Professional Documents
Culture Documents
من النادر أن تجد مكناسيا ،أو زائرا للعاصمة االسماعيليّة ،دون ذكرى مع "ساحة الهديم" ،وطالما تباهى
المكناسيون بهذه الساحة واعتبروها في مقام "جامع الفنا" الشهيرة بمراكش ،وذلك لما كانت تمثل للمدينة من
متنفس تجتمع فيه كل أشكال الفرجة ،من فنون الحكي ،المتناثر في "حلقات" مسائية ،والفلكلور الشعبي ،خاصة
من عيساوة وحمادشة وغيرهم كثير ،لتشكل بذلك لفيفا من الفرق الشعبية التي كانت تؤثث مشهد ساحة الهديم،
وسط مكناس ،وأمام باب منصور ،األشهر في المدينة.
اليوم ،وبعد مرور سنوات وعقود عاشت فيها الساحة أبهى أيامها من انتشار لـ"الحلقات الشعبية" ،وبعدما كانت
مالذا للباحثين عن النكتة والطرافة في مجتمع أغرقته المشاكل االجتماعية ومعيشه اليومي الصعب ،اندثرت
أغلب هذه "المعالم الفرجوية" ،إن لم نقل كلها ،وانتشر الباعة المتجولون في الساحة إلى درجة احتاللها بشكل
شبه كامل في ساعات المساء ،كما تربعت عدد من المقاهي على مساحات كبيرة من الساحة ،مما غيب الكثير من
معالم الساحة التقليدية ،وغاب معها جزء من ذاكرة الحاضرة اإلسماعيلية.
تعتبر "ساحة الهديم" من أكثر األماكن التي يقصدها زوار مكناس ،والفضاء األشهر في المدينة ،وتسميتها تعود
إلى الهدم الذي تعرضت له أيام السلطان إسماعيل ،حيث كانت ساحة الستعراضات الجيوش العلوية ،من أجل
خوض عدد من المعارك ضد ما كانوا يعتبرونه "أراضي السيبة" ،في ذلك العهد ،وكذا بعض الخصوم األجانب
الراغبين في احتالل البالد.
من تموقع الشمس بكبد السماء وإلى حدود العصر تكون الساحة ،في غالب األحيان ،خالية إال من بعض باعة
األعشاب الطبيعية إلى جانب بعض المارة ،الذي يمرون عبر الساحة في اتجاه دروب المدينة العتيقة ،و"قبة
تعود عليها التجار
السوق" أو دكاكين "السكاكين" المعروفة برواجها التجاري ،باإلضافة إلى العادة التي ّ
وأصحاب المقاهي بإخراج سلعهم إلى خارج الساحة ،واحتالل أجزاء كبيرة منها ،مما أفقد "ساحة الهديم" ذلك
الرونق المتميز الذي كان يطبعها ،بتنوع "الحاليقية" الشعبيين ،والذين كانوا يحترفون مهنة الترفيه على زوار
الساحة من أبناء المدينة والوافدين عليها.
يحكي عدد من سكان المدينة اإلسماعيلية ،بحسرة وألم ،أن الساحة كانت ،إلى زمن قريب ،مح ّجا لعدد من
الحكواتيين ،الذين أبدعوا وتفننوا في حكايات مغربية من زمن تليد ،لكن الوضع اليوم اختلف إلى حد كبير،
وأصبحت الساحة عبارة عن "قيسارية كبيرة" ،تباع فيها األعشاب الشعبية والمالبس واألحذية ،على حد تعبير
أحد زوار الساحة ،في دردشة مع هسبريس.
وحدهم بضع قردة ال يزالون يؤثثون فضاء "ساحة الهديم" ،ويحكون عن زمن مضى ،حيث وقف مصور في
أحد أركان الساحة يعمل على جذب انتباه المارة من خالل إغرائهم بالتقاط صور مع القردة التي جلبوها من
إحدى الغابات المحاذية لمدينة إفران ،والتي ال تفصلها عن مدينة مكناس سوى 86كيلومترا ،في الوقت الذي
غابت فيه فرجة "الحاليقية" ،وحل مكانهم تجار البضائع ومروجو السجائر بالتقسيط.
وعلى الرغم من ذلك ،فإنه ،بعد العصر ،يحل بعض "الحاليقية" ،لكن ليس بالشكل المعروف عند عشاق "ساحة
الفنا" المراكشية ،حيث تغيب متعة فرجة واستعراض الحكواتيين الذين كانوا إلى زمن غير بعيد يؤثثون المشهد،
في حين يحضر عدد من الذين اختاروا ترويض األفاعي من أجل جمع دريهمات من زوار "ساحة الهديم" ،فيما
اختار البعض اآلخر الغناء للفت االنتباه.
انتشار هذه المظاهر التجارية التي عوضت "زمن الفرجة" في "الهديم" ،يساهم في انتشار كميات من األزبال،
مباشرة بعد غروب الشمس وانجالء نورها ،حيث يضطر عمال النظافة "القالئل" المكلفون بتنظيف الساحة من
النفايات المنتشرة إلى قضاء أكثر من ساعة في جمعها ،خاصة مع انتشار الباعة المتجولين ،وبائعي المأكوالت
الشعبية ،التي يصفها البعض بـ"خانز وبنين" ،في إشارة إلى الروائح التي تنبعث منها بالرغم من "لذتها".
وعلى عكس "ساحة جامع الفنا" المراكشية ،والتي ال يكاد ركن من أركانها يخلو من سائح أو مجموعة سياح
أجانب ،تعيش أكبر ساحات المدينة اإلسماعيلية هجرة السياح ،إذ يقل عددهم ،بل إن وجودهم ينعدم في أحايين
كثيرة من اليوم.
وخالل أيام تخليد ذكرى المولد النبوي ،يختار عدد من سكان مكناس وزائريها التوجه إلى "باب الجديد" ونواحي
الشيخ الكامل ،من أجل حضور أجواء االحتفاالت بهذه الذكرى ،حيث يحج إليها "عيساوة" و"حمادشة" إلى جانب
عدد من الراغبين في الجذبة ،بحثا عن خالص منشود وراحة مفتقدة ،وربما مآرب أخرى.