Professional Documents
Culture Documents
أمير فنور
فراشات ال ّ
طين
رواية
2
ملخص :تدور أحداث الرواية بين ربيع و صيف سنة ،4102حيث يعيش أمين وشاكي ،الصحفي المحقق
و المهموم بمشاكل البلد و المجتمع من جهة ،و الهارب من ذكريات حب جنوني فاشل من جهة أخرى،
يعيش حالة من القلق العميق تنتابه تجاه ما يحدث في الجزائر ،التي تعيش في تلك الفترة جنون العهدة
الرابعة و بارانويا الربيع العربي الذي كان في أوج اشتعاله و وعيده.
يقرر أمين القيام ببحث صحفي معمق يحاول من خالله الوصول إلى فهم ما سماه '' أم الثمرات الخبيثة ''،
العيب األساسي ،المشكلة الجوهرية ،التي ال تزال تمنع الجزائر كبلد و كأمة شابة من االنطالق الفعلي نحو
بناء ديمقراطية و مجتمع مدني حقيقيان.
في خضم بحوثه و مطالعاته التي تختلط بأعراض أزمة نفسية يعيشها بسبب القلق و اإلحباط و األرق ،يقع
أمين فجأة على رأس خيط مؤامرة ُمفترضة تُحاك من أجل تفجير ربيع عربي في الجزائر خالل أو بعد
االنتخابات الرئاسية ربيع .4102يقود االستقصاء الصحفي الشاب إلى منطقة القبائل أين يلتقي بحرفي
قبائلي غامض ،حيث يعمل ما في وسعه للوصول إلى الدالئل القاطعة التي تؤكد أنه المدبّر األساسي لهذا
الربيع الجزائري القادم.
تزامنا مع ذلك ،يبدأ الصحفي الشاب في اكتشاف عالم القرى و األرياف القبائلية ،المجتمع القبائلي،
تاريخه ،عاداته ،محاسنه و عيوبه ،تزامنا مع اكتشافه لحقيقة الحرفي الكهل ،التي تؤجج فيه '' ربيعا داخليا
'' يجعله يصل إلى استنتاجات لم يكن يتصور أنه سيصل إليها يوما ،تُفضي إلى فهم جزء أساسي من
أحجية '' أم الثمرات الخبيثة ''.
3
إلى الحي بين األحياء ،الدّا حسين آيت أحمد ( .) 4102-0241
4
الفهرس
1-حفرة المحظوظين90............................................................................................................
شدة44..............................................................................................................
5-الفراشة ال ُمر ِ
IIIالبذرة و ظل الفرعون
4-الموسطاشيا و الموسطاشوفوبيا29...........................................................................................
2-حجر الكبريت24...................................................................................................................
Vبداية الصعود
5
14-س ّد من التين الشوكي219....................................................................................................
صلصلة
VIأيام ال َّ
29-القالب األول263................................................................................................................
22-اللّب222..........................................................................................................................
23-عصفورالنَّحس209 ...........................................................................................................
VIIأسرار الخادرات
25-الباقات المنسية312............................................................................................................
24-خمائري351.....................................................................................................................
َّ 22-
هزة الحب األلفي349..........................................................................................................
6
تحولي ،طبيعتنا ه ّ
شة ،و حياتنا قصيرة " " نحن كالفَراش تماما ،وجودنا غائيّ ،
نمونا ُّ
أغاكال
أحد شخوص الرواية
7
أذكر لكم أني التقيت بشخص قروي حكيم و غامض ذات يوم ،أخبرني أنه كما أن الخبز يُصنع بيدي اإلنسان
سِّد به رزقه و استمراره في الحياة ،فإن الكلمات تُصاغ بعقل و قلب اإلنسان لتغذي معاني وجوده الكلي .ما
ليُج ّ
تنتجه الكلمات قد يكون نوعا من األرزاق للمجتمعات .إنها كقطع الخبز تماما .حين تُغمس في الزبدة تصير فلسفة.
حين تُغمس في زيت الزيتون تعطينا تاريخا .حين تُغمس في المرق تستحيل إلى سياسة .حين ت ُغمس في الجبن
تطلع ثقافة .حين تُغمس في اللبن تتم ّخض على تربية .حين ت ُغمس في العسل فهي بال شك حب و هوى ....و
ّ
ألستفز حكايتي هذه هي مزيج من كل ما ذكر الرجل الحكيم .حكايتي هذه حكاية كلمات .كلمات ابتكرتُها في مهنتي
بها مسار األحداث العامة ،فإذا بها تغيّر مسار حياتي بل و تغيرني قبل كل شيء .فقط ،أتوسل ألي شخص غير
مهموم بقضايا هذا البلد بأن يعفي نفسه من عذاب قراءة هذا الكتاب.
8
I
9
-1-
ُحفرة المحظوظين
بدأ كل شيء خالل احتفاالت رأس السنة الميالدية ...4102/4102أرق المهنة كان قد عاد ليعبث بي و
يأخذني كرهينة ،لكن ليس في تلك الليلة الصاخبة...
كانت تسير أمامي وسط ذلك المحيط الهائج تحت األضواء االستعراضية اللّيزرية الخضراء و الحمراء
ي بيدها بأن أستمر في
ي مع كل بضع خطوات ،تشير إل ّ
المخترقة لشيء من الضَّباب االصطناعي .كانت تلتفت إل ّ
التقدم خلفها .كنتُ أسير محاوال اختراق تلك الحشود من الشباب المتالطمة أجسادهم و هم في حالة من الهستيريا
الجماعية ،يتحركون بفوضوية عنيفة ،و قد أطلقوا العنان لجنون طاقتهم الشبابية ،ليُعبروا عما اختمر في نفوسهم
من مشاعر متنوعة في آخر ليلة سنة ميالدية أخرى متآكلة ،تعيش عدها التنازلي في هذا البلد المجنون.
كنتُ أحاول العبور وسطهم كزورق صغير يحاول شق طريقه وسط بحر هائج ،و أنا أتبع تلك الشابة اللطيفة
التي كلما نظرتُ إلى وجهها الطفولي الجميل ،ينتابني إحساس بعدم عدالة العالم الذي نعيش فيه و لعنة ظروف
الحياة و خدعها الكثيرة التي أوصلتها إلى هذا العالم السُّفلي الصاخب ،لتضعها بين مخالب كل أنواع السّفلة الذين
يمتهنون تسيير تجارة األجساد الناعمة في عوالم اللّيل ال ُمغلقة !.
كان يُفترض بنعيمة ذات السادسة و العشرين ربيعا أن تكون في تلك اللحظات جالسة تذاكر دروسها في شقتها
بالحي الجامعي ،أو في بيت أهلها تستعد للنوم بعد يوم طويل في العمل ،بدل التواجد في هذا الملهى " الخاص "
وسط هذه المنطقة الراقية و المحمية في قلب العاصمة ،و الذي سمعتُ عنه الكثير من اإلشاعات ،لكن كما يقال في
المهني :أخطر التحقيقات الصحفية هي تلك التي تبدأ بإشاعة فالتة من فم ثرثار ! .لقد علّمنا كبار الصحفيين
عالمي ِّ
من الرعيل األول الذي أسس الصحافة المستقلّة بشق النفس سنوات التسعينات ،أن نلتزم بمقولة ماركس ال َّ
شهيرة:
" يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها ،حتى ال تلتهمنا " .و ال يمكنني في هذا المقام أن أخجل من القول
بأنني كنت في تلك الليلة مجرد " كلب زريبة " يسبق صاحبه متتبّعا روائح نتنة تنتهي إلى حبة فاكهة فاسدة.
التفتت نعيمة إلي و هي تقول شيئا ،لكني لم أكن ألمح سوى شفتيها و هما تتحركان وسط األضواء....
تصرخ مرة أخرى وسط تلك الفوضى الموسيقية العارمة ،لكن من دون فائدة فقد كانت تبدو كصورة
تلفزيونية من دون صوت..
10
_ قلت ......ك ......رائـ ......مر.!......
ْ
فتوقفت عن شق طريقها وسط الحشد الراقص و أشرتُ بسبّابتي نحو أذني حتى تفهم أني ال أكاد أسمع شيئا،
عادت أدراجها نحوي لتمسك بيدي و هي تصرخ في أذني..
_ قلتُ لك إن هذه الموسيقى رائعة .هي أول مرة نسمعها هنا بدال من أغاني ّ
الراي المعتادة !.
_ هذه مقطوعة Reloadلـ ِّ Rob Zombieالتي استعملت في الجزء الثاني لثالثية Matrixالسينمائية.
أال تعلمين ؟.
ي للحظة و هي تهز حاجبيها الرقيقان كمن يبدي إعجابه بفكرة أو مالحظة ،ثم ابتسمت و شدتني ْ
نظرت إل ّ
بسرعة نحو األمام مواصلة الصراخ في أذني..
_ أترى الفتيات الراقصات فوق المصطبات األسطوانية ؟ .جميعهن قادمات من واليات داخلية بعيدة .أغلبهن
جئن إما للدراسة في الجامعة أو بحثا عن عمل ،لكن كما ترى ،انتهى َّ
بهن المطاف في هذا المكان كراقصات أو
صحفي أن الكثيرات هن من ضحايا اإلرهاب ؟ .أغلبهن فقدن
رفيقات متعة أو حتى مومسات .هل تعلم يا ع ّمي ال ّ
آباءهن أو إخوانهن أو اختطفت أمهاتهن بداية و أواسط التسعينات .بل و هناك من أبيد جميع أفراد أسرهن ،إضافة
إلى من ُهجّرن مع عائالتهن من قراهم األصلية من طرف جماعات الجيا.
_ تعرفينهن ؟ .ثم ال تقولي لي إنهن قاصرات .يظهرن لي أنهن صغيرات في السن !!.
_ ال ,لقد تجاوزن العشرين في الغالب .أعرف الكثيرات هنا .يمكنني أن أر ِّت ّب لك لقاءات معهن إن أردت أن
تسمع قصصهن أو تكتب عن تجاربهن المريرة .....أو ....تحصل على شيء من ال ُمتعة منهن إن رغبت ذات يوم
في االبتعاد قليال عن ضغوطك المهنية .بل الليلة إن أردت ! .تبدو لي منهكا ؟.
_ ربما يجدر بي أن أشكر أمراء الجيا على هذا المعروف الذي قدموه ألبناء الحواضر الكبرى !.
كانت الكثير من األسئلة تتالطم داخل رأسي و أنا ألتفتُ في كل الجهات ،محاوال تشكيل صورة عامة عن
المكان .عن شكله و تفاصيله .عن الجو العام فيه و عن هيئة كل هؤالء الناس الغارقين في جنونهم ،متماهين مع
هذه الموسيقى ال ُمه ِّيّجة للتناقضات ،التي امتزجت فيها صالبة و غضب موسيقى الروك مع هالمية و انسيابية
موسيقى التيكنو .كان سهال جدا معرفة إلى أي طبقة ينتمون نظرا أللبستهم و الطريقة التي سمعت بعضهم يتحدث
بها عند المدخل ،كما أن ماركات السيارات المركونة في حظيرة الملهى أيضا تكشف الكثير من التفاصيل .لم تكن
هناك كمرات مراقبة أمنية في الداخل عكس ما هو عليه في الخارج ,ربما ألن مرتادي المكان من كبار مسئولي
الدولة .في العادة ال يريدون أي دليل مسجّل عن تفاصيل حياتهم الليلية الخاصة جدا ! .لكن سبب تواجدي هناك تلك
11
الليلة لم يكن تحقيقا عن تلك الحياة المزدوجة التي يحياها كثير من إطارات الدولة .قد يُقال أن ذلك يدخل في صلب
الحياة الخاصة للناس .لكن ما كنتُ من أجله تلك الليلة هو ما سمعتُ عنه ،و ما وصلتُ إليه بمساعدة نعيمة .كنت
فقط أريد أن أتأكد بنفسي في إطار تحقيق كنت أقوم به للكشف عن جزء يضل ضئيال جدا من جنون هذا البلد ،و
هو نوع من الجنون غير البريء في ُمطلق األحوال.
صاحت نعيمة في أذني اليمنى و هي تشير إلى درج مرتفع قليال من على أرضية المرقص ،يؤدي إلى ممر
تدرجت بين صغير ينتهي إلى صالة تُغلّفها صفائح من الزجاج العازل لل َّ
صوت ،كانت تنبعث منها أضواء خافتة ّ
األحمر و البرتقالي و الزهري و البنفسجي .كنتُ أتبع نعيمة و أنا أتحسس شاربي االصطناعي للتأكد من التصاقه
جيدا فوق شفتي العليا ،بمجرد أن لمحتُ شاب ثالثيني ضخم الجثة ،مفتول العضالت كان يقف عند مدخل الممر ,و
كرس لرصد أي نفس
قد راح يتفحّصني من بعيد بناظريه ،من األسفل إلى األعلى ،و كأنه جهاز كاشف ُم ّ
مضطرب أو نظرات خجولة أو ِّمشية يبرز فيها الخوف و التردُّد على أي شخص يمر أمامه ،لكني حاولت أن أبدو
هادئا و واثقا.
بصراحة كنت سأنجح في ذلك قطعا ،لوال أني فقط عجزت في اللحظة الحاسمة عن إبعاد تفكيري في كوني
دخيال على مكان يرتاده أكثر الناس كرها للصحافة المستقلّة في هذا البلد .في تلك اللحظات ر ّكزت فقط ناظري
مباشرة في عينيه الكبيرتين المحتميتين تحت حاجبيه الغليظين .لم أو ِّ ّجه تفكيري في تلك اللحظة الطارئة حين غاب
عن ذهني أي موضوع آخر يمكن أن يُنسيني ارتباكي الذي كان سيبدأ في التّجلي فجأة ،إال إلى تلك الطراوة الجميلة
طو ْ
قت ذراعي األيسر و هي ترمي ببسمة إلى ذلك الدُّب األسمر، لنهد نعيمة الذي كان ملتصقا بعضدي ،عندما َّ
جعلتني أفهم أنها تعرفه جيدا ،و أفهم كذلك أنها تعرف تماما توقيت َّ
أدق اللحظات التي توجب على المرأة استخدام
سالح مفاتنها في تحويل تفكير رجل إليها ،حين يكون هو مواجها لخطر التفكير في شيء آخر ال يجدر به أن يفكر
ي من كل االنفعاالت التي كنتُ أخشى ظهورها غصبا عني،
فيه .عجبا ! ،لقد أفرغ نهد نعيمة الرخو الصغير عين ّ
فجلعني بذلك أرمق الرجل بنظرة باردة كنظرات كل هؤالء الشباب و الشابات ،من أبناء األثرياء و المسئولين
السَّامين و األجانب ،الذين اعتادوا المرور على أعوان األمن في أي مكان و كأنهم يمرون على كالب حراسة ال
تربطهم بها أي عالقة حميمية أو خاصة .هكذا و في تلك اللحظة ،رأيتُ الرجل يزيغ ببصره نحو نعيمة ،حيث
ارتسمت على شفتيه شبه بسمة خفيفة رد بها ،من دون وعي ربّما ،على ابتسامتها الصغيرة الغاوية.
عجبا من ِّسحر و كيد النساء ! .لقد سيطرت هذه الشابّة الفاتنة على رجلين بحركة واحدة من جسدها .بنه ٍد و
بسمة ،حالت دون تصادم ُمحتمل بينهما كما تريد و تشتهي !!.
أومأ الحارس إليها برأسه كأنه يحيّيها ثم عاد للتفرج على المحيط الهائج في المرقص ،في حين كانت شفتيها
ْ
همست إلي بصوت خافت بعدما تكادان تالمسان أذني و أنا أسترجع أنفاسي التي كانت قد انقطعت لثوان معدودة.
دخلنا الرواق.
12
_ كان هذا أكثر األعوان مالحظة و نباهة و أكثرهم شراسة أيضا .و لهذا وضعوه هنا بالضبط و ليس أمام
ّ
يتخطاه يمكنه أن يصول و يجول في كامل المبنى فضال عن الوصول إلى هذه الحانة التي المدخل الرئيسي ،من
تختلف عن المشرب الواقع في مؤخرة قاعة الرقص .هذا المكان ال يُفترض في العادة أن يدخله إال جماعة الـ
،VIPأما الليلة فهو ِّلولد فالن و بنت عالّن .....ثم ألم أقل لك أنه ال داعي للقلق ؟ .السر في مثل هذه األماكن يكمن
فقط في النظر مباشرة في عيني كل من ت ُ ُّ
حس بأنه سيكون حاجزا أمامك بك ّل تح ٍدّ و ثقة ،كأنك على استعداد تام
الفتعال شجار معه ،ينتهي به مطأطأ رأسه كديّوث في مكتب صاحب الملهى .جميع الرواد هنا هم بالضرورة "
أوالد فالن " أو من األثرياء .ال شيء و ال أحد يقف في طريقهم ،خاصة في أماكن مثل هذه و التي تُعد ساحة
سلطتهم ،ثراءهم ،رجولتهم و فحولتهم المزعومة أمام بعضهم البعض .لذلك ال أحد منهم سيقبل بأن
يبرزون فيها ُ
يسأله أي عون أمن " :وين راك رايح ؟ ".
نظرت إلي باسمة و هي تدخل معي إلى تلك الحانة الخاصة المطلة على المرقص ،عندها فهمتُ أنها لم تكن
ترشوا هؤالء بالمال ،بل بأشياء أخرى.
كان المكان هادئا بعض الشيء قياسا إلى المرقص ،رغم أن صدى الموسيقى و إيقاعاتها السريعة لم يتوقّف
عن نطح الزجاج العازل من الخارج جاعال منه صفائح مهتزة .إنارة خفيفة كانت تداعب تلك األرائك الجلدية
الحمراء التي كانت تتوزع عبر محيط المكان بشكل مدروسُ ،ملت ّفة بشكل دائري حول موائد زجاجية صغيرة،
ّ
تؤطره مصابيح النيون ذات اإلضاءة نُصبت فوقها لمبات صغيرة ذات إنارة خافتة .و هناك عند المشرب الذي
جلس بعض الشباب فرادا و أزواجا يحتسون المشروبات الكحولية المختلفة ،إذ
َ الحمراء و الخضراء و البنفسجية،
أن الماركات و األلوان المختلفة للنبيذ و الجعة و أشكال قوارير الويسكي و الشامبانيا و الفودكا و الروم التي كانت
صة القوم ".
معروضة خلف السُّقاة ،كانت تعبّر بصدق عن روح المكان الذي كان فعال " ِّلخا َّ
ْ
جلست مع نعيمة التي أخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها النسوية الصغيرة و راحت تتفحص بمجرد ما
مساحيق وجهها و شكل تسريحة شعرها ،بدأتُ أنا ألمح بعض الوجوه المعروفة تقريبا عندنا نحن معشر
صحفيين .وجوه يافعة ال تظهر في الغالب على شاشات اإلعالم ،ربما من أجل الحفاظ عليها في الظل كذخر
ال ّ
للمستقبل النخبوي لهذه الطبقة التي كتبتُ و أكتب عنها الكثير ؟ .كانوا أبناء بعض الوزراء و المسئولين السّامين
13
في الدولة رفقة صديقاتهم .أحدهم معروف جدا بطيشه الالمحدود عندما يُمسك مقود سيارته رباعية الدفع الفاخرة،
و هو يمضي جل أيامه وسط مشادّات و سب و شتم لشرطة المرور ,كل ّما أوقفه أي شرطي " زوالي " استجمع
ُحرر له مخالفة ،إال و
شجاعته و ِّحسّه المهني و الموضوعي ،بل و حتى الوطني ،في مثل هذه الحاالت الجليلة لي ِّ ّ
انتهى األمر إلى جلبة كبيرة وسط الطريق أو الشارع الذي يتم إيقافه فيه .هنالك آخر عرفته عندما التفتَ و هو
يتفحّص جسد إحدى الساقيات حين كانت تمر خلفه حاملة كأسي مارتيني على طبق متجهة نحو إحدى الطاوالت.
ورط والده في سلسلة ال حصر لها من المواقف ال ُمحرجة مع مصالح األمن ،بسبب إنه ابن رئيس بنك حكومي ّ
ّ
محطم ،كلما مغامراته النسائية في الفنادق و التي غالبا ما تنتهي إلى شجارات عنيفة و صراخ و كالم بذيء و أثاث
اكتشفت إحدى عشيقاته خيانته في أي حانة أو فندق يرتاده مع أخرى .أه ! و عن الشخص الذي طلب كأسي
مارتيني ،فهو يجالس ابنة عميد كبير متقاعد من الجيش و هي معروفة في األوساط الضيقة بعجزها عن اإلقالع
عن إدمان الهيروين ،رغم أن والدها فعل المستحيل لعالجها في أرقى المراكز و المستشفيات األجنبية ،و لسبب ما
ظلت هي ترفض االستقرار بإحدى الدول األوروبية .اإلشاعات تقول بأن سبب ذلك يرجع إلى رجل متيمة بحبه،
كان السبب األول في إدمانها على كل حال .يا ترى ،إلى أين وصلت حكايتها مع كفاحها المرير ضد ذلك المخدّر
تحرك بداخلي فضول ُزرع ف ّ
ي بالفطرة ،و رأيتُ نفسي كأنما أنهض من مكاني ُمتوجّها إليها مباشرة الجهنمي ؟ّ .
ألفتح معها حديثا يبدو في الظاهر عابرا ،يسير بي إلى مجالستها و مشاركتها لبعض الكؤوس التي تجعلها ترغب
بشدة في الحديث عن أحوالها و كيف تعيش حياتها و صراعها مع آفتها اللعينة ،و من يعلم ؟ ،قد تنتهي إلى سرد
قصص و أسرار والدها الضابط السامي أيضا ! .أن تكون صحفيا يعني أن تكون قادرا على اختالق مشاريع
مقاالت أو تحقيقات من أبسط مالحظة أو تساءل قد يطرأ فجأة على ذهنك .أن تملك القدرة على اختراق كل
عوقات ...بكل السبل ،و أن تنزع من ذهنك عبارة " قد ال ينجح األمر " !.
الحواجز و ال ُم ّ
ستتعرف على الكل .هذا المكان الذي نجلس فيه مثال هو المكان
ّ _ لو كنتَ من الرواد الدائمين للملهى لكنتَ
المفضل ألحد المنتخبين المحليين ،و الذي يلتقي بانتظام مع عشيقته التي تصغره بخمس و عشرين عاما !.
_ ال .ما أعرفه هو أن أبناءه ال يرتادون مثل هذه األماكن ،بل إن زوجته امرأة تقية و صالحة .هو نفسه كان
رجال عاديا و متدينا زار البقاع ال ُمقدّسة قبل أن يفوز في االنتخابات البلدية .انقلب بعدها رأسا على عقب .هل
ت ُصدّق هذا ؟ ......آه صحة حبيبتيِّ ،ك ِّ
راك ؟ ،غاية ؟.
14
ي بنظرة متف ِّ ّحصة ْ
فبادرت إلى سؤالها و هي تلقي إل ّ ارتمت نعيمة على الساقية التي بدى أنها إحدى صديقاتها،
و كأنها تسألني شخصيا...
أطلقت نعيمة ضحكة عالية جعلت بعض الجلوس في الحانة يلتفتون نحونا للحظة.
_ آسفة لم أقصد ،لكنني مولعة بأصحاب الشوارب الالتينية ! .ثم إنه عليكَ أن ت َحذر هذه الفتاة فهي جد شرسة
قوتك و جنونك !.
و متوحشة في الفراش مهما بلغت ّ
ابتسمت نعيمة و كأنها تتلذّذ بجهل صديقتها لهويتي الحقيقية ،أو ربما تكون قد أحسّت بنوع من اإلطراء من
ْ
كالمها أيضا ؟ ،ال أعلم ! .ابتسمتُ بهدوء و أنا أشكر بداخلي الشخص الذي نصحني بوضع ذاك الشارب
االصطناعي و ذاك الشعر المستعار .بدى فعال أنهما دفعا بعض من رآني تلك الليلة إلى استنتاجات الخاطئة تماما.
ْ
طلبت نعيمة كأسي جعة خفيفة بينما أشعلتُ سيجارة و ُرحت أتفحّص كل تلك الوجوه اليافعة المتفرقة في
البار .بعضهم شارد مع نفسه و كأن الكحول بدأت تُثقل تفكيره ،و البعض اآلخر يتحادث مع الرفيقة بشكل يقترب
ُّ
التفت جهة المرقص حيث كان الرقص و الجنون ال يزال ُمتصاعدا .ال شيء يبدو من من الهمس منه إلى الكالم.
خالله سوى الظالم الذي تخترقه األضواء الخاطفة.
تنهدت نعيمة كمن بدأ يُصاب بالضجر من دون سبب واضح و هي تنظر إليهم بنوع من الشرود واضعة كفّها
على خدها.
_ أممم ،كلّهم من أبناء األثرياء و الميسورين على كل حال ،لكن ليسوا بالضرورة أبناء أشخاص نافذين .أنت
تعلم ...هناك أبناء مسئولين سامين سابقين و حاليين في الحكومة و الجيش .أبناء دبلوماسيين جزائريين و أجانب.
مقربين من النظام ! ....و هنالك أبناء
أبناء نواب برلمانيين و مسئولين محليين .هناك حتى صحفيين شباب ّ
أصحاب شركات عامة و خاصة .تجار كبار و أصحاب أعمال مزدهرة ...جزائريين و أجانب أيضا.
الصحفيون عرفتُهم ,لم يفاجئني وجودهم في مكان كذاك ،فهو المكان األنسب لتوريطهم في فضائح أخالقية
تدخل إلى ملفّاتهم السوداء ،التي يتم استفزازهم بها من طرف النافذين أو األمن العسكري الموجود في كل مكان و
ركن في البلد ،عندما يحين وقت استغاللهم طبعا ! .بعض قادة البلد ال يشعرون أنّهم بحاجة إلى شراء صحف
ماداموا يشترون صحفيين كهؤالء و بسهولة تامة !.
15
رميتُ ببصري من بعيد و أنا ألمح أحدهم .صحفي قذر يدعى عياش مراد .يلقبونه في مجال عملي " الحنش
الروجي " ،الثعبان األشقر .كان هناك على بعد أمتار منا ،يجلس وسط فتاتين عشرينيتين ،كانت إحداهما تقهقه في
ُّ
حين كانت الثانية تهمس في أذنه و قد اختفت يدها تحت الطاولة ،في حين كان هو غارقا في عالمات النشوة تحت
سطوة الخمر و الموسيقى الهادئة و سحر األضواء الخافتة و نعومة يد الحسناء الزاحفة على سرواله أو بداخله.
الثعبان األشقر ينتمي إلى فصيلة من الصحفيين الذين ليس لهم أي قناعة مبدئية أو التزام أخالقي أو انتماء مهني
محدد .صنف من الصحفيين الذين هم في أتم االستعداد لتجنيد أقالمهم ألي كان و في سبيل أي قضية مقابل المال
أو االمتيازات التي يتلقونها من تحت الطاولة طبعا .على األرجح أن اليد الناعمة التي كانت تدابعه تحت الطاولة
كانت إحدى تلك االمتيازات ،لكن ممن أو لماذا ؟ .وحده الحنش الروجي يعلم !.
وضعت الساقية سارة الكأسين و انصرفت و هي ال تزال ترمقني بتلك النظرة األولى ،و كأنها تف ّكر مع نفسها
ْ
ُّ
إلتفت مرة ثانية جهة باستعارة هذا الفتى المتشبّه بفحول الكاريبي من صديقتها إن كان ال يضيره ذلك في شيء.
المرقص و أنا أفكر في وضعية تلك الفتيات اللواتي كن يحركن أجسادهن الممشوقة الكاسية العارية فوق تلك
المصطبات المرتفعة ،تماشيا مع تلك اإليقاعات الموسيقية الغربية .قلتُ في نفسي أن مثل هذه المشاهد لم نكن
نراها سوى في أفالم األمريكيين ،لكنها اليوم واقع .افترض أنه واقع عالمي.
كنت أعلم أنه يوجد من بينهن من تعمل لصالح أجهزة األمن ،و دورهن ال يقتصر على المراقبة أو التجسس،
بل إنهن يشكلن ّ
خطاف الصنارة الذي يتم به اصطياد عدد ال بأس به من الحيتان الكبيرة ،من المسئولين السامين و
المحليين و رجال المال و الرعايا األجانب ،و لنفس الغرض الذي ذكرته سابقا عن الصحفيين .االستفزاز ،الضغط
سِّيستام ".
و التهديد بالفضح و تدمير السيرة الذاتية في حالة عدم االنصياع لرغبات " ال ّ
ُرحت فقط أتساءل للحظة :أيُعقل أن كل هته الحسناوات اللواتي تم اختيارهن بعناية فائقة مقابل مبالغ مغرية
على ما يبدو ،إلسعاد أنظار أبناء القماقم و البورجوازيين الجدد ،هن سعيدات حقا بوضعهن هذا ؟ .كنت أتساءل
بالطبع عن اللواتي ال عالقة لهن بأجهزة األمن أو شبكات النفوذ .الفتيات اللواتي دفعت الظروف بهن إلى هنا .كل
هذه الشفاه المبتسمة قد تكون مجرد ديكور مصطنع يخفي خلفه قصصا مأساوية كما ل ّمحت لذلك نعيمة .ما كانت
تخفي تلك األعين الجميلة الضاحكة يا ترى ؟ .أهو الفرح اآلني العابر الذي ال يُمكن أن يكون سوى تجميع غير
محكم لمنطاد هوائي غير مكتمل ،يوحي بفكرة الهروب من أرض الظلم و الدموع ،التي عرفنها في قراهن الفقيرة
الرشيقة يا ترى ؟ .أهي هروب مجنون من ذكرى أب
النائية و لو للحظات ؟ .ما كانت تخفي تلك األجساد الناعمة ّ
ظلوم و أخ غشوم ؟ .أهي دخول متع ّمد في غيبوبة الضَّمير انتقاما من ذات ّ
خطاءة و انسالخا عن مجتمع ال يعرف
فخربوا حياة اآلالف
نِّعمة الغفران ؟ .أهي انتقام ِّمن ُحلم َمن أرادوا فرض تعاليم الدين بقوة الرصاص و السّكينّ ،
من البشر البسطاء ،دافعين بهم إلى عوالم الجحيم الكامنة في هذه الدنيا ؟.
16
ُرحتُ أف ّكر في األسلوب األنسب الذي يمكنني من خالله كشف خدعة الليلة ،التي باركها مسئولو الثقافة
بتواطؤ شبه صامت من أجل إرضاء أبناء الطبقة المحظوظة بأموال الشعب ،أو هكذا كان األمر يبدو .كيف أفعل
ذلك دون أن أتسبّب في موجة من األحكام ال ُمع َّممة من طرف الجماهير الواسعة على كل من يشغل منصبا مرموقا
في الدولة ؟ .هناك موظفين حكوميين ال عالقة لهم و ال ألبنائهم و بناتهم بكل هذا الهرج و بريقه ،و الذي قد يُغري
علب الليل الذي يعتبر مخدرا غاية في القوة لبعض القلوب الهشة !!.
الكثيرين بالدخول إلى عالم ُ
قلتُ في نفسي أن الهدف هو تبيين كيف أنهم جاءوا بمطربين مشارقة .من لبنان خصوصا ،إلحياء احتفاالت
رأس السنة الميالدية بمبالغ طائلة جدا ،معلنين عبر وسائل اإلعالم أن هؤالء سيحيون حفالت لعامة الناس،
جاعلين المواطن العادي يدفع ما يقارب األلف دينار جزائري ليستمتع قليال باألغاني التي يُحب ،لساعة على
ُهرب هؤالء " اآليدولز " في سيارات ُمصفّحة سوداء تحت جنح الظالم إلى هذا المكان ،حيث يقدمون
األكثر ،ثم ي َّ
صبح ألبناء أصحاب الشوارب العريضة دون أن يدفعوا شيئا ،و لو دينارا
حفلة راقصة حتى الساعات األولى من ال ُّ
أنشر المقال دون دفع هؤالء الموجودين هنا الليلة للشعور بأنهم هم المستهدف الرئيسي من التحقيق.
ُ رمزيا ! .كيف
ففي النهاية تواجدهم في هذا الملهى ،رقصهمُ ،
شربهم ،عريهم ،جنونهم ،مجونهم الليلة .....كل هذا يدخل في إطار
الحرية الشخصية و اختيارات كل فرد للطريقة التي يود أن يعيش بها حياته .حتى الطبقة المتوسطة و حتى الدّنيا
من المجتمع لها من يختار هذا األسلوب في العيش .....توجد اختالفات في اإلمكانيات فقط ! .ثم إن هؤالء ليسوا هم
بالضبط من دبّر و رتّب لهذه " المؤامرة الفنية " في النهاية.
ْ
غرقت في صمت تام و هي تنظر إلى ذلك الحشد الراقص عدتُ إلى لحظتي و قد انتبهت إلى نعيمة التي
سحب من عينيها العسليتين
َ بشكل أحسستُ لوهلة أن فيه قدرا من التقززْ .
بدت و كأنها غائصة في شرود غامض،
شيئا يشبه الحزن ،صعد بشكل خافت في نظراتها البعيدة ،كالد ّخان األخير الذي يرتفع من رماد يكاد َيخنق آخر
جمراته التي استسلمت للنهاية بعد حريق مهول و طويل .هذه الفتاة ذات اللكنة الوهرانية تضمر الكثير في نفسها،
رغم أنها حتى ذاك الحين كانت ال تزال ترفض أن تطلعني على حكايتها ،و كيف وصل بها المطاف إلى عالم
الليل ،بل كانت ال تريد حتى إطالعي على اسمها الحقيقي !.
فحولت ْ
نظرت إلي و أدركت أني أتساءل في قرارة نفسي عن سر ذلك الحزن الغامض البادي على مالمحهاّ ،
نظرها إلى كأسها الذي كانت تداعب حافته العلوية بسبّابتها مطلقة بسمة خفيفة.
_ أتعلم ؟ ،أنت من الناس القالئل الذين تعاملوا معي من دون أية أحكام ُمسبقة بخصوص من أكون .شعرتُ
بذلك منذ أول يوم .يوم أخفيتني و ساعدتني على الهروب من ذلك الوغد المافياوي الذي كان يطاردني بسبب المال
الذي كنت أدين له به .لو كان شخص آخر مكانك ،لكان على األرجح قد ساعده على العثور علي ،ليس حبا في
تاجر مخدرات ،بل كرها لفتاة مال ٍه ساقطة ،تستحق ما يحدث لها ألنها هي من اختارت هذه الحياة !.
_ و من تكونين ؟ .في الحقيقة ،مجرد فتاة شابة عرفت بعض المطبّات المزعجة التي خرجت بها عن طريق
أصرت على ذلك و كافحت من أجله !.
ّ حياتها لبعض الوقت ،لكنها تستطيع العودة إلى الطريق األول إن
17
ابتسمت كمن ال يُص ِّدّق ما يسمع....
ْ
نظرت إلي ثم أخذت رشفة من كأسها و هي تومئ برأسها يمينا و شماال... ْ
تنهدت بعمق.
_ لقد بلغتُ نقطة الالرجوع يا صديقي .أحالمي الجادَّة و الصادقة انتهت عند عتبات غرور الشباب األعمى و
المتهور تحت أقدام ....أو ألقل تحت حوافر صديقات السوء ،اللواتي حولنني إلى مجرد بقرة بحوافر مثلهن !.
ّ
استقرت
ّ نظرتُ إليها متأسفا ،و قبل أن أقول أي شيء آخر ،توقفت الموسيقى التي كانت تهز المكان ،و
األضواء العابثة باألنظار و االنتباه على إنارة ذات ألوان دافئة ،ليرتفع صراخ و هتافات الحشد الراقص كأنّما ال
يريد أن يترك فرصة واحدة أمام الهدوء ليع ّم المكان و لو للحظات ،ليعلو صوت مقدمة وقفت على المسرح
مخاطبة الجميع بلغة فرنسية ُمتقنة ،حيث راحت تشكر الجميع على حضورهم هذه الليلة المتميزة ،و تعدهم بحفل
جد متميّز مع وجوه مشرقية أحبوها و أحبّها العالم العربي ،حضرت لتشاركنا االحتفاالت برأس السنة .ارتفع
الهتاف مرة أخرى ،عندها قفزت نعيمة من مكانها و عالمات الحماس تتطاير من وجهها كالشرارات النارية
الملونة ،التي تتناثر عادة من األلعاب النارية في المناسبات السعيدة .راحت تجذبني من يدي كالطفلة الصغيرة و
ّ
هي ترى إحدى فنَّاناتها اللبنانيات المفضّالت تدخل بفستانها اللّماع األنيق و المثير إلى المسرح ،تحيي جمهورها
حاملة ميكروفونا في يدها.
_ هيا هيا بنا ! .لنستمتع ببعض الطرب ،إنها ليلة سعيدة و المرء ال يدري أيكون الغد و عامه الجديد أفضل
من هذا الفائت !.
نزلنا رفقة بعض من كانوا في الحانة نحو المرقص .كنتُ أجهز هاتفي الج ّوال ألوثق بعضا من جوانب
الحفل ،عن طريق الصور و مقاطع الفيديو حين راح جل الحضور يحملون هواتفهم الجوالة استعدادا لتخليد تلك
األجواء االحتفالية البهيجة التي ستتحول إلى ذكريات جميلة ،يتقاسمونها عبر شبكات التواصل االجتماعي ،بينما
18
كنت أنا منهمكا في تجميع المزيد من الدالئل المادية التي أ ُ ّ
عزز بها تحقيقي الذي يفضح هذه الصفقة القذرة ،التي
تعدُّ حلقة صغيرة جدا من حلقات الخداع ،العبث و الفساد في هذا البلد.
راحت المطربة الممشوقة الجسد تشكر الجميع و تُعرب عن سعادتها الغامرة في تواجدها في بلد '' المليون
شهيد '' ،حيث ابتدأت كالمها بلكنتها اللبنانية اللطيفة و ختمته بعابارات من اللهجة الجزائرية و هي تقول '' :انحبكم
بزاف بزاف '' ،لتنطلق في أدائها ألول أغنية في السهرة .لقد بلغ هُبل بعض الفتيات حد الجنون بتلك المطربة،
كن يصرخن بأعلى أصواتهن كلّما أشارت بيدها و هي تحيي معجبيها و معجباتها الذين يهتفون باسمها بأعلى
حيث ّ
أصواتهم ،حتى إن البعض رحن يبكين من شدة الحماس و اإلثارة و الجميع يردد معها أغانيها الغرامية ،في حين
كانت نعيمة هي األخرى تشارك الجميع الغناء .كانت تبتسم بسرور بدى معه رغم ذلك نوع من الكآبة الغريبة على
وجهها.
أظنها كانت هي األخرى تحاول عيش بريق اللحظة فقط بقدر المستطاع رغم علمها بأنه سينتهي ال محالة .لقد
شدّتني إليها في تلك اللحظات .رحتُ أراقبها و هي تغني و تميل بجسدها الجميل على اإليقاع الشرقي مغمضة
يؤرقها و الذي تحتفظ به لنفسها فقط .كانت كمن يتخيّل
عينيها و كأنها فعال تريد الهروب من السر الرهيب الذي ّ
نفسه في مكان آخر بعيد جدا.
استمر الحفل إلى زهاء الثانية صباحا ،مع توقف لدقيقتين فقط عند منتصف الليل ،تم فيها عد تنازلي جماعي
آلخر أنفاس سنة ميالدية مجنونة ،ودّعها العالم بعد أن أثخنته بالجراح و الكدمات و الخيباتّ .
لعلنا كنا نتشفى فيها
و نحن نعدُّ آخر لحظات حياتها ،ربما بسبب كلفتها الباهظة على سعادتنا الجماعية و على أحالمنا التي بدت صادقة
و جادة في بدايتها ،قبل أن نكتشف أنها كانت مجرد همسات ساذجة من دون معنى في النهاية .سنة أخرى منقضية
خلّفت لنا إرثا جديدا من الحسابات ال ُمعلَّقة التي تنتظر التصفية مع العام الجديد.
-2-
19
ليالي كلب َّ
الزريبة
أذكر جيدا ذلك اليوم الذي استقبلني فيه سي ّ
رزاق ،رئيس تحرير جريدة '' النبأ اليومي '' في مكتبه حين
أتيتُه صحفيا جديدا .كنا في أواسط ربيع .4102بعد بضع سنوات قضيتها متنقال بين جرائد مغمورة كأي صحفي
متدرب و مبتدئ ،خرج من جحيم ستة أعوام لعينة في الجامعة .كان يوما ماطرا عصفت فيه رياح قوية على
ّ
العاصمة .كنتُ أجلس في مكتبه و أنا أراقب ذلك الغيث الذي كان ينزل من السماء و كأنه دعاوي و صلوات
متأخرة أو مكدّسة تم إرسالها على دفعة واحدة .إذ يقولون أنه حتى الطبيعة عندنا لها مزاجيتها الخاصة و المتقلبة.
بإمكانها أال تمطر إال نادرا طيلة فصل الشتاء ،حتى يظن المرء أن البلد فعال على حافة جفاف مؤ ّكد ،ثم فجأة يأتي
ت في وقته على غفلة و من دون إشارات مسبقة واضحة .حتى المناخ يبدو كأنه قد استسلم أخيرا و تخلى
ما لم يأ ِّ
عن تقاليده متأثرا بميزة هذا الشعب .شيء من سرعة التغيُّر المفاجئة الممزوجة بالغضب العارم غير المحسوب في
عواقبه ،بعد وقت طويل من الصمت و السُّكون و ال ُمهادنة .هي الجزائر كما عرفها التاريخ.
ذاك اليوم ،كنتُ أراقب واجهات األبنية المجاورة لمقر الجريدة و قد غيبتها األمطار تماما و جعلتها تبدو ككتل
و أكوام رمادية من دون معالم .كانت الرياح تضرب بسهام المطر المثخنة بالماء وجه المقر ،جاعلة إياها تنزلق
على زجاج النوافذ بانحدار سريع و كثيف ،في حين كانت سيارات الحماية المدنية تدوي الشارع المقابل بصفاراتها
و قد علقت في زحمة السير المشلولة بسبب غزارة المطر.
كنتُ صحفيا جدادا و متحمسا .أذكر أني جلستُ بصمت أفحص بناظري مكتب سي َّ
رزاق الذي كان مؤثثا
بشكل جيد ،و قد وجدت فيه أناقة فيها لمسة خفيفة من عدم الترتيب من خالل تلك األوراق و الملفّات المبعثرة
فوقه .ذ ّكرني ذلك بمكتبي المتواضع في البيت ،الذي تنتشر عليه األوراق و الدفاتر و المل ّفاَت و الكتب المصطفة
فوق بعضها إلى جانب حاسوبي المحمول ،الذي كان جوادي الذي خضتُ و ال أزل أخوض معاركي برفقته و على
صهوته.
ُعلّق صورة كبيرة في إطار خشبي جميل ألحد رموز الكتابة الحرة في البلد .الشهيد
كان سي رزاق و ال يزال ي ِّ
الطاهر جاووت صاحب الجملة الخالدة أيام التصفيات الجسدية للصحفيين و المفكرين بداية التسعينات ،الجملة التي
تسبّبت في اغتياله و التي كان مضمونها يقول " :إن قلتَ ما تريد فأنت ميت ،و إن لم تقل فأنت ميت ،إذن قل ما
تريد و ُمت !".
عدت إلى حاضري تلك اللحظة حين دخل السي ر ّزاق و هو يتنهد ُمطلقا نحنحته مع زفيره ينظر نحو النافذة،
ُ
و قد ارتسمت على وجهه إيماءة سريعة تنم عن انزعاج ما ،ثم جلس و قد شابك بين أصابع يديه و من دون أي
ي...
مقدّمات ،نظر مباشرة في عين ّ
_ أخبرني فقط ،كيف استطعت أن تصل إلى هذه الوثائق ،العقود و الفواتير ؟ .بل كيف استطعت الدخول إلى
هذا الملهى الخطير دون أن يت ّ
فطنوا إلى أنك من الصحافة المستقلة ؟ !.
20
ابتسمتُ إليه و فهم جوابي مباشرة ،فحمل يده مقاطعا يريد اإلجابة مكاني...
_ أه صح صح ...مصادر الصحفي الموثوقة هي رأس ماله ،قلتها لي قبل عام و أنت تجلس في هذا المكان
تحديدا ! .مصادرك الموثوقة كثيرة يا هذا ؟.
احمر وجهه في ظرف لحظات من الغضب الشديد ،بينما كنتُ أحدِّّق به و أنا أقول في نفسي " :نزوة غضب
عابرة يا سي ّ
رزاق ،ستنسى األمر مع حلول المساء !" .
_ المهم ،سي ّ
رزاق ،أنا أعلم و أنت تعلم أن هذا التحقيق سيُحدث هزة أخرى وسط الرأي العام .ال أفهم إذن ما
الذي تفعله و أنت تمسك بهذه األوراق تقلّبها منذ الصباح بين يديك ؟ .كل شيء موثّق ،بل و لدي تسجيالت فيديو
للحفل إن أردت نشرها في موقع الجريدة على ال ّنت .ما الذي ننتظره ؟ !.
نظر إلي هنيهة بصمت ،ثم نظر إلى كومة األوراق التي كانت فوق المكتب و هو يتنهد متنحنحا مرة أخرى،
ثم هز رأسه...
_ ثم إنه يجب عليك أن ترتاح قليال .عالمات األرق باتت جلية على مالمحك يا ولد ؟.
_ شكرا سي ّ
رزاق ،هذا هو عمل رئيس التحرير ،نشر األعمال التي تهز ضمير المجتمع و تزيد من أرق
أصحابها.
_ أجل ،إنها مهمة رؤساء التحرير ،نشر األعمال التي تهز ضمير المجتمع و تُغضب السّلطة ....مع عدم
نسيان تناول أدوية ضغط الدم طبعا.
كنتُ أعاني األرق لليال طويلة بسبب انغماسي الكلي في هموم هذا البلد ،لكن نجاحي في النبأ اليومي كان ال
صرت نجم التحقيقات التي تتسبّب عادة في إحراج الكثير من المسئولين في أكثر
يزال يتعزز من شهر آلخر .لقد ِّ
من قطاع ,بالرغم من أني كنتُ أركز في العادة على األخبار و الريبورتاجات و التحقيقات التي تتناول مشاكل
المجتمع بصفة عامة ،إال أن ميلي إلى كشف فضائح الفساد المالي و السياسي كانت تطغى من حين آلخر ،ألنها في
21
النهاية تعبر عن أمراض اجتماعية صارت متأصلة في البلد هي تشكل خبز يومياتنا .غريزة شمي الصحفية قلّما
كانت تخطئ عندما تدفع بي إلى تحسُّس وجود خطب ما في قطاع ما ،وزارة أو مؤسسة أو شخص بعينه .و قد
يجادلني البعض حول هذا اإلدعاء بالقول " :ما هو القطاع الذي ال يشكو خطبا ما في هذا البلد ؟ .البالد كلّها تشكو
خطبا ما ! ".
يتلوى و يزحف
هنا بالضبط ،كان ينتصب وتد التحدي الذي اخترته ! .هنا كان يكمن شيء ما بداخلي ظل ّ
ُ
ينفث الشك و الحيرة في أيامي .لم أكن بعد قد رأيت شكله الحقيقي ،لكنني كنت بصمت كثعبان يعيش بين الظالل
أرى ظله يتماها مع الظلمة في تلك الزاوية غير الواضحة ،و التي كانت ال تزال غير مضاءة بشكل جيد انطالقا
من زاوية المقعد الذي اختاره القدر لي ألتفرج منه على مسرحية المجتمع .مسرحية واقعية جدا ،أحد فصولها
شعب صار كذلك الرجل الذي انهار بعد طول مقاومة ،و صار ه ّمه الوحيد هو األكل و النوم .فقط !.
عندما دخلت مؤسسة النبأ اليومي ألول مرة ،أردتُ أن أبتكر شيئا جديدا ،شيئا ُمميزا ،فكرة ما أحاول بها خلق
أثور قلقه .بعدما اكتشفت بعد ّ
أستفز سكينتهِّ ّ ، أحرك بها العقل الجمعي لجمهور الجريدة،
" طفرة " و لو صغيرة ّ
بضعة أشهر من العمل أن تلك المؤسسة التي كانت تعتمد كثيرا على صحافة االستقصاء ،إنما كانت تقريبا تعاني
نفس المشكلة التي كنتُ قد بدأتُ في اكتشافها في المجتمع ككل .لقد كانت تتعامل مع تلك التحقيقات الكبيرة التي
فرغة من مشاعر القلق
كانت تفضح بها جانبا و لو ضئيال من جنون هذه البالد الضائعة بنوع من الروح اآللية ال ُم َ
أو الخطر .كانت شيئا مقنعا و الواعيا .فالصحفيين يسعون طيلة األيام الصطياد األخبار الجادة و نشر التحقيقات
العميقة التي تحمل حقائق مقلقة عن الوضع السيء الذي بلغته البالد في عشرية الفساد و اإلفساد و اإلفالس
األخالقي ،التي تلت عشرية الذبح و التقتيل و العدمية .لكن و بمجرد نشر المقاالت ،التي قد تُحدث ضجة كبيرة أو
تمر بعد أيام و تهدأ إلى أن تختفي تماما .ال وجود لرجع متوسطة بحسب ما يحمله اجتهاد كل صحفيّ ،
فإن األمور ُّ
الصدى أو االستمرار في التّذكير و التثوير لعالج تلك المسائل ؟ .أظنه كان مشكل الصحافة الحرة كلها ،بل و
ربما يكون ذلك مشكل الجزائريين ككل ؟ .نحن سريعو النسيان.
الحقيقة هي أني لم أستطع النوم تلك الليلة بعدما وافق سي رزاق على نشر تحقيقي حول ملهى الحي العاصمي
الراقي .جو تلك الليلة كان دافئا بعض الشيء قياسا إلى ليالي الشتاء .فبعد تقلّب في الفراش لنحو ساعة ،أدركتُ
أنني لن أنام مهما حاولت .نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الواحدة و النصف صباحا .نهضت و اتجهت نحو
غرفة المعيشة المؤثّثة ببقايا بيت أسرتنا الكبيرة القديم في مدينة المديّة ،الذي أحضرته معي تحت ضغط أمي عندما
قررتُ أن أستقل تماما بحياتي عن عائلتي الصغيرة التي تقطن بالبليدة حيث ُولدتُ و ترعرعت .تأ ّملتُ أثاث غرفة
االستقبال العتيق للحظة و قد تذكرت أن معظمه يعود إلى بيت جدي القديم .رحت أستذكر مع كل قطعة منه ذكرى
طفولية بذاتها ،فلكل قطعة حكاية ،حدث ،أو ُمغامرة ،ارتبطت بأشخاص كبار من العائلة لم يعد لهم وجود ،أو
أقران هم اليوم غير أالئك الذين عرفت .أناس غرباء يزنون قوة األرحام بقوة المصالح ،صاروا أي شيء غير
مرة.
األطفال الودودين الذين عرفتهم ذات ّ
22
ّ
أتفطن إلى أن هذا األثاث ال يزال هنا و هو يُمثّل شيئا غير عادي في حياتي ،ربما في األيام العادية كنتُ بالكاد
بسبب روتين الحياة السريع و المجنون لمهنة الصحافة و ضغط و ضجيج مدينة الجزائر .لكنني في ليال كتلك
الليلة أو في مناسبات دينية معينة ،أنظر إليه بطريقة مختلفة تماما ،حيث أشعر بنوع من الحنين تجاهه ،عندما
الروائح
أدرك إلى أي حد فقدَ رونقه يوم تم تغيير مكانه الحقيقي ،رغم أنه ظل يحتفظ بسحره عن طريق تلك ّ
المميزة له و التي شكلت جزء من ذاكرتي الطفولية ! .نظرت إليه .ابتسمت مع نفسي للحظة ،ثم خرجتُ إلى
شرفتي الصغيرة التي أستطيع منها رؤية جزء من البحر الذي يظهر من خالل الفراغات التي تفصل بين أبنية و
عمارات باب الوادي البيضاء الموروثة من عهد االحتالل .أحنيتُ رأسي ألشعل سيجارة أدخل بها شيئا من الدفء
إلى صدري وسط تلك النسمة الباردة ،فوقع بصري على مجنون الحي ال ُمل ّقب بـ" ح ُّنوفة " صاحب ال ِّق ّ
صة
المأساوية ،شأنه شأن اآلالف من الذين غيّبت مأساة التسعينات عقولهم .كان يقطع الشارع بخطواته المضطربة و
قامته المنحنية إلى األمام و هو شارد الذهن كعادته يهمهم بينه و بين نفسهُ .رحت أراقبه و هو يبتعد شيئا فشيئا إلى
أن ابتلعته الظالل في أحد المنعطفات الضيقة المظلمة ال ُمش ّكلة للزقاق الصغيرة التي تفصل بين األبنية.
من يصدّق أن ذاك الرجل كان سنوات التسعينات فردا من جماعات الجيا .حمل السالح و شارك في كمائن و
غارات على دوريات و ثكنات الجيش و الحرس البلدي ،و على األرجح قتل الكثير من العسكر و المدنيين ،رغم
مجرد ميكانيكي بسيط متواضع التعليم يشكو مشكالت في النطق
ّ أنه كما يُحكى عنه كان شخصا يعيش حياة عادية.
و يعيش حياة الفقراء في إحدى قرى منطقة الشبلي بالبليدة ،و أن السبب الذي دفع به للصعود إلى الجبل عام
0222هو كالم ن ابي مهين في حق والدته مع صفعة و ركلة تلقاها من جندي في حاجز أمني و هو برفقة
خطيبته ! .لم يستطع الرد بشيء ،لكن أنفاس الغضب التي لم يستطع تفجيرها نحو وجه ذلك العسكري ال ُمسلّح و
ال ُمحاط برفاقه ُكبحت نحو الداخل لتقتل قلبه و بصيرته .بعد أسابيع قليلة من تلك الحادثة استجاب في لحظة غيض
شديد لنداء االلتحاق بالجماعة المسلحة بعد إحدى خطب الجمعة بمسجد القرية التي .يُقال بأنه أجاب أمه و هي
أرملة شهيد و مجاهدة خالل حرب التحرير ،عندما راحت تحاول يائسة جعله يتراجع عن قراره قائال لها " :رايح
انحارب أوناد الحنّوفة ! ".
البعض يقول أنه فقد عقله في معاقل الجيا بأعالي جبال منطقتي الشريعة و األربعاء بسبب الفظاعة التي رآها
و عاشها و ربما اقترفها .البعض اآلخر يقول أنه نزل عام 4111و هو غارق في االضطرابات النفسية ُمسلّما
نفسه إلى قوات األمن ،لكنه و لسبب ما لم يستفد من تدابير قانون الوئام المدني ،لذلك لم ين ُج من االستنطاق الذي
أفقده عقله أخيرا في إحدى ثكنات األمن العسكري بسبب التعذيب .و في كل األحوال انتهى به األمر مجنونا ضائعا
في شوارع العاصمة بعدما لم يبقَ له شيء أو قريب يعود إليه في قريته األصلية التي هجرها كل سكانها أواخر
عام 29بسبب الحرب و المجازر .ال عائلة ،ال ذاكرة و ال حاضر .مجرد ضياع في غياهب الهذيان و الهالوس و
فوضى الزمان و المكان مع نوبات موسمية من الصراخ و الكوابيس و الكالم الغامض المتداخل .من يصدّق أن
كل هذا حدث بسبب كلمة جارحة ،صفعة و ركلة !!.
23
قلتُ في نفسي و أنا أفكر في تراجيديا حنوفة " :كم من تجربة ؟ ،كم من قصة صحفية ؟ ،كم من رواية ؟ ،كم
من كتاب ؟ ،كم من دراسة ؟ ،كم من سلسلة وثائقية أو تلفزيونية ؟ ،كم من فيلم يمكن توثيق تاريخنا به ،لو جمعنا
كل هذه اآلهات الصامتة آلالف الشباب ،الذين تم تضليلهم بطرق ال حصر لها .شباب تحالف عليهم جهل و
مخاوف الذات و غضب و كبت المراهقة و ظلم و ثقل مطالب المجتمع و غطرسة و عنف النظام السياسي و فساد
تراهت مشايخ الجحيم ،فوجدوا أنفسهم يحملون السالح في الجبال و ينشرون الفوضى
و عجز الحكومة و تدليس و ّ
و الموت و االنتقام باسم الجهاد في سبيل هللا ؟ ! ".
عندما اختفى حنُّوفة في جوف ظالم العمارات ،وجدتني أعود إلى نفسي ،إلى قلقي العمم تجاه هذا الوطن ،إلى
التحدي الذي رفعته في مهنتي .لم ال أستطيع النوم بسالم ؟ .لم أشعر بكل هذا الخوف تجاه مستقبل هذا البلد ؟ .لم
أعيش كل هذا الغضب تجاه السبات المزري الذي يعيشه هذا المجتمع ؟ .ثم في لحظة عابرة طدتُ اضحك متهكما:
أيتوجب علي أن أفقد عقلي مثل حنوفة كي ارتاح من كل هذا القلق ؟ .أم علي فقط أن أجد '' فكرة '' أترجمها إلى
كلمة أحاول من خاللها أعادة إحياء ضمير هذا المجتمع تجاه الكارثة التي يسير نحوها مغمض العين ؟.
توجهت إلى غرفة الكتابة .ولجتها دون أن اشعل األنوار كوني كنت أريد الجلوس في العتمة التي كانت
تكسرها بعض األضواء الخافتة المتسربة عبر مصرع النافذة من الشارع .جلستُ مقابال حاسوبي المطفأ و أنا
أنظر إلى طيفي الباهت الذي ارتسم على زجاج شاشته الداكن تضيئه شعلة السيجارة كلما سحبتُ منها خيطا من
الدخان الممتزج بالخواطر .كنتُ أشعر بشيء ما يكاد يفجّرني من الداخل .تدحرج ْ
ت األفكار و األحاسيس داخل
ْ
قفزت و تالطمت متقاطعة و متطاحنة تتطاير في كل مكان ،كقطع الفشار عندما تالمسها موجات رأسي.
ّ
يستفزني بذلك الصوت الداخلي المقلق الذي يقول لي المايكروويف .ذاك الشيء كان قد عاد ل ّ
يهزني من الداخل،
يتحرك بطريقة مختلفة لمحاولة فهم ما
ّ بأن األمور ليست كما يجب أن تكون في هذا البلد ،و على أحدهم أن
صغر وسط هذا الواقع الكبير الهائج .هذا الركام الثقيل المتطاير .ثم يحصل !ْ .
بدت لي نفسي لحظتها في غاية ال ِّ ّ
هدأت نسبيا مرة ثانية ،كدتُ أقول في نفسي " :و من أنا حتى أكون هذا الشخص الذي يتحرك بطريقة مختلفة ؟.
أولم يسبقني إلى هذه المحاولة جهابذة الفكر و الفلسفة و الصحافة في هذا البلد ؟." .
لكن ذلك الشعور صار من القوة بما مكنه من وأد تلك الفكرة االنهزامية في لحظات .كان كيَد خفية شكلتها
بالرغم من وطأته القوية للبحث عن مدخل يكون
صمت ،تدفعني بهدوء حذر ّ
ظالل المخاوف المختبئة بين ثنايا ال ّ
بداية طريقي إلى اكتشاف هذا الشيء الذي بات يؤرقني منذ اشهر و يُثقل علي كل شيء.
أخذتُ نفسا عميقاِّ .ملتُ بالكرسي ال ُمدولب نحو الخلف قليال آخذا وضعية قريبة من التمدّد رافعا رأسي نحو
سِّيجارة .كان ذلك الضيق يتصاعد متلويا يسبح في الهواء مع الدخان الذي كنت
السَّقف أكمل تدخين ما تبقى من ال ّ
أنفثه وهو يرتفع نحو السقف متكسرا تحت الضوء الخافت لإلنارة العمومية المتسلل إلى الغرفة.
علّمنا أباء الصحافة أن وجود الكائن الصحفي يتشكل من 19أسئلة جوهرية تدور في فلكه ،تكون في العادة
طعامه و شرابه و هواءه الذي يتنفس به .من دونها لن يصوغ أي معنى و لن يضيف أي معنى في كل ما يفعله،
24
يعرف نفسه على أنه صحفي أو رجل إعالم .تلك
لذلك هو محكوم بأن يعيش قلقه الدائم بالبحث عن أجوبتها مادام ِّ ّ
األسئلة تبتدئ دوما بمفاتيحها السحرية :من ؟ ،ماذا ؟ ،متى ؟ ،أين ؟ ،كيف ؟ ،لماذا ؟ ،كم ؟.
تمتمت تلك العبارة التي طالما ردّدتها مع نفسي مذ بدأني هذا األرق الطويل...
ي للحظة على بسمة مته ّكمة خفيفة عندما ف ّكرت بأنني على األرجح متجه صوب انهيار عصبي
أغمضتُ عين ّ
بسبب مشاغل و ضغوط العمل ،و إال ما كل هذه األفكار الغامضة التي لم أجد لها حتى صياغة لغوية واضحة تعبر
عنها بدقة ؟ !.
_ " إياكم أن تنسوا يا طلبة ! .المصطلحات هي مفاتيح العلوم .إنها لفظ دقيق يُعبّر عن مفهوم أو فكرة دقيقة و
ُمحدَّدة أيضا ،إما علمية أو فلسفية أو أدبية .تذ ّكروا ،المصطلح هو عصب الكتابة العلمية القادرة وحدها على بناء
سرح المعرفة .من دون مصطلحات ،ال وجود ألي شكل مثمر من أشكال منظومات اإلنتاج الفكري البشري ،و من
ثم ال وجود ألي شكل من أشكال الحلول العملية الحقيقية لمشاكلنا كبشر" .
اتَّ ْ
سعت بسمتي الصغيرة و أنا أستحضر صوت أستاذ مادة المنهجية السيد أبو عماد ،بنبرة صوته التي تعلوها
بحة حادة ُمتر ِّتّبة عن 41سنة من إلقاء المحاضرات و الصراخ داخل المدرجات التي تشكو من تعطل
ميكروفوناتها أو مكبرات صوتها .تذ ّكرتُ حركات يديه و حاجبيه الغريبة عندما كان يجد نفسه غارقا من رأسه في
إلقاء محاضرات حول فنون البحث العلمي ،و كأنه يعرك أشكاال بيديه ال يراها إال هو ،حتى يُخيَّل إلينا أنه لم يعد
المجردة و قد
ّ بمقدوره رؤيتنا أمامه و هو على تلك الحالة ،و أن كل ما تراه عيناه خلف نظاراته الغليظة هو أفكاره
صارت مجسّدة في عالمه الموسوعي الذي ابتلعه تماما .جال بذاكرتي عباراته األولى عندما تطرقنا إلى درس
المصطلحات و المفاهيم و هو يتحدّث بإعجاب عن الخوارزمي و مؤلّفه الشهير مفاتيح العلوم ،الذي نبّه العالم مرة
أخرى إلى أنه من دون كلمات اصطالحية ضابطة لألفكار التي نود دراستها أو النظريات التي نود طرحها للتداول
الفكري ,ال يمكن بناء علوم أو نسج شبكات معارف قادرة على عالج مرض الفضول البشري المزمن .كنتُ أحب
محاضراته لسبب لم أتمكن من فهمه .ربما ألنه كان يشعرني بنوع من اإلشباع الفكري بتفكيره العقالني الممزوج
بشكل غريب جدا بالكثير من الصور الفلسفية و األمثلة الخارجة عن المألوف أو حتى المستساغ لدى المجتمع.
أحس بأنني لست الشخص الوحيد في هذا البلد الذي عاش باعتقاد راسخ أنه شخص مختلف عن
ّ ربما كان يجعلني
اآلخرين منذ طفولته ؟ .أو ربما كونه كان هو اآلخر مهوسا بهموم هذا الوطن و هو الذي صار جزائريا أكثر من
الجزائريين رغم جذوره الفلسطينية ؟ .كيف ال و هو الذي عشق هذا البلد حتى قبل أن يأتيه أستاذا شابا بداية
الستينات ؟.
في بعض األحيان أقول أنه هو من كان وراء تفجير ينبوع القلق الدائم تجاه مشاكل هذا المجتمع و هذا البلد،
بشكل ما ؟ .لكنني ال أنسى يوم ْ
بدت على محياه نظرة تأسُّف حين التقى بي و علم مني أنني قد غيّرتُ مجال
25
صحافة و اإلعالم .عبّر عن أسفه بتلك المزحة التي حملتها كلماته التي لم تتخلص
دراساتي من علم االجتماع إلى ال َّ
بشكل تام من لكنتها الشامية بعد أكثر من أربعين عاما من العيش في الجزائر...
_ أولسنا نعيش في مزرعة كبيرة ؟ .ضيعة شاسعة فيها الكثير من البساتين و االسطبالت التي تعطي
منتوجات زراعية و حيوانية مختلفة .المشكلة أنه في مزارعنا في العالم الثالث ،نباح الكالب ال يعني الكثير لنا،
فهي كائنات محتقرة من األساس رغم أنها في الواقع حيوانات في غاية الوداعة و الوفاء و التعلق بأصحابها .لكن
إذا اكتشف الكلب شيئا ما في مكان ما من الضيعة ،و ظل ينبح محاوال تحذير الجميع أو لفت نظرهم ،في الغالب
الرجم بأقرب حجر تصله أيديهم إلسكاته.
األعم يقابلونه بنوع من اإلهمال في أحسن األحوال ،إن لم يكن السب أو ّ
صح ؟ .هذا هو حال الصحافة عندنا .الكل يحذرها و الكل يخافها و الكل ال يقدر جهودها .هناك من ال يصدّق شيئا
مما تكتب ،و هناك من يصدّق لكن ال يفعل شيئا ظنا منه أنه بعيد عن المشكلة أو أنها ال تعنيه!.
_ ألم تضع في حسبانك يا أستاذ أنه هناك بين كالب الضيعة من ال يؤتمن أصال في نباحه .بل و ال يؤتمن
حتى في وجوده داخل هذا الحيز ؟.
_ آه ! .السؤال األكثر منطقية و إلحاحا من الناحية المنهجية هو التالي :من سمح بإحضار أو إدخال هذا الكلب
حول مملكة السّويد إلى
غير النافع و ربما الضار إلى المزرعة في المقام األول ؟ .هل تعرف السر الحقيقي الذي ّ
بلد رائد في مجال الديمقراطية و حرية التعبير و حقوق اإلنسان في العالم ؟.
_ ببساطة ألن السّويد كانت أول أ ّمة في التاريخ أسّست مجلسا وطنيا يراقب أخالقيات مهنة الصحافة ،حيث
كرس على مدا ر نحو قرن من وجوده فكرة الصحفي الذي يراقب ضميره و المؤسسة الصحفية التي تراقب
ّ
توجهاتها من الناحية االحترافية و األخالقية بال هوادة و ال تخاذل .إذا وصل الفساد األخالقي إلى قلب الصحافة في
أي بلد مهما كان ،فاعلم أن الفساد ينخر كل مناحي حياته بال استثناء و أن ساعته فعال قد حلّت ! .ال ّ
صحافة يا بني
إما أن تكون خط الدفاع األخير عن ضمير األمة ،أو ال تكون شيئا على اإلطالق.
ي بهدوء ثم أطلق ضحكة و هو يرفع نظارته الغليظة المنزلقة على أنفه بسبّابته...
أذكر أنه نظر إل ّ
26
إياك أن تخون أو تخذل مهنتك بما أنك اخترت أن تكون في هذا الموقع الذي يخولك اكتشاف األخطار المحدقة بنا
في هذه الضيعة الضائعة .تعلم ! .في سنوات التسعينات كنا دوما نطرح سؤال " من يقتل من ؟ " لكن اليوم فإن
السؤال األهم في هذه المرحلة من تاريخ بلدنا الجريح هذا هو " :من ينتظر من ؟ ".
ذاك الرجل جعلني من خالل طريقته الغريبة في طرح المواضيع أفهم أن معاكسة طرق التفكير السائدة في
مجتمع ما بشكل مستفز أحيانا – كقصة الكلب تلك – هو أمرض ضروري .كان يمكنني أن أشعر باإلهانة و
الغضب لمجرد أنه مثّلني بكلب ! .لكنني بالعكس تماما ،كنت معجبا بجرأته في رؤية األمور من منظار خاص به
وحده ،سواء أعجب ذلك اآلخرين أم لم يُعجبهم .كان يشعرني بطمأنينة غريبة و على األرجح أنه الشخص الوحيد
حتى اآلن الذي تقاسم معي قلقي الغامض بشكل ما ! .ال أدري كيف لم يخطر على بالي أن أربط معه عالقة دائمة
و تركته يضيع من شبكة معارفي هكذا ؟.
عندما تركني ذاك اليوم و هو يتجه إلى مدرجه ليلقي محاضراته المعتادة خطر على بالي سؤال آخر .تردّدت
في جعل الدكتور أبو عماد يقطع مشيته المرهقة تلك ليلتفت إلي ،لوال أني تذكرت أنه من نوع األساتذة الذين
تعتريهم دوما مالمح فرح طفولية أمام أي سؤال أو استفسار من طالب حائر أو فضولي .ناديته معتذرا .التفتَ إلي
بعد أن توقف و هو يحتضن محفظته الجلدية القديمة المثخنة باألوراق و الملفّات و الكتب بين ذراعيه كعادته.
_ أوووه ،تلك ليست كالب ضيعات و مزارع يا بني .تلك كالب فيالّت و قصور فاخرة ....أنت تعلم......إذا
نبح كلب القصر فإن جميع سكانه يسمعونه بشكل واضح و ينفرون إليه لمعرفة السّبب !.
هكذا ،في تلك الليلية الهادئة و بعد أن رحت أتذ ّكر حواري مع الدكتور الجامعي ،قلتُ في نفسي أن الموضوع
يتعلق بالطرق الممكنة للتعبير عن هذا الخطب و لفت النظر إليه .السر يكمن في الكلمات Viktor Hugo .نفسه
قال بأن " الكلمات مخلوقات حية " .األديب اللبناني الكبير أمين معلوف تحدث عن وقع الكلمات و قدرتها على
يحول قلمه إلى
سرها ليحولها إلى ذخيرة حية و ّ ِّ
تغيير المجتمعات .إنها قويّة و ليست عفوية ،إن َوجدت من يفهم ّ
سالح أفتك من البارود .ال عجب أن نابليون بونابارت كان يخشى صرير األقالم أكثر من خشيته دوي المدافع
إذن ! ،William Faulkner .عمالق األدب األمريكي ،كان يعتقد أن الكلمات إذا ما ُجمعت بشكل جيد فإنها
حتما تنتج شيئا على قيد الحياة ! .إذن ،الكتابة كالسحر تماما ،بل هي شكل من أشكال التأثير الحقيقي ،و سر
نجاحها في سلب عقول الناس و التأثير فيهم يكمن أساسا في مهارة جمع و تشكيل تعويذاتها لتصويبها نحو الهدف
المرجو .العقول ،القلوب و األرواح .بالنسبة لي ،الكمات كانت قوالب و أجساد ،األفكار أرواحها.
من جانب آخر ،لم أكن أبحث عن مجرد ثمار فاسدة رغم أني – كصحفي – عثرت على الكثير منها .بل كنتُ
سبقي
َ أبحث عن أمهن جميعا .الثمرة الشريرة التي أفسدت كل المحصول و جعلت الضيعة تُفلس ! .هذا ما سميته
النهائي .كلمتان تختزالن فكرة شاملة .إنه السبق الشخصي الذي سأحاول جاهدا الوصول إليه ألكشف من خالله
27
مشكلة هذا البلد الجوهرية ،لكن التحدي كان في إيجاد مصطلح الفت يقف خلفه مفهوم رمزي عميق ،يشد ال ِّفكر و
أجرهم للتفكير في حل حقيقي لوضع هذا البلد.
القلب معا الكتشافه ،أقوم بترويجه للنخب و المجتمع ،ربما ّ
نهضتُ من الكرسي و رحتُ أحوم بتثاقل أف ّكر مع نفسي و أدور وسط الغرفة كوطواط يتحسّس سبيله بسمعه
السوناري الحاد لكنه ال يزال عالقا في مكان لم يجد له مخرجا .رحتُ أحك وجنتي تارة ،و ذقني تارة أخرى.
مددتُ يدي ألدلّك بها عنقي و م ّ
سدتُ بها شعري .كانت تقترب ،أكثر فأكثر ،أحسستُ بها أخيرا و هي تدنو إلى
وعيي .شيء جديد .رؤية مختلفة لكنها قريبة جدا من فهم المجتمع ،أو ألقل فهم الجيل اليافع الغاضب من وضع
البالد على األقل .انتصبتُ في مكاني أخيرا .فجأة ،غصتُ لدقائق في تفكير يقترب إلى التأمل العميق ،كنت فقط
أفكر.
ْ
ومضت في ذهني !. ..........
-3-
28
تدشين عمود القلق
" كم يوجد من شخص ال يريد ذهنه التغافل عن طرح األسئلة المقلقة في هذا البلد يا ترى ؟ .أنا و الدكتور أبو
عماد فقط ؟ " .قلت في نفسي و أنا أقود سيارتي " البيجو " 411الرمادية المبعوجة من جانبها األيمن آخذا نهج
العقيد لطفي متجها إلى مقر الجريدة .طرحت ذلك السؤال العابر و العفوي على نفسي و أنا أتذ ّكر الليلة الفارطة
التي لم أنم فيها حتى وجدت شيئا يهدئ ذلك القلق .فكرة موضوع أكتب عنه في الجريدة ،و أهادن به جزء من ذلك
أوصل
القلق الدفين و المستفز الذي يسكنني حد الهوس .موضوع أجعل منه فاتحة طريق نحو سبقي النهائي بشكل ِّ
به قلقي إلى الرأي العام ،لعلي أجد من يتقاسمه معي .أشخاص على شاكلة أبو عماد مثال ،بل و يُساهم بشكل ما في
الوصول إلى نفس الغاية ،و هي إيجاد تفسير لسؤال كبير كان الرئيس المغتال ال َّ
شهيد دمحم بوضياف قد طرحه ذات
يوم مضطرب بداية التسعينيات ،بحدسه الذي ثبتته تجاربه الحياتيه المريرة ،و حصافته التي صقلتها عقود من
النضال و التجارب الكبرى ،بنظرته الذابلة الحزينة و المرهقة تساءل ( ." Où va l’Algérie ?! " :الجزائر,
ْ
انطلقت منه البالد نحو وجهتها المجهولة تلك ،إن إلى أين ؟ ! ) سوى أني كنتُ أريد أن َ
أفهم السبب األساسي الذي
أمكن.
هكذا كنت أسوق سيارتي متقدما على طول الشوارع و األنهج ،أغوص تارة مع أفكاري ثم أعود ألتأمل تلك
األجواء التي كانت تعلن عن اقتراب فصل الصيف .كان الجو مشمسا و جميال جدا ،بدأت معه نفحات مبكرة لفصل
الربيع تتصاعد كلما زاد ارتفاع الشمس في السماء .شمس العاصمة التي راحت تمسح أبنية المدينة البيضاء
بمنديلها الضوئي بلطف ُمزيلة ما تستطيع من الظالل المختبئة في زواياها و تفاصيلها المضطربة ،تجعل من
المتسرب بانسيابية واضحة ،و
ِّ ّ يعرف تفاصيل حياة مدينة الجزائر يستشعر ألقها الهارب في عمق متاهات قلقها
الذي يميل شيئا فشيئا إلى ضغط و ارتباك يتجلى تدريجيا مع مرور الساعات الصباحية .في حركتها الكثيفة،
مالمح سكانها و نبرات أصواتهم المختلفة ،مع طغيان اللكنة العاصمية الشهيرة طبعا ،في صدى صفارات مركبات
الشرطة أو سيارات اإلسعاف المتالطم بين عماراتها المتراصة ،في هوائها البحري الذي يمتزج فيه عدد كبير من
الروائح التي تجمع بين دخان السيارات و الغبار و روائح األطعمة السريعة و النسمات المتقطعة القادمة من البحر
القريب ،من زقزقة العصافير و تحليق طيور النورس فوق األسطح البيضاء ،تجعلك هذه المدينة تتلقى ومضات
هاربة من وحي أحداثها الماضية .إن كنتَ ذو روح متحررة من قيد فيزيقا الجسد و سطوة الزمن ،قد يستشعر
وعيك لبضع أجزاء من الثانية كيف كانت أجواء معركة الجزائر التي وقعت قبل 29عاما من ذاك اليوم ،في تلك
األحياء و تلك الشوارع التي تفص ل بينها الطرق الضيقة و تربط بينها ساللم الدرج و تحيط بها األبنية الكولونيالية
البيضاء بشرفاتها و نوافذها الصغيرة الجميلة ذات األطر الزرقاء في الغالب ،و التي ال تزال مأهولة أطياف
الماضي ،التي عاشت تلك الحقبة المضطربة من تاريخ هذه األمة.
عندما وصلت إلى مقر الجريدة داخل دار الصحافة ،ركنت السيارة و فقزت منها و أنا أحمل في يدي بعض
األوراق التي تحتوي على بعض المقاالت ،إذ أن رئيس التحرير غالبا ما يُحبذ قراءة ما نبدعه مطبوعا على الورق
بدل قراءته على شاشة حاسوبه في المكتب .دخلت مباشرة و أنا أحيي عامل االستقبال الذي أعطاني نسخة الجريدة
29
لذلك اليوم و التي كانت بحوزته .ألقيتُ نظرة فاحصة على العناوين الرئيسية فيها و أنا ألج قاعة التحرير .لمحتُ
صوفيا ،زميلتي في العمل و صديقتي الوفية خارج العمل .فتاة ذكية ،حيوية و جد مرحة ،تتقاسم معي ولعي بالكتب
و الموسيقى و السينيما ،رغم أن لها قصة حزينة جدا تجاه هذا الوطن.
كنتُ أتوغل داخل مكاتب الجريدة التي كانت تشبه خلية نحل حقيقية ،بضجيجها المهني الذي يغلب عليه رنين
الهواتف و أصوات نقر األصابع على ألواح مفاتيح الحواسب و أحاديث الزمالء ،و خصوصا تلك النظرات
الناعمة و البسمات المنعشة التي تذاعبني بها أعين و شفاه بعض الزميالت .آه كم أحبُّ هذه الحركية المهنية في
متدربا في قسم أخبار المجتمع عن تأخر البريفينغ فأخبرني أن رئيس القسم لم يأت
ّ مقر جريدتي ! .سألتُ زميال
ُّ
فالتفت إلى صوفيا التي كانت تقف مع زميلين آخرين غير بعيد و أنا أضع كفي على بطني و أقوم بهزه قليال. بعد،
أشارت برأسها إلى مكتب رئيس التحرير .تلك هي إشارتنا السرية عن السي رزاق صاحب الكرش البارز،
أسرت لي ذات مرة أنها تتقزز من ذوي البطون الكبيرة و الطرية ،لهذا غالبا هي تنظر في وجه السي
فصوفيا ّ
رزاق مباشرة عندما تحادثه محاولة أال تجعل بصرها ينزل إلى بطنه البارز ،خشية أن يجعلها ذلك تقوم بأي رد
فعل ال إرادي ينم عن االشمئزاز ،و لطالما لمتها على هذا التحسس المبالغ فيه.
قالت لي ذات مرة متململة وسط غرفة معتمة و نحن في اجتماع مهم مع طاقم الجريدة بصوت خافت " :إنه
الرجل لبطنه بالبروز و التر ّهل ليصبح " شحم ّ
ي " الملمس هكذا .آآآآعق ! .ال أستطيع تصور ألمر مقزز أن يسمح ّ
كيف يكون وضع زوجته المسكينة و هي ترزح تحت سطوته الرخوية تلك ليال .أراهن على أن وزن السي رزاق
ال يقل عن التسعين كيلوغراما ،يحظى فيها كرشه بحصة األسد .أال يبدو لك أنه يزن بين خمسة و عشرين و
ثالثين كلغ ؟ .أتفهم سبب شكواه الدائمة من أوجاع ظهره التي يُرجعها إلى سوء تصميم كرسيه الذي قد يحسده
عليه رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء لجودته و راحته ! .لكن ...تصور ،ثالثين كيلو زيادة فوق جسد
المخلوقة .مسكينة ! " .واجهتُ غيبتها و مزاحها السّمج مستفزا و الئما " :كفي عن هذا يا فتاة ! .آه أيتها النسوة،
ُّ
صمت قليال و أنا أفكر في األمر، كم أنتن وقحات ! .ما شأنك و شأن الحياة الحميمية للرجل ؟ .دعيه و شأنه ! ".
ثم همستُ لها بعدما وجدت نفسي أنساق إلى لعبتها القذرة تلك " :ثم ألم تفكري في إمكانية أن تكون حال زوجته
من ناحية تر ّهل الجسم و زيادة وزنه أسوأ بكثير من حاله ؟ " .تغيرت مالمح الفتاة للحظة و زاغت نظراتها في
ّ
محطمة هدوء و جدية االجتماع ،أمام حيرة بقية الزمالء و الفراغ و كأنها تتخيّل الوضع قبل أن تنفجر ضحكا
رئيس التحرير المسكين .منذ ذلك اليوم صار كل واحد منا يضع يده على بطنه كلّما أراد أن يسأل عن مكان رئيس
السي رزاق ،دون الحاجة إلى قول أي شيء.
أخذتُ نفسا عميقا قبل أن أدق على باب سي رزاق الذي كان يتحدث عبر هاتفه الخلوي فنظر إلي و هو
يدعوني للدخول بإشارة من يده حين كان أحد الصحفيين الجدد يخرج من عنده بوجه متجهم .شيء ما لم يكن على
ما يرام .طبعا ليس سهال أن يجعل المرء رئيس تحرير مثل السي رزاق ينشر ما يشتهيه في أحالم يقظته ،فهو ال
يقتنع فقط بمضمون العمل مهما كانت جودته ،بل يجب إقناعه أيضا بنتائجه و مردوده في ساحة الرأي العام .تلك
هي قاعدته الذهبية في العمل.
30
جلستُ مقابال إياه عندما أقفل الخط متأففا و هو يرمي بجثته الضخمة على كرسيه ،ثم نظر إلي و فهمت أنه
كعادته يريدني أن أدخل مباشرة في صلب الموضوع بما قل و د ّل من كالم.
_ سي رزاق ،لدي فكرة عمود جديد أكتب فيه بعض اآلراء و التحليالت التي تخص واقع المجتمع الحالي.
عمود يحمل اسم ،و قد يبدو لك األمر غريبا بعض الشيء " ،موسطاشيَّات " .مساحة 221إلى 211كلمة ستكون
ممتازة !.
ي ِّ كنتُ مباشرا و سريعا فوق اللزوم .هذا ما كنتُ أخشاه قبل ُّ
صمت لوهلة " .يا اله ماذا فعلت ؟ ! " .أدركتُ أن ّ
أن أدخل إليه ! .يحدث لي أني أفقد قدرتي على ترتيب و صياغة األفكار بشكلها المنهجي المقنع كلما وجدت نفسي
في موقف حاسم يتطلب مهارة إقناع لفظي مختصرة في بنيتها و عميقة شاملة في مضمونها ؟.
قاطعنا الهاتف الذي رن فوق مكتبه ،فأشار إلي بإبهامه كمن يطلب دقيقة .اغتنمتُ الفرصة ألعيد ترتيب
أفكاري في ذهني حول هذا المفهوم الذي أود اقتراحه .في الوقت الذي راح فيه سي رزاق يتحدث عبر الهاتف
بانفعال و هو ينقر باصابع يمناه على المكتب...
_ نعم ! .ما األمر ؟ .....حقا ؟ ......حسن ،ال بأس ،يمكنكَ أن تبدأ بالموضوع الثاني .لقد تحدّثتُ مع خالد
بخصوص المساحات الجديدة بعد إنقاص الجمل التي طلبتُ حذفها من المقال .....أجل ...أجل .ال بأس به إذن ،لكن
أريد منك أن تكون سريعا في عمل ذلك فقط .ال تجعلني أغضب كما في المرة السابقة .ال أريد أن نجد أنفسنا بعد
يوم غد ننشر تصويبا نعتذر فيه للقراء عن أخطاء مثل تلك .تعلم أني أكره هذا كثيرا .ال تجعلوني أبدو كأحمق
مجلس اإلدارة في هذه المؤسَّسة يا جماعة ! .صحَّه.
31
أقفل الخط بشيء من القوة ثم نظر إلي و هو يمد سبابته و إبهامه نحو شاربه األحمر الغليظ ليمسّده بهما:
_ هِّه ،أعلم ،أعلم سي رزاق .كلمة تحمل استفزازا ما في مضمونها ،لكن ال تقلق .لم أستلهم هذا المصطلح من
شواربك......
ُّ
فصمت للحظة ثم قلت له قاطعني و هو يشير بإبهامه خلف ظهره نحو صورة الطاهر جاووت المعلقة وراءه.
بهدوء...
ّ
لتستفز عقل الرأي العام ! .قل ما عندك ،أنا ُمنصت !. صحفية ُوجدت
_ األعمدة ال ّ
_ حسن ،لنقل أن موسطاشيات هي عنوان داللي أو اختزالي لمفهوم العمود نفسه ،لكنها مرتبطة أصال
بمصطلح " الموسطاشيا " .إنها كلمة ابتكرتها ليلة البارحة فقط ،تُعبّر عن مفهوم أحاول به تفكيك الواقع
االجتماعي و السياسي الذي نتخبّط فيه انطالقا من رؤية سوسيو -تاريخية ،أنت ترى.....
_ طيب ...طيب .و لكن ما أريد فهمه قبل ذلك هوَ :لم " الموسطاش " أصال ؟.
رزاق .إنّه رمز ارتبط بالجيل السَّابق .الرسالة التي أودّ بعثها هنا هي أن الشوارب و إن
_ بسيطة يا سي ّ
كانت ،و ال تزال ،تمثل الجيل القديم المش ّكل اليوم من الكهول في الغالب رمزا للرجولة أو الفحولة ،فإنه في ذهن
الجيل الصاعد ال يعدو أن يكون سوى رمز للسلطة األبوية البالية التي أدّت إلى انحرافات اجتماعية و أخالقية و
سياسية كثيرة....
_ ال ال ال ....ليس بالضرورة !.....لنقل أنه فاصلة بين جيلين ال يفكران بنفس الطريقة و هو ما يخلق ثغرة ال
تزال تتسع عقدا بعد عقد ،خاصة و أن الجيل السابق ال يزال يُصر على التدخل في تخطيط و تسيير حياة الجيل
الحالي ،رغم أنه يعيش زمنا تغيرت قواعد التفكير و التحرك فيه إلى درجة أنها تجاوزته تماما....
32
_ ما هذا يا فتى ؟ .ال أزال أشم رائحة صراع أجيال هنا ! .تريد أن تكتب عن أخطاء هذا الجيل الذي ال يزال
يتغنى بالشرعية الثورية مثال ؟.
_ سي ّ
رزاق .جيل الشرعية الثورية هو نفسه كان نتاج ظروف تاريخية معينة ،لها قيمها و معاييرها التي
صاغت اتجاهاته و أحكامه و أساليبه الخاصة في التعامل مع مختلف ظروف العصر .نحن نتحدّث عن ترسبات ما
ال يقل عن 11عاما نشأت في جيل واحد ،الجيل الذي بدأ يغير نمط تفكيره راديكاليا منذ تأسيس منظمة " لوس "
عام 0229التي كانت نواة ثورة نوفمبر .إنها ترسّبات تلقي بأثقالها علينا اليوم .أثقال لم يعد من السّهل حملها
ّ
تعطل سيرنا إلى حد ال يُطاق ،و هذا بالضبط سيكون من األشياء التي سأحاول دراستها و جميعها ،فقد باتت
تفكيكها و الكتابة عنها في قادم األيام .صدقا ،أريد أن أكرس نفسي لهذه الفكرة يا سي رزاق !.
زاغ بصر سي رزاق ،ثم تمتم جملة غريبة و هو يكاد يبتسم كأنما يرى لحظة جميلة من ماض بعيد....
_ أكلنا الحديد و العذاب مقابل أال نشرب الذل في حليب من يُحاكمنا اليوم.
_ عبارة قرأتها في إحدى روايات واسيني األعرج و أنا مراهق و هي لشخصية ثورية متخيَّلة .آه ،أجل،
رواية ضمير الغائب .الرواية التي حدَّدت مهنة مستقبلي و حياتي .أنتَ و أترابك كنتم يومها ال تزالون معلقين
بأثداء أمهاتكم.
تنهد سي ّ
رزاق بعدما اختفت تلك البسمة الخفيفة من تقاسيم وجهه العريض ،ثم راح يفكر مع نفسه قليال و هو
يحك شفتيه بسبّابته مع نظرة زائغة عبر النافذة .للحظة ظننتُ الفكرة أعجبتهُ .رحت أتر ّقب إطالقه لنحنحته تلك،
لكنه اعتدل في جلسته و هو يشابك بين أصابع يديه و كأنه يود أن يجيبني عن استفساري .كان جوابا طويال...
_ حسن يا أمين ،لننظر إلى الموضوع من هذه الزاوية :هذا الجيل الذي تود الكتابة عن ترسباته التي تلقي
األمرين من أجل أن تولد أنت تحت شمس
ّ بأثقالها المزعجة على الجيل الذي تنتمي أنت إليه ،هو الجيل الذي عانى
الحرية ،و إن كانت حرية مبتورة ،و تنعم بتعليم و عالج مجانيّين رغم كل مساوئهما .إنه الجيل الذي بنى لك
تخرجتَ منها لتجد نفسك اليوم إنسانا بشهادة جامعية .أنتَ اليوم صحفي يكتب ما يشاء على العموم ،و
الجامعة التي ّ
يتنقل إلى حيث يشاء في بلد مستقل ،على األقل ،هو مستقل عن التواجد العسكري األجنبي في أحسن األحوال .اآلن
أال تعتقد أن العيوب أو الترسبات المزعجة التي تود الكتابة عنها قد تجد توازنها بشكل ما مع المحاسن و الحسنات
التي قدَّمها هذا الجيل إليك بما يستطيع و بما يسمح له مستوى تفكيره و ذهنيته و طريقته في رؤية األمور ؟.
يعوض وزنها الضائع إن هي حسنات و إن كانت ناقصة في عدة نواحٍ ،فإن رمزيتها قد تكون أكثر شيء قد ّ ِّ
حر رك صبيحة البارحة فقط من أعتى و أعنف قوة استعمارية عرفها العالم ُوضعت في ميزان التاريخ .هذا الجيل َّ
بعد امبراطورية الرومان ! .ماذا يمكن القول ؟ .على األرجح :لوال كفاح أجداده المرير ذاك ،لربما كان أمين
33
مجرد شاب أ ّمي حافي القدمين ،يُح ِّّمل صناديق المشمش و العنب على كتفيه
ّ وشاكي اليوم ،في هذه اللحظة بالذات،
في حقول الم ِّتّيجة بأجر رخيص في إحدى ِّملكيّات الكولون ! .أترى ؟ ،هذا الطرح قد تجده في انتظارك من طرف
جربنا فكرة هذا العمود .كيف سترد عليه و تقنعه بأن مصطلح " الموسطاشيا "
البعض أمام الرأي العام في حالة ّ
ضحك مته ّكما – أراهن
ِّ هذا يستحق الدخول إلى قاموس التداول اإلعالمي و السياسي و االجتماعي في البلد –
بم
صبون للعربية الكالسيكية و في مقدّمتهم والدك !َ .
على أن أول من سينتفض ضد كلمة الموسطاشيا هذه هم المتع ِّ ّ
سترد يا ترى لتقنع الجميع بقراءة عمودك و متابعته ؟ .كيف ستبرر موقفك و أفكارك تجاههم ؟.
هذا الرجل بارع جدا ! .قد يبدو شخصا بدينا يميل إلى حب الوالئم و لكنه قبل أن يكسب وزنه الزائد ذاك هو
إعالمي مخضرم .كان ضمن شباب أكتوبر .22بدأ طريقه كإعالمي شرس غير مهادن ،و رغم التضييق و
المالحقات و السجن ،ظل يكتب ضد النظام المشكل في مجمله من بقايا الجيل الثوري و الجيل التالي الذي عاصره
و تتلمذ على يديه .لكن ِّحسّه المهني و النقدي جعله في تلك اللحظة يضع رأيه الخاص حول جيل الشرعية الثورية
الذي طالما كتب عنه ما يُغضبه و يُغيظه جانبا .كل ما كان يريده هو اختبار ذاك االقتراح الجديد الذي كنتُ أحمله
له ،و مدى جدّيته و قدرته على إضافة شيء جديد تساهم به " النبأ اليومي " كقيمة مضافة و مثمرة في الحياة
اإلعالمية أو الفكرية للبلد.
_ سي رزاق ،تصور معي مثال لو أن شارل ديغول ،هذا االستراتيجي الفذ الذي حارب النازية و ساهم في
تحرير فرنسا من التواجد األلماني ،و بذل كل ما يستطيع من أجل إبقاء الجزائر فرنسية ،بل و حتى عندما خسر ما
يسمونه عبثا في فرنسا " حرب الجزائر " بذل أقصى ما يستطيع من خالل دهائه السياسي من أجل الحفاظ على
استمرار روح فرنسا ثقافيا و اقتصاديا في هذا البلد .كل هذه اإلنجازات كان بوسعه أن يصنع منها ما يُسمونه عبثا
في الجزائر " شرعية ثورية " ،فقط ليستمر هو و جيله من أمثال فرانسوا ميتيران ،جاك سوستيل ،جاك ماسو،
مارسيل بيجار و غيرهم الكثير ،في الهيمنة على مؤسسات الجمهورية لعقود باسم كفاحهم المرير من أجل
سولت لهم ابتكار حكاية الشرعية هذه ،كيف كانت
المصلحة العليا لألمة الفرنسية ...تصور للحظة لو أن أنفسهم َّ
حال فرنسا لتكون اليوم يا ترى ؟.
_ ال ال ال....إنّك تتحدّث عن جيل من القادة الفرنسيين يُعتبر حلقة أخرى من سلسلة طويلة جدا من التطور
الفكري و السياسي في فرنسا .إطراد تاريخي بدأ منذ .0972إنهم نتاج مؤسسات ثقافية و سياسية و دينامكية فكرية
تكرست
استمرت زهاء 091عاما وصوال إلى عهدهم ،معها ّ
ّ و اجتماعية ثابتة في جذورها و متطورة في نموها
ثقافة المؤسسات الجمهورية في أذهانهم ،و إن كانت الثورة الجزائرية قد أطاحت بالجمهورية الفرنسية الرابعة ،إال
أن ثقافة المؤسسات ظلت تهيمن على فكر الغالبية من القادة الفرنسيين .ال أرى مجاال للمقارنة بصراحة.
34
_ ربما يمكن أن نعتبر جيل الشرعية الثورية عندنا بمثابة جيل Robespierreعند الفرنسيين ؟.
نظرت إليه مبتسما بعد أن جعلني بقوله هذا أصل إلى حيث أريد الوصول..
_ بالضبط يا سي رزاق ! .بالضبط ! .في كل األحوال كنا سننتهي إلى النتيجة نفسها ،سواء تحدثنا عن جيل
بررة في كل األحوال ،أو هكذا
ديغول أو عن جيل روبسبيير .....إنه شيء يكاد يكون حتمية تاريخية ،لكنها ليست ُم ّ
أراها.
_ بيت القصيد في ما أود أن أجعلك تراه هو أن جيل Maximilien Robespierreهو الذي قاد الثورة
الفرنسية للتحرر من القمع و الظلم .لكن ماذا حدث بعد ذلك ؟ .أخبرني !.
صمت سي رزاق قليال ،ثم هز حاجبيه ضاغطا شفتيه ببعضهما كمن يتأسف و هو يتنهد..
_ 0211مواطن فرنسي تم إعدامهم بدون رحمة بين سنوات 0924و 0922من طرف روبسبيير الذي لم
يرحم حتى رفاق دربه و كفاحه ،حيث قتل و سجن و نفى الكثيرين منهم .من أجل ماذا ؟ .كل تلك المجازر وقعت
فقط ألن الكثيرين كانوا ضد حالة االحتقان االنفعالي و الغلو في المواقف الذي خلفته الثورة و دفعوا ثمن
سِّياسية...
معارضتهم أو حتى وسطيتهم ال ّ
_ ...اآلن سي رزاق ،تصور معي لو أنه في الفترة القصيرة ،ظهر شاب فرنسي غير راض عن تلك األحوال
السيئة التي كانت تمر بها فرنسا ما بعد الثورة ،و أراد أن يثير انتباه الناس إلى األخطار و النتائج المنجرة عن
األخطاء التي وقعت فيها الثورة الفرنسية ،فيقف له رجل وهو يقول له " :هيــــه يا ولد ! .ال تنسى أن روبسبيير و
جماعته هم الذين حرروك من استعباد رجال الملك و استغباء رجال المسيح و استغالل رجال اإلقطاع ،بصرف
النظر عن الفظائع التي ارتكبوها ،ال بد أال تنسى أنهم أصحاب فضل كبير عليك ! " .أترى أن هذا الطرح كان
ليكون منطقيا أو مقبوال في مطلق األحوال ؟ !.
_ أه .يمكن للبعض أن يقول لك أن العبرة بالنتائج ! .سيقولون لك أن التجاوزات الكثيرة التي ارتكبها النظام
الجزائري الناشئ سنوات الستينات كانت شرا ال بد منه للحفاظ على الوحدة الترابية و تجنيب البالد غزو جيرانها،
تهوره السياسي و طغيانه العسكري و ما إلى ذلك من التبريرات .ثم إن الثورة
بالرغم من أخطائه بل و حتى ّ
قوة عظمى بعد قرنين من الزمن.
الفرنسية و رغم كل أخطائها قد جعلت من فرنسا ّ
التزمتُ لحظة صمت قصيرة و أنا أنظر إليه .أعجبتني مقاومته كثيرا ،كونها ممتلئة بالواقعية أكثر من
العاطفة .بيّنت لي أنه فعال من النخبة المثقّفة .رجل ليس من السّهل التأثير فيه حتى لو كان يحمل أفكارا و مواقف
35
مشابهة لتلك التي يُراد جعله يقف ليساندها و يرعاها عن طريق الجريدة .إنه يرفض ذلك حتى يرى درجة ثبات و
اقتناع صاحبها نفسه بها و مدى استعداده للدفاع عنها ضد من يعارضه فيها .ال عجب أن المؤسسة قد عرفت كل
ّ
استفزني في نفس الوقت ،خاصة عندما قابلني بنظرته الهادئة تألقها في عهده .لكن كالمه بقدر ما أعجبني ،فقد
المترقبة تلك..
_ إذن يا سّي ّ
رزاق ،ربما يجدر بنا أن ننتظر 021عاما لنرى الجزائر تتحول إلى قوة عظمى ؟ !.
_ لمال ؟ .أال تبدو لك فترة 021عاما منطقية لبروز أولى ثمار أي مشروع وطني ناشئ ؟ .الصينيون اليوم
بالكاد بدئوا يقطفون ثمار مشروع ثورة ثقافية وطنية انطلق قبل أكثر من 11عاما و نتائجه النهائية لن تكتمل إال
بعد نحو 21أو 11سنة من اليوم .األمريكيون تحولوا إلى قوة عظمى و نموذج جد رائع في بناء المؤسسات
الدستورية الراسخة بعد نحو قرنين من نهاية حرب استقاللهم ضد التاج البريطاني .األوروبيون وصلوا إلى قمة
مجد اتحادهم بعد 91عاما من العمل المضني بعدما ورثوا قارة د ّمرتها الحرب ،و رغم كل الهزات التي يتعرض
لها اتحادهم اليوم على المستوى االقتصادي ،هم ماضون بثبات و روية في طريقهم ! .أال ترى أن التاريخ لن
يكون منصفا إن هو مكننا ،بكل عيوبنا و نقائصنا التي يندى لها الجبين ،من الوصول إلى مصاف القوى العظمى
في ظرف نصف قرن فقط ؟ .حسن ،أتريد المراهنة على 021سنة القادمة ؟.
أحسسته يستفزني أكثر و يتمادى في ذلك .وضعت يدي في جيبي و عدت ألجلس في مكاني واضعا ساقا فوق
ساق ،قبل أن ألتفت إليه....
_ بعد 021عاما لن نكون أنتَ و أنا هنا لنرى من سيفوز في هذا الرهان .هؤالء الذين يحكمون منذ 0214
يسيرون بمنطق الملك لويس الرابع عشر " أنا الدولة ! " .المادة 49من الدستور الحالي تؤ ّكد ذلك ! .ماذا تنتظر
من مشروع دولة تسير بهذه العقلية غير االنحطاط و االندثار باندثار من يُسيّرونها ،ها ؟ .أنت تعلم هذا جيدا.
أطلق ضحكة بعد أن الحظ انفعالي ال ّشديد و احتقان وجهي في تلك اللحظات .فاتكأ بظهره على أريكته ،ثم
عاد إلى التأرجح بها يمينا و شماال...
_ سي رزاق ،لقد أخبرتك ،ليست لي مشكلة شخصية تجاه أحد ،لكن مشكلتي مع ذهنيته المهيمنة على مفاصل
حياتي و هي ماضية في تجريدي من إمكانياتي في تقرير شكل هذه الحياة التي أريدها أكثر فأكثر ،ال أدري كيف
أشرح هذا القلق أو الغضب ...ال أدري .لكني أعتقد أن جيلي يعيشه بطريقة أو بأخرى ،سوى أنه ال يعلم ذلك بعد و
منجر عن ذهنية كانت قبله و هي مستمرة اليوم
ّ أفترض أن ما نعيشه اليوم
ُ هو ما يزيد من سوء حالته كما أعتقد.
بأشكال متعددة في الجيل الصاعد .أود حقا فهم طبيعتها و رؤية شكلها و وصف نتائجها .هناك شيء غير طبيعي و
36
شاذ ،شيء ما يسير بطريقة خاطئة في هذا البلد برمته ،و هو فعال يثير قلقي و غضبي .إنه كحجر بركاني يُثقل
قلبي و يس ِّّممه بالكبريت.
نظر سي رزاق إلي متأمال للحظات و قد عاد وجهه ليلبس رداء الجد الكامل ،ثم قال و هو يتن ّهد مخرجا
سيجارة من علبة المارلبورو التي كانت على يمينه فوق المكتب...
_ حكاية جيل الشرعية الثورية هذه حكاية معقدة جدا يا ولد ،فمعظم الذين فجروا الثورة و الذين يمثلون
الشرعية التاريخية و الثورية معا ،احترقت رؤوسهم بنيران فرنسا و بنيران بعضهم البعض قبل نيل االستقالل ،و
الرهيبة قد رحلوا بعد االستقالل في صمت ،أو هم إلى اليوم في بيوتهم ينتظرون أجلهم
الذين نجوا من تلك الحرب ّ
بعدما طواهم النّسيان و لم يبق في أيديهم أي قرار أو سلطة ،لذلك أنت ترى أن الشرعية الثورية نفسها ليست سوى
مزور تُمارس به البزنسة السياسوية بأثر رجعي في هذه البالد – .ابتسم ناظرا إلي و هو يُشعل
َّ سجّل تجاري
صحافة ! .لديك غريزة الباحث
سيجارته – لكني اآلن أفهم َلم درستَ علوم االجتماع لسنتين قبل أن تتحول إلى ال َّ
االجتماعي التي امتزجت اليوم بإصرار و قلق و إقدام الصحفي .هذا جيد.
صمت للحظة و أنا أنظر إليه .بصراحة ،كان ذلك مفاجئا لي ،فعلى حد علمي فسي رزاق قلّما يمدح أحدا
ّ
بشكل مباشر و صريح .كان ينظر نحو الصقف ينفث الدخان...
_ تعلم يا أمين ؟ .عشت طفولتي سنوات السبعينات عندما كانت دولة بومدين في أوج قوتها و ألقها .كما عشت
تحوالت الثمانينات كمراهق متأثر بالتيار اليساري حينما بدأت أكتب المقاالت المناهضة لطغيان الحزب الواحد و
طغيان العسكر .بعد انهيار جدار برلين و األنظمة االشتراكية ،عشتُ بداية التسعينات كصحفي يافع متح ّمس و
ُمندفع يوم حقّ ْ
قت البالد أول طفرة في مجال حرية التعبير و التعددية كثاني بلد عربي يُحقق ذلك بعد لبنان .كنا
سعداء و متح ِّّمسين للغاية ،رغم األخطار و الخوف من المجهول – تنهد بعمق و هو يُكمل – لكن أترى ؟ ...عندما
أمعن التفكير في الحالة التي وصلنا إليها اليوم و هذه النكسة الرهيبة في كل شيء ....أصدقك القول ،يساورني
حنين عميق في بعض األحيان إلى جزائر السبعينات.
كانت نظرته جادة للغاية ،امتزج فيها شيء يشبه الحزن و الحيرة...
صاعد أساسا،
_ ال .أتعلم َلم أشتاق إلى جزائر السبعينات ؟ ،رغم كل ما يُمكن أن يُقال عنها من طرف الجيل ال ّ
فضال عن أنها الجزائر التي عشتُ فيها طفولتي مع كل ذكرياتها الخالدة ،و هو ما قد يُؤثر في ُحكمي الموضوعي
على تلك الفترة ،لكنني بصراحة ،أفضل جزائر تلك الفترة على جزائر اليوم.
نظر في عيني مباشرة و هو يمد يده نحو المنفضة ليطفئ سيجارته التي لم يكمل تدخينها...
37
_ جزائر السبعينات كان لها سلوك أمهاتنا و جداتنا في البيوت ذاك الوقت ،كانت فقيرة ،تعلم معنى المعاناة ،ال
تخاطب أبناءها سوى بتسلط أو استصغار و استغباء .كانت عنيفة في أكثر األوقات أيضا ،لكنها على األقل كانت
ترى طريقها بوضوح و تعلم تماما ماذا تريد !.
أكذب لو قلت أني فهمتُ تماما ما كان يرمي إليه بالضبط من الناحية العاطفية ،لكنني
ُ بدى كالمه عميقا جدا.
أظن نفسي فهمته موضوعيا من خالل استحضاري لواقع جزائر اليوم .جزائر ثرية بمداخيل نفط خيالية لكنها ذات
مجرد
ّ المجرد من أي قيمة.
ّ الرمزي
وجهة ضائعة تماما ،مع استبدالها لمفاهيم الثورة بمفاهيم العنف ال ُمباشر و ّ
انحدار فضيع نحو التخريب الذاتي و العبثية .رغم ذلك كنت متأكدا من أن كالمه كان سيمس أي شخص عاش في
تلك الفترة التي يحن إليها في لحظات يأسه من وضع البالد الحالي ،الغارق في الفساد و الركود السياسي و
الفوضى االجتماعية و التّهديدات الحدودية.
األهم ،أنه وافق على فكرة عمودي.استأذنته لالنصراف إلى العمل و أنا أشعر بحماسة و راحة بال ألنني كنت
قد شغّلت المحرك لالنطالق في رحلة السبق النهائي .عندما كنت أهم بالخروج جاءني صوت سي رزاق من
الخلف و كأنه استدرك شيئا لم يقله...
التفتُ إليه..
_ إن كان الشارب يمثل لجيل الشوابين رمز الرجولة و الفحولة و البلوغ الذكري ....فماذا يُمثل لك و كيف
تصفه نيابة عن الجيل الذي تنتمي إليه ؟.
نظرتُ إليه .زغتُ ببصري لبضع ثوان و أنا أبحث عنه .لقد كان بسيطا جدا ،و أظنه كان معبرا للغاية،
فنظرتُ في عينيه ملقيا إليه بالجواب الذي بدى لي في تلك اللحظات األكثر بديهية في العالم...
قيمة الرجل الحقيقية تكمن في عقله و قلبه ،أي أنه يُوزَ ن بما يمكن أن يُنتجه و يُقدّمه للعالم من أفكار و
مشاعر ! .و ليس في شكل شواربه أو كثافة لحيته أو طول قامته أو عرض كتفيه .الفكرة الساسية التي جاءت في
أول عدد من عمود مسطاشيات بعد بضعة أيام من ذلك.
38
II
40
كنتُ أمس ك مقود سيارتي منطلقا على طول الطريق السريع بين العاصمة و البليدة لحضور خطوبة شقيقتي
عيشة .كنتُ أستمع إلى إحدى المحطات اإلذاعية التي كانت بتث هستيريا العهدة الرابعة التي كانت تسير بالبلد إلى
تكريس علني غير مسبوق لمنطق '' الموسطاشيا '' و جيل '' التيموقراطيين '' الذين أدمنوا فكرة المجد و المغانم إلى
حد لم يعودوا معه يرون جيال فتيا كامل ،يقف بصمت و شرود ،يلتفت يمينا و شماال ،باحثا عن رقعة مربَّعة
صغيرة يقف عليها في هذا البلد القاري الشاسع.
في تلك األثناء ،شيء ما بدأ يرتعش في قلبي و أنا ألمح سالسل األطلس البليدي الجبلية و هي تزداد وضوحا
خلف طبقة خفيفة من السَّحاب كانت جاثمة بلطف على قممها الشاهقة .شمس منتصف النّهار مألت الطريق أنوارا
نفثت في الحشائش و أزهار البنفسج و النّرجس التي كانت ّ
تطوق بساتين الحمضيات و مشاتل األزهار روحا ال ْ
يمكن أن يستشعر جوهرها إال أبناء سهل المتّيجة ،ثالث أخصب سهل في العالم .كنتُ أستشعر تلك الروح من
خالل تلك الروائح الزكية التي كان صدري ال ُمثخن بجراح هذا الوطن و جراح هذا الجيل ممتلئا بها ،عسى أن
تك ّمدها بشيء من لطفها الطاغي ،الذي أيقظ أحاسيس الماضي الجميل .براكين ذاكرتي كانت تت ّقد ببطء كلّما
ّ
تقلصت الكيلومترات التي كانت تفصلني عن مدينتي األم .ذكريات طفولية ممتلئة بأنوار متناثرة كشرارات ألعاب
األعياد النارية ،تُفشي في بريقها الخاطف المتناثر ال ّ
سِّر الخالد لدهشة سن الصبى العجيب .و هل أنسى في كل
صغير الذي كنته في مكان ما في أعماقي كالكنز ال ّنفيس ؟.
األحوال أني ال أزال أحتفظ بذلك الطفل ال ّ
كنتُ أكاد أبتسم في لحظة غريبة بعدما أعمت ألوان و أضواء الربيع بصري .هذا الربيع الذي أعلن عن
عودته بأنفاسه األولى التي سحبتني إلى عمقه و انتقلت بي إلى زمن بدى بعيدا جدا .زمن كان يُمكن أن يكون أروع
بكثير لوال فجيعتنا الوطنية سنوات التسعينات .تلك الفجيعة التي بترت منا أجزاء ال يُمكن استردادها من طفولتنا
الرصاص و القنابل .كوابيس الملتحين و الملثّمين الذين ّ
مزقوا المهدورة بالخوف و الحذر و كوابيس السكاكين و ّ
طفولتنا بحرابهم و أحقادهم الحادة.
ابتسمتُ أخيرا و أنا ألمح العارضة الكبيرة التي تنتصب عند مدخل المدينة و قد ُكتبت عليها عبارات الترحيب
تطوقها بساتين الحمضيات و مشاتل
بالداخلين إليها من بعيد .مضت أشهر عديدة لم أدخل هذه المدينة الهائدة التي ّ ِّ
الورود و الثكنات العسكرية .هذه السّاحرة الغامضة التي أسّسها الفارون من جحيم محاكم التفتيش في األندلس قبل
ْ
داوت أكثر من خمسة قرون ،أالئك المفجوعين الذين جاءوها بقلوب منكوبة بضياع أرض األندلس الجريحة.
البليدة فجيعتهم بأمانها و جمالها ،فردوا لها الجميل بسكب سر جمال روح األندلس في جوهرها الذي خرجت منه
طلّتها البهية التي ظلّت تسترق النظر على الساحل من بعيد ،كأنها تبحث عن أمها المفقودة على الضفة األخرى،
أرض األندلس التي منحتها الحياة من احتضارها تحت نظرات األطلس الشامخ ،و الذي ظل منتصبا في كبريائه
األزلي يحرسها كما يحرس العمالق الراسخ في مكانه الحورية الصغيرة واضعا إياها بين يديه.
حين كنتُ صغيرا ،كانت أمي تقول لي أن البليدة ال تتحدث إال بلغة الياسمين .كانت دوما تقول ذلك و هي تهم
بقطف بعض أزهاره من شجرتنا ،كي تزين بها قعدة القهوة أو الشاي في البستان مع والدي .لم أكن أفهم قصد هذا
41
القول ،لكني فهمته بشكل ما في اليوم الذي أحسستُ فيه بأول حنين يشدني إلى هذه المدينة الصغيرة و اللطيفة ،لوال
أني الحظت شيئا بعد دقائق من ولوجي إليها...
تمتمتُ مع نفسي و أنا أسلك الطريق المؤدّي إلى نهج دمحم بوضياف ألصل إلى الحي بالقاسم الوزري الذي
ُولدتُ و ترعرعتُ فيه .رغم ذلك فقد كنتُ أشعر بإثارة غريبة تنتشر في وجداني كما تنتشر القشعريرة في الجسد و
أنا أنزلق بسيارتي أقترب ببطء من المنعطف الفاصل بين نهجي دمحم بوضياف و مصطفى بن بولعيد .كانت حركة
السير تتباطأ بسبب زحمة منتصف النهار .تلك اإلثارة كانت تزيد كلّما منحتني زحمة السير التي جعلت الحركة
تتوقف في تلك النقطة مزيدا من الوقت ألمعن النّظر في تلك األرصفة و المحالت و األشجار المصطفة .مزيج من
السعادة و الحذر كان يغمر صدري و أنا أشعر بذلك االنقباض داخل معدتي ،ال لشيء سوى ألنني لم أدخل المدينة
منذ أشهر طويلة ،و عندما دخلتها صادفتها و هي تحتفل وحيدة بقدوم الربيع الذي له طعم خاص بها ،بل كأنما
ي أيضا بعدما أدركت أني أعلم سبب بهجتها الصارخة ،عكس سكانها المنهمكين في مشاغلهم اليومية، ْ
نظرت إل ّ
ي .قلتُ في نفسي أنه الشوق فقط ،أو ربما هي الرغبة الجامحة في االبتعاد عن
فراحت تنثر رداد الحنين في عين ّ
جنون العاصمة و أصفاد قلق العمل ،رغم أن لي قلقا آخر مرتبط بالبليدة نفسها .موضوع قديم أحاول تفادي التفكير
فيه أو تذ ّكره منذ الصباح الباكر .سنوات حياتي في هذه المدينة مرتبطة و متداخلة مع سنوات حياتي في حلم طويل
تجاه كائن لم أره منذ زمن .حلمه كان جميال بقدر ما كان مؤلما .لكنها كانت فرحة اللقاء أوال .دهشة الطفل الصغير
في أول يوم العيد و هو يعلم أنه سيودّعه و يودّع فرحته به مع مغيب شمس ذاك اليوم تحديدا.
مرة أخرى .كم هي غريبة طبائع البشر ! .نحن أحسستُ بأني بصدد التحول إلى طفل صغير ّ
بقوة و تواطؤ ّ
مفطورين على التلذّذ بإهمال أكثر األشياء جماال التي قد تصادفنا في طريق الحياة ،ثم إن هي ضاعت من بين
أيدينا ،فإننا نتلذّذ بشكل غريب و مثير للشفقة بتعذيب أنفسنا و جلدها بسوط الحنين و ال ّندم .هل من الغريب أن أجد
معظم أصدقاء الطفولة و زمالء الدراسة يتحسّرون على تلك األيام ؟ .لطالما تع ّجبتُ من كونهم ،و بحق ،لم يُدركوا
تمر أمام أعيننا تماما كسحابة صيفية بعيدة ،فنستمر في الغالب بالكذب
ما كانوا بصدد تضييعه أمام هذه الحياة التي ّ
صرين على أنها غمام أسود مثخن بصواعق الخوف و أمطار الهموم التي تقودها رياح الخطيئة و
على أنفسنا ُم ّ
أثمانها الباهظة المحتومة نحونا منذ األزل ،و لهذا بالضطب أعتقد أن ُمعظم األشياء ّ
اللطيفة التي نُصادفها في
حياتنا تجعل منّا أكثر الكائنات تشاؤما و غرورا و غباوة !.
على كل حال ،لطالما أدركتُ في مكان ما في نفسي بأنني سأشتاق إلى طفولتي ،و سأشتاق إلى كل أيام
الماضي الذي عشته قبل أن أستق ّل بحياتي كرجل راشد .رغبتي الدفينة في أن أبقى طفال صغيرا في مكان ما من
نفسي .ربّما هي طريقتي المختلفة في رؤية األمور و التي ش ّكلت لي دوما عقدة لم أفهمها .عقدة أزعجتني كثيرا و
حيرتني أكثر .ربما كان ذاك الباعث الخفي الذي كان يجعلني أستشعر بطريقة ما في نفسي وسط فوضى سنوات
التسعينات ،ما كان ال ُمتس ِّّببون في تلك األزمة بصدد انتزاعه منا .لقد كانوا ينتزعون منا أجمل سنوات عمرنا,
أجمل المراحل في عمر جيل كامل !.
42
حاولتُ رغم ذلك أن أتم ّعن في ما كان يمضي .ال أستطيع نسيان تلك التفاصيل الصغيرة الغامضة التي كنتُ
أراها من دون اآلخرين في كل شيء من حولي .و أذكر جيدا .أذكر أيام الربيع تلك ،منتصف التسعينات .كنتُ
بالكاد أبلغ الثامنة من عمري عندما كنتُ تلميذا بابتدائية ابن سينا المتواضعة التي كان يفصل بينها و بين البيت
سوى ربع ساعة سيرا على األقدام .شيء من ملل الدراسة داخل غرفة الصف بأجوائها البهيجة رغم الصياح و
الضرب الذي كان يُسلَّط علينا من حين آلخر ،و كثير من ّ
الرعب خارج أصوار المدرسة .أذكر اآلنسة مريم و هي
تحاول السيطرة على صوتها المرتعش في تلك األمسية الربيعية الجميلة التي سمعنا فيها إطالقا كثيفا للرصاص
غير بعيد عن المدرسة ،اعتقدنا أنه كان في شارع العربي التبسي وسط المدينة .كانت النوافذ مفتوحة تدخل منها
نسمة ربيعية مح ّملة بعبق الزهور....
_ ال تقلقوا يا أطفال .ابقوا هادئين .سيتوقّف األمر بعد دقائق فقط .هيا ،لنحاول العودة إلى الدّرس.
أذكر جيدا أنها قالتها و هي تطلق بسمة مضطربة رامية ببصرها إلى خارج غرفة الصف عبر النافذة .كان
فعال الإراديا و قد عجبتُ من أمرها و هي تتحول فجأة إلى امرأة رقيقة و طيبة على غير عادتها بمجرد سماعها
إلطالق النار ؟ .كانت تطل بحذر من النافذة ،لكن كل ما كان يمكن أن تراه ساعتها هو عمارات حي الوئام غير
البعيدة و التي كانت قد ُ
شيدت قبل مدة قصيرة .ازداد إطالق النار ضراوة و راح صداه يقترب نزوال من وسط
المدينة عبر الطرق الفرعية الصغيرة التي تشكل أحياء سكنية هادئة و قليلة الحركة في الغالب ،كما هي حال حي
ْ
بدأت دقات قلبي تتضاعف و أنا ال أفكر إال في عائلتي و خاصة أمي .كان باديا من الوزري السكني المسالم.
الرشاشة أنها غير بعيدة تماما عن المنزل .طفقنا جميعا ننظر إلى بعضنا البعض و ننظر
مصدر إطالق النيران ّ
إلى اآلنسة مريم التي التزمت الصمت بعد أن أدركت أن إكمال حصة التعبير و ال ُمحادثة غير ُممكن.
كنتُ أنظر إليها مستغربا بهدوء " أبنائي ؟ ! وااااااوو ! " .لم تنطق بها يوما مذ عرفناها في سنتنا األولى !.
فجأة فُتح باب غرفة الصف و أطل علينا مدير المدرسة المرحوم سالمي ،فتوجهت إليه اآلنسة و راحا يتمتمان و
درس الصف المجاور ،في حين راح بعض التالمذة الجالسين بالقرب من
يهمهمان مع بعضهما ،ليلتحق بهما ُم ّ
الباب يحاولون إمعان السّمع لعلّهم يفهمون ما يجري في الخارج .أتذكر دلك جيدا .كنتُ أجلس في مكاني و أنا
أراقب يوسف مشاكس الصف و هو يستدير مبتسما إلى زهيرة و يسمين الجالستين خلفه بنظرة الواثق المتفاخر..
_ أراهن على أنه اشتباك بين أنصار الـ FISو الـ .FLNقال لي أبي أن األف أل أن هو من سينتصر ألن
الجيش و الشعب في صفه.
غريب ! .أذكر أن يوسف كان أول من انفجر باكيا و صائحا قبل سنتين أو ثالث من ذلك اليوم عندما سمعنا
إطالقا للرصاص ،أيام المسيرات الحاشدة و اإلضرابات الكثيرة التي كان يدعو إليها قادة الفيس...
43
سألته زهيرة ذات الوجه الشاحب و القوام الهزيل و الضفائر الطويلة و التي بدت عليها مالمح الحيرة و القلق.
أجابها بتفاخر ،ليرد عليه زميله الجالس إلى جنبه و الذي ال أذكر اسمه...
_ ال تكن سخيفا ،الشرطة أيضا تقف إلى جانب األف أل أن .رأيتهم قبل عامين عندما هجموا على حينا ،كانوا
يعتقلون كل شخص لديه لحية أو يدعي أنه من الفيس .و قد سمعت أخي ذات مرة يقول على مائدة العشاء أنهم
أطلقوا النار من سيارتهم على شاب ملتح و تركوه غارقا في دمائه.
_ أنا أقول أن الجيش و الشرطة و رجال النينجا يقفون مع األف أل أن .أما الدرك فيقف في صف الفيس !.
_ ببساطة ،ألن رجال الدرك عنيفون جدا .رأيتُهم كيف يصفعون و يركلون الناس في طريقهم ،و قد أخبرني
أبي أن الفيس أشرار أيضا ألنهم هم اإلرهابيون الذين يدعّمون عصابة الـ GIAالتي تذبح الناس.
_ الجيا ذبحوا أحد جيراننا قبل أسابيع ،لكن ليس هناك أعنف من رجال النينجا .إنهم يقفزون من على أسوار
المنازل في ساعات متأخرة من الليل ليخطفوا سكانها و هم نيام .يُقال أن لهم ثكنات تحت األرض ال أحد يعلم
مكانها ،يأخذون المخت َطفين إليها فيعذبونهم بالماء و الكهرباء ،ثم يقتلعون أعينهم و ألسنهم و يقومون بقليها لتناولها
ي شخص يقول كالما مشينا في حق الحكومة يكون
في فطور الصباح .هكذا أخبرني أحد العسكر ذات مرة .أ ّ
مصيره هكذا ! .لذلك أرى أن األف أل أن سيفوز ال محالة.
قالها يوسف بنوع من التفاخر أمام نظرات الفتيات المشدوهة و الخائفة .حينئذ اعتدلتُ في جلستي بعدما كنتُ
أضع كفي على وجنتي و أنا أستمع إلى أحاديثهم .أحسستُ بخوف مفاجئ و شديد في تلك اللحظات و أنا أسمع
أخبار هؤالء " النينجا " الذين لم أكن قد رأيتهم بعد عكس الكثير من أصدقائي و جيراني .كانوا يقولون لي أن
مالمح وجوههم غير معروفة و ال يظهر منها سوى أعينهم ذات النظرات الحادة ،و أنهم يركبون سيارات الشرطة
و الدرك تارة و يركبون سيارات عادية بيضاء اللون تارة أخرى .كنتُ أعتقد أنهم يستقلون أي نوع من السيارات
يرغبون فيه ألنه ال أحد يقف في طريقهم أو يُملي عليهم ما يفعلون .لكن قصة تسلّلهم إلى البيوت ليال الختطاف كل
من يذكر الدولة بسوء بعثر قلبي من الخوف ،كما تُبعثر كومة ورق أبيض على بالط فوقه ِّحبر مسكوب .تذ ّكرتُ
عنف النظام ،رغم أنه لم يكن يوما مع
أحاديث والدي مع بعض أفراد األسرة الكبيرة عن فساد الحكومة و ُ
أطروحات الحزب المحظور و لم يناصرها عالنية ،إال أنه على األرجح كان متف ّهما ألفكارهم و مواقفهم ،ما عدى
تلك المتعلقة باستخدام العنف .ربما ألنه عرف الكثير من المناضلين في الفيس قبل أزمة 0224بما أنه موظف قديم
في سلك التربية و التعليم الذي كان يعج بذوي الفكر اإلسالموي.
44
أذكر أنني لم أستطع النوم تلك الليلة .كما لم أجرؤ على سؤال أبي أو أمي عن حقيقة رجال النينجا المرعبين.
لطالما منعانا من التطرق لهذا النوع من األحاديث سواء داخل البيت أو خارجهُ .رحتُ أفكر في فراشي حول كل
ما يحدث .انغمستُ في فراشي و أنا أنظر إلى شقيقي فؤاد الذي يكبرني بثالث سنوات و هو يغط في نومه العميق،
ثم رفعتُ بصري إلى أعلى أراقب ضوء السيارة المارة أمام المنزل الذي انعكس على جدران الغرفة و سقفها قادما
تطوق واجهة المنزل و كأنها ِّشباك صيد سوداء زاحفة فوق
من النافذة ،فبدت معه ظالل أغصان الياسمين التي ّ
سجّادة من الضوء .قد يقول البعض أنها بالضبط ح ال الجزائر في تلك السنوات مع إسالم سياسي أهوج و نظام
سياسي جاف ؟ !.
شيء واحد كان يُحيرني يومها .كل األطراف و الجماعات التي كنا نعرفها أو نسمع القصص الرهيبة عنها
كانت تتناحر فيما بينها ،لكن بسبب ماذا و من أجل ماذا بالضبط ؟ .لم يشرح لنا أحد هذا األمر و كل ما كان يُقال
بره ! " .ل ْم يفهموا أنها كانت دعوة صريحة لهياج
لنا هو " :مازلت صغير باش تفهم السياسة ،رد بالك تهدر هكذا ّ
خيال و مخاوف الطفولة .المخاوف التي نشأنا عليها دون ان يلحظوا أنها كانت تبتلعنا كما يبتلع سمك الحبّار
المتربّص تلك السمكة الصغيرة التائهة في عمق المحيط المظلم البارد .هكذا كان يذهب عنفوان الصبى و جمال
جرد أنصار ما س ّماه عالم االجتماع " Jacques Novicow
أيام الربيع البهيج و حالوة أيام المدرسة هدرا .هكذا ّ
سبب الوحيد األوحد " .المتناحرون بينهم طفولتنا من ألوانها البهيجة ،تماما كما ت َسحب حقنة مؤلمة لُبّ
ت ُّراهات ال َّ
الحياة من جدع نبتة غضة طريّة بكل عنف و قوة و سادي ٍة .فقط ،حاولتُ طويال النظر إلى الجانب األقل إنارة في
تلك األيام ،فقد كانت مليئة بالظالل في الغالب ،لكني لم أفلح في جعل البقية ترى ذلك النور الخافت .بال شك ،كانت
البالد تعيش أبشع سنوات جنونها ،و كنتُ أريد أن تطول أيام طفولتي لعل الحرب تتوقف ،فنجد فسحة أخرى
للمزيد من اللعب و المزيد من تقليد أبطال الرسوم المتحركة و محاكاة عوالمهم الجميلة ذات التقسيم البسيط الثابت
" الخير ضد الشر و الخير هو المنتصر في النهاية " .السخرية كانت تكمن في أن الفوضى التي غرقت فيها
الجزائر يومئذ أُريد تقسيمها بنفس الطريقة الساذجة التي يُقسم بها عالم الكرتون :دولة خيّرة تحارب قوة ظالمية
شريرة .اليوم يعلم جيلي أن كال المعسكرين كان مليئا باألطفال الكبار .بالمجرمين ،المجانين ،الحمقى و المراهقين
فكريا ،مع قلة من األوفياء و الحكماء الذين أضاعوا خرائطهم و هم يحاولون تصحيح خربشات من أضاعوا
طريق أمة كاملة !.
ال يحظرني سوى ما جاء في رواية إرهابيستان المثيرة للتّأمل و ال ُمسليّة في نفس الوقت لصاحبها عز الدين
ميهوبي ،التي كنتُ قد فرغتُ من قراءتها تلك األيامَ .
كتب يقول على لسان قرصان الجو الشهير كارلوس ابن آوى
أن " التدمير ليس عيبا ،إنّما العيب في أن تد ّمر شيئا و ال تستبدله بأفضل نه ".
ّ
غريب ! .الذين تسبّبوا في حرب التسعينيات د ّمروا كل شيء في البلد ،و لم يُفلحوا حتى اليوم في استبدال كل
خربوه بشيء أفضل .فضال عن تدميرهم لشيء ال يُمكن استرداده أو استبداله على اإلطالق :طفولة جيل
الذي ّ
كامل ! .طفولة جعلتها كوابيس التسعينات حديدا صدئا ،بدال من أن تكون قوس قزح يفيض بألوان ضوئية عجيبة
متأللئة .أعتقد أنها أعظم خسارة يُمكن أل ّمة أن تتكبّدها على اإلطالق !.
45
تأملت البليدة و استرجعت كل ذلك تلقائيا .شيء أو أشياء كثيرة أريد اختصارها اليوم في عبارة مأساة وطنية
أو عشرية سوداء ،من أجل تجنّب حرج و تبعات توصيفها " حربا أهلية ".على األقل كانت فعال و بكل المقاييس
" حربا صريحة " ! .عبارة " مأساة وطنية " لم تكن أكثر من وصف أدبي أو ِّشعري لحقيقة ما حصل ،و ال أعلم
أن أرباب ما حدث في التسعينات كانوا من عشاق األدب ؟.
كما كان يقول الدكتور أبو عماد " :كل شيء ينطلق من كلمة أو جملة قد تتحول إلى مصطلح يتطور إلى
يجر معه أوضاعا فكرية جديدة ،تضعنا أمام واقع آخر ،بكل تجلياته و تبعاته و التزاماته و مسئولياته ! " .و
مفهوم ُّ
بذلك ،فأرقام األزمة تصرخ بحدة في عصر السماء المفتوحة 411 :ألف قتيل 02 ،ألف ُمعتقل 0411 ،مفقود على
األقل ،مليون نازح في الداخل 211 ،ألف مهاجر نحو الخارج و 41مليار دوالر أمريكي من الخسائر المادية ! .يا
ترى ،ماذا نس ّمي كل هذا ؟ ! .بل إنه و إلى اليوم ال يوجد نصب تذكاري وطني يُذكرنا بما حصل ،و يدفعنا
الستخالص الدروس مما حصل ؟.
المهم ،حدث ما حدث في طفولتنا ،ألجد نفسي أعود إلى حاضري ،أقود سيارتي و أنا أنظر إلى تلك الطرق
التي أعرفها جيدا .أعرف روائح جدرانها و منازلها و عطور أشجارها المزهرة و أحتفظ بحرارة أرصفتها في
مسام أخمص قدمي .تلك الطرق التي طالما ركضنا عبرها و نحن صبية صغار ،حفاة و شبه عراة ،نحمل ثمار
التين أو المشمش أو األجاص التي لم يكتمل نضجها بين أذرعنا ،حين كنا نقطفها خلسة من آخر البساتين المكشوفة
التي كانت تنتشر في المنطقة قبل أن يبتلعها اإلسمنت المسلح ،أو من بعض الفيالت االستعمارية القديمة ذات
األسوار المنخفضة قبل أن يُعاد بنائها و رفعها إلى أعلى مستوى سنوات التسعينات .إنها نفس الزقاق التي كنا
نركض عبرها في أمسيات شهر رمضان الربيعية الدافئة عائدين إلى بيوتنا ،عندما يتناهَ إلى مسامعنا أن مسلسل
الخيال العلمي األسترالي الشهير " فتاة من الغد " قد بدأ لتوه .أضحكُ على نفسي في بعض األحيان عندما أفكر بأن
بطلة ذلك المسلسل ،التي أدت دور شخصية " نادين " قد تكون أول فتاة وقعتُ في حبها و أنا مجرد تلميذ في
المدرسة االبتدائية !.
46
-5-
شدة
الفراشة ال ُمر ِ
مشيتُ في ذلك الرواق الهادئ ذو األرضية المزيّنة بالمربّعات البيضاء و السوداء ال ُمتداخلة و كأنها رقعة
شطرنج مستطيلة ،أنظر إلى نهايته التي انتصبت فيها مدفئة جديدة غير تلك التي ع ّمرت فيه لسنوات طوال .كنتُ
أكاد للحظة أسمع خطواتنا المتسارعة و همساتنا الساخرة و نحن نركض عبر ذاك الرواق حفاة محاولين عدم إثارة
47
جلبة تجعل أبي يخرج من مكتبه لتوبيخنا ،فقد كان يُجن جنونه عندما نستسلم لولع اللهو و المرح على طول الرواق
حين يغوص هو في لذة المطالعة أو الكتابة و هوس التأ ّمل.
ْ
ابتسمت. كان باب مكتب أبي شبه مفنوح .دفعته بهدوء و بطء و أنا أرمي برأسي أوال ملقيا أول نظرة عبره.
تلك الصورة المعلقة بالقرب من نافذته ال تزال في مكانها كما ع ِّهدتها مذ كنت صبيا صغيرا يخشى دخول ذلك
المكتب فقط بسببها .إنها صورة العالّمة مح ّمد بن أبي شنب و هو يقف بلباسه العربي و شارباه البارزان و نظرته
الهائمة في الفراغ .إنه الرجل الذي طالما أُعجب به والدي و قلّد طريقته في تربية شواربه ،و قد أحبه كثيرا
بوصفه رمزا للجمع بين الكفاح من أجل اللغة و الفكر العربيين و بين الكفاح من أجل إثبات الذات .كان من أوائل
الجزائريين الذين أصابوا شهادات جامعية مرموقة زمن االحتالل الفرنسي .أو ربما ألن والدي طالما حلم بالدراسة
في الجامعة و لم يوفّق لذلك بسبب ظروفه العائلية.
بدى إطار الصورة الخشبي باهت اللون قليال مما كان عليه من قبل ،رغم أن صورة العالمة نفسها كانت ال
تزال في حالة ممتازة بك ّل قدمها .كانت النافذة األولى التي تقابل الباب مغلقة و قد غطت أوراق شجرة العنب
المتسلقة شبّاكها مما حجب أشعة ال ّ
شمس .أذكر أنها كانت فيما مضى تالمس مدخل المكتب و تخرج زاحفة ببطء
فوق بالط الرواق في الفترة الصباحية.
داخل المكتب ،كان كل شيء كان في مكانه .آلة العود القديمة الموضوعة عند الزاوية .صور كبار العائلة
سدّت فوهتها منذ زمن .صورةباألبيض و األسود المرتّبة فوق الصدر الرخامي ل ِّلمدخنة الحجرية القديمة التي ُ
متوسّطة الحجم للراحلين اللذين ظل أبي معجبا جدا بما قدّماه لألمة العربية ،هواري بومدين و صداّم حسين .كانت
الصورة ُمعلّقة بالقرب من الساعة الحائطية القديمة المتو ّقفة ،حيث ظلّت معلقة في مكانها منذ حرب عاصفة
الصحراء عام .0220نظرتُ إلى تلك الصورة بتمعّن كالعادة .كل شيء ظل في مكانه .كنتُ أراهن على أن
أسطوانات فريد األطرش و أم كلثوم و فيروز و وديع الصافي ال تزال مخبأة في األدراج السّفلية للمكتبة المنتصبة
على جانب المكتب .كنتُ متأكدا من أن قصص جورجي زيدان القديمة ال تزال في مكانها أيضا ،و ربما زاد لون
صفحاتها المهترئة اصفرارا .قصص شجرة الذر ،أحمد بن طولون ،فتاة القيروان ،جهاد المح ِبّين ،كانت أولى
القصص التي قرأتها بداية مراهقتي رغم أني لم أختم مطالعة أي منها يوما !.
في تلك الغرفة ،شيء واحد بدى أنه تغيّر بشكل واضح مما كان عليه آخر مرة .عندما رفعتُ رأسي نحو
سقف الغرفة رأيتُ أن حاله لم تختلف عن حالة الجدران الداخلية للمنزل .تكاثرت تشققاته و تق ّ
شر طالءه و بدى في
حالة مقلقة تثير االضطراب بشكل غريب.
جاءني صوت أبي الذي علته حشرجة خفيفة من داخل الغرفة .أخذتُ نفسا عميقا و دخلت .كان يجلس على
ّ
بالمجلدات و الكتب القديمة ذات الرائحة أريكته الجلدية القديمة ذات اللون البني ال ُمحمر ،بالقرب من مكتبته المليئة
48
المميزة .عجيب ! ،عطر هذه الغرفة التي طالما شعرنا بالهيبة و نحن ندخلها في صبانا لم يتغير أيضا .مزيج من
روائح الورق القديم و الخشب العتيق.
