You are on page 1of 205

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الجزء الثاني عشر ‪ /‬الموسوعة الفقهية ‪:‬‬

‫تشبّه *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبّه لغة ‪ :‬مصدر تشبّه ‪ ،‬يقال ‪ :‬تشبّه فلن ‪ :‬بفلن إذا تكلّف أن يكون مثله والمشابهة بين الشّيئين ‪:‬‬
‫الشتراك بينهما في معنى من المعاني ‪ ،‬ومنه ‪ :‬أشبه الولد أباه ‪ :‬إذا شاركه في صفة من صفاته ‪ .‬ول يخرج‬
‫استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫‪ - 2‬منها ‪ :‬التّباع والتّأسّي والتّقليد وقد تقدّم الكلم فيها تحت عنوان ‪ ( :‬اتّباع ) ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ومنها ‪ :‬الموافقة ‪ ،‬وهي ‪ :‬مشاركة أحد الشّخصين للخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو‬
‫غير ذلك ‪ ،‬سواء أكان ذلك من أجل ذلك الخر أم ل لجله ‪.‬‬
‫فالموافقة أعمّ من التّشبّه ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالتّشبّه ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ -‬التّشبّه بالكفّار في اللّباس ‪:‬‬
‫ن التّشبّه بالكفّار‬
‫‪ - 4‬ذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم ‪ ،‬والمِالكيّة على المذهب ‪ ،‬وجمهور الشّافعيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫في اللّباس ‪ -‬الّذي هو شعار لهم به يتميّزون عن المسلمين ‪ -‬يحكم بكفر فاعله ظاهرا ‪ ،‬أي في أحكام الدّنيا ‪،‬‬
‫فمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه يكفر ‪ ،‬إل إذا فعله لضرورة الكراه أو لدفع الحرّ أو البرد ‪ .‬وكذا إذا‬
‫شبّه‬
‫لبس زنّار النّصارى إلّا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين ‪ .‬أو نحو ذلك لحديث ‪ « :‬من َت َ‬
‫ن اللّباس الخاصّ بالكفّار علمة الكفر ‪ ،‬ول يلبسه إلّا من التزم الكفر ‪ ،‬والستدلل‬
‫بقوم فهو منهم » ل ّ‬
‫بالعلمة والحكم بما دلّت عليه مقرّر في العقل والشّرع ‪ .‬فلو علم أنّه شدّ ال ّزنّار ل لعتقاد حقيقة الكفر ‪ ،‬بل‬
‫لدخول دار الحرب لتخليص السارى مثل لم يحكم بكفره ‪.‬‬
‫ن من يتشبّه بالكافر في الملبوس‬
‫ويرى الحنفيّة في قول ‪ -‬وهو ما يؤخذ ممّا ذكره ابن الشّاطّ من المالكيّة ‪ -‬أ ّ‬
‫الخاصّ به ل يعتبر كافرا ‪ ،‬إل أن يعتقد معتقدهم ‪ ،‬لنّه موحّد بلسانه مصدّق بجنانه ‪ .‬وقد قال المام أبو‬
‫حنيفة رحمه ال ‪ :‬ل يخرج أحد من اليمان إلّا من الباب الّذي دخل فيه ‪ ،‬والدّخول بالقرار والتّصديق ‪،‬‬
‫وهما قائمان ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى حرمة التّشبّه بالكفّار في اللّباس الّذي هو شعار لهم ‪ .‬قال البهوتيّ ‪ :‬إن تزيّا مسلم بما‬
‫صار شعارا لهل ذمّة ‪ ،‬أو علّق صليبا بصدره حرم ‪ ،‬ولم يكفر بذلك كسائر المعاصي ‪ .‬ويرى النّوويّ من‬
‫ن من لبس ال ّزنّار ونحوه ل يكفر إذا لم تكن نيّة ‪.‬‬
‫الشّافعيّة أ ّ‬
‫أحوال تحريم التّشبّه ‪:‬‬
‫وبتتبع عبارات الفقهاء يتبين أنهم يقيدون كفر من يتشبه بالكفار في اللباس الخاص بهم بقيود منها ‪:‬‬
‫‪ - 5‬أن يفعله في بلد السلم ‪ ،‬قال أحمد الرّمليّ ‪ :‬كون التّزيّي بزيّ الكفّار ردّة محلّه إذا كان في دار‬
‫السلم ‪ .‬أمّا في دار الحرب فل يمكن القول بكونه ردّة ‪ ،‬لحتمال أنّه لم يجد غيره كما هو الغالب ‪ ،‬أو أن‬
‫يكره على ذلك ‪.‬‬
‫ن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم ( للكفّار ) في‬
‫قال ابن تيميّة ‪ :‬لو أ ّ‬
‫الهدي الظّاهر ‪ ،‬لما عليه في ذلك من الضّرر بل قد يستحبّ للرّجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في‬
‫هديهم الظّاهر ‪ ،‬إذا كان في ذلك مصلحة دينيّة ‪ ،‬من دعوتهم إلى الدّين والطّلع على باطن أمورهم لخبار‬
‫المسلمين بذلك ‪ ،‬أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الحسنة ‪ .‬فأمّا في دار السلم‬
‫والهجرة الّتي أعزّ اللّه فيها دينه ‪ ،‬وجعل على الكافرين فيها الصّغار والجزية ففيها شرعت المخالفة ‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن يكون التّشبّه لغير ضرورة ‪ ،‬فمن فعل ذلك للضّرورة ل يكفر ‪ ،‬فمن شدّ على وسطه زنّارا ودخل‬
‫دار الحرب لتخليص السرى ‪ ،‬أو فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين ل يكفر ‪ .‬وكذلك إن وضع‬
‫قلنسوة المجوس على رأسه لضرورة دفع الحرّ والبرد ل يكفر ‪ - 7 .‬أن يكون التّشبّه فيما يختصّ بالكافر ‪،‬‬
‫كبرنيطة النّصرانيّ وطرطور اليهوديّ ‪.‬‬
‫ويشترط المالكيّة لتحقّق ال ّردّة بجانب ذلك ‪:‬أن يكون المتشبّه قد سعى بذلك للكنيسة ونحوها‪.‬‬
‫‪ - 8‬أن يكون التّشبّه في الوقت الّذي يكون اللّباس المعيّن شعارا للكفّار ‪ ،‬وقد أورد ابن حجر حديث أنس‬
‫رضي ال عنه أنّه رأى قوما عليهم الطّيالسة ‪ ،‬فقال ‪ ":‬كأنّهم يهود خيبر" ثمّ قال ابن حجر ‪ :‬وإنّما يصلح‬
‫الستدلل بقصّة اليهود في الوقت الّذي تكون الطّيالسة من شعارهم ‪ ،‬وقد ارتفع ذلك فيما بعد ‪ ،‬فصار داخل‬
‫في عموم المباح ‪.‬‬
‫‪ - 9‬أن يكون التّشبّه ميل للكفر ‪ ،‬فمن تشبّه على وجه اللّعب والسّخرية لم يرتدّ ‪ ،‬بل يكون فاسقا يستحقّ‬
‫العقوبة ‪ ،‬وهذا عند المالكيّة ‪.‬‬
‫‪ - 10‬هذا ‪ ،‬والتّشبّه في غير المذموم وفيما لم يقصد به التّشبّه ل بأس به ‪.‬‬
‫ل شيء ‪ ،‬بل في المذموم وفيما يقصد به‬
‫ن التّشبّه بأهل الكتاب ل يكره في ك ّ‬
‫قال صاحب الدّ ّر المختار ‪ :‬إ ّ‬
‫التّشبّه ‪ .‬قال هشام ‪ :‬رأيت أبا يوسف لبسا نعلين مخصوفين بمسامير فقلت أترى بهذا الحديد بأسا ؟ قال ‪ :‬ل‬
‫ن فيه تشبّها بالرّهبان ‪ ،‬فقال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫‪ ،‬قلت ‪ :‬سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك ل ّ‬
‫وسلم يلبس النّعال الّتي لها شعر وإنّها من لباس الرّهبان » ‪.‬‬
‫ن الرض ممّا ل يمكن قطع المسافة‬
‫ن صورة المشابهة فيما تعلّق به صلح العباد ل يضرّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫فقد أشار إلى أ ّ‬
‫البعيدة فيها إلّا بهذا النّوع ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬ردّة ‪ ،‬كفر ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬التّشبّه بالكفّار في أعيادهم ‪:‬‬
‫‪ - 11‬ل يجوز التّشبّه بالكفّار في أعيادهم ‪ ،‬لما ورد في الحديث « من تشبّه بقوم فهو منهم » ‪ ،‬ومعنى ذلك‬
‫ك اليهودُ وَل‬
‫ن َترْضَى عن َ‬
‫ل ما اختصّوا به ‪ .‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬وَلَ ْ‬
‫تنفير المسلمين عن موافقة الكفّار في ك ّ‬
‫ك مِنَ العلمِ مَا َلكَ‬
‫ن اتّبعتَ أَهواءَهم َب ْعدَ الّذي جَا َء َ‬
‫ن هُدى اللّ ِه هو ال ُهدَى وَلئ ْ‬
‫الّنصَارى حتّى َت ّتبِعَ مِّلتَهم قلْ إ ّ‬
‫ن اللّ ِه مِنْ وليّ ول َنصِيرٍ }‬
‫مِ َ‬
‫وروى البيهقيّ عن عمر رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬ل تعلّموا رطانة العاجم ‪ ،‬ول تدخلوا على المشركين في‬
‫ن السّخطة تنزل عليهم ‪.‬‬
‫كنائسهم يوم عيدهم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وروي عن عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما أنّه قال ‪ :‬من م ّر ببلد العاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم‬
‫وتشبّه بهم حتّى يموت وهو كذلك ‪ ،‬حشر معهم يوم القيامة ‪.‬‬
‫جعَلْنا َم ْنسَكا همْ‬
‫ن العياد من جملة الشّرع والمناهج والمناسك الّتي قال اللّه سبحانه وتعالى ‪ { :‬لِكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫ول ّ‬
‫نَاسِكُوه } كالقبلة والصّلة ‪ ،‬والصّيام فل فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المباهج ‪ ،‬فإنّ‬
‫الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر ‪ ،‬والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر ‪ ،‬بل‬
‫ص شرائع‬
‫العياد من أخصّ ما تتميّز به الشّرائع ومن أظهر ما لها من الشّعائر ‪ ،‬فالموافقة فيها موافقة في أخ ّ‬
‫الكفر وأظهر شعائره ‪ .‬قال قاضيخان ‪ :‬رجل اشترى يوم النّيروز شيئا لم يشتره في غير ذلك اليوم ‪ :‬إن أراد‬
‫به تعظيم ذلك اليوم كما يعظّمه الكفرة يكون كفرا ‪ ،‬وإن فعل ذلك لجل السّرف والتّنعّم ل لتعظيم اليوم ل‬
‫يكون كفرا ‪ .‬وإن أهدى يوم النّيروز إلى إنسان شيئا ولم يرد به تعظيم اليوم ‪ ،‬إنّما فعل ذلك على عادة النّاس‬
‫ل يكون كفرا ‪ .‬وينبغي أن ل يفعل في هذا اليوم ما ل يفعله قبل ذلك اليوم ول بعده ‪ ،‬وأن يحترز عن التّشبّه‬
‫بالكفرة ‪.‬‬
‫وكره ابن القاسم ‪ -‬من المالكيّة ‪ -‬للمسلم أن يهدي إلى النّصرانيّ في عيده مكافأة ‪ ،‬ورآه من تعظيم عيده‬
‫وعونا له على كفره ‪ .‬وكما ل يجوز التّشبّه بالكفّار في العياد ل ُيعَانُ المسلم المتشبّه بهم في ذلك بل ينهى‬
‫عن ذلك ‪ ،‬فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته ‪ ،‬ومن أهدى من المسلمين هديّة في هذه‬
‫العياد ‪ ،‬مخالفة للعادة في سائر الوقات غير هذا العيد لم تقبل هديّته ‪ ،‬خصوصا إن كانت الهديّة ممّا يستعان‬
‫بها على التّشبّه بهم ‪ ،‬مثل إهداء الشّمع ونحوه في عيد الميلد ‪.‬‬
‫هذا وتجب عقوبة من يتشبّه بالكفّار في أعيادهم ‪.‬‬
‫وأمّا ما يبيعه الكفّار في السواق في أعيادهم فل بأس بحضوره ‪ ،‬نصّ عليه أحمد في رواية مهنّا ‪ .‬وقال ‪:‬‬
‫إنّما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم ‪ ،‬فأمّا ما يباع في السواق من المأكل فل ‪ ،‬وإن قصد إلى‬
‫توفير ذلك وتحسينه لجلهم ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬عيد ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬التّشبّه بالكفّار في العبادات ‪:‬‬
‫يكره التّشبّه بالكفّار في العبادات في الجملة ‪ ،‬ومن أمثلة التّشبّه بهم في هذا المجال ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّلة في أوقات الكراهة ‪:‬‬
‫‪ - 12‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن الصّلة في أوقات الكراهة منها للتّشبّه بعبادة الكفّار ‪ .‬فقد أخرج‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬صلّ صلة الصّبح ‪،‬‬
‫مسلم من حديث عمرو بن عنبسة رضي ال عنه أ ّ‬
‫ثمّ أقصر عن الصّلة حتّى تطلع الشّمس حتّى ترتفع ‪ ،‬فإنّها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ‪ ،‬وحينئذ يسجد‬
‫ن الصّلة مشهودة محضورة حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح ‪ .‬ث ّم أقصر عن الصّلة فإنّ‬
‫لها الكفّار ‪ .‬ثمّ صلّ فإ ّ‬
‫ن الصّلة مشهودة محضورة حتّى تصلّي العصر ‪ .‬ثمّ أقصر عن‬
‫ل فإ ّ‬
‫حينئذ تسجر جهنّم ‪ ،‬فإذا أقبل الفيء فص ّ‬
‫الصّلة حتّى تغرب الشّمس فإنّها تغرب بين َق ْرنَيْ شيطان وحينئذ يسجد لها الكفّار » ‪ .‬وللتّفصيل في الحكام‬
‫المتعلّقة بأوقات الكراهة ( ر ‪ :‬الموسوعة الفقهيّة ‪ 180 7‬أوقات الصّلة ف ‪) 23‬‬
‫ب ‪ -‬الختصار في الصّلة ‪:‬‬
‫ن اليهود تكثر من فعله ‪ ،‬فنهي عنه كراهة‬
‫‪ - 13‬ل خلف بين الفقهاء في كراهة الختصار في الصّلة ل ّ‬
‫ي ومسلم واللّفظ له عن أبي هريرة رضي ال عنه « نهى رسول اللّه صلى ال‬
‫للتّشبّه بهم ‪ ،‬فقد أخرج البخار ّ‬
‫عليه وسلم أن يصلّي الرّجل مختصرا » وأخرج البخاريّ أيضا في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضّحى‬
‫ن اليهود‬
‫عن مسروق عن عائشة رضي ال عنها أنّها كانت تكره أن يضع يده على خاصرته ‪ ،‬تقول ‪ ":‬إ ّ‬
‫تفعله "‬
‫زاد ابن أبي شيبة في رواية له ‪ « :‬في الصّلة »‬
‫وفي رواية أخرى « ل تشبّهوا باليهود » وللتّفصيل ( ر ‪ :‬صلة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وِصال الصّوم ‪:‬‬
‫‪ - 14‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬وجمهور المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة في أحد الوجهين ‪ ،‬والحنابلة إلى كراهة وصال الصّوم ‪،‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال « ل تواصلوا ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫لما روى البخاريّ من حديث أنس رضي ال عنه أ ّ‬
‫ت كأحد منكم ‪ ،‬إنّي أطعم وأسقى أو إنّي أبيت أطعم وأسقى » ‪ .‬وقوله صلى ال عليه‬
‫إنّك تواصل ‪ ،‬قال لس ُ‬
‫وسلم « ل تواصلوا » نهي وأدناه يقتضي الكراهة ‪ .‬وعلّة النّهي التّشبّه بالنّصارى كما صرّح به في حديث‬
‫ي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن‬
‫بشير بن الخصاصية رضي ال عنه الّذي أخرجه أحمد والطّبران ّ‬
‫أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى « ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت ‪ :‬أردت أن أصوم يومين‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم نهى عن هذا ‪ ،‬وقال ‪ :‬يفعل ذلك النّصارى ‪،‬‬
‫مواصلة ‪ ،‬فمنعني بشير وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫ولكن صوموا كما أمركم اللّه ‪ ،‬أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ‪ ،‬فإذا كان اللّيل فأفطروا »‬
‫وذهب أحمد وجماعة من المالكيّة إلى جواز الوصال إلى السّحر ‪ ،‬وبهذا قال إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة‬
‫‪ .‬ويرى الشّافعيّة في الوجه الخر ‪ ،‬وهو ما صحّحه ابن العربيّ من المالكيّة ‪ :‬تحريم وصال الصّوم ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬صوم ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬إفراد يوم عاشوراء بالصّوم ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو مقتضى كلم أحمد كما يقول ابن تيميّة ‪ -‬إلى كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصّوم‬
‫للتّشبّه باليهود ‪ .‬فقد روى مسلم عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه قال ‪ « :‬حين صام رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى ‪ .‬فقال‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع » قال ‪ :‬فلم يأت العام‬
‫المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ ،‬نقل عن بعض العلماء في تعليقه على الحديث ‪ :‬لعلّ السّبب في صوم التّاسع مع العاشر أن ل‬
‫يتشبّه باليهود في إفراد العاشر ‪ ،‬وفي الحديث إشارة إلى هذا ‪.‬‬
‫ب الشّافعيّة والحنابلة صوم عاشوراء ‪ -‬وهو العاشر من المحرّم ‪ -‬وتاسوعاء ‪ -‬وهو التّاسع منه‬
‫هذا ‪ ،‬واستح ّ‬
‫ب أن يصوم قبل عاشوراء يوما وبعده يوما ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬ندب صوم عاشوراء‬
‫‪ -‬ويرى الحنفيّة أنّه يستح ّ‬
‫وتاسوعاء والثّمانية قبله ‪.‬‬
‫وتفصيل ر ‪ ( :‬صوم ‪ ،‬وعاشوراء ) ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّشبّه بالفَسَقَة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬قال القرطبيّ ‪ :‬لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم ‪ ،‬فقد يظنّ به من ل يعرفه أنّه‬
‫ن السّوء فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬شهادة ‪ ،‬فسق ) ‪.‬‬
‫منهم ‪ ،‬فيظنّ به ظ ّ‬
‫خامسا ‪ -‬تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه ‪:‬‬
‫‪ - 17‬ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبّه النّساء بالرّجال والرّجال بالنّساء ‪.‬‬
‫فقد روي البخاريّ عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه قال ‪ « :‬لعن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ‪ ،‬والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في قول ‪ ،‬وجماعة من الحنابلة إلى كراهة تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه ‪ .‬والتّشبّه يكون في‬
‫اللّباس والحركات والسّكنات والتّصنّع بالعضاء والصوات ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ :‬تشبّه الرّجال بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ‪ ،‬مثل لبس المقانع والقلئد‬
‫ن في الفعال الّتي‬
‫والمخانق والسورة والخلخل والقرط ونحو ذلك ممّا ليس للرّجال لبسه ‪ .‬وكذلك التّشبّه به ّ‬
‫هي مخصوصة بها كالنخناث في الجسام والتّأنّث في الكلم والمشي‪ .‬كذلك تشبّه النّساء بالرّجال في زيّهم‬
‫أو مشيهم أو رفع صوتهم أو غير ذلك‪.‬‬
‫ل بلد ‪ ،‬فقد ل يفترق زيّ نسائهم عن زيّ رجالهم لكن تمتاز النّساء‬
‫وهيئة اللّباس قد تختلف باختلف عادة ك ّ‬
‫ي كلّ من النّوعين ‪ -‬حتّى يحرم التّشبّه به فيه‬
‫ن العبرة في لباس وز ّ‬
‫بالحتجاب والستتار ‪ .‬قال السنويّ ‪ :‬إ ّ‬
‫ل ناحية ‪.‬‬
‫‪ -‬بعرف ك ّ‬
‫ص بمن تعمّد ذلك ‪ ،‬وأمّا من كان ذلك من أصل خلقته فإنّما يؤمر بتكلّف‬
‫وأمّا ذمّ التّشبّه بالكلم والمشي فمخت ّ‬
‫تركه والدمان على ذلك بالتّدريج ‪ ،‬فإن لم يفعل وتمادى دخله ال ّذمّ ‪ ،‬ول سيّما إن بدا منه ما يدلّ على الرّضا‬
‫به ‪.‬‬
‫هذا ويجب إنكار التّشبّه باليد ‪ ،‬فإن عجز فباللّسان مع أمن العاقبة ‪ ،‬فإن عجز فبقلبه كسائر المنكرات ‪.‬‬
‫ويترتّب على هذا أنّه يجب على الزّوج أن يمنع زوجته ممّا تقع فيه من التّشبّه بالرّجال في لبسة أو مشية أو‬
‫غيرهما ‪ ،‬امتثالً لقوله تعالى ‪ { :‬قُوا َأنْفسَكم وَأَهليكمْ نَارا } أي بتعليمهم وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربّهم ونهيهم‬
‫عن معصيته ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬تشبّه أهل ال ّذمّة بالمسلمين ‪:‬‬
‫‪ - 18‬يؤخذ أهل ال ّذمّة بإظهار علمات يعرفون بها ‪ ،‬ول يتركون يتشبّهون بالمسلمين في لباسهم ومراكبهم‬
‫وهيئاتهم ‪ .‬والصل فيه ما روي" أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه ال مرّ على رجال ركوب ذوي هيئة ‪،‬‬
‫فظنّهم مسلمين فسلّم عليهم ‪ ،‬فقال له رجل من أصحابه ‪ :‬أصلحك اللّه تدري من هؤلء ؟ فقال ‪ :‬من هم ؟‬
‫فقال ‪ :‬نصارى بني تغلب ‪ .‬فلمّا أتى منزله أمر أن ينادى في النّاس أن ل يبقى نصرانيّ إل عقد ناصيته‬
‫ن السّلم من شعائر السلم فيحتاج‬
‫وركب الكاف "‪ .‬ولم ينقل أنّه أنكر عليه أحد ‪ ،‬فيكون كالجماع ‪ .‬ول ّ‬
‫المسلمون إلى إظهار هذه الشّعائر عند اللتقاء ‪ ،‬ول يمكنهم ذلك إلّا بتمييز أهل ال ّذمّة بالعلمة ‪.‬‬
‫ن إذللهم واجب بغير أذى من ضرب أو‬
‫هذا ‪ ،‬وإذا وجب التّمييز وجب أن يكون فيه صغار ل إعزاز ‪ ،‬ل ّ‬
‫صفع بل سبب يكون منه ‪ ،‬بل المراد اتّصافه بهيئة خاصّة ‪.‬‬
‫وكذا يجب أن يتميّز نساء أهل ال ّذمّة عن نساء المسلمين في حال المشي في الطّريق ‪ ،‬وتجعل على دورهم‬
‫علمة كي ل يعاملوا بما يختصّ به المسلمون ‪ ،‬ول يمنعون من أن يسكنوا في أمصار المسلمين في غير‬
‫جزيرة العرب يبيعون ويشترون ‪ ،‬لنّ عقد ال ّذمّة شرع ليكون وسيلة لهم إلى السلم ‪ .‬وتمكينهم من المقام‬
‫أبلغ إلى هذا المقصود ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في المور الّتي يمنع تشبّه أهل ال ّذمّة فيه بالمسلمين تنظر أبواب الجزية وعقد ال ّذمّة من كتب الفقه‬
‫‪.‬‬

‫تشبيب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبيب مصدر شبّب ‪ .‬ومن معانيه ‪ :‬ترقيق أوّل الشّعر بذكر النّساء ‪ ،‬وشبّب بالمرأة ‪ :‬قال فيها الغزل‬
‫أو النّسيب ‪ .‬والصطلح الفقهيّ ل يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّشبيب ‪ ،‬والنّسيب ‪ ،‬والغزل ألفاظ مترادفة ‪ ،‬المراد منها ‪ :‬ذكر محاسن النّساء ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬يحرم التّشبيب بامرأة معيّنة محرّمة على المشبّب أو بغلم أمرد ‪.‬‬
‫ول يعرف خلف بين الفقهاء في حرمة ذكر المثير على الفحش من الصّفات الحسّيّة والمعنويّة لمرأة أجنبيّة‬
‫محرّمة عليه ‪ ،‬ويستوي في ذلك ذكر الصّفات الظّاهرة والباطنة لما في ذلك من اليذاء لها ولذويها ‪ ،‬وهتك‬
‫السّتر والتّشهير بمسلمة ‪.‬‬
‫أمّا التّشبّب بزوجته أو جاريته فهو جائز ما لم يصف أعضاءها الباطنة ‪ ،‬أو يذكر ما من حقّه الخفاء فإنّه‬
‫يسقط مروءته ‪ ،‬ويكون حراما أو مكروها ‪ ،‬على خلف في ذلك ‪.‬‬
‫ن الغرض من‬
‫وكذا يجوز التّشبيب بامرأة غير معيّنة ‪ ،‬ما لم يقل فحشا أو ينصب قرينة تدلّ على التّعيين ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل على التّعيين فهو في حكم التّعيين ‪.‬‬
‫ذلك هو تحسين الكلم وترقيقه ل تحقيق المذكور ‪ ،‬فإن نصب قرينة تد ّ‬
‫وليس ذكر اسم امرأة مجهولة كليلى وسعاد تعيينا ‪ ،‬لحديث ‪ :‬كعب بن زهير ‪ :‬وإنشاده قصيدته المشهورة «‬
‫بانت سعاد ‪ . .‬بين يدي الرّسول صلى ال عليه وسلم » ‪.‬‬
‫التّشبّب بغلم ‪:‬‬
‫‪ - 3‬يحرم التّشبيب بغلم ‪ -‬إن ذكر أنّه يعشقه وإن لم يكن معيّنا ‪ ،‬لنّه ل يحلّ بحال ‪ .‬وقيل ‪ :‬إن لم يكن‬
‫معيّنا فهو كالمرأة غير المعيّنة ‪ .‬هذا في إنشاء القول من شعر أو نثر ‪ .‬أمّا رواية ذلك أو إنشاده فإنّه إذا لم‬
‫يقصد به الحضّ على المحرّم فهو مباح لنحو الستشهاد أو تعلّم الفصاحة والبلغة ‪.‬‬
‫وقيّد الحنفيّة تحريم التّشبيب بالمرأة بكونها معيّنة حيّة‪ .‬فلو شبّب بامرأة غير حيّة لم يحرم ‪.‬‬

‫تشبيك *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبيك في اللّغة ‪ :‬المداخلة ‪ ،‬فيقال لكلّ متداخلين أنّهما مشتبكان ‪ .‬ومنه ‪ :‬شبّاك الحديد ‪ ،‬وتشبيك‬
‫الصابع ‪ -‬وهو المراد هنا ‪ -‬لدخول بعضها في بعض ‪ .‬والشّبك ‪ :‬الخلط والتّداخل ‪ ،‬فيقال ‪ :‬شبك الشّيء‬
‫يشبكه شبكا ‪ :‬إذا خلطه وأنشب بعضه في بعض ‪.‬‬
‫وتشبيك الصابع ل يخرج في معناه الصطلحيّ عن هذا ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬تشبيك الصابع ‪ :‬أن يدخل‬
‫الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الخرى ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬أجمع الفقهاء على أنّ تشبيك الصابع في الصّلة مكروه ‪ ،‬لما روي عن كعب بن عجرة رضي ال عنه‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رأى رجل قد شبّك أصابعه في الصّلة ‪ ،‬ففرّج رسول اللّه صلى ال‬
‫«أّ‬
‫عليه وسلم بين أصابعه » ‪ .‬وقال ابن عمر رضي ال عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه « تلك‬
‫صلة المغضوب عليهم »‬
‫وأمّا تشبيكها في المسجد في غير صلة ‪ ،‬وفي انتظارها أي حيث جلس ينتظرها ‪ ،‬أو ماشيا إليها ‪ ،‬فقد قال‬
‫ن انتظار الصّلة هو في حكم الصّلة لحديث‬
‫الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة التّشبيك حينئذ ‪ ،‬ل ّ‬
‫ح ِبسُه » ولما روى أحمد وأبو داود وغيرهما‬
‫الصّحيحين « ل يزال أحدكم في صلة ما دامت الصّلةُ َت ْ‬
‫مرفوعا « إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامدا إلى المسجد ‪ ،‬فل يشبّك بين يديه فإنّه في صلة »‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا كان أحدكم في المسجد فل يشبّكنّ ‪،‬‬
‫وما روى أبو سعيد الخدريّ أ ّ‬
‫ن أحدكم ل يزال في صلة ما دام في المسجد حتّى يخرج منه »‬
‫فإنّ التّشبيك من الشّيطان ‪ ،‬وإ ّ‬
‫وعن كعب بن عجرة رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول‬
‫« إذا توضّأ أحدكم ثمّ خرج عامدا إلى الصّلة ‪ ،‬فل يشبّكنّ بين يديه ‪ ،‬فإنّه في صلة » ‪.‬‬
‫ن النّهي عنه لما فيه من العبث ‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقد اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫وقيل ‪ :‬لما فيه من التّشبّه بالشّيطان ‪ .‬وقيل ‪ :‬لدللة الشّيطان على ذلك ‪ .‬وفي حاشية الطّحاويّ على مراقي‬
‫الفلح ‪ :‬حكمة النّهي عن التّشبيك ‪ :‬أنّه من الشّيطان ‪ ،‬وأنّه يجلب النّوم ‪ ،‬والنّوم من مظانّ الحدث ‪ ،‬ولما نبّه‬
‫عليه في حديث ابن عمر رضي ال عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه تلك صلة المغضوب عليهم‬
‫فكره ذلك لما هو في حكم الصّلة ‪ ،‬حتّى ل يقع في المنهيّ عنه ‪ .‬وكراهته في الصّلة أشدّ ‪.‬‬
‫ول يكره عند الجمهور التّشبيك بعد الفراغ ولو كان في المسجد ‪ ،‬لحديث ذي اليدين رضي ال عنه الّذي رواه‬
‫شيّ ‪ -‬قال‬
‫أبو هريرة رضي ال عنه ‪ -‬قال « صلّى بنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إحدى صلتي ال َع ِ‬
‫ابن سيرين ‪ :‬سمّاها أبو هريرة ‪ ،‬ولكن نسيت أنا ‪ -‬قال ‪ :‬فصلّى بنا ركعتين ‪ ،‬ثمّ سلّم ‪ ،‬فقام إلى خشبة‬
‫معروضة في المسجد فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ‪ ،‬ووضع يده اليمنى على اليسرى ‪ ،‬وشبّك بين أصابعه ‪،‬‬
‫ن من أبواب المسجد ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قُصِرت الصّلة‬
‫سرْعا ُ‬
‫خ َرجَتِ ال ّ‬
‫ووضع خدّه اليمن على ظهر كفّه اليسرى ‪ ،‬و َ‬
‫‪ ،‬وفي القوم‬
‫أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه ‪ ،‬وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال ‪ :‬يا رسول اللّه أنسيتَ‬
‫أم قصرت الصّلة ؟ قال لم أنس ولم تقصر فقال ‪ :‬أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬فتقدّم فصلّى ما‬
‫ترك ‪ ،‬ث ّم سلّم ‪ ،‬ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ثمّ رفع رأسه وكبّر ‪ ،‬ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده ‪ -‬أو‬
‫أطول ‪ ،‬ثمّ رفع رأسه وكبّر ‪ .‬فربّما سألوه ‪ :‬ثمّ سلّم ؟ فيقول ‪ :‬نبّئت أنّ عمران بن حصين قال ‪ :‬ثمّ سلّم » ‪.‬‬
‫ول بأس به عند المالكيّة في غير صلة حتّى ولو في المسجد ‪ ،‬لنّ كراهته عندهم إنّما هي في الصّلة فقط ‪،‬‬
‫إلّا أنّه خلف الولى على نحو ما ورد بالشّرح الكبير وجواهر الكليل ‪ .‬وفي مواهب الجليل ما نصّه ‪ :‬وأمّا‬
‫بالنّسبة لغير الصّلة فالتّشبيك ل بأس به حتّى في المسجد ‪ .‬قال ابن عرفة ‪ :‬وسمع ابن القاسم ‪ -‬أي من مالك‬
‫‪ : -‬ل بأس بتشبيك الصابع يعني في المسجد في غير صلة ‪ .‬وأومأ داود بن قيس ليد مالك مشبّكا أصابعه‬
‫ح في‬
‫به ‪ -‬أي بالمسجد ‪ -‬ليطلقه وقال ‪ :‬ما هذا ؟ فقال مالك ‪ :‬إنّما يكره في الصّلة ‪ .‬وقال ابن رشد ‪ :‬ص ّ‬
‫حديث ذي اليدين تشبيكه صلى ال عليه وسلم بين أصابعه في المسجد ‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأمّا تشبيكها خارج الصّلة فيما ليس من توابعها ‪ :‬بأن لم يكن في حال سعي إليها ‪ ،‬أو جلوس في‬
‫المسجد لجلها ‪ ،‬فإن كان لحاجة نحو إراحة الصابع ‪ -‬وليس لعبثٍ بل لغرض صحيح ‪ -‬فإنّه في هذه‬
‫الحالة ل يكره عند الحنفيّة ‪ ،‬فقد صحّ عنه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ‬
‫سيّة‬
‫بعضه بعضا » وشبّك بين أصابعه ‪ .‬فإنّه لفادة تمثيل المعنى ‪ ،‬وهو التّعاضد والتّناصر بهذه الصّورة الح ّ‬
‫‪.‬‬
‫فلو شبّك لغير حاجة على سبيل العبث كره تنزيها ‪ .‬وفي حاشية الشبراملسي من الشّافعيّة ‪ :‬أنّه إذا جلس في‬
‫المسجد ل للصّلة بل لغيرها ‪ ،‬كحضور درس أو كتابة ‪ ،‬فل يكره ذلك في حقّه لنّه لم يصدق عليه أنّه‬
‫ينتظر الصّلة ‪ .‬وأمّا إذا انتظرهما معا فينبغي الكراهة ‪ ،‬لنّه يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلة ‪ .‬وأمّا المالكيّة‬
‫فقد رأوا كراهة التّشبيك للمصلّي خاصّة ولو في غير مسجد ‪ ،‬ول بأس به عندهم في غير الصّلة ولو في‬
‫المسجد ‪ ،‬لقول مالك ‪ :‬يكره في الصّلة حين أومأ داود بن قيس ليده مشبّكا أصابعه ليطلقه وقال ‪ :‬ما هذا ؟ ‪.‬‬
‫ن مستمع الخطبة في انتظار الصّلة ‪،‬‬
‫‪ - 5‬والتّشبيك حال خطبة الجمعة يكره عند غير المالكيّة من الئمّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫فهو كمن في الصّلة لما سبق ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬غير مكروه ‪ ،‬لنّ الكراهة عندهم في الصّلة فقط ولو كان في المسجد ‪ ،‬وإن كان هذا هو‬
‫خلف الولى كما تقدّم ‪.‬‬

‫تشبيه *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشبيه في اللّغة ‪ :‬مصدر شبّهت الشّيء بالشّيء ‪ :‬إذا أقمته مقامه بصفة جامعة بينهما ‪ .‬وتكون الصّفة‬
‫ذاتيّة ومعنويّة ‪ :‬فالذّاتيّة نحو هذا الدّرهم كهذا الدّرهم أي في القدر ‪ ،‬والمعنويّة نحو زيد كالسد ‪ .‬وفي‬
‫اصطلح علماء البيان ‪ :‬هو الدّللة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشّيء في نفسه ‪ ،‬كالشّجاعة‬
‫في السد والنّور في الشّمس ‪.‬‬
‫سبِيلِه صَفّا كَأنّهمْ ُب ْنيَانٌ َم ْرصُوصٌ } أو‬
‫ن في َ‬
‫ن يُقَاتِلُو َ‬
‫ن اللّ َه ُيحِبّ الّذي َ‬
‫وهو إمّا تشبيه مفرد كقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫تشبيه مفردات بمفردات ‪ ،‬كقوله صلى ال عليه وسلم « إنّما مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل‬
‫ب الكثير ‪ ،‬وكان منها أجادبُ‬
‫الغيث الكثير أصاب أرضا ‪ ،‬فكان منها نقيّة َقبِلت الما َء فأنبتت الكلَ والعش َ‬
‫أمسكت الماءَ ‪ -‬فنفع اللّه بها النّاس فشربوا وسقوا وزرعوا ‪ ،‬وأصابت منها طائفة أخرى إنّما هي قِيعانٌ ل‬
‫تمسك ماء ول تنبت كل ‪ .‬فذلك َمثَلُ من فَقُه في دين اللّه ونفعه ما بعثني اللّه به َفعَلِم وعلّم ‪ ،‬ومثل من لم‬
‫يرفع بذلك رأسا ‪ ،‬ولم يقبل هدى اللّه الّذي أُرسلتُ به » ‪ .‬فقد شبّه العلم بالغيث ‪ ،‬وشبّه من ينتفع به بالرض‬
‫طيّبة ‪ ،‬ومن ل ينتفع به بالقيعان ‪ .‬فهي تشبيهات مجتمعة ‪ ،‬أو تشبيه مركّب ‪ ،‬كقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫ن َمثَلي مثل النبياء من قبلي ‪ :‬كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ‪ ،‬إل موضع لبنة من زاوية ‪ ،‬فجعل‬
‫«إّ‬
‫ضعَتْ ‪ ،‬هذه الّل ِبنَةُ ؟ قال ‪ :‬فأنا الّل ِب َنةُ ‪ ،‬وأنا خا َتمُ النّبيّين » ‪.‬‬
‫النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون ‪ :‬هل ُو ِ‬
‫فهذا تشبيه المجموع بالمجموع ‪ ،‬لنّ وجه الشّبه عقليّ منتزع من عدّة أمور ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫القياس ‪:‬‬
‫‪ - 2‬القياس هو ‪ :‬إلحاق فرع بأصل في الحكم لعلّة جامعة بينهما ‪.‬‬
‫حكم التّشبيه ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّشبيه بحسب موقعه والمراد منه على ما سيأتي ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّشبيه في الظّهار ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الظّهار شرعا ‪ :‬تشبيه المسلم زوجته أو جزءا شائعا منها بمحرّم عليه تأبيدا ‪ ،‬كقوله ‪ :‬أنت عليّ كظهر‬
‫أمّي أو نحوه ‪ ،‬أو كبطنها أو كفخذها ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن ُأ ّمهَاتِهم إنْ ُأمّهاتُهمْ‬
‫ن ِمنْكمْ ِمنْ ِنسَائِهمْ ما ه ّ‬
‫وهذا النّوع من التّشبيه حرام نصّا لقوله تعالى ‪ { :‬الّذينَ ُيظَا ِهرُو َ‬
‫ن ُم ْنكَرا مِن القولِ وزورا } ‪.‬‬
‫إل اللئي وََل ْدنَهم ‪ ،‬وَِإنّهمْ ليقولو َ‬
‫وإذا وقع من الزّوج التّشبيه ‪ ،‬ممّا يعتبر ظهارا ‪ ،‬يحرم عليه وطء امرأته قبل أن يكفّر باتّفاق الفقهاء ‪ .‬وكذلك‬
‫يحرم التّلذّذ بما دون الجماع عن جمهور الفقهاء ‪ :‬الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪ ،‬ورواية عند‬
‫عظُونَ به والّلهُ ِبمَا َت ْعمَلونَ خَبيرٌ َفمَنْ لمْ‬
‫ن َي َتمَاسّا ذلكمْ تُو َ‬
‫ن قَبلِ أَ ْ‬
‫الحنابلة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ف َتحْرِيرُ َرقَبَ ٍة مِ ْ‬
‫شهْرين ُم َتتَابعين ِمنْ َقبْلِ َأنْ َي َتمَاسّا } والتّماسّ شامل للوطء ودواعيه ‪ .‬وفي قول عند الشّافعيّة ‪،‬‬
‫جدْ فَصِيامُ َ‬
‫َي ِ‬
‫وهو رواية أخرى عند الحنابلة ‪ :‬ل يحرم إلّا الوطء ‪ .‬وهذا في صريح ألفاظ الظّهار ‪.‬‬
‫ي مثل أمّي صحّت نيّته برّا أو ظهارا أو طلقا ‪.‬‬
‫أمّا في كناياته ‪ ،‬كقوله ‪ :‬أنت عل ّ‬
‫وفي الموضوع فروع كثيرة ينظر تفصيلها مع اختلف الفقهاء في مصطلح ( ظهار ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّشبيه في القذف ‪:‬‬
‫‪ - 4‬أجمع العلماء على أنّه إذا صرّح القاذف بالزّنى كان قذفا ورميا موجبا للحدّ ‪ ،‬فإن عرّض ولم يصرّح ‪،‬‬
‫فقال مالك ‪ :‬هو قذف ‪ ،‬وقال أبو حنيفة والشّافعيّ ‪ :‬ل يكون قذفا حتّى يقول ‪ :‬أردت به القذف ‪ .‬والدّليل لما‬
‫قاله مالك هو أنّ موضوع الحدّ في القذف إنّما هو لزالة المعرّة الّتي أوقعها القاذف بالمقذوف ‪ ،‬فإذا حصلت‬
‫المعرّة بالتّعريض وجب أن يكون قذفا كالتّصريح ‪ ،‬وذلك راجع إلى الفهم ‪ ،‬وقد قال تعالى على لسان قوم‬
‫ب بكلم ظاهره المدح‬
‫شعيب أنّهم قالوا له { ِإ ّنكَ لَنتَ الحَليمُ ال ّرشِيد } أي السّفيه الضّالّ ‪ ،‬فعرّضوا له بالسّ ّ‬
‫في أحد التّأويلت ‪ .‬وقد حبس عمر رضي ال عنه الحطيئة لمّا قال لحدهم ‪:‬‬
‫عمُ الكَاسِي‬
‫ك أنتَ الطّا ِ‬
‫وَاقْعدْ َفِإنّ َ‬ ‫َدعِ ال َمكَا ِرمَ ل َت ْرحَلْ ِل ُب ْغ َيتِها‬
‫لنّه شبّهه بالنّساء في أنّهنّ يُط َعمْن ويسقين ويكسين ‪ .‬وعلى ذلك فإذا فهم من تشبيه المرأة أو الرّجل بالعفيفة‬
‫أو العفيف استهزاء ‪ ،‬كان كالرّمي الصّريح في مذهب مالك ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تشبيه الرّجل غيره بما يكره ‪:‬‬
‫س السمُ ال ُفسُوقُ‬
‫‪ - 5‬ل يجوز للمسلم أن يشبّه أخاه المسلم بما يكرهه ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَل َتنَا َبزُوا بِالَلْقَابِ بئ َ‬
‫بعدَ الِيمانِ } وسواء أكان التّشبيه بذكر أداة التّشبيه أو بحذفها كقوله ‪ :‬يا مخنّث ‪ ،‬يا أعمى ‪.‬‬
‫واتّفق الفقهاء على أنّه يعزّر بقوله ‪ :‬يا كافر يا منافق يا أعور يا نمّام يا كذّاب يا خبيث يا مخنّث يا ابن‬
‫الفاسقة ‪ ،‬ونحو ذلك من كلّ ما فيه إيذاء بغير حقّ ‪ ،‬ولو بغمز العين أو إشارة اليد ‪ ،‬لرتكابه معصية ل حدّ‬
‫فيها ‪ ،‬وكلّ معصية ل حدّ فيها فيها التّعزير ‪.‬‬
‫وكذلك يعزّر إذا شبّهه بالحيوانات الدّنيئة كقوله ‪ :‬يا حمار ‪ ،‬يا كلب ‪ ،‬يا قرد ‪ ،‬يا بقر ونحو ذلك عند جمهور‬
‫ن كلّ من ارتكب منكرا أو آذى‬
‫الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو المختار عند متأخّري الحنفيّة ‪ -‬ل ّ‬
‫مسلما بغير حقّ بقول أو فعل أو إشارة يستحقّ التّعزير ‪ .‬وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ‪ :‬ل يعزّر بقوله ‪:‬‬
‫يا حمار‪ ،‬يا كلب ونحو ذلك لظهور كذبه‪ .‬وفرّق بعض الحنفيّة بين ما إذا كان المسبوب من الشراف فيعزّر‬
‫‪ ،‬أو من العامّة فل يعزّر ‪ ،‬كما استحسنه في الهداية والزّيلعيّ ‪.‬‬
‫ب إلى حدّ القذف ‪ ،‬أمّا إذا كان من أنواع القذف ‪ :‬كالرّمي بالزّنا من غير‬
‫وهذا كلّه إذا لم يصل الشّتم والسّ ّ‬
‫بيّنة ‪ ،‬فإنّه يحدّ على تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬قذف ) ‪.‬‬

‫تشريق *‬
‫انظر ‪ :‬أيّام التّشريق ‪.‬‬
‫تشريك *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشريك في اللّغة ‪ :‬مصدر شرّك ‪ .‬يقال ‪ :‬شرّك فلن فلنا ‪ .‬إذا أدخله في المر وجعله شريكا له فيه ‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬شرّك غيره في ما اشتراه ليدفع الغير بعض الثّمن ‪ ،‬ويصير شريكا له في المبيع ‪ .‬ويقال أيضا ‪:‬‬
‫شرّك نعله تشريكا ‪ :‬إذا حمل له شراكا ‪ ،‬والشّراك ‪ :‬سير النّعل الّذي على ظهرها ‪ .‬والتّشريك في الصطلح‬
‫ي ‪ :‬إدخال الغير في السم كالشّراء ونحوه ‪ ،‬ليكون شريكا له فيه ‪.‬‬
‫الشّرع ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الشراك ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الشراك بمعنى التّشريك ‪ .‬وإذا قيل ‪ :‬أشرك الكافر باللّه ‪ ،‬فالمراد أنّه جعل غير اللّه شريكا له ‪ ،‬تعالى‬
‫اللّه عن ذلك ‪ ( .‬ر ‪ :‬إشراك ) ‪.‬‬
‫حكم التّشريك ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّشريك في الشّراء ونحوه جائز ‪ ،‬وتشريك غير عبادة في نيّة العبادة أو تشريك عبادتين في نيّة واحدة‬
‫جائز على التّفصيل التي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تشريك ما ل يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ل نعلم خلفا بين الفقهاء في جواز تشريك ما ل يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة ‪ ،‬كالتّجارة مع الحجّ لقوله‬
‫ش َهدُوا َمنَافِعَ لَهم‬
‫عمِيق لِي ْ‬
‫ن كُلّ فَجّ َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ك ِرجَالً وعَلى كُلّ ضَامِ ٍر َي ْأتِي َ‬
‫ن في النّاسِ بِالحَجّ َي ْأتُو َ‬
‫تعالى ‪ { :‬وََأذّ ْ‬
‫ن َت ْب َتغُوا َفضْلً‬
‫ح أَ ْ‬
‫جنَا ٌ‬
‫َو َي ْذكُروا اسمَ الّلهِ في َأيّامٍ َمعْلُومَاتٍ ‪ } . . .‬وقوله في شأن الحجّ أيضا ‪ { :‬لَيسَ عَليكمْ ُ‬
‫صحّة ‪ ،‬والوضوء مع نيّة التّبرّد ‪ ،‬والصّلة مع‬
‫ج ‪ .‬والصّوم مع قصد ال ّ‬
‫ن رَبّكمْ } نزلت في التّجارة مع الح ّ‬
‫مِ ْ‬
‫ن هذه الشياء تحصل بغير نيّة فلم يؤثّر تشريكها في نيّة العبادة ‪ ،‬وكالجهاد مع قصد‬
‫نيّة دفع الغريم ‪ ،‬ل ّ‬
‫حصول الغنيمة ‪ .‬جاء في مواهب الجليل نقل عن الفروق للقرافيّ ‪:‬‬
‫من يجاهد لتحصيل طاعة اللّه بالجهاد ‪ ،‬وليحصل له المال من الغنيمة ‪ ،‬فهذا ل يضرّه ول يحرم عليه‬
‫ن اللّه تعالى جعل له هذا في هذه العبادة ‪ .‬ففرّق بين جهاده ليقول النّاس ‪ :‬هذا شجاع ‪ ،‬أو‬
‫بالجماع ‪ ،‬ل ّ‬
‫ليعظّمه المام ‪ ،‬فيكثر عطاءه من بيت المال ‪ .‬فهذا ونحوه رياء حرام ‪ .‬وبين أن يجاهد لتحصيل الغنائم من‬
‫جهة أموال العدوّ مع أنّه قد شرّك ‪.‬‬
‫ول يقال لهذا رياء ‪ ،‬بسبب أنّ الرّياء أن يعمل ليراه غير اللّه من خلقه ‪ .‬ومن ذلك أن يجدّد وضوءا ليحصل‬
‫له التّبرّد أو التّنظّف ‪ ،‬وجميع هذه الغراض ل يدخل فيها تعظيم الخلق ‪ ،‬بل هي لتشريك أمور من المصالح‬
‫ليس لها إدراك ‪ ،‬ول تصلح للدراك ول للتّعظيم ‪ ،‬ذلك ل يقدح في العبادات ‪ ،‬فظهر الفرق بين قاعدة الرّياء‬
‫في العبادات وبين قاعدة التّشريك فيها ‪ .‬وجاء في مغني المحتاج ‪ :‬من نوى بوضوئه تبرّدا أو شيئا يحصل‬
‫بدون قصد كتنظّف ‪ ،‬ولو في أثناء وضوئه ( مع نيّة معتبرة ) أي مستحضرا عند نيّة التّبرّد أو نحوه نيّة‬
‫الوضوء أجزأه ذلك على الصّحيح ‪ ،‬لحصول ذلك من غير نيّة ‪ ،‬كمصلّ نوى الصّلة ودفع الغريم فإنّها‬
‫ن اشتغاله عن الغريم ل يفتقر إلى نيّة ‪ .‬والقول الثّاني يضرّ ‪ ،‬لما في ذلك من التّشريك بين قربة‬
‫تجزئه ‪ ،‬ل ّ‬
‫وغيرها ‪ ،‬فإن فقد ال ّنيّة المعتبرة ‪ ،‬كأن نوى التّبرّد أو نحوه وقد غفل عنها ‪ ،‬لم يصحّ غسل ما غسله بنيّة‬
‫صحّة ‪ .‬أمّا الثّواب‬
‫التّبرّد ونحوه ‪ ،‬ويلزمه إعادته دون استئناف الطّهارة ‪ .‬قال الزّركشيّ ‪ :‬وهذا الخلف في ال ّ‬
‫ي فيما إذا شرّك في العبادة غيرها من أمر دنيويّ اعتبار الباعث‬
‫فالظّاهر عدم حصوله ‪ ،‬وقد اختار الغزال ّ‬
‫على العمل ‪ ،‬فإن كان القصد الدّنيويّ هو الغلب لم يكن فيه أجر ‪ ،‬إن كان القصد الدّينيّ أغلب فله بقدره ‪،‬‬
‫وإن تساويا تساقطا ‪ .‬واختار ابن عبد السّلم أنّه ل أجر فيه مطلقا ‪ ،‬سواء أتساوى القصدان أم اختلفا ‪ .‬وانظر‬
‫أيضا مصطلح ‪ ( :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تشريك عبادتين في نيّة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬إن أشرك عبادتين في ال ّنيّة ‪ ،‬فإن كان مبناهما على التّداخل كغسلي الجمعة والجنابة ‪ ،‬أو الجنابة‬
‫والحيض ‪ ،‬أو غسل الجمعة والعيد ‪ ،‬أو كانت إحداهما غير مقصودة كتحيّة المسجد مع فرض أو سنّة‬
‫ن مبنى الطّهارة على التّداخل ‪ ،‬والتّحيّة وأمثالها غير مقصودة بذاتها ‪،‬‬
‫أخرى ‪ ،‬فل يقدح ذلك في العبادة ‪ ،‬ل ّ‬
‫بل المقصود شغل المكان بالصّلة ‪ ،‬فيندرج في غيره ‪ .‬أمّا التّشريك بين عبادتين مقصودتين بذاتها كالظّهر‬
‫ح تشريكهما في نيّة واحدة ‪ ،‬لنّهما عبادتان مستقلّتان ل تندرج إحداهما في الخرى ‪.‬‬
‫وراتبته ‪ ،‬فل يص ّ‬
‫وانظر أيضا مصطلح ‪ ( :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّشريك في المبيع ‪:‬‬
‫‪ - 6‬يجوز التّشريك في العقد ‪ ،‬كأن يقول المشتري لعالم بالثّمن ‪ :‬أشركتك في هذا المبيع ويقبل الخر ‪ ،‬وهذا‬
‫محلّ اتّفاق بين الفقهاء فإن أشركه في قدر معلوم كالنّصف والرّبع فله ذلك في المبيع ‪ ،‬وإن أطلق فله النّصف‬
‫‪ ،‬لنّ الشّركة المطلقة تقتضي المساواة ‪ ،‬وهو كالبيع والتّولية في أحكامه وشروطه ‪.‬‬
‫طلْقة ‪:‬‬
‫د ‪ -‬التّشريك بين نسوة في َ‬
‫ن الطّلقة ل تتجزّأ ‪.‬‬
‫‪ - 7‬إذا قال لنسائه الربع ‪ :‬أوقعت عليكنّ طلقة وقع على كلّ واحدة طلقة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ولو قال ‪ :‬طلقتين أو ثلثا أو أربعا ‪ ،‬وقع على كلّ واحدة طلقة فقط ‪ ،‬إل أن يريد توزيع كلّ طلقة عليهنّ ‪،‬‬
‫فيقع في " طلقتين " على كلّ واحدة طلقتان ‪ ،‬وفي " ثلث وأربع " ‪ ،‬ثلث ‪.‬‬

‫تشميت *‬
‫شمّت ومسمّت بالشّين‬
‫ل داع لحد بخير فهو ُم َ‬
‫‪ - 1‬من معاني التّشميت لغة ‪ :‬الدّعاء بالخير والبركة ‪ .‬وك ّ‬
‫ي بفاطمة‬
‫والسّين ‪ ،‬والشّين أعلى وأفشى في كلمهم ‪ .‬وكلّ دعاء بخير فهو تشميت ‪ .‬وفي حديث« تزويج عل ّ‬
‫رضي ال عنهما ‪ :‬شمّت عليهما » ‪ :‬أي دعا لهما بالبركة‪ .‬وفي حديث العطاس ‪ « :‬فشمّت أحدهما ولم‬
‫سمِيته ‪ :‬أن يقول له‬
‫يشمّت الخر » ‪ .‬فالتّشميت والتّسميت ‪ :‬الدّعاء بالخير والبركة ‪ .‬وتشميت العاطس أو َت ْ‬
‫متى كان مسلما ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬وهو ل يخرج في الصطلح الفقهيّ عن هذا المعنى ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬اتّفق العلماء على أنّه يشرع للعاطس عقب عطاسه أن يحمد اللّه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬الحمد للّه ‪ ،‬ولو زاد ‪ :‬ربّ‬
‫العالمين كان أحسن كفعل ابن مسعود ‪ .‬ولو قال ‪ :‬الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل كفعل ابن عمر ‪ .‬وقيل‬
‫يقول ‪ :‬الحمد للّه حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه ‪ ،‬كفعل غيرهما ‪ .‬وروى أحمد والنّسائيّ من حديث سالم بن‬
‫عطَس أحدكم فليقل ‪ :‬الحمد للّه على كلّ حال أو الحمد للّه ربّ العالمين » وفي حديث أبي‬
‫عبيد مرفوعا « إذا َ‬
‫هريرة رضي ال عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا عطس أحدكم فليقل ‪ :‬الحمد للّه على كلّ‬
‫حال » ومتى حمد اللّه بعد عطسته كان حقّا على من سمعه من إخوانه المسلمين غير المصلّين أن يشمّته "‬
‫يرحمك اللّه " فقد روى البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي ال عنه « إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فحقّ‬
‫ل مسلم سمعه أن يقول ‪ :‬يرحمك اللّه » ‪.‬‬
‫على ك ّ‬
‫وفي صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا عطس أحدكم‬
‫فليقل ‪ :‬الحمد للّه ‪ .‬وليقل له أخوه أو صاحبه ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬فإذا قال له ‪ :‬يرحمك اللّه فليقل ‪ :‬يهديكم اللّه‬
‫ويصلح بالكم » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬حقّ المسلم على المسلم خمس ‪ :‬ردّ السّلم ‪ ،‬وعيادة المريض واتّباع‬
‫وعن النّب ّ‬
‫الجنائز ‪ ،‬وإجابة الدّعوة ‪ ،‬وتشميت العاطس » وفي رواية لمسلم « حقّ المسلم على المسلم ستّ ‪ :‬إذا لقيته‬
‫فسلّم عليه ‪ ،‬وإذا دعاك فأجبه ‪ ،‬وإذا استنصحك فانصح له ‪ ،‬وإذا عطس فحمد اللّه تعالى فشمّته ‪ ،‬وإذا مرض‬
‫فعده ‪ ،‬وإذا مات فاتّبعه » ‪ .‬وإن لم يحمد اللّه بعد عطسته فل يشمّت ‪ .‬فعن أبي موسى الشعريّ رضي ال‬
‫عنه مرفوعا « إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ‪ ،‬فإن لم يحمد اللّه فل تشمّتوه » ‪.‬‬
‫وعن أنس رضي ال عنه قال ‪ « :‬عطس رجلن عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم فشمّت أحدهما ولم يشمّت‬
‫ن هذا حمد اللّه تعالى ‪،‬‬
‫شمّتّه ‪ ،‬وعطست فلم تشمّتني فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫الخر ‪ .‬فقال الّذي لم يشمّته ‪ :‬عطس فلن َف َ‬
‫وإنّك لم تحمد اللّه تعالى » وهذا الحكم عامّ وليس مخصوصا بالرّجل الّذي وقع له ذلك ‪ .‬يؤيّد العموم ما جاء‬
‫في حديث أبي موسى‬
‫« إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ‪ ،‬وإن لم يحمد اللّه فل تشمّتوه » ‪.‬‬
‫ن العاطس حمد اللّه بعد عطسته‬
‫فالتّشميت قد شرع لمن حمد اللّه دون من لم يحمده ‪ ،‬فإذا عرف السّامع أ ّ‬
‫شمّته ‪ ،‬كأن سمعه يحمد اللّه ‪ ،‬وإن سمع العطسة ولم يسمعه يحمد اللّه ‪ ،‬بل سمع من شمّت ذلك العاطس ‪،‬‬
‫ي المختار أنّه يشمّته من سمعه دون‬
‫فإنّه يشرع له التّشميت لعموم المر به لمن عطس فحمد ‪ ،‬وقال النّوو ّ‬
‫غيره ‪.‬‬
‫وهذا التّشميت سنّة عند الشّافعيّة ‪ .‬وفي قول للحنابلة وعند الحنفيّة هو واجب ‪.‬‬
‫ن الشهر أنّه فرض عين ‪،‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة بوجوبه على الكفاية ‪ .‬ونقل عن البيان أ ّ‬
‫ل مسلم سمعه أن يقول له ‪ :‬يرحمك اللّه » ‪.‬‬
‫لحديث « كان حقّا على ك ّ‬
‫فإن عطس ولم يحمد اللّه نسيانا استحبّ لمن حضره أن يذكّره الحمد ليحمد فيشمّته ‪.‬‬
‫وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النّخعيّ ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ويندب للعاطس أن ير ّد على من شمّته ‪ :‬فيقول له ‪ :‬يغفر اللّه لنا ولكم ‪ ،‬أو يهديكم اللّه ويصلح بالكم ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬يجمع بينهما ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم ‪ .‬فقد روي عن ابن عمر أنّه كان إذا عطس‬
‫فقيل له ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬قال ‪ ":‬يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر اللّه لنا ولكم "‪ .‬قال ابن أبي جمرة ‪ :‬في الحديث دليل‬
‫على عظيم نعمة اللّه على العاطس ‪ .‬يؤخذ ذلك ممّا رتّب عليه من الخير ‪ .‬وفيه إشارة إلى عظيم فضل اللّه‬
‫على عبده ‪ .‬فإنّه أذهب عنه الضّرر بنعمة العطس ‪ ،‬ثمّ شرع له الحمد الّذي يثاب عليه ‪ ،‬ثمّ الدّعاء بالخير بعد‬
‫الدّعاء بالخير وشرع هذه النّعم المتواليات في زمن يسير فضل منه وإحسانا ‪.‬‬
‫فإذا قيل للعاطس ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ ،‬فمعناه ‪ :‬جعل اللّه لك ذلك لتدوم لك السّلمة ‪ ،‬وفيه إشارة إلى تنبيه‬
‫العاطس على طلب الرّحمة والتّوبة من الذّنب ‪ ،‬ومن َثمّ شرع به الجواب بقوله ‪ :‬غفر اللّه لنا ولكم وقوله ‪:‬‬
‫ح بَالَهمْ } أي شأنهم ‪ .‬وهذا ما لم يكن في صلته أو‬
‫س َيهْدِيهمْ َو ُيصْلِ ُ‬
‫ويصلح بالكم أي شأنكم ‪ .‬وقوله تعالى ‪َ { :‬‬
‫خلئه ‪.‬‬
‫ما ينبغي للعاطس مراعاته ‪:‬‬
‫‪ -‬من آداب العاطس ‪ :‬أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد ‪ .‬وأن يغطّي وجهه لئلّا يبدو من فيه أو‬ ‫‪4‬‬

‫العربيف ‪ :‬الحكمفة ففي‬


‫ّ‬ ‫أنففه مفا يؤذي جليسفه ‪ .‬ول يلوي عنقفه يمينا ول شمالً لئل يتضرّر بذلك ‪ .‬قال ابفن‬
‫ن رفعه إزعاجا للعضاء ‪.‬‬
‫خفض الصّوت بالعطاس ‪ :‬أ ّ‬
‫وفي تغطية الوجه ‪ :‬أنّه لو بدر منه شيء آذى جليسه ‪ .‬ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من اللتواء ‪،‬‬
‫فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ « :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه‬
‫‪ ،‬وخفض أو غضّ بها صوته » ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة التّشميت ‪:‬‬
‫‪ - 5‬قال ابن دقيق العيد ‪ :‬من فوائد التّشميت تحصيل المودّة ‪ ،‬والتّأليف بين المسلمين ‪ ،‬وتأديب العاطس‬
‫بكسر النّفس عن الكبر ‪ ،‬والحمل على التّواضع لما في ذكر الرّحمة من الشعار بالذّنب الّذي ل يعرى عنه‬
‫أكثر المكلّفين ‪.‬‬
‫التّشميت أثناء الخطبة ‪:‬‬
‫‪ - 6‬كره الحنفيّة والمالكيّة التّشميت أثناء الخطبة ‪ ،‬وعند الشّافعيّة في الجديد ‪ :‬أنّ الكلم عند الخطبة ل يحرم‬
‫ن النصات ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين التّشميت وغيره ‪ ،‬واستدلّ بما روى أنس رضي ال عنه قال ‪« :‬‬
‫‪ ،‬ويس ّ‬
‫دخل رجل والنّبيّ صلى ال عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال ‪ :‬متى السّاعة ؟ فأشار النّاس إليه أن‬
‫ب اللّه ورسوله قال ‪:‬‬
‫اسكت فقال له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عند الثّالثة ‪ :‬ما أعددت لها ؟ قال ‪ :‬ح ّ‬
‫إنّك مع من أحببتَ » وإذ جاز هذا في الخطبة جاز تشميت العاطس أثناءها ‪.‬‬
‫ن النصات لسماع الخطبة واجب ‪ .‬لما روى جابر رضي ال‬
‫وعند المالكيّة ‪ ،‬وهو القديم عند الشّافعيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫عنه قال ‪ « :‬دخل ابن مسعود رضي ال عنه والنّبيّ صلى ال عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبيّ رضي ال‬
‫عنه فسأله عن شيء فلم يردّ عليه ‪ ،‬فسكت حتّى صلّى النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال له ‪ :‬ما منعك أن تردّ‬
‫عليّ ؟ فقال ‪ :‬إنّك لم تشهد معنا الجمعة ‪ .‬قال ‪ :‬ولم ؟ قال ‪ :‬لنّك تكلّمت والنّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ي » وإذا كان‬
‫يخطب ‪ ،‬فقام ابن مسعود فدخل على النّبيّ صلى ال عليه وسلم فذكر له ‪ ،‬فقال ‪ :‬صدق أب ّ‬
‫النصات واجبا كان ما خالفه من تشميت العاطس أثناء الخطبة حراما ‪ .‬وللحنابلة روايتان ‪ :‬إحداهما ‪:‬‬
‫الجواز مطلقا أخذا من قول الثرم ‪ :‬سمعت أبا عبد اللّه أي المام أحمد ‪ -‬سئل ‪ :‬يردّ الرّجل السّلم يوم‬
‫الجمعة ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬ويشمّت العاطس ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬والمام يخطب ‪ .‬وقال أبو عبد اللّه قد فعله غير‬
‫واحد ‪ .‬قال ذلك غير مرّة ‪ ،‬وممّن رخّص في ذلك الحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ وإسحاق ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬إن كان ل يسمع الخطبة شمّت العاطس ‪ ،‬وإن كان يسمع لم يفعل ‪ ،‬قال أبو طالب ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬إذا‬
‫سمعت الخطبة فاستمع وأنصت ول تقرأ ول تشمّت ‪ ،‬وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمّت ور ّد ال سّلم ‪ .‬وقال‬
‫أبفو داود ‪ :‬قلت لحمفد ‪ :‬يردّ السفّلم والمام يخطفب ويشمّت العاطفس ؟ قال ‪ :‬إذا كان ليفس يسفمع الخطبفة‬
‫فيردّ ‪ ،‬وإذا كان يسمع فل لقول اللّه تعالى ‪:‬‬
‫صتُوا } وروي نحو ذلك عن ابن عمر رضي ال عنهما ‪.‬‬
‫ستَ ِمعُوا لَه وَأ ْن ِ‬
‫{ فَا ْ‬
‫تشميت مَنْ في الخلء لقضاء حاجته ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يكره لمن في الخلء لقضاء حاجته أن يشمّت عاطسا سمع عطسته ‪.‬‬
‫بذلك قال فقهاء المذاهب الربعة ‪ .‬كما كرهوا له إن عطس في خلئه أن يحمد اللّه بلسانه ‪ ،‬وأجازوا له ذلك‬
‫في نفسه دون أن يحرّك به لسانه ‪ .‬وعن المهاجر بن قنفذ رضي ال عنه قال ‪ « :‬أتيت النّبيّ صلى ال عليه‬
‫ي وقال ‪ :‬إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى إل‬
‫وسلم وهو يبول فسلّمت عليه ‪ ،‬فلم يردّ حتّى توضّأ ‪ ،‬ثمّ اعتذر إل ّ‬
‫على طهر أو قال ‪ :‬على طهارة »‬
‫تشميت المرأة الجنبيّة للرّجل والعكس ‪:‬‬
‫‪ - 8‬إن كانت المرأة شابّة يخشى الفتنان بها كره لها أن تشمّت الرّجل إذا عطس ‪ ،‬كما يكره لها أن تردّ على‬
‫مشمّت لها لو عطست هي ‪ .‬بخلف لو كانت عجوزا ول تميل إليها النّفوس فإنّها تشمّت وتشمّت متى‬
‫حمدت اللّه ‪ ،‬بذلك قال المالكيّة ومثلهم في ذلك الحنابلة ‪ .‬جاء في الداب الشّرعيّة لبن مفلح عن ابن تميم ‪:‬‬
‫ل يشمّت الرّجل الشّابّة ول تشمّته ‪.‬‬
‫وقال السّامريّ ‪ :‬يكره أن يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ول يكره ذلك للعجوز ‪.‬‬
‫وقال ابن الجوزيّ ‪ :‬وقد روينا عن أحمد بن حنبل رضي ال عنه أنّه كان عنده رجل من العبّاد فعطست‬
‫امرأة أحمد ‪ ،‬فقال لها العابد ‪ :‬يرحمك اللّه ‪ .‬فقال أحمد رحمه ال ‪ .‬عابد جاهل ‪ .‬وقال حرب ‪ :‬قلت لحمد ‪:‬‬
‫ن الكلم فتنة ‪ ،‬وإن لم‬
‫الرّجل يشمّت المرأة إذا عطست ؟ فقال ‪ :‬إن أراد أن يستنطقها ليسمع كلمها فل ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‪.‬‬
‫يرد ذلك فل بأس أن يشمّته ّ‬
‫وقال أبو طالب ‪ :‬إنّه سأل أبا عبد اللّه ‪ :‬يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ؟ قال ‪ :‬نعم قد شمّت أبو موسى‬
‫امرأته‪ .‬قلت ‪ :‬فإن كانت امرأة تمرّ أو جالسة فعطست أشمّتها ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬وقال القاضي ‪ :‬ويشمّت الرّجل‬
‫المرأة البرزة ويكره للشّابّة ‪ .‬وقال ابن عقيل ‪ :‬يشمّت المرأة البرزة وتشمّته ول يشمّت الشّابّة ول تشمّته ‪،‬‬
‫وقال الشّيخ عبد القادر ‪ :‬يجوز للرّجل تشميت المرأة البرزة والعجوز ‪ ،‬ويكره للشّابّة ‪ ،‬وفي هذا تفريق بين‬
‫الشّابّة وغيرها ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة ذكر صاحب الذّخيرة ‪ :‬أنّه إذا عطس الرّجل فشمّتته المرأة ‪ ،‬فإن عجوزا ر ّد عليها وإل ردّ في‬
‫نفسه ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وكذا لو عطست هي كما في الخلصة ‪.‬‬
‫تشميت المسلم للكافر ‪:‬‬
‫‪ - 9‬لو عطس كافر وحمد اللّه عقيب عطاسه وسمعه مسلم كان عليه أن يشمّته بقوله ‪ :‬هداك اللّه أو عافاك‬
‫اللّه ‪ ،‬فقد أخرج أبو داود من حديث أبي موسى الشعريّ قال ‪ « :‬كانت اليهود يتعاطسون عند النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم اللّه ‪ ،‬فكان يقول ‪ :‬يهديكم اللّه ويصلح بالكم » ‪ .‬وفي قوله ‪ :‬يهديكم‬
‫اللّه ويصلح بالكم ‪ .‬تعريض لهم بالسلم ‪ :‬أي اهتدوا وآمنوا يصلح اللّه بالكم ‪ .‬فلهم تشميت مخصوص ‪،‬‬
‫وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلح البال ‪ .‬بخلف تشميت المسلمين ‪ ،‬فإنّهم أهل للدّعاء بالرّحمة بخلف‬
‫الكفّار ‪ .‬وعن ابن عمر رضي ال عنهما قال ‪ « :‬اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫فشمّته الفريقان جميعا ‪ ،‬فقال للمسلمين يغفر اللّه لكم ويرحمنا وإيّاكم ‪ .‬وقال لليهود ‪ :‬يهديكم اللّه ويصلح بالكم‬
‫»‬
‫تشميت المصلّي غيره ‪:‬‬
‫ن تشميته له بقوله ‪:‬‬
‫‪ - 10‬من كان في الصّلة وسمع عاطسا حمد اللّه عقب عطاسه فشمّته بطلت صلته ‪ ،‬ل ّ‬
‫يرحمك اللّه يجري في مخاطبات النّاس ‪ ،‬فكان من كلمهم ‪ ،‬فقد روي عن معاوية بن الحكم رضي ال عنه‬
‫قال « ‪ :‬بينا أنا مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في الصّلة إذ عطس رجل من القوم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يرحمك‬
‫اللّه ‪ ،‬فحدّقني القوم بأبصارهم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬واثكل ُأمّاه ‪ ،‬ما لكم تنظرون إليّ ؟ فضرب القوم بأيديهم على‬
‫أفخاذهم ‪ ،‬فلمّا انصرف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم دعاني بأبي وأمّي هو ‪ ،‬ما رأيتُ معلّما أحسن تعليما‬
‫منه ‪ ،‬واللّه ما ضربني صلى ال عليه وسلم ول كهرني ثمّ قال ‪ :‬إنّ صلتنا هذه ل يصلح فيها شيء من كلم‬
‫الدميّين ‪ ،‬إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » ‪.‬‬
‫هذا قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والمشهور عند الشّافعيّة ‪ ،‬وإن كان تعبير الحنفيّة بالفساد وتعبير غيرهم‬
‫ن البطلن والفساد في ذلك بمعنى ‪.‬‬
‫بالبطلن ‪ ،‬إلّا أ ّ‬
‫فإن عطس هو في صلته فحمد اللّه وشمّت نفسه في نفسه دون أن يحرّك بذلك لسانه بأن قال ‪ :‬يرحمك اللّه‬
‫يا نفسي ل تفسد صلته ‪ ،‬لنّه لمّا لم يكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلم النّاس كما إذا قال ‪ :‬يرحمني اللّه ‪.‬‬
‫قال به الحنفيّة والحنابلة المالكيّة ‪.‬‬
‫تشميت العاطس فوق ثلث ‪:‬‬
‫‪ - 11‬من تكرّر عطاسه فزاد على الثّلث فإنّه ل يشمّت فيما زاد عنها ‪ ،‬إذ هو بما زاد عنها مزكوم ‪ .‬فعن‬
‫سلمة بن الكوع رضي ال عنه ‪ « :‬شمّت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجلً عطس مرّتين بقوله ‪:‬‬
‫يرحمك اللّه ثمّ قال عنه في الثّالثة ‪ :‬هذا رجل مزكوم » ‪.‬‬
‫وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة أنّه قال ‪ :‬يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس ‪ ،‬إل أن يعرف أنّه‬
‫ن التّعليل به يقتضي أن ل‬
‫مزكوم فيدعو له بالشّفاء ‪ .‬وعند هذا سقط المر بالتّشميت عند العلم بالزّكام ‪ ،‬ل ّ‬
‫يشمّت من علم أنّ به زكاما أصلً ‪ ،‬لكونه مرضا ‪ ،‬وليس عطاسا محمودا ناشئا عن خفّة البدن وانفتاح المسامّ‬
‫وعدم الغاية في الشّبع ‪.‬‬

‫تشمير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬للتّشمير في اللّغة معان ‪ :‬منها ‪ :‬الرّفع يقال ‪ :‬شمّر الزار والثّوب تشميرا ‪ :‬إذا رفعه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬شمّر‬
‫عن ساقه ‪ ،‬وشمّر في أمره ‪ :‬أي خفّ فيه وأسرع ‪ ،‬وشمّر الشّيء فتشمّر ‪ :‬قلّصه فتقلّص ‪ ،‬وتشمّر أي ‪ :‬تهيّأ‬
‫‪ .‬وفي الصطلح ل يخرج عن معنى رفع الثّوب ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬السّدل ‪:‬‬
‫‪ - 2‬من معاني السّدل في اللّغة ‪ :‬إرخاء الثّوب ‪ .‬يقال ‪ :‬سدلت الثّوب سدلً ‪ :‬إذا أرخيته وأرسلته من غير‬
‫ضمّ جانبيه ‪.‬‬
‫وسدل الثّوب يسدله ويسدله سدلً ‪ ،‬وأسدله ‪ :‬أرخاه وأرسله ‪ .‬وعن عليّ رضي ال عنه ‪ ":‬أنّه خرج فرأى‬
‫قوما يصلّون قد سدلوا ثيابهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬كأنّهم اليهود خرجوا من فهورهم "‬
‫واصطلحا ‪ :‬أن يجعل الشّخص ثوبه على رأسه ‪ ،‬أو على كتفيه ‪ ،‬ويرسل أطرافه من جوانبه من غير أن‬
‫يضمّها ‪ ،‬أو يردّ أحد طرفيه على الكتف الخرى ‪.‬‬
‫وهو في الصّلة مكروه بالتّفاق ‪ .‬لما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫نهى عن السّدل في الصّلة ‪. » . .‬‬
‫ب ‪ -‬السبال ‪:‬‬
‫‪ - 3‬السبال في اللّغة ‪ :‬الرخاء والطالة ‪ .‬يقال ‪ :‬أسبل إزاره ‪ :‬إذا أرخاه ‪ .‬وأسبل فلن ثيابه ‪ :‬إذا طوّلها‬
‫وأرسلها إلى الرض ‪ ،‬وفي الحديث ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬ثلثة ل يكلّمهم اللّه يوم‬
‫القيامة ول ينظر إليهم ول يزكّيهم ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ومن هم ؟ خابوا وخسروا ‪ .‬فأعادها رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم ثلث مرّات ‪ :‬المسبل ‪ ،‬والمنّان ‪ ،‬والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب » قال ابن العرابيّ وغيره ‪:‬‬
‫المسبل ‪ :‬الّذي يطوّل ثوبه ويرسله إلى الرض إذا مشى ‪ ،‬وإنّما يفعل ذلك كبرا واختيال ‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ل يخرج عن هذا المعنى ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من جرّ ثوبه من الخيلء لم ينظر اللّه إليه‬
‫وحكمه الكراهة ‪ ،‬لما روي أ ّ‬
‫» وعن ابن مسعود قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬من أسبل إزاره في صلته خيلء‬
‫فليس من اللّه جلّ ذكره في حلّ ول حرام » ‪.‬‬
‫ي يرفعه « ل ينظر اللّه يوم القيامة إلى من ج ّر إزاره بطرا » ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪:‬‬
‫وحديث أبي سعيد الخدر ّ‬
‫( صلة ‪ -‬عورة ‪ -‬إسبال ) ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّشمير في الصّلة مكروه اتّفاقا ‪ ،‬لما ورد أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « نهى عن كفّ الثّياب والشّعر‬
‫» ‪ .‬إل أنّ المالكيّة قالوا بكراهته فيها إذا كان فعله لجلها ‪.‬‬
‫وأمّا فعله خارجها ‪ ،‬أو فيها ل لجلها ‪ ،‬فل كراهة فيه ‪ .‬ومثل ذلك عندهم تشمير الذّيل عن السّاق ‪ :‬فإن فعله‬
‫لجل شغل ‪ ،‬فحضرت الصّلة ‪ ،‬فصلّى وهو كذلك فل كراهة ‪.‬‬
‫وظاهر المدوّنة أنّه سواء عاد لشغله ‪ ،‬أم ل ‪ .‬وحملها الشّبيبيّ على ما إذا عاد لشغله ‪ ،‬وصوّبه ابن ناجي ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ر ‪ ( :‬صلة ‪ ،‬عورة ‪ ،‬لباس ) ‪.‬‬

‫تشهّد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشهّد في اللّغة ‪ :‬مصدر تشهّد ‪ ،‬أي ‪ :‬تكلّم بالشّهادتين ‪.‬‬
‫ويطلق في اصطلح الفقهاء على قول كلمة التّوحيد ‪ ،‬وعلى التّشهّد في الصّلة ‪ ،‬وهي قراءة ‪ :‬التّحيّات للّه ‪.‬‬
‫‪ .‬إلى آخره في الصّلة ‪ .‬وصرّح ابن عابدين نقل عن الحلية ‪ :‬أنّ التّشهّد اسم لمجموع الكلمات المرويّة عن‬
‫ابن مسعود رضي ال عنه وغيره ‪ .‬سمّي به لشتماله على الشّهادتين ‪ .‬من باب تسمية الشّيء باسم جزئه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫ن التّشهّد واجب في‬
‫ح ‪ ،‬والمالكيّة في قول ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ - 2‬ذهب الحنفيّة في الص ّ‬
‫القعدة الّتي ل يعقبها السّلم ‪ ،‬لنّه يجب بتركه سجود السّهو ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة في قول ‪ ،‬والمالكيّة في المذهب ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في رواية ‪ :‬س ّنيّة التّشهّد في هذه القعدة‬
‫‪ ،‬لنّه يسقط بالسّهو فأشبه السّنن ‪.‬‬
‫وأمّا التّشهّد في القعدة الخيرة في الصّلة فواجب عند الحنفيّة ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم في حديث‬
‫العرابيّ ‪ « :‬إذا رفعت رأسك من آخر سجدة ‪ ،‬وقعدت قدر التّشهّد ‪ ،‬فقد َتمّتْ صلتُك » علّق التّمام بالقعدة‬
‫دون التّشهّد ‪ ،‬فالفرض عند الحنفيّة في هذه القعدة هو الجلوس فقط ‪ ،‬أمّا التّشهّد فواجب ‪ ،‬يجبر بسجود السّهو‬
‫إن ترك سهوا ‪ ،‬وتكره الصّلة بتركه تحريما ‪ ،‬فتجب إعادتها ‪ .‬والمذهب عند المالكيّة أنّه سنّة ‪ ،‬وفي قول‬
‫واجب ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ركن من أركان الصّلة ‪ ،‬وهذا ما يسمّيه بعضهم فرضا أو واجبا وبعضهم‬
‫ركنا ‪ ،‬تشبيها له بركن البيت الّذي ل يقوم إل به ‪.‬‬
‫وفي الفرق بين الفرض والواجب عند الحنفيّة ‪ ،‬ومعنى الوجوب عند غيرهم تفصيل يرجع فيه إلى مظانّه في‬
‫كتب الفقه والصول ‪ .‬وانظر أيضا ‪ ( :‬فرض ‪ ،‬وواجب ) ‪.‬‬
‫ألفاظ التّشهّد ‪:‬‬
‫ن أفضل التّشهّد ‪ ،‬التّشهّد الّذي علّمه النّبيّ صلى ال عليه وسلم لعبد اللّه بن‬
‫‪ - 3‬يرى الحنفيّة والحنابلة أ ّ‬
‫طيّبات ‪ ،‬السّلم عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه‬
‫مسعود رضي ال عنهما ‪ ،‬وهو ‪ « :‬التّحيّات للّه ‪ ،‬والصّلوات وال ّ‬
‫وبركاته ‪ ،‬السّلم علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ‪ ،‬أشهد أن ل إله إلّا اللّه ‪ ،‬وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله‬
‫»‪.‬‬
‫ن حمّادا أخذ بيد أبي حنيفة وعلّمه التّشهّد ‪ ،‬وقال أخذ إبراهيم‬
‫ووجه اختيارهم لهذه الرّواية ما روي ‪ :‬أ ّ‬
‫النّخعيّ بيديّ وعلّمني ‪ ،‬وأخذ علقمة بيد إبراهيم وعلّمه ‪ ،‬وأخذ عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه بيد علقمة‬
‫وعلّمه ‪ « ،‬وأخذ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بيد عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه وعلّمه التّشهّد فقال ‪:‬‬
‫قل ‪ :‬التّحيّات للّه ‪ » . . .‬إلى آخره ‪ .‬ويؤيّده ما روي عن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ « :‬علّمني رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم التّشهّد ‪ -‬كفّي بين كفّيه ‪ -‬كما يعلّمني سورة من القرآن ‪ ،‬التّحيّات للّه ‪. » . . .‬‬
‫ن فيه زيادة واو العطف ‪ ،‬وإنّه يوجب تعدّد الثّناء ‪ ،‬لنّ المعطوف غير المعطوف عليه ‪ ،‬وبه يقول ‪:‬‬
‫لّ‬
‫الثّوريّ ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وأبو ثور ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة أنّ أفضل التّشهّد تشهّد عمر بن الخطّاب رضي ال عنه وهو ‪ :‬التّحيّات للّه ‪ ،‬الزّاكيات للّه ‪،‬‬
‫طيّبات الصّلوات للّه ‪ ،‬السّلم عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬السّلم علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين‬
‫ال ّ‬
‫ن عمر رضي ال عنه‬
‫ن محمّدا عبده ورسوله ‪ .‬وهذا ل ّ‬
‫‪ ،‬أشهد أن ل إله إلّا اللّه وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫قاله على المنبر ‪ ،‬فلم ينكروه ‪ ،‬فجرى مجرى الخبر المتواتر ‪ ،‬وكان أيضا إجماعا ‪.‬‬
‫وأمّا الشّافعيّة فأفضل التّشهّد عندهم ما روي عن ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم يعلّمنا التّشهّد ‪ ،‬كما يعلّمنا السّورة من القرآن ‪ ،‬فيقول ‪ :‬قولوا ‪ :‬التّحيّات المباركات ‪ ،‬الصّلوات‬
‫طيّبات للّه ‪ ،‬السّلم عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬السّلم علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ‪ ،‬أشهد‬
‫ال ّ‬
‫ن محمّدا رسول اللّه » ‪ .‬أخرجه مسلم والتّرمذيّ ‪ ،‬إل أنّه في رواية مسلم «‬
‫أن ل إله إلّا اللّه ‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫ن محمّدا عبده ورسوله » ‪ .‬والخلف بين الئمّة هنا خلف في الولويّة ‪ ،‬فبأيّ تشهّد تشهّد ممّا صحّ‬
‫وأشهد أ ّ‬
‫عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم جاز ‪ .‬ومن النّاس من اختار تشهّد أبي موسى الشعريّ ‪ ،‬وهو أن يقول ‪:‬‬
‫طيّبات ‪ ،‬والصّلوات للّه ‪ . . .‬والباقي كتشهّد ابن مسعود وذكر ابن عابدين أنّ المصلّي يقصد‬
‫التّحيّات للّه ‪ ،‬ال ّ‬
‫بألفاظ التّشهّد معانيها ‪ ،‬مرادة له على وجه النشاء ‪ ،‬كأنّه يحيّي اللّه تعالى ويسلّم على النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم وعلى نفسه والولياء ‪ ،‬ول يقصد الخبار والحكاية عمّا وقع في المعراج منه صلى ال عليه وسلم ومن‬
‫ربّه سبحانه وتعالى ومن الملئكة ‪.‬‬
‫الزّيادة والنّقصان في ألفاظ التّشهّد والتّرتيب بينها ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اختلفت أقوال الفقهاء في هذه المسألة على النّحو التي ‪:‬‬
‫ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريما أن يزيد في التّشهّد حرفا ‪ ،‬أو يبتدئ بحرف قبل حرف ‪ .‬قال أبو حنيفة ‪:‬‬
‫ولو نقص من تشهّده أو زاد فيه ‪ .‬كان مكروها ‪ ،‬لنّ أذكار الصّلة محصورة ‪ ،‬فل يزاد عليها ‪ .‬ثمّ أضاف‬
‫ابن عابدين قائل ‪ :‬والكراهة عند الطلق للتّحريم ‪ .‬ويكره كذلك عند المالكيّة الزّيادة على التّشهّد ‪ ،‬واختلفوا‬
‫سنّة ببعض التّشهّد ‪ ،‬خلفا لبن‬
‫في ترك بعض التّشهّد ‪ ،‬فالظّاهر من كلم بعض شيوخهم عدم حصول ال ّ‬
‫ناجي في كفاية بعضه ‪ ،‬قياسا على السّورة ‪.‬‬
‫طيّبات والزّاكيات سنّة ليس‬
‫وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّ لفظ المباركات والصّلوات ‪ ،‬وال ّ‬
‫بشرط في التّشهّد ‪ ،‬فلو حذف كلّها واقتصر على الباقي أجزأه من غير خلف عندهم ‪ .‬وأمّا لفظ ‪ :‬السّلم‬
‫عليك ‪ . . .‬إلخ فواجب ل يجوز حذف شيء منه ‪ ،‬إلّا لفظ ورحمة اللّه وبركاته ‪ .‬وفي هذين اللّفظين ثلثة‬
‫أوجه ‪ :‬أصحّها عدم جواز حذفهما ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬جواز حذفهما ‪ .‬والثّالث ‪ :‬يجوز حذف وبركاته ‪ ،‬دون رحمة اللّه " ‪.‬‬
‫ب عندهم على الصّحيح من المذهب ‪ ،‬فلو قدّم بعضه على بعض جاز ‪،‬‬
‫وكذلك التّرتيب بين ألفاظها مستح ّ‬
‫وفي وجه ل يجوز كألفاظ الفاتحة ‪.‬‬
‫ح ‪ .‬وفي‬
‫ح تشهّده في الص ّ‬
‫والحنابلة يرون أنّه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بضع التّشهّدات المرويّة ص ّ‬
‫رواية أخرى ‪ :‬لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصّلة ‪ ،‬لقول السود ‪ :‬فكنّا نتحفّظه عن رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم كما نتحفّظ حروف القرآن ‪.‬‬
‫الجلوس في التّشهّد ‪:‬‬
‫ي من الحنفيّة إلى ‪ :‬أنّ الجلوس في‬
‫ي والكرخ ّ‬
‫‪ - 5‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو قول الطّحاو ّ‬
‫التّشهّد الوّل سنّة ‪.‬‬
‫ح عند الحنفيّة ‪ -‬وهو وجه عند الحنابلة ‪ -‬أنّه واجب ‪.‬‬
‫والص ّ‬
‫وأمّا في التّشهّد الثّاني فالجلوس بقدر التّشهّد ركن عند الربعة ‪ ،‬وهو ما عبّر عنه الحنفيّة بالفرضيّة ‪،‬‬
‫وغيرهم تارة بالوجوب وتارة بالفرضيّة ‪.‬‬
‫وأمّا هيئة الجلوس في التّشهّد ‪ ،‬فتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬جلوس ) ‪.‬‬
‫التّشهّد بغير العربيّة ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ل خلف بين الفقهاء في جواز التّشهّد بغير العربيّة للعاجز ‪ ،‬واختلفوا فيه للقادر عليها ‪ .‬والتّفصيل في‬
‫مصطلح ‪ ( :‬ترجمة ) ‪.‬‬
‫السرار في التّشهّد ‪:‬‬
‫سنّة في التّشهّد السرار ‪ ،‬لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يكن يجهر به ‪ ،‬إذ لو جهر به لنقل كما‬
‫‪ - 7‬ال ّ‬
‫سنّة إخفاء التّشهّد » ‪ .‬قال صاحب المغني ‪:‬‬
‫نقلت القراءة ‪ ،‬وقال عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه « من ال ّ‬
‫ول نعلم في هذا خلفا ‪.‬‬
‫ما يترتّب على ترك التّشهّد ‪:‬‬
‫‪ - 8‬ل خلف بين الفقهاء في مشروعيّة سجدة السّهو بترك التّشهّد في القعدة الولى ( قبل الخيرة ) إن كان‬
‫تركه سهوا ‪ ،‬على خلف بينهم في الحكم ‪.‬‬
‫واختلفوا في تركه عمدا ‪ :‬فذهب الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة في قول إلى ‪ :‬وجوب إعادة الصّلة ‪ .‬ويرى المالكيّة‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في رواية أخرى ‪ ،‬أنّ على المصلّي أن يسجد للسّهو في هذه الحالة أيضا ‪ .‬وأمّا ترك‬
‫التّشهّد في القعدة الخيرة إن كان عمدا ‪ :‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة في وجه ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب‬
‫العادة ‪ .‬وكذلك إن كان سهوا عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬ويرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ عليه سجدة السّهو في‬
‫هذه الحالة ‪.‬‬
‫وأمّا حكم الرّجوع إلى التّشهّد لمن قام إلى الثّالثة في ثنائيّة أو إلى الرّابعة في ثلثيّة ‪ ،‬أو إلى خامسة في‬
‫رباعيّة ‪ ،‬فقد فصّله الفقهاء في كتاب الصّلة عند الكلم عن سجدة السّهو ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم في التّشهّد ‪:‬‬
‫الصّلة على النّب ّ‬
‫‪ - 9‬يرى جمهور الفقهاء أنّ المصلّي ل يزيد على التّشهّد في القعدة الولى بالصّلة على النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وإسحاق ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في الظهر من القوال إلى استحباب الصّلة فيها ‪ ،‬وبه قال الشّعبيّ ‪.‬‬
‫وأمّا إذا جلس في آخر صلته فل خلف بين الفقهاء في مشروعيّة الصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫بعد التّشهّد ‪ .‬وأمّا صيغة الصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم في القعدة الخيرة ‪ ،‬وما روي في ذلك من‬
‫الدلّة ‪ ،‬فقد فصّل الفقهاء الكلم عليه في موطنه من كتب الفقه ‪ .‬وانظر أيضا ‪ " :‬الصّلة على النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم " ‪.‬‬

‫تشهير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّشهير في اللّغة مأخوذ من شهّره ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬أعلنه وأذاعه ‪ ،‬وشهّر به ‪ :‬أذاع عنه السّوء ‪ ،‬وشهّره‬
‫تشهيرا فاشتهر ‪ .‬والشّهرة ‪ :‬وضوح المر ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّعزير ‪ :‬التّأديب والهانة دون الحدّ ‪ .‬وهو أعمّ من التّشهير ‪ ،‬إذ يكون بالتّشهير وبغيره ‪ .‬فالتّشهير نوع‬
‫من أنواع التّعزير ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السّتر ‪:‬‬
‫‪ - 3‬السّتر ‪ :‬المنع والتّغطية ‪ .‬وهو ضدّ التّشهير ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬يختلف حكم التّشهير باعتبار من يصدر منه ‪ ،‬وباعتبار المشهّر به ‪ .‬فالتّشهير قد يكون من النّاس بعضهم‬
‫ببعض ‪ ،‬على جهة العداوة أو الغيبة ‪ ،‬أو على جهة النّصيحة والتّحذير ‪ .‬وقد يكون من الحاكم في الحدود أو‬
‫في التّعازير ‪ .‬وبيان ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬تشهير النّاس بعضهم ببعض ‪:‬‬
‫ن تشهير النّاس بعضهم ببعض بذكر عيوبهم والتّنقّص منهم حرام ‪.‬‬
‫الصل أ ّ‬
‫وقد يكون مباحا أو واجبا ‪ .‬وذلك راجع إلى ما يتّصف به المشهّر به ‪.‬‬
‫‪ - 4‬فيكون حراما في الحوال التية ‪:‬‬
‫حبّو نَ َأ نْ‬
‫ن ُي ِ‬
‫أ ‪ -‬إذا كان المشهّر به بريئا ممّا يشاع عنه ويقال فيه ‪ .‬والصل في ذلك قوله تعالى ‪ { :‬إنّ الّذي َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ في الدّنيا والخِر ِة واللّهُ َيعْلمُ وأ ْنتُمْ ل َتعَْلمُون } ‪ .‬وقول النّبيّ ‪« :‬‬
‫حشَ ُة في الّذينَ آ َمنُوا لهمْ َ‬
‫َتشِيعَ الفَا ِ‬
‫أيّ ما ر جل أشاع على ر جل م سلم كل مة و هو من ها بر يء ‪ ،‬يرى أن يشي نه ب ها في الدّن يا ‪ ،‬كان حقّا على اللّه‬
‫حشَةُ } »‬
‫ن َتشِيعَ الفَا ِ‬
‫حبّونَ أ ْ‬
‫ن ُي ِ‬
‫تعالى أن يرميه بها في النّار ‪ .‬ثمّ تل مصداقه من كتاب اللّه تعالى ‪ { :‬إنّ الّذي َ‬
‫‪.‬‬
‫وقد ذمّ اللّه سبحانه وتعالى الّذين فعلوا ذلك ‪ ،‬وتوعّدهم بالعذاب العظيم ‪ ،‬وذلك في اليات الّتي نزلت في شأن‬
‫سيّدة عائ شة ر ضي ال عن ها ح ين رما ها أ هل ال فك والبهتان ب ما قالوه من الكذب والفتراء ‪ ،‬و هي قوله‬
‫ال ّ‬
‫صبَ ٌة ِم ْنكُمْ ‪. } . . .‬‬
‫ع ْ‬
‫ن الّذينَ جَاءوا بِال ْفكِ ُ‬
‫تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫ح َتمَلُوا بُهتَانا‬
‫سبُوا ف قد ا ْ‬
‫وقال ا بن كث ير في قوله تعالى ‪ { :‬وَالّذي نَ ُي ْؤذُو نَ المُؤمني نَ والمؤمنَا تِ ِبغَيرِ ما ا ْكتَ َ‬
‫وإِثما ُمبِينَا } أي ين سبون إلي هم ما هم برآء م نه لم يعملوه ولم يفعلوه ‪ ،‬يحكون على المؤمن ين والمؤمنات ذلك‬
‫على سبيل الع يب والتّنقّص من هم ‪ ،‬و قد قال ر سول اللّه ف يه ‪ « :‬أر بى الرّ با ع ند اللّه ا ستحللُ عِرض امرئ‬
‫مسلم ث ّم قرأ ‪ { :‬وَالّذينَ ُي ْؤذُونَ ال ُمؤْمني نَ وَال ُمؤْمناتِ } » وقد قيل في معنى قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مَنْ‬
‫سمّعَ اللّ ُه به » أي من سمّع بعيوب النّاس وأذاعها أظهر اللّه عيوبه ‪.‬‬
‫سمّعَ َ‬
‫َ‬
‫ومن ذلك ‪ :‬الهجو بالشّعر ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬ما كان من الشّعر يتضمّن هجو المسلمين والقدح في أعراضهم‬
‫فهو محرّم على قائله ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا كان المشهّر به يتّصف بما يقال عنه ‪ ،‬ولكنّه ل يجاهر به ‪ ،‬ول يقع به ضرر على غيره ‪ .‬فالتّشهير‬
‫به حرام أي ضا ‪ ،‬لنّه يع تبر من الغي بة الّ تي ن هى اللّه سبحانه وتعالى عن ها في قوله ‪ { :‬ول َي ْغتَ بْ َب ْعضُ كم‬
‫ن النّبيّ صلى ال عل يه و سلم قال ‪ :‬أتدرون ما الغي بة ؟‬
‫َبعْضَا } ‪ .‬و قد روى أ بو هريرة ر ضي ال ع نه « أ ّ‬
‫ل ؟ قال ‪ :‬إن‬
‫ك أخا كَ بما َيكْره ‪ .‬قيل ‪ :‬أفرأي تَ إن كان في أخي ما أقو ُ‬
‫قالوا ‪ :‬اللّه ورسوله أعلم ‪ .‬قال ‪ِ :‬ذ ْكرُ َ‬
‫غ َت ْبتَه ‪ ،‬وإن لم يكن فيه ما تقول فقد َب َهتّه » ‪.‬‬
‫كان فيه ما تقولُ فقد ا ْ‬
‫ومفن ذلك ‪ :‬قول العالم ‪ :‬قال فلن كذا مريدا التّشنيفع عليفه ‪ .‬أو قول النسفان ‪ :‬فعفل كذا بعفض النّاس ‪ ،‬أو‬
‫بعض من يدّعي العلم ‪ ،‬أو بعض من ينسب إلى الصّلح والزّهد ‪ ،‬أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه‬
‫‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن السّتر على المسلم واجب لمن ليس معروفا بالذى والفساد ‪.‬‬
‫ومن المقرّر شرعا ‪ :‬أ ّ‬
‫ل يومَ القيامة » قال في شرح مسلم ‪:‬‬
‫ستَرَه اللّه عزّ وج ّ‬
‫س َترَ ُمسْلما َ‬
‫ن َ‬
‫فقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مَ ْ‬
‫وهذا السّتر في غير المشتهرين ‪.‬‬
‫وقال ابن العربيّ ‪ :‬إذا رأيت إنسانا على معصية فعظه فيما بينك وبينه ‪ ،‬ول تفضحه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ويحرم كذلك تشهير النسان بنفسه ‪ ،‬إذ المسلم مطالب بالسّتر على نفسه ‪.‬‬
‫ففي ال صّحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬كلّ‬
‫ن من الجهار أن يعمل العبد باللّيل عملً ‪ ،‬ث ّم يصبح وقد ستره عليه اللّه ‪،‬‬
‫أمّتي ُمعَافى إل المجاهرين ‪ ،‬وإ ّ‬
‫ت البارحة كذا وكذا ‪ .‬وقد بات يستره اللّه عزّ وجلّ ويصبح يكشف ستر اللّه عزّ وجلّ‬
‫فيقول ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬عمل ُ‬
‫عنه »‬
‫وال سّتر واجب على المسلم في خا صّة نفسه إذا أتى فاحشة ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من أصاب‬
‫من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه » ‪.‬‬
‫‪ - 5‬ويكون التّشهير جائزا لمن يجاهر بالمعصية في الحوال التية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬بالنّسبة لمن يجاهر بالمعصية ‪ ،‬فيجوز ذكر من يتجاهر بفسقه ‪ ،‬لنّ المجاهر بالفسق ل يستنكف أن يذكر‬
‫به ‪ ،‬ول يعتبر هذا غيبة في حقّه ‪ ،‬لنّ من ألقى جلباب الحياء ل غيبة له‪ .‬قال القرافيّ ‪ :‬المعلن بالفسوق ‪-‬‬
‫كقول امرئ القيس ‪ ":‬فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع "‬
‫فإنّه يفتخر بالزّنا في شعره ‪ -‬فل يضرّ أن يحكى ذلك عنه ‪ ،‬لنّه ل يتألّم إذا سمعه ‪ ،‬بل قد يس ّر بتلك‬
‫المخازي ‪ ،‬وكثير من اللّصوص تفتخر بالسّرقة والقتدار على التّسوّر على الدّور العظام والحصون الكبار ‪،‬‬
‫فذكر مثل هذا عن هذه الطّوائف ل يحرم ‪.‬‬
‫وفي الكمال في شرح حديث مسلم ‪ « :‬مَنْ سَترَ مسلما ستره اللّه » قال ‪ :‬وهذا السّتر في غير المشتهرين ‪.‬‬
‫وقال الخلل ‪ :‬أخبرني حرب ‪ :‬سمعت أحمد يقول ‪ :‬إذا كان الرّجل معلنا بفسقه فليست له غيبة ‪.‬‬
‫وذكر ابن عبد البرّ في كتاب بهجة المجالس عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ثلث ٌة ل غِيبة فيهم ‪ :‬الفاسقُ‬
‫المعلن بفسقه ‪ ،‬وشارب الخمر ‪ ،‬والسّلطان الجائر » ‪.‬‬
‫‪ - 6‬ب ‪ -‬إذا كان التّشهير على سبيل نصيحة المسلمين وتحذيرهم ‪ ،‬وذلك كجرح الرّواة والشّهود والمناء‬
‫على الصّدقات والوقاف واليتام ‪ ،‬والتّشهير بالمصنّفين والمتصدّين لفتاء أو إقراء مع عدم أهليّة ‪ ،‬أو مع‬
‫نحو فسق أو بدعة يدعون إليها ‪ ،‬وأصحاب الحديث وحملة العلم المقلّدين ‪ ،‬هؤلء يجب تجريحهم وكشف‬
‫سيّئة لمن عرفها ممّن يقلّد في ذلك ويلتفت إلى قوله ‪ ،‬لئل يغت ّر بهم ويقلّد في دين اللّه من ل يجوز‬
‫أحوالهم ال ّ‬
‫تقليده ‪ ،‬وليس السّتر هنا بمرغّب فيه ول مباح ‪ .‬على هذا اجتمع رأي المّة قديما وحديثا ‪.‬‬
‫يقول القرافيّ ‪ :‬أرباب البدع والتّصانيف المضلّة ينبغي أن يشهّر النّاس فسادها وعيبها ‪ .‬وأنّهم على غير‬
‫الصّواب ‪ ،‬ليحذرها النّاس الضّعفاء فل يقعوا فيها ‪ ،‬وينفر عن تلك المفاسد ما أمكن ‪ ،‬بشرط أن ل يتعدّى‬
‫فيها الصّدق ‪ ،‬ول يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه ‪ ،‬بل يقتصر على ما فيهم من‬
‫المنفّرات خاصّة ‪ ،‬فل يقال في المبتدع ‪ :‬إنّه يشرب الخمر ‪ ،‬ول أنّه يزني ‪ ،‬ول غير ذلك ممّا ليس فيه ‪.‬‬
‫ويجوز وضع الكتب في جرح المجروحين من رواة الحديث والخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن‬
‫ينتفع به وينقله ‪ ،‬بشرط أن تكون ال ّنيّة خالصة للّه تعالى في نصيحة المسلمين في ضبط الشّريعة ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان لجل عداوة أو تَ َفكّهٍ بالعراض وجريا مع الهوى فذلك حرام ‪ ،‬وإن حصلت به المصلحة عند‬
‫الرّواة ‪.‬‬
‫ويقول الخطيب الشّربينيّ ‪ :‬لو قال العالم لجماعة من النّاس ‪ :‬ل تسمعوا الحديث من فلن فإنّه يخلط أو ل‬
‫ص عليه في المّ ‪ .‬قال ‪ :‬وليس هذا بغيبة إن كان يقوله‬
‫تستفتوا منه فإنّه ل يحسن الفتوى فهذا نصح للنّاس ‪ .‬ن ّ‬
‫لمن يخاف أن يتبعه ويخطئ باتّباعه ‪ .‬ومثله في الفواكه الدّواني ‪ .‬ويقول النّوويّ ‪ :‬يجوز تحذير المسلمين من‬
‫الشّ ّر ونصيحتهم ‪ ،‬وذلك من وجوه منها ‪ :‬جرح المجروحين من الرّواة للحديث والشّهود ‪ ،‬وذلك جائز بإجماع‬
‫المسلمين ‪ ،‬بل واجب للحاجة ‪ .‬ومنها ‪ :‬إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو مشاركته أو إيداعه أو اليداع‬
‫عنده أو معاملته بغير ذلك ‪،‬وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النّصيحة‪ .‬وفي مغني المحتاج ‪:‬‬
‫ينكر على من تصدّى للتّدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله ‪ ،‬ويشهّر أمره لئلّا يغترّ به ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّشهير من الحاكم ‪:‬‬
‫تشهير الحاكم لبعض النّاس يكون في الحدود أو في التّعزير ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬بالنّسبة للحدود ‪:‬‬
‫عذَابَهما طَائِفَ ٌة من‬
‫شهَدْ َ‬
‫‪ - 7‬قال الفقهاء ‪ :‬ينبغي أن تقام الحدود في مل من النّاس ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَ ْل َي ْ‬
‫ن النّصّ الوارد فيه يكون واردا في سائر‬
‫المُؤْمنين } ‪ ،‬قال الكاسانيّ ‪ :‬والنّصّ وإن ورد في حدّ الزّنى ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن المقصود من الحدود كلّها واحد ‪ ،‬وهو زجر العامّة ‪ ،‬وذلك ل يحصل إلّا وأن تكون‬
‫الحدود دللة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة ‪ ،‬والغائبين ينزجرون بإخبار الحضور ‪،‬‬
‫القامة على رأس العامّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫فيحصل الزّجر للكلّ ‪ .‬وقال عبد الملك بن حبيب ‪ :‬ينبغي أن يكون إقامة الحدّ علنية وغير سرّ ‪ ،‬ليتناهى‬
‫النّاس عمّا حرّم اللّه عليهم ‪ .‬وقال مطرّف ‪ :‬ومن أمر النّاس عندنا الشّهر لهل الفسق رجال ونساء ‪،‬‬
‫والعلم بجلدهم في الحدود وما يلزمهم من العقوبة وكشف وجه المرأة ‪.‬‬
‫شرّاب الخمر ؟ قال ‪ :‬إذا كان‬
‫وسئل المام مالك عن المجلود في الخمر والفِرية ‪ :‬أترى أن يطاف بهم وب ُ‬
‫فاسقا مدمنا فأرى أن يطاف بهم ‪ ،‬ونعلن أمرهم ويفضحون ‪.‬‬
‫ن في ذلك ردعا للنّاس ‪،‬‬
‫وفي حدّ السّرقة قال الفقهاء ‪ :‬يندب أن يعلّق العضو المقطوع في عنق المحدود ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أُتيَ بسارق قطعت يده ‪ ،‬ثمّ أمر بها‬
‫ن النّب ّ‬
‫وقد روى فضالة بن عبيد رضي ال عنه « أ ّ‬
‫ي رضي ال عنه‪.‬‬
‫فعلّقت في عنقه » وفعل ذلك عل ّ‬
‫ل العاملِ نبعثه ‪ ،‬فيأتي فيقول ‪ :‬هذا لك وهذا لي ‪ .‬فهل جلس في بيت‬
‫وذكر في ال ّدرّ المختار حديث ‪ « :‬ما با ُ‬
‫أبيه وأمّه فينظرُ أيهدى له أم ل ؟ والّذي نفسي بيده ل يأتي بشيء إل جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ‪،‬‬
‫إن كان بعيرا له رُغاء ‪ ،‬أو بقرة لها خُوار ‪ ،‬أو شاة َت ْيعَ ُر » ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬ويؤخذ من هذا الحديث ‪-‬‬
‫كما قال ابن المنير ‪ -‬أنّ الحكّام أخذوا بالتّجريس بالسّارق ونحوه من هذا الحديث ‪.‬‬
‫كذلك قال الفقهاء في قاطع الطّريق إذا صلب ‪ :‬يصلب ثلثة أيّام ليشتهر الحال ويتمّ النّكال ‪ .‬قال ابن قدامة ‪:‬‬
‫إنّما شرع الصّلب ردعا لغيره ليشتهر أمره ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بالنّسبة للتّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 8‬التّشهير نوع من أنواع التّعزير ‪ ،‬أي أنّه عقوبة تعزيريّة ‪.‬‬
‫ن التّعزير يرجع في تحديد جنسه وقدره إلى نظر الحاكم ‪ ،‬فقد يكون بالضّرب أو الحبس أو التّوبيخ‬
‫ومعلوم أ ّ‬
‫أو التّشهير أو غير ذلك ‪ ،‬حسب اختلف مراتب النّاس ‪ ،‬واختلف المعاصي ‪ ،‬واختلف العصار والمصار‬
‫ل معصية ل‬
‫ن المصلحة فيه ‪ ،‬وهذا الحكم هو بالنّسبة لك ّ‬
‫‪ .‬وعلى ذلك فالتّعزير بالتّشهير جائز إذا علم الحاكم أ ّ‬
‫حدّ فيها ول كفّارة في الجملة ‪ .‬يقول الماورديّ ‪ :‬للمير إذا رأى من الصّلح في ردع السّفلة ‪ :‬أن يشهّرهم‬
‫وينادي عليهم بجرائمهم ‪ ،‬ساغ له ذلك ‪ .‬ويقول ‪ :‬يجوز في نكال التّعزير أن يجرّد من ثيابه ‪ ،‬إل قدر ما‬
‫يستر عورته ‪ ،‬ويشهّر في النّاس ‪ ،‬وينادى عليه بذنبه إذا تكرّر منه ولم يتب ‪.‬‬
‫وفي التّبصرة لبن فرحون ‪ :‬إن رأى القاضي المصلحة في قمع السّفلة بإشهارهم بجرائمهم فعل ‪ .‬ويقول ابن‬
‫فرحون أيضا ‪ :‬إذا حكم القاضي بالجور ‪ ،‬وثبت ذلك عليه بالبيّنة ‪ ،‬فإنّه يعاقب العقوبة الموجعة ‪ ،‬وعزل‬
‫ويشهّر ويفضح ‪.‬‬
‫وفي كشّاف القناع ‪ :‬القوّادة ‪ -‬الّتي تفسد النّساء والرّجال ‪ -‬أقلّ ما يجب فيها الضّرب البليغ ‪ ،‬وينبغي شهرة‬
‫ذلك بحيث يستفيض في الرّجال والنّساء لتجتنب ‪.‬‬
‫ن التّشهير واجب‬
‫ن الفقهاء دائما يذكرون التّشهير في تعزير شاهد الزّور ممّا يوحي بأ ّ‬
‫غير أنّه يلحظ أ ّ‬
‫بالنّسبة لشاهد الزّور ‪ ،‬وذلك لعتبار هذه المعصية من الكبائر ‪.‬‬
‫قال المام أبو حنيفة في شاهد الزّور في المشهور ‪ :‬يطاف به ويشهّر ‪ ،‬ول يضرب استنادا إلى ما فعله‬
‫القاضي شريح ‪ ،‬وزاد الصّاحبان ضربه وحبسه ‪.‬‬
‫ويذكر ابن قدامة حديث النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أل ُأ َنبّئكُم بأكبر الكبائر ؟ قالوا ‪ :‬بلى يا رسولَ اللّه قال‬
‫‪ :‬الشراكُ باللّه وعقوق الوالدين ‪ ،‬وكان متّكئا فجلس ‪ ،‬فقال ‪ :‬أل وقولُ الزّور وشهادة الزّور ‪ .‬فما زال‬
‫يكرّرها حتّى قلنا ‪ :‬ليته سكت » ‪.‬‬
‫ثمّ يقول ابن قدامة ‪ :‬فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمدا عزّره وشهّره في قول أكثر أهل‬
‫العلم ‪ .‬روي ذلك عن عمر رضي ال عنه ‪ ،‬وبه يقول شريح والقاسم بن محمّد وسالم بن عبد اللّه والوزاعيّ‬
‫وابن أبي ليلى ومالك والشّافعيّ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة ‪ .‬وفي كشّاف القناع ‪ :‬إذا عزّر من‬
‫وجب عليه التّعزير وجب على الحاكم أن يشهّره لمصلحة كشاهد زور ليجتنب ‪.‬‬
‫وجاء في التّبصرة ‪ :‬التّعزير ل يختصّ بالسّوط واليد والحبس ‪ ،‬وإنّما ذلك موكول إلى اجتهاد المام ‪ .‬قال أبو‬
‫بكر الطّرطوشيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين ‪ :‬إنّهم كانوا يعاملون الرّجل على قدره وقدر جنايته ‪ ،‬فمنهم من‬
‫يضرب ‪ ،‬ومنهم من يحبس ‪ ،‬ومنهم من يقام واقفا على قدميه في المحافل ‪ ،‬ومنهم من تنزع عمامته ‪ .‬قال‬
‫ب تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر ‪،‬‬
‫القرافيّ ‪ :‬إنّ التّعزير يختلف باختلف العصار والمصار ‪ ،‬فر ّ‬
‫كقطع الطّيلسان ليس تعزيرا في الشّام فإنّه إكرام ‪ ،‬وكشف الرّأس بالندلس ليس هوانا وبمصر والعراق هوان‬
‫‪ .‬ثمّ قال صاحب التّبصرة ‪ :‬والتّعزير ل يختصّ بفعل معيّن ول قول معيّن ‪ ،‬فقد « عزّر رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم بالهجر » ‪ ،‬وذلك في حقّ الثّلثة الّذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن الكريم ‪ ،‬فهجروا خمسين يوما‬
‫ل يكلّمهم أحد ‪ « .‬وعزّر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالنّفي ‪ ،‬فأمر بإخراج المخنّثين من المدينة ونفيهم‬
‫»‪.‬‬
‫وفي مغني المحتاج ‪ :‬يجتهد المام في جنس التّعزير وقدره ‪ ،‬لنّه غير مقدّر شرعا ‪ ،‬فيجتهد في سلوك‬
‫الصحّ ‪ ،‬فله أن يشهّر في النّاس من أدّى اجتهاده إليه ‪.‬‬
‫ويجوز له حلق رأسه ‪ ،‬ويجوز أن يصلب حيّا ‪ ،‬وهو ربطه في مكان عال لما ل يزيد عن ثلثة أيّام ث ّم يرسل‬
‫‪ ،‬ول يمنع في تلك المدّة عن الطّعام والشّراب والصّلة ‪.‬‬
‫وهذه النّصوص تدلّ على أنّه يجوز أن يكتفى بالتّشهير كعقوبة تعزيريّة إذا رأى المام ذلك ‪ ،‬ويجوز أن يضمّ‬
‫إليه عقوبة أخرى كالضّرب والحبس ‪.‬‬
‫وقد كان أبو بكر البحتريّ ‪ -‬وهو أمير المدينة ‪ -‬إذا أتي برجل ‪ ،‬قد أخذ معه الجرّة من المسكر ‪ ،‬أمر به‬
‫فصبّ على رأسه عند بابه ‪ ،‬كيما يعرف بذلك ويشهّر به ‪.‬‬

‫تشوّف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل ‪ :‬إذا علت رءوس الجبال تنظر السّهل وخلوّه‬
‫‪ - 1‬التّشوّف لغة ‪ :‬مصدر تشوّف ‪ .‬يقال ‪ :‬تشوّفتِ الوعا ُ‬
‫ممّا تخافه ل َت ِردَ الماء ‪.‬‬
‫ومنه قيل تشوّف فلن لكذا ‪ :‬إذا طمح بصره إليه ‪ .‬ثمّ استعمل في تعلّق المال ‪ ،‬والتّطلّب ‪.‬‬
‫والمُشوّفة من النّساء ‪ :‬الّتي تظهر نفسها ليراها النّاس ‪.‬‬
‫وتشوّفت المرأة ‪ :‬تزيّنت وتطلّعت للخطاب ‪ -‬من شفّت الدّرهم ‪ :‬إذا جلوته ‪ .‬ودينار مشوّف ‪ :‬أي مجلوّ ‪-‬‬
‫وهو أن تجلو المرأة وجهها وتصقل خدّيها ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ للفظ تشوّف عن معانيه الواردة في اللّغة ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬التّشوّف بمعنى التّزيّن خاصّ بالوجه ‪ ،‬والتّزيّن عامّ يستعمل في الوجه وغيره ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تشوّف الشّارع لثبات النّسب ‪:‬‬
‫ن الشّارع متشوّف للحاق النّسب ‪ ،‬لنّ النّسب أقوى‬
‫‪ - 2‬من القواعد المقرّرة في الشّريعة السلميّة ‪ :‬أ ّ‬
‫شرَا َفجَعَلَهُ‬
‫ن المَاءِ َب َ‬
‫الدّعائم الّتي تقوم عليها السرة ‪ ،‬ويرتبط به أفرادها ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَهو الّذي خََلقَ مِ َ‬
‫ن َربّكَ َقدِيرَا } ‪.‬‬
‫صهْرَا َوكَا َ‬
‫سبَا َو ِ‬
‫َن َ‬
‫شكّ إليه ‪ ،‬والتّحذير من‬
‫ولعتناء الشّريعة بحفظ النّسب وتشوّفها لثباته تكرّر فيها المر بحفظه عن تطرّق ال ّ‬
‫ذرائع التّهاون به ‪ .‬ولمراعاة هذا المقصد اتّفق الفقهاء على اعتبار الحوال النّادرة في إلحاق النّسب ‪ ،‬لتشوّف‬
‫الشّارع لثباته ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬نسب ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّشوّف إلى العتق ‪:‬‬
‫‪ - 3‬من محاسن العتاق أنّه إحياء حكميّ ‪ ،‬يخرج العبد من كونه ملحقا بالجمادات إلى كونه أهل للكرامات‬
‫البشريّة ‪ ،‬من قبول الشّهادة والولية والقضاء ‪.‬‬
‫ل ‪ :‬مكلّف مسلم ‪ -‬ولو سكران أو هازل ولو دون نيّة ‪ -‬لتشوّف الشّارع إلى‬
‫ويقع العتق عند الفقهاء من ك ّ‬
‫الحرّيّة بل خلف بين الفقهاء ‪.‬‬
‫وقد أجمعوا على أنّه من حيث الصل تصرّف مندوب إليه ‪ ،‬ويجب لعارض ‪ ،‬ويحصل به القربة لقوله تعالى‬
‫‪ { :‬فتحرير رقبة مؤمنة } وقوله عزّ وجلّ { فكّ رقبة } ‪ .‬ولخبر « أيّما مسلم أعتق مؤمنا أعتق اللّه بكلّ‬
‫عضو منه عضوا من النّار » ( ر ‪ :‬عتق ‪ ،‬إعتاق ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّشوّف في العدّة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬المطلّقة الرّجعيّة لها أن تتزيّن ‪ ،‬لنّها حلل للزّوج ‪ ،‬لقيام نكاحها ما دامت في العدّة ‪ ،‬والرّجعة‬
‫مستحبّة ‪ ،‬والتّزيّن حامل عليها فيكون مشروعا ‪.‬‬
‫وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪.‬‬
‫ب لها التّزيّن ‪ .‬ومنهم من قال ‪ :‬الولى أن تتزيّن بما‬
‫أمّا الشّافعيّة ‪ :‬فيرون أنّه يستحبّ لها الحداد ‪ .‬فل يستح ّ‬
‫يدعو الزّوج إلى رجعتها ‪ ( .‬ر ‪ :‬عدّة ) ول خلف بين الفقهاء في تحريم الزّينة على المتوفّى عنها زوجها‬
‫مدّة عدّتها ‪ ،‬لوجوب الحداد عليها ‪.‬‬
‫وأمّا المبانة في الحياة بينونة كبرى ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء فيها على أقوال ‪ :‬فذهب الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة في قول‬
‫إلى أنّه يحرم عليها الزّينة ‪ ،‬حدادا وأسفا على زوجها ‪ ،‬وإظهارا للتّأسّف على فوت نعمة النّكاح ‪ ،‬الّذي هو‬
‫سبب لصونها وكفاية مئونتها ‪ ،‬ولحرمة النّظر إليها ‪ ،‬وعدم مشروعيّة الرّجعة ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬يستحبّ لها‬
‫الحداد ‪.‬‬
‫وفي قول ‪ :‬الحداد واجب على ما تقدّم ‪ ،‬وأمّا المالكيّة فقالوا ‪ :‬ل إحداد إل على المتوفّى عنها زوجها فقط ‪.‬‬
‫ومفاده ‪ :‬ل إحداد على المبانة وإن استحبّ لها في عدّتها ‪.‬‬
‫ول يسنّ لها الحداد عند الحنابلة ‪ ،‬ولهذا ل يلزمها أن تتجنّب ما يرغّب في النّظر إليها من الزّينة ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬عدّة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّشوّف للخطاب ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يرى الفقهاء أنّه ل يجوز للّتي تكون صالحة للخطبة والزّواج أن تتزيّن استعدادا لرؤية من يرغب في‬
‫خطبتها والزّواج بها ‪.‬‬
‫وأجمعوا على أنّه يجوز للخاطب أن يرى بنفسه من يرغب في زواجها لكي يقدم على العقد إن أعجبته ‪،‬‬
‫ويحجم عنه إن لم تعجبه ‪ ،‬لخبر « إذا خطب أحدكم امرأة ‪ ،‬فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى‬
‫نكاحها فليفعل » وذلك لنّه من أسباب اللفة والوئام ‪.‬‬
‫وعن المغيرة بن شعبة رضي ال عنه « أنّه خطب امرأة ‪ ،‬فقال له النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنظرتَ‬
‫إليها ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬فقال ‪ :‬اذهب فانظر إليها ‪ ،‬فإنّه أحرى أن ُي ْؤدَم بينكما » ‪.‬‬
‫ن رؤيتهما تحقّق المطلوب من الجمال‬
‫ن للخاطب أن ينظر إلى الوجه والكفّين فقط ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويرى أكثر الفقهاء أ ّ‬
‫وخصوبة الجسد وعدمها ‪ .‬فيدلّ الوجه على الجمال أو ضدّه لنّه مجمع المحاسن ‪ ،‬والكفّان على خصوبة‬
‫البدن ‪ .‬وأجاز بعض الحنفيّة النّظر إلى الرّقبة والقدمين ‪ .‬وأجاز الحنابلة النّظر إلى ما يظهر عند القيام‬
‫بالعمال ‪ ،‬وهي ستّة أعضاء ‪ :‬الوجه ‪ ،‬والرّأس ‪ ،‬والرّقبة ‪ ،‬واليد ‪ ،‬والقدم ‪ ،‬والسّاق ‪ ،‬لنّ الحاجة داعية إلى‬
‫ذلك ‪ ،‬ولطلق الحاديث السّابقة ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬نكاح ‪ ،‬خطبة ) ‪.‬‬

