مأوى الشّياطين ‪.‬‬
‫وقال أكثر الشّافعيّة ‪ :‬يحرم على المسلم أن يدخل الكنيسة الّتي فيها صور معلّقة ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أحكام الصّور ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّور وعقود التّعامل ‪:‬‬
‫‪ - 70‬الصّور الّتي صناعتها حلل ‪ -‬كالصّور المسطّحة مطلقا عند المالكيّة ‪ ،‬والصّور‬
‫المقطوعة ‪ ،‬ولعب الطفال ‪ ،‬والصّور من الحلوى ‪ ،‬وما يسرع إليه الفساد ‪ ،‬ونحو ذلك ‪-‬‬
‫على التّفصيل والخلف الّذي تقدّم ‪ -‬يصحّ شراؤها وبيعها والمر بعملها والجارة على‬
‫صنعها ‪ .‬وثمنها حلل والجرة المأخوذة على صناعتها حلل ‪.‬‬
‫وكذلك سائر عقود التّعامل الّتي تجري عليها ‪ .‬ويجوز للوليّ أن يشتري لمحجورته اللّعب من‬
‫مالها ‪ ،‬لما فيها من مصلحة التّمرين كما تقدّم ‪ .‬أمّا الصّور المحرّمة صناعتها ‪ ،‬فإنّها على‬
‫ل الجارة على صنعها ‪ ،‬ول تحلّ الجرة ول المر‬
‫القاعدة العامّة في المحرّمات ل تح ّ‬
‫بعملها ‪ ،‬ول العانة على ذلك ‪ .‬قال القليوبيّ ‪ :‬ويسقط المروءة حرفة محرّمة كالمصوّر ‪.‬‬
‫وشذّ الماورديّ فجعل للمصوّر أجرة المثل كما في تحفة المحتاج ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا ما يحرم اقتناؤه واستعماله ‪ ،‬فل يصحّ شراؤه ول بيعه ول هبته ول إيداعه ول‬ ‫‪71‬‬

‫رهنه ‪ ،‬ول الجارة على حفظه ‪ ،‬ول وقفه ‪ ،‬ول الوصيّة به كسائر المحرّمات ‪.‬‬
‫ن اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير‬
‫وقد « قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إ ّ‬
‫والصنام » ‪.‬ومن أخذ على شيء من ذلك ثمنا أو أجرة فهو كسب خبيث يلزمه التّصدّق به‪.‬‬
‫قال ابن تيميّة ‪ :‬ول يعاد إلى صاحبه ‪ ،‬لنّه قد استوفى العوض ‪ ،‬كما نصّ عليه المام أحمد‬
‫في مثل حامل الخمر ‪ ،‬ونصّ عليه أصحاب مالك وغيرهم ‪.‬‬
‫‪ - 72‬وهذا إن كانت الصّور المحرّمة فيما ل منفعة فيه إلّا ما فيه من الصّورة المحرّمة ‪ ،‬أمّا‬
‫لو كانت تصلح لمنفعة بعد شيء من التّغيير ‪ ،‬فظاهر كلم بعض الشّافعيّة منعه ‪.‬‬
‫وقال الرّمليّ الشّافعيّ ‪ :‬مقتضى كلم المام في باب الوصيّة صحّة البيع في هذه الحال ‪،‬‬
‫وينبغي أن ل يكون فيه خلف ‪ .‬ويؤيّده ما نقله في الرّوضة عن المتولّي ‪ -‬ولم يخالفه ‪ -‬في‬
‫جواز بيع النّرد إذا صلح لبيادق الشّطرنج ‪ ،‬وإلّا فل ‪ .‬ومثله ما في ال ّدرّ وحاشية ابن عابدين ‪:‬‬
‫اشترى ثورا أو فرسا من خزف لجل استئناس الصّبيّ ‪ ،‬ل يصحّ ‪ ،‬ول قيمة له ‪ .‬وقيل‬
‫بخلفه يصحّ ويضمن متلفه ‪ ،‬فلو كانت من خشب أو صفر جاز اتّفاقا فيما يظهر ‪ ،‬لمكان‬
‫النتفاع به ‪ .‬وعن أبي يوسف يجوز بيع اللّعبة ‪ ،‬وأن يلعب بها الصّبيان ‪.‬‬
‫الضّمان في إتلف الصّور وآلت التّصوير ‪:‬‬
‫‪ - 73‬الّذين قالوا بتحريم نوع من الصّور مستعملة على وضع معيّن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ينبغي إخراج‬
‫الصّورة إلى وضع ل تكون فيه محرّمة ‪ .‬وقد بوّب البخاريّ لنقض الصّور ‪ ،‬لكن لم يذكر‬
‫فيها حديثا ينصّ على ذلك ‪ ،‬بل ذكر حديثا آخر هو قول عائشة رضي ال عنها « كان النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلّا نقضه » ‪ .‬وفي رواية ‪ « :‬إلّا‬
‫قضبه » ولعلّه أراد بذلك قياس نقض الصّور المحرّمة على نقض الصّلبان ‪ ،‬لشتراكهما في‬
‫أنّهما عبدا من دون اللّه ‪ .‬لكنّه صلى ال عليه وسلم « قال لعائشة رضي ال عنها في شأن‬
‫السّتر الّذي عليه التّصاوير أخّريه عنّي » وفي رواية « أنّه هتكه » ‪ ،‬أي نزعه من مكانه‬
‫حتّى لم يعد منصوبا ‪ ،‬وفي حديث جبريل أنّه « أمر بصنع وسادتين من السّتر » وهذا يعني‬
‫أنّه ل يتلف ما فيه الصّورة إن كان يمكن أن يستعمل على وجه آخر مباح ‪.‬‬
‫لكن إن كانت الصّورة المحرّمة ل تزول إلّا بالتلف وجب التلف ‪ ،‬وذلك ل يتصوّر إلّا‬
‫نادرا ‪ ،‬كالتّمثال المجسّم المثبّت في جدار أو نحوه الّذي إذا أزيل من مكانه أو خرق صدره أو‬
‫ن المعصية ل تزول إل بإتلفه ‪.‬‬
‫بطنه أو قطع رأسه يتلف ‪ .‬وهذا النّوع ل يضمن متلفه ‪ ،‬ل ّ‬
‫أمّا من أتلف الصّورة الّتي يمكن النتفاع بها على وضع غير محرّم ‪ ،‬فينبغي أن يضمن ما‬
‫أتلفه خاليا عن تلك الصّنعة المحرّمة على الصل في ضمان المتلفات ‪.‬‬
‫وهذا مقتضى مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬والصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وظاهر كلم المالكيّة ‪.‬‬
‫وقياس مذهب الحنابلة ‪ :‬أنّه يجوز التلف ول ضمان ‪ ،‬لسقوط حرمة الشّيء بما فيه من‬
‫المنفعة باستعماله في المحرّم ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬يضمن ‪.‬‬
‫القطع في سرقة الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 74‬ل قطع في سرقة الصّور الّتي ليس لمكسورها قيمة ‪ ،‬أو له قيمة ل تبلغ نصابا ‪.‬‬
‫أمّا في غير ذلك ‪ ،‬فمذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو القول المرجوح عند الشّافعيّة ‪ ،‬وقول عند الحنابلة‬
‫ن صلحيّته للّهو صارت شبهة من أنّ‬
‫عليه المذهب ‪ :‬أنّه ل قطع في سرقة آلة اللّهو ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن سرقته للشّيء لتأويل الكسر ‪ ،‬فمنع ذلك القطع ‪ .‬فكذا ينبغي أن‬
‫السّارق قد يقصد النكار ‪ ،‬وأ ّ‬
‫يقال عندهم في الصّور المحرّمة ‪ ،‬ولو كان مكسورها يبلغ نصابا ‪ .‬قال صاحب المقنع من‬
‫الحنابلة ‪ :‬إن سرق آنية فيها الخمر أو صليبا أو صنم ذهب لم يقطع ‪.‬‬
‫قال صاحب النصاف ‪ :‬هذا المذهب وعليه جماهير الصحاب ‪ .‬أي لنّ الصّنعة المحرّمة‬
‫أهدرت بسببها حرمة الشّيء فلم يعد لمكسوره حرمة تستحقّ أن يثبت بسببها القطع ‪.‬‬
‫وسواء قصد بالسّرقة النكار أم لم يقصده ‪ .‬ومذهب المالكيّة ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة‬
‫وجوب القطع فيما لو كان المكسور يبلغ نصابا ‪.‬‬
‫وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو كان على الدّراهم والدّنانير المسروقة صور فل يمنع ذلك‬
‫وجوب القطع ‪ ،‬قال الحنفيّة ‪ :‬لنّ النّقود إنّما تعدّ للتّموّل فل يثبت فيها تأويل ‪ .‬لكن في قول‬
‫عند الحنابلة التّفريق بين أن يقصد إنكارا فل يقطع ‪ ،‬ويقطع إن لم يقصده ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬

‫تضبيب‬ ‫*‬

‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّضبيب والضّبّ في اللّغة ‪ :‬تغطية الشّيء وإدخال بعضه في بعض وقيل ‪ :‬هو شدّة‬
‫القبض على الشّيء ‪ ،‬لئلّا ينفلت من اليد ‪ .‬ويقال ‪ :‬ضبّب الخشب بالحديد أو الصّفر ‪ :‬إذا شدّه‬
‫به ‪ ،‬وضبّب أسنانه شدّها بذهب أو فضّة أو غيرهما ‪.‬‬
‫ضبّة ‪ :‬حديدة عريضة يضبّب بها الباب ويشعّب بها الناء عند التّصدّع ‪.‬‬
‫وال ّ‬
‫والصطلح الشّرعيّ للتّضبيب ل يختلف عن المعنى اللّغويّ في شيء ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجبر ‪ :‬من معانيه أن يغنى الرّجل من فقر ‪ ،‬أو يصلح عظمه من كسر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الوصل ‪ :‬من وصل الثّوب أو الخفّ وصلة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّشعيب ‪ :‬وهو جمع الشّيء وض ّم بعضه إلى بعض ‪ ،‬أو تفريقه ‪ ،‬فهو من الضداد ‪.‬‬
‫التّطعيم ‪ :‬مصدر طعّم ‪ ،‬وأصله طعّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬طعّم الغصن أو الفرع ‪ :‬قبل الوصل بغصن من‬
‫غير شجره وطعّم كذا بعنصر كذا لتقويته أو تحسينه ‪ ،‬أو اشتقاق نوع آخر منه ‪.‬‬
‫وطعّم الخشب بالصّدف ركّبه فيه للزّخرفة والزّينة ‪.‬‬
‫وعند الفقهاء هو ‪ :‬أن يحفر في إناء من خشب أو غيره حفرا ‪ ،‬ويضع فيها قطعا من ذهب أو‬
‫فضّة ونحوهما على قدر الحفر ‪ .‬فالفرق بين التّضبيب والتّطعيم ‪ :‬أنّ التّضبيب يكون للصلح‬
‫‪ ،‬أمّا التّطعيم فل يكون إلّا بالحفر ‪ ،‬وهو للزّينة غالبا ‪.‬‬
‫‪ - 6‬التّمويه ‪ :‬هو الطّلء بماء الذّهب أو الفضّة ونحوهما ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 7‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز التّضبيب واستعمال المضبّب بذهب أو فضّة ‪ ،‬لنّه تابع‬
‫للمباح ‪ ،‬وهو باقي الناء ‪ ،‬فأشبه المضبّب باليسير ‪ .‬ولكنّه مكروه عندهم ‪ .‬ولكن عليه أن‬
‫يجتنب في النّصل والقبضة واللّجام موضع اليد ‪.‬‬
‫س الضّبّة بالفم ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬المراد بالتّقاء ‪:‬‬
‫وفي الشّرب من الناء المضبّب يتّقي م ّ‬
‫التّقاء بالعضو الّذي يقصد الستعمال به ‪ ،‬وفي ذلك خلف بين أبي حنيفة وصاحبيه ‪ .‬ينظر‬
‫في المطوّلت ‪ .‬وسيأتي تفصيل أحكام التّضبيب في مصطلحي ( ذهب ‪ ،‬فضّة ‪ ،‬آنية ) ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة ‪ :‬فقد ذهبوا ‪ -‬في الرّاجح عندهم ‪ -‬إلى حرمة ذلك كلّه ‪ ،‬يستوي عندهم ‪ :‬الفضّة‬
‫والذّهب ‪ ،‬والصّغيرة والكبيرة ‪ ،‬لحاجة أو لغير حاجة ‪.‬‬
‫ن تضبيب الناء بذهب حرام مطلقا ‪ ،‬وتضبيبه بضبّة كبيرة‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫عرفا من الفضّة ‪ -‬لغير حاجة بأن كانت لزينة ‪ -‬حرام كذلك ‪.‬‬
‫ضيّة صغيرة لحاجة الناء إلى الصلح لم تكره ‪ ،‬لما روى البخاريّ‬
‫ضبّة الف ّ‬
‫فإن كانت ال ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم انكسر فاتّخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة » ‪.‬‬
‫ن قدح النّب ّ‬
‫«أّ‬
‫ح ‪ .‬وفي‬
‫ضبّة فوق الحاجة ‪ -‬وهي صغيرة ‪ ،‬أو كبيرة لحاجة ‪ -‬كرهت في الص ّ‬
‫وإن كانت ال ّ‬
‫ذلك تفصيل أتمّ ينظر في مصطلح ( ذهب ‪ -‬فضّة ‪ -‬آنية ) ‪.‬‬

‫تضمير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّضمير لغة ‪ :‬من الضّمر بسكون الميم والضّمر ( بضمّها ) بمعنى ‪ :‬الهزال ولحاق‬
‫البطن ‪ .‬وهو ‪ :‬أن تعلف الخيل حتّى تسمن وتقوى ‪ ،‬ثمّ يقلّل علفها ‪ ،‬فتعلف بقدر القوت ‪،‬‬
‫ف عرقها ‪ ،‬خفّ لحمها ‪ ،‬وقويت على‬
‫وتدخل بيتا وتغشى بالجلل حتّى تحمى فتعرق ‪ ،‬فإذا ج ّ‬
‫الجري ‪ .‬ومدّة التّضمير عند العرب أربعون يوما ‪ ،‬وتسمّى هذه المدّة ‪ ،‬وكذلك الموضع الّذي‬
‫تضمر فيه الخيل مضمارا ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬السّباق ‪:‬‬
‫‪ - 2‬السّباق والمسابقة بمعنى ‪ .‬يقال ‪ :‬سابقه مسابقة وسباقا ‪ .‬والسّباق مأخوذ من السّبق‬
‫بسكون الباء ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬التّقدّم في الجري وفي ك ّل شيء ‪.‬‬
‫وأمّا السّبق بالفتح فمعناه ‪ :‬الجعل الّذي يسابق عليه ‪.‬‬
‫والعلقة بينه وبين التّضمير ‪ :‬أنّ عمليّة التّضمير تتّخذ في بعض الحيان لجل إحراز التّقدّم‬
‫في السّباق ‪.‬‬
‫ي ومواطن البحث ‪:‬‬
‫حكمه الجمال ّ‬
‫‪ - 3‬يرى جمهور الفقهاء إباحة تضمير الخيل مطلقا ‪ ،‬واستحباب تضميرها إذا كانت معدّة‬
‫للغزو ‪ .‬وورد في هذا الباب أحاديث كثيرة منها ‪:‬‬
‫حديث نافع عن ابن عمر رضي ال تعالى عنهما قال ‪ « :‬سابق رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم بين الخيل الّتي قد ضمّرت فأرسلها من الحفياء ‪ ،‬وكان أمدها ثنيّة الوداع ‪ .‬فقلت لموسى‬
‫بن عقبة ‪ :‬فكم كان بين ذلك ؟ قال ستّة أميال أو سبعة ‪ .‬وسابق بين الخيل الّتي لم تضمّر ‪،‬‬
‫فأرسلها من ثنيّة الوداع ‪ ،‬وكان أمدها مسجد بني زريق ‪ .‬قلت ‪ :‬فكم بين ذلك ؟ قال ‪ :‬ميل أو‬
‫نحوه ‪ .‬فكان ابن عمر ممّن سابق فيها » ‪ .‬وبهذا الحديث ونحوه يندفع قول من قال ‪ :‬إنّ‬
‫تضمير الخيل ل يجوز ‪ ،‬لما فيه من مشقّة سوقها ‪.‬‬
‫وأمّا اشتراط تضمير الخيل للسّبق ‪ ،‬وجواز السّباق بين الخيل المضمّرة وغير المضمّرة ‪،‬‬
‫والمغايرة بين غاية السّباق للخيل المضمّرة وغيرها ‪ ،‬ففيها خلف وتفصيل يرجع فيه إلى‬
‫مصطلح ( سباق ) وإلى مواطنها من كتب الفقه ‪.‬‬

‫تطبيب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬للتّطبيب في اللّغة معان ‪ ،‬منها وهو المراد هنا ‪ :‬أنّه المداواة ‪ .‬يقال ‪ :‬طبّب فلن فلنا ‪:‬‬
‫أي داواه ‪ .‬وجاء يستطبّ لوجعه ‪ :‬أي يستوصف الدوية أيّها يصلح لدائه ‪.‬‬
‫والطّبّ ‪ :‬علج الجسم والنّفس ‪ ،‬ورجل طَبّ وطبيب ‪ :‬عالم بالطّبّ ‪.‬‬
‫ب ‪ .‬وتطبّب له ‪ :‬سأل له الطبّاء ‪.‬‬
‫والطّبّ ‪ .‬والطّبّ ‪ :‬لغتان في الطّ ّ‬
‫والطّبيب في الصل ‪ :‬الحاذق بالمور العارف بها ‪ ،‬وبه سمّي الطّبيب الّذي يعالج المرضى‬
‫ونحوهم ‪ .‬ول يخرج معناه الصطلحيّ عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّداوي ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّداوي ‪ :‬تعاطي الدّواء ‪ ،‬ومنه المداواة أي المعالجة ‪ :‬يقال ‪ :‬فلن ُيدَاوَى ‪ :‬أي يُعالَج‪.‬‬
‫والفرق بين التّطبيب والتّداوي ‪ :‬أنّ التّطبيب تشخيص الدّاء ومداواة المريض ‪ ،‬والتّداوي‬
‫تعاطي الدّواء ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّطبيب تعلّما من فروض الكفاية ‪ ،‬فيجب أن يتوفّر في بلد المسلمين من يعرف أصول‬
‫حرفة الطّبّ ‪ ،‬وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬احتراف ) ‪.‬‬
‫أمّا التّطبيب مُزاول ًة فالصل فيه الباحة ‪ .‬وقد يصير مندوبا إذا اقترن بنيّة التّأسّي بالنّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم في توجيهه لتطبيب النّاس ‪ ،‬أو نوى نفع المسلمين لدخوله في مثل قوله تعالى ‪:‬‬
‫جمِيعَا } وحديث ‪ « :‬من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلْينفعه »‬
‫حيَا النّاسَ َ‬
‫ن َأحْياها َفكَأ ّنمَا َأ ْ‬
‫{ َومَ ْ‬
‫‪ .‬إل إذا تعيّن شخص لعدم وجود غيره أو تعاقد فتكون مزاولته واجبة ‪.‬‬
‫ويدلّ لذلك ما روى « رجل من النصار قال ‪ :‬عاد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجلً به‬
‫جرح ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ادعوا له طبيب بني فلن ‪ .‬قال ‪ :‬فدعوه فجاء‬
‫‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬ويغني الدّواء شيئا ؟ فقال ‪ :‬سبحان اللّه ‪ .‬وهل أنزل اللّه من داء في‬
‫الرض إل جعل له شفاء » ‪.‬‬
‫وعن جابر رضي ال عنه قال ‪ « :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن الرّقى ‪ .‬فجاء آل‬
‫عمرو بن حزم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب ‪ ،‬وإنّك‬
‫نهيت عن الرّقى ‪ .‬قال ‪ :‬فعرضوها عليه ‪ .‬فقال ‪ :‬ما أرى بها بأسا ‪ ،‬من استطاع منكم أن‬
‫ينفع أخاه فلينفعه » ‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل بأس بالرّقى ما لم يكن فيها شرك » ‪.‬‬
‫ولما ثبت من فعل النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه تداوى ‪ ،‬فقد روى المام أحمد في مسنده «‬
‫ن عروة كان يقول لعائشة رضي ال عنها ‪ :‬يا أمّتاه ‪ ،‬ل أعجب من فهمك ‪ .‬أقول ‪ :‬زوجة‬
‫أّ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بنت أبي بكر ‪ .‬ول أعجب من علمك بالشّعر وأيّام النّاس ‪،‬‬
‫أقول ‪ :‬ابنة أبي بكر ‪ ،‬وكان أعلم النّاس أو من أعلم النّاس ‪ .‬ولكن أعجب من علمك بالطّبّ ‪،‬‬
‫ع َريّة ؟ إنّ رسول اللّه‬
‫كيف هو ؟ ومن أين هو ؟ قال فضربتْ على منكبه وقالت ‪ " :‬أي ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره ‪ ،‬أو في آخر عمره ‪ ،‬فكانت تقدم عليه وفود‬
‫العرب من كلّ وجه ‪ ،‬فتنعت له النعات ‪ ،‬وكنت أعالجها ‪ ،‬فمن ثمّ » ‪ .‬وفي رواية « أنّ‬
‫رسول اللّه كثرت أسقامه ‪ ،‬فكان يقدم عليه أطبّاء العرب والعجم ‪ ،‬فيصفون له فنعالجه » ‪.‬‬
‫وقال الرّبيع ‪ :‬سمعت الشّافعيّ يقول ‪ :‬العلم علمان ‪ :‬علم الديان وعلم البدان ‪.‬‬
‫نظر الطّبيب إلى العورة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اتّفق الفقهاء على جواز نظر الطّبيب إلى العورة ولمسها للتّداوي ‪.‬‬
‫ويكون نظره إلى موضع المرض بقدر الضّرورة ‪ .‬إذ الضّرورات تقدّم بقدرها ‪ .‬فل يكشف‬
‫ض بصره ما استطاع إلّا عن موضع الدّاء ‪.‬‬
‫إل موضع الحاجة ‪ ،‬مع غ ّ‬
‫ن نظر الجنس إلى الجنس أخفّ ‪.‬‬
‫وينبغي قبل ذلك أن يعلّم امرأة تداوي النّساء ‪ ،‬ل ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه إذا كان الطّبيب أجنبيّا عن المريضة فل ب ّد من حضور ما‬
‫يؤمن معه وقوع محظور ‪.‬‬
‫ن رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان » ‪.‬‬
‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أل ل يخلو ّ‬
‫واشترط الشّافعيّة عدم وجود امرأة تحسن التّطبيب إذا كان المريض امرأة ‪ ،‬ولو كانت المرأة‬
‫المداوية كافرة ‪ ،‬وعدم وجود رجل يحسن ذلك إذا كان المريض رجل ‪ .‬كما شرطوا أن ل‬
‫يكون غير أمين مع وجود أمين ‪ ،‬ول ذ ّميّا مع وجود مسلم ‪ ،‬أو ذ ّميّة مع وجود مسلمة ‪ .‬قال‬
‫البلقينيّ ‪ :‬يقدّم في علج المرأة مسلمة ‪ ،‬فصبيّ مسلم غير مراهق ‪ ،‬فمراهق ‪ ،‬فكافر غير‬
‫مراهق ‪ ،‬فمراهق ‪ ،‬فامرأة كافرة ‪ ،‬فمحرم مسلم ‪ ،‬فمحرم كافر ‪ ،‬فأجنبيّ مسلم ‪ ،‬فكافر‪.‬‬
‫واعترض ابن حجر الهيثميّ على تقديم الكافرة على المحرم ‪ .‬وقال ‪ :‬والّذي يتّجه تقديم نحو‬
‫محرم مطلقا على كافرة ‪ ،‬لنظره ما ل تنظر هي ‪.‬‬
‫ص الشّافعيّة كذلك على تقديم المهر مطلقا ولو من غير الجنس والدّين على غيره ‪ .‬ونصّوا‬
‫ون ّ‬
‫على أنّه إن وجد من ل يرضى إلّا بأكثر من أجرة المثل فإنّه يكون كالعدم حينئذ حتّى لو وجد‬
‫ن المسلم كالعدم ‪ .‬وصرّح المالكيّة بأنّه ل‬
‫كافر يرضى بدونها ومسلم ل يرضى إلّا بها احتمل أ ّ‬
‫يجوز النّظر إلى فرج المرأة إلّا إذا كان ل يتوصّل إلى معرفة ذلك إل برؤيته بنفسه ‪ .‬أمّا لو‬
‫كان الطّبيب يكتفي برؤية النّساء لفرج المريضة فل يجوز له النّظر إليه ‪.‬‬
‫استئجار الطّبيب للعلج ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على جواز استئجار الطّبيب للعلج ‪ ،‬لنّه فعل يحتاج إليه ومأذون فيه شرعا‬
‫‪ ،‬فجاز الستئجار عليه كسائر الفعال المباحة ‪.‬‬
‫غير أنّ الشّافعيّة شرطوا لصحّة هذا العقد أن يكون الطّبيب ماهرا ‪ ،‬بمعنى أن يكون خطؤه‬
‫نادرا ‪ ،‬ويكفي في ذلك التّجربة عندهم ‪ ،‬وإن لم يكن ماهرا في العلم ‪.‬‬
‫واستئجار الطّبيب يقدّر بالمدّة ل بالبرء والعمل ‪ ،‬فإن تمّت المدّة وبرئ المريض أو لم يبرأ فله‬
‫الجرة كلّها ‪ .‬وإن برئ قبل تمام المدّة انفسخت الجارة فيما بقي من المدّة لتعذّر استيفاء‬
‫المعقود عليه ‪ ،‬وكذا الحكم لو مات المريض في أثناء المدّة ‪.‬‬
‫ص الحنابلة على أنّه ل يصحّ اشتراط الدّواء على الطّبيب ‪ ،‬وهو قول عند المالكيّة لما‬
‫وقد ن ّ‬
‫فيه من اجتماع الجعل والبيع ‪ .‬وعند المالكيّة قول آخر بالجواز ‪.‬‬
‫ق الجرة بتسليمه نفسه مع مضيّ زمن إمكان المداواة ‪ ،‬فإن امتنع المريض من‬
‫والطّبيب يستح ّ‬
‫العلج مع بقاء المرض استحقّ الطّبيب الجر ‪ ،‬ما دام قد سلّم نفسه ‪ ،‬ومضى زمن المداواة ‪،‬‬
‫ن الجارة عقد لزم وقد بذل الطّبيب ما عليه ‪.‬‬
‫لّ‬
‫وأمّا إذا سلّم الطّبيب نفسه وقبل مضيّ زمن إمكان المداواة سكن المرض ‪ ،‬فجمهور الفقهاء ‪-‬‬
‫الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪ -‬متّفقون على انفساخ الجارة حينئذ ‪.‬‬
‫‪ - 6‬ول تجوز مشارطة الطّبيب على البرء ‪ .‬ونقل ابن قدامة عن ابن أبي موسى الجواز ‪ ،‬إذ‬
‫قال ‪ :‬ل بأس بمشارطة الطّبيب على البرء ‪ ،‬لنّ أبا سعيد الخدريّ رضي ال عنه حين رقى‬
‫الرّجل شارطه على البرء ‪ .‬وقال ابن قدامة ‪ :‬إنّه الصّحيح إن شاء اللّه ‪ ،‬لكن يكون جعالة ل‬
‫إجارة ‪ ،‬فإنّ الجارة ل ب ّد فيها من مدّة أو عمل معلوم ‪ .‬وأجاز ذلك المالكيّة أيضا ‪ ،‬ففي‬
‫الشّرح الصّغير ‪ :‬لو شارطه طبيب على البرء فل يستحقّ الجرة إل بحصوله ‪.‬‬
‫وسبق تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬
‫وإذا زال اللم وشفي المريض قبل مباشرة الطّبيب كان عذرا تنفسخ به الجارة ‪.‬‬
‫يقول ابن عابدين ‪ :‬إذا سكن الضّرس الّذي استؤجر الطّبيب لخلعه ‪ ،‬فهذا عذر تنفسخ به‬
‫الجارة ‪ ،‬ولم يخالف في ذلك أحد ‪ ،‬حتّى من لم يعتبر العذر موجبا للفسخ ‪ ،‬فقد نصّ الشّافعيّة‬
‫والحنابلة على أنّ من استأجر رجلً ليقلع له ضرسا فسكن الوجع ‪ ،‬أو ليكحّل له عينا فبرئت‬
‫قبل أن يقوم بالعمل ‪ ،‬انفسخ العقد لتعذّر استيفاء المعقود عليه ‪.‬‬
‫ضمان الطّبيب لما يتلفه ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يضمن الطّبيب إن جهل قواعد الطّبّ أو كان غير حاذق فيها ‪ ،‬فداوى مريضا وأتلفه‬
‫بمداواته ‪ ،‬أو أحدث به عيبا ‪ .‬أو علم قواعد التّطبيب وقصّر في تطبيبه ‪ ،‬فسرى التّلف أو‬
‫التّعييب ‪ .‬أو علم قواعد التّطبيب ولم يقصّر ولكنّه طبّب المريض بل إذن منه ‪ .‬كما لو ختن‬
‫صغيرا بغير إذن وليّه ‪ ،‬أو كبيرا قهرا عنه ‪ ،‬أو وهو نائم ‪ ،‬أو أطعم مريضا دواء قهرا عنه‬
‫فنشأ عن ذلك تلف وعيب ‪ ،‬أو طبّب بإذن غير معتبر لكونه من صبيّ ‪ ،‬إذا كان الذن في‬
‫قطع يد مثل ‪ ،‬أو بعضد أو حجامة أو ختان ‪ ،‬فأدّى إلى تلف أو عيب ‪ ،‬فإنّه في ذلك كلّه‬
‫يضمن ما ترتّب عليه ‪ .‬أمّا إذا أذن له في ذلك ‪ ،‬وكان الذن معتبرا ‪ ،‬وكان حاذقا ‪ ،‬ولم تجن‬
‫يده ‪ ،‬ولم يتجاوز ما أذن فيه ‪ ،‬وسرى إليه التّلف فإنّه ل يضمن ‪ ،‬لنّه فعل فعل مباحا مأذونا‬
‫فيه ‪ .‬ولنّ ما يتلف بالسّراية إن كان بسبب مأذون فيه ‪ -‬دون جهل أو تقصير ‪ -‬فل ضمان ‪.‬‬
‫وعلى هذا فل ضمان على طبيب وبزّاغ ( جرّاح ) وحجّام وختّان ما دام قد أذن لهم بهذا ولم‬
‫يقصّروا ‪ ،‬ولم يجاوزوا الموضع المعتاد ‪ ،‬وإل لزم الضّمان ‪.‬‬
‫يقول ابن قدامة ‪ :‬إذا فعل الحجّام والختّان والمطبّب ما أمروا به ‪ ،‬لم يضمنوا بشرطين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ‪ ،‬فإذا لم يكونوا كذلك كان فعل محرّما ‪ ،‬فيضمن‬
‫سرايته ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أل يتجاوز ما ينبغي أن يقطع ‪ ،‬فإن كان حاذقا وتجاوز ‪ ،‬أو قطع في غير محلّ القطع‬
‫‪ ،‬أو في وقت ل يصلح فيه القطع وأشباه هذا ‪ ،‬ضمن فيه كلّه ‪ ،‬لنّه إتلف ل يختلف ضمانه‬
‫بالعمد والخطأ ‪ ،‬فأشبه إتلف المال ‪.‬‬
‫وكذلك الحكم في القاطع في القصاص وقاطع يد السّارق ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬ل نعلم فيه خلفا ‪.‬‬
‫قال الدّسوقيّ ‪ :‬إذا ختن الخاتن صبيّا ‪ ،‬أو سقى الطّبيب مريضا دواء ‪ ،‬أو قطع له شيئا ‪ ،‬أو‬
‫كواه فمات من ذلك ‪ ،‬فل ضمان على واحد منهما ل في ماله ول على عاقلته ‪ ،‬لنّه ممّا فيه‬
‫تغرير ‪ ،‬فكأنّ صاحبه هو الّذي عرّضه لما أصابه ‪ .‬وهذا إذا كان الخاتن أو الطّبيب من أهل‬
‫المعرفة ‪ ،‬ولم يخطئ في فعله ‪ .‬فإذا كان أخطأ في فعله ‪ -‬والحال أنّه من أهل المعرفة ‪-‬‬
‫فالدّية على عاقلته ‪.‬‬
‫فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب ‪ .‬وفي كون الدّية على عاقلته أو في ماله قولن ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬لبن القاسم ‪ .‬والثّاني ‪ :‬لمالك ‪ .‬وهو الرّاجح لنّ فعله عمد‪ ،‬والعاقلة ل تحمل العمد‪.‬‬
‫وفي القنية ‪ :‬سئل محمّد نجم الدّين عن صبيّة سقطت من سطح ‪ ،‬فانفتح رأسها ‪ ،‬فقال كثير من‬
‫الجرّاحين ‪ :‬إن شققتم رأسها تموت ‪ .‬وقال واحد منهم ‪ :‬إن لم تشقّوه اليوم تموت ‪ ،‬وأنا أشقّه‬
‫شقّ‬
‫وأبرئها ‪ ،‬فشقّه فماتت بعد يوم أو يومين ‪ .‬هل يضمن ؟ فتأمّل مليّا ثمّ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬إذا كان ال ّ‬
‫ق معتادا ‪ ،‬ولم يكن فاحشا خارج الرّسم – أي العادة ‪ . -‬قيل له ‪ :‬فلو قال ‪:‬‬
‫شّ‬‫بإذن ‪ ،‬وكان ال ّ‬
‫إن ماتت فأنا ضامن ‪ ،‬هل يضمن ؟ فتأمّل مليّا ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ل ‪ .‬فلم يعتبر شرط الضّمان ‪ ،‬لنّ‬
‫شرطه على المين باطل على ما عليه الفتوى ‪.‬‬
‫وفي مختصر الطّحاويّ ‪ :‬من استؤجر على عبد يحجمه ‪ ،‬أو على دابّة يبزّغها ‪ ،‬ففعل ذلك‬
‫ن أصل العمل كان مأذونا فيه ‪ ،‬فما تولّد منه ل يكون‬
‫فعطبا بفعله ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫مضمونا عليه إلّا إذا تعدّى ‪ ،‬فحينئذ يضمن ‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان في يده آكلة ‪ ،‬فاستأجر رجل ليقطع يده فمات ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪ .‬ومن‬
‫استؤجر ليقلع ضرسا لمريض ‪ ،‬فأخطأ ‪ ،‬فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه ‪ ،‬لنّه من جنايته ‪.‬‬
‫وإن أخطأ الطّبيب ‪ ،‬بأن سقى المريض دواء ل يوافق مرضه ‪ ،‬أو زلّت يد الخاتن أو القاطع‬
‫فتجاوز في القطع ‪ ،‬فإن كان من أهل المعرفة ولم يغرّ من نفسه فذلك خطأ ‪ -‬أي تتحمّله‬
‫عاقلته ‪ -‬إل أن يكون أقلّ من الثّلث ففي ماله ‪ .‬وإن كان ل يحسن ‪ ،‬أو غرّ من نفسه فيعاقب‬
‫‪ .‬ومن أمر ختّانا ليختن صبيّا ‪ ،‬ففعل الختّان ذلك فقطع حشفته ‪ ،‬ومات الصّبيّ من ذلك ‪ ،‬فعلى‬
‫ن الموت حصل بفعلين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬مأذون فيه ‪ ،‬وهو قطع القلفة ‪.‬‬
‫عاقلة الختّان نصف دية ‪ ،‬ل ّ‬
‫والخر ‪ :‬غير مأذون فيه ‪ ،‬وهو قطع الحشفة ‪ ،‬فيجب نصف الضّمان ‪ .‬أمّا إذا برئ ‪ ،‬جعل‬
‫قطع الجلدة ‪ -‬وهو مأذون فيه ‪ -‬كأن لم يكن ‪ ،‬وقطع الحشفة غير مأذون فيه ‪ ،‬فوجب ضمان‬
‫الحشفة كامل ‪ ،‬وهو الدّية ‪.‬‬

‫تطبيق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطبيق في اللّغة ‪ :‬مصدر طبّق ‪ ،‬ومن معانيه ‪ :‬المساواة والتّعميم والتّغطية قال في‬
‫المصباح ‪ :‬وأصل الطّبق ‪ :‬الشّيء على مقدار الشّيء مطبقا له من جميع جوانبه كالغطاء له‬
‫ويقال ‪ :‬طبّق السّحاب الجوّ ‪ :‬إذا غشّاه ‪ ،‬وطبّق الماء وجه الرض ‪ :‬إذا غطّاه ‪ ،‬وطبّق الغيم‬
‫‪ :‬عمّ بمطره ‪ .‬وهو في الصطلح الفقهيّ ‪ :‬أن يجعل المصلّي بطن إحدى كفّيه على بطن‬
‫الخرى ‪ ،‬ويجعلهما بين ركبتيه وفخذيه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬يرى جمهور الفقهاء كراهة التّطبيق في الرّكوع ‪ .‬واحتجّوا بما روي « عن مصعب بن‬
‫ي ‪ ،‬ثمّ وضعتهما بين‬
‫سعد بن أبي وقّاص أنّه قال ‪ :‬صلّيت إلى جنب أبي ‪ ،‬فطبّقت بين ك ّف ّ‬
‫فخذيّ ‪ ،‬فنهاني أبي وقال ‪ :‬كنّا نفعله فنهينا عنه ‪ ،‬وأمرنا أن نضع أيدينا على الرّكب » ‪ .‬ومن‬
‫ن قول الصّحابيّ ‪ :‬كنّا نفعل ‪ ،‬وأمرنا ونهينا ‪ ،‬محمول على أنّه مرفوع ‪ .‬واستدلّوا‬
‫المعروف أ ّ‬
‫أيضا بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم لنس رضي ال عنه ‪ « :‬إذا ركعت فضع يديك على‬
‫ركبتيك ‪ ،‬وفرّج بين أصابعك » ‪.‬‬
‫قال النّوويّ في شرح صحيح مسلم ‪ :‬وذهب عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه وصاحباه‬
‫سنّة التّطبيق ‪ ،‬فقد أخرج مسلم عن « علقمة والسود أنّهما دخل على‬
‫علقمة والسود إلى أنّ ال ّ‬
‫عبد اللّه رضي ال عنه فقال ‪ :‬أصلّي من خلفكم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فقام بينهما وجعل أحدهما عن‬
‫يمينه ‪ ،‬والخر عن شماله ‪ ،‬ثمّ ركعنا ‪ ،‬فوضعنا أيدينا على ركبنا ‪ ،‬فضرب أيدينا ‪ ،‬ثمّ طبّق‬
‫بين يديه ‪ ،‬ثمّ جعلهما بين فخذيه ‪ ،‬فلمّا صلّى قال ‪ :‬هكذا فعل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫» ‪ .‬قال العينيّ ‪ :‬وأخذ بذلك إبراهيم النّخعيّ وأبو عبيدة ‪.‬‬
‫وعلّل النّوويّ فعلهم ‪ :‬بأنّه لم يبلغهم النّاسخ ‪ ،‬وهو حديث مصعب بن سعد المتقدّم ‪.‬‬

‫تطفّل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطفّل في اللّغة ‪ :‬مصدر تطفّل ‪ .‬يقال ‪ :‬هو متطفّل في العراس والولئم أي ‪ :‬هو‬
‫طفيليّ ‪ .‬قال الصمعيّ ‪ :‬الطّفيليّ ‪ :‬هو الّذي يدخل على القوم من غير أن يدعوه ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى ‪ .‬فقد عرّفه في نهاية المحتاج ‪ :‬بدخول‬
‫الشّخص لمحلّ غيره لتناول طعامه بغير إذنه ول علم رضاه ‪ ،‬أو ظنّه بقرينة معتبرة‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الضّيف ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الضّيف في اللّغة ‪ :‬النّزيل الزّائر ‪ .‬وأصله مصدر ضاف ‪ ،‬ولذا يطلق على الواحد وغيره‬
‫ضحُون } وتجوز المطابقة ‪ ،‬فيقال ‪:‬‬
‫‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى { قالَ ‪ِ :‬إنّ هَؤلءِ ضَيفِي فَل تَ ْف َ‬
‫هذان ضيفان ‪ .‬أمّا ( الضّيفن ) فهو من يجيء مع الضّيف متطفّل ‪ ،‬فالضّيفن أخصّ من‬
‫الطّفيليّ ‪ ،‬ويطلق على الدّاخل على القوم في شرابهم بل دعوة ( الواغل ) ‪.‬‬
‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬الضّيف ‪ :‬هو من حضر طعام غيره بدعوته ولو عموما ‪ ،‬أو بعلم‬
‫رضاه وضدّ الضّيف الطّفيليّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الفضوليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الفضوليّ ‪ :‬من الفضول ‪ ،‬جمع فضل ‪ .‬وقد استعمل الجمع استعمال الفرد فيما ل خير‬
‫فيه ‪ .‬ولهذا نسب إليه على لفظه ‪ ،‬فقيل فضوليّ ‪ :‬لمن يشتغل بما ل يعنيه ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هو التّصرّف عن الغير بل إذن ول ولية ‪ .‬وأظهر ما يكون في العقود ‪.‬‬
‫أمّا التّطفّل فأكثر ما يكون في المادّيّات ‪ ،‬وقد يستعمل في المعنويّات ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ للتّطفّل ‪:‬‬
‫ن حضور طعام‬
‫‪ - 4‬صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬وهو المتبادر من أقوال الحنفيّة ‪ -‬أ ّ‬
‫الغير بغير دعوة ‪ ،‬وبغير علم رضاه حرام ‪ ،‬بل يفسّق به إن تكرّر ‪ .‬لما روي عن النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬من دعي فلم يجب فقد عصى اللّه ورسوله ‪ ،‬ومن دخل على‬
‫غير دعوة دخل سارقا ‪ ،‬وخرج مغيرا » فكأنّه شبّه دخوله على الطّعام الّذي لم يدع إليه‬
‫بدخول السّارق الّذي يدخل بغير إرادة المالك ‪ ،‬لنّه اختفى بين الدّاخلين ‪ .‬وشبّه خروجه‬
‫بخروج من نهب قوما ‪ ،‬وخرج ظاهرا بعدما أكل ‪ .‬بخلف الدّخول ‪ ،‬فإنّه دخل مختفيا ‪ ،‬خوفا‬
‫من أن يمنع ‪ ،‬وبعد الخروج قد قضى حاجته ‪ ،‬فلم يبق له حاجة إلى التّستّر ‪ .‬وصرّح الشّافعيّة‬
‫ن من التّطفّل ‪ :‬أن يدعى عالم أو صوفيّ ‪ ،‬فيحضر جماعته من غير إذن الدّاعي ول علم‬
‫أّ‬
‫رضاه بذلك ‪ .‬ويرى بعض الفقهاء ‪ :‬أنّه إذا عرف من حال المدع ّو أنّه ل يحضر إل ومعه‬
‫أحد ممّن يلزمه يعتبر ذلك كالذن ‪ ،‬والتّفصيل في مصطلح ( دعوة ) ‪.‬‬
‫شهادة الطّفيليّ ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على أنّ الطّفيليّ ‪ -‬إن تكرّر تطفّله ‪ -‬تردّ شهادته للحديث المذكور ‪ ،‬ولنّه‬
‫يأكل محرّما ‪ ،‬ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة ‪.‬‬
‫قال ابن الصّبّاغ ‪ :‬وإنّما اشترط تكرّر ذلك ‪ ،‬لنّه قد يكون له شبهة حتّى يمنعه صاحب الطّعام‬
‫‪ ،‬وإذا تكرّر صار دناءة وقلّة مروءة ‪.‬‬

‫تطفيف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطفيف لغة ‪ :‬البخس في الكيل والوزن ‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪َ { :‬ويْلٌ لِلمطفّفين } فالتّطفيف‬
‫‪ :‬نقص يخون به صاحبه في كيل أو وزن ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّوفية ‪:‬‬
‫‪ - 2‬توفية الشّيء ‪ :‬بذله وافيا ‪ .‬فالتّطفيف ضدّ التّوفية ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّطفيف منهيّ عنه ‪ ،‬وهو ضرب من الخيانة وأكل المال بالباطل ‪ ،‬مع ما فيه من عدم‬
‫المروءة ‪ .‬ومن ثمّ عظّم اللّه أمر الكيل والوزن ‪ ،‬وأمر بالوفاء فيهما في عدّة آيات ‪ ،‬فقال‬
‫خسُوا‬
‫ستَقِيمِ ‪ ،‬وَل َت ْب َ‬
‫سطَاسِ ال ُم ْ‬
‫سرِينَ ‪َ ،‬و ِزنُوا بِال ِق ْ‬
‫خِ‬‫سبحانه ‪َ { :‬أ ْوفُوا ال َكيْلَ وَل َتكُونُوا مِنَ ال ُم ْ‬
‫ل إذا كِ ْل ُتمْ َو ِزنُوا‬
‫سدِينَ } وقال تعالى ‪ { :‬وََأ ْوفُوا ال َكيْ َ‬
‫شيَاءَهُم وَل َت ْعثَوْا فِي الرْضِ مُ ْف ِ‬
‫النّاسَ َأ ْ‬
‫ستَقِيمِ } كما توعّد اللّه المطفّفين بالويل ‪ ،‬وهدّدهم بعذاب يوم القيامة فقال ‪َ { :‬ويْلٌ‬
‫بِال ِقسْطَاسِ ال ُم ْ‬
‫خسِرُونَ أَل يَظُنّ‬
‫ستَوفُونَ وَِإذَا كَالُوهم أَو و َزنُو ُه ْم ُي ْ‬
‫ن إذا ا ْكتَالُوا على النّاسِ َي ْ‬
‫لِل ُمطَفّفِينَ اّلذِي َ‬
‫عظِيمٍ َي ْومَ يَقُومُ النّاسُ ِلرَبّ العَاَلمِينَ }‪ .‬وفي الحديث ‪ « :‬خمس‬
‫ن ِليَ ْومٍ َ‬
‫أُولئكَ َأ ّن ُهمْ َم ْبعُوثُو َ‬
‫بخمس ‪ ،‬قيل ‪ :‬يا رسول اللّه وما خمس بخمس ؟ قال ‪ :‬ما نقض قوم العهد إلّا سلّط اللّه عليهم‬
‫عدوّهم ‪ ،‬وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر ‪ ،‬وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا‬
‫فيهم الموت ‪ ،‬ول طفّفوا الكيل إل منعوا النّبات وأخذوا بالسّنين ‪ ،‬ول منعوا الزّكاة إلّا حبس‬
‫عنهم المطر » ‪ .‬قال نافع ‪ :‬كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول له ‪ :‬اتّق اللّه ‪ ،‬أوف الكيل‬
‫ن المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتّى يلجمهم العرق ‪ .‬ونقل ابن حجر تصريح‬
‫والوزن ‪ ،‬فإ ّ‬
‫العلماء بأنّه من الكبائر ‪ ،‬واستظهره ‪.‬‬
‫منع التّطفيف ‪ ،‬وتدابيره ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ممّا يتأكّد على المحتسب ‪ :‬المنع من التّطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصّنجات‬
‫‪ .‬فينبغي له أن يحذر الكيّالين والوزّانين ويخوّفهم عقوبة اللّه تعالى ‪ ،‬وينهاهم عن البخس‬
‫والتّطفيف ‪ .‬ومتى ظهر له من أحد منهم خيانة عزّره على ذلك وأشهره ‪ ،‬حتّى يرتدع به غيره‬
‫‪ .‬وإذا وقع في التّطفيف تخاصم جاز أن ينظر فيه المحتسب ‪ ،‬إن لم يكن مع التّخاصم فيه‬
‫تجاحد وتناكر ‪ .‬فإن أفضى إلى التّجاحد والتّناكر كان القضاة أحقّ بالنّظر فيه من ولة‬
‫الحسبة ‪ ،‬لنّهم بالحكام أحقّ ‪ .‬وكان التّأديب فيه إلى المحتسب ‪.‬‬
‫فإن تولّاه الحاكم جاز لتّصاله بحكمه ‪.‬‬
‫وقد فصّل الفقهاء القول في التّدابير الّتي تتّخذ للحيلولة دون التّطفيف والبخس في الكيل‬
‫والوزن ‪ ،‬من قيام المحتسب بتفقّد عيار الصّنج ونحوها على حين غفلة من أصحابها ‪ ،‬وتجديد‬
‫النّظر في المكاييل ورعاية ما يطفّفون به المكيال وما إلى ذلك ‪ ،‬فليرجع إليه في مواطنه من‬
‫كتب الحسبة ‪ ،‬وفي مصطلحي ( حسبة ‪ ،‬وغشّ ) ‪.‬‬