رفعتُ بصري نحو ذلك اإلطار الذي يحتضن شهادة انتساب والدي الشرفي إلى المؤتمر القومي العربي
سنوات الثمانينات ،و الذي ال يزال يعلقه مباشرة خلف مكتبه و كأنه وثيقة تل ّخص كل شيء عنه أمام كل زائر
يراه .لطالما كان أبي المعلّم ال ِّعصامي من أشد المتح ّمسين و المتع ّ
صبين لمشروع القومية العربية و وحدة الشعوب
يبك وفاة والده جدي البشير رحمه هللا ،على األقل أمامنا ،لكنه لم يستطع كبت دموعه و شهقاته
العربية .لم ِّ
الهستيرية أمامنا يوم سقوط بغداد في يد القوات األمريكية شهر أبريل .4112كان يومها يبكي كطفل صغير .لم
أره يمر بلحظة ضعف و عجز كما رأيته ذاك اليوم ،إلى درجة أنه بدى لي أصغر حجما مما كان يبدو عليه في
العادة.
سلّمت عليه و قبلت يده و رأسه كما علّمنا ذلك منذ الصبى .ألقى أل ّ
ي بنظرة خاطفة قبل أن يحول بصره إلى
الكتاب الذي كان بين يديه.
كان صوته هادئا جدا كغدير صغير يتدفّق بهدوء و لطف في ليلة خريفية مألت سماءها سحب ثقيلة .لم أشعر
باالرتياح لذلك.
_ بخير يا أبي .لكني لم أجد أحدا في البيت ،أين أمي و عايشة ؟.
_ آه .لن يطول غيابهما فقد خرجتا لشراء بعض المواد الغذائية المتبقية إلقامة الوليمة.
_ حالة البيت الخارجية ممتازة .صوره يريح النظر و نباتاته في أبهى حلة ،لكن بحسب ما أرى الوضع هنا
في الداخل ينبئ بتصدّعات خطيرة إن قدّر هللا و تعرضت المدينة لهزة أرضية كالتي حدثت الصائفة الماضية !.
_ أه .األمر ليس بهذه البساطة .الخبراء قالوا أن ترميمه جذريا قد يزيد في سوء الوضع بسبب تضعضع
أساساته.
_ و الحل ؟.
49
_ قد نضطر إلى هدمه بعد عقد على األكثر ،كما هي حال الكثير من المنازل االستعمارية في المدينة.
قالها بتأسف و هو يتن ّهد قبل أن تسود بيننا لحظة من الصمت .لم يثر كالمه عن هدم ذاك المنزل الذي
تراهات هؤالء المختصين و إن كنتُ أدرك َّ
أن تسارع هذا التهالك ترعرعتُ فيه شيئا في نفسي ،ألني لم أصدّق ّ
إنما يعود إلى التعديالت الكثيرة و الثقيلة التي أضافها أبي على البيت ،كغيره من الجزائريين الذين غيّروا شكل
المنازل التي ورثوها عن المع ّمرين هروبا من عقدهم الدفينة تجاه الفراغ و المساحات الخضراء ،و ربما انتقاما ال
حول أبي هذا المنزل الجميل إلى فيلة
تفوقه و ترفه .لقد ّ
واعيا من آثار اإلنسان األوروبي الذي طالما حسدوه على ّ
بطابقين بعدما كان بيتا أروبيا بسيطا بسقف قرميدي و صور قصير .لم يفهم يوم استولى على البيت أن بعض
األشياء توجد لتكون بسيطة فقط و ال يمكن تحويلها إلى أكثر من ذلك !.
_ ألم المفاصل يزيد علي من شهر آلخر .أعتقد أنه السن ،كيف ال و أنا على عتبة الخامسة و الستين ؟ ،لكن
يمكن القول أننا بخير على العموم ما دام في هذا العالم ُكتب.
يلوح بذلك الكتاب الذي بدى من عنوانه أنه يتحدّث عن جمعية العلماء المسلمين.
نظر إلي و هو ّ
عرفتُ ذلك ! .عرفتُ أنّه لن ينسى أمر التحقيق الذي قمتُ به قبل ثالثة أشهر عن فضيحة وزارة الثقافة و
المطربين المشارقة .عرفتُ ذلك في اللحظة التي رفض فيها رفع نظره نحوي عندما دخلت عليه .عرفتُ أنه
سيفتتح جلستنا تلك بجدال حول الموضوع.
_ أبي ! .األمر كله مرتبط بالعمل ال أكثر .كان يجب أن أتسلّل إلى ذلك المكان لكشف جزء بسيط جدا من
فساد المسئولين في هذه البالد.
استمر يقلّ ُ
ب صفحات الكتاب من دون سبب واضح .هي طريقته الدائمة في التعبير عن عدم رضاه عنا حينما ّ
نقدم على شيء ال يروقه.
50
_ أبي ! ،مكاني حيث يكون الفساد و المفسدين .مكاني حيث يكون الخبر و المعلومة
سيطرتُ على نفسي في آخر لحظة .كنتُ أريد أن أقول له بأنني سأتبع خيوط تحقيقاتي حتى لو ساقتني إلى
دخول المواخير و التحدّث إلى المومسات...
_ آه يا حاج ! .هل علينا اآلن أن نعود إلى مثل هذا الجدل ؟ .أنا هنا ألفرح بخطبة شقيقتي !.
أغلق د ّفتي الكتاب فجأة بخشونة حتى أنهما أصدرتا صوتا يُشبه صوت الصفعة و هو يطلق نظرته الحادة من
خلف نظارته ذات اإلطار المعدني .إنها النظرة التي طالما أدخلت الرعب إلى قلبي أيام كنتُ أعيش تجربة التمرد
و التسرب المدرسي بداية مراهقتي .أحسست في تلك اللحظة بتوتر غامض يشلني تماما ،حتى أني ابتلعت ريقي
مباشرة !.
_ تريد أن تفرح بخطبة أختك هه ؟ .أوتعلم أن أهل الخاطب كادوا يتراجعون عن هذه الخطوة بعد نشرك
لتحقيقك في ذلك المكان الفاضح الوضيع لوال إصرار الشاب على تجاوز هذا األمر ؟ .آه صحيح ،أنتَ ال تعلم حتى
من هم و من أين جاءوا .ال تعلم أن والد الفتى مفتش تربوي متحدّر من أسرة شريفة قدمت العشرات من أبنائها إلى
جمعية العلماء .ناس ذوو دين و خلق و ِّرفعة يعرفونني و أعرفهم منذ سنوات ،شعروا بالتردّد ل ّما علموا أن ابني
األصغر يُجري تحقيقاته في العلب الليلية العاصمية .ال تقل لي أن مصادرك التي استندت عليها في عملك ذاك
كانت من الناس المتعلمين المثقفين و المحترمين !.
عقد لساني أمام صوته الحاد الذي طغت عليه حشرجته و كأنه تنين ناطق ينفث النار و ُّ
صمت بعد أن ُ
الغضب .نظر إلي و هو يطلق زفرة السخرية و الغضب...
_ أجل ! .هذا ما توقّعته ! .ابني صار يخالط السّكيرين و بنات الليلُ .حثالة المجتمع و ناشري الفاحشة فيه
للحصول على معلومات تحقيقاته الكبرى ! .لقد كان األمر محرجا لنا جميعا ،حتى والدتك لم تجد ما تقول أمام
والدة الفتاة التي اختارتها لك ،بل و عانت في األيام األولى من نشر التحقيق ارتفاعا في ضغط دمها .لم تشأ اإلقرار
بالسبب لكننا جميعا كنا نعلم أنه تحقيقك الرائع !.
ضاق صدري أكثر فأكثر .انقبضت عضالت فكي .أحسستُ أن أنفاسي تنهزم و تنحصر بداخلي و كأن أحدهم
وضع حجرا ثقيال فوق قفصي الصدري ،ثم راح يمأل فمي بالقماش المبلّل و يقوم بدفعه بحافره نحو حلقي .كنتُ
عاجزا عن الحديث أمام الحاج .ماذا كان يجب أن أفعل و قد ذ ّكرني بأحد الموضوعات التي ال أود في العادة
التفكير فيها إطالقا ؟ .لو أنه لم يتحدّث عن موضوع هذه الفتاة التي اختيرت لي لربّما وسعني أن أردّ عليه بما
أمكن و لو أني كنت أعلم أن ذلك لن يكون بقوة اللسان و الحجة الالزمة لمواجهة هذا الشكل من العنجهية األبوية،
51
التي ال يمكنه التعامل إال بها مع أبنائه عندما يسيطر عليه الغضب .فقط ،تذ ّكرت أني لن أسلم أيضا من حديث أمي
عن هذه الفتاة التي لم أعرف عنها شيئا وصوال إلى ذاك اليوم حين اقترحت أمي خطبتها لي .لم أفهم حتى كيف
وجدتُ نفسي أوافق على اقتراح كذاك ؟ .ربما كان ذهني مشغوال يومها بمئات األفكار و المواضيع التي تخص
هوسي المهني و مشاكل هذا البلد التي أبحث لها عن أجوبة من أجل الجميع ؟ .أو ربما وفاقت كوني ال أزال أعيش
وحيدا ،عاطفيا.
الرد بوقاحة على كل ما تقوله لنا حتى و أنت غاضب .لذلك ال أجد
_ لقد ربّيتنا يا حاج على احترامك و عدم ّ
ما أقول .لكن يجب أن تعلم فقط بأنني أحب وظيفتي رغم كل ما يُمكن أن يُقال عنها و عنا و عن ظروف عملنا.
_ ليست لي مشكلة مع وظيفتك ،فهي نبيلة و مه ّمة في أي بلد .ما ال أقبله هو عدم قدرتك على اختيار مواضيع
تحقيقاتك و مقاالتك التي تتالءم و مكانة أسرتك وسط هذا المجتمع و وسط هذه المدينة بالذات .كنا ّ سنفضل قيامك
بتحقيق عن أسباب ابتعاد شباب األمة عن قيم اإلسالم و العروبة مثال ،بدال من تتبّع فضائح مسئولينا في مالهي
أبناء الجنراالت ! .هذا ال يُجدي نفعا ،ألنهم سيقومون بأسوأ من هذا في يوم غد و كأنك لم تكتب شيئا عنهم .أما أن
بمبررات وجود هذه األمة األبية ،فهذا
توجه مواهبك في التحقيقات إلى تحريك النقاش حول مسائل جوهرية تتعلق ّ
هو الذي يصنع منك صحفيا ممتازا .حينها أنا و أمك نكون فخورين جدا بك.
_ أحاول الوصول إلى نفس األمر ،لكن عبر مسالك أخرى .كنتَ تقول لي دوما أن المجتمعات تموت غالبا
ُمنتحرة .ها أنا ذا أحاول جاهدا فهم السبب.
52
تن ّهد و هو يعتدل في جلسته..
_ هذا قول للعظيم مالك بن نبي .أتعلم أني طالما عرفتُ أنك مميز بين أخويك البشير و فؤاد ؟ .البشير انتهى
به المطاف إلى التوقف عن الدراسة و االنضمام إلى الجيش .هه ! .ال أدري كيف لم أستطع ثنيه عن الذهاب إلى أم
المشاكل في هذه البالد ،مؤسسة الجيش ،المؤسّسة التي تأخذ منك كل شيء .أجمل و أزهى سنوات عمرك و شبابك
و تمتص منك تربيتك و ذكاءك و إنسانيتك و ال تعطيك سوى الهم و الغم و االنحراف و األمراض ،لينتهي بك
المطاف كعود جاف ملقى به في قلب صحراء مقفرة ،دون أن تُحسّن شيئا في مسار هذا البلد أو هذه األمة....
_ لو كان البشير هنا لخالفك الرأي يا أبي .ثم أال ترى أنك أنت من ربّانا دوما على حب الوطن و الدفاع عنه
و التضحية في سبيله ؟ !.
_ عرضتَ عليه حقه من تركة الجد من أراضي الزيتون في تابالط فرفض و ذهب إلى العسكرية .ال يزال
إلى اليوم يرفض حتى أخذ نصيبه المالي من بيعنا غالل آراضي الزيتون التابعة لنا ! .أليس هذا دليال يؤكد على
أنه أحب الجيش و انضم إليه عن قناعة تامة ؟.
_ ال ! .ال أذكر أننا طرحنا هذا الموضوع للحديث .عندما قرر الذهاب أول مرة سألته عن السبب لكنه لم يرد
الخوض في الموضوع .أذكر أنّه ودّعني فقط .في اليوم الموالي عند عودتي من الثانوية لم أجده .كان قد رحل.
_ لو كان البشير هنا لما أراد مجالستي و محادثتي حتى .أتعلم َلم ؟ .ألنه يخشى اكتشافي لمدى ندمه على
قراره و الوصول إلى نفس النتيجة ،و هي أن سنواته في الجيش كصف ضابط قد أفقدته معنى وجوده أصال .كلنا
صعبة ،خاصة في الصحراء على الحدود !.
نعلم ظروفهم االجتماعية و المهنية ال ّ
_ بل واقعية جدا .أتعتقد أني ال أعلم كيف يعيش الجندي أو صف الضابط في هذه البالد ؟.
صمتَ و هو يطلق نظرات الغضب في الفراغ .كأنه شعر بأني على حق .لكن بدى لي حينها أن عالقته مع
شقيقي األكبر قد ساءت أكثر مما كانت عليه..
مرة ؟ !.
_ لكن يا حاج ...لم تتحدّثا مع بعضكما بعد ؟ .منذ أن غادر البيت آخر ّ
53
قرر ترك الدّراسة و رفض تجريب _ أخوك فؤاد كان أذكى من البشير ،رغم أنه ّ
حطم قلبي هو اآلخر يوم ّ
مرة ثالثة .إنه ذكي ،لكنه ضعيف النفس و اإلرادة و طالما كان مهوسا بجمع المال .على األقل
حظه في الباكالوريا ّ
هو ناجح اليوم في تجارته من جهة و اعتنائه بقسمه من حقول الزيتون في أرض جدِّّه و هذا يُخفّف عني .عائشة
كان بإمكانها أن تكمل دراستها لألدب العربي ،لكنها هي األخرى أصيبت بفيروس فؤاد و تركت كل شيء في
ي – كنتَ عامها الجامعي األول .كنتُ أتمنى حقا رؤيتها أستاذة للّغة العربية .كان هذا سيزيد ف ّ
ي الكثير – نظر إل ّ
الوحيد الذي أت ّم دراسته الجامعية و يطمح للمزيد ،و أنت الوحيد اآلن الذي يحمل تصورا مختلفا للحياة و قيما
مختلفة لكفاحها .أنت تُشغّل ذهنك كثيرا .تكتب و تفكر و تُبدع و تؤثّر .هكذا حلمت أن تكونوا جميعا.
نهظ من مكانه و اتجه بخطى وئيدة نحو النافذة و هو يفكر قليال مع نفسه .كان كمن يدفع نفسه للبوح بشيء
ما...
_ تعلم يا بني ؟ ،لطالما راقبتكم من نافذتي هذه و أنتم تلعبون في حديقة البيت .كنتُ غالبا ما أتذ ّكر طفولتي
القاسية التي لم أستمتع بها مطلقا .كنا دوما مجبرين على التنقل من مكان إلى مكان بين أرياف و مداشر تابالّط قبل
يستقر األمر بنا في مدينة المديّة مع نهاية حرب التحرير .تعل ُم أن جدّك و بالرغم من أنه كان رجال أ ِّّميا إال أنه
ّ أن
كان صاحب أراض فالحية و حقول زيتون كثيرة .فقدَ كل شيء بين ليلة و ضحاها ،بسبب سياسة األرض
المحروقة التي عاقبته بها فرنسا بعدما اكتشفت سلطاتها أن غالله الكثيرة كانت تصعد إلى الجبال لتموين كتائب
المراس ،حاد ّ
الطباع ،صلفا و قاسيا جدا .هل أخبرتك أنه ذات يوم جلدني جيش التحرير .كان رجال أكتع صعب ِّ
حتى أدمى ظهري و ربطني إلى وتد داخل إسطبل لألنعام تاركا إياي على تلك الحال مدة يومين ،فقط ّ
ألن الذئاب
أخذت خروفا من القطيع الذي كنتُ أرعاه ؟.
حقا ،لم أفهم َلم راح يتحدّث عن هذا الموضوع في جلسة كتلك .تن ّهد و هو يفرك شاربه بأصابع يمناه...
_ كان رجال ال يؤمن بالخطأ و يرى أن الرجال إذا أخطأوا فعليهم حمل أثقل األوزار ككفارة ألخطائهم ،حتى
لو كانت أخطاءهم بسيطة .هكذا ربّاه جدي الذي ُربي بنفس الطريقة أيضا .عندما استشهد عمي األصغر رابح ،لم
يبكه والدي كما رفض أن تبكيه أمي و زوجته اللّه فاطمة رحمها هللا ،كون الرجل شهيدا أوال ،و كونه دفع ثمن
سهوه القاتل الذي جعله يدوس على لغم أرضي في يوم عاصف ُمثلج .على كل حال كانت تلك الصور القاسية
ي و تعود إلى ذاكرتي كلّما راقبتكم و أنتم تنعمون باللعب تحت ظل شجرة العنب هذه .غريب ،كنتُ تسيطر عل ّ
دوما أش ِّّبهها باالستقالل نفسه ! .كان إخوتك و أبناء عمومتك ّ
كلما أرادوا لعب لعبة ما يُعبّرون عن تلك الرغبة
بعبارات استفهامية " :من يريد أن يلعب معي كذا أو كذا ؟ ".
ي...
التفت ينظر إل ّ
54
_ كنتَ الوحيد الذي إذا جاءت فكرة لعبة ما على خاطره بادر بالقولِّ " :لنلعب كذا أو كذا " و تبدأ مباشرة
بلعب ما تريد قبل أن يلحق بك اآلخرون .أدركتُ منذ ذلك الوقت أنك ستكون من نوع الرجال الذين إذا أرادوا شيئا
فإنّهم يبادرون إليه أوال دون انتظار آراء اآلخرين ال ُمسبقة فيه.
ّ
التفطن إليها. لم أقل شيئا .بصراحة فقد فاجأني الحاج بتلك المالحظة الدقيقة التي لم يكن ربما ألبرع النفسانيين
لكنه بيّن لي أنه مربّ ٍ حقيقي .كنتُ أنظر إليه و قد غاص بعيدا بنظرات عينيه المنهكتين من سنوات التدريس و
التفتيش التربوي الطويلة و كأنه يبحث عن شيء ما يودّ إضافته .فكرة ما يحاول تمحيصها و وضعها في سياق
الحديث .لكن و في غمرة ذلك الصمت الغريب الذي خيّم على الجو دخلت شقيقتي عيشة بوجهها الذي مألته تعابير
المشرعين نحوي و هي تسرع
َّ الترقب و الحماس فاتحة فمها رافعة حاجبيها و مطلقة بسمتها المشرقة و ذراعيها
خطواتها...
سلّمت عل ّ
ي و عانقتني بحرارة أمام بسمة بالكاد ارتسمت على وجه الحاج الذي قب ْ
ّلت رأسه.
بمجرد أن لمحتُ سيارتك المبعوجة أمام المنزل علمتُ أنك هنا .أنا سعيدة جدا بقدومك يا مينو !.
ّ _
_ أنا أيضا سعيد بتواجدي هنا .مبارك لك أختاه .سعيد جدا من أجلك.
ْ
نظرت إلى ساعة يدها بلهفة و هي تتن ّهد كمن يتفحص جدول أعاله... لم تكن ُمر ّكزة مع ما كنتُ أقول.
_ كل شيء يسير على ما يرام .أعتقد أن البشير يكون قد نزل لتوه في قاعدة بوفاريك قادما من تمنراست ،و
فؤاد هو اآلخر على مشارف البليدة قادما من موزايا مع نجيّة .حسن ،ال بد أن أتصل بهما ألتأ ّكد من قرب
وصولهما.
_ آه يا اله ،يا لي من غبية ! .ظننتني ال أزال أعلّق حقيبتي الصغيرة .سأتصل بهما فورا !..
اتجهت مسرعة نحو الباب ثم توقّفت بعدما تذ ّكرت شيئا ما ،فالتفتت نحونا...
_ سيكون الغداء جاهزا في تمام الواحدة .سنجتمع كلنا في حديقة الدار حول مائدة واحدة تماما كما كنا في
الرشتة الذي تحبانه كثيرا.
الماضي .إنه طبق ّ
صمتت للحظة و هي تفكر مع نفسها ثم نظرت إلينا مرة أخرى ُمطلقة بسمة تمألها السعادة و اإلثارة...
55
أطلقت ضحكة طفولية كشفت بها عن مدى سعادتها بهذه الحقيقة التي بدت و كأنها ال تزال غير قادرة على
ُّ
التفت إلى صبر ،ثم انطلقت مسرعة بخطوات قصيرة لكنها خفيفة جدا.
استيعابها أو أنها طالما انتظرتها بفارغ ال ّ
أبي فوجدته قد غاص بتفكيره مرة أخرى .بدى من نظراته و الطريقة التي كان يدلّك بها ذقنه الممتلئ بيده و كأن
شيئا ما يُقلقه .ف ّكرتُ للحظة أنه أخي البشير و لقائه به بعد مدّة طويلة من التوتر بينهماّ .
تفطن إلى كوني أنظر إليه
فأطلق نحنحة خفيفة قائال:
ور ْ
ثت فرط حركتها هذا من والدتها !. _ ال تنظر إلي هكذا ! .لقد ِّ
اغتنمتُ الفرصة ألشاركه قليال روح الدعابة التي قلّما كان يتّسم بها ،فنظرت إليه كمن ّ
تفطن إلى شيء ما..
ّ
الخطاب بدل اليوم ؟؟. الرشتة أن يكون حاضرا غدا على مائدة غداء
_ أال يُفترض بطبق ّ
_ ال أعلم !.
ابتسمتُ ثم استسمحته للذهاب للتسليم على أمي ،لكنه ناداني في اللحظة التي كنتُ أعبر فيها باب الغرفة
فرجعت القهقري ناظرا إليه باستفهما .صمت قليال و هو يتظاهر بأنه يمسح شيئا ما علق على غالف الكتاب الذي
كان بين يديه بسبّابته ،قبل أن يرفع بصره نحوي..
_ ف ّكر فيما دار بيننا من حديث .ال تزال صحفيا في بداية المشوار و يُمكنك فعل الكثير .لطالما شعرتُ بذلك.
ال أزال مؤمنا بك يا بني .ال تجلعني أشعر بأن سنوات تعبي و كدّي من أجلك قد ذهبت هباء.
ّ
أشق طريقي لم أجد غير اإليماء برأسي أن نعم ،ثم خرجتُ و أنا متيقّن بأنه لن يتركني في سالم ما دُمتُ
ي في تلك اللحظة إبعاد تفكيري عن كل الضيق و ذلك بالطريقة التي أراها مناسبة لما أود الوصول إليه .كان عل ّ
ي ّ
كلما تعلق األمر بالطريق الذي أشقه بنفسي و اختياراتي اإلحساس بالحصار الذي ال أزال أشعر به من ناحية أبو ّ
الخاصة بحياتي .قد يكون السبب األساسي الذي دفعني عن غير وعي ربما من تقليل زياراتي إلى البيت و تفادي
مواجهتهما ألشهر طويلة ،مذ أن أقام فؤاد حفل زفافه قبل نحو أربعة عشر شهرا .أغالل عملي المتواصل و
المرهق و هوسي بكوابيس هذه البالد كانت أكثر شيء أنقذني من أغالل رغبات أبي و أمي في رؤيتي كذا أو فعلي
كذا .كوني الوحيد ضمن أشقائي الذي أكمل دراساته الجامعية و يطمح للتدرج و السمو نحو الماجستير أو الماستر
و بعدها الدكتوراه .قد يزيد في تعقيد الوضع علي أكثر من جهة الحاج .شعرتُ أنه سيزيد إلحاحه و ضغوطه علي
مع الوقت ،كلّما أحرزت تقدما نحو سبقي ،و كنتُ متيقنا من أن تلك اللحظة قادمة ال محالة.
**********
رفعتُ نظري إلى أوراق شجرة العنب أو شجرة " االستقالل " كما سماها أبي ،التي كانت تظلل جلستنا
العائلية الجميلة .كانت أشعة شمس أفريل تتسّلل بينها كومضات ضوئية تحاول القفز في كل االتجاهات نحو
56
األرض .حركتها المضطربة تلك كانت بفعل اهتزاز أوراق و عيدان الشجرة على وقع الهواء العليل الذي كان
المطهوة
ّ الرشتة الصغيرة الممتزجة بالدجاج و بعض الخضار ّ
التفت و أنا أمضغ لقمتي من رقائق ّ يداعبها بلطف.
على البخار أتفحّص الحديقة التي طالما استمتعنا فيها بلعب الغ ّميضة أيام الصيف كلّما زارنا األعمام أو األخوال
ّ
تتوزع على جنباتها و أطرافها رفقة أبنائهم .شعور اإلثارة ذاك ال يزال يالزمني كلّما خرجت إلى تلك الحديقة التي
شجيرات الورد األبيض و األحمر .جشرة مسك الليل عند الزاوية .بعض شجيرات البرتقال و الليمون التي مضى
على غرسها ثالث إلى أربع أعوام .شجيرات إكليل الجبل التي جلبها والدي معه من تابالط ،إذ يقول أن رائحة
الزكية تذ ّكره بصباه في أرياف المدية ،و طبعا هنالك س ّيد المنازل البليدية بال منازغ ،الياسمين .رائحته
أوراقها ّ
تذ ّكرني دوما بأني في المنزل ! .أشعر بحرارة في قلبي عندما أدركُ أني حقا في البيت ،في البليدة ُ
الو َريدة !.
كان الجميع يتناولون وجبة الغداء و يتبادلون أطراف الحديث ،التي كانت في مجملها تدور حول قدوم
الخاطب و أسرته .شقيقي فؤاد لم يتغيّر كثيرا .ال يزال يميل بسرعة إلى السخرية و الته ّكم عبر مجمل أحاديثه.
كانت زوجته نجيّة الحامل في شهرها الخامس تجلس إلى جانبه و هي تمازح عيشة .و ما أثار استغرابي هو أني ال
أذكر أني حاولت التقرب من هذه الفتاة من قبل رغم أنها صديقة لعيشة منذ أيام الثانوية ،و هي زوجة أخي التي
ستمنحنا خالل الصائفة التالية أول فرد في العائلة سيناديني '' ع ّمو '' ؟ ! .تذ ّكرت في تلك اللحظات ،سأصير
مرت أسرع بكثير مما توقّعت !. عما !ْ .
بدت الحياة و قد ّ
كان الحاج يتناول طعامه غارقا في صمته و وقاره المعتاد ،بينما كانت أمي تسايره في األمر تارة و تغوص
في مزاح و ضحكات النسوة مع عيشة و نجيّة تارة أخرى .نظرتُ إليها و هي تمضغ طعامها مبتسمة ضاحكة .لم
تنس عادتها في وضع بعض أزهار البرتقال أو الياسمين أمامها على مائدة األكلْ .
بدت لي أكبر سنا منذ آخر مرة َ
رأيتها فيها رغم أن صوتها ظل نفس الصوت الذي سمعته طيلة حياتي ،هادئا كنسمة فجر الشريعة ،عذبا كماء
ينابيع الشفّة ،رقيقا و ناعما كالبليدة نفسها .أو ألقل أن تحول أمي يشبه تحول البليدة ،التي كانت مدينة عذبة و
صافية ق بل محنة التسعينات ،لكنها فقدت الكثير من رونقها و عافتيها بعد ذلك .حين نظرتُ إلى أمي تفاجأت قليال
عندما الحظتُ بياض خصالت صدغيها .كانت تجاعيد وجهها قد ازدادت وضوحا خاصة بالقرب من عينيها ذات
النظرة ال ُمنهكة جراء المرض ،مع تع ّمق الخطيّن اللذين يفصالن ذقنها عن خدّيها نزوال من طرفي فمها ال ّ
صغير.
أتراها آثار مرض ضغط الدّم الذي أصيبت به بعدما انخرط البشير في الجيش ؟ .لم يُعجبن التفكير فيما حصل لها
عند نشري لتحقيقي الصحفي في رأس السّنة .حقيقة تأثر صحتها بما نقوم به نحن في حياتنا اليومية إلى هذا الحد
تطوقني .حجر آخر يُضاف إلى األحجار التي تسقط في
بات أمرا مقلقا حقا .حلقة أخرى من حلقات األغالل التي ّ
كل مرة على نهاية هذا الطريق الجبلي الطويل و الملتوي الذي ال أزال أحاول عبوره و الخروج منه نحو الطريق
السريع الذي أودّ أن أسلكه.
ظلّت أمي تلومني بلطف في محادثاتنا ال هاتفية على عدم قدرتي على زيارتهم في عطل نهاية األسبوع .كنتُ
دائم التحجج بظروف العمل الذي ال ينتهي و أني كنت أغتنم عطل األسبوع للسفر إلى واليات أخرى من أجل
تحقيقاتي و مقاالتي ،لكن األمر سرعان ما كان يصير أكثر إحراجا أيام األعياد الوطنية و الدينية .لم يكن لي من
57
حجة مقنعة .لكني كنتُ أزورهم بشكل خاطف أختزله في بضع ساعات فقط قبل أن ّ
أفر من البيت كاللص ،تماما
كما كنتُ أنوي أن أفعل بعد مرور خطبة شقيقتي .الحقيقة هي أني كنتُ و ال أزال أتجنّب إطالة الجلوس مع أمي
حتى ال تستدرجني إلى حديث هذه الفتاة " المثالية " التي عثرت عليها و تريد ربطي بها .أي ظروف كانت و ال
تزال تسمح لي باالرتباط ؟ .شعرتُ و أشعر بأني غير جاهز البتّة ،فكل ما كان و ال يزال يشغل بالي هو عملي .ثم
إني لم أكن ألرغب في السؤال عن قلبي ،إلى أين انتهى به المطاف .إلى أين وصل في تيهانه األبدي ؟.كنتُ أعرف
أنه هناك ،في مكان ما في أرجاء تلك المدينة التي أحبّها .ربما هو سبب آخر من األسباب الخفية التي ظلت تغذي
رغبتي الدائمة في االبتعاد عن البليدة ،هذه البليدة التي لم أكن أبدا ألرغب في االبتعاد عنها لوال ما حدث لي .كم
هي مؤلمة هذه المفارقات !.
نظرتُ إلى أخي البكر البشير ،كان يتناول طعامه بصمت مكتفيا ببعض االبتسامات التي تكاد تكون مصطنعة
ْ
صدقت أمي عندما راحت تتفحّص وجهه بيديها و كلّما أراد فؤاد و الفتاتين استدراجه إلى أحاديثهم و مزاحهم.
عالمات الحسرة بادية عليها و هي تقول " :شيْنت يا وليدي ،واش راهم يو ّكلوكم في الصحراء ؟ ! " .بدى هزيال
عما كان عليه .وجهه كان أسمر اللون بفعل لفحات الشمس .لون شفتيه ازداد قتامة من كثرة التّدخين ،حتى أننا
الحظنا بروز شعيرات بيضاء كثيرة غزت صدغيه .كانت مالمح اإلرهاق واضحة جدا على محيّاه و قد فسَّرتها
عيشة بسذاجة على أنها مالمح تعب السّفر و أزيز طائرة هرقل C130الذي يُحطم الرأس من الداخل .لكني كنتُ
أعلم جيدا أنها مالمح الحرب .نفس المالمح التي كان يعود بها في السنوات الفارطة بعدما أمضى عقده األول
كعسكري متعاقد في فصيلة لمكافحة اإلرهاب بين 4112و .4117
إيراڨن و
كان كثيرا ما يحكي لي ليال عندما يأتي في إجازاته القصيرة و القليلة عن عمليات التمشيط في جبال َّ
تاكسنة الرهيبة بنواحي االقبايل .يحكي لي عن مخابئ اإلرهابيين الكثيرة التي يد ّمرها الجيش لتعود إلى الظهور
صنع التي يلقبّها العسكر بـ" بطاطا " .تلك
كالفطريات في األسابيع التالية .يحكي لي عن رعب األلغام التقليدية ال ّ
األلغام الجهنّمية الغادرة التي تأخذ لون تضاريس األرض و كأنّها كائنات شيطانية بشعة تتغذى على أقدام البشر.
يحكي لي كيف كانت تنسف سيقان عشرات الجنود و صف الضباط و حتى الضباط كل أسبوع .يحكي لي عن
فِّخاف مدافع الهبهاب المزروعة في أجدع أشجار ّ
الفلين و الموصولة بأسالك دقيقة تُطلق شحناتها و شظاياها
المعدنية حال ما تقطعها خطوة عسكري غير منتبه ،لتأخذ معها الرؤوس و األجدع و األذرع و ال تُبقي غير
ي معاناة الجوع و الطعام ال ُمعلّب البارد و انعدام المياه ,يحدّثني عن
يقص عل ّ
ّ السيقان في حالتها السليمة .كان
الطرق المبتكرة من طرف أالئك األفراد المقاتلين من أجل إيجاد حلول تقيهم الموت في عمق تلك الغابات في
صقيع رياح ديسمبر و برد ثلوج جانفي القاتلة في تلك الجبال القاسية .حكايات الخنادق و ساعات االنتظار و
الترقب الطويلة تحت األمطار و الضباب .حكايات حر الصيف الخانق ،ال َبعوض و البراغيث و العقارب و
األفاعي .حكايات الحصار و المطاردات و االقتحام و االشتباكات و الكمائن .حكايات الجرحى و القتلى و دموع
الحرقة على إخوة السالح المتناثرة أشالئهم .مأساة االنهيارات العصبية و االنزالق نحو اإلحباط و الالأمل و
الجنون و اإلدمان على المخدرات و الفرار من الخدمة و االنتحار .قصص كوابيس الليل و كوابيس الضمير و
ال ّندم القاتل.
58
رغم ذلك .رغم كل ذلك ،فقد جدّد البشير عقده مع الجيش للمرة الثانية في 4117و للمرة الثالثة و األخيرة قبل
الريهبة .قلت في نفسي " :كم من تجربة ؟ .كم من قصة صحفية
نحو عامين .و كأنه لم يكتف من كل تلك المعاناة ّ
؟ .كم من رواية ؟ .كم من كتاب ؟ .كم من دراسة ؟ .كم من سلسلة وثائقية و تلفزيونية ؟ .كم من فيلم يمكن توثيق
تاريخنا به لو جمعنا كل هذه اآلهات الصامتة ،التي تحكي معاناة الجيش الجزائري في مكافحة جحيم الجماعات
اإلسالموية المسلّحة طيلة عشرين عاما ،بعيدا عن كل األضواء و في صمت كامل "
كنتُ أقول بأن ذلك قد يُجيب عن أحد األسئلة الغارقة في التعجب التي يطرحها الجزائريون في العادة و هي:
رغم كل ما حدث و يحدث ،كيف لهذا البلد أن يبقى واقفا هكذا و هو منهك و خائر القوى تماما ؟ !.
نظرتُ إلى يدي البشير و هو يتناول طعامه ،فوجدتهما ال تزاالن تحتفظان بآثار الخدوش الكثيرة التي تسببت
فيها أغصان و أشواك أحراش و أدغال جيجل الكثيفة ،تماما كما كانت شمس عين ڨزام تلك األيام تحاول بعناد و
ثبات تخليد أثرها على مالمح وجهه و في أعماق نفسه .لكني ال أزال عاجزا عن فهم سبب رغبته في االستمرار
رغم أنّه قدّم ما عليه في سبيل هذا البلد ،مثله في ذلك مثل عشرات اآلالف من أمثاله .و قد كان السبب المباشر
الذي ج ّنبني الخدمة العسكرية ،بعدما أقسمت أمي و أصر أبي على إبقائي إلى جانبهما بأي طريقة .الحاج كانت له
معارف كثيرة في مركز التجنيد بالبليدة و المحكمة العسكرية بحكم منصبه السابق في مديرية التربية ،و من ثم لم
أذهب رغم أني كنت أريد الذهاب في قرارة نفسي ،فضوال أكثر منه حبا في الذهاب.
ّ
التفت فجأة جهة شجيرات الورد .ابتسمتُ و أنا أبطئ من مضغي للقمتي التالية .انتبهت و أنا على تلك الحال،
نجيّة إلى األمر ،فالتفتت هي األخرى جهة الورد و سيطرت عليها عالمات االستفهام .ما الذي كان يدفع بي ألبتسم
بذلك الشكل ؟ .سرعان ما الحظت عيشة عالمات وجه نجيّة و بسمتها المستفسرة ،فالتفتت بدورها جهة الورود
الحمراء و البيضاء ،التي طالما رأيتُ نفسي أيام المراهقة أقطف باقات منها و أنا أستعد للذهاب و طرق باب منزل
59
تلك التي تذ ّكرتها بشدّة .تلك التي ّ
أحن إليها مذ وطئت قدمي تراب البليدة ،رغم كل محاوالتي اليائسة تجنّب مجرد
التفكير فيها.
_ أعرف ما تف ّكر فيه يا مينو ! .ال تقل لي إنها نفس الفراشة !!.
راحت عيشة تضحك و هي تشير إلى الجميع بأن ينظروا إلى تلك الفراشة الجميلة الصفراء ذات األجنحة
تزين جلود النّمور البنغالية .كانت
الحادّة أطرافها و المزيّنة بخطوط سوداء دقيقة أشبه بتلك الخطوط المظللة التي ّ
ّ
تشق طريقها بين حوانيت كبيرة الحجم تنساب في الهواء بلطف شديد بين الورود و كأنّها أميرة هندية صغيرة
الحرير ،في يوم احتفالي بهيج مليء باأللوان و العطور و البهارات.
_ إنها هي ! .نفس الفراشة التي دأبت على زيارتنا كل عام في نفس الفترة تقريبا مذ كنّا صغارا ! .أتذكرين ؟.
راحت عيشة تطلق ضحكاتها الطفولية و هي تومئ برأسها كمن يقول " يا لك من مجنون ! " .في حين ردّ
ي فؤاد و هو ماض في غزوته الشرسة على صحنه...
عل ّ
_ ال تكن سخيفا ،ال توجد فراشة في العالم عاشت كل هذه السنوات !.
اكتفيتُ بال ّ
صمت و االبتسامات و أنا أراقبها محاوال تك ّهن اختيارها بنفس اإلثارة البريئة التي كانت تنتابني في
ْ
خلت .عندما كنت في الثالثة عشر من عمري ،كنتُ أجلس على درج باب المطبخ الذي يُؤدّي إلى الحديقة و سنوات
صبر أن تختار تلك الفراشة زهرة أو وردة معيّنة تحط عليها أوال .كنتُ أقول بأنّها إن حطت
أنا أنتظر بفارغ ال ّ
على وردة بيضاء فذاك معناه أني سأتم ّكن من التحدّث إلى فتاة جميلة في ذاك اليوم .كان ذلك باعثا على السخرية
ألني كنتُ شديد الخجل و بالكاد كنت أرفع بصري في عيني أي فتاة جميلة .كنتُ أقول :إن ّ
حطت الفراشة على
سأتعرف قريبا على فتاة شقراء جميلة .أما إذا ّ
حطت على أزهار البرتقال فمعنى ذلك ّ وردة صفراء فذاك معناه أني
سِّر األمر على أن إحداهن سترسل لي رسالة حب مجهولة المصدر .إذا ّ
حطت الفراشة على زهور الياسمين فإني أف ّ ّ
أنه قبلة منتظرة من شفتي فتاة جميلة أو صديقة ما أعرفها .كان ذلك شيئا سخيفا للغاية أيضا فأنا لم أكن أستطيع
التحّدث إليهن بطالقة ،فما بالك بتقبيلهن ؟ ! .أما إذا انتهى المطاف بالفراشة فوق وردة حمراء ....فكان ذلك يعني
أني سأقع في حب من يجب أن أقع في حبّها و أني سأعيش تجربة فريدة جدا تزامنا مع ذاك الحب.
ّ
حطت الفراشة بعد جولة أخيرة و بعد طول تردد فوق التُّراب ! .اكتفيتُ بال َّ
صمت .غريب ! ،أردتها برغبتي
الطفولية الدفينة أن تختار وردة حمراء ! .آخر مرة قبلت فيها فتاة كانت أيام الجامعة ،في سنتي الثالثة بجامعة
الجزائر على ما أذكر .يوم اشتهيت شفتي إحدى الزميالت الجميالت الالئي درسن معي ،و أعربتُ لها بشكل
ْ
انتفضت و انسحبت غاضبة و هي تخبرني بأنها فهمت التلميح جيدا ،و ضمني أني فعال أرغب في تقبيلها ،لكنها
بأني قد خيّبت ظنها بي قبل أن تمطرني بسيل من عبارات النقد الالذع و هي تعرب عن انهيار الثقة و الزمالة
بيننا .لكنها عادت بعد نحو أسبوع و هي تستغل فرصة خروجي المتأخر من إحدى غرف الدروس ،كي تغلق الباب
60
ي بعض خلفها قبل خروجي مسندة إياه بظهرها و هي تنظر إلي ببسمة مرتبكة ،تخبرني بأنها كانت قاسية عل ّ
ْ
شعرت بأني لست من نوع الفتيان الشيء آخر مرة و بأنها تعتذر عن تلك العبارات القاسية التي قالتها لي .أظنها
ْ
كانت تظن ؟ .اعتذرتُ بدوري و أنا أؤكد لها بأني في بعض الذين يستحقون ذلك في كل األحوال ،أو هكذا
األحيان ،و إن كنت فتى خجوال على العموم ،فإني ال أتمالك نفسي و لساني أمام فتيات جميالت ال يكففن عن التودد
ي تارة و تنظر إلى أرضية الغرفة
إلي و ال يُردن تركي في حالي .لم تقل شيئا و لم تفتح لي الباب و ظلت تنظر إل ّ
تارة أخرى و هي تبتسم بدالل بعدما علت وجنتيها حمرة طفيفة .فهمتُ لحظتها أنها لم تقصد فقط االعتذار .حينها
لم أستطع منع نفسي .تقدّمت إليها بهدوء و ارتباك و قبّلتها بلطف .لم أرغب في أن تكون القبلة عميقة ،حتى ال أجد
نفسي أنجرف إلى منابع أنوثتها الباقية فأفتحها و تتحول القبلة العابرة إلى عاصفة شهوانية هوجاء بنتائج غير
محسوبة .كانت شفتيها الرطبتين تحمالن مذاقا ذكرني فعال بالياسمين .ربما كان أحمر شفاهها الخفيف أو كان
العطر الذي كانت تضعه ؟.
عدتُ إلى لحظتي تلك في حديقة البيت وسط األهل .كنتُ أكاد أرى طيف نفسي و أنا في بداية مراهقتي أجلس
هناك ،على عتبة باب المطبخ ،أرفع ذراعي إلى السماء كالمنتصرُ ،محتفال باختيار األميرة المج ّنحة وردة الغرام.
مرحى أليام الطفولة بكل عنفوانها و سذاجتها !.
عند اقتراب العصر ،بحثتُ عن البشير .لم أعثر عليه في أي مكان فافترضتُ أنه خرج إلى الحومة للتسليم
على بعض الجيران الذين لم يرهم منذ مدّة كما فعلتُ أنا عند وصولي منتصف النّهار .بدى لي أنه هو اآلخر لم
سرتُ األمر على أن جداال ما قد
يسلم من االستقبال الحار للحاج ،فهما لم يتبادال كلمة واحدة على مائدة الغداء .ف ّ
نشب بينهما في مكتب والدي قبل أن ينزال إلى البستان على نداءات أمي للجميع .ف ّكرتُ قليال فيما يكون قد دار
بينهما من حديث ،ثم انتابتني رغبة في تدخين سيجارة لكن بعيدا عن أنظار الحاج .خرجتُ إلى عتبة الدّار ،فإذا بي
أجد البشير واقفا هناك يُدخنُ سيجارته هو اآلخر ،غارقا في التفكير الذي لم يخ ُل من التأمل في منازل الحي و
تتخلله سوى زقزقة بعض الشحارير. طرقاته الصغيرة المتشابكة و سكونه الجميل .كان الجو دافئا و هادئا ال ّ
_ مرحبا أيها المكتئب الغامض ! .قمتُ بجولة صغيرة في الحي .سلّمت على بعض األصدقاء القدامى...
_ كنتُ محقا منذ البداية .لم يصدّقني أحد عندما كنتُ أقول بأنك كنت تُد ّخن خلسة عن الجميع ،سوى أني لم
أكتشف يوما الخدعة التي كنت تستعملها من أجل التّخلّص من رائحة التبغ !.
مرة !.
_ أنتَ بدأت التدخين قبلي .لحسن حظي كنتَ غبيا كفاية ليكتشف الحاج أمرك في كل ّ
61
ضحك و هو يدفعني بكتفه و كأنه يطلب مني أن أغلق فمي .أحسستُ بجسده الهزيل في تلك اللحظة التي
ي أذكر ّ
أن عضالت كتفيه و عضديه كانت مفتولة فيما مضى بفعل تمارين الضغط .كان قو ّ ُ اصطدم فيها بي.
البنية .كان كالجدار .لكن في تلك اللحظة شعرت به و كأنّه برميل فارغ.
_ أال تريد ترقيع أثر تلك النطحة على سلحفاتك الصغيرة هذه ؟.
سألني ناظرا إلى سيارتي البيجو 411الفضّية المبعوجة من جانبها األيمن من بعيد...
_ ال .هكذا سأتذكر دوما أني كثير الشرود عند القيادة .ماذا عنك ؟ ،كيف هي األحوال على الحدود ؟.
ُ
ينفث الدخان من فمه و أنفه... صمتَ قليال و هو
_ سيئة جيدا .العمل ال ينتهي أبدا .نطارد و نقاتل الجميع .مهربي السالح ،مهربي المخدرات ،مهربي الكحول
و التبغ ،مهربي الذهب ،القاعدة و بناتها ....ينتابك إحساس بأنك ّ
بت تكره نفسك و تكره الجميع .الحرب في شمال
مالي ال تزال مشتعلة بين الماليين من سود و طوارڨ .السالح الليبي غطى كثبان الرمل التي صارت تنبعث منها
رائحة الوقود و البارود من كثرة سيارات الـ Toyota Stationsالتي تُقصف كل أسبوع من طرف طيراننا
الحربي .أتصدّق أنه حتى مهربي السلع و الكيف صاروا يمتلكون أسلحة مضادة للمدرعات ؟ .على بركة القذافي
ملك ملوك إفريقيا الذي فتح مخازن سالحه الروسي ال ُمكدّس ليحرق الجميع بعدما يحترق هو ...مجنون ! .نحن
نقاتل الجميع و الجميع يُقاتل الجميع !– ضحك مته ّكما – لم يبق لنا غير الفرنسيين المتواجدين ناحية جبال
إيفوغاس لنقاتلهم كما فعل أجدادنا عام .! 22
_ الفرنسيون ليسوا في صف أحد ! ،أنتَ صحفي ،ال تكن ساذجا .هم هناك من أجل مصالح بلدهم الغارق في
األزمة االقتصادية ليس إال .إن لم يكن من أجل تل ّمس بطن الجزائر السّمينة قليال بين الحين و اآلخر .أراهن على
أنهم سيعودون قريبا من حيث أتوا و سيتركون لنا فضالتهم لنتولى تنظيفها من داخل حدودنا.
_ أجل .إنه غير راض ع ّما أفعله .يريد مني أن أرفع مستواي قليال باالبتعاد عن علب الليل.
62
_ افعل ما تراه مناسبا .أؤ ّكد لك بأن ما تنشره و ما تكتبه في عمودك يلقى استحسانا كبيرا من طرف الجميع،
بما فيه نحن رغم أن الجرائد ال تلحقنا إال نادرا على الحدود.
_ اآلالف من الغالبى ،من الجنود و ضباط الصف و اآلالف من ضباط الميدان الغاضبين ! .تدري أننا بتنا
نقاتل دون أن نعلم َلم نقاتل ؟ – .خفض صوته للحظة – من أجل هؤالء األوغاد في العاصمة من أصحاب األطقم
الفاخرة ،الذين يتسابقون فيما بينهم لنهب المال العام و العقار و تبييض األموال في سويسرا و موناكو و االستثمار
في فرنسا و إسبانيا و شراء األسهم في بورصة نيويورك بأموال الرشاوي و الصفقات المشبوهة ؟ !.
طريف حديثه عن سخط أفراد الجيش ! .ذ ّكرني بلقائي ذات يوم مع رائد لم يعلم أني صحفي ،راح يُعرب عن
سِّرا و هو يقول
المدوية .ثم راح يتهكم متح ّ
ّ سخطه على األوضاع العامة في البالد بعد فضائح شركة سوناطراك
لي '':لو لم أكن عسكريا أل ّسستُ حزبا سياسيا أسميه ' حزب كول -كول ' ! .بهذا االسم أحدِّّد صراحة طبيعة
اإليديولوجية التي يتبناها معظم ساسة هذا البلد في الخفاء ،فضال عن أن عبارة كول كول قد تخلق التباسا لدى
األجانب ،الذين سيفسّرون معناها على أنه " ممتاز – ممتاز " تماشيا مع عبارة Coolاالنجليزية التي لها نفس
المدلول .'' Tout va bien...!Tout va bien..
تنهدت ناظرا نحو سيارة كانت تعبر الطريق أمامنا تلك اللحظة و رميت بما جال في خاطري بكل عفوية...
_ على كل حال ،أنتَ من اختار الذهاب إلى الجيش يا بشير .لقد اخترت حياتك بنفسك !.
لم يقل شيئا و لم ينظر إلي .الحقيقة هي أني لم أستطع فهم البشير يوما رغم أن عالقتنا كانت دوما وطيدة
مقارنة بعالقتي مع فؤاد ،رغم أنني كثيرا ما كنتُ أستشعر ندرة القواسم المشتركة بيننا منذ الطفولة .لقد كان
تورط في الكثير من المشاكل و هرب من البيت لبضع مرات .لم يكن يوما من النوع الذي
مشاكسا منذ طفولتهّ ،
يميل إلى التف ّكر و التأ ّمل و البحث و المطالعة كما هي الحال معي .ملكته األدبية معدومة تقريبا .كان دوما ذو روح
تمردي متمردة بشكل صريح يميل في الكثير من األحيان إلى ال ّ
شغب .كنتُ أشبهه في ذلك إلى حد ما ،سوى أن ّ ّ
تمردا صامتا خاليا من الضجيج .شجاراته في الحي ال تحصى ،بينما ال أكاد أذكر أني
كان دراسيا أكثر ،كما كان ّ
تشاجرتُ يوما مع أي كان .ثم لم أشعر أبدا بأنه انضم إلى الجيش بدافع وطني خالص ،تاركا وضعه االجتماعي
المريح مع قصة ميراث العائلة.
اعتقدتُ في البداية أنه لم يقم إال بالهروب على طريقته الخاصة ،تعبيرا عن سخطه على تلك الصراعات
الحادة التي نشبت بين أبي و أعمامي يوم قرر الجميع اقتسام إرث األسرة من بيوت و أراض فالحية ناحية تابالط
و البرواڨية و مدينة المدية مباشرة بعد وفاة الجد البشير .أذكر جيدا تلك السنوات من الخصومات و الوقوف أمام
المحاكم و التهديد و الوعيد و العالقات المقطوعة .كنتُ ألعرب للبشير عن مدى موافقتي لرأيه لو أنه جهر به في
صراعات أشعر بالتقزز مما يُس ّمونه
تلك الفترة التي غادر فيها البيت .أقول له و لآلخرين إلى أي حد جعلتني تلك ال ِّ ّ
63
في الجزائر '' العايلة '' .العوائل ال تكون هكذا .ليس إلى هذه الدرجة على كل حال .لكنّه لم يتحدّث أبدا في األمر.
ملف التحاقه .اجتاز الخطوات األولى للتجنيد ،ثم حزم أمتعته و ذهب بمجرد أن وصله
ّ اتخذ قراره .ج ّهز
االستدعاء ،دون أن يشاور أحدا و دون أن يودّع الحاج و ال أن يشعر بالوهن أمام دموع أمي و توسّلها .لطالما كان
هكذا ،ذو قلب حاسم ال يلين عند اتخاذ أي قرار ،و هو الشيء الوحيد الذي أهله ليكون عسكريا مقاتال .هو الشيء
الذي طالما أثار إعجابي به و جعلني أحاول أن أكون مثله في اتخاذ قراراتي الحاسمة دون وهن أو تردد.
عدتُ إلى واقع اللحظة و نظرت إليه محاوال تغيير الجو قليال...
_ أجل .طبعا ! .سأرتبط قريبا بطير نعام أو سأختار لنفسي ناقة ! .أتمازحني أم ماذا ؟ .في المكان الذي أعمل
فيه ال يوجد سوى أربع :الرمال و السماء ،الشيطان و هللا ....و نحن في وسطهم نتقاتل جميعا .لدينا أغنية نعبِّّر بها
عن واقعنا المر هناك تقول " ال ش ّمة ال د َّخان ....ال خرجة ال نسوان " ! .نحن نعيش اللعنة يا صاحبي .تشتاق في
بعض األحيان إلى سماع صوت أنثى أو أن يلتقط أنفك عطرا نسويا حتى تتذكر فقط أنك رجل و ليس مجرد آلة
سِّالح المشعّرين من
للقتال و القتل أو شيئا بال قلب و ال روح ،في حين تستدير يمينا و شماال فال تجد سوى إخوة ال ّ
حولك برائحتهم الذكورية الطاغية ،يلبسون نفس البزة التي تلبسها ،فينتابك إحساس أنك ال تجالس و ال تنظر إال
لنفسك ،و المشكلة هي أن المالعين جميعا يحملون مالمح الهم و الغم و التّعب على وجوههم و هذا أسوأ شيء قد
تواجهه مع نفسك ! .صدقني ،الحياة التي يعيشها أفراد الجيش على الحدود ال يعلمها سوى هللا.
على قهقهتي من تعبير " ال ُمشعَّرين " نظر نحوي و هو يبتسم كمن يستعدّ للرد على استفزازي...
_ ماذا عنك ؟ .أال تزال تعيش في أفكارك ؟ ...ال تزال تشغل بالك ؟.
_ من ؟.
_ ال تتحاذق معي يا ولد ! .رأيتُ لون وجهك يتغيّر عندما كنّا نهم بالجلوس إلى مائدة الغداء بمجرد أن سألتك
العجوز عن الحياة في " ....البهجة "...
للمرة الثانية ،بعد تلك األولى على مائدة الغداء .حاولت التحكم في ردّة فعلي .نَفَسي كاد يخونني
ارتعش قلبي ّ
أمامه..
64
غربني عن هذه المدينة العزيزة ،ألجد نفسي أعيش في مدينة تشبهها في الكثير من
الذي يُسبّبه نطق اسمها ،الذي ّ
األشياء .شيء نادر جدا ،جذّاب حد اإلرباك ،حلو حد الثمالة ،قوي حد الترهيب ،هش حد التفتّق .لكنه و رغم كل
ذلك مثخن و عابس .كان ال بد أن أشعر بالغربة في مدينتي األم بعد ما حصل لي مع بهجة ،و كان علي أن أنتفي
إلى مد ينة أخرى تحمل اسمها للعيش فيها غريبا هاربا من كوابيس قلبي و مخاوف طفولتي ....بال فائدة .كان
مفر لي من التفكير فيها مادمت قد اجتزتُ عتبات البليدة.
البشير يعلم علم اليقين أنه ال ّ
لقد حاصرني حقا .لم أستطع قول شيء و اكتفيت بنظرات ساذجة كنتُ ّ
أوزعها على جدران و أبواب منازل
الجيران و أنا ّ
أحك أنفي بسبابتي.
_ مينو ،لقد مررتُ بهذه التجربة أيام مراهقتي .في العادة نحن نتجاوز هذا األمر مع التقدم في السن .أترى
أني في آخر إجازة قضيتها هنا لم التق بسارة ؟ .أجل ،سارة التي كنتُ متيّما بها و متيّمة بي هي اآلن زوجة و أم.
التقيت بها برفقة زوجها و ابنيها التوأمين بالقرب من " بازار السردوك ".
_ تغير نبض قلبي في اللحظة األولى ،ثم ....ال شيء ،تقاطعت نظراتنا .أعتقد أني لمحتُ ما يشبه البسمة
الخفيفة ترتسم على شفتيها ثم ......مضى كل واحد منا في سبيله.
نظر إلي باستفهام و برود كامل ،كمن يستفسر عما يمكن أن يحدث في حالة مشابهة ،ثم ّ
هز كتفيه...
_ ماذا تريد أن يحدث ؟ .أنتَ نفسك تقول لي عن بهجتك أنها صارت من الماضي !.
التزمنا الصمت مرة أخرى .ال أدري أين ذهب بال البشير ،لكن بالي كان مشدودا نحو تلك الفراشة الصفراء
الجميلة التي ظهرت مرة أخرى .كانت تهتز من بعيد في الهواء كورقة شجر طارت بها ريح الخريف .كانت
تنساب و تتمايل قاطعة طريقها إلى وجهة ما فوق البيوت الهادئة.
قلتُ في نفسي أنه لو كنتُ ال أزال في السادسة أو السابعة من العمر ،لوجدتني أفترض بأنها كانت تتجه إلى
حديقة المنزل العائلي ،لتلك التي ستصير ذات يوم حب حياتي !.
65
-6-
مألتُ رئتي بتلك النسمة الربيعية المح ّملة بعطر األزهار البيضاء الصغيرة المتفتّحة ،التي تُكلّل أشجار
البرتقال المصطفة على طول شارع العربي التبسي– باب السَّبت كل عام ابتداء من شهر مارس .تبدو في العادة و
كأنها مسامات بيضاء صغيرة ت ُ ّ
عطر بها تلك األشجار شوارع المدينة ،كلّما ه َّمت بصمتها الخالد إلى مالقاة الربيع
الذي يفد على البليدة من منفذ سري ال تراه إال تلك األشجار .كنتُ أراقب الناس ،السيارات ،المباني الممتدة على
طول النشوارع التي بدت و قد تغيّرت بعض الشيء ،بفعل هدم بعض البنايات االستعمارية القديمة.
لم أجد مهربا من التّن ّهد .كان اسمها يتالطم داخل رأسي .كان قربها ّ
يهز كياني .هي التي عاشت بداخلي
لخمسة عشر عاما تُشعرني باألمل غير ال ُمكتمل ،باإلرادة ال ُمعلّقة ،بالشوق الجارف الذي ي ّ
ُقطع أعماقي بسكين
مرة ثانية .لكن هل كان علي أن أهرب من مواجهة الحقيقة كما
الشك ناثرا على جروحي ِّملح الخوف من اإلخفاق ّ
فعلتُ عندما حدّثني البشير عنها ؟ .مستحيل ! .كنتُ أف ّكر فيها ،بل كنتُ ممتلئا بها ...بهجة ...بهجة ...بهجة...
66
المرات التي سمعتُ فيها اسمها يتردد بداخلي ،كصدى لصوت ضائع في فراغ أعماقي
بهجة ......هللا يعلم عدد ّ
المرات التي رأيتُ فيها ّ
أحن إليها ،كنتُ ُمثخنا بها ...بهجة ...بهجة ...بهجة ...هللا يعلم عدد ّ الدّفينة .مستحيل ! .كنتُ
طيف وجهها الجميل ،الذي كنتُ بالكاد أفقدُ مالمحه الطفولية اللطيفة و هو ّ
يمر بصمت في طرقات ذاكرتي الخلفية
ع ْ
رفت بها وسط كل من يعرفها و كل من يُحبّها بقيت الشيء الوحيد الذي أذكره المظلمة .تلك البسمة العجيبة التي ُ
جيدا من مالمحها.
غريب ! .نفس األسئلة األزلية التي أطرحها دوما كطفل صغير يرغب بشدّة في الحصول على إجاباتها فورا:
عرضتني له مرة ؟ .أتراها قد ند ْ
ِّمت على ما ّ أتراها أحبّتني ذات يوم ؟ .هل ف ّكرت ف ّ
ي بجد بينها و بين نفسها و لو ّ
في النهاية ؟ .هل كنتُ ألظفر بفرصة معها لو أني كنتُ أكثر إلحاحا أو حتى أكثر إزعاجا ؟ .ثم ,ماذا عنها اآلن ؟.
أين هي ؟ .ماذا حقّقت في حياتها المهنية و الخاصة يا ترى ؟ .أهي عاملة أم ماكثة في البيت ؟ .هل هي مخطوبة
تزوجت و أنجبت أطفاال مثل حبيبة أخي السابقة ؟ .على األرجح أن تكون سيّدة اآلن ،فقد بلغت حاليا
اآلن ؟ .هل ّ
السادسة و العشرين ؟ .....هكذا كنتُ أسأل نفسي .لم أستطع التصديق بأن فتاة ُحلوة مثلها قد تبقى بال ارتباط و ال
زواج كل هذه السنوات .ثم ،هل تغيرت مالمحها كثيرا ؟ّ .
أشك في ذلك ! .آخر مرة رأيتها فيها من بعيد قبل ثالث
سنوات في إحدى األمسيات المشمسة أواخر شهر نوفمبر .كانت ال تزال كما هي .فتاة جذابة تحبّ المرح و الت ّ ّ
سوق
و التأنّق .ذاك اليوم لمحتني من بعيد و أنا أسير بالقرب من إكمالية أحمد عابد – البرتقال وسط المدينة .رميتُ
ْ
التفتت فيها نحوي .كانت رفقة فتاتين أخريين .كنتُ أسير متظاهرا بأني لم ي في اللحظة التي
ببصري تحت قدم ّ
ألحظها من على الرصيف المقابل و أنا أتفحّص الكيس البالستيكي الذي كنتُ أحمله في يدي .ال أذكر ما كان فيه.
لكنني رفعتُ بصري مباشرة نحوها ،أو ألقل أن شوقي الطفولي الجنوني لها رفع رأسي سريعا نحوها .كانت ال
ْ
جلست إلى جانبه في ي و كأنّها تحاول التأ ّكد م ّمن أكون ! .صاحب النظارات غريبة الشكل الذي
تزال تنظر إل ّ
األيام األولى للعام الدارسي .4111-22
ْ
ابتسمت و هي تميل برأسها قليال إلى الجانب .تلك هي طريقتها الفريدة في ْ
ابتسمت بعدما عرفتني. ذاك اليوم،
القول " مرحبا " قبل أن تنطق بها فعال .لم أستطع رؤية عينيها الب ّنيتين فقد كانت تضع نظارات RayBanشمسية
حرمتني العبور الكامل نحو سماء صافية لطالما عرفتُ كيفية التحليق و االرتقاء فيها كصقر منطلق بال قيود ،دون
س َر العظام .كانت تلك موهبتي معها و كانت
أن أجد في الغالب طريقي للعودة إلى الهبوط على األرض ....إال ُمك َّ
مصيبتي معها أيضا .كنتُ دوما الصقر ال ُمغ ّفل !.
يُقال أن الحبّ ليس أكثر من سجن شاسع بال جدران و ال قضبان ؟ .ال أدري !.
أر حاجبيها اللذين عادة ما ترفعهما قليال و هي تميل برأسها عندما تُطلق بسمة المفاجأة أو
أر عينيها و لم َ
لم َ
السرور برؤية صديق أو زميل قديم لم تره منذ مدّة .كنتُ حقا أرغب في رؤية تلك اإليماءات البسيطة الخاطفة
ي.
التي عادة ما كانت توقف الزمن من حولي للحظات ،جاعلة تلك الفتاة األشهى في عين ّ
67
ْ
رفعت صوتها من بعيد .عشقتُ الطريقة التي تنطق بها اسمي .نبرة حيوية فيها شيء من المرح الممزوج
بدهشة الطفولة ،و ربما يرجع ذلك إلى كونها هي نفسها و في مكان ما في أعماقها ،ال تزال تحتفظ لي بشيء من
تلك الطفلة الصغيرة التي كانت منجذبة إلي و مسرورة بالتعرف إلي أول مرة ؟ !.
في تلك اللحظة لم أقل شيئا .هرب لساني القصير إلى أعماق جوفي ! .اكتفيتُ بالرد عليها ببسمة رافعا حاجب ّ
ي
أيضا ،مشيرا إليها بيدي التي جمعتُ أصابعها إلى بعض على طريقة الصقليين اإليطالية و كأني أقول لها " كيف
حالك ،بخير ؟ " .ثم أشرتُ إليها بإبهامي داللة على أنّي بخير .ظلّت تبتسم و هي تكمل طريقها متو ِّ ّ
سطة صديقتيها،
قبل أن تغيب قسمات وجهها الطفولي المشرق أثناء تقدمها في السّير ،تاركة إياي خلف ظهرها و تاركا إياها خلف
ُّ
التفت إليها و أنا أبطئ خطواتي لوهلة .بدى لي أن جسدها صار أكثر أنوثة مما ظهري .لكني لم أستطع منع نفسي.
كان عليه ،خاصة جهة الحوض الذي كان يتمايل على خطواتها .يا اله ! ،صار لها خصر امرأة كاملة البلوغ.
أمعنتُ النظر إلى شعرها الكستنائي الممسوك نحو الخلف .آه من شعرها ذاك !! .هو الذي جعل منها أشبه
صمت
دوية جعلت ال ّ
بأسطورة إغريقية نهايتها مجهولة لدى التاريخ .كقصيدة ظاهرها غرام غاو و باطنها فجيعة ُم ّ
يصمت .كربيع أخرج للعالم أجمل ما في جعبته من براعم أزهار لم تتفتّح يوما .شَعر له لون شمس الشتاء في
ْ
تنسحب بسرعة و هي تُرسل على الكائنات أشعة حمراء لكنها باردة ،تُجدّد ولعها
ُ غروبها اللطيف و الكئيب ،حين
بدفء األمل القادم في األفق بعد الليل الشتوي ّ
الطويل ،يُبدّد شجاعتها في االستمرار نحو ال ّ
شرق لمالقاة تغريدة
الصبح المنشودة و ال ُمست َحقّة ،فال يتركها في النهاية إال حائرة ،ال تعلم ما تفعل بالضبط ،ال تعرف أ ّ
ي قرار حكيم
شعر بهجة ،ولعي و خوفي ! .كم تمنّيتُ أن يأتي يوم أمدّ أصابع يدي نحوه من دون شك ،من دون نفس
ستُصيبَ .
مضطرب و من دون قلب مرتعش.
ثم و ككل مرة نلتقي فيها بشكل غير متوقع ،و حين تمضي تلك اللحظات القصيرة المليئة بالتشوش لسرعتها،
و حين ينتهي كل شيء و يمضي كل منا في حال سبيله ،إال و تعود بي الذاكرة غصبا عني إلى أول مرة التقيت
فيها بهجة ،في تلك األمسية الخالدة من شهر سبتمبر من عام .22المدينة يومها كانت قد بدأت تستعيد أنفاس الحياة
في جنباتها بعد عشرية كاملة من حظر التجوال و القنابل و المجازر .كنا نسمع تلك األيام أن األزمة األمنية على
مشارف النهاية و أن المسلحين يستعدون لوضع السالح و أن البلد يستعد ليتصالح مع نفسه بعد ذلك االستفتاء الذي
نظم أواسط سبتمبر .قيل لنا إنه الوئام المدني .ثم كانت أمسية السابع و الشعرين من نفس الشهر ،حين أخبرني أبي
أنه قام بتحويلي إلى مؤسسة جديدة بعد أيام فقط من انطالق العام الدراسي ،كونه لم يكن راضيا بظروف التدريس
في المؤسسة التي وضعت فيها مباشرة بعد نيلي لشهادة التعليم االبتدائي .أرسلني إلى إكمالية العربي التبسي التي
68
دخلتها و أ نا أشعر بتشوش و نوع من الخوف حين قابلني ذاك المراقب التربوي الذي راحي يتملقني و يثني على
والدي و يخبرني بأن أبلغه تحياتي حين أعود إلى المنزل و أخبره أيضا بأنه قد اعتنى بي جيدا .أعطاني رقم غرفة
الصف '' ....هيا روح قبل ما يبداو الحصة التالية و ماتنساش سلم على الشيخ ديالنا '' قال لي و هو يدفع بي من
ظهري .كان المكان مكتظا بالتالميذ الذين نهضوا من أماكنهم بمجد نهاية الحصة و خروج آخر أستاذ من الغرفة.
مجموعات و فرادا توزعوا في كل مكان و هو ما جعلني أرتبك ،كوني لم أستطع تمييز مكان شاغر بشكل واضح،
فالكثير من األماكن كانت شاغرة مؤقتا كون أصحابها لم يكونوا جلوسا فيها .خطوت إلى الداخل تحت الكثير من
األنظار الفضولية و اغتنمت فرصة أول سؤال فضولي لي عمن أكون و من أي مؤسسة جئت ،حتى بادلته بسؤال
خجول عن أي مكان شاغر في الغرفة .قيل لي أن هنالك مكانا في الطاولة األولى عند مكتب األستاذ .التفت إليه
مباشرة .لم يكن أي تلميذ جالسا فتوجهت صوبه مباشرة .كانت طاولة بكرسي واحد .جلست و بدأت أضع
أغراضي الدراسية فوقها ،فإذا بتلميذتين تجلسان خلفي مباشرة تخبرانني أني أجلس في مكان أحدهم .التفت إليهما
بخجل سائال عن صاحب المكان ،فإذا بهما تشيران بيديهما و هما تخبرانني أن صاحبة المكان قد عادت .التفتُ
إليها .أدركتُ أنها الفتاة التي كانت تمسح الصبورة قبل لحظات و هي تعبث فوق المصطبة .كانت مالمحها طفولية
جدا.
_ آسف ،لم أكن أعلم أنك تجلسين هنا فقد قيل لي....
لكنها قاطعتني ضاحكة و هي تضع يدها على كتفي تدفعني على الكرسي...
_ ال ال ،معليهش ...اقعد ،نروح نجيب كرسي بش نزيد نضيع شوية وقت !!...
ْ
ركضت إلى خارج غرفة الصف لتجول عبر الغرف األخرى عابثة و هي تتظاهر بالبحث عن كرسي إضافي
قبل أن تعود بعد نحو خمس دقائق من انطالق حصة اللغة االنجليزية متحججة لألستاذ بأنها كانت تبحث عن
كرسي .جلست على يميني .نظرت إلي بفضول...
_ ما اسمك ؟.
أجبتها متأتأ و أنا أشعر بتلك الحرارة التي كانت تتصاعد من وجنتي ،فإذا بها تنزع مني الكراس الذي كان
بين يدي و هي تقلبه...
_ أنتَ لم تكتب شيئا على اإلطالق .لقد تقدمنا في الدروس يا أمين .سوف أعيرك كراسي اليوم على أن
تحضره لي غدا ،لكن قبل كل شيء دعني أمأل لك جدول التوزيع الزمني الدراسي...
لم أقل شيئا .رحتُ فقط أراقبها و هي تحمل مسطرتها و أقالمها و تنطلق في تسطير و ملء الجدول دون أن
تنتظر موافقتي على األمر .كنتُ أنظر إليها بخجل و أنا أقول في نفسي أنها حقا فتاة جميلة .كانت بعض خصالت
شعرها الكستنائي الفاتح تنسدل على وجهها العريض بين الحين و اآلخر ،فتقوم بإعادة ترتيبها خلف أذنها بأناملها
69
البيضاء الصغيرة و هي مستمرة في تسطير الجدول .أعادت إلي الدفتر مبتسمة .تلك االبتسامة الطفولية المشرقة
جعلتني أراها أكثر جماال و جاذبية إلى درجة لم أعرف فيها كيف أقول '' شكرا ''.
حين أنهينا الدراسة في تلك األمسية الدافئة ،عدتُ إلى البيت مسرعا و أنا أحمل كراس اللغة اإلنجليزية
الخاص بها معي .كنتُ مشوشا و سعيدا في نفس الوقت .كنتُ متفائال و خائفا أيضا .كنتُ أقول في نفسي و أنا أقوم
بنقل الدروس من كراسها بأنها على األرجح ستكون صديقتي عن قريب ،و من الغريب أني ال أزال أتذكر حتى
لون غالف ذلك الكراس .لقد كان أسود اللون !.
_ '' يا للعجب ،كانت لم تبلغ الثانية عشر من العمر يومها .من يصدق أنها صارت اليوم امرأة !! ".
قلتُ في نفسي متنهدا و أنا أعود إلى حاضري مستمرا في تأمل بنايات المدينة .غريب هو التفكير فيما حدث.
كيف كنتُ أخشاها و إلى أي حد كنتُ أرغب فيها ؟ .كنتُ ُمراهقا ّ
مقطع األعماق ! .ظننتُ نفسي تلك اللحظات و أنا
يو أتذ ّكر آخر مرة رأيتها فيها أني ال أزال ذلك العاشق التائه .بدى األمر سخيفا جدا ،لكنه كان حاضرا أمام عين ّ
كان وقعه قويّا و غير قابل لإلنكار .كنتُ فعال ال أزال أف ّكر فيهاّ ،
بقوة ،إن لم أقل أني كنتُ ال أزال واقعا في حبّها.
كنت عاجزا عن الهروب منها كما أفعل في العادة مذ سكنتُ العاصمة .كان عطر أزهار البرتقال الذي امتألت به
شوارع المدينة ،أشعة شمس أفريل المسائية اللطيفة التي كانت تربّت بحنان على مباني و أسقف منازلها ،صيحات
ي مشاعر مختلطة و غير محددة عن أيام الدراسة الماضية و أحالمي
طيور السنونو التي مألت سماءها موقظة ف ّ
ْ
ألقت بكياني صريعا تحت أقدام شوقي إليها .حقا الغرامية الضائعة فيها .كل ذلك امتزج في شكل تعويذة قلبية
صدفة اللقاء على قلّة حدوثها مثّلت
رغبتُ تلك اللحظات في رؤيتها ،أن ألتقي بها مصادفة كما كان يحدث دوماُ .
صورة حظي الوحيد معها .أردتُ فقط رؤية وجهها و لو عن بُعد ،و لو بشكل عابر و خاطف كما كان يحدث
دوما ،لعلّي أجدّد حياته داخل ذاكرتي و أحتفظ بقسماته الصحيحة و الدقيقة لوقت إضافي.
تلك الطرقات .تلك األرصفة .كانت دوما المنفذ الوحيد للقائنا غير المكتمل .كنتُ أسير عبر تلك الشوارع أيام
كنتُ ُمتيّما بحبّها و أنا أقول في نفسي أنها تكون قد ّ
مرت من هنا قبل أيام أو ساعات أو حتى قبل دقائق ،ثم أتأسف
و أف ّكر :نشأنا في نفس المدينة .نسير على نفس األرصفة .ننظر إلى نفس الواجهات الزجاجية .نسمع آذان نفس
صوامع .نستق ّل نفس وسائل النّقل .نستنشق نفس الروائح و العطور كل ربيع .نسمع زقزقة نفس الطيور .نُصادف
ال َّ
نفس الوجوه .نعرف نفس الزمالء و األصدقاء القدامى تقريبا .......و ننظر إلى نفس القمر .بالرغم من ذلك ال
تجمعنا سوى صدفة عابرة و تحيّة خجولة هاربة و ذكرى موقف ُمبهم بال اسم .هذا أمر ُمحزن إن لم يكن ُمخجل !.
لطالما ف ّكرتُ بأن واقعا كهذا هو في النهاية شيء بشع للغاية ،خاصة بعد كل الذي حملته لها في قلبي .ظل
يسيطر علي شعور من الضيق و عدم الرضى بعد كل الذي حدث .هو الشعور عينه الذي انتابني و أنا ماض في
التجول و التمعّن في البليدة التي يُحبّها قلبي ،رغم يقيني بأن ما حدث قد حدث منذ ثمانية أعوام وصوال إلى ذلك
اليوم ،و أني أنا اآلخر ماض أعيش حياتي كما هي .عرفتُ الكثيرات أيام الجامعة و بعدها كذلك ،جعلنني اتفادى
ذكرى جرحها الغائر و لو نسبيا ،دون أن يجعلنني أنسى ذكراها تماما .قلتُ :لدي أهدافي و مشاريعي المستقبلية.
70
ي من جديد :أترها تعلم أني صرت صحفيا اآلن ؟ .أتقرأ
لكن لوهلة ......نفس األسئلة الطفولية تعود لتتسلل إل ّ
صحفي يا ترى ؟ .أتتابعني على صفحتي الفيسبوكية الخاصة ؟ .حبّا في هللا،
مقاالتي و تحقيقاتي و تتابع عمودي ال ّ
ماذا يُمكن أن تس ّمي نفسها في حسابها على الفيسبوك ؟ .فتاة مثلها ال يمكن أن تكون بال حساب فيسبوك ؟ !.
**********
غير ذلك ،فالبليدة لم تغيّر من عاداتها كثيرا ،فهي تحتضن على طول النّهج الرابط بين باب السبت و ساحة
التوت باعة النباتات و األزهار القادمين من مختلف مشاتل المتّيجة لعرض سلعهم الثّمينة و التي ال يُقدِّّر ثمنها
سوى البليديون فقط .هي عادة راسخة في أشهر الربيع خصوصا .كنتُ أسير و أنا أتأ ّمل الوجوه و الناس ،كل
ماض في سبيله صعودا و نزوال ،وحيدا أو برفقة صديق أو أفراد من العائلةُ ،مر ّكزا نظره على السلع المعروضة
أو راميا إياه في الفراغ .أحاديث الناس في مجملها كانت تدور حول االنسداد السياسي في البالد و اإلحساس العام
صبونه على
للتحول إلى ما يُسمى " ربيع عربي " إن لم يجد رؤوس النظام رجل توافق يُن ّ
ّ بأن األمور قد تتعفن
رؤوسنا باسمنا .أشعرني ذلك بالراحة و ذ ّكرني بأن قلقي المزمن تجاه سبات هذا المجتمع و تجاه التهديدات
الحقيقية المتربّصة به جراء ذلك السبات قد تراجع نسبيا .أال يمكن أن يكون تراج ُع قلقي المزمن تجاه سبقي النهائي
ه و الذي فتح المجال إلى هذه الفسحة من الحنين ذو الجرعة الزائدة نحو الماضي و مشاعره و أنا أتمشى في
مدينتي األم ؟ .أحسستُ و كأني في عطلة ! .كنتُ فقط أ ُمعن التفكير و النّظر " ...فعال ،أنا في مسقط رأسي ! إنها
مدينتي ! ".
الكثير من األحاديث أيضا لم تخرج عن صلب الحياة اليومية بتفاصيلها الصغيرة البعيدة عن هرج و مرج
تسربات الماء المتكررة في
السياسة .أحاديث عن مشاكل البيت و عن السمكري الذي لم يكن عند وعده بتصليح ّ
المطبخ .عن أستاذ الفلسفة المتغطرس المتآمر مع المراقب العام .عن المراهقة الجميلة التي وصلها رقم الهاتف
المحمول مكتوبا في وريقة صغيرة و التي قد تتصل في أية لحظة .عن جديد المنافسة الشرسة و العداوة األزلية
بين لاير مدريد و أف سي برشلونة .عن جديد برنامج سكنات عدل .عن ضرورة عدم نسيان شراء حفّاظات
الصغير في المنزل .عن ضرورة العودة إلى الثّكنة العسكرية في الوقت المحدد .......الحياة العادية للناس في
البليدة ! .غريب كيف أنها تبدو جميلة و يبدون معها رائعين عندما يحظى الدّارس أو ال ُمراقب لهم بقسط من السالم
الداخلي .شيء يُشبه الخدعة اللطيفة ،لكنّه يُعبر عن جانب من حقيقة غائبة أو ُمغيّبة.
أحببتُ دوما إطالق سمعي و بصري نحو الناس و هم في قمة انشغالهم و تفاعلهم مع تفاصيل حياتهم
الصغيرة ،فأي تفصيل ،أي زاوية ،أي سلوك قد يُشكل في الحقيقة بداية خبر ما .سبق إخباري ما .تحقيق صحفي أو
صة .البعض قد يس ّمي هذا تطفال .أنا أس ّميه غريزة الكائن الصحفي األولى التي تماثل غريزة الغذاء عند الكائنات
ق ّ
الحيّة.
71
في لحظة ما تذ ّكرتُ أجواء شهر رمضان التي لها وقع خاص و طعم مميز في حياة كل فرد جزائري مهما
كان توجّهه في الحياةُ ،متدينا أم ال .ما هي الكلمة المناسبة لهذه الحالة يا ترى ؟ .ال توجد ! .لكن ألقل أنها شيء
يُشبه فرحة الطفل الصغير و هي تراقص حنين الرجل الكهل في األعماق بصمت.
و أنا ماض في السير نحو ساحة التوت أول نوفمبر ،رفعتُ بصري هنيهة إلى السماء الذي مألته أسراب
الخطاطيف و هي تطير و تراوغ مطلقة صيحاتها الحادة .لطالما أشعرتني هذه الطيور بالدهشة و أنا طفل صغير.
في تلك اللحظات كدتُ أبتسم .ثم انتبهت مرة أخرى إلى عطر أزهار البرتقال الذي كان يفوح به الشارع .يا اله كم
ْ
خلت ،يجعلني أحب هذا العطر الذي يجعل قلبي يفيض بألوان زاهية قادمة من مكان بعيد ! ،يُرجعني إلى سنوات
استردّ ذكريات عمر كامل ،عمر الطفولة و المراهقة.
بعد باعة النبات ات و الزهور ،جاء دور باعة الكتب القديمة الذين اصطفوا يعرضون سلعتهم من كتب قديمة و
متحركة .توقّفت لبعض الدقائق أمام أحدهم و أنا
ّ أقراص مضغوطة ألفالم وثائقية و برامج دينية و سالسل رسوم
أمرر بصري ماسحا تلك العناوين المعروضة لعلي أجد ما قد يُثير اهتمامي ،فضال عن أن للكتب القديمة سحرا
ّ
خاصا أيضا ،ليس أقلّه رائحتها المميزة .أفسّر دوما ذلك على أنه عائد إلى تلك الروائح المميزة لمكتب والدي و
المرتبطة بقوة بطفولتي ! .كانت نخلة البليدة الشهيرة ال تزال تنتصب بشموخها الغامض وسط نصبها المشيد
صتها التي ال تزال تُحاك عنها األساطير ذات العبق الموريسكي ،كما هي عادة كل قوم أو
حولها و هي تحكي ق ّ
شعب .ففي البليدة لدينا قديسة ،و هي عبارة عن شجرة ! .قلتُ في نفسي أن األسطورة و الخرافة التي تبنى حول
معالم المدن أو أعالمها ،و رغم ابتعادها عن الوقائع الصحيحة و حتى المنطق في كثير من األحيان ،إال أنها تكون
ضرورة اجتماعية للحفاظ على درجة من الدّهشة ّ
الطفولية في نفوس الكبار قبل الصغار تجاه مسقط الرأس .نوع
من االرتباط األبوي !.
كاانت األجواء جميلة جدا .مجموعات من الشباب و المسنين هنا و هناك .أطفال صغار يركضون وسط
الساحة .بعض األسر تلتق ط صورا تذكارية وسط طيور الحمام التي انتشرت بكثافة وسط إحدى زوايا الساحة
تبحث عن فُتات الخبز المنثور لها من طرف المارة أو هواة إطعام الحمام .هي طريقة جميلة جدا في الحصول
على بعض االسترخاء و السالم الداخلي ،و هي ثقافة بدأت تأخذ طريقها في عادات البليديين بعد العاصميين،
ُّ
تستحق هذا النوع من الحب و الطمأنينة ،بعد سنوات الحصار و الرصاص و الحقد و جعلتني أحس أن البليدة
القنابل.
**********
كان األصدقاء هناك ،يجلسون حول طاولة إحدى المقاهي ال ُملتفة حول الساحة و التي وضعت تحت مظالّت
شمسية .عبد الغني ،مسعود و ناصر...
72
المقرب منذ أيام اإلكمالية .رؤية تلك الوجوه ش ّكل دوما باعثا آخر لرماد الذكريات
ّ صاح عبد الغني ،صديقي
التي تحيى من جديد .رأيتُ في وجوههم بعدما لم أرها منذ زمن إال من خالل الفيسبوك همسات لطيفة لصوت
ال طفولة البعيد و مالمح أبطال مسلسالت الكرتون و أغاني زمن بداية المراهقة و غرور البلوغ الخادع .ذكريات
خالدة ،مواقف طريفة ،مغامرات مجنونة ،أيام لن تعود .رأيتُ في مالمحهم التي غيّرتها السنوات و البلوغ بعض
الشيء مالمح أشخاص آخرين لم نلتق بهم منذ سنوات ،زمالء دراسة و أساتذة في الغالب .كما رأيتُ فيهم مالمح
هاربة من وجهها ،هي ،تلك التي طالما رأيتُ في مالمحها مالمح كل الذين عرفتهم و أحببتهم في هذه المدينة
أيضا ! .ال ريب ،علمتُ منذ اللحظة التي رأيتُ فيها وجه عبد الغني صاحب النظرات الحيوية و نبرة الصوت
المرتفعة مع طريقته المميزة في المزج بين المزاح و الغضب أني سأسأله عنها ال محالة .علمتُ أني لن أستطيع
المقاومة ،فقلبي كان في تلك اللحظات كعصفور فينيق يتوهج بسرعة بعدما خرج من رماده و هو يستعدّ لالنطالق
في مغامرة مجنونة أخرى في فضاء بهجة الذي ظل ملبّدا بغيوم ال ّ
شك و اإلبهام.
ارتمى مسعود علي و هو يعانقني بحرارة .بصراحة تفاجأت لطوله الفارع ،فقد كان قصير القامة أيام
اإلعدادية و الثانوية ! .كنتُ سعيدا برؤيتهم جميعا فمالمحهم العامة لم تتغير كثيرا ،بعد سنوات طوال انغمس فيها
كل منا في مشاكل حياته الدراسية و تأمين حياته المهنية .غانو لديه محل خاص لتصليح الهواتف النقالة .مسعود
يشتغل بمكتب خاص بالهندسة المدنية و ناصر فقد كان إذّاك من دون عمل بعد .لكنه هو اآلخر عانقني بحرارة
ناعتا إيّاي بـ" الكلب ".
_ باختصار :تضاعف عدد الحفر في الطرق .تضاعفت مشاريع البناء .اختناق حركة السير صار عجيبا.
إضافة إلى أني الحظتُ ازدياد عدد المجانين ا َّ
لمشردين في الشوارع ،و كدى الالجئين و المتسولين السود.
قالها ناصر بنبرة فيها كثير من السخرية و الته ّكم .قبل أن يقف النادل أمامنا ألخذ طلباتنا .طلبتُ عصير
ال َجزر الذي طالما أحببته منذ أيام امتحانات آخر السنة الحارة في الجامعة .مسعود طلب عصير الليمون ،بيما
فضّل كل من غانو و ناصر شرب الشاي.
_ إليك آخر خبر .ليلة البارحة تعرض مجمع سكني في حي الوئام إلى السّطو ليال من قبل مجموعة من
المنحرفين .أحد الجيران سمع حركة غير عادية بالمنزل المجاور له و الذي كان أصحابه غائبين عنه .اتّصل
بدائرة الشرطة التي ال تبعد كثيرا عن الحي ،لكن لم يظهر أثر لرجال األمن .أتصدّق هذا ؟.
73
قالها مسعود بنبرة ساخرة ،قبل أن يستطرد ناصر و هو يحمل كأس الشاي نحو األعلى معرضا إياه إلى أشعة
الشمس المسائية الخفيفة و كأنّه يتفقّد خلوه من أي شوائب ،غير القطع الصغيرة من ورق النّعناع التي كانت تسبح
فيه...
_ األمر أسوأ من هذا لو تعلمون .تحدّثتُ إلى صديق يسكن نفس الحي و تعلمون ما أخبرني ؟ .قال لي بأن
الجيران عندما سمعوا تلك الحركة غير العادية ،بادروا أوال باالتصال ببعضهم البعض ليتفقوا على ما يمكن فعله،
قبل أن يستقروا على رأي واحد و هو االتصال بالشرطة ،بما أن مركزها يجاور الحي .اتصلوا بهم قبل أن يفاجئهم
الشرطي على الهاتف و هو يقول بالحرف الواحد " :كي تحكموهم أعطوهم طريحة ".
_ بل جاد تماما.
رفضت الشرطة التّدخل ،و عندما سأل أحدهم الشرطي على الهاتف عن السبب أجابه األخير بكل برود" :
ْ _
ما فائدة حضورنا ؟ ..سنلقي عليهم القبض ليُطلق سراحهم مع حلول شهر رمضان القادم أو مع نهايته ! ".
لم أقل شيئا .أردت تجاوز الموضوع بسرعة .رفعتُ رأسي نحو سماء البليدة الذي كانت بعض السّحب
المتباعدة تعبرها ،كقوارب صيد صغيرة اصطبغت بلون زهري باهت فوق أسراب طيور السنونو المتراقصة في
الجو .أشياء راحت تستدعي أحاسيس و أفكار لها طعم و نكهة فريدة ،باتت مخبّأة في مكان بعيد جدا رغم أنه فعال
موجود .جذبني حديث األصدقاء مرة أخرى و عاد بي إلى الحاضر ،فاستفقت من تلك الغفوة الحلوة و اندمجت مرة
أخرى مع الواقع و موضوع حديثهم .بدى لي األمر واضحا منذ البداية .أسباب هذا اإلحباط الذي وصلت إليه
أجهزة األمن مقابل انتشار مرض اإلدمان على اإلجرام من طرف فئة مش ّكلة في الغالب من مراهقين ولدوا سنوات
التسعينات ،في أجواء لم يكن فيها وجود فعلي للدولة و ال القانون إال على شاشة التلفزيون الرسمي فقط .بدأتُ
تتحرك داخل رأسي و أنا
ّ أنجرف نحو التفكير مبتعدا عن األصدقاء فجأة ،فقد طفقت األفكار و التحاليل األولية
أراقب تلك الصبية الصغيرة ،التي كانت تركض بخطوات صغيرة مضطربة خلف طيور الحمام وسط الساحة على
صيحات والدتها التي كانت تطلب منها الحذر .و ّ
كأن ذاك السالم الداخلي الوجيز الذي عشته بين ساحة الحرية و
ساحة الفاتح نوفمبر قد بدأ يتبدّد كما يتبدّد ضباب الصباح الباكر مع تكدّس خيوط ال ّ
شمس و مرور الساعات ،ليُعلن
أن وقت السكينة و الراحة قد انتهى و حان وقت الكد و الجد و مجالدة القدر في منازلة جديدة .لكن يد غانو التي
ضربت على كتفي في تلك اللحظة أعادتني إليهم مرة أخرى ،كان يبتسم و يغمز...
74
_ كيف هي أحوال العمل في العاصمة ؟ .قيل لي أنك قمتَ بتحقيق محرج في ملهى ليلي عاصمي راق ...ألن
تحكي لنا عن الفتيات هناك ؟...
_ .....ال نهاية للعمل يا أصحابي .تتمنى في بعض األيام من أعماق قلبك أن يمنحك هللا القدرة على السفر عبر
الزمن ،لتعود طفال صغيرا غير معني بمشاكل هذه الدّنيا .مجرد طفل محصور في عالمه بين المدرسة و الحديقة و
الحي و البيت و شاشة التلفاز.
ضحك الجميع .وافقوني الرأي تماما .أبدوا عالمات فيها شيء من األسف و الندم على ما ضاع من أيام
الطفولة و المراهقة و ربما فعلوا ذلك من دون أن يُدركوا في الغالب أنّهم يتحسّرون على ما فات .شعرتُ أن كل
واحد منهم يأسف على شيء أو أشياء كانت أمام عينيه ،ربّما بين يديه حتى ،لكنه لم يُدرك قيمتها إذّاك .قلتُ في
نفسي هي معضلة جميع الجزائريين على األرجح .اليوم نلعن غالء المعيشة بشكل فيه الكثير من المبالغة في
التشاؤم ،بينما البارحة فقط كنا نتمنّى أن يعود األمن !.
تحدّثنا بعد ذلك عن أيام الدراسة و ذكرياتها المجنونة التي ارتفعت معها قهقهتنا مع استذكار كل قصة طريفة
أو مغامرة .أحسستُ أن ناصر كان يتع ّمد توجيه الحديث عن تلك الذكريات حتى ال يأخذنا مجرى الذكريات إلى
مواضيع الحب و مغامراتنا العاطفية أيام المراهقة ،لمجرد أنني كنتُ الوحيد بينهم الذي سجّل فشال ذريعا مع الفتاة
التي أحببت .على األرجح أن مسعود و غانو شعرا بنفس األمر ،غير أن األخير بدى غير مكترث لسياق الحديث،
و كأنه كان يعلم بأن األمر لم يكن ليضيرني في ُمطلق األحوال ،فما حدث قد حدث منذ زمن و قد علم بأني أيام
يكف عن سؤالي تلك األيام " :ما الذي يجعل الفتيات الجميالت يحببنك و الجامعة كنتُ َ
نجم الكثيرات ،لذلك كان ال ّ
ّ
مستفزا " :ربّما ألني ال أجبرهن على حبي أو اشتهائي ! " .كان مدركا يشتهينك هكذا ؟ ! " فأردّ ساخرا مته ّكما
في تلك اللحظات أني قد أنزع إلى السؤال عنها '' هي '' بشكل أو بآخر بما أني سألتُ عن أحوال الكثير من زمالء
الدراسة السابقين .بدى لي الفضول ممزوجا بالشوق و أنا أتحيّن الفرصة للحديث عنها ،سوى أني لم أرد أن يكون
ذلك مباشرا لسبب ما.
جاءت الفرصة حينما ركن أحد الشباب سيارته بالقرب من الرصيف على الطريق الفاصل بين المقهى و
أتعرف عليه ،لكن مسعود ردّ عليه بإشارة من يده و هو يدعوه إلى
ملوحا إلينا .لم ّ
الساحة و هو يُطلق بوق سيارته ّ
االنضمام إلينا ،لكن الشاب أشار بسبّابته نحو ساعة يده .التفتَ مسعود إلى ناصر و هو يُخبره بأنه الشخص الذي
حدّثه عنه و الذي قد يساعده في العثور على وظيفة ما ،فاستسمحانا و نهظا من مكانيهما متجهين صوبه .صافحاه
ثم ركب مسعود في المقعد األمامي بينما ركب ناصر في الخلف و طفقوا يتبادلون أطراف الحديث.
قارة !.
_ أتمنى أن يُساعده في العثور على وظيفة ّ
75
قال غانو و هو يطفئ عقب سيجارته في المنفظة و يُكمل متن ّهدا...
ّ
موظف ،ذاك مغترب في أوروبا، _ هكذا يا صاحبي .زمالء الدراسة السابقون كل مضى في سبيل حياته .هذا
اآلخر في السجن ،تلك ربّة منزل ،األخرى لم يظهر لها أثر ...كل يعيش حياته كما قُدّر له أن يعيشها.
لم أقل شيئا .لكني كنتُ أف ّكر من أين أبدأ حتى أني لم أفهم َلم بدى صعبا عل ّ
ي وصوال إلى تلك اللحظة أن أسأله
عنها ،بكل بساطة و عفوية :هل التقيت ببهجة ؟ ،كيف هي أحوالها ؟ ،أين هي ؟ ،ماذا ّ
حل بها ؟ ....أشياء بسيطة
صمت الذي طال بيننا لبعض الدقائق ،قبل أن ينطق ُمطلقا بسمة خفيفة و هو
جدا من هذا القبيل ! .لكني التزمت ال ّ
ي...
يعبث بعلبة سجائره الموضوعة على الطاولة بأصابع يمناه دون أن ينظر إل ّ
_ جاءتني ماحي قبل نحو شهر إلى المحل لتصليح هاتفها المحمول.
انقبض قلبي ككل مرة أسمع فيها اسمها أو اسم أسرتها .كأنه وثب في مكانه لوهلة بفعل صاعقة .نظرتُ إليه و
اللهفة المخنوقة تكاد تقفز إلى خارج فمي ،لكني سيطرتُ عليها بصعوبة و أجبرتها على االنسياب بهدوء و
سالسة ،و كأني أفتح حنفية ذات ضغط مائي عال بحذر شديد...
تدرس اللغة االنجليزية في ثانوية ماحي .هِّه أتصدّق ،ماحي ،الفتاة المشاكسة كثيرة
_ بخير ،بخير .إنها ِّ ّ
الحركة صارت أستاذة ! .يا لغرابة هذه الحياة !.
_ كيف ؟.
بدت عليها عالمات التّعب .ربّما هو تعب التّدريس ...أنتَ تعرف حال المعلم و األستاذ في هذه البالد.
ْ _
ْ
رأت هذا الخاتم في إصبعي فضحكت و سألتني إن كنت عثرتُ على سعيدة تحدّثنا طويال في مواضيع شتى .ثم
76
الحظ ،فأخبرتها بأن الخاتم هو للخداع فقط ألني غير مرتبط ،لكني اغتنمتُ الفرصة ألسألها بدوري عن عالقتها
بذاك الـذي أخذها منك ،ففاجأتني بقولها أنها قطعت اتصاالتها به منذ مدّة طويلة ،منذُ سنوات ! هل تصدق هذا ؟.
اعتدلتُ في جلستي و كأ ِّّني صبي صغير سمع لتوه خبرا مدهشا .و في لحظة ضوئية خاطفة ،لم يحضرني
سوى ذلك الجزء األول من تلك الثانية التي أخبرتني فيها عن وجود اتصاالت جادة مع شخص آخر قبل أعوام.
كأنها دقة قلب عنيفة ،كأنها شهقة صدر تلقى طعنة مفاجئة .التزمتُ الصمت للحظات ،ثم تمالكتُ نفسي...
ْ
أذكرت السبب ؟ !!. _ كيف حصل ذلك ؟.
بدت مستاءة جدا ،إن لم أقل أنها كانت تشعر بالنّدم .لم تذكر السبب بالضبط سوى أنها ل ّمحت إلى وقوع
_ ْ
مرة
سوء تفاهم بينهما أدى بها إلى قطع كل شيء معه .بل و أقسمت على عدم ترك أي رجل يوهمها بقصة الزواج ّ
أخرى .ظننتُ أنها تته ّكم أو أنها تقول ذلك فقط بدافع غضب تلك اللحظة ،لكن ،بصراحة بدى على وجهها أنها
كانت تعني تماما ما تقول .حاولتُ إقناعها بأنه قرار خاطئ خاصة و أنها ل َّمحت كذلك إلى أن الكثيرين ال يزالون
يطمعون في الظفر بفرصة معها ،لكن ها بالمقابل راحت تقص على مسامعي ،و لسبب لم أفهمه ،قصصا كثيرة
ّ
المطلقات ألسباب تافهة .يبدو أنها لم تعد تؤمن لصديقات و قريبات عشن تجربة الحب و الزواج هن اآلن في عداد
بشيء تجاه الرجال !.
ساد الصمت بيننا لدقائق .كان صوت حياة المدينة ممثَّال في أحاديث الناس و صراخ و ضحكات األطفال و
ي دائما...
زقزقة العصافير و أصوات السيارات تكسّره .قبل أن ينطق عبد الغني من دون أن ينظر إل ّ
_ لم أشأ إخبارك عبر الهاتف أو الفيسبوك .قلتُ في نفسي أنه يستحسن بي اطالعك على األمر عندما نلتقي.
77
_ كفى ! ،ال تقل لي أنها نادمة مثال !.
_ ال ،ليس هذا بالضبط ،لكنها على األرجح تأكدّت في النهاية من أن اآلخر لم يكن يستحقّها أكثر منك.
هتف قلبي لتلك الجملة األخيرة .بل صرخ في أعماقي بكل قوة حتى زلزل كياني .شيء يشبه لحظة المجد بعد
بقوة َّ
أن كل ذلك لم يكن سوى جرعة زائدة من مخدِّّر الحنين .قلت في نفسي بأني هزيمة مشرفة .كنتُ أفترض ّ
بمجرد العودة إلى العاصمة و الغوص من جديد في مطاردتي لسبقي النّهائي،
ّ سأجتاز األمر و أعود إلى واقعي
استقريت في العاصمة أول مرة و ذبتُ في حركيّتها
ّ مرة أخرى عن كل هذا .يجب القول أنّني عندما
الذي سيُبعدني ّ
بمرها قبل ُحلوها .و َّ
أن بهجة، و صخبها و عملها و جنونها ،ظننتني قد قلبتُ صفحة حياتي الماضية في البليدة ِّ ّ
ذكريات اإلكمالية و الثانوية ،حبي الجنوني لها ،إخفاقي المر معها ،كلّها عناصر لم تعد سوى ذكرى رمادية باهتة،
كد ّخان انبعث من موقد أطفئ بماء بارد .لكن عودتي إلى هذه المدينة و مكوثي بها لسويعات و تأ ّملي لها قد شكل
لي صفعة بشكل ما.
قطعا ،بهجة كانت ال تزال تعيش بداخلي ،كالضوء الخافت في ليل الجبال .كزخات المطر الضئيلة التي
تجعل األرض البور تحلم بالخالص من الجفاف .لكن زاد اعتقادي ّ
بأن حبّي لها كان ال يزال واسعا كمحيط هائج و
مضطرب ،في مكان ما بعيد جدا في أعماقي .ألقل أن قلبي ظل كتلك السفينة التي ّ
تمز ْ
قت أشرعتها و هوت
ساريتها و هي ماضية في التالطم و الدّوران حول نفسها بين أمواج ذاك المحيط الهائلة و رياحه المتجبّرة القاسية،
و هي عاجزة عن استعادة توازنها أو إعادة تحديد وجهتها .لذلك رفضتُ التّسليم باألمر تاركا إياه للقادم من األيام.
أحسستُ بأن شيئا ما سيبدأ بالتغير و الحصول في األشهر القادمة .كان إحساسا مثيرا للغاية .هكذا أحسستُ تلك
األمسية الربيعية الجميلة حين عرفتُ أن بهجة لم تعد مرتبطة بأي وعد مع أي وغد .سوى أن خلفية من الحذر و
ي أن أقول ذلك
ضرورة التحكم في عواطفي شدّتني كي أتنبّه إلى احتمال كوني أعيش دهشة اللحظة فقط .كان عل ّ
لنفسي و ألتزم به ما استطعت ،بل فعال استطعت االلتزام به .ببساطة ،كان ذاك هو الفرق الجوهري بين شاب
ضر خطبة أختي التي كانت ستقام في مساء اليوم التالي ،ثم
مراهق و رجل راشد كما كنت أعتقد ! .كان علي أن أح ُ
أفر إلى عالمي العاصمي ألغرق في جنونه مجددا بكل ما أستطيع ،فلربما أنسى '' حب بهجة '' ......و لو قليال.
ّ
نظرتُ إلى أعمدة اإلنارة العمومية و هي تشتعل دقائق قليلة قبل مغيب الشمس و قلتُ في نفسي " :على كل
حال ،فأنا أحبُّ هذه المدينة المسالمة التي تسكن روحي ! ".
78
III
البذرة و ظل الفرعون
79
-4-
أحاول أال أنسى أن كلمة واحدة في الصميم من صحفي مصمم ذو ضمير مهني سليم في صحيفة مدركة
لرسالتها قد تحدث فارقا ما ،و لو في حياة فرد واحد كل يوم على األقل ! .ال أرغب في العادة أن أتغافل عن مثل
هذه التفاصيل الصغيرة التي قد يُلغيها روتين المهنة القاتل و يراها الكثير من ممتهني اإلعالم سخيفة أو غير
مجدية .إنها فعال تُحافظ على القدر األدنى من الدافعية نحو السبق النهائي ،إن كان لكل صحفي قضية خاصة قد
يس ِّّميها سبقا نهائيا أو قد يسميها شيئا آخر .و الحقيقة هي أني كنت ،و بعد عودتي من البليدة ،قد ابتكرت في كتاباتي
الصحفية مصطلح '' الموسطاشيا '' .لنقل أنه الكلمة التي أعبر بها عن المرض الحقيقي الذي تشكو منه الطبقة
الحاكمة في البلد تماما كما يشكو منه المجتمع أيضا .الموسطاشيا ببساطة هي ذاك الشذوذ الفكري و السلوكي
الحتمي الذي أصاب اإلنسان الجزائري ،بسبب تكدُّس التفسيرات الزائغة تدريجيا مع َّ
الزمن لمفاهيم الذكورة و
األبوة و عنصر السُّلطة .هناك تعبير شعبي آخر قديم نسبيا يعبر عن نفس المرض :عمر ڨاتالتو.
ّ الرجولة و
بعد نهاية يوم عمل مضن في النبأ اليومي ،غادرتُ دار الصحافة الطاهر جاووت عائدا إلى البيت .كنتُ أقود
مارا بالقرب من مبنى دار الشعب الذي ُح ّول في الحقيقة إلى عش من أعشاش الموسطاشيا المستشرية في
سيارتي ّ
البلد .كنتُ أراقب ذلك العدد الهائل من سيارات الشرطة الحاملة لعناصر مكافحة الشغب و قد مألت شارع عيسات
إيدير صخبا بصفّاراتها و أضوائها الزرقاء و البرتقالية .افترضتُ أنها كانت في طريقها لفض اعتصام أو مظاهرة
أخرى مناهضة للعهدة الرابعة و أنا أزحزح سيارتي المبعوجة جهة الرصيف األيمن كغيري من السواق حتى يمر
80
ذلك الرتل وسط الطريق ،رغم أن صوتا صغيرا داخل رأسي أوحى لي بفعل العكس تماما ،فكل دقيقة يتم فيها
تعطيل هؤالء المأمورين عن الوصول إلى المكان الذي تقام فيه الوقفة المنددة بطغيان موسطاشيا التع ّنت و الفساد
و الجهوية ،هي فرصة و دقيقة إضافية تُقال فيها كلمة حق و يتنفس فيها التعبير الحر و لو للحظات.
يُقال بأن حالة الطوارئ التي عشنا في كنفها لعقدين من الزمن قد ُرفعت منذ إقرار إصالحات ،4100لكن
يبدو أن سلوكياتنا اليومية ال تزال بشكل ما تسير على ريتم حالة الطوارئ بعد ؟ .على األقل فإن المتاريس
الحديدية و الحواجز األمنية و حالة الترقب و االحتقان االنفعالي التي تُذ ِّ ّكر بصور سنوات التسعينات .....ال بل
بصور حرب االستقالل ربما ،ال تزال تراوح مكانها و كأن بهذا البلد قد استأنس بهذا الوضع منذ خمسينات القرن
الماضي ! .عسكر فرنسا وضع المتاريس المعدنية .ذهب عسكر فرنسا و حل مكانه عسكر الجزائر ،و بقيت نفس
المتاريس تراوح مكانها.
حاولتُ مرارا االتصال بصوفيا ألتأكد من أنها ستأتي لتناول العشاء معي في الشقة كما اقترحت علي تلك
الصبيحة ،لكن من دون فائدة ،فهاتفها الجوال ظل خارج التغطية على غير العادة .زميلة لنا تشتغل معها في القسم
أخبرتني نهاية العمل أنها بدت شاحبة الوجه و شاردة الذهن طيلة اليوم ،و أنها غادرت المقر باكرا .قلتُ أني كنت
على حق عندما افترضت أنها لم تنم جيدا عندما رأيتُ مالمح وجهها في الصباح .ليس باألمر الباعث على القلق،
فنحن شعب يعاني نوبات منتظمة من األرق و قد صارت فينا أمرا طبيعيا تماما.
ف ّكرتُ في شراء بعض الحاجيات لتحضير العشاء ،فمررتُ على سوق الداللة بباب الوادي .اقتنيت بعض
البطاطس ،الطماطم ،الخيار و الخص .أعجبتني الفراولة المعروضة للبعيد .راح صاحبها يؤ ّكد لي أن منتوج هذا
العام وافر و جيد جدا ،و أنه قد اقتنى السلعة بنفسه من سكيكدة .لم أستطع المقاومة فاقتنيت علبتين أردتُ
تحضيرهما كتحلية ما بعد العشاء .دخلتُ عند الجزار لشراء بعض شرائح اللحم ثم انطلقت مرة أخرى عائدا إلى
شقتي الصغيرة الهادئة في حي باب الوادي الصاخب دون أن أنسى شراء الخبز.
كنتُ ال أزال أحاول االتصال بصوفي لكن دون فائدة ،على األقل ألعرف إن كانت تفكر في مساعدتي على
تحضير العشاء أم أني سأجد نفسي مجبرا على تضيره وحدي ،خاصة و أني ألغيت موعدا مع بعض األصدقاء في
إحدى كافيتيريات عين البنيان لتمضية بعض الوقت و الترويح عن النفس برفقتهم.
وصلتُ إلى البيت .وضعت المقتنيات في المطبخ ،الخضار فوق الطاولة و شرائح اللحم في الثالجة .تف ّقدتُ
المجيب اآللي للهاتف .ال رسائل فالكل يتصل بي على هاتفي الخلوي .وقفتُ من دون سبب واضح في الرواق و قد
شرد ذهني لثوان معدودة ،ال أذكر ما جاء على خاطري .ثم ولجت غرفة المعيشة الصغيرة و فتحت نافذة و
مصراعي الشرفة على ضجيج أطفال الحي و أبواق السيارات و نسمة المساء الربيعية الممزوجة برائحة البحر.
انتابتني رغبة في الخروج و التوجه إلى مكاني المعتاد في الحي و هو ما كان .خرجت مسرعا و أنا أحيي جارتي
الخالة ميمونة التي كانت صاعدة لتوها مع بناتها بشكل سريع و خاطف متظاهرا بأني على عجلة من أمري و
بعبارات خاطفة سريعة كسرعة خطواتي القافزة على الدرج " وش خالتي ميمونة،الباس ؟ ،بخير ؟ ،لبنات راكم
81
بخير ؟.....الحمد هلل " .كان يجب فعل ذلك حتى أتفادى ثرثرتها بخصوص بقية الجيران الذين تعيش معهم صراعا
يوميا بسبب .........ال أعلم حتى بسبب ماذا .رغم أني أعرف أن ابنها األكبر يدين بالمال لبعض تجار الحي الذين
ال يطيقون طريقة هذه العائلة في التهرب من دفع ما عليها من ديون بالرغم من حالتهم المادية الميسورة نسبيا.
دون الحديث عن المشاكل و الشجارات التي يتسبب فيها ابنها األصغر ،منصور ،مدمن الكيف و المسبوق قضائيا
في قضايا المخدرات و العنف .شاب ثالثيني فقد ساقه حين كان جنديا في الجيش بسبب رصاصة رشاش ثقيل
اخترقت صدر الجندي الذي كان يسير قبله لتخترق ركبته اليمنى مفجرة إياها كليّة و تستقر خلفه في األرض .كلما
نظرتُ إلى ذلك الشاب البطال ،إال و أتذكر حكايات أخي بشير عن هؤالء الغالبى التي طالما قصها علي في
الماضي.
خالتي ميمونة ،التي ال تقرأ و ال تكتب ،ضلت تنتقدني بلطف عن طريق بسمبتها و لكنة صوتها التي تحمل
نوعا من اللوم اللطيف ،و هي تعرب عن أسفها في غالب األحيان عما يقولون لها أني أكتبه عن الحكومة " ....و
هللا يا وليدي ما حق عليك تضحك على الرايس تاعنا و الوزراء تاعه ،هو مسكين جابلنا ال ُمصالحة و يضل يخدم
من نيته و انتم تسبو فيه و في الحكومة ؟ ! " ،أو كما تقول في العادة .ال أذكر أني كتبتُ عن شخص الرئيس أو
شخص أي وزير أي شيء من قبل ؟ .و بالكاد أعرف هذه المرأة و أسرتها حتى !.
حاولتُ االتصال بصوفي للمرة الثالثين ....ال فائدة "...إن الرقم الذي طلبتموه قد يكون معطال أو خارج مجال
ُكرر.
التغطية ،يرجى إعادة االتصال بعد حين " ..ظل ذلك الصوت النسوي ي ِّ ّ
_ ال بأس إذن ،يبدو أني مجبر على تحضير العشاء بمفردي كي تأتي اللّه لالستمتاع به على راحتها .أو ربما
يجدر بي دعوة زميل آخر ؟.
قلتُ لنفسي متهكما و أنا أقف عند الواجهة البحرية لشاطئ الرميلة ال َّ
صغير ،الذي أحببت دوما الجلوس فيه
لقراءة كتاب ما أو السير على طوله لالستماع إلى الموسيقى أو التأ ُّمل مع نهاية كل يوم عمل ،بحثا عن نوع من
االسترخاء و نسيان هموم المهنة و ضغط األيام .كان ذلك منذ األيام األولى التي سكنتُ فيها هذه المدينة البيضاء
التي أتيتها أول مرة كالجئ هارب من سلطة أبوية خانقة و حب منكوب و أهداف مبعثرة .إنه الشاطئ الصغير
الذي يشبه األحالم الصغيرة للكثير من العاصميين البسطاء من سكان باب الوادي .بالنسبة لي لم يكن األمر باعثا
فعال على الراحة في كل وقت ،خاصة في أيامي األولى في هذا الحي الذي يحبه جميع الجزائريين لما يُمثله لهم من
ذاكرة .ذاكرة انفعاالتنا الجماعية مرتبطة به كثيرا ،منذ أيام علي البوانت و عمر الصغير و المظليين الفرنسيين
82
سنوات الخمسينات مرورا بأيام القلق و الترقب و الخوف و المظاهرات أيام الفيس و القنابل و االغتياالت و حظر
التجوال أواسط التسعينات وصوال إلى كارثة الفيضانات التي اجتاحته خريف .4110
ُ
تنبعث من زوايا صغيرة كنتُ تلك األيام األولى من استقراري في باب الوادي أشعر بغربة مخيفة ،كانت
أقرر فيها االبتعاد عن أبوي و االستقالل بحياتي ،رغم أن ذلك لم
تمألها الظالل في عمق ذاكرتي .كانت أول مرة ِّ ّ
يكن سهال أمام كل مناورتهما إلبقائي تحت سقف بيت العائلة .و قد فهمت ،فهمت بعد صراع مرير مع خوفي أني
بقدر ما كنتُ أرغب في االستقالل بحياتي و إثبات أني أستطيع االعتماد على نفسي ،بقدر ما كنتُ أرغب في
مبرر و لو كان تافها ليقنعني بالبقاء في البيت،
االنصياع لذلك الصوت النمطي الداخلي الذي كان يبحث عن أي ِّ ّ
تحت سقف الحاج حسن.
قررت الرحيل و االنفصال رمزيا عن أسرت ي كي أنتفي في هوس أفكاري و خوفي الذي يبدو أنه قادني
لكنني ّ
إلى رؤية أمور أخرى أكبر بكثير من مجرد قضايا حياتي الخاصة .أمور أوصلتني إلى فتح الباب على تحدي
السبق النهائي بعدما نجحت في إعادة ترتيب أولويات حياتي ،بمجرد أن أنهيتُ دراساتي الجامعية و ولجت عالم
قررت االنفصال عن البليدة و تأسيس حياة مستقلة بمساعدة قاسية من بهجة ،الفتاة
مهنة المتاعب التي ال تنتهيَّ .
الجميلة المرحة التي جعلتني أرى لون الفجيعة بعد لون الهيام و أشت ّم رائحة حريق الخيبة بعدما كان حريق الغرام
و أسمع دقّات اإلخفاق بعدما كانت دقات الجنون ،يوم الت َّفت روحي بذلك الوشاح ذو اللون الرمادي و هو يُغلّف
قلبي الذي ظل معلقا بتلك الفتاة العجيبة .هل أكذب على نفسي لو قلت أنها ظلت تعيش في أعماقي بين الهيجان و
الهدوء ،بين الصياح و الهمهمة ،طيلة خمسة عشر عاما وصوال إلى تلك اللحظة التي أخبرني فيها غانو بأنها
قطعت اتصاالتها '' الجادة '' بذلك الشخص منذ سنوات كثيرة ؟ .ليدخل بعدها قلبي مرحلة توقَّف فيها زمنه بين
بقوة.
تسرب من تحت أبواب الماضي الموصدة ّ
األمل الجديد و الخوف ال ُم ِّ ّ
تن ّهدت في مكاني مستمرا في اإلنصات إلى صوت األمواج و في التفكير و التأمل .ر ّجحتُ أنها قطعت
عالقتها بذاك الشخص تزامنا مع تلك الفترة التي كنتُ أقوم فيها بحزم أمتعتي و أنا في غمرة الضياع التام للهروب
من مدينة الورود ،التي أدمت أشواكها روحي و جعلتني أخشى االقتراب منها بقدر حبي و اشتياقي لها.
رميتُ ببصري نحو األمواج الخفيفة التي كانت تنزلق بلطف على الشاطئ في مدها و جزرها بصوت
انكسارها الناعم الذي يبعث السالم و السكينة على النفوس .كنتُ أتذكر أيامي األولى في هذا الحي .ذلك اإلحساس
الغريب كوني وجدت نفسي بعيدا جدا عن األشياء و األماكن التي طالما أحببتها و أحسستُ باألمان و أنا قريب
منها رغم كل تناقضاتها .األشياء النمطية التي تَشكل منها عالمي ال ُمصغّر منذ الصبى و التي جعلت العالم أمامي
83
يبدو مليئا باألجوبة الجاهزة و المريحة ،رغم غيابها في اللحظة و حضورها في التخمين .تلك األيام األولى حين
كنتُ أشعر بالوحدة كوني بعيد جدا عن البيت الذي ترعرعت فيه و عن الحي الذي ألفت طرقاته و وجوه سكانه،
عن الفتاة التي شكلت لوحدها حياة أخرى .عالم من األحالم التي كان الصبي الصغير بداخلي يعيش على إيقاع
أملها و قوتها و يتغذى من جمال وجهها و إشراقة بسمتها المدهشة لسنوات و لو عن بعد و بترقب نابض بالحياة و
الصبر .قلق كان يدفع بي في بعض اللحظات إلى التفكير جديا بأني قد أندم على قراري بالرحيل ،و أطرح على
نفسي أسئلة محرجة حول إن كان ذاك القرار المصيري لم يكن سوى ردة فعل على غضب و حزن عابرين ؟.
رفعتُ بصري إلى السماء و أنا أحس برغبة حارقة في تصديق ذلك ،قابلها جدار ثخين من الخوف و الحذر:
حت بذلك يوم زارت غانو في محلّه .لم تترك شيئا خلفها
رت رأيها بخصوصي لل َّم ْ
" ال ال ال ! ..هذا غباء ! .لو غيَّ ْ
بعدما صلّحت هاتفها النقال .ال رقم هاتف .ال عنوان بريد الكتروني .ال اسم حساب فيسبوك ،ال شيء .لم تسأله
يخبرن ؟
ِّ حتى عني ،أين أنا ،ماذا أفعل ،كيف هي حالي ،هل أنا مرتبط أم ال ..ال شيء ! .أم تراها قد فعلت لكنّه لم
....ال ....مستحيل."....
تأففتُ متنهدا .أخرجت هاتفي المحمول من جيبي بعدما بدأ شيء ما يضيق بداخلي و يمنحني إحساسا غير
ُمريح .حاولتُ االتصال بصوفي لكن دون فائدة .كنت أكاد أسأل نفسي عما دهاني .كان يبدو لي جليا أني ّ
بت أنزلق
بهدوء و سالسة خادعة للتفكير في بهجة كثيرا مذ أن عدتُ من البليدة ،و في لحظة من التذ ّمر الصامت تساءلت َلم
ذهبتُ أصال إلى تلك المدينة .ربما كان علي اختالق أي عذر لعدم حضور خطبة عيشة بما أن لها أخوين آخرين
حضرا من أجلها و لتركتُ األمر إلى يوم زفافها .يوم ال يكون لي مهرب من حضور ذاك النوع من المناسبات
الذي أكرهه أصال.
ُّ
التفت إلى ذلك الصف من سيارات الشرطة التي كانت تحمل قوات مكافحة الشغب الذي كسر تأففت .تنهدت.
يمر هازا المكان بصفاراته و أبواقه و أضوائه .ركض
ريتم شارع عبد الرحمان ميرة المسائي المسالم و هو ّ
الصبية الصغار إلى حافة الرصيف لمراقبة أصحاب الخوذات الزرقاء و هم يحملون عالمات اإلثارة و الفضول أو
حتى اإلعجاب في وجوههم ،تماما كما كنا نركض أواسط التسعينات إلى حواف األرصفة لرؤية قوات األمن أو
الجيش بفضول و إعجاب نحو بدالتها و سياراتها المصفحة و أسلحتها المخيفة ،حيث كان الكثير منا يرغب في أن
84
يصير شرطيا أو دركيا أو رجل صاعقة أو نينجا عندما يكبر ،حتى يحمل سالحا و شارة ،فيخشاه الجميع عندما
يمشي في الطريق أو في الحي.
أردتُ فقط أن أبعد فكري عن بهجة و حنينها الذي بدى أنه سيبدأ في التصاعد وسط ذلك الجو المسائي الجميل
بألوانه الرومانسية الدافئة ،و قد اغتنمتُ فرصة تكسّر خيط األفكار ذاك بصفارات سيارات و شاحنات وحدات
مكافحة الشغب ،ألعيد نفسي إلى واقعي الذي أحياه و إلى هوسي المهني و بحثي الدائم و قلقي المزمن تجاه مشاكل
البلد .أحسستُ بقوة تريد تثبيتي في مكاني ألبقى في ذلك المستوى من التفكير و الشعور .مستوى جنون المهنة و
قلقها الدائم حتى خارج أوقات العمل عندما أجد نفسي وحيدا .نظرتُ إلى أالئك الصبية الصغار الذي راحوا
يصفقون و يقفزون محيين رجال الخوذات و يهتفون للعهدة الرابعة و صاحبها .فكنتُ أتساءل في نفسي " ....يا
ترى ،هل سيربّون شواربهم عند البلوغ ؟ ،أم أن الموسطاشيا ستتمكن من عقولهم فقط ؟ " ....ثم انجرفت تلقائيا
إلى التفكير في األمر ،مبعدا ذهني عن بهجة هاربا بقلبي من ذكراها.
األمر ليس بغريب .غالبية أجدادنا و آبائنا من أصحاب الشوارب .منذُ عهد الدايات و البايات األتراك على
األقل .في البورتريه الذي غيّب التاريخ اسم راسمه ،و الذي ي ّ
ُخلد وجوه مجموعة الـ 22التاريخية التي اتخذت
قرار اللجوء إلى العنف الثوري لتحرير البالد من االحتالل الفرنسي ،يُمكن إحصاء أربعة عشر عنصرا من ذوي
سسة لجبهة التحرير
الشوارب ،أي أن أكثر من نصف أعضاء المجموعة كانوا َمساطيش .مجموعة الستة المؤ ِّ ّ
الوطني التاريخية ،في صورتها الجميلة الخالدة باألبيض و األسود عام ،0222ظهر فيها جميع أعضائها
بالشنبات .يُمكن التأ ُّكد من أن خمسة رؤساء من أصل السَّبعة الذين تولّوا رئاسة البالد منذ استقاللها عام 0214إلى
غاية ،4102كانوا '' موسطي َّشات '' حين تقلّدهم الحكم ،و َّ
أن أحد عشر من أصل ستة عشر رئيس حكومة أو وزير
أول – دون احتساب بن بلة و بومدين – الذين تداولوا على رئاسة الحكومة الجزائرية منذ تأسيسها في 0227إلى
غاية أيامنا هذه كانوا موسطيشات أيضا.
سبعة من أصل أربعة عشر أقوى رجل في مؤسستي الجيش و المخابرات ،التي حكمت البالد بقبضة حديدية
رهيبة من خلف الستار خالل الثمانينات و التسعينات كانوا من ذوي ال َّ
شنبات كذلك.
مئات الوزراء السابقين و الحاليين .آالف المسئولين .مئات اآلالف من األفراد .و حتى شخصية طرطور في
كتاب القراءة للمدرسة االبتدائية سنوات الثمانينات و التسعينات كانت لها شوارب !!.
ببساطة ألم أكن محقا حين ابتكرتُ مفهوم '' الموسطاشيا '' هذا ؟ .ما الذي كان يُفكر فيه أالئك الصبية الصغار
الواقفون هناك عند حافة الطريق يهتفون بحياة الرئيس بوتفليقة ال ُمنتهية عهدته الرئاسية الثالثة ،عندما يقفون إلى
جانب آبائهم في الحمام و هم يحلقون ذقونهم من دون شواربهم يا ترى ؟ .أال يتساءلون مثالَ " :لم يترك أبي شنبه
ينمو و ال يحلقه ؟ " .لطالما راودني هذا السؤال و أنا أطل برأسي على أبي و هو يحلق ذقنه ،لكني لم أسأله يوما
عن معنى تربيته لشاربه ،رغم أني اكتشفتُ الحقا أنه كان يقتدي بالعالمة دمحم بن أبـــي شنب ،لكن أكان ذالك كافيا
85
لفهم عقليته التي كانت موغلة في التسلط المتّكيء على مثالية عمياء ال ترة النقص إلى في اآلخرين .هل كان بن
أبي شنب بمثل قسوته و بروده يا ترى ؟.
ضحكتُ كثيرا من رد الفعل ذاك ،بدى األمر مثيرا لي ،كيف أن الموسطاشيا صارت شكال من أشكال
الكائنات االجتماعية الحيّة و ربما الواعية بذاتها دون وعي المجتمع بها حقيقةً .كائن يتحرك تلقائيا في أعماق
النفوس التي يُع ّ
شِّش فيها ليدافع عن نفسه ،بمجرد أن يشعر بأن هنالك من يُهدد بكشف كيانه في العقول .من جهة
أخرى ،فردّة الفعل تلك من أالئك الضَّحايا المساكين بينت جليا كيف هي نظرة الكثير من األفراد تجاه مسائل ذات
مجردة ،فهي ال تتعدى بعدها البصري مؤكدة مرة أخرى على أن المجتمع الذي أعيش فيه ال يزال
َّ أبعاد فكرية
سلم النمو الذي وضعه جان بياجي للطفل .هذا ما كتبتُ في عمودي ساخرا منهم
مثبّتا في مرحلة " الشيئية " حسب ُ
مبيِّّنا كيف أنهم حصروا الموضوع كله في مجرد كتلة شعر تنمو بين األنف و الشفة العليا ،رغم أني عملتُ جاهدا
ليفهم القراء أن تلك الكتلة الشعرية لم تكن سوى حبة الكرز التي ت ُ ّ
توج اليوم قمة الكعكة و أن الكعكة لطالما كانت
بالنسبة إلى هذا اإلشكال الجزء الحقيقي المثير لالهتمام ....إن رأوا أن األمر جميل و مس ٍّل و شهي من الناحية
الفكرية .البعض طبعا ،شعر بالتقزز بمجرد مزج كلمة ال َّ
شعر بكلمة الكعك ! .فعال ...الكلمات مخلوقات حية !.
86
ُّ
التفت على يساري محاوال رفعتُ بصري ُمطلقا زفرة سريعة حين بدأتُ أستشعر ذلك الضيق في صدري.
تمتيع بصري بتلك اإلشعاعات المسائية الجميلة ذات األلوان الدافئة المتداخلة لشمس الغروب ،التي اختفت خلف
التلة المعانقة للبحر التي تنتصب فوقها كاتدرائية السيدة اإلفريقية بغموضها و كبريائها الغريب .يا اله ! ،إنها
األلوان التي طالما ذ ّكرتني بلون شعرها الخريفي '' هي '' ...مرة أخرى ! .أدركتُ أن ذلك الشبح البليدي الجميل
ماض في استجماع ضبابه تدريجيا ليرتسم بإبهام أمام قلبي الحائر و يُعذّبه مرة أخرى .تن ّهدت مرة أخرى و أنا
أتمتم مع نفسي '' ...يجب أن أبقي ذهني بعيدا عنها ....بأي ثمن !!.''...
-2-
حجر الكبريت
عدتُ إلى الشقة بخطوات متباطئة قبل أذان المغرب بلحظات ،حتى ال أجد نفسي أنجرف مرة أخرى نحو
حنيني لبهجة الذي طالما أحسستُ به كثيرا على ذاك الشاطئ مع مغيب الشمس .لم أكن أرغب في التفكير إطالقا.
فقط الهروب ،كالعادة ،بكل خيبتي و غضبي و ذنبي نحو أبعد مكان ممكن كما فعلتُ دوما ،مذ ذاك اليوم الربيعي
الغائم الذي كانت ذكراه السنوية تقترب زاحفة نحوي تلك األيام ،كالصرخة البعيدة القادمة من أفق غائم غابت فيه
الشمس منذ زمن بعيد .كنتُ على يقين بأن يوم التاسع و العشرين من أفريل لن أكون قادرا على تفادي ذكراها
مرة ،لكني كنتُ ألفعل المستحيل للصمود في وجه مشاعر ذاك التاريخ المختلطة ،و لو ّ
كلفني تماما كما يحدث كل ّ
األمر اإلصابة بجنون أو فقدان ذاكرة مؤقّت ! .كنتُ أقول لنفسي بأنني سأتناسى األمر و سأبعد ذهني عنها ....و
سأقضي على نفسي الليلة ،فلدي عمل و سبق نهائي أسعى وراءه .تحقيق موسع حول تاريخ '' الحزب العتيد ''.
ولجتُ العمارة و أنا أصعد الدرج راكضا .دخلت الشقة .نظفت يدي .أشعلت التلفزيون و رحتُ أصول و
ي ِّ أجد شيئا مناسبا ،فوقع اختياري على إحدى الفضائيات الجزائرية الجديدة و
أجول بين الفضائيات المختلفة عل ّ
هي تقوم بتغطية حملة الرئاسيات في ساعاتها األخيرة .رفعتُ مستوى الصوت ثم توجهت إلى المطبخ و انطلقت
في تحضير العشاء .كنتُ منهمكا بين عمل يدي و بصري في قلي البطاطا و شرائح اللحم و تجهيز السلطة و تهيئة
تحلية الفراولة ،في نفس الوقت كنتُ أمعن السمع إلى صوت التلفاز القادم من غرفة المعيشة ،الذي كان يحمل
أخبارا و تحاليل و مناقشات ساخنة في العادة لكنها مليئة بالخشبيات كثيرا .ضحكتُ حينا على طراطير البوليتيك و
شتمتهم حينا آخر .أدركتُ في لحظات تفاعلي الغاضبة و اليائسة من وضع العمل السياسي في هذا البلد بأنه كان
87
يجدر بي أن أختار قناة موسيقية بدل االستمرار في تتبع أطوار هذه المهزلة ،التي ستبقى ذكرى تاريخية فارقة
ستجعل أجيال الغد تضحك و تبكي كثيرا عند العودة الكتشاف ماضي األسالف في العمل السياسي.
بعثتُ برسالة نصية إلى صوفيا أخبرها فيها متهكما بأن رائحة البطاطا المقلية و شرائح اللحم مغرية جدا و
هي ساخنة ،و بأني مجبر تبعا لذلك على عدم االنتظار طويال و سأبدأ في الهجوم سريعا إن لم يرن جرس الباب.
مرت ،فأدركتُ أنها لن تأت في النهاية ،فلم أجد غير إعالن الزحف المقدس
ت أي رد على مدار الدقائق التي ّ
لم يأ ِّ
على عشائي الذي قررت تصفيته ،شريحة شريحة ،رقيقة رقيقة ،قطعة قطعة ،حبة حبة.
حملتُ بعد وجبة العشاء الدسمة تلك أغراض عملي من غرفة نومي إلى الصالة .حاسوبي المحمول .بعض
الكتب االجتماع السياسي .بعض الكتب التاريخية التي تحكي عن النضال السياسي الجزائري و حرب االستقالل،
و بعض الوثائق التي حصلتُ عليها من مصادر مختلفة و الخاصة بنشاط حزب جبهة التحرير الوطني .وضعتُ
كل شيء على الطاولة الزجاجية قبالة التلفاز الذي خفضت صوته قبل أن أركض بشكل طفولي نحو الثالجة في
المطبخ و أحضر صحني الذي امتزجت فيه قطع حبات الفراولة الباردة مع ماء الزهر ،الذي اصطبغ بلونها
األحمر القاني متحوال إلى عصير فراولي بارد تسبح فيه تلك القطع .بدى شهيا و منعشا جدا .ابتسمتُ و أنا أفكر
بأن السهرة ستكون جيدة بصحبته.
في الغال ب ،و بعد نهاية يوم عمل شاق ،أحب االسترخاء و االستئناس بأغاني John Mayerأو Joshua
Radinأو Jesse Rubenالهادئة ،لكن في تلك األمسية رغبتُ في االبتعاد عن أغاني الحب و الحياة الهادئة و
فضلت االستماع إلى الكوكتيالت الموسيقية التي كانت تبثها إحدى اإلذاعات العاصمية و أنا أتجهز للعمل على
موضوع تحقيقي الجديد.
يمر بسرعة و نفذ صحن الفراولة مع استمرار انسياب الموسيقى و األخاديث في الخلفية مع
راح الوقت ُّ
استهالك بعض السجائر و تقليب العشرات من الصفحات من الكتب ،التي كنتُ قد طالعتها سابقا و أ َّ
شرتُ على
بعض فقراتها بأقالم الرصاص عسى أن أعود إليها في مناسبات أخرى ،كوني أحب في العادة إسناد تحقيقاتي
88
الصحفية بلمسة أكاديمية إن أمكن .كانت تلك الصفحات تحكي تاريخ النضال السياسي الجزائري الذي كان قد
وضع أسسه األمير خالد بن الهاشمي حفيد األمير عبد القادر الجزائري بعدما انطوى لسنوات يتباحث مع نفسه
الكارثة االستعمارية التي حلت ببلد أجداده ،و كوارث اإلخفاقات المدوية التي منيت بها انتفاضات جده و من
عاصروه من زعماء قبائل و زوايا القرن التاسع عشر .على األرجح أنه كان يبحث عن سبق نهائي بشكل ما هو
اآلخر ؟ ،و لع ّل اجتهاده وصل به لالقتناع باستحالة مواجهة دولة حديثة منظمة ،حققت تراكما معرفيا كافيا ،ال
ّ
المنظرين و الفالسفة الذين كانوا تتحرك جيوشها وفق منطق قوة السالح ،بقدر ما تتحرك دوما تحتَ ظالل أقالم
يع ِّّبدون طريقها فكريا و روحيا ببثهم في سيرها نفخة السبب و الغاية ،بغض النظر إن كانت نفخات صادقة أو
زائفة في اعتقادهم الخفي.
قلتُ في نفسي " :ماذا ك ان أمام األمير خالد من خيارات تصب في مصلحة الشعب الجزائري المنهك جراء
سبعين عاما من االنتفاضات و الحروب االستنزافية ضد الفرنسيين وصوال إلى تلك الفترة ،غير الدعوة إلى
النضال السياسي و محاولة تأطيره ؟ .رغم علمه يقينا ،ربما ،بأن النضال السياسي لم يكن ليُفرز شيئا أمام شهوة
صريحة لفرنسا العظمى ! " .ليس الكثير من الخيارات على األرجح .كان األمر
الروح االمبريالية الجارفة و ال َّ
جوف في قلب مستنقع من القطران ،بدل
أشبه بمحاولة االستمرار الشاق في التنفس باستعمال عود رقيق ُم َّ
االستسالم لالختناق و الموت التام.
يا ترى ،كيف كانت نظرة األمير خالد إلى الجيل الذي سبقه ؟ .أكان يلومه على إخفاقاته العسكرية أمام فرنسا،
أكان يلومه على خياناته الكثيرة و المتكررة ؟ ،أم أنه لم يكن يشعر بأنه مختلف كثيرا في نفسيته و تفكيره عن
آبائه ،بما أنه لم يكن يختلف عنهم في الملبس و اللحية و الشنب ؟ .إلى أيامنا هذه ال يزال غالبية الناس يلقون دوما
باللوم على النظام االستعماري عندما يرغبون في تبرير كل هزائمنا التاريخية و ما أنتجته من تخلف و بؤس و
جهل و أمية و تسلّط و عنف ،وينحون بالقول بأننا كنا أمة متعلمة و مثقفة و قوية قبل أن تالمس الجزمات السوداء
شواطئنا قافزتا من مراكبها القادمة من الضفة األخرى .لكن ال أحد يود طرح السؤال األهمَ :لم تم احتاللنا من
طرف فرنسا في المقام األول ؟.
خيط رفيع جدا تركه األمير خالد ،لم يجعل من حياة الجزائريين أفضل في تلك المرحلة ،لكنه جعل طريق عبد
الحميد باديس و جماعته و مصالي الحاج و جماعته أيضا ُمعبّدا نسبيا لالنتقال إلى المستوى الثاني من النضال.
نضال الجمعيات الدينية و الثقافية و األحزاب السياسية في عشرينات و ثالثينات القرن الماضي.
رغم ذلك ،لم أستطع الوصول إلى نظرة األمير خالد الدقيقة لألجيال السابقة له ،لكني اكتشفتُ نظرة الجيل
الذي نشأ على يد مصالي الحاج ،و الذي كان يعيش غضبا جارفا جراء اإلخفاقات المتتابعة للنضال السلمي داخل
األطر و المسلّمات التي وضعها له االحتالل .رغم أنه الجيل الذي أخذ وعيه الكامل من تراكم كتابات و نضاالت
الساسة و المفكرين الجزائريين الذي أفنوا حياتهم بحثا عن العدالة و المساواة لهذا الشعب المقهور عاطفيا .هذا
89
يتجرع ذاك اإلحساس الدفين بالذل و الهوان إلى حد حقده على نفسه قبل حقده على
ّ الشعب الذي ظل يمقتُ ذاته و
عقدة اإلذالل ،الدونية ،الشعور بوجود نقص جوهري يجعلك تقتنع وجدانيا أنّه يستحيل
اآلخر .أو هكذا تبين ليُ .