‫تشييع الجنازة *‬
‫انظر ‪ :‬جنازة ‪.‬‬

‫تصادق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصادق لغة واصطلحا ‪ :‬ضدّ التّكاذب يقال ‪ :‬تصادقا في الحديث والمودّة ض ّد تكاذبا ومادّة تفاعل ل‬
‫ب أو خاصم ك ّل منهما الخر ‪ .‬واستعمل المالكيّة‬
‫تكون غالبا إل بين اثنين يقال ‪ :‬تحابّا وتخاصما ‪ ،‬أي أح ّ‬
‫أيضا ( التّقارر ) بمعنى التّصادق ‪.‬‬
‫حكم التّصادق ‪:‬‬
‫ق المتصادقين إذا تعلّقت به حقوق العباد ‪ ،‬أو كان في حقوق اللّه الّتي‬
‫‪ - 2‬حكم التّصادق في الجملة ‪ -‬في ح ّ‬
‫ل تدرأ بالشّبهات ‪ -‬اللّزوم ‪ ،‬وهو أبلغ من الشّهادة ‪ ،‬لنّه نوع من القرار ‪ .‬قال أشهب ‪ :‬قول كلّ أحد على‬
‫نفسه أوجب من دعواه على غيره ‪.‬‬
‫أمّا بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى الّتي تدرأ بالشّبهات فليس بلزم ‪.‬‬
‫من يعتبر تصادقه ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّصادق الّذي يعتدّ به ويترتّب عليه حكم يكون من البالغ العاقل المختار ‪ ،‬فل يعتبر تصديق الصّغير‬
‫وغير العاقل ‪.‬‬
‫صفة التّصادق ‪:‬‬
‫‪ - 4‬صفة التّصديق لفظ أو ما يقوم مقامه يدلّ على توجّه الحقّ قبل المق ّر ( المصدّق ) ‪ .‬ويقوم مقام اللّفظ ‪:‬‬
‫الشارة والكتابة والسّكوت ‪ .‬فالشارة من البكم ومن المريض ‪ .‬فإذا قيل للمريض ‪ :‬لفلن عندك كذا ‪،‬‬
‫فأشار برأسه أن نعم ‪ ،‬فهذا تصديق إذا فهم عنه مراده ‪.‬‬
‫ما يشترط في المصادق ‪:‬‬
‫ل للستحقاق ‪ ،‬وأل يكذّبه المصادق ‪ ،‬فإذا كذّب المصادق المصادق ثمّ‬
‫‪ - 5‬يشترط في المصادق أن يكون أه ً‬
‫رجع لم يفد رجوعه ‪ ،‬إلّا أن يرجع المصادق إلى ما أقرّ به ‪.‬‬
‫محلّ التّصادق ‪:‬‬
‫‪ - 6‬يكون التّصديق في النّسب والمال ‪ .‬والتّصديق في النّسب ينظر تحت عنوان ( نسب ) ‪ .‬والتّصديق في‬
‫المال نوعان ‪ :‬مطلق ومقيّد ‪.‬‬
‫فالمطلق ‪ :‬ما صدر غير مقترن بما يقيّده أو يرفع حكمه أو حكم بعضه ‪ ،‬فإذا كان التّصديق على هذا الوجه‬
‫فهو ملزم لمن صدّق‪ ،‬وعليه أداء ما صدّق فيه ‪ ،‬ول يجوز له الرّجوع عنه‪ .‬وإذا كان التّصديق مقيّدا بقيد‬
‫ففي لزومه أو عدمه تفصيل ينظر في مصطلح ( إقرار ) ‪.‬‬
‫التّصادق في حقوق اللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ - 7‬إذا تصادق اثنان أو أكثر على إسقاط حقّ من حقوق اللّه تعالى فل عبرة بتصادقهم ‪ ،‬ول يترتّب عليه‬
‫حكم ‪ ،‬إلّا إذا قامت بيّنة على هذا التّصادق ‪ ،‬فيكون الحكم في هذه الحال ثابتا بالبيّنة ل بالتّصادق ‪ ،‬ويتّضح‬
‫ذلك من المثلة التية ‪:‬‬
‫إن طلّق الزّوج زوجته قبل الدّخول ‪ ،‬وكان قد خل بها ‪ ،‬لزمتها العدّة إن كان الزّوج بالغا ‪ ،‬وكانت المرأة‬
‫مطيقة للوطء ‪ ،‬سواء أكانت خلوة اهتداء أم خلوة زيارة ‪.‬‬
‫ن العدّة حقّ اللّه‬
‫وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ .‬وتجب العدّة حينئذ ولو تصادقا على نفي الوطء ‪ ،‬ل ّ‬
‫تعالى ‪ ،‬فل تسقط بالتّصادق ‪.‬‬
‫ويؤخذ بتصادقهما على نفي الوطء فيما هو حقّ لهما ‪ :‬فل نفقة لها ‪ ،‬ول يتكمّل لها الصّداق ‪ ،‬ول رجعة له‬
‫ل من أقرّ منهما أخذ بإقراره اجتماعا أو انفرادا ‪.‬‬
‫عليها ‪ .‬أي ك ّ‬
‫ويترتّب على قبول التّصادق أو ردّه أحكام كثيرة ‪ ،‬كثبوت النّسب من تاريخ الخلوة ‪ ،‬وتأكيد المهر ‪ ،‬والنّفقة‬
‫والسّكن والعدّة ‪ ،‬وحرمة نكاح أختها في عدّتها وأربع سواها ‪ .‬وفي هذه المذاهب اختلف في الحقوق الّتي‬
‫تترتّب على الخلوة ‪ .‬تفصيله في باب ‪ ( :‬النّكاح ) ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة في القديم قولن أحدهما ‪ :‬الخلوة مؤثّرة ‪ ،‬وتصدّق المرأة في ادّعاء الصابة ( الوطء ) والقول‬
‫ن الخلوة وحدها ل تؤثّر في المهر ‪ .‬وعلى هذا لو اتّفقا على حصول‬
‫الثّاني أنّها كالوطء ‪ .‬وفي الجديد ‪ :‬إ ّ‬
‫الخلوة ‪ ،‬وادّعت الصابة لم يترجّح جانبها ‪ ،‬بل القول قوله بيمينه ‪ .‬ويفهم من ذلك أنّه لو صدّقها يتقرّر المهر‬
‫كلّه ‪.‬‬
‫التّصادق في النّكاح ‪:‬‬
‫ن الشّهادة شرط فيه ‪ ،‬ووقتها عند غير المالكيّة وقت العقد ‪ ،‬وعند المالكيّة‬
‫‪ - 8‬ل يثبت النّكاح بالتّصادق ‪ ،‬ل ّ‬
‫يندب الشهاد وقت العقد ‪ ،‬فإن لم يشهد عند العقد اشترط وجوبا عند الدّخول ‪ ،‬ول حدّ عندهم إن فشا النّكاح‬
‫بوليمة أو ضرب دفّ أو دخان ‪ ،‬أو كان على العقد أو الدّخول شاهد واحد غير الوليّ ‪ ،‬لصحّة النّكاح في‬
‫هذه الصّور ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬تثبت الزّوجيّة بالتّقارر ‪ -‬أي التّصادق ‪ -‬حقّ الزّوجين إذا كانا بلديّين ‪ ،‬أو كان أحدهما‬
‫بلديّا ‪ ،‬وأمّا الطّارئان ‪ -‬أي من لم يكونا من أهل البلد ‪ ،‬سواء قدما معا أو مفترقين ‪ -‬فل تثبت الزّوجيّة‬
‫بينهما بمجرّد التّصادق ‪.‬‬
‫حكم تصادق الزّوجين على طلق سابق ‪:‬‬
‫صحّة بطلق بائن أو رجعيّ متقدّم على وقت إقراره ‪ ،‬ول بيّنة له ‪ ،‬استأنفت‬
‫‪ - 9‬إذا أقرّ رجل في حالة ال ّ‬
‫امرأته العدّة من وقت إقراره ‪ ،‬فيصدّق في الطّلق ‪ ،‬ل في إسناده للوقت السّابق ولو صدّقته ‪ ،‬لنّه يتّهم على‬
‫إسقاط العدّة وهي حقّ للّه تعالى ‪ .‬فإن كانت له بيّنة ‪ ،‬فالعدّة من الوقت الّذي أسندت إليه البيّنة ‪ .‬هذا بالنّسبة‬
‫للعدّة لنّها حقّ اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ل حسب إقراره ‪ ،‬فلو ما تت الزّوجة ‪ ،‬وكانت العدّة قد انقضت بحسب‬
‫أمّا بالنّ سبة لحقوق الزّوجين فيعامل ك ّ‬
‫إقراره ‪ ،‬فل يرث ها لنّ ها صارت أجنبيّة على مقت ضى دعواه ‪ ،‬ول رج عة له علي ها إن كان الطّلق رجعيّا ‪،‬‬
‫وورث ته إن مات في العدّة الم ستأنفة ‪ ،‬ح يث كان الطّلق رجعيّا إن لم ت صدّقه ‪ .‬ول يتزوّج أخت ها ول أرب عا‬
‫سواها في العدّة ‪ ،‬ولو صادقته على حصول الطّلق في الماضي نفيا لتهمة التّواطؤ بينهما ‪.‬‬
‫وإن صدّقته فل نفقة لها معاملة لها بتصديقها إيّاه ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه لو أسند الزّوج الطّلق إلى زمن ماض ‪ ،‬وصدّقت الزّوجة الزّوج في السناد ‪ ،‬فالعدّة من‬
‫التّاريخ الّذي أسند إليه الطّلق ‪ ،‬ولو لم يقم على ذلك بيّنة ‪.‬‬
‫والمفهوم من كلم الحنابلة أنّ الحكم عندهم كذلك ‪ .‬فقد جاء في شرح منتهى الرادات ‪ :‬لو جاءت امرأة‬
‫ن صدقها ‪ ،‬ول سيّما إن كان‬
‫ن زوجها طلّقها وانتهت عدّتها ‪ ،‬فله تزويجها بشرطه إن ظ ّ‬
‫حاكما وادّعت أ ّ‬
‫الزّوج ل يعرف ‪ ،‬لنّ القرار ( أي بالزّوجيّة ) لمجهول ل يصحّ‪ .‬وأيضا الصل صدقها ‪ -‬أي فيما ادّعته‬
‫من خلوّها عن الزّوجيّة ‪ -‬ول منازع ‪.‬‬
‫حكم مصادقة الزّوجة على إعسار الزّوج ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يكتفى بتصديق الزّوجة زوجها في دعواه العسار ‪ ،‬وتصديقها يقوم مقام البيّنة ‪ ،‬ويترتّب عليه ما‬
‫يترتّب على ثبوت العسار بالبيّنة من حيث الحكم بالتّطليق بشروطه المفصّلة في أبوابها وينظر ( إعسار ‪،‬‬
‫نفقة ‪ ،‬مهر ) ‪.‬‬
‫الرّجوع في التّصديق ‪:‬‬
‫ن التّصديق ملزم لمن صدّق ‪ ،‬وعلى ذلك فل يجوز الرّجوع فيه بالنّسبة لحقوق العباد وحقوق اللّه‬
‫‪ - 11‬تقدّم أ ّ‬
‫الّتي ل تدرأ بالشّبهات ‪ ،‬كالزّكاة ‪ ،‬فمن صدّق المدّعي فيما ادّعاه عليه من حقّ فل يجوز له الرّجوع متى‬
‫توافرت شروط التّصديق ‪.‬‬
‫ولو أقرّ بنسب ‪ ،‬وصدّقه المق ّر له ‪ ،‬ثمّ رجع المقرّ عن إقراره ل يقبل منه الرّجوع ‪.‬‬
‫أمّا بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى الّتي تدرأ بالشّبهات كالحدود فإنّه إذا ثبت الحدّ بالقرار فقط ‪ ،‬فإنّه يجوز للمقرّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم عرّض‬
‫الرّجوع ‪ ،‬سواء أكان الرّجوع قبل الحدّ أم بعده ‪ ،‬وسقط الحدّ ‪ « ،‬ل ّ‬
‫لماعز بالرّجوع » ‪ ،‬فلول أنّه يفيد لما عرّض له به ‪.‬‬
‫وعلّل الفقهاء عدم جواز الرّجوع في التّصديق بحقوق الدميّين وحقوق اللّه الّتي ل تدرأ بالشّبهات ‪ :‬بأنّ‬
‫رجوعه نقض لما صدر منه وتعلّق به حقّ الغير ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬هذه الدّار لزيد ‪ ،‬ل بل لعمرو ‪ ،‬أو ادّعى زيد‬
‫على ميّت شيئا معيّنا من تركته فصدّقه ابنه ‪ ،‬ثمّ ادّعاه عمرو فصدّقه ‪ ،‬حكم به لزيد ‪ ،‬ووجبت عليه غرامته‬
‫لعمرو ‪ ،‬وهذا ظاهر أحد قولي الشّافعيّ ‪ .‬وفي القول الخر ‪ :‬ل يغرم لعمرو شيئا ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪،‬‬
‫لنّه أقرّ له بما عليه القرار به وإنّما منعه الحكم من قبوله وذلك ل يوجب الضّمان ‪.‬‬

‫تصحيح *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصحيح لغة ‪ :‬مصدر صحّح ‪ ،‬يقال ‪ :‬صحّحت الكتاب والحساب تصحيحا ‪ :‬إذا أصلحت خطأه ‪،‬‬
‫صحّة‬
‫صحّة ‪ ،‬إذا استوفى شرائط ال ّ‬
‫وصحّحته فصحّ ‪ .‬والتّصحيح عند المحدّثين هو ‪ :‬الحكم على الحديث بال ّ‬
‫الّتي وضعها المحدّثون ‪ .‬ويطلق التّصحيح أيضا عندهم على كتابة‬
‫شكّ بأن كرّر لفظ مثل ل يخلّ تركه ‪.‬‬
‫( صحّ ) على كلم يحتمل ال ّ‬
‫والتّصحيح عند أهل الفرائض ‪ :‬إزالة الكسور الواقعة بين السّهام والرّءوس ‪.‬‬
‫والتّصحيح عند الفقهاء هو ‪ :‬رفع أو حذف ما يفسد العبادة أو العقد ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعديل ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعديل ‪ :‬مصدر عدّل ‪ ،‬يقال ‪ :‬عدّلت الشّيء تعديل فاعتدل ‪ :‬إذا سوّيته فاستوى ‪ .‬ومنه قسمة التّعديل ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وعدّلت الشّاهد ‪ :‬نسبته إلى العدالة ‪ .‬وتعديل الشّيء ‪ :‬تقويمه ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬التّصويب ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّصويب ‪ :‬مصدر صوّب من الصّواب ‪ ،‬الّذي هو ضدّ الخطأ ‪ ،‬والتّصويب بهذا المعنى يرادف‬
‫التّصحيح ‪ ،‬وصوّبت قوله ‪ :‬قلت ‪ :‬إنّه صواب ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّهذيب ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّهذيب كالتّنقية ‪ ،‬يقال ‪ :‬هذّب الشّيء ‪ ،‬إذا نقّاه وأخلصه ‪ .‬وقيل ‪ :‬أصلحه ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الصلح ‪:‬‬
‫‪ - 5‬الصلح ضدّ الفساد ‪ ،‬وأصلح الشّيء بعد فساده ‪ :‬أقامه‪ ،‬وأصلح الدّابّة ‪ :‬أحسن إليها‪ .‬هف – التّحرير‬
‫‪:‬‬
‫‪ - 6‬تحرير الكتابة ‪ :‬إقامة حروفها وإصلح السّقط وتحرير الحساب ‪ :‬إثباته مستويا ل غلت فيه ‪ ،‬ول سقط‬
‫ول محو ‪ .‬وتحرير الرّقبة ‪ :‬عتقها ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 7‬تصحيح الفساد والخطأ أمر واجب شرعا متى عرفه النسان ‪ ،‬سواء أكان ذلك في العبادات ‪ :‬كمن اجتهد‬
‫في معرفة القبلة وصلّى ‪ ،‬ثمّ تبيّن الخطأ أثناء الصّلة ‪ ،‬فيجب تصحيح هذا الخطأ بالتّجاه إلى القبلة ‪ ،‬وإل‬
‫فسدت الصّلة ‪.‬‬
‫ح البيع ‪ ،‬وإل وجب‬
‫أم كان ذلك في المعاملت ‪ :‬كالبيع بشرط مفسد للعقد ‪ ،‬فيجب إسقاط هذا الشّرط ليص ّ‬
‫فسخ البيع دفعا للفساد‪.‬‬
‫ما يتعلّق بالتّصحيح من أحكام ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬تصحيح الحديث ‪:‬‬
‫صحّة لتوافر شروط خاصّة اشترطها علماء الحديث ‪ .‬وقد يختلف‬
‫‪ - 8‬تصحيح الحديث هو ‪ :‬الحكم عليه بال ّ‬
‫المحدّثون في صحّة بعض الحاديث لختلفهم في بعض الشّروط ‪ ،‬وفي تقديم بعضها على بعض ‪.‬‬
‫ي وغيرهما أنّه يحكم بصحّة الحديث المسند الّذي يتّصل إسناده بنقل العدل‬
‫فقد قرّر ابن الصّلح والنّوو ّ‬
‫الضّابط عن العدل الضّابط إلى منتهاه ‪ ،‬ول يكون شاذّا ول معلّلً ‪.‬‬
‫صحّة بل خلف بين أهل الحديث ‪ .‬فإذا وجدت الشّروط‬
‫قال ابن الصّلح ‪ :‬فهذا هو الحديث الّذي يحكم له بال ّ‬
‫صحّة ‪ ،‬ما لم يظهر بعد ذلك أنّ فيه شذوذا ‪ .‬والحكم بتواتر الحديث حكم بصحّته ‪.‬‬
‫المذكورة حكم للحديث بال ّ‬
‫صحّة إذا تلقّاه النّاس بالقبول ‪ ،‬وإن لم يكن له إسناد صحيح ‪ .‬قال ابن‬
‫وقال بعض المحدّثين ‪ :‬يحكم للحديث بال ّ‬
‫ل ميتته » وأهل‬
‫عبد البرّ ‪ -‬لما حكى عن التّرمذيّ أنّ البخاريّ صحّح حديث البحر ‪ « :‬هو الطّهور ماؤه الح ّ‬
‫الحديث ل يصحّحون مثل إسناده ‪ -‬لكنّ الحديث عندي صحيح ‪ ،‬لنّ العلماء تلقّوه بالقبول ‪.‬‬
‫وقال الستاذ أبو إسحاق السفرايينيّ ‪ :‬تعرف صحّة الحديث إذا اشتهر عند أئمّة الحديث بغير نكير منهم ‪.‬‬
‫وقال نحوه ابن فورك ‪.‬‬
‫صحّة ‪ ،‬كاشتراط الحاكم أن يكون راوي الحديث مشهورا بالطّلب‬
‫على أنّ هناك من اشترط غير ذلك للحكم بال ّ‬
‫‪ -‬أي طلب الحديث وتتبّع رواياته ‪ -‬وعن مالك نحوه ‪ ،‬وكاشتراط أبي حنيفة فقه الرّاوي ‪ ،‬وكاشتراط بعض‬
‫المحدّثين العلم بمعاني الحديث ‪ ،‬حيث يروى بالمعنى ‪ ،‬قال السّيوطيّ ‪ :‬وهو شرط ل ب ّد منه ‪ ،‬لكنّه داخل في‬
‫الضّبط ‪ ،‬وكاشتراط البخاريّ ثبوت السّماع لكلّ راو من شيخه ‪ ،‬ولم يكتف بإمكان اللّقاء والمعاصرة ‪.‬‬
‫أثر عمل العالم وفتياه في التّصحيح ‪:‬‬
‫‪ - 9‬قال النّوويّ والسّيوطيّ ‪ :‬عمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكما منه بصحّة الحديث ول‬
‫بتعديل رواته ‪ ،‬لمكان أن يكون ذلك منه احتياطا ‪ ،‬أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر ‪ .‬وصحّح المديّ وغيره‬
‫من الصوليّين أنّه حكم بذلك ‪ .‬وقال إمام الحرمين ‪ :‬إن لم يكن في مسالك الحتياط ‪ -‬أي لم تكن الفتيا‬
‫بمقتضى صحّة الحديث ‪ ،‬بل للحتياط ‪ . -‬وفرّق ابن تيميّة بين أن يعمل به في التّرغيب وغيره ‪ .‬كما أنّ‬
‫مخالفة العالم للحديث ل تعتبر قدحا منه في صحّته ول في رواته ‪ ،‬لمكان أن يكون ذلك لمانع من معارض‬
‫أو غيره ‪.‬‬
‫وقد روى المام مالك حديث الخيار ‪ ،‬ولم يعمل به لعمل أهل المدينة بخلفه ‪ ،‬ولم يكن ذلك قدحا في نافعٍ‬
‫راويه ‪ .‬وممّا ل يدلّ على صحّة الحديث أيضا ‪ -‬كما ذكر أهل الصول ‪ -‬موافقة الجماع له على الصحّ ‪،‬‬
‫لجواز أن يكون المستند غيره ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يدلّ على صحّة الحديث ‪.‬‬
‫تصحيح المتأخّرين من علماء الحديث ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يرى الشّيخ ابن الصّلح أنّه قد انقطع التّصحيح في هذه العصار ‪ ،‬فليس لحد أن يصحّح ‪ ،‬بل يقتصر‬
‫في الحكم بصحّة الحديث على ما اعتمده السّابقون ‪ ،‬كما يرى عدم اعتبار الحديث صحيحا بمجرّد صحّة‬
‫ح عندهم لما أهملوه‬
‫إسناده ما لم يوجد في مصنّفات أئمّة الحديث المعتمدة المشهورة ‪ ،‬فأغلب الظّنّ أنّه لو ص ّ‬
‫لشدّة فحصهم واجتهادهم ‪.‬‬
‫ي ابن الصّلح في ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬والظهر عندي جوازه لمن تمكّن وقويت معرفته ‪.‬‬
‫وقد خالف المام النّوو ّ‬
‫قال الحافظ العراقيّ ‪ :‬وهو الّذي عليه عمل أهل الحديث ‪.‬‬
‫وقد صحّح جماعة من العلماء المتأخّرين أحاديث لم يعرف تصحيحهما عن القدمين ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تصحيح العقد الفاسد ‪:‬‬
‫‪ - 11‬الفقهاء عدا الحنفيّة ل يفرّقون في الجملة بين العقد الباطل والعقد الفاسد ‪ ،‬فالحكم عند الشّافعيّة والحنابلة‬
‫ن العقد ل ينقلب صحيحا برفع المفسد ‪.‬‬
‫‪:‬أّ‬
‫ففي كتب الشّافعيّة ‪ :‬لو حذف العاقدان المفسد للعقد ‪ -‬ولو في مجلس الخيار ‪ -‬لم ينقلب العقد صحيحا ‪ ،‬إذ ل‬
‫عبرة بالفاسد ‪.‬‬
‫وفي المغني لبن قدامة ‪ :‬لو باعه بشرط أن يسلّفه أو يقرضه ‪ ،‬أو شرط المشتري ذلك عليه ‪ ،‬فهو محرّم‬
‫والعقد باطل ‪ ،‬لما روى عبد اللّه بن عمرو رضي ال عنهما « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم نهى عن ربح‬
‫ما لم يضمن ‪ ،‬وعن بيع ما لم يقبض ‪ ،‬وعن بيعتين في بيعة ‪ ،‬وعن شرطين في بيع ‪ ،‬وعن بيع وسلف » ‪.‬‬
‫ولنّه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ‪ ،‬ولنّه إذا اشترط القرض زاد في الثّمن لجله ‪ ،‬فتصير‬
‫الزّيادة في الثّمن عوضا عن القرض وربحا له ‪ ،‬وذلك ربا محرّم ‪ ،‬ففسد كما لو صرّح به ‪ ،‬ولنّه بيع فاسد‬
‫فل يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثمّ ترك أحدهما ‪ .‬وفي باب الرّهن قال ‪ :‬لو بطل العقد لما عاد‬
‫صحيحا ‪ .‬وفي شرح منتهى الرادات ‪ :‬العقد الفاسد ل ينقلب صحيحا ‪.‬‬
‫ح العقد إذا حذف الشّرط المفسد للعقد ‪ ،‬سواء أكان شرطا ينافي مقتضى العقد ‪ ،‬أم كان‬
‫وعند المالكيّة يص ّ‬
‫ح البيع معها ولو حذف الشّرط ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫شرطا يخلّ بالثّمن في البيع ‪ ،‬إلّا أربعة شروط فل يص ّ‬
‫أ ‪ -‬من ابتاع سلعة بثمن مؤجّل على أنّه إن مات فالثّمن صدقة عليه ‪ ،‬فإنّه يفسخ البيع ولو أسقط هذا الشّرط‬
‫لنّه غرر ‪ ،‬وكذا لو شرط ‪ :‬إن مات فل يطالب البائع ورثته بالثّمن ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬شرط ما ل يجوز من أمد الخيار‪ ،‬فيلزم فسخه وإن أسقط لجواز كون إسقاطه أخذا به‪ .‬ج ‪ -‬من باع أمة‬
‫وشرط على المبتاع أن ل يطأها ‪ ،‬وأنّه إن فعل فهي حرّة ‪ ،‬أو عليه دينار مثل ‪ ،‬فيفسخ ولو أسقط الشّرط‬
‫لنّه يمين ‪.‬‬
‫د ‪ -‬شرط الثّنيا يفسد البيع ولو أسقط الشّرط ‪ .‬وزاد ابن الحاجب شرطا خامسا وهو ‪:‬‬
‫هف ‪ -‬شرط النّقد ( أي تعجيل الثّمن ) في بيع الخيار قال ابن الحاجب ‪ :‬لو أسقط شرط النّقد فل يصحّ ‪ .‬وفي‬
‫الجارة جاء في الشّرح الصّغير ‪ :‬تفسد الجارة بالشّرط الّذي يناقض مقتضى العقد ‪ ،‬ومحلّ الفساد إن لم‬
‫يسقط الشّرط ‪ ،‬فإن أسقط الشّرط صحّت ‪.‬‬
‫ويوضّح ابن رشد سبب اختلف الفقهاء في صحّة العقد بارتفاع المفسد أو عدم صحّته ‪ .‬فيقول ‪ :‬هل إذا لحق‬
‫الفساد بالبيع من قبل الشّرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشّرط ‪ ،‬أو ل يرتفع ؟ كما ل يرتفع الفساد اللحق للبيع‬
‫الحلل من أجل اقتران المحرّم العين به ‪ ،‬كمن باع غلما بمائة دينار وزقّ خمر ‪ ،‬فلمّا عقد البيع قال ‪ :‬أدّع‬
‫الزّقّ ‪ .‬وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع ‪ .‬وهذا أيضا ينبني على أصل آخر ‪ .‬هو ‪ :‬هل هذا الفساد‬
‫معقول المعنى أو غير معقول ؟ فإن قلنا ‪ :‬هو غير معقول المعنى ‪ ،‬لم يرتفع الفساد بارتفاع الشّرط ‪.‬‬
‫وإن قلنا ‪ :‬معقول ‪ ،‬ارتفع الفساد بارتفاع الشّرط ‪ .‬فمالك رآه معقول ‪ ،‬والجمهور رأوه غير معقول ‪ ،‬والفساد‬
‫الّذي يوجد في بيوع الرّبا والغرر هو أكثر ذلك غير معقول المعنى ‪ ،‬ولذلك ليس ينعقد عندهم أصل ‪ ،‬وإن‬
‫ترك الرّبا بعد البيع وارتفع الغرر ‪.‬‬
‫‪ - 12‬ويفرّق الحنفيّة بين العقد الباطل والعقد الفاسد فيصحّ عندهم ‪ -‬خلفا لزفر ‪ -‬تصحيح العقد الفاسد ‪،‬‬
‫ن ارتفاع المفسد في الفاسد يردّه صحيحا ‪ ،‬لنّ البيع‬
‫بارتفاع المفسد دون الباطل ‪ ،‬ويقولون في عقد البيع ‪ :‬إ ّ‬
‫قائم مع الفساد ‪ ،‬ومع البطلن لم يكن قائما بصفة البطلن ‪ ،‬بل كان معدوما ‪ .‬وعند زفر ‪ :‬العقد الفاسد ل‬
‫يحتمل الجواز برفع المفسد ‪.‬‬
‫ن تصحيح العقد الفاسد عند الحنفيّة مقيّد بما إذا كان الفساد ضعيفا ‪ .‬يقول الكاسانيّ ‪ :‬الصل عندنا أنّه‬
‫لك ّ‬
‫ينظر إلى الفساد ‪ ،‬فإن كان قويّا بأن دخل في صلب العقد ‪ -‬وهو البدل أو المبدل ‪ -‬ل يحتمل الجواز برفع‬
‫المفسد ‪ ،‬كما إذا باع عبدا ألف درهم ورطل من خمر ‪ ،‬فحطّ الخمر عن المشتري فهو فاسد ول ينقلب‬
‫صحيحا ‪.‬‬
‫وإن كان الفساد ضعيفا ‪ ،‬وهو ما لم يدخل في صلب العقد ‪ ،‬بل في شرط جائز يحتمل الجواز برفع المفسد ‪،‬‬
‫كما في البيع بشرط خيار لم يوقّت ‪ ،‬أو وقّت إلى وقت مجهول كالحصاد ‪ ،‬أو لم يذكر الوقت ‪ ،‬وكما في البيع‬
‫بثمن مؤجّل إلى أجل مجهول ‪ ،‬فإذا أسقط الجل من له الحقّ فيه قبل حلوله وقبل فسخه جاز البيع لزوال‬
‫المفسد ‪ ،‬ولو كان إسقاط الجل بعد الفتراق على ما حرّره ابن عابدين ‪.‬‬
‫وعلى هذا سائر البياعات الفاسدة بسبب ضرر يلحق بالبائع في التّسليم إذا سلّم البائع برضاه واختياره ‪ -‬كما‬
‫إذا باع جذعا له في سقف ‪ ،‬أو آجرّا له في حائط ‪ ،‬أو ذراعا في ديباج ‪ -‬أنّه ل يجوز لنّه ل يمكنه تسليمه‬
‫إلّا بالنّزع والقطع ‪ ،‬وفيه ضرر بالبائع ‪ ،‬والضّرر غير مستحقّ بالعقد ‪ ،‬فكان هذا على التّقدير بيع ما ل يجب‬
‫تسليمه شرعا ‪ ،‬فيكون فاسدا ‪ .‬فإن نزعه البائع أو قطعه وسلّمه إلى المشتري قبل أن يفسخ المشتري البيع‬
‫ن المانع من الجواز ضرر البائع بالتّسليم ‪ ،‬فإذا سلّم باختياره ورضاه فقد زال المانع ‪ ،‬فجاز‬
‫جاز البيع ‪ ،‬ل ّ‬
‫البيع ولزم ‪ .‬وعلى هذا سائر العقود الفاسدة عند الحنفيّة طبقا لقاعدة ‪ :‬إذا زال المانع مع وجود المقتضي عاد‬
‫ن هبة المشاع فاسدة ‪ ،‬فإن قسّمه وسلّمه جاز ‪ .‬واللّبن في الضّرع ‪ ،‬والصّوف على ظهر‬
‫الحكم ‪ .‬ومن ذلك أ ّ‬
‫الغنم ‪ ،‬والزّرع والنّخل في الرض ‪ ،‬والتّمر في النّخيل بمنزلة المشاع ‪ ،‬لنّها موجودة ‪ ،‬وامتناع الجواز‬
‫للتّصال ‪ ،‬فإذا فصّلها وسلّمها جاز لزوال المانع ‪ .‬ومثل ذلك ‪ :‬إذا رهن الرض بدون البناء ‪ ،‬أو بدون‬
‫الزّرع والشّجر ‪ ،‬أو رهن الزّرع والشّجر بدون الرض ‪ ،‬أو رهن الشّجر بدون الثّمر ‪ ،‬أو رهن الثّمر بدون‬
‫ن المرهون متّصل بما ليس بمرهون ‪ ،‬وهذا يمنع صحّة القبض ‪ .‬ولو ج ّذ الثّمر‬
‫الشّجر أنّه ل يجوز ‪ ،‬ل ّ‬
‫وحصد الزّرع وسلّم منفصل جاز لزوال المانع ‪.‬‬
‫تصحيح العقد باعتباره عقدا آخر ‪:‬‬
‫صحّة فيه ‪،‬‬
‫‪ - 13‬هذا ‪ ،‬ويمكن تصحيح العقد الفاسد إذا أمكن تحويله إلى عقد آخر صحيح لتوافر أسباب ال ّ‬
‫صحّة عن طريق المعنى عند بعض الفقهاء ‪ ،‬أم عن طريق اللّفظ عند البعض الخر نظرا‬
‫سواء أكانت ال ّ‬
‫لختلفهم في قاعدة " هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها " ‪ .‬ونوضّح ذلك بالمثلة التية ‪:‬‬
‫‪ - 14‬في الشباه لبن نجيم ‪ :‬العتبار للمعنى ل لللفاظ ‪ ،‬صرّحوا به في مواضع منها ‪ :‬الكفالة ‪ ،‬فهي‬
‫بشرط براءة الصيل حوالة ‪ ،‬وهي بشرط عدم براءته كفالة ‪.‬‬
‫وفي الختيار ‪ :‬شركة المفاوضة يشترط فيها أن يتساوى الشّريكان في التّصرّف والدّين والمال الّذي تصحّ‬
‫فيه الشّركة ‪ . .‬فل تنعقد المفاوضة بين المسلم وال ّذ ّميّ عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬فإذا عقد المسلم وال ّذمّيّ‬
‫المفاوضة صارت عنانا عندهما ‪ ،‬لفوات شرط المفاوضة ووجود شرط العنان ‪ ،‬وكذلك كلّ ما فات من‬
‫شرائط المفاوضة يجعل عنانا إذا أمكن ‪ ،‬تصحيحا لتصرّفهما بقدر المكان ‪.‬‬
‫ل ربح ل يملك إلّا‬
‫وفي الختيار أيضا ‪ :‬عقد المضاربة ‪ ،‬إن شرط فيه الرّبح للمضارب فهو قرض ‪ ،‬لنّ ك ّ‬
‫بملك رأس المال ‪ ،‬فلمّا شرط له جميع الرّبح فقد ملّكه رأس المال ‪ ،‬وإن شرط الرّبح لربّ المال كان إبضاعا‬
‫‪ ،‬وهذا معناه عرفا وشرعا ‪.‬‬
‫وجاء في منح الجليل ‪ :‬من أحال على من ليس له عليه دين ‪ ،‬وأعلم المحال ‪ ،‬صحّ عقد الحوالة ‪ ،‬فإن لم‬
‫ح ‪ ،‬وتنقلب حمالة أي كفالة ‪ .‬وفي أشباه السّيوطيّ ‪ :‬هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها ؟ خلف‬
‫يعلمه لم تص ّ‬
‫‪ .‬التّرجيح مختلف في الفروع ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬إذا قال ‪ :‬أنت حرّ غدا على ألف ‪ .‬إن قلنا ‪ :‬بيع فسد ول تجب قيمة العبد ‪ ،‬وإن قلنا ‪ :‬عتق‬
‫بعوض ‪ ،‬صحّ ووجب المسمّى ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثّمن الوّل ‪ ،‬فهو إقالة بلفظ البيع ‪ ،‬وخرّجه السّبكيّ على القاعدة‬
‫‪ ،‬والتّخريج للقاضي حسين قال ‪ :‬إن اعتبرنا اللّفظ لم يصحّ ‪ ،‬وإن اعتبرنا المعنى فإقالة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬تصحيح العبادة إذا طرأ عليها ما يفسدها ‪:‬‬
‫‪ - 15‬من المور الّتي تطرأ على العبادة ما ل يمكن إزالته أو تلفيه كالكل والشّرب والكلم والحدث‬
‫والجماع ‪ ،‬فهذه المور ل يمكن تلفيها‪ ،‬وهي تعتبر من مفسدات العبادة في الجملة‪ .‬هذا مع اختلف الفقهاء‬
‫في التّفصيل فيها بين القليل والكثير ‪ ،‬وبين العمد والسّهو والجهل ‪ ،‬وما هو معفوّ عنه أو غير معفوّ عنه ‪.‬‬
‫فإذا طرأ شيء من ذلك على العبادة ففسدت فعل ‪ -‬عند من يعتبر ذلك مفسدا ‪ -‬فل مجال لتصحيح هذه‬
‫العبادة ‪ ،‬ويلزم إعادتها إن اتّسع وقتها ‪ ،‬أو قضاؤها إن خرج الوقت ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬إعادة ‪-‬‬
‫قضاء ) ‪.‬‬
‫والكلم هنا إنّما هو فيما يطرأ على العبادة ممّا يعتبر من المفسدات مع إمكان إزالة المفسد أو تلفيه لتصحّ‬
‫العبادة ‪ ،‬مثل طروء النّجاسة أو كشف العورة وما شابه ذلك ‪.‬‬
‫والفقهاء متّفقون في الجملة على ‪ :‬أنّه إذا طرأ على العبادة ما شأنه أن يفسدها لو استمرّ وأمكن تلفيه وإزالته‬
‫وجب فعل ذلك لتصحيح العبادة ‪ .‬ونظرا لتعذّر حصر مثل هذه المسائل لكثرة فروعها في أبواب العبادة‬
‫المختلفة ‪ ،‬فيكتفى بذكر بعض المثلة الّتي توضّح ذلك ‪:‬‬
‫‪ - 16‬من اجتهد في معرفة القِبلة ‪ ،‬وتغيّر اجتهاده أثناء الصّلة استدار إلى الجهة الثّانية الّتي تغيّر اجتهاده‬
‫إليها ‪ ،‬وبنى على ما مضى من صلته ‪.‬‬
‫وكذلك إذا اجتهد فأخطأ ‪ ،‬وبان له يقين الخطأ وهو في الصّلة ‪ ،‬بمشاهدة أو خبر عن يقين فإنّه يستدير إلى‬
‫جهة الصّواب ويبني على ما مضى ‪.‬‬
‫والدّليل على ذلك أنّ أهل قباء لمّا بلغهم نسخ القبلة وهم في صلة الفجر استداروا إليها ‪،‬‬
‫« واستحسن النّبيّ صلى ال عليه وسلم فعل أهل قباء ‪ ،‬ولم يأمرهم بالعادة » ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬استقبال ‪ -‬قبلة ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 17‬من وقعت عليه نجاسة يابسة ‪ -‬وهو في الصّلة ‪ -‬فأزالها سريعا صحّت صلته ‪ ،‬لحديث أبي سعيد‬
‫الخدريّ رضي ال عنه قال ‪ « :‬بينما رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يصلّي بأصحابه ‪ ،‬إذ خلع نعليه‬
‫فوضعهما عن يساره ‪ ،‬فلمّا رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم ‪ ،‬فلمّا قضى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم صلته‬
‫قال ‪ :‬ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ ‪ .‬قالوا ‪ :‬رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ن فيهما قذرا » ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نجاسة ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫ن جبريل أتاني ‪ ،‬فأخبرني أ ّ‬
‫إّ‬
‫‪ - 18‬من انكشفت عورته وهو في الصّلة ‪ -‬بأن أطارت الرّيح سترته فانكشفت عورته ‪ -‬فإن أعادها سريعا‬
‫صحّت صلته ‪.‬‬
‫ولو صلّى عريانا لعدم وجود سترة ‪ ،‬ثمّ وجد سترة قريبة منه ستر بها ما وجب ستره ‪ ،‬وبنى على ما مضى‬
‫من صلته ‪ ،‬قياسا على أهل قباء لمّا علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتمّوا صلتهم ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك‬
‫في ‪ ( :‬عورة ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 19‬إن خفّ في الصّلة معذور بعذر مسوّغ للستناد أو الجلوس أو الضطجاع انتقل للعلى ‪ ،‬كمستند قدر‬
‫على الستقلل ‪ ،‬وجالس قدر على القيام انتقل وجوبا ‪ ،‬فإن تركه بطلت صلته ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪:‬‬
‫( عذر ‪ -‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ - 20‬من علم في أثناء طوافه بنجس في بدنه أو ثوبه طرحه أو غسلهما ‪ ،‬وبنى على ما تقدّم من طوافه إن‬
‫لم يطل ‪ ،‬وإل بطل طوافه لعدم الموالة ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ( طواف ) ‪.‬‬
‫‪ - 21‬هذا ‪ ،‬ومن تصحيح العبادة ما يدخل تحت قاعدة ‪ :‬بطلن الخصوص ل يبطل العموم ‪ .‬جاء في المنثور‬
‫‪ :‬لو تحرّم بالفرض منفردا فحضرت جماعة ‪ ،‬قال الشّافعيّ ‪ :‬أحببت أن يسلّم من ركعتين وتكون نافلة ‪،‬‬
‫ويصلّي الفرض ‪ ،‬فصحّح النّفل مع إبطال الفرض ‪.‬‬
‫وإذا تحرّم بالصّلة المفروضة قبل وقتها ظانّا دخوله بطل خصوص كونها ظهرا ‪ ،‬ويبقى عموم كونها نفل‬
‫ح‪.‬‬
‫في الص ّ‬
‫ج قبل أشهره ففي انعقاده عمرة قولن أصحّهما ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫وإذا أحرم بالح ّ‬
‫وحكاه في المهذّب قولً واحدا ‪ ،‬قال ‪ :‬لنّها عبادة مؤقّتة ‪ ،‬فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من‬
‫جنسها ‪ ،‬كصلة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال ‪ ،‬فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل ‪.‬‬
‫‪ - 22‬وهذه القاعدة تكاد تكون مطّردة في بقيّة المذاهب في الجملة ‪ ،‬ففي شرح منتهى الرادات ‪ :‬من أتى بما‬
‫يفسد الفرض في الصّلة ‪ -‬كترك القيام بل عذر ‪ -‬انقلب فرضه نفل ‪ ،‬لنّه كقطع نيّة الفرضيّة ‪ ،‬فتبقى نيّة‬
‫الصّلة ‪ .‬وينقلب نفل كذلك من أحرم بفرض ‪ ،‬ثمّ تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ‪ ،‬لنّ الفرض لم يصحّ ‪ ،‬ولم‬
‫يوجد ما يبطل النّفل ‪.‬‬
‫‪ - 23‬وهذه القاعدة عند الحنفيّة من قبيل ما ذكروه من أنّه ‪ :‬ليس من ضرورة بطلن الوصف بطلن الصل‬
‫‪ .‬جاء في الهداية ‪ :‬من صلّى العصر وهو ذاكر أنّه لم يصلّ الظّهر فهي فاسدة ‪ ،‬إل إذا كان في آخر الوقت ‪،‬‬
‫وهي مسألة التّرتيب ‪.‬‬
‫ن التّحريمة‬
‫وإذا فسدت الفرضيّة ل يبطل أصل الصّلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه تعالى ‪ ،‬ل ّ‬
‫عقدت لصل الصّلة بوصف الفرضيّة ‪ ،‬فلم يكن من ضرورة بطلن الوصف بطلن الصل ‪ .‬وقال‬
‫الكاسانيّ في باب الزّكاة ‪ :‬حكم المعجّل من الزّكاة ‪ ،‬إذا لم يقع زكاة أنّه إن وصل إلى يد الفقير يكون‬
‫تطوّعا ‪ ،‬سواء وصل إلى يده من يد ربّ المال ‪ ،‬أو من يد المام ‪ ،‬أو نائبه وهو السّاعي ‪ ،‬لنّه حصل أصل‬
‫القربة ‪ ،‬وصدقة التّطوّع ل يحتمل الرّجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير ‪.‬‬
‫رابعا ‪ -‬تصحيح المسائل في الميراث ‪:‬‬
‫ل عدد يمكن على وجه ل يقع الكسر على واحد من‬
‫‪ - 24‬تصحيح مسائل الفرائض ‪ :‬أن تؤخذ السّهام من أق ّ‬
‫الورثة ‪ ،‬سواء كان ذلك بدون الضّرب ‪ -‬كما في صورة الستقامة ‪ -‬أو بعد ضرب بعض الرّءوس ‪ -‬كما‬
‫ل الرّءوس ‪ -‬كما في صورة المباينة ‪.‬‬
‫في صورة الموافقة ‪ -‬أو في ك ّ‬
‫ما يحتاج إليه في تصحيح المسائل الفرضيّة ‪:‬‬
‫‪ - 25‬لتصحيح المسائل الفرضيّة قواعد يكتفى منها بما أورده عنها شارح السّراجيّة من الحنفيّة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫يحتاج ذلك إلى سبعة أصول ‪:‬‬
‫ثلثة منها بين السّهام المأخوذة من مخارجها وبين الرّءوس من الورثة ‪.‬‬
‫وأربعة منها بين الرّءوس والرّءوس ‪.‬‬
‫أمّا الصول الثّلثة ‪:‬‬
‫ل فريق من الورثة منقسمة عليهم بل كسر ‪ ،‬فل حاجة إلى الضّرب ‪،‬‬
‫‪ - 26‬فأحدها ‪ :‬إن كانت سهام ك ّ‬
‫ن المسألة حينئذ من ستّة ‪ ،‬فلكلّ من البوين سدسها وهو واحد ‪ ،‬وللبنتين الثّلثان أعني‬
‫كأبوين وبنتين ‪ .‬فإ ّ‬
‫أربعة ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهما اثنان ‪ ،‬فاستقامت السّهام على رءوس الورثة بل انكسار ‪ ،‬فل يحتاج إلى التّصحيح‬
‫‪ ،‬إذ التّصحيح إنّما يكون إذا انكسرت السّهام بقسمتها على الرّءوس ‪.‬‬
‫‪ - 27‬والثّاني من الصول الثّلثة ‪ :‬أن يكون الكسر على طائفة واحدة ‪ ،‬ولكن بين سهامهم ورءوسهم موافقة‬
‫بكسر من الكسور ‪ ،‬فيضرب وفق عدد رءوسهم ‪ -‬أي عدد رءوس من انكسرت عليهم السّهام ‪ ،‬وهم تلك‬
‫الطّائفة الواحدة ‪ -‬في أصل المسألة إن لم تكن عائلة ‪ ،‬وفي أصلها وعولها معا إن كانت عائلة ‪ ،‬كأبوين‬
‫ت بنات‪ .‬فالوّل ‪ :‬مثال ما ليس فيها عول ‪ .‬إذ أصل المسألة من ستّة ‪.‬‬
‫وعشر بنات‪ ،‬أو زوج وأبوين وس ّ‬
‫السّدسان وهما اثنان للبوين ويستقيمان عليهما ‪ ،‬والثّلثان وهما أربعة للبنات العشرة ول يستقيم عليهنّ ‪ ،‬لكن‬
‫ن العدد العادّ لهما هو الثنان ‪ ،‬فرددنا عدد الرّءوس أعني العشرة‬
‫بين الربعة والعشرة موافقة بالنّصف ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ستّة الّتي هي أصل المسألة فصار الحاصل ثلثين ‪ ،‬ومنه تصحّ‬
‫إلى نصفها وهو خمسة ‪ ،‬وضربناها في ال ّ‬
‫المسألة ‪.‬‬
‫إذ قد كان للبوين من أصل المسألة سهمان ‪ ،‬وقد ضربناهما في المضروب الّذي هو خمسة فصار عشرة ‪،‬‬
‫لكلّ منهما خمسة ‪ ،‬وكان للبنات العشر ‪ ،‬منه أربعة ‪ ،‬وقد ضربناها أيضا في خمسة فصار عشرين ‪ ،‬لكلّ‬
‫واحدة منهنّ اثنان ‪.‬‬
‫ن أصلها من اثني عشر لجتماع الرّبع والسّدسين والثّلثين‪ .‬فللزّوج ربعها‬
‫والثّاني ‪ :‬مثال ما فيها عول ‪ .‬فإ ّ‬
‫وهو ثلثة ‪ ،‬وللبوين سدساها وهما أربعة ‪ ،‬وللبنات السّتّ ثلثاها وهما ثمانية ‪ .‬فقد عالت المسألة إلى خمسة‬
‫ن فقط ‪ .‬لكن بين عدد السّهام وعدد‬
‫عشر ‪ ،‬وانكسرت سهام البنات ‪ -‬أعني الثّمانية ‪ -‬على عدد رءوسه ّ‬
‫ن إلى نصفه وهو ثلثة ‪ ،‬ثمّ ضربناها في أصل المسألة مع‬
‫الرّءوس توافق بالنّصف ‪ ،‬فرددنا عدد رءوسه ّ‬
‫عولها وهو خمسة عشر ‪ ،‬فحصل خمسة وأربعون ‪ ،‬فاستقامت منها المسألة ‪.‬‬
‫إذ قد كان للزّوج من أصل المسألة ثلثة ‪ ،‬وقد ضربناها في المضروب الّذي هو ثلثة فصار تسعة فهي له ‪،‬‬
‫وكان للبوين أربعة وقد ضربناها في ثلثة فصار اثني عشر فلكلّ منهما ستّة ‪ ،‬وكان للبنات ثمانية فضربناها‬
‫في ثلثة فحصل أربعة وعشرون ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهنّ أربعة ‪.‬‬
‫‪ - 28‬والثّالث من الصول الثّلثة ‪ :‬أن تنكسر السّهام أيضا على طائفة واحدة فقط ‪ ،‬ول يكون بين سهامهم‬
‫وعدد رءوسهم موافقة ‪ ،‬بل مباينة ‪ ،‬فيضرب حينئذ عدد رءوس من انكسرت عليهم السّهام في أصل المسألة‬
‫إن لم تكن عائلة ‪ ،‬وفي أصلها مع عولها إن كانت عائلة ‪ ،‬كزوج وخمس أخوات لب وأمّ‪ ،‬فأصل المسألة من‬
‫ستّة ‪ :‬النّصف وهو ثلثة للزّوج‪ ،‬والثّلثان وهو أربعة للخوات ‪ ،‬فقد عالت إلى سبعة ‪ ،‬وانكسرت سهام‬
‫الخوات فقط عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد سهامهنّ وعدد رءوسهنّ مباينة ‪ ،‬فضربنا عدد رءوسهنّ في أصل المسألة‬
‫ح المسألة ‪.‬‬
‫مع عولها وهو سبعة ‪ ،‬فصار الحاصل خمسة وثلثين ‪ ،‬ومنه تص ّ‬
‫وقد كان للزّوج ثلثة ‪ ،‬وقد ضربناها في المضروب وهو خمسة فصار خمسة عشر فهي له ‪ ،‬وكان للخوات‬
‫ن أربعة ‪ .‬ومثال غير‬
‫الخمس أربعة ‪ ،‬وقد ضربناها أيضا في خمسة فصار عشرين ‪ ،‬فلكلّ واحدة منه ّ‬
‫المسائل العائلة ‪ :‬زوج وجدّة وثلث أخوات لمّ ‪.‬‬
‫فالمسألة من ستّة ‪ ،‬للزّوج منها نصفها وهو ثلثة ‪ ،‬وللجدّة سدسها وهو واحد ‪ ،‬وللخوات لمّ ثلثها وهو اثنان‬
‫ن ‪ ،‬بل بينهما تباين ‪ ،‬فضربنا عدد رءوس الخوات في أصل المسألة فصار‬
‫‪ ،‬ول يستقيمان على عدد رءوسه ّ‬
‫ح المسألة منها ‪.‬‬
‫الحاصل ثمانية عشر ‪ ،‬فتص ّ‬
‫وقد كان للزّوج ثلثة فضربناها في المضروب الّذي هو ثلثة فصار تسعة ‪ ،‬وضربنا نصيب الجدّة في‬
‫المضروب أيضا فكان ثلثة ‪ ،‬وضربنا نصيب الخوات لمّ في المضروب فصار ستّة ‪ ،‬فأعطينا كلّ واحدة‬
‫منهنّ اثنين ‪ .‬وينبغي أن يعلم أنّه متى كانت الطّائفة المنكسرة عليهم ذكورا وإناثا ‪ -‬ممّن يكون للذّكر مثل حظّ‬
‫النثيين ‪ ،‬كالبنات وبنات البن الخوات لب وأمّ أو لب ‪ -‬ينبغي أن يضعّف عدد الذّكور ‪ ،‬ويضمّ إلى عدد‬
‫الناث ‪ ،‬ثمّ تصحّ المسألة على هذا العتبار ‪ ،‬كزوج وابن وثلث بنات ‪ .‬أصل المسألة من أربعة ‪ :‬للزّوج‬
‫ظ النثيين ‪ ،‬فيجعل عدد رءوسهم خمسة بأن ينزّل‬
‫سهم عليه يستقيم ‪ ،‬والباقي ثلثة ‪ ،‬للولد للذّكر مثل ح ّ‬
‫البن منزلة بنتين ‪ ،‬ول تستقيم الثّلثة على الخمسة ‪ ،‬فتضرب الخمسة في أصل المسألة ‪ ،‬فتبلغ عشرين ‪،‬‬
‫ومنها تصحّ ‪.‬‬
‫وأمّا الصول الربعة الّتي بين الرّءوس والرّءوس ‪:‬‬
‫‪ - 29‬فأحدها ‪ :‬أن يكون انكسار السّهام على طائفتين من الورثة أو أكثر ‪ ،‬ولكن بين أعداد رءوس من انكسر‬
‫عليهم مماثلة ‪ ،‬فالحكم في هذه الصّورة أن يضرب أحد العداد المماثلة في أصل المسألة ‪ ،‬فيحصل ما تصحّ‬
‫به المسألة على جميع الفرق ‪ .‬مثل ‪ :‬ستّ بنات ‪ ،‬وثلث جدّات ‪ :‬أمّ أمّ أمّ ‪ ،‬وأمّ أمّ أب ‪ ،‬وأمّ أب أب مثل‬
‫ت الثّلثان وهو أربعة ‪،‬‬
‫على مذهب من يورّث أكثر من جدّتين ‪ ،‬وثلثة أعمام ‪ .‬المسألة من ستّة ‪ :‬للبنات السّ ّ‬
‫ن موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو‬
‫ول يستقيم عليهنّ ‪ ،‬لكن بين الربعة وعدد رءوسه ّ‬
‫ن ‪ ،‬فأخذنا‬
‫ثلثة ‪ .‬وللجدّات الثّلث السّدس وهو واحد ‪ ،‬فل يستقيم عليهنّ ول موافقة بين الواحد وعدد رءوسه ّ‬
‫جميع عدد رءوسهنّ وهو أيضا ثلثة ‪ .‬وللعمام الثّلثة الباقي وهو واحد أيضا ‪ ،‬وبينه وبين عدد رءوسهم‬
‫مباينة ‪ ،‬فأخذنا جميع عدد رءوسهم ‪ .‬ثمّ نسبنا هذه العداد المأخوذة بعضها إلى بعض فوجدناها متماثلة ‪،‬‬
‫ستّة ‪ -‬فصار ثمانية عشر ‪ ،‬فمنها تستقيم المسألة ‪.‬‬
‫فضربنا أحدها وهو ثلثة في أصل المسألة ‪ -‬أعني ال ّ‬
‫وكان للبنات أربعة سهام ضربناها في المضروب الّذي هو ثلثة ‪ ،‬فصار اثني عشر ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهنّ‬
‫اثنان ‪ .‬وللجدّات سهم واحد ضربناه أيضا في ثلثة فكان ثلثة ‪ ،‬فلكلّ واحدة واحد ‪ .‬وللعمام واحد أيضا‬
‫ل واحد سهما واحدا ‪ .‬ولو فرضنا في الصّورة المذكورة عمّا واحدا بدل‬
‫ضربناه أيضا في الثّلثة ‪ ،‬وأعطينا ك ّ‬
‫العمام الثّلثة ‪ ،‬كان النكسار على طائفتين فقط ‪ ،‬وكان وفق عدد رءوس البنات مماثل لعدد رءوس الجدّات‬
‫ل كما‬
‫ح السّهام على الك ّ‬
‫‪ ،‬إذ كلّ منهما ثلثة ‪ ،‬فيضرب الثّلثة في أصل المسألة ‪ ،‬فيصير ثمانية عشر ‪ ،‬وتص ّ‬
‫مرّ ‪.‬‬
‫‪ - 30‬والصل الثّاني من الصول الربعة ‪ :‬أن يكون بعض العداد ‪ -‬أي بعض أعداد رءوس الورثة‬
‫المنكسرة عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر ‪ -‬متداخل في البعض ‪ ،‬فالحكم فيها أن يضرب ما هو أكثر تلك‬
‫العداد في أصل المسألة ‪ ،‬كأربع زوجات وثلث جدّات واثني عشر عمّا ‪ .‬فأصل المسألة من اثني عشر ‪:‬‬
‫ن مباينة ‪ ،‬فأخذنا مجموع عدد‬
‫للجدّات الثّلث السّدس وهو اثنان ‪ ،‬فل يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين رءوسهنّ وسهامه ّ‬
‫رءوسهنّ وهو ثلثة ‪ .‬وللزّوجات الربع الرّبع وهو ثلثة ‪ ،‬فبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ مباينة ‪ ،‬فأخذنا‬
‫عدد الرّءوس بتمامه ‪ .‬وللعمام الثني عشر الباقي وهو سبعة ‪ ،‬فل يستقيم عليهم بل بينهما تباين ‪ ،‬فأخذنا‬
‫عدد الرّءوس بأسره ‪ .‬فنجد الثّلثة والربعة متداخلين في الثني عشر الّذي هو أكبر أعداد الرّءوس ‪،‬‬
‫فضربناه في أصل المسألة ‪ ،‬وهو أيضا اثنا عشر فصار مائة وأربعة وأربعين ‪ ،‬فتصحّ منها المسألة ‪.‬‬
‫وقد كان للجدّات من أصل المسألة اثنان ‪ ،‬ضربناهما في المضروب ‪ -‬الّذي هو اثنا عشر ‪ -‬فصار أربعة‬
‫وعشرين ‪ ،‬فلكلّ واحدة منهنّ ثمانية ‪ .‬وللزّوجات من أصلها ثلثة ضربناها في المضروب المذكور فصار‬
‫ن تسعة ‪ .‬وللعمام سبعة ضربناها في اثني عشر أيضا فحصل أربعة وثمانون‬
‫ستّة وثلثين ‪ ،‬فلكلّ واحدة منه ّ‬
‫ل واحد منهم سبعة ‪.‬‬
‫‪ ،‬فلك ّ‬
‫ولو فرضنا في هذه الصّورة زوجة واحدة بدل الزّوجات الربع ‪ ،‬كان النكسار على طائفتين فقط ‪ ،‬أعني‬
‫الجدّات الثّلث والعمام الثني عشر ‪ ،‬وكان عدد رءوس الجدّات متداخل في عدد رءوس العمام ‪ ،‬فيضرب‬
‫أكثر هذين العددين المتداخلين ‪ ،‬أي الثني عشر في أصل المسألة ‪ ،‬فيحصل مائة وأربعة وأربعون ‪ ،‬فيقسم‬
‫على الك ّل قياس ما سبق ‪.‬‬
‫‪ - 31‬والصل الثّالث من الصول الربعة ‪ :‬أن يوافق بعض أعداد رءوس من انكسرت عليهم سهامهم من‬
‫طائفتين أو أكثر بعضا ‪ .‬والحكم في هذه الصّورة أن يضرب وفق أحد أعداد رءوسهم في جميع العدد‬
‫الثّاني ‪ ،‬ثمّ يضرب جميع ما بلغ في وفق العدد الثّالث ‪ -‬إن وافق ذلك المبلغ العدد الثّالث ‪ -‬وإن لم يوافق‬
‫المبلغ الثّالث فحينئذ يضرب المبلغ في جميع العدد الثّالث ‪ .‬ثمّ يضرب المبلغ الثّاني في العدد الرّابع كذلك ‪،‬‬
‫أي في وفقه إن وافقه المبلغ الثّاني ‪ ،‬أو في جميعه إن لم يوافقه ‪ .‬ثمّ يضرب المبلغ الثّالث في أصل المسألة ‪،‬‬
‫كأربع زوجات وثماني عشرة بنتا وخمس عشرة جدّة وستّة أعمام ‪ .‬أصل المسألة أربعة وعشرون ‪:‬‬
‫للزّوجات الربع الثّمن وهو ثلثة ‪ ،‬فل يستقيم عليهنّ وبين عدد سهامهنّ وعدد رءوسهنّ مباينة ‪ ،‬فحفظنا‬
‫جميع عدد رءوسهنّ ‪ .‬وللبنات الثّماني عشرة ‪ :‬الثّلثان وهو ستّة عشر فل يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين رءوسهنّ‬
‫وسهامهنّ موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو تسعة وحفظناه ‪ .‬وللجدّات الخمس عشرة‬
‫ن مباينة ‪ ،‬فحفظنا جميع عدد‬
‫ن وعدد سهامه ّ‬
‫السّدس وهو أربعة فل يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد رءوسه ّ‬
‫ستّة الباقي وهو واحد ل يستقيم عليهم ‪ ،‬وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة ‪ ،‬فحفظنا عدد‬
‫رءوسهنّ ‪ .‬وللعمام ال ّ‬
‫رءوسهم ‪ .‬فحصل لنا من أعداد الرّءوس المحفوظة ‪ :‬أربعة وستّة وتسعة وخمسة عشر ‪ .‬والربعة موافقة‬
‫ستّة بالنّصف فرددنا إحداهما إلى نصفها وضربناه في الخرى ‪ ،‬فحصل اثنا عشر ‪ ،‬وهو موافق للتّسعة‬
‫لل ّ‬
‫بالثّلث ‪ ،‬فضربنا ثلث أحدهما في جميع الخر فحصل ستّة وثلثون ‪ ،‬وبين هذا المبلغ الثّاني وبين خمسة‬
‫عشر موافقة بالثّلث أيضا ‪ ،‬فضربنا ثلث خمسة عشر ‪ -‬وهو خمسة ‪ -‬في ستّة وثلثين فحصل مائة وثمانون‬
‫‪ ،‬ثمّ ضربنا هذا المبلغ الثّالث في أصل المسألة ‪ -‬أعني أربعة وعشرين ‪ -‬فحصل أربعة آلف وثلثمائة‬
‫وعشرون ‪ ،‬ومنها تصحّ المسألة ‪ .‬كان للزّوجات من أصل المسألة ثلثة ‪ ،‬ضربناها في المضروب ‪ -‬وهو‬
‫مائة وثمانون ‪ -‬فحصل خمسمائة وأربعون ‪ ،‬فلكلّ من الزّوجات الربع مائة وخمسة وثلثون ‪ .‬وكان للبنات‬
‫الثّماني عشرة ستّة عشر ‪ ،‬وقد ضربناها في ذلك المضروب ‪ ،‬فصار ألفين وثمانمائة وثمانين ‪ ،‬لكلّ واحدة‬
‫منهنّ مائة وستّون ‪ .‬وكان للجدّات الخمس عشرة أربعة ‪ ،‬وقد ضربناها في المضروب المذكور فصار‬
‫ستّة واحد ضربناه في المضروب ‪،‬‬
‫ن ثمانية وأربعون ‪ .‬وكان للعمام ال ّ‬
‫سبعمائة وعشرين ‪ ،‬لكلّ واحدة منه ّ‬
‫ل واحد منهم ثلثون ‪ .‬وإذا جمعت جميع أنصباء الورثة بلغ أربعة آلف وثلثمائة‬
‫فكان مائة وثمانين لك ّ‬
‫وعشرين سهما ‪ - 32 .‬والصل الرّابع من الصول الربعة ‪ :‬أن يكون أعداد رءوس من انكسر عليهم‬
‫سهامهم من طائفتين أو أكثر متباينة ل يوافق بعضها بعضا ‪ .‬والحكم فيها ‪ :‬أن يضرب أحد العداد في جميع‬
‫الثّاني ‪ ،‬ثمّ يضرب ما بلغ في جميع الثّالث ‪ ،‬ثمّ ما بلغ في جميع الرّابع ‪ ،‬ث ّم يضرب ما اجتمع في أصل‬
‫المسألة ‪ .‬كزوجتين وستّ جدّات وعشر بنات وسبعة أعمام ‪ .‬أصل المسألة ‪ :‬أربعة وعشرون ‪ .‬للزّوجتين‬
‫الثّمن وهو ثلثة ل يستقيم عليهما ‪ ،‬وبين عدد رءوسهما وعدد سهامهما مباينة ‪ ،‬فأخذنا عدد رءوسهما وهو‬
‫ن وعدد سهامهنّ موافقة‬
‫اثنان ‪ .‬وللجدّات السّتّ ‪ :‬السّدس وهو أربعة ل يستقيم عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد رءوسه ّ‬
‫بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو ثلثة ‪ ،‬وللبنات العشر ‪ :‬الثّلثان هو ستّة عشر فل يستقيم‬
‫عليهنّ ‪ ،‬وبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ موافقة بالنّصف ‪ ،‬فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو خمسة ‪.‬‬
‫وللعمام السّبعة الباقي وهو واحد ‪ ،‬ل يستقيم عليهم ‪ ،‬وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة فأخذنا عدد رءوسهم‬
‫وهو سبعة ‪ .‬فصار معنا من العداد المأخوذة للرّءوس ‪ :‬اثنان وثلثة وخمسة وسبعة ‪ .‬وهذه كلّها أعداد‬
‫ستّة في خمسة فحصل ثلثون ‪ ،‬ثمّ ضربنا هذا‬
‫متباينة ‪ .‬فضربنا الثنين في الثّلثة فحصل ستّة ‪ ،‬ثمّ ضربنا ال ّ‬
‫المبلغ في سبعة فصار مائتين وعشرة ‪ ،‬ث ّم ضربنا هذا المبلغ في أصل المسألة ‪ -‬وهو أربعة وعشرون ‪-‬‬
‫فصار المجموع خمسة آلف وأربعين ‪ .‬ومنها تستقيم المسألة على جميع الطّوائف ‪ .‬إذ كان للزّوجتين من‬
‫أصل المسألة ثلثة ‪ ،‬فضربناها في المضروب ‪ -‬الّذي هو مائتان وعشرة ‪ -‬فحصل ستّمائة وثلثون ‪ ،‬لكلّ‬
‫ت أربعة ‪ ،‬فضربناها في ذلك المضروب المذكور‬
‫واحدة منهما ثلثمائة وخمسة عشر ‪ .‬وكان للجدّات السّ ّ‬
‫ل واحدة منهم مائة وأربعون ‪ .‬وكان للبنات العشر ستّة عشر ‪ ،‬ضربناها في‬
‫فصار ثمانمائة وأربعين ‪ ،‬لك ّ‬
‫المضروب المذكور فبلغ ثلثة آلف وثلثمائة وستّين ‪ ،‬لكلّ واحدة منهنّ ثلثمائة وستّة وثلثون ‪ .‬وكان‬
‫ل واحد منهم ثلثون ‪ .‬ومجموع‬
‫للعمام السّبعة واحد ‪ ،‬ضربناه في ذلك المضروب فكان مائتين وعشرة ‪ ،‬لك ّ‬
‫هذه النصباء خمسة آلف وأربعون ‪ .‬وذكر بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّه قد علم بالستقراء أنّ انكسار السّهام‬
‫ل يقع على أكثر من أربع طوائف ‪.‬‬
‫‪ - 33‬هذا ول يختلف فقهاء المذاهب الخرى عن الحنفيّة ‪ ،‬فيما ذهبوا إليه في تصحيح المسائل الفرضيّة ‪،‬‬
‫توصّل إلى معرفة نصيب كلّ وارث على نحو ما ذكر ‪.‬‬

‫تصحيف *‬
‫انظر ‪ :‬تحريف ‪.‬‬

‫تصدّق *‬
‫انظر ‪ :‬صدقة ‪.‬‬

‫تصديق *‬
‫انظر ‪ :‬تصادق ‪.‬‬
‫تصرّف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصرّف لغة ‪ :‬التّقلّب في المور والسّعي في طلب الكسب ‪.‬‬
‫وأمّا في الصطلح فلم يذكر الفقهاء في كتبهم تعريفا للتّصرّف ‪ ،‬ولكن يفهم من كلمهم أنّ التّصرّف هو ‪ :‬ما‬
‫يصدر عن الشّخص بإرادته ‪ ،‬ويرتّب الشّرع عليه أحكاما مختلفة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اللتزام ‪:‬‬
‫‪ - 2‬اللتزام مصدر التزم ‪ .‬ومادّة لزم تأتي في اللّغة بمعنى ‪ :‬الثّبوت والدّوام والوجوب والتّعلّق بالشّيء أو‬
‫اعتناقه ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬إلزام الشّخص نفسه ما لم يكن لزما له ‪ ،‬أي ما لم يكن واجبا عليه قبل فهو أع ّم من‬
‫ن التّصرّف إنّما يكون بالختيار والرادة ‪.‬‬
‫التّصرّف ‪ ،‬ل ّ‬
‫ب ‪ -‬العقد ‪:‬‬
‫‪ - 3‬العقد في اللّغة ‪ :‬الضّمان والعهد ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬ارتباط اليجاب بالقبول اللتزاميّ ‪ ،‬كعقد البيع والنّكاح‬
‫وغيرهما على وجه تترتّب عليه آثاره ‪.‬‬
‫ن العقد باعتبار الستقلل به وعدمه على ضربين ‪ :‬ضرب ينفرد به العاقد ‪ ،‬كالتّدبير‬
‫وذكر الزّركشيّ أ ّ‬
‫والنّذور وغيرها ‪ .‬وضرب ل بدّ فيه من متعاقدين كالبيع والجارة والنّكاح وغيرها‪.‬‬
‫الفرق بين التّصرّف واللتزام والعقد ‪:‬‬
‫‪ - 4‬يتّضح ممّا قاله الفقهاء في معنى اللتزام والعقد والتّصرّف ‪ :‬أنّ التّصرّف أعمّ من العقد بمعنييه العامّ‬
‫والخاصّ ‪ ،‬لنّ التّصرّف قد يكون في تصرّف ل التزام فيه كالسّرقة والغصب ونحوهما ‪ ،‬وهو كذلك أعمّ من‬
‫اللتزام ‪.‬‬
‫أنواع التّصرّف ‪:‬‬
‫ي وتصرّف قوليّ ‪.‬‬
‫‪ - 5‬التّصرّف نوعان ‪ :‬تصرّف فعل ّ‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬التّصرّف الفعليّ ‪:‬‬
‫‪ - 6‬هو ما كان مصدره عمل فعليّا غير اللّسان ‪ ،‬بمعنى أنّه يحصل بالفعال ل بالقوال ‪ .‬ومن أمثلته ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الغصب ‪ :‬وهو في اللّغة ‪ :‬أخذ الشّيء قهرا وظلما ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬أخذ مال قهرا تعدّيا بل حرابة ‪ .‬فالغصب فعل وليس قولً ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬قبض البائع الثّمن من المشتري ‪ ،‬وتسلّم المشتري المبيع من البائع ‪.‬‬
‫وهكذا سائر التّصرّفات الّتي يعتمد المتصرّف في مباشرتها على الفعال دون القوال ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬التّصرّف القوليّ ‪:‬‬
‫‪ - 7‬وهو الّذي يكون منشؤه اللّفظ دون الفعل ‪ ،‬ويدخل فيه الكتابة والشارة ‪ ،‬وهو نوعان ‪ :‬تصرّف قوليّ‬
‫عقديّ ‪ ،‬وتصرّف قوليّ غير عقديّ ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّصرّف القوليّ العقديّ ‪:‬‬
‫‪ - 8‬وهو الّذي يتمّ باتّفاق إرادتين ‪ ،‬أي أنّه يحتاج إلى صيغة تصدر من الطّرفين وتبيّن اتّفاقهما على أمر‬
‫ما ‪ ،‬ومثال هذا النّوع ‪ :‬سائر العقود الّتي ل تتمّ إل بوجود طرفين أي الموجب والقابل ‪ ،‬كالجارة والبيع‬
‫والنّكاح والوكالة ‪ ،‬فإنّ هذه العقود ل تت ّم إلّا برضا الطّرفين ‪ .‬وتفصيل ذلك محلّه المصطلحات الخاصّة بتلك‬
‫العقود ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّصرّف القوليّ غير العقديّ ‪ .‬وهو ضربان ‪:‬‬
‫‪ - 9‬أحدهما ‪ :‬ما يتضمّن إرادة إنشائيّة وعزيمة مبرمة من صاحبه على إنشاء حقّ أو إنهائه أو إسقاطه ‪ ،‬وقد‬
‫يسمّى هذا الضّرب تصرّفا عقديّا لما فيه من العزيمة والرادة المنشئة أو المسقطة للحقوق ‪ ،‬وهذا على قول‬
‫من يرى أنّ العقد بمعناه العامّ يتناول العقود الّتي تكون بين طرفين كالبيع والجارة ‪ ،‬والعقود الّتي ينفرد بها‬
‫المتصرّف كالوقف والطّلق والبراء والحلف وغيرها كما سبق ‪ ،‬ومن أمثلته الوقف والطّلق ‪ ،‬وتفصيل ذلك‬
‫في المصطلحات الخاصّة بهما ‪.‬‬
‫‪ - 10‬الضّرب الثّاني ‪ :‬تصرّف قوليّ ل يتضمّن إرادة منشئة ‪ ،‬أو منهيّة ‪ ،‬أو مسقطة للحقوق ‪ ،‬بل هو صنف‬
‫آخر من القوال الّتي تترتّب عليها أحكام شرعيّة ‪ ،‬وهذا الضّرب تصرّف قوليّ محض ليس له شبه بالعقود ‪،‬‬
‫ومن أمثلته ‪ :‬الدّعوى ‪ ،‬والقرار ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في المصطلحات الخاصّة بهما ‪.‬‬
‫‪ - 11‬هذا والعبرة في تميّز التّصرّف القوليّ عن الفعليّ مرجعها موضوع التّصرّف وصورته ‪ ،‬ل مبناه الّذي‬
‫بني عليه ‪.‬‬
‫‪ - 12‬والتّصرّف بنوعيه القوليّ والفعليّ يندرج فيه جميع أنواع التّصرّفات ‪ ،‬سواء أكانت تلك التّصرّفات‬
‫عبادات كالصّلة والزّكاة والصّوم والحجّ ‪.‬‬
‫أم تمليكات ومعاوضات كالبيع ‪ ،‬والقالة ‪ ،‬والصّلح والقسمة ‪ ،‬والجارة ‪ ،‬والمزارعة ‪ ،‬والمساقاة ‪ ،‬والنّكاح ‪،‬‬
‫والخلع ‪ ،‬والجازة ‪ ،‬والقراض ‪.‬‬
‫أم تبرّعات كالوقف ‪ ،‬والهبة ‪ ،‬والصّدقة ‪ ،‬والبراء عن الدّين ‪ .‬أم تقييدات كالحجر ‪ ،‬والرّجعة ‪ ،‬وعزل‬
‫الوكيل ‪.‬‬
‫أم التزامات كالضّمان ‪ ،‬والكفالة ‪ ،‬والحوالة ‪ ،‬واللتزام ببعض الطّاعات ‪.‬‬
‫أم إسقاطات كالطّلق ‪ ،‬والخلع ‪ ،‬والتّدبير ‪ ،‬والبراء عن الدّين ‪ .‬أم إطلقات كالذن للعبد بالتّجارة ‪ ،‬والذن‬
‫المطلق للوكيل بالتّصرّف ‪.‬‬
‫أم وليات كالقضاء ‪ ،‬والمارة ‪ ،‬والمامة ‪ ،‬واليصاء ‪ .‬أم إثباتات كالقرار ‪ ،‬والشّهادة ‪ ،‬واليمين ‪ ،‬والرّهن ‪.‬‬
‫أم اعتداءات على حقوق الغير الماليّة وغيرها كالغصب والسّرقة ‪.‬‬
‫ن تلك التّصرّفات على اختلف أنواعها ل تخرج عن‬
‫أم جنايات على النّفس والطراف والموال أيضا ‪ .‬ل ّ‬
‫كونها أقوال أو أفعال فيكون التّصرّف بنوعيه القوليّ والفعليّ شاملً لها ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وأمّا شروط صحّة التّصرّف ونفاذه فليس هذا البحث محلّ ذكرها ‪ ،‬سواء ما كان منها يرجع إلى‬
‫ل من هذه التّصرّفات‬
‫ن محلّ ذكر تلك الشّروط المصطلحات الخاصّة بك ّ‬
‫المتصرّف أم إلى نفس التّصرّف ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪.‬‬

‫تصريح *‬
‫انظر ‪ :‬صريح ‪.‬‬

‫صرِية *‬
‫َت ْ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصرية لغة ‪ :‬مصدر صرّى ‪ ،‬يقال ‪ :‬صرّ النّاقة أو غيرها تصرية ‪ :‬إذا ترك حلبها ‪ ،‬فاجتمع لبنها في‬
‫ضرعها ‪ .‬وفي الصطلح ‪ :‬ترك البائع حلب النّاقة أو غيرها عمدا مدّة قبل بيعها ‪ ،‬ليوهم المشتري كثرة‬
‫اللّبن ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫غشّنا‬
‫‪ - 2‬التّصرية حرام باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬إذا قصد البائع بذلك إيهام المشتري كثرة اللّبن ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬مَنْ َ‬
‫فليس منّا » وحديث ‪ { :‬بَيعُ المحفّلت خِلبة ‪ ،‬ول َتحِلّ الخلبة لمسلم } ‪ .‬ولما فيه من التّدليس والضرار ‪.‬‬
‫الحكم الوضعيّ ( الثر ) ‪:‬‬
‫‪ - 3‬ذهب الئمّة ‪ :‬مالك والشّافعيّ وأحمد ‪ ،‬وأبو يوسف إلى أنّ تصرية الحيوان عيب يثبت الخيار للمشتري‬
‫‪ .‬ويستوي في ذلك النعام وغيرها ممّا يقصد إلى لبنه ‪ .‬وذلك لما فيه من الغشّ والتّغرير الفعليّ ‪ ،‬ولحديث ‪:‬‬
‫« ل تصرّوا البل والغنم ‪ ،‬فمن ابتاعها بعد فإنّه بخير النّظرين بعد أن يحتلبها ‪ :‬إن شاء أمسك ‪ ،‬وإن شاء‬
‫ردّها وردّ معها صاعا من تمر » وير ّد معها عوضا عن لبنها إن احتلب ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين هؤلء الئمّة‬
‫‪ ،‬وإن اختلفوا في نوع العوض كما سيأتي ‪ .‬كما اتّفقوا على أنّ العوض خاصّ بالنعام ‪.‬‬
‫ن التّصرية ليست بعيب ‪ ،‬بدليل‬
‫وذهب أبو حنيفة إلى أنّه ل يردّ الحيوان بالتّصرية ‪ ،‬ول يثبت الخيار بها ‪ ،‬ل ّ‬
‫أنّه لو لم تكن مصرّاة فوجدها أقلّ لبنا من أمثالها لم يملك ردّها ‪ ،‬والتّدليس بما ليس بعيب ل يثبت الخيار ‪.‬‬
‫ن ضمان العدوان بالمثل أو القيمة ‪ ،‬والتّمر ليس مثل ول قيمة ‪ ،‬بل يرجع‬
‫ول يردّ معها صاعا من تمر ‪ ،‬ل ّ‬
‫المشتري بأرش النّقصان على البائع ‪ -‬والرش هنا ‪ :‬هو التّعويض عن نقصان المبيع ‪. -‬‬
‫نوع العوض عن اللّبن ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اختلف الفقهاء في ردّ العوض ‪ ،‬وفي نوعه ‪.‬‬
‫ن العوض هو صاع من تمر ‪ ،‬وذلك للحديث‬
‫فذهب المام أحمد ‪ ،‬وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ‪ ،‬إلى أ ّ‬
‫السّابق ‪ ،‬وقد نصّ فيه على التّمر ‪ « :‬وإن شاء ردّها ور ّد معها صاعا من تمر » ‪.‬‬
‫ن العوض هو صاع من غالب قوت البلد ‪ ،‬وهو القول الخر للشّافعيّة ‪ .‬وقال مالك ‪:‬‬
‫وذهب المام مالك إلى أ ّ‬
‫ن بعض ألفاظ الحديث جاء فيها ‪ « :‬فإن ردّها ردّ معها صاعا من طعام » وتنصيص التّمر في الحديث ليس‬
‫إّ‬
‫لخصوصه ‪ ،‬وإنّما كان غالب قوت المدينة آنذاك ‪ .‬وعند أبي يوسف ير ّد قيمة اللّبن المحتلب ‪ ،‬لنّه ضمان‬
‫متلف ‪ ،‬فكان مقدّرا بقيمته كسائر المتلفات ‪ .‬ثمّ عند الجمهور ‪ :‬هل يجب ردّ اللّبن نفسه إذا كان موجودا ؟‬
‫ذهب أحمد إلى أنّ للمشتري ر ّد اللّبن إذا لم يتغيّر ‪ ،‬ول يلزمه شيء آخر ‪ ،‬ول يجوز للبائع رفضه ‪.‬‬
‫الواجب عند انعدام التّمر ‪:‬‬
‫‪ - 5‬ذهب الحنابلة إلى أنّ الواجب في هذا الحال قيمة التّمر في الموضع الّذي وقع فيه العقد وذهب الشّافعيّة‬
‫‪ -‬في الوجه الصحّ ‪ -‬إلى أنّ عليه قيمة التّمر في أقرب البلد الّتي فيها تمر ‪ ،‬وفي الوجه الخر عليه قيمة‬
‫التّمر بالحجاز ‪ .‬ول يختلف الحكم عند مالك بانعدام التّمر ‪ ،‬لنّ الواجب عنده مطلقا صاع من غالب قوت‬
‫أهل البلد ‪.‬‬
‫هل يختلف الحكم بين كثرة اللّبن وقلّته ؟‬
‫‪ - 6‬ل خلف بين من يرى ردّ صاع مع المصرّاة في أنّه ل عبرة بكثرة اللّبن وقلّته ‪ ،‬ول بين أن يكون‬
‫الصّاع مثل قيمة لبن الحيوان أو أقلّ أو أكثر ‪ ،‬لنّه بدل قدّره الشّرع ‪ .‬ويشترط في جواز ردّ المصرّاة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن ل يعلم المشتري أنّها مصرّاة ‪ ،‬فإن علم قبل الشّراء وقبل حلبها فل يثبت له الخيار ‪ .‬ب ‪ -‬أن يقصد‬
‫البائع التّصرية ‪ ،‬فإن لم يقصد ذلك كأن ترك حلبها ناسيا أو لشغل ‪ ،‬أو تصرّت بنفسها فوجهان عند الشّافعيّة‬
‫في ثبوت الخيار ‪ .‬وعند الحنابلة يثبت له الخيار لدفع الضّرر اللّاحق بالمشتري ‪ ،‬والضّرر واجب الدّفع شرعا‬
‫‪ ،‬قصد أم لم يقصد ‪ ،‬فأشبه العيب ‪ .‬ج ‪ -‬وأن يردّها بعد الحلب ‪ ،‬فإن ردّها قبل الحلب فل شيء عليه‬
‫ن الصّاع إنّما وجب عوضا عن اللّبن المحلوب ولم يحلب ‪.‬‬
‫بالتّفاق ‪ ،‬ل ّ‬
‫وللخبر الّذي قيّد ردّ الصّاع بالحتلب ‪ ،‬ولم يوجد ‪.‬‬
‫وإذا أراد المشتري إمساك المصرّاة وطلب الرش لم يكن له ذلك ‪ ،‬لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يجعل‬
‫للمصرّاة أرشا ‪ ،‬وإنّما خيّر المشتري بين شيئين ‪ « :‬إن شاء أمسك ‪ ،‬وإن شاء ردّها وصاعا من تمر » ولنّ‬
‫التّصرية ليست بعيب ‪ ،‬فلم يستحقّ من أجلها عوضا ‪.‬‬
‫ل مصرّاة صاعا ‪ ،‬وبهذا قال الشّافعيّ‬
‫‪ - 7‬وإذا اشترى مصرّاتين أو أكثر في عقد واحد فردّهنّ ‪ ،‬ردّ مع ك ّ‬
‫وبعض أصحاب مالك ‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬في الجميع صاع واحد ‪ ،‬لنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫« من اشترى غنما مصرّاة فاحتلبها ‪ ،‬فإن رضيها أمسكها ‪ ،‬وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر » ‪.‬‬
‫وللحنابلة عموم قوله صلى ال عليه وسلم « من اشترى مصرّاة » و « من اشترى محفّلة » وهذا يتناول‬
‫الواحدة ‪ ،‬ولنّ ما جعل عوضا عن الشّيئين في صفقتين ‪ ،‬وجب إذا كانا في صفقة واحدة كأرش العيب ‪.‬‬
‫مدّة الخيار ‪:‬‬
‫‪ - 8‬ال ّردّ يكون على الفور كالرّ ّد في خيار العيب عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وللحنابلة في المدّة ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أنّها مقدّرة بثلثة أيّام ‪ ،‬وليس له الرّدّ قبل مضيّها ‪ ،‬ول إمساكها بعدها ‪ ،‬وهو ظاهر قول أحمد ‪.‬‬
‫لحديث مسلم ‪ « :‬فهو بالخيار ثلث َة أيّامٍ » ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أنّه متى ثبتت التّصرية جاز له ال ّردّ قبل الثّلثة وبعدها ‪ ،‬لنّه تدليس يثبت الخيار ‪ ،‬فملك ال ّردّ إذا‬
‫تبيّنه كسائر التّدليس ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أنّه متى علم التّصرية ثبت له الخيار في اليّام الثّلثة إلى تمامها ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬ل يردّ إن حلبها في اليوم الثّالث إن حصل الختيار في اليوم الثّاني ‪.‬‬

‫تصفيق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬للتّصفيق في اللّغة معان ‪ ،‬منها ‪ :‬الضّرب الّذي يسمع له صوت ‪ .‬وهو كالصّفق في ذلك ‪ .‬يقال ‪ :‬صفّق‬ ‫‪1‬‬

‫بيديه وصفّح سواء ‪.‬‬


‫وفي الحديث ‪ « :‬التّسبيح للرّجال ‪ ،‬والتّصفيق للنّساء » والمعنى ‪ :‬إذا ناب المصلّي شيء في صلته فأراد‬
‫تنبيه من بجواره صفّقت المرأة بيديها ‪ ،‬وسبّح الرّجل بلسانه ‪.‬‬
‫ع ْن َد البَيتِ إل ُمكَاءً‬
‫ن صَلتُهم ِ‬
‫والتّصفيق باليد ‪ :‬التّصويت بها ‪ .‬كأنّه أراد معنى قوله تعالى ‪ { :‬وما كا َ‬
‫صدِيةً } ‪ .‬كانوا يصفّقون ويصفّرون وقد كان ذلك عبادة في ظنّهم ‪.‬‬
‫و َت ْ‬
‫وقيل في تفسيرها أيضا ‪ :‬إنّهم أرادوا بذلك أن يشغلوا النّبيّ صلى ال عليه وسلم والمسلمين في القراءة‬
‫والصّلة ‪.‬‬
‫ويجوز أن يكون أراد الصّفق على وجه اللّهو واللّعب ‪ .‬ويقال ‪ :‬صفّق له بالبيع والبيعة ‪ :‬أي ضرب يده على‬
‫يده عند وجوب البيع ‪ ،‬ثمّ استعمل ولو لم يكن هناك ضرب يد على يد ‪ .‬وربحت صفقتك للشّراء ‪ .‬وصفقة‬
‫رابحة وصفقة خاسرة ‪.‬‬
‫وصفّق بيديه بالتّثقيل ‪ :‬ضرب إحداهما على الخرى ‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ‪ :‬ل يخرج عن هذا المعنى ‪ .‬وسواء كان من المرأة في الصّلة ‪ ،‬بضرب كفّ على كفّ‬
‫على نحو ما سيأتي في بيان كيفيّته ‪ .‬أو كان منها ومن الرّجل بضرب باطن كفّ بباطن الكفّ الخرى ‪ ،‬كما‬
‫هو الحال في المحافل والفراح ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬قد يكون التّصفيق من مصلّ ‪ ،‬وقد يكون من غيره ‪.‬‬
‫فما كان من مصلّ ‪ :‬فإمّا أن يكون لتنبيه إمامه على سهو في صلته ‪ ،‬أو لدرء مارّ أمامه لتنبيهه على أنّه في‬
‫صلة ‪ ،‬ومنعه عن المرور أمامه ‪ .‬أو يكون منه فيها على وجه اللّعب ‪.‬‬
‫وما كان من غير المصلّي ‪ :‬فإمّا أن يكون في المحافل كالموالد والفراح ‪ ،‬أو في أثناء خطبة الجمعة ‪ ،‬أو‬
‫ل بالدّخول ‪ ،‬أو للنّداء ‪ .‬ولكلّ من ذلك حكمه ‪.‬‬
‫لطلب الذن له من مص ّ‬
‫تصفيق المصلّي لتنبيه إمامه على سهو في صلته ‪:‬‬
‫ب لمن هم مقتدون به تنبيهه ‪.‬‬
‫‪ - 3‬اتّفق الفقهاء على أنّه لو عرض للمام شيء في صلته سهوا منه استح ّ‬
‫ل من الرّجل والمرأة ‪ .‬هل يكون بالتّسبيح أو بالتّصفيق ؟ فاتّفقوا على استحبابه‬
‫واختلفوا في طريقته بالنّسبة لك ّ‬
‫بالتّسبيح بالنّسبة للرّجل ‪ ،‬واختلفوا في التّصفيق بالنّسبة للمرأة ‪.‬‬
‫فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إنّه يكون منها بالتّصفيق ‪ .‬لما روى سهل بن سعد رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا نابكم شيء في صلتكم فليسبّح الرّجال ولتصفّق النّساء » ولما‬
‫روى أبو هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬التّسبيح للرّجال والتّصفيق‬
‫ن الخناثى في ذلك ‪.‬‬
‫للنّساء » ومثله ّ‬
‫وكره المالكيّة تصفيق المرأة في الصّلة لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من نابه شيء في صلته فليقل‬
‫ن صيغ العموم فشملت النّساء في التّنبيه بالتّسبيح ‪ .‬ولذا قال خليل ‪ :‬ول يصفّقن ‪.‬‬
‫ن ) مِ ْ‬
‫سبحان اللّه » ( ومَ ْ‬
‫أي النّساء في صلتهنّ لحاجة ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬التّصفيق للنّساء » ذمّ له ‪ ،‬ل إذن لهنّ فيه‬
‫بدليل عدم عملهنّ به ‪.‬‬
‫تصفيق المصلّي لمنع المارّ أمامه ‪:‬‬
‫‪ - 4‬يختلف حكم درء المارّ بين يدي المصلّي بين كونه رجلً أو امرأة ‪ .‬فإذا كان المصلّي رجل كان درؤه‬
‫للما ّر أمامه بالتّسبيح أو بالشارة بالرّأس أو العين ‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬التّسبيح للرّجال » وعن سهل بن سعد رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا نابكم في صلتكم شيء فليسبّح الرّجال » ‪ .‬وكما « فعل النّب ّ‬
‫بولدي أمّ سلمة وهما عمر وزينب رضي ال عنهما حيث كان صلى ال عليه وسلم يصلّي في بيتها فقام ولدها‬
‫عمر ليمرّ بين يديه ‪ ،‬فأشار إليه أن قف فوقف ‪ .‬ثمّ قامت بنتها زينب لتمرّ بين يديه ‪ ،‬فأشار إليها أن قفي‬
‫فأبت ومرّت ‪ ،‬فلمّا فرغ صلى ال عليه وسلم من صلته قال ‪ :‬هنّ أغلب »‬
‫وإن كان المصلّي امرأة كان درؤها للمارّ بالشارة أو بالتّصفيق ببطن كفّها اليمنى على ظهر أصابع كفّها‬
‫ن مبنى حال النّساء على السّتر ‪ ،‬ول‬
‫ن لها التّصفيق ‪ .‬ل ترفع صوتها بالقراءة والتّسبيح ‪ ،‬ل ّ‬
‫اليسرى ‪ ،‬ل ّ‬
‫يطلب منها الدّرء به لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬والتّصفيقُ للنّساء » وقوله ‪ « :‬ولْيصفّق النّساء » وهذا‬
‫هو المسنون عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫أمّا الشّافعيّة والحنابلة فلم يقولوا بالتّسبيح للرّجل ‪ ،‬ول بالتّصفيق للمرأة في دفع المارّ ‪ ،‬بل قالوا ‪ :‬يدفعه‬
‫المصلّي بما يستطيعه ويقدّم في ذلك السهل فالسهل ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يندب للمصلّي دفع المارّ بين يديه دفعا خفيفا ل يتلف له شيء ول يشغله ‪ ،‬فإن كثر منه ذلك‬
‫أبطل صلته ‪ .‬وتفصيل ذلك في الكلم على ( سترة الصّلة ) ‪.‬‬
‫تصفيق الرّجل في الصّلة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على كراهة تصفيق الرّجل في الصّلة مطلقا لما روي عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي‬
‫ال عنه « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بلغه أنّ بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء ‪ ،‬فخرج رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه ‪ ،‬فحبس رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وحانت‬
‫الصّلة ‪ ،‬فجاء بلل رضي ال عنه إلى أبي بكر رضي ال عنه فقال ‪ :‬يا أبا بكر إنّ رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم قد حبس ‪ ،‬وقد حانت الصّلة ‪ ،‬فهل لك أن تؤمّ النّاس ؟ قال ‪ :‬نعم إن شئت ‪ .‬فأقام بلل وتقدّم أبو‬
‫بكر رضي ال عنه ‪ ،‬فكبّر للنّاس ‪ .‬وجاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يمشي في الصّفوف ‪ ،‬حتّى قام في‬
‫الصّفّ فأخذ النّاس في التّصفيق ‪ ،‬وكان أبو بكر رضي ال عنه ل يلتفت في صلته ‪ ،‬فلمّا أكثر النّاس التفت‬
‫فإذا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فأشار إليه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يأمره أن يصلّي ‪ ،‬فرفع أبو‬
‫بكر رضي ال عنه يديه ‪ ،‬فحمد اللّه ورجع القهقرى وراءه حتّى قام في الصّفّ ‪ .‬فتقدّم رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم فصلّى للنّاس ‪ .‬فلمّا فرغ أقبل على النّاس فقال ‪ :‬يا أيّها النّاس ما لكم حين نابكم شيء في الصّلة‬
‫أخذتم في التّصفيق ؟ إنّما التّصفيق للنّساء ‪ .‬من نابه شيء في صلته فليقل ‪ :‬سبحان اللّه ‪ ،‬فإنّه ل يسمعه أحد‬
‫حين يقول ‪ :‬سبحان اللّه إل التفت ‪ .‬يا أبا بكر ما منعك أن تصلّي للنّاس حين أشرت إليك ؟ فقال أبو بكر‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬ما كان ينبغي لبن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ " » .‬ففي‬
‫هذا الحديث « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنكر عليهم التّصفيق ‪ ،‬ولم يأمرهم بإعادة الصّلة » ‪ .‬وفيه‬
‫الدّليل على كراهة التّصفيق للرّجل في الصّلة ‪.‬‬
‫التّصفيق من مصلّ للذن للغير بالدّخول ‪:‬‬
‫‪ - 6‬أجاز المالكيّة والشّافعيّة تنبيه المصلّي غيره ‪ .‬وذلك عند المالكيّة بالتّسبيح مطلقا ‪ ،‬وأمّا الشّافعيّة‬
‫فالتّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء لما سبق بيانه ‪ ،‬وكرهه الحنفيّة والحنابلة‪.‬‬
‫التّصفيق في الصّلة على وجه اللّعب ‪:‬‬
‫‪ - 7‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬وهو أحد قولي الحنابلة ‪ :‬إنّ التّصفيق في الصّلة على وجه اللّعب يبطلها وإن كان قليل ‪،‬‬
‫لمنافاة اللّعب للصّلة ‪ .‬والصل في ذلك حديث الصّحيحين ‪ « :‬من نابه شيء في صلته فليسبّح ‪ ،‬وإنّما‬
‫التّصفيق للنّساء » ‪ .‬ولمنافاته للصّلة ‪.‬‬
‫والقول الخر للحنابلة ‪ :‬أنّه ل يبطلها إن قلّ ‪ ،‬وإن كثر أبطلها ‪ ،‬لنّه عمل من غير جنسها ‪ ،‬فأبطلها كثيره‬
‫ن ما يعمل عادة باليدين يكون كثيرا ‪ ،‬بخلف ما يعمل باليد‬
‫عمدا كان أو سهوا ‪ .‬وأمّا الحنفيّة فقد قالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫الواحدة فقد يكون قليلً ‪ ،‬والعمل الكثير الّذي ليس من أفعال الصّلة ول لصلحها يفسدها ‪ .‬والتّصفيق ل‬
‫يتأتّى عادة إل باليدين كلتيهما ‪ ،‬فإنّه والحالة هذه يكون عمل كثيرا في الصّلة تبطل به ‪ ،‬لمنافاته لفعالها ‪.‬‬
‫وع ند المالكيّة ل يخلو عن كو نه عب ثا في ها ‪ ،‬ويجري عل يه ح كم الف عل الكث ير ‪ ،‬لنّه ل يس من ج نس أفعال‬
‫الصّلة كالنّفخ من الفم فيها فإنّه يبطلها ‪ ،‬كالكلم فيها ‪ ،‬يدلّ عليه قول ابن عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬النّفخ في‬
‫الصّلة كالكلم ‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم لرباح وهو ينفخ في التّراب ‪ « :‬من نفخ في الصّلة فقد تكلّم » وإذ جرى على‬
‫ل لها ‪.‬‬
‫التّصفيق في الصّلة على وجه اللّعب حكم الفعل الكثير فيها كان مبط ً‬
‫كيفيّة التّصفيق ‪:‬‬
‫‪ - 8‬للمرأة في كيفيّة تصفيقها في الصّلة طريقتان عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫إحداهما ‪ :‬أن تضرب بظهور أصابع اليد اليمنى على صفحة الكفّ اليسرى ‪.‬‬
‫ثانيتهما ‪ :‬أن تضرب ببطن كفّها اليمنى على ظهر كفّها اليسرى ‪ ،‬وهو اليسر والقلّ عملً ‪ ،‬وهذا هو‬
‫المشهور عندهم ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة على القول به أن تضرب بظهر أصبعين من يمينها على باطن كفّها اليسرى ‪ .‬وعند الحنابلة ‪:‬‬
‫أن تضرب ببطن كفّ على ظهر الخرى ‪.‬‬
‫التّصفيق أثناء الخطبة ‪:‬‬
‫‪ - 9‬ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب النصات للخطيب ‪ -‬وهو عند الشّافعيّة مستحبّ ‪ -‬وعليه يحرم عند‬
‫الجمهور كلّ ما ينافي النصات إلى الخطيب ‪ ،‬من أكل وشرب ‪ ،‬وتحريك شيء يحصل منه صوت كورق أو‬
‫ثوب أو سبحة أو فتح باب أو مطالعة في كرّاس ‪ .‬والتّصفيق في أثناء الخطبة يحدث صوتا يشوّش على‬
‫الخطيب والسّامعين لخطبته ‪ ،‬ولذا كان حراما لخلله بآداب الستماع وانتهاكه لحرمة المسجد ‪ .‬والحرمة‬
‫على من صفّق بالمسجد في أثناء الخطبة أو في رحبته آكد ممّن فعل ذلك خارج المسجد ممّن ل يسمعون‬
‫الخطيب ‪.‬‬
‫التّصفيق في غير الصّلة والخطبة ‪:‬‬
‫‪ - 10‬التّصفيق في غير الصّلة والخطبة جائز إذا كان لحاجة معتبرة كالستئذان والتّنبيه ‪ ،‬أو تحسين صناعة‬
‫ن ‪ .‬أمّا إذا كان لغير حاجة ‪ ،‬فقد صرّح بعض الفقهاء بحرمته ‪ ،‬وبعضهم‬
‫النشاد ‪ ،‬أو ملعبة النّساء لطفاله ّ‬
‫بكراهته ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّه من اللّهو الباطل ‪ ،‬أو من التّشبّه بعبادة أهل الجاهليّة عند البيت كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا‬
‫كَانَ صلتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية } ‪ .‬أو هو من التّشبّه بالنّساء ‪ ،‬لما جاء في الحديث من اختصاص‬
‫ن التّسبيح للرّجال ‪.‬‬
‫النّساء بالتّصفيق إذا ناب المام شيء في الصّلة ‪ ،‬في حين أ ّ‬

‫تصفية *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصفية لغة ‪ :‬مأخوذ من صفّى الشّيء ‪ :‬إذا أخذ خلصته ‪ .‬ومنه ‪ :‬صفّيت الماء من القذى تصفية ‪:‬‬
‫أزلته عنه ‪ .‬كما في لسان العرب والمصباح المنير ‪.‬‬
‫ويراد بالتّصفية في الصطلح ‪ :‬مجموع العمال الّتي غايتها حصر حقوق المتوفّى والتزاماته وأداء الحقوق‬
‫المتعلّقة بالتّركة لصحابها من الدّائنين والموصى لهم والورثة ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّصفية بهذا المعنى اصطلح حديث تعارف عليه أهل القانون ‪.‬‬
‫ولم يتكلّم عنه الفقهاء بالعنوان المذكور ‪ ،‬وإن كانوا قد عنوا عناية شديدة ببيان أحكام الحقوق الّتي للتّركة أو‬
‫عليها وحقوق القصر ضمانا لصحاب تلك الحقوق حتّى ل يبغي بعضهم على بعض ‪ ،‬وضمانا بصفة خاصّة‬
‫لحقوق الدّائنين والموصى لهم بشيء من التّركة‪.‬‬
‫وهذه الحكام مفصّلة في مصطلح ‪ ( :‬تركة ‪ ،‬إرث ‪ ،‬وصيّة ‪ ،‬وإيصاء ) ‪.‬‬
‫تصليب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّصليب في اللّغة ‪ :‬مصدر صلّب ‪ ،‬وهو يأتي لمعان ‪ :‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬القتلة المعروفة يقال ‪ :‬صلب فلن صلبا ‪ ،‬وصلّب تصليبا ‪ .‬ففي التّنزيل العزيز ‪َ { :‬ومَا َقتَلُوه ومَا صَلَبُوه‬
‫ع ال ّنخْلِ } وأصله على ما في لسان العرب "‬
‫شبّ َه لهم } وفيه حكاية قول فرعون ‪ { :‬وَلصَّل َبنّكم في جُذو ِ‬
‫ن ُ‬
‫ولك ْ‬
‫الصّليب " وهو في اللّغة دهن النسان أو الحيوان ‪ ،‬قال ‪ :‬والصّلب هذه القِتلة المعروفة ‪ ،‬مشتقّ من ذلك ‪،‬‬
‫ن ودك المصلوب ( أي دهنه ) يسيل ‪ .‬ومنه سمّي الصّليب ‪ .‬وهو الخشبة الّتي يصلب عليها من يقتل كذلك‬
‫لّ‬
‫ثمّ استعمل لما يتّخذه النّصارى على ذلك الشّكل وجمعه الصّلبان ‪ ،‬والصُلُب ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬والتّصليب أيضا صناعة الصّليب ‪ ،‬أو عمل نقش في ثوب أو جدار أو قرطاس أو غيرها بشكل الصّليب‬
‫‪ ،‬أو التّصليب بالشارة ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬والصّليب خطّان متقاطعان ‪ .‬وفي حديث عائشة رضي ال عنها‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إل نقضه » أي قطع موضع‬
‫ن النّب ّ‬
‫«أّ‬
‫التّصليب فيه ‪ ،‬وفي رواية « نهى عن الصّلة في الثّوب المصلّب » ‪ .‬وهو الّذي فيه نقش كالصّلبان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ورد في الحديث ‪ « :‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن الصّلب في الصّلة » وهيئة الصّلب في‬
‫الصّلة أن يضع المصلّي يديه على خاصرتيه ‪ ،‬ويجافي عضديه عن جنبيه في القيام ‪ .‬وإنّما نهى عنه‬
‫لمشابهته شكل المصلوب ‪ .‬وتنظر أحكام ذلك في الصّلة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّمثيل ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّمثيل ‪ :‬مصدر مثّل من مثّلت بالقتيل مثلً ‪ :‬إذا جدعته وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلً ‪ ،‬والتّشديد في‬
‫ن التّصليب ربط للعقوبة ‪ ،‬أمّا التّمثيل فهو مجرّد الجدع‬
‫مثّل للمبالغة فبين التّصليب والتّمثيل مباينة ‪ ،‬ل ّ‬
‫والتّقطيع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الصّبر ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الصّبر من معانيه في اللّغة ‪ :‬نصب النسان للقتل ‪ ،‬أو أن يمسك الطّائر أو غيره من ذوات الرّوح‬
‫يصبر حيّا ‪ ،‬ثمّ يرمى بشيء حتّى يقتل ‪.‬‬
‫فالصّبر أعمّ من التّصليب ‪ ،‬لنّه قد يكون بل صلب ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يتناول الحكم أمرين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّلب ‪ ،‬وهو القتلة المعروفة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الحكام المتعلّقة بالصّليب ‪.‬‬
‫أوّل ‪ :‬حكم التّصليب " بمعنى القِتلة المعروفة "‬
‫‪ - 4‬الصّلب قتلة معروفة ‪ ،‬وهي أن يرفع المراد قتله على جذع أو شجرة أو خشبة قائمة ‪ ،‬وتم ّد يداه على‬
‫خشبة معترضة ‪ ،‬وتربط رجله بالخشبة القائمة ‪ ،‬ويترك عليها هكذا حتّى يموت ‪ .‬وقد تسمّر يداه ورجله‬
‫بالخشب ‪ .‬وقد يقتل أ ّولً ‪ ،‬ويصلب بعد زهوق روحه على الخشبة للتّشهير به ‪ .‬وكانت هذه القتلة شائعة في‬
‫المم السّابقة كالفرس والرّومان ومن قبلهم ‪ .‬ونصّ القرآن على أنّها كانت من فعل فرعون بأعدائه ‪ .‬وفي‬
‫خ ْمرَا ‪ ،‬وَأمّا الخَرُ َف ُيصْلَبُ َفتَأكُلُ الطّيرُ منْ رَ ْأسِه }‬
‫ح ُدكُما َف َيسْقِي َربّه َ‬
‫سجْنِ أمّا َأ َ‬
‫حبَي ال ّ‬
‫قصّة يوسف { يَا صَا ِ‬
‫وقد حرّم السلم هذه القتلة لما فيها من التّعذيب الشّديد والمثلة والتّشهير ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم «‬
‫سنُوا القتلة ‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ‪ ،‬و ْل ُيحِ ّد أحدُكم‬
‫حِ‬‫ل شيء ‪ ،‬فإذا َقتَ ْلتُم فأَ ْ‬
‫ن اللّه كتب الحسان على ك ّ‬
‫إّ‬
‫ح ذبيحته » « ونهى عن ال ُمثْلَة ولو بالكلب العَقُور » ‪.‬‬
‫شَ ْف َرتَه ‪ ،‬وَ ْليُرِ ْ‬
‫‪ - 5‬ويستثنى من هذا الصل جرائم محدّدة جعلت عقوبتها الصّلب بعد القتل لعوارض خاصّة اقتضتها ‪ .‬وهذه‬
‫الجرائم هي ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الفساد في الرض ‪:‬‬
‫جزَاءُ الّذينَ‬
‫جعلت عقوبة الفساد في الرض بالمحاربة " قطع الطّريق " الصّلب ‪ ،‬لقوله تعالى { ِإ ّنمَا َ‬
‫ن في الَرضِ َفسَادَا أنْ يُ َقتّلُوا أو ُيصَّلبُوا أو تُ َقطّعَ أَيدِيهمْ وََأ ْرجُلُهمْ ِمنْ خِلفٍ أَو‬
‫سعَو َ‬
‫ُيحَا ِربُونَ الّلهَ َورَسُولَه َو َي ْ‬
‫ن تَابُوا مِنْ َقبْلِ َأنْ تَ ْق ِدرُوا‬
‫عظِيمٌ إل الّذي َ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫خ ْزيٌ في ال ّدنْيا وَلَهمْ في الخِرَةِ َ‬
‫ض ذَلكَ لَهمْ ِ‬
‫ن الر ِ‬
‫ُينْفَوْا مِ َ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ َرحِيمٌ } ‪.‬‬
‫عَلَيهمْ فَاعَْلمُوا أَ ّ‬
‫ن قطّاع الطّرق يستأسدون على النّاس ‪ ،‬فيروّعون المنين ‪،‬‬
‫وإنّما كان الصّلب عقوبة في هذه الجريمة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويظهرون الفساد ‪ ،‬فجعل الصّلب عقوبة لهم ‪ ،‬ليرتدع به من سواهم من المفسدين ‪ .‬وقد اختلف الفقهاء في‬
‫الصّلب ‪:‬‬
‫فقيل ‪ :‬هو حدّ ل بدّ من إقامته ‪ .‬وقيل ‪ :‬المام مخيّر فيه وفي غيره من العقوبات المذكورة في الية ‪ .‬على‬
‫ترتيب وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬حرابة ) ‪.‬‬
‫كيفيّة تنفيذ عقوبة الصّلب في قاطع الطّريق ‪:‬‬
‫‪ - 6‬باستقراء كلم الفقهاء يتبيّن اتّفاقهم على أنّه ليس المراد بصلب قاطع الطّريق ‪ :‬أن يحمل على الخشبة‬
‫حيّا ‪ ،‬ثمّ يترك عليها حتّى يموت ‪ .‬ثمّ اختلفوا ‪ :‬فقال أبو حنيفة ومالك والوزاعيّ ‪ :‬يصلب حيّا ‪ ،‬ثمّ يقتل‬
‫ي ل الميّت ‪ ،‬ولنّه جزاء على المحاربة ‪،‬‬
‫ن الصّلب عقوبة ‪ ،‬وإنّما يعاقب الح ّ‬
‫مصلوبا بطعنه بحربة ‪ ،‬ل ّ‬
‫فيشرع في الحياة كسائر الجزاءات ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ وأحمد ‪ :‬يقتل أوّل ‪ ،‬ثمّ يصلب بعد قتله ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى قدّم ذكر القتل على ذكر الصّلب ‪،‬‬
‫ن في قتله بالصّلب‬
‫فيلتزم هذا التّرتيب حيث اجتمعا ‪ ،‬ولنّ القتل إذا أطلق في الشّرع كان قتلً بالسّيف ‪ ،‬ول ّ‬
‫تعذيبا له ومثلة ‪ ،‬وقد نهى الشّرع عن المثلة ‪.‬‬
‫أمّا المدّة الّتي يبقى فيها المصلوب على الخشبة بعد قتله ‪ ،‬فقال أبو حنيفة والشّافعيّ ‪ :‬يصلب ثلثة أيّام ‪ .‬وقال‬
‫الحنابلة ‪ :‬يصلب قدر ما يشتهر أمره ‪ ،‬دون تحديد بمدّة ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ينزل إذا خيف تغيّره ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬من قتل غيره عمدا بالصّلب حتّى مات ‪:‬‬
‫‪ - 7‬مذهب مالك والشّافعيّ ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد ‪ :‬أنّ لوليّ المقتول أن يطالب بقتل الجاني قصاصا بمثل‬
‫ما قتل به ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهذا معنى القصاص ‪ ،‬وهو المساواة والمماثلة ‪ ،‬وله أن يقتله بالسّيف ‪ .‬فإن قتل‬
‫ي قد ترك المماثلة ‪ ،‬وهي شيء من حقّه ‪ .‬ومقتضى هذا‬
‫بالسّيف ‪ ،‬وكان الجاني قد قتل بأشدّ منه كان الول ّ‬
‫القول ‪ :‬أنّه يجوز للوليّ صلب القاتل حتّى الموت ‪ ،‬إن كانت جنايته بالصّلب ‪ .‬ومذهب أبي حنيفة ‪ ،‬وهو‬
‫رواية عن أحمد ‪ :‬أنّه ل قَ َو َد إلّا بالسّيف ‪ ،‬فعلى هذا ل يتأتّى عقوبة الصّلب قصاصا ‪.‬‬
‫ومع ذلك صرّح الحنفيّة بأنّ الوليّ إذا اقتصّ بغير السّيف عزّر ‪ ،‬ووقع القصاص موقعه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّصليب في عقوبة التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 8‬قال الماورديّ من الشّافعيّة ‪ :‬يجوز صلب المعزّر حيّا ثلثة أيّام فقط " أي ويطلق بعدها " فقد « صَلَب‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجلً على جبل يقال له أبو ناب » قال ‪ :‬ول يمنع مدّة صلبه من طعام ول‬
‫شراب ول وضوء لصلة ‪ .‬ويصلّي مومئا ‪ ،‬ويعيد الصّلة بعد أن يطلق سراحه ‪ .‬ونقل ذلك متأخّرو الشّافعيّة‬
‫وأقرّوه ‪ .‬وقال صاحب مغني المحتاج ‪ :‬ينبغي أن يقال بتمكين المصلوب في هذه الحال من الصّلة مطمئنّا ‪،‬‬
‫يعني أن يصلّي مرسل صلة تامّة ‪ ،‬ثمّ يعاد صلبه ‪ .‬ونقل ابن فرحون من المالكيّة في التّبصرة قول‬
‫الماورديّ وأقرّه ‪ .‬ويجوز التّعزير بالصّلب عند الحنابلة ‪ ،‬ويراعى ما ذكره الماورديّ ‪ .‬وقالوا ‪ :‬يصلّي‬
‫المصلوب حينئذ باليماء إن لم يمكنه إلّا ذلك ‪ ،‬ول إعادة عليه بعد إطلقه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الحكام المتعلّقة بالصّلبان‬
‫صناعة الصّليب واتّخاذه ‪:‬‬
‫‪ - 9‬ل يجوز للمسلم أن يصنع صليبا ‪ ،‬ول يجوز له أن يأمر بصناعته ‪ ،‬والمراد صناعة ما يرمز به إلى‬
‫التّصليب ‪ .‬وليس له اتّخاذه ‪ ،‬وسواء علّقه أو نصبه أو لم يعلّقه ولم ينصبه ‪ .‬ول يجوز له إظهار هذا الشّعار‬
‫في طرق المسلمين وأماكنهم العامّة أو الخاصّة ‪ ،‬ول جعله في ثيابه ‪ ،‬لما روى عديّ بن حاتم رضي ال عنه‬
‫قال ‪ « :‬أتيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ‪ .‬فقال ‪ :‬يا عديّ ! اطرح عنك هذا‬
‫ن اللّه بعثني رحمة‬
‫الوثن » وعن أبي أمامة رضي ال عنه قال ‪ " :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « إ ّ‬
‫وهدى للعالمين ‪ ،‬وأمرني بمحق المزامير والمعازف والوثان والصّلب وأمر الجاهليّة » ‪.‬‬
‫‪ - 10‬يكره الصّليب في الثّوب ونحوه كالقلنسوة والدّراهم والدّنانير والخواتم ‪.‬‬
‫قال ابن حمدان ‪ :‬ويحتمل التّحريم ‪ ،‬وهو ظاهر ما نقله صالح عن المام أحمد ‪ ،‬وصوّبه صاحب النصاف ‪.‬‬
‫ودليل ذلك حديث عائشة رضي ال عنها الّذي يفيد « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يقطع صورة‬
‫الصّليب من الثّوب » ‪ ،‬وفي بعض رواياته عند أحمد عن أمّ عبد الرّحمن بن أذينة قالت ‪ « :‬كنّا نطوف مع‬
‫عائشة أمّ المؤمنين رضي ال عنها فرأت على امرأة بردا فيه تصليب ‪ ،‬فقالت أمّ المؤمنين ‪ :‬اطرحيه ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا في الثّوب قضبه » ‪ .‬وقال إبراهيم ‪":‬‬
‫اطرحيه ‪ .‬فإ ّ‬
‫أصاب أصحابنا خمائص فيها صلب فجعلوا يضربونها بالسّلوك يمحونها بذلك "‪.‬‬
‫المصلّي والصّليب ‪:‬‬
‫ن فيه تشبّها بالنّصارى في عبادتهم ‪ ،‬والتّشبّه بهم في‬
‫‪ - 11‬يكره للمصلّي أن يكون في قبلته صليب ‪ ،‬ل ّ‬
‫المذموم مكروه ‪ ،‬وإن لم يقصده ‪.‬‬
‫ولم نجد عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة نصّا في ذلك ‪.‬‬
‫القطع في سرقة الصّليب ‪:‬‬
‫‪ - 12‬ل قطع عند الحنفيّة والحنابلة في سرقة الصّليب ولو كان من ذهب أو فضّة ‪ ،‬ولو جاوزت قيمته نصابا‬
‫‪ .‬وذلك لنّه منكر ‪ ،‬فتتأوّل الباحة للسّارق بتأويل نيّة الكسر نهيا عن المنكر ‪ .‬قال في فتح القدير ‪ :‬بخلف‬
‫الدّرهم الّذي عليه الصّورة ‪ ،‬فإنّه ما أعدّ للعبادة ‪ ،‬فل تثبت شبهة إباحة الكسر ‪ .‬وعن أبي يوسف يقطع به إن‬
‫كان في يد رجل في حرز ل شبهة فيه ‪ ،‬لكمال الماليّة ولوجود الحرز ‪ .‬أمّا إن كان في مصلّاهم فسرقه ‪ ،‬فل‬
‫ن ال ّذ ّميّ‬
‫قطع لعدم الحرز ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وعلى الوّل لو كان السّارق ذ ّميّا وسرق من حرز فيقطع ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل تأويل له ‪ .‬قال ‪ :‬إل أن يقال تأويل غيره يكفي في وجود الشّبهة فل يقطع ‪.‬‬
‫ن مذهب المالكيّة جار على مثل ما قال ابن عابدين في آخر كلمه ‪ ،‬فإنّه ل قطع عندهم في سرقة‬
‫ويظهر أ ّ‬
‫الخمر ‪ ،‬ولو سرقها ذ ّميّ من ذمّيّ ‪ ،‬فيكون الحكم في سرقة الصّليب كذلك‪ .‬وفرّق الشّافعيّة في سرقة المحرّم‬
‫من صليب وغيره بين حالتين ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن سرقه بقصد النكار فل قطع‪ ،‬وإل فالصحّ ‪ -‬على ما قاله‬
‫النّوويّ ‪ -‬أنّه يقطع به إن بلغ مكسوره نصابا‪.‬‬
‫إتلف الصّليب ‪:‬‬
‫‪ - 13‬من كسر صليبا لمسلم فل ضمان فيه اتّفاقا ‪ .‬وإن كان لهل ال ّذمّة ‪ ،‬فإن أظهروه كانت إزالته واجبة ‪،‬‬
‫ول ضمان أيضا ‪ .‬وإن كان اقتناؤهم له على وجه يقرّون عليه ‪ ،‬كالّذي يجعلونه في داخل كنائسهم أو‬
‫بيوتهم ‪ ،‬يسرّونه عن المسلمين ول يظهرونه ‪ ،‬فإن غصبه غاصب وجب ردّه اتّفاقا ‪ .‬أمّا إن أتلفه متلف ‪ ،‬فقد‬
‫اختلف الفقهاء في وجوب الضّمان بذلك ‪ :‬فعند الحنفيّة ‪ :‬فيه الضّمان ‪ ،‬بناء على أصلهم في ضمان المسلم‬
‫خمر ال ّذمّيّ ‪ ،‬لنّه مال متقوّم في حقّهم كتقوّم الخلّ في حقّنا ‪ .‬وقد أمرنا بتركهم وما يدينون ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل يضمن المسلم الخمر والخنزير لمسلم ول لذ ّميّ ‪ ،‬وهكذا إذا أتلفهما ذ ّميّ على‬
‫ق المسلم فكذا في حقّ ال ّذمّيّ ‪ ،‬لنّهم تبع لنا في الحكام ‪ ،‬فل يجب بإتلفهما‬
‫ذمّيّ ‪ ،‬لنّه سقط تقوّمهما في ح ّ‬
‫ن الكفّار مخاطبون بفروع‬
‫مال متقوّم ‪ ،‬وهو الضّمان ‪ ،‬فكذا ينبغي أن يكون الحكم في الصّليب ‪ ،‬ول ّ‬
‫الشّريعة ‪ ،‬فالتّحريم ثابت في حقّهم ‪ ،‬لكنّا أمرنا بترك التّعرّض لهم فيما ل يظهرونه من ذلك ‪ ،‬وهذا ل‬
‫ن الصنام والصّلبان ل يجب في إبطالها‬
‫يقتضي الضّمان نظرا إلى أصل التّحريم ‪ .‬وفي شرح المنهاج ‪ :‬إ ّ‬
‫ن الصحّ أنّها ل تكسر‬
‫شيء ‪ ،‬لنّها محرّمة الستعمال ‪ ،‬ول حرمة لصنعتها ‪ -‬أي ليست محترمة ‪ -‬وإ ّ‬
‫الكسر الفاحش ‪ ،‬بل تفصل لتعود كما كانت قبل التّأليف ‪ ،‬لزوال السم بذلك ‪.‬‬
‫والقول الثّاني ‪ :‬تكسر وترضّض حتّى تنتهي إلى حدّ ل يمكن إعادته صنما أو صليبا أو غير ذلك من‬
‫ن الصّليب إن كان من الذّهب أو‬
‫المحرّمات ‪ .‬ونقل صاحب كشّاف القناع من الحنابلة عن القاضي ابن عقيل أ ّ‬
‫الفضّة فل يضمن إذا كسر ‪ ،‬أمّا إذا أتلف فيضمن مكسورا ‪ .‬وفرّق بينه وبين الصّليب من الخشب بأنّ‬
‫الصّنعة في الذّهب والفضّة تابعة ‪ ،‬لنّها أقلّ قيمة ‪ ،‬وفي الخشب أو الحجر هي الصل فل يضمن ‪.‬‬
‫فعليه يضمن الصّليب المستور لل ّذ ّميّ إن كان من ذهب أو فضّة إذا أتلف بمثله ذهبا بالوزن ‪ ،‬وتلغى صنعته ‪.‬‬
‫قال الحارثيّ ‪ :‬ول خلف فيه ‪.‬‬
‫أهل ال ّذمّة والصّلبان ‪:‬‬
‫‪ - 14‬يجوز إقرار أهل ال ّذمّة والصّلح معهم على إبقاء صلبانهم ‪ ،‬ولكن يشترط عليهم أن ل يظهروها ‪ ،‬بل‬
‫تكون في كنائسهم ومنازلهم الخاصّة ‪ .‬وفي فتح القدير ‪ :‬إنّ المراد بكنائسهم كنائسهم القديمة الّتي أقرّوا‬
‫عليها ‪ .‬وفي عهد عمر رضي ال عنه الّذي أخذه على نصارى الشّام " بسم ال الرحمن الرحيم ‪ .‬هذا كتاب‬
‫لعمر أمير المؤمنين من نصارى الشّام ‪ :‬لما قدمتم علينا سألناكم المان ‪ .‬إلى أن قالوا ‪ :‬وشرطنا لكم على‬
‫أنفسنا أن ل نظهر صليبا ول كتابا " أي من كتب دينهم " في شيء من طرق المسلمين ول أسواقهم ‪ ،‬ول‬
‫نظهر الصّليب في كنائسنا إلخ " وقولهم ‪ " :‬في كنائسنا " المراد به خارجها ممّا يراه المسلم ‪ .‬قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫ل يمكّنون من التّصليب على أبواب كنائسهم وظواهر حيطانها ‪ ،‬ول يتعرّض لهم إذا نقشوا داخلها ‪.‬‬
‫ن عمر بن عبد العزيز كتب ‪ :‬أن يمنع نصارى الشّام أن يضربوا ناقوسا ‪ ،‬ول‬
‫وعن ميمون بن مهران أ ّ‬
‫يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم ‪ ،‬فإن قدر على من فعل ذلك منهم فإنّ سلبه لمن وجده ‪ .‬وكذا لو جعلوا ذلك في‬
‫منازلهم وأماكنهم الخاصّة ل يمنعون منه‪ .‬ويمنعون من لبس الصّليب وتعليقه في رقابهم أو أيديهم ‪ ،‬ول‬
‫ينتقض عهدهم بذلك الظهار ‪ ،‬ولكن يؤدّب من فعله منهم ‪ .‬ويلحظون في مواسم أعيادهم بالذّات ‪ ،‬إذ قد‬
‫يحاولون إظهار الصّليب فيمنعون من ذلك ‪ ،‬لما في عهد عمر عليهم عدم إظهاره في أسواق المسلمين ‪.‬‬
‫ويؤدّب من فعله منهم ‪ ،‬ويكسر الصّليب الّذي يظهرونه ‪ ،‬ول شيء على من كسره ‪.‬‬
‫الصّليب في المعاملت الماليّة ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ل يصحّ لمسلم بيع الصّليب شرعا ‪ ،‬ول الجارة على عمله ‪.‬‬
‫ولو استؤجر عليه فل يستحقّ صانعه أجرة ‪ ،‬وذلك بموجب القاعدة الشّرعيّة العامّة في حظر بيع المحرّمات ‪،‬‬
‫إجارتها ‪ ،‬والستئجار على عملها ‪.‬‬
‫ح بيع الصّور والصّلبان ولو من ذهب أو فضّة أو حلوى ‪.‬‬
‫وقال القليوبيّ ‪ :‬ل يص ّ‬
‫ول يجوز بيع الخشبة لمن يعلم أنّه يتّخذها صليبا ‪.‬‬
‫وسئل ابن تيميّة عن خيّاط خاط للنّصارى سير حرير فيه صليب ذهب فهل عليه إثم في خياطته ؟ وهل تكون‬
‫أجرته حلل أم ل ؟ فقال ‪ :‬إذا أعان الرّجل على معصية اللّه كان آثما ‪ . . .‬ثمّ قال ‪ :‬والصّليب ل يجوز‬
‫عمله بأجرة ول غير أجرة ‪ ،‬كما ل يجوز بيع الصنام ول عملها ‪ .‬كما ثبت في الصّحيح عن النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والصنام » ‪ .‬وثبت أنّه « لعن المصوّرين‬
‫»‪.‬‬
‫وصانع الصّليب ملعون لعنه اللّه ورسوله ‪.‬‬
‫ومن أخذ عوضا عن عين محرّمة مثل أجرة حامل الخمر وأجرة صانع الصّليب وأجرة البغيّ ونحو ذلك ‪،‬‬
‫فليتصدّق به ‪ ،‬وليتب من ذلك العمل المحرّم ‪ ،‬وتكون صدقته بالعوض كفّارة لما فعله ‪ ،‬فإنّ هذا العوض ل‬
‫يجوز النتفاع به ‪ ،‬لنّه عوض خبيث ‪ .‬نصّ عليه المام أحمد في مثل حامل الخمر ‪ ،‬ونصّ عليه أصحاب‬
‫مالك وغيرهم ‪.‬‬