‫تطهّر *‬
‫انظر ‪ :‬طهارة ‪.‬‬
‫تطهير *‬
‫انظر ‪ :‬طهارة ‪.‬‬

‫تطوّع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطوّع ‪ :‬هو التّبرّع ‪ ،‬يقال ‪ :‬تطوّع بالشّيء ‪ :‬تبرّع به ‪.‬‬
‫وقال الرّاغب ‪ :‬التّطوّع في الصل ‪ :‬تكلّف الطّاعة ‪ ،‬وهو في التّعارف ‪ :‬التّبرّع بما ل يلزم‬
‫خ ْيرٌ لَه } ‪.‬‬
‫ع خَيرَا َفهُوَ َ‬
‫ن تَطَ ّو َ‬
‫كالتّنفّل ‪ .‬قال تعالى ‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫والفقهاء عندما أرادوا أن يعرّفوا التّطوّع ‪ ،‬عدلوا عن تعريف المصدر إلى تعريف ما هو‬
‫حاصل بالمصدر ‪ ،‬فذكروا له في الصطلح ثلثة معان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أنّه اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات ‪ ،‬أو ما كان مخصوصا بطاعة غير‬
‫واجبة ‪ ،‬أو هو الفعل المطلوب طلبا غير جازم ‪ .‬وكلّها معان متقاربة ‪.‬‬
‫وهذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفيّة ‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة ‪ ،‬والمشهور عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وهو رأي الصوليّين من غير الحنفيّة ‪ ،‬وهو ما يفهم من عبارات فقهاء المالكيّة ‪.‬‬
‫سنّة والمندوب والمستحبّ والنّفل والمرغّب فيه والقربة‬
‫والتّطوّع بهذا المعنى يطلق على ‪ :‬ال ّ‬
‫والحسان والحسن ‪ ،‬فهي ألفاظ مترادفة ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أنّ التّطوّع هو ما عدا الفرائض والواجبات والسّنن ‪ ،‬وهو اتّجاه الصوليّين من‬
‫سنّة هي الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير افتراض ول‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬ففي كشف السرار ‪ :‬ال ّ‬
‫وجوب ‪ ،‬وأمّا حدّ النّفل ‪ -‬وهو المسمّى بالمندوب والمستحبّ والتّطوّع ‪ -‬فقيل ‪ :‬ما فعله خير‬
‫من تركه في الشّرع ‪ . . .‬إلخ ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬التّطوّع ‪ :‬هو ما لم يرد فيه نقل بخصوصه ‪ ،‬بل ينشئه النسان ابتداء ‪ ،‬وهو اتّجاه‬
‫بعض المالكيّة والقاضي حسين وغيره من الشّافعيّة ‪.‬‬
‫هذه هي التّجاهات في معنى التّطوّع وما يرادفه ‪ .‬غير أنّ المتتبّع لما ذكره الصوليّون من‬
‫غير الحنفيّة ‪ ،‬وما ذكره الفقهاء في كتبهم ‪ -‬بما في ذلك الحنفيّة ‪ -‬يجد أنّهم يتوسّعون بإطلق‬
‫سنّة والنّفل والمندوب‬
‫التّطوّع على ما عدا الفرائض والواجبات ‪ ،‬وبذلك يكون التّطوّع وال ّ‬
‫والمستحبّ والمرغّب فيه ألفاظا مترادفة ‪ ،‬ولذلك قال السّبكيّ ‪ :‬إنّ الخلف لفظيّ ‪ .‬غاية المر‬
‫سنّة المؤكّدة ‪،‬‬
‫أنّ ما يدخل في دائرة التّطوّع بعضه أعلى من بعض في الرّتبة ‪ ،‬فأعله هو ال ّ‬
‫كالعيدين ‪ ،‬والوتر عند الجمهور ‪ ،‬وكركعتي الفجر عند الحنفيّة ‪ .‬ويلي ذلك المندوب أو‬
‫ن كلّ ذلك يسمّى تطوّعا ‪.‬‬
‫المستحبّ كتحيّة المسجد ‪ ،‬ويلي ذلك ما ينشئه النسان ابتداء ‪ ،‬لك ّ‬
‫والصل في ذلك « قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم للرّجل ‪ -‬الّذي سأل بعدما عرف فرائض‬
‫ي غيرها ؟ فقال له ‪ :‬ل ‪ ،‬إل أن تطوّع » ‪ .‬أنواع‬
‫الصّلة والصّيام والزّكاة ‪ :‬هل عل ّ‬
‫التّطوّع ‪:‬‬
‫ج وجهاد ‪،‬‬
‫‪ - 2‬من التّطوّع ما يكون له نظير من العبادات ‪ ،‬من صلة وصيام وزكاة وح ّ‬
‫وهذا هو الصل ‪ ،‬وهو المتبادر حين يذكر لفظ التّطوّع ‪ .‬والتّطوّع في العبادات يختلف في‬
‫جنسه باعتبارات ‪ ،‬فهو يختلف من حيث الرّتبة ‪ ،‬إذ منه ما هو مؤكّد كالرّواتب مع الفرائض ‪،‬‬
‫ل أو نهارا ‪ .‬ومن‬
‫ل كالنّوافل المطلقة لي ً‬
‫ومنه ما هو أقلّ رتبة كتحيّة المسجد ‪ ،‬ومنه ما هو أق ّ‬
‫ذلك في الصّوم ‪ :‬صيام يومي عاشوراء وعرفة ‪ ،‬فهما أعلى رتبة من الصّيام في غيرهما ‪،‬‬
‫والعتكاف في العشر الواخر من رمضان أفضل منه في غيرها ‪.‬‬
‫ن التّطوّع في العبادات يختلف في جنسه كذلك من حيث الطلق والتّقييد ‪ ،‬فمنه ما هو‬
‫كما أ ّ‬
‫مقيّد ‪ ،‬سواء أكان التّقييد بوقت أو بسبب ‪ ،‬كالضّحى وتحيّة المسجد والرّواتب مع الفروض ‪.‬‬
‫ومنه ما هو مطلق كالنّفل المطلق باللّيل أو بالنّهار ‪.‬‬
‫ويختلف كذلك من حيث العدد كالرّواتب من الفروض ‪ ،‬إذ هي عند الجمهور عشر ‪ ،‬وعند‬
‫الحنفيّة اثنتا عشرة ركعة ‪ :‬اثنتان قبل الصّبح ‪ ،‬واثنتان قبل الظّهر ( وعند الحنفيّة أربع )‬
‫واثنتان بعده ‪ ،‬واثنتان بعد المغرب ‪ ،‬واثنتان بعد العشاء ‪.‬‬
‫والتّطوّع في النّهار واللّيل مثنى مثنى عند الجمهور ‪ ،‬وعند الحنفيّة الفضل أربع بتسليمة‬
‫واحدة ‪ .‬ومثل ذلك تطوّع اللّيل عند أبي حنيفة خلفا للصّاحبين ‪ ،‬وبهذا يفتى ‪.‬‬
‫وفي كلّ ما سبق تفصيل كثير ينظر في مصطلح ( السّنن الرّواتب ‪ ،‬ونفل ) وفيما له أبواب‬
‫من ذلك مثل ‪ :‬عيد ‪ -‬كسوف ‪ -‬استسقاء ‪ . . .‬إلخ ‪.‬‬
‫ومن التّطوّع ما يكون في غير العبادات كطلب علم غير مفروض ‪.‬‬
‫وكذلك من أنواع البرّ والمعروف ‪ ،‬كالتّطوّع بالنفاق على قريب لم تجب عليه نفقته ‪ ،‬أو على‬
‫أجنبيّ محتاج ‪ ،‬أو قضاء الدّين عنه ‪ ،‬أو إبراء المعسر ‪ ،‬أو العفو عن القصاص ‪ ،‬أو الرفاق‬
‫المعروف بجعل الغير يحصل على منافع العقار ‪ ،‬أو إسقاط الحقوق ‪ . . .‬وهكذا ‪.‬‬
‫ومنه ما يعرف بعقود التّبرّعات ‪ ،‬كالقرض والوصيّة والوقف والعارة والهبة ‪ ،‬إذ أنّها قربات‬
‫شرعت للتّعاون بين النّاس ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ومن التّطوّع ما هو عينيّ مطلوب ندبا من كلّ فرد ‪ ،‬كالتّطوّع بالعبادات غير المفروضة‬
‫من صلة وصيام ‪ . . .‬ومنه ما هو على الكفاية كالذان وغيره ‪.‬‬
‫قال النّوويّ وغيره ‪ :‬ابتداء السّلم سنّة مستحبّة ليس بواجب ‪ ،‬وهو سنّة على الكفاية ‪ ،‬فإن‬
‫كان المسلّم جماعة كفى عنهم تسليم واحد منهم ‪ .‬وتشميت العاطس سنّة على الكفاية ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّطوّع يقرّب العبد من ربّه ويزيده ثوابا ‪ ،‬وفي الحديث القدسيّ ‪ « :‬وما يزال عبدي‬
‫يتقرّبُ إليّ بالنّوافلِ حتّى أحبّه ‪ » . . .‬الحديث ‪.‬‬
‫والحكمة من مشروعيّة التّطوّع هي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اكتساب رضوان اللّه تعالى ‪:‬‬
‫وكذلك نيل ثوابه ومضاعفة الحسنات ‪ ،‬وقد ورد في ثواب التّطوّع بالعبادة أحاديث كثيرة منها‬
‫‪ :‬قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم واللّيلة بنى‬
‫اللّه له بيتا في الجنّة » ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها‬
‫» وغير ذلك كثير في شأن الصّلة ‪.‬‬
‫وفي صوم يوم عاشوراء يقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّي لحتسب على اللّه أن يكفّر‬
‫السّنة الّتي قبله » والمراد الصّغائر ‪ .‬حكاه في شرح مسلم عن العلماء ‪ ،‬فإن لم تكن الصّغائر‬
‫رجي التّخفيف من الكبائر ‪ ،‬فإن لم تكن رفعت الدّرجات ‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من‬
‫صام رمضان ‪ ،‬ث ّم أتبعه ستّا من شوّال كان كصيام الدّهر » ‪.‬‬
‫وقال الزّهريّ ‪ :‬في العتكاف تفريغ القلب عن أمور الدّنيا ‪ ،‬وتسليم النّفس إلى بارئها ‪،‬‬
‫والتّحصّن بحصن حصين ‪ ،‬وملزمة بيت اللّه تعالى ‪ .‬وقال عطاء ‪ :‬مثل المعتكف كمثل رجل‬
‫له حاجة إلى عظيم يجلس على بابه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ل أبرح حتّى تقضى حاجتي ‪.‬‬
‫سنَا‬
‫حَ‬‫ض اللّ َه َقرْضَا َ‬
‫ن ذَا الّذيْ يُ ْقرِ ُ‬
‫ومثل ذلك في غير العبادات ‪ .‬يقول اللّه تعالى ‪ { :‬مَ ْ‬
‫ضعَافَا َكثِيرَةً } ‪ ،‬ويقول ابن عابدين ‪ :‬من محاسن العاريّة أنّها نيابة عن اللّه‬
‫َفيُضَاعِ َفهُ لَه َأ ْ‬
‫تعالى في إجابة المضطرّ ‪ ،‬لنّها ل تكون إلّا لمحتاج كالقرض ‪ ،‬فلذا كانت الصّدقة بعشرة‬
‫والقرض بثمانية عشر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النس بالعبادة والتّهيّؤ لها ‪:‬‬
‫ن النّفوس‬
‫‪ - 5‬قال ابن دقيق العيد ‪ :‬في تقديم النّوافل على الفرائض معنى لطيف مناسب ‪ ،‬ل ّ‬
‫لنشغالها بأسباب الدّنيا تكون بعيدة عن حالة الخشوع والخضوع والحضور ‪ ،‬الّتي هي روح‬
‫العبادة ‪ ،‬فإذا قدّمت النّوافل على الفرائض أنست النّفوس بالعبادة ‪ ،‬وتكيّفت بحالة تقرّب من‬
‫الخشوع ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬جبران الفرائض ‪:‬‬
‫‪ - 6‬قال ابن دقيق العيد ‪ :‬النّوافل الّتي بعد الفرائض هي لجبر النّقص الّذي قد يقع في‬
‫الفرائض ‪ ،‬فإذا وقع نقص في الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الّذي قد يقع فيه ‪.‬‬
‫ب عزّ وجلّ ‪ :‬انظروا هل لعبدي من‬
‫وفي الحديث ‪ « :‬فإن انتقص من فريضته شيء ‪ ،‬قال الرّ ّ‬
‫تطوّع ؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة » ‪.‬‬
‫قال المناويّ في شرحه الكبير على الجامع عند قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أوّل ما افترض‬
‫ن الحقّ سبحانه وتعالى لم يوجب شيئا من الفرائض غالبا‬
‫اللّه على أمّتي الصّلة ‪ »...‬واعلم أ ّ‬
‫إل وجعل له من جنسه نافلة ‪ ،‬حتّى إذا قام العبد بذلك الواجب ‪ -‬وفيه خلل ما ‪ -‬يجبر بالنّافلة‬
‫الّتي هي من جنسه ‪ ،‬فلذا أمر بالنّظر في فريضة العبد ‪ ،‬فإذا قام بها كما أمر اللّه جوزي‬
‫عليها ‪ ،‬وأثبتت له ‪ ،‬وإن كان فيها خلل كمّلت من نافلته حتّى قال البعض ‪ :‬إنّما تثبت لك نافلة‬
‫إذا سلمت لك الفريضة ‪ .‬ولذلك يقول القرطبيّ في شرح مسلم ‪ :‬من ترك التّطوّعات ولم يعمل‬
‫بشيء منها فقد فوّت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعاون بين النّاس وتوثيق الرّوابط بينهم واستجلب محبّتهم ‪:‬‬
‫‪ - 7‬التّطوّع بأنواع البرّ والمعروف ينشر التّعاون بين النّاس ‪ ،‬ولذلك دعا اللّه إليه في قوله ‪:‬‬
‫ن العبد‬
‫عوْ ِ‬
‫{ َو َتعَا َونُوا على ال ِبرّ وَالتّقْوَى } ‪ ،‬ويقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬واللّه في َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ما دام العبد في عون أخيه » وفي فتح الباري عند قول النّب ّ‬
‫ض على الخير بالفعل ‪ ،‬وبالتّسبّب إليه‬
‫جرُوا » ‪ .‬يقول ابن حجر ‪ :‬في الحديث الح ّ‬
‫« اشْ َفعُوا ُت ْؤ َ‬
‫ل أحد يقدر على‬
‫بكلّ وجه ‪ ،‬والشّفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف ‪ ،‬إذ ليس ك ّ‬
‫الوصول إلى الرّئيس ‪ .‬كذلك يقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪َ « :‬تهَادُوا تحابّوا » ‪.‬‬
‫أفضل التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 8‬اختلف الفقهاء في أفضل التّطوّع ‪ ،‬فقيل ‪ :‬أفضل عبادات البدن الصّلة ‪.‬‬
‫ففرضها أفضل من فرض غيرها ‪ ،‬وتطوّعها أفضل من تطوّع غيرها ‪ ،‬لنّها أعظم القربات ‪،‬‬
‫لجمعها أنواعا من العبادات ل تجمع في غيرها ‪.‬‬
‫قال بهذا المالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الشّافعيّة ‪ ،‬ولهم قول آخر بتفضيل الصّيام ‪.‬‬
‫قال صاحب المجموع ‪ :‬وليس المراد بقولهم ‪ :‬الصّلة أفضل من الصّوم ‪ :‬أنّ صلة ركعتين‬
‫أفضل من صيام أيّام أو يوم ‪ ،‬فإنّ الصّوم أفضل من ركعتين بل شكّ ‪ ،‬وإنّما معناه أنّ من لم‬
‫يمكنه الجمع بين الستكثار من الصّلة والصّوم ‪ ،‬وأراد أن يستكثر من أحدهما ‪ ،‬أو يكون‬
‫غالبا عليه ‪ ،‬منسوبا إلى الكثار منه ‪ ،‬ويقتصر من الخر على المتأكّد منه ‪ ،‬فهذا محلّ‬
‫الخلف والتّفصيل ‪ .‬والصّحيح تفضيل الصّلة ‪.‬‬
‫ن أفضل تطوّعات البدن الجهاد لقوله تعالى ‪ { :‬فَضّلَ الّلهُ ال ُمجَا ِهدِينَ‬
‫ويقول الحنابلة ‪ :‬إ ّ‬
‫ن ُينْفِقُونَ َأ ْموَاَل ُهمْ‬
‫ن َد َرجَةً } ثمّ النّفقة فيه لقوله تعالى ‪َ { :‬مثَلُ الّذي َ‬
‫ِبَأمْوَاِل ِهمْ وََأنْ ُفسِهمْ على القَاعِدي َ‬
‫سنَابِلَ } الية ‪.‬‬
‫سبْعَ َ‬
‫ت َ‬
‫حبّةٍ َأ ْن َبتَ ْ‬
‫سبِيلِ الّل ِه َك َمثَلِ َ‬
‫فِي َ‬
‫ثمّ تعلّم العلم وتعليمه ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬فضل العاِلمِ على العا ِبدِ كفضلي على أدناكم » ‪.‬‬
‫ب العمال إلى اللّه ‪ ،‬ومداومته صلى ال عليه‬
‫ثمّ الصّلة أفضل بعد ذلك ‪ ،‬للخبار بأنّها أح ّ‬
‫ن الطّواف لغريب أفضل منها ‪ ،‬أي من الصّلة‬
‫وسلم على نفلها ‪ .‬ونصّ المام أحمد على أ ّ‬
‫ص به يفوت بمفارقته بخلف الصّلة ‪ ،‬فالشتغال بمفضول يختصّ‬
‫بالمسجد الحرام ‪ ،‬لنّه خا ّ‬
‫بقعة أو زمنا أفضل من فاضل ل يختصّ ‪ ،‬واختار ع ّز الدّين بن عبد السّلم تبعا للغزاليّ في‬
‫ن أفضل الطّاعات على قدر المصالح النّاشئة عنها ‪.‬‬
‫الحياء ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ - 9‬ويتفاوت ما يتعدّى نفعه في الفضل ‪ ،‬فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق أجنبيّ ‪،‬‬
‫لنّها صدقة وصلة ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ ‪ :‬لو ملك عقارا ‪ ،‬وأراد الخروج عنه ‪ ،‬فهل الولى‬
‫الصّدقة به حال ‪ ،‬أم وقفه ؟ قال ابن عبد السّلم ‪ :‬إن كان ذلك في وقت شدّة وحاجة فتعجيل‬
‫الصّدقة أفضل ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ففيه وقفة ‪ ،‬ولعلّ الوقف أولى ‪ ،‬لكثرة جدواه ‪ .‬وأطلق ابن‬
‫الرّفعة تقديم صدقة التّطوّع به ‪ ،‬لما فيه من قطع حظّ النّفس في الحال بخلف الوقف ‪ .‬وفي‬
‫المنثور أيضا ‪ :‬مراتب القرب تتفاوت ‪ ،‬فالقربة في الهبة أتمّ منها في القرض ‪ ،‬وفي الوقف أتمّ‬
‫ن نفعه دائم يتكرّر ‪ ،‬والصّدقة أتمّ من الكلّ ‪ ،‬لنّ قطع حظّه من المتصدّق‬
‫منها في الهبة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن القرض أفضل من الصّدقة ‪.‬‬
‫به في الحال ‪ .‬وقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫ن « رسول اللّه رأى ليلة أسري به مكتوبا على باب الجنّة ‪ :‬درهم القرض بثمانية عشر ‪،‬‬
‫لّ‬
‫ن السّائل‬
‫ودرهم الصّدقة بعشر ‪ ،‬فسأل جبريل ‪ :‬ما بال القرض أفضل من الصّدقة ‪ :‬فقال ‪ :‬ل ّ‬
‫يسأل وعنده ‪ ،‬والمقترض ل يقترض إل من حاجة » ‪.‬‬
‫وتكسّب ما زاد على قدر الكفاية ‪ -‬لمواساة الفقير أو مجازاة القريب ‪ -‬أفضل من التّخلّي لنفل‬
‫ن منفعة النّفل تخصّه ‪ ،‬ومنفعة الكسب له ولغيره ‪ ،‬فقد قال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫العبادة ‪ ،‬ل ّ‬
‫« خير النّاس أنفعهم للنّاس »‬
‫وعن عمر بن الخطّاب قال ‪ ":‬إنّ العمال تتباهى ‪ ،‬فتقول الصّدقة ‪ :‬أنا أفضلكم "‪.‬‬
‫وفي الشباه لبن نجيم ‪ :‬بناء الرّباط بحيث ينتفع به المسلمون ‪ ،‬أفضل من الحجّة الثّانية ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 10‬الصل في التّطوّع أنّه مندوب ‪ .‬سواء أكان ذلك في العبادات من صلة وصيام ‪ . . .‬أم‬
‫كان في غيرها من أنواع البرّ والمعروف ‪ ،‬كالعارة والوقف والوصيّة وأنواع الرفاق ‪.‬‬
‫والدّليل على ذلك من الكتاب آيات منها ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬و َتعَا َونُوا عَلَى ال ِبرّ وَالتّقْوَى } ‪ ،‬وقوله‬
‫ضعَافَا َكثِيرَةً } ‪.‬‬
‫عفَ ُه لَ ُه َأ ْ‬
‫سنَا َف ُيضَا ِ‬
‫حَ‬‫ن ذَا اّلذِي يُ ْقرِضُ الّلهَ َق ْرضَا َ‬
‫تعالى ‪ { :‬مَ ْ‬
‫سنّة قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من صلّى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة ُب ِنيَ له‬
‫ومن ال ّ‬
‫بهنّ بيت في الجنّة »‬
‫قوله ‪ « :‬من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّا من شوّال كان كصيام الدّهر » وقوله ‪ « :‬اتّقوا النّار‬
‫ولو بشقّ تمرة » وقوله ‪ « :‬ل يمنع أحدُكم جارَه أن َي ْغرِ َز خشبه في جداره » ‪.‬‬
‫وقد يعرض له الوجوب ‪ ،‬كبذل الطّعام للمضطرّ ‪ ،‬وكإعارة ما يستغنى عنه لمن يخشى هلكه‬
‫بعدمها ‪ ،‬وكإعارة الحبل لنقاذ غريق ‪.‬‬
‫وقد يكون حراما ‪ ،‬كالعبادة الّتي تقع في الوقات المحرّمة كالصّلة وقت طلوع الشّمس أو‬
‫غروبها ‪ ،‬وكصيام يومي العيد ‪ ،‬وأيّام التّشريق ‪ ،‬وكتصدّق المدين مع حلول دينه والمطالبة به‬
‫‪ ،‬وعدم وجود ما يسدّد به دينه ‪.‬‬
‫وقد يكون مكروها ‪ ،‬كوقوع الصّلة في الوقات المكروهة ‪ ،‬كما أنّه يكره ترك التّسوية في‬
‫العطيّة لولده ‪.‬‬
‫أهليّة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 11‬التّطوّع يكون في العبادات وغيرها ‪،‬‬
‫أمّا العبادات فإنّه يشترط في المتطوّع بها ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون مسلما ‪ ،‬فل يصحّ التّطوّع بالعبادات من الكافر ‪ ،‬لنّه ليس من أهل العبادة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون عاقل ‪ ،‬فل تصحّ العبادة من المجنون ‪ ،‬لعدم صحّة نيّته ‪ .‬وهذا في غير‬
‫ج يحرم عنه وليّه ‪ ،‬وكذلك يحرم الوليّ عن الصّبيّ غير المميّز ‪.‬‬
‫الحجّ ‪ ،‬لنّه في الح ّ‬
‫ن تطوّع الصّبيّ‬
‫ج ‪ -‬التّمييز ‪ ،‬فل يصحّ التّطوّع من غير المميّز ‪ ،‬ول يشترط البلوغ ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالعبادات صحيح ‪.‬‬
‫ن الشّرط هو أهليّة التّبرّع من عقل وبلوغ ورشد ‪ ،‬فل يصحّ‬
‫وأمّا بالنّسبة لغير العبادات ‪ :‬فإ ّ‬
‫تبرّع محجور عليه لصغر أو سفه أو دين أو غير ذلك ‪ .‬وتفصيل هذا ينظر في ( أهليّة ) ‪.‬‬
‫أحكام التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 12‬أحكام التّطوّع منها ما يخصّ العبادات ‪ ،‬ومنها ما يشمل العبادات وغيرها ‪ ،‬ومنها ما‬
‫يخصّ غير العبادات ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫أوّلً ما يخصّ العبادات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ما تسنّ له الجماعة من صلة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 13‬تسنّ الجماعة لصلة الكسوف باتّفاق بين المذاهب ‪ ،‬وتسنّ للتّراويح عند الحنفيّة‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وهي مندوبة عند المالكيّة ‪ ،‬إذ الفضل النفراد بها ‪ -‬بعيدا عن الرّياء ‪-‬‬
‫ن الجماعة كذلك لصلة الستسقاء عند المالكيّة‬
‫إن لم تعطّل المساجد عن فعلها فيها ‪ .‬وتس ّ‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬أمّا عند الحنفيّة فتصلّى جماعة وفرادى عند محمّد ‪ ،‬ول تصلّى إلّا‬
‫فرادى عند أبي حنيفة ‪ .‬وتسنّ الجماعة لصلة العيدين عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ .‬أمّا عند‬
‫الحنفيّة والحنابلة فالجماعة فيها واجبة ‪ .‬ويسنّ الوتر جماعة عند الحنابلة ‪.‬‬
‫وبقيّة التّطوّعات تجوز جماعة وفرادى عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وتكره جماعة عند الحنفيّة إذا‬
‫كانت على سبيل التّداعي ‪ ،‬وعند المالكيّة الجماعة في الشّفع والوتر سنّة والفجر خلف الولى‬
‫‪ .‬أمّا غير ذلك فيجوز فعله جماعة ‪ ،‬إل أن تكثر الجماعة أو يشتهر المكان فتكره الجماعة‬
‫حذر الرّياء ‪ .‬والتّفصيل ينظر في ( صلة الجماعة ‪ -‬نفل ) ‪.‬‬
‫مكان صلة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 14‬صلة التّطوّع في البيوت أفضل ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬صلّوا أيّها النّاس‬
‫ن أفضل صلة المرء في بيته إل المكتوبة » ويستثنى من ذلك ما شرعت له‬
‫في بيوتكم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الجماعة ‪ ،‬ففعله في المسجد أفضل ‪ ،‬ويستثنى كذلك عند المالكيّة صلة الرّواتب مع‬
‫ن تحيّة المسجد تصلّى في المسجد ‪ .‬ويستحبّ‬
‫الفرائض ‪ ،‬فيندب فعلها في المسجد ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫للمصلّي عند الجمهور أن يتنفّل في غير المكان الّذي صلّى فيه المكتوبة ‪.‬‬
‫وقال الكاسانيّ من الحنفيّة ‪ :‬يكره للمام أن يصلّي شيئا من السّنن في المكان الّذي صلّى فيه‬
‫المكتوبة ‪ ،‬لما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬أيعجز أحدُكم إذا صلّى أن‬
‫ن الكراهة في حقّ المام للشتباه ‪ ،‬وهذا ل‬
‫يتق ّدمَ أو يتأخّر » ‪ ،‬ول يكره ذلك للمأموم ‪ ،‬ل ّ‬
‫يوجد في حقّ المأموم ‪ ،‬لكن يستحبّ له أن يتنحّى أيضا ‪ ،‬حتّى تنكسر الصّفوف ‪ ،‬ويزول‬
‫الشتباه على الدّاخل من كلّ وجه ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬ل يتطوّع المام في مكانه الّذي صلّى فيه المكتوبة ‪ .‬كذا قال‬
‫عليّ بن أبي طالب رضي ال عنه ‪ .‬قال أحمد ‪ :‬ومن صلّى وراء المام فل بأس أن يتطوّع‬
‫مكانه ‪ ،‬فعل ذلك ابن عمر رضي ال عنهما ‪ .‬وبهذا قال إسحاق ‪ ،‬وروى أبو بكر حديث عليّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن النّب ّ‬
‫بإسناده ‪ .‬وبإسناده عن المغيرة بن شعبة رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬
‫قال ‪ :‬ل يتطوّع المام في مقامه الّذي يصلّي فيه المكتوبة » ‪.‬‬
‫صلة التّطوّع على الدّابّة ‪:‬‬
‫‪ - 15‬يجوز باتّفاق المذاهب صلة التّطوّع على الدّابّة في السّفر ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم خلفا بين أهل العلم في إباحة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر الطّويل‬
‫قال التّرمذيّ ‪ :‬هذا عند عامّة أهل العلم ‪،‬‬
‫ل من سافر سفرا يقصر فيه الصّلة أن يتطوّع‬
‫وقال ابن عبد البرّ ‪ :‬أجمعوا على أنّه جائز لك ّ‬
‫على دابّته حيثما توجّهت ‪ ،‬يومئ بالرّكوع والسّجود ‪ ،‬ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع ‪.‬‬
‫ويجوز عند الحنابلة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر القصير أيضا ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَلِلّهِ‬
‫جهُ الّلهِ } ‪ ،‬قال ابن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬نزلت هذه‬
‫ال َمشْ ِرقُ وَال َم ْغرِبُ َفَأ ْي َنمَا تُوَلّوا َف َثمّ َو ْ‬
‫الية في التّطوّع خاصّة حيث توجّه به بعيرك ‪.‬‬
‫وهذا يتناول بإطلقه محلّ النّزاع ‪ ،‬وعن ابن عمر رضي ال عنهما « أنّ رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم كان يوتر على بعيره » ‪ ،‬وفي رواية ‪ « :‬كان يسبّح على ظهر راحلته حيث‬
‫كان وجهه ‪ ،‬يومئ برأسه » وكان ابن عمر يفعله ‪ .‬وللبخاريّ ‪ « :‬إل الفرائض » ولمسلم‬
‫وأبي داود ‪ « :‬غير أنّه ل يصلّي عليها المكتوبة » ولم يفرّق بين قصير السّفر وطويله ‪ ،‬ولنّ‬
‫إباحة الصّلة على الرّاحلة تخفيف في التّطوّع ‪ ،‬كي ل يؤدّي إلى قطعها وتقليلها ‪.‬‬
‫والوتر واجب عند الحنفيّة ‪ ،‬ولهذا ل يؤدّى على الرّاحلة عند القدرة على النّزول ‪ .‬كذلك روى‬
‫ن من صلّى ركعتي الفجر على الدّابّة من غير عذر وهو يقدر على‬
‫الحسن عن أبي حنيفة أ ّ‬
‫النّزول ل يجوز ‪ ،‬لختصاص ركعتي الفجر بزيادة توكيد وترغيب بتحصيلها وترهيب وتحذير‬
‫على تركها ‪ ،‬فالتحقت بالواجبات كالوتر ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نفل ‪ -‬نافلة )‪.‬‬
‫صلة التّطوّع قاعدا ‪:‬‬
‫‪ - 16‬تجوز صلة التّطوّع من قعود باتّفاق بين المذاهب ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم خلفا في إباحة التّطوّع جالسا ‪ ،‬وأنّه في القيام أفضل ‪ ،‬وقد قال النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من صلّى قائما فهو أفضل ‪ ،‬ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم‬
‫» ولنّ كثيرا من النّاس يشقّ عليه القيام ‪ ،‬فلو وجب في التّطوّع لترك أكثره ‪ ،‬فسامح الشّارع‬
‫في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره ‪.‬‬
‫الفصل بين الصّلة المفروضة وصلة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يستحبّ أن يفصل المصلّي بين الصّلة المفروضة وصلة التّطوّع بعدها بالذكار‬
‫الواردة ‪ ،‬كالتّسبيح والتّحميد والتّكبير ‪ ،‬وهذا عند الجمهور ‪ .‬وعند الحنفيّة يكره الفصل بين‬
‫سنّة ‪ .‬وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬نفل ) ‪.‬‬
‫سنّة ‪ ،‬بل يشتغل بال ّ‬
‫المكتوبة وال ّ‬
‫قضاء التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 18‬إذا فات التّطوّع ‪ -‬سواء المطلق ‪ ،‬أو المقيّد بسبب أو وقت ‪ -‬فعند الحنفيّة والمالكيّة ل‬
‫يقضى سوى ركعتي الفجر ‪ ،‬لما روت أمّ سلمة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬صلّى رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم العصر ثمّ دخل بيتي فصلّى ركعتين ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬صلّيتَ‬
‫صلة لم تكن تصلّيها فقال ‪ :‬قدم عليّ مالٌ فشغلني عن الرّكعتين كنت أركعهما بعد الظّهر ‪،‬‬
‫فصلّيتهما الن ‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال ‪ :‬ل » ‪.‬‬
‫ن القضاء غير واجب على المّة ‪ ،‬وإنّما هو شيء اختصّ به النّبيّ صلى ال‬
‫وهذا نصّ على أ ّ‬
‫عليه وسلم ول شركة لنا في خصائصه ‪ .‬وقياس هذا الحديث أنّه ل يجب قضاء ركعتي الفجر‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فعلهما‬
‫ن « النّب ّ‬
‫أصل ‪ ،‬إل أنّا استحسنّا القضاء إذا فاتتا مع الفرض ‪ ،‬ل ّ‬
‫مع الفرض ليلة التّعريس » فنحن نفعل ذلك لنكون على طريقته ‪.‬‬
‫وهذا بخلف الوتر ‪ ،‬لنّه واجب عند الحنفيّة ‪ ،‬والواجب ملحق بالفرض في حقّ العمل ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ من الشّافعيّة ‪ :‬لو فات النّفل المؤقّت " كصلة العيد والضّحى " ندب قضاؤه في‬
‫الظهر ‪ ،‬لحديث الصّحيحين ‪ « :‬من نسي صل ًة أو نام عنها فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذكرها »‬
‫ولنّ « النّبيّ صلى ال عليه وسلم قضى ركعتي الفجر لمّا نام في الوادي عن صلة الصّبح‬
‫إلى أن طلعت الشّمس » ‪ .‬وفي مسلم نحوه ‪.‬‬
‫« وقضى ركعتي سنّة الظّهر المتأخّرة بعد العصر » ‪ ،‬ولنّها صلة مؤقّتة فقضيت كالفرائض‬
‫‪ ،‬وسواء السّفر والحضر ‪ ،‬كما صرّح به ابن المقري ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ل يقضى كغير المؤقّت ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬إن لم يتبع غيره كالضّحى قضي ‪ ،‬لشبهه بالفرض في الستقلل ‪ ،‬وإن تبع غيره‬
‫كالرّواتب فل ‪ .‬قال الخطيب الشّربينيّ في شرح المنهاج ‪ :‬قضيّة كلمه ‪ -‬أي النّوويّ ‪ -‬أنّ‬
‫المؤقّت يقضي أبدا وهو الظهر ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬يقضي فائتة النّهار ما لم تضرب شمسه ‪ ،‬وفائتة‬
‫اللّيل ما لم يطلع فجره ‪ .‬والثّالث ‪ :‬يقضي ما لم يصلّ الفرض الّذي بعده ‪.‬‬
‫وخرج بالمؤقّت ما له سبب كالتّحيّة والكسوف فإنّه ل مدخل للقضاء فيه ‪.‬‬
‫نعم لو فاته ِو ْردُه من الصّلة ‪ ،‬فإنّه يندب له قضاؤه كما قاله الذرعيّ ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قضى شيئا من‬
‫وعند الحنابلة ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬لم يبلغنا أ ّ‬
‫التّطوّع ‪ ،‬إل ركعتي الفجر والرّكعتين بعد العصر ‪.‬‬
‫وقال القاضي وبعض الصحاب ‪ :‬ل يقضى إل ركعتا الفجر وركعتا الظّهر ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قضى‬
‫ن النّب ّ‬
‫وقال ابن حامد ‪ :‬تقضى جميع السّنن الرّواتب ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن قضاء الرّواتب ‪ ،‬إل ما فات‬
‫بعضها ‪ ،‬وقسنا الباقي عليها ‪ .‬وفي شرح منتهى الرادات ‪ :‬يس ّ‬
‫مع فرضه وكثر ‪ ،‬فالولى تركه ‪ ،‬إل سنّة الفجر فيقضيها مطلقا لتأكّدها ‪.‬‬
‫انقلب الواجب تطوّعا ‪:‬‬
‫‪ - 19‬قد ينقلب واجب العبادات إلى تطوّع ‪ ،‬سواء أكان بقصد أم بغير قصد ‪.‬‬
‫ومن ذلك مثلً في الصّلة يقول ابن نجيم ‪ :‬لو افتتح الصّلة بنيّة الفرض ‪ ،‬ثمّ غيّر نيّته في‬
‫الصّلة وجعلها تطوّعا ‪ ،‬صارت تطوّعا ‪.‬‬
‫وفي شرح منتهى الرادات ‪ :‬إن أحرم مصلّ بفرض ‪ ،‬كظهر في وقته المتّسع له ولغيره ‪ ،‬ثمّ‬
‫قلبه نفل ‪ ،‬بأن فسخ نيّة الفرضيّة دون نيّة الصّلة ‪ ،‬صحّت مطلقا ‪ ،‬أي سواء كان صلّى‬
‫الكثر منها أو القلّ ‪ ،‬وسواء كان لغرض صحيح أو ل ‪ ،‬لنّ النّفل يدخل في نيّة الفرض ‪،‬‬
‫وكره قلبه نفل لغير غرض صحيح ‪ .‬ث ّم قال ‪ :‬وينقلب نفل ما بان عدمه ‪ ،‬كما لو أحرم بفائتة‬
‫ظنّها عليه ‪ ،‬فتبيّن أنّه لم تكن عليه فائتة ‪ ،‬أو أحرم بفرض ثمّ تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ‪ ،‬لنّ‬
‫ح ‪ ،‬ولم يوجد ما يبطل النّفل ‪.‬‬
‫الفرض لم يص ّ‬
‫ومن ذلك الصّيام ‪ .‬جاء في شرح منتهى الرادات ‪ :‬من قطع نيّة صوم نذر أو كفّارة أو قضاء‬
‫‪ ،‬ثمّ نوى صوما نفل صحّ نفله ‪ ،‬وإن قلب صائم نيّة نذر أو قضاء إلى نفل صحّ ‪ ،‬كقلب‬
‫ل‪.‬‬
‫فرض الصّلة نف ً‬
‫وخالف الحجّاويّ في " القناع " في مسألة قلب القضاء ‪ ،‬وكره له ذلك لغير غرض ‪.‬‬
‫ومن ذلك الزّكاة ‪ .‬جاء في بدائع الصّنائع ‪ :‬إذا دفع الزّكاة إلى رجل ‪ ،‬ولم يخطر بباله أنّه ليس‬
‫ممّن تصرف الزّكاة إليهم وقت الدّفع ‪ ،‬ولم يشكّ في أمره ‪ ،‬فإذا ظهر بيقين أنّه ليس من‬
‫مصارفها لم تجزئه زكاة ‪ ،‬ويجب عليه العادة ‪ ،‬وليس له أن يستردّ ما دفع إليه ‪ ،‬ويقع‬
‫تطوّعا ‪ .‬ثمّ قال الكاسانيّ في موضع آخر ‪ :‬حكم المعجّل إذا لم يقع زكاة ‪ :‬أنّه إن وصل إلى‬
‫يد الفقير يكون تطوّعا ‪ ،‬سواء وصل إلى يده من يد ربّ المال أو من يد المام أو نائبه ‪-‬‬
‫وهو السّاعي ‪ -‬لنّه حصل أصل القربة ‪.‬‬
‫وصدقة التّطوّع ل يحتمل الرّجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير ‪.‬‬
‫ج في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة ‪ ،‬لنّها عبادة مؤقّتة‬
‫وفي المهذّب أيضا ‪ :‬من أحرم بالح ّ‬
‫‪ ،‬فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ‪ ،‬كصلة الظّهر إذا أحرم بها قبل‬
‫الزّوال ‪ ،‬فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل ‪ .‬وفي الشباه لبن نجيم ‪ :‬لو أحرم بالحجّ نذرا ونفلً كان‬
‫ج فرضا وتطوّعا كان تطوّعا عندهما في الصحّ ‪.‬‬
‫نفل ‪ ،‬ولو أحرم بالح ّ‬
‫حصول التّطوّع بأداء الفرض وعكسه ‪:‬‬
‫‪ - 20‬هناك صور يحصل التّطوّع فيها بأداء الفرض ‪ ،‬ولكنّ ثواب التّطوّع ل يحصل إل بنيّته‬
‫‪ .‬جاء في الشباه لبن نجيم ‪ -‬في الجمع بين عبادتين ‪ -‬قالوا ‪ :‬لو اغتسل الجنب يوم الجمعة‬
‫للجمعة ولرفع الجنابة ‪ ،‬ارتفعت جنابته ‪ ،‬وحصل له ثواب غسل الجمعة ‪.‬‬
‫وفي ابن عابدين ‪َ :‬منْ عليه جنابة نسيها واغتسل للجمعة مثلً ‪ ،‬فإنّه يرتفع حدثه ضمنا ‪ ،‬ول‬
‫يثاب ثواب الفرض ‪ ،‬وهو غسل الجنابة ما لم ينوه ‪ ،‬لنّه ل ثواب إلّا بال ّنيّة ‪.‬‬
‫وفي الشّرح الصّغير ‪ :‬تتأدّى تحيّة المسجد بصلة الفرض فيسقط طلب التّحيّة بصلته ‪ ،‬فإن‬
‫نوى الفرض والتّحيّة حصل ‪ ،‬وإن لم ينو التّحيّة لم يحصل له ثوابها ‪ ،‬لنّ العمال بال ّنيّات ‪.‬‬
‫ومثل ذلك غسل الجمعة والجنابة ‪ ،‬وصيام يوم عرفة مع نيّة قضاء ما عليه ‪.‬‬
‫وفي القواعد لبن رجب ‪ :‬لو طاف عند خروجه من مكّة طوافا ينوي به الزّيارة والوداع ‪،‬‬
‫فقال الخرقيّ وصاحب المغني ‪ :‬يجزئه عنهما ‪.‬‬
‫ثانيا ما يشمل العبادات وغيرها من أحكام ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قطع التّطوّع بعد الشّروع فيه ‪:‬‬
‫‪ - 21‬إذا كان التّطوّع عبادة كالصّلة والصّيام ‪ ،‬فعند الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬إذا شرع فيه وجب‬
‫ضيّا وقضاء ‪.‬‬
‫ن التّطوّع يلزم بالشّروع ُم ِ‬
‫إتمامه ‪ ،‬وإذا فسد وجب قضاؤه ‪ ،‬ل ّ‬
‫عمَالَكمْ } ‪.‬‬
‫ن المؤدّى عبادة ‪ ،‬وإبطال العبادة حرام ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل ُتبْطِلُوا أَ ْ‬
‫ول ّ‬
‫وقد « قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم لعائشة وحفصة رضي ال عنهما وقد أفطرتا في صوم‬
‫التّطوّع اقضيا يوما مكانه » ‪.‬‬
‫أنن المالكي ّة ل يوجبون القضاء إل إذا كان الفسناد متعمّدا ‪ ،‬فإن كان لعذر فل قضاء ‪.‬‬
‫غينر ّ‬
‫وع ند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ي ستحبّ التمام إذا شرع في التّطوّع ول ي جب ‪ ،‬ك ما أنّه ي ستحبّ‬
‫القضاء إذا فسند ‪ ،‬إلّا فني تطوّع الحجّن والعمرة فيجنب إتمامهمنا إذا شرع فيهمنا ‪ ،‬لنّن نفلهمنا‬
‫كفرضهما نيّة وفدية وغيرهما ‪.‬‬
‫واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة على عدم وجوب التمام بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« الصّائم المتطوّع أمير نفسه ‪ ،‬إن شاء صام ‪ ،‬وإن شاء أفطر » ‪.‬‬
‫وتنظر التّفاصيل في ( نفل ‪ ،‬صلة ‪ ،‬صيام ‪ ،‬حجّ ) ‪.‬‬
‫‪ - 22‬أمّا غير ذلك من التّطوّعات ‪ ،‬فإمّا أن يكون من قبيل عقود التّبرّعات المعروفة كالهبة‬
‫والعاريّة والوقف والوصيّة ‪ ،‬وإمّا أن يكون من غير ذلك ‪.‬‬
‫فإن كان من عقود التّبرّعات ‪ ،‬فلكلّ عقد حكمه في جواز الرّجوع أو عدم جوازه ‪ .‬ففي‬
‫الوصيّة مثل ‪ :‬يجوز باتّفاق الرّجوع فيها ما دام الموصي حيّا ‪.‬‬
‫وفي العاريّة والقرض ‪ :‬يجوز الرّجوع بطلب ردّ الشّيء المستعار واسترداد بدل القرض في‬
‫ن المقرض إذا أجّل القرض‬
‫الحال بعد القبض ‪ .‬وهذا عند غير المالكيّة ‪ ،‬بل قال الجمهور ‪ :‬إ ّ‬
‫ل يلزمه التّأجيل ‪ ،‬لنّه لو لزم فيه الجل لم يبق تبرّعا ‪.‬‬
‫ويجوز الرّجوع في الهبة قبل القبض ‪ ،‬فإذا تمّ القبض فل رجوع عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬إل‬
‫فيما وهب الوالد لولده ‪ ،‬وعند الحنفيّة ‪ :‬يجوز الرّجوع إن كانت لجنبيّ ‪.‬‬
‫وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في أبوابه ‪ .‬وفي ( تبرّع ) ‪.‬‬
‫أمّا غير ذلك من التّبرّعات كالصّدقة والنفاق وما شابه ذلك ‪ ،‬فإن كان قد مضى فل رجوع‬
‫فيه ‪ ،‬ما دام ذلك قد تمّ بنيّة التّبرّع ‪ .‬يقول ابن عابدين ‪ :‬ل رجوع في الصّدقة لنّ المقصود‬
‫فيها الثّواب ل العوض ‪ .‬ويقول ابن قدامة ‪ :‬ل يجوز للمتصدّق الرّجوع في صدقته في قولهم‬
‫جميعا ‪ ،‬لنّ عمر رضي ال عنه قال في حديثه ‪ :‬من وهب هبة على وجه صدقة فإنّه ل‬
‫يرجع فيها ‪ .‬ومثل ذلك النفاق إذا كان بقصد التّبرّع فل رجوع فيه ‪.‬‬
‫يقول ابن عابدين ‪ :‬إذا أنفق الوصيّ من مال نفسه على الصّبيّ ‪ ،‬وللصّبيّ مال غائب ‪ ،‬فهو‬
‫متطوّع في النفاق استحسانا ‪ ،‬إل أن يشهد أنّه قرض ‪ ،‬أو أنّه يرجع به عليه ‪.‬‬
‫ويقول ابن القيّم ‪ :‬المقاصد تغيّر أحكام التّصرّفات ‪ ،‬فال ّنيّة لها تأثير في التّصرّفات ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫أنّه لو قضى عن غيره دينا ‪ ،‬أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ‪ -‬ينوي التّبرّع والهبة ‪ -‬لم‬
‫ن في ذلك تفصيلً وخلفا بين المذاهب‬
‫يملك الرّجوع بالبدل ‪ ،‬وإن لم ينو فله الرّجوع ‪ .‬على أ ّ‬
‫في بعض الفروع ‪ ،‬ومن ذلك مثل ‪ :‬أنّ الشّافعيّة يجيزون للب ولسائر الصول الرّجوع في‬
‫الصّدقة المتطوّع بها على الولد ‪ ،‬أمّا الواجبة فل رجوع فيها ‪.‬‬
‫ول يجيزون للب الرّجوع في البراء لولده عن دينه ‪ .‬بينما يجيز الحنابلة رجوع الب فيما‬
‫أبرأ ابنه منه من الدّيون ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ‪ ،‬صدقة ‪ ،‬إبراء ‪ ،‬هبة ‪ ،‬نفقة ) ‪.‬‬
‫‪ - 23‬أمّا ما شرع فيه من الصّدقة ‪ .‬فأخرج بعضه ‪ ،‬فل يلزمه الصّدقة بباقيه ‪.‬‬
‫ن النسان لو نوى الصّدقة بمال مقدّر ‪ ،‬وشرع في‬
‫يقول ابن قدامة ‪ :‬انعقد الجماع على أ ّ‬
‫الصّدقة به ‪ ،‬فأخرج بعضه لم تلزمه الصّدقة بباقيه ‪ ،‬وهو نظير العتكاف ‪ ،‬لنّه غير مقدّر‬
‫بالشّرع فأشبه الصّدقة ‪ ،‬غير أنّ ابن رجب ذكر خلفا في ذلك ‪.‬‬
‫والحطّاب ع ّد الشياء الّتي تلزم بالشّروع ‪ ،‬وهي سبع ‪ :‬الصّلة والصّوم والعتكاف والحجّ‬
‫والعمرة والئتمام والطّواف ‪ .‬ثمّ ذكر ما ل يلزم بالشّروع ‪ ،‬وأنّه ل يجب القضاء بقطعه ‪،‬‬
‫وهو ‪ :‬الصّدقة والقراءة والذكار والوقف والسّفر للجهاد ‪ ،‬وغير ذلك من القربات ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ‪ ،‬صدقة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬نيّة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 24‬التّطوّع ‪ -‬إن كان عبادة ‪ -‬فل بدّ فيه من ال ّنيّة بالجماع ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا ُأ ِمرُوا‬
‫ن لَ ُه الدّينَ } وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّما العمال بال ّنيّات »‬
‫إل ِل َي ْع ُبدُوا الّل َه ُمخْلِصِي َ‬
‫وهي مقصودة بها تمييز العبادات عن العادات ‪ ،‬وتمييز بعض العبادات عن بعض‪ .‬فالغسل قد‬
‫يكون تبرّدا وعبادة ‪ ،‬والمساك عن المفطرات قد يكون حميّة أو تداويا ‪ ،‬ودفع المال يكون‬
‫صدقة شرعيّة وصلة متعارفة ‪ . .‬وهكذا ‪ ،‬وعلى ذلك فال ّنيّة شرط في العبادات باتّفاق ‪ ،‬إلّا أنّ‬
‫الفقهاء يختلفون في ال ّنيّة في تطوّع العبادات بالنّسبة للتّعيين أو الطلق ‪ - 25 .‬والتّطوّع في‬
‫العبادات ‪ ،‬منه ما هو مطلق كالتّهجّد والصّوم ‪ ،‬ومنه ما هو مقيّد كصلة الكسوف والسّنن‬
‫الرّواتب مع الفرائض ‪ ،‬وكصيام عرفة وعاشوراء ‪.‬‬
‫ح عند جميع الفقهاء أداؤه دون تعيينه بال ّنيّة ‪ ،‬وتكفي نيّة مطلق‬
‫أمّا التّطوّع المطلق ‪ ،‬فيص ّ‬
‫الصّلة أو مطلق الصّوم ‪.‬‬
‫أمّا التّطوّع المعيّن كالرّواتب والوتر والتّراويح ‪ ،‬وصلة الكسوف والستسقاء ‪ ،‬وصيام يوم‬
‫عاشوراء ‪ ،‬فإنّه يشترط فيه تعيينه بال ّنيّة ‪ ،‬وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض‬
‫ن المالكيّة حدّدوا المعيّن عندهم بأنّه ‪ :‬الوتر والعيدان وصلة الكسوف‬
‫مشايخ الحنفيّة ‪ ،‬غير أ ّ‬
‫والستسقاء ورغيبة الفجر ‪ ،‬أمّا غير ذلك فهو من المطلق عندهم ‪.‬‬
‫ح دون تعيينه ‪ ،‬وأنّه يكفي فيه‬
‫والصّحيح المعتمد عند الحنفيّة أنّ التّطوّع المعيّن أو المقيّد يص ّ‬
‫مطلق ال ّنيّة كالتّطوّع المطلق ‪ ،‬وهو ما عليه أكثر مشايخ الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن نيّة القربة‬
‫‪ - 26‬أمّا غير العبادات من التّطوّعات ‪ ،‬فالصل أنّه ل مدخل لل ّنيّة فيها ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫ث على المعروف ‪ -‬مطلوبة لستحقاق الثّواب ‪ ،‬إذ أنّها‬
‫فيها ‪ -‬امتثال لوامر الشّرع الّتي تح ّ‬
‫ل تتمحّض قربة إلّا بهذه ال ّنيّة ‪.‬‬
‫يقول الشّاطبيّ ‪ :‬المقاصد معتبرة في التّصرّفات من العبادات والعادات ‪ .‬إلى أن قال ‪ :‬وأمّا‬
‫العمال العاديّة ‪ -‬وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نيّة ‪ -‬فل تكون عبادات ول‬
‫معتبرات في الثّواب إل مع قصد المتثال ‪ ،‬وفي الشباه لبن نجيم ‪ :‬ل يتوقّف الوقف ول‬
‫الهبة ول الوصيّة على ال ّنيّة ‪ ،‬فالوصيّة إن قصد التّقرّب بها فله الثّواب ‪ ،‬وإلّا فهي صحيحة‬
‫فقط ‪ ،‬وكذلك الوقف إن نوى القربة فله الثّواب وإل فل ‪ ،‬وعلى هذا سائر القرب ل بدّ فيها‬
‫من ال ّنيّة ‪ ،‬بمعنى توقّف حصول الثّواب على قصد التّقرّب بها إلى اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ح القصد ‪ ،‬وإن‬
‫وفي الشّرح الصّغير ‪ :‬الهبة من التّبرّعات المندوبة كالصّدقة ‪ ،‬وهذا إن ص ّ‬
‫ن ذلك ممّا رغّب فيه الشّرع فإنّه يثاب ‪ .‬وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ ‪:‬‬
‫استحضر أ ّ‬
‫عيادة المريض واتّباع الجنازة ور ّد السّلم قربة ‪ ،‬ل يستحقّ الثّواب عليها إل بال ّنيّة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬النّيابة في التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 27‬التّطوّع إن كان من العبادات البدنيّة كالصّلة والصّوم ‪ ،‬فل تجوز فيه النّيابة ‪ ،‬لنّه ل‬
‫تجوز النّيابة في فرضه في الجملة ‪ ،‬فل تجوز في نفله ‪ .‬وإن كان مركّبا منهما كالحجّ ‪ ،‬فعند‬
‫ح النّيابة فيه ‪ ،‬وهو الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وأحد قولين معتمدين عند‬
‫الحنفيّة والحنابلة تص ّ‬
‫المالكيّة ‪ .‬أمّا غير ذلك من العبادات الماليّة والتّطوّعات بأنواع البرّ والمعروف ‪ ،‬كالصّدقة‬
‫والهدي والعتق والوقف والوصيّة والهبة والبراء وغيرها فإنّه تجوز النّيابة فيها ‪ .‬كما أنّه‬
‫يجوز عند الحنفيّة والحنابلة أن يتطوّع النسان بجعل ثواب عمله من صلة وصيام وحجّ‬
‫ن النّبيّ‬
‫وصدقة وعتق وطواف وعمرة وقراءة وغير ذلك لغيره ‪ ،‬من حيّ أو ميّت ‪ .‬بدليل أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم « ضحّى بكبشين أملحين ‪ ،‬أحدهما عنه ‪ ،‬والخر عن أمّته » ‪ .‬وروى‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال لعمرو بن‬
‫عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أ ّ‬
‫العاص ‪ ،‬لمّا سأله عن أبيه ‪ :‬لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدّقتم عنه أو حججتم عنه بلغه‬
‫ج التّطوّع وغيره ‪ ،‬ولنّه عمل برّ وطاعة فوصل‬
‫ذلك » ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا عامّ في ح ّ‬
‫نفعه وثوابه كالصّدقة والصّيام والحجّ الواجب ‪ « .‬عن أنس رضي ال عنه قال ‪ :‬يا رسول‬
‫ج عنهم ‪ ،‬وندعو لهم ‪ ،‬فهل يصل ذلك لهم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫اللّه ‪ ،‬إنّا نتصدّق عن موتانا ‪ ،‬ونح ّ‬
‫إنّه ليصل إليهم ‪ ،‬وإنّهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطّبق إذا أهدي إليه » ‪.‬‬
‫ن من البرّ بعد الموت أن تصلّي لبويك مع صلتك ‪ ،‬وأن‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫تصوم لهما مع صومك » وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز فيما عدا الصّلة والصّيام ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نيابة ‪ -‬وكالة ‪ -‬نفل ‪ -‬صدقة ‪ -‬صلة ‪ -‬وصوم ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الجرة على التّطوّع ‪:‬‬
‫ل طاعة يختصّ بها المسلم ل يجوز أخذ الجرة عليها ‪ ،‬كالمامة والذان‬
‫‪ - 28‬الصل أنّ ك ّ‬
‫ج والجهاد وتعليم القرآن ‪ .‬لما روى عثمان بن أبي العاص قال ‪ « :‬إنّ آخر ما عهد إليّ‬
‫والح ّ‬
‫خذَ مؤذّنا ل يأخذُ على أذانه أجرا » ولنّ القربة متى حصلت‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن أ ّت ِ‬
‫وقعت عن العامل ‪ ،‬ولهذا تعتبر أهليّته ‪ ،‬فل يجوز أخذ الجر عن غيره كما في الصّوم‬
‫والصّلة ‪ .‬هذا مذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو رواية عند الحنابلة ‪.‬‬
‫ح مع الكراهة عند المالكيّة ‪ .‬جاء في الشّرح الصّغير ‪ :‬تكره إجارة النسان نفسه في‬
‫ويص ّ‬
‫عمل للّه تعالى ‪ ،‬حجّا أو غيره ‪ ،‬كقراءة وإمامة وتعليم علم ‪ ،‬وصحّته مع الكراهة ‪.‬‬
‫كما تكره الجارة على الذان ‪ ،‬قال مالك ‪ :‬لن يؤاجر الرّجل نفسه في عمل اللّبن وقطع‬
‫ب إليّ من أن يعمل عمل للّه بأجرة ‪.‬‬
‫الحطب وسوق البل أح ّ‬
‫ح إجارة مسلم لجهاد ول لعبادة يجب لها نيّة ‪،‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ ،‬كما في نهاية المحتاج ‪ :‬ل تص ّ‬
‫وألحقوا بذلك المامة ولو لنفل ‪ ،‬لنّه حصل لنفسه ‪ .‬أمّا ما ل تجب له نيّة كالذان فيصحّ‬
‫ج والعمرة ‪ ،‬فيجوز الستئجار لهما أو لحدهما‬
‫الستئجار عليه ‪ ،‬واستثني ممّا فيه نيّة ‪ :‬الح ّ‬
‫عن عاجز أو ميّت ‪ ،‬وتقع صلة ركعتي الطّواف تبعا لهما ‪ ،‬وتجوز الجارة عن تفرقة زكاة‬
‫وكفّارة وأضحيّة وهدي وذبح وصوم عن ميّت وسائر ما يقبل النّيابة وإن توقّف على ال ّنيّة ‪،‬‬
‫ح الجارة لكلّ ما ل تجب له نيّة ‪.‬‬
‫لما فيها من شائبة المال ‪ .‬وتص ّ‬
‫ح لتجهيز ميّت ودفنه وتعليم قرآن ولقراءة القرآن عند القبر أو مع الدّعاء ‪.‬‬
‫وتص ّ‬
‫وفي الختيارات الفقهيّة لبن تيميّة ‪ :‬ل يجوز للنسان أن يقبل هديّة من شخص ليشفع له عند‬
‫ذي أمر ‪ ،‬أو أن يرفع عنه مظلمة ‪ ،‬أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولية يستحقّها ‪ ،‬أو يستخدمه‬
‫في الجند المقاتلة وهو مستحقّ لذلك ‪ ،‬وإذا امتنعت الهديّة امتنعت الجرة من باب أولى ‪.‬‬
‫ن من أخذ أجرا على عمل تطوّع ‪ -‬ممّا يجوز عند الفقهاء ‪ -‬فإنّه يعتبر‬
‫والصل في ذلك ‪ :‬أ ّ‬
‫ن القرب والطّاعات إذا وقعت بأجرة لم تكن قربة ول‬
‫أجيرا ‪ ،‬وليس متطوّعا بالقربات ‪ ،‬ل ّ‬
‫عبادة ‪ ،‬لنّه ل يجوز التّشريك في العبادة ‪ ،‬لكن إذا كان الرّزق من بيت المال أو من وقف‬
‫فإنّه يعتبر نفقة في المعنى ‪ ،‬ول يعتبر أجرا ‪.‬‬
‫ص فاعلها أن يكون من أهل القربة ‪ ،‬هل يجوز‬
‫جاء في الختيارات الفقهيّة ‪ :‬العمال الّتي يخت ّ‬
‫إيقاعها على غير وجه القربة ؟ فمن قال ‪ :‬ل يجوز ذلك ‪ ،‬لم يجز الجارة عليها ‪ ،‬لنّها‬
‫بالعوض تقع غير قربة و« إنّما العمال بال ّنيّات » واللّه تعالى ل يقبل من العمل إل ما أريد‬
‫به وجهه ‪ ،‬ومن جوّز الجارة جوّز إيقاعها على غير وجه القربة ‪ ،‬وقال ‪ :‬تجوز الجارة‬
‫عليها ل فيها من نفع المستأجر ‪ ،‬وأمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضا وأجرة ‪ ،‬بل رزق‬
‫للعانة على الطّاعة ‪ ،‬فمن عمل منهم للّه أثيب ‪ .‬وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ‬
‫والموصى به كذلك ‪ ،‬والمنذور كذلك ‪ ،‬ليس كالجرة ‪.‬‬
‫ويقول القرافيّ ‪ :‬باب الرزاق أدخل في باب الحسان وأبعد عن باب المعاوضة ‪ ،‬وباب‬
‫الجارة أبعد من باب المسامحة وأدخل في باب المكايسة ‪ ،‬ثمّ يقول ‪ :‬الرزاق مجمع على‬
‫جوازها ‪ ،‬لنّها إحسان ومعروف وإعانة ل إجارة ‪.‬‬
‫انقلب التّطوّع إلى واجب ‪:‬‬
‫‪ - 29‬ينقلب التّطوّع إلى واجب لسباب متعدّدة منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الشّروع ‪:‬‬
‫‪ - 30‬التّطوّع بالحجّ عند جميع الفقهاء يصير واجبا بالشّروع فيه ‪ ،‬بحيث إذا فسد وجب‬
‫قضاؤه ‪ .‬ومثل ذلك ‪ :‬الصّلة والصّيام عند الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّطوّع بالحجّ ممّن لم يحجّ حجّة السلم ‪:‬‬
‫‪ - 31‬قال ابن قدامة ‪ :‬من أحرم بحجّ تطوّع ‪ -‬ممّن لم يحجّ حجّة السلم ‪ -‬وقع عن حجّة‬
‫السلم ‪ ،‬وبهذا قال ابن عمر وأنس والشّافعيّ ‪ ،‬لنّه أحرم بالحجّ وعليه فرضه ‪ ،‬فوقع عن‬
‫فرضه كالمطلق ‪ .‬ولو أحرم بتطوّع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة ‪ ،‬ولنّها واجبة فهي‬
‫كحجّة السلم ‪ .‬والعمرة كالحجّ فيما ذكرنا لنّها أحد النّسكين ‪ ،‬فأشبهت الخر ‪.‬‬
‫ج حجّة السلم ‪ -‬وقع‬
‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى ‪ :‬أنّه إذا نوى حجّة نفل ‪ -‬ولم يكن قد ح ّ‬
‫ن وقت الحجّ يشبه وقت الصّلة ( ظرف ) ووقت الصّوم ( معيار ) فأعطي‬
‫عمّا نواه ‪ ،‬ل ّ‬
‫حكمهما ‪ ،‬فيتأدّى فرضه بمطلق ال ّنيّة ‪ ،‬ويقع عن النّفل إذا نواه ‪.‬‬
‫وقال ابن نجيم ‪ :‬لو طاف بنيّة التّطوّع في أيّام النّحر وقع عن الفرض ‪.‬‬
‫وفي البدائع ‪ :‬لو تصدّق بجميع ماله على فقير ‪ ،‬ولم ينو الزّكاة أجزأه عن الزّكاة استحسانا‪.‬‬
‫والقياس ‪ :‬أن ل يجوز ‪ ،‬لنّ الزّكاة عبادة مقصودة ‪ ،‬فل بدّ لها من ال ّنيّة ‪.‬‬
‫ووجه الستحسان أنّ ال ّنيّة وجدت دللة ‪ ،‬وعلى هذا إذا وهب جميع النّصاب من الفقير ‪ ،‬أو‬
‫نوى تطوّعا ‪ ،‬ولو أدّى مائة ل ينوي الزّكاة ‪ ،‬ونوى تطوّعا ‪ ،‬ل تسقط زكاة المائة وعليه أن‬
‫ل عند أبي يوسف ‪ .‬وعند محمّد يسقط عنه زكاة ما تصدّق ‪ ،‬ول يسقط عنه زكاة‬
‫يزكّي الك ّ‬
‫الباقي ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬اللتزام أو التّعيين بال ّنيّة والقول ‪:‬‬
‫‪ - 32‬جاء في الدّرّ المختار ‪ :‬لو نذر التّصدّق يوم الجمعة بمكّة بهذا الدّرهم على فلن ‪،‬‬
‫فخالف ‪ ،‬جاز ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬فلو خالف في بعضها أو كلّها ‪ ،‬بأن تصدّق في غير يوم‬
‫ن الدّاخل تحت النّذر ما هو قربة ‪،‬‬
‫الجمعة ببلد آخر بدرهم آخر على شخص آخر جاز ‪ ،‬ل ّ‬
‫وهو أصل التّصدّق دون التّعيين ‪ ،‬فبطل التّعيين ولزمه القربة ‪.‬‬
‫ثمّ قال ابن عابدين ‪ :‬وهذا ليس على إطلقه لما في البدائع ‪ :‬لو قال ‪ :‬للّه عليّ أن أطعم هذا‬
‫المسكين شيئا سمّاه ولم يعيّنه ‪ ،‬فل بدّ أن يعطيه للّذي سمّى ‪ ،‬لنّه إذا لم يعيّن المنذور صار‬
‫تعيين الفقير مقصودا ‪ ،‬فل يجوز أن يعطي غيره ‪ .‬وفي الختيار ‪ :‬ل تجب الضحيّة على‬
‫الفقير ‪ ،‬لكنّها تجب بالشّراء ‪ ،‬ويتعيّن ما اشتراه للضحيّة ‪ .‬فإن مضت أيّام الضحيّة ولم يذبح‬
‫‪ ،‬تصدّق بها حيّة ‪ ،‬لنّها غير واجبة على الفقير ‪ ،‬فإذا اشتراها بنيّة الضحيّة تعيّنت‬
‫للوجوب ‪ ،‬والراقة إنّما عرفت قربة في وقت معلوم ‪ ،‬وقد فات فيتصدّق بعينها ‪.‬‬
‫وإن كان المضحّي غنيّا ‪ ،‬وفات وقت الضحيّة ‪ ،‬تصدّق بثمنها ‪ ،‬اشتراها أو ل ‪ ،‬لنّها واجبة‬
‫عليه ‪ ،‬فإذا فات وقت القربة في الضحيّة تصدّق بالثّمن إخراجا له عن العهدة ‪.‬‬
‫وجاء في نهاية المحتاج ‪ :‬الضحيّة سنّة ‪ ،‬ولكنّها تجب باللتزام ‪ ،‬كقوله ‪ :‬جعلت هذه الشّاة‬
‫أضحيّة كسائر القرب ‪ .‬وفي تحرير الكلم في مسائل اللتزام للحطّاب ‪ :‬اللتزام المطلق‬
‫يقضى به على الملتزم ‪ ،‬ما لم يفلّس أو يمت أو يمرض ‪.‬‬
‫وقال ابن رشد في نوازله فيمن عزل لمسكين معيّن شيئا ‪ ،‬وبتّله له بقول أو نيّة ‪ ،‬فل يجوز له‬
‫أن يصرفه إلى غيره ‪ ،‬وهو ضامن له إن فعل ‪ .‬ولو نوى أن يعطيه ولم يبتّله له بقول ول نيّة‬
‫كره له أن يصرفه إلى غيره ‪ .‬ومعنى بتّله ‪ :‬جعله له من الن ‪.‬‬
‫وفي الفواكه الدّواني ‪ :‬من أخرج كسرة لسائل فوجده قد ذهب ل يجوز له أكلها ‪ ،‬ويجب عليه‬
‫أن يتصدّق بها على غيره ‪ ،‬كما قاله مالك ‪ .‬وقال غيره ‪ :‬يجوز له أكلها ‪ ،‬وقال ابن رشد ‪:‬‬
‫يحمل كلم غير مالك على ما إذا أخرجها لمعيّن ‪ ،‬فيجوز له أكلها عند عدم وجوده أو عدم‬
‫قبوله ‪ ،‬وحمل كلم مالك على إخراجها لغير معيّن ‪ ،‬فل يجوز له أكلها بل يتصدّق بها على‬
‫غيره ‪ ،‬لنّه لم يعيّن الّذي يأخذها ‪.‬‬
‫وفي القواعد الفقهيّة لبن رجب ‪ :‬الهدي والضحيّة يتعيّنان بالتّعيين بالقول بل خلف ‪.‬‬
‫وفي تعيينه بال ّنيّة وجهان ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬هذه صدقة ‪ ،‬تعيّنت وصارت في حكم المنذورة ‪ ،‬وإذا‬
‫عيّن بنيّته أن يجعلها صدقة ‪ -‬وعزلها عن ماله ‪ -‬فهو كما لو اشترى شاة ينوي التّضحية‪.‬‬
‫د ‪ -‬النّذر ‪:‬‬
‫‪ - 33‬النّذر بالقرب والطّاعات يجعلها واجبة ‪.‬‬
‫قال الكاسانيّ ‪ :‬النّذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة ‪.‬‬
‫وفي فتح العليّ المالك ‪ :‬النّذر المطلق ‪ :‬هو التزام طاعة اللّه تعالى بنيّة القربة ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬استدعاء الحاجة ‪:‬‬
‫‪ - 34‬قال ابن رجب في قواعده ‪ :‬ما تدعو الحاجة إلى النتفاع به من العيان ‪ -‬ول ضرر‬
‫في بذله لتيسّره ‪ ،‬وكثرة وجوده ‪ -‬أو المنافع المحتاج إليها يجب بذله مجّانا بغير عوض في‬
‫الظهر ‪ ،‬ومن ذلك وضع الخشب على جدار الجار إذا لم يضرّ ‪ ،‬واختار بعضهم وجوب بذل‬
‫الماعون ‪ ،‬وهو ما خفّ قدره وسهل ( وجرت العادة ببذله ) ‪ ،‬ومنها ‪ :‬المصحف تجب إعارته‬
‫لمسلم احتاج القراءة فيه ‪ .‬وفي حاشية الصّاويّ على الشّرح الصّغير ‪ :‬العاريّة مندوبة ‪ ،‬وقد‬
‫يعرض وجوبها ‪ ،‬كغنيّ عنها لمن يخشى بعدمها هلكه ‪.‬‬
‫وفي القرض قال ‪ :‬القرض مندوب ‪ ،‬وقد يعرض له ما يوجبه كالقرض لتخليص مستهلك ‪.‬‬
‫و ‪ -‬الملك ‪:‬‬
‫‪ - 35‬الصل في العتق أنّه مندوب مرغّب فيه ‪ ،‬لكن يكون واجبا على من ملك أصله أو‬
‫فرعه ‪ ،‬حيث يعتق عليه بنفس الملك ‪.‬‬
‫أسباب منع التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 36‬يمنع التّطوّع لسباب متعدّدة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬وقوعه في الوقات المنهيّ عنها ‪:‬‬
‫‪ - 37‬التّطوّع بالعبادة في الوقات الّتي نهى الشّارع عن وقوع العبادة فيها ممنوع ‪ ،‬كالصّلة‬
‫ي رضي ال‬
‫وقت طلوع الشّمس أو غروبها أو عند الستواء ‪ ،‬لحديث عقبة بن عامر الجهن ّ‬
‫عنه قال ‪ « :‬ثلث ساعات كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ‪ ،‬أو أن‬
‫ن موتانا ‪ :‬حين تطلع الشّمس بازغة حتّى ترتفع ‪ ،‬وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل‬
‫نقبر فيه ّ‬
‫الشّمس ‪ ،‬وحين تضيف الشّمس للغروب حتّى تغرب » ‪.‬‬
‫ومثل ذلك التّطوّع بالصّوم في أيّام العيد والتّشريق ‪ ،‬لما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم نهى عن صيام يومين ‪ :‬يوم الفطر ‪ ،‬ويوم النّحر » ‪.‬‬
‫«أّ‬
‫وينظر في صحّة ذلك وتفصيله ‪ ( :‬أوقات الصّلوات ‪ -‬صلة ‪ -‬نفل ‪ -‬صوم ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إقامة الصّلة المكتوبة ‪:‬‬
‫‪ - 38‬يمنع التّطوّع بالصّلة إذا شرع المؤذّن في القامة للصّلة ‪ ،‬أو تضيّق الوقت بحيث ل‬
‫يتّسع لداء أيّ نافلة ‪ .‬قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا أقيمت الصّلة فل صلة إل‬
‫المكتوبة » ‪ ( .‬ر ‪ :‬أوقات الصّلة ‪ ،‬نفل ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬عدم الذن ممّن يملك الذن ‪:‬‬
‫‪ - 39‬من يتوقّف تطوّعه على إذن غيره ل يجوز له أن يتطوّع إل بعد الذن له ‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫ج إل بإذن زوجها ‪ ،‬ول يصوم الجير‬
‫فل يجوز للمرأة أن تتطوّع بصوم أو اعتكاف أو ح ّ‬
‫تطوّعا إل بإذن المستأجر إذا تضرّر بالصّوم ‪ ،‬ول يجوز للولد البالغ الحرام بنفل حجّ أو‬
‫عمرة أو نفل جهاد إل بإذن البوين ‪.‬‬
‫ج ‪ ،‬إجارة ‪ ،‬أنثى ) ‪.‬‬
‫وهذا في الجملة ‪ ،‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نفل ‪ ،‬صلة ‪ ،‬صوم ‪ ،‬ح ّ‬
‫د ‪ -‬الفلس في الحجر بالنّسبة للتّبرّعات الماليّة ‪:‬‬
‫‪ - 40‬من أحَاط الدّين بماله فإنّه يمنع شرعا من التّصرّف في أيّ وجه من وجوه التّبرّع‬
‫كالصّدقة والهبة ‪ ،‬وهذا بعد الحجر باتّفاق ‪ ،‬أمّا قبل الحجر ففيه اختلف الفقهاء ( ر ‪ :‬حجر ‪،‬‬
‫تبرّع ‪ ،‬إفلس ) ‪.‬‬
‫وتمنع التّبرّعات المنجّزة ‪ -‬كالعتق والهبة المقبوضة والصّدقة وغير ذلك ‪ -‬إن زادت على‬
‫ن اللّه‬
‫الثّلث ‪ ،‬وكانت التّبرّعات في مرض الموت ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫تصدّق عليكم قبل وفاتكم بثلث أموالكم » ‪.‬‬
‫ويتوقّف نفاذ تلك التّصرّفات على إجازة الورثة بعد وفاة المورّث ‪ .‬ومن وقف وقفا مستقلً ‪،‬‬
‫ثمّ تبيّن أنّ عليه دينا ‪ ،‬ولم يمكن وفاء الدّين إلّا ببيع شيء من الوقف ‪ ،‬وهو في مرض‬
‫الموت ‪ ،‬بيع باتّفاق العلماء ‪ .‬ويمنع من التّبرّع أيضا من تلزمه نفقة غيره ‪ ،‬بحيث ل يفضل‬
‫شيء بعد ذلك ‪ .‬جاء في المنثور ‪ :‬القربات الماليّة كالعتق والوقف والصّدقة والهبة إذا فعلها‬
‫من عليه دين ‪ ،‬أو من تلزمه نفقة غيره ممّا ل يفضل عن حاجته ‪ ،‬يحرم عليه في الصحّ ‪،‬‬
‫ص أحمد في رواية حنبل‬
‫لنّه حقّ واجب فل يحلّ تركه لسنّة ‪ .‬وفي القواعد لبن رجب ‪ :‬ن ّ‬
‫ن لهما ردّه ‪ ،‬ونصّ في رواية أخرى ‪:‬‬
‫فيمن تبرّع بماله بوقف أو صدقة وأبواه محتاجان ‪ :‬أ ّ‬
‫ن الوصيّة تردّ عليهم ‪.‬‬
‫ن من أوصى لجانب ‪ ،‬وله أقارب محتاجون ‪ ،‬أ ّ‬
‫أّ‬
‫فتخرج من ذلك أنّ من تبرّع ‪ ،‬وعليه نفقة واجبة لوارث أو دين ‪ -‬ليس له وفاء ‪ -‬لهما ردّه ‪.‬‬
‫ل هذا في الجملة وينظر في ‪ ( :‬حجر ‪ ،‬تبرّع ‪ ،‬هبة ‪ ،‬وقف ‪ ،‬وصيّة ) ‪.‬‬
‫وك ّ‬
‫هن ‪ -‬التّطوّع بشيء من القربات في المعصية ‪:‬‬
‫‪ - 41‬ل يجوز التّبرّع بشيء فيه معصية للّه تعالى ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ‪:‬‬
‫ح الوصيّة بما هو محرّم ‪ ،‬كالوصيّة للكنيسة‬
‫‪ -‬ل تصحّ إعارة الصّيد لمحرم بالحجّ ‪ - .‬ل تص ّ‬
‫‪ ،‬والوصيّة بالسّلح لهل الحرب ‪.‬‬
‫ول الوصيّة ببناء كنيسة أو بيت نار أو عمارتهما أو التّفاق عليهما ‪.‬‬
‫ل يصحّ الوقف على معصية‪ ،‬ول على ما هو محرّم كالبيع والكنائس وكتب التّوراة والنجيل‪.‬‬
‫ن القصد بالوقف القربة ‪.‬‬
‫ح الوقف ‪ ،‬ل ّ‬
‫ومن وقف على من يقطع الطّريق لم يص ّ‬
‫وفي وقف ذلك إعانة على المعصية ‪ .‬وهذا كلّه في الجملة ‪.‬‬
‫وفي ذلك خلف وتفصيل يرجع إليه في ‪ ( :‬الوقف ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬والهبة ‪ ،‬والتّبرّع )‬
‫ثالثا ‪ :‬ما يخصّ غير العبادات " من أحكام التّطوّع ‪:‬‬
‫اليجاب والقبول والقبض ‪:‬‬
‫‪ - 42‬من التّطوّعات ما يحتاج إلى اليجاب والقبول ‪ ،‬وذلك في عقود التّبرّعات ‪ ،‬مثل العاريّة‬
‫والهبة والوصيّة لمعيّن ‪ ،‬وكذا الوقف على معيّن ‪ -‬مع اختلف الفقهاء في ذلك ‪ ،‬واختلفهم‬
‫في اشتراط القبض أيضا ‪ -‬وتفصيل ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العاريّة ‪:‬‬
‫ل التّعاطي محلّ اليجاب‬
‫‪ - 43‬اليجاب والقبول ركن في عقد العاريّة باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وقد يح ّ‬
‫أو القبول ‪ .‬والقبض ل يمنع الرّجوع في العاريّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لنّها عقد‬
‫غير لزم عندهم ‪ ،‬وللمعير الرّجوع في العاريّة في أيّ وقت ‪ ،‬سواء أقبضها المستعير أم لم‬
‫ن المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المستعير ‪ ،‬لنّها تستوفى شيئا فشيئا‬
‫يقبضها ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ ،‬فكلّما استوفى شيئا فقد قبضه ‪ ،‬والّذي لم يستوفه لم يقبضه ‪ ،‬فجاز الرّجوع فيه ‪ ،‬إلّا أن‬
‫يكون الرّجوع في حال يستضرّ به المستعير ‪ ،‬كإعارة أرض لزراعة أو دفن ميّت ‪ .‬وهذا في‬
‫الجملة عندهم ‪ ،‬وينظر تفصيله في ‪ ( :‬عاريّة ) ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فالعارة عقد لزم عندهم ‪ ،‬فهي تفيد تمليك المنفعة باليجاب والقبول ‪ ،‬ول‬
‫يجوز الرّجوع فيها قبل المدّة المحدّدة ‪ ،‬أو قبل إمكان النتفاع بالمستعار إن كانت مطلقة ‪.‬‬
‫وهذا في الجملة كذلك ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الهبة ‪:‬‬
‫‪ - 44‬اليجاب والقبول ركن من أركان الهبة باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫ن الملك لو ثبت بدونه‬
‫أمّا القبض فل بدّ منه لثبوت الملك ‪ ،‬وذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫للزم المتبرّع شيء لم يلتزمه ‪ ،‬وهو التّسلّم ‪ ،‬فل تملك بالعقد بل بالقبض ‪ ،‬لما روي عن‬
‫صدّيق كان‬
‫عائشة رضي ال عنها زوج النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّها قالت ‪ « :‬إنّ أبا بكر ال ّ‬
‫نحلها جادّ عشرين وسقا من ماله بالغابة ‪ .‬فلمّا حضرته الوفاة قال ‪ :‬واللّه ‪ ،‬يا بنيّة ما من‬
‫ب إليّ غنى بعدي منك ‪ ،‬ول أع ّز عليّ فقرا بعدي منك ‪ ،‬وإنّي كنت نحلتك جادّ‬
‫النّاس أحد أح ّ‬
‫عشرين وسقا ‪ ،‬فلو كنت جدّدتيه واحتزتيه كان لك ‪ ،‬وإنّما هو اليوم مال وارث » ‪.‬‬
‫وما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة هو رأي بعض الحنابلة ‪ .‬قال المجد بن تيميّة في شرح الهداية‬
‫ن القبض ركن‬
‫‪ :‬الملك في الموهوب ل يثبت بدون القبض ‪ ،‬وكذا صرّح ابن عقيل الحنبليّ ‪ :‬أ ّ‬
‫من أركان الهبة كاليجاب في غيرها ‪ ،‬وكلم الخرق يّ يدلّ عليه ‪ .‬والرّأي الخر للحنابلة ‪ :‬أ نّ‬
‫ح التّصنرّف منن الموهوب له فيهنا قبنل القبنض ‪ ،‬كذا فني المنتهنى‬
‫الهبنة تملك بالعقند ‪ ،‬فيصن ّ‬
‫وشرحه ‪ ،‬وهو الّذي قدّمه في النصاف ‪ .‬وعلى رأي الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ومن رأى رأيهم من‬
‫الحنابلة ‪ :‬يجوز الرّجوع فيها قبل القبض ‪ ،‬لنّ عقد الهبة لم يتمّ ‪ .‬ولكنّه عند من يرى ذلك من‬
‫الحنابلة يكون مع الكراهة ‪ ،‬خروجا من خلف من قال ‪ :‬إ نّ الهبة تلزم بالعقد ‪ .‬وعند المالكيّة‬
‫‪ :‬تملك الهبة بالقبول على المشهور ‪ ،‬وللمتّهب طلبها من الواهب إن امتنع ولو عند حاكم ‪،‬‬
‫ليجبره على تمكين الوهوب له منها ‪ .‬لكن قال ابن عبد ال سّلم ‪ :‬القبول والحيازة معتبران في‬
‫أنن القبول ركنن والحيازة شرط ‪ .‬أي فني تمامهنا ‪ ،‬فإن عدم لم تلزم ‪ ،‬وإن كاننت‬
‫الهبنة ‪ ،‬إل ّ‬
‫صحيحة ‪ .‬على أ نّ اله بة لو تمّت بالق بض ‪ ،‬فإنّه يجوز الرّجوع في ها ع ند الحنفيّة إن كا نت‬
‫لجنبيّ ‪ ،‬أي غير ذي رحم محرم ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها » أمّا عند الجمهور فل يجوز الرّجوع فيها بعد القبض ‪،‬‬
‫إلّا الوالد فيما يهب لولده فإنّه يجوز له الرّجوع لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬العائد في‬
‫هبته كالعائد في قيئه » ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( هبة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الوصيّة لمعيّن ‪:‬‬
‫‪ - 45‬من أركان الوصيّة اليجاب من الموصي والقبول من الموصى له المعيّن ‪ ،‬لكنّ القبول‬
‫ن الوصيّة عقد غير لزم ‪،‬‬
‫ل يعتبر إلّا بعد موت الموصي ‪ ،‬ول يفيد القبول قبل موته ‪ ،‬ل ّ‬
‫والموصي يملك الرّجوع في وصيّته ما دام حيّا ‪ ،‬وبالقبول يملك الموصى له الموصى به ‪،‬‬
‫ول يتوقّف الملك على القبض ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪ -‬غير زفر ‪ -‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪ .‬أمّا عند زفر فركن الوصيّة هو اليجاب فقط من الموصي ‪ ،‬ويثبت الملك للموصى‬
‫له من غير قبول كالرث ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( وصيّة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الوقف على معيّن ‪:‬‬
‫‪ - 46‬اليجاب ركن من أركان الوقف ‪ ،‬سواء أكان على معيّن أم لم يكن ‪ .‬أمّا القبول ‪ :‬فإن‬
‫كان الوقف على معيّن فإنّه يشترط قبوله ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬ل يفتقر الوقوف على معيّن إلى القبول ‪ ،‬لنّه إزالة ملك يمنع البيع ‪ ،‬فلم يعتبر‬
‫فيه القبول كالعتق ‪ ،‬أمّا القبض فليس بشرط عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ‪ ،‬وعند‬
‫المالكيّة ومحمّد ‪ :‬القبض شرط ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( وقف ) ‪.‬‬

‫تطيّب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطيّب في اللّغة ‪ :‬مصدر تطيّب ‪ ،‬وهو التّعطّر ‪ .‬والطّيب هو ‪ :‬العطر ‪ ،‬وهو ما له‬
‫رائحة مستلذّة ‪ ،‬كالمسك والكافور والورد والياسمين والورس والزّعفران ‪.‬‬
‫ول يخرج معناه في الصطلح عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫‪ - 2‬والطّيب ينقسم إلى قسمين ‪ :‬مذكّر ‪ ،‬مؤنّث ‪ .‬فالمذكّر ‪ :‬ما يخفى أثره ‪ ،‬أي تعلّقه بما مسّه‬
‫من ثوب أو جسد ‪ ،‬ويظهر ريحه ‪ .‬والمراد به أنواع الرّياحين ‪ ،‬والورد ‪ ،‬والياسمين ‪ .‬وأمّا‬
‫المياه الّتي تعصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث ‪ .‬والمؤنّث ‪ :‬هو ما يظهر لونه وأثره ‪ ،‬أي‬
‫تعلّقه بما مسّه تعلّقا شديدا كالمسك ‪ ،‬والكافور ‪ ،‬والزّعفران ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّزيّن ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّزيّن ‪ :‬هو اتّخاذ الزّينة ‪ ،‬وهي اسم جامع لك ّل شيء يتزيّن به ‪ ،‬فالتّزيّن ما يحسن به‬
‫منظر النسان ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 4‬الصل س ّنيّة التّطيّب ‪ ،‬ويختلف الحكم بحسب الحوال ‪ ،‬على ما سيأتي ‪.‬‬
‫تطيّب الرّجل والمرأة ‪:‬‬
‫ن التّطيّب ‪ ،‬لخبر أبي أيّوب رضي ال عنه مرفوعا « أربع من سنن المرسلين ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يس ّ‬
‫الحنّاء ‪ ،‬والتّعطّر ‪ ،‬والسّواك ‪ ،‬والنّكاح » ولقول الرّسول صلى ال عليه وسلم « حبّب إليّ من‬
‫دنياكم ‪ :‬النّساء والطّيب ‪ ،‬وجعلت قرّة عيني في الصّلة » ‪.‬‬
‫والطّيب يستحبّ للرّجل داخل بيته وخارجه ‪ ،‬بما يظهر ريحه ويخفى لونه ‪ ،‬كبخور العنبر‬
‫ن للمرأة في غير بيتها بما يظهر لونه ويخفى ريحه ‪ ،‬لخبر رواه التّرمذيّ‬
‫والعود ‪ .‬ويس ّ‬
‫والنّسائيّ من حديث أبي هريرة رضي ال عنه « طيب الرّجال ما ظهر ريحه وخفي لونه ‪،‬‬
‫وطيب النّساء ما خفي ريحه وظهر لونه » ولنّها ممنوعة في غير بيتها ممّا ينمّ عليها ‪،‬‬
‫لحديث ‪ « :‬أيّما امرأة استعطرت ‪ ،‬فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية » وفي بيتها تتطيّب‬
‫بما شاءت ‪ ،‬ممّا يخفى أو يظهر ‪ ،‬لعدم المانع ‪.‬‬
‫التّطيّب لصلة الجمعة ‪:‬‬
‫‪ -‬يندب التّطيّب لصلة الجمعة بل خلف ‪ .‬لحديث ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ن هذا يوم عيد جعله اللّه للمسلمين ‪ ،‬فمن جاء منكم‬


‫« قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إ ّ‬
‫إلى الجمعة فليغتسل ‪ ،‬وإن كان طيب فليمسّ منه ‪ ،‬وعليكم بالسّواك » ‪.‬‬
‫ي رضي ال عنه قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ل يغتسل‬
‫وعن سلمان الفارس ّ‬
‫رجل يوم الجمعة ‪ ،‬ويتطهّر ما استطاع من طهر ‪ ،‬ويدهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته ‪،‬‬
‫ثمّ يخرج ل يفرّق بين اثنين ‪ ،‬ثمّ يصلّي ما كتب له ‪ ،‬ث ّم ينصت إذا تكلّم المام ‪ ،‬إل غفر له ما‬
‫بينه وبين الجمعة الخرى » ‪.‬‬
‫التّطيّب لصلة العيد ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يندب للرّجل قبل خروجه لصلة العيد أن يتطيّب بما له ريح ل لون له ‪ ،‬وبهذا قال‬
‫ن غير متطيّبات ول لبسات ثياب زينة أو شهرة ‪،‬‬
‫الجمهور ‪ .‬أمّا النّساء فل بأس بخروجه ّ‬
‫لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل تمنعوا إماء اللّه مساجدَ اللّه ‪ ،‬وليخرجن تَفِلت » والمراد‬
‫بالتّفلت ‪ :‬غير المتطيّبات ‪.‬‬
‫تطيّب الصّائم ‪:‬‬
‫‪ - 8‬يباح للصّائم أن يتطيّب عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يجوز التّطيّب للصّائم المعتكف ‪ ،‬ويكره للصّائم غير المعتكف ‪ .‬قال الدّردير ‪:‬‬
‫ن المعتكف معه مانع يمنعه ممّا يفسد اعتكافه ‪ ،‬وهو لزومه المسجد وبعده عن النّساء ‪ .‬وقال‬
‫لّ‬
‫ن للصّائم ترك شمّ الرّياحين ولمسها ‪ .‬والمراد أنواع الطّيب ‪ ،‬كالمسك والورد‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬يس ّ‬
‫والنّرجس ‪ ،‬إذا استعمله نهارا لما فيها من التّرفّه ‪ ،‬ويجوز له ذلك ليل ‪ ،‬ولو دامت رائحته في‬
‫النّهار ‪ ،‬كما في المحرم ‪ .‬وأمّا الحنابلة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يكره للصّائم شمّ ما ل يأمن أن يجذبه نفسه‬
‫إلى حلقه كسحيق مسك ‪ ،‬وكافور ‪ ،‬ودهن ونحوها ‪ ،‬كبخور عود وعنبر ‪.‬‬
‫تطيّب المعتكف ‪:‬‬
‫‪ - 9‬يجوز للمعتكف أن يتطيّب نهارا أو ليلً بأنواع الطّيب عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬إل في‬
‫رواية عن المام أحمد أنّه قال ‪ :‬إنّه ل يعجبني أن يتطيّب ‪.‬‬
‫وذلك لنّ العتكاف عبادة تختصّ مكانا ‪ ،‬فكان ترك الطّيب فيه مشروعا كالحجّ ‪.‬‬
‫جدٍ } ‪.‬‬
‫سِ‬‫ل َم ْ‬
‫ع ْندَ كُ ّ‬
‫خذُوا ِزيْ َن َت ُكمْ ِ‬
‫واستدلّ القائلون بجواز التّطيّب بقوله تعالى ‪ { :‬يَا بَني آ َدمَ ُ‬
‫التّطيّب في الحجّ ‪:‬‬
‫‪ - 10‬اتّفق الفقهاء على أنّ التّطيّب أثناء الحرام في البدن أو الثّوب محظور ‪ .‬أمّا التّطيّب‬
‫للحرام قبل الدّخول فيه فهو مسنون استعدادا للحرام عند الجمهور ‪ ،‬وكرهه مالك لما روي‬
‫من كراهته عن عمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وابن عمر رضي ال عنهم ‪ ،‬وجماعة من التّابعين ‪.‬‬
‫ودليل س ّنيّة التّطيّب في البدن للحرام ما روت عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كنت أطيّب‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم لحرامه قبل أن يحرم ‪ ،‬ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » وعنها‬
‫رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم وهو محرم » ‪.‬‬
‫والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الحرام ‪ ،‬لصريح حديث عائشة الثّاني ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة ‪ :‬فحظروا بقاء جرم الطّيب وإن ذهبت رائحته ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا التّطيّب في الثّوب للحرام ‪ :‬فمنعه الجمهور ‪ ،‬وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫طيّبة في الثّوب اتّفاقا قياسا للثّوب على البدن ‪.‬‬


‫فل يضرّ بقاء الرّائحة ال ّ‬
‫ل كن ن صّوا على أنّه لو نزع ثوب الحرام أو سقط ع نه ‪ ،‬فل يجوز له أن يعود إلى لب سه ما‬
‫دا مت الرّائ حة ف يه ‪ ،‬بل يز يل م نه الرّائ حة ث مّ يلب سه ‪ ،‬وهذا قول سعد بن أبي وقّاص ‪ ،‬وا بن‬
‫الزّبير ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬وأمّ حبيبة رضي ال عنهم ‪ ،‬والثّوريّ وغيرهم ‪.‬‬
‫واحت جّ الشّافعيّة بحدي ثي عائ شة ر ضي ال عن ها ال سّابقين ‪ ،‬وه ما صحيحان رواه ما البخار يّ‬
‫إنن الطّينب معننى يراد للسنتدامة فلم يمننع الحرام منن اسنتدامته كالنّكاح‬
‫ومسنلم ‪ ،‬وقالوا ‪ّ :‬‬
‫وسواء فيما ذكر الطّيب الّذي يبقى له جرم بعد الحرام والّذي ل يبقى ‪ ،‬وسواء الرّجل والمرأة‬
‫الشّابّة والعجوز ‪ .‬وذهب الحنفيّة ‪ -‬في الصحّ ‪ -‬إلى عدم جواز التّطيّب للحرام في الثّوب ‪،‬‬
‫ول يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّبا ‪ ،‬لنّه بذلك يكون مستعمل للطّيب في إحرامه باستعمال‬
‫ن الطّ يب في الثّوب منف صل ‪ ،‬أمّا في البدن‬
‫الثّوب ‪ ،‬و هو محظور على المحرم ‪ ،‬والفرق ‪ :‬أ ّ‬
‫ف هو تا بع له ‪ ،‬و س ّنيّة التّطيّب تح صل بتطي يب البدن‪ ،‬فأغ نى عن تجويزه في الثّوب‪ .‬وذ هب‬
‫المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه إن تطيّب قبل الحرام ي جب عليه إزالته عند الحرام ‪ ،‬سواء كان ذلك في‬
‫بدنه أو ثوبه ‪ ،‬فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الحرام شيء من جرم الطّيب ‪ -‬الّذي تطيّب‬
‫به قبل الحرام ‪ -‬وجبت عليه الفدية ‪ ،‬وأمّا إذا كان في الثّوب رائحته ‪ ،‬فل يجب نزع الثّوب‬
‫لكن يكره استدامته ول فدية ‪.‬‬
‫وأمّا اللّون ‪ :‬ففيه قولن عند المالكيّة ‪ ،‬وهذا كلّه في اليسير ‪ ،‬وأمّا الثر الكثير ففيه الفدية ‪،‬‬
‫واستدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة رضي ال عنه قال ‪ « :‬أتى النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في‬
‫جبّة ‪ ،‬بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله‬
‫ثلث مرّات ‪ ،‬وأمّا الجبّة فانزعها ‪ ،‬ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » ‪ .‬فاستدلّوا‬
‫بهذا الحديث على حظر الطّيب على المحرم في البدن والثّوب ‪.‬‬
‫ويقول ا بن قدا مة ‪ :‬إن طيّب ثو به فله ا ستدامة لب سه ما لم ينز عه ‪ ،‬فإن نز عه لم ي كن له أن‬
‫يلبسنه ‪ ،‬فإن لبسنه افتدى ‪ ،‬لنّن الحرام يمننع ابتداء الطّينب ولبنس المطيّب دون السنتدامة ‪.‬‬
‫وكذلك إن نقل الطّيب من موضع بدنه إلى موضع آخر افتدى ‪ ،‬لنّه تطيّب في إحرامه ‪ ،‬وكذا‬
‫إن تعمّد م سّه أو نحّاه من موضعه ث مّ ردّه إليه ‪ ،‬فأمّا إن عرق الطّيب أو ذاب بالشّمس فسال‬
‫من موضعه إلى موضع آخر ‪ ،‬فل شيء عليه ‪ ،‬لنّه ليس من فعله ‪.‬‬
‫قالت عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬كنّا نخرج مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم إلى مكّة فنضمّد‬
‫جباهنا بالمسك المطيّب عند الحرام ‪ ،‬فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ‪ ،‬فيراها النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم فل ينهانا » ‪.‬‬
‫‪ - 12‬وأمّا التّطيّب بعد الحرام ‪ ،‬فإنّه يحظر على المحرم استعماله في ثيابه وبدنه ‪ ،‬لحديث‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ول تلبسوا من الثّياب ما مسّه‬
‫ن النّب ّ‬
‫ابن عمر رضي ال عنهما « أ ّ‬
‫َورْس أو زعفران » ولما ورد أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « قال في شأن المحرم الّذي‬
‫صتْه راحلته ل تمسّوه بطيب » ‪ ،‬وفي لفظ « ل تحنّطوه » ووجهه ‪ :‬أنّه لمّا منع الميّت من‬
‫َو َق َ‬
‫الطّيب لحرامه ‪ ،‬فالحيّ أولى ‪ .‬ومتى تطيّب وجبت عليه الفدية ‪ ،‬لنّه استعمل ما حرّمه‬
‫الحرام ولو للتّداوي ‪ ،‬ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬المحرم ‪ :‬الشعث الغبر » ‪ .‬والطّيب‬
‫ي تطيّب ممّا هو‬
‫ينافي الشّعث ‪ .‬ويجب الفداء عند المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل أو مقدارا من الثّوب معيّنا ‪.‬‬
‫محظور ‪ ،‬دون تقييد بأن يطيّب عضوا كام ً‬
‫وإنّما وجبت الفدية قياسا على الحلق ‪ ،‬لنّه منصوص عليه في القرآن في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن رَأْسِه‬
‫ن ِم ْن ُكمْ َمرِيضَا أَو بِه َأ َذىً مِ ْ‬
‫حتّى َيبْلُغَ الهَديُ َمحِلّه ‪َ ،‬فمَنْ كَا َ‬
‫سكُمْ َ‬
‫{ وَل َتحْلِقُوا رُءو َ‬
‫سكٍ } ‪ .‬ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي ال عنه « أنّ‬
‫ص َدقَةٍ أَو ُن ُ‬
‫صيَامٍ أو َ‬
‫ن ِ‬
‫فَ ِف ْديَةٌ مِ ْ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال له ‪ ،‬حين رأى هوامّ رأسه ‪ :‬أيؤذيك هوا ّم رأسك ؟ قال ‪:‬‬
‫قلت ‪ :‬نعم قال ‪ :‬فاحلق ‪ ،‬وصم ثلثة أيّام ‪ ،‬أو أطعم ستّة مساكين ‪ ،‬أو انسك نسيكة » ‪.‬‬
‫وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬تجب شاة إن طيّب المحرم عضوا كامل ‪ ،‬مثل‬
‫الرّأس واليد والسّاق ‪ ،‬أو ما بلغ عضوا كامل لو جمع ‪ .‬والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد‬
‫المجلس ‪ ،‬وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة إن شمل عضوا واحدا أو أكثر ‪ ،‬سواء كفّر‬
‫للوّل أم ل ‪ ،‬وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪ .‬وقال محمّد ‪ :‬عليه كفّارة واحدة ‪ ،‬ولو فدى‬
‫ولم يزل الطّيب لزمه فدية أخرى‪ ،‬لنّ ابتداءه كان محظورا ‪ ،‬فيكون لبقائه حكم ابتدائه‪.‬‬
‫ن الجناية تتكامل بتكامل الرتفاق ‪ ،‬وذلك في العضو الكامل فيترتّب‬
‫ووجه وجوب الشّاة ‪ :‬أ ّ‬
‫ل من عضو ‪ :‬فعليه أن يتصدّق بنصف صاع من برّ ‪ ،‬لقصور‬
‫كمال الموجب ‪ .‬وإن طيّب أق ّ‬
‫الجناية إل أن يكون الطّيب كثيرا ‪ ،‬فعليه دم ‪ .‬وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪.‬‬
‫وقال محمّد ‪ :‬يُ َقوّم ما يجب فيه الدّم فيتصدّق بذلك القدر ‪ ،‬حتّى لو طيّب ربع عضو فعليه من‬
‫ن تطييب عضو كامل ارتفاق كامل ‪ ،‬فكان جناية كاملة ‪،‬‬
‫الصّدقة قدر ربع شاة ‪ ،‬وهكذا ‪ ،‬ل ّ‬
‫فيوجب كفّارة كاملة ‪ ،‬وتطييب ما دون العضو الكامل ارتفاق قاصر ‪ ،‬فيوجب كفّارة قاصرة ‪،‬‬
‫إذ الحكم يثبت على قدر السّبب ‪ ،‬إلّا أن يكون الطّيب كثيرا فعليه دم ‪ ،‬ولم يشترط الحنفيّة‬
‫استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ‪ ،‬بل يجب بمجرّد التّطيّب ‪.‬‬
‫وأمّا تطييب الثّوب فتجب فيه الفدية عند الحنفيّة بشرطين ‪:‬‬
‫أوّلهما ‪ :‬أن يكون كثيرا ‪ ،‬وهو ما يصلح أن يغطّي مساحة تزيد على شبر في شبر ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يستمرّ نهارا ‪ ،‬أو ليلة ‪ .‬فإن اختلّ أحد هذين الشّرطين وجبت الصّدقة ‪ ،‬وإن‬
‫اختلّ الشّرطان وجب التّصدّق بقبضة من قمح ‪.‬‬
‫والصل في حظر تطييب الثّوب ولبسه بعد الحرام قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل تلبسوا‬
‫شيئا من الثّياب مسّه الزّعفران ول الورس » ‪.‬‬
‫والمحرم ‪ -‬ذكرا كان أو غيره ‪ -‬ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره أو ردائه وجميع‬
‫ثيابه ‪ ،‬وفراشه ونعله ‪ ،‬حتّى لو علق بنعله طيب وجب عليه أن يبادر لنزعه ‪ ،‬ول يضع عليه‬
‫ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران أو نحوهما من صبغ له طيب ‪.‬‬
‫واستعمال الطّيب هو ‪ :‬أن يلصق الطّيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطّيب ‪،‬‬
‫ممّا يقصد منه ريحه غالبا ولو مع غيره ‪ ،‬كمسك أو عود ‪ ،‬وكافور ‪ ،‬وورس ‪ ،‬وزعفران ‪،‬‬
‫وريحان ‪ ،‬وورد ‪ ،‬وياسمين ‪ ،‬ونرجس ‪ ،‬وآس ‪ ،‬وسوسن ‪ ،‬ومنثور ‪ ،‬ونمّام ‪ ،‬وغير ما ذكر ‪،‬‬
‫ممّا يتطيّب به ‪ ،‬ويتّخذ منه الطّيب ‪ ،‬أو يظهر فيه هذا الغرض ‪.‬‬
‫‪ - 13‬ويكره للمحرم ش ّم الطّيب ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وقال المالكيّة ‪ :‬يكره شمّ‬
‫الطّيب مذكّره ومؤنّثه دون مسّ ‪ .‬وأمّا الحنابلة ‪ :‬فقالوا ‪ :‬يحرم تعمّد شمّ الطّيب كالمسك‬
‫والكافور ونحوهما ‪ ،‬ممّا يتطيّب بشمّه كالورد والياسمين ‪ .‬فإن فعل المحرم ذلك وجب الفداء‬
‫ن الفدية تجب فيما يتّخذ منه ‪ ،‬فكذلك في أصله ‪ ،‬وعن المام أحمد رواية أخرى في‬
‫عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫الورد ‪ :‬ل فدية عليه في شمّه ‪ ،‬لنّه زهر شمّه على جهته ‪ ،‬أشبه زهر سائر الشّجر ‪ ،‬والولى‬
‫تحريمه ‪ ،‬لنّه ينبت للطّيب ويتّخذ منه ‪ ،‬أشبه الزّعفران ‪ ،‬والعنبر ‪.‬‬
‫ما يباح من الطّيب وما ل يباح بالنّسبة للمحرم ‪:‬‬
‫‪ - 14‬قال ابن قدامة ‪ :‬النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلثة أضرب ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬ما ل ينبت للطّيب ول يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم ‪ ،‬والخزامى ‪،‬‬
‫والفواكه كلّها ‪ ،‬من الترجّ ‪ ،‬والتّفّاح والسّفرجل ‪ ،‬وغيره ‪ ،‬وما ينبته الدميّون لغير قصد‬
‫الطّيب ‪ ،‬كالحنّاء ‪ ،‬والعصفر ‪ ،‬وهذان يباح شمّهما ول فدية فيهما بل خلف ‪ ،‬غير أنّه روي‬
‫عن ابن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ شيئا من نبات الرض ‪ ،‬من‬
‫ن أزواج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كنّ‬
‫الشّيح والقيصوم وغيرهما ‪ ،‬وقد « روي أ ّ‬
‫يحرمن في المعصفرات » ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ما ينبته الدميّون للطّيب ول يتّخذ منه طيب ‪ ،‬كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس ‪،‬‬
‫والبرم ‪ ،‬وفيه وجهان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬يباح بغير فدية ‪ ،‬قاله عثمان بن عفّان ‪ ،‬وابن عبّاس رضي ال عنهم ‪ ،‬والحسن ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وإسحاق ‪ .‬والخر ‪ :‬يحرم شمّه ‪ ،‬فإن فعل فعليه الفدية ‪ ،‬وهو قول جابر ‪ ،‬وابن‬
‫عمر ‪ ،‬والشّافعيّ وأبي ثور ‪ ،‬لنّه يتّخذ للطّيب ‪ ،‬فأشبه الورد ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬ما ينبت للطّيب ‪ ،‬ويتّخذ منه طيب ‪ ،‬كالورد ‪ ،‬والبنفسج ‪ ،‬والخيريّ وهذا إذا استعمله‬
‫ن الفدية تجب فيما يتّخذ منه ‪ ،‬فكذلك في أصله ‪.‬‬
‫المحرم وشمّه ففيه الفدية ‪ ،‬ل ّ‬
‫س المحرم من الطّيب ما يعلق ببدنه ‪ ،‬كالغالية وماء الورد ‪ ،‬والمسك المسحوق الّذي‬
‫وإن م ّ‬
‫س ما ل يعلق بيده ‪ ،‬كالمسك غير‬
‫يعلق بأصابعه ‪ ،‬فعليه الفدية ‪ ،‬لنّه مستعمل للطّيب ‪ .‬وإن م ّ‬
‫المسحوق ‪ ،‬وقطع الكافور ‪ ،‬والعنبر ‪ ،‬فل فدية ‪ ،‬لنّه غير مستعمل للطّيب ‪.‬‬
‫فإن شمّه فعليه الفدية لنّه يستعمل هكذا ‪ ،‬وإن شمّ العود ‪ -‬أي خشب العود ‪ -‬فل فدية عليه ‪،‬‬
‫لنّه ل يتطيّب به‬
‫تطيّب المحرم ناسيا أو جاهلً ‪:‬‬
‫‪ - 15‬إن تطيّب المحرم ناسيا فل فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬في المشهور عندهم ‪،‬‬
‫وهو مذهب عطاء ‪ ،‬والثّوريّ ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وابن المنذر ‪ ،‬لعموم قوله صلى ال عليه وسلم «‬
‫ن اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » ‪.‬‬
‫إّ‬
‫وإن أخّر ذلك عن زمن المكان فعليه الفدية عند الحنابلة ‪ ،‬واستدلّ القائلون بعدم وجوب الفدية‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن رجل أتى النّب ّ‬
‫على النّاسي أيضا ‪ :‬بخبر يعلى بن أميّة رضي ال عنه « أ ّ‬
‫وسلم وهو بالجعرانة ‪ ،‬وعليه جبّة ‪ ،‬وعليه أثر خلوق ‪ ،‬أو قال ‪ :‬أثر صفرة ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول‬
‫اللّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال ‪ :‬اخلع عنك الجبّة ‪ ،‬واغسل أثر الخلوق عنك ‪.‬‬
‫أو قال ‪ :‬الصّفرة ‪ ،‬واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك » فدلّ ذلك على أنّه عذره‬
‫لجهله ‪ ،‬والنّاسي في معناه ‪ ،‬وله غسل الطّيب بيده بل حائل ‪ ،‬لعموم أمره صلى ال عليه‬
‫وسلم بغسله ‪ .‬وأمّا الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو الرّواية الثّانية عن أحمد فقالوا ‪ :‬يجب دم على‬
‫المحرم البالغ ولو ناسيا إن طيّب عضوا كاملً ‪ ،‬أو ما يبلغ عضوا لو جمع ‪.‬‬
‫تطيّب المبتوتة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬يحرم على المطلّقة ثلثا التّطيّب لوجوب الحداد عليها ‪ ،‬لنّها معتدّة بائن من نكاح‬
‫صحيح ‪ ،‬وهي كالمتوفّى عنها زوجها ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة‪.‬‬
‫ن التّطيّب ل يحرم إل على المتوفّى عنها زوجها ‪ ،‬ومن في حكمها وهي‬
‫أمّا المالكيّة فقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ :‬زوجة المفقود المحكوم بفقده ‪ .‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَاّلذِينَ ُيتَ َوفّونَ ِم ْن ُكمْ َو َيذَرُونَ َأزْوَاجَا َيتَ َرّبصْنَ‬
‫شرَا }‬
‫عْ‬‫ش ُهرٍ َو َ‬
‫ن َأ ْر َبعَةَ َأ ْ‬
‫ِبَأنْ ُفسِهِ ّ‬
‫ن الحداد ل يجب على المطلّقة ثلثا ‪،‬‬
‫والقول الخر للشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل يحرم التّطيّب ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل يحلّ لمرأة تؤمن باللّه واليوم الخر أن تحدّ على‬
‫لّ‬
‫ل على أنّ‬
‫ميّت فوق ثلث ‪ ،‬إل على زوج أربعة أشهر وعشرا » وهذه عدّة الوفاة ‪ ،‬فد ّ‬
‫الحداد يجب فيها فقط ‪ .‬والمطلّقة بائنا معتدّة عن غير وفاة ‪ ،‬فلم يجب عليها الحداد كالرّجعيّة‬
‫ن المطلّقة بائنا فارقها زوجها باختيار نفسه وقطع نكاحها ‪ ،‬فل معنى لتكليفها الحزن عليه‬
‫‪ ،‬ول ّ‬
‫‪ ،‬فيجوز لها أن تتطيّب ‪.‬‬
‫وزاد الحنفيّة المطلّقة طلقة واحدة بائنة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يلزمها ترك التّطيّب ‪ ،‬لنّه يلزمها الحداد ‪،‬‬
‫ق الشّرع ‪.‬‬
‫ولو أمرها المطلّق بتركه ‪ ،‬لنّه ح ّ‬