ُسمع
عليك أن تعتبر نفسك ندّا لآلخر أو مساويا له أو منافسا له .هو شعور قاتل لكل شيء جميل قد ينبت ببطء أو ي ِّ
حفيفه الخافت بخجل في أعماق النفس !.
ّ
المتنطعين و يقف في مواجهة أالئك
تراءى لي فجأة وجه مح ّمد بلوزداد المتجهم نهاية األربعينات ،و هو ُ
أبوة جيل مصالي الحاج و صورة فرنسا العظمى التي ال تُهزم ُّ
تسلطا و قهرا ،إلى حد أنهم المشككين الذين أشبعتهم َّ
استكانوا إلى ذلك الوضع المزري إن لم يستلذُّوه بين أنفسهم .كنتُ أتخيّل بلوزداد الشاب اليافع الثائر الغاضب و هو
يصيح في مناضلي حركة االنتصار للحريات الديمقراطية سليلة حزب الشعب الجزائري و هم غارقون في
صراعاتهم السياسية و المصلحية و ماضون أكثر نحو إيهام أنفسهم بأن وقت التغيير الجذري لم يحن بعد ،حين
بالقوة و اآلن َ ؟ ! ".
كان بلوزداد يصرخ فيهم غاضبا على وضعهم ال ُمخزيَ " :لم ؟َ ،لم ال نستطيع طرد فرنسا ّ
بعد نحو أربعيت دقيقة من المطالعة و البحث ،انتهى بي المطاف متكئا على األريكة أد ّخن سيجارة ناظرا إلى
تطورات عقود تمر أمام بصري في لحظات.
السّقف وسط اإلضاءة المتوسّطة للصالة و أنا أحاول جعل أحداث و ّ
ي افتراضي ثالثي بشكل تخيّلي ،انفصلتُ عن كل شيء يحيط بي .كنتُ فقط ّ
أمرر تلك األحداث التاريخية كفيلم طيف ّ
ي.
األبعاد أمام عين ّ
تتحرك
ّ كانت تلك األحداث و تلك الشخصيات التاريخية تتشكل عبر الدخان الذي كنتُ أنفثه نحو السقف،
ي .مصالي الحاج كظالل باهتة خرساء يطغى عليها اللون األبيض و األسود و الرمادي المائل إلى ُّ
الزرقة أمام عين ّ
ّ
مؤطرة عام 0241و هو يُعلن أمام مجموعة من المناضلين تأسيس حركة نجم شمال إفريقيا كأول حركة سياسية
صامت الذي خلّفه نضال األمير خالد .الحركة
تناضل سلميا من أجل حلم االستقالل الوطني ،متن ّفسة من اإلرث ال ّ
تصور الجزائريين لمستقبلهم ،قبل أن تنهار
ّ تروج لمطلب االستقالل و ترفع من سقف
التي كانت قد بدأت ّ ِّ
بضربات القوانين الفرنسية ،فيعود مصالي مرة أخرى بحركة وطنية جديدة عام 0229تحت اسم حزب الشعب
الجزائري الذي واصل النضال السياسي مع البدء في الترويج لفكرة الكفاح المسلّح بشكل تدريجي هادئ و سلس،
وسط الجماهير الجزائرية المغمورة تحت طبقات ثقيلة من القهر و احتقار الذات الطويل و ال ُمتوارث ،لتعود سلطة
االحتالل عشية الحرب العالمية الثانية عام 22لتحل الحزب خوفا و تعسّفا .تراءى لي الحاكم الفرنسي العام
Georges Le Beauبطقمه األوروبي الكالسيكي األنيق و هو يوقع على إجراءات حل الحزب ،لينطلق بعدها
رجاالت الشرطة الفرنسية و محققيها في مداهمة مقرات الحزب و مصادرة وثائقه و اعتقال مناضليه ،بعضهم في
المقرات و بعضهم في المقاهي و البعض اآلخر في منازلهم.
رأيتُ القاضي الفرنسي و هو يضرب بمطرقته الخشبية ُمصدرا أحكامه بالسجن و األعمال الشاقة على
مصالي و أتباعه الذين مات الكثير منهم في سجون االحتالل جراء األمراض و اإلنهاك ،في الوقت الذي نظرتُ
إلى فرحات عباس ،الصيدلي المث ّقف المهموم بقضايا بلده و هو يجلس في مكتبه هناك في الزاوية المقابلة شهر
فيفري ،22يُنهي صياغة بيان الشعب الجزائري بخط يده و يعطيه لكاتبه كي يقوم برقله .ها هو هناك ،رفقة بعض
90
الشخصيات المو ِّقّعة على البيان ،يُسلم نسخة منه للحاكم الفرنسي العام Marcel Peyroutonفي مكتبه الفاخر
بالعاصمة الجزائر ،و يُرسل نسخا أخرى إلى الرئيس Rooseveltو حلفائه الذين نزلت قواتهم بسواحل الشمال
االفريقي ،يُذ ِّ ّكرهم فيها بواجباتهم األخالقية تجاه شعوب المستعمرات ،األنديجان ،األهالي ،السكان األصليين الذين
قص ال ُمخرج رشيد بوشارب معاناتهم في إحدى روائعه السينمائية ،التي أحرجت الحكومة الفرنسية في السنوات
َّ
قرر االنخراط ببؤسه و جهله و فقره و آماله و أحالمه في المجهود الحربي
األخيرة .ذاك الجيل األنديجاني الذي ّ
المحور ،على أمل أن يُم َّكن من الظفر في المقابل بحقه الثابت في تقرير مصيره بعد نهاية الحرب ،أو
ضد حلف ِ
الحصول على قدر من العرفان من دول العالم الذي يوصف بالحر ،على األقل.
تراءت لي هناك بعيدا ،في جبهات القتال األوروبية الباردة ،تحتَ سمائها الرمادية الداكنة ،في ساحات
المعارك العنيفة وسط الدخان و ال ُحفر التي خلفتها انفجارات قذائف المدافع و الطائرات و الدّبّابات ،على طول
الخنادق الموحلة التي تحيط بها األسالك الشائكة و أكياس التراب و الجثث .تراءت لي أطياف بعض الشباب
الجزائريين اليافعين المجنّدين في الحرب ،بعضهم كان منبطحا على صدره و هو يو ِّ ّجه بندقيته نحو التالل التي
يقبع العدو الفاشي خلفها و قد غطاها الدخان األسود .البعض اآلخر كان يجلس داخل الخنادق ،إما يكتب رسالة لألم
الزوجة ،أو يتناول رغيف خبز يابس ،أو يُد ّخن سيجارة أو بقايا سيجارة ،أو يحلق ذقنه بشفرة قديمة و بقايا
أو ّ
قطعة صابون اختلطت بها األوساخ و العوالق .رأيتُ بعضهم يجلس شارد الذهن دون حراك و عينيه هائميتن في
الفراغ .رأيتُ آخرين يبحثون عن بقايا قماش أو أكياس يلفّونها حول أقدامهم لعلّها تخفف عنهم سطوة البرد و
سمرتها الطاغية و
الجليد و البلل المتسرب عبر جزماتهم المهترئة .كانت وجوههم ذات القسمات الشمال إفريقية ب ُ
الرماد اندغاما و سوادا .كانوا فقط يحلمون بنهاية تلك الحرب اللعينة و
شنباتها السوداء هزيلة ،زادتها األتربة و َّ
العودة إلى الوطن ،إلى زرقة سمائه و دفء هوائه و حرارة شمسه.
تراءى أمامي بعض لحظات أكبر عواصم العالم و هي تزهو و تحتفل بنهاية الحرب الكبرى ربيع .0222
صور الجنود العائدين إلى بلدانهم وسط األعالم و الغناء و الرقص و الشامبانيا و القُبل .صورة الجندي األمريكي
الذي يتلقف أول فتاة فرنسية جميلة تصادفه في الشارع و يهم بالتهام شفتيها الرطبتين بشراهة الطفل الذي عاد
رجال منتصرا من الحرب ،و بين ذلك الرجل الجزائري الذي عاد من الحرب طفال محطما إلى وطنه ،و هو يقف
المخربة على يد السلطات االستعمارية و
َّ مذهوال أمام منزله الطوبي المهدوم و قريته أو ضيعته المحروقة و
ميليشيات الكولون .المشهدان حدثا في توقيت واحد ،ذات يوم من أيام شهر مايو .! 0222
رأيتُ نظرات غضب .كدتُ أسمع أنفاسها ثقيلة و هي تزحف صعودا و نزوال مسلسلة بالغل و الحقد في
صدور أالئك الفتية العائدين من الحرب و هم ينخرطون في حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي أسسها العائد
من السجون االحتالل مصالي الحاج ،الذي زاد يقينه بأن الحل الوحيد لهذه األمة هو االستقالل النهائي عن فرنسا
المخادعة و المنافقة .رأيتُ أطياف المناضلين و هم يسعون بين الجماهير في أعماق القرى النائية البائسة ،و
األحياء الشعبية الفقيرة في المدن يُوزعون نشرات الحزب المنادية بالتجند و التكتّل من أجل الحلم الوطني .رأيتُ
دمحم بوضياف و يوسف زيروت و العربي بن مهيدي نهاية عام 21و هم يخوضون الجداالت الساخنة في المقاهي
91
و النوادي الشعبية ،محاولين إقناع بقية الشباب بأن الحل هو التجهيز إلعالن حرب عنيفة كاسحة على النظام
االستعماري العنصري .رأيتُ ذاك الطالب الثانوي القروي العشريني المتّقد ذكاء و حماسا ،منكبا على مكتبه
يحرر تقريرا مفصال لقادة الحزب تحت نور خافت لمصباحه الزيتي ،يصف فيه الوضع السياسي
المتواضع و هو ِّ ّ
و االجتماعي للبلد بالكارثي ،مض ّمنا إياه تفاصيل نظرية عن فكرة ''مجنونة '' أوحت بها نسمات أقدار المستقبل
متنور من أسرار
المتنور ،جاعلة إياه يرى ما ال يراه سوى نبي أو فيلسوف ّ
ّ ِّ المختبئة خلف جبال الغيب إلى ذهنه
المصير المستقبلي ألرض و شعب .لقد كانت فكرة تأسيس منظمة شبه عسكرية سرية تحمل على عاتقها التجهيز
لعمل مسلح منظم مفاجئ و غير مسبوق ضد النظام االستعماري ،في سبيل دفعه لتقبل فكرة تقرير المصير ،التي
تنكر لها بعد الحرب العالمية .ذاك المناضل الشاب كان حسين آيت أحمد بال شك ،نبي الثورة الجزائرية !.
رأيت مصالي الحاج يجتمع في المؤتمر األول للحزب رفقة نحو أربعة و عشرين مناضال آخر في حي
بيلكور العاصمي أواسط شهر فيفري عام 29مزكين فكرة آيت أحمد و متخذين قرار إنشاء لوس l’OS،المنظمة
سِّرية ،المكلفة بتحضير كل الظروف المناسبة إلعالن الكفاح المسلّح ،مسندين قيادتها لمناصل
شبه العسكرية ال ّ
الشاب دمحم بلوزداد.
مع آخر نفثة دخان أطلقتها من فمي نحو السَّقف و هي تُش ّكل المشاهد التالية التي كنتُ أتخيّلها عن تلك
األحداث ،بدأتُ أرى شيئا غريبا بلون غير عادي معاكس لألوان الباردة الطاغية على تلك األطياف .شيء يُشبه
الرمادية و هي تتجادل حول مغزى
نقطة صغيرة ،أو كحبة فراولة ،تومض بلون أحمر في جوف تلك األطياف َّ
العمل الثوري ،بين أالئك الذين اعتقدوا أن الوقت لم يحن بعد و أن المنظمة السرية ال تزال ضعيفة ،و بين أالئك
متهور غير محسوب العواقب و هم يُحاولون التأثير على رأي البقية بما حدث
ّ الذين اعتقدوا أن الثورة أصال عمل
خراطة ربيع .22كانوا يعتقدون ّ
أن مواجهة الدولة الفرنسية و جيوشها و مليشيات في سطيف و ڨالمة و ّ
المستوطنين و عصابات المرتزقة التي تعمل لصالحها أمر مستحيل .كانت تلك النواة الحمراء تومض داخل تلك
أتصورها ،ماضية في اللمعان بشكل متصاعد ،في ذلك
ّ األطياف و هي تتجادل دون أصوات فيما بينها .كنتُ
الشريط السنيمائي القديم من دون صوت .كنتُ فقط ألمح تلك الومضات الحمراء و هي تنتقل من طيف آلخر تحتَ
ضغوط األيام و العالقات المكهربة و تع ّمق الخالفات و طول االنتظار و الترقب و الخوف من اكتشاف الجالد
الفرنسي لما يدور تحته في دهاليز العبودية المظلمة .فرصة نسف الباب على عالم جديد مليء بالضوء كانت ُّ
تهز
األبوة المليء بروائح الترسُّبات الكريهة ،و سوط ال ُمحتل المخضب
َّ أعماق الكثيرين ممن ولدوا و نشأوا تحت إبط
صدور في الظالم !.
بدماء عقود من االستعباد لماليين األظهر و ال ُّ
_ هذه هي !!..
تمتمتُ مع نفسي و أنا ألمح االنتشار المتسارع لوميض تلك البذور بوهجها األحمر في أعماق النفوس التي
زادت صراعاتها مع مرور السنوات الثالث األولى من تأسيس المنظمة العسكرية الخاصة ،بين متحمس لها و
خائف منه ،و كيف أن األطياف اشتعلت حمرة من كال الطرفين.
92
رأيتُ مرا د ديدوش مع مجموعة من المناضلين و هم يطاردون مناضال أخطأ في حق المنظمة الخاصة و قرر
مغادرتها متحديا قوانينها التي تحظر ذلك .اقتحموا منزله ،و انهالوا عليه بالضرب المبرح ،تنفيذا لقرار العقوبة
الذي صدر في حقه ،ثم تركوه غارقا في دمائه اعتقادا منهم أنه فارق الحياة ،ليستفيق بعدها و تشتعل بذرته
بأنوارها الحمراء التي غمرت شقته الصغيرة برمتها .ها هو هناك ،يقف بصعوبة و قد اختلطت عليه كلماته بين
عبارات السب و بين عبارات الوعيد الهائج ،ليتوجّه و قد فاض صدره بالغضب و الرغبة في االنتقام إلى شرطة
االحتالل و يُطلعها على كل شيء يخص المنظمة الثورية ،فتندلع الحملة الكبرى من االعتقاالت و المداهمات و
االستنطاق و التعذيب ،لتنهار المنظمة بسبب وشاية ُّ
تأن تحت آالم جرح نرجسي عميق ،و ينهار معها حلم إعالن
الثورة ،ليس بسبب عبقرية مخابرات العدو ،بل بسبب تلك البذرة البائسة المزروعة في أعماق كل جزائري على
ما يبدو ،و التي ال تشتعل إال عندما يجد هذا الفرد نفسه أمام لحظات مصرية حاسمة تختبر شجاعته و إخالصه و
صبره و نضجه الحقيقي.
إنها تومض بشكل متسارع ! .مصالي الحاج و قادة الحزب يدخلون حالة هستيرية بعد كشف المنظمة بسبب
َبرئهم من التنظيم نفسه خشية حل الحزب و العودة إلى السجون ،ثم ها هم
رعونة سلوك بعض أبنائها إلى درجة ت ُّ
ينطلقون في صراع آخر عجيب في وقت كان يلزم فيه القدر األدنى من االتحاد و التكافل .مصالي و جناحه ضد
الجناح الذي أراد تجريد " الزعيم " أو " األب " من صالحياته الواسعة في القيادة و اتخاذ القرارات.
ال يمكنكَ إقناع قيصر باقتسام تاجه و هو في ق ّمة الثمالة المختلطة بالكبرياء ،سواء كان في حالة سلم أو
حرب ! .رأيتُ األمر بديهيا جدا ،و أنا أشاهد كيف كان اللون األحمر ماضيا في اكتساح تلك الخلفية الرمادية أمام
مخيلتي وسط مناوشات تكاد تكون صبيانية بين الماصاليين و المركزيين حول اقتسام الحزب ،الذي ُح ّ ِّول بشكل
ي إلى ما يُشبه التركة التي يتم رميها لقطيع من اليتامى ال ُمتحاقدين !.
عجيب في تواطئ جماعي خف ّ
هكذا غرق الحزبيون في صراعاتهم ،في حين كان أفراد l’OSالذين نجوا من االعتقال و السجون يواجهون
الويالت في الجبال ،بعدما تخلى عنهم الجميع ،جاعلين منهم مجرد مجموعات متفرقة من الكالب الضالة ،و هو ما
نمى فيهم شعورا رهيبا بالحقد على السياسة و أصحابها و على جيل كامل من اآلباء الذين لقنوهم شيئا من الوعي
الوطني ،لكنهم لم يؤمنوا بما يمكنهم تقديمه فعليا حين يحين دورهم على مسرح التاريخ.
بدى لي أن مزحة " المشعل " هذه حكاية قديمة قدم العربدة السياسية و التغطرس األبوي في هذا البلد ،و لم
تكن وليدة زمن االستقالل ؟ ! .كيف ال و أنا أشاهد أطياف أالئك الشباب العائدين من السجون و هم يقفون
مشدوهين على االقتتال الحزبي بين " اآلباء ال ُملهمين " ؟ .و لربّما راحوا يسئلون :أين وصل حال l’OSالحبيبة
ُمرروا لهم الـ"مشعل " ّ
كلفوهم ببيع جرائد الحزب. ؟ .منعوهم من التحدّث في هذا الموضوع مرة أخرى ،و لكي ي ّ
سِّرية في قلب جبال األوراس و جرجرة و
أجل ! .هكذا ،ثوار المستقبل الذين أمضوا سنوات في معسكراتهم ال ّ
بابور يتدربون على حرب العصابات و صنع القنابل التقليدية و يخزنون السالح لليوم الموعود ،صاروا باعة
جرائد ! ،ف أسلوب االحتقار و وأد الطموحات و تحطيم العزائم هذا نموذجي جدا في بلدي !.
93
فقرر الجيل األبوي نفيهم نهائيا خشية السوط االستعماري و خشية ضياع
أرادوا التشبّث بحلم تفجير الثورةَّ ،
صعاليك !ّ .
لكن الصعاليك ما كان يظنه إنجازات .فطردوا و طوردوا و نعتوا بمثيري الفوضى و المراهقين و ال َّ
يعودون ليبعثوا " لوس" ال َّ
شرسة و غير المهادنة ،ثم يؤسسوا شهر مارس 22اللجنة الثورية للوحدة و العمل،
لتبرز هناك في األفق أخيرا ،بعد هذا المشوار المضني ،أطياف 44رجال شابّا غاضبا و حانقا على كل تلك
المهازل و المآسي ،ليجتمعوا صائفة 22بحي المدنية العاصمي ،و يقرروا أخيرا أنه آن األوان لتفجير ما كان
يجب تفجيره منذ زمن طويل في وجه ال ُمحتلّين .مجموعة الـ 44تُنجب مجموعة الـ .1مجموعة الـ 1تجتمع
سس جبهة التحرير الوطني التاريخية
أواخر أكتوبر 22بضواحي العاصمة لتحديد تاريخ انطالق الثورة ،فتؤ ِّ ّ
بجناحها العسكري الثوري ،التي ستتولى تنفيذ خيار الكفاح المسلّح و تمريغ وجه '' اإلمبراطورية '' في وحل
التاريخ ،في حدث بعد أيام من ذلك االجتماع ما درسناه في المدارس على العموم من دون تفاصيله المؤلمة و
مفارقاته المد ِّّمرة.
ّ
تتمزق هي األخرى على تلك اإلشعاعات الحمراء التي كنتُ ألرى ،بأسلوبي الخاص ،أطياف رجال نوفمبر
تنفجر من أعماقها منبعثة من تلك البذور الصغيرة ،التي تشكلها جزئيات ظاهرة الموسطاشيا .كان ذلك الوهج
ليكون أشد وضوحا و قوة ،كونه تفاعل مع أكثر السنوات عنفا و دموية في تاريخ الجزائريين .إنها اللحظات
صدمة النفسية !.
المصيرية الحاسمة ،عندما تتداخل و تتقاطع مع ال ّ
تن َّهدتُ بعمق .ف ّكرتُ في أن تلك البذرة الجرثومية التي ضلّت كامنة أو ذات نشاط محدود أو بطيء قبل عام
ْ
بدأت تنشب و تشتعل بشكل تصاعدي بتآكل ،0222قد تم ّ
هزها بقوة خالل مجازر الثامن من ماي ذاك العام ،ثم
جر حركة االنتصار للحريات الديمقراطية إلى حرب داخلية
داخلي أدى إلى كشف منظمة " لوس " الثورية ،ثم ّ
غريبة جعلت منها " حركة االنتحار للحريات الديمقراطية " ،إلى أن عرفت تلك الجمرة اشتعالها و تفجّرها الكامل
تحور شكلها إلى بنيته الجديدة ،مع الفظائع التي وقعت طيلة ثمانية أعوام من النزاع المسلّح ضد فرنسا
و ّ
االستعمارية ،دون أن تجد ما يردُّها أو يكبحها في النهاية أمام أمطار نعمة االستقالل الغزيرة .....هي لم تنطفئ !،
بل استمرت بعد عام 14تنهش ذواتنا و ّ
تلطخ لوحة تاريخنا بمزيد من دماء تناحرنا و اقتتالنا المخزي ضد بعضنا
البعض......
**********
.....جاءني صوت بعيد جدا .أجفلتُ و أنا أفتح عيني و أستردّ وعي كامال ألتفتُ إلى شاشة التلفاز .كان بثا
مسجّال لمباراة في التنيس .أدركتُ أن ذاك الصوت الذي سمعته إنما كان صوتا يُشبه صوت جرس الباب !َّ .
رن
مرة ثانية فجعلني أستفيق تماما من غفوتي .نظرتُ إلى ساعة يدي فإذا بها الواحدة و ال ّنصف صباحا.
94
قلتُ في نفسي و أنا أتجه متثاقال أفرك عيني بأصابعي إلى الباب أسأل نفسي إن سبق و أن زارني أي شخص
بمجرد أن فتحتُ الباب كانت تقف في منتصف المسافة
ّ في مثل تلك الساعة مذ أن سكنتُ شقتي الصغيرة تلك.
الفاصلة بين باب شقتي و باب منزل الخالة ميمونة .كيف حدث ذلك ؟ !.
ي ُمطلقة بسمة ماكرة و هي تتقدّم بخطوتين متثاقلتين نحوي ،بعدما جذبتها أصوات الموسيقى الخافتة ْ
نظرت إل َّ
المنبعثة من غرفة المعيشة...
_ كيفاش ؟.
أجبتها و أنا مشوش الفكر بين النعاس و كالمها الغريب ،فزادت بسمتها وضوحا...
كانت تبتس ُم و تضحك بشكل غريب أثار شكي و غضبي فجأة ،كوني أعرف حال الذي يطلق تلك النظرات و
يتحدث بتلك النبرة ضاحكا بذلك الشكل الغريب....
تعثّرت فجأة و هي تدخل الشقة فانطلقت تضحك بشكل غريب و بصوت مرتفع معربة عن مدى غبائها ،في
اللحظة التي صفعتني فيها رائحة الكحول القوية التي كانت تخرج من فمها .تر ّن ْ
حت و هي ترمي بيدها إلى الطاولة
مرة أخرى في
الصغيرة التي أضع فوقها مفاتيح الشقة و السيارة عادة عند الباب .كانت تحاول استرجاع توازنها ّ
حين وقفتُ مذهوال و أنا أغلق الباب خلفي .لم أكد أصدّق .صوفيا ثملة إلى حد ال تستطيع معه السير بتوازن !.
شعرتُ بالغضب و العجز عن تفسير الموقف .أقصد أني لم أفهم أكان يجب عل ّ
ي نهرها بسبب الحالة المقرفة التي
حرة غير الئقة
ي التريث حتى أفهم السبب الذي دفع بها إلى الرمي بنفسها في سقطة ّ
كانت عليها ،أم كان يجب عل ّ
بفتاة مثلها.
أمسكتها من ذراعها و اقتدتها إلى غرفة االستقبال .أجلستها بحذر على األريكة و هي ماضية في الضحك و
الهمهمة بكالم غير مفهوم...
95
ي و هي ماضية في الضحك كمن يتهكم على سؤال سخيف... ْ
نظرت إل ّ
كانت تضحك بشكل غريب .لم أفهم بالضبط ما كانت تقصد بكالمها .ربما هو عشيق و ليست عشيقة ؟ .لكنها
لم تحدّثني عنه من قبل ؟ .تغيّرت نبرة صوتها و راحت تلك الضحكات تتحول شيئا فشيئا إلى ضحكة هستيرية ،و
كأنها كانت تودّ الضحك على نفسها أو على حالها بكل ّ
قوة .ثم فجأة انخفضت نبرات صوتها و اضطرب تنفسها و
راح رأسها يتمايل .عرفتُ ما كان سيحدث .أمسكتها من ذراعها على الفور و اقتدتها إلى الحمام .رفعتُ غطاء
المرحاض بسرعة في حين تقدّمت تلقائيا رامية برأسها إليه .راحت تتقيّأ في حين كنتُ أسندُ رأسها بيدي محاوال
منع شعرها األملس من االنسدال على وجهها .لم أرغب في النظر إلى كل تلك القذارة التي كانت تصبُّ من فمها
صرف ،سوى أني لم أستطع تفادي تلك الروائح التي كانت تنبعث منها .كانت مزيجا من رائحة القيء
نحو فوهة ال َّ
بمجرد نزوة أو زلّة أو مرح احتفالي .فالفتاة
ّ و رائحة المشروبات الكحولية .أحسستُ أن األمر جلل و لم يكن يتعلّق
ال تشرب أبدا على حد علمي.
كانت تُحاول قول شيء ما في اللحظات القصيرة التي كانت تسترجع فيها أنفاسها .لكنّها لم تستطع بسبب تدافع
مرة .نظرتُ إليها و أنا أحثّها على التنفس جيدا و ترك المجال لجسمها كي يتخلّص من كل
القيء من جوفها في ك ّل ّ
تلك المشروبات الزائدة.
ْ
أفرغت كل شيء كما بدى لي .هدأت فجأة و هي تحاول استرجاع أنفاسها .كنتُ أعلم أنها تعيش تلك اللحظات
المقرفة التي يعيشها أي شخص ينتهي من تلك العملية المزعجة .اختناق في التنفس .حريق يمأل الجوف و الحلق و
البلعوم .دوار بسبب تدني مستوى السكر في الدم ،و روائح مقززة تمال الفم و مذاق غريب في الشفتين.
لم أنبس ببنت شفة .رأيتُ كتفيها و هما يهتزان بشكل متسارع حين أحنت رأسها قليال إلى األمام مصدرة
صوتا يشبه صوت االختناق .انحنيتُ إليها و أنا أُبعد بعض الخصالت عن وجهها بأطراف أصابعي فإذا بها و قد
لتوها زفرة طويلة فاضت معها دموعها متساقطة كحبّات مطر مبكرة كانت تعلن عن بدأ عاصفة ما .كأنها
أطلقت ّ
لم ترغب أبدا في استرجاع ذاك النفس الطويل الضائع الذي أطلقت به بكاءها الحارق ،لكنها استسلمت لقوة
االختناق فراحت تسترجعه ببطء و هي تطلق العنان أكثر لحزنها المتف ِّ ّجر مع كل شهقة و زفرة ،إلى أن تحولت
تلك الشهقات شيئا فشيئا إلى نواح.
_ كيف انتهت بي الحال ألصبح سحاقية ؟ ! .كيف ؟؟ .لم أعد أعرف من أكون ! ...ال أدري من أو ماذا
أكون !! .يجدر بك أن تحملني بين ذراعيك و تلقي بي من على الشرفة ....أرجوك ،افعل ذلك !.
96
سر ما كان يُثخن قلبها على ما
ي بعينيها الواسعتين الجميلتين الغارقتين في دموع ثقيلة ثقل ّ
رفعت ناظرها إل ّ
يبدو .سر لم تبح به ألحد من قبل...
كان صوتها مرتعشا .متقطعا ،لكنه يفيض بيقين غريب ال يُمكن أن يصدر من أفكار سخيفة تخرج من فم
شخص سكران .و من بين كل األسئلة التي كانت تتنافس داخل رأسي محاولة النزول إلى لساني المعقود ،لم أرى
غير أفضل من واحد لطرحه على نفسي فقط " :أليس الوقت متأخرا للحديث ع ّما حدث ؟ "ُ .رحت فقط أمسح بقايا
تلك القذارة من على شفتيها و ذقنها بمنشفة ّ
مبللة...
_ هيا يا عزيزتي .اهدئي ...اهدئي .الوقت متأخر اآلن و أنت جد متعبة .لماذا ال آخذك إلى الفراش لتنامي.
غدا سيكون يوما جديدا و ستكونين أفضل .هل أهلك على علم بأنك غائبة عن المنزل ؟.
لم تقل شيئا .أومأت برأسها أن نعم و هي تراني أحمل جسدها الذابل بين ذراعي متّجها بها إلى غرفة نومي.
مرة أحمل فيها فتاة بين ذراعي .غريب كيف كان وزنها خفيفا و كيف كان جسمها نحيفا .فهمت
كانت تلك أول ّ
ليلتها لم تميل صوفيا المسكينة إلى ارتداء المالبس الفضفاضة في العادة .جسدها جسد قطة صغيرة.
قبل أن أضعها في الفراش ،كانت قد غابت تماما في جوف نومها العميق ،كطفلة صغيرة عادت لتوها من سفر
طويل بدأته و لم تستطع إكماله .تلك الدمعات كانت ال تزال تلتصق بوجنتيها و قد انسابت نزوال باتجاه أذنيها
ي أحاسيسي بين الحزن و الشفقة و
بمجرد أن مدّدتها على السَّرير واضعا رأسها برفق على الوسادة .اختلطت عل ّ
الحيرة ،فجلستُ على حافة السرير للحظات و أنا أتأمل وجه صوفيا الجميل ُمحاوال افتراض سبب تلك الحالة التي
لم أرها عليها من قبل.
كنتُ مرهقا تماما و لم يخطر على بالي شيء .ف ّكرت في ترك كل شيء لما بعد طلوع الشمس .سترتُ الفتاة
المسكينة و أطفأت الضوء ساحبا باب الغرفة خلفي تاركا إياه مفتوحا جزئيا .سرتُ عائدا إلى الصالة على أنغام
أغنية روك قديمة كانت تبثها أمواج اإلذاعة .رميتُ بجثتي التي تضاعف وزنها فوق األريكة مرة أخرى ،و على
ذلك اللحن الثقيل نظرتُ بعينين منطفئتين إلى تلك الفوضى من األوراق و الكتب و الملفات التي كانت تحيط بجهاز
الالبتوب و منفضة السجائر الممتلئة بالرماد و األعقاب و ذلك الصحن الزجاجي الصغير الذي بقي فيه شيء من
ماء حبّات الفراولة األحمر.
مرة أخرى ،رويدا رويدا ،شيئا فشيئا .كنتُ منهكا جدا ،إلى حد أني لم أستطع ........راح خيط أفكاري ي ّ
تقطع ّ
االستمرار في التفكير .أغمضتُ عيني متن ّهدا على صوت ذلك المطرب المتمدِّّد ّ
بقوة في صمت الجو الليلي و هو
يختلط بسالسة بين الموسيقى السيمفونية و موسيقى الروك....
97
I’m digging my way to something better yeah
I’m pushing to stay
Yes I’m pushing to stay with something
I’m pushing to stay with something better yeah
( أنا أشق طريقي ،أشق طريقي نحو شيء ما ،أشق طريقي نحو شيء أفضل .أنا أدفع نفسي ألبقى ،أدفع
نفسي ألبقى مع شيء ما ،أدفع نفسي ألبقى مع شيء أفضل ،شيء أفضل ...آه آه آه) ....
_ " ال ! ،على األرجح سأفقد عقلي بسبب هذا الحفر المضن باتجاه هذا الذي س ّميته سبقا نهائيا ! .قد ال أكون
قادرا على إنقاذ نفسي من خدعته القاتلة في النهاية ؟ ".
قال ذلك الصوت داخل رأسي .كانت مجّرد لحظات ظننتُ فيها أني سأغرق في نوم عميق ،قبل أن يهزني
شيء بعنف قبل انتهاء تلك األغنية بثوان .شيء جعلني أفتح عيني و أنا أرغب في االنتفاض من مكاني لوال إرهاق
سهرة طويلة و نعاس ساعات الصباح األولى .لم أجد غير أن ألطم جبهتي بكفّي قبل أن أضعه على فمي و أنا
مشدوه....
انتابتني رغبة عنيفة في النهوض و الركض مباشرة إلى غرفتي إليقاظ صوفيا و معانقتها بشدّة و االعتذار
منها على ما رأيتُ أنه شكل ما من أشكال التفريط تجاه صديقة ّ
تمر بأيام عسيرة على ذاكرتها !.
98
-0-
فتحتُ عيناي على حركة غير عادية ،فوجدت نفسي ال أزال في وضعية الجلوس على األريكة مقابال حاسوبي
المحمول و تلك الفوضى من األوراق و الكتب و رقاقات مقاالت الجرائد على الطاولة الزجاجية وسط الصالة.
كنتُ أشعر بآالم في الظهر و الرقبة جراء نومي بتلك الوضعية غير ال ِّ ّ
صحية.
كانت صوفيا تقف عند مدخل الغرفة و هي تحمل جهاز التحكم عن بعد الخاص بالتلفاز و قد أطفأته لتوها.
كانت حركتها وسط الغرفة هي التي جعلتني أستيقظ إذن ؟ .كانت ترتدي بشكيري األزرق و هي تلف شعرها
المبلّل بمنشفة يبدو أنها أخذتها من خزانة غرفة النومْ .
بدت في البشكير الذي كان أكبر منها و كأنها عصفورة
نحيفة مبللة تحاول االختباء في قطعة قماش ناعمة الملمس بحثا عن شيء من الدفء و األمان.
_ صباح الخير ...لقد ...سمحتُ لنفسي بأخذ حمام صغير .لم أستطع احتمال نفسي مع كل تلك الروائح
الكريهة .آمل أال يزعجك هذا ؟.
ْ
أطلقت بسمة ساخرة... ْ
نظرت إلى أثاث الغرفة و كأنها تعيد اكتشافه مرة أخرى ،ثم
_ أال تفكر في تغيير هذه األثاث ؟ .تبدو و كأنها من حقبة دار سبيطار !.
99
ورطتني في هذا .إنه أثاث بيت الجد و الجدة و هي تريدني أن أحتفظ به .ربما تخشى أن تُنسيني
_ أه أمي ّ
الحياة في العاصمة من أكون أو من أين أتيت ؟.
صمتت للحظة و هي تنظر إلى كل تلك األوراق و الكتب المبعثرة فوق الطاولة الزجاجية حول الحاسوب
مستمرة في التبسم ،في حين كنتُ أحك عيني و أربّت على عنقي محاوال طرد بقايا النوم عني...
َّ
ْ
أطلقت ضحكتها الطفولية المعتادة متجهة نحو األريكة المقابلة حيث جلست جامعة ساقيها إلى قالتها و قد
بعضهما على الجانب .ضحكتها تلك أشعرتني بنوع من االرتياح أخيرا .لقد كانت ضحكة صوفي التي أعرفها
جيدا.
_ أه ! .إنه البحث الذي أجريه في سبيل فهم مسار حزب الجبهة و كيف بدأ كمنظمة ثورية هدفها قلب الطاولة
على الجيل األبوي المتغطرس و المتهالك و تحقيق االستقالل بسبل أخرى ،ليتحول بعد االستقالل إلى جهاز
بيروقراطي كبير هدفه الهيمنة و السيطرة على السلطة و االحتفاظ بها بكل السبل و تحت كل المبررات...ألم
تشعري بالفضول يوما لمعرفة سبب تكرارنا لنفس التجارب االجتماعية – التاريخية ؟ ،عن ظاهرة تحول كل جيل
قلب الطاولة على الجيل األكبر منه سنا بسبب غطرسته إلى جيل متغطرس آخر على الجيل الذي يليه ،باسم
شرعيات وهمية مختلفة ؟.
_ هممم ...ال تزال تر ّكز في أعمالك على علم االجتماع السياسي ؟ .حسن ..من ضمن الستين ألف فكرة التي
ْ
عبرت فكرك البارحة ،هل من أفكار استطعت اقتناصها أو تسجيلها ؟.
_ مثال :أنه لوال العيب الجوهري في النفسية الجزائرية لفجّرنا الثورة التحريرية في ظرف ثالث سنوات على
األقل منذ تأسيس .l’OSو لوال العيب الجوهري في النفسية الجزائرية لحسمنا الصراع مع فرنسا في ظرف ثالث
إلى أربع سنوات ربّما ؟.
ي و هي تتحسس المنشفة التي كانت لتف بها شعرها من حين آلخر ،في حين
لم تقل شيئا و ظلت فقط تنظر إل ّ
ارتديتُ نظاراتي و وجدتُ يدي تمتد من تلقاء نفسها نحو علبة السجائر لتستل منها السيجارة األخيرة التي كانت
ي بعقبها األصفر .وضعتها بلطف بيم شفتي .قمتُ بإشعالها .سحبتُ منها النفس األول الذي نفثته في السماء
تطل عل َّ
و أنا أعيد أستذكار بعض أفكار اللليلة السابقة....
100
_ تعلمين ؟ ،عندما درسنا حادثة المروحة في حصة التاريخ و نحن صغار ،لم أفهم السبب المنطقي الذي دفع
الداي حسين عام 0721م ِّللَطم القنصل الفرنسي Pierre Devalبمروحة يده .قيل لنا إذاك أن ذاك التصرف
كان كردّ فعل على وقاحة القنصل و سوء أدبه مع حاكم الجزائر األول ،و أن تلك الحادثة ش ّكلت الفرصة المواتية
لفرنسا من أجل إعالن الحرب علينا و بداية الزحف على البالد .ذاك اليوم ،أذكر أني سألتُ أبي مساء عند عودتي
ي و قد علت وجهه بسمة فيها شيء ظننته
نظر إل ّ
إلى البيتَ :لم لطم الداي حسين القنصل الفرنسي بمروحته ؟َ .
الكبرياء و هو يقول لي بأن الداي فعل ما فعل بسبب " هذا " وأشار بسبّابته إلى أنفه ! .بصراحة لم أفهم بالضبط
ورطتنا مع احتالل طويل و متوحّش بـاألنف ،رغم أني بعد مدّة فهمت أن
ما كان يقصد الحاج بتبريره للفعلة التي ّ
األنف يرمز في ثقافتنا ،مثله مثل الشنبات ،إلى الرجولة و الشهامة و الكرامة و أن الداي فعل ما فعل ليصون
كرامة البالد من وقاحة الفرنسيين ،و قد أشعرني ذلك بنوع من الفخر يومها.
وجدتُ نفسي أتنهد طاردا الدخان من رئتي مكمال عرض وجهة نظري الجديدة....
_ يا صديقتي ،اليوم أعيدُ ترتيب األمور داخل رأسي بعيدا عن خزعبالت النيف و الشالغم أو هذه الـ" النيفو
– موسطاشيا " التي زرعوها في عقولنا ،و التي ال أراها سوى تبريرا قبيحا ألي إخفاق ممكن في الحياة و تهربا
الرجلة الفارغة ،و الثرثرة الشعبوية
من المسئولية ،بل و تزكية لكل ما يمكن أن يُنتج سلوكيات التفرعن و ُّ
صلة في أعماق أنفسنا .على أحدهم أن يوقف هذا التواتر المرضي ...هذا '' التمسطيش '' الفارغ.
المتأ ِّ ّ
ّ
صمت للحظة بعدما استغربتُ تحك أنفها ،ثم ّ
هزت كتفيها و حاجبيها كمن يقول " :ربّما " ؟ .أما أنا فقد راحت ّ
مع نفسي كيف لشخصين أن يُدشنا يومهما بحديث في التاريخ و السياسة و الحرب ....حتى قبل تناول القهوة !.
ت فهم ما
_ التاريخ االجتماعي – السياسي للحزب قد يعطينا فكرة عن بنية الشعب الجزائري العميقة .إذا أرد ِّ
عليك أن تعودي للبحث في ماضي والديك و والديهما و أجدادهم إضافة إلى
ِّ ت عليه،
يحدث لك اليوم و ما أن ِّ
المجتمع الذي تعيشين فيه ككل.
ْ
رمت بصرها إلى األرض و تاهت فجأة في أفكارها .بدى ْ
ابتسمت و هي تومئ برأسها موافقة على كالمي ثم
لي أنها فهمت قولي على أنه تلميح للحالة التي كانت عليها الليلة السابقة .أحسستُ أني اقترفتُ خطأ غير مقصود.
أطفأتُ السيجارة في المنفضة بعدما استهلكتُ نصفها فقط ،حينما راحت لحظات الصمت تتمدّد بيننا .كنتُ
أبحث عن العبارات المناسبة التي ألوم بها نفسي أمام صوفيا معربا لها عن مدى غبائي ألني لم أكن طيلة األيام
101
الفارطة حاضرا لمواساتها معنويا ،أمام ذكرى ما وقع لها ذات صبيحة من شهر أفريل قبل سبعة أعوام .نظرتُ
الرمال
إليها و قد بدأ خيط أفكارها يسحبها مني تلك اللحظة و هي ماضية في الشرود مرة أخرى ،كمن تسحبه ِّ ّ
المتحركة دون أن يتخبّط أو يطب النجدة.
ْ
طلبت صوفيا النجدة لما انتهى بها المطاف بين ذراعي ثملة إلى تلك الدرجة الليلة الفارطة. لو
كونك تعيشين
ِّ ّ
أتفطن إلى ي أن
_ اسمعي ! .ال أدري كيف أقول هذا ،لكني فعال أعتذر إليك بشدّة .كان عل َّ
ذكراك السيئة تلك ،ألكون حاضرا بجانبك و أساعدك بما أستطيع لتفاديها ....اهتمامي الشديد بالعمل و كل هذه
الضغوط و الترقب و هذه الحملة االنتخابية و هواجس هذا الربيع العربي.....أخخخ ....كل هذا ...حقا أنا آسف !.
ْ
ابتسمت بهدوء...
_ ليس هنالك ما يدعوك للخجل أو التأسف .الحقيقة هي أني أنا من يجدر بها الخجل من نفسها .أصدقك القول
أني لم يسبق لي و أن فعلتُ ما فعلت الليلة الماضية.
_ أه دعنا منهم ! .أخبرتهم أمسية البارحة أني سأمضي الليلة رفقة صديقة...
_ ماذا حدث ؟ ....أقصد ...إن كنت تعتقدين أنه الوقت المناسب إلخباري طبعا !.
قالتها و هي تتنهد بع مق و كأنها تستعد للبدء في سحب تلك األكوام من االنفعاالت ال ُمشبعة بالحزن و الخوف
أرغب في ثنيها عن الخوض
ُ و الغضب ،جراء ما حدث لها صبيحة الحادي عشر أبريل .2994و بقدر ما كنتُ
في الموضوع كونها ظلت لسنوات تتفادى الخوض فيه ،بقدر ما كان الفضول يمنعني من أن أقترح عليها تأجيل
الحديث عنه الى ما بعد تناول وجبة الفطور أو إلى وقت آخر أكثر مالئمة .انتابني شعور أن تلك الفرصة لن
تتكرر .رأيتُ في عينيها رغبة في اقتسام ذكراها الرهيبة تلك معي.
ي بصمت .كانت مسحة من الحزن بادية على وجهها رغم أنها كانت ،كعادتها ،تحاول تمويهها ْ
نظرت إل ّ
بإيماءات الصالبة و عدم االكتراث لأللم .كنتُ أعلم أنها كانت تقاوم رغبتها في عدم البوح بألمها و مخاوفها
المشبعة بالصدمة و دهشة الحدث الذي غيّر حياتها إلى األبدّ ،
لكن أنفاسها المتدفقة بالحزن و الشعور بالوحدة بدأت
تغلبها و تدفعها بعنف كي تبوح لي بما يقتلها منذ زمن .فهمتُ أنها لحظة الالرجوع .لحظة االنهزام أمام كبرياء "
األنا " .لحظة البوح بالضعف...
102
أطلقت ضحكة ته ُّكمية – يبدو هذا نفسه مثيرا
ْ ي كان –
_ أمين ،في الغالب ،ال أحبُّ أن أشكو حالي أل ّ
للشفقة ! ،لكن ...يبدو لي أني ال أزال أتصرف وفق ما كنتُ من قبل و ليس ما أصبحتُ عليه اليوم .أحيانا يعجبني
ذلك ،لكنه سرعان ما يتبدد .تعلم ؟ ،عندما كنتُ أبلغ التاسعة من عمري كان جميع من حولي يقولون لي أني
سأصير امرأة جميلة جدا .أذكر أحاديث النسوة في األعراس التي كنتُ أحضرها و هن يهمسن ألمي ضاحكات،
يخبرنها بأني سأكون امرأة مشتهاة من طرف جميع الرجال ،لجمال وجهي و عالمات نضجي جسدي المبكرة التي
كانت تنبئ بجسد مثير جدا .كنتُ أتظاهر بأني ال أسمع أحاديثهن عني ،ربما ألدفعهن لقول المزيد .كنتُ أستلذّ كل
ذلك المديح و اإلطراء و كنتُ أشعر بالغبطة ،معتقدة أني بعد بضع سنوات سأكون تلك الشابة التي يركض خلفها
الفتيان في الشارع و يتشاجرون بسببها....
ْ
أطلقت ضحكة خفيفة و كأنها تشاهد ماضيها يمر أمام عينيها الحزينتين...
_ ....يوم علمتُ أن شقيقتي زهيّة التي تكبرني بسبعة أعوام واقعة في حب ابن الجيران الذي كان يبادلها
أكف طيلة أيام عن مراقبتها و هي في
ّ نفس المشاعر ،جرفني الفضول ألكتشف حال األنثى الواقعة في الحب .لم
خلوتها تستمع إلى أغاني ماجدة الرومي التي كانت تعشقها .كانت تبتسم بحنو و هي شاردة النظرات حينا ،و تنظر
إلى مرآتها الصغيرة و تلعب بخصالت شعرها بين أصابع يدها حينا آخر .كانت ُمغرمة ! .زهيّة لم تكن أجمل مني
بشهادة الجميع ،لذلك كنتُ سعيدة جدا من أجل نفسي ،كوني كنت متأ ّكدة بأنني لن أجد أي صعوبة في الظفر بقلب
أي شاب يعجبني حين يحين الوقت .أذكر أني كنتُ أتسلّل إلى غرفتها التي كانت تقتسمها مع ابنة خالتي التي كبرت
ي ،و أقف أمام المرآة تارة أتأمل نفسي،
المطرز بأشكال أزهار زرقاء صغيرة إل ّ
ّ معنا .كنتُ أض ّم فستانها األبيض
و أدور راقصة في محيط الغرفة تارة أخرى على أغنية " كلمات " التي أحببتها دوما.
ت ذراعي ،يزرعني
_ صح ...صح " .! ...يُسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات ...يأخذني من تح ِّ
في إحدى الغيمات ...و المطر األسود في عيني يتساقط زخات زخات " .....يااااه كم أحببتُ تلك األغنية ! .ال
أدري َلم يُذكرني لحنها بستائر نوافذ منزلنا القديم و هي ترفرف و تتمايل بلطف على نسمات البحر في أمسيات
الصيف .آه أشتاق إلى ذلك البيت كثيرا ! .كنتُ صبية ككل الصبايا ،أرقص أمام المرايا ،و أنا أتخيل نفسي أراقص
فتى األحالم.
ي... تن ّه ْ
دت آخذة لحظة من الصمت قبل أن تنظر إل ّ
_ بعد زلزال بومرداس 2993الذي هدم بيتنا القديم تماما ،جئنا للعيش هنا في العاصمة محاولين بدء حياة
صرتُ حديث العام و الخاص .اكتمل نضجي
جديدة .كنتُ في الثانوية و كما توقعت و توقع الجميع ،في الثانوية ِّ
الجسدي و امتلكتُ أخيرا الجمال و الجسد اللذين صارا سالحي الذي أنال به كل ما أريد .الفتيات كن يتودّدن إلي و
يخطبن صداقتي من أجل الظفر بمالحظات و نظرات الفتيان و ودِّّهم كونهن صديقات لي ،أ ّما الفتيان فكانوا
يله ثون خلفي طمعا في عالقة غرامية أو صداقة يتخذونها مطية للوصول إلى أشياء أخرى معي .أذكر كيف كانت
103
صديقاتي يُخبرنني أن مؤخرتي مثيرة جدا .كنا كأي مراهقات في هذا العالم ،واقعات تحت سطوة صرعة الجسد و
الهوس بمفاتنه ،نضحك في خلوتنا من تلك المالحظات التي كنا نطلقها على أجساد بعضنا البعض و كأننا نساعد
بعضنا على اكتشاف حياة جديدةُ ،مربكة بتغيراتها الغريبة و السريعة .كالمهن عن جسدي الجميل و الممشوق كان
حقيقيا .كان الجميع يرمي بنظراته الصريحة أو الخاطفة أو العابرة إلى قوامي و أنا أسير في أروقة الثانوية .كنتُ
متفوقة في كل شيء،
ّ أشعر بأني ملكة حقيقية و كانت الحياة أمامي تبدو ككتلة من االنتصارات الشهية .كنتُ
الدراسة ،الرياضة ،الموسيقى ،الحياة االجتماعية ...كل شيء ! .لكنني لم أعثر قط على فارس األحالم الذي طالما
انتظرته و تخيلته كلما سمعتُ أغاني ماجدة الرومي !.
_ كلّهم كانوا يلهثون ورائي و الكثير منهم كانوا على قدر من الوسامة و الرومانسية .أذكر مثال ذاك الفتى
التلمساني ،صالح ،بوجهه األسمر الجميل ،شعره األزعر و عينيه الخضروين و قوامه المكتمل .كان شابا جميال و
متأنقا جدا ،كما كان مغرما بي حدّ الجنون .اعتبرتُ ذلك نصرا آخر لي ،لكنني لم أفكر يوما بإعطائه فرصة رغم
محاوالته الكثيرة .صديقاتي كن يلمنني على ذلك كونه كان الشاب الوسيم الغامض القادم حديثا من مدينة حدودية
بعيدة ،كما أنه كان من النوع الذي ال يركض خلف أي فتاة من أجل المتعة العابرة .كان صادقا جدا في مشاعره
نحويّ .
كن يقلن لي بأني ماضية في التحول إلى مغرورة كبيرة و بأني قد أندم ذات يوم على كل أالئك المساكين
الذين ّ
حطمتُ قلوبهم .لم أكن فقط أرغب في الكذب على نفسي ،فهذا الحب الذي طالما سمعتُ و قرأتُ عنه و
انتظرته لم أشعر به قط و لم أره كما كنتُ أتصور أو أتوقّع.
صمتت للحظة و كأنها متردّدة في البوح بها ،لكنها استجمعت نفسها و شجاعتها...
_ ألقل ...طيلة مراهقتي ،لم أكن في الحقيقة واقعة إال في حب نفسي !!.
ضربات مطرقة الندم و األسى على كبرياء كانت واضحة على نظرات الفتاة المسكينة ،رغم أني لم أكن
أستطيع سماع طرقاتها العنيفة و الثقيلة على ضميرها المنهك .كنتُ فقط أرى أثر صداها البشع في نظراتها
المنكسرة و هي مطأطأة الرأس ،كوني فهمتُ َلم بدأت قصتها تلك من أيام طفولتها ،بدل أن تبدأ في قص ما حدث
104
لها صبيحة ذلك الهجوم اإلرهابي العنيف الذي ّ
مزق قلب العاصمة .كنتُ أكاد أقول أنها تعتبر ما حدث لها تلك
الصبيحة انتقاما إلهيا من كل تلك القلوب الذكورية التي ّ
حطمتها عندما كانت نجمة في عالمها الشبابي الصغير.
ْ
ابتعلت ريقها و هي ماضية في التقدّم بذاكرتها المضطربة...
_ عندما كنتُ في السنة الجامعية الثانية ،كنتُ قد هدأت قليال في تلك المرحلة التي ينفجر فيها جنون الشباب
تحولتُ في تلك المرحلة إلى صخرة من الجليد و كل ما كان يهمني في الجامعة هو تحصيلي
في العادة .بالكاد ّ
العلمي كوني كنتُ أرغب في الظفر بمنحة دراسية إلى الخارجّ .
ظن البعض أن ارتدائي للحجاب كان السبب في
ابتعادي عن البحث عن الفتيان لتحطيم أفئدتهم من أجل إرضاء غروري و تغذيته بأحزانهم و انكساراتهم معي،
لكن الحقيقة هي أني كنتُ قد اكتشفتُ بطريقة تشبه الصدفة ّ
أن أثر الحجاب نفسه ضاعف من أعداد الالهثين خلفي.
أبي لم يفرض علي ارتداءه لكنه اجتهد مع والدتي في إقناعي بفوائده .كانا يقوالن لي إنه يزيد من الوقار و الهيبة و
المتحرشين و المنافقين و المخادعين و ال يجلب سوى " أوالد الفاميليا " الحقيقيين....
ّ الثقة في النفس ،كما يُبعد
أقنعني بعض هذا الكالم ،و أشفقت على الطريقة التي كانا يفكران بها من جهة أخر ،كوني ابنة هذا الزمان الخادع،
عرفتُ الكثير من المتح ِّ ّجبات الساقطات و عرفتُ الكثير من السافرات المحترمات ،لكنني ارتديتُ الحجاب كما
تفعل نساء أسرتنا في الغالب .لم أشعر بأي حرج أو ضيق من األمر رغم أني شككتُ في البداية بأن ذلك سيكون
سبيال لستر جسدي و جمالي الذي كبرتُ مستمتعة بأسطورت ه بين األلسن و سطوته على العقول ،لكنني بعد فترة،
وجدت الحجاب هو اآلخر ممتعا بشكل غريب ،عندما راح ال ُخطاب يتوافدون على أبي و أشقائي من دون انقطاع.
كم أحببتُ أن أجد نفسي أتدلّل رافضة كل شخص يأتي للبيت حامال باقة ورد و علبة حلوى مع أهله .كنتُ أتحجّج
ظاهرا بدراستي ،لكنني في باطني كنتُ أستلذّ الرفض و التّمنع .شعرتُ بأني فعال كما كنتُ أتوقع ،قوية حد القسوة
و ملكة قلوب حقيقية و أن الحياة ال يمكن إال أن تكون لي كما أريد ،و بما أن الجميع كانوا يقعون في حبي بسهولة،
ت بعد !. كنتُ أقول في كل ّ
مرة أن فارس األحالم لم يأ ِّ
سكتت صوفيا مرة أخرى .انقطع حديثها و ساد الصمت الغرفة ،إلى درجة أني تمكنتُ من سماع الحركات
األولى التي دبّت في الشارع تحت العمارة .أصوات األفراد األوائل الذين يخرجون متجهين إلى عملهم قبل البقية.
أصوات محركات السيارات التي تُشغّل لتسخن قليال قبل أن ينطلق بها أصحابها إلى مشاربهم المختلفة .أصوات
الدوارة .كانت السماء زرقاء و قد زادت ضياء
أصحاب المحالت و هم يرفعون مصارع محالتهم المعدنية ّ
بالخيوط األولى لشمس النهار التي راحت تالمس األبنية المجاورة .لكن صوفيا عادت لتستردني إلى الغرفة
بصوتها الذي ارتجف للحظة....
_ أذكر جيدا ذاك اليوم .كان يوم أربعاء .صبيحته كانت رمادية .كنتُ رفقة صديقتا الثانوية هِّند و نفيسة.
األولى كانت تدرس الحقوق و الثانية كانت تدرس الشريعة...
ارتسم ْ
ت على وجهي بسمة من دون أن أدري ،الحظتها صوفي بسرعة..
105
ت الكارهة للمتديّنين ،تصادقين فتاة تدرس الشريعة
_ أه ...آسف ،فقط أجد صعوبة في تصورك و أن ِّ
اإلسالمية !.
_ ال ،بل يجدر بك أن تص ِّدّق أني كنتُ قبل اليوم فتاة متح ِّ ّجبة .ال أقول متدينة بالمعنى الدقيق للكلمة ،ألني
اليوم ال أؤمن أصال بأن هنالك متدينين في أيامنا هذه ،حتى من بين أالئك الذين يُحاولون الظهور كأنهم بهذا
المظهر .لكنني كنتُ كغالبية الجزائريين في كل األحوال ،أصلي و أصوم رمضان و أؤمن باهلل و الجنة و النار و
ما إلى ذلك .صديقتاي كانتا مثلي أيام الثانوية ،لكن إحداهما بقيت سافرة و الثانية قررت ارتداء النقاب ،أما أنا
فاخترت الحجاب .بقينا صديقات و لم تؤثر اختياراتنا الذاتية على عالقتنا أبدا ! .تلك الصبيحة أذكر أني مررتُ
الربع صباحا في حي الحراش ،سلّمت على أمها .العبتُ شقيقها الصغيرة
بنفيسة في بيت أسرتها زهاء العاشرة و ُّ
ذو األربع سنوات ...هِّه كان يريد أن يُريني السلحفاة الصغيرة التي جلبوها من رحلتهم إلى مرتفعات الشريعة ذات
يوم .تناولتُ معهم قهوة بالكعك على الخفيف على ضحكاتي من نفيسة ،التي كانت تخاف جميع أصناف الزواحف
استمر شقيقها بجلبها أمام أنظارها .خرجنا مسرعتين و
ّ و هي تهدد برمي السلحفاة " حياة " من نافذة العمارة إن
استقلينا سيارة أجرى متجهتين إلى حي باب الزوار لمالقاة هِّند ،التي اتصلت بي هاتفيا تخبرني بأنها خرجت لتوها
ّ
محطة النقل هناك .كانت فتاة من مقر الشرطة بعدما استعادت حقيبة يدها ،التي كانت قد أضاعتها قبل أيام في
كثيرة المشاغل و الشرود و النسيان .قالت بأن شقيقها الذي يعمل في ذات المقر قد اتصل بوالدتها و أعلمها أنه
استرد الحقيبة و أنه في انتظارها كي يُعيدها إليها .كانت نبرة صوتها تفيض باالطمئنان كون أوراقها الثبوتية و
بطاقات االنتساب إلى الكلية و مختلف المكتبات ،بعض كراريسها و كتبها ،كانت كلها في الحقيبة ....أنتَ تعرف
حال طلبة الحقوق !.
صمتت صوفيا مرة أخرى ،و انبثقت من عينيها نظرة غريبة لم أستطع فهمها أو تفسيرها .ش ُخ َ
ص بصرها و
علت وجهها إماءة شخص يستحضر و يُعيد فحص خاطرة ما و هو يحاول االندماج مع مضامينهاّ ،
لكن شيئا قويا
ي ُمستغربة... ْ
نظرت إل ّ يمنعه من ذلك.
_ تعلم ؟ ،من يقولون أن هنالك لحظات مفصلية كبرى في حياتنا ينشطر فيها عالمنا إلى شطرين ال يلتقيان
مرة أخرى محقون فعال ! .ينتابني إحساس غريب كلما تذكرت صوفيا بن شاللي قبل صبيحة 2994/94/11و
صوفيا بن شاللي بعد تلك الصبيحة .و ّ
كأن بي أمام شخصين .أمام قصتين و أمام حياتين و أمام عالمين منشطرين
و متباعدين تماما ؟ !! ...غريب !.
_ حقا ...كان كل شيء على ما يُرام ،هل تصدِّّق ؟ .الحياة كانت طبيعية جدا .موغلة في البداهة .السيارات.
الناس .الجو .المباني .كان كل شيء يوحي بالحياة اليومية العاصمية كما عرفناها لسنوات .وصلنا إلى هناك .ال
أذكر بالضبط ما الذي كان يُضحكنا ،لكنني أعلم أنه شيء مضحك قاله سائق التاكسي ،الكهل اللطيف الذي كان
106
يتجاذب أطراف الحديث معنا حول مواضيع الدراسة و البحث عن الشغل بعد الدراسة بلكنته العاصمية الخالصة.
كان يحدثنا عن مصير بناته الخمس بعد الدراسة ،و ع ّما َّ
علمته الحياة كرجل ،مستأنسا في كثير األحيان باألمثال
الشعبية العاصمية ،التي كان يقتبسها من أغاني موسيقى ال َّ
شعبي التي بدى و كأنه يعشقها حقا كعشقه لحي القصبة،
الذي ولد و ترعرع فيه كما قص علينا .فجأة لمحنا هند من بعيد على الرصيف غير بعيدة عن مدخل مركز األمن.
كانت تسير ببطء و هي تتفقد مقتنيات حقيبتها الجلدية السوداء المنتفخة .أذكر أني رحتُ أضحك على حالها ،في
حين طلبت نفيسة من سائق األجرة الكهل ركن السيارة إلى الجانب .أذكر كلماتها جيدا " :دقيقة ع ُّمو ،انروح نجيب
ْ
رفضت و هي تقول لي بأنه هذيك المهبولة و نرجع ."...أخبرتها بأنه ال داعي لذلك بل يكفي أن ننادي عليها فقط.
ال يجدر بنا رفع أصواتنا على قارعة الطريق .اقترحتُ عليها بأن نتصل بها هاتفيا ،لكنها أصرت على أن تنزل
إلحضارها بنفسها ،حينها راح السائق يحثها على اإلسراع كون المكان الذي ركن فيه السيارة قريب من مركز
الشرطة التي قد يُزعجها ذلك.
اضطربت صوفيا أكثر و هي تستحضر تلك اللحظات ،كمن يقترب بتردّد و خوف من باب جهنمي ال يرغب
َّ
اهتزت أنفاسها و هي تنظر نحو بالط الغرفة ُمفرغة في فتحه مرة ثانية بعدما عانى األمرين إلغالقه في األولى.
نظرها الذي مأله الفزع فوقه ،و كأن عينيها كانتا تفيضان بالصدمة و لسانها مثقل بالعجز عن الوصف.
ْ
نزلت نفيسة مسرعة من الباب الخلفي األيمن للمركبة .كنتُ فقط أراقبها ضاحكة ،في حين كان سائق _ ...
األجرة الكهل ملتفتا إلى يساره يراقب حركة السير و هو يربّت بيسراه على كتفه األيمن واضعا يمناه على
المقود...
_ ...حدث ذلك في لمح البصر ...ال أعلم من أين جاء أو أين كان .بجانبنا ،أمامنا ،خلفنا ؟ .كانت ......كانت،
ومضة ضوء خاطفة و قوية جدا كوميض آالت التصوير ،تالها بسرعة صوت بدى لي لوهلة أنه صوت طرطقة
في البداية ليتحول في أقل من ثانية إلى صوت يُشبه صوت الرعد تماما ....كان قويا جدا .لم يكن لي الوقت ألتمعن
الحارة العنيفة و هي تلطم السيارة بقوة .صوت
َّ فيما حدث بالضبط من حولنا ،لكني فقط أحسستُ بتلك النفخة
انفجار الزجاج و ارتطام ما كنتُ أعتقد أنها الحجارة بجنبات السيارة التي شعرتُ بها و هي ترتفع و تميل بقوة.
شعرتُ أنها ستهوي على سقفها .لم أملك الوقت للتفكير في تلك الثانيتين .كانت ثانيتين أو ثالث ال أكثر ! .شعرت و
كأن األرض تحولت إلى بساط نُفض بقوة من تحتنا .كل شيء اهتز بقوة و سرعة ....ثم ..ثم ...ال أذكر بالضبط ما
حدث بعدها ،سوى أني عندما فتحتُ عيني أحسست بجسدي ملقى على األرض .و تلك الروائح ،تلك الروائح
القوية الغريبة ،روائح المواد الكيميائية المتفجرة ...ال أدري ما كانت بالضبط ،رائحة األسمدة االصطناعية ربما ؟.
ْ
امتزجت الكثير من الروائح في الجو الذي غطته طبقة من الدخان األسود و الرمادي .روائح احتراق المعادن و
البالستيك و عجالت السيارات و الخشب .اختلطت الروائح برائحة الغبار و األتربة التي أثارتها نفخة االنفجار في
محيط الشارع .كنتُ أشت ّم كل شيء لكني لم أكن أسمع شيئا بسبب ذلك ال َّ
صفير الحاد الذي انقض على أذني و
107
رأسي .أحسستُ بدوار شديد و رغبة في التقيّؤ .حاولت النظر من حولي .كان شعري المخضب بدمي يُغطي جزءا
من وجهي .لم أستطع الرؤية جيدا .لكنني كنتُ ألمح ظالل أناس يسحبون أجسادهم على األرض أو آخرين
يركضون في كل االتجاهات وسط الدخان و السيارات المشتعلة .ثم حاولتُ التحرك و النهوض لكنني لم أستطع.
ي .كان فمي مليئا بمذاق الدم المختلط بحبات
أحس بحرارة غريبة في بطني و ساق ّ
ُّ ربما بسبب الدوار ،لكنني كنتُ
التراب ،لكنني و بما أني لم أكن في كامل وعي ،ال أستطيع القول بأني كنت خائفة أو مفزوعة .فقط كنتُ مشدوهة
ي لحظات الحقيقة و الواقع التي كنتُ أحياها قبل دقائق من
أمام ما كان يقع .بدى لي و كأنه حلم غريب جدا قطع عل ّ
ذلك الوميض الخاطف .كيف أصف األمر ؟ .إنه ...إنه أشبه بانتقالك فجأة و من دون إدراك بين قناتين تلفزيونيتين،
إحداهما تنقل أجواء صيفية بهيجة في مسبح عمومي إلى أخرى تنقل مشاهد عنيفة جدا لحرب شوارع...
_ لم أدرك كيف فقدتُ الوعي مرة ثانية ،سوى أني كنتُ أفتح عيني من حين آلخر و أنا أسمع تلك الضوضاء
صفير في أذني .أذكر أضواء النيون الساطعة ،أالئك األطباء ،الجراحون و
من حولي بعدما تراجعت حدة ال َّ
الممرضات من حولي .كنتُ أستفيق للحظات ثم أفقد الوعي مرة أخرى على زعيق النسوة أو صراخ الرجال.
صمتت صوفيا مرة أخرى .لم أستطع قول شيء لكنني كنتُ أرغب في تلك اللحظات بأن تتوقف و ننهي
الحديث عما حدث لها .كنتُ قد اكتفيت من تلك القصة الفظيعة و اكتفيت من انكسار الفتاة أمامي .ف ّكرتُ بأنه ربما
ي تلك المأساة .لكنها رفعت بصرها نحو ي و ألقت بنظراتها
لتقص عل ّ
َّ كان يجدر بي فعال أال أدفعها بصمتي الماكر
التي بدت أقرب إلى نظرات فتاة صغيرة مفزوعة تبحث ع ّمن يعانقها...
_ كانت بضع أيام ،أجريت لي خاللها عمليتين جراحيتين طارئتين دون أن أعلم ! .كانوا قد استخرجوا ما
استطاعوا من شظايا معدنية م ّزقت سيارة األجرة و اخترقت لحمي ،فضال عن شظايا زجاج النافذة التي انغرست
في صدغي األيسر و كتفي .قالوا ببسمات مرتبكة بحضور أبوي أني محظوظة ألن تلك الشظايا لم تصب وجهي و
لم تمسس أعصابي أو عظامي ،لذلك سأتمكن من الوقوف و السَّير و الحركة بشكل عادي تماما عندما أسترجع
كامل عافيتي .أردتُ أن أصدق ذلك بقوة لوال أني كنتُ أشعر بأن تغيرا جذريا كان قد طرأ على جسدي .كنت
ي في صبيحة تالية بعدما خرجتُ تماما من دوخة المهدئات و
أشعر أن شيئا ما ليس على ما يُرام .عادوا إل ّ
المخدرات و مسكنات األلم و قد بدات أتذكر ما وقع ،و بعدما علمتُ بأني متواجدة بمستشفى مصطفى باشا منذ أحد
عشر يوما .كانت معهم أخصائية نفسانية لم أرتح لها من الوهلة األولى ،حين راح الطبيب المكلف بحالتي يكرر
علي كالمه كوني محظوظة ألني نجوت من ذلك الهجوم الهمجي و أني سأعيش واقفة على ساقي .ثم راحوا
يتبادلون نظرات مضطربة مع بعضهم .أبي طأطأ رأسه و أمي راحت تكبح بكاءها بشدة .أخبروني بأني خضعت
الرحم الستخراج الشظايا الكثيرة التي اخترقتها .....في تلك
لعلميتين جراحيتين أجريتا على منطقة الحوض و ّ
اللحظة فهمتُ كل شيء....فهمتُ كل شيء .لم أب ِّد أي ردة فعل .لم أقل شيئا .بقيت أنصتُ ناظرة إليهم جميعا ،باردة
تماما و كأني مجرد دمية التيكس كبيرة موضوعة على سرير.
108
تشعر بالصدمة تلك اللحظة ؟.
ِّ _ لم
_ ال ؟ ! .إطالقا .....قلتُ لك ال شيء ،رغم أن الطبيبة النفسية حاولت إقناعي بأنه ال بأس إن تركتُ العنان
الحداد بعد الفاجعة هي مرحلة طبيعية بل و عملية
لبكائي و أحزاني تلك األيام ،كون ما أسمته مرحلة الرثاء و ِّ
ضرورية في التعامل مع الصدمة و تجاوزها ! .لكني لم أشعر بأني أودّ البكاء أو ال ُّ
صراخ .علمتُ بعدها أني على
أصبتُ برجة دماغية و ضرر في األذنين الداخليتين و جراح غائرة في الفخذين و الساقين ،إلى درجة أنهم
العموم ِّ
اضطروا النتزاع بعض قطع اللحم من ردفي لترميم فخذّي ،أتصدّق هذا ؟ ! .اضطرب خفقان قلبي و كأنه اهتز
من مكانه يوم قابلتُ نفسي عارية تماما أمام المرآة أول مرة بعد الحادثة .لم أصدِّّق .لم أكد أعرف نفسي .لم يكن
ذاك هو الجسد الذي كانت تحسدني عليه الفتيات و يشتهيه الفتيان .لم تكن تلك هي صوفيا الجميلة الفاتنة التي
مشوها بالكدمات و آثار الزجاج و الحديد حول الذراعين و الكتفين و النهدين .أسفل
ّ عرفتها طيلة حياتي ! .كان
البطن صار يشبه أرضا جافة مشققة أحرقها الجفاف و الشمس .الفخذان صارا أقرب إلى جدعي شجرتين هرمتين
نالت منهما ضربات الفؤوس دون أن تقطعهما و دون أن تتركهما يتعافيان ،و المؤخرة ...ال أجد ما أصفها به...
صدمة و الرثاء ،لكن الصدمة الحقيقية التي تسأل عنها
احتراما لك ! .ال أخفيك ،فقد بكيت بحرقة و فزع .ظننتها ال َّ
تذوقتها عندما سمعت عن مصير نفسية و هند بعدما كف الجميع عن الكذب علي بالقول أنهما نُقلتا إلى فرنسا
ّ
للعالج !...
ْ
بقيت صامتة للحظات و قد فجأة أطلقت صوفيا شهقة عميقة و قد اغرورقت عيناها بالدموع بسرعة شديدة.
وضعت كفّها على فمها و كأنها تحاول أال تطلق العنان لبكائها ،لكن صوتها الجريح كان يرتجف بشدّة داخل
صدرها المنكوب ،ثم نظرت إلي...
_ قالوا لي بعد أيام من خروجي من المشفى الذي مكثت فيه قرابة الشهر ،أنه لم يكن تفجير انتحاري واحد،
بل اثنان .قالوا لي أن نفيسة ُجمعت أشالءها التي تناثرت بين الرصيف و الطريق تحت السيارات .....بينما لم
يعثروا قط على أشالء هِّند و اعتبرت مفقودة ...يا اله !! ...كم كان ذلك رهيبا !!....
أطلقت صوفيا المسكينة صوتا لم أسمعه يخرج منها أبدا و هي تنهار أخيرا أمام بكيتها الطفولية المفزوعة
تهتز بشدة و هي تُخرج تلك الزفرة المحملة بأطنان و أطنان من الحزن و
اهتزت نفسي و اقشعر بدني .كانت ّ
ّ تلك.
الحرقة على نفسها و على صديقتيها المسكينتين .كنتُ عاجزا عن الكالم تماما ،لكنني وجدتُ نفسي و أنا أقف من
مكاني متوجها نحوها فاتحا ذراعي إليها .أطبقتُ عليها بكل قوتي ضا ّما رأسها إلى صدري .كانت تبكي بشدة،
بحرقة ،بانكسار ،و كأنها تفر ُج أخيرا عن آهات شظايا الغدر الحقيقية التي ضلت كامنة في جراح روحها األنثوية
الغائرة .ضلت على تلك الحال ،تبكي بشدة .لم أستطع منعها .كنتُ أدرك أنها تفرغ ما علق في قلبها و ربما بشكل
نهائي .كنتُ شبه مصدوم من ذاك الكم من الضعف و االنكسار و الشعور بالوحدة و الهلع الذي كانت تعيشه الفتاة
بصمت في أعماقها ،و ضلت تخفيه تحت كدحها في العمل و سعيها للنجومية فيما تقدمه للجريدة .ذاك األسى الذي
ضلّت تخفيه وراء ضحكاتها و صرخاتها و مشاكساتها و غنائها و نكتها و تكبّرها.
109
نفس الفكرة كانت تدور في ذهني " :من يُصدّق أن تجربة هذه المسكينة مع اإلرهاب األعمى ليست سوى
قطرة من بحرن تجربة من بين مئات اآلالف من التجارب التي عاشها إنسان هذه البالد خالل عقدين كاملين من
هذا العنف المجنون ؟ ! .كم من تجربة ؟ ،كم من قصة صحفية ؟ ،كم من رواية ؟ ،كم من كتاب ؟ ،كم من دراسة
؟ ،كم من سلسلة وثائقية و تلفزيونية ؟ ،كم من فيلم يمكن توثيق تاريخنا به لو جمعنا كل هذه اآلهات الصامتة ،التي
نصادفها يوميا على قارعة الطريق دون أن نعلم ؟ ! ".
_ أتعلم كيف يكون طعم الحياة بجسد مشوه فقد معالمه الذاتية نهائيا ؟ .أن تعيش بهذا الطنين المزعج في أذنيك
طيلة حياتك ؟ .أن تجد مزاجك اليومي مربوطا باألدوية المختلفة الخاصة باإلذنين و مضادات االكتئاب و أدوية
النوم ؟ .أن تستيقظ صباحا و تحس بغربة بداخل ذاتك حين تالمس أناملك تلك النتوء و الندوب و الخدوش و
سِّل جسد
الكدمات و الجراح المنتشرة عبر جسدك منزلقة فوقها أثناء االستحمام ؟ .كيف ينتابك إحساس بأنك تغ ّ
كائن غريب عنك ،ال تراه و ال ترغب في أن تراه ؟ ،كائن ال يشبه صورتك التي اعتدتَ عليها و ألفتها طيلة
حياتك ،لكنه مرتبط بك رغما عنك ؟ .أو عندما تنظر إلى نفسك و أنت ترتدي ثيابك أمام المرآة ،فيقع بصرك على
تلك اآلثار البشعة ،فتستذكر لحظة الوميض الخاطف و تجد نفسك تجفل فجأة و تهتز في مكانك من دون سبب جلي
؟ .أن تشعر بأنك لم تعد تزن شيئا في أعين و أنفس الجنس اآلخر بعدما كنتَ تزن كل شيء ؟ .أن تُجبر نفسك على
ابتالع نظرات التعاطف و همسات الشفقة التي يطوقك بها أفراد أسرتك الكبيرة في المناسبات العائلية ،أين يجدر
بك أن تتأنق لها فال تستطيع بسبب تلك الجراح و الكدمات و التشوهات ؟ ،فقط تُجبر نفسك على اعتياد ذلك ،تماما
كما تُجبر نفسك على اعتياد طعم تلك الحبات َّ
المرة التي تتناولها يوميا.
ْ
وقفت للحظات و هي تراقب ْ
نهضت من على األريكة و توجهت بخطوات متباطئة إلى نافذة الشرفة الصغيرة.
الجو الصباحي الجميل في الخارج...
أشعر بأن صوفيا بن شاللي القديمة بعيدة جدا و ال أستطيع استرجاع و لو شيء صغير منها ! .ليتني لم
ُ _
أركب سيارة األجرة تلك .كانت القارب المحترق الذي وصل بي إلى ضفاف الجحيم ،ثم عاد بي بكل هاته الحروق
و التشوهات ....كان عليه تركي هناك على األقل ! .كم أنا بحاجة إلى فقاعة تحملني في قلبها و تهرب بي من هذا
العالم الموبوء الذي تعبث الوحوش به و فيه بقوة و جنون.
110
_ صوفيا بن شاللي كانت تكسر قلوب الفتية العاشقين .اآلن صارت ،و من شدة وحدتها العاطفية ،ال ترفض
أن تق ِّبّلها فتاة كباريه شاذة !! .ال أصدِّّق كيف حدث ذلك !.
ي و أنا أبحث عن شيء ما أقوله حول قضية القبلة الغريبة تلك ،التي يبدو
طأطأت رأسها هنيهة ثم التفتت إل ّ
أنها لم تتطور إلى شيء آخر لحسن الحظ ،بعدما أرادت الفتاة تمضية الليلة عندي بدل أن تمضيها مع التي تحرشت
بها....
_ علمتُ أن الذين نفذوا ذلك الهجوم االنتحاري صبيحة ذلك األربعاء قد سموا جريمتهم بـ" غزوة بدر
المغرب اإلسالمي " ....هِّه يا للسُّخرية ! .بعد أيام أخبرني قريب لي يعمل في الصحافة أنهم كانوا مجرد شباب
يتعاطون المخدرات و المسكرات قبل أن تختطفهم القاعدة بفقرهم و جهلهم ،لتغسل أدمغتهم ب ُمسلَّماتها العنيفة
أن نصف المعرفة أخطر من الجهل كما كان يقول جورش تحولهم إلى آالت للموت .أترى يا صديقي ّ المطلقة و ّ ِّ
برنار شو ؟ .هكذا ،ف َّكرتُ أمسية البارحة بعدما قررتُ أن ِّ ّ
أجرب ال ُّ
شرب و السكر و اللهو ألول مرة في حياتي و
تذوقت طعم الريكار ! .كنتُ غاضبة جدا .كنتُ ضائعة تماما .في غمرة الجنون
هذا ما حدث .لم يسبق لي و أن ّ
تحرشت بي و لم أستطع منعها من االقتراب
وسط موسيقى الراي الصاخبة داخل الكباريه ،و أنا أراقص تلك التي ّ
مني ،تمنّيتُ أن أموت على تلك الحال حتى أقف يوم الحساب و أقول هلل عندما يسألني ،أني ُّ
مت سحاقية سكرانة
خرب أنوثتي،
نكاية في هؤالء األوغاد ،مشيرة بسبابتي إلى من سلب حياة صديقتاي و سلبني نصف حياتي و َّ
مجرد سمكة ألقوا بها
ّ تاركا إياي كالمسخ العاقر أتخبط بالنصف اآلخر على الخط الفاصل بين الحياة و الموت.
على شاطئ رطب .كل ذلك باسم الجهاد لفرض الشريعة و ُمحاربة المرتدين و إبادتهم ؟ .سأقول هلل أني كنتُ أول
مرتدّة إن كان الذي اقترفه أالئك صوابا ! .هِّه سحقا للدين إن كان فعال هو ذا الذي يبشر به هؤالء !.
كان صوتها يفيض بالغضب .كانت تضغط بشدة على الكلمات .حاولتُ إخفاء دهشتي من فكرتها تلك .كانت
أول مرة أرى فيها صوفيا تتحدث متخذة موقفا غارقا في الغضب و الحقد ،بعيدة عن عقالنيتها و موضوعيتها
الكبيرة التي عرفتها بها .كيف ال و الجهل الهمجي عندما يلعب بالمتفجرات قد يُحطم رزانة أكثر النفوس و العقول
عدوة
هدوء و واقعية و مسالمة ؟ .لم أخطيء أبدا يوم شبهتها بالصحفية األمريكية المتمردة ّ Abby Martin
الباطل مهما كان شكله أو لونه أو موقعه.
111
نجرة عن جنون العظمة و االضطهاد ! ".
" نحن بصدد وراثة جمهورية فتيّة د ّمرتها الخالفات و األحقاد ال ُم ّ
هذا ما قُلتُه في نفسي ناظرا إلى كتب التاريخ المبعثرة فوق الطاولة متن ِّ ّهدا ،قبل أن أرفع بصري نحو صوفيا التي
صمت نهائيا ،و كأنها تود أن تقول بذلك أنها تريد أن ننهي الحديث عما جرى ،بنظرتها الحزينة الهاربة
التزمت ال َّ
نحو نافذة ال ّ
شرفة مرة أخرى .هكذا فهمتُ أن تلك الفتاة المفجوعة في نفسها و في وطنها ،كانت مجرد دمعة
مجرد صرخة مخنوقة علقت في
ّ التصقت على وجنة َّ
الزمن المتج ِّّمدة و لم تجد لها سبيال للسقوط و االندثار .كانت
حلق الحياة الموءودة و لم تجد لها مهبا لالنفجار .كانت صورة كاملة الوضوح عن وجع الجزائر النازفة .الجزائر
المتعثّرة.
ْ
طالت لحظة الصمت و التأمل بيننا ،فأردتُ كسرها...
_ تعلمين ؟ .إنه الوقت المفضل عندي للسير قليال على طول الواجهة البحرية.
التفتت إلي و هي تسألني بنظرها عما أتحدث ،فابتسمتُ محاوال قلب صفحة كل الذي حدث و بداية اليوم
بالطريقة التي اعتدتُ عليها.
رأيك أن نخرج لنتمشى قليال قبالة الرميلة .نشتري بعض الخبز الهاللي و الكعك ،و نعود لنتناول قهوتنا
ِّ _ ما
معا ،ثم ننزلق بسالسة إلى ساحة األول مي لنمضي يوما آخر مع الرفاق و مع أبا كرش ؟.
أخيرا .أطلقت الشابة بسمة عريضة و مشرقة ،قد يرغب كل رجل من رجال هذا الكوكب في رؤيتها و
الحملقة في جمالها ! .بسمة أعادتها من مكان مقيت جدا .عادت فقط لتكتشف كم هي الحياة جميلة بمثل تلك
التفاصيل البسيطة التي تجعل منا " بشرا ".
IV
112
ق في جوف الطاحونة
ضائع و مختن ٌ
-19-
113
انتصار " َ
احن ه َم ربّها ! "
مرت انتخابات السابع عشر أبريل الرئاسية فاترة و محبطة ،بل و مخجلة .و قد أراد القدر أن تتزامن مع
ّ
فقدان العالم للعمالق غابرييل غارسيا ماركيز صاحب مائة عام من العزلة ،الذي يبدو أنه آثر الرحيل ذاك اليوم
بالشموخ الذي صنعه تواضعه ،حتى ال يرى جزائر الشباب التي طالما أعجب بثورتها و عفويتها و حرارة دمها و
هي تسجل سقطتها ال َّشيخوخية التالية.
إذن ،قراري النهائي كان المقاطعة .لم أرغب في اإلدالء بصوتي يوم االقتراع بقدر ما رغبتُ يوم اإلعالن
صراخ بأعلى صوتي العنا جيل الموسطي َّ
شات، عن النتائج في الوقوف في شرفة شقتي بباب الوادي و ال ُّ
ديناصورات الوطنية .كم تمنيت لو كان التغيير السلس مقترنا باإلمكان في هذا البلد !.
َّ
حز في نفسي كيف أن هذه الشمولية ال تزال تصر على التعامل معنا كما يتم التعامل مع األفطال ،إلى درجة
صرنا فيها نقبل بصمت و تواطؤ بهذه المعاملة أيضا ! .انتابني شعور أن الكاتب الفرنسي التشيكي Milan
مرة مستنتجا أن النظام
Kunderaكان الوحيد الذي فهم مسبقا ما كان ينتابني ذاك اليوم ،و هو الذي كتب ذات َّ
حول األمة كلها إلى أمة من الصبيان ! .ثم في النهاية ،من كان فعال يصدق
جرد الناس من ذاكرتهم و يُ ّ
الشمولي يُ ّ
أن هذا النظام يريد أن يتغيّر ؟ .هل يمكن حقا تحطيم كل تلك العادات القبيحة التي ع َّششت في أذهان أراذل العمر
حين لم يكن ممكنا حتى التخفيف من وطأتها أيام الشباب ؟ .قالوا لنا أن رغبتهم في التغير و التغيير قوية هذه المرة.
من يدري لربما كانوا صادقين ؟ .لكننا علمنا يقينا أن رغباتهم الدفينة في الوفاء لعهدهم كانت و ستضل أقوى
َّ
المحطم الصفعة الرابعة... بكثير .ستضل غير قابلة للقهر .هكذا تلقا جيلنا
كان اإلعالن عن نتائج الرئاسيات أسوأ منها بكثير .كان كمسرحية إعالمية سوفياتية في غاية االبتذال .أو
كفيلم دعائي ممل من تلك األفالم ذات النهاية المعروفة ،التي كانت تنتجها هوليوود في بداياتها الطفولية األولى،
عن أسطورة أمريكا و الحلفاء في حربهم المجيدة المليئة بالبطوالت ضد أشرار العالم الفاشيين ثم الشيوعيين.
ربما سيضحك جزائريو الغد بقدر ما سوف يبكون ،عندما يعودون إلى دراسة هذه الحقبة من تاريخ بلدهم ،و
يشاهدونه و هو يؤدي في مسيرته المليئة بالعثرات كل هذه الشطحات ال َمرضية الغريبة ،المخزية و المضحكة،
المتفرجة عليه بدهشة تخفي خلفها االستصغار و التقزز ،ثم قد يتساءلون يومها:
ِّ ّ أمام أمم القرن الواحد و العشرين،
أحقا كان ضروريا على أسالفنا أن يكونوا هكذا ،بعدما كانت بدايتهم مع االنفتاح و الديمقراطية جيدة و مشجعة عام
0272للميالد ؟ !.
مرت بعض األيام إلى أن وصلت صبيحة التاسع و العشرين أبريل .دخلتُ مقر الجريدة و أنا أجر خلفي
عالمات األرق و االكتئاب .كانت وجوه معظم الذين تقاطعت نظراتي مع نظراتهم تتحدّث بصمت عن الغضب و
114
اإلحباط ،و هم يحملون في أيديهم نسخا من عدد ذلك اليوم للنبأ اليومي ،بعدما اختار سي رزاق مانشيتا مع افتتاحية
معبرة عن قلق متجدِّّد:
ُ
يبعث الجدل حول المادة ""22 بوتفليقة يعجز عن إتمام خطابه الرئاسي و
كل صحف ذاك اليوم خَصصت افتتاحياتها لمراسم تأدية القسم الدستوري و الخطاب الرئاسي الذي لم يكتمل.
كان ملك المانشيت على صدور جميع الصحف الوطنية ذاك اليوم ،التي تحولت إلى ما يشبه فضاء وطنيا للتنفيس
عن صدمة عنيفة تلقاها المجتمع بر ّمته ،لهذا تهافت الجميع على الكتابة عن ذلك الحدث و تهافت الجميع على
اقتناء الجرائد تلك الصبيحة ،عسى أن يواسوا بعضهم بعضا في تلك المحنة الديمقراطية.
لم أرد التفكير في األمر كثيرا ،فقد جلستُ في م كتبي و أنا أقول بأن األيام ستمر و سيحدث ما حدث دوما.
سينسون كل شيء و سيتعلّ مون التعايش مع تلك الخيبة التي غرقت هذه المرة في شعور عميق بالخجل الصامت
من االنتماء إلى بلد يُسمي نفسه " بلد الشباب " .لقد أفاق الجميع على حقيقة مؤلمة جدا صبيحة الثامن و العشرين
أبريل ،4102و هي تصرخ في وجوههم بأنفاسها الكريهة ،تبشرهم بأن " المشعل " لن يتم تسليمه مهما حصل.
ليس اليوم ،و لن يكون ذلك غدا !.
ْ
حملت رسالة تحررية
ُّ صلب عملي الصحفي الجديد تلك األيام ،هو محاولة فهم لماذا تتحول حكرة
كان ُ
أخالقية رائعة إلى حزب أو " لوبي " فاسد .مجرد بوتقة تجتمع عند عتباتها و مداخلها و جوفها كل أشكال
الشمولية و االستبداد و الغطرسة ،خاصة بعدما وجدتُ نفسي في النهاية أرغب في تطليق النظرية التي ترجع كل
هذا التحول إلى امتالء الحزب و من ورائه النظام السياسي بالمنتهزين و الطفيليين منذ سنوات االستقالل األولى.
ُ
يحدث هذه النظرية قد تجيب عن جزء من المشكلة ،لكني ما عدتُ قادرا على اعتبارها نظرية أساسية في تفسير ما
لهذا البلد.
كنتُ قد أنهيتُ وضع اللمسات األخيرة لمل ِّفّي عن التطور االجتماعي – السياسي داخل الحزب العتيد ،منطلقا
بمجموعة الستة التي أسست الجبهة التاريخية مقررة التمرد على الجيل المصالي و أطره التي اعتبرتها بالية،
بتسطير قناعات جديدة ،أولها و أهمها كان استرداد االستقالل الوطني بالطريقة التي صودر بها من طرف
االمبريالية الفرنسية ،القوة ،مما ترك تلك الهالة المقدسة في عقول الجزائريين عن الجبهة بعد االستقالل ،و هو ما
سمح كذلك للعصبة التي نفذت االنقالب العسكري على الحكومة المؤقتة صائفة 14من تحويل الجبهة إلى " حزب
115
سياسي " مرورا بالباباوية التي خلقها بومدين لنفسه طيلة سنوات حكمه الثالثة عشر ،محاوال حصر هالة الحزب
حول رأسه فقط ،ليتحول هو نفسه ،بطريقة ما ،إلى ما يُشبه القديس في الوعي الجمعي الوطني .القديس بومدين !.
وصوال إلى بداية سنوات الثمانينات و ظهور ما س ّميته في الملف " المادة الموسطاشية " .آه كم كرهتُ تلك المادة
و أنا أكتشفها ! .إنها المادة 129الشهيرة التي أطلّت برأسها المدبّب و وجهها القبيح في القانون الداخلي للحزب،
قرة بكل وقاحة و تعجرف ،حرمان أي جزائري من أي منصب رفيع في
في مؤتمره االستثنائي عام ُ ،0271م َّ
ي ِّ الصريح للبذرة القبيحة المغروسة في أعماق
الدولة ما لم يكن عضوا في الحزب .تلك المادة كانت التجل ّ
الجزائريين .النزوع نحو السيطرة ال َمرضية و الرغبة الملهوفة القادمة من تحت طمي 024عاما من الجوع و
الحرمان ،في احتكار كل شيء و تحت كل المبررات .االستفزاز الممزوج بالتكبر و التلذذ بممارسة الظلم و
التمييز و اإلقصاء في حق اآلخر ،مادام يحمل نفس المالمح و ّ
يتكلم نفس اللهجة و يختلف عنا في القناعات،
تكريسا للحقد الدفين على الذات و الخوف من كل فكرة جديدة أو مختلفة .ثم ج ْ
اءت سنوات التسعينات التي غرقت
ضرب الحزب بما سمي المؤامرة العلمية ،بعدما حاول الراحل عبد
فيها البالد في حربها األهلية الشنيعة ،حيث ُ
الحميد مهري جعل هذا الحزب حزبا مستقال عن النظام بهويته و مبادراته ،لكنهم قرروا إبقاءه مجرد جهاز ضمن
أجهزة النظام .وصوال إلى ما بعد عام ألفين و االنتكاسة مرة أخرى نحو األحادية و التسلط ،بل و أسوأ من ذلك،
خلق حزيبات متصارعة داخل أحشاء الحزب منذ أزمة المؤتمر الثامن عام ،4112مرورا بالصراعات الحادة
غداة تشريعيات ،4119وصوال إلى ما وقع فيه قبل رئاسيات 4102التاريخية و حتما ما سوف يقع فيه في قادم
األيام.
كم صار مخجال على جزائري يافع ،يحسد أمما أخرى على ديمقراطيتها و سلمها و استقرارها و تحضّرها،
أن يقرأ في الصحف عن معارك العصي و الكراسي و تقاذف الحجارة ال ُمستلهمة من روح القرون الوسطى ،التي
تفان داخل نوادي و قسمات " الحزب العتيد " عبر تراب
س بفخر و ٍ
ُمار ُ
صارت أشبه بطقس موسطاشي عريق ،ي َ
ما يُسمى جمهورية ! .ثم إننا ال نزال نعيش عهد الـ ...FLNيعني أننا ال نزال نعيش حالة حرب بشكل ما !.
فجأة ،اعتدلتُ في جلستي و أنا أعيد قراءة تلك الجملة التي أوردتها في الملف " :عند إعادة فحص و دراسة
تصريحات أو كتابات أو خط ب الكثير من مسئولي الحزب العتيد ،سواء في وسائل اإلعالم ،أو في تجمعاتهم أو
اجتماعاتهم و محافلهم المختلفة ،يتراءى لنا نمط محدد من الميل الدائم للحديث المباشر أو الرمزي عن ذاك "
المشعل " الذي حمله الحزب عن الثورة الجزائرية"....
ِّ
لم أكمل القراءة ،بل شردتُ للحظات مع نفسي إلى أن وجدتني أتمتم...
وثبتُ من مكاني و اتجهتُ راكضا مباشرة إلى مكتب رئيس التحرير .دخلتُ دون استئذان ألجد السي ّ
رزاق
بوجهه الذي علته عالمات الغضب و هو يكاد ينهر صحفي جديد ،الذي بدى عليه أنه كان يحاول إقناعه بأمر ما
في حين راح السي '' حارس البوابة '' يقاطعه في كالمه....
116
_ قلتُ لك ال ! ،لستَ أهال بعد إلى هذا النوع من المهام ،و قد وقع اختيارنا مسبقا على شخص آخر .اآلن ،لو
ْ
سمحت !...
انسحب الفتى و هو يُلقي إلي بتحية برأسه في حين راح السي رزاق يتنحنح محاوال إرخاء ربطة عنقه قليال
بيده و هو يستعد للجلوس على أريكته....
_و ّ
شاكي ...لستُ في مزاج جيد اليوم ! ،ماذا تريد ؟.
قبل أن أنطق ،سبقني الفتى الجديد كمن يودُّ رمي آخر حجر ،لعله يصيب الهدف...
_ مهمات من هذا النوع ال نُرسل إليها المبتدئين .من تحسب نفسك ؟ روبرت فيسك ؟! أغرب عن
وجهــــــــي !!.
احمر بسرعة ،في حين خرج الفتى مطأطئا رأسه كأنه يود فقط النجاة
َّ صرخ سي رزاق بوجهه الذي احتقن و
بجلده بعدما تأكد من استحالة ما يصبو إليه .ألقى السي رزاق بجثته الضخمة على األريكة و هو يُخرج حبة دواء
من علبته راميا بها في فمه ،ثم تبعها بجرعتي ماء من قارورة بالستيكية صغيرة الحجم...
_ ماعليهش يا سي رزاق ،إنه مجرد شاب طموح و متح ّمس يكافح ليثبت نفسه و يجد له مكانا في المهنة ! .ثم
سِّيدروتية ''
إنك أنت من تزرع في أذهان المبتدئين فكرة أن هذه الجريدة ال تؤمن بما تسميه أنتَ '' الممارسات ال ّ
في اإلعالم! .الفتى يرغب في أن يتواجد على أرض المعركة و في قلب األحداث .امنحه فرصة !.
_ في الحقيقة أنا أسدي له خدمة ! .هذا الغر له سعة النف س و الدهاء و الشجاعة و سرعة البديهة و شبكة
المصادر الموثوقة الالزمة للتحقيق في أحداث غرداية ؟ .أيستطيع برأيك تحمل مشاق و مخاطر و ضغوط مهمة
في منطقة مشتعلة مثل وادي الميزاب ؟ .سيستقيل من هذه المهنة بعد أسبوع !.
ي و كأنه نسي دخولي عليه ،فراح يتساءل بنظراته عما أفعله في مكتبه بحق الجحيم....
تنهد ثم نظر إل ّ
_ ماذا عنك ؟ ،منذ متى أنت هنا ؟ .لديك ثالثة دقائق لتقول ما عندك ،لدي عمل مهم !.
_ سي رزاق ،أود أن تؤجّل نشر ملفي عن حزب الجبهة إلى غاية عدد الثاني من شهر ماي الداخل .انتبهتُ
إلى أن هنالك أشياء يجب إعادة ضبطها في المقال.
صمت هنيهة و هو يتأملني ،ثم نظر مباشرة نحو الزاوية ففهمتُ ما سيحث...
117
_ سي رزاق ...أعلم...أعلم ،هذا يعني أن تعيد ترتيب إخراج عدد الغد و ما يعنيه من تكسار الراس لك و
لمديري األقسام اآلخرين .لكن اكتشفتُ لتوي أني .......غبي !.
_ عما تتحدث يا ولد ؟ .قرأتُ الملف مرات و مرات .استعراض التسلسل التاريخي لمحطات و أحداث الحزب
و البلد جيد .تحاليل النمط السياسي – االجتماعي للذهنيات السائدة في الحزب جيدة .الخلفيات االجتماعية العامة
التي تؤثر في الفكر و األداء السياسي لرؤوس و مناضلي الحزب اعتمادا على استراتيجيات المواجهة النفسية –
االجتماعية.......واو ! .ظاهرة الحركات التصحيحية أو الوجه الجديد للذهنية االنقالبية التي أبدعها الوعي
السياسوي الجزائري في هذا الحزب خصوصا ....مثير ! .قصة المشعل الذي لن ي َّ
ُسلم أبدا و آراء المختصين و
الباحثين الذين حاورتهم بخصوصه .زد كشفك لمبادرة المناضلين الشباب لتجديد دماء الحزب التي أفشلها قادته
المسيطرون ،و خالصتك عن أن زمن الحزب قد انتهى ،و بأنه يجدر بالنخبة الوطنية بداية التفكير في طرق
إدخاله إلى المتحف ،لحماية ما بق ي يمثله للجزائريين من فخر و إرث ،قبل أن يُدمره بتدمير نفسه ....كان ذلك
جريئا و ممتعا ! عملك جيد و أنا أرغب في نشره غدا ،خاصة و البلد ال يزال يعيش الهزات االرتدادية لزلزال
الرئاسيات األخيرة !.
_ ما به ؟.
_ مشعل ؟ ،أي مشعل ؟ ،ليس هناك مشعل ...أقصد أي مشعل ؟ ،أين هو ؟ ،لم يكن هنالك مشعل في يوم من
األيام ،و إن ُوجد حقا فهو لم يعد ينفع في شيء !!.
ي بصمت .في حين نهضتُ من مكاني و أنا أشعر برغبة في التحرك في أرجاء المكان ّ
حك أنفه و هو ينظر إل ّ
مع شرح ما كان يدور في رأسي...
_ سي رزاق ،للنظر لألمر من هذه الزاوية :كيف تفسر األسلوب الذي يتحدّث به أغلب المسئولين الجزائريين
على شاشات التلفزيون ؟ .أقصد تلك الجملة التي يلوكونها كلما تحدثوا عن مشروع أو مشكل ما ؟.
قالها سي رزاق و كأنه يود التنكيت قليال ليُخفف من حالة الغضب و االختناق التي كان عليها...
_ ال .بل عبارة أخرى .المسئول الجزائري ،سواء كان كبيرا في السن ،أو من الجيل الموسطاشي الجديد،
يُر ّكز كثيرا على جملة " اعطينا تعليمات " .في حين لو كان مسئوال من بلد أوروبي ديمقراطي لوجدناه ينزع في
الغالب للقول مثال " :نحن نبحث هذا األمر " أو " نحن نفكر في حلول " أو " نحن نناقش االقتراحات " .لماذا في
رأيك ؟.
118
سكت سي رزاق أخيرا و قد فتح تركيزه التام معي ،ثم نظر إلي و هو يتكئ بظهره على أريكته آخذا وضعا
أكثر راحة...
_ تميل المجتمعات بشكل بديهي إلى خلق رموز معينة تتحدّث عنها مجازيا ،في محاولة منها إلطالة عمر
لحظة مجد بهيجة أو إنجاز عظيم حققته في مرحلة معينة من تاريخها .عندما حاورتُ باحثي علم االجتماع حول
موضوع قصة هذا " المشعل " الذي يحدثنا الساسة عنه منذ االستقالل ،وجدتُ أفكارهم تكاد تتطابق ،حول كونه
مجرد محاولة من الحزب العتيد و األحزاب األخرى ذات التوجّه الوطني بعد االنفتاح السياسي ،إلطالة وهج هالة
الثورة الجزائرية و جعلها نوعا من الصيغ التي يمكن تخيُّلها في شكلها البسيط داخل ذهن الغوغاء ،و في هذه
الحالة كان الرمز هو المشعل ،ثم تبنت هذه القوى السياسية هذا الرمز كشعار لها لتنفذ من خالله إلى عقول الناس
و قلوبهم ،فتستميلهم إلى مناصرتها كونها تمثل في باطن أذهانهم و عواطفهم تلك المسحة القدسية من االحترام و
العرفان و التبجيل ،التي تركتها حرب االستقالل في الوعي الجمعي للشعب .لكن الحقيقة هي أن هذا المشعل،
تحول بسرعة إلى امتياز يعطي شرعية القيادة لمن يُمسك به أو يبدو ُممسكا به على األقل ،و هكذا بدأ التقاذف و
الترافس بين كبار المساطيش منذ سنوات االستقالل األولى .كل كان يود أن يبدو أن المشعل في يده أمام الشعب،
الذي بدأ بفطرته يتفطن إلى أن األمر صار في غاية االبتذال .لهذا ،بدأوا يُروجون لحكاية " تسليم و تسلم المشعل
بين األجيال ،أو تسلم الشعب زمام األمر ليقرر شكل مصيره بيده دون وصاية هؤالء " و التي لم نر عنها إشارة
حقيقية و كبرى بعد ،و قد تأكدنا قطعا أنها لن تكون في القريب من خالل الرئاسيات األخيرة كمثال .صدقا ،نحن لم
نر هذا المشعل بعد !.
أخذتُ لنفسي لحظة صمت قصيرة و أنا أسير ذهابا و إيابا على يمين و شمال السي رزق ،الذي ظل يتتبع
حركتي بعينيه ،و هو يسند ذقنه بيده حين و جدتُ نفسي استسلم لتلك الضحكة التهكمية و أنا ّ
أحك جبيني ،ثم أنظر
إليه بعدما وصلت إلى مالحظة في غاية األهمية...
_ سي رزاق ...تصور معي للحظة لو أن الشعلة األولمبية انطفأت في يد عداء ما و هو يركض بها في
المسافة المحددة له سلفا ؟.
_ بحسب علمي فإن تلك الشعلة ال تنطفئ أبدا طيلة رحلتها الطويلة من موطنها األصلي من بالد اليونان،
وصوال إلى البلد الذي يُختار ليحتضن األلعاب األولمبية .إنهم يتخذون كل التدابير حتى ال تنطفئ ،و إال فإن الحدث
نفسه يفقد رمزيته.
سادت لحظة من الصمت بيننا .نظرتُ إليه مبتسما و هو يُخرج نحنحته تلك مع زفيره ببصره الشاخص ،كمن
توصل إلى مضمون كل شيء...
119
_ سي رزاق ،بربّك ،ضللنا نتجادل حول هذا المشعل اللعين الذي أكله الصدأ في يد الموسطاش مدة خمسين
عاما ،و لم نسأل أبدا أنفسنا عن الشعلة التي أضاءت لنا السبيل طيلة تلك األيام المظلمة و الحالكة من صراعنا ضد
الحبر الذي و ِّقّعت به اتفاقية إفيان !.
ال ُمحتل .الشعلة التي انطفأت أو أط ِّفئت حتى قبل أن يجف ِّ
اللعنة علي ! كان يجدر بي دراسة علم النفس في الجامعة !! .جعلتُ سي رزاق يخرس ،و يُقرر نشر المقال
الطويل في عدد الثاني من ماي ،مما أعطاني ثالثة أيام في يدي ألعيد تقييم كذبة المشعل و تفسيرها وفق أسس
جديدة ،غير خاضعة لتأثير الكذبة نفسها على عقلي االجتماعي .أولها أن التركيز على فكرة المشعل و تناسي فكرة
ضرورة إبقاء الشعلة حية ،كان أول خدعة انطلت علينا طيلة نصف قرن من االستقالل ! .و ثانيها التأكيد على أن
قصة " تسليم المشعل لألجيال الصاعدة " هي كذبة أخرى ،ال تزال تفضحها أمامنا السلوكيات السياسية
الموسطاشية في البلد ،و تترجمها جملة " اعطينا تعليمات " من حيث تُعبِّّر الشعوريا عن شيء آخر ،قد ال يدركه
الناطقون بها أنفسهم .شيء إذا ما جعلناه يتقاطع مع البذرة القبيحة في النفس الجزائرية ،ستتبدى لنا الصياغة
الصحيحة و الخفية لتلك الجملة ،و هي جملة أخرى تقول " :احنا هم ربّها " التي ّ
أطلت على هذا المجتمع منذ أيام
ْ
ترعرعت في عمق سلوكياته و ثقافته السياسية و طريقة استيعابه لمفاهيم المسؤولية السياسية، الكفاح المسلح ،و
طيلة نصف قرن من ممارسة الحكم في جزائر االستقالل بالمنطق األمني و العسكري.
كان يجب أن أكتب كل هذا ،شارحا ثقافة " احنا هم ربّها " الجزائرية في عمود موسطاشيَّات ،تنفيسا و غضبا
ربما .على كل حال كان ال بد أن أكتب شيئا ألستخلص زبدة تحقيقي عن الحزب العتيد ،و أجعل الرأي العام يفهم
أن األمر ال يتعلق بالحزب نفسه و ال باألوليغارشيا الحاكمة من خلفه ،بقدر ما يتعلق بطبيعة و بشكل بنية فكرية
شاذة لمجتمع كامل ،لذلك ،وصلتُ إلى صياغة و نح ِّ
ت مصطلح إعالمي – سياسي جديد ،مثير و مستفز ،يُعبر
بشكل ُمبسَّط عن ذلك المرض ،و هو كلمة واحدة " :حهر " .إنها تلخيص لجملة احنا هم ربّها ! .أجل هذا هو !
الحهر :العصارة الحمضية لظاهرة الموسطاشيا !.
رغم ذلك ،لم أشعر بأن كل تلك السحابة السوداء من دخان الغليان التي كانت تثقل صدري قد تبدَّدت .لم أشعر
باالنتعاش كما كان يحدث كل مرة كنتُ أبدع فيها شيئا ما في مجال الكتابة اإلعالمية .لم أشعر بشيء محدّد ذلك
اليوم و أكملته و أنا أسجل بعض المالحظات و األفكار في أحد دفاتري الكثيرة ،الذي كان قد شارف على االمتالء.
مالحظات عن هذا الحهر ،كيف يوصف ،مما يتشكل و كيف يتمظهر في يوميات الجزائريين على اختالف
مستوياتهم و مسئولياتهم االجتماعية .ال يلزمك أن تكون وزيرا أو ضابطا ساميا أو رئيسا حتى تكون " حاهرا "،
بل حتى ذاك البواب الفقير الذي يمنعك دون سبب جلي من المرور إلى داخل مقر شركة أو مؤسسة أو مكان
المشوه عن مفهوم السلطة أو االنتقام من السلطة ،هو أيضا حاهر في كل
َّ عمومي ،بدافع خفي من ذلك االعتقاد
األحوال .لذلك يمكن تعريف مفهوم الحهر بأنه و بكل بساطة شهوة الفرعون الصغير المتنامية ،التي آثارتها
األزمات و األزمان الصعبة التي تعاقبت على الجزائر في نواة كل جزائري ! .إنها الموسطاشيا في نضجها و
جاهزيتها الكاملة للتعبير عن نفسها بصراحة في الحياة اليومية لهذا المجتمع المكبوت .حين يصل الحهر إلى درجة
الشمولية حيث يصير كل فرد يتصرف وفق هواه ظانا نفسه أنه هو " ربّها " ،في ُمجاراة صبيانيه انتقامية مع كبار
120
الحاهرين في البلد ،فاللعنة إذن ! ،نحن أمام مجتمع يستحيل عمليا أن نطبق فيه ،على خواصه و عوامه ،المفاهيم
األساسية و العامة ألشياء مثل القانون و النظام و العدالة ،مهما حاولنا ذلك.
هكذا ،و بدءا من بائع التذاكر في الحافلة الذي يشعر أنه هو ربّها أمام السكوت الجماعي للركاب ،فيسمح
لنفسه بتكديس الناس بعضهم فوق بعض كالبهائم ،من أجل ربح دنانير إضافية .ذلك البطال الذي يستولي على
صب نفسه سيدا و حارسا لها بعدما يتماها معها و تصير جزء
األرصفة و الطرق العامة ،فيشعر بأنه هو ربّها و ين ِّ ّ
من شخصيته ،فيفرض ضريبة التوقف على الراكنين و إال شعر بأنه فعال مظلوم ،فينتقم بعنف من كل متخلف عن
سر األرصفة التي أنجزها سابقه و يعيد تهيئة
إيفائه حقه المشروع .إلى ذلك المير الذي يشعر أنه هو ربها فيُك ّ
أرصفة جديدة ،مع مقاول يشعر أنه هو ربّها كونه يتعامل مع المير فوق و تحت الطاولة .أو ذلك الدركي الذي
يرى نفسه أنه هو ربها فيُغذي شعوره ذلك بالتلذذ بإهانة موقوف بشتى السبل ،بعدما يتأكد من جهله لحقوقه
المدنية ،أو يجعل من مهنته على الحدود نوعا من التجارة الخاصة و الحرة ،فيحارب التهريب بيد و يشتغل فيه
باليد األخرى .و ذلك المسئول الحزبي الذي يرى نفسه أنه هو ربّها فيغلق األبواب في وجه مناضلين آخرين ،مانعا
إياهم حضور نشاطات الحزب ،فقط ألنهم يخالفونه الرؤى .و ذاك الصحفي أو المراسل أو رئيس التحرير الذي
تُشعره قوة و سحر القلم أو الشاشة بأنه هو ربّها ،فيتالعب بالمعلومات و ّ ِّ
يشوه الحقائق خدمة لقناعات أو ميول
فكرية ذاتية أو تصفية لحسابات شخصية .أو ذلك الوالي الذي يقوده الشعور بأنه هو ربّها إلى التصرف في واليته
و كأنها إمارة صغيرة ورثها أبا عن جد .أو الوزير الذي يشعر أنه هو ربّها كونه يظهر على شاشات التلفاز
ملتصقا بكتف الرئيس ،فيصير ُمهاب الجانب و يتهيأ له مع الوقت أنه أضخم حجما مما كان يبدو لنفسه أمام المرآة،
فيستلذ إعطاء التعليمات و يصدر المراسيم التي تلغي و تعيد بعضها البعض و يمأل الوزارة بأفراد عائلة زوجته.
وصوال إلى كبار القماقم ،الموسطي ّ
شات ،جهابذة الوطنية ،نواطير الوطن ،ديناصورات التيريكس ،الذين يتربّعون
على عرش هذه السلسلة الغذائية المقرفة ،و يشعرون أنهم فعال هم ربّها و هم ماضون في العبث بالوطن و من فيه
ورم " األنا
صغار ،مترنحين تحت سكرة الحكم المزمنة المصاحبة لشهوة القوة و الفتك في قصة ت ُّ
من الحاهرين ال ِّ ّ
" الجزائري السرطاني العجيب.
ال عجب أن يكون الجزائريون أكثر الشعوب التي تستعمل كلمة " رب " في خطابها .في كل األحوال و
المواضع و المواضيع .شككتُ في كون هذا الرب الذي يذكره الجزائريون في فرحهم كما في غضبهم هو الرب
الذي نعرفه و تعرفه البشرية في قواميسها و تعاريفها ؟.
هذا الحهر حصر في النهاية كل عالقاتنا االجتماعية بين جملتين استفهاميتين موسطاشيتين ،صارتا أشبه
برمح أسود لعين أصاب بعمق النظام و الحرية في حياتنا " :وين راك رايح ّ؟ " و " ماتعرفنيش اشكون أنا ؟ ".
مروعة و محبطة " :كل جزائري ،في حقيقة األمر ،هو موسطاش حاهر
ّ ِّ انتهيت إلى نتيجة مخيفة ،بل
محت َمل ! " .شعرتُ لحظتها بأنفاسي و هي تنفلتُ مني تحت وطأة الضيق و الغضب .شعرتُ أني سأنفجر .انتابتني
رغبة في الركض مباشرة نحو نوافذ مقر الجريدة و إلقاء بجثتي الجزائرية المقهورة منها ،متمنيا لها رحلة تعيسة
121
تنتهي بارتطامها على األرض لتنفجر متناثرة بكل قوة ،حتى ال يبقى فيها شيء يُثبت أني شخص يحمل مالمح
جزائري !.
كتبتُ خاطرة استفهامية صغيرة على صفحة موسطاشيا في الفيسبوك مع نهاية العمل في ذاك اليوم تقول" :
كم من جزائري يدعي الوطنية و السخط على كبار المساطيش في البلد ،يتمنى في قرارة نفسه لو كان مثلهم،
مسئوال حكوميا رفيعا ،يتفرعن على الخلق و يرتشي مليارات البترول و الغاز ،التي يُهربها إلى المالذات
الضريبية ؟ " .ثم قلتُ في نفسي و أنا أرى بداية التفاعل مع تلك الخاطرة من طرف متتبعي الصفحة ،بأني قد
أقترح قريبا مبادرة نزع صورة رئيس الدولة من جميع مكاتب المسؤولية ،و تعويضها بالفتة أخرى يراها كل
مسئول يحمل الجنسية الجزائرية في كل صباح يلج فيه مكتبه ،و قد ُكتب عليها ببنط أسود عريض " :احذر بذرة
الرب الصغير في أعماقك !".
َّ
أجر سحابة من اإلحباط ورائي في تلك األمسية الربيعية الجميلة ،و أنا مشوش األحاسيس تماما .كنتُ
خرجتُ ُّ
أشعر و كأني وصلتُ إلى السبق النهائي ،بطريقة و زمن غير متوقّعين ،لكنني كنتُ أجد صعوبة في تصديق ذلك.
ربما لم أكن مستعدا بعد لذلك ؟.
هل يكون هذا '' ال ُحهر '' هو النهاية لتفسير المعضلة الجزائرية ،بكل ما يرتبط بها في السياسة و الثقافة و
االقتصاد و التربية و التاريخ و السوسيولوجية و السيكولوجية......؟ .أهذا كل شيء ؟ .بل و هو شيء ال حل له
بسبب ما وصل إليه من تعقد ؟؟؟ .آه كم أكره المعضالت المعلَّقة !!.
رميتُ بالمحفظة على المقعد الخلفي للسيارة ثم أسندتُ ظهري على الباب األمامي مشعال سيجارة و أنا أسمع
تلك األبواق و األهازيج الرياضية التي كانت تعبر الشوارع المحيطة بدار الصحافة .كانوا أنصار فريق مولودية
العاصمة وهم يجوبون الشوارع في سياراتهم ،يقيمون أفراحهم االستباقية لمباراة نهائي كأس الجمهورية ضد
شبيبة القبائل التي كانت تفصلنا عنها ساعات قالئل.
أخذتُ لنفسي لحظة طويلة من الصمت و التأمل .أجل ....كنتُ أعيش يوم التاسع و العشرين أبريل .في كل
األحوال لم يكن بإمكاني التهرب من هذا التاريخ في النهاية .إنه التاريخ الذي بُحتُ فيه بحبي لذلك الطيف البليدي
الجميل ذات يوم سبت قبل ثمانية أعوام وصوال إلى ذلك المساء .كنتُ ال أزال غير قادر على تخليص نفسي من
أتربة ركام ذلك االنهيار .ندوب الماضي داخل نفسي كانت ال تزال تريد أن تحكي عن تلك السقطة المميتة التي
عشتها ذاك اليوم ،رغم كل األنهار و الجبال و الوديان و مدن الجن المهجورة التي مررت بها زاحفا و أنا أبتعد
نازفا عما حدث ،إال أن قلبي كان ال يزال يحمل بقايا فزع الخيبة و غضب الشعور بالدونية و ألف سؤال ينتظر
بيأس أن تجيب عنه ذات يوم !.
ظلت صوفيا تخبرني بهوسها العلمي الذي يطغى على أحاديثها أن ما يُسمى قانون الجذب الكوني يقضي
بجذب كل األشياء و المواقف و األشخاص الذين يركز المرء تفكيره حولهم بشكل مستمر ،فيصيرون جزءا و
واقعا ملموسا في حياته .لكن بقدر ما كنتُ أفكر في ذلك الطيف األنثوي اللطيف الذي أحببته بكل جنون ذات مرة،
122
ي بأني لن أراه أبدا .ال أدري،
سخ فيها اعتقاد ف َّ
بقدر ما تعمق في نفسي اإلحساس بأنه بعيد جدا .بعيد إلى درجة تر َّ
إما أن قانون الجذب خاطئ ،أو أن فهمي له قاصر ؟ .ثم إن جل تفكيري كان قد ُحصر كلية في كابوس عملي و
سبقي النهائي و ال شيء آخر .و أعترف أني كنتُ أدفع نفسي للغرق في مستنقع عملي هربا من ذكريات تلك التي
ال يزال اسمها اللطيف يالحقني بعناد و صمت '' ....بهجة ''.
سمعتُ الرنة الخاصة بالرسائل النصية في هاتفي النقال .كانت صوفي التي انجذبت إل ّ
ي تلك اللحظة طبقا
لقانون الجذب على ما يبدو ! .كانت رسالة نصية منها...
_ Tout est confirmé, le prochain Lindi on ira ensemble avec Hassan au palais de la
culture à 19h…. je vais te tuer si tu me dirais que t’es fatigué ou occupé !!.
ّ
التفت يمينا ثم أغلقتُ النقال متنهدا .رميتُ بالسيجارة أرضا و أنا أسحقها بقدمي و كأني أسحق فكرة مزعجة.
شماال من دون سبب .كنتُ فقط أراقب المارة و السيارات التي كانت تدخل و تخرج من دار الصحافة...
_ لمال ؟ ،قد يكون مفيدا لي حضور معرض فني ،عسى أن أخفف قليال من وطأة هذه الحالة المزرية !.
تمتمتُ مع نفسي و أنا أركب السيارة .لم أرغب في التفكير في أي شيء آخر ،ال سيما أني أعيش في هذا البلد
الحاهر.
-11-
كنتُ رفقة كل من حسان و صوفيا متجهين إلى قصر الثقافة مفدي زكريا لحضور معرض للصور
الفوتوغرافية ،كانت إحدى المصورات تعتزم إقامته للتعريف بجمال المناطق النائية المعزولة و المنسية التي
ْ
أرادت نقل صوتها الخفي عبر جمال و هيبة صمت الصورة الفوتوغرافية ،حسب قول زارتها عبر البالد ،و التي
حسان ،الذي كان قد أجرى حوارا مع الفنانة قبل أيام و ّ
افتك منها دعوة لحضور أمسيتها تلك في قصر الثقافة.
123
المقود ،يسأل صوفيا التي كانت
َ كان حسان ،الفتى الطويل القامة و المتأنق بلباسه الكالسيكي كالعادة في
تحولت فيما
تجلس في ال مقعد الخلفي عن تلك الوقفة االحتجاجية بالقرب من البريد المركزي وسط العاصمة ،التي ّ
يبدو إلى أعمال شغب ،بعدما تدخلت الشرطة لفض التجمع بالقوة .لكن صوفيا لم تبدُ مهتمة بما حدث فضال عن
أنها لم تكن هناك ،إال أن حسان نظر إلي بعدما تذكر أني غالبا ما أسلك شارع حسيبة بن بوعلي المؤدي إلى ذات
المكان في طريق عودتي إلى المنزل...
سألني حسان بصوته الرخيم و نظراته التي غالبا ما يطغى عليها االستفهام حتى لو لم يكن مستفهما .لم أجبه
مباشرة .كنتُ شبه شارد و أنا أعيد تذكر ما حدث ،قبل أن أعود إلى سؤاله...
_ كنتُ ُّ
أمر من هناك بسيارتي عائدا إلى البيت .سوى أن حركة المرور كانت شبه متوقفة ،قبل أن تضطرب
األمور عند مفترق الطرق المقابل لمبنى البريد ،حيث كان يعتصم مناضلون قبايليون .كانوا يحملون تلك الرايات
الغريبة ،أنت تعرفها .تلك األعالم باألزرق و األصفر و األخضر التي يتوسطها رمز الحركة البربرية األحمر.
كانوا يهتفون كالعادة "… ." Pouvoir assassin…. Pouvoir assassinسألتُ أحدهم عن سبب الوقفة
ْ
وقعت قبل نحو أسبوعين في تيزي وزو تحديدا ،فأجابني بأنها وقفة تضامن مع ضحايا التجاوزات األمنية التي
على بعض المحتجين من بين الذين أرادوا إحياء ما يُسمى ِّعندهم الربيع البربري....
_ كان يجدر بهم المشاركة في المسيرة الجامعية التي نُظمت اليوم انطالقا من جامعة تيزي وزو ،فقد جرت
في جو تنظيمي محكم ،بدال من تنظيم وقفتهم تلك في قلب مدينة محاصرة أمنيا كالعاصمة ؟.
ْ
تساءلت صوفيا و هي مستمرة في العبث على الشاشة اللمسية لهاتفها اآليفون بسباباتها ،ألرد على كالمها...
_ بحسب ما رأيت ،ال أعتقد أنهم قدموا من بالد القبايل ،بل هم من قبايل العاصمة على األرجح.
_ ال شيء ،تد َّخ لت الشرطة محاولة تفريق التجمع الذي خرج بعض أفراده إلى الطريق محاولين عرقلة حركة
المرور .بعض الصراخ و السب و الشتم و بعض االعتقاالت.
_ مينو ،ها قد عدتَ للشرود مرة أخرى ...ابقى معنا يا صاح ...ابقى معنا و ال تقلق ،سوف ننقذك من هوس
أفكارك في الوقت المناسب !.
124
_ ال ،أنا هنا ال أزال في العاصمة .كنتُ أفكر فقط في ذلك المراهق القبايلي الذي شارك في وقفة البريد
المركزي ،و الذي تم إيقافه فوق غطاء محرك سيارتي.
_ ما به ؟.
سأل حسان دون نبرة الفضول الالزمة ،كأنه يحاول فقط إبقاء الحديث يدور بيننا...
مجرد مراهق
ّ استرجعت تلك الصور فجأة .مراهق قبايلي .أعتقد أن سنه ال تتجاوز الخامسة و الشعرين.
نحيف ،طويل القامة كما هي حال مراهقي هذه األيام ،أحمر الشعر ،أزرق العينين ،يمأل النمش وجنتيه .كان يصيح
و يهتف بشعارات بالقبايلية .لم أفهم منها شيئا .حاول اإلفالت من رجلي شرطة بالزي المدني .ركض بين
السيارات و هو يحمل رايته البربرية تلك بيديه و هي ترفرف فوق رأسه ،لكن أحدهما استطاع اللحاق به و بالكاد
مدّ ذراعه إلى رايته تلك و هو يُالحقه ،مما دفع بالمراهق ليحاول اإلفالت بمراوغة الشرطي ،لكنه تعثّر و فقد
توازنه .ظننتُ تلك اللحظة أنه سيسحق وجهه على جانب السيارة ،لكنه استطاع إيقاف ذلك بيمناه التي رمى بها
ُطوقه من الخلف دافعا به على غطاء
على غطاء المحرك و أسند بها جسده ،و ما إن استوى حتى كان الشرطي ي ّ
محرك السيارة و هو يجمع يديه خلف ظهره لتصفيده .ما أثارني هو عندما نظر إلي و أنا خلف مقودي ،حين كان
ضابط الشرطة يضع األصفاد في يديه .نظر إلي و هو ال يزال يلهث ،ثم راح يصيح غاضبا بمجرد أن حمله
الشرطي من على الغطاء " :إمازيغن....إمازيغن ."....رفض ترك الراية من يده رغم كل شيء ،و لم يهدأ حتى
راح الشرطي يحدثه بقبايلية طليقة هو اآلخر .بدى لي أنه كان يحاول إقناعه بإعطائه الراية ،فأفلتها من يده في يد
الضابط الذي قام بوضعها على كتف الفتى ،حينها فقط ،كف عن التخبط و سار أمامه في هدوء .أرت أن احتفظ
بهذه القصة لنفسي بدل تقاسمها مع حسان الذي كان ال يزال ينتظر أن أجيبه عما حصل .لكني فضلت الصمت.
_ القبايل قباح بزاف يا أمين ،و رجعوا جزء من مشكلة هاذ البالد.
_ على كل حال ،و رغم أني سمعتُ بعض القصص عن هجرة أسرتي من جبال البويرة نحو أرياف تابالط
في المدية مع نهاية القرن التاسع عشر ،و أن جدَّ والدي كان ال يتحدّث إال القبايلية ،إال أني لم أعتبر نفسي يوما
قبايليا بقدر ما كبرتُ و أنا مؤمن كما ربانا الحاج ،و أرى الحق معه في هذه الفكرة ،بأن كل من تحدث العربية فهو
عربي و كفى .أال يبدو هذا بسيطا و منطقيا ؟.
125
هز حسان كتفيه و هو يطلق إماءة من وجهه تقول " ربما " في حين كانت صوفيا ال تزال منشغلة بهاتفها
النقال .لكن نظرات ذلك الفتى أحمر الرأس كانت تباغتُ فكري بين الفينة و األخرى ،كأنها دفقة ماء باردة تلطم
وجه كسالن متململ يكاد يغوص في نوم هنيء .تلك النظرة المشتعلة كانت تعود إلي بين الفينة و األخرى و كأني
أرغب في كشف كل تفاصيلها و الكلمات التي لم تستطع إيصالها إلي ،أو لعل صاحبها قالها بالقرب
ُ كنتُ ال أزال
مني و لكني لم أفهم ما كان يقول بلهجته القبايلية .تلك النظرة كانت تستفز شيئا ما في ضميري أليام طويلة.
**********
وصلنا إلى قصر الثقافة مفدي زكريا ،تلك التحفة المعمارية التي د ّ
شنها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد قبل
ثالثة عقود خالل احتفاالت عيد الثورة الجزائرية الثالثين .كانت تشير إلى زهاء السابعة و الربع مساء .ركنَ
حسان السيارة في موقف السيارات الخاص بالزوار .ترجلنا متجهين نحو مدخل القصر حيث كان يحتشد بعض
الحضور و هم يُدردشون مع صاحبة العرض ،التي ّلوح لها حسان بيده و هو يتقدم إليها من بعيد رفقة صوفيا،
التي كانت تسير بجانبه بخطواتها المتسارعة و كأنها ال تريد أن تتركه يسير متقدما إياها ،في حين كنتُ أتبعهما
أتفحص أرجاء المكان الفسيحة
ُ ببضع أمتار بخطوات متململة سائرة نحو التباطؤ و أنا أضع يدي في جيبي،
بناظري .الهواء الربيعي المسائي لهضبة العناصر المطلة على العاصمة كان منعشا و عليال و هو يراقص نسمات
البحر على تلك األنغام الموسيقية البعيدة ،التي كانت تخرج متسللة من صالة المعارض داخل المبنى األبيض الذي
تطوقه األقواس ساترة خلفها واجهته الزجاجية .لم أستطع تمييز تلك األنغام التي بدى لي و كأنها آللة المندولين.
لكني كنتُ أرغب أكثر في اإلفالت من الجميع و التسلل إلى تلك الحديقة الجميلة التي كانت تكلل مدخل القصر
بأعمدة اسمنتية متصلة ببضعها البعض ،كانت تتوزع بشكل دائري مشكلة حلقة حول مساحة بدى أنها مخصصة
للحفالت التي تقام في الهواء الطلق .كنتُ أرغب فقط في االختالء بنفسي .كنتُ أرغب في االبتعاد عن الجميع.
ْ
وقفت صاحبة المعرض التي لكننا وصلنا إلى ذلك الجمع الذي كان بعض أفراده يدخلون إلى القصر ،في حين
كانت تبدو فتاة في مقتبل العمر ،تنظر إلينا مبتسمة و هي ال تزال تتفقد خمارها األزرق بيديها .كانت رفقة سيدة
ْ
غزت شعرها األسود القصير الكثير من الخصالت الرمادية منطلقة بدت أنها أربعينية ،طويلة القامة ،نحيفة القد،
من منبته فوق جبينها العريض .كانت ترتدي فستانا أسود واضعة شاال رماديا خفيفا على كتفيها .شعرتُ لوهلة أني
رأيتها في مكان ما .بدى األمر بديهيا بما أنها كانت تقف إلى جانب فنانة .ففكرتُ أنها قد تكون هي األخرى فاعلة
في الحياة الثقافية كما اعتقدتُ حينها.
تقدمت الفتاة و هي تطلق بسمة بهيجة رافعة كفها األيمن و كأنها تحيي به حسان الذي كان يرغب في تقديمنا
إليها...
_ زميالي في العمل...
126
_ السيدة حواسنية .دعني أقول لكَ أني معجبة كثيرا بمقاالتك و حواراتك في مجاالت الفكر و األدب و الفن،
سيد بن ميمون !.
بهذه الطريقة قاطعت السيدة األربعينية حسان و هي تمد يدها مصافحة إياه أمام ارتباك الفنانة الشابة التي
عادت و كأنها تعتذر...
_ آه ,طبعا ،السيدة حواسنية ،النائب بالبرلمان عن حزب جبهة التحرير .أعتقد أنكم تعرفونها.
_ و َّ
شاكي أمين .متخصص في مقاالت السوسيولوجيا السياسية في السبق اإلخباري.
مددتُ يدي إليها مبتسما ،لكنها لم تحرك ساكنا .كانت تنظر إلي و هي على حالها تلك ،تبتسم بشكل غريب ،إن
لم أقل أن وجهها النحيف الذي كانت التجاعيد قد بدأت تظهر عليه ،كان في الحقيقة يعبِّّر عن تكشيرة تقزز .كانت
بسمتها ،أو باألحرى تكشيرتها تلك ال تزال ملتصقة بمحيّاها حتى بدت معها كميت تحجر الدم في وجهه ،بعدما
ودّع الحياة و هو مك ّ
شِّر عن أنيابه في جو قطبي متجمد.
بحسي الفكاهي الطفولي الذي يحضرني فجأة في بعض المواقف ،كنتُ سأتظاهر في لحظة ما بالخوف منها.
كنتُ أود أن أفصح لها متلعثما بشكل ساخر و تهكمي بأنه ال يجدر بها مقابلة أحفادها ذات يوم بذلك الوجه ،خاصة
إن آووا إلى فراشهم في المساء ،عسى أال يروا كوابيس مرعبة في الليل.
كانت بضع ثوان ،فحصتني فيها السيدة النائب بناظرها من األسفل إلى األعلى قبل أن تنطق أخيرا....
قالتها بصوتها الذي خالطته بحة خفيفة مع نبرة استخفاف و هي تومئ برأسها كمن يرمي بتحية عابرة.
شعرتُ أن العبارة األخيرة خرجت من فمها لتُجهز على الدبلوماسية ،ال لتنقذها .كما لم أفهم عن أي دين كانت
تتحدث ؟ .لم أقل شيئا أمام نظرات حسان و صديقته الفنانة المرتبكة التي لم تجد غير التظاهر بأنها تتفقد خمارها
األزرق بيديها مرة أخرى ،و أمام وجه صوفيا التي بدت و كأنها تصارع إحدى ضحكاتها ذات الصوت الصاعق.
127
قال حسان بنبرة من يحاول جعلنا نتجاوز تلك اللحظة الغريبة التي صنعتها السيدة األربعينية صاحبة الوجه
صورة
النحيف الشاحب و البسمة المخيفة .التي توجهت إلى داخل قاعة العرض ،في حين سار حسان رفقة ال ُم ّ ِّ
تصوب سبابتها نحوي
ّ ِّ ْ
وقفت صوفيا مقابلة إياي نسرين و هما يتبادالن بعض األحاديث و األسئلة العابرة .بينما
بشكل صبيانيُ ،مطلقة ضحكة مصطنعة مخنوقة من حنجرتها.
_ قولي لي ،ما كان ذلك بحق الجحيم ؟ ،هل أعرف هذه السيدة ؟ !.
_ ال ُّ
أظن ذلك ،و لكنها التقت بك اآلن و عليك أن تحذر حقدها عليك .إنها نائب بالبرلمان عن الحزب الذي
كتبتَ عنه ما لن يُرضي عنك المخلصين له و أتباعه من أبناء النظام .آه يا صاح ،أنت اآلن تدفع ثمن المواقف
فصبرا أيها البطل .ثم عليك أن تحذرها فهي ليست كالغالبية التي تكتب عنها في حزبها .إنها امرأة جد مثقفة و
أكاديمية متمرسة في ميدان االتصال و الدعاية ،لها شهادات جامعية مرموقة و تتقن الحديث بأربع لغات أجنبية.
البعض يجزم بأنها ستتولى حقيبة وزارية ذات يوم ....و احزر أي حقيبة !.
أجبتها متهكما ّ
فهزت رأسها بسخرية..
_ االتصال يا صاح .إن حصل ذلك ،إياك و التطلع للحصول على بطاقة الصحفي المحترف التي يعدوننا بها.
ثم إنها فعال تصلح لتكون وزيرة ،أال توافقني الرأي ؟.
ْ
انصرفت صوفيا ضاحكة في حين وقفتُ أتمتم متهكما و أنا أقول لنفسي بأنها قد تصلح أيضا لتكون السيدة "
مورتيسيا آدمز الجزائر " ،لو أنها فقط تطيل شعرها و تحافظ على ذاك السواد الغارق فيه لباسها مع أنفاسها و
نظراتها تلك.
عندما ولجتُ قاعة العرض وقفتُ للحظات أراقب ذلك الحشد من الناس ،الذين جاءوا ليكتشفوا ما جمعته
المصورة نسرين طيلة بضع سنوات من تنقلها بين أرجاء البلد في رحالت مختلفة .أخيرا عرفتُ تلك الموسيقى
ّ ِّ
التي أراد المنظمون جعلها تداعب مسامع الزوار ،كخلفية مت ِّّممة لجمال تلك الصور المحفوظة في إطاراتها
البالستيكية المل ّمعة .لقد كانت موسيقى العازف مح ّمد روان الهادئة و الملهمة ،التي ألف المجتمع الجزائري
سماعها و ارتبطت في ذهنه بالمسلسالت الدرامية المحلية لشهر رمضان في األعوام األخيرة .ر ّجحتُ أنها
ستتحول شيئا فشيئا إلى عنصر ُمثير للحنين في ذاكرة جيل كامل بعد عشريات من اآلن ،و ستجعله يعود إلى
الوراء مغمضا عينيه ،إلى سلسالت رمضان التلفزيونية المسائية لجزائر ما بعد الحرب األهلية ،تماما كما تذ ِّ ّكرنا
نحن اليوم موسيقى برنامج بال حدود بجزائر الحرب األهلية.
فاجأتني صوفيا و هي تشير إلي بيدها كي أتقدم إلى داخل صالة العرض ،التي مألتها حركة الزوار
المنتشرين في كل الزوايا ،متنقلين ببطء فرادا و أزواجا و مجموعات صغيرة بين الصور المعروضة ،مع بعض
128
الهمهمة و بعض الضحكات الخافتة هنا و هناك .في حين كانت المصورة الشابة نسرين تأخذ الصور مع بعض
األشخاص ،بما فيهم السيدة مورتيسيا ،التي ظلت ملتصقة بكتفها األيسر كالشيطان المكلّف بالوسوسة في أذن كل
عرفت أني من يصف قادتها و آبائها السياسيين بالموسطي َّ
شات و ْ فرد .نظرتُ إليها و أنا أفكر في رد فعلها حين
الحاهرين .لذلك ابتسمتُ بمكر و أنا أحاول تخيل ردة فعلها في األيام المقبلة و هي تحمل النبأ اليومي بين يديها،
تقرأ المزيد من تحاليلي عن ظاهرة األوليغارشيا الحاهرة و كيف أدخلت الجزائر في هذا التحول االنقالبي العميق
ْ
نشأت منذ الرئاسيات األخيرة ،من الالشرعية الموسطاشية شبه ال ُم َّ
بطنة إلى الالشرعية ال ُحهرية الصريحة .كيف
ْ
ورثت أساليب التسلط على البلد و المجتمع بثالثية " تجهيل ،تجويع ،ترويع " تلك الظاهرة و تطورت .كيف
الالمنتهية ،التي كانت تستعملها بالتداول ،بشكل يكاد يكون فطريا بما ورثته عن الطاغية األوروبي األشقر ،بحسب
ما يناسب كل مرحلة من تاريخ االستقالل ال ُمصادَر حتى اآلن.