‫تصوير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّصوير ل غة ‪ :‬صنع ال صّورة ‪ .‬وصورة الشّيء هي هيئته الخا صّة الّتي يتميّز بها عن غيره ‪ .‬وفي‬ ‫‪1‬‬

‫أسمائه تعالى ‪ ":‬المصوّر "‪ ،‬ومعناه ‪ :‬الّذي صوّر جميع الموجودات ورتّبها ‪ ،‬فأعطى كلّ شيء منها صورته‬
‫الخاصّة وهيئته المفردة ‪ ،‬على اختلفها وكثرتها ‪.‬‬
‫وورد في حديث ابن عمر تسمية الوجه صورة ‪ ،‬قال رضي ال عنه ‪ « :‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن‬
‫تضرب الصّورة ‪ ،‬أو نهى عن الوسم في الوجه » أي ‪ :‬أن يضرب الوجه أو يوسم الحيوان في وجهه ‪.‬‬
‫والتّصوير أيضا ‪ :‬ذكر صورة الشّيء ‪ ،‬أي ‪ :‬صفته ‪ ،‬يقال ‪ :‬صوّرت لفلن المر ‪ ،‬أي ‪ :‬وصفته له ‪.‬‬
‫والتّصوير أيضا ‪ :‬صنع الصّورة الّتي هي تمثال الشّيء ‪ ،‬أي ‪ :‬ما يماثل الشّيء ويحكي هيئته الّتي هو عليها‬
‫ل‪.‬‬
‫‪ ،‬سواء أكانت الصّورة مجسّمة أو غير مجسّمة ‪ ،‬أو كما يعبّر بعض الفقهاء ‪ :‬ذات ظلّ أو غير ذات ظ ّ‬
‫والمراد بالصّورة المجسّمة أو ذات الظّلّ ما كانت ذات ثلثة أبعاد ‪ ،‬أي لها حجم ‪ ،‬بحيث تكون أعضاؤها‬
‫نافرة يمكن أن تتميّز باللّمس ‪ ،‬بالضافة إلى تميّزها بالنّظر ‪.‬‬
‫وأمّا غير المجسّمة ‪ ،‬أو الّتي ليس لها ظلّ ‪ ،‬فهي المسطّحة ‪ ،‬أو ذات البعدين ‪ ،‬وتتميّز أعضاؤها بالنّظر‬
‫فقط ‪ ،‬دون اللّمس ‪ ،‬لنّها ليست نافرة ‪ ،‬كالصّور الّتي على الورق ‪ ،‬أو القماش ‪ ،‬أو السّطوح الملساء ‪.‬‬
‫والتّصوير والصّورة في اصطلح الفقهاء يجري على ما جرى عليه في اللّغة ‪.‬‬
‫سنّة حديث عائشة رضي ال عنها‬
‫وقد تسمّى الصّورة تصويرة ‪ ،‬وجمعها تصاوير ‪ ،‬وقد ورد من ذلك في ال ّ‬
‫في شأن السّتر قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أميطي عنّا قرامك هذا ‪ ،‬فإنّه ل تزال تصاويره تعرض في‬
‫صلتي » ‪.‬‬
‫أنواع الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 2‬إنّ الصّورة ‪ -‬بالضافة إلى ما ذكرناه من الصّور الثّابتة ‪ -‬قد تكون صورة مؤقّتة كصورة الشّيء في‬
‫ل للسّطح ‪ ،‬فإن انتقل الشّيء‬
‫المرآة ‪ ،‬وصورته في الماء والسّطوح اللمعة ‪ ،‬فإنّها تدوم ما دام الشّيء مقاب ً‬
‫عن المقابلة انتهت صورته ‪.‬‬
‫ومن الصّور غير الدّائمة ‪ :‬ظلّ الشّيء إذا قابل أحد مصادر الضّوء ‪ .‬ومنه ما كانوا يستعملونه في بعض‬
‫العصور السلميّة ‪ ،‬ويسمّونه ‪ :‬صور الخيال ‪ ،‬أو صور خيال الظّلّ ‪ .‬فإنّهم كانوا يقطعون من الورق‬
‫صورا للشخاص ‪ ،‬ثمّ يمسكونها بعصيّ صغيرة ‪ ،‬ويحرّكونها أمام السّراج ‪ ،‬فتنطبع ظللها على شاشة‬
‫بيضاء يقف خلفها المتفرّجون ‪ ،‬فيرون ما هو في الحقيقة صورة الصّورة ‪ .‬ومن الصّور غير الدّائمة ‪:‬‬
‫الصّور التّليفزيونيّة ‪ ،‬فإنّها تدوم ما دام الشّريط متحرّكا فإذا وقف انتهت الصّورة ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ثمّ إنّ الصّورة قد تكون لشيء حيّ عاقل ذي روح ‪ ،‬كصورة النسان ‪.‬‬
‫أو غير عاقل ‪ ،‬كصورة الطّائر أو السد ‪ .‬أو لحيّ غير الحيوان كصور الشجار والزّهور والعشاب ‪ .‬أو‬
‫للجمادات كصور الشّمس والقمر والنّجوم والجبال ‪ ،‬أو صور المصنوعات النسانيّة كصورة منزل أو سيّارة‬
‫أو منارة أو سفينة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّماثيل ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّماثيل جمع تمثال " بكسر التّاء " وتمثال الشّيء ‪ :‬صورته في شيء آخر ‪ .‬وهو من المماثلة ‪ ،‬وهي‬
‫المساواة بين الشّيئين ‪ .‬والتّمثيل ‪ :‬التّصوير ‪ .‬يقال ‪ :‬مثّل له الشّيء إذا صوّره له كأنّه ينظر إليه ‪ ،‬ومثّلت له‬
‫كذا ‪ :‬إذا صوّرت له مثاله بكتابة أو غيرها ‪ ،‬وفي الحديث ‪ « :‬أشدّ النّاس عذابا ممثّل من الممثّلين » أي‬
‫مصوّر ‪ .‬وظلّ ك ّل شيء تمثاله ‪ .‬فالفرق بين التّمثال وبين الصّورة ‪ :‬أنّ صورة الشّيء قد يراد بها الشّيء‬
‫نفسه ‪ ،‬وقد يراد به غيره ممّا يحكي هيئة الصل ‪ ،‬أمّا التّمثال فهو الصّورة الّتي تحكي الشّيء وتماثله ‪ ،‬ول‬
‫يقال لصورة الشّيء في نفسه ‪ :‬إنّها تمثاله ‪.‬‬
‫ن المسيح‬
‫‪ - 5‬وممّا يبيّن أنّ التّمثال أيضا في اللّغة يستعمل لصور الجمادات ما ورد في صحيح البخاريّ أ ّ‬
‫ال ّدجّال يأتي ومعه تمثال الجنّة والنّار ‪.‬‬
‫ن أكثرهم ل يفرّقون في الستعمال بين لفظي ( الصّورة )‬
‫أمّا في عرف الفقهاء ‪ ،‬فإنّه باستقراء كلمهم تبيّن أ ّ‬
‫( والتّمثال ) ‪ ،‬إل أنّ بعضهم خصّ التّمثال بصورة ما كان ذا روح ‪ ،‬أي صورة النسان أو الحيوان ‪ ،‬سواء‬
‫أكان مجسّما أو مسطّحا ‪ ،‬دون صورة شمس أو قمر أو بيت ‪ ،‬وأمّا الصّورة فهي أعمّ من ذلك ‪ .‬نقله ابن‬
‫عابدين عن المغرب ‪.‬‬
‫وهذا البحث جار على الصطلح الغلب عند الفقهاء ‪ ،‬وهو أنّ الصّورة الّتي تحكي الشّيء ‪ ،‬والتّمثال بمعنى‬
‫واحد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الرّسم ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّسم في اللّغة ‪ :‬أثر الشّيء ‪ .‬وقيل ‪ :‬بقيّة الثر ‪ .‬وأثر الشّيء قد يشاكله في الهيئة ‪ .‬ومن هنا سمّوا "‬ ‫‪6‬‬

‫الرّو سم " ‪ ،‬و هو الخش بة الّ تي في ها نقوش يخ تم ب ها الشياء المراد بقاؤ ها مخفاة ‪ ،‬لئل ت ستعمل ‪ .‬وقال ا بن‬
‫سيده ‪ " :‬الرّو سم الطّا بع " ‪ .‬وم نه " المر سوم " لنّه يخ تم بخا تم ‪ .‬والرّ سم في ال ستعمال المعا صر بمع نى ‪:‬‬
‫ال صّورة المسطّحة ‪ ،‬أو التّصوير المسطّح ‪ ،‬إذا كان معمول باليد ‪ .‬ول تسمّى ال صّورة الفوتوغرافيّة رسما ‪.‬‬
‫بل يقال ‪ :‬رسمت دارا ‪ ،‬أو إنسانا ‪ ،‬أو شجرة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّزويق ‪ ،‬والنّقش ‪ ،‬والوشي ‪ ،‬والرّقم ‪:‬‬
‫‪ - 7‬هذه الكلمات الربع تكاد تكون بمعنى واحد ‪ ،‬وهو تجميل الشّيء المسطّح أو غير المسطّح بإضافة‬
‫أشكال تجميليّة إليه ‪ ،‬سواء أكانت أشكال هندسيّة أو نمنمات أو صورا أو غير ذلك ‪ .‬قال صاحب اللّسان ‪:‬‬
‫ل منها يكون بالصّور أو بغيرها ‪.‬‬
‫ثوب منمنم أي ‪ :‬موقوم موشّى ‪ ،‬وقال ‪ :‬النّقش ‪ :‬النّمنمة ‪ .‬فك ّ‬
‫د ‪ -‬النّحت ‪:‬‬
‫سكّين ‪ ،‬حتّى يكون ما يبقى‬
‫‪ - 8‬النّحت ‪ :‬الخذ من كتلة صلبة كالحجر أو الخشب بأداة حادّة كالزميل أو ال ّ‬
‫منها على الشّكل المطلوب ‪ ،‬فإن كان ما بقي يمثّل شيئا آخر فهو تمثال أو صورة ‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫ترتيب هذا البحث ‪:‬‬
‫‪ - 9‬يحتوي هذا البحث على ما يلي ‪:‬‬
‫ل ‪ :‬ما يتعلّق من الحكام بالصّورة النسانيّة ‪.‬‬
‫أ ّو ً‬
‫ثانيا ‪ :‬أحكام التّصوير ‪ ،‬أي ‪ :‬صناعة الصّور ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أحكام اقتناء الصّور ‪ ،‬أي ‪ :‬اتّخاذها واستعمالها ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أحكام الصّور من حيث التّعامل والتّعرّف فيها ‪.‬‬
‫القسم الوّل ‪ :‬ما يتعلّق من الحكام بالصّورة النسانيّة ‪:‬‬
‫‪ - 10‬ينبغي للنسان أن يعتني بتجميل صورته الظّاهرة ‪ ،‬بالضافة إلى اعتنائه بتكميل صورته الباطنة ‪،‬‬
‫ويقوم بحقّ اللّه تعالى بشكره على أنّه جمّل صورته ‪.‬‬
‫والعناية بالصّورة الباطنة تكون باليمان والتّطهّر من الذّنوب والشّكر للّه ‪ ،‬والتّجمّل بالخلق الحميدة ‪.‬‬
‫والعناية بالصّورة الظّاهرة تكون بالتّطهّر بالوضوء والغتسال والتّنظّف وإزالة التّفث ‪ ،‬والتّزيّن بالزّينة‬
‫المشروعة من العناية بالشّعر والملبس الحسنة وغير ذلك ‪ ( ،‬ر ‪ :‬زينة ) ‪.‬‬
‫‪ - 11‬ول يحلّ للنسان أن يشوّه جسمه بإتلف عضو من أعضائه ‪ ،‬أو إخراجه عن وضعه الّذي خلقه اللّه‬
‫عليه ‪ .‬كما ل يحلّ له أن يفعل ذلك بغيره ‪ ،‬إل حيث أذن اللّه تعالى بذلك وقد « نهى النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم عن ال ُنهْبى والمثلة » ‪ ( .‬ر ‪ :‬مثلة ) ‪ .‬كما ل يحلّ له أن يقصد تشويه نفسه بلبس ما ينفر النّاس منه‬
‫ويخرجه عن المعتاد ( ر ‪ :‬ألبسة ) ‪.‬‬
‫ومن ذلك أنّ « النّبيّ صلى ال عليه وسلم نهى أن يمشي الرّجل في نعل واحدة » أي ‪ :‬في إحدى قدميه دون‬
‫الخرى ‪ .‬وشرع للمسلم أن يتطيّب ويتعطّر ‪ .‬وللمرأة زينتها الخاصّة ‪ .‬وراجع مباحث ( اكتحال ‪ .‬اختضاب‬
‫‪ .‬حليّ ‪ ،‬إلخ ) ‪.‬‬
‫‪ - 12‬أمّا الزّينة الباطنة ‪ ،‬فقد قال ابن القيّم ‪ :‬الجمال الباطن هو محلّ نظر اللّه من عبده وموضع محبّته ‪،‬‬
‫ن اللّه ل ينظر إلى صوركم وأموالكم ‪ ،‬ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » ‪ .‬وهذا‬
‫كما في الحديث ‪ « :‬إ ّ‬
‫الجمال الباطن يزيّن الصّورة الظّاهرة وإن لم تكن ذات جمال ‪ ،‬فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلوة‬
‫ن المؤمن يعطى مهابة وحلوة بحسب إيمانه ‪ ،‬فمن رآه هابه ‪،‬‬
‫بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصّفات ‪ .‬فإ ّ‬
‫ومن خالطه أحبّه ‪ ،‬وهذا أمر مشهود بالعيان ‪ .‬فإنّك ترى الرّجل الصّالح ذا الخلق الجميلة من أحلى النّاس‬
‫صورة ‪ ،‬وإن كان غير جميل ‪ ،‬ول سيّما إذا رزق حظّا من صلة اللّيل ‪ ،‬فإنّها تنوّر الوجه ‪.‬‬
‫ص اللّه بها بعض الصّور عن بعض ‪ ،‬وهي من زيادة الخلق الّتي قال اللّه‬
‫قال ‪ :‬وأمّا الجمال الظّاهر فزينة خ ّ‬
‫فيها ‪َ { :‬يزِيدُ في الخَ ْلقِ مَا َيشَاءُ } قال المفسّرون ‪ :‬هو الصّوت الحسن والصّورة الحسنة ‪ .‬والقلوب مطبوعة‬
‫على محبّته ‪ ،‬كما هي مفطورة على استحسانه ‪.‬‬
‫ل من الجمال الظّاهر والجمال الباطن نعمة من اللّه تعالى توجب على العبد شكرا بالتّقوى‬
‫قال ‪ :‬وك ّ‬
‫والصّيانة ‪ ،‬وبهما يزداد جمالً على جماله ‪.‬‬
‫وإن استعمل جماله في معاصي اللّه قلب اللّه محاسنه شينا وقبحا ‪ .‬وكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يدعو‬
‫النّاس إلى جمال الباطن بجمال الظّاهر ‪ « ،‬قال جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي ال عنه ‪ :‬قال لي رسول‬
‫ن خُلُ َقكَ » ‪ « .‬وكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنت امرؤ حسّن اللّه خَلْقَك ‪ ،‬فحسّ ْ‬
‫أجمل الخلق وأحسنهم وجها » ‪ « .‬وقد سئل البراء بن عازب ‪ :‬أكان وجه النّبيّ صلى ال عليه وسلم مثل‬
‫السّيف ؟ فقال ‪ :‬ل ‪ ،‬بل مثل القمر » ‪ .‬وكان صلى ال عليه وسلم يستحبّ أن يكون الرّسول الّذي يرسل إليه‬
‫ن السم » وقد أمتع‬
‫حسن الوجه حسن السم ‪ ،‬فكان يقول ‪ « :‬إذا َأ ْب َر ْدتُم إليّ َبرِيدا فاجعلوه حسنَ الوجه حس َ‬
‫اللّه عباده المؤمنين في دار كرامته بحسن الصّور ‪ ،‬كما في الحديث « أوّل ُزمْرة تدخل الجنّ َة على صورةِ‬
‫ب إضاءةً ‪ ،‬قلوبُهم على قلبِ رجل واحد ‪ ،‬يسبّحون اللّه بُكرة‬
‫القمر ليل َة البدر ‪ ،‬والّذين على أثرهم كأشدّ كوك ٍ‬
‫وعشيّة ‪ .‬صورهم على صورة القمر ليلة البدر »‪.‬‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬حكم التّصوير " صناعة الصّور "‬
‫أ ‪ -‬تحسين صورة الشّيء المصنوع ‪:‬‬
‫‪ - 13‬يستحسن للصّانع إذا صنع شيئا أن يحسّن صورة ذلك الشّيء ‪ ،‬إذ إنّ ذلك من إتقان العمل وإحسانه ‪.‬‬
‫ل شَيءٍ خَلَقَه َو َبدَأَ‬
‫شهَاد ِة العَزيزُ الرّحيمُ الّذي َأحْسنَ ك ّ‬
‫وقد مدح اللّه تعالى نفسه بقوله ‪ { :‬ذَلكَ عَاِلمُ الغَيبِ وال ّ‬
‫ن صُ َورَكم وإليه ال َمصِيرُ }‬
‫حقّ وصَ ّورَكم َفَأحْسَ َ‬
‫سمَوَاتِ والرضَ بِال َ‬
‫ن طِينٍ } وقال ‪ { :‬خََلقَ ال ّ‬
‫نمْ‬
‫خَ ْلقَ النسا ِ‬
‫ل أحدُكم عملً أنْ يُتقنه » وقال ‪ « :‬إنّ اللّه َكتَبَ‬
‫عمِ َ‬
‫ب إذا َ‬
‫وفي الحديث عن النّبيّ أنّه قال ‪ « :‬إنّ اللّه ُيحِ ّ‬
‫ن على كلّ شيء ‪ ،‬فإذا قتلتم فأَحسِنُوا القِتلة ‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ‪ . . .‬الحديث » ‪.‬‬
‫الحسا َ‬
‫ب ‪ -‬تصوير المصنوعات ‪:‬‬
‫سيّارة والسّفينة والمسجد وغير ذلك‬
‫‪ - 14‬ل بأس بتصوير الشياء الّتي يصنعها البشر ‪ ،‬كصورة المنزل وال ّ‬
‫اتّفاقا ‪ ،‬لنّ للنسان أن يصنعها ‪ ،‬فكذلك له أن يصوّرها ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬صناعة تصاوير الجمادات المخلوقة ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ل بأس بتصوير الجمادات الّتي خلقها اللّه تعالى ‪ -‬على ما خلقها عليه ‪ -‬كتصوير الجبال والودية‬
‫والبحار ‪ ،‬وتصوير الشّمس والقمر والسّماء والنّجوم ‪ ،‬دون اختلف بين أحد من أهل العلم ‪ ،‬إلّا من شذّ ‪.‬‬
‫غير أنّ ذلك ل يعني جواز صناعة شيء منها إذا علم أنّ الشّخص المصنوعة له يعبد تلك الصّورة من دون‬
‫ن ذلك ليس‬
‫اللّه ‪ ،‬وذلك كعبّاد الشّمس أو النّجوم ‪ .‬أشار إلى ذلك ابن عابدين ‪ .‬ويستدلّ لحكم هذه المسألة وأ ّ‬
‫بداخل في التّصوير المنهيّ عنه بما يأتي في المسألة التّالية وما بعدها ‪.‬‬
‫ن من‬
‫وقد ن قل ابن ح جر في الفتح عن أبي محمّد الجوين يّ أنّه ن قل وجها بمنع تصوير الشّمس والقمر ‪ ،‬ل ّ‬
‫الكفّار من عبدهما من دون اللّه ‪ ،‬فيمتنع تصويرهما لذلك ‪.‬‬
‫ووجّهه ابن حجر بعموم قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الّذين يضاهون بخلق اللّه » وقوله في الحديث‬
‫القدسيّ ‪ « :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلُق خلقا كخلقي » فإنّه يتناول ما فيه روح وما ل روح فيه ‪ .‬غير أنّ هذا‬
‫مُؤوّل وخاصّ بما فيه روح كما يأتي ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تصوير النّباتات والشجار ‪:‬‬
‫‪ -‬جمهور الفقهاء على أنّه ل بأس شرعا بتصوير العشاب والشجار والثّمار وسائر المخلوقات النّباتيّة ‪،‬‬ ‫‪16‬‬

‫وسواء أكانت مثمرة أم ل ‪ ،‬وأنّ ذلك ل يدخل فيما نهي عنه من التّصاوير ‪ .‬ولم ينقل في ذلك خلف ‪ ،‬إل ما‬
‫روي عن مجاهد أنّه رأى تحريم تصوير الشّجر المثمر دون الشّجر غير المثمر ‪ .‬قال عياض ‪ :‬هذا لم يقله‬
‫أحد غير مجاهد ‪.‬‬
‫ن في‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬وأظنّ مجاهدا سمع حديث أبي هريرة ‪ ،‬ففيه ‪ « :‬فَ ْل َيخْلقوا ذرّة ‪ ،‬وليخلقوا شعيرة » فإ ّ‬
‫ذكر ال ّذرّة إشارة إلى ما فيه روح ‪ ،‬وفي ذكر الشّعيرة إشارة إلى ما ينبت ممّا يؤكل ‪ ،‬وأمّا ما ل روح فيه‬
‫ول يثمر فلم تقع الشارة إليه ‪.‬‬
‫وكراهة تصوير النّباتات والشجار وجه في مذهب أحمد ‪ ،‬والمذهب على خلفه ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من صوّر صورة في الدّنيا كلّف أن ينفخ فيها‬
‫ج الجمهور بأ ّ‬
‫وقد احت ّ‬
‫الرّوح ‪ ،‬وليس بنافخ » فخصّ النّهي بذوات الرواح وليس الشّجر منها ‪ ،‬وبحديث ابن عبّاس رضي ال‬
‫عنهما أنّه نهى المصوّر عن التّصوير ‪ ،‬ثمّ قال له ‪ " :‬إن كنت فاعلً فصوّر الشّجر وما ل روح فيه "قال‬
‫ن صورة الحيوان لمّا أبيحت بعد قطع رأسها ‪ -‬لنّها ل تعيش بدونه ‪ -‬دلّ ذلك على إباحة‬
‫الطّحاويّ ‪ :‬ول ّ‬
‫تصوير ما ل روح فيه أصلً ‪.‬‬
‫بل إنّ في بعض روايات حديث عائشة رضي ال عنها « أنّ جبريل عليه السلم قال للنّبيّ صلى ال عليه‬
‫ن الشّجرة في الصل ل يتعلّق‬
‫وسلم مر برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » فهذا تنبيه على أ ّ‬
‫النّهي بتصويرها ‪.‬‬
‫هذا ما يذكره الفقهاء في الستدلل على أنّه ل يحرم تصوير الشّجر والنّبات وما ل روح فيه‬
‫وفي مسند أحمد من حديث عليّ رضي ال عنه « أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى ال عليه وسلم إنّها ثلث‪ ،‬لن‬
‫يلج عليك مََلكٌ ما دام فيها واحد منها ‪ :‬كلب ‪ ،‬أو جنابة ‪ ،‬أو صورة روح » ‪.‬‬
‫هف – تصوير صورة الحيوان أو النسان ‪:‬‬
‫‪ – 17‬هذا النّوع من التّصوير فيه اختلف بين الفقهاء وتفصيل يتبيّن فيما يلي ‪ ،‬وإلى هذا النّوع خاصّة‬
‫ينصرف قول من يطلق تحريم التّصوير ‪ ،‬دون غيره من النواع المتقدّم ذكرها‪.‬‬
‫التّصوير في الدّيانات السّابقة ‪:‬‬
‫ن لَ ُه مَا َيشَاءُ مِنْ‬
‫‪ - 18‬قال مجاهد قوله تعالى في حقّ سليمان عليه السلم وطاعة الجنّ له ‪َ { :‬ي ْعمَلُو َ‬
‫َمحَارِيبَ َو َتمَاثِيلَ َوجِفَانٍ كَالجَوَابِ } قال ‪ :‬كانت صورا من نحاس ‪ .‬أخرجه الطّبريّ ‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬كانت من‬
‫الزّجاج والخشب أخرجه عبد ال ّرزّاق ‪.‬‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬كان ذلك جائزا في شريعتهم ‪ ،‬وكانوا يعملون أشكال النبياء والصّالحين منهم على هيئتهم في‬
‫العبادة ليتعبّدوا كعبادتهم ‪ .‬وقال أبو العالية ‪ :‬لم يكن ذلك في شريعتهم حراما ‪ .‬وقال مثل ذلك الجصّاص ‪.‬‬
‫ن أمّ حبيبة وأمّ سلمة رضي ال عنهما ذكرتا للنّبيّ صلى ال‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬ولكن ثبت في الصّحيحين « أ ّ‬
‫عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة ‪ ،‬فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدا ‪ ،‬وصوّروا فيه تلك الصّور ‪ .‬أولئك‬
‫شرار الخلق عند اللّه » ‪.‬‬
‫ن ذلك يشعر بأنّه لو كان جائزا في شريعتهم ما أطلق على الّذي فعله أنّه شرّ الخلق ‪ ،‬هكذا قال ‪ .‬لكنّ‬
‫قال ‪ :‬فإ ّ‬
‫الظهر أنّه ذمّهم لبناء المساجد على القبور ‪ ،‬ولجعلهم الصّور في المساجد ‪ ،‬ل لمطلق التّصوير ‪ ،‬ليوافق‬
‫الية ‪ ،‬واللّه أعلم ‪.‬‬
‫تصوير صورة النسان والحيوان في الشّريعة السلميّة ‪:‬‬
‫‪ - 19‬اختلف العلماء في حكم تصوير ذوات الرواح من النسان أو الحيوان على ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫‪ - 20‬القول الوّل ‪ :‬إنّ ذلك غير حرام ‪ .‬ول يحرم منه إل أن يصنع صنما يعبد من دون اللّه تعالى ‪ ،‬لقوله‬
‫ن اللّه‬
‫حتُونَ والّلهُ خَلَقَكم وما َت ْعمَلونَ } ولقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬قال َأ َت ْعبُدونَ ما َت ْن ِ‬
‫ورسولَه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والصنام » ‪.‬‬
‫ن َمحَارِيبَ‬
‫ق سليمان عليه السلم ‪َ { :‬ي ْعمَلونَ له مَا َيشَا ُء مِ ْ‬
‫ج القائلون بالباحة بقوله تعالى في ح ّ‬
‫‪ -‬واحت ّ‬
‫َو َتمَاثِيلَ َوجِفَانٍ كَا ْلجَوَابِ } ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وشرع من قبلنا شرع لنا لقوله تعالى ‪ { :‬أولئك الّذين هدى اللّه فبهداهم اقتده } ‪.‬‬
‫واستدلّوا بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في حقّ المصوّرين « الّذين يضاهون بخلق اللّه » وفي بعض‬
‫الرّوايات « الّذين يشبّهون بخلق اللّه » وقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى ‪:‬‬
‫« ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا حبّة ‪ ،‬أو ليخلقوا ذرّة » قالوا ‪ :‬ولو كان هذا على ظاهره‬
‫ن ذلك ل يحرم بالتّفاق ‪ ،‬فتعيّن حمله على‬
‫لقتضى تحريم تصوير الشّجر والجبال والشّمس والقمر ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫من قصد أن يتحدّى صنعة الخالق عزّ وجلّ ويفتري عليه بأنّه يخلق مثل خلقه ‪.‬‬
‫ن أشدّ النّاس عذابا عند اللّه يوم القيامة‬
‫‪ - 21‬واستدلّوا بقوله صلى ال عليه وسلم في حقّ المصوّرين « إ ّ‬
‫ن أش ّد ما فيه‬
‫المصوّرون » قالوا ‪ :‬لو حمل على التّصوير المعتاد لكان ذلك مشكلً على قواعد الشّريعة ‪ .‬فإ ّ‬
‫أن يكون معصية كسائر المعاصي ليس أعظم من الشّرك وقتل النّفس والزّنا ‪ ،‬فكيف يكون فاعله أشدّ النّاس‬
‫عذابا ‪ ،‬فتعيّن حمله على من صنع التّماثيل لتعبد من دون اللّه ‪.‬‬
‫‪ -‬واحتجّوا أيضا بما يأتي من استعمال الصّور في بيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم وبيوت أصحابه ‪ ،‬ومن‬
‫جملة ذلك تعاملهم بالدّنانير الرّوميّة والدّراهم الفارسيّة دون نكير ‪ ،‬وبالحوال الفرديّة للستعمال الواقع منهم‬
‫ممّا يرد ذكره في تضاعيف هذا البحث ‪ ،‬دون تأويل ‪ .‬وقد نقل اللوسيّ هذا القول في تفسيره عند تفسير‬
‫الية " ‪ " 13‬من سورة سبأ ‪ ،‬حيث ذكر أنّ ال ّنحّاس وم ّكيّ بن أبي طالب وابن الفرس نقلوه عن قوم ولم يعيّنهم‬
‫‪.‬‬
‫ن هذا القول يغفل ذكره الفقهاء في كتبهم المطوّلة والمختصرة ‪ ،‬ويقتصرون في ذكر الخلف‬
‫من أجل ذلك فإ ّ‬
‫على القوال التية ‪:‬‬
‫‪ - 22‬القول الثّاني ‪ :‬وهو مذهب المالكيّة وبعض السّلف ‪ ،‬ووافقهم ابن حمدان من الحنابلة ‪ ،‬أنّه ل يحرم‬
‫من التّصاوير إل ما جمع الشّروط التية ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬أي تكون تمثالً مجسّدا ‪ ،‬فإن كانت‬
‫الشّرط الوّل ‪ :‬أن تكون صورة النسان أو الحيوان ممّا له ظ ّ‬
‫مسطّحة لم يحرم عملها ‪ ،‬وذلك كالمنقوش في جدار ‪ ،‬أو ورق ‪ ،‬أو قماش ‪.‬‬
‫ن تصوير ما له ظلّ حرام ‪.‬‬
‫بل يكون مكروها ‪ .‬ومن هنا نقل ابن العربيّ الجماع على أ ّ‬
‫الشّرط الثّاني ‪ :‬أن تكون كاملة العضاء ‪ ،‬فإن كانت ناقصة عضو ممّا ل يعيش الحيوان مع فقده لم يحرم ‪،‬‬
‫كما لو صوّر الحيوان مقطوع الرّأس أو مخروق البطن أو الصّدر ‪.‬‬
‫الشّرط الثّالث ‪ :‬أن يصنع الصّورة ممّا يدوم من الحديد أو النّحاس أو الحجارة أو الخشب أو نحو ذلك ‪ ،‬فإن‬
‫ن في هذا النّوع عندهم‬
‫صنعها ممّا ل يدوم كقشر بطّيخ أو عجين لم يحرم ‪ ،‬لنّه إذا نشف تقطّع ‪ .‬على أ ّ‬
‫خلفا ‪ ،‬فقد قال الكثر منهم ‪ :‬يحرم ولو كان ممّا ل يدوم ‪ .‬ونقل قصر التّحريم على ذوات الظّلّ عن بعض‬
‫ي‪.‬‬
‫السّلف أيضا كما ذكره النّوو ّ‬
‫وقال ا بن حمدان من الحنابلة ‪ :‬المراد بال صّورة أي ‪ :‬المحرّ مة ما كان ل ها ج سم م صنوع له طول وعرض‬
‫وعمق ‪.‬‬
‫‪ - 23‬القول الثّالث ‪ :‬أنّه يحرم تصوير ذوات الرواح مطلقا ‪ ،‬أي سواء أكان للصّورة ظلّ أو لم يكن ‪.‬‬
‫وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وتشدّد النّوويّ حتّى ادّعى الجماع عليه ‪ .‬وفي دعوى الجماع نظر يعلم ممّا يأتي ‪.‬‬
‫ن المالكيّة‬
‫وقد شكّك في صحّة الجماع ابن نجيم كما في الطّحطاويّ على الدّرّ ‪ ،‬وهو ظاهر ‪ ،‬لما تقدّم من أ ّ‬
‫ل يرون تحريم الصّور المسطّحة ‪ .‬ل يختلف المذهب عندهم في ذلك ‪.‬‬
‫وهذا التّحريم عند الجمهور هو من حيث الجملة ‪.‬‬
‫ويستثنى عندهم بعض الحالت المتّفق عليها أو المختلف فيها ممّا سيذكر فيما بعد ‪.‬‬
‫‪ -‬والتّصوير المحرّم صرّح الحنابلة بأنّه من الكبائر ‪ .‬قالوا ‪ :‬لما في الحديث من التّوعّد عليه بقول النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم « إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون » ‪ .‬أدلّة القولين الثّاني والثّالث‬
‫بتحريم التّصوير من حيث الجملة ‪:‬‬
‫‪ - 24‬استند العلماء في تحريم التّصوير من حيث الجملة إلى الحاديث التّالية ‪:‬‬
‫الحديث الوّل ‪ :‬عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬قدم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من سفر ‪ ،‬وقد‬
‫سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ‪ ،‬فلمّا رآه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هتكه ‪ ،‬وتلوّن وجهه ‪ .‬فقال ‪ :‬يا‬
‫عائشة ‪ :‬أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة الّذين يضاهون بخلق اللّه ‪ .‬قالت عائشة ‪ :‬فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو‬
‫ن من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة الّذين يشبّهون بخلق اللّه » ‪ .‬وفي‬
‫وسادتين » ‪ .‬وفي رواية أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫رواية أخرى قال ‪ « :‬إنّ أصحاب هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة ‪ ،‬ويقال لهم ‪ :‬أحيوا ما خلقتم »‪ .‬وفي‬
‫رواية ‪ « :‬إنّها قالت ‪ :‬فأخذت السّتر فجعلته مرفقة أو مرفقتين ‪ ،‬فكان يرتفق بهما في البيت » ‪ .‬وهذه‬
‫الرّوايات متّفق عليها ‪.‬‬
‫ن قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون » رواه الشّيخان أيضا‬
‫هذا وإ ّ‬
‫مرفوعا من حديث ابن مسعود رضي ال عنه ‪.‬‬
‫وقوله ‪ « :‬إنّ أصحاب هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم » روياه أيضا من حديث عبد‬
‫اللّه بن عمر رضي ال عنهما ‪.‬‬
‫الحديث الثّاني ‪ :‬عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬واعد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم جبريل أن‬
‫يأتيه في ساعة ‪ ،‬فجاءت تلك السّاعة ولم يأته ‪ .‬قالت ‪ :‬وكان بيده عصا فطرحها ‪ ،‬وهو يقول ‪ :‬ما يخلف اللّه‬
‫وعده ول رسله ‪ .‬ثمّ التفت ‪ ،‬فإذا جرو كلب تحت سرير ‪ ،‬فقال ‪ :‬متى دخل هذا الكلب ؟ فقلت ‪ :‬واللّه ما‬
‫دريت به ‪ .‬فأمر به فأخرج ‪ ،‬فجاءه جبريل ‪ ،‬فقال له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬وعدتني فجلست لك‬
‫ولم تأتني ؟ فقال ‪ :‬منعني الكلب الّذي كان في بيتك ‪ .‬إنّا ل ندخل بيتا فيه كلب ول صورة » ‪.‬‬
‫وروت ميمونة رضي ال عنها حادثة مثل هذه ‪ ،‬وفيها قول جبريل ‪ « :‬إنّا ل ندخل بيتا فيه كلب ول صورة‬
‫» ‪ .‬وروى عليّ بن أبي طالب رضي ال عنه أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم أخبره بحادثة جبريل ‪ ،‬وما قال‬
‫له ‪ .‬وروى القصّة أيضا أبو هريرة رضي ال عنه ‪ .‬الحديث الثّالث ‪ :‬عن أبي هريرة رضي ال عنه «‬
‫أنّه دخل دارا تبنى بالمدينة لسعيد ‪ ،‬أو لمروان ‪ ،‬فرأى مصوّرا يصوّر في الدّار ‪ ،‬فقال سمعت رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬قال اللّه تعالى ‪ :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي ‪ ،‬فليخلقوا ذرّة ‪ ،‬أو‬
‫ليخلقوا حبّة ‪ ،‬أو ليخلقوا شعيرة » ‪.‬‬
‫الحديث الرّابع ‪ :‬عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه جاءه رجل فقال ‪ :‬إنّي رجل أصوّر هذه الصّور‬
‫فأفتني فيها ‪ .‬فقال ‪ :‬ادن منّي ‪ ،‬فدنا منه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ادن منّي ‪ ،‬فدنا منه ‪ ،‬حتّى وضع يده على رأسه ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫أنبّئك بما سمعت من رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬كلّ‬
‫ل صورة صوّرها نفسا ‪ ،‬فيعذّبه في جهنّم » ثمّ قال ‪ :‬إن كنت ل بدّ فاعلً‬
‫مصوّر في النّار ‪ ،‬يجعل له بك ّ‬
‫فاصنع الشّجر وما ل نفس له ‪.‬‬
‫الحديث الخامس ‪ :‬عن أبي الهيّاج السديّ أ ّ‬
‫ن عليّا رضي ال عنه قال له ‪ « :‬أل أبعثك على ما بعثني عليه‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أل تدع صورة إل طمستها ‪ ،‬ول قبرا مشرفا إل سوّيته » ‪.‬‬
‫تعليل تحريم التّصوير ‪:‬‬
‫‪ - 25‬اختلف العلماء في علّة تحريم التّصوير على وجوه ‪:‬‬
‫الوجه الوّل ‪ :‬أنّ العلّة هي ما في التّصوير من مضاهاة خلق اللّه تعالى وأصل التّعليل بذلك وارد في‬
‫الحاديث المتقدّمة ‪ ،‬كلفظ حديث عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬الّذين يضاهون بخلق اللّه » وحديث أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه ‪ « :‬ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي » ويشهد لذلك حديث ‪ « :‬من صوّر صورة كلّف‬
‫أن ينفخ فيها الرّوح »‬
‫وحديث ‪ « :‬أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون ‪ .‬يقال لهم ‪ :‬أحيوا ما خلقتم » ‪.‬‬
‫وممّا يكدّر على التّعليل بهذا أمران ‪:‬‬
‫ن التّعليل بهذا يقتضي منع تحريم تصوير الشّمس والقمر والجبال والشّجر وغير ذلك من غير ذوات‬
‫الوّل ‪ :‬أ ّ‬
‫الرواح ‪.‬‬
‫ن التّعليل بذلك يقتضي أيضا منع تصوير لعب البنات والعضو المقطوع ‪ ،‬وغير ذلك ممّا استثناه‬
‫والثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫العلماء من قضيّة التّحريم‬
‫ن المقصود بالتّعليل بهذه العلّة من صنع الصّورة متحدّيا قدرة‬
‫‪ -‬من أجل ذلك ذهب بعض العلماء إلى أ ّ‬
‫الخالق عزّ وجلّ ‪ ،‬ورأى أنّه قادر أن يخلق كخلقه ‪ ،‬فيريه اللّه تعالى عجزه يوم القيامة ‪ ،‬بأن يكلّفه أن ينفخ‬
‫الرّوح في تلك الصّور ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬أمّا رواية « أشدّ النّاس عذابا » فهي محمولة على من فعل الصّورة لتعبد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي فيمن‬
‫قصد المعنى الّذي في الحديث من مضاهاة خلق اللّه ‪ ،‬واعتقد ذلك ‪ ،‬فهذا كافر له من أشدّ العذاب ما للكفّار ‪،‬‬
‫ن اللّه تعالى قال شبيها بذلك في حقّ من ادّعى أنّه ينزّل‬
‫ويزيد عذابه بزيادة كفره " ‪ .‬ويتأيّد التّعليل بهذا بأ ّ‬
‫حيَ‬
‫ن ا ْفتَرَى عَلَى اللّ ِه َك ِذبَا أو قَالَ أُو ِ‬
‫ن َأظْلَمُ ِممّ ْ‬
‫مثل ما أنزل اللّه ‪ ،‬وأنّه ل أحد أظلم منه ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫سُأ ْنزِلُ مِثلَ مَا َأ ْنزَلَ الّلهُ } فهذا فيمن ادّعى مساواة الخالق في أمره ووحيه ‪،‬‬
‫ح إلي ِه شَيءٌ َو َمنْ قَالَ َ‬
‫إليّ ول ْم يُو َ‬
‫والوّل فيمن ادّعى مساواته في خلقه ‪ ،‬وكلهما من أشدّ النّاس عذابا ‪.‬‬
‫وممّا يحقّق هذا ما توحي به رواية أبي هريرة رضي ال عنه أنّ اللّه تعالى يقول في الحديث القدسيّ ‪« :‬‬
‫ن " ذهب " بمعنى قصد ‪ ،‬بذلك فسّرها ابن حجر ‪ .‬وبذلك يكون‬
‫ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي » فإ ّ‬
‫معناها أنّه أظلم النّاس بهذا القصد ‪ ،‬وهو أن يقصد أن يخلق كخلق اللّه تعالى‪ .‬ونقل الجصّاص قولً أنّ المراد‬
‫بهذه الحاديث " من شبّه اللّه بخلقه"‪.‬‬
‫‪ - 26‬الوجه الثّاني ‪ :‬كون التّصوير وسيلة إلى الغل ّو في غير اللّه تعالى بتعظيمه حتّى يئول المر إلى‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم بعث والنّاس‬
‫الضّلل والفتنان بالصّور ‪ ،‬فتعبد من دون اللّه تعالى ‪ .‬وذلك أ ّ‬
‫ينصبون تماثيل يعبدونها ‪ ،‬يزعمون أنّها تقرّبهم إلى اللّه زلفى ‪ ،‬فجاء السلم محطّما للشّرك والوثنيّة ‪ ،‬معلنا‬
‫ن شعاره الكبر " ل إله إل اللّه " ومسفّها لعقول هؤلء ‪ .‬ومن المناهج الّتي سلكتها الشّريعة الحكيمة لذلك ‪-‬‬
‫أّ‬
‫بالضافة إلى الحجّة والبيان والسّيف والسّنان ‪ -‬أن جاءت إلى ما من شأنه أن يكون وسيلة إلى الضّلل ول‬
‫منفعة ‪ ،‬أو منفعته أقلّ ‪ ،‬فمنعت إتيانه ‪ ،‬قال ابن العربيّ ‪ :‬والّذي أوجب النّهي عن التّصوير في شرعنا ‪-‬‬
‫واللّه أعلم ‪ -‬ما كانت العرب عليه من عبادة الوثان والصنام ‪ ،‬فكانوا يصوّرون ويعبدون ‪ ،‬فقطع اللّه‬
‫الذّريعة ‪ ،‬وحمى الباب ‪.‬‬
‫ن التّعليل بالمضاهاة وهو منصوص ‪ ،‬ل يمنع من التّعليل بهذه العلّة المستنبطة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ثمّ أشار ابن العربيّ أ ّ‬
‫نهى عن الصّورة ‪ ،‬وذكر علّة التّشبّه بخلق اللّه ‪ ،‬وفيها زيادة على هذا عبادتها من دون اللّه ‪ ،‬فنبّه على أنّ‬
‫عملها معصية ‪ ،‬فما ظنّك بعبادتها ‪.‬‬
‫واستند القائلون بهذا الوجه في التّعليل إلى ما في صحيح البخاريّ في تفسير سورة نوح ‪ ،‬معلّقا ‪ .‬عن عطاء‬
‫عن ابن عبّاس في ‪ :‬ودّ ‪ ،‬وسواع ‪ ،‬ويغوث ‪ ،‬ويعوق ‪ ،‬ونسر ‪ .‬قال ‪ " :‬هذه أسماء رجال صالحين من قوم‬
‫نوح ‪ ،‬فلمّا هلكوا أوحى الشّيطان إلى قومهم ‪ :‬أن انصبوا إلى مجالسهم الّتي كانوا يجلسون إليها أنصابا ‪،‬‬
‫وسمّوها بأسمائهم ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬فلم تعبد ‪ ،‬حتّى إذا هلك أولئك ‪ ،‬وتنسخ العلم ‪ ،‬عبدت "‪.‬‬
‫لكن إلى أيّ مدى أرادت الشّريعة المنع من التّصوير لتكفل سدّ الذّريعة ‪ :‬هل إلى منع التّصوير مطلقا ‪ ،‬أو‬
‫منع الصّور المنصوبة دون غير المنصوبة ‪ ،‬أو منع الصّور المجسّمة الّتي لها ظلّ ‪ ،‬لنّها الّتي كانت تعبد ؟‬
‫هذا موضع الخلف بين العلماء ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم شدّد أ ّولً وأمر بكسر الوثان ولطّخ‬
‫ن النّب ّ‬
‫وبناء على هذا الوجه رأى بعض العلماء أ ّ‬
‫الصّور ‪ ،‬ثمّ لمّا عرف ذلك المر واشتهر رخّص في الصّور المسطّحة وقال ‪ « :‬إل رقما في ثوب » ‪.‬‬
‫‪ - 27‬الوجه الثّالث ‪ :‬أنّ العلّة مجرّد الشّبه بفعل المشركين الّذين كانوا ينحتون الصنام ويعبدونها ‪ ،‬ولو لم‬
‫يقصد المصوّر ذلك ‪ ،‬ولو لم تعبد الصّورة الّتي يصنعها ‪ ،‬لكنّ الحال شبيهة بالحال ‪ .‬كما نهينا عن الصّلة‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫عند طلوع الشّمس وعند غروبها ‪ ،‬لئل نكون في ذلك مثل من يسجد لها حينئذ ‪ .‬كما قال النّب ّ‬
‫وسلم ‪ « :‬فإنّه يسجد لها حينئذ الكفّار » فكرهت الصّلة حينئذ لما تجرّه المشابهة من الموافقة ‪.‬‬
‫أشار إلى هذا المعنى ابن تيميّة ‪ .‬ونبّه عليه ابن حجر حيث قال ‪ :‬إنّ صورة الصنام هي الصل في منع‬
‫التّصوير لكن إذا قيل بهذه العلّة فهي ل تقتضي أكثر من الكراهة ‪.‬‬
‫‪ - 28‬الوجه الرّابع ‪ :‬أنّ وجود الصّورة في مكان يمنع دخول الملئكة إليه ‪.‬‬
‫وقد ورد الّنصّ على ذلك في حديث عائشة وحديث عليّ ‪.‬‬
‫ن تنصيص الحديث على أنّ الملئكة‬
‫وردّ التّعليل بهذا كثير من العلماء ‪ ،‬منهم الحنابلة ‪ ،‬كما يأتي ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ل تدخل بيتا فيه صورة ل يقتضي منع التّصوير ‪ ،‬كالجنابة ‪ ،‬فإنّها تمنع دخول الملئكة أيضا لما في بعض‬
‫الرّوايات « ل تدخل الملئكة بيتا فيه صورة ول كلب ول جنب » فل يلزم من ذلك منع الجنابة ‪.‬‬
‫ولع ّل امتناع دخول الملئكة إنّما هو لكون الصّورة محرّمة ‪ ،‬كما يحرم على المسلم أن يجلس على مائدة يدار‬
‫عليها الخمر ‪ .‬فامتناع دخولهم أثر التّحريم ‪ ،‬وليس علّة‪ .‬واللّه أعلم‪.‬‬
‫تفصيل القول في صناعة الصّور ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الصّور المجسّمة " ذوات الظّلّ "‬
‫‪ - 29‬صنعة الصّور المجسّمة محرّمة عند جمهور العلماء أخذا بالدلّة السّابقة ‪.‬‬
‫ويستثنى منها ما كان مصنوعا كلعبة للصّغار ‪ ،‬أو كان ممتهنا ‪ ،‬أو كان مقطوعا منه عضو ل يعيش بدونه ‪،‬‬
‫أو كان ممّا ل يدوم كصور الحلوى أو العجين ‪ ،‬على خلف وتفصيل يتبيّن في المباحث التّالية ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬صناعة الصّور المسطّحة ‪:‬‬
‫القول الوّل في صناعة الصّور المسطّحة‬
‫‪ - 30‬مذهب المالكيّة ومن ذكر معهم جواز صناعة الصّور المسطّحة مطلقا ‪ ،‬مع الكراهة ‪ .‬لكن إن كانت‬
‫فيما يمتهن فل كراهة بل خلف الولى ‪.‬‬
‫وتزول الكراهة إذا كانت الصّور مقطوعة عضو ل تبقى الحياة مع فقده ‪.‬‬
‫‪ - 31‬ومن الحجّة لهذا المذهب ما يلي ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬حديث أبي طلحة وعنه زيد بن خالد الجهنيّ ‪ ،‬ورواه سهل بن حنيف الصّحابيّ رضي ال عنهم ‪ ،‬أنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل تدخل الملئكة بيتا فيه صورة ‪ ،‬إل رقما في ثوب » فهذا الحديث‬
‫مقيّد ‪ ،‬فيحمل عليه كلّ ما ورد من النّهي عن التّصاوير ولعن المصوّرين ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يقول اللّه تعالى ‪ :‬في الحديث القدسيّ‬
‫‪ - 2 -‬حديث أبي هريرة مرفوعا أ ّ‬
‫« ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي ‪ ،‬فليخلقوا ذرّة ‪ ،‬أو ليخلقوا حبّة » ووجه الحتجاج به ‪ :‬أنّ اللّه‬
‫تعالى لم يخلق هذه الحياء سطوحا ‪ ،‬بل اخترعها مجسّمة ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬استعمال الصّور في بيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم كما تقدّم أنّها جعلت السّتر مرفقتين ‪ ،‬فكان يرتفق‬
‫ن فيهما الصّور " ‪.‬‬
‫بهما ‪ ،‬وفي بعض الرّوايات " وإ ّ‬
‫وفي بعض روايات الحديث قالت ‪ « :‬كان لنا ستر فيه تمثال طائر ‪ ،‬وكان الدّاخل إذا دخل استقبله ‪ ،‬فقال لي‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬حوّلي هذا ‪ ،‬فإنّي كلّما دخلت فرأيته ‪ ،‬ذكرت الدّنيا » فعلّل بذلك ‪ ،‬وكان صلى‬
‫ال عليه وسلم حريصا على أل يشغله أمر الدّنيا وزهرتها عن الدّعوة إلى اللّه والتّفرّغ لعبادته ‪ .‬وذلك ل‬
‫يقتضي التّحريم على أمّته ‪ .‬وفي رواية أنس رضي ال عنه أنّه قال لها ‪ « :‬أميطي عنّا قرامك هذا ‪ ،‬فإنّ‬
‫تصاويره ل تزال تعرض لي في صلتي » وعلّل في رواية ثالثة بغير هذا عندما هتك السّتر فقال « يا‬
‫عائشة ل تستري الجدار » وقال « إنّ اللّه لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطّين » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « أنّ عليّ بن أبي‬
‫ويوضّح هذا المعنى جليّا حديث سفينة رضي ال عنه مولى النّب ّ‬
‫طالب رضي ال عنه دعا النّبيّ صلى ال عليه وسلم إلى بيته ‪ ،‬فجاء فوضع يده فرجع ‪ ،‬فقالت فاطمة لعليّ ‪:‬‬
‫الحقه فانظر ما رجعه ‪ .‬فتبعه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ما ردّك ؟ قال ‪ :‬إنّه ليس لي ‪ -‬أو قال ‪ :‬لنبيّ ‪ -‬أن‬
‫يدخل بيتا مزوّقا » ‪.‬‬
‫ورواه عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما عند البخاريّ وأبي داود وفي روايته ‪ « :‬فرأى سترا موشيّا ‪ ،‬وفيها‬
‫أنّه صلى ال عليه وسلم قال ما لنا وللدّنيا ‪ ،‬ما لنا وللرّقم فقالت فاطمة فما تأمرنا فيه ؟ قال ‪ :‬ترسلين به إلى‬
‫أهل حاجة » ‪.‬‬
‫وفي رواية النّسائيّ أنّه كان في السّتر تصاوير ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬استعمال النّبيّ صلى ال عليه وسلم وأصحابه الدّنانير الرّوميّة والدّراهم الفارسيّة وعليها صور‬
‫ملوكهم ولم يكن عندهم نقود غيرها إلّا الفلوس ‪.‬‬
‫وقد ضرب عمر بن الخطّاب رضي ال عنه ‪ -‬على ما تذكره الكتب المؤلّفة في تاريخ النّقود ‪ -‬الدّراهم على‬
‫سكّة الفارسيّة ‪ ،‬فكان فيها الصّور ‪ ،‬وضرب الدّنانير معاوية رضي ال عنه وعليها الصّور بعد أن محا منها‬
‫ال ّ‬
‫الصّليب ‪ ،‬وضربها عبد الملك وعليها صورته متقلّدا سيفا ‪ ،‬ثمّ ضربها عبد الملك والوليد خالية من الصّور ‪.‬‬
‫‪ -‬ما نقل عن بعض ال صّحابة والتّابعين من استعمال ال صّور في ال سّتور وغيرها من المسطّحات ‪ .‬من‬ ‫‪5‬‬ ‫‪-‬‬
‫ذلك استعمال زيد بن خالد الجهن يّ رضي ال عنه لل سّتور ذات ال صّور ‪ ،‬وحديثه في ال صّحيحين ‪ .‬واستعمله‬
‫أ بو طل حة ر ضي ال ع نه وأقرّه سهل بن حن يف ر ضي ال ع نه ‪ ،‬وحديثه ما في الموطّأ وع ند التّرمذ يّ‬
‫والنّسائيّ ‪.‬‬
‫واعتمدوا على ما رووه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم من قوله « إل رقما في ثوب » ‪.‬‬
‫ن عروة كان يتّكئ على المرافق " الوسائد " الّتي فيها تصاوير‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن عروة بن الزّبير أ ّ‬
‫الطّير والرّجال ‪ .‬وروى الطّحاويّ بأسانيده أنّ نقش خاتم عمران بن حصين الصّحابيّ رضي ال عنه كان‬
‫رجلً متقلّدا سيفا ‪ .‬وأنّ نقش خاتم النّعمان بن مقرّن رضي ال عنه قائد فتح فارس ‪ ،‬كان إيل قابضا إحدى‬
‫يديه باسطا الخرى ‪ ،‬وعن القاسم قال كان نقش خاتم عبد اللّه ذبّابان ‪ ،‬وكان نقش خاتم حذيفة بن اليمان‬
‫رضي ال عنه كركيّان ‪ ،‬وروي أنّ نقش خاتم أبي هريرة رضي ال عنه ذبابتان ‪.‬‬
‫صدّيق رضي ال عنهم‬
‫ونقل ابن أبي شيبة بسنده عن ابن عون أنّه دخل على القاسم بن محمّد بن أبي بكر ال ّ‬
‫وهو بأعلى مكّة ببيته ‪ ،‬قال ‪ :‬فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء ‪ .‬قال ابن حجر ‪ :‬والقاسم‬
‫بن محمّد أحد فقهاء المدينة ‪ ،‬وهو راوي حديث عائشة ‪ ،‬وكان من أفضل أهل زمانه ‪.‬‬
‫وروى أحمد بسنده عن المسور بن مخرمة رضي ال عنه قال ‪ :‬دخلت على ابن عبّاس رضي ال عنهما‬
‫أعوده من وجع كان به ‪ .‬قلت ‪ :‬فما هذه التّصاوير في الكانون ؟ قال ‪ :‬أل ترى قد أحرقناها بالنّار ‪ .‬فلمّا‬
‫خرج المسور قال ‪ :‬اقطعوا رءوس هذه التّماثيل ‪ .‬قالوا ‪ :‬يا أبا العبّاس لو ذهبت بها إلى السّوق كان أنفق لها‬
‫قال ‪ :‬ل ‪ .‬فأمر بقطع رءوسها ‪.‬‬
‫القول الثّاني في صناعة الصّور غير ذوات الظّلّ " أي المسطّحة " ‪:‬‬
‫‪ - 32‬إنّها محرّمة كصناعة ذوات الظّلّ ‪ .‬وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬ونقل‬
‫عن كثير من السّلف ‪ .‬واستثنى بعض أصحاب هذا القول الصّور المقطوعة والصّور الممتهنة وأشياء أخرى‬
‫كما سيأتي في بقيّة هذا البحث ‪.‬‬
‫واحتجّوا للتّحريم بإطلق الحاديث الواردة في لعن النّبيّ صلى ال عليه وسلم للمصوّرين ‪ ،‬وأنّ المصوّر‬
‫ل صورة صوّرها ‪ .‬خرج من ذلك صور الشجار ونحوها ممّا‬
‫يعذّب يوم القيامة بأن يكلّف بنفخ الرّوح في ك ّ‬
‫ل روح فيه بالدلّة السّابق ذكرها‪ ،‬فيبقى ما عداها على التّحريم‪ .‬قالوا ‪ :‬وأمّا الحتجاج لباحة صنع الصّور‬
‫المسطّحة باستعمال النّبيّ صلى ال عليه وسلم الوسادتين اللّتين فيهما الصّور ‪ ،‬واستعمال الصّحابة والتّابعين‬
‫ن النّصّ ورد بتحريم التّصوير ولعن‬
‫لذلك ‪ ،‬فإنّ الستعمال للصّورة حيث جاز ل يعني جواز تصويرها ‪ ،‬ل ّ‬
‫المصوّر ‪ ،‬وهو شيء آخر غير استعمال ما فيه الصّورة ‪ .‬وقد علّل في بعض الرّوايات بمضاهاة خلق اللّه‬
‫والتّشبيه به ‪ ،‬وذلك إثم غير متحقّق في الستعمال ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الصّور المقطوعة والصّور النّصفيّة ونحوها ‪:‬‬
‫‪ - 33‬تقدّم أنّ المالكيّة ل يرون تحريم تصوير النسان أو الحيوان ‪ -‬سواء أكانت الصّورة تمثال مجسّما أو‬
‫صورة مسطّحة إن كانت ناقصة عضو من العضاء الظّاهرة ممّا ل يعيش الحيوان بدونه ‪ .‬كما لو كان‬
‫مقطوع الرّأس ‪ ،‬أو كان مخروق البطن أو الصّدر ‪.‬‬
‫وكذلك يقول الحنابلة ‪ ،‬كما جاء في المغني" إذا كان في ابتداء التّصويرة صورة بدن بل رأس أو رأس بل‬
‫بدن ‪ ،‬أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان ‪ ،‬لم يدخل في النّهي "‪ .‬وفي الفروع ‪ :‬إن أزيل من‬
‫الصّور ما ل تبقى الحياة معه لم يكره ‪ ،‬في المنصوص ‪ .‬ومثله صورة شجرة ونحوه وتمثال ‪ ،‬وكذا تصويره‬
‫‪.‬‬
‫وهذا مذهب الشّافعيّة أيضا ‪ ،‬ولم ينقل بينهم في ذلك خلف إل ما شذّ به المتولّي ‪ ،‬غير أنّهم اختلفوا فيما إذا‬
‫كان المقطوع غير الرّأس وقد بقي الرّأس ‪ .‬والرّاجح عندهم في هذه الحالة التّحريم ‪ ،‬جاء في أسنى المطالب‬
‫وحاشيته للرّمليّ ‪ :‬وكذا إن قطع رأس الصّورة ‪.‬‬
‫قال الكوهكيوني ‪ :‬وكذا حكم ما صوّر بل رأس ‪ ،‬وأمّا الرّءوس بل أبدان فهل تحرم ؟ فيه تردّد ‪ .‬والحرمة‬
‫أرجح ‪ .‬قال الرّمليّ ‪ :‬وهما وجهان في الحاوي وبناهما على أنّه هل يجوز تصوير حيوان ل نظير له ‪ :‬إن‬
‫جوّزناه جاز ذلك ‪ ،‬وإل فل ‪ ،‬وهو الصّحيح ‪.‬‬
‫ويشملهما قوله ‪ :‬ويحرم تصوير حيوان ‪.‬‬
‫وظاهر ما في تحفة المحتاج جوازه ‪ ،‬فإنّه قال ‪ :‬وكفقد الرّأس فقد ما ل حياة بدونه ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬صنع الصّور الخياليّة‬
‫ص الشّافعيّة على أنّ الصّور الخياليّة للنسان أو الحيوان داخلة في التّحريم ‪.‬‬
‫‪ - 34‬ين ّ‬
‫قالوا ‪ :‬يحرم ‪ ،‬كإنسان له جناح ‪ ،‬أو بقر له منقار ‪ ،‬ممّا ليس له نظير في المخلوقات ‪ .‬وكلم صاحب روض‬
‫الطّالب يوحي بوجود قول بالجواز ‪.‬‬
‫وواضح أنّ هذا في غير اللّعب الّتي للطفال ‪ ،‬وقد ورد في حديث عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أنّه كان في‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ضحك لمّا رآها حتّى بدت نواجذه » ‪.‬‬
‫لعبها فرس له جناحان ‪ ،‬وأ ّ‬
‫خامسا ‪ :‬صنع الصّور الممتهنة‬
‫‪ - 35‬يأتي أنّ أغلب العلماء على جواز اقتناء واستعمال الصّور المجسّمة والمسطّحة ‪ .‬سواء أكانت مقطوعة‬
‫أم كاملة ‪ ،‬إذا كانت ممتهنة ‪ ،‬كالّتي على أرض أو بساط أو فراش أو وسادة أو نحو ذلك ‪ .‬وبناء على هذا ‪،‬‬
‫ل له ‪.‬‬
‫ذهب بعض العلماء إلى جواز صنع ما يستعمل على ذلك الوجه ‪ ،‬كنسج الحرير لمن يح ّ‬
‫وهو في الجملة مذهب المالكيّة ‪ ،‬إل أنّه عندهم خلف الولى ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة وجهان ‪ :‬أصحّهما التّحريم ‪ .‬وهو مذهب الحنفيّة كما صرّح به ابن عابدين ‪ .‬ونقل ابن حجر‬
‫عن المتولّي من الشّافعيّة أنّه أجاز التّصوير على الرض ‪.‬‬
‫ولم نجد للحنابلة تصريحا في هذه المسألة فالظّاهر أنّه عندهم مندرج في تحريم التّصوير ‪ .‬وسيأتي تفصيل‬
‫القول في معنى المتهان ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬صناعة الصّور من الطّين والحلوى وما يسرع إليه الفساد‬
‫‪ - 36‬للمالكيّة قولن في صناعة الصّور الّتي ل تتّخذ للبقاء ‪ ،‬كالّتي تعمل من العجين وأشهر القولين المنع‬
‫‪ .‬وكذا نقلهما العدويّ وقال ‪ :‬إنّ القول بالجواز هو لصبغ ‪ .‬ومثّل له بما يصنع من عجين أو قشر بطّيخ ‪،‬‬
‫لنّه إذا نشف تقطّع ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬يحرم صنعها ول يحرم بيعها ‪ .‬ولم نجد عند غيرهم نصّا في ذلك ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬صناعة لعب البنات‬
‫‪ - 37‬استثنى أكثر العلماء من تحريم التّصوير وصناعة التّماثيل صناعة لعب البنات ‪.‬‬
‫وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وقد نقل القاضي عياض جوازه عن أكثر العلماء ‪ ،‬وتابعه النّوويّ‬
‫في شرح مسلم ‪ ،‬فقال ‪ ":‬يستثنى من منع تصوير ما له ظلّ ‪ ،‬ومن اتّخاذه لعب البنات ‪ ،‬لما ورد من الرّخصة‬
‫في ذلك "‪.‬‬
‫وهذا يعني جوازها ‪ ،‬سواء أكانت اللّعب على هيئة تمثال إنسان أو حيوان ‪ ،‬مجسّمة أو غير مجسّمة ‪ ،‬وسواء‬
‫أكان له نظير في الحيوانات أم ل ‪ ،‬كفرس له جناحان ‪.‬‬
‫وقد اشترط الحنابلة للجواز أن تكون مقطوعة الرّءوس ‪ ،‬أو ناقصة عضو ل تبقى الحياة بدونه ‪ .‬وسائر‬
‫العلماء على عدم اشتراط ذلك ‪.‬‬
‫‪ - 38‬واستدلّ الجمهور لهذا الستثناء بحديث عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كنت ألعب بالبنات عند النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي ‪ ،‬فكان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا دخل يتقمّعن‬
‫ن إليّ ‪ ،‬فيلعبن معي » ‪.‬‬
‫منه ‪ ،‬فيسرّبه ّ‬
‫وفي رواية قالت ‪ « :‬قدم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر ‪ ،‬وفي سهوتها ستر ‪،‬‬
‫فهبّت ريح ‪ ،‬فكشفت ناحية السّتر عن بنات لعائشة لعب ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا يا عائشة ؟ قالت ‪ :‬بناتي ‪ .‬ورأى‬
‫ن ؟ قالت ‪ :‬فرس ‪ .‬قال ‪ :‬وما هذا الّذي‬
‫بينهنّ فرسا لها جناحان من رقاع ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا الّذي أرى وسطه ّ‬
‫ن لسليمان خيلً لها أجنحة ؟ قالت ‪:‬‬
‫عليه ؟ قالت ‪ :‬جناحان ‪ .‬فقال ‪ :‬فرس له جناحان ؟ قالت ‪ :‬أما سمعت أ ّ‬
‫فضحك رسول اللّه صلى ال عليه وسلم حتّى رأيت نواجذه » ‪ .‬وقد علّل المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة هذا‬
‫ن على أمر تربية الولد ‪.‬‬
‫الستثناء لصناعة اللّعب بالحاجة إلى تدريبه ّ‬
‫وهذا التّعليل يظهر فيما لو كانت اللّعب على هيئة إنسان ‪ ،‬ول يظهر في أمر الفرس الّذي له جناحان ‪ ،‬ولذا‬
‫ص كلمه ‪ ،‬قال ‪ :‬للصّبايا في ذلك فائدتان ‪ :‬إحداهما عاجلة والخرى‬
‫ي بذلك وبغيره ‪ ،‬وهذا ن ّ‬
‫علّل الحليم ّ‬
‫ن الصّبيّ إن كان أنعم حالً‬
‫آجلة ‪ .‬فأمّا العاجلة ‪ ،‬فالستئناس الّذي في الصّبيان من معادن النّشوء والنّموّ ‪ .‬فإ ّ‬
‫ن السّرور يبسط القلب ‪ ،‬وفي انبساطه انبساط‬
‫وأطيب نفسا وأشرح صدرا كان أقوى وأحسن نموّا ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫ن سيعلمن من ذلك معالجة‬
‫الرّوح ‪ ،‬وانتشاره في البدن ‪ ،‬وقوّة أثره في العضاء والجوارح ‪ .‬وأمّا الجلة فإنّه ّ‬
‫ن تسرّين به من‬
‫الصّبيان وحبّهم والشّفقة عليهم ‪ ،‬ويلزم ذلك طبائعهنّ ‪ ،‬حتّى إذا كبرن وعاين لنفسهنّ ما ك ّ‬
‫ن لتلك الشباه بالباطل ‪ .‬هذا وقد نقل ابن حجر في الفتح عن البعض دعوى أنّ‬
‫ن لهم بالحقّ كما ك ّ‬
‫الولد ك ّ‬
‫ن دعوى النّسخ‬
‫ن جوازها كان أ ّولً ‪ ،‬ثمّ نسخ بعموم النّهي عن التّصوير ‪ .‬ويردّه أ ّ‬
‫صناعة اللّعب محرّمة ‪ ،‬وأ ّ‬
‫معارضة بمثلها ‪ ،‬وأنّه قد يكون الذن باللّعب لحقا ‪ .‬على أنّ في حديث عائشة رضي ال عنها في اللّعب ما‬
‫يدلّ على تأخّره ‪ ،‬فإنّ فيه أنّ ذلك كان عند رجوع النّبيّ صلى ال عليه وسلم من غزوة تبوك ‪ ،‬فالظّاهر أنّه‬
‫كان متأخّرا ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬التّصوير للمصلحة كالتّعليم وغيره ‪:‬‬
‫‪ - 39‬لم نجد أحدا من الفقهاء تعرّض لشيء من هذا ‪ ،‬عدا ما ذكروه في لعب الطفال ‪:‬‬
‫ن العلّة في استثنائها من التّحريم العا ّم هو تدريب البنات على تربية الطفال كما قال جمهور الفقهاء ‪ ،‬أو‬
‫أّ‬
‫ن صناعة الصّور‬
‫التّدريب واستئناس الطفال وزيادة فرحهم لمصلحة تحسين النّموّ كما قال الحليميّ ‪ ،‬وأ ّ‬
‫أبيحت لهذه المصلحة ‪ ،‬مع قيام سبب التّحريم ‪ ،‬وهي كونها تماثيل لذوات الرواح ‪ .‬والتّصوير بقصد التّعليم‬
‫والتّدريب نحوهما ل يخرج عن ذلك ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪:‬‬
‫اقتناء الصّور واستعمالها ‪:‬‬
‫‪ - 40‬يذهب جمهور العلماء إلى أنّه ل يلزم من تحريم تصوير الصّورة تحريم اقتنائها أو تحريم استعمالها ‪،‬‬
‫فإنّ عمليّة التّصوير لذوات الرواح ورد فيها النّصوص المشدّدة السّابق ذكرها ‪ ،‬وفيها لعن المصوّر ‪ ،‬وأنّه‬
‫يعذّب في النّار ‪ ،‬وأنّه أشدّ النّاس أو من أشدّ النّاس عذابا ‪ .‬ولم يرد شيء من ذلك في اقتناء الصّور ‪ ،‬ولم‬
‫تتحقّق في مستعملها علّة تحريم التّصوير من المضاهاة لخلق اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ن الحاديث الواردة في ذلك ليس فيها‬
‫ومع ذلك فقد ورد ما يدلّ على منع اقتناء الصّورة أو استعمالها ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫ي قرينة تدلّ على أنّ اقتناءها من الكبائر ‪ .‬وبهذا يكون حكم مقتني الصّورة الّتي يحرم‬
‫ذكر عذاب أو أ ّ‬
‫اقتناؤها ‪ :‬أنّه قد فعل صغيرة من الصّغائر ‪ ،‬إل على القول بأنّ الصرار على الصّغيرة كبيرة ‪ ،‬فيكون كبيرة‬
‫إن تحقّق الصرار ل إن لم يتحقّق ‪ ،‬أو لم نقل بأنّ الصرار على الصّغيرة من الكبائر ‪.‬‬
‫وقد نبّه إلى الفرق بين التّصوير وبين اقتناء الصّور في الحكم النّوويّ في شرحه لحديث الصّور في صحيح‬
‫مسلم ‪ ،‬ونبّه إليه الشبراملسي من الشّافعيّة أيضا ‪ ،‬وعليه يجري كلم أكثر الفقهاء ‪ .‬والحاديث الدّالّة على‬
‫منع اقتناء الصّور منها ‪:‬‬
‫‪ « - 1 -‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم هتك السّتر الّذي فيه الصّورة » وفي رواية قال لعائشة ‪ « :‬أخّريه‬
‫عنّي » ‪ .‬وتقدّم ‪.‬‬
‫ن البيت الّذي فيه الصّور ل تدخله الملئكة » ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬ومنها أنّه قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أرسله إلى المدينة‬
‫ن النّب ّ‬
‫ي بن أبي طالب رضي ال عنه « أ ّ‬
‫‪ - 3 -‬ومنها حديث عل ّ‬
‫وقال ‪ :‬ل تدع صورة إل طمستها » وفي رواية ‪" « :‬إل لطّختها " ول قبرا مشرفا إل سوّيته » وفي رواية ‪:‬‬
‫« ول صنما إل كسرته » ‪.‬‬
‫‪ - 41‬وفي مقابل ذلك نقل استعمال النّبيّ صلى ال عليه وسلم وأصحابه والتّابعين لنواع من الصّور لذوات‬
‫الرّوح ‪ .‬وقد تقدّم ذكر الرّوايات المبيّنة لذلك فيما تقدّم ( ف ‪ ) 31/‬ونزيد هنا ما روي أنّ خاتم دانيال النّبيّ ‪-‬‬
‫عليه السلم ‪ -‬كان عليه أسد ولبؤة وبينهما صبيّ يلمسانه ‪ .‬وذلك أنّ بختنصّر قيل له ‪ :‬يولد مولود يكون‬
‫هلكك على يده ‪ ،‬فجعل يقتل كلّ مولود يولد ‪ .‬فلمّا ولدت أمّ دانيال ألقته في غيضة رجاء أن يسلم ‪ .‬فقيّض‬
‫اللّه له أسدا يحفظه ولبؤة ترضعه ‪ .‬فنقشه على خاتمه ليكون بمرأى منه ليتذكّر نعمة اللّه ‪.‬‬
‫ووجدت جثّة دانيال والخاتم في عهد عمر رضي ال عنه فدفع الخاتم إلى أبي موسى الشعريّ ‪ .‬فهذا فعل‬
‫صحابيّين ‪ .‬وسيأتي بيان أقوال الفقهاء فيما يجوز استعماله من الصّور وما ل يجوز ‪ ،‬وتوفيقهم بين هذه‬
‫الحاديث المتعارضة ‪.‬‬
‫البيت الّذي فيه الصّور ل تدخله الملئكة ‪:‬‬
‫‪ - 42‬ثبت هذا بهذا اللّفظ من قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في الصّحيحين وغيرهما من رواية عائشة ‪،‬‬
‫وابن عبّاس ‪ ،‬وابن عمر ‪ .‬وفي غير الصّحيحين من رواية عليّ وميمونة وأبي سعيد وأبي طلحة وزيد بن‬
‫خالد وغيرهم رضي ال عنهم أجمعين ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬قال العلماء ‪ :‬سبب امتناعهم من دخول بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة‪ ،‬وفيها مضاهاة‬
‫لخلق اللّه تعالى ‪ ،‬وبعضها في صورة ما يعبد من دون اللّه ‪ ،‬فعوقب متّخذها بحرمانه دخول الملئكة بيته ‪،‬‬
‫وصلتها فيه ‪ ،‬واستغفارها له ‪ ،‬وتبريكها عليه وفي بيته ‪ ،‬ودفعها أذى الشّيطان ‪ .‬وقال القرطبيّ كما في‬
‫ن متّخذ الصّور قد تشبّه بالكفّار الّذين يتّخذون الصّور في بيوتهم ويعظّمونها ‪ ،‬فكرهت‬
‫الفتح ‪ :‬إنّما لم تدخل ل ّ‬
‫الملئكة ذلك ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬وهؤلء الملئكة الّذين ل يدخلون بيتا فيه صورة هم ملئكة الرّحمة ‪.‬‬
‫ح َفظَة فيدخلون كلّ بيت ‪ ،‬ول يفارقون بني آدم في حال ‪ ،‬لنّهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها ‪.‬‬
‫وأمّا ال َ‬
‫ثمّ قال النّوويّ ‪ :‬وهو عامّ في كلّ صورة حتّى ما يمتهن ‪.‬‬
‫ونقل الطّحطاويّ عنه ‪ :‬أنّها تمتنع من الدّخول حتّى من الصّور الّتي على الدّراهم والدّنانير ‪ .‬وفي قول‬
‫النّوويّ هذا مبالغة وتشدّد ظاهر ‪ ،‬فإنّ في حديث عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أنّها هتكت السّتر وجعلت منه‬
‫وسادتين ‪ ،‬فكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يتّكئ عليهما وفيهما الصّور » ‪ .‬وكان ل يتحرّج من إبقاء الدّنانير‬
‫أو الدّراهم في بيته وفيها الصّور ‪ .‬ولو كان ذلك يمنع دخول الملئكة بيته ما أبقاها فيه ‪ .‬ولذا قال ابن حجر ‪:‬‬
‫يترجّح قول من قال ‪ :‬إنّ الصّورة الّتي تمتنع الملئكة من دخول المكان الّذي تكون فيه هي الّتي تكون على‬
‫هيئتها مرتفعة غير ممتهنة ‪ ،‬فأمّا لو كانت ممتهنة ‪ ،‬أو غير ممتهنة لكنّها غيّرت هيئتها بقطعها من نصفها أو‬
‫بقطع رأسها ‪ ،‬فل امتناع ‪.‬‬
‫ل صورة ل يكره إبقاؤها في البيت ‪ ،‬ل‬
‫ن ظاهر مذهب الحنفيّة ‪ :‬أنّ ك ّ‬
‫وفي كلم ابن عابدين ما يدلّ على أ ّ‬
‫تمنع دخول الملئكة ‪ ،‬سواء الصّور المقطوعة أو الصّور الصّغيرة أو الصّور المهانة ‪ ،‬أو المغطّاة ونحو‬
‫ذلك ‪ ،‬ولنّه ليس في هذه النواع تشبّه بعبّادها ‪ ،‬لنّهم ل يعبدون الصّور الصّغيرة أو المهانة ‪ ،‬بل ينصبونها‬
‫صورة كبيرة ‪ ،‬ويتوجّهون إليها ‪.‬‬
‫وقال ابن حبّان ‪ :‬إنّ عدم دخول الملئكة بيتا فيه صور خاصّ بالنّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ .‬قال ‪ :‬وهو نظير‬
‫الحديث الخر ‪ « :‬ل تصحب الملئكة رفقة فيها جرس » إذ هو محمول على رفقة فيها رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم إذ محال أن يخرج الحاجّ والمعتمر لقصد البيت على رواحل ل تصحبها الملئكة وهم وفد اللّه ‪.‬‬
‫ومآل هذا القول أنّ المراد بالملئكة ملئكة الوحي ‪ ،‬وهو جبريل عليه السلم دون غيره من الملئكة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ونقله ابن حجر عن الدّاوديّ وابن وضّاح ‪ ،‬ومآله إلى اختصاص النّهي بعهد النّب ّ‬
‫وبالمكان الّذي يكون فيه ‪ ،‬وأنّ الكراهة انتهت بوفاته صلى ال عليه وسلم لنّ الوحي قد انقطع من السّماء ‪.‬‬
‫اقتناء واستعمال صور المصنوعات البشريّة والجوامد والنّباتات ‪:‬‬
‫‪ - 43‬يجوز اقتناء واستعمال صور المصنوعات البشريّة والجوامد والنّباتات ‪ ،‬وسواء أكانت منصوبة أو‬
‫معلّقة أو موضوعة ممتهنة ‪ ،‬وكذلك لو كانت منقوشة في الحوائط أو السّقوف أو الرض ‪ ،‬وسواء كانت‬
‫سيّارات‬
‫مسطّحة كما هو معهود ‪ ،‬أو مجسّمة كالزّهور والنّباتات الصطناعيّة ‪ ،‬ونماذج السّفن والطّائرات وال ّ‬
‫والمنازل والجبال وغيرها ‪ ،‬ومجسّمات تماثيل القبّة السّماويّة بما فيها من الكواكب والنّجوم والقمرين ‪.‬‬
‫وسواء استعمل ذلك لحاجة ونفع ‪ ،‬أو لمجرّد الزّينة والتّجميل ‪ :‬فكلّ ذلك ل حرج فيه شرعا ‪ ،‬إل أن يحرم‬
‫لعارض ‪ ،‬كما لو كان خارجا عن المعتاد إلى ح ّد السراف ‪ ،‬على الصل في سائر المقتنيات ‪.‬‬
‫اقتناء واستعمال صور النسان والحيوان ‪:‬‬
‫‪ - 44‬يجمع العلماء على تحريم استعمال نوع من الصّور ‪ ،‬وهو ما كان صنما يعبد من دون اللّه تعالى ‪.‬‬
‫وأمّا ما عدا ذلك فإنّه ل يخلو شيء منه من خلف ‪.‬‬
‫إل أنّ الّذي تكاد تتّفق كلمة الفقهاء على منعه ‪ :‬هو ما جمع المور التّالية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون صورة لذي روح إن كانت الصّورة مجسّمة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن تكون كاملة العضاء ‪ ،‬غير مقطوعة عضو من العضاء الظّاهرة الّتي ل تبقى الحياة مع فقدها ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن تكون منصوبة أو معلّقة في مكان تكريم ‪ ،‬ل إن كانت ممتهنة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن ل تكون صغيرة ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬أن ل تكون من لعب الطفال أو نحوها ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أن ل تكون ممّا يسرع إليه الفساد ‪ .‬وقد خالف فيما جمع هذه الشّروط قوم لم يسمّوا ‪ ،‬كما تقدّم نقله إلّا‬
‫أنّه خلف ضعيف ‪ .‬ونحن نبيّن حكم ك ّل نوع ممّا خرج عن هذه الشّروط ‪ .‬أ ‪ -‬استعمال واقتناء الصّور‬
‫المسطّحة ‪:‬‬
‫ن استعمال الصّور المسطّحة ليس محرّما ‪ ،‬بل هو مكروه إن كانت منصوبة‬
‫‪ - 45‬يرى المالكيّة ومن وافقهم أ ّ‬
‫‪ ،‬فإن كانت ممتهنة فاستعمالها خلف الولى ‪.‬‬
‫أمّا عند غير المالكيّة ‪ :‬فالصّور المسطّحة والمجسّمة سواء في التّحريم من حيث الستعمال‪ ،‬إذا تمّت‬
‫الشّروط على ما تقدّم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬استعمال واقتناء الصّور المقطوعة ‪:‬‬
‫ن استعمال‬
‫‪ - 46‬إذا كانت الصّورة ‪ -‬مجسّمة كانت أو مسطّحة ‪ -‬مقطوعة عضو ل تبقى الحياة معه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الصّورة حينئذ جائز ‪ ،‬وهذا قول جماهير العلماء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وقد وافق على‬
‫الباحة هنا بعض من خالف ‪ ،‬فرأى تحريم التّصوير ولكن لم يرد تحريم القتناء ‪ ،‬كالشّافعيّة ‪.‬‬
‫وسواء أكانت الصّورة قد صنعت مقطوعة من الصل ‪ ،‬أو صوّرت كاملة ثمّ قطع منها شيء ل تبقى الحياة‬
‫معه ‪ .‬وسواء أكانت منصوبة أو غير منصوبة كما يأتي في المسألة التّالية ‪.‬‬
‫ن جبريل قال للنّبيّ صلى ال عليه وسلم ُمرْ برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون‬
‫‪ - 47‬والحجّة لذلك ما مرّ « أ ّ‬
‫كهيئة الشّجرة » وفي رواية أنّه قال ‪ « :‬إنّ في البيت سترا ‪ ،‬وفي الحائط تماثيل ‪ ،‬فاقطعوا رءوسها‬
‫فاجعلوها بساطا أو وسائد فأوطئوه ‪ ،‬فإنّا ل ندخل بيتا فيه تماثيل » ول يكفي أن تكون قد أزيل منها العينان‬
‫أو الحاجبان أو اليدي أو الرجل ‪ ،‬بل ل بدّ أن يكون العضو الزّائل ممّا ل تبقى الحياة معه ‪ ،‬كقطع الرّأس‬
‫أو محو الوجه ‪ ،‬أو خرق الصّدر أو البطن ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وسواء أكان القطع بخيط خيّط على جميع‬
‫الرّأس حتّى لم يبق له أثر ‪ ،‬أو بطليه بمغرة ‪ ،‬أو بنحته ‪ ،‬أو بغسله ‪.‬‬
‫وأمّا قطع الرّأس عن الجسد بخيط مع بقاء الرّأس على حاله فل ينفي الكراهة ‪ ،‬لنّ من الطّيور ما هو مطوّق‬
‫فل يتحقّق القطع بذلك ‪ .‬وقال صاحب شرح القناع من الحنابلة ‪ :‬إن قطع من الصّورة رأسها فل كراهة ‪ ،‬أو‬
‫قطع منها ما ل تبقى الحياة بعد ذهابه فهو كقطع الرّأس كصدرها أو بطنها ‪ ،‬أو جعل لها رأسا منفصل عن‬
‫ن ما يحرم ما يكون كامل‬
‫بدنها لنّ ذلك لم يدخل في النّهي‪ .‬وقال صاحب منح الجليل من المالكيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫ن الشّافعيّة اختلفوا فيما لو كان الباقي الرّأس ‪ ،‬على‬
‫العضاء الظّاهرة الّتي ل يعيش بدونها ولها ظلّ ‪ .‬غير أ ّ‬
‫وجهين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يحرم وهو الرّاجح ‪ ،‬والخر ‪ :‬ل يحرم ‪ .‬وقطع أيّ جزء ل تبقى الحياة معه يبيح الباقي ‪،‬‬
‫كما لو قطع الرّأس وبقي ما عداه ‪ .‬جاء في أسنى المطالب وحاشيته ‪ :‬وكذا إن قطع رأسها ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫الكوهكيوني ‪ :‬وكذا حكم ما صوّر بل رأس ‪ ،‬وأمّا الرّءوس بل أبدان فهل تحرم ؟ فيه تردّد ‪ .‬والحرمة أرجح‬
‫‪ .‬قال الرّمليّ ‪ :‬وهو وجهان في الحاوي ‪ ،‬وبناهما على أنّه هل يجوز تصوير حيوان ل نظير له ‪ :‬إن جوّزناه‬
‫ن فقد النّصف السفل كفقد الرّأس ‪.‬‬
‫ي وابن قاسم ‪ :‬إ ّ‬
‫جاز ذلك وإلّا فل ‪ ،‬وهو الصّحيح‪ .‬وفي حاشية الشّروان ّ‬
‫‪ - 48‬ويكفي للباحة أن تكون الصّورة قد خرق صدرها أو بطنها ‪ ،‬بذلك صرّح الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‬
‫وبعض الشّافعيّة ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬هل من ذلك ما لو كانت مثقوبة البطن مثل ‪ :‬الظّاهر أنّه لو كان الثّقب‬
‫كبيرا يظهر به نقصها فنعم ‪ ،‬وإل فل ‪ ،‬كما لو كان الثّقب لوضع عصا تمسك بها ‪ ،‬كمثل صور خيال الظّلّ‬
‫الّتي يلعب بها ‪ ،‬لنّها تبقى معه صورة تامّة ‪ ،‬وهذا الّذي قاله في صور الخيال خالفه فيه بعض الشّافعيّة ‪،‬‬
‫ن الخرق الّذي يكون في وسطها كاف في إزالة الكراهة كما صرّح بذلك الشّيخ إبراهيم الباجوريّ ‪،‬‬
‫فرأوا أ ّ‬
‫ويأتي النّقل عنه في بحث النّظر إلى الصّور‬
‫ج ‪ -‬استعمال واقتناء الصّور المنصوبة والصّور الممتهنة ‪:‬‬
‫‪ - 49‬يرى الجمهور أنّ الصّور لذوات الرواح ‪ -‬مجسّمة كانت أو غير مجسّمة ‪ -‬يحرم اقتناؤها على هيئة‬
‫تكون فيها معلّقة أو منصوبة ‪ ،‬وهذا في الصّور الكاملة الّتي لم يقطع فيها عضو ل تبقى الحياة معه ‪ ،‬فإن‬
‫قطع منها عضو ‪ -‬على التّفصيل المتقدّم في الفقرة السّابقة ‪ -‬جاز نصبها وتعليقها ‪ ،‬وإن كانت مسطّحة جاز‬
‫تعليقها مع الكراهة عند المالكيّة ‪ .‬ونقل عن القاسم بن محمّد إجازة تعليق الصّور الّتي في الثّياب ‪ ،‬وهو‬
‫راوي حديث عائشة في لعن المصوّرين ‪ ،‬وكان من خير أهل المدينة فقها وورعا ‪.‬‬
‫وأمّا إذا اقتنيت الصّورة ‪ -‬وهي ممتهنة ‪ -‬فل بأس بذلك عند الجمهور ‪ ،‬كما لو كانت في الرض أو في‬
‫ص الحنابلة والمالكيّة على أنّها غير مكروهة أيضا ‪ ،‬إل أنّ‬
‫بساط مفروش أو فراش أو نحو ذلك ‪ .‬وقد ن ّ‬
‫المالكيّة قالوا ‪ :‬إنّها حينئذ خلف الولى ‪.‬‬
‫ووجّهوا التّفريق بين المنصوب والممتهن ‪ :‬بأنّها إذا كانت مرفوعة تكون معظّمة وتشبه الصنام ‪ .‬أمّا الّذي‬
‫ن أهل الصنام ينصبونها ويعبدونها ول يتركونها مهانة ‪ .‬وقد يظنّ أنّه ل‬
‫في الرض ونحوه فل يشبهها ‪ ،‬ل ّ‬
‫سنّة ما يدلّ على جوازها ‪ ،‬وهو ما نقلناه سابقا‬
‫يجوز بقاء الصّورة المقطوعة منصوبة ‪ ،‬إل أنّه قد ورد في ال ّ‬
‫ن جبريل عليه السلم قال للنّبيّ صلى ال عليه وسلم ُمرْ برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة‬
‫من « أ ّ‬
‫ل فاقطع رءوسها أو اقطعها وسائد أو اجعلها بسطا »‬
‫الشّجرة » وقوله في حديث آخر ‪ « :‬فإن كنت ل بدّ فاع ً‬
‫فإنّها تدلّ على جواز بقائها بعد القطع منصوبة ‪ .‬ومن الدّليل على بقاء الصّورة الممتهنة في البيت الحديث‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫المتقدّم عن عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أنّها قطعت السّتر وجعلته وسادتين ‪ ،‬وكان النّب ّ‬
‫يتّكئ عليهما وفيهما الصّور » ‪.‬‬
‫وقد ورد عن عكرمة قال ‪ :‬كانوا يكرهون ما نصب من التّماثيل ول يرون بأسا بما وطئته القدام ‪ .‬وكان‬
‫القاسم بن محمّد يتّكئ على مخدّة فيها تصاوير ‪.‬‬
‫ولذا قال ابن حجر بعد ذكر قطع رأس التّمثال ‪ :‬في هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أنّ الصّورة الّتي‬
‫تمتنع الملئكة من دخول البيت الّذي هي فيه ‪ :‬ما تكون فيه منصوبة باقية على هيئتها ‪ .‬أمّا لو كانت‬
‫ممتهنة ‪ ،‬أو كانت غير ممتهنة لكنّها غيّرت هيئتها إمّا بقطع رأسها أو بقطعها من نصفها فل امتناع ‪.‬‬
‫ن استعمال إبريق فيه صور تردّد‬
‫‪ - 50‬والنّصب المنهيّ عنه قال بعض الشّافعيّة ‪ :‬أيّ نصب كان ‪ .‬حتّى إ ّ‬
‫فيه صاحب المهمّات ‪ ،‬ومال إلى المنع ‪ ،‬أي لنّه يكون منصوبا ‪.‬‬
‫وقالوا في الوساد ‪ :‬إن استعملت منصوبة حرم ‪ ،‬وإن استعملت غير منصوبة جاز ‪.‬‬
‫ن النّصب المنهيّ عنه خاصّة ما يظهر فيه التّعظيم ‪ ،‬فقد قال الجوينيّ ‪:‬‬
‫وذهب بعض آخر من العلماء إلى أ ّ‬
‫ن ما على السّتور والثّياب من الصّور ل يحرم ‪ ،‬لنّ ذلك امتهان له ‪.‬‬
‫إّ‬
‫وهذا يوافق ما تقدّم عن القاسم بن محمّد ‪.‬‬
‫وقال الرّافعيّ ‪ :‬إنّ نصب الصّور في حمّام أو ممرّ ل يحرم ‪ ،‬بخلف ما كان منصوبا في المجالس وأماكن‬
‫التّكريم ‪ .‬أي لنّها في الممرّ والحمّام مهانة ‪ ،‬وفي المجالس مكرّمة ‪ .‬وظاهر كلم صاحب المغني من‬
‫الحنابلة أنّ نصب الصّور في الحمّام ونحوه محرّم ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وممّا نصّ الشّافعيّة على أنّه من الصّور المهانة ‪ :‬ما كان في نحو قصعة وخوان وطبق ‪ .‬ويلتحق‬
‫ن الدّنانير الرّوميّة الّتي‬
‫بالممتهنة ‪ -‬عند بعض الشّافعيّة ‪ -‬الصّور الّتي على النّقود ‪ .‬قال الرّمليّ ‪ :‬وعندي أ ّ‬
‫عليها الصّور من القسم الّذي ل ينكر ‪ ،‬لمتهانها بالنفاق والمعاملة ‪ ،‬وقد كان السّلف رضي ال عنهم‬
‫يتعاملون بها من غير نكير ‪ ،‬ولم تحدث الدّراهم السلميّة إل في عهد عبد الملك بن مروان كما هو معروف‬
‫‪ .‬وقال مثله الزّركشيّ ‪.‬‬
‫‪ - 51‬هذا بيان حكم ما ظهر فيه التّعظيم ‪ ،‬أو ظهرت فيه الهانة ‪ .‬أمّا ما لم يظهر فيه أيّ من المعنيين ‪،‬‬
‫وذلك في مثل الصّورة المطبوعة في كتاب ‪ ،‬أو الموضوعة في درج أو خزانة أو على منضدة ‪ ،‬من غير‬
‫نصب ‪ .‬ففي كلم القليوبيّ نقل عن ابن حجر وغيره ‪ :‬يجوز لبس ما عليه صورة الحيوان ودوسه ووضعه‬
‫في صندوق أو مغطّى ‪.‬‬
‫وفي مختصر المزنيّ ما يدلّ على قصر التّحريم على المنصوب ‪ ،‬وذلك في قوله ‪ :‬وصورة ذات روح إن‬
‫كانت منصوبة ‪.‬‬
‫وروى ابن شيبة عن حمّاد عن إبراهيم أنّه قال ‪ :‬ل بأس في حلية السّيف ول بأس بها ‪ -‬أي بالتّماثيل ‪ -‬في‬
‫سماء البيت ‪ -‬أي السّقف ‪ ، -‬وإنّما يكره منها ما نصب نصبا ‪.‬‬
‫وأصل ذلك مرويّ عن سالم بن عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهم ‪ ،‬ففي مسند المام أحمد عن ليث بن أبي‬
‫سليم أنّه قال ‪ :‬دخلت على سالم وهو متّكئ على وسادة فيها تماثيل طير ووحش ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أليس يكره هذا ؟‬
‫قال ‪ :‬ل ‪ ،‬إنّما يكره منها ما نصب نصبا ‪.‬‬
‫استعمال لعب الطفال المجسّمة وغير المجسّمة ‪:‬‬
‫‪ - 52‬تقدّم أنّ قول الجمهور جواز صناعة اللّعب المذكورة ‪ .‬فاستعمالها جائز من باب أولى ‪ ،‬ونقل القاضي‬
‫عياض جوازه عن العلماء ‪ ،‬وتابعه النّوويّ في شرح صحيح مسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬قال القاضي ‪ :‬يرخّص لصغار‬
‫البنات ‪ .‬والمراد بصغار البنات من كان غير بالغ منهنّ ‪ .‬وقال الخطّابيّ ‪ :‬وإنّما أرخص لعائشة فيها لنّها إذ‬
‫ذاك كانت غير بالغ ‪ .‬قال ابن حجر ‪ :‬وفي الجزم به نظر ‪ ،‬لكنّه محتمل ‪ ،‬لنّ عائشة رضي ال عنها كانت‬
‫ل على أنّ التّرخيص‬
‫في غزوة خيبر بنت أربع عشرة ‪ ،‬وأمّا في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فهذا يد ّ‬
‫ليس قاصرا على من دون البلوغ منهنّ‪ ،‬بل يتعدّى إلى مرحلة ما بعد البلوغ ما دامت الحاجة قائمة لذلك‪53 .‬‬
‫ن من العلّة أيضا‬
‫‪ -‬والعلّة في هذا التّرخيص تدريبهنّ عن شأن تربية الولد ‪ ،‬وتقدّم النّقل عن الحليميّ ‪ :‬أ ّ‬
‫استئناس الصّبيان وفرحهم ‪ .‬وإنّ ذلك يحصل لهم به النّشاط والقوّة والفرح وحسن النّشوء ومزيد التّعلّم ‪.‬‬
‫فعلى هذا ل يكون المر قاصرا على الناث من الصّغار ‪ ،‬بل يتعدّاه إلى الذّكور منهم أيضا ‪.‬‬
‫وممّن صرّح به أبو يوسف ‪ :‬ففي القنية عنه ‪ :‬يجوز بيع اللّعبة ‪ ،‬وأن يلعب بها الصّبيان ‪.‬‬
‫‪ - 54‬وممّا يؤكّد جواز اللّعب المصوّرة للصّبيان ‪ -‬بالضافة إلى البنات ‪ -‬ما ثبت في الصّحيحين عن الرّبيّع‬
‫بنت معوّذ النصاريّة رضي ال عنها أنّها قالت ‪:‬‬
‫« أرسل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى النصار الّتي حول المدينة ‪ :‬من كان‬
‫أصبح صائما فليتمّ صومه ‪ ،‬ومن كان أصبح مفطرا فليتمّ بقيّة يومه ‪ .‬فكنّا بعد ذلك نصومه ونصوّم صبياننا‬
‫الصّغار منهم إن شاء اللّه ‪ ،‬ونذهب بهم إلى المسجد ‪ ،‬فنجعل ‪ -‬وفي رواية ‪ :‬فنصنع ‪ -‬لهم اللّعبة من‬
‫العهن ‪ ،‬فإذا بكى أحدهم على الطّعام أعطيناه إيّاه حتّى يكون عند الفطار » ‪.‬‬
‫‪ - 55‬وانفرد الحنابلة باشتراط أن تكون اللّعبة المصوّرة بل رأس ‪ ،‬أو مقطوعة الرّأس كما تقدّم ‪ ،‬ومرادهم‬
‫أنّه لو كان الباقي الرّأس ‪ ،‬أو كان الرّأس منفصل عن الجسد جاز ‪ ،‬كما تقدّم ‪ .‬وقالوا ‪ :‬للوليّ شراء لعب‬
‫غير مصوّرة لصغيرة تحت حجره من مالها نصّا‪ ،‬للتّمرين‪.‬‬
‫لبس الثّياب الّتي فيها الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 56‬يكره عند الحنفيّة والمالكيّة لبس الثّياب الّتي فيها الصّور ‪ ،‬قال صاحب الخلصة من الحنفيّة ‪ :‬صلّى‬
‫فيها أو ل ‪ .‬لكن تزول الكراهة عند الحنفيّة بما لو لبس النسان فوق الصّورة ثوبا آخر يغطّيها ‪ ،‬فإن فعل فل‬
‫تكره الصّلة فيه ‪.‬‬
‫ن الصّورة في الثّوب الملبوس منكر ‪،‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬يجوز لبس الثّياب الّتي فيها صور حيث نصّوا على أ ّ‬
‫ن اللّبس امتهان له فيجوز حينئذ ‪ .‬كما لو كان ملقى بالرض ويداس ‪ .‬والوجه كما قال الشّروانيّ أنّه ل‬
‫لك ّ‬
‫يكون من المنكر إذا كان ملقى بالرض ( أي مطلقا ) ‪.‬‬
‫أمّا الحنابلة ‪ :‬فقد اختلف قولهم في لبس الثّوب الّذي فيه الصّورة على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬التّحريم ‪ ،‬وهو قول أبي الخطّاب قدّمه في الفروع والمحرّر ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬أنّه مكروه فقط وليس محرّما ‪ ،‬قدّمه ابن تميم ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إل رقما في ثوب » ‪.‬‬
‫ووجه القول بعدم التّحريم أ ّ‬
‫استعمال واقتناء الصّور الصّغيرة في الخاتم والنّقود أو نحو ذلك ‪:‬‬
‫ن الصّور الصّغيرة ل يشملها تحريم القتناء والستعمال ‪ ،‬بناء على أنّه ليس من عادة‬
‫‪ - 57‬يصرّح الحنفيّة أ ّ‬
‫عبّاد الصّور أن يستعملوها كذلك ‪ .‬وضبطوا حدّ الصّغر بضوابط مختلفة ‪ .‬قال بعضهم ‪ :‬أن تكون بحيث ل‬
‫تبدو للنّاظر إل بتبصّر بليغ ‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬أن ل تبدو من بعيد ‪ .‬وقال صاحب ال ّدرّ ‪ :‬هي الّتي ل تتبيّن تفاصيل أعضائها للنّاظر قائما‬
‫وهي على الرض ‪ .‬وقيل ‪ :‬هي ما كانت أصغر من حجم طائر ‪ .‬وهذا يذكرونه في بيان أنّها ل تكره‬
‫للمصلّي ‪ .‬لكن قال ابن عابدين ‪ :‬ظاهر كلم علمائنا أنّ ما ل يؤثّر كراهة في الصّلة ل يكره إبقاؤه ‪ .‬وقد‬
‫صرّح في الفتح وغيره بأنّ الصّورة الصّغيرة ل تكره في البيت ‪ ،‬ونقل أنّه كان على خاتم أبي هريرة ذبابتان‬
‫‪.‬‬
‫وفي التتارخانية ‪ :‬لو كان على خاتم فضّة تماثيل ل يكره ‪ ،‬وليست كتماثيل في الثّياب ‪ ،‬لنّه صغير ‪ .‬وقد‬
‫تقدّم النّقل عن بعض الصّحابة أنّهم استعملوا الصّور في الخواتم ‪ ،‬فكان نقش خاتم عمران بن حصين رضي‬
‫ال عنه رجلً متقلّدا سيفا ‪ ،‬وكان نقش خاتم حذيفة رضي ال عنه كركيّين ‪ ،‬وكان على خاتم النّعمان بن‬
‫مقرّن رضي ال عنه إيّل ‪.‬‬
‫ول يختلف حكم الصّور الصّغيرة عن الصّور الكبيرة عند غير الحنفيّة ‪ .‬إل أنّ الصّور الّتي على الدّراهم‬
‫والدّنانير جائزة عند الشّافعيّة ل لصغرها ‪ ،‬ولكن لنّها ممتهنة كما تقدّم ‪.‬‬
‫وقد صرّح الحنابلة أنّه ل ينبغي لبس الخاتم الّذي فيه الصّورة ‪.‬‬
‫النّظر إلى الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 58‬يحرم التّفرّج على الصّور المحرّمة عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ .‬لكن إذا كانت مباحة الستعمال ‪ -‬كما لو‬
‫كانت مقطوعة أو مهانة ‪ -‬فل يحرم التّفرّج عليها ‪.‬‬
‫قال الدّردير في تعليل تحريم النّظر ‪ :‬لنّ النّظر إلى الحرام حرام ‪.‬‬
‫ول يحرم النّظر إلى الصّورة المحرّمة من حيث هي صور عند الحنابلة ‪.‬‬
‫ن النّصارى صنعوا لعمر رضي ال عنه حين قدم الشّام طعاما فدعوه ‪ ،‬فقال ‪ ":‬أين هو ؟‬
‫ونقل ابن قدامة أ ّ‬
‫ي رضي‬
‫قال ‪ :‬في الكنيسة ‪ .‬فأبى أن يذهب ‪ :‬وقال لعليّ رضي ال عنه ‪ :‬امض بالنّاس فليتغدّوا ‪ .‬فذهب عل ّ‬
‫ي ينظر إلى الصّور ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما على أمير‬
‫ال عنه بالنّاس فدخل الكنيسة ‪ ،‬وتغدّى هو والنّاس ‪ ،‬وجعل عل ّ‬
‫المؤمنين لو دخل فأكل "‪.‬‬
‫ولم نجد نصّا عند الحنفيّة في ذلك ‪ .‬لكن قال ابن عابدين ‪ :‬هل يحرم النّظر بشهوة إلى الصّورة المنقوشة ؟‬
‫ل تردّد ‪ ،‬ولم أره ‪ ،‬فليراجع ‪.‬‬
‫مح ّ‬
‫ن الرّجل إذا‬
‫فظاهره أنّه مع عدم الشّهوة ل يحرم ‪ .‬على أنّه قد علم من مذهب الحنفيّة دون سائر المذاهب ‪ :‬أ ّ‬
‫نظر إلى فرج امرأة بشهوة ‪ ،‬فإنّها تنشأ بذلك حرمة المصاهرة ‪ ،‬لكن لو نظر إلى صورة الفرج في المرآة فل‬
‫تنشأ تلك الحرمة ‪ ،‬لنّه يكون قد رأى عكسه ل عينه ‪ .‬ففي النّظر إلى الصّورة المنقوشة ل تنشأ حرمة‬
‫المصاهرة من باب أولى ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬ل يحرم النّظر ‪ -‬ولو بشهوة ‪ -‬في الماء أو المرآة ‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫ن هذا مجرّد خيال امرأة وليس امرأة ‪.‬‬


‫قالوا ‪ :‬ل ّ‬
‫وقال الشّ يخ الباجور يّ ‪ :‬يجوز التّفرّج على صور حيوان غ ير مرفو عة ‪ .‬أو على هيئة ل تع يش مع ها ‪ ،‬كأن‬
‫كانت مقطوعة الرّأس أو الوسط ‪ ،‬أو مخرّقة البطون ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ومنه يعلم جواز التّفرّج على خيال الظّلّ المعروف ‪ ،‬لنّها شخوص مخرّقة البطون ‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاريّ عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬قال لي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أريتك‬
‫في المنام ‪ ،‬يجيء بك الملك في سرقة من حرير ‪ ،‬فقال لي ‪ :‬هذه امرأتك ‪ ،‬فكشفت عن وجهك الثّوب ‪ ،‬فإذا‬
‫أنت هي » قال ابن حجر ‪ :‬عند الج ّريّ من وجه آخر عن عائشة ‪ « :‬لقد نزل جبريل بصورتي في راحته‬
‫حين أمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يتزوّجني » ففي هذا الحديث نظر الرّجل إلى المرأة الّتي يحلّ‬
‫له النّظر إليها ‪ ،‬ما لم تكن الصّورة محرّمة ‪ ،‬على ما تقدّم من التّفصيل والخلف ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬
‫الدّخول إلى مكان فيه صور ‪:‬‬
‫‪ - 60‬يجوز الدّخول إلى مكان يعلم الدّاخل إليه أنّ فيه صورا منصوبة على وضع محرّم ‪ ،‬ولو كان يعلم‬
‫بذلك قبل الدّخول ‪ ،‬ولو دخل ل يجب عليه الخروج ‪.‬‬
‫هذا كلّه مذهب الحنابلة ‪ .‬قال أحمد في رواية الفضل عنه ‪ ،‬لمن سأله قائلً ‪ :‬إن لم ير الصّور إل عند وضع‬
‫الخوان بين أيديهم ‪ .‬أيخرج ؟ قال ‪ :‬ل تضيّق علينا ‪ .‬إذا رأى الصّور وبّخهم ونهاهم ‪ .‬يعني ‪ :‬ول يخرج ‪.‬‬
‫ي في تصحيح الفروع ‪ :‬هذا هو الصّحيح من قولين عندهم ‪ ،‬وهو ظاهر كلم المام أحمد ‪.‬‬
‫قال المرداو ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم‬
‫ن « النّب ّ‬
‫وقطع به في المغني ‪ ،‬قال ‪ :‬ل ّ‬
‫وإسماعيل يستقسمان بالزلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬قاتلهم اللّه ‪ ،‬لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ » قالوا ‪ :‬ولنّه كان‬
‫في شروط عمر رضي ال عنه على أهل ال ّذمّة أن يوسّعوا أبواب كنائسهم للمسلمين ‪ ،‬ليدخلوها للمبيت بها ‪،‬‬
‫وللمارّة بدوابّهم ‪ .‬وذكروا قصّة عليّ في دخولها بالمسلمين ونظره إلى الصّورة كما تقدّم ‪ .‬قالوا ‪ :‬ول يمنع‬
‫ن ذلك ل يوجب علينا تحريم دخوله ‪ ،‬كما ل‬
‫من ذلك ما ورد « أنّ الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة » ‪ ،‬ل ّ‬
‫يوجب علينا المتناع من دخول بيت فيه كلب أو جنب أو حائض ‪ ،‬مع أنّه قد ورد أنّ الملئكة ل تدخله ‪.‬‬
‫‪ - 61‬ومثل هذا مذهب المالكيّة في الصّور المجسّمة الّتي ليست على وضع محرّم عندهم ‪ ،‬أو غير المجسّمة‬
‫‪ .‬أمّا المحرّمة فإنّها تمنع وجوب إجابة الدّعوة على ما يأتي ‪.‬‬
‫ولم نجد في كلمهم ما يبيّن حكم الدّخول إلى مكان هي فيه ‪.‬‬
‫‪ - 62‬واختلف مذهب الشّافعيّة في ذلك ‪ ،‬والرّاجح عندهم ‪ -‬وهو القول المرجوح عند الحنابلة ‪ -‬أنّه يحرم‬
‫الدّخول إلى مكان فيه صور منصوبة على وضع محرّم ‪.‬‬
‫ن الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة ‪ .‬قال الشّافعيّ رحمه ال ‪ ":‬إن رأى صورا في الموضع ذوات‬
‫قالوا ‪ :‬ل ّ‬
‫أرواح لم يدخل المنزل الّذي فيه تلك الصّور إن كانت منصوبة ل توطأ ‪ ،‬فإن كانت توطأ فل بأس أن يدخله‬
‫"‪ .‬والقول الثّاني للشّافعيّة ‪ :‬عدم تحريم الدّخول ‪ ،‬بل يكره ‪ .‬وهو قول صاحب التّقريب والصّيدلنيّ ‪ ،‬والمام‬
‫‪ ،‬والغزاليّ في الوسيط ‪ ،‬والسنويّ ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وهذا إن كانت الصّور في محلّ الجلوس ‪ ،‬فإن كانت في الممرّ أو خارج باب الجلوس ل يكره الدّخول‬
‫‪ ،‬لنّها تكون كالخارجة من المنزل ‪ .‬وقيل ‪ :‬لنّها في الممرّ ممتهنة ‪.‬‬
‫إجابة الدّعوة إلى مكان فيه صور ‪:‬‬
‫‪ - 63‬إجابة الدّعوة إلى الوليمة ‪ -‬وهي طعام العرس ‪ -‬واجبة عند الجمهور ‪ ،‬لحديث‬
‫« من لم يجب الدّعوة فقد عصى اللّه ورسوله » وقيل هي ‪ :‬سنّة ‪ .‬وإجابة الدّعوة لغيرها مستحبّة ‪ .‬وفي‬
‫جميع الحوال إذا كان في المكان صور على وضع محرّم ‪ -‬ومثلها أي منكر ظاهر ‪ -‬وعلم بذلك المدعوّ‬
‫ن الدّاعي يكون قد أسقط حرمة نفسه‬
‫ن الجابة ل تكون واجبة ‪ ،‬ل ّ‬
‫قبل مجيئه ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫بارتكابه المنكر ‪ ،‬فتترك الجابة عقوبة له وزجرا عن فعله ‪ .‬وقال البعض ‪ -‬كالشّافعيّة ‪ : -‬تحرم الجابة‬
‫حينئذ ‪.‬‬
‫ثمّ قيل ‪ :‬إنّه إذا علم أنّها بحضوره تزال ‪ ،‬أو يمكنه إزالتها ‪ ،‬فيجب الحضور لذلك ‪.‬‬
‫وفي المسألة اختلف وتفصيل ينظر تحت عنوان ( دعوة )‬
‫ما يصنع بالصّورة المحرّمة إذا كانت في شيء ينتفع به ‪:‬‬
‫‪ - 64‬ينبغي إخراج الصّورة عن وضعها المحرّم إلى وضع تخرج فيه عن الحرمة ‪ ،‬ول يلزم إتلفها بالكّليّة‬
‫‪ ،‬بل يكفي حطّها إن كانت منصوبة ‪ .‬فإن كان ل بدّ من بقائها في مكانها ‪ ،‬فيكفي قطع الرّأس عن البدن ‪ ،‬أو‬
‫خرق الصّدر أو البطن ‪ ،‬أو حكّ الوجه من الجدار ‪ ،‬أو محوه أو طمسه بطلء يذهب معالمه ‪ ،‬أو يغسل‬
‫الصّورة إن كانت ممّا يمكن غسله ‪ .‬وإن كانت في ثوب معلّق أو ستر منصوب ‪ ،‬فيكفي أن ينسج عليها ما‬
‫يغطّي رأسها ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬ولو أنّه قطع الرّأس عن الجسد بخيط ‪ -‬مع بقاء الرّأس على حاله ‪ -‬فل ينفي الكراهة ‪،‬‬
‫ن من الطّيور ما هو مطوّق ‪ ،‬فل يتحقّق القطع بذلك ‪.‬‬
‫لّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بعثه إلى المدينة‬
‫ن النّب ّ‬
‫‪ - 65‬والدّليل لهذه المسألة ما في حديث عليّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫ل صورة » ‪ .‬وفي روايات مسند أحمد للحديث‬
‫وأمره أن يسوّي كلّ قبر ‪ ،‬ويكسر كلّ صنم ‪ ،‬ويطمس ك ّ‬
‫وردت العبارات التية ‪ :‬أن يلطّخ الصّورة ‪ ،‬أو أن يلطّخها ‪ ،‬أو ينحتها ‪ ،‬أو يضعها ‪ ،‬ورواية الوضع‬
‫ص على كسر الصنام ‪ .‬ومن‬
‫صحيحة ‪ .‬وليس في شيء من تلك الرّوايات كسر الصّورة أو إتلفها كما ن ّ‬
‫الدّليل أيضا حديث عائشة رضي ال عنها في شأن السّتر الّذي فيه الصّور ‪ ،‬وفيه أنّه قال ‪ « :‬أخّريه عنّي‬
‫» ‪ ،‬وفي رواية « أنّه هتكه بيده » ‪ ،‬وفي أخرى « أنّه أمر بجعله وسائد » ‪.‬‬
‫الصّور والمصلّي ‪:‬‬
‫ن من صلّى وفي قبلته صورة حيوان محرّمة فقد فعل مكروها ‪ ،‬لنّه يشبه‬
‫‪ - 66‬اتّفقت كلمة الفقهاء على أ ّ‬
‫سجود الكفّار لصنامهم ‪ ،‬وإن لم يقصد التّشبّه ‪.‬‬
‫أمّا إن كانت الصّورة في غير القبلة ‪ :‬كأن كانت في البساط ‪ ،‬أو على جانب المصلّي في الجدار ‪ ،‬أو خلفه ‪،‬‬
‫أو فوق رأسه في السّقف ‪ ،‬فقد اختلفت كلمتهم في ذلك ‪ .‬فقال الحنفيّة ‪ -‬كما في ال ّدرّ وحاشية الطّحطاويّ ‪-‬‬
‫يكره للمصلّي لبس ثوب فيه تماثيل ذي روح ‪ ،‬وأن يكون فوق رأسه ‪ ،‬أو بين يديه ‪ ،‬أو بحذائه يمنة أو يسرة‬
‫‪ ،‬أو محلّ سجوده تمثال ‪.‬‬
‫واختلف فيما إذا كان التّمثال خلفه ‪ .‬والظهر ‪ :‬الكراهة ‪ .‬ول يكره لو كانت تحت قدميه أو محلّ جلوسه إن‬
‫كان ل يسجد عليها ‪ ،‬أو في يده ‪ ،‬أو كانت مستترة بكيس أو صرّة أو ثوب ‪ ،‬أو كانت صغيرة ‪ ،‬لنّ‬
‫الصّغيرة ل تعبد ‪ ،‬فليس لها حكم الوثن ‪.‬‬
‫ص الشّافعيّة ‪ -‬كما في أسنى المطالب ‪ -‬على أنّه يكره للمصلّي أن يلبس ثوبا فيه تصوير ‪ ،‬وأن يصلّي‬
‫ون ّ‬
‫إليه أو عليه ‪ .‬ونصّ الحنابلة على أنّه تكره الصّلة إلى صورة منصوبة ‪ ،‬نصّ عليه أحمد ‪ .‬قال البهوتيّ ‪:‬‬
‫وظاهره ولو كانت الصّورة صغيرة ل تبدو للنّاظر إليها ‪ ،‬ول تكره إلى غير منصوبة ‪ ،‬ول يكره سجود ولو‬
‫على صورة ‪ ،‬ول صورة خلفه في البيت ‪ ،‬ول فوق رأسه في السّقف أو عن أحد جانبيه ‪ .‬وأمّا السّجود على‬
‫ي الدّين يعني ابن تيميّة ‪ ،‬وقال في الفروع ‪ :‬ل يكره ‪ ،‬لنّه ل يصدق عليه أنّه‬
‫الصّورة فيكره عند الشّيخ تق ّ‬
‫صلّى إليها‪ .‬ويكره حمله فصّا فيه صورة أو حمله ثوبا ونحوه كدينار أو درهم فيه صورة ‪.‬‬
‫ولم نجد للمالكيّة تعرّضا لهذه المسألة ‪ ،‬إل أنّهم ذكروا تزويق قبلة المسجد أو أيّ جزء منه كما يأتي بعد هذا‬
‫‪.‬‬
‫الصّور في الكعبة والمساجد وأماكن العبادة ‪:‬‬
‫‪ - 67‬ينبغي تنزيه أماكن العبادة عن وجود الصّور فيها ‪ ،‬لئل يئول المر إلى عبادتها ‪ ،‬كما تقدّم من قول ابن‬
‫عبّاس ‪ :‬أنّ أصل عبادة قوم نوح لصنامهم ‪ ،‬أنّهم كانوا رجالً صالحين ‪ ،‬فلمّا ماتوا صوّروهم ثمّ عبدوهم ‪.‬‬
‫وأيضا فقد تقدّم أنّ من الفقهاء من يقول بكراهة الصّلة مع وجود الصّورة ‪ ،‬ولو كانت إلى جانب المصلّي أو‬
‫خلفه أو في مكان سجوده ‪.‬‬
‫والمساجد تجنّب المكروهات كما تجنّب المحرّمات ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم دخل الكعبة فوجد فيها‬
‫ن النّب ّ‬
‫‪ - 68‬وقد ورد من حديث ابن عبّاس رضي ال عنهما « أ ّ‬
‫ن الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة ‪،‬‬
‫صورة إبراهيم وصورة مريم عليهما السلم فقال ‪ :‬أمّا هم فقد سمعوا أ ّ‬
‫هذا إبراهيم مصوّر فما له يستقسم » وفي رواية « أنّه لمّا رأى الصّور في البيت لم يدخل حتّى أمر بها‬
‫فمحيت ‪ ،‬ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم بأيديهما الزلم ‪ .‬فقال ‪ :‬قاتلهم اللّه ‪ ،‬واللّه إن استقسما‬
‫ط » ‪ .‬وورد « أنّ النّبيّ أمر بالصّور كلّها فمحيت ‪ ،‬فلم يدخل الكعبة وفيها من الصّور شيء » ‪.‬‬
‫بالزلم ق ّ‬
‫وفي الصّحيحين عن عائشة رضي ال عنها « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا اشتكى ذكر بعض نسائه‬
‫كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية ‪ ،‬وكانت أمّ سلمة وأمّ حبيبة أتتا أرض الحبشة ‪ ،‬فذكرتا من‬
‫حسنها وتصاوير فيها ‪ ،‬فرفع رأسه فقال ‪ :‬أولئك إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدا ‪ ،‬ثمّ‬
‫صوّروا فيه تلك الصّور ‪ ،‬أولئك شرار الخلق » فهذا يفيد تحريم الصّور في المساجد ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬
‫الصّور في الكنائس والمعابد غير السلميّة ‪:‬‬
‫‪ - 69‬الكنائس والمعابد الّتي أقرّت في بلد السلم بالصّلح ل يتعرّض لما فيها من الصّور ما دامت في‬
‫ن عليّا رضي‬
‫الدّاخل ‪ .‬ول يمنع ذلك من دخول المسلم الكنيسة عند الجمهور ‪ .‬وتقدّم ما نقله صاحب المغني أ ّ‬
‫ن عمر رضي ال عنه أخذ على أهل ال ّذمّة‬
‫ال عنه دخل الكنيسة بالمسلمين ‪ ،‬وأخذ يتفرّج على الصّور ‪ .‬وأ ّ‬
‫أن يوسّعوا أبواب كنائسهم ‪ ،‬ليدخلها المسلمون والمارّة ‪ .‬ولذا قال الحنابلة ‪ :‬للمسلم دخول الكنيسة والبيعة ‪،‬‬
‫والصّلة فيهما من غير كراهة على الصّحيح من المذهب ‪.‬‬
‫وفي قول آخر للحنابلة ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪ :‬يكره دخولها لنّها مأوى الشّياطين ‪.‬‬
‫وقال أكثر الشّافعيّة ‪ :‬يحرم على المسلم أن يدخل الكنيسة الّتي فيها صور معلّقة ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أحكام الصّور ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّور وعقود التّعامل ‪:‬‬
‫‪ - 70‬الصّور الّتي صناعتها حلل ‪ -‬كالصّور المسطّحة مطلقا عند المالكيّة ‪ ،‬والصّور المقطوعة ‪ ،‬ولعب‬
‫الطفال ‪ ،‬والصّور من الحلوى ‪ ،‬وما يسرع إليه الفساد ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ -‬على التّفصيل والخلف الّذي تقدّم ‪-‬‬
‫يصحّ شراؤها وبيعها والمر بعملها والجارة على صنعها ‪ .‬وثمنها حلل والجرة المأخوذة على صناعتها‬
‫حلل ‪.‬‬
‫وكذلك سائر عقود التّعامل الّتي تجري عليها ‪ .‬ويجوز للوليّ أن يشتري لمحجورته اللّعب من مالها ‪ ،‬لما فيها‬
‫من مصلحة التّمرين كما تقدّم ‪ .‬أمّا الصّور المحرّمة صناعتها ‪ ،‬فإنّها على القاعدة العامّة في المحرّمات ل‬
‫تحلّ الجارة على صنعها ‪ ،‬ول تحلّ الجرة ول المر بعملها ‪ ،‬ول العانة على ذلك ‪ .‬قال القليوبيّ ‪ :‬ويسقط‬
‫المروءة حرفة محرّمة كالمصوّر ‪.‬‬
‫وشذّ الماورديّ فجعل للمصوّر أجرة المثل كما في تحفة المحتاج ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا ما يحرم اقتناؤه وا ستعماله ‪ ،‬فل ي صحّ شراؤه ول بي عه ول هب ته ول إيدا عه ول ره نه ‪ ،‬ول‬ ‫‪71‬‬