‫تطيّر *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطيّر في اللّغة ‪ :‬التّشاؤم ‪ .‬يقال ‪ :‬تطيّر بالشّيء ‪ ،‬ومن الشّيء ‪ :‬تشاءم به ‪.‬‬
‫طيَرة ‪ .‬جاء في فتح الباري ‪ :‬التّطيّر ‪ ،‬والتّشاؤم شيء واحد ‪.‬‬
‫والسم ال ِ‬
‫والمعنى الصطلحيّ ل يختلف عن اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الفأل ‪:‬‬
‫‪ - 2‬ال َفأْل ضدّ الطّيرة ‪ ،‬يقال ‪ :‬تفاءل الرّجل ‪ :‬إذا تيمّن بسماع كلمة طيّبة ‪.‬‬
‫ن الفأل يستعمل فيما يستحبّ ‪ ،‬والتّطيّر فيما يكره غالبا ‪.‬‬
‫والفرق بينه وبين الطّيرة ‪ :‬أ ّ‬
‫ب ‪ -‬الكهانة ‪:‬‬
‫‪ -‬الكهانة ‪ :‬ادّعاء علم الغيب ‪ ،‬والخبار بما سيحدث في المستقبل مع السناد إلى سبب ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫أصل التّطيّر ‪:‬‬


‫ش طائر ‪،‬‬
‫ن العرب كانوا في الجاهليّة إذا خرج أحدهم لمر قصد إلى ع ّ‬
‫‪ - 4‬أصل التّطيّر ‪ :‬أ ّ‬
‫فيهيّجه ‪ ،‬فإذا طار الطّير يمنة تيمّن به ‪ ،‬ومضى في المر ‪ ،‬ويسمّونه " السّانح " ‪.‬‬
‫أمّا إذا طار يسرة تشاءم به ‪ ،‬ورجع عمّا عزم عليه ‪ ،‬وكانوا يسمّونه " البارح " ‪ .‬فأبطل‬
‫السلم ذلك ونهى عنه ‪ ،‬وأرجع المر إلى سنن اللّه الثّابتة ‪ ،‬وإلى قدره المحيط ‪ ،‬ومشيئته‬
‫المطلقة ‪ ،‬جاء في الثر الصّحيح ‪ « :‬من ردّته الطّيرة من حاجة فقد أشرك » ونحوه كثير ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن الّذي شاهده من حال الطّير موجب لما ظنّه ‪ ،‬مؤثّر فيه ‪ ،‬فقد كفر ‪.‬‬
‫‪ - 5‬إن اعتقد المكلّف أ ّ‬
‫لما في ذلك من التّشريك في تدبير المور ‪.‬‬
‫ن اللّه سبحانه وتعالى هو المتصرّف والمدبّر وحده ‪ ،‬ولكنّه في نفسه يجد شيئا من‬
‫أمّا إذا علم أ ّ‬
‫ن التّجارب عنده قضت أنّ صوتا من أصوات الطّير ‪ ،‬أو حالً من‬
‫شرّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫الخوف من ال ّ‬
‫حالته يرادفه مكروه ‪ ،‬فإن وطّن نفسه على ذلك فقد أساء ‪ ،‬وإن استعاذ باللّه من الشّرّ ‪،‬‬
‫وسأله الخير ومضى متوكّل على اللّه ‪ ،‬فل يضرّه ما وجد في نفسه من ذلك ‪ ،‬وإل فيؤاخذ ‪.‬‬
‫لحديث « معاوية بن حكيم ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ :‬منّا رجال يتطيّرون ‪ .‬قال ‪ :‬ذلك‬
‫شيء يجدونه في صدورهم فل يصدّنّهم » ‪.‬‬
‫شرّ ‪ ،‬لما‬
‫هذا وقد اتّفق أهل التّوحيد على تحريم التّطيّر ‪ ،‬ونفي تأثيره في حدوث الخير أو ال ّ‬
‫في ذلك من الشراك باللّه في تدبير المور ‪ .‬والنّصوص في النّهي عن ذلك كثيرة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫حديث ‪ « :‬ل عدوى ‪ ،‬ول طيرة ول هامّة ‪ ،‬ول صفر » ‪.‬‬
‫أمّا الفأل الحسن فهو جائز ‪ ،‬وجاء في الثر ‪ « :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يتفاءل ول‬
‫يتطيّر ‪ ،‬وكان يحبّ أن يسمع يا راشد يا رجيح » ‪.‬‬
‫وروي عنه ‪ « :‬ل عدوى ول طيرة ‪ ،‬ويعجبني الفأل الصّالح ‪ :‬الكلمة الحسنة » ‪.‬‬
‫ل سبب ضعيف أو قويّ ‪ ،‬بخلف الطّيرة ‪ ،‬فهي‬
‫والفأل أمل ورجاء للخير من اللّه تعالى عند ك ّ‬
‫ن باللّه ‪ ،‬لخبر قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ ‪:‬‬
‫سوء ظنّ باللّه ‪ ،‬والمؤمن مأمور بحسن الظّ ّ‬
‫ن بي خيرا فله ‪ ،‬وإن ظنّ شرّا فله » ‪.‬‬
‫ن عبدي بي ‪ ،‬إن ظ ّ‬
‫« أنا عند ظ ّ‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( شؤم ) ‪.‬‬
‫تعارض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعارض في اللّغة ‪ :‬التّقابل ‪ .‬أصله من العرض وهو المنع ‪ .‬يقال ‪ :‬ل تعترض له ‪ ،‬أي‬
‫‪ :‬ل تمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده ‪ .‬ومنه ‪ :‬العتراضات عند الصوليّين والفقهاء الواردة‬
‫على القياس وغيره من الدلّة ‪ ،‬سمّيت بذلك لنّها تمنع من التّمسّك بالدّليل ومنه ‪ :‬تعارض‬
‫ن كلّ واحدة تعترض الخرى وتمنع نفوذها ‪.‬‬
‫البيّنات ‪ ،‬ل ّ‬
‫ومنه ‪ :‬تعارض الدلّة عند الصوليّين ‪ ،‬وموطنه في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫والتّعارض اصطلحا ‪ :‬التّمانع بين الدّليلين مطلقا ‪ ،‬بحيث يقتضي أحدهما غير ما يقتضي‬
‫الخر ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّناقض ‪:‬‬
‫ن كلّ واحد منهما‬
‫‪ - 2‬التّناقض ‪ :‬هو التّدافع يقال ‪ :‬تناقض الكلمان ‪ ،‬أي ‪ :‬تدافعا ‪ ،‬كأ ّ‬
‫ينقض الخر ويدفعه ‪ ،‬والمتناقضان ل يجتمعان أبدا ول يرتفعان ‪.‬‬
‫أمّا المتعارضان فقد يمكن ارتفاعهما ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّنازع ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّنازع الختلف ‪ .‬يقال ‪ :‬تنازع القوم ‪ ،‬أي ‪ :‬اختلفوا ومنه قوله تعالى ‪ { :‬وَل َتنَازَعُوا‬
‫َفتَ ْفشَلُوا َو َتذْهَبَ رِي ُح ُكمْ } ‪ .‬فالتّنازع أع ّم ‪ ،‬لنّه يشمل الختلف في الرّأي وغيره ‪ .‬حكم‬
‫التّعارض ‪:‬‬
‫‪ - 4‬إذا تعارضت البيّنتان ‪ ،‬وأمكن الجمع بينهما جمع ‪ ،‬وإذا لم يمكن الجمع يصار إلى‬
‫التّرجيح ‪ .‬والتّرجيح ‪ :‬تقديم دليل على دليل آخر يعارضه ‪ ،‬لقتران الوّل بما يقوّيه‬
‫والتّعارض والتّرجيح يرد عند الصوليّين والفقهاء ‪.‬‬
‫فأمّا ما يتعلّق بالصول فينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫وأمّا استعماله عند الفقهاء فمعظمه في شأن البيّنات ‪ ،‬وفيما يلي تفصيل ذلك ‪:‬‬
‫وجوه التّرجيح في تعارض البيّنات ‪:‬‬
‫ل مذهب من المذاهب الفقهيّة وجوه للتّرجيح ‪.‬‬
‫‪ - 5‬في ك ّ‬
‫ذكر الحنفيّة ‪ -‬في باب دعوى الرّجلين ‪ -‬وجوها لترجيح إحدى البيّنتين على الخرى إذا‬
‫تعارضتا وتساوتا في القوّة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن كانت العين في يد المدّعى عليه تقدّم بيّنة الخارج‬
‫على بيّنة ذي اليد في دعوى الملك المطلق ‪ -‬الّذي لم يذكر سببه ‪ -‬إن وقّت أحدهما فقط‬
‫‪ -‬أي ذكر تاريخا ‪ -‬وقال أبو يوسف ‪ :‬من وقّت أحقّ بالعين ‪ ،‬فإن أرّخا واتّحد المملّك ‪،‬‬
‫فالسبق تاريخا أحقّ بالعين لقوّة بيّنته ‪ ،‬ولو اختلف المملّك استويا ‪.‬‬
‫ل بيّنة ‪ ،‬وتساوتا ‪ ،‬قضي لهما بها مناصفة ‪،‬‬
‫وإن كانت العين في يد ثالث ‪ ،‬وأقام خارجان ك ّ‬
‫وذلك عند أبي حنيفة وصاحبيه ‪.‬‬
‫وإن كان النّزاع على نكاح امرأة ‪ ،‬فأمّا أن تكون المرأة حيّة أو ميّتة ‪ ،‬فإن كانت حيّة سقطت‬
‫البيّنتان لعدم إمكان الجمع بينهما ‪.‬‬
‫وإن كانت ميّتة ورثاها ميراث زوج واحد ‪ ،‬ولو ولدت يثبت نسب الولد منهما ‪.‬‬
‫وإن كانت العين في أيديهما معا ‪ ،‬واستويا في الحجّة والتّاريخ ‪ ،‬فالعين بينهما ‪.‬‬
‫فإن اختلفا في التّاريخ فهي للسّابق ‪ .‬ول عبرة عندهم بكثرة الشّهود ول بزيادة العدالة ‪ -‬وعند‬
‫الحنفيّة تفصيلت أخرى تنظر في كتبهم ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة التّرجيح يحصل بوجوه ‪:‬‬
‫‪ - 6‬الوّل ‪ :‬بزيادة العدالة في المشهور ‪ .‬وروي عن مالك أنّه ل يرجّح بها ‪ ،‬وذلك موافق‬
‫لما قاله الحنفيّة ‪ .‬وعلى القول بالتّرجيح بزيادة العدالة فل بدّ أن يحلف من زادت عدالته ‪ ،‬وفي‬
‫الموّازيّة ‪ :‬ل يحلف ‪ ،‬ول يرجّح بكثرة العدد على المشهور كما هو رأي الحنفيّة ‪ .‬وروي عن‬
‫مطرّف وابن الماجشون أنّه يرجّح بكثرة العدد عند تكافؤ البيّنتين في العدالة ‪ ،‬إل أن يكثروا‬
‫كثرة يكتفى بها فيما يراد من الستظهار ‪ ،‬والخرون كثيرون جدّا ‪ ،‬فل تراعى الكثرة حينئذ ‪،‬‬
‫وإنّما يقع التّرجيح بمزيّة العدالة دون مزيّة العدد ‪ .‬قال ابن عبد السّلم ‪ :‬من رجّح بزيادة العدد‬
‫لم يقل به كيفما اتّفق ‪ ،‬وإنّما اعتبره مع قيد العدالة ‪.‬‬
‫‪ - 7‬الثّاني ‪ :‬يكون التّرجيح أيضا بقوّة الحجّة فيقدّم الشّاهدان على الشّاهد واليمين ‪ .‬وعلى‬
‫الشّاهد والمرأتين ‪ ،‬وذلك إذا استووا في العدالة ‪ ،‬قال ذلك أشهب ‪ .‬وقال ابن القاسم ‪ :‬ل‬
‫ل واحد منهما حكم‬
‫يقدّمان ثمّ رجع لقول أشهب ‪ .‬قال ابن القاسم ‪ :‬ولو كان الشّاهد أعدل من ك ّ‬
‫به مع اليمين ‪ ،‬وقدّم على الشّاهدين ‪ .‬وقال ابن الماجشون ومطرّف ‪ :‬ل يقدّم ولو كان أعدل‬
‫ن بعض أهل المذهب ل يرى اليمين مع الشّاهد ‪.‬‬
‫أهل زمانه ‪ ،‬وهو أقيس ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ - 8‬الثّالث ‪ :‬اشتمال إحدى البيّنتين على زيادة تاريخ متقدّم أو سبب ملك ‪ ،‬وهذا يتّفق مع قول‬
‫الحنفيّة بالخذ بتاريخ السّابق ‪.‬‬
‫ي أنّه ل يحكم بأعدل البيّنتين عند من رأى ذلك إلّا في الموال خاصّة ‪.‬‬
‫وذكر القراف ّ‬
‫ن الملك أقوى من‬
‫وقالوا ‪ :‬تقدّم بيّنة الملك على بيّنة الحوز ‪ ،‬وإن كان تاريخ الحوز متقدّما ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحوز ‪ .‬وتقدّم البيّنة النّاقلة على البيّنة المستصحبة ‪.‬‬
‫ومثالها ‪ :‬أن تشهد بيّنة أنّ هذه الدّار لزيد بناها منذ مدّة ‪ ،‬ول نعلم أنّها خرجت من ملكه إلى‬
‫ن هذا اشتراها منه بعد ذلك ‪ ،‬فالبيّنة النّاقلة علمت ‪،‬‬
‫الن ‪ .‬وتشهد البيّنة الخرى ‪ :‬أ ّ‬
‫والمستصحبة لم تعلم ‪ ،‬فل تعارض بين الشّهادتين ‪.‬‬
‫وإذا لم يمكن التّرجيح بين البيّنتين سقطتا ‪ ،‬وبقي المتنازع عليه بيد حائزه مع يمينه ‪.‬‬
‫فإن كان بيد غيرهما ‪ ،‬فقيل ‪ :‬يبقى بيده ‪ .‬وقيل ‪ :‬يقسم بين مقيمي البيّنتين ‪ ،‬لتّفاق البيّنتين‬
‫على سقوط ملك الحائز ‪ .‬وإقرار من هو بيده لحدهما ينزّل منزلة اليد للمقرّ له ‪.‬‬
‫ل بيّنة ‪ ،‬وتساوتا‬
‫‪ - 9‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه لو تنازع اثنان عينا ‪ ،‬وكانت بيد أحدهما ‪ ،‬وأقام ك ّ‬
‫قدّمت بيّنة صاحب اليد ‪ .‬ول تسمع بيّنته إل بعد بيّنة المدّعي ‪.‬‬
‫وإن كانت العين في يد ثالث ‪ ،‬وأقام ك ّل منهما بيّنة سقطت البيّنتان ‪ ،‬ويصار إلى التّحليف ‪،‬‬
‫ل منهما يمينا ‪ .‬وقيل ‪ :‬تستعمل البيّنتان وتنزع العين ممّن هي في يده ‪،‬‬
‫فيحلف صاحب اليد لك ّ‬
‫وتقسم بينهما مناصفة في قول ‪ ،‬وفي قول آخر ‪ :‬يقرع بينهما فيأخذها من خرجت قرعته ‪،‬‬
‫وفي قول ‪ :‬يوقف المر حتّى يتبيّن أو يصطلحا ‪ .‬وسكت في الرّوضة عن ترجيح واحد من‬
‫القوال الثّلثة ‪ .‬وقال القليوبيّ ‪ :‬قضيّة كلم جمهور الشّافعيّة ترجيح الثّالث ‪ ،‬لنّه أعدل ‪.‬‬
‫وإن كانت في أيديهما ‪ ،‬وأقاما بيّنتين ‪ ،‬بقيت في أيديهما ‪ ،‬كما كانت على قول السّقوط ‪ .‬وقيل‬
‫‪ :‬تقسم بينهما على قول القسمة ‪ ،‬ول يجيء الوقف ‪ ،‬وفي القرعة قولن ‪.‬‬
‫ولو أزيلت يده ببيّنة ‪ ،‬ث ّم أقام بيّنة بملكه مستندا إلى ما قبل إزالة يده ‪ ،‬واعتذر بغيبة شهوده ‪،‬‬
‫سمعت وقدّمت ‪ ،‬لنّها إنّما أزيلت لعدم الحجّة ‪ ،‬وقد ظهرت ‪ ،‬فينقض القضاء ‪ .‬وقيل ‪ :‬ل ‪،‬‬
‫والقضاء على حاله ‪ .‬ولو قال الخارج ‪ :‬هو ملكي اشتريته منك ‪ .‬فقال ‪ :‬بل ملكي ‪ .‬وأقاما‬
‫بيّنتين بما قاله تقدّم بيّنة الخارج ‪ ،‬لزيادة علم بيّنته بالنتقال ‪.‬‬
‫ن زيادة عدد شهود أحدهما ل ترجّح ‪ ،‬لكمال الحجّة في الطّرفين ‪ ،‬كما قال الحنفيّة‬
‫والمذهب أ ّ‬
‫ن القلب إلى الزّائد أميل ‪ .‬وكذا لو كان لحدهما رجلن ‪،‬‬
‫‪ .‬وفي قول من طريق ترجّح ‪ ،‬ل ّ‬
‫للخر رجل وامرأتان ‪ ،‬ل يرجّح الرّجلن ‪ .‬وفي قول من طريق يرجّحان ‪ ،‬لزيادة الوثوق‬
‫بقولهما ‪ .‬فإن كان للخر شاهد ويمين يرجّح الشّاهدان في الظهر ‪ ،‬لنّهما حجّة بالجماع ‪.‬‬
‫ن كلّا منهما حجّة كافية ‪ .‬ولو‬
‫وفي الشّاهد واليمين خلف ‪ .‬والقول الثّاني ‪ :‬يتعادلن ‪ ،‬ل ّ‬
‫شهدت بيّنة لحدهما بملك من سنة ‪ ،‬وبيّنة للخر بملك من أكثر من سنة إلى الن كسنتين ‪،‬‬
‫والعين في يد غيرهما‪ ،‬فالظهر ترجيح الكثر ‪ ،‬لنّ الخرى ل تعارضها فيه‪ .‬والرّأي الثّاني‬
‫ن مناط الشّهادة الملك في الحال ‪ ،‬وقد استويا فيه ‪،‬‬
‫عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ل ترجيح به ‪ ،‬ل ّ‬
‫ولصاحب بيّنة الكثر ‪ -‬على القول بترجيحها ‪ -‬الجرة ‪ ،‬والزّيادة الحادثة من يوم الحكم ‪.‬‬
‫وعلى القول الثّاني ‪ :‬تقسم بينهما ‪ ،‬أو يقرع ‪ ،‬أو يوقف حتّى يبيّن أو يصطلحا حسب القوال‬
‫الثّلثة ‪ .‬ولو أطلقت بيّنة ‪ ،‬وأرّخت بيّنة ‪ ،‬فالمذهب أنّهما سواء ‪ ،‬وهو المعتمد ‪ ،‬سواء كان‬
‫المدّعى به بيدهما أو بيد غيرهما ‪ ،‬أو ل بيد واحد منهما ‪ .‬وقيل ‪ -‬كما في أصل الرّوضة ‪-‬‬
‫تقدّم البيّنة المؤرّخة ‪ ،‬لنّها تقتضي الملك قبل الحال ‪ ،‬بخلف المطلقة ‪ .‬ولو شهدت بيّنة‬
‫أحدهما بالحقّ ‪ ،‬وبيّنة الخر بالبراء قدّمت بيّنة البراء ‪.‬‬
‫ل الستواء في هذه المسألة ‪ -‬على ما ذكره القليوبيّ ‪ -‬ما لم يوجد مرجّح ‪ .‬فإن وجد‬
‫هذا ومح ّ‬
‫المرجّح ككونه بيد أحدهما ‪ ،‬أو كانت بيّنته غير شاهد ويمين ‪ ،‬أو أسندت بيّنته لسبب ‪ :‬كأن‬
‫شهدت بأنّه نتج في ملكه ‪ ،‬أو ثمر فيه ‪ ،‬أو حمل فيه ‪ ،‬أو ورثه من أبيه فتقدّم بيّنته ‪.‬‬
‫ن من ادّعى شيئا بيد غيره فأنكره ‪ ،‬ولكلّ واحد منهما بيّنة ‪ ،‬فقد‬
‫‪ - 10‬وعند الحنابلة ‪ :‬أ ّ‬
‫اختلفت الرّواية عن أحمد فيما إذا تعارضتا ‪ :‬فالمشهور عنه تقديم بيّنة المدّعي ‪ ،‬ول يلتفت إلى‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬البيّنة‬
‫بيّنة المدّعى عليه بحال ‪ ،‬وهذا قول إسحاق ‪ ،‬ل ّ‬
‫على المدّعي ‪ ،‬واليمين على المدّعى عليه » فأمرنا بسماع بيّنة المدّعي ويمين المدّعى عليه ‪،‬‬
‫وسواء شهدت بيّنة المدّعى عليه أنّها له ‪ ،‬أو قالت ‪ :‬ولدت في ملكه عليه ‪ .‬وعن أحمد رواية‬
‫ثانية ‪ :‬إن شهدت بيّنة الدّاخل ‪ -‬أي صاحب اليد وهو المدّعى عليه ‪ -‬بسبب الملك ‪ ،‬وقالت‬
‫ن الدّابّة المتنازع عليها نتجت في ملكه أو اشتراها ‪ ،‬أو كانت بيّنته أقدم تاريخا قدّمت‬
‫مثلً ‪ :‬إ ّ‬
‫بيّنته ‪ ،‬وإل قدّمت بيّنة المدّعي ‪ ،‬لنّ ( بيّنة الدّاخل ) أفادت بذكر السّبب ما ل تفيده اليد ‪.‬‬
‫واستدلّ لتقديم بيّنة الدّاخل ‪ :‬بما روى جابر بن عبد اللّه رضي ال عنهما ‪ « :‬أنّ النّبيّ صلى‬
‫ل واحد منهما البيّنة بأنّها له نتجها‬
‫ال عليه وسلم اختصم إليه رجلن في دابّة أو بعير ‪ ،‬فأقام ك ّ‬
‫‪ ،‬فقضى بها رسول اللّه صلى ال عليه وسلم للّذي هي في يده » ‪ .‬وذكر أبو الخطّاب رواية‬
‫ل حال ‪ ،‬وهو قول شريح وأهل الشّام والشّعبيّ والحكم‬
‫ثالثة ‪ :‬أنّ بيّنة المدّعى عليه تقدّم بك ّ‬
‫وأبي عبيد ‪ .‬وقال ‪ :‬هو قول أهل المدينة ‪ ،‬وروي عن طاوس ‪ .‬وأنكر القاضي كون هذا‬
‫رواية عن أحمد ‪ ،‬وقال ‪ :‬ل تقبل بيّنة الدّاخل إذا لم تفد إل ما أفادته يده ‪ ،‬رواية واحدة ‪.‬‬
‫ن جهة المدّعى عليه أقوى ‪ ،‬لنّ الصل معه ‪ ،‬ويمينه تقدّم‬
‫ج من ذهب إلى هذا القول بأ ّ‬
‫واحت ّ‬
‫على يمين المدّعي ‪.‬‬
‫فإذا تعارضت البيّنتان ‪ :‬وجب إبقاء يده على ما فيها ‪ ،‬وتقديمه ‪ ،‬كما لو لم تكن بيّنة لواحد‬
‫منهما ‪ .‬وحديث جابر يدلّ على هذا ‪ ،‬فإنّه إنّما قدّمت بيّنته ليده ‪.‬‬
‫‪ - 11‬واستدلّ لتقديم بيّنة المدّعي بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬البيّنة على المدّعي ‪،‬‬
‫واليمين على المدّعى عليه » فجعل جنس البيّنة في جهة المدّعي ‪ ،‬فل يبقى في جهة المدّعى‬
‫ن بيّنة المدّعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بيّنة الجرح على بيّنة التّعديل ‪.‬‬
‫عليه بيّنة ‪ .‬ول ّ‬
‫ودليل كثرة فائدتها ‪ :‬أنّها تثبت شيئا لم يكن ‪.‬‬
‫ل اليد عليه ‪ ،‬فلم تكن مفيدة ‪ ،‬ولنّ الشّهادة بالملك يجوز أن‬
‫وبيّنة المنكر إنّما تثبت ظاهرا تد ّ‬
‫يكون مستندها رؤية اليد والتّصرّف ‪ ،‬فإنّ ذلك جائز عند كثير من أهل العلم ‪ ،‬فصارت البيّنة‬
‫بمنزل اليد المجرّدة ‪ ،‬فتقدّم عليها بيّنة المدّعي ‪ ،‬كما تقدّم على اليد ‪ ،‬كما أنّ شاهدي الفرع لمّا‬
‫كانا مبنيّين على شاهدي الصل ‪ ،‬لم تكن لهما مزيّة عليهما ‪.‬‬
‫وإذا كان في يد رجل شاة ‪ ،‬فادّعى رجل أنّها له منذ سنة ‪ ،‬وأقام بذلك بيّنة ‪ .‬وادّعى الّذي هي‬
‫ن بيّنته تشهد له‬
‫في يده أنّها في يده منذ سنين ‪ ،‬وأقام لذلك بيّنة ‪ ،‬فهي للمدّعي بغير خلف ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالملك ‪ ،‬وبيّنة الدّاخل تشهد له باليد خاصّة ‪ ،‬فل تعارض بينهما ‪ ،‬لمكان الجمع بينهما بأن‬
‫تكون اليد على غير ملك ‪ ،‬فكانت بيّنة الملك أولى ‪ .‬فإن شهدت بيّنة بأنّها ملكه منذ سنتين ‪،‬‬
‫فقد تعارض ترجيحان ‪ :‬فقدّم التّاريخ من جهة بيّنة الدّاخل ‪ ،‬وكون الخرى بيّنة الخارج ففيه‬
‫روايتان ‪ :‬إحداهما تقدّم بيّنة الخارج‪ ،‬وهو قول صاحبي أبي حنيفة ‪ ،‬وأبي ثور‪ .‬والثّانية ‪:‬‬
‫تقدّم بيّنة الدّاخل ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬والشّافعيّ ‪ ،‬لنّها تضمّنت زيادة ‪.‬‬
‫تعارض الدلّة في حقوق اللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ - 12‬المقرّر شرعا ‪ :‬أنّ الحدود الّتي هي حقّ اللّه تعالى تسقط بالشّبهات ‪ ،‬فإذا أقيمت بيّنة‬
‫ل منها بعدم الفعل قدّمت ‪ ،‬وذلك استنادا‬
‫تامّة على فعل كالزّنى مثلً ‪ ،‬وعارضتها بيّنة ولو أق ّ‬
‫إلى قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ادرءوا الحدود بالشّبهات ما استطعتم » بل قال الحنفيّة ‪ :‬لو‬
‫أقيمت عليه بيّنة بما يوجب الحدّ ‪ ،‬وادّعى شبهة من غير بيّنة ‪ ،‬سقط الحدّ ‪.‬‬
‫وللمالكيّة تفصيل ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إذا شهدت بيّنة بأنّه زنى عاقلً ‪ ،‬وشهدت الخرى بأنّه كان مجنونا‬
‫‪ :‬إن كان القيام عليه ‪ -‬أي الدّعاء ‪ -‬وهو عاقل ‪ ،‬قدّمت بيّنة العقل ‪.‬‬
‫وإن كان القيام عليه وهو مجنون ‪ ،‬قدّمت بيّنة الجنون‪ ،‬فاعتبروا شهادة الحال في التّرجيح‪.‬‬
‫وقال ابن الّلبّاد ‪ :‬يعتبر وقت الرّؤية ل وقت القيام ‪ ،‬فلم يعتبر ظاهر الحال ‪.‬‬
‫ونقل عن ابن القاسم ‪ :‬إثبات الزّيادة ‪ ،‬فإذا شهدت إحداهما ‪ :‬بالقتل أو السّرقة أو الزّنى ‪،‬‬
‫وشهدت الخرى ‪ :‬أنّه كان في مكان بعيد أنّه تقدّم بيّنة القتل ونحوه ‪ ،‬لنّها مثبتة زيادة ‪ ،‬ول‬
‫يدرأ عنه الحدّ ‪ .‬قال سحنون ‪ :‬إل أن يشهد الجمع العظيم ‪ -‬كالحجيج ونحوهم ‪ -‬أنّه كان‬
‫معهم في الوقوف بعرفة ‪ ،‬أو صلّى بهم العيد في ذلك اليوم ‪ ،‬لنّ هؤلء ل يشتبه عليهم‬
‫أمره ‪ ،‬بخلف الشّاهدين ‪.‬‬
‫تعارض تعديل الشّهود وتجريحهم ‪:‬‬
‫‪ - 13‬اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى ‪ ،‬ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول‬
‫فاسق لم يجز الحكم به ‪ .‬والعدالة أو التّجريح ل يثبت كلّ منهما إل بشهادة رجلين ‪ ،‬خلفا‬
‫لبي حنيفة ‪ ،‬وأبي يوسف ‪ ،‬فيثبت كلّ من التّعديل والتّجريح عندهما بشهادة واحد ‪ .‬وسبب‬
‫الخلف هل هما شهادة أو إخبار ؟ فعند الجمهور ‪ :‬شهادة ‪ ،‬وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪:‬‬
‫إخبار ‪ ،‬فيكفي الواحد في تزكية السّرّ ‪ ،‬ونصاب الشّهادة في تزكية العلنية ‪.‬‬
‫فلو عدّل الشّاهد اثنان ‪ ،‬وجرّحه اثنان ‪ ،‬فالجرح أولى عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو‬
‫ن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدّل ‪ ،‬فوجب‬
‫قول عند المالكيّة ‪ ،‬واستدلّوا ‪ :‬بأ ّ‬
‫ن التّعديل يتضمّن ترك الرّيب والمحارم ‪ ،‬والجارح مثبت لوجود ذلك ‪ ،‬والثبات‬
‫تقديمه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الجارح يقول ‪ :‬رأيته يفعل كذا ‪ ،‬والمعدّل مستنده أنّه لم يره يفعل ‪،‬‬
‫مقدّم على النّفي ‪ ،‬ول ّ‬
‫ويمكن صدقهما ‪ ،‬والجمع بين قوليهما ‪ :‬بأن يراه الجارح يفعل المعصية ‪ ،‬ول يراه المعدّل ‪،‬‬
‫فيكون مجروحا ‪ .‬وعند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه ل بدّ في الجرح من ذكر السّبب ‪ ،‬ولم‬
‫ن المزكّي يقول في الشّاهد المجروح " واللّه أعلم‬
‫يشترطوا ذلك في التّعديل ‪ .‬وعند الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫" ول يزيد على هذا ‪ ،‬لنّ في ذكر فسقه هتك عرضه ‪ ،‬وقد أمرنا بالسّتر على المسلم ‪ .‬وهذا‬
‫كلّه إذا لم يعلم القاضي حال الشّهود ‪ ،‬إذ إنّه إذا كان يعلم حكم بمقتضى علمه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬لو عدّله شاهدان رجلن وجرّحه آخران ‪ ،‬ففي ذلك قولن ‪ ،‬قيل ‪ :‬يقضى‬
‫ن شهود الجرح زادوا‬
‫بأعدلهما ‪ ،‬لستحالة الجمع بينهما ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يقضى بشهادة الجرح ‪ ،‬ل ّ‬
‫على شهود التّعديل ‪ ،‬إذ الجرح َي ْبطُن ‪ ،‬فل يطّلع عليه كلّ النّاس ‪ ،‬بخلف العدالة ‪.‬‬
‫وللّخميّ تفصيل ‪ ،‬قال ‪ :‬إن كان اختلف البيّنتين في فعل شيء في مجلس واحد ‪ ،‬كدعوى‬
‫إحدى البيّنتين ‪ :‬أنّه فعل كذا ‪ ،‬في وقت كذا ‪ ،‬وقالت البيّنة الخرى ‪ :‬لم يكن ذلك ‪ ،‬فإنّه يقضى‬
‫بأعدلهما ‪.‬‬
‫وإن كان ذلك في مجلسين متقاربين قضي بشهادة الجرح ‪ ،‬لنّها زادت علما في الباطن ‪.‬‬
‫وإن تباعد ما بين المجلسين قضي بآخرهما تاريخا ‪ ،‬ويحمل على أنّه كان عدل ففسق ‪ ،‬أو‬
‫فاسقا فتزكّى ‪ ،‬إل أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة ‪ ،‬فبيّنة الجرح مقدّمة ‪ ،‬لنّها‬
‫زادت ‪.‬‬
‫تعارض احتمال بقاء السلم وحدوث الرّدّة ‪:‬‬
‫‪ - 14‬فقهاء المذاهب لم يجمعوا على حكم واحد في هذا الموضوع ‪ .‬وأكثر المذاهب توسّعا فيه‬
‫مذهب الحنفيّة ‪ :‬إذ قالوا ‪ :‬ل يخرج الرّجل من اليمان إلّا جحود ما أدخله فيه ‪ ،‬ثمّ ما تيقّن أنّه‬
‫شكّ ‪ ،‬والسلم‬
‫ك أنّه ردّة ل يحكم بها ‪ ،‬إذ السلم الثّابت ل يزول بال ّ‬
‫ردّة يحكم بها ‪ ،‬وما يش ّ‬
‫يعلو ‪ .‬وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أل يبادر بتكفير أهل السلم ‪ ،‬مع أنّه يتساهل في إثبات‬
‫السلم ‪ ،‬فيقضى بصحّة إسلم المكره ‪ .‬ونقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى الصّغرى قوله‬
‫‪ :‬الكفر شيء عظيم ‪ ،‬فل أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنّه ل يكفر ‪ .‬وفي كتب‬
‫الحنفيّة ‪ :‬إذا كان في المسألة وجوه توجب التّكفير ‪ ،‬ووجه واحد يمنعه ‪ ،‬فعلى المفتي أن يميل‬
‫إلى الوجه الّذي يمنع التّكفير ‪ ،‬تحسينا للظّنّ بالمسلم ‪ ،‬إل إذا صرّح بإرادة موجب الكفر ‪ ،‬فل‬
‫ينفعه التّأويل ‪.‬‬
‫ول يكفر بالمحتمل ‪ ،‬لنّ عقوبة الكفر نهاية في العقوبة ‪ ،‬تستدعي نهاية في الجناية ‪ ،‬ومع‬
‫الحتمال ل نهاية في الجناية ‪ ،‬والّذي تقرّر ‪ :‬أنّه ل يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلمه على‬
‫محمل حسن ‪ ،‬أو كان في كفره اختلف ‪ ،‬ولو رواية ضعيفة ‪.‬‬
‫‪ - 15‬وفقهاء المذاهب الخرى يقولون أيضا ‪ :‬إذا قام دليل أو قرينة تقتضي عدم القتل قدّمت ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ولو أسلم ثمّ ارتدّ عن قرب ‪ ،‬وقال ‪ :‬أسلمت عن ضيق أو خوف أو غرم ‪ ،‬وظهر‬
‫عذره ‪ ،‬ففي قبول عذره قولن عند المالكيّة ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد أورد الفقهاء قواعد عامّة في التّعارض ‪ ،‬وهي إن كانت أقرب إلى الصول منها‬
‫إلى الفقه ‪ ،‬إل أنّه رتّبت عليها مسائل فقهيّة يسوّغ ذكرها هنا ‪.‬‬
‫تعارض الحكام التّكليفيّة في الفعل الواحد ‪:‬‬
‫‪ - 16‬من القواعد الّتي أوردها الزّركشيّ ‪ :‬أنّه لو تعارض الحظر والباحة في فعل واحد يقدّم‬
‫الحظر ‪ .‬ومن ثمّ لو تولّد الحيوان من مأكول وغيره ‪ ،‬حرم أكله ‪ ،‬وإذا ذبحه المحرم وجب‬
‫الجزاء تغليبا للتّحريم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬لو تعارض الواجب والمحظور ‪ ،‬يقدّم الواجب ‪ ،‬كما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى‬
‫الكفّار ‪ ،‬وجب غسل الجميع ‪ ،‬والصّلة عليهم ‪ .‬وكذلك اختلط الشّهداء بغيرهم ‪ .‬وإن كان‬
‫الشّهيد ل يغسّل ‪ ،‬ول يصلّى عليه ‪ ،‬إلّا أنّه ينوى الصّلة عليه إن لم يكن شهيدا ‪ .‬ولو أسلمت‬
‫المرأة وجب عليها الهجرة إلى دار السلم ‪ ،‬ولو سافرت وحدها ‪ ،‬وإن كان سفرها وحدها في‬
‫الصل حراما ‪.‬‬
‫ويعذر المصلّي في التّنحنح إذا تعذّرت عليه القراءة الواجبة ‪.‬‬
‫‪ - 17‬ومن القواعد ‪ :‬ما لو تعارض واجبان ‪ ،‬قدّم آكدهما ‪ ،‬فيقدّم فرض العين على فرض‬
‫الكفاية ‪ .‬فالطّائف حول الكعبة ل يقطع الطّواف لصلة الجنازة ‪.‬‬
‫ولو اجتمعت جنازة وجمعة وضاق الوقت ‪ ،‬قدّمت الجمعة ‪ .‬ومن هذا ليس للوالدين منع الولد‬
‫من حجّة السلم على الصّحيح ‪ ،‬بخلف الجهاد ‪ ،‬فإنّه ل يجوز إل برضاهما ‪ ،‬لنّ برّهما‬
‫فرض عين ‪ ،‬والجهاد فرض كفاية ‪ ،‬وفرض العين مقدّم ‪.‬‬
‫‪ - 18‬ولو تعارضت فضيلتان ‪ ،‬يقدّم أفضلهما ‪ ،‬فلو تعارض البكور إلى الجمعة بل غسل‬
‫ن تحصيل الغسل أولى للخلف في وجوبه ‪ .‬وهذا كلّه مذهب‬
‫وتأخيره مع الغسل ‪ ،‬فالظّاهر ‪ :‬أ ّ‬
‫الشّافعيّة ‪.‬‬
‫‪ - 19‬ومن فروع قاعدة تعارض الحظر والباحة ‪ :‬ما إذا تعارض دليلن أحدهما يقتضي‬
‫التّحريم ‪ ،‬والخر الباحة ‪ ،‬قدّم التّحريم ‪.‬‬
‫وعلّله الصوليّون بتقديم النّسخ ‪ ،‬لنّه لو قدّم المبيح للزم تكرار النّسخ ‪ ،‬لنّ الصل في‬
‫الشياء الباحة ‪ ،‬فلو جعل المبيح متأخّرا كان المحرّم ناسخا للباحة الصليّة ‪ ،‬ثمّ يصير‬
‫منسوخا بالمبيح ‪ ،‬ولو جعل المحرّم متأخّرا كان ناسخا للمبيح ‪ ،‬وهو لم ينسخ شيئا لكونه على‬
‫وفق الصل ‪ ،‬ولذلك قال عثمان رضي ال عنه ‪ -‬لمّا سئل عن الجمع بين الختين بملك‬
‫اليمين ‪ -‬أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ‪ ،‬والتّحريم أحبّ إلينا ‪ .‬قالوا ‪ :‬وإنّما كان التّحريم أحبّ‬
‫ن فيه ترك مباح ‪ ،‬ل اجتناب محرّم ‪ ،‬وذلك أولى من عكسه ‪.‬‬
‫لّ‬
‫‪ - 20‬ومن أقسام التّعارض ‪ :‬أن يتعارض أصلن ‪ ،‬فإذا وقع ذلك يعمل بالرجح منهما ‪،‬‬
‫لعتضاده بما يرجّحه ‪ .‬ومن صوره ‪ :‬ما إذا جاء بعض العسكر بمشرك ‪ ،‬فادّعى المشرك ‪:‬‬
‫ن المسلم أمّنه ‪ ،‬وأنكر ‪ ،‬ففيه روايتان ‪:‬‬
‫أّ‬
‫ن الصل عدم المان ‪ .‬والثّانية ‪ :‬القول قول‬
‫إحداهما ‪ :‬القول قول المسلم في إنكار المان ‪ ،‬ل ّ‬
‫شكّ هنا فيها ‪ .‬وفيه‬
‫ن الصل في الدّماء الحظر إلّا بيقين الباحة ‪ ،‬وقد وقع ال ّ‬
‫المشرك ‪ ،‬ل ّ‬
‫رواية ثالثة ‪ :‬أنّ القول قول من يدلّ الحال على صدقه منهما ‪ ،‬ترجيحا لحد الصلين‬
‫بالظّاهر الموافق له ‪ .‬ولو تعارض الحنث والبرّ في يمين ‪ ،‬قدّم الحنث على البرّ ‪ ،‬فمن حلف‬
‫على القدام على فعل شيء أو وجوده فهو على حنث ‪ ،‬حتّى يقع الفعل فيبرّ ‪.‬‬
‫والحنث يدخل عند المالكيّة بأقلّ الوجوه ‪ ،‬والبرّ ل يكون إل بأكمل الوجوه ‪ ،‬فمن حلف أن‬
‫يأكل رغيفا لم يبرّ إل بأكل الرّغيف كلّه ‪ ،‬وإن حلف أل يأكله حنث بأكل بعضه ‪.‬‬
‫ن الخاصّ والعا ّم يتعارضان ويتدافعان ‪،‬‬
‫قال الغزاليّ في المستصفى ‪ :‬وقد ذهب قوم ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫فيجوز أن يكون الخاصّ سابقا ‪ ،‬وقد ورد العامّ بعده لرادة العموم ‪ ،‬فنسخ الخاصّ ‪ .‬ويجوز‬
‫أن يكون العامّ سابقا وقد أريد به العموم ‪ ،‬ثمّ نسخ باللّفظ الخاصّ بعده ‪ .‬فعموم الرّقبة مثلً‬
‫يقتضي إجزاء الكافرة مهما أريد به العموم ‪ ،‬والتّقييد بالمؤمنة يقتضي منع إجزاء الكافرة ‪،‬‬
‫فهما متعارضان ‪ .‬وإذا أمكن النّسخ والبيان جميعا فَِلمَ يُتحكّم بحمله على البيان دون النّسخ ؟‬
‫ل العامّ هو المتأخّر الّذي أريد به العموم ‪ ،‬وينسخ‬
‫ولمَ يقطع بالحكم على العامّ بالخاصّ ؟ ولع ّ‬
‫ح عندنا ‪ :‬تقديم الخاصّ وإن كان ما ذكره‬
‫به الخاصّ ‪ ،‬وهذا هو الّذي اختاره القاضي ‪ ،‬والص ّ‬
‫ن تقدير النّسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة تحت اللّفظ ‪ ،‬ثمّ خروجه‬
‫القاضي ممكنا ‪ ،‬ولك ّ‬
‫ص باللّفظ العامّ غالب معتاد ‪ ،‬بل هو‬
‫عنه ‪ ،‬فهو إثبات وضع ‪ ،‬ورفع بالتّوهّم ‪ ،‬وإرادة الخا ّ‬
‫الكثر ‪ ،‬والنّسخ كالنّادر ‪ ،‬فل سبيل إلى تقديره بالتّوهّم ‪ ،‬ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير‬
‫الصّحابة والتّابعين كثير ‪ ،‬فإنّهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاصّ على العامّ ‪ ،‬وما اشتغلوا‬
‫بطلب التّاريخ والتّقدّم والتّأخّر ‪.‬‬
‫ن الرّجال يقتضي مفهومه قتل غيرهم‬
‫وقيل على الشّذوذ ‪ :‬إنّه يخصّص من طريق المفهوم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ح ّرمَتْ عَلَيكُمْ‬
‫‪ ،‬فإذا لم يتنافيا ‪ ،‬وكان لحدهما مناسبة تخصّه في متعلّقه ‪ -‬كقوله تعالى ‪ُ { :‬‬
‫ح ُرمٌ } ‪ -‬فيضطرّ المحرم إلى أكل الميتة أو‬
‫ال َم ْيتَةُ } وقوله تعالى ‪ { :‬ل تَ ْقتُلُوا الصّيدَ وََأ ْن ُتمْ ُ‬
‫الصّيد ‪ ،‬فعند مالك ‪ :‬يأكل الميتة ويترك الصّيد ‪ ،‬لنّ كليهما ‪ -‬وإن كان محرّما ‪ -‬إلّا أنّ‬
‫تحريم الصّيد له مناسبة بالحرام ‪ ،‬ومفسدته الّتي اعتمدها النّهي إنّما هي في الحرام ‪ ،‬وأمّا‬
‫مفسدة أكل الميتة فذلك أمر عامّ ‪ ،‬ل تعلّق له بخصوص الحرام ‪ ،‬والمناسب إذا كان لمر عامّ‬
‫‪ -‬وهو كونها ميتة ‪ -‬ل يكون بينه وبين خصوص الحرام منافاة ول تعلّق ‪ ،‬والمنافي‬
‫الخصّ أولى بالجتناب ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل ‪ :‬إذا لم يجد المصلّي ثوبا يستره إل حريرا أو نجسا فإنّه يصلّي في الحرير‬
‫ن مفسدة النّجاسة خاصّة بالصّلة ‪ ،‬بخلف مفسدة الحرير ل تعلّق لها‬
‫ويترك النّجس ‪ ،‬ل ّ‬
‫بخصوص الصّلة ‪ ،‬ول منافاة بينهما ‪.‬‬
‫وهناك فروع كثيرة أخرى تترتّب على هذه القاعدة ‪ ،‬يرجع إليها في الصول وأبواب الفقه ‪.‬‬
‫تعارض الصل والظّاهر ‪:‬‬
‫‪ - 21‬المراد بالصل ‪ :‬بقاء ما كان على ما كان ‪ ،‬والظّاهر ‪ :‬ما يترجّح وقوعه ‪.‬‬
‫فالصل براءة ال ّذمّة ‪ ،‬ولذا لم يقبل في شغلها شاهد واحد ‪ ،‬ولذا كان القول قول المدّعى عليه‬
‫لموافقته الصل ‪ ،‬والبيّنة على المدّعي ‪ ،‬لدعواه ما خالف الصل ‪ ،‬فإذا اختلفا في قيمة المتلف‬
‫والمغصوب ‪ -‬فالقول قول الغارم ‪ ،‬لنّ الصل البراءة عمّا زاد عن قوله ‪ ،‬ولو أقرّ بشيء أو‬
‫حقّ قبل تفسيره بما له قيمة ‪ ،‬فالقول للمقرّ مع يمينه ‪.‬‬
‫وهذه القاعدة مذهب الحنفيّة ‪ .‬والحكم كذلك عند المالكيّة ‪.‬‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬الحكم عندهم كذلك في تقديم الظّاهر الثّابت بالبيّنة ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة تفصيل في غير الثّابت بالبيّنة ‪ ،‬إذ قالوا ‪ :‬إنّ الصل يرجّح جزما ‪.‬‬
‫وضابطه ‪ :‬أن يعارضه احتمال مجرّد ‪ .‬وما يرجّح فيه الظّاهر جزما ‪ ،‬وضابطه ‪ :‬أن يستند‬
‫إلى سبب منصوب شرعا ‪ ،‬كالشّهادة تعارض الصل ‪ ،‬والرّواية ‪ ،‬واليد في الدّعوى ‪ .‬وإخبار‬
‫ح ‪ ،‬وضابطه ‪ :‬أن يستند‬
‫الثّقة بدخول الوقت ‪ .‬وما يرجّح فيه الصل على الظّاهر في الص ّ‬
‫ن الغالب فيه النّجاسة‬
‫الحتمال إلى سبب ضعيف ‪ ،‬ومثله الشّيء الّذي ل يتيقّن بنجاسته ‪ ،‬ولك ّ‬
‫كثياب مدمن الخمر ‪ ،‬والقصّابين ‪ ،‬والكفّار ‪ ،‬وأوانيهم ‪.‬‬
‫وما يترجّح فيه الظّاهر على الصل ‪ ،‬بأن كان سببا قويّا منضبطا ‪ ،‬كمن شكّ بعد الصّلة أو‬
‫غيرها من العبادات في ترك ركن غير ال ّنيّة فالمشهور ل يؤثّر ‪.‬‬
‫والحنابلة يقدّمون كغيرهم الظّاهر ‪ ،‬الّذي هو حجّة يجب قبولها شرعا ‪ ،‬كالشّهادة على‬
‫الصل ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ‪ ،‬بأن كان مستندا إلى العرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة‬
‫الظّنّ ونحو ذلك ‪ ،‬فتارة يعمل بالصل ول يلتفت إلى الظّاهر ‪ ،‬وتارة يعمل بالظّاهر ول يلتفت‬
‫إلى الصل ‪ ،‬وتارة يخرج في المسألة خلف ‪ ،‬فهذه أربعة أقسام ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬ما ترك فيه العمل بالصل للحجّة الشّرعيّة ‪ ،‬وهي قول من يجب العمل بقوله ‪،‬‬
‫كشهادة عدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه ‪ ،‬وهذه محلّ إجماع بين الفقهاء كما تقدّم ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬ما عمل فيه بالصل ‪ ،‬ولم يلتفت إلى القرائن الظّاهرة ونحوها ‪ .‬وذلك كما إذا ادّعت‬
‫زوجة بعد طول مقامها مع الزّوج ‪ :‬أنّها لم تصلها منه النّفقة الواجبة ‪ ،‬فإنّ القول قولها مع‬
‫ن العادة تبعد ذلك جدّا ‪ ،‬واختار الشّيخ تقيّ‬
‫يمينها عند الصحاب ‪ ،‬لنّ الصل معها ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫الدّين بن تيميّة الرّجوع إلى العادة ‪ ،‬وخرّجه وجها من المسائل المختلف فيها ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬ما عمل فيه بالظّاهر ولم يلتفت إلى الصل ‪ ،‬كما إذا شكّ بعد الفراغ من الصّلة أو‬
‫شكّ ‪ ،‬وإن كان الصل عدم‬
‫غيرها من العبادات في ترك ركن منها ‪ ،‬فإنّه ل يلتفت إلى ال ّ‬
‫ن الظّاهر من فعل المكلّفين للعبادات ‪ :‬أن تقع على وجه‬
‫التيان به وعدم براءة ال ّذمّة ‪ ،‬لك ّ‬
‫الكمال ‪ ،‬فيرجّح هذا الظّاهر على الصل ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين الوضوء وغيره في‬
‫المنصوص عن المام أحمد ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬ما خرج فيه خلف في ترجيح الظّاهر على الصل وبالعكس ‪ ،‬ويكون ذلك غالبا عند‬
‫تقادم الظّاهر والصل وتساويهما ‪ ،‬ومن صوره ‪ :‬طهارة طين الشّوارع ‪ ،‬نصّ عليه المام‬
‫أحمد في مواضع ‪ ،‬ترجيحا للصل ‪ ،‬وهو الطّهارة في العيان كلّها ‪.‬‬
‫وفي رواية له ثانية ‪ :‬أنّه نجس ترجيحا للظّاهر ‪ ،‬وجعله صاحب التّلخيص المذهب ‪.‬‬
‫سيّة ‪:‬‬
‫تعارض العبارة " اللّفظ " والشارة الح ّ‬
‫ن العبارة تقدّم على الشارة ‪ ،‬واستدلّوا بما أورده ابن حجر في‬
‫‪ - 22‬قال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬إ ّ‬
‫شرح حديث ابن عبّاس رضي ال عنهما عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « أمرت أن أسجد‬
‫على سبعة أعظم ‪ :‬على الجبهة وأشار بيده على أنفه ‪ » . . .‬إلخ ‪.‬‬
‫وأحال شرح الحديث على ما قاله في الرّواية الخرى عن ابن عبّاس « ووضع يده على‬
‫جبهته وأمرّها على أنفه ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا واحد » فهذه رواية مفسّرة ‪.‬‬
‫ل على أنّ الجبهة الصل ‪ ،‬والسّجود على النف تبع ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬هذا يد ّ‬
‫وقال ابن دقيق العيد ‪ :‬قيل ‪ :‬معناه أنّهما جعل كعضو واحد ‪ ،‬وإل لكانت العضاء ثمانية ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وفيه نظر ‪ ،‬لنّه ل يلزم منه أن يكتفى بالسّجود على النف ‪ .‬قال ‪ :‬والحقّ أنّ مثل هذا‬
‫ل يعارض التّصريح بذكر الجبهة ‪ ،‬وإن أمكن أن يعتقد أنّهما كعضو واحد فذاك في التّسمية‬
‫والعبارة ‪ ،‬ل في الحكم الّذي عليه المر بالسّجود ‪.‬‬
‫وأيضا فإنّ الشارة قد ل تعيّن المشار إليه ‪ ،‬فإنّها إنّما تتعلّق بالجبهة لجل العبارة ‪ ،‬فإذا‬
‫تقارب ما في الجبهة أمكن أن ل يعيّن المشار إليه تعيينا ‪ .‬وأمّا العبارة ‪ :‬فإنّها معيّنة لما‬
‫وصفت له ‪ ،‬فتقديمه أولى ‪ .‬وما ذكره من القتصار على بعض الجبهة قال به كثير من‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ونقل ابن المنذر إجماع الصّحابة ‪ :‬على أنّه ل يجزئ السّجود على النف‬
‫وحده ‪ .‬وذهب الجمهور إلى أنّه يجزئ على الجبهة وحدها ‪ .‬وعن الوزاعيّ وأحمد وإسحاق‬
‫وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم ‪ :‬يجب أن يجمعهما ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّ أيضا ‪ .‬وقال الحنفيّة‬
‫‪ :‬إذا اجتمعت الشارة إلى شيء ‪ ،‬والعبارة عنه في المهر ‪ -‬فالصل أنّ المسمّى إذا كان من‬
‫جنس المشار إليه يتعلّق العقد بالمشار إليه ‪ ،‬لنّ المسمّى موجود في المشار إليه ذاتا ‪،‬‬
‫والوصف يتبعه ‪ ،‬وإن كان من خلف جنسه يتعلّق العقد بالمسمّى ‪ ،‬لنّ المسمّى مثل المشار‬
‫إليه ‪ ،‬وليس بتابع له ‪.‬‬
‫والتّسمية أبلغ في التّعريف ‪ ،‬من حيث إنّها تعرف الماهيّة ‪ ،‬والشارة تعرف الذّات ‪.‬‬
‫فمن اشترى فصّا على أنّه ياقوت ‪ ،‬فإذا هو زجاج ل ينعقد العقد ‪ ،‬لختلف الجنس ‪.‬‬
‫ولو اشترى على أنّه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر ‪ ،‬انعقد العقد لتّحاد الجنس ‪.‬‬
‫ن هذا الصل متّفق عليه في النّكاح ‪ ،‬والبيع ‪ ،‬والجارة ‪ ،‬وسائر العقود ‪،‬‬
‫وقال الشّارحون ‪ :‬إ ّ‬
‫ل والخمر جنسا ‪ ،‬فتعلّق بالمشار إليه ‪ ،‬فوجب مهر المثل ‪ ،‬فيما‬
‫ن المام أبا حنيفة جعل الخ ّ‬
‫ولك ّ‬
‫ل ‪ ،‬وأشار إلى خمر ‪.‬‬
‫ن من الخ ّ‬
‫لو تزوّجها على هذا الدّ ّ‬
‫ح‪.‬‬
‫ولو سمّى حراما ‪ ،‬وأشار إلى حلل فلها الحلل في الص ّ‬
‫وأمّا في النّكاح فقال في الخانيّة ‪ :‬رجل له بنت واحدة اسمها عائشة ‪ :‬فقال الب وقت العقد ‪:‬‬
‫زوّجت منك بنتي فاطمة ‪ ،‬ل ينعقد النّكاح ‪ .‬ولو كانت المرأة حاضرة فقال الب ‪ :‬زوّجتك‬
‫بنتي فاطمة هذه ‪ ،‬وأشار إلى عائشة وغلط في اسمها ‪ ،‬فقال الزّوج ‪ :‬قبلت ‪ ،‬جاز ‪.‬‬
‫ن الحنفيّة وحدهم هم الّذين قالوا بإجزاء السّجود على النف وحده ‪،‬‬
‫‪ - 23‬وممّا سبق تبيّن أ ّ‬
‫ن الجمهور يجزئ عندهم السّجود على الجبهة دون النف ‪،‬‬
‫تقديما للشارة على العبارة ‪ ،‬وأ ّ‬
‫وأنّ العبارة عندهم تقدّم على الشارة لنّها تعيّن المراد ‪ ،‬والشارة قد ل تعيّنه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إذا اجتمعت الشارة والعبارة ‪ ،‬واختلف موجبهما ‪ ،‬غلّبت الشارة ‪.‬‬
‫ح الصّحّة ‪.‬‬
‫فلو قال ‪ :‬أصلّي خلف زيد هذا ‪ ،‬أو قال ‪ :‬أصلّي على زيد هذا ‪ ،‬فبان عمرا فالص ّ‬
‫ولو قال ‪ :‬زوّجتك فلنة هذه ‪ ،‬وسمّاها بغير اسمها صحّ قطعا ‪ ،‬وحكي فيه وجه ‪.‬‬
‫ولو قال ‪ :‬زوّجتك هذا الغلم ‪ ،‬وأشار إلى بنته ‪ ،‬نقل الرّويانيّ عن الصحاب صحّة النّكاح ‪.‬‬
‫تعويل على الشارة ‪ .‬وهذا يتّفق ومذهب الحنفيّة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬زوّجتك هذه العربيّة ‪ ،‬فكانت‬
‫أعجميّة ‪ .‬أو ‪ :‬هذه العجوز ‪ ،‬فكانت شابّة ‪ .‬أو ‪ :‬هذه البيضاء ‪ ،‬فكانت سوداء أو عكسه ‪-‬‬
‫وكذا المخالفة في جميع وجوه النّسب والصّفات والعلوّ والنّزول ‪ -‬ففي صحّة النّكاح قولن ‪،‬‬
‫صحّة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬بعتك داري هذه وحدّدها وغلط في حدودها ‪ ،‬صحّ البيع ‪.‬‬
‫والصحّ ‪ :‬ال ّ‬
‫بخلف ما لو قال ‪ :‬بعتك الدّار الّتي في المحلّة الفلنيّة وحدّدها وغلط ‪ ،‬لنّ التّعويل هناك‬
‫على الشارة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬بعتك هذا الفرس فكان بغل أو عكسه ‪ ،‬فوجهان ‪ ،‬والصحّ هنا‬
‫صحّة في الباقي‬
‫البطلن ‪ .‬وإنّما صحّح البطلن هنا تغليبا لختلف غرض الماليّة ‪ .‬وصحّح ال ّ‬
‫تغليبا للشارة ‪ .‬وحينئذ يستثنى هذه الصّورة من القاعدة ‪.‬‬
‫ويضمّ إلى هذه الصّورة صور ‪ ،‬منها ‪ :‬ما لو حلف ل يكلّم هذا الصّبيّ فكلّمه شيخا ‪ ،‬أو ل‬
‫ح ‪ :‬أنّه ل يحنث‬
‫يأكل هذا الرّطب فأكله تمرا ‪ ،‬أو ل يدخل هذه الدّار فدخلها عرصة ‪ ،‬فالص ّ‬
‫ح فساد الخلع ‪ ،‬ويرجع‬
‫‪ .‬ولو خالعها على هذا الثّوب الكتّان فبان قطنا ‪ ،‬أو عكسه ‪ ،‬فالص ّ‬
‫بمهر المثل ‪ .‬وهناك صور كثيرة تترتّب على هذه القاعدة ‪.‬‬
‫هذه جملة قواعد أصوليّة في التّعارض ‪ ،‬ذكرت مع ما يترتّب عليها من أحكام ‪.‬‬
‫وأمّا التّعارض بين الدلّة فينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫تعاطي *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعاطي لغة ‪ :‬مصدر تعاطى ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬تناول النسان الشّيء بيده ‪ ،‬من العطو ‪ ،‬وهو‬
‫بمعنى التّناول ‪ .‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } وتفسيرها ‪ :‬أنّه تناول آلة‬
‫العقر ‪ ،‬وجاء في تفسيرها أيضا ‪ :‬أنّه تناول الفعل بعد أن أعدّ له عدّته ‪ ،‬بأن كمن للنّاقة‬
‫فرماها بسهمه ‪ ،‬ثمّ ضربها بسيفه حتّى قتلها ‪.‬‬
‫وا صطلحا ‪ :‬التّعا طي في الب يع ‪ ،‬ويقال ف يه أيضا المعاطاة ‪ :‬أن يأ خذ المشتري ال مبيع ويد فع‬
‫للبائع الثّ من ‪ ،‬أو يد فع البائع ال مبيع فيد فع له ال خر الثّ من ‪ ،‬من غ ير تكلّم ول إشارة ‪ .‬ويكون‬
‫التّعاطي في البيع وغيره من المعاوضات ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫العقد ‪:‬‬
‫‪ - 2‬العقد ‪ :‬عقود البيع منها ما يتمّ باللّفظ ( وهو الصّيغة ) وهو اليجاب والقبول ‪ ،‬ومنها ما‬
‫يتمّ بالفعل ‪ ،‬وهو التّعاطي ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫البيع بالتّعاطي ‪:‬‬
‫‪ - 3‬اختلف الفقهاء في انعقاد البيع بالتّعاطي ‪ .‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وفي قول‬
‫للشّافعيّة إلى ‪ :‬جواز البيع بالتّعاطي ‪ .‬والمذهب عند الشّافعيّة اشتراط الصّيغة لصحّة البيع وما‬
‫في معناه ‪ .‬وللشّافعيّة قول ثالث بجواز المعاطاة في المحقّرات ‪.‬‬
‫ولبيع المعاطاة صورتان ‪ :‬الولى ‪ :‬أن يتمّ التّعاطي من غير تكلّم ول إشارة من أحد‬
‫الطّرفين ‪ ،‬وهو جائز عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬ورجّح النّوويّ الجواز بخلف المذهب‬
‫‪ .‬الصّورة الثّانية ‪ :‬أن يت ّم التّعاطي بتكلّم أحد الطّرفين ويتمّ التّسليم ‪ ،‬وهو تعاط عند المالكيّة‬
‫والحنابلة ‪ .‬ولم يعدّه الحنفيّة تعاطيا ‪.‬‬
‫ن اللّه أحلّ البيع ‪ ،‬ولم يبيّن‬
‫‪ - 4‬وقال ابن قدامة في الستدلل لمشروعيّة بيع التّعاطي ‪ :‬إ ّ‬
‫كيفيّته ‪ ،‬فوجب الرّجوع فيه إلى العرف ‪ ،‬كما رجع إليه في القبض والحراز والتّفرّق ‪.‬‬
‫ن البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم ‪،‬‬
‫والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ‪ .‬ول ّ‬
‫وإنّما علّق الشّرع عليه أحكاما ‪ ،‬وأبقاه على ما كان ‪ ،‬فل يجوز تغييره بالرّأي والتّحكّم ‪ ،‬ولم‬
‫ينقل عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن أصحابه ‪ -‬مع كثرة وقوع البيع بينهم ‪ -‬استعمال‬
‫اليجاب والقبول ‪ ،‬ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلً شائعا ‪.‬‬
‫ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ‪ ،‬ولم يتصوّر منهم إهماله والغفلة عن نقله ‪ ،‬ولنّ البيع ممّا‬
‫تعمّ به البلوى فلو اشترط له اليجاب والقبول َل َبيّنه صلى ال عليه وسلم بيانا عامّا ‪ ،‬ولم يخف‬
‫حكمه ‪ ،‬لنّه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال بالباطل ‪ ،‬ولم ينقل ذلك عن‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن أحد من أصحابه فيما علمناه ‪.‬‬
‫ن النّاس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كلّ عصر ‪.‬‬
‫ول ّ‬
‫ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا ‪ ،‬فكان ذلك إجماعا ‪ .‬وكذلك الحكم في اليجاب والقبول في الهبة‬
‫والهديّة والصّدقة ‪ ،‬ولم ينقل عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن أحد من أصحابه استعمال‬
‫ذلك فيه ‪ ،‬وقد أهدي إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من الحبشة وغيرها ‪ ،‬وكان النّاس‬
‫يتحرّون بهداياهم يوم عائشة رضي ال عنها ‪ .‬وروى البخاريّ عن أبي هريرة رضي ال عنه‬
‫قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه ‪ :‬أهديّة أم صدقة ؟ فإن‬
‫قيل ‪ :‬صدقة ‪ .‬قال لصحابه ‪ :‬كلوا ‪ ،‬ولم يأكل ‪ .‬وإن قيل ‪ :‬هديّة ضرب بيده وأكل معهم »‬
‫وفي حديث سلمان رضي ال عنه « حين جاء إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم بتمر فقال ‪ :‬هذا‬
‫شيء من الصّدقة ‪ ،‬رأيتك أنت وأصحابك أحقّ النّاس به ‪ .‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫لصحابه ‪ :‬كلوا ولم يأكل ثمّ أتاه ثانية بتمر فقال ‪ :‬رأيتك ل تأكل الصّدقة وهذا شيء أهديته‬
‫لك ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬بسم اللّه ‪ ،‬وأكل » ولم ينقل قبول ول أمر بإيجاب ‪،‬‬
‫وإنّما سأل ليعلم ‪ :‬هل هو صدقة أو هديّة ؟ وفي أكثر الخبار لم ينقل إيجاب ول قبول ‪ ،‬وليس‬
‫إلّا المعاطاة ‪ ،‬والتّفرّق عن تراض يدلّ على صحّته ‪ ،‬ولو كان اليجاب والقبول شرطا في هذه‬
‫العقود لشقّ ذلك ‪ ،‬ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة ‪ ،‬وأكثر أموالهم محرّمة ‪ ،‬ولنّ‬
‫اليجاب والقبول إنّما يرادان للدّللة على التّراضي ‪ ،‬فإذا وجد ما يدلّ عليه من المساومة‬
‫والتّعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما ‪ ،‬لعدم التّعبّد فيه ‪.‬‬
‫القالة بالتّعاطي ‪:‬‬
‫‪ - 5‬جوّز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إقالة البيع بالتّعاطي ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬القالة تنعقد بالتّعاطي‬
‫أيضا من أحد الجانبين على الصّحيح ‪.‬‬
‫الجارة بالتّعاطي ‪:‬‬
‫‪ - 6‬جوّزها الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّما هي كالبيع ‪ ،‬وقد اقتصرت على المنافع‬
‫دون العين ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬إذا دفع ثوبه إلى خيّاط أو قصّار ليخيطه أو يقصّره من غير عقد ول شرط‬
‫ول تعريض بأجر ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬خذ هذا فاعمله ‪ ،‬وكان الخيّاط والقصّار منتصبين لذلك ‪،‬‬
‫ففعل ذلك فلهما الجر ‪ ،‬لنّ العرف جار بذلك ‪ .‬وقال أصحاب الشّافعيّ ‪ :‬ل أجر لهما ‪،‬‬
‫لنّهما فعل ذلك من غير عوض جعل لهما ‪ ،‬فأشبه ما لو تبرّعا بعمله ‪.‬‬
‫وقال ابن عابدين ‪ :‬وفي التتارخانية أنّ أبا يوسف سئل عن الرّجل يدخل السّفينة أو يحتجم أو‬
‫يفتصد أو يدخل الحمّام أو يشرب من ماء السّقاء ‪ ،‬ثمّ يدفع الجرة وثمن الماء ؟ فقال ‪ :‬يجوز‬
‫استحسانا ‪ ،‬ول يحتاج إلى العقد قبل ذلك ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يفصّل الفقهاء أحكام التّعاطي بالنّسبة لكلّ مسألة في موضعها ‪ ،‬ومن تلك المواطن ‪:‬‬
‫البيوع ‪ ،‬والقالة ‪ ،‬والجارة ‪.‬‬