ألم نعش سنوات السبعينات من سياسة الجزأرة ،ثم جاءونا سنوات الثمانينات بسياسة العصى و الجزرة،
الجزارة أو المجزرة ؟ .بهذه الطرق الملتوية جدا ،ضللنا السبيل اليوم و رهنّا
َّ لنغرق سنوات التسعينات في سياسة
كل خيارات مستقبلنا بين خيارين أزليين ال ثالث لهما في بلدنا التعيس هذا :إما السَّيء أو األسوأ !.
قلتُ في نفسي متنهدا و أنا أراقب السيدة مورتيسيا هناك ،و هي تتجاذب أطراف الحديث ضاحكة مع بعض
األشخاص ،الذين كانوا يتردّدون عليها مسلّمين و مصافحين ،محاولين التقاط بعض الصور معها ،بصفتها الوزيرة
المستقبلية ،و مع تلك الفتاة المسكينة التي أشفقتُ على حالها و قد بدت مه َّمشة بينهم .كانت توزع بسماتها الخجولة
و الحائرة بارتباك واضح متفقدة خمارها األزرق بيديها بين الحين و اآلخر .ربما كانت تشعر بالخيبة داخل نفسها
حولته غربان الموسطاشية الحائمة إلى فضاء لالنتهاز
و هي ترى ذاك االنحراف الضمني لهدف معرضها ،الذي ّ
و الرياء و اقتناص الفرص ،لتأسيس معارف جديدة و إقامة تحالفات مختلفة مع الشخصيات المحسوبة على دوائر
ْ
حجبت بظاللها الثقيلة الرسالة الحقيقية التي اجتهدت النظام ،أو ال ُمر ّ
شحة على األقل لدخوله .الغربان التي
المصورة من أجل إبرازها في مناسبة جميلة كتلك ....أجل ! .كثيرون حول السلطة ،قليلون حول الفن !.
ثم ها هي ذي صوفيا تقف كالحاجز بيني و بينهم فجأة ،ترمقني بنظرات غاضبة هذه المرة.
ي...
سألتها متغابيا ،فركزت نظرة الغضب و الوعيد عل ّ
_ ألهذا أحضرتك إلى هنا ؟ ،لتقف شارد الذهن وسط جموع الناس كالمعتوه ؟ ،أهو المكان المناسب لتمارس
فيه عادتك السيئة هذه ؟.
ْ
فهمت تلك النظرة جيدا من عيني ،فتقدمت إلي و راحت تسحبني معها من ذراعي... أجبتها ضاحكا ،لكنها
_ اسمع ،إما أن تستمتع بالمعرض أو أقسم أني سأطلب من القائمين عليه أن يطردوك خارجا !.
129
على األرجح أنها صارت عادة شبه قبيحة هذه التي تدفعني إلى مراقبة الناس في تفاعلهم و سلوكياتهم من
بعيد ،و أنا أتسلل هاربا بصمت و هدوء من تلك اللحظة أللج عالم عيني الداخلية ،التي أتس َّمر في العادة خلفها و
كأني ذاك الباحث القابع طيلة الليل بعيدا عن عالمه األرضي ،خلف مسباره يراقب ظواهر الكون البعيدة ،متقدا
بالقلق ،معذَّبا بهوس السؤال ،مدفوعا بوقود الفضول لهزيمة تلك الكلمة التي َّ
أرقت مصير البشر منذ القدم و
صاغت مصائر الحضارات و الشعوب " :لماذا ؟ ".
غريب .أضحكني األمر .فكرتُ أني فقدتُ طريقي نحو زودياك المجتمع الجزائري ،الذي ظل يستفزني هناك
من بعيد في العتمة و الضباب خلف سياج الزريبة ! ،و قلتُ أني سأنهار عصبيا و أفقد عقلي في النهاية كالصحفي
األمريكي المسكين .لم أرغب في تصديق أن مفهوم ال ُحهر الفتي الذي وصلتُ إليه كان النهاية ،رغم أني كنتُ
أشعر أني وصلتُ إلى طريق مسدود .لم تكن لي أفكار أخرى .مقاربات أو فرضيات دعم مخبّأة ،قوية و ملقحة
ْ
علقت عجالتي في رمال الطريق .كنتُ فارغ الوفاض و ربما كان ذاك بطابع ثوري ،أخرجها من خزانتي في حال
منبع قلقي الحقيقي تلك األيام ؟.
**********
مرت ،ثم قلتُ في نفسي متهكما أنه ال بأس إذن بشيء من االستمتاع بتلك الصور الجميلة
كانت مجرد لحظات َّ
التي جمعتها المصورة نسرين .راحت صوفيا تسحبني من ذراعي و هي تشير إلى كل صورة بسباباتها " :انظر
إلى هذه الصورة كم هي جميلة ! ....و هذه معبرة ....و تلك تبدو غامضة ....انظر إلى هذا البيت الطوبي القديم ،أال
يبدو كبيت جدك في تابالط ؟ ....يا للمنظر الطبيعي الخالب ،لحظة ! أين التقطت هذه الصورة ؟." ......
130
ْ
بدت صور بعض الوجوه جميلة جدا و هي تعبر عن لحظات دقيقة غارقة في العفوية ،استطاعت نسرين
اقتناصها في الوقت المناسب .كصورة ذلك القروي ذو القشابية القديمة الرثة و المالمح الغائبة تقريبا ،الذي كان
يسحب حماره خلفه صاعدا طريقا ترابيا شديد االنحدار و هو يُلقي ببسمة بريئة مرتبكة تُعبر عن الفضول ،ربما،
بدى أنه وجَّهها للمصورة و هي تصوب عدستها نحوه .التقطت الصورة من إحدى بلديات عين الدفلى النائية و قد
عنونتها صاحبتها بـ" ." Le villagois de Djendelتقدمتُ قليال رفقة صوفيا بخطى بطيئة نحو الصورة
التالية .كانت لفتية سود لم يتجاوزوا العقد األول بعد من عمرهم ،و قد اجتمعوا متكاتفين و كأنهم يتدافعون أمام
ْ
كشفت عن أسنانهم الناصعة .كانت صورة جميلة جدا التقطت في قلب المصورةُ ،مطلقين بسمات عريضة
ّ ِّ عدسة
أحد قصور أدرار الحمراء بحسب ما جاء في عنوان الصورة " ."Les enfants de Timimounكانت صوفيا
تبتسم و هي تتأمل قسمات وجوههم اإلفريقية الجميلة و أعينهم السوداء الواسعة ،قبل أن تسحبني من ذراعي دون
أن تهت ّم لرغبتي في تأمل تلك الصورة لمزيد من الوقت .كانت الصورة التالية تحمل عنوان " La vendeuse du
" charbon – Oued El Abtalالذي و بحسب معرفتي به ،يعد من بين أفقر و أتعس مناطق والية معسكر ،بل
و من أتعس مناطق البالد كلها .كانت صورة لمرأة عجوز نحيفة تجلس على قارعة طريق و هي منهمكة على ما
يبدو في إخراج قطع من الفحم من كيس سميد قديم ،اختلط لونه البني بسواد الفحم .كانت العجوز تبدو منهمكة في
ُّ
التفت يمينا و شماال على أمل رؤية صاحبة الصورة ترتيب قطع الفحم أمامها على أمل بيعها لبعض المارة ربما ؟.
كي أسألها عما كانت تفعله بالضبط تلك العجوز في الصورة ،لكني لم أرها .قلتُ في نفسي أنها ال تزال أسيرة في
قبضة السيدة مورتيسيا و غربان السياسة.
سحبتني صوفيا مرة أخرى نحو صورة أخرى عنونتها صاحبتها بـ" ." Le fils du lac El-Malahبمجرد
أن نظرتُ إل dihتذ ّكرت مسلسل رسوم متحركة ياباني مدبلج ،كان يُعرض على شاشة التلفزيون الحكومي بداية
التسعينات ،جعلنا نُصاب بصرعة صيد السَّمك .إنه مسلسل " رامي ،ال َّ
صياد الصغير " .آه يا اله كيف أنسى تلك
األيام و تلك الصرعة ؟ ! .شعرتُ فجأة برغبة في الضحك و أنا أستحضر حالي حين كنتُ في السابعة من عمري،
أحاول اختراع صنارة رفقة كل من البشير و فؤاد ،عسى أن نأخذها معنا إلى وديان منطقة الشفة مع نهاية األسبوع
الصطياد السمك ،سوى أن الحاج كان يرفض في كل مرة أخذنا إلى هناك بسبب الوضع األمني المتردّي.
_ ال شيء .....تعلمين ؟ ،ربما يجدر بنا االحتفاظ بالقدر األدنى من االحترام و االمتنان للتلفزة الوطنية
قديما .....قبل أن تصير تلفزة النظام ُحهريا ،كوننا نحتفظ بجزء من ذاكرتنا الجميلة في برامجها القديمة.
لم تترك لي صوفيا الوقت ألشرح لها ما كنتُ أقصد ،إذ أنها لمحت من بعيد بعض األشخاص الذين تعرفهم،
فتوجَّهت صوبهم مباشرة و من دون استئذان ،تاركة إياي أقف أمام تلك الصورة لذلك المراهق الواقف فوق
صخرة على ضفاف بحيرة المالح في القالة والية الطارف ،الشهيرة ببحيراتها الكبيرة الرائعة و ثرواتها الحيوانية.
131
أمعنتُ النظر إليه .كان يعتمر قبعة من القش ْ
بدت أنها أكبر من رأسه و هو يرمي ببصره الشارد تماما في نفس
النقطة المائية التي رمى فيها خطاف سنَّارته .يا ترى فيما كان يفكر ؟.
ابتعدتُ خطوة إلى الوراء و أنا أتنهد رافعا بصري إلى سقف القاعة المزين بثريات زجاجية كانت تتألأل بكل
ألق و صمت تضيء الجو للزوار بلطف .كنتُ أفكر مع نفسي ...في آخر مرة استحضرتُ طفولتي في البليدة،
صادف و سمعتُ أخبارا عنها '' ...هي '' ! .تأ ّملتُ الناس و هم في حركتهم المتباطئة ذهابا و إيابا بين اللوحات.
قلتُ أن تلك الفتاة العجيبة و بحسب ما أعرف ،تحب كثيرا مثل هذه النشاطات و التظاهرات .إنها عاشقة للمعارض
و الحفالت .عاشقة للحركة و االكتشاف و المرح .ال عجب أن اسها يفيض بالحياة .....بهجة !.
تساءلتُ و أنا أشعر باالستغراب تجاه ذلك الحنين إلى الماضي ،الذي اكتسحني على حين غرة ،بمجرد أن
تذكرتُ مسلسال كرتونيا قديما.
أردتُ أن أفيق من تلك اللحظة من الشرود .فرجعتُ بوعيي إلى حاضري .رحتُ أرمي بصري ماسحا بعض
الصور عبثا ،فشدَّ انتباهي شيء من بعيد ،جعل عيناي تتوقفان عن حركتهما و تلتصقان به .كان معلقا هناك في
الطرف اآلخر من قاعة العرض .كانت صورة ْ
بدت غير اعتيادية من بعيد .لم أفهم ،أهو ضعف بصري ؟ .دفعتُ
قليال نظارتي على أنفي بسبابتي شاخصا ببصري نحو تلك اللوحة .كان بعض المارة يحجبونها عني بحركتهم
المستمرة ،لكن لم يقف أحد عندها متأ ِّّمال في تلك األثناءْ .
بدت و كأنها تنظر إلي و أنا أقف على بعد نحو خمسة َّ
عشر مترا منها .شعرتُ أنها تنظر إلي ،تنتظرني ،أو ربّما تود استفزازي .تقدّمتُ بهدوء نحوها كمن يتقدم نحو
سره .كلما كنتُ أقترب منها بهدوء كلما كان يتبدّى لي
صوت صوفي خفي سمعه ألول مرة و هو يحاول اكتشاف ّ
سبب ظهورها المتميز بين باقي الصور .لقد كانت الصورة الوحيدة في المعرض ،على ما يبدو ،التي التقطتها
الفنانة باألبيض و األسود.
وقفتُ مقابال إياها و أنا أمعن النظر إليها .ابتسمتُ وحيدا .بدى لي أن قانون الجذب الكوني هذا فعال حقيقي.
كانت صورة لمجموعة من الفراشات التي تنتمي إلى نفس صنف الفراشات التي كانت تزور حديقة بيتنا في البليدة
سِّر ذلك على أنه إشارة معينة لحدوث
كل ربيع ،لتختار نوعا محددا من األزهار تطوف حوله و تحط عليه ،فأف ّ
شيء محدد تجاه الفتيات .آه ،أذكر ذلك :إن حطت الفراشة على وردة بيضاء فذاك معناه أني سأتم ّكن من التحدّث
سأتعرف قريبا على فتاة شقراء
ّ إلى فتاة جميلة في ذاك اليوم .إن ّ
حطت الفراشة على وردة صفراء فذاك معناه أني
جميلة .إن ّ
حطت الفراشة على أزهار البرتقال فمعنى ذلك ّ
أن إحداهن سترسل لي رسالة حب مجهولة المصدر .إن
ّ
حطت الفراشة على زهور الياسمين فإن األمر يتعلق بقبلة منتظرة من شفتي فتاة سمراء جميلة أو صديقة ما
أعرفها .أما إذا انتهى المطاف بالفراشة فوق وردة حمراء ....فكان ذلك يعني ،قطعا ،أني سأقع في حب من يجب
أن أقع في حبّها و أني سأعيش تجربة فريدة جدا تزامنا مع ذاك الحب.
132
اقتربتُ أكثر من الصورة و أنا شاخص ببصري أحاول فهم مضمونها .كانت صاحبتها قد اختارت لها عنوانا
غريبا بعض الشيء ." Les Machaons de l’argile " :ال مكان محدّد و ال اسم الوالية التي التقطت فيها تلك
التحفة الفوتوغرافية .كانت أربع فراشات تبدو و كأنها قد حطت فوق كتلة من الطين الالزب مع استمرار تحليق
ثالثة فراشات فوقها و كأنها تستعد هي األخرى للهبوط فوق الكتلةْ .
بدت الطين رطبة كفاية ما يعني أنها كانت
مشبعة بالماء .كانت تعكس بعضا من بريقها المتأللئ تحت أشعة الشمس ،التي كانت تالمسها في بعض أجزائها،
في حين كانت األجزاء األخرى محجوبة عن الشمس بظل شجرة على ما كان يظهر .غصتُ ناظرا إلى الصورة و
أنا أقترب منها أكثر مائال برأسي قليال جهة اليمين ،محاوال رصد كل تفاصيلها .توقفت .عدتُ قليال إلى الوراء .لم
أستطع تفسير األمر ،أهو تالعب ماهر بالضوء الذي تزاوج مع جاذبية اللونين األبيض و األسود في التقائهما بين
حدودهما الرمادية المتناقضة و المضطربة ؟ ،أم هي عناصر الصورة األساسية :الضوء ،الظل ،الطين و
الفراشات ؟ .أمر مؤ ّكد ،الصورة فعال كانت جميلة و جذابة بشكل غامض رغم عجزي عن إدراك رسالتها تحديدا.
توقف عندها الكثير من الناس مطوال .فيها ِّسحر غريب ال يُقاوم ،حتى أنا ال أصدِّّق
َ _ آه ...طبعا .إنها صورة
في بعض األحيان أني الشخص الذي التقطها !.
جاءني صوت المصورة نسرين من الخلف .التفتُ فوجدتها تقف مبتسمة و هي تتحسس خمارها األزرق
بيمناها ،قبل أن تتقدم لتقف على يساري و هي تبتسم محدقة بالصورة و كأنها تستمتع بإنجازها الفني الذي فاق في
جودته كل توقعاتها.
لك .إنها فعال صورة رائعة .لو كنتُ مكانك ،آنسة بعلي ،لشاركتُ بها في مسابقات مجلة ناشيونال
_ هنيئا ِّ
جيوغرافيك ! .لكن ما قصة هذه الصورة فأنا ال أرى سوى عنوانا مبهما هنا ؟.
_ التقطتها في إحدى قرى تيزي وزو قبل نحو عامين على ما أذكر .كان يوما ربيعيا جميال جدا ،أمضيته
هناك في منطقة إيبودرارن بوضاحي بني ينّي .أما العنوان فهو من وحي صاحب هذه الطين.
_ عفوا ؟.
_ حرفي قبايلي غريب األطوار .في الحقيقة اكتشفته عن طريق شخص كنتُ أعرفه .هو من تحداني بالقول
أني سأعثر عند ذاك الحرفي على أشياء تثير اهتمام أي فنان .بصراحة لم أحظ منه بالكثير فقد كان شخصا متحفظا
كثيرا تجاه الغرباء عن قريته و بيئته ،رغم أن التحف الف َّخارية الرائعة التي يصنعها من الطين و الصلصال
تستحق مئات الصور لها .ما تراه في هذه الصورة هو كتلة من الطين الخام ،حضّرتها له والدته ،العجوز الطاعنة
في السن ،كي يصنع منها أوانيه التقليدية الكثيرة.
133
_ ال أعرف الكثير عن الحشرات .لكن و بحسب صانع الطين ذاك ،فالماكاو هو اسم فصيلة هذه الفراشات
الظاهرة في الصورة .عندما بحثت في الموضوع ،وجدت أنها تسمى كذلك " ذيل السنونو " ،ذلك أن أجنحتها كما
ترى ،تأخذ شكال حادَّا عند الطرف ،يذكر بذيل تلك الطيور المهاجرة...
_ اآلن فهمتُ معنى عنوان الصورة .جميل و معبِّّر .لكن معذرة ،إنها الصورة الوحيدة التي التقطتها باألبيض
و األسود من بين كل صور المعرض ،على ما أظن ؟.
_ في الحقيقة ،كان هذا أحد شروط الحرفي الكهل الغامض .فبعدما سمح لي باالحتفاظ بهذه الصورة التي
التقطتها ،و هي لظاهرة غريبة تحدث معه دوما ،اشترط علي بأال أذكر مكان التقاط الصورة ،بل أكتفي بعنوانها
ضلت استعمال العنوان بالفرنسية " ،" Les Machaons de l’argile
الذي اقترحه علي باللغة البربرية ،لكني ف ّ
و اإلشارة هنا إلى طين الحرفي و ليس أي كتلة طين .لقد اشترط علي كذلك أن تكون الصورة باألبيض و األسود
دون سواها من الصور التي قد ت ُعرض معها ذات يوم ،ثم أضاف أنه يتو ّجب علي عدم بيعها أو تقديمها ألي كان،
بل أتركها تتجول و تسرح بحرية في كل المعارض و المناسبات التي قد أشارك فيها عبر الوطن .عندما سألته عن
السبب ،صمت قليال ،ثم ارتسمت على محياه إماءة تشبه البسمة ،قبل أن يستدير و يخطو مبتعدا عني و هو يتحدث
بكالم لم أفهم منه شيئا إذ كان بالقبايلية ،و بتلك الطريقة كانت نهاية لقائنا األخير ! .فعال كان رجال غريب
األطوار ....أه أستسمحك سيد و َّ
شاكي..
المصورة نسرين بلباقة و حياء متوجهة إلى مجموعة من المثقفين الذين عرفتُ بعضهم ،كون حسان
ّ ِّ ْ
انسحبت
يُجري معهم بعض المقابالت من حين آلخر ،دون الحديث عن مساهماتهم الكتابية في الجريدة .عدتُ إلى لحظتي
الغريبة تلك ،الغارقة في اإلعجاب بتلك الصورة و حنين غامض إلى الماضي .لم أفهم ما كان يُثيره بالضبط .ربما
هي فراشات الماكاو الجميلة ؟ .لكني رغبتُ حقا في الحصول على تلك الصورة و حملها معي إلى البيت ،رغم
عجزي عن فهم ما أثارته في نفسي بالضبط .أحببتُ فقط تعليقها في الغرفة التي أضع فيها مكتبي الصغير و
مكتبتي ،هناك في زاوية حيث يمكنني أن أراقبها حين أشتغل على بعض مقاالتي أو أبحاثي على النت ،أو حين
أطالع كتابا جيدا أو أضيع في غياهب تأمالتي .لم أجد في تلك اللحظة ،بعدما قلت في نفسي أني لن أجد طريقة ما
ألقنع المصورة نسرين ببيعها لي الحقا ،سوى أن أكتفي بمحاولة التقاط بعض الصور الرقمية لها بهاتفي المحمول،
لكني في كل مرة كنتُ أحاول ذلك إال و يبدو انعكاس نور ذلك المصباح الصغير ال ُمعلّق فوق إطار الصورة
واضحا في الصورة الملتقطة بالهاتف ،كونه كان ينعكس مباشرة على زجاج إطارها البالستيكي.
وضعتُ يدي خلف ظهري و أنا ال أزال ممسكا بالسول فون ،بعدما استسلمتُ لحقيقة أن النماذج الرقمية
ال ُملتقَطة لصورة فراشات ذيل السنونو لن تكون واضحة تماما ،بسبب تلك اللمعة الضوئية على زجاج اإلطار
البالستيكي الداكن ،فآثرتُ َّ
مرة أخرى الغوص في صمتي ،غير مبال تماما بكل صور المعرض أو المعرض أو
ضيوف المعرض أو حتى موسيقى دمحم روان .فقط غصتُ في تلك الصورة و أنا أتأملها حين راحت الدقائق ُّ
تمر و
134
أقترب منها مرة أخرى .كان زجاج اإلطار البالستيكي ممسوحا و مل ّمعا بشكل
ُ كأنها قد تسارعت فجأة ،ألجد نفسي
جعلني أستطيع رؤية انعكاس وجهي عليه و انعكاس حركة الناس الذين كانوا يمرون خلفي ،أو يقفون متفرجين
على الصور المقابلة ،و أنا في تلك اللحظة بين النشوة التي سببتها لي تلك الصورة بما أثارته في أعماقي من
أحاسيس غير مفهومة و بين حركات الذهاب و اإلياب خلف ظهري ،التي كانت تعكس أطياف أصحابها بشكل
ْ
وقعت عيناي اللتان كانتا ال تزاالن تداعبان التفاصيل الرقيقة خفيف على الزجاج ،شعرتُ و كأنني أجفل فجأة حين
لتلك الفراشات و طينها الطرية ،فجأة ،وقعتا على ظل كان يقف خلفي في جدار العرض المقابل .لم أصدق في
البداية ،فقد تدكرت كم من المرات التي كنتُ أعيش فيها نفس الموقف و أخطئ التقدير ،كون الشوق كان يجعل
عيناي تخطئان و تخدعاني بالطيف الخطأ ،لمجرد أن له نفس القامة و نفس لون الشعر و طريقة اللباس ذاتها،
فأحسبه .....ذاك الطيف.
شخص بصري على زجاج اإلطار كوني لم أرد أن ألتفت حلفي بشكل مباشر .قلتُ في نفسي أنه علي
االنتظار قليال حتى يتحرك ذاك الطيف من مكانه ثم أرى ما يمكن فعله .لكن قلبي اهتز داخل صدري فجأة و
اضطرب تنفسي ،في تلك اللحظة التي سمعتُ فيها صوتا أنثويا عذبا ينطلق بشكل حذر يتوخى عدم إثارة انتباه
الناس ..." Hey, I’m here ! " :حينها ،تج ّمدتُ في مكاني تماما و شعرتُ و كأن ركبتاي قد اكتسحهما الجليد
فجأة .لم أستطع االلتفات مطلقا ،كوني عرفتُ ذاك الصوت و تلك النبرة الطفولية ذات الصدى الخالد في أعماقي.
شخص بصري على زجاج إطار
َ قطعا ،ال يمكنني أن أخطئ تلك النبرة ! ،رغم الشك الذي استبد بي للحظة.
تحول إلى مرآة عاكسة .يا اله ! كانت هناك .تقف خلفي ،ظهري لظهرها ،تتأ ّمل
صورة الفراشات أكثر و الذي َّ
الصورة المقابلة مباشرة ،على بعد أربعة أمتار أو زيادة بقليل .....إنها فعال '' هي '' !! .تأكدتُ من ذلك قطعا و أنا
ملوحة بيدها نحو الشخص الذي نادته قبل ألمحها عبر انعكاس طيفها على زجاج اإلطار تلتفتُ إلى يسارها ّ ِّ
لحظاتْ .
بدت مالمح النصف األيسر لوجهها جليّة بشكل جعلني أتأكد من أنها فعال هي ...لم أصدق ....بهجة ؟ !!.
انقض
َّ طأطأتُ رأسي مغمضا عيني و أنا آخذ نفسا عميقا من أنفي في محاولة للسيطرة على االرتباك الذي
على أوصالي .فتحتُ عيني .رفعت رأسي باتجاه الصورة .رفعتُ قليال نظاراتي فوق أنفي بسبابتي .رحتُ أراقبها
عبر الزجاج و هي تتأ ّمل تلك الصورة التي مررتُ بها مرور الكرام قبل قليل حين شدتني صورة الماكاو .كانت
صورة المرأة من البدو الرحل سكان ضواحي والية البيض و هي جالسة القرفصاء تحلب عنزتها أمام خيمتها
المتواضعة .كانت بهجة تتأملها في صمت.
_ " ....ف ّكر...ف ّكر...اهدأ و فكر مع نفسك قليال ...ال تجزع....ثم َلم عليك أن تجزع ؟ ...مجرد زميلة قديمة من
أيام الدراسة ...اهدأ...اهدأ أيها األحمق." !! ....
كنتُ أردد في أعماقي بسرعة و أنا أشعر بقوة دقات قلبي في تلك الثواني الهائجة و قد بدأت تبعث بحرارة
غريبة تكتسح وجنتي و أذني فزاد قلقي من ذلك .أدركتُ حينها أن وجهي كان قد بدأ يستسلم الحمراره اللعين ،و
ي فائض المشاعر المضطربة تجاه تلك الفتاة طيلة سنوات خلت ،صار أمرا حتميا يحدث لي
بدى لي أن ما زرعه ف ّ
في كل لقاء يتم بالصدفة ،ال يمكن التحكم فيه أو تغييره بمحض إرادتي هكذا و ببساطة .لكنني و بخبرتي السابقة
135
معها ،كنتُ مدركا أن لذلك االضطراب وقتا محددا قبل أن تعود األمور إلى نصابها .لطالما عشتُ تلك التجربة في
يحمر وجهي ،ثم رويدا رويدا أهدأ....
ّ كل مرة كنتُ ألتقي فيها بهجة صدفة .أرتبك .يضطرب تنفسي و خفقان قلبي.
من الناحية الظاهرة على األقل.
استغرق األمر نحو دقيقة أو يزيد بقليل .هدأتُ بعدها فعال ،ألواجه الحالة التالية التي طالما عشتها تجاه الفتاة
التي كانت دوما ّ
تهز عالمي بكل قوة كلما رأيتها ،طيلة سنوات الحرمان و الخوف و الشوق و الندم و األماني
يتحول إلى خالّط
ّ المتأ ِّ ّخرة ،إنها حالة " ال ُجرعتين " ....جرعتان من الفرح و الخوف تُحقنان مباشرة في قلبي الذي
هائج ،يمزجهما بسرعة إلى درجة تحويلهما إلى محلول عضوي واحد .كان األمر أشبه باختالط القهوة بالحليب !.
لم يكن ممكنا الفصل بينهما بعد ذلك.
أخذتُ نفسا عميقا و أنا على أهبة االستعداد لاللتفات نحوها و التسلل خلفها ألقف بكبريائي و هدوئي ،اللذان
طالما خبّأتُ جنوني بها خلفهما ،كالعب خفة متحذلق يدّعي امتالك قدرات سحرية ليست سوى سرابا .كنتُ أرغب
في الوقوف خلفها ألرمي باسمها في أذنها مستعمال نبرتها الطفولية تلك التي علّمتني إياها .النبرة التي كانت دوما
تحولني في لمح البصر
ي ناطقة باسمي ،و كأنها ترمي بتعويذة سحرية ّ ِّ تسحرني و تتركني مبتسما كلما ْ
ألقت بها عل َّ
عار من ستائر النفاق و الكذب ،ألكون فقط ذلك الطفل الخجول الذي جذبته نحوها ذات يوم في
إلى تمثال إغريقي ٍ
كراس .كنا صغيرين يومها و كنا جميلين جدا !.
صف الدراسة ببسمة و ّ
ُّ
التفت نحوها و أنا أشعر بفائض من االضطراب و السعادة و اإلثارة بلقاء صديقة قديمة و حبيبة سابقة ،أو
هكذا حاولتُ أن أرى األمر ،بغباء ،بعدما ذ ّكرتُ نفسي أن ما حدث قد حدث و انتهى .كانت هناك تقف في صمت
تتأمل صورة المرأة البدوية .تقدّمتُ خطوة واحدة نحوها حين ظهر بين المارة شاب أسمر طويل القامة ،حليق
الرأس بزغب ذقن خفيف ،يرتدي نظارات طبية غليظة و هو يقف بجانبها يدفعها بكتفه في حركة مازحة...
136
_ Je t’avais cherché partout !..
قال و هو يتأفف...
_ Et je t’avais dit que je suis là !!, tu m’as pas entendu ?.
رد ْ
ّت عليه دون أن تنظر إليه.
_ Hey… elle est pas mal cella !!. C’est ta grand-mère !.
راح يضحك مشيرا بسباباته نحو صورة المرأة البدوية ،في حين دفعته بهجة بمنكبها ثم نظرت إلى ساعة يدها
و هي تطلق شهقة تدل على تفاجؤها بالوقت...
ي مونية.
طولتها شوية .الزم نروح قبل ما تروح عل ّ
_ يحي ! راح الحالّ .
_ زيدي شوية ...مازال ،مشفتش كلّش ،أنا هذا وين جيت !..
هكذا .بكل بساطة .انسحبا و الشاب يسير خلفها راميا بقدمه وسط قدميها محاوال جعلها تتعثر .راحا يضحكان
حين أسرعت خطاها و كأنها تهرب منه .وقفتُ أنظر إليها بهدوء شديد ،أضع يدي في جيبي كمن ال حول و ال قوة
له .عيناي كانتا تحاوالن بيأس التشبّث بآخر خيط ضوئي منبعث منها ،شوقا و لهفة ،و قد عادت تلك الحرارة
لتزحف على وجنتي و أذني ،و كأن أحدهم قد وضع قطعة قماش مشبعة بماء دافئ على وجهي .لكن داخلي كان
يفيض بنفس الشعور اللعين الذي كرهته و الذي أرقني و أتعبني طيلة أعوام اإلكمالية و الثانوية ،حين كنتُ أرى
أحدهم يقترب من بهجة في الواقع أكثر مما كان يمكنني أن أقترب منها في أحالمي التعيسة " .من يعلم ؟ " قلتُ
محاوال مواساة نفسي " ...لعلّه مجرد زميل يشتغل معها في الثانوية ! " لكن ذلك لم يشفع لي.
اكتسح نفسي جو شتوي سرعان ما أطفأ حرارة وجنتي و شعلة عيني .نسماته الباردة تسلّلت من الماضي ،و
لتوها بعد محاولة فاشلة
كأنها روح بُعثت من مقبرة األحالم القديمة ،لتتغذى على شظايا أمل طفيف تبعثرت ّ ِّ
لاللتحام .نسمات امتزجت بشيء يشبه الخوف الذي يلوح به الهم تُجاه قلب مكسور من بعيد .شعور عشته قبل
ثمانية أعوام من تلك األسمية ،يوم وصلتُ إليها متأخرا و أدركتُ ذلك ،بل و حين أدركتُ أنها أبدا لن تعطيني
مجرد قناع
ّ فرصتي الضالّة معها ،بسبب الحالة التي بدوتُ فيها أمامها ذاك اليوم ،مرهقا ،ضائع و بدون بوصلة.
شاحب حائر فقد مالمحه الحقيقية .مجرد طيف خائر مألت ندف الثلج بؤبؤ عينيه لحظة االنكسار.
ثم ......يا له من إحساس غريب و مزلزل ذاك الذي هزني و أنا أراها تختفي وسط جمع الحضور ! .كانت
الرغبة الدفينة و المكدَّسة في أن أكون صديقا مقربا لها ،على األقل ،يمكنه أن يراها و يجالسها و يلتصق بكتفها
137
إلى حد الملل من وجهها ،الذي ُخلق – في الحقيقة – ليكون نبعا يرتوي منه أصدقاءها حتى الثمالة ،دون أن يفكروا
في االبتعاد عنه .لكني لسوء حظي ،لم أر بسمتها الخالدة تلك ،بل لم أستطع التمعن جيدا في تفاصيل وجهها و
صت أمامي و هي تتعارك بصبيانيتها
لباسها و جسدها ! .حالة الفوضى و ومضات الذاكرة التي اصطفت و ترا ّ
التعيسة فجأة داخل رأسي ،مثيرة غبار تلك األحاسيس بسبب اللقاء المفاجئ ،و رحيل بهجة السريع ،قد حرمتني
جميعها من لحظة تأمل واحدة في البهجة التي طالما أحببت .تمنيت فقط لو كنتُ قادرا على أن أكون قريبا منها
حتى عندما تبتعد ! .لكنها كانت هناك .كانت تبتعد قبل أن تتوارى نهائيا عن أنظاري المحبطة " .بهجة ،الصديقة
التي لم أحظ بها يوما ....الحبيبة التي لن أحظى بها أبدا " ..هكذا كنتُ أردّد طيلة سنوات بعد ذلك اليوم الربيعي
الكئيب .التاسع و العشرون أفريل من عام .! 4111
وجدتني أنسحب في صمت متأففا و قد نسيتُ حتى صورة الماكاو و أحاسيسها تاركا إياها خلفي و كأن شيئا لم
يحصل .خرجتُ إلى سقيفة القصر الرخامية الواسعة التي تطل على العاصمة و البحر و أنا أسحب علبة السجائر
من جيب قميصي ناظرا إلى ساعتي .كانت تشير إلى السابعة و اثنتين و أربعين دقيقة تقريبا .وضعتُ سيجارة بين
شفتي متن ّهدا حين بدأتُ ألتقط بسمعي النداءات األولى البعيدة ألذان المغرب و هي ترتقي في الجو راكبة تلك
تلتحف برداء ضوئي أحمر لطيف
ُ النسمات الخفيفة بهدوء و سالسة .كان الجو منعشا و جميال ،و كانت العاصمة
نُسج بأشعة غروب الشمس ،لون مشع بخجل ،طغت عليه الحمرة المائلة إلى اللون الزهري التي كانت تميل إلى
اللون األحمر عند األفق ،حيث ترك قرص الشمس المنسحب من بعيد في صمت آخر آثاره على النهار ،بينما
كانت أطرافها البنفسجية البعيدة تستسلم بهدوء لرداء من األلوان القاتمة و الباردة ،التي كانت تتسرب بهدوء و ثقة
إلى قبة السماء ،تماما كما تستسلم النساء لمداعبة أنامل و ألسن الرجال التي تغزو أجسادهن الناعمة بسالسة و مكر
كل ليلة.
رميتُ ببصري إلى يساري أين بدى لي مقام الشهيد منتصبا في عليائه و صمته الجليل من بعيد خلف
يروح عن نفسه في وحدته تلك بمالمسة ذلك الطيف الضوئي األحمر األخير الذي كان يدفع أكثر
األشجار ،و كأنه ّ ِّ
بكرة الشمس نحو منحدرها في األفق خلف البحر المتوسّطِّ .همتُ في ذاك اللون و أنا أستشعر مدى ّ
تشوش
مشاعري ،بعدما اعتقدتُ أن زيارتي للمعرض قد تساعدني في ترتيبها ،لكن رؤيتي لصاحبة ال َّ
شعر الغروبي قد
انتهى ليقلب طاولتي الصغيرة التي كنتُ أحاول عبثا ترتيب أوراقي فوقها ،األوراق التي كانت ريح السبق النهائي
قد عبثت بها بمكر شديد قبل أيام !.
_ " يا ترى ...أي أثر تركته السنين على مالمح قلبك يا بهجة .أال يزال الناس يشربون من نقاء نظراتك
ت تلتهمين الحياة في شره بضحكاتك الطفولية تلك ؟ .أال تزالين كما أنت مذ رأيتك آخرة مرة،
البريئة تلك ؟ ،أمازل ِّ
أم تغير شيء أو أشياء في قلبك تجاهي ؟ ''.
أحسستُ أني خائر القوى تماما و أنا عائد مع صوفيا و حسان بعدما انسدل ستار الليل على مدينة البهجة
البيضاء .ربما رغبتُ في لومهما كثيرا ألنهما أخذاني إلى المعرض ،لذلك فضّلت الجلوس في المقعد الخلفي
للسيارة ملتزما الصمت .كنتُ في الحقيقة نصف واع و أنا أنظر فقط إلى تلك األنوار الساطعة التي كانت ُّ
تمر على
138
وجهي و كأنها أمنيات مضطربة ،تعبر في لمح البصر في هيامها القلق لتضيع في عمق الفراغ .....فراغ
المستحيل .لم أستطع لملمة أفكاري و كانت تلك من المرات النادرة التي لم أستطع فيها التفكير في شيء معين
أرغب في العودة إلى البيت ألدفن نفسي في فراشي رغم شكي الكبير في مالمسة النوم
ُ بتمعن و تركيز .كنتُ
لجفني.
كان الزميلين يثرثران حول موضوع ما في األمام .لم أكن أعلم عما كانا يتجادالن حين كان حسان يستمع إلى
إحدى حصصه األدبية المفضلة عبر أمواج إحدى اإلذاعات الناطقة باإلسبانية .على األرجح كانت صوفيا تود
سماع شيء آخر كونها ال تتقن اإلسبانية ؟ ،قبل أن تنتشلني من شرودي الفارغ للحظة و هي تسألني كمن تسأل
خبيرا عن اسم تلك المقطوعة الموسيقية الهادئة ،التي بدت و كأنها ُجعلت فاصال قصيرا لمستمعي البرنامج
اإلذاعي .أمعنتُ السمع للحظة ثم أجبتها بصوت غائب...
ْ
انتهت إلى حلم غائر مليء باالنفعاالت ّ
المتقطع، أما عن تلك الليلة ،فطبعا ،لم أظفر إال بأربع ساعات من النوم
الكثيفة .مضى وقت معتبر لم أر فيه ذاك النوع من األحالم التي تختلف في بعض التفاصيل لكنها دوما تدور حول
موضوع واحد و تحمل لي نفس اإلحساسات تقريبا .األحالم التي أجدني فيها أبحث يائسا عن بهجة وسط ساحة
مدرسة مكتظة ،ثم يُقال لي أنها في غرفة الصف رقم كدى أو كدى ،فأركض بكل سرعتي إلى الغرفة الموصوفة
لي و كلي يقين و اندفاع ذكوري .أقتحم بابها بسرعة فإذا بها فارغة تماما ،ثم أعود إلى الباب للتأكد من رقم
الغرفة ،فأجده غير الذي قيل لي ،فأقتحم الغرفة تلو األخرى و أنا أشعر برغبة عنيفة تقطع أعماقي في الصراخ أو
حتى البكاء .ثم يقال لي أن بهجة قد خرجت لتوها من المؤسسة رفقة مجموعة من األصدقاء .أعود أدراجي راكضا
بين الحشود التي تعيق نظري و تحول دون رؤية البوابة ،فإذا خرجتُ أخيرا منها أجد نفسي ألتفت إلى كل الجهات
محاوال رؤية الفتاة بين المارة ،لكن بال جدوى ،ثم أدرك أنها اختفت و لن يكون بإمكاني النظر إلى وجهها الطفولي
كي أنعش ذاكرتي بتفاصيله الربيعية ،أو محاولة إقناعها بإلحاح تام كي تعطيني فرصة صغيرة معها .لكنها في
الغالب تكون قد ذهبت .أرغب في البكاء الشديد ،لكن دموعي كأنما تتجمد في قلبي و تعجز عن االنطالق.
غالبا ما كنتُ أستيقظ من تلك األحالم و أنا أشعر باختناق ال يُطاق و شوق شديد لبهجة .لكن مع مرور السنين
و تقدمي في العمر ،صرتُ استيقظ منها و أنا أتذوق إحساسا خفيفا من األسف سرعان ما يليه عدم االهتمام.
تلك الليلة ،استفقت من الحلم .فكرتُ فيه قليال .ثم تجاوزته إلى مواضيع متسلسلة أخرى ،أغلبها مرتبط بعملي
و أسئلتي .ثم وجدتُ نفسي أغادر فراشي ،أحوم في ساعات الصبح األولى حافي القدمين في أرجاء الشقة ،كشبح
جوعان يود التهام الحقيقة .شبح حائر ضائع باحث عن جثته التي ألقى بها ي ّم زمن الرداءة على شاطئ مظلم و
بارد ال يعلم أحد مكانه بعدما قتلته جراح هذا الوطن .كنتُ أحاول لملمة أفكاري ألفجرها ممزوجة مع حيرتي و
غضبي و إحباطي من نفسي و من هذا المجتمع الموبوء ،الذي كانت حاله المزرية و المباالته الغريبة تجاه وضعه
تستفزني و تُعذبني بال تو ّقف.
139
-12-
------------------------------------------------------------------
موسطاش َّيات
أذكر أنه قبل نحو عامين من اليوم ،جمعني حديث عابر مع كهل
التقيته صدفة حين كنتُ مجرد صحفي مبتدئ .أخبرته أن الجزائر حلّ ْ
ت
في المرتبة ما فوق 012على سلم البلدان التي تعاني الفساد و الرشوة و
التي تضم قائمتها 092بلد .راح يسبّ و يشتم و هو يقول بأننا حقا في
مواجهة دولة ِّ 012بشعب ،! 011نسبة إلى جملة " الغرفة " 011
التي أطلقها الراحل يحيى بن مبروك في رائعة عطلة المفتش الطاهر
140
السينمائية الكالسيكية للمخرج موسى حداد ،و التي صارت ترمز في
الوعي الجمعي الجزائري إلى الرجل الذي يتّخذ من السلوك األنثوي
الناعم و المداهن طريقة لتحقيق أهدافه ،حين يحتاج بدل ذلك إلى الجرأة
و الحزم أو حتى خوض الصراع.
يحضرني هذا ،فجأة ،و أنا أسأل نفسي :هل كنا قبل سنتين فقط،
نتصور أن البلد سينحدر إلى ما هو عليه اآلن باسم الفساد السياسي و
األخالقي الذي انتهى أخيرا للطلوع علينا كما تطلع الشمس الحارقة
على مختلف األصقاع ال يحجبها عنها شيء ؟ .و الحال أن الفساد
السياسي صار يُشكل وحدة عضوية مع المنصب الحكومي بفضل
سايب
اسمنت الريع النفطي و المال الفاسد .ناس زمان قالوا :المال ال َّ
ْ
استحالت محاربة الفساد و الرشوة مع كثرة الهيئات و يضل التايب .بهذا
القوانين الفارغة ،التي صيغت من أجل اإلضالل و تشتيت الجهود أكثر
من التركيز على هذا الهدف ! .فالمنصب الحكومي في الجزائر صار
العدو األول و األخطر للوازع األخالقي للفرد – الجوعان في رأسه
أصال – الذي صار ينجرف بشكل سببي نحو االنبهار بامتيازات و أبّهة
المنصب ،و سهولة التّسلّط فيه و ضعف ّ
الرقابة عليه ،الذي يدفع به مع
مرور السنين إلى بناء شبكة متينة من األقارب و أبناء القرية و العرش،
التي تذود عن مصالحها المشتركة معه ،و التمادي حد التلذّذ بالتعسف
الذي يصير هكذا " قاعدة عامة للسلوك " يتم االتفاق عليها بصمت و
تواطؤ في تلك األوساط المغلقة أو شبه المغلقة ،مما يجعل من المنصب
في النهاية أداة اجتماعية تعزز ما يُسمى " عقدة الغالب " التي يصعب
التنازل عنها فيما بعد ،خاصة حين تتقاطع مع النفسية الجزائرية
المصابة بعاهة ال ُحهر ،حتى لو أدى ذلك إلى تهديد استقرار الدولة في
العمق.
ال نعجب إذن حين نرى كيف أن من بين الميزات العقلية للمتخرجين
من المدرسة السياسية الموسطاشية هي أن الخصم في السياسة –
بالنسبة إليهم – هو عدو صريح ،و المعارض خائن ،و الرعية حسود و
فوضوي محتمل ،و المنصب ،طبعا ،هو غنيمة حرب ال تنازل عنها !.
141
االجتماعية االنهزامية المأثورة ،على شاكلة :حشيشة طالبة معيشة .اللي
يرفد راسه للسما ينعمى .احفظ الميم يحفظك....الخ .التي جعلت مجتمعنا
يتنصل من جميع مسئولياته األساسية في الرقابة و الدفاع عن حقوقه
المدنية التي يقرها الدستور حرفيا.
----------------------------------------------------------------
كان هذا مقالي الجديد الذي قدّمته إلى السّي رزاق صبيحة السادس مايو 4102كي ينشره في عمودي
موسطاشيات .كنتُ نصف صاح بعد بضع ساعات من النوم المتقطع و بالكاد مركزا مع ثرثرة إحدى المسئوالت
بالجريدة ،و هي تنتقد عبارة " الحرب األهلية " التي جاءت في آخر المقال ،إذ أنها تفضّل في الغالب عبارة "
المأساة الوطنية " كونها ترى أن لها صدى أعمق في ضمير المجتمع ،أكثر من الجملة األولى التي كانت تراها
مجرد تعبير " تقني " بارد و غير دقيق ال يزال يًعرض الجريدة لكثير من الضغوط من طرف أجهزة األمن
المكلفة بمراقبة الصحافة .كانت لم تفهم بعد أني أنتمي إلى جيل بات ينزع أكثر فأكثر ،و بغضب نام ،إلى تسمية
األشياء ب ُمسمياتها أو كما يراها على األقل ،دون لبس و ال حرج.
لم أعرها أي انتباه .ربما ألني كنتُ نصف صاح ! .خرجتُ من مقر الجريدة ألق َّل أحد الزمالء من القسم
الحراش ،بعدما طلب المس اعدة كونه كان من دون سيارة و كان يخشى زحمة سير العاصمة
ّ الرياضي إلى معلب
الخانقة .كان يريد الوصول في الوقت المناسب ،لتغطية مباراة فريقي إتحاد الحراش و مولودية الجزائر .كان الجو
حارا بعض الشيء ،يمسح بكفه على جباه العاصميين مذكرا إياهم بأن الصيف يقترب بسرعة .و كان الرجل
متوترا بسبب التأخر و زحمة السير العاصمية التي عادة ما تتسلل إلى األذهان المرهقة كيد بأظافر طويلة و حادة،
142
غرضها الوحيد هو تقطيع األوتار اله ّ
ش ة التي تعزف عليها لحنها النشاز ،لتترك العاصميين صرعى لكل أنواع
الجنون.
يكف عن النظر إلى ساعة يده ،في حين كنتُ أمسك المقود و أناّ طفق الشاب يُثرثر دون انقطاع و هو ال
غائص تماما في أفكاري ،أقلّبها و أعجنها و ّ
أمططها فوق فصي الجبهي ،تماما كتلك العلكة التي كنتُ أمضغ .ألقل
أني كنتُ عالقا في نوع محدّد من األسئلة التي لم أستطع بلعها كما لم أقدر على بصقها بعيدا " :ما العمل يا ترى ؟.
أستمر ؟ ." ...مصطلح الموسطاشيا لم يعد يجد نفعا ،و قريبا سيلتحق به مصطلح ال ُحهر
ّ من أين المخرج ؟ .من أين
و سيدخل مجال " العادي – نورمال " في وعي المجتمع .و كأني لم أقم بشيء ؟ ،في حين كان الهدف المنشود
لعمود موسطاشيّات هو تثوير وعي المجتمع و النخب حول الكارثة السوسيولوجية و السياسية و الثقافية التي
يعيشها هذا البلد المسكين ! .كنتُ أرغب في أن يجعلنا هذا العمود نفتح أعين عقولنا جيدا و ندرك أن المسألة
الجدلية الحقيقية التي يجدر بنا التركيز عليها ال تتعلّق بمن هو الصالح و من هو الطالح ،أو من هو الجالد و من
هو الضحية ،أو من هو السّوي و من هو المنحرف ،أو من بدأ أوال برفس وجوهنا و جلد وجودنا .كنتُ أستذكر
ذاك السؤال الذي طرحه أستاذ مادة المنهجية ،السيد أبو عماد ،ذات يوم في خضم نقاش حام جمعه مع بعض الطلبة
مدرج الجامعة ،حين حاولوا إقناع الجميع بأن الخطأ الوحيد األوحد هو خطأ النظام الحاكم في البلد ،لفساده و
في ّ
قذارته و جهله .لكن الدكتور أبو عماد وضع أحجارا شفّافة ثقيلة في أفواههم بسؤال دقيق و منطقي " :أرأيتم في
حياتكم نظام حكم سياسي فاسد و مخادع و عنيف يحكم شعبا نظيفا و واع و مثقّف أو العكس ؟ ".
أسئلة السيد أبو عماد كانت كالشفاء تماما .كانت تهدّئ النفس و تف ِّت ّح العقل بسالسة على نور التب ّ
صر الهادئ،
المتسرعة.
ِّ ّ البعيد عن الغبار الذي تُثيره لحظة اليقينيات الخاطفة المتل ّهفة إلى الغضب و العناد في حركتها التلقائية
هذا ما حاولتُ اتّباعه في بحثي عن سبقي النهائي ،لكني كنتُ أشعر أني أدور في حلقة مفرغة ،ألن النتيجة كانت
تجهر بذلك و كان يجب أن أتوقع ذلك منذ البداية ،كوني كنتُ قد دخلتُ متاهة حقيقية ،دون أن أعلم ،مذ أول يوم
اخترعتُ فيه مصطلح " السبق النهائي " ليكون المفتاح الذي يقودني الى حيث أرغب في الوصول .لقد اتفقنا منذ
البداية في بلدنا هذا أننا بصدد عيش أزمة متعددة األوجه ؟! ،إذن ،كنا لنتيه في بحثنا عن الحقيقة دون أن نشعر
بذلك .لهذا كان سؤال اللحظة األهم " :إلى أين وصلتُ بتيهاني و كم ابتعدتُ عن الطريق الذي كان يجب أن أضل
صخر األصم....
عليه يا ترى ؟ .كان وقع السؤال على نفسي كصدى وقع المطرقة الحديدية على ال ّ
أعادني صوت الزميل إلى داخل السيارة ،لكنني لم أعره اهتماما و اكتفيتُ بغمزه فقط ،تاركا إياه يغرق في
ثرثرته التي كانت أشبه بأزيز جناحي ذبابةّ ،
يهز بقوة خفية طرفي وتر هش للغاية على وشك االنقطاع ،ليجعل
كومة كبيرة من الصخور التي فتّتتها مطارق الحديد تتدحرج من على جرف عال .كنتُ فقط أحاول إيصاله في
أسرع وقت ممكن حتى أتفرغ لنفسي و مأزقي فقط ،إذ كانت الثرثرة الجزائرية آخر سلوك إنساني مزعج شعرتُ
أني قادر على تحمله ذاك اليومّ ،
لكن الشاب صمت هنيهة حين اقترابنا من الجهة الجنوبية سالكين طريقا مختصرا
عبر بعض زقاق األحياء السكنية القريبة من ملعب المح ّمدية المحتضن للقاء .كان الهواء قد بدأ يحمل شيئا من تلك
143
الحراش القريب .كانت األهازيج الرياضية المنبعثة من الملعب تزداد قوة كلما اقتربنا منه .راح
ّ الروائح النتنة لواد
ينظر إلى ساعة يده كمن فاته شيء ما ،لكنني كنتُ متأكدا من أني أوصلته في الوقت المناسب فنظرتُ إليه....
لم يُجبني .كان يتصل هاتفيا بأحدهم و هو شاخص ببصره نحو الملعب الذي كنا نقترب منه بسرعة ثابة ،و
قبل أن أنطق بشيء آخر ،راح يتحدث إلى زميل له كان داخل الملعب تلك األثناء بحسب ما بدى لي ،فارتسمت
على مالمحه بسمة خفيفة علتها نظرة حماس زائد ،ثم ّ
هز حاجبيه كمن ال يُصدّق ما يسمع .كنتُ ألظن أن األمر له
عالقة بالمباراة لوال أني شاهدت من بعيد أعمدة من الدخان األسود تتصاعد من داخل الملعب ،زاد معها امتزاج
صوت الحناجر حدة و هي تفقد تناسقها الصوتي لتتحول في بضع ثوان إلى مجرد كتلة من الصراخ الغوغائي كأنه
طنين دبابير هائجة .كان يع ِّبّر عن حالة واحدة :الفوضى !.
_ وشاكي ،يجدر بك التوقف هنا فقد انقلب الوضع في الملعب .سأتوجه راجال إلى هناك لتغطية ما يحدث .عد
أدراجك قبل أن تخرج تلك الغوغاء و تصل إلى هنا.
قاطعني و هو يغمزني مصدرا طقطقة بلسانه مع بسمة ماكرة .لم أشعر بالطمأنينة عليه ،فنزل و انطلق
راكضا نحو الملعب المحترق من بعيد .بقيتُ أراقبه و أنا ال أودّ التحرك بالسيارة .كنتُ أراقب دخان نار الجنون
ّ
المحطم و الحانق على كل شيء .و أنا على تلك الحال ،راكن سيارتي الفضية التي أضرمها جيل أطفال التسعينات
المبعوجة أراقب أعمدة اللهب و أنصتُ إلى أهازيج الفوضى ،فإذا بشيء بارد كالظالم ،متربص كالموت ،حاد و
قاطع كاليقين ،يوضع على حنجرتي في حركة شيطانية خفيفة خفية امتدت بمكر عبر نافذة السيارة ،ليليها صوت
صبي لم تكتمل بعد قوة أحباله الصوتية و هو يُحدثني بلكنة عاصمية باردة جدا....
ثانيتان فقط مرتا على وعيي ليهضم ما كان يحدث .كان كل شيء جليا .الفتى يبحث عن أحد األرباب الكثيرة
صب نفسه ربّا على ذلك
التي يذكرها الجزائريون في غضبهم و مسطشتهم الالمحدودة .مراهق حاهر ،ربما ن َّ
الزقاق الضيق الذي اصطادني فيه !! .حبستُ أنفاسي حين ضغط بمصله الحاد بعض الشيء على حنجرتي .لعله
ْ
ثقلت كان يود جعلي أفكر مرتين قبل أن أقوم بأي حركة جريئة .تسارعت دقات قلبي فجأة و اضطرب تنفسي.
تشوشت أفكاري لبرهة .اللعنة عليه ! ،من أين جاء و كيف لم أشعر بحركته و لم أره عبر المرآة العاكسة
ي و َّ
ساق ّ
؟ ...اللعنة عليك يا ابن الـ !...
144
ّ
متسلقا من أطرافها نحو أجبته بهدوء مصطنع و أنا أبسط يدي بعدما بدأ برد غريب يزحف على أصابعي
صدري .سمعتُ باب السيارة األيمن يُفتح ،فرميتُ بمقلتي جهة اليمين دون أن أحرك رأسي ال ُمحاصر بالخنجر
الحاد ،فإذا بربّ صغير ثان يفتح الباب اليمنى للمركبة و يدخل مباشرة و هو يمد يده اليسرى فاتحا صندوق
األوراق و هو يحمل سيفا بيمناه .رباه !! كان ذلك سيفا حقيقيا ! .منظر كهذا لم أكن أراه سوى على صفحة قسم
المجتمع في جريدتنا أو جرائد أخرى أو حتى بعض القنوات التلفزيونية الخاصة ،التي تنقل واقع حروب الشوارع
و العصابات في مدننا الكبرى المثخنة بطعنات االنتقام لهذا الجيل الحاهر الصغير ،الذي ال منطق و ال قانون يحكم
عالمه الصغير الضيق .ثم إنها المرة األولى التي أتعرض فيها للسطو ! .شعرتُ أن العالم سينهار من حولي
فعليا....
َّ
تستفز حركة حنجرتي ضغط أكثر بمصله اللعين على رقبتي إلى حد أني لم أجرؤ على ابتالع ريقي ،خيفة أن
مصل الحهر المسلّط عليها فيقطعها حتى دون أن يشعر .كنتُ أعلم أن مثل هؤالء المنحرفين مدمني الحبوب
الملهوسة قادرون على نحر شخص بالغ من أجل وريقة 411دينار جزائري مهترئة و من دون أدنى تردد.
145
في تلك اللحظة أحسست بحركة مضطربة من الفتى الذي كان يحاصرني و هو يرمي بصره إلى مصدر
صدى أصوات كانت تقترب من بعيد تتالطمه الزقاق المحيطة ،كان صدى لسيارات شرطة قادمة من بعيد نحو
الملعب المشتعل .وثب الفتى األصغر من السيارة و هو ينظر نحو جهة الصوت و بدى قلقا أكثر من شريكه .تلك
كانت فرصتي .بضع ثوان فقط ،كانت كخيط الصراط الذي يقطع جهنم ،كان علي أن أعبره بسالم و إما أهلك !.
قال المراهق األكبر محدثا الفتى الصغير بنبرة ثقة مصطنعة و كأنه يريد استفزازه كي يعود الى السيارة ،و
في اللحظة التي أراد أن يقول فيها شيئا لي و هو ال يزال يرمي ببصره إلى مصدر األبواق ،بحركة خاطف،
سرعة .صرخ الفتى متألما
أمسكت بمعصمه و لطمته بكل قوة على المقود حين كانت يدي اليمنى على محول ال ُّ
بعدما أفلت السكين الذي وقع بين ساقي حين انطلقت بالسيارة الى الوراء جاعال الفتى الثاني يرتطم ببابها األيمن
ْ
انقبضت أنفاسي عن آخرها و أنا أتراجع بالمركبة إلى الخلف بسرعة قصوى مثيرا غيمةالمفتوح و يسقط أرضا .
من الغبار أمامي ،و كأن أحدا سد حلقي و جلس بثقله على قلبي الذي كان يريد القفز من خارج جوفي حين كنتُ
ألمح الفتى الصغير ينهظ بسرعة و يلتفت نحو شيء ما على الرصيف ،حين كان شريكه ال يزال ممسكا بذراعه و
هو يتألم مطلقا سيال طويال من العبارات النابية.
ْ
انفرجت عقدة حلقي و أنا أسحب دفقة من الهواء بسرعة إلى داخل رئتي ألكتم أنفاسي مرة اخرى ،كمن
يغطس إلى أعماق الذعر مرة أخرى ،في اللحظة التي أدرتُ فيها المقود بسرعة جنونية و أنا أ ّ ِّ
حول السرعة حين
ارتطمت مؤخرة السيارة بالرصيف مقتحمة إياه بقوة ،فانطلقت بها من الجهة المعاكسة حين رميت ببصري على
الغر الصغير كان قاب قوسين أو أدنى يركض مخترقا الغبار الذي أثارته
المرآة العاكسة ال أكاد أصدق أن ذلك ّ
السيارة و هو يلقي بذاك الشيء الصلب الذي فجر به الزجاج الخلفي و استقر تحت المقعد .انطلقت بسرعة جنونية
كادت تهشم زجاج الباب األيمن الذي انغلق بسرعة و أنا أصرخ بأعلى صوتي غضبا على ذلك الوغد الصغير
الذي كاد يقتلني .وددتُ في تلك اللحظة لو أستدير و أعود أدراجي باتجاهه ألسحق جسده الطويل و النحيف تحت
عجالتي ،لوال أني رحتُ أتنفس بعمق محاوال إخراج عقلي من لحظة الذعر و الغضب األعمى و أنا ال أكف عن
النظر الى زجاج المؤخرة المهشم عن آخره عبر المرآة العاكسة.
**********
ذهبتُ إلى مقر الشرطة .أبلغتُ عن الحادثة .سلّمتهم السكين الذي وقع من يد الحاهر الصغير تحت قدمي .كان
ذاك الشرطي يمأل المحضر متملمال وسط جو مزعج ،زادته أصوات آلته الراقلة القديمة احتقانا ،قبل أن يجعلوني
أنظر إلى وجوه عدد كبير من المراهقين المسبوقين قضائيا ،كانوا يحتفظون بصور لهم في سجل ثقيل ذو غالف
مهترئ ُ
شدَت أطرافه بشريط الصق .لم أستطع التعرف على وجه ربَّي الشارع الصغيرين كوني لم أحصل على
فرصة للتمعن في تفاصيل وجهيهما .كنتُ فقط أرغب في مغادرة ذاك المكان المشحون بالتذمر الصامت.
146
أخذتُ السيارة إلى صديق يمتلك ورشة تصليح في منطقة جسر قسنطينة في انتظار أن ترسل شركة التأمين
التي أتعاقد معها أحد تقنييها لتقييم الضرر الذي أصاب الزجاج الخلفي و الباب األيمن .كان الجو حارا نوعا ما،
لكني كنتُ أختنق أكثر من الالزم ،خاصة حين أردتُ ركوب إحدى حافالت النقل الحضري للتوجه إلى بئر مراد
رايس دون أن أعلم حتى َلم كنتُ أرغب في الذهاب إلى هناك ؟ .وقفتُ و أنا أشاهد تدافع الرعاع على ركوب تلك
الحافلة المهترئة لسائقها الذي بدى غير مكترث تماما لكل تلك الفوضى و هو يتف ّقد شاربه في المرآة العاكسة ،حين
وقف بائع التذاكر ذو الهندام غير الالئق و نبرة الصوت الخشنة و هو يصرخ في الجميع مهددا بغلق الباب و
االنطالق تارك إياهم في الموقف .أجبرتُ نفسي على التدافع و الركوب رغم أن منظر ذلك الفتى لم يختلف كثيرا
عن الحاهرين اللذين هاجماني بالقرب من الملعب .قامة فارعة ،جسد نحيف ،تسريحة شعر غريبة ،بدلة رياضية
غير متناسقة في شكلها و ألوانها و وجه مك ّ
شِّر مظلم ،على األرجح اكتسب مسحته الكئيبة الغاضبة تلك من
استهالك الكيف المعالج أيضا .يا اله ...كنتُ أختنق ! .ال أدري أكان الجو أم الغضب أم الناس أم كل شيء .كنتُ
فقط أجبر نفسي على الوقوف وسط الحافلة محاصرا ببعض األفراد و أنا أحاول تفادي االلتصاق بهم قدر
المستطاع دون فائدة في معظم الوقت .كلما كنتُ أحاول التحايل على فضاء الحيز كاسبا بضع إنشات تفصلني عن
جسد ذلك الذي تفوح منه روائح غريبة أو اآلخر الذي لم يكف للحظة عن الصراخ على هاتفه المحمول ،إال و
وجدتُ ثالثا أو رابعا يزاحمني بتشجيع من بائع التذاكر الذي كان ال يكف عن حث الجميع على ترك بعض
ّ
محطة المساحة لألشخاص الذين كان يُكدّسهم كالدجاج ،إرضاء لربّه الصغير الجشع ،داخل مركبته اللعينة مع كل
توقف.
أكف عن توزيع نظراتي التي كانت تكاد تكون متوسلة و هي تسأل وجوه هؤالء
زاد اختناقي و حنقي و أنا ال ّ
القوم " :أال تعرفون شيئا اسمه الفضاء أو الحيز الحميمي ؟!! " .حتى النساء استسلمن لألمر الواقع .لم أر عالمات
ضيق أو تقزز أو نفور واضحة على األقل ،تجاه بعض المرضى الذين استبدت بهم لذة االلتصاق بجسد أنثوي
طري و ممتلئ في ظرف اتسم بالقهر و الالمباالة و المكر .تبا ! كيف وصل بنا الحال إلى هذه المرحلة المتقدمة و
معرفة تتماهى في فوضويتها المكانية و الزمانية إلى آخر
المخيفة من الشيئية الجماعية ؟ .مجرد كتل بشرية غير َّ
رمق من الفشل المتع َّمد.
خطف سمعنا صوت ذاك الكهل النحيف و هو يحت ّج بفجاجة على رب ذاك الشاب الذي بدى و كأنه كان
يحاول االبتعاد عنه بعالمات ضيق واضحة محاوال تقديم اعتذار صامت بإماءات وجهه لكن دون فائدة .لم يكن
هناك مجال للحركة داخل علبة سردين حارة و ممتلئة عن آخرها ! .بعض الركاب تبادلوا مع الكهل نظرات الئمة
على ما تلفظ به ،لكنه لم يبال و بدى مصرا على المضي قدما في إشعال شيء حهري ال يمكن إطفاءه مع ذاك
الشاب الذي بدى لي و كأنه قد داس على قدم الرجل دون قصد .رحتُ أراقب المشهد في صمت و أنا ألمح تلك
الحمرة التي كانت تزحف على محيا الشاب و هو ال يزال محاصرا بنظرات الرجل الكهل التي كانت و كأنها
147
تبحث عن زلتها المطلوبة بشدة للضغط على الزناد ،فتتحول إلى غضبها العضلي .لم أكن مخطئا ،فأمام تلك
النظرات الطويلة القاسية ،التفت الشاب إلى الكهل كمن وقع في فخ لزج و مسموم...
_ اخالص يا الحاج !َ ،مشي بالعاني قستك .اسمح لنا و خالص !.
ها هي ذي ،لغة خطابنا اليومي لم تسلم من األلغام كذلك ! .كانت فرصتي ألشير إلى سائق الحافلة بأن يفتح
الباب ،بعدما انقلب كل شيء من حولنا حين قفز الكهل على الشاب و هو يحتج بالّلكمات وسط تدافع البعض
نحوهما لفصلهما عن بغضهما و تدافع البعض اآلخر بعيدا عنهما مع صراخ بعض النسوة و ذهول بائع التذاكر
الذي بقي واقفا يتفرج و كأنه يحاول إقناع نفسه بصوته الداخلي تلك اللحظة أنه غير مسئول عما كان يحدث .ركن
السائق الحافلة اضطراريا بالقرب من أحد األرصفة المهترئة .فتح الباب وسط الصياح و الشتائم و تهديدات القتل.
كنتُ الثالث أو الرابع الذي قفز من المركبة و قد تبعني في ذلك بعض الركاب .كنتُ فقط أرغب في االبتعاد عن
ذلك الحيز المسموم و المشبع بهذا الحهر األفقي األعمى ،الذي راحت غربانه الساغبة تحوم بحثا عن آخر شظايا
العقل فوق أرض الموسطاشيا الجرداء المتشققة .كنتُ أرغب في الهروب من كل هذا الجنون فقط.
بعدما ابتعدت عن تلك الحافلة الملعونة ،سرت على قدمي .سرتُ طويال عبر الشوارع و الزقاق في ذلك الجو
الخانق و أنا أشعر أن أنفاسي ال تريد أن تنفرج بقدر ما كان صدري يريد أن ينفجر .سرتُ طويال ،حتى أني لم أكن
أعلم كم من الوقت أو ما المسافة التي قطعتها على قدمي .كنت أتمنى أن أعثر على أي حديقة أو متنزه عمومي
ألرمي رأسي المنهك بين أوراق نباتاته و سكونه بشكل يجعلني ال أستطيع العثور عليه بعد ذلك أبدا .لكن األفكار
كانت شديدة بداخله و هي تعيش لحظات هيجان كامل امتزج باضطراب واضح مع فوضى األسئلة .و كأن بقلق
السؤال نفسه كان يتخبّط محتضرا في أشد لحظات وهنه و خيبته متحوال إلى رماد منثور .شعرتُ بنفسي ترغب
سبات مجتمعه اللئيم المنهار و
في لفضه و التخلص منه نهائيا تلك اللحظة ،تاركة قضية الصحفي المعذب ب ُ
تشوهاته المزمنة دون عودة.
و كأن بكل الصور البشعة الحاضرة أو البعيدة عن هذا البلد راحت تتكدس أمام عيناي و فكري .حين حاولتُ
أن أفكر في أي شيء جميل أو أستحضر أي فكرة تتطاير منها و لو بضع شرارات أمل أو تفاءل .انهالت صور
بلدي البشعة في طريقي كالنفايات المكبوبة بكل قرفها و روائحها المن ِّفّرة .صورة أعمدة الدخان األسود المرتفعة
من ملعب المحمدية .روائح وادي الحراش المقرفة .مالمح ذاك المراهق الحاهر المتج ِّ ّهم الذي كاد يذبحني قبل
ساعة .صور ذاك الشجار التافه في الحافلة .صور القمامة و األوساخ في الطريق .اختناق حركة المرور .األرصفة
التي غزتها الحفر و التكسرات .الوجوه المحتقنة و صراخ سواق السيارات .الغبار و الدخان و الهواء الثقيل الذي
لبّد الصدور.
148
فكنتُ أدوس عليها في سيري المتعثر بالغضب و الضيق الشديد على طول مسلك مهنتي المليء بالجمر المتّقد و
ُحفر النار .في كل مرة كنتُ أحاول لملمة نفسي و حملها على الهدوء و االقتناع بأن كل ذلك كان بسبب عملية
السطو الفاشلة التي تعرضتُ لها و ليس بسبب االنسداد الذي أعيشه جراء اقتناعي بأن مفهوم " الحهر " الذي
ابتكرته من أجل استفزاز ضمير المجتمع و النخب سيكون مصيره إلى مزبلة اسمها " نورمال " .كان صدري
يضيق و مخي يتشنّج أكثر.
كانت النتيجة مستمرة في التجلي أمامي كحقيقة بشعة جدا :في هذه البالد ،الحياة فعال عبثية ،تقسو في عنف و
سادية على المخلصين و المتميزين ،تتسلى باستمرار بالغوغاء الغنمية الضائعة ،و تنحني في خشوع و استسالم
أمام كبار المساطيش الحاهرين ،و ال أحد يمكنه فعل شيء لتغيير شيء !.
توقفتُ فجأة وسط الطريق و أنا أفتح الزرين العلويين لقميصي محاوال فضفضته قليال ،عسى أن أطرد ذلك
ْ
حملت االختناق الذي كان يعانقني بقوة كغول مليء بالشحم و روائح العرق .كان بعض المارة يرمونني بنظرات
فيها قدرا من الفضول .أدركتُ حينها أني لستُ على ما يرام .رحتُ ألتفتُ و أمسح المحيط بنظراتي الضائعة ،في
ذاك النهج الذي يحمل ،على األرجح ،اسم شهيد ما من شهداء ثورة نوفمبر ،ال أحد يعرفه بعدما محاه الزمن و
التواطؤ ،في حلقة ألعاب النفاق الدنيئة لهذا الشعب و مسئوليه و براعتهم جميعا في ابتكار كل ألوان الدسائس التي
تطحن عظام الشهداء كل يوم ألف مرة في جزائر االستقالل .ال أدري َلم خطرت تلك الفكرة على بالي المنطفئ و
طوقت قلبي مع مرور األيام و األشهر .طوقته بكل شراسة و كأنها كومة من األسالك
أنا أقف وسط مدينة عاصمة ّ
الشائكة الصدئة.
لم يطرأ على ذهني تلك اللحظة ،و بشكل غريب جدا ،غير فكرة واحدة جاءت مباشرة و هي تصرخ بعنف
خلف سابقتها " :الهروب من هذا البلد الطاحونة " .لكن ،أين المفر من بلد كهذا .من مجتمع كهذا .من التزام
أخالقي كهذا ؟ .....لكن تبا لهذا المجتمع الذي يعشق الكسل و يستلذ االستبداد و يُبدع الرتابة بكل أشكالها .هذا
المجتمع الذي يستنشق الجهل و يشرب الشك و يُدمن الحسد و يتغذى على النميمة ....ليتقيأ الصراعات في النهاية.
149
عندها ،ضاق تنفسي أكثر فأكثر و راحت نفسي تستغيث بصمت مكبوت .شعرتُ بذلك الشيء الغريب في
لتوها بشكل سريع في يوم داكن و ْ
انتفخت ّ ِّ جوفي و هو يتوسع ليحاصر أعضائي الداخلية ،كثمرة يقطين فاسدة
سيء .كان يت ّسع و ينتفخ و هو يحاصر أنفاسي و كأنه يتغذى عليها لينفخ نفسه و يزيد من ثقله داخل صدري .راح
ْ
أشبعت بماء المجارير ،حتى صارت كتال من يثقل و يستقر في معدتي ككومة من رقاقات الجرائد القديمة التي
العجين النّتن الذي سد منفذ التن ُّهد .كنتُ أرغب في نزع قميصي تماما ،حين كنتُ أرى ذلك الشارع و هو يضيق
من حولي و جدران بنياته تقترب و تدنو مني بشكل غريب و ُمفزع ،إلى أن حاصرت وجهي و لم أستطع التحرك.
حينها فقط ،غابت عني كل أصوات الشارع و ضوضائه و لم أكن أسمع سوى أنفاسي المخنوقة المضطربة و هي
تتقلص داخل قصباتي الهوائية ،إلى أن صارت مجرد أنفاس عصفور طنان محتضر وسط سحابة عظيمة من
الدخان الكيمياوي.
في تلك اللحظة المليئة بالضباب المتصاعد ،قفزَ مشهد واحد إلى ذهني المنسحب تحت مالءة من الضباب
الداكن .مشهد أخير ،قبل أن أسمع صوت ارتطام جسدي باألرض و يكتسح الظالم و السكون ذهني .كانت صورة
بهجة في معرض الصور الفوتوغرافية قبل يوم و هي تبتعد مختفية بين األكتاف و األظهر ،مقتلعة بعنف صامت
تلك األحراش الكثيفة التي غطت طويال فوهة تلك الحفرة الغائرة التي تمأل قلبي بالفراغ و الصمت و البرد ،مذ
ْ
رفضت حبي لها قبل سنوات خلت .حينها فقط ساد السكون رأسي فاسحا المجال لصوت ارتطام جثتي على
الرصيف المهترئ.
...أخيرا ،سقط كلب الزريبة .ال أحد تساءل عن سبب نباحه الشديد .لم يكن ذلك مهما .لقد سقط في النهاية في
ضة مسمومة من الكلب الجزائري الشرير القذر !.
عراك دام و ع ّ
150
-13-
فتحتُ عيناي ببطء و حذر كأني كنتُ ال أرغب في التأكد من كوني مستلق على سرير داخل عيادة أو
مستشفى ،لكن ظني خاب .كنتُ فعال هناك ممدا داخل إحدى الغرف ذات الرائحة الغريبة .رائحة األشياء المعقّمة و
بقايا روائح األدوية .كانت هنالك حركة ما خارج الغرفة في الرواق .بدى لي لوهلة أنه حديث شخصين ال أكثر.
تنهدت .مسحت بكفي على كامل وجهي ثم حاولت النظر إلى الساعة ،لكنها لم تكن في معصمي .نظرتُ على
يساري إلى الطاولة الصغيرة لعلي أجد الساعة و أغراضي الخاصة فوقها ،لكن لم ألمح سوى تلك مزهرية
احتضنت بعض األزهار الذابلة .ربما أحضرت للمريض الذي شغل هذا السرير قبل أن يغادره .لقد نسوا أن
يرفعوا تلك األزهار الشاحبة من هناك ،لكنهم وضعوا نظراتي بالقرب من المزهرية .كان هناك أنبوب تغذية
وريدية يلتصق بذراعي األيسر ،موصول بقارورة فيها سائل شفاف .وضعتُ نظاراتي على وجهي ألقرأ ما كتب
على القارورة ،و بمجرد أن اعتدلت في جلستي حتى دخلت صوفيا التي كانت تتحدث إلى طبيبة خارج الغرفة و
هي تحمل محفظة أوراقي و هاتفي المحمول و ساعة يدي...
151
لك.
_ أجل ،أجل ،أنا أيضا سعيد كوني بخير .شكرا ِّ
مد ْ
ّت ذراعها نحو كرسي معدني أسود كان موضوعا بالقرب من الزاية و زحزحته إلى جانبي ثم جلست و
هي تتنهد متفحصة زوايا الغرفة بعينيها حين كنتُ أحاول استرجاع ما حدث لي قبل أن أنظر إليها سائال...
_ الساعة تشير إلى السادسة مساء .أما مدة وجودك هنا فقد قاربت الستة أيام.
كدتُ أقفز من سريري فزعا و دهشة لوال أني رأيت بسمتها الصبيانية تلك تغلبها بسرعة ،قبل أن تتحول إلى
ضحكة مخنوقة في حلقها حتى ال تنفجر في األرجاء و تفزع باقي نزالء المشفى...
_ اهدأ ...اهدأ .ال داعي للقلق فقد أحضروك قبل بضع ساعات فقط ،و ها أنتَ مستفيق و تبدو في حالة جيدة
بعدما غفوت بعمق على بعض المهدئات التي حقنوك بها.
_ ليس هناك أي مرض عضوي بحسب ما أظهرته التحاليل األولية ،لذلك لم يشخصوا بعد حالتك بدقة ،لكنهم
يعتقدون أنك تعاني انهاكا عصبيا فقط .قد تراك الطبيبة النفسانية التي عالجتني في الماضي صبيحة يوم غد للتأكد
من األمر .امرأة في غاية الحسن و الرقة لو تعلم !.
_ أجل يا صاح ،و بصراحة عليك أن تشكرني كوني متواجدة هنا معك .ال تتصور الصعوبة التي واجهتها
حين دخلت هذه األروقة و أنا أرى أضواءها و ناسها و أتحسس روائحها .بدني مقشعر يرغب في قوقعة تخبّئه،
وجهي بارد ،و قلبي يدور .أشعر برغبة في التقيؤ و لكني أقاوم .لي ذكريات سيئة جدا في هذا المكان كما قصصتُ
عليك آخر مرة !.
قالتها و هي تشدّ على عضدها األيسر بيمناها بحركة ال إرادية ربما ،كمن يحاول إمساك شخص حتى ال
ْ
كانت مستمرة في تفحص زوايا الغرفة بنظرة حملت في عمقها الخوف و يتعثر و هو يحاول اإلفالت من كابوس.
االشمئزاز الذي كانت تقاومه بتهكم.
152
_ لقد اتصلوا بي من هاتفك رأسا حين وصولك إلى هنا .أتيتُ مباشرة و لم أخبر غير رئيس التحرير الذي
يكون قد أعلم مدير الجريدة كذلك .لم أشأ االتصال بعائلتك قبل أن أعلم ما هي حالتك ّأوال .و بما أن األمر ليس
خطير ،فضلتُ أن أترك لك الخيار حين استيقاظك مباشرة.
_ أه ممتاز ،ال أريد أن تعلم أمي أني هنا .أنت فتاة رائعة .شكرا صوفي ،شكرا.
أطلقت بسمة كبرياء خفيفة ثم صمتت .تاه كل منا في سكوت عابر قبل أن أتفطن إليها و هي تتأملني...
_ صدقيني....ال أعلم.
_ بل تعلم .لقد حذرناك طويال من الضغط على نفسك في العمل لكنك صلب الرأس .أنتَ تقتل نفسك !.
لم أقل شيئا .التزمتُ الصمت لبعض الدقائق ،في حين كانت الفتاة تتأملني بتقاسيم وجهها األسمر الجميل و قد
بدت عليه بعض عالمات اللوم ثم عادت تسألني بشكل مباشر...
_ و ماذا بعد ؟ ،إلى أين وصلت بك الطريق ؟ ،هل اكتشفتَ أ َّم الثمرات الخبيثة في هذا المجتمع ،التي
حدّثتني عنها طويال ؟.
نطقت بالعبارة األخيرة بعصبية حملت في عمقها شيئا من الشفقة و كأنها تود خنقي كي تخلصني من عذابي.
نظرتُ إليها قبل أن أزيغ بنظري في الفراغ....
ْ
اعتقدت صوفيا أني سأقف عاجزا عند هذا الحد ،لذلك راحت ترمقني بنظرات من انتصر بقوة الواقع المحرج
ي أن أعتبر وصفي لالكتشاف الذي وصلتُ
و المؤلم ،لكنني بادلتها نظرة هادئة و متعبة و أنا ال أعلم إن كان عل ّ
إليه كمعيار نهائي و ثابت لوصف حالتي مع سبقي النهائي أم ال ؟ .لكنني أجبتها بكل بساطة...
_ مكعَّب روبيك ،بحثت عنه طويال و عثرتُ عليه أخيرا ! ،أمسكُ به اآلن بين يدي بإحكام ،لكني ال زلتُ
عاجزا عن حل أحجيته بعد .يبدو عصيا جدا على الفك.
ْ
تنهدت صوفيا بعدما أخذت لحظة لنفسها و هي تنظر إلي... كان جوابي بسيطا بقدر ما هو معقد.
_ تعلم يا أمين ؟ ،فيما ما مضى كان لي أستاذ رياضيات فظ و عصبي و متحرش بالفتيات .لم يكن أحد يحبه.
كان متعجرفا و ظا لما و مستفزا ،حتى أنه حاول ذات يوم مساومتي في جسدي و كرامتي مقابل العالمات ،رغم
أني كنت مجتهدة في مادته أصال .رغم ذلك فأنا أشعر دوما أني أدين له بجملة واحدة تزن كل عقلي اليوم ،فهو لم
153
يكف يوما عن ترديدها على مسامعنا و هو شارد الذهن أحيانا ،حين كان يستعصي علينا حل بعض المعادالت أو
المسائل الرياضية " :الحقيقة موجودة هناك ،حيث ال يرغب أحد في البحث عنها " و كأنه يل ِّّمح إلى أن حل المسألة
يكمن في أطرافها أو أعدادها أو رموزها التي ال نوليها اهتماما أكبر .هاذا ما ضل يقوله لنا طيلة موسم دراسي
كامل .إذن...
لم أقل شيئا .تبعتها ببصري و هي تهم بفتح باب الغرفة ملتفتة إلي للحظة..
_ مينو ،أنتَ ال تزال في الثامنة و العشرين من العمر .الشباب شيء ثمين جدا ،ال ت ُحرقه في أمور ال يمكن
س ِّّمينا " أفرادا " لسبب وجيه.
أبدا أن تغيّرها بنفسك .لقد ُ
بقيت ملتزما الصمت و حالي كحال جندي اخترق جدران العدو بشكل معجز بعد طول قتال ،ثم لسبب هو
أقرب إلى الخيانة التي جاءت زاحفة من مكان ما ،وجد نفسه مهزوما و عاجزا عن تبرير خيبته أمام نفسه و أمام
اآلخرين.
ألقل أني نمتُ نوما عميقا جدا تلك الليلة ،بعد ما أعطوني أقراصا غريبة جعلت النوم يعقد معي جلسة صلح
مؤقت و يسمح لي بالغوص في سحابته القطنية الطائرة ،التي أخذتني بعيدا عن حصار كوابيس الواقع و هزيم
رعود مهنة الصحافة المجنونة .طرتُ بعيدا جدا .رأيتُ أحالما لم أستطع تذكر أي شيء منها في صبيحة اليوم
الموالي ،لكني أتذكر جيدا مالمح تلك األخصائية النفسانية التي حدثتني عنها صوفيا في مناسبات متقطعة ،و فهمتُ
حينها َلم رفضت الفتاة متابعة حصصها العالجية معها .امرأة بهندام غير متناسق تماما ،قصيرة القامة ،غليظة
الصوت ،ال تعرف البسمة طريقا لشفتيها الغليظتين ،وجهها يبدو كقناع بهلوان بكل تلك المساحيق .حين جلستُ
إليها ندمتُ في لحظة ما و قلتُ في نفسي أن '' من ي ّ
صبح على فيڨورة كي ّمه هاذي موحال يبرا و إذا كان مرتاحا
أصال رايح يمرض من بعد ! '' .أشفقتُ على حال صوفيا المسكينة التي أصروا عليها أيام محنتها مع اإلصابة و
الصدمة أن ترى تلك السيدة كل يوم تقريبا.
154
فقدت إيمانها بها بسبب صدمات و كوارث قطاع الصحة ،تماما كما يحدث لنا نحن رجال اإلعالم حين نصل في
بعض األحيان لطرح ذاك السؤال العجيب في أقصى درجات التعب و االستسالم و الغضب على كوارث و فساد
قطاع اإلعالم :بحق الجحيم ،ما الذي دفع بي ألختار مهنة لعينة كهذه ؟! .و الحقيقة أن البلد كله ملعون !.
خرجتُ أخيرا من المشفى و أنا أشعل سيجارة بين شفتي بعدما رفضتُ أن يقلني أي زميل إلى البيت .أردتُ
فقط العودة وحيدا .كنتُ أفترض أني سأجد نفسي أجر جسدي من التعب و القلق ،لكني نمت جيدا الليلة السابقة على
كل حال ،و ربما كان ذلك سببا في الخفة التي كنتُ أتحرك بها عابرا أمواج العباد و السيارات التي كانت تتالطم
عند مدخل المشفى .رغم ذلك لم يهنأ شيء ما بداخل رأسي و لم يقبل شراء قطعة السالم التي اقترحوها علي مذ أن
وقعت صريع قلقي فوق ذلك الرصيف المهترئ ،وصوال إلى خروجي من المؤسسة االستشفائية الضخمة .لم
يصر على رفض عودتي للعمل
ُّ تقنعني فكرة 9أيام من الراحة ،لكني فوجئت حين حادثتُ سي رزاق هاتفيا و وهو
قبل انقضاء مدة العطلة المرضية ،بل و أضاف لي ثالثة أيام أخرى من عنده مؤكدا على أني أستحقها .أفزعني
األمر ،يا اله 01 ....أيام كاملة من دون عمل .ما الذي اقترفته في حقهم يا رب ؟!.
ترجّلت قليال حتى وصلتُ إلى محطة عيسات إيدير للنقل .كنتُ أنظر إلى بنايات العاصمة الموروثة عن عهد
االحتالل و هي تستسلم رويدا رويدا لعناق أشعة الشمس اليومي مع ازدياد جنون ازدحام كل هؤالء الخلق
المندفعين إلى قلبها المثقل بجنون و عنف .حاولتُ أن أنظر إلى األمر من زاويته الجمالية كي أخ ِّفّف عن نفسي آالم
متورمة بشكل غريب
ِّ ّ بدت المدينة نكدة و خدوش بقايا شظايا تلك االنفجارات التي ّ
هزتها قبل يوم ،لكني لم أستطعْ .
كأنها لم تتصالح معي بعد الذي شعرتُ به تجاهها قبل يوم .فكرت للحظة في الهروب من منظرها الذي بدى بشعا
على غير العادة بالنزول إلى محطة الميترو ّ
لكن شيئا ما في داخلي منعني من النزول إلى ذلك النفق الطويل
ال ُمضاء اصطناعيا .نظرتُ إلى حافالت النقل العمومية لكني سرعان ما أشحتُ ببصري عنها حتى ال يعود ذلك
الكيس البالس تيكي األسود لالنتفاخ داخل جوفي فيخنقني أو يفجرني إلى قطع من اليأس مرة أخرى.
سألتُ نفسي و أنا أسحق ما بقي من سيجارتي الثانية تحت حذائي بعدما ثقل دخانها في صدري .ثم أدركت أن
الحل قد يكمن فقط ،و بكل بساطة ،في استوقاف سيارة أجرة و التوجه رأسا إلى شقتي الصغيرة في باب الوادي،
155
آخذ حماما جيدا ،أحلق لحيتي ،أغيّر مالبسي ،أحضّر غداء جيدا ،ثم أسترخي و أحاول أخذ قسط من الراحة ،لعله
يساعدني في البدء في إعادة ترتيب أوراق طاولة أفكاري المبعثرة في كل مكان جراء عاصفة الغضب و الخيبة.
فكرة واحدة كانت تدور في رأسي و أنا أتفرج على حشود الناس الزاحفة على طول رصيف شارع األمير
عبد القادر وصوال إلى ساحة الشهداء ،و أنا ال أكاد أسمع شيئا مما كان يثرثر ذاك الشاب الذي ركبت سيارة
أجرته .كانت الفكرة تقول أنه من المحتمل جدا أن السبق النهائي قد انتهى بنحت مصطلح الحهر ،ثمرة المرض
صب في وعي المجتمع تماما كتمثال األمير عبد القادر الممتطى جواده وسط ذلك الدوار
الموسطاشي ،الذي سيُن َّ
الذي يعبره يوميا عشرات األلوف .يمرون تحته ،يجلسون بمحاذاته ،ينظرون إليه بشكل عابر ،بل قد يلتقطون
بعض الصور له أو بالقرب منه ليتباهوا بها أمام أصدقائهم على صفحات الفيسبوك ،ثم يمضون و أغلبهم ال يرى
حقيقة ما يمثله الرجل الراكب على الجواد .مجرد ديكور و زينة لمدينة و بلد فقد قدرات التأمل و االستنباط.
**********
مر اليوم األول دون أن أشعر بشيء .مر بسرعة .أمضيت فترة ما بعد الظهيرة في شقتي الصغيرة مستلقيا
ّ
على األريكة قبالة العصير و الكعك و المكسرات أمام التلفاز .شاهدتُ فيلمين سينمائيين و بعض الحصص
الترفيهية .ثم أمضيت المساء مع بعض زمالء المهنة نتمشى على طول شاطئ شنوة في تيبازة الهادئة.
في اليوم الثاني استيقظتُ ببطء و كسل زهاء التاسعة و النصف .بدى لي األمر غريبا جدا .بقيت مستلقيا في
فراشي لمدة فاقت النصف ساعة .نصف ساعة من التثاؤب و التفكير في أمور كثيرة .كنتُ أريد تحديد و ترتيب ما
يمكنني أن أفعله طيلة اليوم .خرجت لشراء بعض المقتنيات و أنا ألتقي بخالتي ميمونة في الدرج الحلزوني للعمارة
و هي تكنس عتبة شقتها .تفاديتها بلباقة حتى ال أترك لها مجاال لثرثرتها التي ال تخلو من الشكاوي المتكررة من
سلوك عاملة النظافة المكلفة بتنظيف درج العمارة ،أو سلوك البائع الفالني أو مشاكل أسرة الجارة الفالنية ،دون
الحديث عن أسئلتها التي تتغذى من فضولها الشديد تجاه حياتي الخاصة و رغبتها الدائمة في اكتشاف سبب عيشي
وحيدا هنا و فهم سبب مقدرة شاب في مثل سني ،مجرد صحفي ،على دفع مستحقات اإليجار الملتهبة في العاصمة.
طبعا مع انتقادها الدائم لي و لو بلطف ،حول ما تعتقده سبا و قدحا في حق الرئيس المريض و الحكومة
المجتهدة .....تفاديت كل ذلك .انزلقت عبر طرقات باب الوادي التي مألتها الحياة و الحركة و أشعة الشمس
المتوسطية .كنتُ فقط أحاول أن ال أعير انتباهي إلى بعض المظاهر السيئة التي قد تبدأ في استفزاز تلك البرغوثة
الصغيرة النشطة داخل رأسي.
مر اليوم الثالث و الرابع أيضا بنفس الوتيرة الهادئة تقريبا .حادثتُ والدي هاتفيا .ال شيء تغير في البليدة
الغالية كما فهمت .البليدة هي البليدة ،ماضية في االختناق بأبنيتها الجديدة الشاهقة التي ال تزال تنمو على صدرها
المنبسط كالفطر .شعرتُ أن صحة الحاج مستقرة حسب نبرات صوته البارد كالعادة .أما أمي فقد راحت تلح علي
كعادتها أن أزور العائلة و البيت في نهايات األسبوع و هي تعرب لي عن عدم هضمها لفكرة عجزي الدائم عن
زيارتهم و هم على بعد خمسين كيلومترا فقط جنوب العاصمة .كنتُ أشعر أنها تزحف رويدا رويدا إلى الحديث
156
بقوة
عن الملف الذي ال أريد الحديث عنه .عن هذه الفتاة الشبح التي لم أرها و ال أعلم عنها شيئا و التي صارت ّ
نزوات أمي األمومية الطاغية عروسا لي .على األقل في أحالمها البريئة.
كررت علي أسئلة الصحة و األحوال عدة مرات خالل الحديث لكن بصيغ مختلفة،
ما أثار انتباهي هو أن أمي ّ
مباشرة و غير مباشرة .آخر مرة حدث لي هذا كان أيام الحزن جراء انكساري أمام بهجة .كانت كمن شعر بحزني
العميق تلك األيام رغم أني بذلت كل ما لدي حتى ال يشعر أحد به .غريب ! .أمي كانت تقول لي في الماضي أن
الشياطين في العادة تتسلى بأحزاننا و تقامر بها مع بعضها البعض .كانت تقول لي " :إياك إذن أن تستسلم للحزن.
ال تدع له منافذ في نفسك مهما تكن المشكالت .تفاءل و افرح ما استطعت فأغلب أحزان جيلكم هي مجرد عطاس
صغير للقدر " .أمي عاشت و خبرت اليتم و الفقر و الخوف في جزء من طفولتها ،التي تزامنت مع آخر سنوات
حرب التحرير الوطنية و بداية مخلفاتها العاجلة و الجارفة بعد االستقالل .أمي خبيرة في الحزن.
عرضها المغري لزيارة البليدة الوريدة أغراني لكني تج ّنبت اإلطالة و اإلطناب و ختمت المحادثة بطلبي تبليغ
تحياتي لشقيقتي عيشة و شقيقي سفيان .كانت نسمات حارة في أعماقي تنتظر الفرصة إلشعال حرائق الشوق و
الحنين إلى قمر البليدة الذي لم يمر حتى أسبوع عن رؤيته الغامضة و غير المكتملة في معرض الصور تلك
األمسية الجميلة .لذلك كان علي إبعاد تفكيري عن ذاك االقتراح المجحف في حق قلبي المنكسر " .ال أدري ما
يمكن أن يحدث إن زرت البليدة هذه المرة و أنا أعلم في أي مكان تشتغل فيه( ...هي) " .تردّد هذا االنطباع
الصامت في أعماقي كثيرا إلى نهاية اليوم و كاد يدفع بي لسهر الليل لوال أني حطمته بحبة دواء مما ُوصف لي في
المستشفى آخر مرة .نمتُ نوما عميقا و كان ذلك جيدا جدا .أدركتُ بشكل فيه نوع من التهرب تجاه ذاتي أني ربما
فعال كنتُ أقسو عليها طيلة أشهر في العمل أكثر من الالزم ! .اعتراف ال يحب أي صحفي شرس تجاه تحدياته
مواجهة نفسه به.
خالل اليوم السادس من الراحة بدأتُ أستشعر تلك الطاقة التي راحت تكتنزها ذاتي .ذهني كان يميل أكثر
فأكثر إلى الصفاء ،كقطعة زجاج تخلصت من أوحال العواصف المتتالية التي جعلتها في لحظة ما تبدو كأنها
مجرد كتلة صلبة مهملة غير واضحة المعالم .كان الماء زالال ذاك الذي نظف قطعة الزجاج .حينها بدأت أشعر أن
أفكاري تنتظم تلقائيا داخل رأسي .بدأتُ أرى مالمح الحالة التي كنت عليها قبل دخولي المستشفى .من شدة غرقي
في عملي كأنما كنتُ أغوص برأسي في كيس قمامة محاوال رؤية و استنشاق و تذوق كل ما فيه دفعة واحدة.
سمحتُ لنفسي في اليوم السابع بتصفح مواقع التواصل االجتماعي لكني تفاديتُ صفحة موسطاشيا .تصفحت
بعض الصحف .األخبار في مجملها لم تخرج عن سياق الحديث عن تحدي الدستور الجديد الذي وعدت به السلطة
و تجاذبات المعارضة بين إغراءات النظام و تهديداته بعد المجزرة الرئاسية األخيرة ،إضافة إلى أخبار الوضع
األمني المزري في غرداية .بينما كانت بعض األخبار الدولية تتحدث عن المساعي الدبلوماسية الحثيثة لدفع
أطراف النزاع في مالي لوقف إطالق النار للبدء في المفاوضات ،لكن معظم أخبار العالم كانت تتحدث عن النصر
الروسي و احتفاالت فالديمير بوتين و جيشه في شبه جزيرة القرم باالنتصار على الكتلة الغربية في حرب باردة
جديدة تتقض بوتيرة متصاعدة مع الزمن .الفظاعات السُّورية كالعادة حاضرة بقوة .أزمة شرعية رئاسة الوزراء
157
الليبية و شبح الحرب األهلية هناك .احتقان الجو السياسي في مصر بين اإلخوان المسلمين و الصاعد العسكري
الجديد المحتمل في رئاسيات ال يمكن أن تختلف عن أي انتخابات رئاسية في أوطاننا المتخلفة المطحونة .....و
بعض األخبار الصغيرة المتفرقة عند الزوايا ال ُمهملة هنا و هناك عن الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي.
في اليوم الثامن بدأ أمين وشاكي القديم يعود رويدا رويدا ،بعدما راح ذهني يسترجع و يلوك تلك العبارة التي
التقطها من شفتي صوفيا حين زيارتها لي في المشفى ''....الحقيقة موجودة هناك حيث ال يرغب أحد في البحث
عنها ...الحقيقة موجودة هناك حيث ال يرغب أحد في البحث عنها ! '' .أليست هي بركة خالصة الحصول على
أصدقاء في مستوى صوفي الفكري ؟ .كأن بي أصاحب نسخة مصغرة و مؤنّثة من الدكتور أبو عماد .للحديث مع
أناس من هذه الطينة الفكرية حالوة ال يستشعرها سوى عقل مهموم و موجوع بسذاجة و سطحية و ضحالة فكر
محيطه االجتماعي ،الهائم على وجهه المليء باألوساخ و الخدوش التي خلفها زحفه الطويل على طريقه الوعر و
المجهول! ،و نتيجة االتصال بأشخاص كصوفيا و تبادل األ فكار معهم هي إحساس باألمان غالبا ما يكون غير قابل
للتفسير أو حتى الرصد ،لكنه يوصل إلى استرخاء و راحة ،ثم طاقة متفجرة فانبعاث من مكان بعيد ينتهي إلى
العودة إلى المعركة ،بكل الحزم و الجد و اإلصرار الالزم إلكمال أطوارها.
كانت صوفيا ،أو ألقل أستاذها الوغد على حق ! ,هه يا لمفارقات األشخاص و الطبائع !.
مع نهاية ذاك اليوم التاسع ،تجولتُ قليال على طول شاطئ الرميلة الذي كانت أمواجه الهادئة تتألأل بانعكاس
البراقة .كانت بعض
اإلنارة المسائية فوق سطحها .كان سطح الماء كالقماش الداكن الفضفاض المتراقص بجزيئاته َّ
العوائل تتجول على طول الواجهة البحرية لباب الوادي .تلك إشارة استباقية لقروب أمسيات و ليالي الصيف
تحو ل الحي في العادة إلى كومة كبيرة من األضواء و األصوات و الروائح و الحركة ،التي ال تهدأ
الطويلة ،التي ّ ِّ
إال في ساعات الصباح األولى .خاصة في شهر الصيام الذي اقترن مجيئه في السنوات األخيرة بفصل الصيف.
اشتريتُ دفتر مالحظات و قلم رصاص جديدين من أحد األكشاك و أنا في طريقي إلى شقتي .بعد وجبة
العشاء و مشاهدة األخبار و التحدث إلى بعض األصدقاء و التفاعل معهم عبر الفيسبوك على أنغام جون ماير
الهادئة كالعادة ،لجأتُ إلى فراشي على ألحان و كلمات أغنية Gravityالثقيلة المثخنة بالسكينة التي طالما
وضعتني في مواجهة حاالت ذهنية مختلفة مع نفسي ،أغلبها كان مرتبطا بالنعاس و الرغبة في النوم بعد يوم عمل
طويل مليء بالضغوط و الركض وراء األخبار و التحقيقات و مطاردة الحقيقة .لكنها نادرا ما كانت تجعلني أفكر
في الحب أو ممارسته ،لكنها حين كانت تجرني إلى التفكير فيه ،غالبا ما كان يحدث ذلك خالل استشعاري لوحدتي
التي ال يزال إدماني و هوسي المهنيان يحجبانها عني كثيرا .لكن حين يعجزان عن ذلك ،أستمع فقط إلى األغنية و
أنا أتساءل بشكل عابر عن ذاك يوم الذي أجلس فيه مراقبا رفيقة ما و هي تقف أمام أنظاري تتمايل يمينا و شماال
بجسدها األنثوي الناعم و قدميها الحافيتين في هدوء و دالل على لحن األغنية الثقيل ،تشدّ شعرها بيديها نحو أعلى،
تدور حول نفسها ،تنشد كلمات األغنية ناظرة إلي برغبة و إغراء ،تدعوني ببسمتها الخفيفة إلى النهوض
لمراقصتها أو تقبيلها بهدوء ،أو تأتي إلي بخطوات متأنية فوق رؤوس أصابع قدميها للجلوس فوق حجري ،فتميل
158
علي حتى إذا المس نهدها كتفي أو صدري همست بما يحلو لها من كالم الحب و اإلغراء في إذني و هي ماضية
في تمسيد قفاي بأناملها.
رجل بدون امرأة ؟ ....هذا ال يمكن أن يكون شفاء ألي شكل من أشكال جنون الحياة !.
على كل حال ،فإن أغنية Gravityهي األغنية التي تغريني في العادة بتدخين آخر سيجارة في اليوم و أنا
أتأمل أفكاري أو أقلب أرشيفات مقاالتي أو أجري بحوثا سريعة على النت ،قبل تنظيف أسناني و التوجه إلى عرفة
النوم ساحبا نعلي فوق البالط بتثاقل لالضمحالل في الفراش .ما ألذها من أغنية ،لو كانت مصحوبة بامرأة تهمس
صاحكة في أذني ليال على إنارة خفيفة ! .رجل بدون امرأة ؟ ،هذا ليس عدال !.
**********
تقلّبت على جنبي األيمن متنهدا .نظرتُ إلى لوحة المنبه الموضوع فوق الطاولة و هي تشع بلونها األحمر
الخافت نوعا ما بسبب اقتراب نهاية مدة صالحية بطارياته .كانت تشير إلى الثانية و ثالثة و أربعين دقيقة صباحا.
استمريت على تلك الحال ،أتأمل تغير األرقام و مرورها على اللوح االلكتروني وسط العتمة المستسلمة بشكل
طفيف لبعض األضواء الخافتة جدا ،و التي كانت تتسلل عبر الفجوات الضيقة لمصرعي النافذة الخشبيين .الحركة
في الشارع كانت شبه معدومة ،ما عدى من بعض السيارات التي كانت تعبره بين الحين و اآلخر .أدركتُ أن أرقي
قد عاد و أني لن أنام قريبا.
خرجتُ إلى الشرفة المطلة على الشارع و عمارات باب الوادي البيضاء التي تحجب شاطئ الرميلة خلفها.
أشعلت سيجارة رافعا رأسي تحت تلك النسمات البحرية اللطيفة التي كانت تداعب وجهي و شعري و مالبسي.
فجأة شعرت بحركة سيارة قادمة من طرف الشارع و هي تقترب بأضوائها و ريتم موسيقى الراي المدوي
المنبعث منها ،دون أن أتمكن من رصد كلمات تلك األغنية بسبب نوافذ السيارة المغلقة .لكن أضواءها التي الحت
إلى طرف الشارع جعلتني أنتبه إلى مجموعة من شباب الحي كانوا يجلسون أمام درج أحد الحوانيت المغلقة في
زاوية مظلمة .لقد كان ابن خالتي ميمونة منصور ،معطوب الجيش الذي كان يجلس رفقة شابين آخرين على
الدرج واضعا عكازيه بالقرب منه .كنتُ أكاد أجزم أنهم يستهلكون الكيف كعادتهم.
ُّ
التفت إلى السيارة التي توقفت مباشرة وسط الطريق ببطء أمام مدخل العمارة مباشرة ،قبل أن يفتح بابها
األمامي األيمن و بابها الخلفي األيسر ،لتنبعث منها تلك األنغام و الكلمات الرايوية منفجرة من الداخل و هي تلطم
ْ
نزلت فتاتين في مقتبل العمر بدت إحداهما صغيرة جدا مقارنة باألخرى .كانتا جدران العمارات و سكون الحي.
تقوالن أشياء غير مفهومة لصاحب السيارة وهما تطلقان ضحكات مختلطة مع ذاك الحديث ،قبل أن أسمع الفتاة
ّ
تحث الشاب على عدم نسيان موعد الحفلة القادمة ،أو شيئا من هذا القبيل ،قبل أن تغلق الباب و األكبر سنا و هي
تنطلق رفقة صاحبتها بخطوات متسارعة ،في حين انطلقت السيارة مبتعدة و هي تفسح المجال لعودة السكون و
الظالم الجاثم تحت ظالل أشجار الرصيف ،و بين ثنايا تلك الزقاق الصغيرة الفاصلة بين البنيان ،اختفت الفتاتين
159
في أحدها ،حين ظهر حنوفة المجنون من عتمة زقاق آخر و كأنه خارج من ظالم حنجرة شيطان ،يمشي بخطواته
الهائمة و هو يشد سبابة يده اليمنى بأصابع يده اليسرى كالعادة.
سار حنوفة بخطواته المضطربة و هو يهمهم مع نفسه قبل أن يتوقف للحظة و يلزم الصمت ،حين رأى تلك
الجمرة الصغيرة المشتعلة وسط الظالم و سمع تلك األحاديث الخافتة التي كان يتبادلها منصور و رفيقاه .توجّه
حنوفة مباشرة إلى الشباب الثالثة مادا ذراعه األيسر نحوهم و كأنه يطلب شيئا ما من بعيد قبل أن يصل إليهم .كان
واضحا جدا أنه علم سر تلك الجلسة الظالمية الحميمية بين الرفاق ،فرغب بالظفر بجزء من الوهم الصامت الذي
يلف المكان من حولهم ساحبا إياهم إلى سديم األكاذيب و نشوة اللحظة .راقبتُ منصور و هو يمدُّ يده نحو
كان ّ
حنوفة يقدم له تلك اللفيفة المشتعلة بالقنب الهندي .بدى لي األمر مثيرا للسخرية و مثيرا للحزن في نفس الوقت،
فحتى حربنا األهلية السابقة لها مفارقاتها و نوادرها .قلتُ في نفسي أنه في الوقت الذي يقتسم فيه أرباب تلك
الحرب العبثية و من كلى الطرفين المغانم المادية لما يُسمى المصالحة الوطنية ،يقتسم جنودهم السابقون لفيفة قنب
هندي ! .من يعلم ،قد يكون منصور و حنوفة قد التقيا ذات يوم في أرض المعركة ،لكن القدر لم يمكنهما من
االقتتال وجها لوجه ؟ ،لكان أحدهما قد أجهز على اآلخر على األرجح ؟ .لكن بدال من ذلك ،ها هما اليوم يصنعان
مصالحة على طريقتهما الخاصة .طريقة الطبقة الكادحة لهذا الشعب الذي ُجعل سنوات التسعينات بارودا لكل
أنواع المدافع و طعاما مجانيا لها أيضا.
عدتُ إلى فراشي .استلقيتُ واضعا قفاي فوق يدي محملقا في سقف الغرفة للحظات ،قبل أن أشعر برداء النوم
الشفاف يزحف بثقله و صمته المتواطئ على وجهي .أغمضتُ عيناي ببطء مستسلما لذاك الثقل .كان السقف ماض
في التشتت و االبتعاد عن نظري الغارق رويدا رويدا في العتمة اللذيذة .ظننتُ نفسي قد غفوتُ لبضع دقائق ،أو
ربع ساعة على األرجح .كنتُ ماض في االنسحاب إلى أعماق النوم و السكون و األحالم السفلى ،في اللحظة التي
ُ
أبحث عنها تنور المكان الذي كنتُ أتوقع أن أجد فيه إشارتي التي
جاء فيها كالوميض تماما .و كأني رأيتُ للحظة ّ
أو تبحث عني ؟.
كانت تلك اللحظة العابرة في محيط الغياب و الصمت ،التي جعلت عقلي يجفل كالحصان .كنتُ كمن يقفز من
مكانه بعدما تذكر شيئا كان قد أغفله منذ مدة .شيء قد يحمل في تجاويف تفاصيله الدقيقة الغائبة جزء من
اإلجابة ! .شيء يشبه لحظة آسرة غريبة غيّبتها شظايا الحيرة و دخان التعب و اإلنهاك.
فتحتُ عيناي على عينيه الزرقاوين التي اقتحمتا بضجيجهما سكون تلك اللحظة و ذاك الجو .نظراته الملتهبة
بالغضب و الصراخ المكبوت و شيئا آخر .شيء جعل ذاك المراهق القبائلي األشقر الذي تم اعتقاله من على غطاء
محرك سيارتي قبل أيام يختلف اختالفا جوهريا عن ذاك الذي حاول سرقتي ،بل و كاد ينحرني قبل أسبوع أو يزيد
بقليل ،رغم أنهما بنفس العمر تقريبا .من نفس الجيل حتما ؟ .تلك العينين الزرقوين اللتين أسرني شيء ما بداخلهما
لم أستطع تحديده و ظل يستفزني مذ تلك األمسية .تبا لي ! ،كيف نسيتُ هذا الموضوع حتى ؟ .أكانت أمسية قصر
الثقافة و رؤيتي لبهجة ؟ ،أم كان السطو الذي تعرضتُ له بالقرب من ملعب المحمدية ؟ .أكان انهياري العصبي
ّ
المتشظية ؟ .مراهقان من جيل واحد .أحدهما يحمل هو ما جعلني أنسى تلك العينان المشتعلتان و أسئلتهما الملحّة و
160
راية يدافع عما تمثّله له و اآلخر يحمل خنجرا ينتقم به مما يمقته ! .مراهقان من جيل واحد .جيل الحرب األهلية.
صورتان متنافرتان من واقع واحد ؟ .شرخ عجيب و مح ِّيّر !.
ذاك الفتى القبايلي كان يحمل في نظرته إلي شيئا عميقا جدا .شيء يتعدى حدود غضب اللحظة أو رد فعل
السلوك .طبعا شككتُ في أن يكون كامل النضج سياسيا ،رغم أنه كان يتظاهر من أجل قضية سياسية أو تم
تسييسها على كل حال ؟ '' .....القضية البربرية '' ....أي مكن أن تكون زاويتي الجديدة في السعي إلى سبقي النهائي
اتباعا لنصيحة صوفيا ؟ '' .الحقيقة موجودة هناك حيث ال يرغب أحد في البحث عنها ''.
قفزتُ من فراشي .جلستُ مرة أخرى و أنا على وشك العثور على الكلمة المناسبة لما حملته تلك النظرات
القبايلية الغاضبة .التعبير الدقيق عن تلك الحالة الوجدانية العميقة .أجل...كانت قادمة ...كانت تقترب ...أجل ...إنها
هنا ...ها هي ذي " .....اليقين " ...تماما ....نظراته حملت اليقين .يقين ما !.
فكرت لدقائق معدودات .سجلت بعض األفكار في دفتر المالحظات الجديد .لم أقتنع فعال بأن القضية البربرية
المبتذلة و المستغلة سياسويا بشكل مفجوج و رديء منذ سنوات ،بل و منذ عقود ،يمكن أن تحمل لي طرف الخيط
إلى سبقي النهائي .رغم ذلك ،قررتُ في الصباح التالي أن أكتب شيئا ما عن الموضوع.
في البادئ كنتُ أكاد أكتب شيئا موضوعيا جدا بخصوص االستغالل السياسي لهذه المشكلة العالقة منذ
االستقالل .مقال جديد في عمودي على الجريدة .سوى أني أدركتُ سريعا أني ال أملك من الزاد المعرفي و
التاريخي عن الموضوع الكثير .فكرت للحظة في االتصال ببعض الزمالء في الصحافة و بعض األساتذة
الجامعيين للحصول على آراءهم و وجهات نظرهم ،و ذلك قبل البدء في بعض البحوث على النت لوال أني توقفت
عن ذلك فجأة و بقيت تائها أمام شاشة حاسوبي المحمول لدقائق .قلت في نفسي أني مطالب بتجريب شيء جديد.
طريقة أخرى في رمي الطعم في البحر .أسلوب كتابتي الصحفي المعتاد كان يجب عليه االختفاء لبعض الوقت.
كان علي تجريب شيء آخر أقرب إلى الكتابات النمطية المقولبة السائدة ،التي تحاول إمساك العصى من الوسط أو
تريد االمتداد في فضاء العموميات المثالية .لذلك انطلقت أصابع يدي بأناملها و هي تجري و تقفز على لوح
المفاتيح ،كأنها فريق من راقصات الباليه الرشيقات الممشوقات و هن يؤدين رقصة جماعية متقنة .لكني في
الحقيقة كنتُ أرقن شيئا في غاية االبتذال على صفحتي في الفيسبوك .شيء عن عروبة و إسالم الجزائر و عن
فولكورها البربري الذي ال يمكن إنكاره .شيء عن األلفة و التعاضد و االتحاد التاريخي الذي عاش في كنفه
العرب و البربر مذ قدوم اإلسالم إلى هذه البالد ،و عن ضرورة قطع الطريق أمام دعاة الفرقة و التشرذم و
الصراع العرقي ....بدى لي أني أريد أن أكون والدي ،الحاج حسن ،في تلك اللحظات حتى كدتُ أضحك على
نفسي ،خاصة و أنا أربط الموضوع كذلك بما يُعرف بـ" األيادي الخارجية " التي تن ِّّفذ مخططاتها اللئيمة في
ضرب الوحدة الوطنية .....بالبالبالبال.....
ردود الفعل كانت كما كنتُ أتوقع .كثيرة .األغلبية من المتفاعلين على الصفحة كانوا ممتنين لتلك الخاطرة
التي اعتقدوا أنها مقال ،فراحوا يشكرونني على '' مقالي '' العميق و الرائع .لم يطل األمر كذلك حتى بدأت تنتشر
161
في قوائم التعليقات صور لرايات يطغى عليها األزرق ،األصفر و األخضر ،أو صور لتماثيل منحوتة أو رموز
بربرية على األرجح ،مع أسماء بروفايالت على شاكلة,Illis N’umazigh ,Je suis Amazigh Berbère :
المتمرد ،نوميدي إلى األبد ....و غيرها من األسماء القريبة إلى الشعارات السياسية
ّ ،Izem N Djorjorالشاوي
منها إلى األلقاب .حيث راح أصحابها ينعتونني بأبشع الصفات ،مغدقين علي بكم ال حصر له من األوصاف
الشائنة و الكالم النابي ،دون أن ينسوا معركة السباب و التالبز باأللقاب بينهم و بين من أعجبتهم الخاطرة.
بعض التعليقات كانت صادرة من بعض زمالء المهنة الذين استغربوا تغييري ألسلوبي في الكتابة ،و راحوا
يبعثون لي رسائل على الخاص ،يسألونني عن غياب أي تحليل عميق و موضوعي للفكرة التي عبّرت عنها .لم
أجب .جلست فقط متربصا و أنا أسبر ردود فعل الغوغاء المتقاتلة على الصفحة مع إحساس خفيف بالذنب ،حمل
في طياته شيئا من التسلية ،لكني كنتُ أراه شيئا عابرا .في بعض األحيان و حتى يحصل الصحفي على ما يصبو
إليه ،عليه لعب بعض األدوار القذرة و الشريرة .ينشر بعض الكتابات الفجّة المنقّحة بجرعات مختلفة من
االستفزاز حسب الظروف و المهام .لكن ما هو قذر يجذب ما هو قذر بالضرورة ،و قذ جذبه فعال نحوي !.
اتصال هاتفي من شخص غير مرغوب فيه بتاتا ،أكد لي مرة أخرى كم هي غريبة مفارقات األشخاص .فبعد
ْ
حملت فيها كما هائال من االنبعاث داخل نفسي و نبّهتني إلى وجوب الجملة المزلزلة ألستاذ صوفيا الوغد التي
تغيير مكان تمترسي في المعركة من أجل فرصة أفضل في إصابة الهدف .جاءت تلك المكالمة من " الحنش
الروجي " .عيّاش مراد ،الصحفي القذر ،لتلقي لي بشيء ما ،لم أكن ألدرك قيمته الكاملة في تلك اللحظة ،فالمكالمة
لم تدم سوى بعض دقائق ،أخبرني فيها الثعبان بأنه قرأ ما كتبت على صفحتي الفيسبوكية و بأنه مستعد لتمكيني من
معلومة ستجعلني أحقق سبقا صحفيا ال مثيل له ،و هي مرتبطة مباشرة بموضوع المسألة البربرية ؟.
شيء ما في أعماقي .دافع خفي .ربما هو نفسه الذي انتابني الليلة التي كنتُ أبحث فيها عن طرف خيط .دافع
عميق جدا هو أقرب إلى الوحي ،كان قد اختلط مع الحدس ،دفع بي لقبول لقاء الحنش الروجي في المكان الذي
اقترحه علي .كان علي فقط أن أنتظر و أنا أعلق أمال على رجع الصدى الذي انتظرته من خاطرتي التي رميتُ
بها في بحيرة الفيسبوك ،كما يرمى حجر في قعر بحيرة إلثارة األسماء فيها ،علها ترسم صورة عامة عما يوجد
بها من أنواع و أشكال.
الحجر الذي رميتُ به في بحيرتي أخرج لي سمكة مقرفة على كل حال ،لكنها كانت في الحقيقة تحمل شيئا لي
لم أتصور أنه قد يُغيُّر مجرى بحثي كله .كانت تحمل في أحشائها النتنة مفتاح مثير للفضول !!.
162
V
بداية الصعود
163
-14-
كانت الظهيرة قد ألقت بثقلها الكامل على ظهر المدينة و كأن النهار نفسه يرغب في أخذ قيلولة قصيرة كانت
ستطول رغما عن العاصمة ،التي ال تهدأ حركتها سوى في أحيائها السكنية الراقية مثل حي حيدرة الجميل .ولجتُ
قاعة الشاي الفاخرة التي كانت الحركة هادئة بها بعض الشيء .بعض أزواج الشباب كانوا يتفرقون حول
الطاوالت و الموائد المتوزعة عبر فضاء الطابق الثاني ،مع بعض الموسيقى الهادئة في الخلفية.
وقفتُ عند مدخل الطابق ال ثاني و أنا أفسح الطريق لشاب كان يمسك بيد رفيقته و هما يهمان بمغادرة المكان
على بعض الضحكات الخافتة .كنتُ أمسح المكان ببصري كالصقر قبل أن أقع على الحنش و هو هناك في الزاوية
يتكور و يتمدد في مكانه و كأنه يبحث عن
ي ُّلوح بذراعه و يتكلم عبر هاتفه المحمول في نفس الوقت .كان يتلوى و ّ
فرسية سهلة ،لذلك لم يكن صعبا علي فهم سبب اختياره الجلوس قبالة مراهقتين كانتا تجلسان غير بعيد عنه و هما
ترتشفان فنجاني قهوة أو شاي مع بعض الحلويات ،في اللحظة التي كانت فيها فتاة تبدو ملتزمة من ثيابها تهم
بتغيير مكان جلوسها و وجهها يفيض بعالمات االنزعاج من تلك النظرات التي كان يرمقها بها الحنش و قد أنزل
نظارته السوداء قليال من فوق أرنبة أنفه كي تتبدى عينيه الزرقوين الماكرتين .لكنه سرعان ما رفع النظارة التي
غطت عينيه مرة أخرى بعدما فقد فريسته األولى ،ليُو ِّ ّجه اهتمامه بالمراهقتين المقابلتين له .عاد و حمل ذراعه و
يلوح لي بالتقدم مستمرا بالحديث عبر هاتفه الخلوي .ذاك هو الثعبان .يعمل في كل الظروف و بسبق اإلصرار
هو ّ
و الترصد ،تماما كرئيس تحريره و جريدته الصفراء .االجتهاد على خلط العمل الصحفي مع المتع الجنسية
الرخ يصة المختلفة مع تصيد فرص المال القذر مع ضرب خصومه و خصوم أصدقائه بعضهم ببعض مع التزلف
المستمر لكل شخص أو زمرة فاسدة يشتم فيها رائحة المال ،الجنس ،القوة و النفوذ .إنه عالمه الصغير.
164
شعرتُ و كأني أود فعال الرجوع من حيث أتيت تلك اللحظة .ليس فقط بسبب ذلك الشعور بأن الموضوع الذي
كان يود مناقشته معي ظل يبدو لي مبتذال و غير مقنع فحسب ،بل ألني كنتُ مضطرا لمجالسة أحمق مثله إلى
درجة الخشية من أن يظننا الناس صديقين ،فضال عما كان سيُطالبني به ثمنا لمقايضة المعلومة الحصرية التي
جاءني بها .تنهدت مع نفسي بعمق ،ثم خطوت متجها نحوه بتململ .وصلت إليه .كان ال يزال منهمكا في الحديث.
جلستُ مباشرة دون تحية و لم أكن أعلم أكان ينظر إلي تلك اللحظة أم كان يركز بصره على إحدى المراهقتين
الجالستين خلفي بعدما ،وضعت ساقا على األخرى و هي ترتب خصالت شعرها األسود فوق أذنها اليسرى بأنامل
يدها ،بعدما بدى لها أن الثعبان يُراقبها باهتمام و تلذذ.
_ آه ....و ّ
شاكي ! .مضى وقت طويل جدا هه ؟.
_ كم ؟ ،سنة ،سنتان ؟ ،أو قل منذ ليلة رأس السنة الفارطة ؟ .قرأتُ تحقيقك الفاضح و المدوي عما اصطلح
عليه بفضيحة المطربين اللبنانيين و متأكد أنا من أنك رأيتني ذاك المساء في الملهى لكن ال أدري كيف لم أرك ؟...
_ ...كنتَ متنكرا بزي ما .زي راقصة شرقية ربما ؟ .لكن قل لي ...هل رأيتني أجلس رفقة ساقطتين في جناح
الشخصيات المهمة و المتنفذة يا ترى ؟.
_ رأيتُ الكثير من الحثالة تلك الليلة ،لذلك ...ربما كنتُ رأيتك و لم أتعرف عليك.
أجبته بسرعة البرق مشيرا للنادل الذي كان يتقدم نحوي بأني ال أريد طلب شيء ،ثم ر ّكزت نظراتي الباردة
على وجهه األصفر المتجمد حين راح يرتب شعره األشقر األملس بيده ،قبل أن يميل بجسمه قليال إلى الجانب و
هو يُنزل نظارته السوداء على أنفه مرة أخرى ،كاشفا نظراته التي تتآكلها الشهوة و الرغبة في االنقضاض .راح
ينظر باسما إلى تلك المراهقة ذات التنورة القصيرة و البسمة الودودة ،التي راحت تبادله بسمة بدت و كأنها بريئة
على العموم ،أو ألقل ساذجة ،قبل أن تنفجر و هي تحاول كتم صوت ضحكاتها رفقة صاحبتها...
_ أنظر يا صديقي إلى تلك األرنوبة البيضاء الشهية .أتعلم أنها تع ّمدت وضع ساق فوق ساق كي تكشف لي
عن حالوة فخذها األبيض الطري ؟ .إنها تريدني أن ألتهمه ،و حتما سأفعل الليلة !.
165
_ Ah, mon ami !. Les belles jambes de la petite nana, écartées en l’air… avec ses
hurlements …okh putain !! il n’y a pas plus excitant et plus délicieux au monde !!.
قالها و هو ينزع نظارته واضعا إياها فوق الطاولة ،كاشفا بذلك عن نظراته القبيحة التي تنضح بالخبث الذي
كان يُقذف منهما كحمم الجحيم صوب ذلك الجسد األنثوي الغض الذي كان يستهدف .نظر إلي لحظة و هو يتفحّص
مالمح وجهي الذي كان كالحجر البارد...
_ وش بك حنّوني ؟ .تبدو منزعجا ؟ .أال يروق لك الجنس أم أنك لست من البشر ؟.أه أجل ...أنتَ شخص
يأخذ العالم على محمل الجد فوق اللزوم ،ال متعة ،ال صخب ،ال ترف ،ال لهو ...مجرد قتال و معارك أخالقية
عنيفة ال نهاية لها ضد شياطينك ....لكن في النهاية أنظر إلى أين أوصلت نفسك ! ...إلى مصطفى باشا !! .لذلك
اسمح لي بإعطائك نصيحة :ال تتردد في ركل كل شيء و رميه خلف ظهرك و ال تخجل من تلبية رغباتك بين
الحين و اآلخر يا رجل ! ما العيب في كون الطبيعة هكذا ،فوضوية و شهوانية ؟ ،لوال هذا لما كانت هناك حياة !.
أما إذا كنت تعتقد أنك بحسك الدونكيشوتي الدرامي هذا تكون الوحيد القادر على التأمل و ابتكار المفاهيم و
المصطلحات " الثورية " التي تنتصر بها في معاركك إلنقاذ هذا العالم الفاسد ،فأقول لك أنه حتى أنا أستطيع فعل
ذلك ،دون الحاجة إلى أن أكون عبوس الوجه مثلك.
هز حاجبيه و قد أطلق العنان لتلك اإليماءات الغبية التي كان يحاول أن يظهر بها بمظهر الشخص المرح و
الفكاهي الذي على وشك إطالق نكتة ساخرة...
_ هل تعلم يا وشاكي ما خطر ببالي و أنا في قمة التأمل و التفلسف قبل بضعة أيام ،بعدما م َّكنتني إحداهن من
ركوب ردفيها حد الجنون و اإلنهاك ؟ ....وصلتُ إلى إدراك أن عالم البشر ...مثله مثل عالم الحواسيب تماما....
صفر !!..
بني بتالقي الواحد مع ال ّ
نظر إلي لحظة ثم انفجر ضاحكا و هو يضع يده على فمه .كنتُ أستعر غضبا من الداخل و أنا أشعر لوهلة كم
كنت غبيا إذ قبلت لقاء هذا األحمق في مكان عمومي ،ألجلس و أسمع سخافاته السَّمجة و هو يقتل وقتي المثخن
بالعمل .تنهدت .كنتُ أود أن أقول شيئا في غاية البذاءة أوقف به تلك الضحكة لوال أني أعلم أنه شخص ال يتأثر
بأي كلمة سب أو قدح في حقه ،إن لم أقل أنه من نوع البشر الذين يشعرون طوال الوقت أنهم موجودون بفضل
شتم و سب اآلخرين لهم .لذلك هممت فقط بالنهوض من مكاني و أنا عازم على المغادرة ،قبل أن يرمي يده إلى
ذراعي و هو يحاول السيطرة على ضحكته...
_ كال يا رجل ...اهدأ ...اهدأ ...أنا أمازحك فقط ...أعلم أنك ال تطيقني على كل حال لكن ال بأس ! .اجلس،
أؤكد لك أن لي شيئا يحلم به أي صحفي يسعى خلف سبق كبير !.
166
نظرتُ مباشرة في عينيه بعدما استشعرت تغيرا واضحا في نبرة صوته التي بدت أكثر جدية فجأة .كانت
عيناه تقوالن شيئا ما .شيء جعلني أجلس مرة أخرى و أنا آمل أن تكون الضربة فعال مناسبة .من يدري ،لعل هذا
األحمق يحمل لي شيئا حقيقيا في جعبته ؟.
لم يقل شيئا .تنهد بل حمل كيس شاي معطر ثم راح ينقعه في قدح فيه ماء ساخن ،قبل أن ينطق و قد اكتسحت
محياه عالمات جد واضحة...
_ يجب أوال يا وشاكي أن أطلب منك إغالق هاتفك الخلوي و نزع بطاريته و وضعهما على الطاولة أمامي.
_ عفوا ؟ !.
سألته باستغراب كان يتدحرج إلى الدهشة المصطنعة ،رغم علمي المسبق بما كان يدور في رأسه...
_ وشاكي ...ال تتغابى اآلن أيها الغر ! .أنا صحفي و أنت صحفي و تعلم أن بمقدور أي منا تسجيل حديث هذه
الجلسة الستعماله كمرجع أو مصدر لمقال أو كتاب ،أو في االستفزاز و المساومة الحقا.
_ أخخخ ....أرجوك ،لم أطلب لقاءك هنا لنتناقش في مسائلك األخالقية المثيرة للضحك .يكفيني أنك تبقى
صحفيا في كل األحوال و من ثم فجانبك غير مأمون مهما قيل عنك .ثم أال تعلم أن هواتفنا دوما مراقبة ؟ .أنا هنا
من أجل مقايضة معلومة حصرية في غاية األهمية و السرية ،ال أحد يعلم بها في ميدان الصحافة سواي.
ردة فعله و انزعاجه ذاك حملني فعال على االعتقاد بأن الرجل كان يحمل في جعبته شيئا بدأت أشتم فيه رائحة
اإلثارة و المغامرة بأنفي الصحفي .ن ّفذتُ طلبه ،حين قام هو اآلخر بإغالق هاتفه و نزع شريحته و بطاريته .تبادلنا
نظرات التركيز لثوان و كأننا راعيي بقر أمريكيين يودان خوض معركة أعين من دون مسدسات .أخذ رشفة من
كأس الشاي ثم نظر إلي...
تن ّهدت ناظرا إليه لوهلة .فهمت تماما عما كان يتحدث..
_ '' حصلة '' .انسداد تام .أعتقد أنها الكلمة األقرب لوصف النتيجة .المسألة الجزائرية و البربرية لم تنتج
سوى الفشل و التفريق و العنصرية و التحريض على الفوضى العفوية ،التي يمكن أن تُركب من أكثر من جهة.
167
_ لم أقل أنهم أصل المشكلة .بل هم نتيجة لها بشكل ما .المشكلة بدأت مع ما أطلقت عليه بعض األقالم سياسة
معالجة األزمات بالتعفن التي يتعامل بها ا لنظام السياسي مع هكذا عقبات منذ االستقالل .يتجاهل المشكلة عند
نشوئها عمدا .يتركها للتخمر ثم إذا تعفّنت يدخل على خط مواجهتها بقمع شديد غير ُم َّ
برر أو يركبها ليعالج بها
مشاكل أخرى من أجل أن يبقى هو سيد المبادرة و التحكم في سير األحداث .بعبارات أخرى فهذه السياسة تساعده
على إبقائنا في نفس الوضع األزلي الذي نعيشه ....من السيء إلى األسوأ ،ثم من األسوأ إلى السيء .ما يُطلق عليها
القضية البربرية هي مسألة مبتذلة و متعفنة منذ زمن و هي آيلة مع الجيل الصاعد من المدافعين عنها إلى الفشل
المحتوم.
_ ما قصدك ؟.
زادت بسمته الماكرة اتساعا .أخذ رشفة أخرى من كأسه .حك أنفه للحظة و هو يمعن التركيز...
_ ليس قبل أن تعطيني ما أريد ...أنتَ تعلم المقايضات بين الصحفيين ...ساعدني ...أساعدك ! ...اعطني شيئا
نادرا أعطيك شيئا نادر...
_ ما الذي يجعلني أصدق أنك لن تلتف علي إن منحتك ما تريد ؟ ...هذا إن كان عندي معلومة تعادل في
أهميتها معلومتك ؟.
_ ال تقلق يا و َّ
شاكي .أنت لديك الكثير مما أبحث عنه اليوم .لديك فائض حتى .أما أنا ،فإن المعلومة التي
بحوزتي لم أعد بحاجة إليها في الحقيقة.
كان أمره غريبا جدا .ما كان هدفه الحقيقي يا ترى من كل ذلك ؟ .صمتُ للحظات ،ثم اعتدلت في جلستي آخذا
وضعية أكثر انبساطا في محاولة مني ألظهر له أني واثق من نفسي و مستعد للسيطرة على الوضع ككل...
_ لستُ متأكدا بعد .أريد أن أعرف شيئا عاما عن معلومتك الحصرية هذه .بعدها يمكنني أن ِّ ّ
أقرر إن كانت
جيدة و تستحق المقايضة مع ما تطلبه مني.
168
أطلق ضحكة قصيرة .أخذ رشفة أخرى من كأسه .ف ّكر قليال و هو ال يكف عن النظر إلى األرنوبة الجالسة
ي كثعبان يريد إلقاء شيء ما من ثغره الضخم.
خلفي ،الحسا جسدها بعينيه الزرقوين مرة أخرى ،قبل أن ينظر إل ّ
يتحرك من مكانه...
ّ فدنى قليال مني بجدعه دون أن
لم أقل شيئا .جاء على بالي أن هذا الشخص له الكثير من المصادر األهلية و الموثوقة من داخل األجهزة
الحكومية بحكم قرابته العائلية مع الكثير من ضباط الجيش و المخابرات السابقين .ر ّكزت نظري في عينيه
الباردتين ،قبل أن يأتيني صوته الخافت و كأنه يلقي بهمسة شيطانية مشعلة للغرائز المجنونة...
قالها و هو يرفع حاجبيه الرقيقين مع اتساع واضح في بسمته .أعترف أن أنفاسي انقطعت للحظة بعدما
أحسست أن الزمن قد تباطأ .سماع عبارة كهذه ممزوجة بالتفكير في سبق صحفي ...واااو !! ،إنها أشبه بالرعشة
صحفي .ممتعة ،مربكةُّ ،
تهز البدن و الوجدان بعنف يقفز نحو استرخاء لذيذ يتبعه إحساس الجنسية داخل كيان ال ّ
غامر بالرضى و السعادة ثم تجدد في الطاقة التي يتم اختزانها للصباح التالي الحامل لمغامرة ما !.
_ أتسمي هذه معلومة حصرية و أنت تعلم أن هذا البلد يسير و يتنفس باإلشاعات ؟.
صغير ،ألم يعلّموك في الصحافة أن أعظم القصص اإلخبارية هي تلك التي تبدأ كإشاعة
_ وشاكي أيها الغر ال ّ
تنتقل همسا بين ال ّ
شِّفاه ؟.
صمت الثعبان ناظرا إلي ،ثم اكتفى بغمزة على طرف الوجه كشيطان يحمل حقيقة باطنها مؤامرة ما .لم أرتح
له ،لكني صحفي في كل األحوال ! .ما طعم و ما قيمة هذه المهنة من دون مغامرات و مخاطر ؟.
_ حسن يا وشاكي .أنت من بين الصحفيين و اإلعالميين النادرين في هذا البلد الذين لهم موهبة خاصة مع
الكلمات .معظمنا يستخدمها ككلمات ،لكنك تستخدمها كالرصاص الحي .أنتَ بارع جدا في إصابة الضمائر بما
تكتب .أعترف أنك بارع في ابتكار المصطلحات و المفاهيم التي ته ّز بها المجتمع هزا .ال أدري ما هو ّ
سرك،
خاصة عندما أفكر في أنك صغير السن و لم يمض على دخولك عالم هذه المهنة سوى ثالثة أو أربعة أعوام ؟....
أعني :كيف تفعل ذلك يا رجل ؟ .أنت تأتي بكل تلك األشياء التي تكتبها في عمودك و كأنها كتاكيت صغيرة
تجمعها من سالل بيض تقوم بتفقيصها في مكان ما و بطرق ال يعلمها أحد ؟.
169
لم أشعر باالرتياح .لم أقل شيئا حتى ،فقد كنت أراقب إيماءات وجهه فقط بعدما طغت عليها لمسة داكنة من
مالمح اللصوصية الواضحة .لكنه تفطن إلى كوني بدأتُ أفكر مسبقا في االنقضاض عليه فراح يستفز مترقبا...
_ أمين ،هل أنت جاد أم ماذا ؟ .مصطلح أو مفهوم واحد ،تعطينيه لعلي أحقق به شيئا ضئيال من قوتك في
الكتابة ،مقابل معلومة قد تقودك إلى أهم سبق في الحياة المهنية التعيسة التي تعيشها .أنتَ ت ُحب االحتراق و التدمير
الذاتي من أجل معاركك الوجودية التافهة .أشعر بذلك الغيض الدفين الذي يجعلك تتأوه مقاالتك المليئة باأللم و
الغضب من وضع هذا الشعب المقرف ،أفال تبدو لك هذه فرصة العمر ؟ .امنحني شيئا من مجدك الدّنيوي و خذ
الشهادة التي تبحث عنها !!.
_ لقد أخبرتك الكثير ،ربما فوق اللزوم ...أتريد الحصول على هذه الفرصة أم ال ؟.
تنهدتُ و وافقتُ أخيرا .فحمل المحتال دفتر مالحظاته و قلمه بعدما طلب من النادل قطعة من الحلوى المزينة
بالشوكوال و قطع الفراولة .رفضتُ مرة أخرى عرضه علي بتناول شيء ما .كنتُ أتألم و أنا أود التضحية بإحدى
الطلقات التي كنتُ قد أعددتها سالفا من أجل استخدامها في مالحقة الدابة الهائجة التي أسعى خلفها منذ زمن .راح
الثعبان يسجل ما كنتُ أتفوه به ،و هو ما أطلقتُ عليه اصطالحا '' الثقب األسود الجيلي " الذي استلهمته من مأساة
صوفيا و أحاديثها التي ال تكاد تنتهي عن علوم الفضاء .و قد وضعتُ تلك العبارة معبِّّرا من خاللها عن فكرة
جوهرية لخصتها في عبارة سابقة و هي " المجال االنفعازماني بين األجيال " .كنتُ أفكر بتمعن في ظاهرة كنتُ
ْ
التقطت فيها مسامعي حديث أمي مع ال أزال أعيش تجاذباتها إلى ذلك اليوم في حياتي الخاصة ،منذ اللحظة التي
والدة خاطب شقيقتي ذاك اليوم قبل نحو شهرين ،حين كانت والدة الخاطب تدعو للخطيبين بالتوفيق و السداد مهما
تكن العقبات في طريقهما ،فإذا بوالدتي تردّ عليها بعبارة لم تمر مرور الكرام على ذهني " :المهم يعيشوا لنا." ...