‫الجارة على حفظه ‪ ،‬ول وقفه ‪ ،‬ول الوصيّة به كسائر المحرّمات ‪.‬‬
‫ن اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والصنام » ‪.‬ومن‬
‫وقد « قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إ ّ‬
‫أخذ على شيء من ذلك ثمنا أو أجرة فهو كسب خبيث يلزمه التّصدّق به‪ .‬قال ابن تيميّة ‪ :‬ول يعاد إلى‬
‫صاحبه ‪ ،‬لنّه قد استوفى العوض ‪ ،‬كما نصّ عليه المام أحمد في مثل حامل الخمر ‪ ،‬ونصّ عليه أصحاب‬
‫مالك وغيرهم ‪.‬‬
‫‪ - 72‬وهذا إن كانت الصّور المحرّمة فيما ل منفعة فيه إلّا ما فيه من الصّورة المحرّمة ‪ ،‬أمّا لو كانت تصلح‬
‫لمنفعة بعد شيء من التّغيير ‪ ،‬فظاهر كلم بعض الشّافعيّة منعه ‪.‬‬
‫وقال الرّمليّ الشّافعيّ ‪ :‬مقتضى كلم المام في باب الوصيّة صحّة البيع في هذه الحال ‪ ،‬وينبغي أن ل يكون‬
‫فيه خلف ‪ .‬ويؤيّده ما نقله في الرّوضة عن المتولّي ‪ -‬ولم يخالفه ‪ -‬في جواز بيع النّرد إذا صلح لبيادق‬
‫الشّطرنج ‪ ،‬وإلّا فل ‪ .‬ومثله ما في ال ّدرّ وحاشية ابن عابدين ‪ :‬اشترى ثورا أو فرسا من خزف لجل استئناس‬
‫ح ‪ ،‬ول قيمة له ‪ .‬وقيل بخلفه يصحّ ويضمن متلفه ‪ ،‬فلو كانت من خشب أو صفر جاز‬
‫الصّبيّ ‪ ،‬ل يص ّ‬
‫اتّفاقا فيما يظهر ‪ ،‬لمكان النتفاع به ‪ .‬وعن أبي يوسف يجوز بيع اللّعبة ‪ ،‬وأن يلعب بها الصّبيان ‪.‬‬
‫الضّمان في إتلف الصّور وآلت التّصوير ‪:‬‬
‫‪ - 73‬الّذين قالوا بتحريم نوع من الصّور مستعملة على وضع معيّن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ينبغي إخراج الصّورة إلى‬
‫ص على ذلك ‪ ،‬بل‬
‫وضع ل تكون فيه محرّمة ‪ .‬وقد بوّب البخاريّ لنقض الصّور ‪ ،‬لكن لم يذكر فيها حديثا ين ّ‬
‫ذكر حديثا آخر هو قول عائشة رضي ال عنها « كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم ل يترك في بيته شيئا فيه‬
‫تصاليب إلّا نقضه » ‪ .‬وفي رواية ‪ « :‬إلّا قضبه » ولعلّه أراد بذلك قياس نقض الصّور المحرّمة على نقض‬
‫الصّلبان ‪ ،‬لشتراكهما في أنّهما عبدا من دون اللّه ‪ .‬لكنّه صلى ال عليه وسلم « قال لعائشة رضي ال عنها‬
‫في شأن السّتر الّذي عليه التّصاوير أخّريه عنّي » وفي رواية « أنّه هتكه » ‪ ،‬أي نزعه من مكانه حتّى لم‬
‫يعد منصوبا ‪ ،‬وفي حديث جبريل أنّه « أمر بصنع وسادتين من السّتر » وهذا يعني أنّه ل يتلف ما فيه‬
‫الصّورة إن كان يمكن أن يستعمل على وجه آخر مباح ‪.‬‬
‫لكن إن كانت الصّورة المحرّمة ل تزول إلّا بالتلف وجب التلف ‪ ،‬وذلك ل يتصوّر إلّا نادرا ‪ ،‬كالتّمثال‬
‫المجسّم المثبّت في جدار أو نحوه الّذي إذا أزيل من مكانه أو خرق صدره أو بطنه أو قطع رأسه يتلف ‪.‬‬
‫ن المعصية ل تزول إل بإتلفه ‪ .‬أمّا من أتلف الصّورة الّتي يمكن النتفاع بها‬
‫وهذا النّوع ل يضمن متلفه ‪ ،‬ل ّ‬
‫على وضع غير محرّم ‪ ،‬فينبغي أن يضمن ما أتلفه خاليا عن تلك الصّنعة المحرّمة على الصل في ضمان‬
‫المتلفات ‪.‬‬
‫وهذا مقتضى مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬والصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وظاهر كلم المالكيّة ‪.‬‬
‫وقياس مذهب الحنابلة ‪ :‬أنّه يجوز التلف ول ضمان ‪ ،‬لسقوط حرمة الشّيء بما فيه من المنفعة باستعماله‬
‫في المحرّم ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬يضمن ‪.‬‬
‫القطع في سرقة الصّور ‪:‬‬
‫‪ - 74‬ل قطع في سرقة الصّور الّتي ليس لمكسورها قيمة ‪ ،‬أو له قيمة ل تبلغ نصابا ‪.‬‬
‫أمّا في غير ذلك ‪ ،‬فمذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو القول المرجوح عند الشّافعيّة ‪ ،‬وقول عند الحنابلة عليه المذهب ‪:‬‬
‫ن السّارق قد يقصد النكار ‪ ،‬وأنّ‬
‫أنّه ل قطع في سرقة آلة اللّهو ‪ ،‬لنّ صلحيّته للّهو صارت شبهة من أ ّ‬
‫سرقته للشّيء لتأويل الكسر ‪ ،‬فمنع ذلك القطع ‪ .‬فكذا ينبغي أن يقال عندهم في الصّور المحرّمة ‪ ،‬ولو كان‬
‫مكسورها يبلغ نصابا ‪ .‬قال صاحب المقنع من الحنابلة ‪ :‬إن سرق آنية فيها الخمر أو صليبا أو صنم ذهب لم‬
‫يقطع ‪.‬‬
‫قال صاحب النصاف ‪ :‬هذا المذهب وعليه جماهير الصحاب ‪ .‬أي لنّ الصّنعة المحرّمة أهدرت بسببها‬
‫حرمة الشّيء فلم يعد لمكسوره حرمة تستحقّ أن يثبت بسببها القطع ‪.‬‬
‫وسواء قصد بالسّرقة النكار أم لم يقصده ‪ .‬ومذهب المالكيّة ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة وجوب القطع فيما‬
‫لو كان المكسور يبلغ نصابا ‪.‬‬
‫وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو كان على الدّراهم والدّنانير المسروقة صور فل يمنع ذلك وجوب القطع ‪،‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬لنّ النّقود إنّما تعدّ للتّموّل فل يثبت فيها تأويل ‪ .‬لكن في قول عند الحنابلة التّفريق بين أن‬
‫يقصد إنكارا فل يقطع ‪ ،‬ويقطع إن لم يقصده ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬

‫تضبيب‬ ‫*‬

‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّضبيب والضّبّ في اللّغة ‪ :‬تغطية الشّيء وإدخال بعضه في بعض وقيل ‪ :‬هو شدّة القبض على الشّيء‬
‫‪ ،‬لئلّا ينفلت من اليد ‪ .‬ويقال ‪ :‬ضبّب الخشب بالحديد أو الصّفر ‪ :‬إذا شدّه به ‪ ،‬وضبّب أسنانه شدّها بذهب أو‬
‫فضّة أو غيرهما ‪.‬‬
‫ضبّة ‪ :‬حديدة عريضة يضبّب بها الباب ويشعّب بها الناء عند التّصدّع ‪.‬‬
‫وال ّ‬
‫والصطلح الشّرعيّ للتّضبيب ل يختلف عن المعنى اللّغويّ في شيء ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجبر ‪ :‬من معانيه أن يغنى الرّجل من فقر ‪ ،‬أو يصلح عظمه من كسر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الوصل ‪ :‬من وصل الثّوب أو الخفّ وصلة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّشعيب ‪ :‬وهو جمع الشّيء وض ّم بعضه إلى بعض ‪ ،‬أو تفريقه ‪ ،‬فهو من الضداد ‪ .‬التّطعيم ‪ :‬مصدر‬
‫طعّم ‪ ،‬وأصله طعّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬طعّم الغصن أو الفرع ‪ :‬قبل الوصل بغصن من غير شجره وطعّم كذا بعنصر‬
‫كذا لتقويته أو تحسينه ‪ ،‬أو اشتقاق نوع آخر منه ‪.‬‬
‫وطعّم الخشب بالصّدف ركّبه فيه للزّخرفة والزّينة ‪.‬‬
‫وعند الفقهاء هو ‪ :‬أن يحفر في إناء من خشب أو غيره حفرا ‪ ،‬ويضع فيها قطعا من ذهب أو فضّة ونحوهما‬
‫على قدر الحفر ‪ .‬فالفرق بين التّضبيب والتّطعيم ‪ :‬أنّ التّضبيب يكون للصلح ‪ ،‬أمّا التّطعيم فل يكون إلّا‬
‫بالحفر ‪ ،‬وهو للزّينة غالبا ‪.‬‬
‫‪ - 6‬التّمويه ‪ :‬هو الطّلء بماء الذّهب أو الفضّة ونحوهما ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 7‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز التّضبيب واستعمال المضبّب بذهب أو فضّة ‪ ،‬لنّه تابع للمباح ‪ ،‬وهو باقي‬
‫الناء ‪ ،‬فأشبه المضبّب باليسير ‪ .‬ولكنّه مكروه عندهم ‪ .‬ولكن عليه أن يجتنب في النّصل والقبضة واللّجام‬
‫موضع اليد ‪.‬‬
‫س الضّبّة بالفم ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬المراد بالتّقاء ‪ :‬التّقاء بالعضو‬
‫وفي الشّرب من الناء المضبّب يتّقي م ّ‬
‫الّذي يقصد الستعمال به ‪ ،‬وفي ذلك خلف بين أبي حنيفة وصاحبيه ‪ .‬ينظر في المطوّلت ‪ .‬وسيأتي تفصيل‬
‫أحكام التّضبيب في مصطلحي ( ذهب ‪ ،‬فضّة ‪ ،‬آنية ) ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة ‪ :‬فقد ذهبوا ‪ -‬في الرّاجح عندهم ‪ -‬إلى حرمة ذلك كلّه ‪ ،‬يستوي عندهم ‪ :‬الفضّة والذّهب ‪،‬‬
‫والصّغيرة والكبيرة ‪ ،‬لحاجة أو لغير حاجة ‪.‬‬
‫ن تضبيب الناء بذهب حرام مطلقا ‪ ،‬وتضبيبه بضبّة كبيرة عرفا من الفضّة ‪-‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫لغير حاجة بأن كانت لزينة ‪ -‬حرام كذلك ‪.‬‬
‫ضيّة صغيرة لحاجة الناء إلى الصلح لم تكره ‪ ،‬لما روى البخاريّ‬
‫ضبّة الف ّ‬
‫فإن كانت ال ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم انكسر فاتّخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة » ‪.‬‬
‫ن قدح النّب ّ‬
‫«أّ‬
‫ح ‪ .‬وفي ذلك تفصيل‬
‫ضبّة فوق الحاجة ‪ -‬وهي صغيرة ‪ ،‬أو كبيرة لحاجة ‪ -‬كرهت في الص ّ‬
‫وإن كانت ال ّ‬
‫أتمّ ينظر في مصطلح ( ذهب ‪ -‬فضّة ‪ -‬آنية ) ‪.‬‬

‫تضمير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّضمير لغة ‪ :‬من الضّمر بسكون الميم والضّمر ( بضمّها ) بمعنى ‪ :‬الهزال ولحاق البطن ‪ .‬وهو ‪ :‬أن‬
‫تعلف الخيل حتّى تسمن وتقوى ‪ ،‬ثمّ يقلّل علفها ‪ ،‬فتعلف بقدر القوت ‪ ،‬وتدخل بيتا وتغشى بالجلل حتّى‬
‫تحمى فتعرق ‪ ،‬فإذا جفّ عرقها ‪ ،‬خفّ لحمها ‪ ،‬وقويت على الجري ‪ .‬ومدّة التّضمير عند العرب أربعون‬
‫يوما ‪ ،‬وتسمّى هذه المدّة ‪ ،‬وكذلك الموضع الّذي تضمر فيه الخيل مضمارا ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬السّباق ‪:‬‬
‫‪ - 2‬السّباق والمسابقة بمعنى ‪ .‬يقال ‪ :‬سابقه مسابقة وسباقا ‪ .‬والسّباق مأخوذ من السّبق بسكون الباء ‪،‬‬
‫بمعنى ‪ :‬التّقدّم في الجري وفي كلّ شيء ‪.‬‬
‫وأمّا السّبق بالفتح فمعناه ‪ :‬الجعل الّذي يسابق عليه ‪.‬‬
‫والعلقة بينه وبين التّضمير ‪ :‬أنّ عمليّة التّضمير تتّخذ في بعض الحيان لجل إحراز التّقدّم في السّباق ‪.‬‬
‫ي ومواطن البحث ‪:‬‬
‫حكمه الجمال ّ‬
‫‪ - 3‬يرى جمهور الفقهاء إباحة تضمير الخيل مطلقا ‪ ،‬واستحباب تضميرها إذا كانت معدّة للغزو ‪ .‬وورد في‬
‫هذا الباب أحاديث كثيرة منها ‪:‬‬
‫حديث نافع عن ابن عمر رضي ال تعالى عنهما قال ‪ « :‬سابق رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بين الخيل‬
‫الّتي قد ضمّرت فأرسلها من الحفياء ‪ ،‬وكان أمدها ثنيّة الوداع ‪ .‬فقلت لموسى بن عقبة ‪ :‬فكم كان بين ذلك ؟‬
‫قال ستّة أميال أو سبعة ‪ .‬وسابق بين الخيل الّتي لم تضمّر ‪ ،‬فأرسلها من ثنيّة الوداع ‪ ،‬وكان أمدها مسجد بني‬
‫زريق ‪ .‬قلت ‪ :‬فكم بين ذلك ؟ قال ‪ :‬ميل أو نحوه ‪ .‬فكان ابن عمر ممّن سابق فيها » ‪ .‬وبهذا الحديث ونحوه‬
‫ن تضمير الخيل ل يجوز ‪ ،‬لما فيه من مشقّة سوقها ‪.‬‬
‫يندفع قول من قال ‪ :‬إ ّ‬
‫وأمّا اشتراط تضمير الخيل للسّبق ‪ ،‬وجواز السّباق بين الخيل المضمّرة وغير المضمّرة ‪ ،‬والمغايرة بين غاية‬
‫السّباق للخيل المضمّرة وغيرها ‪ ،‬ففيها خلف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( سباق ) وإلى مواطنها من‬
‫كتب الفقه ‪.‬‬

‫تطبيب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬للتّطبيب في اللّغة معان ‪ ،‬منها وهو المراد هنا ‪ :‬أنّه المداواة ‪ .‬يقال ‪ :‬طبّب فلن فلنا ‪ :‬أي داواه ‪.‬‬
‫وجاء يستطبّ لوجعه ‪ :‬أي يستوصف الدوية أيّها يصلح لدائه ‪.‬‬
‫والطّبّ ‪ :‬علج الجسم والنّفس ‪ ،‬ورجل طَبّ وطبيب ‪ :‬عالم بالطّبّ ‪.‬‬
‫ب ‪ .‬وتطبّب له ‪ :‬سأل له الطبّاء ‪.‬‬
‫والطّبّ ‪ .‬والطّبّ ‪ :‬لغتان في الطّ ّ‬
‫والطّبيب في الصل ‪ :‬الحاذق بالمور العارف بها ‪ ،‬وبه سمّي الطّبيب الّذي يعالج المرضى ونحوهم ‪ .‬ول‬
‫يخرج معناه الصطلحيّ عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّداوي ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّداوي ‪ :‬تعاطي الدّواء ‪ ،‬ومنه المداواة أي المعالجة ‪ :‬يقال ‪ :‬فلن ُيدَاوَى ‪ :‬أي يُعالَج‪ .‬والفرق بين‬
‫التّطبيب والتّداوي ‪ :‬أنّ التّطبيب تشخيص الدّاء ومداواة المريض ‪ ،‬والتّداوي تعاطي الدّواء ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّطبيب تعلّما من فروض الكفاية ‪ ،‬فيجب أن يتوفّر في بلد المسلمين من يعرف أصول حرفة الطّبّ ‪،‬‬
‫وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬احتراف ) ‪.‬‬
‫أمّا التّطبيب مُزاول ًة فالصل فيه الباحة ‪ .‬وقد يصير مندوبا إذا اقترن بنيّة التّأسّي بالنّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫حيَا‬
‫ن َأحْياها َفكَأ ّنمَا َأ ْ‬
‫في توجيهه لتطبيب النّاس ‪ ،‬أو نوى نفع المسلمين لدخوله في مثل قوله تعالى ‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫جمِيعَا } وحديث ‪ « :‬من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلْينفعه » ‪ .‬إل إذا تعيّن شخص لعدم وجود غيره‬
‫النّاسَ َ‬
‫أو تعاقد فتكون مزاولته واجبة ‪.‬‬
‫ويدلّ لذلك ما روى « رجل من النصار قال ‪ :‬عاد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رجلً به جرح ‪ ،‬فقال‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ادعوا له طبيب بني فلن ‪ .‬قال ‪ :‬فدعوه فجاء ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪،‬‬
‫ويغني الدّواء شيئا ؟ فقال ‪ :‬سبحان اللّه ‪ .‬وهل أنزل اللّه من داء في الرض إل جعل له شفاء » ‪.‬‬
‫وعن جابر رضي ال عنه قال ‪ « :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن الرّقى ‪ .‬فجاء آل عمرو بن‬
‫حزم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب ‪ ،‬وإنّك نهيت عن الرّقى ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فعرضوها عليه ‪ .‬فقال ‪ :‬ما أرى بها بأسا ‪ ،‬من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه » ‪ .‬وقال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬ل بأس بالرّقى ما لم يكن فيها شرك » ‪ .‬ولما ثبت من فعل النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه تداوى ‪،‬‬
‫ن عروة كان يقول لعائشة رضي ال عنها ‪ :‬يا أمّتاه ‪ ،‬ل أعجب من‬
‫فقد روى المام أحمد في مسنده « أ ّ‬
‫فهمك ‪ .‬أقول ‪ :‬زوجة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بنت أبي بكر ‪ .‬ول أعجب من علمك بالشّعر وأيّام‬
‫ب ‪ ،‬كيف‬
‫النّاس ‪ ،‬أقول ‪ :‬ابنة أبي بكر ‪ ،‬وكان أعلم النّاس أو من أعلم النّاس ‪ .‬ولكن أعجب من علمك بالطّ ّ‬
‫ع َريّة ؟ إنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان‬
‫ت على منكبه وقالت ‪ " :‬أي ُ‬
‫هو ؟ ومن أين هو ؟ قال فضرب ْ‬
‫ل وجه ‪ ،‬فتنعت له النعات ‪،‬‬
‫يسقم عند آخر عمره ‪ ،‬أو في آخر عمره ‪ ،‬فكانت تقدم عليه وفود العرب من ك ّ‬
‫وكنت أعالجها ‪ ،‬فمن ثمّ » ‪ .‬وفي رواية « أنّ رسول اللّه كثرت أسقامه ‪ ،‬فكان يقدم عليه أطبّاء العرب‬
‫والعجم ‪ ،‬فيصفون له فنعالجه » ‪ .‬وقال الرّبيع ‪ :‬سمعت الشّافعيّ يقول ‪ :‬العلم علمان ‪ :‬علم الديان وعلم‬
‫البدان ‪.‬‬
‫نظر الطّبيب إلى العورة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اتّفق الفقهاء على جواز نظر الطّبيب إلى العورة ولمسها للتّداوي ‪.‬‬
‫ويكون نظره إلى موضع المرض بقدر الضّرورة ‪ .‬إذ الضّرورات تقدّم بقدرها ‪ .‬فل يكشف إل موضع‬
‫ض بصره ما استطاع إلّا عن موضع الدّاء ‪.‬‬
‫الحاجة ‪ ،‬مع غ ّ‬
‫ن نظر الجنس إلى الجنس أخفّ ‪.‬‬
‫وينبغي قبل ذلك أن يعلّم امرأة تداوي النّساء ‪ ،‬ل ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه إذا كان الطّبيب أجنبيّا عن المريضة فل ب ّد من حضور ما يؤمن معه‬
‫وقوع محظور ‪.‬‬
‫ن رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان » ‪.‬‬
‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أل ل يخلو ّ‬
‫واشترط الشّافعيّة عدم وجود امرأة تحسن التّطبيب إذا كان المريض امرأة ‪ ،‬ولو كانت المرأة المداوية كافرة ‪،‬‬
‫وعدم وجود رجل يحسن ذلك إذا كان المريض رجل ‪ .‬كما شرطوا أن ل يكون غير أمين مع وجود أمين ‪،‬‬
‫ول ذ ّميّا مع وجود مسلم ‪ ،‬أو ذ ّميّة مع وجود مسلمة ‪ .‬قال البلقينيّ ‪ :‬يقدّم في علج المرأة مسلمة ‪ ،‬فصبيّ‬
‫مسلم غير مراهق ‪ ،‬فمراهق ‪ ،‬فكافر غير مراهق ‪ ،‬فمراهق ‪ ،‬فامرأة كافرة ‪ ،‬فمحرم مسلم ‪ ،‬فمحرم كافر ‪،‬‬
‫فأجنبيّ مسلم ‪ ،‬فكافر‪ .‬واعترض ابن حجر الهيثميّ على تقديم الكافرة على المحرم ‪ .‬وقال ‪ :‬والّذي يتّجه‬
‫تقديم نحو محرم مطلقا على كافرة ‪ ،‬لنظره ما ل تنظر هي ‪.‬‬
‫ص الشّافعيّة كذلك على تقديم المهر مطلقا ولو من غير الجنس والدّين على غيره ‪ .‬ونصّوا على أنّه إن‬
‫ون ّ‬
‫وجد من ل يرضى إلّا بأكثر من أجرة المثل فإنّه يكون كالعدم حينئذ حتّى لو وجد كافر يرضى بدونها ومسلم‬
‫ن المسلم كالعدم ‪ .‬وصرّح المالكيّة بأنّه ل يجوز النّظر إلى فرج المرأة إلّا إذا كان‬
‫ل يرضى إلّا بها احتمل أ ّ‬
‫ل يتوصّل إلى معرفة ذلك إل برؤيته بنفسه ‪ .‬أمّا لو كان الطّبيب يكتفي برؤية النّساء لفرج المريضة فل‬
‫يجوز له النّظر إليه ‪.‬‬
‫استئجار الطّبيب للعلج ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على جواز استئجار الطّبيب للعلج ‪ ،‬لنّه فعل يحتاج إليه ومأذون فيه شرعا ‪ ،‬فجاز‬
‫الستئجار عليه كسائر الفعال المباحة ‪.‬‬
‫غير أنّ الشّافعيّة شرطوا لصحّة هذا العقد أن يكون الطّبيب ماهرا ‪ ،‬بمعنى أن يكون خطؤه نادرا ‪ ،‬ويكفي في‬
‫ذلك التّجربة عندهم ‪ ،‬وإن لم يكن ماهرا في العلم ‪.‬‬
‫واستئجار الطّبيب يقدّر بالمدّة ل بالبرء والعمل ‪ ،‬فإن تمّت المدّة وبرئ المريض أو لم يبرأ فله الجرة كلّها ‪.‬‬
‫وإن برئ قبل تمام المدّة انفسخت الجارة فيما بقي من المدّة لتعذّر استيفاء المعقود عليه ‪ ،‬وكذا الحكم لو مات‬
‫المريض في أثناء المدّة ‪.‬‬
‫ص الحنابلة على أنّه ل يصحّ اشتراط الدّواء على الطّبيب ‪ ،‬وهو قول عند المالكيّة لما فيه من اجتماع‬
‫وقد ن ّ‬
‫الجعل والبيع ‪ .‬وعند المالكيّة قول آخر بالجواز ‪.‬‬
‫ق الجرة بتسليمه نفسه مع مضيّ زمن إمكان المداواة ‪ ،‬فإن امتنع المريض من العلج مع بقاء‬
‫والطّبيب يستح ّ‬
‫المرض استحقّ الطّبيب الجر ‪ ،‬ما دام قد سلّم نفسه ‪ ،‬ومضى زمن المداواة ‪ ،‬لنّ الجارة عقد لزم وقد بذل‬
‫الطّبيب ما عليه ‪.‬‬
‫وأمّا إذا سلّم الطّبيب نفسه وقبل مضيّ زمن إمكان المداواة سكن المرض ‪ ،‬فجمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة‬
‫والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪ -‬متّفقون على انفساخ الجارة حينئذ ‪.‬‬
‫‪ - 6‬ول تجوز مشارطة الطّبيب على البرء ‪ .‬ونقل ابن قدامة عن ابن أبي موسى الجواز ‪ ،‬إذ قال ‪ :‬ل بأس‬
‫ن أبا سعيد الخدريّ رضي ال عنه حين رقى الرّجل شارطه على البرء ‪.‬‬
‫بمشارطة الطّبيب على البرء ‪ ،‬ل ّ‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬إنّه الصّحيح إن شاء اللّه ‪ ،‬لكن يكون جعالة ل إجارة ‪ ،‬فإنّ الجارة ل بدّ فيها من مدّة أو‬
‫عمل معلوم ‪ .‬وأجاز ذلك المالكيّة أيضا ‪ ،‬ففي الشّرح الصّغير ‪ :‬لو شارطه طبيب على البرء فل يستحقّ‬
‫الجرة إل بحصوله ‪.‬‬
‫وسبق تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬
‫وإذا زال اللم وشفي المريض قبل مباشرة الطّبيب كان عذرا تنفسخ به الجارة ‪.‬‬
‫يقول ابن عابدين ‪ :‬إذا سكن الضّرس الّذي استؤجر الطّبيب لخلعه ‪ ،‬فهذا عذر تنفسخ به الجارة ‪ ،‬ولم يخالف‬
‫ص الشّافعيّة والحنابلة على أنّ من استأجر رجلً‬
‫في ذلك أحد ‪ ،‬حتّى من لم يعتبر العذر موجبا للفسخ ‪ ،‬فقد ن ّ‬
‫ليقلع له ضرسا فسكن الوجع ‪ ،‬أو ليكحّل له عينا فبرئت قبل أن يقوم بالعمل ‪ ،‬انفسخ العقد لتعذّر استيفاء‬
‫المعقود عليه ‪.‬‬
‫ضمان الطّبيب لما يتلفه ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يضمن الطّبيب إن جهل قواعد الطّبّ أو كان غير حاذق فيها ‪ ،‬فداوى مريضا وأتلفه بمداواته ‪ ،‬أو‬
‫أحدث به عيبا ‪ .‬أو علم قواعد التّطبيب وقصّر في تطبيبه ‪ ،‬فسرى التّلف أو التّعييب ‪ .‬أو علم قواعد التّطبيب‬
‫ولم يقصّر ولكنّه طبّب المريض بل إذن منه ‪ .‬كما لو ختن صغيرا بغير إذن وليّه ‪ ،‬أو كبيرا قهرا عنه ‪ ،‬أو‬
‫وهو نائم ‪ ،‬أو أطعم مريضا دواء قهرا عنه فنشأ عن ذلك تلف وعيب ‪ ،‬أو طبّب بإذن غير معتبر لكونه من‬
‫صبيّ ‪ ،‬إذا كان الذن في قطع يد مثل ‪ ،‬أو بعضد أو حجامة أو ختان ‪ ،‬فأدّى إلى تلف أو عيب ‪ ،‬فإنّه في‬
‫ذلك كلّه يضمن ما ترتّب عليه ‪ .‬أمّا إذا أذن له في ذلك ‪ ،‬وكان الذن معتبرا ‪ ،‬وكان حاذقا ‪ ،‬ولم تجن يده ‪،‬‬
‫ن ما يتلف‬
‫ولم يتجاوز ما أذن فيه ‪ ،‬وسرى إليه التّلف فإنّه ل يضمن ‪ ،‬لنّه فعل فعل مباحا مأذونا فيه ‪ .‬ول ّ‬
‫بالسّراية إن كان بسبب مأذون فيه ‪ -‬دون جهل أو تقصير ‪ -‬فل ضمان ‪ .‬وعلى هذا فل ضمان على طبيب‬
‫وبزّاغ ( جرّاح ) وحجّام وختّان ما دام قد أذن لهم بهذا ولم يقصّروا ‪ ،‬ولم يجاوزوا الموضع المعتاد ‪ ،‬وإل‬
‫لزم الضّمان ‪.‬‬
‫يقول ابن قدامة ‪ :‬إذا فعل الحجّام والختّان والمطبّب ما أمروا به ‪ ،‬لم يضمنوا بشرطين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أن يكونوا‬
‫ذوي حذق في صناعتهم ‪ ،‬فإذا لم يكونوا كذلك كان فعل محرّما ‪ ،‬فيضمن سرايته ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أل يتجاوز ما ينبغي أن يقطع ‪ ،‬فإن كان حاذقا وتجاوز ‪ ،‬أو قطع في غير محلّ القطع ‪ ،‬أو في وقت‬
‫ل يصلح فيه القطع وأشباه هذا ‪ ،‬ضمن فيه كلّه ‪ ،‬لنّه إتلف ل يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ‪ ،‬فأشبه إتلف‬
‫المال ‪.‬‬
‫وكذلك الحكم في القاطع في القصاص وقاطع يد السّارق ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬ل نعلم فيه خلفا ‪.‬‬
‫قال الدّسوقيّ ‪ :‬إذا ختن الخاتن صبيّا ‪ ،‬أو سقى الطّبيب مريضا دواء ‪ ،‬أو قطع له شيئا ‪ ،‬أو كواه فمات من‬
‫ن صاحبه هو الّذي‬
‫ذلك ‪ ،‬فل ضمان على واحد منهما ل في ماله ول على عاقلته ‪ ،‬لنّه ممّا فيه تغرير ‪ ،‬فكأ ّ‬
‫عرّضه لما أصابه ‪ .‬وهذا إذا كان الخاتن أو الطّبيب من أهل المعرفة ‪ ،‬ولم يخطئ في فعله ‪ .‬فإذا كان أخطأ‬
‫في فعله ‪ -‬والحال أنّه من أهل المعرفة ‪ -‬فالدّية على عاقلته ‪.‬‬
‫فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب ‪ .‬وفي كون الدّية على عاقلته أو في ماله قولن ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬لبن القاسم ‪ .‬والثّاني ‪ :‬لمالك ‪ .‬وهو الرّاجح لنّ فعله عمد‪ ،‬والعاقلة ل تحمل العمد‪.‬‬
‫وفي القنية ‪ :‬سئل محمّد نجم الدّين عن صبيّة سقطت من سطح ‪ ،‬فانفتح رأسها ‪ ،‬فقال كثير من الجرّاحين ‪:‬‬
‫إن شققتم رأسها تموت ‪ .‬وقال واحد منهم ‪ :‬إن لم تشقّوه اليوم تموت ‪ ،‬وأنا أشقّه وأبرئها ‪ ،‬فشقّه فماتت بعد‬
‫ق معتادا ‪ ،‬ولم يكن‬
‫شّ‬‫شقّ بإذن ‪ ،‬وكان ال ّ‬
‫يوم أو يومين ‪ .‬هل يضمن ؟ فتأمّل مليّا ثمّ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬إذا كان ال ّ‬
‫فاحشا خارج الرّسم – أي العادة ‪ . -‬قيل له ‪ :‬فلو قال ‪ :‬إن ماتت فأنا ضامن ‪ ،‬هل يضمن ؟ فتأمّل مليّا ‪ ،‬ثمّ‬
‫ن شرطه على المين باطل على ما عليه الفتوى ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ل ‪ .‬فلم يعتبر شرط الضّمان ‪ ،‬ل ّ‬
‫وفي مختصر الطّحاويّ ‪ :‬من استؤجر على عبد يحجمه ‪ ،‬أو على دابّة يبزّغها ‪ ،‬ففعل ذلك فعطبا بفعله ‪ ،‬فل‬
‫ن أصل العمل كان مأذونا فيه ‪ ،‬فما تولّد منه ل يكون مضمونا عليه إلّا إذا تعدّى ‪ ،‬فحينئذ‬
‫ضمان عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫يضمن ‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان في يده آكلة ‪ ،‬فاستأجر رجل ليقطع يده فمات ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪ .‬ومن استؤجر ليقلع ضرسا‬
‫لمريض ‪ ،‬فأخطأ ‪ ،‬فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه ‪ ،‬لنّه من جنايته ‪ .‬وإن أخطأ الطّبيب ‪ ،‬بأن سقى المريض‬
‫دواء ل يوافق مرضه ‪ ،‬أو زلّت يد الخاتن أو القاطع فتجاوز في القطع ‪ ،‬فإن كان من أهل المعرفة ولم يغرّ‬
‫من نفسه فذلك خطأ ‪ -‬أي تتحمّله عاقلته ‪ -‬إل أن يكون أقلّ من الثّلث ففي ماله ‪ .‬وإن كان ل يحسن ‪ ،‬أو غرّ‬
‫ي من ذلك ‪،‬‬
‫من نفسه فيعاقب ‪ .‬ومن أمر ختّانا ليختن صبيّا ‪ ،‬ففعل الختّان ذلك فقطع حشفته ‪ ،‬ومات الصّب ّ‬
‫ن الموت حصل بفعلين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬مأذون فيه ‪ ،‬وهو قطع القلفة ‪ .‬والخر‬
‫فعلى عاقلة الختّان نصف دية ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ :‬غير مأذون فيه ‪ ،‬وهو قطع الحشفة ‪ ،‬فيجب نصف الضّمان ‪ .‬أمّا إذا برئ ‪ ،‬جعل قطع الجلدة ‪ -‬وهو‬
‫مأذون فيه ‪ -‬كأن لم يكن ‪ ،‬وقطع الحشفة غير مأذون فيه ‪ ،‬فوجب ضمان الحشفة كامل ‪ ،‬وهو الدّية ‪.‬‬

‫تطبيق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطبيق في اللّغة ‪ :‬مصدر طبّق ‪ ،‬ومن معانيه ‪ :‬المساواة والتّعميم والتّغطية قال في المصباح ‪ :‬وأصل‬
‫الطّبق ‪ :‬الشّيء على مقدار الشّيء مطبقا له من جميع جوانبه كالغطاء له ويقال ‪ :‬طبّق السّحاب الج ّو ‪ :‬إذا‬
‫غشّاه ‪ ،‬وطبّق الماء وجه الرض ‪ :‬إذا غطّاه ‪ ،‬وطبّق الغيم ‪ :‬ع ّم بمطره ‪ .‬وهو في الصطلح الفقهيّ ‪ :‬أن‬
‫يجعل المصلّي بطن إحدى كفّيه على بطن الخرى ‪ ،‬ويجعلهما بين ركبتيه وفخذيه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬يرى جمهور الفقهاء كراهة التّطبيق في الرّكوع ‪ .‬واحتجّوا بما روي « عن مصعب بن سعد بن أبي‬
‫وقّاص أنّه قال ‪ :‬صلّيت إلى جنب أبي ‪ ،‬فطبّقت بين ك ّفيّ ‪ ،‬ثمّ وضعتهما بين فخذيّ ‪ ،‬فنهاني أبي وقال ‪ :‬كنّا‬
‫ن قول الصّحابيّ ‪ :‬كنّا نفعل ‪،‬‬
‫نفعله فنهينا عنه ‪ ،‬وأمرنا أن نضع أيدينا على الرّكب » ‪ .‬ومن المعروف أ ّ‬
‫وأمرنا ونهينا ‪ ،‬محمول على أنّه مرفوع ‪ .‬واستدلّوا أيضا بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم لنس رضي ال‬
‫عنه ‪ « :‬إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك ‪ ،‬وفرّج بين أصابعك » ‪.‬‬
‫قال النّوويّ في شرح صحيح مسلم ‪ :‬وذهب عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه وصاحباه علقمة والسود إلى‬
‫سنّة التّطبيق ‪ ،‬فقد أخرج مسلم عن « علقمة والسود أنّهما دخل على عبد اللّه رضي ال عنه فقال ‪:‬‬
‫ن ال ّ‬
‫أّ‬
‫أصلّي من خلفكم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه ‪ ،‬والخر عن شماله ‪ ،‬ثمّ ركعنا ‪،‬‬
‫فوضعنا أيدينا على ركبنا ‪ ،‬فضرب أيدينا ‪ ،‬ثمّ طبّق بين يديه ‪ ،‬ثمّ جعلهما بين فخذيه ‪ ،‬فلمّا صلّى قال ‪ :‬هكذا‬
‫فعل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم » ‪ .‬قال العينيّ ‪ :‬وأخذ بذلك إبراهيم النّخعيّ وأبو عبيدة ‪.‬‬
‫وعلّل النّوويّ فعلهم ‪ :‬بأنّه لم يبلغهم النّاسخ ‪ ،‬وهو حديث مصعب بن سعد المتقدّم ‪.‬‬

‫تطفّل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطفّل في اللّغة ‪ :‬مصدر تطفّل ‪ .‬يقال ‪ :‬هو متطفّل في العراس والولئم أي ‪ :‬هو طفيليّ ‪ .‬قال‬
‫الصمعيّ ‪ :‬الطّفيليّ ‪ :‬هو الّذي يدخل على القوم من غير أن يدعوه ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى ‪ .‬فقد عرّفه في نهاية المحتاج ‪ :‬بدخول الشّخص لمحلّ‬
‫غيره لتناول طعامه بغير إذنه ول علم رضاه ‪ ،‬أو ظنّه بقرينة معتبرة‪ .‬اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الضّيف ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الضّيف في اللّغة ‪ :‬النّزيل الزّائر ‪ .‬وأصله مصدر ضاف ‪ ،‬ولذا يطلق على الواحد وغيره ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ضحُون } وتجوز المطابقة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬هذان ضيفان ‪ .‬أمّا ( الضّيفن‬
‫قوله تعالى { قالَ ‪ِ :‬إنّ هَؤلءِ ضَيفِي فَل تَ ْف َ‬
‫) فهو من يجيء مع الضّيف متطفّل ‪ ،‬فالضّيفن أخصّ من الطّفيليّ ‪ ،‬ويطلق على الدّاخل على القوم في‬
‫شرابهم بل دعوة ( الواغل ) ‪.‬‬
‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬الضّيف ‪ :‬هو من حضر طعام غيره بدعوته ولو عموما ‪ ،‬أو بعلم رضاه وضدّ‬
‫الضّيف الطّفيليّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الفضوليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الفضوليّ ‪ :‬من الفضول ‪ ،‬جمع فضل ‪ .‬وقد استعمل الجمع استعمال الفرد فيما ل خير فيه ‪ .‬ولهذا نسب‬
‫إليه على لفظه ‪ ،‬فقيل فضوليّ ‪ :‬لمن يشتغل بما ل يعنيه ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هو التّصرّف عن الغير بل إذن ول ولية ‪ .‬وأظهر ما يكون في العقود ‪ .‬أمّا التّطفّل فأكثر‬
‫ما يكون في الما ّديّات ‪ ،‬وقد يستعمل في المعنويّات ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ للتّطفّل ‪:‬‬
‫ن حضور طعام الغير بغير‬
‫‪ - 4‬صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬وهو المتبادر من أقوال الحنفيّة ‪ -‬أ ّ‬
‫دعوة ‪ ،‬وبغير علم رضاه حرام ‪ ،‬بل يفسّق به إن تكرّر ‪ .‬لما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪:‬‬
‫« من دعي فلم يجب فقد عصى اللّه ورسوله ‪ ،‬ومن دخل على غير دعوة دخل سارقا ‪ ،‬وخرج مغيرا »‬
‫فكأنّه شبّه دخوله على الطّعام الّذي لم يدع إليه بدخول السّارق الّذي يدخل بغير إرادة المالك ‪ ،‬لنّه اختفى بين‬
‫الدّاخلين ‪ .‬وشبّه خروجه بخروج من نهب قوما ‪ ،‬وخرج ظاهرا بعدما أكل ‪ .‬بخلف الدّخول ‪ ،‬فإنّه دخل‬
‫مختفيا ‪ ،‬خوفا من أن يمنع ‪ ،‬وبعد الخروج قد قضى حاجته ‪ ،‬فلم يبق له حاجة إلى التّستّر ‪ .‬وصرّح الشّافعيّة‬
‫ن من التّطفّل ‪ :‬أن يدعى عالم أو صوفيّ ‪ ،‬فيحضر جماعته من غير إذن الدّاعي ول علم رضاه بذلك ‪.‬‬
‫أّ‬
‫ويرى بعض الفقهاء ‪ :‬أنّه إذا عرف من حال المدع ّو أنّه ل يحضر إل ومعه أحد ممّن يلزمه يعتبر ذلك‬
‫كالذن ‪ ،‬والتّفصيل في مصطلح ( دعوة ) ‪.‬‬
‫شهادة الطّفيليّ ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على أنّ الطّفيليّ ‪ -‬إن تكرّر تطفّله ‪ -‬تردّ شهادته للحديث المذكور ‪ ،‬ولنّه يأكل محرّما ‪،‬‬
‫ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة ‪.‬‬
‫قال ابن الصّبّاغ ‪ :‬وإنّما اشترط تكرّر ذلك ‪ ،‬لنّه قد يكون له شبهة حتّى يمنعه صاحب الطّعام ‪ ،‬وإذا تكرّر‬
‫صار دناءة وقلّة مروءة ‪.‬‬

‫تطفيف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطفيف لغة ‪ :‬البخس في الكيل والوزن ‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪َ { :‬ويْلٌ لِلمطفّفين } فالتّطفيف ‪ :‬نقص يخون‬
‫به صاحبه في كيل أو وزن ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّوفية ‪:‬‬
‫‪ - 2‬توفية الشّيء ‪ :‬بذله وافيا ‪ .‬فالتّطفيف ضدّ التّوفية ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّطفيف منهيّ عنه ‪ ،‬وهو ضرب من الخيانة وأكل المال بالباطل ‪ ،‬مع ما فيه من عدم المروءة ‪ .‬ومن‬
‫ثمّ عظّم اللّه أمر الكيل والوزن ‪ ،‬وأمر بالوفاء فيهما في عدّة آيات ‪ ،‬فقال سبحانه ‪َ { :‬أ ْوفُوا ال َكيْلَ وَل َتكُونُوا‬
‫سدِينَ }‬
‫شيَاءَهُم وَل َت ْعثَوْا فِي الرْضِ مُ ْف ِ‬
‫خسُوا النّاسَ َأ ْ‬
‫ستَقِيمِ ‪ ،‬وَل َت ْب َ‬
‫سطَاسِ ال ُم ْ‬
‫سرِينَ ‪َ ،‬و ِزنُوا بِال ِق ْ‬
‫ن ال ُمخْ ِ‬
‫مِ َ‬
‫ستَقِيمِ } كما توعّد اللّه المطفّفين بالويل ‪ ،‬وهدّدهم‬
‫سطَاسِ ال ُم ْ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬وَأَ ْوفُوا ال َكيْلَ إذا كِ ْل ُتمْ َو ِزنُوا بِال ِق ْ‬
‫ستَوفُونَ وَِإذَا كَالُوهم أَو و َزنُو ُهمْ‬
‫ن إذا ا ْكتَالُوا على النّاسِ َي ْ‬
‫ل لِل ُمطَفّفِينَ اّلذِي َ‬
‫بعذاب يوم القيامة فقال ‪َ { :‬ويْ ٌ‬
‫ب العَاَلمِينَ }‪ .‬وفي الحديث ‪ « :‬خمس‬
‫عظِيمٍ يَ ْومَ يَقُومُ النّاسُ ِلرَ ّ‬
‫ن ِليَ ْومٍ َ‬
‫ك َأ ّن ُهمْ َم ْبعُوثُو َ‬
‫ن أُولئ َ‬
‫خسِرُونَ أَل يَظُ ّ‬
‫ُي ْ‬
‫بخمس ‪ ،‬قيل ‪ :‬يا رسول اللّه وما خمس بخمس ؟ قال ‪ :‬ما نقض قوم العهد إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّهم ‪ ،‬وما‬
‫حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر ‪ ،‬وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ‪ ،‬ول طفّفوا الكيل‬
‫إل منعوا النّبات وأخذوا بالسّنين ‪ ،‬ول منعوا الزّكاة إلّا حبس عنهم المطر » ‪ .‬قال نافع ‪ :‬كان ابن عمر يمرّ‬
‫بالبائع فيقول له ‪ :‬اتّق اللّه ‪ ،‬أوف الكيل والوزن ‪ ،‬فإنّ المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتّى يلجمهم العرق ‪.‬‬
‫ونقل ابن حجر تصريح العلماء بأنّه من الكبائر ‪ ،‬واستظهره ‪.‬‬
‫منع التّطفيف ‪ ،‬وتدابيره ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ممّا يتأكّد على المحتسب ‪ :‬المنع من التّطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصّنجات ‪ .‬فينبغي له‬
‫أن يحذر الكيّالين والوزّانين ويخوّفهم عقوبة اللّه تعالى ‪ ،‬وينهاهم عن البخس والتّطفيف ‪ .‬ومتى ظهر له من‬
‫أحد منهم خيانة عزّره على ذلك وأشهره ‪ ،‬حتّى يرتدع به غيره ‪ .‬وإذا وقع في التّطفيف تخاصم جاز أن‬
‫ينظر فيه المحتسب ‪ ،‬إن لم يكن مع التّخاصم فيه تجاحد وتناكر ‪ .‬فإن أفضى إلى التّجاحد والتّناكر كان‬
‫القضاة أحقّ بالنّظر فيه من ولة الحسبة ‪ ،‬لنّهم بالحكام أحقّ ‪ .‬وكان التّأديب فيه إلى المحتسب ‪.‬‬
‫فإن تولّاه الحاكم جاز لتّصاله بحكمه ‪.‬‬
‫وقد فصّل الفقهاء القول في التّدابير الّتي تتّخذ للحيلولة دون التّطفيف والبخس في الكيل والوزن ‪ ،‬من قيام‬
‫المحتسب بتفقّد عيار الصّنج ونحوها على حين غفلة من أصحابها ‪ ،‬وتجديد النّظر في المكاييل ورعاية ما‬
‫يطفّفون به المكيال وما إلى ذلك ‪ ،‬فليرجع إليه في مواطنه من كتب الحسبة ‪ ،‬وفي مصطلحي ( حسبة ‪،‬‬
‫وغشّ ) ‪.‬‬

‫تطهّر *‬
‫انظر ‪ :‬طهارة ‪.‬‬
‫تطهير *‬
‫انظر ‪ :‬طهارة ‪.‬‬

‫تطوّع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطوّع ‪ :‬هو التّبرّع ‪ ،‬يقال ‪ :‬تطوّع بالشّيء ‪ :‬تبرّع به ‪.‬‬
‫وقال الرّاغب ‪ :‬التّطوّع في الصل ‪ :‬تكلّف الطّاعة ‪ ،‬وهو في التّعارف ‪ :‬التّبرّع بما ل يلزم كالتّنفّل ‪ .‬قال‬
‫خيْرٌ لَه } ‪.‬‬
‫تعالى ‪َ { :‬فمَنْ َتطَ ّوعَ خَيرَا َفهُ َو َ‬
‫والفقهاء عندما أرادوا أن يعرّفوا التّطوّع ‪ ،‬عدلوا عن تعريف المصدر إلى تعريف ما هو حاصل بالمصدر ‪،‬‬
‫فذكروا له في الصطلح ثلثة معان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أنّه اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات ‪ ،‬أو ما كان مخصوصا بطاعة غير واجبة ‪ ،‬أو هو‬
‫الفعل المطلوب طلبا غير جازم ‪ .‬وكلّها معان متقاربة ‪.‬‬
‫وهذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفيّة ‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة ‪ ،‬والمشهور عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وهو رأي الصوليّين من غير الحنفيّة ‪ ،‬وهو ما يفهم من عبارات فقهاء المالكيّة ‪.‬‬
‫سنّة والمندوب والمستحبّ والنّفل والمرغّب فيه والقربة والحسان‬
‫والتّطوّع بهذا المعنى يطلق على ‪ :‬ال ّ‬
‫والحسن ‪ ،‬فهي ألفاظ مترادفة ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أنّ التّطوّع هو ما عدا الفرائض والواجبات والسّنن ‪ ،‬وهو اتّجاه الصوليّين من الحنفيّة ‪ ،‬ففي كشف‬
‫سنّة هي الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير افتراض ول وجوب ‪ ،‬وأمّا ح ّد النّفل ‪ -‬وهو‬
‫السرار ‪ :‬ال ّ‬
‫المسمّى بالمندوب والمستحبّ والتّطوّع ‪ -‬فقيل ‪ :‬ما فعله خير من تركه في الشّرع ‪ . . .‬إلخ ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬التّطوّع ‪ :‬هو ما لم يرد فيه نقل بخصوصه ‪ ،‬بل ينشئه النسان ابتداء ‪ ،‬وهو اتّجاه بعض المالكيّة‬
‫والقاضي حسين وغيره من الشّافعيّة ‪.‬‬
‫هذه هي التّجاهات في معنى التّطوّع وما يرادفه ‪ .‬غير أنّ المتتبّع لما ذكره الصوليّون من غير الحنفيّة ‪،‬‬
‫وما ذكره الفقهاء في كتبهم ‪ -‬بما في ذلك الحنفيّة ‪ -‬يجد أنّهم يتوسّعون بإطلق التّطوّع على ما عدا الفرائض‬
‫سنّة والنّفل والمندوب والمستحبّ والمرغّب فيه ألفاظا مترادفة ‪ ،‬ولذلك‬
‫والواجبات ‪ ،‬وبذلك يكون التّطوّع وال ّ‬
‫ن ما يدخل في دائرة التّطوّع بعضه أعلى من بعض في الرّتبة‬
‫ن الخلف لفظيّ ‪ .‬غاية المر أ ّ‬
‫قال السّبكيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫سنّة المؤكّدة ‪ ،‬كالعيدين ‪ ،‬والوتر عند الجمهور ‪ ،‬وكركعتي الفجر عند الحنفيّة ‪ .‬ويلي ذلك‬
‫‪ ،‬فأعله هو ال ّ‬
‫ن كلّ ذلك يسمّى تطوّعا ‪.‬‬
‫المندوب أو المستحبّ كتحيّة المسجد ‪ ،‬ويلي ذلك ما ينشئه النسان ابتداء ‪ ،‬لك ّ‬
‫والصل في ذلك « قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم للرّجل ‪ -‬الّذي سأل بعدما عرف فرائض الصّلة والصّيام‬
‫والزّكاة ‪ :‬هل عليّ غيرها ؟ فقال له ‪ :‬ل ‪ ،‬إل أن تطوّع » ‪ .‬أنواع التّطوّع ‪:‬‬
‫ج وجهاد ‪ ،‬وهذا هو الصل ‪،‬‬
‫‪ - 2‬من التّطوّع ما يكون له نظير من العبادات ‪ ،‬من صلة وصيام وزكاة وح ّ‬
‫وهو المتبادر حين يذكر لفظ التّطوّع ‪ .‬والتّطوّع في العبادات يختلف في جنسه باعتبارات ‪ ،‬فهو يختلف من‬
‫حيث الرّتبة ‪ ،‬إذ منه ما هو مؤكّد كالرّواتب مع الفرائض ‪ ،‬ومنه ما هو أقلّ رتبة كتحيّة المسجد ‪ ،‬ومنه ما‬
‫هو أقلّ كالنّوافل المطلقة ليلً أو نهارا ‪ .‬ومن ذلك في الصّوم ‪ :‬صيام يومي عاشوراء وعرفة ‪ ،‬فهما أعلى‬
‫رتبة من الصّيام في غيرهما ‪ ،‬والعتكاف في العشر الواخر من رمضان أفضل منه في غيرها ‪.‬‬
‫ن التّطوّع في العبادات يختلف في جنسه كذلك من حيث الطلق والتّقييد ‪ ،‬فمنه ما هو مقيّد ‪ ،‬سواء‬
‫كما أ ّ‬
‫أكان التّقييد بوقت أو بسبب ‪ ،‬كالضّحى وتحيّة المسجد والرّواتب مع الفروض ‪ .‬ومنه ما هو مطلق كالنّفل‬
‫المطلق باللّيل أو بالنّهار ‪.‬‬
‫ويختلف كذلك من حيث العدد كالرّواتب من الفروض ‪ ،‬إذ هي عند الجمهور عشر ‪ ،‬وعند الحنفيّة اثنتا عشرة‬
‫ركعة ‪ :‬اثنتان قبل الصّبح ‪ ،‬واثنتان قبل الظّهر ( وعند الحنفيّة أربع ) واثنتان بعده ‪ ،‬واثنتان بعد المغرب ‪،‬‬
‫واثنتان بعد العشاء ‪.‬‬
‫والتّطوّع في النّهار واللّيل مثنى مثنى عند الجمهور ‪ ،‬وعند الحنفيّة الفضل أربع بتسليمة واحدة ‪ .‬ومثل ذلك‬
‫تطوّع اللّيل عند أبي حنيفة خلفا للصّاحبين ‪ ،‬وبهذا يفتى ‪.‬‬
‫وفي كلّ ما سبق تفصيل كثير ينظر في مصطلح ( السّنن الرّواتب ‪ ،‬ونفل ) وفيما له أبواب من ذلك مثل ‪:‬‬
‫عيد ‪ -‬كسوف ‪ -‬استسقاء ‪ . . .‬إلخ ‪.‬‬
‫ومن التّطوّع ما يكون في غير العبادات كطلب علم غير مفروض ‪.‬‬
‫وكذلك من أنواع البرّ والمعروف ‪ ،‬كالتّطوّع بالنفاق على قريب لم تجب عليه نفقته ‪ ،‬أو على أجنبيّ‬
‫محتاج ‪ ،‬أو قضاء الدّين عنه ‪ ،‬أو إبراء المعسر ‪ ،‬أو العفو عن القصاص ‪ ،‬أو الرفاق المعروف بجعل الغير‬
‫يحصل على منافع العقار ‪ ،‬أو إسقاط الحقوق ‪ . . .‬وهكذا ‪.‬‬
‫ومنه ما يعرف بعقود التّبرّعات ‪ ،‬كالقرض والوصيّة والوقف والعارة والهبة ‪ ،‬إذ أنّها قربات شرعت‬
‫للتّعاون بين النّاس ‪.‬‬
‫‪ - 3‬ومن التّطوّع ما هو عينيّ مطلوب ندبا من كلّ فرد ‪ ،‬كالتّطوّع بالعبادات غير المفروضة من صلة‬
‫وصيام ‪ . . .‬ومنه ما هو على الكفاية كالذان وغيره ‪.‬‬
‫قال النّوويّ وغيره ‪ :‬ابتداء السّلم سنّة مستحبّة ليس بواجب ‪ ،‬وهو سنّة على الكفاية ‪ ،‬فإن كان المسلّم جماعة‬
‫كفى عنهم تسليم واحد منهم ‪ .‬وتشميت العاطس سنّة على الكفاية ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّطوّع يقرّب العبد من ربّه ويزيده ثوابا ‪ ،‬وفي الحديث القدسيّ ‪ « :‬وما يزال عبدي يتقرّبُ إليّ بالنّوافلِ‬
‫حتّى أحبّه ‪ » . . .‬الحديث ‪.‬‬
‫والحكمة من مشروعيّة التّطوّع هي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اكتساب رضوان اللّه تعالى ‪:‬‬
‫وكذلك نيل ثوابه ومضاعفة الحسنات ‪ ،‬وقد ورد في ثواب التّطوّع بالعبادة أحاديث كثيرة منها ‪ :‬قول النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتا في الجنّة » ‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها » وغير ذلك كثير في شأن الصّلة ‪.‬‬
‫وفي صوم يوم عاشوراء يقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّي لحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله‬
‫» والمراد الصّغائر ‪ .‬حكاه في شرح مسلم عن العلماء ‪ ،‬فإن لم تكن الصّغائر رجي التّخفيف من الكبائر ‪،‬‬
‫فإن لم تكن رفعت الدّرجات ‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من صام رمضان ‪ ،‬ثمّ أتبعه ستّا من شوّال كان‬
‫كصيام الدّهر » ‪.‬‬
‫وقال الزّهريّ ‪ :‬في العتكاف تفريغ القلب عن أمور الدّنيا ‪ ،‬وتسليم النّفس إلى بارئها ‪ ،‬والتّحصّن بحصن‬
‫حصين ‪ ،‬وملزمة بيت اللّه تعالى ‪ .‬وقال عطاء ‪ :‬مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم يجلس على‬
‫بابه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ل أبرح حتّى تقضى حاجتي ‪.‬‬
‫ضعَافَا‬
‫سنَا َفيُضَاعِ َفهُ لَه َأ ْ‬
‫حَ‬‫ض اللّ َه َقرْضَا َ‬
‫ن ذَا الّذيْ يُ ْقرِ ُ‬
‫ومثل ذلك في غير العبادات ‪ .‬يقول اللّه تعالى ‪ { :‬مَ ْ‬
‫َكثِيرَةً } ‪ ،‬ويقول ابن عابدين ‪ :‬من محاسن العاريّة أنّها نيابة عن اللّه تعالى في إجابة المضطرّ ‪ ،‬لنّها ل‬
‫تكون إلّا لمحتاج كالقرض ‪ ،‬فلذا كانت الصّدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النس بالعبادة والتّهيّؤ لها ‪:‬‬
‫ن النّفوس لنشغالها‬
‫‪ - 5‬قال ابن دقيق العيد ‪ :‬في تقديم النّوافل على الفرائض معنى لطيف مناسب ‪ ،‬ل ّ‬
‫بأسباب الدّنيا تكون بعيدة عن حالة الخشوع والخضوع والحضور ‪ ،‬الّتي هي روح العبادة ‪ ،‬فإذا قدّمت‬
‫النّوافل على الفرائض أنست النّفوس بالعبادة ‪ ،‬وتكيّفت بحالة تقرّب من الخشوع ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬جبران الفرائض ‪:‬‬
‫‪ - 6‬قال ابن دقيق العيد ‪ :‬النّوافل الّتي بعد الفرائض هي لجبر النّقص الّذي قد يقع في الفرائض ‪ ،‬فإذا وقع‬
‫نقص في الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الّذي قد يقع فيه ‪ .‬وفي الحديث ‪ « :‬فإن انتقص من‬
‫ل ‪ :‬انظروا هل لعبدي من تطوّع ؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة » ‪.‬‬
‫فريضته شيء ‪ ،‬قال الرّبّ عزّ وج ّ‬
‫قال المناويّ في شرحه الكبير على الجامع عند قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أوّل ما افترض اللّه على أمّتي‬
‫الصّلة ‪ »...‬واعلم أنّ الحقّ سبحانه وتعالى لم يوجب شيئا من الفرائض غالبا إل وجعل له من جنسه نافلة ‪،‬‬
‫حتّى إذا قام العبد بذلك الواجب ‪ -‬وفيه خلل ما ‪ -‬يجبر بالنّافلة الّتي هي من جنسه ‪ ،‬فلذا أمر بالنّظر في‬
‫فريضة العبد ‪ ،‬فإذا قام بها كما أمر اللّه جوزي عليها ‪ ،‬وأثبتت له ‪ ،‬وإن كان فيها خلل كمّلت من نافلته حتّى‬
‫قال البعض ‪ :‬إنّما تثبت لك نافلة إذا سلمت لك الفريضة ‪ .‬ولذلك يقول القرطبيّ في شرح مسلم ‪ :‬من ترك‬
‫التّطوّعات ولم يعمل بشيء منها فقد فوّت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعاون بين النّاس وتوثيق الرّوابط بينهم واستجلب محبّتهم ‪:‬‬
‫‪ - 7‬التّطوّع بأنواع البرّ والمعروف ينشر التّعاون بين النّاس ‪ ،‬ولذلك دعا اللّه إليه في قوله ‪َ { :‬و َتعَا َونُوا على‬
‫ن العبد ما دام العبد في عون أخيه »‬
‫عوْ ِ‬
‫ال ِبرّ وَالتّ ْقوَى } ‪ ،‬ويقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬واللّه في َ‬
‫وفي فتح الباري عند قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ض على الخير بالفعل ‪ ،‬وبالتّسبّب إليه بكلّ وجه ‪،‬‬
‫جرُوا » ‪ .‬يقول ابن حجر ‪ :‬في الحديث الح ّ‬
‫« اشْ َفعُوا ُت ْؤ َ‬
‫والشّفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف ‪ ،‬إذ ليس كلّ أحد يقدر على الوصول إلى الرّئيس ‪.‬‬
‫كذلك يقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪َ « :‬تهَادُوا تحابّوا » ‪.‬‬
‫أفضل التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 8‬اختلف الفقهاء في أفضل التّطوّع ‪ ،‬فقيل ‪ :‬أفضل عبادات البدن الصّلة ‪.‬‬
‫ففرضها أفضل من فرض غيرها ‪ ،‬وتطوّعها أفضل من تطوّع غيرها ‪ ،‬لنّها أعظم القربات ‪ ،‬لجمعها أنواعا‬
‫من العبادات ل تجمع في غيرها ‪.‬‬
‫قال بهذا المالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الشّافعيّة ‪ ،‬ولهم قول آخر بتفضيل الصّيام ‪.‬‬
‫قال صاحب المجموع ‪ :‬وليس المراد بقولهم ‪ :‬الصّلة أفضل من الصّوم ‪ :‬أنّ صلة ركعتين أفضل من صيام‬
‫ن من لم يمكنه الجمع بين الستكثار من‬
‫ن الصّوم أفضل من ركعتين بل شكّ ‪ ،‬وإنّما معناه أ ّ‬
‫أيّام أو يوم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الصّلة والصّوم ‪ ،‬وأراد أن يستكثر من أحدهما ‪ ،‬أو يكون غالبا عليه ‪ ،‬منسوبا إلى الكثار منه ‪ ،‬ويقتصر‬
‫من الخر على المتأكّد منه ‪ ،‬فهذا محلّ الخلف والتّفصيل ‪ .‬والصّحيح تفضيل الصّلة ‪.‬‬
‫ن ِبَأمْوَاِل ِهمْ وََأنْ ُفسِهمْ على‬
‫ن أفضل تطوّعات البدن الجهاد لقوله تعالى ‪ { :‬فَضّلَ الّلهُ ال ُمجَا ِهدِي َ‬
‫ويقول الحنابلة ‪ :‬إ ّ‬
‫سبْعَ‬
‫حبّ ٍة َأ ْن َبتَتْ َ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه َك َمثَلِ َ‬
‫ن َأمْوَاَل ُهمْ فِي َ‬
‫ل الّذينَ ُينْفِقُو َ‬
‫ن َدرَجَةً } ثمّ النّفقة فيه لقوله تعالى ‪َ { :‬مثَ ُ‬
‫القَاعِدي َ‬
‫سنَابِلَ } الية ‪.‬‬
‫َ‬
‫ثمّ تعلّم العلم وتعليمه ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬فضل العاِلمِ على العا ِبدِ كفضلي على أدناكم » ‪.‬‬
‫ب العمال إلى اللّه ‪ ،‬ومداومته صلى ال عليه وسلم على نفلها ‪.‬‬
‫ثمّ الصّلة أفضل بعد ذلك ‪ ،‬للخبار بأنّها أح ّ‬
‫ص به‬
‫ص المام أحمد على أنّ الطّواف لغريب أفضل منها ‪ ،‬أي من الصّلة بالمسجد الحرام ‪ ،‬لنّه خا ّ‬
‫ون ّ‬
‫يفوت بمفارقته بخلف الصّلة ‪ ،‬فالشتغال بمفضول يختصّ بقعة أو زمنا أفضل من فاضل ل يختصّ ‪،‬‬
‫ن أفضل الطّاعات على قدر المصالح النّاشئة‬
‫واختار عزّ الدّين بن عبد السّلم تبعا للغزاليّ في الحياء ‪ :‬أ ّ‬
‫عنها ‪.‬‬
‫‪ - 9‬ويتفاوت ما يتعدّى نفعه في الفضل ‪ ،‬فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق أجنبيّ ‪ ،‬لنّها صدقة‬
‫وصلة ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ ‪ :‬لو ملك عقارا ‪ ،‬وأراد الخروج عنه ‪ ،‬فهل الولى الصّدقة به حال ‪ ،‬أم‬
‫وقفه ؟ قال ابن عبد السّلم ‪ :‬إن كان ذلك في وقت شدّة وحاجة فتعجيل الصّدقة أفضل ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك‬
‫ل الوقف أولى ‪ ،‬لكثرة جدواه ‪ .‬وأطلق ابن الرّفعة تقديم صدقة التّطوّع به ‪ ،‬لما فيه من قطع‬
‫ففيه وقفة ‪ ،‬ولع ّ‬
‫حظّ النّفس في الحال بخلف الوقف ‪ .‬وفي المنثور أيضا ‪ :‬مراتب القرب تتفاوت ‪ ،‬فالقربة في الهبة أت ّم منها‬
‫ن نفعه دائم يتكرّر ‪ ،‬والصّدقة أتمّ من الكلّ ‪ ،‬لنّ قطع حظّه‬
‫في القرض ‪ ،‬وفي الوقف أت ّم منها في الهبة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن القرض أفضل من الصّدقة ‪.‬‬
‫من المتصدّق به في الحال ‪ .‬وقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫ن « رسول اللّه رأى ليلة أسري به مكتوبا على باب الجنّة ‪ :‬درهم القرض بثمانية عشر ‪ ،‬ودرهم الصّدقة‬
‫لّ‬
‫ن السّائل يسأل وعنده ‪ ،‬والمقترض ل‬
‫بعشر ‪ ،‬فسأل جبريل ‪ :‬ما بال القرض أفضل من الصّدقة ‪ :‬فقال ‪ :‬ل ّ‬
‫يقترض إل من حاجة » ‪.‬‬
‫وتكسّب ما زاد على قدر الكفاية ‪ -‬لمواساة الفقير أو مجازاة القريب ‪ -‬أفضل من التّخلّي لنفل العبادة ‪ ،‬لنّ‬
‫منفعة النّفل تخصّه ‪ ،‬ومنفعة الكسب له ولغيره ‪ ،‬فقد قال عليه الصلة والسلم ‪ « :‬خير النّاس أنفعهم للنّاس »‬
‫وعن عمر بن الخطّاب قال ‪ ":‬إنّ العمال تتباهى ‪ ،‬فتقول الصّدقة ‪ :‬أنا أفضلكم "‪.‬‬
‫وفي الشباه لبن نجيم ‪ :‬بناء الرّباط بحيث ينتفع به المسلمون ‪ ،‬أفضل من الحجّة الثّانية ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 10‬الصل في التّطوّع أنّه مندوب ‪ .‬سواء أكان ذلك في العبادات من صلة وصيام ‪ . . .‬أم كان في‬
‫غيرها من أنواع البرّ والمعروف ‪ ،‬كالعارة والوقف والوصيّة وأنواع الرفاق ‪ .‬والدّليل على ذلك من الكتاب‬
‫ن ذَا اّلذِي يُ ْقرِضُ الّلهَ َق ْرضَا‬
‫آيات منها ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬و َتعَا َونُوا عَلَى ال ِبرّ وَالتّقْوَى } ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬مَ ْ‬
‫ضعَافَا َكثِيرَةً } ‪.‬‬
‫سنَا َف ُيضَاعِفَ ُه لَ ُه َأ ْ‬
‫حَ‬‫َ‬
‫ن بيت في‬
‫سنّة قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من صلّى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة ُب ِنيَ له به ّ‬
‫ومن ال ّ‬
‫الجنّة »‬
‫قوله ‪ « :‬من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّا من شوّال كان كصيام الدّهر » وقوله ‪ « :‬اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة‬
‫» وقوله ‪ « :‬ل يمنع أحدُكم جارَه أن َيغْ ِرزَ خشبه في جداره » ‪.‬‬
‫وقد يعرض له الوجوب ‪ ،‬كبذل الطّعام للمضطرّ ‪ ،‬وكإعارة ما يستغنى عنه لمن يخشى هلكه بعدمها ‪،‬‬
‫وكإعارة الحبل لنقاذ غريق ‪.‬‬
‫وقد يكون حراما ‪ ،‬كالعبادة الّتي تقع في الوقات المحرّمة كالصّلة وقت طلوع الشّمس أو غروبها ‪ ،‬وكصيام‬
‫يومي العيد ‪ ،‬وأيّام التّشريق ‪ ،‬وكتصدّق المدين مع حلول دينه والمطالبة به ‪ ،‬وعدم وجود ما يسدّد به دينه ‪.‬‬
‫وقد يكون مكروها ‪ ،‬كوقوع الصّلة في الوقات المكروهة ‪ ،‬كما أنّه يكره ترك التّسوية في العطيّة لولده ‪.‬‬
‫أهليّة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 11‬التّطوّع يكون في العبادات وغيرها ‪،‬‬
‫أمّا العبادات فإنّه يشترط في المتطوّع بها ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون مسلما ‪ ،‬فل يصحّ التّطوّع بالعبادات من الكافر ‪ ،‬لنّه ليس من أهل العبادة ‪.‬‬
‫ج ‪ ،‬لنّه في الحجّ‬
‫ب ‪ -‬أن يكون عاقل ‪ ،‬فل تصحّ العبادة من المجنون ‪ ،‬لعدم صحّة نيّته ‪ .‬وهذا في غير الح ّ‬
‫ي عن الصّبيّ غير المميّز ‪.‬‬
‫يحرم عنه وليّه ‪ ،‬وكذلك يحرم الول ّ‬
‫ن تطوّع الصّبيّ بالعبادات صحيح ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّمييز ‪ ،‬فل يصحّ التّطوّع من غير المميّز ‪ ،‬ول يشترط البلوغ ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الشّرط هو أهليّة التّبرّع من عقل وبلوغ ورشد ‪ ،‬فل يصحّ تبرّع محجور‬
‫وأمّا بالنّسبة لغير العبادات ‪ :‬فإ ّ‬
‫عليه لصغر أو سفه أو دين أو غير ذلك ‪ .‬وتفصيل هذا ينظر في ( أهليّة ) ‪.‬‬
‫أحكام التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 12‬أحكام التّطوّع منها ما يخصّ العبادات ‪ ،‬ومنها ما يشمل العبادات وغيرها ‪ ،‬ومنها ما يخصّ غير‬
‫العبادات ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫أوّلً ما يخصّ العبادات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ما تسنّ له الجماعة من صلة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 13‬تسنّ الجماعة لصلة الكسوف باتّفاق بين المذاهب ‪ ،‬وتسنّ للتّراويح عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وهي مندوبة عند المالكيّة ‪ ،‬إذ الفضل النفراد بها ‪ -‬بعيدا عن الرّياء ‪ -‬إن لم تعطّل المساجد عن فعلها فيها‬
‫ن الجماعة كذلك لصلة الستسقاء عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬أمّا عند الحنفيّة فتصلّى جماعة‬
‫‪ .‬وتس ّ‬
‫ن الجماعة لصلة العيدين عند المالكيّة‬
‫وفرادى عند محمّد ‪ ،‬ول تصلّى إلّا فرادى عند أبي حنيفة ‪ .‬وتس ّ‬
‫والشّافعيّة ‪ .‬أمّا عند الحنفيّة والحنابلة فالجماعة فيها واجبة ‪ .‬ويسنّ الوتر جماعة عند الحنابلة ‪.‬‬
‫وبقيّة التّطوّعات تجوز جماعة وفرادى عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وتكره جماعة عند الحنفيّة إذا كانت على‬
‫سبيل التّداعي ‪ ،‬وعند المالكيّة الجماعة في الشّفع والوتر سنّة والفجر خلف الولى ‪ .‬أمّا غير ذلك فيجوز‬
‫فعله جماعة ‪ ،‬إل أن تكثر الجماعة أو يشتهر المكان فتكره الجماعة حذر الرّياء ‪ .‬والتّفصيل ينظر في‬
‫( صلة الجماعة ‪ -‬نفل ) ‪.‬‬
‫مكان صلة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 14‬صلة التّطوّع في البيوت أفضل ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم ‪،‬‬
‫ن أفضل صلة المرء في بيته إل المكتوبة » ويستثنى من ذلك ما شرعت له الجماعة ‪ ،‬ففعله في المسجد‬
‫فإ ّ‬
‫ن تحيّة‬
‫أفضل ‪ ،‬ويستثنى كذلك عند المالكيّة صلة الرّواتب مع الفرائض ‪ ،‬فيندب فعلها في المسجد ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ب للمصلّي عند الجمهور أن يتنفّل في غير المكان الّذي صلّى فيه‬
‫المسجد تصلّى في المسجد ‪ .‬ويستح ّ‬
‫المكتوبة ‪.‬‬
‫وقال الكاسانيّ من الحنفيّة ‪ :‬يكره للمام أن يصلّي شيئا من السّنن في المكان الّذي صلّى فيه المكتوبة ‪ ،‬لما‬
‫روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬أيعجز أحدُكم إذا صلّى أن يتقدّمَ أو يتأخّر » ‪ ،‬ول يكره ذلك‬
‫ن الكراهة في حقّ المام للشتباه ‪ ،‬وهذا ل يوجد في حقّ المأموم ‪ ،‬لكن يستحبّ له أن يتنحّى‬
‫للمأموم ‪ ،‬ل ّ‬
‫أيضا ‪ ،‬حتّى تنكسر الصّفوف ‪ ،‬ويزول الشتباه على الدّاخل من كلّ وجه ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬ل يتطوّع المام في مكانه الّذي صلّى فيه المكتوبة ‪ .‬كذا قال عليّ بن أبي‬
‫طالب رضي ال عنه ‪ .‬قال أحمد ‪ :‬ومن صلّى وراء المام فل بأس أن يتطوّع مكانه ‪ ،‬فعل ذلك ابن عمر‬
‫رضي ال عنهما ‪ .‬وبهذا قال إسحاق ‪ ،‬وروى أبو بكر حديث عليّ بإسناده ‪ .‬وبإسناده عن المغيرة بن شعبة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬ل يتطوّع المام في مقامه الّذي يصلّي فيه المكتوبة‬
‫ن النّب ّ‬
‫رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬
‫»‪.‬‬
‫صلة التّطوّع على الدّابّة ‪:‬‬
‫‪ - 15‬يجوز باتّفاق المذاهب صلة التّطوّع على الدّابّة في السّفر ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم خلفا بين أهل العلم في إباحة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر الطّويل قال التّرمذيّ ‪:‬‬
‫هذا عند عامّة أهل العلم ‪،‬‬
‫ل من سافر سفرا يقصر فيه الصّلة أن يتطوّع على دابّته حيثما‬
‫وقال ابن عبد البرّ ‪ :‬أجمعوا على أنّه جائز لك ّ‬
‫توجّهت ‪ ،‬يومئ بالرّكوع والسّجود ‪ ،‬ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع ‪.‬‬
‫ويجوز عند الحنابلة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر القصير أيضا ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَلِلّ ِه ال َمشْ ِرقُ وَال َمغْرِبُ‬
‫جهُ الّلهِ } ‪ ،‬قال ابن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬نزلت هذه الية في التّطوّع خاصّة حيث توجّه‬
‫َفأَ ْي َنمَا تُوَلّوا َف َثمّ َو ْ‬
‫به بعيرك ‪.‬‬
‫وهذا يتناول بإطلقه محلّ النّزاع ‪ ،‬وعن ابن عمر رضي ال عنهما « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫كان يوتر على بعيره » ‪ ،‬وفي رواية ‪ « :‬كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ‪ ،‬يومئ برأسه »‬
‫وكان ابن عمر يفعله ‪ .‬وللبخاريّ ‪ « :‬إل الفرائض » ولمسلم وأبي داود ‪ « :‬غير أنّه ل يصلّي عليها‬
‫المكتوبة » ولم يفرّق بين قصير السّفر وطويله ‪ ،‬ولنّ إباحة الصّلة على الرّاحلة تخفيف في التّطوّع ‪ ،‬كي‬
‫ل يؤدّي إلى قطعها وتقليلها ‪.‬‬
‫والوتر واجب عند الحنفيّة ‪ ،‬ولهذا ل يؤدّى على الرّاحلة عند القدرة على النّزول ‪ .‬كذلك روى الحسن عن‬
‫ن من صلّى ركعتي الفجر على الدّابّة من غير عذر وهو يقدر على النّزول ل يجوز ‪ ،‬لختصاص‬
‫أبي حنيفة أ ّ‬
‫ركعتي الفجر بزيادة توكيد وترغيب بتحصيلها وترهيب وتحذير على تركها ‪ ،‬فالتحقت بالواجبات كالوتر ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نفل ‪ -‬نافلة )‪.‬‬
‫صلة التّطوّع قاعدا ‪:‬‬
‫‪ - 16‬تجوز صلة التّطوّع من قعود باتّفاق بين المذاهب ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم خلفا في إباحة التّطوّع جالسا ‪ ،‬وأنّه في القيام أفضل ‪ ،‬وقد قال النّبيّ صلى ال عليه‬
‫ن كثيرا من النّاس يشقّ‬
‫وسلم ‪ « :‬من صلّى قائما فهو أفضل ‪ ،‬ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم » ول ّ‬
‫عليه القيام ‪ ،‬فلو وجب في التّطوّع لترك أكثره ‪ ،‬فسامح الشّارع في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره ‪.‬‬
‫الفصل بين الصّلة المفروضة وصلة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يستحبّ أن يفصل المصلّي بين الصّلة المفروضة وصلة التّطوّع بعدها بالذكار الواردة ‪ ،‬كالتّسبيح‬
‫سنّة ‪.‬‬
‫سنّة ‪ ،‬بل يشتغل بال ّ‬
‫والتّحميد والتّكبير ‪ ،‬وهذا عند الجمهور ‪ .‬وعند الحنفيّة يكره الفصل بين المكتوبة وال ّ‬
‫وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬نفل ) ‪.‬‬
‫قضاء التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 18‬إذا فات التّطوّع ‪ -‬سواء المطلق ‪ ،‬أو المقيّد بسبب أو وقت ‪ -‬فعند الحنفيّة والمالكيّة ل يقضى سوى‬
‫ركعتي الفجر ‪ ،‬لما روت أ ّم سلمة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬صلّى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم العصر ثمّ‬
‫دخل بيتي فصلّى ركعتين ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬صلّيتَ صلة لم تكن تصلّيها فقال ‪ :‬قدم عليّ مالٌ فشغلني‬
‫عن الرّكعتين كنت أركعهما بعد الظّهر ‪ ،‬فصلّيتهما الن ‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال ‪ :‬ل‬
‫»‪.‬‬
‫ن القضاء غير واجب على المّة ‪ ،‬وإنّما هو شيء اختصّ به النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول‬
‫وهذا نصّ على أ ّ‬
‫شركة لنا في خصائصه ‪ .‬وقياس هذا الحديث أنّه ل يجب قضاء ركعتي الفجر أصل ‪ ،‬إل أنّا استحسنّا‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فعلهما مع الفرض ليلة التّعريس » فنحن نفعل‬
‫ن « النّب ّ‬
‫القضاء إذا فاتتا مع الفرض ‪ ،‬ل ّ‬
‫ذلك لنكون على طريقته ‪.‬‬
‫وهذا بخلف الوتر ‪ ،‬لنّه واجب عند الحنفيّة ‪ ،‬والواجب ملحق بالفرض في حقّ العمل ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ من الشّافعيّة ‪ :‬لو فات النّفل المؤقّت " كصلة العيد والضّحى " ندب قضاؤه في الظهر ‪ ،‬لحديث‬
‫الصّحيحين ‪ « :‬من نسي صلةً أو نام عنها فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذكرها » ولنّ « النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم قضى ركعتي الفجر لمّا نام في الوادي عن صلة الصّبح إلى أن طلعت الشّمس » ‪ .‬وفي مسلم نحوه ‪.‬‬
‫« وقضى ركعتي سنّة الظّهر المتأخّرة بعد العصر » ‪ ،‬ولنّها صلة مؤقّتة فقضيت كالفرائض ‪ ،‬وسواء السّفر‬
‫والحضر ‪ ،‬كما صرّح به ابن المقري ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ل يقضى كغير المؤقّت ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬إن لم يتبع غيره كالضّحى قضي ‪ ،‬لشبهه بالفرض في الستقلل ‪ ،‬وإن تبع غيره كالرّواتب فل ‪.‬‬
‫قال الخطيب الشّربينيّ في شرح المنهاج ‪ :‬قضيّة كلمه ‪ -‬أي النّوويّ ‪ -‬أنّ المؤقّت يقضي أبدا وهو‬
‫الظهر ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬يقضي فائتة النّهار ما لم تضرب شمسه ‪ ،‬وفائتة اللّيل ما لم يطلع فجره ‪ .‬والثّالث ‪:‬‬
‫يقضي ما لم يصلّ الفرض الّذي بعده ‪.‬‬
‫وخرج بالمؤقّت ما له سبب كالتّحيّة والكسوف فإنّه ل مدخل للقضاء فيه ‪.‬‬
‫نعم لو فاته ِو ْردُه من الصّلة ‪ ،‬فإنّه يندب له قضاؤه كما قاله الذرعيّ ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قضى شيئا من التّطوّع ‪ ،‬إل ركعتي‬
‫وعند الحنابلة ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬لم يبلغنا أ ّ‬
‫الفجر والرّكعتين بعد العصر ‪.‬‬
‫وقال القاضي وبعض الصحاب ‪ :‬ل يقضى إل ركعتا الفجر وركعتا الظّهر ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قضى بعضها ‪ ،‬وقسنا الباقي‬
‫ن النّب ّ‬
‫وقال ابن حامد ‪ :‬تقضى جميع السّنن الرّواتب ‪ ،‬ل ّ‬
‫عليها ‪ .‬وفي شرح منتهى الرادات ‪ :‬يسنّ قضاء الرّواتب ‪ ،‬إل ما فات مع فرضه وكثر ‪ ،‬فالولى تركه ‪ ،‬إل‬
‫سنّة الفجر فيقضيها مطلقا لتأكّدها ‪.‬‬
‫انقلب الواجب تطوّعا ‪:‬‬
‫‪ - 19‬قد ينقلب واجب العبادات إلى تطوّع ‪ ،‬سواء أكان بقصد أم بغير قصد ‪.‬‬
‫ومن ذلك مثلً في الصّلة يقول ابن نجيم ‪ :‬لو افتتح الصّلة بنيّة الفرض ‪ ،‬ثمّ غيّر نيّته في الصّلة وجعلها‬
‫تطوّعا ‪ ،‬صارت تطوّعا ‪.‬‬
‫وفي شرح منتهى الرادات ‪ :‬إن أحرم مصلّ بفرض ‪ ،‬كظهر في وقته المتّسع له ولغيره ‪ ،‬ثمّ قلبه نفل ‪ ،‬بأن‬
‫فسخ نيّة الفرضيّة دون نيّة الصّلة ‪ ،‬صحّت مطلقا ‪ ،‬أي سواء كان صلّى الكثر منها أو القلّ ‪ ،‬وسواء كان‬
‫لغرض صحيح أو ل ‪ ،‬لنّ النّفل يدخل في نيّة الفرض ‪ ،‬وكره قلبه نفل لغير غرض صحيح ‪ .‬ثمّ قال ‪:‬‬
‫وينقلب نفل ما بان عدمه ‪ ،‬كما لو أحرم بفائتة ظنّها عليه ‪ ،‬فتبيّن أنّه لم تكن عليه فائتة ‪ ،‬أو أحرم بفرض ثمّ‬
‫تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ‪ ،‬لنّ الفرض لم يصحّ ‪ ،‬ولم يوجد ما يبطل النّفل ‪.‬‬
‫ومن ذلك الصّيام ‪ .‬جاء في شرح منتهى الرادات ‪ :‬من قطع نيّة صوم نذر أو كفّارة أو قضاء ‪ ،‬ثمّ نوى‬
‫ل‪.‬‬
‫صوما نفل صحّ نفله ‪ ،‬وإن قلب صائم نيّة نذر أو قضاء إلى نفل صحّ ‪ ،‬كقلب فرض الصّلة نف ً‬
‫وخالف الحجّاويّ في " القناع " في مسألة قلب القضاء ‪ ،‬وكره له ذلك لغير غرض ‪.‬‬
‫ومن ذلك الزّكاة ‪ .‬جاء في بدائع الصّنائع ‪ :‬إذا دفع الزّكاة إلى رجل ‪ ،‬ولم يخطر بباله أنّه ليس ممّن تصرف‬
‫الزّكاة إليهم وقت الدّفع ‪ ،‬ولم يشكّ في أمره ‪ ،‬فإذا ظهر بيقين أنّه ليس من مصارفها لم تجزئه زكاة ‪ ،‬ويجب‬
‫عليه العادة ‪ ،‬وليس له أن يستردّ ما دفع إليه ‪ ،‬ويقع تطوّعا ‪ .‬ثمّ قال الكاسانيّ في موضع آخر ‪ :‬حكم‬
‫ب المال أو‬
‫المعجّل إذا لم يقع زكاة ‪ :‬أنّه إن وصل إلى يد الفقير يكون تطوّعا ‪ ،‬سواء وصل إلى يده من يد ر ّ‬
‫من يد المام أو نائبه ‪ -‬وهو السّاعي ‪ -‬لنّه حصل أصل القربة ‪.‬‬
‫وصدقة التّطوّع ل يحتمل الرّجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير ‪.‬‬
‫ج في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة ‪ ،‬لنّها عبادة مؤقّتة ‪ ،‬فإذا عقدها‬
‫وفي المهذّب أيضا ‪ :‬من أحرم بالح ّ‬
‫في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ‪ ،‬كصلة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال ‪ ،‬فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل ‪.‬‬
‫ج فرضا وتطوّعا كان تطوّعا‬
‫ل كان نفل ‪ ،‬ولو أحرم بالح ّ‬
‫ج نذرا ونف ً‬
‫وفي الشباه لبن نجيم ‪ :‬لو أحرم بالح ّ‬
‫عندهما في الصحّ ‪.‬‬
‫حصول التّطوّع بأداء الفرض وعكسه ‪:‬‬
‫‪ - 20‬هناك صور يحصل التّطوّع فيها بأداء الفرض ‪ ،‬ولكنّ ثواب التّطوّع ل يحصل إل بنيّته ‪ .‬جاء في‬
‫الشباه لبن نجيم ‪ -‬في الجمع بين عبادتين ‪ -‬قالوا ‪ :‬لو اغتسل الجنب يوم الجمعة للجمعة ولرفع الجنابة ‪،‬‬
‫ارتفعت جنابته ‪ ،‬وحصل له ثواب غسل الجمعة ‪.‬‬
‫وفي ابن عابدين ‪َ :‬منْ عليه جنابة نسيها واغتسل للجمعة مثلً ‪ ،‬فإنّه يرتفع حدثه ضمنا ‪ ،‬ول يثاب ثواب‬
‫الفرض ‪ ،‬وهو غسل الجنابة ما لم ينوه ‪ ،‬لنّه ل ثواب إلّا بال ّنيّة ‪.‬‬
‫وفي الشّرح الصّغير ‪ :‬تتأدّى تحيّة المسجد بصلة الفرض فيسقط طلب التّحيّة بصلته ‪ ،‬فإن نوى الفرض‬
‫ن العمال بالنّيّات ‪ .‬ومثل ذلك غسل الجمعة‬
‫والتّحيّة حصل ‪ ،‬وإن لم ينو التّحيّة لم يحصل له ثوابها ‪ ،‬ل ّ‬
‫والجنابة ‪ ،‬وصيام يوم عرفة مع نيّة قضاء ما عليه ‪.‬‬
‫وفي القواعد لبن رجب ‪ :‬لو طاف عند خروجه من مكّة طوافا ينوي به الزّيارة والوداع ‪ ،‬فقال الخرقيّ‬
‫وصاحب المغني ‪ :‬يجزئه عنهما ‪.‬‬
‫ثانيا ما يشمل العبادات وغيرها من أحكام ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قطع التّطوّع بعد الشّروع فيه ‪:‬‬
‫‪ - 21‬إذا كان التّطوّع عبادة كالصّلة والصّيام ‪ ،‬فعند الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬إذا شرع فيه وجب إتمامه ‪ ،‬وإذا‬
‫ضيّا وقضاء ‪.‬‬
‫فسد وجب قضاؤه ‪ ،‬لنّ التّطوّع يلزم بالشّروع ُم ِ‬
‫عمَالَكمْ } ‪.‬‬
‫ن المؤدّى عبادة ‪ ،‬وإبطال العبادة حرام ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل ُتبْطِلُوا أَ ْ‬
‫ول ّ‬
‫وقد « قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم لعائشة وحفصة رضي ال عنهما وقد أفطرتا في صوم التّطوّع اقضيا‬
‫يوما مكانه » ‪.‬‬
‫أنف المالكيّة ل يوجبون القضاء إل إذا كان الفسفاد متعمّدا ‪ ،‬فإن كان لعذر فل قضاء ‪ .‬وعنفد الشّافعيّة‬
‫غيفر ّ‬
‫والحنابلة ‪ :‬ي ستحبّ التمام إذا شرع في التّطوّع ول ي جب ‪ ،‬ك ما أنّه ي ستحبّ القضاء إذا ف سد ‪ ،‬إلّا في تطوّع‬
‫ن نفلهما كفرضهما نيّة وفدية وغيرهما ‪.‬‬
‫الحجّ والعمرة فيجب إتمامهما إذا شرع فيهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة على عدم وجوب التمام بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« الصّائم المتطوّع أمير نفسه ‪ ،‬إن شاء صام ‪ ،‬وإن شاء أفطر » ‪.‬‬
‫وتنظر التّفاصيل في ( نفل ‪ ،‬صلة ‪ ،‬صيام ‪ ،‬حجّ ) ‪.‬‬
‫‪ - 22‬أمّا غير ذلك من التّطوّعات ‪ ،‬فإمّا أن يكون من قبيل عقود التّبرّعات المعروفة كالهبة والعاريّة‬
‫والوقف والوصيّة ‪ ،‬وإمّا أن يكون من غير ذلك ‪.‬‬
‫فإن كان من عقود التّبرّعات ‪ ،‬فلكلّ عقد حكمه في جواز الرّجوع أو عدم جوازه ‪ .‬ففي الوصيّة مثل ‪ :‬يجوز‬
‫باتّفاق الرّجوع فيها ما دام الموصي حيّا ‪.‬‬
‫وفي العاريّة والقرض ‪ :‬يجوز الرّجوع بطلب ردّ الشّيء المستعار واسترداد بدل القرض في الحال بعد‬
‫القبض ‪ .‬وهذا عند غير المالكيّة ‪ ،‬بل قال الجمهور ‪ :‬إنّ المقرض إذا أجّل القرض ل يلزمه التّأجيل ‪ ،‬لنّه لو‬
‫لزم فيه الجل لم يبق تبرّعا ‪.‬‬
‫ويجوز الرّجوع في الهبة قبل القبض ‪ ،‬فإذا تمّ القبض فل رجوع عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬إل فيما وهب الوالد‬
‫لولده ‪ ،‬وعند الحنفيّة ‪ :‬يجوز الرّجوع إن كانت لجنبيّ ‪.‬‬
‫وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في أبوابه ‪ .‬وفي ( تبرّع ) ‪.‬‬
‫أمّا غير ذلك من التّبرّعات كالصّدقة والنفاق وما شابه ذلك ‪ ،‬فإن كان قد مضى فل رجوع فيه ‪ ،‬ما دام ذلك‬
‫ن المقصود فيها الثّواب ل العوض ‪ .‬ويقول‬
‫قد تمّ بنيّة التّبرّع ‪ .‬يقول ابن عابدين ‪ :‬ل رجوع في الصّدقة ل ّ‬
‫ن عمر رضي ال عنه قال في حديثه‬
‫ابن قدامة ‪ :‬ل يجوز للمتصدّق الرّجوع في صدقته في قولهم جميعا ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ :‬من وهب هبة على وجه صدقة فإنّه ل يرجع فيها ‪ .‬ومثل ذلك النفاق إذا كان بقصد التّبرّع فل رجوع فيه‬
‫‪.‬‬
‫يقول ابن عابدين ‪ :‬إذا أنفق الوصيّ من مال نفسه على الصّبيّ ‪ ،‬وللصّبيّ مال غائب ‪ ،‬فهو متطوّع في‬
‫النفاق استحسانا ‪ ،‬إل أن يشهد أنّه قرض ‪ ،‬أو أنّه يرجع به عليه ‪.‬‬
‫ويقول ابن القيّم ‪ :‬المقاصد تغيّر أحكام التّصرّفات ‪ ،‬فال ّنيّة لها تأثير في التّصرّفات ‪ ،‬ومن ذلك أنّه لو قضى‬
‫عن غيره دينا ‪ ،‬أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ‪ -‬ينوي التّبرّع والهبة ‪ -‬لم يملك الرّجوع بالبدل ‪ ،‬وإن‬
‫لم ينو فله الرّجوع ‪ .‬على أنّ في ذلك تفصيلً وخلفا بين المذاهب في بعض الفروع ‪ ،‬ومن ذلك مثل ‪ :‬أنّ‬
‫الشّافعيّة يجيزون للب ولسائر الصول الرّجوع في الصّدقة المتطوّع بها على الولد ‪ ،‬أمّا الواجبة فل رجوع‬
‫فيها ‪.‬‬
‫ول يجيزون للب الرّجوع في البراء لولده عن دينه ‪ .‬بينما يجيز الحنابلة رجوع الب فيما أبرأ ابنه منه من‬
‫الدّيون ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ‪ ،‬صدقة ‪ ،‬إبراء ‪ ،‬هبة ‪ ،‬نفقة ) ‪.‬‬
‫‪ - 23‬أمّا ما شرع فيه من الصّدقة ‪ .‬فأخرج بعضه ‪ ،‬فل يلزمه الصّدقة بباقيه ‪.‬‬
‫ن النسان لو نوى الصّدقة بمال مقدّر ‪ ،‬وشرع في الصّدقة به ‪ ،‬فأخرج‬
‫يقول ابن قدامة ‪ :‬انعقد الجماع على أ ّ‬
‫ن ابن‬
‫بعضه لم تلزمه الصّدقة بباقيه ‪ ،‬وهو نظير العتكاف ‪ ،‬لنّه غير مقدّر بالشّرع فأشبه الصّدقة ‪ ،‬غير أ ّ‬
‫رجب ذكر خلفا في ذلك ‪.‬‬
‫والحطّاب ع ّد الشياء الّتي تلزم بالشّروع ‪ ،‬وهي سبع ‪ :‬الصّلة والصّوم والعتكاف والحجّ والعمرة والئتمام‬
‫والطّواف ‪ .‬ثمّ ذكر ما ل يلزم بالشّروع ‪ ،‬وأنّه ل يجب القضاء بقطعه ‪ ،‬وهو ‪ :‬الصّدقة والقراءة والذكار‬
‫والوقف والسّفر للجهاد ‪ ،‬وغير ذلك من القربات ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ‪ ،‬صدقة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬نيّة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 24‬التّطوّع ‪ -‬إن كان عبادة ‪ -‬فل بدّ فيه من ال ّنيّة بالجماع ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا ُأ ِمرُوا إل ِل َي ْع ُبدُوا اللّهَ‬
‫ن لَ ُه الدّينَ } وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّما العمال بال ّنيّات » وهي مقصودة بها تمييز العبادات‬
‫ُمخْلِصِي َ‬
‫عن العادات ‪ ،‬وتمييز بعض العبادات عن بعض‪ .‬فالغسل قد يكون تبرّدا وعبادة ‪ ،‬والمساك عن المفطرات‬
‫قد يكون حميّة أو تداويا ‪ ،‬ودفع المال يكون صدقة شرعيّة وصلة متعارفة ‪ . .‬وهكذا ‪ ،‬وعلى ذلك فال ّنيّة‬
‫ن الفقهاء يختلفون في ال ّنيّة في تطوّع العبادات بالنّسبة للتّعيين أو الطلق ‪.‬‬
‫شرط في العبادات باتّفاق ‪ ،‬إلّا أ ّ‬
‫‪ - 25‬والتّطوّع في العبادات ‪ ،‬منه ما هو مطلق كالتّهجّد والصّوم ‪ ،‬ومنه ما هو مقيّد كصلة الكسوف والسّنن‬
‫الرّواتب مع الفرائض ‪ ،‬وكصيام عرفة وعاشوراء ‪.‬‬
‫ح عند جميع الفقهاء أداؤه دون تعيينه بال ّنيّة ‪ ،‬وتكفي نيّة مطلق الصّلة أو مطلق‬
‫أمّا التّطوّع المطلق ‪ ،‬فيص ّ‬
‫الصّوم ‪.‬‬
‫أمّا التّطوّع المعيّن كالرّواتب والوتر والتّراويح ‪ ،‬وصلة الكسوف والستسقاء ‪ ،‬وصيام يوم عاشوراء ‪ ،‬فإنّه‬
‫ن المالكيّة‬
‫يشترط فيه تعيينه بال ّنيّة ‪ ،‬وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض مشايخ الحنفيّة ‪ ،‬غير أ ّ‬
‫حدّدوا المعيّن عندهم بأنّه ‪ :‬الوتر والعيدان وصلة الكسوف والستسقاء ورغيبة الفجر ‪ ،‬أمّا غير ذلك فهو من‬
‫المطلق عندهم ‪.‬‬
‫ح دون تعيينه ‪ ،‬وأنّه يكفي فيه مطلق ال ّنيّة‬
‫والصّحيح المعتمد عند الحنفيّة أنّ التّطوّع المعيّن أو المقيّد يص ّ‬
‫كالتّطوّع المطلق ‪ ،‬وهو ما عليه أكثر مشايخ الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن نيّة القربة فيها ‪ -‬امتثال‬
‫‪ - 26‬أمّا غير العبادات من التّطوّعات ‪ ،‬فالصل أنّه ل مدخل لل ّنيّة فيها ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫لوامر الشّرع الّتي تحثّ على المعروف ‪ -‬مطلوبة لستحقاق الثّواب ‪ ،‬إذ أنّها ل تتمحّض قربة إلّا بهذه ال ّنيّة‬
‫‪.‬‬
‫يقول الشّاطبيّ ‪ :‬المقاصد معتبرة في التّصرّفات من العبادات والعادات ‪ .‬إلى أن قال ‪ :‬وأمّا العمال العاديّة ‪-‬‬
‫وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نيّة ‪ -‬فل تكون عبادات ول معتبرات في الثّواب إل مع قصد‬
‫المتثال ‪ ،‬وفي الشباه لبن نجيم ‪ :‬ل يتوقّف الوقف ول الهبة ول الوصيّة على ال ّنيّة ‪ ،‬فالوصيّة إن قصد‬
‫التّقرّب بها فله الثّواب ‪ ،‬وإلّا فهي صحيحة فقط ‪ ،‬وكذلك الوقف إن نوى القربة فله الثّواب وإل فل ‪ ،‬وعلى‬
‫هذا سائر القرب ل بدّ فيها من ال ّنيّة ‪ ،‬بمعنى توقّف حصول الثّواب على قصد التّقرّب بها إلى اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ح القصد ‪ ،‬وإن استحضر أنّ ذلك‬
‫وفي الشّرح الصّغير ‪ :‬الهبة من التّبرّعات المندوبة كالصّدقة ‪ ،‬وهذا إن ص ّ‬
‫ممّا رغّب فيه الشّرع فإنّه يثاب ‪ .‬وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ ‪ :‬عيادة المريض واتّباع الجنازة وردّ‬
‫السّلم قربة ‪ ،‬ل يستحقّ الثّواب عليها إل بال ّنيّة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬النّيابة في التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 27‬التّطوّع إن كان من العبادات البدنيّة كالصّلة والصّوم ‪ ،‬فل تجوز فيه النّيابة ‪ ،‬لنّه ل تجوز النّيابة في‬
‫ج ‪ ،‬فعند الحنفيّة والحنابلة تصحّ النّيابة فيه‬
‫فرضه في الجملة ‪ ،‬فل تجوز في نفله ‪ .‬وإن كان مركّبا منهما كالح ّ‬
‫‪ ،‬وهو الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وأحد قولين معتمدين عند المالكيّة ‪ .‬أمّا غير ذلك من العبادات الماليّة‬
‫والتّطوّعات بأنواع البرّ والمعروف ‪ ،‬كالصّدقة والهدي والعتق والوقف والوصيّة والهبة والبراء وغيرها فإنّه‬
‫تجوز النّيابة فيها ‪ .‬كما أنّه يجوز عند الحنفيّة والحنابلة أن يتطوّع النسان بجعل ثواب عمله من صلة‬
‫ن النّبيّ‬
‫ي أو ميّت ‪ .‬بدليل أ ّ‬
‫ج وصدقة وعتق وطواف وعمرة وقراءة وغير ذلك لغيره ‪ ،‬من ح ّ‬
‫وصيام وح ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم « ضحّى بكبشين أملحين ‪ ،‬أحدهما عنه ‪ ،‬والخر عن أمّته » ‪ .‬وروى عمرو بن شعيب‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال لعمرو بن العاص ‪ ،‬لمّا سأله عن أبيه ‪ :‬لو كان‬
‫عن أبيه عن جدّه « أ ّ‬
‫ج التّطوّع‬
‫مسلما فأعتقتم عنه أو تصدّقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك » ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا عامّ في ح ّ‬
‫وغيره ‪ ،‬ولنّه عمل برّ وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصّدقة والصّيام والحجّ الواجب ‪ « .‬عن أنس رضي ال‬
‫ج عنهم ‪ ،‬وندعو لهم ‪ ،‬فهل يصل ذلك لهم ؟ قال ‪:‬‬
‫عنه قال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّا نتصدّق عن موتانا ‪ ،‬ونح ّ‬
‫نعم ‪ ،‬إنّه ليصل إليهم ‪ ،‬وإنّهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطّبق إذا أهدي إليه » ‪.‬‬
‫ن من البرّ بعد الموت أن تصلّي لبويك مع صلتك ‪ ،‬وأن تصوم لهما مع‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫صومك » وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز فيما عدا الصّلة والصّيام ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نيابة ‪ -‬وكالة ‪ -‬نفل ‪ -‬صدقة ‪ -‬صلة ‪ -‬وصوم ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الجرة على التّطوّع ‪:‬‬
‫ج والجهاد‬
‫ل طاعة يختصّ بها المسلم ل يجوز أخذ الجرة عليها ‪ ،‬كالمامة والذان والح ّ‬
‫‪ - 28‬الصل أنّ ك ّ‬
‫ن آخر ما عهد إليّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن‬
‫وتعليم القرآن ‪ .‬لما روى عثمان بن أبي العاص قال ‪ « :‬إ ّ‬
‫خذَ مؤذّنا ل يأخذُ على أذانه أجرا » ولنّ القربة متى حصلت وقعت عن العامل ‪ ،‬ولهذا تعتبر أهليّته ‪ ،‬فل‬
‫أ ّت ِ‬
‫يجوز أخذ الجر عن غيره كما في الصّوم والصّلة ‪ .‬هذا مذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو رواية عند الحنابلة ‪.‬‬
‫ح مع الكراهة عند المالكيّة ‪ .‬جاء في الشّرح الصّغير ‪ :‬تكره إجارة النسان نفسه في عمل للّه تعالى ‪،‬‬
‫ويص ّ‬
‫حجّا أو غيره ‪ ،‬كقراءة وإمامة وتعليم علم ‪ ،‬وصحّته مع الكراهة ‪.‬‬
‫كما تكره الجارة على الذان ‪ ،‬قال مالك ‪ :‬لن يؤاجر الرّجل نفسه في عمل اللّبن وقطع الحطب وسوق البل‬
‫ي من أن يعمل عمل للّه بأجرة ‪.‬‬
‫أحبّ إل ّ‬
‫ح إجارة مسلم لجهاد ول لعبادة يجب لها نيّة ‪ ،‬وألحقوا بذلك‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ ،‬كما في نهاية المحتاج ‪ :‬ل تص ّ‬
‫المامة ولو لنفل ‪ ،‬لنّه حصل لنفسه ‪ .‬أمّا ما ل تجب له نيّة كالذان فيصحّ الستئجار عليه ‪ ،‬واستثني ممّا‬
‫فيه نيّة ‪ :‬الحجّ والعمرة ‪ ،‬فيجوز الستئجار لهما أو لحدهما عن عاجز أو ميّت ‪ ،‬وتقع صلة ركعتي الطّواف‬
‫تبعا لهما ‪ ،‬وتجوز الجارة عن تفرقة زكاة وكفّارة وأضحيّة وهدي وذبح وصوم عن ميّت وسائر ما يقبل‬
‫ل ما ل تجب له نيّة ‪.‬‬
‫ح الجارة لك ّ‬
‫النّيابة وإن توقّف على ال ّنيّة ‪ ،‬لما فيها من شائبة المال ‪ .‬وتص ّ‬
‫ح لتجهيز ميّت ودفنه وتعليم قرآن ولقراءة القرآن عند القبر أو مع الدّعاء ‪.‬‬
‫وتص ّ‬
‫وفي الختيارات الفقهيّة لبن تيميّة ‪ :‬ل يجوز للنسان أن يقبل هديّة من شخص ليشفع له عند ذي أمر ‪ ،‬أو‬
‫أن يرفع عنه مظلمة ‪ ،‬أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولية يستحقّها ‪ ،‬أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو‬
‫مستحقّ لذلك ‪ ،‬وإذا امتنعت الهديّة امتنعت الجرة من باب أولى ‪ .‬والصل في ذلك ‪ :‬أنّ من أخذ أجرا على‬
‫ن القرب والطّاعات‬
‫عمل تطوّع ‪ -‬ممّا يجوز عند الفقهاء ‪ -‬فإنّه يعتبر أجيرا ‪ ،‬وليس متطوّعا بالقربات ‪ ،‬ل ّ‬
‫إذا وقعت بأجرة لم تكن قربة ول عبادة ‪ ،‬لنّه ل يجوز التّشريك في العبادة ‪ ،‬لكن إذا كان الرّزق من بيت‬
‫المال أو من وقف فإنّه يعتبر نفقة في المعنى ‪ ،‬ول يعتبر أجرا ‪.‬‬
‫ص فاعلها أن يكون من أهل القربة ‪ ،‬هل يجوز إيقاعها على‬
‫جاء في الختيارات الفقهيّة ‪ :‬العمال الّتي يخت ّ‬
‫غير وجه القربة ؟ فمن قال ‪ :‬ل يجوز ذلك ‪ ،‬لم يجز الجارة عليها ‪ ،‬لنّها بالعوض تقع غير قربة و« إنّما‬
‫العمال بال ّنيّات » واللّه تعالى ل يقبل من العمل إل ما أريد به وجهه ‪ ،‬ومن جوّز الجارة جوّز إيقاعها على‬
‫غير وجه القربة ‪ ،‬وقال ‪ :‬تجوز الجارة عليها ل فيها من نفع المستأجر ‪ ،‬وأمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس‬
‫عوضا وأجرة ‪ ،‬بل رزق للعانة على الطّاعة ‪ ،‬فمن عمل منهم للّه أثيب ‪ .‬وكذلك المال الموقوف على‬
‫أعمال البرّ والموصى به كذلك ‪ ،‬والمنذور كذلك ‪ ،‬ليس كالجرة ‪.‬‬
‫ويقول القرافيّ ‪ :‬باب الرزاق أدخل في باب الحسان وأبعد عن باب المعاوضة ‪ ،‬وباب الجارة أبعد من‬
‫باب المسامحة وأدخل في باب المكايسة ‪ ،‬ثمّ يقول ‪ :‬الرزاق مجمع على جوازها ‪ ،‬لنّها إحسان ومعروف‬
‫وإعانة ل إجارة ‪.‬‬
‫انقلب التّطوّع إلى واجب ‪:‬‬
‫‪ - 29‬ينقلب التّطوّع إلى واجب لسباب متعدّدة منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الشّروع ‪:‬‬
‫‪ - 30‬التّطوّع بالحجّ عند جميع الفقهاء يصير واجبا بالشّروع فيه ‪ ،‬بحيث إذا فسد وجب قضاؤه ‪ .‬ومثل ذلك‬
‫‪ :‬الصّلة والصّيام عند الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّطوّع بالحجّ ممّن لم يحجّ حجّة السلم ‪:‬‬
‫‪ - 31‬قال ابن قدامة ‪ :‬من أحرم بحجّ تطوّع ‪ -‬ممّن لم يحجّ حجّة السلم ‪ -‬وقع عن حجّة السلم ‪ ،‬وبهذا‬
‫قال ابن عمر وأنس والشّافعيّ ‪ ،‬لنّه أحرم بالحجّ وعليه فرضه ‪ ،‬فوقع عن فرضه كالمطلق ‪ .‬ولو أحرم‬
‫ج فيما ذكرنا‬
‫بتطوّع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة ‪ ،‬ولنّها واجبة فهي كحجّة السلم ‪ .‬والعمرة كالح ّ‬
‫لنّها أحد النّسكين ‪ ،‬فأشبهت الخر ‪.‬‬
‫ج حجّة السلم ‪ -‬وقع عمّا نواه ‪ ،‬لنّ‬
‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى ‪ :‬أنّه إذا نوى حجّة نفل ‪ -‬ولم يكن قد ح ّ‬
‫وقت الحجّ يشبه وقت الصّلة ( ظرف ) ووقت الصّوم ( معيار ) فأعطي حكمهما ‪ ،‬فيتأدّى فرضه بمطلق‬
‫ال ّنيّة ‪ ،‬ويقع عن النّفل إذا نواه ‪.‬‬
‫وقال ابن نجيم ‪ :‬لو طاف بنيّة التّطوّع في أيّام النّحر وقع عن الفرض ‪.‬‬
‫وفي البدائع ‪ :‬لو تصدّق بجميع ماله على فقير ‪ ،‬ولم ينو الزّكاة أجزأه عن الزّكاة استحسانا‪ .‬والقياس ‪ :‬أن ل‬
‫ن الزّكاة عبادة مقصودة ‪ ،‬فل بدّ لها من ال ّنيّة ‪.‬‬
‫يجوز ‪ ،‬ل ّ‬
‫ووجه الستحسان أنّ ال ّنيّة وجدت دللة ‪ ،‬وعلى هذا إذا وهب جميع النّصاب من الفقير ‪ ،‬أو نوى تطوّعا ‪،‬‬
‫ل عند أبي يوسف ‪.‬‬
‫ولو أدّى مائة ل ينوي الزّكاة ‪ ،‬ونوى تطوّعا ‪ ،‬ل تسقط زكاة المائة وعليه أن يزكّي الك ّ‬
‫وعند محمّد يسقط عنه زكاة ما تصدّق ‪ ،‬ول يسقط عنه زكاة الباقي ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬اللتزام أو التّعيين بال ّنيّة والقول ‪:‬‬
‫‪ - 32‬جاء في الدّرّ المختار ‪ :‬لو نذر التّصدّق يوم الجمعة بمكّة بهذا الدّرهم على فلن ‪ ،‬فخالف ‪ ،‬جاز ‪ .‬قال‬
‫ابن عابدين ‪ :‬فلو خالف في بعضها أو كلّها ‪ ،‬بأن تصدّق في غير يوم الجمعة ببلد آخر بدرهم آخر على‬
‫ن الدّاخل تحت النّذر ما هو قربة ‪ ،‬وهو أصل التّصدّق دون التّعيين ‪ ،‬فبطل التّعيين‬
‫شخص آخر جاز ‪ ،‬ل ّ‬
‫ولزمه القربة ‪.‬‬
‫ثمّ قال ابن عابدين ‪ :‬وهذا ليس على إطلقه لما في البدائع ‪ :‬لو قال ‪ :‬للّه عليّ أن أطعم هذا المسكين شيئا‬
‫سمّاه ولم يعيّنه ‪ ،‬فل بدّ أن يعطيه للّذي سمّى ‪ ،‬لنّه إذا لم يعيّن المنذور صار تعيين الفقير مقصودا ‪ ،‬فل‬
‫يجوز أن يعطي غيره ‪ .‬وفي الختيار ‪ :‬ل تجب الضحيّة على الفقير ‪ ،‬لكنّها تجب بالشّراء ‪ ،‬ويتعيّن ما‬
‫اشتراه للضحيّة ‪ .‬فإن مضت أيّام الضحيّة ولم يذبح ‪ ،‬تصدّق بها حيّة ‪ ،‬لنّها غير واجبة على الفقير ‪ ،‬فإذا‬
‫اشتراها بنيّة الضحيّة تعيّنت للوجوب ‪ ،‬والراقة إنّما عرفت قربة في وقت معلوم ‪ ،‬وقد فات فيتصدّق بعينها‬
‫‪.‬‬
‫وإن كان المضحّي غنيّا ‪ ،‬وفات وقت الضحيّة ‪ ،‬تصدّق بثمنها ‪ ،‬اشتراها أو ل ‪ ،‬لنّها واجبة عليه ‪ ،‬فإذا‬
‫فات وقت القربة في الضحيّة تصدّق بالثّمن إخراجا له عن العهدة ‪.‬‬
‫وجاء في نهاية المحتاج ‪ :‬الضحيّة سنّة ‪ ،‬ولكنّها تجب باللتزام ‪ ،‬كقوله ‪ :‬جعلت هذه الشّاة أضحيّة كسائر‬
‫القرب ‪ .‬وفي تحرير الكلم في مسائل اللتزام للحطّاب ‪ :‬اللتزام المطلق يقضى به على الملتزم ‪ ،‬ما لم‬
‫يفلّس أو يمت أو يمرض ‪.‬‬
‫وقال ابن رشد في نوازله فيمن عزل لمسكين معيّن شيئا ‪ ،‬وبتّله له بقول أو نيّة ‪ ،‬فل يجوز له أن يصرفه إلى‬
‫غيره ‪ ،‬وهو ضامن له إن فعل ‪ .‬ولو نوى أن يعطيه ولم يبتّله له بقول ول نيّة كره له أن يصرفه إلى غيره ‪.‬‬
‫ومعنى بتّله ‪ :‬جعله له من الن ‪.‬‬
‫وفي الفواكه الدّواني ‪ :‬من أخرج كسرة لسائل فوجده قد ذهب ل يجوز له أكلها ‪ ،‬ويجب عليه أن يتصدّق بها‬
‫على غيره ‪ ،‬كما قاله مالك ‪ .‬وقال غيره ‪ :‬يجوز له أكلها ‪ ،‬وقال ابن رشد ‪ :‬يحمل كلم غير مالك على ما‬
‫إذا أخرجها لمعيّن ‪ ،‬فيجوز له أكلها عند عدم وجوده أو عدم قبوله ‪ ،‬وحمل كلم مالك على إخراجها لغير‬
‫معيّن ‪ ،‬فل يجوز له أكلها بل يتصدّق بها على غيره ‪ ،‬لنّه لم يعيّن الّذي يأخذها ‪.‬‬
‫وفي القواعد الفقهيّة لبن رجب ‪ :‬الهدي والضحيّة يتعيّنان بالتّعيين بالقول بل خلف ‪.‬‬
‫وفي تعيينه بال ّنيّة وجهان ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬هذه صدقة ‪ ،‬تعيّنت وصارت في حكم المنذورة ‪ ،‬وإذا عيّن بنيّته أن‬
‫يجعلها صدقة ‪ -‬وعزلها عن ماله ‪ -‬فهو كما لو اشترى شاة ينوي التّضحية‪.‬‬
‫د ‪ -‬النّذر ‪:‬‬
‫‪ - 33‬النّذر بالقرب والطّاعات يجعلها واجبة ‪.‬‬
‫قال الكاسانيّ ‪ :‬النّذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة ‪.‬‬
‫وفي فتح العليّ المالك ‪ :‬النّذر المطلق ‪ :‬هو التزام طاعة اللّه تعالى بنيّة القربة ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬استدعاء الحاجة ‪:‬‬
‫‪ - 34‬قال ابن رجب في قواعده ‪ :‬ما تدعو الحاجة إلى النتفاع به من العيان ‪ -‬ول ضرر في بذله لتيسّره ‪،‬‬
‫وكثرة وجوده ‪ -‬أو المنافع المحتاج إليها يجب بذله مجّانا بغير عوض في الظهر ‪ ،‬ومن ذلك وضع الخشب‬
‫ف قدره وسهل ( وجرت‬
‫على جدار الجار إذا لم يضرّ ‪ ،‬واختار بعضهم وجوب بذل الماعون ‪ ،‬وهو ما خ ّ‬
‫العادة ببذله ) ‪ ،‬ومنها ‪ :‬المصحف تجب إعارته لمسلم احتاج القراءة فيه ‪ .‬وفي حاشية الصّاويّ على الشّرح‬
‫الصّغير ‪ :‬العاريّة مندوبة ‪ ،‬وقد يعرض وجوبها ‪ ،‬كغنيّ عنها لمن يخشى بعدمها هلكه ‪.‬‬
‫وفي القرض قال ‪ :‬القرض مندوب ‪ ،‬وقد يعرض له ما يوجبه كالقرض لتخليص مستهلك ‪.‬‬
‫و ‪ -‬الملك ‪:‬‬
‫‪ - 35‬الصل في العتق أنّه مندوب مرغّب فيه ‪ ،‬لكن يكون واجبا على من ملك أصله أو فرعه ‪ ،‬حيث يعتق‬
‫عليه بنفس الملك ‪.‬‬
‫أسباب منع التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ - 36‬يمنع التّطوّع لسباب متعدّدة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬وقوعه في الوقات المنهيّ عنها ‪:‬‬
‫‪ - 37‬التّطوّع بالعبادة في الوقات الّتي نهى الشّارع عن وقوع العبادة فيها ممنوع ‪ ،‬كالصّلة وقت طلوع‬
‫الشّمس أو غروبها أو عند الستواء ‪ ،‬لحديث عقبة بن عامر الجهنيّ رضي ال عنه قال ‪ « :‬ثلث ساعات‬
‫كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ‪ ،‬أو أن نقبر فيهنّ موتانا ‪ :‬حين تطلع الشّمس‬
‫بازغة حتّى ترتفع ‪ ،‬وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ‪ ،‬وحين تضيف الشّمس للغروب حتّى تغرب‬
‫»‪.‬‬
‫ومثل ذلك التّطوّع بالصّوم في أيّام العيد والتّشريق ‪ ،‬لما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه « أنّ رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم نهى عن صيام يومين ‪ :‬يوم الفطر ‪ ،‬ويوم النّحر » ‪.‬‬
‫وينظر في صحّة ذلك وتفصيله ‪ ( :‬أوقات الصّلوات ‪ -‬صلة ‪ -‬نفل ‪ -‬صوم ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إقامة الصّلة المكتوبة ‪:‬‬
‫‪ - 38‬يمنع التّطوّع بالصّلة إذا شرع المؤذّن في القامة للصّلة ‪ ،‬أو تضيّق الوقت بحيث ل يتّسع لداء أيّ‬
‫نافلة ‪ .‬قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا أقيمت الصّلة فل صلة إل المكتوبة » ‪ ( .‬ر ‪ :‬أوقات‬
‫الصّلة ‪ ،‬نفل ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬عدم الذن ممّن يملك الذن ‪:‬‬
‫‪ - 39‬من يتوقّف تطوّعه على إذن غيره ل يجوز له أن يتطوّع إل بعد الذن له ‪ ،‬وعلى ذلك فل يجوز‬
‫ج إل بإذن زوجها ‪ ،‬ول يصوم الجير تطوّعا إل بإذن المستأجر إذا‬
‫للمرأة أن تتطوّع بصوم أو اعتكاف أو ح ّ‬
‫ج أو عمرة أو نفل جهاد إل بإذن البوين ‪.‬‬
‫تضرّر بالصّوم ‪ ،‬ول يجوز للولد البالغ الحرام بنفل ح ّ‬
‫ج ‪ ،‬إجارة ‪ ،‬أنثى ) ‪.‬‬
‫وهذا في الجملة ‪ ،‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬نفل ‪ ،‬صلة ‪ ،‬صوم ‪ ،‬ح ّ‬
‫د ‪ -‬الفلس في الحجر بالنّسبة للتّبرّعات الماليّة ‪:‬‬
‫‪ - 40‬من أحَاط الدّين بماله فإنّه يمنع شرعا من التّصرّف في أيّ وجه من وجوه التّبرّع كالصّدقة والهبة ‪،‬‬
‫وهذا بعد الحجر باتّفاق ‪ ،‬أمّا قبل الحجر ففيه اختلف الفقهاء ( ر ‪ :‬حجر ‪ ،‬تبرّع ‪ ،‬إفلس ) ‪.‬‬
‫وتمنع التّبرّعات المنجّزة ‪ -‬كالعتق والهبة المقبوضة والصّدقة وغير ذلك ‪ -‬إن زادت على الثّلث ‪ ،‬وكانت‬
‫ن اللّه تصدّق عليكم قبل وفاتكم بثلث‬
‫التّبرّعات في مرض الموت ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫أموالكم » ‪.‬‬
‫ويتوقّف نفاذ تلك التّصرّفات على إجازة الورثة بعد وفاة المورّث ‪ .‬ومن وقف وقفا مستقلً ‪ ،‬ثمّ تبيّن أنّ عليه‬
‫دينا ‪ ،‬ولم يمكن وفاء الدّين إلّا ببيع شيء من الوقف ‪ ،‬وهو في مرض الموت ‪ ،‬بيع باتّفاق العلماء ‪ .‬ويمنع‬
‫من التّبرّع أيضا من تلزمه نفقة غيره ‪ ،‬بحيث ل يفضل شيء بعد ذلك ‪ .‬جاء في المنثور ‪ :‬القربات الماليّة‬
‫كالعتق والوقف والصّدقة والهبة إذا فعلها من عليه دين ‪ ،‬أو من تلزمه نفقة غيره ممّا ل يفضل عن حاجته ‪،‬‬
‫ص أحمد في‬
‫ل تركه لسنّة ‪ .‬وفي القواعد لبن رجب ‪ :‬ن ّ‬
‫ح ‪ ،‬لنّه حقّ واجب فل يح ّ‬
‫يحرم عليه في الص ّ‬
‫ص في رواية أخرى ‪ :‬أنّ‬
‫ن لهما ردّه ‪ ،‬ون ّ‬
‫رواية حنبل فيمن تبرّع بماله بوقف أو صدقة وأبواه محتاجان ‪ :‬أ ّ‬
‫ن الوصيّة تردّ عليهم ‪.‬‬
‫من أوصى لجانب ‪ ،‬وله أقارب محتاجون ‪ ،‬أ ّ‬
‫فتخرج من ذلك أنّ من تبرّع ‪ ،‬وعليه نفقة واجبة لوارث أو دين ‪ -‬ليس له وفاء ‪ -‬لهما ردّه ‪ .‬وكلّ هذا في‬
‫الجملة وينظر في ‪ ( :‬حجر ‪ ،‬تبرّع ‪ ،‬هبة ‪ ،‬وقف ‪ ،‬وصيّة ) ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬التّطوّع بشيء من القربات في المعصية ‪:‬‬
‫‪ - 41‬ل يجوز التّبرّع بشيء فيه معصية للّه تعالى ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ‪:‬‬
‫ح الوصيّة بما هو محرّم ‪ ،‬كالوصيّة للكنيسة ‪ ،‬والوصيّة‬
‫‪ -‬ل تصحّ إعارة الصّيد لمحرم بالحجّ ‪ - .‬ل تص ّ‬
‫بالسّلح لهل الحرب ‪.‬‬
‫ول الوصيّة ببناء كنيسة أو بيت نار أو عمارتهما أو التّفاق عليهما ‪.‬‬
‫ل يصحّ الوقف على معصية‪ ،‬ول على ما هو محرّم كالبيع والكنائس وكتب التّوراة والنجيل‪ .‬ومن وقف‬
‫على من يقطع الطّريق لم يصحّ الوقف ‪ ،‬لنّ القصد بالوقف القربة ‪.‬‬
‫وفي وقف ذلك إعانة على المعصية ‪ .‬وهذا كلّه في الجملة ‪.‬‬
‫وفي ذلك خلف وتفصيل يرجع إليه في ‪ ( :‬الوقف ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬والهبة ‪ ،‬والتّبرّع )‬
‫ثالثا ‪ :‬ما يخصّ غير العبادات " من أحكام التّطوّع ‪:‬‬
‫اليجاب والقبول والقبض ‪:‬‬
‫‪ - 42‬من التّطوّعات ما يحتاج إلى اليجاب والقبول ‪ ،‬وذلك في عقود التّبرّعات ‪ ،‬مثل العاريّة والهبة‬
‫والوصيّة لمعيّن ‪ ،‬وكذا الوقف على معيّن ‪ -‬مع اختلف الفقهاء في ذلك ‪ ،‬واختلفهم في اشتراط القبض أيضا‬
‫‪ -‬وتفصيل ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العاريّة ‪:‬‬
‫ل التّعاطي محلّ اليجاب أو القبول ‪.‬‬
‫‪ - 43‬اليجاب والقبول ركن في عقد العاريّة باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وقد يح ّ‬
‫والقبض ل يمنع الرّجوع في العاريّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لنّها عقد غير لزم عندهم ‪ ،‬وللمعير‬
‫الرّجوع في العاريّة في أيّ وقت ‪ ،‬سواء أقبضها المستعير أم لم يقبضها ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إنّ المنافع المستقبلة لم‬
‫تحصل في يد المستعير ‪ ،‬لنّها تستوفى شيئا فشيئا ‪ ،‬فكلّما استوفى شيئا فقد قبضه ‪ ،‬والّذي لم يستوفه لم‬
‫يقبضه ‪ ،‬فجاز الرّجوع فيه ‪ ،‬إلّا أن يكون الرّجوع في حال يستضرّ به المستعير ‪ ،‬كإعارة أرض لزراعة أو‬
‫دفن ميّت ‪ .‬وهذا في الجملة عندهم ‪ ،‬وينظر تفصيله في ‪ ( :‬عاريّة ) ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فالعارة عقد لزم عندهم ‪ ،‬فهي تفيد تمليك المنفعة باليجاب والقبول ‪ ،‬ول يجوز الرّجوع فيها‬
‫قبل المدّة المحدّدة ‪ ،‬أو قبل إمكان النتفاع بالمستعار إن كانت مطلقة ‪ .‬وهذا في الجملة كذلك ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الهبة ‪:‬‬
‫‪ - 44‬اليجاب والقبول ركن من أركان الهبة باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫ن الملك لو ثبت بدونه للزم المتبرّع‬
‫أمّا القبض فل بدّ منه لثبوت الملك ‪ ،‬وذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫شيء لم يلتزمه ‪ ،‬وهو التّسلّم ‪ ،‬فل تملك بالعقد بل بالقبض ‪ ،‬لما روي عن عائشة رضي ال عنها زوج النّبيّ‬
‫ن أبا بكر الصّدّيق كان نحلها جا ّد عشرين وسقا من ماله بالغابة ‪ .‬فلمّا‬
‫صلى ال عليه وسلم أنّها قالت ‪ « :‬إ ّ‬
‫ي غنى بعدي منك ‪ ،‬ول أعزّ عليّ فقرا بعدي‬
‫حضرته الوفاة قال ‪ :‬واللّه ‪ ،‬يا بنيّة ما من النّاس أحد أحبّ إل ّ‬
‫منك ‪ ،‬وإنّي كنت نحلتك جادّ عشرين وسقا ‪ ،‬فلو كنت جدّدتيه واحتزتيه كان لك ‪ ،‬وإنّما هو اليوم مال وارث‬
‫»‪.‬‬
‫وما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة هو رأي بعض الحنابلة ‪ .‬قال المجد بن تيميّة في شرح الهداية ‪ :‬الملك في‬
‫ن القبض ركن من أركان الهبة كاليجاب‬
‫الموهوب ل يثبت بدون القبض ‪ ،‬وكذا صرّح ابن عقيل الحنبل يّ ‪ :‬أ ّ‬
‫في غيرها ‪ ،‬وكلم الخرق يّ يدلّ عليه ‪ .‬والرّأي الخر للحنابلة ‪ :‬أ نّ الهبة تملك بالعقد ‪ ،‬فيصحّ التّصرّف من‬
‫الموهوب له فيها قبل القبض ‪ ،‬كذا في المنتهى وشرحه ‪ ،‬وهو الّذي قدّمه في النصاف ‪ .‬وعلى رأي الحنفيّة‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬ومن رأى رأيهم من الحنابلة ‪ :‬يجوز الرّجوع فيها قبل القبض ‪ ،‬لنّ عقد الهبة لم يتمّ ‪ .‬ولكنّه عند‬
‫مفن يرى ذلك من الحنابلة يكون مفع الكراهفة ‪ ،‬خروجا من خلف من قال ‪ :‬إنّف الهبفة تلزم بالعقفد ‪ .‬وعنفد‬
‫المالكيّة ‪ :‬تملك اله بة بالقبول على المشهور ‪ ،‬وللمتّ هب طلب ها من الوا هب إن امت نع ولو ع ند حا كم ‪ ،‬لي جبره‬
‫ن القبول‬
‫على تمك ين الوهوب له من ها ‪ .‬لكن قال ا بن عبد ال سّلم ‪ :‬القبول والحيازة معتبران في اله بة ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫أنف الهبفة لو تمّت‬
‫ركفن والحيازة شرط ‪ .‬أي ففي تمامهفا ‪ ،‬فإن عدم لم تلزم ‪ ،‬وإن كانفت صفحيحة ‪ .‬على ّ‬
‫بالقبض ‪ ،‬فإنّه يجوز الرّجوع فيها عند الحنفيّة إن كانت لجنبيّ ‪ ،‬أي غير ذي رحم محرم ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها » أمّا عند الجمهور فل يجوز الرّجوع فيها بعد القبض ‪ ،‬إلّا الوالد فيما‬
‫يهب لولده فإنّه يجوز له الرّجوع لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬العائد في هبته كالعائد في قيئه » ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ( هبة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الوصيّة لمعيّن ‪:‬‬
‫‪ - 45‬من أركان الوصيّة اليجاب من الموصي والقبول من الموصى له المعيّن ‪ ،‬لكنّ القبول ل يعتبر إلّا بعد‬
‫موت الموصي ‪ ،‬ول يفيد القبول قبل موته ‪ ،‬لنّ الوصيّة عقد غير لزم ‪ ،‬والموصي يملك الرّجوع في‬
‫وصيّته ما دام حيّا ‪ ،‬وبالقبول يملك الموصى له الموصى به ‪ ،‬ول يتوقّف الملك على القبض ‪ ،‬وهذا عند‬
‫الحنفيّة ‪ -‬غير زفر ‪ -‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬أمّا عند زفر فركن الوصيّة هو اليجاب فقط من‬
‫الموصي ‪ ،‬ويثبت الملك للموصى له من غير قبول كالرث ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( وصيّة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الوقف على معيّن ‪:‬‬
‫‪ - 46‬اليجاب ركن من أركان الوقف ‪ ،‬سواء أكان على معيّن أم لم يكن ‪ .‬أمّا القبول ‪ :‬فإن كان الوقف على‬
‫معيّن فإنّه يشترط قبوله ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬ل يفتقر الوقوف على معيّن إلى القبول ‪ ،‬لنّه إزالة ملك يمنع البيع ‪ ،‬فلم يعتبر فيه القبول‬
‫كالعتق ‪ ،‬أمّا القبض فليس بشرط عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ‪ ،‬وعند المالكيّة ومحمّد ‪ :‬القبض شرط‬
‫‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( وقف ) ‪.‬‬
‫تطيّب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطيّب في اللّغة ‪ :‬مصدر تطيّب ‪ ،‬وهو التّعطّر ‪ .‬والطّيب هو ‪ :‬العطر ‪ ،‬وهو ما له رائحة مستلذّة ‪،‬‬
‫كالمسك والكافور والورد والياسمين والورس والزّعفران ‪.‬‬
‫ول يخرج معناه في الصطلح عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫‪ - 2‬والطّيب ينقسم إلى قسمين ‪ :‬مذكّر ‪ ،‬مؤنّث ‪ .‬فالمذكّر ‪ :‬ما يخفى أثره ‪ ،‬أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو‬
‫جسد ‪ ،‬ويظهر ريحه ‪ .‬والمراد به أنواع الرّياحين ‪ ،‬والورد ‪ ،‬والياسمين ‪ .‬وأمّا المياه الّتي تعصر ممّا ذكر‬
‫فليس من قبيل المؤنّث ‪ .‬والمؤنّث ‪ :‬هو ما يظهر لونه وأثره ‪ ،‬أي تعلّقه بما مسّه تعلّقا شديدا كالمسك ‪،‬‬
‫والكافور ‪ ،‬والزّعفران ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّزيّن ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّزيّن ‪ :‬هو اتّخاذ الزّينة ‪ ،‬وهي اسم جامع لك ّل شيء يتزيّن به ‪ ،‬فالتّزيّن ما يحسن به منظر النسان ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 4‬الصل س ّنيّة التّطيّب ‪ ،‬ويختلف الحكم بحسب الحوال ‪ ،‬على ما سيأتي ‪.‬‬
‫تطيّب الرّجل والمرأة ‪:‬‬
‫ن التّطيّب ‪ ،‬لخبر أبي أيّوب رضي ال عنه مرفوعا « أربع من سنن المرسلين ‪ :‬الحنّاء ‪ ،‬والتّعطّر ‪،‬‬
‫‪ - 5‬يس ّ‬
‫والسّواك ‪ ،‬والنّكاح » ولقول الرّسول صلى ال عليه وسلم « حبّب إليّ من دنياكم ‪ :‬النّساء والطّيب ‪ ،‬وجعلت‬
‫قرّة عيني في الصّلة » ‪.‬‬
‫والطّيب يستحبّ للرّجل داخل بيته وخارجه ‪ ،‬بما يظهر ريحه ويخفى لونه ‪ ،‬كبخور العنبر والعود ‪ .‬ويسنّ‬
‫للمرأة في غير بيتها بما يظهر لونه ويخفى ريحه ‪ ،‬لخبر رواه التّرمذيّ والنّسائيّ من حديث أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه « طيب الرّجال ما ظهر ريحه وخفي لونه ‪ ،‬وطيب النّساء ما خفي ريحه وظهر لونه »‬
‫ولنّها ممنوعة في غير بيتها ممّا ين ّم عليها ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬أيّما امرأة استعطرت ‪ ،‬فمرّت بقوم ليجدوا ريحها‬
‫فهي زانية » وفي بيتها تتطيّب بما شاءت ‪ ،‬ممّا يخفى أو يظهر ‪ ،‬لعدم المانع ‪.‬‬
‫التّطيّب لصلة الجمعة ‪:‬‬
‫‪ -‬يندب التّطيّب لصلة الجمعة بل خلف ‪ .‬لحديث ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ن هذا يوم عيد جعله اللّه للمسلمين ‪ ،‬فمن جاء منكم إلى الجمعة‬
‫« قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إ ّ‬
‫فليغتسل ‪ ،‬وإن كان طيب فليمسّ منه ‪ ،‬وعليكم بالسّواك » ‪.‬‬
‫ي رضي ال عنه قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ل يغتسل رجل يوم الجمعة‬
‫وعن سلمان الفارس ّ‬
‫‪ ،‬ويتطهّر ما استطاع من طهر ‪ ،‬ويدهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته ‪ ،‬ثمّ يخرج ل يفرّق بين اثنين ‪ ،‬ثمّ‬
‫يصلّي ما كتب له ‪ ،‬ث ّم ينصت إذا تكلّم المام ‪ ،‬إل غفر له ما بينه وبين الجمعة الخرى » ‪.‬‬
‫التّطيّب لصلة العيد ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يندب للرّجل قبل خروجه لصلة العيد أن يتطيّب بما له ريح ل لون له ‪ ،‬وبهذا قال الجمهور ‪ .‬أمّا‬
‫ن غير متطيّبات ول لبسات ثياب زينة أو شهرة ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل‬
‫النّساء فل بأس بخروجه ّ‬
‫تمنعوا إماء اللّه مساجدَ اللّه ‪ ،‬وليخرجن تَفِلت » والمراد بالتّفلت ‪ :‬غير المتطيّبات ‪.‬‬
‫تطيّب الصّائم ‪:‬‬
‫‪ - 8‬يباح للصّائم أن يتطيّب عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن المعتكف‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يجوز التّطيّب للصّائم المعتكف ‪ ،‬ويكره للصّائم غير المعتكف ‪ .‬قال الدّردير ‪ :‬ل ّ‬
‫ن للصّائم ترك‬
‫معه مانع يمنعه ممّا يفسد اعتكافه ‪ ،‬وهو لزومه المسجد وبعده عن النّساء ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬يس ّ‬
‫شمّ الرّياحين ولمسها ‪ .‬والمراد أنواع الطّيب ‪ ،‬كالمسك والورد والنّرجس ‪ ،‬إذا استعمله نهارا لما فيها من‬
‫التّرفّه ‪ ،‬ويجوز له ذلك ليل ‪ ،‬ولو دامت رائحته في النّهار ‪ ،‬كما في المحرم ‪ .‬وأمّا الحنابلة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يكره‬
‫للصّائم شمّ ما ل يأمن أن يجذبه نفسه إلى حلقه كسحيق مسك ‪ ،‬وكافور ‪ ،‬ودهن ونحوها ‪ ،‬كبخور عود‬
‫وعنبر ‪.‬‬
‫تطيّب المعتكف ‪:‬‬
‫‪ - 9‬يجوز للمعتكف أن يتطيّب نهارا أو ليلً بأنواع الطّيب عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬إل في رواية عن المام‬
‫أحمد أنّه قال ‪ :‬إنّه ل يعجبني أن يتطيّب ‪.‬‬
‫وذلك لنّ العتكاف عبادة تختصّ مكانا ‪ ،‬فكان ترك الطّيب فيه مشروعا كالحجّ ‪.‬‬
‫جدٍ } ‪.‬‬
‫سِ‬‫ل َم ْ‬
‫ع ْندَ كُ ّ‬
‫خذُوا ِزيْ َن َت ُكمْ ِ‬
‫واستدلّ القائلون بجواز التّطيّب بقوله تعالى ‪ { :‬يَا بَني آ َدمَ ُ‬
‫التّطيّب في الحجّ ‪:‬‬
‫‪ - 10‬اتّفق الفقهاء على أنّ التّطيّب أثناء الحرام في البدن أو الثّوب محظور ‪ .‬أمّا التّطيّب للحرام قبل‬
‫الدّخول فيه فهو مسنون استعدادا للحرام عند الجمهور ‪ ،‬وكرهه مالك لما روي من كراهته عن عمر ‪،‬‬
‫وعثمان ‪ ،‬وابن عمر رضي ال عنهم ‪ ،‬وجماعة من التّابعين ‪.‬‬
‫ودليل س ّنيّة التّطيّب في البدن للحرام ما روت عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كنت أطيّب رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم لحرامه قبل أن يحرم ‪ ،‬ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » وعنها رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كأنّي‬
‫أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وهو محرم » ‪.‬‬
‫والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الحرام ‪ ،‬لصريح حديث عائشة الثّاني ‪ .‬وأمّا المالكيّة ‪:‬‬
‫فحظروا بقاء جرم الطّيب وإن ذهبت رائحته ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا التّطيّب في الثّوب للحرام ‪ :‬فمنعه الجمهور ‪ ،‬وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد‪ .‬فل يضرّ بقاء‬ ‫‪11‬‬