‫تعاويذ *‬
‫انظر ‪ :‬تعويذة ‪.‬‬

‫تعبّديّ *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعبّديّ لغة ‪ :‬المنسوب إلى التّعبّد ‪.‬‬
‫والتّعبّد مصدر تعبّد ‪ ،‬يقال ‪ :‬تعبّد الرّجلُ الرّجل ‪ :‬إذا اتّخذه عبدا ‪ ،‬أو صيّره كالعبد ‪.‬‬
‫وتعبّد اللّه العبدَ بالطّاعة ‪ :‬استعبده ‪ ،‬أي طلب منه العبادة ‪ .‬ومعنى العبادة في اللّغة ‪ :‬الطّاعة‬
‫والخضوع ‪ .‬ومنه طريق معبّد ‪ :‬إذا كان مذلّلً بكثرة المشي فيه ‪ .‬ويرد التّعبّد في اللّغة أيضا‬
‫بمعنى ‪ :‬التّذلّل ‪ ،‬يقال ‪ :‬تعبّد فلن لفلن ‪ :‬إذا خضع له وذلّ ‪ .‬وبمعنى التّنسّك ‪ ،‬يقال ‪ :‬تعبّد‬
‫فلن للّه تعالى ‪ :‬إذا أكثر من عبادته ‪ ،‬وظهر فيه الخشوع والخبات ‪ .‬والتّعبّد من اللّه للعباد ‪:‬‬
‫تكليفهم أمور العبادة وغيرها ‪ .‬ويكثر الفقهاء والصوليّون من استعماله بهذا المعنى ‪ ،‬كقولهم‬
‫‪ :‬نحن متعبّدون بالعمل بخبر الواحد وبالقياس ‪ ،‬أي مكلّفون بذلك ‪ .‬ويقولون ‪ :‬كان النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم متعبّدا بشرع من قبله ‪ ،‬أي مكلّفا بالعمل به ‪.‬‬
‫‪ - 2‬والتّعبّديّات ‪ -‬في اصطلح الفقهاء والصوليّين ‪ -‬تطلق على أمرين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أعمال العبادة والتّنسّك‪ .‬ويرجع لمعرفة أحكامها بهذا المعنى إلى مصطلح ( عبادة )‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬الحكام الشّرعيّة الّتي ل يظهر للعباد في تشريعها حكمة غير مجرّد التّعبّد ‪ ،‬أي‬
‫التّكليف بها ‪ ،‬لختبار عبوديّة العبد ‪ ،‬فإن أطاع أثيب ‪ ،‬وإن عصى عوقب ‪.‬‬
‫والمراد بالحكمة هنا ‪ :‬مصلحة العبد من المحافظة على نفسه أو عرضه أو دينه أو ماله أو‬
‫عقله ‪ .‬أمّا مصلحته الخرويّة ‪ -‬من دخول جنّة اللّه تعالى والخلص من عذابه ‪ -‬فهي‬
‫ملزمة لتلبية كلّ أمر أو نهي ‪ ،‬تعبّديّا كان أو غيره ‪.‬‬
‫‪ - 3‬هذا هو المشهور في تعريف التّعبّديّات ‪ .‬وقد لحظ الشّاطبيّ في موافقاته أنّ حكمة الحكم‬
‫قد تكون معلومة على وجه الجمال ‪ ،‬ول يخرجه ذلك عن كونه تعبّديّا من بعض الوجوه ‪ ،‬ما‬
‫لم يعقل معناه على وجه الخصوص ‪ .‬قال ‪ :‬ومن ذلك ‪ :‬طلب الصّداق في النّكاح ‪ ،‬والذّبح في‬
‫المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول ‪ ،‬والفروض المقدّرة في المواريث ‪ ،‬وعدد الشهر في‬
‫عدّة الطّلق والوفاة ‪ ،‬وما أشبه ذلك من المور الّتي ل مجال للعقول في فهم مصالحها‬
‫الجزئيّة ‪ ،‬حتّى يقاس عليها غيرها ‪ .‬فإنّا نعلم أنّ الشّروط المعتبرة في النّكاح ‪ ،‬من الوليّ‬
‫والصّداق وشبه ذلك ‪ ،‬هي لتمييز النّكاح عن السّفاح ‪ ،‬وأنّ فروض المواريث ترتّبت على‬
‫ترتيب القربى من الميّت ‪ ،‬وأنّ العدد والستبراءات ‪ ،‬المراد بها استبراء الرّحم خوفا من‬
‫اختلط المياه ‪ ،‬ولكنّها أمور جمليّة ‪ ،‬كما أنّ الخضوع والجلل علّة شرع العبادات ‪ .‬وهذا‬
‫المقدار ل يقضي بصحّة القياس على الصل فيها ‪ ،‬بحيث يقال ‪ :‬إذا حصل الفرق بين النّكاح‬
‫والسّفاح بأمور أخر مثل ‪ ،‬لم تشترط تلك الشّروط ‪.‬‬
‫ومتى علم براءة الرّحم لم تشرع العدّة بالقراء ول بالشهر ‪ ،‬ول ما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫شرِعت لنا لحكمة يعلمها اللّه تعالى وخفيت علينا‬
‫‪ - 4‬هذا وقد اختلفت الفقهاء في أنّ التّعبّديّات ُ‬
‫شرِعت ل لحكمة أصلً غي َر مجرّد تعبّد اللّه للعباد واستدعائه المتثال منهم ‪ ،‬اختبارا‬
‫‪ ،‬أو إنّها ُ‬
‫لطاعة العبد لمجرّد المر والنّهي من غير أن يعرف وجه المصلحة فيما يعمل ‪ ،‬بمنزلة سيّد‬
‫أراد أن يختبر عبيده أيّهم أطوع له ‪ ،‬فأمرهم بالتّسابق إلى لمس حجر ‪ ،‬أو اللتفات يمينا أو‬
‫يسارا ممّا ل مصلحة فيه غير مجرّد الطّاعة ‪.‬‬
‫‪ - 5‬قال ابن عابدين نقلً عن الحلية ‪ :‬أكثر العلماء على القول الوّل ‪ ،‬وهو المتّجه ‪ ،‬بدللة‬
‫استقراء تكاليف اللّه تعالى على كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد ‪.‬‬
‫ل الحكام الشّرعيّة معلّلة‬
‫وكذلك الشّاطبيّ في موافقاته اعتمد الستقراء دليلً على أنّ ك ّ‬
‫ن أحكامه معلّلة برعاية‬
‫بمصالح العباد في الدّنيا والخرة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّ المعتزلة متّفقون على أ ّ‬
‫ي إلى إثبات‬
‫مصالح العباد ‪ ،‬وهو اختيار أكثر الفقهاء المتأخّرين ‪ .‬قال ‪ :‬ولمّا اضطرّ الرّاز ّ‬
‫ن العلل بمعنى العلمات المعرّفة للحكام ‪ .‬وذكر‬
‫العلل للحكام الشّرعيّة أثبت ذلك على أ ّ‬
‫جعَلَ‬
‫الشّاطبيّ من الدلّة الّتي استقرأها قوله تعالى في شأن الوضوء والغسل { مَا ُيرِي ُد اللّ ُه ِل َي ْ‬
‫شكُرُون } ‪.‬‬
‫طهّرَكمْ وَِل ُي ِتمّ ِن ْع َمتَهُ عَلَي ُكمْ َلعَّل ُكمْ َت ْ‬
‫حرَجٍ وَلَكنْ ُيرِيدُ ِل ُي َ‬
‫ن َ‬
‫عَلَي ُكمْ مِ ْ‬
‫ن مِنْ َقبِْل ُكمْ َلعَّل ُكمْ َتتّقُونَ } ‪.‬‬
‫صيَامُ َكمَا ُكتِبَ على اّلذِي َ‬
‫وفي الصّيام { ُكتِبَ عَلَيكُمْ ال ّ‬
‫حيَا ٌة يَا أُوِليْ الَ ْلبَابِ َلعَّل ُكمْ َتتّقُونَ } وآيات نحو هذه ‪.‬‬
‫وفي القصاص { وََل ُكمْ فِي ال ِقصَاصِ َ‬
‫وممّن ذهب إلى مثل ذلك ابن القيّم ‪ ،‬حيث قال ‪ :‬قالت طائفة ‪ :‬إنّ عدّة الوفاة تعبّد محض ‪،‬‬
‫وهذا باطل ‪ ،‬فإنّه ليس في الشّريعة حكم واحد إلّا وله معنى وحكمة ‪ ،‬يعقله من يعقله ‪ ،‬ويخفى‬
‫على من خفي عليه ‪ .‬وقرّر هذا المعنى تقريرا أوسع فقال ‪ :‬شرع اللّه العقوبات ‪ ،‬ورتّبها على‬
‫أسبابها ‪ ،‬جنسا وقدرا ‪ ،‬فهو عالم الغيب والشّهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ‪ ،‬ومن أحاط‬
‫بكلّ شيء علما ‪ ،‬وعلم ما كان وما يكون ‪ ،‬وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها‬
‫وخفيّها وظاهرها ‪ ،‬ما يمكن اطّلع البشر عليه وما ل يمكنهم ‪ .‬وليست هذه التّخصيصات‬
‫ن التّخصيصات والتّقديرات‬
‫والتّقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫واقعة في خلقه كذلك ‪ ،‬فهذا في خلقه وذاك في أمره ‪ ،‬ومصدرهما جميعا عن كمال علمه‬
‫ل شيء في موضعه الّذي ل يليق به سواه ول يتقاضى إلّا إيّاه ‪ ،‬كما وضع‬
‫وحكمته ووضعه ك ّ‬
‫شمّ في النف ‪ ،‬وخصّ‬
‫قوّة البصر والنّور الباصر في العين ‪ ،‬وقوّة السّمع في الذن ‪ ،‬وقوّة ال ّ‬
‫كلّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره ‪ ،‬فشمل‬
‫إتقانه وإحكامه ‪ ،‬وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية التقان ‪ ،‬وأحكمه غاية الحكام ‪ ،‬فلن‬
‫يكون أمره في غاية التقان أولى وأحرى ‪ ،‬ول يكون الجهل بحكمة اللّه في خلقه وأمره‬
‫وإتقانه كذلك وصدوره عن محض الحكمة والعلم مسوّغا لنكاره في نفس المر ‪ .‬وسار على‬
‫ن القول الخر ( التي ) تكذّبه‬
‫ي اللّه الدّهلويّ في حجّة اللّه البالغة وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫هذه الطّريقة ول ّ‬
‫سنّة وإجماع القرون المشهود لها بالخير ‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ - 6‬أمّا القول الثّاني بوجود أحكام ولو على سبيل النّدرة قصد منها التّعبّد والمتثال ‪ .‬فيدلّ‬
‫ع ْن ُهمْ ِإصْرَ ُهمْ وَالغْللَ الّتي‬
‫عليه ما ورد في كتاب اللّه تعالى من قوله تعالى { ‪َ . . .‬و َيضَعُ َ‬
‫كَانتْ عَلَيهمْ } أنّه كان قد جعل على من كان قبلنا آصارا وأغللً لتعنّتهم وشقاقهم ‪ ،‬كما ألزم‬
‫بني إسرائيل بأن تكون البقرة الّتي أمرهم بذبحها ل فارضا ول بكرا ‪ ،‬وأن تكون صفراء ‪.‬‬
‫وأيضا فإنّ في بعض البتلء واستدعاء الطّاعة والمتثال والتّدريب على ذلك مصلحة كبيرة ‪،‬‬
‫ل يزال أولياء المور يدرّبون عليها أنصارهم وأتباعهم ‪ ،‬ويبذلون في ذلك الموال الطّائلة ‪،‬‬
‫ن وليّ أمرهم‬
‫ليكونوا عند الحاجة ملبّين للوامر دون تردّد أو حاجة إلى التّفهّم ‪ ،‬اكتفاء وثقة بأ ّ‬
‫هو أعلم منهم بما يريد ‪.‬‬
‫بل إنّ مصلحة الطّاعة والمتثال والمسارعة إليهما هي الحكمة الولى المبتغاة من وضع‬
‫لنْسَ إل ِل َي ْع ُبدُونَ }‬
‫ت الجِنّ وَا ِ‬
‫الشّريعة ‪ ،‬بل من الخلق في أساسه ‪ ،‬قال اللّه تعالى { َومَا خَلَقْ ُ‬
‫ح ُكمْ ِل َيعَْلمَ اللّ ُه مَنْ‬
‫ن الصّيدِ َتنَالُه َأ ْيدِيكُمْ َو ِرمَا ُ‬
‫ن آ َمنُوا َل َيبْلُ َو ّن ُكمْ اللّ ُه ِبشَي ٍء مِ َ‬
‫وقال { يَا َأ ّيهَا الّذي َ‬
‫خبَا َر ُكمْ }‬
‫ن ِم ْنكُم وَالصّابِرِينَ َو َنبْلُ َو َأ ْ‬
‫حتّى َنعَْلمَ ال ُمجَاهِدِي َ‬
‫َيخَافُه بِال َغيْبِ } ‪ .‬وقال ‪ { :‬وََل َنبْلُ َو ّن ُكمْ َ‬
‫ب على عَ ِقبَيهِ }‬
‫ن َينْقَل ُ‬
‫ن َي ّتبِعُ ال ّرسُولَ ِممّ ْ‬
‫جعَ ْلنَا ال ِقبْلَ َة الّتي ُكنْتَ عليها إل ِل َنعَْلمَ مَ ْ‬
‫وقال { َومَا َ‬
‫ولكن من فضل اللّه علينا في شريعة السلم أنّه جعل غالب أحكامها تراعي مصلحة العباد‬
‫بالضافة إلى مصلحة البتلء ‪ ،‬ولكن ل يمنع ذلك من وجود أحكام ل تراعي ذلك ‪ ،‬بل قصد‬
‫بها البتلء خاصّة ‪ ،‬وذلك على سبيل النّدرة ‪.‬‬
‫وفي هذا يقول الغزاليّ ‪ :‬عرف من دأب الشّرع اتّباع المعاني المناسبة دون التّحكّمات‬
‫الجامدة ‪ ،‬وهذا غالب عادة الشّرع ‪ .‬ويقول ‪ :‬حمل تصرّفات الشّارع على التّحكّم أو على‬
‫المجهول الّذي ل يعرف ‪ ،‬نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز ‪ .‬وقال ‪ :‬ما يتعلّق من الحكام‬
‫بمصالح الخلق من المناكحات والمعاملت والجنايات والضّمانات وما عدا العبادات فالتّحكّم‬
‫فيها نادر ‪ ،‬وأمّا العبادات والمقدّرات فالتّحكّمات فيها غالبة ‪ ،‬واتّباع المعنى نادر ‪.‬‬
‫وصرّح بذلك الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلم في قواعده فقال ‪ :‬يجوز أن تتجرّد‬
‫التّعبّدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ‪ ،‬ثمّ يقع الثّواب عليها بناء على الطّاعة والذعان‬
‫من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثّواب ول درء مفسدة غير مفسدة العصيان ‪.‬‬
‫‪ - 7‬فالتّعبّديّ على القول الوّل ‪ :‬استأثر اللّه تعالى بعلم حكمته ‪ ،‬ولم يطلع عليها أحدا من‬
‫خلقه ‪ ،‬ولم يجعل سبيل للطّلع عليه مع ثبوت المصلحة فيه في نفس المر ‪ ،‬أخفى ذلك‬
‫عنهم ابتلء واختبارا ‪ .‬هل يمتثلون ويطيعون دون أن يعرفوا وجه المصلحة ‪ ،‬أم يعصون‬
‫اتّباعا لمصلحة أنفسهم ؟ ‪.‬‬
‫وعلى القول الثّاني ‪ :‬ابتلهم بما ل مصلحة لهم فيه أصل غير مجرّد الثّواب ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العبادة ‪:‬‬
‫‪ - 8‬أصل العبادة ‪ :‬الطّاعة والخضوع ‪ .‬والعبادات ‪ ،‬أنواع ‪ :‬منها الصّلة والزّكاة والصّوم‬
‫ج ‪ .‬وكثير منها معقول المعنى ‪ ،‬بيّنت الشّريعة حكمته ‪ ،‬أو استنبطها الفقهاء ‪ .‬ومن ذلك‬
‫والح ّ‬
‫حشَاءِ وَال ُم ْن َكرِ } وقوله في‬
‫عنْ ال َف ْ‬
‫قوله تعالى في شأن الصّلة { وََأ ِقمْ الصّلةَ ِإنّ الصّل َة َت ْنهَى َ‬
‫شهَدُوا َمنَافِعَ لَهمْ } وقول الفقهاء في حكمة التّرخيص في الفطار في السّفر أثناء‬
‫ج { ِل َي ْ‬
‫شأن الح ّ‬
‫رمضان ‪ :‬إنّها دفع المشقّة ‪ .‬فليس شيء من ذلك تعبّديّا ‪.‬‬
‫وبعض أحكام العبادات غير معقول المعنى ‪ ،‬فيكون تعبّديّا ‪ ،‬ككون رمي الجمار سبعا سبعا ‪.‬‬
‫وتكون التّعبّديّات أيضا في غير العبادات ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬استبراء المة الّتي اشتراها بائعها في‬
‫مجلس البيع ‪ ،‬وعادت إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها ‪.‬‬
‫ق اللّه ‪:‬‬
‫ب‪-‬حّ‬
‫‪ - 9‬قد يقال في كثير من الحكام ‪ :‬إنّه لحقّ اللّه ‪ ،‬كالصّلة والصّوم وسائر العبادات وكحدّ‬
‫السّرقة وحدّ الزّنى ‪.‬‬
‫ويقال في كثير منها ‪ :‬إنّه لحقّ النسان ‪ ،‬كحقّ القصاص وحدّ القذف والدّين والضّمانات ‪ .‬وقد‬
‫ن المراد من" حقّ اللّه تعالى" أنّه ل‬
‫ل ما كان منها لحقّ اللّه تعالى أنّه تعبّديّ ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫يظنّ أنّ ك ّ‬
‫خيرة فيه للعباد ‪ ،‬ول يجوز لحد إسقاطه ‪ ،‬بل ل بدّ للعباد من تنفيذه إذا وجد سببه ‪ ،‬وتمّت‬
‫ل ما كان لحقّ اللّه تعالى تعبّديّا ‪ ،‬بل يكون تعبّديّا إذا خفي‬
‫شروط وجوبه أو تحريمه ‪ .‬وليس ك ّ‬
‫وجه الحكمة فيه ‪ .‬ويكون غير تعبّديّ ‪ ،‬وذلك إذا ظهرت حكمته ‪.‬‬
‫قال الشّاطنبيّ ‪ :‬الحكنم المسنتخرجة لمنا ل يعقنل معناه على وجنه الخصنوص فني التّعبّدات ‪،‬‬
‫كاختصناص الوضوء بالعضاء المخصنوصة ‪ ،‬والصنّلة بتلك الهيئة منن رفنع اليدينن والقيام‬
‫والرّكوع والسّجود ‪ ،‬وكونها على بعض الهيئات دون بعض ‪ ،‬واختصاص الصّيام بالنّهار دون‬
‫اللّيل ‪ ،‬وتعيين أوقات ال صّلوات في تلك الحيان المعيّنة دون سواها من أحيان النّهار واللّيل ‪،‬‬
‫ج بتلك العمال المعروفة ‪ ،‬في الماكن المعلومة ‪ ،‬وإلى مسجد مخصوص ‪،‬‬
‫واختصاص الح ّ‬
‫إلى أشباه ذلك ممّا ل تهتدي العقول إل يه بو جه ‪ ،‬ول تحوم حوله ‪ ،‬يأ تي ب عض النّاس فيطرق‬
‫إل يه بزع مه حكما ‪ ،‬يز عم أنّ ها مق صود الشّارع من تلك الوضاع ‪ ،‬وجميع ها مبن يّ على ظ نّ‬
‫وتخمين غير مطّرد في بابه ‪ ،‬ول مبن يّ عليه عمل ‪ ،‬بل كالتّعليل بعد ال سّماع للمور الشّواذّ ‪،‬‬
‫لجنايته على الشّريعة في دعوى ما ليس لنا به علم ‪ ،‬ول دليل لنا عليه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المعلّل بالعلّة القاصرة ‪:‬‬
‫‪ -‬ولمّا كان حكم التّعبّديّات أنّه ل يقاس عليها ‪ ،‬فقد يشتبه بها المعلّل بالعلّة القاصرة ‪ ،‬لنّه‬ ‫‪10‬‬

‫ل يقاس عل يه ‪ .‬والفرق بينهمنا ‪ :‬أ نّ التّعبّديّن ل يس له علّة ظاهرة ‪ ،‬فيمت نع القياس عل يه ل نّ‬
‫القياس فرع معرفة العلّة ‪ ،‬أمّا المعلّل بالعلّة القاصرة فعلّته معلومة لكنّها ل تتعدّى محلّها ‪ ،‬إذ‬
‫لم يعلم وجودها في شيء آخر غير الصل ‪.‬‬
‫مثاله « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين » ‪ .‬وهذا‬
‫حكم خاصّ به ‪ ،‬وعلّته والمعنى فيه أنّه أوّل من تنبّه وبادر إلى تصديق النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم في تلك الحادثة بعينها والشّهادة له ‪ ،‬بموجب التّصديق العامّ له صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫والوّليّة معنى ل يتكرّر ‪ ،‬فاختصّ به ‪ ،‬فليس ذلك تعبّديّا ‪ ،‬لكون علّته معلومة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬المعدول به عن سنن القياس ‪:‬‬
‫‪ - 11‬ما خالف القياس قد يكون غير معقول المعنى كتخصيص النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫بنكاح تسع نسوة « وإجزاء العناق في التّضحية في حقّ أبي بردة هانئ بن دينار » ‪ ،‬وكتقدير‬
‫عدد الرّكعات ‪.‬‬
‫وقد يكون معقول المعنى كاستثناء بيع العرايا من النّهي عن بيع التّمر بالتّمر خرصا ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬المنصوص على علّته ‪:‬‬
‫ن المصالح في‬
‫ن بعض ما عرفت علّته قد يكون تعبّديّا ‪ .‬فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ - 12‬أورد الشّاطبيّ أ ّ‬
‫التّكليف ظهر لنا من الشّارع أنّها على ضربين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالجماع والنّصّ والسّبر والشارة‬
‫ن الحكام شرعت لجله ‪.‬‬
‫والمناسبة ‪ ،‬وهذا هو القسم الظّاهر الّذي نعلّل به ‪ ،‬وتقول ‪ :‬إ ّ‬
‫والثّاني ‪ :‬ما ل يمكن الوصول إليه بتلك المسالك المعهودة ‪ ،‬ول يطّلع عليه إلّا بالوحي‬
‫كالحكام الّتي أخبر الشّارع فيها أنّها أسباب للخصب والسّعة وقيام أبّهة السلم ‪ -‬كقوله تعالى‬
‫سمَاءَ عَليكمْ ِم ْدرَارَا‬
‫س َتغْ ِفرُوا َر ّب ُكمْ ِإنّه كانَ غَفّارَا ُي ْرسِلِ ال ّ‬
‫في سياق قصّة نوح ‪ { :‬فَقُلتُ ا ْ‬
‫جعَلْ َل ُكمْ َأ ْنهَارَا } ‪.‬‬
‫جنّاتٍ َو َي ْ‬
‫جعَلْ لَكمْ َ‬
‫َو ُي ْم ِد ْدكُمْ ِبَأمْوَالٍ َو َبنِينَ َو َي ْ‬
‫فل يعلم وجه كون الستغفار سببا للمطر وللخصب إل بالوحي ‪.‬‬
‫ولذلك ل يقاس عليه ‪ ،‬فل يعلم كون الستغفار سببا في حصول العلم وقوّة البدان مثلً ‪ ،‬فل‬
‫يكون إلى اعتبار هذه العلّة في القياس سبيل ‪ ،‬فبقيت موقوفة على التّعبّد المحض ‪ .‬ولذا يكون‬
‫أخذ الحكم المعلّل بها متعبّدا به ‪ ،‬ومعنى التّعبّد هنا ‪ :‬الوقوف عند ما ح ّد الشّارع فيه ‪.‬‬
‫حكمة تشريع التّعبّديّات ‪:‬‬
‫‪ - 13‬حكمة تشريع التّعبّديّات استدعاء المتثال ‪ ،‬واختبار مدى الطّاعة والعبوديّة ‪ .‬وقد عبّر‬
‫عن ذلك الغزاليّ في الحياء بقوله ‪ -‬في بيان أسرار رمي الجمار ‪ -‬وظّف اللّه تعالى على‬
‫العباد أعمال ل تأنس بها النّفوس ‪ ،‬ول تهتدي إلى معانيها العقول ‪ ،‬كرمي الجمار بالحجار ‪،‬‬
‫والتّردّد بين الصّفا والمروة على سبيل التّكرار ‪.‬‬
‫ن الزّكاة إرفاق ‪ ،‬ووجهه مفهوم ‪ ،‬وللعقل‬
‫وبمثل هذه العمال يظهر كمال ال ّرقّ والعبوديّة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫إليه ميل ‪ ،‬والصّوم كسر للشّهوة الّتي هي آلة عدوّ اللّه ‪ ،‬وتفرّغ للعبادة ‪ ،‬بالكفّ عن الشّواغل‬
‫ل بأفعال هي هيئة التّواضع ‪ ،‬وللنّفوس‬
‫‪ .‬والرّكوع والسّجود في الصّلة تواضع للّه عزّ وج ّ‬
‫السّعي بتعظيم اللّه عزّ وجلّ ‪ .‬فأمّا تردّدات السّعي ورمي الجمار وأمثال هذه العمال ‪ ،‬فل‬
‫حظّ للنّفوس فيها ول أنس للطّبع بها ‪ ،‬ول اهتداء للعقول إلى معانيها ‪ ،‬فل يكون في القدام‬
‫عليها باعث إلّا المر المجرّد ‪ ،‬وقصد المتثال للمر من حيث إنّه أمر واجب التّباع فقط ‪،‬‬
‫ل ما أدرك العقل‬
‫ل أنسه ‪ .‬فإنّ ك ّ‬
‫وفيه عزل للعقل عن تصرّفه وصرف النّفس والطّبع عن مح ّ‬
‫معناه مال الطّبع إليه ميل ما ‪ ،‬فيكون ذلك الميل معيّنا للمر وباعثا معه على الفعل ‪ ،‬فل يكاد‬
‫يظهر به كمال ال ّرقّ والنقياد ‪ .‬ولذلك قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم في الحجّ على وجه‬
‫الخصوص ‪ « :‬لبّيك بحجّة حقّا ‪ ،‬تعبّدا و ِرقّا » ولم يقل ذلك في صلة ول غيرها ‪ .‬وإذا‬
‫اقتضت حكمة اللّه تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلف هوى طباعهم ‪ ،‬وأن‬
‫يكون زمامها بيد الشّرع ‪ ،‬فيتردّدون في أعمالهم على سنن النقياد وعلى مقتضى الستعباد ‪،‬‬
‫كان ما ل يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس ‪ ،‬وصرفها عن مقتضى‬
‫الطّباع والخلق إلى مقتضى السترقاق ‪.‬‬
‫طرق معرفة التّعبّديّ ‪:‬‬
‫‪ - 14‬لم يعرف في تمييز التّعبّديّات عن غيرها من الحكام المعلّلة وجه معيّن ‪ ،‬غير العجز‬
‫عن التّعليل بطريق من الطّرق المعتبرة ‪ ،‬على ما هو معلوم في مباحث القياس من علم‬
‫الصول ‪ .‬ولذلك يقول ابن عابدين ‪ :‬ما شرعه اللّه إن ظهرت لنا حكمته ‪ ،‬قلنا ‪ :‬إنّه معقول‬
‫ن المصير إلى‬
‫ي المتقدّم آنفا ‪ ،‬من أ ّ‬
‫المعنى ‪ ،‬وإلّا قلنا ‪ :‬إنّه تعبّديّ ‪ .‬وإلى هذا يشير كلم الغزال ّ‬
‫التّعبّد نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز ‪.‬‬
‫ومن هنا اختلفت أقوال الفقهاء في اعتبار بعض الحكام تعبّديّا أو معقول المعنى ‪ ،‬فما يراه‬
‫بعض الفقهاء تعبّديّا قد يراه البعض الخر معلّل بمصالح غلب على ظنّه رعايتها ‪.‬‬
‫فمن ذلك أنّ صاحب ال ّدرّ المختار قال ‪ :‬إنّ تكرار السّجود أمر تعبّديّ ‪ ،‬أي لم يعقل معناه ‪،‬‬
‫تحقيقا للبتلء ‪ .‬وقال ابن عابدين ‪ :‬وقيل ‪ :‬إنّه ثنّي ترغيما للشّيطان ‪ ،‬حيث أمر بالسّجود مرّة‬
‫فلم يسجد ‪ ،‬فنحن نسجد مرّتين ‪ .‬وكون طلق الحائض بدعيّا ‪ ،‬قيل ‪ :‬هو تعبّديّ ‪.‬‬
‫ح أنّه معلّل بتطويل العدّة ‪ ،‬لنّ أوّلها من الطّهر بعد الحيض ‪.‬‬
‫قال الدّردير ‪ :‬والص ّ‬
‫والسّعي بين الصّفا والمروة ورمي الجمار يمثّل بها الفقهاء لغير المعقول المعنى ‪ ،‬كما تقدّم‬
‫عن الغزاليّ ‪ .‬غير أنّ بعض العلماء يعلّلونه وأمثاله ممّا وضع من المناسك على هيئة أعمال‬
‫بعض الصّالحين ‪ ،‬كالسّعي الّذي جعل على هيئة سعي أمّ إسماعيل عليه السلم بينهما ‪ .‬يقول‬
‫تقيّ الدّين بن دقيق العيد ‪ :‬في ذلك من الحكمة تذكّر الوقائع الماضية للسّلف الكرام ‪ ،‬وفي‬
‫ي تذكّرها مصالح دينيّة ‪ ،‬إذ يتبيّن في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر اللّه ‪،‬‬
‫طّ‬
‫والمبادرة إليه ‪ ،‬وبذل النفس في ذلك ‪ .‬وبذلك يظهر لنا أنّ كثيرا من العمال الّتي وقعت في‬
‫الحجّ ‪ ،‬ويقال بأنّها " تعبّد " ليست كما قيل ‪ .‬أل ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها حصل لنا‬
‫من ذلك تعظيم الوّلين ‪ ،‬وما كانوا عليه من احتمال المشاقّ في امتثال أمر اللّه ‪ ،‬فكان هذا‬
‫التّذكّر باعثا لنا على مثل ذلك ‪ ،‬ومقرّرا في أنفسنا تعظيم الوّلين ‪ ،‬وذلك معنى معقول ‪ .‬ثمّ‬
‫ذكر أنّ السّعي بين الصّفا والمروة اقتداء بفعل هاجر ‪ ،‬وأنّ رمي الجمار اقتداء بفعل إبراهيم‬
‫عليه السلم ‪ ،‬إذ رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع ‪.‬‬
‫وابن القيّم في إعلم الموقّعين ‪ ،‬سيرا على خطى شيخه شيخ السلم ابن تيميّة رحمهما ال ‪،‬‬
‫ل ما قيل فيه ‪ :‬إنّه مخالف للقياس ‪،‬‬
‫رأى كما تقدّم أنّه ليس في الشّريعة تعبّد محض ‪ ،‬وردّ ك ّ‬
‫ن الشّريعة فرّقت بين‬
‫كفرض الصّاع في لبن المصرّاة المردودة على بائعها ‪ ،‬وما قيل من أ ّ‬
‫المتساويات ‪ ،‬كأمرها بالغسل من بول الجارية وبالنّضح من بول الصّبيّ ‪ ،‬وسوّت بين‬
‫ل ما قيل فيه ذلك ‪ ،‬وبيّن‬
‫المفترقات ‪ ،‬كتسويتها بين الخطأ والعمد في وجوب الضّمان ‪ .‬فعلّل ك ّ‬
‫وجه الحكمة فيه ‪ ،‬وأنّ علّته معقولة ‪ ،‬ويوافق القياس ول يخالفه ‪ ،‬وأطال في ذلك ‪.‬‬
‫ما تكون فيه التّعبّديّات ‪ ،‬وأمثلة منها ‪:‬‬
‫ن التّعبّديّات أكثر ما تكون في أصول العبادات ‪ ،‬كاشتراع أصل‬
‫‪ - 15‬يذكر بعض الصوليّين أ ّ‬
‫الصّلة أو الصّوم أو العتكاف ‪ .‬وفي نصب أسبابها ‪ ،‬كزوال الشّمس لصلة الظّهر ‪،‬‬
‫وغروبها لصلة المغرب ‪ .‬وفي الحدود والكفّارات ‪ .‬وفي التّقديرات العدديّة بوجه عامّ ‪،‬‬
‫كتقدير أعداد الرّكعات ‪ ،‬وتقدير عدد الجلدات في الحدود ‪ ،‬وتقدير أعداد الشّهود ‪.‬‬
‫وذكر الشّاطبيّ من أمثلة وقوعها في العادات ‪ :‬طلب الصّداق في النّكاح ‪ ،‬وتخصيص الذّبح‬
‫بمحلّ مخصوص ‪ ،‬والفروض المقدّرة في المواريث ‪ ،‬وعدد الشهر في عدّة الطّلق وعدّة‬
‫الوفاة ‪ .‬ومن أمثلتها عند الحنابلة حديث ‪ « :‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن يتوضّأ الرّجل‬
‫بفضل طهور المرأة » ‪.‬‬
‫قال صاحب المغني ‪ :‬منع الرّجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبّديّ غير معقول‬
‫المعنى ‪ ،‬نصّ عليه أحمد ‪ ،‬ولذلك يباح لمرأة سواها التّطهّر به في طهارة الحدث وغسل‬
‫ص بالرّجل ‪ ،‬ولم يعقل معناه ‪ ،‬فيجب قصره على محلّ‬
‫النّجاسة وغيرها ‪ ،‬لنّ النّهي اخت ّ‬
‫النّهي ‪ .‬وهل يجوز للرّجل غسل النّجاسة به ؟ فيه وجهان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬ل يجوز وهو قول‬
‫القاضي ‪ .‬والثّاني ‪ :‬يجوز وهو الصّحيح ‪ ،‬لنّه ماء يطهّر المرأة من الحدث والنّجاسة ‪ ،‬فيزيل‬
‫النّجاسة إذا فعله الرّجل كسائر المياه ‪.‬‬
‫والحديث ل تعقل علّته ‪ ،‬فيقتصر على ما ورد به لفظه ‪ -‬أي التّطهّر من الحدث ل غير ‪.‬‬
‫الصل في الحكام من حيث التّعليل أو التّعبّد ‪:‬‬
‫‪ - 16‬اختلف الصوليّون هل الصل في الحكام التّعليل أو عدمه ؟ فذهب البعض إلى الوّل ‪،‬‬
‫ص موجب بصيغته ل بالعلّة ‪ .‬ونسب إلى الشّافعيّ‬
‫فل تعلّل الحكام إلّا بدليل ‪ .‬قالوا ‪ :‬لنّ النّ ّ‬
‫ن الصل التّعليل بوصف ‪ ،‬لكن ل بدّ من دليل يميّزه من غيره ‪ .‬قال في‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬أ ّ‬
‫ن الصل في الحكام التّعبّد دون التّعليل ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫التّلويح ‪ :‬والمشهور بين أصحاب الشّافعيّ ‪ :‬أ ّ‬
‫ن الصل في النّصوص التّعليل ‪ ،‬وأنّه ل بدّ – أي لصحّة القياس – من دليل يميّز‬
‫والمختار ‪ :‬أ ّ‬
‫ل على أنّ هذا‬
‫الوصف الّذي هو علّة ‪ ،‬ومع ذلك ل بدّ قبل التّعليل والتّمييز من دليل يد ّ‬
‫الوصف الّذي يريد استخراج علّته معلّل في الجملة ‪.‬‬
‫وذهب الشّاطبيّ إلى أنّ المر في ذلك يختلف بين العبادات والمعاملت ‪ ،‬قال ‪ :‬الصل في‬
‫العبادات بالنّسبة للمكلّف التّعبّد ‪ ،‬دون اللتفات إلى المعاني ‪ ،‬والصل في العادات اللتفات إلى‬
‫المعاني ‪.‬‬
‫ن الصل في العبادات التّعبّد ‪ ،‬فيدلّ له أمور منها ‪:‬‬
‫‪ - 17‬فأمّا أ ّ‬
‫الستقراء ‪ .‬فالصّلوات خصّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم‬
‫تكن عبادات ‪ ،‬ووجدنا الذّكر في هيئة ما مطلوبا ‪ ،‬وفي هيئة أخرى غير مطلوب ‪ ،‬وأنّ‬
‫ن التّيمّم ‪ -‬وليست‬
‫طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطّهور ‪ ،‬وإن أمكنت النّظافة بغيره ‪ ،‬وأ ّ‬
‫سيّة ‪ -‬يقوم مقام الطّهارة بالماء المطهّر ‪.‬‬
‫فيه نظافة ح ّ‬
‫وهكذا سائر العبادات كالصّوم والحجّ وغيرهما ‪ ،‬وإنّما فهمنا من حكمة التّعبّد العامّة النقياد‬
‫ص ‪ ،‬فعلمنا أنّ‬
‫لوامر اللّه تعالى ‪ ،‬وهذا المقدار ل يعطي علّة خاصّة يفهم منها حكم خا ّ‬
‫المقصود الشّرعيّ الوّل التّعبّد للّه بذلك المحدود ‪ ،‬وأنّ غيره غير مقصود شرعا ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنّه لو كان المقصود التّوسعة في التّعبّد بما حدّ وما لم يحدّ ‪ ،‬لنصب الشّارع عليه دليل‬
‫ن المقصود الوقوف عند ذلك‬
‫واضحا ‪ ،‬ولمّا لم نجد ذلك كذلك ‪ -‬بل على خلفه ‪ -‬دلّ على أ ّ‬
‫المحدود ‪ ،‬إل أن يتبيّن بنصّ أو إجماع معنى مراد في بعض الصّور ‪ ،‬فل لوم على من اتّبعه‬
‫‪ .‬لكنّ ذلك قليل ‪ ،‬فليس بأصل ‪ ،‬وإنّما الصل ما ع ّم في الباب وغلب على الموضع ‪- 18 .‬‬
‫ن الصل في العادات اللتفات إلى المعاني فلمور ‪:‬‬
‫ثمّ قال الشّاطبيّ ‪ :‬وأمّا إ ّ‬
‫الوّل ‪ :‬الستقراء ‪ ،‬فنرى الشّيء الواحد يمنع في حال ل تكون فيه مصلحة ‪ ،‬فإذا كان فيه‬
‫مصلحة جاز كالدّرهم بالدّرهم إلى أجل ‪ :‬تمتنع في المبايعة ‪ ،‬ويجوز في القرض ‪ .‬وكبيع‬
‫الرّطب من جنس بيابسه ‪ .‬يمتنع حيث يكون مجرّد غرر وربا من غير مصلحة ‪ ،‬ويجوز إذا‬
‫كان فيه مصلحة راجحة " كما في تمر العرايا أبيح بيعه بالتّمر توسعة على النّاس " ‪ ،‬ولتعليل‬
‫حيَاةٌ } وفي آية‬
‫النّصوص أحكام العادات بالمصلحة كما في قوله تعالى ‪ { :‬وََل ُكمْ في ال ِقصَاصِ َ‬
‫سرِ‬
‫خ ْمرِ وال َم ْي ِ‬
‫ن يُوقِعَ َب ْي َن ُكمْ ال َعدَاوَةَ وال َب ْغضَاءَ في ال َ‬
‫شيْطَانُ أ ْ‬
‫تحريم الخمر { ِإ ّنمَا ُيرِيدُ ال ّ‬
‫ن الصّل ِة فَهلْ َأ ْن ُتمْ ُم ْن َتهُونَ } وفي حديث ‪ « :‬ل يقضي القاضي بين‬
‫ن ِذكْ ِر اللّهِ وِع ِ‬
‫ص ّدكُمْ ع ْ‬
‫و َي ُ‬
‫اثنين وهو غضبان » ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن أكثر ما علّل اللّه تعالى في العادات بالمناسب الّذي إذا عرض على العقول تلقّته‬
‫والثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫بالقبول ‪ ،‬ففهمنا من ذلك أنّ قصد الشّارع فيها اتّباع المعاني ‪ ،‬ل الوقوف مع النّصوص ‪.‬‬
‫ن المعلوم فيها خلف ذلك ‪ ،‬ولهذا توسّع مالك حتّى قال بقاعدة المصالح‬
‫بخلف العبادات ‪ ،‬فإ ّ‬
‫المرسلة ‪ ،‬والستحسان ‪.‬‬
‫ن اللتفات إلى المعاني في أمور العادات كان معلوما في الفترات ‪ ،‬واعتمد عليه‬
‫والثّالث ‪ :‬أ ّ‬
‫العقلء ‪ ،‬حتّى جرت بذلك مصالحهم ‪ ،‬سواء أهل الحكمة الفلسفيّة وغيرهم ‪ .‬إل أنّهم قصّروا‬
‫في جملة من التّفاصيل ‪ ،‬فجاءت الشّريعة لتتمّم مكارم الخلق ‪ .‬ومن هنا أقرّت الشّريعة‬
‫جملة من الحكام الّتي كانت في الجاهليّة ‪ ،‬كالدّية ‪ ،‬والقسامة ‪ ،‬والقراض ‪ ،‬وكسوة الكعبة ‪،‬‬
‫وأشباه ذلك ممّا كان من محاسن العوائد ومكارم الخلق الّتي تقبلها العقول ‪.‬‬
‫المفاضلة بين التّعبّديّ ومعقول المعنى ‪:‬‬
‫‪ - 19‬نقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى التمرتاشية أنّه قال ‪ :‬لم أقف على شيء من ذلك‬
‫لعلمائنا في هذا ‪ ،‬سوى قولهم ‪ :‬الصل في النّصوص التّعليل ‪ ،‬فإنّه يشير إلى أفضليّة المعقول‬
‫معناه ‪ .‬قال ‪ :‬ووقفت على ذلك في فتاوى ابن حجر ‪ ،‬قال ‪ :‬قضيّة كلم ابن عبد السّلم أنّ‬
‫التّعبّديّ أفضل ‪ ،‬لنّه بمحض النقياد ‪ ،‬بخلف ما ظهرت علّته ‪ ،‬فإنّ ملبسه قد يفعل‬
‫لتحصيل فائدته ‪ ،‬وخالفه البلقينيّ فقال ‪ :‬ل شكّ أنّ معقول المعنى من حيث الجملة أفضل ‪،‬‬
‫ن أكثر الشّريعة كذلك ‪.‬‬
‫لّ‬
‫وظاهر كلم الشّاطبيّ الخذ بقول من يقول ‪ :‬إنّ التّعبّديّ أفضل ‪ ،‬وذلك حيث قال ‪ :‬إنّ‬
‫التّكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلّف في الدّخول تحتها ثلثة أحوال ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشّارع في شرعها ‪ .‬وهذا ل إشكال فيه ‪ ،‬ولكن ل‬
‫ينبغي أن يخلّيه من قصد التّعبّد ‪ ،‬فكم ممّن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها ‪ ،‬فغاب عن أمر‬
‫المر بها ‪ .‬وهي غفلة تفوّت خيرات كثيرة ‪ ،‬بخلف ما إذا لم يهمل التّعبّد ‪.‬‬
‫ن المصالح ل يقوم دليل على انحصارها فيما علم إل نادرا ‪ ،‬فإذا لم يثبت الحصر كان‬
‫ثمّ إ ّ‬
‫قصد تلك الحكمة المعيّنة ربّما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشّارع ‪ ،‬ممّا اطّلع عليه أو لم يطّلع عليه ‪.‬‬
‫وهذا أكمل من القصد الوّل ‪ ،‬إل أنّه ربّما فاته النّظر إلى التّعبّد ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬أن يقصد مجرّد امتثال المر ‪ ،‬فهم قصد المصلحة أو لم يفهم ‪ .‬قال ‪ :‬فهذا أكمل‬
‫وأسلم ‪ .‬أمّا كونه أكمل فلنّه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبّيا ‪ ،‬إذ لم يعتبر إلّا مجرّد‬
‫المر ‪ .‬وقد وكّل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيل وهو اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ن العامل بالمتثال عامل بمقتضى العبوديّة ‪ ،‬فإن عرض له قصد غير‬
‫وأمّا كونه أسلم ‪ ،‬فل ّ‬
‫اللّه ردّه قصد التّعبّد ‪ .‬فهذا الّذي قاله يتجلّى في التّعبّديّات أكثر ممّا يظهر فيما كان معقول‬
‫ن التّعبّديّ أفضل ‪ ،‬كما هو واضح فيما‬
‫المعنى من الحكام ‪ .‬ومذهب الغزاليّ في ذلك أيضا أ ّ‬
‫ن ما ل يهتدى لمعانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس ‪ .‬وفي‬
‫تقدّم النّقل عنه من قوله ‪ :‬إ ّ‬
‫حاشية ابن عابدين ‪ :‬أنّ هذين القولين في الفضليّة هما على سبيل الجمال ‪ ،‬أمّا بالنّظر إلى‬
‫ي أفضل كالوضوء وغسل الجنابة ‪ ،‬فإنّ الوضوء أفضل ‪ .‬وقد‬
‫الجزيئات ‪ ،‬فقد يكون التّعبّد ّ‬
‫ن الطّواف أفضل ‪.‬‬
‫يكون المعقول أفضل كالطّواف والرّمي ‪ ،‬فإ ّ‬
‫خصائص التّعبّديّات ‪:‬‬
‫‪ - 20‬من أحكام التّعبّديّات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنّه ل يقاس عليها ‪ ،‬لنّ القياس فرع معرفة العلّة ‪ ،‬والفرض ‪ :‬أنّ التّعبّديّ لم تعرف علّته‬
‫‪ ،‬فيمتنع القياس عليه ‪ ،‬ول يتعدّى حكمه موضعه ‪ ،‬سواء أكان مستثنى من قاعدة عامّة ول‬
‫يعقل معنى الستثناء ‪ ،‬كتخصيص النّبيّ صلى ال عليه وسلم بنكاح تسع نسوة ‪ ،‬وتخصيص‬
‫أبي بردة بالتّضحية بعناق ‪ ،‬أم لم يكن كذلك ‪ ،‬بل كان حكما مبتدأ ‪ ،‬كتقدير أعداد الرّكعات ‪،‬‬
‫ووجوب شهر رمضان ‪ ،‬ومقادير الحدود والكفّارات وأجناسها ‪ ،‬وجميع التّحكّمات المبتدأة الّتي‬
‫ل ينقدح فيها معنى ‪ ،‬فل يقاس عليها غيرها ‪.‬‬
‫‪ - 21‬وبناء على هذا الصل وقع الخلف بين الفقهاء في فروع فقهيّة ‪ ،‬منها ‪ :‬رجم اللّوطيّ ‪،‬‬
‫رفضه الحنفيّة ‪ ،‬وأثبته مالك وأحمد في رواية عنه والشّافعيّ في أحد قوليه ‪.‬‬
‫ن الحدود مشتملة على تقديرات ل‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬ل يجري القياس في الحدود والكفّارات ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن العقل ل يدرك الحكمة في‬
‫تعرف ‪ ،‬كعدد المائة في حدّ الزّنى ‪ ،‬والثّمانين في القذف ‪ ،‬فإ ّ‬
‫اعتبار خصوص هذا العدد ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما كان يعقل منها ‪ -‬أي من أحكام الحدود ‪ -‬فإنّ الشّبهة‬
‫في القياس لحتماله الخطأ توجب عدم إثباته بالقياس ‪ ،‬وهذا كقطع يد السّارق لكونها جنت‬
‫بالسّرقة فقطعت ‪.‬‬
‫وهكذا اختلف تقديرات الكفّارات ‪ ،‬فإنّه ل يعقل كما ل تعقل أعداد الرّكعات ‪.‬‬
‫وأجاز غير الحنفيّة القياس في الحدود والكفّارات ‪ ،‬لكن فيما يعقل معناه من أحكامها ل فيما ل‬
‫يعقل منها ‪ ،‬كما في غير الحدود والكفّارات ‪.‬‬
‫ن التّعبّديّات ما كان منها من العبادات فل بدّ فيه من نيّة كالطّهارة ‪،‬‬
‫ب ‪ -‬قال الشّاطبيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫والصّلة ‪ ،‬والصّوم ‪ .‬ومن لم يشترط ال ّنيّة في بعضها فإنّه يبني على كون ذلك البعض معقول‬
‫المعنى ‪ ،‬فحكمه كما لو كان من أمور العادات ‪.‬‬
‫أمّا صوم رمضان والنّذر المعيّن ‪ ،‬فلم يشترط الحنفيّة لهما تبييت ال ّنيّة ول التّعيين ‪ ،‬ووجه ذلك‬
‫عندهم ‪ :‬أنّه لو نوى غيرهما في وقتهما انصرف إليهما ‪ ،‬بناء على أنّ الكفّ عن المفطرات قد‬
‫استحقّه الوقت ‪ ،‬فل ينصرف لغيره ‪ ،‬ول يصرفه عنه قصد سواه ‪ .‬ومن هذا ما قال الحنابلة‬
‫في غسل القائم من نوم اللّيل يده قبل إدخالها الناء ‪ :‬إنّه تعبّديّ ‪ ،‬فتعتبر له ال ّنيّة الخاصّة ‪ ،‬ول‬
‫يجزئ عن غسلهما نيّة الوضوء أو الغسل ‪ ،‬لنّهما عبادة مفردة ‪.‬‬

‫تعبير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعبير لغة ‪ :‬التّبيين ‪ .‬يقال ‪ :‬عبّر عمّا في نفسه ‪ :‬أي أعرب وبيّن ويقال لمن أعرب عن‬
‫عييّ ‪ :‬عبّر عنه ‪ .‬واللّسان يعبّر عمّا في الضّمير ‪ :‬أي يبيّن ‪.‬‬
‫ي بتعبير الرّؤيا ‪ ،‬وهو ‪ :‬العبور‬
‫والسم ‪ :‬العبرة والعِبارة والعَبارة ‪ .‬وخصّه أبو البقاء الكفو ّ‬
‫من ظواهرها إلى بواطنها ‪ .‬واستعمال الفقهاء له ل يخرج عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫طرق التّعبير ‪:‬‬
‫‪ - 2‬هناك أكثر من طريق للتّعبير عن الرادة ‪ ،‬فقد يكون بالقول ‪ ،‬وقد يكون بالفعل ‪ ،‬وقد‬
‫يكون بالسّكوت أو الضّحك والبكاء ‪.‬‬
‫والفعل ‪ :‬إمّا أن يكون بالمعاطاة ‪ ،‬أو بالكتابة ‪ ،‬أو بالشارة ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬التّعبير بالقول ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الصل في التّعبير عن الرادة ‪ :‬أن يكون بالقول ‪ ،‬لنّه من أوضح الدّللت على تلك‬
‫الرادة ‪ ،‬ولنّ الرّضا أو عدمه أمر خفيّ قلبيّ ‪ ،‬ل اطّلع لنا عليه ‪ ،‬فنيط الحكم بسبب ظاهر‬
‫وهو القول ‪ ،‬لذلك كانت الصّيغة أو اليجاب والقبول ركنا في جميع العقود ‪ ،‬سواء كانت تلك‬
‫العقود معاوضات ‪ :‬كالبيع والجارة ‪ ،‬أو تبرّعات ‪ :‬كالهبة والعارة ‪ ،‬أو استيثاقات ‪ :‬كالرّهن‬
‫‪ ،‬أو ما تكون تبرّعا ابتداء ومعاوضة انتهاء ‪ :‬كالقرض ‪ ،‬أو غيرها من العقود كالشّركة‬
‫والوكالة والنّكاح والطّلق ‪ .‬وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬صيغة ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعبير بالفعل ‪:‬‬
‫‪ - 4‬تظهر صورة التّعبير بالفعل واضحة في المعاطاة ‪ ،‬وذلك في بيع المعاطاة أو التّعاطي ‪.‬‬
‫وصورته ‪ :‬أن يدفع المشتري الثّمن ويأخذ المبيع من غير إيجاب ول قبول قوليّين ‪ .‬وهو‬
‫موضع خلف بين الفقهاء ‪:‬‬
‫فذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬والمتولّي والبغويّ من الشّافعيّة ‪ -‬إلى صحّته‬
‫وانعقاده بتلك الصّورة ‪ ،‬لنّ الفعل يدلّ على الرّضا عرفا ‪ .‬والمقصود من البيع إنّما هو أخذ‬
‫ما في يد غيره بعوض يرضاه ‪ ،‬فل يشترط القول ‪ ،‬ويكفي الفعل بالمعاطاة ‪.‬‬
‫ن الفعل ل يدلّ بوضعه على‬
‫وذهب أكثر الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّ البيع ل ينعقد بالمعاطاة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل صاحبه بما دفع إليه إن بقي ‪،‬‬
‫التّراضي ‪ ،‬فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد ‪ ،‬فيطالب ك ّ‬
‫أو ببدله إن تلف ‪.‬‬
‫ص بعض الفقهاء ( كابن سريج والرّويانيّ من الشّافعيّة ‪ ،‬والكرخيّ من الحنفيّة ) جواز بيع‬
‫وخ ّ‬
‫المعاطاة بالمحقّرات ‪ ،‬وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة ‪ ،‬كرطل خبز وحزمة بقل ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة بصحّة بيع المعاطاة ‪ ،‬بشرط عدم تأخير القبض للطّالب في نحو ‪ :‬خذ هذا بدرهم‬
‫‪ ،‬أو عدم تأخير القباض للطّلب نحو ‪ :‬أعطني بهذا الدّرهم خبزا لنّه إذا اعتبر عدم التّأخير‬
‫في اليجاب والقبول اللّفظيّ ‪ ،‬فاعتبار عدم التّأخير في المعاطاة أولى ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬وظاهره أنّ التّأخير في المعاطاة مبطل ‪ ،‬ولو كان بالمجلس ولم يتشاغل بما‬
‫يقطعه لضعفها عن الصّيغة القوليّة ‪ .‬واعتبر المالكيّة التّقابض في المعاطاة شرط لزوم ‪ ،‬فمن‬
‫شكّ في التّماثل ‪.‬‬
‫أخذ رغيفا من شخص ودفع له ثمنه ‪ ،‬فل يجوز له ردّه وأخذ بدله ‪ ،‬لل ّ‬
‫بخلف ما لو أخذ رغيفا ولم يدفع ثمنه ‪ ،‬فيجوز له ردّه وأخذ بدله ‪ ،‬لعدم لزوم البيع ‪.‬‬
‫ت الجرة ‪ -‬والصّرف ‪ ،‬والهبة ‪،‬‬
‫ص الحنفيّة على أنّ ‪ :‬القالة ‪ ،‬والجارة ‪ -‬إن عُلِم ْ‬
‫وقد ن ّ‬
‫ن القبول في العاريّة يصحّ‬
‫ح وتنعقد بالتّعاطي ‪ ،‬ونصّوا كذلك على أ ّ‬
‫والهديّة ‪ ،‬ونحوها ‪ .‬تص ّ‬
‫ل إشارة فهم منها اليجاب‬
‫بالفعل كالتّعاطي ‪ ،‬وأمّا اليجاب فل يصحّ به ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬ك ّ‬
‫ن الشّركة تنعقد بالفعل الدّالّ عليها كما لو‬
‫والقبول لزم بها البيع وسائر العقود ‪ ،‬ونصّوا على أ ّ‬
‫خلطا ماليهما وباعا ‪ .‬وتمسّك الشّافعيّة بأصلهم ‪ ،‬وهو ‪ :‬عدم صحّة العقد بالمعاطاة في سائر‬
‫ح عندهم بلفظ من أحدهما مع فعل من الخر ‪ ،‬ول يكفي الفعل‬
‫العقود ‪ .‬إل العاريّة ‪ ،‬فإنّها تص ّ‬
‫من الطّرفين إل في بعض الصّور ‪ ،‬كمن اشترى شيئا وسلّمه له في ظرف ‪ ،‬فالظّرف معار‬
‫ح ‪ .‬واختار النّوويّ صحّة الهبة بالمعاطاة ‪.‬‬
‫في الص ّ‬
‫ص الحنابلة على انعقاد الجارة والمضاربة والقالة والعاريّة والوكالة والهبة بالفعل‬
‫ون ّ‬
‫كالتّعاطي ‪ ،‬وذلك لنّ المقصود المعنى ‪ ،‬فجاز بكلّ ما يدلّ عليه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّعبير بالكتابة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على صحّة العقود وانعقادها بالكتابة ‪ ،‬ويعتبر في القبول أن يكون في مجلس‬
‫بلوغ الكتاب ‪ ،‬ليقترن باليجاب بقدر المكان ‪.‬‬
‫وجعل الشّافعيّة الكتابة من باب الكناية ‪ ،‬فتنعقد بها العقود مع ال ّنيّة ‪ .‬واستثنوا من ذلك عقد‬
‫النّكاح ‪ ،‬فل ينعقد بالكتابة عند جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪. -‬‬
‫وأجازه الحنفيّة في الغائب دون الحاضر ‪ ،‬بشرط إعلم الشّهود بما في الكتاب ‪.‬‬
‫واتّفق الفقهاء أيضا على وقوع الطّلق بالكتابة ‪ ،‬لنّ الكتابة حروف يفهم منها الطّلق ‪،‬‬
‫ن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب ‪ ،‬بدليل أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان‬
‫فأشبهت النّطق ‪ ،‬ول ّ‬
‫مأمورا بتبليغ الرّسالة ‪ ،‬فبلّغ بالقول مرّة ‪ ،‬وبالكتابة أخرى ‪.‬‬
‫والكتابة الّتي يقع بها الطّلق إنّما هي الكتابة المستبينة ‪ ،‬كالكتابة على الصّحيفة والحائط‬
‫والرض ‪ ،‬على وجه يمكن فهمه وقراءته ‪.‬‬
‫وأمّا الكتابة غير المستبينة كالكتابة على الهواء والماء وشيء ل يمكن فهمه وقراءته ‪ ،‬فل يقع‬
‫بها الطّلق ‪ ،‬لنّ هذه الكتابة بمنزلة الهمس بلسانه بما ل يسمع ‪ .‬واعتبر الشّافعيّة الكتابة‬
‫بالطّلق من باب الكناية ‪ ،‬فتفتقر إلى نيّة من الكاتب ‪ ،‬وقصر الحنفيّة ال ّنيّة على الكتابة‬
‫المستبينة غير المرسومة ‪ -‬أي أن ل يكون الكتاب مصوّرا ومعنونا ‪. -‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬إن كتب طلقها بالصّريح وقع وإن لم ينوه ‪ .‬وإن كتبه بالكناية فهو كناية ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬إن كتبه عازما على الطّلق بكتابته فيقع بمجرّد فراغه من كتابة‪ :‬هي طالق‪.‬‬
‫ومثله ‪ :‬لو كتب ‪ :‬إذا جاءك كتابي فأنت طالق ‪ .‬وعندهم قول ثان ‪ :‬بأن يوقف الطّلق على‬
‫وصول الكتاب ‪ ،‬وقوّاه الدّسوقيّ لتضمّن " إذا " معنى الشّرط ‪ .‬وإن كتبه مستشيرا أو متردّدا‬
‫فل يقع الطّلق ‪ ،‬إل إذا أخرجه عازما ‪ ،‬أو أخرجه ول نيّة له فيقع الطّلق بمجرّد إخراجه ‪.‬‬
‫وأمّا إذا أخرجه ‪ -‬وهو كذلك ‪ -‬متردّدا أو مستشيرا ‪ ،‬أو لم يخرجه ‪ ،‬فإمّا أن يصل إليها ‪،‬‬
‫وإمّا أن ل يصل إليها ‪ ،‬فإن وصل إليها حنث وإل فل ‪ .‬وأمّا إن كتبه ول نيّة له أصلً حين‬
‫بالكتابة فيلزمه الطّلق ‪ ،‬لحمله على العزم عند ابن رشد خلفا للّخميّ ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّعبير بالشارة ‪:‬‬
‫‪ - 6‬اتّفق الفقهاء على أنّ إشارة الخرس المفهمة تقوم مقام اللّفظ في سائر العقود للضّرورة ‪،‬‬
‫ل عليه النّطق من النّاطق ‪.‬‬
‫ن ذلك يدلّ على ما في فؤاده ‪ ،‬كما يد ّ‬
‫لّ‬
‫واختلفوا في إشارة غير الخرس ‪.‬‬
‫فذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى عدم اعتبارها في العقود ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ إشارة النّاطق معتبرة كنطقه ‪ -‬قالوا ‪ -‬وهي أولى بالجواز من المعاطاة‬
‫س ثَلثةَ أيّامٍ إل رَ ْمزَا }‬
‫ن ل ُتكَّلمَ النّا َ‬
‫‪ -‬لنّها يطلق عليها أنّها كلم ‪ .‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬آ َي ُتكَ أ ْ‬
‫والرّمز ‪ :‬الشارة ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ( إشارة ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬التّعبير بالسّكوت ‪:‬‬
‫‪ - 7‬اعتبر الفقهاء سكوت البكر البالغة العاقلة تعبيرا عن رضاها بالنّكاح ‪ ،‬لما روت عائشة‬
‫رضي ال عنها أنّها قالت ‪ « :‬يا رسول اللّه إنّ البكر تستحي قال ‪ :‬رضاها صماتها »‬
‫ق بنفسها من وليّها ‪ ،‬والبِكر ُتسْتأمر ‪ ،‬وإذنها‬
‫وأخرج المام مسلم في صحيحه ‪ « :‬اليّم أح ّ‬
‫سكوتها » وألحقوا بالسّكوت الضّحك والبكاء ‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫« قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اليتيمة تستأمر في نفسها ‪ ،‬فإن صمتت فهو إذنها ‪،‬‬
‫ت فل جواز عليها » ولنّها غير ناطقة بالمتناع مع سماعها للستئذان ‪ ،‬فكان ذلك إذنا‬
‫وإن أب ْ‬
‫منها ‪ .‬ولم يعتبر الحنفيّة والشّافعيّة البكاء إن كان مع الصّياح والصّوت ‪ ،‬لنّ ذلك يشعر بعدم‬
‫الرّضا ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إن علم من بكائها أنّه منع لم تزوّج ‪.‬‬
‫ص الحنفيّة على عدم اعتبار الضّحك إن كان باستهزاء ‪ ،‬لنّ الضّحك إنّما جعل إذنا لدللته‬
‫ون ّ‬
‫على الرّضا ‪ ،‬فإذا لم يدلّ على الرّضا لم يكن إذنا ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين نقل عن الفتح ‪ :‬والمعوّل اعتبار قرائن الحوال في البكاء والضّحك ‪ ،‬فإن‬
‫تعارضت أو أشكل احتيط ‪ .‬وثمّة تفصيلت واستثناءات تفصيلها في ( النّكاح ) ‪.‬‬

‫تعبير الرّؤيا *‬
‫انظر ‪ :‬رؤيا ‪.‬‬

‫تعجيز *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعجيز لغة ‪ :‬مصدر عجّز ‪ .‬يقال ‪ :‬عجّزته تعجيزا ‪ :‬إذا جعلته عاجزا ‪ ،‬وعجّز فلن‬
‫ي فلن ‪ :‬إذا نسبه إلى خلف الحزم ‪ ،‬كأنّه نسبه إلى العجز ‪.‬‬
‫رأ َ‬
‫وهو ل يخرج في الصطلح الفقهيّ عن هذا المعنى ‪ ،‬وهو ‪ :‬نسبة الشّخص إلى العجز ‪.‬‬
‫ن الفقهاء لم يستعملوا هذا اللّفظ إل في حالتين ‪ :‬الولى ‪ :‬تعجيز المكاتب ‪ .‬والخرى ‪:‬‬
‫ولك ّ‬
‫تعجيز القاضي أحد الخصمين عن إقامة البيّنة ‪ .‬وفيما يلي بيان هاتين الحالتين إجمالً ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬تعجيز المكاتب ‪:‬‬
‫سيّد مع عبده‬
‫سيّد ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن يتعاقد ال ّ‬
‫‪ - 2‬اتّفق الفقهاء على أنّ الكتابة عقد لزم من جانب ال ّ‬
‫‪ .‬أو أمته على أن يؤدّي إليه كذا من المال منجّزا ‪ ،‬أو مؤجّلً ‪ ،‬ويكون حرّا ‪ .‬فل يملك فسخها‬
‫‪ ،‬ول يجوز تعجيز المكاتب قبل عجز المكاتب عن أداء ما عليه ‪.‬‬
‫سيّد مطالبته بما حلّ من نجومه ‪ ،‬لنّه حقّ له ‪.‬‬
‫أمّا إن حلّ النّجم ( القسط ) فلل ّ‬
‫سيّد فسخ الكتابة وتعجيز المكاتب أم ل ؟ ‪.‬‬
‫فإن عجز المكاتب عنها ‪ ،‬فهل يحقّ لل ّ‬
‫سيّد أن يفسخ الكتابة بنفسه ‪،‬‬
‫ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أنّ لل ّ‬
‫دون الرّجوع إلى الحاكم أو السّلطان ‪ ،‬إذا عجز المكاتب عن أداء ما عليه بعد حلول النّجم ‪،‬‬
‫لفعل ابن عمر رضي ال عنهما ذلك ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة ‪ :‬أنّه ليس له ذلك ‪ ،‬إل عن طريق الحاكم أو السّلطان ‪.‬‬
‫‪ - 3‬وذهب الجمهور كذلك ‪ -‬وهم ‪ :‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬إلى أنّه يجوز للمكاتب أن‬
‫سيّد الصّبر أو الفسخ ‪ ،‬إمّا‬
‫يعجّز نفسه ‪ .‬كأن يقول ‪ :‬أنا عاجز عن كتابتي ‪ ،‬وعند ذلك يجوز لل ّ‬
‫سيّد أو ورثته ‪ ،‬بعد‬
‫ن للقاضي أن يعجّزه إذا طلب ذلك ال ّ‬
‫عن طريق الحاكم أو بنفسه ‪ .‬كما أ ّ‬
‫حلول النّجم وعدم الوفاء بما كوتب عليه ‪.‬‬
‫ن عقد الكتابة عندهم‬
‫أمّا الحنابلة فيرون ‪ :‬أنّه ليس للعبد أن يعجّز نفسه إذا كان مقتدرا ‪ ،‬ل ّ‬
‫لزم من الطّرفين ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬كتابة ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬عجز المدّعي أو المدّعى عليه ‪:‬‬
‫‪ - 4‬أكثر من استعمل من الفقهاء لفظ التّعجيز هم المالكيّة ‪ ،‬حيث ذهبوا ‪ :‬إلى أنّه إذا انقضت‬
‫الجال الّتي ضربها القاضي للمدّعي لحضار بيّنته ‪ ،‬وفترة التّلوّم ‪ ،‬ولم يأت الشّخص المؤجّل‬
‫بشيء يوجب له َنظِرَةً ‪ ،‬عجّزه القاضي ‪ ،‬وأنفذ القضاء عليه ‪ ،‬وسجّل ‪ ،‬وقطع بذلك تبعته عن‬
‫خصمه ‪ ،‬ثمّ ل يسمع له بعد ذلك حجّة ‪ ،‬ول تقبل منه بيّنة إن أتى بها ‪ ،‬سواء أكان مدّعيا أم‬
‫مدّعى عليه ‪.‬‬
‫ن المدّعي يمهل إذا طلب مهلة لحضار البيّنة ‪ ،‬ويترك ما‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫ترك ‪ ،‬لنّه هو الطّالب للحقّ ‪ .‬أمّا المدّعى عليه فل يمهل أكثر من ثلثة أيّام ‪ ،‬ثمّ يحكم‬
‫بتعجيزه ‪ ،‬ويسقط حقّه في الحلف ‪ ،‬ثمّ يحلف المدّعي فيحكم له ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فيرون ‪ :‬أنّ القاضي يحكم للمدّعي على المدّعى عليه بنفس النّكول ‪ ،‬بعد أن يكرّر‬
‫عليه اليمين ثلث مرّات ‪ .‬لقوله صلى ال عليه وسلم « البيّنةُ على من ادّعى ‪ ،‬واليمين على‬
‫من أنكر » ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬دعوى ) ‪.‬‬