تساءلتُ مع نفسي مذ ذاك اليومَ :لم لم تقل أمي كالما من قبيل ....المهم يعيشوا لبعضهم ،أو المهم يعيشوا
ألوالدهم ...مثال ؟ .فكرتُ في أن هناك مشكلة " أحالم " و " انفعاالت عالقة " في المجتمع الجزائري ،نظرا
مر بها من ذ االحتالل الفرنسي الذي قام بتدمير ممنهج للنظام االجتماعي التقليدي الذي كان
لألزمات المتتالية التي ّ
ينظم حياة الناس و يسير الطاقات االقتصادية و االنفعالية فيه ،بحيث خلف ذلك فراغا أدى إلى تكدس الصراعات و
االحتقانات العاطفية و العقد التي لم تجد لها – في الغالب – منافذ و سبال يستسيغها وعي المجتمع ،فاالحتالل أقام
بنية شاذة بعدما مأل تلك الفراغات التي تركها النظام القديم ،باستبدالها ببناه االجتماعية ذات النظام القيمي و أسلوب
170
الحياة المختلف ،مما خلف هذا التشوه المزمن في الحس أو اإلدراك االجتماعي و المدني للجزائري .ال نزال نلحظ
ذلك إلى أيامنا هذه في مظاهر كثيرة على شاكلة أريفة المدن و االبتعاد عن حل المشاكل عن طريق المؤسسات
سط األمر لذاك األحمق الذي كان يسجل
صة في ذلك كالمحاكم و مراكز الشرطة ...كان علي أن أب ِّ ّ
التعويضية المخت َّ
ما كنت أقوله دون أن ينسى مد يده إلى الشوكة بجنبه ليقضم بها أجزاء من قطعة الكعك على يمينه .أما أنا فقد كنت
أبتعد عن الحديث عن عالقة هذا الموضوع بحياتي الخاصة و كيف اكتشفته...
_ هذا ممتع يا وشاكي ! ،لكن هال ل ّخصتَ هذا األمر لي في معادلة واحدة فقط ؟ .يمكنني أن أتوسع فيه الحقا.
_ نظام اجتماعي تقليدي متص ِّدّع منذ أكثر من قرن +نظام استعماري مستبد = انفعاالت معلّقة و مشحونة
سببها العنف و القهر و االضطرابات ،التي تتبع كل ذلك و التي ال تجد لها منافذ آنية و مقنِّعة ،بل تتكدس و تبدأ في
الترسب بين األجيال المتتابعة بطرق انحصارية و شاذة .أو لنقل أنها حين تبلغ نقطة الفيضان تبدأ في التداخل مع
المجال العاطفي لكل جيل فتي و هنا تبدأ الضغوط و األلم.
_ ما عالقة كل هذا بالثقب األسود ؟ .آه ...تبا لك يا وشاكي ! ،هذه العبارة حقا تذكرني بنوع آخر من الثقوب
لو تعلم..
_ ال تنطلق مجددا في هوسك اإلباحي اللعين ذاك .دعك مركزا على حديثنا .حين أنصرف ،فكر بما يحلو لك.
قاطعته و هو ينظر مرة أخرى إلى تلك المراهقة التي وصل بها األمر أخيرا إلى مبادلته نظرات الغواية و
الدعوة إليها بشكل واضح صريح .لكنه عاد و كأنه يريد اإلسراع في إتمام المقايضة...
_ حسن… حسن يا وشاكي ...المهم ...بسّط لي اآلن ،ما عالقة المشكلة التي تحدثتَ عنها بعبارة الثقب األسود
الجيلي ؟ ،كيف يعمل هذا الشيء ؟ ،أقصد هذا المفهوم ؟.
لم يقل الثعبان شيئا .زاغت مقلتاه ملتفة عبر أرجاء المكان و كأنها عيني حرباء ،قبل أن تستقرا على وجهي و
هما تطلقان نظرات إما غبية أو متغابية...
171
ُ
يحدث في أي _ ال يا وشاكي ...لم أشعر بذلك أبدا .ثم أال ترى أن هذا البراز الذي رميته اآلن على الطاولة قد
بلد أو مجتمع آخر ؟.
_ عليك أن تراقب مجتمعك عن كثب يا هذا .إنها مشكلة حقيقية و إن كانت غير مرئية بشكل واضح .سترى
أن كل جيل يفوته الكثير مما رغب في عيشه أيام شبابه و في غمرة سن عطائه و لم يستطع ذلك لظروف تاريخية
معينة ،يتجه إلى طريقين :إما أن يحاول التأثير على خيارات و قناعات الجيل التالي ليدفع به كي يعيش الحلم
تجرع ما يكفي من خيبات
السابق ،ظانا أنه بذلك يصنع معروفا في الجيل الفتي كونه – أي الجيل األكبر – قد َّ
الحياة ،و ال يريد للنشأ أن يمر بنفس التجارب .و إما أنه يتخذ الطريقة الثانية و هي األكثر وقاحة و مجاجة:
مزاحمة الجيل الشاب عنوة في أحالمه و طموحاته ،بل و األبشع من ذلك ،محاولة السطو عليها و أخذها منه .و
في كلتي الحالتين فإن هذه الظاهرة تنتج عنها اختالالت في تحقيق أحالم األجيال المتتابعة ،مما ينتج عنها خلل في
سير الطاقة االنفعالية للمجتمع و من ثم خلل في حركة تاريخ و نمو المجتمع ككل .تكدّس شديد لالنفعاالت المعلّقة
التي تشكل في النهاية هذا الثقب األسود الهائج ،الذي يمتص طاقات األفراد لصالح األكبر سنا و يشتّْتها في سعيها
إلى تحقيق أحالمها المشروعة ،فينتهي األمر بكل جيل إلى عيش نصف أو ربع ما كان يُفترض به عيشه في
الحاالت الطبيعية ،كون طاقته االنفعالية و الفكرية قد تم امتصاصها واستنزافها بسبب الظروف التي تسبب فيها
الجيل األكبر سنا بطريقة أو بأخرى .هكذا تحترق األجيال كالورق تماما و تستحيل إلى مجرد كتل من الرماد
البارد و هي على مشارف منتصف عمرها أو أقل .في هذه المنظومة ،كلما كنتَ نابغة أو عبقري أو مميز ،كنتَ
األسرع احتراقا مقارنة باألقل نبوغا أو تميزا.
لم ينبس ببنت شفة ،بل غاص بنظره في الفراغ ،قبل أن يعود لتدوين الفكرة األخيرة ،حتى أن انزالق قلمه
على ورق الدفتر كان في الحقيقة انزالق سكين على قلبي .تلك المالحظة كان يمكن أن ّ
أولد منها عشرات المقاالت
التي كانت ربما ستتناسل منها مئات المفاهيم و المصطلحات الجديدة .لكن ،كان علي أن أق ِّدّم تنازال مؤلما مقابل ما
أودّ الحصول عليه من ذاك الوغد ،الذي رمقني بنظرة ساخرة و هو يضحك...
_ ممتاز .أنتَ تعرف النكتة إذن ؟ .نحن نعيش ألحالم الماضي المتعثرة يا عيّاش وليس ألحالم اليوم و
الغد ....المهم انعيشو لهم! .إنها الضريبة الجيلية الجائرة.
نطقت العبارة األخيرة و أنا أتن ّهد مع نفسي متذكرا كيف ال يزال أبي يحاول جعلي أسير في ما يراه صالحا لي
في ميدان الكتابة و التأليف ،و الذي ال يعد سوى طريقة أو محاولة أخرى منه لخدمة ما فشل فيه هو و جيله من
المهوسين بالقومية العربية و الموجوعين بإخفاقاتها و نكباتها .ثم ال أدري كم من مرة وجدتُ نفسي على وشك
االنفجار في وجهه و هو في قمة غيضه و صراخه ،حين كان يحاول إقناعي بصحة رأيه في مسائل مختلفة يود
مني أن أشاطره الرأي فيها بكل قوة و أساندها من خالل ما أكتب ،لكني كنتُ فقط أبتلع ريقي و أصمت عاجزا عن
فعل شيء ،حتى النظر في عينيه و هما تطلقان تلك النظرات الحادة كالصواعق ،كان أمرا عسيرا للغاية .بال ريب،
172
كان ذلك الخوف الذي زرعه في أحشائنا منذ الطفولة .في النهاية و يوم صغت هذا المفهوم مع رأسي وصلتُ إلى
عبارة مجازية واحدة عبّرت بها عما كان يختلج في صدري " :الغصات العاطفية المخنوقة لجيلكم يا أبي ،كانت
وباال على حياتنا إذن ! " .ليتني أستطيع أن أسمعها إياه ذات يوم.
كنتُ أستحضر ذلك مع نفسي دون اإلفصاح عنه أمام الحنش ،الذي كان يس ّجل ما أطنبتُ عليه به و هو يبتسم
متمتما مع نفسه و كأنه مشعوذ غارق في تحضير إحدى تعاويذه الشريرة...
_ هل انتهينا من هذا ؟ ....اآلن يا عياش ....هات ما عندك و دعني أنصرف فلدي مشاغل و مواعيد أخرى !.
وضع قلمه جانبا و هو يتنهد .رفع رأسه ناظرا إلي ،ثم مد يده إلى الشوكة حامال طبق القطعة التي كان يأكلها
باليد األخرى ،فراح يكمل تقطيع و أكل ما بقي منها و هو يمضغ بشكل غريب متسارع كما تمضغ األرانب
طعامها ،ناظرا إلي مبتسما بتحدّ .أدركتُ أنه كان يلعب على أعصابي بإصداره تلك األصوات المزعجة من فمه
مؤكدا لي أنه من نوع البشر الذين يجب جلدهم باألسالك الشائكة ،ال لشيء سوى لفخرهم الشديد بوضاعتهم و
وقاحتهم في عالقتهم مع اآلخرين .لكني لم أحرك ساكنا ،إال حين نظرتُ إلى ساعتي متنهدا .ربما كان ذلك هو
السبيل األقرب للقول :أرجوك ...من فضلك ! .حينها فقط تنحنح و هو يخرج من جيبه ورقة مطوية قام بفتحها،
ليتبين أنها كانت تحوي صورة فوتوغرافية في طياتها .وضع الورقة و الصورة فوق الطاولة ثم دفعها نحوي.
حملتُ الصورة أوال .كانت لرجل كهل نحيف الوجه ،بدى لي في العقد الخامس من العمر ،غزى الشيب صدغيه
في حين تشابك مع بقية فروة رأسه التي استحالت رمادية اللون .كانت بشرته مائلة إلى السمرة آخذة لون ال َّ
شعير.
جبهة عريضة .ذقن حاد بعض الشيء .أنف معقوف قليال .تجاعيد واضحة على الخدين و العنق .عينين حادتين
متمترستين خلف نظارة طبِّّية لها خيط تعليق و زجاج غليظ نوعا ما يظللهما حاجبين أسودين غليظين .كان الرجل
الكهل مائال برأسه نحو األسفل ،فاتحا فمه قليالْ .
بدت خزرته و كأنها ضائعة في الفراغ و هو يقف أو يسير أمام
جدار من اآلجر األحمر كان منتصبا خلفه.
شعرتُ أن من التقط له الصورة كان قد باغته بذلك و لم يُعلمه بنية تصويره أصال ،كون إطارها كان مائال
المصور كان يتحرك و هو يحمل آلة تصويره في ارتفاع منخفض بعض الشيء .أو أنه كان
ّ ِّ بعض الشيء و كأن
يتظاهر بأنه يُجهزها أو يقوم ببرمجة إحداثياتها .الصورة كانت رقمية بشكل جلي .لكن السؤال الذي تراقص أمام
فكري الحائر تلك اللحظة هو :من يكون هذا الشخص ؟ .نظرتُ مباشرة إلى الحنش و أنا Hرمي إليه بإيماءات
االستفهام ،لينطق من فوره وهو يقوم بإشعال سيجارة....
قال بأن اسمه آفاو عميروش 21 ،عاما ،صانع فخار .ابن آفاو إيدير ،مجاهد سابق من الوالية التاريخية
مررت حرفتها إلى ابنها الوحيد
الثالثة ،و واعلي تاملسة ،صانعة فخار هي األخرى .بحسب الحنش هي التي َّ
حاليا ،و هو يعيش مع والديه في قرية منسية تدعى " تيميزر " .مكان نائي ال يكاد يُعرف له طريق و ال يظهر
حتى في الخرائط ،يقع على الشط الشمالي لسالسل جرجرة في إقليم والية تيزي وزو .يلقبون هذا الرجل في تلك
173
المنطقة بـ" أغاكال " .كلمة بربرية مركبة من كلمتين في األصل :أڨ أي ابن ،و أكال أي الطين .بحسب
المعلومات التي استقاها الحنش من مصدره الضليع في الـ ،DRSو من مصادر مختلفة فإن هذا الشخص الغامض
و الغريب األطوار قد يكون على رأس تيار سياسي سري ،بدأ يتش ّكل و ينشط فعليا في أعقاب ثورة 25يناير
المصرية ،بهدف نشر فكرة القيام بربيع على شاكلة الربيع البربري بأساليب جديدة ،تماما كما فعل المصريون في
ثورتهم ،و األخطر من ذلك أن هذا الربيع سيأخذ بعدا وطنيا هذه المرة بدال من أن يبقى محصورا في منطقة
القبايل .الهدف :قلب نظام الحكم و االعتراف التام و النهائي بكل الحقوق السياسية و الثقافية للحركة األمازيغية.
مصدر الحنش يقول بأن التوقعات من داخل أجهزة المخابرات تتوقع ّ
بأن األمر إن حدث بطريقة سريعة و غير
محسوبة فإن في ذلك لعبة خطيرة جدا ،قد تؤدي بنا هذه المرة إلى حرب أهلية " صريحة " تكون أعنف من
المأساة التي شهدناها في التسعينات !.
أعترف أن كالمه ذو النبرة الجادة و الريتم الموزون و الثابت كان مثيرا لالهتمام .لكني رغم ذلك كنتُ أشعر
ُ
باإلثارة و هي تسري في عروقي كالكهرباء .كنتُ أحاول كبح ذلك الكم الهائل من األسئلة التي كانت تعبث بعقلي و
صبري...
_ المهم يا عيَّاش ...تبدو معلومة في غاية الثقل ،لكن أال تعتقد أن األمر فيه شيء من النفخ و المبالغة ؟.
_ قلتُ نفس الشيء في بادئ األمر ،ثم بدأت أفكر ...أحداث منطقة القبايل األخيرة ،أحداث غرداية ،زيادة
الحس القومي للطوارڨ في الصحراء بعد عملية ،Servalالحرب في ليبيا ....ف ّكر مع نفسك قليال...
ألوح بصورة صانع الفخار في يدي .لكن الحنش الروجي ظل ثابتا و جادا...
قلت متهكما و أنا ّ ِّ
_ ال يخدعنَّك مظهره الساذج هذا .يقولون أنه فيلسوف حقيقي ؟ .رجل موسوعي له دراية واسعة بالتاريخ و
الثقافة و السياسة ،ثم ّ
إن البعض في مصالح األمن يفترضون أنه قد يكون واجهة ألطراف دولية تحاول تسييره و
التّحكم به عن بُعد ،كونه يحظى بسمعة هائلة في كل منطقة القبايل و حتى خارجها ،فهو يربط صالت وثيقة مع
ناشطين من أجل القضية البربرية في األوراس و الميزاب و إليزي ،بل إن له صالت صداقة و مكانة من االحترام
لدى بعض الناشطين المغاربة في منطقة الريف.....
ركز نظرة الشك التي تطايرت منها عالمات االستفهام علي و هو يحمل حاجبا فوق آخر ضاغطا على كلمة "
مغاربة " قبل أن يُكمل...
_ إن كانت له كل هذه المكانة ،فكيف لم نسمع به من قبل في وسائل اإلعالم مثال ؟.
_ أه ...هذه مشكلته في الحقيقة .إنه شخص غريب و متوحد كثيرا و ال يحب الزوار و الغرباء و ال يأبه لشيء
اسمه األضواء .الكثير من الصحفيين و المراسلين حاولوا على مدار سنوات التقرب منه ،للظفر بلقاء صحفي أو
ربورتاج يسلط الضوء على ما يسمونه عبثا " تحفا فخارية " يصنعها بتفان و إتقان لكن ....بال فائدة.
174
التزمتُ الصمت للحظة و أنا أنظر إلى تقاسيم وجهه الجاد و هو يدخن سيجارته .ثم حملتُ تلك الورقة و
رحتُ أقرأ عليها عبارات و جمل و أرقام ،لم تدع لي مجاال إال الفتراض أنها أسماء لجماعات ناشطة على شبكات
التواصل االجتماعية ،فجاءني صوت الثعبان متنهدا...
_ ما تراه اآلن أمامك هو أحد ألغاز هذه القضية .أنا نفسي وقفتُ طويال أمامه دون أن أتمكن من فك شفرته.
تنهد الحنش و كأنه يتألم بسبب عجزه عن حل اللغز ،قبل أن يخبرني أنها كانت مجرد حسابات على
اليوتيوب .هواة يهتمون بترجمة الكثير من األغاني البربرية و بعض األغاني الجزائرية إلى لغات أخرى ،و في
مقدمتها اللغة العربية ،الفرنسية ،اإلنجليزية ،اإلسبانية ،الروسية .....و حتى اليابانية و الصينية .في مقابل ترجمة
بعض األغاني األجنبية إلى البربرية ؟ ! .قال بأنه لم يفهم سر كل هذا ،لكن األمر يبدو و كأنهم يتعاملون مع
أشخاص أجانب أيضا .عملية تمويه أخرى على ما يبدو ؟ ،عملية تمويه ربما ؟ .قال الحنش أن هؤالء الناشطين
الجزائريين فمرتبطون بعضهم ببعض ببرنامج عمل أو خطة أو ما شابه ،يتلخص في صفحة واحدة يتيمة على
الفيسبوك تحمل اسما مختصرا و هو .TTS ....البعض خ َّمن أنها اختصار لثالث كلمات قد تحمل في طياتها كل
شيء فيما يخص نوايا هؤالء األشخاص ." Tendance Transformation Sociale " :الشيء المؤكد هو أنهم
جميعا من فئة الشباب و أن هنالك رابطا يجمعهم مع ذاك الرجل الغريب ،يتل ّخص في رمز واحد :فصيلة محددة
من الفراشات يتخذونها شعارا لهم .أما أجهزة األمن فلم تتمكن من اعتقالهم حتى اآلن ،كونهم يستخدمون منهج و
أساليب جماعات Anonymousالعالمية في التهرب من الرقابة و المالحقة الرقمية .الدارك ويب.
_ هاكرز ؟ ،هذا مثير .حسنَ ....لم لم يعتقلوا آفاو هذا إذن ؟.
_ ال دالئل دامغة عليه حتى اآلن فهو ال يستخدم االنترنت إطالقا ،بل ال يعرف كيف يستخدمه حتى ؟.
_ أجل .لكنه صدني بعنف و تعنّت .لم أستطع أن أحظى منه و لو بخمس دقائق .لذلك عاودتُ المحاولة بعد
نحو شهر باستخدام إحدى الساذجات ممن أوقعتهن في حبي .لكن بال فائدة.
َي لقد أعطيتكَ كل ما تحتاج يا فتى .ال أتحدث عن هوية مصادري .دبّر راسك درك .روح هللا
_ مستحيل ! .ه ْ
يسهل عليك .لن أخبرك المزيد و عليك أن تجتهد اآلن كي تصل إلى تلك القرية النائية الملعونة .أنت رجل بالغ و
ملقّح ضد داء الحصبة .اآلن ...أششش ....أششش ...اذهب ..اذهب و حاول أن تُنجز شيئا مميزا في مسارك
المهني ،لعلّك تصبح عبد الباري عطوان أو سعد بوعقبة أو Edwy Plenelالتالي !.
175
خف
كان أساي على الطلقة التي منحتها إلى الحنش الروجي من أجل الحصول على هذا السبق المذهل قد َّ
كثيرا ،نظرا ألهمية ما حصلتُ عليه ،إلى أن اختفى تماما حين تذكرتُ أن ذاك المغفل كان يشتغل في كل األحوال
صة تملكها ابنة وزير سابق ،تقوم على المشاركة في
جرد شركة فساد خا َّ
لدى صحيفة ال يكاد أحد يسمع باسمها .م َّ
النهب المنظم للمال العام عن طريق صفقات اإلشهار العام التي تجود بها الدولة عليها ،مقابل أن تعمل كمؤسسة
مرتزقة إعالميا ،تز ِّّمر و ت طبل للنظام ليل نهار و تنال من خصومه بكل الطرق الدنيئة البعيدة عن أطر األخالق و
الموضوعية .لكن في النهاية ،ما كان بوسع الحنش الروجي أن يفعل بطلقتي تلك و جريدته الصفراء ال يقرأها
أحد ،إذ تنتهي معظم نسخها في أسواق الخضر و الفاكهة أو محال بيع السمك ؟.
شيئ من نشوة االنتصار اعتراني و أنا أنصرف عنه ،تاركا إياه يزحف نحو تلك األرنبة التي كانت تستعد
لستليم نفسها إليه بلذة و طوع .لكن بالنسبة لي ف ذلك البياض الذي سيطر على فكري منذ مدة متزاوجا مع صمت
األفكار المزعج كان يتداعى مفسحا المكان لعتمة شهية مختلطة بألوان و أصوات مختلفة ،كانت تتمازج بضجيج
جعل قلق السؤال ينبعث من رماده مجددا و هو يذكي في نار الحماس النهائي لمحاولة البحث عن الحقيقة ....هناك،
حيث ال يرغب أحد في البحث عنها !.
**********
ثالث ساعات قضيتها أمام حاسوبي نهاية ذاك اليوم في مقر الجيدة ،أبحث تاريخ منطقة القبايل و مشكلتها
السياسية الثقافية ،و أنا ال أكف عن تسجيل كل المالحظات الممكنة ،من تواريخ و أحداث و أسماء شخصيات
طبعت الحياة السياسية و الثقافية البربرية في المنطقة .ظهور التيار الثقافي و القومي البربري أواسط ثالثينات
القرن الماضي على يد الكثير من المناضلين القبايل في صفوف حزب الشعب الجزائري .األزمة البربرية داخل
حزب الشعب .1040حرب عام 1063بين جيش الوالية الثالثة -القبايل و قوات بن بلة و بومدين و ظهور
جبهة القوى االشتراكية بقيادة حسين أيت أحمد .الربيع البربري .1029إضراب المحفظة .1004اغتيال
معتوب الوناس .1002الربيع البربري األسود .2991أرضية القصر وظهور حركة الـ MAKجوان .2991
مسيرة العروش المليونية في العاصمة 14جوان .....2991فعال ،منطقة بركانية بامتياز ،اجتماعيا ،سياسيا و
ثقافيا !.
تفقدت حسابات اليوتيوب المتخصصة في ترجمة األغاني البربرية و بعض األغاني الجزائرية إلى لغات
أجنبية ،و العكس ...بدى الحنش الروجي محقا .تلك الحسابات تعمل بشكل متناسق و منظم جدا .صفحة TTSعلى
الفيسبوك كانت تبث روابط جميع األغاني المترجمة و تلقى رواجا كبيرا .هل حقا يتعلق األمر بحركة منظمة لها
أهداف تتجاوز مجرد نشر األغاني البربرية المترجمة ؟ ،هل حقا تجهز ألمر ما ؟ .حراك ما ؟.
كنتُ أنظر إلى صورة " أغاكال " اللغز بين الحين و اآلخر ،ثم أعود إلى البحث و المطالعة في وقت يتمدد
مع الدقائق و هو يستعين بسيجارة بعد أخرى كانت تحرقه بسرعة و تخفف من وطأته .ثم تفطنت إلى كون الجميع
قد غادروا مقر العمل ،بعدما حاصر الظالم نوافذ البناء من الخارج و ساد الصمت و السكون أرجاء المكاتب و
176
األروقة المضاءة بالنيون في الداخل .كنتُ أجلس وحيدا و أنا أسمع خطوات عامل النظافة الجديد و هو يجر بتثاقل
عربته المليئة بأوراق المسودات و المقاالت غير المنقحة و بقايا أقالم الرصاص و السياالت الفارغة و كؤوس
القهوة و الشاي المستعملة و أكياس و علب الطعام الجاهز ،عبر حواجز الخشب و األلومينيوم القصيرة التي تفصل
مكاتب قاعة التحرير بعضها عن بعض.
المواضيع الصحفية حول قرية تيميزر كانت شحيحة .فقط بعض المقاالت التي تتحدث عن القرية كونها من
آخر القرى القبايلية التي ال تزال تحافظ بشكل شبه كامل على نمط الحياة التقليدي في المنطقة .الصور القليلة
المتوفرة على النت تبرز قرية تقليدية تماما .روبورتاج تلفزيوني من ستة دقائق يعود إلى خمس سنوات خلت،
يتحدث عن االحتفاالت برأس السنة البربرية في القرية ،هو كل ما وجدتُ على شبكة اليوتيوب ،و فوق كل ذلك،
موقع القرية ال يكاد يظهر على الصور الفضائية التي يوفرها .Google Earthمجرد كتلة باهتة من األبنية
المتالحمة المحاطة بالغابات من كل جهة و التي ال تظهر الطرق المؤدية إليها ،عدى الطريق الوالئي الحادي عشر
الطويل و الملتوي ،الذي يمر بمحاذات الكتل الجبلية التي ال تنتهي في المنطقة.
من جانب آخر ،ال أثر لعميروش أو صناعته و أعماله التي يشتهر بها على النّت.
عدتُ و ر ّكزتُ على تاريخ 2991/96/14تاريخ زحف القبايل على العاصمة في ذاك اليوم المشئوم الذي
أعدتُ مشاهدة بعض أجواءه المشحونة بالغضب و العنف في ما يحتفظ به اليوتيوب من فيديوهات حوله .كانت
المسيرة التاريخية التي كان يفترض بها أن تبدأ و تنتهي سلميا بتسليم قائمة مطالبها في رئاسة الجمهورية ،قد بدأت
بالتربص و الشك عند المدخل الشرقي للعاصمة ،و انتهت بالنار و الشظايا و الدخان و الموت في حي حسين داي
الشعبي و ساحة أول ماي وسط العاصمة .....ليتصاعد بعدها المستوى التالي للحهر المضاد :تعزز فكرة الحكم
الذاتي و حتى االنفصال عن الجمهورية في أذهان الكثير من القبايل ممن عاشوا رعب ذاك اليوم.
_ ...من يعلم ؟ .قد يكون تاريخ الرابع عشر جوان المقبل هو تاريخ إطالق هذا الحراك الجديد ؟ .أو هو
تاريخ الخامس و العشرين جوان القادم ،الذي يُصادفا الذكرى 01الغتيال معتوب الونّاس ؟ ....يا اله !.
تمتمتُ مع نفسي متنهدا و أنا أحك جبيني بعدما أدركتُ كم هو وقتي ضيق .قرأت في بعض المقاالت القليلة
أن أهل قرية تيميزر ينظمون احتفاال سنويا كبيرا يُدعى '' الوزيعة '' في أول يوم جمعة من الشهر السادس من كل
سنة .ممتاز ! .ذلك ساعدني على العثور على الموضوع الصحفي الذي سأتستَّر به للقيام بمهمتي الحقيقية .سيكون
قناعي الذي سأدخل به وسط أالئك القوم بسهولة ،ألبحث عن عميروش ابن الطين و مراقبته و محاولة الوصول
سره بسالسة أكثر .حملتُ قلم الرصاص و رسمتُ حيزا ثخينا حول ذلك اليوم الذي كان سيصادف تاريخ
إلى ّ
4102/11/11رابطا بينه و بين تاريخ 4102/11/02بسهم ،الذي كان يصادف الذكرى 02لمسيرة العروش
المليونية في العاصمة ،و التاريخ المفترض النطالق الحراك الجديد الذي تحضر له حركة تي تي أس في هدوء و
صمت .....ربما ؟.
177
ّ
فالتفت إلى صورته تنهدتُ حين أحسستُ بنظرات أب صحافة االستقصاء Joseph Pulitzerملتصقة بي،
الصغيرة التي أحتفظ بها بجانب الحاسوب مطلقا بسمة خفيفة إليه ،ثم غمزته...
_ وش '' '' Joe the Germam؟ ،راي جاية ضربة كبيرة !.
لم يقل شيئا ،بل ظل ملتزما الصمت و الحياد دون أن يسمح لنفسه بالتسرع في أخذ موقف واضح و نهائي،
أما أنا فبالكاد نمتُ تلك الليلة عند عودتي إلى شقتي الصغيرة في حيي الشعبي الذي هدأت الحركة به في الساعات
الصباحية األولى ،باستثناء جوالت و صوالت حنّوفة الليلية مع همهمته و كوابيسه و هواجس ماضيه و مصائبه.
أما أنا فقد كنتُ ضائعا في صحراء من األسئلة الغريبة و الكبيرة حول كل ما توصلتُ إلى اكتشافه .لم أستطع
النوم ،لذلك أكملت ما بقي لي من طاقة ذاك اليوم في مشاهدة بعض القنوات اإلخبارية ،إلى أن استقر بي الحال
على إحدى القنوات التي كانت تبث بشكل مر ّكز فظائع الحرب األهلية العبثية الحاصلة في سوريا .انتابني قلق
زحف على صدري كالظل البارد المثخن بالشكوك .كانت الرغبة الشديدة في االنطالق في مهمتي لكشف خيوط
قضية عميروش و جماعته تلك ،و عن هذا الربيع الجزائري الوشيك .لم أشعر باالرتياح للفكرة و أنا أرى انتكاسة
ربيع العرب و انقالبه إلى شتاء تملؤه األسالك الشائكة المخضبة بدماء األبرياء ،مع صعود جنون العنف المكبوت
لعقود من طرف أنظمة البوليس السياسي بسرعة خرافية تشوي حتى العظام الغضة لألجنة و هي في أحشاء
أمهاتها .أي ربيع هذا الذي يقتل األحالم قبل أن تالمس األرض قادمة من السماوات ؟ .و هل يُدرك عميروش هذا
ُدخلون البالد فيه و إن كانت نياتهم – ربما – حسنة ؟.
و أتباعه ما قد ي ِّ
كانت مسألة أيام معدودة ألقنع فيها سي رزاق بفكرة مهمتي تلك دون أن أفصح له عن أسبابها الحقيقية و ال ما
توصلت إليه .أضع فيها خطتي لمحاولة القيام بالسبق الصحفي المهول الذي ألقى به قلق السؤال و جهد البحث و
مفارقات األشخاص و المواقف في يدي .كنتُ على وشك االنطالق نحو مغامرة صحفية ،كنتُ أستشعر بغريزة
الصحفي أنها تخبّيئ لي تجربة مميزة جدا .شيء جعل قلبي يسبق قدمي ببضع خطوات نحو تلك المنطقة الجبلية
تاركا فارق نبضة واحدة بينهما ،بدايتها إثارة و اندفاع و نهايتها شكل من الوحي الذي لم ينكشف بعد ،بعدما كنت
شبه متأكد من تسارع العالم و األحداث بشكل جنوني تزامنا مع تلك الرحلة المرتقبة .حتما ،األحداث كانت قد بدأت
في التسارع !.
كنتُ ذاهبا إلى منطقة القبايل الغريبة و الغامضة التي ُولد بها جد والدي في القرن التاسع عشر !.
178
-15-
نظرتُ إلى نفسي في تلك اللحظة بالذات قائال في أعماقي أنه لوال قلق السؤال ،مفهوم السبق النهائي ،عمود
موسطاشيات ،نظرات ذاك المراهق القبايلي األشقر المعتقل من فوق غطاء محرك سيارتي ،صورة فراشات
الطين في قصر الثقافة تلك األمسية ،انهياري العصبي المفاجئ بسبب اإلخفاق في زعزعة وعي المجتمع تجاه
الخطر المحدق به ،حديث صوفيا في المشفى و اقتباسها لعبارة أستاذها المنحرف ،لقاء الثعبان األشقر .....كل هذا
أوصلني إلى تلك اللحظة بالذات ،إلى ذلك الصباح الباكر و المنعش ،الذي كنتُ أنطلق فيه بسيارتي المبعوجة على
طول الطريق السيار شرق-غرب في طريقي إلى األخضرية متفاديا طريق بودواو من أجل الدخول إلى بالد
القبايل من هناك.
سؤال واحد قد يغيّر مصير شخص ! .فاألسئلة أيضا لها وقعها الخاص على حركة الكون و إن كان هذا الوقع
غير محسوس في الغالب ،إال أنه فعال موجود .نحن نرسم األكوان و العوالم و نوجّه مصائرها باألسئلة ! .و يبدو
أن السؤال الذي كان بصدد تغيير مجرى حياتي كلّه و يُعيد رسم عالمي ،كان منذ البداية السؤال الذي ولّد مفهوم
السبق النهائي :ما خطب هذا البلد بالضبط ؟ .سؤال أحبُّ عادة طرحه بلغة أجنبية أخرى علي أراه بمنظور مختلف
عن منظور هذه الماليين التي أعيش وسطها:
كانت قدمي اليمنى تصارع رغبة جنونية في الضغط على دواسة السرعة أكثر .كنتُ أتل ّهف للوصول إلى
منطقة بني يني التي تشتهر بصناعة الجبة القبايلية الشهيرة ،أواني الفخار و الكسكسي .إضافة إلى اشتهارها بكثرة
الجماعات اإلرهابية الناشطة عبر جبالها و غاباتها الكثيفة الوعرة .هناك ،في منطقة عين الحمام غير البعيدة عن
إيبودرارن موطن أغاكال قيض السؤال ،قضى 00عسكريا رميا بالرصاص في كمين رهيب ليلة االنتخابات
الرئاسية األخيرة .افترضتُ أن دمائهم كانت لم تجف بعد من على التراب و الصخور و الحشائش و أجدع أشجار
الدردار و البلوط المسنّة ،التي كتمت صرخاتهم األخيرة .هي الجبال التي تشتهر بجمالها و طبيعتها الخالبة ،و
179
تشتهر بكونها مأوى آخر الصرخات المكتومة لوطن لم يبرأ بعد من داء ال َكلَب الذي أصابه بداية التسعينات .داء لم
يُشفى منه و لم يقضي بسببه أيضا .بشكل غريب ،ق ِّدّر لمنطقة القبايل مرة أخرى أن تكون مسرحا ألحداث كتلك ،و
قررت أن تجعل من جمالها علّة تألّمها أمام ضربات التاريخ المضطرب لهذه
كأن قدرها قد خط بيد إلهية غاضبةَّ ،
األمة ؟.
انتابتني رغبة شديدة في تدوين تلك األفكار التي كانت تعبر ذهني بسرعة عبور خط الطريق السيارة األبيض
المتقطع أحيانا و الممتد أحيانا أخرى على جانب األيسر للسيارة ،لكني كنتُ أمسك المقود و لم أفكر إال في أخذ
وجبتي اليومية من األخبار كأي صحفي ،تماما كما قيل لنا أيام الجامعة " القطط تحتاج إلى أخذ حمامها الشمسي
اليومي ،كذلك يحتاج الصحفي ألخذ حمامه اإلخباري اليومي " .لم يكن لي إال أمواج اإلذاعة التي كانت ت ُعيد ّ
بث
حصة سياسية ،راح المدعوون إليها يتحدثون عن المساعي التي بُذلت من أجل الوصول إلى اتفاق وقف إطالق
النار بين األطراف المتناحرة في مالي.
مر الوقت و أبانت شمس أواخر الربيع عن بريقها الهائج أكثر فأكثر و هي ماضية ببطء و إصرار في ابتالع
َّ
تلك الجبال الشاهقة من قممها الحادة التي بدأت تلوح في األفق و تقترب مع الكيلومترات .كنتُ أشعر بأن ارتفاعي
مع سيارتي عن سطح البحر كان يزيد أكثر فأكثر كلما اقتربت من منطقة األخضارية التابعة لوالية البويرة التي
تنحدر منها أصول عائلتي األولى ،و كوني تخطيتُ عتبات هذه الوالية ،فقد كنتُ رسميا في منطقة القبايل .خاصة
بعدما تذكرت زميل قبايلي لي في العمل حين قال لي '' :إذا كثرت حقول التين و الزيتون و مراكز المراقبة
المتقدمة الخاصة بالجيش من حولك ،فاعلم أنك في بالد القبايل '' .ها هي ذي تظهر على جنبات الطريق .حقول
واسعة من أشجار الزيتون تبدو في حالة جيدة مما يدل على أنها تحظى بالعناية الشديدة من طرف مالكها ،كانت
في كل الربوع تتوزع عبر الحقول التي تعلوها ربوات صخرية على جنبات الطريق السيار ،تنتصب فوقها منشآت
هندسية مستطيلة الشكل في الغالب تأخذ ارتفاعها نحو األعلى ،تظهر من خاللها بعض الرؤوس اآلدمية المعتمرة
للخوذات العسكرية من بعيد.
وجدتني أتساءل مع نفسي و سرعة سيارتي تزداد على طول الطريق بشكل الإرادي غاضب ،بشيء من
الخوف الذي طمسه الكثير من االشمئزاز '' :أين كنتُ أنا من كل هذا ،أقصد من هذه البدعة الهوياتية القبايلية
المسيَّسة ،و هل يعلم الجزائريون كل هذا ؟ !'' ،ثم تنهدتُ بقوة و أنا ألمح تلك األبراج العسكرية من بعيد على
جنبات الطريق السيار ،التي جعلتني أتأكد من صحة قلق السؤال داخل نفسي .كم هي غريبة رؤية تلك األبراج
العسكرية و كم هو غريب عدم اكتراث عامة الناس بذلك المظهر غير المنسجم مع طبيعة تلك المنطقة ،و هو
يصيح أمامنا قائال بأن األمور في هذا البلد ليست على ما يرام ،إال أنه ال أحد صار يُدرك و يسأل نفسه عن هذا
الواقع ؟ .كنتُ ألمح تلك األبراج و أتساؤل في غضب صامت " :ما الذي نريد أن ّ
نبرره ألنفسنا بنصب هذه
تطو ُق إدراكنا يا ترى ؟ ".
األبراج العسكرية القبيحة التي ّ
ك ان الفرق واضحا و كبيرا جدا بين سرعة و حركة و اتساع الطريق السيار و بين تلك الطرق الضيقة نسبيا
و الملتوية بشكل حاد في بعض األحيان ،التي تربط تلك السالسل الجبلية الالمتناهية التي ترتفع قممها الشاهقة فوق
180
طبقات خفيفة و متفرقة من السحاب .الغطاء النباتي كثيف جدا و يزداد كثافة مع الغوص أكثر في ذاك العالم
أعترف أن المشاهد
ُ الهادئ نسبيا و الذي يمنح المرء إحساسا غريبا ،أو هكذا أحسستُ في بادئ األمر ،كما
الطبيعية كانت تسلب األلباب .كانت تحمل في طياتها نفحات من طفولتي األولى و هي تلوح بمنديل الذكريات
العطر في األفق .ذكريات رحالتنا و عطلنا القديمة في أرياف تابالط أواخر الثمانينات في جزائر ما قبل الفوضى
الكاملة و الجنون األقصى ،أين كان كل شيء مرتبط بتلك العيشة بسيطا ،عفويا و آمنا .لم يبق من كل ذلك سوى
ْ
داعبت نفسي الملونة المصطفة هناك في األفق خلف ظهري ! .أحسستُ بتشوش غريب و
ّ أسراب من األطياف
هواجس لم أستطع التعرف على طبيعتها و أنا أقطع تلك الطرق الجبلية الملتوية ،مع تشوش البث اإلذاعي لتلك
القناة المحلية التي كانت تبث بعض األغاني القبايلية.
كانت القرى القبايلية البعيدة التي تطل علي من أعلى قمم جبالها الشاهقة تقترب من أفقي تارة و تبتعد تارة
أخرى ،بحسب حدة المنعرجات التي كنت أقطعها و أنا أتقاطع بمركبتي مع بعض السيارات و مركبات النقل
الجماعي القديمة القادمة في االتجاه المعاكس .زادت حدة المنعرجات و كثافة الغطاء الغابي و زاد معها أزيز
حشرات السيكادة .كنتُ ألمح من حين آلخر نقاط مراقبة متقدمة للجيش هناك ،في أعلى الربوات الجبلية الشاهقة.
حررة '' لتنظيم '' الكمي'' المغاربي ،و
يُقال أنها خطوط التماس األخيرة بين جمهورية الجزائر و '' المناطق الم َّ
معها الحدود الفاصلة بين وجهتي نظر لم يو ِّ ّحد بينهما سوى حقد متبادل كدّسته سنوات طويلة من حرب الكر و
الفر.
منطقة إيبودرارن في بني يني .جميلة حد التوحش ،لكن نظرتها األولى لكل زائر غريب هي نظرة سائر بالد
القبايل للغرباء ،نظرة استجوابية حتما ،إن لم تكن اتهامية بشكل ما .شعرتُ بذلك و أنا أتجاوز منطقة تالة ان
ّ
تازرت .الطريق ملتو بلى نهاية واضحة ،و كأنه تجسيد لتاريخ البلد في وعورته و خطورة مسالكه .وصلتُ إلى
مشارف مرتفعات درنة و أنا ال أكف عن التحديق جيدا إلى كل الفتة تصادفني على طول الطريق ،ألقرأ ما كتب
أفوته ،كون الكثير منها كان بأسماء يصعب حفظها و كل ما يعلق منها في الذهن هو بداياتها التي
عليها حتى ال ّ
غالبا ما تأتي على نحو '' تالة '' أو '' آت '' ،تالة ان كذا أو آت فالن ...بعض الالفتات كان مشوها و ممحيا ،حيث
عمد المشوهون إلى حجب الكلمات العربية بالطالء األسود تاركين فقط الكلمات الالتينية .رد فعلي ُحهري من
غالة البربرية ؟...
توقفت ألستريح قليال بالقرب من بعض األكواخ المشيدة بالقصب ،التي كانت تصطف على جانبي طريق
يطل على جرف عال يعبر تحته نهر صغير ،كانت مياهه تتدفق بكثرة نازلة عبر عدد من الرواسي المتقاطعة مع
بعضها عبر الصخور ،ليمر من تحت الطريق عبر ممرات محفورة و يكمل انزالقه عبر المنحدرات .ذكرني ذلك
برواسي منطقة الشفة الخالبة في البليدة.
كان بعض المتوقفين على جنبات الطريق يقومون بمأل قواريرهم من تلك المياه المتدفقة ،في حين كان
أصحاب األكواخ القصبية الصغيرة و المفتوحة يعرضون بعض السلع للبيع .قوارير زيت الزيتون .قبعات القش.
181
بعض الجبب النسوية التقليدية ألعمار مختلفة .ثمار التين الشوكي و طبعا ...أواني فخارية ،كانت تجذب إليها
المتوقفين الذين كانت بعض لوحات ترقيم سيارتهم غير محلية .بعضها كان فرنسيا أو سويسريا.
تناولتُ شطيرة و احتسيت بعض العصير الذي جلبته معي من البيت .تركت رسالة صوتية لشقيقتي عيشة،
أخبرها فيها بأني في مهمة لمنطقة القبايل أليام و أني قد ال أكون قادرا على االتصال بأمي بسبب ضعف تغطية
شبكة الهاتف في المكان الذي أتواجد به .تر ّجلت من السيارة و توجهت نحو ذلك المراهق المحلي ،الذي كان
يعتمر قبعة قش بدى أن الزمن و المناخ قد تركا آثارهما عليها و على مالمح وجهه بوجنتيه المحمرتين من لفحات
الشمس .تظاهر أنه لم ينتبه لوجودي و أنا أقف متفحصا تلك األواني الفخارية المتنوعة ،التي كان يعرضها من
على طاولة خشبية أسند سيقانها ببعض قطع اآلجر األحمر .أمعنتُ النظر إليه .بدى لي أنه قد اجتهد في تلميع
سلعته و قد وضعها بشكل متناسق بجانب بعضها البعض ،بحسب أصنافها و أحجامها و ألوانها ،التي كانت تميل
في الغالب إلى األحمر اآلجوري أو البني الترابي .كؤوس ،صحون ،أباريق ،مزهريات ،جرار صغيرة و أخرى
متوسطة الحجم ،مسجّاة برسوم و رموز هندسية تطغى عليها المثلثات و المعيّنات و الخطوط المتكسّرة و
المتقاطعة .أعترف أنها كانت أشياء بديعة .كانت حتما تحمل فيها روح المنطقة و أصوات سكانها .كانت تعبّر عن
ذلك بشكل فج لكنه جميل على نحو ما ؟ .زاد ذلك من درجة اقتناعي بأنها قد تكون من صنع ابن الطين ،أغاكال.
على األقل كنتُ متأكدا من أني لستُ بعيدا عن قريته المخفية في عمق الغابة.
تقدّمتُ من المراهق الذي كان منهمكا في عقد صفقة مع امرأة كبيرة في السن ،بدت من خالل مالمحها و
لباسها و األشخاص الذين كانوا يرافقونها أنها مغتربة .كانت تقتني بعض األغراض التذكارية .كانا يتحدثان
بالقبايلية و هو يجمع لها مجموعة من األواني الفخارية المختلفة .شعر باقتراب حركتي منه ،لكنه تفادى النظر إلي.
قلتُ في نفسي لوهلة أنه يكون قد علم أني لستُ قبايليا .ظننتُ أن مالمح وجهي قد تخدع الجميع في هذه المنطقة ؟.
قلتُ أنه ربما يكون من صنف القبايل الذين ال يشعرون بالراحة في التعامل مع الغرباء عن بيئتهم و لغتهم ،و من
ثم فهم ينزحون بشكل ما إلى تجاهلهم بشكل فج أحيانا ،أو بشكل مقنّع أحيانا أخرى .كنتُ أنتظر ردّ فعله مني،
فترددتُ لوهلة و أنا أتظاهر أني ال أزال أتفحص أواني الفخار ،ثم اغتنمت فرصة حديث السيدة إلى فتاة شابة كانت
ترافقها أللتفت إليه....
ألقى إلي بنظرة خاطفة و أنا أشير بيدي نحو الصحون المعروضة خلفه ،ثم أكمل تجهيز طلبية المرأة
المغتربة .كنتُ أتساءل في نفسي :ربما ال يفهم شيئا من العربية الدارجة ؟ ،أو ربما فهمها ،لكنه ال يرغب في
التعامل معي بها ؟ .لطاما سمعتُ قصصا مشابهة عن هذا الوضع .عن القبايل الذين يتجاهلونك ببساطة إن تحدّثت
إليهم بغير القبايلية أو الفرنسية ! .أيعقل أن يكون ذلك صحيحا ؟...
182
جاءني صوته الذي طغت عليه لكنة قبايلية واضحة جدا ،عبَّرت عنها طريقته في نطق الكلمات العربية أو
الدارجة.
أشرق شيء ما في تقاسيم وجهه فجأة و هو يوجه إلي كامل انتباهه هذه المرة..
_ من اين ؟.
_ اه ،و هللا ما نعرف ،جد بابا هو لي أصله من البويرة .من اين ...مانيش عارف..
يبدو أن جذور أسرتي التي تعود إلى البويرة ستخدمني كثيرا في تقليص بعض المسافات و هدم بعض
الحواجز سريعا مع هؤالء القوم ؟ .فكرت و أنا أراه يودّع السيدة التي دفعت له ثمن ما باعها ،ثم التفت إلي...
_ أه يمكن القول أني جئت من أجل عمل ،لكني طبعا بصدد اغتنام الفرصة الكتشاف ....منطقة أجدادي..
انتابتني برغبة في الضحك على نفسي و أنا أتفوه بالعبارة األخيرة ،فاألمر لم يخطر على بالي بهذا الشكل
أبدا ،و لم أعتبر نفسي بصدد البحث عن جذوري أو إعادة ربط صلة ما بهذه الجبال ،التي سكنها أفراد أسرتي
األقدمون .مهمتي كانت واضحة جدا داخل رأسي :العثور على أغاكال هذا و كشف أسرار قضيته مع منظمته
السرية التي تهدد البالد بربيع ال تحمد عقباه .لكني كنتُ ألحظ أثر تلك العبارة على وجه المراهق الذي بدى
متحمسا أكثر..
_ في الحقيقة سمعت عن قرية قديمة جدا في هذه الناحية ،و هي إحدى آخر القرى القديمة المأهولة المتبقية
في كامل المنطقة بحسب ما قيل لي..
183
_ أبحث عن أقدمها على اإلطالق...
قالها ضاحكا و هو ينظر خلفي نحو األعلى .التفت .رفعتُ بصري .لم أر شيئا غير الكتلة الجبلية الهائلة التي
كن الطريق الذي كنا على جنباته يمر من تحتها غاطسا ببطء تحت ظلها تبعا لحركة الشمس .كتلة هائلة ال يظهر
ُّ
التفت إليه منها شيء ،بسبب الغطاء الغابي الكث الذي يغلفها و كأنه يريد حجب ما كان المراهق يود مني أن أراه.
مستفهما .وجدته ال يزال يبتسم...
_ القرية التي تبحث عنها تقع على ارتفاع نحو 911متر فوق هذا الجبل .إنها القرية التي أقطنها .هناك
طريق ترابي غير واضح بسبب كثافة األشجار يربطها بهذا الطريق ،من خالله ننزل و نصعد يوميا من و إلى هذه
الفسحة هنا لممارسة تجارتنا .أنتَ تبحث عن قرية تيميزر !.
_ بلى ..بلى ،! ...إذن ،وصلت إلى وجهتي ؟ .هذا رائع .ظننتني ال أزال بعيدا !.
_ ليس بعد .يمكن أن تصعد مشيا إليها من هنا ،لكنك ستضطر لترك سيارتك مركونة على جانب الطريق و
هو ليس المكان األنسب .عليك أن تكمل سيرك اآلن ،إلى أن تلتف حول الجبل على مسافة كيلومترين و نصف
تقريبا ،هناك ،يوجد تفرع ترابي صغير مخصص لمرور المراكب ،خذه إلى أن تصل إلى منطقة خصصها أهل
القرية لركن مراكبهم و جراراتهم و حافالتهم .اترك السيارة هناك ،و أكمل طريقك مشيا على األقدام صعودا إلى
الجبل .لكن قلي ،هل تعرف أحدا ما في القرية اتفقت معه على اإليواء ؟ ،عليك أن تعلم أنه ال فنادق هنا.
كنتُ ال أزال أحملق في الجبل معلقا أنظاري إلى األعلى و أنا أشعر بحماس شديد كوني وصلت إلى حيث
ينتظرني سبقي الهائل ،ثم نظرت إلى المراهق الذي كان يلف شيئا ما في جريدة قديمة و يقدمه لي..
_ ما هذا ؟.
_ هدية صغيرة من المنطقة إليك بما أنك تزورها ألول مرة ! .حين تصل القرية توجه إلى مسجدها و اسأل
عن '' لمين '' .هو يُخبرك عن البيت الذي يأوي عابري السبيل الليلة ،فهو محدد سلفا ،أو إن رغبت يمكنك المبيت
قرابة آث يوسف،
في قبة الولي أيضا ،ستجد من يطعمك هناك .إن احتجت ألي شيء آخر ،يمكنك أن تسأل عن ّ
حين تصل إلى شارعها اسأل عن بيت آيت يوسف موسى ،ذاك هو اسمي .سأكون سعيدا بمساعدتك في أي شيء.
**********
184
إذن ،أصعدُ ذلك الممر الترابي الطويل و الضيق في بعض أجزاءه بشق النفس .أشعر و كأن وزني يتضاعف
و يزيد ضغطه على ساقي مع مرور الدقائق وسط ذلك الهدوء الغريب ،الذي تتخلله زقزقة الطيور و أزيز ذكور
الزيز .أسير و أنا ألهث ناظرا أمامي لعلي ألمح تيميزر ،القرية المخفية في عمق الغابة أعلى الجبل .ال شيء !.
قد يحتاج المرء إلى نفَس '' ثوري '' حتى يتمكن من بلوغ قمم جبال كجبال القبايليين ،و هو ما كان يبقيني
صامدا و مصرا على بلوغ الهدف .كنتُ مقتنعا بأن ما كان يدفع جسدي صعودا وسط ذلك الجو الحار هو شيء
يتعدى طاقة المادة على االحتمال ،إلى شيء يتعلق بقوة الذهن و توقّده .كنتُ مؤمنا أني أسعى خلف هدف كبير
جدا.
تقاطعت طريقي مع بعض السكان المحليين الذين كانوا في طريقهم إلى األسفل .بضع عجائز بجببهن القبايلية
البنفسجية ،الزرقاء و األرجوانية المطرزة بخطوط و برسوم ألزهار يكثر عليها اللون األبيض .بادلنني نظرات
غير واضحة المعالم .ابتسمت و أنا أفسح لهن الطريق ،أومأن برؤوسهن فقط مع بسمة خفيفة ال تكاد ت ُرى على
شفاههن و كأنهن يشكرنني بصمت .وقفتُ و أنا أحاول استعادة أنفاسي أراقبهن و هن يبتعدن عني يتحادثن بلغتهم
غير المفهومة .ربما كن يتساءلن عن سر هذا الغريب الذي يتصارع مع الجبل ،لع ّل هذا األخير يسمح له بالوصول
إلى القرية.
سرتُ و سرتُ .التقيت برجل كهل و هو يمتطي حماره في طريقه نحو األسفل هو اآلخر .استسمحته بالتوقف.
كنت أودّ أن أسأله عن المسافة التقريبية المتبقية لوصول القرية ،لكنه ما إن سمع كلماتي األولى أطلق بسمة مرتبكة
مشيرا بيده...
فهمتُ من قسمات وجهه ،نظرته و نبرة صوته أنه كان يعتذر كونه ال يتحدث أو ال يفهم العربية ،فبادرتُ مرة
أخرى بطرح السؤال بلغة أخرى...
كان واضحا أنه يخبرني بأنه ال يفهم '' الرومية '' أيضا ! .تركته لحاله و هو يسير مع دابته التي كانت تحمل
بعض القوارير البالستيكية متوسطة الحجم ،مملوءة بزيت الزيتون حسب اللون األخضر الطاغي عليها ،و وقفتُ
أسترجع أنفاسي و أنا أراقب قمم جرجرة الصخرية الحادة البادية خلف أغصان األشجار ،التي كانت تنتصب قبالة
ذاك الجبل المحتال الذي بدى و كأنه ال يريدني أن أصل إلى غايتي.
_ اللعنة ! ،هذه ليست 911متر ! ،البد أنني قطعتُ ما يفوق الكيلومترين صعودا ؟ !...
185
ما إن استرجعتُ ريتم تنفسي الطبيعي حتى انطلقت مرة أخرى و أنا ال أكف في معظم األحيان عن التركيز
مع شكل الطريق غير المستوي ،المليء باألحجار و االنحرافات يمينا و شماال ،بعدما تعثرتُ بضع مرات بل و
كدتُ أهوي بوجهي على حافة تمألها النباتات الشوكية ،حين تعثرتُ على حجر و وجدتُ وزن جسدي يغلب قوة
ساقي المنهكتين ،لوال أن رميت بيدي نحو جدع شجرة كانت تنتصب أمامي مباشرة .كان علي أن أضع في
الحسبان أن ساقي قد ألفا طرق المدن الكبرى لسنوات عداد ،و أن أمامي قدرا من التعب و آالم العضالت كضريبة
لدخولي هذا العالم ،الذي و رغم جماله و سكينته ،إال أنه يخبّئ قدرا من القساوة و الصالفة لمن ال يحفظ لغته
البدائية .ذلك العذاب البدني لم يكن سوى البداية على ما يبدو ؟ .كنتُ و بشكل غير متوقّع أستردّ ذكريات طفولتي
األولى مرة أخرى ،ربما ألرفع بها شيئا من قدري أمام ذاك الجبل الذي كأنما كن يتسلى بإذاللي و أنا ألهث و
أتعرق و أسعل ،أكاد أتوسل في نفسي بأن ينتهي الطريق و أنا أحدثها متهكما بين الفينة و األخرى ،محاوال اللحاق
ّ
بأنفاسي الهاربة مني.
_ ....ال بدّ أن أقلل من عدد السجائر التي أستهلكها يوميا ! ....ال أصدّق !..
غريب كيف كان ذاك الجبل يُذكرني بريف تابالّط .بروائح األعشاب و الحشائش .بأصوات الطيور و
الحشرات .بنسمات األمسيات المنبعثة من الغابة .بصدى األقدام الصغيرة الراكضة بين األحراش في عمق الجبل،
الباحثة عن المغامرة و الحماقات .كان ذلك منذ زمن طويل .أو بدى لي أنه أطول مما هو عليه ،كون سنوات
اإلرهاب و جنون المدينة و لعنة اإلسمنت ،ثم هياج التمدرس و بعدها حروب المهنة ،كلها قد دفنت كل شيء تحت
أطنان من النسيان و ربما الالمباالة أيضا.
مع تقدمي في السير بدأتُ ألحظ تغيرا في تضاريس الغابة .كانت أعداد أشجار التين و الزيتون في ازدياد من
ْ
تحولت بعض الشجيرات التي كانت تتقاطع معي في الطريق الملتوي الذي لم يكف لحظة حولي .و شيئا فشيئا،
واحدة في أخذ طريقه نحو األعلى ،من عشرة ،إلى عشرين ،إلى نحو أربعين شجرة تين متماهية أحيانا مع أشجار
الزيتون و بعض األشجار البرية ،إلى أن بدأتُ ألحظ تغيرا واضحا جدا في موازين القوى النابتية ،فأشجار التين و
الزيتون راحت تأخذ غالبية األماكن و تهيمن على المساحات في الطريق ،و كأني كنتُ أل ُج حدودا تصادم فيها عالم
األشجار البرية مع األشجار المستأنسة المثمرة ،و خسر معركة الهيمنة على خريطة خضرة المكان.
186
الرطب ....إنها عند
كم بقي أمامي ألصل إليها ،فكان الجواب منعشا كعصير البرتقال وسط ذلك الجو الحار و ّ
نهاية تلك البساتين ،على بعد خمس دقائق من السير فقط !.
صدقوا ! .كانت هناك تنتصب فوق جرف عال .بمنازلها الحجرية و الطوبية ذات المعمار البربري العتيق.
كانت و كأنها تنظر إلي و تقول للجبل في سخرية " :أه عفوتَ عن هذا الغر الصغير أخيرا و سمحت له بلقائنا ؟ ".
ظنتني لن أصل أبدا بعدما أحسست أني سرتُ دهرا و أنا أصعد عذاب سؤالي الذي وصل بي إلى هذا المنحى
تؤرقني منذ وقت ليس
الجديد نسبيا في حياتي ! .إنها تيميزر إذن .قرية سؤالي ،لغزي ،بحثي ،أحجيتي التي ّ
بالطويل ،غايتي أو حتى خالصي القريب أيضا ،من يعلم ؟ .إنها فعال هي ،تقابلني من فوق صخرة عمالقة
منتصبة على جانب الجبل ،تليها ربوة أخرى أكثر ارتفاعا تغلفها غابة أخرى ،يصعد بها المسار إلى ما ال يقل عن
211متر أخرى ،إلى حيث لم يكن يظهر شيء بسبب تلك الغمامة الصيفية البيضاء العابرة ،التي كانت تمسح
بلطف قمة هذا الطود الجاثم على األرض قبالة سالسل جرجرة الباهرة.
كان لزاما علي أن أمسح نهاية عذابي الطويل مع الطريق بنظرة شاملة للمكان و أنا أسترد أنفاسي المسلوبة
مني غصبا ،و بغض النظر عن اإلحساس الغامر بالحماس الذي اجتاحني حين تراءت تيميزر لي من فوق ربوتها
الحجرية ،فإن باقي المناظر التي صدمتني بجمالها و عذريتها ،جعلتني أدرك أن بالد القبايل تستحق كل ذلك
التعب ،فقط للظفر برؤيتها عن قرب و هي في كامل عفويتها و حريّتها ،بعيدا عن الصور أو الفيديوهات أو أي
شكل آخر من اإلطارات المصطنعة !.
بالنسبة لي ،كان وقت العمل قد حان في تلك اللحظة بالذات .لم أكن قادرا على الصبر أو االنتظار رغم سطوة
اإلرهاق علي .الذين درسونا الصحافة و اإلعالم في الجامعة ،أخبرونا بأن وقت عمل الصحفي ال يتحدد ببداية أو
نهاية خالل الساعات األربع و العشرين التي ّ
تؤطر أيام البشر اآلخرين ،فساعة عمله حين تأتي ...تأتي ...فأمسكتُ
بهاتفي المحمول .ج ّهزتُ المسجّل الصوتي .لم يكن في نيتي ترك أي فكرة مما كان يجول في رأسي فريسة للضياع
أو النساين ،فانطلقت أناجي نفسي بصوت خافت نسبيا ،أسجل انطباعاتي األولى عن المكان ،ناظرا إلى سالسل
جرجرة الشامخة:
187
و أنتَ تشعر بالرهبة بسبب ضآلة ذاتك أمام عظمة حجمه .تفصح فقط عن هواجسك و
أهدافك .تصارحه بالسبب الحقيقي الذي جاء بك إليه ،رغما عنك ! .و قد كنتُ فعال
أخبره أني جئت إلى هذه القرية الواقعة تحت أنفاسه مباشرة ،ألعيد اكتشاف تقليد
اجتماعي قديم ،يكاد يندثر نهائيا من البلد الذي يكلّل هو رأسه منذ آالف السنين.
الربورتاج هه ؟.
تصل ُح لتكون مقدمة ّ
ّ
التفت نحو القرية:
للوهلة األولى ،تبدو قرية تيميزر للناظر إليها من بعيد كعش دبابير عمالق ،فوضوي
الشكل و غير مرتب في مبناه العام ،رغم ذلك تبعث تلك الفسيفساء الهندسية المتالحمة
ببعضها في نفسك شعورا بالراحة و اإلعجاب ،كونها تحمل في طياتها جماال ما ؟.
إنها تشبه معظم قرى القبايل و األوراس بشكل عام ،منازلها متراصة و ملتصقة
ببعضها البعض ،يطغى عليها اللون الترابي و األحمر بسبب أسطحها القرميدية.
تقدمت ب ّ
تأن و أنا أراقب حركة بعض السكان .مجموعة من الفتيات الصغيرات كن يلعبن بالقرب من المدخل
الذي يمتد على طول طريق ترابي عريض نسبيا ،تحتَ أنظار بعض الكهول الذين كانوا يجلسون في مجموعات
صغيرة متفرقة عند عتبات بعض المنازل أو تحت ظل بعض األشجار أو تحت بعض األصوار القصيرة القديمة،
تحف القرية و التي انهارت بعض أجزائها .الجميع كانوا يتف ّحصونني بنظرات غير صريحة ،إال أن الفتيات
ّ التي
لم يخفين فضولهن تجاهي بعدما توقّفن عن اللعب و هن على األرجح يتساءلن عما كنتُ أهمس به لهاتفي المحمول
.رفعتُ يدي نحو أقرب مجموعة كهول مررتُ بها ،و قد كانت تضم ثالثة منهم كانوا يجلسون القرفصاء في حلقة
يتجاذبون أطراف الحديث تحت ظل شجرة بلوط مائلة نسبيا .بادلوني نفس التحية دون قول الكثير ليعودوا إلى
االنغماس في أحاديثهم.
كنتُ في تلك اللحظات إذن ،ألج تيميزر و كل خطوة من خطواتي بدت مختلفة تماما عن تلك الخطوات التي
أختزل بها حجم المدن الكبرى على شساعتها دون أن أشعر بذلك في العادة .كانت كل خطوة من تلك الخطوات
الصغيرة و المتأنية على ذلك الطريق الترابي عند مدخل تيميزر ،تمنحني إحساسا حدسيا بأن تلك القرية قد تكون
فعال أكبر بكثير مما تبدو عليه ،رغم أني مسحتها كاملة ببصري من مدخلها السفلي وصوال إلى قمتها التي تكللها
مئذنة المسجد ،الذي بدى مختلفا بعض الشي عن عمرانها بطالء جدرانه األبيض و عدم التصاقه بالمنازل المحيطة
به من كل جانب.
زاد تركيز نظرات الفضول علي مع ولوجي ما ظننته الشارع الرئيسي الذي استقبلني مع نهاية الطريق
الترابي الطويل ،الذي قطعته من موقف السيارات المتواضع أسفل الجبل وصوال إلى مدخل القرية .كان عريضا
هو اآلخر .ألقل أني تفاجأت قليال ،كونه كان طريقا حجريا مهيأ معبدا بأحجار صبغت عليه لونا يتمايل بين البني
188
الترابي و الرمادي الخافت ،بعدما صقلت تلك األحجار في شكل مربعات متوسطة الحجم ،كانت تتوزع بشكل
منتظم على األرضية التي شدني نقاءها أيضا.
_ '' أيعقل هذا ؟ ! ،في قرية منسية و معزولة عن العالم في قلب هذه الجبال الوعرة ،تبدو طرقها أنظف و
أجمل من شوارع عاصمة البلد ؟ ! ،يا للمفارقة ! ''
قلتُ في نسفي متهكما و أنا أكاد أبتسم ملتفتا في كل االتجاهات أتفحص الشارع و طرقه الفرعية التي كانت
تصطف على جنباتها عتبات المنازل العتيقة ،بأبوابها الخشبية و أحجارها التي كنتُ أظنها ذات لون ترابي باهت
حين نظرتُ إليها من بعيد قبل دقائقّ ،
لكن لونها كان يميل إلى اللون األصفر المتوهج ،ربما بسبب أشعة الشمس،
قربتُ هاتفي من شفتي...
فضال عن أنها كانت تبدو أحجارا قديمة جداّ .
ْ
بنيت منذ عقود طويلة جدا و لم يتغير فيها الكثير .أصوار تبدو المنازل هنا و كأنها
عالية نسبيا .بعضها بدأ يستسلم فعليا لسطوة الزمن .أبواب خشبية متوسطة الحجم بل
و ذات ارتفاع ضئيل في بعض األحيان ،تقابلك بصمت غريب يغريك لقرعها و
اقتح ام عالمها الصامت المليء بمئات القصص القديمة ،التي تحكي تاريخ أجيال
عاشت في هذا المكان .و أنتَ تعبر أطراف الطرقات أو ممرات الزقاق الساكنة التي
تتفرع عن الشوارع ،فإنك تلمح تلك النوافذ الصغيرة و القليلة التي تتميز بها المنازل،
و التي تجعلك تشعر و كأن أحدهم يسترق النظر إليك عبرها ،لكنك ال ترى من خاللها
غير الظالل .منازل تبدو مهجورة و مغلقة بإحكام ،و أخرى تسمع بعض الحركات و
األصوات المنبعثة من ساحاتها الداخلية ،ت ُشعرك أن هؤالء القوم محافظون رغم
التصاق منازلهم بعضها ببعض ،و بشكل الفت في بعض الشوارع الفرعية ،إال أن كل
ضل رغم ذلك االحتفاظ بقدر معتبر من الخصوصية داخل البيت ،أو
ساكن منهم قد يُف ِّ ّ
هكذا يبدو من خالل توزيع الديار.
كانت نظراتي تتالقى و تتقاطع مع نظرات بعض المارة من المحليين ،الذي كانوا يتفادون اتصال العيون
المباشرة بمجرد أن أنظر إليهم .أحسستُ أن هنالك شيئا من الخجل أو الحياء امتزج بفضولهم و أسئلتهم المفاجأة
التي ربما ك ان كل واحد منهم يطرحها على نفسه و هو يلمح هذا الزائر الغريب ،بلباسه األنيق و محفظته الرمادية
مقربا هاتفه الخلوي إلى ذقنه مهمهما بكالم يبدو أنه من لغة
و حقيبة ظهره الصغيرة ،و هو يجوب طرقات قريتهم ّ
أخرى غريبة عن بيئتهم ؟ .و أعترف أني و بشكل حدسي ،كنتُ أسير صعودا عبر تلك الشوارع الهادئة نسبيا و
النقية بشكل الفت و أنا التفتُ بين الحين و اآلخر خلفي ،كأني أحاول فقط أن أكون حذرا .من يعلم ؟ ،قد أتعرض
العتداء أو سطو من طرف بعض صعاليك هذا المجتمع المحلي البسيط في مظهره ؟ .ال بد أن يكون هنالك
صعاليك في كل مجتمع ! .محفظتي الرمادية كانت تصيح بشكلها و حجمها و هي تفصح عن حمولتها الثمينة.
حاسوبي المحمول ! .هاتفي الخلوي قد يراه الكثير هنا على أنه شيء يستحق أن يُسرق و يباع بثمن جيد ؟ .حقيبة
189
ظهري الصغيرة خفيفة و سهلة المنال ،إذ يكفي لمراهق ينتعل حذاء ركض رياضي أن يطير بها و يختفي وسط
تلك الزقاق المتقاطعة دون أن يقلق بشأن صاحبها كثيرا !.
**********
كل الطرق تؤدي إلى روما .مثل يعرفه الجميع .لكن في تيميزر كان واضحا أن كل الطرق تؤدي إلى
مسجدها المتواضع الذي يُشرف على كامل القرية في أعلى الربوة التي وصلتها أخيرا و أنا ألهث مرة أخرى ،رغم
أن الطريق إليها صعودا لم تكن بمثل تلك الصعوبة التي واجهتها مع الطريق الجبلي ،ربما كوني كنتُ مشدودا نحو
معمار القرية و توزيع أبنيتها و اصطبالتها و بساتينها الصغيرة و دكاكينها المتواضعة و سكانها و نظراتهم
االستفسارية الفضولية و شوارعها و زقاقها النظيفة الهادئة ؟.
كانت هنالك ساحة واسعة نسبيا ،استقبلتني مباشرة مع نهاية الشارع الذي قادني إلى المسجد .فضاء ترابي
مست ِّو نسبيا مقارنة مع طرق و شوارع القرية المائلة ،تتوزع عبره بعض األشجار التي كانت تنشر ظلها فوق
أجزاء منه ،في حين كانت األجزاء األخرى منغمسة مباشرة تحت أشعة شمس شهر جوان الحارة ،التي كانت
جلب انتباهي
َ تحضن ترابها الجاف في صمت ،غير آبهة بتلك األقدام القليلة التي كانت تعبرها ذهابا و إيابا .و قد
تؤطر الساحة و تحدد شكلها الذي بدى أنه شبه مستطيل غير متساوي األضالع. ّ تلك الصفائح الكلسية التي كانت
صفائح ملتصقة بالجدران الخلفية لبعض المنازل ،و أخرى ملتصقة بأجدع أشجار البلوط و الصنوبر و الدردار
التي ت ُحيط بالساحة ،في حين كانت بعض الصفائح قد ُوضعت تحت الجدار األمامي للمسجد ،الذي بدى أصغر
حجما و أكثر تواضعا مما بدى عليه حين نظرتُ إليه من بعيد في أسفل القرية.
تقدمتُ ببطء نسبي إلى منتصف الساحة وسط أنظار بعض من كانوا يجلسون فرادا أو في مجموعات صغيرة
فوق بعض من تلك الصفائح .كنتُ أسج ل صوتيا كل تلك المالحظات و أنا أرمي ببصري إلى الجهة اليمنى للمسجد
الصغير بنحو عشرة أمتار ،حيث كان ينتصب مبنى صغير نسبيا تكلله قبة بيضاء و قد انتصبت بعض األشجار
المثمرة أمام مدخله .تين ،تفاح ،مشمش ،خوخ و عنب .كانت ثمارها بالكاد ناضجة ،تغري العين و تفتح شهية
يتورعون
َّ القلب بألوانها الصيفية البهيجة .طبعا ،كان بديهيا لي أنها ال تزال معلقة في أغصانها ،كون أطفال القرية
عن االقتراب منها وسط هذه الساحة المكشوفة و الموضوعة مباشرة تحت أنظار الكبار !.
وصلتُ إلى عتبة باب المسجد الذي لم تكن له ساحة خاصة به .مجرد بناء بسيط مطلي باللون األبيض،
تلتصق به مئذنة تزيد عن ارتفاع جدرانه بضعف واحد أو أقل بقليل .حين رفعتُ رأسي نحوها تساءلتُ ببداهة:
معهم حق ،ما فائدة مئذنة فارعة الطول في قمة تطل على كل القمم هنا ؟ .يمكن للمرء أن يؤذّن للصالة من فوق
سطح المسجد دون عناء استعمال مكبر الصوت الوحيد المعلق في الصومعة و الذي التهمه الصدأ !.
نظرتُ إلى العتبة التي كان يظللها القصب .كانت مجموعة من األحذية و الصنادل و النعال قد وضعت
بترتيب أمامها في جهة ،في حين كانت جهة أخرى تحوي بعض األكياس و القفف و بعض المقتنيات التي لم
190
أستطع التعرف على طبيعتها ،كانت تبدو أنها لبعض األشخاص المتواجدين بالداخل ،و طبعا فإن شكلها كان
يعرف بطبيعة أصحابها بوضوح تام .إنهم قرويون بسطاء.
ّ
التفت يمينا و شماال ثم نزعتُ حذائي و وضعته بالرقب من تلك النعال و األحذية المتواضعة .في المدن ال
يمكنك ترك حذائك خارج مسجد ....مستحيل ! .بل إن األحذية صارت تسرق بداخل المساجد حتى ! .هاجسي
الداخلي كان قد عاد لتوه ليرسم لي صورة بقدر ما كانت قاتمة ،فإن الصبي الصغير بداخلي جعلها كاريكاتورية
أيضا .صورتي و أنا أركض خلف لص أحذية حافي القدمين و هو ينطلق كالسهم بحذائي الجديد المل ّمع !.
للمفارقة ،بدت لي فكرة تلميعي لذاك الحذاء شيئا يشبه الخطأ و أنا الذي اعتاد أن ال يلمع حذاءه و هو خارج للتجول
في قلب العاصمة !! .لحسن الحظ أن طول الطريق الذي قطعته جعله يبدو أغبر بعض الشيء.
_ دعني أحزر ! ...أنتَ ال تشعر بالراحة كونك على وشك ترك حذائك عند المدخل وحيدا ؟.
ّ
التفت إليه فإذا به رجل ستيني كان ينحني ببطء نسبي و كان ذلك صوت أحدهم و هو يعبر خلفي يه ّم بالدخول.
هو ينتزع حذاءه الجلدي البسيط .كان يرتدي برنسا أبيض و يعتمر قبعة من القش .كان ذو مالمح قبايلية صرفة.
وجه يُشبه في شكله مثلثا مقلوب على رأسه ،جبهة عريضة نسبيا مع ذقن حاد و بارز إلى األمام ،مع اعوجاج
صغير في الفك السفلي ،بعض الشعيرات البيضاء المتفرقة عبر الوجه ،كانت تزيد كثافة عند أسفل الدقن ،أنف
معقوف ،نظرات حادة شاخصة كمعظم تلك النظرات التي تقاطعت معي طيلة صعودي إلى هنا ،هي نظرات
أخذت حدّتها و شخوصها من كثرة تعرضها ألشعة الشمس القوية هنا ،حتى صارت سمة الكثير من الوجوه ،حين
تنظر إلى بعضها فإنها تبدو و كأنها تنظر إلى الشمس نفسها و هي تحاول تقليل حدة توهجها على العينين أو
إحداهما بإغماضها تماما ،مع ترك العين األخرى تقوم بواجب التعرف الحذر على األشياء أو األشخاص ؟.
لم أقل شيئا و أنا أنظر إلى الرجل الستيني الذي بدى لوهلة أنه يبتسم ،لكن بروز فكه السفلي نحو األمام و
نظراته الشاخصة جعلتني أشعر أنه لم يكن مبتسما فعليا ،كانت تلك السمة البارزة لمالمح وجهه فقط ،التي كانت
ستخدع الكثيرين في نظري .رغم ذلك ،ابتسمتُ و أنا أشهر بطاقتي المهنية و أمد إليه يدي مصافحا...
_ أمين وشاكي .صحفي في جريدة النبأ اليومي .أنا هنا للقيام بربورتاج عن قريتكم و مجتمعكم الصغير هذا.
صافحني بصمت و هو ال يزال ماض في تصفّح شيء ما في مالمحي ،شيء ما كان يبحث عنه دون االعتماد
على الكلمات و ال على الوثائق الرسمية .ثم تغيرت تقاسيم وجهه بشكل طفيف .كانت تلك بسمة خفيفة ،أو ربما
بسمة كاملة قد ارتسمت بشكل خافت على وجهه..
_ أهال بك ضيفا كريما عندنا ! .ال تقلق على حذائك و حقائبك ،فهنا ال أحد يجرؤ على سرقة حذاء أو أغراض
عابر سبيل أو ضيف ،ففي ذلك عار كبير جدا حتى بالنسبة للصوص القرية.
أفلتَ يدي مشيرا إلي بحركة من رأسه بأن أتبعه و سبقني إلى داخل المسجد الذي كان فيه بعض المواطنين
الذين أمكنني عدُّهم على األصابع ،بعضهم كان متكئا على األرضية و البعض اآلخر كان يصلي على انفراد ،في
191
حين جلس بعضهم مسندا ظهره إلى دعامة من دعامات البناء الداخلية و هو منغمس في قراءة القرآن .كنتُ أتبع
الرجل الستيني متفاديا االستمرار في التسجيل الصوتي حتى ال أشعره بأي شكل من أشكال االرتياب أو التوتر أو
االمتعاض أو المعارضة ،كوني لم أكن مطلعا كفاية على ردود أفعال هؤالء القوم من تسجيل المعلومات صوتيا
أمامهم مباشرة ،و تلك النظرات االستفسارية التي واجهوني بها طيلة صعودي إلى هنا كانت كافية ،لذلك لجأتُ إلى
األسلوب اآلخر ،فرحتُ أسجّل كل شيء يمكنني تسجيله في ذاكرتي البصرية ،السمعية و الشمية ،التي صقلتها
تكوني النظري و التطبيقي على يد كبار الصحفيين و المراسلين في الجامعة ،تُضاف لها سنواتي القليلة من
سنوات ّ
صرت أسجل كل ما أراه
الخدمة في الصحافة ،بشكل جعلها ترتبط شرطيا بذاكرة االنطباعات لدي .كأي صحفيِّ ،
و أسمعه متزامنا ما كل ما ينتابني من أحاسيس فطرية أو حدسية بدائية أو انطباعات أولية ،كون األخيرة تدوم
طويال ،مما يجعل مني آلة توثيق تمشي على ساقين.
على العموم ،و مقارنة بالجو الحار في الخارج ،فالمكان كان هادئا و منعشا تنتشر فيه رائحة غريبة لم أستطع
تحديد نوعها أو مصدرها ،لكني ظننت أنه السجاد األخضر الكبير الذي كان يغطي كامل األرضية ،أو هي رائحة
الكلس األبيض الذي دهنت به الجدران الداخلية للبناء .رفعتُ بصري إلى السقف .وجدته خال من أي رسوم
زخرفية .المراوح الكهربائية كانت تدور و الظالل قد سكنت معظم الزوايا بعدما ساعدها في ذلك الزجاج الثخين و
صنعت منه النوافذ الكبيرة نسبيا ،لكن الزجاج كان يكسّر أشعة الشمس و
المصقول الملون بشكل فسيفسائي ،الذي ُ
يُضعفها بسماكته و ألوانه .افترضتُ أن مردّ ذلك وقوع المسجد ككل فوق الربوة العالية الجاثمة على كتف الجبل
الذي ُ
شيدت عليه القرية ،بشكل يجعله معرضا ألشعة الشمس على مدار اليوم...
باغتني الرجل الستيني تركيزي بصوته و هو يضع قبعة القش فوق خزنة خشبية صغيرة فاتحا أحد أدراجها
مخرجا دفترا صغيرا منه...
التفت إلي للحظة و قد ابتعد بصره عني و كأنه يبحث عن فكرة ما ،قبل أن يعود و قد أمسك برأس خيطها
بعدما كانت قد فلتت منه على ما يبدو..
أعرفك بنفسي حين عرفتني أنتَ بمن تكون ،يا للفظاظة ! ،أعترف أني أخطأت و
_ أه ...صح ...صح ،أنا لم ِّ ّ
أنا حقا آسف .اعذرني يا بني فقد كانت صبيحتي شاقة جدا و أنا متعب كثيرا.
_ البأس !.
_ اسمي عبد السالم ،و أنا إمام القرية و لمين األعيان فيها و القائم بمراقبة سير أعمال ثاجماعث هنا .يمكنك
مناداتي بـ'' لمين '' فقط.
آه ! ،هكذا إذن '' .لمين '' لم يكن اسم شخص كما اعتقدت ،بل كلمة تدل على مركز اجتماعي أو ما شابه !.
192
تشرفتُ بك .بما أنك كذلك ،فقد تكون مصدر معلومات جيد لي في العمل الذي أج ِّ ّهز له و أتيتُ من أجله
_ ّ
خصيصا إلى هنا.
_ الوزيعة الكبرى التي تقام عندكم في الجمعة األول من الشهر السادس لكل عام.
مرتين أو حتى ثالث مرات في كل عام، _ كل قرية من قرى القبايل لها وزيعة أو ثاوزيعت ،ت ُقام مرة أو ّ
فلم تتكبّد عناء الوصول إلى هذه القرية المع ّلقة في دقن الجبل من أجل ثاوزيعت
بحسب الظروف و المناسباتَ ،
خاصتنا تحديدا ،بينما مررت على عشرات القرى في طريقك ؟.
قالها بنبرة ضاحكة و هو يهم بالجلوس متفاديا النظر في عيني .فجلست مقابال إياه ،حين راح يقلّب صفحات
الدفتر الصغير بين يديه...
_ في الحقيقة يا شيخ عبد السالم ،سمعتُ أن قريتكم تعدّ من أقدم القرى المأهولة في المنطقة كلها ،حيث ال يزال
نمط العيش و التقاليد و الذهنيات مستمرة و مستمدة مباشرة من الماضي البعيد .بصراحة ال أعرف شيئا عن تاريخ
هذه القرية ،لكني فعال آمل أن تروي فضولي في هذا الجانب ،كوني لم أجد الشيء الكثير في المراجع التي لجأتُ
إليها قبل مجيئي إلى هنا.
_ بصراحة ،ال نعلم عن تاريخ القرية إال ما وصلنا مشافهة أبا عن جد .حين تتجول في بالد القبايل أو في أي
منطقة أخرى مأهولة بالناطقين بثامازيغت ،فستلحظ أن تاريخها تقريبا يتوارث مشافهة بين األجيال التي تحفظه
عن دهر قلب و...
_ عذرا يا شيخ ،هل أستطيع تسجيل معلوماتك في هذا كي أوردها في مقالي النهائي ؟.
_ عذرا يا بني ،ليس اآلن فأنا حقا مرهق .أنا فقط بصدد البحث في قائمة بيوت القرية عن البيت الذي يتكفل
اليوم وفق مبدأ التداول باستضافة أي غريب أو عابر سبيل للمبيت بين أهله .عليك أن تستريح فأنتَ تبدو منهكا
أيضا .ثاوزيعت ستقام بعد يوم غد ،إذا ما بغى ربي .هذه مدة كافية لتحصل فيها على كل المعلومات التي تود
الحصول عليها ،أعدك !.
_ اه قيل لي أنه يوجد مكان مخصص لمبيت الزوار غير البيوت يا شيخ.
193
نظر إلي .صمت للحظة ،ثم تنهد...
_ دعني أحزر :هذه أول مرة تزور فيها قرية قبايلية و فكرة أن يُفرض على أحدهم استضافتك دون أن يوجه
لك هو الدعوة إلى المبيت في منزله ،تبدو لك فكرة غير مريحة ؟.
بادر إلى االبتسام هو اآلخر رافعا حاجبيه كمن يود وضعي في اختبار ما..
_ أنتَ متأكد من أنك ال تود المبيت عند أحدهم ؟ .نظام استضافة الغرباء يعد جزءا من قوانيننا االجتماعية
التي نتبعها منذ قرون هنا ،لذلك إن كان يبدو لك غريبا فهذا ألنك آت من بيئة أخرى لها قوانين مختلفة ،لكن عندنا
فاألمر عادي جدا ،عادي إلى درجة أنه ال أحد سيشعر بأي انزعاج أو عدم راحة من استضافة غريب في بيته ،فقد
كبرنا مع هذه التقاليد و هي تشكل جزءا من وعينا و حياتنا اليومية.
ابتسم ،ثم ّ
هز رأسه و هو يعيد الدفتر إلى درجه ،حين لم يرغب ذلك الكائن الصحفي الصغير و العنيد الذي
يعيش بداخلي في االستسالم .سألتُ ذاك الشيخ و كان علي أن أحصل على شيء منه قبل أن أحمل ردفي من على
السجاد .معلومة ،رأس خيط أو أثر بحجم الرمشة...
_ حسن يا شيخ ،هل لي أن أعرف على األقل في أي سنة بني مسجدكم هذا ؟.
_ بني أواخر أربعينات القرن الماضي ،على أنقاض المسجد القديم الذي هدّه الزمن في النهاية بعدما صارت
جدرانه تهدد سالمة المصلين.
_ حقا ؟ .و هل تعلمون إلى متى يعود بناء المسجد األول ؟.
_ بلغنا أنه بني منذ عهد األتراك يا بني .منذ عهد األتراك.
قرية تيميزر إذن ،موجودة منذ ما ال يقل عن 072سنة ،إن ص ّح ما قاله اإلمام ...أو لمين !!.
**********
حين قدوم الليل ،فمهتُ َلم كان الشيخ عبد السالم يبتسم بتلك الطريقة الغامضة .فبعد أن أكرمني بعشاء في
منزله مع أسرته و أبنائه الكثر ،و بعد أن أصريتُ على المبيت في هذا المكان المخصص للغرباء و الزوار حين
أراد الرجل دعوتي للمبيت في منزله ،أخذني أحد أبنائه و لم يكن سوى مراهقا في السادسة عشر من عمره ،إلى
194
قبة الولي المجاورة للمسجد .الفتى كان خجوال جدا ،و كان يتقدّمني في السير و هو صامت تماما .حاولتُ ممازحته
لكنه لم يكن يردّ على مزاحي سوى ببسمة خجولة أو إماءة رأس خفيفة ،قبل أن يغوص بوجهه في األرض متتبعا
خطواته و هو يحاول أن يبقى أمامي .جو القرية الليلي كان هادئا جدا لكنه منعش بشكل الفت .اإلنارة موجودة في
معظم الشوارع .بعض المارة كانوا يسيرون في هدوء و هم يحيوننا بإماءات صغيرة من رؤوسهم أو بعض
الكلمات القبايلية غير المفهومة.
وصلنا إلى القبة .كان هناك شاب ثالثيني رأيته في الظهيرة حين كنتُ أه ّم بدخول المسجد خلف الشيخ عبد
السالم .فهمتُ أنه مؤذّن القرية .كان واقفا بطوله الفارع بالقرب من مدخل البناء األبيض المتواضع و هو يضع
يديه خلفه .تبادل بعض الجمل غير المفهومة مع المراهق ،الذي التفتَ إلي و هو يلوح بيده متمنيا لي ليلة هادئة أو
هكذا فهمت من نظراته و نبرة صوته المنحصر تحت حنجرته .شكرته مبتسما في حين دعاني المؤذّن الشاب إلى
الدخول .أول مفاجأة كانت اكتشافي أن قبة الولي فالن آيت فالن لم تكن مضاءة بالكهرباء ،بل بالشموع .بمجرد
عبوري باب المبنى األبيض الصغير و أنا أتبع خطوات الشاب الثالثيني ،وجدتُ نفسي في رواق داخلي قد يصل
طوله السبعة أمتار على جانبيه بابين .كانت هنالك حجرتين صغيرتين على كل طرف .إحداهما كانت تحتوي على
سرير خشبي متهالك و طاولة خشبية صغيرة ،ظننتهما عائدين إلى عهد حرب االستقالل .كانت بعض الشموع
المشتعلة قد وضعت فوق الطاولة و في إحدى زوايا الحجرة حيث بدى الجدار القريب منها مسودا في بعض
ّ
التفت يمينا و شماال محاوال مسح المكان ببصري .لم تكن هناك أجزائه جراء وضع الشموع المشتعلة بالقرب منه.
سوى نافذة واحدة للغرفة ،ضيقة و صغيرة بشكل الفت ،تطل على منظر لم أستطع فرز كل جزئياته ،كونه كان
غارقا تحت رداء غليظ من السواد ،لكن في النهاية فهمتُ أن تلك الغرفة لم تكن سوى المكان المخصص لمبيت
الزوار أو عابري السبيل ،الذي حدثني عنه اإلمام و قبله ذاك الفتى الذي أهداني إحدى األواني الفخارية التي
يحتمل أنها من صنع أغاكال !.
نظرتُ إلى الغرفة األخرى التي كان بابها يقابل باب '' غرفتي '' .كانت موصدة بإحكام...
ُ
أبعث بتلك أجابني المؤذن مباشرة و أعترف أني لوهلة شعرتُ بكامل جسدي قد تجمد في تلك اللحظة و أنا
النظرة الفزعة و غير المص ِّدّقة لذاك الشاب الذي كان منهمكا في تحضير فراشي...
_ عفوا ؟..
كرر جوابه باختصار و هو ينظر إلي كمن يسألني عن سر تلك المالمح غير المصدقة و ذاك الوجه الشاحب.
ّ
فهمتُ في تلك اللحظة َلم كان الشيخ عبد السالم يبتسم أمام إصراري على المبيت في هذا المكان المظلم و المخيف.
195
كيف ال و قد كنتُ أستعد للنوم بجوار رجل ميت مدفون هنا ،كانت له أعمال و سلوكات يعتبرها سكان مثل هذه
المناطق خوارق و غرائب منذ قرون على األرجح ،ال يفصل بيني و بينه سوى بضع أمتار ،تحت سقف واحد !!.
شكرتُ الشاب بطريقة كان فيها من التهكم ما كان و هو ينصرف متوجها إلى مسجده ،و بالكاد أغمضتُ عيني
تلك الليلة ،و أول شيء أثار قلقي هو انعدام إشارة الهاتف الجوال .جعلني ذلك أشعر وكأني معزول في برج
صخري عال و مظلم عن عالم االتصاالت و المعلومات و األضواء و المعرفة الذي أعرفه و يعرفني .كانت مجرد
دقائق من الحملقة الفارغة في الهاتف ،مجرد دقائق قبل أن تبدأ المحنة الكبرى ،فقد افترستني هواجس غير عقالنية
ال حصر لها .في مواقف كتلك ،يتسلق الطفل الصغير الذي يعيش بداخلي من أعماقي ليزعجني بأفكاره و مزاعمه
الصبيانية ،ال لشيء ،إال لكوني أبعدته عن الفراش الذي ألف النوم فيه ...أو لكونه يشعر بالضجر و يرغب في
اللهو ؟.
كان المكان مظلما و صامتا بشكل موحش ،و ما زاد األمر سوءا هو أن ال ُحجرة لم يكن لها باب مما جعل باب
غرفة الولي يقابل بصري الشاخص نحوه مباشرة ،إذ لم يكن يفصل بيني و بينه سوى الرواق الصغير المظلم ،لكن
و مع ذلك القدر الضئيل من النور الذي كان ينبعث من الشموع فوق الطاولة القريبة مني و عند الزاوية ،كنتُ
قادرا على رؤية باب غرفة الدفين متماهيا مع الظالل و الصمت و الترقّب .لم أستطع التخلص من تلك القشعريرة
التي سرت في جسدي و كبلته جاعلة منه مجرد كتلة ثقيلة باردة ،فقد كانت تلك أول مرة في حياتي أنام فيها
بالقرب من ميت !.
قمتُ بتغيير موقع تموضع رأسي مكان قدمي ،متمنيا أال يُغضب ذلك الولي عبد هللا أوعابد فيُلحق بي لعنة ما،
تحولني إلى مجرد شخص مجنون أو أسوأ من ذلك ،قد أفيق في الصباح التالي ألجد نفسي و قد ُمسختُ إلى دجاجة
تحول إلى ذكر المة !.
أو تيس ،تماما مثل شخصية االمبراطور الهندي '' كوسكو '' الذي َّ
افترضتُ ساخرا في صمت أن قوم تيميزر و سكان هذه المناطق النائية ال يزالون يؤمنون بمثل هذه األشياء
المرتبطة بما يُسما أولياء صالحين ،على األرجح ألنهم كنوا مجرد دراويش أو حتى سحرة في عقود سطوة
الطالسم و الجهل و الظالم األكبر التي عاش فيها أسالفنا ،أو هكذا كان أبي الحاج حسن يعتقد و ال يزال.
ت يا صوفيا ؟ ،سوف تحبين هذا المكان و هذا الشخص النائم تحت التراب بالقرب مني ! .إن
_ '' هه أين أن ِّ
سمع هذا الدرويش صدى هذه األفكار داخل رأسي ،فحتما سأفيق في الصباح التالي و أنا أكاد أختنق من رائحة
الخراف التي ستعم الغرفة ،ألدرك أني صرتُ خروفا !! '' ....تلك هي طريقتي في إبعاد التوتر عن نفسي .أتذ ّكر
أشياء صبيانية تثير السخرية و التهكم علّي أنسى و أتجاوز بها أي أفكار غير عقالنية مزعجة.
حين حاولتُ إبعاد تفكيري عما أو عمن يوجد في الغرفة المقابلة ،وجدتُني أصاب بلعنة أفكار أخرى .تذ ّكرتُ
أمر سيارتي المسكينة التي تركتها بين أيدي أالئك القرويين .هل فعال هم جديرون بالثقة ؟ ،ماذا لو اتفقوا على
196
سرقتها و االدعاء أنهم لم يجدوا لها أثرا ،بما أن صاحبها مجرد زائر غريب عن القرية و المنطقة ؟ ،ماذا لو ادعوا
و بكل بساطة أن مجموعة إرهابية استولت عليها و لم يكن بوسعهم فعل شيء ؟ ،على كل حال ،من يجرؤ على
الوقوف أمام عصاب ة من األشخاص الملتحين بلباسهم األفغاني و رشاشات الكالشينكوف و القنابل اليدوية و
الخناجر ؟ .ثم هل يُعقل أن أكون أنا في مأمن هنا ،في هذا المكان المفتوح على من هبّ و دبّ للدخول متى و كيفما
ي اآلن ،إنها الثانية صباحا ! ،من يمنعهم من االستيالء على حاسوبي النقال و
شاء ؟ .ماذا لو جاء لصوص القرية إل ّ
هاتفي الخلوي ...و ربما حذائي الجديد أيضا ؟ ،من يمنعهم حتى من ذبحي من دون سبب و تركي هنا غارقا في
دمائي ،تماما كما يحدث في أيامنا هذه عبر تراب جمهوريتنا المريضة هذه ؟ !......أعتقد أن تلك األفكار لم تكن
سخيفة على كل حال ،عكس ما تعلق بالمغفور له الموجود في الغرفة المجاورة .جعلني ذلك أجزم أن أول ليلة لي
في تيميزر كانت صعبة ،خاصة في مكان مظلم و موحش مثل قبة وليها الصالح ،و ما زاد األمر سوءا هو عواء
الذئاب ،نعيق البوم ،نباح الكالب البعيد ،و تلك الريح الخفيفة التي كانت كلما هبّت على القبة أحدثت صفيرا من
تحت باب غرفة الضريح أشبه بتأوه خافت.
ْ
أنهكت كل تلك األفكار الصبيانية و السوداوية ذهني ،و بدى لي أني على وشك النوم ،فوجئتُ بسرب حين
كامل من البعوض يحوم من حولي ،و يا ليته كان مثل بعوض العاصمة .لسعاته كان لها وقع خاص على البشرة،
كأنها وخز إبر تُزرع تحت جلدك و تجعلك ترغب في اقتالعه من شدة أثر الح ّكة .لقد بدى لي ناموس باب الوادي
الذي طالما اشتكيتُ منه أليفا لوهلة ،لكني وضعتُ األمر كله تحت معادلة الجبل و المدينة ،فقوم قرية تيميزر بدوا
من خالل سمات وجوههم السمراء معتادين تماما على الحياة الصعبة في هذا الجبل الوحيد وسط كل هذه الجبال،
فال عجب إذن أن يكون بعوض القرية نفسه ذو جلد و قوة أيضا ؟ !.
ال أذكر شيئا آخر بعد تلك الفكرة ،سوى أني كنتُ تائه البصر ذبالنا أتفرج على لهب تلك الشموع المتمايل بين
أمواج تيار الهواء الخفيف ،كأنها بقايا أفكار تاهت وسط أكوام الظالم و الليل ،إلى أن أخذتني األحالم الفوضوية
عن تيميزر و الربيع الجزائري و الفوضى األمنية بعيدا.
-16-
197
أفقتُ ببطيء شديد على حركة غير عادية في الصباح الباكر .أصوات غير تلك التي اعتدتُ النهوض معها و
أنا في المدينة .بل و ربما كانت تلك أول مرة ال أفيق فيها على صوت هدير محرك سيارة أو شاحنة تعبر تحت
شرفتي ؟.
كان هنالك أصوات أخرى ،بعضها بعيد و اآلخر كان يقترب و يبتعد .صياح ديكة ،نقنقة دجاج ،ثغاء غنم و
ماعز ،خوار بقر و الكثير من زقزقة الطيور .بعض النِّّعال و األقدام كانت تعبر بالقرب من النافذة الصغيرة و
أصحابها إما يحدّثون بعضهم البعض أو يسعلون ،إلى أن سمعتُ صوتَ أحدهم و هو يتفل مخاطه بعدما سحبه
بشهقة قوية من أنفه نحو حنجرته حين كان يمر بالرقب من النافذة جارا نعليه على األرض أثناء سيره .القروي
األحمق ،أفسد تلك الحالوة الغريبة التي كنتُ أش عر بها و أنا مغمض عيني بين الحلم و اليقظة ،ألتقط أصوات
حيوانات الريف ،التي كانت تدغدغ ذاكرتي الطفولية بلطف ،حاملة إلي حنينا مبكرا إلى أيام جدي و منزله الطوبي
القديم .أملتُ رأسي .نظرتُ إلى ساعتي فوجدتها تشير إلى السادسة و أربع و عشرين دقيقة .لقد أفقتُ قبل أن
يوقظني منبه الهاتف الخلوي المضبوط على السادسة و النصف .نهضتُ من فراشي .مسحتُ الغرفة بنظري .كانت
تلك الشموع فوق الطاولة و عند الزاوية قد ذابت عن آخرها ،مخلّفة بقعا بيضاء من بقايا الشمع و الخيوط
المحترقة .نظرتُ إلى باب غرفة الولي و أمكنني أخيرا من تمييز لونه .لقد كان أخضر غامق.
استدرتُ خلفي ملقيا بنظرة عبر النافذة الصغيرة حيث أمكنني رؤية ذاك المنظر الذي حرمني الظالم الدامس
لليلة السابقة من سبر شكله و حدوده .إنها المساحة التي تقع خلف مسجد القرية و بناء وليها الصالح .بعض المنازل
و االصطبالت المتفرقة و المتباعدة نسبيا ،تنتهي عند ربوة حادة تقابل سالسل جرجرة ،بدت أنها تطل على منحدر
حاد جهة اليمين ،أما إلى جهة اليسار فبداية غابة كثيفة تكمل صعودها إلى قمة الجبل التي كانت تختفي في طبقة
من السحاب الخفيف .استنشقتُ جرعة أكسجين جبلي كاملة و أنا أراقب أحد الرعاة يسوق قطيعه من بعيد تحت
النظرات الحارسة لجرجرة العظيم ،الذي كان يبدو داكن اللون و هو ال يزال يحجب بارتفاعه الشاهق أشعة
الشروق األولى و كأنه يعيق تسلقها إليه ،كعمالق يقوم بتجميع كتل الضوء حامال إياها على ظهره قبل البدء في
توزيعها على الحقول و الغابات و الشواطئ الواقعة في عهدته.
'' أزول ....أزول فالّك ....أزول فالّون '' ...إنها العبارات الصباحية األولى التي يُالقيك بها كل من تصادفه
في طريقك .هذا ما كان يحدث لي و أنا أسير متجها نحو مقهى القرية ،الذي دلني عليه أول رجل صادفته عند
خروجي من القبة .أزول فالك ،يَرمون بها إليك بهدوء و بصوت خافت نسبيا ،مع إماءة وجه أو حركة رأس ال
تترك لك المجال إال لتفهم أنها تحمل في طياتها كل االنتباه لشخصك و االحترام لك ،عكس ما يحدث لنا نحن سكان
المدن ،إذ صرنا نحيّي بعضنا البعض صباحا على عجل أو في شرود و قلق دون أن نرى بعضنا البعض فعليا .هذا
إن فكرنا في تبادل تحية الصباح أصال !.
وصلتُ إلى المقهى الذي لم يكن بعيدا عن الساحة التي يقع فيها المسجد .كان مقهى موريّا ذو سطح قرميدي و
فسحة مغطاة جزئيا بالقصب يحيط بها حاجز طوبي قصير ،تتوزع عبرها بعض الطاوالت و الكراسي الخشبية.
مرة أخرى ،ذكرني ذلك بمقاهي تابالط المورية نهاية الثمانينات ،التي اختفت تماما في أيامنا هذه على ما أعتقد.
198
أخذت مكانا شاغرا .الحظتُ أن نظرات االستفهام و الفضول التي القاني بها السكان في أول يوم قد خفّت
بشكل واضح .جعلني ذلك أفترض أن الخبر قد سرى في القرية و دخل كل منازلها العتيقة ،كأنه ريح صامتة تحمل
رائحة يسهل التنبه لها و معرفة طبيعتها .خبر الصحفي الذي جاء من العاصمة للقيام بربورتاج عن الوزيعة
المرتقبة بعد غد .ربما هي الحياة البسيطة و الرتيبة في مثل هذه المناطق التي تجعل من انتشار األخبار و
اإلشاعات غير االعتيادية أسرع من غيرها ؟.
القهوة كانت بمذاق متميز و نكهة ريفية خالصة .كانت مطهوة على الجمر و يمكن القول أن رائحة السجائر
تكون أجمل و أحلى حين تالمس الدخان المنبعث من األغصان الجافة المحترقة في موقد المقهى .رائحة العيدان
المحترقة في ذاك الموقد كما في مواقد و كوانين كل المنازل المحيطة ،لم تترك لي المجال إال ألتذكر طيف جدتي
الغابر و هي تجلس القرفصاء أمام كانونها وسط الدار الكبيرة ،تنفخ على العيدان اليابسة بعدما ترمي تحتها عود
ثقاب أو قطعة ورق مشتعلة .تنسف ببطء و ّ
تأن في ريتم منتظم ،يجعل تلك النار الصغيرة التي ال تظهر من تحت
الدخان األبيض الكثيف الذي يخز األعين ،تنتشر من تحت العيدان و هي تكتسب لونا أحمر متوهج مع أصوات
تلك الطرطقة التي تحدثها حين تنطلق في التهام بعض األغصان التي لم تجف جيدا.
_ '' كي تشوف الدخان نقص و راح ،غير و ّخر وجهك من الكانون يا بني !! ''.
عبار ة كانت تقولها لي جدتي كلما أرادت أن تنسف على الموقد من أجل إشعاله .اعتقدتُ طويال أنها كانت
تقصد بكالمها كانون بيت جدي فقط ،لكني فهمتُ بعد سنوات مغزى كالمها ذاك و اكتشفتُ عيبي األساسي ،الذي
ال أزال أعتقد أنه عيب كل كائن صحفي ،و هو أننا كثيرا ما ندخل برؤوسنا مباشرة في كل كانون حتى قبل أن
يتراجع دخانه ! .فضولنا القاتل ،نقطة قوتنا و ضعفنا في نفس الوقت.
دخان قضيتي لم يكن قد انجلى بعد ،و لم أكن أعلم مقدار النار التي قيل لي أن عميروش أو أغاكال ذاك كان
ينسف فيها بصمت بعيدا عن األنظار ،و إن كانت روائح دخان المواقد التقليدية قد غيَّرت شيئا ما في تفكيري و
جعلتني أجادل نفسي حول بعض الحسابات ،حين كنتُ أراقب أالئك القوم من حولي و أنا أتساءل في نفسي إن لم
يكن بينهم شخص واحد على األقل يعلم بأمر جماعة تي تي أس ،أم أنهم جميعا يعلمون ،كونهم يعرفون أغاكال
جيدا و أن أخبار هذه القرية ال يمكنها أن تخفى عن سكانها ؟ .إن كان هذا صحيحا فهو يعني أن مهمتي '' السرية ''
ستكون أصعب من المهمة الرسمية التي جئتُ من أجلها ! ...كيف يمكنني كسب ثقتهم أوال ،بحيث أدفع بعضهم
للحديث عن أغاكال بمحض إرادته ؟ ،ثم أعرف مكان بيته أو بيت والديه بالتحديد ،ثم أحاول الربط بين موضوع
تحقيقي و قضية العادات و التقاليد و ما يُسمى القضية البربرية التي يُدافع الرجل عنها مع الكثيرين في هذه القرى
و الجبال ؟ ،ثم أجعل من كل ذلك سببا أحاول عبره التقرب نسبيا من الرجل ،على األقل للقيام بربورتاجي دون أي
محاولة إلثارة أي موضوع أو حتى كلمة من شأنها جعله يشك في أمري !.
_ '' يوم واحد قد ال يكون كافيا ،لكن ربما هي الطريقة الوحيدة للرفع من نسبة نجاح ما أصبو إليه هنا ؟ .لن
أغادر هذه القرية قبل أن أعرف و لو كلمة واحدة عن السر الكبير الذي يسير بصمت تحت أحجارها العتيقة ،السر
199
الخطير الذي يقفز خفية بين ظالل هؤالء القوم .هه رغم كل هذا ،يبدو األمر مجنونا ،كيف لقرية نائية كهذه أن
تنجب حراكا له القدرة على التحول إلى ربيع عربي أو ما شابه ،قد يجرف البلد برمته المجهول .ال أصدّق ! ''.
ّ
أحك رأسي و أنا أنظر إلى المنازل المحيطة بالمقهى مراقبا حركات و سكنات أالئك قلتُ في نفسي متنهدا
القرويين ،الذين بدوا من مالمحهم و طريقة مشيهم و جلوسهم و كالمهم خارج السياق الحضاري تماما ،كأنهم قوم
نسيهم الماضي وراءه حين كان يعتذر تاركا مكانه للحاضر ! .كنتُ أراقبهم في صمت متأمال و مستشعرا عمق
تلك المفارقة الغريبة ،قبل أن أرفع جسدي و رأسي المنتشي بنكهة قهوة الجبل و سجائر دخان عيدان الغابة،
متوجها إلى المسجد بحثا عن الشيخ عبد السالم للبدء في حلب رأسه المليء بالكثير من المعلومات عن تاريخ
القرية و عادات و تقاليد مجتمعها ،بحكم سنه و مكانته وسط القوم .كنتُ أسير بتأن أراقب األطفال و هم في
طريقهم إلى المدرسة فرادا و جماعات ،يركضون في الزقاق و الشوارع ،بعضهم يرمقني بنفس نظرة الفضول
التي استقبلني بها الجميع قبل يوم ،و البعض اآلخر لم يكن منتبها أصال لوجودي.
تأسفت لذلك كوني كنتُ أرغب في حضور هذا الملجس الذي تشتهر به قرى منطقة القبايل .لكن الشاب مولود
عاد ليذكرني بأني مدعو لتناول الغذاء معه في بيت أسرته ،ثم أخبرني بأنه سيكون مرافقي و ترجماني أثناء القيام
بمهمتي ،إن رغبتُ في ذلك ،كون الغالبية الساحقة من سكان القرية ال يتحدثون سوى '' ثاقفايليت '' على حد قوله،
و أن من يتقنون شيئا من العربية أو الفرنسية من الشباب يغيبون معظم فترات النهار ،فإما هم يدرسون أو يعملون
أو يهومون على وجه األرض بحثا عن عمل .الفئة األخيرة هي الغالبة بين هؤالء بحسب قوله ،و هو ما جعلني
أفهم سر كثرة الصبية الصغار و الشيوخ في تلك القرية ،دون الشباب.
ْ
بزغت الشمس على رأس الجبل و القرية أخيرا ،وسرتُ أنا رفقة مولود بعدما أخبرته أن أول خطوة من
تحقيقي ستكون جمع بعض المعلومات العامة عن تاريخ القرية ،لذلك استوقفنا رجال كهال كان يبدو في العقد السابع
من عمره .تحدث إليه مولود لوهلة بالقبايلية و هو يشير إلي بيده من الحين و اآلخر .كان العجوز المحدودب يومئ
برأسه و هو ينظر إلي بعينيه اللتين كانتا تختبآن خلف حاجبين رماديين غليظين و كأنهما مجرد موسطاش ،قبل أن
يلتفت مولود إلي...
_ ماس وشاكي ،هذا عمي حسين و هو في التاسعة و السسبعين من العمر .لقد أخبرته بمن تكون و سبب
وجودك هنا و قد وافق على أن تأخذ رأيه حول تاريخ القرية ...سأترجم لكما.
_ إن كان هذا ،سأغتنم الفرصة ألسأله عن تاريخ القرية و عن ثاوزيعت أيضا ،كونه من أبناء القرية الكبار و
يمكن أن يفيدني بشهادته.
200
ترجم مولود كالمي للعجوز الذي أطلق بسمة خفيفة و بدى عليه تواضع واضح و هو يومئ برأسه داللة على
القبول .كنتُ أمد بهاتفي الخلوي إلى وجهي تارة حين أطرح أسئلتي ،ثم أترك ذراعي ممدودة مناصفة بين وجه
الشيخ و المؤذن الذي كان يترجم كالمي ،ثم يترجم أجوبة الشيخ لي .كان بعض الصبية الصغار الذين لم يبلغوا سن
التمدرس قد أحاطوا بنا و هم يحالون رؤية ما كان في يدي و عما كنا نتحدّث ،إال أن مولود كان في كل مرة
يصرفهم بإشارة بيده و بكلمات قبايلية لم أفهم معانيها .الشيخ كان يعتقد أن اسم القرية التي بنيت في هذا المكان منذ
العهد التركي ،إنما يعود فقط إلى اسم '' تامزر '' الذي يعتقد أنه جد هؤالء القوم و هو ينحدر من القبيلة األصلية
األولى التي سكنت قمة الجبل منذ عهود غابرة جدا ،هناك حيث ال تزال تتواجد أطالل القرية األصلية ألسالف
هؤالء القوم ،و المسماة '' إيجودار '' ..أو '' إيودر '' كما تُلقب أيضا.
_ إنها جمع لمفردة '' أيادر '' .البعض يعتقد أنها تعني الطير الكاسر أو ال ّنسر ،رغم أننا نسميه الباز هنا.
نظرت إليه بشكل كاد يكون تهكميا بشكل ال إرادي تقريبا .تذ ّكرتُ بسرعة الضوء مسلسل الكواسر الشامي
الذي خبلنا أيام الطفولة و جعلنا نصاب ألسابيع بصرعة العشائرية و المبارزة و المعارك ،كغيره من المسلسالت
الدينية و التاريخية التي لم تهتم إال بجانب الحروب و الجهاد و الغزو .بعضنا كان يتخلص سريعا من تلك الصرعة
ْ
انغرست في نفسه و استحكمت بمجرد عرض الحلقات األخيرة من تلك المسلسالت ،و البعض اآلخر يبدو أنها
بشكل خفي و شاذ ،و ال أزال أعتقد إلى اليوم أن أالئك الذين يسمون جنونهم '' غزوات '' في أرجاء متفرقة من
بالد العرب ،ضد بعضهم و ضد حكوماتهم و شعوبهم إنما ينتمون إلى الصنف الثاني ! ....طبعا ،بعضهم ال يزال
يتخندق في تلك الجبال المحيطة بقرية تيميزر ....عدتُ سريعا إلى مولود...
_ آسف سي مولود .تريد القول أنكم قبيلة '' ....الكواسر '' مثال ؟.
كنتُ أصارع رغبة جامحة ل لضحك كانت تريد الصعود من أعماقي و أنا ألقي بذلك السؤال إلى الشاب الذي
ّ
حك رأسه لوهلة و هو ينظر إلى األرض ،كأنه يُحاول تفادي الدخول في ورطة ما من خالل ما كان يريد انتقاءه
لي من كلمات...
_ ال يا ماس وشاكي ،نحن هنا ننحدر من عدة عروش اختلطت و اندمجت منذ زمن بعيد .بعضها لجأ إلى هذا
فارة من القمع العثماني ،و
الجبل أثناء الغزو الفرنسي للمنطقة ،و قد وجدوا عشائر أخرى كانت قد سبقتهم إلى هنا َّ
يُتوارث شفهيا أن تلك العشائر نفسها كانت قد طلبت الحماية من القبيلة األصلية التي سكنت هذا الجبل منذ عهد
غير معلوم ...األمر معقد قليال..
استوقفنا رجال في األربعين يُدعى الشريف ،كان ينزع بعض النباتات الشوكية و األعشاب الضارة من تحت
بعض األشجار بالقرب من منزله .لم تختلف إجابته عن إجابة الشيخ حسين كثيرا فيما يخص اسم تيميزر و هي من
'' تامزر '' أو '' آمزر '' ،الجد األكبر لهؤالء القوم ،إال أنه أضاف شيئا باختصار عن تاريخ القرية و هو أنها
201
عرفت زيارة واحد من أشهر قادة جيش التحرير الوطني و الثورة الجزائرية ،العقيد عميروش قائد الوالية
التاريخية الثالثة أثناء حرب االستقالل عام 0229و التي قال بشأنها أنها ال تزال ذكرى يعتز بها الجميع في
القرية ،بل و ال تزال عجائزها تحفظ أغان حول العقيد و مآثره ضد الجيش الفرنسي.
نظرتُ إلى مولود فأومأ إلي برأسه كمن يؤكد كالم الرجل الذي عاد إلى عمله دون أن يُضيف كلمة أخرى،
بعدما حمل قبعة القش التي كان يعلقها على أحد األغصان و خبأ رأسه تحتها و هو يبني جدارا من الصمت
الخجول بيننا.
_ قلي يا ماس مولود ،هل من الممكن الحديث إلى بعض نساء القرية في الموضوع ؟ ...أقصد هل الحديث
إليهن ممكن أصال ؟.
_ طبعا ،يمكن الحديث إليهن لكن مع كامل االحترام الالزم ،سوى أني أخشى أن ذلك غير ممكن حاليا كون
أغلبهن في تالة بصدد ملء جرار الماء أو غسل الثياب.
_ إياك أن تكرر مثل هذا الكالم الغريب و غير المستساغ أمام شخص آخر من السكان ،فقد يسيء فهمك و
تجد نفسك في ورطة حقيقية.
_ قوانين و أعراف القرية تمنع منعا باتا أي رجل ،خاصة إن كان في مقتبل العمر ،االقتراب من تالة .وحدهن
النساء و الفتيات يذهبن إلى هناك .لنقل أنه مكان ذو خصوصية نسائية خالصة.
مررنا بجانب دكان صغير من دون واجهة ،كان صاحبه يبيع بعض البقول .دكان قد ال تتعدى مساحته أربعة
أمتار مربَّعة ،مظلم و قليل التهوية بسبب نافذته الصغيرة ،اختلطت فيه روائح و نكهات متعددة للسلع التي كان
يعرضها .حبوب ،بقوليات ،زيوت ،ملح ،سكر ،حليب مبستر ،و رائحة طاغية للقهوة التي لم أر المكان المعروضة
فيه .كانت السلع موضوعة في أدراج خشبية عند الزوايا ،علب مفتوحة جزئيا بالقرب من النضذ الرئيسي للدكان،
و أكياس فيها قمح و شعير و كسكسي إضافة إلى التين المجفف خلف عتبة الباب مباشرة .كان التاجر األربعيني
الذي يُدعى محند يجلس فوق كرسي خشبي قصير و هو منهمك في قراءة إحدى الجرائد الصادرة بالفرنسية .رجل
صب للقبايلية و
أصلع قصير القامة ذو شارب أسود كث و غليظ .عرفني مولود إليه و هو يخبرني أن الرجل متع ِّ ّ
من ثم فهو ال يتحدث إال بها ،رغم إتقانه للفرنسية ،فباشرته بنفس األسئلة التي طرحتها على الشيخ حسين مع تغيير
طفيف في ترتيبها.
202
راح الرجل يتحدث بحماسة و مولود يترجم بأمانة .كان يخبرني أنه و بحسب ما قصته عليه جدته المتوفية ،و
التي عاشت قرابة القرن قبل أن تنتقل إلى ملكوت العلي القدير ،فإن سبب جعل الوزيعة الكبرى للقرية تصادف
أول جمعة من الشهر الميالدي السادس هو أن ولي القرية ،سيدي عبد هللا أوعابد حين وصوله الجئا رفقة أسرته و
عشرات العوائل التي فر بها من بطش الجنود الترك ،أثناء انتفاضة المنطقة في وجه داي العاصمة ،أمضى ثالثة
أيام كاملة و هو يصلي من دون توقف ،من شروق الشمس حتى مغيبها ،دون أن يأكل أو يشرب شيئا ،داعيا سيدي
ربي أن يقطع الطريق أمام الكتيبة التركية التي كانت تالحقه هو و قومه .كان سكان القرية األصليون يشعرون
بقلق شديد بعدما تسلحوا و أعدوا العدة لمواجهة جند الداي ،بعدما قرر مجلس أعيان القرية ( ثاجماعت ) توفير
الحماية للالجئين مهما كلف األمر .كان ذلك خالل اليوم الثالث من صلوات الولي ،الذي صادف أول خميس من
شهر جوان ،حين جاءت أخبار غير مؤكدة عن وصول الجنود الترك بخيولهم و مشاتهم و مدفعيتهم إلى أسفل
الجبل ،و أنهم قد تمركزوا خلف الواد الذي يعبر المنطقة و الذي كان شبه جاف ،و أنهم يتأهبون لصعود الجبل و
القدوم القتحام القرية .هكذا ق َّر ر رجال و فرسان تيميزر النزول و مالقاتهم ،حتى يقطعوا الطريق أمامهم ،كونهم
كانوا رافضين لفكرة محاصرة القرية و د ّكها بالمدفعية .نزل الفرسان و المحاربون مع رجال العشائر التي جلبها
ْ
حاولت الولي معه ،من الفتيان القادرين على حمل السالح ،بينما بقي الشيوخ ،النساء و األطفال متحصنين بالقرية.
بعض النسوة دعوة سيدي أوعابد لالحتماء مع الجميع في البيوت خلف األصوار ،لكنه ضل ساجدا من دون حراك
طيلة الصبيحة ،حتى أنه يُقال أن مجموعة من الطير حطت على برنسه و فوق عمامته و هو في تلك الحالة الغريبة
من التعبد.....
كان التاج ر محند غارقا بحواسه و نظراته الهائمة في قص ما ورثه عن جدته حول تاريخ هذه الوزيعة ،و
استمر مولود يترجم كالمه إلى الدارجة دون عناء أو تركيز أو حتى اهتمام واضح بمضمون كالم محند...
بحسب األسطورة ،فإنه و عند الظهيرة كان رجال تيميزر يقتربون بحذر شديد تحت ظالل األشجار الكثيفة،
يستعدون لعبور مجرى النهر و اإلحاطة بجنود الداي ليسهل االنقضاض عليهم بمجرد تحركهم نحو القرية ،حين
غشت األجواء غيوم رمادية داكنة و كثيفة ،تحركت تحتها رياح هزت السكون الذي كان يطوق المكان .هبوب تلك
الريح باتجاه معسكر الجيش التركي جعل كالب الحراسة فيه تلتقط روائح الفرسان القبايل ،الذين كانوا قد اجتازوا
النهر و هو ما أدخلها في حالة هستيرية جعلت العسكر التركي يتفطن لألمر .أدرك رجال العروش أنهم في ورطة
كون عنصر المفاجأة قد اختفى حتى قبل أن تبدأ المواجهة .كان األتراك قد قفزوا على ظهور خيولهم و أطلقوا
وثاق كالبهم .تراجع القبايل إلى ما وراء النهر حين كان أول كلب يركض في اتجاههم .ظنوا أنها النهاية إذ كان
أضعفهم يُدرك أن الهروب بهذه البساطة من وجه العدو يُعدّ عارا ما بعده عار ،خاصة و أن قوانين العروش
القديمة كانت تعاقب المدبر من أرض المعركة باإلعدام !...
صمت التاجر محند لوهلة و هو يمسح بأصابعه على شاربه األسود الغليظ الذي يُذكر بشوارب أبطال مسلسل
باب الحارة ،قبل أن ينطلق مرة أخرى و ينطلق معه مولود و هو يترجم كالمه .بديا و كأنهما جوادان يتسابقان
بحيث كان أحدهما يتقدم اآلخر ببضع ميلمتيرات فقط...
203
صوب فيها بعض العروش بنادقهم نحول الكلب األول الذي
قال محند أن معجزة حدثت في تلك اللحظة التي َّ
كان يعبر مجرى النهر الجاف متجها نحوهم مباشرة ،و هم يسمعون أصوات حوافر أحصنة األتراك و هي تقترب
من خلف األشجار الكثيفة .لقد كانت صاعقة نزلت من السماء مباشرة على الكلب .صاعقة قوية اهتز على أثرها
الواد و الغابة و الجبل ،كادت تعمي أبصار الجميع من قوة وهجها و وميضها ،تطايرت معها بعض الحصى و
الكثير من الغبار الذي انجلى بعد لحظات ليكشف لرجال القرية عن جثة الكلب المتفحمة .نظروا خلف النهر فإذا
ببقية الكالب التي سبقت أصحابها متسمرة في مكانها ،تأبى التقدم ،كما سمعوا أصوات األتراك و هم يصرخون في
خيولهم التي أجفلها صوت الصاعقة و جعلها تهتاج و تتفرق راكضة في كل االتجاهات .بعد ذلك بلحظات ،راحت
قطرات من المطر تتساقط من السماء تحت وقع الرعود ،تحولت سريعا إلى مطر غزير جدا ،جعل الوادي يمتلئ
و يتحول إلى سيل جارف في ظرف دقائق معدودة .عجبا ! ،لم يستطع الجنود العبور رغم محاوالتهم ،فاكتفوا في
النهاية بإطالق بعض األعيرة النارية باتجاه المقاومين القبايل الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة ،بل اكتفوا بمراقبة
الوضع عن بعد و هم يرون األتراك بين األشجار يحملون أو يسحبون بعض جنودهم الذين سقطوا من على الخيول
التي فرت جراء الصاعقة ،أو أالئك الذين رفستهم في طريقها .كان شيئا ال يصدَّق ،فقد أمر قائد الكتيبة باالنسحاب
في النهاية حتى قبل أن يتوقف هطول تلك األمطار ،بل و يُقال أنه و بمجرد انسحاب العسكر العثماني توقفت
العاصفة .حينها فقط رأى السكان المتحصنون هنا في هذه المنازل القائمة إلى اليوم ،رأوا سيدي أوعابد و هو يرفع
رأسه من سجدته الطويلة التي استمرت لساعات ،حامال يديه إلى السماء شاكرا سيدي ربي .لم يفهموا سبب ذلك
إلى حين عودة الرجال من أسفل الجبل حاملين أخبار ما حدث .كان األمر معجزة حقيقية حذت بالسكان في اليوم
التالي الذي صادف أول يوم جمعة من شهر جوان إلى تنظيم ثاوزيعت ،فذبحوا األبقار و تصدقوا بها على الفقراء
و عابري السبيل في القرية و حتى في القرى المجاورة ،و منذ ذاك اليوم سرت العادة عند أهل تيميزر و صارت
تقليدا سنويا ال يمكن تقديمه أو تأخيره عن موعده المحدد.
ابتسم التاجر محند متنهدا و هو ينظر إلي يشير بيده كأنه يود القول '' هذه هي قصة ثاوزيعت عندنا '' و يا لها
من قصة !.
تركتُ السي محند في متجره البسيط رفقة جريدته ،و استمر تجوالي رفقة المؤذن مولود الذي كان كريما و
صبورا ،فقد مررنا بالكثير من شوارع القرية التي بدت مضيافة بشكل الفت ،ربما لنظافتها و انعدام أي شوائب أو
أوساخ فيها .طرحت أسئلتي على مجموعة أخرى من السكان الذين اقتربت إجاباتهم مما سبق حول تاريخ القرية،
معجزة وليها الصالح الذي غلب جيش الترك مما أوجد وزيعتها السنوية ،زيارة العقيد عميروش عام ،29التي
يتحدث عنها الكل بنوع من الفخر المبالغ فيه ،أو هكذا بدى لي .لكن قصة الوزيعة بينت لي إلى أي حد تختلط فيه
األحداث التاريخية مع الخيال الشعبي لتتحول إلى أساطير تخلق نوعا من االلتفاف حولها من طرف المجتمع ،من
خالل تخليد ذكراها بطقوس أو أعياد يُر ِّّمم بها المجتمع تصدعاته و يحارب بها نسيانه أو تنصله من طبيعته و
شخصيته التي تميزه عن باقي البنى االجتماعية األخرى .ربما هذا هو مقصد سكان القرى القبايلية في النهاية ،فمن
خالل تقليد ثاوزيعت ،يتذكر القبايليون أنهم قبايليين فقط ؟ .أما مولود فلم يبتعد باستنتاجاته عما ذهبتُ إليه ،حين
وقفنا برهة نتبادل األفكار من أمام باب منزله بعدما أكرمني أهله بطبق شهي من الكسكسي بلحم الدجاج على مائدة
204
الغذاء .وقفنا أمام باب البيت القرميدي التقليدي المتماهي في معمار القرية ككل .استسمحت الشاب بتدخين سيجارة.
كان رأسي قد بدأ يضغط علي منذ آخر سيجارة تناولتها في المقهى الموري .كان الشاب ينظر إلى ساعته يُخبرني
يطوقونه من كل جهة.
أن وقت صالة الظهر يقترب ،لكني فضولي و أنانيتي و حتى روحي الصبيانية كانوا ّ ِّ
_ قلي يا ماس مولود ،هل فعال شهدت هذه المنطقة اضطرابات سياسية أو اجتماعية إبان الحكم العثماني ؟.
_ أجل ،على كل حال فطبيعة بالد القبايل كانت دوما مضطربة سياسيا و اجتماعيا منذ قرون .إنها تلك الدودة
الصغيرة التي تعيش داخل مخ كل قبايلي تقريبا !...
_ ...نعلم أن سكان هذه الجبال تمردوا طويال على سلطة الحكام األتراك و كانوا يرفضون دفع ضرائبهم
المستحقة على خزينة الدايات ،بدعوى أنها ضرائب مجحفة .طغيان العسكر و سلوك الباش آغاوات المتعالي على
السكان المحليين زاد األمور سوء ،و من أجل صون حريتهم و كرامتهم ،أقام القبايل حكما ذاتيا هنا ،فقد قامت
إمارة أمازيغية قوية في هذه الربوع خالل القرن السادس عشر للميالد و استمرت ألكثر من قرنين ،و قد خاضت
خالل مدة وجودها حروبا طويلة ضد االنكشاريين و دفعت بالدايات لتفادي االقتراب من جبال القبايل لسنوات.
_ أوه حقا ؟ .لم أسمع بقيام دولة هنا خالل تلك الفترة التاريخية.
_ كانت تدعى دولة كوكو نسبة للجبل الذي تأسست فيه و هو يقع غير بعيد عن منطقة إيلولة إيمولة حاليا ،و
قد امتدت هيمنتها على كل هذه الجبال و القرى منذ عهد مؤ ِّ ّسسي تلك الدولة من أسرة أولقاضي الشهيرة.
_ بعد قرنين و نيف من استقاللها الذاتي ،كانت نهايتها كما هي نهاية دول تلك الحقبة من تاريخنا .لقد أنهكتها
حرب طويلة و غير متكافئة ضد امبراطورية الترك القوية ،و شتّتتها الصراعات الداخلية بين أبناء الجلدة الواحدة
و انتهت كما تقول بعض المصادر بآخر زعمائها ،ماس أحمد الغبريني ،بتزويج ابنته لقائد البحرية العثمانية في
الجزائر يومها علي بتشين .الفتاة الحسناء كانت شجاعة بأن وهبت نفسها للعدو من أجل شعبها ! .لكن على األقل
ففترة هيمنة كوكو هنا كانت كافية ليبرهن سكان هذه الجبال مرة أخرى على أنهم يرفضون الذل و الوصاية و
الهيمنة ،خاصة إن جاءت من طرف أجنبي أو مستبد .إنها قناعة راسخة في نفوس سكان هذه الجبال يا ماس
وشاكي.
اكتفى بالتبسم.
انصرف مولود متجها نحو المسجد .نظرتُ إليه لوهلة و هو يتمايل بجسده الطويل و خطواته المتسارعة
سالكا أحد الشوارع التي تصعد مباشرة إلى ساحة تاجماعت .رأيتُ فيه شيئا يندر وجوده في األشخاص الملتحين
205
الذين يسكنون المدن ،بسلوكهم االنعزالي و مالمحهم المكفهرة بسبب اختالط مفهوم الرزانة مع اندغام الوجه داخل
عقولهم ال ُمسيجة باألحكام المطلقة و المسبقة تجاه المجتمع الذي يعيشون غربتهم الموحشة داخله .كانت تلك مفارقة
تحتاج إلى شرح منطقي ،فمولود الذي بدى أنه إسالم ي التوجه من خالل ملمحه و أفكاره و نشاطه اليومي ،بدى
مع ذلك شخصا متسامحا للغاية و شبه متفهم لما يراه من حوله على أنه عادات أو تقاليد بالية و غير منسجمة مع
معتقداته الدينية .أمر مثير لالهتمام !.
أخذتُ نفسا عميقا .منعتني نفسي المتحمسة من استراحة ما بعد الظهيرة رغم حرارة الجو و خلو القرية من
الحركة وقت القيلولة .سرت طويال و أنا أكتشف شوارعها و طرقاتها و زقاقها شارعا شارعا ،طريقا طريقا ،زقاقا
زقاقا ،دون أن أنسى التقاط بعض الصور لبعض المنازل القديمة جدا ،التي كانت كأنها تنظر إلي بثقة لم يكن
لعشريات كاملة من الزمن أن تزعزعها و هي تعبِّّر لي عن طريق لون أحجارها الترابية التي كانت تشع تحت
الشمس أنها فعال موجودة في هذا المكان المرتفع منذ قرنين على األقل .قطع حية من التاريخ !.
كنتُ أوثق انطباعاتي حامال هاتفي الخلوي أسجل بعض الفيديوهات ،أتحدث عن طبيعة القرية الهادئة ،عن
طرقاتها النظيفة بشكل الفت يجعل المرء يتساءل عن الكيفية التي يتخلص بها هؤالء القرويين من فضالتهم و أين
يأخذونها .كل شيء يبدو في مكانه رغم أن توزيع المنازل متداخل و فوضوي ،إال أني كنتُ أستشعر روحا مهيمنة
كرس بشكل آلي في حياتهم اليومية إلى درجة
من النظام الجماعي .شيء ما يُسيّر أمور القوم .شيء واع و ربما ُم ّ
أنهم قد ال يستشعرونه من كثرة ألفتهم به ،لكن الدخيل على هذه الديار يكاد يراه مرأى العين.
مع كل خطوة كنتُ أخطوها .مع كل منعطف كنتُ أسلكه ،كانت أسئلتي تتكاثر و كان علي أن أضبطها و
أر ِّت ّبها حتى ال أجد نفسي خارج سياق موضوعي الصحفي ،بل وجدتني أصارع بعضها كونها كانت تود أخذ
الريادة .في أحايين كثيرة يحدث لي أن أصير كمثل ذلك الراعي الذي تفرق قطيعه في كل االتجاهات ،بعدما يفقد
السيطرة على أفراده ،بالرغم من ذلك فقد كنتُ أستمتع و أنا أشتغل على موضوع ربورتاجي ،ربما كوني كنتُ
أحس أني أكتشف أشياء جديدة ،فضال عن األسباب الحقيقية التي أوصلتني إلى تيميزر ،أو ربما هي الجولة
السياحية التي كنتُ أقوم بها بعيدا عن الروتين الذي ألفته في العاصمة ؟ .ربما هي متعة تفقيص الكثير من األفكار
المستلهمة من تجربة تيميزر القصيرة و التي قد تساعدني كثيرا في مقاالتي االجتماعية مستقبال ؟ .متعة التطلع إلى
اكتشاف المزيد من أرجاء القرية و األماكن التي تحيط بها ،و تجاذب أطراف الحديث مع بعض سكانها ممن
يتقنون شيئا من العربية أو الفرنسية ،و مع مرور الساعات لم ألبث أن وجدتُ أشعة الشمس و قد انسحبت من
الزوايا حيث اغتنم ظل األبنية و األشجار الفرصة ليطول و يتمدد على األرض و فوق األصوار الدافئة بشكل
الفت ،كأنه أمنيات جريئة أو رغبات غير مضبوطة.
أمضيت تلك الليلة في غرفتي الصغيرة في مقام سيدي أوعابد قاهر العثمانيين وسط أصوات الصراصير،
أشتغل على مقدمة الربورتاج ،مستحضرا عبر هاتفي المحمول كل تلك االنطباعات األولى التي عشتها في طريقي
إلى القرية و حين وصولي إليها ،و ما جمعته عن تاريخها و أساطيرها طيلة يوم كامل.
206
كان الطفل الذي يعيش بداخلي يقفز مرحا و بنشاط غير معهود تماما ،يركض بين قطع و أكوام األفكار التي
كنتُ أج ِّّمعها ألبني بها قصتي الصحفية ،التي رآها هو على شكل منزل مبني بالحلوى ،بداخله متاهة أغوته
بالدخول و االكتشاف و اللهو على ما أعتقد ؟ .شيء ما تح ّرك في نفسي و أنا أستمع في التسجيالت الرقمية إلى
صوت المؤذن مولود الذي اختلط بأصوات من استجوبتهم حول حادثة سيدي أوعابد و األتراك التي المست
الخرافة .حول بطوالت العقيد عميروش المشبعة بالفخر و التقديس و األغاني النسوية .عن قصة مملكة كوكو
الغابرة .عن الجد أمزر و أطالل إجودار المنسية هناك في قمة الجبل وسط السحاب كتاريخ البلد بر َّمته .أعادني كل
ذلك و بشكل شبه سببي إلى حكايات و قصص جدتي حول مغامراتها مع جدها أيام الصبى في غابات و جبال
تابالط ،التي كانت تقصها علينا كل ليلة حين نجتمع حولها وسط دار جدي القرميدية ،قبل أن ننام على نعيق البوم
الذي يتماها مع أحالمنا الطفولية و هواجسنا البريئة .صدى قصص الساحرات اللواتي يظهرن في صور حسناوات
عند ينابيع المياه ،و الغيالن التي تسطو على المواشي ،و الحيوانات الناطقة ،و اللصوص األقزام اللذين يعشقون
تتبع خطى األطفال األشقياء لخطفهم من مهاجعهم ليال .لذلك كنتُ أبتسم بين الفينة و األخرى و أنا أشتغل على
المقال ،خاصة حين وصلتُ إلى الفقرة التي أتحدث فيها عن أسطورة ولي القرية ،إذ أوردتها هكذا:
الحقيقة هي أن الطفل الذي بداخلي كان يريد بكل قوة أن يجعلني أعتقد فعليا أن قرية تيميزر قد ُ
شيدت بأحجار
جيء بها من الشمس ،فقد استشعر أو رأى شيئا مميزا فيها ! .لم أرغب في السير على خطاه .كنتُ كمن يحثه على
الجلوس و التزام الهدوء إذ أن األمر في النهاية ال يتعلق بشيء خارق فعليا .مجرد أساطير متوارثة و عادات و
تقاليد راسخة في قرية نائية لم تتأثر بالمد الخارجي بسبب موقعها الطبيعي الحصين ،مثلها مثل كل القرى المنسية
في ربوع هذه البالد الشاسعة .لكني أمام تحديه و هرجه و غضبه اكتفيت بمغافلته و القول أن أحجارها العتيقة قد
تشبعت بوهج الشمس لقرون طويلة ،و هو ما جعله يهدأ و يخلد إلى النوم أخيرا.
207
-14-
س ّد من التين الشوكي
كنتُ أقف عند باب قبة الولي أوعابد بذهن سارح محمول فوق تلك النسمات الهوائية اللطيفة التي كانت تعبث
بدخان سيجارتي المحترقة بين شفتي ،أفكر مرة أخرى في أمر آغاكال و جماعة الـ تي تي أس .من يمكنه أن
يوصلني إلى حقيقة ما يدبِّّر له صانع الطين و أصحابه ؟ .من يؤكد لي ذلك عن طريق وثائق ال تقبل الشك ،تتحدث
عن برنامجهم و ما ينوون فعله على أرض الواقع ،أو على األقل وثائق أتبين من خاللها أفكارهم األساسية ؟.