‫طيّبة في الثّوب اتّفاقا قياسا للثّوب على البدن ‪.‬‬


‫الرّائحة ال ّ‬
‫لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الحرام أو سقط عنه ‪ ،‬فل يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه‬
‫‪ ،‬بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه ‪ ،‬وهذا قول سعد بن أبي وقّاص ‪ ،‬وابن الزّبير ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬وأمّ حبيبة رضي‬
‫ال عنهم ‪ ،‬والثّوريّ وغيرهم ‪.‬‬
‫واحت جّ الشّافعيّة بحديثي عائشة رضي ال عنها ال سّابقين ‪ ،‬وهما صحيحان رواهما البخار يّ ومسلم ‪ ،‬وقالوا ‪:‬‬
‫إ نّ الطّيب معنى يراد للستدامة فلم يمنع الحرام من استدامته كالنّكاح وسواء فيما ذكر الطّيب الّذي يبقى له‬
‫جرم ب عد الحرام والّذي ل يب قى ‪ ،‬و سواء الرّ جل والمرأة الشّابّة والعجوز ‪ .‬وذ هب الحنفيّة ‪ -‬في ال صحّ ‪-‬‬
‫إلى عدم جواز التّطيّب للحرام في الثّوب ‪ ،‬ول يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّبا ‪ ،‬لنّه بذلك يكون مستعمل‬
‫للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ‪ ،‬وهو محظور على المحرم ‪ ،‬والفرق ‪ :‬أ نّ الطّيب في الثّوب منفصل ‪،‬‬
‫أمّا في البدن ف هو تا بع له ‪ ،‬و س ّنيّة التّطيّب تح صل بتطي يب البدن‪ ،‬فأغ نى عن تجويزه في الثّوب‪ .‬وذ هب‬
‫المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه إن تطيّب قبل الحرام يجب عليه إزالته عند الحرام ‪ ،‬سواء كان ذلك في بدنه أو ثوبه ‪،‬‬
‫فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الحرام شيء من جرم الطّيب ‪ -‬الّذي تطيّب به قبل الحرام ‪ -‬وجبت عليه‬
‫الفدية ‪ ،‬وأمّا إذا كان في الثّوب رائحته ‪ ،‬فل يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ول فدية ‪.‬‬
‫وأمّا اللّون ‪ :‬ففيه قولن عند المالكيّة ‪ ،‬وهذا كلّه في اليسير ‪ ،‬وأمّا الثر الكثير ففيه الفدية ‪ ،‬واستدلّ المالكيّة‬
‫بحديث يعلى بن أميّة رضي ال عنه قال ‪ « :‬أتى النّبيّ صلى ال عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة‬
‫فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة ‪ ،‬بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلث مرّات ‪ ،‬وأمّا الجبّة فانزعها ‪ ،‬ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع‬
‫في حجّك » ‪ .‬فاستدلّوا بهذا الحديث على حظر الطّيب على المحرم في البدن والثّوب ‪.‬‬
‫ويقول ابن قدامة ‪ :‬إن طيّب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه ‪ ،‬فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه ‪ ،‬فإن لبسه‬
‫افتدى ‪ ،‬ل نّ الحرام يم نع ابتداء الطّ يب ول بس المطيّب دون ال ستدامة ‪ .‬وكذلك إن ن قل الطّ يب من مو ضع‬
‫بدنه إلى موضع آخر افتدى ‪ ،‬لنّه تطيّب في إحرامه ‪ ،‬وكذا إن تعمّد مسّه أو نحّاه من موضعه ثمّ ردّه إليه ‪،‬‬
‫فأمّا إن عرق الطّيب أو ذاب بالشّمس ف سال من موض عه إلى موضع آخر ‪ ،‬فل ش يء عل يه ‪ ،‬لنّه ليس من‬
‫فعله ‪.‬‬
‫قالت عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬كنّا نخرج مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم إلى مكّة فنضمّد جباهنا بالمسك‬
‫المطيّب عند الحرام ‪ ،‬فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ‪ ،‬فيراها النّبيّ صلى ال عليه وسلم فل ينهانا » ‪.‬‬
‫‪ - 12‬وأمّا التّطيّب بعد الحرام ‪ ،‬فإنّه يحظر على المحرم استعماله في ثيابه وبدنه ‪ ،‬لحديث ابن عمر رضي‬
‫ال عنهما « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ول تلبسوا من الثّياب ما مسّه َورْس أو زعفران » ولما ورد‬
‫صتْه راحلته ل تمسّوه بطيب » ‪ ،‬وفي لفظ « ل‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « قال في شأن المحرم الّذي َو َق َ‬
‫أّ‬
‫تحنّطوه » ووجهه ‪ :‬أنّه لمّا منع الميّت من الطّيب لحرامه ‪ ،‬فالحيّ أولى ‪ .‬ومتى تطيّب وجبت عليه الفدية ‪،‬‬
‫لنّه استعمل ما حرّمه الحرام ولو للتّداوي ‪ ،‬ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬المحرم ‪ :‬الشعث الغبر » ‪.‬‬
‫ي تطيّب ممّا هو محظور ‪،‬‬
‫والطّيب ينافي الشّعث ‪ .‬ويجب الفداء عند المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫دون تقييد بأن يطيّب عضوا كاملً أو مقدارا من الثّوب معيّنا ‪.‬‬
‫وإنّما وجبت الفدية قياسا على الحلق ‪ ،‬لنّه منصوص عليه في القرآن في قوله تعالى ‪:‬‬
‫صيَامٍ أو‬
‫ن رَأْسِه فَ ِف ْديَةٌ ِمنْ ِ‬
‫ن ِم ْن ُكمْ َمرِيضَا أَو بِه َأ َذىً مِ ْ‬
‫حتّى َيبْلُغَ الهَديُ َمحِلّه ‪َ ،‬فمَنْ كَا َ‬
‫سكُمْ َ‬
‫{ وَل َتحْلِقُوا رُءو َ‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال له‬
‫ك } ‪ .‬ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي ال عنه « أ ّ‬
‫صَ َدقَ ٍة أَو ُنسُ ٍ‬
‫‪ ،‬حين رأى هوامّ رأسه ‪ :‬أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال ‪ :‬قلت ‪ :‬نعم قال ‪ :‬فاحلق ‪ ،‬وصم ثلثة أيّام ‪ ،‬أو أطعم‬
‫ستّة مساكين ‪ ،‬أو انسك نسيكة » ‪.‬‬
‫وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬تجب شاة إن طيّب المحرم عضوا كامل ‪ ،‬مثل الرّأس واليد‬
‫والسّاق ‪ ،‬أو ما بلغ عضوا كامل لو جمع ‪ .‬والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد المجلس ‪ ،‬وإن تفرّق المجلس‬
‫فلكلّ طيب كفّارة إن شمل عضوا واحدا أو أكثر ‪ ،‬سواء كفّر للوّل أم ل ‪ ،‬وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف‬
‫‪ .‬وقال محمّد ‪ :‬عليه كفّارة واحدة ‪ ،‬ولو فدى ولم يزل الطّيب لزمه فدية أخرى‪ ،‬لنّ ابتداءه كان محظورا ‪،‬‬
‫فيكون لبقائه حكم ابتدائه‪ .‬ووجه وجوب الشّاة ‪ :‬أنّ الجناية تتكامل بتكامل الرتفاق ‪ ،‬وذلك في العضو الكامل‬
‫فيترتّب كمال الموجب ‪ .‬وإن طيّب أقلّ من عضو ‪ :‬فعليه أن يتصدّق بنصف صاع من برّ ‪ ،‬لقصور الجناية‬
‫إل أن يكون الطّيب كثيرا ‪ ،‬فعليه دم ‪ .‬وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪.‬‬
‫وقال محمّد ‪ :‬يُ َقوّم ما يجب فيه الدّم فيتصدّق بذلك القدر ‪ ،‬حتّى لو طيّب ربع عضو فعليه من الصّدقة قدر‬
‫ن تطييب عضو كامل ارتفاق كامل ‪ ،‬فكان جناية كاملة ‪ ،‬فيوجب كفّارة كاملة ‪،‬‬
‫ربع شاة ‪ ،‬وهكذا ‪ ،‬ل ّ‬
‫وتطييب ما دون العضو الكامل ارتفاق قاصر ‪ ،‬فيوجب كفّارة قاصرة ‪ ،‬إذ الحكم يثبت على قدر السّبب ‪ ،‬إلّا‬
‫أن يكون الطّيب كثيرا فعليه دم ‪ ،‬ولم يشترط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ‪ ،‬بل يجب بمجرّد‬
‫التّطيّب ‪.‬‬
‫وأمّا تطييب الثّوب فتجب فيه الفدية عند الحنفيّة بشرطين ‪:‬‬
‫أوّلهما ‪ :‬أن يكون كثيرا ‪ ،‬وهو ما يصلح أن يغطّي مساحة تزيد على شبر في شبر ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يستمرّ نهارا ‪ ،‬أو ليلة ‪ .‬فإن اختلّ أحد هذين الشّرطين وجبت الصّدقة ‪ ،‬وإن اختلّ الشّرطان‬
‫وجب التّصدّق بقبضة من قمح ‪.‬‬
‫والصل في حظر تطييب الثّوب ولبسه بعد الحرام قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل تلبسوا شيئا من الثّياب‬
‫مسّه الزّعفران ول الورس » ‪.‬‬
‫والمحرم ‪ -‬ذكرا كان أو غيره ‪ -‬ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره أو ردائه وجميع ثيابه ‪ ،‬وفراشه ونعله‬
‫‪ ،‬حتّى لو علق بنعله طيب وجب عليه أن يبادر لنزعه ‪ ،‬ول يضع عليه ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران أو‬
‫نحوهما من صبغ له طيب ‪.‬‬
‫واستعمال الطّيب هو ‪ :‬أن يلصق الطّيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطّيب ‪ ،‬ممّا يقصد منه‬
‫ريحه غالبا ولو مع غيره ‪ ،‬كمسك أو عود ‪ ،‬وكافور ‪ ،‬وورس ‪ ،‬وزعفران ‪ ،‬وريحان ‪ ،‬وورد ‪ ،‬وياسمين ‪،‬‬
‫ونرجس ‪ ،‬وآس ‪ ،‬وسوسن ‪ ،‬ومنثور ‪ ،‬ونمّام ‪ ،‬وغير ما ذكر ‪ ،‬ممّا يتطيّب به ‪ ،‬ويتّخذ منه الطّيب ‪ ،‬أو‬
‫يظهر فيه هذا الغرض ‪.‬‬
‫‪ - 13‬ويكره للمحرم ش ّم الطّيب ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وقال المالكيّة ‪ :‬يكره شمّ الطّيب مذكّره‬
‫ومؤنّثه دون مسّ ‪ .‬وأمّا الحنابلة ‪ :‬فقالوا ‪ :‬يحرم تعمّد شمّ الطّيب كالمسك والكافور ونحوهما ‪ ،‬ممّا يتطيّب‬
‫ن الفدية تجب فيما يتّخذ منه ‪ ،‬فكذلك‬
‫بشمّه كالورد والياسمين ‪ .‬فإن فعل المحرم ذلك وجب الفداء عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫في أصله ‪ ،‬وعن المام أحمد رواية أخرى في الورد ‪ :‬ل فدية عليه في شمّه ‪ ،‬لنّه زهر شمّه على جهته ‪،‬‬
‫أشبه زهر سائر الشّجر ‪ ،‬والولى تحريمه ‪ ،‬لنّه ينبت للطّيب ويتّخذ منه ‪ ،‬أشبه الزّعفران ‪ ،‬والعنبر ‪.‬‬
‫ما يباح من الطّيب وما ل يباح بالنّسبة للمحرم ‪:‬‬
‫‪ - 14‬قال ابن قدامة ‪ :‬النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلثة أضرب ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬ما ل ينبت للطّيب ول يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم ‪ ،‬والخزامى ‪ ،‬والفواكه كلّها ‪،‬‬
‫من الترجّ ‪ ،‬والتّفّاح والسّفرجل ‪ ،‬وغيره ‪ ،‬وما ينبته الدميّون لغير قصد الطّيب ‪ ،‬كالحنّاء ‪ ،‬والعصفر ‪،‬‬
‫وهذان يباح شمّهما ول فدية فيهما بل خلف ‪ ،‬غير أنّه روي عن ابن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬أنّه كان يكره‬
‫ن أزواج رسول اللّه‬
‫للمحرم أن يشمّ شيئا من نبات الرض ‪ ،‬من الشّيح والقيصوم وغيرهما ‪ ،‬وقد « روي أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم كنّ يحرمن في المعصفرات » ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ما ينبته الدميّون للطّيب ول يتّخذ منه طيب ‪ ،‬كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس ‪ ،‬والبرم ‪ ،‬وفيه وجهان‬
‫‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬يباح بغير فدية ‪ ،‬قاله عثمان بن عفّان ‪ ،‬وابن عبّاس رضي ال عنهم ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫وإسحاق ‪ .‬والخر ‪ :‬يحرم شمّه ‪ ،‬فإن فعل فعليه الفدية ‪ ،‬وهو قول جابر ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬والشّافعيّ وأبي‬
‫ثور ‪ ،‬لنّه يتّخذ للطّيب ‪ ،‬فأشبه الورد ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬ما ينبت للطّيب ‪ ،‬ويتّخذ منه طيب ‪ ،‬كالورد ‪ ،‬والبنفسج ‪ ،‬والخيريّ وهذا إذا استعمله المحرم وشمّه‬
‫ن الفدية تجب فيما يتّخذ منه ‪ ،‬فكذلك في أصله ‪.‬‬
‫ففيه الفدية ‪ ،‬ل ّ‬
‫س المحرم من الطّيب ما يعلق ببدنه ‪ ،‬كالغالية وماء الورد ‪ ،‬والمسك المسحوق الّذي يعلق بأصابعه ‪،‬‬
‫وإن م ّ‬
‫فعليه الفدية ‪ ،‬لنّه مستعمل للطّيب ‪ .‬وإن مسّ ما ل يعلق بيده ‪ ،‬كالمسك غير المسحوق ‪ ،‬وقطع الكافور ‪،‬‬
‫والعنبر ‪ ،‬فل فدية ‪ ،‬لنّه غير مستعمل للطّيب ‪.‬‬
‫فإن شمّه فعليه الفدية لنّه يستعمل هكذا ‪ ،‬وإن شمّ العود ‪ -‬أي خشب العود ‪ -‬فل فدية عليه ‪ ،‬لنّه ل يتطيّب‬
‫به‬
‫تطيّب المحرم ناسيا أو جاهلً ‪:‬‬
‫‪ - 15‬إن تطيّب المحرم ناسيا فل فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬في المشهور عندهم ‪ ،‬وهو مذهب عطاء‬
‫‪ ،‬والثّوريّ ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وابن المنذر ‪ ،‬لعموم قوله صلى ال عليه وسلم « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ‬
‫والنّسيان وما استكرهوا عليه » ‪.‬‬
‫وإن أخّر ذلك عن زمن المكان فعليه الفدية عند الحنابلة ‪ ،‬واستدلّ القائلون بعدم وجوب الفدية على النّاسي‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وهو بالجعرانة ‪ ،‬وعليه‬
‫ن رجل أتى النّب ّ‬
‫أيضا ‪ :‬بخبر يعلى بن أميّة رضي ال عنه « أ ّ‬
‫جبّة ‪ ،‬وعليه أثر خلوق ‪ ،‬أو قال ‪ :‬أثر صفرة ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟‬
‫قال ‪ :‬اخلع عنك الجبّة ‪ ،‬واغسل أثر الخلوق عنك ‪ .‬أو قال ‪ :‬الصّفرة ‪ ،‬واصنع في عمرتك كما تصنع في‬
‫حجّك » فدلّ ذلك على أنّه عذره لجهله ‪ ،‬والنّاسي في معناه ‪ ،‬وله غسل الطّيب بيده بل حائل ‪ ،‬لعموم أمره‬
‫صلى ال عليه وسلم بغسله ‪ .‬وأمّا الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو الرّواية الثّانية عن أحمد فقالوا ‪ :‬يجب دم على‬
‫المحرم البالغ ولو ناسيا إن طيّب عضوا كاملً ‪ ،‬أو ما يبلغ عضوا لو جمع ‪.‬‬
‫تطيّب المبتوتة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬يحرم على المطلّقة ثلثا التّطيّب لوجوب الحداد عليها ‪ ،‬لنّها معتدّة بائن من نكاح صحيح ‪ ،‬وهي‬
‫ن التّطيّب‬
‫كالمتوفّى عنها زوجها ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة‪ .‬أمّا المالكيّة فقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ل يحرم إل على المتوفّى عنها زوجها ‪ ،‬ومن في حكمها وهي ‪ :‬زوجة المفقود المحكوم بفقده ‪ .‬لقوله تعالى ‪:‬‬
‫شرَا }‬
‫عْ‬‫شهُرٍ وَ َ‬
‫ن َأرْ َبعَ َة َأ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫{ وَاّلذِينَ ُيتَ َوفّونَ ِم ْن ُكمْ َو َيذَرُونَ َأزْوَاجَا َيتَ َرّبصْنَ ِبَأنْ ُف ِ‬
‫ن الحداد ل يجب على المطلّقة ثلثا ‪ ،‬لنّ النّبيّ‬
‫والقول الخر للشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل يحرم التّطيّب ‪ ،‬ل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل يحلّ لمرأة تؤمن باللّه واليوم الخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلث ‪ ،‬إل على‬
‫ل على أنّ الحداد يجب فيها فقط ‪ .‬والمطلّقة بائنا معتدّة عن‬
‫زوج أربعة أشهر وعشرا » وهذه عدّة الوفاة ‪ ،‬فد ّ‬
‫غير وفاة ‪ ،‬فلم يجب عليها الحداد كالرّجعيّة ‪ ،‬ولنّ المطلّقة بائنا فارقها زوجها باختيار نفسه وقطع نكاحها ‪،‬‬
‫فل معنى لتكليفها الحزن عليه ‪ ،‬فيجوز لها أن تتطيّب ‪.‬‬
‫وزاد الحنفيّة المطلّقة طلقة واحدة بائنة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يلزمها ترك التّطيّب ‪ ،‬لنّه يلزمها الحداد ‪ ،‬ولو أمرها‬
‫المطلّق بتركه ‪ ،‬لنّه حقّ الشّرع ‪.‬‬

‫تطيّر *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّطيّر في اللّغة ‪ :‬التّشاؤم ‪ .‬يقال ‪ :‬تطيّر بالشّيء ‪ ،‬ومن الشّيء ‪ :‬تشاءم به ‪.‬‬
‫طيَرة ‪ .‬جاء في فتح الباري ‪ :‬التّطيّر ‪ ،‬والتّشاؤم شيء واحد ‪.‬‬
‫والسم ال ِ‬
‫والمعنى الصطلحيّ ل يختلف عن اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الفأل ‪:‬‬
‫‪ - 2‬ال َفأْل ضدّ الطّيرة ‪ ،‬يقال ‪ :‬تفاءل الرّجل ‪ :‬إذا تيمّن بسماع كلمة طيّبة ‪.‬‬
‫ن الفأل يستعمل فيما يستحبّ ‪ ،‬والتّطيّر فيما يكره غالبا ‪.‬‬
‫والفرق بينه وبين الطّيرة ‪ :‬أ ّ‬
‫ب ‪ -‬الكهانة ‪:‬‬
‫‪ -‬الكهانة ‪ :‬ادّعاء علم الغيب ‪ ،‬والخبار بما سيحدث في المستقبل مع السناد إلى سبب ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫أصل التّطيّر ‪:‬‬


‫ش طائر ‪ ،‬فيهيّجه ‪ ،‬فإذا‬
‫ن العرب كانوا في الجاهليّة إذا خرج أحدهم لمر قصد إلى ع ّ‬
‫‪ - 4‬أصل التّطيّر ‪ :‬أ ّ‬
‫طار الطّير يمنة تيمّن به ‪ ،‬ومضى في المر ‪ ،‬ويسمّونه " السّانح " ‪.‬‬
‫أمّا إذا طار يسرة تشاءم به ‪ ،‬ورجع عمّا عزم عليه ‪ ،‬وكانوا يسمّونه " البارح " ‪ .‬فأبطل السلم ذلك ونهى‬
‫عنه ‪ ،‬وأرجع المر إلى سنن اللّه الثّابتة ‪ ،‬وإلى قدره المحيط ‪ ،‬ومشيئته المطلقة ‪ ،‬جاء في الثر الصّحيح ‪« :‬‬
‫من ردّته الطّيرة من حاجة فقد أشرك » ونحوه كثير ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن الّذي شاهده من حال الطّير موجب لما ظنّه ‪ ،‬مؤثّر فيه ‪ ،‬فقد كفر ‪ .‬لما في ذلك من‬
‫‪ - 5‬إن اعتقد المكلّف أ ّ‬
‫التّشريك في تدبير المور ‪.‬‬
‫ن اللّه سبحانه وتعالى هو المتصرّف والمدبّر وحده ‪ ،‬ولكنّه في نفسه يجد شيئا من الخوف من‬
‫أمّا إذا علم أ ّ‬
‫ن صوتا من أصوات الطّير ‪ ،‬أو حالً من حالته يرادفه مكروه ‪ ،‬فإن‬
‫الشّرّ ‪ ،‬لنّ التّجارب عنده قضت أ ّ‬
‫شرّ ‪ ،‬وسأله الخير ومضى متوكّل على اللّه ‪ ،‬فل‬
‫وطّن نفسه على ذلك فقد أساء ‪ ،‬وإن استعاذ باللّه من ال ّ‬
‫يضرّه ما وجد في نفسه من ذلك ‪ ،‬وإل فيؤاخذ ‪ .‬لحديث « معاوية بن حكيم ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪:‬‬
‫منّا رجال يتطيّرون ‪ .‬قال ‪ :‬ذلك شيء يجدونه في صدورهم فل يص ّدنّهم » ‪.‬‬
‫شرّ ‪ ،‬لما في ذلك من‬
‫هذا وقد اتّفق أهل التّوحيد على تحريم التّطيّر ‪ ،‬ونفي تأثيره في حدوث الخير أو ال ّ‬
‫الشراك باللّه في تدبير المور ‪ .‬والنّصوص في النّهي عن ذلك كثيرة ‪ ،‬منها ‪ :‬حديث ‪ « :‬ل عدوى ‪ ،‬ول‬
‫طيرة ول هامّة ‪ ،‬ول صفر » ‪.‬‬
‫أمّا الفأل الحسن فهو جائز ‪ ،‬وجاء في الثر ‪ « :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يتفاءل ول يتطيّر ‪ ،‬وكان‬
‫يحبّ أن يسمع يا راشد يا رجيح » ‪.‬‬
‫وروي عنه ‪ « :‬ل عدوى ول طيرة ‪ ،‬ويعجبني الفأل الصّالح ‪ :‬الكلمة الحسنة » ‪.‬‬
‫ل سبب ضعيف أو قويّ ‪ ،‬بخلف الطّيرة ‪ ،‬فهي سوء ظنّ باللّه‬
‫والفأل أمل ورجاء للخير من اللّه تعالى عند ك ّ‬
‫ن عبدي بي ‪،‬‬
‫‪ ،‬والمؤمن مأمور بحسن الظّنّ باللّه ‪ ،‬لخبر قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ ‪ « :‬أنا عند ظ ّ‬
‫ن شرّا فله » ‪.‬‬
‫إن ظنّ بي خيرا فله ‪ ،‬وإن ظ ّ‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( شؤم ) ‪.‬‬

‫تعارض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعارض في اللّغة ‪ :‬التّقابل ‪ .‬أصله من العرض وهو المنع ‪ .‬يقال ‪ :‬ل تعترض له ‪ ،‬أي ‪ :‬ل تمنعه‬
‫باعتراضك أن يبلغ مراده ‪ .‬ومنه ‪ :‬العتراضات عند الصوليّين والفقهاء الواردة على القياس وغيره من‬
‫ن كلّ واحدة تعترض الخرى‬
‫الدلّة ‪ ،‬سمّيت بذلك لنّها تمنع من التّمسّك بالدّليل ومنه ‪ :‬تعارض البيّنات ‪ ،‬ل ّ‬
‫وتمنع نفوذها ‪.‬‬
‫ومنه ‪ :‬تعارض الدلّة عند الصوليّين ‪ ،‬وموطنه في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫والتّعارض اصطلحا ‪ :‬التّمانع بين الدّليلين مطلقا ‪ ،‬بحيث يقتضي أحدهما غير ما يقتضي الخر ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّناقض ‪:‬‬
‫ن كلّ واحد منهما ينقض الخر ويدفعه‬
‫‪ - 2‬التّناقض ‪ :‬هو التّدافع يقال ‪ :‬تناقض الكلمان ‪ ،‬أي ‪ :‬تدافعا ‪ ،‬كأ ّ‬
‫‪ ،‬والمتناقضان ل يجتمعان أبدا ول يرتفعان ‪.‬‬
‫أمّا المتعارضان فقد يمكن ارتفاعهما ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّنازع ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّنازع الختلف ‪ .‬يقال ‪ :‬تنازع القوم ‪ ،‬أي ‪ :‬اختلفوا ومنه قوله تعالى ‪ { :‬وَل َتنَازَعُوا َفتَ ْفشَلُوا َو َتذْهَبَ‬
‫رِي ُحكُمْ } ‪ .‬فالتّنازع أعمّ ‪ ،‬لنّه يشمل الختلف في الرّأي وغيره ‪ .‬حكم التّعارض ‪:‬‬
‫‪ - 4‬إذا تعارضت البيّنتان ‪ ،‬وأمكن الجمع بينهما جمع ‪ ،‬وإذا لم يمكن الجمع يصار إلى التّرجيح ‪ .‬والتّرجيح‬
‫‪ :‬تقديم دليل على دليل آخر يعارضه ‪ ،‬لقتران الوّل بما يقوّيه والتّعارض والتّرجيح يرد عند الصوليّين‬
‫والفقهاء ‪.‬‬
‫فأمّا ما يتعلّق بالصول فينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫وأمّا استعماله عند الفقهاء فمعظمه في شأن البيّنات ‪ ،‬وفيما يلي تفصيل ذلك ‪:‬‬
‫وجوه التّرجيح في تعارض البيّنات ‪:‬‬
‫ل مذهب من المذاهب الفقهيّة وجوه للتّرجيح ‪.‬‬
‫‪ - 5‬في ك ّ‬
‫ذكر الحنفيّة ‪ -‬في باب دعوى الرّجلين ‪ -‬وجوها لترجيح إحدى البيّنتين على الخرى إذا تعارضتا وتساوتا‬
‫في القوّة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن كانت العين في يد المدّعى عليه تقدّم بيّنة الخارج على بيّنة ذي اليد في دعوى الملك‬
‫المطلق ‪ -‬الّذي لم يذكر سببه ‪ -‬إن وقّت أحدهما فقط‬
‫‪ -‬أي ذكر تاريخا ‪ -‬وقال أبو يوسف ‪ :‬من وقّت أحقّ بالعين ‪ ،‬فإن أرّخا واتّحد المملّك ‪ ،‬فالسبق تاريخا‬
‫أحقّ بالعين لقوّة بيّنته ‪ ،‬ولو اختلف المملّك استويا ‪.‬‬
‫ل بيّنة ‪ ،‬وتساوتا ‪ ،‬قضي لهما بها مناصفة ‪ ،‬وذلك عند أبي‬
‫وإن كانت العين في يد ثالث ‪ ،‬وأقام خارجان ك ّ‬
‫حنيفة وصاحبيه ‪.‬‬
‫وإن كان النّزاع على نكاح امرأة ‪ ،‬فأمّا أن تكون المرأة حيّة أو ميّتة ‪ ،‬فإن كانت حيّة سقطت البيّنتان لعدم‬
‫إمكان الجمع بينهما ‪.‬‬
‫وإن كانت ميّتة ورثاها ميراث زوج واحد ‪ ،‬ولو ولدت يثبت نسب الولد منهما ‪.‬‬
‫وإن كانت العين في أيديهما معا ‪ ،‬واستويا في الحجّة والتّاريخ ‪ ،‬فالعين بينهما ‪.‬‬
‫فإن اختلفا في التّاريخ فهي للسّابق ‪ .‬ول عبرة عندهم بكثرة الشّهود ول بزيادة العدالة ‪ -‬وعند الحنفيّة‬
‫تفصيلت أخرى تنظر في كتبهم ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة التّرجيح يحصل بوجوه ‪:‬‬
‫‪ - 6‬الوّل ‪ :‬بزيادة العدالة في المشهور ‪ .‬وروي عن مالك أنّه ل يرجّح بها ‪ ،‬وذلك موافق لما قاله الحنفيّة ‪.‬‬
‫وعلى القول بالتّرجيح بزيادة العدالة فل بدّ أن يحلف من زادت عدالته ‪ ،‬وفي الموّازيّة ‪ :‬ل يحلف ‪ ،‬ول‬
‫يرجّح بكثرة العدد على المشهور كما هو رأي الحنفيّة ‪ .‬وروي عن مطرّف وابن الماجشون أنّه يرجّح بكثرة‬
‫العدد عند تكافؤ البيّنتين في العدالة ‪ ،‬إل أن يكثروا كثرة يكتفى بها فيما يراد من الستظهار ‪ ،‬والخرون‬
‫كثيرون جدّا ‪ ،‬فل تراعى الكثرة حينئذ ‪ ،‬وإنّما يقع التّرجيح بمزيّة العدالة دون مزيّة العدد ‪ .‬قال ابن عبد‬
‫السّلم ‪ :‬من رجّح بزيادة العدد لم يقل به كيفما اتّفق ‪ ،‬وإنّما اعتبره مع قيد العدالة ‪.‬‬
‫‪ - 7‬الثّاني ‪ :‬يكون التّرجيح أيضا بقوّة الحجّة فيقدّم الشّاهدان على الشّاهد واليمين ‪ .‬وعلى الشّاهد والمرأتين ‪،‬‬
‫وذلك إذا استووا في العدالة ‪ ،‬قال ذلك أشهب ‪ .‬وقال ابن القاسم ‪ :‬ل يقدّمان ثمّ رجع لقول أشهب ‪ .‬قال ابن‬
‫ل واحد منهما حكم به مع اليمين ‪ ،‬وقدّم على الشّاهدين ‪ .‬وقال ابن‬
‫القاسم ‪ :‬ولو كان الشّاهد أعدل من ك ّ‬
‫ن بعض أهل المذهب ل يرى اليمين‬
‫الماجشون ومطرّف ‪ :‬ل يقدّم ولو كان أعدل أهل زمانه ‪ ،‬وهو أقيس ‪ ،‬ل ّ‬
‫مع الشّاهد ‪.‬‬
‫‪ - 8‬الثّالث ‪ :‬اشتمال إحدى البيّنتين على زيادة تاريخ متقدّم أو سبب ملك ‪ ،‬وهذا يتّفق مع قول الحنفيّة بالخذ‬
‫بتاريخ السّابق ‪.‬‬
‫ي أنّه ل يحكم بأعدل البيّنتين عند من رأى ذلك إلّا في الموال خاصّة ‪.‬‬
‫وذكر القراف ّ‬
‫ن الملك أقوى من الحوز ‪ .‬وتقدّم‬
‫وقالوا ‪ :‬تقدّم بيّنة الملك على بيّنة الحوز ‪ ،‬وإن كان تاريخ الحوز متقدّما ‪ ،‬ل ّ‬
‫البيّنة النّاقلة على البيّنة المستصحبة ‪.‬‬
‫ومثالها ‪ :‬أن تشهد بيّنة أنّ هذه الدّار لزيد بناها منذ مدّة ‪ ،‬ول نعلم أنّها خرجت من ملكه إلى الن ‪ .‬وتشهد‬
‫ن هذا اشتراها منه بعد ذلك ‪ ،‬فالبيّنة النّاقلة علمت ‪ ،‬والمستصحبة لم تعلم ‪ ،‬فل تعارض بين‬
‫البيّنة الخرى ‪ :‬أ ّ‬
‫الشّهادتين ‪.‬‬
‫وإذا لم يمكن التّرجيح بين البيّنتين سقطتا ‪ ،‬وبقي المتنازع عليه بيد حائزه مع يمينه ‪.‬‬
‫فإن كان بيد غيرهما ‪ ،‬فقيل ‪ :‬يبقى بيده ‪ .‬وقيل ‪ :‬يقسم بين مقيمي البيّنتين ‪ ،‬لتّفاق البيّنتين على سقوط ملك‬
‫الحائز ‪ .‬وإقرار من هو بيده لحدهما ينزّل منزلة اليد للمقرّ له ‪.‬‬
‫ل بيّنة ‪ ،‬وتساوتا قدّمت بيّنة‬
‫‪ - 9‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه لو تنازع اثنان عينا ‪ ،‬وكانت بيد أحدهما ‪ ،‬وأقام ك ّ‬
‫صاحب اليد ‪ .‬ول تسمع بيّنته إل بعد بيّنة المدّعي ‪.‬‬
‫وإن كانت العين في يد ثالث ‪ ،‬وأقام ك ّل منهما بيّنة سقطت البيّنتان ‪ ،‬ويصار إلى التّحليف ‪ ،‬فيحلف صاحب‬
‫اليد لكلّ منهما يمينا ‪ .‬وقيل ‪ :‬تستعمل البيّنتان وتنزع العين ممّن هي في يده ‪ ،‬وتقسم بينهما مناصفة في‬
‫قول ‪ ،‬وفي قول آخر ‪ :‬يقرع بينهما فيأخذها من خرجت قرعته ‪ ،‬وفي قول ‪ :‬يوقف المر حتّى يتبيّن أو‬
‫يصطلحا ‪ .‬وسكت في الرّوضة عن ترجيح واحد من القوال الثّلثة ‪ .‬وقال القليوبيّ ‪ :‬قضيّة كلم جمهور‬
‫الشّافعيّة ترجيح الثّالث ‪ ،‬لنّه أعدل ‪ .‬وإن كانت في أيديهما ‪ ،‬وأقاما بيّنتين ‪ ،‬بقيت في أيديهما ‪ ،‬كما كانت‬
‫على قول السّقوط ‪ .‬وقيل ‪ :‬تقسم بينهما على قول القسمة ‪ ،‬ول يجيء الوقف ‪ ،‬وفي القرعة قولن ‪.‬‬
‫ولو أزيلت يده ببيّنة ‪ ،‬ث ّم أقام بيّنة بملكه مستندا إلى ما قبل إزالة يده ‪ ،‬واعتذر بغيبة شهوده ‪ ،‬سمعت‬
‫وقدّمت ‪ ،‬لنّها إنّما أزيلت لعدم الحجّة ‪ ،‬وقد ظهرت ‪ ،‬فينقض القضاء ‪ .‬وقيل ‪ :‬ل ‪ ،‬والقضاء على حاله ‪.‬‬
‫ولو قال الخارج ‪ :‬هو ملكي اشتريته منك ‪ .‬فقال ‪ :‬بل ملكي ‪ .‬وأقاما بيّنتين بما قاله تقدّم بيّنة الخارج ‪،‬‬
‫لزيادة علم بيّنته بالنتقال ‪.‬‬
‫ن زيادة عدد شهود أحدهما ل ترجّح ‪ ،‬لكمال الحجّة في الطّرفين ‪ ،‬كما قال الحنفيّة ‪ .‬وفي قول من‬
‫والمذهب أ ّ‬
‫ن القلب إلى الزّائد أميل ‪ .‬وكذا لو كان لحدهما رجلن ‪ ،‬للخر رجل وامرأتان ‪ ،‬ل يرجّح‬
‫طريق ترجّح ‪ ،‬ل ّ‬
‫الرّجلن ‪ .‬وفي قول من طريق يرجّحان ‪ ،‬لزيادة الوثوق بقولهما ‪ .‬فإن كان للخر شاهد ويمين يرجّح‬
‫الشّاهدان في الظهر ‪ ،‬لنّهما حجّة بالجماع ‪ .‬وفي الشّاهد واليمين خلف ‪ .‬والقول الثّاني ‪ :‬يتعادلن ‪ ،‬لنّ‬
‫كلّا منهما حجّة كافية ‪ .‬ولو شهدت بيّنة لحدهما بملك من سنة ‪ ،‬وبيّنة للخر بملك من أكثر من سنة إلى الن‬
‫كسنتين ‪ ،‬والعين في يد غيرهما‪ ،‬فالظهر ترجيح الكثر ‪ ،‬لنّ الخرى ل تعارضها فيه‪ .‬والرّأي الثّاني عند‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ل ترجيح به ‪ ،‬لنّ مناط الشّهادة الملك في الحال ‪ ،‬وقد استويا فيه ‪ ،‬ولصاحب بيّنة الكثر ‪-‬‬
‫على القول بترجيحها ‪ -‬الجرة ‪ ،‬والزّيادة الحادثة من يوم الحكم ‪ .‬وعلى القول الثّاني ‪ :‬تقسم بينهما ‪ ،‬أو‬
‫يقرع ‪ ،‬أو يوقف حتّى يبيّن أو يصطلحا حسب القوال الثّلثة ‪ .‬ولو أطلقت بيّنة ‪ ،‬وأرّخت بيّنة ‪ ،‬فالمذهب‬
‫أنّهما سواء ‪ ،‬وهو المعتمد ‪ ،‬سواء كان المدّعى به بيدهما أو بيد غيرهما ‪ ،‬أو ل بيد واحد منهما ‪ .‬وقيل ‪-‬‬
‫كما في أصل الرّوضة ‪ -‬تقدّم البيّنة المؤرّخة ‪ ،‬لنّها تقتضي الملك قبل الحال ‪ ،‬بخلف المطلقة ‪ .‬ولو شهدت‬
‫بيّنة أحدهما بالحقّ ‪ ،‬وبيّنة الخر بالبراء قدّمت بيّنة البراء ‪.‬‬
‫ل الستواء في هذه المسألة ‪ -‬على ما ذكره القليوبيّ ‪ -‬ما لم يوجد مرجّح ‪ .‬فإن وجد المرجّح ككونه‬
‫هذا ومح ّ‬
‫بيد أحدهما ‪ ،‬أو كانت بيّنته غير شاهد ويمين ‪ ،‬أو أسندت بيّنته لسبب ‪ :‬كأن شهدت بأنّه نتج في ملكه ‪ ،‬أو‬
‫ثمر فيه ‪ ،‬أو حمل فيه ‪ ،‬أو ورثه من أبيه فتقدّم بيّنته ‪.‬‬
‫ن من ادّعى شيئا بيد غيره فأنكره ‪ ،‬ولكلّ واحد منهما بيّنة ‪ ،‬فقد اختلفت الرّواية عن‬
‫‪ - 10‬وعند الحنابلة ‪ :‬أ ّ‬
‫أحمد فيما إذا تعارضتا ‪ :‬فالمشهور عنه تقديم بيّنة المدّعي ‪ ،‬ول يلتفت إلى بيّنة المدّعى عليه بحال ‪ ،‬وهذا‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬البيّنة على المدّعي ‪ ،‬واليمين على المدّعى عليه »‬
‫ن النّب ّ‬
‫قول إسحاق ‪ ،‬ل ّ‬
‫فأمرنا بسماع بيّنة المدّعي ويمين المدّعى عليه ‪ ،‬وسواء شهدت بيّنة المدّعى عليه أنّها له ‪ ،‬أو قالت ‪ :‬ولدت‬
‫في ملكه عليه ‪ .‬وعن أحمد رواية ثانية ‪ :‬إن شهدت بيّنة الدّاخل ‪ -‬أي صاحب اليد وهو المدّعى عليه ‪-‬‬
‫ن الدّابّة المتنازع عليها نتجت في ملكه أو اشتراها ‪ ،‬أو كانت بيّنته أقدم تاريخا‬
‫بسبب الملك ‪ ،‬وقالت مثلً ‪ :‬إ ّ‬
‫قدّمت بيّنته ‪ ،‬وإل قدّمت بيّنة المدّعي ‪ ،‬لنّ ( بيّنة الدّاخل ) أفادت بذكر السّبب ما ل تفيده اليد ‪ .‬واستدلّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم اختصم‬
‫ن النّب ّ‬
‫لتقديم بيّنة الدّاخل ‪ :‬بما روى جابر بن عبد اللّه رضي ال عنهما ‪ « :‬أ ّ‬
‫إليه رجلن في دابّة أو بعير ‪ ،‬فأقام كلّ واحد منهما البيّنة بأنّها له نتجها ‪ ،‬فقضى بها رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم للّذي هي في يده » ‪ .‬وذكر أبو الخطّاب رواية ثالثة ‪ :‬أنّ بيّنة المدّعى عليه تقدّم بكلّ حال ‪ ،‬وهو‬
‫قول شريح وأهل الشّام والشّعبيّ والحكم وأبي عبيد ‪ .‬وقال ‪ :‬هو قول أهل المدينة ‪ ،‬وروي عن طاوس ‪.‬‬
‫وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد ‪ ،‬وقال ‪ :‬ل تقبل بيّنة الدّاخل إذا لم تفد إل ما أفادته يده ‪ ،‬رواية‬
‫ن جهة المدّعى عليه أقوى ‪ ،‬لنّ الصل معه ‪ ،‬ويمينه تقدّم على‬
‫ج من ذهب إلى هذا القول بأ ّ‬
‫واحدة ‪ .‬واحت ّ‬
‫يمين المدّعي ‪.‬‬
‫فإذا تعارضت البيّنتان ‪ :‬وجب إبقاء يده على ما فيها ‪ ،‬وتقديمه ‪ ،‬كما لو لم تكن بيّنة لواحد منهما ‪ .‬وحديث‬
‫ل على هذا ‪ ،‬فإنّه إنّما قدّمت بيّنته ليده ‪.‬‬
‫جابر يد ّ‬
‫‪ - 11‬واستدلّ لتقديم بيّنة المدّعي بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬البيّنة على المدّعي ‪ ،‬واليمين على‬
‫ن بيّنة المدّعي‬
‫المدّعى عليه » فجعل جنس البيّنة في جهة المدّعي ‪ ،‬فل يبقى في جهة المدّعى عليه بيّنة ‪ .‬ول ّ‬
‫أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بيّنة الجرح على بيّنة التّعديل ‪ .‬ودليل كثرة فائدتها ‪ :‬أنّها تثبت شيئا لم يكن ‪.‬‬
‫ل اليد عليه ‪ ،‬فلم تكن مفيدة ‪ ،‬ولنّ الشّهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها‬
‫وبيّنة المنكر إنّما تثبت ظاهرا تد ّ‬
‫ن ذلك جائز عند كثير من أهل العلم ‪ ،‬فصارت البيّنة بمنزل اليد المجرّدة ‪ ،‬فتقدّم‬
‫رؤية اليد والتّصرّف ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن شاهدي الفرع لمّا كانا مبنيّين على شاهدي الصل ‪ ،‬لم تكن‬
‫عليها بيّنة المدّعي ‪ ،‬كما تقدّم على اليد ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫لهما مزيّة عليهما ‪.‬‬
‫وإذا كان في يد رجل شاة ‪ ،‬فادّعى رجل أنّها له منذ سنة ‪ ،‬وأقام بذلك بيّنة ‪ .‬وادّعى الّذي هي في يده أنّها في‬
‫ن بيّنته تشهد له بالملك ‪ ،‬وبيّنة الدّاخل تشهد له‬
‫يده منذ سنين ‪ ،‬وأقام لذلك بيّنة ‪ ،‬فهي للمدّعي بغير خلف ‪ ،‬ل ّ‬
‫باليد خاصّة ‪ ،‬فل تعارض بينهما ‪ ،‬لمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على غير ملك ‪ ،‬فكانت بيّنة الملك‬
‫أولى ‪ .‬فإن شهدت بيّنة بأنّها ملكه منذ سنتين ‪ ،‬فقد تعارض ترجيحان ‪ :‬فقدّم التّاريخ من جهة بيّنة الدّاخل ‪،‬‬
‫وكون الخرى بيّنة الخارج ففيه روايتان ‪ :‬إحداهما تقدّم بيّنة الخارج‪ ،‬وهو قول صاحبي أبي حنيفة ‪ ،‬وأبي‬
‫ثور‪ .‬والثّانية ‪ :‬تقدّم بيّنة الدّاخل ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬والشّافعيّ ‪ ،‬لنّها تضمّنت زيادة ‪.‬‬
‫تعارض الدلّة في حقوق اللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ - 12‬المقرّر شرعا ‪ :‬أنّ الحدود الّتي هي حقّ اللّه تعالى تسقط بالشّبهات ‪ ،‬فإذا أقيمت بيّنة تامّة على فعل‬
‫كالزّنى مثلً ‪ ،‬وعارضتها بيّنة ولو أقلّ منها بعدم الفعل قدّمت ‪ ،‬وذلك استنادا إلى قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« ادرءوا الحدود بالشّبهات ما استطعتم » بل قال الحنفيّة ‪ :‬لو أقيمت عليه بيّنة بما يوجب الحدّ ‪ ،‬وادّعى‬
‫شبهة من غير بيّنة ‪ ،‬سقط الحدّ ‪.‬‬
‫وللمالكيّة تفصيل ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إذا شهدت بيّنة بأنّه زنى عاقلً ‪ ،‬وشهدت الخرى بأنّه كان مجنونا ‪ :‬إن كان القيام‬
‫عليه ‪ -‬أي الدّعاء ‪ -‬وهو عاقل ‪ ،‬قدّمت بيّنة العقل ‪.‬‬
‫وإن كان القيام عليه وهو مجنون ‪ ،‬قدّمت بيّنة الجنون‪ ،‬فاعتبروا شهادة الحال في التّرجيح‪.‬‬
‫وقال ابن الّلبّاد ‪ :‬يعتبر وقت الرّؤية ل وقت القيام ‪ ،‬فلم يعتبر ظاهر الحال ‪.‬‬
‫ونقل عن ابن القاسم ‪ :‬إثبات الزّيادة ‪ ،‬فإذا شهدت إحداهما ‪ :‬بالقتل أو السّرقة أو الزّنى ‪ ،‬وشهدت الخرى ‪:‬‬
‫أنّه كان في مكان بعيد أنّه تقدّم بيّنة القتل ونحوه ‪ ،‬لنّها مثبتة زيادة ‪ ،‬ول يدرأ عنه الحدّ ‪ .‬قال سحنون ‪ :‬إل‬
‫أن يشهد الجمع العظيم ‪ -‬كالحجيج ونحوهم ‪ -‬أنّه كان معهم في الوقوف بعرفة ‪ ،‬أو صلّى بهم العيد في ذلك‬
‫ن هؤلء ل يشتبه عليهم أمره ‪ ،‬بخلف الشّاهدين ‪.‬‬
‫اليوم ‪ ،‬ل ّ‬
‫تعارض تعديل الشّهود وتجريحهم ‪:‬‬
‫‪ - 13‬اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى ‪ ،‬ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق لم يجز‬
‫الحكم به ‪ .‬والعدالة أو التّجريح ل يثبت ك ّل منهما إل بشهادة رجلين ‪ ،‬خلفا لبي حنيفة ‪ ،‬وأبي يوسف ‪،‬‬
‫ل من التّعديل والتّجريح عندهما بشهادة واحد ‪ .‬وسبب الخلف هل هما شهادة أو إخبار ؟ فعند‬
‫فيثبت ك ّ‬
‫سرّ ‪ ،‬ونصاب الشّهادة‬
‫الجمهور ‪ :‬شهادة ‪ ،‬وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪ :‬إخبار ‪ ،‬فيكفي الواحد في تزكية ال ّ‬
‫في تزكية العلنية ‪.‬‬
‫فلو عدّل الشّاهد اثنان ‪ ،‬وجرّحه اثنان ‪ ،‬فالجرح أولى عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو قول عند‬
‫المالكيّة ‪ ،‬واستدلّوا ‪ :‬بأنّ الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدّل ‪ ،‬فوجب تقديمه ‪ ،‬لنّ التّعديل يتضمّن‬
‫ترك الرّيب والمحارم ‪ ،‬والجارح مثبت لوجود ذلك ‪ ،‬والثبات مقدّم على النّفي ‪ ،‬ولنّ الجارح يقول ‪ :‬رأيته‬
‫يفعل كذا ‪ ،‬والمعدّل مستنده أنّه لم يره يفعل ‪ ،‬ويمكن صدقهما ‪ ،‬والجمع بين قوليهما ‪ :‬بأن يراه الجارح يفعل‬
‫المعصية ‪ ،‬ول يراه المعدّل ‪ ،‬فيكون مجروحا ‪ .‬وعند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه ل بدّ في الجرح من ذكر‬
‫ن المزكّي يقول في الشّاهد المجروح " واللّه أعلم "‬
‫السّبب ‪ ،‬ولم يشترطوا ذلك في التّعديل ‪ .‬وعند الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫ن في ذكر فسقه هتك عرضه ‪ ،‬وقد أمرنا بالسّتر على المسلم ‪ .‬وهذا كلّه إذا لم يعلم‬
‫ول يزيد على هذا ‪ ،‬ل ّ‬
‫القاضي حال الشّهود ‪ ،‬إذ إنّه إذا كان يعلم حكم بمقتضى علمه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬لو عدّله شاهدان رجلن وجرّحه آخران ‪ ،‬ففي ذلك قولن ‪ ،‬قيل ‪ :‬يقضى بأعدلهما ‪ ،‬لستحالة‬
‫ن شهود الجرح زادوا على شهود التّعديل ‪ ،‬إذ الجرح‬
‫الجمع بينهما ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يقضى بشهادة الجرح ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل النّاس ‪ ،‬بخلف العدالة ‪.‬‬
‫َيبْطُن ‪ ،‬فل يطّلع عليه ك ّ‬
‫وللّخميّ تفصيل ‪ ،‬قال ‪ :‬إن كان اختلف البيّنتين في فعل شيء في مجلس واحد ‪ ،‬كدعوى إحدى البيّنتين ‪ :‬أنّه‬
‫فعل كذا ‪ ،‬في وقت كذا ‪ ،‬وقالت البيّنة الخرى ‪ :‬لم يكن ذلك ‪ ،‬فإنّه يقضى بأعدلهما ‪.‬‬
‫وإن كان ذلك في مجلسين متقاربين قضي بشهادة الجرح ‪ ،‬لنّها زادت علما في الباطن ‪.‬‬
‫وإن تباعد ما بين المجلسين قضي بآخرهما تاريخا ‪ ،‬ويحمل على أنّه كان عدل ففسق ‪ ،‬أو فاسقا فتزكّى ‪ ،‬إل‬
‫أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة ‪ ،‬فبيّنة الجرح مقدّمة ‪ ،‬لنّها زادت ‪.‬‬
‫تعارض احتمال بقاء السلم وحدوث الرّدّة ‪:‬‬
‫‪ - 14‬فقهاء المذاهب لم يجمعوا على حكم واحد في هذا الموضوع ‪ .‬وأكثر المذاهب توسّعا فيه مذهب الحنفيّة‬
‫‪ :‬إذ قالوا ‪ :‬ل يخرج الرّجل من اليمان إلّا جحود ما أدخله فيه ‪ ،‬ثمّ ما تيقّن أنّه ردّة يحكم بها ‪ ،‬وما يشكّ أنّه‬
‫شكّ ‪ ،‬والسلم يعلو ‪ .‬وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أل‬
‫ردّة ل يحكم بها ‪ ،‬إذ السلم الثّابت ل يزول بال ّ‬
‫يبادر بتكفير أهل السلم ‪ ،‬مع أنّه يتساهل في إثبات السلم ‪ ،‬فيقضى بصحّة إسلم المكره ‪ .‬ونقل ابن‬
‫عابدين عن صاحب الفتاوى الصّغرى قوله ‪ :‬الكفر شيء عظيم ‪ ،‬فل أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية‬
‫أنّه ل يكفر ‪ .‬وفي كتب الحنفيّة ‪ :‬إذا كان في المسألة وجوه توجب التّكفير ‪ ،‬ووجه واحد يمنعه ‪ ،‬فعلى المفتي‬
‫أن يميل إلى الوجه الّذي يمنع التّكفير ‪ ،‬تحسينا للظّنّ بالمسلم ‪ ،‬إل إذا صرّح بإرادة موجب الكفر ‪ ،‬فل ينفعه‬
‫التّأويل ‪.‬‬
‫ول يكفر بالمحتمل ‪ ،‬لنّ عقوبة الكفر نهاية في العقوبة ‪ ،‬تستدعي نهاية في الجناية ‪ ،‬ومع الحتمال ل نهاية‬
‫في الجناية ‪ ،‬والّذي تقرّر ‪ :‬أنّه ل يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلمه على محمل حسن ‪ ،‬أو كان في كفره‬
‫اختلف ‪ ،‬ولو رواية ضعيفة ‪.‬‬
‫‪ - 15‬وفقهاء المذاهب الخرى يقولون أيضا ‪ :‬إذا قام دليل أو قرينة تقتضي عدم القتل قدّمت ‪ .‬قالوا ‪ :‬ولو‬
‫أسلم ثمّ ارتدّ عن قرب ‪ ،‬وقال ‪ :‬أسلمت عن ضيق أو خوف أو غرم ‪ ،‬وظهر عذره ‪ ،‬ففي قبول عذره قولن‬
‫عند المالكيّة ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد أورد الفقهاء قواعد عامّة في التّعارض ‪ ،‬وهي إن كانت أقرب إلى الصول منها إلى الفقه ‪ ،‬إل أنّه‬
‫رتّبت عليها مسائل فقهيّة يسوّغ ذكرها هنا ‪.‬‬
‫تعارض الحكام التّكليفيّة في الفعل الواحد ‪:‬‬
‫‪ - 16‬من القواعد الّتي أوردها الزّركشيّ ‪ :‬أنّه لو تعارض الحظر والباحة في فعل واحد يقدّم الحظر ‪ .‬ومن‬
‫ثمّ لو تولّد الحيوان من مأكول وغيره ‪ ،‬حرم أكله ‪ ،‬وإذا ذبحه المحرم وجب الجزاء تغليبا للتّحريم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬لو تعارض الواجب والمحظور ‪ ،‬يقدّم الواجب ‪ ،‬كما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفّار ‪ ،‬وجب‬
‫غسل الجميع ‪ ،‬والصّلة عليهم ‪ .‬وكذلك اختلط الشّهداء بغيرهم ‪ .‬وإن كان الشّهيد ل يغسّل ‪ ،‬ول يصلّى‬
‫عليه ‪ ،‬إلّا أنّه ينوى الصّلة عليه إن لم يكن شهيدا ‪ .‬ولو أسلمت المرأة وجب عليها الهجرة إلى دار السلم ‪،‬‬
‫ولو سافرت وحدها ‪ ،‬وإن كان سفرها وحدها في الصل حراما ‪.‬‬
‫ويعذر المصلّي في التّنحنح إذا تعذّرت عليه القراءة الواجبة ‪.‬‬
‫‪ - 17‬ومن القواعد ‪ :‬ما لو تعارض واجبان ‪ ،‬قدّم آكدهما ‪ ،‬فيقدّم فرض العين على فرض الكفاية ‪ .‬فالطّائف‬
‫حول الكعبة ل يقطع الطّواف لصلة الجنازة ‪.‬‬
‫ولو اجتمعت جنازة وجمعة وضاق الوقت ‪ ،‬قدّمت الجمعة ‪ .‬ومن هذا ليس للوالدين منع الولد من حجّة‬
‫ن برّهما فرض عين ‪ ،‬والجهاد‬
‫السلم على الصّحيح ‪ ،‬بخلف الجهاد ‪ ،‬فإنّه ل يجوز إل برضاهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫فرض كفاية ‪ ،‬وفرض العين مقدّم ‪.‬‬
‫‪ - 18‬ولو تعارضت فضيلتان ‪ ،‬يقدّم أفضلهما ‪ ،‬فلو تعارض البكور إلى الجمعة بل غسل وتأخيره مع‬
‫ن تحصيل الغسل أولى للخلف في وجوبه ‪ .‬وهذا كلّه مذهب الشّافعيّة ‪.‬‬
‫الغسل ‪ ،‬فالظّاهر ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ - 19‬ومن فروع قاعدة تعارض الحظر والباحة ‪ :‬ما إذا تعارض دليلن أحدهما يقتضي التّحريم ‪ ،‬والخر‬
‫الباحة ‪ ،‬قدّم التّحريم ‪.‬‬
‫وعلّله الصوليّون بتقديم النّسخ ‪ ،‬لنّه لو قدّم المبيح للزم تكرار النّسخ ‪ ،‬لنّ الصل في الشياء الباحة ‪ ،‬فلو‬
‫جعل المبيح متأخّرا كان المحرّم ناسخا للباحة الصليّة ‪ ،‬ث ّم يصير منسوخا بالمبيح ‪ ،‬ولو جعل المحرّم‬
‫متأخّرا كان ناسخا للمبيح ‪ ،‬وهو لم ينسخ شيئا لكونه على وفق الصل ‪ ،‬ولذلك قال عثمان رضي ال عنه ‪-‬‬
‫لمّا سئل عن الجمع بين الختين بملك اليمين ‪ -‬أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ‪ ،‬والتّحريم أحبّ إلينا ‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫ن فيه ترك مباح ‪ ،‬ل اجتناب محرّم ‪ ،‬وذلك أولى من عكسه ‪.‬‬
‫وإنّما كان التّحريم أحبّ ل ّ‬
‫‪ - 20‬ومن أقسام التّعارض ‪ :‬أن يتعارض أصلن ‪ ،‬فإذا وقع ذلك يعمل بالرجح منهما ‪ ،‬لعتضاده بما‬
‫يرجّحه ‪ .‬ومن صوره ‪ :‬ما إذا جاء بعض العسكر بمشرك ‪ ،‬فادّعى المشرك ‪ :‬أنّ المسلم أمّنه ‪ ،‬وأنكر ‪ ،‬ففيه‬
‫روايتان ‪:‬‬
‫ن الصل عدم المان ‪ .‬والثّانية ‪ :‬القول قول المشرك ‪ ،‬لنّ‬
‫إحداهما ‪ :‬القول قول المسلم في إنكار المان ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن القول قول من‬
‫شكّ هنا فيها ‪ .‬وفيه رواية ثالثة ‪ :‬أ ّ‬
‫الصل في الدّماء الحظر إلّا بيقين الباحة ‪ ،‬وقد وقع ال ّ‬
‫يدلّ الحال على صدقه منهما ‪ ،‬ترجيحا لحد الصلين بالظّاهر الموافق له ‪ .‬ولو تعارض الحنث والبرّ في‬
‫يمين ‪ ،‬قدّم الحنث على البرّ ‪ ،‬فمن حلف على القدام على فعل شيء أو وجوده فهو على حنث ‪ ،‬حتّى يقع‬
‫الفعل فيبرّ ‪.‬‬
‫والحنث يدخل عند المالكيّة بأقلّ الوجوه ‪ ،‬والبرّ ل يكون إل بأكمل الوجوه ‪ ،‬فمن حلف أن يأكل رغيفا لم يبرّ‬
‫إل بأكل الرّغيف كلّه ‪ ،‬وإن حلف أل يأكله حنث بأكل بعضه ‪.‬‬
‫ن الخاصّ والعا ّم يتعارضان ويتدافعان ‪ ،‬فيجوز أن يكون‬
‫قال الغزاليّ في المستصفى ‪ :‬وقد ذهب قوم ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫الخاصّ سابقا ‪ ،‬وقد ورد العامّ بعده لرادة العموم ‪ ،‬فنسخ الخاصّ ‪ .‬ويجوز أن يكون العامّ سابقا وقد أريد به‬
‫العموم ‪ ،‬ثمّ نسخ باللّفظ الخاصّ بعده ‪ .‬فعموم الرّقبة مثلً يقتضي إجزاء الكافرة مهما أريد به العموم ‪،‬‬
‫والتّقييد بالمؤمنة يقتضي منع إجزاء الكافرة ‪ ،‬فهما متعارضان ‪ .‬وإذا أمكن النّسخ والبيان جميعا فَِلمَ يُتحكّم‬
‫ل العامّ هو المتأخّر الّذي أريد به‬
‫بحمله على البيان دون النّسخ ؟ ول َم يقطع بالحكم على العامّ بالخاصّ ؟ ولع ّ‬
‫ح عندنا ‪ :‬تقديم الخاصّ وإن كان ما‬
‫العموم ‪ ،‬وينسخ به الخاصّ ‪ ،‬وهذا هو الّذي اختاره القاضي ‪ ،‬والص ّ‬
‫ن تقدير النّسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة تحت اللّفظ ‪ ،‬ثمّ خروجه عنه ‪ ،‬فهو‬
‫ذكره القاضي ممكنا ‪ ،‬ولك ّ‬
‫إثبات وضع ‪ ،‬ورفع بالتّوهّم ‪ ،‬وإرادة الخاصّ باللّفظ العامّ غالب معتاد ‪ ،‬بل هو الكثر ‪ ،‬والنّسخ كالنّادر ‪ ،‬فل‬
‫سبيل إلى تقديره بالتّوهّم ‪ ،‬ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصّحابة والتّابعين كثير ‪ ،‬فإنّهم كانوا يسارعون‬
‫إلى الحكم بالخاصّ على العامّ ‪ ،‬وما اشتغلوا بطلب التّاريخ والتّقدّم والتّأخّر ‪.‬‬
‫ن الرّجال يقتضي مفهومه قتل غيرهم ‪ ،‬فإذا لم يتنافيا‬
‫وقيل على الشّذوذ ‪ :‬إنّه يخصّص من طريق المفهوم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ح ّرمَتْ عَلَيكُ ْم ال َم ْيتَةُ } وقوله تعالى ‪ { :‬ل تَ ْقتُلُوا‬
‫‪ ،‬وكان لحدهما مناسبة تخصّه في متعلّقه ‪ -‬كقوله تعالى ‪ُ { :‬‬
‫حرُمٌ } ‪ -‬فيضطرّ المحرم إلى أكل الميتة أو الصّيد ‪ ،‬فعند مالك ‪ :‬يأكل الميتة ويترك الصّيد ‪،‬‬
‫الصّيدَ وََأ ْن ُتمْ ُ‬
‫ن كليهما ‪ -‬وإن كان محرّما ‪ -‬إلّا أنّ تحريم الصّيد له مناسبة بالحرام ‪ ،‬ومفسدته الّتي اعتمدها النّهي إنّما‬
‫لّ‬
‫هي في الحرام ‪ ،‬وأمّا مفسدة أكل الميتة فذلك أمر عا ّم ‪ ،‬ل تعلّق له بخصوص الحرام ‪ ،‬والمناسب إذا كان‬
‫لمر عامّ ‪ -‬وهو كونها ميتة ‪ -‬ل يكون بينه وبين خصوص الحرام منافاة ول تعلّق ‪ ،‬والمنافي الخصّ‬
‫أولى بالجتناب ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل ‪ :‬إذا لم يجد المصلّي ثوبا يستره إل حريرا أو نجسا فإنّه يصلّي في الحرير ويترك النّجس ‪،‬‬
‫ن مفسدة النّجاسة خاصّة بالصّلة ‪ ،‬بخلف مفسدة الحرير ل تعلّق لها بخصوص الصّلة ‪ ،‬ول منافاة بينهما‬
‫لّ‬
‫‪.‬‬
‫وهناك فروع كثيرة أخرى تترتّب على هذه القاعدة ‪ ،‬يرجع إليها في الصول وأبواب الفقه ‪.‬‬
‫تعارض الصل والظّاهر ‪:‬‬
‫‪ - 21‬المراد بالصل ‪ :‬بقاء ما كان على ما كان ‪ ،‬والظّاهر ‪ :‬ما يترجّح وقوعه ‪.‬‬
‫فالصل براءة ال ّذمّة ‪ ،‬ولذا لم يقبل في شغلها شاهد واحد ‪ ،‬ولذا كان القول قول المدّعى عليه لموافقته الصل‬
‫‪ ،‬والبيّنة على المدّعي ‪ ،‬لدعواه ما خالف الصل ‪ ،‬فإذا اختلفا في قيمة المتلف والمغصوب ‪ -‬فالقول قول‬
‫ن الصل البراءة عمّا زاد عن قوله ‪ ،‬ولو أق ّر بشيء أو حقّ قبل تفسيره بما له قيمة ‪ ،‬فالقول للمقرّ‬
‫الغارم ‪ ،‬ل ّ‬
‫مع يمينه ‪.‬‬
‫وهذه القاعدة مذهب الحنفيّة ‪ .‬والحكم كذلك عند المالكيّة ‪.‬‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬الحكم عندهم كذلك في تقديم الظّاهر الثّابت بالبيّنة ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة تفصيل في غير الثّابت بالبيّنة ‪ ،‬إذ قالوا ‪ :‬إنّ الصل يرجّح جزما ‪.‬‬
‫وضابطه ‪ :‬أن يعارضه احتمال مجرّد ‪ .‬وما يرجّح فيه الظّاهر جزما ‪ ،‬وضابطه ‪ :‬أن يستند إلى سبب‬
‫منصوب شرعا ‪ ،‬كالشّهادة تعارض الصل ‪ ،‬والرّواية ‪ ،‬واليد في الدّعوى ‪ .‬وإخبار الثّقة بدخول الوقت ‪.‬‬
‫وما يرجّح فيه الصل على الظّاهر في الصحّ ‪ ،‬وضابطه ‪ :‬أن يستند الحتمال إلى سبب ضعيف ‪ ،‬ومثله‬
‫الشّيء الّذي ل يتيقّن بنجاسته ‪ ،‬ولكنّ الغالب فيه النّجاسة كثياب مدمن الخمر ‪ ،‬والقصّابين ‪ ،‬والكفّار ‪،‬‬
‫وأوانيهم ‪.‬‬
‫وما يترجّح فيه الظّاهر على الصل ‪ ،‬بأن كان سببا قويّا منضبطا ‪ ،‬كمن شكّ بعد الصّلة أو غيرها من‬
‫العبادات في ترك ركن غير ال ّنيّة فالمشهور ل يؤثّر ‪.‬‬
‫والحنابلة يقدّمون كغيرهم الظّاهر ‪ ،‬الّذي هو حجّة يجب قبولها شرعا ‪ ،‬كالشّهادة على الصل ‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫كذلك ‪ ،‬بأن كان مستندا إلى العرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظّنّ ونحو ذلك ‪ ،‬فتارة يعمل بالصل‬
‫ول يلتفت إلى الظّاهر ‪ ،‬وتارة يعمل بالظّاهر ول يلتفت إلى الصل ‪ ،‬وتارة يخرج في المسألة خلف ‪ ،‬فهذه‬
‫أربعة أقسام ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬ما ترك فيه العمل بالصل للحجّة الشّرعيّة ‪ ،‬وهي قول من يجب العمل بقوله ‪ ،‬كشهادة عدلين بشغل‬
‫ذمّة المدّعى عليه ‪ ،‬وهذه محلّ إجماع بين الفقهاء كما تقدّم ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬ما عمل فيه بالصل ‪ ،‬ولم يلتفت إلى القرائن الظّاهرة ونحوها ‪ .‬وذلك كما إذا ادّعت زوجة بعد طول‬
‫مقامها مع الزّوج ‪ :‬أنّها لم تصلها منه النّفقة الواجبة ‪ ،‬فإنّ القول قولها مع يمينها عند الصحاب ‪ ،‬لنّ الصل‬
‫ي الدّين بن تيميّة الرّجوع إلى العادة ‪ ،‬وخرّجه وجها من‬
‫ن العادة تبعد ذلك جدّا ‪ ،‬واختار الشّيخ تق ّ‬
‫معها ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫المسائل المختلف فيها ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬ما عمل فيه بالظّاهر ولم يلتفت إلى الصل ‪ ،‬كما إذا شكّ بعد الفراغ من الصّلة أو غيرها من‬
‫شكّ ‪ ،‬وإن كان الصل عدم التيان به وعدم براءة ال ّذمّة ‪،‬‬
‫العبادات في ترك ركن منها ‪ ،‬فإنّه ل يلتفت إلى ال ّ‬
‫ن الظّاهر من فعل المكلّفين للعبادات ‪ :‬أن تقع على وجه الكمال ‪ ،‬فيرجّح هذا الظّاهر على الصل ‪ ،‬ول‬
‫لك ّ‬
‫فرق في ذلك بين الوضوء وغيره في المنصوص عن المام أحمد ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬ما خرج فيه خلف في ترجيح الظّاهر على الصل وبالعكس ‪ ،‬ويكون ذلك غالبا عند تقادم الظّاهر‬
‫والصل وتساويهما ‪ ،‬ومن صوره ‪ :‬طهارة طين الشّوارع ‪ ،‬نصّ عليه المام أحمد في مواضع ‪ ،‬ترجيحا‬
‫للصل ‪ ،‬وهو الطّهارة في العيان كلّها ‪.‬‬
‫وفي رواية له ثانية ‪ :‬أنّه نجس ترجيحا للظّاهر ‪ ،‬وجعله صاحب التّلخيص المذهب ‪.‬‬
‫سيّة ‪:‬‬
‫تعارض العبارة " اللّفظ " والشارة الح ّ‬
‫ن العبارة تقدّم على الشارة ‪ ،‬واستدلّوا بما أورده ابن حجر في شرح حديث‬
‫‪ - 22‬قال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬إ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ‪ :‬على الجبهة‬
‫ابن عبّاس رضي ال عنهما عن النّب ّ‬
‫وأشار بيده على أنفه ‪ » . . .‬إلخ ‪.‬‬
‫وأحال شرح الحديث على ما قاله في الرّواية الخرى عن ابن عبّاس « ووضع يده على جبهته وأمرّها على‬
‫أنفه ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا واحد » فهذه رواية مفسّرة ‪.‬‬
‫ل على أنّ الجبهة الصل ‪ ،‬والسّجود على النف تبع ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬هذا يد ّ‬
‫وقال ابن دقيق العيد ‪ :‬قيل ‪ :‬معناه أنّهما جعل كعضو واحد ‪ ،‬وإل لكانت العضاء ثمانية ‪ .‬قال ‪ :‬وفيه نظر ‪،‬‬
‫لنّه ل يلزم منه أن يكتفى بالسّجود على النف ‪ .‬قال ‪ :‬والحقّ أنّ مثل هذا ل يعارض التّصريح بذكر‬
‫الجبهة ‪ ،‬وإن أمكن أن يعتقد أنّهما كعضو واحد فذاك في التّسمية والعبارة ‪ ،‬ل في الحكم الّذي عليه المر‬
‫بالسّجود ‪.‬‬
‫وأيضا فإنّ الشارة قد ل تعيّن المشار إليه ‪ ،‬فإنّها إنّما تتعلّق بالجبهة لجل العبارة ‪ ،‬فإذا تقارب ما في الجبهة‬
‫أمكن أن ل يعيّن المشار إليه تعيينا ‪ .‬وأمّا العبارة ‪ :‬فإنّها معيّنة لما وصفت له ‪ ،‬فتقديمه أولى ‪ .‬وما ذكره من‬
‫القتصار على بعض الجبهة قال به كثير من الشّافعيّة ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ونقل ابن المنذر إجماع الصّحابة ‪ :‬على أنّه‬
‫ل يجزئ السّجود على النف وحده ‪ .‬وذهب الجمهور إلى أنّه يجزئ على الجبهة وحدها ‪ .‬وعن الوزاعيّ‬
‫وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم ‪ :‬يجب أن يجمعهما ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّ أيضا ‪ .‬وقال‬
‫الحنفيّة ‪ :‬إذا اجتمعت الشارة إلى شيء ‪ ،‬والعبارة عنه في المهر ‪ -‬فالصل أنّ المسمّى إذا كان من جنس‬
‫ن المسمّى موجود في المشار إليه ذاتا ‪ ،‬والوصف يتبعه ‪ ،‬وإن كان‬
‫المشار إليه يتعلّق العقد بالمشار إليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المسمّى مثل المشار إليه ‪ ،‬وليس بتابع له ‪.‬‬
‫من خلف جنسه يتعلّق العقد بالمسمّى ‪ ،‬ل ّ‬
‫والتّسمية أبلغ في التّعريف ‪ ،‬من حيث إنّها تعرف الماهيّة ‪ ،‬والشارة تعرف الذّات ‪.‬‬
‫فمن اشترى فصّا على أنّه ياقوت ‪ ،‬فإذا هو زجاج ل ينعقد العقد ‪ ،‬لختلف الجنس ‪.‬‬
‫ولو اشترى على أنّه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر ‪ ،‬انعقد العقد لتّحاد الجنس ‪.‬‬
‫ن المام أبا‬
‫ن هذا الصل متّفق عليه في النّكاح ‪ ،‬والبيع ‪ ،‬والجارة ‪ ،‬وسائر العقود ‪ ،‬ولك ّ‬
‫وقال الشّارحون ‪ :‬إ ّ‬
‫ن من‬
‫حنيفة جعل الخلّ والخمر جنسا ‪ ،‬فتعلّق بالمشار إليه ‪ ،‬فوجب مهر المثل ‪ ،‬فيما لو تزوّجها على هذا الدّ ّ‬
‫الخلّ ‪ ،‬وأشار إلى خمر ‪.‬‬
‫ح‪.‬‬
‫ولو سمّى حراما ‪ ،‬وأشار إلى حلل فلها الحلل في الص ّ‬
‫وأمّا في النّكاح فقال في الخانيّة ‪ :‬رجل له بنت واحدة اسمها عائشة ‪ :‬فقال الب وقت العقد ‪ :‬زوّجت منك‬
‫بنتي فاطمة ‪ ،‬ل ينعقد النّكاح ‪ .‬ولو كانت المرأة حاضرة فقال الب ‪ :‬زوّجتك بنتي فاطمة هذه ‪ ،‬وأشار إلى‬
‫عائشة وغلط في اسمها ‪ ،‬فقال الزّوج ‪ :‬قبلت ‪ ،‬جاز ‪.‬‬
‫ن الحنفيّة وحدهم هم الّذين قالوا بإجزاء السّجود على النف وحده ‪ ،‬تقديما للشارة‬
‫‪ - 23‬وممّا سبق تبيّن أ ّ‬
‫ن العبارة عندهم تقدّم على‬
‫ن الجمهور يجزئ عندهم السّجود على الجبهة دون النف ‪ ،‬وأ ّ‬
‫على العبارة ‪ ،‬وأ ّ‬
‫الشارة لنّها تعيّن المراد ‪ ،‬والشارة قد ل تعيّنه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إذا اجتمعت الشارة والعبارة ‪ ،‬واختلف موجبهما ‪ ،‬غلّبت الشارة ‪.‬‬
‫ح الصّحّة ‪ .‬ولو قال ‪:‬‬
‫فلو قال ‪ :‬أصلّي خلف زيد هذا ‪ ،‬أو قال ‪ :‬أصلّي على زيد هذا ‪ ،‬فبان عمرا فالص ّ‬
‫ح قطعا ‪ ،‬وحكي فيه وجه ‪.‬‬
‫زوّجتك فلنة هذه ‪ ،‬وسمّاها بغير اسمها ص ّ‬
‫ولو قال ‪ :‬زوّجتك هذا الغلم ‪ ،‬وأشار إلى بنته ‪ ،‬نقل الرّويانيّ عن الصحاب صحّة النّكاح ‪ .‬تعويل على‬
‫الشارة ‪ .‬وهذا يتّفق ومذهب الحنفيّة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬زوّجتك هذه العربيّة ‪ ،‬فكانت أعجميّة ‪ .‬أو ‪ :‬هذه العجوز ‪،‬‬
‫فكانت شابّة ‪ .‬أو ‪ :‬هذه البيضاء ‪ ،‬فكانت سوداء أو عكسه ‪ -‬وكذا المخالفة في جميع وجوه النّسب والصّفات‬
‫صحّة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬بعتك داري هذه وحدّدها وغلط‬
‫والعلوّ والنّزول ‪ -‬ففي صحّة النّكاح قولن ‪ ،‬والصحّ ‪ :‬ال ّ‬
‫في حدودها ‪ ،‬صحّ البيع ‪ .‬بخلف ما لو قال ‪ :‬بعتك الدّار الّتي في المحلّة الفلنيّة وحدّدها وغلط ‪ ،‬لنّ‬
‫ح هنا‬
‫التّعويل هناك على الشارة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬بعتك هذا الفرس فكان بغل أو عكسه ‪ ،‬فوجهان ‪ ،‬والص ّ‬
‫صحّة في الباقي تغليبا للشارة‬
‫البطلن ‪ .‬وإنّما صحّح البطلن هنا تغليبا لختلف غرض الماليّة ‪ .‬وصحّح ال ّ‬
‫‪ .‬وحينئذ يستثنى هذه الصّورة من القاعدة ‪.‬‬
‫ويضمّ إلى هذه الصّورة صور ‪ ،‬منها ‪ :‬ما لو حلف ل يكلّم هذا الصّبيّ فكلّمه شيخا ‪ ،‬أو ل يأكل هذا الرّطب‬
‫فأكله تمرا ‪ ،‬أو ل يدخل هذه الدّار فدخلها عرصة ‪ ،‬فالصحّ ‪ :‬أنّه ل يحنث ‪ .‬ولو خالعها على هذا الثّوب‬
‫الكتّان فبان قطنا ‪ ،‬أو عكسه ‪ ،‬فالصحّ فساد الخلع ‪ ،‬ويرجع بمهر المثل ‪ .‬وهناك صور كثيرة تترتّب على‬
‫هذه القاعدة ‪.‬‬
‫هذه جملة قواعد أصوليّة في التّعارض ‪ ،‬ذكرت مع ما يترتّب عليها من أحكام ‪.‬‬
‫وأمّا التّعارض بين الدلّة فينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫تعاطي *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعاطي لغة ‪ :‬مصدر تعاطى ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬تناول النسان الشّيء بيده ‪ ،‬من العطو ‪ ،‬وهو بمعنى التّناول ‪.‬‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } وتفسيرها ‪ :‬أنّه تناول آلة العقر ‪ ،‬وجاء في تفسيرها أيضا‬
‫‪ :‬أنّه تناول الفعل بعد أن أعدّ له عدّته ‪ ،‬بأن كمن للنّاقة فرماها بسهمه ‪ ،‬ثمّ ضربها بسيفه حتّى قتلها ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬التّعاطي في البيع ‪ ،‬ويقال فيه أيضا المعاطاة ‪ :‬أن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع الثّمن ‪ ،‬أو‬
‫يد فع البائع ال مبيع فيد فع له ال خر الثّ من ‪ ،‬من غ ير تكلّم ول إشارة ‪ .‬ويكون التّعا طي في الب يع وغيره من‬
‫المعاوضات ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫العقد ‪:‬‬
‫‪ - 2‬العقد ‪ :‬عقود البيع منها ما يتمّ باللّفظ ( وهو الصّيغة ) وهو اليجاب والقبول ‪ ،‬ومنها ما يتمّ بالفعل ‪،‬‬
‫وهو التّعاطي ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫البيع بالتّعاطي ‪:‬‬
‫‪ - 3‬اختلف الفقهاء في انعقاد البيع بالتّعاطي ‪ .‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وفي قول للشّافعيّة إلى ‪:‬‬
‫جواز البيع بالتّعاطي ‪ .‬والمذهب عند الشّافعيّة اشتراط الصّيغة لصحّة البيع وما في معناه ‪ .‬وللشّافعيّة قول‬
‫ثالث بجواز المعاطاة في المحقّرات ‪.‬‬
‫ولبيع المعاطاة صورتان ‪ :‬الولى ‪ :‬أن يتمّ التّعاطي من غير تكلّم ول إشارة من أحد الطّرفين ‪ ،‬وهو جائز‬
‫عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬ورجّح النّوويّ الجواز بخلف المذهب ‪ .‬الصّورة الثّانية ‪ :‬أن يتمّ التّعاطي‬
‫بتكلّم أحد الطّرفين ويت ّم التّسليم ‪ ،‬وهو تعاط عند المالكيّة والحنابلة ‪ .‬ولم يعدّه الحنفيّة تعاطيا ‪.‬‬
‫ن اللّه أحلّ البيع ‪ ،‬ولم يبيّن كيفيّته ‪ ،‬فوجب‬
‫‪ - 4‬وقال ابن قدامة في الستدلل لمشروعيّة بيع التّعاطي ‪ :‬إ ّ‬
‫الرّجوع فيه إلى العرف ‪ ،‬كما رجع إليه في القبض والحراز والتّفرّق ‪ .‬والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم‬
‫ن البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم ‪ ،‬وإنّما علّق الشّرع عليه أحكاما ‪ ،‬وأبقاه على ما كان‬
‫على ذلك ‪ .‬ول ّ‬
‫‪ ،‬فل يجوز تغييره بالرّأي والتّحكّم ‪ ،‬ولم ينقل عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن أصحابه ‪ -‬مع كثرة‬
‫ل شائعا ‪.‬‬
‫وقوع البيع بينهم ‪ -‬استعمال اليجاب والقبول ‪ ،‬ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نق ً‬
‫ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ‪ ،‬ولم يتصوّر منهم إهماله والغفلة عن نقله ‪ ،‬ولنّ البيع ممّا تعمّ به البلوى‬
‫فلو اشترط له اليجاب والقبول َل َبيّنه صلى ال عليه وسلم بيانا عامّا ‪ ،‬ولم يخف حكمه ‪ ،‬لنّه يفضي إلى‬
‫وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال بالباطل ‪ ،‬ولم ينقل ذلك عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن أحد‬
‫من أصحابه فيما علمناه ‪.‬‬
‫ن النّاس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كلّ عصر ‪.‬‬
‫ول ّ‬
‫ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا ‪ ،‬فكان ذلك إجماعا ‪ .‬وكذلك الحكم في اليجاب والقبول في الهبة والهديّة‬
‫والصّدقة ‪ ،‬ولم ينقل عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه ‪ ،‬وقد أهدي‬
‫إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من الحبشة وغيرها ‪ ،‬وكان النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة رضي‬
‫ال عنها ‪ .‬وروى البخاريّ عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا‬
‫أتي بطعام سأل عنه ‪ :‬أهديّة أم صدقة ؟ فإن قيل ‪ :‬صدقة ‪ .‬قال لصحابه ‪ :‬كلوا ‪ ،‬ولم يأكل ‪ .‬وإن قيل ‪:‬‬
‫هديّة ضرب بيده وأكل معهم » وفي حديث سلمان رضي ال عنه « حين جاء إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫بتمر فقال ‪ :‬هذا شيء من الصّدقة ‪ ،‬رأيتك أنت وأصحابك أحقّ النّاس به ‪ .‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫لصحابه ‪ :‬كلوا ولم يأكل ثمّ أتاه ثانية بتمر فقال ‪ :‬رأيتك ل تأكل الصّدقة وهذا شيء أهديته لك ‪ ،‬فقال النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬بسم اللّه ‪ ،‬وأكل » ولم ينقل قبول ول أمر بإيجاب ‪ ،‬وإنّما سأل ليعلم ‪ :‬هل هو صدقة‬
‫ل على‬
‫أو هديّة ؟ وفي أكثر الخبار لم ينقل إيجاب ول قبول ‪ ،‬وليس إلّا المعاطاة ‪ ،‬والتّفرّق عن تراض يد ّ‬
‫ق ذلك ‪ ،‬ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة ‪،‬‬
‫صحّته ‪ ،‬ولو كان اليجاب والقبول شرطا في هذه العقود لش ّ‬
‫ن اليجاب والقبول إنّما يرادان للدّللة على التّراضي ‪ ،‬فإذا وجد ما يدلّ عليه‬
‫وأكثر أموالهم محرّمة ‪ ،‬ول ّ‬
‫من المساومة والتّعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما ‪ ،‬لعدم التّعبّد فيه ‪.‬‬
‫القالة بالتّعاطي ‪:‬‬
‫‪ - 5‬جوّز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إقالة البيع بالتّعاطي ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬القالة تنعقد بالتّعاطي أيضا من أحد‬
‫الجانبين على الصّحيح ‪.‬‬
‫الجارة بالتّعاطي ‪:‬‬
‫‪ - 6‬جوّزها الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّما هي كالبيع ‪ ،‬وقد اقتصرت على المنافع دون العين ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬إذا دفع ثوبه إلى خيّاط أو قصّار ليخيطه أو يقصّره من غير عقد ول شرط ول تعريض‬
‫بأجر ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬خذ هذا فاعمله ‪ ،‬وكان الخيّاط والقصّار منتصبين لذلك ‪ ،‬ففعل ذلك فلهما الجر ‪ ،‬لنّ‬
‫العرف جار بذلك ‪ .‬وقال أصحاب الشّافعيّ ‪ :‬ل أجر لهما ‪ ،‬لنّهما فعل ذلك من غير عوض جعل لهما ‪،‬‬
‫فأشبه ما لو تبرّعا بعمله ‪.‬‬
‫وقال ابن عابدين ‪ :‬وفي التتارخانية أنّ أبا يوسف سئل عن الرّجل يدخل السّفينة أو يحتجم أو يفتصد أو يدخل‬
‫الحمّام أو يشرب من ماء السّقاء ‪ ،‬ثمّ يدفع الجرة وثمن الماء ؟ فقال ‪ :‬يجوز استحسانا ‪ ،‬ول يحتاج إلى العقد‬
‫قبل ذلك ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ - 7‬يفصّل الفقهاء أحكام التّعاطي بالنّسبة لكلّ مسألة في موضعها ‪ ،‬ومن تلك المواطن ‪ :‬البيوع ‪ ،‬والقالة ‪،‬‬
‫والجارة ‪.‬‬

‫تعاويذ *‬
‫انظر ‪ :‬تعويذة ‪.‬‬

‫تعبّديّ *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعبّديّ لغة ‪ :‬المنسوب إلى التّعبّد ‪.‬‬
‫والتّعبّد مصدر تعبّد ‪ ،‬يقال ‪ :‬تعبّد الرّجلُ الرّجل ‪ :‬إذا اتّخذه عبدا ‪ ،‬أو صيّره كالعبد ‪.‬‬
‫وتعبّد اللّه العبدَ بالطّاعة ‪ :‬استعبده ‪ ،‬أي طلب منه العبادة ‪ .‬ومعنى العبادة في اللّغة ‪ :‬الطّاعة والخضوع ‪.‬‬
‫ومنه طريق معبّد ‪ :‬إذا كان مذلّلً بكثرة المشي فيه ‪ .‬ويرد التّعبّد في اللّغة أيضا بمعنى ‪ :‬التّذلّل ‪ ،‬يقال ‪ :‬تعبّد‬
‫فلن لفلن ‪ :‬إذا خضع له وذلّ ‪ .‬وبمعنى التّنسّك ‪ ،‬يقال ‪ :‬تعبّد فلن للّه تعالى ‪ :‬إذا أكثر من عبادته ‪ ،‬وظهر‬
‫فيه الخشوع والخبات ‪ .‬والتّعبّد من اللّه للعباد ‪ :‬تكليفهم أمور العبادة وغيرها ‪ .‬ويكثر الفقهاء والصوليّون‬
‫من استعماله بهذا المعنى ‪ ،‬كقولهم ‪ :‬نحن متعبّدون بالعمل بخبر الواحد وبالقياس ‪ ،‬أي مكلّفون بذلك ‪.‬‬
‫ويقولون ‪ :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم متعبّدا بشرع من قبله ‪ ،‬أي مكلّفا بالعمل به ‪.‬‬
‫‪ - 2‬والتّعبّديّات ‪ -‬في اصطلح الفقهاء والصوليّين ‪ -‬تطلق على أمرين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أعمال العبادة والتّنسّك‪ .‬ويرجع لمعرفة أحكامها بهذا المعنى إلى مصطلح ( عبادة )‪ .‬الثّاني ‪:‬‬
‫الحكام الشّرعيّة الّتي ل يظهر للعباد في تشريعها حكمة غير مجرّد التّعبّد ‪ ،‬أي التّكليف بها ‪ ،‬لختبار‬
‫عبوديّة العبد ‪ ،‬فإن أطاع أثيب ‪ ،‬وإن عصى عوقب ‪.‬‬
‫والمراد بالحكمة هنا ‪ :‬مصلحة العبد من المحافظة على نفسه أو عرضه أو دينه أو ماله أو عقله ‪ .‬أمّا‬
‫ل أمر أو نهي ‪،‬‬
‫مصلحته الخرويّة ‪ -‬من دخول جنّة اللّه تعالى والخلص من عذابه ‪ -‬فهي ملزمة لتلبية ك ّ‬
‫تعبّديّا كان أو غيره ‪.‬‬
‫‪ - 3‬هذا هو المشهور في تعريف التّعبّديّات ‪ .‬وقد لحظ الشّاطبيّ في موافقاته أنّ حكمة الحكم قد تكون‬
‫معلومة على وجه الجمال ‪ ،‬ول يخرجه ذلك عن كونه تعبّديّا من بعض الوجوه ‪ ،‬ما لم يعقل معناه على وجه‬
‫الخصوص ‪ .‬قال ‪ :‬ومن ذلك ‪ :‬طلب الصّداق في النّكاح ‪ ،‬والذّبح في المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول‬
‫‪ ،‬والفروض المقدّرة في المواريث ‪ ،‬وعدد الشهر في عدّة الطّلق والوفاة ‪ ،‬وما أشبه ذلك من المور الّتي ل‬
‫مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئيّة ‪ ،‬حتّى يقاس عليها غيرها ‪ .‬فإنّا نعلم أنّ الشّروط المعتبرة في‬
‫ن فروض المواريث ترتّبت على‬
‫النّكاح ‪ ،‬من الوليّ والصّداق وشبه ذلك ‪ ،‬هي لتمييز النّكاح عن السّفاح ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ترتيب القربى من الميّت ‪ ،‬وأنّ العدد والستبراءات ‪ ،‬المراد بها استبراء الرّحم خوفا من اختلط المياه ‪،‬‬
‫ولكنّها أمور جمليّة ‪ ،‬كما أنّ الخضوع والجلل علّة شرع العبادات ‪ .‬وهذا المقدار ل يقضي بصحّة القياس‬
‫على الصل فيها ‪ ،‬بحيث يقال ‪ :‬إذا حصل الفرق بين النّكاح والسّفاح بأمور أخر مثل ‪ ،‬لم تشترط تلك‬
‫الشّروط ‪.‬‬
‫ومتى علم براءة الرّحم لم تشرع العدّة بالقراء ول بالشهر ‪ ،‬ول ما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫شرِعت لنا لحكمة يعلمها اللّه تعالى وخفيت علينا ‪ ،‬أو إنّها‬
‫‪ - 4‬هذا وقد اختلفت الفقهاء في أنّ التّعبّديّات ُ‬
‫شُرِعت ل لحكمة أصلً غي َر مجرّد تعبّد اللّه للعباد واستدعائه المتثال منهم ‪ ،‬اختبارا لطاعة العبد لمجرّد‬
‫المر والنّهي من غير أن يعرف وجه المصلحة فيما يعمل ‪ ،‬بمنزلة سيّد أراد أن يختبر عبيده أيّهم أطوع له ‪،‬‬
‫فأمرهم بالتّسابق إلى لمس حجر ‪ ،‬أو اللتفات يمينا أو يسارا ممّا ل مصلحة فيه غير مجرّد الطّاعة ‪.‬‬
‫‪ - 5‬قال ابن عابدين نقلً عن الحلية ‪ :‬أكثر العلماء على القول الوّل ‪ ،‬وهو المتّجه ‪ ،‬بدللة استقراء تكاليف‬
‫اللّه تعالى على كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد ‪.‬‬
‫ل الحكام الشّرعيّة معلّلة بمصالح العباد في‬
‫وكذلك الشّاطبيّ في موافقاته اعتمد الستقراء دليلً على أنّ ك ّ‬
‫ن المعتزلة متّفقون على أنّ أحكامه معلّلة برعاية مصالح العباد ‪ ،‬وهو اختيار أكثر‬
‫الدّنيا والخرة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫الفقهاء المتأخّرين ‪ .‬قال ‪ :‬ولمّا اضطرّ الرّازيّ إلى إثبات العلل للحكام الشّرعيّة أثبت ذلك على أنّ العلل‬
‫بمعنى العلمات المعرّفة للحكام ‪ .‬وذكر الشّاطبيّ من الدلّة الّتي استقرأها قوله تعالى في شأن الوضوء‬
‫شكُرُون } ‪.‬‬
‫طهّرَكمْ وَِل ُي ِتمّ ِن ْع َمتَهُ عَلَي ُكمْ َلعَّل ُكمْ َت ْ‬
‫حرَجٍ وَلَكنْ ُيرِيدُ ِل ُي َ‬
‫ن َ‬
‫جعَلَ عَلَي ُكمْ مِ ْ‬
‫والغسل { مَا ُيرِي ُد اللّ ُه ِل َي ْ‬
‫ن مِنْ َقبِْل ُكمْ َلعَّل ُكمْ َتتّقُونَ } ‪.‬‬
‫صيَامُ َكمَا ُكتِبَ على اّلذِي َ‬
‫وفي الصّيام { ُكتِبَ عَلَيكُمْ ال ّ‬
‫حيَا ٌة يَا أُوِليْ الَ ْلبَابِ َلعَّل ُكمْ َتتّقُونَ } وآيات نحو هذه ‪.‬‬
‫وفي القصاص { وََل ُكمْ فِي ال ِقصَاصِ َ‬
‫وممّن ذهب إلى مثل ذلك ابن القيّم ‪ ،‬حيث قال ‪ :‬قالت طائفة ‪ :‬إنّ عدّة الوفاة تعبّد محض ‪ ،‬وهذا باطل ‪ ،‬فإنّه‬
‫ليس في الشّريعة حكم واحد إلّا وله معنى وحكمة ‪ ،‬يعقله من يعقله ‪ ،‬ويخفى على من خفي عليه ‪ .‬وقرّر هذا‬
‫المعنى تقريرا أوسع فقال ‪ :‬شرع اللّه العقوبات ‪ ،‬ورتّبها على أسبابها ‪ ،‬جنسا وقدرا ‪ ،‬فهو عالم الغيب‬
‫والشّهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ‪ ،‬ومن أحاط بكلّ شيء علما ‪ ،‬وعلم ما كان وما يكون ‪ ،‬وأحاط‬
‫علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيّها وظاهرها ‪ ،‬ما يمكن اطّلع البشر عليه وما ل يمكنهم ‪ .‬وليست‬
‫ن التّخصيصات والتّقديرات‬
‫هذه التّخصيصات والتّقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫واقعة في خلقه كذلك ‪ ،‬فهذا في خلقه وذاك في أمره ‪ ،‬ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه‬
‫كلّ شيء في موضعه الّذي ل يليق به سواه ول يتقاضى إلّا إيّاه ‪ ،‬كما وضع قوّة البصر والنّور الباصر في‬
‫شمّ في النف ‪ ،‬وخصّ كلّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن‬
‫العين ‪ ،‬وقوّة السّمع في الذن ‪ ،‬وقوّة ال ّ‬
‫يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره ‪ ،‬فشمل إتقانه وإحكامه ‪ ،‬وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية‬
‫التقان ‪ ،‬وأحكمه غاية الحكام ‪ ،‬فلن يكون أمره في غاية التقان أولى وأحرى ‪ ،‬ول يكون الجهل بحكمة‬
‫اللّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض الحكمة والعلم مسوّغا لنكاره في نفس المر ‪ .‬وسار‬
‫سنّة‬
‫على هذه الطّريقة وليّ اللّه الدّهلويّ في حجّة اللّه البالغة وقال ‪ :‬إنّ القول الخر ( التي ) تكذّبه ال ّ‬
‫وإجماع القرون المشهود لها بالخير ‪.‬‬
‫‪ - 6‬أمّا القول الثّاني بوجود أحكام ولو على سبيل النّدرة قصد منها التّعبّد والمتثال ‪ .‬فيدلّ عليه ما ورد في‬
‫ل الّتي كَانتْ عَلَيهمْ } أنّه كان قد جعل‬
‫صرَهُمْ وَالغْل َ‬
‫ع ْن ُهمْ ِإ ْ‬
‫كتاب اللّه تعالى من قوله تعالى { ‪َ . . .‬و َيضَعُ َ‬
‫على من كان قبلنا آصارا وأغللً لتعنّتهم وشقاقهم ‪ ،‬كما ألزم بني إسرائيل بأن تكون البقرة الّتي أمرهم‬
‫بذبحها ل فارضا ول بكرا ‪ ،‬وأن تكون صفراء ‪ .‬وأيضا فإنّ في بعض البتلء واستدعاء الطّاعة والمتثال‬
‫والتّدريب على ذلك مصلحة كبيرة ‪ ،‬ل يزال أولياء المور يدرّبون عليها أنصارهم وأتباعهم ‪ ،‬ويبذلون في‬
‫ن وليّ‬
‫ذلك الموال الطّائلة ‪ ،‬ليكونوا عند الحاجة ملبّين للوامر دون تردّد أو حاجة إلى التّفهّم ‪ ،‬اكتفاء وثقة بأ ّ‬
‫أمرهم هو أعلم منهم بما يريد ‪.‬‬
‫بل إنّ مصلحة الطّاعة والمتثال والمسارعة إليهما هي الحكمة الولى المبتغاة من وضع الشّريعة ‪ ،‬بل من‬
‫لنْسَ إل ِل َي ْع ُبدُونَ } وقال { يَا َأ ّيهَا الّذينَ آ َمنُوا َل َيبْلُ َو ّن ُكمْ‬
‫جنّ وَا ِ‬
‫الخلق في أساسه ‪ ،‬قال اللّه تعالى { َومَا خََلقْتُ ال ِ‬
‫حتّى َنعَْلمَ‬
‫ن َيخَافُه بِال َغيْبِ } ‪ .‬وقال ‪ { :‬وََل َنبْلُ َو ّن ُكمْ َ‬
‫ح ُكمْ ِل َيعَْلمَ اللّ ُه مَ ْ‬
‫ن الصّيدِ َتنَالُه َأ ْيدِيكُمْ َو ِرمَا ُ‬
‫اللّ ُه ِبشَي ٍء مِ َ‬
‫ت عليها إل ِل َنعَْلمَ َمنْ َي ّتبِعُ‬
‫جعَ ْلنَا ال ِقبْلَ َة الّتي ُكنْ َ‬
‫خبَا َر ُكمْ } وقال { َومَا َ‬
‫ن ِم ْنكُم وَالصّابِرِينَ َو َنبْلُ َو َأ ْ‬
‫ال ُمجَاهِدِي َ‬
‫ن َينْقَلبُ على عَ ِقبَيهِ } ولكن من فضل اللّه علينا في شريعة السلم أنّه جعل غالب أحكامها تراعي‬
‫الرّسُولَ ِممّ ْ‬
‫مصلحة العباد بالضافة إلى مصلحة البتلء ‪ ،‬ولكن ل يمنع ذلك من وجود أحكام ل تراعي ذلك ‪ ،‬بل قصد‬
‫بها البتلء خاصّة ‪ ،‬وذلك على سبيل النّدرة ‪.‬‬
‫وفي هذا يقول الغزاليّ ‪ :‬عرف من دأب الشّرع اتّباع المعاني المناسبة دون التّحكّمات الجامدة ‪ ،‬وهذا غالب‬
‫عادة الشّرع ‪ .‬ويقول ‪ :‬حمل تصرّفات الشّارع على التّحكّم أو على المجهول الّذي ل يعرف ‪ ،‬نوع ضرورة‬
‫يرجع إليها عند العجز ‪ .‬وقال ‪ :‬ما يتعلّق من الحكام بمصالح الخلق من المناكحات والمعاملت والجنايات‬
‫والضّمانات وما عدا العبادات فالتّحكّم فيها نادر ‪ ،‬وأمّا العبادات والمقدّرات فالتّحكّمات فيها غالبة ‪ ،‬واتّباع‬
‫المعنى نادر ‪.‬‬
‫وصرّح بذلك الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلم في قواعده فقال ‪ :‬يجوز أن تتجرّد التّعبّدات عن‬
‫جلب المصالح ودرء المفاسد ‪ ،‬ثمّ يقع الثّواب عليها بناء على الطّاعة والذعان من غير جلب مصلحة غير‬
‫مصلحة الثّواب ول درء مفسدة غير مفسدة العصيان ‪.‬‬
‫‪ - 7‬فالتّعبّديّ على القول الوّل ‪ :‬استأثر اللّه تعالى بعلم حكمته ‪ ،‬ولم يطلع عليها أحدا من خلقه ‪ ،‬ولم يجعل‬
‫سبيل للطّلع عليه مع ثبوت المصلحة فيه في نفس المر ‪ ،‬أخفى ذلك عنهم ابتلء واختبارا ‪ .‬هل يمتثلون‬
‫ويطيعون دون أن يعرفوا وجه المصلحة ‪ ،‬أم يعصون اتّباعا لمصلحة أنفسهم ؟ ‪.‬‬
‫وعلى القول الثّاني ‪ :‬ابتلهم بما ل مصلحة لهم فيه أصل غير مجرّد الثّواب ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العبادة ‪:‬‬
‫ج ‪ .‬وكثير‬
‫‪ - 8‬أصل العبادة ‪ :‬الطّاعة والخضوع ‪ .‬والعبادات ‪ ،‬أنواع ‪ :‬منها الصّلة والزّكاة والصّوم والح ّ‬
‫منها معقول المعنى ‪ ،‬بيّنت الشّريعة حكمته ‪ ،‬أو استنبطها الفقهاء ‪ .‬ومن ذلك قوله تعالى في شأن الصّلة {‬
‫ش َهدُوا َمنَافِعَ لَهمْ } وقول الفقهاء‬
‫ج { ِل َي ْ‬
‫حشَاءِ وَال ُم ْن َكرِ } وقوله في شأن الح ّ‬
‫عنْ ال َف ْ‬
‫وََأ ِقمْ الصّلةَ ِإنّ الصّل َة َت ْنهَى َ‬
‫في حكمة التّرخيص في الفطار في السّفر أثناء رمضان ‪ :‬إنّها دفع المشقّة ‪ .‬فليس شيء من ذلك تعبّديّا ‪.‬‬
‫وبعض أحكام العبادات غير معقول المعنى ‪ ،‬فيكون تعبّديّا ‪ ،‬ككون رمي الجمار سبعا سبعا ‪ .‬وتكون‬
‫التّعبّديّات أيضا في غير العبادات ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬استبراء المة الّتي اشتراها بائعها في مجلس البيع ‪ ،‬وعادت‬
‫إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها ‪.‬‬
‫ق اللّه ‪:‬‬
‫ب‪-‬حّ‬
‫‪ - 9‬قد يقال في كثير من الحكام ‪ :‬إنّه لحقّ اللّه ‪ ،‬كالصّلة والصّوم وسائر العبادات وكحدّ السّرقة وحدّ‬
‫الزّنى ‪.‬‬
‫ن كلّ‬
‫ويقال في كثير منها ‪ :‬إنّه لحقّ النسان ‪ ،‬كحقّ القصاص وحدّ القذف والدّين والضّمانات ‪ .‬وقد يظنّ أ ّ‬
‫ق اللّه تعالى أنّه تعبّديّ ‪ ،‬إل أنّ المراد من" حقّ اللّه تعالى" أنّه ل خيرة فيه للعباد ‪ ،‬ول‬
‫ما كان منها لح ّ‬
‫يجوز لحد إسقاطه ‪ ،‬بل ل بدّ للعباد من تنفيذه إذا وجد سببه ‪ ،‬وتمّت شروط وجوبه أو تحريمه ‪ .‬وليس كلّ‬
‫ما كان لحقّ اللّه تعالى تعبّديّا ‪ ،‬بل يكون تعبّديّا إذا خفي وجه الحكمة فيه ‪ .‬ويكون غير تعبّديّ ‪ ،‬وذلك إذا‬
‫ظهرت حكمته ‪.‬‬
‫قال الشّاطفبيّ ‪ :‬الحكفم المسفتخرجة لمفا ل يعقفل معناه على وجفه الخصفوص ففي التّعبّدات ‪ ،‬كاختصفاص‬
‫الوضوء بالعضاء المخ صوصة ‪ ،‬وال صّلة بتلك الهيئة من ر فع اليد ين والقيام والرّكوع وال سّجود ‪ ،‬وكون ها‬
‫على ب عض الهيئات دون ب عض ‪ ،‬واخت صاص ال صّيام بالنّهار دون اللّ يل ‪ ،‬وتعي ين أوقات ال صّلوات في تلك‬
‫الحيان المعيّنة دون سواها من أحيان النّهار واللّيل ‪ ،‬واختصاص الح جّ بتلك العمال المعروفة ‪ ،‬في الماكن‬
‫المعلومة ‪ ،‬وإلى مسجد مخصوص ‪ ،‬إلى أشباه ذلك ممّا ل تهتدي العقول إليه بوجه ‪ ،‬ول تحوم حوله ‪ ،‬يأتي‬
‫بعض النّاس فيطرق إليه بزعمه حكما ‪ ،‬يزعم أنّها مقصود الشّارع من تلك الوضاع ‪ ،‬وجميعها مبن يّ على‬
‫ظ نّ وتخم ين غير مطّرد في با به ‪ ،‬ول مبن يّ عليه عمل ‪ ،‬بل كالتّعل يل بعد ال سّماع للمور الشّواذّ ‪ ،‬لجناي ته‬
‫على الشّريعة في دعوى ما ليس لنا به علم ‪ ،‬ول دليل لنا عليه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المعلّل بالعلّة القاصرة ‪:‬‬
‫‪ -‬ولمّا كان حكم التّعبّديّات أنّه ل يقاس عليها ‪ ،‬فقد يشتبه بها المعلّل بالعلّة القاصرة ‪ ،‬لنّه ل يقاس عليه ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ن القياس فرع معر فة العلّة ‪ ،‬أمّا‬