‫تعجيل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعجيل ‪ :‬مصدر عجّل ‪ .‬وهو في اللّغة ‪ :‬الستحثاث ‪ ،‬وطلب العجلة ‪ ،‬وهي ‪ :‬السّرعة‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬عجّلت إليه المال ‪ :‬أسرعت إليه ‪ ،‬فتعجّله ‪ :‬فأخذه بسرعة وهو في الشّرع ‪ :‬التيان‬
‫بالفعل قبل الوقت المحدّد له شرعا ‪ ،‬كتعجيل الزّكاة ‪ ،‬أو في أوّل الوقت ‪ ،‬كتعجيل الفطر ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫السراع ‪:‬‬
‫‪ - 2‬السراع ‪ :‬مصدر أسرع ‪ ،‬والسّرعة ‪ :‬اسم منه ‪ ،‬وهي نقيض البطء ‪.‬‬
‫ن السّرعة التّقدّم فيما ينبغي أن يتقدّم فيه ‪،‬‬
‫والفرق بين السراع والتّعجيل كما قال العسكريّ ‪ :‬إ ّ‬
‫وهي محمودة ‪ ،‬ونقيضها مذموم ‪ ،‬وهو ‪ :‬البطاء ‪.‬‬
‫والعجلة التّقدّم فيما ل ينبغي أن يتقدّم فيه ‪ ،‬وهي مذمومة ‪ ،‬ونقيضها محمود‪ ،‬وهو ‪ :‬الناة‪.‬‬
‫ن ذلك بمعنى ‪ :‬أسرعت ‪.‬‬
‫ب ِل َترْضَى } فإ ّ‬
‫عجِلْتُ إليكَ رَ ّ‬
‫فأمّا قوله تعالى { َو َ‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّعجيل مشروع في مواضع ‪ :‬كتعجيل تجهيز الميّت ‪ ،‬وقضاء الدّين ‪.‬‬
‫وغير مشروع في مواضع ‪ :‬كتعجيل الصّلة قبل وقتها ‪ .‬والمشروع منه تارة يكون واجبا ‪:‬‬
‫كتعجيل التّوبة من الذّنب ‪ .‬وتارة يكون مندوبا ‪ :‬كتعجيل الفطر في رمضان ‪.‬‬
‫وتارة يكون مباحا ‪ :‬كتعجيل الكفّارات ‪ ،‬وتارة يكون مكروها أو خلف الولى ‪ :‬كتعجيل‬
‫إخراج الزّكاة قبل الحول ‪ .‬وغير المشروع ‪ :‬منه ما يكون باطلً‪ ،‬كتعجيل الصّلة قبل وقتها‪.‬‬
‫أنواع التّعجيل‬
‫أوّلً ‪ :‬التّعجيل بالفعل عند وجود سببه‬
‫أ ‪ -‬التّعجيل بالتّوبة من الذّنب ‪:‬‬
‫‪ -‬تجب التّوبة على كلّ مكلّف على الفور عقيب الذّنب ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫سنّة وإجماع المّة ‪ .‬قال اللّه تعالى { إ ّنمَا التّ ْوبَ ُة على‬
‫وقد دلّت على ذلك نصوص الكتاب وال ّ‬
‫ب اللّهُ عَلَيهمْ } ‪.‬‬
‫جهَال ٍة ُثمّ َيتُوبُونَ ِمنْ َقرِيبٍ َفأُولئكَ َيتُو ُ‬
‫اللّ ِه لِلّذينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ‬
‫س ُهمْ طَائِفٌ ِمنَ الشّيطَانِ َت َذ ّكرُوا فإذا ُهمْ ُم ْبصِرُونَ } ‪.‬‬
‫ن اتّقَوا إذا َم ّ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬إنّ اّلذِي َ‬
‫ونقل القرطبيّ وغيره ‪ :‬الجماع على وجوب تعجيل التّوبة ‪ ،‬وأنّها على الفور ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعجيل بتجهيز الميّت ‪:‬‬
‫ن النّبيّ‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على أنّه يندب السراع بتجهيز الميّت إذا تيقّن موته ‪ ،‬لما ثبت « أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لمّا عاد طلحة بن البراء رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬إنّي ل أرى طلحة إل‬
‫قد حدث فيه الموت ‪ ،‬فآذنوني به ‪ ،‬وعجّلوا ‪ ،‬فإنّه ل ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني‬
‫أهله » ‪ .‬والصّارف عن وجوب التّعجيل ‪ :‬الحتياط للرّوح ‪ ،‬لحتماله الغماء ونحوه ‪ .‬وفي‬
‫ك صالح ًة فخيرٌ تقدّمونها إليه ‪ ،‬وإن يكُ سوى ذلك فشرّ‬
‫الحديث « أسرعوا بالجنازة ‪ ،‬فإن ت ُ‬
‫تضعونه عن رقابكم » ‪ .‬ويندب تأخير من مات فجأة أو غرقا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّعجيل بقضاء الدّين ‪:‬‬
‫‪ - 6‬يجب تعجيل الوفاء بالدّين عند استحقاقه ويحرم على القادر المطل فيه ‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬مطل الغنيّ ظلم‬
‫‪ ،‬فإن أتبع أحدكم على مليء فليتبع » أي فإن أحيل على موسر فليقبل الحوالة ‪.‬‬
‫قال ابن حجر في الفتح ‪ :‬المعنى ‪ :‬أنّه من الظّلم ‪ ،‬وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير عن المطل ‪،‬‬
‫والمراد من المطل هنا ‪ :‬تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذر ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعجيل بإعطاء أجرة الجير ‪:‬‬
‫‪ - 7‬ثبت عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال « أعطوا الجير أجره قبل أن يجفّ عرقُه»‬
‫والمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنّما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل ‪ ،‬إذا‬
‫طلب ‪ ،‬وإن لم يعرق ‪ ،‬أو عرق وجفّ ‪ .‬وذلك لنّ أجره عمالة جسده ‪ ،‬وقد عجّل منفعته ‪،‬‬
‫فإذا عجّلها استحقّ التّعجيل ‪ .‬ومن شأن الباعة ‪ :‬إذا سلّموا قبضوا الثّمن عند التّسليم ‪ ،‬فهو‬
‫أحقّ وأولى ‪ ،‬إذ كان ثمن مهجته ‪ ،‬ل ثمن سلعته ‪ ،‬فيحرم مطله والتّسويف به مع القدرة ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬التّعجيل بتزويج البكر ‪:‬‬
‫‪ - 8‬استحبّ بعض العلماء التّعجيل بإنكاح البكر إذا بلغت ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬يا عليّ ‪ :‬ثلث ل‬
‫تؤخّرها ‪ :‬الصّلة إذا أتت ‪ ،‬والجنازة إذا حضرت ‪ ،‬واليّم إذا وجدت لها كفؤا »‬
‫واستثنوا ذلك من ذمّ العجلة ‪ ،‬وأنّها من الشّيطان ‪.‬‬
‫و ‪ -‬التّعجيل بالفطار في رمضان ‪:‬‬
‫سنّة ‪ ،‬لقول الرّسول صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ - 9‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على أنّ تعجيل الفطر من ال ّ‬
‫ي صلى‬
‫ن النّب ّ‬
‫« ل يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر » ولحديث أبي ذرّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫ال عليه وسلم قال ‪ :‬ل تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر ‪ ،‬وأخّروا السّحور » ‪.‬‬
‫شكّ فيه ‪ ،‬لنّه إذا شكّ في‬
‫ن له التّعجيل ‪ :‬إذا تحقّق من غروب الشّمس ‪ ،‬وعدم ال ّ‬
‫وإنّما يس ّ‬
‫الغروب حرم عليه الفطر اتّفاقا ‪ ،‬وأجاز الحنفيّة تعجيل الفطر بغلبة الظّنّ ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تعجيل الحاجّ بالنّفر من منى ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يجوز للحاجّ التّعجّل في اليوم الثّاني من أيّام الرّمي ‪ ،‬لقوله تعالى { َفمَنْ َت َعجّلَ في‬
‫خرَ فَل ِإ ْثمَ عَلَي ِه ِلمَنْ اتّقَى } ولما روى عبد الرّحمن بن يعمر‬
‫ن فل ِإ ْثمَ عَلَيهِ َومَنْ َتَأ ّ‬
‫يَ ْومَي ِ‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬أيّام منى ثلث ‪ ،‬فمن تعجّل في‬
‫رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬
‫يومين فل إثم عليه ‪ ،‬ومن تأخّر فل إثم عليه » ‪.‬‬
‫وشرط جوازه عند الجمهور ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬أن يخرج الحاجّ من منى قبل‬
‫الغروب ‪ ،‬فيسقط عنه رمي اليوم الثّالث ‪ ،‬فإن لم يخرج حتّى غربت الشّمس لزمه المبيت‬
‫ن اليوم اسم للنّهار ‪ ،‬فمن أدركه اللّيل فما تعجّل في‬
‫بمنى ‪ ،‬ورمى اليوم الثّالث ‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫يومين ‪ ،‬وثبت عن عمر رضي ال عنه أنّه قال " من غربت عليه الشّمس وهو بمنى ‪ ،‬فل‬
‫ينفرن ‪ ،‬حتّى يرمي الجمار من أوسط أيّام التّشريق " ‪.‬‬
‫ولم يفرّق الشّافعيّة والحنابلة في هذا الشّرط بين الم ّكيّ والفاقيّ ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى التّفريق بينهما ‪ ،‬وخصّوا شرط التّعجيل بالمتعجّل من أهل مكّة ‪ ،‬وأمّا إن‬
‫كان من غيرها فل يشترط خروجه من منى قبل الغروب من اليوم الثّاني ‪ ،‬وإنّما يشترط نيّة‬
‫الخروج قبل الغروب من اليوم الثّاني ‪.‬‬
‫ولم يشترط الحنفيّة ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬له أن ينفر بعد الغروب مع الكراهة ‪ ،‬ما لم يطلع فجر اليوم‬
‫الثّالث ‪ ،‬وذلك لنّه لم يدخل اليوم الخر ‪ ،‬فجاز له النّفر ‪ ،‬كما قبل الغروب ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في أهل مكّة هل ينفرون النّفر الوّل ؟ فقيل ‪ :‬ليس لهم ذلك ‪ .‬فقد ثبت عن‬
‫عمر بن الخطّاب رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬من شاء من النّاس كلّهم أن ينفروا في النّفر الوّل ‪،‬‬
‫إلّا آل خزيمة ‪ ،‬فل ينفرون إلّا في النّفر الخر ‪ .‬وكان أحمد بن حنبل يقول ‪ :‬ل يعجبني لمن‬
‫نفر النّفر الوّل أن يقيم بمكّة ‪ ،‬وقال ‪ :‬أهل مكّة أخفّ ‪ ،‬وجعل أحمد معنى قول عمر " إل آل‬
‫خزيمة " أي ‪ :‬أنّهم أهل الحرم ‪ ،‬وحمله في المغني على الستحباب ‪ ،‬محافظة على العموم ‪.‬‬
‫وكان مالك يقول في أهل مكّة من كان له عذر فله أن يتعجّل في يومين ‪ ،‬فإن أراد التّخفيف‬
‫عن نفسه ممّا هو فيه من أمر الحجّ فل ‪ ،‬فرأى أنّ التّعجيل لمن بعد قطره ‪.‬‬
‫وقال أكثر أهل العلم ‪ :‬الية على العموم ‪ ،‬والرّخصة لجميع النّاس ‪ ،‬أهل مكّة وغيرهم ‪ ،‬سواء‬
‫أراد الخارج من منى المقام بمكّة ‪ ،‬أو الشّخوص إلى بلده ‪.‬‬
‫‪ - 11‬واختلف الفقهاء في الفضليّة بين التّعجيل والتّأخير ‪ ،‬فذهب الجمهور ( الحنفيّة‬
‫ن تأخير النّفر إلى الثّالث أفضل ‪ ،‬للقتداء بالنّبيّ صلى ال عليه‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ) ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫وسلم ‪ .‬وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه ل تفضيل بين التّعجيل والتّأخير ‪ ،‬بل هما مستويان ‪ .‬ونصّ‬
‫الفقهاء على كراهة التّعجيل للمام ‪ ،‬لجل من يتأخّر ‪.‬‬
‫وأمّا ثمرة التّعجيل فهي سقوط رمي اليوم الثّالث ‪ ،‬ومبيت ليلته عنه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تعجيل الفعل قبل وجوبه‬
‫أ ‪ -‬التّعجيل بالصّلة قبل الوقت ‪:‬‬
‫ل صلة من الصّلوات الخمس وقتا محدّدا ‪ ،‬ل يجوز إخراجها‬
‫‪ - 12‬أجمع العلماء ‪ :‬على أنّ لك ّ‬
‫ن ِكتَابَا مَ ْوقُوتَا } أي ‪ :‬محتّمة مؤقّتة ‪:‬‬
‫ن الصّلةَ كَانَتْ على المُ ْؤمِني َ‬
‫عنه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫ولحديث المواقيت المشهور ‪.‬‬
‫وقد رخّص الشّارع في تعجيل الصّلة قبل وقتها في حالت ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ - 1‬جمع الحاجّ الظّهر والعصر جمع تقديم في عرفة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬جواز الجمع للمسافر بين العصرين " الظّهر والعصر " والعشاءين " المغرب والعشاء "‬
‫تقديما عند جمهور العلماء ‪ ،‬خلفا للحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ - 2‬جواز الجمع للمريض ‪ ،‬جمع تقديم عند المالكيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫‪ - 3‬جواز الجمع بين العشاءين تقديما ‪ ،‬لجل المطر والثّلج والبرد عند جمهور العلماء‬
‫" المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " وزاد الشّافعيّة جوازه بين العصرين أيضا ‪.‬‬
‫‪ - 4‬جواز الجمع بين الصّلتين ‪ ،‬إذا اجتمع الطّين مع الظّلمة ‪ ،‬عند المالكيّة ‪ ،‬وجوّزه الحنابلة‬
‫بمجرّد الوحل ‪ ،‬في إحدى الرّوايتين ‪ ،‬وصحّحها ابن قدامة ‪.‬‬
‫‪ - 5‬جواز الجمع لجل الخوف عند الحنابلة ‪.‬‬
‫‪ - 6‬جواز الجمع لجل الرّيح الشّديدة في اللّيلة المظلمة الباردة ‪ ،‬عند الحنابلة ‪ ،‬في أحد‬
‫الوجهين ‪ ،‬وصحّحه المديّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعجيل بإخراج الزّكاة قبل الحول ‪:‬‬
‫‪ - 13‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى جواز تعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول في الجملة ‪ ،‬وذلك‬
‫ن « العبّاس رضي ال عنه سأل النّبيّ صلى ال عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ ‪،‬‬
‫لّ‬
‫فرخّص له في ذلك » ‪ ،‬ولنّه حقّ ماليّ جعل له أجل للرّفق ‪ ،‬فجاز تعجيله قبل أجله ‪ ،‬كالدّين‬
‫‪ .‬ولنّه ‪ -‬كما قال الشّافعيّة ‪ -‬وجب بسببين ‪ ،‬وهما ‪ :‬النّصاب ‪ ،‬والحول ‪ :‬فجاز تقديمه على‬
‫أحدهما ‪ ،‬كتقديم كفّارة اليمين على الحنث ‪ .‬ومنعه ابن المنذر ‪ ،‬وابن خزيمة من الشّافعيّة ‪،‬‬
‫وأشهب من المالكيّة ‪ ،‬وقال ‪ :‬ل تجزئ قبل محلّه كالصّلة ‪ ،‬ورواه عن مالك ‪ ،‬ورواه كذلك‬
‫ابن وهب ‪ .‬قال ابن يونس ‪ :‬وهو القرب ‪ ،‬وغيره استحسان ‪.‬‬
‫ص الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ :‬على أنّ تركه أفضل ‪ ،‬خروجا من الخلف ‪.‬‬
‫ون ّ‬
‫واختلف الفقهاء في المدّة الّتي يجوز تعجيل الزّكاة فيها ‪ :‬فذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى جواز تعجيل‬
‫الزّكاة لسنين ‪ ،‬لوجود سبب الوجوب ‪ ،‬وهو ‪ :‬ملك النّصاب النّامي ‪.‬‬
‫ن النّبيّ‬
‫وقيّده الحنابلة بحولين فقط ‪ ،‬اقتصارا على ما ورد ‪ .‬فقد روى عليّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم تعجّل من العبّاس رضي ال عنه صدقة سنتين » لقوله صلى ال عليه‬
‫ي ومثلها معها » ولما روى أبو داود من « أنّ النّبيّ صلى ال‬
‫وسلم ‪ « :‬أمّا العبّاس فهي عل ّ‬
‫عليه وسلم تسلّف من العبّاس صدقة عامين » وهو وجه عند الشّافعيّة ‪ ،‬صحّحه السنويّ‬
‫ص ‪ .‬وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى عدم جواز تعجيل الزّكاة لكثر من عام ‪،‬‬
‫وغيره ‪ ،‬وعزوه للنّ ّ‬
‫وذلك ‪ :‬لنّ زكاة غير العام الوّل لم ينعقد حولها ‪ ،‬والتّعجيل قبل انعقاد الحول ل يجوز ‪،‬‬
‫كالتّعجيل قبل كمال النّصاب في الزّكاة العينيّة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فلم يجيزوا تعجيل الزّكاة لكثر من شهر قبل الحول على المعتمد ‪ ،‬وتكره عندهم‬
‫بشهر ‪ .‬وفي المسألة تفصيلت تنظر في الزّكاة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تعجيل الكفّارات ‪:‬‬
‫تعجّل كفّارة اليمين قبل الحنث ‪:‬‬
‫‪ - 14‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ : -‬إلى جواز تعجيل كفّارة اليمين‬
‫قبل الحنث ‪ ،‬لما روى عبد الرّحمن بن سمرة رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪ :‬يا عبد الرّحمن ‪ ،‬إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك ‪ ،‬ث ّم ائت‬
‫الّذي هو خير » ‪.‬‬
‫واستثنى الشّافعيّة الصّوم من خصال الكفّارة ‪ ،‬وقالوا بعدم جواز التّعجيل به قبل الحنث ‪،‬‬
‫وذلك لنّه عبادة بدنيّة ‪ ،‬فل يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ‪ ،‬كالصّلة ‪ ،‬وصوم‬
‫رمضان ‪ ،‬ولنّه إنّما يجوز التّكفير به عند العجز عن جميع الخصال الماليّة ‪ .‬والعجز إنّما‬
‫يتحقّق بعد الوجوب ‪ .‬وهو رواية عند الحنابلة ‪.‬‬
‫ن الكفّارة لستر الجناية ‪،‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى عدم جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول جناية قبل الحنث ‪.‬‬
‫‪ - 15‬ثمّ إنّ القائلين بجواز التّعجيل اختلفوا في أيّهما أفضل ‪ :‬التّكفير قبل الحنث أم بعده ؟‪.‬‬
‫فذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬وأحمد في رواية ‪ ،‬وابن أبي موسى ‪ ،‬وصوّبه المرداويّ من‬
‫الحنابلة ‪ :‬إلى أنّ تأخيرها عن الحنث أفضل ‪ ،‬خروجا من الخلف ‪.‬‬
‫ن التّكفير قبل الحنث وبعده في‬
‫والرّواية الخرى عن أحمد على الصّحيح من المذهب ‪ :‬أ ّ‬
‫الفضيلة سواء ‪ ،‬وذلك في غير الصّوم ‪ ،‬لتعجيل النّفع للفقراء ‪.‬‬
‫تعجيل كفّارة الظّهار ‪:‬‬
‫‪ - 16‬اختلف الفقهاء في جواز تعجيل كفّارة الظّهار قبل العود ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى‬
‫جواز تعجيلها ‪ ،‬لوجود سببها ‪ ،‬وذلك كتعجيل الزّكاة قبل الحول ‪ ،‬وبعد كمال النّصاب ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّها ل تجزئ قبل العود ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى جواز التّعجيل بكفّارة الظّهار قبل العود به ‪ ،‬وذلك بالمال ‪ -‬وهو‬
‫التّحرير والطعام ‪ -‬ل بالصّوم ‪ ،‬والمراد بالعود عندهم ‪ :‬إمساك المظاهر منها مدّة يمكن‬
‫للمظاهر أن يطلّقها فيها ‪ ،‬مع القدرة على الطّلق ‪ .‬وصورة التّعجيل في كفّارة الظّهار ‪ :‬أن‬
‫يظاهر من مطلّقته رجعيّا ‪ ،‬ثمّ يكفّر ‪ ،‬ثمّ يراجعها ‪ .‬وعندهم صور أخرى ‪.‬‬
‫والمراد بالعود عند الحنفيّة ‪ :‬إرادة العزم على الوطء ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة هو إرادة الوطء ‪ ،‬مع استدامة العصمة ‪ ،‬كما قاله ابن رشد ‪.‬‬
‫تعجيل كفّارة القتل ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يجوز تعجيل كفّارة القتل بعد الجرح ‪ ،‬وقبل الزّهوق ‪ ،‬وتجزئ عنه ‪ ،‬وذلك لتقدّم السّبب‬
‫‪ ،‬كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول ‪ .‬واستثنى الشّافعيّة تعجيل التّكفير بالصّوم ‪ ،‬لنّه عبادة‬
‫بدنيّة ‪ ،‬فل يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ‪ ،‬كالصّلة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعجيل بقضاء الدّين المؤجّل ‪:‬‬
‫‪ - 18‬ل خلف بين الفقهاء في أنّه ل يجب أداء الدّين المؤجّل قبل حلول أجله ‪ ،‬لكن لو أدّي‬
‫ن الجل حقّ المدين ‪ ،‬فله إسقاطه ‪ ،‬ويجبر الدّائن‬
‫قبله صحّ ‪ ،‬وسقط عن ذمّة المدين ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫على القبول ‪.‬‬
‫هن – التّعجيل بالحكم قبل التّبيّن ‪:‬‬
‫‪ – 19‬روي عن أبي موسى الشعريّ رضي ال عنه ‪ ،‬أنّه قال ‪ :‬ل ينبغي للقاضي أن يقضي‬
‫حتّى يتبيّن له الحقّ ‪ ،‬كما يتبيّن اللّيل من النّهار فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب رضي ال عنه‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬يا ابن عبّاس ل تشهد إل على‬
‫فقال ‪ :‬صدق ‪ .‬وهذا ل ّ‬
‫ن القضاء ملزم‬
‫أمرٍ يضيء لك كضياء هذا الشّمس » وولية القضاء فوق ولية الشّهادة ‪ ،‬ل ّ‬
‫بنفسه ‪ ،‬والشّهادة غير ملزمة بنفسها ‪ ،‬حتّى ينضمّ إليها القضاء ‪ ،‬فإذا أخذ هذا على الشّاهد ‪،‬‬
‫كان على القاضي بطريق الولى ‪.‬‬
‫قال الصّدر الشّهيد في شرح أدب القاضي ‪ :‬وهذا في موضع النّصّ ‪ ،‬وأمّا في غير موضع‬
‫النّصّ فل ‪ ،‬لنّه في غير موضع النّصّ يقضى بالجتهاد ‪ ،‬والجتهاد ليس بدليل مقطوع به ‪،‬‬
‫فل يتبيّن له به الحقّ ‪ ،‬كما يتبيّن اللّيل من النّهار ‪.‬‬

‫تعدّد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعدّد في اللّغة ‪ :‬الكثرة ‪ .‬وهو من العدد ‪ :‬أي الك ّميّة المتألّفة من الوحدات ‪ ،‬فيختصّ‬
‫التّعدّد بما زاد عن الواحد ‪ ،‬لنّ الواحد ل يتعدّد ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬يختلف حكم التّعدّد باختلف متعلّقه ‪ .‬فيكون ‪ :‬جائزا في حالت ‪ ،‬وغير جائز في حالت‬
‫أخرى ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬تعدّد المؤذّنين ‪:‬‬
‫‪ - 3‬تعدّد المؤذّنين جائز لمسجد واحد ‪ ،‬لتعدّدهم في زمن الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وقال‬
‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إنّ ذلك مستحبّ ‪ ،‬ويجوز الزّيادة عن الثنين ‪.‬‬
‫والمستحبّ أن ل يزيد عن أربعة ‪ .‬وروي ‪ :‬أنّ عثمان كان له أربعة مؤذّنين ‪ ،‬وإن دعت‬
‫الحاجة إلى أكثر كان مشروعا ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬أذان ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعدّد الجماعة في مسجد واحد ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّه إذا صلّى إمام الحيّ ‪ ،‬ثمّ حضرت جماعة‬
‫أخرى كره أن يقيموا جماعة فيه على الصحّ ‪.‬‬
‫إل أن يكون مسجد طريق ‪ ،‬ول إمام له ‪ ،‬ول مؤذّن فل يكره إقامة الجماعة فيه حينئذ ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه‬
‫واستدلّوا بما روي عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة رضي ال عنهما عن أبيه ‪ « :‬أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم خرج من بيته ليصلح بين النصار ‪ ،‬فرجع وقد صلّى في المسجد‬
‫بجماعة ‪ ،‬فدخل منزل بعض أهله ‪ ،‬فجمع أهله فصلّى بهم جماعة » ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لصلّى فيه ‪ .‬كما استدلّوا بأثر عن أنس رضي‬
‫ال عننه قال ‪ :‬إن ّن أصنحاب رسنول اللّه صنلى ال علينه وسنلم كانوا إذا فاتتهنم الجماعنة فني‬
‫ن التّكرار يؤدّي إلى تقل يل الجما عة ‪ ،‬ل نّ‬
‫الم سجد ‪ ،‬صلّوا في الم سجد فرادى ‪ .‬قالوا ‪ :‬ول ّ‬
‫النّاس إذا علموا ‪ :‬أنّهم تفوتهم الجماعة يتعجّلون ‪ ،‬فتكثر الجماعة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يكره إعادة الجماعة في المسجد ‪ .‬واستدلّوا بعموم قوله صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ « :‬صلة الجماعة تفضل صلة الفذّ بخمس وعشرين درجة » ‪ ،‬وحديث أبي سعيد رضي ال‬
‫عنه ‪ « :‬جاء رجل وقد صلّى الرّسول صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أيّكم يتّجر على هذا ؟ فقام‬
‫رجل فصلّى معه » وجاء في بعض الرّوايات ‪ « :‬فلمّا صلّيا قال ‪ :‬وهذان جماعة » ولنّه‬
‫قادر على الجماعة ‪ ،‬فاستحبّ له فعلها ‪ ،‬كما لو كان المسجد في ممرّ النّاس ‪ .‬والتّفصيل ‪ :‬في‬
‫مصطلح ‪ ( :‬جماعة ) أو ( صلة الجماعة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تعدّد الجمعة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬ل يجوز عند جمهور الفقهاء إقامة جمعتين في بلد واحد إل لضرورة ‪ ،‬كضيق المسجد ‪،‬‬
‫ن الرّسول صلى ال عليه وسلم والخلفاء بعده لم يقيموا سوى جمعة واحدة ‪.‬‬
‫لّ‬
‫وتعدّد الجمعة في البلد الواحد جائز مطلقا عند الحنفيّة ‪ ،‬سواء أكانت هناك ضرورة أم ل ‪،‬‬
‫ن الثر الوارد بأنّه « ل جمعة إل في مصر جامع » قد‬
‫فصل بين جانبي البلد نهر أم ل ‪ ،‬ل ّ‬
‫أطلق ‪ ،‬ولم يشترط إلّا أن تقع في مصر ( ر ‪ :‬صلة الجمعة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تعدّد كفّارة الصّوم ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ل خلف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بالجماع ‪،‬‬
‫وأنّها ل تتعدّد بتكرار الجماع في اليوم الواحد ‪ ،‬كما اتّفقوا على تعدّد الكفّارة إذا تكرّر منه‬
‫الفساد بالجماع ‪ ،‬بعد التّكفير من الوّل ‪.‬‬
‫واختلفوا فيما إذا أفسد أيّاما بالجماع قبل التّكفير من الوّل ‪ ،‬فذهب المالكيّة والشّافعيّة‬
‫ن كلّ يوم عبادة برأسها ‪ ،‬وقد تكرّر منه الفساد فأشبه‬
‫والحنابلة ‪ :‬إلى تعدّد الكفّارة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحجين ‪ .‬وعند الحنفيّة ‪ :‬تكفيه كفّارة واحدة ‪ ،‬وهو المعتمد في المذهب ‪.‬‬
‫ص بالفساد بغير الجماع ‪ ،‬أمّا الفساد بالجماع فتتعدّد‬
‫واختار بعض الحنفيّة ‪ :‬أنّ هذا خا ّ‬
‫الكفّارة فيه لعظم الجناية ‪ ( .‬ر ‪ :‬كفّارة ) ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬تعدّد الفدية بتعدّد ارتكاب المحظور في الحرام ‪:‬‬
‫‪ - 7‬إذا ارتكب في حالة الحرام جنايات توجب ك ّل منها فدية ‪ ،‬فإن كانت الجناية صيدا ففي‬
‫كلّ منها جزاؤه ‪ ،‬سواء أفعله مجتمعا ‪ ،‬أم متفرّقا ‪ .‬كفّر عن الوّل ‪ ،‬أم لم يكفّر عنه ‪.‬‬
‫وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬
‫وما عدا ذلك ففيه خلف وتفصيل ويرجع إليه في ( فدية ) ( وإحرام ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬تعدّد الصّفقة ‪:‬‬
‫‪ - 8‬تتعدّد الصّفقة بتعدّد البائع ‪ ،‬وتعدّد المشتري ‪ ،‬وبتفصيل الثّمن ‪ ،‬وباختلف المعقود عليه ‪.‬‬
‫فإن جمع بين عينين فأكثر في صفقة واحدة جاز ‪ ،‬ويوزّع الثّمن في المثليّ ‪.‬‬
‫وفي العين المشتركة بين اثنين يوزّع على الجزاء ‪ ،‬وفي غيرهما من المتقوّمات على‬
‫ح في الخر ‪ ،‬بأن كان‬
‫الرّءوس ‪ ،‬باعتبار القيمة ‪ ،‬فإن بطل العقد في واحد منهما ابتداء ص ّ‬
‫أحدهما قابل للعقد والخر غير قابل ‪ ( ،‬ر ‪ :‬عقد ‪ -‬تفريق الصّفقة ) ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تعدّد المرهون أو المرتهن ‪:‬‬
‫‪ - 9‬إذا رهن دارين له بمبلغ من الدّين ‪ ،‬فقضى حصّة إحدى الدّارين من الدّين لم يستردّها‬
‫حتّى يقضي باقي الدّين ‪ ،‬لنّ المرهون محبوس بكلّ الدّين ‪ .‬وكذا إن رهن عينا واحدة عند‬
‫رجلين بدين عليه لكلّ واحد منهما ‪ ،‬فقضى دين أحدهما ‪ ،‬لنّ العين كلّها رهن عند الدّائنين ‪،‬‬
‫وأضيف الرّهن إلى جميع العين في صفقة واحدة ‪ .‬ر ‪ ( :‬رهن ) ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬تعدّد الشّفعاء في العقار ‪:‬‬
‫‪ - 10‬اختلف الفقهاء في حكم الشّفعة إذا استحقّها جمع ‪ ،‬فقال الشّافعيّة ‪ :‬يأخذون على قدر‬
‫ن الشّفعة من مرافق الملك فيتقدّر بقدره ‪.‬‬
‫الحصص ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعند الحنفيّة ‪ :‬يوزّع على عدد رءوسهم ‪ ،‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪ ،‬لنّهم استووا في سبب‬
‫الستحقاق ‪ ،‬فيستوون في الستحقاق ‪ .‬ر ‪ ( :‬شفعة )‬
‫ط ‪ -‬تعدّد الوصايا ‪:‬‬
‫‪ - 11‬إذا أوصى بوصايا من حقوق اللّه قدّمت الفرائض منها ‪ ،‬سواء قدّمها الموصي أم أخّرها‬
‫‪ ،‬لنّ الفريضة أهمّ من النّافلة ‪ ،‬فإن تساوت وقدّم الموصي بعضها على بعض بما يفيد‬
‫التّرتيب بدئ بما قدّمه الموصي ‪ .‬ر ‪ ( :‬وصيّة ) ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬تعدّد الزّوجات ‪:‬‬
‫‪ - 12‬تعدّد الزّوجات إلى أربع مشروع ورد به القرآن الكريم في قوله تعالى ‪ { :‬فَا ْن ِكحُوا ما‬
‫ت َأ ْيمَانُ ُكمْ } وفي‬
‫حدَ ًة أو مَا مََلكَ ْ‬
‫ن النّساءِ َم ْثنَى وثُلثَ َو ُربَاعَ فَإنْ خِ ْف ُتمْ أل َت ْعدِلُوا فَوَا ِ‬
‫طَابَ لكمْ مِ َ‬
‫تفصيل مشروعيّة التّعدّد وشروطه ووجوب العدل بين الزّوجات يرجع إلى ( نكاح وقسم ونفقة‬
‫)‪.‬‬
‫ك ‪ -‬تعدّد أولياء النّكاح ‪:‬‬
‫‪ - 13‬إذا استوى أولياء المرأة في درجة القرابة كالخوة والعمام ‪ ،‬يندب تقديم أكبرهم‬
‫وأفضلهم ‪ ،‬فإن تشاحّوا ولم يقدّموه أقرع بينهم ‪ .‬فإن زوّج أحدهم قبل القرعة بإذنها ‪ ،‬أو‬
‫زوّجها غير من خرجت له القرعة صحّ ‪ .‬لنّه صدر من أهله في محلّه ‪ ،‬هذا رأي الشّافعيّة ‪.‬‬
‫ولتفصيل الموضوع وآراء الفقهاء يرجع إلى مصطلح ( نكاح ) ( ووليّ ) ‪.‬‬
‫ل ‪ -‬تعدّد الطّلق ‪:‬‬
‫‪ - 14‬يملك الزّوج الحرّ على زوجته الحرّة ثلث تطليقات ‪ ،‬تبين بعدها الزّوجة منه بينونة‬
‫كبرى ‪ ،‬ل تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره يدخل بها ‪ ،‬ثمّ يطلّقها أو يموت عنها ‪ ،‬لقوله‬
‫ح زَ ْوجَا غَيرَه فَإنْ‬
‫حتّى َت ْنكِ َ‬
‫تعالى { الطّلقُ َم ّرتَانِ } إلى قوله { فَإنْ طَلّ َقهَا فَل َتحِلّ له مِنْ َب ْعدُ َ‬
‫حدُودَ اللّهِ } ‪.‬‬
‫ن يُقِيمَا ُ‬
‫ظنّا أ ْ‬
‫ن َ‬
‫جعَا إ ْ‬
‫جنَاحَ عَليهما َأنْ َي َترَا َ‬
‫طَلّقَها فَل ُ‬
‫وفي ذلك تفصيل وخلف يرجع إليه في ( طلق ) ‪.‬‬
‫م ‪ -‬تعدّد المجنيّ عليه ‪ ،‬أو الجاني ‪:‬‬
‫‪ - 15‬إذا قتلت جماعة واحدا يُقتلون جميعا قصاصا ‪ ،‬وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد ‪،‬‬
‫ل جراحة مؤثّرة في إزهاق الرّوح ‪ .‬وإن قتل واحد جماعة يقتل قصاصا‬
‫بشرط أن تكون ك ّ‬
‫أيضا ‪ ،‬هذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( قصاص ) ( وجناية ) ‪.‬‬
‫ن ‪ -‬تعدّد التّعزير بتعدّد اللفاظ ‪:‬‬
‫ب رجل بألفاظ متعدّدة من ألفاظ الشّتم الموجب للتّعزير ‪ ،‬فقد أفتى بعض الحنفيّة‬
‫‪ - 16‬من س ّ‬
‫‪ -‬وأيّده ابن عابدين ‪ -‬بأنّه يعزّر لك ّل منها ‪ ،‬لنّ حقوق العباد ل تتداخل ‪.‬‬
‫وكذا إن سبّ جماعة بلفظ واحد ‪ .‬انظر مصطلح ( تعزير ) ‪.‬‬
‫س ‪ -‬تعدّد القضاة في بلد واحد ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يجوز للمام تعيين قاضيين فأكثر في بلد واحد ‪ ،‬إل أن يشترط اجتماعهم على الحكم في‬
‫القضيّة الواحدة لما يقع بينهم من خلف في محلّ الجتهاد ‪ .‬ر ‪ ( :‬قضاء ) ‪.‬‬
‫ع ‪ -‬تعدّد الئمّة ‪:‬‬
‫‪ - 18‬ذهب جمهور العلماء إلى أنّه ل يجوز تنصيب إمامين فأكثر للمسلمين في زمن واحد ‪،‬‬
‫وإن تباعدت أقاليمهم ‪ .‬ر ‪ ( :‬إمامة عظمى ) ‪.‬‬

‫تعدّي *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعدّي لغة ‪ :‬الظّلم ‪ ،‬وأصله مجاوزة الحدّ والقدر والحقّ ‪ .‬يقال ‪ :‬تعدّيت الحقّ واعتديته‬
‫وعدوته أي ‪ :‬جاوزته ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه في اللّغة ‪ ،‬فيستعمل‬
‫ق الغير ‪ ،‬وبمعنى ‪ :‬انتقال الحكم إلى محلّ آخر ‪ ،‬كتعدّي العلّة ‪،‬‬
‫بمعنى ‪ :‬العتداء على ح ّ‬
‫والتّعدّي في الحرمة ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن التّعدّي له إطلقان ‪ ،‬ويطلق ويراد به ‪ :‬العتداء على الغير ‪ ،‬وهذا البحث محلّ‬
‫‪ - 2‬سبق أ ّ‬
‫تفصيله ‪ .‬ويطلق ويراد به ‪ :‬انتقال الحكم إلى محلّ آخر ‪.‬‬
‫أمّا التّعدّي بالطلق الوّل ف هو بجم يع أنوا عه حرام ‪ .‬وللتّعدّي أحكا مه الخا صّة ‪ :‬كالق صاص‬
‫في النّفس ‪ ،‬والطراف ‪ ،‬والتّعويض ‪ ،‬والحبس وما إلى ذلك ‪ ،‬كما سيتبيّن ‪.‬‬
‫التّعدّي على الموال ‪:‬‬
‫التّعدّي بالغصب والتلف والسّرقة والختلس ‪:‬‬
‫‪ - 3‬من تعدّى على مال غيره فغصبه ‪ ،‬أو أتلف مال غير مأذون في إتلفه شرعا أو سرقه أو‬
‫اختلسه ‪ -‬ترتّب عليه حكمان ‪:‬‬
‫أحدهما أخرويّ ‪ .‬وهو ‪ :‬الثم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل َت ْأكُلُوا أ ْموَاَل ُكمْ َب ْينَ ُكمْ بِالبَاطِلِ } وقوله‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يحلّ مالُ امرئ مسلم إل بطيب نفسه » ‪.‬‬
‫والخر دنيويّ ‪ :‬وهو الحدّ أو التّعزير مع وجوب الضّمان عليه ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« على اليد ما أخذتْ حتّى تؤدّيه » ولما روى عبد اللّه بن السّائب عن أبيه عن جدّه رضي ال‬
‫عنهم ‪ « :‬ل يأخذنّ أحدكم متاع أخيه لعبا أو جادّا ‪ ،‬ومن أخذ عصا أخيه فليردّها » فيجب‬
‫على المتعدّي ردّ العين المغصوبة إن بقيت بيده كما هي ‪ ،‬فإن تلفت في يده ‪ ،‬أو تعدّى عليها‬
‫فأتلفها بدون غصب وجب عليه ردّ مثلها إن كانت مثليّة ‪ ،‬فإذا انقطع المثل أو لم تكن مثليّة‬
‫وجب عليه قيمتها ‪.‬‬
‫ومثل ما تقدّم ‪ :‬الباغي في غير زمن القتال ‪ ،‬حيث يضمن الموال الّتي أتلفها أو أخذها ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬غصب ‪ ،‬إتلف ‪ ،‬ضمان ‪ ،‬سرقة ‪ ،‬اختلس ‪ ،‬بغاة ) ‪.‬‬
‫التّعدّي في العقود ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّعدّي في الوديعة ‪:‬‬
‫ن َب ْعضُ ُكمْ َب ْعضَا فَ ْليُ َؤدّ الّذي ائ ُتمِنَ‬
‫‪ - 4‬الصل في الوديعة ‪ :‬أنّها أمانة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬فَإنْ َأمِ َ‬
‫َأمَا َنتَه } ‪ ،‬وأنّه ل ضمان على المودع في الوديعة ‪ ،‬لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن‬
‫جدّه ‪ « :‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬من أودع وديعة فل ضمان عليه » ولنّ‬
‫المستودع يحفظها لمالكها فلو ضمنت لمتنع النّاس من الدّخول فيها ‪ ،‬وذلك مضرّ ‪ ،‬لما فيه‬
‫من مسيس الحاجة إليها ‪ .‬ويضمن الوديع في حالين ‪:‬‬
‫ن المفرّط متسبّب بترك ما وجب عليه من حفظها ‪.‬‬
‫الوّل ‪ :‬إذا فرّط في حفظ الوديعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المتعدّي متلف لمال غيره فضمنه ‪ ،‬كما لو أتلفه‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يتعدّى الوديع على الوديعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫من غير إيداع ‪ .‬ومن صور التّعدّي عليها ‪ :‬انتفاعه بها ‪ ،‬كأن يركب الدّابّة المودعة لغير‬
‫نفعها ‪ ،‬أو يلبس الثّوب المودع فيبلى ‪ .‬ومن صور التّعدّي أيضا ‪ :‬جحودها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعدّي في الرّهن ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يكون التّعدّي في الرّهن من الرّاهن أو من المرتهن ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬تعدّي الرّاهن ‪:‬‬
‫‪ - 6‬إذا تعدّى الرّاهن على الرّهن فأتلفه أو أتلف جزءا منه ‪ ،‬فإنّه يؤمر بدفع قيمة ما أتلفه ‪،‬‬
‫لتكون رهنا إلى حلول الجل ‪ .‬وأمّا تصرّفات الرّاهن الّتي تنقل ملك العين المرهونة كالبيع‬
‫والهبة ‪ ،‬فإنّها موقوفة على إجازة المرتهن أو قضاء الدّين ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعدّي المرتهن ‪:‬‬
‫ن الرّهن إن هلك بنفسه فإنّه يهلك مضمونا بالدّين ‪ ،‬وكذلك لو‬
‫‪ - 7‬ذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫استهلكه المرتهن ‪ ،‬لنّه لو أتلف مملوكا متقوّما بغير إذن مالكه ‪ ،‬فيضمن مثله أو قيمته ‪ ،‬كما‬
‫لو أتلفه أجنبيّ وكان رهنا مكانه ‪.‬‬
‫وفرّق المالكيّة بين ما يغاب عليه ‪ :‬أي ما يمكن إخفاؤه كبعض المنقولت ‪ ،‬وما ل يغاب‬
‫عليه ‪ ،‬كالعقار والسّفينة والحيوان ‪ ،‬فأوجبوا الضّمان في الوّل ‪ -‬دون الثّاني بشرطين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يكون بيده ‪ ،‬ل أن يكون بيد أمين ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن ل تشهد بيّنة للمرتهن على التّلف أو الضّياع ‪ ،‬بغير سببه ‪ ،‬وغير تفريطه ‪.‬‬
‫ن الرّهن أمانة في يد المرتهن ‪ ،‬وأنّه ل ضمان عليه إن هلك‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫ن المرتهن‬
‫بيده ‪ ،‬إلّا إذا تعدّى عليه ‪ ،‬أو فرّط في حفظه ‪ .‬وعلى هذا ‪ :‬فالفقهاء متّفقون على أ ّ‬
‫ضامن للرّهن بتعدّيه عليه أو تفريطه في حفظه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّعدّي في العاريّة ‪:‬‬
‫‪ - 8‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على أنّ العاريّة مضمونة بالتّعدّي والتّفريط من المستعير ‪ ،‬لحديث سمرة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬على اليد ما أخذت حتّى‬
‫ن النّب ّ‬
‫بن جندب رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬
‫تؤدّيه » أمّا إذا هلكت بل تعدّ ول تفريط ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ذلك ‪.‬‬
‫ن العاريّة إن هلكت من غير تعدّ ول تفريط منه فل ضمان‬
‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫عليه ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ليس على المستعير غير المغلّ ضمان » ‪ ،‬ولنّه‬
‫قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة ‪ ،‬وهو ‪ :‬قول الحسن والنّخعيّ ‪ ،‬والشّعبيّ ‪ ،‬وعمر‬
‫بن عبد العزيز ‪ ،‬والثّوريّ ‪ .‬والوزاعيّ ‪ ،‬وابن شبرمة ‪.‬‬
‫وزاد المالكيّة في تضمين المستعير ‪ :‬ما إذا لم يظهر سبب هلك العاريّة ‪ ،‬وكانت ممّا يغاب‬
‫عليه ‪ ،‬فإن قامت بيّنة على تلفها أو ضياعها بدون سببه فل ضمان عليه ‪.‬‬
‫ن العاريّة مضمونة مطلقا ‪ ،‬تعدّى المستعير ‪ ،‬أو لم يتعدّ ‪،‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ‪،‬‬
‫ن النّب ّ‬
‫لحديث سمرة ‪ « :‬أ ّ‬
‫وعن صفوان ‪ « :‬أنّه صلى ال عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا ‪ ،‬فقال ‪ :‬أغصبا يا‬
‫محمّد ؟ قال ‪ :‬بل عاريّة مضمونة » ‪ .‬وهو ‪ :‬قول عطاء ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وأشهب من المالكيّة ‪،‬‬
‫وروي عن ابن عبّاس ‪ ،‬وأبي هريرة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّعدّي في الوكالة ‪:‬‬
‫‪ - 9‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على أنّ الوكيل أمين ‪ ،‬ل ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط ول‬
‫تعدّ ‪ ،‬لنّه نائب عن المالك في اليد والتّصرّف ‪ ،‬فكان الهلك في يده كالهلك في يد المالك ‪،‬‬
‫فأصبح كالمودع ‪ .‬ولنّ الوكالة عقد إرفاق ومعونة ‪ ،‬والضّمان مناف لذلك ومنفّر عنه ‪.‬‬
‫أمّا إذا تعدّى الوكيل فإنّه يكون ضامنا ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ( وكالة ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬التّعدّي في الجارة ‪:‬‬
‫‪ - 10‬سبق الكلم عن التّعدّي في الجارة في مصطلح ( إجارة ) ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬التّعدّي في المضاربة ‪:‬‬
‫‪ - 11‬المضاربة ‪ :‬عقد على الشّركة في الرّبح بمال من أحد الجانبين ‪ ،‬وعمل من الجانب‬
‫الخر ‪ ،‬ول مضاربة بدونهما ‪ .‬ثمّ المدفوع إلى المضارب أمانة في يده ‪ ،‬لنّه يتصرّف فيه‬
‫بأمر مالكه ‪ ،‬ل على وجه البدل والوثيقة ‪ ،‬وهو وكيل فيه ‪ ،‬فإذا ربح فهو شريك فيه ‪ ،‬وإذا‬
‫فسدت انقلبت إجارة ‪ ،‬واستوجب العامل أجر مثله ‪ ،‬وإذا خالف كان غاصبا لوجود التّعدّي منه‬
‫على مال غيره ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬قراض ‪ ،‬شركة ) ‪.‬‬
‫‪ - 12‬هذا وقد سبق الكلم عن التّعدّي في الصّدقة ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬والكل ‪ ،‬والشّرب ‪ ،‬في‬
‫مصطلح ( إسراف ) ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬التّعدّي على النّفس وما دونها ‪:‬‬
‫‪ - 13‬التّعدّي على البدان بما يوجب قصاصا أو غيره هو ‪ :‬قتل الدميّ بغير حقّ ‪ ،‬بأن ل‬
‫يكون مرتدّا ‪ ،‬أو زانيا محصنا ‪ ،‬أو قاتل لمكافئه ‪ ،‬أو حربيّا ‪ ( .‬ومثله قتل الصّائل ) ‪.‬‬
‫والتّعدّي على النّفس وما دونها ‪ :‬يكون بالمباشرة أو بالتّسبّب ‪ ،‬كمن حفر بئرا أو حفرة في‬
‫غير ملكه فوقع فيه إنسان ‪ .‬أو بالسّبب ‪ ،‬كالكراه على التّعدّي ‪.‬‬
‫ل واحد منها يلحق ضررا بالغير ‪.‬‬
‫والتّعدّي بأنواعه يوجب الضّمان ‪ ،‬لنّ ك ّ‬
‫أمّا القتل من غير تعدّ ‪ -‬وهو القتل بحقّ ‪ -‬فل ضمان فيه ‪ ،‬كرجم الزّاني ‪.‬‬
‫والتّعدّي على النّفس يكون بالقتل عمدا أو شبه عمد ‪ -‬عند الجمهور ‪ -‬أو قتل خطأ ‪ .‬ويجب‬
‫بالقتل العمد ‪ :‬القود ‪ ،‬أو الدّية ‪ .‬ويجب في شبه العمد والخطأ ‪ :‬الدّية فقط ‪ ،‬على تفصيل ينظر‬
‫في ( جناية ‪ ،‬قتل ‪ ،‬قصاص ) ‪.‬‬
‫أمّا التّعدّي على ما دون النّفس ‪ ،‬فإن كان عمدا ففيه القصاص ‪ ،‬أو الدّية ‪ ،‬وإن كان خطأ ففيه‬
‫الدّية ‪ .‬على خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬جناية ‪ ،‬جراح ‪ ،‬قصاص ) ‪.‬‬
‫ومثل التّعدّي بإتلف العضو ‪ :‬التّعدّي بإتلف منفعة العضو ‪ ،‬ففيه الضّمان أيضا ‪.‬‬
‫‪ - 14‬وقد سبق الكلم عن التّعدّي في العقوبات والقصاص والتّعزير في مصطلح ‪:‬‬
‫( إسراف ) ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬التّعدّي على العرض ‪:‬‬
‫‪ - 15‬التّعدّي على العراض حرام ‪ ،‬لنّ العراض يجب أن تصان من الدّنس ‪ ،‬وقد أباح‬
‫السلم دم من اعتدى على العرض ‪ ،‬لنّ حفظ العراض من مقاصد الشّريعة ‪ ،‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ { :‬من قتل دون أهله فهو شهيد } ‪ ،‬وجه الدّللة في هذا الحديث الشّريف ‪:‬‬
‫ن الدّفاع عن العرض واجب ‪ ،‬لنّه ل سبيل‬
‫أنّه لمّا جعله شهيدا دلّ أنّ له القتل والقتال ‪ .‬وأ ّ‬
‫إلى إباحته ‪ .‬وسواء في ذلك بضع زوجته أو غيره ‪ .‬ومثل الدّفاع عن البضع ‪ :‬الدّفاع عن‬
‫مقدّماته كالقبلة وغيرها ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬صيال ) ‪.‬‬
‫تاسعا ‪ :‬تعدّي البغاة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬ما يتلفه البغاة ‪ -‬إذا تحقّقت فيهم الشّروط ‪ -‬من نفس أو مال ‪ ،‬ينظر إن كان أثناء القتال‬
‫فل ضمان ‪ ،‬وإن كان في غير قتال ضمنوا النّفس والمال ‪ ،‬وهذا القدر هو ما عليه جمهور‬
‫العلماء وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬بغاة ) ‪.‬‬
‫عاشرا ‪ :‬التّعدّي في الحروب ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يجب مراعاة الحكام الشّرعيّة في الحروب بين المسلمين والكفّار ‪ ،‬فل يجوز قتال من‬
‫لم تبلغهم الدّعوة ‪ ،‬حتّى ندعوهم إلى السلم ‪ ،‬على خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ‪:‬‬
‫( دعوة ) ‪ .‬ول يجوز في الحروب قتل من لم يحمل السّلح من الصّبيان ‪ ،‬والمجانين ‪،‬‬
‫والنّساء ‪ ،‬والشّيخ الكبير ‪ ،‬والرّاهب ‪ ،‬والزّمن ‪ ،‬والعمى ‪ -‬بل خلف بين الفقهاء ‪ -‬إل إذا‬
‫اشتركوا في القتال ‪ ،‬أو كانوا ذا رأي وتدبير ومكايد في الحرب ‪ ،‬أو أعانوا الكفّار بوجه من‬
‫الوجوه ‪ ،‬كما ل يجوز العتداء على السرى ‪ ،‬بل يجب الحسان إليهم ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ينظر ‪ ( :‬جهاد ‪ ،‬جزية ‪ ،‬أسرى ) ‪.‬‬
‫التّعدّي بالطلق الثّاني بمعنى النتقال ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تعدّي العلّة ‪:‬‬
‫العلّة ‪ :‬هي المعنى الّذي شرع الحكم عنده تحصيل للمصلحة ‪.‬‬
‫‪ - 18‬وهي ‪ :‬إمّا أن تكون متعدّية ‪ ،‬أو قاصرة وتسمّى ( ناقصة ) ‪.‬‬
‫ل النّصّ إلى‬
‫فالمتعدّية ‪ :‬هي الّتي يثبت وجودها في الصل والفروع ‪ ،‬أي ‪ :‬أنّها تتعدّى من مح ّ‬
‫غيره ‪ ،‬كعلّة السكار ‪.‬‬
‫ل في الطّواف ‪ ،‬في الشواط الثّلثة‬
‫والقاصرة ‪ :‬هي الّتي ل تتعدّى محلّ الصل ‪ ،‬كالرّمَ ِ‬
‫ن التّعليل بالعلّة‬
‫الولى ‪ ،‬لظهار الجلد والقوّة للمشركين ‪ .‬وقد اتّفق الصوليّون ‪ :‬على أ ّ‬
‫ن القياس ل يتمّ إل بعلّة متعدّية إلى الفرع ‪ ،‬ليلحق بالصل ‪.‬‬
‫المتعدّية صحيح ‪ ،‬ل ّ‬
‫واختلفوا في التّعليل بالعلل القاصرة ‪ .‬ومحلّ تفصيل ذلك الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعدّي بالسّراية ‪:‬‬
‫‪ - 19‬ومثاله ‪ :‬إذا أوقد شخص نارا في أرضه أو في ملكه ‪ ،‬أو في موات حجره ‪ ،‬أو فيما‬
‫يستحقّ النتفاع به ‪ ،‬فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها ‪ ،‬فإن كان اليقاد بطريقة من‬
‫شأنها ألّا تنتقل النّار إلى ملك الغير ‪ -‬فإنّه ل يضمن ‪ ،‬وإل فإنّه يضمن لتعدّيه ‪ ،‬سواء كان‬
‫إيقاد النّار ‪ ،‬والرّيح عاصف ‪ ،‬أم باستعمال موا ّد تنتشر معها النّار أو غير ذلك ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر ( ضمان ‪ ،‬إحراق ) ‪.‬‬
‫آثار التّعدّي ‪:‬‬
‫ن التّعدّي يكون على المال ‪ ،‬وعلى النّفس وما دونها ‪ ،‬وعلى العرض ‪ ،‬وللتّعدّي‬
‫‪ - 20‬سبق أ ّ‬
‫بأنواعه آثار نجملها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬الضّمان ‪ :‬وذلك فيما يخصّ الموال بالغصب والتلف ‪ ،‬وما سوى ذلك ‪ ،‬أو فيما‬
‫يخصّ القتل بأنواعه ‪ ،‬إذا صولح في عمده على مال ‪ ،‬أو عفا أحد الولياء عن القصاص ‪-‬‬
‫ومثل ذلك الجناية على ما دون النّفس ‪ .‬وللتّفصيل ينظر كلّ في بابه ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬القصاص ‪ :‬ويكون في العمد من قتل أو قطع عضو أو إتلفه ممّا فيه القصاص ‪،‬‬
‫وينظر في مصطلح ‪ ( :‬قتل ‪ ،‬قصاص ) ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬الحدّ ‪ :‬وهو أثر من آثار التّعدّي في السّرقة ‪ ،‬والزّنى ‪ ،‬والقذف ‪ ،‬وما إلى ذلك ‪،‬‬
‫وينظر كلّ في مصطلحه ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬التّعزير ‪ :‬وهو حقّ المام يعاقب به الجناة ويكون التّعزير ‪ :‬بالحبس أو بالجلد أو بما‬
‫يراه الحاكم مناسبا ‪ .‬انظر مصطلح ‪ ( :‬تعزير ) ‪.‬‬
‫‪ - 5 -‬المنع من الميراث ‪ :‬وذلك كقتل الوارث مورّثه ‪ ،‬على خلف بين الفقهاء في العمد‬
‫وغيره ‪ .‬انظر مصطلح ‪ ( :‬إرث ) ‪.‬‬

‫تعديل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬للتّعديل في اللّغة معنيان ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّسوية والتّقويم ‪ ،‬يقال ‪ :‬عدّل الحكم والشّيء تعديلً ‪ :‬أقامه‪ ،‬والميزان ‪ :‬سوّاه فاعتدل‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّزكية ‪ ،‬يقال ‪ :‬عدّل الشّاهد أو الرّاوي تعديلً ‪ :‬نسبه إلى العدالة ووصفه بها ‪ .‬ومعناه‬
‫في الصطلح الشّرعيّ ‪ ،‬ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّجريح ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّجريح في اللّغة ‪ :‬مصدر جرّحه ‪ ،‬يقال ‪ :‬جرّحت الشّاهد ‪ :‬إذا أظهرت فيه ما تردّ به‬
‫شهادته ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تعديل الشّهود ‪:‬‬
‫‪ - 3‬ذهب الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬والمالكيّة وأبو يوسف ‪ ،‬ومحمّد إلى أنّه ‪ :‬يجب على القاضي‬
‫أن يطلب تعديل الشّهود إذا لم يعلم عدالتهم ‪ ،‬سواء أطعن الخصم أم لم يطعن ‪ ،‬ول يجوز له‬
‫قبول شهادتهم بغير تعديل ‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬يقبل الحاكم شهادة الشّاهد المسلم الظّاهر العدالة ‪ ،‬ول يسأل عن حال الشّهود‬
‫حتّى يطعن الخصم ‪ ،‬لقول النّبيّ عليه الصلة والسلم ‪ « :‬المسلمون عدول بعضهم على‬
‫بعض ‪ ،‬إل محدودا في فرية » ‪.‬‬
‫ن الحدود تدرأ‬
‫واستثني من هذا شهود الحدود ‪ ،‬والقصاص فيشترط عنده الستقصاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالشّبهات ‪ .‬وفي تعديل الشّهود ورواة الحديث تفصيلت وخلف تنظر في ( تزكية ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعديل الركان في الصّلة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على وجوب تعديل الركان في الصّلة ‪ ،‬بمعنى الطّمأنينة فيها ‪ ،‬من ركوع‬
‫‪ ،‬وسجود وجلوس بين السّجدتين واعتدال من الرّكوع ‪ ،‬إل أنّ الحنفيّة قالوا بالوجوب دون‬
‫الفرضيّة ‪ ،‬على اصطلحهم ‪ -‬بمعنى ‪ :‬أنّه يأثم بترك الواجب عمدا ‪ ،‬وتجب إعادة الصّلة ‪،‬‬
‫ن التّعديل في المذكورات واجب ‪،‬‬
‫لرفع الثم مع صحّتها ‪ -‬دون الفرض ‪ .‬وقال الجمهور ‪ :‬إ ّ‬
‫بمعنى ‪ :‬أنّه فرض وركن ‪ ،‬تبطل الصّلة بتركه ‪ ،‬عمدا أو سهوا ‪.‬‬
‫ودليل المسألة حديث المسيء صلته المعروف ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬قسمة التّعديل ‪:‬‬
‫‪ - 5‬وهي ‪ :‬أن تقسم العين المشتركة باعتبار القيمة ‪ ،‬ل بعدد الجزاء ‪ ،‬كأرض مثل تختلف‬
‫قيمة أجزائها باختلفها في قوّة النبات ‪ ،‬أو القرب من الماء ‪ ،‬أو بسقي بعضها بالنّهر ‪،‬‬
‫وبعضها بالنّاضح أو بغير ذلك ‪ .‬فيكون ثلثها مثل يساوي بالقيمة ثلثيها ‪ ،‬فتقسم قسمة التّعديل ‪.‬‬
‫فيجعل الثّلث سهما والثّلثان سهما ‪ ،‬إلحاقا للتّساوي بالقيمة بالتّساوي في الجزاء ‪ .‬وينظر‬
‫التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬قسمة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعديل في دم جزاء الصّيد في المناسك ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّ جزاء الصّيد المثليّ على التّخيير والتّعديل ‪ ،‬فيجوز فيه‬
‫العدول عن المثل إلى قيمة المثل ‪ ،‬أو قيمة الصّيد ‪ ،‬على اختلف بينهم في ذلك ‪ ،‬يرجع إلى‬
‫ص ْيدَ وَأ ْنتُ ْم حُ ُرمٌ } ‪ ،‬أمّا غير‬
‫موطنه ‪ .‬واستدلّوا بقوله تعالى ‪ { :‬يَا َأيّها الّذينَ آ َمنُوا ل َت ْقتُلُوا ال ّ‬
‫ل مدّ يوما ‪.‬‬
‫المثليّ من الصّيد فيتصدّق بقيمته طعاما ‪ ،‬أو يصوم عن ك ّ‬
‫أمّا باقي الدّماء الواجبة بترك واجب ‪ ،‬أو ارتكاب منهيّ ‪ ،‬ففي جواز التّعديل فيها خلف بين‬
‫الفقهاء ‪ ،‬وتفصيله في ( إحرام ) ‪.‬‬

‫تعذيب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعذيب ‪ :‬مصدر عذّب ‪ ،‬يقال ‪ :‬عذّبه تعذيبا ‪ :‬إذا منعه ‪ ،‬وفطمه عن المر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫قال ابن فارس ‪ :‬أصل العذاب الضّرب ‪ ،‬ثمّ استعير ذلك في كلّ شدّة ‪ ،‬يقال منه ‪ :‬عذّب تعذيبا‬
‫ضعْ َفيْنِ }‪.‬‬
‫عفُ لَها ال َعذَابُ ِ‬
‫والعذاب ‪ :‬اسم بمعنى النّكال والعقوبة ‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪ُ { :‬يضَا َ‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّعزير ‪ :‬تفعيل من العزر ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬المنع والجبار على المر ‪ ،‬وأصله النّصرة‬
‫والتّعظيم ‪.‬‬
‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬عبارة عن التّأديب دون الحدّ ‪ .‬وكلّ ما ليس فيه حدّ مقدّر شرعا‬
‫ن التّعزير ل يكون إل بحقّ‬
‫فموجبه التّعزير ‪ .‬والتّعذيب أع ّم من التّعزير من وجه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي ‪ ،‬بخلف التّعذيب ‪ .‬فقد يكون ظلما وعدوانا ‪ .‬والتّعزير أعمّ من حيث ما يكون به‬
‫شرع ّ‬
‫التّعزير ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّأديب ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّأديب مصدر أدّب ‪ ،‬مضعّفا ‪ ،‬وثلثيّه ‪ :‬أدب ‪ ،‬من باب ضرب ‪ ،‬يقال ‪ :‬أدّبته أدبا ‪ ،‬أي‬
‫علّمته رياضة النّفس ‪ ،‬ومحاسن الخلق ‪ .‬ويقال ‪ :‬أدّبته تأديبا مبالغة وتكثيرا ‪ :‬أي عاقبته‬
‫ن التّأديب سبب يدعو إلى حقيقة الدب ‪.‬‬
‫على إساءته ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن فيه‬
‫والنّسبة بين التّعذيب والتّأديب ‪ :‬عموم وخصوص من وجه ‪ ،‬يجتمعان في التّعزير ‪ ،‬ل ّ‬
‫تعذيبا وتأديبا ‪ .‬ويفترق التّعذيب عن التّأديب في التّعذيب الممنوع شرعا ‪ ،‬فإنّه تعذيب ‪ ،‬وليس‬
‫تأديبا ‪ ،‬ويفترق التّأديب عن التّعذّب في التّأديب بالكلم والنّصح من غير ضرب ‪ ،‬فإنّه تأديب‬
‫ول يطلق عليه تعذيب ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّمثيل ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّمثيل ‪ :‬مصدر مثّل ‪ .‬وأصله الثّلثيّ ‪ :‬مثل ‪ ،‬يقال ‪ :‬مثلّث بالقتيل ‪ :‬إذا جدعته ‪،‬‬
‫وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلً والتّشديد مبالغة ‪ ،‬والسم المثلة ‪ -‬وزان غرفة ‪ -‬والمثلة ‪-‬‬
‫بفتح الميم وضمّ الثّاء ‪ :‬العقوبة ‪ .‬والنّسبة بين التّعذيب والتّمثيل ‪ ،‬عموم وخصوص مطلق ‪.‬‬
‫فالتّعذيب أع ّم من التّمثيل ‪ ،‬فكلّ تمثيل تعذيب ‪ ،‬وليس ك ّل تعذيب تمثيلً ‪ .‬ول فرق في ذلك‬
‫ن الميّت يتأذّى بما يتأذّى به الحيّ ‪.‬‬
‫بين الحيّ والميّت ‪ ،‬لنّ الثار تدلّ ‪ :‬على أ ّ‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يختلف حكم التّعذيب باختلف الحوال والسباب ‪ .‬والدّواعي للتّعذيب بعضها يرجع إلى‬
‫قصد المعذّب ‪ ،‬سواء أكان بالطّريق المباشر ‪ ،‬أم غير المباشر ‪.‬‬
‫ن اللّه يعذّب يوم‬
‫التّعذيب في الصل ممنوع شرعا ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫القيامة الّذين يعذّبون النّاس في الدّنيا » ‪.‬‬
‫ن الّذي يتولّى القصاص فيما دون النّفس ‪ :‬هو المام ‪ ،‬وليس للولياء‬
‫وجمهور الفقهاء على أ ّ‬
‫ذلك ‪ ،‬لنّه ل يؤمن منهم التّجاوز ‪ ،‬أو التّعذيب ‪.‬‬
‫وأمّا في النّفس ‪ ،‬فالحنابلة اشترطوا حضور المام ‪ ،‬أو نائبه ‪ ،‬للحتراز عن التّعذيب ‪.‬‬
‫أنواع التّعذيب ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ينقسم التّعذيب إلى قسمين ‪ :‬الوّل ‪ :‬تعذيب النسان ‪ .‬الثّاني ‪ :‬تعذيب الحيوان ‪.‬‬
‫وك ّل منهما ينقسم ‪ :‬إلى مشروع ‪ ،‬وغير مشروع ‪ ،‬فالقسام أربعة وهي ‪:‬‬
‫‪ -1 -‬التّعذيب المشروع للنسان ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬التّعذيب غير المشروع للنسان ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬التّعذيب المشروع للحيوان ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬التّعذيب غير المشروع للحيوان ‪.‬‬
‫‪ - 7‬أمّا الوّل ‪ :‬فهو التّعذيب الّذي أمر به الشّارع على وجه الفرضيّة ‪ ،‬كالحدود ‪ ،‬والقصاص‬
‫‪ ،‬والتّعزيرات بأنواعها ‪ .‬أو على وجه النّدب ‪ :‬كتأديب الولد ‪ .‬أو على وجه الباحة ‪ ،‬كالكيّ‬
‫في التّداوي ‪ ،‬إذا تعيّن علجا فإنّه مباح ‪.‬‬
‫وإذا لم تكن الحاجة لجل التّداوي فإنّه حرام ‪ ،‬لنّه تعذيب بالنّار‪ ،‬ول يعذّب بالنّار إل خالقها‪.‬‬
‫ومن المشروع رمي العداء بالنّار ولو حصل تعذيبهم بها ‪ ،‬وذلك عند عدم إمكان أخذهم بغير‬
‫ن الصّحابة والتّابعين فعلوا ذلك في غزواتهم ‪ ،‬وأمّا تعذيبهم بالنّار بعد القدرة‬
‫التّحريق ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫عليهم فل يجوز ‪ ،‬لما روى حمزة السلميّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫وسلم أمّره على سريّة وقال له ‪ :‬إن وجدتم فلنا فاحرقوه بالنّار فولّيت فناداني ‪ ،‬فرجعت إليه‬
‫فقال ‪ :‬إن وجدتم فلنا فاقتلوه ‪ ،‬ول تحرقوه ‪ ،‬فإنّه ل يعذّب بالنّار إل ربّ النّار » وتفصيل‬
‫ذلك في مصطلح ( إحراق ‪ ) 125/ 2‬ومن أنواع التّعذيب المشروع ‪ :‬ضرب الب أو المّ‬
‫ولدهما تأديبا ‪ ،‬وكذلك الوصيّ ‪ ،‬أو المعلّم بإذن الب تعليما ‪.‬‬
‫وذكر في القنية ‪ :‬له إكراه طفله على تعلّم القرآن ‪ ،‬والدب ‪ ،‬والعلم ‪ ،‬لفرضيّته على‬
‫الوالدين ‪ ،‬وله ضرب اليتيم فيما يضرب ولده ‪ ،‬والمّ كالب في التّعليم ‪ ،‬بخلف التّأديب ‪،‬‬
‫فإنّه لو مات الصّبيّ بضرب المّ تأديبا فعليها الضّمان ‪.‬‬
‫ن ضرب التّأديب مقيّد بوصف السّلمة ‪ ،‬ومحلّه في الضّرب المعتاد ‪ ،‬كمّا وكيفا‬
‫وممّا يذكر ‪ :‬أ ّ‬
‫ومحلً ‪ ،‬فلو ضربه على الوجه أو على المذاكير يجب الضّمان بل خلف ‪ ،‬ولو سوطا واحدا‬
‫ن الصّحابة‬
‫‪ ،‬لنّه إتلف ‪ .‬ومن التّعذيب المشروع للنسان ثقب أذن الطّفل من البنات ‪ ،‬ل ّ‬
‫كانوا يفعلونه في زمن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من غير نكير ‪.‬‬
‫تعذيب المتّهم ‪:‬‬
‫‪ - 8‬قسّم الفقهاء المتّهم بسرقة ونحوها إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫إمّا أن يكون المتّهم معروفا بالصّلح ‪ ،‬فل تجوز عقوبته اتّفاقا ‪.‬‬
‫وإمّا أن يكون المتّهم مجهول الحال ل يعرف ببرّ ول فجور ‪ ،‬فهذا يحبس حتّى ينكشف حاله ‪،‬‬
‫وهذا عند جمهور الفقهاء ‪ .‬والمنصوص عليه عند أكثر الئمّة ‪ :‬أنّه يحبسه القاضي والوالي ‪،‬‬
‫لما روى أبو داود في سننه ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬من حديث بهز بن حكيم ‪ .‬عن أبيه ‪ ،‬عن جدّه ‪ « :‬أنّ‬
‫حبَس في تهمة » ‪.‬‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم َ‬
‫وإمّا أن يكون المتّهم معروفا بالفجور ‪ ،‬كالسّرقة ‪ ،‬وقطع الطّريق ‪ ،‬والقتل ‪ ،‬ونحو ذلك ‪،‬‬
‫فيجوز حبسه وضربه ‪ ،‬كما « أمر النّبيّ صلى ال عليه وسلم الزّبير رضي ال عنه ‪ ،‬بتعذيب‬
‫المتّهم الّذي غيّب ماله حتّى أقرّ به » ‪.‬‬
‫ن المدّعى عليه في جميع هذه‬
‫وقال ابن تيميّة ‪ :‬ما علمت أحدا من أئمّة المسلمين يقول ‪ :‬إ ّ‬
‫الدّعاوى يحلف ‪ ،‬ويرسل بل حبس ‪ ،‬ول غيره ‪ .‬وقال البجيرميّ ‪ :‬والظّاهر أنّ الضّرب حرام‬
‫في الشّقّين ‪ ،‬أي سواء كان ضرب ليقرّ ‪ ،‬أو ليصدق‪ ،‬خلفا لما توهّم حلّه إذا ضرب ليصدق‪.‬‬
‫وقال ابن تيميّة ‪ :‬واختلفوا فيه ‪ :‬هل الّذي يضربه الوالي دون القاضي ‪ ،‬أو كلهما ؟ أو ل‬
‫يسوّغ ضربه ‪ ،‬على ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنّه يضربه الوالي والقاضي ‪ ،‬وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد ‪ ،‬منهم‬
‫أشهب بن عبد العزيز ‪ ،‬فإنّه قال ‪ :‬يمتحن بالحبس والضّرب ‪ ،‬ويضرب بالسّوط مجرّدا ‪.‬‬
‫القول الثّاني ‪ :‬أنّه يضربه الوالي دون القاضي ‪ ،‬وهذا قول بعض أصحاب الشّافعيّ ‪ ،‬وأحمد‪.‬‬
‫القول الثّالث ‪ :‬أنّه يحبس ول يضرب ‪ ،‬وهذا قول أصبغ ‪ ،‬ثمّ قالت طائفة ‪ ،‬منهم عمر بن عبد‬
‫العزيز ‪ ،‬ومطرّف ‪ ،‬وابن الماجشون ‪ :‬إنّه يحبس حتّى يموت ‪.‬‬
‫‪ - 9‬أمّا النّوع الثّاني ‪ :‬وهو التّعذيب غير المشروع للنسان ‪ ،‬فمنه تعذيب السرى ‪ ،‬فقد ذكر‬
‫ن السلم يدعو إلى الرّفق بالسرى ‪ ،‬وإطعامهم ‪ ،‬قال اللّه‬
‫الفقهاء عدم جواز تعذيبهم ‪ ،‬ل ّ‬
‫سكِينَا َو َي ِتيْمَا وََأسِيرَا }‬
‫حبّه ِم ْ‬
‫طعَامَ عَلَى ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫ط ِعمُو َ‬
‫تعالى ‪َ { :‬و ُي ْ‬
‫وفي الحديث الشّريف « ل تجمعوا عليهم حرّ الشّمس ‪ ،‬وحرّ السّلح ‪ ،‬قيلوهم حتّى يبردوا »‬
‫وهذا الكلم في أسارى بني قريظة ‪ ،‬حينما كانوا في الشّمس ‪.‬‬
‫ح حبس السير من غير تعذيب ‪ ،‬وإذا رجي أن يدلّ على‬
‫وإذا كان هناك خوف الفرار ‪ ،‬فيص ّ‬
‫أسرار العد ّو جاز تهديده وتعذيبه بالقدر الكافي ‪ ،‬لتحقيق ذلك ‪ ،‬ودليل ذلك ‪ :‬ما روي عن‬
‫الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أنّه أمر الزّبير بن العوّام بتعذيب من كتم خبر المال ‪ ،‬الّذي‬
‫كان صلى ال عليه وسلم قد عاهدهم عليه ‪ ،‬وقال له ‪ :‬أين كنز حييّ بن أخطب ؟ فقال ‪ :‬يا‬
‫محمّد ‪ ،‬أنفذته النّفقات والحروب ‪ ،‬فقال ‪ :‬المال كثير والمسألة أقرب ‪ ،‬وقال للزّبير ‪ :‬دونك‬
‫هذا ‪ .‬فمسّه الزّبير بشيء من العذاب ‪ ،‬فدلّهم على المال » ‪.‬‬
‫لكن إذا كانوا يعذّبون أسرى المسلمين يجوز معاملتهم بالمثل ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَإِنْ عَا َق ْبتُمْ‬
‫ع َتدُوا عَلَيه‬
‫ع َتدَى عَليكُم فَا ْ‬
‫ت قِصَاصٌ َفمَنْ ا ْ‬
‫حرُمَا ُ‬
‫َفعَا ِقبُوا ِب ِمثْلِ مَا عُوقِ ْب ُتمْ بِه } وقوله أيضا { وَال ُ‬
‫عتَدى عَلَيكُم } قال الباجيّ ‪ :‬ل يمثّل بالسير ‪ ،‬إل أن يكونوا مثّلوا بالمسلمين ‪ .‬وقال‬
‫ِب ِمثْلِ مَا ا ْ‬
‫ابن حبيب ‪ :‬قتل السير بضرب عنقه ‪ ،‬ل يمثّل به ‪ ،‬ول يعبث عليه ‪ .‬قيل لمالك ‪ :‬أيضرب‬
‫ب الرّقَاب } ل خير في العبث ‪.‬‬
‫وسطه ؟ فقال ‪ :‬قال اللّه سبحانه { َفضَرْ َ‬
‫‪ -‬وأمّا النّوع الثّالث ‪ :‬وهو التّعذيب المشروع للحيوان ‪ -‬فقد ذكروا له أمثلة ‪ ،‬منها ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫أ ‪ -‬تعذيب ماشية الزّكاة والجز ية بالوسم ‪ -‬ف قد ذ هب الفقهاء إلى جوازه ‪ ،‬ل ما روي من ف عل‬
‫ال صّحابة في ماشية الزّكاة والجزية ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ :‬ل بأس بك يّ البهائم للعلمة ‪ ،‬لنّهم كانوا‬
‫يفعلون ذلك في زمن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من غير إنكار ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إلقاء السّمك الحيّ في النّار ليصير مشويّا فإنّ المالكيّة ذهبوا ‪ :‬إلى جوازه ‪ ،‬وذهب أحمد‬
‫شين‬
‫ّ‬ ‫أنن هذا العمنل مكروه ‪ ،‬ومنع هذا فقند رأى جواز أكله ‪ ،‬وهذا بخلف‬
‫بنن حنبنل ‪ :‬إلى ّ‬
‫الجراد حيّا ‪ ،‬فإنّه يجيزه من غير كراهة ‪ ،‬لما أثر أنّ الصّحابة فعلوا ذلك ‪ ،‬من غير نكير ‪ .‬ج‬
‫‪ -‬ومن ذلك التّعذيب الجائز ‪ :‬ضرب الحيوان بقدر ما يحصل به التّعليم والتّرويض ‪ ،‬ويخاصم‬
‫الضّارب فيما زاد على القدر الّذي يحتاج إليه ‪ ،‬كما في البحر الرّائق ‪.‬‬
‫‪ - 11‬وأمّا النّوع الرّابع ‪ :‬وهو التّعذيب " غير المشروع " للحيوان ‪:‬‬
‫فمنه ‪ :‬تعذيب الحيوان بالمنع من الكل والشّرب ‪ ،‬لحديث ابن عمر رضي ال عنهما ‪ « :‬أنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬دخلت امرأة النّار في هرّة ربطتها ‪ ،‬فلم تطعمها ‪ ،‬ولم تدعها‬
‫تأكل من خشاش الرض » ‪.‬‬
‫ومنه ‪ :‬اتّخاذ ذي روح غرضا ‪ ،‬أي هدفا للرّمي ‪.‬‬
‫ومنه ‪ :‬قطع رأس الحيوان المذبوح وسلخه قبل أن يبرد ‪ ،‬ويسكن عن الضطراب ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ - 12‬ذكر الفقهاء التّعذيب في مواضع شتّى سبق ذكر عدد منها خلل البحث ‪.‬‬
‫ومنها أيضا ‪ :‬الجنايات ‪ ،‬والتّعزيرات ‪ ،‬والتّأديب ‪ ،‬والتّذكية ‪ ،‬والسر ‪ ،‬والسّياسة الشّرعيّة ‪،‬‬
‫والجهاد ( السّير ) ‪.‬‬

‫تعريض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعريض ‪ :‬لغة ضدّ التّصريح ‪ ،‬يقال ‪ :‬عرّض لفلن وبفلن ‪ :‬إذا قال قولً عامّا ‪ ،‬وهو‬
‫يعني فلنا ‪ ،‬ومنه ‪ :‬المعاريض في الكلم ‪ ،‬كقولهم ‪ :‬إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ‪ :‬ما يفهم به السّامع مراد المتكلّم من غير تصريح ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الكناية‬
‫‪ - 2‬الكناية ‪ :‬وهي ذكر اللزم ‪ ،‬وإرادة الملزوم ‪ .‬والفرق بين الكناية والتّعريض ‪ :‬أنّ‬
‫التّعريض هو تضمين الكلم دللة ليس فيها ذكر ‪ ،‬كقول المحتاج ‪ :‬جئتك لسلّم عليك ‪ ،‬فيقصد‬
‫من اللّفظ السّلم ‪ ،‬ومن السّياق طلب الحاجة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّورية ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّورية ‪ :‬وهي أن تطلق لفظا ظاهرا قريبا في معنى ‪ ،‬تريد به معنى آخر بعيدا يتناوله‬
‫ذلك اللّفظ ‪ ،‬لكنّه خلف ظاهره ‪.‬‬
‫ص من التّعريض ‪،‬‬
‫ن فائدة التّورية تراد من اللّفظ ‪ ،‬فهي أخ ّ‬
‫والفرق بينها وبين التّعريض ‪ :‬أ ّ‬
‫الّذي قد يفهم المراد منه من السّياق والقرائن ‪ ،‬أو اللّفظ ‪ ،‬فهو أعمّ ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّعريض بحسب موضوعه كما يلي ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّعريض في الخطبة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في حرمة التّعريض بالخطبة لمنكوحة الغير ‪ ،‬والمعتدّة من طلق‬ ‫‪4‬‬

‫رجعيّ ‪ ،‬لنّها في حكم المنكوحة ‪ ،‬كما اتّفق الفقهاء على حرمة التّعريض لمخطوبة من صرّح‬
‫بإجابته وعلمت خطبته ‪ ،‬ولم يأذن الخاطب ولم يعرّض عنها ‪.‬‬
‫لخبر ‪ « :‬ل يخطب الرّجل على خطبة أخيه ‪ ،‬حتّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب »‬
‫ر ‪ :‬مصطلح ‪ ( :‬خِطبة ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعريض بخطبة المعتدّة غير الرّجعيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى جواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة عن وفاة ‪ ،‬ولم نقف على‬ ‫‪5‬‬