الصحفي األلماني Gunter Wallraffكان أول من ابتكر أسلوبا فريدا من نوعه في التحري و القيام
بالتحقيقات الصحفي ة ،يقوم على محاولة تغيير مالمح الوجه و اللباس و اللكنة حتى تطابق تلك المنتشرة في
المجتمع أو الجماعة التي يود الصحفي المحقق اختراقها و القيام بتحقيقه فيها .فإن كان يود القيام بتحقيق وسط
208
المجتمع الهيبّي ارتدى لباسه و تصرف كما يتصرف الهيبيون .إن أراد القيام بتحقيق وسط النازيين الجدد حلق
رأسه و كشر عن أنيابه و تظاهر بهوسه بفكرة العرق النقي .إن اهتدى للقيام بتحقيق عن عالم الشذوذ الجنسي،
مروج
فليس عليه سوى تمثيل دور شاذ بين الشواذ .إن رغب في اختراق جماعة مروجي مخدرات ،أدى دور ّ ِّ
حقيقي قلبا و قالبا ....و هكذا.
آه لو كان بإمكاني فقط تعلم اللهجة القبايلية و إتقانها اتقانا تاما في ظرف قياسي ! .ربما كنتُ في تلك اللحظة
أسير و أنا ملفوف وسط برنس أبيض اللون ،معتمرا قبعة من القش أو شاشا أصفر ،أمشي بتمايل واضعا يدي
خلف ظهري ،مبرزا ذقني و مغمضا إحدى عيني تحت لفحات الشمس التي تتربص بالرؤوس .حتما كنتُ ألجد من
يهمس لي عن الحراك االجتماعي الذي يجهز آغاكال و أتباعه إلطالقه في الذكرى السنوية للربيع البربري
األسود ،ثم أصل لوضع يدي على وثيقة ما من وثائق الجماعة السرية .وثيقة تتحدث عن مغامرة ربيع عربي آخر
هنا في بلدنا هذا ....حتى لو سمي عبثا '' بربريا ''.
ارتأيت أن أسترخي قليال و أبعد ذهني عن آغاكال اللع ين إلى غاية إقامة الوزيعة الذي كان يفصلنا عنه نحو
ساعة ،لذلك انتهى بي المطاف جالسا في المقهى الموري الموتاضع بالقرب من الحاجز الطوبي القصير ،أستمتع
بلقهوى المج ّهزة فوق الجمر ،قبل أن يلتحق بي الفتى موسى الذي بدى سعيدا برؤيتي .دعوته إلى مشاركتي فنجان
قهوة ،فقبل ذلك بسرور واضح .جعلتني بسمته شبه الدائمة أشعر أني أخطأتُ في تصنيفه أول مرة ،حين افترضتُ
أنه من صنف القبايل الذي يُقال عنهم أنهم ال يحبون التعامل مع أي غريب عن منطقتهم .فالفتى بدى اجتماعيا و
منفتحا جدا ،بل و ثرثار أيضا .كانت تلك فرصتي ألحلب ما يوج في رأسه ،علي أعثر على معلومات مفيدة عن
صانع الطين...
_ ماذا بقي لك يا ماس أمين لتكتشف ؟ ،إنها أمام عينيك ،يمكنك أن تراها كاملة و أنت عند المسجد دون أن
تخطوة خطوة واحدة !.
_ أه ليس بالشيء الكثير .باقي المنازل و هي متباعدة نسبيا عن بعضها ،مقارنة مع المنازل الواقعة على هذه
الجهة .اسطبالت األنعام .المقبرة في مدخل الغابة ،و هي مفصولة إلى جزئين .جزء ظاهر للسكان و جزء يغوص
إيول '' .
بشكل أعمق في بداية الغابة و هو المكان الذي يرقد فيه شهداء القرية .ثم تجد نفسك في '' ثيزڨي أوس َ
_ ما هذا ؟.
_ غابة األحاديث ..أو غابة الكلمات إن أردت .مكان مخيف و سيء .لنقل أنه مسكون بالشياطين و قانون
القرية يمنع التجوال فيها ،لذلك ال أنصحك...
209
_ هممم ...ال أحد في القرية يصعد إلى غابة األحاديث هذه ؟.
_ ال ،ال أحد .األطفال الصغار يخافون المكان من كثرة ما يقص عليهم حولها ليال قبل النوم ،و الكبار يعلمون
أنه مكان مسكون ،فقد شهد الكثير من أعمال اإلعدام و القتل البشعة أثناء حرب االستقالل ،سواء من طرف الجيش
الفرنسي و عصابات الحركى األوغاد ،أو من طرف جيش التحرير الوطني.
صمت للحظة و كأنه يفكر مع نفسه قبل أن يجيب .تنهد دون أن ينظر إلي...
_ أجل ،ال أحد ...سوى بعض من مجانين القرية ...أنت تعلم ،ال يمكن لوم المجانين على كسر قوانين المجتمع
و فوق ذلك فالمجنون مجنون أصال ،ما الذي يمكن أن تفعله العفاريت به ؟ !.
أطلق موسى ضحكة خفيفة مبرزا أسنانه المهترئة و هو يحك جبينه بأنامل يمناه .رأيت على مالمحه أمارات
من وجد نفسه فجأة في ورطة أوقع نفسه فيها .ورطة قد تؤدي إلى شيء كبير جدا .كيف ال و قد كان يجالس
صحفيا قادما لنفض الغبار عن قريته الهاربة من الماضي ؟ .شعرتُ به يكاد يعرب لي عن رغبته في أن أكف عن
السؤال و ذا ك ما ألقى إلي بوريقة حدس ممزقة عليها عبارة غير مكتملة ،لكن معنى الكلمات الظاهرة عليها كان
يشير إلى أن موسى قد يكون على علم بشيء ما .كنتُ أكاد أقسم على أن مجانين القرية الذين يدخلون إلى غابة
الكلمات دون أن يعترض أحد سبيلهم ،لم يكونوا في الحقيقة سوى شخص واحد ،متوحد ،غريب األطوار ،متمرد
على األطر الجماعية التي تسير هؤالء القوم ،فنان عبقري ......مجنون !.
رميتُ إليه بالسؤال ساخرا و أنا أراقب بدقة شديدة تغير أصغر تعابير وجهه التي أبانت أكثر عن شخص وقع
في ورطة ،لكنه كان يبتسم رغم ذلك...
_ آه يا ماس أمين ! ،هه أنت لم تلتق بمجنون نُلقبه هنا بـ '' بو ورفان '' ،و الذي يطارد األطفال في شوارع
القرية إن هم تعمدوا حك ظهورهم أمام أنظاره .لم تر '' نانه عواوش '' ،العجوز المجنونة التي تنفجر بكم ال حصر
له من السب و الشتم و اإلشارات المحرجة أمام أي شخص أو جماعة تستفزها بالسؤال عن مكان إخفائها غلة
الزيتون الخاصة بها ،طبعا المسكينة ال تملك شيئا إال ما يقدمه لها لمين من الطعام الذي يأتيها مما تدره بعض
أوقاف تاجماعت .كما يجب حتما أن ترى '' سنيترة '' و هو يؤدي أغاني لونيس آيت منڨالت بشكل مبهر ،مقلدا
صوته و صوت القيطار أمام الناس ،مقابل الحصول على بعض السجائر أو الشمة !.
الوغد الصغير ! .لقد أخرج نفسه من ورطته بسرعة و هو يلتزم الصمت سريعا منكفيا على نفسه بعدما
تخندق خلف صف من مجانين القرية ،الذين وضعهم أمامي كما يضع حارس المرمى جدار العبيه أمام خصم
يبحث عن ثغرة يقذف عبرها كرته التي يودها أن تهز الشباك ! .ال ال ال يا ماس موسى ،أبحث عن المجنون
األخطر في هذه القرية ! .كنتُ أردِّّد بداخلي و أنا أراقب الفتى و هو يُصارع شيئا ما كان يود البوح به .كنتُ قد
210
علمتُ أنه شخص ثرثار .هذا الصنف من البشر ليس عليك إال أن تفاتحه في موضوع لتتوقف عن الحديث في
منتصفه ،و تتركه يصارع رغبته الموجعة في إكمال البوح بما ال يجدر البوح به .لذلك التزمتُ الصمت متظاهرا
أني تجاوزت موضوع الحديث و وضعته خلفي .لم يطل األمر حتى جائني صوت موسى بعد لحظات...
ثم عدتُ إلى التظاهر أني ال آبه بالموضوع ،و هو ما زاد في تأجيج الفتى بشهوة البوح ،فدنى مني قليال
بكرسيه...
_ في الحقيقة هو ليس بمجنون ،لكن البعض يعتقد أنه شخص غامض و خطير....
سألته مختبئا خلف وجه هادئ ،بالكاد غير آبه ،فدنى أكثر بكرسيه مني حتى أمكنني التقاط أنفاسه المليئة
برائحة التبغ الممضوغ ( الشمة )...
_ إنه عميروش ابن الدا إيدير .نلقبه هنا بآغاكال .شخص تحبه القرية و تكرهه في نفس الوقت .يعيش متوحدا
و ال يكاد يتعامل مع أحد .إنه الوحيد الذي يدخل تيزڨي بكل حرية و في أي وقت شاء دون أن يتعرض للردع من
قبل تاجماعت .قصته طويلة و معقدة .لكن و بما أنه أبرع فخارجي في المنطقة ،فأعتقد أنه يستحق شيئا من
االهتمام من طرف الصحافة .إنه فنان و رجل مثقف .ربما تجعل منه موضوعا لك في مقال أو روبورتاج آخر ؟.
_ ربما....
هززتُ رأسي كمن يزن اقتراحا ما في عقله دون أن يعيره اهتماما كامال ،رغم أني كنتُ في داخلي أحترق
في صمت بشهوة الفضول الصحفي و كنتُ أرغب في سحب لسان موسى الثرثار من حلقه ألطول وقت ممكن،
لوال أن الفتى لم يكمل جلسته معي ،بل استسمحني للذهاب لمساعدة بعض أفراد القرية على جلب و تجهيز الثيران
المخصصة للذبح في البطحة التي ستقام فيها الوزيعة.
لم يطل جلوسي بعده سوى بعض الدقائق ،ألجد نفسي أتبع بعض رجال القرية المتوجهين إلى مكان الحدث،
ألجد نفسي أقف أعلى تلك البطحة التي تذبح فيها الثيران كل سنة ،مذ أن ذبح فيها سكان تيميزر ثيرانهم و أبقارهم
تحت إشراف الولي أوعابد ،حين ساعدته الطبيعة بصدفها الغريبة على هزيمة األتراك في ذاك اليوم المشهود من
أيام مملكة كوكو الغابرة.
211
بدت الحركة غير عادية عبر المكان .األطفال و الصبية يركضون في كل االتجاهات مرحين .الوجوه
متحمسة و معظمها مبتسم ،مع كثرة الحضور الذين يتوافدون على البطحة المائلة نسبيا و التي تقابل سالسل
جرجرة التي كانت قممها تطل علينا من فوق طبقات خفيفة من الضباب .كنتُ أراقب الحضور القوي .رجال و
شباب من مختلف األعمار يتوافدون على المكان ممن يعملون أو يدرسون في أماكن بعيدة ،هم اليوم حضور بين
أهلهم في هذه العطلة األسبوعية ،فضال عن هذه المناسبة السنوية.
الثيران كانت مربوطة إلى بعض أشجار البلوط الضخمة المتباعدة نسبيا و التي راحت أغصانها تتمايل ببطء
على نسمات الهواء الصباحية ،حين كان بعض الرجال الذين يحملون األدوات الالزمة لعملية النحر يتقدمون وسط
القوم الذين راحوا يفسحون لهم الطريق .بحثتُ عن موسى الثرثار ،لكني لم أره بسبب الحضور الكثيف للناس
الذين تماهت قسمات وجوههم مع بعضها البعض و راحت همهمتهم تتغلغل بين المسامع مع بعض الضحكات
المرتفعة بين الحين و اآلخر ،أو بعض عبارات التحية الصاخبة التي كان يطلقها بعض القرويين الذين كانوا
يسيرون نحو شخص ما أو مجموعة أشخاص فاتحين أذرعهم معانقين بعضهم البعض.
كان واضحا أن المناسبة هي فرصة التقاء من ال تم ِّ ّكن لهم ظروف الحياة أو شقاء األيام من أن يلتقوا
باستمرار ،و تماما كما وصفت من قبل كل الذين حاورتهم قبل يوم ،هي مناسبة يُعاد فيها ترميم العالقات
االجتماعية التي تصدعت بسبب األيام و البعد و الغياب و حتى الحزازات .الجميع هنا اليوم ليسلموا على بعضهم
البعض ،ليتبادلوا األخبار و القصص ،ليتفقوا على مشاريع مستقبلية ربما .إن ما سوف يحدث هنا في هذه البطحة
هو شيء يتجاوز توزيع قطع لحم الثيران المذبوحة على الفقراء و المحتاجين و عابري السبيل ،بل هو شكل من
اشكال العرفان نحو هللا أو السماء أو الطبيعة حول ما حدث في هذا الجبل قبل نحو 211عام.
رأيتُ المؤذن مولود يلوح لي بيده من بعيد .اتجهت إليه و أنا ال أكف عن التحديق في جميع االتجاهات علي
ألمح هدفي ،حين راح اإلمام عبد السالم يدعوا القوم لالقتراب و رفع أيديهم إلى السماء من أجل الدعاء كما
أخبرني مولود الذي أراد أن يكون ترجماني مرة أخرى.
شكل القوم حلقة دائرية كبيرة مكتظة حول أشجار البلوط التي كانت الثيران تقف تحتها و هي تلقي بنظراتها
الهادئة نحو كل هؤالء الذين اجتمعوا حولها حاملين أذرعهم نحو السماء ،في اللحظة التي راح فيها مولود يُرتجم
لي ما كان اإلمام يدعو به :اللهم نسألك بركة هذا اليوم السعيد من أيام هذه القرية الشامخة ،اللهم بارك في زرعها
و شجرها و قطعانها و عيونها ،اللهم بارك في أهلها و ضاعف الخير في بيوتها و اجعله ينساب منها بغزارة
كانسياب الماء من بين أحجار هذا الجبل .اللهم اعط من تصدق أضعافا و ارزق من احتاج أضعافا و أجر وليك
الصال ح سيدي عبد هللا أوعابد أجرا كريما و حسنات جارية مادامت هذه السنة المباركة ،و ارزق أهله و نسله
الخير و زدهم في الشأن ،و احفظ ذريته إلى اليوم الدين....
كنتُ أراقب القوم عن كثب و أنا أمد بهاتفي المحمول إلى فم مولود الذي كان مستمرا في ترجمة تلك األدعية.
كانت فرصتي ألمسح القوم جميعا بناظري ما داموا متسمرين في أماكنهم ،لعلي أقع على صانع الفخار .كنتُ
212
أالحظ أيضا ردود فعل غريبة و متباينة .الكثير من الرجال الذين كانوا يرفعون أذرعهم إلى السماء خفضوها
بمجرد أن راح اإلمام يدعو للولي سيدي أوعابد و أهله و المنحدرين منه .البعض اآلخر لم يكلف نفسه رفع يديه
منذ البداية و األهم أن معظم هؤالء كانوا من فئة الشباب ؟.
نظرتُ إلى مولود علي ألحظ ردة فعله من األمر ،لكنه بدى غير آبه تماما و هو يركز فقط على البحث السريع
ّ
التفت خلفي لحظة و أنا أفحص عن الكلمات العربية المناسبة التي توافق ما كان الشيخ يدعو به بلسانه القبايلي.
الوقوف فإذا بي أقع على موسى و هو يرفع يديه بشكل بدى من خالله و كأنه يود خفضهما .بدى و كأنه ورط نفسه
مرة أخرى في فعل ندم عليه ،تماما كما ورط نفسه معي قبل نحو نصف ساعة بسبب عدم سيطرته على لسانه.
لكن ...لحظة ....لحظة .! ....هناك ،إلى كتفه األيمن وقف شاب ذو بشرة شديدة البياض كأنها رخام نقي مع الكثير
من النمش الذي غزى وجنتيه .شعر أجعد أحمر اللون كالحمم البركانية .بدن نحيل و طول فارع .لمحتُ تلك
النظرات غير المبالية تقريبا ،التي كانت تخرج من عينيه الزرقوين و هو يرمي يديه داخل جيب سرواله األسود.
تسمرت للحظة حتى شعرت أني سأصاب بتشنج في الرقبة .لم أكد أصدق ،إنه فعال هو ! ،المراهق الذي تم اعتقاله
من فوق غطاء محرك سيارتي تلك األمسية الربيعية المضطربة من أمام البريد المركزي في العاصمة !!.
تذكرت تلك الحادثة و كأنها تمر أمامي مباشرة .كيف كان يصيح و يركض في الطريق بين السيارات و هو
يلوح بقطعة القماش الغريبة تلك التي يعتبرها البعض '' راية '' .كيف تعثر محاوال االفالت من يد ضابط الشرطة
الذي كان يالحقه و كاد يلطم رأسه في مقدمة سيارة أخرى .كيف راح يصيح و يصرخ في هياج كامل و هو يقفز
حين كان الضابط يحاول تصفيده .كيف سكن فجأة بركان الغضب ذاك بمجرد أن أعاد له الضابط رايته واضعا
إياها فوق كتفيه و هو ينصرف مطلقا نحوي تلك النظرة الغاضبة ،التي زلزلت دواخلي و جعلتني أبحث طويال عن
وصف مالئم لها و للحالة التي كانت تعبِّّر عنها ،إلى أن أدركتُ أنها حالة '' يقين '' بعد مدة .يقين تام بما يسمى
قضية بربرية !.
اصطفت األشياء فجأة داخل رأسي و بسرعة عجيبة ،كأنها مجموعة جنود يفاجؤون بدخول الرقيب إلى
مهجعم على حين غرة .اصطفت بعدما ظلت مبعثرة مذ وصولي إلى تيميزر .بدى سبب ميجيئي إلى هنا أكثر
وضوحا من تلك الشمس المشرقة فوق رؤوسنا و برهن لي أني اتخذتُ الخطوات الصحيحة للوصول إلى هنا ،و
قد أوصلتني فعال إلى هنا .بدأتُ أستوعب '' قانون الجذب الكوني '' الذي حدثتني عنه صوفي أخيرا .ال بد أن ذلك
صحيح ! ،و إال فما معنى كل هذا الذي يحدث معي مذ رأيت نظرات ذاك الفتى الغاضبة التي تركتني مستفزا في
أعماقي أكثر من أي وقت مضى ؟ .تلك النظرات التي كانت تود اقتالع شيء ما من جوفي حتى أمسك به بين يدي
و أفهم تماما كيف أغير من وجهة بحثي عن سبقي النهائي ،هي التي دفعت بي فعال إلى االلتفات إلى هته التي
يسمونها '' قضية بربرية '' ،التي أخذتني بدورها إلى الحنش األشقر ،الذي قدم لي المعلومات الحصرية التي
وصلت بي إلى هذه القرية النائية ،ألجد نفس الفتى يقابلني هناك ،شارد الذهن و غير آبه تماما بما يقوله اإلمام.
أوقفت التسجيل بمجرد أن سكت اإلمام و المؤذن و علت كلمة '' آمين '' األخيرة الجمع ،و أقبل الرجال لذبح
الثيران و بعضهم يتعاون على سحبها بالحبال نحو األرض لتثبيتها تحت السكاكين المتربصة بها .أما أنا فقد كنت
213
أتربص بهدفي األساسي ،لكني رغبت في االحتكاك بذاك الفتى الذي أدين له بتلك النظرة الحاسمة قبل نحو شهر،
و التي بفضلها كنتُ أتحسس آثار أغاكال و سره المخبّأ .تقدمتُ نحو موسى الذي كان منهمكا في الحديث إلى الفتى
األشقر الذي لمحني و أنا قادم نحوهم ،حيث ركز نظراته علي .جعلني ذلك أتساءل :أيعقل أنه تذكرني ؟ ،تذكر ذاك
الشخص الذي كان خلف مقود سيارته و هو ينظر إليه بفضول ؟ ،أم أنه فقط ينظر إلي كون موسى أخبره أني
صحفي ؟.
_ آه ماس أمين ،إنه يوم ثاوزيعت ثامقرانت يا رجل ،إنه يوم روبورتاجك المرتقب !.
هكذا قابلني موسى ببسمة عريضة أبانت عن أسنانه الصفراء المهترئة ،قبل أن يستدير نحو المراهق األشقر
و المراهقين اللذان كانا معه و هو يقول لهم كالما لم أفهم منه سوى اسمي و كلمتين نطقهما بالفرنسية فصل بينهما
بحرف النون ( .) Journaliste n Algerثم التفت إلي و هو يشير بيده إليهم...
صافحت الفتيان و كان آخر من أمسكت بيده هو سيفاقص ،الفتى العشريني األشقر الذي بادل نظرتي و بسمة
بنظرة غير مبالية و إماءة رأس خفيفة ،حتى أني بالكاد شعرت بيده تالمس يدي ،بل كانت مجرد أصابعه التي
ي .لكني تظاهرت
انفلتت بسرعة منزلقة من كفي حتى قبل أن أشد عليها .بدى واضحا أن هنالك شيئا ما لم يرقه ف ّ
أني لست مباليا و أنا مستمر في تأدية دور الصحفي الذي يغطي الحدث...
_ إذن يا شباب ،أنا هنا من أجل القيام بربورتاج عن عيدكم السنوي هذا لجريدة النبأ اليومي .ماذا يمكنكم أن
تخبروني عن ثاوزيعت بدوركم ؟.
أطلقتُ بسمة و أنا أرقب مالمح وجوههم التي كانت تعبر عن شيء ما .شيء ليس في صالحي ،لكن أحدهم و
هو مقران و هو شاب كان يستند على عكازين للوقوف بسبب شلل أو إصابة ما ،نطق دون أن ينظر في عيني...
_ تدعى تاوزيعت ...و لها اسم آخر في اللغة األمازيغية '' ...تامشيرت ''.
نظرتُ إلى المدعو سيد علي لك نه كان يمضغ العلكة و هو مكتوف األيدي يتفرج على عملية الذبح .ثم التفت
إلى سيفاقص ألتفاجأ بعينيه ملتصقتين على وجهي و وجهه أقرب إلى الجماد.
لم يقل شيئا .كان ينظر إلي فقط ،حين راح موسى يحك أنفه و هو يتظاهر بأنه يتفرج على الثيران التي كانت
قد تحولت في ظرف دقائق إلى أضاحي .لكن سيفاقص نطلق بعد برهة بعربية دارجة تغلفها لكنة قبايلية صرفة...
214
كان صوته رقيقا لم يتخلص بعد من ذبذباته الطفولية .أحسستُ بالراحة و شعرت أن اطالعه على ما أكتب
سوف يختصر علي الطريق إلى اقتحام فكره و فهم سر تلك المفارقة ،التي تعثر ذهني بها يوم لمحته في تلك
المظاهرة بالقرب من البريد المركزي .كيف لمراهق في سن الثامنة أو التاسعة عشر يخوض صراعا أو كفاحا من
أجل قضية سياسية يراف ع عنها و يواجه المطاردة و االعتقال بسببها دون أن يتراجع إلى الخلف ،في حين يأتيني
مراهق آخر في نفس السن تقريبا ،ليضع خنجره فوق حلقي من أجل سلب محفظة أوراقي ؟ .نفس السن ،نفس
الجيل ! .كيف أتفاجأ إذن بكونه يقرأ مواضيعي و على اطالع بأفكاري ؟ .قلتُ في نفسي أني سأجده بعد دقائق
ملتصقا بكتفي يخطب معرفتي و صداقتي حتى ؟ .فنظرت إليه مبتسما...
_ أجل ،أجل ،صدقت .أنا صاحب مصطلحي '' الموسطاشيا '' و '' الحهر '' .ما رأيك فيهما ماس سيفاقص ؟.
_ أظن أن معك حق .فأنا نفسي أشعر في كثير من األحيان أن ابتكاري لهاذين المفهومين كان مضيعة للوقت..
_ كما أن مقالك األخير في صفحتك على الفيسبوك عن هوية جمهوريتك البدوية كان سيئا جدا ،بل مقرف !.
تقرر أن هذه األرض '' عربية – إسالمية '' ؟ .من أنت حتى تحكم على طبيعتها و تبتلع آالف
من تحسب نفسك كي ِّ ّ
تأن ؟ .من أعطاك الحق لتص ِّّنف تاريخي و لغتي و
السنين من وجودها و تاريخها و كينونتها دون تمحيص أو ّ
ثقافتي في خانة '' الفولكلور '' ؟ ،ثم تأتي اليوم هنا محاوال إقناعي بأنك تهتم ألمر هذه المناسبة '' االجتماعية '' !.
ماذا ستقول عنها في مقالك المقبل يا ترى ؟ ،أنها عادة بربرية أكل الزمن عليها و شرب ،أو أنها مستحدثة لدى
البرابرة الذين كانوا يعيشون في الكهوف المظلمة ،و أن أجدادك الفرسان الذين أخرجوهم إلى نور الحضارة هم
من ألهمهم كل هذا بسبب تعاليم دينكم الحنيف ......هه ،يا للوقاحة !.
تجمدت تعابير وجهي ،كأنها تعابير شخصية كرتونية في فيلم تم إيقاف عرضه فجأة .بصراحة ،لم أتوقع
االنحدار إلى هذا العنف اللفظي و بهذه السرعة ،التي جعلت موسى نفسه يتدخل و هو ينظر إلى الفتى محاوال
تهدئة الجو مرددا '' :آها سيفاقص ،أس تاويل كان ،أور حصر آرا ...أور حصر آرا ،'' ...أو شيئا قريبا من هذا،
في حين راح الفتى يرد عليه بكلمات لم أصطد حروفها رغم أن نبراتها ذات النغمة المتهكمة التي دعمتها حركات
رأسه و إيماءات وجهه المستهزئة اقتحمت سمعي كأنها أحجار وديان ،ملساء و قاسية ،و اخترقت عيني و
إدراكي ،كأنها مسامير مقذوفة.
بدى لي أني قد أغرقتُ نفسي في بحر من البعر و القذارة في نظره و من يتقاسمون قناعاته بذلك الحجر ،بعد
الذي نشرته على صفحتي في الفيسبوك قبل مدة عن الجزائر العربية اإلسالمية المدعوة للتصالح مع فلكلورها
البربري ! .لهذا السبب كان الفتى ينظر إلي بتلك الطريقة التي تنم عن االشمئزاز و هو يود أن يرد لي الصاع
215
صاعين من خالل كلماته المستهزئة بما كتبت ،لكني و بحكم خبرتي ،و من جهتي ،تركتُ األمر موضوعيا على
قدر االستطاعة .ال يمكن لوم مراهق غير ناضج سياسيا و فوق هذا ُمستفَز إيديلوجيا من طرف '' خاطرة '' رقمية
غير بريئة .من يمكنه أن يلومه على ردة فعله مني على كل حال ؟.
بالرغم ذلك ،أعترف أن مشاعر دفينة كانت تقترب من الغثيان امتزجت باللعاب في حلقي ،راحت تتصاعد من
معدتي و أنا أنظر إلى الفتى الذي لم تتزحزح عينيه الزرقوين القويتين من أمام عيني ،و هما تؤكدان لي أنه جاد و
مؤمن تماما بما قال و بما يعتقد .كان ينظر في عيني بثبات كامل .عجيبة تلك القوة !!.
زاد الشعور بذلك الغثيان .ربما بسبب غرابة الموقف و عدم مالءمته للطبيعة المضيافة اللطيفة لقوم تيميزر
بشكل مفجوج ،أو ربما كوني كنتُ في تلك الثواني التي بدت أنها دقائق مددها ذاك التحدي المجاني و غير
المجدي ،كنتُ أحاول تبرير شعوري بتلك الروائح التي بدأت تغزو المكان .روائح أحشاء تلك الدواب الرطبة و
الحارة التي كان يتم إخراجها من بطونها و أجوافها بعد أن وضعت جلودها الكبيرة على األرض كي تتنفس و
ّ
تجف تحت أشعة الشمس ،و تعالت معها صرخات بعض الرجال الذين كانوا يحاولون إبعاد كالب القرية التي
أحاطت بالمكان لعلها تضفر ببعض البقايا.
نبّه سيد علي الفتى األشقر بحركة من يده و إماءة من رأسه ،كأنه يشير إلى شخص ما كان يقف من مسافة
بعيدة بعض الشيء .تحرك سيفاقص بخطوات ثابتة قاسما طريقه بين الناس المجتمعين حول الذبائح التي كانت في
مرحلة التقسيم حين راح بعض الرجال يحثون األطفال الصغار على االبتعاد ،بعدما أكثروا من هرجهم و
ضوضائهم التي كانت قد زادت الجو بهجة و حيوية.
امتد صمتي مع موسى و الشابين اآلخرين لبعض الدقائق .كنتُ أراقب الجمع ،أو ألقل ،كنتُ أتظاهر
بمراقبتهم مغطيا الحدث .أخذت هاتفي الخلوي .التقطت بعض الصور ،فيها مزيج بين عمل الصحفي و سلوك
السائح .ثم انتابني شعور أن موسى يركز نظره علي لسبب ما .نظرتُ إليه ،فإذا بالفتى يُحرك شفتيه رافعا حاجبيه
و هو يرمي بمقلتيه بيني و بين شيء ما يودني أن أراه .حركة شفتيه و لسانه كانت تقول شيئا صامتا ،لكنه جعلني
أكاد أبتسم .لقد كان يقول لي '' :أغاكال.....أغاكال ،'' ....مستمرا في استعمال مقلتيه كغمازتي سيارة ،تؤشران على
الجهة التي يقف فيها الهدف.
لم أبد أي ردة فعل ،سوى إماءة خفيفة من رأسي نحو موسى ،جعلته يدرك أني فهمت قصده تماما .رحتُ
أتظاهر بأني مستمر في التقاط بعض الصور و أنا أكاد أقفز من اإلثارة و الفرحة .شعرتُ أني وصلتُ إلى هدفي.
غنيمتي ...فريستي.
في الحقيقة ،يلزمك أطنان من القلق و الغضب و الترقب و األعصاب و الفضول و اإلقدام و الحركة ،حتى
تشعر بحالوة تلك اللحظة ،التي كنتُ واعيا بأنها لن تكتمل إال باكتمال المهمة الحقيقية التي جئت من أجلها إلى هنا.
لكن بصراحة ،فإن لحظة استدارتي ببطء نحو الجهة التي أشار إليها موسى ،و تثبيت ناظري على آغاكال اللغز،
216
عميروش آفاو ،الرجل الذي يستعد ليزلزل بلد المخابرات و الجنراالت العتاة بربيع آخر ،تلك اللحظة ،كانت لحظة
اللحظات.
همستُ في أعماقي كاتما تلك الجملة حتى ال تسمعها أنفاسي نفسها .كان الرجل يقف و هو يتحدث إلى
سيفاقص .كان يقابلني بظهره .صندلة من الجلد البني الذي تكدست فوقه كمية من الغبار .سروال جينز بزرقة باهتة
جدا .قميص صيفي بمربعات خضراء كبيرة و خطوط بيضاء متقاطعة ،بدى أنه جديد نسبيا ،و قبعة قش بدت من
خالل لونها الفاقع و شكلها أنها جديدة تماما .كان يتحدث إلى الفتى األشقر و هو يحيي بيده بعض األشخاص عن
بعد من حين آلخر .ذلك مكنني من مالحظة بعض الوشوم على معصمه األيسر.
تقدمت بضع خطوات متظاهرا أني أراقب الجو االجتماعي البهيج الذي كان يسود القرية محاوال إيجاد
الفرصة المواتية للتقرب من صانع الطين بمجرد أن يبتعد سيفاقص عنه .هكذا اقتربت من بعض سكان القرية من
الذين أخبروني أنهم يتحدثون الدارجة الجزائرية قليال .رحتُ أتظاهر أني أسجل انطباعاتهم عن عرس تيميزر
السنوي ،و أنا ال أكف عن استراق النظر ،أنتظر فرصتي المواتية لالنقضاض على فريستي.
هل سيقبل أن آخذ انطباعاته عن وزيعة القرية ؟ .هل سيقبل الحديث إلى صحفي حتى ؟ .بدأ كل شيء يتسارع
من حولي .أحاديث القوم ،حركة األطفال ،ضحكاتهم المرتفعة .حركة رأسي و مقلتي في كل االتجاهات المؤدية
إلى عميروش .و طبعا حركة األفكار و األسئلة داخل رأسي .ما الذي يقوله لسيفاقص يا ترى ؟ .عما يتحدثان ؟ .أو
ما الذي يخططانه له ؟ .هل يمكن أن يكون سيفاقص هذا عنصرا من الـ تي تي أس ؟.
رأسي يدور في كل االتجاهات كرأس بومة تترصد الحركات و األصوات .عيناي تكادان تتحركان في
اتجاهات مختلفة و في زوايا صعبة كعيني حرباء .أذناي تكادان تأخذان طول أذني ذئب .أرى الرجل و المراهق
يقفان و هما يتبدالن األحاديث و أحاول رصد حركات أخرى في كامل الحيز الذي يقفان وسطه .أي نظرات قادمة
من أعين أخرى تترصدهما عن بعد ،علها تكون نظرات المخبرين السريين ألجهزة األمن ،التي تراقب تحركات
الرجل و تحاول فك شيفرة الشيء الغامض الذي يقوم بعجنه و تشكيله تحت ظالل عالمات االستفهام الكبرى.
بالكاد كنتُ مركزا على ما كان ذلك الشاب يقوله لي عن مناسبة الوزيعة ناظرا إلى هاتفي المحمول بفضول و
إعجاب .استدرتُ إليه شاكرا حين لمحتُ آغاكال يضع يده على كتف سيفاقص مربتا عليه ،ثم يتحرك واضعا يديه
خلف ظهره.
صحتُ بها داخلي و أنا أنطلق متسلال أكاد أزحف كثعبان أرقط بين ظالل الرجال المتفرقين عبر الساحة.
كنتُ أراه يتحرك بين األكتف و هو يرفع يده بين الحين و اآلخر يحي البعض ،و يمر بصمت و هو يضع رأسه
أرضا يراقب خطواته كمن يقوم بطوي العالم بين قدميه حامال سرا ما فوق كتفيه .و رغم ثقلك ذلك الشيء الخفي
217
الذي كان ينهك كاهله ،و لسبب ما ،وجدته يبتعد عني أسرع مما كنت أتوقع .لم أستطع الوصول إليه في الوقت و
المكان المناسبين كي أتظاهر أني أود إجراء حديث قصير معه حول المناسبة ،فقد ابتعد الرجل بشكل عجيب عن
الجمع ،لكني شعرت بجمجمتي و هي تتحول إلى كتلة من الصخر األصم .لم أتوقف .لم أرغب في التوقف ،ألنه و
ببساطة لم يبق هنالك مجال للتوقف !.
ف ها أنا ذا أغافل القوم منسحبا من زاوية تمألها األشجار و األحراش ،بعدما قدّرتُ المسار الذي أخذه أغاكال
الذي كان يتجه نحو الجهة الخلفية للقرية على الطريق المؤدية إلى غابة األحاديث أو '' تيزڨي أوس َإول '' كما
يس ُّمونها .ممتاز ! ،لم أعد أسمع ضجيج الجمع .ال أصوات غير أزيز الزيز و خطوات الرجل التي كنتُ ألتقطها
غير بعيدة من خلف ذلك الحاجز الترابي القصير الذي كانت تمأله شجيرات التين الشوكي.
_ '' ما العمل اآلن ؟ ،اللعين ماض في االبتعاد ،و سوف يتوجس مني إن رآني أستوقفه في هذا المكان بعيدا
عن األنظار ،مصرحا له أني صحفي يود إجراء مقابلة صغيرة معه بخصوص الوزيعة ! ''.
كانت خطواته أسرع مما كانت عليه قبل دقائق فقط .كنتُ أحاول التحكم في أنفاسي و صوت خطواتي فوق
التراب و األعشاب شبه الجافة ،أحاول استراق النظر من بين أوراق التين الشوكي العريضة .هناك كانت قبعته
الصفراء تتحرك ،لكني لم أكن أرى مالمح وجهه بعد و هو ماض في االبتعاد أكثر.
زاد ارتفاع الحاجز الترابي الذي تحول شيئا فشيئا إلى هضبة صغيرة تمألها األشجار المختلفة التي تمازجت
بأشجار التين الشوكي ،كأنها تتآمر علي ضاحكة ،بعدما صار يستحيل علي عبور ذاك الحاجز النباتي ...فطفقت
أباعد بين الخطوة و األخرى و أنا أكاد أثب على المسافة المتبقية ،ثم انطلقت أرضك بعدما فقدت أذني صدى
خطوات الرجل .ركضت بأقصى سرعتي إلى نهاية الهضبة الصغيرة المسيجة باألشجار ملتفا حولها ،فإذا بي أمام
مجموعة من المنازل القرميدية المتفرقة و المتباعدة على طول الطريق المؤدية إلى المقبرة.
التزمت اله دوء و الصمت ،علي أسمع خطوات الرجل في مكان ما أو ألمحه يتحرك بين الجدران أو األشجار.
لم يكن هنالك حركة في تلك الس اعة التي صادفت تواجد معظم الرجال و األطفال في الوزيعة .ال شيء غير
أصوات بعض النسوة داخل أحواشهن ،نقنقة الدجاج و صياح الديكة من بعيد .جعلني ذلك أتنهد و أنا أحك رأسي
أكاد ألطمه بيدي غير مصدق أني فقدتُ أثر ذاك الشخص الغامض .تقدمت أسير بتأن و أنا أستدير من كل الجهات،
ثم توقفت لوهلة.
من بين كل تلك األصوات الطبيعية التي كانت أذني تلتقطان ،كان هنالك أصوات أخرى تكاد تكون خافتة،
حملتها إلي تلك النسما ت الهوائية الدافئة من جنبات القرية التي كانت تطل على جرف الجبل القصي المقابل
لسالسل جرجرة المستح ّمة بطبقة ناعمة من السحاب األبيض .اقتربتُ من مصدر تلك األصوات .مررتُ بين
بعض المنازل ثم سرت بخطوات متوازنة مشعال سيجارة بين شفتي و أنا أبعث بأمان خافتة داخل نفسي تماما كتلك
األصوات التي بدأتُ أكتشف طبيعتها .أجل ،لم تكن أصواتا للطبيعة .تلك كانت نغمات موسيقية !.
218
اقتربتُ أكثر فأكثر من المنحدر الذي كان ينتهي إلى الجرف العالي الذي يطل على مجرى مائي .شيء ما كان
يدفع بي لالعتقاد أني كنتُ أسير نحو الشيء الذي جاء بي إلى تيميزر ،رغم أني كنتُ أخطو في تلك اللحظات نحو
منحدر ينتهي إلى جرف صخري ينتهي بدوره إلى وادي جار.
اقتربت أكثر ،و مع الخطوات كانت تتبدى لي طبيعة تلك النغمات الموزونة التي طغت عليها إيقاعات ثابتة
آللة الدربكة .بصفتي عاصمي حديث ،لم يكن لي أن أخطئ .تلك كانت موسيقى شعبي ،سوى أن كلمات األغنية لم
تكن واضحة بعد .فاستمريت في االقتراب و الدنو و أنا أدخن سيجارتي المحصورة بين السبابة و الوسطى ليدي
التعرق وسط ذلك
ّ اليمنى ،بينما كانت يدي اليسرى تداعب مفاتيح سيارتي داخل جيب سروالي .كنتُ قد بدأتُ في
الجو الحار نسبيا ،لكني افترضت أن يداي كانت تعرقان كوني كنتُ مضطربا على نحو ما .كان اليقين الغامض في
أعماقي يخبرني فعال أني وصلتُ إلى منزله ،و من ثم لم يكن لي أال أقلق بشأن ما سوف أقوله أو ما الذي سأفعله
حين أصل إليه و أقابله.
ْ
وصلت بي إلى هنا .أو قانون الجذب ،كما تقول صوفي .ال بد من وجود سبب ما وراء ذلك ! ''. _ '' السُّبل
كان يجب أن أقول لنفسي هذا الكالم ،إما ألني كنتُ أريد أن أجعلها ت َثبتُ لوقت إضافي أخير ،أو كوني كنت
أريد تهنئتها على الجهد الذي بذلته وصوال إلى تلك اللحظة التي وقفت فيها أخيرا أمام منزل قبايلي تقليدي بني
بالحجر ،معزول نسبيا عن بقية البيوت على الجهة اليمنى للطريق المؤدية إلى مقبرة القرية و غابة األحاديث.
الحظتُ أنه لم يكن بعيدا عن ذلك جرف الجبل.
أخيرا وصلتُ إلى منزل عميروش آفاو ،أغاكال قيض السؤال .اليقين بداخلي كان يؤكد ذلك بشكل يكاد يتحول
إلى هيستيريا أفكار صارخة ،تقول بأنه ال يمكن إطالقا أن أخطئ في هذا الحدس .إنه بيت الحرفي و والديه
الكهلين .وقفتُ للحظة و أنا أرمي النصف المتبقي من سيجارتي ساحقا إياه بقدمي ،ثم التففت حول البيت الحجري
القديم الذي كانت زوايا صوره الخارجي قد تفتت و انهارت جزئيا ،فإذا بي أقابل بناء حديثا مشيدا بالطوب األحمر
البارز في معظم أجزائه التي لم يتم تلبيسها باإلسمنت .حتى األجزاء التي كانت مكسوة كانت من دون طالء ،مما
جعله يبدو بشعا على نحو ما ،و قد تفرق لونه بين األجوري األحمر و الرمادي الباهت .ابتسمت ،كوني تأكدت
قطعا أنه منزله ...أو ورشته ،ال لشيء سوى أني تفطنتُ أنه أول بناء أجوري في تيميزر كلها .حتما هي ورشة
المتفرد !.
ِّ ّ المجنون
ّ
التفت على يساري أنظر إلى تلك األكداس من األواني الفخارية المختلفة التي كانت تصطف تحت الشمس.
بدت حديثة من خالل لونها الطيني الذي كان يميل شيئا فشيئا ليأخذ لون التراب .لقد وضعت تحت شمس تيميزر
لتجف و تكتسب الصفاء الغامض لهذه الجبال ،و إن كان صانعها ،في نظري ،غارقا في نوع آخر من الغموض
الذي بدى لي سيئا للغاية.
219
تحف جميلة .لكن جمالها و أناقتها و دقة صنعها ،لم تكن لتشفع للحرفي لدى صحفي شرس غير مهادن في
تلك اللحظات الحاسمة ! .فكرتُ في أن عضة الكلب الجزائري الشرير القذر األخيرة قد أكسبتني مزيدا من المناعة
و اإلصرار ،و ربما شيئا من غضب و جنون داء الكلب أيضا.
كانت نافذة الورشة مفتوحة و كانت تنطلق منها أنغام موسيقى شعبي واضحة ،لكن بكلمات قبايلية لم أفهم شيئا
منها .حتى ذاك الصوت الرخيم الحزين لم أستطع تكهن من يكون صاحبه .أعلم أن معتوب الوناس كان يعشق
موسيقى الشعبي الجزائرية و غنى كثيرا من أغانيه بردائها ،لكنه لم يكن صوته الذي كنت أسمع .كان صوت فنان
آخر.
_ '' ماذا اآلن ؟ .ها قد وصلت إليه ،فما الخطوة التالية ....تخيلت ألف سيناريو محتمل للقائي بهذا الرجل مذ
أن حصلت على المعلومات الخاصة به و بجماعته السرية ،وها أنا ذا عاجز عن التفكير تماما اآلن ...؟ ! ''.
فجأة سمعتُ باب الورشة أو الغرفة أو المنزل الذي كانت تنطلق منه تلك الموسيقى الشعبية و هو يُفتح.
استدرت إليه .فعال ،كان هو .كان قد نزع قبعته .شعره كان رمادي اللون ،رطبا و مرتبا بشكل جيد .لم يقل شيئا و
لم أستطع بدور ي قول أي شيء في تلك الثواني الغريبة التي كانت الفاصل الكبير و الطويل بين تلك اللحظة و كل
المراحل التي قطعتها مذ نشرتُ خاطرتي المستفزة على الفيسبوك.
كان يقف واضعا يديه في جيبه هو اآلخر .نظراته الشاخصة كانت تنطلق من عينيه الصغيرتين المختبئتين
بشكل جزئي تحت حاجبيه الغليظين السودوين ،خلف نظارته ذات اإلطار المعدني الرمادي ،و كأنها مجال
مغناطيسي ذو تأثير عكسي يدفعك في االتجاه المعاكس بدال من أن يسحبك نحوه.
غريب ما كنتُ أشعر به تلك األثناء .فالرجل اللغز الذي سعيت جاهدا للقائه علي أكتشف سره الذي يهدد البلد
بفوضى اجتماعية أو سياسية فوق تلك التي تعيشها ،كان يقف في تلك الثواني الطوال أمام أنظاري ،و بقوة غريبة
و خفية كان كأنما يدفع بي لالبتعاد عنه و الرحيل من قريته دون رجعة ؟ .كان بعثا مختلطا بين التردد و الشك و
الحيرة و كثرة األسئلة ذات اإليحاءات السلبية التي كانت قد بدأت تكبل تفكيري ،و قد كان أهمها على اإلطالق'' :
كيف سأحصل على دليلي المادي الذي يؤكد كل ما قاله لي الصحفي عياش ذاك اليوم حول هذا الشخص و جماعته
السرية المزعومة ؟ ''.
ال أدري ما حصل لي في تلك اللحظات التي كانت بصدد التحول إلى شيء يشبه الوهن و الضعف و العجز
عن التفكير ،أمام ذلك الوجه الصخري الخالي من أي تعبير إنساني.
قلت في نفسي متهكما من الرجل الذي ظل واقفا على عتبته ينظر إلي بصمت و كأنه مجرد فزاعة طارت
الريح بقبعتها.
220
_ أزول فالك ! ،أدعى أمين وشاكي و أنا صحفي من العاصمة جيئت ألقوم بربورتاج عن تاوزيعت
تامقرانت خاصتكم...
لم يحرك الرجل ساكنا .غريب ! ،فقد قيل لي عنه أنه يفهم و يتحدث العربية ؟ .أو ربما يتقنها لكنه ال يحب
الحديث بها ؟.
لم أكد أكمل جملتي حتى انفجر الرجل بصوته الذي غلفته بحة كمن ينهرني بكلمات قبايلية لم أفهم فيها شيئا،
رغم أني فهمت نبرة صوته و حركة يده التي كانت كحركة شخص ينش الذباب عنه .كل ما كنت أستوعب من تلك
األلفاظ هو شيء من قبيل '' ...اتف ايبردان إيك تروحد ....يا هللا ...اتف ايبردان إيك تروحد ....روح،
روح''...!! ...
تراجع الرجل خطوة إلى الخلف بينما تسمرت في مكاني و أنا أحاول اتخاذ القرار النهائي حول التراجع
تكتيكيا أو الهجوم اليائس األخير .لكن الرجل بدا منذ البداية مصرا على أنه لن يطيل الكالم معي و لن يمنحني أية
فرصة ،فتقدمتُ نحوه و أنا أرفع سباب تي كمن يود استسماحه لتقديم شرح أو تبرير لكني لم أر و لم أسمع سوى بابه
الخشبي و هو يلطم بقوة على بعد شبرين من أنفي ،حتى اعتقدت أن الرجل كان يود فعال سحق وجهي لو كنتُ
أكثر سرعة و جرأة في اقتحام عتبة دراه.
انتابني غضب فجائي .لم أرغب في التراجع أو االستسالم .ألصقت أذني في الباب .كنتُ أسمع خطواته في
الداخل و هو يسير ذهابا و إيابا و كأنه يحمل أشياء ما بين يديه يغير مواضعها وسط تلك األغاني الشعبية البربرية.
تراجعت خطوتين إلى الخلف .كانت مصارع النافذتين األماميتين الخشبية موصدة ،فاستدرت حول المبنى فإذا
بنافذة صغيرة نسيا تطل مباشرة على سالسل جرجرة مفتوحة ،حيث كانت تنطلق منها ألحان آلة المندلين معانقة
الهواء الدافئ الذي كان يعبر بين أشجار التين و الزيتون.
اقتربت من النافذة بحذر و أنا أكاد أقف على أطراف أصابع قدمي بسبب ارتفاعها النسبي ،محاوال رؤية ما
يفعله الرجل و أنا أفكر أنه ربما يجب محاولة جذبه بقصة أصول عائلتي ،التي جعلت الكثير من سكان هذه القرية
يتحمسون للحديث إلي بدأ بموسى آيت يوسف.
_ Monsieur !!, monsieur !, s’il vous plait !. Puis-je vous parler un moment !, je ne
suis pas venu ici uniquement pour Timchret, mais à vrai dire, je suis là aussi pour
découvrir mes origines, voyez-vous ?, moi aussi je suis Kabyle !. Je peux même vous
…dire que je suis fière de l’être, car mes parents ont toujours su comment garder cette
sacrée… flamme… berbère en nous, depuis que nous étions enfants !, et là, j’ai vu ce
221
que vous faites…. Je veux dire vos œuvres, vraiment ça m’a attiré et m’impressionné.
توقفتُ للحظة و أنا أمعن السمع .لم تكن هنالك أية حركة في الداخل .اختفى صوت خطواته و الضجيج الذي
كان يحدثه .ال شيء ،سوى تلك األغنية القبايلية التي كان يلوكها ذلك الجهاز الذي كانت تنبعث منه بشكل ممل.
_ Bah, monsieur, puis-je au moins acheter une de vos chef-doeuvres d’argile ?. S’il
vous plait !..
استمر الصمت في الداخل .رفعت رأسي نحو النافذة الصغيرة أكثر فإذا بمصراعيها يلطمان يقوة و عنف أمام
وجهي...
الجملة الوحيدة التي همستُ بها لفنسي تلقائيا في تلك اللحظة .تراجعت إلى الخلف و أنا أنظر نحو النافذة
المغلقة ،قبل أن أسمع خطوات الرجل و هو يعود إلى ما كان يفعله قبل لحظات .أيعقل أنه شعر بالكذب و النفاق
الذي نفثته كالمخدر في كالمي المن َّمق حول أصولي القبايلية يا ترى ؟ .هل فعال رأى ما كان يدور في رأسي ؟ .أم
أنه لم يكن مهتما منذ الداية بأي شيء و أنه لم يرني سوى غريب متطفل بغض الطرف عن الصفة التي أتيته بها ؟.
هل تصرفت بتسرع و غباء فاضحا نفسي في النهاية ؟.
انتابني إحساس بأن كل ما كنت سأفعله أو أقوله لذاك الشخص المتعجرف سيكون مجرد مضيعة للوقت .لذلك
أشعلت سيجارة أخرى ثم عدت إلى الجهة األمامية و وقفت مرة أخرى أمام تلك األواني الفخارية التي كانت تجف
تحت الشمس و أنا أقلب أفكاري ،أتشاجر مع ذلك اإلحساس بالعجز الذي كان يدفع بي للرحيل فقط .كنتُ أرغب
في إنهاء األمر ،فقد أنجزت مهمتي الظاهرية التي جئت من أجلها و كفى.
الحنش الروجي قال بأن جماعة الـ تي تي أس تأثروا بالثورة المصرية .و عودة إلى ذلك الحراك الفريد من
نوعه ،و قبله ثورة الياسمين في تونس ،األمور بدأت بالتدرج شيئا فشيئا عبر دعوات للتجمهر الهادئ على
صفحات التواصل االجتماعية ،ثم وقفات احتجاجية ،ثم مسيرات سلمية هنا و هناك ،لتتحول مع مرور األسابيع
إلى تجمعات ش عبية كبيرة فتجمعات حاشدة فتجمعات شعبية مليونية مطالبة برحيل النظام و رموزه .....قد يكون
األمر هكذا مع هؤالء ؟ .ما العمل ؟.
_ على كل حال ،حدث مثل الفاتح نوفمبر 22ال يمكن أن يتكرر مرة أخرى في التاريخ .مستحيل !.
222
تمتمت مع نفسي بتهكم و أنا أرمي ببصري نحو باب و نوافذ بيت الرجل المنغلق كي أتأكد من أنه ال يراقبني.
أخرجتُ هاتفي المحمول و تقدمت نحو تلك األواني أللتقط لها صورة و أنا مستمر في التمتمة مع نفسي و
سيجارتي ماضية في االهتزاز بين شفتي..
ألصور هذه ،بالنظر إلى فظاظتك معي أيها الفظ المتعجرف .ال تريد أن
ّ ِّ _ ....لست مجبرا على طلب إذنك
تبيعني واحدة ؟ ،حسن ،سآخذ صورها كلها و أنصرف .ما رأيك ؟..
التقطت صورة أولى و ما إن تقدمت خطوتين إلى األمام كي ألتقط صورة أكثر قربا و وضوحا حتى تعثرت
فوق حجر صغير ال أدري من أين برز لقدمي .اندفعتُ إلى األمام فاقدا توازني و أنا ال أفكر إال في سالمة هانفي
الخلوي ناسيا كل شيء.
أعتقد أن رأسي الغليظ هو من دفع بي نحو األمام ثم نحو األسفل و أنا أسقط كجدع شجرة بلوط فوق تلك
األواني محاوال إيقاف تلك السقطة بمد يدي اليسرى نحو أقرب شيء أمامها .لم يكن ذلك الشيء سوى جرة
متوسطة الحجم ارتطمتُ بها دافعا إياها لترتطم ببقية األواني التي راحت تتساقط و تتبعثر محدثة فوضى و ضجة
كبيرتين جعلتا العصافير تفزع من األشجار المحيطة و الدواجن تقفز جافلتا في كل االتجاهات و جعلت حشرات
الزيز الملتصقة بأجدع البلوط و الدردار تلتزم السكوت.
بعض فوضى السقوط و االنفجارات هيمن الصمت على األجواء .رفعتُ رأسي غير مستوعب تماما لسرعة
ما حدث .وجدتني ملقى على األرض و أنا ال أزال أمسك بهاتفي الذي لم يتأد لحسن الحظ .لكني أدركتُ مدى سوء
حظي حين وقفت و أنا أرى تلك الفوضى التي تسببت بها .كانت أواني الرجل مبعثرة ،مهشمة ،وسط الغبار الذي
تصاعد من حولها ليلفني بداخله !.
و أنا وسط تك الدهشة و ذلك الشرود و التشوش ،سمعتُ حركة خلفي .التفت فإذا بعجوز طاعنة في
السن ،قصيرة القامة ،تقف عند عتبة البيت الطوبي القديم وسط دجاجاتها تراقبني بعالمات من الفضول التي بانت
نسبيا على مالمح وجهها المليء بالتجاعيد .حتما كنتُ أقف أمام نانه تاملسة ،والدة آغاكال .كانت كمن تساءل
قدري اللعين الذي جاء بي إلى هنا و أوقعني في تلك المصيبة ،أكثر مما كانت تود سؤالي مباشرة .لم أستطع
اإلتيان سوى بكلمة واحدة كنتُ قد تعلمتها فيما تعلمت من بعض كلمات اللهجة القبايلية طيلة مكوثي وسط سكان
تيميزر...
فُ ْ
تحت باب الورشة مرة أخرى .استدرت نحوها بهدوء .كان الحرفي يقف على عتبته مرة أخرى ،واضعا يديه
في جيبه يرمقني بنفس نظرة الشبح الباردة الشاحبة التي استقبلني بها قبل دقائق .لم يتغير شيء من مالمح وجهه،
و لم أجد ما أقول سوى أني رفعت يدي كمن يريد تهدئة الوضع قبل حدوث أي شيء غير محمود...
223
_ ع ّمي ......و هللا ما درتها بالعاني ....نخلصك فيهم دراهم !!....
**********
ال أؤمن بالنحس كثيرا عندما يتعلق األمر بمهنتي ،ذلك أنني ال أحب تعليق إخفاقاتي المهنية على أظهر
اآلخرين ،لكني لم أستطع منع نفسي من التفكير فيه بعدما حصل ،و لم أستطع تحديد من كان فينا جالبا له حقا ،أنا،
أم آغاكال اللعين ؟.
كنتُ فقط أقود سيارتي تلك األمسية عائدا إلى العاصمة و أنا ال أنفك أتذكر تلك األوجه غير المرتاحة و
المحر َجة التي ودعني بها أعيان تيميزر بعدما سمعوا بما حصل ،و بعدما وجدتني في ورطة مع مجلسهم كونه
كان مجبرا على التدخل وفقا للنظم التي تسير مجتمعهم الصغير ،للتوسط و وضع حل للورطة التي تسببتُ فيها
لنفسي ،و حد علمي أنهم كرهوا وقوع مشكلة بيني و بين أغاكال أكثر من كرههم لتلك المشكلة نفسها و السبب بدى
جليا لي ،و هو تلك الحساسية غير المعلنة الموجودة بينهم و بين صانع الفخار .تعابير وجه لمين كانت تنضح
بانزعاجه الشديد لوجوده في موقف يح ِّتّم عليه التكلم مع آغاكال '' الضحية '' و التعامل معه ،خاصة و أن األمر
يتعلق بمشكل بينه وبين غريب عن القرية.
رغم ذلك وجدتني في النهاية أطوف شوارع العاصمة عند مغيب الشمس و هي تتألأل باألنوار و تفيض
بالحركة و الضجيج ،و فوق كل ذلك تفاجأت بالمدينة و هي تزدان باألعالم الوطنية في كل شارع و زاوية ،عمارة
و محل ،مع الكثير من السيارات التي كانت تشكل طوابير طويلة تجوب الشوارع الرئيسية مطلقة العنان لألبواق و
األغاني الصاخبة التي تتغنى بالمنتخب الوطني كرة القدم.....آه أجل ! ،نسيت ذلك تماما ،فبعيدا عن عالم تيميزر
الصامت و البسيط و الغارق في الرتابة و الحياة الريفية البسيطة ،كان عالم العاصمة يهتز مهتاجا على وقع
صرعة الساحرة المستديرة ،و منتخب البلد يستعد بعد أيام قليلة لدخول منافسات كأس العالم في البرازيل .لوهلة،
بدى إيقاع العالم الذي أعرفه سريعا كالعادة.
224
كنتُ أقود سيارتي إلى باب الوادي و أنا أراقب األجواء االحتفالية في الشوارع ،األغاني الكروية و األهازيج
الرياضية و صور نجوم المنتخب .ذلك بعث في نفسي إحساسا جميال رغم علمي أن األمر ال يعدو سوى موجة
أخرى من تخدير الذات و الوعي الذي يدمنه هذا المجتمع من أجل الهروب من قساوة و مرارة خيبته الوجودية
التي لم يجد لها حال بعد .و بالتفكير في ذلك ،شعرتُ به و قد عاد ليتربص بي من بعيد وسط ظالل الزقاق المعتمة
التي لم يكن يصلها القدر الكافي من تلك األنوار و األهازيج ،لكنه و بشكل غريب كان يحاول ترك مسافة أمان
يجس النبض عن بعد
ُّ بيني و بينه هذه المرة ،كون روائح تيميزر كانت ال تزال تفوح من كلب الزريبة ربما .كان
فقط.
الكلب الجزائري الشرير القذر كان قد عاد ،لكنه لم يكن مستعدا للدخول في عراك جديد معي ،على األقل
مؤقتا .أما أنا فلم آبه به كثيرا ،فقد كنتُ أبذر بذور األسئلة التي أخذتني إلى أغاكال و التي كان يجب أن أحصد
أجوبتها رغم ذلك اإلحساس الغامر بالفشل بعد الذي حصل في نهاية مهمتي في تيميزر .كنت فقط أبذر أسئلتي
رغم كل شيء ،آمال في أن يحدث شيء ما فيما يلي من أيام ،كدعوة غامضة على الفيسبوك تدعو إلحياء ذكرى
الربيع البربري األ سود ،قد تبدأ في أخذ منحنيات أخرى ،تجعلني أتحرك بسرعة البرق ألكشف ما أستطيع كشفه،
و لو من دون وثائق أو أدلة دامغة.
لم أحصل على الحقيقة رغم ذهابي إلى حيث ال يبحث عنها أحد ،لكن ذلك الحدس الصحفي العميق.........؟.
225
-12-
زادت حرارة األيام و لم يكن يسعني إال االستظالل من فضولي المهني الحارق و المرهق بالحدث العالمي
الذي كان الجزائريون ينتظرونه بفارغ الصبر .مونديال البرازيل كان قد حل علينا بالكثير من األلوان و البهجة و
اإلثارة الكروية ،و أعترف أني أحببتُ أن يأتي ،عله يرفّه عني قليال و يخ ِّّفف عني ثقل الضغط الذي كنت أعيشه
مترقبا الحراك اللعين المتربص بنا دون دليل قاطع عن وجوده.
في تلك األيام الصيفية التي كانت تالمس الذكرى الثالثة عشرة للربيع البربري األسود بحذر صامت ،و حين
كان العالم ،و معه الجزائر ،مشدودا نحو بالد السامبا التي تزينت بأعالم و أحالم أمم مختلفة حطت رحالها
للتعريف بنفسها رياضيا و صنع الفرحة و الفرجة ،بعيدا عن المآسي التي اثقلت عالمنا و منطقتنا العربية
خصوصا ،كنتُ أحاول االستنجاد بأي إشارة ممكنة ِّ ّ
تبرر هوسي بموضوع الربيع البربري الجديد ،ألشعر أني
لست بصدد تضييع وقتي على األقل .فبعد نشر روبورتاجي عن وزيعة تيميزر الكبرى ،حاولتُ عبثا إقناع السي
رزاق بما علمتُ من مصدري بعدما أفصحت له عن كل شيء ،لكنه قابلني و هو يتنهد مطلقا نحنحته تلك في نهاية
جدالنا يخبرني بأنه ربما آن األوان آلخذ عطلة.
_ '' اسمعني جيدا يا ولد ،افتراضاتك خطيرة ،صحيح أن راهن البلد حاليا ال يبعث بتاتا على الطمأنينة منذ
الرئاسيات األخيرة ،فأنا لستُ غبيا ألصدق أن األمور على ما يرام ! ،لكنك تبالغ حاليا في توقعاتك .أجل ،انظر
ق بأي شيء مادي يدعم ما تقول على هذا المكتب ! .خذ عطلتك السنوية .افعل شيئا ما،
إلى نفسك يا فتى ،أنتَ لم تل ِّ
خذ قسطا من الراحة ،اذهب إلى البحر ،زر العائلة ،استرخي ...أو اذهب إلى البرازيل لتشجيع فتيان هاليلوزيتش،
أخرج نفسك من هذا البلد و هذا
اصرخ ،ارقص ،تجول ،عش مغامرات مجنونة مع حسناوات البرازيل ...فقطِّ ...
الروتين القاتل لبعض الوقت يا رجل !! ''.
هه ،أفترض أن ظنه قد خاب بعض الشيء إذ كان ينتظر مني أن أج ِّدّد أنفاسي و أصفي ذهني برحلتي إلى
تيزي وزو ،لكني بدال من ذلك ،عدتُ إليه مقتنعا كالمهوس بأن هنالك مؤامرة فعلية تحاك إلدخال البالد في فوضى
اجتماعية تكون سابقة لفوضى سياسية ،تنحدر حتما إلى فوضى أمنية جديدة !! .من كان ليصدق ؟.
هكذا وجدت نفسي في شقتي أتجول سابحا عبر صفحات الفيسبوك و حسابات اليوتيوب المهتمة بما يسمى
القضية البربرية ،و أنا أتابع في نفس الوقت حفل افتتاح المونديال البرازيلي الذي كان يبث مباشرة على الهواء
عبر عشرات المحطات العالمية.
226
ما من شيء كان يؤكد لي على عودتي إلى روتيني بعد رحلتي إلى بالد القبايل أكثر من النسيم البحري،
أصوات صبية الحي الذي يلعبون الكرة على قارعة الطريق ،و أشعة شمس المساء العاصمية التي كانت تدخل من
نافذة شرفتي إلى غرفة االستقبال ،مجاورة لصوت أمي عبر الهاتف و هي تحثني على تخصيص بعض من أيام
شهر رمضان الذي كان على األبواب لإلفطار رفقة ال عائلة في بيتنا بالبليدة ،كونه قد يكون األخير لشقيقتي عيشة
تحت سقف أبيها قبل أن تتزوج.
لم أجد بما أرد .كنتُ على يقين بأن األمر بالنسبة ألمي يتخطى مجرد ذلك ،كونها كانت تنتظر الفرصة
المواتية لتختلي بي و لو قليال و تحدثني عن هذه العروس التي اختارتها لي ،و قد كان األمر يتخطى ذلك بالنسبة
لي كذلك ،كوني كلما وضعت قدمي فوق أرصفة البليدة إال و تحولتُ إلى المراهق صاحب الثالثة عشرة أو الرابعة
عشرة ،الواقع في حب زميلته في الصف ،الفتاة المشاكسة التي تهوى مشاجرة الفتيان .الفتاة العجيبة .الفتاة التي ال
أحبُّ عادة أن أذكر نفسي باسمها رغم أني دأبت على ذكره في أعماقي و لو مرة في اليوم لسنوات طويلة.
اسمها .....وجعها '' ...هي ''.
لم أعط أمي جوابا واضحا .مجرد رد مبهم ،كالعادة ،و أنا أتحجج بعملي الذي كاد يوصلني إلى هاوية انهيار
عصبي قبل مدة قصيرة و قد عاد ليستعد لجولة أخرى ،بعد ظهور الكلب الجزائري الشرير القذر الذي كان في تلك
األثناء يتربص بي عند أول منعطف خارج العمارة ! .فقط ،أقفلتُ الخط مودعا أمي .غصتُ قليال مع أفكاري ،قبل
أن أعود و أرفع مستوى صوت التلفاز قليال على ألحان و كلمات أغنية '' ، '' We are oneأغنية مونديال
البرازيل الرسمية.
ربما هي خاصية الجيل الذي أنتمي إليه ؟ .معظم مآالته إنما هي مجرد نتائج لهروب حتمي يائس من ضغوط
أو آالم نهايات أخرى قد سبقتها من قبل ؟ .أوليس إخفاقي في الحب هو من أخرجني من البليدة بحجة رغبتي في
االستقالل بحياتي ؟ .أوليس إخفاقي في الوصول إلى سبقي النهائي هو من أخرجني من العاصمة إلى جبال القبايل
بحجة بحثي عن سبق صحفي يبدو أنه مجرد إشاعة مغرضة ؟ .كنتُ أف ِّ ّكر.
لكن و بعد انتظار و ترقب استمر طيلة األيام األولى المتزامنة مع المونديال و الذكري 02للربيع األسود ،لم
يحدث أي شيء .ال مسيرات .ال احتجاجات .ال دعوات إلسقاط النظام .ال شيء !! ..خاب ظني كوني أدركتُ أني
ربما قد أضللتُ نفسي كثيرا و أدمنتُ الشك و الريبة و إن كان وجعي لهذا البلد هو الذي جعلني كذلك ،لكني
أحسستُ بالراحة في نفس الوقت ،كون أمر '' ربيع جزائري '' في عهد الثورات العربية المخضبة بالدم و العالقة
وسط الركام بدى شيئا بعيد الحدوث ،أو صعب الحدوث على األقل .ال أحد يود أن نقفز من السيء إلى األسوأ مرة
أخرى .ال أحد سيقبل بأن نعاود تحطيم ذاك النزر القليل الذي شيدناه بأيدينا و نعود إلى نقطة البداية من جديد !.
لو كان الثعبان األشقر عياش أمامي لخنقته ،كونه كان غير دقيق أو ربما رفض إعطائي تاريخا دقيقا عن
الحراك المزعوم أو أسماء أعضاء منظمة تي تي أس المفترضة ،لكنه ربما كان محقا في شيء واحد فقط ،و هو
227
أني رحتُ آخذ العالم على محمل الجد فوق اللزوم .ربما كان األوان قد حان لشيء من الترفيه ،فقد جاءت الفرصة
لذلك على األقل.
وجدتُ نفسي تبعا لذلك أصرخ و أصيح بأعلى صوتي في ساحة الرميلة ،التي أقيمت فيها شاشة عرض
ضخمة تبث من خاللها مباريات المونديال ،في تلك األمسية الصيفية الرائعة التي ال يمكن نسيانها ،حين أدى
األفناك مباراة ال تنسى ضد منتخب كوريا الجنوبية.
تشجيعنا الجماعي للمنتخب الوطن ي جعل باب الوادي تهتز و تترنح كأنها مدينة ورقية معلقة في السحب فوق
أوتارنا الصوتية و رجفات قلوبنا .صحنا .هتفنا .ترقبنا .تفاعلنا و تمايلنا مع تعليق نجم الصحافة الرياضية في
العالم العربي حفيظ دراجي .كنا نشعر بأن المنتخب مختلف عن مباراته األولى ضد البلجيكيين بالرغم من مسحة
ْ
عبرت عنها أحاديث بعض الشباب من حولي ،لكن و في الشك و عدم اليقين الخفيفة التي انتابتنا في بداية المقابلة و
ظرف دقيقتين سيطر علينا الجنون و الهستيريا الكاملة بعد رأسية رفيق حليش المزلزلة في شباك الكوريين و التي
جاءت بالهدف الثاني ،بعد هدف القناص إسالم سليماني الذي سبقها بلحظات فقط ،حين كان حفيظ يصرخ.... '' :
تعرفون و تُحسنون لعب الكرة ،لماذا ال تلعبونها ؟ ...تعرفون و تُحسنون لعب الكرة ،لماذا ال تلعبونها ؟.'' ...
مع الهدف الثالث للمقاتل عبد المؤمن جابو و اهتزاز العاصمة للمرة الثالثة وجدت ُني أقفز من كرسيي البالستيكي
األبيض دون أن أشعر و دون أن أصرخ .ابتسمت فقط فاتحا فمي غير مصدق و أنا أرفع نظارتي فوق أرنبة أنفي.
كنتُ مندهشا مما كان يحدث لنا تلك األثناء و أنا ألتفتُ خلفي أراقب ذلك الجنون ال ُمباح و تلك الفوضى الجميلة
التي كانت تتفاعل و تغلي عبر كامل الساحة .الشباب يهتفون بأعلى أصواتهم ملوحين باألعالم الوطنية .بعضهم
يعانق رفاقه أو يقفز فوق ظهورهم تماما كما كان يفعل العبونا على أرضية الملعب .األطفال الصغار يقفزون و قد
تعالت قهقهتهم مع بعض نظرات الدهشة من سلوك الكبار الذين تحولوا إلى صبيان هم أيضا .زغاريد النساء وسط
العوائل الحاضرة أو تلك التي كانت تنطلق عبر نوافذ عمارات الواجهة البحرية للحي.
وقع نظري على منصور ،ابن الجارة خالتي ميمونة .كان يقف من مكانه وسط باقي أترابه من أبناء الحي،
يصرخ بكل ما أوتي من روح على هدف جابو ،ملوحا بعكازه في السماء على صرخات حفيظ دراجي الذي كان
يصيح بدوره '' :ما هذا العجب ؟ ! ...ما هذا العجب ؟ ! ..الجماهير الجزائرية سيصيبها الجنون من هذا الذي
تشاهدون في هذه المباراة .'' ...كنتُ أراقب منصور و أنا أرى بوضوح أوردته الدموية التي برزت من عنقه
كالحبال المشدودة حين كان يرفع رأسه نحو السماء و هو يصيح .ابتسمت ثم جلستُ في مكاني .حملتُ هاتفي
الخلوي مرة أخرى .بحثتُ عن رقم شقيقي بشير الذي حاولت عبثا االتصال به مذ بداية المباراة ،كوني أعلم مدى
عشقه للمنتخب الوطني لكرة القدم .حاولتُ االتصال به للمرة السابعة ،لكن بال فائدة .أعدتُ الهاتف إلى جيبي
متنهدا و أنا أتمنى أن ال يكون في تلك األثناء مغروسا في خندق ترابي أو حجري ،يراقب الكثبان أو نجوم السماء
األولى .كم تمنيتُ لو كان تلك اللحظات بجانبي أو في غرفته القديمة وسط بيتنا البليدي يصرخ كالمجنون حتى
يُسمع صراخه في أرجاء الحي !.
228
نفض ال ّ
شِّهاب األسمر ياسين براهيمي األرض من تحت أقدامنا مرة أخرى بهدفه الرابع ،الذي حاكه بلعبة
فنية رائعة رفقة زميله سفيان فيغولي كما لو كانا ريشتي رسام ماهر كان يخط طريق لوحته بكلتي يديه بكل تناغم
و انسجام .كانت هجمة معاكسة متقنة و دقيقة ،كأنها من مباراة افتراضية من سلسلة ألعاب FIFAااللكترونية
الشهيرة .لم أستطع سماع ما كان حفيظ دراجي يقول بعدما اكتسح ساحة الرميلة صراخ الجميع الممزوج باهتزاز
الكراسي و الطاوالت و زغاريد النساء و هتاف الصبية و الصبيات .كان هدفا أعاد إلينا الثقة بعدما تحرك
الكوريون و سجلوا هدفهم األول قبله بوقت قصير.
كنتُ سعيدا جدا .ربما كوني ابن الجيل الذي تسنى له أخيرا أن يعتز بفوز جميل و مقنع لمنتخب بالده الوطني
في أهم منافسة رياضية عالمية .كنتُ فقط أقول في نفسي أن الصحف و القنوات البرازيلية و العالمية ستكتب و
ستتحدث عن منتخب عائد من بعيد إلى واجهة عرس المونديال ،من بلد اسمه '' الجزائر '' ،بما أن الغالبية الساحقة
من الشعوب البعيدة عنا جغرافيا و ثقافيا ال تعرف عنا شيئا ،أما تلك التي تعرفنا فهي تعرفنا بأربع كما يُقال :الثورة
الجزائرية .النفط .الغاز و اإلرهاب.
'' هنيئا لمنتخبنا الوطني لكرة القدم هذا النصر الجميل ،لكن أتمنى فقط أن ال يحاول المتملقون التقليديون عندنا
من دجالي السياسة الشعبوية ربط الرباعية المسجلة ضد الكوريين بعالمة إلهية أخرى ،تحاول إخبارنا أن السماء
تبارك العهدة الرابعة !! ''.
تلك كانت خاطرة ساخرة صغيرة تركتها على صفحة موسطاشيات نهاية تلك السهرة الرائعة مرفقا إياها
بصورة للعلم الوطني .كانت األجواء في الخارج غير طبيعية مع أبواق السيارات و األعالم و األهازيج .لم تكد
العاصمة تنام تلك الليلة .الجميع كان يهتف بحياة الجزائر .قطعا كانت تلك جرعة زائدة عن المعتاد من مخدر الكرة
لتسكين آالم خيباتنا الوطنية ،التي ال تزال تتسلسل أمام ضمائرنا المثخنة بالفشل و محاوالت نهوضنا اليائسة منذ
حرب االستقالل.
رن هاتفي المحمول .هرعتُ إليه ظانا أنه البشير و قد أصيب بنوبة جنون مؤقتة بسبب ما فعله الخضر
بالكوريين ،لكن المتصل كان صوفيا .كانت تتحدث بصعوبة وسط ما يشبه الحفلة الصاخبة التي تعالت منها
األغاني الرياضية...
ت ؟.
_ يا مهبولة ،أنا ال أسمعك جيدا !! ...ارفعي صوتك !..أين أن ِّ
_ هل رأيت هدف براهيمي ؟ ...هل رأيت هدف سليماني ؟ ...واااااو ......هل شاهدت كيف صدَّ رايس تلك
َي ماذا عنك ....!!..أين أنت ؟.
القذفة الصاروخية لحظات فقط قبل أن نسحقهم بالرابع ؟،ه ْ
_ في السيارة رفقة أشقائي نجوب العاصمة في كورتيج سيارات طويل .الكل خرج لالحتفال ،األجواء رائعة
حقا ،أال تخرج لالحتفال ؟.
_ لقد دخلتُ لتوي إلى البيت و ال رغبة لي الخروج مجددا .لكن أال تعتقدين أنكم تبالغون قليال في هذا ؟.
_ طبعا نبالغ أيها األحمق ! ،قد ال يتكرر هذا الشعور الرائع إال بعد مرور ثالثين سنة أخرى !! ..المهم،
اتصلتُ بك ألعلمك أن الجماعة في فريق العمل اتفقوا على أن نجتمع في مقر الجريدة الخميس المقبل لنشاهد
مباراتنا ضد روسيا .هل ستأتي ؟.
**********
اجتمع الزمالء و الرفاق في صالة التحرير لمشاهدة المباراة الفاصلة التي تح ِّدّد الصاعد إلى الدر الثاني من
المجموعة .ال أدري ما كان علي أن أتفقد في المدينة ،النسائم األولى لشهر رمضان المقدس ،أم صرعة المونديال
التي كانت تعبث برؤوسنا ،و هوسنا بفكرة تواجد منتخب البلد رفقة الكبار العالميين في الدور التالي ؟ .البعض في
الصالة كانو يتحدثون عن الحر المرتقب في شهر الصيام ،و البعض اآلخر يتحدثون في أمور شتى تخص المهنة
أو الحياة اليومية البعيدة عن الصحافة و مشاكلها.
ْ
انطلقت المباراة ضد الروس حين راح الجميع يطالبون صوفيا بأن تلزم مكانها و هي تركض أمام التلفاز
ملوحة بالراية الوطنية التي أحضرتها معها من البيت ،و كأنها طفلة صغيرة تتع َّمد خلق جو من التشويش و
االرتباك ،في حين أنها كانت تفعل ذلك فقط إلزعاج بعض الزمالء الذين نعرف عنهم سرعة استثارتهم و غضبهم.
جلست الفتاة بالقرب مني و هي تومئ برأسها نحو سي رزاق الجالس بجانب بعض أعضاء مجلس اإلدارة ،و
فهمت فورا أنها تود لفت نظري إلى جثته الضخمة و وزنه الزائد كالعادة .لطمتها على رأسها أخبرها بأن تهدأ و
تشاهد المباراة حين اهتز هاتفي الخلوي في جيبي بعد مرور نحو أربع دقائق من صافرة البداية .اعتقدتُ أنه أخي
البشير ،لكني قطبت حاجبي مستغربا .لقد كان مولود ،مؤذن قرية تيميزر ،الذي نسيت تماما أنني تركتُ له رقمي
و أنا أغادر القرية قبل أيام.
230
نهضت منسحبا من الصالة تاركا الكل على أعصابهم إلى درجة أنه ال أحد الحظ وقوفي و خروجي...
_ بخير ...بخير ،آسف على هذه المكالمة في هذا الوقت ،أر ِّ ّجح أنك منشغل بالمباراة..
_ بال ،القرية خاوية على عروشها يا آڨما ،الكل في منازلهم يتابعون المباراة....
صمت الشاب قليال و كأنه يبحث عن الكلمات قبل أن ينطلق بصوت و نبرته القبايلية التي امتزجت بشيء من
الحرج الذي كان واضحا فيها...
_ ماس أمين ،قبل قليل كنتُ رفقة الدا عبد السالم ،و قد كلفني بأن أنقل إليك عبارات التقدير ،كونك قمتَ
بتسوية وضعك تجاه المشكلة الصغيرة التي حدثت بينك و بين المدعو آفاو ذاك اليوم .لقد دفعتَ ما عليك وفق ما تم
االتفاق عليه و من دون تأخير .ثاجماعت تقدر لك هذا و تشكرك على التزامك...
َي ال بأس .ال شيء يدعو لكل هذا .أنا من اقترف الخطأ في حق الرجل .أنا من ذهب إليه على قدميه.
_ه ْ
_ يحصل أن يكون كدرا جدا في مثل هذا الشهر ،كونه الشهر الذي فقد فيه ابنه البكر .لكنه عادة ما يميل إلى
الهدوء شيئا فشيئا بعد ذلك.
ُ
تحدث إلى السكان اآلخرين. _ هكذا إذن ! .ربما لم أختر اليوم المناسب للحديث معه كما
ّ
التفت على يميني حين سمعتُ جلبة من دون صراخ أو هتافات قادمة من فاجأني األمر .أغاكال كان أبا !.
قاعة التحرير ،فأدركتُ أن الروس قد فاجأونا بهدف مبكر ،ليعيدني صوت مولود المرتبك عبر الهاتف إلى
المكالمة الغامضة...
_ هنالك مشكل صغير قد وقع ....في الحقيقة ال أعلم أهو صغير أو كبير بالنسبة لك ،لنقل أنه شيء شكل
بعض الحرج لثاجماعت...
_ ال ال ،اطمئن ،ليس األمر بجلل ،و حق ربي ،لكنه غريب و غير معتاد بالنسبة لنا و إن كنا معتادين على
الخرجات الغريبة آلفاو ذاك منذ سنوات .كنا سنشعر بحرج أقل لو تعلق األمر بمشكلة بينه و بين قروي من عندنا،
لكن المشكلة قد وقعت بينه و بين رجل غريب عنا ،كان يفترض أن يُعامل كالضيف....
231
_ ما األمر يا رجل ؟ ،تكلم !!.
_ .....في الحقيقة ....الرجل قد تنازل عن اتفاق التسوية األول بينكما ...و اقترح طريقة أخرى لحل المشكلة.
ذهبت من الكلمات فجأة .رحتُ أحلل كالم الرجل الذي بدى غير معقول ،لكنه فسر لي حالة الحرج التي كان
يعيشها و هو يحدثني عن ذاك المجنون آغاكال..
_ حسن يا ماس مولود ،ال بأس ،ما الذي يقترحه هذا الشخص كبديل ؟.
_ في الحقيقة ...سيبدو لك هذا أكثر غرابة حتى ،فقد أخذ منا عهدا على أن ال نخبرك حتى تأتي إلينا ،رغم أن
تاجماعت نهروه و دخلوا معه في مالسنات طويلة بسبب هذا الهراء .لمين أخبره بعد االتفاق مع الجميع على أنك
لست مجبرا على الموافقة أو القدوم ،و خيَّ ره بين أخذ المبلغ المالي الذي أرسلته إليه أو تتم إعادته إليك بإرساله إلى
حسابك البريدي الجاري ،لذلك فالقرار لك في النهاية ،و طبعا ال داعي لتعطيني ردك اآلن .فقط فكر مع نفسك .إن
أردت تركت األمر على ما هو عليه ،و إن أردت تأتي إلى القرية لسماع ما سيقوله لك هذا الرجل ،و طبعا ،في
كلتي الحالتين ،تسترد مالك غير منقوص .آه شيء أخير ماس أمين....
_ إن قررت المجيء لقبول اقتراحه ،فاعلم أن بقاءك في القرية قد يطول لبعض الوقت .آسف ال أستطيع
إخبارك بالمزيد كوني ملتزم بالعهد الذي ألزمنا بقطعه معه .فكر مع نفسك و اعلم أنك لست ملزما بمجاراة جنون
هذا الرجل .اعف نفسك منه يا ماس أمين .حسن ،أتركك اآلن في رعاية هللا .السالم عليكم.
أقفل الشاب الخط على عجل و وقفت لدقيقة أو دقيقتين و أن أعيد ترتيب كل ما قاله في رأسي غير مصدق أن
آغاكال الغامض و المنعزل يود رؤية شخص غريب ليعيد اقتراح طريقة ما يعوضه من خاللها على خسارته
لتحفه تلك...
قلتُ متهكما و أنا أعود إلى صالة التحرير أراقب تلك الوجوه المكفهرة و تلك األنظار المسلوبة بأضواء
الشاشة التي غلب عليها اللون المتوهج تحت األضواء الكاشفة ألرضية ملعب Da Baixadaالخضراء ،مع
بعض الهمسات و التنهدات التي كان بعض الزمالء يتشاركون قلقهم بها .أخذتُ مكاني بالقرب من صوفيا التي
كانت قد التزمت الصمت أخيرا و هي تأكل أظافر يدها كأنها مجرد شخصية كرتوينة نكدة.
232
تنهدت ،ثم التزمت الصمت .أفكاري كانت تتأرجح بين أجواء المباراة الصعبة و بين ما يخبئه لي الفخارجي
الغامض الفظ .ما الذي جعله يغير رأيه يا ترى ؟ .ما االقتراح الجديد الذي ارتطم برأسه الصلب ؟ .ما الذي يريده
مني ؟ .ثم كيف لرجل يشتهر بتوحده و انعزاله الشديد حتى مع أبناء قريته ،أن يرغب في الحديث إلى صحفي
غريب و متطفل ؟ ! .لماذا أجبر الجماعة على أال يخبروني بما يدور في رأسه و يصر على أن أسمعه منه
شخصيا ؟ ،أال يبدو ذلك مؤشرا واضحا على رغبة ما في التواصل معي أو االحتكاك بي ؟.
في تلك الدقائق الطوال التي كان فيها العبونا يتخبطون تحت عجالت الوقت الذي كان يمر فوق أذهانهم
بسرعة ،و يتالطمون مصطدمين بعناد الروس و صالبتهم التي يشتهرون بها ،لم يكن هنالك سوى احتمالين فقط
كانا يتصارعان داخل رأسي :إما أن الرجل ليس بذلك التوحد الذي تم تصويره لي من طرف من تحدثوا معي عنه،
و بالتالي قد يكون رجال عاديا و إن كان يحب في العادة االختالء بنفسه فقط ،كغالبية الحرفيين الذين يلبسون ثوب
الفن .و إما أنه فعال يبحث عني لغاية أخرى غير تلك التي أعلنها أمام قومه.
بصراحة ،كنتُ أود أن أعثر لنفسي على كل المبررات المنطقية التي تعزز رغبتي في التصديق بأن
عميروش آفاو ليس في النهاية إال قرويا عاديا ،و إن كان غريب الطباع قياسا إلى مجتمعه المحلي ،و أنه ال يوجد
أي دليل قطعي على '' مؤامرة '' يحوكها الرجل رفقة منظمة سرية أو تيار ايديولوجي أو حركة ثورية تعمل في
الظل تحت اسم مختصر في حروف '' تي تي أس '' ....كنتُ ألكون آخر شخص يرغب رجل كهذا في االحتكاك به
أو التواصل معه مرة أخرى ،خاصة بعدما سوى مشكلته معه !.
استمر األمر على حاله بين شوطي المباراة .أفكار مشتتة بين إثارة المقابلة الفاصلة و بين البحث عن المنطق
الذاتي .جنوني الصحفي كان يرغب في إقناعي أن هنالك أمرا ما يدور في رأس الحرفي و أن أمر القصة الصحفية
التي حاولتُ الظفر بسبقها في أعالي تيزي وزو ال يزال قائما و محتمال ،لكن ذاك الجنون كان مجرد جنون !،
إثارة طفولية كان يجب لجمها بصرامة ،مادامت األدلة المادية الدامغة غير موجودة .ال شيء في األجواء .حتى
ذكرى الربيع البربري األسود مرت فاترة ،بل حتى ذكرى اغتيال معتوب الوناس كانت هي األخرى قد مرت قبل
يوم فقط ،زاحفة بصمت ابتلعته ضجة مشاركة البلد في المونديال.
لم أتحرك من مكاني على عكس معظم الزمالء الذين تفرقوا عبر صالة التحرير و هم يصفقون و يهتفون في
محاولة الحفاظ على جو التفاؤل و المتعة الرياضية البحتة في أقصى األحوال ،في حين فضل البعض اآلخر
الخروج لتدخين سيجارة ،على غرار سي رزاق ،حارس البوابة ،الذي أغلق باب مكتبه على نفسه و هو يتحدث
عبر هاتفه الخلوي آخذا جرعته المنتظمة من النيكوتين .كان يدور حول المكتب و هو يتحدث و يحك جبينه أو ذقنه
أو أنفه بسبابته.
_ '' ال أعتقد أني سأعود إلى تلك القرية المعلقة وسط الفراغ ! .فليذهب أغاكال هذا إلى الجحيم ! .لن يكون
هنالك أي ربيع ،ال عربي و ال بربري .كلب الزريبة لن يعود إلى تيميزر تلك ! ''.
_ مينو...
233
ّ
التفت إليها فإذا بها تشير برأسها إلى مكتب السي رزاق... جاءني صوت صوفيا على يميني.
التفت إليه فإذا به خلف الفاصل الزجاجي الذي يؤطر مكتبه ،يستدعيني بإشارات يده و هو ال يزال يتحدث
عبر الهاتف .دخلتُ إليه تاركا الجميع خلفي مسلوبي العقول و األفئدة حين أقفل الخط و هو يشير إلي بأن أغلق
باب المكتب الخشبي.
_ اجلس يا وشكاي...
قالها و هو يقابلني بظهره يفكر مع نفسه حاكا ذقنه .صوته كان هادئا بعض الشيء .لم أفهم عليه لكني أخذتُ
مكاني على األريكة الجلدية و أنا أراقب وقفته الطويلة تلك...
_ سي رزاق ؟ !.
ظل صامتا لمزيد من الوقت و هو يفكر ،قبل أن يلتفت إلي و هو يتنهد متنحنحا كأنه موقوف مصفّد بين التردد
و عدم اليقين...
_ أصارحك أن من بين أغلى أحالمي كرجل إعالم كان و ال يزال لقاء بعض عمالقة الصحافة و الميديا في
العالم لمجالستهم و تبادل األفكار معهم .مصافحة يد رجل إعالم متنور و موضوعي و ملتزم بقناعاته و مبادئه مثل
أمير طاهري مثال ،و التحادث معه حول كبرى المسائل التي عايشها في شبابه إبان الحرب الباردة و حرب
الخليج ،سيكون شيئا أعتبره إنجازا شخصيا لي .هه يؤسفني أن أزمة التسعينات سلبتنا إعالميا كالطاهر جاعوت !.
قالها متنهدا و هو يرمي بنظرة خاطفة خلفه إلى صورة الطاهر المبتسم بشاربيه البارزين و نظارته الغليظة و
هو يراقبنا بصمت من داخل إطار صورته الخشبي األسود...
_ أجل ،صافحتُ العمالق حسنين هيكل ذات يوم حين كنتُ صحفيا شابا .تبادلتُ معه بعض أطراف الحديث
رفقة جماعة من اإلعالميين في القاهرة .كان ذلك رائعا.
رميتُ إليه بنظرة ال تزال حائرة ،فتنحنح مرة أخرى و كأنه يعود إلى صلب الموضوع الحاضر...
_ كان لي واحد قبل أيام قليلة فقط ،حيث كنتُ أتطلع إلى إنجاز صحفي نوعي ،لكن حاليا ....ال أعلم.
_ إياك أن تتخلى عن طموحاتك المهنية بهذه السهولة يا فتى ،حتى و إن لم يؤمن بها رئيس تحريرك !.
234
سار إلى أريكته و صب عليها كل ثقل جسده البدين ،ثم راح يترنح بها يمينا و شماال و هو ينظر إلي مستمرا
في التأمل...
_ كنتُ أتحدث إلى صديق قديم لتوي ،و من جنون الصدف أنه أخبرني بقصة غريبة .يُشاع في المكان الذي
يشتغل به أن أجهزة األمن في حالة استنفار قصوى هذه األيام ،لكن استنفارها هذا ال يكاد يُالحظ بتاتا.
_ و بعد ....؟.
سألته بصوت مترقب بعدما تلقفت مضمون ما كان يود الوصول إليه ،فنظر إلي قبل أن يشيح ببصره نحو
النافذة متنهدا...
_ قال أنهم يتوقعون حدوث ما وصفه بـ ''..............اضطرابات اجتماعية ُمدبَّر لها '' !.
_ عجبا سي رزاق ! .أتعتقد أنه وصل إلى ما وصلتُ إليه قبل نحو شهر ؟ .كنتَ محقا ذاك اليوم حين أخبرتني
أنه يلزمنا دالئل دامغة حول هذا الحراك حتى نستطيع كشفه.
_ يا فتى '' ،حين تعجز عن تتبع مصدر صوت الحقيقة وسط ضوضاء الشك و تختلط عليك األمور ،أغمض
عينيك و حاول على األقل التقاط صداه الخافت بين الجدران لتحدد وجهته أوال '' .جملة أذكرها مع نفسي كلما
وقعت في معضلة مهنية مشابهة لهذه.
رفعتُ حاجبي ملقيا إليه بنظرة متغابية فرفع رأسه مستمرا في التهكم...
_ يا اله ! .أنت لم تقرأ مقال زميلك زيغومي اليوم ،أو مررتَ عليه دون أن تلحظ شيئا ؟!!.
راح يقلب بين األوراق الكثيرة المبعثرة فوق مكتبه ،إلى أن وجد العدد األخير لذاك اليوم من النبأ اليومي
فرمى به إلي...
كان مقاال خبريا صغيرا نسبيا ،احتل الجانب السفلي األيسر للصفحة الثالثة لعدد ذاك الخميس .زميلنا قاسم
زيغومي صحفي متفان و كاتب افتتاحيات في العادة .عشر سنوات من الخدمة في الميدان جعلته ضليعا في الكثير
من األمور و الخبايا كونه شكل شبكة هائلة من المصادر الموثوقة التي تفيده بالكثير مما يجري في الحياة السياسية
235
للبلد .لكني في كل األحوال كنتُ قد هزمته في تلك النقرة ،كوني توصلتُ إلى معلومة هذا الربيع أو الحراك
المفترض ،حين كان يفترض به أن يكون هو من يقتنص هذه القصة بحكم عمله في قسم األخبار.
_ '' بعدما شهدت تغييرات هيكلية عميقة شهر سبتمبر الماضي :بوتفليقة ينزع صفة الضبطية القضائية عن
المخابرات ''.
_ هه يبدو أن الصراع ال يزال مشتعال بين الرئاسة و المخابرات ،لكن ما عالقة األمر بقصتي ؟!.
وقَّع رئيس الجمهورية على جملة من المراسيم الرئاسية ،التي نُشرت في الجريدة
الرسمية في عددها 24الصادر بتاريخ 04جوان الجاري ،و التي جاء من ضمنها
المرسوم الرئاسي رقم 123-14الذي يتضمن إنشاء مصلحة التحقيق القضائي لمديرية
األمن الداخلي التابعة لمديرية االستعالم و األمن ( ،) DRSحيث تقرر إعادة النظر في
أولويات القضايا محل البحث و التحقيق و التدخل من طرف هذا الجهاز النظامي الهام،
إذ تم حصرها بموجب المرسوم المذكور أعاله في مجاالت :الوقاية من التدخل األجنبي
( محاربة التجسس ) .الوقاية من اإلرهاب و األعمال التي تمس بأمن الدولة .الوقاية من
األنشطة التخريبية ضد مؤسسات الدولة .محاربة المنظمات التي تهدد األمن الوطني و
محاربة الجرائم االلكترونية.
تجدر اإلشارة إلى أن المادة 04من قانون اإلجراءات الجزائية – التي صادق عليها
البرلمان سابقا – كانت تمنح ضباط الشرطة القضائية التابعين للمخابرات ،كغيرهم من
ضباط الشرطة القضائية لألجهزة األمنية األخرى ،صالحيات واسعة في البحث و
التحري في كل أصناف الجريمة المحددة في القانون الجزائي ( بما فيها الجريمة
االقتصادية ) و مالحقة و تقديم مرتكبيها إلى العدالة ،إال أنه و بعد المصادقة على
المرسوم األخير لن يتمكن '' دي أر أس '' من متابعة ملفات الفساد المالي و االقتصادي
الكبرى التي كانت محل تحقيقه سابقا ،كملفات سوناطراك و الطريق السيار شرق –
غرب .إذ يرى بعض المهتمين بالشأن الداخلي أن هذا المرسوم جاء لتحييد المخابرات ''
نهائيا '' عن متابعة و التحقيق في قضايا فساد '' كبرى '' ،تكون قد أزعجت بعض
المتنفذين في السلطة .في حين يرى قطاع آخر من المتابعين أن المرسوم السالف الذكر
سيمنعها من استغالل صفة الضبطية القضائية كورقة ضغط سياسية و تصفية حسابات
و تجا وز للقانون من طرف بعض ضباطها ،و التي كثيرا ما أثارت ردود أفعال منتقدة
236
لتغول جهاز المخابرات و تحوله إلى دولة داخل الدولة نفسها.
ُّ
ق.ز
أكملتُ قراءة المقال ثم وجت مقلتاي تعودان تلقائيا لمراجعة ثالث جمل جاءت متجاورة في سياق الخبر:
الوقاية من التدخل األجنبي ،محاربة المنظمات التي تهدد األمن الوطني ،محاربة الجرائم االلكترونية ....أيعقل أن
يكون ذلك إشارة إلى أغاكال و أتباعه و مخططهم السري ؟ !! .زغتُ ببصري في الفراغ و أنا أسمع صوتا داخل
رأسي ينطق مستدركا '' ....أعتقد أني سأعود إلى تلك القرية المعلقة وسط الفراغ ! ''.
_ كان يجدر بي جعله مانشيت اليوم ،مع دفع زيغومي و بقية الفريق للتعمق و النبش أكثر في الموضوع !...
جاءني صوت سي رزاق في نبرة تخفي الحسرة و هو يمسح بكفه على صلعته العريضة كمن يريد مواساة
نفسه ،قبل أن يكمل مفترضا...
_ ....إن كان أمر هذا الربيع الجزائري حقيقيا فهذا يعني أنه أمامنا الكثير من العمل يا فتى.
_ سأعود إلى تيزي وزو في أقرب وقت .أعتقد أني تمكنت من اإلمساك برأس الخيط جيدا هذه المرة ،لكني
أحتاج المزيد من الوقت .ال أريد التسرع في إنجاز األمور.
_ أعطيك الوقت الذي تحتاجه ،لكنك فقط ملزم بإنجاز تحقيقك في كنف التكتم الشديد و السرية الكاملة ،كون
األمر بدأ ينتشر وسط بعض الصحف المنافسة .كن حذرا من أجهزة األمن أيضا.
نظر إلي ،ثم سألني بإماءة من وجهه بعدما راح صمتي يطول...
_ أقول في نفسي :مذا لو وصلتُ إلى هذا السبق الصحفي ؟ .مذا لو كشفنا خيوط هذا الحراك و تم وأده قبل أن
ينطلق ؟ ....أال يمكن لذلك أن يحمل نفعا كبيرا ألناس ال يستحقونه ؟ ،أو يضر آخرين ال يستحقون األذى ؟...
_ أنتَ اآلن لستَ صحفيا يا وشاكي .....أو لنقل صحفي غمس رأسه في مرحاض مسدود بالفضالت ! .إن فكرتَ
على هذا النحو فهذا يعني أنك ستجبر نفسك على تجرع الحد الزائد من الذاتية .هنا سيتحول كل ما تكتبه إلى مواد
ضارة بالضرورة.
_ رغم ذلك تجد حيرتي وسط هذه الدوامة .كيف يجب أن أقف ؟ ...أو أين يجب أن أكون ؟.
237
زاد انفعال سي رزاق ،لكنه سرعان ما سيطر عليه عبر تلك اللحظات التي رمقني فيها بصمت بتلك النظرة
المدققة ،التي ربما حملت في طياتها شيئا من إشفاق المجرب الخبير على من ال يزال في بداية طريقه.
_ ...يا فتى ! ،قف إلى جانب حليفك األول كصحفي و فقط في هذه الحال :الحق المقدس في اإلعالم .على
األمة أن تعرف و تفهم ما يحدث من حولها و من تحت أقدامها ....و كفى .لسنا هنا إلنقاذ و ال لتحطيم أحد.
جواب سي رزاق كان عفويا تماما و دون أدنى تفكير .كان ذلك كافيا لي ألغلق هذا الجدال مع نفسي .أردتُ
أن أشكره ،فرغم طابعه الحاد و سرعة غضبه حين يتعلق األمر بالعملّ ،
فإن له طريقة غريبة في إعادة تنظيم
األمور داخل رأس أي صحفي يفقد توازنه بسبب تلك المعركة األزلية بين الموضوعية و الذاتية ،وهو يضبط
برغي هذا الميزان المضطرب و المثقل بقلق السؤال عن طريق جمل قليلة تختصر الكثير .نظرتُ إليه فوجدته و
قد عاد إلى التفكير مع نفسه ،فإذا بمقر الجريدة يهتز فجأة على صراخ و هتافات فريق العمل .التفتُ على يساري
فإذا بالجميع يقفزون و يتعانقون أمام صوفيا التي راحت تركض حول الجميع و هي ترفع العلم الوطني فوق رأسها
مرفرفا مع مالبسها الفضفاضة و قد عادت لتتحول إلى طفلة صغيرة مشاكسة مرة أخرى...
_ وشاكي ،افعل شيئا ما .أريد هذه القصة على الصفحات األولى لجريدتي في أقرب وقت ،قبل أو مع انطالق
هذا الحراك االجتماعي الجزائري ....أو الربيع البربري الجديد ....أو الفوضى ....أو أيا كان ُمس َّماه .لن أتحدث مع
مجلس اإلدارة حول هذا األمر إال بعد أن يصير الموضوع جاهزا للنشر .ال أرغب في أن يسمع أي شخص بهذا.
ابق األمر بيننا فقط .احصل على السبق مهما كلف األمر .أريدك أن تتسرب إلى داخل رأس هذا الحرفي القبايلي
كما تتسرب الرمال التي تحملها السيروكو من تحت األبواب الموصدة بإحكام .اكتشف نواياه ،خلفياته ،مخططاته،
عصب من الداخل أم أطراف أجنبية .أريد كل شيء حول ما سيحدث ،أتفهم !.
شركائه و من يقف خلفهُ ،
_ حسبتك تريدني أن أذهب إلى البرازيل لخوض مغامرات نسائية هناك ،و أنسى هذه اللعنة المهنية التي
أعيش في خضمها و التي ال مفر منها في كل األحوال ؟ !.
هز كتفيه و هو يشير إلي برأسه كأنه يرغب في أن أنطق معه ما كان يجول في رأسه ،فنطفنا بها في وقت
متزامن '' ....حين تأتي ساعة عمل الصحفي ....تأتي ! ''.
تبادلنا نظرات متناسقة قبل أن أخرج من عنده ملتحقا بالرفاق حيث أكملت تلك اللحظات التي بدت عصيبة و
طويلة على الجميع إال علي ،كوني كنتُ أتابع المباراة بعيني فقط ،حين كان فكري بعيدا تماما ،حتى أني لم أشعر
بطول الوقت إلى أن أفقتُ على صيحات النصر التي َّ
دوت مقر الجريدة و دار الصحافة و ساحة الفاتح ماي و
العاصمة و البلد برمته ،بعد صافرة النهاية .انتهت المباراة بتعادل بطعم الفوز الباهر ،و نحن نختبر و ألول مرة
238
في تاريخ وطننا طعم الصعود إلى الدور الثاني للمونديال .رغم ذلك فقد فكرت أنه لم يكن مقدَّرا لي أن أطيل
االستمتاع بمخدر كرة القدم لوقت إضافي و ال أن أقتسم فرحة وطني بنصره ذاك ،و أنا أعلم أن هنالك أمرا خطيرا
قادما في طريقه ،ليُنغص عليه حالوة بعض اإلنجازات التي يحققها بين الحين و اآلخر في سيره المضطرب على
درب تاريخه المحفوف باألخطار.
هكذا ،احتفل الجزائريون تلك الليلة بالتأهل إلى الدور الثاني لمونديال البرازيل بالشماريخ و األلعاب النارية و
الحفالت الصاخبة في الشوارع و البيوت .كانت أصداءها تهز أركان كل جدار مبني عبر تراب البلد ،لكني شعرتُ
أني مقطوع تماما عنهم و أنا أقطع باب الوادي عائدا إلى شقتي أحرق السجائر األخيرة ليومي ،أمشي بين الحشود
الراقصة و الراكضة كأني شبح ملعون بأسراره الثقيلة.
كان آخر ما تفقدته تلك الليلة هو الصحن الفخاري المزين بتلك المثلثات السوداء ،الذي صنعه عميروش و
أهداه لي الفتى موسى .كنتُ أحدق إليه و أفكر ....أعتقد أنه لو كان قلق السؤال شخصا يمشي على قدمين ،ألحببته
و كرهته في نفس الوقت .ألعربت له عن كامل امتناني و ألشبعته ضربا في لحظات الضعف و اليأس ! .لقد جعل
مني ما أعتقد أنه '' جزائري حي '' ،لكنه ورطني في آالم و عذاب ال حصر له حين كشف لي بشكل مستمر عن
واقع هذا البلد ! .لقد ورطني في هذه المغامرة ،أو الحيرة القبايلية الغريبة مع ذاك الفخارجي الغريب ،الذي كان
يخبئ لي أمرا كان يجب أن ينجلي بعودة كلب الزريبة إلى تيميزر في أقرب وقت ممكن ،و قد كان فعال عائدا إلى
هناك .......بخطى أكثر ثباتا هذه المرة.
_'' أغاكال ،ما الذي تد ِّبّره لي هناك ،في رأس الجبل ؟ ''.
239
VI
صلة
صل َ
أيام ال َّ
240
-10-
أقف هناك إذن ،و أنا ألهث و أتعرق و أسعل ،مرة أخرى ،عند نفس العتبة التي وقفت عندها قبل مدة وجيزة،
سوى أن األسئلة التي حملتها على ظهري إليها كانت قد تضاعفت .تيميزر ،بأحجارها العتيقة التي استحمت بشمس
البلد لقرون طويلة كانت و بشكل غريب ترحب بي ،عكس نظرات بعض سكانها ممن كنتُ أصادفهم و أنا في
طريقي إلى مسجد القرية صعودا وسط ذلك الجو الخانق لشمس ما بعد الضحى .طبعا ،فضولي و أسئلتي و
طوارئي المهنية جعلتني أصل باكرا إلى بالد القبايل ،إلى تيزي وزو ،إلى بني يني ،إلى إيبودراررن ،إلى تيميزر.
كنتُ أسير على طول تلك الشوارع المعبدة باألحجار و أنا أسمع صدى خطواتي يعانق جدران المنازل
القبايلية القديمة التي كانت تصطف على طول الطريق ،و كلما كنتُ أ قترب من قمة الربوة التي يكلل المسجد
األبيض الصغير رأسها ،كانت أسئلتي تتصاعد بشأن تلك النظرات التي كنتُ أحصدها خالل سيري .لم يكن هنالك
قروي واحد ممن تقاطعت خطواتي مع خطواته ،سواء كان رجال ،شابا ،شيخا ،امرأة أو حتى صبي أو صبية ،لم
241
يرمي إلي بنفس النظرة المستجوبة و المستغربة في آن واحد .حتى جرجرة لم يكن آبها لعودتي إلى تيميزر تلك
الصبيحة ،إذ لم يعرني اهتمامه هذه المرة و كأنه صار يعرفني بعد أول لقاء ،أو ربما كوني بالغت في وصف
جماله و هيبته في مقالي المطول عن وزيعة تيميزر التي جعلته فيما يبدو يغض الطرف عن وجودي بجواره هذه
المرة ؟ ! .في الحقيقة لم أفهم ما نوع اإلشاعة التي تكون قد انتشرت انتشار النار في الهشيم بين األلسن في هذه
الديار ،لكني كنت أعلم قطعا أنها تخص رغبة أغاكال في لقائي مرة أخرى.
وصلتُ إلى المسجد .عبرتُ نادي القرية الذي يسمونه هم بتاجماعت ،و الذي كانت به حركة ال بأس بها في
تلك الساعة .مجموعات من الرجال متفرقة هنا و هناك ،تستظل باألشجار و جدران المنازل ،و بعض الصبية
الذين كانوا يركضون هنا و هناك عبر الساحة .لمحني الجميع و أنا أعبر منتصف الساحة فكانت تلك الضوضاء
اللطيفة تخف شيئا فشيئا مع خطواتي التي كانت تقترب من المسجد ،إلى أن ساد شبه سكوت تام المكان .الكل كان
ينظر إلي ،حتى الصبية توقفوا عن اللعب و وقفوا يراقبونني و هم يتهامسون فيها بينهم .حاولتُ عبثا أال أعير
انتباهي للجميع لكني رحتُ أوزع عليهم نظرات عسى أن يحدث ما حدث أول مرة يوم جئت القرية ،حين كان كل
من ال يعرفني يلقي إلي بنظرة فاحصة خاطفة قبل أن يشيح ببصره في حياء بمجرد أن أنظر في عينيه.
ذلك لم يحدث هذه المرة .دخلتُ إلى المسجد تاركا حذائي أمام الباب .كان الشيخ عبد السالم رفقة المؤذن
مولود يقفان بالرقب من المحراب يتحادثان بصوت خافت ،و حين لمحني اإلمام علت سحنته إشارة خاطفة تدل
على االنزعاج أو اإلحراج ،حاول إخفاءها بسرعة و هو يستبدلها ببسمته المعتادة.
لم يطل حديثي إليهما و لم أستطع فهم لب الموضوع الذي خطه عميروش آفاو هذه المرة .الشيخ عبد السالم
كان يردد فقط بأني فعال لم أكن ملزما بالقدوم بما أن تاجماعت انتصرت لي هذه المرة ،إلى درجة خيل لي أو
أحسستُ أنه كان يريد فقط دفعي للعودة من حيث أتيت .أما المؤذن الشاب فقد كان ملتزما الصمت أثناء معظم ما
دار بيننا من حديث ،و اكتفى بالقول أني إن كنتُ أصر على معرفة التسوية الجديدة التي يدعو إليها ابن الدا ّ إيدير
على حد قوله ،فما ع لي إال أن أذهب إليه إلى منزله و التحادث معه ،و هو الشيء الذي جعل إمام القرية يغتاظ
بشكل ما و هو يوجه نظراته نحو الشاب ،فعاد ليحثني على فكرة تركي لكل هذه السخافة و أعود إلى العاصمة و
هو يلح على أن األول من رمضان سيكون في اليوم التالي ،و خير لي أن أصومه حيث اعتدت على صيامه على
أن أصومه في مكان قد يزيد من مشاق صيامي فيه ،كون نمط عيشه و مناخه مختلفين عما اعتدت عليه.
لم أقل شيئا ذي داللة و اضحة ،رغم أن كالم لمين كان واقعيا إلى حد ما ،لكن ذلك لم يكن ليغير شيئا في
الواقع .قراري كنتُ قد اتخذته و هو قبول أي شيء يقترحه الفخارجي ،فقط من أجل مهمتي و هدفي .لذلك سرتُ
إلى منزله الواقع على طرف القرية .وصلتُ إلى هناك ،كان المكان هادئا كأول مرة تقريبا .لم تكن هنالك أواني
طينية تجف بالقرب من الورشة التي دنوت من بابها الموصدة علي أسمع حركة الرجل بداخلها أو التقط شيئا من
موسيقاه على األقل ألعلم إن كان موجودا لكن .....ال شيء ،لكن صوتا نسويا مهتزا و شبه خافت جاءني من خلف
ظهري...
242
_ آ ِّ ّخير آ ّمي ! ( ...صباح الخير يا بني ).
التفت مباشرة و أنا ألمح تلك العجوز القبايلية .امرأة قصيرة القامة جسد هزيل ،كانت تحيط بها بعض
الدجاجات التي تبعت خطواتها على ما يبدو .كانت ترتدي جبة زرقاء مزينة بأزهار برتقالية .تغطي رأسها
بمحرمة سوداء و تضع فوطة برتقالية ناصعة على كتفيها ،كانت انعكاسات الشمس عليها قد زادتها بريقا و
إشعاعا .لقد أدركتُ من فوري أني أقف وجها لوجه مع نانه تاملسة ،والدة أغاكال .إنها العجوز التي وقفت في نفس
حولتها إلى حطام.
المكان آخر مرة حين سمعت سقطتي فوق أواني الطين التي َّ
ر ّكزت نظري على وجهها الذي ،و بالرغم من التجاعيد و بعض الوشوم الصغيرة ،كان أبيضا و نضرا بشكل
غريب .عيناها الزرقوين كانتا ضاحكتين بشكل طبيعي زاد من لطافة بسمتها العريضة التي استقبلتني بها جاعلتا
إياي أبتسم حتى من دون أن أشعر ،قبل أن أبدأ في البحث عن بعض الكلمات البربرية التي تعلمتها من السكان في
المرة السابقة ،لكني وجدتُ نفسي أتلعثم أمامها فقط....
أطلقت ضحكة و هي تضع كفها على فمها الصغير كأنما تستمتع بموقفي الطريف معها....
ردّت علي قائلة في لكنة من تصحح لي خطأي اللغوي و هي تلتفت نحو البيت العتيق...
_ آعميروش...آعميروش ،آقشيش انّي ان لدزاير آت يدّه ( ..عميروش ،لقد وصل الشاب العاصمي ).
التفتت نحوي مرة أخرى و قد عادت إلى االبتسام و هي تومئ برأسها محتفية بي....
_ مرحفا ...مرحفا...
ارتبكتُ و أنا أبحث عن عبارة الشكر المناسبة التي قد تفهمها ،لكني لم أجد غير العامية الجزائرية...
فُتح باب الفناء الداخلي للمنزل المتواضع ،و إذا به صانع الفخار يخرج بخطوات وئيدة فاسحا المجال لوالدته
التي تمتمت بضع كلمات إليه قبل أن تدخل و هي تتقدم دجاجاتها اللواتي تبعنها أيضا إلى داخل الفناء .لم أقل شيئا.
رمقته بنظرة خالية من أي تعبير .ربما كوني تذكرتُ كيف كان لقاءنا األول مريعا و فاشال ،خاصة و أنه كان
يرتدي نفس المالبس التي كان يرتديها ذاك اليوم .أفعل ذلك عمدا كي يضعني في اختبار ما ؟ .هذا الرجل أذكى
بكثير مما يبدو عليه ! .كنتُ أفكر و أنا أنظر إليه بصمت ،في حين كان يبادلني نفس النظرات واضعا يديه في
جيبه قبل أن يبادر إلي بعامية جزائرية طليقة علتها لكنته القبايلية...
_ إذن ،قبلتَ ضمنيا اقتراحي و إال لما كنتَ واقفا هنا ؟.
243
_ أنت ترى أني ال أحمل أغراضي الشخصية .لم أقبل بشيء بعد .ليس قبل أن أسمع منك هذا االقتراح.
_ هممم .قطعتَ كل هذه المسافة قادما من دزاير فقط لتسمع اقتراحي إذن ؟.
_ أستطيع االنقالب حاال على أعقابي و أعود من حيث أتيت .ال مشكلة عندي ،فنحن الصحفيون معتادون
على مثل هذا .ثم ال تنسى أن تاجماعت قد أنصفوني بدعوتي إلى االحتفاظ بمالي و لن أكون ملزما بأي شيء من
جهتك بالمرة .بالنسبة لي فقد أخذتُ عطلتي السنوية لتوي .قلتُ في نفسي أنه ال مانع من التجوال في بالد القبايل
قليال.
_ بدون مماطلة ،إليك االقتراح :أعيد إليك مالك ،لكنك ستعيد لي كل األواني التي حطمتها بتصرفك األرعن
ذاك اليوم.
قالها ببرودة تامة دون أن ينظر إلي .ففضال عن وقاحة هذا الشخص صاحب السادسة و الخمسين تقريبا !،
فإن اقتراحه كان غير معقول .لذلك ألقيت إليه بنظرات مزجتُ فيها السخرية و االستغراب و قد كنتُ أرغب في
مجاراته في المباالته باللياقة الالزمة للحديث مع شخص غريب....
_ أه .مجنون واحد يعلم ما يفعل ،خير من مائة عاقل ال يعلم ما يفعل ،كما يقول جيراننا الكورسيكيون !.
كان في نبرتي شيء من التهكم و االستخفاف ،لكن الرجل ظل ثابتا و غير مبال بنظرتي و نبرتي ،فقد بدى
جادا كل الجد...
_ يا سيد حرفي ....أنا صحفي .مهمتي هي كتابة المقاالت بهاتين اليدين و ليس صنع الطين .ال أعرف شيئا
فرق كما ترى .ثم ال أرى فوق كل هذا سببا يدفعني لقبول اقتراحك من األساس.
عن حرفتك هذه .....ربي خلق و ّ
تقدم نحوي حتى صار بيني و بينه أقل من متر .انتزع نظراته الغليظة التي تدلت فوق صدره و قد أبان عن
عينيه البنيتين .ظهرت سحنته جلية لي أخيرا جالعتا إياي أفكر بأنها تشبه سحنة ممثل إيطالي معروف لم يحضرني
اسمه تلك اللحظة.
_ قلتَ بأنك تود التجوال في ثامورث ان لقبايل خالل عطلتك هذه ؟ ،أه ،يمكنك أن تستفيد أكثر خالل هذا
الوقت ...تتعلم حرفة جديدة ،أو قل ...هواية جديدة .طبعا مأواك و مأكلك سيكونان على عاتقي .ما رأيك ؟.
244
_ تقصد أنك تريدني أن أمضي شهري هذا هناّ ،
أتعلم صناعة الطين لكي أعيد صناعة ما حطمته من أواني
فخارية ؟.
_ و لعلك تريد القول أنك أنت من سيعلمني هذه الحرفة أيضا ؟.
_ أنا متفرغ تماما .و عليك أن تعلم أنك لن تكون التلميذ الوحيد في ذلك .اتفقتُ مع مجموعة من سكان القرية
الراغبين في تعلم صناعة الفخار بأن أعلمهم ذلك مقابل أجرة بسيطة ،هكذا سأكسب رزقي ،بما أنك قد حرمتني
منه بتدميرك لعمل شهر أو يزيد ،في ظرف دقيقة واحدة !.
_ أه آسف لسماعي هذا .لكن ألم يكن بإمكانك أخذ التعويض المالي الذي أرسلت لك و تنتهي المشكلة ؟.
_ أخذ مال رجل تسبب لي في ضرر غير مقصود ،كان ليجعل خبزي خاليا من الملح .احتفظ بمالك ،لكنك
ملزم أخالقيا بتعويضي عن هذا الضرر .أال تشعر بذلك ؟.
لم أعرف بما أرد .ربما كون نظرتي للموضوع كانت بالضرورة مختلفة عن نظرته هو ،بسبب اختالف البيئة
التي قدم منها كل واحد منا .لكني كنتُ أحاول التفكير بعمق ،فالرجل قد ال يكون بريئا في نواياه أبدا ،و إنما يريد
فقط وضعي في موقف يح ِّتّم علي القبول بعرضه ألهداف أخرى .لذلك قررتُ اللعب على المكشوف بشكل مفجوج
حتى أجعله يقتنع نهائيا بأني غير مبال و أني لستُ هنا من أجل هدف محدد ،فتقدمتُ منه خطوة مركزا نظري في
نظره الثابت...
_ سأكون صريحا معك يا سيد .ال أشعر باالرتياح لكل هذه القصة و هل تعلم َلم ؟ ،ألن بعضا من سكان
القرية يعتقدون أنك شخص متوحد و منعزل كثيرا ،و أنك غريب األطوار أيضا .بالنسبة لشخص بصفاتك ،أال يبدو
أمر تعامله فجأة مع شخص غريب عن بيئته شيئا فيه الكثير من الغرابة ؟.
_ هه ! ،ليس بعض سكان القرية من يعتقدون أنني هكذا .بل قل كلهم و ال تخجل.
صمت هنيهة و هو مستمر في وزني بعينيه كمن يزن معدنا من المعادن ،ليق ِّدّر نوعه و نقاءه و ثقله و صالبته
ثم نطق...
_ لو كان لي مراد آخر من تعاملي معك ،لكنتُ أخبرتك في كل األحوال .لكن لب الموضوع كله ليس هنا ،و
إنما في السؤال التالي :تريد تعويضي في الضرر الذي تسببت به لي بيديك الناعمتين هاتين أم ال ؟ .إن كنتَ تشعر
245
بأن عليك دينا ما تجاهي فأنت ال تملك إال أن تقبل .و إن كنتَ تصر على أنك غير مهتم أو غير مقتنع باالتفاق،
فكما قلتَ سابقا ،تاجماعت تقف في صفك ،و ما عليك إال استرداد مالك و الذهاب في جولتك السياحية المنتظرة.
اللعين ! .إنه ذكي فعال .على األرجح أنه شعر فطريا أني كنتُ ألعب على المكشوف فأراد مكاشفتي بما
يضمره في نفسه من وراء كل هذا ،فضال عن سعيه لتوريطي مع ضميري حتى يدفع بي نحو مراده .كانت تلك
فرصتي لمجاراته أكثر....
_ حسن .ماذا لو تكشف لي عن مرادك الحقيقي من وراء كل هذا ،و أقبل باالتفاق كله ؟.
_ سمعتَ عني الكثير من األقاويل على ما يبدو .تعلم ؟ ،أسالفنا كانوا يقولون في حكمهم أن األفاعي ال تزدهر
إال بين األطالل .الناس تعشق خلق الخرافات و األكاذيب و تدمن النميمة في قرانا النائية هذه .لكن لي شيء صغير
أود إخبارك به و هو أني قرأت روبورتاجك عن تيميزر و شدني شيء ما فيه....
_ ما هو ؟.
_ تقبل اتفاقنا الجديد و أخبرك يوم تتقن صناعة أول قالب طيني لك .ما رأيك ؟ .ماذا ستخسر إن قبلت ؟.
بصراحة ،في تلك اللحظة ،أحسستُ أنني أمام رجل قد يكون صادقا تماما في كل ما ذهب إليه ،أو مجرد
مجنون متروك في حال سبيله وسط قريته ،أو مجنون يعرف تماما ما يفعل و له أجندة فعلية داخل رأسه .الطرح
األخير هو الذي وجتُ غريزتي الصحفية تجذبني نحوه ،تماما كما تنجذب نحلة ما تجاه زهرة بحد ذاتها قبل بقية
األزهار األخرى.
_ حسنا .ألقل أنه ليس لي ما أخسره من كل هذه التجربة ! .ال بأس ....أنا موافق على اقتراحك.
_ هناك شيء أخير ......أعترف أني شخص صعب المراس على األجانب ،و هذا بشهادة جميع السكان هنا.
سوف أعلمك هذه الحرفة لكن ال تتوقع أن أعاملك بلطف أو لين ألنك قادم من العاصمة أو ألنك صحفي ...و ما
إلى ذلك من االعتبارات األخرى .لقد اتفقتُ مع تاجماعت على أنه في حال قبلتَ عرضي فسوف تعامل كأي
مواطن آخر في هذا المجتمع المحلي ،أي أن قوانين القرية التي تحمي الضيوف و عابري السبيل من سوء المعاملة
لن تكون سارية عليك معي .ستكون خالل كل هذه مواطنا من تيميزر ال أكثر .إيه نغ خاطي ؟ ...نعم أو ال ؟.
246
_ أه ،العاصميون ! .اسمع يا فتى ...والدتي دفعتني ألدعوك لشرب القهوة ،لكن طرأ شيء اآلن على رأسي و
يجب أن أفعله .لذلك سأراك على الغداء بعد نحو ساعة و نصف .ال تتأخر !.
سار الرجل فجأة فاتحا باب ورشته .دخل .أغلق الباب على نفسه .هكذا و بكل بساطة .وقفتُ مدهوشا أراقب
أحمقا فظا يبدو أن اللباقة كانت آخر ما قد يعيره االهتمام في تعامله مع الغير و أنا أضع افتراضا آخر عن سلوكه
االنعزالي و توحده الغريب ،الذي قد ال يكون إال نتيجة حتمية البتعاد القوم عنه بسبب سلوكه المتحجر و الالمباالة
الصريحة التي يبدوها في تعامله مع الناس.
توجهتُ إلى المقهى الموري سالكا شارعا آخر بطريق يقع خلف البيوت التي تطل على تاجماعت من أجل
تفادي تلك النظرات و الهمسات التي استقبلني بها السكان ،لكن األمر لم يختلف كثيرا في المقهى ،فقد خيم شبه
ص مت كامل على المكان بمجرد أن أخذت مكاني ،قبل أن يأتي الفتى موسى آيت يوسف .كان يرتدي قميصا جديدا
للمنتخب الوطني .سلم علي و هو يطلق بسمته العريضة التي تكشف دوما عن أسنانه الصفراء المهترئة .شعرتُ
بنوع من االرتياح كوني التقيت بشخص كان من بين أول المرحبين بي يوم وصولي إلى إيبودرارن أول مرة.
_ ما كان عليك أن تعود يا ماس أمين .هذا الرجل مجنون و منحوس أيضا !.
_ ال يهم .لكن قل لي ،مذ أن وصلت إلى هنا و الناس ال يكفّون عن الحملقة في بشكل مفضوح ؟.
دنى مني حتى أمكنني التقاط روائح التبغ و الش َّمة المنبعثة منه و هو يخفض صوته....
_ ألنها سابقة في القرية يا آڨما .أنت و ابن الشيخ إيدير على كل لسان في تيميزر ،إلى درجة أنكما قد أنسيتما
الجميع المقابلة الكروية المرتقبة بين دزاير و ألمانيا لو تعلم .الجميع ال يتحدثون إال عنك و يتساءلون ما الذي فعلته
لعميروش حتى يُقبل عليك هكذا و من دون سبب مقنع !.
_ حطمتُ جراره و أباريقه يا هذا .أال يبدو سببا كافيا برأيك ؟.
_ ال ! .هذه أول مرة يبدر فيها سلوك كهذا من عميروش و الجميع ال يفهم ما السر في ذلك .أخبرتك أن
الرجل ال يكاد يصادق أو يصاحب أحدا في القرية إال في إطار مصالح قليلة أو واجبات قروية محدودة .فكيف به
يطلب لقاء شخص غريب و فوق كل ذلك صحفي ،ليقترح عليه العمل معه في ورشته ؟ !.
_ الجميع يعلمون باألمر .األخبار هنا تنتقل أسرع من الريح .لكن أخبرني ،ما الذي دار بينكما من حديث ؟.
التزمت الصمت قليال ،ثم التفت إليه محاوال صرف فضوله عني...
247
_ أجل .هناك مقهى قديم و مهجور في الشارع السفلي و هو يتخذ منه مكانا يعلم فيه صناعة الفخار كل صيف
لكل من يرغب في ذلك من سكان القرية أو القرى المجاورة .ها ! ،يريد تعليمك الحرفة أوال ؟.
_ أتعتقد أنك ستحتمل الحر ...العطش ...الجوع ...انقطاع النيكوتين ...ال تنسى ،فغدا هو األول من رمضان،
أم أنك من الذين ال يصومون هذا الشهر ؟.
أع تقد أن شيئا من الوجوم كان قد ترك أثرا خفيفا على وجهي في تلك اللحظة ،فقد ذكرني موسى بأني خيبتُ
أمل أمي و شقيقتي اللتان حاوالتا يائستين إقناعي بتمضية بعض األيام في المنزل خالل رمضان ،كون الجو سوف
يكون حميميا و عائليا و هما تخبراني أن البشير سيكون في البيت هو اآلخر ،حيث سيمضي عطلته السنوية معهم،
لكني تملصت كالعادة متحججا بطارئ جدي اصطدم بي في العمل ،و أني سأكون طيلة الوقت في مكان االتصاالت
فيه شبه معدومة مع شبكة الهاتف و االنترنت .شعرتُ كأني مسافر عبر الزمن و أنا أحاول أن أشرح الوضع لهما
دون إ عطاء تفاصيل دقيقة ،و بدى صوت كل واحدة منهما غير مقتنع بحججي المهنية .إنها مهنة المصاعب حقا !.
رمضان في مدينة البليدة هو رمضان آخر .إنه عالم يفيض بنكه طفولية خالدة و حنين خالص و خاص جدا،
لكني لم أكن أرغب في أن تخطفني تلك األفكار و المشاعر التي لم يكن لها نفع و أنا في قلب مهمة صحفية دقيقة.
ألقل أن جانبا خافتا من نفسي كان ينبئني بأنه ال مفر من الحنين خالل اليومين و األيام الثالث األولى لرمضان كما
هي العادة .بعد ذلك سوف يعتمد األمر على مدى غوصي الكلي في واقعي هنا ،في قرية تيميزر ،مع ذلك الرجل
المجنون ،الذي عدتُ إليه بحلول منتصف النهار و وجدته يقف عند باب بيت والديه واضعا يديه في جيبه ،يلعب
بقطعة من القش اليابس بين أسنانه و شفتيه.
دعاني بحركة من رأسه إلى الدخول ،فخطوت خلفه إلى الفناء الداخلي للبيت القرميدي ،الذي بدى في حالة
أفضل مقارنة مع حالة جدرانه الخارجية المهترئة تقريبا .كان الدجاج يمكث تحت ظل شجرتي تين و ليمون
متجاورتين عند الزاوية التي انتصبت فيها جرة طينية ضخمة انمحت الرسوم التي تزينها بشكل شبه كامل.
افترضت أنها من صنع يدي أغاكال الذي دعاني بإشارة من يده إلى الجلوس تحت ظل كرمة عتيقة كانت تظلل
نصف الفناء تقريبا .أخذتُ مكاني على مقعد خشبي صغير مقابل مائدة خشبية شبه مهترئة ،كان طالئها ذو اللون
األزرق الباهت قد بلغ مرحلة جد متقدمة من التقشر ،خاصة على األطراف.
كان الهواء لطيفا بعض الشيء مقارنة بالجو الحار و الثقيل الذي خيم على شوارع القرية .بعض من زقزقة
العصافير زاد من عذوبة المكان و أزال عني بعضا من الضغط و التشنج الذي أصابني به أغاكال بسلوكه الغريب
و غير المضياف .كنتُ ألتفت على جانبي و أنا أسمع ثغاء عنزة لم أستطع معرفة مكانها ،رغم أن صوتها كان
صادرا من داخل البيت .أيعقل أن يضعوا حيوانا بحجم عنزة ليقاسمهم العيش داخل الدار ؟ .لم ألمح عند الباب
المفتوح غير هر رمادي مرقط نحيف لكنه جميل ،كان يجلس بسالم يلعق أطرافه و صدره و بطنه ،قبل أن يتمدد
فوق العتبة.
248
خرج أغاكال من البيت رفقة رجل طاعن في السن كان يلتف بجسده الصغير وسط برنس أبيض و يعتمر ما
يسمونها '' ثاشاشيت '' حمراء اللون على رأسه .نهضت من مكاني و أنا أمد بيدي إليه ،فإذا بأغاكال يشير لي من
وراءه بأن أسلم على رأسه .كان الشيخ يبتسم و قد أحنى رأسه نحوي قليال ،فانحنيت في ارتباك و سلمت على
جبينه ...يبدو أنها طريقة التعبير عن االحترام لكبار السن في هذا المجتمع القروي .سلوك انقرض بشكل شبه كامل
في المدن.
_ هذا دادّه إيدير .و هو يرحب بك في بيته .إنه عاجز عن الكالم لذلك هو يعتذر منك على عدم قدرته التحدث
إليك ....كما أنه ال يفهم شيئا من العربية في الحقيقة.
_ أه أرى ذلك ...ال بأس .قل له بأني ممتن كثيرا و أتمنى أال أكون ضيفا ثقيال عليه.
نظر أ غاكال إلي للحظة ثم راح يترجم كالمي للدا إيدير الذي كان يبتسم و هو يهز رأسه ،قبل أن يقوم
بمجموعة من اإلشارات العفوية بيديه ،التي كانت تدل على الترحيب بي .أخذ مكانه بالقرب مني حين عاد ابنه
ليساعد والدته في إحضار الطعام و وضعه على المائدة ،و طبعا كما كنتُ أتوقع ،فقد كان طبقا من الكسكسي
المطهو بالخضار و الدجاج .حيث و طيلة تلك اللحظات التي سيطر فيها الخجل و الحرج علي ،لم تكف نانه تاملسة
من دعوتي لإلقبال بشهية و دون تردد على الطعام ،فكانت تحث عميروش على ترجمة كالمها لي '' ...كل يا بني
و ال تخجل ...كل حتى تشبع ...سيدنا رمضان قادم و عليك أن تكون في لياقة جيدة كي تستطيع الصوم ...ها هو
العنب و التين و التفاح بالقرب منك فمد يدك و ال تخجل .'' ...هكذا كان أغاكال يترجم لي كالمها و هو منهمك في
األكل كالدابة دون أن ينظر إلي مما زاد في امتعاضي منه .كل ما كنتُ أفعله هو محاولة رصدي الجيد لتلك
الوشوم ذات األشكال الغريبة على معصمه األيسر .كانت تشبه كتابة األحرف البربرية كما يُقال.
أعتقد أن العجوز المسكينة كانت الوحيدة التي كانت تحاول جاهدة كسر ذلك الحاجز الذي جعلني أشعر بأني
فعال غريب و أحس و كأني أثقل على هاذان الزوجان بشكل ما .فسبب وجودي هو ابنهما الذي لو دعاني للغداء
على حسابه لما أحرجني ذلك ،لكن الرجل على ما يبدو قد اقتسم العيش رفقة والديه بشكل نسبي رغم أن له بيتا
مجاورا لمنزلهما .ثم تساءلت في نفسي لوهلة :أال يفترض به أن يكون متزوجا ؟.
كان علي أن أحاول قول شيء ما ،كون مضيفي بدى غير مهتم بالحديث إلي .ال أسئلة فضولية حول الحياة في
العاصمة مثال ،أو حول مهنة الصحافة أو حتى حديث عابر عن المنتخب الوطني لكرة القدم و مباراته الثأرية
المرتقبة ضد األلمان ،التي انتظرها جيل كامل من الجزائريين .انقطعت األفكار عن رأسي حين صمتت نانه
تاملسة أخيرا و هي تنهمك في تقشير حبة تفاح لزوجها األبكم ،الذي كان يُقلب الطعام داخل فمه الخالي تماما من
األسنان و هو شارد الذهن تقريبا.
ّ
التفت نحو أغاكال و من تلقاء نفسي وجدتني ألقي إليه بالجملة الوحيدة التي خطرت ببالي تلك اللحظة....
249
_ أجل ...الدجاجة التي التهمتها لتوك كانت ت ُل ّقب '' اللّه '' .كانت األعز و األقرب إلى قلب أمي .كانت
دجاجتها المفضلة و قد آثرت أن تطهوها لك اليوم إكراما لك ،فقط لكونك ضيفا غريبا عن القرية يدخل بيتها ألول
مرة .....بصحتك !.
هذا ما فسر لي امتناع العجوز المسكينة عن مد يدها إلى لحم الدجاج ! .أما آغاكال فقد قال ما قال بكل برود
بال أدنى شفقة ،دون أن ينظر إلى وجهي الذي تجمد تلك اللحظة التي تح ّول فيها ذلك الكسكسي الطيب و تلك
الدجاجة المطهوة بشكل مبهر و تلك الخضار الطازجة و ذلك المرق األبيض ...تحولوا جميعا إلى شيء بارد جدا
و بال طعم ،إن لم أقل أن الوجبة كلها كانت قد تحولت إلى حجارة باردة في جوفي .أحسستُ بقلبي و هو ينكمش
داخل صدري بسماعي لذلك ،و تعمق إحساسي بعدم الراحة و الذنب أكثر فأكثر .التفت إلى تلك العجوز التي
رمقتني بنظراتها الوديعة مرة أخرى و هي تشير إلي بيدها النحيفة المهتزة كي استمر في األكل .لكن ذراعي
تخ ّشبت .وددتُ لو أرتمي عليها ألحضنها بكل قوتي و أسلم على جبينها و أعتذر منها كوني لم أدرك أن األمر كان
كذلك و أنا الذي بدى منبهرا و متلذذا بطعم اللّه المسكينة ! .شهيدة كرم و طيبة هؤالء القوم البسطاء .كنتُ فقط
أرغب عاجزا في أن أقول لها أنها حقا لم تكن ملزمة بتكبد تلك الخسارة من أجلي ،لكن كل الكلمات خانتني.
لم أستطع رمي لقمة إضافية في فمي .ابتلعت بعض حبات العنب في تشنج ثم استأذنت الشيخين بعد أن أتمم
أغاكال طعامه .أرادت نانه تاملسة أن تصر علي حين بدت أنها تشكو البنها و تشير إليه بأني لم آكل كثيرا،
فأخبرها بكالم بدى و كأنه من قبيل '' لقد شبع الرجل ،ال يمكنكم إجباره على ما هو فوق طاقة بطنه ! '' .أما والده
الدا إيدير فقد أشار إليه بيده فأخبرني أنهما يدعوانني على الشاي .اعتذرت بخجل متحججا بمشاغل أخرى ،فقد كان
علي النزول مرة أخرى إلى أسفل الجبل كي أجري بعض المكالمات الهاتفية المهمة وأحضر أغراضي الشخصية
من السيارة .سلمت على رأس األب ،و سلمت على رأس الوالدة الكريمة مرتين و أنا أشعر بالعجز عن اإلعراب
ّ
تعلق هؤالء السكان البسطاء بحيواناتهم األليفة أفضل و لها عن مدى تقديري و تأثري بصنيعها المع ِّبّر .ال بد أن
أعمق بكثير عن تلعقنا نحن سكان الحواضر الكبرى الموبوءة ببعضنا البعض كبشر ؟ .لو أنني فقط نطقت
بالبربرية !.
تبعتُ عميروش إلى خارج المنزل و أنا ألومه كونه أخبرني بما فعلت والدته من أجلي ،لكنه راح من جهته
يخبرني أني متأخر عن بقية تالمذته في صف تعليم صناعة الطين بأيام و أنه يتوجب علي البدء في تعلم الحرفة
في اليوم الموالي على الساعة التاسعة صباحا .ثم أخذني إلى بيته ،أو ورشته التي دخلتها و أنا أمشي خلفه بتمهل.
طبعا علي القول أنه في مثل هذه الحاالت ،فإن دعوة صحفي فضولي إلى عالمك الصغير المليء بالخصوصية أو
األسرار تشبه إلى حد ما دعوة مصاص دماء إلى عبور عتبات منزلك....