‫ن التّعبّد يّ ل يس له علّة ظاهرة ‪ ،‬فيمت نع القياس عل يه ل ّ‬
‫والفرق بينه ما ‪ :‬أ ّ‬
‫المعلّل بالعلّة القاصرة فعلّته معلومة لكنّها ل تتعدّى محلّها ‪ ،‬إذ لم يعلم وجودها في شيء آخر غير الصل ‪.‬‬
‫مثاله « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين » ‪ .‬وهذا حكم خاصّ به ‪،‬‬
‫وعلّته والمعنى فيه أنّه أوّل من تنبّه وبادر إلى تصديق النّبيّ صلى ال عليه وسلم في تلك الحادثة بعينها‬
‫والشّهادة له ‪ ،‬بموجب التّصديق العامّ له صلى ال عليه وسلم ‪ .‬والوّليّة معنى ل يتكرّر ‪ ،‬فاختصّ به ‪ ،‬فليس‬
‫ذلك تعبّديّا ‪ ،‬لكون علّته معلومة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬المعدول به عن سنن القياس ‪:‬‬
‫‪ - 11‬ما خالف القياس قد يكون غير معقول المعنى كتخصيص النّبيّ صلى ال عليه وسلم بنكاح تسع نسوة «‬
‫وإجزاء العناق في التّضحية في حقّ أبي بردة هانئ بن دينار » ‪ ،‬وكتقدير عدد الرّكعات ‪.‬‬
‫وقد يكون معقول المعنى كاستثناء بيع العرايا من النّهي عن بيع التّمر بالتّمر خرصا ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬المنصوص على علّته ‪:‬‬
‫ن المصالح في التّكليف ظهر لنا من‬
‫ن بعض ما عرفت علّته قد يكون تعبّديّا ‪ .‬فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ - 12‬أورد الشّاطبيّ أ ّ‬
‫الشّارع أنّها على ضربين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالجماع والنّصّ والسّبر والشارة والمناسبة ‪،‬‬
‫وهذا هو القسم الظّاهر الّذي نعلّل به ‪ ،‬وتقول ‪ :‬إنّ الحكام شرعت لجله ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ما ل يمكن الوصول إليه بتلك المسالك المعهودة ‪ ،‬ول يطّلع عليه إلّا بالوحي كالحكام الّتي أخبر‬
‫الشّارع فيها أنّها أسباب للخصب والسّعة وقيام أبّهة السلم ‪ -‬كقوله تعالى في سياق قصّة نوح ‪ { :‬فَقُلتُ‬
‫جعَلْ‬
‫جنّاتٍ َو َي ْ‬
‫جعَلْ لَكمْ َ‬
‫سمَاءَ عَليكمْ ِم ْدرَارَا َو ُي ْمدِ ْد ُكمْ ِبَأمْوَالٍ َو َبنِينَ َو َي ْ‬
‫غفّارَا ُيرْسِلِ ال ّ‬
‫س َتغْفِرُوا َر ّبكُمْ ِإنّه كانَ َ‬
‫اْ‬
‫َل ُكمْ َأ ْنهَارَا } ‪.‬‬
‫فل يعلم وجه كون الستغفار سببا للمطر وللخصب إل بالوحي ‪.‬‬
‫ولذلك ل يقاس عليه ‪ ،‬فل يعلم كون الستغفار سببا في حصول العلم وقوّة البدان مثلً ‪ ،‬فل يكون إلى‬
‫اعتبار هذه العلّة في القياس سبيل ‪ ،‬فبقيت موقوفة على التّعبّد المحض ‪ .‬ولذا يكون أخذ الحكم المعلّل بها‬
‫متعبّدا به ‪ ،‬ومعنى التّعبّد هنا ‪ :‬الوقوف عند ما حدّ الشّارع فيه ‪.‬‬
‫حكمة تشريع التّعبّديّات ‪:‬‬
‫‪ - 13‬حكمة تشريع التّعبّديّات استدعاء المتثال ‪ ،‬واختبار مدى الطّاعة والعبوديّة ‪ .‬وقد عبّر عن ذلك الغزاليّ‬
‫في الحياء بقوله ‪ -‬في بيان أسرار رمي الجمار ‪ -‬وظّف اللّه تعالى على العباد أعمال ل تأنس بها النّفوس ‪،‬‬
‫ول تهتدي إلى معانيها العقول ‪ ،‬كرمي الجمار بالحجار ‪ ،‬والتّردّد بين الصّفا والمروة على سبيل التّكرار ‪.‬‬
‫ن الزّكاة إرفاق ‪ ،‬ووجهه مفهوم ‪ ،‬وللعقل إليه ميل ‪،‬‬
‫وبمثل هذه العمال يظهر كمال ال ّرقّ والعبوديّة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫والصّوم كسر للشّهوة الّتي هي آلة عد ّو اللّه ‪ ،‬وتفرّغ للعبادة ‪ ،‬بالكفّ عن الشّواغل ‪ .‬والرّكوع والسّجود في‬
‫الصّلة تواضع للّه عزّ وجلّ بأفعال هي هيئة التّواضع ‪ ،‬وللنّفوس السّعي بتعظيم اللّه عزّ وجلّ ‪ .‬فأمّا تردّدات‬
‫السّعي ورمي الجمار وأمثال هذه العمال ‪ ،‬فل حظّ للنّفوس فيها ول أنس للطّبع بها ‪ ،‬ول اهتداء للعقول إلى‬
‫معانيها ‪ ،‬فل يكون في القدام عليها باعث إلّا المر المجرّد ‪ ،‬وقصد المتثال للمر من حيث إنّه أمر واجب‬
‫ل ما أدرك العقل‬
‫التّباع فقط ‪ ،‬وفيه عزل للعقل عن تصرّفه وصرف النّفس والطّبع عن محلّ أنسه ‪ .‬فإنّ ك ّ‬
‫معناه مال الطّبع إليه ميل ما ‪ ،‬فيكون ذلك الميل معيّنا للمر وباعثا معه على الفعل ‪ ،‬فل يكاد يظهر به كمال‬
‫ج على وجه الخصوص ‪ « :‬لبّيك بحجّة حقّا ‪،‬‬
‫الرّقّ والنقياد ‪ .‬ولذلك قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم في الح ّ‬
‫تعبّدا و ِرقّا » ولم يقل ذلك في صلة ول غيرها ‪ .‬وإذا اقتضت حكمة اللّه تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون‬
‫أعمالهم على خلف هوى طباعهم ‪ ،‬وأن يكون زمامها بيد الشّرع ‪ ،‬فيتردّدون في أعمالهم على سنن النقياد‬
‫وعلى مقتضى الستعباد ‪ ،‬كان ما ل يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس ‪ ،‬وصرفها عن‬
‫مقتضى الطّباع والخلق إلى مقتضى السترقاق ‪.‬‬
‫طرق معرفة التّعبّديّ ‪:‬‬
‫‪ - 14‬لم يعرف في تمييز التّعبّديّات عن غيرها من الحكام المعلّلة وجه معيّن ‪ ،‬غير العجز عن التّعليل‬
‫بطريق من الطّرق المعتبرة ‪ ،‬على ما هو معلوم في مباحث القياس من علم الصول ‪ .‬ولذلك يقول ابن‬
‫عابدين ‪ :‬ما شرعه اللّه إن ظهرت لنا حكمته ‪ ،‬قلنا ‪ :‬إنّه معقول المعنى ‪ ،‬وإلّا قلنا ‪ :‬إنّه تعبّديّ ‪ .‬وإلى هذا‬
‫يشير كلم الغزاليّ المتقدّم آنفا ‪ ،‬من أنّ المصير إلى التّعبّد نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز ‪.‬‬
‫ومن هنا اختلفت أقوال الفقهاء في اعتبار بعض الحكام تعبّديّا أو معقول المعنى ‪ ،‬فما يراه بعض الفقهاء‬
‫تعبّديّا قد يراه البعض الخر معلّل بمصالح غلب على ظنّه رعايتها ‪.‬‬
‫فمن ذلك أنّ صاحب ال ّدرّ المختار قال ‪ :‬إنّ تكرار السّجود أمر تعبّديّ ‪ ،‬أي لم يعقل معناه ‪ ،‬تحقيقا للبتلء ‪.‬‬
‫وقال ابن عابدين ‪ :‬وقيل ‪ :‬إنّه ثنّي ترغيما للشّيطان ‪ ،‬حيث أمر بالسّجود مرّة فلم يسجد ‪ ،‬فنحن نسجد مرّتين‬
‫‪ .‬وكون طلق الحائض بدعيّا ‪ ،‬قيل ‪ :‬هو تعبّديّ ‪.‬‬
‫ح أنّه معلّل بتطويل العدّة ‪ ،‬لنّ أوّلها من الطّهر بعد الحيض ‪.‬‬
‫قال الدّردير ‪ :‬والص ّ‬
‫والسّعي بين الصّفا والمروة ورمي الجمار يمثّل بها الفقهاء لغير المعقول المعنى ‪ ،‬كما تقدّم عن الغزاليّ ‪.‬‬
‫غير أنّ بعض العلماء يعلّلونه وأمثاله ممّا وضع من المناسك على هيئة أعمال بعض الصّالحين ‪ ،‬كالسّعي‬
‫الّذي جعل على هيئة سعي أمّ إسماعيل عليه السلم بينهما ‪ .‬يقول تقيّ الدّين بن دقيق العيد ‪ :‬في ذلك من‬
‫الحكمة تذكّر الوقائع الماضية للسّلف الكرام ‪ ،‬وفي طيّ تذكّرها مصالح دينيّة ‪ ،‬إذ يتبيّن في أثناء كثير منها‬
‫ما كانوا عليه من امتثال أمر اللّه ‪ ،‬والمبادرة إليه ‪ ،‬وبذل النفس في ذلك ‪ .‬وبذلك يظهر لنا أنّ كثيرا من‬
‫العمال الّتي وقعت في الحجّ ‪ ،‬ويقال بأنّها " تعبّد " ليست كما قيل ‪ .‬أل ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها‬
‫حصل لنا من ذلك تعظيم الوّلين ‪ ،‬وما كانوا عليه من احتمال المشاقّ في امتثال أمر اللّه ‪ ،‬فكان هذا التّذكّر‬
‫باعثا لنا على مثل ذلك ‪ ،‬ومقرّرا في أنفسنا تعظيم الوّلين ‪ ،‬وذلك معنى معقول ‪ .‬ثمّ ذكر أنّ السّعي بين‬
‫الصّفا والمروة اقتداء بفعل هاجر ‪ ،‬وأنّ رمي الجمار اقتداء بفعل إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬إذ رمى إبليس‬
‫بالجمار في هذا الموضع ‪.‬‬
‫وابن القيّم في إعلم الموقّعين ‪ ،‬سيرا على خطى شيخه شيخ السلم ابن تيميّة رحمهما ال ‪ ،‬رأى كما تقدّم‬
‫ل ما قيل فيه ‪ :‬إنّه مخالف للقياس ‪ ،‬كفرض الصّاع في لبن‬
‫أنّه ليس في الشّريعة تعبّد محض ‪ ،‬وردّ ك ّ‬
‫ن الشّريعة فرّقت بين المتساويات ‪ ،‬كأمرها بالغسل من بول‬
‫المصرّاة المردودة على بائعها ‪ ،‬وما قيل من أ ّ‬
‫الجارية وبالنّضح من بول الصّبيّ ‪ ،‬وسوّت بين المفترقات ‪ ،‬كتسويتها بين الخطأ والعمد في وجوب الضّمان‬
‫‪ .‬فعلّل كلّ ما قيل فيه ذلك ‪ ،‬وبيّن وجه الحكمة فيه ‪ ،‬وأنّ علّته معقولة ‪ ،‬ويوافق القياس ول يخالفه ‪ ،‬وأطال‬
‫في ذلك ‪.‬‬
‫ما تكون فيه التّعبّديّات ‪ ،‬وأمثلة منها ‪:‬‬
‫ن التّعبّديّات أكثر ما تكون في أصول العبادات ‪ ،‬كاشتراع أصل الصّلة أو‬
‫‪ - 15‬يذكر بعض الصوليّين أ ّ‬
‫الصّوم أو العتكاف ‪ .‬وفي نصب أسبابها ‪ ،‬كزوال الشّمس لصلة الظّهر ‪ ،‬وغروبها لصلة المغرب ‪ .‬وفي‬
‫الحدود والكفّارات ‪ .‬وفي التّقديرات العدديّة بوجه عامّ ‪ ،‬كتقدير أعداد الرّكعات ‪ ،‬وتقدير عدد الجلدات في‬
‫الحدود ‪ ،‬وتقدير أعداد الشّهود ‪.‬‬
‫وذكر الشّاطبيّ من أمثلة وقوعها في العادات ‪ :‬طلب الصّداق في النّكاح ‪ ،‬وتخصيص الذّبح بمحلّ مخصوص‬
‫‪ ،‬والفروض المقدّرة في المواريث ‪ ،‬وعدد الشهر في عدّة الطّلق وعدّة الوفاة ‪ .‬ومن أمثلتها عند الحنابلة‬
‫حديث ‪ « :‬نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن يتوضّأ الرّجل بفضل طهور المرأة » ‪.‬‬
‫قال صاحب المغني ‪ :‬منع الرّجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبّديّ غير معقول المعنى ‪ ،‬نصّ عليه‬
‫ن النّهي اختصّ‬
‫أحمد ‪ ،‬ولذلك يباح لمرأة سواها التّطهّر به في طهارة الحدث وغسل النّجاسة وغيرها ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل النّهي ‪ .‬وهل يجوز للرّجل غسل النّجاسة به ؟ فيه وجهان‬
‫بالرّجل ‪ ،‬ولم يعقل معناه ‪ ،‬فيجب قصره على مح ّ‬
‫‪ :‬أحدهما ‪ :‬ل يجوز وهو قول القاضي ‪ .‬والثّاني ‪ :‬يجوز وهو الصّحيح ‪ ،‬لنّه ماء يطهّر المرأة من الحدث‬
‫والنّجاسة ‪ ،‬فيزيل النّجاسة إذا فعله الرّجل كسائر المياه ‪.‬‬
‫والحديث ل تعقل علّته ‪ ،‬فيقتصر على ما ورد به لفظه ‪ -‬أي التّطهّر من الحدث ل غير ‪.‬‬
‫الصل في الحكام من حيث التّعليل أو التّعبّد ‪:‬‬
‫‪ - 16‬اختلف الصوليّون هل الصل في الحكام التّعليل أو عدمه ؟ فذهب البعض إلى الوّل ‪ ،‬فل تعلّل‬
‫ن النّصّ موجب بصيغته ل بالعلّة ‪ .‬ونسب إلى الشّافعيّ رضي ال عنه ‪ :‬أنّ‬
‫الحكام إلّا بدليل ‪ .‬قالوا ‪ :‬ل ّ‬
‫الصل التّعليل بوصف ‪ ،‬لكن ل بدّ من دليل يميّزه من غيره ‪ .‬قال في التّلويح ‪ :‬والمشهور بين أصحاب‬
‫ن الصل في النّصوص التّعليل ‪،‬‬
‫ن الصل في الحكام التّعبّد دون التّعليل ‪ .‬قال ‪ :‬والمختار ‪ :‬أ ّ‬
‫الشّافعيّ ‪ :‬أ ّ‬
‫وأنّه ل بدّ – أي لصحّة القياس – من دليل يميّز الوصف الّذي هو علّة ‪ ،‬ومع ذلك ل بدّ قبل التّعليل والتّمييز‬
‫ن هذا الوصف الّذي يريد استخراج علّته معلّل في الجملة ‪.‬‬
‫من دليل يدلّ على أ ّ‬
‫وذهب الشّاطبيّ إلى أنّ المر في ذلك يختلف بين العبادات والمعاملت ‪ ،‬قال ‪ :‬الصل في العبادات بالنّسبة‬
‫للمكلّف التّعبّد ‪ ،‬دون اللتفات إلى المعاني ‪ ،‬والصل في العادات اللتفات إلى المعاني ‪.‬‬
‫ن الصل في العبادات التّعبّد ‪ ،‬فيدلّ له أمور منها ‪:‬‬
‫‪ - 17‬فأمّا أ ّ‬
‫الستقراء ‪ .‬فالصّلوات خصّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ‪،‬‬
‫ووجدنا الذّكر في هيئة ما مطلوبا ‪ ،‬وفي هيئة أخرى غير مطلوب ‪ ،‬وأنّ طهارة الحدث مخصوصة بالماء‬
‫ن التّيمّم ‪ -‬وليست فيه نظافة حسّيّة ‪ -‬يقوم مقام الطّهارة بالماء‬
‫الطّهور ‪ ،‬وإن أمكنت النّظافة بغيره ‪ ،‬وأ ّ‬
‫المطهّر ‪.‬‬
‫وهكذا سائر العبادات كالصّوم والحجّ وغيرهما ‪ ،‬وإنّما فهمنا من حكمة التّعبّد العامّة النقياد لوامر اللّه تعالى‬
‫ن المقصود الشّرعيّ الوّل التّعبّد للّه‬
‫ص ‪ ،‬فعلمنا أ ّ‬
‫‪ ،‬وهذا المقدار ل يعطي علّة خاصّة يفهم منها حكم خا ّ‬
‫بذلك المحدود ‪ ،‬وأنّ غيره غير مقصود شرعا ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنّه لو كان المقصود التّوسعة في التّعبّد بما حدّ وما لم يحدّ ‪ ،‬لنصب الشّارع عليه دليل واضحا ‪ ،‬ولمّا‬
‫ن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ‪ ،‬إل أن يتبيّن بنصّ أو‬
‫لم نجد ذلك كذلك ‪ -‬بل على خلفه ‪ -‬دلّ على أ ّ‬
‫ن ذلك قليل ‪ ،‬فليس بأصل ‪ ،‬وإنّما الصل‬
‫إجماع معنى مراد في بعض الصّور ‪ ،‬فل لوم على من اتّبعه ‪ .‬لك ّ‬
‫ن الصل في العادات اللتفات إلى‬
‫ما ع ّم في الباب وغلب على الموضع ‪ - 18 .‬ثمّ قال الشّاطبيّ ‪ :‬وأمّا إ ّ‬
‫المعاني فلمور ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬الستقراء ‪ ،‬فنرى الشّيء الواحد يمنع في حال ل تكون فيه مصلحة ‪ ،‬فإذا كان فيه مصلحة جاز‬
‫كالدّرهم بالدّرهم إلى أجل ‪ :‬تمتنع في المبايعة ‪ ،‬ويجوز في القرض ‪ .‬وكبيع الرّطب من جنس بيابسه ‪ .‬يمتنع‬
‫حيث يكون مجرّد غرر وربا من غير مصلحة ‪ ،‬ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة " كما في تمر العرايا‬
‫أبيح بيعه بالتّمر توسعة على النّاس " ‪ ،‬ولتعليل النّصوص أحكام العادات بالمصلحة كما في قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫ن يُوقِعَ َب ْي َن ُكمْ ال َعدَاوَةَ وال َب ْغضَاءَ في‬
‫شيْطَانُ أ ْ‬
‫حيَاةٌ } وفي آية تحريم الخمر { ِإ ّنمَا ُيرِيدُ ال ّ‬
‫وََل ُكمْ في ال ِقصَاصِ َ‬
‫ن ِذكْرِ اللّهِ وِعنِ الصّل ِة فَهلْ َأ ْن ُتمْ ُم ْن َتهُونَ } وفي حديث ‪ « :‬ل يقضي القاضي بين‬
‫صدّ ُكمْ ع ْ‬
‫خمْرِ وال َم ْيسِ ِر و َي ُ‬
‫ال َ‬
‫اثنين وهو غضبان » ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ن أكثر ما علّل اللّه تعالى في العادات بالمناسب الّذي إذا عرض على العقول تلقّته بالقبول ‪ ،‬ففهمنا‬
‫والثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫ن المعلوم فيها‬
‫ن قصد الشّارع فيها اتّباع المعاني ‪ ،‬ل الوقوف مع النّصوص ‪ .‬بخلف العبادات ‪ ،‬فإ ّ‬
‫من ذلك أ ّ‬
‫خلف ذلك ‪ ،‬ولهذا توسّع مالك حتّى قال بقاعدة المصالح المرسلة ‪ ،‬والستحسان ‪.‬‬
‫ن اللتفات إلى المعاني في أمور العادات كان معلوما في الفترات ‪ ،‬واعتمد عليه العقلء ‪ ،‬حتّى‬
‫والثّالث ‪ :‬أ ّ‬
‫جرت بذلك مصالحهم ‪ ،‬سواء أهل الحكمة الفلسفيّة وغيرهم ‪ .‬إل أنّهم قصّروا في جملة من التّفاصيل ‪،‬‬
‫فجاءت الشّريعة لتتمّم مكارم الخلق ‪ .‬ومن هنا أقرّت الشّريعة جملة من الحكام الّتي كانت في الجاهليّة ‪،‬‬
‫كالدّية ‪ ،‬والقسامة ‪ ،‬والقراض ‪ ،‬وكسوة الكعبة ‪ ،‬وأشباه ذلك ممّا كان من محاسن العوائد ومكارم الخلق‬
‫الّتي تقبلها العقول ‪.‬‬
‫المفاضلة بين التّعبّديّ ومعقول المعنى ‪:‬‬
‫‪ - 19‬نقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى التمرتاشية أنّه قال ‪ :‬لم أقف على شيء من ذلك لعلمائنا في هذا ‪،‬‬
‫سوى قولهم ‪ :‬الصل في النّصوص التّعليل ‪ ،‬فإنّه يشير إلى أفضليّة المعقول معناه ‪ .‬قال ‪ :‬ووقفت على ذلك‬
‫ي أفضل ‪ ،‬لنّه بمحض النقياد ‪ ،‬بخلف ما‬
‫ن التّعبّد ّ‬
‫في فتاوى ابن حجر ‪ ،‬قال ‪ :‬قضيّة كلم ابن عبد السّلم أ ّ‬
‫ظهرت علّته ‪ ،‬فإنّ ملبسه قد يفعل لتحصيل فائدته ‪ ،‬وخالفه البلقينيّ فقال ‪ :‬ل شكّ أنّ معقول المعنى من‬
‫حيث الجملة أفضل ‪ ،‬لنّ أكثر الشّريعة كذلك ‪.‬‬
‫وظاهر كلم الشّاطبيّ الخذ بقول من يقول ‪ :‬إنّ التّعبّديّ أفضل ‪ ،‬وذلك حيث قال ‪ :‬إنّ التّكاليف إذا علم قصد‬
‫المصلحة فيها فللمكلّف في الدّخول تحتها ثلثة أحوال ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشّارع في شرعها ‪ .‬وهذا ل إشكال فيه ‪ ،‬ولكن ل ينبغي أن يخلّيه‬
‫من قصد التّعبّد ‪ ،‬فكم ممّن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها ‪ ،‬فغاب عن أمر المر بها ‪ .‬وهي غفلة تفوّت‬
‫خيرات كثيرة ‪ ،‬بخلف ما إذا لم يهمل التّعبّد ‪.‬‬
‫ن المصالح ل يقوم دليل على انحصارها فيما علم إل نادرا ‪ ،‬فإذا لم يثبت الحصر كان قصد تلك الحكمة‬
‫ثمّ إ ّ‬
‫المعيّنة ربّما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشّارع ‪ ،‬ممّا اطّلع عليه أو لم يطّلع عليه ‪.‬‬
‫وهذا أكمل من القصد الوّل ‪ ،‬إل أنّه ربّما فاته النّظر إلى التّعبّد ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬أن يقصد مجرّد امتثال المر ‪ ،‬فهم قصد المصلحة أو لم يفهم ‪ .‬قال ‪ :‬فهذا أكمل وأسلم ‪ .‬أمّا كونه‬
‫أكمل فلنّه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبّيا ‪ ،‬إذ لم يعتبر إلّا مجرّد المر ‪ .‬وقد وكّل العلم بالمصلحة‬
‫إلى العالم بها جملة وتفصيل وهو اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ن العامل بالمتثال عامل بمقتضى العبوديّة ‪ ،‬فإن عرض له قصد غير اللّه ردّه قصد‬
‫وأمّا كونه أسلم ‪ ،‬فل ّ‬
‫التّعبّد ‪ .‬فهذا الّذي قاله يتجلّى في التّعبّديّات أكثر ممّا يظهر فيما كان معقول المعنى من الحكام ‪ .‬ومذهب‬
‫ن ما ل يهتدى‬
‫ي أفضل ‪ ،‬كما هو واضح فيما تقدّم النّقل عنه من قوله ‪ :‬إ ّ‬
‫ن التّعبّد ّ‬
‫الغزاليّ في ذلك أيضا أ ّ‬
‫لمعانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس ‪ .‬وفي حاشية ابن عابدين ‪ :‬أنّ هذين القولين في الفضليّة هما‬
‫على سبيل الجمال ‪ ،‬أمّا بالنّظر إلى الجزيئات ‪ ،‬فقد يكون التّعبّديّ أفضل كالوضوء وغسل الجنابة ‪ ،‬فإنّ‬
‫الوضوء أفضل ‪ .‬وقد يكون المعقول أفضل كالطّواف والرّمي ‪ ،‬فإنّ الطّواف أفضل ‪.‬‬
‫خصائص التّعبّديّات ‪:‬‬
‫‪ - 20‬من أحكام التّعبّديّات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنّه ل يقاس عليها ‪ ،‬لنّ القياس فرع معرفة العلّة ‪ ،‬والفرض ‪ :‬أنّ التّعبّديّ لم تعرف علّته ‪ ،‬فيمتنع‬
‫القياس عليه ‪ ،‬ول يتعدّى حكمه موضعه ‪ ،‬سواء أكان مستثنى من قاعدة عامّة ول يعقل معنى الستثناء ‪،‬‬
‫كتخصيص النّبيّ صلى ال عليه وسلم بنكاح تسع نسوة ‪ ،‬وتخصيص أبي بردة بالتّضحية بعناق ‪ ،‬أم لم يكن‬
‫كذلك ‪ ،‬بل كان حكما مبتدأ ‪ ،‬كتقدير أعداد الرّكعات ‪ ،‬ووجوب شهر رمضان ‪ ،‬ومقادير الحدود والكفّارات‬
‫وأجناسها ‪ ،‬وجميع التّحكّمات المبتدأة الّتي ل ينقدح فيها معنى ‪ ،‬فل يقاس عليها غيرها ‪.‬‬
‫‪ - 21‬وبناء على هذا الصل وقع الخلف بين الفقهاء في فروع فقهيّة ‪ ،‬منها ‪ :‬رجم اللّوطيّ ‪ ،‬رفضه الحنفيّة‬
‫‪ ،‬وأثبته مالك وأحمد في رواية عنه والشّافعيّ في أحد قوليه ‪.‬‬
‫ن الحدود مشتملة على تقديرات ل تعرف ‪ ،‬كعدد‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬ل يجري القياس في الحدود والكفّارات ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن العقل ل يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد ‪ ،‬قالوا‬
‫المائة في حدّ الزّنى ‪ ،‬والثّمانين في القذف ‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪ :‬وما كان يعقل منها ‪ -‬أي من أحكام الحدود ‪ -‬فإنّ الشّبهة في القياس لحتماله الخطأ توجب عدم إثباته‬
‫بالقياس ‪ ،‬وهذا كقطع يد السّارق لكونها جنت بالسّرقة فقطعت ‪.‬‬
‫وهكذا اختلف تقديرات الكفّارات ‪ ،‬فإنّه ل يعقل كما ل تعقل أعداد الرّكعات ‪.‬‬
‫وأجاز غير الحنفيّة القياس في الحدود والكفّارات ‪ ،‬لكن فيما يعقل معناه من أحكامها ل فيما ل يعقل منها ‪،‬‬
‫كما في غير الحدود والكفّارات ‪.‬‬
‫ن التّعبّديّات ما كان منها من العبادات فل بدّ فيه من نيّة كالطّهارة ‪ ،‬والصّلة ‪،‬‬
‫ب ‪ -‬قال الشّاطبيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫والصّوم ‪ .‬ومن لم يشترط ال ّنيّة في بعضها فإنّه يبني على كون ذلك البعض معقول المعنى ‪ ،‬فحكمه كما لو‬
‫كان من أمور العادات ‪.‬‬
‫أمّا صوم رمضان والنّذر المعيّن ‪ ،‬فلم يشترط الحنفيّة لهما تبييت ال ّنيّة ول التّعيين ‪ ،‬ووجه ذلك عندهم ‪ :‬أنّه‬
‫ن الكفّ عن المفطرات قد استحقّه الوقت ‪ ،‬فل‬
‫لو نوى غيرهما في وقتهما انصرف إليهما ‪ ،‬بناء على أ ّ‬
‫ينصرف لغيره ‪ ،‬ول يصرفه عنه قصد سواه ‪ .‬ومن هذا ما قال الحنابلة في غسل القائم من نوم اللّيل يده قبل‬
‫إدخالها الناء ‪ :‬إنّه تعبّديّ ‪ ،‬فتعتبر له ال ّنيّة الخاصّة ‪ ،‬ول يجزئ عن غسلهما نيّة الوضوء أو الغسل ‪ ،‬لنّهما‬
‫عبادة مفردة ‪.‬‬

‫تعبير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعبير لغة ‪ :‬التّبيين ‪ .‬يقال ‪ :‬عبّر عمّا في نفسه ‪ :‬أي أعرب وبيّن ويقال لمن أعرب عن عييّ ‪ :‬عبّر‬
‫عنه ‪ .‬واللّسان يعبّر عمّا في الضّمير ‪ :‬أي يبيّن ‪.‬‬
‫ي بتعبير الرّؤيا ‪ ،‬وهو ‪ :‬العبور من ظواهرها إلى‬
‫والسم ‪ :‬العبرة والعِبارة والعَبارة ‪ .‬وخصّه أبو البقاء الكفو ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫بواطنها ‪ .‬واستعمال الفقهاء له ل يخرج عن معناه اللّغو ّ‬
‫طرق التّعبير ‪:‬‬
‫‪ - 2‬هناك أكثر من طريق للتّعبير عن الرادة ‪ ،‬فقد يكون بالقول ‪ ،‬وقد يكون بالفعل ‪ ،‬وقد يكون بالسّكوت أو‬
‫الضّحك والبكاء ‪.‬‬
‫والفعل ‪ :‬إمّا أن يكون بالمعاطاة ‪ ،‬أو بالكتابة ‪ ،‬أو بالشارة ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬التّعبير بالقول ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الصل في التّعبير عن الرادة ‪ :‬أن يكون بالقول ‪ ،‬لنّه من أوضح الدّللت على تلك الرادة ‪ ،‬ولنّ‬
‫ي قلبيّ ‪ ،‬ل اطّلع لنا عليه ‪ ،‬فنيط الحكم بسبب ظاهر وهو القول ‪ ،‬لذلك كانت‬
‫الرّضا أو عدمه أمر خف ّ‬
‫الصّيغة أو اليجاب والقبول ركنا في جميع العقود ‪ ،‬سواء كانت تلك العقود معاوضات ‪ :‬كالبيع والجارة ‪،‬‬
‫أو تبرّعات ‪ :‬كالهبة والعارة ‪ ،‬أو استيثاقات ‪ :‬كالرّهن ‪ ،‬أو ما تكون تبرّعا ابتداء ومعاوضة انتهاء ‪:‬‬
‫كالقرض ‪ ،‬أو غيرها من العقود كالشّركة والوكالة والنّكاح والطّلق ‪ .‬وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬صيغة )‬
‫‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعبير بالفعل ‪:‬‬
‫‪ - 4‬تظهر صورة التّعبير بالفعل واضحة في المعاطاة ‪ ،‬وذلك في بيع المعاطاة أو التّعاطي ‪ .‬وصورته ‪ :‬أن‬
‫يدفع المشتري الثّمن ويأخذ المبيع من غير إيجاب ول قبول قوليّين ‪ .‬وهو موضع خلف بين الفقهاء ‪:‬‬
‫فذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬والمتولّي والبغويّ من الشّافعيّة ‪ -‬إلى صحّته وانعقاده بتلك‬
‫الصّورة ‪ ،‬لنّ الفعل يدلّ على الرّضا عرفا ‪ .‬والمقصود من البيع إنّما هو أخذ ما في يد غيره بعوض يرضاه‬
‫‪ ،‬فل يشترط القول ‪ ،‬ويكفي الفعل بالمعاطاة ‪.‬‬
‫ن الفعل ل يدلّ بوضعه على التّراضي ‪،‬‬
‫وذهب أكثر الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّ البيع ل ينعقد بالمعاطاة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل صاحبه بما دفع إليه إن بقي ‪ ،‬أو ببدله إن تلف ‪.‬‬
‫فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد ‪ ،‬فيطالب ك ّ‬
‫ص بعض الفقهاء ( كابن سريج والرّويانيّ من الشّافعيّة ‪ ،‬والكرخيّ من الحنفيّة ) جواز بيع المعاطاة‬
‫وخ ّ‬
‫بالمحقّرات ‪ ،‬وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة ‪ ،‬كرطل خبز وحزمة بقل ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة بصحّة بيع المعاطاة ‪ ،‬بشرط عدم تأخير القبض للطّالب في نحو ‪ :‬خذ هذا بدرهم ‪ ،‬أو عدم‬
‫تأخير القباض للطّلب نحو ‪ :‬أعطني بهذا الدّرهم خبزا لنّه إذا اعتبر عدم التّأخير في اليجاب والقبول‬
‫اللّفظيّ ‪ ،‬فاعتبار عدم التّأخير في المعاطاة أولى ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬وظاهره أنّ التّأخير في المعاطاة مبطل ‪ ،‬ولو كان بالمجلس ولم يتشاغل بما يقطعه لضعفها‬
‫عن الصّيغة القوليّة ‪ .‬واعتبر المالكيّة التّقابض في المعاطاة شرط لزوم ‪ ،‬فمن أخذ رغيفا من شخص ودفع له‬
‫شكّ في التّماثل ‪ .‬بخلف ما لو أخذ رغيفا ولم يدفع ثمنه ‪ ،‬فيجوز له‬
‫ثمنه ‪ ،‬فل يجوز له ردّه وأخذ بدله ‪ ،‬لل ّ‬
‫ردّه وأخذ بدله ‪ ،‬لعدم لزوم البيع ‪.‬‬
‫ت الجرة ‪ -‬والصّرف ‪ ،‬والهبة ‪ ،‬والهديّة ‪ ،‬ونحوها‬
‫ص الحنفيّة على أنّ ‪ :‬القالة ‪ ،‬والجارة ‪ -‬إن عُلِم ْ‬
‫وقد ن ّ‬
‫ح بالفعل كالتّعاطي ‪ ،‬وأمّا اليجاب‬
‫ن القبول في العاريّة يص ّ‬
‫ح وتنعقد بالتّعاطي ‪ ،‬ونصّوا كذلك على أ ّ‬
‫‪ .‬تص ّ‬
‫ل إشارة فهم منها اليجاب والقبول لزم بها البيع وسائر العقود ‪ ،‬ونصّوا على‬
‫فل يصحّ به ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬ك ّ‬
‫ل عليها كما لو خلطا ماليهما وباعا ‪ .‬وتمسّك الشّافعيّة بأصلهم ‪ ،‬وهو ‪ :‬عدم‬
‫ن الشّركة تنعقد بالفعل الدّا ّ‬
‫أّ‬
‫ح عندهم بلفظ من أحدهما مع فعل من الخر ‪،‬‬
‫صحّة العقد بالمعاطاة في سائر العقود ‪ .‬إل العاريّة ‪ ،‬فإنّها تص ّ‬
‫ول يكفي الفعل من الطّرفين إل في بعض الصّور ‪ ،‬كمن اشترى شيئا وسلّمه له في ظرف ‪ ،‬فالظّرف معار‬
‫ح ‪ .‬واختار النّوويّ صحّة الهبة بالمعاطاة ‪.‬‬
‫في الص ّ‬
‫ص الحنابلة على انعقاد الجارة والمضاربة والقالة والعاريّة والوكالة والهبة بالفعل كالتّعاطي ‪ ،‬وذلك لنّ‬
‫ون ّ‬
‫المقصود المعنى ‪ ،‬فجاز بكلّ ما يدلّ عليه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّعبير بالكتابة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على صحّة العقود وانعقادها بالكتابة ‪ ،‬ويعتبر في القبول أن يكون في مجلس بلوغ الكتاب ‪،‬‬
‫ليقترن باليجاب بقدر المكان ‪.‬‬
‫وجعل الشّافعيّة الكتابة من باب الكناية ‪ ،‬فتنعقد بها العقود مع ال ّنيّة ‪ .‬واستثنوا من ذلك عقد النّكاح ‪ ،‬فل ينعقد‬
‫بالكتابة عند جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪. -‬‬
‫وأجازه الحنفيّة في الغائب دون الحاضر ‪ ،‬بشرط إعلم الشّهود بما في الكتاب ‪.‬‬
‫واتّفق الفقهاء أيضا على وقوع الطّلق بالكتابة ‪ ،‬لنّ الكتابة حروف يفهم منها الطّلق ‪ ،‬فأشبهت النّطق ‪،‬‬
‫ن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب ‪ ،‬بدليل أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرّسالة ‪ ،‬فبلّغ‬
‫ول ّ‬
‫بالقول مرّة ‪ ،‬وبالكتابة أخرى ‪.‬‬
‫والكتابة الّتي يقع بها الطّلق إنّما هي الكتابة المستبينة ‪ ،‬كالكتابة على الصّحيفة والحائط والرض ‪ ،‬على‬
‫وجه يمكن فهمه وقراءته ‪.‬‬
‫وأمّا الكتابة غير المستبينة كالكتابة على الهواء والماء وشيء ل يمكن فهمه وقراءته ‪ ،‬فل يقع بها الطّلق ‪،‬‬
‫ن هذه الكتابة بمنزلة الهمس بلسانه بما ل يسمع ‪ .‬واعتبر الشّافعيّة الكتابة بالطّلق من باب الكناية ‪ ،‬فتفتقر‬
‫لّ‬
‫إلى نيّة من الكاتب ‪ ،‬وقصر الحنفيّة ال ّنيّة على الكتابة المستبينة غير المرسومة ‪ -‬أي أن ل يكون الكتاب‬
‫مصوّرا ومعنونا ‪. -‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬إن كتب طلقها بالصّريح وقع وإن لم ينوه ‪ .‬وإن كتبه بالكناية فهو كناية ‪ .‬وعند المالكيّة ‪:‬‬
‫إن كتبه عازما على الطّلق بكتابته فيقع بمجرّد فراغه من كتابة‪ :‬هي طالق‪ .‬ومثله ‪ :‬لو كتب ‪ :‬إذا جاءك‬
‫كتابي فأنت طالق ‪ .‬وعندهم قول ثان ‪ :‬بأن يوقف الطّلق على وصول الكتاب ‪ ،‬وقوّاه الدّسوقيّ لتضمّن " إذا‬
‫" معنى الشّرط ‪ .‬وإن كتبه مستشيرا أو متردّدا فل يقع الطّلق ‪ ،‬إل إذا أخرجه عازما ‪ ،‬أو أخرجه ول نيّة له‬
‫فيقع الطّلق بمجرّد إخراجه ‪ .‬وأمّا إذا أخرجه ‪ -‬وهو كذلك ‪ -‬متردّدا أو مستشيرا ‪ ،‬أو لم يخرجه ‪ ،‬فإمّا أن‬
‫يصل إليها ‪ ،‬وإمّا أن ل يصل إليها ‪ ،‬فإن وصل إليها حنث وإل فل ‪ .‬وأمّا إن كتبه ول نيّة له أصلً حين‬
‫بالكتابة فيلزمه الطّلق ‪ ،‬لحمله على العزم عند ابن رشد خلفا للّخميّ ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّعبير بالشارة ‪:‬‬
‫ن ذلك يدلّ‬
‫‪ - 6‬اتّفق الفقهاء على أنّ إشارة الخرس المفهمة تقوم مقام اللّفظ في سائر العقود للضّرورة ‪ ،‬ل ّ‬
‫على ما في فؤاده ‪ ،‬كما يدلّ عليه النّطق من النّاطق ‪.‬‬
‫واختلفوا في إشارة غير الخرس ‪.‬‬
‫فذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى عدم اعتبارها في العقود ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ إشارة النّاطق معتبرة كنطقه ‪ -‬قالوا ‪ -‬وهي أولى بالجواز من المعاطاة ‪ -‬لنّها يطلق‬
‫عليها أنّها كلم ‪ .‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬آ َي ُتكَ أنْ ل ُتكَّلمَ النّاسَ ثَلث َة أيّامٍ إل َر ْمزَا } والرّمز ‪ :‬الشارة ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر مصطلح ( إشارة ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬التّعبير بالسّكوت ‪:‬‬
‫‪ - 7‬اعتبر الفقهاء سكوت البكر البالغة العاقلة تعبيرا عن رضاها بالنّكاح ‪ ،‬لما روت عائشة رضي ال عنها‬
‫أنّها قالت ‪ « :‬يا رسول اللّه إنّ البكر تستحي قال ‪ :‬رضاها صماتها » وأخرج المام مسلم في صحيحه ‪« :‬‬
‫اليّم أحقّ بنفسها من وليّها ‪ ،‬والبِكر ُتسْتأمر ‪ ،‬وإذنها سكوتها » وألحقوا بالسّكوت الضّحك والبكاء ‪ ،‬لما روى‬
‫أبو هريرة رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫ت فل‬
‫« قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اليتيمة تستأمر في نفسها ‪ ،‬فإن صمتت فهو إذنها ‪ ،‬وإن أب ْ‬
‫جواز عليها » ولنّها غير ناطقة بالمتناع مع سماعها للستئذان ‪ ،‬فكان ذلك إذنا منها ‪ .‬ولم يعتبر الحنفيّة‬
‫والشّافعيّة البكاء إن كان مع الصّياح والصّوت ‪ ،‬لنّ ذلك يشعر بعدم الرّضا ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إن علم من‬
‫بكائها أنّه منع لم تزوّج ‪.‬‬
‫ص الحنفيّة على عدم اعتبار الضّحك إن كان باستهزاء ‪ ،‬لنّ الضّحك إنّما جعل إذنا لدللته على الرّضا ‪،‬‬
‫ون ّ‬
‫فإذا لم يدلّ على الرّضا لم يكن إذنا ‪.‬‬
‫قال ابن عابدين نقل عن الفتح ‪ :‬والمعوّل اعتبار قرائن الحوال في البكاء والضّحك ‪ ،‬فإن تعارضت أو أشكل‬
‫احتيط ‪ .‬وثمّة تفصيلت واستثناءات تفصيلها في ( النّكاح ) ‪.‬‬

‫تعبير الرّؤيا *‬
‫انظر ‪ :‬رؤيا ‪.‬‬

‫تعجيز *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعجيز لغة ‪ :‬مصدر عجّز ‪ .‬يقال ‪ :‬عجّزته تعجيزا ‪ :‬إذا جعلته عاجزا ‪ ،‬وعجّز فلن رأيَ فلن ‪ :‬إذا‬
‫نسبه إلى خلف الحزم ‪ ،‬كأنّه نسبه إلى العجز ‪.‬‬
‫وهو ل يخرج في الصطلح الفقهيّ عن هذا المعنى ‪ ،‬وهو ‪ :‬نسبة الشّخص إلى العجز ‪ .‬ولكنّ الفقهاء لم‬
‫يستعملوا هذا اللّفظ إل في حالتين ‪ :‬الولى ‪ :‬تعجيز المكاتب ‪ .‬والخرى ‪ :‬تعجيز القاضي أحد الخصمين عن‬
‫إقامة البيّنة ‪ .‬وفيما يلي بيان هاتين الحالتين إجمالً ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬تعجيز المكاتب ‪:‬‬
‫سيّد مع عبده ‪ .‬أو أمته على‬
‫سيّد ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن يتعاقد ال ّ‬
‫‪ - 2‬اتّفق الفقهاء على أنّ الكتابة عقد لزم من جانب ال ّ‬
‫ل ‪ ،‬ويكون حرّا ‪ .‬فل يملك فسخها ‪ ،‬ول يجوز تعجيز المكاتب‬
‫أن يؤدّي إليه كذا من المال منجّزا ‪ ،‬أو مؤجّ ً‬
‫قبل عجز المكاتب عن أداء ما عليه ‪.‬‬
‫سيّد مطالبته بما حلّ من نجومه ‪ ،‬لنّه حقّ له ‪.‬‬
‫أمّا إن حلّ النّجم ( القسط ) فلل ّ‬
‫سيّد فسخ الكتابة وتعجيز المكاتب أم ل ؟ ‪.‬‬
‫فإن عجز المكاتب عنها ‪ ،‬فهل يحقّ لل ّ‬
‫سيّد أن يفسخ الكتابة بنفسه ‪ ،‬دون الرّجوع‬
‫ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أنّ لل ّ‬
‫إلى الحاكم أو السّلطان ‪ ،‬إذا عجز المكاتب عن أداء ما عليه بعد حلول النّجم ‪ ،‬لفعل ابن عمر رضي ال‬
‫عنهما ذلك ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة ‪ :‬أنّه ليس له ذلك ‪ ،‬إل عن طريق الحاكم أو السّلطان ‪.‬‬
‫‪ - 3‬وذهب الجمهور كذلك ‪ -‬وهم ‪ :‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬إلى أنّه يجوز للمكاتب أن يعجّز نفسه ‪.‬‬
‫سيّد الصّبر أو الفسخ ‪ ،‬إمّا عن طريق الحاكم أو بنفسه‬
‫كأن يقول ‪ :‬أنا عاجز عن كتابتي ‪ ،‬وعند ذلك يجوز لل ّ‬
‫سيّد أو ورثته ‪ ،‬بعد حلول النّجم وعدم الوفاء بما كوتب عليه ‪.‬‬
‫ن للقاضي أن يعجّزه إذا طلب ذلك ال ّ‬
‫‪ .‬كما أ ّ‬
‫ن عقد الكتابة عندهم لزم من الطّرفين‬
‫أمّا الحنابلة فيرون ‪ :‬أنّه ليس للعبد أن يعجّز نفسه إذا كان مقتدرا ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬كتابة ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬عجز المدّعي أو المدّعى عليه ‪:‬‬
‫‪ - 4‬أكثر من استعمل من الفقهاء لفظ التّعجيز هم المالكيّة ‪ ،‬حيث ذهبوا ‪ :‬إلى أنّه إذا انقضت الجال الّتي‬
‫ضربها القاضي للمدّعي لحضار بيّنته ‪ ،‬وفترة التّلوّم ‪ ،‬ولم يأت الشّخص المؤجّل بشيء يوجب له َنظِرَةً ‪،‬‬
‫عجّزه القاضي ‪ ،‬وأنفذ القضاء عليه ‪ ،‬وسجّل ‪ ،‬وقطع بذلك تبعته عن خصمه ‪ ،‬ثمّ ل يسمع له بعد ذلك‬
‫حجّة ‪ ،‬ول تقبل منه بيّنة إن أتى بها ‪ ،‬سواء أكان مدّعيا أم مدّعى عليه ‪.‬‬
‫ن المدّعي يمهل إذا طلب مهلة لحضار البيّنة ‪ ،‬ويترك ما ترك ‪ ،‬لنّه هو‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫الطّالب للحقّ ‪ .‬أمّا المدّعى عليه فل يمهل أكثر من ثلثة أيّام ‪ ،‬ثمّ يحكم بتعجيزه ‪ ،‬ويسقط حقّه في الحلف ‪،‬‬
‫ثمّ يحلف المدّعي فيحكم له ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فيرون ‪ :‬أنّ القاضي يحكم للمدّعي على المدّعى عليه بنفس النّكول ‪ ،‬بعد أن يكرّر عليه اليمين‬
‫ثلث مرّات ‪ .‬لقوله صلى ال عليه وسلم « البيّنةُ على من ادّعى ‪ ،‬واليمين على من أنكر » ‪ .‬والتّفاصيل في‬
‫مصطلح ‪ ( :‬دعوى ) ‪.‬‬

‫تعجيل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعجيل ‪ :‬مصدر عجّل ‪ .‬وهو في اللّغة ‪ :‬الستحثاث ‪ ،‬وطلب العجلة ‪ ،‬وهي ‪ :‬السّرعة‪ .‬ويقال ‪:‬‬
‫عجّلت إليه المال ‪ :‬أسرعت إليه ‪ ،‬فتعجّله ‪ :‬فأخذه بسرعة وهو في الشّرع ‪ :‬التيان بالفعل قبل الوقت المحدّد‬
‫له شرعا ‪ ،‬كتعجيل الزّكاة ‪ ،‬أو في أوّل الوقت ‪ ،‬كتعجيل الفطر ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫السراع ‪:‬‬
‫‪ - 2‬السراع ‪ :‬مصدر أسرع ‪ ،‬والسّرعة ‪ :‬اسم منه ‪ ،‬وهي نقيض البطء ‪.‬‬
‫ن السّرعة التّقدّم فيما ينبغي أن يتقدّم فيه ‪ ،‬وهي محمودة‬
‫والفرق بين السراع والتّعجيل كما قال العسكريّ ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ ،‬ونقيضها مذموم ‪ ،‬وهو ‪ :‬البطاء ‪.‬‬
‫والعجلة التّقدّم فيما ل ينبغي أن يتقدّم فيه ‪ ،‬وهي مذمومة ‪ ،‬ونقيضها محمود‪ ،‬وهو ‪ :‬الناة‪ .‬فأمّا قوله تعالى {‬
‫ن ذلك بمعنى ‪ :‬أسرعت ‪.‬‬
‫ب ِل َترْضَى } فإ ّ‬
‫عجِلْتُ إليكَ رَ ّ‬
‫َو َ‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّعجيل مشروع في مواضع ‪ :‬كتعجيل تجهيز الميّت ‪ ،‬وقضاء الدّين ‪.‬‬
‫وغير مشروع في مواضع ‪ :‬كتعجيل الصّلة قبل وقتها ‪ .‬والمشروع منه تارة يكون واجبا ‪ :‬كتعجيل التّوبة‬
‫من الذّنب ‪ .‬وتارة يكون مندوبا ‪ :‬كتعجيل الفطر في رمضان ‪.‬‬
‫وتارة يكون مباحا ‪ :‬كتعجيل الكفّارات ‪ ،‬وتارة يكون مكروها أو خلف الولى ‪ :‬كتعجيل إخراج الزّكاة قبل‬
‫الحول ‪ .‬وغير المشروع ‪ :‬منه ما يكون باطلً‪ ،‬كتعجيل الصّلة قبل وقتها‪.‬‬
‫أنواع التّعجيل‬
‫أوّلً ‪ :‬التّعجيل بالفعل عند وجود سببه‬
‫أ ‪ -‬التّعجيل بالتّوبة من الذّنب ‪:‬‬
‫‪ -‬تجب التّوبة على كلّ مكلّف على الفور عقيب الذّنب ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫سنّة وإجماع المّة ‪ .‬قال اللّه تعالى { إ ّنمَا التّ ْوبَ ُة على اللّ ِه لِلّذينَ َي ْعمَلُونَ‬
‫وقد دلّت على ذلك نصوص الكتاب وال ّ‬
‫ن قَرِيبٍ َفأُولئكَ َيتُوبُ اللّهُ عَلَيهمْ } ‪.‬‬
‫ن مِ ْ‬
‫جهَالةٍ ُثمّ َيتُوبُو َ‬
‫السّو َء ِب َ‬
‫س ُهمْ طَائِفٌ ِمنَ الشّيطَانِ َت َذ ّكرُوا فإذا ُهمْ ُم ْبصِرُونَ } ‪.‬‬
‫ن اتّقَوا إذا َم ّ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬إنّ اّلذِي َ‬
‫ونقل القرطبيّ وغيره ‪ :‬الجماع على وجوب تعجيل التّوبة ‪ ،‬وأنّها على الفور ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعجيل بتجهيز الميّت ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن النّب ّ‬
‫‪ - 5‬اتّفق الفقهاء على أنّه يندب السراع بتجهيز الميّت إذا تيقّن موته ‪ ،‬لما ثبت « أ ّ‬
‫وسلم ‪ -‬لمّا عاد طلحة بن البراء رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬إنّي ل أرى طلحة إل قد حدث فيه الموت ‪ ،‬فآذنوني‬
‫به ‪ ،‬وعجّلوا ‪ ،‬فإنّه ل ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله » ‪ .‬والصّارف عن وجوب التّعجيل ‪:‬‬
‫ك صالح ًة فخيرٌ‬
‫الحتياط للرّوح ‪ ،‬لحتماله الغماء ونحوه ‪ .‬وفي الحديث « أسرعوا بالجنازة ‪ ،‬فإن ت ُ‬
‫ك سوى ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم » ‪ .‬ويندب تأخير من مات فجأة أو غرقا ‪.‬‬
‫تقدّمونها إليه ‪ ،‬وإن ي ُ‬
‫ج ‪ -‬التّعجيل بقضاء الدّين ‪:‬‬
‫‪ - 6‬يجب تعجيل الوفاء بالدّين عند استحقاقه ويحرم على القادر المطل فيه ‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬مطل الغنيّ ظلم ‪ ،‬فإن أتبع‬
‫أحدكم على مليء فليتبع » أي فإن أحيل على موسر فليقبل الحوالة ‪.‬‬
‫قال ابن حجر في الفتح ‪ :‬المعنى ‪ :‬أنّه من الظّلم ‪ ،‬وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير عن المطل ‪ ،‬والمراد من‬
‫المطل هنا ‪ :‬تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذر ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعجيل بإعطاء أجرة الجير ‪:‬‬
‫‪ - 7‬ثبت عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال « أعطوا الجير أجره قبل أن يجفّ عرقُه» والمر بإعطائه‬
‫قبل جفاف عرقه إنّما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل ‪ ،‬إذا طلب ‪ ،‬وإن لم يعرق ‪ ،‬أو عرق‬
‫ن أجره عمالة جسده ‪ ،‬وقد عجّل منفعته ‪ ،‬فإذا عجّلها استحقّ التّعجيل ‪ .‬ومن شأن الباعة ‪:‬‬
‫وجفّ ‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫إذا سلّموا قبضوا الثّمن عند التّسليم ‪ ،‬فهو أحقّ وأولى ‪ ،‬إذ كان ثمن مهجته ‪ ،‬ل ثمن سلعته ‪ ،‬فيحرم مطله‬
‫والتّسويف به مع القدرة ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬التّعجيل بتزويج البكر ‪:‬‬
‫‪ - 8‬استحبّ بعض العلماء التّعجيل بإنكاح البكر إذا بلغت ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬يا عليّ ‪ :‬ثلث ل تؤخّرها ‪ :‬الصّلة‬
‫إذا أتت ‪ ،‬والجنازة إذا حضرت ‪ ،‬واليّم إذا وجدت لها كفؤا »‬
‫واستثنوا ذلك من ذمّ العجلة ‪ ،‬وأنّها من الشّيطان ‪.‬‬
‫و ‪ -‬التّعجيل بالفطار في رمضان ‪:‬‬
‫سنّة ‪ ،‬لقول الرّسول صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ - 9‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على أنّ تعجيل الفطر من ال ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن النّب ّ‬
‫« ل يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر » ولحديث أبي ذرّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫قال ‪ :‬ل تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر ‪ ،‬وأخّروا السّحور » ‪.‬‬
‫شكّ فيه ‪ ،‬لنّه إذا شكّ في الغروب حرم عليه‬
‫ن له التّعجيل ‪ :‬إذا تحقّق من غروب الشّمس ‪ ،‬وعدم ال ّ‬
‫وإنّما يس ّ‬
‫الفطر اتّفاقا ‪ ،‬وأجاز الحنفيّة تعجيل الفطر بغلبة الظّنّ ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تعجيل الحاجّ بالنّفر من منى ‪:‬‬
‫ن فل ِإ ْثمَ عَلَيهِ‬
‫‪ - 10‬يجوز للحاجّ التّعجّل في اليوم الثّاني من أيّام الرّمي ‪ ،‬لقوله تعالى { َفمَنْ َت َعجّلَ في يَ ْومَي ِ‬
‫ن رسول اللّه‬
‫ن اتّقَى } ولما روى عبد الرّحمن بن يعمر رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬
‫خرَ فَل ِإ ْثمَ عَلَيهِ ِلمَ ْ‬
‫ن َتَأ ّ‬
‫َومَ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬أيّام منى ثلث ‪ ،‬فمن تعجّل في يومين فل إثم عليه ‪ ،‬ومن تأخّر فل إثم عليه » ‪.‬‬
‫وشرط جوازه عند الجمهور ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬أن يخرج الحاجّ من منى قبل الغروب ‪ ،‬فيسقط‬
‫عنه رمي اليوم الثّالث ‪ ،‬فإن لم يخرج حتّى غربت الشّمس لزمه المبيت بمنى ‪ ،‬ورمى اليوم الثّالث ‪ .‬وذلك‬
‫ن اليوم اسم للنّهار ‪ ،‬فمن أدركه اللّيل فما تعجّل في يومين ‪ ،‬وثبت عن عمر رضي ال عنه أنّه قال " من‬
‫لّ‬
‫غربت عليه الشّمس وهو بمنى ‪ ،‬فل ينفرن ‪ ،‬حتّى يرمي الجمار من أوسط أيّام التّشريق " ‪.‬‬
‫ولم يفرّق الشّافعيّة والحنابلة في هذا الشّرط بين الم ّكيّ والفاقيّ ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى التّفريق بينهما ‪ ،‬وخصّوا شرط التّعجيل بالمتعجّل من أهل مكّة ‪ ،‬وأمّا إن كان من‬
‫غيرها فل يشترط خروجه من منى قبل الغروب من اليوم الثّاني ‪ ،‬وإنّما يشترط نيّة الخروج قبل الغروب من‬
‫اليوم الثّاني ‪.‬‬
‫ولم يشترط الحنفيّة ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬له أن ينفر بعد الغروب مع الكراهة ‪ ،‬ما لم يطلع فجر اليوم الثّالث ‪ ،‬وذلك‬
‫لنّه لم يدخل اليوم الخر ‪ ،‬فجاز له النّفر ‪ ،‬كما قبل الغروب ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في أهل مكّة هل ينفرون النّفر الوّل ؟ فقيل ‪ :‬ليس لهم ذلك ‪ .‬فقد ثبت عن عمر بن الخطّاب‬
‫رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬من شاء من النّاس كلّهم أن ينفروا في النّفر الوّل ‪ ،‬إلّا آل خزيمة ‪ ،‬فل ينفرون إلّا‬
‫في النّفر الخر ‪ .‬وكان أحمد بن حنبل يقول ‪ :‬ل يعجبني لمن نفر النّفر الوّل أن يقيم بمكّة ‪ ،‬وقال ‪ :‬أهل مكّة‬
‫أخفّ ‪ ،‬وجعل أحمد معنى قول عمر " إل آل خزيمة " أي ‪ :‬أنّهم أهل الحرم ‪ ،‬وحمله في المغني على‬
‫الستحباب ‪ ،‬محافظة على العموم ‪ .‬وكان مالك يقول في أهل مكّة من كان له عذر فله أن يتعجّل في يومين ‪،‬‬
‫ن التّعجيل لمن بعد قطره ‪.‬‬
‫فإن أراد التّخفيف عن نفسه ممّا هو فيه من أمر الحجّ فل ‪ ،‬فرأى أ ّ‬
‫وقال أكثر أهل العلم ‪ :‬الية على العموم ‪ ،‬والرّخصة لجميع النّاس ‪ ،‬أهل مكّة وغيرهم ‪ ،‬سواء أراد الخارج‬
‫من منى المقام بمكّة ‪ ،‬أو الشّخوص إلى بلده ‪.‬‬
‫‪ - 11‬واختلف الفقهاء في الفضليّة بين التّعجيل والتّأخير ‪ ،‬فذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) ‪:‬‬
‫ن تأخير النّفر إلى الثّالث أفضل ‪ ،‬للقتداء بالنّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه ل‬
‫إلى أ ّ‬
‫تفضيل بين التّعجيل والتّأخير ‪ ،‬بل هما مستويان ‪ .‬ونصّ الفقهاء على كراهة التّعجيل للمام ‪ ،‬لجل من‬
‫يتأخّر ‪.‬‬
‫وأمّا ثمرة التّعجيل فهي سقوط رمي اليوم الثّالث ‪ ،‬ومبيت ليلته عنه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تعجيل الفعل قبل وجوبه‬
‫أ ‪ -‬التّعجيل بالصّلة قبل الوقت ‪:‬‬
‫ل صلة من الصّلوات الخمس وقتا محدّدا ‪ ،‬ل يجوز إخراجها عنه ‪ ،‬لقوله‬
‫‪ - 12‬أجمع العلماء ‪ :‬على أنّ لك ّ‬
‫ن ِكتَابَا مَ ْوقُوتَا } أي ‪ :‬محتّمة مؤقّتة ‪ :‬ولحديث المواقيت المشهور ‪.‬‬
‫ن الصّلةَ كَانَتْ على المُ ْؤمِني َ‬
‫تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫وقد رخّص الشّارع في تعجيل الصّلة قبل وقتها في حالت ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ - 1‬جمع الحاجّ الظّهر والعصر جمع تقديم في عرفة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬جواز الجمع للمسافر بين العصرين " الظّهر والعصر " والعشاءين " المغرب والعشاء " تقديما عند‬
‫جمهور العلماء ‪ ،‬خلفا للحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ - 2‬جواز الجمع للمريض ‪ ،‬جمع تقديم عند المالكيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫‪ - 3‬جواز الجمع بين العشاءين تقديما ‪ ،‬لجل المطر والثّلج والبرد عند جمهور العلماء‬
‫" المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " وزاد الشّافعيّة جوازه بين العصرين أيضا ‪.‬‬
‫‪ - 4‬جواز الجمع بين الصّلتين ‪ ،‬إذا اجتمع الطّين مع الظّلمة ‪ ،‬عند المالكيّة ‪ ،‬وجوّزه الحنابلة بمجرّد‬
‫الوحل ‪ ،‬في إحدى الرّوايتين ‪ ،‬وصحّحها ابن قدامة ‪.‬‬
‫‪ - 5‬جواز الجمع لجل الخوف عند الحنابلة ‪.‬‬
‫‪ - 6‬جواز الجمع لجل الرّيح الشّديدة في اللّيلة المظلمة الباردة ‪ ،‬عند الحنابلة ‪ ،‬في أحد الوجهين ‪ ،‬وصحّحه‬
‫المديّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعجيل بإخراج الزّكاة قبل الحول ‪:‬‬
‫ن « العبّاس‬
‫‪ - 13‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى جواز تعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول في الجملة ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫رضي ال عنه سأل النّبيّ صلى ال عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ ‪ ،‬فرخّص له في ذلك » ‪،‬‬
‫ولنّه حقّ ماليّ جعل له أجل للرّفق ‪ ،‬فجاز تعجيله قبل أجله ‪ ،‬كالدّين ‪ .‬ولنّه ‪ -‬كما قال الشّافعيّة ‪ -‬وجب‬
‫بسببين ‪ ،‬وهما ‪ :‬النّصاب ‪ ،‬والحول ‪ :‬فجاز تقديمه على أحدهما ‪ ،‬كتقديم كفّارة اليمين على الحنث ‪ .‬ومنعه‬
‫ابن المنذر ‪ ،‬وابن خزيمة من الشّافعيّة ‪ ،‬وأشهب من المالكيّة ‪ ،‬وقال ‪ :‬ل تجزئ قبل محلّه كالصّلة ‪ ،‬ورواه‬
‫عن مالك ‪ ،‬ورواه كذلك ابن وهب ‪ .‬قال ابن يونس ‪ :‬وهو القرب ‪ ،‬وغيره استحسان ‪.‬‬
‫ص الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ :‬على أنّ تركه أفضل ‪ ،‬خروجا من الخلف ‪.‬‬
‫ون ّ‬
‫واختلف الفقهاء في المدّة الّتي يجوز تعجيل الزّكاة فيها ‪ :‬فذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى جواز تعجيل الزّكاة لسنين ‪،‬‬
‫لوجود سبب الوجوب ‪ ،‬وهو ‪ :‬ملك النّصاب النّامي ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن النّب ّ‬
‫وقيّده الحنابلة بحولين فقط ‪ ،‬اقتصارا على ما ورد ‪ .‬فقد روى عليّ رضي ال عنه « أ ّ‬
‫وسلم تعجّل من العبّاس رضي ال عنه صدقة سنتين » لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أمّا العبّاس فهي عليّ‬
‫ومثلها معها » ولما روى أبو داود من « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم تسلّف من العبّاس صدقة عامين »‬
‫وهو وجه عند الشّافعيّة ‪ ،‬صحّحه السنويّ وغيره ‪ ،‬وعزوه للنّصّ ‪ .‬وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى عدم جواز تعجيل‬
‫الزّكاة لكثر من عام ‪ ،‬وذلك ‪ :‬لنّ زكاة غير العام الوّل لم ينعقد حولها ‪ ،‬والتّعجيل قبل انعقاد الحول ل‬
‫يجوز ‪ ،‬كالتّعجيل قبل كمال النّصاب في الزّكاة العينيّة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فلم يجيزوا تعجيل الزّكاة لكثر من شهر قبل الحول على المعتمد ‪ ،‬وتكره عندهم بشهر ‪ .‬وفي‬
‫المسألة تفصيلت تنظر في الزّكاة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تعجيل الكفّارات ‪:‬‬
‫تعجّل كفّارة اليمين قبل الحنث ‪:‬‬
‫‪ - 14‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ : -‬إلى جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ‪،‬‬
‫لما روى عبد الرّحمن بن سمرة رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يا عبد الرّحمن ‪ ،‬إذا‬
‫حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك ‪ ،‬ثمّ ائت الّذي هو خير » ‪.‬‬
‫واستثنى الشّافعيّة الصّوم من خصال الكفّارة ‪ ،‬وقالوا بعدم جواز التّعجيل به قبل الحنث ‪ ،‬وذلك لنّه عبادة‬
‫بدنيّة ‪ ،‬فل يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ‪ ،‬كالصّلة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪ ،‬ولنّه إنّما يجوز‬
‫التّكفير به عند العجز عن جميع الخصال الماليّة ‪ .‬والعجز إنّما يتحقّق بعد الوجوب ‪ .‬وهو رواية عند الحنابلة‬
‫‪.‬‬
‫ن الكفّارة لستر الجناية ‪ ،‬ول جناية قبل‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى عدم جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحنث ‪.‬‬
‫‪ - 15‬ثمّ إنّ القائلين بجواز التّعجيل اختلفوا في أيّهما أفضل ‪ :‬التّكفير قبل الحنث أم بعده ؟‪ .‬فذهب المالكيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬وأحمد في رواية ‪ ،‬وابن أبي موسى ‪ ،‬وصوّبه المرداويّ من الحنابلة ‪ :‬إلى أنّ تأخيرها عن‬
‫الحنث أفضل ‪ ،‬خروجا من الخلف ‪.‬‬
‫ن التّكفير قبل الحنث وبعده في الفضيلة سواء ‪،‬‬
‫والرّواية الخرى عن أحمد على الصّحيح من المذهب ‪ :‬أ ّ‬
‫وذلك في غير الصّوم ‪ ،‬لتعجيل النّفع للفقراء ‪.‬‬
‫تعجيل كفّارة الظّهار ‪:‬‬
‫‪ - 16‬اختلف الفقهاء في جواز تعجيل كفّارة الظّهار قبل العود ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز تعجيلها ‪،‬‬
‫لوجود سببها ‪ ،‬وذلك كتعجيل الزّكاة قبل الحول ‪ ،‬وبعد كمال النّصاب ‪ .‬وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّها ل تجزئ‬
‫قبل العود ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى جواز التّعجيل بكفّارة الظّهار قبل العود به ‪ ،‬وذلك بالمال ‪ -‬وهو التّحرير والطعام ‪-‬‬
‫ل بالصّوم ‪ ،‬والمراد بالعود عندهم ‪ :‬إمساك المظاهر منها مدّة يمكن للمظاهر أن يطلّقها فيها ‪ ،‬مع القدرة‬
‫على الطّلق ‪ .‬وصورة التّعجيل في كفّارة الظّهار ‪ :‬أن يظاهر من مطلّقته رجعيّا ‪ ،‬ثمّ يكفّر ‪ ،‬ثمّ يراجعها ‪.‬‬
‫وعندهم صور أخرى ‪.‬‬
‫والمراد بالعود عند الحنفيّة ‪ :‬إرادة العزم على الوطء ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة هو إرادة الوطء ‪ ،‬مع استدامة العصمة ‪ ،‬كما قاله ابن رشد ‪.‬‬
‫تعجيل كفّارة القتل ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يجوز تعجيل كفّارة القتل بعد الجرح ‪ ،‬وقبل الزّهوق ‪ ،‬وتجزئ عنه ‪ ،‬وذلك لتقدّم السّبب ‪ ،‬كتعجيل‬
‫إخراج الزّكاة قبل الحول ‪ .‬واستثنى الشّافعيّة تعجيل التّكفير بالصّوم ‪ ،‬لنّه عبادة بدنيّة ‪ ،‬فل يجوز تقديمه‬
‫على وقت وجوبه بغير حاجة ‪ ،‬كالصّلة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعجيل بقضاء الدّين المؤجّل ‪:‬‬
‫‪ - 18‬ل خلف بين الفقهاء في أنّه ل يجب أداء الدّين المؤجّل قبل حلول أجله ‪ ،‬لكن لو أدّي قبله صحّ ‪،‬‬
‫ق المدين ‪ ،‬فله إسقاطه ‪ ،‬ويجبر الدّائن على القبول ‪.‬‬
‫وسقط عن ذمّة المدين ‪ ،‬وذلك لنّ الجل ح ّ‬
‫هف – التّعجيل بالحكم قبل التّبيّن ‪:‬‬
‫‪ – 19‬روي عن أبي موسى الشعريّ رضي ال عنه ‪ ،‬أنّه قال ‪ :‬ل ينبغي للقاضي أن يقضي حتّى يتبيّن له‬
‫ن النّبيّ‬
‫الحقّ ‪ ،‬كما يتبيّن اللّيل من النّهار فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب رضي ال عنه فقال ‪ :‬صدق ‪ .‬وهذا ل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬يا ابن عبّاس ل تشهد إل على أم ٍر يضيء لك كضياء هذا الشّمس » وولية‬
‫القضاء فوق ولية الشّهادة ‪ ،‬لنّ القضاء ملزم بنفسه ‪ ،‬والشّهادة غير ملزمة بنفسها ‪ ،‬حتّى ينضمّ إليها القضاء‬
‫‪ ،‬فإذا أخذ هذا على الشّاهد ‪ ،‬كان على القاضي بطريق الولى ‪.‬‬
‫قال الصّدر الشّهيد في شرح أدب القاضي ‪ :‬وهذا في موضع النّصّ ‪ ،‬وأمّا في غير موضع النّصّ فل ‪ ،‬لنّه‬
‫ص يقضى بالجتهاد ‪ ،‬والجتهاد ليس بدليل مقطوع به ‪ ،‬فل يتبيّن له به الحقّ ‪ ،‬كما يتبيّن‬
‫في غير موضع النّ ّ‬
‫اللّيل من النّهار ‪.‬‬

‫تعدّد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعدّد في اللّغة ‪ :‬الكثرة ‪ .‬وهو من العدد ‪ :‬أي الك ّميّة المتألّفة من الوحدات ‪ ،‬فيختصّ التّعدّد بما زاد عن‬
‫الواحد ‪ ،‬لنّ الواحد ل يتعدّد ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬يختلف حكم التّعدّد باختلف متعلّقه ‪ .‬فيكون ‪ :‬جائزا في حالت ‪ ،‬وغير جائز في حالت أخرى ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬تعدّد المؤذّنين ‪:‬‬
‫‪ - 3‬تعدّد المؤذّنين جائز لمسجد واحد ‪ ،‬لتعدّدهم في زمن الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وقال الشّافعيّة‬
‫ن ذلك مستحبّ ‪ ،‬ويجوز الزّيادة عن الثنين ‪.‬‬
‫والحنابلة ‪ :‬إ ّ‬
‫والمستحبّ أن ل يزيد عن أربعة ‪ .‬وروي ‪ :‬أنّ عثمان كان له أربعة مؤذّنين ‪ ،‬وإن دعت الحاجة إلى أكثر‬
‫كان مشروعا ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬أذان ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعدّد الجماعة في مسجد واحد ‪:‬‬
‫‪ - 4‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّه إذا صلّى إمام الحيّ ‪ ،‬ثمّ حضرت جماعة أخرى كره أن‬
‫ح‪.‬‬
‫يقيموا جماعة فيه على الص ّ‬
‫إل أن يكون مسجد طريق ‪ ،‬ول إمام له ‪ ،‬ول مؤذّن فل يكره إقامة الجماعة فيه حينئذ ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫واستدلّوا بما روي عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة رضي ال عنهما عن أبيه ‪ « :‬أ ّ‬
‫وسلم خرج من بيته ليصلح بين النصار ‪ ،‬فرجع وقد صلّى في المسجد بجماعة ‪ ،‬فدخل منزل بعض أهله ‪،‬‬
‫فجمع أهله فصلّى بهم جماعة » ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لصلّى فيه ‪ .‬كما استدلّوا بأثر عن أنس رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫إنّ أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة في المسجد ‪ ،‬صلّوا في المسجد فرادى‬
‫ن النّاس إذا علموا ‪ :‬أنّهم تفوتهم الجماعة يتعجّلون ‪،‬‬
‫‪ .‬قالوا ‪ :‬ول نّ التّكرار يؤدّي إلى تقليل الجماعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫فتكثر الجماعة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يكره إعادة الجماعة في المسجد ‪ .‬واستدلّوا بعموم قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬صلة‬
‫الجماعة تفضل صلة الفذّ بخمس وعشرين درجة » ‪ ،‬وحديث أبي سعيد رضي ال عنه ‪ « :‬جاء رجل وقد‬
‫صلّى الرّسول صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أيّكم يتّجر على هذا ؟ فقام رجل فصلّى معه » وجاء في بعض‬
‫الرّوايات ‪ « :‬فلمّا صلّيا قال ‪ :‬وهذان جماعة » ولنّه قادر على الجماعة ‪ ،‬فاستحبّ له فعلها ‪ ،‬كما لو كان‬
‫المسجد في ممرّ النّاس ‪ .‬والتّفصيل ‪ :‬في مصطلح ‪ ( :‬جماعة ) أو ( صلة الجماعة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تعدّد الجمعة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬ل يجوز عند جمهور الفقهاء إقامة جمعتين في بلد واحد إل لضرورة ‪ ،‬كضيق المسجد ‪ ،‬لنّ الرّسول‬
‫صلى ال عليه وسلم والخلفاء بعده لم يقيموا سوى جمعة واحدة ‪.‬‬
‫وتعدّد الجمعة في البلد الواحد جائز مطلقا عند الحنفيّة ‪ ،‬سواء أكانت هناك ضرورة أم ل ‪ ،‬فصل بين جانبي‬
‫البلد نهر أم ل ‪ ،‬لنّ الثر الوارد بأنّه « ل جمعة إل في مصر جامع » قد أطلق ‪ ،‬ولم يشترط إلّا أن تقع في‬
‫مصر ( ر ‪ :‬صلة الجمعة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تعدّد كفّارة الصّوم ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ل خلف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بالجماع ‪ ،‬وأنّها ل تتعدّد‬
‫بتكرار الجماع في اليوم الواحد ‪ ،‬كما اتّفقوا على تعدّد الكفّارة إذا تكرّر منه الفساد بالجماع ‪ ،‬بعد التّكفير من‬
‫الوّل ‪.‬‬
‫واختلفوا فيما إذا أفسد أيّاما بالجماع قبل التّكفير من الوّل ‪ ،‬فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى تعدّد‬
‫ل يوم عبادة برأسها ‪ ،‬وقد تكرّر منه الفساد فأشبه الحجين ‪ .‬وعند الحنفيّة ‪ :‬تكفيه كفّارة‬
‫نكّ‬
‫الكفّارة ‪ ،‬ل ّ‬
‫واحدة ‪ ،‬وهو المعتمد في المذهب ‪.‬‬
‫ص بالفساد بغير الجماع ‪ ،‬أمّا الفساد بالجماع فتتعدّد الكفّارة فيه لعظم‬
‫واختار بعض الحنفيّة ‪ :‬أنّ هذا خا ّ‬
‫الجناية ‪ ( .‬ر ‪ :‬كفّارة ) ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬تعدّد الفدية بتعدّد ارتكاب المحظور في الحرام ‪:‬‬
‫‪ - 7‬إذا ارتكب في حالة الحرام جنايات توجب ك ّل منها فدية ‪ ،‬فإن كانت الجناية صيدا ففي كلّ منها‬
‫جزاؤه ‪ ،‬سواء أفعله مجتمعا ‪ ،‬أم متفرّقا ‪ .‬كفّر عن الوّل ‪ ،‬أم لم يكفّر عنه ‪.‬‬
‫وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬
‫وما عدا ذلك ففيه خلف وتفصيل ويرجع إليه في ( فدية ) ( وإحرام ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬تعدّد الصّفقة ‪:‬‬
‫‪ - 8‬تتعدّد الصّفقة بتعدّد البائع ‪ ،‬وتعدّد المشتري ‪ ،‬وبتفصيل الثّمن ‪ ،‬وباختلف المعقود عليه ‪ .‬فإن جمع بين‬
‫عينين فأكثر في صفقة واحدة جاز ‪ ،‬ويوزّع الثّمن في المثليّ ‪.‬‬
‫وفي العين المشتركة بين اثنين يوزّع على الجزاء ‪ ،‬وفي غيرهما من المتقوّمات على الرّءوس ‪ ،‬باعتبار‬
‫القيمة ‪ ،‬فإن بطل العقد في واحد منهما ابتداء صحّ في الخر ‪ ،‬بأن كان أحدهما قابل للعقد والخر غير‬
‫قابل ‪ ( ،‬ر ‪ :‬عقد ‪ -‬تفريق الصّفقة ) ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تعدّد المرهون أو المرتهن ‪:‬‬
‫‪ - 9‬إذا رهن دارين له بمبلغ من الدّين ‪ ،‬فقضى حصّة إحدى الدّارين من الدّين لم يستردّها حتّى يقضي باقي‬
‫ن المرهون محبوس بكلّ الدّين ‪ .‬وكذا إن رهن عينا واحدة عند رجلين بدين عليه لكلّ واحد منهما ‪،‬‬
‫الدّين ‪ ،‬ل ّ‬
‫فقضى دين أحدهما ‪ ،‬لنّ العين كلّها رهن عند الدّائنين ‪ ،‬وأضيف الرّهن إلى جميع العين في صفقة واحدة ‪.‬‬
‫ر ‪ ( :‬رهن ) ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬تعدّد الشّفعاء في العقار ‪:‬‬
‫‪ - 10‬اختلف الفقهاء في حكم الشّفعة إذا استحقّها جمع ‪ ،‬فقال الشّافعيّة ‪ :‬يأخذون على قدر الحصص ‪ ،‬لنّ‬
‫الشّفعة من مرافق الملك فيتقدّر بقدره ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة ‪ :‬يوزّع على عدد رءوسهم ‪ ،‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪ ،‬لنّهم استووا في سبب الستحقاق ‪،‬‬
‫فيستوون في الستحقاق ‪ .‬ر ‪ ( :‬شفعة )‬
‫ط ‪ -‬تعدّد الوصايا ‪:‬‬
‫‪ - 11‬إذا أوصى بوصايا من حقوق اللّه قدّمت الفرائض منها ‪ ،‬سواء قدّمها الموصي أم أخّرها ‪ ،‬لنّ‬
‫الفريضة أهمّ من النّافلة ‪ ،‬فإن تساوت وقدّم الموصي بعضها على بعض بما يفيد التّرتيب بدئ بما قدّمه‬
‫الموصي ‪ .‬ر ‪ ( :‬وصيّة ) ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬تعدّد الزّوجات ‪:‬‬
‫‪ - 12‬تعدّد الزّوجات إلى أربع مشروع ورد به القرآن الكريم في قوله تعالى ‪ { :‬فَا ْن ِكحُوا ما طَابَ لكمْ مِنَ‬
‫ت َأ ْيمَا ُن ُكمْ } وفي تفصيل مشروعيّة التّعدّد‬
‫حدَ ًة أو مَا مََلكَ ْ‬
‫النّساءِ َم ْثنَى وثُلثَ َو ُربَاعَ فَإنْ خِ ْف ُتمْ أل َت ْعدِلُوا فَوَا ِ‬
‫وشروطه ووجوب العدل بين الزّوجات يرجع إلى ( نكاح وقسم ونفقة ) ‪.‬‬
‫ك ‪ -‬تعدّد أولياء النّكاح ‪:‬‬
‫‪ - 13‬إذا استوى أولياء المرأة في درجة القرابة كالخوة والعمام ‪ ،‬يندب تقديم أكبرهم وأفضلهم ‪ ،‬فإن‬
‫تشاحّوا ولم يقدّموه أقرع بينهم ‪ .‬فإن زوّج أحدهم قبل القرعة بإذنها ‪ ،‬أو زوّجها غير من خرجت له القرعة‬
‫صحّ ‪ .‬لنّه صدر من أهله في محلّه ‪ ،‬هذا رأي الشّافعيّة ‪ .‬ولتفصيل الموضوع وآراء الفقهاء يرجع إلى‬
‫مصطلح ( نكاح ) ( ووليّ ) ‪.‬‬
‫ل ‪ -‬تعدّد الطّلق ‪:‬‬
‫‪ - 14‬يملك الزّوج الحرّ على زوجته الحرّة ثلث تطليقات ‪ ،‬تبين بعدها الزّوجة منه بينونة كبرى ‪ ،‬ل تحلّ له‬
‫حتّى تنكح زوجا غيره يدخل بها ‪ ،‬ث ّم يطلّقها أو يموت عنها ‪ ،‬لقوله تعالى { الطّلقُ َم ّرتَانِ } إلى قوله {‬
‫ظنّا أنْ يُقِيمَا‬
‫ن َي َترَاجَعَا إنْ َ‬
‫جنَاحَ عَليهما أَ ْ‬
‫ح زَ ْوجَا غَيرَه فَإنْ طَلّقَها فَل ُ‬
‫حتّى َت ْنكِ َ‬
‫فَإنْ طَلّ َقهَا فَل َتحِلّ له مِنْ َب ْعدُ َ‬
‫حدُودَ اللّهِ } ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وفي ذلك تفصيل وخلف يرجع إليه في ( طلق ) ‪.‬‬
‫م ‪ -‬تعدّد المجنيّ عليه ‪ ،‬أو الجاني ‪:‬‬
‫‪ - 15‬إذا قتلت جماعة واحدا يُقتلون جميعا قصاصا ‪ ،‬وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد ‪ ،‬بشرط أن تكون كلّ‬
‫ل اتّفاق بين الفقهاء‬
‫جراحة مؤثّرة في إزهاق الرّوح ‪ .‬وإن قتل واحد جماعة يقتل قصاصا أيضا ‪ ،‬هذا مح ّ‬
‫‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( قصاص ) ( وجناية ) ‪.‬‬
‫ن ‪ -‬تعدّد التّعزير بتعدّد اللفاظ ‪:‬‬
‫ب رجل بألفاظ متعدّدة من ألفاظ الشّتم الموجب للتّعزير ‪ ،‬فقد أفتى بعض الحنفيّة ‪ -‬وأيّده ابن‬
‫‪ - 16‬من س ّ‬
‫عابدين ‪ -‬بأنّه يعزّر لك ّل منها ‪ ،‬لنّ حقوق العباد ل تتداخل ‪.‬‬
‫وكذا إن سبّ جماعة بلفظ واحد ‪ .‬انظر مصطلح ( تعزير ) ‪.‬‬
‫س ‪ -‬تعدّد القضاة في بلد واحد ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يجوز للمام تعيين قاضيين فأكثر في بلد واحد ‪ ،‬إل أن يشترط اجتماعهم على الحكم في القضيّة‬
‫الواحدة لما يقع بينهم من خلف في محلّ الجتهاد ‪ .‬ر ‪ ( :‬قضاء ) ‪.‬‬
‫ع ‪ -‬تعدّد الئمّة ‪:‬‬
‫‪ - 18‬ذهب جمهور العلماء إلى أنّه ل يجوز تنصيب إمامين فأكثر للمسلمين في زمن واحد ‪ ،‬وإن تباعدت‬
‫أقاليمهم ‪ .‬ر ‪ ( :‬إمامة عظمى ) ‪.‬‬

‫تعدّي *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعدّي لغة ‪ :‬الظّلم ‪ ،‬وأصله مجاوزة الحدّ والقدر والحقّ ‪ .‬يقال ‪ :‬تعدّيت الحقّ واعتديته وعدوته أي ‪:‬‬
‫جاوزته ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه في اللّغة ‪ ،‬فيستعمل بمعنى ‪ :‬العتداء على حقّ‬
‫الغير ‪ ،‬وبمعنى ‪ :‬انتقال الحكم إلى محلّ آخر ‪ ،‬كتعدّي العلّة ‪ ،‬والتّعدّي في الحرمة ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن التّعدّي له إطلقان ‪ ،‬ويطلق ويراد به ‪ :‬العتداء على الغير ‪ ،‬وهذا البحث محلّ تفصيله ‪.‬‬
‫‪ - 2‬سبق أ ّ‬
‫ل آخر ‪.‬‬
‫ويطلق ويراد به ‪ :‬انتقال الحكم إلى مح ّ‬
‫أمّا التّعدّي بالطلق الوّل ف هو بجم يع أنوا عه حرام ‪ .‬وللتّعدّي أحكا مه الخا صّة ‪ :‬كالق صاص في النّ فس ‪،‬‬
‫والطراف ‪ ،‬والتّعويض ‪ ،‬والحبس وما إلى ذلك ‪ ،‬كما سيتبيّن ‪.‬‬
‫التّعدّي على الموال ‪:‬‬
‫التّعدّي بالغصب والتلف والسّرقة والختلس ‪:‬‬
‫‪ - 3‬من تعدّى على مال غيره فغصبه ‪ ،‬أو أتلف مال غير مأذون في إتلفه شرعا أو سرقه أو اختلسه ‪-‬‬
‫ترتّب عليه حكمان ‪:‬‬
‫أحدهما أخرويّ ‪ .‬وهو ‪ :‬الثم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل َت ْأكُلُوا أ ْموَاَل ُكمْ َب ْينَ ُكمْ بِالبَاطِلِ } وقوله صلى ال عليه وسلم‬
‫ل امرئ مسلم إل بطيب نفسه » ‪.‬‬
‫‪ « :‬ل يحلّ ما ُ‬
‫والخر دنيويّ ‪ :‬وهو الحدّ أو التّعزير مع وجوب الضّمان عليه ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬على اليد ما‬
‫أخذتْ حتّى تؤدّيه » ولما روى عبد اللّه بن السّائب عن أبيه عن جدّه رضي ال عنهم ‪ « :‬ل يأخذنّ أحدكم‬
‫متاع أخيه لعبا أو جادّا ‪ ،‬ومن أخذ عصا أخيه فليردّها » فيجب على المتعدّي ردّ العين المغصوبة إن بقيت‬
‫بيده كما هي ‪ ،‬فإن تلفت في يده ‪ ،‬أو تعدّى عليها فأتلفها بدون غصب وجب عليه ردّ مثلها إن كانت مثليّة ‪،‬‬
‫فإذا انقطع المثل أو لم تكن مثليّة وجب عليه قيمتها ‪.‬‬
‫ومثل ما تقدّم ‪ :‬الباغي في غير زمن القتال ‪ ،‬حيث يضمن الموال الّتي أتلفها أو أخذها ‪ .‬وللتّفصيل انظر‬
‫مصطلح ‪ ( :‬غصب ‪ ،‬إتلف ‪ ،‬ضمان ‪ ،‬سرقة ‪ ،‬اختلس ‪ ،‬بغاة ) ‪.‬‬
‫التّعدّي في العقود ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّعدّي في الوديعة ‪:‬‬
‫ن َب ْعضُ ُكمْ َب ْعضَا فَ ْليُ َؤدّ الّذي ائ ُتمِنَ َأمَا َنتَه } ‪،‬‬
‫‪ - 4‬الصل في الوديعة ‪ :‬أنّها أمانة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬فَإنْ َأمِ َ‬
‫وأنّه ل ضمان على المودع في الوديعة ‪ ،‬لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ‪ « :‬أنّ النّبيّ صلى ال‬
‫ن المستودع يحفظها لمالكها فلو ضمنت لمتنع النّاس‬
‫عليه وسلم قال ‪ :‬من أودع وديعة فل ضمان عليه » ول ّ‬
‫من الدّخول فيها ‪ ،‬وذلك مضرّ ‪ ،‬لما فيه من مسيس الحاجة إليها ‪ .‬ويضمن الوديع في حالين ‪:‬‬
‫ن المفرّط متسبّب بترك ما وجب عليه من حفظها ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أن يتعدّى‬
‫الوّل ‪ :‬إذا فرّط في حفظ الوديعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المتعدّي متلف لمال غيره فضمنه ‪ ،‬كما لو أتلفه من غير إيداع ‪ .‬ومن صور‬
‫الوديع على الوديعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫التّعدّي عليها ‪ :‬انتفاعه بها ‪ ،‬كأن يركب الدّابّة المودعة لغير نفعها ‪ ،‬أو يلبس الثّوب المودع فيبلى ‪ .‬ومن‬
‫صور التّعدّي أيضا ‪ :‬جحودها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعدّي في الرّهن ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يكون التّعدّي في الرّهن من الرّاهن أو من المرتهن ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬تعدّي الرّاهن ‪:‬‬
‫‪ - 6‬إذا تعدّى الرّاهن على الرّهن فأتلفه أو أتلف جزءا منه ‪ ،‬فإنّه يؤمر بدفع قيمة ما أتلفه ‪ ،‬لتكون رهنا إلى‬
‫حلول الجل ‪ .‬وأمّا تصرّفات الرّاهن الّتي تنقل ملك العين المرهونة كالبيع والهبة ‪ ،‬فإنّها موقوفة على إجازة‬
‫المرتهن أو قضاء الدّين ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعدّي المرتهن ‪:‬‬
‫ن الرّهن إن هلك بنفسه فإنّه يهلك مضمونا بالدّين ‪ ،‬وكذلك لو استهلكه المرتهن ‪،‬‬
‫‪ - 7‬ذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫لنّه لو أتلف مملوكا متقوّما بغير إذن مالكه ‪ ،‬فيضمن مثله أو قيمته ‪ ،‬كما لو أتلفه أجنبيّ وكان رهنا مكانه ‪.‬‬
‫وفرّق المالكيّة بين ما يغاب عليه ‪ :‬أي ما يمكن إخفاؤه كبعض المنقولت ‪ ،‬وما ل يغاب عليه ‪ ،‬كالعقار‬
‫والسّفينة والحيوان ‪ ،‬فأوجبوا الضّمان في الوّل ‪ -‬دون الثّاني بشرطين ‪ :‬الوّل ‪ :‬أن يكون بيده ‪ ،‬ل أن يكون‬
‫بيد أمين ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن ل تشهد بيّنة للمرتهن على التّلف أو الضّياع ‪ ،‬بغير سببه ‪ ،‬وغير تفريطه ‪ .‬وذهب الشّافعيّة‬
‫ن الرّهن أمانة في يد المرتهن ‪ ،‬وأنّه ل ضمان عليه إن هلك بيده ‪ ،‬إلّا إذا تعدّى عليه ‪ ،‬أو‬
‫والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫فرّط في حفظه ‪ .‬وعلى هذا ‪ :‬فالفقهاء متّفقون على أنّ المرتهن ضامن للرّهن بتعدّيه عليه أو تفريطه في‬
‫حفظه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّعدّي في العاريّة ‪:‬‬
‫‪ - 8‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على أنّ العاريّة مضمونة بالتّعدّي والتّفريط من المستعير ‪ ،‬لحديث سمرة بن جندب رضي‬
‫ال عنه ‪ « :‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أمّا إذا هلكت بل تعدّ ول‬
‫تفريط ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ذلك ‪.‬‬
‫ن العاريّة إن هلكت من غير تعدّ ول تفريط منه فل ضمان عليه ‪ ،‬لقول النّبيّ‬
‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ليس على المستعير غير المغلّ ضمان » ‪ ،‬ولنّه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة‬
‫كالوديعة ‪ ،‬وهو ‪ :‬قول الحسن والنّخعيّ ‪ ،‬والشّعبيّ ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬والثّوريّ ‪ .‬والوزاعيّ ‪ ،‬وابن‬
‫شبرمة ‪.‬‬
‫وزاد المالكيّة في تضمين المستعير ‪ :‬ما إذا لم يظهر سبب هلك العاريّة ‪ ،‬وكانت ممّا يغاب عليه ‪ ،‬فإن قامت‬
‫بيّنة على تلفها أو ضياعها بدون سببه فل ضمان عليه ‪.‬‬
‫ن العاريّة مضمونة مطلقا ‪ ،‬تعدّى المستعير ‪ ،‬أو لم يتعدّ ‪ ،‬لحديث سمرة ‪« :‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ‪ ،‬وعن صفوان ‪ « :‬أنّه صلى ال عليه‬
‫أّ‬
‫وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا ‪ ،‬فقال ‪ :‬أغصبا يا محمّد ؟ قال ‪ :‬بل عاريّة مضمونة » ‪ .‬وهو ‪ :‬قول‬
‫عطاء ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬وأشهب من المالكيّة ‪ ،‬وروي عن ابن عبّاس ‪ ،‬وأبي هريرة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّعدّي في الوكالة ‪:‬‬
‫‪ - 9‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على أنّ الوكيل أمين ‪ ،‬ل ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط ول تعدّ ‪ ،‬لنّه نائب‬
‫عن المالك في اليد والتّصرّف ‪ ،‬فكان الهلك في يده كالهلك في يد المالك ‪ ،‬فأصبح كالمودع ‪ .‬ولنّ الوكالة‬
‫عقد إرفاق ومعونة ‪ ،‬والضّمان مناف لذلك ومنفّر عنه ‪.‬‬
‫أمّا إذا تعدّى الوكيل فإنّه يكون ضامنا ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ( وكالة ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬التّعدّي في الجارة ‪:‬‬
‫‪ - 10‬سبق الكلم عن التّعدّي في الجارة في مصطلح ( إجارة ) ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬التّعدّي في المضاربة ‪:‬‬
‫‪ - 11‬المضاربة ‪ :‬عقد على الشّركة في الرّبح بمال من أحد الجانبين ‪ ،‬وعمل من الجانب الخر ‪ ،‬ول‬
‫مضاربة بدونهما ‪ .‬ثمّ المدفوع إلى المضارب أمانة في يده ‪ ،‬لنّه يتصرّف فيه بأمر مالكه ‪ ،‬ل على وجه‬
‫البدل والوثيقة ‪ ،‬وهو وكيل فيه ‪ ،‬فإذا ربح فهو شريك فيه ‪ ،‬وإذا فسدت انقلبت إجارة ‪ ،‬واستوجب العامل أجر‬
‫مثله ‪ ،‬وإذا خالف كان غاصبا لوجود التّعدّي منه على مال غيره ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬قراض ‪،‬‬
‫شركة ) ‪.‬‬
‫‪ - 12‬هذا وقد سبق الكلم عن التّعدّي في الصّدقة ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬والكل ‪ ،‬والشّرب ‪ ،‬في مصطلح ( إسراف )‬
‫‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬التّعدّي على النّفس وما دونها ‪:‬‬
‫‪ - 13‬التّعدّي على البدان بما يوجب قصاصا أو غيره هو ‪ :‬قتل الدميّ بغير حقّ ‪ ،‬بأن ل يكون مرتدّا ‪ ،‬أو‬
‫زانيا محصنا ‪ ،‬أو قاتل لمكافئه ‪ ،‬أو حربيّا ‪ ( .‬ومثله قتل الصّائل ) ‪ .‬والتّعدّي على النّفس وما دونها ‪ :‬يكون‬
‫بالمباشرة أو بالتّسبّب ‪ ،‬كمن حفر بئرا أو حفرة في غير ملكه فوقع فيه إنسان ‪ .‬أو بالسّبب ‪ ،‬كالكراه على‬
‫التّعدّي ‪.‬‬
‫ل واحد منها يلحق ضررا بالغير ‪.‬‬
‫والتّعدّي بأنواعه يوجب الضّمان ‪ ،‬لنّ ك ّ‬
‫أمّا القتل من غير تعدّ ‪ -‬وهو القتل بحقّ ‪ -‬فل ضمان فيه ‪ ،‬كرجم الزّاني ‪.‬‬
‫والتّعدّي على النّفس يكون بالقتل عمدا أو شبه عمد ‪ -‬عند الجمهور ‪ -‬أو قتل خطأ ‪ .‬ويجب بالقتل العمد ‪:‬‬
‫القود ‪ ،‬أو الدّية ‪ .‬ويجب في شبه العمد والخطأ ‪ :‬الدّية فقط ‪ ،‬على تفصيل ينظر في ( جناية ‪ ،‬قتل ‪،‬‬
‫قصاص ) ‪.‬‬
‫أمّا التّعدّي على ما دون النّفس ‪ ،‬فإن كان عمدا ففيه القصاص ‪ ،‬أو الدّية ‪ ،‬وإن كان خطأ ففيه الدّية ‪ .‬على‬
‫خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬جناية ‪ ،‬جراح ‪ ،‬قصاص ) ‪.‬‬
‫ومثل التّعدّي بإتلف العضو ‪ :‬التّعدّي بإتلف منفعة العضو ‪ ،‬ففيه الضّمان أيضا ‪.‬‬
‫‪ - 14‬وقد سبق الكلم عن التّعدّي في العقوبات والقصاص والتّعزير في مصطلح ‪:‬‬
‫( إسراف ) ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬التّعدّي على العرض ‪:‬‬
‫‪ - 15‬التّعدّي على العراض حرام ‪ ،‬لنّ العراض يجب أن تصان من الدّنس ‪ ،‬وقد أباح السلم دم من‬
‫ن حفظ العراض من مقاصد الشّريعة ‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪ { :‬من قتل دون‬
‫اعتدى على العرض ‪ ،‬ل ّ‬
‫أهله فهو شهيد } ‪ ،‬وجه الدّللة في هذا الحديث الشّريف ‪ :‬أنّه لمّا جعله شهيدا دلّ أنّ له القتل والقتال ‪ .‬وأنّ‬
‫الدّفاع عن العرض واجب ‪ ،‬لنّه ل سبيل إلى إباحته ‪ .‬وسواء في ذلك بضع زوجته أو غيره ‪ .‬ومثل الدّفاع‬
‫عن البضع ‪ :‬الدّفاع عن مقدّماته كالقبلة وغيرها ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬صيال ) ‪.‬‬
‫تاسعا ‪ :‬تعدّي البغاة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬ما يتلفه البغاة ‪ -‬إذا تحقّقت فيهم الشّروط ‪ -‬من نفس أو مال ‪ ،‬ينظر إن كان أثناء القتال فل ضمان ‪،‬‬
‫وإن كان في غير قتال ضمنوا النّفس والمال ‪ ،‬وهذا القدر هو ما عليه جمهور العلماء وللتّفصيل ينظر‬
‫مصطلح ‪ ( :‬بغاة ) ‪.‬‬
‫عاشرا ‪ :‬التّعدّي في الحروب ‪:‬‬
‫‪ - 17‬يجب مراعاة الحكام الشّرعيّة في الحروب بين المسلمين والكفّار ‪ ،‬فل يجوز قتال من لم تبلغهم الدّعوة‬
‫‪ ،‬حتّى ندعوهم إلى السلم ‪ ،‬على خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬دعوة ) ‪ .‬ول يجوز في الحروب‬
‫قتل من لم يحمل السّلح من الصّبيان ‪ ،‬والمجانين ‪ ،‬والنّساء ‪ ،‬والشّيخ الكبير ‪ ،‬والرّاهب ‪ ،‬والزّمن ‪،‬‬
‫والعمى ‪ -‬بل خلف بين الفقهاء ‪ -‬إل إذا اشتركوا في القتال ‪ ،‬أو كانوا ذا رأي وتدبير ومكايد في الحرب ‪،‬‬
‫أو أعانوا الكفّار بوجه من الوجوه ‪ ،‬كما ل يجوز العتداء على السرى ‪ ،‬بل يجب الحسان إليهم ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ينظر ‪ ( :‬جهاد ‪ ،‬جزية ‪ ،‬أسرى ) ‪.‬‬
‫التّعدّي بالطلق الثّاني بمعنى النتقال ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تعدّي العلّة ‪:‬‬
‫العلّة ‪ :‬هي المعنى الّذي شرع الحكم عنده تحصيل للمصلحة ‪.‬‬
‫‪ - 18‬وهي ‪ :‬إمّا أن تكون متعدّية ‪ ،‬أو قاصرة وتسمّى ( ناقصة ) ‪.‬‬
‫ل النّصّ إلى غيره ‪ ،‬كعلّة‬
‫فالمتعدّية ‪ :‬هي الّتي يثبت وجودها في الصل والفروع ‪ ،‬أي ‪ :‬أنّها تتعدّى من مح ّ‬
‫السكار ‪.‬‬
‫ل في الطّواف ‪ ،‬في الشواط الثّلثة الولى ‪ ،‬لظهار‬
‫والقاصرة ‪ :‬هي الّتي ل تتعدّى محلّ الصل ‪ ،‬كالرّمَ ِ‬
‫ن القياس ل يتمّ‬
‫الجلد والقوّة للمشركين ‪ .‬وقد اتّفق الصوليّون ‪ :‬على أنّ التّعليل بالعلّة المتعدّية صحيح ‪ ،‬ل ّ‬
‫إل بعلّة متعدّية إلى الفرع ‪ ،‬ليلحق بالصل ‪.‬‬
‫واختلفوا في التّعليل بالعلل القاصرة ‪ .‬ومحلّ تفصيل ذلك الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعدّي بالسّراية ‪:‬‬
‫‪ - 19‬ومثاله ‪ :‬إذا أوقد شخص نارا في أرضه أو في ملكه ‪ ،‬أو في موات حجره ‪ ،‬أو فيما يستحقّ النتفاع به‬
‫‪ ،‬فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها ‪ ،‬فإن كان اليقاد بطريقة من شأنها ألّا تنتقل النّار إلى ملك الغير ‪-‬‬
‫فإنّه ل يضمن ‪ ،‬وإل فإنّه يضمن لتعدّيه ‪ ،‬سواء كان إيقاد النّار ‪ ،‬والرّيح عاصف ‪ ،‬أم باستعمال موا ّد تنتشر‬
‫معها النّار أو غير ذلك ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر ( ضمان ‪ ،‬إحراق ) ‪.‬‬
‫آثار التّعدّي ‪:‬‬
‫ن التّعدّي يكون على المال ‪ ،‬وعلى النّفس وما دونها ‪ ،‬وعلى العرض ‪ ،‬وللتّعدّي بأنواعه آثار‬
‫‪ - 20‬سبق أ ّ‬
‫نجملها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬الضّمان ‪ :‬وذلك فيما يخصّ الموال بالغصب والتلف ‪ ،‬وما سوى ذلك ‪ ،‬أو فيما يخصّ القتل‬
‫بأنواعه ‪ ،‬إذا صولح في عمده على مال ‪ ،‬أو عفا أحد الولياء عن القصاص ‪ -‬ومثل ذلك الجناية على ما‬
‫دون النّفس ‪ .‬وللتّفصيل ينظر كلّ في بابه ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬القصاص ‪ :‬ويكون في العمد من قتل أو قطع عضو أو إتلفه ممّا فيه القصاص ‪ ،‬وينظر في مصطلح‬
‫‪ ( :‬قتل ‪ ،‬قصاص ) ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬الحدّ ‪ :‬وهو أثر من آثار التّعدّي في السّرقة ‪ ،‬والزّنى ‪ ،‬والقذف ‪ ،‬وما إلى ذلك ‪ ،‬وينظر كلّ في‬
‫مصطلحه ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬التّعزير ‪ :‬وهو حقّ المام يعاقب به الجناة ويكون التّعزير ‪ :‬بالحبس أو بالجلد أو بما يراه الحاكم‬
‫مناسبا ‪ .‬انظر مصطلح ‪ ( :‬تعزير ) ‪.‬‬
‫‪ - 5 -‬المنع من الميراث ‪ :‬وذلك كقتل الوارث مورّثه ‪ ،‬على خلف بين الفقهاء في العمد وغيره ‪ .‬انظر‬
‫مصطلح ‪ ( :‬إرث ) ‪.‬‬

‫تعديل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬للتّعديل في اللّغة معنيان ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّسوية والتّقويم ‪ ،‬يقال ‪ :‬عدّل الحكم والشّيء تعديلً ‪ :‬أقامه‪ ،‬والميزان ‪ :‬سوّاه فاعتدل‪ .‬ب ‪ -‬التّزكية ‪،‬‬
‫يقال ‪ :‬عدّل الشّاهد أو الرّاوي تعديلً ‪ :‬نسبه إلى العدالة ووصفه بها ‪ .‬ومعناه في الصطلح الشّرعيّ ‪ ،‬ل‬
‫يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّجريح ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّجريح في اللّغة ‪ :‬مصدر جرّحه ‪ ،‬يقال ‪ :‬جرّحت الشّاهد ‪ :‬إذا أظهرت فيه ما تردّ به شهادته ول‬
‫يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تعديل الشّهود ‪:‬‬
‫‪ - 3‬ذهب الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬والمالكيّة وأبو يوسف ‪ ،‬ومحمّد إلى أنّه ‪ :‬يجب على القاضي أن يطلب‬
‫تعديل الشّهود إذا لم يعلم عدالتهم ‪ ،‬سواء أطعن الخصم أم لم يطعن ‪ ،‬ول يجوز له قبول شهادتهم بغير تعديل‬
‫‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬يقبل الحاكم شهادة الشّاهد المسلم الظّاهر العدالة ‪ ،‬ول يسأل عن حال الشّهود حتّى يطعن‬
‫الخصم ‪ ،‬لقول النّبيّ عليه الصلة والسلم ‪ « :‬المسلمون عدول بعضهم على بعض ‪ ،‬إل محدودا في فرية »‬
‫‪.‬‬
‫ن الحدود تدرأ بالشّبهات ‪ .‬وفي‬
‫واستثني من هذا شهود الحدود ‪ ،‬والقصاص فيشترط عنده الستقصاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫تعديل الشّهود ورواة الحديث تفصيلت وخلف تنظر في ( تزكية ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعديل الركان في الصّلة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على وجوب تعديل الركان في الصّلة ‪ ،‬بمعنى الطّمأنينة فيها ‪ ،‬من ركوع ‪ ،‬وسجود‬
‫وجلوس بين السّجدتين واعتدال من الرّكوع ‪ ،‬إل أنّ الحنفيّة قالوا بالوجوب دون الفرضيّة ‪ ،‬على اصطلحهم‬
‫‪ -‬بمعنى ‪ :‬أنّه يأثم بترك الواجب عمدا ‪ ،‬وتجب إعادة الصّلة ‪ ،‬لرفع الثم مع صحّتها ‪ -‬دون الفرض ‪.‬‬
‫وقال الجمهور ‪ :‬إنّ التّعديل في المذكورات واجب ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬أنّه فرض وركن ‪ ،‬تبطل الصّلة بتركه ‪ ،‬عمدا‬
‫أو سهوا ‪.‬‬
‫ودليل المسألة حديث المسيء صلته المعروف ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬قسمة التّعديل ‪:‬‬
‫‪ - 5‬وهي ‪ :‬أن تقسم العين المشتركة باعتبار القيمة ‪ ،‬ل بعدد الجزاء ‪ ،‬كأرض مثل تختلف قيمة أجزائها‬
‫باختلفها في قوّة النبات ‪ ،‬أو القرب من الماء ‪ ،‬أو بسقي بعضها بالنّهر ‪ ،‬وبعضها بالنّاضح أو بغير ذلك ‪.‬‬
‫فيكون ثلثها مثل يساوي بالقيمة ثلثيها ‪ ،‬فتقسم قسمة التّعديل ‪ .‬فيجعل الثّلث سهما والثّلثان سهما ‪ ،‬إلحاقا‬
‫للتّساوي بالقيمة بالتّساوي في الجزاء ‪ .‬وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬قسمة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعديل في دم جزاء الصّيد في المناسك ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّ جزاء الصّيد المثليّ على التّخيير والتّعديل ‪ ،‬فيجوز فيه العدول عن المثل‬
‫إلى قيمة المثل ‪ ،‬أو قيمة الصّيد ‪ ،‬على اختلف بينهم في ذلك ‪ ،‬يرجع إلى موطنه ‪ .‬واستدلّوا بقوله تعالى ‪{ :‬‬
‫ح ُرمٌ } ‪ ،‬أمّا غير المثليّ من الصّيد فيتصدّق بقيمته طعاما ‪ ،‬أو يصوم‬
‫ص ْيدَ وَأ ْن ُتمْ ُ‬
‫ن آ َمنُوا ل تَ ْقتُلُوا ال ّ‬
‫يَا َأيّها الّذي َ‬
‫ل مدّ يوما ‪.‬‬
‫عن ك ّ‬
‫أمّا باقي الدّماء الواجبة بترك واجب ‪ ،‬أو ارتكاب منهيّ ‪ ،‬ففي جواز التّعديل فيها خلف بين الفقهاء ‪،‬‬
‫وتفصيله في ( إحرام ) ‪.‬‬