‫ل للشّافعيّة ‪ ،‬مؤدّاه ‪ :‬إن كا نت عدّة الوفاة بالح مل لم يعرّض ل ها ‪،‬‬


‫خلف بين هم في ها ‪ ،‬إل قو ً‬
‫خوفا من تكلّف إلقاء الجنين ‪ ،‬وهو قول ضعيف عندهم ‪.‬‬
‫خطْبَ ِة ال ّنسَاءِ أو َأ ْك َن ْن ُتمْ‬
‫ن ِ‬
‫ض ُتمْ بِه مِ ْ‬
‫عرّ ْ‬
‫جنَاحَ عَلَي ُكمْ فيما َ‬
‫واستدلّ الجمهور بقوله تعالى ‪ { :‬وَل ُ‬
‫سكُمْ } ‪ .‬لنّها وردت في عدّة الوفاة ‪ ،‬كما قال جمهور المفسّرين ‪.‬‬
‫في َأ ْن ُف ِ‬
‫واختلفوا في جواز التّعريض للمعتدّة من طلق بائن أو فسخ فذهب المالكيّة والشّافعيّة في‬
‫ل التّعريض لبائن معتدّة بالقراء أو الشهر ‪ ،‬وذلك‬
‫الظهر ‪ ،‬والحنابلة في قول ‪ :‬إلى أنّه يح ّ‬
‫لعموم الية ‪ ،‬ولنقطاع سلطة الزّوج عليها ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين أن تكون بائنا بينونة‬
‫صغرى أو كبرى ‪ ،‬أو بفسخ ‪ ،‬أو فرقة بلعان ‪ ،‬أو رضاع ‪ ،‬في الظهر عندهم ‪ .‬وهو مذهب‬
‫مالك ‪ ،‬وأحمد ‪ .‬ومقابل الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وأحد قولي أحمد ‪ :‬ل يحلّ التّعريض للبائن‬
‫بطلق رجعيّ ‪ ،‬لنّ لصاحب العدّة المنتهية أن ينكحها بنكاح جديد ‪ ،‬فأشبهت الرّجعيّة ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أنّه ل يحلّ التّعريض لمعتدّة من طلق بنوعيه ‪ ،‬لفضائه إلى عداوة‬
‫المطلّق ‪ .‬ونقل ابن عابدين عن الفتح " الجماع " بين فقهاء الحنفيّة على حرمة التّعريض‬
‫للمعتدّة من طلق مطلقا ‪ ،‬ويجوز التّعريض عندهم للمعتدّة من نكاح فاسد ‪ ،‬ووطء شبهة ‪.‬‬
‫وجواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة مرتبط بجواز خروج المعتدّة ‪ ،‬فمن يجوز لها الخروج من‬
‫بيت العدّة ‪ ،‬يجوز التّعريض بالخطبة لها ‪ ،‬ومن ل يجوز لها الخروج ل يجوز التّعريض لها‬
‫عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ألفاظ التّعريض بالخطبة ‪:‬‬
‫ل لفظ يحتمل الخطبة وغيرها ‪ ،‬ولكنّ الفقهاء يذكرون ألفاظا للتّمثيل له‬
‫‪ - 6‬التّعريض ‪ :‬هو ك ّ‬
‫ن اللّه ساق لك خيرا ‪ ،‬ربّ راغب فيك ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫‪ :‬كأنت جميلة ‪ ،‬ومن يجد مثلك ؟ وأ ّ‬
‫ثالثا ‪ :‬التّعريض بالقذف ‪:‬‬
‫‪ - 7‬اختلف الفقهاء في وجوب الح ّد بالتّعريض بالقذف ‪ ،‬فذهب مالك ‪ :‬إلى أنّه إذا عرّض‬
‫بالقذف غير أب يجب عليه الح ّد ‪ -‬إن فهم القذف بتعريضه بالقرائن ‪ ،‬كخصام بينهم ‪ ،‬ول‬
‫فرق في ذلك بين النّظم والنّثر ‪ ،‬أمّا الب إذا عرّض لولده فإنّه ل يحدّ لبعده عن التّهمة ‪ .‬وهو‬
‫أحد قولين للمام أحمد ‪ ،‬لنّ عمر رضي ال عنه استشار بعض الصّحابة في رجل قال لخر‬
‫‪ :‬ما أنا بزان ول أمّي بزانية ؟ فقالوا ‪ :‬إنّه قد مدح أباه وأمّه ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬قد عرّض لصاحبه‬
‫‪ ،‬فجلده الحدّ ‪.‬‬
‫ن التّعريض بالقذف ‪ ،‬قذف ‪ .‬كقوله ‪ :‬ما أنا بزان ‪ ،‬وأمّي ليست بزانية ‪،‬‬
‫وعند الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫ولكنّه ل يحدّ ‪ ،‬لنّ الحدّ يسقط للشّبهة ‪ ،‬ويعاقب بالتّعزير ‪ ،‬لنّ المعنى ‪ :‬بل أنت زان ‪.‬‬
‫والتّعريض بالقذف عند الشّافعيّة ‪ ،‬كقوله ‪ :‬يا ابن الحلل ‪ ،‬وأمّا أنا فلست بزان ‪ ،‬وأمّي ليست‬
‫بزانية ‪ ،‬فهذا كلّه ليس بقذف وإن نواه ‪ ،‬لنّ ال ّنيّة إنّما تؤثّر ‪ ،‬إذا احتمل اللّفظ المنويّ ‪ ،‬ول‬
‫ح ‪ .‬وقيل‬
‫دللة هنا في اللّفظ ول احتمال ‪ ،‬وما يفهم منه مستنده قرائن الحوال ‪ .‬هذا هو الص ّ‬
‫‪ :‬هو كناية ‪ ،‬أي عن القذف ‪ ،‬لحصول الفهم واليذاء ‪ .‬فإن أراد النّسبة إلى الزّنى فقذف ‪ ،‬وإل‬
‫فل ‪ .‬وسواء في ذلك حالة الغضب وغيرها ‪ .‬وهو أحد قولي المام أحمد ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّعريض للمسلم بقتل طالبه من الكفّار ‪:‬‬
‫‪ - 8‬يجوز التّعريض للمسلم لقتل من جاء يطلبه ليردّه إلى دار الكفر ‪ ،‬لنّ عمر رضي ال‬
‫عنه قال لبي جندل رضي ال عنه حين ردّ لبيه ‪ :‬اصبر أبا جندل فإنّما هم المشركون ‪،‬‬
‫وإنّما دم أحدهم دم كلب يعرّض له بقتل أبيه ‪.‬‬
‫خامسا ‪ -‬التّعريض للمقرّ بحدّ خالص بالرّجوع ‪:‬‬
‫‪ - 9‬ذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم ‪ :‬إلى أنّه يجوز للقاضي أن يعرّض له بالرّجوع ‪ ،‬كأن‬
‫يقول له في السّرقة ‪ :‬لعلّك أخذت من غير حرز ‪ ،‬وفي الزّنى ‪ :‬لعلّك فاخذت أو لمست ‪ ،‬وفي‬
‫ن ما شربت مسكر لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « قال لمن أقرّ عنده‬
‫الشّرب ‪ :‬لعلّك لم تعلم أ ّ‬
‫بالسّرقة ما إخالك سرقت » فأعاد عليه مرّتين أو ثلثا ‪ ،‬وقال لماعز ‪ « :‬لعلّك قبّلت ‪ ،‬أو‬
‫غمزت ‪ ،‬أو نظرت » ‪ .‬وفي قول عندهم ‪ :‬ل يعرّض له بالرّجوع ‪ ،‬كما ل يصرّح‪ .‬وفي‬
‫ن له الرّجوع ‪ ،‬فإن علم فل يعرّض له ‪ .‬وذهب الحنفيّة ‪،‬‬
‫قول ‪ :‬يعرّض له ‪ ،‬إن لم يعلم أ ّ‬
‫والمام أحمد ‪ :‬إلى أنّ التّعريض مندوب ‪ ،‬لحديث ماعز وتفصيله في الحدود ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يذكر الفقهاء التّعريض في البواب التية ‪ :‬في كتاب النّكاح ‪ ،‬والعدّة ‪ ،‬وفي الحدود ‪:‬‬
‫في القذف ‪ ،‬والرّجوع عن القرار ‪ .‬وفي الهدنة ‪ :‬وفي اليمان في القضاء فقط ‪.‬‬

‫تعريف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعريف ‪ :‬مصدر عرّف ‪ .‬ومن معانيه ‪ :‬العلم والتّوضيح ‪ " ،‬ويقابله التّجهيل " وإنشاد‬
‫الضّالّة ‪ ،‬والتّطييب ‪ ،‬وهو مأخوذ من العرف أي ‪ :‬الرّائحة ‪ ،‬كما قال ابن عبّاس رضي ال‬
‫ع ّر َفهَا َل ُهمْ } أي طيّبها لهم ‪.‬‬
‫جنّةَ َ‬
‫عنهما في قوله تعالى ‪َ { :‬و ُي ْدخِلْهُم ال َ‬
‫والتّعريف ‪ :‬الوقوف بعرفات ‪ .‬ويراد به أيضا ‪ :‬ما يصنعه بعض النّاس في بلدهم يوم‬
‫عرفة ‪ ،‬من التّجمّع والدّعاء ‪ ،‬تشبّها بالحجّاج ‪ .‬ويراد به أيضا ‪ :‬ذهاب الحاجّ بالهدي إلى‬
‫عرفات ‪ ،‬ليعرّف النّاس أنّه هدي ‪.‬‬
‫وأمّا في الصطلح ‪ ،‬فللتّعريف عدّة إطلقات تبعا للعلوم المختلفة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فعند الصوليّين ‪:‬‬
‫‪ - 2‬هو تحديد المفهوم الكّليّ ‪ ،‬بذكر خصائصه ومميّزاته ‪ .‬والتّعريف الكامل ‪ :‬هو ما يساوي‬
‫المعرّف تمّام المساواة ‪ ،‬بحيث يكون جامعا مانعا ‪ .‬والحدّ والتّعريف عند الصوليّين بمعنى‬
‫واحد ‪ ،‬وهو ‪ :‬الجامع المانع ‪ ،‬سواء أكان بالذّاتيّات ‪ ،‬أم بالعرضيّات ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬عند الفقهاء ‪:‬‬
‫‪ - 3‬لم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للتّعريف ‪ ،‬والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة ‪ :‬أنّ‬
‫استعمالهم هذا اللّفظ ل يخرج عن المعاني اللّغويّة ‪ ،‬لكنّهم عند الطلق يريدون المعنى‬
‫الصطلحيّ لدى الصوليّين ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العلن ‪:‬‬
‫‪ - 4‬العلن خلف الكتمان ‪ ،‬والتّعريف أعمّ ‪ ،‬من حيث إنّه قد يكون سرّا ‪ ،‬وقد يكون علنية‬
‫‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الكتمان أو الخفاء ‪:‬‬
‫ن الّذينَ‬
‫‪ - 5‬الكتمان ‪ :‬هو السّكوت عن المعنى ‪ ،‬أو إخفاء الشّيء وستره ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫ن مَا َأ ْنزَ ْلنَا ِمنَ ال َب ّينَاتِ وَال ُهدَى } أي يسكتون عن ذكره ‪ ،‬فالتّعريف مقابل الخفاء‬
‫َي ْك ُتمُو َ‬
‫والكتمان ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّعريف باختلف المعرّف ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬التّعريف في المصار ‪:‬‬
‫‪ - 6‬هو قصد الرّجل مسجد بلده يوم عرفة ‪ ،‬للدّعاء والذّكر ‪ ،‬فهذا هو التّعريف في المصار‬
‫الّذي اختلف العلماء فيه ‪ ،‬ففعله ابن عبّاس ‪ ،‬وعمرو بن حريث رضي ال عنهم ‪ ،‬من‬
‫الصّحابة ‪ ،‬وطائفة من البصريّين ‪ ،‬والمدنيّين ‪ ،‬ورخّص فيه أحمد ‪ ،‬وإن كان مع ذلك ل‬
‫يستحبّه ‪ .‬هذا هو المشهور عنه ‪ .‬وكرهه طائفة من الكوفيّين ‪ ،‬والمدنيّين ‪ ،‬كإبراهيم النّخعيّ ‪،‬‬
‫وأبي حنيفة ‪ ،‬ومالك ‪ ،‬وغيرهم ‪.‬‬
‫ومن كرهه قال ‪ :‬هو من البدع ‪ ،‬فيندرج في العموم ‪ ،‬لفظا ومعنى ‪.‬‬
‫ي بن‬
‫ومن رخّص فيه قال ‪ :‬فعله ابن عبّاس رضي ال عنهما بالبصرة ‪ ،‬حين كان خليفة لعل ّ‬
‫أبي طالب رضي ال عنه ‪ ،‬ولم ينكر عليه ‪ ،‬وما يفعل في عهد الخلفاء الرّاشدين من غير‬
‫إنكار ل يكون بدعة ‪ .‬لكن ما يزاد على ذلك ‪ :‬من رفع الصوات الرّفع الشّديد في المساجد‬
‫بالدّعاء ‪ ،‬وأنواع من الخطب ‪ ،‬والشعار الباطلة ‪ ،‬مكروه في هذا اليوم وغيره ‪.‬‬
‫ج َهرْ‬
‫قال المرّوذيّ ‪ :‬سمعت أبا عبد اللّه يقول ‪ :‬ينبغي أن يسرّ دعاءه ‪ ،‬لقوله ‪ { :‬وَل َت ْ‬
‫ِبصَل ِتكَ وَل ُتخَافِتْ ِبهَا } قال ‪ :‬هذا في الدّعاء ‪ .‬قال ‪ :‬وسمعت أبا عبد اللّه يقول ‪ :‬وكان‬
‫يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدّعاء ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬تعريف اللّقَطة ‪:‬‬
‫ح عند إمام الحرمين والغزاليّ من الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّه‬
‫‪ - 7‬ذهب الئمّة الثّلثة ‪ ،‬وهو الص ّ‬
‫يجب تعريف اللّقطة ‪ ،‬سواء أراد تملّكها ‪ ،‬أم حفظها لصاحبها ‪.‬‬
‫وفيه وجه آخر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وبه قطع الكثرون منهم ‪ ،‬وهو ‪ :‬أنّه ل يجب التّعريف فيما إذا‬
‫قصد الحفظ أبدا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّ التّعريف إنّما يجب لتحقيق شرط التّملّك ‪.‬‬
‫وبيان كيفيّة التّعريف ومدّته ومكانه يرجع إليه في مصطلح ( لقطة ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬التّعريف في الدّعوى ‪:‬‬
‫ن تعريف الشّيء المدّعي والمدّعى عليه ‪ -‬بمعنى كونهما‬
‫‪ - 8‬ل خلف بين الفقهاء ‪ :‬في أ ّ‬
‫ن فائدة الدّعوى‬
‫معلومين ‪ -‬شرط لسماع الدّعوى ‪ ،‬فل بدّ من ذكر ما يعيّنهما ويعرّفهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫اللزام بإقامة الحجّة ‪ ،‬واللزام في المجهول غير متحقّق ‪.‬‬
‫وفي كلّ ذلك خلف وتفصيل ‪ ،‬يذكر في موطنه في مصطلح ( دعوى ) ‪.‬‬

‫تعزير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعزير لغة ‪ :‬مصدر عزّر من العزر ‪ ،‬وهو ال ّردّ والمنع ‪ ،‬ويقال ‪ :‬عزّر أخاه بمعنى ‪:‬‬
‫نصره ‪ ،‬لنّه منع عدوّه من أن يؤذيه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬عزّرته بمعنى ‪ :‬وقّرته ‪ ،‬وأيضا ‪ :‬أدّبته ‪ ،‬فهو‬
‫من أسماء الضداد ‪ .‬وسمّيت العقوبة تعزيرا ‪ ،‬لنّ من شأنها أن تدفع الجاني وتردّه عن‬
‫ارتكاب الجرائم ‪ ،‬أو العودة إليها ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هو عقوبة غير مقدّرة شرعا ‪ ،‬تجب حقّا للّه ‪ ،‬أو لدميّ ‪ ،‬في كلّ معصية‬
‫ليس فيها حدّ ول كفّارة غالبا ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الحدّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الحدّ لغة ‪ :‬المنع ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬عقوبة مقدّرة شرعا وجبت حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى ‪ ،‬أو للعبد كحدّ القذف ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬القصاص ‪:‬‬
‫‪ - 3‬القصاص لغة ‪ :‬تتبّع الثر ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الكفّارة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬الكفّارة لغة ‪ :‬من التّكفير ‪ ،‬وهو المحو‪ ،‬والكفّارة جزاء مقدّر من الشّرع ‪ ،‬لمحو الذّنب‪.‬‬
‫‪ - 5‬ويختلف التّعزير عن الحدّ والقصاص والكفّارة من وجوه منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬في الحدود والقصاص ‪ ،‬إذا ثبتت الجريمة الموجبة لهما لدى القاضي شرعا ‪ ،‬فإنّ عليه‬
‫الحكم بالحدّ أو القصاص على حسب الحوال ‪ ،‬وليس له اختيار في العقوبة ‪ ،‬بل هو يطبّق‬
‫العقوبة المنصوص عليها شرعا بدون زيادة أو نقص ‪ ،‬ول يحكم بالقصاص إذا عفي عنه ‪،‬‬
‫ن القصاص حقّ للفراد ‪ ،‬بخلف الح ّد ‪.‬‬
‫وله هنا التّعزير ‪ .‬ومردّ ذلك ‪ :‬أ ّ‬
‫وفي التّعزير يختار القاضي من العقوبات الشّرعيّة ما يناسب الحال ‪ ،‬فيجب على الّذين لهم‬
‫سلطة التّعزير الجتهاد في اختيار الصلح ‪ ،‬لختلف ذلك باختلف مراتب النّاس ‪،‬‬
‫وباختلف المعاصي ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إقامة الحدّ الواجب لحقّ اللّه ل عفو فيه ول شفاعة ول إسقاط ‪ ،‬إذا وصل المر‬
‫للحاكم ‪ ،‬وثبت بالبيّنة ‪ ،‬وكذلك القصاص إذا لم يعف صاحب الحقّ فيه ‪ .‬والتّعزير إذا كان من‬
‫حقّ اللّه تعالى تجب إقامته ‪ ،‬ويجوز فيه العفو والشّفاعة إن كان في ذلك مصلحة ‪ ،‬أو انزجر‬
‫الجاني بدونه ‪ ،‬وإذا كان من حقّ الفرد فله تركه العفو وبغيره ‪ ،‬وهو يتوقّف على الدّعوى ‪،‬‬
‫وإذا طالب صاحبه ل يكون لوليّ المر عفو ول شفاعة ول إسقاط ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إثبات الحدود والقصاص عند الجمهور ل يثبت إل بالبيّنة أو العتراف‪ ،‬بشروط خاصّة‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال ‪ :‬ل يؤخذ فيه بأقوال المجنيّ عليه كشاهد ‪ ،‬ول بالشّهادة السّماعيّة ‪ ،‬ول‬
‫باليمين ‪ ،‬ول بشهادة النّساء ‪ .‬بخلف التّعزير فيثبت بذلك ‪ ،‬وبغيره ‪.‬‬
‫ن المام مأمور‬
‫ن من حدّه المام فمات من ذلك فدمه هدر ‪ ،‬ل ّ‬
‫د ‪ -‬ل خلف بين الفقهاء أ ّ‬
‫بإقامة الحدّ ‪ ،‬وفعل المأمور ل يتقيّد بشرط السّلمة ‪.‬‬
‫أمّا التّعزير فقد اختلفوا فيه ‪ ،‬فعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ :‬الحكم كذلك في التّعزير ‪ .‬أمّا‬
‫عند الشّافعيّة ‪ :‬فالتّعزير موجب للضّمان ‪ ،‬وقد استدلّوا على ذلك بفعل عمر رضي ال عنه ‪"،‬‬
‫إذ أرهب امرأة ففزعت فزعا ‪ ،‬فدفعت الفزعة في رحمها ‪ ،‬فتحرّك ولدها ‪ ،‬فخرجت ‪ ،‬فأخذها‬
‫المخاض ‪ ،‬فألقت غلما جنينا ‪ ،‬فأتي عمر رضي ال عنه بذلك ‪ ،‬فأرسل إلى المهاجرين فقصّ‬
‫عليهم أمرها ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما ترون ؟ فقالوا ‪ :‬ما نرى عليك شيئا يا أمير المؤمنين ‪ ،‬إنّما أنت معلّم‬
‫ومؤدّب ‪ ،‬وفي القوم عليّ رضي ال عنه ‪ ،‬وعليّ ساكت ‪ .‬قال ‪ :‬فما تقول ‪ :‬أنت يا أبا الحسن‬
‫قال ‪ :‬أقول ‪ :‬إن كانوا قاربوك في الهوى فقد أثموا ‪ ،‬وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا ‪،‬‬
‫وأرى عليك الدّية يا أمير المؤمنين ‪ ،‬قال ‪ :‬صدقت ‪ ،‬اذهب فاقسمها على قومك "‪ .‬أمّا من‬
‫يتحمّل الدّية في النّهاية ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنّما تكون على عاقلة وليّ المر ‪ .‬وقيل ‪ :‬إنّها تكون في بيت‬
‫المال ‪.‬‬
‫ن الحدود تدرأ بالشّبهات ‪ ،‬بخلف التّعزير ‪ ،‬فإنّه يثبت بالشّبهة ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬إ ّ‬
‫و ‪ -‬يجوز الرّجوع في الحدود إن ثبتت بالقرار ‪ ،‬أمّا التّعزير فل يؤثّر فيه الرّجوع ‪.‬‬
‫ن الحدّ ل يجب على الصّغير ‪ ،‬ويجوز تعزيره ‪.‬‬
‫ز‪-‬إّ‬
‫ح ‪ -‬إنّ الح ّد قد يسقط بالتّقادم عند بعض الفقهاء ‪ ،‬بخلف التّعزير ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن الصل في التّعزير أنّه مشروع في كلّ معصية ل حدّ فيها ‪،‬‬
‫‪ - 6‬جمهور الفقهاء ‪ :‬على أ ّ‬
‫ول كفّارة ‪ .‬ويختلف حكمه باختلف حاله وحال فاعله ‪.‬‬
‫حكمة التّشريع ‪:‬‬
‫‪ - 7‬التّعزير مشروع لردع الجاني وزجره ‪ ،‬وإصلحه وتهذيبه ‪.‬‬
‫قال الزّيلعيّ ‪ :‬إنّ الغرض من التّعزير الزّجر ‪ .‬وسمّى التّعزيرات ‪ :‬بالزّواجر غير المقدّرة ‪.‬‬
‫والزّجر معناه ‪ :‬منع الجاني من معاودة الجريمة ‪ ،‬ومنع غيره من ارتكابها ‪ ،‬ومن ترك‬
‫الواجبات ‪ ،‬كترك الصّلة والمماطلة في أداء حقوق النّاس ‪.‬‬
‫أمّا الصلح والتّهذيب فهما من مقاصد التّعزير ‪ ،‬وقد بيّن ذلك الزّيلعيّ بقوله ‪ :‬التّعزير‬
‫ن ‪ :‬التّعزير تأديب استصلح وزجر ‪ .‬وقال‬
‫للتّأديب ‪ .‬ومثله تصريح الماورديّ وابن فرحون بأ ّ‬
‫ن الحبس غير المحدّد المدّة حدّه التّوبة وصلح حال الجاني ‪.‬‬
‫الفقهاء ‪ :‬إ ّ‬
‫ن التّعزير شرع للتّطهير ‪ ،‬لنّ ذلك سبيل لصلح الجاني ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وقالوا ‪ :‬الزّواجر غير المقدّرة محتاج إليها ‪ ،‬لدفع الفساد كالحدود ‪.‬‬
‫وليس التّعزير للتّعذيب ‪ ،‬أو إهدار الدميّة ‪ ،‬أو التلف ‪ ،‬حيث ل يكون ذلك واجبا ‪ .‬وفي ذلك‬
‫يقول الزّيلعيّ ‪ :‬التّعزير للتّأديب ‪ ،‬ول يجوز التلف ‪ ،‬وفعله مقيّد بشرط السّلمة ‪ .‬ويقول ابن‬
‫فرحون ‪ :‬التّعزير إنّما يجوز منه ما أمنت عاقبته غالبا ‪ ،‬وإل لم يجز ‪.‬‬
‫ن الشّرع لم‬
‫ويقول البهوتيّ ‪ :‬ل يجوز قطع شيء ممّن وجب عليه التّعزير ‪ ،‬ول جرحه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الواجب أدب ‪ ،‬والدب ل يكون بالتلف ‪.‬‬
‫يرد بشيء من ذلك ‪ ،‬عن أحد يقتدى به ‪ ،‬ول ّ‬
‫ل ضرب يؤدّي إلى التلف ممنوع ‪ ،‬سواء أكان هذا الحتمال ناشئا من آلة الضّرب ‪ ،‬أم‬
‫وك ّ‬
‫من حالة الجاني نفسه ‪ ،‬أم من موضع الضّرب ‪ ،‬وتفريعا على ذلك ‪ :‬منع الفقهاء الضّرب في‬
‫المواضع الّتي قد يؤدّي فيها إلى التلف ‪.‬‬
‫ن الضّرب على الوجه والفرج والبطن والصّدر ممنوع ‪.‬‬
‫ولذلك فالرّاجح ‪ :‬أ ّ‬
‫وعلى الساس المتقدّم منع جمهور الفقهاء في التّعزير ‪ :‬الصّفع ‪ ،‬وحلق اللّحية ‪ ،‬وتسويد‬
‫الوجه ‪ ،‬وإن كان البعض قال به في شهادة الزّور ‪ ،‬قال السروشنيّ ‪ :‬ل يباح التّعزير بالصّفع‬
‫‪ ،‬لنّه من أعلى ما يكون من الستخفاف ‪ .‬وقال ‪ :‬تسويد الوجه في شهادة الزّور ممنوع‬
‫بالجماع ‪ ،‬أي بين الحنفيّة ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬يحرم التّعزير بحلق لحيته لما فيه من المثلة ول تسويد وجهه ‪.‬‬
‫والتّعزير بالقتل عند من يراه يشترط في آلته ‪ :‬أن تكون حادّة من شأنها إحداث القتل بسهولة ‪،‬‬
‫بحيث ل يتخلّف عنها القتل ‪ ،‬وألّا تكون كالّة ‪ ،‬فذلك من المثلة ‪ ،‬والرّسول صلى ال عليه‬
‫ل شيء ‪ ،‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ‪،‬‬
‫ل كتب الحسان على ك ّ‬
‫وسلم يقول ‪ « :‬إنّ اللّه عزّ وج ّ‬
‫وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ‪ ،‬وليحدّ أحدكم شفرته ‪ ،‬وليرح ذبيحته » وفي ذلك أمر بالحسان‬
‫ل اللّه ذبحه من النعام ‪ ،‬فالحسان في الدميّ أولى ‪.‬‬
‫في القتل ‪ ،‬وإراحة ما أح ّ‬
‫المعاصي الّتي شرع فيها التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 8‬المعصية ‪ :‬فعل ما حرم ‪ ،‬وترك ما فرض ‪ ،‬يستوي في ذلك كون العقاب دنيويّا أو‬
‫ن ترك الواجب أو فعل المحرّم معصية فيها التّعزير ‪ ،‬إذا لم‬
‫أخرويّا ‪ .‬أجمع الفقهاء على ‪ :‬أ ّ‬
‫يكن هناك ح ّد مقدّر ‪.‬‬
‫ومثال ترك الواجب عندهم ‪ :‬منع الزّكاة ‪ ،‬وترك قضاء الدّين عند القدرة على ذلك ‪ ،‬وعدم‬
‫أداء المانة ‪ ،‬وعدم ردّ المغصوب ‪ ،‬وكتم البائع ما يجب عليه بيانه ‪ ،‬كأن يدلّس في المبيع‬
‫عيبا خفيّا ونحوه ‪ ،‬والشّاهد والمفتي والحاكم يعزّرون على ترك الواجب ‪.‬‬
‫ومثال فعل المحرّم ‪ :‬سرقة ما ل قطع فيه ‪ ،‬لعدم توافر شروط النّصاب أو الحرز مثلً ‪،‬‬
‫ش في السواق ‪ ،‬والعمل بالرّبا ‪ ،‬وشهادة الزّور ‪.‬‬
‫وتقبيل الجنبيّة ‪ ،‬والخلوة بها ‪ ،‬والغ ّ‬
‫وقد يكون الفعل مباحا في ذاته لكنّه يؤدّي لمفسدة ‪ ،‬وحكمه عند كثير من الفقهاء ‪ -‬وعلى‬
‫الخصوص المالكيّة ‪ -‬أنّه يصير حراما ‪ ،‬بناء على قاعدة سدّ الذّرائع ‪ ،‬وعلى ذلك فارتكاب‬
‫مثل هذا الفعل فيه التّعزير ‪ ،‬ما دام ليست له عقوبة مقدّرة ‪.‬‬
‫وما ذكر هو عن الواجب والمحرّم ‪ ،‬أمّا عن المندوب والمكروه ‪ -‬فعند بعض الصوليّين ‪:‬‬
‫المندوب مأمور به ‪ ،‬ومطلوب فعله ‪ ،‬والمكروه منهيّ عنه ‪ ،‬ومطلوب تركه ‪.‬‬
‫ن ال ّذمّ يسقط عن تارك المندوب ‪ ،‬لكنّه يلحق تارك الواجب ‪.‬‬
‫ويميّز المندوب عن الواجب أ ّ‬
‫ن الذّ ّم يسقط عن مرتكب المكروه ‪ ،‬ولكنّه يثبت على مرتكب‬
‫ويميّز المكروه عن المحرّم ‪ :‬أ ّ‬
‫ن العصيان اسم ذمّ‬
‫المحرّم ‪ ،‬وبناء على ذلك ليس تارك المندوب أو فاعل المكروه عاصيا ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ ،‬وال ّذمّ أسقط عنهما ‪ ،‬ولكنّهم يعتبرون من يترك المندوب أو يأتي المكروه مخالفا ‪ ،‬وغير‬
‫ممتثل ‪ .‬وعند آخرين ‪ :‬المندوب غير داخل تحت المر ‪ ،‬والمكروه غير داخل تحت النّهي ‪،‬‬
‫فيكون المندوب مرغّبا في فعله ‪ ،‬والمكروه مرغّبا عنه ‪.‬‬
‫وعندهم ل يعتبر تارك المندوب وفاعل المكروه عاصيا ‪.‬‬
‫وقد اختلف في تعزير تارك المندوب ‪ ،‬وفاعل المكروه ‪ ،‬ففريق من الفقهاء على عدم جوازه ‪،‬‬
‫لعدم التّكليف ‪ ،‬ول تعزير بغير تكليف ‪ .‬وفريق أجازه ‪ ،‬استنادا على فعل عمر رضي ال عنه‬
‫‪ ،‬فقد عزّر رجل أضجع شاة لذبحها ‪ ،‬وأخذ يح ّد شفرته وهي على هذا الوضع ‪ ،‬وهذا الفعل‬
‫ليس إل مكروها ‪ ،‬ويأخذ هذا الحكم من يترك المندوب ‪.‬‬
‫وقال القليوبيّ ‪ :‬قد يشرع التّعزير ول معصية ‪ ،‬كتأديب طفل ‪ ،‬وكافر ‪ ،‬وكمن يكتسب بآلة‬
‫لهو ل معصية فيها ‪.‬‬
‫اجتماع التّعزير مع الحدّ أو القصاص أو الكفّارة ‪:‬‬
‫‪ - 9‬قد يجتمع التّعزير مع الحدّ ‪ ،‬فالحنفيّة ل يرون تغريب الزّاني غير المحصن من حدّ الزّنى‬
‫ن حدّه مائة جلدة ل غير ‪ ،‬ولكنّهم يجيزون تغريبه بعد الجلد ‪ ،‬وذلك على وجه‬
‫‪ .‬فعندهم أ ّ‬
‫التّعزير ‪ .‬ويجوز تعزير شارب الخمر بالقول ‪ ،‬بعد إقامة حدّ الشّرب عليه ‪ ،‬فعن أبي هريرة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أمر بتبكيت شارب الخمر بعد الضّرب » ‪.‬‬
‫ن النّب ّ‬
‫رضي ال عنه « أ ّ‬
‫والتّبكيت تعزير بالقول ‪ ،‬وممّن قال بذلك ‪ :‬الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪.‬‬
‫ن الجارح عمدا يقتصّ منه ويؤدّب ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫ومن ثمّ فالتّعزير قد اجتمع مع القصاص في العتداء على ما دون النّفس عمدا ‪.‬‬
‫والشّافعيّ يجيز اجتماع التّعزير مع القصاص فيما دون النّفس من الجنايات على البدن ‪ ،‬وهو‬
‫أيضا يقول بجواز اجتماع التّعزير مع الح ّد ‪ ،‬مثل تعليق يد السّارق في عنقه بعد قطعها ساعة‬
‫من نهار ‪ ،‬زيادة في النّكال ‪ .‬وقال أحمد بذلك ‪ ،‬لما روى فضالة بن عبيد « أنّ الرّسول صلى‬
‫ن عليّا فعل ذلك ‪ ،‬ومثل ‪:‬‬
‫ال عليه وسلم قطع يد سارق ‪ ،‬ثمّ أمر بها فعلّقت في عنقه » ‪ .‬وأ ّ‬
‫ن حدّ الشّرب عند الشّافعيّ أربعون ‪.‬‬
‫الزّيادة عن الربعين في حدّ الشّرب ‪ ،‬ل ّ‬
‫وقد يجتمع التّعزير مع الكفّارة ‪ .‬فمن المعاصي ما فيه الكفّارة مع الدب ‪ ،‬كالجماع في‬
‫حرام ‪ ،‬وفي نهار رمضان ‪ ،‬ووطء المظاهر منها قبل الكفّارة إذا كان الفعل متعمّدا في‬
‫جميعها ‪ .‬وقيل بالتّعزير كذلك في حلف اليمين الغموس عند الشّافعيّ ‪ ،‬خلفا للحنفيّة ‪ ،‬فإنّه ل‬
‫كفّارة في يمين الغموس ‪ ،‬وفيها التّعزير ‪ .‬وعند مالك في القتل الّذي ل قود فيه ‪ ،‬كالقتل الّذي‬
‫عفي عن القصاص فيه ‪ ،‬تجب على القاتل الدّية ‪ ،‬وتستحبّ له الكفّارة ‪ ،‬ويضرب مائة ‪،‬‬
‫ويحبس سنة ‪ ،‬وهذا تعزير قد اجتمع مع الكفّارة ‪.‬‬
‫وقال البعض في القتل شبه العمد ‪ :‬بوجوب التّعزير مع الكفّارة ‪ ،‬لنّ هذه حقّ اللّه تعالى ‪،‬‬
‫بمنزلة الكفّارة في الخطأ ‪ ،‬وليست لجل الفعل ‪ ،‬بل هي بدل النّفس الّتي فاتت بالجناية ‪.‬‬
‫ونفس الفعل المحرّم ‪ -‬وهو جناية القتل شبه العمد ‪ -‬ل كفّارة فيه ‪ .‬وقد استدلّوا على ذلك ‪:‬‬
‫بأنّه إذا جنى شخص على آخر دون أن يتلف شيئا فإنّه يستحقّ التّعزير ‪ ،‬ول كفّارة في هذه‬
‫الجناية ‪ .‬بخلف ما لو أتلف بل جناية محرّمة ‪ ،‬فإنّ الكفّارة تجب بل تعزير ‪.‬‬
‫وإنّ الكفّارة في شبه العمد بمنزلة الكفّارة على المجامع في الصّيام والحرام ‪.‬‬
‫التّعزير حقّ للّه وحقّ للعبد ‪:‬‬
‫‪ - 10‬ينقسم التّعزير إلى ما هو حقّ للّه ‪ ،‬وما هو حقّ للعبد ‪ .‬والمراد بالوّل غالبا ‪ :‬ما تعلّق‬
‫به نفع العامّة ‪ ،‬وما يندفع به ضرر عامّ عن النّاس ‪ ،‬من غير اختصاص بأحد ‪ .‬والتّعزير هنا‬
‫ق اللّه ‪ ،‬لنّ إخلء البلد من الفساد واجب مشروع ‪ ،‬وفيه دفع للضّرر عن المّة ‪،‬‬
‫من ح ّ‬
‫وتحقيق نفع عامّ ‪ .‬ويراد بالثّاني ‪ :‬ما تعلّقت به مصلحة خاصّة لحد الفراد ‪ .‬وقد يكون‬
‫التّعزير خالص حقّ اللّه ‪ ،‬كتعزير تارك الصّلة ‪ ،‬والمفطر عمدا في رمضان بغير عذر ‪،‬‬
‫ومن يحضر مجلس الشّراب ‪.‬‬
‫وقد يكون لحقّ اللّه وللفرد ‪ ،‬مع غلبة حقّ اللّه ‪ ،‬كنحو تقبيل زوجة آخر وعناقها ‪.‬‬
‫وقد تكون الغلبة لحقّ الفرد ‪ ،‬كما في السّبّ والشّتم والمواثبة ‪.‬‬
‫وقد قيل بحالت يكون فيها التّعزير لحقّ الفرد وحده ‪ ،‬كالصّبيّ يشتم رجلً لنّه غير مكلّف‬
‫بحقوق اللّه تعالى فيبقى تعزيره متمحّضا لحقّ المشتوم ‪.‬‬
‫وتظهر أه ّميّة التّفرقة بين نوعي التّعزير في أمور ‪:‬‬
‫ن التّعزير الواجب حقّا للفرد أو الغالب فيه حقّه ‪ -‬وهو يتوقّف على الدّعوى ‪ -‬إذا‬
‫منها ‪ :‬أ ّ‬
‫طلبه صاحب الحقّ فيه لزمت إجابته ‪ ،‬ول يجوز للقاضي فيه السقاط ‪ ،‬ول يجوز فيه العفو‬
‫ي المر ‪.‬‬
‫أو الشّفاعة من ول ّ‬
‫ي المر جائز ‪ ،‬وكذلك الشّفاعة إن كانت‬
‫ن العفو فيه من ول ّ‬
‫أمّا التّعزير الّذي يجب حقّا للّه فإ ّ‬
‫في ذلك مصلحة ‪ ،‬أو حصل انزجار الجاني بدونه ‪ .‬وقد روي عن الرّسول صلى ال عليه‬
‫وسلم قوله ‪ « :‬اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان نبيّه ما يشاء » ‪.‬‬
‫وقد حصل الخلف في التّعزير هل هو واجب على وليّ المر أم ل فمالك ‪ ،‬وأبو حنيفة ‪،‬‬
‫وأحمد قالوا بوجوب التّعزير فيما شرع فيه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ ‪ :‬إنّه ليس بواجب ‪ ،‬استنادا إلى « أنّ رجلً قال للرّسول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫إنّي لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها ‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم أصلّيت معنا ؟ قال‬
‫س ّيئَاتِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ُيذْهِبْ َ‬
‫حسَنَا ِ‬
‫ن ال َ‬
‫طرَ َفيِ ال ّنهَارِ َوزُلَفَا ِمنَ اللّيلِ إ ّ‬
‫نعم ‪ :‬فتل عليه آية ‪ { :‬وََأقِمِ الصّل َة َ‬
‫} » ‪ .‬وإلى قوله صلى ال عليه وسلم في النصار ‪ « .‬اقبلوا من محسنهم ‪ ،‬وتجاوزوا عن‬
‫ح َكمَ به للزّبير لم يرقه‬
‫حكْمٍ َ‬
‫ل قال للرّسول صلى ال عليه وسلم في ُ‬
‫ن رج ً‬
‫مسيئهم » وإلى « أ ّ‬
‫‪ :‬إن كان ابن عمّتك ‪ ،‬فغضب ‪ .‬ولم ينقل أنّه عزّره » ‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ ،‬ومنهم بعض الحنابلة ‪ :‬إنّ ما كان من التّعزير منصوصا عليه كوطء جارية‬
‫مشتركة يجب امتثال المر فيه ‪.‬‬
‫أمّا ما لم يرد فيه نصّ فإنّه يجب إذا كانت فيه مصلحة ‪ ،‬أو كان ل ينزجر الجاني إل به ‪ ،‬فإنّه‬
‫يجب كالحدّ ‪ ،‬أمّا إذا علم أنّ الجاني ينزجر بدون التّعزير فإنّه ل يجب ‪ .‬ويجوز للمام فيه‬
‫ق الفراد ‪.‬‬
‫العفو إن كانت فيه مصلحة ‪ ،‬وكان من حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬خلف ما هو من ح ّ‬
‫التّعزير عقوبة مفوّضة ‪:‬‬
‫المراد بالتّفوّض وأحكامه ‪:‬‬
‫ن التّعزير عقوبة‬
‫‪ - 11‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو الرّاجح عن الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫مفوّضة إلى رأي الحاكم ‪ ،‬وهذا التّفويض في التّعزير من أهمّ أوجه الخلف بينه وبين الحدّ‬
‫الّذي هو عقوبة مقدّرة من الشّارع ‪ .‬وعلى الحاكم في تقدير عقوبة التّعزير مراعاة حال‬
‫الجريمة والمجرم ‪ .‬أمّا مراعاة حال الجريمة فللفقهاء فيه نصوص كثيرة ‪ ،‬منه قول‬
‫الستروشنيّ ‪ :‬ينبغي أن ينظر القاضي إلى سببه ‪ ،‬فإن كان من جنس ما يجب به الح ّد ولم‬
‫يجب لمانع وعارض ‪ ،‬يبلغ التّعزير أقصى غاياته ‪.‬‬
‫وإن كان من جنس ما ل يجب الحدّ ل يبلغ أقصى غاياته ‪ ،‬ولكنّه مفوّض إلى رأي المام ‪.‬‬
‫وأمّا مراعاة حال المجرم فيقول الزّيلعيّ ‪ :‬إنّه في تقدير التّعزير ينظر إلى أحوال الجانين ‪،‬‬
‫فإنّ من النّاس من ينزجر باليسير ‪ .‬ومنهم من ل ينزجر إل بالكثير ‪ .‬يقول ابن عابدين ‪ :‬إنّ‬
‫التّعزير يختلف باختلف الشخاص ‪ ،‬فل معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه ‪ ،‬فيكون‬
‫مفوّضا إلى رأي القاضي ‪ ،‬يقيمه بقدر ما يرى المصلحة فيه ‪.‬‬
‫ن أدنى التّعزير على ما يجتهد المام في الجاني ‪ ،‬بقدر ما يعلم أنّه ينزجر به‬
‫ويقول السّنديّ ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ ،‬لنّ المقصود من التّعزير الزّجر ‪ ،‬والنّاس تختلف أحوالهم في النزجار ‪ ،‬فمنهم من يحصل‬
‫له الزّجر بأقلّ الضّربات ‪ ،‬ويتغيّر بذلك ‪ .‬ومنهم من ل يحصل له الزّجر بالكثير من الضّرب‬
‫‪ .‬ونقل عن أبي يوسف ‪ :‬إنّ التّعزير يختلف على قدر احتمال المضروب ‪.‬‬
‫وقد منع بعض الحنفيّة تفويض التّعزير ‪ ،‬وقالوا بعدم تفويض ذلك للقاضي ‪ ،‬لختلف حال‬
‫القضاة ‪ ،‬وهذا هو الّذي قال به الطّرسوسيّ في شرح منظومة الكنز ‪ .‬وقد أيّدوا هذا الرّأي بأنّ‬
‫المراد من تفويض التّعزير إلى رأي القاضي ليس معناه التّفويض لرأيه مطلقا ‪ ،‬بل المقصود‬
‫ن عدم التّفويض هو الرّأي الضّعيف عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫القاضي المجتهد ‪ .‬وقد ذكر السّنديّ ‪ :‬أ ّ‬
‫وقال أبو بكر الطّرسوسيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين ‪ :‬إنّهم كانوا يراعون قدر الجاني وقدر‬
‫الجناية ‪ ،‬فمن الجانين من يضرب ‪ ،‬ومنهم من يحبس ‪ ،‬ومنهم من يقام واقفا على قدميه في‬
‫المحافل ‪ ،‬ومنهم من ينتزع عمامته ‪ ،‬ومنهم من يحلّ حزامه ‪.‬‬
‫ن التّعزير يختلف من حيث المقادير ‪ ،‬والجناس ‪ ،‬والصّفات ‪،‬‬
‫ص المالكيّة ‪ :‬على أ ّ‬
‫ون ّ‬
‫باختلف الجرائم ‪ ،‬من حيث كبرها ‪ ،‬وصغرها ‪ ،‬وبحسب حال المجرم نفسه ‪ ،‬وبحسب حال‬
‫القائل والمقول فيه والقول ‪ ،‬وهو موكول إلى اجتهاد المام ‪.‬‬
‫قال القرافيّ ‪ :‬إنّ التّعزير يختلف باختلف الزمنة والمكنة ‪ ،‬وتطبيقا لذلك قال ابن فرحون ‪:‬‬
‫ب تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر ‪ ،‬كقطع الطّيلسان ليس تعزيرا في الشّام بل إكرام‬
‫ر ّ‬
‫‪ ،‬وكشف الرّأس عند الندلسيّين ليس هوانا مع أنّه في مصر والعراق هوان ‪ .‬وقال ‪ :‬إنّه‬
‫يلحظ في ذلك أيضا نفس الشّخص ‪ ،‬فإنّ في الشّام مثلً من كانت عادته الطّيلسان وألفه ‪ -‬من‬
‫المالكيّة وغيرهم ‪ -‬يعتبر قطعه تعزيرا لهم ‪ .‬فما ذكر ظاهر منه ‪ :‬أنّ المر لم يقتصر على‬
‫اختلف التّعزير باختلف الزّمان والمكان والشخاص ‪ ،‬مع كون الفعل محلً لذلك ‪ ،‬بل إنّ‬
‫هذا الختلف قد يجعل الفعل نفسه غير معاقب عليه ‪ ،‬بل قد يكون مكرمة ‪.‬‬
‫النواع الجائزة في عقوبة التّعزير ‪:‬‬
‫ل حالة ما‬
‫‪ - 12‬يجوز في مجال التّعزير ‪ :‬إيقاع عقوبات مختلفة ‪ ،‬يختار منها الحاكم في ك ّ‬
‫يراه مناسبا محقّقا لغراض التّعزير ‪ .‬وهذه العقوبات قد تنصبّ على البدن ‪ ،‬وقد تكون مقيّدة‬
‫للحرّيّة ‪ ،‬وقد تصيب المال ‪ ،‬وقد تكون غير ذلك ‪ .‬وفيما يلي بيان هذا الجمال ‪ .‬العقوبات‬
‫البدنيّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعزير بالقتل ‪:‬‬
‫‪ - 13‬الصل ‪ :‬أنّه ل يبلغ بالتّعزير القتل ‪ ،‬وذلك لقول اللّه تعالى ‪ { :‬وَل تَ ْقتُلُوا النّفْسَ الّتيْ‬
‫حرّمَ اللّهُ إلّا بِالحَقّ } وقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يحلّ دمُ امرئ مسلم إلّا بإحدى‬
‫َ‬
‫ب الزّاني ‪ ،‬والنّفسُ بالنّفس ‪ ،‬والتّاركُ لدينه المفارق للجماعة » ‪.‬‬
‫ثلث ‪ :‬ال ّثيّ ُ‬
‫وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيرا في جرائم معيّنة بشروط مخصوصة ‪ ،‬من ذلك‬
‫‪ :‬قتل الجاسوس المسلم إذا تجسّس على المسلمين ‪ ،‬وذهب إلى جواز تعزيره بالقتل مالك‬
‫وبعض أصحاب أحمد ‪ ،‬ومنعه أبو حنيفة ‪ ،‬والشّافعيّ ‪ ،‬وأبو يعلى من الحنابلة ‪.‬‬
‫سنّة كالجهميّة ‪ .‬ذهب‬
‫وتوقّف فيه أحمد ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬قتل الدّاعية إلى البدع المخالفة للكتاب وال ّ‬
‫إلى ذلك كثير من أصحاب مالك ‪ ،‬وطائفة من أصحاب أحمد ‪.‬‬
‫وأجاز أبو حنيفة التّعزير بالقتل فيما تكرّر من الجرائم ‪ ،‬إذا كان جنسه يوجب القتل ‪ ،‬كما يقتل‬
‫من تكرّر منه اللّواط أو القتل بالمثقّل ‪ .‬وقال ابن تيميّة ‪ :‬وقد يستدلّ على أنّ المفسد إذا لم‬
‫ي رضي ال‬
‫ينقطع شرّه إل بقتله فإنّه يقتل ‪ ،‬لما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة الشجع ّ‬
‫عنه قال ‪ « :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬من أتاكم وأمركم جميع على‬
‫رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم ‪ ،‬أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه »‬
‫ب ‪ -‬التّعزير بالجلد ‪:‬‬
‫‪ - 14‬الجلد في التّعزير مشروع ‪ ،‬ودليله قول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يجلد أحد‬
‫فوق عشرة أسواط ‪ ،‬إل في حدّ من حدود اللّه تعالى » ‪.‬‬
‫وفي الحريسة الّتي تؤخذ من مراتعها غرم ثمنها مرّتين ‪ ،‬وضرب نكال ‪ .‬وكذلك الحكم في‬
‫سرقة التّمر يؤخذ من أكمامه ‪ ،‬لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال « سئل رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وآله وسلم عن التّمر المعلّق ‪ ،‬فقال ‪ :‬من أصاب منه بفيه من ذي حاجة‬
‫غير متّخذ خبنة فل شيء عليه ‪ ،‬ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ‪ ،‬ومن‬
‫ن فعليه القطع » رواه النّسائيّ وأبو داود ‪.‬‬
‫سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المج ّ‬
‫وفي رواية قال « سمعت رجلً من مزينة يسأل رسول اللّه صلى ال عليه وآله وسلم عن‬
‫الحريسة الّتي توجد في مراتعها ؟ قال ‪ :‬فيها ثمنها مرّتين ‪ ،‬وضرب نكال ‪ .‬وما أخذ من‬
‫عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجنّ ‪ .‬قال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬فالثّمار وما أخذ‬
‫منها في أكمامها ؟ قال ‪ :‬من أخذ بفمه ولم يتّخذ خبنة فليس عليه شيء ‪ ،‬ومن احتمل فعليه‬
‫ثمنه مرّتين ‪ ،‬وضرب نكال ‪ ،‬وما أخذ من أجرانه ففيه القطع ‪ ،‬إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن‬
‫المجنّ » رواه أحمد والنّسائيّ ‪ .‬ولبن ماجه معناه ‪ ،‬وزاد النّسائيّ في آخره ‪ « :‬وما لم يبلغ‬
‫ن ففيه غرامة مثليه ‪ ،‬وجلدات نكال » ‪ .‬وقد سار على هذه العقوبة في التّعزير‬
‫ثمن المج ّ‬
‫الخلفاء الرّاشدون ومن بعدهم من الحكّام ‪ ،‬ولم ينكر عليهم أحد ‪.‬‬
‫مقدار الجلد في التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ممّا ل خلف فيه عند الحنفيّة ‪ :‬أنّ التّعزير ل يبلغ الحدّ ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في‬
‫غير حدّ فهو من المعتدين » واختلف الحنفيّة في أقصى الجلد في التّعزير ‪:‬‬
‫فيرى أبو حنيفة ‪ :‬أنّه ل يزيد عن تسعة وثلثين سوطا بالقذف والشّرب ‪ ،‬أخذا عن الشّعبيّ ‪،‬‬
‫إذ صرف كلمة الحدّ في الحديث إلى ح ّد الرقّاء وهو أربعون ‪.‬‬
‫وأبو يوسف قال بذلك أوّل ‪ ،‬ثمّ عدل عنه إلى اعتبار أقلّ حدود الحرار وهو ثمانون جلدة ‪.‬‬
‫و جه ما ذ هب إل يه أ بو حني فة ‪ :‬أ نّ الحد يث ذكنر حدّا منكّرا ‪ ،‬وأربعون جلدة حدّ كا مل في‬
‫الرقّاء عند الحنفيّة في القذف والشّرب ‪ ،‬فينصرف إلى القلّ ‪.‬‬
‫وأبو يوسف اعتمد على أنّ الصل في النسان الح ّريّة ‪ ،‬وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ ‪ ،‬فليس‬
‫حدّا كاملً ‪ ،‬ومطلق السم ينصرف إلى الكامل في كلّ باب ‪ .‬وفي عدد الجلدات روايتان عن‬
‫ن التّعزير يصل إلى تسعة وسبعين سوطا ‪ ،‬وهي رواية هشام عنه ‪،‬‬
‫أبي يوسف ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أ ّ‬
‫وقد أخذ بذلك زفر ‪ ،‬وهو قول عبد الرّحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬وهو القياس ‪ ،‬لنّه ليس حدّا فيكون‬
‫من أفراد المسكوت عن النّهي عنه في حديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ ‪» . . .‬‬
‫والثّانية ‪ :‬وهي ظاهر الرّواية عن أبي يوسف ‪ :‬أنّ التّعزير ل يزيد على خمسة وسبعين سوطا‬
‫‪ ،‬وروي ذلك أثرا عن عمر رضي ال عنه ‪ ،‬كما روي عن عليّ رضي ال عنه أيضا ‪،‬‬
‫ن أبا يوسف أخذ بقولهما في نقصان الخمسة ‪،‬‬
‫وأنّهما قال ‪ :‬في التّعزير خمسة وسبعون ‪ .‬وأ ّ‬
‫واعتبر عملهما أدنى الحدود ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة قال المازريّ ‪ :‬إنّ تحديد العقوبة ل سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب ‪ ،‬وقال‬
‫ن مذهب مالك يجيز في العقوبات فوق الحدّ ‪.‬‬
‫‪:‬إّ‬
‫ن المشهور أنّه قد يزاد على الحدّ ‪ .‬وعلى ذلك فالرّاجح لدى المالكيّة ‪:‬‬
‫وحكي عن أشهب ‪ :‬أ ّ‬
‫ن المام له أن يزيد التّعزير عن الحدّ ‪ ،‬مع مراعاة المصلحة الّتي ل يشوبها الهوى ‪.‬‬
‫أّ‬
‫وممّا استدلّ به المالكيّة ‪ :‬فعل عمر في معن بن زياد لمّا زوّر كتابا على عمر وأخذ به من‬
‫صاحب بيت المال مال ‪ ،‬إذ جلده مائة ‪ ،‬ثمّ مائة أخرى ‪ ،‬ثمّ ثالثة ‪ ،‬ولم يخالفه أحد من‬
‫الصّحابة فكان إجماعا ‪ ،‬كما أنّه ضرب صبيغ بن عسل أكثر من الحدّ ‪ .‬وروى أحمد بإسناده‬
‫ي قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين ( الحدّ )‬
‫ن عليّا رضي ال عنه أتي بالنّجاش ّ‬
‫أّ‬
‫وعشرين سوطا ‪ ،‬لفطره في رمضان ‪.‬‬
‫ن أبا السود استخلفه ابن عبّاس رضي ال عنهما على قضاء البصرة فأتي‬
‫كما روي ‪ :‬أ ّ‬
‫بسارق قد جمع المتاع في البيت ولم يخرجه ‪ ،‬فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلّى سبيله ‪.‬‬
‫وقالوا في حديث أبي بردة رضي ال عنه ‪ « :‬ل يجلد أحد فوق عشرة أسواط إل في حدّ من‬
‫حدود اللّه » إنّه مقصور على زمن الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لنّه كان يكفي الجاني‬
‫ن المراد بقوله ‪ :‬في حدّ ‪ ،‬أي في حقّ من حقوق اللّه تعالى ‪،‬‬
‫منهم هذا القدر ‪ ،‬وتأوّلوه على أ ّ‬
‫وإن لم يكن من المعاصي المقدّر حدودها لنّ المعاصي كلّها من حدود اللّه تعالى ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّ التّعزير إن كان بالجلد فإنّه يجب أن ينقص عن أقلّ حدود من يقع عليه‬
‫التّعزير ‪ ،‬فينقص في العبد عن عشرين ‪ ،‬وفي الحرّ عن أربعين ‪ ،‬وهو حدّ الخمر عندهم ‪،‬‬
‫وقيل بوجوب النّقص فيهما عن عشرين ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من‬
‫المعتدين » ويستوي في النّقص عمّا ذكر جميع الجرائم على الصحّ عندهم ‪ .‬وقيل بقياس كلّ‬
‫جريمة بما يليق بها ممّا فيه أو في جنسه حدّ ‪ ،‬فينقص على سبيل المثال تعزير مقدّمة الزّنى‬
‫عن حدّه ‪ ،‬وإن زاد على حدّ القذف ‪ ،‬وتعزير السّبّ عن حدّ القذف ‪ ،‬وإن زاد على حدّ الشّرب‬
‫‪ .‬وقيل في مذهب الشّافعيّة ‪ :‬ل يزيد في أكثر الجلد في التّعزير عن عشر جلدات أخذا بحديث‬
‫أبي بردة ‪ « :‬ل يجلد فوق عشرة أسواط إل في ح ّد من حدود اللّه » لما اشتهر من قول‬
‫ح هذا الحديث ‪.‬‬
‫ح الحديث فهو مذهبي ‪ ،‬وقد ص ّ‬
‫الشّافعيّ ‪ :‬إذا ص ّ‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬اختلفت الرّواية عن أحمد في قدر جلد التّعزير ‪ ،‬فروي أنّه ل يبلغ الحدّ ‪ .‬وقد‬
‫ذكر الخرقيّ هذه الرّواية ‪ ،‬والمقصود بمقتضاها ‪ :‬أنّه ل يبلغ بالتّعزير أدنى حدّ مشروع ‪ ،‬فل‬
‫ن الربعين حدّ العبد في الخمر والقذف ‪ ،‬ول يجاوز تسعة وثلثين‬
‫يبلغ بالتّعزير أربعين ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن حدّ الخمر أربعون سوطا‪ .‬ونصّ‬
‫سوطا في الحرّ ‪ ،‬ول تسعة عشر في العبد على القول بأ ّ‬
‫مذهب أحمد ‪ :‬أن ل يزاد على عشر جلدات في التّعزير ‪ ،‬للثر ‪ « :‬ل يجلد أحد فوق عشرة‬
‫أسواط إلّا في حدّ ‪ » . . .‬إل ما ورد من الثار مخصّصا لهذا الحديث ‪ ،‬كوطء جارية امرأته‬
‫بإذنها ‪ ،‬ووطء جارية مشتركة المرويّ عن عمر ‪.‬‬
‫ل جريمة حدّا‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ويحتمل كلم أحمد والخرقيّ ‪ :‬أنّه ل يبلغ التّعزير في ك ّ‬
‫مشروعا في جنسها ‪ ،‬ويجوز أن يزيد على ح ّد غير جنسها ‪ ،‬وقد روي عن أحمد ما يدلّ على‬
‫هذا ‪ .‬واستدلّ بما روي عن النّعمان بن بشير رضي ال عنهما فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها‬
‫‪ :‬أنّه يجلد مائة جلدة ‪ ،‬وهذا تعزير ‪ ،‬لنّ عقاب هذه الجريمة للمحصن الرّجم ‪ ،‬وبما روي‬
‫عن سعيد بن المسيّب عن عمر رضي ال عنه في الرّجل الّذي وطئ أمة مشتركة بينه وآخر‬
‫ج بهذا الحديث أحمد ‪.‬‬
‫‪ :‬أنّه يجلد الحدّ إلّا سوطا واحدا ‪ ،‬وقد احت ّ‬
‫وقد زاد ابن تيميّة وابن القيّم رأيا رابعا ‪ :‬هو أنّ التّعزير يكون بحسب المصلحة ‪ ،‬وعلى قدر‬
‫الجريمة ‪ ،‬فيجتهد فيه وليّ المر على أل يبلغ التّعزير فيما فيه حدّ مقدّر ذلك المقدّر ‪،‬‬
‫فالتّعزير على سرقة ما دون النّصاب مثل ل يبلغ به القطع ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّ هذا هو أعدل القوال‬
‫سنّة دلّت عليه ‪ ،‬كما م ّر في ضرب الّذي أحلّت له امرأته جاريتها مائة ل الحدّ وهو‬
‫‪ ،‬وإنّ ال ّ‬
‫الرّجم ‪ ،‬كما أنّ عليّا وعمر رضي ال عنهما ضربا رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة‬
‫مائة ‪ ،‬وحكم عمر رضي ال عنه فيمن قلّد خاتم بيت المال بضربه ثلثمائة على مرّات ‪،‬‬
‫وضرب صبيغ بن عسل للبدعة ضربا كثيرا لم يعدّه ‪.‬‬
‫وخلصة مذهب الحنابلة ‪ :‬أنّ فيه من يقول بأنّ التّعزير ل يزيد على عشر جلدات ‪ ،‬ومن‬
‫يقول ‪ :‬بأنّه ل يزيد على أقلّ الحدود ‪ ،‬ومن يقول ‪ :‬بأنّه ل يبلغ في جريمة قدر الحدّ فيها ‪،‬‬
‫وهناك من يقول ‪ :‬بأنّه ل يتقيّد بشيء من ذلك ‪ ،‬وأنّه يكون بحسب المصلحة ‪ ،‬وعلى قدر‬
‫الجريمة ‪ ،‬فيما ليس فيه حدّ مقدّر ‪ .‬والرّاجح عندهم التّحديد سواء أكان بعشر جلدات أم بأقلّ‬
‫من أدنى الحدود أم بأقلّ من الحدّ المقرّر لجنس الجريمة ‪.‬‬
‫وما ذكر هو عن الحدّ العلى ‪ ،‬أمّا عن الحدّ الدنى فقد قال القدوريّ ‪ :‬إنّه ثلث جلدات ‪ ،‬لنّ‬
‫ن غالبيّة الحنفيّة على أنّ المر في أقلّ جلد التّعزير‬
‫هذا العدد أقلّ ما يقع به الزّجر ‪ .‬ولك ّ‬
‫مرجعه الحاكم ‪ ،‬بقدر ما يعلم أنّه يكفي للزّجر ‪.‬‬
‫وقال في الخلصة ‪ :‬إنّ اختيار التّعزير إلى القاضي من واحد إلى تسعة وثلثين ‪ ،‬وقريب‬
‫ل التّعزير ليس مقدّرا فيرجع فيه إلى اجتهاد‬
‫من ذلك تصريح ابن قدامة ‪ ،‬فقد قال ‪ :‬إنّ أق ّ‬
‫المام أو الحاكم فيما يراه وما تقتضيه حال الشّخص ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّعزير بالحبس ‪:‬‬
‫سنّة والجماع أمّا الكتاب فقوله تعالى ‪ { :‬وَالّلئِي َي ْأتِينَ‬
‫‪ - 16‬الحبس مشروع بالكتاب وال ّ‬
‫ن في البُيوتِ حتّى‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫ش ِهدُوا َفَأ ْم ِ‬
‫ن َأ ْربَع ًة ِم ْن ُكمْ فإنْ َ‬
‫ش ِهدُوا عَلَيه ّ‬
‫ستَ ْ‬
‫حشَةَ ِمنْ ِنسَا ِئكُمْ فَا ْ‬
‫الفَا ِ‬
‫ن اللّهَ َورَسُولَه‬
‫ن ُيحَا ِربُو َ‬
‫جزَاءُ الّذي َ‬
‫سبِيلً } وقوله ‪ { :‬إ ّنمَا َ‬
‫ل اللّ ُه َلهُنّ َ‬
‫جعَ َ‬
‫َيتَ َوفّاهُنّ المَوتُ أو َي ْ‬
‫لرْضِ َفسَادَا أنْ يُ َقتّلُوا أو ُيصَّلبُوا أو تُ َقطّعَ أَيدِيهمْ وَأ ْرجُُلهُ ْم مِنْ خِلفٍ أو ُينْفَوا‬
‫ن في ا َ‬
‫سعَو َ‬
‫َو َي ْ‬
‫ن المقصود بالنّفي هنا الحبس ‪.‬‬
‫من الرْضِ } ‪ .‬فقد قال الزّيلعيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫سنّة فقد ثبت ‪ « :‬أنّ الرّسول صلى ال عليه وسلم حبس بالمدينة أناسا في تهمة دم ‪،‬‬
‫وأمّا ال ّ‬
‫وحكم بالضّرب والسّجن ‪ ،‬وأنّه قال فيمن أمسك رجلً لخر حتّى قتله ‪ :‬اقتلوا القاتل ‪،‬‬
‫واصبروا الصّابر » ‪ .‬وفسّرت عبارة « اصبروا الصّابر » بحبسه حتّى الموت ‪ ،‬لنّه حبس‬
‫المقتول للموت بإمساكه إيّاه ‪.‬‬
‫وأمّا الجماع فقد أجمع الصّحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬ومن بعدهم ‪ ،‬على المعاقبة بالحبس ‪.‬‬
‫ن عمر‬
‫واتّفق الفقهاء على أنّ الحبس يصلح عقوبة في التّعزير ‪ .‬وممّا جاء في هذا المقام ‪ :‬أ ّ‬
‫رضي ال عنه سجن الحطيئة على الهجو ‪ ،‬وسجن صبيغا على سؤاله عن الذّاريات ‪،‬‬
‫ن عثمان رضي ال عنه سجن ضابئ بن الحارث ‪،‬‬
‫والمرسلت ‪ ،‬والنّازعات ‪ ،‬وشبهه ‪ ،‬وأ ّ‬
‫وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم ‪ ،‬وأنّ عليّ بن أبي طالب رضي ال عنه سجن بالكوفة ‪.‬‬
‫وأنّ عبد اللّه بن الزّبير رضي ال عنه سجن بمكّة ‪ ،‬وسجن في " دارم " محمّد بن الحنفيّة لمّا‬
‫امتنع عن بيعته ‪.‬‬
‫مدّة الحبس في التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 17‬الصل أنّ تقدير مدّة الحبس يرجع إلى الحاكم ‪ ،‬مع مراعاة ظروف الشّخص ‪،‬‬
‫ي إلى ذلك بقوله ‪ :‬ليس للحبس مدّة مقدّرة ‪.‬‬
‫والجريمة والزّمان والمكان ‪ .‬وقد أشار الزّيلع ّ‬
‫ن الحبس تعزيرا يختلف باختلف المجرم ‪ ،‬وباختلف الجريمة ‪ ،‬فمن‬
‫وقال الماورديّ ‪ :‬إ ّ‬
‫الجانين من يحبس يوما ‪ ،‬ومنهم من يحبس أكثر ‪ ،‬إلى غاية غير مقدّرة ‪.‬‬
‫ن شرط الحبس ‪ :‬النّقص عن سنة ‪ ،‬كما نصّ عليه الشّافعيّ‬
‫ي من الشّافعيّة ‪ ،‬ذكر أ ّ‬
‫ن الشّربين ّ‬
‫لك ّ‬
‫في المّ ‪ ،‬وصرّح به معظم الصحاب ‪ .‬وأطلق الحنابلة في تقدير المدّة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعزير بالنّفي " التّغريب " ‪:‬‬
‫مشروعيّة التّعزير بالنّفي ‪:‬‬
‫سنّة‬
‫‪ - 18‬التّعزير بالنّفي مشروع بل خلف بين الفقهاء ‪ ،‬ودليل مشروعيّته ‪ :‬الكتاب وال ّ‬
‫والجماع ‪ .‬أمّا الكتاب فقوله تعالى ‪ { :‬أَ ْو ُينْفَوْا مِن الرْضِ } ومن ثمّ فهو عقوبة مشروعة في‬
‫سنّة ‪ « :‬فإنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قضى بالنّفي تعزيرا في المخنّثين ‪ ،‬إذ‬
‫الحدود ‪ .‬وأمّا ال ّ‬
‫نفاهم من المدينة » ‪.‬‬
‫وأمّا الجماع ‪ :‬فإنّ عمر رضي ال عنه نفى نصر بن حجّاج لفتتان النّساء به ‪ ،‬ولم ينكر‬
‫عليه أحد من الصّحابة ‪.‬‬
‫ن عمر غرّب من المدينة نصر بن حجّاج‬
‫ويجوز كون التّغريب لكثر من مسافة القصر ‪ ،‬ل ّ‬
‫إلى البصرة ‪ ،‬ونفى عثمان رضي ال عنه إلى مصر‪ ،‬ونفى عليّ رضي ال عنه إلى البصرة‪.‬‬
‫ويشترط أن يكون التّغريب لبلد معيّن ‪ ،‬فل يرسل المحكوم عليه به إرسالً ‪ ،‬وليس له أن‬
‫يختار غير البلد المعيّن لبعاده ‪ ،‬ول يجوز أن يكون تغريب الجاني لبلده ‪.‬‬
‫ل المسافة بين بلد الجاني والبلد المغرّب إليه عن مسيرة يوم وليلة‬
‫ويرى الشّافعيّ ‪ :‬أن ل تق ّ‬
‫ويرى ابن أبي ليلى ‪ :‬أن ينفى الجاني إلى بلد غير البلد الّذي ارتكبت فيه الجريمة بحيث‬
‫تكون المسافة بين البلد الّذي ينفى إليه وبلد الجريمة ‪ ،‬دون مسيرة سفر ‪.‬‬
‫مدّة التّغريب ‪:‬‬
‫‪ - 19‬ل يعتبر أبو حنيفة التّغريب في الزّنى حدّا ‪ ،‬بل يعتبره من التّعزير ‪ ،‬ويترتّب على ذلك‬
‫‪ :‬أنّه يجيز أن يزيد من حيث المدّة عن سنة ‪.‬‬
‫ن التّغريب عنده في الزّنى‬
‫ويجوز عند مالك أن يزيد التّغريب في التّعزير عن سنة ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫حدّ ‪ ،‬لنّه يقول بنسخ حديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين » ‪.‬‬
‫ن للمام أن يزيد في التّعزير عن الحدّ ‪ ،‬مع مراعاة المصلحة غير‬
‫والرّاجح عند المالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫المشوبة بالهوى ‪.‬‬
‫وعلى ذلك بعض فقهاء الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬ويرى البعض الخر منهم ‪ :‬أنّ مدّة التّغريب في‬
‫التّعزير ل يجوز أن تصل إلى سنة ‪ ،‬لنّهم يعتبرون التّغريب في جريمة الزّنى حدّا ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت مدّته فيها عاما فل يجوز عندهم في التّعزير أن يصل التّغريب لعام ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬من‬
‫بلغ حدّا في غير ح ّد فهو من المعتدين » ‪ .‬وتفصيله في ( نفي ) ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬التّعزير بالمال ‪:‬‬
‫مشروعيّة التّعزير بالمال ‪:‬‬
‫‪ - 20‬الصل في مذهب أبي حنيفة ‪ :‬أنّ التّعزير بأخذ المال غير جائز ‪ ،‬فأبو حنيفة ومحمّد ل‬
‫يجيزانه ‪ ،‬بل إنّ محمّدا لم يذكره في كتاب من كتبه ‪ .‬أمّا أبو يوسف فقد روي عنه ‪ :‬أنّ‬
‫التّعزير بأخذ المال من الجاني جائز إن رؤيت فيه مصلحة ‪.‬‬
‫وقال الشبراملسي ‪ :‬ول يجوز على الجديد بأخذ المال ‪ .‬يعني ل يجوز التّعزير بأخذ المال في‬
‫مذهب الشّافعيّ الجديد ‪ ،‬وفي المذهب القديم ‪ :‬يجوز ‪.‬‬
‫أمّا في مذهب مالك في المشهور عنه ‪ ،‬فقد قال ابن فرحون ‪ :‬التّعزير بأخذ المال قال به‬
‫المالكيّة ‪ .‬وقد ذكر مواضع مخصوصة يعزّر فيها بالمال ‪ ،‬وذلك في قوله ‪ :‬سئل مالك عن‬
‫اللّبن المغشوش أيراق ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ولكن أرى أن يتصدّق به ‪ ،‬إذا كان هو الّذي غشّه ‪ .‬وقال‬
‫في الزّعفران والمسك المغشوش مثل ذلك ‪ ،‬سواء كان ذلك قليلً أو كثيرا ‪ ،‬وخالفه ابن القاسم‬
‫في الكثير ‪ ،‬وقال ‪ :‬يباع المسك والزّعفران على ما يغشّ به ‪ ،‬ويتصدّق بالثّمن أدبا للغاشّ ‪.‬‬
‫وأفتى ابن القطّان الندلسيّ في الملحف الرّديئة النّسج بأن تحرّق ‪ .‬وأفتى ابن عتّاب ‪:‬‬
‫بتقطيعها والصّدقة بها خرقا ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة يحرم التّعزير بأخذ المال أو إتلفه ‪ ،‬لنّ الشّرع لم يرد بشيء من ذلك عمّن‬
‫ن التّعزير بالمال سائغ إتلفا وأخذا ‪.‬‬
‫يقتدى به ‪ .‬وخالف ابن تيميّة وابن القيّم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫واستدل لذلك بأقضية للرّسول صلى ال عليه وسلم كإباحته سلب من يصطاد في حرم المدينة‬
‫لمن يجده ‪ ،‬وأمره بكسر دنان الخمر ‪ ،‬وشقّ ظروفها ‪ ،‬وأمره عبد اللّه بن عمر رضي ال‬
‫عنهما بحرق الثّوبين المعصفرين ‪ ،‬وتضعيفه الغرامة على من سرق من غير حرز ‪ ،‬وسارق‬
‫ما ل قطع فيه من الثّمر والكثر ‪ ،‬وكاتم الضّالّة ‪ .‬ومنها أقضيّة الخلفاء الرّاشدين ‪ ،‬مثل أمر‬
‫عمر وعليّ رضي ال عنهما بتحريق المكان الّذي يباع فيه الخمر ‪ ،‬وأخذ شطر مال مانع‬
‫الزّكاة ‪ ،‬وأمر عمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقّاص رضي ال عنه الّذي بناه حتّى يحتجب‬
‫فيه عن النّاس ‪ .‬وقد نفّذ هذا المر محمّد بن مسلمة رضي ال عنه ‪.‬‬
‫أنواع التّعزير بالمال ‪:‬‬
‫التّعزير بالمال يكون بحبسه أو بإتلفه ‪ ،‬أو بتغيير صورته ‪ ،‬أو بتمليكه للغير ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬حبس المال عن صاحبه ‪:‬‬
‫‪ - 21‬وهو أن يمسك القاضي شيئا من مال الجاني مدّة زجرا له ‪ ،‬ثمّ يعيده له عندما تظهر‬
‫ي يقتضي‬
‫توبته ‪ ،‬وليس معناه أخذه لبيت المال ‪ ،‬لنّه ل يجوز أخذ مال إنسان بغير سبب شرع ّ‬
‫ذلك ‪ .‬وفسّره على هذا الوجه أبو يحيى الخوارزميّ ‪.‬‬
‫ونظيره ما يفعل في خيول البغاة وسلحهم ‪ ،‬فإنّها تحبس عنهم مدّة وتعاد إليهم إذا تابوا ‪.‬‬
‫وصوّب هذا الرّأي المام ظهير الدّين التّمرتاشيّ الخوارزميّ ‪.‬‬
‫أمّا إذا صار ميئوسا من توبته ‪ ،‬فإنّ للحاكم أن يصرف هذا المال فيما يرى فيه المصلحة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التلف ‪:‬‬
‫‪ - 22‬قال ابن تيميّة ‪ :‬إنّ المنكرات من العيان والصّفات يجوز إتلف محلّها تبعا لها ‪،‬‬
‫فالصنام صورها منكرة ‪ ،‬فيجوز إتلف مادّتها ‪ ،‬وآلت اللّهو يجوز إتلفها عند أكثر‬
‫الفقهاء ‪ ،‬وبذلك أخذ مالك ‪ ،‬وهو أشهر الرّوايتين عن أحمد ‪.‬‬
‫ل الّذي يباع فيه الخمر‬
‫ومن هذا القبيل أيضا أوعية الخمر ‪ ،‬يجوز تكسيرها وتحريقها ‪ ،‬والمح ّ‬
‫يجوز تحريقه ‪ ،‬واستدلّ لذلك بفعل عمر رضي ال عنه في تحريق محلّ يباع فيه الخمر ‪،‬‬
‫ن مكان البيع‬
‫ي رضي ال عنه تحريق القرية الّتي كان يباع فيها الخمر ‪ ،‬ول ّ‬
‫وقضاء عل ّ‬
‫كالوعية ‪ .‬وقال ‪ :‬إنّ هذا هو المشهور في مذهب أحمد ‪ ،‬ومالك ‪ ،‬وغيرهما ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل أيضا ‪ :‬إراقة عمر اللّبن المخلوط بالماء للبيع ‪ .‬ومنه ما يراه بعض الفقهاء من‬
‫جواز إتلف المغشوشات في الصّناعات ‪ ،‬كالثّياب رديئة النّسج ‪ ،‬بتمزيقها وإحراقها ‪،‬‬
‫وتحريق عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما لثوبه المعصفر بأمر النّبيّ صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ل الّذي قامت به المعصية نظيره إتلف المحلّ من‬
‫وقال ابن تيميّة ‪ :‬إنّ هذا التلف للمح ّ‬
‫الجسم الّذي وقعت به المعصية ‪ ،‬كقطع يد السّارق ‪ .‬وهذا التلف ليس واجبا في كلّ حالة ‪،‬‬
‫ن إبقاءه جائز ‪ ،‬إمّا له أو يتصدّق به ‪ .‬وبناء على ذلك أفتى‬
‫فإذا لم يكن في المحلّ مفسد فإ ّ‬
‫فريق من العلماء ‪ :‬بأن يتصدّق بالطّعام المغشوش ‪ .‬وفي هذا إتلف له ‪.‬‬
‫وكره فريق التلف ‪ ،‬وقالوا بالتّصدّق به ‪ ،‬ومنهم مالك في رواية ابن القاسم ‪ ،‬وهي‬
‫ن في ذلك عقابا‬
‫المشهورة في المذهب ‪ .‬وقد استحسن مالك التّصدّق باللّبن المغشوش ‪ ،‬ل ّ‬
‫للجاني بإتلفه عليه ‪ ،‬ونفعا للمساكين بالعطاء لهم ‪ .‬وقال مالك في الزّعفران والمسك بمثل‬
‫قوله في اللّبن إذا غشّهما الجاني ‪ .‬وقال ابن القاسم بذلك في القليل من تلك الموال ‪ ،‬لنّ‬
‫التّصدّق بالمغشوش في الكثير من هذه الموال الثّمينة تضيع به أموال عظيمة على أصحابها ‪،‬‬
‫فيعزّرون في مثل تلك الحوال بعقوبات أخرى ‪.‬‬
‫وعند البعض ‪ :‬أنّ مذهب مالك التّسوية بين القليل والكثير ‪ .‬وروى أشهب عن مالك منع‬
‫ل من مطرّف وابن الماجشون من فقهاء المذهب ‪،‬‬
‫العقوبات الماليّة ‪ ،‬وأخذ بهذه الرّواية ك ّ‬
‫وعندهما ‪ :‬أنّ من غشّ أو نقص من الوزن يعاقب بالضّرب ‪ ،‬والحبس ‪ ،‬والخراج من السّوق‬
‫‪ ،‬وأنّ ما غشّ من الخبز واللّبن ‪ ،‬أو غشّ من المسك والزّعفران ل يفرّق ول ينهب‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّغيير ‪:‬‬
‫‪ - 23‬من التّعزير بالتّغيير نهي النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن كسر سكّة المسلمين الجائزة‬
‫بين المسلمين ‪ ،‬كالدّراهم والدّنانير ‪ ،‬إل إذا كان بها بأس ‪ ،‬فإذا كانت كذلك كسرت ‪ ،‬وفعل‬
‫الرّسول صلى ال عليه وسلم في التّمثال الّذي كان في بيته ‪ ،‬والسّتر الّذي به تماثيل ‪ ،‬إذ قطع‬
‫رأس التّمثال فصار كالشّجرة ‪ ،‬وقطع السّتر إلى وسادتين منتبذتين يوطآن ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬تفكيك آلت اللّهو ‪ ،‬وتغيير الصّور المصوّرة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّمليك ‪:‬‬
‫‪ - 24‬من التّعزير بالتّمليك ‪ « :‬قضاء الرّسول صلى ال عليه وسلم فيمن سرق من الثّمر‬
‫المعلّق قبل أن يؤخذ إلى الجرين بجلدات نكال ‪ ،‬وغرم ما أخذ مرّتين » « وفيمن سرق من‬
‫الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح بجلدات نكال ‪ ،‬وغرم ذلك مرّتين » وقضاء عمر رضي ال‬
‫عنه بتضعيف الغرم على كاتم الضّالّة ‪ ،‬وقد قال بذلك طائفة من العلماء ‪ ،‬منهم ‪ :‬أحمد ‪،‬‬
‫وغيره ‪ ،‬ومن ذلك إضعاف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابيّ أخذها مماليك جياع ‪ ،‬إذ‬
‫أضعف الغرم على سيّدهم ‪ ،‬ودرأ القطع ‪.‬‬
‫أنواع أخرى من التّعزير ‪:‬‬
‫هناك أنواع أخرى من التّعزير غير ما سبق ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬العلم المجرّد ‪ ،‬والحضار لمجلس القضاء ‪ ،‬والتّوبيخ والهجر ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬العلم المجرّد ‪:‬‬
‫‪ - 25‬العلم ‪ :‬صورته أن يقول القاضي للجاني ‪ :‬بلغني أنّك فعلت كذا وكذا ‪ ،‬أو يبعث‬
‫القاضي أمينه للجاني ‪ ،‬ليقول له ذلك ‪.‬‬
‫وقد قيّد البعض العلم ‪ ،‬بأن يكون مع النّظر بوجه عابس ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الحضار لمجلس القضاء ‪:‬‬
‫‪ - 26‬قال الكاسانيّ ‪ :‬إنّ هذا النّوع من التّعزير يكون بالعلم ‪ ،‬والذّهاب إلى باب القاضي ‪،‬‬
‫والخطاب بالمواجهة ‪.‬‬
‫وقال البعض ‪ :‬إنّه يكون بالعلم ‪ ،‬والجرّ لباب القاضي ‪ ،‬والخصومة فيما نسب إلى الجاني‪.‬‬
‫ن في هذه العقوبة يؤخذ الجاني إلى القاضي زيادة‬
‫والفرق بين هذه العقوبة والعلم المجرّد ‪ :‬أ ّ‬
‫عن العلم ‪ ،‬وذلك ليخاطبه في المواجهة ‪ .‬وبناء على ما ذكره الكمال بن الهمام ‪ :‬تتميّز هذه‬
‫عن العلم المجرّد بالخصومة فيما نسب إلى الجاني ‪ .‬وكثيرا ما يلجأ القاضي لهذين النّوعين‬
‫أو لواحد منهما إذا كان الجاني قد ارتكب الجريمة على سبيل الزّلّة والنّدور ابتداء ‪ ،‬إذا كان‬
‫ذلك زاجرا ‪ ،‬على شريطة كون الجريمة غير جسيمة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّوبيخ ‪:‬‬
‫مشروعيّة التّوبيخ ‪:‬‬
‫‪ - 27‬التّعزير بالتّوبيخ مشروع باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬فقد « روى أبو ذرّ رضي ال عنه ‪ :‬أنّه سابّ‬
‫رجل فعيّره بأمّه ‪ ،‬فقال الرّسول صلى ال عليه وسلم يا أبا ذرّ ‪ ،‬أعيّرته بأمّه ‪ ، ،‬إنّك امرؤ‬
‫فيك جاهليّة » ‪ .‬وقال الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪َ « :‬ليّ الواجد ُيحِلّ عرضه وعقوبته » ‪.‬‬
‫وقد فسّر النّيل من العرض بأن يقال له مثل ‪ :‬يا ظالم ‪ ،‬يا معتد ‪ .‬وهذا نوع من التّعزير‬
‫بالقول ‪ .‬وقد جاء في تبصرة الحكّام لبن فرحون ‪ :‬وأمّا التّعزير بالقول فدليله ما ثبت في سنن‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أتي برجل قد‬
‫أبي داود عن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬
‫شرب فقال ‪ :‬اضربوه فقال أبو هريرة ‪ :‬ف ِمنّا الضّارب بيده ‪ ،‬ومنّا الضّارب بنعله ‪ ،‬والضّارب‬
‫بثوبه » ‪ .‬وفي رواية بإسناده ‪ « :‬ثمّ قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم لصحابه بكّتوه‬
‫فأقبلوا عليه يقولون ‪ :‬ما اتّقيت اللّه ‪ ،‬ما خشيت اللّه ‪ ،‬ما استحييت من رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم » ‪ .‬وهذا التّبكيت من التّعزير بالقول ‪.‬‬
‫وقد عزّر عمر رضي ال عنه بالتّوبيخ ‪ .‬فقد روي عنه أنّه أنفذ جيشا فغنموا غنائم ‪ ،‬فلمّا‬
‫رجعوا لبسوا الحرير والدّيباج ‪ ،‬فلمّا رآهم تغيّر وجهه ‪ ،‬وأعرض عنهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أعرضت‬
‫عنّا ‪ ،‬فقال ‪ :‬انزعوا ثياب أهل النّار ‪ ،‬فنزعوا ما كانوا يلبسون من الحرير والدّيباج ‪.‬‬
‫وذلك فيه تعزير لهم بالعراض عنهم ‪ ،‬وفيه توبيخ لهم ‪.‬‬
‫كيفيّة التّوبيخ ‪:‬‬
‫‪ - 28‬التّوبيخ قد يكون بإعراض القاضي عن الجاني ‪ ،‬أو بالنّظر له بوجه عبوس ‪ ،‬وقد يكون‬
‫بإقامة الجاني من مجلس القضاء ‪ ،‬وقد يكون بالكلم العنيف ‪ ،‬ويكون بزواجر الكلم وغاية‬
‫الستخفاف ‪ ،‬على شريطة أن ل يكون فيه قذف ‪ ،‬ومنع البعض ما فيه السّبّ أيضا ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الهجر ‪:‬‬
‫‪ - 29‬الهجر معناه ‪ :‬مقاطعة الجاني ‪ ،‬والمتناع عن التّصال به ‪ ،‬أو معاملته بأيّ نوع ‪ ،‬أو‬
‫أيّة طريقة كانت ‪ .‬وهو مشروع بدليل قوله تعالى ‪ { :‬وَاللتيْ َتخَافُونَ ُنشُوزَهُنّ َفعِظُو ُهنّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أصحابه الثّلثة الّذين‬
‫جرُو ُهنّ في ال َمضَاجِعِ } وقد « هجر النّب ّ‬
‫وَا ْه ُ‬
‫تخلّفوا عنه في غزوة تبوك » ‪ .‬وعاقب عمر صبيغا بالهجر لمّا نفاه إلى البصرة ‪ ،‬وأمر أل‬
‫يجالسه أحد ‪ .‬وهذا منه عقوبة بالهجر ‪.‬‬
‫الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 30‬الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير قد تكون من قبيل ما شرع في جنسه عقوبة مقدّرة من‬
‫حدّ أو قصاص ‪ ،‬لكنّ هذه العقوبة ل تطبّق ‪ ،‬لعدم توافر شرائط تطبيقها ‪ ،‬ومنها ما فيه عقوبة‬
‫مقدّرة ‪ ،‬ولكنّ هذه العقوبة ل تطبّق عليها لمانع ‪ ،‬كوجود شبهة تستوجب درء الحدّ ‪ ،‬أو عفو‬
‫صاحب الحقّ عن طلبه ‪.‬‬
‫وقد تكون الجرائم التّعزيريّة غير ما ذكر فيكون فيها التّعزير أصلً ‪.‬‬
‫ويدخل في هذا القسم ما ل يدخل في سابقه من جرائم ‪ .‬وفيما يلي تفصيل ذلك ‪.‬‬
‫الجرائم الّتي يشرع فيها التّعزير بديلً عن الحدود ‪:‬‬
‫جرائم العتداء على النّفس ‪ ،‬وما دونها ‪:‬‬
‫‪ - 31‬يدخل في هذا الموضوع ‪ :‬الكلم في جرائم العتداء على النّفس ‪ ،‬وهي الّتي يترتّب‬
‫عليها إزهاق الرّوح ‪ ،‬والكلم في جرائم العتداء على ما دون النّفس وهي الّتي تقع على‬
‫البدن دون أن تؤدّي لزهاق الرّوح ‪:‬‬
‫جرائم القتل " الجناية على النّفس " ‪:‬‬
‫القتل العمد ‪:‬‬
‫‪ - 32‬القتل العمد العدوان موجبه القصاص ‪ ،‬ويجب لذلك توافر شروط ‪ ،‬أهمّها ‪ :‬كون القاتل‬
‫قد تعمّد تعمّدا محضا ليس فيه شبهة ‪ ،‬وكونه مختارا ‪ ،‬ومباشرا للقتل ‪ ،‬وأل يكون المقتول‬
‫جزء القاتل ‪ ،‬وأن يكون معصوم الدّم مطلقا ‪ .‬وفضلً عن ذلك يجب للقصاص ‪ :‬أن يطلب من‬
‫وليّ الدّم ‪ .‬فإذا اختلّ شرط من هذه الشّروط امتنع القصاص ‪ ،‬وفيه التّعزير ‪.‬‬
‫وفي ذلك خلف وتفصيل ينظر في ( قتل ‪ -‬قصاص ) ‪.‬‬
‫القتل شبه العمد ‪:‬‬
‫‪ - 33‬قال البهوتيّ ‪ ،‬نقلً عن " المبدع " ‪ :‬قد يقال بوجوب التّعزير في القتل شبه العمد ‪ ،‬لنّ‬
‫الكفّارة حقّ للّه تعالى وليست لجل الفعل ‪ ،‬بل بدل النّفس الفائتة ‪ ،‬فأمّا نفس الفعل المحرّم ‪-‬‬
‫الّذي هو الجناية ‪ -‬فل كفّارة فيه ‪.‬‬
‫ن ما ل قصاص فيه عندهم كالقتل بالمثقّل ‪ -‬وهو‬
‫‪ - 34‬ومن الصول الثّابتة عند الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫القتل بمثل الحجر الكبير أو الخشبة العظيمة ‪ -‬يجوز للمام أن يعزّر فيه بما يصل للقتل ‪ ،‬إذا‬
‫تكرّر ارتكابه ‪ ،‬ما دامت فيه مصلحة ‪ .‬وبناء على هذا الصل قالوا بالتّعزير بالقتل لمن يتكرّر‬
‫منه الخنق ‪ ،‬أو التّغريق ‪ ،‬أو اللقاء من مكان مرتفع ‪ ،‬إذا لم يندفع فساده إل بالقتل ‪.‬‬
‫العتداء على ما دون النّفس ‪:‬‬
‫‪ - 35‬إذا كانت الجناية على ما دون النّفس عمدا فيشترط للقصاص فضل عن شروطه في‬
‫النّفس ‪ :‬المماثلة ‪ ،‬وإمكان استيفاء المثل ‪.‬‬
‫ويرى مالك التّعزير أيضا في الجناية العمد على ما دون النّفس ‪ ،‬إذا سقط القصاص ‪ ،‬أو امتنع‬
‫لسبب أو لخر ‪ ،‬فيكون في الجريمة التّعزير مع الدّية ‪ ،‬أو الرش ‪ ،‬أو بدونه ‪ ،‬تبعا للحوال‬
‫‪ .‬ومثال ذلك أن تكون الجناية على عظم خطر ‪.‬‬
‫إذ العظام الخطرة ل قصاص فيها عنده ‪ ،‬مثل عظام الصّلب ‪ ،‬والفخذ ‪ ،‬والعنق ‪ ،‬ومثل المنقّلة‬
‫‪ ،‬والمأمومة ‪ ،‬ويقال ذلك أيضا في الجائفة ‪ ،‬لنّه ل يستطاع فيها القصاص ‪ ،‬وفي كلّ ما‬
‫ذهبت منفعته بالجناية مع بقائه قائما في الجسم ‪ ،‬وبقاء جماله ‪ ،‬فإذا ضربه على عينه فذهب‬
‫بصرها ‪ ،‬وبقي جمالها فل قود فيها ‪ .‬ومثل ذلك اليد إذا شلّت ولم تبن عن الجسم ‪ ،‬ففي هذه‬
‫وما يماثلها يعزّر الجاني مع أخذ العقل منه ( أي الدّية ) ‪.‬‬
‫ن في ذلك التّعزير ‪ ،‬ل‬
‫وإذا لم يترك العتداء على الجسم أثرا ‪ :‬فأغلب الفقهاء على أ ّ‬
‫القصاص ‪ .‬ولدى بعض المالكيّة القصاص في ضربة السّوط ‪ ،‬ولو لم يحدث جرحا ول‬
‫شجّة ‪ ،‬مع أنّه ل قصاص عندهم في اللّطمة ‪ ،‬وضربة العصا ‪ ،‬إل إذا خلّفت جرحا أو شجّة ‪.‬‬
‫ن ضربة السّوط في ذلك كاللّطمة فيه الدب ‪ ،‬ونقل ذلك ابن عرفة عن‬
‫وروي عن مالك ‪ :‬أ ّ‬
‫أشهب ‪ .‬ويرى ابن القيّم وبعض الحنابلة ‪ :‬القصاص في اللّطمة والضّربة ‪.‬‬
‫الزّنى الّذي ل حدّ فيه ‪ ،‬ومقدّماته ‪:‬‬
‫ن فيه حدّ الزّنى ‪ ،‬أمّا إذا لم يطبّق الحدّ‬
‫‪ - 36‬الزّنى إذا توافرت الشّرائط الشّرعيّة لثبوته فإ ّ‬
‫ن الفعل‬
‫المقدّر لوجود شبهة ‪ ،‬أو لعدم توافر شريطة من الشّرائط الشّرعيّة لثبوت الح ّد ‪ ،‬فإ ّ‬
‫يكون جريمة شرع الحكم فيها ‪ -‬أو في جنسها ‪ -‬لكنّه لم يطبّق ‪.‬‬
‫ل جريمة ل حدّ فيها ول قصاص ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫وك ّ‬
‫وبناء على ذلك ‪ :‬إذا كانت هناك شبهة تدرأ الحدّ ‪ ،‬سواء كانت شبهة فعل ‪ ،‬أو شبهة ملك ‪ ،‬أو‬
‫شبهة عقد ‪ ،‬فإنّ الح ّد ل يطبّق ‪ .‬لكنّ الجاني يعزّر ‪ ،‬لنّه ارتكب جريمة ليست فيها عقوبة‬
‫مقدّرة ‪.‬‬
‫وتعرف الشّبهة بأنّها ‪ :‬ما يشبه الثّابت وليس بثابت ‪ .‬أو ‪ :‬هي وجود المبيح صورة ‪ ،‬مع عدم‬
‫حكمه أو حقيقته ‪ ،‬وتفصيل ذلك في ( اشتباه ) ‪ .‬وإذا كانت المزنيّ بها ميّتة ففي هذا الفعل‬
‫ي بها شريطة في الحدّ ‪.‬‬
‫التّعزير ‪ ،‬لنّه ل يعتبر زنى ‪ ،‬إذ حياة المزن ّ‬
‫وإذا لم يكن الفعل من رجل فل يقام الحدّ ‪ ،‬بل التّعزير ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬المساحقة ‪.‬‬
‫ن فيه التّعزير ‪ ،‬ومن ذلك أن‬
‫وإذا لم يكن الفعل في قبل امرأة فأبو حنيفة على عدم الحدّ ‪ ،‬لك ّ‬
‫يكون الفعل في الدّبر ‪ .‬وهو قول للشّافعيّة ‪ .‬والقول بالقتل على كلّ حال مرويّ عن ابن عبّاس‬
‫رضي ال عنهما وهو قول آخر للشّافعيّة ‪ ،‬والمذهب عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه زنى ‪ ،‬وفيه الحدّ ‪.‬‬
‫وقال قوم ‪ :‬إنّ اللّواط زنى ‪ ،‬وفيه حدّ الزّنى ‪ .‬ومن هؤلء ‪ :‬مالك ‪ ،‬وهو المشهور لدى‬
‫الشّافعيّ ‪ ،‬وهو رأي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ‪ .‬واختلفت الرّواية عن أحمد ‪ :‬فقد روي‬
‫ن فيه ح ّد الزّنى ‪ :‬وإذا كان الفعل في زوجة الفاعل فل ح ّد فيه بالجماع ‪ .‬والجمهور‬
‫عنه أ ّ‬
‫ل ما دون الوقاع من‬
‫على أنّه يستوجب التّعزير ‪ .‬وممّا يستوجب التّعزير في هذا المجال ك ّ‬
‫أفعال ‪ ،‬كالوطء فيما دون الفرج ‪ ،‬ويستوي فيه المسلم ‪ ،‬والكافر ‪ ،‬والمحصن ‪ ،‬وغيره ‪ .‬ومنه‬
‫أيضا ‪ :‬إصابة كلّ محرّم من المرأة غير الجماع ‪ .‬وعناق الجنبيّة‪ ،‬أم تقبيلها‪ .‬وممّا فيه‬
‫التّعزير كذلك ‪ :‬كشف العورة لخر ‪ ،‬وخداع النّساء ‪ ،‬والقوادة ‪ ،‬وهي ‪ :‬الجمع بين الرّجال‬
‫والنّساء للزّنى ‪ ،‬وبين الرّجال والرّجال للّواط ‪.‬‬
‫سبّ ‪:‬‬
‫القذف الّذي ل حدّ فيه وال ّ‬
‫‪ - 37‬حدّ القذف ل يقام على القاذف إلّا بشرائطه ‪ ،‬فإذا انعدم واحد منها أو اختلّ فإنّ الجاني‬
‫ل يحدّ ‪ .‬ويعزّر عند طلب المقذوف ‪ ،‬لنّه ارتكب معصية ل حدّ فيها ‪.‬‬
‫ومن شروط القذف الّذي فيه الحدّ ‪ :‬كون المقذوف محصنا ‪ .‬فإذا لم يكن كذلك فل يحدّ‬
‫القاذف ‪ ،‬ولكن يعزّر ‪ .‬ومن ذلك أن يقذف مجنونا بالزّنى ‪ .‬أو صغيرا بالزّنى ‪ .‬أو مسلمة قد‬
‫زنت ‪ .‬أو مسلما قد زنى ‪ ،‬أو من معها أولد ل يعرف لهم أب ‪ ،‬وذلك لعدم العفّة في هذه‬
‫الثّلثة الخيرة ‪ .‬ومنها كون المقذوف معلوما ‪ ،‬فإن لم يكن كذلك فل حدّ ‪ ،‬بل التّعزير ‪ ،‬لنّ‬
‫الفعل معصية ل حدّ فيها ‪ .‬وبناء على ذلك يعزّر ‪ -‬ول يحدّ ‪ -‬من قذف بالزّنى جدّ آخر دون‬
‫بيان الجدّ ‪ .‬أو أخاه كذلك ‪ ،‬وكان له أكثر من أخ ‪.‬‬
‫ول حدّ في القذف بغير الصّريح ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬القذف بالكناية ‪ ،‬أو التّعريض ‪ ،‬فليس فيه عند‬
‫الحنفيّة حدّ ‪ ،‬بل التّعزير ‪ ،‬وكذلك عند الشّافعيّة ‪ .‬ويرى مالك ‪ :‬الحدّ في القذف بالتّعريض أو‬
‫ن الفعل يكون جريمة ل ح ّد فيها ‪.‬‬
‫الكناية ‪ .‬والّذين منعوا الحدّ قالوا بالتّعزير ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول حدّ إذا رماه بألفاظ ل تفيد الزّنى صراحة ‪ .‬كقوله ‪ :‬يا فاجر ‪ ،‬بل يعزّر ‪.‬‬
‫وكذلك الشّأن إذا رماه بما ل يعتبر زنى ‪ ،‬كمن رمى آخر بالتّخنّث ‪ .‬ويعزّر كذلك عند أبي‬
‫حنيفة من يرمي آخر بأنّه يعمل عمل قوم لوط ‪ ،‬لنّ هذا الفعل ل يوجب حدّ الزّنى عنده ‪ .‬أمّا‬
‫مالك والشّافعيّ وأبو يوسف ومحمّد فإنّهم يقولون بالحدّ ‪ ،‬ومن ثمّ فل تعزير في ذلك ‪ ،‬بل فيه‬
‫ن اللّواط هل هو زنى أم ل ؟ ‪.‬‬
‫حدّ القذف عند هؤلء ‪ .‬ومردّ الخلف ‪ :‬هو في أ ّ‬
‫فمن قالوا ‪ :‬بأنّه زنى ‪ ،‬جعلوا في القذف به حدّ القذف ‪ .‬ومن قالوا ‪ :‬بغير ذلك ‪ ،‬جعلوا في‬
‫القذف به التّعزير ‪ .‬ومن قذف آخر قذفا مقيّدا بشرط أو أجل يعزّر ول يحدّ ‪.‬‬
‫وإذا لم يكن القول قذفا ‪ ،‬بل مجرّد سبّ أو شتم فإنّه يكون معصية ل حدّ فيها ‪ ،‬ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله ‪ :‬يا نصرانيّ ‪ ،‬أو يا زنديق ‪ ،‬أو يا كافر ‪ ،‬في حين أنّه مسلم ‪ .‬وكذلك من قال‬
‫لخر ‪ :‬يا مخنّث ‪ ،‬أو يا منافق ‪ ،‬ما دام المجنيّ عليه غير متّصف بذلك ‪ .‬ويعزّر كذلك في‬
‫مثل ‪ :‬يا آكل الرّبا ‪ ،‬أو يا شارب الخمر ‪ ،‬أو يا خائن ‪ ،‬أو يا سارق ‪ ،‬وكلّه بشرط كون‬
‫المجنيّ عليه غير معروف بما نسب إليه ‪ .‬وكذلك من قال لخر ‪ :‬يا بليد ‪ ،‬أو يا قذر ‪ ،‬أو يا‬
‫سفيه ‪ ،‬أو يا ظالم ‪ ،‬أو يا أعور ‪ ،‬وهو صحيح ‪ ،‬أو يا مقعد ‪ ،‬وهو صحيح كذلك على سبيل‬
‫الشّتم ‪ .‬وعلى وجه العموم يعزّر من شتم آخر ‪ ،‬مهما كان الشّتم ‪ ،‬لنّه معصية ‪ .‬ويرجع في‬
‫تحديد الفعل الموجب للتّعزير إلى العرف ‪ ،‬فإذا لم يكن الفعل المنسوب للمجنيّ عليه ممّا يلحق‬
‫به في العرف العار والذى والشّين ‪ ،‬فل عقاب على الجاني ‪ ،‬إذ ل يكون ثمّة جريمة ‪.‬‬
‫السّرقة الّتي ل حدّ فيها ‪:‬‬
‫‪ - 38‬السّرقة من جرائم الحدود ما دامت قد استوفت شروطها الشّرعيّة ‪ ،‬وأهمّها ‪ :‬الخفية ‪.‬‬
‫وكون موضوع السّرقة مال ‪ ،‬مملوكا لغير السّارق ‪ ،‬محرّزا ‪ ،‬نصابا ‪ .‬فإذا تخلّف شرط من‬
‫شروط الحدّ فل يقام ‪ ،‬ولكن يعزّر الفاعل ‪ ،‬لنّه ارتكب جريمة ليس فيها حدّ مقدّر ‪ .‬وتفصيل‬
‫ذلك في مصطلح ‪ ( :‬سرقة ) ‪.‬‬
‫قطع الطّريق الّذي ل حدّ فيه ‪:‬‬
‫‪ - 39‬قطع الطّريق كغيره من جرائم الحدود ‪ ،‬يجب لكي يكون فيه الحدّ أن تتوافر شروط‬
‫معيّنة ‪ ،‬وإلّا فل يقام الحدّ ‪ ،‬ويعزّر الجاني ما دام قد ارتكب معصية ل ح ّد فيها ‪.‬‬
‫ومن الشّروط ‪ :‬أن يكون الجاني بالغا ‪ ،‬ذكرا ‪ ،‬وأن يكون المجنيّ عليه مسلما ‪ ،‬أو ذ ّميّا ‪ ،‬وأن‬
‫تكون يده على المال صحيحة ‪ ،‬وأن ل يكون في القطّاع ذو رحم محرم لحد المقطوع عليه ‪،‬‬
‫وأن يكون المقطوع فيه مالً متقوّما معصوما مملوكا ‪ ،‬ل ملك فيه للقاطع ‪ ،‬ول شبهة ملك ‪،‬‬
‫محرّزا ‪ ،‬نصابا ‪ ،‬وأن يكون قطع الطّريق في غير المصر ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في ( حرابة ) ‪.‬‬
‫الجرائم الّتي موجبها الصليّ التّعزير ‪:‬‬
‫بعض الجرائم الّتي تقع على آحاد النّاس ‪:‬‬
‫شهادة الزّور ‪:‬‬
‫ج َت ِنبُوا قَولَ الزّورِ } ‪.‬‬
‫‪ - 40‬حرّم قول الزّور في القرآن الكريم بقوله تعالى { وَا ْ‬
‫ن الرّسول صلى ال عليه وسلم ع ّد قول الزّور وشهادة الزّور من‬
‫سنّة بما ورد ‪ « :‬أ ّ‬
‫وفي ال ّ‬
‫أكبر الكبائر » وما دام أنّه ليس فيها عقوبة مقدّرة ‪ ،‬ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫الشّكوى بغير حقّ ‪:‬‬
‫ق يؤدّب ‪.‬‬
‫‪ - 41‬ذكر صاحب ( تبصرة الحكّام ) أنّ من قام بشكوى بغير ح ّ‬
‫وقال البهوتيّ ‪ :‬إنّه إذا ظهر كذب المدّعي في دعواه بما يؤذي به المدّعى عليه ‪ ،‬فإنّه يعزّر‬
‫لكذبه وإيذائه للمدّعى عليه ‪.‬‬
‫قتل حيوان غير مؤذ أو الضرار به ‪:‬‬
‫ن امرأة دخلت‬
‫‪ - 42‬نهى الرّسول صلى ال عليه وسلم عن تعذيب الحيوان في قوله ‪ « :‬إ ّ‬
‫النّار في هرّة حبستها ‪ ،‬فل هي أطعمتها وسقتها ‪ ،‬ول هي تركتها تأكل من خشاش الرض »‬
‫فهذا الفعل معصية ‪ ،‬فيعزّر الفاعل ما دام الفعل ليس فيه حدّ مقدّر ‪.‬‬
‫ن ‪ :‬ممّا‬
‫ومن المثلة على الجرائم في هذا المجال ‪ :‬قطع ذنب حيوان ‪ ،‬فقد ذكر فقهاء الحنفيّة أ ّ‬
‫يوجب التّعزير ما ذكر ابن رستم فيمن قطع ذنب برذون ‪.‬‬
‫انتهاك حرمة ملك الغير ‪:‬‬
‫‪ - 43‬دخول بيوت الغير بدون إذن ممنوع شرعا لقوله تعالى ‪ { :‬ل َت ْدخُلُوا ُبيُوتَا غَيرَ ُبيُو ِت ُكمْ‬
‫حتّى َتسْ َت ْأ ِنسُوا َو ُتسَّلمُوا عَلَى أَهِْلهَا } وبناء على هذا الصل قيل بتعزير من يوجد في منزل‬
‫آخر بغير إذنه أو علمه ‪ ،‬ودون أن يتّضح سبب مشروع لهذا الدّخول ‪.‬‬
‫جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة ‪:‬‬
‫‪ - 44‬توجد جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة ليست فيها عقوبات مقدّرة ‪ ،‬وفيها التّعزير ‪ .‬من‬
‫سسُوا } ‪،‬‬
‫هذه الجرائم ‪ :‬التّجسّس للعد ّو على المسلمين ‪ ،‬فهو منهيّ عنه لقوله تعالى { ول َتجَ ّ‬
‫ن إِليْهمْ بِالمَ َودّةِ } ‪.‬‬
‫عدُ ّو ُكمْ أَولِياءَ تُلْقُو َ‬
‫عدُوّي وَ َ‬
‫خذُوا َ‬
‫وقوله { ‪ . . .‬ل َت ّت ِ‬
‫ولمّا كانت هذه الجريمة ليست لها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير ‪ .‬وتفصيله في ( تجسّس ) ‪.‬‬
‫الرّشوة ‪:‬‬
‫سحْتِ } وهي في‬
‫ن لِ ْل َكذِبِ أكّالُونَ لِل ّ‬
‫سمّاعُو َ‬
‫‪ - 45‬هي جريمة محرّمة بالقرآن لقوله تعالى ‪َ { :‬‬
‫اليهود وكانوا يأكلون السّحت من الرّشوة ‪.‬‬
‫سنّة لحديث ‪ « :‬لعن اللّه الرّاشي والمرتشي والرّائش » ‪.‬‬
‫وهي كذلك محرّمة بال ّ‬
‫ولمّا كانت هذه الجريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫تجاوز الموظّفين حدودهم ‪ ،‬وتقصيرهم ‪:‬‬
‫هذه معصية ليست فيها عقوبة مقدّرة ‪ ،‬ولها صور منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬جور القاضي ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا جار القاضي في الحكم عمدا يعزّر ‪ ،‬ويعزل ‪ ،‬ويضمن في ماله ‪ ،‬لنّه فيما جار ليس‬ ‫‪46‬‬