منزل الحرفي كان عبارة عن فوضى حقيقية من األواني الفخارية المنتهية و غير المنتهية .الكثير من الشظايا
و الفتات و رائحة طاغية تميل بين نكهة التراب و نكهة الطين و حتى نكهة الجير على ما أعتقد ،و روائح أخرى
لم أستطع تمييز ماهيتها ،إال أني افترضت أنها قد تكون للمواد المستعملة في الرسم و التزيين و التلوين.
250
فتح الرجل المصارع الخشبية لتهوية قلب الغرفة قليال و التي بدت أنها كانت غرفة االساتقبال فيما مضى...
_ اسمع يا فتى ،ستنام في غرفتي ابتداء من الليلة .إنها هناك .دورة المياه و الحمام في الجهة المقابلة .المطبخ
لم يعد صالحا لالستعمال .عليك أن تكون حذرا دوما حين تخطو حافيا في أرجاء الورشة ،فال أستطيع أن أحصي
لك عدد المرات التي اخترقت فيها شظايا فخارية حادة قدمي و كم من مرة قُسمت فيها أظافري و ازرقّت و أنا
ألطمها إلى أواني قاسية أو ضخمة ،فضال عن أنك مطالب دوما بالحذر و أنت تخطو هنا ،فأي حركة خاطئة أو
عثرة ،قد تتسبب في كارثة أخرى على شاكلة ما حدث لك آخر مرة .لقد حصل لي كثيرا و أن حطمت جرارا و
صحونا و أباريق بمجرد أني لم أعرف أين أضع قدمي و أنا أعبر من هنا أو هناك.
_ كنتُ أفضل العودة للنوم بجوار الولي سيدي أوعابد على أن أنام هنا وسط هذه الكارثة الطينية....
_ ذا شو ؟.
_ أه ...ال شيء ....أوالش ...أوالش ....لكن هال ناديتني باسمي من فضلك ،أعتقد أننا تعارفنا بطريقة ما !.
كان يشعل سيجارة و هو ينظر إلي بصمت كمن يقول في نفسه '' :ما خطب هذا األحمق ؟ ! '' ،ثم انصرف
إلى فتح باب الغرفة التي ستكون لي طيلة وجودي في '' ضيافته '' .فتح نافذته الصغيرة التي تطل مباشرة على
سالسل جرجرة فأبانت لي عن غرفة صغيرة نسبيا ،و قد أدركتُ للتو أنها نفس النافذة التي لطمها في وجهي آخر
مرة .كان في الغرفة فراش واحد مشكل من أغطية موضوعة على األرض .طاولة بالستيكية صغيرة بلون زهري
باهت عند الزاوية األولى فوقها تلفاز صغير و فوقه مستقبل رقمي .خزانتين متجاورتين على الجهة اليسرى للباب
متصلتين بالزاوية الثانية للغرفة ،إحداهما خشبية بالية من طراز قديم جدا قد يعود لسنوات السبعينات ،و األخرى
معدنية تشبه خزائن المكاتب اإلدارية ،بدت في حال أفضل من األولى ،كان بابها مغلقا بمغالق معدني أصفر
ناصع .و هناك عند الزاوية الثالثة على يسار الفراش قابلنني ثالجة صغيرة ،قام أغاكال بتحويل سطحها إلى طاولة
على ما يبدو ،حيث وض ع عليها منفضة السجائر و بعض قوارير الماء البالستيكية ،إضافة إلى بقايا جرائد قديمة
صفر لون صفحاته .أما عند الزاوية الرابعة مباشرة خلف باب الغرفة فقد كان هنالك
صادرة بالفرنسية ،معظمها ا َّ
شيء ما ُجمع بشكل عمودي و قد غطاه الحرفي بعدة لحائف بيضاء اصفر لونها و مال إلى البني الخافت بسبب
الغبار.
ال صور .ال أغراض شخصية أو عائلية تدل على أن الرجل كانت له حياة زوجية و اجتماعية ؟ .شيء
بداخلي قال لي بأن ذلك قد يكون مؤشرا ليس فقط على وحدة و عزلة اختيارية قدَّمها الرجل لحياته ،بل أيضا يبدو
أنه رجل يسعى للهروب من ذكرياته الخاصة ؟ .هذا يعني شيئا واحدا في الحقيقة .....ألم داخلي م ِّبّرح ال يطاق !.
بغض الطرف عن السلوك المستفز و الالمبالي الذي استقبلني آغاكال به ،فإن حسي المهني كان أكثر طغيانا
في تلك اللحظة من العاطفة .كنتُ مجرد آلة مسح و تسجيل و تحليل صحفية ،جاءت إلى هذا المكان لتكشف السر
251
الكبير المفترض لهذا الرجل و ما يدور في رأسه ،و ما زاد من جنون تلك الشهوة الصحفية الجارفة ،هو شيئان في
الحقيقة ،شعرتُ أنهما قد أزاحا كتلة كبيرة من الندم و الشك كانت قد بدأت ترتسم داخل رأسي بخصوص قراري
المجيء إلى تيميزر و هما :تلك الخزانة المعدنية الموصدة بإحكام .و بقايا تلك الجرائد التي انتبهتُ إلى كونها قد
صدرت قبل 2إلى 2سنوات ،أي بين 4101و ....4100عناوينها أزاحت الكثير من الضباب الزائف حول ذاك
الشخص .....لقد كانت في مجملها تتحدث عن بدايات الربيع العربي في تونس و مصر !!! .....زادت أرجحية أن
يكون الرجل الواقف عند باب الغرفة هو فعال '' آغاكال '' الذي أبحث عنه.
نظر إلي مطلقا بسمة ظننتها بسمة التحدي ،لكني أدركت متأخرا تلك الليلة أنها فعال كانت بسمة المكر حين
ختم عبارته قائال....
كانت ليلة مضطربة و متقلبة .كنتُ قد أعلمتُ آل آفاو أني لن أقوم لتناول السحور رغم إلحاح نانه تاملسة
علي .كنتُ أود أن أنام فقط ،لكن بدني لم يستطع التفاهم مع الفراش الذي تركه آغاكال لي ،فقد كان مسطحا و
قاسيا ،زد عليه تلك الرائحة الطاغية لألواني الفخارية التي كان يفوح بها البيت الصغير الذي لم يكن بيتا بقدر ما
كان عبارة عن مخزن لتلك السلعة .صمتُ المكان لم يرق لي أيضا ،تماما كما حدث لي أول ليلة قضيتها في قبة
ولي القرية قبل أسابيع ،سوى أنه لم يكن هنالك قبر بالقرب مني ،بل مجرد أكداس من األسئلة و الترقب و
النظريات التي كانت تحيط بي و تتالعب بوعيي و بآخر الومضات المحترقة في ذهني .أما تلك الكتلة التي كانت
مغطاة بلحاف أبيض خلف الباب ،فكانت تبدو و كأنها '' روحاني '' فارع القامة يقف ناظرا إلي بتهكم و بال ملل
ينتظر مني أن أغفو كي ينقض علي .انتظرت قليال ،و حين تأكدتُ من أن الفخارجي قد غادر للنوم في بيته والده و
أنه لن يعود ،و حين خيم الهدوء التام على األرجاء المحيطة بالبيت ،نهضت ألزيل ذلك اللحاف فإذا بها قطع مفككة
لسرير خشبي لشخصين ،و قد فهمت ما كان يعني ذلك.
حاولتُ عبثا فتح الخزانة الخشبية التي كان واضحا أنها خزانة ألبسة ،إال أن الرجل كان قد أقفلها بالمفاتيح .أما
الخزانة المعدنية فقد كان واضحا منذ الوهلة األولى أنها لن تفتحت إال إذا حصلتُ على مفتاح ذلك المغالق األصفر
الغليظ .لذلك آويتُ إلى فراشي مرة أخرى بع دما أشعلت التلفاز الصغير و راح ذهني يقفز ككنغر مشوش ال يعرف
وجهته بين تلك القنوات الفضائية الناطقة بالفرنسية و قد كانت في مجملها إما قنوات إخبارية أو تثقيفية .أطفأت
التلفاز بعد أقل من 01دقائق .تركتُ المصباح مشتعال و رحتُ أحدق في السقف كالسكران ،حتى خطف النوم
أجفاني المرهقة من شمس نهار كان طويال على أعصابي بشكل خاص ،وقد كانت آخر فكرة نِّمت عليها قد أثارت
ضغينتي الشديدة و هي أن آغاكال قيض السؤال ،كان قد وضعني في قلب المكان الذي قد أعثر فيه على سبقي
الصحفي المهول ،لكنني كنتُ عاجزا عن فعل أي شيء ألضع يدي عليه !!.
252
**********
في الصباح التالي ،سرتُ خلف عميروش وسط شوارع القرية و نحن نأخذ طريق النزول إلى حيث ينتظرني
أول درس لي في صناعة الطين .تبادلنا بعض الكلمات العابرة التي لم يكن لها مقصد واضح .كنتُ فقط أراقب
نظرات السكان لي إذ أنها لم تختلف في شيء .كان السكان يتبادلون معه التحية في طريقهم ثم ينظرون إلي
باستغراب مفضوح رغم محاوالتهم إخفاءه ،أما أنا فقد كنتُ أتظاهر بأني غير منتبه أو غير مبال حتى و أنا أحييهم
بدوري '' ...أزول فالك ،أزول فالم ،آزول فالون ،صباح الخير ''.....فكانوا يردون علي التحية بدورهم و هم
يمضون في حال سبيلهم ،كل إلى مشاغل يومه.
حين كنا نمر عبر زقاق ضيق تحاصره أصوار حجرية عالية ،صادفنا مجموعة من الفتيات الشابات بجببهن
القبايلية و محارمهن التي تستر شعورهن و هن يسرن خلف بعضهن حامالت جرارا طينية فوق أظهرهن و
أكتافهن .كن يتحادثن بصوت عال و هن يتبادلن الضحكات ،فإذا بهن يلتزمن الصمت حين التفت آغاكال إلي...
توقف الرجل عن السير و أفسح الطريق للبنات و هو يكاد يلتصق بالجدار مقابال إياه بوجهه ،فتبعته في ذلك و
أنا أسمع خطواتهن المتسارعة خلفنا .كن يتهامسن ضاحكات ،و هو ما دفع بي و من دون وعي تقريبا ألرمي
إليهن بنظرة فضولية خاطفة ،فإذا بهن يسترقن النظرات إلي باسمات ،و قد زاد ذلك من ضحكاتهن و هن يتالمزن
ماضيات في طريقهن نحو تالة على ما يبدو...
_ البنات هنا فضوليات ،و هن في مثل هذه السن يبدأن تلقائيا و بتحريض من أمهاتهن في البحث عن زوج
محتمل بال كلل و ال ملل .ثم لو كنت تفهم ثامازيغت لفهمت ما كن يتهامسن به عنك.
استمر الرجل في طريقه غير مكترث لرغبتي الشديدة في معرفة ما قالته المراهقات عني ،إلى أن وصلنا إلى
ما كنتُ أتصور أنه صف لتعليم صناعة الفخار .بناء حجري قديم منهار في بعض أجزائه ،يقف غير بعيد عن
مدخل القرية .لم يبد لي أنه كان في الماضي مقهى موريا ،فقد انهار حاجزه الخارجي بشكل شبه كامل و لم يبق من
القصب الذي كان يظلل واجهته سوى بعض العيدان.
كنتُ أقترب من الباب خلف الحرفي و قد أثار ذلك شيئا ما من ذاكرتي .ال شيء كان أكثر وضوحا لي في تلك
اللحظة أكثر من كون الصبي الصغير بداخلي كان قد استفاق من غفوته و انتفض تماما و بشكل غير متوقع ،و هو
ينفث أنفاسه المليئة بالعفوية و التلقائية و حتى الحنين في صدري .غريب ! .أبطأت خطواتي لوهلة و أنا أتلمس
253
ذلك اإلحساس العميق بداخلي ،متذكرا ما كنتُ عليه أول يوم لي عند دخولي متأخرا إلى صفي الجديد في العام
الدراسي .! 4111-22
ما الذي حدث لي ؟ .ما الذي جعلني أسترد تلك األحاسيس من اإلثارة و االرتباك .أصوات جرس متوسطة
العربي التبسي وسط مدينة البليدة .أصوات ضوضاء التالميذ في الصفوف ،صراخهم ،ضحكاتهم ،خطواتهم
الراكضة عبر األروقة ،أصوات اهتزاز المقاعد و الطاوالت فوق أرضيات األقسام و نقرات مسطرات المعلمين
على المكاتب .....و طبعا ،بقايا ضوئية غائرة غير واضحة من مالمح ذاك الوجه األنثوي اللطيف الباسم لصاحبته
و هي تأخذ مكانها إلى جانبي في أول لقاء لي بها '' ...هي '' !!....
أعادني صوت آغاكال إلى الحاضر بسرعة البرق .نظرتُ إليه باستغراب تام .كان يقف بهدوء واضعا يمناه
في جيبه و عينيه تفحصانني خلف نظاراته الغليظة ،التي كانت تظللها قبعة قشه الصفراء المتوهجة تحت شمس
تيميزر الحارة ،فهل يُعقل أنه رأى ما كان يدور بداخل رأسي ؟ !.
دخل الحرفي إلى الغرفة ،بينما وقفتُ هنيهة و أنا أذكر نفسي بصمت أني لستُ في البليدة بل في تيميزر .نحن
لسنا في شهر سبتمبر بل على مشارف شهر جويلية ،و العام ليس 0222بل ،4102و أنا لستُ طالبا في الصف
السابع بل صحفيا في مهمة ،ثم إن آخر شيء كنتُ أود التفكير فيه وسط تلك الظرف و ذلك الزخم المهني هو...
بهجة ! .ما الذي دهاني ؟ !!.
أدركتُ أن أغاكال الوغد اللعين كان قد خدعني بشكل ما قبل يوم و هو يتحدث عن هؤالء '' السكان '' الذين
يخصص لهم حصصا يعلمهم فيها حرفته .كنتُ أعتقد أنه يتحدث عن مجموعة من الشباب أو الرجال الذين كان
وجودي وسطهم ليخفف عني وطأة هذا الشخص الغامض ،لكني بدال من ذلك وجدتني أجلس وسط ثلة من األطفال
الصغار الذين ال يزيد عمر أكبرهم عن التاسعة أو العاشرة.
أمسكتُ بأعصابي بقوة كما يمسك فارس بلجام فرس هائج ،حين راح األطفال يرمقونني بنفس تلك النظرة
الفضولية المستجوبة التي أشبعتني عيون كبار القرية بها .تنهدتُ و أنا أنظر إلى آغاكال نظرة من يرغب في خنفه،
حين بدى أنه يرد علي ببسمة خفية في نفسه و هو يشير إلي كي آخذ مكاني الذي كان خلف تالمذته الصغار
الجالسين في شكل حلقة حوله .كل شيء كان جاهزا .الدواليب الكهربائية الموصولة جماعيا بسلك كان يدخل عبر
إحدى النوافذ الصغيرة .كتل الطين اللين الذي بدأ يجف نوعا ما و قد تم تقطيعها إلى كريات متساوية في الحجم و
الوزن .أسالك معدنية رقيقة .قطع خشبية صغيرة مثلثة الشكل .أوعية بالستيكية بها ماء تسبح وسطه قطع من
االسفنج و قطع من القماش مطوية بعنايةأامام كل تلميذ.
254
جلستُ و أنا أخرج قلم رصاص و الكناش الصغير الذي قررت حمله معي بشكل مستمر كي أسجل فيه كل
الكلمات القبايلية التي سأصادفها طيلة مكوثي في تيميزر .و الحقيقة أن الواقع بدى أصعب بعد دقائق فقط من
انطالق الدرس .طبعا كان ذلك الكهل الشرير يحادث تالمذته بلغته الهندية التي لم أكن أفهم منها سوى ما تعلمته
من عبارات قليلة كنتُ قد حفظتها مسبقا في هذه القرية ...عبارات من قبيل '' آكال '' ...الطين '' .آفوس '' ...اليد'' .
آمان '' ...الماء ....كلمات لم تكن لتجعلني أستوعب صلب الدرس كونه مرتبط بالتطبيق أكثر من النظرية ،لذلك
وجدتني بعد دقائق فقط أرفع يدي ملوحا ،فصمت المعلم و هو يرمقني بنظرة مستفهمة و كأنه فعال لم يفهم سبب
المقاطعة ،بينما التفت جميع األطفال إلي و هم يمطرونني بنظراتهم المستفهمة المليئة بالبراءة.
_ يا للوقاحة ! ،أأنت المعلم هنا أم أنا ؟ .أخبرتك أن األمر لن يكون سهال عليك أليس كذلك ؟.
حاولتُ أن أحافظ على هدوئي و رباطة جأشي أمام ذاك األحمق العنصري ،فرحتُ أشرح الوضع له مستعمال
إشارات يدي بتهكم....
_ إن لم أفهم ما تقول ،فكيف تريدني أن أتعلم هذه الحرفة ،و جميع هؤالء الصغار ،قد تقدموا علي بأشواط ؟.
_ إن لم تستطع التعلم عن طريق السمع ،فعليك أن تجبر نفسك على التعلم عن طريق البصر و كفى .ال
تزعجني مرة أخرى و دعني أكمل درسي !.
ثم تلفظ بشيء ما أمام الصغار جعلهم يطلقون ضحكات متفاوتة بين العفوية و التصنّع ،و قد كان يشير بسبابته
إلى رأسه كمن يقول بأن أحدهم يواجه دوارا أو صداعا ما .كلمة '' الدخان '' التي تلفظ بها بسخرية وسط الجملة
جعلتني أفهم تقريبا ما كان فحوى النكتة ،فقد كان يخبرهم أنني بدأت أعاني من صداع غياب النيكوتين عن دماغي
مع ساعات الصيام األولى .ألقل أني صدقته ،فقد كنتُ مضطربا و ممتعضا جدا .كنتُ أشعر أن وجهي متجهم و
أسود ،و كل ما كان يعتريني من رغبة هو النهوض و مغادرة الصف و االختالء مع سيجارة ألملم بها شتات فكري
أهون بها على نفسي ،لكن اليوم كان في بدايته و هو يوم صيفي حار و طويل .ال أكل و ال شراب و ال دخان فيه
و ّ ِّ
حتى مغيب الشمس .األكثر قس اوة في كل ذلك هو واقع أنه لن يكون هنالك ال انترنت و ال مواقع تواصل اجتماعي
طيلة أيام ! .من هذا المجنون الذي كان ليصبر على حرمان كهذا في قرننا الجديد هذا ،عدى سكان هذه الديار
الحجرية المحبوسة في الزمن الماضي منذ أيام العثمانيين ؟.
255
شغل الجميع دواليبهم التي راحت تدور بينما رحتُ أنا كاألبله أبحث عن زر تشغيل ذاك الدوالب الذي بدى
في حالة يرثى لها مقارنة ببقية اآلالت األخرى .لقد بدى و كأنه أخرج من جوف األرض حيث ظل مطمورا
بالتربة لعقود ،كما أنه ظهر غير مستو تماما ،بل كان مائال على جنبه .و لحسن الحظ أن إحدى التلميذات و هي
صبية صهباء موردة الخدين قد ال يتعدى سنها العاشرة ،كانت تشير إلي بشكل حذر حتى ال يراها آغاكال ،تود أن
تريني مكان تشغيل الدواليب .حين عثرت على الزر نظرتُ إليها مبتسما بامتنان فإذا بها تبتسم في خجل و سعادة و
قد احمر وجهها بسرعة .شغّلتُ الدوالب أخيرا فإذا به يُصدر صوتا غريبا جعل كل األطفال يلتفتون نحوي بفضول
مرة أخرى ،في حين أمسك آغاكال الملعون بكرية من عجين الطين و ألقى بها فوق دوالبه بحركة جعلتها تلتصق
به بمرونة تامة ،و كذا سار على خطاه البقية ،حيث تعالت أصوات لطم قطع كتل الطين ذات الشكل البيضوي
عموديا فوق الدواليب....
تمتمت مع نفسي بتحد و أنا أرغب بشدة في رؤية تلك النظرة التي ستعلو وجه الكهل المتحادق حين يراني و
قد نجحت في أول رمية ،لكن ما حدث هو أنني لم أقدر قوة لطم القطعة فوق أصطوانة الدوالب الدائرية ،فإذا بها
تطير على جانبي و تسقط على األرض .حاولت مرة ثانية بقوة أكبر فطارت القطعة من على الدوالب مرة أخرى
لكنها سقطت بالرقب مني ،ثم المرة الثالثة بقوة أكبر حيث كادت تلتصق و تثبت لكنها تدحرجت فوق الدوالب
لدورتين أو ثالث قبل أن تستقر تحت قدمي ،أمام الضحكات المتعالية أكثر فأكثر لألطفال الصغار الذين كانوا
يتظاهرون أنهم مركزون على أعمالهم ،لكن أعينهم كانت تقفز نحوي في كل لحظة و كأن بهم قد عثروا على
موضوع مرح و مس ّل يتناسون به ما قد يعتريهم من ملل في الحصة .لم ألق أبدا باللوم عليهم ،لكني كرهتُ معلمهم
كثيرا .كنتُ قد بدأت أشك مرة أخرى في هدفه الحقيقي من وراء كل ذلك.
استطعتُ في حركة كانت أقرب إلى الحظ العابر تثبيت كرة الطين على دوالبي الذي كان يدور بشكل
مضطرب بسبب اعوجاجه ،فإذا بي كالملهوف أحاول تلقف حركات الجميع في تشكيل مجسماتهم ،و هم يتبعون
حركات معلمهم الذي كان يسند نموذجه بكلتي يديه بثبات عال ،فكان يضع يمناه في إناء الماء ثم يخرجها و يعود
ليمسك بقطعته الطينية التي كانت تدور بسرعة حول نفسها ،فيزداد لمعانها و تبدو كأنها تزداد مرونة ،فيبدأ الرجل
في الضغط عليها بين يديه بشكل يجعلها تتقلص نحول األسفل ليزداد عرضها ثم تتمدد نحو األعلى ليتقلص
عرضها و يزداد طولها.
اللعين ،كيف كان يفعل ذلك و هو يح ِّدّث األطفال في نفس الوقت و يراقب عمل و حركة كل واحد منهم دون
أن ينظر طويال نحو يديه ؟ .حاولت فعل نفس الشيء .رحت أضغط على قطعة الطين التي كانت تدور أمامي في
اضطراب .حاولتُ السيطرة عليها حين كنتُ أشعر أنها تود اإلفالت من بين يدي لتقفز في الهواء مرة أخرى ،و
أدركتُ أنه يلزمني شيء من الماء كي أجعلها تلين و تستقر بين يدي .قمت سريعا بتبليلها و إذا بملمسها يصير
أكثر ملوسة و رطوبة في راحة يدي .ابتسمتُ من دون أن أشعر لوهلة ،كون ذلك اإلحساس كان لطيفا ،لكن بسمتي
سرعان ما زالت حين رحتُ أشاهد كرية الطين و هي تفقد بسرعة شكلها البيضوي و تتداعى بين يدي كتداعي
256
أملي تلك اللحظة .كانت تذوب بسرعة و كنتُ متفاجئا أنظر كالمعتوه إلى أصابعي و هي تغوص في الطين ،الذي
تحول إلى شيء يشبه الشكوالتة التي وضعت تحت الشمس الحارقة .انفطر الصلصال تماما ،بل و ساح فوق
الدوار ،و صار في ظرف لحظات أقرب في شكله و لونه إلى اآليسكريم المصنوع من الشوكوال و
الدوالب ّ
الحليب حين يستحيل إلى سائل امتزج فيه العنصران معا ....يا للسخرية !.
كانت المرة الوحيدة التي رمقني فيها آغاكال بنظرة كانت تدل بوضوح على أن الرجل مستمتع حد النشوة بما
كان يحصل لي .فقد سار الدرس على ما يرام لجميع الصبية و الصبيات الذين كانوا يحاولون صنع قوالبهم ،فكانوا
ينجحون في ذلك نسبيا ،و حتى بالنسبة للذين كانوا يفشلون في ذلك ،ففشلهم كان يشبه النجاح مقارنة مع فشلي .ثم
إن الحرفي راح يدور حول الجميع و هو يسدي نصائحه لكل فرد منهم على حدى .كان يمر بالقرب مني من حين
آلخر و هو يلقي بنظرة عابرة على تلك الفوضى الطينية التي عرقتُ فيها ،و نظراته تلك كانت تحمل االستهتار و
الضحك في مضمونها بكل أوجهه ،خاصة حين كنتُ أقابله بنظرتي المترجية التي كانت تقوله له '' :هيا ال تكن
وغدا و ساعدني قليال !''.
مرت ساعة و نصف ،أدركت خاللها حجم الهزيمة التي تلقيتها على يد عميروش .بل أدركتُ أنه قد أوقع بي
َحرفيا في فخ هذا االتفاق اللعين ،فهل فعال كنتُ مجبرا على القبول بكل هذا من أجل سبقي الصحفي ؟ .كنتُ ألجد
أعرض نفسي لكل هذا االستفزاز و السخرية و مضيعة
طرقا أخرى من أجل القيام بمهمتي في تيميزر دون أن ِّ ّ
الوقت ؟.
عند منتصف النهار ،كان على الحرفي إنهاء الحصة و فسح المجال أمام األطفال للعودة إلى منازلهم لتناول
غدائهم .كان يمسح يديه بقطعة قماش و هو ينظر إلي و قد استحلتُ إلى كتلة هائلة من اإلحباط و االمتعاض و
الجوع و العطش....
_ آقشيش ،هال حملتَ معك هذه األقمشة إلى البيت .ستقوم بغسلها و تعليقها كي تجف.
_ عفوا ؟......
_ هل علي أن أعيد كالمي في كل مرة و أذكرك بأنك قبلت طوعا بأن تكون تلميذي الطيع طيلة هذا المشوار
الذي ينتظرك هنا ؟ .ستنفذ ما أطلبه منك و إلى حين أن تُكمل تنفيذ الجزء المفروض عليك من اتفاقنا ،عليك أن
تضع كبريائك العاصمي الحضري المصطنع السخيف جانبا .هنا نتعلم طاعة و احترام من هم أكبر منا سنا و أكثر
تجربة في الحياة ،سواء أحببناهم أم ال.
لم يظف كلمة واحدة و خرج ماشيا نحو وجهة غير وجهة منزله .بقيت لدقائق مع نفسي داخل الغرفة التي
اكتسحها حر منتصف النهار و أنا عاجز عن التفكير في حل أو مخرج لهذه الورطة التي أوقعتُ فيها نفسي مع هذا
الكهل المجنون المتزمت ،و األكثر قساوة من ذلك هو أنني لو انهرتُ في أي لحظة و تركتُ كل شيء فقد أجد
257
نفسي في مشكلة أخرى مع تاجماعت ،التي لطمتُ وقفتها معي و إنصافها لي عرض الحائط من أجل أحمق كهذا،
فضال عن تضييع هدفي من وجودي هنا !.
هكذا فقط ،حملتُ المنشفات التي لطختها أيادي األطفال ببقايا الطين و الصلصال و عدتُ أجر خطاي ككلب
زريبة منهك و ضائع ال يعرف ماذا عليه أن يفعل بالضبط ،و هو يسير مدحورا ملتصقا بجدران الشوارع واضعا
ذيله بين فخذيه ساحبا أذنيه على األرض .طبعا لم أتخلص من تلك النظرات القروية التي كانت تبين عن سخرية
من وضعي بشكل متزايد .كأن هؤالء القوم كانوا يتوقعون مني االنتفاضة و مغادرة القرية بكبرياء ،بمجرد أن
أدرك أن الحرفي قد وضعني عمدا وسط ثلة من األطفال ألتعلم معهم حرفته ،لكن ما حدث هو أنني قد فاجأتُ
الجميع بقبولي باألمر كما هو ،و بقائي وسط تلك المسخرة التي هندسها آغاكال بمهارة و مكر كبيرين.
_ '' الرجل يريد فقط إنهاكي ،إذاللي و السخرية مني ،ليجعلني أنهار و أعرب عن انسحابي من هذه المهزلة،
ثم أغادر قريته خاوي الوفاض في النهاية ! ''.
كانت تلك الفكرة الوحيدة التي سيطرت علي بشكل جعلني أستسلم للحنق الشديد .كانت كشفرة حادة تقطع
كبريائي الصحفي ،رغم أني حاولت تبرير األمر بكوني منهك و جائع و أن دماغي يبحث فقط عن جرعاته
المعتادة من الكافيين و النيكوتين و حتى الماء .كنتُ أشعر طيلة ساعات النهار الطويلة بصداع رهيب كان يسحق
رأسي و يطحنه و يفتته إلى أجزاء صغيرة متدحرجة متناثرة في كل االتجاهات ،و أنا عاجز عن التخلص من
الحلم و
صدى صوت دوران الدواليب داخل جمجمتي .كانت أالم ظهري و كتفي و ذراعي تقتلع آخر ذرات ِّ
الرزانة و الصبر من روحي ،جاعلتا مني مجرد حيوان يود أن يتشاجر بعنف مع أول كائن يصادفه في طريقه و
ألتفه سبب ،و كم كنت أتمنى أن يأتيني آغاكال الوغد الستفزازي في تلك اللحظات التي كنتُ أنشر فيها ما غسلته
من مناشف و قطع قماش على سلك معدني مربوط بين شجرتي تين و زيتون تقابالن بعضهما بالقرب من منزل
الدا إيدير .كنتُ أتربص و أنتظر ظهور الفخارجي لعله يُقدم على حماقة الحديث إلي ،لكن و لحسن الحظ أنني لم
أصادف غير وجه نانه تاملسة البشوش ،بعينيها الضاحكتين أمامي و هي تأتيني بإزار أبيض نقي تحدثني بكلماتها
القبايلية غير المفهومة و تشير إلي بحركاتها على أنه ربما يجدر بي أن آخذ قيلولة و أحصل على قسط من الراحة،
أو هكذا فهمت من حركاتها و هي ال تكف عن االبتسام وسط دجاجاتها اللواتي كن يتبعنها أينما تحركت في محيط
الدار.
كانت تلك فكرة جد مغرية ،فقد نمت طيلة الظهيرة و استفقت عند العصر و قد عاد مزاجي لالستقرار مع
اختفاء آالم الظهر و صداع الرأس ،و كي أقتل ما تبقى من ساعات اليوم ،قررت المشي نزوال إلى أسفل الجبل كي
أجري بعض المكالمات الهاتفية .أتحدث قليال مع وأبوي ،شقيقتي و شقيقاي .قلتُ أن الجماعة مجتمعون كلهم في
البيت اليوم و يا لها من مناسبة جميلة أتى بها رمضان الحامل الدائم للّمة العائلية و الحنين .حين خروجي من البيت
الورشة ،لمحتُ نانه تاملسة و هي تجلس القرفصاء بالقرب من كتلة كبيرة من الطين الجاف ،كانت تدقه بوتد
خشبي غليظ و هي تتوقف في كل مرة لبعض اللحظات لتستجمع أنفاسها الهاربة منها ،قبل أن تنهال على تلك
القطع اليابسة بالضرب مرة أخرى و هي تفتتها إلى شظايا أصغر فأصغر حجما.
258
وقفتُ أراقبها عن بعد لبعض الدقائق ،فإذا بها تحمل إناء من الماء و تبدأ في تبليل ما فتّته ....ال بد أنها الطين
التي سيشتغل عليها ابنها الحرفي في وقت الحق .نظرتُ إلى ساعتي ثم انصرفت نازال نحو األسفل وسط جو حار
و جاف و أنا ال أسمع صوى أزيز حشرات السيكادة و زقزقة عصافير بطني .كنتُ فقط أتمتم مشجعا نفسي....
_ '' سينتهي هذا اليوم إلى غروب شمس جميل فوق هذه السفوح .على األقل سأحاول أن أراه كذلك ،و سأدرك
قطعا أنها مسألة شهر واحد سيمر ،رغما عن ذلك الكهل المجنون ! ''.
259
-29-
القالب األول
الناس في قرية تيميزر بسطاء جدا .بسطاء إلى درجة أنهم ال يتكلفون كثيرا في مسألة وجبة اإلفطار ،التي ال
تختلف ع ما يأكلونه في باقي األيام ،كما قيل لي ،إال أن آل آفاو كانوا قد أكرموني مرة أخرى بديك مشوي وضع
لي مع حساء خضار و الكثير من الفاكهة التي طغت عليها حبات التين بشكل الفت .األمر الذي جعلني أعرب لهم
عن امتناني الشديد و أطلب بلطف و لباقة من نانه تاملسة أال تكلف نفسها كل هذا العناء مرة أخرى ،ثم أضفت في
شيء من السخرية أني و إن كنتُ ابن البيئة الحضرية إال أن جذوري قروية كذلك و أنا شخص مقتصد في حياته
بشكل فطري ،مما جعلها تضحك و هي تسألني عن أصولي ،فكانت متفاجئة حين أخبرها ابنها بنبرة ال مبالية بأني
قبايلي األصل ،من الجارة البويرة تحديدا ،فراحت تضحك و تقول له بأن سحنتي ال تخدع أبناء جلدتي ،فهي قد
شعرت بذلك منذ اليوم األول ،ثم ردَّت على مزحتي حين طلبت من عميروش إخباري أن هنالك في القرية عديد
الفتيات الشابات الجميالت ،اللواتي نضجن و صرن جاهزات للزواج ،في حال ما رغبتُ في االندماج مرة أخرى
مع دمائي القبائلية .الدا إيدير راح يهمهم بصوته المحبوس في عمق حنجرته ،مشيرا بحركات يده مقطبا وجهه
ممازحا هو اآلخر ،فالتفت إلي عميروش يخبرني أن والده ال ينصحني بذلك إطالقا و أنه يجدر بي أن أحذر بنات
الموردة الكثير من الخشونة و الغضب و
َّ القرية ألنهن – و رغم جمالهن األخاذ – يخفين خلف وجوههن البيضاء
الحسد و النفاق بسبب قساوة حياهن في هذه الربوع ،ثم ختم عميروش يخبرني أن والده يعتقد أنهن ساحرات
متمرسات أيضا و أنهن ورثن أعمال السحر و الشعوذة عن عجائز القرية ،و هنا ،دفعته نانه تاملسة بمنكبها و هي
تضحك مرددة .... '' ...تيخر إي ور ارغاز الحالة أس ( .'' ....دع الرجل الشاب و شأنه ! )
راح آغاكال الذي كان ماضيا في األكل دون أن يبين عن ابتسامة واحدة ،يخبرني أن والدته تنصحني أال
أستمع إلى سخافات العجوز إيدير ،في حين اكتفيت فقط بالضحك وسط ذلك الجو العائلي الطريف الذي خلقه
الكهالن وسط فناء دارهما البسيطة ،قبل أن يعود بالي تلك اللحظة و ينشغل بالجو المحتمل في البيت .تذكرتُ
صوت أخي البشير الذي حدثته تلك األمسية عبر الهاتف و هو يعرب عن أسفه الشديد كوني لن أكون حاضرا في
أول إفطار عائلي يحضره الجميع منذ سنتين أو ثالث ،و فوق هذا لن أكون حاضرا إلى جانبه لتشجيع المنتخب
الوطني ضد نظيره األلماني ،لكنه راح يحاول تهوين األمر على نفسه بدعوتي للمراهنة معه حول النتيجة .أخبرته
أن الفوز سيكون صعبا جدا على '' المانشافت '' رغم المنتخب الرائع الذي كسبناه في هذا المونديال ،و هو ما جعله
يمتعض و يتعصب لبلده قائال بأننا سنحقق معجزة شبيه بتلك التي حققناها عام ،74و سنتأثر لتلك المؤامرة الجبانة
و غير الرياضية التي حاكها األلمان مع جيرانهم النمساويين ضدنا في مونديال المكسيك.
أبي كان صوته هادئا على غير العادة عبر السماعة .بدى منشغال كثيرا بما يحدث في الشرق األوسط ،و هو
يعرب لي في شيء من العصبية التي راحت تتصاعد شيئا فشيئا عبر نبرة صوته أن الجميع منهمكون بمباراة جلد
منفوخ ناسين تماما ما يحدث لألمة العربية و شعبها األبي في سوريا ،التي كانت ت ُ ّ
مزق على مرأى و مسمع العرب
260
المنتشين بسكرة المونديال اللعين .أخبرني أن األمريكيين يبحثون سبل دعم ما وصفه بالمعارضة العميلة بنصف
مليار دوالر ،و هو مبلغ يحمل في طياته حبا جما و حرصا أكيدا على مصلحة العرب ،حسب نبرته التهكمية
الغاضبة ،قبل أن يقول بأن قلبه مثخن بهذا الجرح السوري و أنه بدأ يفكر جديا بتأليف ديوان شعري يرثي فيه حال
العرب اليوم بعد الثورات العربية .لم أجد شيئا أقوله له سوى أني شجعته على فعل ذلك ،و الحقيقة هي أني كنتُ
أود تشجيعه ضمنيا على تفريغ غضبه و كبته على األوراق بدل أن يفعل ذلك على صحته المتدهورة.
لم أكن مهتما كثيرا بالمباراة في تلك األمسية الصيفية الدافئة و الهادئة و ال أعلم السبب بالضبط .شيوخ و
كهول تيميزر كانوا قد توجهوا إلى جامع القرية الصغيرة لتدشين ليالي التراويح ،في حين التزم السواد األعظم من
السكان مساكنهم لمتابعة المباراة ،و هو ما جعلني أتل ّمس كالم والدي حول سكرة الجلد المنفوخ ،فحتى هنا ،في
تيميزر ،التي تبدو في وجودها و نمط عيشها معزولة عن العالم الخارجي و عن القرن الواحد و العشرين في كيس
زمني ثخين جدا ،إال أن نفحات عرس البرازيل الرياضي كانت قد تسربت إليها و غيرت شيئا ما من نمط حركتها
تل ك األمسية ،فأذهان الجميع كانت مضبوطة على توقيت و حيثيات المباراة ،ما عدى ذهني و ذهن آغاكال أيضا.
كنت أستمتع بتدخين سيجارتي األولى فوق سطح ورشته الذي صعدتُ إليه عن طريق سلم خشبي كان منتصبا
على الوجه الجانبي له ،حيث وجدتُ فوق السطح كرسيا بالستيكيا مسحت عنه الغبار و جلستُ فوقه أستمتع بتلك
النسمات الخفيفة ،التي كانت تلعب بالدخان المنبعث من فمي و أنفي .كنتُ ألتقط أصوات الصراصير و الصدى
الذي كان ينبعث من مكبرات صوت جامع القرية لصالة التراويح ،و كذا أصداء جوامع أخرى كانت قادمة من
بعيد بين مرتفعات بني يني الجبلية المظلمة المحيطة بنا .كنتُ أراقب تلك األشعة السمائية األخيرة من بقايا الشفق
األحمر و هي تهدي جبال جرجرة لمساتها الرقيقة األخيرة ،و كأنها تمنحها مداعبة الوداع لتجعلها تغفو في سالم.
غريب ! ،كان فكري قد عاد للدوران حول تلك التي يخطر اسمها ببالي و لو مرة في اليوم ،و بكل تأكيد أحاول
طمسه دوما بحبر مهنتي و مشاغلي الصحفية ؟ .طبعا ،الشهر هو شهر رمضان ،و هو أحد المواسم التي تجعلني
أتذكرها بطريقة ما ،و السبب في ذلك هو أنني تذكرت أنه في السنوات الماضية حين باعدت الظروف و األيام
بيننا ،و حين نال مني الندم على ما فاتني معها و حطمني الشوق إليها ،كان إذا جاء شهر رمضان ،الذي كان
يزورنا في فصل البرد و المطر ،إال و كنتُ كلما جلستُ إلى مائدة اإلفطار ،أقول متهكما و ساخرا على وضعي
البائس ذاك ،أنها الدقائق الوحيدة التي أعلم فيها يقينا ما الذي تفعله بهجة !.
_ هذه المرة لن يكون بمقدوري أن أعلم ،إال أذا تتبعتُ توقيت اإلفطار في البليدة ! .لكن من يعلم اليوم ،ربما
هي اآلن تتابع المقابلة على غرار 21مليون جزائري و 411مليون عربي ؟ !.
كان الحرفي قد شغل دوالبه في األسفل ،سمعته و هو يطلق العنان ألغانيه القبايلية الكالسيكية و ينطلق في
العمل تحت ضوء الغرفة الكبيرة نسبيا .نزلتُ من على السطح .دخلتُ عليه و وقفتُ غير بعيد عن الباب أراقبه و
هو في تلك الحالة الغريبة من الصمت .كان مركزا تماما مع تلك القطعة التي كان يشكلها بين أنامله و راحتا يداه،
ممسكا بسيجارة محترقة بين شفتيه حيث كان دخانها يتصاعد ببطء مالمسا وجهه و عينيه .التفتَ إلي و رآني شارد
261
الذهن أراقب حركات يديه الخفيفة على الصلصال األملس كمن راح ضحية تنويم مغناطيسي ،فكسر لحظة التأمل
تلك....
فهمتُ مراده .ألقيت إليه بنظرة تهكم و انصرفت و أنا أرفع التحدي بإصرار ممزوج بالغضب داخل نفسي،
بعدما قررتُ أن أصنع أول قالب طيني لي في ظرف أيام مهما كلف األمر ،خاصة بعدما خطر ببالي فكرة
صغيرة .فطيلة األيام التي تلت ،كنتُ أنهض باكرا ،أحمل معي قطع الصلصال المجهزة مسبقا فوق نقالة .أصل إلى
القسم ،أوزعها بالقرب من مكان كل تلميذ ،ثم أجلس ألتمرن على القطع الزائدة التي كنتُ آخذها معي .كان األمر
شبيها بما حدث لي في اليوم األول ،فمن اليوم الثاني إلى اليوم الثالث كنتُ ال أزال عاجزا على جعل كريات الطين
تستقر بين يدي في دورانها ،و إن كنتُ قد بدأت أعتاد على ريتم دوران اآللة .بدأت يداي و ذراعي تثبتان و
تتوازنان ريتم الدوالب ،لكن كريات الطين كانت إما تذوب و تستحيل إلى طين سائلة فوق الصحن ،و إما تلتصق
بشكل مقرف في يدي حين أحاول أال أبللها كثيرا فتكون أشبه بالبراز تماما .لكن لحسن الحظ أن تلك الصبية
الصهباء و اسمها تاسعديت ،و التي اكتشفتُ أنها كانت معجبة بي على نحو ما ،قد دأبت ابتداء من اليوم الثالث
على القدوم مبكرا رفقة جارتين لها إلى القسم ،فقط لتجلس و هي تسترق إلي النظر في إعجاب ممزوج بالخجل ،و
كثيرا ما كانت وجنتيها الورديتين تحمران بسرعة حين التفتُ إليها فأكتشف أن عينيها العسليتين الواسعتين
تلتصقان بوجهي .كانت المسكينة تحاول إخفاء وجهها الباسم المحمر خلف صديقتيها الثرثارتين ،و هي تتفقد شكل
جبتها الزهرية المطرزة بأزهار بيضاء و خطوط أرجوانية و محرمتها الزرقاء الداكنة ،كي تتأكد من أن منظرها
الئق.
تقربت منها و من صديقتيها تحت ذريعة رغبتي في تسجيل بعض الكلمات و األفعال القبايلية ،و هو ما
ّ
أسعدها و أربكها في نفس الوقت ،ثم تحول حديثي إليهن إلى الحرفة التي نتعلمها على يدي الفظ المتعنت ،فكانت
تاسعديت تشرح لي مكامن ضعفي في تعاملي مع الطين و التي رفض آغاكال أن يشرحها لي ،و هي تحاول
اإلمساك بالكلمات العربية الدارجة التي كانت تنفلت منها بصعوبة في خجل و سعادة .كأن بها كانت تعتقد في
قرارة نفسها أني أود الحديث إليها كوني أبادلها اإلعجاب .كانت أفكارها صغيرة و ساذجة ،و على األرجح أنها
كانت متأثرة فقط بحكايات المراهقات و الفتيات األكثر نضجا في قريتها حين يتعلق األمر بشاب وسيم غريب عن
ديارهن .أما أنا فقد اغتنمت فرصة ذللك االنجذاب العفوي البريء من طرف الصبية ألحصل منها على ما أريد
من شروح ،هكذا بدأتُ أفهم أن السر في تبليل الطين الذي يدور على الدوالب ليس الهدف منه جعله أملس ال
يلتصق ببشرة الكف فقط ،بل أيضا جعله لينا قابال للتركيز ،و عملية التركيز هذه هي تلك التي كنتُ أشاهد القوم
يقومون بها ،حين يأخذ آغاكال و تالمذته بالضغط على كريات الطين تارة ،حتى إذا زاد طولها و ارتفعت يقومون
بضغطها من األعلى نحو األسفل بأكفهم فيزيد عرضها و يتقلص طولها .كانت تاسعديت تشرح لي أن تكرار هذه
العملية عدة مرات في بداية العمل على كل قالب ،يجعل الطين تتركز على نفسها و ما إن يشعر الحرفي أنها
صارت أكثر كثافة و صالبة و ثقال بين يديه ،يدرك فورا أنها صارت جاهزة للتشكيل.
262
فهمتُ حينئذ َلم كانت الكريات الطينية التي كنت ّ ِّ
أدورها بين يدي تنهار بسرعة و تتفتت أو تذوب ! ،من كان
ليفكر بأن األمر هو هكذا ؟ .تركيز الطين على نفسها بمدها و ضغطها مع تبليلها قليال بالماء حتى تظل ملساء و
مرنة ! .هكذا راح أدائي يتحسن بشكل ملحوظ ابتداء من اليوم الرابع لي رفقة األطفال أمام نظرات تاسعديت ،التي
كانت تلقي بها إلي بين الحين و اآلخر و هي تومئ برأسها مبتسمة كأنها تقول لي '' أجل...أجل ...أنت تبلي حسنا !
'' ،إال أن آغاكال الحظ األمر أيضا ،و بدل أن يُشجعني ،و لو بطريقة ضمنية أو مبطنة ،فإنه زاد فقط من درجة
استفزازه لي ،فتارة كان يطلق نكتا عني جاعال األطفال يتضاحكون ،و أحيانا أخرى كان يشير إلي بيده و هو
يسخر من تلك األشكال الغريبة التي كنتُ أحصل عليها فتنتشر الضحكات وسط الغرفة ،كما كان يتقدم نحوي ثم
يقف بطريقة ساخرة ،يحملق مبتسما بحماقة إلى كريات الطين المرتعشة بين يدي و هو يدعو البقية بنظراته و
حركات رأسه بأن يتوقفوا عن العمل و ينظروا إلى الورطة التي كنتُ أجاهد بصعوبة للخروج منها ،كأنه يقول
بنظراته المستهترة '' :انظروا ...انظروا إلى هذا الغبي و ما يصنع ! '' .بل وصل به األمر في المرة التالية إلى أن
مشى خلف ظهري حين كنت منهمكا تماما في عملي و محاوالتي الجادة ،و ألقى على رأسي كتلة الزبة من الطين،
غطت كامل شعري و ساحت على وجهي و نظارتي .انفجر األطفال ضحكا بأعلى أصواتهم ،بل كان فيهم من كاد
يختنق من الضحك ،في حين راح الوغد يخبرني بكلمات فرنسية بأني أضيع وقتي في هذا المكان ،و هو ما جعلني
أتأكد من العكس تماما .لقد كان يعلم أني بصدد التحسن و أني في طريقي ألصنع له أول قالب يضعه أمام األمر
الواقع .التزمت الهدوء في تلك اللحظة .لم أقل شيئا و لم أقم بشيء ،سوى أني مسحتُ رأسي و وجهي و نظاراتي
بالمنشفة و أنا أفكر في صب الماء البارد على جسدي حين العودة إلى البيت عند منتصف النهار الحار و الجاف،
لكن مع نهاية ذلك اليوم حدث بيننا جدل حاد بعد اإلفطار ،حين حاولتُ دفعه ليشرح لي سر استفزازاته المستمرة
لي ،لكنه ظل متعنتا ثم صدني بوقاحة مبتعدا عني ،ف ما كان لي إال أن أبتعد عنه و أنا ألقي إليه بما جال في رأسي
من كلمات قدح كان يرد عليها هو اآلخر و هو ماض في حال سبيله...
_ جايح...
_ آبهلول...
_ داب....
_ آغيول....
_ و ّكال رمضان...
_ ................
....إلى أن لم يعد أحدنا قادرا على سماع ما كان يقوله اآلخر ،حيث اختفى كل واحد منا في طريقه الذي كانت
تلفه ظلمة المساء التي لفت قلب كل واحد منا تجاه اآلخر .قلتُ أنه لو لم يكن رجال كهال في السادسة و الخمسين
263
من عمره ،لربما وجدتني أفقد رباطة جأشي و أعصابي ألندفع نحوه و أحطم وجهه ،ثم أنصرف عائدا إلى بيتي
في العاصمة أو البليدة.
في اليوم الخامس لي في الورشة التعليمية الجهنمية ،أخبرني أنه قد يتأخر قليال عن الوقت المعتاد ،كونه كان
سيحضر اجتماع سكان القرية ،فقد كان يوم خميس و هو يوم تاجماعت في تيميزر .كانت تلك فرصتي ألطلب من
تاسعديت و بقية األطفال الذين صاروا يعرفونني و يحاولون التقرب مني بدافع الفضول ،بأن يشرحوا لي كيفية
تشكيل قالب طيني ،فاعترف الجميع أنهم لم يصلوا بعد إلى درجة االتقان التام للعملية ،إال أنهم راحوا يشرحون لي
األمر من زاوية نظرية ،و هي أنه و حين تصل الطين إلى التركيز الالزم حول نفسها ،فإنني أبدأ أوال بتقريب إبهام
يدي إلى بعضهما و أغرسهما بثبات و سالسة في منتصف رأس الكتلة الطينية الدائرة حول نفسها ،مع ترك يدي
محيطتين بهما من الجانبين بشكل يُحدث ما يُشبه الثقب الذي يغوص على طول لب الكتلة ،ثم أبدأ في توسيعه
بالمباعدة التدريجية بين إبهام يدي اليمنى عن إبهام يدي اليسرى ،مع االحتفاظ بثبات بقية أصابع اليدين التي تبدأ
المجوف لإلناء ،فتبدأ بذلك صورته بالظهور شيئا فشيئا.
َّ في نحت الشكل
ْ
اعترفت تاسعديت بصوتها الطفولي اللطيف و عربيتها المكسَّرة و وجهها المحمر بأن األمر يتطلب الكثير من
التركيز و الممارسة ،إال أني كنتُ قد اكتفيت من دروس تشكيل قوالب الطين و كان قد حان وقتي ألنهي األمر مع
عميروش ،بعدما قررتُ استعمال الدوالب الذي تشتغل عليه تاسعديت في العادة و هو ما جعلها تغتبط بشكل
واضح جدا ،ترك بقية ا ألطفال يتهامسون في آذان بعضهم و هم يرمقونها بنظرات ساخرة ،بينما اكتفت هي
بالتظاهر أنها غير مهتمة لخياري لوال أن االحمرار الشديد لوجنتيها الموردتين قد فضحها مرة أخرى .لكن من
جهتي ،فقد كانت تلك طريقتي في شكرها على اهتمامها بي .لقد استقبلتها الفتاة اللطيفة كقبلة عرفان مني إليها ،و
على األرجح كانت لتشغل تفكيرها و توقد أحالم يقظتها الطفولية البريئة لما تبقى من اليوم.
طبعا كانت محاوالتي األولى فاشلة أمام نظرات زمالئي الصغار الذين تجمعوا من حولي كما يجتمع األطفال
حول ساحر أو العب خفة و هو يستعد ليخرج لهم شيئا عجيبا من العدم .كانت حركاتي األولى غير موفقة ،فقد
كان الشكل المجوف لإلناء ينتهي إلى اعوجاج فاضح على الطرف أو في الفوهة ،و استمر األمر يتكرر مدة نصف
ساعة تقريبا ،لكن ما حصل بعد ذلك هو أنه حين اقترب آغاكال قادما من تاجماعت ،كان يسمع تلك الجلبة داخل
الغرفة ،و حين ولجها رأى األطفال يصفقون و يهتفون بحرارة ملتفين حول شيء ما .وقفتُ في وسطهم و أنا
أرمي بنظرتي نحو الحرفي الذي فهم ما يحدث .لقد أفلحتُ في صناعة أول قالب طيني لي ،القالب الذي رأيتُ فيه
مفتاحي الذي من خالله كنتُ سأفتح تلك البوابة الغليظة من السخرية و االستفزاز و الصد و الجفاء الذي استقبلني
به آغاكال مذ أن قبلتُ اقتراحه المجنون ذاك ،لدخول عالمه الحقيقي.
كان يعلم يقينا أنني ما كنت ألصل إلى تلك النتيجة لو اعتمدتُ على الدوالب المعوج الذي خصصه لي ،فلم
يكن في وسعه إال أن يبتسم و هو يتأمل فرحة األطفال و اإلثارة التي شعروا بها أمام إنجازي الصغير ،كأنهم كانوا
يهنئونني على تخلصي من تجبر معلمهم علي .كانت تلك أول مرة أرى فيها عميروش يبتسم من غير مكر أو
استهزاء .و في نهاية ذلك اليوم الرائع ،كنتُ أقف عند الباب الخارجي لدار الدا إيدير و قد أشعلت سيجارة لتوي
264
مباشرة بعدما نهضنا من حول مائدة اإلفطار .سمعتُ أحد مصراعي الباب الخشبي يفتح ،فإذا به عميروش يخرج
ماشيا بخطوات بطيئة متظاهرا بأنه لم يرن حين كنتُ مستندا على الصور الحجري بكتفي...
وقف في مكانه للحظة ،ثم استدار نحوي ،ثم تقدم إلي بهدوء مختزال عشرات األفكار التي كانت تدور في خلده
عبر تلك الخطوات الحذرة و تلك النظرة التي كثيرا ما استحمت في بحر من الشرود .كان عليه أن يميل برأسه و
هو يجمع كل انتباهه لشخصي ،و طبعا كان نوع من االعتراف يكاد يسيل من بين شفتيه ،أمام إرادتي و عزمي
على وضعه أمام التزامه من االتفاق ،و هو أن يطلعني على الشيء الذي أثار انتباهه أو فضوله أو أسئلته حين قرأ
مقالي عن وزيعة تيميزر .انتصب مواجها بثقة غامضة وقفة الغرور التي كنتُ أستمتع بها و هو يضع يديه في
جيبه ،قبل أن يدخل في صلب الموضوع بشكل مباشر و سريع...
_ أه ...أجل ..الروبورتاج .مقالك عن تاوزيعت كان جيدا .استعراض تاريخ تيميزر و تراثها الشفوي ،نفحات
مملكة كوكو المتمردة و أسطورة الولي أوعابد مع األتراك .المجتمع المحلي هنا ...وصفك لجو الحياة اليومية و
جو الوزيعة و أبعادها االجتماعية بلمسة إنسانية عميقة ...كان ذلك جميال ،أعترف بذلك .أنتَ ترى ،طول العيش
في هذا الجزء الصغير من العالم ،قد يؤثر على قدرة المرء في تقييم التفاصيل الصغيرة التي تحيط به و قد يراها
مجرد أشياء تشعل نكده المستمر و يأسه الدائم من المكان .لقد ذكرتني أن في تيميزر ،أرض أجدادي و قرية
أسالفي ،أشياء صغيرة ذات بعد إنساني تستحق أن تؤخذ على محمل التقدير .شكرا لك على المقال.
ارتبكت للحظة و اعتدلت في وقفتي .عينا الرجل كانتا غير ظاهرتين لي بشكل جلي بسبب الظالم الذي أخذ
يهبط على الجبل كقطع غليظة من الحذر الذي باعد بيننا ،و إال لكنتُ سأحزر بسرعة إن كان الرجل جادا في كل
ما قال أو كان يهزأ مني مرة أخرى ،كوني اكتشفت الحياة الصعبة و المرة لسكان هذا المكان طيلة مكوثي بينهم،
بينما لم أذكر ذلك كثيرا في المقال.
_ أه ،ال بأس يا ماس عميروش ،قمتُ بعملي فقط و الحق أني قد استمتعتُ كثيرا بكتابة القصة تلك األيام....
تقدم نحوي قبل أن أكمل جملتي تلك و هو مركز نظراته النافذة في عيني...
_ رغم ذلك يا آقشيش ،هنالك شيء شدني أكثر في المقال ،و هو الجزء الذي تتحدث فيه عن أن مكوثك في
تيميزر كان قد دغدغ ذاكرتك الطفولية البعيدة و أيقظ فيك ما وصفته بـ'' الصبي الصغير بداخلك '' .بالطبع وجدت
هذا التعبير مثيرا لالهتمام .ماذا كنت تقصد بهذه العبارة ؟ '' ،الصبي الصغير بداخلك ''.
انفلتت أنفاسي مني لوهلة .بل قل أني أحسستُ بقشعريرة سريعة و خاطفة و هي تسري في أطرافي و أنا
عاجز عن تحريك عيني من عيني الحرفي .غريب ما شعرتُ به تلك اللحظة .كأن بالرجل كان ينظر فعليا إلى
داخل رأسي تاركا جسدي و قد شل عن الحركة ! .كان صعبا علي التفكير في وصف بسيط و مالئم لفكرة األحمق
الصغير بداخلي...
265
_ يصعب علي إيجاد وصف دقيق لهذا المصطلح لو تعلم...
_ ال بأس ،هات ما يدور في رأسك ،حتى و إن كنت سترى الحقا أنه كان ناقص أو غير دقيق.
صم ُّ
ت و أنا أنظر إليه .مططتُ شفتي و أنا التقط أول فكرة كانت في ذهني عن هذا الشيء الغريب الذي ظل
يعيش بداخلي و ظللت عاجزا عن شرحه لنفسي ،كونه كان كثير الخمول و الكمون ،ال يستيقظ إال في مواسم
متقطعة من السنة ،أو في حدوث أمور محددة غير متوقعة ليُذكرني بمن كنت ذات يوم ....كان شيئا من هذا
القبيل...
_ لنقل ،أنه شيء مليء بعنفوان طفولتي الذي أشتاق إليه ،كوني أعتقد أن سنوات البلوغ و مشاكل الرشد قد
غيرتني كثيرا .إنه شيء ال أود أن أخسره ،لذلك ،أقوم بحمايته ...أو حماية ما تبقى منه بطرق ال أستطيع إدراكها
في الغالب .أحميه فقط من قذارة هذا الزمن .أنا صحفي و باحث اجتماعي ،مهنتي و مجال بحثي جراني ألفهم و
أرى مدى تعفن أحوال هذا الشعب و هذا البلد ،و هي ربما ليست سوى امتدادا لتعفن وضع العالم الذي نعيش فيه،
و هو ما يجعلني ربما أخشى أكثر على هذا الشيء الضئيل المتبقي من الطفل الذي كنته ذات مرة .أحيانا أشعر به
أنه هنا ليريني طريق الهروب إلى مكان ما ،لكني مجبر على البقاء حيث أنا ألواجه الواقع القذر للعالم الحاضر،
فأقوم فقط بتعنيفه و طرده ،ليس كرها له بل خوفا عليه مما قد يصيبه .......شيء من هذا القبيل.
طأطأتُ رأسي و كأني منكسر الجناح .ال أعلم لم أحسستُ بذلك .وجدتني و قد تقهقرتُ بظهري مهزوما نحو
صور الدار ،و كأني فعال قد تحولت إلى صبي صغير بصدد االعتراف بشيء يخجل من االعتراف به .بدى لي
األمر في غاية الغرابة .نحن نعيش طول حياتنا نعتقد أن لنا أسرارا أكثر قذارة و أفكارا أكثر جنونا و ال عقالنية،
نخبئها هنيهة لنبوح بها ألول شخص قد يصادف أنه يروق لنا .أما في حالتي تلك ،فقد كان ما بحتُ به قد يبدو شيئا
سخيفا ال يستحق كل ذلك االنكسار أو الخجل ،كما أني قد بحتُ به لشخص لم يرق لي منذ اليوم األول للقائي به.
كيف و َلم ؟ .المقال نشر في الجريدة بنسختيها الورقية و الرقمية ،و لم يثر موضوع الصبي الصغير انتباه أي
شخص وسط آالف القراء ،لكنه شد هذا الرجل المتوحد و غريب األطوار الذي يعيش في هذا المكان النائي ؟ .ال
أعلم ما الذي جعله يستشعر هذا األمر و يبحث عنه ،كما لم أفهم كيف وجدتني أحدثه عنه بتلك التلقائية.
رفعتُ بصري نحو آغاكال .كان ال يزال يحملق في متأمال ،إن لم أقل أن شيئا يشبه الدهشة كان قد تسلل من
نظراته الثابتة ،و ألول مرة أحسستُ أن شيئا ما قد تغير في طريقة تفحصه لي .كانت تقاسيم وجهه قد أزالت عنها
ندف الثلج و قطع الجليد التي اختفت تحتها منذ التقيت به أول مرة .غريب ! .كانت تلك نظرات رجل يبدو أنه
لطيف و متفهم ،راحت تخرج من عينيه كوهج خافت كان يمهد الطريق لبزوغ فجر ما .فجر واعد ،بعد ليل طويل
و بارد و مستفز.
_ ممممم ال بأس ....ال بأس .اآلن عليك أن تستعد أيها الشاب المثابر ،قريبا ستبدأ العمل معي في الورشة على
أواني الفخار .ستحاول تعويضي عن أكبر قدر ممكن مما حطمته قبل انقضاء عطلتك هذه هه ؟.
266
استدار .خطى بضع خطوات ثم التفت إلي و كأنه تذكر شيئا آخر....
أكمل طريقه دون أن يضيف كلمة واحدة و هو يبتعد متداعيا في العتمة آخذا طريق المقبرة .كان يمشي
بخطوات وئيدة مع انحناءة ظهره الصغيرة و هو يضع يديه في جيبه مطأطأ رأسه كأنه يتحسس الطريق أمامه ،أو
أنه كان قد غاص في أفكاره الخفية التي يض ُّج بها رأسه على ما يبدو .وقفتُ في مكاني و أنا أتساءل عن أي عيد
استقالل مجيد كان يتحدث و نحن لم نزل في نهاية اليوم الثالث من شهر جويلية ؟ .تعجبتُ من أمر هذا الرجل الذي
دأب على مناداتي '' آقشيش '' منذ اليوم األول ،و هي كلمة بربرية تعني ببساطة '' الصبي '' !.
-21-
كانت تشير إلى زهاء السابعة صباحا .كان نهوضي من الفراش ثقيال كوني لم أنم إال في ساعة متأخرة ،بعدما
أمضيت ليلة كاملة أتفحص تلك الكتب و المؤلفات التي فاضت بها الخزانة الخشبية ،التي قرر عميروش أخيرا
تركها مفتوحة – عن عمد بكل تأكيد – من ذ حديثنا األخير بالقرب من صور دار والديه حول الصبي الصغير
بداخلي ،حين أحسست أن شيئا ما قد تغير أخيرا في سلوك الرجل تجاهي ،و أنه قرر أن يُدخلني إلى عالمه الخاص
من دون تحفظ .طبعا بدى لي فتح الخزانة الخشبية أشبه بجائزة حصلت عليها بعد جهد جهيد ،و قد كانت مليئة
بكتب جلها باللغة الفرنسية من طبعات سنوات السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي .روايات مولود فرعون
و مولود معمري و الطاهر جاووت و كاتب ياسين و دمحم ديب و رشيد بوجدرة و .Albert Camusالكثير من
أعمال .Fiodor Dostoïevskiأشعار جان عمروش و .Victor Hugoكتب فرحات عباس و فرانس
فانون .مذكرات حسين أيت أحمد .كتب فلسفية لـ Heideggerو Merleau Pontyو Spinozaو
.Bachelardأعمال مترجمة لمشارقة مثل نجيب محفوظ ،جبران خليل جبران ،أمين معلوف ،ميكاييل نعيمة.
إيدوارد سعيد .بل حتى بعض كتب مالك بن نبي !.
كتب أخرى كانت في مجملها حول التاريخ القديم للجزائر لبعض المؤلفين الذين ال أعرفهم ،أشخاص مثل
Henri Bassetو Gabriel Campsو .Charles André Julienكتب تاريخية أخرى تتحدث عن
ثورة نوفمبر في مجملها للمؤرخ الشهير ....Benjamin Storaإضافة إلى مجلد ضخم ذو لون بني داكن و
أطراف متآكلة ،فوجئت به ينام في صمت تحت الكتب األخرى .إنه كتاب المقدمة ألب علم االجتماع عبد الرحمن
بن دمحم ابن خلدون الحضرمي !! .لقد كان المجلد بالعربية .تذكرتُ تلك اللحظة حديث الثعبان األشقر عن آغاكال،
فهو أكثر من مجرد حرفي أو قروي فقير يعيش على قمة جبل معزول .يكفي أن الرجل يقرأ كثيرا !.
تقدمتُ نحو الخزانة مرة أخرى .ألقيت نظرة سريعة على تلك المؤلفات التي كانت تفوح منها رائحة األوراق
و الكتب القديمة التي أعشقها ،ثم التفت إلى الخزانة المعدنية الموصدة بقفلها المعدني علي ألحظ أنه قد فتح هو
اآلخر ،لكنه كان ال يزال مقفال.
كان عميروش يجلس منكبا على دوالبه الدوار بالقرب من باب الورشة المفتوح على نسمة صباحية لطيفة
منهمكا بكل كيانه في تدوير الصلصال الذي كان يصنع منه قوالب كبيرة نوعا ما .طول مراقبتي له و لعمله عن
بعد طيلة أيام أيضا ،جعلني أستطيع تكهن أي نوع من األواني يجهز الرجل لصنعها بمجرد إمعان النظر إلى حجم
268
الكتل التي تدور بين يديه و الطريقة التي يقوم بتشكيلها بين أصابعه الطويلة الرقيقة ،و وفقا لما رأيت ،فقد كان
الرجل يستعد لصنع بضع مزهريات تلك الصبيحة.
تقدمتُ نحوه .لم أقل شيئا كوني كنت متأكدا أنه لن يعيرني أي انتباه أو اهتمام مادام يشتغل على تلك القطعة
من الصلصال كعادته .وقفتُ بالقرب منه و أنا ال أزال أمسك المنشفة بين يدي أمسح بقايا كريمة حالقة الوجه ،فإذا
بصوته و على غير العادة يباغتني .كانت تلك أول مرة يعمد فيها الرجل إلى الحديث إلي و هو في كامل انغماسه
في عمله ذاك....
_ جيراننا المصريين القدماء كانوا من أوائل الذين اخترعوا دوالب الفخار منذ ما ال يقل عن 2111عام.
كانوا يعتقدون أن الرب '' خيمو '' يصنع اإلنسان من الفخار على هذا الدوالب ،و أن الرب '' توت '' كان يقف
بالقرب منه ،تماما كما تقف أنت اآلن ،ليُسجل عمر االنسان و حياته و رزقه و حظه في الحياة .لهذا يجعل البعض
من هذه الحرفة قريبة جدا من الناحية الرمزية إلى الصناعة التي ال تتقنها سوى اآللهة ،و هي خلق الكائنات .أه
طبعا نحن اليوم في العام 4102للميالد .إنسان هذا العصر مفتون بالفيديو كليبات و كرة القدم و إعالنات
المأكوالت الجاهزة ،أليس كذلك ؟ .من يتأمل في ِّحكم الطين و أسرارها العجيبة اليوم ؟ .من يتأمل في ِّحكم و
أسرار الطين ؟.
أومأت برأسي كمن شده الحديث .طبعا ،كنتُ قد ضغطت على هاتفي المحمول و بدأتُ التسجيل متظاهرا أنني
اتفقده فقط .آغاكال كان قد بدأ في االنفتاح و الحديث ،و كان علي اغتنام الفرصة لتسجيل كل ما يمكن تسجيله ،عله
يسقط في زلة لسان قاتلة تفضي إلي ما أبحث عنه .....نظرتُ إليه ممازحا و أنا آخذ مكاني بالقرب منه فوق كرسي
خشبي صغير.
_ أعترف أن أبناء الحواضر الكبرى يعتبرون الطين شيئا مرادفا للعفن أو القذارة .يجدر بك ماس عميروش
أن ترى وجوه األمهات حين يستقبلن أطفالهن و هم ملطخون بالطين !.
_ سكان الحواضر في هذه البالد ال يزالون يشكون من عقدة نقص تجاه جذورهم الجبلية يا فتى .هذا مثير
للشفقة .من ذا الذي ينكر أصله األول ؟ .الشعب الجزائري ينحدر من الجبال و البوادي يا أقشيش و البشر كلهم
ينحدرون من التراب في النهاية ...كما كان يقول النبي دمحم '' :كلّكم آلدم و آدم من تراب ''.
_ ربما هي النقطة الوحيدة التي قد يلتقي عندها المؤمنون و غير المؤمنين اليوم !.
_ المؤمن سيقول بأننا خلقنا من تراب هذه األرض .الملحد قد يقول بأننا قد تش ّكلنا من تراب النجوم.
269
_ هه ،لو كان تشارلز داروين أمامك لما اتفق معك في هذا و لجادلك بالقول أن تركيب أنسجتنا الحية قد
ورثناه من آبائنا القردة ،و الذي حتما تأثر بعناصر الطين كون كل ما نأكله سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة
قادم من التراب و الماء .لكن لي زميلة في العمل كانت لت ُسر كثيرا بهذا الحديث معك لو تعلم.
_ الطين أكثر من مادة عضوية يا أقشيش .أحيانا أقول أن صناعة الطين قد تتقاطع مع صناعة األفكار ! .ثم
هل تعلم ؟ ،العالم اليوم قد تم خداعه على طـــــول الخط بالقول أن تاريخه قد صيغ بحد السيف ،لكن من وجهة
نظري الخاصة ،فالحقيقة هي أن تاريخ العالم قد صيغ بتالقي عنصرين ال يستريحان أبدا في الطبيعة ،فإذا التقيا
وقعت المعجزة .الماء و التراب .أما هذا العنصر العجيب المسمى '' صلصال '' فقد ّ
سطر تاريخ العالم و بني البشر
منذ البداية .وجودنا ،حياتنا ،تاريخنا ،تطورنا في العمران و كل ما يتبع ذلك ندين بهم له .انظر إلى أهرامات
الجيزة ،إلى أصوار بابل و أطالل سومر و بقايا آشور و مدينة بم و أضرحة تومبوكتو ......انظر إلى رائعة
جيش التيراكوتا الذي رافق االمبراطور الصيني Qin Shi Huangإلى العالم اآلخر ،في مشهد جنائزي فني لن
يتكرر أبدا .جيش من الفخار !!!...
قالها رافعا يديه إلى السماء ،ثم صمت و هو يتناول السلك المعدني الرقيق الذي مرره من تحت المزهرية التي
كان قد انتهى من صياغتها و تشكيلها .فصلها عن صحن الدوالب ثم حملها بحذر و تأن ليضعها أمام المزهرية
التي سبقتها كي تجف قليال ،ثم تناول قطعة الطين التالية و ألقى بها على الدوالب لكنه لم يكمل حديثه الذي أعجبني
و أثارني كثيرا .كان يبدو لي أنه الرجل الذي كنتُ أبحث عنه ،و كان علي أن أخزه بلطف و حذر حتى يسترسل
في تأمالته الفلسفية...
_ أه أنت ترى .مالك بن نبي خط معادلته العظيمة حول الحضارة :إنسان +تراب +وقت = حضارة .و أنا
أقول :تراب +ماء +حرارة ...يُعطيك خزفا و الخزف مرادف للحضارة و المدنية أيضا .كل الحضارات العريقة
تركت لنا شواهد من الخزف و الفخار أكثر من أي شواهد أخرى .المصريون .الفينيق .اإلغريق .الصينيون.
الفرس .العرب .الرومان .الوندال .القرطاجيون و أسالفنا النوميد .حيثما ذهبت ،إذا صادف و التقيت ببقايا أواني
طينية ،تعلم أن إنسانا ما مر من هناك ذات مرة.
توقف عن العمل لحظة و غاص بصره في الفراغ و كأنه ينظر إلى داخل رأسه ،ثم التفت إلي...
_ تعلم ؟ ،كنتُ دوما أقول أنه لو كنتُ من أصحاب األصوات المسموعة في هذا البلد ،لدعوتُ إلى اتخاذ آنية
تيدّيس الفخارية رمزا قوميا لنا ،بدال من االستمرار في اعتبار حيوان ضعيف يدمن الحفر و مطاردة الصراصير
و االختباء في الرمال كالفنك '' رمزا '' لهذا البلد الشاسع .أال توافقني الرأي ؟.
_ هممم تيدّيس ؟ .هذه الكلمة ليست بغريبة علي .أليست اسم أطالل رومانية توجد ناحية قسنطينة ؟.
270
_ افحص الكلمة قليال ''....تيدّيس '' .رنة االسم وحدها كفيلة بجعلك تشعر أنها أمازيغية األصل .الفخاريات
التي اكتشفت هناك في المدافن و التي بقيت سليمة و معافاة على مدار ألفي سنة ،شبيهة تماما في أشكالها و الرسوم
الهندسية التي تزينها لما نصنعه اليوم في تامورت لقبايل و تامورت إيشاوين .لم يتغير فيها الكثير .هذه األواني
الفخارية و الرسوم التي تزينها هي أكثر من أواني يا هذا .إنها صلتنا المباشرة بأكثر من ألفيتين من وجودنا في
هذه البالد ،و هذا شيء حتما يبعث على الفخر ........و سكينة النفس أيضا !.
ممتـــــــــــــاز ! .الرجل كان يبلي حسنا و هو ماض في الغرق في البوح لي عما يؤثث رأسه من أفكار و
قناعات ،يبدو أنها نبتت كلها من فكرة '' الطين '' تلك كما ينبت برعم نبتة متسلقة من بذرة خفية مغطاة بتربة
خصبة و مسقية جيدا .لكن ما الذي سقى تربتك يا أغاكال ؟ ،أهي خسارة أو خيبة ما ؟ ،أهو غضب ما ؟ ،حقد دفين
جعلك تتوحد في عالمك الخاص و تؤسس لهذه البدايات التي تنبئ بوجود شيء ثوري لم يتبد لي بعد ؟ .شخص
يطالع روايات دوستويفسكي ال بد أنه إنسان وصل إلى اكتشاف معنى اليأس الكامل .ما الذي يسقي أفكارك يا رجل
؟ .هيا يا رجل ....اعطني المزيد ...المزيد !!...
_ هه أصدقك القول ماس عميروش ،مفهومك عن الطين و الصلصال مميز جدا !!...
_ أليس غريبا أن شخصا متوحدا و غريب األطوار مثلك يتواصل بهذا الشكل الجميل و البنّاء مع األطفال ؟.
_ الحقيقة أنني أتعلم منهم أكثر مما يتعلمون مني .تعلم ؟ ،مع األطفال تكتشف أن األشياء تحتاج فقط لتُرى كما
هي ،من دون روتوشات أو تعقيدات جانبية تافهة .نحن معشر الكبار نميل بشكل غريب إلى تعقيد األمور األكثر
بداهة في العالم و في ذلك سببين يلتقيان في نقطة محددة :إما رغبة في الشعور بأننا بالغين و متمكنين فعليا من هذا
العالم ،و إما هروبا من حقائق نخشى مواجهتها في الغالب.
271
_ أشياء أكثر بداهة ؟....مثل ماذا ؟.
_ أه ال أدري ...بديهيات ....أعطني فكرة ما تجول في خاطرك اآلن تحديدا ،و سأحاول النظر إليها بعيني
طفل صغير !.
تبادلتُ معه نظرة و ضحكة متواطئة ،قبل أن يقف من مكانه و يخطو إلى خارج الغرفة حين سمع أحد تالمذته
الصغار يناديه من أمام المنزل ،حيث تبادل معه بعض الكلمات ،فاغتنمت الفرصة لتفقد هاتفي المحمول و التأكد
من أنه ال يزال يسجل كل ذلك الحديث الرائع و يجمع كل تلك المادة الصحفية الدسمة و الثمينة ،قبل أن يعود
عميروش ليخبرني أن سكان القرية يستعدون لزيارة مقبرة الشهداء لالحتفاء بذكرى عيد االستقالل ،و أن الجميع
مطالبون بحضور الوقفة التي تعتبر منذ سنوات إلزامية بنص من تاجماعت .عجّل بمسح يديه و وجهه مما علق به
من طين ثم خرج ليخبر والديه .كنتُ أجلس و أنا أكاد أبتسم من اإلثارة .ربما كانت بسمة المكر أيضا ؟ .كنتُ أدرك
أنني أول صحفي يقوم بتسجيل أحاديث آغاكال الغامض المليئة بالتأمل و البوح .كنتُ مسرورا و مدهوشا من ذاك
المستوى الفكري ،الذي أزاح عنه الرجل ستائر البالدة المصطنعة ،ستائر كان قد فرش أمامها مساميرا مزعجة
من الفظاظة التي كان لي أن أجتازها بألم و غضب قبل أن أصل إلى تلك اللحظة الشهية.
**********
سرنا في موكب قروي كبير جدا .على األرجح أن كل سكان القرية كانوا حاضرين ضمن تلك السلسلة
البشرية الطويلة التي انطلقت من أكبر شارع يقابل مدخل القرية و تبعا لذلك رحنا نصعد الطرقات في سير
امتزجت فيه األلوان و األصوات و الروائح ،فتشكل بذلك الطابور الطويل المتحرك شبه ثعبان بشري أرقط ،طغى
عليه اللون األبيض للبرانيس مع بقع من األلوان الزاهية التي كانت تعكسها جباب النسوة و محارمهن تحت أشعة
الشمس .شباب و شابات ،رجال و نساء ،شيوخ و عجائز ،و أطفال كان بعضهم يحمل العلم الوطني و هم
يركضون و يقفزون بين األرجل و األجدع .الكل كان حاضرا بشكل أثار إعجابي الشديد بهذا النوع من االلتزام ''
ْ
طلقت المواطناتي '' بعد ذلك الذي أثاروه في نفسي خالل عيد تاوزيعت قبل مدة قصيرة .كيف يعقل ذلك ؟ ...أفلو أ ُ
272
نفس الدعوة في بلدية أو حي من أحياء العاصمة أو البليدة أو أي مدينة جزائرية أخرى للسير نحو مقابر الشهداء
لتذكر تضحياتهم في يوم االستقالل ،كم من '' مواطن '' كان ليلبي الدعوة يا ترى ؟ .مسيرة أهل تيميزر لم يكن فيها
أي مسؤول حكومي .مجرد موكب من القرويين البسطاء يتقدمه مجموعة من المشايخ المرابطين و بقايا مجاهدي
جيش التحرير الوطني يتوسطهم الدا إيدير ،و قد تقوست ظهورهم و انكمشت مالمح وجوههم.
قلتُ في نفسي و أنا أحمل هاتفي المحمول و التقط بعض الصور و المقاطع للمسيرة جازما في نفسي أنه في
تلك الليلة ،الخامس من جويلية ،لن تطلق الشماريخ و األلعاب النارية التي مألت سماء الجمهورية يوم تأهل
المنتخب الوطني لكرة القدم إلى الدور الثاني للمونديال البرازيلي ! .كنتُ أجزم في قرارة نفسي في شيء من
الغضب الذي ّلون أنفاسي أن الليلة و هذا اليوم ككل ،سيمر كيوم عطلة مدفوعة األجر و كفى .حيث سيكون هم
اإلنسان الجزائري فيه هو تحصيل وجبة إفطاره اليومية ،مشاهدة بعض البرامج الفكاهية الرمضانية الساذجة على
قنوات التلفزيون ،ثم السهر إلى ساعات الصبح األولى مع األلعاب و المشروبات و الثرثرة ....ال أثر لعيد
االستقالل ! .التفتُ إلى عميروش الذي كان يسير إلى جانبي في صمت واضعا يديه خلف ظهره...
_ هل إحياء عيد االستقالل دوما يسير بهذه الطريقة عندكم هنا في تيميزر ؟ ،أهو نفسه في القرى المجاورة
في المنطقة ؟.
_ حتى القرى المجاورة تحيي الذكرى هكذا ؟ ،بالمسيرات و الوقفات و األعالم ؟.
أومأ برأسه مرة أخرى .كان يبدو مضطربا على نحو ما .طبعا فهو ال يحب االكتظاظ و االختالط...
ازدادت أعداد المنضمين للمسيرة على طول الشارع و األزقة الفرعية التابعة له .كانوا يقفون على طول
المنحدر ينتظرون مرور الموكب لالندماج فيه كقطرات شاردة من الماء تنتظر فوق األوراق لتقفز في السيل و هو
في طريقه .واصل الثعبان البشري زحفه البطيء إلى غاية مقبرة القرية التي اجتازها ليصل بعدها إلى مقبرة
الشهداء التي كانت تجاورها و ال تبعد عنها سوى ببضعة أمتار ،ال يفصل بينهما سوى حاجز حجري قصير
تمكنت منه الحشائش الشوكية التي تمكن منها الحر و الجفاف هي األخرى .وصلنا إلى مقبرة الشهداء و قد خف
ضجيج الحناجر بشكل ملحوظ ،حين لم يرغب عميروش في التقدم و فضل البقاء في ظهر الجمع .أخبرت ُه بأني أود
أن أرى ما يحدث في المقدمة و شققت طريقي بين السكان ،الذين استطعت تمييز بينهم بعض الوجوه التي بت
أعرفها و تعرفني ،كالقرويين الذي أجريت معهم حوارات متفرقة أول مرة حول تاوزيعت و أسطورة سيدي
أوعابد .الشاب سيفاقص و صديقيه سيد علي و مقران ،و طبعا زمالئي الصغار في صف صناعة الطين و في
مقدمتهم الصغيرة تاسعديت ،التي كانت تسترق النظر إلي بخجل و هي تقف إلى جانب سيفاقص ،تش ّع كنجمة
صغيرة في جبتها القبايلية البرتقالية الناصعة .تفطنتُ فجأة إلى الشبه الكبير بينهما و أدركتُ أنهما شقيقان.
273
لم تكن الوقفة طويلة زمنيا .ربما أ رادتها تاجماعت كذلك بسبب حر الجو و مشاغل الناس ،خاصة النساء
منهم ،و هن مرتبطات بمشاغل الطبخ و تحضير إفطار اليوم .فكان هناك رفع للعلم الوطني و تالوة لفاتحة الكتاب
و ترحم على أرواح من سقطوا خالل حرب االستقالل ،ثم كلمة قصيرة إلمام القرية الشيخ عبد السالم أو لمين،
الذي كان يقف بالقرب من النصب التذكاري المتواضع الذي يتوسط المكان ،الذي بدى أنه قد أقيم بجهود محلية
صرفة ،و الذي وضعت عليه حينها بعض باقات الزهور ،لتذ ّكر أبطال القرية ممن سقطوا خالل العمليات ضد
الجيش الفرنسي ،أو أالئك الذين سقطوا خالل الغارات التي كان ينفذها الطيران الفرنسي على القرية من حين
آلخر ،أو أالئك الذين تم إيقافهم و تعذيبهم و قتلهم على يد العسكر الفرنسي و عمالئه من الحركيين ....طبعا علمت
كل ذلك كون الفتى موسى كان قد وقف إلى جانبي خارجا من الفراغ كشبح متربص و هو يترجم لي تقريبا ما كان
يسمعه عن بعد ،لكنني قاطعته فجأة حين طرأ سؤال على ذهني كان بعيدا تماما عن الحدث....
_ ماذا ،ألم يُخبرك و أنت الذي بات يالزمه كظله ؟ .الرجل ذو مستوى جامعي.
_ أه ال أدري يا آڨما .شيء تقني .كان فرعا تقنيا لكن ال أدري ما اسمه بالضبط .على كل حال فهو لم يكمل
دراسته في النهاية بسبب كثرة التوقيفات التي كان يتعرض لها من قبل البوليس السياسي وقتها ،فقد وقعت له
مشاكل عدة مع الحكومة كغيره من الطلبة الذين كانوا ينشطون في الحركة البربرية نهاية السبعينات .الجميع في
القرية يحفظون أن عميروش كان من أوائل أبناء القرية الذين وصلوا إلى الجامعة بسبب تفوقه الدراسي و ذكائه
الشديد .لكن أنت ترى حال المسكين اليوم ،هه مجرد رجل معتوه يعيش وحيدا في عالم خاص و غريب ال أحد يعلم
ما يدور فيه ،و فوق كل هذا فقد دمر حياته األسرية و خسر كل أصدقائه .....دعنا منه و من الغيبة اآلن.
كانت الجمل األخيرة التي نطق بها موسى قد امتزجت بشيء عكر في وجهه .البسمة الماكرة و النبرة المتشفية
كانتا جليتين ،و هو شيء لم يعجبني فيه ،لكني لم اشغل بالي به مع نهاية الوقفة ،بل هممت فقط باالنصراف كما
كان يفعل القوم ،قبل أن أرى الفتى األشقر سيفاقص الذي كان يتقدم مباشرة نحوي ،عبعينيه الزرقاوين
المغروستين في وجهي ،قبل أن يبعدهما عني في اللحظة التي كان يمر فيها على يساري ،ملقيا إلي بعبارة واحدة
جعلتني أوقن بأن الفتى يشكو من غل شديد و سوء فهم مستشر و جحيم ال يُطاق من األحكام المسبقة و المعممة...
طبعا ،كنتُ '' الخربي '' الوحيد الواقف وسط جمع كبير من البربر ،لذلك وصلتني الرسالة بوضوح كامل.
أردتُ أن أخبر أحدا من أقاربه بأن الفتى فعال بحاجة إلى المساعدة .ربما بحاجة أيضا إلى شقيقته الصغرى،
تاسعديت صاحبة الوجه األبيض المورد و النظرات الخجولة البريئة ،لعلها تعلمه شيئا من الود ،لكن ذلك كان
274
ليكون صعبا جدا ،فاألفكار التي تفتك بعقل الشاب المسكين كانت على األرجح نتاج سنوات من الغليان الداخلي
الصامت ،الذي لم ير أحد فواره ،و الذي قام بتسعيره بعض من هم أكبر سنا ممن يتقاسمون و يتوارثون نفس
األفكار التي يجاهر بها الفتى اليوم .طبعا مشكلة الجزائريين ضلت كما هي ،فنحن بارعون في التعبير عن قناعاتنا
بأسوأ الطرق الممكنة.
بحثتُ ببصري عن عميروش فلم أجده .اعتقدتُ أنه على األرجح قد سبق الجميع في االنسحاب عائدا إلى
البيت كونه كالهر ،ال يحب االختالط كثيرا ببني جنسه إال للضرورة ،لكنني كنتُ مخطئا ،فحين عبرتُ الحاجز
الحجري القصير الفاصل بين المقبرتين ،لمحتُ الرجل من بعيد و هو منحن على أحد القبور ،يقوم بتنقيته من
بعض األعشاب الجافة و اليابسة التي أحاطت به و قد غزت وجهه مسحة داكنة جدا و امتأل جبينه بقطرات عرق
كبيرة .كان يقتلع تلك األعشاب على عجل .حجم القبر و طوله لم يتركا لي المجال للشك .لقد كان قبر ابنه البكر
الذي قيل لي أنه قد فقده.
وقفتُ أراقب عميروش المسكين و هو على تلك الحال .كان يحاول اإلسراع و هو ال يكاد يجد القوة للنظر إلى
شاهد القبر حتى ! .أعترف أنني شعرتُ بأسف عميق تجاهه تلك اللحظة ،حتى و إن لم أكن أعرف بعد تفاصيل ما
حدث .لكن عميروش و هو على تلك الحال من االضطراب و السرعة ،كان كمن يحاول يائسا و بال جدوى اقتالع
بقايا ألم تطوق اإلشعاع األخير لذاكرة غالية اختطفها الظالم بشكل خاطف و غير متوقع ،أو كمن يحاول الهروب
مبكرا من فجع جارف عبر نافذة ضيقة على وشك االنغالق ،حتى ال تمسك به أيادي من الدخان ،تجره نحو هاوية
عويل سابق قد يُغرق قلبه مرة أخرى في الرعب و الوجل و الشلل التام ! .بال ريب ،الرجل كان يود الهرب مبتعدا
في أسرع وقت ممكن من قبر ابنه ،و هذا يعني أنه ال يزوره إال نادرا على ما يبدو .الذاكرة ال تزال حية و الجرح
لم يندمل بعد ...بل لم يندمل يوما ،تبعا لما كنتُ أرى.
تقدم رجالن بشوارب بارزة ،يبدوان في العقد الرابع من عمرهما ،و راحا يتحدثان إليه في انفعال واضح حين
توقف عن تنقية القبر و هو ينظر إليهما في صمت .ألقى بحفنة األعشاب اليابسة التي كانت بين يديه على الجانب و
راح ينفض يديه و إذا بأحد الشابين يتقدم نحوه في حركة انفعالية شادا إياه من قميصه بعنف و هو يصرخ.
صرخاته أثارت آخر المنسحبين من المقبرة و جعلتهم يلتفتون خلفهم و يعودون أدراجهم ليقفوا متفرجين عن بعد
دون أن يتدخل أحد منهم .لم أفهم ما كان يحدث .تحركتُ تلقائيا من مكاني بفضولي الصحفي القترب من الرجال
الثالث الواقفين عند قبر الفتى ،لكني أحسست بمسكة قوية تلك اللحظة و هي تطوق عضدي األيسر .التفت ورائي
فإذا به الشيخ عبد السالم مومئا برأسه بأال أتقدم...
_ إلى أين يا بني ؟ .هذه مسألة عائلية خاصة جدا .من فضلك ال تتدخل .دعنا نحن أهل القرية نتصرف.
أومأت برأسي موافقا على كالمه .تركني واقفا في مكاني و هرع رفقة المؤذن مولود و بعض مشايخ
تاجماعت ليحولوا بين عميروش و الرجلين .لم أستطع الصبر على فضولي ،فتقدمت نحو موسى الذي كان هو
اآلخر يراقب الوض ع عن بعد سائال إياه عمن يكونان ،فأجاب بنوع من الشرود و هو مأخوذ بفضوله الكامل نحو
275
ما كان يحدث ،بأنهما خالي الصبي '' المقتول '' ،زيري ،ابن عميروش ،و أنهما رفقة كل أفراد عائلة '' طليقته ''
يمنعون عميروش منذ سنوات طويلة من االقتراب من قبر ابنه....
انقضت قشعريرة شديدة على كامل جسدي تلك اللحظة ،مع إحساس قريب إلى الصدمة و أنا أنظر إلى
عميروش الواقف هناك وسط القوم المتجادلين...
اتَّضحت الصورة أكثر في ذهني .فهمتُ كل شيء .فالرجل كان يسرع في تنقية قبر ابنه من الحشائش خشية
أن يراه أفراد أسرة الزوجة السابقة ! .نظرتُ إلى الرجل .كان هادئا جدا أمام كم الصراخ و الشد الذي صبه عليه
شقيقي طليقته ،إن لم أقل أنه كان مستسلما تماما للوضع .رأيته على تلك الحال كجندي ألقى ببندقيته أرضا و وقف
من مكانه المحصن وسط وابل النيران ينتظر الطلقة الشاردة أو المصوبة التي ستنهي عذابه و حزنه الخفي .لكن
األمر لم يستمر أكثر من 01دقائق بتدخل المشايخ المرابطين ،حيث انسحب الرجلين و عالمات الغضب الشديد
كانت لم تغادر وجهيهما المكفهرين بعد ،بل كانا يستديران نحو عميروش بين الحين و اآلخر و هما يتوعدانه
ب حركاتهما ،حين وصل الدا إيدير و نانه تاملسة لتوهما عائدين أدراجهما و هما يلهثان بعدما سمعا بما يحدث
خلفهما .مرا عبر القوم و هما يحاوالن اإلسراع بصعوبة واضحة بسبب سنهما و آالم جسديهما الهرمين ،متجهين
مباشرة نحو ابنهما الذي كان ال يزال واقفا رفقة اإلمام و بعض الكهول و هو يضع يديه في جيبه ،بدون حراك،
كتمثال خزفي أثري فقدَ كل المعالم التي قد تمكن من تفسير المشاعر التي يعبر عنها في تقاسيم وجهه.
_ هل ترى ؟ ،لم يعد هنالك أحد يرغب في الدفاع عن آل آفاو المكحوسين في القرية ،و لوال أن تاجماعت
تُنصف الكل هنا و تتحرى الحياد بشدة في مسائل الصراع بين العوائل ،لتم نفيهم من القرية إلى األبد !.
قال موسى بنبرته القبايلية و هو ينسحب عائدا إلى بيته ،عاجزا عن إخفاء تلك البسمة الماكرة التي زادت من
امتعاضي منه و تيقني أنه شخص يحمل حقدا غامضا على عميروش ،رغم أنه يشتري منه أوانيه الفخارية ليقوم
ببيعها للزوار و المارة على طول الطريق الوالئي الحادي عشر .أهو حقد شخصي ؟ ،أم مجرد عدوى حقد و كره
أصيب بها موسى من طرف من ال يحتملون آغاكال في القرية ،بغض الطرف عن سبب كل هذا الكره ؟ .لكن أي
وحدة هذه ،و أ ي عجز هذا الذي يجعل من رجل خمسيني ال يفكر في رد هجوم لفظي عنيف و ال يملك سوى أن
يقف مكتوف األيدي منتظرا أبويه العجوزين للتدخل و الوقوف بجانبه ؟ ! .ال أشقاء و شقيقات ،ال أقارب ،ال أبناء
عمومة و ال حتى أصدقاء ؟ .تساءلتُ في نفسي طيلة تلك األمسية الحارة و الثقيلة ،التي طغت على أجوائها روائح
276
هاربة من الغابات المحترقة ،و هو ما قاله لي عميروش حين عودتنا إلى البيت بنوع من التهكم و السخرية
الحزينة ،ربما في محاولة للنسيان أو تناسي ما حدث في المقبرة....
_ إنه موسم إحراق غابات القبايل يا فتى ! ...أليس جميال أن يتزامن ذلك مع عيد االستقالل ؟ !...
طلب مني أن أنتظره أمام باب الدار إلى أن يطلب مني إدخال دلوي ماء كان قد وضعهما تحت شجرة بلوط
قريبة ،ثم دخل إلى فناء منزل أبويه ليقوم بمساعدة والده على االستحمام ،بعدما جهز له آنية معدنية كبيرة ،ظل
الشيخ إيدير يفضل مألها بالماء صيفا و الدخول فيها لالستحمام و التبرد .بينما يقوم ابنه بحك ظهره و تبديل الماء.
بقيتُ واقفا هناك شاردا تماما مع أفكاري أستعيد و أر ِّتّب كل ما جاد به يومي من أحداث رفقة هذا الرجل
الغامض الذي رأيته كبئر عميقة ،كلما سحبت منها دلوا من األسرار و المعلومات أدركت أن ما يزال في قعرها
يفوق بكثير مما هو بين يدي .تفقدتُ هاتفي المحمول .أرختُ الوثيقة الصوتية التي تحمل الحديث الصباحي المبكر
آلغاكال حول ما س ّميته بـ'' أيدولوجية الطين '' خاصته .ثم نقلت الملف من ذاكرة الهاتف نحو شريحة تخزين
معلومات رقمية .نزعتها من الهاتف و وضعتها في جيبي حيث لن يصل إليها أحد ،قبل أن تسحبني أفكاري مرة
أخرى و أنا أتفقد الساعة بين الحين و اآلخر .كان يفصلنا عن موعد اإلفطار سوى نصف ساعة .لذلك كثرت الجلبة
في فناء البيت .كنتُ أسمع حركة و حديث نانه تاملسة و هي منهمكة في تحضير مائدة اإلفطار ،قبل أن يأتيني
صوت آغاكال و هو يناديني بأن أحضر الدلوين و أدخل.
حملتهما ثم دفعت أحد مصراعي الباب الخشبي المهترئ بكتفي و أنا أطل برأسي أوال .أشار إلي بالتقدم
فدخلت و أنا أقترب منهما .كان الدا إيدير مقابال إياي بظهره في حين كان ابنه يجلس على جانبه األيمن و هو
صرف عبر قناة
مستمر في تفريغ آنية االستحمام المصنوعة من األلومينيوم من الماء الذي ابيض من الصابون ،ال ُم َّ
صغيرة محفورة بعنياة ،كانت تعبر تحت جدار الفناء الحجري ،لتأخذ مجرا الماء العكر نحو المنحدر الذي يطل
على الجرف الصخري الذي بني البيت بالقرب منه.
بدى الدا إيدير أصغر حجما بكثير و هو من دون مالبس .كان جسده نحيال جدا .رأسه كبيضة نعام يغطيها
زغب أبيض خفيف .ذراعيه كعودي شجرة زعرور .عنقه كعنق سلحفاة ،و ظهره مقوس بشكل جلي جعل عموده
الفقري أكثر بروزا ،و أكثر من ذلك ،كان مليئا بندوب غائرة كانت تتوزع على طوله و عرضه ! .آثار لجروح و
حروق قديمة ،و آثار لطلقين ناريين تحت كتفه األيسر ال ريب أنهما من أيام حرب االستقالل .كل تلك اآلثار جعلت
قشعريرة غريبة تسري في جسدي و تسمرني في مكاني ،حتى قبل أن أضع الدلوين بالقرب من عميروش الذي
شوهت جسد والده ،الذي كان
الحظ عالمات التأثر و االستفهام الكبيرة التي قفزت من وجهي نحو تلك اآلثار التي َّ
يبدو غير مبال بوجودي و هو يستمتع بحمامه كأنه رضيع يوضع في الماء.
_ ضعهما هنا يا أقشيش .سوف يوضع اإلفطار بعد قليل فال تبتعد كثيرا.
277
وضعتُ اآلنيتين ثم انصرفت في صم ت ،و طبعا بعد يوم مثخن بمختلف األحاسيس المتناقضة ،كان صعبا
علي أن أبتلع تلك اللقيمات القليلة من الكسكسي ،في حين كان آغاكال أول من نهض من أمام المائدة ،فحضوره
اليومي هو من أجل مجالسة والديه و مشاركتهما بعض الطعام ،كونه ال يكلف نفسه الصيام أصال .ألقل أن إفطار
تلك األمسية كان أقل حميمية و مرحا مما سبقه .فنانه تاملسة كانت قليلة الثرثرة و الضحك ،و الدا إيدير كان أكثر
شرودا مما هو عليه في العادة .كنتُ أمضغ طعامي ببطء و تصنع و أنا ألقي بناظري إلى وجهه الشاحب بين الحين
و اآلخر ،أجزم أنه يفكر فيما حدث البنه في المقبرة .ثم رحتُ أفكر في تلك الندوب و الكدمات المزمنة التي يحتفظ
بها جلده األجعد و يغطيها قميصه المهترئ...
_ '' ما قصتك مع ابنك القتيل يا أغاكال ؟ .و أي نوع من القصص كنت لتحكيها لي يا دادّه إيدير ،لو أمكنك
النطق فقط ؟ ''.
-22-
الّلب
التحقتُ مباشرة بورشة آغاكال الذي كان قد شغل دوالبه بعد اإلفطار مباشرة على غير العادة .كان يدخن غلي
مشاغال من دون موسيقى .كونه ال يفعل ذلك إال في فترات الصباح في الغالب .دخلتُ عليه .ألقيت إليه بنظرة
278
سريعة .لم ينظر نحوي ،فاتجهت نحو الغرفة و شغلت التلفاز .دخنت سيجارتي األولى ذلك اليوم .افترضت أنه
ربما يكون عكر المزاج لذلك ال فائدة من محاولة فتح حديث معه شبيه للحديث الذي جمعنا تلك الصبيحة .لكن
صوته فاجأني تلك اللحظة .خرجتُ من الغرفة إليه ،فطلب مني أن أقوم بإحضار كريات الطين التي عند الباب.
خرجتُ و أنا أرم ي بأناملي إلى هاتفي المحمول أجهزه للتسجيل الصوتي ثم ألقيت به في الجيب الصدري
لقميصي .حملتُ إليه كريات الطين التي كانت مرتبة على صفيح معدني واضعا إياه على جنبه.
_ ال ..ال ،أنت مشوش الذهن هذه األمسية كما أفترض .لذلك قد يكون أداءك أسوء مما كان عليه أول مرة في
الورشة مع األطفال.
التزمت الصمت ،كإشارة مني إليه على أنني فعال مشوش الذهن و أن أسئلة كثيرة تعبث به ،فنظر إلي بسرعة
و بديهة عجيبة...
_ أظنني أفهم ما تمر به اآلن يا فتى .لديك الكثير من األسئلة حولي و حول والدي ،أسرتي ،حول حياتنا في
تيميزر ،و بالرغم من محاولتك التهرب من طرحها علي ،كونها ربما يجب أن تدخل في اإلطار اللبق لألشياء التي
ال تعنيك كشخص ،إال أن غريزة الفضول الصحفي التي صقلتها سنوات عملك في هذا الميدان و تسربت إلى نفسك
و اندمجت في شخصك ،تجرك جرا لتسألني حول أمور عائلية أو خاصة عديدة ...أم أنا مخطئ ؟.
_ المشكلة هي أنني كغريب عن دياركم هذه ،ال أزال عاجزا عن تحديد الخط الفاصل بين حياة الفرد و حياة
العائلة أو الجماعة هنا .لهذا ال أعرف أي نوع من األسئلة يجدر بي طرحه في مواقف كهذه.
تنهد لحظة ،ثم طفق يتحدث بصوت هادئ و نبرة تقترب إلى نبرات الكتاب في العادة و هم يستعرضون أفكارهم
في غير تحفظ...
_ قرى القبايل يا أقشيش أشبه بأشجار التين تماما .أوراقها تشبه في شكلها شكل الورقة التي سترت عورتا آدم
و حواء حين تجرآ على أكل الثمرة المحرمة كما تذكره العقائد اإلبراهيمية .إنها مورقة جميلة المنظر صيفا ،يابسة
مخيفة الشكل في الشتاء .ثمارها طيبة جدا بالنسبة لكل غريب أو سائح يتذوقها أول مرة ،لكن بالنسبة لنا نحن الذين
ولدنا و ترعرعنا فيها ،فإنا ال نعيش إال على بلبُّها األبيض ذو الطعم المر ...و احزر ! ،نحن نحب قرانا رغم ذلك.
نحن نحب هذا الوطن رغم كل شيء.
توقف عن تشكيل طينه مرة أخرى .أمسك سيجارته بأطراف أنامله و وضعها في المنفضة .زاغ بصره قليال
على إحدى الجرار الموضوعة في الزاوية .ثم هكذا و بكل بساطة راح يتحدث عن طفولته التي كانت كطفولة جل
أبناء جيله بحسب قوله .كانت قاسية جدا في هذه القرية .قال آغاكال بأنه ال يتذكر كل تفاصيل سنوات حياته
األولى ،لكنه يتذكر جيدا حين تم أخذه و هو بين الثالثة و الرابعة إلى تلك العجوز التي قامت بكي صدغه كما كانت
تقتضي العادة ،حتى تبتعد عنه األمراض كما كان يُقال .خاصة و أن أمه ،نانة تاملسة ،كانت قد فقدت الكثير من
279
المواليد قبل أن يولد شقيقه آعراب الذي كان أول مولود نجى من الموت ،تبعته شقيقته مليكة قبل أن يصل هو إلى
هذا العالم و يكون األخير من أبناء إيدير آفاو .قيل له أنه و عند والدته ،سارعت العجوز القابلة إلى وضع شيء
من الملح في فمه حتى تمنعن تسلل األرواح الخبيثة إلى جسده ....معتقدات أمازيغية منقرضة ،...لكنه يتذكر ختانه
جيدا أيضا حيث تم مع الكثير من أترابه في ليلة من ليالي المولد النبوي .أولى األشياء التي بدأت تتكدس في ذاكرة
ْ
المست فيها عميروش هي فصل الشتاء و برده القارص الذي يجعل أطراف البدن تتنمل .قال بأنه يتذكر أول مرة
أنامله ندف الثلج المتساقط عند عتبة باب الدار حين خطى خطواته األولى نحوه .المنظر مشوش قليال بالنسبة إليه،
لكنه احتفظ ببعض التفاصيل الصغيرة .الجو الذي يشع بياضا في الخارج .و ظلمة البيت التي تظهر خاللها وجوه
بعض النساء مجتمعات حول الكانون الموقد بالعيدان المجففة .قال بأنه يتذكر صراخ جدته الدائم .قسوتها الشديدة
في التعامل معهم جميعا .كان دائم السؤال عن السبب الذي جعلها كذلك ،فكان يُلح على خالته الصغرى علجية
لتعطيه جوابا مقنعا .كانت تكتفي بالقول ضاحكة أن كل العجائز قاسيات بالطبيعة ،و هو ما أثار خوف عميروش
طويال ،كونه علم أن كل النساء حين يكبرن في السن يتحولن إلى عجائز ،و هكذا كان يتصور أمه التي لم يعرف
ألطف منها تتحول إلى عجوز نكدة و شرسة ،تمضي جل أيامها في سب و شتم و لعن كل من يمر من أمامها ،بل
و قذفه بأي شيء يقع في يدها.
أطلق ضحكة و هو ينظر إلي هازا حاجبيه ،ثم عاد ليغوص داخل رأسه كمن يستمر في تقليب صفحات دفتر
قديم يخبيئه في مكان عميق ،حين كان هاتفي الخلوي يسجل قصته....
كبر عميروش في منزل والده الذي كانت تملؤه النسوة و يغيب عنه الحضور الرجالي إال نادرا .حين كبر
قليال علم أن له أبا قيل له عنه أنه '' مجاهد '' يُحارب الروميين و يختبئ في هذه الغابات و الجبال ،التي طوقت
عالم طفولته بشكل جعله يعتقد بسذاجة الصبي أن الكون يتوقف عند أفقها .طبعا لم يكن يفهم بعد َلم كان يحارب
هؤالء الروميين الذين طالما تم تصويرهم له و ألترابه على أنهم ضخام األجسام ،شقر الرؤوس ،صفر الوجوه،
يأكلون لحم الجيف و الخنزير و يتزاوجون أمام الملء كما تفعل الكالب ،و هي صورة زرعت في نفسه الخوف و
الكره تجاه هؤالء الذين لم يكونوا في مخيلة أطفال القرية سوى غيالن بشعة ،كتلك التي كانوا يعتقدون أنها تعيش
إيول.
بجوارهم في تيزڨي أوس َ
لكنه أكد على أن خوفه األكبر كان دوما من الحركى ،كونهم و وفقا لما كان يُحكى ألطفال القرية ،كانوا أناسا
تعرضوا لعضات الروميين فتحولوا إلى كائنات تشبههم في األفعال مع احتفاظهم بمالمحهم القبايلية ،أي أنهم كانوا
يعيشون بين القرويين متربصين في صمت ،ينتظرون الفرصة المواتية لالنقضاض عليهم و قتلهم ،أو عضهم و
تحويلهم إلى مسوخ شبيهة بهم في أسوء األحوال .هي الفكرة التي أثارت رعب عميروش ليال لوقت طويل ،إلى
درجة جعلته يصاب بالريبة و الرعب من معظم الجيران .لكنه بدأ يفهم وفقا إلدراكه الطفولي َلم كان والده ،الدا
إيدير ،و من معه يحاربون الحركى و إيرومين ،الذين قيل له بشأنهم أنهم جاءوا بضع مرات إلى تيميزر حين كان
رضيعا و أنهم فعلوا األفاعيل .عذبوا و قتلوا و أحرقوا المنازل ،إلى اليوم الذي عادوا فيه إلى القرية مرة أخرى.
كان يوما شتويا ممطرا خيم عليه ضباب كثيف على القرية .كان ذلك في أوائل عام 10و كان عميروش في
280
الرابعة من العمر تقريبا ،حين استفاق بعد الظهيرة من نومه على جلبة غير طبيعية في البيت و في القرية ككل،
حين نودي على الجميع بالخروج و الوقوف في تاجماعت بأمر من ضابط الوحدة العسكرية التي جاءت .كانت تلك
المرة األولى التي يلمح فيها الطفل روميا .كانوا من المظليين ،أو '' إيفيسن '' ( الضباع ) كما كانوا يلقبونهم في
القرية .لكن ما أثار انتباه عميروش يومها هو أنهم كانوا بشرا عاديين .لكنهم بدوا طويلي القامة و زرق العيون.
اعتقد الطفل أنها هيئة مزيفة و كان يترقّب تحولهم في أية لحظة ،لكن ذلك لم يحدث .كانوا قد أتوا رفقة بعض
الحركى الذين كانوا يغطون رؤوسهم بأكياس من القش ،جاءوا رفقتهم ليدلوهم على البيت الذي اجتمع فيه عناصر
جيش التحرير قبل أيام قليلة .لم يمكن لعميروش أن يرى ما فعلوه بصاحب البيت الذي كان شخصا سكيرا و فاسقا
كما كان يُشاع عنه .لم يتوقع أحد أنه في الحقيقة كان متعاونا مع جيش التحرير ،خاصة و أنه كان دوما يتلقى
رسائل التهديد من الجبل بسبب سوء خلقه ....من كان ليصدق أنه مسبّل في الحقيقة ؟.
قاطعتُ عميروش بفضول ،فقال بأنهم أشبعوه ضربا رفقة ثالثة من أبنائه .قلبوا منزله رأسا على عقب.
ضربوا والدته العجوز حين حاولت أن تمنعهم من ضرب أحفادها .و بعد نحو ساعة من التعذيب و االستنطاق ،و
جره ضابط من شعره و هو شبه عار
بعدما زاد سوء األحوال الجوية و مال اليوم الشتوي إلى نهايته السريعةّ ،
وسط تاجماعت و أخذه محاطا بجنوده إلى حافة الجرف الصخري ،ليس بعيدا من بيت الدا إيدير ،أين أطلق عليه
رصاصة في الرأس ،ثم ألقى به إلى أسفل المنحدر أمام صراخ والدته العجوز و عويل زوجته و هما تشاهدان
جثته تتدحرج إلى أسفل الواد أين اختلطت أحشائه بالوحل .اعتقل اثنين من أبنائه رفقة خمسة شباب آخرين من
القرية و أخذوا جميعا ،حيث لم يعد سوى رجل واحد منهم بعد وقف إطالق النار ربيع .14لقد كان االبن األصغر
لذاك الشهيد .طبعا عاد و هو يشكو خطبا ما في نفسه ،إذ لم تكتمل فرحة أمه و جدته به .لقد مكث طويال ال يحادث
أحدا و ال يبتسم مطلقا ،حتى اختلى بنفسه في غابة األحاديث أليام طويلة ،ثم ُوجد بعدها و قد شنق نفسه في شجرة
بلوط ،أيام قليلة فقط قبل استفتاء تقرير المصير .جدته المسكينة ظلت تصر على أنه لم يكن الفاعل ،بل األرواح
الخبيثة التي تفيض بها الغابة .ماتت المسكينة بعد أشهر قليلة من االستقالل بسبب الحزن و الحسرة على حفيدها.
مد آغاكال يده نحو آنية الماء على يساره و راح يعيد تبليل و ترطيب قطعة الطين التي كانت تدور على
دوالبه و هو يتنهد قائال...
_ أعتقد أني ال أزال أتذكر صوت تلك الطلقة التي أنهت حياة والده .على كل ،كانت سنوات قاسية ،رغم أننا
نحن أطفال القرية كنا نوجد أوقات السعادة و المرح من ال شيء .أمي كانت تعلينا بفضل حرفتها التي ورثتها عن
جدتي .لقد أنقذتها صناعة الطين من التسول .لكن عدد أفراد األسرة كان معتبرا ،من جهة العمات ،فأسرة أبي كانت
تشكو من صراعات كبيرة حول النزر القليل من الميراث الذي خلفه األجداد ،لكن سبب إفالس أسرتنا أصال ،و
كما هي حال جل األسر القبايلية ،يعود أساسا إلى تلك الصراعات العبثية التي تتضاعف حول الميراث كلما توفي
رب األسرة المسيطر ،بحيث يؤدي ذلك في النهاية إلى انهيار مقدراتها االقتصادية التي بنيت من طرف جيل
كامل .هذا ما هضم حقوق الكثير من أفراد أسرة آفاو و شتت شملها .كنا حفاة و جياعا معظم الوقت و قد كبرت و
281
أنا أعتقد أن كل الناس يعيشون نفس الوضع من قلة الطعام و المصادر .لكن حين أفكر في األمر من وجهة نظر
أخرى ،أعتبر نفسي أكثر حظا من بعض أطفال القرية آنذاك ؟ .هناك من كانت حالته المادية أسوأ بكثير .هناك
أيضا من شاهدوا فظائع العسكر االستعماري بأعينهم في حين ال أكاد أذكر شيئا من ذلك .أنا لم أر شيئا من ذلك،
كوني بدأت أتذكر تفاصيل األشياء إال مع سنوات االستقالل األولى.
_ أليس ذلك جيدا ؟ ،أن تبدأ ذاكرتك الكاملة في توثيق سنوات بداية االستقالل و ما حمله من فرح و احتفاالت
و فخر ؟.
التفت إلي مطلقا نظرة تهكم ،ثم عاد لينكب على عمله يخبرني أنه يذكر أن والده ،الدا إيدير ،كان قد عاد بعد
وقف إطالق النار و مكث مع العائلة أطول مدة يذكرها عميروش في البيت .كان صيفا ال يُنسى بالنسبة إليه طفل.
كان مضطربا جدا تجاه هذا الرجل ذو الواحد و الثالثين ربيعا ،الذي ظل غائبا عن حياته لسنوات طوال .حتى حين
كان يأتي مرة كل أربعة أو خمسة أشهر كان يبيت ليلة واحدة ،ثم يرحل في الصباح الباكر حيث يعيش ابنه حالة
شديدة من اإلحباط حين ينهض من فراشه و يقال له أنه قد رحل .أما تلك األيام فقد كان وجوده طاغيا على البيت،
طاغيا جدا ،إلى درجة أن عميروش كان يشعر بشيء يشبه االختناق و يجد حركته ثقيلة و صعبة جدا داخل الدار.
صمت هنيهة ثم قال بأنه ال يزال إلى اليوم عاجزا عن تفسير ذلك ،فقد كان األب لطيفا و عطوفا على أبنائه و
بخاصة ابنه األصغر ،لكن هذا األخير كان يتفادى إطالة االحتكاك به .كان رفاقه في السالح يخبرون عميروش
سمي عميروش تيمنا بالعقيد عميروش الذي أرعب الروم لسنوات ،و أن الدا إيدير
كلما التقوا به في تاجماعت ،أنه ُ
ظل يفتخر كون هذا القائد و حين زيارته للقرية قبل مولد أغاكال بأسابيع قليلة ،كان قد ربت بيده على كتفه حين
أسمعه شعرا قبائليا أعجبه.
_ مهال ...مهال ! .عمي إيدير كان شاعرا ؟ ،و قد التقى بالعقيد عميروش شخصيا ؟ !.
قال بأن الذين عرفوا الدا إيدير جيدا قبل أن يفقد القدرة على النطق ،كانوا يجزمون على أنه خليفة يوسف
أوقاصي ،أشهر شاعر عرفته بالد القبايل في تاريخها .لقد كان ،رغم أنه ال يقرأ و ال يكتب ،أفصح قبايلي لسانا،
ليس في تيميزر وحدها ،بل في كل المنطقة .كان شاعرا و كان فوق ذلك يحفظ مئات األشعار القبايلية القديمة جدا،
بما فيها أشعار يوسف أوقاصي و محند أومحند .تنهد عميروش بعمق و الحصرة تتطاير في أنفاسه .أخبرني كم
من األسى ينتابه حين يفكر أنه لم يخطر على بال أحد توثيق تلك الكنوز األدبية األمازيغية التي كانت تصنع ربيعا
أبديا داخل رأس والده ...و عودة إلى سؤالي ،فنعم ! ،لقد جاء عميروش العظيم قبل أن يكون عقيدا إلى هنا .وصل
إلى حواشي القرية و لم يدخلها ،لكنه سمع بأن الدا إيدير كان شاعرا فصيح اللسان ،فأراد أن يسمع منه ،فأسمعه
بعض القصائد الثورية التي أبدعها الجدي الشاب تلقائيا و من دون قلم أو ورقة ،فأعجبت عميروش كثيرا .شجعه
و ربَّت على كتفه األيمن .القصة التي ظل الدا إيدير ير ِّدّدها بفخر شديد و هو ينظر بزهو إلى كتفه األيمن كلما
قصها على الناس.
_ جميل ! .إذن ...مكث عمي إيدير معكم أطول مدة بعد وقف إطالق النار ....ثم ؟...
282
أعاد سؤالي آغاكال من تأمالته الحميمية ،فعاد يدور الصلصال بين يديه مستمرا في الحكي...
_ كنتُ قد ألفت وجود والدي في البيت ،لكن األخبار التي كانت تأتينا من بعيد كانت مقلقة ،كانت تقول بأن
هنالك حربا مستعرة بين الجزائريين أنفسهم .كنا نسمع دوي المدفعية في بعض الليالي الصافية من تلك الصائفة ،و
هو ما كان يربكني و يجعلني أخشى ظهور شكل جديد من الكائنات الغريبة ،التي تنتج عن تحول هؤالء
الجزائريين إلى مسوخ جديدة تأكل لحوم البشر ،أو شيئا من هذا القبيل.
أومأ برأسه أن نعم ببسمة ساخرة و هو يلقي بكرة طين أخرى فوق صحن الدوالب...
_ هه ما أسخف تقسيمات الجزائريين ! ...جيش الحدود ...جيش الداخل ...جماعة تلمسان ...جماعة تيزي
وزو ...المهم ،كانوا يقولون لنا أن األمور سيئة و تنبئ بحرب أهلية بين الطرفين ،لكن طبعا الحرب األهلية كانت
فعال قد اشتعلت ،رغم أن االشتباكات لم تصل إلى هنا ،إال أن االضطرابات تواصلت .كنتُ فقط أخشى أن يعود
أبي لحمل السالح و يغيب مرة أخرى عني ،لكن ذلك لم يحدث ،كونه كان يشكو من تلك اإلصابات التي تعرض
لها في الحرب األولى .سمعته ذات يوم و هو يتذمر في المقهى قائال بأنه ضاق ذرعا بهذه الحروب و أنه قدم ما
استطاع من أجل هذا البلد و قد حان وقته ليعتني بأسرته الصغيرة و فقط ،إذ يكفيه ما عناه في الجبل طيلة 19
سنوات .يكفيه آثار الرصاص و األسالك الشائكة و شظايا القذائف التي تزخرف جسده و أطرافه ...و يكفيه آثار
الجلد الذي تعرض له على أيدي إخوة السالح أيضا....
_ ماذا حدث ؟ ،أبي كان و لسوء حظه ضحية من ضحايا مؤامرة البلويت التي دبرتها المخابرات الفرنسية و
كادت تجهز على الثورة كلها .ألقي عليه القبض رفقة الكثير من الجنود على أيدي رفاق لهم .أتهموا زورا بالتخابر
مع العدو .استنطقوا .عذبوا ...فيهم من لفظ أنفاسه تحت التعذيب .أبي تم تعليقه رأسا على عقب إلى شجرة دردار
لساعات و تم جلده بعيدان الخيزران التي تركت فيه بصماتها البشعة إلى األبد .صديق له حكى لي بعد سنوات أنه
فقد وعيه عدة مرات بسبب ذلك التعذيب .حين أراد مسؤوله المباشر ،و قد كان يتلذذ بتعذيبه بسبب حزازات سخيفة
سابقة وقعت بينهما ،حين أراد قتله أخيرا ،جاءت األوامر من قيادة أركان العقيد عميروش بأن تتوقف عمليات
التحقيق و االستنطاق و يُخلى سبيل كل العساكر الموقوفين.
تنهد آغاكال .صمت قليال و كأنه يأخذ استراحة قصيرة من وجع السرد ،ثم نظر إلي....
_ أعتقد أن البلويت و صدمتها العاطفية الكبيرة ،كانت السبب الرئيسي الذي جعل أبي يقرر مع نفسه عدم
التورط في أي حرب أخرى قد تشتعل في هذا البلد .لعله أدرك في قرارة نفسه أن الفظاعة التي تأتيك من شقيقك
تكون عادة أكبر و أقسى و أكثر إذالال من تلك التي تأتيك من عدوك الصريح .لقد فهم ببديهته ما يمكن للجزائريين
283
أن يفعلوه في بعضهم البعض ،حين تسقط االعتبارات األخالقية و القوانين المدنية بينهم .لهذا كان مالك بن نبي
يحذر بشدة من أن ننتزع بلداننا من طغيان الكبار لنلقي بها فريسة لحقد الصغار.
أجبته و أنا أتذكر فكرة '' البذرة الحمراء المشعة '' التي كانت تلتهم أعماق نفس الفرد الجزائري أيام حرب
التحرير .كنتُ أشعر بنشوة عارمة تلك اللحظة التي أكد فيها آغاكال األمر نفسه ،بطريقته الخاصة ،قبل أن أعود
إليه و أدفعه بتأن و حذر ليبوح لي بالمزيد...
_ ...إذن يا سي عميروش .لم يعد الدا إيدير إلى حمل السالح غداة حرب 12؟.
قال لي بأن الكثير من شباب القرية أرادوا حمل السالح و االلتحاق بصفوف جبهة القوى االشتراكية التي
كان يقودها أيت أحمد .قال بأن البعض اعتبر ذلك خطأ جسيما وقع فيه الرجل الرمز ،كونه دعى الجزائريين لحمل
السالح على بعضهم بعد حرب تحررية مضنية ناهزت العقد من الزمن ،في حين رأى البعض اآلخر أنه لم يكن
أمام الرجل خيار آخر ،كون البلد كان قد وقع في قبضة طغمة من االنتهازيين الذين ظلوا يختبئون وراء الحدود
طيلة سنوات الثورة ،يك ِّدّسون السالح المصري و السوفياتي ،منتظرين لحظة االستقالل ليدخلوا بقواتهم متوجهين
صوب العاصمة إلسقاط الحكومة المؤقتة و أخذ السلطة عنوة ،و هو ما شكل انقالبا صارخا على لوائح مؤتمر
الصومام و بيان أول نوفمبر .....كنتُ فقط أنصت مجدَّدا إلى أصداء التاريخ المضطرب للبلد.
تحدث آغاكال عن مجيء ما سماه '' عسكر بومدين '' إلى المنطقة بحثا عن '' المتمردين القبايل '' و المتعاونين
يدورها و يشكلها بين يديه .أحسست به و هو يحاول إحياء
معهم .تشنجت أصابعه فجأة حول الطين التي كان ّ ِّ
ذكرى عاصفة ما ليتقاسمها معي و أعترف أن أنانيتي الصحفية منعتني من مواساته و إخباره بأنه ال داعي للحديث
عن األمر إن كان ال يُحتمل.
كان الرجل يدفع نفسه دفعا إلخراج ما في صدره .أخبرني أن قوات بومدين ألقت القبض على الكثير من
الجنود السابقين في جيش التحرير للوالية التاريخية الثالثة و قد كان والده من بينهم .عبثا حاول في تلك اللحظة
السيطرة على مشاعره و هو يتحدث عما حدث لهم .فقد استنطقوا و عذبوا على أيدي من وصفهم بجنود الجالد
الجديد .و لسوء حظ الدا إيدير مرة أخرى ،فقد وجد نفسه مقيدا إلى وتد إسطبل رفقة البقية من رفاق السالح
السابقين ،يتلقون الركالت و اللكمات و السباب تحت جزمات عسكرية '' جزائرية '' هذه المرة .فجأة دمعت عينا
آغاكال و هو يطلق بسمة ساخرة .كانت تلك أول مرة أرى فيها دموعه .كان يعبر بها في الحقيقة عن حزنه و
المروعة ،يُخبرني بأنهم حين اطلعوا على آثار الرصاص التي بقي كتف و بطن
ّ ِّ غضبه الشديد على تلك المفارقة
الدا إيدير محتفظا بها من معاركه السابقة ضد العسكر الفرنسي .قاموا بإطفاء أعقاب سجائرهم عليها و هم
يقهقهون .قال بأنهم كانوا يخبرونه و السخرية تتقاطر من وجوههم السمراء الهزيلة بأنهم يفعلون ذلك كي يتأكدوا
من كونه فعال مجاهدا حقيقيا ال مزيفا ،بما أن تلك الفترة كانت قد عرفت تكاثرا فيروسيا فظيعا للمدَّعين زورا و
284
كذبا أنهم شاركوا في حرب االستقالل ! .....قبل أن أسمع ما يشبه الشهقة التي انزلقت آغاكال و هو يحاول أن
يتمالك نفسه بصعوبة كبيرة...
_ حين فكوا وثاقه لم يقوى على الوقوف على ساقيه بسبب تنمل أطراف جسده الهزيل .تقدم إليه أحد الجنود و
قام بدفعه بكل قوة نحو الباب ،فتعثر أبي و هوى برأسه على حجر غير ظاهر كان مغطى بالتبنُ .
شج رأسه و
أغمي عليه .لم يسمح ألحد بالتحرك من القرية لذلك لم يستطع الجماعة أخذه إلى مستشفى المدينة .حين استفاق بقي
يشكو الدوار و الغثيان و كان عاجزا عن الحديث .ظن الجميع أن ذلك بسبب الصدمة ،لكنهم فوجيئوا بعد أيام
بالرجل و قد فقد القدرة على النطق نهائيا و تحول إلى الدا إيدير الذي تعرفه اليوم .لقد سلبني االحتالل لذة الجلوس
إلى جانبه سنوات طفولتي األولى ،و سلبني االستقالل لذة الحديث إليه و االستماع إلى أشعاره سنوات شبابي يا
أقشيش !.
هز هذا الكالم كياني .صدمني في الصميم إلى درجة أني أحسست بانقباض مفاجئ في معدتي .حتى أن بدني
اقشعر بطريقة غير مسبوقة .قشعريرة كانت أقرب من هياج كلي لبشرة الجسد تجاه مؤثر خارجي ال يطاق .زاغ
بصري حين كنت أحاول استحضار الموقف و استشعار أثره الكامل على نفسية و قناعات رجال أحرقوا زهرة
شبابه م في الجبال من أجل استرداد هذا الوطن ،فكان أن تمت مكافأتهم بهذا الشكل و في غرة أيام النصر و
االستقالل ؟ .يبدو أن الموسطاشيا و الحهر أشر و أشرس و أفظع مما توقعت على اإلطالق ،و ما فعلناه نحن في
هذا البلد و في بعضنا البعض قد كان أكثر بشاعة مما فعله الطاغية األشقر !!! .ماذا يعني أن نعمد إلى استبدال
ندوب المستعمر بندوب أبشع منها ،نفتعلها بأيدينا ؟ .ما هي الرسالة التي كنا نريد أن نبعث بها إلى التاريخ بل و
إلى أنفسنا ؟ .ما هي القيمة التي كنا نود أن نمحقها محقا عن جهل أو عن قصد ؟ ...لقد كنا فعال نود التبرز في
البلد ،نكاية في الفرنسيين و نكاية في أنفسنا ...إنه في النهاية ذاك السوء المنغرس في ذاتنا الجزائرية العليلة ؟ !!.
كنتُ ماض في التأكد قطعا من قوة الفرضيات التي كنتُ قد وضعتها في بداية بحثي عن معضلة هذه األمة.
الحقيقة التي رأيتها من بعيد في بداية بحثي أول مرة ،كنتُ أضع يدي على قرفها الالمتناهي تلك اللحظة و أنا أسمع
تلك الشهادات من فم آغاكال .تلك حقائق لم يطلع عليها الجزائريون في كتب التاريخ الرسمية المليئة بالكذب و
التزييف و العموميات على ما يبدو ؟ .لكن بعد لحظة تفكير و تأمل عقالني قلتُ لنفسي :من منا كان ليحتمل حمل
حقيقة كهذه في قلبه ؟ .سألتُ نفسي متنهدا و أنا أفترض أن أحداث كهذه قد حفرت بعنف و عمق في نفوس أبناء و
عوائل هؤالء القوم .تراءت لي نظرة الفتى سيفاقص األشقر تلقائيا ،يوم تم اعتقاله من على محرك سيارتي ،و ال
أدري َلم لم أفكر في أي قبايلي آخر غيره تلك اللحظة .لكن ....كم من قصة صحفية ؟ ،كم من رواية ؟ ،كم من
كتاب ؟ ،كم من دراسة ؟ ،كم من سلسلة وثائقية أو تلفزيونية ؟ ،كم من فيلم يمكن توثيق هذه األحداث من خالله ؟.
_ نسيت أن أخبرك يا أقشيش ،لقد تركت لك أمي صحنا من ثمار التين الشوكي في الثالجة الصغيرة .قد
ترغب في تناوله على السحور .إنه حلو و منعش.
285
أعادني صوت آغاكال إلى اللحظة .قبل أن يعود هو لينغمس كلية في عمله بصمت مطبق ،كأنه غطاس أنقذني
من الغرق للتو ،ثم عاد راجعا بهدوء إلى عمق بحيرته الصامتة في منتصف ليلة هادئة ،ليختلي بنفسه تحت مياهها
الداكنة و قاعها الذي يخبئ أسرارا بعيدة .فهمتُ أنه قد وصل إلى بعض األشياء التي تقلب مواجع طفولته
المشحونة بالبؤس و الحيرة و حتى الغل و الغضب .انسحبتُ في صمت و أنا أمد أصابع يدي نحو هاتفي ألوقف
التسجيل .و لغرابة الصدف أني أنهيت سهرتي تلك مع فيلم العفيون و العصا للعمالق أحمد راشدي ،الذي بثته
إحدى الفضائيات الجزائرية بمناسبة عيد االستقالل .امتزجت لقطات الفيلم الذي يحكي عن أيام الكفاح المسلح في
ْ
امتزجت فيها حرب االستقالل هذه الجبال ذات الروح التمردية الغريبة ،مع نومي الذي حمل لي أحالما مختلطة،
مع الغابات و الجبال و قصف المدفعية و المسيرات المحتفلة باالستقالل و صرخات التهديد و الوعيد و المؤامرات
و االنقالبات و أحقاد اإلخوة .أعتقد أني كنتُ أسمع نفسي و أنا أصيح في المنام بين أحجار منازل تيميزر التي
أثخنها طعم قنابل طائرات الفرنسيين .كنتُ أصيح على عمي إيدير '' :إيديرُ ....مت واقف !! ''....
-23-
عصفور النحس
286
تكون لها صلة بموضوع هذا الحراك االجتماعي ،الذي يُفترض بالرجل أنه المنظر أو
المد ِّبّر الرئيسي له ؟ .أم هو العكس تماما ؟ .على كل فمستواه الفكري و الثقافي كان
مفاجئا لي ،و ال أدري َلم أشعر طول الوقت أنه يُدرك بشكل ما دوافعي الخفية من
االحتكاك به ،بل إنه لم يعد محترسا من ذلك كما كان في السابق ؟ ،خاصة بعدما
قاسمته بدوري الكثير من أفكاري التي أكتب مقاالتي انطالقا منها ،فقد استمع مطوال
و بتركيز لحديثي عن البذرة القبيحة و أم الثمرات الخبيثة و الكلب الجزائري الشرير
القذر .قصتي مع تطوير مفهوم مرض الموسطاشيا و وباء الحهر اللذان صارا
مصطلحين إعالميين معروفين .لقد انفتح الرجل أكثر على تبادل األفكار معي و هو
ما رأيته خطوة أخرى نحو ما أسعى إليه .سيدفعني ذلك للنبش أكثر في ماضي حياته
الخاصة ،كونه يبدو مرتبطا بشكل حاسم بالمواقف و القناعات السياسية التي قد يحملها
أو يتبناها ،و التي يبدو – حتى اآلن – غير متحفظ بالبوح بها لي ؟ .ال أزال في بداية
اكتشاف و تفكيك ذهنية الرجل .هدفي الحالي هو أن أصل إلى تحديد طبيعة قناعاته و
مواقفه من بعض المواقف الوطنية و العربية.
أوقفت التسجيل الصوتي .رميت الهاتف الجوال في جيبي و أنا أصعد ذلك المنحدر الترابي الذي كانت قدماي
و عضالت ساقي قد بدأت تألف صعوده و هبوطه مع مرور تلك األيام الصيفية الرمضانية الحارة ،إذ كنتُ مجبرا
على مغادرة القرية و النزول إلى حواف الطريق الوالئي الحادي عشر كي أجري محادثاتي الهاتفية و تصفح
االنترنت.
كنتُ قد تركتُ الفتى موس ورائي على حافة الطريق و هو منغمس في عملية بيع بعض األباريق و الصحون
الفخارية لبعض المارة ،بعدما جالسته و تجاذبت معه الكثير من األحاديث .تحادثنا عن حركة الماك .عن دعوات
اإلفطار العلني في وضح النهار التي ارتفعت تلك األيام في تيزي وزو ،التي أخبرني موسى بشأنها أنها قد ال تكون
فكرة جيدة ،لكنه يحترم أصحابها الذين يعبرون فقط عن آرائهم بكل حرية.
حين ألقيتُ نظرة على شبكة الفيسبوك ،أحسست أن العالم كان هو العالم الذي أعرف .عجوز مراهق ،تعبث
التناقضات الصارخة بدفتيه المنهكتين من الهز العنيف .حروب و أزمات عسكرية و أمنية و اقتصادية من جهة ،و
صرعات موسيقى و أفالم و موضة و اقتراب نهاية مونديال البرازيل من جهة أخرى ...هي تناقضات ماضية في
تمزيق وعي إنسان القرن الواحد و العشرين بكل سخرية و بال حد أدنى من الشفقة.
تفقدت صفحة '' تي تي أس '' لعلي أجد فيها ما يثير انتباهي .لكن ال شيء .كانت ماضية في عملها و هو نشر
ترجمات جديدة ألغان بربرية و جزائرية إلى لغات أخرى ،في مقدمتها اليابانية و االنجليزية و العكس كذلك ،في
الوقت الذي كانت فيه معظم صفحات الفيسبوك الجزائرية و العربية ال تزال تنعي الموت البشع الذي تعرض له
الطفل الفلسطيني دمحم أبو خضير ،الذي كان مصيره أن أ ُحرق و هو حي على أيدي قاتليه من المتطرفين
اإلسرائيليين .الغالبية العظمى ،طبعا ،كانت تعيش الحدث القومي الجلل و هو انطالق عدوان صهيوني جديد على
287
قطاع غزة ،عملية عسكرية كبيرة سميت الجرف الصامد ،و هو ما جعلني أتساءل عن الحالة النفسية المحتملة ألبي
و هو المهموم بأم القضايا العربية ،القضية الفلسطينية.
عدتُ إلى القرية .كنتُ متحمسا الستفزاز آغاكال إيديولوجيا ألحصل على خباياه .كنتُ أسير و أنا أرتب
األفكار و الكلمات و الحجج داخل رأسي ،أحبك مصايد اللغة بيد صحفية ماكرة ،لكن اإلمام عبد السالم شتت
تركيزي من بعيد و هو يلوح لي بيده .كان يقف بالقرب من مدخل قبة الولي أوعابد تحت ظل تلك األشجار
المثمرة ،التي كانت ثمارها الناضجة تتدلى منها .توجهت إليه و بنبرة ساخرة مازحته بعدما سلمت على رأسه كما
تقتضي العادة في تيميزر....
_ تعلم يا شيخ عبد السالم ؟ ،مذ أن أتيتُ إلى قريتكم هذه أول مرة و أنا ال أكف عن سؤال نفسي :كيف ال
يتجرأ أطفال هذه القرية على سرقة ثمار هذه األشجار ذات المنظر المغري ؟ !.
_ يا بني ،هذه األشجار هي وقف من أوقاف تاجماعت منذ عقود طويلة .ثمارها مخصصة فقط لعابري السبيل
أو الضيوف كحسنة جارية للولي طيب هللا ثراه .و بما أن قريتنا هذه ال يزورها الغرباء إال نادرا ،تجد ثمار هذه
األشجار تنتظر بيأس من يقطفها فال تجد غير مناقير الطيور لتتقاسمها مع أيدي الفقراء و المجانين في النهاية .و
األطفال هنا يخ شون االقتراب منها كونهم يعتقدون ،كما كنا نعتقد و نحن بمثل سنهم ،أن قطفها قد يجلب غضب
الولي و لعنته عليهم ألنها مخصصة فقط لضيوفه .أخبرني ،كيف هي حالك مع ابن الدا إيدير ؟.
_ بخير ...بخير .لقد تعلمت المبادئ األساسية لحرفته ،و قد بدأت في صناعة ما أفسدته أول مرة .والداه في
غاية الطيبة معي.
_ انعم...انعم ....إنهم أناس في غاية الطيبة بشهادة كل سكان القرية ...لقد عاشوا مآس عائلية كبيرة ،لكنها لم
تغير من طيبة و صفاء قلبي الدا إيدير و زوجه.
_ أه ال أستطيع الجزم بشيء ،فأنت حاليا أكثر شخص استطاع التقرب من عميروش منذ سنوات....
قالها و هو يتظاهر بأنه يتفحص الثمار المتدلية من شجرة التين بجانبه ،قبل أن يصمت و هو ينظر إلي نظرة
من ينتظر مني أن أفضي إليه بالمزيد .أحسستُ أنه كان يود استجوابي عن عميروش .عما نتقاسمه من أحاديث و
أفكار طيلة ساعات عملنا معا في ورشته ،لكنه لم يستطع أن يكون مباشرا و اكتفى بتلك النظرات المستجوبة و
الوجه المترقب ،لكني التزمت الصمت و أنا أرمقه بنظرة مستجوبة معاكسة ،كمن يود أن يعرف سبب استدعائه
لي ،و الذي لم يكن فقط من أجل إعطائي حبة مشمش في كل األحوال .أعتقد أن الرجل الكهل و ببديهته القبايلية
علم أني تفطنت لذلك ،فهز رأسه قليال و هو يتنهد...