‫تعذيب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعذيب ‪ :‬مصدر عذّب ‪ ،‬يقال ‪ :‬عذّبه تعذيبا ‪ :‬إذا منعه ‪ ،‬وفطمه عن المر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫قال ابن فارس ‪ :‬أصل العذاب الضّرب ‪ ،‬ثمّ استعير ذلك في كلّ شدّة ‪ ،‬يقال منه ‪ :‬عذّب تعذيبا والعذاب ‪ :‬اسم‬
‫ضعْ َفيْنِ }‪.‬‬
‫عفُ لَها ال َعذَابُ ِ‬
‫بمعنى النّكال والعقوبة ‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪ُ { :‬يضَا َ‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 2‬التّعزير ‪ :‬تفعيل من العزر ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬المنع والجبار على المر ‪ ،‬وأصله النّصرة والتّعظيم ‪.‬‬
‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬عبارة عن التّأديب دون الحدّ ‪ .‬وكلّ ما ليس فيه حدّ مقدّر شرعا فموجبه التّعزير ‪.‬‬
‫ن التّعزير ل يكون إل بحقّ شرعيّ ‪ ،‬بخلف التّعذيب ‪ .‬فقد يكون‬
‫والتّعذيب أعمّ من التّعزير من وجه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ظلما وعدوانا ‪ .‬والتّعزير أعمّ من حيث ما يكون به التّعزير ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّأديب ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّأديب مصدر أدّب ‪ ،‬مضعّفا ‪ ،‬وثلثيّه ‪ :‬أدب ‪ ،‬من باب ضرب ‪ ،‬يقال ‪ :‬أدّبته أدبا ‪ ،‬أي علّمته رياضة‬
‫ن التّأديب سبب‬
‫النّفس ‪ ،‬ومحاسن الخلق ‪ .‬ويقال ‪ :‬أدّبته تأديبا مبالغة وتكثيرا ‪ :‬أي عاقبته على إساءته ‪ ،‬ل ّ‬
‫يدعو إلى حقيقة الدب ‪.‬‬
‫ن فيه تعذيبا وتأديبا ‪.‬‬
‫والنّسبة بين التّعذيب والتّأديب ‪ :‬عموم وخصوص من وجه ‪ ،‬يجتمعان في التّعزير ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويفترق التّعذيب عن التّأديب في التّعذيب الممنوع شرعا ‪ ،‬فإنّه تعذيب ‪ ،‬وليس تأديبا ‪ ،‬ويفترق التّأديب عن‬
‫التّعذّب في التّأديب بالكلم والنّصح من غير ضرب ‪ ،‬فإنّه تأديب ول يطلق عليه تعذيب ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّمثيل ‪:‬‬
‫‪ - 4‬التّمثيل ‪ :‬مصدر مثّل ‪ .‬وأصله الثّلثيّ ‪ :‬مثل ‪ ،‬يقال ‪ :‬مثلّث بالقتيل ‪ :‬إذا جدعته ‪ ،‬وظهرت آثار فعلك‬
‫عليه تنكيلً والتّشديد مبالغة ‪ ،‬والسم المثلة ‪ -‬وزان غرفة ‪ -‬والمثلة ‪ -‬بفتح الميم وضمّ الثّاء ‪ :‬العقوبة ‪.‬‬
‫والنّسبة بين التّعذيب والتّمثيل ‪ ،‬عموم وخصوص مطلق ‪ .‬فالتّعذيب أعمّ من التّمثيل ‪ ،‬فكلّ تمثيل تعذيب ‪،‬‬
‫ن الميّت يتأذّى بما‬
‫وليس كلّ تعذيب تمثيلً ‪ .‬ول فرق في ذلك بين الحيّ والميّت ‪ ،‬لنّ الثار تدلّ ‪ :‬على أ ّ‬
‫يتأذّى به الحيّ ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يختلف حكم التّعذيب باختلف الحوال والسباب ‪ .‬والدّواعي للتّعذيب بعضها يرجع إلى قصد المعذّب ‪،‬‬
‫سواء أكان بالطّريق المباشر ‪ ،‬أم غير المباشر ‪.‬‬
‫ن اللّه يعذّب يوم القيامة الّذين‬
‫التّعذيب في الصل ممنوع شرعا ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫يعذّبون النّاس في الدّنيا » ‪.‬‬
‫ن الّذي يتولّى القصاص فيما دون النّفس ‪ :‬هو المام ‪ ،‬وليس للولياء ذلك ‪ ،‬لنّه ل‬
‫وجمهور الفقهاء على أ ّ‬
‫يؤمن منهم التّجاوز ‪ ،‬أو التّعذيب ‪.‬‬
‫وأمّا في النّفس ‪ ،‬فالحنابلة اشترطوا حضور المام ‪ ،‬أو نائبه ‪ ،‬للحتراز عن التّعذيب ‪.‬‬
‫أنواع التّعذيب ‪:‬‬
‫‪ - 6‬ينقسم التّعذيب إلى قسمين ‪ :‬الوّل ‪ :‬تعذيب النسان ‪ .‬الثّاني ‪ :‬تعذيب الحيوان ‪.‬‬
‫وك ّل منهما ينقسم ‪ :‬إلى مشروع ‪ ،‬وغير مشروع ‪ ،‬فالقسام أربعة وهي ‪:‬‬
‫‪ -1 -‬التّعذيب المشروع للنسان ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬التّعذيب غير المشروع للنسان ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬التّعذيب المشروع للحيوان ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬التّعذيب غير المشروع للحيوان ‪.‬‬
‫‪ - 7‬أمّا الوّل ‪ :‬فهو التّعذيب الّذي أمر به الشّارع على وجه الفرضيّة ‪ ،‬كالحدود ‪ ،‬والقصاص ‪ ،‬والتّعزيرات‬
‫بأنواعها ‪ .‬أو على وجه النّدب ‪ :‬كتأديب الولد ‪ .‬أو على وجه الباحة ‪ ،‬كالكيّ في التّداوي ‪ ،‬إذا تعيّن علجا‬
‫فإنّه مباح ‪.‬‬
‫وإذا لم تكن الحاجة لجل التّداوي فإنّه حرام ‪ ،‬لنّه تعذيب بالنّار‪ ،‬ول يعذّب بالنّار إل خالقها‪.‬‬
‫ومن المشروع رمي العداء بالنّار ولو حصل تعذيبهم بها ‪ ،‬وذلك عند عدم إمكان أخذهم بغير التّحريق ‪ ،‬لنّ‬
‫الصّحابة والتّابعين فعلوا ذلك في غزواتهم ‪ ،‬وأمّا تعذيبهم بالنّار بعد القدرة عليهم فل يجوز ‪ ،‬لما روى حمزة‬
‫السلميّ رضي ال عنه « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أمّره على سريّة وقال له ‪ :‬إن وجدتم فلنا‬
‫فاحرقوه بالنّار فولّيت فناداني ‪ ،‬فرجعت إليه فقال ‪ :‬إن وجدتم فلنا فاقتلوه ‪ ،‬ول تحرقوه ‪ ،‬فإنّه ل يعذّب‬
‫بالنّار إل ربّ النّار » وتفصيل ذلك في مصطلح ( إحراق ‪ ) 125/ 2‬ومن أنواع التّعذيب المشروع ‪ :‬ضرب‬
‫الب أو المّ ولدهما تأديبا ‪ ،‬وكذلك الوصيّ ‪ ،‬أو المعلّم بإذن الب تعليما ‪.‬‬
‫وذكر في القنية ‪ :‬له إكراه طفله على تعلّم القرآن ‪ ،‬والدب ‪ ،‬والعلم ‪ ،‬لفرضيّته على الوالدين ‪ ،‬وله ضرب‬
‫اليتيم فيما يضرب ولده ‪ ،‬وال ّم كالب في التّعليم ‪ ،‬بخلف التّأديب ‪ ،‬فإنّه لو مات الصّبيّ بضرب المّ تأديبا‬
‫فعليها الضّمان ‪.‬‬
‫ن ضرب التّأديب مقيّد بوصف السّلمة ‪ ،‬ومحلّه في الضّرب المعتاد ‪ ،‬كمّا وكيفا ومحلً ‪ ،‬فلو‬
‫وممّا يذكر ‪ :‬أ ّ‬
‫ضربه على الوجه أو على المذاكير يجب الضّمان بل خلف ‪ ،‬ولو سوطا واحدا ‪ ،‬لنّه إتلف ‪ .‬ومن‬
‫ن الصّحابة كانوا يفعلونه في زمن رسول اللّه صلى‬
‫التّعذيب المشروع للنسان ثقب أذن الطّفل من البنات ‪ ،‬ل ّ‬
‫ال عليه وسلم من غير نكير ‪.‬‬
‫تعذيب المتّهم ‪:‬‬
‫‪ - 8‬قسّم الفقهاء المتّهم بسرقة ونحوها إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫إمّا أن يكون المتّهم معروفا بالصّلح ‪ ،‬فل تجوز عقوبته اتّفاقا ‪.‬‬
‫وإمّا أن يكون المتّهم مجهول الحال ل يعرف ببرّ ول فجور ‪ ،‬فهذا يحبس حتّى ينكشف حاله ‪ ،‬وهذا عند‬
‫جمهور الفقهاء ‪ .‬والمنصوص عليه عند أكثر الئمّة ‪ :‬أنّه يحبسه القاضي والوالي ‪ ،‬لما روى أبو داود في‬
‫حبَس في‬
‫ي صلى ال عليه وسلم َ‬
‫ن النّب ّ‬
‫سننه ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬من حديث بهز بن حكيم ‪ .‬عن أبيه ‪ ،‬عن جدّه ‪ « :‬أ ّ‬
‫تهمة » ‪.‬‬
‫وإمّا أن يكون المتّهم معروفا بالفجور ‪ ،‬كالسّرقة ‪ ،‬وقطع الطّريق ‪ ،‬والقتل ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬فيجوز حبسه‬
‫وضربه ‪ ،‬كما « أمر النّبيّ صلى ال عليه وسلم الزّبير رضي ال عنه ‪ ،‬بتعذيب المتّهم الّذي غيّب ماله حتّى‬
‫أقرّ به » ‪.‬‬
‫ن المدّعى عليه في جميع هذه الدّعاوى يحلف ‪،‬‬
‫وقال ابن تيميّة ‪ :‬ما علمت أحدا من أئمّة المسلمين يقول ‪ :‬إ ّ‬
‫ن الضّرب حرام في الشّقّين ‪ ،‬أي سواء كان‬
‫ويرسل بل حبس ‪ ،‬ول غيره ‪ .‬وقال البجيرميّ ‪ :‬والظّاهر أ ّ‬
‫ضرب ليقرّ ‪ ،‬أو ليصدق‪ ،‬خلفا لما توهّم حلّه إذا ضرب ليصدق‪ .‬وقال ابن تيميّة ‪ :‬واختلفوا فيه ‪ :‬هل الّذي‬
‫يضربه الوالي دون القاضي ‪ ،‬أو كلهما ؟ أو ل يسوّغ ضربه ‪ ،‬على ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنّه يضربه الوالي والقاضي ‪ ،‬وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد ‪ ،‬منهم أشهب بن عبد‬
‫العزيز ‪ ،‬فإنّه قال ‪ :‬يمتحن بالحبس والضّرب ‪ ،‬ويضرب بالسّوط مجرّدا ‪ .‬القول الثّاني ‪ :‬أنّه يضربه الوالي‬
‫دون القاضي ‪ ،‬وهذا قول بعض أصحاب الشّافعيّ ‪ ،‬وأحمد‪ .‬القول الثّالث ‪ :‬أنّه يحبس ول يضرب ‪ ،‬وهذا‬
‫قول أصبغ ‪ ،‬ثمّ قالت طائفة ‪ ،‬منهم عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ومطرّف ‪ ،‬وابن الماجشون ‪ :‬إنّه يحبس حتّى‬
‫يموت ‪.‬‬
‫‪ - 9‬أمّا النّوع الثّاني ‪ :‬وهو التّعذيب غير المشروع للنسان ‪ ،‬فمنه تعذيب السرى ‪ ،‬فقد ذكر الفقهاء عدم‬
‫طعَامَ‬
‫جواز تعذيبهم ‪ ،‬لنّ السلم يدعو إلى الرّفق بالسرى ‪ ،‬وإطعامهم ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪َ { :‬و ُيطْ ِعمُونَ ال ّ‬
‫سكِينَا َو َي ِت ْيمَا وََأسِيرَا }‬
‫حبّه ِم ْ‬
‫عَلَى ُ‬
‫وفي الحديث الشّريف « ل تجمعوا عليهم حرّ الشّمس ‪ ،‬وحرّ السّلح ‪ ،‬قيلوهم حتّى يبردوا » وهذا الكلم في‬
‫أسارى بني قريظة ‪ ،‬حينما كانوا في الشّمس ‪.‬‬
‫ح حبس السير من غير تعذيب ‪ ،‬وإذا رجي أن يدلّ على أسرار العدوّ‬
‫وإذا كان هناك خوف الفرار ‪ ،‬فيص ّ‬
‫جاز تهديده وتعذيبه بالقدر الكافي ‪ ،‬لتحقيق ذلك ‪ ،‬ودليل ذلك ‪ :‬ما روي عن الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« أنّه أمر الزّبير بن العوّام بتعذيب من كتم خبر المال ‪ ،‬الّذي كان صلى ال عليه وسلم قد عاهدهم عليه ‪،‬‬
‫وقال له ‪ :‬أين كنز حييّ بن أخطب ؟ فقال ‪ :‬يا محمّد ‪ ،‬أنفذته النّفقات والحروب ‪ ،‬فقال ‪ :‬المال كثير والمسألة‬
‫أقرب ‪ ،‬وقال للزّبير ‪ :‬دونك هذا ‪ .‬فمسّه الزّبير بشيء من العذاب ‪ ،‬فدلّهم على المال » ‪.‬‬
‫لكن إذا كانوا يعذّبون أسرى المسلمين يجوز معاملتهم بالمثل ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَإِنْ عَا َق ْبتُمْ َفعَاقِبُوا ِب ِمثْلِ مَا‬
‫عتَدى عَلَيكُم } قال‬
‫ع َتدُوا عَلَيه ِب ِمثْلِ مَا ا ْ‬
‫ع َتدَى عَليكُم فَا ْ‬
‫ت قِصَاصٌ َفمَنْ ا ْ‬
‫حرُمَا ُ‬
‫عُوقِ ْب ُتمْ بِه } وقوله أيضا { وَال ُ‬
‫الباجيّ ‪ :‬ل يمثّل بالسير ‪ ،‬إل أن يكونوا مثّلوا بالمسلمين ‪ .‬وقال ابن حبيب ‪ :‬قتل السير بضرب عنقه ‪ ،‬ل‬
‫ب الرّقَاب } ل خير‬
‫يمثّل به ‪ ،‬ول يعبث عليه ‪ .‬قيل لمالك ‪ :‬أيضرب وسطه ؟ فقال ‪ :‬قال اللّه سبحانه { َفضَرْ َ‬
‫في العبث ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا النّوع الثّالث ‪ :‬وهو التّعذيب المشروع للحيوان ‪ -‬فقد ذكروا له أمثلة ‪ ،‬منها ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫أ ‪ -‬تعذ يب ماش ية الزّكاة والجز ية بالو سم ‪ -‬ف قد ذ هب الفقهاء إلى جوازه ‪ ،‬ل ما روي من ف عل ال صّحابة في‬
‫ماشية الزّكاة والجزية ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ :‬ل بأس بكيّ البهائم للعلمة ‪ ،‬لنّهم كانوا يفعلون ذلك في زمن رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم من غير إنكار ‪.‬‬
‫ن المالكيّة ذهبوا ‪ :‬إلى جوازه ‪ ،‬وذهب أحمد بن حنبل ‪ :‬إلى‬
‫ب ‪ -‬إلقاء السّمك الحيّ في النّار ليصير مشويّا فإ ّ‬
‫أ نّ هذا الع مل مكروه ‪ ،‬و مع هذا ف قد رأى جواز أكله ‪ ،‬وهذا بخلف ش يّ الجراد حيّا ‪ ،‬فإنّه يجيزه من غ ير‬
‫كرا هة ‪ ،‬لما أثر أ نّ ال صّحابة فعلوا ذلك ‪ ،‬من غير نكير ‪ .‬ج ‪ -‬ومن ذلك التّعذيب الجائز ‪ :‬ضرب الحيوان‬
‫بقدر ما يح صل به التّعل يم والتّرو يض ‪ ،‬ويخا صم الضّارب في ما زاد على القدر الّذي يحتاج إل يه ‪ ،‬ك ما في‬
‫البحر الرّائق ‪.‬‬
‫‪ - 11‬وأمّا النّوع الرّابع ‪ :‬وهو التّعذيب " غير المشروع " للحيوان ‪:‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ن النّب ّ‬
‫فمنه ‪ :‬تعذيب الحيوان بالمنع من الكل والشّرب ‪ ،‬لحديث ابن عمر رضي ال عنهما ‪ « :‬أ ّ‬
‫عليه وسلم قال‪ :‬دخلت امرأة النّار في هرّة ربطتها ‪ ،‬فلم تطعمها ‪ ،‬ولم تدعها تأكل من خشاش الرض » ‪.‬‬
‫ومنه ‪ :‬اتّخاذ ذي روح غرضا ‪ ،‬أي هدفا للرّمي ‪.‬‬
‫ومنه ‪ :‬قطع رأس الحيوان المذبوح وسلخه قبل أن يبرد ‪ ،‬ويسكن عن الضطراب ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ - 12‬ذكر الفقهاء التّعذيب في مواضع شتّى سبق ذكر عدد منها خلل البحث ‪.‬‬
‫ومنها أيضا ‪ :‬الجنايات ‪ ،‬والتّعزيرات ‪ ،‬والتّأديب ‪ ،‬والتّذكية ‪ ،‬والسر ‪ ،‬والسّياسة الشّرعيّة ‪ ،‬والجهاد ( السّير‬
‫)‪.‬‬

‫تعريض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعريض ‪ :‬لغة ضدّ التّصريح ‪ ،‬يقال ‪ :‬عرّض لفلن وبفلن ‪ :‬إذا قال قولً عامّا ‪ ،‬وهو يعني فلنا ‪،‬‬
‫ن في المعاريض لمندوحة عن الكذب‪ .‬وهو في الصطلح ‪ :‬ما‬
‫ومنه ‪ :‬المعاريض في الكلم ‪ ،‬كقولهم ‪ :‬إ ّ‬
‫يفهم به السّامع مراد المتكلّم من غير تصريح ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الكناية‬
‫ن التّعريض هو تضمين‬
‫‪ - 2‬الكناية ‪ :‬وهي ذكر اللزم ‪ ،‬وإرادة الملزوم ‪ .‬والفرق بين الكناية والتّعريض ‪ :‬أ ّ‬
‫الكلم دللة ليس فيها ذكر ‪ ،‬كقول المحتاج ‪ :‬جئتك لسلّم عليك ‪ ،‬فيقصد من اللّفظ السّلم ‪ ،‬ومن السّياق طلب‬
‫الحاجة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّورية ‪:‬‬
‫‪ - 3‬التّورية ‪ :‬وهي أن تطلق لفظا ظاهرا قريبا في معنى ‪ ،‬تريد به معنى آخر بعيدا يتناوله ذلك اللّفظ ‪ ،‬لكنّه‬
‫خلف ظاهره ‪.‬‬
‫ص من التّعريض ‪ ،‬الّذي قد يفهم‬
‫ن فائدة التّورية تراد من اللّفظ ‪ ،‬فهي أخ ّ‬
‫والفرق بينها وبين التّعريض ‪ :‬أ ّ‬
‫المراد منه من السّياق والقرائن ‪ ،‬أو اللّفظ ‪ ،‬فهو أعمّ ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّعريض بحسب موضوعه كما يلي ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّعريض في الخطبة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في حرمة التّعريض بالخطبة لمنكوحة الغير ‪ ،‬والمعتدّة من طلق رجع يّ ‪ ،‬لنّها‬ ‫‪4‬‬

‫في حكم المنكوحة ‪ ،‬كما اتّفق الفقهاء على حرمة التّعريض لمخطوبة من صرّح بإجابته وعلمت خطبته ‪ ،‬ولم‬
‫يأذن الخاطب ولم يعرّض عنها ‪.‬‬
‫لخبر ‪ « :‬ل يخطب الرّجل على خطبة أخيه ‪ ،‬حتّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب » ر ‪ :‬مصطلح ‪:‬‬
‫( خِطبة ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعريض بخطبة المعتدّة غير الرّجعيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى جواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة عن وفاة ‪ ،‬ولم نقف على خلف بينهم فيها ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫ل للشّافعيّة ‪ ،‬مؤدّاه ‪ :‬إن كا نت عدّة الوفاة بالح مل لم يعرّض ل ها ‪ ،‬خو فا من تكلّف إلقاء الجن ين ‪ ،‬و هو‬
‫إل قو ً‬
‫قول ضعيف عندهم ‪.‬‬
‫سكُمْ } ‪.‬‬
‫خطْبَ ِة ال ّنسَاءِ أو َأ ْك َن ْن ُتمْ في َأنْ ُف ِ‬
‫ن ِ‬
‫ض ُتمْ بِه مِ ْ‬
‫عرّ ْ‬
‫جنَاحَ عَلَي ُكمْ فيما َ‬
‫واستدلّ الجمهور بقوله تعالى ‪ { :‬وَل ُ‬
‫لنّها وردت في عدّة الوفاة ‪ ،‬كما قال جمهور المفسّرين ‪.‬‬
‫واختلفوا في جواز التّعريض للمعتدّة من طلق بائن أو فسخ فذهب المالكيّة والشّافعيّة في الظهر ‪ ،‬والحنابلة‬
‫ل التّعريض لبائن معتدّة بالقراء أو الشهر ‪ ،‬وذلك لعموم الية ‪ ،‬ولنقطاع سلطة‬
‫في قول ‪ :‬إلى أنّه يح ّ‬
‫الزّوج عليها ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين أن تكون بائنا بينونة صغرى أو كبرى ‪ ،‬أو بفسخ ‪ ،‬أو فرقة بلعان ‪ ،‬أو‬
‫رضاع ‪ ،‬في الظهر عندهم ‪ .‬وهو مذهب مالك ‪ ،‬وأحمد ‪ .‬ومقابل الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وأحد قولي أحمد ‪:‬‬
‫ن لصاحب العدّة المنتهية أن ينكحها بنكاح جديد ‪ ،‬فأشبهت‬
‫ل يحلّ التّعريض للبائن بطلق رجعيّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫الرّجعيّة ‪ .‬وذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أنّه ل يحلّ التّعريض لمعتدّة من طلق بنوعيه ‪ ،‬لفضائه إلى عداوة المطلّق ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن الفتح " الجماع " بين فقهاء الحنفيّة على حرمة التّعريض للمعتدّة من طلق مطلقا ‪،‬‬
‫ويجوز التّعريض عندهم للمعتدّة من نكاح فاسد ‪ ،‬ووطء شبهة ‪ .‬وجواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة مرتبط‬
‫بجواز خروج المعتدّة ‪ ،‬فمن يجوز لها الخروج من بيت العدّة ‪ ،‬يجوز التّعريض بالخطبة لها ‪ ،‬ومن ل يجوز‬
‫لها الخروج ل يجوز التّعريض لها عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ألفاظ التّعريض بالخطبة ‪:‬‬
‫ل لفظ يحتمل الخطبة وغيرها ‪ ،‬ولكنّ الفقهاء يذكرون ألفاظا للتّمثيل له ‪ :‬كأنت جميلة ‪،‬‬
‫‪ - 6‬التّعريض ‪ :‬هو ك ّ‬
‫ومن يجد مثلك ؟ وأنّ اللّه ساق لك خيرا ‪ ،‬ربّ راغب فيك ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّعريض بالقذف ‪:‬‬
‫‪ - 7‬اختلف الفقهاء في وجوب الح ّد بالتّعريض بالقذف ‪ ،‬فذهب مالك ‪ :‬إلى أنّه إذا عرّض بالقذف غير أب‬
‫يجب عليه الح ّد ‪ -‬إن فهم القذف بتعريضه بالقرائن ‪ ،‬كخصام بينهم ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين النّظم والنّثر ‪ ،‬أمّا‬
‫ن عمر رضي ال عنه‬
‫الب إذا عرّض لولده فإنّه ل يحدّ لبعده عن التّهمة ‪ .‬وهو أحد قولين للمام أحمد ‪ ،‬ل ّ‬
‫استشار بعض الصّحابة في رجل قال لخر ‪ :‬ما أنا بزان ول أمّي بزانية ؟ فقالوا ‪ :‬إنّه قد مدح أباه وأمّه ‪،‬‬
‫فقال عمر ‪ :‬قد عرّض لصاحبه ‪ ،‬فجلده الحدّ ‪.‬‬
‫ن التّعريض بالقذف ‪ ،‬قذف ‪ .‬كقوله ‪ :‬ما أنا بزان ‪ ،‬وأمّي ليست بزانية ‪ ،‬ولكنّه ل يحدّ ‪ ،‬لنّ‬
‫وعند الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫ن المعنى ‪ :‬بل أنت زان ‪ .‬والتّعريض بالقذف عند الشّافعيّة ‪ ،‬كقوله‬
‫الحدّ يسقط للشّبهة ‪ ،‬ويعاقب بالتّعزير ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن ال ّنيّة إنّما‬
‫‪ :‬يا ابن الحلل ‪ ،‬وأمّا أنا فلست بزان ‪ ،‬وأمّي ليست بزانية ‪ ،‬فهذا كلّه ليس بقذف وإن نواه ‪ ،‬ل ّ‬
‫تؤثّر ‪ ،‬إذا احتمل اللّفظ المنويّ ‪ ،‬ول دللة هنا في اللّفظ ول احتمال ‪ ،‬وما يفهم منه مستنده قرائن الحوال ‪.‬‬
‫هذا هو الصحّ ‪ .‬وقيل ‪ :‬هو كناية ‪ ،‬أي عن القذف ‪ ،‬لحصول الفهم واليذاء ‪ .‬فإن أراد النّسبة إلى الزّنى‬
‫فقذف ‪ ،‬وإل فل ‪ .‬وسواء في ذلك حالة الغضب وغيرها ‪ .‬وهو أحد قولي المام أحمد ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّعريض للمسلم بقتل طالبه من الكفّار ‪:‬‬
‫‪ - 8‬يجوز التّعريض للمسلم لقتل من جاء يطلبه ليردّه إلى دار الكفر ‪ ،‬لنّ عمر رضي ال عنه قال لبي‬
‫جندل رضي ال عنه حين ردّ لبيه ‪ :‬اصبر أبا جندل فإنّما هم المشركون ‪ ،‬وإنّما دم أحدهم دم كلب يعرّض‬
‫له بقتل أبيه ‪.‬‬
‫خامسا ‪ -‬التّعريض للمقرّ بحدّ خالص بالرّجوع ‪:‬‬
‫‪ - 9‬ذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم ‪ :‬إلى أنّه يجوز للقاضي أن يعرّض له بالرّجوع ‪ ،‬كأن يقول له في‬
‫السّرقة ‪ :‬لعلّك أخذت من غير حرز ‪ ،‬وفي الزّنى ‪ :‬لعلّك فاخذت أو لمست ‪ ،‬وفي الشّرب ‪ :‬لعلّك لم تعلم أنّ‬
‫ما شربت مسكر لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « قال لمن أقرّ عنده بالسّرقة ما إخالك سرقت » فأعاد عليه‬
‫مرّتين أو ثلثا ‪ ،‬وقال لماعز ‪ « :‬لعلّك قبّلت ‪ ،‬أو غمزت ‪ ،‬أو نظرت » ‪ .‬وفي قول عندهم ‪ :‬ل يعرّض له‬
‫ن له الرّجوع ‪ ،‬فإن علم فل يعرّض له ‪.‬‬
‫بالرّجوع ‪ ،‬كما ل يصرّح‪ .‬وفي قول ‪ :‬يعرّض له ‪ ،‬إن لم يعلم أ ّ‬
‫ن التّعريض مندوب ‪ ،‬لحديث ماعز وتفصيله في الحدود ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمام أحمد ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ - 10‬يذكر الفقهاء التّعريض في البواب التية ‪ :‬في كتاب النّكاح ‪ ،‬والعدّة ‪ ،‬وفي الحدود ‪ :‬في القذف ‪،‬‬
‫والرّجوع عن القرار ‪ .‬وفي الهدنة ‪ :‬وفي اليمان في القضاء فقط ‪.‬‬

‫تعريف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعريف ‪ :‬مصدر عرّف ‪ .‬ومن معانيه ‪ :‬العلم والتّوضيح ‪ " ،‬ويقابله التّجهيل " وإنشاد الضّالّة ‪،‬‬
‫والتّطييب ‪ ،‬وهو مأخوذ من العرف أي ‪ :‬الرّائحة ‪ ،‬كما قال ابن عبّاس رضي ال عنهما في قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫عرّ َفهَا َل ُهمْ } أي طيّبها لهم ‪.‬‬
‫جنّةَ َ‬
‫َو ُي ْدخِ ْلهُم ال َ‬
‫والتّعريف ‪ :‬الوقوف بعرفات ‪ .‬ويراد به أيضا ‪ :‬ما يصنعه بعض النّاس في بلدهم يوم عرفة ‪ ،‬من التّجمّع‬
‫والدّعاء ‪ ،‬تشبّها بالحجّاج ‪ .‬ويراد به أيضا ‪ :‬ذهاب الحاجّ بالهدي إلى عرفات ‪ ،‬ليعرّف النّاس أنّه هدي ‪.‬‬
‫وأمّا في الصطلح ‪ ،‬فللتّعريف عدّة إطلقات تبعا للعلوم المختلفة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فعند الصوليّين ‪:‬‬
‫‪ - 2‬هو تحديد المفهوم الكّليّ ‪ ،‬بذكر خصائصه ومميّزاته ‪ .‬والتّعريف الكامل ‪ :‬هو ما يساوي المعرّف تمّام‬
‫المساواة ‪ ،‬بحيث يكون جامعا مانعا ‪ .‬والحدّ والتّعريف عند الصوليّين بمعنى واحد ‪ ،‬وهو ‪ :‬الجامع المانع ‪،‬‬
‫سواء أكان بالذّاتيّات ‪ ،‬أم بالعرضيّات ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬عند الفقهاء ‪:‬‬
‫‪ - 3‬لم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للتّعريف ‪ ،‬والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة ‪ :‬أنّ استعمالهم هذا اللّفظ‬
‫ل يخرج عن المعاني اللّغويّة ‪ ،‬لكنّهم عند الطلق يريدون المعنى الصطلحيّ لدى الصوليّين ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العلن ‪:‬‬
‫‪ - 4‬العلن خلف الكتمان ‪ ،‬والتّعريف أعمّ ‪ ،‬من حيث إنّه قد يكون سرّا ‪ ،‬وقد يكون علنية ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الكتمان أو الخفاء ‪:‬‬
‫ن الّذينَ َي ْك ُتمُونَ مَا‬
‫‪ - 5‬الكتمان ‪ :‬هو السّكوت عن المعنى ‪ ،‬أو إخفاء الشّيء وستره ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫َأ ْنزَلْنَا ِمنَ ال َب ّينَاتِ وَال ُهدَى } أي يسكتون عن ذكره ‪ ،‬فالتّعريف مقابل الخفاء والكتمان ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّعريف باختلف المعرّف ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬التّعريف في المصار ‪:‬‬
‫‪ - 6‬هو قصد الرّجل مسجد بلده يوم عرفة ‪ ،‬للدّعاء والذّكر ‪ ،‬فهذا هو التّعريف في المصار الّذي اختلف‬
‫العلماء فيه ‪ ،‬ففعله ابن عبّاس ‪ ،‬وعمرو بن حريث رضي ال عنهم ‪ ،‬من الصّحابة ‪ ،‬وطائفة من البصريّين ‪،‬‬
‫والمدنيّين ‪ ،‬ورخّص فيه أحمد ‪ ،‬وإن كان مع ذلك ل يستحبّه ‪ .‬هذا هو المشهور عنه ‪ .‬وكرهه طائفة من‬
‫الكوفيّين ‪ ،‬والمدنيّين ‪ ،‬كإبراهيم النّخعيّ ‪ ،‬وأبي حنيفة ‪ ،‬ومالك ‪ ،‬وغيرهم ‪.‬‬
‫ومن كرهه قال ‪ :‬هو من البدع ‪ ،‬فيندرج في العموم ‪ ،‬لفظا ومعنى ‪.‬‬
‫ي بن أبي طالب رضي‬
‫ومن رخّص فيه قال ‪ :‬فعله ابن عبّاس رضي ال عنهما بالبصرة ‪ ،‬حين كان خليفة لعل ّ‬
‫ال عنه ‪ ،‬ولم ينكر عليه ‪ ،‬وما يفعل في عهد الخلفاء الرّاشدين من غير إنكار ل يكون بدعة ‪ .‬لكن ما يزاد‬
‫على ذلك ‪ :‬من رفع الصوات الرّفع الشّديد في المساجد بالدّعاء ‪ ،‬وأنواع من الخطب ‪ ،‬والشعار الباطلة ‪،‬‬
‫مكروه في هذا اليوم وغيره ‪.‬‬
‫ج َهرْ ِبصَل ِتكَ وَل ُتخَافِتْ‬
‫قال المرّوذيّ ‪ :‬سمعت أبا عبد اللّه يقول ‪ :‬ينبغي أن يسرّ دعاءه ‪ ،‬لقوله ‪ { :‬وَل َت ْ‬
‫ِبهَا } قال ‪ :‬هذا في الدّعاء ‪ .‬قال ‪ :‬وسمعت أبا عبد اللّه يقول ‪ :‬وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدّعاء ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬تعريف اللّقَطة ‪:‬‬
‫ح عند إمام الحرمين والغزاليّ من الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّه يجب تعريف‬
‫‪ - 7‬ذهب الئمّة الثّلثة ‪ ،‬وهو الص ّ‬
‫اللّقطة ‪ ،‬سواء أراد تملّكها ‪ ،‬أم حفظها لصاحبها ‪.‬‬
‫وفيه وجه آخر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وبه قطع الكثرون منهم ‪ ،‬وهو ‪ :‬أنّه ل يجب التّعريف فيما إذا قصد الحفظ‬
‫ن التّعريف إنّما يجب لتحقيق شرط التّملّك ‪.‬‬
‫أبدا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وبيان كيفيّة التّعريف ومدّته ومكانه يرجع إليه في مصطلح ( لقطة ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬التّعريف في الدّعوى ‪:‬‬
‫ن تعريف الشّيء المدّعي والمدّعى عليه ‪ -‬بمعنى كونهما معلومين ‪ -‬شرط‬
‫‪ - 8‬ل خلف بين الفقهاء ‪ :‬في أ ّ‬
‫ن فائدة الدّعوى اللزام بإقامة الحجّة ‪ ،‬واللزام في‬
‫لسماع الدّعوى ‪ ،‬فل بدّ من ذكر ما يعيّنهما ويعرّفهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫المجهول غير متحقّق ‪.‬‬
‫وفي كلّ ذلك خلف وتفصيل ‪ ،‬يذكر في موطنه في مصطلح ( دعوى ) ‪.‬‬
‫تعزير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعزير لغة ‪ :‬مصدر عزّر من العزر ‪ ،‬وهو ال ّردّ والمنع ‪ ،‬ويقال ‪ :‬عزّر أخاه بمعنى ‪ :‬نصره ‪ ،‬لنّه‬
‫منع عدوّه من أن يؤذيه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬عزّرته بمعنى ‪ :‬وقّرته ‪ ،‬وأيضا ‪ :‬أدّبته ‪ ،‬فهو من أسماء الضداد ‪.‬‬
‫ن من شأنها أن تدفع الجاني وتردّه عن ارتكاب الجرائم ‪ ،‬أو العودة إليها ‪.‬‬
‫وسمّيت العقوبة تعزيرا ‪ ،‬ل ّ‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هو عقوبة غير مقدّرة شرعا ‪ ،‬تجب حقّا للّه ‪ ،‬أو لدميّ ‪ ،‬في كلّ معصية ليس فيها حدّ‬
‫ول كفّارة غالبا ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الحدّ ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الحدّ لغة ‪ :‬المنع ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬عقوبة مقدّرة شرعا وجبت حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى ‪ ،‬أو للعبد كحدّ القذف ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬القصاص ‪:‬‬
‫‪ - 3‬القصاص لغة ‪ :‬تتبّع الثر ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الكفّارة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬الكفّارة لغة ‪ :‬من التّكفير ‪ ،‬وهو المحو‪ ،‬والكفّارة جزاء مقدّر من الشّرع ‪ ،‬لمحو الذّنب‪ - 5 .‬ويختلف‬
‫التّعزير عن الحدّ والقصاص والكفّارة من وجوه منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬في الحدود والقصاص ‪ ،‬إذا ثبتت الجريمة الموجبة لهما لدى القاضي شرعا ‪ ،‬فإنّ عليه الحكم بالحدّ أو‬
‫القصاص على حسب الحوال ‪ ،‬وليس له اختيار في العقوبة ‪ ،‬بل هو يطبّق العقوبة المنصوص عليها شرعا‬
‫بدون زيادة أو نقص ‪ ،‬ول يحكم بالقصاص إذا عفي عنه ‪ ،‬وله هنا التّعزير ‪ .‬ومردّ ذلك ‪ :‬أنّ القصاص حقّ‬
‫للفراد ‪ ،‬بخلف الحدّ ‪.‬‬
‫وفي التّعزير يختار القاضي من العقوبات الشّرعيّة ما يناسب الحال ‪ ،‬فيجب على الّذين لهم سلطة التّعزير‬
‫الجتهاد في اختيار الصلح ‪ ،‬لختلف ذلك باختلف مراتب النّاس ‪ ،‬وباختلف المعاصي ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إقامة الحدّ الواجب لحقّ اللّه ل عفو فيه ول شفاعة ول إسقاط ‪ ،‬إذا وصل المر للحاكم ‪ ،‬وثبت بالبيّنة ‪،‬‬
‫وكذلك القصاص إذا لم يعف صاحب الحقّ فيه ‪ .‬والتّعزير إذا كان من حقّ اللّه تعالى تجب إقامته ‪ ،‬ويجوز‬
‫فيه العفو والشّفاعة إن كان في ذلك مصلحة ‪ ،‬أو انزجر الجاني بدونه ‪ ،‬وإذا كان من حقّ الفرد فله تركه‬
‫العفو وبغيره ‪ ،‬وهو يتوقّف على الدّعوى ‪ ،‬وإذا طالب صاحبه ل يكون لوليّ المر عفو ول شفاعة ول‬
‫إسقاط ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إثبات الحدود والقصاص عند الجمهور ل يثبت إل بالبيّنة أو العتراف‪ ،‬بشروط خاصّة‪ .‬وعلى سبيل‬
‫المثال ‪ :‬ل يؤخذ فيه بأقوال المجنيّ عليه كشاهد ‪ ،‬ول بالشّهادة السّماعيّة ‪ ،‬ول باليمين ‪ ،‬ول بشهادة النّساء ‪.‬‬
‫بخلف التّعزير فيثبت بذلك ‪ ،‬وبغيره ‪.‬‬
‫ن المام مأمور بإقامة الحدّ ‪ ،‬وفعل‬
‫ن من حدّه المام فمات من ذلك فدمه هدر ‪ ،‬ل ّ‬
‫د ‪ -‬ل خلف بين الفقهاء أ ّ‬
‫المأمور ل يتقيّد بشرط السّلمة ‪.‬‬
‫أمّا التّعزير فقد اختلفوا فيه ‪ ،‬فعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ :‬الحكم كذلك في التّعزير ‪ .‬أمّا عند الشّافعيّة ‪:‬‬
‫فالتّعزير موجب للضّمان ‪ ،‬وقد استدلّوا على ذلك بفعل عمر رضي ال عنه ‪ "،‬إذ أرهب امرأة ففزعت فزعا ‪،‬‬
‫فدفعت الفزعة في رحمها ‪ ،‬فتحرّك ولدها ‪ ،‬فخرجت ‪ ،‬فأخذها المخاض ‪ ،‬فألقت غلما جنينا ‪ ،‬فأتي عمر‬
‫رضي ال عنه بذلك ‪ ،‬فأرسل إلى المهاجرين فقصّ عليهم أمرها ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما ترون ؟ فقالوا ‪ :‬ما نرى عليك‬
‫شيئا يا أمير المؤمنين ‪ ،‬إنّما أنت معلّم ومؤدّب ‪ ،‬وفي القوم عليّ رضي ال عنه ‪ ،‬وعليّ ساكت ‪ .‬قال ‪ :‬فما‬
‫تقول ‪ :‬أنت يا أبا الحسن قال ‪ :‬أقول ‪ :‬إن كانوا قاربوك في الهوى فقد أثموا ‪ ،‬وإن كان هذا جهد رأيهم فقد‬
‫أخطئوا ‪ ،‬وأرى عليك الدّية يا أمير المؤمنين ‪ ،‬قال ‪ :‬صدقت ‪ ،‬اذهب فاقسمها على قومك "‪ .‬أمّا من يتحمّل‬
‫الدّية في النّهاية ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنّما تكون على عاقلة وليّ المر ‪ .‬وقيل ‪ :‬إنّها تكون في بيت المال ‪.‬‬
‫ن الحدود تدرأ بالشّبهات ‪ ،‬بخلف التّعزير ‪ ،‬فإنّه يثبت بالشّبهة ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬إ ّ‬
‫و ‪ -‬يجوز الرّجوع في الحدود إن ثبتت بالقرار ‪ ،‬أمّا التّعزير فل يؤثّر فيه الرّجوع ‪.‬‬
‫ن الحدّ ل يجب على الصّغير ‪ ،‬ويجوز تعزيره ‪.‬‬
‫ز‪-‬إّ‬
‫ح ‪ -‬إنّ الح ّد قد يسقط بالتّقادم عند بعض الفقهاء ‪ ،‬بخلف التّعزير ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن الصل في التّعزير أنّه مشروع في كلّ معصية ل حدّ فيها ‪ ،‬ول كفّارة ‪.‬‬
‫‪ - 6‬جمهور الفقهاء ‪ :‬على أ ّ‬
‫ويختلف حكمه باختلف حاله وحال فاعله ‪.‬‬
‫حكمة التّشريع ‪:‬‬
‫‪ - 7‬التّعزير مشروع لردع الجاني وزجره ‪ ،‬وإصلحه وتهذيبه ‪.‬‬
‫قال الزّيلعيّ ‪ :‬إنّ الغرض من التّعزير الزّجر ‪ .‬وسمّى التّعزيرات ‪ :‬بالزّواجر غير المقدّرة ‪ .‬والزّجر معناه ‪:‬‬
‫منع الجاني من معاودة الجريمة ‪ ،‬ومنع غيره من ارتكابها ‪ ،‬ومن ترك الواجبات ‪ ،‬كترك الصّلة والمماطلة‬
‫في أداء حقوق النّاس ‪.‬‬
‫أمّا الصلح والتّهذيب فهما من مقاصد التّعزير ‪ ،‬وقد بيّن ذلك الزّيلعيّ بقوله ‪ :‬التّعزير للتّأديب ‪ .‬ومثله‬
‫ن الحبس غير‬
‫ن ‪ :‬التّعزير تأديب استصلح وزجر ‪ .‬وقال الفقهاء ‪ :‬إ ّ‬
‫تصريح الماورديّ وابن فرحون بأ ّ‬
‫المحدّد المدّة حدّه التّوبة وصلح حال الجاني ‪.‬‬
‫ن التّعزير شرع للتّطهير ‪ ،‬لنّ ذلك سبيل لصلح الجاني ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وقالوا ‪ :‬الزّواجر غير المقدّرة محتاج إليها ‪ ،‬لدفع الفساد كالحدود ‪.‬‬
‫وليس التّعزير للتّعذيب ‪ ،‬أو إهدار الدميّة ‪ ،‬أو التلف ‪ ،‬حيث ل يكون ذلك واجبا ‪ .‬وفي ذلك يقول الزّيلعيّ‬
‫‪ :‬التّعزير للتّأديب ‪ ،‬ول يجوز التلف ‪ ،‬وفعله مقيّد بشرط السّلمة ‪ .‬ويقول ابن فرحون ‪ :‬التّعزير إنّما يجوز‬
‫منه ما أمنت عاقبته غالبا ‪ ،‬وإل لم يجز ‪.‬‬
‫ن الشّرع لم يرد بشيء من‬
‫ويقول البهوتيّ ‪ :‬ل يجوز قطع شيء ممّن وجب عليه التّعزير ‪ ،‬ول جرحه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل ضرب يؤدّي إلى التلف‬
‫ذلك ‪ ،‬عن أحد يقتدى به ‪ ،‬ولنّ الواجب أدب ‪ ،‬والدب ل يكون بالتلف ‪ .‬وك ّ‬
‫ممنوع ‪ ،‬سواء أكان هذا الحتمال ناشئا من آلة الضّرب ‪ ،‬أم من حالة الجاني نفسه ‪ ،‬أم من موضع‬
‫الضّرب ‪ ،‬وتفريعا على ذلك ‪ :‬منع الفقهاء الضّرب في المواضع الّتي قد يؤدّي فيها إلى التلف ‪.‬‬
‫ن الضّرب على الوجه والفرج والبطن والصّدر ممنوع ‪.‬‬
‫ولذلك فالرّاجح ‪ :‬أ ّ‬
‫وعلى الساس المتقدّم منع جمهور الفقهاء في التّعزير ‪ :‬الصّفع ‪ ،‬وحلق اللّحية ‪ ،‬وتسويد الوجه ‪ ،‬وإن كان‬
‫البعض قال به في شهادة الزّور ‪ ،‬قال السروشنيّ ‪ :‬ل يباح التّعزير بالصّفع ‪ ،‬لنّه من أعلى ما يكون من‬
‫الستخفاف ‪ .‬وقال ‪ :‬تسويد الوجه في شهادة الزّور ممنوع بالجماع ‪ ،‬أي بين الحنفيّة ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬يحرم التّعزير بحلق لحيته لما فيه من المثلة ول تسويد وجهه ‪.‬‬
‫والتّعزير بالقتل عند من يراه يشترط في آلته ‪ :‬أن تكون حادّة من شأنها إحداث القتل بسهولة ‪ ،‬بحيث ل‬
‫يتخلّف عنها القتل ‪ ،‬وألّا تكون كالّة ‪ ،‬فذلك من المثلة ‪ ،‬والرّسول صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬إنّ اللّه عزّ‬
‫ل كتب الحسان على كلّ شيء ‪ ،‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ‪ ،‬وليحدّ أحدكم‬
‫وج ّ‬
‫شفرته ‪ ،‬وليرح ذبيحته » وفي ذلك أمر بالحسان في القتل ‪ ،‬وإراحة ما أحلّ اللّه ذبحه من النعام ‪،‬‬
‫فالحسان في الدميّ أولى ‪.‬‬
‫المعاصي الّتي شرع فيها التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 8‬المعصية ‪ :‬فعل ما حرم ‪ ،‬وترك ما فرض ‪ ،‬يستوي في ذلك كون العقاب دنيويّا أو أخرويّا ‪ .‬أجمع‬
‫الفقهاء على ‪ :‬أنّ ترك الواجب أو فعل المحرّم معصية فيها التّعزير ‪ ،‬إذا لم يكن هناك حدّ مقدّر ‪.‬‬
‫ومثال ترك الواجب عندهم ‪ :‬منع الزّكاة ‪ ،‬وترك قضاء الدّين عند القدرة على ذلك ‪ ،‬وعدم أداء المانة ‪،‬‬
‫وعدم ر ّد المغصوب ‪ ،‬وكتم البائع ما يجب عليه بيانه ‪ ،‬كأن يدلّس في المبيع عيبا خفيّا ونحوه ‪ ،‬والشّاهد‬
‫والمفتي والحاكم يعزّرون على ترك الواجب ‪.‬‬
‫ومثال فعل المحرّم ‪ :‬سرقة ما ل قطع فيه ‪ ،‬لعدم توافر شروط النّصاب أو الحرز مثلً ‪ ،‬وتقبيل الجنبيّة ‪،‬‬
‫ش في السواق ‪ ،‬والعمل بالرّبا ‪ ،‬وشهادة الزّور ‪.‬‬
‫والخلوة بها ‪ ،‬والغ ّ‬
‫وقد يكون الفعل مباحا في ذاته لكنّه يؤدّي لمفسدة ‪ ،‬وحكمه عند كثير من الفقهاء ‪ -‬وعلى الخصوص المالكيّة‬
‫‪ -‬أنّه يصير حراما ‪ ،‬بناء على قاعدة سدّ الذّرائع ‪ ،‬وعلى ذلك فارتكاب مثل هذا الفعل فيه التّعزير ‪ ،‬ما دام‬
‫ليست له عقوبة مقدّرة ‪.‬‬
‫وما ذكر هو عن الواجب والمحرّم ‪ ،‬أمّا عن المندوب والمكروه ‪ -‬فعند بعض الصوليّين ‪ :‬المندوب مأمور‬
‫به ‪ ،‬ومطلوب فعله ‪ ،‬والمكروه منهيّ عنه ‪ ،‬ومطلوب تركه ‪.‬‬
‫ن ال ّذمّ يسقط عن تارك المندوب ‪ ،‬لكنّه يلحق تارك الواجب ‪.‬‬
‫ويميّز المندوب عن الواجب أ ّ‬
‫ن الذّ ّم يسقط عن مرتكب المكروه ‪ ،‬ولكنّه يثبت على مرتكب المحرّم ‪ ،‬وبناء‬
‫ويميّز المكروه عن المحرّم ‪ :‬أ ّ‬
‫على ذلك ليس تارك المندوب أو فاعل المكروه عاصيا ‪ ،‬لنّ العصيان اسم ذمّ ‪ ،‬وال ّذمّ أسقط عنهما ‪ ،‬ولكنّهم‬
‫يعتبرون من يترك المندوب أو يأتي المكروه مخالفا ‪ ،‬وغير ممتثل ‪ .‬وعند آخرين ‪ :‬المندوب غير داخل تحت‬
‫المر ‪ ،‬والمكروه غير داخل تحت النّهي ‪ ،‬فيكون المندوب مرغّبا في فعله ‪ ،‬والمكروه مرغّبا عنه ‪.‬‬
‫وعندهم ل يعتبر تارك المندوب وفاعل المكروه عاصيا ‪.‬‬
‫وقد اختلف في تعزير تارك المندوب ‪ ،‬وفاعل المكروه ‪ ،‬ففريق من الفقهاء على عدم جوازه ‪ ،‬لعدم التّكليف ‪،‬‬
‫ول تعزير بغير تكليف ‪ .‬وفريق أجازه ‪ ،‬استنادا على فعل عمر رضي ال عنه ‪ ،‬فقد عزّر رجل أضجع شاة‬
‫لذبحها ‪ ،‬وأخذ يحدّ شفرته وهي على هذا الوضع ‪ ،‬وهذا الفعل ليس إل مكروها ‪ ،‬ويأخذ هذا الحكم من يترك‬
‫المندوب ‪.‬‬
‫وقال القليوبيّ ‪ :‬قد يشرع التّعزير ول معصية ‪ ،‬كتأديب طفل ‪ ،‬وكافر ‪ ،‬وكمن يكتسب بآلة لهو ل معصية‬
‫فيها ‪.‬‬
‫اجتماع التّعزير مع الحدّ أو القصاص أو الكفّارة ‪:‬‬
‫‪ - 9‬قد يجتمع التّعزير مع الحدّ ‪ ،‬فالحنفيّة ل يرون تغريب الزّاني غير المحصن من حدّ الزّنى ‪ .‬فعندهم أنّ‬
‫حدّه مائة جلدة ل غير ‪ ،‬ولكنّهم يجيزون تغريبه بعد الجلد ‪ ،‬وذلك على وجه التّعزير ‪ .‬ويجوز تعزير شارب‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن النّب ّ‬
‫الخمر بالقول ‪ ،‬بعد إقامة حدّ الشّرب عليه ‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي ال عنه « أ ّ‬
‫أمر بتبكيت شارب الخمر بعد الضّرب » ‪ .‬والتّبكيت تعزير بالقول ‪ ،‬وممّن قال بذلك ‪ :‬الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪.‬‬
‫ن الجارح عمدا يقتصّ منه ويؤدّب ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫ومن ثمّ فالتّعزير قد اجتمع مع القصاص في العتداء على ما دون النّفس عمدا ‪.‬‬
‫والشّافعيّ يجيز اجتماع التّعزير مع القصاص فيما دون النّفس من الجنايات على البدن ‪ ،‬وهو أيضا يقول‬
‫بجواز اجتماع التّعزير مع الح ّد ‪ ،‬مثل تعليق يد السّارق في عنقه بعد قطعها ساعة من نهار ‪ ،‬زيادة في النّكال‬
‫ن الرّسول صلى ال عليه وسلم قطع يد سارق ‪ ،‬ثمّ أمر بها‬
‫‪ .‬وقال أحمد بذلك ‪ ،‬لما روى فضالة بن عبيد « أ ّ‬
‫ن عليّا فعل ذلك ‪ ،‬ومثل ‪ :‬الزّيادة عن الربعين في ح ّد الشّرب ‪ ،‬لنّ حدّ الشّرب عند‬
‫فعلّقت في عنقه » ‪ .‬وأ ّ‬
‫الشّافعيّ أربعون ‪.‬‬
‫وقد يجتمع التّعزير مع الكفّارة ‪ .‬فمن المعاصي ما فيه الكفّارة مع الدب ‪ ،‬كالجماع في حرام ‪ ،‬وفي نهار‬
‫رمضان ‪ ،‬ووطء المظاهر منها قبل الكفّارة إذا كان الفعل متعمّدا في جميعها ‪ .‬وقيل بالتّعزير كذلك في حلف‬
‫اليمين الغموس عند الشّافعيّ ‪ ،‬خلفا للحنفيّة ‪ ،‬فإنّه ل كفّارة في يمين الغموس ‪ ،‬وفيها التّعزير ‪ .‬وعند مالك‬
‫في القتل الّذي ل قود فيه ‪ ،‬كالقتل الّذي عفي عن القصاص فيه ‪ ،‬تجب على القاتل الدّية ‪ ،‬وتستحبّ له الكفّارة‬
‫‪ ،‬ويضرب مائة ‪ ،‬ويحبس سنة ‪ ،‬وهذا تعزير قد اجتمع مع الكفّارة ‪.‬‬
‫وقال البعض في القتل شبه العمد ‪ :‬بوجوب التّعزير مع الكفّارة ‪ ،‬لنّ هذه حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬بمنزلة الكفّارة في‬
‫الخطأ ‪ ،‬وليست لجل الفعل ‪ ،‬بل هي بدل النّفس الّتي فاتت بالجناية ‪ .‬ونفس الفعل المحرّم ‪ -‬وهو جناية‬
‫القتل شبه العمد ‪ -‬ل كفّارة فيه ‪ .‬وقد استدلّوا على ذلك ‪ :‬بأنّه إذا جنى شخص على آخر دون أن يتلف شيئا‬
‫فإنّه يستحقّ التّعزير ‪ ،‬ول كفّارة في هذه الجناية ‪ .‬بخلف ما لو أتلف بل جناية محرّمة ‪ ،‬فإنّ الكفّارة تجب‬
‫بل تعزير ‪.‬‬
‫وإنّ الكفّارة في شبه العمد بمنزلة الكفّارة على المجامع في الصّيام والحرام ‪.‬‬
‫التّعزير حقّ للّه وحقّ للعبد ‪:‬‬
‫‪ - 10‬ينقسم التّعزير إلى ما هو حقّ للّه ‪ ،‬وما هو حقّ للعبد ‪ .‬والمراد بالوّل غالبا ‪ :‬ما تعلّق به نفع العامّة ‪،‬‬
‫ن إخلء البلد‬
‫وما يندفع به ضرر عامّ عن النّاس ‪ ،‬من غير اختصاص بأحد ‪ .‬والتّعزير هنا من حقّ اللّه ‪ ،‬ل ّ‬
‫من الفساد واجب مشروع ‪ ،‬وفيه دفع للضّرر عن المّة ‪ ،‬وتحقيق نفع عامّ ‪ .‬ويراد بالثّاني ‪ :‬ما تعلّقت به‬
‫مصلحة خاصّة لحد الفراد ‪ .‬وقد يكون التّعزير خالص حقّ اللّه ‪ ،‬كتعزير تارك الصّلة ‪ ،‬والمفطر عمدا في‬
‫رمضان بغير عذر ‪ ،‬ومن يحضر مجلس الشّراب ‪.‬‬
‫وقد يكون لحقّ اللّه وللفرد ‪ ،‬مع غلبة حقّ اللّه ‪ ،‬كنحو تقبيل زوجة آخر وعناقها ‪.‬‬
‫وقد تكون الغلبة لحقّ الفرد ‪ ،‬كما في السّبّ والشّتم والمواثبة ‪.‬‬
‫وقد قيل بحالت يكون فيها التّعزير لحقّ الفرد وحده ‪ ،‬كالصّبيّ يشتم رجلً لنّه غير مكلّف بحقوق اللّه تعالى‬
‫فيبقى تعزيره متمحّضا لحقّ المشتوم ‪.‬‬
‫وتظهر أه ّميّة التّفرقة بين نوعي التّعزير في أمور ‪:‬‬
‫ن التّعزير الواجب حقّا للفرد أو الغالب فيه حقّه ‪ -‬وهو يتوقّف على الدّعوى ‪ -‬إذا طلبه صاحب‬
‫منها ‪ :‬أ ّ‬
‫ي المر ‪.‬‬
‫الحقّ فيه لزمت إجابته ‪ ،‬ول يجوز للقاضي فيه السقاط ‪ ،‬ول يجوز فيه العفو أو الشّفاعة من ول ّ‬
‫ي المر جائز ‪ ،‬وكذلك الشّفاعة إن كانت في ذلك مصلحة‬
‫ن العفو فيه من ول ّ‬
‫أمّا التّعزير الّذي يجب حقّا للّه فإ ّ‬
‫‪ ،‬أو حصل انزجار الجاني بدونه ‪ .‬وقد روي عن الرّسول صلى ال عليه وسلم قوله ‪ « :‬اشفعوا تؤجروا‬
‫ويقضي اللّه على لسان نبيّه ما يشاء » ‪.‬‬
‫وقد حصل الخلف في التّعزير هل هو واجب على وليّ المر أم ل فمالك ‪ ،‬وأبو حنيفة ‪ ،‬وأحمد قالوا‬
‫بوجوب التّعزير فيما شرع فيه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ ‪ :‬إنّه ليس بواجب ‪ ،‬استنادا إلى « أنّ رجلً قال للرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّي لقيت امرأة‬
‫فأصبت منها دون أن أطأها ‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم أصلّيت معنا ؟ قال نعم ‪ :‬فتل عليه آية ‪ { :‬وََأقِمِ‬
‫س ّيئَاتِ } » ‪ .‬وإلى قوله صلى ال عليه وسلم في‬
‫سنَاتِ ُيذْ ِهبْنَ ال ّ‬
‫حَ‬‫ن ال َ‬
‫طرَ َفيِ ال ّنهَارِ َوزُلَفَا مِنَ اللّيلِ إ ّ‬
‫الصّلةَ َ‬
‫ل قال للرّسول صلى ال عليه‬
‫ن رج ً‬
‫النصار ‪ « .‬اقبلوا من محسنهم ‪ ،‬وتجاوزوا عن مسيئهم » وإلى « أ ّ‬
‫ح َكمَ به للزّبير لم يرقه ‪ :‬إن كان ابن عمّتك ‪ ،‬فغضب ‪ .‬ولم ينقل أنّه عزّره » ‪.‬‬
‫ح ْكمٍ َ‬
‫وسلم في ُ‬
‫وقال آخرون ‪ ،‬ومنهم بعض الحنابلة ‪ :‬إنّ ما كان من التّعزير منصوصا عليه كوطء جارية مشتركة يجب‬
‫امتثال المر فيه ‪.‬‬
‫أمّا ما لم يرد فيه نصّ فإنّه يجب إذا كانت فيه مصلحة ‪ ،‬أو كان ل ينزجر الجاني إل به ‪ ،‬فإنّه يجب كالحدّ ‪،‬‬
‫ن الجاني ينزجر بدون التّعزير فإنّه ل يجب ‪ .‬ويجوز للمام فيه العفو إن كانت فيه مصلحة ‪،‬‬
‫أمّا إذا علم أ ّ‬
‫ق الفراد ‪.‬‬
‫وكان من حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬خلف ما هو من ح ّ‬
‫التّعزير عقوبة مفوّضة ‪:‬‬
‫المراد بالتّفوّض وأحكامه ‪:‬‬
‫ن التّعزير عقوبة مفوّضة إلى رأي‬
‫‪ - 11‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو الرّاجح عن الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫الحاكم ‪ ،‬وهذا التّفويض في التّعزير من أهمّ أوجه الخلف بينه وبين الحدّ الّذي هو عقوبة مقدّرة من الشّارع‬
‫‪ .‬وعلى الحاكم في تقدير عقوبة التّعزير مراعاة حال الجريمة والمجرم ‪ .‬أمّا مراعاة حال الجريمة فللفقهاء‬
‫فيه نصوص كثيرة ‪ ،‬منه قول الستروشنيّ ‪ :‬ينبغي أن ينظر القاضي إلى سببه ‪ ،‬فإن كان من جنس ما يجب‬
‫به الحدّ ولم يجب لمانع وعارض ‪ ،‬يبلغ التّعزير أقصى غاياته ‪.‬‬
‫وإن كان من جنس ما ل يجب الحدّ ل يبلغ أقصى غاياته ‪ ،‬ولكنّه مفوّض إلى رأي المام ‪.‬‬
‫وأمّا مراعاة حال المجرم فيقول الزّيلعيّ ‪ :‬إنّه في تقدير التّعزير ينظر إلى أحوال الجانين ‪ ،‬فإنّ من النّاس من‬
‫ينزجر باليسير ‪ .‬ومنهم من ل ينزجر إل بالكثير ‪ .‬يقول ابن عابدين ‪ :‬إنّ التّعزير يختلف باختلف الشخاص‬
‫‪ ،‬فل معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه ‪ ،‬فيكون مفوّضا إلى رأي القاضي ‪ ،‬يقيمه بقدر ما يرى‬
‫المصلحة فيه ‪.‬‬
‫ن أدنى التّعزير على ما يجتهد المام في الجاني ‪ ،‬بقدر ما يعلم أنّه ينزجر به ‪ ،‬لنّ‬
‫ويقول السّنديّ ‪ :‬إ ّ‬
‫المقصود من التّعزير الزّجر ‪ ،‬والنّاس تختلف أحوالهم في النزجار ‪ ،‬فمنهم من يحصل له الزّجر بأقلّ‬
‫الضّربات ‪ ،‬ويتغيّر بذلك ‪ .‬ومنهم من ل يحصل له الزّجر بالكثير من الضّرب ‪ .‬ونقل عن أبي يوسف ‪ :‬إنّ‬
‫التّعزير يختلف على قدر احتمال المضروب ‪.‬‬
‫وقد منع بعض الحنفيّة تفويض التّعزير ‪ ،‬وقالوا بعدم تفويض ذلك للقاضي ‪ ،‬لختلف حال القضاة ‪ ،‬وهذا هو‬
‫ن المراد من تفويض التّعزير إلى‬
‫الّذي قال به الطّرسوسيّ في شرح منظومة الكنز ‪ .‬وقد أيّدوا هذا الرّأي بأ ّ‬
‫ن عدم‬
‫رأي القاضي ليس معناه التّفويض لرأيه مطلقا ‪ ،‬بل المقصود القاضي المجتهد ‪ .‬وقد ذكر السّنديّ ‪ :‬أ ّ‬
‫التّفويض هو الرّأي الضّعيف عند الحنفيّة ‪ .‬وقال أبو بكر الطّرسوسيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين ‪ :‬إنّهم كانوا‬
‫يراعون قدر الجاني وقدر الجناية ‪ ،‬فمن الجانين من يضرب ‪ ،‬ومنهم من يحبس ‪ ،‬ومنهم من يقام واقفا على‬
‫ل حزامه ‪.‬‬
‫قدميه في المحافل ‪ ،‬ومنهم من ينتزع عمامته ‪ ،‬ومنهم من يح ّ‬
‫ن التّعزير يختلف من حيث المقادير ‪ ،‬والجناس ‪ ،‬والصّفات ‪ ،‬باختلف الجرائم ‪ ،‬من‬
‫ص المالكيّة ‪ :‬على أ ّ‬
‫ون ّ‬
‫حيث كبرها ‪ ،‬وصغرها ‪ ،‬وبحسب حال المجرم نفسه ‪ ،‬وبحسب حال القائل والمقول فيه والقول ‪ ،‬وهو‬
‫موكول إلى اجتهاد المام ‪.‬‬
‫قال القرافيّ ‪ :‬إنّ التّعزير يختلف باختلف الزمنة والمكنة ‪ ،‬وتطبيقا لذلك قال ابن فرحون ‪ :‬ربّ تعزير في‬
‫بلد يكون إكراما في بلد آخر ‪ ،‬كقطع الطّيلسان ليس تعزيرا في الشّام بل إكرام ‪ ،‬وكشف الرّأس عند‬
‫الندلسيّين ليس هوانا مع أنّه في مصر والعراق هوان ‪ .‬وقال ‪ :‬إنّه يلحظ في ذلك أيضا نفس الشّخص ‪،‬‬
‫فإنّ في الشّام مثلً من كانت عادته الطّيلسان وألفه ‪ -‬من المالكيّة وغيرهم ‪ -‬يعتبر قطعه تعزيرا لهم ‪ .‬فما‬
‫ن المر لم يقتصر على اختلف التّعزير باختلف الزّمان والمكان والشخاص ‪ ،‬مع كون‬
‫ذكر ظاهر منه ‪ :‬أ ّ‬
‫ل لذلك ‪ ،‬بل إنّ هذا الختلف قد يجعل الفعل نفسه غير معاقب عليه ‪ ،‬بل قد يكون مكرمة ‪.‬‬
‫الفعل مح ً‬
‫النواع الجائزة في عقوبة التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 12‬يجوز في مجال التّعزير ‪ :‬إيقاع عقوبات مختلفة ‪ ،‬يختار منها الحاكم في كلّ حالة ما يراه مناسبا محقّقا‬
‫لغراض التّعزير ‪ .‬وهذه العقوبات قد تنصبّ على البدن ‪ ،‬وقد تكون مقيّدة للح ّريّة ‪ ،‬وقد تصيب المال ‪ ،‬وقد‬
‫تكون غير ذلك ‪ .‬وفيما يلي بيان هذا الجمال ‪ .‬العقوبات البدنيّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعزير بالقتل ‪:‬‬
‫ح ّرمَ اللّهُ إلّا‬
‫‪ - 13‬الصل ‪ :‬أنّه ل يبلغ بالتّعزير القتل ‪ ،‬وذلك لقول اللّه تعالى ‪ { :‬وَل تَ ْقتُلُوا النّفْسَ الّتيْ َ‬
‫ب الزّاني ‪،‬‬
‫بِالحَقّ } وقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يحلّ دمُ امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلث ‪ :‬ال ّثيّ ُ‬
‫س بالنّفس ‪ ،‬والتّاركُ لدينه المفارق للجماعة » ‪.‬‬
‫والنّف ُ‬
‫وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيرا في جرائم معيّنة بشروط مخصوصة ‪ ،‬من ذلك ‪ :‬قتل‬
‫الجاسوس المسلم إذا تجسّس على المسلمين ‪ ،‬وذهب إلى جواز تعزيره بالقتل مالك وبعض أصحاب أحمد ‪،‬‬
‫ومنعه أبو حنيفة ‪ ،‬والشّافعيّ ‪ ،‬وأبو يعلى من الحنابلة ‪.‬‬
‫سنّة كالجهميّة ‪ .‬ذهب إلى ذلك كثير‬
‫وتوقّف فيه أحمد ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬قتل الدّاعية إلى البدع المخالفة للكتاب وال ّ‬
‫من أصحاب مالك ‪ ،‬وطائفة من أصحاب أحمد ‪.‬‬
‫وأجاز أبو حنيفة التّعزير بالقتل فيما تكرّر من الجرائم ‪ ،‬إذا كان جنسه يوجب القتل ‪ ،‬كما يقتل من تكرّر منه‬
‫اللّواط أو القتل بالمثقّل ‪ .‬وقال ابن تيميّة ‪ :‬وقد يستدلّ على أنّ المفسد إذا لم ينقطع شرّه إل بقتله فإنّه يقتل ‪،‬‬
‫لما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة الشجعيّ رضي ال عنه قال ‪ « :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ‪ :‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم ‪ ،‬أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه »‬
‫ب ‪ -‬التّعزير بالجلد ‪:‬‬
‫‪ - 14‬الجلد في التّعزير مشروع ‪ ،‬ودليله قول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يجلد أحد فوق عشرة‬
‫أسواط ‪ ،‬إل في حدّ من حدود اللّه تعالى » ‪.‬‬
‫وفي الحريسة الّتي تؤخذ من مراتعها غرم ثمنها مرّتين ‪ ،‬وضرب نكال ‪ .‬وكذلك الحكم في سرقة التّمر يؤخذ‬
‫من أكمامه ‪ ،‬لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال « سئل رسول اللّه صلى ال عليه وآله وسلم عن‬
‫التّمر المعلّق ‪ ،‬فقال ‪ :‬من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متّخذ خبنة فل شيء عليه ‪ ،‬ومن خرج بشيء‬
‫ن فعليه القطع »‬
‫منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ‪ ،‬ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المج ّ‬
‫رواه النّسائيّ وأبو داود ‪ .‬وفي رواية قال « سمعت رجلً من مزينة يسأل رسول اللّه صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم عن الحريسة الّتي توجد في مراتعها ؟ قال ‪ :‬فيها ثمنها مرّتين ‪ ،‬وضرب نكال ‪ .‬وما أخذ من عطنه‬
‫ن ‪ .‬قال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬فالثّمار وما أخذ منها في أكمامها ؟‬
‫ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المج ّ‬
‫قال ‪ :‬من أخذ بفمه ولم يتّخذ خبنة فليس عليه شيء ‪ ،‬ومن احتمل فعليه ثمنه مرّتين ‪ ،‬وضرب نكال ‪ ،‬وما‬
‫ن » رواه أحمد والنّسائيّ ‪ .‬ولبن ماجه‬
‫أخذ من أجرانه ففيه القطع ‪ ،‬إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المج ّ‬
‫ن ففيه غرامة مثليه ‪ ،‬وجلدات نكال » ‪ .‬وقد سار‬
‫معناه ‪ ،‬وزاد النّسائيّ في آخره ‪ « :‬وما لم يبلغ ثمن المج ّ‬
‫على هذه العقوبة في التّعزير الخلفاء الرّاشدون ومن بعدهم من الحكّام ‪ ،‬ولم ينكر عليهم أحد ‪.‬‬
‫مقدار الجلد في التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 15‬ممّا ل خلف فيه عند الحنفيّة ‪ :‬أنّ التّعزير ل يبلغ الحدّ ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من‬
‫المعتدين » واختلف الحنفيّة في أقصى الجلد في التّعزير ‪:‬‬
‫فيرى أبو حنيفة ‪ :‬أنّه ل يزيد عن تسعة وثلثين سوطا بالقذف والشّرب ‪ ،‬أخذا عن الشّعبيّ ‪ ،‬إذ صرف كلمة‬
‫الحدّ في الحديث إلى حدّ الرقّاء وهو أربعون ‪.‬‬
‫وأبو يوسف قال بذلك أوّل ‪ ،‬ثمّ عدل عنه إلى اعتبار أقلّ حدود الحرار وهو ثمانون جلدة ‪.‬‬
‫وجه ما ذهب إليه أبو حنيفة ‪ :‬أ نّ الحديث ذكر حدّا منكّرا ‪ ،‬وأربعون جلدة حدّ كامل في الرقّاء عند الحنفيّة‬
‫في القذف والشّرب ‪ ،‬فينصرف إلى القلّ ‪.‬‬
‫وأبو يوسف اعتمد على أنّ الصل في النسان الح ّريّة ‪ ،‬وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ ‪ ،‬فليس حدّا كاملً ‪،‬‬
‫ومطلق السم ينصرف إلى الكامل في كلّ باب ‪ .‬وفي عدد الجلدات روايتان عن أبي يوسف ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أنّ‬
‫التّعزير يصل إلى تسعة وسبعين سوطا ‪ ،‬وهي رواية هشام عنه ‪ ،‬وقد أخذ بذلك زفر ‪ ،‬وهو قول عبد‬
‫الرّحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬وهو القياس ‪ ،‬لنّه ليس حدّا فيكون من أفراد المسكوت عن النّهي عنه في حديث ‪« :‬‬
‫من بلغ حدّا في غير حدّ ‪» . . .‬‬
‫والثّانية ‪ :‬وهي ظاهر الرّواية عن أبي يوسف ‪ :‬أنّ التّعزير ل يزيد على خمسة وسبعين سوطا ‪ ،‬وروي ذلك‬
‫أثرا عن عمر رضي ال عنه ‪ ،‬كما روي عن عليّ رضي ال عنه أيضا ‪ ،‬وأنّهما قال ‪ :‬في التّعزير خمسة‬
‫وسبعون ‪ .‬وأنّ أبا يوسف أخذ بقولهما في نقصان الخمسة ‪ ،‬واعتبر عملهما أدنى الحدود ‪.‬‬
‫ن مذهب‬
‫وعند المالكيّة قال المازريّ ‪ :‬إنّ تحديد العقوبة ل سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫مالك يجيز في العقوبات فوق الحدّ ‪.‬‬
‫ن المشهور أنّه قد يزاد على الحدّ ‪ .‬وعلى ذلك فالرّاجح لدى المالكيّة ‪ :‬أنّ المام له أن‬
‫وحكي عن أشهب ‪ :‬أ ّ‬
‫يزيد التّعزير عن الحدّ ‪ ،‬مع مراعاة المصلحة الّتي ل يشوبها الهوى ‪.‬‬
‫وممّا استدلّ به المالكيّة ‪ :‬فعل عمر في معن بن زياد لمّا زوّر كتابا على عمر وأخذ به من صاحب بيت المال‬
‫مال ‪ ،‬إذ جلده مائة ‪ ،‬ثمّ مائة أخرى ‪ ،‬ثمّ ثالثة ‪ ،‬ولم يخالفه أحد من الصّحابة فكان إجماعا ‪ ،‬كما أنّه ضرب‬
‫صبيغ بن عسل أكثر من الحدّ ‪ .‬وروى أحمد بإسناده أنّ عليّا رضي ال عنه أتي بالنّجاشيّ قد شرب خمرا في‬
‫رمضان فجلده ثمانين ( الحدّ ) وعشرين سوطا ‪ ،‬لفطره في رمضان ‪.‬‬
‫ن أبا السود استخلفه ابن عبّاس رضي ال عنهما على قضاء البصرة فأتي بسارق قد جمع‬
‫كما روي ‪ :‬أ ّ‬
‫المتاع في البيت ولم يخرجه ‪ ،‬فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلّى سبيله ‪ .‬وقالوا في حديث أبي بردة‬
‫رضي ال عنه ‪ « :‬ل يجلد أحد فوق عشرة أسواط إل في حدّ من حدود اللّه » إنّه مقصور على زمن‬
‫الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لنّه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر ‪ ،‬وتأوّلوه على أنّ المراد بقوله ‪ :‬في حدّ‬
‫ن المعاصي كلّها من حدود‬
‫‪ ،‬أي في حقّ من حقوق اللّه تعالى ‪ ،‬وإن لم يكن من المعاصي المقدّر حدودها ل ّ‬
‫اللّه تعالى ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّ التّعزير إن كان بالجلد فإنّه يجب أن ينقص عن أقلّ حدود من يقع عليه التّعزير ‪ ،‬فينقص‬
‫في العبد عن عشرين ‪ ،‬وفي الح ّر عن أربعين ‪ ،‬وهو حدّ الخمر عندهم ‪ ،‬وقيل بوجوب النّقص فيهما عن‬
‫عشرين ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين » ويستوي في النّقص عمّا ذكر جميع‬
‫ل جريمة بما يليق بها ممّا فيه أو في جنسه حدّ ‪ ،‬فينقص على‬
‫الجرائم على الصحّ عندهم ‪ .‬وقيل بقياس ك ّ‬
‫سبيل المثال تعزير مقدّمة الزّنى عن حدّه ‪ ،‬وإن زاد على حدّ القذف ‪ ،‬وتعزير السّبّ عن ح ّد القذف ‪ ،‬وإن‬
‫زاد على حدّ الشّرب ‪ .‬وقيل في مذهب الشّافعيّة ‪ :‬ل يزيد في أكثر الجلد في التّعزير عن عشر جلدات أخذا‬
‫بحديث أبي بردة ‪ « :‬ل يجلد فوق عشرة أسواط إل في ح ّد من حدود اللّه » لما اشتهر من قول الشّافعيّ ‪ :‬إذا‬
‫صحّ الحديث فهو مذهبي ‪ ،‬وقد صحّ هذا الحديث ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬اختلفت الرّواية عن أحمد في قدر جلد التّعزير ‪ ،‬فروي أنّه ل يبلغ الحدّ ‪ .‬وقد ذكر الخرقيّ‬
‫هذه الرّواية ‪ ،‬والمقصود بمقتضاها ‪ :‬أنّه ل يبلغ بالتّعزير أدنى حدّ مشروع ‪ ،‬فل يبلغ بالتّعزير أربعين ‪ ،‬لنّ‬
‫الربعين حدّ العبد في الخمر والقذف ‪ ،‬ول يجاوز تسعة وثلثين سوطا في الحرّ ‪ ،‬ول تسعة عشر في العبد‬
‫على القول بأنّ ح ّد الخمر أربعون سوطا‪ .‬ونصّ مذهب أحمد ‪ :‬أن ل يزاد على عشر جلدات في التّعزير ‪،‬‬
‫للثر ‪ « :‬ل يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حدّ ‪ » . . .‬إل ما ورد من الثار مخصّصا لهذا الحديث ‪،‬‬
‫كوطء جارية امرأته بإذنها ‪ ،‬ووطء جارية مشتركة المرويّ عن عمر ‪.‬‬
‫ل جريمة حدّا مشروعا في جنسها ‪،‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ويحتمل كلم أحمد والخرقيّ ‪ :‬أنّه ل يبلغ التّعزير في ك ّ‬
‫ويجوز أن يزيد على حدّ غير جنسها ‪ ،‬وقد روي عن أحمد ما يدلّ على هذا ‪ .‬واستدلّ بما روي عن النّعمان‬
‫بن بشير رضي ال عنهما فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها ‪ :‬أنّه يجلد مائة جلدة ‪ ،‬وهذا تعزير ‪ ،‬لنّ عقاب‬
‫هذه الجريمة للمحصن الرّجم ‪ ،‬وبما روي عن سعيد بن المسيّب عن عمر رضي ال عنه في الرّجل الّذي‬
‫وطئ أمة مشتركة بينه وآخر ‪ :‬أنّه يجلد الحدّ إلّا سوطا واحدا ‪ ،‬وقد احتجّ بهذا الحديث أحمد ‪.‬‬
‫وقد زاد ابن تيميّة وابن القيّم رأيا رابعا ‪ :‬هو أنّ التّعزير يكون بحسب المصلحة ‪ ،‬وعلى قدر الجريمة ‪،‬‬
‫فيجتهد فيه وليّ المر على أل يبلغ التّعزير فيما فيه ح ّد مقدّر ذلك المقدّر ‪ ،‬فالتّعزير على سرقة ما دون‬
‫سنّة دلّت عليه ‪ ،‬كما مرّ في ضرب‬
‫ن ال ّ‬
‫ن هذا هو أعدل القوال ‪ ،‬وإ ّ‬
‫النّصاب مثل ل يبلغ به القطع ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫الّذي أحلّت له امرأته جاريتها مائة ل الحدّ وهو الرّجم ‪ ،‬كما أنّ عليّا وعمر رضي ال عنهما ضربا رجل‬
‫وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة ‪ ،‬وحكم عمر رضي ال عنه فيمن قلّد خاتم بيت المال بضربه ثلثمائة‬
‫على مرّات ‪ ،‬وضرب صبيغ بن عسل للبدعة ضربا كثيرا لم يعدّه ‪.‬‬
‫وخلصة مذهب الحنابلة ‪ :‬أنّ فيه من يقول بأنّ التّعزير ل يزيد على عشر جلدات ‪ ،‬ومن يقول ‪ :‬بأنّه ل يزيد‬
‫ل الحدود ‪ ،‬ومن يقول ‪ :‬بأنّه ل يبلغ في جريمة قدر الحدّ فيها ‪ ،‬وهناك من يقول ‪ :‬بأنّه ل يتقيّد بشيء‬
‫على أق ّ‬
‫من ذلك ‪ ،‬وأنّه يكون بحسب المصلحة ‪ ،‬وعلى قدر الجريمة ‪ ،‬فيما ليس فيه حدّ مقدّر ‪ .‬والرّاجح عندهم‬
‫التّحديد سواء أكان بعشر جلدات أم بأقلّ من أدنى الحدود أم بأقلّ من الحدّ المقرّر لجنس الجريمة ‪.‬‬
‫ن هذا العدد أقلّ‬
‫وما ذكر هو عن الحدّ العلى ‪ ،‬أمّا عن الحدّ الدنى فقد قال القدوريّ ‪ :‬إنّه ثلث جلدات ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل جلد التّعزير مرجعه الحاكم ‪ ،‬بقدر ما يعلم أنّه‬
‫ن المر في أق ّ‬
‫ما يقع به الزّجر ‪ .‬ولكنّ غالبيّة الحنفيّة على أ ّ‬
‫يكفي للزّجر ‪.‬‬
‫وقال في الخلصة ‪ :‬إنّ اختيار التّعزير إلى القاضي من واحد إلى تسعة وثلثين ‪ ،‬وقريب من ذلك تصريح‬
‫ن أقلّ التّعزير ليس مقدّرا فيرجع فيه إلى اجتهاد المام أو الحاكم فيما يراه وما تقتضيه‬
‫ابن قدامة ‪ ،‬فقد قال ‪ :‬إ ّ‬
‫حال الشّخص ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّعزير بالحبس ‪:‬‬
‫ن ِنسَا ِئكُمْ‬
‫حشَةَ مِ ْ‬
‫ن الفَا ِ‬
‫سنّة والجماع أمّا الكتاب فقوله تعالى ‪ { :‬وَالّلئِي َي ْأتِي َ‬
‫‪ - 16‬الحبس مشروع بالكتاب وال ّ‬
‫سبِيلً‬
‫جعَلَ اللّهُ َل ُهنّ َ‬
‫ت أو َي ْ‬
‫ن المَو ُ‬
‫ت حتّى َي َت َوفّاهُ ّ‬
‫ن في البُيو ِ‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫ش ِهدُوا َفأَ ْم ِ‬
‫ن َأ ْربَعةً ِم ْن ُكمْ فإنْ َ‬
‫شهِدُوا عَلَيه ّ‬
‫س َت ْ‬
‫فَا ْ‬
‫ن يُ َقتّلُوا أو ُيصَلّبُوا أو تُ َقطّعَ‬
‫لرْضِ َفسَادَا أ ْ‬
‫سعَونَ في ا َ‬
‫ن اللّهَ َو َرسُولَه َو َي ْ‬
‫جزَا ُء الّذينَ ُيحَا ِربُو َ‬
‫} وقوله ‪ { :‬إ ّنمَا َ‬
‫ن خِلفٍ أو ُينْفَوا من الرْضِ } ‪ .‬فقد قال الزّيلعيّ ‪ :‬إنّ المقصود بالنّفي هنا الحبس ‪.‬‬
‫أَيدِيهمْ وَأ ْرجُلُ ُهمْ مِ ْ‬
‫سنّة فقد ثبت ‪ « :‬أنّ الرّسول صلى ال عليه وسلم حبس بالمدينة أناسا في تهمة دم ‪ ،‬وحكم بالضّرب‬
‫وأمّا ال ّ‬
‫والسّجن ‪ ،‬وأنّه قال فيمن أمسك رجلً لخر حتّى قتله ‪ :‬اقتلوا القاتل ‪ ،‬واصبروا الصّابر » ‪ .‬وفسّرت عبارة‬
‫« اصبروا الصّابر » بحبسه حتّى الموت ‪ ،‬لنّه حبس المقتول للموت بإمساكه إيّاه ‪.‬‬
‫وأمّا الجماع فقد أجمع الصّحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬ومن بعدهم ‪ ،‬على المعاقبة بالحبس ‪ .‬واتّفق الفقهاء على‬
‫ن عمر رضي ال عنه سجن الحطيئة على‬
‫ن الحبس يصلح عقوبة في التّعزير ‪ .‬وممّا جاء في هذا المقام ‪ :‬أ ّ‬
‫أّ‬
‫ن عثمان رضي‬
‫الهجو ‪ ،‬وسجن صبيغا على سؤاله عن الذّاريات ‪ ،‬والمرسلت ‪ ،‬والنّازعات ‪ ،‬وشبهه ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن عليّ بن أبي طالب رضي ال‬
‫ال عنه سجن ضابئ بن الحارث ‪ ،‬وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن عبد اللّه بن الزّبير رضي ال عنه سجن بمكّة ‪ ،‬وسجن في " دارم " محمّد بن‬
‫عنه سجن بالكوفة ‪ .‬وأ ّ‬
‫الحنفيّة لمّا امتنع عن بيعته ‪.‬‬
‫مدّة الحبس في التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 17‬الصل أنّ تقدير مدّة الحبس يرجع إلى الحاكم ‪ ،‬مع مراعاة ظروف الشّخص ‪ ،‬والجريمة والزّمان‬
‫ن الحبس تعزيرا‬
‫والمكان ‪ .‬وقد أشار الزّيلعيّ إلى ذلك بقوله ‪ :‬ليس للحبس مدّة مقدّرة ‪ .‬وقال الماورديّ ‪ :‬إ ّ‬
‫يختلف باختلف المجرم ‪ ،‬وباختلف الجريمة ‪ ،‬فمن الجانين من يحبس يوما ‪ ،‬ومنهم من يحبس أكثر ‪ ،‬إلى‬
‫غاية غير مقدّرة ‪.‬‬
‫ن شرط الحبس ‪ :‬النّقص عن سنة ‪ ،‬كما نصّ عليه الشّافعيّ في المّ ‪،‬‬
‫ي من الشّافعيّة ‪ ،‬ذكر أ ّ‬
‫ن الشّربين ّ‬
‫لك ّ‬
‫وصرّح به معظم الصحاب ‪ .‬وأطلق الحنابلة في تقدير المدّة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعزير بالنّفي " التّغريب " ‪:‬‬
‫مشروعيّة التّعزير بالنّفي ‪:‬‬
‫سنّة والجماع ‪ .‬أمّا‬
‫‪ - 18‬التّعزير بالنّفي مشروع بل خلف بين الفقهاء ‪ ،‬ودليل مشروعيّته ‪ :‬الكتاب وال ّ‬
‫سنّة ‪ « :‬فإنّ‬
‫الكتاب فقوله تعالى ‪َ { :‬أوْ ُينْ َفوْا مِن الرْضِ } ومن ثمّ فهو عقوبة مشروعة في الحدود ‪ .‬وأمّا ال ّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قضى بالنّفي تعزيرا في المخنّثين ‪ ،‬إذ نفاهم من المدينة » ‪.‬‬
‫وأمّا الجماع ‪ :‬فإنّ عمر رضي ال عنه نفى نصر بن حجّاج لفتتان النّساء به ‪ ،‬ولم ينكر عليه أحد من‬
‫الصّحابة ‪.‬‬
‫ن عمر غرّب من المدينة نصر بن حجّاج إلى البصرة ‪،‬‬
‫ويجوز كون التّغريب لكثر من مسافة القصر ‪ ،‬ل ّ‬
‫ونفى عثمان رضي ال عنه إلى مصر‪ ،‬ونفى عليّ رضي ال عنه إلى البصرة‪ .‬ويشترط أن يكون التّغريب‬
‫لبلد معيّن ‪ ،‬فل يرسل المحكوم عليه به إرسالً ‪ ،‬وليس له أن يختار غير البلد المعيّن لبعاده ‪ ،‬ول يجوز أن‬
‫يكون تغريب الجاني لبلده ‪.‬‬
‫ل المسافة بين بلد الجاني والبلد المغرّب إليه عن مسيرة يوم وليلة ويرى ابن أبي‬
‫ويرى الشّافعيّ ‪ :‬أن ل تق ّ‬
‫ليلى ‪ :‬أن ينفى الجاني إلى بلد غير البلد الّذي ارتكبت فيه الجريمة بحيث تكون المسافة بين البلد الّذي ينفى‬
‫إليه وبلد الجريمة ‪ ،‬دون مسيرة سفر ‪.‬‬
‫مدّة التّغريب ‪:‬‬
‫‪ - 19‬ل يعتبر أبو حنيفة التّغريب في الزّنى حدّا ‪ ،‬بل يعتبره من التّعزير ‪ ،‬ويترتّب على ذلك ‪ :‬أنّه يجيز أن‬
‫يزيد من حيث المدّة عن سنة ‪.‬‬
‫ن التّغريب عنده في الزّنى حدّ ‪ ،‬لنّه يقول‬
‫ويجوز عند مالك أن يزيد التّغريب في التّعزير عن سنة ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫بنسخ حديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين » ‪.‬‬
‫ن للمام أن يزيد في التّعزير عن الحدّ ‪ ،‬مع مراعاة المصلحة غير المشوبة بالهوى‬
‫والرّاجح عند المالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫‪.‬‬
‫وعلى ذلك بعض فقهاء الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬ويرى البعض الخر منهم ‪ :‬أنّ مدّة التّغريب في التّعزير ل‬
‫يجوز أن تصل إلى سنة ‪ ،‬لنّهم يعتبرون التّغريب في جريمة الزّنى حدّا ‪ ،‬وإذا كانت مدّته فيها عاما فل‬
‫يجوز عندهم في التّعزير أن يصل التّغريب لعام ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين » ‪.‬‬
‫وتفصيله في ( نفي ) ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬التّعزير بالمال ‪:‬‬
‫مشروعيّة التّعزير بالمال ‪:‬‬
‫‪ - 20‬الصل في مذهب أبي حنيفة ‪ :‬أنّ التّعزير بأخذ المال غير جائز ‪ ،‬فأبو حنيفة ومحمّد ل يجيزانه ‪ ،‬بل‬
‫ن محمّدا لم يذكره في كتاب من كتبه ‪ .‬أمّا أبو يوسف فقد روي عنه ‪ :‬أنّ التّعزير بأخذ المال من الجاني‬
‫إّ‬
‫جائز إن رؤيت فيه مصلحة ‪.‬‬
‫وقال الشبراملسي ‪ :‬ول يجوز على الجديد بأخذ المال ‪ .‬يعني ل يجوز التّعزير بأخذ المال في مذهب الشّافعيّ‬
‫الجديد ‪ ،‬وفي المذهب القديم ‪ :‬يجوز ‪.‬‬
‫أمّا في مذهب مالك في المشهور عنه ‪ ،‬فقد قال ابن فرحون ‪ :‬التّعزير بأخذ المال قال به المالكيّة ‪ .‬وقد ذكر‬
‫مواضع مخصوصة يعزّر فيها بالمال ‪ ،‬وذلك في قوله ‪ :‬سئل مالك عن اللّبن المغشوش أيراق ؟ قال ‪ :‬ل ‪،‬‬
‫ولكن أرى أن يتصدّق به ‪ ،‬إذا كان هو الّذي غشّه ‪ .‬وقال في الزّعفران والمسك المغشوش مثل ذلك ‪ ،‬سواء‬
‫كان ذلك قليلً أو كثيرا ‪ ،‬وخالفه ابن القاسم في الكثير ‪ ،‬وقال ‪ :‬يباع المسك والزّعفران على ما يغشّ به ‪،‬‬
‫ويتصدّق بالثّمن أدبا للغاشّ ‪ .‬وأفتى ابن القطّان الندلسيّ في الملحف الرّديئة النّسج بأن تحرّق ‪ .‬وأفتى ابن‬
‫عتّاب ‪ :‬بتقطيعها والصّدقة بها خرقا ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة يحرم التّعزير بأخذ المال أو إتلفه ‪ ،‬لنّ الشّرع لم يرد بشيء من ذلك عمّن يقتدى به ‪ .‬وخالف‬
‫ابن تيميّة وابن القيّم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنّ التّعزير بالمال سائغ إتلفا وأخذا ‪ .‬واستدل لذلك بأقضية للرّسول صلى ال‬
‫عليه وسلم كإباحته سلب من يصطاد في حرم المدينة لمن يجده ‪ ،‬وأمره بكسر دنان الخمر ‪ ،‬وشقّ ظروفها ‪،‬‬
‫وأمره عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما بحرق الثّوبين المعصفرين ‪ ،‬وتضعيفه الغرامة على من سرق من‬
‫غير حرز ‪ ،‬وسارق ما ل قطع فيه من الثّمر والكثر ‪ ،‬وكاتم الضّالّة ‪ .‬ومنها أقضيّة الخلفاء الرّاشدين ‪ ،‬مثل‬
‫أمر عمر وعليّ رضي ال عنهما بتحريق المكان الّذي يباع فيه الخمر ‪ ،‬وأخذ شطر مال مانع الزّكاة ‪ ،‬وأمر‬
‫عمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقّاص رضي ال عنه الّذي بناه حتّى يحتجب فيه عن النّاس ‪ .‬وقد نفّذ هذا‬
‫المر محمّد بن مسلمة رضي ال عنه ‪.‬‬
‫أنواع التّعزير بالمال ‪:‬‬
‫التّعزير بالمال يكون بحبسه أو بإتلفه ‪ ،‬أو بتغيير صورته ‪ ،‬أو بتمليكه للغير ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬حبس المال عن صاحبه ‪:‬‬
‫‪ - 21‬وهو أن يمسك القاضي شيئا من مال الجاني مدّة زجرا له ‪ ،‬ثمّ يعيده له عندما تظهر توبته ‪ ،‬وليس‬
‫ي يقتضي ذلك ‪ .‬وفسّره على هذا‬
‫معناه أخذه لبيت المال ‪ ،‬لنّه ل يجوز أخذ مال إنسان بغير سبب شرع ّ‬
‫الوجه أبو يحيى الخوارزميّ ‪.‬‬
‫ونظيره ما يفعل في خيول البغاة وسلحهم ‪ ،‬فإنّها تحبس عنهم مدّة وتعاد إليهم إذا تابوا ‪.‬‬
‫وصوّب هذا الرّأي المام ظهير الدّين التّمرتاشيّ الخوارزميّ ‪.‬‬
‫أمّا إذا صار ميئوسا من توبته ‪ ،‬فإنّ للحاكم أن يصرف هذا المال فيما يرى فيه المصلحة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التلف ‪:‬‬
‫‪ - 22‬قال ابن تيميّة ‪ :‬إنّ المنكرات من العيان والصّفات يجوز إتلف محلّها تبعا لها ‪ ،‬فالصنام صورها‬
‫منكرة ‪ ،‬فيجوز إتلف مادّتها ‪ ،‬وآلت اللّهو يجوز إتلفها عند أكثر الفقهاء ‪ ،‬وبذلك أخذ مالك ‪ ،‬وهو أشهر‬
‫الرّوايتين عن أحمد ‪.‬‬
‫ل الّذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه ‪،‬‬
‫ومن هذا القبيل أيضا أوعية الخمر ‪ ،‬يجوز تكسيرها وتحريقها ‪ ،‬والمح ّ‬
‫ي رضي ال عنه‬
‫ل يباع فيه الخمر ‪ ،‬وقضاء عل ّ‬
‫واستدلّ لذلك بفعل عمر رضي ال عنه في تحريق مح ّ‬
‫ن مكان البيع كالوعية ‪ .‬وقال ‪ :‬إنّ هذا هو المشهور في مذهب‬
‫تحريق القرية الّتي كان يباع فيها الخمر ‪ ،‬ول ّ‬
‫أحمد ‪ ،‬ومالك ‪ ،‬وغيرهما ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل أيضا ‪ :‬إراقة عمر اللّبن المخلوط بالماء للبيع ‪ .‬ومنه ما يراه بعض الفقهاء من جواز إتلف‬
‫المغشوشات في الصّناعات ‪ ،‬كالثّياب رديئة النّسج ‪ ،‬بتمزيقها وإحراقها ‪ ،‬وتحريق عبد اللّه بن عمر رضي‬
‫ل الّذي‬
‫ال عنهما لثوبه المعصفر بأمر النّبيّ صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقال ابن تيميّة ‪ :‬إنّ هذا التلف للمح ّ‬
‫ل من الجسم الّذي وقعت به المعصية ‪ ،‬كقطع يد السّارق ‪ .‬وهذا التلف‬
‫قامت به المعصية نظيره إتلف المح ّ‬
‫ن إبقاءه جائز ‪ ،‬إمّا له أو يتصدّق به ‪ .‬وبناء على‬
‫ل حالة ‪ ،‬فإذا لم يكن في المحلّ مفسد فإ ّ‬
‫ليس واجبا في ك ّ‬
‫ذلك أفتى فريق من العلماء ‪ :‬بأن يتصدّق بالطّعام المغشوش ‪ .‬وفي هذا إتلف له ‪.‬‬
‫وكره فريق التلف ‪ ،‬وقالوا بالتّصدّق به ‪ ،‬ومنهم مالك في رواية ابن القاسم ‪ ،‬وهي المشهورة في المذهب ‪.‬‬
‫ن في ذلك عقابا للجاني بإتلفه عليه ‪ ،‬ونفعا للمساكين‬
‫وقد استحسن مالك التّصدّق باللّبن المغشوش ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالعطاء لهم ‪ .‬وقال مالك في الزّعفران والمسك بمثل قوله في اللّبن إذا غشّهما الجاني ‪ .‬وقال ابن القاسم‬
‫ن التّصدّق بالمغشوش في الكثير من هذه الموال الثّمينة تضيع به أموال‬
‫بذلك في القليل من تلك الموال ‪ ،‬ل ّ‬
‫عظيمة على أصحابها ‪ ،‬فيعزّرون في مثل تلك الحوال بعقوبات أخرى ‪.‬‬
‫وعند البعض ‪ :‬أنّ مذهب مالك التّسوية بين القليل والكثير ‪ .‬وروى أشهب عن مالك منع العقوبات الماليّة ‪،‬‬
‫وأخذ بهذه الرّواية كلّ من مطرّف وابن الماجشون من فقهاء المذهب ‪ ،‬وعندهما ‪ :‬أنّ من غشّ أو نقص من‬
‫ش من‬
‫ش من الخبز واللّبن ‪ ،‬أو غ ّ‬
‫ن ما غ ّ‬
‫الوزن يعاقب بالضّرب ‪ ،‬والحبس ‪ ،‬والخراج من السّوق ‪ ،‬وأ ّ‬
‫المسك والزّعفران ل يفرّق ول ينهب‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّغيير ‪:‬‬
‫‪ - 23‬من التّعزير بالتّغيير نهي النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن كسر سكّة المسلمين الجائزة بين المسلمين ‪،‬‬
‫كالدّراهم والدّنانير ‪ ،‬إل إذا كان بها بأس ‪ ،‬فإذا كانت كذلك كسرت ‪ ،‬وفعل الرّسول صلى ال عليه وسلم في‬
‫التّمثال الّذي كان في بيته ‪ ،‬والسّتر الّذي به تماثيل ‪ ،‬إذ قطع رأس التّمثال فصار كالشّجرة ‪ ،‬وقطع السّتر إلى‬
‫وسادتين منتبذتين يوطآن ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬تفكيك آلت اللّهو ‪ ،‬وتغيير الصّور المصوّرة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّمليك ‪:‬‬
‫‪ - 24‬من التّعزير بالتّمليك ‪ « :‬قضاء الرّسول صلى ال عليه وسلم فيمن سرق من الثّمر المعلّق قبل أن يؤخذ‬
‫إلى الجرين بجلدات نكال ‪ ،‬وغرم ما أخذ مرّتين » « وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح‬
‫بجلدات نكال ‪ ،‬وغرم ذلك مرّتين » وقضاء عمر رضي ال عنه بتضعيف الغرم على كاتم الضّالّة ‪ ،‬وقد قال‬
‫بذلك طائفة من العلماء ‪ ،‬منهم ‪ :‬أحمد ‪ ،‬وغيره ‪ ،‬ومن ذلك إضعاف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابيّ‬
‫أخذها مماليك جياع ‪ ،‬إذ أضعف الغرم على سيّدهم ‪ ،‬ودرأ القطع ‪.‬‬
‫أنواع أخرى من التّعزير ‪:‬‬
‫هناك أنواع أخرى من التّعزير غير ما سبق ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬العلم المجرّد ‪ ،‬والحضار لمجلس القضاء ‪ ،‬والتّوبيخ والهجر ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬العلم المجرّد ‪:‬‬
‫‪ - 25‬العلم ‪ :‬صورته أن يقول القاضي للجاني ‪ :‬بلغني أنّك فعلت كذا وكذا ‪ ،‬أو يبعث القاضي أمينه‬
‫للجاني ‪ ،‬ليقول له ذلك ‪.‬‬
‫وقد قيّد البعض العلم ‪ ،‬بأن يكون مع النّظر بوجه عابس ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الحضار لمجلس القضاء ‪:‬‬
‫‪ - 26‬قال الكاسانيّ ‪ :‬إنّ هذا النّوع من التّعزير يكون بالعلم ‪ ،‬والذّهاب إلى باب القاضي ‪ ،‬والخطاب‬
‫بالمواجهة ‪.‬‬
‫وقال البعض ‪ :‬إنّه يكون بالعلم ‪ ،‬والجرّ لباب القاضي ‪ ،‬والخصومة فيما نسب إلى الجاني‪ .‬والفرق بين‬
‫هذه العقوبة والعلم المجرّد ‪ :‬أنّ في هذه العقوبة يؤخذ الجاني إلى القاضي زيادة عن العلم ‪ ،‬وذلك‬
‫ليخاطبه في المواجهة ‪ .‬وبناء على ما ذكره الكمال بن الهمام ‪ :‬تتميّز هذه عن العلم المجرّد بالخصومة فيما‬
‫نسب إلى الجاني ‪ .‬وكثيرا ما يلجأ القاضي لهذين النّوعين أو لواحد منهما إذا كان الجاني قد ارتكب الجريمة‬
‫على سبيل الزّلّة والنّدور ابتداء ‪ ،‬إذا كان ذلك زاجرا ‪ ،‬على شريطة كون الجريمة غير جسيمة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّوبيخ ‪:‬‬
‫مشروعيّة التّوبيخ ‪:‬‬
‫‪ - 27‬التّعزير بالتّوبيخ مشروع باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬فقد « روى أبو ذرّ رضي ال عنه ‪ :‬أنّه سابّ رجل فعيّره‬
‫بأمّه ‪ ،‬فقال الرّسول صلى ال عليه وسلم يا أبا ذرّ ‪ ،‬أعيّرته بأمّه ‪ ، ،‬إنّك امرؤ فيك جاهليّة » ‪ .‬وقال الرّسول‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪َ « :‬ليّ الواجد ُيحِلّ عرضه وعقوبته » ‪ .‬وقد فسّر النّيل من العرض بأن يقال له مثل ‪:‬‬
‫يا ظالم ‪ ،‬يا معتد ‪ .‬وهذا نوع من التّعزير بالقول ‪ .‬وقد جاء في تبصرة الحكّام لبن فرحون ‪ :‬وأمّا التّعزير‬
‫بالقول فدليله ما ثبت في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم أتي برجل قد شرب فقال ‪ :‬اضربوه فقال أبو هريرة ‪ :‬فمِنّا الضّارب بيده ‪ ،‬ومنّا الضّارب بنعله ‪،‬‬
‫والضّارب بثوبه » ‪ .‬وفي رواية بإسناده ‪ « :‬ثمّ قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم لصحابه بكّتوه فأقبلوا‬
‫عليه يقولون ‪ :‬ما اتّقيت اللّه ‪ ،‬ما خشيت اللّه ‪ ،‬ما استحييت من رسول اللّه صلى ال عليه وسلم » ‪ .‬وهذا‬
‫التّبكيت من التّعزير بالقول ‪.‬‬
‫وقد عزّر عمر رضي ال عنه بالتّوبيخ ‪ .‬فقد روي عنه أنّه أنفذ جيشا فغنموا غنائم ‪ ،‬فلمّا رجعوا لبسوا‬
‫الحرير والدّيباج ‪ ،‬فلمّا رآهم تغيّر وجهه ‪ ،‬وأعرض عنهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أعرضت عنّا ‪ ،‬فقال ‪ :‬انزعوا ثياب أهل‬
‫النّار ‪ ،‬فنزعوا ما كانوا يلبسون من الحرير والدّيباج ‪.‬‬
‫وذلك فيه تعزير لهم بالعراض عنهم ‪ ،‬وفيه توبيخ لهم ‪.‬‬
‫كيفيّة التّوبيخ ‪:‬‬
‫‪ - 28‬التّوبيخ قد يكون بإعراض القاضي عن الجاني ‪ ،‬أو بالنّظر له بوجه عبوس ‪ ،‬وقد يكون بإقامة الجاني‬
‫من مجلس القضاء ‪ ،‬وقد يكون بالكلم العنيف ‪ ،‬ويكون بزواجر الكلم وغاية الستخفاف ‪ ،‬على شريطة أن‬
‫ل يكون فيه قذف ‪ ،‬ومنع البعض ما فيه السّبّ أيضا ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الهجر ‪:‬‬
‫‪ - 29‬الهجر معناه ‪ :‬مقاطعة الجاني ‪ ،‬والمتناع عن التّصال به ‪ ،‬أو معاملته بأيّ نوع ‪ ،‬أو أيّة طريقة كانت‬
‫ن في ال َمضَاجِعِ } وقد «‬
‫جرُوهُ ّ‬
‫ن ُنشُوزَهُنّ َف ِعظُوهُنّ وَا ْه ُ‬
‫‪ .‬وهو مشروع بدليل قوله تعالى ‪ { :‬وَاللتيْ َتخَافُو َ‬
‫هجر النّبيّ صلى ال عليه وسلم أصحابه الثّلثة الّذين تخلّفوا عنه في غزوة تبوك » ‪ .‬وعاقب عمر صبيغا‬
‫بالهجر لمّا نفاه إلى البصرة ‪ ،‬وأمر أل يجالسه أحد ‪ .‬وهذا منه عقوبة بالهجر ‪.‬‬
‫الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 30‬الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير قد تكون من قبيل ما شرع في جنسه عقوبة مقدّرة من حدّ أو قصاص ‪،‬‬
‫ن هذه العقوبة ل تطبّق ‪ ،‬لعدم توافر شرائط تطبيقها ‪ ،‬ومنها ما فيه عقوبة مقدّرة ‪ ،‬ولكنّ هذه العقوبة ل‬
‫لك ّ‬
‫تطبّق عليها لمانع ‪ ،‬كوجود شبهة تستوجب درء الحدّ ‪ ،‬أو عفو صاحب الحقّ عن طلبه ‪.‬‬
‫وقد تكون الجرائم التّعزيريّة غير ما ذكر فيكون فيها التّعزير أصلً ‪.‬‬
‫ويدخل في هذا القسم ما ل يدخل في سابقه من جرائم ‪ .‬وفيما يلي تفصيل ذلك ‪.‬‬
‫الجرائم الّتي يشرع فيها التّعزير بديلً عن الحدود ‪:‬‬
‫جرائم العتداء على النّفس ‪ ،‬وما دونها ‪:‬‬
‫‪ - 31‬يدخل في هذا الموضوع ‪ :‬الكلم في جرائم العتداء على النّفس ‪ ،‬وهي الّتي يترتّب عليها إزهاق‬
‫الرّوح ‪ ،‬والكلم في جرائم العتداء على ما دون النّفس وهي الّتي تقع على البدن دون أن تؤدّي لزهاق‬
‫الرّوح ‪:‬‬
‫جرائم القتل " الجناية على النّفس " ‪:‬‬
‫القتل العمد ‪:‬‬
‫‪ - 32‬القتل العمد العدوان موجبه القصاص ‪ ،‬ويجب لذلك توافر شروط ‪ ،‬أهمّها ‪ :‬كون القاتل قد تعمّد تعمّدا‬
‫محضا ليس فيه شبهة ‪ ،‬وكونه مختارا ‪ ،‬ومباشرا للقتل ‪ ،‬وأل يكون المقتول جزء القاتل ‪ ،‬وأن يكون معصوم‬
‫ل شرط من هذه الشّروط‬
‫الدّم مطلقا ‪ .‬وفضلً عن ذلك يجب للقصاص ‪ :‬أن يطلب من وليّ الدّم ‪ .‬فإذا اخت ّ‬
‫امتنع القصاص ‪ ،‬وفيه التّعزير ‪.‬‬
‫وفي ذلك خلف وتفصيل ينظر في ( قتل ‪ -‬قصاص ) ‪.‬‬
‫القتل شبه العمد ‪:‬‬
‫ن الكفّارة حقّ للّه‬
‫‪ - 33‬قال البهوتيّ ‪ ،‬نقلً عن " المبدع " ‪ :‬قد يقال بوجوب التّعزير في القتل شبه العمد ‪ ،‬ل ّ‬
‫تعالى وليست لجل الفعل ‪ ،‬بل بدل النّفس الفائتة ‪ ،‬فأمّا نفس الفعل المحرّم ‪ -‬الّذي هو الجناية ‪ -‬فل كفّارة‬
‫فيه ‪.‬‬
‫ن ما ل قصاص فيه عندهم كالقتل بالمثقّل ‪ -‬وهو القتل بمثل‬
‫‪ - 34‬ومن الصول الثّابتة عند الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫الحجر الكبير أو الخشبة العظيمة ‪ -‬يجوز للمام أن يعزّر فيه بما يصل للقتل ‪ ،‬إذا تكرّر ارتكابه ‪ ،‬ما دامت‬
‫فيه مصلحة ‪ .‬وبناء على هذا الصل قالوا بالتّعزير بالقتل لمن يتكرّر منه الخنق ‪ ،‬أو التّغريق ‪ ،‬أو اللقاء من‬
‫مكان مرتفع ‪ ،‬إذا لم يندفع فساده إل بالقتل ‪.‬‬
‫العتداء على ما دون النّفس ‪:‬‬
‫‪ - 35‬إذا كانت الجناية على ما دون النّفس عمدا فيشترط للقصاص فضل عن شروطه في النّفس ‪ :‬المماثلة ‪،‬‬
‫وإمكان استيفاء المثل ‪.‬‬
‫ويرى مالك التّعزير أيضا في الجناية العمد على ما دون النّفس ‪ ،‬إذا سقط القصاص ‪ ،‬أو امتنع لسبب أو‬
‫لخر ‪ ،‬فيكون في الجريمة التّعزير مع الدّية ‪ ،‬أو الرش ‪ ،‬أو بدونه ‪ ،‬تبعا للحوال ‪ .‬ومثال ذلك أن تكون‬
‫الجناية على عظم خطر ‪.‬‬
‫إذ العظام الخطرة ل قصاص فيها عنده ‪ ،‬مثل عظام الصّلب ‪ ،‬والفخذ ‪ ،‬والعنق ‪ ،‬ومثل المنقّلة ‪ ،‬والمأمومة ‪،‬‬
‫ويقال ذلك أيضا في الجائفة ‪ ،‬لنّه ل يستطاع فيها القصاص ‪ ،‬وفي كلّ ما ذهبت منفعته بالجناية مع بقائه‬
‫قائما في الجسم ‪ ،‬وبقاء جماله ‪ ،‬فإذا ضربه على عينه فذهب بصرها ‪ ،‬وبقي جمالها فل قود فيها ‪ .‬ومثل ذلك‬
‫اليد إذا شلّت ولم تبن عن الجسم ‪ ،‬ففي هذه وما يماثلها يعزّر الجاني مع أخذ العقل منه ( أي الدّية ) ‪.‬‬
‫ن في ذلك التّعزير ‪ ،‬ل القصاص ‪ .‬ولدى بعض‬
‫وإذا لم يترك العتداء على الجسم أثرا ‪ :‬فأغلب الفقهاء على أ ّ‬
‫المالكيّة القصاص في ضربة السّوط ‪ ،‬ولو لم يحدث جرحا ول شجّة ‪ ،‬مع أنّه ل قصاص عندهم في اللّطمة ‪،‬‬
‫ن ضربة السّوط في ذلك كاللّطمة فيه‬
‫وضربة العصا ‪ ،‬إل إذا خلّفت جرحا أو شجّة ‪ .‬وروي عن مالك ‪ :‬أ ّ‬
‫الدب ‪ ،‬ونقل ذلك ابن عرفة عن أشهب ‪ .‬ويرى ابن القيّم وبعض الحنابلة ‪ :‬القصاص في اللّطمة والضّربة ‪.‬‬
‫الزّنى الّذي ل حدّ فيه ‪ ،‬ومقدّماته ‪:‬‬
‫ن فيه حدّ الزّنى ‪ ،‬أمّا إذا لم يطبّق الحدّ المقدّر لوجود‬
‫‪ - 36‬الزّنى إذا توافرت الشّرائط الشّرعيّة لثبوته فإ ّ‬
‫ن الفعل يكون جريمة شرع الحكم فيها ‪-‬‬
‫شبهة ‪ ،‬أو لعدم توافر شريطة من الشّرائط الشّرعيّة لثبوت الحدّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫أو في جنسها ‪ -‬لكنّه لم يطبّق ‪.‬‬
‫ل جريمة ل حدّ فيها ول قصاص ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫وك ّ‬
‫وبناء على ذلك ‪ :‬إذا كانت هناك شبهة تدرأ الحدّ ‪ ،‬سواء كانت شبهة فعل ‪ ،‬أو شبهة ملك ‪ ،‬أو شبهة عقد ‪،‬‬
‫ن الجاني يعزّر ‪ ،‬لنّه ارتكب جريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة ‪.‬‬
‫فإنّ الحدّ ل يطبّق ‪ .‬لك ّ‬
‫وتعرف الشّبهة بأنّها ‪ :‬ما يشبه الثّابت وليس بثابت ‪ .‬أو ‪ :‬هي وجود المبيح صورة ‪ ،‬مع عدم حكمه أو حقيقته‬
‫‪ ،‬وتفصيل ذلك في ( اشتباه ) ‪ .‬وإذا كانت المزنيّ بها ميّتة ففي هذا الفعل التّعزير ‪ ،‬لنّه ل يعتبر زنى ‪ ،‬إذ‬
‫حياة المزنيّ بها شريطة في الحدّ ‪.‬‬
‫وإذا لم يكن الفعل من رجل فل يقام الحدّ ‪ ،‬بل التّعزير ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬المساحقة ‪.‬‬
‫ن فيه التّعزير ‪ ،‬ومن ذلك أن يكون الفعل في‬
‫وإذا لم يكن الفعل في قبل امرأة فأبو حنيفة على عدم الحدّ ‪ ،‬لك ّ‬
‫ل حال مرويّ عن ابن عبّاس رضي ال عنهما وهو قول‬
‫الدّبر ‪ .‬وهو قول للشّافعيّة ‪ .‬والقول بالقتل على ك ّ‬
‫ن اللّواط زنى ‪ ،‬وفيه حدّ الزّنى‬
‫آخر للشّافعيّة ‪ ،‬والمذهب عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه زنى ‪ ،‬وفيه الحدّ ‪ .‬وقال قوم ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ .‬ومن هؤلء ‪ :‬مالك ‪ ،‬وهو المشهور لدى الشّافعيّ ‪ ،‬وهو رأي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ‪ .‬واختلفت‬
‫ن فيه حدّ الزّنى ‪ :‬وإذا كان الفعل في زوجة الفاعل فل حدّ فيه بالجماع ‪.‬‬
‫الرّواية عن أحمد ‪ :‬فقد روي عنه أ ّ‬
‫ل ما دون الوقاع من أفعال ‪،‬‬
‫والجمهور على أنّه يستوجب التّعزير ‪ .‬وممّا يستوجب التّعزير في هذا المجال ك ّ‬
‫كالوطء فيما دون الفرج ‪ ،‬ويستوي فيه المسلم ‪ ،‬والكافر ‪ ،‬والمحصن ‪ ،‬وغيره ‪ .‬ومنه أيضا ‪ :‬إصابة كلّ‬
‫محرّم من المرأة غير الجماع ‪ .‬وعناق الجنبيّة‪ ،‬أم تقبيلها‪ .‬وممّا فيه التّعزير كذلك ‪ :‬كشف العورة لخر ‪،‬‬
‫وخداع النّساء ‪ ،‬والقوادة ‪ ،‬وهي ‪ :‬الجمع بين الرّجال والنّساء للزّنى ‪ ،‬وبين الرّجال والرّجال للّواط ‪.‬‬
‫سبّ ‪:‬‬
‫القذف الّذي ل حدّ فيه وال ّ‬
‫‪ - 37‬حدّ القذف ل يقام على القاذف إلّا بشرائطه ‪ ،‬فإذا انعدم واحد منها أو اختلّ فإنّ الجاني ل يحدّ ‪ .‬ويعزّر‬
‫عند طلب المقذوف ‪ ،‬لنّه ارتكب معصية ل حدّ فيها ‪.‬‬
‫ومن شروط القذف الّذي فيه الحدّ ‪ :‬كون المقذوف محصنا ‪ .‬فإذا لم يكن كذلك فل يحدّ القاذف ‪ ،‬ولكن يعزّر ‪.‬‬
‫ومن ذلك أن يقذف مجنونا بالزّنى ‪ .‬أو صغيرا بالزّنى ‪ .‬أو مسلمة قد زنت ‪ .‬أو مسلما قد زنى ‪ ،‬أو من معها‬
‫أولد ل يعرف لهم أب ‪ ،‬وذلك لعدم العفّة في هذه الثّلثة الخيرة ‪ .‬ومنها كون المقذوف معلوما ‪ ،‬فإن لم يكن‬
‫كذلك فل حدّ ‪ ،‬بل التّعزير ‪ ،‬لنّ الفعل معصية ل حدّ فيها ‪ .‬وبناء على ذلك يعزّر ‪ -‬ول يحدّ ‪ -‬من قذف‬
‫بالزّنى جدّ آخر دون بيان الجدّ ‪ .‬أو أخاه كذلك ‪ ،‬وكان له أكثر من أخ ‪.‬‬
‫ول حدّ في القذف بغير الصّريح ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬القذف بالكناية ‪ ،‬أو التّعريض ‪ ،‬فليس فيه عند الحنفيّة ح ّد ‪ ،‬بل‬
‫التّعزير ‪ ،‬وكذلك عند الشّافعيّة ‪ .‬ويرى مالك ‪ :‬الحدّ في القذف بالتّعريض أو الكناية ‪ .‬والّذين منعوا الحدّ قالوا‬
‫بالتّعزير ‪ ،‬لنّ الفعل يكون جريمة ل ح ّد فيها ‪.‬‬
‫ول حدّ إذا رماه بألفاظ ل تفيد الزّنى صراحة ‪ .‬كقوله ‪ :‬يا فاجر ‪ ،‬بل يعزّر ‪.‬‬
‫وكذلك الشّأن إذا رماه بما ل يعتبر زنى ‪ ،‬كمن رمى آخر بالتّخنّث ‪ .‬ويعزّر كذلك عند أبي حنيفة من يرمي‬
‫آخر بأنّه يعمل عمل قوم لوط ‪ ،‬لنّ هذا الفعل ل يوجب حدّ الزّنى عنده ‪ .‬أمّا مالك والشّافعيّ وأبو يوسف‬
‫ومحمّد فإنّهم يقولون بالحدّ ‪ ،‬ومن ث ّم فل تعزير في ذلك ‪ ،‬بل فيه حدّ القذف عند هؤلء ‪ .‬ومردّ الخلف ‪ :‬هو‬
‫في أنّ اللّواط هل هو زنى أم ل ؟ ‪.‬‬
‫فمن قالوا ‪ :‬بأنّه زنى ‪ ،‬جعلوا في القذف به حدّ القذف ‪ .‬ومن قالوا ‪ :‬بغير ذلك ‪ ،‬جعلوا في القذف به التّعزير‬
‫‪ .‬ومن قذف آخر قذفا مقيّدا بشرط أو أجل يعزّر ول يحدّ ‪.‬‬
‫وإذا لم يكن القول قذفا ‪ ،‬بل مجرّد سبّ أو شتم فإنّه يكون معصية ل حدّ فيها ‪ ،‬ففيها التّعزير ‪ .‬ومن ذلك قوله‬
‫‪ :‬يا نصرانيّ ‪ ،‬أو يا زنديق ‪ ،‬أو يا كافر ‪ ،‬في حين أنّه مسلم ‪ .‬وكذلك من قال لخر ‪ :‬يا مخنّث ‪ ،‬أو يا‬
‫منافق ‪ ،‬ما دام المجنيّ عليه غير متّصف بذلك ‪ .‬ويعزّر كذلك في مثل ‪ :‬يا آكل الرّبا ‪ ،‬أو يا شارب الخمر ‪،‬‬
‫أو يا خائن ‪ ،‬أو يا سارق ‪ ،‬وكلّه بشرط كون المجنيّ عليه غير معروف بما نسب إليه ‪ .‬وكذلك من قال لخر‬
‫‪ :‬يا بليد ‪ ،‬أو يا قذر ‪ ،‬أو يا سفيه ‪ ،‬أو يا ظالم ‪ ،‬أو يا أعور ‪ ،‬وهو صحيح ‪ ،‬أو يا مقعد ‪ ،‬وهو صحيح كذلك‬
‫على سبيل الشّتم ‪ .‬وعلى وجه العموم يعزّر من شتم آخر ‪ ،‬مهما كان الشّتم ‪ ،‬لنّه معصية ‪ .‬ويرجع في‬
‫تحديد الفعل الموجب للتّعزير إلى العرف ‪ ،‬فإذا لم يكن الفعل المنسوب للمجنيّ عليه ممّا يلحق به في العرف‬
‫العار والذى والشّين ‪ ،‬فل عقاب على الجاني ‪ ،‬إذ ل يكون ثمّة جريمة ‪.‬‬
‫السّرقة الّتي ل حدّ فيها ‪:‬‬
‫‪ - 38‬السّرقة من جرائم الحدود ما دامت قد استوفت شروطها الشّرعيّة ‪ ،‬وأهمّها ‪ :‬الخفية ‪ .‬وكون موضوع‬
‫السّرقة مال ‪ ،‬مملوكا لغير السّارق ‪ ،‬محرّزا ‪ ،‬نصابا ‪ .‬فإذا تخلّف شرط من شروط الحدّ فل يقام ‪ ،‬ولكن‬
‫يعزّر الفاعل ‪ ،‬لنّه ارتكب جريمة ليس فيها حدّ مقدّر ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬سرقة ) ‪.‬‬
‫قطع الطّريق الّذي ل حدّ فيه ‪:‬‬
‫‪ - 39‬قطع الطّريق كغيره من جرائم الحدود ‪ ،‬يجب لكي يكون فيه الحدّ أن تتوافر شروط معيّنة ‪ ،‬وإلّا فل‬
‫يقام الحدّ ‪ ،‬ويعزّر الجاني ما دام قد ارتكب معصية ل حدّ فيها ‪.‬‬
‫ومن الشّروط ‪ :‬أن يكون الجاني بالغا ‪ ،‬ذكرا ‪ ،‬وأن يكون المجنيّ عليه مسلما ‪ ،‬أو ذ ّميّا ‪ ،‬وأن تكون يده على‬
‫المال صحيحة ‪ ،‬وأن ل يكون في القطّاع ذو رحم محرم لحد المقطوع عليه ‪ ،‬وأن يكون المقطوع فيه مالً‬
‫متقوّما معصوما مملوكا ‪ ،‬ل ملك فيه للقاطع ‪ ،‬ول شبهة ملك ‪ ،‬محرّزا ‪ ،‬نصابا ‪ ،‬وأن يكون قطع الطّريق في‬
‫غير المصر ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في ( حرابة ) ‪.‬‬
‫الجرائم الّتي موجبها الصليّ التّعزير ‪:‬‬
‫بعض الجرائم الّتي تقع على آحاد النّاس ‪:‬‬
‫شهادة الزّور ‪:‬‬
‫ج َت ِنبُوا قَولَ الزّورِ } ‪.‬‬
‫‪ - 40‬حرّم قول الزّور في القرآن الكريم بقوله تعالى { وَا ْ‬
‫ن الرّسول صلى ال عليه وسلم ع ّد قول الزّور وشهادة الزّور من أكبر الكبائر »‬
‫سنّة بما ورد ‪ « :‬أ ّ‬
‫وفي ال ّ‬
‫وما دام أنّه ليس فيها عقوبة مقدّرة ‪ ،‬ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫الشّكوى بغير حقّ ‪:‬‬
‫ق يؤدّب ‪.‬‬
‫‪ - 41‬ذكر صاحب ( تبصرة الحكّام ) أنّ من قام بشكوى بغير ح ّ‬
‫وقال البهوتيّ ‪ :‬إنّه إذا ظهر كذب المدّعي في دعواه بما يؤذي به المدّعى عليه ‪ ،‬فإنّه يعزّر لكذبه وإيذائه‬
‫للمدّعى عليه ‪.‬‬
‫قتل حيوان غير مؤذ أو الضرار به ‪:‬‬
‫ن امرأة دخلت النّار في هرّة‬
‫‪ - 42‬نهى الرّسول صلى ال عليه وسلم عن تعذيب الحيوان في قوله ‪ « :‬إ ّ‬
‫حبستها ‪ ،‬فل هي أطعمتها وسقتها ‪ ،‬ول هي تركتها تأكل من خشاش الرض » فهذا الفعل معصية ‪ ،‬فيعزّر‬
‫الفاعل ما دام الفعل ليس فيه حدّ مقدّر ‪.‬‬
‫ن ‪ :‬ممّا يوجب التّعزير‬
‫ومن المثلة على الجرائم في هذا المجال ‪ :‬قطع ذنب حيوان ‪ ،‬فقد ذكر فقهاء الحنفيّة أ ّ‬
‫ما ذكر ابن رستم فيمن قطع ذنب برذون ‪.‬‬
‫انتهاك حرمة ملك الغير ‪:‬‬
‫س َتأْ ِنسُوا‬
‫‪ - 43‬دخول بيوت الغير بدون إذن ممنوع شرعا لقوله تعالى ‪ { :‬ل َت ْدخُلُوا ُبيُوتَا غَيرَ ُبيُو ِت ُكمْ حتّى َت ْ‬
‫َو ُتسَّلمُوا عَلَى أَهِْلهَا } وبناء على هذا الصل قيل بتعزير من يوجد في منزل آخر بغير إذنه أو علمه ‪ ،‬ودون‬
‫أن يتّضح سبب مشروع لهذا الدّخول ‪.‬‬
‫جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة ‪:‬‬
‫‪ - 44‬توجد جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة ليست فيها عقوبات مقدّرة ‪ ،‬وفيها التّعزير ‪ .‬من هذه الجرائم ‪:‬‬
‫عدُوّي‬
‫خذُوا َ‬
‫سسُوا } ‪ ،‬وقوله { ‪ . . .‬ل َت ّت ِ‬
‫التّجسّس للعدوّ على المسلمين ‪ ،‬فهو منهيّ عنه لقوله تعالى { ول َتجَ ّ‬
‫ن إِليْهمْ بِالمَ َودّةِ } ‪.‬‬
‫عدُ ّو ُكمْ أَولِيا َء تُلْقُو َ‬
‫َو َ‬
‫ولمّا كانت هذه الجريمة ليست لها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير ‪ .‬وتفصيله في ( تجسّس ) ‪.‬‬
‫الرّشوة ‪:‬‬
‫سحْتِ } وهي في اليهود وكانوا‬
‫ن لِ ْل َكذِبِ أكّالُونَ لِل ّ‬
‫سمّاعُو َ‬
‫‪ - 45‬هي جريمة محرّمة بالقرآن لقوله تعالى ‪َ { :‬‬
‫يأكلون السّحت من الرّشوة ‪.‬‬
‫سنّة لحديث ‪ « :‬لعن اللّه الرّاشي والمرتشي والرّائش » ‪.‬‬
‫وهي كذلك محرّمة بال ّ‬
‫ولمّا كانت هذه الجريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير ‪.‬‬
‫تجاوز الموظّفين حدودهم ‪ ،‬وتقصيرهم ‪:‬‬
‫هذه معصية ليست فيها عقوبة مقدّرة ‪ ،‬ولها صور منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬جور القاضي ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا جار القاضي في الحكم عمدا يعزّر ‪ ،‬ويعزل ‪ ،‬ويضمن في ماله ‪ ،‬لنّه فيما جار ليس بقاض ‪ ،‬ولكنّه‬ ‫‪46‬‬