‫بقاض ‪ ،‬ولكنّه إتلف بغير حقّ ‪ ،‬فيكون فيه كغيره في إيجاب الضّمان عليه في ماله ‪ .‬إذا جار‬
‫مخطئا لم يكن عليه غرم قضائه ‪ ،‬لنّه ليس معصوما عن الخطأ لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ط ْأ ُتمْ به }‬
‫خَ‬‫ح فِيمَا َأ ْ‬
‫جنَا ٌ‬
‫{ وََليْسَ عَلَيكُمْ ُ‬
‫ب ‪ -‬ترك العمل أو المتناع عمدا عن تأدية الواجب ‪:‬‬
‫ل عمل من شأنه تعطيل الوظائف العامّة أو عدم انتظامها هو جريمة تستوجب التّعزير‬
‫‪ - 47‬ك ّ‬
‫‪ ،‬والغرض من ذلك ضمان حسن سير العمل ‪ ،‬حتّى تقوم السّلطة بواجباتها على أكمل وجه ‪.‬‬
‫وعلى ذلك ‪ :‬فيعزّر كلّ من ترك عمله ‪ ،‬أو امتنع عن عمل من أعمال الوظيفة قاصدا عرقلة‬
‫ل من يتمرّد في وظيفته ‪ ،‬أو يستعمل‬
‫سير العمل ‪ ،‬أو الخلل بانتظامه ‪ ،‬ويعزّر عموما ك ّ‬
‫القوّة ‪ ،‬أو العنف مع رؤسائه ‪ ،‬ويترك عمله ‪.‬‬
‫ومن ذلك تعدّي أحد الموظّفين المدنيّين أو العسكريّين على غيره استغللً لوظيفته ‪.‬‬
‫مقاومة رجال السّلطة والعتداء عليهم ‪:‬‬
‫‪ - 48‬التّعدّي على الموظّفين العموميّين والمكلّفين بخدمة عامّة يستحقّ التّعزير ‪.‬‬
‫ومن المثلة الّتي أوردها الفقهاء في هذا المجال ‪ :‬إهانة العلماء أو رجال الدّولة بما ل يليق ‪،‬‬
‫سواء كان ذلك بالشارة ‪ ،‬أو القول ‪ ،‬أو بغير ذلك ‪ .‬والتّعدّي على أحد الجنود باليد ‪ ،‬أو‬
‫تمزيق ثيابه ‪ ،‬أو سبّه ‪ ،‬ففيه التّعزير ‪ ،‬والتّضمين عن التّلف ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬إهانة محكمة‬
‫قضائيّة ‪ ،‬وكذلك جرائم الجلسة ‪ ،‬فالقاضي له فيها التّعزير ‪ ،‬وإن عفا فحسن ‪.‬‬
‫هرب المحبوسين وإخفاء الجناة ‪:‬‬
‫‪ - 49‬من ذلك من يؤوي محاربا ‪ ،‬أو سارقا ‪ ،‬أو نحوهما ‪ ،‬ممّن عليه حقّ للّه تعالى أو لدميّ‬
‫‪ ،‬ويمنع من أن يستوفى هذا الحقّ ‪ .‬فقد قيل ‪ :‬إنّه شريك في جرمه ويعزّر ‪ ،‬ويطلب‬
‫إحضاره ‪ ،‬أو العلم عن مكانه ‪ ،‬فإن امتنع يحبس ‪ ،‬ويضرب مرّة بعد مرّة‪ ،‬حتّى يستجيب‪.‬‬
‫تقليد المسكوكات الزّيوف والمزوّرة ‪:‬‬
‫‪ - 50‬تقليد المسكوكات الّتي في التّداول والعانة على صرف العملة الفاسدة ونشرها جريمة‬
‫سكّة المصنوعة ريال وذهبا‬
‫فيها التّعزير ‪ .‬ففي ( عدّة أرباب الفتوى ) في رجل يعمل ال ّ‬
‫وروبيّة ‪ ،‬وفي رجل ينشر هذه المسكوكات الزّائفة ويروّجها ‪ :‬أنّهما يعزّران ‪.‬‬
‫التّزوير ‪:‬‬
‫ن معن بن زياد عمل خاتما على نقش خاتم بيت‬
‫‪ - 51‬في هذه الجريمة التّعزير ‪ ،‬فقد روي ‪ :‬أ ّ‬
‫المال فأخذ مالً ‪ ،‬فضربه عمر رضي ال عنه مائة جلدة ‪ ،‬وحبسه ‪ ،‬ث ّم ضربه مائة أخرى ‪،‬‬
‫ثمّ ثالثة ‪ ،‬ثمّ نفاه ‪ .‬ومن موجبات التّعزير ‪ :‬كتابة الخطوط والصّكوك بالتّزوير ‪.‬‬
‫البيع بأكثر من السّعر الجبريّ ‪:‬‬
‫‪ - 52‬قد تدعو الحال لتسعير الحاجيّات ‪ ،‬فإن كان ذلك ‪ :‬فالبيع بأكثر من السّعر المحدّد فيه‬
‫التّعزير ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬المتناع عن البيع ‪ ،‬ففيه المر بالواجب والعقاب على ترك الواجب ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬احتكار الحاجات للتّحكّم في السّعر لحديث ‪ « :‬ل يحتكر إل خاطئ » ‪.‬‬
‫الغشّ في المكاييل والموازين ‪:‬‬
‫ستَقِيمِ } ‪.‬‬
‫خسِرِينَ َو ِزنُوا بِال ِقسْطَاسِ ال ُم ْ‬
‫‪ - 53‬يقول اللّه تعالى ‪ { :‬أَ ْوفُوا ال َكيْلَ وَل َتكُونُوا مِن ال ُم ْ‬
‫وفي الحديث ‪ « :‬من غشّنا فليس منّا » وبناء على ذلك ‪ :‬فالغشّ في الكيل والوزن معصية ‪،‬‬
‫وليس فيها حدّ مقدّر ‪ ،‬ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫المشتبه فيهم ‪:‬‬
‫‪ - 54‬قد يكون التّعزير ل لرتكاب فعل معيّن ‪ ،‬ولكن لحالة الجاني الخطرة ‪ ،‬وقد قال بعض‬
‫الفقهاء بتعزير من يتّهم بالسّرقة ‪ ،‬ولو لم يرتكب سرقة جديدة ‪ ،‬ومن يعرف أو يتّهم بارتكاب‬
‫جرائم ضدّ النّفس ‪ ،‬كالقتل والضّرب والجرح ‪.‬‬
‫سقوط التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 55‬تسقط العقوبة التّعزيريّة بأسباب ‪ ،‬منها ‪ :‬موت الجاني ‪ ،‬والعفو عنه ‪ ،‬وتوبته ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬سقوط التّعزير بالموت ‪:‬‬
‫‪ - 56‬إذا كانت العقوبة بدنيّة أو مقيّدة للح ّريّة فإنّ موت الجاني مسقط لها بداهة ‪ ،‬لنّ العقوبة‬
‫متعلّقة بشخصه ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬الهجر ‪ ،‬والتّوبيخ ‪ ،‬والحبس ‪ ،‬والضّرب ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم تكن العقوبة متعلّقة بشخص الجاني بل كانت منصّبة على ماله ‪ ،‬كالغرامة‬
‫والمصادرة ‪ ،‬فموت الجاني بعد الحكم ل يسقطها ‪ ،‬لنّه يمكن التّنفيذ بها على المال ‪ ،‬وهي‬
‫تصير بالحكم دينا في ال ّذمّة ‪ ،‬وتتعلّق تبعا لذلك بتركة الجاني المحكوم عليه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬سقوط التّعزير بالعفو ‪:‬‬
‫‪ - 57‬العفو جائز في التّعزير إذا كان لحقّ اللّه تعالى ‪ ،‬لقول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪« :‬‬
‫تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة إلّا في حدّ من حدود اللّه » وقوله « أقيلوا ذوي الهيئات‬
‫عثراتهم » وقوله في النصار ‪ « :‬اقبلوا من محسنهم ‪ ،‬وتجاوزوا عن مسيئهم » ‪ « ،‬وقوله‬
‫لرجل ‪ -‬قال له ‪ :‬إنّي لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها ‪ : -‬أصلّيت معنا ؟ فردّ عليه‬
‫سيّئاتِ } » فالمام له العفو ‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫سنَاتِ ُيذْ ِهبْ َ‬
‫حَ‬‫بنعم ‪ ،‬فتل قوله تعالى { إنّ ال َ‬
‫وقيل ‪ :‬إنّه ل يجوز العفو إذا تعلّق التّعزير بحقّ اللّه تعالى كما في تارك الصّلة ‪.‬‬
‫وقال الصطخريّ في رسالته ‪ :‬ومن طعن على أحد الصّحابة ‪ ،‬وجب على السّلطان تأديبه ‪،‬‬
‫ن ما كان من التّعزير منصوصا عليه كوطء جارية‬
‫وليس له أن يعفو عنه ‪ .‬وقال البعض ‪ :‬إ ّ‬
‫امرأته ‪ ،‬أو جارية مشتركة ‪ ،‬يجب امتثال المر فيه ‪ ،‬فهنا ل يجوز العفو عندهم ‪ ،‬بل يجب‬
‫التّعزير ‪ ،‬لمتناع تطبيق الحدّ ‪ .‬وقال البعض ‪ :‬إنّ العفو يكون لمن كانت منه الفلتة والزّلّة ‪،‬‬
‫وفي أهل الشّرف والعفاف ‪ ،‬وعلى ذلك ‪ :‬فشخص الجاني له اعتبار في العفو ‪.‬‬
‫وإذا كان التّعزير لحقّ آدميّ فقد قيل كذلك ‪ :‬إنّ لوليّ المر تركه ‪ ،‬والعفو عنه ‪ ،‬حتّى ولو‬
‫طلبه صاحب الحقّ فيه ‪ ،‬شأنه في ذلك شأن التّعزير الّذي هو حقّ اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ي المر هنا تركه بعفو أو نحوه ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬ل يجوز تركه عند طلبه ‪ ،‬مثل القصاص ‪ ،‬فليس لول ّ‬
‫وعلى ذلك أغلب الفقهاء ‪ .‬وإذا عفا وليّ المر عن التّعزير فيما يمسّ المصلحة العامّة ‪ ،‬وكان‬
‫ق الدميّ ‪ ،‬فعلى وليّ المر الستيفاء ‪ ،‬لنّ‬
‫قد تعلّق بالتّعزير حقّ آدميّ كالشّتم ‪ ،‬فل يسقط ح ّ‬
‫المام ليس له ‪ -‬على الرّاجح ‪ -‬العفو عن حقّ الفرد ‪.‬‬
‫س هذا حقّ السّلطة ‪.‬‬
‫وإذا عفا الدميّ عن حقّه فإنّ عفوه يجوز ‪ ،‬ولكن ل يم ّ‬
‫وقد فرّق الماورديّ في هذا المجال بين حالتين ‪:‬‬
‫ي المر الخيار بين التّعزير أو العفو ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬إذا حصل عفو الدميّ قبل التّرافع ‪ ،‬فلول ّ‬
‫ب ‪ -‬وإذا حصل بعد التّرافع ‪ ،‬فقد اختلف في العقاب عن حقّ السّلطة على وجهين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬في قول أبي عبد اللّه الزّبيريّ يسقط بالعفو ‪ ،‬وليس لوليّ المر أن يعزّر فيه ‪ ،‬لنّ‬
‫حدّ القذف أغلظ ويسقط حكمه بالعفو ‪ ،‬فكان حكم التّعزير لحقّ السّلطة أولى بالسّقوط ‪ .‬والثّاني‬
‫ن لوليّ المر أن يعزّر فيه مع العفو قبل التّرافع إليه ‪ ،‬كما يجوز له ذلك‬
‫‪ -‬وهو الظهر ‪ -‬أ ّ‬
‫ن التّقويم من الحقوق العامّة ‪.‬‬
‫بعد التّرافع مخالفة للعفو عن حدّ القذف في الموضعين ‪ ،‬ل ّ‬
‫سقوط التّعزير بالتّوبة ‪:‬‬
‫‪ - 58‬اختلف الفقهاء في أثر التّوبة في التّعزير ‪ :‬فعند الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪ :‬أنّه ل تسقط العقوبة بالتّوبة ‪ ،‬لنّها كفّارة عن المعصية ‪ .‬وعند هؤلء في تعليل‬
‫ذلك ‪ :‬عموم أدلّة العقوبة بل تفرقة بين تائب وغيره عدا المحاربة ‪ .‬وفضلً عن ذلك فجعل‬
‫التّوبة ذات أثر في إسقاط العقوبة يجعل لكلّ ادّعاءها ‪ ،‬للفلت من العقاب ‪.‬‬
‫وعند فريق آخر ‪ ،‬منهم الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّ التّوبة قبل القدرة تسقط العقوبة قياسا على حدّ‬
‫المحاربة ‪ ،‬استنادا إلى ما ورد في الصّحيحين من حديث أنس رضي ال عنه « كنت مع النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم فجاء رجل فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ ‪ ،‬ولم يسأله‬
‫عنه ‪ .‬فحضرت الصّلة فصلّى مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فلمّا قضى النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم الصّلة قام إليه الرّجل ‪ ،‬فأعاد قوله ‪ ،‬فقال ‪ :‬أليس قد صلّيت معنا ؟ قال نعم ‪ .‬قال‬
‫ل قد غفر لك ذنبك » ‪.‬‬
‫ن اللّه عزّ وج ّ‬
‫‪ :‬فإ ّ‬
‫وفي هذا دليل على أنّ الجاني غفر له لمّا تاب ‪ .‬وفضل عن ذلك فإنّه إذا جازت التّوبة في‬
‫المحاربة مع شدّة ضررها وتعدّيه ‪ ،‬فأولى التّوبة فيما دونها ‪ .‬وهؤلء يقصرون السّقوط‬
‫س الفراد ‪.‬‬
‫بالتّوبة على ما فيه اعتداء على حقّ اللّه ‪ ،‬بخلف ما يم ّ‬
‫ن التّوبة تدفع العقوبة في التّعزير وغيره ‪ ،‬كما تدفعها في‬
‫وقال ابن تيميّة وابن القيّم ‪ :‬إ ّ‬
‫المحاربة ‪ ،‬بل إنّ ذلك أولى من المحاربة ‪ ،‬لشدّة ضررها ‪ ،‬وهذا يعتبر مسلكا وسطا بين من‬
‫يقول ‪ :‬بعدم جواز إقامة العقوبة بعد التّوبة ألبتّة ‪ .‬وبين مسلك من يقول ‪ :‬إنّه ل أثر للتّوبة في‬
‫ن التّعزير الواجب حقّا للّه تعالى يسقط‬
‫إسقاط العقوبة ألبتّة ‪ .‬ويترتّب على هذا الرّأي ‪ :‬أ ّ‬
‫بالتّوبة ‪ ،‬إلّا إذا اختار الجاني العقوبة ليطهّر بها نفسه ‪ ،‬فالتّوبة تسقط التّعزير ‪ ،‬على شريطة‬
‫ألّا يطلب الجاني إقامته ‪ ،‬وذلك بالنّسبة لحقوق المصلحة العامّة ‪.‬‬
‫ل جعل توبة الكفّار سببا لغفران ما سلف واحتجّوا بقوله‬
‫ن اللّه عزّ وج ّ‬
‫ج القائلون بذلك بأ ّ‬
‫واحت ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬قُلْ لِلّذينَ َك َفرُوا ِإنْ َي ْن َتهُوا ُيغْ َفرْ َل ُهمْ مَا َقدْ سََلفَ } ‪.‬‬
‫سنّة عليه كذلك ‪ ،‬ففي الحديث ‪ « :‬التّائب من الذّنب كمن ل ذنب له » ‪.‬‬
‫وأنّ ال ّ‬

‫تعزية *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعزية لغة ‪ :‬مصدر عزّى ‪ :‬إذا صبّر المصاب وواساه ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ وقال الشّربينيّ ‪ :‬هي المر بالصّبر‬
‫والحمل عليه بوعد الجر ‪ ،‬والتّحذير من الوزر ‪ ،‬والدّعاء للميّت بالمغفرة ‪،‬وللمصاب بجبر‬
‫المصيبة‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في استحباب التّعزية لمن أصابته مصيبة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والصل في مشروعيّتها ‪ :‬خبر ‪ « :‬من عزّى مصابا فله مثل أجره » ‪.‬‬
‫وخبر « ما من مؤمن يعزّي أخاه بمصيبة إلّا كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة » ‪.‬‬
‫كيفيّة التّعزية ولمن تكون ‪:‬‬
‫‪ - 3‬يعزّى أهل المصيبة ‪ ،‬كبارهم وصغارهم ‪ ،‬ذكورهم وإناثهم ‪ ،‬إل الصّبيّ الّذي ل يعقل ‪،‬‬
‫والشّابّة من النّساء ‪ ،‬فل يعزّيها إل النّساء ومحارمها ‪ ،‬خوفا من الفتنة ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن شرح المنية ‪ :‬تستحبّ التّعزية للرّجال والنّساء اللتي ل يفتنّ ‪.‬‬
‫وقال الدّردير ‪ :‬وندب تعزية لهل الميّت إل مخشيّة الفتنة ‪.‬‬
‫مدّة التّعزية ‪:‬‬
‫ن مدّة التّعزية ثلثة أيّام ‪.‬‬
‫‪ - 4‬جمهور الفقهاء ‪ :‬على أ ّ‬
‫واستدلّوا لذلك بإذن الشّارع في الحداد في الثّلث فقط ‪ ،‬بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل‬
‫يحلّ لمرأة تؤمن باللّه واليوم الخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلث ‪ ،‬إلّا على زوج ‪ :‬أربعة‬
‫أشهر وعشرا » وتكره بعدها ‪ ،‬لنّ المقصود منها سكون قلب المصاب ‪ ،‬والغالب سكونه بعد‬
‫الثّلثة ‪ ،‬فل يجدّد له الحزن بالتّعزية ‪ ،‬إل إذا كان أحدهما ( المعزّى أو المعزّي ) غائبا ‪ ،‬فلم‬
‫يحضر إل بعد الثّلثة ‪ ،‬فإنّه يعزّيه بعد الثّلثة ‪ .‬وحكى إمام الحرمين وجها وهو قول بعض‬
‫ن الغرض الدّعاء ‪ ،‬والحمل على‬
‫الحنابلة ‪ :‬أنّه ل أمد للتّعزية ‪ ،‬بل تبقى بعد ثلثة أيّام ‪ ،‬ل ّ‬
‫الصّبر ‪ ،‬والنّهي عن الجزع ‪ ،‬وذلك يحصل على طول الزّمان ‪.‬‬
‫وقت التّعزية ‪:‬‬
‫ن أهل الميّت‬
‫‪ - 5‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّ الفضل في التّعزية أن تكون بعد الدّفن ‪ ،‬ل ّ‬
‫قبل الدّفن مشغولون بتجهيزه ‪ ،‬ولنّ وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر ‪ ،‬فكان ذلك الوقت أولى‬
‫بالتّعزية ‪ .‬وقال جمهور الشّافعيّة ‪ :‬إل أن يظهر من أهل الميّت شدّة جزع قبل الدّفن ‪ ،‬فتعجّل‬
‫التّعزية ‪ ،‬ليذهب جزعهم أو يخفّ ‪ .‬وحكي عن الثّوريّ ‪ :‬أنّه تكره التّعزية بعد الدّفن ‪.‬‬
‫مكان التّعزية ‪:‬‬
‫‪ - 6‬كره الفقهاء الجلوس للتّعزية في المسجد ‪.‬‬
‫وكره الشّافعيّة والحنابلة الجلوس للتّعزية ‪ ،‬بأن يجتمع أهل الميّت في مكان ليأتي إليهم النّاس‬
‫للتّعزية ‪ ،‬لنّه محدث وهو بدعة ‪ ،‬ولنّه يجدّد الحزن ‪ .‬ووافقهم الحنفيّة على كراهة الجلوس‬
‫للتّعزية على باب الدّار ‪ ،‬إذا اشتمل على ارتكاب محظور ‪ ،‬كفرش البسط والطعمة من أهل‬
‫سيّد أنّه ل بأس بالجلوس لها ثلثة أيّام من غير ارتكاب‬
‫الميّت ‪ .‬ونقل الطّحطاويّ عن شرح ال ّ‬
‫محظور ‪ .‬وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّ الفضل كون التّعزية في بيت المصاب ‪ .‬وقال بعض‬
‫الحنابلة ‪ :‬إنّما المكروه البيتوتة عند أهل الميّت ‪ ،‬وأن يجلس إليهم من عزّى مرّة ‪ ،‬أو يستديم‬
‫المعزّي الجلوس زيادة كثيرة على قدر التّعزية ‪.‬‬
‫صيغة التّعزية ‪:‬‬
‫‪ - 7‬قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم في التّعزية شيئا محدودا ‪ ،‬إل ما روي أنّ المام أحمد قال ‪:‬‬
‫ل فقال ‪ :‬رحمك اللّه وآجرك » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عزّى رج ً‬
‫ن النّب ّ‬
‫يروى « أ ّ‬
‫وعزّى أحمد أبا طالب ( أحد أصحابه ) فوقف على باب المسجد فقال ‪ :‬أعظم اللّه أجركم‬
‫وأحسن عزاءكم ‪ .‬وقال بعض أصحابنا إذا عزّى مسلما بمسلم قال ‪ :‬أعظم اللّه أجرك ‪،‬‬
‫ب بعض أهل العلم ‪ :‬أن يقول ما روى جعفر بن‬
‫وأحسن عزاك ‪ ،‬ورحم اللّه ميّتك ‪ .‬واستح ّ‬
‫محمّد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جدّه ‪ ،‬قال ‪ « :‬لمّا توفّي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وجاءت‬
‫ن في اللّه عزاء من كلّ مصيبة ‪ ،‬وخلفا من كلّ هالك ‪ ،‬ودركا‬
‫التّعزية ‪ ،‬سمعوا قائلً يقول ‪ :‬إ ّ‬
‫من كلّ ما فات ‪ ،‬فباللّه فثقوا ‪ ،‬وإيّاه فارجوا ‪ ،‬فإنّ المصاب من حرم الثّواب » ‪.‬‬
‫وهل يعزّى المسلم بالكافر أو العكس ؟‬
‫‪ - 8‬ذهب الئمّة ‪ :‬الشّافعيّ ‪ ،‬وأبو حنيفة في رواية عنه ‪ :‬إلى أنّه يعزّى المسلم بالكافر ‪،‬‬
‫وبالعكس ‪ ،‬والكافر غير الحربيّ ‪ .‬وذهب المام مالك ‪ :‬إلى أنّه ل يعزّى المسلم بالكافر ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة من الحنابلة ‪ :‬إن عزّى مسلما بكافر قال ‪ :‬أعظم اللّه أجرك وأحسن عزاءك‪.‬‬
‫صنع الطّعام لهل الميّت ‪:‬‬
‫ن لجيران أهل الميّت أن يصنعوا طعاما لهم ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫‪ - 9‬يس ّ‬
‫« اصنعوا لهل جعفر طعاما ‪ ،‬فإنّه قد جاءهم ما يشغلهم » ‪.‬‬
‫ن فيه زيادة على مصيبتهم ‪ ،‬وشغلً على‬
‫ويكره أن يصنع أهل الميّت طعاما للنّاس ‪ ،‬ل ّ‬
‫شغلهم ‪ ،‬وتشبّها بأهل الجاهليّة ‪ ،‬لخبر جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي ال عنه ‪ :‬كنّا نعدّ‬
‫الجتماع إلى أهل الميّت ‪ ،‬وصنيعة الطّعام بعد دفنه من النّياحة ‪.‬‬

‫تعشير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعشير في اللّغة ‪ :‬مصدر عشّر ‪ ،‬يقال ‪ :‬عشّر القوم ‪ ،‬وعشّرهم ‪ :‬إذا أخذ عشر أموالهم‬
‫‪ .‬والعشّار ‪ :‬هو من يأخذ العشر ‪ .‬وقد عشّرت النّاقة ‪ :‬صارت عشراء ‪ -‬أي حامل ‪ -‬إذا تمّ‬
‫لها عشرة أشهر ‪ .‬ومعناه في الصطلح كمعناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫ويستعمل في الصطلح أيضا بمعنى ‪ :‬جعل العواشر في المصحف ‪ ،‬والعاشرة ‪ :‬هي الحلقة‬
‫في المصحف عند منتهى كلّ عشر آيات ‪ .‬والعاشرة أيضا ‪ :‬الية الّتي تتمّ بها العشر ‪.‬‬
‫والتّعشير ‪ -‬بمعنى أخذ العشر ‪ -‬يرجع لمعرفة أحكامه إلى مصطلح ( عشر ) ‪.‬‬
‫تاريخ التّعشير في المصحف ‪:‬‬
‫ن المأمون العبّاسيّ أمر بذلك ‪ .‬وقيل ‪ :‬إنّ‬
‫‪ - 2‬قال ابن عطيّة ‪ :‬مرّ بي في بعض التّواريخ ‪ :‬أ ّ‬
‫الحجّاج فعل ذلك ‪ ،‬وقال قتادة ‪ :‬بدءوا فنقّطوا ‪ ،‬ثمّ خمّسوا ‪ ،‬ثمّ عشّروا ‪.‬‬
‫وقال يحيى بن أبي كثير ‪ :‬كان القرآن مجرّدا في المصاحف ‪ ،‬فأوّل ما أحدثوا فيه النّقط على‬
‫الباء والتّاء والثّاء ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل بأس به ‪ ،‬هو نور له ‪ ،‬ثمّ أحدثوا نقطا عند منتهى الي ‪ ،‬ثمّ‬
‫أحدثوا الفواتح والخواتم ‪.‬‬
‫حكم التّعشير ‪:‬‬
‫‪ - 3‬ذكر أبو عمر والدّاني في كتاب البيان له ‪ ،‬عن عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬أنّه‬
‫كره التّعشير في المصاحف ‪ ،‬وأنّه كان يحكّه ‪.‬‬
‫وعن مجاهد ‪ :‬أنّه كان يكره التّعشير والطّيب في المصاحف ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬تجوز تحلية المصحف وتعشيره ونقطه ‪ :‬أي إظهار إعرابه ‪ ،‬وبه يحصل‬
‫الرّفق جدّا ‪ ،‬خصوصا للعجم ‪ ،‬فيستحسن ‪ .‬وعلى هذا ل بأس بكتابة أسماء السّور ‪ ،‬وع ّد الي‬
‫ن ما روي عن ابن مسعود رضي‬
‫‪ ،‬وعلمات الوقف ونحوها ‪ ،‬فهي بدعة حسنة ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ال عنه " جرّدوا القرآن كان في زمنهم ‪ ،‬وكم شيء يختلف باختلف الزّمان والمكان‪ .‬وعند‬
‫المالكيّة ‪ :‬أنّه مكروه بالحمرة وغيرها من اللوان ‪ ،‬إل الحبر ‪.‬‬
‫قال أشهب ‪ :‬سمعنا مالكا وسئل عن العشور الّتي في المصحف بالحمرة وغيرها من اللوان‬
‫فكره ذلك ‪ ،‬وقال ‪ :‬تعشير المصحف بالحبر ل بأس به ‪.‬‬