‫إتلف بغ ير ح قّ ‪ ،‬فيكون ف يه كغيره في إيجاب الضّمان عل يه في ماله ‪ .‬إذا جار مخطئا لم ي كن عل يه غرم‬
‫قضائه ‪ ،‬لنّه ليس معصوما عن الخطأ لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ط ْأ ُتمْ به }‬
‫خَ‬‫ح فِيمَا َأ ْ‬
‫جنَا ٌ‬
‫{ وََليْسَ عَلَيكُمْ ُ‬
‫ب ‪ -‬ترك العمل أو المتناع عمدا عن تأدية الواجب ‪:‬‬
‫ل عمل من شأنه تعطيل الوظائف العامّة أو عدم انتظامها هو جريمة تستوجب التّعزير ‪ ،‬والغرض‬
‫‪ - 47‬ك ّ‬
‫من ذلك ضمان حسن سير العمل ‪ ،‬حتّى تقوم السّلطة بواجباتها على أكمل وجه ‪ .‬وعلى ذلك ‪ :‬فيعزّر كلّ من‬
‫ترك عمله ‪ ،‬أو امتنع عن عمل من أعمال الوظيفة قاصدا عرقلة سير العمل ‪ ،‬أو الخلل بانتظامه ‪ ،‬ويعزّر‬
‫عموما كلّ من يتمرّد في وظيفته ‪ ،‬أو يستعمل القوّة ‪ ،‬أو العنف مع رؤسائه ‪ ،‬ويترك عمله ‪.‬‬
‫ومن ذلك تعدّي أحد الموظّفين المدنيّين أو العسكريّين على غيره استغللً لوظيفته ‪.‬‬
‫مقاومة رجال السّلطة والعتداء عليهم ‪:‬‬
‫‪ - 48‬التّعدّي على الموظّفين العموميّين والمكلّفين بخدمة عامّة يستحقّ التّعزير ‪.‬‬
‫ومن المثلة الّتي أوردها الفقهاء في هذا المجال ‪ :‬إهانة العلماء أو رجال الدّولة بما ل يليق ‪ ،‬سواء كان ذلك‬
‫بالشارة ‪ ،‬أو القول ‪ ،‬أو بغير ذلك ‪ .‬والتّعدّي على أحد الجنود باليد ‪ ،‬أو تمزيق ثيابه ‪ ،‬أو سبّه ‪ ،‬ففيه التّعزير‬
‫‪ ،‬والتّضمين عن التّلف ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬إهانة محكمة قضائيّة ‪ ،‬وكذلك جرائم الجلسة ‪ ،‬فالقاضي له فيها التّعزير‬
‫‪ ،‬وإن عفا فحسن ‪.‬‬
‫هرب المحبوسين وإخفاء الجناة ‪:‬‬
‫‪ - 49‬من ذلك من يؤوي محاربا ‪ ،‬أو سارقا ‪ ،‬أو نحوهما ‪ ،‬ممّن عليه حقّ للّه تعالى أو لدميّ ‪ ،‬ويمنع من‬
‫أن يستوفى هذا الحقّ ‪ .‬فقد قيل ‪ :‬إنّه شريك في جرمه ويعزّر ‪ ،‬ويطلب إحضاره ‪ ،‬أو العلم عن مكانه ‪،‬‬
‫فإن امتنع يحبس ‪ ،‬ويضرب مرّة بعد مرّة‪ ،‬حتّى يستجيب‪.‬‬
‫تقليد المسكوكات الزّيوف والمزوّرة ‪:‬‬
‫‪ - 50‬تقليد المسكوكات الّتي في التّداول والعانة على صرف العملة الفاسدة ونشرها جريمة فيها التّعزير ‪.‬‬
‫سكّة المصنوعة ريال وذهبا وروبيّة ‪ ،‬وفي رجل ينشر هذه‬
‫ففي ( عدّة أرباب الفتوى ) في رجل يعمل ال ّ‬
‫المسكوكات الزّائفة ويروّجها ‪ :‬أنّهما يعزّران ‪.‬‬
‫التّزوير ‪:‬‬
‫ن معن بن زياد عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال فأخذ‬
‫‪ - 51‬في هذه الجريمة التّعزير ‪ ،‬فقد روي ‪ :‬أ ّ‬
‫مالً ‪ ،‬فضربه عمر رضي ال عنه مائة جلدة ‪ ،‬وحبسه ‪ ،‬ثمّ ضربه مائة أخرى ‪ ،‬ثمّ ثالثة ‪ ،‬ثمّ نفاه ‪ .‬ومن‬
‫موجبات التّعزير ‪ :‬كتابة الخطوط والصّكوك بالتّزوير ‪.‬‬
‫البيع بأكثر من السّعر الجبريّ ‪:‬‬
‫‪ - 52‬قد تدعو الحال لتسعير الحاجيّات ‪ ،‬فإن كان ذلك ‪ :‬فالبيع بأكثر من السّعر المحدّد فيه التّعزير ‪ .‬ومن‬
‫ذلك ‪ :‬المتناع عن البيع ‪ ،‬ففيه المر بالواجب والعقاب على ترك الواجب ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬احتكار الحاجات‬
‫للتّحكّم في السّعر لحديث ‪ « :‬ل يحتكر إل خاطئ » ‪.‬‬
‫الغشّ في المكاييل والموازين ‪:‬‬
‫ستَقِيمِ } ‪ .‬وفي الحديث ‪:‬‬
‫خسِرِينَ َو ِزنُوا بِال ِقسْطَاسِ ال ُم ْ‬
‫‪ - 53‬يقول اللّه تعالى ‪ { :‬أَ ْوفُوا ال َكيْلَ وَل َتكُونُوا مِن ال ُم ْ‬
‫« من غشّنا فليس منّا » وبناء على ذلك ‪ :‬فالغشّ في الكيل والوزن معصية ‪ ،‬وليس فيها حدّ مقدّر ‪ ،‬ففيها‬
‫التّعزير ‪.‬‬
‫المشتبه فيهم ‪:‬‬
‫‪ - 54‬قد يكون التّعزير ل لرتكاب فعل معيّن ‪ ،‬ولكن لحالة الجاني الخطرة ‪ ،‬وقد قال بعض الفقهاء بتعزير‬
‫من يتّهم بالسّرقة ‪ ،‬ولو لم يرتكب سرقة جديدة ‪ ،‬ومن يعرف أو يتّهم بارتكاب جرائم ضدّ النّفس ‪ ،‬كالقتل‬
‫والضّرب والجرح ‪.‬‬
‫سقوط التّعزير ‪:‬‬
‫‪ - 55‬تسقط العقوبة التّعزيريّة بأسباب ‪ ،‬منها ‪ :‬موت الجاني ‪ ،‬والعفو عنه ‪ ،‬وتوبته ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬سقوط التّعزير بالموت ‪:‬‬
‫‪ - 56‬إذا كانت العقوبة بدنيّة أو مقيّدة للح ّريّة فإنّ موت الجاني مسقط لها بداهة ‪ ،‬لنّ العقوبة متعلّقة بشخصه‬
‫‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬الهجر ‪ ،‬والتّوبيخ ‪ ،‬والحبس ‪ ،‬والضّرب ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم تكن العقوبة متعلّقة بشخص الجاني بل كانت منصّبة على ماله ‪ ،‬كالغرامة والمصادرة ‪ ،‬فموت‬
‫الجاني بعد الحكم ل يسقطها ‪ ،‬لنّه يمكن التّنفيذ بها على المال ‪ ،‬وهي تصير بالحكم دينا في ال ّذمّة ‪ ،‬وتتعلّق‬
‫تبعا لذلك بتركة الجاني المحكوم عليه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬سقوط التّعزير بالعفو ‪:‬‬
‫‪ - 57‬العفو جائز في التّعزير إذا كان لحقّ اللّه تعالى ‪ ،‬لقول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬تجافوا عن‬
‫عقوبة ذوي المروءة إلّا في حدّ من حدود اللّه » وقوله « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم » وقوله في النصار‬
‫‪ « :‬اقبلوا من محسنهم ‪ ،‬وتجاوزوا عن مسيئهم » ‪ « ،‬وقوله لرجل ‪ -‬قال له ‪ :‬إنّي لقيت امرأة فأصبت منها‬
‫سيّئاتِ } » فالمام‬
‫ت ُيذْ ِهبْنَ ال ّ‬
‫سنَا ِ‬
‫حَ‬‫ن ال َ‬
‫دون أن أطأها ‪ : -‬أصلّيت معنا ؟ فردّ عليه بنعم ‪ ،‬فتل قوله تعالى { إ ّ‬
‫له العفو ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنّه ل يجوز العفو إذا تعلّق التّعزير بحقّ اللّه تعالى كما في تارك الصّلة ‪.‬‬
‫وقال الصطخريّ في رسالته ‪ :‬ومن طعن على أحد الصّحابة ‪ ،‬وجب على السّلطان تأديبه ‪ ،‬وليس له أن‬
‫ن ما كان من التّعزير منصوصا عليه كوطء جارية امرأته ‪ ،‬أو جارية مشتركة ‪،‬‬
‫يعفو عنه ‪ .‬وقال البعض ‪ :‬إ ّ‬
‫يجب امتثال المر فيه ‪ ،‬فهنا ل يجوز العفو عندهم ‪ ،‬بل يجب التّعزير ‪ ،‬لمتناع تطبيق الحدّ ‪ .‬وقال البعض ‪:‬‬
‫إنّ العفو يكون لمن كانت منه الفلتة والزّلّة ‪ ،‬وفي أهل الشّرف والعفاف ‪ ،‬وعلى ذلك ‪ :‬فشخص الجاني له‬
‫اعتبار في العفو ‪.‬‬
‫وإذا كان التّعزير لحقّ آدميّ فقد قيل كذلك ‪ :‬إنّ لوليّ المر تركه ‪ ،‬والعفو عنه ‪ ،‬حتّى ولو طلبه صاحب‬
‫الحقّ فيه ‪ ،‬شأنه في ذلك شأن التّعزير الّذي هو حقّ اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ي المر هنا تركه بعفو أو نحوه ‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫وقيل ‪ :‬ل يجوز تركه عند طلبه ‪ ،‬مثل القصاص ‪ ،‬فليس لول ّ‬
‫أغلب الفقهاء ‪ .‬وإذا عفا وليّ المر عن التّعزير فيما يمسّ المصلحة العامّة ‪ ،‬وكان قد تعلّق بالتّعزير حقّ‬
‫ن المام ليس له ‪ -‬على الرّاجح ‪-‬‬
‫ق الدميّ ‪ ،‬فعلى وليّ المر الستيفاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫آدميّ كالشّتم ‪ ،‬فل يسقط ح ّ‬
‫العفو عن حقّ الفرد ‪.‬‬
‫س هذا حقّ السّلطة ‪.‬‬
‫وإذا عفا الدميّ عن حقّه فإنّ عفوه يجوز ‪ ،‬ولكن ل يم ّ‬
‫وقد فرّق الماورديّ في هذا المجال بين حالتين ‪:‬‬
‫ي المر الخيار بين التّعزير أو العفو ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬إذا حصل عفو الدميّ قبل التّرافع ‪ ،‬فلول ّ‬
‫ب ‪ -‬وإذا حصل بعد التّرافع ‪ ،‬فقد اختلف في العقاب عن حقّ السّلطة على وجهين ‪:‬‬
‫ن حدّ القذف أغلظ‬
‫الوّل ‪ :‬في قول أبي عبد اللّه الزّبيريّ يسقط بالعفو ‪ ،‬وليس لوليّ المر أن يعزّر فيه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويسقط حكمه بالعفو ‪ ،‬فكان حكم التّعزير لحقّ السّلطة أولى بالسّقوط ‪ .‬والثّاني ‪ -‬وهو الظهر ‪ -‬أنّ لوليّ‬
‫المر أن يعزّر فيه مع العفو قبل التّرافع إليه ‪ ،‬كما يجوز له ذلك بعد التّرافع مخالفة للعفو عن حدّ القذف في‬
‫ن التّقويم من الحقوق العامّة ‪.‬‬
‫الموضعين ‪ ،‬ل ّ‬
‫سقوط التّعزير بالتّوبة ‪:‬‬
‫‪ - 58‬اختلف الفقهاء في أثر التّوبة في التّعزير ‪ :‬فعند الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه ل‬
‫تسقط العقوبة بالتّوبة ‪ ،‬لنّها كفّارة عن المعصية ‪ .‬وعند هؤلء في تعليل ذلك ‪ :‬عموم أدلّة العقوبة بل تفرقة‬
‫ل ادّعاءها‬
‫بين تائب وغيره عدا المحاربة ‪ .‬وفضلً عن ذلك فجعل التّوبة ذات أثر في إسقاط العقوبة يجعل لك ّ‬
‫‪ ،‬للفلت من العقاب ‪.‬‬
‫وعند فريق آخر ‪ ،‬منهم الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّ التّوبة قبل القدرة تسقط العقوبة قياسا على حدّ المحاربة ‪،‬‬
‫استنادا إلى ما ورد في الصّحيحين من حديث أنس رضي ال عنه « كنت مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم فجاء‬
‫رجل فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ ‪ ،‬ولم يسأله عنه ‪ .‬فحضرت الصّلة فصلّى مع النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فلمّا قضى النّبيّ صلى ال عليه وسلم الصّلة قام إليه الرّجل ‪ ،‬فأعاد قوله ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ن اللّه عزّ وجلّ قد غفر لك ذنبك » ‪.‬‬
‫أليس قد صلّيت معنا ؟ قال نعم ‪ .‬قال ‪ :‬فإ ّ‬
‫وفي هذا دليل على أنّ الجاني غفر له لمّا تاب ‪ .‬وفضل عن ذلك فإنّه إذا جازت التّوبة في المحاربة مع شدّة‬
‫ضررها وتعدّيه ‪ ،‬فأولى التّوبة فيما دونها ‪ .‬وهؤلء يقصرون السّقوط بالتّوبة على ما فيه اعتداء على حقّ‬
‫اللّه ‪ ،‬بخلف ما يمسّ الفراد ‪.‬‬
‫ن التّوبة تدفع العقوبة في التّعزير وغيره ‪ ،‬كما تدفعها في المحاربة ‪ ،‬بل إنّ ذلك‬
‫وقال ابن تيميّة وابن القيّم ‪ :‬إ ّ‬
‫أولى من المحاربة ‪ ،‬لشدّة ضررها ‪ ،‬وهذا يعتبر مسلكا وسطا بين من يقول ‪ :‬بعدم جواز إقامة العقوبة بعد‬
‫التّوبة ألبتّة ‪ .‬وبين مسلك من يقول ‪ :‬إنّه ل أثر للتّوبة في إسقاط العقوبة ألبتّة ‪ .‬ويترتّب على هذا الرّأي ‪ :‬أنّ‬
‫التّعزير الواجب حقّا للّه تعالى يسقط بالتّوبة ‪ ،‬إلّا إذا اختار الجاني العقوبة ليطهّر بها نفسه ‪ ،‬فالتّوبة تسقط‬
‫التّعزير ‪ ،‬على شريطة ألّا يطلب الجاني إقامته ‪ ،‬وذلك بالنّسبة لحقوق المصلحة العامّة ‪.‬‬
‫ل جعل توبة الكفّار سببا لغفران ما سلف واحتجّوا بقوله تعالى ‪ { :‬قُلْ‬
‫ن اللّه عزّ وج ّ‬
‫ج القائلون بذلك بأ ّ‬
‫واحت ّ‬
‫ن َي ْن َتهُوا ُيغْ َف ْر َل ُهمْ مَا َقدْ سَلَفَ } ‪.‬‬
‫لِلّذينَ كَ َفرُوا إِ ْ‬
‫سنّة عليه كذلك ‪ ،‬ففي الحديث ‪ « :‬التّائب من الذّنب كمن ل ذنب له » ‪.‬‬
‫وأنّ ال ّ‬

‫تعزية *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعزية لغة ‪ :‬مصدر عزّى ‪ :‬إذا صبّر المصاب وواساه ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ وقال الشّربينيّ ‪ :‬هي المر بالصّبر والحمل عليه بوعد‬
‫الجر ‪ ،‬والتّحذير من الوزر ‪ ،‬والدّعاء للميّت بالمغفرة ‪،‬وللمصاب بجبر المصيبة‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في استحباب التّعزية لمن أصابته مصيبة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫والصل في مشروعيّتها ‪ :‬خبر ‪ « :‬من عزّى مصابا فله مثل أجره » ‪.‬‬
‫وخبر « ما من مؤمن يعزّي أخاه بمصيبة إلّا كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة » ‪.‬‬
‫كيفيّة التّعزية ولمن تكون ‪:‬‬
‫‪ - 3‬يعزّى أهل المصيبة ‪ ،‬كبارهم وصغارهم ‪ ،‬ذكورهم وإناثهم ‪ ،‬إل الصّبيّ الّذي ل يعقل ‪ ،‬والشّابّة من‬
‫النّساء ‪ ،‬فل يعزّيها إل النّساء ومحارمها ‪ ،‬خوفا من الفتنة ‪.‬‬
‫ونقل ابن عابدين عن شرح المنية ‪ :‬تستحبّ التّعزية للرّجال والنّساء اللتي ل يفتنّ ‪.‬‬
‫وقال الدّردير ‪ :‬وندب تعزية لهل الميّت إل مخشيّة الفتنة ‪.‬‬
‫مدّة التّعزية ‪:‬‬
‫ن مدّة التّعزية ثلثة أيّام ‪.‬‬
‫‪ - 4‬جمهور الفقهاء ‪ :‬على أ ّ‬
‫واستدلّوا لذلك بإذن الشّارع في الحداد في الثّلث فقط ‪ ،‬بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يحلّ لمرأة تؤمن‬
‫باللّه واليوم الخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلث ‪ ،‬إلّا على زوج ‪ :‬أربعة أشهر وعشرا » وتكره بعدها ‪ ،‬لنّ‬
‫المقصود منها سكون قلب المصاب ‪ ،‬والغالب سكونه بعد الثّلثة ‪ ،‬فل يجدّد له الحزن بالتّعزية ‪ ،‬إل إذا كان‬
‫أحدهما ( المعزّى أو المعزّي ) غائبا ‪ ،‬فلم يحضر إل بعد الثّلثة ‪ ،‬فإنّه يعزّيه بعد الثّلثة ‪ .‬وحكى إمام‬
‫ن الغرض الدّعاء ‪،‬‬
‫الحرمين وجها وهو قول بعض الحنابلة ‪ :‬أنّه ل أمد للتّعزية ‪ ،‬بل تبقى بعد ثلثة أيّام ‪ ،‬ل ّ‬
‫والحمل على الصّبر ‪ ،‬والنّهي عن الجزع ‪ ،‬وذلك يحصل على طول الزّمان ‪.‬‬
‫وقت التّعزية ‪:‬‬
‫ن أهل الميّت قبل الدّفن‬
‫‪ - 5‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّ الفضل في التّعزية أن تكون بعد الدّفن ‪ ،‬ل ّ‬
‫مشغولون بتجهيزه ‪ ،‬ولنّ وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر ‪ ،‬فكان ذلك الوقت أولى بالتّعزية ‪ .‬وقال جمهور‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬إل أن يظهر من أهل الميّت شدّة جزع قبل الدّفن ‪ ،‬فتعجّل التّعزية ‪ ،‬ليذهب جزعهم أو يخفّ ‪.‬‬
‫وحكي عن الثّوريّ ‪ :‬أنّه تكره التّعزية بعد الدّفن ‪.‬‬
‫مكان التّعزية ‪:‬‬
‫‪ - 6‬كره الفقهاء الجلوس للتّعزية في المسجد ‪.‬‬
‫وكره الشّافعيّة والحنابلة الجلوس للتّعزية ‪ ،‬بأن يجتمع أهل الميّت في مكان ليأتي إليهم النّاس للتّعزية ‪ ،‬لنّه‬
‫محدث وهو بدعة ‪ ،‬ولنّه يجدّد الحزن ‪ .‬ووافقهم الحنفيّة على كراهة الجلوس للتّعزية على باب الدّار ‪ ،‬إذا‬
‫سيّد أنّه‬
‫اشتمل على ارتكاب محظور ‪ ،‬كفرش البسط والطعمة من أهل الميّت ‪ .‬ونقل الطّحطاويّ عن شرح ال ّ‬
‫ل بأس بالجلوس لها ثلثة أيّام من غير ارتكاب محظور ‪ .‬وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّ الفضل كون التّعزية في‬
‫بيت المصاب ‪ .‬وقال بعض الحنابلة ‪ :‬إنّما المكروه البيتوتة عند أهل الميّت ‪ ،‬وأن يجلس إليهم من عزّى‬
‫مرّة ‪ ،‬أو يستديم المعزّي الجلوس زيادة كثيرة على قدر التّعزية ‪.‬‬
‫صيغة التّعزية ‪:‬‬
‫‪ - 7‬قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم في التّعزية شيئا محدودا ‪ ،‬إل ما روي أنّ المام أحمد قال ‪ :‬يروى « أنّ النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم عزّى رجلً فقال ‪ :‬رحمك اللّه وآجرك » ‪.‬‬
‫وعزّى أحمد أبا طالب ( أحد أصحابه ) فوقف على باب المسجد فقال ‪ :‬أعظم اللّه أجركم وأحسن عزاءكم ‪.‬‬
‫وقال بعض أصحابنا إذا عزّى مسلما بمسلم قال ‪ :‬أعظم اللّه أجرك ‪ ،‬وأحسن عزاك ‪ ،‬ورحم اللّه ميّتك ‪.‬‬
‫واستحبّ بعض أهل العلم ‪ :‬أن يقول ما روى جعفر بن محمّد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جدّه ‪ ،‬قال ‪ « :‬لمّا توفّي‬
‫ل مصيبة ‪،‬‬
‫ن في اللّه عزاء من ك ّ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وجاءت التّعزية ‪ ،‬سمعوا قائلً يقول ‪ :‬إ ّ‬
‫ل ما فات ‪ ،‬فباللّه فثقوا ‪ ،‬وإيّاه فارجوا ‪ ،‬فإنّ المصاب من حرم الثّواب » ‪.‬‬
‫وخلفا من كلّ هالك ‪ ،‬ودركا من ك ّ‬
‫وهل يعزّى المسلم بالكافر أو العكس ؟‬
‫‪ - 8‬ذهب الئمّة ‪ :‬الشّافعيّ ‪ ،‬وأبو حنيفة في رواية عنه ‪ :‬إلى أنّه يعزّى المسلم بالكافر ‪ ،‬وبالعكس ‪ ،‬والكافر‬
‫غير الحربيّ ‪ .‬وذهب المام مالك ‪ :‬إلى أنّه ل يعزّى المسلم بالكافر ‪ .‬وقال ابن قدامة من الحنابلة ‪ :‬إن عزّى‬
‫مسلما بكافر قال ‪ :‬أعظم اللّه أجرك وأحسن عزاءك‪.‬‬
‫صنع الطّعام لهل الميّت ‪:‬‬
‫ن لجيران أهل الميّت أن يصنعوا طعاما لهم ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫‪ - 9‬يس ّ‬
‫« اصنعوا لهل جعفر طعاما ‪ ،‬فإنّه قد جاءهم ما يشغلهم » ‪.‬‬
‫ن فيه زيادة على مصيبتهم ‪ ،‬وشغلً على شغلهم ‪ ،‬وتشبّها بأهل‬
‫ويكره أن يصنع أهل الميّت طعاما للنّاس ‪ ،‬ل ّ‬
‫الجاهليّة ‪ ،‬لخبر جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي ال عنه ‪ :‬كنّا نعدّ الجتماع إلى أهل الميّت ‪ ،‬وصنيعة‬
‫الطّعام بعد دفنه من النّياحة ‪.‬‬

‫تعشير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعشير في اللّغة ‪ :‬مصدر عشّر ‪ ،‬يقال ‪ :‬عشّر القوم ‪ ،‬وعشّرهم ‪ :‬إذا أخذ عشر أموالهم ‪ .‬والعشّار ‪:‬‬
‫هو من يأخذ العشر ‪ .‬وقد عشّرت النّاقة ‪ :‬صارت عشراء ‪ -‬أي حامل ‪ -‬إذا تمّ لها عشرة أشهر ‪ .‬ومعناه في‬
‫الصطلح كمعناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫ويستعمل في الصطلح أيضا بمعنى ‪ :‬جعل العواشر في المصحف ‪ ،‬والعاشرة ‪ :‬هي الحلقة في المصحف‬
‫عند منتهى كلّ عشر آيات ‪ .‬والعاشرة أيضا ‪ :‬الية الّتي تتمّ بها العشر ‪ .‬والتّعشير ‪ -‬بمعنى أخذ العشر ‪-‬‬
‫يرجع لمعرفة أحكامه إلى مصطلح ( عشر ) ‪.‬‬
‫تاريخ التّعشير في المصحف ‪:‬‬
‫ن الحجّاج فعل‬
‫ن المأمون العبّاسيّ أمر بذلك ‪ .‬وقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫‪ - 2‬قال ابن عطيّة ‪ :‬مرّ بي في بعض التّواريخ ‪ :‬أ ّ‬
‫ذلك ‪ ،‬وقال قتادة ‪ :‬بدءوا فنقّطوا ‪ ،‬ثمّ خمّسوا ‪ ،‬ثمّ عشّروا ‪.‬‬
‫وقال يحيى بن أبي كثير ‪ :‬كان القرآن مجرّدا في المصاحف ‪ ،‬فأوّل ما أحدثوا فيه النّقط على الباء والتّاء‬
‫والثّاء ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل بأس به ‪ ،‬هو نور له ‪ ،‬ثمّ أحدثوا نقطا عند منتهى الي ‪ ،‬ثمّ أحدثوا الفواتح والخواتم ‪.‬‬
‫حكم التّعشير ‪:‬‬
‫‪ - 3‬ذكر أبو عمر والدّاني في كتاب البيان له ‪ ،‬عن عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬أنّه كره التّعشير في‬
‫المصاحف ‪ ،‬وأنّه كان يحكّه ‪.‬‬
‫وعن مجاهد ‪ :‬أنّه كان يكره التّعشير والطّيب في المصاحف ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬تجوز تحلية المصحف وتعشيره ونقطه ‪ :‬أي إظهار إعرابه ‪ ،‬وبه يحصل الرّفق جدّا ‪،‬‬
‫خصوصا للعجم ‪ ،‬فيستحسن ‪ .‬وعلى هذا ل بأس بكتابة أسماء السّور ‪ ،‬وع ّد الي ‪ ،‬وعلمات الوقف ونحوها‬
‫‪ ،‬فهي بدعة حسنة ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّ ما روي عن ابن مسعود رضي ال عنه " جرّدوا القرآن كان في زمنهم ‪،‬‬
‫وكم شيء يختلف باختلف الزّمان والمكان‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬أنّه مكروه بالحمرة وغيرها من اللوان ‪ ،‬إل‬
‫الحبر ‪.‬‬
‫قال أشهب ‪ :‬سمعنا مالكا وسئل عن العشور الّتي في المصحف بالحمرة وغيرها من اللوان فكره ذلك ‪ ،‬وقال‬
‫‪ :‬تعشير المصحف بالحبر ل بأس به ‪.‬‬

‫تعصيب *‬
‫انظر ‪ :‬عصبة ‪.‬‬

‫تعقيب‬
‫انظر ‪ :‬موالة ‪ ،‬تتابع ‪.‬‬

‫تعلّم *‬
‫انظر ‪ :‬تعليم ‪.‬‬

‫تعلّي *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل شيء وعَلوه وعِلوه ‪ :‬أرفعه‬
‫‪ - 1‬التّعلّي في اللّغة له معان ‪ ،‬منها ‪ :‬أنّه من العلوّ ‪ ،‬وهو ‪ :‬الرتفاع وعُل ّو ك ّ‬
‫‪ .‬وعل الشّيء علوّا فهو عليّ ‪ :‬ارتفع ‪ ،‬وفي حديث ابن عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬فإذا هو يتعلّى عنّي ‪ :‬أي‬
‫ي ‪ .‬وتعالى ‪ :‬ترفّع ‪ .‬وتعلّى ‪ :‬أي عل في مهلة ‪.‬‬
‫يترفّع عل ّ‬
‫وهو في الصطلح ل يخرج عن هذا ‪ ،‬إذ يراد به عند الفقهاء ‪ :‬رفع بناء فوق بناء آخر ‪.‬‬
‫أحكام حقّ التّعلّي ‪:‬‬
‫‪ - 2‬حقّ التّعلّي ‪ :‬إمّا أن يستعمله صاحبه لنفسه ‪ ،‬وإمّا يبيعه لغيره ‪.‬‬
‫ل أحد له التّعلّي على‬
‫أمّا استعماله لنفسه ‪ :‬فقد نصّت المادّة ( ‪ ) 1198‬من مجلّة الحكام العدليّة على أنّ ‪ :‬ك ّ‬
‫حائطه الملك ‪ ،‬وبناء ما يريد ‪ ،‬وليس لجاره منعه ما لم يكن ضررا فاحشا ‪ .‬وقال التاسيّ في شرح المادّة ‪:‬‬
‫ول عبرة بزعمه أنّه يسدّ عنه الرّيح والشّمس ‪ ،‬كما أفتى به في الحامديّة ‪ ،‬لنّه ليس من الضّرر الفاحش ‪.‬‬
‫وفي النقرويّة ‪ :‬له أن يبني على حائط نفسه أزيد ممّا كان ‪ ،‬وليس لجاره منعه وإن بلغ عنان السّماء ‪.‬‬
‫وأمّا بيعه لغيره فقد ذهب الجمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى جوازه على التّفصيل التّالي ‪:‬‬
‫أجازه المالكيّة متى كان المبيع قدرا معيّنا ‪ ،‬كعشرة أذرع مثل من محلّ هواء ‪ ،‬فوق محلّ متّصل بأرض أو‬
‫بناء ‪ ،‬بأن كان لشخص أرض خالية من البناء أراد البناء بها ‪ ،‬أو كان له بناء أراد البناء عليه ‪ ،‬فيشتري‬
‫شخص منه قدرا معيّنا من الفراغ الّذي يكون فوق البناء الّذي أراد إحداثه ‪ ،‬فيجوز متى وصف البناء الّذي‬
‫أريد إحداثه أسفل وأعلى ‪ ،‬ليقلّ الضّرر ‪ ،‬لنّ صاحب السفل رغبته في خفّة العلى ‪ ،‬وصاحب العلى‬
‫رغبته في متانة السفل ‪ ،‬ولصاحب البناء العلى النتفاع بما فوق بنائه بغير البناء ‪ ،‬إذ يملك جميع الهواء‬
‫الّذي فوق بناء السفل ‪ ،‬وليس لصاحب السفل النتفاع بما فوق بناء العلى ‪ ،‬ل بالبناء ول بغيره ‪.‬‬
‫وأجازه الشّافعيّة ‪ ،‬متى كان المبيع حقّ البناء أو العلو ‪ :‬بأن قال له ‪ :‬بعتك حقّ البناء أو العلو للبناء عليه‬
‫بثمن معلوم ‪ ،‬بخلف ما إذا باعه وشرط أن ل يبني عليه ‪ ،‬أو لم يتعرّض للبناء عليه ‪ .‬لكن للمشتري أن‬
‫ينتفع بما عدا البناء من مكث وغيره ‪ ،‬كما صرّح به السّبكيّ ‪ ،‬تبعا للماورديّ ‪.‬‬
‫وأجازه الحنابلة ‪ ،‬ولو قبل بناء البيت الّذي اشترى علوه ‪ ،‬إذا وصف العلو والسّفل ليكونا معلومين ‪ ،‬ليبني‬
‫المشتري أو يضع عليه بنيانا أو خشبا موصوفين ‪ ،‬وإنّما صحّ ذلك لنّ العلو ملك للبائع ‪ ،‬فكان له بيعه ‪،‬‬
‫والعتياض عنه ‪ ،‬كالقرار ‪.‬‬
‫وأمّا الحنفيّة ‪ :‬فقد ذهبوا إلى أنّ بيع حقّ التّعلّي غير جائز ‪ ،‬لنّه ليس بمال ‪ ،‬ول هو حقّ متعلّق بالمال ‪ ،‬بل‬
‫حقّ متعلّق بالهواء ( أي الفراغ ) وليس الهواء ما ل يباع ‪ ،‬إذ المال ما يمكن قبضه وإحرازه ‪ .‬وصورته ‪:‬‬
‫أن يكون السّفل لرجل ‪ ،‬وعلوه لخر ‪ ،‬فسقطا أو سقط العلو وحده فباع صاحب العلو علوه ‪ ،‬فإنّه ل يجوز ‪،‬‬
‫ن المبيع حينئذ ليس إلّا حقّ التّعلّي ‪ .‬وعلى هذا ‪ :‬فلو باع العلو قبل سقوطه جاز ‪ ،‬فإن سقط قبل القبض‬
‫لّ‬
‫بطل البيع ‪ ،‬لهلك المبيع قبل القبض ‪ ،‬وهو بعد سقوطه بيع لحقّ التّعلّي ‪ ،‬وهو ليس بمال ‪ .‬فلو كان العلو‬
‫لصاحب السّفل فقال ‪ :‬بعتك علو هذا السّفل بكذا صحّ ‪ ،‬ويكون سطح السّفل لصاحب السّفل ‪ ،‬وللمشتري حقّ‬
‫ن السّفل اسم لمبنى مسقّف ‪،‬‬
‫القرار ‪ ،‬حتّى لو انهدم العلو كان له أن يبني عليه علوا آخر ‪ ،‬مثل الوّل ‪ ،‬ل ّ‬
‫فكان سطح السّفل سقفا للسّفل ‪.‬‬
‫أحكام العلو والسّفل في النهدام والبناء ‪:‬‬
‫ن السّفل إن انهدم بنفسه بل صنع صاحبه لم يجبر على البناء ‪ ،‬لعدم التّعدّي ‪ ،‬فلو‬
‫‪ - 3‬ذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫هدمه يجبر على بنائه ‪ ،‬لنّه تعدّى على صاحب العلو ‪ ،‬وهو قرار العلو ‪ ،‬ولذي العلو أن يبني السّفل ثمّ‬
‫يرجع بما أنفق إن بنى بإذنه أو إذن قاض ‪ ،‬وإل فبقيمة البناء يوم بنى ‪ .‬ومتى بنى صاحب العلو السّفل ‪ :‬كان‬
‫له أن يمنع صاحب السّفل من السّكنى ‪ ،‬حتّى يدفع إليه مثل ما أنفقه في بناء سفله لكونه مضطرّا ‪.‬‬
‫فلكلّ منهما حقّ في ملك الخر ‪ :‬لذي العلو حقّ قراره ‪ ،‬ولذي السّفل حقّ دفع المطر والشّمس عن السّفل ‪،‬‬
‫ولو هدم ذو السّفل سفله وذو العلو علوه ‪ ،‬ألزم ذو السّفل ببناء سفله ‪ ،‬إذ فوّت على صاحب العلو حقّا ألحق‬
‫بالملك ‪ ،‬فهو كما لو فوّت عليه ملكا ‪.‬‬
‫فإذا بنى ذو السّفل سفله وطلب من ذي العلو بناء علوه فإنّه يجبر ‪ ،‬لنّ لذي السّفل حقّا في العلو ‪ ،‬وأمّا لو‬
‫انهدم العلو بل صنعه فل يجبر لعدم تعدّيه ‪ ،‬كما لو انهدم السّفل بل تعدّ ‪ ،‬وسقف السّفل لذي السّفل ‪.‬‬
‫‪ - 4‬وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ السّفل إن وهى وأشرف على السّقوط وخيف سقوط بناء عليه لخر غير صاحب‬
‫السّفل ‪ -‬فإنّه يقضى على صاحب السّفل أن يعمّر سفله فإن أبى قضي عليه ببيعه لمن يعمّره ‪ ،‬فإن سقط‬
‫العلى على السفل فهدمه أجبر ربّ السفل على البناء ‪ ،‬أو البيع ممّن يبني ‪ ،‬ليبني ربّ العلو علوه عليه ‪.‬‬
‫وعلى ذي السّفل التّعليق للعلى ‪ -‬أي حمله على خشب ونحوه ‪ -‬حتّى يبني السّفل ‪ ،‬وعليه السّقف السّاتر‬
‫لسفله ‪ ،‬إذ ل يسمّى السّفل بيتا إلّا به ‪ ،‬ولذا فإنّه يقضى به لصاحب السّفل عند التّنازع ‪.‬‬
‫وأمّا البلط الّذي فوقه ‪ :‬فهو لصاحب العلى ‪.‬‬
‫ويقضى على ذي العلو بعدم زيادة بناء العلو على السّفل ‪ ،‬لنّها تضرّ السّفل ‪ ،‬إل الشّيء الخفيف الّذي ل‬
‫يضرّ السّفل حال ومآل ‪ ،‬ويرجع في ذلك لهل المعرفة ‪.‬‬
‫‪ - 5‬ويرى الشّافعيّة ‪ :‬أنّه لو انهدم حيطان السّفل لم يكن لصاحبه أن يجبر صاحب العلو على البناء قولً‬
‫واحدا ‪ ،‬لنّ حيطان السّفل لصاحب السّفل ‪ ،‬فل يجبر صاحب العلو على بنائه ‪ .‬وهل لصاحب العلو إجبار‬
‫صاحب السّفل على البناء ؟ فيه قولن ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬يجبر ‪ ،‬ألزمه الحاكم ‪ ،‬فإن لم يفعل – وله مال – باع‬
‫الحاكم عليه ماله ‪ ،‬وأنفق عليه ‪ ،‬وإن لم يكن له مال اقترض عليه ‪ .‬فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكا‬
‫لصاحب السّفل ‪ ،‬لنّه بني له ‪ ،‬وتكون النّفقة في ذمّته ‪ ،‬ويعيد صاحب العلو غرفته عليه ‪ ،‬وتكون نفقة الغرفة‬
‫وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السّفل ‪ ،‬لنّها ملكه ‪ ،‬ل حقّ لصاحب السّفل فيه ‪ .‬وأمّا السّقف‬
‫فهو بينهما ‪ ،‬وما ينفق عليه فهو من مالهما ‪ ،‬فإن تبرّع صاحب العلو ‪ ،‬وبنى من غير إذن الحاكم ‪ ،‬لم يرجع‬
‫صاحب العلو على صاحب السّفل بشيء ‪ .‬ثمّ ينظر ‪ :‬فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السّفل ‪،‬‬
‫لنّ اللة كلّها له ‪ ،‬وليس لصاحب العلو منعه من النتفاع بها ‪ ،‬ول يملك نقضها ‪ ،‬لنّها لصاحب السّفل ‪ ،‬وله‬
‫أن يعيد حقّه من الغرفة ‪ .‬وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو ‪ ،‬وليس لصاحب السّفل أن ينتفع‬
‫ن القرار له ‪ ،‬ولصاحب العلو أن‬
‫بها من غير إذن صاحب العلو ‪ ،‬ولكن له أن يسكن في قرار السّفل ‪ ،‬ل ّ‬
‫ينقض ما بناه من الحيطان ‪ ،‬لنّه ل حقّ لغيره فيها ‪ ،‬فإن بذل صاحب السّفل القيمة ليترك نقضها لم يلزمه‬
‫قبولها ‪ ،‬لنّه ل يلزمه بناؤها قولً واحدا ‪ ،‬فل يلزمه تبقيتها ببذل العوض ‪.‬‬
‫‪ - 6‬وعند الحنابلة ‪ :‬إن كان السّفل لرجل والعلو لخر ‪ ،‬فانهدم السّقف الّذي بينهما ‪ ،‬فطلب أحدهما المباناة‬
‫من الخر ‪ ،‬فامتنع ‪ ،‬فهل يجبر الممتنع على ذلك ؟ على روايتين ‪ .‬كالحائط بين البيتين ‪ .‬وإن انهدمت حيطان‬
‫السّفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها ‪ ،‬فعلى روايتين ‪ :‬إحداهما ‪ :‬يجبر ‪ .‬فعلى هذه الرّواية يجبر على البناء‬
‫وحده ‪ ،‬لنّه ملكه خاصّة ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬ل يجبر ‪ ،‬وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الرّوايتين جميعا ‪ ،‬فإن بناه بآلته فهو‬
‫على ما كان ‪ ،‬وإن بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد ‪ :‬ل ينتفع به صاحب السّفل ‪ ،‬يعني حتّى يؤدّي‬
‫ن البيت إنّما يبنى للسّكن فلم يملكه كغيره ‪ ،‬ويحتمل أنّه أراد النتفاع‬
‫القيمة ‪ ،‬فيحتمل أن ل يسكن ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالحيطان خاصّة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح الطّاق ‪ ،‬ويكون له السّكنى من غير تصرّف في ملك‬
‫غيره ‪ ،‬لنّ السّكنى إنّما هي إقامته في الفناء بين الحيطان من غير تصرّف فيها ‪ ،‬فأشبه الستظلل بها من‬
‫خارج ‪.‬‬
‫فأمّا إن طالب صاحب السّفل بالبناء ‪ ،‬وأبى صاحب العلو ‪ ،‬ففيه روايتان ‪:‬‬
‫ن الحائط ملك صاحب السّفل مختصّ به ‪ ،‬فلم يجبر غيره على‬
‫إحداهما ‪ :‬ل يجبر على بنائه ‪ ،‬ول مساعدته ل ّ‬
‫بنائه ول المساعدة فيه ‪ ،‬كما لو لم يكن عليه علو ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬يجبر على مساعدته والبناء معه ‪ ،‬وهو قول أبي الدّرداء ‪ ،‬لنّه حائط يشتركان في النتفاع به ‪،‬‬
‫أشبه الحائط بين الدّارين ‪.‬‬
‫جعل علو الدّار مسجدا ‪:‬‬
‫‪ - 7‬أجاز الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة جعل علو الدّار مسجدا ‪ ،‬دون سفلها ‪ ،‬والعكس ‪ ،‬لنّهما عينان يجوز‬
‫وقفهما ‪ ،‬فجاز وقف أحدهما دون الخر ‪ ،‬كالعبدين ‪.‬‬
‫ومن جعل مسجدا تحته سرداب أو فوقه بيت ‪ ،‬وجعل باب المسجد إلى الطّريق ‪ ،‬وعزله عن ملكه ‪ ،‬فل‬
‫يكون مسجدا ‪ ،‬فله أن يبيعه ‪ ،‬وإن مات يورث عنه لنّه لم يخلص للّه تعالى ‪ ،‬لبقاء حقّ العبد متعلّقا به ولو‬
‫كان السّرداب لمصالح المسجد جاز ‪ ،‬كما في مسجد بيت المقدس ‪ .‬هذا مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬خلفا لصاحبيه ‪.‬‬
‫وروى الحسن عن أبي حنيفة ‪ :‬أنّه يجوز جعل السّفل مسجدا وعليه مسكن ‪ ،‬ول يجوز العكس ‪ ،‬لنّ المسجد‬
‫ممّا يتأبّد ‪ ،‬وروي عن محمّد ‪ :‬عكس هذا ‪ ،‬لنّ المسجد معظّم ‪ ،‬وإذا كان فوقه مسكن أو مستغلّ فيتعذّر‬
‫تعظيمه ‪ .‬وعن أبي يوسف أنّه جوّزه في الوجهين حين قدم بغداد ‪ ،‬ورأى ضيق المنازل ‪ ،‬فكأنّه اعتبر‬
‫الضّرورة ‪ .‬أمّا لو تمّت المسجديّة ثمّ أراد البناء منع ‪.‬‬
‫نقب كوّة العلو أو السّفل ‪:‬‬
‫‪ - 8‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أنّه ليس لصاحب علو تحته سفل لخر أن ينقب كوّة في علوه ‪،‬‬
‫وكذا العكس ‪ ،‬إل برضا الخر ‪.‬‬
‫ن لكلّ منهما فعل ما ل يضرّ بالخر ‪ ،‬فإن أض ّر به منع منه ‪ ،‬كأن يشرف من الكوّة‬
‫وذهب الصّاحبان ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫على جاره وعياله فيضرّ بهم ‪ ،‬والمختار أنّه إذا أشكل أنّه يضرّ أم ل ؟ ل يملك فتحها ‪ ،‬وإذا علم أنّه ل يضرّ‬
‫يملك فتحها ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه يقضى على من أحدث فتحها بسدّها إذا لم تكن عالية ‪ ،‬ويشرف منها على جاره ‪.‬‬
‫وأمّا القديمة فل يقضى بسدّها ‪ ،‬ويقال للجار ‪ :‬استر على نفسك إن شئت ‪ ،‬فقد قال الدّسوقيّ من المالكيّة ‪ :‬إنّ‬
‫الكوّة الّتي أحدث فتحها يقضى بسدّها ‪ ،‬وإن أريد سدّ خلفها فقط بعد المر بسدّها فإنّه يقضى بسدّ جميعها ‪،‬‬
‫ل ما يدلّ عليها ‪.‬‬
‫ويزال ك ّ‬
‫وهذا إذا كانت غير عالية ل يحتاج في كشف الجار منها إلى صعود على سلّم ونحوه ‪ ،‬وإلّا فل يقضى بسدّها‬
‫‪ .‬وإذا سكت من حدث عليه فتح الكوّة ونحوها عشر سنين ‪ -‬ولم ينكر ‪ -‬جبر عليه ‪ ،‬ول مقال له ‪ ،‬حيث لم‬
‫يكن له عذر في ترك القيام ( الدّعاء ) وهذا قول ابن القاسم ‪ ،‬وبه القضاء ‪.‬‬
‫تعلّي ال ّذ ّميّ على المسلم في البناء ‪:‬‬
‫ن أهل ال ّذمّة ممنوعون من أن تعلو أبنيتهم على أبنية جيرانهم المسلمين ‪،‬‬
‫‪ - 9‬ل خلف بين الفقهاء ‪ :‬في أ ّ‬
‫لما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنّه قال « السلم يعلو ول يعلى عليه » ولنّ في ذلك رتبة على‬
‫المسلمين ‪ ،‬وأهل ال ّذمّة ممنوعون من ذلك ‪.‬‬
‫على أنّ بعض الحنفيّة قد ذهب ‪ :‬إلى أنّه إذا كان التّعلّي للحفظ من اللّصوص فإنّهم ل يمنعون منه ‪ ،‬لنّ علّة‬
‫المنع مقيّدة بالتّعلّي في البناء على المسلمين ‪ ،‬فإذا لم يكن ذلك ‪ -‬بل للتّحفّظ ‪ -‬فل يمنعون ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا مساواتهم في البناء ‪ ،‬فللفقهاء في ذلك قولن ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫منعه بعض الحنفيّة ‪ ،‬وأجازه بعضهم ‪ .‬فقد أجازه المالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وبعض الحنفيّة ‪ ،‬لنّه ليس فيه‬
‫استطالة على المسلمين ‪ .‬ومنعه بعض الحنفيّة ‪ ،‬واستدلّوا بقوله صلى ال عليه وسلم « السلم يعلو ول يعلى‬
‫عليه » ولنّهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم ‪ ،‬كذلك في بنائهم ‪ .‬وأصحّ قولي‬
‫ن القصد أن يعلو السلم ‪ ،‬ول يحصل ذلك مع المساواة ‪.‬‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬المنع ‪ ،‬تمييزا بينهم ‪ ،‬ول ّ‬
‫‪ - 11‬أمّا لو اشترى ال ّذ ّميّ دارا عالية مجاورة لدار مسلم دونها في العلو ‪ ،‬فلل ّذ ّميّ سكنى داره ‪ ،‬ول يمنع من‬
‫ذلك ‪ ،‬ول يلزمه هدم ما عل دار المسلم ‪ ،‬لنّه لم يعل عليه شيئا ‪ ،‬إل أنّه ليس له الشراف منها على دار‬
‫المسلم ‪ ،‬وعليه أن يمنع صبيانه من طلوع سطحها إل بعد تحجيره ‪ .‬أي بناء ما يمنع من الرّؤية ‪.‬‬
‫فإن انهدمت دار ال ّذ ّميّ العالية ثمّ جدّد بناءها ‪ ،‬لم يجز له أن يعلّي بناءها على بناء المسلم ‪ .‬وإن انهدم ما عل‬
‫منها لم تكن له إعادته ‪.‬‬
‫هذا ما عليه الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وهو ‪ :‬المعتمد عند المالكيّة ‪.‬‬
‫‪ - 12‬وأمّا تعلية بنائه على من ليس مجاورا له من المسلمين ‪ -‬فإنّه ل يمنع منه ‪ ،‬لنّ علوه إنّما يكون‬
‫ضررا على المجاور لبنائه دون غيره عند الحنابلة ‪ ،‬وهو المعتمد عند الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬ما لم يشرف منه‬
‫على المسلمين ‪ .‬وللشّافعيّة في ذلك قولن ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬عدم المنع ‪ ،‬وهو أصحّهما ‪ ،‬لنّه يؤمن مع البعد بين البناءين أن يعلو على المسلمين ‪ ،‬ولنتفاء‬
‫الضّرر ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬المنع ‪ ،‬لما فيه من التّجمّل والشّرف ‪ ،‬ولنّهم بذلك يتطاولون على المسلمين ‪.‬‬

‫تعليق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬التّعليق في اللّغة ‪ :‬مصدر علّق ‪ ،‬يقال ‪ :‬علّق الشّيء بالشّيء ‪ ،‬ومنه ‪ ،‬وعليه تعليقا ‪ :‬ناطه به ‪ .‬والتّعليق‬
‫في الصطلح ‪ :‬هو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى ‪ .‬ويسمّى يمينا مجازا ‪ ،‬لنّه‬
‫في الحقيقة شرط وجزاء ‪ ،‬ولما فيه من معنى السّببيّة كاليمين ‪ .‬والتّعليق عند علماء الحديث ‪ :‬حذف راو أو‬
‫أكثر من ابتداء السّند ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الضافة ‪:‬‬
‫ضمّ ‪ ،‬والمالة ‪ ،‬والسناد ‪ ،‬والتّخصيص ‪.‬‬
‫‪ - 2‬الضافة في اللّغة تأتي بمعنى ‪ :‬ال ّ‬
‫وأمّا الضافة في اصطلح الفقهاء فإنّهم يستعملونها بمعنى ‪ :‬السناد والتّخصيص ‪ .‬فإذا قيل ‪ :‬الحكم مضاف‬
‫إلى فلن ‪ ،‬أو صفته كذا ‪ ،‬كان ذلك إسنادا إليه ‪ .‬وإذا قيل ‪ :‬الحكم مضاف إلى زمان كذا ‪ ،‬كان تخصيصا له‬
‫‪ .‬والفرق بين الضافة والتّعليق من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّ التّعليق يمين ‪ ،‬وهي للبرّ إعدام موجب المعلّق ‪ ،‬ول يفضي إلى الحكم ‪.‬‬
‫أمّا الضافة فلثبوت حكم السّبب في وقته ‪ ،‬ل لمنعه ‪ ،‬فيتحقّق السّبب بل مانع ‪ ،‬إذ الزّمان من لوازم الوجود ‪.‬‬
‫ن الشّرط على خطر ‪ ،‬ول خطر في الضافة ‪.‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أ ّ‬
‫وفي هذين الفرقين منازعة تنظر في كتب الصول ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشّرط ‪:‬‬
‫‪ - 3‬الشّرط ‪ -‬بسكون الرّاء ‪ -‬له عدد من المعاني ‪ ،‬ومن بين تلك المعاني ‪ :‬إلزام الشّيء والتزامه ‪ .‬قال في‬
‫القاموس ‪ :‬الشّرط إلزام الشّيء والتزامه في البيع ونحوه ‪ ،‬كالشّريطة ‪ .‬وأمّا بفتح الرّاء فمعناه ‪ :‬العلمة ‪،‬‬
‫ويجمع على أشراط ‪ . .‬كسبب وأسباب ‪.‬‬
‫والشّرط في الصطلح نوعان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬الشّرط الشّرعيّ ‪ ،‬وهو ما يلزم من عدم العدم ‪ ،‬ول يلزم من وجوده وجود ول عدم لذاته ‪ .‬وهو‬
‫صحّة ‪ ،‬وشرط للّزوم ‪ ،‬وشرط للنّفاذ ‪ .‬إلى غير ذلك من‬
‫أنواع ‪ :‬شرط للوجوب ‪ ،‬وشرط للنعقاد ‪ ،‬وشرط لل ّ‬
‫الشّروط الشّرعيّة المعتبرة ‪.‬‬
‫والنّوع الخر ‪ :‬الشّرط الجعليّ ‪ ،‬وهو ‪ :‬التزام أمر لم يوجد في أمر قد وجد بصفة مخصوصة ‪ -‬كما قال‬
‫الحمويّ ‪ -‬وهو ما يشترطه المتعاقدان في تصرّفاتهما ‪.‬‬
‫والفرق بين التّعليق والشّرط ‪ -‬كما قال الزّركشيّ ‪ : -‬أنّ التّعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته كإن وإذا ‪،‬‬
‫والشّرط ما جزم فيه بالصل وشرط فيه أمر آخر ‪.‬‬
‫ن التّعليق ترتيب أمر لم يوجد على أمر يوجد بإن أو إحدى أخواتها ‪ ،‬والشّرط التزام‬
‫وقال الحمويّ ‪ :‬الفرق أ ّ‬
‫أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬اليمين ‪:‬‬
‫ن الحلف أعمّ ‪.‬‬
‫‪ - 4‬اليمين وال َقسَم واليلء والحلف ألفاظ مترادفة ‪ ،‬أو أ ّ‬
‫شدّة ‪ ،‬ويسمّى به الحلف مجازا ‪.‬‬
‫ومعنى اليمين في اللّغة ‪ :‬الجهة والجارحة والقوّة وال ّ‬
‫وأمّا في الشّرع فهي ‪ :‬عبارة عن عقد قويّ به عزم الحالف على الفعل أو التّرك ‪.‬‬
‫وقال البهوتيّ ‪ :‬إنّها توكيد الحكم المحلوف عليه بذكر معظّم على وجه مخصوص ‪.‬‬
‫ن كل منهما فيه حمل للنّفس على فعل الشّيء أو تركه ‪ ،‬وما سمّي الحلف‬
‫وبين التّعليق واليمين تشابه ‪ ،‬ل ّ‬
‫باللّه تعالى يمينا إل لفادته القوّة على المحلوف عليه من الفعل أو التّرك ‪ .‬واليمين تنقسم بحسب صيغتها إلى‬
‫يمين منجّزة بالصّيغة الصليّة لليمين ‪ ،‬نحو ‪ :‬واللّه لفعلن ‪ .‬ويمين بالتّعليق ‪ ،‬وهي ‪ :‬أن يرتّب المتكلّم جزاء‬
‫مكروها له في حالة مخالفة الواقع ‪ ،‬أو تخلّف المقصود ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ( أيمان ) ‪.‬‬
‫صيغة التّعليق ‪:‬‬
‫‪ - 5‬يكون التّعليق بكلّ ما يدلّ على ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى ‪ ،‬سواء أكان‬
‫ذلك الرّبط بأداة من أدوات الشّرط ‪ ،‬أم بغيرها ممّا يقوم مقامها ‪ ،‬كما لو دلّ سياق الكلم على الرتباط دللة‬
‫كلمة الشّرط عليه ‪.‬‬
‫ومثال الرّبط بين جملتي التّعليق بأداة من أدوات الشّرط ‪ :‬قول الزّوج لزوجته ‪ :‬إن دخلت الدّار فأنت طالق ‪،‬‬
‫فقد رتّب وقوع الطّلق على دخولها الدّار ‪ ،‬فإن دخلت وقع الطّلق ‪ ،‬وإل فل ‪ .‬ومثال الرّبط بين جملتي‬
‫التّعليق بل أداة شرط ‪ :‬هو قول القائل مثل ‪ :‬الرّبح الّذي سيعود إليّ من تجارتي هذا العام وقف على‬
‫الفقراء ‪ ،‬فقد رتّب حصول الوقف على حصول الرّبح بل أداة شرط ‪ ،‬لنّ مثل هذا السلوب يقوم مقام أداة‬
‫الشّرط ‪.‬‬
‫والمراد بالشّرط الّذي تستعمل فيه أداته للرّبط بين جملتي التّعليق ‪ :‬الشّرط اللّغويّ ‪ ،‬لنّ ارتباط الجملتين‬
‫النّاشئ عنه كارتباط المسبّب بالسّبب ‪.‬‬
‫أدوات التّعليق ‪:‬‬
‫ل على ربط حصول مضمون بحصول مضمون جملة أخرى ‪ ،‬سواء أكانت من‬
‫ل أداة تد ّ‬
‫‪ - 6‬المراد بها ‪ :‬ك ّ‬
‫أدوات الشّرط الجازمة أم من غيرها ‪.‬‬
‫وتلك الدوات كما جاء في المغني عند الكلم على تعليق الطّلق بالشّرط ‪ ،‬إن ‪ ،‬وإذا ‪ ،‬ومتى ‪ ،‬ومن ‪ ،‬وأي ‪،‬‬
‫و كلّما ‪ .‬وزاد النّوويّ في الرّوضة ‪ ،‬متى ما ‪ ،‬ومهما ‪.‬‬
‫وزاد صاحب مسلم الثّبوت ‪ ،‬لو ‪ ،‬وكيف ‪ .‬وزاد السّرخسيّ في أصوله والبزدويّ في أصوله وصاحب فتح‬
‫الغفّار وصاحب كشّاف القناع " حيث " ‪ ،‬وذكر صاحب فتح الغفّار وصاحب كشّاف القناع أيضا أن " أين "‬
‫من صيغ التّعليق ‪.‬‬
‫وزاد صاحب كشّاف القناع أيضا " أنّى " ولم يفرّق بينها وبين " إن " ‪ .‬وفيما يلي بعض ما قاله العلماء في‬
‫كلّ أداة من هذه الدوات من حيث اللّغة ومن حيث التّعليق ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬إن ‪:‬‬
‫‪ - 7‬إن الشّرطيّة هي المستعملة في الرّبط بين جملتي التّعليق ‪ ،‬فإنّها أصل في التّعليق وفي حروف الشّرط‬
‫وأدواته ‪ ،‬لتمحّضها للتّعليق والشّرط ‪ ،‬فليس لها معنى آخر سوى الشّرط والتّعليق ‪ ،‬بخلف غيرها من أدوات‬
‫ن لها معاني أخرى تستعمل فيها إلى جانب الشّرط ‪ .‬وتستعمل إن وغيرها من الدوات‬
‫الشّرط كإذا ومتى ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الجازمة المشابهة لها في أمر متردّد على خطر الوجود ‪ ،‬أي ‪ :‬بين أن يكون وأن ل يكون ‪ .‬ول تستعمل فيما‬
‫هو قطعيّ الوجود ‪ ،‬أو قطعيّ النتفاء ‪ ،‬إل على تنزيلهما منزلة المشكوك لنكتة ‪.‬‬
‫‪ - 8‬ويترتّب على كون ( إن ) للشّرط المحض ‪ :‬أنّه لو علّق طلق امرأته بعدم تطليقه لها ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬إن لم‬
‫ن إن للشّرط ‪ ،‬وأنّه جعل عدم إيقاع‬
‫أطلّقك فأنت طالق ‪ ،‬لم تطلق حتّى يموت أحدهما قبل أن يطلّقها ‪ ،‬ل ّ‬
‫الطّلق عليها شرطا ‪ ،‬ول يتيقّن وجود هذا الشّرط ما بقيا حيّين ‪ ،‬فهو كقوله ‪ :‬إن لم آت البصرة فأنت طالق‬
‫‪ .‬ثمّ إن مات الزّوج وقع الطّلق عليها قبل موته بقليل ‪ ،‬وليس لذلك القليل حدّ معروف ‪ .‬ولكن قبيل موته‬
‫يتحقّق عجزه عن إيقاع الطّلق عليها ‪ ،‬فيتحقّق شرط الحنث ‪ .‬فإن كان لم يدخل بها فل ميراث لها ‪ ،‬وإن‬
‫كان قد دخل بها ‪ ،‬فلها الميراث بحكم الفرار ‪ .‬وإن ماتت المرأة تطلق أيضا في إحدى الرّوايتين بل فصل ‪-‬‬
‫ن فعل التّطليق ل يتحقّق بدون المحلّ ‪ ،‬وبفوات المحلّ يتحقّق الشّرط ‪ .‬وذكر‬
‫كما في أصول السّرخسيّ ‪ -‬ل ّ‬
‫ابن قدامة أنّه لو علّق الطّلق بالنّفي بإحدى كلمات الشّرط ‪ ،‬كانت ( إن ) على التّراخي ‪ ،‬وأمّا غيرها ( كمتى‬
‫ومن وكلّما وأيّ ) فإنّه يكون على الفور ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ‪ ( :‬طلق ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إذا ‪:‬‬
‫‪ ( - 9‬إذا ) ترد في اللّغة على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن تكون للمفاجأة ‪ ،‬فتختصّ بالجمل السميّة ‪ ،‬ول تحتاج إلى جواب ‪ ،‬ول تقع في البتداء ‪،‬‬
‫ومعناها الحال ل الستقبال ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن تكون لغير مفاجأة ‪ ،‬فالغالب أن تكون ظرفا للمستقبل مضمّنة معنى الشّرط ‪ .‬وخلصة القول في‬
‫إذا ‪ :‬أنّها تستعمل عند الكوفيّين في معنى الوقت ‪ ،‬وفي معنى الشّرط ‪ ،‬وإذا استعملت في معنى الشّرط سقط‬
‫عنها معنى الوقت ‪ ،‬وصارت حرفا كإن ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وقد سبق ‪ .‬وعند البصريّين هي حقيقة في‬
‫الوقت ‪ ،‬وتستعمل في الشّرط مع بقاء الوقت ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ومحمّد ‪ ،‬فعندهما أنّها مثل متى ‪ ،‬أي ل‬
‫يسقط عنها معنى الظّرف ‪ ،‬وعنده أنّها كإن في التّمحّض للشّرطيّة ‪ ،‬فل يبقى فيها معنى الظّرف ‪.‬‬
‫‪ - 10‬ويترتّب على الخلف بين قول أبي حنيفة وصاحبيه ‪ :‬أنّه لو قال ‪ :‬إذا لم أطلّقك فأنت طالق ‪ ،‬أو إذا ما‬
‫لم أطلّقك فأنت طالق ‪ ،‬فإن عنى بها الوقت تطلق في الحال ‪ ،‬وإن عنى بها الشّرط لم تطلق حتّى تموت ‪،‬‬
‫ن ( إذا ) إن استعملت في‬
‫وإن لم تكن له نيّة لم تطلق حتّى تموت ‪ .‬وهذا على قول أبي حنيفة بناء على أ ّ‬
‫معنى الشّرط سقط عنها معنى الوقت ‪ ،‬وهو رأي الكوفيّين ‪ .‬وأمّا على قول أبي يوسف ومحمّد فإنّها تطلق‬
‫ن إذا تستعمل للوقت غالبا ‪ ،‬وتقرن بما ليس فيه‬
‫في الحال عند عدم ال ّنيّة ‪ ،‬بناء على رأي البصريّين في أ ّ‬
‫معنى الخطر ‪ ،‬فإنّه يقال ‪ :‬الرّطب إذا اشتدّ الحرّ ‪ ،‬والبرد إذا جاء الشّتاء ‪ .‬ول يستقيم مكانها إن ‪.‬‬
‫وجاء في المغني ‪ :‬أيضا وجهان في ( إذا ) فيما لو قال ‪ :‬إذا لم تدخلي الدّار فأنت طالق ‪ .‬أحدهما ‪ :‬هي‬
‫على التّراخي ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬ونصره القاضي ‪ ،‬لنّها تستعمل شرطا بمعنى إن ‪ .‬قال الشّاعر ‪:‬‬
‫وإذا تصبك خصاصةٌ فتجمّل‬ ‫استغنِ ما أغناك ربّك بالغنى‬
‫فجزم بها كما يجزم بإن ‪ ،‬ولنّها تستعمل بمعنى متى وإن ‪ ،‬وإذا احتملت المرين فاليقين بقاء النّكاح فل‬
‫يزول بالحتمال ‪.‬‬
‫والوجه الخر ‪ :‬أنّها على الفور ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ومحمّد ‪ ،‬وهو المنصوص عن الشّافعيّ لنّها اسم‬
‫لزمن مستقبل ‪ ،‬فتكون كمتى ‪ .‬وأمّا المجازاة بها فل تخرجها من موضوعها ‪ .‬وأمّا إذا علّق التّصرّف بإيجاد‬
‫فعل بإذا ‪ ،‬كقوله مثلً ‪ :‬إذا دخلت الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإنّها تكون على التّراخي كغيرها من أدوات التّعليق ‪.‬‬
‫وقد اطّرد في عرف أهل اليمن ‪ -‬كما جاء في نهاية المحتاج ‪ -‬استعمالهم إلى بمعنى إذا كقولهم ‪ :‬إلى دخلت‬
‫الدّار فأنت طالق ‪ .‬ولهذا ألحقها غير واحد بإذا في الستعمال ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬متى ‪:‬‬
‫‪ - 11‬وهي اسم باتّفاق موضوع للدّللة على الزّمان ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪.‬‬
‫ن إذا تستعمل في المور الواجب وجودها ‪ ،‬كطلوع الشّمس ومجيء الغد ‪ ،‬بخلف‬
‫والفرق بين إذا ومتى ‪ :‬أ ّ‬
‫متى ‪ ،‬فإنّها تستعمل في المور المبهمة ‪ ،‬أي فيما يكون وفيما ل يكون ‪ ،‬بمعنى أنّها ل تخصّ وقتا دون وقت‬
‫ن ) في البهام ‪ ،‬ولهذا أيضا كانت المجازاة بها لزمة في غير موضع الستفهام‬
‫‪ ،‬فلذلك كانت مشاركة ل ( إ ْ‬
‫ن ( متى ) يجازى بها مع بقاء معنى الوقت فيها ‪ ،‬وأمّا متى الستفهاميّة‬
‫ن الفرق بين متى وإن أ ّ‬
‫كإن ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫ن الستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل ‪ ،‬فل يستقيم في مقامه إضمار‬
‫فإنّها ل يجازى بها ‪ ،‬ل ّ‬
‫حرف إن ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬لو علّق التّصرّف بإيجاد فعل بمتى فإنّها تكون على التّراخي ‪ ،‬فمن قال لزوجته ‪ :‬متى تدخلي‬
‫الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإنّ الطّلق ل يقع إلّا عند وجود الصّفة أو الفعل وهو الدّخول ‪ ،‬أمّا إذا علّق التّصرّف‬
‫بنفي صفة بمتى ‪ ،‬كما إذا قال ‪ :‬متى لم أطلّقك فأنت طالق ‪ ،‬أو متى لم تدخلي الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإنّه إن‬
‫مضى زمن عقيب اليمين لم تدخل فيه أو لم يطلّقها فيه فقد وجدت الصّفة ‪ ،‬فإنّها اسم لوقت الفعل ‪ ،‬فتقدّر به‬
‫ويقع الطّلق ‪.‬‬
‫‪ - 12‬ومثل متى في الحكم ( متى ما ) فكلّ ما قيل في متى يقال أيضا في ( متى ما ) ‪ ،‬فحكمها في الشّرط‬
‫كحكم متى بل أولى ‪ ،‬لنّ اقتران ( ما ) بها يجعلها للجزاء المحض دون غيره كالستفهام ‪.‬‬
‫د ‪ -‬من ‪:‬‬
‫‪ - 13‬وهي اسم باتّفاق وضع للدّللة على من يعقل ‪ ،‬ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪.‬‬
‫وهي من صيغ العموم بوضع اللّغة ‪ ،‬وهي تع ّم بنفسها من غير احتياج إلى قرينة ‪ ،‬وهي كما قال البيضاويّ‬
‫ن‬
‫عامّة في العالمين أي ‪ :‬أولي العلم ‪ ،‬لتشمل العقلء والذّات اللهيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ستُمْ لَه ِبرَازِقين } واللّه سبحانه وتعالى‬
‫ن َل ْ‬
‫( من ) تطلق على اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬كما في قوله تعالى { َومَ ْ‬
‫ي ‪ .‬قال عبد‬
‫يوصف بالعلم ول يوصف بالعقل ‪ ،‬وهو معنى حسن غفل عنه الشّارحون ‪ ،‬كما قال السنو ّ‬
‫ي ما نصّه ‪ :‬ومن وما يدخلن في هذا الباب أي باب‬
‫العزيز البخاريّ في كشف السرار شرح أصول البزدو ّ‬
‫ن كلّ واحد منهما ل يتناول عينا ‪ .‬وتحقيقه ‪ :‬أنّ ( من وما ) لبهامهما دخل في باب‬
‫الشّرط ‪ ،‬لبهامها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل واحد من الفراد بالذّكر متعسّر أو‬
‫العموم ‪ ،‬فلمّا كان العموم في الشّرط مقصودا للمتكلّم ‪ ،‬وتخصيص ك ّ‬
‫متعذّر و ( من وما ) يؤدّيان هذا المعنى مع اليجاز وحصول المقصود ‪ ،‬نابا مناب إن ‪ ،‬فقيل ‪ :‬من يأت‬
‫أكرمه ‪ ،‬وما تصنع أصنع ‪ .‬والمسائل فيهما كثيرة مثل قوله ‪ :‬من دخل هذا الحصن فله رأس ‪ ،‬ومن دخل‬
‫منكم الدّار فهو حرّ ‪ .‬وأمّا إذا كان للشّرط فهو اسم بمعنى أي ‪ :‬تقول ‪ :‬ما تصنع أصنع ‪ .‬وفي التّنزيل ‪ { .‬مَا‬
‫سكَ َلهَا } ‪.‬‬
‫حمَةٍ فَل ُم ْم ِ‬
‫ن َر ْ‬
‫ح اللّ ُه للناسِ مِ ْ‬
‫سهَا َنأْتِ ِبخَيرٍ ِم ْنهَا أو ِمثْلِها } { مَا يَ ْفتَ ِ‬
‫ن آيَ ٍة أو ُن ْن ِ‬
‫َن ْنسَخْ مِ ْ‬
‫‪ - 14‬وأمّا ( ما ) المصدريّة ‪ ،‬فإنّها تستعمل في الفقه ‪ ،‬ويقيّد بها التّصرّف تقييد إضافة ل تعليق ‪ ،‬كما جاء‬
‫في البحر الرّائق وفتح القدير ‪ ،‬لنّها تنوب عن ظرف الزّمان ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ { :‬وَأَوصَانِي بِالصّلةِ‬
‫حيّا } أي مدّة دوامي حيّا ‪.‬‬
‫وَال ّزكَا ِة مَا ُدمْتُ َ‬
‫وعلى هذا لو قال ‪ :‬أنت طالق ما لم أطلّقك ‪ ،‬وسكت ‪ ،‬وقع الطّلق اتّفاقا بسكوته ‪ ،‬لنّه ترتّب عليه إضافة‬
‫الطّلق إلى وقت لم يطلّقها فيه ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬مهما ‪:‬‬
‫‪ - 15‬مهما اسم وضع للدّللة على ما ل يعقل ‪ ،‬ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪ .‬وقد ذكر النّوويّ في الرّوضة ‪ :‬أنّ‬
‫مهما من صيغ التّعليق ‪ ،‬نحو أن يقول ‪ :‬مهما دخلت الدّار فأنت طالق ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أيّ ‪:‬‬
‫‪ - 16‬وهي بحسب ما تضاف إليه ‪ ،‬ففي ‪ :‬أيّهم يقم أقم معه من باب ( من ) أي أنّها تستعمل فيمن يعقل ‪،‬‬
‫ي يوم تصم أصم من باب (‬
‫وفي ‪ :‬أيّ الدّوابّ تركب أركب من باب ( ما ) أي من باب ما ل يعقل ‪ ،‬وفي ‪ :‬أ ّ‬
‫متى ) أي أنّها تدلّ على زمان مبهم ‪ ،‬وفي أيّ مكان تجلس أجلس من باب ( أين ) أي أنّها تدلّ على مكان‬
‫مبهم ‪.‬‬
‫ن حكم ( أيّ ) في التّعليق كحكم " متى ومن وكلّما " بمعنى أنّه لو‬
‫وقد جاء في المغني والرّوضة ما يفيد أ ّ‬
‫علّق التّصرّف بنفي فعل بأيّ ‪ ،‬كما لو علّق الطّلق على نفي الدّخول بأيّ ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬أيّ وقت لم تدخلي فيه‬
‫الدّار فأنت طالق ‪ ،‬فإنّه إن مضى زمن يمكنها فيه الدّخول ‪ -‬ولم تدخل ‪ -‬فإنّه يقع الطّلق بعده على الفور ‪.‬‬
‫وأمّا لو علّق الطّلق على إيجاد فعل بأيّ ‪ ،‬فل تفيد الفور كغيرها من أدوات التّعليق ‪.‬‬
‫ن ذلك‬
‫ن ( أيّ ) ل تعمّ بعموم الصّفة فلو قال ‪ :‬أيّ امرأة أتزوّجها فهي طالق ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وجاء في تبيين الحقائق أ ّ‬
‫يتحقّق في امرأة واحدة فقط ‪.‬‬
‫ل وكلّما ) فإنّهما تفيدان عموم ما دخلتا عليه كما سيأتي ‪.‬‬
‫بخلف كلمتي ( ك ّ‬
‫ز ‪ -‬كلّ وكلّما ‪:‬‬
‫ل شَيءٍ عَليمٌ } وقد‬
‫‪ - 17‬كلمة ( كلّ ) تستعمل بمعنى الستغراق بحسب المقام ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬وَاللّهُ ِبكُ ّ‬
‫تستعمل بمعنى الكثير كقوله تعالى ‪ُ { :‬ت َد ّمرُ كُلّ شَيءٍ ِبَأ ْمرِ َر ّبهَا } أي كثيرا ‪ ،‬لنّها دمّرتهم ودمّرت مساكنهم‬
‫دون غيرهم ‪ ،‬ولفظ ( كلّ ) ل يستعمل إلّا مضافا لفظا أو تقديرا ‪ ،‬ولفظه واحد ‪ ،‬ومعناه جمع ‪ ،‬ويفيد‬
‫التّكرار بدخول ( ما ) عليه نحو ‪ :‬كلّما جاءك زيد فأكرمه ‪.‬‬
‫‪ - 18‬وكلمة ( ك ّل ) من صيغ التّعليق عند الحنفيّة والمالكيّة وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها التّعليق دون‬
‫ل امرأة أتزوّجها فهي‬
‫المكافأة ‪ .‬ولم يفرّق الحنفيّة في تعليق الطّلق ب ( كلّ ) بين ما إذا عمّم ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬ك ّ‬
‫ل امرأة من بني فلن أو من بلد كذا ‪ .‬وأمّا المالكيّة فإنّهم يخالفون الحنفيّة في‬
‫طالق ‪ ،‬أو خصّص بأن قال ‪ :‬ك ّ‬
‫ن فيه سدّا لباب النّكاح ‪ ،‬ويتّفقون معه في صورة التّخصيص بأن يخصّ بلدا أو قبيلة أو‬
‫صورة التّعميم ‪ ،‬ل ّ‬
‫جنسا أو زمنا يبلغه عمره ظاهرا ‪ .‬وذكر السّرخسيّ في أصوله أنّ كلمة ( كلّ ) توجب الحاطة على وجه‬
‫ن كلّ واحد من المسمّيات الّتي توصل بها كلمة كلّ يصير مذكورا على سبيل النفراد ‪،‬‬
‫الفراد ‪ ،‬ومعناه أ ّ‬
‫كأنّه ليس معه غيره ‪ ،‬لنّ هذه الكلمة صلة في الستعمال ‪ ،‬حتّى ل تستعمل وحدها لخلوّها عن الفائدة ‪ ،‬وهي‬
‫ن معنى العموم فيها يخالف معنى العموم في كلمة ( من ) ولهذا‬
‫تحتمل الخصوص ‪ ،‬نحو كلمة ( من ) إل أ ّ‬
‫ل مَنْ عَلَيها فَانٍ } حتّى لو وصلت باسم نكرة فإنّها تقتضي العموم‬
‫استقام وصلها بكلمة من كقوله تعالى ‪ { :‬كُ ّ‬
‫ل امرأة يتزوّجها على العموم ‪.‬‬
‫في ذلك السم أيضا ‪ .‬ولهذا لو قال ‪ :‬كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق تطلق ك ّ‬
‫ولو تزوّج امرأة مرّتين لم تطلق في المرّة الثّانية ‪ ،‬لنّها توجب العموم فيما وصلت به من السم دون الفعل ‪.‬‬
‫‪ - 19‬والفرق بين كلمة " كلّ " وكلمة " من " فيما يرجع إلى الخصوص ‪ :‬هو أنّ كلمة كلّ وإن كانت الحاطة‬
‫فيها شاملة لكلّ فرد ‪ ،‬إل أنّها تحتمل الخصوص ‪ ،‬ككلمة " من " كما لو قال ‪ :‬كلّ من دخل هذا الحصن أوّل‬
‫ل ‪ ،‬فإنّ الوّل اسم لفرد‬
‫فله كذا ‪ ،‬فدخلوا على التّعاقب فالنّفل للوّل خاصّة لحتمال الخصوص في كلمة ك ّ‬
‫سابق ‪ ،‬وهذا الوصف متحقّق فيه دون من دخل بعده ‪ .‬ومثل ذلك كلمة " من " في صورة التّعاقب ‪.‬‬
‫ل " دون كلمة " من " ‪.‬‬
‫‪ - 20‬فإن دخلوا معا استحقّوا جميعا النّفل بكلمة " ك ّ‬
‫وأمّا كلمة " كلّما " فإنّها من صيغ التّعليق عند الفقهاء ‪ ،‬وهي تقتضي التّكرار والفور ‪ ،‬ويليها الفعل دون‬
‫السم ‪ ،‬فتقتضي العموم فيه ‪ ،‬فلو قال ‪ :‬كلّما تزوّجت امرأة فهي طالق ‪ ،‬فتزوّج امرأة مرارا فإنّها تطلق في‬
‫كلّ مرّة يتزوّجها ‪ ،‬لنّها تقتضي العموم في الفعال دون السماء ‪ ،‬بخلف كلمة ( ك ّل ) فإنّها تفيد العموم في‬
‫السماء دون الفعال ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬لو ‪:‬‬
‫‪ - 21‬تكون ( لو ) حرف شرط في المستقبل ‪ ،‬إل أنّها ل تجزم ‪ ،‬ومثالها قوله تعالى ‪:‬‬
‫ضعَافَا خَافُوا عَليهمْ } أي ‪ :‬وليخش الّذين إن شارفوا وقاربوا أن‬
‫ن خَلْفِهمْ ُذ ّريّةً ِ‬
‫ن لو َترَكُوا مِ ْ‬
‫{ وَ ْل َيخْشَ الّذي َ‬
‫ن الخطاب للوصياء ‪ ،‬وإنّما يتوجّه إليهم قبل التّرك ‪ ،‬لنّهم‬
‫يتركوا ‪ .‬وإنّما أوّلوا التّرك بمشارفة التّرك ‪ ،‬ل ّ‬
‫بعده أموات ‪.‬‬
‫وأمّا من حيث تعليق التّصرّف " بلو " فقد أجاز الفقهاء ‪ -‬كأبي يوسف ‪ -‬تعليقه بها ‪ ،‬لشبهها " بإن " فإنّ لو‬
‫تستعمل في معنى الشّرط ول يليها دائما إلّا الفعل كإن ‪ ،‬ولورود استعمال كلّ منهما في معنى الخرى ‪ ،‬إل‬
‫ن الفقهاء لم ينظروا إلى هذه النّاحية ‪،‬‬
‫ن " لو " تفيد التّقييد في الماضي " وإن " تفيده في المستقبل ‪ .‬إل أ ّ‬
‫أّ‬
‫وعاملوها كإن في التّعليق ‪ ،‬فمن قال لعبده ‪ :‬لو دخلت الدّار لتعتق ‪ ،‬فإنّه ل يعتق حتّى يدخل صونا للكلم‬
‫عن الهمال ‪ ،‬حتّى إنّ من الفقهاء من عاملها معاملة " إن " مطلقا وأجاز اقتران جوابها بالفاء ‪ ،‬ولم ينظر إلى‬
‫ن العامّة تخطئ وتصيب في العراب ‪ ،‬فمن قال لرجل ‪ :‬زنيت بكسر التّاء ‪،‬‬
‫عدم جواز ذلك عند النّحاة ‪ ،‬ل ّ‬
‫أو قال لمرأة ‪ :‬زنيت بفتحها ‪ ،‬وجب حدّ القذف في الصّورتين ‪.‬‬
‫‪ - 22‬وتستعمل " لو " في الستقبال لمؤاخاتها لن ‪ ،‬كأن يقال ‪ :‬لو استقبلت أمرك بالتّوبة لكان خيرا لك ‪ ،‬أي‬
‫ن " إن "‬
‫ج َبكُمْ } أي وإن أعجبكم ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫عَ‬‫شرِكٍ وَلو َأ ْ‬
‫ن ُم ْ‬
‫إن استقبلت ‪ ،‬وقال تعالى ‪ { :‬وََل َع ْبدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيرٌ مِ ْ‬
‫ن ُكنْتُ قُ ْلتُه فَ َقدْ عَِل ْمتَه } وعلى هذا فمن قال لزوجته ‪ :‬أنت طالق لو‬
‫استعلمت بمعنى " لو " كقوله تعالى ‪ { :‬إ ْ‬
‫ن لو بمنزلة إن ‪ ،‬فتفيد معنى التّرقّب ‪.‬‬
‫دخلت الدّار ‪ ،‬فإنّها ل تطلق عند أبي يوسف حتّى تدخل الدّار ‪ ،‬ل ّ‬
‫وليس في هذه المسألة نصّ عن أبي حنيفة ‪ ،‬ولم يرو فيها شيء عن محمّد ‪ ،‬فهي من النّوادر ‪.‬‬
‫‪ - 23‬أمّا " لول " وهي الّتي تفيد امتناع الثّاني لوجود الوّل ‪ ،‬فإنّها ليست من صيغ التّعليق عند الفقهاء ‪،‬‬
‫ن الجزاء فيها ل يتوقّع حصوله ‪ ،‬لنّها ل تستعمل إلّا في الماضي ‪ ،‬ول‬
‫لنّها وإن كان فيها معنى الشّرط فإ ّ‬
‫علقة لها بالزّمن المستقبل ‪ ،‬فهي عندهم بمعنى الستثناء لنّها تستعمل لنفي شيء بوجود غيره ‪ ،‬فمن قال‬
‫لزوجته ‪ :‬أنت طالق لول حسنك ‪ ،‬أو لول صحبتك ‪ ،‬ل يقع الطّلق حتّى وإن زال الحسن أو انتفت‬
‫الصّحبة ‪ ،‬لجعله ذلك مانعا من وقوع الطّلق ‪.‬‬
‫ط ‪ -‬كيف ‪:‬‬
‫‪ " - 24‬كيف " تستعمل في اللّغة على وجهين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أن تكون شرطا ‪.‬‬
‫ف َتكْفُرونَ‬
‫والثّاني ‪ :‬وهو الغالب فيها ‪ :‬أن تكون استفهاما ‪ ،‬إمّا حقيقيّا نحو " كيف زيد ؟ " أو غيره نحو { كي َ‬
‫بِاللّهِ } الية ‪ ،‬فإنّه أخرج مخرج التّعجّب ‪ ،‬وتقع خبرا قبل ما ل يستغنى ‪ ،‬نحو " كيف أنت ؟ " " وكيف‬
‫كنت ؟ " ‪ ،‬وحال قبل ما يستغنى ‪ ،‬نحو " كيف جاء زيد ؟ " أي على أيّ حالة جاء زيد ‪.‬‬
‫وأمّا الفقهاء فإنّهم لم يخرجوا في استعمالهم لكيف عمّا ذكرته اللّغة بشأنها ‪.‬‬
‫ن تعليق الحكم بكيف ل يؤثّر في أصل التّصرّف ‪ ،‬وإنّما يؤثّر في صفته ‪ .‬وذهب أبو‬
‫فذهب أبو حنيفة إلى أ ّ‬
‫يوسف ومحمّد إلى أنّ تعليق الحكم بها يؤثّر في الصل والوصف معا ‪ .‬وعلى هذا فقد قال أبو حنيفة فيمن‬
‫قال لمرأته ‪ :‬أنت طالق كيف شئت أنّها تطلق قبل المشيئة تطليقة ‪ ،‬ث ّم إن لم تكن مدخول بها فقد بانت ل إلى‬
‫عدّة ‪ ،‬ول مشيئة لها ‪ ،‬وإن كانت مدخول بها فالتّطليقة الواقعة رجعيّة ‪ ،‬والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك ‪.‬‬
‫فإن شاءت البائنة ‪ -‬وقد نواها الزّوج ‪ -‬كانت بائنة ‪ ،‬أو إن شاءت ثلثا ‪ -‬وقد نواها الزّوج ‪ -‬تطلق ثلثا ‪،‬‬
‫وإن شاءت واحدة بائنة ‪ -‬وقد نوى الزّوج ثلثا ‪ -‬فهي واحدة رجعيّة ‪ ،‬وإن شاءت ثلثا ‪ -‬وقد نوى الزّوج‬
‫واحدة بائنة ‪ -‬فهي واحدة رجعيّة ‪ ،‬لنّها شاءت غير ما نوى ‪ ،‬وأوقعت غير ما فوّض إليها ‪ ،‬فل يعتبر ‪،‬‬
‫لنّه إنّما يتأخّر إلى مشيئتها ما علّقه الزّوج بمشيئتها دون ما لم يعلّقه ‪ ،‬وكلمة " كيف " ل ترجع إلى أصل‬
‫الطّلق ‪ ،‬فيكون هو منجّزا أصل الطّلق ومفوّضا للصّفة إلى مشيئتها ‪ ،‬بقوله ‪ :‬كيف شئت ‪ .‬إل أنّ في غير‬
‫المدخول بها ل مشيئة لها في الصّفة بعد إيقاع الصل ‪ ،‬فيلغو تفويضه الصّفة إلى مشيئتها بعد إيقاع الصل ‪،‬‬
‫وفي المدخول بها ‪ ،‬لها المشيئة في الصّفة بعد وقوع الصل ‪ ،‬بأن تجعله بائنا أو ثلثا على ما عرف ‪،‬‬
‫ح تفويضه إليها ‪.‬‬
‫فيص ّ‬
‫وأمّا عند أبي يوسف ومحمّد ‪ :‬فل يقع عليها شيء ما لم تشأ ‪ ،‬فإذا شاءت فالتّفريع كما قال أبو حنيفة ‪ ،‬لنّه‬
‫جعل الطّلق مفوّضا إلى مشيئتها فل يقع بدون تلك المشيئة ‪ ،‬كقوله ‪ :‬أنت طالق إن شئت ‪ ،‬أو كم شئت ‪ ،‬أو‬
‫حيث شئت ‪ ،‬ل يقع شيء ما لم تشأ ‪ ،‬وهذا لنّه لمّا فوّض وصف الطّلق إليها يكون ذلك تفويضا لنفس‬
‫ك عن الصل ‪ .‬ولم نطّلع للمالكيّة على كلم في هذه المسألة ‪.‬‬
‫ن الوصف ل ينف ّ‬
‫الطّلق إليها ضرورة أ ّ‬
‫وأمّا الشّافعيّة ‪ :‬فلهم رأيان في هذه المسألة ‪.‬‬
‫فقد ذكر البغويّ أنّه لو قال ‪ :‬أنت طالق كيف شئت ‪ ،‬قال أبو زيد والقفّال ‪ :‬تطلق شاءت أم لم تشأ ‪ .‬وقال‬
‫الشّيخ أبو عليّ ‪ :‬ل تطلق حتّى توجد مشيئة في المجلس باليقاع أو عدمه ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة ‪ :‬فإنّهم لم يفرّقوا في هذه المسألة بين " كيف " وبين غيرها من أدوات التّعليق ‪ ،‬فالطّلق عندهم‬
‫ل يقع حتّى تعرف مشيئتها بقولها ‪ ،‬فقد جاء في كشّاف القناع أنّه لو قال ‪ :‬أنت طالق إن شئت أو إذا شئت ‪،‬‬
‫ن ما في القلب ل يعلم حتّى يعبّر‬
‫أو متى شئت ‪ ،‬أو كيف شئت ‪ . .‬إلخ لم تطلق حتّى تقول ‪ :‬قد شئت ‪ ،‬ل ّ‬
‫عنه اللّسان ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬حيث ‪ ،‬وأين ‪:‬‬
‫‪ " - 25‬حيث " اسم للمكان المبهم ‪ .‬قال الخفش ‪ :‬وقد تكون للزّمان ‪.‬‬
‫" وحيث " من صيغ التّعليق ‪ ،‬لشبهها " بإن " في البهام ‪ ،‬وتعليق التّصرّف بها ل يتعدّى مجلس التّخاطب‬
‫ن تعليق الطّلق مثل بمشيئة المرأة ب " إن " ل يتعدّى مجلس التّخاطب عند‬
‫تشبيها لها ب " إن " أيضا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن"‬
‫فلو قال لمرأته ‪ :‬أنت طالق حيث شئت ‪ ،‬فإنّها ل تطلق قبل المشيئة ‪ ،‬وتتوقّف مشيئتها على المجلس ‪ ،‬ل ّ‬
‫حيث " من ظروف المكان ‪ ،‬ول اتّصال للطّلق بالمكان ‪ ،‬فيلغو ذكره ‪ ،‬ويبقى ذكر المشيئة في الطّلق ‪،‬‬
‫فيقتصر على المجلس ‪.‬‬
‫وأورد البهوتيّ " حيث " في صيغ التّعليق ‪ ،‬وأنّها تعامل معاملة غيرها من أدوات التّعليق ‪ ،‬فتعلّق الحكم بها‬
‫ل يكون قاصرا على المجلس عند الحنابلة ‪ ،‬بل يتعدّاه إلى غيره ‪ .‬فلو قال ‪ :‬أنت طالق حيث شئت ‪ ،‬فإنّها ل‬
‫تطلق حتّى تعرف مشيئتها بقولها ‪ ،‬سواء أكان ذلك على الفور أم على التّراخي ‪ .‬ولم يذكرها المالكيّة ‪ ،‬ول‬
‫النّوويّ من الشّافعيّة في الرّوضة ‪.‬‬
‫‪ - 26‬ومثل " حيث " فيما تقدّم أين ‪ ،‬فإنّها أيضا اسم للمكان المبهم ‪ ،‬وذكرها صاحب فتح الغفّار وعدّها من‬
‫أدوات التّعليق ‪ ،‬وذكرها أيضا صاحب كشّاف القناع ولم يفرّق بينها وبين " إن " في الحكم ‪.‬‬
‫ك ‪ -‬أنّى ‪:‬‬
‫‪ - 27‬وهي اسم اتّفاقا وضع للدّللة على المكنة ثمّ ضمّن معنى الشّرط ‪ ،‬وترد في اللّغة بمعنى أين ‪ ،‬وبمعنى‬
‫كيف ‪ ،‬وبمعنى متى ‪.‬‬
‫هذا وقد ذكر الحنابلة في كتبهم ‪ :‬أنّها من اللفاظ الّتي يعلّق بها الحكم ‪ ،‬فقد جاء في كشّاف القناع ‪ :‬أنّه لو‬
‫ن كلّا‬
‫قال ‪ :‬أنت طالق أنّى شئت ‪ ،‬فإنّها ل تطلق حتّى تعرف مشيئتها بقولها ‪ ،‬ولم يفرّق بينها وبين ( إن ) ل ّ‬
‫ل على التّعليق ‪.‬‬
‫منهما تد ّ‬
‫ثالثا ‪ :‬شروط التّعليق ‪:‬‬
‫‪ - 28‬يشترط لصحّة التّعليق أمور ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يكون المعلّق عليه أمرا معدوما على خطر الوجود ‪ ،‬أي متردّدا بين أن يكون وأن ل يكون ‪،‬‬
‫فالتّعليق على المحقّق تنجيز ‪ ،‬وعلى المستحيل لغو ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يكون المعلّق عليه أمرا يرجى الوقوف على وجوده ‪ ،‬فتعليق التّصرّف على أمر غير معلوم ل‬
‫يصحّ ‪ ،‬فلو علّق الطّلق مثلً على مشيئة اللّه تعالى ‪ ،‬بأن قال لمرأته ‪ :‬أنت طالق إن شاء اللّه ‪ ،‬فإنّ الطّلق‬
‫ل يقع اتّفاقا ‪ ،‬لنّه علّقه على شيء ل يرجى الوقوف على وجوده ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬أن ل يوجد فاصل بين الشّرط والجزاء ‪ ،‬أي بين المعلّق والمعلّق عليه ‪ ،‬فلو قال لزوجته ‪ :‬أنت‬
‫طالق ‪ ،‬ثمّ قال بعد فترة من الزّمن ‪ :‬إن خرجت من الدّار دون إذن منّي لم يكن تعليقا للطّلق ‪ ،‬ويكون‬
‫الطّلق منجّزا بالجملة الولى ‪.‬‬
‫الرّابع ‪ :‬أن يكون المعلّق عليه أمرا مستقبل بخلف الماضي ‪ ،‬فإنّه ل مدخل له في التّعليق ‪ ،‬فالقرار مثل ل‬
‫يصحّ تعليقه بالشّرط ‪ ،‬لنّه إخبار عن ماض ‪ ،‬والشّرط إنّما يتعلّق بالمور المستقبلة ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أن ل يقصد بالتّعليق المجازاة ‪ ،‬فلو سبّته بما يؤذيه فقال ‪ :‬إن كنت كما قلت فأنت طالق ‪ ،‬تنجّز‬
‫سواء أكان الزّوج كما قالت أو لم يكن ‪ ،‬لنّ الزّوج في الغالب ل يريد إل إيذاءها بالطّلق ‪ .‬فإن أراد التّعليق‬
‫يدين فيما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ ‪.‬‬
‫السّادس ‪ :‬أن يوجد رابط كالفاء وإذا الفجائيّة حيث كان الجزاء مؤخّرا ‪ ،‬وإل يتنجّز ‪.‬‬
‫السّابع ‪ :‬أن يكون الّذي يصدر منه التّعليق مالكا للتّنجيز أي قادرا على التّنجيز ‪ -‬بمعنى كون الزّوجيّة قائمة‬
‫حقيقة أو حكما ‪ -‬وهذا الشّرط فيه خلف ‪ ،‬فالحنفيّة والمالكيّة ل يشترطون ذلك في تعليق الطّلق ‪ ،‬بل‬
‫يكتفون فيه بمطلق الملك ‪ ،‬سواء أكان محقّقا أم معلّقا حتّى إنّ المالكيّة لم يفرّقوا في هذا بين التّعليق الصّريح‬
‫فيما لو قال لمرأة ‪ :‬إن تزوّجتك فأنت طالق ‪ ،‬وبين التّعليق الّذي لم يصرّح به ‪ ،‬كما لو قال لجنبيّة ‪ :‬هي‬
‫طالق ‪ ،‬ونوى عند تزوّجه بها ‪ ،‬فإنّ الطّلق يقع في الصّورتين ‪.‬‬
‫ن هذا التّصرّف يمين لوجود الشّرط والجزاء ‪ ،‬فل يشترط لصحّته قيام‬
‫‪ - 29‬ودليل أصحاب هذا القول ‪ :‬أ ّ‬
‫الملك في الحال ‪ ،‬لنّ الوقوع عند الشّرط ‪ ،‬والملك متيقّن به عند وجود الشّرط ‪ ،‬وقبل ذلك أثره المنع ‪ ،‬وهو‬
‫قائم بالمتصرّف ‪.‬‬
‫وأمّا الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬فإنّهم يشترطون لصحّة التّعليق قيام الملك في حال التّعليق ‪ ،‬بمعنى أن يكون الّذي‬
‫يصدر منه التّعليق قادرا على التّنجيز ‪ ،‬وإل فل يصحّ تعليقه ‪ .‬والقاعدة الفقهيّة عندهم هي ‪ :‬من ملك التّنجيز‬
‫ملك التّعليق ‪ ،‬ومن ل يملك التّنجيز ل يملك التّعليق ‪ .‬وهناك استثناءات من القاعدة بشقّيها ذكرها السّيوطيّ ‪.‬‬
‫ودليل أصحاب هذا القول ما رواه أحمد وأبو داود والتّرمذيّ بإسناد جيّد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه‬
‫عن جدّه ‪ ،‬وهو قوله صلى ال عليه وسلم « ل نذر لبن آدم فيما ل يملك ‪ ،‬ول عتق له فيما ل يملك ‪ ،‬ول‬
‫طلق له فيما ل يملك » ‪ .‬وحديث ‪ « :‬ل طلق إلّا بعد نكاح » وقد روى هذا الحديث أيضا الدّارقطنيّ‬
‫وغيره من حديث عائشة رضي ال عنه وزاد ‪:‬‬
‫ل الطّلق ‪ ،‬وهو الزّوجة ‪.‬‬
‫« وإن عيّنها » ‪ .‬ولنتفاء الولية من القائل على مح ّ‬
‫أثر التّعليق على التّصرّفات ‪:‬‬
‫ن التّعليق هل يمنع السّبب عن السّببيّة أو يمنع الحكم عن الثّبوت‬
‫‪ - 30‬هناك مسألة أصوليّة هامّة هي ‪ :‬أ ّ‬
‫فقط ‪ ،‬ل السّبب عن النعقاد ؟ والخلف في هذه المسألة بين الحنفيّة والشّافعيّة ‪ .‬فالحنفيّة يرون أنّ التّعليق‬
‫يمنع السّبب عن السّببيّة كما يمنع الحكم عن الثّبوت‪ .‬والشّافعيّة يرون أنّ التّعليق ل يمنع السّبب عن السّببيّة ‪،‬‬
‫وإنّما يمنع الحكم من الثّبوت فقط ‪ ،‬ول يمنع السّبب عن النعقاد ‪ .‬فكون التّعليق يمنع ثبوت الحكم محلّ اتّفاق‬
‫ل الخلف ‪.‬‬
‫بين الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وكونه يمنع السّبب عن السّببيّة هو مح ّ‬
‫فالحنفيّة يرون أنّه يمنع ‪ ،‬والشّافعيّة على العكس في ذلك ‪ .‬وممّا يتفرّع عليه تعليق الطّلق والعتاق بالملك ‪،‬‬
‫فإنّه يصحّ عند الحنفيّة ويقع عند وجود الملك ‪ ،‬لعدم سببيّته في الحال ‪ ،‬وإنّما يصير سببا عند وجود الشّرط‬
‫وهو الملك ‪ ،‬فيصادف محلً مملوكا ‪.‬‬
‫ل هنا غير مملوك ‪ ،‬فيلغو ‪،‬‬
‫ن التّعليق عندهم ينعقد سببا للحكم في الحال ‪ ،‬والمح ّ‬
‫ح عند الشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول يص ّ‬
‫ول يقع شيء عند وجود الشّرط ‪.‬‬
‫‪ - 31‬التّصرّفات من حيث قبولها التّعليق أو عدم قبولها له على ضربين ‪:‬‬
‫ج والخلع والطّلق والظّهار والعتق والكتابة‬
‫أحدهما ‪ :‬تصرّفات تقبل التّعليق وهي ‪ .‬اليلء والتّدبير والح ّ‬
‫والنّذر والولية ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬تصرّفات ل تقبل التّعليق وهي ‪ :‬الجارة والقرار واليمان باللّه تعالى ‪ ،‬والبيع والرّجعة والنّكاح‬
‫ن ما كان تمليكا محضا ل مدخل للتّعليق فيه قطعا كالبيع ‪ ،‬وما كان حل‬
‫والوقف والوكالة ‪ .‬وضابط ذلك ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ -‬أي إسقاطا ‪ -‬محضا يدخله التّعليق قطعا كالعتق ‪.‬‬
‫وبين المرتبتين مراتب يجري فيها الخلف كالفسخ والبراء ‪ ،‬لنّهما يشبهان التّمليك ‪ ،‬وكذلك الوقف ‪ ،‬وفيه‬
‫شبه يسير بالعتق فجرى فيه وجه ضعيف ‪ .‬وتفصيل ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اليلء ‪:‬‬
‫‪ - 32‬اليلء يقبل التّعليق على الشّرط عند الفقهاء ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن دخلت الدّار فواللّه ل أقربك ‪ ،‬فإنّه يصير‬
‫موليا عند وجود الشّرط لنّ اليلء يمين يحتمل التّعليق بالشّرط كسائر اليمان ‪ .‬وذكر الزّركشيّ في المنثور‬
‫ن اليلء من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق على الشّرط ول تقبل الشّرط ‪ ،‬فل يصحّ قوله ‪ :‬آليت منك بشرط‬
‫أّ‬
‫كذا ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ( إيلء )‬
‫ب ‪ -‬الحجّ ‪:‬‬
‫ج يصحّ تعليقه ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن أحرم فلن فقد أحرمت ‪ .‬ويقبل‬
‫‪ - 33‬ذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الح ّ‬
‫الشّرط كأن يقول ‪ :‬أحرمت على أنّي إذا مرضت فأنا حلل ‪.‬‬
‫ج)‪.‬‬
‫والتّفصيل محلّه مصطلح ( ح ّ‬
‫ج ‪ -‬الخلع ‪:‬‬
‫‪ - 34‬الخلع إن كان من جانب الزّوجة ‪ ،‬بأن كانت هي البادئة بسؤال الطّلق ‪ ،‬فإنّه ل يقبل التّعليق عند‬
‫ن الخلع من جانبها معاوضة ‪ .‬وإن كان من جانب الزّوج فإنّه يقبل التّعليق عند الحنفيّة‬
‫الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الخلع من جانبه طلق ‪ ،‬ومثله الطّلق على مال ‪ .‬وأمّا الحنابلة فلم يجوّزوا تعليق‬
‫والمالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الخلع قياسا على البيع ‪.‬‬
‫ن الخلع إن جعلناه طلقا فإنّه يقبل التّعليق على الشّروط ول يقبل الشّرط ‪.‬‬
‫وذكر الزّركشيّ في المنثور ‪ :‬أ ّ‬
‫والتّفصيل محلّه مصطلح ( خلع ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الطّلق ‪:‬‬
‫ن الطّلق يقبل التّعليق اتّفاقا ‪ ،‬ويقع بحصول المعلّق عليه ‪.‬‬
‫‪ - 35‬مجمل ما قاله الفقهاء في الطّلق هو أ ّ‬
‫ن الطّلق من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق على الشّرط ول تقبل الشّرط ‪.‬‬
‫وذكر الزّركشيّ في المنثور ‪ :‬أ ّ‬
‫والفقهاء يذكرون مسائل كثيرة في تعليق الطّلق ‪ ،‬كتعليقه على المشيئة أو الحمل أو الولدة أو على فعل‬
‫غيره ‪ ،‬وتعليقه على الطّلق نفسه ‪ ،‬وتعليقه على أمر مستقبل أو أمر يستحيل وقوعه ‪ ،‬وغيرها من المسائل‬
‫الّتي يطول الكلم بذكرها فليرجع لتفصيلها إلى ( الطّلق ) ‪.‬‬
‫هف ‪ -‬الظّهار ‪:‬‬
‫ن الظّهار يقتضي التّحريم كالطّلق ‪ ،‬ويقتضي الكفّارة‬
‫ح تعليق الظّهار باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫‪ - 36‬يص ّ‬
‫ي كظهر أمّي إن دخلت الدّار ‪،‬‬
‫ح تعليقه ‪ .‬فمن قال لزوجته ‪ :‬أنت عل ّ‬
‫ل من الطّلق واليمين يص ّ‬
‫كاليمين ‪ .‬وك ّ‬
‫ل يصير مظاهرا منها قبل دخولها الدّار ‪.‬‬
‫ن الظّهار كالطّلق في كونه يقبل التّعليق على الشّرط ول يقبل الشّرط ‪.‬‬
‫وذكر الزّركشيّ في المنثور ‪ :‬أ ّ‬
‫والتّفصيل محلّه مصطلح ( ظهار ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬العتق ‪:‬‬
‫‪ - 37‬اتّفق الفقهاء على صحّة تعليق العتق بالشّرط والصّفة ‪ ،‬على تفصيل فيهما ينظر في مصطلح ( عتق )‬
‫‪.‬‬
‫ز ‪ -‬المكاتبة ‪:‬‬
‫‪ - 38‬يجوز تعليق المكاتبة بالشّرط ‪ ،‬وفي ذلك تفصيل سبق في مصطلح ( إسقاط ) وراجع مصطلح ( مكاتبة‬
‫)‪.‬‬
‫ح ‪ -‬النّذر ‪:‬‬
‫‪ - 39‬اتّفق الفقهاء على جواز تعليق النّذر بالشّرط ‪ ،‬ول يجب الوفاء قبل حصول المعلّق عليه ‪ ،‬لعدم وجود‬
‫سبب الوفاء ‪ ،‬فمتى وجد المعلّق عليه وجد النّذر ولزم الوفاء به ‪.‬‬
‫على تفصيل في ذلك في مصطلح ( نذر ) ‪.‬‬
‫ط ‪ -‬الولية ‪:‬‬
‫‪ - 40‬ويمثّل لها بالمارة والقضاء والوصاية ‪ ،‬أمّا المارة والقضاء فيجوز تعليقهما بالشّرط لنّهما ولية‬
‫محضة ‪ .‬وتفصيل ذلك محلّه مصطلح ( إمارة ) ومصطلح ( قضاء ) ‪.‬‬
‫وأمّا الوصاية فيجوز عند الحنفيّة في ظاهر المذهب ‪ ،‬وعند الشّافعيّة والحنابلة تعليقها بالشّرط لقربها من‬
‫المارة ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬إذا متّ ففلن وصيّي ‪ ،‬فإنّ المذكور يصير وصيّا عند وجود الشّرط للخبر الصّحيح «‬
‫فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر ‪ ،‬فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد اللّه بن رواحة » ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بجواز تعليقها ‪ .‬والتّفصيل محلّه مصطلح ( وصاية ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬التّصرّفات الّتي ل تقبل التّعليق ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجارة ‪:‬‬
‫ن منفعة العين المؤجّرة تنقل ملكيّتها في مدّة‬
‫‪ - 41‬ل يجوز الجارة على الشّرط بالتّفاق بين الفقهاء وذلك ل ّ‬
‫الجارة من المؤجّر إلى المستأجر ‪ .‬وانتقال الملك ل يكون إلّا مع الرّضا ‪ ،‬والرّضا إنّما يكون مع الجزم ‪،‬‬
‫ول جزم مع التّعليق ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬القرار ‪:‬‬
‫ن التّعليق‬
‫‪ - 42‬ل يجوز تعليق القرار على الشّرط بالتّفاق ‪ ،‬لنّ المقرّ يعتبر بذلك مقرّا في الحال ‪ ،‬ول ّ‬
‫على الشّرط في معنى الرّجوع عن إقرار ‪ ،‬والقرار في حقوق العباد ل يحتمل الرّجوع ‪ ،‬ولنّ القرار‬
‫ح تعليقه ‪ ،‬لوجوبه قبل الشّرط ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( إقرار ) ‪.‬‬
‫إخبار عن حقّ سابق فل يص ّ‬
‫ج ‪ -‬اليمان باللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ - 43‬اليمان باللّه تعالى ل يقبل التّعليق على الشّرط ‪ ،‬فإذا قال ‪ :‬إن كنت في هذه القضيّة كاذبا فأنا مسلم ‪،‬‬
‫ن الدّخول في الدّين يفيد الجزم بصحّته ‪ ،‬والمعلّق ليس بجازم ‪.‬‬
‫فإنّه إن كان كذلك ل يحصل له إسلم ‪ ،‬ل ّ‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( إيمان ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬البيع ‪:‬‬
‫ن البيع فيه انتقال للملك من طرف إلى‬
‫‪ - 44‬ل يجوز في الجملة تعليق البيع على الشّرط بالتّفاق ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫طرف ‪ ،‬وانتقال الملك إنّما يعتمد الرّضا ‪ ،‬والرّضا يعتمد الجزم ‪ ،‬ول جزم مع التّعليق ‪ .‬والتّفصيل في‬
‫مصطلح ( بيع )‬
‫هف ‪ -‬الرّجعة ‪:‬‬
‫‪ - 45‬ل يجوز تعليق الرّجعة على شرط عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فذكروا في إبطال الرّجعة إن علّقت ‪ -‬بأن قال لزوجته ‪ :‬إن جاء الغد فقد راجعتك ‪ -‬قولين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬وهو الظهر ‪ ،‬أنّها ل تصحّ الن ول غدا ‪ ،‬لنّه ضرب من النّكاح ‪ ،‬وهو ل يكون لجل ‪،‬‬
‫ولفتقارها لنيّة مقارنة ‪.‬‬
‫ن الرّجعة حقّ للزّوج فله تعليقها ‪ .‬والتّفصيل‬
‫والثّاني ‪ :‬أنّها تبطل الن فقط ‪ ،‬وتصحّ رجعته في الغد ‪ ،‬ل ّ‬
‫في مصطلح ( رجعة ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬النّكاح ‪:‬‬
‫‪ - 46‬ل يجوز تعليق النّكاح على شرط عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬والمذهب عند الشّافعيّة ‪ .‬وأمّا الحنابلة فل‬
‫يجوز عندهم تعليق ابتداء النّكاح على شرط مستقبل غير مشيئة اللّه ‪ ،‬لنّه ‪ -‬كما جاء في كشّاف القناع ‪-‬‬
‫ح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ) ‪.‬‬
‫عقد معاوضة فل يص ّ‬
‫ز ‪ -‬الوقف ‪:‬‬
‫‪ - 47‬ل يجوز عند الحنفيّة تعليق الوقف على شرط ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬إن قدم ولدي فداري صدقة موقوفة‬
‫على المساكين ‪ ،‬لشتراطهم التّنجيز فيه ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فجوّزوا تعليقه لعدم اشتراطهم التّنجيز فيه قياسا على العتق ‪.‬‬
‫ح تعليق الوقف فيما ل يضاهي التّحرير ‪ ،‬كقوله ‪ :‬إذا جاء زيد فقد‬
‫وأمّا الشّافعيّة ‪ :‬فل يجوز عندهم ول يص ّ‬
‫وقفت كذا على كذا ‪ ،‬لنّه عقد يقتضي نقل الملك في الموقوف للّه تعالى أو للموقوف عليه حال كالبيع والهبة‬
‫‪.‬‬
‫ل ذلك‬
‫أمّا ما يضاهي التّحرير ‪ ،‬كجعلته مسجدا إذا جاء رمضان ‪ ،‬فالظّاهر صحّته كما ذكر ابن الرّفعة ‪ .‬ومح ّ‬
‫ح ‪ .‬قاله الشّيخان ‪ ،‬وكأنّه‬
‫ما لم يعلّقه بالموت ‪ ،‬فإن علّقه به كوقفت داري بعد موتي على الفقراء فإنّه يص ّ‬
‫وصيّة لقول القفّال ‪ :‬لو عرضها للبيع كان رجوعا ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة ‪ :‬فلم يجوّزوا تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬إذا جاء رأس الشّهر‬
‫فداري وقف أو فرسي حبيس ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬ولنّه نقل للملك فيما لم يبن على التّغليب والسّراية فلم يجز‬
‫تعليقه على شرط كالهبة ‪ .‬وذكر ابن قدامة أنّه ل يعلم في هذا خلفا ‪ .‬وسوّى المتأخّرون من الحنابلة بين‬
‫تعليقه بالموت وتعليقه بشرط في الحياة ‪ .‬وأمّا تعليق انتهاء الوقف بوقت كقوله ‪ :‬داري وقف إلى سنة ‪ ،‬أو‬
‫ح في أحد الوجهين ‪ ،‬لنّه ينافي مقتضى الوقف وهو التّأبيد ‪.‬‬
‫إلى أن يقدم الحاجّ ‪ ،‬فل يص ّ‬
‫وفي الوجه الخر ‪ :‬يصحّ لنّه منقطع النتهاء ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬الوكالة ‪:‬‬
‫‪ - 48‬يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة تعليق الوكالة على شرط ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إن قدم زيد فأنت وكيلي‬
‫ن التّوكيل ‪ -‬كما يقول الكاسانيّ ‪ -‬إطلق التّصرّف ‪ ،‬والطلقات ممّا يحتمل التّعليق بالشّرط‬
‫في بيع كذا ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن شروط الموكّل عندهم معتبرة ‪ ،‬فليس للوكيل أن يخالفها ‪ ،‬فلو قيّد الوكالة بزمان أو مكان ونحو ذلك‬
‫‪ ،‬ول ّ‬
‫فليس للوكيل مخالفة ذلك ‪.‬‬
‫وذكر الشّافعيّة في تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت وجهين ‪ :‬أصحّهما ‪ :‬ل يصحّ قياسا على سائر‬
‫العقود باستثناء الوصيّة لقبولها الجهالة ‪ ،‬وباستثناء المارة للحاجة ‪ .‬وثانيهما ‪ :‬تصحّ قياسا على الوصيّة ‪.‬‬

‫تعليل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل أي ‪ :‬مرض فهو عليل ‪.‬‬
‫‪ - 1‬التّعليل لغة ‪ :‬من علّ يعلّ واعت ّ‬
‫والعلّة ‪ :‬المرض الشّاغل ‪ .‬والجمع علل ‪ .‬والعلّة في اللّغة أيضا ‪ :‬السّبب ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬تقرير ثبوت المؤثّر لثبات الثر وقيل ‪ :‬إظهار عّليّة الشّيء ‪ ،‬سواء أكانت تامّة أم ناقصة ‪.‬‬
‫والعلّة عرّفها الصوليّون بقولهم ‪ :‬العلّة هي الوصف الظّاهر المنضبط الّذي يلزم من ترتيب الحكم عليه‬
‫مصلحة للمكلّف من دفع مفسدة أو جلب منفعة ‪.‬‬
‫وللعلّة أسماء منها ‪ :‬السّبب والباعث والحامل والمناط والدّليل والمقتضي وغيرها ‪ .‬وتستعمل العلّة أيضا‬
‫بمعنى ‪ :‬السّبب ‪ ،‬لكونه مؤثّرا في إيجاب الحكم ‪ ،‬كالقتل العمد العدوان سبب في وجوب القصاص ‪.‬‬
‫كما تستعمل العلّة أيضا بمعنى ‪ :‬الحكمة ‪ ،‬وهي الباعث على تشريع الحكم أو المصلحة الّتي من أجلها شرع‬
‫الحكم ‪ .‬وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫تعليل الحكام ‪:‬‬
‫‪ - 2‬الصل في أحكام العبادات عدم التّعليل ‪ ،‬لنّها قائمة على حكمة عامّة ‪ ،‬وهي التّعبّد دون إدراك معنى‬
‫مناسب لترتيب الحكم عليه ‪.‬‬
‫ن مدارها على‬
‫وأمّا أحكام المعاملت والعادات والجنايات ونحوها ‪ ،‬فالصل فيها ‪ :‬أن تكون معلّلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫مراعاة مصالح العباد ‪ ،‬فرتّبت الحكام فيها على معان مناسبة لتحقيق تلك المصالح ‪ .‬والحكام التّعبّديّة ل‬
‫يقاس عليها لعدم إمكان تعدية حكمها إلى غيرها ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( تعبّديّ ) ‪.‬‬
‫فوائد تعليل الحكام ‪:‬‬
‫ن الشّريعة جعلت العلل معرّفة ومظهرة للحكام كي يسهل على المكلّفين‬
‫‪ - 3‬لتعليل الحكام فوائد منها ‪ :‬أ ّ‬
‫الوقوف عليها والتزامها ‪ .‬ومنها أن تصير الحكام أقرب إلى القبول والطمئنان ‪ .‬وتفصيل ذلك ينظر في‬
‫الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫تعليل النّصوص ‪:‬‬
‫‪ - 4‬اختلف الصوليّون في تعليل النّصوص على أربعة اتّجاهات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أنّ الصل عدم التّعليل ‪ ،‬حتّى يقوم الدّليل عليه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أنّ الصل التّعليل بكلّ وصف صالح لضافة الحكم إليه ‪ ،‬حتّى يوجد مانع عن البعض ‪ .‬ج ‪ -‬أنّ‬
‫الصل التّعليل بوصف ‪ ،‬ولكن ل بدّ من دليل يميّز الصّالح من الوصاف للتّعليل وغير الصّالح ‪.‬‬
‫ن الصل في النّصوص التّعبّد دون التّعليل ‪.‬‬
‫د‪-‬أّ‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬تعبّديّ ) وفي الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫مسالك العلّة ‪:‬‬
‫‪ - 5‬وهي الطّرق الّتي يسلكها المجتهد للوقوف على علل الحكام ‪.‬‬
‫ص الصّريح ‪.‬‬
‫المسلك الوّل ‪ :‬النّ ّ‬
‫سنّة على التّعليل بوصف ‪ ،‬بلفظ موضوع له في اللّغة من غير احتياج إلى‬
‫وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو ال ّ‬
‫نظر واستدلل ‪.‬‬
‫وهو قسمان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬ما صرّح فيه بكون الوصف علّة أو سببا للحكم ‪.‬‬
‫سنّة معلّل بحرف من حروف التّعليل ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ما جاء في الكتاب أو ال ّ‬
‫المسلك الثّاني ‪ :‬الجماع ‪.‬‬
‫المسلك الثّالث ‪ :‬اليماء والتّنبيه ‪.‬‬
‫وهو أن يكون التّعليل لزما من مدلول اللّفظ ‪ ،‬ل أن يكون اللّفظ دالّا بوضعه على التّعليل ‪ .‬وهو على أقسام‬
‫تنظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫المسلك الرّابع ‪ :‬السّبر والتّقسيم ‪.‬‬
‫وهو حصر الوصاف في الصل ‪ ،‬وإبطال ما ل يصلح منها للتّعليل ‪ ،‬فيتعيّن الباقي للتّعليل ‪.‬‬
‫المسلك الخامس ‪ :‬المناسبة والشّبه والطّرد ‪:‬‬
‫ينقسم الوصف المعلّل به إلى قسمين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ما تظهر مناسبته لترتيب الحكم عليه ويسمّى المناسب ‪ .‬وهو أن يترتّب الحكم على وصف ظاهر منضبط‬
‫‪ ،‬يلزم من ترتيب الحكم عليّة مصلحة للمكلّف من دفع مفسدة أو جلب منفعة ‪ .‬ويعبّر عنها بالخالة‬
‫وبالمصلحة وبالستدلل وبرعاية المقاصد ‪ .‬ويسمّى استخراجها تخريج المناط ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ما ل تظهر مناسبته لترتيب الحكم عليه وينقسم إلى نوعين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن ل يؤلّف من الشّارع اعتباره في بعض الحكام ‪ ،‬ويسمّى الوصف الطّرديّ ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أن يؤلّف‬
‫من الشّارع اعتباره في بعض الحكام ‪ ،‬ويسمّى الوصف الشّبهيّ ‪.‬‬
‫المسلك السّادس ‪ :‬تنقيح المناط وتحقيق المناط والدّوران ‪:‬‬
‫وهي راجعة في حقيقتها إلى المسالك المتقدّمة ومندرجة تحتها ‪.‬‬
‫وتنقيح المناط ‪ :‬هو إلحاق الفرع بالصل بنفي الفارق بينهما ‪ .‬أمّا تحقيق المناط ‪ :‬فهو أن يجتهد المجتهد في‬
‫إثبات وجود العلّة في الصّورة الّتي هي محلّ النّزاع ‪.‬‬
‫وأمّا الدّوران ‪ :‬فهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ‪ ،‬ويرتفع بارتفاعه ‪.‬‬
‫وفي بعض هذه المسالك خلف وتفصيل ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫الحديث المعلّل ‪:‬‬
‫‪ - 6‬هو الّذي اطّلع فيه على علّة تقدح في صحّته مع أنّ ظاهره السّلمة منها ‪ ،‬وهو من أنواع الحديث‬
‫الضّعيف ‪.‬‬

‫*********************************‬

You might also like