‫تعصيب *‬
‫انظر ‪ :‬عصبة ‪.‬‬

‫تعقيب‬
‫انظر ‪ :‬موالة ‪ ،‬تتابع ‪.‬‬
‫تعلّم *‬
‫انظر ‪ :‬تعليم ‪.‬‬

‫تعلّي *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل شيء وعَلوه‬
‫‪ - 1‬التّعلّي في اللّغة له معان ‪ ،‬منها ‪ :‬أنّه من العلوّ ‪ ،‬وهو ‪ :‬الرتفاع وعُل ّو ك ّ‬
‫وعِلوه ‪ :‬أرفعه ‪ .‬وعل الشّيء علوّا فهو عليّ ‪ :‬ارتفع ‪ ،‬وفي حديث ابن عبّاس رضي ال‬
‫عنهما ‪ :‬فإذا هو يتعلّى عنّي ‪ :‬أي يترفّع عليّ ‪ .‬وتعالى ‪ :‬ترفّع ‪ .‬وتعلّى ‪ :‬أي عل في مهلة ‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ل يخرج عن هذا ‪ ،‬إذ يراد به عند الفقهاء ‪ :‬رفع بناء فوق بناء آخر ‪.‬‬
‫أحكام حقّ التّعلّي ‪:‬‬
‫‪ - 2‬حقّ التّعلّي ‪ :‬إمّا أن يستعمله صاحبه لنفسه ‪ ،‬وإمّا يبيعه لغيره ‪.‬‬
‫ل أحد له‬
‫أمّا استعماله لنفسه ‪ :‬فقد نصّت المادّة ( ‪ ) 1198‬من مجلّة الحكام العدليّة على أنّ ‪ :‬ك ّ‬
‫التّعلّي على حائطه الملك ‪ ،‬وبناء ما يريد ‪ ،‬وليس لجاره منعه ما لم يكن ضررا فاحشا ‪ .‬وقال‬
‫التاسيّ في شرح المادّة ‪ :‬ول عبرة بزعمه أنّه يسدّ عنه الرّيح والشّمس ‪ ،‬كما أفتى به في‬
‫الحامديّة ‪ ،‬لنّه ليس من الضّرر الفاحش ‪ .‬وفي النقرويّة ‪ :‬له أن يبني على حائط نفسه أزيد‬
‫ممّا كان ‪ ،‬وليس لجاره منعه وإن بلغ عنان السّماء ‪.‬‬
‫وأمّا بيعه لغيره فقد ذهب الجمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى جوازه على التّفصيل‬
‫التّالي ‪:‬‬
‫أجازه المالكيّة متى كان المبيع قدرا معيّنا ‪ ،‬كعشرة أذرع مثل من محلّ هواء ‪ ،‬فوق محلّ‬
‫متّصل بأرض أو بناء ‪ ،‬بأن كان لشخص أرض خالية من البناء أراد البناء بها ‪ ،‬أو كان له‬
‫بناء أراد البناء عليه ‪ ،‬فيشتري شخص منه قدرا معيّنا من الفراغ الّذي يكون فوق البناء الّذي‬
‫ل الضّرر ‪ ،‬لنّ‬
‫أراد إحداثه ‪ ،‬فيجوز متى وصف البناء الّذي أريد إحداثه أسفل وأعلى ‪ ،‬ليق ّ‬
‫صاحب السفل رغبته في خفّة العلى ‪ ،‬وصاحب العلى رغبته في متانة السفل ‪ ،‬ولصاحب‬
‫البناء العلى النتفاع بما فوق بنائه بغير البناء ‪ ،‬إذ يملك جميع الهواء الّذي فوق بناء السفل ‪،‬‬
‫وليس لصاحب السفل النتفاع بما فوق بناء العلى ‪ ،‬ل بالبناء ول بغيره ‪.‬‬
‫وأجازه الشّافعيّة ‪ ،‬متى كان المبيع حقّ البناء أو العلو ‪ :‬بأن قال له ‪ :‬بعتك حقّ البناء أو العلو‬
‫للبناء عليه بثمن معلوم ‪ ،‬بخلف ما إذا باعه وشرط أن ل يبني عليه ‪ ،‬أو لم يتعرّض للبناء‬
‫عليه ‪ .‬لكن للمشتري أن ينتفع بما عدا البناء من مكث وغيره ‪ ،‬كما صرّح به السّبكيّ ‪ ،‬تبعا‬
‫للماورديّ ‪.‬‬
‫وأجازه الحنابلة ‪ ،‬ولو قبل بناء البيت الّذي اشترى علوه ‪ ،‬إذا وصف العلو والسّفل ليكونا‬
‫ح ذلك لنّ العلو‬
‫معلومين ‪ ،‬ليبني المشتري أو يضع عليه بنيانا أو خشبا موصوفين ‪ ،‬وإنّما ص ّ‬
‫ملك للبائع ‪ ،‬فكان له بيعه ‪ ،‬والعتياض عنه ‪ ،‬كالقرار ‪.‬‬
‫وأمّا الحنفيّة ‪ :‬فقد ذهبوا إلى أنّ بيع حقّ التّعلّي غير جائز ‪ ،‬لنّه ليس بمال ‪ ،‬ول هو حقّ‬
‫متعلّق بالمال ‪ ،‬بل حقّ متعلّق بالهواء ( أي الفراغ ) وليس الهواء ما ل يباع ‪ ،‬إذ المال ما‬
‫يمكن قبضه وإحرازه ‪ .‬وصورته ‪ :‬أن يكون السّفل لرجل ‪ ،‬وعلوه لخر ‪ ،‬فسقطا أو سقط‬
‫ن المبيع حينئذ ليس إلّا حقّ التّعلّي ‪.‬‬
‫العلو وحده فباع صاحب العلو علوه ‪ ،‬فإنّه ل يجوز ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعلى هذا ‪ :‬فلو باع العلو قبل سقوطه جاز ‪ ،‬فإن سقط قبل القبض بطل البيع ‪ ،‬لهلك المبيع‬
‫قبل القبض ‪ ،‬وهو بعد سقوطه بيع لحقّ التّعلّي ‪ ،‬وهو ليس بمال ‪ .‬فلو كان العلو لصاحب‬
‫السّفل فقال ‪ :‬بعتك علو هذا السّفل بكذا صحّ ‪ ،‬ويكون سطح السّفل لصاحب السّفل ‪،‬‬
‫وللمشتري حقّ القرار ‪ ،‬حتّى لو انهدم العلو كان له أن يبني عليه علوا آخر ‪ ،‬مثل الوّل ‪،‬‬
‫ن السّفل اسم لمبنى مسقّف ‪ ،‬فكان سطح السّفل سقفا للسّفل ‪.‬‬
‫لّ‬
‫أحكام العلو والسّفل في النهدام والبناء ‪:‬‬
‫ن السّفل إن انهدم بنفسه بل صنع صاحبه لم يجبر على البناء ‪ ،‬لعدم‬
‫‪ - 3‬ذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫التّعدّي ‪ ،‬فلو هدمه يجبر على بنائه ‪ ،‬لنّه تعدّى على صاحب العلو ‪ ،‬وهو قرار العلو ‪ ،‬ولذي‬
‫العلو أن يبني السّفل ثمّ يرجع بما أنفق إن بنى بإذنه أو إذن قاض ‪ ،‬وإل فبقيمة البناء يوم بنى‬
‫‪ .‬ومتى بنى صاحب العلو السّفل ‪ :‬كان له أن يمنع صاحب السّفل من السّكنى ‪ ،‬حتّى يدفع إليه‬
‫مثل ما أنفقه في بناء سفله لكونه مضطرّا ‪.‬‬
‫فلكلّ منهما حقّ في ملك الخر ‪ :‬لذي العلو حقّ قراره ‪ ،‬ولذي السّفل حقّ دفع المطر والشّمس‬
‫عن السّفل ‪ ،‬ولو هدم ذو السّفل سفله وذو العلو علوه ‪ ،‬ألزم ذو السّفل ببناء سفله ‪ ،‬إذ فوّت‬
‫على صاحب العلو حقّا ألحق بالملك ‪ ،‬فهو كما لو فوّت عليه ملكا ‪.‬‬
‫فإذا بنى ذو السّفل سفله وطلب من ذي العلو بناء علوه فإنّه يجبر ‪ ،‬لنّ لذي السّفل حقّا في‬
‫العلو ‪ ،‬وأمّا لو انهدم العلو بل صنعه فل يجبر لعدم تعدّيه ‪ ،‬كما لو انهدم السّفل بل تعدّ ‪،‬‬
‫وسقف السّفل لذي السّفل ‪.‬‬
‫‪ - 4‬وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ السّفل إن وهى وأشرف على السّقوط وخيف سقوط بناء عليه لخر‬
‫غير صاحب السّفل ‪ -‬فإنّه يقضى على صاحب السّفل أن يعمّر سفله فإن أبى قضي عليه ببيعه‬
‫ب السفل على البناء ‪ ،‬أو البيع ممّن‬
‫لمن يعمّره ‪ ،‬فإن سقط العلى على السفل فهدمه أجبر ر ّ‬
‫يبني ‪ ،‬ليبني ربّ العلو علوه عليه ‪ .‬وعلى ذي السّفل التّعليق للعلى ‪ -‬أي حمله على خشب‬
‫ونحوه ‪ -‬حتّى يبني السّفل ‪ ،‬وعليه السّقف السّاتر لسفله ‪ ،‬إذ ل يسمّى السّفل بيتا إلّا به ‪ ،‬ولذا‬
‫فإنّه يقضى به لصاحب السّفل عند التّنازع ‪.‬‬
‫وأمّا البلط الّذي فوقه ‪ :‬فهو لصاحب العلى ‪.‬‬
‫ويقضى على ذي العلو بعدم زيادة بناء العلو على السّفل ‪ ،‬لنّها تضرّ السّفل ‪ ،‬إل الشّيء‬
‫الخفيف الّذي ل يضرّ السّفل حال ومآل ‪ ،‬ويرجع في ذلك لهل المعرفة ‪.‬‬
‫‪ - 5‬ويرى الشّافعيّة ‪ :‬أنّه لو انهدم حيطان السّفل لم يكن لصاحبه أن يجبر صاحب العلو على‬
‫ن حيطان السّفل لصاحب السّفل ‪ ،‬فل يجبر صاحب العلو على بنائه ‪.‬‬
‫البناء قولً واحدا ‪ ،‬ل ّ‬
‫وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السّفل على البناء ؟ فيه قولن ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬يجبر ‪ ،‬ألزمه‬
‫الحاكم ‪ ،‬فإن لم يفعل – وله مال – باع الحاكم عليه ماله ‪ ،‬وأنفق عليه ‪ ،‬وإن لم يكن له مال‬
‫اقترض عليه ‪ .‬فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكا لصاحب السّفل ‪ ،‬لنّه بني له ‪ ،‬وتكون النّفقة‬
‫في ذمّته ‪ ،‬ويعيد صاحب العلو غرفته عليه ‪ ،‬وتكون نفقة الغرفة وحيطانها من ملك صاحب‬
‫العلو دون صاحب السّفل ‪ ،‬لنّها ملكه ‪ ،‬ل حقّ لصاحب السّفل فيه ‪ .‬وأمّا السّقف فهو بينهما ‪،‬‬
‫وما ينفق عليه فهو من مالهما ‪ ،‬فإن تبرّع صاحب العلو ‪ ،‬وبنى من غير إذن الحاكم ‪ ،‬لم‬
‫يرجع صاحب العلو على صاحب السّفل بشيء ‪ .‬ث ّم ينظر ‪ :‬فإن كان قد بناها بآلتها كانت‬
‫ن اللة كلّها له ‪ ،‬وليس لصاحب العلو منعه من النتفاع بها ‪ ،‬ول‬
‫الحيطان لصاحب السّفل ‪ ،‬ل ّ‬
‫يملك نقضها ‪ ،‬لنّها لصاحب السّفل ‪ ،‬وله أن يعيد حقّه من الغرفة ‪ .‬وإن بناها بغير آلتها كانت‬
‫الحيطان لصاحب العلو ‪ ،‬وليس لصاحب السّفل أن ينتفع بها من غير إذن صاحب العلو ‪،‬‬
‫ن القرار له ‪ ،‬ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من‬
‫ولكن له أن يسكن في قرار السّفل ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحيطان ‪ ،‬لنّه ل حقّ لغيره فيها ‪ ،‬فإن بذل صاحب السّفل القيمة ليترك نقضها لم يلزمه‬
‫قبولها ‪ ،‬لنّه ل يلزمه بناؤها قولً واحدا ‪ ،‬فل يلزمه تبقيتها ببذل العوض ‪.‬‬
‫‪ - 6‬وعند الحنابلة ‪ :‬إن كان السّفل لرجل والعلو لخر ‪ ،‬فانهدم السّقف الّذي بينهما ‪ ،‬فطلب‬
‫أحدهما المباناة من الخر ‪ ،‬فامتنع ‪ ،‬فهل يجبر الممتنع على ذلك ؟ على روايتين ‪ .‬كالحائط‬
‫بين البيتين ‪ .‬وإن انهدمت حيطان السّفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها ‪ ،‬فعلى روايتين ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬يجبر ‪ .‬فعلى هذه الرّواية يجبر على البناء وحده ‪ ،‬لنّه ملكه خاصّة ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬ل يجبر ‪ ،‬وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الرّوايتين جميعا ‪ ،‬فإن‬
‫بناه بآلته فهو على ما كان ‪ ،‬وإن بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد ‪ :‬ل ينتفع به صاحب‬
‫السّفل ‪ ،‬يعني حتّى يؤدّي القيمة ‪ ،‬فيحتمل أن ل يسكن ‪ ،‬لنّ البيت إنّما يبنى للسّكن فلم يملكه‬
‫كغيره ‪ ،‬ويحتمل أنّه أراد النتفاع بالحيطان خاصّة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح‬
‫ن السّكنى إنّما هي إقامته في‬
‫الطّاق ‪ ،‬ويكون له السّكنى من غير تصرّف في ملك غيره ‪ ،‬ل ّ‬
‫الفناء بين الحيطان من غير تصرّف فيها ‪ ،‬فأشبه الستظلل بها من خارج ‪.‬‬
‫فأمّا إن طالب صاحب السّفل بالبناء ‪ ،‬وأبى صاحب العلو ‪ ،‬ففيه روايتان ‪:‬‬
‫ن الحائط ملك صاحب السّفل مختصّ به ‪ ،‬فلم‬
‫إحداهما ‪ :‬ل يجبر على بنائه ‪ ،‬ول مساعدته ل ّ‬
‫يجبر غيره على بنائه ول المساعدة فيه ‪ ،‬كما لو لم يكن عليه علو ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬يجبر على مساعدته والبناء معه ‪ ،‬وهو قول أبي الدّرداء ‪ ،‬لنّه حائط يشتركان في‬
‫النتفاع به ‪ ،‬أشبه الحائط بين الدّارين ‪.‬‬
‫جعل علو الدّار مسجدا ‪:‬‬
‫‪ - 7‬أجاز الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة جعل علو الدّار مسجدا ‪ ،‬دون سفلها ‪ ،‬والعكس ‪ ،‬لنّهما‬
‫عينان يجوز وقفهما ‪ ،‬فجاز وقف أحدهما دون الخر ‪ ،‬كالعبدين ‪.‬‬
‫ومن جعل مسجدا تحته سرداب أو فوقه بيت ‪ ،‬وجعل باب المسجد إلى الطّريق ‪ ،‬وعزله عن‬
‫ملكه ‪ ،‬فل يكون مسجدا ‪ ،‬فله أن يبيعه ‪ ،‬وإن مات يورث عنه لنّه لم يخلص للّه تعالى ‪ ،‬لبقاء‬
‫حقّ العبد متعلّقا به ولو كان السّرداب لمصالح المسجد جاز ‪ ،‬كما في مسجد بيت المقدس ‪.‬‬
‫هذا مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬خلفا لصاحبيه ‪ .‬وروى الحسن عن أبي حنيفة ‪ :‬أنّه يجوز جعل السّفل‬
‫ن المسجد ممّا يتأبّد ‪ ،‬وروي عن محمّد ‪ :‬عكس‬
‫مسجدا وعليه مسكن ‪ ،‬ول يجوز العكس ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المسجد معظّم ‪ ،‬وإذا كان فوقه مسكن أو مستغلّ فيتعذّر تعظيمه ‪ .‬وعن أبي يوسف‬
‫هذا ‪ ،‬ل ّ‬
‫أنّه جوّزه في الوجهين حين قدم بغداد ‪ ،‬ورأى ضيق المنازل ‪ ،‬فكأنّه اعتبر الضّرورة ‪ .‬أمّا لو‬
‫تمّت المسجديّة ثمّ أراد البناء منع ‪.‬‬
‫نقب كوّة العلو أو السّفل ‪:‬‬
‫‪ - 8‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أنّه ليس لصاحب علو تحته سفل لخر أن ينقب‬
‫كوّة في علوه ‪ ،‬وكذا العكس ‪ ،‬إل برضا الخر ‪.‬‬
‫ن لكلّ منهما فعل ما ل يضرّ بالخر ‪ ،‬فإن أض ّر به منع منه ‪ ،‬كأن‬
‫وذهب الصّاحبان ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫يشرف من الكوّة على جاره وعياله فيضرّ بهم ‪ ،‬والمختار أنّه إذا أشكل أنّه يض ّر أم ل ؟ ل‬
‫يملك فتحها ‪ ،‬وإذا علم أنّه ل يضرّ يملك فتحها ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه يقضى على من أحدث فتحها بسدّها إذا لم تكن عالية ‪ ،‬ويشرف منها‬
‫على جاره ‪ .‬وأمّا القديمة فل يقضى بسدّها ‪ ،‬ويقال للجار ‪ :‬استر على نفسك إن شئت ‪ ،‬فقد‬
‫قال الدّسوقيّ من المالكيّة ‪ :‬إنّ الكوّة الّتي أحدث فتحها يقضى بسدّها ‪ ،‬وإن أريد سدّ خلفها فقط‬
‫ل ما يدلّ عليها ‪.‬‬
‫بعد المر بسدّها فإنّه يقضى بسدّ جميعها ‪ ،‬ويزال ك ّ‬
‫وهذا إذا كانت غير عالية ل يحتاج في كشف الجار منها إلى صعود على سلّم ونحوه ‪ ،‬وإلّا‬
‫فل يقضى بسدّها ‪ .‬وإذا سكت من حدث عليه فتح الكوّة ونحوها عشر سنين ‪ -‬ولم ينكر ‪-‬‬
‫جبر عليه ‪ ،‬ول مقال له ‪ ،‬حيث لم يكن له عذر في ترك القيام ( الدّعاء ) وهذا قول ابن‬
‫القاسم ‪ ،‬وبه القضاء ‪.‬‬
‫تعلّي ال ّذ ّميّ على المسلم في البناء ‪:‬‬
‫ن أهل ال ّذمّة ممنوعون من أن تعلو أبنيتهم على أبنية‬
‫‪ - 9‬ل خلف بين الفقهاء ‪ :‬في أ ّ‬
‫جيرانهم المسلمين ‪ ،‬لما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنّه قال « السلم يعلو ول‬
‫يعلى عليه » ولنّ في ذلك رتبة على المسلمين ‪ ،‬وأهل ال ّذمّة ممنوعون من ذلك ‪.‬‬
‫على أنّ بعض الحنفيّة قد ذهب ‪ :‬إلى أنّه إذا كان التّعلّي للحفظ من اللّصوص فإنّهم ل يمنعون‬
‫منه ‪ ،‬لنّ علّة المنع مقيّدة بالتّعلّي في البناء على المسلمين ‪ ،‬فإذا لم يكن ذلك ‪ -‬بل للتّحفّظ ‪-‬‬
‫فل يمنعون ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا مساواتهم في البناء ‪ ،‬فللفقهاء في ذلك قولن ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫منعه بعض الحنفيّة ‪ ،‬وأجازه بعضهم ‪ .‬فقد أجازه المالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وبعض الحنفيّة ‪ ،‬لنّه‬
‫ليس فيه استطالة على المسلمين ‪ .‬ومنعه بعض الحنفيّة ‪ ،‬واستدلّوا بقوله صلى ال عليه وسلم‬
‫« السلم يعلو ول يعلى عليه » ولنّهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم‬
‫وركوبهم ‪ ،‬كذلك في بنائهم ‪ .‬وأصحّ قولي الشّافعيّة ‪ :‬المنع ‪ ،‬تمييزا بينهم ‪ ،‬ولنّ القصد أن‬
‫يعلو السلم ‪ ،‬ول يحصل ذلك مع المساواة ‪.‬‬
‫‪ - 11‬أمّا لو اشترى ال ّذ ّميّ دارا عالية مجاورة لدار مسلم دونها في العلو ‪ ،‬فلل ّذ ّميّ سكنى‬
‫داره ‪ ،‬ول يمنع من ذلك ‪ ،‬ول يلزمه هدم ما عل دار المسلم ‪ ،‬لنّه لم يعل عليه شيئا ‪ ،‬إل‬
‫أنّه ليس له الشراف منها على دار المسلم ‪ ،‬وعليه أن يمنع صبيانه من طلوع سطحها إل بعد‬
‫تحجيره ‪ .‬أي بناء ما يمنع من الرّؤية ‪.‬‬
‫فإن انهدمت دار ال ّذ ّميّ العالية ثمّ جدّد بناءها ‪ ،‬لم يجز له أن يعلّي بناءها على بناء المسلم ‪.‬‬
‫وإن انهدم ما عل منها لم تكن له إعادته ‪.‬‬
‫هذا ما عليه الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وهو ‪ :‬المعتمد عند المالكيّة ‪.‬‬
‫‪ - 12‬وأمّا تعلية بنائه على من ليس مجاورا له من المسلمين ‪ -‬فإنّه ل يمنع منه ‪ ،‬لنّ علوه‬
‫إنّما يكون ضررا على المجاور لبنائه دون غيره عند الحنابلة ‪ ،‬وهو المعتمد عند الحنفيّة ‪،‬‬
‫والمالكيّة ‪ ،‬ما لم يشرف منه على المسلمين ‪ .‬وللشّافعيّة في ذلك قولن ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬عدم المنع ‪ ،‬وهو أصحّهما ‪ ،‬لنّه يؤمن مع البعد بين البناءين أن يعلو على المسلمين‬
‫‪ ،‬ولنتفاء الضّرر ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬المنع ‪ ،‬لما فيه من التّجمّل والشّرف ‪ ،‬ولنّهم بذلك يتطاولون على المسلمين ‪.‬‬
‫تعليق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعليق في اللّغة ‪ :‬مصدر علّق ‪ ،‬يقال ‪ :‬علّق الشّيء بالشّيء ‪ ،‬ومنه ‪ ،‬وعليه تعليقا ‪:‬‬
‫ناطه به ‪ .‬والتّعليق في الصطلح ‪ :‬هو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة‬
‫أخرى ‪ .‬ويسمّى يمينا مجازا ‪ ،‬لنّه في الحقيقة شرط وجزاء ‪ ،‬ولما فيه من معنى السّببيّة‬
‫كاليمين ‪ .‬والتّعليق عند علماء الحديث ‪ :‬حذف راو أو أكثر من ابتداء السّند ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الضافة ‪:‬‬
‫ضمّ ‪ ،‬والمالة ‪ ،‬والسناد ‪ ،‬والتّخصيص ‪.‬‬
‫‪ - 2‬الضافة في اللّغة تأتي بمعنى ‪ :‬ال ّ‬
‫وأمّا الضافة في اصطلح الفقهاء فإنّهم يستعملونها بمعنى ‪ :‬السناد والتّخصيص ‪ .‬فإذا قيل ‪:‬‬
‫الحكم مضاف إلى فلن ‪ ،‬أو صفته كذا ‪ ،‬كان ذلك إسنادا إليه ‪ .‬وإذا قيل ‪ :‬الحكم مضاف إلى‬
‫زمان كذا ‪ ،‬كان تخصيصا له ‪ .‬والفرق بين الضافة والتّعليق من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّ التّعليق يمين ‪ ،‬وهي للبرّ إعدام موجب المعلّق ‪ ،‬ول يفضي إلى الحكم ‪.‬‬
‫أمّا الضافة فلثبوت حكم السّبب في وقته ‪ ،‬ل لمنعه ‪ ،‬فيتحقّق السّبب بل مانع ‪ ،‬إذ الزّمان من‬
‫لوازم الوجود ‪.‬‬
‫ن الشّرط على خطر ‪ ،‬ول خطر في الضافة ‪.‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أ ّ‬
‫وفي هذين الفرقين منازعة تنظر في كتب الصول ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشّرط ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الشّرط ‪ -‬بسكون الرّاء ‪ -‬له عدد من المعاني ‪ ،‬ومن بين تلك المعاني ‪ :‬إلزام الشّيء‬
‫والتزامه ‪ .‬قال في القاموس ‪ :‬الشّرط إلزام الشّيء والتزامه في البيع ونحوه ‪ ،‬كالشّريطة ‪.‬‬
‫وأمّا بفتح الرّاء فمعناه ‪ :‬العلمة ‪ ،‬ويجمع على أشراط ‪ . .‬كسبب وأسباب ‪.‬‬
‫والشّرط في الصطلح نوعان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬الشّرط الشّرعيّ ‪ ،‬وهو ما يلزم من عدم العدم ‪ ،‬ول يلزم من وجوده وجود ول عدم‬
‫صحّة ‪ ،‬وشرط للّزوم ‪،‬‬
‫لذاته ‪ .‬وهو أنواع ‪ :‬شرط للوجوب ‪ ،‬وشرط للنعقاد ‪ ،‬وشرط لل ّ‬
‫وشرط للنّفاذ ‪ .‬إلى غير ذلك من الشّروط الشّرعيّة المعتبرة ‪.‬‬
‫والنّوع الخر ‪ :‬الشّرط الجعليّ ‪ ،‬وهو ‪ :‬التزام أمر لم يوجد في أمر قد وجد بصفة مخصوصة‬
‫‪ -‬كما قال الحمويّ ‪ -‬وهو ما يشترطه المتعاقدان في تصرّفاتهما ‪.‬‬
‫والفرق بين التّعليق والشّرط ‪ -‬كما قال الزّركشيّ ‪ : -‬أنّ التّعليق ما دخل على أصل الفعل‬
‫بأداته كإن وإذا ‪ ،‬والشّرط ما جزم فيه بالصل وشرط فيه أمر آخر ‪.‬‬
‫ن التّعليق ترتيب أمر لم يوجد على أمر يوجد بإن أو إحدى أخواتها ‪،‬‬
‫وقال الحمويّ ‪ :‬الفرق أ ّ‬
‫والشّرط التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬اليمين ‪:‬‬
‫ن الحلف أعمّ ‪.‬‬
‫‪ - 4‬اليمين وال َقسَم واليلء والحلف ألفاظ مترادفة ‪ ،‬أو أ ّ‬
‫شدّة ‪ ،‬ويسمّى به الحلف مجازا ‪.‬‬
‫ومعنى اليمين في اللّغة ‪ :‬الجهة والجارحة والقوّة وال ّ‬
‫وأمّا في الشّرع فهي ‪ :‬عبارة عن عقد قويّ به عزم الحالف على الفعل أو التّرك ‪.‬‬
‫وقال البهوتيّ ‪ :‬إنّها توكيد الحكم المحلوف عليه بذكر معظّم على وجه مخصوص ‪.‬‬
‫ن كل منهما فيه حمل للنّفس على فعل الشّيء أو تركه ‪ ،‬وما‬
‫وبين التّعليق واليمين تشابه ‪ ،‬ل ّ‬
‫سمّي الحلف باللّه تعالى يمينا إل لفادته القوّة على المحلوف عليه من الفعل أو التّرك ‪.‬‬
‫واليمين تنقسم بحسب صيغتها إلى يمين منجّزة بالصّيغة الصليّة لليمين ‪ ،‬نحو ‪ :‬واللّه لفعلن‬
‫‪ .‬ويمين بالتّعليق ‪ ،‬وهي ‪ :‬أن يرتّب المتكلّم جزاء مكروها له في حالة مخالفة الواقع ‪ ،‬أو‬
‫تخلّف المقصود ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ( أيمان ) ‪.‬‬
‫صيغة التّعليق ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يكون التّعليق بكلّ ما يدلّ على ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة‬
‫أخرى ‪ ،‬سواء أكان ذلك الرّبط بأداة من أدوات الشّرط ‪ ،‬أم بغيرها ممّا يقوم مقامها ‪ ،‬كما لو‬
‫دلّ سياق الكلم على الرتباط دللة كلمة الشّرط عليه ‪.‬‬
‫ومثال الرّبط بين جملتي التّعليق بأداة من أدوات الشّرط ‪ :‬قول الزّوج لزوجته ‪ :‬إن دخلت‬
‫الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فقد رتّب وقوع الطّلق على دخولها الدّار ‪ ،‬فإن دخلت وقع الطّلق ‪ ،‬وإل‬
‫فل ‪ .‬ومثال الرّبط بين جملتي التّعليق بل أداة شرط ‪ :‬هو قول القائل مثل ‪ :‬الرّبح الّذي سيعود‬
‫إليّ من تجارتي هذا العام وقف على الفقراء ‪ ،‬فقد رتّب حصول الوقف على حصول الرّبح بل‬
‫ن مثل هذا السلوب يقوم مقام أداة الشّرط ‪.‬‬
‫أداة شرط ‪ ،‬ل ّ‬
‫والمراد بالشّرط الّذي تستعمل فيه أداته للرّبط بين جملتي التّعليق ‪ :‬الشّرط اللّغويّ ‪ ،‬لنّ‬
‫ارتباط الجملتين النّاشئ عنه كارتباط المسبّب بالسّبب ‪.‬‬
‫أدوات التّعليق ‪:‬‬
‫ل على ربط حصول مضمون بحصول مضمون جملة أخرى ‪،‬‬
‫ل أداة تد ّ‬
‫‪ - 6‬المراد بها ‪ :‬ك ّ‬
‫سواء أكانت من أدوات الشّرط الجازمة أم من غيرها ‪.‬‬
‫وتلك الدوات كما جاء في المغني عند الكلم على تعليق الطّلق بالشّرط ‪ ،‬إن ‪ ،‬وإذا ‪،‬‬
‫ي في الرّوضة ‪ ،‬متى ما ‪ ،‬ومهما ‪.‬‬
‫ومتى ‪ ،‬ومن ‪ ،‬وأي ‪ ،‬و كلّما ‪ .‬وزاد النّوو ّ‬
‫وزاد صاحب مسلم الثّبوت ‪ ،‬لو ‪ ،‬وكيف ‪ .‬وزاد السّرخسيّ في أصوله والبزدويّ في أصوله‬
‫وصاحب فتح الغفّار وصاحب كشّاف القناع " حيث " ‪ ،‬وذكر صاحب فتح الغفّار وصاحب‬
‫كشّاف القناع أيضا أن " أين " من صيغ التّعليق ‪.‬‬
‫وزاد صاحب كشّاف القناع أيضا " أنّى " ولم يفرّق بينها وبين " إن " ‪ .‬وفيما يلي بعض ما‬
‫ل أداة من هذه الدوات من حيث اللّغة ومن حيث التّعليق ‪.‬‬
‫قاله العلماء في ك ّ‬
‫أ ‪ -‬إن ‪:‬‬
‫‪ - 7‬إن الشّرطيّة هي المستعملة في الرّبط بين جملتي التّعليق ‪ ،‬فإنّها أصل في التّعليق وفي‬
‫حروف الشّرط وأدواته ‪ ،‬لتمحّضها للتّعليق والشّرط ‪ ،‬فليس لها معنى آخر سوى الشّرط‬
‫ن لها معاني أخرى تستعمل فيها‬
‫والتّعليق ‪ ،‬بخلف غيرها من أدوات الشّرط كإذا ومتى ‪ ،‬فإ ّ‬
‫إلى جانب الشّرط ‪ .‬وتستعمل إن وغيرها من الدوات الجازمة المشابهة لها في أمر متردّد‬
‫على خطر الوجود ‪ ،‬أي ‪ :‬بين أن يكون وأن ل يكون ‪ .‬ول تستعمل فيما هو قطعيّ الوجود ‪،‬‬
‫أو قطعيّ النتفاء ‪ ،‬إل على تنزيلهما منزلة المشكوك لنكتة ‪.‬‬
‫‪ - 8‬ويترتّب على كون ( إن ) للشّرط المحض ‪ :‬أنّه لو علّق طلق امرأته بعدم تطليقه لها ‪،‬‬
‫بأن قال ‪ :‬إن لم أطلّقك فأنت طالق ‪ ،‬لم تطلق حتّى يموت أحدهما قبل أن يطلّقها ‪ ،‬لنّ إن‬
‫للشّرط ‪ ،‬وأنّه جعل عدم إيقاع الطّلق عليها شرطا ‪ ،‬ول يتيقّن وجود هذا الشّرط ما بقيا حيّين‬
‫‪ ،‬فهو كقوله ‪ :‬إن لم آت البصرة فأنت طالق ‪ .‬ثمّ إن مات الزّوج وقع الطّلق عليها قبل موته‬
‫بقليل ‪ ،‬وليس لذلك القليل حدّ معروف ‪ .‬ولكن قبيل موته يتحقّق عجزه عن إيقاع الطّلق عليها‬
‫‪ ،‬فيتحقّق شرط الحنث ‪ .‬فإن كان لم يدخل بها فل ميراث لها ‪ ،‬وإن كان قد دخل بها ‪ ،‬فلها‬
‫الميراث بحكم الفرار ‪ .‬وإن ماتت المرأة تطلق أيضا في إحدى الرّوايتين بل فصل ‪ -‬كما في‬
‫أصول السّرخسيّ ‪ -‬لنّ فعل التّطليق ل يتحقّق بدون المحلّ ‪ ،‬وبفوات المحلّ يتحقّق الشّرط ‪.‬‬
‫وذكر ابن قدامة أنّه لو علّق الطّلق بالنّفي بإحدى كلمات الشّرط ‪ ،‬كانت ( إن ) على‬
‫التّراخي ‪ ،‬وأمّا غيرها ( كمتى ومن وكلّما وأيّ ) فإنّه يكون على الفور ‪ .‬والتّفصيل محلّه‬
‫مصطلح ‪ ( :‬طلق ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا ‪:‬‬
‫‪ ( - 9‬إذا ) ترد في اللّغة على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن تكون للمفاجأة ‪ ،‬فتختصّ بالجمل السميّة ‪ ،‬ول تحتاج إلى جواب ‪ ،‬ول تقع في‬
‫البتداء ‪ ،‬ومعناها الحال ل الستقبال ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن تكون لغير مفاجأة ‪ ،‬فالغالب أن تكون ظرفا للمستقبل مضمّنة معنى الشّرط ‪.‬‬
‫وخلصة القول في إذا ‪ :‬أنّها تستعمل عند الكوفيّين في معنى الوقت ‪ ،‬وفي معنى الشّرط ‪،‬‬
‫وإذا استعملت في معنى الشّرط سقط عنها معنى الوقت ‪ ،‬وصارت حرفا كإن ‪ ،‬وهو قول أبي‬
‫حنيفة وقد سبق ‪ .‬وعند البصريّين هي حقيقة في الوقت ‪ ،‬وتستعمل في الشّرط مع بقاء‬
‫الوقت ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ومحمّد ‪ ،‬فعندهما أنّها مثل متى ‪ ،‬أي ل يسقط عنها معنى‬
‫الظّرف ‪ ،‬وعنده أنّها كإن في التّمحّض للشّرطيّة ‪ ،‬فل يبقى فيها معنى الظّرف ‪.‬‬
‫‪ - 10‬ويترتّب على الخلف بين قول أبي حنيفة وصاحبيه ‪ :‬أنّه لو قال ‪ :‬إذا لم أطلّقك فأنت‬
‫طالق ‪ ،‬أو إذا ما لم أطلّقك فأنت طالق ‪ ،‬فإن عنى بها الوقت تطلق في الحال ‪ ،‬وإن عنى بها‬
‫الشّرط لم تطلق حتّى تموت ‪ ،‬وإن لم تكن له نيّة لم تطلق حتّى تموت ‪ .‬وهذا على قول أبي‬
‫حنيفة بناء على أنّ ( إذا ) إن استعملت في معنى الشّرط سقط عنها معنى الوقت ‪ ،‬وهو رأي‬
‫الكوفيّين ‪ .‬وأمّا على قول أبي يوسف ومحمّد فإنّها تطلق في الحال عند عدم ال ّنيّة ‪ ،‬بناء على‬
‫ن إذا تستعمل للوقت غالبا ‪ ،‬وتقرن بما ليس فيه معنى الخطر ‪ ،‬فإنّه يقال‬
‫رأي البصريّين في أ ّ‬
‫‪ :‬الرّطب إذا اشتدّ الحرّ ‪ ،‬والبرد إذا جاء الشّتاء ‪ .‬ول يستقيم مكانها إن ‪.‬‬
‫وجاء في المغني ‪ :‬أيضا وجهان في ( إذا ) فيما لو قال ‪ :‬إذا لم تدخلي الدّار فأنت طالق ‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬هي على التّراخي ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬ونصره القاضي ‪ ،‬لنّها تستعمل شرطا‬
‫وإذا تصبك خصاص ٌة فتجمّل‬ ‫ن ما أغناك ربّك بالغنى‬
‫بمعنى إن ‪ .‬قال الشّاعر ‪ :‬استغ ِ‬
‫فجزم بها كما يجزم بإن ‪ ،‬ولنّها تستعمل بمعنى متى وإن ‪ ،‬وإذا احتملت المرين فاليقين بقاء‬
‫النّكاح فل يزول بالحتمال ‪.‬‬
‫والوجه الخر ‪ :‬أنّها على الفور ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ومحمّد ‪ ،‬وهو المنصوص عن‬
‫الشّافعيّ لنّها اسم لزمن مستقبل ‪ ،‬فتكون كمتى ‪ .‬وأمّا المجازاة بها فل تخرجها من‬
‫ل ‪ :‬إذا دخلت الدّار فأنت‬
‫موضوعها ‪ .‬وأمّا إذا علّق التّصرّف بإيجاد فعل بإذا ‪ ،‬كقوله مث ً‬
‫طالق ‪ ،‬فإنّها تكون على التّراخي كغيرها من أدوات التّعليق ‪.‬‬
‫وقد اطّرد في عرف أهل اليمن ‪ -‬كما جاء في نهاية المحتاج ‪ -‬استعمالهم إلى بمعنى إذا‬
‫كقولهم ‪ :‬إلى دخلت الدّار فأنت طالق ‪ .‬ولهذا ألحقها غير واحد بإذا في الستعمال ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬متى ‪:‬‬
‫‪ - 11‬وهي اسم باتّفاق موضوع للدّللة على الزّمان ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪.‬‬
‫ن إذا تستعمل في المور الواجب وجودها ‪ ،‬كطلوع الشّمس ومجيء‬
‫والفرق بين إذا ومتى ‪ :‬أ ّ‬
‫الغد ‪ ،‬بخلف متى ‪ ،‬فإنّها تستعمل في المور المبهمة ‪ ،‬أي فيما يكون وفيما ل يكون ‪ ،‬بمعنى‬
‫ص وقتا دون وقت ‪ ،‬فلذلك كانت مشاركة ل ( إنْ ) في البهام ‪ ،‬ولهذا أيضا كانت‬
‫أنّها ل تخ ّ‬
‫المجازاة بها لزمة في غير موضع الستفهام كإن ‪ ،‬إل أنّ الفرق بين متى وإن أنّ ( متى )‬
‫يجازى بها مع بقاء معنى الوقت فيها ‪ ،‬وأمّا متى الستفهاميّة فإنّها ل يجازى بها ‪ ،‬لنّ‬
‫الستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل ‪ ،‬فل يستقيم في مقامه إضمار حرف إن ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬لو علّق التّصرّف بإيجاد فعل بمتى فإنّها تكون على التّراخي ‪ ،‬فمن قال‬
‫ن الطّلق ل يقع إلّا عند وجود الصّفة أو الفعل‬
‫لزوجته ‪ :‬متى تدخلي الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وهو الدّخول ‪ ،‬أمّا إذا علّق التّصرّف بنفي صفة بمتى ‪ ،‬كما إذا قال ‪ :‬متى لم أطلّقك فأنت‬
‫طالق ‪ ،‬أو متى لم تدخلي الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإنّه إن مضى زمن عقيب اليمين لم تدخل فيه أو‬
‫لم يطلّقها فيه فقد وجدت الصّفة ‪ ،‬فإنّها اسم لوقت الفعل ‪ ،‬فتقدّر به ويقع الطّلق ‪.‬‬
‫‪ - 12‬ومثل متى في الحكم ( متى ما ) فكلّ ما قيل في متى يقال أيضا في ( متى ما ) ‪،‬‬
‫ن اقتران ( ما ) بها يجعلها للجزاء المحض دون‬
‫فحكمها في الشّرط كحكم متى بل أولى ‪ ،‬ل ّ‬
‫غيره كالستفهام ‪.‬‬
‫د ‪ -‬من ‪:‬‬
‫‪ - 13‬وهي اسم باتّفاق وضع للدّللة على من يعقل ‪ ،‬ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪.‬‬
‫وهي من صيغ العموم بوضع اللّغة ‪ ،‬وهي تع ّم بنفسها من غير احتياج إلى قرينة ‪ ،‬وهي كما‬
‫ن‬
‫قال البيضاويّ عامّة في العالمين أي ‪ :‬أولي العلم ‪ ،‬لتشمل العقلء والذّات اللهيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ستُمْ لَه ِبرَازِقين } واللّه‬
‫ن َل ْ‬
‫( من ) تطلق على اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬كما في قوله تعالى { َومَ ْ‬
‫سبحانه وتعالى يوصف بالعلم ول يوصف بالعقل ‪ ،‬وهو معنى حسن غفل عنه الشّارحون ‪،‬‬
‫كما قال السنويّ ‪ .‬قال عبد العزيز البخاريّ في كشف السرار شرح أصول البزدويّ ما نصّه‬
‫ل واحد منهما ل يتناول‬
‫‪ :‬ومن وما يدخلن في هذا الباب أي باب الشّرط ‪ ،‬لبهامها ‪ ،‬فإنّ ك ّ‬
‫عينا ‪ .‬وتحقيقه ‪ :‬أنّ ( من وما ) لبهامهما دخل في باب العموم ‪ ،‬فلمّا كان العموم في الشّرط‬
‫ل واحد من الفراد بالذّكر متعسّر أو متعذّر و ( من وما )‬
‫مقصودا للمتكلّم ‪ ،‬وتخصيص ك ّ‬
‫يؤدّيان هذا المعنى مع اليجاز وحصول المقصود ‪ ،‬نابا مناب إن ‪ ،‬فقيل ‪ :‬من يأت أكرمه ‪،‬‬
‫وما تصنع أصنع ‪ .‬والمسائل فيهما كثيرة مثل قوله ‪ :‬من دخل هذا الحصن فله رأس ‪ ،‬ومن‬
‫دخل منكم الدّار فهو حرّ ‪ .‬وأمّا إذا كان للشّرط فهو اسم بمعنى أي ‪ :‬تقول ‪ :‬ما تصنع أصنع ‪.‬‬
‫س مِنْ‬
‫ت ِبخَيرٍ ِم ْنهَا أو ِمثْلِها } { مَا َي ْفتَحِ اللّهُ للنا ِ‬
‫ن آيَ ٍة أو ُن ْنسِهَا َنأْ ِ‬
‫خ مِ ْ‬
‫وفي التّنزيل ‪ { .‬مَا َن ْنسَ ْ‬
‫سكَ َلهَا } ‪.‬‬
‫َرحْمَ ٍة فَل ُم ْم ِ‬
‫‪ - 14‬وأمّا ( ما ) المصدريّة ‪ ،‬فإنّها تستعمل في الفقه ‪ ،‬ويقيّد بها التّصرّف تقييد إضافة ل‬
‫تعليق ‪ ،‬كما جاء في البحر الرّائق وفتح القدير ‪ ،‬لنّها تنوب عن ظرف الزّمان ‪ ،‬كما في قوله‬
‫حيّا } أي مدّة دوامي حيّا ‪.‬‬
‫ت َ‬
‫تعالى ‪ { :‬وَأَوصَانِي بِالصّلةِ وَال ّزكَاةِ مَا ُدمْ ُ‬
‫وعلى هذا لو قال ‪ :‬أنت طالق ما لم أطلّقك ‪ ،‬وسكت ‪ ،‬وقع الطّلق اتّفاقا بسكوته ‪ ،‬لنّه‬
‫ترتّب عليه إضافة الطّلق إلى وقت لم يطلّقها فيه ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬مهما ‪:‬‬
‫‪ - 15‬مهما اسم وضع للدّللة على ما ل يعقل ‪ ،‬ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪ .‬وقد ذكر النّوويّ في‬
‫الرّوضة ‪ :‬أنّ مهما من صيغ التّعليق ‪ ،‬نحو أن يقول ‪ :‬مهما دخلت الدّار فأنت طالق ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أيّ ‪:‬‬
‫‪ - 16‬وهي بحسب ما تضاف إليه ‪ ،‬ففي ‪ :‬أيّهم يقم أقم معه من باب ( من ) أي أنّها تستعمل‬
‫ب تركب أركب من باب ( ما ) أي من باب ما ل يعقل ‪ ،‬وفي ‪:‬‬
‫فيمن يعقل ‪ ،‬وفي ‪ :‬أيّ الدّوا ّ‬
‫ي مكان تجلس‬
‫أيّ يوم تصم أصم من باب ( متى ) أي أنّها تدلّ على زمان مبهم ‪ ،‬وفي أ ّ‬
‫ل على مكان مبهم ‪.‬‬
‫أجلس من باب ( أين ) أي أنّها تد ّ‬
‫ن حكم ( أيّ ) في التّعليق كحكم " متى ومن وكلّما "‬
‫وقد جاء في المغني والرّوضة ما يفيد أ ّ‬
‫بمعنى أنّه لو علّق التّصرّف بنفي فعل بأيّ ‪ ،‬كما لو علّق الطّلق على نفي الدّخول بأيّ ‪ ،‬بأن‬
‫قال ‪ :‬أيّ وقت لم تدخلي فيه الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإنّه إن مضى زمن يمكنها فيه الدّخول ‪ -‬ولم‬
‫تدخل ‪ -‬فإنّه يقع الطّلق بعده على الفور ‪.‬‬
‫وأمّا لو علّق الطّلق على إيجاد فعل بأيّ ‪ ،‬فل تفيد الفور كغيرها من أدوات التّعليق ‪.‬‬
‫ن ( أيّ ) ل تعمّ بعموم الصّفة فلو قال ‪ :‬أيّ امرأة أتزوّجها فهي‬
‫وجاء في تبيين الحقائق أ ّ‬
‫ن ذلك يتحقّق في امرأة واحدة فقط ‪.‬‬
‫طالق ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل وكلّما ) فإنّهما تفيدان عموم ما دخلتا عليه كما سيأتي ‪.‬‬
‫بخلف كلمتي ( ك ّ‬
‫ز ‪ -‬كلّ وكلّما ‪:‬‬
‫ل شَيءٍ‬
‫‪ - 17‬كلمة ( كلّ ) تستعمل بمعنى الستغراق بحسب المقام ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬وَاللّهُ ِبكُ ّ‬
‫ل شَيءٍ ِبَأ ْمرِ َربّهَا } أي كثيرا ‪،‬‬
‫عَليمٌ } وقد تستعمل بمعنى الكثير كقوله تعالى ‪ُ { :‬ت َدمّرُ كُ ّ‬
‫ل ) ل يستعمل إلّا مضافا لفظا أو‬
‫لنّها دمّرتهم ودمّرت مساكنهم دون غيرهم ‪ ،‬ولفظ ( ك ّ‬
‫تقديرا ‪ ،‬ولفظه واحد ‪ ،‬ومعناه جمع ‪ ،‬ويفيد التّكرار بدخول ( ما ) عليه نحو ‪ :‬كلّما جاءك زيد‬
‫فأكرمه ‪.‬‬
‫‪ - 18‬وكلمة ( ك ّل ) من صيغ التّعليق عند الحنفيّة والمالكيّة وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها‬
‫التّعليق دون المكافأة ‪ .‬ولم يفرّق الحنفيّة في تعليق الطّلق ب ( كلّ ) بين ما إذا عمّم ‪ ،‬بأن‬
‫قال ‪ :‬كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق ‪ ،‬أو خصّص بأن قال ‪ :‬كلّ امرأة من بني فلن أو من بلد‬
‫ن فيه سدّا لباب النّكاح ‪،‬‬
‫كذا ‪ .‬وأمّا المالكيّة فإنّهم يخالفون الحنفيّة في صورة التّعميم ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويتّفقون معه في صورة التّخصيص بأن يخصّ بلدا أو قبيلة أو جنسا أو زمنا يبلغه عمره‬
‫ظاهرا ‪ .‬وذكر السّرخسيّ في أصوله أنّ كلمة ( كلّ ) توجب الحاطة على وجه الفراد ‪،‬‬
‫ن كلّ واحد من المسمّيات الّتي توصل بها كلمة كلّ يصير مذكورا على سبيل النفراد‬
‫ومعناه أ ّ‬
‫ن هذه الكلمة صلة في الستعمال ‪ ،‬حتّى ل تستعمل وحدها لخلوّها‬
‫‪ ،‬كأنّه ليس معه غيره ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن معنى العموم فيها يخالف‬
‫عن الفائدة ‪ ،‬وهي تحتمل الخصوص ‪ ،‬نحو كلمة ( من ) إل أ ّ‬
‫ل مَنْ عَلَيها‬
‫معنى العموم في كلمة ( من ) ولهذا استقام وصلها بكلمة من كقوله تعالى ‪ { :‬كُ ّ‬
‫فَانٍ } حتّى لو وصلت باسم نكرة فإنّها تقتضي العموم في ذلك السم أيضا ‪ .‬ولهذا لو قال ‪:‬‬
‫ل امرأة يتزوّجها على العموم ‪ .‬ولو تزوّج امرأة مرّتين‬
‫كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق تطلق ك ّ‬
‫لم تطلق في المرّة الثّانية ‪ ،‬لنّها توجب العموم فيما وصلت به من السم دون الفعل ‪.‬‬
‫‪ - 19‬والفرق بين كلمة " كلّ " وكلمة " من " فيما يرجع إلى الخصوص ‪ :‬هو أنّ كلمة كلّ‬
‫وإن كانت الحاطة فيها شاملة لكلّ فرد ‪ ،‬إل أنّها تحتمل الخصوص ‪ ،‬ككلمة " من " كما لو‬
‫قال ‪ :‬كلّ من دخل هذا الحصن أوّل فله كذا ‪ ،‬فدخلوا على التّعاقب فالنّفل للوّل خاصّة‬
‫لحتمال الخصوص في كلمة كلّ ‪ ،‬فإنّ الوّل اسم لفرد سابق ‪ ،‬وهذا الوصف متحقّق فيه دون‬
‫من دخل بعده ‪ .‬ومثل ذلك كلمة " من " في صورة التّعاقب ‪.‬‬
‫ل " دون كلمة " من " ‪.‬‬
‫‪ - 20‬فإن دخلوا معا استحقّوا جميعا النّفل بكلمة " ك ّ‬
‫وأمّا كلمة " كلّما " فإنّها من صيغ التّعليق عند الفقهاء ‪ ،‬وهي تقتضي التّكرار والفور ‪ ،‬ويليها‬
‫الفعل دون السم ‪ ،‬فتقتضي العموم فيه ‪ ،‬فلو قال ‪ :‬كلّما تزوّجت امرأة فهي طالق ‪ ،‬فتزوّج‬
‫امرأة مرارا فإنّها تطلق في كلّ مرّة يتزوّجها ‪ ،‬لنّها تقتضي العموم في الفعال دون‬
‫السماء ‪ ،‬بخلف كلمة ( كلّ ) فإنّها تفيد العموم في السماء دون الفعال ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬لو ‪:‬‬
‫‪ - 21‬تكون ( لو ) حرف شرط في المستقبل ‪ ،‬إل أنّها ل تجزم ‪ ،‬ومثالها قوله تعالى ‪:‬‬
‫ضعَافَا خَافُوا عَليهمْ } أي ‪ :‬وليخش الّذين إن شارفوا‬
‫ن خَلْفِهمْ ُذ ّريّةً ِ‬
‫ن لو َترَكُوا مِ ْ‬
‫{ وَ ْل َيخْشَ الّذي َ‬
‫ن الخطاب للوصياء ‪ ،‬وإنّما يتوجّه‬
‫وقاربوا أن يتركوا ‪ .‬وإنّما أوّلوا التّرك بمشارفة التّرك ‪ ،‬ل ّ‬
‫إليهم قبل التّرك ‪ ،‬لنّهم بعده أموات ‪.‬‬
‫وأمّا من حيث تعليق التّصرّف " بلو " فقد أجاز الفقهاء ‪ -‬كأبي يوسف ‪ -‬تعليقه بها ‪ ،‬لشبهها "‬
‫بإن " فإنّ لو تستعمل في معنى الشّرط ول يليها دائما إلّا الفعل كإن ‪ ،‬ولورود استعمال كلّ‬
‫ن " لو " تفيد التّقييد في الماضي " وإن " تفيده في المستقبل ‪.‬‬
‫منهما في معنى الخرى ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫إل أنّ الفقهاء لم ينظروا إلى هذه النّاحية ‪ ،‬وعاملوها كإن في التّعليق ‪ ،‬فمن قال لعبده ‪ :‬لو‬
‫ن من الفقهاء‬
‫دخلت الدّار لتعتق ‪ ،‬فإنّه ل يعتق حتّى يدخل صونا للكلم عن الهمال ‪ ،‬حتّى إ ّ‬
‫من عاملها معاملة " إن " مطلقا وأجاز اقتران جوابها بالفاء ‪ ،‬ولم ينظر إلى عدم جواز ذلك‬
‫ن العامّة تخطئ وتصيب في العراب ‪ ،‬فمن قال لرجل ‪ :‬زنيت بكسر التّاء ‪،‬‬
‫عند النّحاة ‪ ،‬ل ّ‬
‫أو قال لمرأة ‪ :‬زنيت بفتحها ‪ ،‬وجب حدّ القذف في الصّورتين ‪.‬‬
‫‪ - 22‬وتستعمل " لو " في الستقبال لمؤاخاتها لن ‪ ،‬كأن يقال ‪ :‬لو استقبلت أمرك بالتّوبة لكان‬
‫ج َب ُكمْ } أي‬
‫عَ‬‫ن ُمشْ ِركٍ وَلو أَ ْ‬
‫ن خَيرٌ مِ ْ‬
‫خيرا لك ‪ ،‬أي إن استقبلت ‪ ،‬وقال تعالى ‪ { :‬وََل َع ْبدٌ مُ ْؤمِ ٌ‬
‫ت قُلْتُه فَ َقدْ عَِل ْمتَه }‬
‫وإن أعجبكم ‪ ،‬كما أنّ " إن " استعلمت بمعنى " لو " كقوله تعالى ‪ { :‬إنْ ُكنْ ُ‬
‫وعلى هذا فمن قال لزوجته ‪ :‬أنت طالق لو دخلت الدّار ‪ ،‬فإنّها ل تطلق عند أبي يوسف حتّى‬
‫تدخل الدّار ‪ ،‬لنّ لو بمنزلة إن ‪ ،‬فتفيد معنى التّرقّب ‪ .‬وليس في هذه المسألة نصّ عن أبي‬
‫حنيفة ‪ ،‬ولم يرو فيها شيء عن محمّد ‪ ،‬فهي من النّوادر ‪.‬‬
‫‪ - 23‬أمّا " لول " وهي الّتي تفيد امتناع الثّاني لوجود الوّل ‪ ،‬فإنّها ليست من صيغ التّعليق‬
‫عند الفقهاء ‪ ،‬لنّها وإن كان فيها معنى الشّرط فإنّ الجزاء فيها ل يتوقّع حصوله ‪ ،‬لنّها ل‬
‫تستعمل إلّا في الماضي ‪ ،‬ول علقة لها بالزّمن المستقبل ‪ ،‬فهي عندهم بمعنى الستثناء لنّها‬
‫تستعمل لنفي شيء بوجود غيره ‪ ،‬فمن قال لزوجته ‪ :‬أنت طالق لول حسنك ‪ ،‬أو لول صحبتك‬
‫‪ ،‬ل يقع الطّلق حتّى وإن زال الحسن أو انتفت الصّحبة ‪ ،‬لجعله ذلك مانعا من وقوع الطّلق‬
‫‪.‬‬
‫ط ‪ -‬كيف ‪:‬‬
‫‪ " - 24‬كيف " تستعمل في اللّغة على وجهين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أن تكون شرطا ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬وهو الغالب فيها ‪ :‬أن تكون استفهاما ‪ ،‬إمّا حقيقيّا نحو " كيف زيد ؟ " أو غيره نحو‬
‫ن بِاللّهِ } الية ‪ ،‬فإنّه أخرج مخرج التّعجّب ‪ ،‬وتقع خبرا قبل ما ل يستغنى ‪،‬‬
‫{ كيفَ َتكْفُرو َ‬
‫نحو " كيف أنت ؟ " " وكيف كنت ؟ " ‪ ،‬وحال قبل ما يستغنى ‪ ،‬نحو " كيف جاء زيد ؟ " أي‬
‫على أيّ حالة جاء زيد ‪.‬‬
‫وأمّا الفقهاء فإنّهم لم يخرجوا في استعمالهم لكيف عمّا ذكرته اللّغة بشأنها ‪.‬‬
‫ن تعليق الحكم بكيف ل يؤثّر في أصل التّصرّف ‪ ،‬وإنّما يؤثّر في صفته‬
‫فذهب أبو حنيفة إلى أ ّ‬
‫‪ .‬وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى أنّ تعليق الحكم بها يؤثّر في الصل والوصف معا ‪ .‬وعلى‬
‫هذا فقد قال أبو حنيفة فيمن قال لمرأته ‪ :‬أنت طالق كيف شئت أنّها تطلق قبل المشيئة‬
‫تطليقة ‪ ،‬ثمّ إن لم تكن مدخول بها فقد بانت ل إلى عدّة ‪ ،‬ول مشيئة لها ‪ ،‬وإن كانت مدخول‬
‫بها فالتّطليقة الواقعة رجعيّة ‪ ،‬والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك ‪.‬‬
‫فإن شاءت البائنة ‪ -‬وقد نواها الزّوج ‪ -‬كانت بائنة ‪ ،‬أو إن شاءت ثلثا ‪ -‬وقد نواها الزّوج ‪-‬‬
‫تطلق ثلثا ‪ ،‬وإن شاءت واحدة بائنة ‪ -‬وقد نوى الزّوج ثلثا ‪ -‬فهي واحدة رجعيّة ‪ ،‬وإن‬
‫شاءت ثلثا ‪ -‬وقد نوى الزّوج واحدة بائنة ‪ -‬فهي واحدة رجعيّة ‪ ،‬لنّها شاءت غير ما نوى ‪،‬‬
‫وأوقعت غير ما فوّض إليها ‪ ،‬فل يعتبر ‪ ،‬لنّه إنّما يتأخّر إلى مشيئتها ما علّقه الزّوج بمشيئتها‬
‫دون ما لم يعلّقه ‪ ،‬وكلمة " كيف " ل ترجع إلى أصل الطّلق ‪ ،‬فيكون هو منجّزا أصل الطّلق‬
‫ن في غير المدخول بها ل مشيئة لها‬
‫ومفوّضا للصّفة إلى مشيئتها ‪ ،‬بقوله ‪ :‬كيف شئت ‪ .‬إل أ ّ‬
‫في الصّفة بعد إيقاع الصل ‪ ،‬فيلغو تفويضه الصّفة إلى مشيئتها بعد إيقاع الصل ‪ ،‬وفي‬
‫المدخول بها ‪ ،‬لها المشيئة في الصّفة بعد وقوع الصل ‪ ،‬بأن تجعله بائنا أو ثلثا على ما‬
‫ح تفويضه إليها ‪.‬‬
‫عرف ‪ ،‬فيص ّ‬
‫وأمّا عند أبي يوسف ومحمّد ‪ :‬فل يقع عليها شيء ما لم تشأ ‪ ،‬فإذا شاءت فالتّفريع كما قال أبو‬
‫حنيفة ‪ ،‬لنّه جعل الطّلق مفوّضا إلى مشيئتها فل يقع بدون تلك المشيئة ‪ ،‬كقوله ‪ :‬أنت طالق‬
‫إن شئت ‪ ،‬أو كم شئت ‪ ،‬أو حيث شئت ‪ ،‬ل يقع شيء ما لم تشأ ‪ ،‬وهذا لنّه لمّا فوّض وصف‬
‫ن الوصف ل ينفكّ عن الصل ‪.‬‬
‫الطّلق إليها يكون ذلك تفويضا لنفس الطّلق إليها ضرورة أ ّ‬
‫ولم نطّلع للمالكيّة على كلم في هذه المسألة ‪.‬‬
‫وأمّا الشّافعيّة ‪ :‬فلهم رأيان في هذه المسألة ‪.‬‬
‫فقد ذكر البغويّ أنّه لو قال ‪ :‬أنت طالق كيف شئت ‪ ،‬قال أبو زيد والقفّال ‪ :‬تطلق شاءت أم لم‬
‫تشأ ‪ .‬وقال الشّيخ أبو عليّ ‪ :‬ل تطلق حتّى توجد مشيئة في المجلس باليقاع أو عدمه ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة ‪ :‬فإنّهم لم يفرّقوا في هذه المسألة بين " كيف " وبين غيرها من أدوات التّعليق ‪،‬‬
‫فالطّلق عندهم ل يقع حتّى تعرف مشيئتها بقولها ‪ ،‬فقد جاء في كشّاف القناع أنّه لو قال ‪:‬‬
‫أنت طالق إن شئت أو إذا شئت ‪ ،‬أو متى شئت ‪ ،‬أو كيف شئت ‪ . .‬إلخ لم تطلق حتّى تقول ‪:‬‬
‫ن ما في القلب ل يعلم حتّى يعبّر عنه اللّسان ‪.‬‬
‫قد شئت ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي ‪ -‬حيث ‪ ،‬وأين ‪:‬‬
‫‪ " - 25‬حيث " اسم للمكان المبهم ‪ .‬قال الخفش ‪ :‬وقد تكون للزّمان ‪.‬‬
‫" وحيث " من صيغ التّعليق ‪ ،‬لشبهها " بإن " في البهام ‪ ،‬وتعليق التّصرّف بها ل يتعدّى‬
‫ن تعليق الطّلق مثل بمشيئة المرأة ب " إن "‬
‫مجلس التّخاطب تشبيها لها ب " إن " أيضا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل يتعدّى مجلس التّخاطب عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫فلو قال لمرأته ‪ :‬أنت طالق حيث شئت ‪ ،‬فإنّها ل تطلق قبل المشيئة ‪ ،‬وتتوقّف مشيئتها على‬
‫ن " حيث " من ظروف المكان ‪ ،‬ول اتّصال للطّلق بالمكان ‪ ،‬فيلغو ذكره ‪،‬‬
‫المجلس ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويبقى ذكر المشيئة في الطّلق ‪ ،‬فيقتصر على المجلس ‪.‬‬
‫وأورد البهوتيّ " حيث " في صيغ التّعليق ‪ ،‬وأنّها تعامل معاملة غيرها من أدوات التّعليق ‪،‬‬
‫فتعلّق الحكم بها ل يكون قاصرا على المجلس عند الحنابلة ‪ ،‬بل يتعدّاه إلى غيره ‪ .‬فلو قال ‪:‬‬
‫أنت طالق حيث شئت ‪ ،‬فإنّها ل تطلق حتّى تعرف مشيئتها بقولها ‪ ،‬سواء أكان ذلك على الفور‬
‫ي من الشّافعيّة في الرّوضة ‪.‬‬
‫أم على التّراخي ‪ .‬ولم يذكرها المالكيّة ‪ ،‬ول النّوو ّ‬
‫‪ - 26‬ومثل " حيث " فيما تقدّم أين ‪ ،‬فإنّها أيضا اسم للمكان المبهم ‪ ،‬وذكرها صاحب فتح‬
‫الغفّار وعدّها من أدوات التّعليق ‪ ،‬وذكرها أيضا صاحب كشّاف القناع ولم يفرّق بينها وبين "‬
‫إن " في الحكم ‪.‬‬
‫ك ‪ -‬أنّى ‪:‬‬
‫‪ - 27‬وهي اسم اتّفاقا وضع للدّللة على المكنة ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪ ،‬وترد في اللّغة‬
‫بمعنى أين ‪ ،‬وبمعنى كيف ‪ ،‬وبمعنى متى ‪.‬‬
‫هذا وقد ذكر الحنابلة في كتبهم ‪ :‬أنّها من اللفاظ الّتي يعلّق بها الحكم ‪ ،‬فقد جاء في كشّاف‬
‫القناع ‪ :‬أنّه لو قال ‪ :‬أنت طالق أنّى شئت ‪ ،‬فإنّها ل تطلق حتّى تعرف مشيئتها بقولها ‪ ،‬ولم‬
‫يفرّق بينها وبين ( إن ) لنّ كلّا منهما تدلّ على التّعليق ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬شروط التّعليق ‪:‬‬
‫‪ - 28‬يشترط لصحّة التّعليق أمور ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يكون المعلّق عليه أمرا معدوما على خطر الوجود ‪ ،‬أي متردّدا بين أن يكون وأن‬
‫ل يكون ‪ ،‬فالتّعليق على المحقّق تنجيز ‪ ،‬وعلى المستحيل لغو ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يكون المعلّق عليه أمرا يرجى الوقوف على وجوده ‪ ،‬فتعليق التّصرّف على أمر‬
‫غير معلوم ل يصحّ ‪ ،‬فلو علّق الطّلق مثلً على مشيئة اللّه تعالى ‪ ،‬بأن قال لمرأته ‪ :‬أنت‬
‫ن الطّلق ل يقع اتّفاقا ‪ ،‬لنّه علّقه على شيء ل يرجى الوقوف على‬
‫طالق إن شاء اللّه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وجوده ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬أن ل يوجد فاصل بين الشّرط والجزاء ‪ ،‬أي بين المعلّق والمعلّق عليه ‪ ،‬فلو قال‬
‫لزوجته ‪ :‬أنت طالق ‪ ،‬ثمّ قال بعد فترة من الزّمن ‪ :‬إن خرجت من الدّار دون إذن منّي لم يكن‬
‫تعليقا للطّلق ‪ ،‬ويكون الطّلق منجّزا بالجملة الولى ‪.‬‬
‫الرّابع ‪ :‬أن يكون المعلّق عليه أمرا مستقبل بخلف الماضي ‪ ،‬فإنّه ل مدخل له في التّعليق ‪،‬‬
‫فالقرار مثل ل يصحّ تعليقه بالشّرط ‪ ،‬لنّه إخبار عن ماض ‪ ،‬والشّرط إنّما يتعلّق بالمور‬
‫المستقبلة ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أن ل يقصد بالتّعليق المجازاة ‪ ،‬فلو سبّته بما يؤذيه فقال ‪ :‬إن كنت كما قلت فأنت‬
‫طالق ‪ ،‬تنجّز سواء أكان الزّوج كما قالت أو لم يكن ‪ ،‬لنّ الزّوج في الغالب ل يريد إل‬
‫إيذاءها بالطّلق ‪ .‬فإن أراد التّعليق يدين فيما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ ‪.‬‬
‫السّادس ‪ :‬أن يوجد رابط كالفاء وإذا الفجائيّة حيث كان الجزاء مؤخّرا ‪ ،‬وإل يتنجّز ‪.‬‬
‫السّابع ‪ :‬أن يكون الّذي يصدر منه التّعليق مالكا للتّنجيز أي قادرا على التّنجيز ‪ -‬بمعنى كون‬
‫الزّوجيّة قائمة حقيقة أو حكما ‪ -‬وهذا الشّرط فيه خلف ‪ ،‬فالحنفيّة والمالكيّة ل يشترطون ذلك‬
‫ن المالكيّة‬
‫في تعليق الطّلق ‪ ،‬بل يكتفون فيه بمطلق الملك ‪ ،‬سواء أكان محقّقا أم معلّقا حتّى إ ّ‬
‫لم يفرّقوا في هذا بين التّعليق الصّريح فيما لو قال لمرأة ‪ :‬إن تزوّجتك فأنت طالق ‪ ،‬وبين‬
‫التّعليق الّذي لم يصرّح به ‪ ،‬كما لو قال لجنبيّة ‪ :‬هي طالق ‪ ،‬ونوى عند تزوّجه بها ‪ ،‬فإنّ‬
‫الطّلق يقع في الصّورتين ‪.‬‬
‫ن هذا التّصرّف يمين لوجود الشّرط والجزاء ‪ ،‬فل يشترط‬
‫‪ - 29‬ودليل أصحاب هذا القول ‪ :‬أ ّ‬
‫لصحّته قيام الملك في الحال ‪ ،‬لنّ الوقوع عند الشّرط ‪ ،‬والملك متيقّن به عند وجود الشّرط ‪،‬‬
‫وقبل ذلك أثره المنع ‪ ،‬وهو قائم بالمتصرّف ‪.‬‬
‫وأمّا الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬فإنّهم يشترطون لصحّة التّعليق قيام الملك في حال التّعليق ‪ ،‬بمعنى‬
‫أن يكون الّذي يصدر منه التّعليق قادرا على التّنجيز ‪ ،‬وإل فل يصحّ تعليقه ‪ .‬والقاعدة الفقهيّة‬
‫عندهم هي ‪ :‬من ملك التّنجيز ملك التّعليق ‪ ،‬ومن ل يملك التّنجيز ل يملك التّعليق ‪ .‬وهناك‬
‫استثناءات من القاعدة بشقّيها ذكرها السّيوطيّ ‪.‬‬
‫ودليل أصحاب هذا القول ما رواه أحمد وأبو داود والتّرمذيّ بإسناد جيّد من حديث عمرو بن‬
‫شعيب عن أبيه عن جدّه ‪ ،‬وهو قوله صلى ال عليه وسلم « ل نذر لبن آدم فيما ل يملك ‪،‬‬
‫ول عتق له فيما ل يملك ‪ ،‬ول طلق له فيما ل يملك » ‪ .‬وحديث ‪ « :‬ل طلق إلّا بعد نكاح‬
‫» وقد روى هذا الحديث أيضا الدّارقطنيّ وغيره من حديث عائشة رضي ال عنه وزاد ‪:‬‬
‫ل الطّلق ‪ ،‬وهو الزّوجة ‪.‬‬
‫« وإن عيّنها » ‪ .‬ولنتفاء الولية من القائل على مح ّ‬
‫أثر التّعليق على التّصرّفات ‪:‬‬
‫ن التّعليق هل يمنع السّبب عن السّببيّة أو يمنع الحكم‬
‫‪ - 30‬هناك مسألة أصوليّة هامّة هي ‪ :‬أ ّ‬
‫عن الثّبوت فقط ‪ ،‬ل السّبب عن النعقاد ؟ والخلف في هذه المسألة بين الحنفيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫ن التّعليق يمنع السّبب عن السّببيّة كما يمنع الحكم عن الثّبوت‪ .‬والشّافعيّة‬
‫فالحنفيّة يرون أ ّ‬
‫ن التّعليق ل يمنع السّبب عن السّببيّة ‪ ،‬وإنّما يمنع الحكم من الثّبوت فقط ‪ ،‬ول يمنع‬
‫يرون أ ّ‬
‫السّبب عن النعقاد ‪ .‬فكون التّعليق يمنع ثبوت الحكم محلّ اتّفاق بين الحنفيّة والشّافعيّة ‪،‬‬
‫وكونه يمنع السّبب عن السّببيّة هو محلّ الخلف ‪.‬‬
‫فالحنفيّة يرون أنّه يمنع ‪ ،‬والشّافعيّة على العكس في ذلك ‪ .‬وممّا يتفرّع عليه تعليق الطّلق‬
‫والعتاق بالملك ‪ ،‬فإنّه يصحّ عند الحنفيّة ويقع عند وجود الملك ‪ ،‬لعدم سببيّته في الحال ‪ ،‬وإنّما‬
‫يصير سببا عند وجود الشّرط وهو الملك ‪ ،‬فيصادف محلً مملوكا ‪.‬‬
‫ل هنا غير‬
‫ن التّعليق عندهم ينعقد سببا للحكم في الحال ‪ ،‬والمح ّ‬
‫ح عند الشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول يص ّ‬
‫مملوك ‪ ،‬فيلغو ‪ ،‬ول يقع شيء عند وجود الشّرط ‪.‬‬
‫‪ - 31‬التّصرّفات من حيث قبولها التّعليق أو عدم قبولها له على ضربين ‪:‬‬
‫ج والخلع والطّلق والظّهار‬
‫أحدهما ‪ :‬تصرّفات تقبل التّعليق وهي ‪ .‬اليلء والتّدبير والح ّ‬
‫والعتق والكتابة والنّذر والولية ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬تصرّفات ل تقبل التّعليق وهي ‪ :‬الجارة والقرار واليمان باللّه تعالى ‪ ،‬والبيع‬
‫ن ما كان تمليكا محضا ل مدخل للتّعليق‬
‫والرّجعة والنّكاح والوقف والوكالة ‪ .‬وضابط ذلك ‪ :‬أ ّ‬
‫فيه قطعا كالبيع ‪ ،‬وما كان حل ‪ -‬أي إسقاطا ‪ -‬محضا يدخله التّعليق قطعا كالعتق ‪.‬‬
‫وبين المرتبتين مراتب يجري فيها الخلف كالفسخ والبراء ‪ ،‬لنّهما يشبهان التّمليك ‪ ،‬وكذلك‬
‫الوقف ‪ ،‬وفيه شبه يسير بالعتق فجرى فيه وجه ضعيف ‪ .‬وتفصيل ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اليلء ‪:‬‬
‫‪ - 32‬اليلء يقبل التّعليق على الشّرط عند الفقهاء ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن دخلت الدّار فواللّه ل‬
‫أقربك ‪ ،‬فإنّه يصير موليا عند وجود الشّرط لنّ اليلء يمين يحتمل التّعليق بالشّرط كسائر‬
‫ن اليلء من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق على الشّرط‬
‫اليمان ‪ .‬وذكر الزّركشيّ في المنثور أ ّ‬
‫ح قوله ‪ :‬آليت منك بشرط كذا ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ( إيلء )‬
‫ول تقبل الشّرط ‪ ،‬فل يص ّ‬
‫ب ‪ -‬الحجّ ‪:‬‬
‫ج يصحّ تعليقه ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن أحرم فلن فقد‬
‫‪ - 33‬ذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الح ّ‬
‫أحرمت ‪ .‬ويقبل الشّرط كأن يقول ‪ :‬أحرمت على أنّي إذا مرضت فأنا حلل ‪.‬‬
‫ج)‪.‬‬
‫والتّفصيل محلّه مصطلح ( ح ّ‬
‫ج ‪ -‬الخلع ‪:‬‬
‫‪ - 34‬الخلع إن كان من جانب الزّوجة ‪ ،‬بأن كانت هي البادئة بسؤال الطّلق ‪ ،‬فإنّه ل يقبل‬
‫ن الخلع من جانبها معاوضة ‪ .‬وإن كان من جانب الزّوج‬
‫التّعليق عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الخلع من جانبه طلق ‪ ،‬ومثله الطّلق‬
‫فإنّه يقبل التّعليق عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫على مال ‪ .‬وأمّا الحنابلة فلم يجوّزوا تعليق الخلع قياسا على البيع ‪.‬‬
‫ن الخلع إن جعلناه طلقا فإنّه يقبل التّعليق على الشّروط ول‬
‫وذكر الزّركشيّ في المنثور ‪ :‬أ ّ‬
‫يقبل الشّرط ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ( خلع ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الطّلق ‪:‬‬
‫ن الطّلق يقبل التّعليق اتّفاقا ‪ ،‬ويقع بحصول‬
‫‪ - 35‬مجمل ما قاله الفقهاء في الطّلق هو أ ّ‬
‫ن الطّلق من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق على‬
‫المعلّق عليه ‪ .‬وذكر الزّركشيّ في المنثور ‪ :‬أ ّ‬
‫الشّرط ول تقبل الشّرط ‪.‬‬
‫والفقهاء يذكرون مسائل كثيرة في تعليق الطّلق ‪ ،‬كتعليقه على المشيئة أو الحمل أو الولدة أو‬
‫على فعل غيره ‪ ،‬وتعليقه على الطّلق نفسه ‪ ،‬وتعليقه على أمر مستقبل أو أمر يستحيل وقوعه‬
‫‪ ،‬وغيرها من المسائل الّتي يطول الكلم بذكرها فليرجع لتفصيلها إلى ( الطّلق ) ‪.‬‬
‫هن ‪ -‬الظّهار ‪:‬‬
‫ن الظّهار يقتضي التّحريم كالطّلق ‪،‬‬
‫ح تعليق الظّهار باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫‪ - 36‬يص ّ‬
‫ل من الطّلق واليمين يصحّ تعليقه ‪ .‬فمن قال لزوجته ‪ :‬أنت‬
‫ويقتضي الكفّارة كاليمين ‪ .‬وك ّ‬
‫عليّ كظهر أمّي إن دخلت الدّار ‪ ،‬ل يصير مظاهرا منها قبل دخولها الدّار ‪.‬‬
‫ن الظّهار كالطّلق في كونه يقبل التّعليق على الشّرط ول يقبل‬
‫وذكر الزّركشيّ في المنثور ‪ :‬أ ّ‬
‫الشّرط ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ( ظهار ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬العتق ‪:‬‬
‫‪ - 37‬اتّفق الفقهاء على صحّة تعليق العتق بالشّرط والصّفة ‪ ،‬على تفصيل فيهما ينظر في‬
‫مصطلح ( عتق ) ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬المكاتبة ‪:‬‬
‫‪ - 38‬يجوز تعليق المكاتبة بالشّرط ‪ ،‬وفي ذلك تفصيل سبق في مصطلح ( إسقاط ) وراجع‬
‫مصطلح ( مكاتبة ) ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬النّذر ‪:‬‬
‫‪ - 39‬اتّفق الفقهاء على جواز تعليق النّذر بالشّرط ‪ ،‬ول يجب الوفاء قبل حصول المعلّق عليه‬
‫‪ ،‬لعدم وجود سبب الوفاء ‪ ،‬فمتى وجد المعلّق عليه وجد النّذر ولزم الوفاء به ‪.‬‬
‫على تفصيل في ذلك في مصطلح ( نذر ) ‪.‬‬
‫ط ‪ -‬الولية ‪:‬‬
‫‪ - 40‬ويمثّل لها بالمارة والقضاء والوصاية ‪ ،‬أمّا المارة والقضاء فيجوز تعليقهما بالشّرط‬
‫لنّهما ولية محضة ‪ .‬وتفصيل ذلك محلّه مصطلح ( إمارة ) ومصطلح ( قضاء ) ‪.‬‬
‫وأمّا الوصاية فيجوز عند الحنفيّة في ظاهر المذهب ‪ ،‬وعند الشّافعيّة والحنابلة تعليقها بالشّرط‬
‫ت ففلن وصيّي ‪ ،‬فإنّ المذكور يصير وصيّا عند وجود‬
‫لقربها من المارة ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬إذا م ّ‬
‫الشّرط للخبر الصّحيح « فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر ‪ ،‬فإن قتل أو استشهد فأميركم‬
‫عبد اللّه بن رواحة » ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بجواز تعليقها ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ( وصاية ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬التّصرّفات الّتي ل تقبل التّعليق ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجارة ‪:‬‬
‫ن منفعة العين المؤجّرة تنقل‬
‫‪ - 41‬ل يجوز الجارة على الشّرط بالتّفاق بين الفقهاء وذلك ل ّ‬
‫ملكيّتها في مدّة الجارة من المؤجّر إلى المستأجر ‪ .‬وانتقال الملك ل يكون إلّا مع الرّضا ‪،‬‬
‫والرّضا إنّما يكون مع الجزم ‪ ،‬ول جزم مع التّعليق ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬القرار ‪:‬‬
‫‪ - 42‬ل يجوز تعليق القرار على الشّرط بالتّفاق ‪ ،‬لنّ المقرّ يعتبر بذلك مقرّا في الحال ‪،‬‬
‫ن التّعليق على الشّرط في معنى الرّجوع عن إقرار ‪ ،‬والقرار في حقوق العباد ل يحتمل‬
‫ول ّ‬
‫الرّجوع ‪ ،‬ولنّ القرار إخبار عن حقّ سابق فل يصحّ تعليقه ‪ ،‬لوجوبه قبل الشّرط ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( إقرار ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬اليمان باللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ - 43‬اليمان باللّه تعالى ل يقبل التّعليق على الشّرط ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬إن كنت في هذه القضيّة‬
‫كاذبا فأنا مسلم ‪ ،‬فإنّه إن كان كذلك ل يحصل له إسلم ‪ ،‬لنّ الدّخول في الدّين يفيد الجزم‬
‫بصحّته ‪ ،‬والمعلّق ليس بجازم ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( إيمان ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬البيع ‪:‬‬
‫ن البيع فيه انتقال للملك‬
‫‪ - 44‬ل يجوز في الجملة تعليق البيع على الشّرط بالتّفاق ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫من طرف إلى طرف ‪ ،‬وانتقال الملك إنّما يعتمد الرّضا ‪ ،‬والرّضا يعتمد الجزم ‪ ،‬ول جزم‬
‫مع التّعليق ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( بيع )‬
‫هن ‪ -‬الرّجعة ‪:‬‬
‫‪ - 45‬ل يجوز تعليق الرّجعة على شرط عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فذكروا في إبطال الرّجعة إن علّقت ‪ -‬بأن قال لزوجته ‪ :‬إن جاء الغد فقد‬
‫راجعتك ‪ -‬قولين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬وهو الظهر ‪ ،‬أنّها ل تصحّ الن ول غدا ‪ ،‬لنّه ضرب من النّكاح ‪ ،‬وهو ل يكون‬
‫لجل ‪ ،‬ولفتقارها لنيّة مقارنة ‪.‬‬
‫ن الرّجعة حقّ للزّوج فله تعليقها‬
‫والثّاني ‪ :‬أنّها تبطل الن فقط ‪ ،‬وتصحّ رجعته في الغد ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( رجعة ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬النّكاح ‪:‬‬
‫‪ - 46‬ل يجوز تعليق النّكاح على شرط عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬والمذهب عند الشّافعيّة ‪ .‬وأمّا‬
‫الحنابلة فل يجوز عندهم تعليق ابتداء النّكاح على شرط مستقبل غير مشيئة اللّه ‪ ،‬لنّه ‪ -‬كما‬
‫ح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ‪ .‬والتّفصيل‬
‫جاء في كشّاف القناع ‪ -‬عقد معاوضة فل يص ّ‬
‫في مصطلح ( نكاح ) ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬الوقف ‪:‬‬
‫‪ - 47‬ل يجوز عند الحنفيّة تعليق الوقف على شرط ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬إن قدم ولدي فداري‬
‫صدقة موقوفة على المساكين ‪ ،‬لشتراطهم التّنجيز فيه ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فجوّزوا تعليقه لعدم اشتراطهم التّنجيز فيه قياسا على العتق ‪.‬‬
‫ح تعليق الوقف فيما ل يضاهي التّحرير ‪ ،‬كقوله ‪ :‬إذا‬
‫وأمّا الشّافعيّة ‪ :‬فل يجوز عندهم ول يص ّ‬
‫جاء زيد فقد وقفت كذا على كذا ‪ ،‬لنّه عقد يقتضي نقل الملك في الموقوف للّه تعالى أو‬
‫للموقوف عليه حال كالبيع والهبة ‪.‬‬
‫أمّا ما يضاهي التّحرير ‪ ،‬كجعلته مسجدا إذا جاء رمضان ‪ ،‬فالظّاهر صحّته كما ذكر ابن‬
‫الرّفعة ‪ .‬ومحلّ ذلك ما لم يعلّقه بالموت ‪ ،‬فإن علّقه به كوقفت داري بعد موتي على الفقراء‬
‫فإنّه يصحّ ‪ .‬قاله الشّيخان ‪ ،‬وكأنّه وصيّة لقول القفّال ‪ :‬لو عرضها للبيع كان رجوعا ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة ‪ :‬فلم يجوّزوا تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬إذا جاء‬
‫رأس الشّهر فداري وقف أو فرسي حبيس ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬ولنّه نقل للملك فيما لم يبن على‬
‫التّغليب والسّراية فلم يجز تعليقه على شرط كالهبة ‪ .‬وذكر ابن قدامة أنّه ل يعلم في هذا خلفا‬
‫‪ .‬وسوّى المتأخّرون من الحنابلة بين تعليقه بالموت وتعليقه بشرط في الحياة ‪ .‬وأمّا تعليق‬
‫ح في أحد‬
‫انتهاء الوقف بوقت كقوله ‪ :‬داري وقف إلى سنة ‪ ،‬أو إلى أن يقدم الحاجّ ‪ ،‬فل يص ّ‬
‫الوجهين ‪ ،‬لنّه ينافي مقتضى الوقف وهو التّأبيد ‪.‬‬
‫وفي الوجه الخر ‪ :‬يصحّ لنّه منقطع النتهاء ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬الوكالة ‪:‬‬
‫‪ - 48‬يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة تعليق الوكالة على شرط ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن قدم زيد‬
‫ن التّوكيل ‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬إطلق التّصرّف ‪ ،‬والطلقات‬
‫فأنت وكيلي في بيع كذا ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن شروط الموكّل عندهم معتبرة ‪ ،‬فليس للوكيل أن يخالفها ‪،‬‬
‫ممّا يحتمل التّعليق بالشّرط ‪ ،‬ول ّ‬
‫فلو قيّد الوكالة بزمان أو مكان ونحو ذلك فليس للوكيل مخالفة ذلك ‪.‬‬
‫وذكر الشّافعيّة في تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت وجهين ‪ :‬أصحّهما ‪ :‬ل يصحّ قياسا‬
‫على سائر العقود باستثناء الوصيّة لقبولها الجهالة ‪ ،‬وباستثناء المارة للحاجة ‪ .‬وثانيهما ‪:‬‬
‫تصحّ قياسا على الوصيّة ‪.‬‬
‫تعليل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل أي ‪ :‬مرض فهو عليل ‪.‬‬
‫‪ - 1‬التّعليل لغة ‪ :‬من علّ يعلّ واعت ّ‬
‫والعلّة ‪ :‬المرض الشّاغل ‪ .‬والجمع علل ‪ .‬والعلّة في اللّغة أيضا ‪ :‬السّبب ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬تقرير ثبوت المؤثّر لثبات الثر وقيل ‪ :‬إظهار عّليّة الشّيء ‪ ،‬سواء أكانت تامّة‬
‫أم ناقصة ‪ .‬والعلّة عرّفها الصوليّون بقولهم ‪ :‬العلّة هي الوصف الظّاهر المنضبط الّذي يلزم‬
‫من ترتيب الحكم عليه مصلحة للمكلّف من دفع مفسدة أو جلب منفعة ‪.‬‬
‫وللعلّة أسماء منها ‪ :‬السّبب والباعث والحامل والمناط والدّليل والمقتضي وغيرها ‪ .‬وتستعمل‬
‫العلّة أيضا بمعنى ‪ :‬السّبب ‪ ،‬لكونه مؤثّرا في إيجاب الحكم ‪ ،‬كالقتل العمد العدوان سبب في‬
‫وجوب القصاص ‪.‬‬
‫كما تستعمل العلّة أيضا بمعنى ‪ :‬الحكمة ‪ ،‬وهي الباعث على تشريع الحكم أو المصلحة الّتي‬
‫من أجلها شرع الحكم ‪ .‬وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫تعليل الحكام ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الصل في أحكام العبادات عدم التّعليل ‪ ،‬لنّها قائمة على حكمة عامّة ‪ ،‬وهي التّعبّد دون‬
‫إدراك معنى مناسب لترتيب الحكم عليه ‪.‬‬
‫وأمّا أحكام المعاملت والعادات والجنايات ونحوها ‪ ،‬فالصل فيها ‪ :‬أن تكون معلّلة ‪ ،‬لنّ‬
‫مدارها على مراعاة مصالح العباد ‪ ،‬فرتّبت الحكام فيها على معان مناسبة لتحقيق تلك‬
‫المصالح ‪ .‬والحكام التّعبّديّة ل يقاس عليها لعدم إمكان تعدية حكمها إلى غيرها ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( تعبّديّ ) ‪.‬‬
‫فوائد تعليل الحكام ‪:‬‬
‫ن الشّريعة جعلت العلل معرّفة ومظهرة للحكام كي يسهل‬
‫‪ - 3‬لتعليل الحكام فوائد منها ‪ :‬أ ّ‬
‫على المكلّفين الوقوف عليها والتزامها ‪ .‬ومنها أن تصير الحكام أقرب إلى القبول والطمئنان‬
‫‪ .‬وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫تعليل النّصوص ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اختلف الصوليّون في تعليل النّصوص على أربعة اتّجاهات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنّ الصل عدم التّعليل ‪ ،‬حتّى يقوم الدّليل عليه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أنّ الصل التّعليل بكلّ وصف صالح لضافة الحكم إليه ‪ ،‬حتّى يوجد مانع عن البعض ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أنّ الصل التّعليل بوصف ‪ ،‬ولكن ل بدّ من دليل يميّز الصّالح من الوصاف للتّعليل‬
‫وغير الصّالح ‪.‬‬
‫ن الصل في النّصوص التّعبّد دون التّعليل ‪.‬‬
‫د‪-‬أّ‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬تعبّديّ ) وفي الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫مسالك العلّة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬وهي الطّرق الّتي يسلكها المجتهد للوقوف على علل الحكام ‪.‬‬
‫ص الصّريح ‪.‬‬
‫المسلك الوّل ‪ :‬النّ ّ‬
‫سنّة على التّعليل بوصف ‪ ،‬بلفظ موضوع له في اللّغة من‬
‫وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو ال ّ‬
‫غير احتياج إلى نظر واستدلل ‪.‬‬
‫وهو قسمان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬ما صرّح فيه بكون الوصف علّة أو سببا للحكم ‪.‬‬
‫سنّة معلّل بحرف من حروف التّعليل ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ما جاء في الكتاب أو ال ّ‬
‫المسلك الثّاني ‪ :‬الجماع ‪.‬‬
‫المسلك الثّالث ‪ :‬اليماء والتّنبيه ‪.‬‬
‫وهو أن يكون التّعليل لزما من مدلول اللّفظ ‪ ،‬ل أن يكون اللّفظ دالّا بوضعه على التّعليل ‪.‬‬
‫وهو على أقسام تنظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫المسلك الرّابع ‪ :‬السّبر والتّقسيم ‪.‬‬
‫وهو حصر الوصاف في الصل ‪ ،‬وإبطال ما ل يصلح منها للتّعليل ‪ ،‬فيتعيّن الباقي للتّعليل ‪.‬‬
‫المسلك الخامس ‪ :‬المناسبة والشّبه والطّرد ‪:‬‬
‫ينقسم الوصف المعلّل به إلى قسمين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ما تظهر مناسبته لترتيب الحكم عليه ويسمّى المناسب ‪ .‬وهو أن يترتّب الحكم على وصف‬
‫ظاهر منضبط ‪ ،‬يلزم من ترتيب الحكم عليّة مصلحة للمكلّف من دفع مفسدة أو جلب منفعة ‪.‬‬
‫ويعبّر عنها بالخالة وبالمصلحة وبالستدلل وبرعاية المقاصد ‪ .‬ويسمّى استخراجها تخريج‬
‫المناط ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ما ل تظهر مناسبته لترتيب الحكم عليه وينقسم إلى نوعين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن ل يؤلّف من الشّارع اعتباره في بعض الحكام ‪ ،‬ويسمّى الوصف الطّرديّ ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يؤلّف من الشّارع اعتباره في بعض الحكام ‪ ،‬ويسمّى الوصف الشّبهيّ ‪.‬‬
‫المسلك السّادس ‪ :‬تنقيح المناط وتحقيق المناط والدّوران ‪:‬‬
‫وهي راجعة في حقيقتها إلى المسالك المتقدّمة ومندرجة تحتها ‪.‬‬
‫وتنقيح المناط ‪ :‬هو إلحاق الفرع بالصل بنفي الفارق بينهما ‪ .‬أمّا تحقيق المناط ‪ :‬فهو أن‬
‫يجتهد المجتهد في إثبات وجود العلّة في الصّورة الّتي هي محلّ النّزاع ‪.‬‬
‫وأمّا الدّوران ‪ :‬فهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ‪ ،‬ويرتفع بارتفاعه ‪.‬‬
‫وفي بعض هذه المسالك خلف وتفصيل ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫الحديث المعلّل ‪:‬‬
‫‪ - 6‬هو الّذي اطّلع فيه على علّة تقدح في صحّته مع أنّ ظاهره السّلمة منها ‪ ،‬وهو من أنواع‬
‫الحديث الضّعيف ‪.‬‬

‫*********************************‬

You might also like