288
_ تعلم يا بني ؟ ،هناك خرافة كانت تقص على مس امعنا و نحن صبية صغار ،كان الغرض منها منعنا من
التجوال و اللعب في غابة األحاديث .كان يُحكى لنا عن وجود عصفور غريب يعيش في هذه الغابة بين الطيور
األخرى ،و هو طير شديد الجمال ،زاهي األلوان ،يشد نظر كل من يشاهده ،بحيث يسحره أوال ببهائه ،ثم يسحبه
نحوه بزقزقته المدهشة التي تسحر السمع ،ثم إذا وصل إليه الطفل '' الضحية '' صار العصفور يبكي مستعطفا
الطفل إذ يقول له أنه يشعر بالوحشة الشديدة و ال يجد أين يبيت الليلة ،فما إن يستجيب له الطفل الضحية بالقول أنه
على استعداد ليأخذه معه إلى بيته ،يتحول المسكين إلى حجر أو شجر ،و يظهر العصفور الشرير بشكله الحقيقي و
ألوانه الداكنة بعدما يسقط عنه ذلك الريش البهي الزائف ،ثم يطير إلى غابة أخرى ليحط على شجرة أخرى ،مترقبا
مرور أطفال آخرين ليمارس عليهم نفس الحيلة و يوقعهم في نفس الفخ .أه طالما أرعبتنا هذه القصة و جعلتنا ال
نفكر البتة في االقتراب من تيزڨي أوس إيول...
ابتسم الشيخ وهو يلقي إلي بنظرة متواطئة بعض الشيء ،ثم ربت على كتفي كأنه يقول لي '' اعتن بنفسك '' و
انسحب متمنيا لي إفطارا طيبا .كنت متأكدا بشكل قاطع أنه لم يقصد بقصته الغريبة تلك غير التلميح لي عن
آغاكال .كنتُ أعلم عن طريق بعض الثرثارين في القرية كأمثال موسى أن األمور كانت تسوء تلك األيام أكثر
فأكثر بين أغاكال و بين أسرة طليقته ،التي فوجئتُ بكونها ليست سوى ابنة إلحدى شقيقات نانه تاملسة .هذه
األخيرة أيضا يبدو أن عالقتها بعائلتها لم تكن يوما على ما يرام ،و السبب في ذلك كان عمي إيدير بحسب ما
فهمت من ثرثرة موسى دائما ،و أن األخبار التي استقيتها من حديثه كانت تقول بأن أسرة الزوجة السابقة سمعت
عن اقتراب آغاكال من قبر ابنه القتيل قبل أيام ،و هي تحاول إخفاء األمر عن الطليقة التي يبدو أنها ال تزال تح ِّّمله
المسؤولية في مقتل ابنهما .لكن موسى قال بنبرة ساخرة أن ذلك شبه مستحيل ،فاألخبار في هذه القرية هي الشيء
الوحيد الذي ال يمكن صده أو حصره أو منعه من االنتشار .قال بأن هنالك أناس كثرا سينقلون إليها الخبر ،ال
لشيء ،إال ليروها تتعذب من جديد و تخرج عن طوعها لتتسبب في إشعال فتنة جديدة بين العائلتين .آل آفاو و آل
واعلي.
لم يشغل ذلك بالي بقدر شيء آخر كنتُ قد حصلت عليه من افواه بعض الفتية الصغار في القرية ،من تالمذة
آغاكال ،حين نقلوا إلي حديثا مفاده أن آباءهم قد أخبروهم أن عميروش كان شابا عاديا جدا ،إلى أن عاد من رحلته
غامضة قام بها إلى الصحراء ! .حين سألتُ موسى الثرثار عن ذلك ،هز كتفيه و هو يقول بأنها تبقى سرا كبيرا ال
يعلمه سوى عميروش نفسه .حتى رفاقه الذين كانوا معه في الرحلة ال يعلمون ما أصابه .ال أحد من القرية استطاع
معرفة ما الذي حدث له هناك و غيّره ،رغم أن مشايخ تاجماعت افترضوا أنه أصيب بمس من الجن .الكبار هنا
يتذكرون أن الرجل غادر مع رفاقه شتاء 92في رحلة الستكشاف الطاسيلي ناجر .كانوا مجموعة من الشباب
المتحمسين بشدة لألفكار القومية البربرية ،و الذين واجهوا عدة مضايقات بوليسية أيام الجامعة .حين عادوا من
تلك الرحلة ،كان عميروش شخصا آخر تماما .بل إن مشكلة انعزاله و خالفاته و صراعاته مع من حوله بدأت
289
تلتهم حياته االجتماعية منذ ذلك الحين ،حيث صار مدمنا على شرب الخمر و القمار و قد أصيب بحالة من الجنون
مكث تحت سطوتها نحو ثالث سنوات .كالم أحسستُ أن فيه مبالغة و رغبة في تشويه صورة الرجل !.
**********
حين انطلقتُ في العمل مع عميروش بعد العصر ذلك اليوم ،أعدتُ عليه القصة التي حكاها لي الدا عبد السالم
و نحن نقوم بتدوير الصلصال كل على دوالبه ،فضحك هازا رأسه بعدما فهم الرسالة و هو يُخبرني أنها قصة
العصفور ال ُمس َّمى '' إزغي '' ،طائر النحس في التراث الشعبي البربري .الطائر الخرافي الذي بسببه تموت كل
يحول الناس الذين ينخدعون بحديثه إلى أحجار أو حيوانات .الطائر الذي
شجرة يحط فوق أغصانها .الطائر الذي ّ ِّ
يجلب سوء الطالع على القرى و الحقول التي يزورها ،حامال معه الفقر و الجوع و ضياع األرزاق .ثم التفت إلي
مترقبا:
قال آغاكال و هو يشير بنظره إلى كرة الصلصال التي كنتُ أقوم بتمديدها و ضغطها بين يدي ،مستلذا ذلك
اإلحساس اللطيف النزالق الطين اللزج بين كفي و أناملي ،قبل أن يأتيني صوته مجددا...
_ أنت لم تخبرني َلم تحولتَ من علم االجتماع إلى الصحافة أيام الجامعة .....هل من سبب محدد ؟.
نظرتُ إليه .كان مستمرا في العمل على دوالبه .أحسستُ أن الرجل فعال كان ماض في التأسيس لنوع محدد
من العالقة معي ،يقوم على تبادل األفكار و كأن به يود مني أن أفهم أنه مهما كان سبب رغبتي في التواجد معه
هنا من خالل قبولي ب االتفاق الذي عرضه علي أول مرة ،فأنا مطالب بأن أفصح له عن أفكاري و خلفياتي و
ماضي بقدر ما يفعل هو نفس الشيء .و قد رأيتُ في ذلك صفقة '' خفية '' مربحة لي في كل األحوال...
َ
_ أه حسن ماس عميروش ...حين كنتُ في الجامعة درستُ مادة المنهجية عند أستاذ فلسطيني يعيش في
الجزائر منذ عقود ،هه حتى إنه كان جزائريا أكثر من الجزائريين ،الدكتور أبو عماد ،كان رجال متنورا بحق،
حطم الكثير من األفكار النمطية التي ترعرعتُ بها منذ طفولتي و غيّر الكثير من القناعات '' الصماء '' التي كنتُ
أعيش بها ،و في مقدمتها أنه ال مجال لتغيير أنماط التفكير نفسها التي ل ّقنت لنا في سنوات حياتنا األولى ،على يد
آبائنا إال بأيدينا نحن.
_ مثال....
_ أه أعطيك مثاال ....خالل وضع ميثاق 1026الوطني كان الخطاب السياسي الوطني يعتبر و بكثير من
التعنت أن الخيار االشتراكي خيار ال رجعة فيه .....أنا أسأل اآلن :أين هو خيار االشتراكية اليوم و أين هي عبارة
'' خيار ال رجعة فيه '' ؟ .رغم ذلك تجد الجزائري يُجادل عادة بصبيانية غريبة ،حين تطرح مسائل المسلمات على
النقاش و ليس حتى على محك التغيير .تجده يقسم و يؤكد و يهدد بأن المساس بها غير وارد و تغييرها مستحيل و
290
الحديث عنه غير مقبول ،و هو ال يريد بعد أن يص ِّدّق بأن ما يراه هو اليوم غير مقبول و مستحيل الوقوع ،قد
يصير ضروريا أو يحدث تلقائيا بعد بضع عقود من بعده ! .السيد أبو عماد راح يثيرنا تجاه كل هذا .التفكير
العلمي .التشكيك في المسلمات .المرونة في رؤية و فحص المسائل األساسية التي تعتبرها العامة مسائل صلبة ال
جدال فيها بل و يُمنع الحديث عنها .كسر الطابوهات .تحدي وجهة نظر الغوغاء بوجهات نظر مخالفة و جديدة،
سس على حجج قوية تبتعد بقدر المستطاع عن األهواء الذاتية .المسكين ضل يلقي محاضراته في
على شرط أن تؤ َّ
مدرجات شبه فارغة.
_ و َلم الصحافة ؟ ،أليس علم االجتماع أيضا جدير بأن يكون وسيلة عظيمة في إعادة بناء هذا المجتمع ؟.
_ بسيطة ....الشعب الجزائري يدمن قراءة الجرنان يا ماس عميروش .الكتب و األبحاث األكاديمية هي آخر
اهتماماته.! ...
استشعر النبرة الساخرة في صوتي فراح يبتسم و هو يهز رأسه ،في حين رحتُ أخبره بالسبب الحقيقي...
_ ....الحقيقة يا ماس عميروش هي أني شعرتُ بوجود فجوة كبيرة في فهمي لواقع هذا البلد .هناك شيء ما
منقوص في إدراكنا ألنفسنا و لبلدنا .شيء أساسي يجب إدراكه و اإللمام به حتى ينغلق العقد و نبدأ في البحث عن
حل أو حلول .لذلك أستمر في البحث و التنقيب ،يُحركني في ذلك قلق السؤال الدائم ،إلى درجة أنه صار يؤرقني
ليال و ألشهر طويلة.
رفعتُ بصري إلى آغاكال ،فإذا به متوقف عن العمل ،يرمقني بنظرة عميقة جدا و كأنه يتطلع ليرى بوضوح
ما كان بداخلي .أخذ نفسا عميقا و هو يهز رأسه ببطء كأنه يود إخباري أنه فهم إلى أين كنتُ أريد الوصول
بكالمي...
التزمت الصمت قليال .ربما لخشيتي أن يكون الموقف كله مجرد لحظة اعتراف ال واعية و خاطفة ،ارتسمت
بمتعة الحديث و تقاسم األفكار العميقة مع الرجل ،قد تفضح أمري أمامه ،كون قعدتي تلك إلى جانبه ،لم تكن في
الحقيقة إال محصلة لقراري بالبحث عن الحقيقة حيث ال يرغب أحد في البحث عنها .لكن أظن أنه كان ينظر تماما
إلى روحي بعدما اخترقت نظرته الغريبة لحمي و عظمي ،فإذا بي أسارع فقط إلى تمالك نفسي و أراوغه بالحديث
معطيا إياه الحقيقة التي جعلتني أرغب في أن أكون صحفيا ،حتى أبعده عن اكتشاف الحقيقة التي جاءت بي إلى
تيميزر .إليه تحديدا.....
_ تعلم ماس عميروش ،في ستينات القرن الماضي كان هنالك عالم لغويات اسمه John Austinكرس
نفسه لوضع نظرية كاملة ،تقول بأن نطق الكلمات ال يقتصر على تحديد معاني األشياء فقط ،بل فعلها أيضا .لقد
أردتُ أن أدفع هذا المجتمع الثرثار ليفعل شيئا ما بالكلمات ،بل إني مذ ذاك الحين أحاول أن أبدأ بنفسي أوال و أفعل
291
األشياء بالكالم ال أن اكتفي بنطقه أو اجتراره فقط ! .لقد غيرتُ اختصاصي الدراسي ألجد نفسي في المكان
المناسب للبحث عن الحقيقة التي أود الوصول إليها .الكتابة الصحفية.
_ هممممم ،أعتقد أني أفهمك جيدا .لكن الحقيقة ال وطن لها ،و ال حاجة لها لذلك على اإلطالق كما قال
فرحات عباس ذات مرة .ربما ألنه قد فهم أن محاوالتنا الجسورة لتعريف ماهية الحقيقة و التوصل إليها ستظل
دوما مغامرة أو رحلة مفتوحة و مستمرة ال نهاية على اإلطالق .من يقول أنه يمتلك الحقيقة الكاملة إما أنه دجال أو
أنه مجنون ،أو هكذا أظن.
_ ...إذن ؟...
_ حين نصل إلى اكتشاف الحقيقة المطلقة ....اليقين المطلق....إذن ،هل يبقى لنا سبب فعلي لنكون ؟.
سمعنا فجأة جلبة خارج الورشة .نهض آغاكال من مكانه لتفقد ما يحدث .بقيت جالسا و أنا شارد الذهن تماما
أحاول جعل كلمات الرجل األخيرة تتكرر داخل رأسي '' .هذا الرجل ،و عكس كل ما قيل لي ،يستحيل أن يكون
مجنونا ،و ال حتى متعصبا ...يستحيل ! ' .قلتُ في نفسي .قبل أن أنهض و أتبع خطواته خارجا بعدما تضاعفت
تلك الجلبة في بضع دقائق.
كان هنالك أصوات رجال و نساء كأن بهم يتجادلون .راحت أصوات الجدال ترتفع أكثر فأكثر ،حتى تحولت
إلى صراخ اختلطت فيه أصوات الكثير من الشخاص و من كلي الجنسين ،كانوا يجتمعون بالقرب من باب منزل
الدا إيدير ،الذي كان قد خرج متبوعا بنانه تاملسة التي بدت عليها عالمات الهلع الواضح ،و هي تومئ بوجهها و
يديها و نبرات صوتها المهتز كأنها تحاول تهدئة األمور.
غاب آغاكال وسط الحش د الذي راح يكبر بعد أن أحاط به الكثير من السكان الذين سمعوا كل ذلك الصراخ
فراحوا يفدون متجمهرين حول المكان و نظرات الفضول تتسابق من أعينهم نحو شيء ما كان يحدث وسط الحشد.
شققتُ طريقي بين الناس ،كبارا و صغار .لمحتُ عميروش و هو يقف واضعا يديه في جيبه دون حراك .كانت
نانه تاملسة تقف على يمناه و هي تضم يديها المرتعشتين إلى بعضهما في حين كان الدا إيدير يحاول ثني شقيقا
طليقة أغاكال من التقدم إليه ،سوى أن جسده النحيف المقوس لم يمكنه من ذلك ،فقد اجتازاه بسهولة ،كما يجتزا
السيل الغاضب جدع نبتة ضعيفة منهكة جعلها قدرها تنبت في منتصف واد سحيق .اندفعا نحو آغاكال الذي لم
يتحرك من مكانه ،قبل أن يتمالكا نفسيهما للحظات أمام دموع نانه تاملسة التي كانت تقف أمامه فاتحة ذراعيها
الرقيقان تحاول صدهما عن ابنها ،و هي تتوسل باكية و في حلقها قد ارتفعت غصة متقطعة اختزلت كامل معاني
الرجاء و التوسّل .لكنهما راحا ينهرانها بقوة طالبين منها أن تتنحى جانبا ،فكانت المسكينة تهتز كريشة تحت
صراخهما .ألقل أن دموع نانه تاملسة قد هزتني بحق .خاصة و أنا التفت من حولي غارقا في التعجب .كان الجميع
يقفون متفرجين دون أن يجرأ أحد على التدخل و رد الرجلين الهائجين عن هؤالء القوم الفقراء المساكين ،الذين
يعيشون خيباتهم االجتماعية بعيدا عن الجميع في صمت و صبر.
292
لم فهم شيئا على اإلطالق .ال أحد تحرك من مكانه ،فوجدتني ،و من دون وعي تقريبا ،مأخوذا بغضب مهول
يزلزل صدري و كأنه صواعق كانت تقصفه تباعا ،ربما بسبب دموع نانه و ارتعادها و رعبها ،أكثر من أي شيء
أو سبب آخر .وجدتني أنطلق و أنا في قمة الغضب أدفع أحدهما عنها معاتبا و الئما ،فإذا بي أجد نفسي محاطا
بشقيقه و معه أربعة أو خمسة مراهقين آخرين تدخلوا لتوهم مجتمعين حولي و هم يدفعون بي بكل عنف،
يصرخون في وجهي و أعينهم تتقاطر غضبا و تنفث نارا .حينها فقط تدخل بعض رجال القرية ممن كانوا مكتفين
بالتفرج و هم يحولون بيني و بين أفراد أسرة واعلي الذين كأنما كانوا يتهمونني بالتدخل في أمر عائلي ال يعنيني،
بل إني من خالل النزر القليل الذي تعلمته من القبايلية ،فهمت من بعض كلماتهم أنهم كانوا يصيحون في وجهي أن
'' اترك القرية و عد من حيث أتيت ! '' .سوى أن الرجال الذين حالوا بيني و بينهم كانوا يردون عليهم بنبرة من
يرغبون في جعلهم يتعقلون ،مذكرين بأني ضيف القرية كلها ،و أنه ال يجوز التعرض إلي بأي أذى مهما كان
السبب ،إال أن يكون متعلقا ب شرف إحدى نساء القرية ،أو سطوا على أحد منازلها أو سرقة ألحد بساتينها .....أو
هكذا فهمت من تلك الكلمات المتقطعة التي استطعت إدراك معانيها.
هاجت تيميزر من تحت قدمي و تداخل سكانها بي و تمايلت الجبال المحيطة من حولي ،كأني في وسط
معركة من معارك القرون الغابرة ،أين ال يسع المشارك فيها إال سماع الصراخ من كل جهة تحيط به ،مع تصاعد
في التدافع و الغبار الذي يحجب عنه رؤية كاملة لما يحدث .لم يكن يسعني رؤية إال تلك البرانيس البيضاء و هي
تتدافع و تتداخل و تتشابك في حركة فوضوية بشعة .فحين يسلب ذلك الصراخ تفكير العقل الهادئ و يشوش عليه
الرؤية السليمة لألمور ،و يجعله عاجزا عن التفكير فيما يجب فعال فعله أو قوله ،يجد المرء نفسه و قد تسمر في
مكانه فاتحا فاه و هو ال يكاد يعقل شيئا مما يحدث .الكل يتدافع من أمام ناظري و هم يصرخون في وجهي و في
وجوه بعضهم .شيء من صلب الحياة العادية لألقوام الغابرة على ما أظن ؟ ،و الذي ال يزال يجد استمراريته بشكل
ما في هذه القرية ؟.
الحقيقة أني أدركتُ بعد دقائق حين عاد إلي تركيزي الكامل و وعي بما يحدث من حولي ،أن تدخلي الالواعي
في تلك المناوشات العائلية ،كان قد أبعد التركيز على عميروش و والديه ليتركز علي ،و هو ما سمح لهم بالتنفس
قليال ،سوى أن ذلك لم يطل ،حيث عاد تركيز جل أنظار ذلك الحشد الذي بدى لي هائال حين عدتُ إلى وعيي ،و
كأنه تضاعف و انقسم على نفسه كما تفعل البكتيريا في العادة .من أين خرج كل أالئك القوم ؟ .بدى لي أن القرية
كلها قد صعدت إلى حيث منزل آل آفاو ،و ربما التحقت بها أقوام القرى المجاورة !.
خف الصياح و التهديد بحيث أمكنني من تمييز صوت أنثوي باك و صارخ من خلفي .استدرت و عدتُ ألشق
طريقي وسط الحشد عائدا من حيث جرني آل واعلي ،الذين كانوا يقفون هذه المرة دون حراك و أعينهم شاخصة
على تلك المرأة التي لم أستطع سبر مالمحها جيدا .كانت في حالة هستيرية واضحة و هي تبكي و تصرخ الطمة
عميروش بكفيها على صدره .كان المسكين يهتز على وقع تلك اللطمات و هو ال يزال واضعا يديه في جيبه
مستسلما تماما .بال ريب ،أيقنتُ أنها زوجته السابقة .آغاكال الذي صنع قوته و جاذبيته الغريبتان من خالل
293
غموضه و انغالقه على عالمه المليء بالتأمالت القوية ،كان تلك اللحظة يقف أمام بصيرتي عار تماما .كان غارقا
في أحلك لحظة ضعف يمكن أن يُرى رجل فيها.
_ اس السبة اك ي ّمــوث ....اس السبة اك ي ُّمـــــــــــــــوث !! ( .....لقد مات بسببك ).
كانت الطليقة تصيح و قد انفلت منديلها ذو اللون األرجواني من على رأسها و سقط أرضا بين األرجل،
فانسدل شعرها األشقر على وجهها و هي تهتز صارخة بقوة ،كأنها فرس بري هائج ،قبل أن تنهار تماما و تقع
على األرض مكتفية بدرف الدموع و النواح و هي تتمايل و تردد ضاربتا كفيها على فخذيها '' :زيري آ حفيفـــي...
زيري آ حفيفـــــــي .'' ....هرعت إليها بعض النسوة و الفتيات اللواتي أحطن بها لحملها و االبتعاد بها عن المكان،
حين تراجع عميروش خطوتين إلى الخلف و وقف مجددا و بصره شاخص على األرض .كانت عيناه تكادان
تبيضان تماما .فمه نصف مفتوح و وجهه أصفر كحبة ليمون .كان الرجل عاجزا تماما عن اإلتيان بأي كلمة أو أي
تعبير حين راح والداه المسكينان يحاوالن جذبه إلى منزلهما ،في الوقت الذي كان فيه الدا عبد السالم رفقة بعض
شيوخ القرية المرابطين قد وصلوا مسرعين إلى عين المكان ،فراح اإلمام يصرخ في شقيقي طليقة آغاكال و
وجهه المحمر يكاد ينفجر من الغضب.
هدأت األمور بسرعة شديدة حين راح المرابطون يحثون الجميع على المغادرة ،فما كانت إال لحظات حتى
عاد الهدوء ليخيم على الجو فلم تكن تتخلله سوى بعض الهمهمات ،حين كان الجماعة يتحدثون إلى الدا إيدير و
ابنه الذي ظل واقفا و هو يطأطئ رأسه .مالمح وجهه كانت تدل على أنه بعيد تماما عما كان يُقال له.
وقفتُ غير بعيد أحاول التقاط بعض الكلمات مما كان المشايخ يتحدثون به إلى الرجلين .فهمتُ أنهم كانوا
سيفرضون غرامة مالية على آل واعلي باسم تاجماعت ،لتسببهم في شجار مع عميروش و والديه أوال ،و لكونهم
قد عكروا هدوء القرية و أثاروا االضطراب و البلبلة فيها ثانيا ،و أن الغرامة ستكون مضاعفة كون كل ذلك حدث
في شهر رمضان .كانوا سيدعون إلى اجتماع طارئ لتاجماعت بعد انتهاء صالة التراويح من ذلك اليوم ،بعدما
تأكدوا من أن حالة االضطراب بين آل آفاو و آل واعلي ،كانت ال تزال قائمة ،رغم أنها نوقشت في اجتماع تلك
الصبيحة نفسها .شيء واحد تأكدت منه و هو صحة كالم الفتى موسى الثرثار .كان هنالك بعض األشخاص ،و من
الجنسين على ما يبدو ،يبذلون المستحيل الفتعال صراع جاد بين األسرتين ،و لسبب ربما لن يكون في النهاية أكثر
من الرغبة في رؤية أحد الطرفين يتأذى ،بحيث يكون موضوعا خصبا لإلثارة و للثرثرة و القيل و القال لدى من
يقتلهم روتين الحياة اليومية الرتيبة في تيميزر .حتى لو أدى ذلك إلى عاهات دائمة على الكيان االجتماعي لهذه
القرية الرائعة !.
تركتُ الجميع و دخلتُ بهدوء و حذر خلف نانه تاملسة التي كانت تقف وحيدة في فناء بيتها و قد أحاطت بها
دجاجاتها .كانت المسكينة تمسح دموعها ثم تشد على يديها معا .كان جسدها الضئيل ال يزال يهتز .ربما كانت تلك
ردة فعل كدستها سنوات طوال من المعاناة و األلم و الصبر على أذى ذوي القربى و الغرباء على حد سواء .لقد
شاهدت نانه تاملسة عشرات المرات و هي تحمل الحطب على ظهرها عائدة به من الغابة السفلية التي تجاور
294
بساتين الفاكهة .كانت دوما تصعد به على طول شوارع القرية و هي منحنية بشكل شبه كامل ،تسير بثبات عجيب
و هي تهمهم و تتمتم مع نفسها ،كأنها بسخ رية تتحدى جلدات القدر الذي عذبها طويال بسبب القرار المصيري الذي
اتخذته يوم قبلت باقتسام حياتها مع الدا إدير .لم أرها و لو مرة واحدة تشكو أو تبدو في حالة سيئة جراء حملها
الحطب الذي يعجز عن حمله شباب هذه األيام .لكني في تلك اللحظة و أنا أرى جسدها النحيف يهتز بذلك الشكل
الغريب ،فهمتُ ما يمكن لخوف األم على ابنها أن يفعله !.
وقفتُ للحظة و أنا أبحث مع نفسي في الئحة التعابير القبايلية التي أمكنني تعلمها تلك األيام ،لعلي أجد ما أقوله
لها .تقدمت إليها .قبلتُ رأسها و ضممتها إلي .كانت تلك أول مرة أتعثر فيها على تلك الرائحة المميزة التي كانت
تمأل ثياب جدتي منذ وفاتها .كانت تلك رائحة زكية مسحت ذاكرتي و أحاسيس طفولتي األولى و هو ما حرك
الكثير بداخلي .الكثير مما ال يمكن وصفه ،و أظنني أحسستُ بسيولة زائدة في عيني .كانت المرة األولى منذ
وصولي إلى تيميزر ،أشعر فيها بأن واجب التحفظ الصحفي ،حسي الموضوعي و المهني ،قد فقد كل مفعوله على
طريقة تفسير و تبرير غاية وجودي بين هؤالء القوم.
**********
بعد وجبة إفطار صامتة و باردة تخلف عنها آغاكال .توجهتُ إلى ورشته .لمحتُ ذلك إلى الكرسي الهزاز
الذي يفضل آغاكال عادة الجلوس عليه لقراءة كتبه أو لتدخين غليونه و االستماع ألغاني الشيخ الحسناوي و
المطربة حنيفة .إنه الكرسي الذي أخبرني بشأنه أنه كان قد حصل عليه من صديقة فرنسية كانت تعيش سنوات
الثمانينات في آزفّون على الساحل القبايلي ،قبل أن تغادر البلد سنوات التسعينات .حملته و صعدتُ به إلى سطح
منزل الحرفي .وضعته في المنتصف و جلست أدخن أول سيجارة و أرتشف قهوة ما بعد إفطار ذلك اليوم الحافل.
كنتُ أقابل بقايا الشفق األحمر األخيرة و أذناي تلتقطان معزوفات صراصير الليل التي راحت تتردد في جو القرية
الهادئ ،مع نسمات هوائه الدافئة التي كانت و بشكل كئيب ال تزال مثخنة بروائح غابات الصنوبر و البلوط
المحروقة .رحتُ فقط أحاول ترتيب جل أفكاري و مشاعري المتقلبة و المتداخلة جراء كل ما حدث بعد عصر ذاك
اليوم .حديثي مع آغاكال حول حقيقة '' الحقائق '' ،الفوضى القروية التي وجدتني وسطها فجأة .حالة الغضب
الجارف الذي اعتراني من أجل نانه تاملسة و دا إيدير و التي أخرجتني تماما عن طوعي الموضوعي و المحايد
كصحفي .و وجه آغاكال األبيض الخالي من الحياة و هو يقف أمام زوجته السابقة المنهارة أمام قدميه .يا لها من
صور .تلك كانت حقيقة !.
كان األمر أشبه بمحاولة إعادة ترتيب صفحات تفرقت في الظالم من كتاب ضخم كان قد سقط من مكان
شاهق فتبعثر من شدة الصدمة .كنتُ عاجزا بشكل شبه كلي عن إعادة ربط و ضبط مشاعري و أفكاري المشتتة
في ذلك الصدع الكبير و الواسع الذي ج عل وجودي في تيميزر يتمزق بين واقعين يبدوان متباعدين .عالم آغاكال
الغامض المليء باألفكار العميقة و التأمل الفكري و الفلسفي ،الذي وضعني هو نفسه أمام تناقضات مربكة ،إذ
295
رحتُ أفكر في كيفية جلب الرجل إلى جدال فكري حول مواضيع السياسة و اإليديولوجية ،كي أضبط تماما
أجرده أمام نيته الحقيقية و أتأكد من كونه
توجهاته تجاه قضايا المجتمع و الوطن الجزائري و العالم العربي ،علي ِّ ّ
فعال '' آغاكال '' الذي قيل لي عنه أنه يج ِّ ّهز رفقة جماعة ما لربيع بربري أو جزائري آخر .سوى أن الرجل
وضعني بعزلته و بطريقته الفريدة في رؤية مسائل أعمق من السياسة نفسها أمام حالة غريبة مع نفسي ،التي كأنما
راحت تتراجع عن رغبتها في مواجهته ،ليس خوفا أو نقصا في الثقة ،لكن الرجل بدَ حينها – رغم مآسي والده و
قريته مع االستعمار كما مع االستقالل – كمن تجاوز مرحلة الحنق و الضغائن أو االندفاع الغاضب نحو الجدال
الفكري مع اآلخر .لقد حسم آغاكال صراعات األسباب و الحجج بينه و بين نفسه ،بشكل ما.
من جهة أخرى وجدتني في واقع ثان ،مخالف بأشد ما يمكن أن يكون للواقع األول ،و هو عالم قرية تيميزر،
الذي وضعني هو اآلخر أمام تناقضات مربكة أخرى .فمن جهة لم يكن باستطاعتي أن أخفي إعجابي الشديد بنمط
النظام االجتماعي السائد في القرية و الذي يدور كله في فلك شخصية '' تاجماعت '' المعنوية ،التي تنظم حياة
الناس و تضبط سلوكهم و تحرس على بقاء الضوابط و النظام في مكانهما بين األفراد و العوائل .إنها المؤسسة
االجتماعية التي مكنت لهؤالء القوم من أن يكونوا شبه مجتمع قروي بروح مدنية .مجتمع معتمد على نفسه و
مستقل ذاتيا ،هو في غنى شبه تام عن حضور المؤسسات المدنية الرسمية .لكن من جهة أخرى اكتشفت أن هؤالء
القوم ذوي االبتسامات الخجولة و الروح العائلية الوطيدة ،يشكون فعال من أنماط تفكير غائصة في البداهة التي
تالمس السذاجة بشكل مفجوج أحيانا ،خاصة حين يميلون إلى إعطاء كل األحداث التي تقع في عالمهم الصغير
تفسيرات سحرية ،تتعلق بعالم األرواح و الجن و السحر و لعنات أو بركات وليهم الصالح ،و انزالقهم السريع إلى
الفوضى و الصراع و الحزازات تحت مبررات خاطئة أو حتى ألتفه األسباب أحيانا.
ربما كان فكري يتلقى ما فوق طاقته على التأمل و التحليل و التصنيف و الحفظ وسط كل ذلك الزخم ،بين
عالم آغاكال و عالم تيميزر ؟ .لكن بين الدفتين المهتزتين بشدة ،استقر فكري و بشكل الإرادي على موضوع آخر
بعيد تماما ،ال عالقة له بأي شيء من كل هذا الذي كنت أعيشه في تيميزر مع عميورش .كنت فقط كطيف أنهكته
األضواء و ا لضوضاء ،يحاول التسرب و الهروب إلى مكان مظلم عميق تغلفه أصوار من الصمت المقصود ،كي
يسكن إلى سر تعلق به منذ األزل هروبا من جنون هذا العالم .فقد وجدتني و بشكل يشبه الغفوة الخفيفة أتمتم بشكل
غير واع مع نفسي متنهدا....
كنتُ مرة أخرى أفكر في تلك الفتاة '' ،هي '' ! .كيف و َلم ؟ ،ال أعلم حقا ! .رحتُ أهز رأسي و أفرك عيني
بسبابتي و إبهامي و أنا أود حقا أن ألعن هذا القلب الصبياني الذي بات يذكرها و يجلب همسة اسمها الخفية إليه
كلما اشتد انغماسي في عملي و بحثي عن حقائق قلق السؤال .تلك كانت معضلة يواجهها عقلي مع قلبي ،الذي كان
أشبه بذاك الذي يتسلل إلى منزله عند منتصف الليل بقارورة خمر تحت اإلبط ،حتى ال يراه شريكه في الشقة.
القارورة التي ربما يداوي بها أوجاع روحه و يغوص بها في النشوة و الحلم أو حتى األمل الزائف و لو لبضع
ساعات .لقد بات قلبي يجلب اسمها إلي أكثر من المعتاد في اآلونة األخيرة ،حين كان عقلي المنهك غارقا تماما في
296
البحث عن شيء بعيد تماما عن ذكرى حب فاشل .حقا لم أفهمَ ،لم كنت أشعر برغبة تجرني بهدوء و بشكل متزايد
إلى التفكير في بهجة و بهذا الشكل المستمر بعد كل هذه السنين ؟ ،بل و في مكان كتيميزر ،عند شخص
كعميروش ،في مهمة كهذه و ظرف مهني كهذا !.
تنهدت و أنا مسترخ فوق الكرسي الذي كان يهتز بي إلى األمام و إلى الخلف ،كتلك األفكار التي كانت
تسحبني إلى الماضي و تعيدني إلى الحاضر و تكاد تقذفني نحو مستقبل مجهول بال توقف .رحتُ أستسلم لسكرة
قلبي العابرة تلك '' :ما الذي تفعله بهجة يا ترى ؟ ،كيف هي أحوالها في محيطها االجتماعي و المهني ؟ ،مع من
تمضي أوقاتها و أين ؟ ،فيما و في من تفكر ؟ ،هل وجدت الحب مع أحدهم أخيرا ،أم أنها ال تزال كما أخبرني
عنها غانو آخر مرة ،تصد كل رجل متودد عن نفسها ؟ ،لديها مشاريع أو اهتمامات ما ؟ ،من هم الزمالء و
الزميالت القدم الذين ال تزال تتصل بهم ؟ .....أتتذكر وقفتنا تلك يا ترى ؟ ،أتتذكر تلك الكلمات الغرامية الحزينة و
اليائسة التي قلتها لها في ذلك اليوم الغائم يا ترى ؟ ،هل يعقل أنها ال تعلم أين أنا و ما هي مهنتي و أين أشتغل ؟،
أيعقل أنها ال تقرأ مقاالتي أبدا ؟ ،ال تعرف صفحتي على الفيسبوك أو حسابي على نفس الموقع ؟ .هل تتذكرني
حين تم ّ
شِّط شعرها أمام مرآتها ليال يا ترى ؟ ....بهجة ...هذا االسم كان الكلمة الوحيدة في العالم التي كانت لها
القدرة على جعل كل ذرة من كياني جمرة حمراء تحرق في صمت كل زاوية و تفصيل في عالمي الصغير
بالشوق و االفتقاد ،بقدر ما رغبتُ في كيانها صاحبة االسم ،جسدا و روحا ،ذرة بذرة ؟ ! ''.
نهضتُ من مكاني فجأة ،كمن يهرب من أفكار حاصرته و كادت تطبق عليه و تبتلعه .نزلت من على السطح.
سرت قليال حول المنزل و أنا أترقب عودة آغاكال الذي كان قد ذهب رفقة والده ،المجاهد البطل ،إلى تاجماعت
كما طلب منهما .كان جليا أن الجلسة االستثنائية تلك كانت ستطول ،ففكرت في المبادرة و البدء في العمل على
دوالبي بعدما أغراني منظر عجينة الطين التي كانت نانه تاملسة قد أعدتها ذاك المساء .كانت طرية و باردة
تتصاعد منها رائحة مهدئة .ثم إن األمسية كانت ثقيلة و مملة بعض الشيء .لذلك وجدتني أرتدي مئزر العمل و
أجلس و أنطلق في تشكيل القوالب ،الواحد تلو اآلخر و أنا أدندن مع نفسي ألحانا ارتجالية من دون معنى .كنت و
بشكل غامض أحوم حول ذكرى بهجة .شيء ما في أعمق مكان في نفسي ،كان يبعث بإشارات لم أفهم فحواها .لقد
كانت أشبه بنجم بعيد جدا وصلتني ومضاته القوية على حين غرة ،لكنه رغم ذلك كان ال يزال بعيدا جدا ؟ .كنت
أتوقف عن العمل لبعض الدقائق و أنا أتلمس ذلك االستغراب كتلمسي لتلك الطين اللزجة ،أفحص عالمات
االستفهام التي جاءت بها ذكرى بهجة دون سابق إنذار.
مرت السهرة على ذاك النحو و قد كانت بهجة نجمتها بال منازع .في ساعات الصبح األولى كنت قد أنهيت
َّ
العمل على كامل العجين الذي أنهيت معه علبة السجائر كلها ،و قد انتبهتُ إلى أن الهواء قد صار أكثر لطفا و
إنعاشا .دلني ذلك على أن حرائق الغابات قد تراجعت ،أو ربما هي روائح الصلصال التي كانت تمأل الورشة و
تمأل أنفي و فمي و حت ى حلقي ،بعدما تفطنت إلى كوني صرت أشبه بصانع طين حقيقي بدل صحفي ! .لكن
عميروش لم يعد إلى البيت .كنتُ قلقا عليه لكني تيقنت أن السؤال أو البحث عنه غير مجد ،فكما علمت مسبقا من
موسى الثرثار ،فالرجل كان و على مدار أعوام يختلي بنفسه في غابة األحاديث أو يبيت بين أطالل أسالفه في
297
بقايا قرية إيجودار فوق سفح الجبل ،كلما واجه أزمة شديدة مع نفسه أو مع اآلخرين ،ثم يعود إلى القرية ،فيتجه
إلى الجامع كي يدفع غرامة خرق قانون القرية الذي يمنع التجوال في الغابة المحرمة و أطالل الجبل ،ثم يدخل إلى
البيت و هو يشعر بتحسن.
اغتسلت ثم جلستُ أنتظر لبعض الوقت و أنا أتحسس ذلك الهدوء الشديد الذي خيم على الجو و الذي كانت
تتخلله أصوات الصراصير و صياح الديكة التي راحت تعلن عن اقتراب الفجر ،ثم آويت إلى فراشي و أنا أشعر
بسكينة غريبة مع نفسي .الطين كانت قد أطفأت تلك الجمرات.
-24-
نهضت ببطء و تثاقل أجر نعلي على أرضية الغرفة .عبرت الباب الذي كان مفتوحا جزئيا قبل أن أتوقف
للحظة ،بعدما بدى لي أن تفصيال صغيرا قد تغير في الغرفة ،فعدتُ أمشي القهقري و أنا أميل برأسي واضعا
نظارتي على وجهي محملقا في تلك الخزانة المعدنية .كان قفلها األصفر الفاقع قد اختفى .حينها فهمت سبب دخول
قرر أخيرا اطالعي على ما ظل يخبئه بحرص في تلك
آغاكال علي في الصباح الباكر أثناء نومي .الرجل َّ
الخزانة .لم أتردد لحظة واحدة .تقدمتُ نحوها و بسمة اإلثارة تكاد ترتسم بوضوح تام على شفتي .كنتُ أفترض أن
ما يوجد بداخلها هو سبقي الصحفي الثمين الذي أالحقه في تيميزر و في بيت عميروش آفاو نفسه .دليل مادي يثبت
لي قطعا أن الرجل له ما يشبه المنظمة السرية التي تعمل على بلورة خطته في خلق حراك اجتماعي ما .في تلك
األثناء كان أمين وشاكي الذي هزته قصص آغاكال و والديه و مأساتهم اإلنسانية بعنف ،إلى درجة جعلته يستسلم
لتلك العاطفة العميقة تجاههم قد انمحى بشكل شبه كلي ،كأنه مجرد رسم خطه قلم رصاص .ليحل مكانه أمين
وشاكي ،الصحفي الموضوعي المحايد الذي كرس نفسه ليكون جندي الخبر فقط ،فيكون بذلك رسما ُخ ّ
ط بحبر
298
أسود .كل ما كان يدور في رأسي و أنا أخطو نحو الخزانة مادا يدي نحو مقبض بابها هو الحصول على دليلي
ال مادي ،الذي يجعلني أضع هذا الحراك الذي عجزت أجهزة األمن عن كشف حقيقته و طبيعته تحت الضوء ،و
أعترف أن لمسة من الرغبة في تحقيق النجاح و الشهرة في عملي كانت قد دغدغت طموحي الذاتي أيضا .لقد
تراءت لي نهاية مهمتي في تيميزر بسرعة و رأيتُ نفسي عائدا إلى العاصمة و في حوزتي أخطر و أثمن سبق
صحفي حصل عليه صحفي منذ ثورات الربيع العربي !.
فتحت الخزانة بهدوء و حذر .لم تكن بها رفوف و كل ما كان بداخلها هو ثالث علب كرتونية موضوعة
ش َّق الشريط الالصق الذي كان يغلقها بآلة حادة .الرائحة العتيقة التي كانت تنبعث منها
الواحدة فوق األخرى ،و قد ُ
جعلتني أدرك أن الخزانة لم تفتح منذ سنوات طويلة .ألقيت بنظري و سمعي إلى الرواق خارج الغرفة كي أطمئن
إلى أن آغاكال غير قريب و حقا ال أدري لم فعلت ذلك ،ففي كل األحوال كان هدف الرجل هو اطالعي على ما هو
مخبأ في الخزانة ؟.
أخرجتُ العلبة ا ألولى واضعا إياها على األرض بهدوء تام محاوال عدم إصدار أي صوت الفت .فتحتها بتأن.
كانت مليئة بدفاتر و سجالت و كراريس قديمة '' ..هذا ما أبحث عنه !! ''...قلتُ في نفسي .بدأتُ أقلب صفحات
أول دفتر وقع في يدي .كان غالفه الخارجي قد تآكل بشكل جعله يفقد لونه األصلي تماما .صفحاته كانت صفراء
تحتفظ بدروس هندسة الميكانيك مكتوبة بالفرنسية ؟.
_ دروس الجامعة...
وضعت الدفتر جانبا و بدأتُ أتناول الكراس تلو اآلخر .أقلب صفحات الدفاتر و السجالت .أتصفحها واحدا
واحدا .لم تكن سوى كراريس و دفاتر الحياة الدراسية الماضية للرجل و ال شيء بين صفحاتها له عالقة بنوع
األوراق التي كنتُ أبحث عنها.
أعدت كل الكراريس إلى الصندوق األول حين قفز بصري مباشرة نحو الصندوق الثاني .سحبته نحوي و
كلي أمل في العثور على شيء قد يُفيد تحقيقي حول آغاكال و حركة تي تي أس السرية المفترضة و مخططها
الغامض .فتحته ملقيا بنظرة أولية فاحصة .كان مليئا باإلطارات التي وضعت فيها صور مختلفة .بعضها كان
باألبيض و األسود ،البعض اآلخر كان ملونا لكنه قديم نسبيا .جل الصور كان يظهر فيها عميروش أيام شبابه
بمالمحه و مالبسه التي تذكر بموضة سنوات السبعينات .الشعر الطويل .القمصان المزركشة ذات الياقات الكبيرة
و السراويل الطويلة و العريضة عند الساقين .بدى لي أن الشيء الوحيد الذي لم يتغير في آغاكال هو عيناه
الصغيرتين خلف نظاراته الغليظة .أما الشيء الذي بدى مختلفا في جل تلك الصور هو أن عميروش الشاب كان
يظهر مبتسما أو ضاحكا في الغالب .صور رفقة الكثير من الرفاق في أماكن مختلفة ،في الجامعة ،في شوارع مدن
كبرى ،على شاطئ الب حر ،رفقة والديه ،صور أخرى رفقة تلك المرأة الشقراء التي رأيتها منهارة أمامه قبل يوم
فقط ،و طبعا صور مع ابنه الفقيد .طفل هزيل البنية لكنه جميل الوجه ،أملس الشعر ،عريض الجبهة ،كان يظهر
هو اآلخر مبتسما في أغلب الصور التي التقطت له رفقة والده على شاطئ البحر و في ملعب كرة القدم و ما بدى
299
أنه أعراس و أعياد مختلفة عاشتها القرية سابقا .حملقت طويال في تلك الصور آلغاكال رفقة عائلته الصغيرة ،قبل
أن أضعها جانبا بعدما لفت انتباهي حقيبة جلدية غريبة الشكل و األلوان كانت تقبع في قاع الصندوق .سحبتها ببطء
ألال أحدث ضجة بإطارات الصور .كانت حقيبة جلدية متوسطة الحجم ،يطغى عليها اللونان األحمر و البني،
تزينها رسوم هندسية بربرية مربعة و مثلثة سوداء اللون في غاية االتساق ،ال تختلف كثيرا عن نوع الرسوم التي
تزين أواني آغاكال الفخارية .حملتُ الحقيبة التي كانت تتدلى منها شراشف جدلية رقيقة ذات ألوان سوداء،
حمراء ،برتقالية و خضراء .أحسست أن بداخلها شيئا ما .فتحتها فإذا بإطارين أخرين يقبعان بداخلها .األول كان
ملونة قديمة ألغاكال و هو يقف على يسار اثنين من رفاقه بينما يجلس اثنين آخرين مستندان على الركبة
لصورة ّ
و قد انتصبت خلفهم الفتة كبيرة بدى عليها شيء من الصدأ و قد كتب عليها بالفرنسية و العربية جانت .Djanet
أخرجتُ الصورة من إطارها و قلبتها فكان بها كتابة خطية تقول.Djanet, Décembre 1979 :
اإلطار الثاني كان أكبر حجما 40 .على 09سم و كان بمثل حجم الحقيبة الجلدية تقريبا .أخرجته بروية و
أمسكته بكلتي يدي .كانت صورة باألبيض و األسود ألغاكال و هو منهمك تماما في تدوير الطين بين يديه يضع
غليونا في فمه و رأسه مائل قليال كأن به يتفحص جوانب تلك التحفة التي كان يصنعها .الصورة كانت قديمة و
مؤرخة في .0272كان شعره أسود حينها و وجهه كان هزيال جدا مما كان عليه في كل صوره السابقة .شيء من
القوة الغامضة كان يتراقص في تلك الصورة .ربما كونها التقطت للرجل في المرحلة التي كان فيها قد بدأ في
النهوض بنفسه مجددا ،بعد األزمة الغامضة التي عصفت بعقله بعد عودته من الصحراء ؟ .لقد قيل لي أنه لم يجد
مخرجا من إدمانه و اضطراباته النفسية الحادة إال عن طريق البدء في صناعة الطين ! .لكني تساءلت فقط عن
هوية ملتقط الصورة الذي و من خالل فحص اإلضاءة فيها و الزاوية التي التقطت منها ،أدركت أنه لم يكن هاويا،
ثم أنّا له االقتراب من آغاكال يومها ؟ .الصورة ذكرتني بصورة فراشات الطين !!.
_ رباه ! ....صورة المعرض ! .المصورة نسرين ،أكانت تتحدث عن ....يا اله !!.
اقشعر بدني ،حين ربطتُ تلك القطع الصغيرة التي بقيت مهمشة بعضها ببعض .الحرفي القبايلي الذي التقت
نسرين به في مرتفعات بني يني لم يكن سوى آغاكال .الطين التي تحوم حولها الفراشات في الصورة التي التقطتها
لم تكن سوى الطين التي تجهزها نانه تاملسة .لقد رغبتُ بكل قوتي في تناسي أمسية المعرض تلك كي ال أتذكر
صورة بهجة و هي تحتفي بين األظهر ،إلى درجة أني نسيت هذا التفصيل المتعلق بصورة فراشات المكاو !.
أعدت كل شيء إلى العلبة الثانية .فكرت قليال مع نفسي ،ثم عدتُ مخرجا العلبة األخيرة التي بدت خفيفة
نسبيا .فتحتها ملقيا بنظرة الترقب و الفضول الالمتناهي بداخلها ،فإذا بها مجموعة من الثياب المطوية و
الموضوعة في أكياس بالستيكية شفافة .قمصان .قبعات .سراويل طويلة و قصيرة .مالبس رياضية من بينها
قميص متوسط الحجم لفريق شبيبة القبائل .إضافة إلى مالبس رضّع ؟.
300
تمتمت مع نفسي و أنا أقلبها دون أن أخرجها من أكياسها البالستيكية ،إلى أن سحبت يدي كيسا بالستيكيا
أسود اللون من تحت بقية األكياس .فتحته بحذر .ألقيت بنظرة فاحصة على ما بداخله ،و بمجرد أن علمتُ أنها
ثياب أخرى ،أخرجتها بشيء من عدم االنتباه الذي سرعان ما عاد ليكتسح تقاسيم وجهي مع الكثير من الشخوص.
كان قميصا صيفيا بدت الصفرة التي طغت عليه ليست سوى نتيجة لعدم غسله لوقت طويل ،فقد كان قميصا أبيض
في األساس .الشيء الذي جعل بصري يشخص هو الجزء الخلفي منه .لقد كان محتفظا ببقعة عريضة من الدم
الذي غار لونه حتى كاد يصير أسود .تلك الرائحة القوية التي جعلتني أنفر للحظة قطعت الشك باليقين حول تلك
الفكرة التي كانت تتبادر لتوها إلى ذهني .كان ذلك القميص الذي كان الطفل زيري يرتديه يوم أصيب .ذلك الثقب
الوحيد الذي كان يتوسط بقعة الدم لم يكن سوى منفذ الرصاصة التي أنهت حياة المراهق المسكين .حاولتُ أن أق ِّدّر
المكان الذي أصابته الطلقة في جسم الضحية ،فبدى لي أنها قد أصابته من الخلف جهة الكلية اليمنى.
_ ...كم هذا فظيع ! ..لكن لم ال يزال يحتفظ بشيء كهذا في خزانته ؟ !..
كنتُ ماض في التمتمة و أنا أخرج ما بقي في الكيس البالستيكي األسود .كان سروال جينز تنبعث منه رائحة
قربته من أنفي بحذر قبل أن أبعده بسرعة بعدما تعرفت على الرائحة العالقة به .لقد كانت بقايا
السعة غريبةّ .
رائحة بول ،جعلتني أتصور ما حدث .الطفل المسكين تبول على نفسه حين سقط على إثر الطلق الناري الذي
أصابه ،أو قبله بلحظات ربما ؟.
كان عميروش يقف متأمال تلك الجرار الصغيرة التي أمضيتُ الليلة السابقة في صناعتها بعدما أعادتها نانه
تاملسة التي قامت بشويها .وقفتُ خلفه على عتبة الباب الخارجي للورشة و أنا أمسد بيدي على عنقي و قد جلب
نظر إلي و
انتباهي تلك األتربة العالقة بصندله .ال ريب ،الرجل أمضى الليل كامال في السير عبر المسالك الجبليةَ .
قد علت شفتيه بسمة اإلعجاب و هو يشير إلى الجرار المصفوفة تحت إحدى أشجار الزيتون القريبة...
_ هذا أفضل عمل قمتَ به حتى اآلن يا أمداكول ! .إنها في غاية اإلتقان !!.
حاولت بسرعة تذكر معنى كلمة '' أمداكول '' البربرية التي لم يسبق له و أن ناداني بها .أه ...أجل ..لقد كانت
تعني '' الصديق '' .أومأت برأسي متظاهرا عدم االنتباه للكلمة حين تقدم إلي فجأة و هو يركز عينيه في عيني
مستمرا في التبسم...
301
هززت كتفي مطلقا نظرة متغابية مستفهمة .لم أرد التصديق بأن الرجل كان و بطريقة ما قد علم ما كان يدور
في خلدي طيلة ساعات الليلة السابقة ،و قد كان موضوعا في غاية الخصوصية و الحميمية ،بهجة ،التي لم يسبق و
أن قصصت حكايتي معها على أحد .ال يُعقل بتاتا أنه يعلم ،ثم أنا له أن يعلم ؟.
_ أشكر لك اهتمامك .ما قمت به البارحة كان في غاية النبل .لقد مضت سنوات طوال لم يتدخل فيها فرد
للوقوف إلى جانبنا في موقف مماثل .أق ِّدّر لك هذا و أبواي يشكرانك أيضا من صميم قلبيهما .تانميرت.
نظرته و نبرة صوته في نهايتها أثارت في نفسي شفقة غير مفهومة في تلك اللحظة بالذات .أحسست أن
الرجل كان في لحظة صفاء تام و هو يقول ذلك .أشحتُ ببصري عنه و التزمت الصمت ،لكني أدركتُ أنها كانت
مسألة ساعات فقط ألحصل فيها على ما بقي من قصة و ماضي الرجل ،فقد فتح لي خزانة أغراضه الخاصة.
بكلمات أخرى كان الرجل قد فتح لي قلبه .لذلك لم يكن صعبا علي فهم سبب مناداته لي '' أمداكول '' طيلة ذلك
اليوم بعدما تخلص من لقب '' آقشيش '' .كان األمر برمته مع هذا الرجل أشبه بامتحان مفتوح على درجات كنتُ
أرتقي عبرها كما يرتقي التلميذ المواظب .و المادة األساسية في هذا االمتحان كانت شيئا أقرب ما يكون إلى ''
العالقة اإلنسانية '' منه إلى أي شيء آخر .لكن عميروش لم يكن مركزا على كشف ما أخفيه عنه في الجانب
المظلم من هذه المغامرة ،رغم أنه كان يستشعر أن نواياي ليست كاملة الصفاء من وراء تواجدي معه و وسط
والديه المسكينين .و هو شيء راح يترك مسحة بمذاق مر داخل نفسي كلما فكرتُ فيه .لقد فهمتُ أن الرجل لم يكن
مكترثا فعال للهدف المظلم الذي جاء بي إلى تيميزر و إليه تحديدا ،لكن بدى لي أنه حقا لم يملك شيئا يخفيه عني،
عدى أغراضه الشخصية المرتبطة بماضيه الجريح ،و هي أشياء لم يكن ليلومه أي شخص على االحتفاظ بها
لنفسه ،فج ميعنا لنا أغراض و أسرار ننزع إلى االحتفاظ بها ألنفسنا في النهاية.
حين حل المساء ،كنا نجلس و نحن نعمل على القسم األخير من عجينة اليوم .كان الجو هادئا تتخلله أصوات
طيور السنونو التي كانت تحلق فوق رأسينا في أسراب متالحمة .كان الرجل ملتزما الصمت في معظم الوقت و
هو منغمس في تدوير الطين بين يديه ،و كانت نظراته الشاردة تحمل الكثير من الكالم و األحاديث الداخلية.
انتابني إحساس أنه كان ينتظر مني أن أجلبه للحديث عن األغراض الشخصية الموجودة في الخزانة المعدنية،
لكني لم أكن متأكدا من كونها فكرة جيدة .لم أكن متيقنا من أنه فعال يود أن يحكي لي ما صحل له في جانت أو ما
حصل البنه المسكين في الربيع البربري األسود .و بعد مرور قرابة نصف ساعة من العمل الصامت ،رأيت
مالمح وجهه تتبدل ،و قد عادت نظرته التي ألفتها ،و كأنه استفاق من حالة تشبه الغيبوبة كانت قد أخذت وجدانه
إلى صحراء بعيدة جدا .التفت إلي فقابلته ببسمة مرتبكة و عدتُ ألتظاهر أني منغمس في عملي ،لكن صوته
الهادئ قاطعني....
302
_ أعلم ما يدور في خلدك يا أمداكول....
_ لقد اطلعتُ على ما يوجد في الخزانة األخرى .آسف ،يبدو أن فضولي الصحفي صار عادة سيئة...
استشعر نبرتي المتهكمة الساخرة ،لكن نظرته لي كانت تقول بأنه ال داعي لكل هذا .هز رأسه مستمرا في
التبسم...
أومأت برأسي أن نعم .فأخذ لحظة صمت و كأن به كان يلملم قطع الحزن العميق التي يزخر بها عالمه
ي للحظة ،ثم عاد ليتأمل أشياء لم أكن ألتقط سوى أطيافها الهاربة من
الداخلي الممزق و المبعثر .تنهد .نظر إل ّ
عينيه اللتان اكتسحتهما ظلمة مفاجئة ،قبل أن يأتيني صوته الهادئ الذي كان يثقل بوزنه و بكل قوة على اهتزازات
و شهقات تود االندفاع و الخروج دفعة واحدة .علمتُ من فوري أنه يستعد ليحكي لي جزء آخر من ماضيه المثخن
باأللم ،و بالفعل ،فقد بدا يسرد لي...
كانت أول جملة خرجت من قلب الرجل ،قبل أن يكمل و هو يخبري بأنه ال يزال يشتاق لرائحته و صوته
معظم الوقت .فيما مضى ،كان آغاكال رجال سيئا و طائشا .أدمن الخمر و القمار لسنوات .كان يعيش في دوامة
عاصفة كادت تودي به إلى الهالك المؤكد ،لوال شيئين أنقذا وجوده بحسب قوله .هذه الحرفة اللغز .و زواجه بابنة
خالته الصغرى ،فاظمة ،التي عرفها منذ طفولته .امرأة جميلة و وفية .قبلت الزواج به عن طيب خاطر رغم كل ما
أصابه .أحيانا يعتقد بأنها فعلت ذلك عن حب ،و أحيان أخرى يتراءى له أنها فعلت ذلك تقديرا و إكبارا لوالديه ،و
حبا و تعلقا بنانه تاملسة التي رأت أنها ستتعلم منها الكثير فضال عن كونها ستجد راحتها معها ،لطيبتها و سعة
قلبها ،فمعظم الكنات في القرى قاسيات بالثقافة و التطبع كما قال .هكذا كان الزواجUn mariage de raison '' ،
'' كما يُقال .لم يرد آغاكال حينها أن يبحث في الموضوع أكثر ،فحياته كانت على شفير الهاوية و كان يقاوم بشدة
حتى ال يضيع في غياهب الظالم األبدي .شيء ما كان يدفعه ألال يفقد عقله أو ينتحر أو شيئا من هذا القبيل .عقد
الزوجان القران .أقيم العرس بمساعدة تاجماعت و مشاركة القرية .دخل العريس على عروسه ليلة الوفاف كما
يدخل أي عريس على عروسه .شيء من الخجل و التردد و عدم اليقين ...كما قال و هو يبتسم قليال .لكن األمر تم
بسالسة تامة و غير متوقعة كما يحدث في الغالب األعم .أطلق العريس ضربتي بارود في الفناء كما تقتديه العادة
في تيميزر ،حتى تعلم القرية أن العروس العذراء لم تعد آنسة بعد اليوم و قد صارت سيدة .كان عميروش سعيدا
يومها .ثم اعترف أن فاظمة قد ساعدته كثيرا على التوقف عن معاقرة الخمر و القمار و اعترف أنها تعذبت كثيرا
303
في بادئ األمر ،و قد كان عند حسن ظنها به .و بعد تلك المحنة التي عاشها قبل االرتباط بها ،أحس ألول مرة أنه
كان بصدد استعادة شيء من نفسه و حياته الماضيتين .اعترف أنه ألف تلك المرأة الجميلة ،ثم تعلق بها كثيرا.
كهول القرية يقولون دوما أن ما يجعل الكسكس كسكسا هو المرق ،و ما يجعل الزواج زواجا هو الحب .أعتقد أن
آغاكال أحب زوجته بشكل ما و إن لم يفصح لي عن ذلك بوضوح .ثم جاء اليوم الذي رزقا فيه بمولودهما األول.
كان ذلك أواخر صيف .72فرحته به لم يتكن لتصفها أي كلمات ،رغم كل تلك الشوائب التي حاول البعض من
خاللها تعكير حالة اإلشراق الكامل التي كانت تمر بها روحه.
سألته بصوت هادئ و شبه متر ِّدّد ،فعاد إلي من غطسته في بحر السرد...
_ أرادوا أن يسموه زيري ،لكني اخترتُ له اسم العربي تيمنا ببطل حرب االستقالل ،العربي بن مهيدي ،الذي
أحبه كثيرا ،لكنهم عارضوا االسم كونهم رءوا فيه يمثل عرقا رغم محاوالتي إقناعهم أنه ال عالقة له بالعرب أو
العروبة أو ما شابه .االسم هو اسم بطل شاوي من أبطال تاريخ هذا الوطن و فقط .إال أنه أفزعهم حقا ،فقد رءوا
األمر مثيرا للخجل و الحرج !! .في بعض األحيان أتفهم موقفهم ،فبعد كل الذي عشناه في بالد القبايل من طرف
القوة العروبية المقصية التي أرادت مسح وجودنا الهوياتي تماما .....أنتَ تعلم اآلن ما عشناه مع حكم االستقالل.
أطلق ضحكة تهكمية .صمت هنيهة ،ثم غاص مرة أخرى في ذلك البحر الذي ال يعلم أغواره إلى هو..
_ قال بأنه فقد صلة الكثير من الرفاق و األقرباء بسبب موضوع اسم الوليد ،خاصة و أنه كان مصرا على أن
يسمى العربي ،و لم يكن مهتما لرأي أحد .كل ما كان يهمه هو أن يربي ذاك الطفل الجميل الرائع في كنفه ،و أن
يجنبه عيش ما عاشه هو مع والده .منذ سنواته األولى لم يكن العربي يبتعد عن والده .كان دوما هنا يلعب من حوله
و هو ال يزال صبيا صغيرا .كان أحيانا يالعبه بالطين و هو ما كان يثير غضب والدته من آغاكال حين يدخل
عليها ابنها ترابي اللون .كانا يرددان األغاني القبايلية التي يسمعانها في الراديو .يذهبان الصطياد السمك أسفل
الوادي .يتجوالن في الغابة .يذهبان إلى شاطئ البحر .يتابعان بشغف مباريات شبيبة القبايل .كانت السنوات التسع
أو العشر األولى من حياته جنة حقيقية ،إال أن األمور بدأت تتغير تدريجيا حين راح العربي يسأل والده بنظرة
حزينة عن سبب تسميته العربي .شرح آغاكال األمر له مرارا ،خاصة و أنه كان دوما اقص عليه بطوالت كبار
عقداء الثورة و خاصة حياة و موت كل من عميروش و بن مهيدي ،إال أنه ظل يشتكي من سخرية و تنكيت
أصحابه في القرية و المدرسة ،الذين كانوا يعايرونه باسمه ،أضف إلى أن أفراد األسرة الكبرى ظلوا يصرون
على مناداته بزيري بدال من العربي .أحس آغاكال أن التيار البربري بدأ يأخذ ابنه منه .فحين كان مراهقا كان يأتيه
غاضبا في بعض األمسيات و هو يريد أن يعطيه سببا مقنعا عن امتناعه عن المشاركة في تظاهرات الربيع
األمازيغي عام 71عكس رفاق شبابه ،و َلم قطع صلته بمناضلي القضية و ابتعد عن النضال الهوياتي الذي كان
آغاكال قد برز فيه سنوات شبابه األولى .الطفل كان في سن لم تكن لتسمح له باستيعاب حجج األب.
304
سألته بتأن و ترقب شديد و أنا أحاول إخفاء لهفتي الصحفية اللئيمة ،فصمت و بصره زائغ في السماء .ظل
على تلك الحال لدقيقتين أو أكثر ،ثم تنهد...
_ ببساطة .خضتُ تجربة شخصية جعلتني أفهم شيئا مهما جدا ،ظل الكثير من المدافعين عن القضية
األمازيغية ال يرغبون في االعتراف به يومها ،و هو أن حالنا ال تختلف كثيرا عن حال عروبيي هذا البلد في
النهاية .صراخ و عويل و تهويل و تخوين و عواطف جياشة و تهييج للجماهير و إدمان لهوس االضطهاد و
نظريات المؤامرة و حين تأتي لحظة الحقيقة و المسئولية التي يفترض بها أن تؤكد على صحة مبادئنا األخالقية و
الحضارية األساسية ،تقع الصدمة و تأتي الحقيقة المرة التي تقول :نحن شعب غير ناضج بعد و مشتت فعال .هل
كان ابني ليفهم األمر إن كان الجيل الذي أنتمي أنا إليه لم يفهمه ،أو لم يرد أن يره على حقيقته ؟ .لقد حاولتُ تحذير
العربي من مغبة الدفاع عن هوية هذا الوطن الحقيقية عن طريق الحقد و الغضب ،خاصة و أن قناعتي العميقة
كانت تبشرني بأن هذا الوطن سيعثر على نفسه ال محالة في النهاية ،مهما طال الزمن ،لكن لألسف ،التيار كان
أقوى مني و من العربي و منا جميعا.
_ أنتَ أخبرتني أن الجزائري يؤكد و يهدد بشكل متعصب أقرب إلى الصبيانية حين يتعلق األمر بما يظنه هو
مسلمات صماء ال يُعقل أن تُغير أو تتغير مع الوقت .لقد صدقت في ذلك يا أمداكول .كان هنالك أناس غير أمناء
في هذه المنطقة ،راحوا يستغلون غضب الشباب تجاه النظام السياسي و حماسهم القومي الشديد ألغراض
مشبوهة .تماما كما حصل في التيار اإلسالمي .نفس الظاهرة تكررت مع بعض االختالف الطفيف ،فالنضال
الهوياتي األمازيغي و بفضل الكثير من عقالئه ظل محتفظا بطابعه السلمي رغم كل شيء.
_ قد يخالفك البعض هذا الرأي .نضالكم لم يخ ُل يوما من المناوشات و المظاهرات التي كثيرا ما تحولت إلى
مواجهات مفتوحة مع السلطة في الشارع.
التزمت الصمت و أنا أفكر في هذه المالحظة ،حين شرد بصر آغاكال مرة أخرى و هو يتنهد..
قا آغاكال أنه حين قتل المراهق ڨرماح حمزة في مركز للدرك في آث دوالة شهر يبرير 4220كاد كل شيء
ينهار في المنطقة في نفس اليوم ،لوال نداءات عقالء القرى و المداشر للمواطنين اللتزام الهدوء و الرزانة ،و قد
لبى غالبيتهم النداء رغم الغضب الشديد من الوفاة المأساوية للطالب المسكين صاحب 07ربيعا ،لكن السلطة
305
عادت بفجاجة و وقاحة غير مفهومة ،لتضيف القطرة الثانية إلى الكأس الممتلئة أصال بعد ساعات فقط ،بادعائها
في بيان رسمي أن الضحية هو مجرد مسبوق قضائي في السادسة و العشرين من العمر .كأن بالذين لفقوا التقرير
الكاذب كانوا يبتسمون بسخرية محاولين تبرير قبحهم بالقول للجميع أن األمر يتعلق بمجرد كلب لن يفتقده أحد.
انفجر كل شيء بعدها و بسرعة كبيرة انزلق في بضعة أيام إلى تصادم شامل جديد بين منطقة القبايل و السلطة
المركزية .الشبيبة في هذه المدن و الجبال كانت قد ضاقت ضرعا بممارسات السلطة لسنوات و كان بديهيا أن يتم
تذكير الجميع بأن السكين كانت قد وصلت إلى العظم .بالنسبة آلغاكال فقد رفض دعوات كثيرة من طرف رفاقه
القدماء للتجمهر و السير و التظاهر .كان يظن أنه ال طائل من ذلك ،فبمجرد أن رأى بعض المتشدّدين و الغالة و
علم أن الغضب سيتم تحويره إلى غير وجهته و أنه مهما ارتفعت
بعض مناضلي األحزاب يركبون الموجة َ
مطالبهم الثقافية و االجتماعية أو حتى السياسية مرة أخرى في أذن السلطة و المجتمع ،سيتم تسييسها و التالعب
بها من طرف الجميع .رفض السير في التيار .أيام من الجدال الحامي مع الجميع لم تفض لشيء .لقد رفض
التظاهر و حاول ثني ابنه بكل ما استطاع عن السير معهم .لكن بال فائد ،لقد انتهى به األمر للصراخ في وجه والده
قائال '' :سوف أتظاهر ضد هؤالء القتلة و لن أهرب من مسؤوليتي التاريخية تجاه هذه المنطقة ! ،سوف أتظاهر
علي أمحو العار الذي جلبه لي جبنك و خذالنك لقضيتنا !! ''.
تنهد آغاكال ناظرا إلي يخبرني أن تلك الكلمات قد صدمته و آذانه كثيرا ،و علم أن رأس الصبي قد فاض
بالخطب األيديولوجية المتشددة و الشحن العاطفي المستمر ،ففي تلك األيام بدأ آغاكال يسمع أقرانا البنه يتحدثون
المستعمرة ! .لم يصدق أنها كانت كلماتهم فقد كانت أكبر و أخطر من أعمارهم و
ِّ عن فكرة االنفصال عن الجزائر
عقولهم الغضة الطرية ! .و حين يئس تماما و أنهكه الجدال و الصراخ ،حاول بصوت يكاد يكون متوسال أن يجعل
العربي يغير رأيه في المشاركة في مواجهات اليوم التالي ،أخبره أنها ليست الطريقة المثلى لنصرة األمازيغية و
حلم الديمقراطية ،ليس بهذا الشكل .قال له أنه أبدا لم يخ ّل بواجبه تجاه هذه المسؤولية التي قرر حملها على عاتقه
منذ أيام شبابه في الجامعة ،و هي الدفاع عن هوية هذا الوطن ،الهوية الوحيدة التي ستط ِّ ّعمه ضد كل أشكال الهيمنة
و االختراق مستقبال بحسب اعتقاده ،و أن ذلك ال يكون أبدا بإدمان تبادل الحقد مع من نعتقد عبثا أنه '' اآلخر"،
حتى لو بدى لنا متشككا و رافضا أو حتى خائفا مما ندعوه إليه .أصعب أشكال التغيير في الطبيعة هي تغيير فكرة
تجذرت في ذهن صاحبها كما قال آغاكال .لكن الصبي لم يرد أن يُنصت .وقف عند عتبة الباب الورشة التي كانت
يومها بيتا عائليا ككل البيوت .تأمل والده قليال .ظن األب أنه رأى شيئا من االرتباك و مراجعة الذات في عيني
الغالم ،لكن األخير انصرف و هو يُخبر أباه بأنه سينام في دار جده.
صمت آغاكال مرة أخرى و هو يحول تمالك نفسه ،ثم طأطأ رأسه .كان كمن يحاول رفع ثقل شديد من مكان
سحيق نحو السطح .كان يسحب بقوة تلك الكلمات التي كامنت مخبأة في صدره المثخن باألوجاع بينما كنتُ أراقبه
في صمت .جزء مني كان يريد ثنيه عن االستمرار في الحكي ،و جزء آخر مني كان ملتزما الصمت ،ينتظر
بفضول معرفة باقي تلك التجربة اإلنسانية المريرة المرتبطة بجزء من تاريخ هذا البلد.
306
_ أذكر ذلك جيدا يا أمداكول .كانت صبيحة السابع و العشرين يبرير .كنت أقلب الفضائيات اإلخبارية
الفرنسية التي كانت مهتمة بما كان يحدث هنا ،حين كانت قنوات هذا الوطن تحاول إلهاء بقية الجزائريين بأحداث
فلسطين .أذكر أنها كانت صبيحة مشحونة جدا ،فقد تشاجرت مع فاظمة مرة أخرى .كانت متعجبة مني ،كيف لي
أن أكون عاجزا عن السيطرة على ابني و ردعه و منعه من الذهاب للمشاركة في أعمال الشغب ضد رجال
الدرك .كان شجار تلك الصبيحة األعنف .الكثير من الصراخ و السباب انتهى بي ألصدمها بعبارات عنيفة تحت
وطأة الغضب بعدما سئمتُ األمر كله .ال أدري كيف تفوهت بذلك ،أقصد ،ربما كنت فعال أعني ما قلت الشعوريا
؟ ...قالت لي بأنها لن تسامحني أبدا إن أصابه مكروه ،خاصة مع تواتر األخبار عن وقوع الكثير من القتلى و
الجرحى .أتصور أن ذلك كان ليهز قلب أي أم تعلم أن ابنها يقف أمام مواسير الرشاشات ؟ .لكني صرختُ في
وجهها :إن كان ال بد له أن يموت من أجل هذه القضية فال بد له أن يموت و لن أقف في طريق هذا القرار
النبيل !!.
تشنَّجت عضالت وجه آغاكال أكثر .أخذ لنفسه لحظة صمت أخرى ،ثم تنهد ناظرا إلي..
_ حين نظرتُ إل ى فاظمة ،كانت تحمل في وجهها كل عالمات الصدمة و عدم التصديق لما سمعته مني.
أحسستُ أني ه َّ
شمت كل الثقة التي وضعتها في كزوج و كرجل .لقد هشمتُ الميثاق الغليظ الذي جمعني بها إلى
آخر شظية .أحسستُ أنها لن تغفر لي أبدا ما قلت حتى لو عاد ابنها سالما ،بل أحسست أن زواجي معها قد انتهى
من الناحية العاطفية .لم تقل شيئا على اإلطالق لكنها قالت كل شيء عبر تلك النظرات .لقد حطمت فؤادها حرفيا.
انصرفت المسكينة إلى دار أهلها غاضبة باكية .ظننتُ أنها ستهدأ و تعود بعد عودة العربي مساء ذاك اليوم .كنتُ
أجلس هنا أستمع إلى أخبار القناة اإلذاعية المحلية عند منتصف النهار ،حين جاءني سيفاقص راكضا و وقف على
بعد بضعة أمتار من الباب شاحب الوجه .كان صبيا صغيرا يومها و كان من أكثر الصبية حبا للعربي في القرية.
نظرتُ إليه سائال و شيء ما قد تشنج داخل صدري .أخبرني الصبي بصوت خاشع بسماعه أن زيري قد أصيب
بطلق ناري و بأنه في المستشفى...
صمت الرجل مرة أخرى .توقف تماما عن االشتغال على الطين .تنهد ثم نظر نحو الخارج و كأنه يسترد تلك
الصور السوداء ،الواحدة تلو األخرى ،ثم انطلق في السرد بصوته الذي يمأله الوجع و الوجل...
_ ....ذهبتُ مسرعا رفقة رجلين من أبناء القرية سمعا أن ابنيهما قد جرحا أيضا .لم أخبر فاظمة و ال أهلها
بشيء ،رغم علمي بأن الخبر سيصل إلى مسامعهم ال محالة .حين وصلنا إلى مستشفى المدينة سيطر علينا فزع
حقيقي و نحن نرى تلك الفوضى التي سببتها حالة الطوارئ التي كان يضج بها المكان .عشرات الجرحى .بقع الدم
في أروقة االنتظار .ممرضون و أطباء يركضون في جميع االتجاهات .بكاء و صراخ و أنين في الكثير من
الزوايا و عند مدخل المشفى .كنت أسمع أن الطرف اآلخر أيضا قد أصيب كثيرا ،حين راح البعض يقولون أن
سيارات اإلسعاف كانت تحمل رجال الدرك المصابين بجروح بليغة عائدة بهم إلى العاصمة و البليدة .أدركتُ
حينها حجم األزمة التي غرقت فيها المنطقة .لن أبالغ لو قلت أنني استشعرت أجواء حرب أهلية حقيقية كانت
بصدد االشتعال ! .كان إحساسا غريبا ،ذلك الفرق الشاسع و المخيف بين هدوء القرية و ضجيج مستشفى و
307
شوارع المدينة التي كانت أعمدة الدخان السوداء تتصاعد على جنباتها ! .علم الرجالن أن ابنيهما لم يصابا إال
بجروح خفيفة .أحدهما كسرت ذراعه و اآلخر كان يعاني أزمة تنفسية بسبب الغاز المسيل للدموع .أما أنا ،فقالوا
لي أن ابني في حالة حرجة بسبب إصابته بطلق ناري في الظهر...
اهتز صوته فجأة كأن بالمشهد عاد ليلطم نظراته الفزعة مباشرة...
التزم آغاكال الصمت تاركا فسحة لتلك الثواني التي راحت تتحول إلى دقائق .كان شارد البصر تماما و كان
فمه مفتوحا قليال ،كأن به يعيد رؤية ما حدث البنه أمسية التاسع و العشرين أفريل .ارتبكتُ قليال كوني لم أعلم ما
يجب عمله .أحاول دفعه إلنهاء الحديث عن األمر أم العكس ؟ .كنتُ بحاجة لسماع أصعب جزء من شهادة الرجل
الحية في تجربته مع الربيع البربري األسود ،لذى اتخذت قراري و بصوت هادئ و حذر أعدته إلى الحاضر...
تفطن فجأة إلى كوني ال أزال أجلس بالقرب منه و أنا أترقب ما سيقول ،فتنهد و قد علت وجهه نظرات عبرت
عن شيء من الفزع أو عدم التصديق ،كأن به ال يزال غير قادر على تصديق ما حدث...
_ بدى لنا في صبيحة ذاك اليوم أنه قد اجتاز مرحلة الخطر ،فقد استفاق من غيبوبته قليال ،تمتم في أذن أمه،
حاول تناول بضع ملعقات من الحساء .أمسك بيدي محاوال التبسم بصعوبة بالغة .كنتُ أخبره بأن األطباء يقولون
أنه إن استمر في التحسن فسيغادر المشفى في غضون أيام .رغم لون وجهه الشاحب جدا ،كان شيء من الطمأنينة
قد بدأ يتسلل بصمت إلى قلوبنا جميعا .أنا و والدته ،أبواي و أخواله و عمه و عمته .جاءني شقيقي األكبر أعراب
بعد الظهيرة يحثني على العودة إلى المنزل آلخذ حماما و أنام قليال .عملتُ بنصيحته سوى أنه و في منتصف
308
الطريق توقفت عند تاجر من العائلة القتناء بعض األغراض ،حين أخبرني أن شقيقي اتصل به من المشفى و حثه
على أن يخبرني بأن أعود أدراجي فورا دون أن يذكر له السبب .عدتً أدراجي بسرعة و قد عاد قلبي ليقع أسير
الوجل و الحيرة .كنتُ أشعر به يخفق بشدة و كانت يداي ترتعشان على مقود سيارة أخي .كانت معدتي و أمعائي
منقبضة من الخوف .الحقيقة أن حالة العربي كانت قد ساءت فجأة و قد جاءتني طبيبته و هي تخبرني متأسفة أن
الفريق الطبي يحاول عمل المستحيل حتى يستعيد استقراره .شرحت لي الوضع ...لكني لم أستوعب ما كانت تقوله
لي .أخرجونا جميعا و قاموا بعزله .كانت أطول ساعتين عشتهما في حياتي فقد مرتا و كأنهما مائتي سنة .كنتُ
عاجزا عن النظر إلى والدته المحاطة بأشقائها و كانت هي ال تريد النظر أو الحديث إلي مطلقا فقد كنا نجلس في
زاويتين متباعدتين .جاءنا ممرض و عالمات االرتباك و األسف تملء وجهه .تج َّمدتُ في مكاني و أظن أن قلبي
قد توقف عن الخفقان تلك اللحظة .كنتُ أنتظر سماعه و هو يقول أنهم لم يستطيعوا فعل شيء للولد و أنه قد فارق
الحياة ،لكنه أخبرنا بأنه يهدي باسم أمه و هو ما جلع الحياة تعود لي و أنا أتنفس الصعداء .قلتُ في نفسي أنه ال
يزال حيا و أن الوضع ال يمكن أن يكون بمثل الخطورة التي توقعتها .طلب الممرض من فاظمة مرافقته لرؤية
ْ
فقزت من مكانها مهرولة خلفه حين بقيتُ واقفا في مكاني و أنا عاجز عن التفكير .أردت ابنها بطلب من الطبيبة،
مرافقتهما ،لكن ،انتابني الشك ،قلتُ في نفسي أن الطبيبة طلبت حضور والته و ليس حضوري ،قلت ربما يود
الصبي رؤية والدته من دوني ....كنتُ حائرا تماما .جلست في مكاني و أنا أقول لنفسي أنه ال بأس إن كان فعال ال
يرغب في وجودي بقربه ،ف المهم أن تعود فاظمة و هي تخبرنا بأن حاله قد عادت للتحسن .لكن بعد نحو ربع
ساعة...
صمت الفخارجي للمرة السابعة أو الثامنة .كانت أنفاسه محملة بأثقال حارة كان يسحبها بصعوبة بالغة من
أعماقه جحيمه ،كأنه مكبل بسالسل من العذاب القديم .كنتُ أكاد أسمع صوتها بوضوح تام في أنفاسه .طأطأ رأسه
و هو يحاول تمالك نفسه .مطط شفتيه .ضغط على فكيه ثم أغمض عينيه على إماءة ألم نفسي شديدة الوضوح...
_ ارتفع صراخها من الصالة في نهاية الرواق .كانت تصرخ بشدة .يا اله ال أزال أستطيع سماع تلك
الصرخات بوضوح داخل رأسي ! .تلك الصرخات جاءتني كأجراس قيامة معلنة نهاية الكون .مجرد أمصال
راحت تقطع روحي و تهوي بكامل وجودي إلى أعمق مكان يعشش فيه الظالم .كانت تلك الصرخات إشارة نهاية
شيء جميل في حياتي .شيء ما اختفى و سيجعل من وجودي شيئا جديدا و مختلفا تماما عما كان .أدركتُ ذلك في
اللحظة التي رأيت فيها الجميع يركضون متجهين صوب مصدر الصراخ .بقيت جالسا في مكاني كالتمثال شاخص
البصر فاتحا فمي من الصدمة و عدم الرغبة في التصديق .كيف أمكنني أن أصدق أن ابني الوحيد قد رحل ؟ !.
المحمر بكلتي يديه ناحبا و انحنى علي يعانقني بشدة و نحيبه يتدفق
ّ إلى أن عاد شقيقي أعراب و هو يغطي وجهه
في أذني كسيل جارف من األسى '' يموث ...زيري ..يموث ،آڨما ...يموث '' ...كان يقول لي مكررا كلماته.
تنهد أغاكال بعمق و هو يخرج علبة السجائر و تناول سيجارة منها كانت تهتز بين إصبعيه واضعا إياها بين
شفتيه و وجهه يقطر حزنا و أسى..
309
_ مات الصبي بين ذراعي أمه ،فقط ألنه رفض الظلم و النكران في وطنه .حدث ذلك قبل وقت قصير من
مغيب شمس ذاك اليوم .أذكر لون تلك األشعة المسائية الحمراء على جدار الغرفة التي احتضنت األنفاس األخيرة
البني...
صمت قليال و هو يتذكر ،ثم أشعل السيجارة التي تلطخت بشيء من الصلصال الذي علق بين أصابعه .و
وضع الوالعة جانبا دون أن يلتفت إلي .كان بصره ال يزال سارحا في الفراغ...
نهض فجأة و عبر إلى خارج الورشة .ابتعد بضع خطوات عن عتبة الباب و راح يسير ذهابا و إيابا و هو
يطأطئ رأسه ممسدا بيمناه على قفاه .اغتنمت الفرصة لتفقد هاتفي المحمول الذي كان يسجل كل شيء ،ثم نظرت
إلى الرجل و أنا أشعر بأسف شديد على حاله .كنتُ فقط أر ِّدّد بداخلي '' :كم من قصة صحفية ؟ ،كم من رواية ؟،
كم من كتاب ؟ ،كم من دراسة ؟ ،كم من سلسلة وثائقية و تلفزيونية ؟ ،كم من فيلم ،يمكن توثيق تاريخنا به لو
جمعنا كل هذه اآلهات الصامتة لهؤالء اآلباء و األمهات المفجوعين في أبنائهم الذين راحوا ضحايا انتفاضة
.'' ! 4110كان الرجل في تلك األثناء كمن يصارع وحشا من األلم ،ظل حبيسا في صدره و هو عاجز تماما عن
طرده أو إخماده .بعد نحو خمس دقائق من التفكير و السير في حلقة مفرغة ،تنهد بعمق ماسحا دموعه ثم عاد
ليجلس في مكانه.
أعادته كلماتي إلى الحاضر مرة أخرى .التفت إلي .ألقى ببسمة مصطنعة ثم طأطأ رأسه مكمال الحديث عما
حدث بعد ذلك .أقيم المأتم .تم دفن الفقيد الصغير .بعد بضعة أيام من ذلك تم استدعاء آغاكال إلى تاجماعت .قيل له
بأن أهل المرا يرغبون في استردادها إلى عهدة وليها .هي نفسها طلبت منه الطالق .لم يعترض و لم يقاوم .أعادها
إلى أهلها و كأن شيئا لم يكن .قال لي بأن الحياة تُفرق بين األحبّة تماما كالموت ،كما يُقال في أمثال القبايل .لم يكن
في طوره إطالقا تلك األيام .لم يكن يستطيع الشعور بشيء ،حتى حين قيل له أن المسكينة قد تم إدخالها إلى مصح
عقلي بعد نحو أسبوعين من ذلك .لم تستطع تجاوز محنة ابنها القتيل فانهارت عصبيا !.
بعد أسابيع جاءه شقيقه آعراب ليحاول إقناعه بالمشاركة في المسيرة الحاشدة التي قررت حركة العروش
تنظيمها نحو العاصمة لمحاولة لقاء رئيس الدولة و إعطائه أرضية مطالب القصر .قال بأنه راح يضحك و هو
ينظر إلى وجه أخيه الذي علته الحيرة الممزوجة بالغضب خاصة و أنه كان نصف سكران ،قبل أن يزيده'' :
حناجر حاقدة في مواجهة آذان صماء ...ال أفهم الغاية من كل هذا '' .انتفض شقيقه في مكانه .نعته بكل األوصاف
القبيحة .نعته باألبله و الجبان و عديم الضمير و الخائن ....و سأله كيف يمكنه أال يشارك في المسيرة و هو ضحية
مباشرة لألحداث المأساوية التي عصفت بالمنطقة ! .قال بأنه لم يزد معه في الجدال و دخل إلى هذه الشقة مغلقا
الباب خلفه و هو يتحدا أعراب قائال '' :انتظر بعد بضعة أشهر ،بل بعد بضع سنوات ،و أخبرني عن قادة العروش
310
أين سيصلون بنضالهم هذا '' .لم ير شقيقه بعد ذلك .هاجر أعراب إلى كندا ملتحقا بحركة الماك .بعده بوقت قصير
هجرت شقيقته مليكة رفقة زوجها و أبنائها إلى فرنسا و هي تقسم بأال تعود أبدا إلى هذا البلد.
_ لكن هذه األحداث و المسيرة المليونية التي أعقبتها في العاصمة قد جعلت صوت هذه القضية يفرض نفسه
فعليا ،ماس عميروش ؟.
_ بفضل دماء 049قتيل و أكثر من 2111جريح فيهم عشرات المشلولين و المعطوبين ،و العشرات من
األقالم و العقول و الحناجر المتنورة و المتع ّقلة التي أحسنت التعريف بعدالة هذه القضية و أهميتها القصوى
بالنسبة لمستقبل البلد ،كان ال بد على النظام السياسي أن يفهم و يُنصت في النهاية يا أمداكول .أجل 049 ،شهيدا،
من بينهم ابني .و إلى اليوم الكثيرون ال يزالون يصرون على نكران هوية هذا الوطن !.
_ القديس أغسطين حصر األمر قبل 0111عام من اليوم في جدلية أساسية :أنؤمن حتى نفهم أم نفهم حتى
نؤمن ؟.
_ لقد سبقني إذن إلى قلق السؤال على ما يبدو ! .كيف سأستريح بعد اآلن من عذاب هذا الوطن و أنا أسمع
قصصا و تجارب كهته ؟ !.
نظر إلى ببسمة بانت في عينيه أكثر مما ارتسمت على شفتيه و هو يقول بنبرة داعية تكاد تكون مجرد
همسات...
_ أال تعتقد أنك حفرت طويال بحثا عن كل السلبيات الموجودة في عقلية هذا الشعب ؟ و قد عثرت عليها
فعال ! .ألم يحن الوقت اآلن لتبحث في األشياء الجميلة التي تميزه ؟.
_ ال أرغب إطالقا في أن يعود هذا البلد إلى األسوأ ،بل أريد لنا اآلن أن نقفز إلى الحسن ،لكن ...تلك البذرة،
تلك البذرة القبيحة الدنيئة !.
_ ال لقاح لكلبك الجزائري الشرير القذر يا فتى ! .في اعتقادي أن الخطأ هو أن تستمر في تركيز كامل قلقك
منه على نفسك و تغفل البحث عن شيء أفضل منه.
_ البذرة موجودة فينا بالفطرة و ال سبيل إلى تجاوز أضرارها إال بالبدء في االعتناء بالبذرة الطيبة فينا يا
أمداكول ! .انظر إلى األمم التي سطرت تاريخا عظيما فيما مضى ،جميعها ركزت على ما يصنع قوتها ،و رغم
كل عيوبها الفطرية .أحبَّ هذا الوطن على طبيعتك الحقة ،أحبه على طبيعته األلفية ،و لسوف يعطيك ما يريده
قلبك !.
311
بدى لي كالمه تلك اللحظة قد حاد نحو شيء من االبتذال ،و قد استشعر ما أحسست به من فوره و هو يفحص
نظرتي غبر الواثقة ،فعاد سريعا ليؤكد لي أنه جاد تماما فيما يقول دون أن ينظر إلي...
_ أتعلم يا أمداكول السر الذي جعل الشعب اإلنكليزي ،كمثال ،يفتح ثالثة أرباع العالم خالل ثالثة قرون .السر
الذي جعل هؤالء االنجليز الشجعان يربحون معظم نزاالتهم التي خاضوها مع التاريخ ،على شراستها ؟.
نظرتُ إليه مستفهما أنتظر جوابه ،فتنهد ملقيا إلي بنظرة الواثق....
على قلة تلك الكلمات ،وصلتني فكرته بوضوح صارخ .التزمنا الصمت و لم نزد كلمة واحدة بعد كل ذلك
الحديث .كان كل واحد فينا يعاني نزيف أفكار حاد داخل رأسه .آغاكال كان نزيفه مرتبطا بالذاكرة أكثر في تلك
اللحظات كما خ َّمنت .كان قد عاد للعمل على دوالبه و هو يرمق قطعة الطين تلك بنظرات غائرة و حزينة .كان
يفكر في ابنه على األرجح .أما أنا ،فقد كنت مأخوذا تماما بكل الذي سمعته منه ،و بقدر ما تأثرت بمأساته
الشخصية جراء فقدانه البنه الوحيد و انهيار حياته الخاصة و االجتماعية ،إال أن فكري كان مشدودا أكثر إلى ما
ختم به حديث تلك األمسية '' .هل كان ا لموضوع كله يدور حول موضوع شخصية أو هوية الشعب و الوطن منذ
البداية يا ترى ؟ '' .سألتُ نفسي بشكل متكرر غير منقطع .هل يعقل أن طريقي في بحثي عن سبقي النهائي قد
أوصلني فعال إلى الساحة التي كان ال بد لي أن أعثر فيها على '' أم الثمرات الخبيثة '' التي بحثت عنها طويال ،فإذا
بي أع ثر على هذا الرجل الذي أقنعني بشكل ما على أن أنسى أمرها و أبحث عن شيء آخر مختلف تماما :أم
الثمرات الطيبة ؟ .الحقيقة التي ال يرغب أحد في البحث عنها !.
لكن ،ماذا لو كان آغاكال على حق في النهاية ؟ .ماذا لو كانت معضلة هذا البلد و هذا المجتمع تكمن أساسا في
كونه لم يطرح األسئلة الصحيحة و لم يبحث عن الحلول في األماكن الصحيحة ؟ .ماذا لو كانت مشكلته تكمن في
كونه لم يرغب يوما في طرح األسئلة األكثر إزعاجا لراحته و األكثر تهديدا ليقينياته ،أو لما يعتقده يقينيات غير
قابلة للتغيير ؟ .من قال أن اليقينيات ال يمكنها أن تتغير أو تُغير ؟ .ماذا لو كنا فعال نعيش في نهاية المطاف أزمة
الال ُمفكَّر فيه ؟؟؟ .ما أغربك يا آغاكال !!.
تمتمت مع نفسي في اللحظة التي جاءنا فيها صوت الشاب مولود و هو يرفع آذان المغرب من مسجد القرية
الصغير معلنا عن دخول وقت اإلفطار.
312
VII
أسرار الخادرات
313
-25-
الباقات المنسية
ربما وجب على كل جزائري أن يبدأ حقا في محاوالت جادة و صادقة و نهائية ليفهم روح هذا البلد و كيف
يتنفس حياته منذ قرون .كانت تلك قناعة بدأت تترسخ في ذهني الذي كان قد ألف جرعات هواء الجبال القبايلية.
مرت األيام و انغمستُ كلية في حياتي اليومية وسط قوم تيميزر .أستفيق صباحا على أنغام الشيخ الحسناوي
أو سيدة الطرب القبايلي حنيفة .أرافق الدا إيدير إلى أسفل األخدود لنجمع قطع الصلصال المترامية على أطراف
الوادي في سالل تحملها تامكديت ،البغلة الحمراء الهزيلة التي اشتراها الدا إيدير قبل أكثر من عقد ،و التي حفظت
مسار ذلك الطريق غير المعبد بكل تعرجاته الوعرة و أحجاره المباغتة ،كما حفظ صاحبها ثنايا الوادي التي تكتنز
قطع الغضار التي انحصر عنها مسار المياه ،و التي يقوم عليها رزق أسرته الصغيرة المتواضع .نعود صعودا
بالمادة األولية إلى البيت ،حيث تقوم نانه تاملسة صاحبة الوجه البشوش و العينين الضاحكتين بتفتيتها و تبليلها ثم
غ سلها و عجنها و تجهيزها في شكل كومة تتركها لتجف بعض الشيء داخل وعاء خشبي مفروش بالرمل ،عادة
ما يوضع تحت شجرة زيتون ،لنقوم أنا و آغاكال الحقا بتقطيع الطين الرطبة التي تتحول إلى عجينة ذات رائحة
مميزة إلى أجزاء و كريات صغيرة ذات أحجام و أوزان محدَّدة ،نخرج منها أواني مختلفة على دواليبنا الدوارة،
جرار ،كؤوس ،صحون ،أباريق ،نتركها لتجف بعد التشكيل.
تعود نانه تاملسة لتأخذها إلى الحرق ،ثم أستمتع بمجالستها في فناء بيتها ،حين تنطلق في زخرفة و تلوين
األواني الفخارية الجاهزة بأشكال هندسية بربرية ذات استمرار ألفي ،غاية في الدقة و التناسق .مثلثات و مربعات
و معينات سوداء و حمراء .بنية و صفراء و خضراء .متداخلة تارة و متباعدة تارة أخرى ،تأخذ في الكثير من
األحيان أشكاال أقرب إلى السالسل الجبلية و النباتات و الطيور و بعض الزواحف و الحشرات .تكون نانة تاملسة
تلك اللحظة بصدد التأكيد على عالم بربر الجبال المليء بالرموز التي تجد ارتباطا عميقا لم ينقطع منذ قرون
طويلة مع أنفاس الطبيعة و مزاج الطقس المتداخل فطريا مع مزاج هؤالء الناس .تخط تلك الرسوم بيدها التي
يو
تمألها التجاعيد و بعض الوشم .يد ثابتة جدا لم تؤثر عليها السن المتقدمة للعجوز التي ال تكف عن الحديث إل ّ
أنا أجالسها ،رغم علمها أني ال أكاد أفقه شيئا من كالمها ،إال أنها تستمر في الحديث و الضحك بل و حتى الغناء
في بعض األحيان ،كأنها تبذل جهدها كي تجعلني ال أشعر بالملل ،أو أنها ببساطة تعبِّّر بطريقة ما عن امتنانها
314
بمجالسة أحدهم ،بما أن زوجها الكهل يمضي الكثير من وقته زائغ البصر غائصا في أفكار و ذكريات ال أحد يعلم
تفاصيلها ،و إن كان آغاكال قد قص علي كل شيء ،أو هذا األخير الذي يمضي جل ساعات يومه على دوالبه أو
هائما في غابة األحاديث .طبعا يجب التذكير بأنه ال أحد في القرية يزور العجوز تاملسة أو يحتك بها عدا بعض
العجائز الالتي تلتقي بهن في تالة .لهذا تبدو المسكينة كمن أثقلها ضجر الشيخوخة التي لم تنصفها بعد سنوات
حافلة باألحداث و التحديات المؤلمة و الصبر الخارق .هكذا تجد سعادة شبه طفولية حين يجالسها أحد ما و هو
يبين لها أنه مهتم بما تفعل.
تقدمتُ كثيرا في تنفيذ اتفاقي مع الفخارجي و بالكاد كنتُ قد أنهيت عدد األواني الفخارية ال ُم َّ
عوضة و أكثر من
ذلك ،صرتُ أتحكم بشكل شبه كلي في دوالبي و في القطع الطينية التي أداعبها بلطف و مهارة بأناملي .صار ذلك
شيئا يعجبني كثيرا إذ أنه دفعني إلى اكتشا ف بعض األمور عن سر إدمان آغاكال لهذه الحرفة ،و هي أنها صنعة
أو نشاط قد يخفف الكثير من التوتر النفسي ،بل و قد يدفع صاحبه إلى الغوص في التأمل ،و بمساعدة عامل الزمن
فإن تلك الحرفة تعيد صياغة طريقة تفكير ممارسها بشكل ما ،و تجعل منه مفكرا بطبعه ،تماما كما يقوم هو
بصياغة أشكاله التي تدور فوق دوالبه .آغاكال كان قد تحول من شاب قبايلي شديد االندفاع و التعصب لقضيته
القومية إلى كهل مرن التفكير ،أو ألقل أن فكره كان مرنا و سلسا و هادئا كالطين تماما !.
كنتُ في بعض األحيان أرافق آغاكال إلى ورشته لتعليم أطفال القرية أصول صناعة الطين ،حيث كنتُ أراقبه
و هو يحدث تالمذته الصغار عن التراب و الطين و اإلنسان و الثقافة في هذا البلد .لم أكن أفهم كل ما كان يقوله،
لكنني و من كثرة مجالستي له ،بتُ أعرف تقريبا عما يتحدث بمجرد فحص تقاسيم وجهه و التفاصيل الصغيرة
لحركة حاجبيه و شفتيه و يديه و نبرة صوته .التالمذة الصغار صاروا أصدقائي أيضا .يحيونني بحرارة .بعضهم
يفعل ذلك بخجل ،كالطفلة تاسعديت ،و البعض اآلخر يفعل ذلك بالقفز علي و محاولة تسلق ظهري أو التشبث
بذراعي .كنتُ أ جالسهم أوقات الفراغ داخل غرفة الدرس و أنا أحمل دفتري و قلم الرصاص ،أسجل ما استطعت
من كلمات و ألفاظ و تعابير بربرية ،بما أني كنت ماض في بذل ما أستطيع لتعلم هذه اللغة التي حتما كان يتحدثها
جدي فيما مضى .كان األمر برمته يبعث شكال من االبتهاج في عيون األطفال أو غيرهم من القرويين الذين باتوا
يعرفونني ،حين أستوقف أحدهم ألسأله بنبرة بربرية متعثرة عن معنى كدى أو كدى ،فيضحك و تظهر على وجهه
إشراقة غامضة و هو يصحح لي جملتي االستفهامية ثم يُجيب عن سؤالي بكل حماس و مودة .بالنسبة إلى هؤالء،
فإن شخصا يحاول قدر المستطاع تعلم لغتهم األم ،هو شخص جدير بكل االحترام و حتى الحب ،ال لشيء ،سوى
لعمق الجراح التي يحملها وعيهم الجماعي حول كل ما عانوه في سبيل افتكاك حقهم الدستوري في االعتراف
بلغتهم و ثقافتهم األصلية ،التي كنتُ قد بدأتُ أعتقد في النهاية أنها يجب فعال أن تكون لها مكانتها الكاملة في هذا
الوطن.
ال أدري ،لكن األمر برمته بدا تلك األيام و كأنه علبة دخلتها بتلقائية و أقفلت على نفسي كي أستغرق في
التأمل و التفكير و اكتشاف األشياء الجديدة .كنتُ كثيرا ما أسير رفقة آغاكال في شوارع و زقاق القرية النظيفة و
315
المرصوصة بالحجارة ،بين المنازل و أصوار الحجر و الطوب العريقة ،و هو ال يكف عن الحديث عن التاريخ
القديم لهذه األرض ،و هذا الشعب ،و قد تزامن ذلك و رغبة قوية و غريبة ،كانت قد بدأت تنتابني في معرفة
الحكاية منذ بدايتها .فقط كنتُ مترددا لسبب لم أفهمه تحديدا.
الوقت الذي وفرته على نفسي حين لم أعد ملزما بصناعة الفخار لساعات طويلة ،أفسح لي المجال للقيام
بأمور أخرى .لقد عدتُ إلى المطالعة ،لذلك عكفت على قراءة ما يوجد في خزانة الحرفي من كتب و روايات
لوجوه طالما عرفتها و قرأتُ عنها ،لكن لم أقرأ لها من قبل ،و المثير في األمر أني حين انطلقت في قراءة رواية
Le Fils Du Pauvreلمولود فرعون ،كنتُ أعيد اكتشاف قرية تيميزر و يومياتها بشكل ما ،بل و كنتُ أرى
لمحات هاربة من طفولة آغاكال في طفولة و أحالم بطل الرواية ،الطفل البربري '' فورولو '' .وصف مولود
فرعون لشكل قريته التي كتب عن األحوال التي كانت تسودها و تسود قرى القبايل بين سنوات األربعينات و
الخمسينات ،كان أقرب بكثير إلى حال قرية تيميزر التي توقف تغيرها في العمران و تجمد عند عتبة الخمسينات،
في حين استمرت قرى القبايل األخرى في التطور رويدا رويدا مع الزمن.
أنهيت قراءة ابن الفقير في بضع ساعات ألنطلق في اكتشاف La Terre Et Le Sangلنفس األديب ،التي
جعلتني اكتشف شخصية العجوز '' كمومة '' و مأساتها مع الفقر و الوحدة ،بعد فقدان زوجها الشيخ '' قاسي '' قبل
عودة ابنها الوحيد '' عامر '' من غياهب الغربة رفقة زوجته الفرنسية .كنتُ ماضيا في اكتشاف أو إعادة اكتشاف
الحياة الصعبة لهؤالء القبايل في قمم جبالهم الوعرة القاسية ،و اكتشافي لبدايات ثقافة الهجرة المتجذرة فيهم أيضا.
قيمهم األخالقية العالية و عيوبهم القبيحة كذلك ،التي طالما شممتُ روائحها المستفزة المتصاعدة من المجتمع
الجزائري الحالي ،فالكاتب انتقد كثيرا حال المهاجرين القبايل األوائل الذين غامروا بالتنقل إلى الضفة األخرى قبل
الحرب العالمية األولى ،ناقلين بؤسهم ،جهلهم و صراعاتهم القروية السخيفة إلى مدن أوروبا الكبيرة ،حين كانت
جماعات إثنية أو ثقا فية أخرى مهاجرة قد تجاوزت ذلك و تعلمت سبل التكتل و التنظيم و الدفاع عن مصالحها
الجماعية .جعلني ذلك أفكر في كالم آغاكال أول مرة يوم فتح لي خزانة كتبه ،كون أن هذا الشعب في النهاية ال
ينتمي إال إلى الجبال و البوادي ،حيث عاش أسالفه األولون ،مهما حاول إنكار ذلك .أما مولود فرعون و بحديثه
عن قيم القوة و الضعف ،الفقر و الثراء ،األبهة و الوضاعة في المجتمع القروي لعشرينات القرن الماضي ،قد أكد
لي على أن نفس القيم قد تسربت خفية إلى المجتمع الجزائري الحالي ،بل و حتى إنها ال تزال تنام بكل ثقلها على
وعي و ال وعي من يحكمون البالد و تحدد سلوكياتهم في الحكم ...تلكم هي الموسطاشيا و ابنها غير الشرعي...
الحهر !! .هكذا إذن ،جل العيوب الحالية للجزائريين قد تجد جذورها األولى في الحياة الجبلية السابقة ألسالفهم.
أعتقد أن نظريتي حول الموضوع كانت صحيحة منذ البداية و ها هو فرعون ينصفني حتى قبل أن أولد ! .دفعني
ذلك إلى التأمل في كل مرة أرمي فيها ببصري إلى سالسل جرجرة الشاهقة ،التي وصفها فرعون في روايته
وصفا فيه الكثير من الخشوع ،و أنا أقول في نفسي أن جدي عاش في مكان ما من هذه األرياف القبايلية المترامية
عند أقدام الجبل العمالق ذات يوم .تص ورته شيخا قبايليا نكدا ،سريع الغضب ،سليط اللسان ،نافذ البصيرة ،واسع
الحيلة ،يتمايل في برنسه األبيض و يغطي رأسه المليء بالحكم و التجارب و الفطنة و الخدع تحت قلنسوة بيضاء،
و ربما يجر خلفه حمارا .كالشخصيات التي رسمت عالم مولود فرعون ؟.
316
لألمانة ،فقد بدأتُ فعال أعجب بهؤالء القبايل و أكثر ما أعجبني فيهم هو حسهم العميق بالمسؤولية ،ثقافتهم
المجتمعية العميقة التي يجسدها تعلقهم بعوائلهم و أراضيهم و حيواناتهم و تماسكهم و التزامهم باألفكار التي
يؤمنون بها– بغض الطرف عن فحوى تلك األفكار– بل بدأتُ أعجب بفكرة أصولي القبايلية ،التي راحت تدغدغ
فكري و تغريني بشكل غامض امتزج فيه الفضول بشيء من التردد.
راح ذلك اإلعجاب و الحماس يتصاعدان أكثر فأكثر حين انطلقتُ في قراءة الرواية التالية لمولود فرعون
Jours De Kabylieحيث صادف و أن حضرتُ مجلس القرية األسبوعي الذي يعقد صبيحة كل يوم خميس،
و تزامن ذلك مع انتهائي من فصل الرواية اآلنفة الذكر الذي يتحدث عن تاجماعت .توجهتُ إلى تاجماعت تيميزر
و أنا ال أزال أحمل الكتاب في يدي .وجدتُ األمر في غاية اإلثارة و حتى التسلية للطفل الصغير بداخلي .قلت في
نفسي أني أعيش فصال من فصول حكايات فرعون و أنا أرى ساحة تاجماعت التي تقابل جامع القرية و قد بدأت
تمتلئ بالمواطنين القادمين لحضور الجلسة ،التي خصص جزء كبير منها لمناقشة موضوع مشاركة تيميزر
األولى في مسابقة أجمل و أنظف قرية قبايلية ،التي تقام كل عام في تيزي وزو ،و التي تعرف منافسة شديدة بين
مختلف القرى التي تحاول إعطاء النموذج األروع عن القرية القبايلية النموذجية .عجبا ،فتلك كانت أول مرة أسمع
فيها بوجود مسابقة كهذه في الجزائر ،و الحقيقة أنها ال توجد إال في بالد القبايل فقط ! .فهمتُ سبب نظافة و تنظيم
قرى '' إيقفايلين '' في أيامنا الحالية على العموم ،و قد كانت تلك نقطة اختالف جوهرية مع قرى زمن مولود
مغبرة بشكل خانق في فصول الحر و موحلة متسخة في مواسم األمطار و البرد .بدى
ّ فرعون ،التي وصفها بأنها
لي أن القبايل القرويين قد رفعوا التحدي و تجاوزوا تلك العثرة الحضارية الصغيرة بخطوات عمالقة.
كنتُ أراقب الناس و هم يستمعون آلراء بعضهم البعض بكل اهتمام و احترام .من يرغب في الحديث يستسمح
الجمع و يقف في مكانه أو يسير إلى وسط الساحة ،أين يمكن للجميع رؤيته و سماعه بوضوح ،خاصة أعالم
القرية و شيوخها المرابطين ،فيدلي بدلوه و رأيه ،و قد يحدث و أن يدخل في مد و شد مع أحدهم أو الكثير منهم،
ق د يصل إلى بعض التشنج ،إال أن األمور كلها تسير في إطار من النظام و االنضباط العام ،خاصة أن الجميع على
وعي تام أن كل المسائل المطروقة إنما هي مسائل تصب في المصلحة العامة للقرية ،فال وجود لجداالت ذات
خلفيات شخصية بين الناس في تاجماعت إال نادرا ،حين يتعلق األمر بفك نزاعات ذات طابع عائلي .و الغريب في
األمر – بالنسبة لي كشاب و غريب – هو أن الشباب في مقتبل العمر يشاركون الجلسات العامة و يناقشون
المشكالت و يتجادلون في األفكار بكل فصاحة و جرأة ،و األكثر إثارة من ذلك هو أن األكبر سنا يستمعون إليهم
بكل اهتمام كاستماع هم لمن هم في مثل سنهم المتقدمة ،حتى و إن لم يوافقوا على ما يحمله شباب القرية من
توجهات أو أفكار أو نزعات قد تبدو غريبة بالنسبة لألكبر سنا .حين سألتُ آغاكال الذي كان يتقاسم مكانه المعتاد
في تاجماعت معي ،أفادني بأنها ثقافة مجتمعية تجذرت مع مرور القرون بفضل تاجماعت ،جعلت من اإلنسان
القبايلي – على العموم – شخصا ملتزما و ذو عقلية '' حركية '' أو '' جمعوية '' تدفعه دوما لالنخراط في شيء ما،
ثم أشار بيده إلى الكثير من الصبية الذين كانوا يراقبون سير الجلسة ،و قال بأن كل واحد منهم يتوق في نفسه
ليكون قادرا ذات يوم على اختيار مكانه الدائم في هذه الساحة حين يبلغ سن الرشد القانونية ،التي تأذن باالنتساب
الرسمي لتاجماعت ،و أضاف بنبرة ساخرة أنه لطالما حلم بذلك مع أقرانه أيام الصبى و مثلوا أدوار أعضاء
317
تاجماعت في ألعابهم .من يجد مكانه في تاجماعت ،يعني أنه قد صار رجال بالغا و أن له صوت و رأي مسموعين.
ثم سألني بصوت خافت و هو مستمر في مراقبة سير الجلسة....
_ ألم تسأل نفسك يوما عن سر التواجد الالفت للقبايل في كل أشكال المنظمات و االتحادات و النقابات و
األحزاب و الحركات النضالية ،بدأ بالحركة الوطنية و وصوال إلى أيامنا هذه ؟ .برأيكَ ،لم يُعتبر القبايل ،قياسا إلى
بقية الجزائريين ،األكثر ميال نحو التكتل و التنظيم و األكثر قدرة على التجند لمختلف أشكال النظم االجتماعية ؟.
لم أقل شيئا .تفرست وجهه للحظة ،ثم نظرت إلى كتيب أيام القبائل الذي فتحته على الفصل الذي كنتُ قد
أنهيت مطالعته و أنا في طريقي إلى تاجماعت .أعدتً قراءة فقرة أثارتني في األمر ،حيث كتب فرعون يقول:
( نحضر إلى الجماعة – تاجماعت – للتصرف بصفتنا رجاال ،لنتحدث كالرجال ،لنقابل اآلخرين وجها لوجه،
نعلّم الصغار .نحضر هنا لنفرض ذواتنا ،كي ال نترك
األخ ،الصديق ،الخصم .نحضر هنا لننصت إلى الكبار أو ِّ
أماكننا شاغرة في الساحة .ليس هنالك أجمل من جماعة ممتلئة كعائلة كبيرة موحَّدة ،عازمة و قوية .هكذا كانت
الجماعة ذات مرة ).
_ '' َلم لم أر األمر من هذه الزاوية حين أتيتُ إلى هنا أول مرة ؟ ''.
سألتُ نفسي بصمت ،قبل أن يأتيني الصوت الخافت ألغاكال مرة أخرى و هو مستمر في مراقبة سير الجلسة
و نقاشاتها ،ثم أخبرني بأنه قديما ،حين كان الطفل القبايلي يولد ،يحصل تلقائيا على ثالثة حقوق أساسية ال يستطيع
أحد في العالم حرمانه منها :األول هو الحصول على حماية ال مشروطة من طرف أسرته الصغيرة من الجور
المحتمل لعائلته الكبيرة و حماية هذه األخيرة من أي ظلم محتمل للعرش أو القبيلة ،إال إذا تعلق األمر بأوامر أو
أحكام تاجماعت .األمر الثاني هو حقه الثابت في الميراث مهما كان متواضعا ،و غالبا ما كان ذلك على حساب
اإلناث في العائلة لألسف .و األمر الثالث هو مكان ثابت يكتسبه في تاجماعت عند البلوغ .اليوم اختلفت الكثير من
318
األمور في معظم قرى القبايل ،إال أن تاجماعت بقيت واقفة كحارس أمين ضد كل أشكال التعصب القبلي،
النزعات الفردية المد ِّّم رة و الالمسئولية االجتماعية ،رغم التغير الذي مسها هي األخرى من حيث أنماط العمل و
القوانين.
نقر بسبابته على كتاب أيام القبائل و هو يبتسم .و الحقيقة أن تاجماعت كانت أشبه باكتشاف جديد لي ،أو ألقل
أني طالما سمعت بوجود مثل هذا التنظيم في هذه المنطقة ،لكن لم أعمل يوما تفكيري فيه و ال أردتُ اكتشافه عن
قرب .األمر أشبه ببرلمان صغير ،يلزم الجميع بال حضور مرة في األسبوع لمناقشة القضايا التي تهم الصالح العام.
حتى أالئك الذين يحضرون من أجل الحضور فقط ،فإنهم يكونون على األقل على علم بكل ما يجري في قريتهم.
أالئك المتخلفون عن االجتماع بدون سبب مقنع فإنه يتم إنذارهم شفهيا في المرة األولى ،ثم يكونون مضطرين إلى
دفع غرامة مالية رمزية إن تكرر غيابهم عن الجمعية في األسبوع التالي ،فإن هم تجرءوا على الغياب للمرة الثالثة
و من دون حجة مقنعة ،فإنه تتم معاقبتهم بالعزل االجتماعي ،إذ يمتنع مجتمعهم القروي عن التعامل معهم إال في
الحدود القصوى ،و هذا – بالنسبة لقروي قبايلي – يمثل أسوأ أشكال العقاب االجتماعي بحسب ما استنتجت.
اإلنسان الريفي أو القروي ال يمكنه بتاتا تسيير أمور حياته اليومية باتباع أسلوب حياة فردي .على كل حال ،ال أحد
في تيميزر يرغب في أن يرى نفسه منبوذا من طرف الجماعة .أعتقد أن األمر صار له أثر معنوي مع مرور
القر ون ،إذ صار الحديث عن عزل تاجماعت لشخص ما أو لعائلة ما له وصمة قد تكون سلبية من الجانب المعنوي
أكثر مما تخلفه في الواقع المادي المحسوس لدى هؤالء .هكذا فإنه يتم تلقين احترام تاجماعت ( إرادة و ضمير
الجماعة ) لألجيال المتالحقة في هذه القرية و في غيرها من القرى المنثورة على سفوح هذه الجبال و حواشيها،
بحيث يجعل منها و بشكل رائع أشبه بباقات من الديمقراطيات االغريقية الصغيرة ،التي ال تزال تعمل بهدوء و
صمت على ترميم النظم االجتماعية المتماسكة و الواعية بذواتها ،و كذا بث أساسيات الوعي االجتماعي و
السياسي و الثقافي ألفرادها ،حتى إن هم ابتعدوا عنها فإنهم يعيشون دوما لمبادئ عليا ذات طابع جماعي ،يؤمنون
بها و يتجندون لها و يناضلون في سبيلها ،و لربما هم أنفسهم قد ال يدركون أن سبب ذلك راجع إلى مدرسة
تاجماعت المذهلة هذه ! .بدأتُ حينها أفهم سر استمرار التيار النضالي البربري ،خاصة مع هؤالء القبايل !.
كنتُ أفكر في ذلك و أنا أقلب صفحات ذلك السجل الذي قدمه لي لمين قبل أن يعود إلى اجتماعه مع لجنة
منتخبي القرية بعدما أنهيت الجلسة المفتوحة مع سكان القرية .كان السجل يحوي على القانون الداخلي لتيميزر
الذي كان بلغ ة بربرية مكتوبة بأبجدية عربية ،في حين أخبرني المؤذن مولود أن بعض شباب القرية كانوا ماضين
في كتابة و نقل تلك القوانين في سجل آخر باعتماد األبجدية البربرية .قوانين قديمة جدا قد يفوق عمر بعضها
القرن ،ترجم لي الكثير منها .تحديد واجبات الفرد تجاه الصالح العام للقرية و حقوقه عليها .حراسة األمالك و
نظافة الشوارع و حمالت الوزيعة و التويزة و كيفية تنظيم الوالئم .ذكر المخالفات الممكنة التي قد يقترفها الفرد
في حق الجماعة و تحديد العقوبات المالية المنجرة عنها .مسائل الزواج و الطالق و عقوبات جرائم السطو و القتل
و الشرف .مكانة المرأة في القرية .تقسيم مياه السقي و كيفيات عدم تبذيرها .ضبط المعامالت التجارية و المالية
داخل القرية و مع القرى المجاورة .طرق فظ النزاعات بين العوائل الكبرى .تقسيم الميراث .استقبال الغرباء عن
القرية و إيوائهم .مهام مجلس القرية و انتخاب أعضائه و صالحياتهم و سبل مراقبة أعمالهم و عزلهم في حالة
319
اإلخالل بتلك المهام .ضوابط انعقاد تاجماعت 002 ......نصا قانونيا قديما و محدثا في المجمل .مولود كان بصدد
اطالعي على دستور حقيقي لجمهورية تيميزر الصغيرة !! .دستور قد يلخص الحياة االجتماعية و السياسية
ألجيال عديدة في هذا المكان ،ربما منذ أيام مملكة كوكو الغابرة ؟.
كنتُ فقط ماضيا في االنبهار بأمر هذا '' النموذج القبايلي '' أكثر فأكثر ،رغم تلك المسحة المرة التي كانت
تعبر وعي بين الحين و اآلخر ،كلما كنت أتساءل :لم تطلب األمر حضوري الشخصي إلى هذه الجبال و اختالطي
العميق بهؤالء القوم حتى أكتشف كل هذا اإلرث المستمر في النمو الهادئ الوئيد ،الذي يمكن أن يحمل في طياته
الكثير من المفاتيح لمستقبل أفضل لهذا البلد ،إن وجد أبناء مخلصين لهذه األرض يكلفون أنفسهم البحث عنها و
العثور عليها ! .كنتُ أفكر في ذلك و أنا أجوب شوارع القرية ألمسيات عديدة ،يدي في جيبي ،نظراتي تتسلق
الطرق المرصوصة التي تسير بي دوما إما إلى األعلى أو إلى األسفل ،كحالة مزاجي المتقلبة بين الصعود
الحماسي و الهبوط المزعج .بين الشعور بالراحة غير المفهومة و الشعور بالخوف الغامض .لكني في كل مرة
كنتُ أجد نفسي فقط أش تغل على أواني الفخار رفقة صديقي الفخارجي كل سهرة ،أتجاذب معه أطراف الحديث
حول مسائل التاريخ القديم للبلد .كنتُ أرغب في معرفة و فهم المزيد .كنتُ فعال مستمتعا بتلك األحاديث.
الحقيقة أن أغاكال كان قد غاص بي إلى أعمق من التاريخ النوميدي .كان قد أمسك بيد الصبي الصغير
صاحب الخيال الواسع ساحبا إياه ،كما تسحب الجنيات األطفال و هم على عتبات النوم من أناملهم نحو عوالم
الرؤى و األحالم .انطلق األمر بشكل شبه عبثي ،حين ساقنا النقاش و تجاذب األفكار حول نظم تاجماعت و
فرضية أنها قد تكون آخر ما بقي من نظم الحكم النوميدية القديمة .الشيء الذي أثار تهكمي و عدم اقتناعي باألمر
مرة أخرى ،قبل أن يذكرني آغاكال بما دار بيننا من قبل و أن األسئلة التي أبحث عن أجوبتها قد ترتبط بالتاريخ
القديم لهذا البلد .التزمت الصمت باسما .نظرتُ إليه بتحد و بنبرة تحمل الكثير من السخرية و االستفزاز تحديته....
_ تصوم يوم غد .و أعدك أنك ستجدني آذانا صاغية لتاريخ '' نوميديا '' هذه التي تريدون بعثها عينا ،رغم
أنها ولّت و انقرضت و صار مكانها اليوم بلد عربي يُدعى الجزائر !.
_ نوميديا كانت مرحلة من تاريخ بدأ قبلها بآالف السنين .تماما كما هي جزائرك العربية اليوم ،مجرد مرحلة
أخرى من تاريخ ألفي ال يزال يسير نحو األمام .أصوم يوم غد و تفتح ذهنك و خيالك لعظمة تاريخ أمتك الحقيقية
ها ؟
**********
في أمسية اليوم التالي ،كنتُ أسير رفقة آغاكال متجولين في القرية ،نقتل ما بقي من األمسية الصيفية الطويلة،
في انتظار آذان المغرب و موعد اإلفطار .كان الرجل الكهل يكاد يترنح من التعب و الجوع و العطش و الحاجة
الماسة إلى النيكوتين .لم أرد أن أعرف كم مضى عليه مذ أن صام آخر مرة ،أم أنه لم يصم يوما في حياته .الشيء
320
الذي جعلني في لحظة ندم أراجع نفسي .ربما لم يكن علي أن أساومه بشيء مؤلم و مرهق كالصيام و هو رجل
كهل نحيف ؟ .أعترف أني شعرت بشيء من الشفقة عليه و هو على تلك الحالة ،مصفر الوجه ،يحاول إخفاء تعبه
الشديد وراء بسمته الهائدة المعتادة .لقد آلمه الصيام فعال ،لكني أدركتُ كم كان مخلصا و وفيا لقضيته.
ال أدري كيف ساقنا الكالم عبثا إلى الحديث عن أول من عزف على آلة الناي ! .ابتسم آغاكال أمام نظراتي
االستفهامية و كأن به ينتبه إلى التزام الطفل الصغير بداخلي الصمت و الهدوء بعد شوط من الضجيج و الحركة.
قال بأن كاتبا عاش في األقوام الغابرة اسمه آثيناوس شهد بأن رجال يُدعى سرتس ،كان أول من أطلق ألحانا
شجية من عودين مجوفين التقيا برأسيهما بين شفتيه ،و كان أن تحول ذلك إلى ما يعرف اليوم بالناي ،و أن هذا
الرجل حسب كالم آغاكال كان بربريا !.
ال أدري كيف بدأ األمر بالحديث عن هذا العازف األول على الناي .لكن الفخارجي انتبه إلى فضولي و
انجذابي الفجائي لألمر ،خاصة و أني أخبرته أنني أبدا ال أعلم سبب عدم تذكري لدروس المرحلة اإلعدادية التي
كانت تتحدث عن التاريخ الوطني قبل مجيء اإلسالم إلى البلد ؟ .حقا ال أعلم لم ،رغم أني أتذكر جيدا دروس
الفتوحات اإلسالمية ،العثمانيون ،االحتالل الفرنسي ،االنتفاضات الشعبية و طبعا ثورة نوفمبر ،التي كانت أكثر
مرحلة تاريخية ترسخت في ذاكرتي و أنا طالب ،حتى أني ال أزال أتذكر نصا قصصيا ثوريا كان مغروسا في
المقرر الرسمي السنوي للغة العربية للسنة التاسعة متوسط ،وهو لألديب أبو العيد دودو تحت عنوان الظل .نص
قصصي أبهرني و عبث كثيرا بمخيلتي و أحاسيسي ...لكن ال وجود للتاريخ النوميدي أو ما يسبقه في ذاكرتنا أو
عواطفنا رغم وجوده في المقررات الدراسية الرسميةَ .لم ؟ .لم يُفكر أحد من النخب في اإلجابة – بجرأة و
موضوعية – عن هذا السؤال .أما صانع الطين فقد التزم الصمت لوهلة ،ثم أخبرني أنه ال شيء يضاهي فخر و
اعتزاز انتماء يناهز 2111عام لوطن أبدي ! .العبارة خدشت شيئا ما في أعماقي ،خاصة حين أخبرني أنها قناعة
يقتسمها كل صبي قبايلي بكل فخر ،بل و حتى مع شيء من الغرور .ربما أحسست بشيء من الحسد تلك اللحظة
تجاه هؤالء القوم .أو ربما كان ذلك حسد الصبي الصغير الذي يعيش بداخلي ،الذي عاد ليسترق النظر بكل فضول
خلف شق الباب و هو ال يرغب في أن يتم كشف أمره حتى ال يشعر بالسوء و الحرج ،كونه ظل يكابر و هو
يُعرب في شبه عناد عدم اهتمامه بشيء سخيف ،رغم يقينه أن ذاك الشيء يستحق فعال التذوق !.
خمسة آالف عام ؟ .تبدو مدة طويلة جدا ،لكني شككت في كون الرقم دقيقا أو موضوعيا .بهذا واجهت آغاكال
في شيء من االستفزاز ،لكن الرجل بدى ثابتا و متيقنا مما يحمل في جعبته .صحيح أنه كان مع فكرة تعدد
النظريات الت ي حاولت معرفة أصول البربر و التي ال تزال قائمة ،إال أن األهم بالنسبة إليه هو أن لحظة النشوء
كانت قد وقعت قبل آالف السنين ،و أن هذا الشعب قد فتح عينيه على الحياة و عرف وجوده اللغوي و اإلثني و
الجغرافي ،و راح يتطور ببطء و صمت خلف ستائر السديم البدائي لتاريخ العالم .سديم ضبابي كان كثيفا و غير
واضح المعالم و الحدود .أغلب الظن أن أسالف الجد األول لهذا الشعب كانوا قد جاءوا من مكان ما من أرض
إثيوبية الحالية ،التي يعتقد البعض أنها المكان الذي شهد والدة الجنس البشري ككل .أو على األقل كانت البوتقة
التي تفرقت منها األجناس الحامية كما تتفرق حبات الذرة من الكوز الذي يحملها ،متناثرة بذلك عبر أرجاء القارة
321
السمراء .من بين تلك الحبات المتناثرة ،كان ما يسمى البربر الذين استقر بهم الحال في صحاري شمال افريقيا.
حدث ذلك قبل نحو 1111عام بحسب الشواهد الجنائزية الموجودة في بالد التوارڨ في قلب صحراء الجزائر.
د َّع مه اكتشاف علماء آثار إيطاليين قبل عقود لمومياء طفل بربري تعود إلى 2211عام في جبال أكاكوس الليبية،
فكانت إحدى أقدم المومياوات المكتشفة في العالم .من هناك راح البربر األوائل يُوقِّّعون وجودهم و ينزحون شيئا
فشيئا نحو تالل و سواحل الشمال اإلفريقي .نظريات أخرى أرجعت وجود العنصر البربري ،أو على األقل
اإلنسان الذي تحدر منه الرجل البربري األول في هذه البالد إلى أقدم من ذلك بكثير ....إلى 2111آالف عام ! .و
ال يزال البعض يود بناء نظريات تقول بأن أحد أسالف الرجل العاقل المعروف اليوم ،إنما عاش في مكان ما من
الشمال االفريقي و هو أقدم بكثير من أقدم حفرية بشرية مكتشفة حتى اآلن ؟.
قاطعت آغاكال بشيء من التسرع ،فكان مستمرا في السير ضاما يديه خلف ظهره مبتسما...
_ و بعد ؟ .هل خلق ذلك مشكلة '' وجود '' لهم أو جعلهم يندثرون ؟ .أم أنك من الذين يؤمنون بوجود أعراق
خالصة النقاء ؟ .ما هذه النكتة العنصرية السمجة يا أمداكول ؟ ،رباه ،أنت تذكرني ببعض القبايل و البربريست
الذين راحوا ضحايا نظريات العرق الخالص ،حتى صاروا نازيين أكثر من هتلر ! .أالئك الذين يضعون رؤوسهم
تحدث ّهم حديثا خالصا عن العرق و لون البشرة ،فتحمل تلك القفة لتأخذها معك إلى حيث شئت !.
ِّ في قفتك حين
توقف فجأة عن السير .قابلني بنظرة من يقع على شيء ضل يقع عليه لعقود حتى صار ممال...
_ أه ،نظرية العرب العاربة و العرب المستعربة ؟ .نظرية مثيرة لالهتمام .أعتقد أن والدك ضل مسرورا و
مرتاح البال لهذه النظرية ،أليس كذلك ؟ .الحقيقة هي أنها نظرية تغيظ الكثيرين و تغبط الكثيرين في هذا البلد .إنها
سبب الفتنة ،و أعتقد للمرة المليار أن كال الطرفين لم يفهما جوهر المسألة بغيظهم أو بغبطتهم على حد السواء.
_ السبب بسيط جدا :في نظري ال شيء جدير بالثقة كالعلم ،و ال شيء يتطلب الوعي و النضج و التريت
كاإليديولوجية ! .لكننا نحن الجزائريون نشعق الصراع فيما بيننا و ندمنه .شخصيا ،أنا مطمئن تماما تجاه موضوع
جذور أسالفي .إن أثبت العلم '' قطعا '' و بعيدا عن تأثيرات السياسة أن األمازيغ فعال قدموا من اليمن ،و هو ما لم
يثب بعد ،فلن أجادل في األمر و سأضل فخورا بمن أكون و فقط .رجل أمازيغي و ابنا بارا ألرض تامزغة.
المعرفة يا أمداكول ،المعرفة هي المفتاح ،هي من تجعلني اآلن أعرف أين يقع بيتي في هذه القرية و ما الطريق
الذي سوف اسلكه ألصل إليه .ماذا عنك ؟.
ابتسم ،ثم انطلقَ مكمال مشواره واضعا يديه خلف ظهره مرة أخرى يراقب بعض األطفال و هم يلعبون على
حافة الممر .وقفتُ مسلوب اللسان مشدوها أراقب هذا الرجل العجيب .رباه ! ،كأن بنسخة أخرى عن الدكتور أبو
322
عماد كانت تتحدث إلي تلك اللحظة ،لكن مع مسحة جد عميقة من الحكمة ! .كنتُ مستَفزا تماما في أعماقي.
استفزاز كان يتغلغل كرعشة في أطراف جسدي قادما من فكري و أنا أشعر بغرابة مفاجئة تجاه ذلك الرد الهاديء
كالليل ،القوي كاإلعصار ،الثابت كالجبل و السلس كالماء !.
أجوبة آغاكال كانت فعال مخيفة ،تبث في النفس شيئا يُشبه تلك األصوات األولية غير الواضحة التي نسمعها
و ال نستطيع إدراك ماهيتها عادة قبل وصول الهزات األرضية بثوان .أو تلك الشهقة التي تلي ارتطام الماء المجمد
على صدر شخص نائم .ردود كاألصابع الطويلة الثابتة التي تنغرس في عمق الجرح مباشرة ،غير آبهة بحجم
األلم و الدوخة المنجران عن ذلك ،بقدر ما تُرينا عمق الجرح كي نقدِّّر حجم ما ينتظرنا من عمل لمداواته .ببساطة:
إجابات بسيطة خالية من اللف و الدوران و النفاق ''.كان الدكتور أبو عماد ليسعد كثيرا بتجاذب أطراف الحديث
معك يا آغاكال ! '' .هذا ما جال بخاطري و أنا أراقب الحرفي يبتعد بخطاه الثابتة يتمايل بظهره المقوس قليال و
هو يحني رأسه الذي كان يختفي تحت قبعة القش الصفراء تلك.
323
-26-
ⴰⴰⴰⴰⴰⴰ ⴰⴰⴰⴰ
( األرض تحكي )
أحيانا ،كي تفهم مغزى وجودك في البلد الذي ُولدتَ و ترعرعتَ فيه ،قد تحتاج إلى غطسة عميقة و طويلة في
تاريخه البعيد .غطسة إلزامية ال مفر منها لكل عاشق لوطنه .تلك هي إحدى قناعات القبايل أنفسهم ! .الفخارجي
كان يعلم ذلك و كان يج ِّ ّهزني لتلك الغطسة ،كما يج ِّ ّهز الرجل الروسي ابنه الرضيع لغطسته األولى في المياه
المتج ِّّمدة كي يكتسب مناعته الطبيعية و ارتباطه األزلي بوطنه روسيا .كان الحرفي يستعد لتعميدي بشكل ما !.
هكذا ،جاءت تلك السهرة ،التي كان ال بد لي فيها أن أفي بوعدي للحرفي ،و أجلس مستسلما ألسمع منه حكاية
قومه .البربر ،أو األمازيغ كما يُناديهم باعتزاز .كنا نشتغل على دوالبينا معا ،وسط رائحة الطين العبقة و أغاني
الصراصير و الصدى المتدفق من بعيد لصالة التراويح في مسجد القرية.
كان يتحدّث و هو يعبث بسيجارة بين شفتيه مشتغال على قطعته .كان يتحدث عن الجدور األولى المفترضة
لشعبه .و بغض النظر عن كل النظريات التي حاولت و ال تزال تحاول الكشف عن الجذور األولى للرجل االفريقي
أو اآلسيوي األول ،الذي حدثت في جيناته الوراثية الطفرة التي أدت إلى ظهور الجين البشري المميز E-M81
الذي توارثه أبناءه و أحفاده ،الذين استوطنوا الشمال االفريقي و صاروا يُعرفون اختصار بالبربر و بأسماء أخرى
كثيرة ،فإن ما كان يهم آغاكال أكثر هو جانب الثقافة و اللغة و نمط العيش و المساهمة في التاريخ القديم و الحديث
للعالم الذي تميَّز به هؤالء ،أكثر من اهتمامه بحروب المدارس العنصرية .و الحقيقة هي أني كنتُ أتلقى كلماته
التي تخص '' هذه المساهمة العظيمة في بناء تاريخ العالم '' التي ساهم بها أسالفه البربر بكثير من التشكك أو حتى
التهكم الصامت .لو كان ذلك صحيحا لرأينا كتب التاريخ العالمية تعترف بذلك علنا ،و تذكر فضل هؤالء على
تاريخ البشرية ،كذكرها لإلغريق و الرومان و الفرس و العرب و الصينيين و شعوب المايا و األزتك كمثال .لكني
أردتُ أن أفسح للرجل المجال دون جدل كي يُقنعني بوجهة نظره ،لذلك التزمت الصمت .أما هو ،فكان يتحدث
بإسهاب ،و كنتُ في معظم الوقت أشتغل على دوالبي .أنصت إليه بكثير من التمعن و الرغبة في اكتشاف القصة
كاملة .هاتفي الخلوي موضوع بجانبي يُسجل الشاردة و الواردة .يداي تشكالن القوالب بثبات .عيناي تعانقان اللون
الدافئ للطين اللزج ،و خيالي يزخر بتلك الصور و األصوات و حركات تلك األشكال و األجساد التي كانت
تنعكس على الصلصال مصقولة بلمسة طفولية بخيال الصبي الصغير بداخلي ....و أعترف أني كنت أستمتع بكل
ذلك! .أعترف أن حكاية آغاكال عن قومه كانت مستوية كحزام طويل ،بمعنى كامل و وجه جميل ….كما تقول
الجدات القبايليات حين ينطلقن في سرد حكايا الـ '' الثيمشوها '' الشعبية على الصغار كل مساء حول الكوانين
الموقدة.
324
بدأ األمر كله بوصول أسالف هذ الشعب الذين ُيقال بأنهم ورثوا هذه األرض عن ملوك الجان .هذه األرض
الشاسعة الممتدة من الضفاف الغربية لدلتا النيل إلى أعمدة هرقل التي ضلت تحرس البحر المتوسط آلالف السنين
حتى ال يلتهمه بحر الظلمات الغاشم .بسائط ال نهاية لها من الكثبان الرملية الذهبية ،و الجبال الصخرية الفضية
الشاهقة التي تخترق السحاب ،و الغابات شديدة االخضرار التي تعانق بدورها الساحل المتوسطي بحرارة .الحدود
الحالية التي تفصل بلدان هذا الشمال االفريقي لم تكن موجودة يومها ،فقد كان األمر يتعلق بكتلة جغرافية واحدة
أطلق عليها اسم '' ليبيا '' .ال أحد استطاع كشف سر هذا االسم و ال كيفية ظهوره .اإلغريق ظنوا عبر أساطيرهم
أن ليبيا كانت حفيدة اله الرعد و الصواعق اليوناني زوس ،بينما ذهب العبرانيون في كتبهم القديمة لالعتقاد بأن
أحد أحفاد حام ابن نوح و كان يدعى '' بوت '' هو من سماها كذلك .أما األسطورة الشائعة هي أن وطن هؤالء
البربر كان قد أخذ اسمه األول عن امرأة بربرية قوية ،كانت ملكة و محاربة أمازونية ،اسمها .Lilybyaأو ''
اللة بية '' كما قال آغاكال مازحا .هل كانت هي نفسها ابنة اله الرعد ؟ ،أم كانت ملكة في األسالف الغابرين ؟.
كان المصريون القدماء و اإلغريق هم أول من احتكوا بسكان هذه األرض ،الذين كانوا يتوزعون في شكل
قبائل كبيرة من البدو الرحل ،فوثقوا عنهم القصص و الحكايات .يقول المؤرخون اإلغريق أنها كانت بالدا تشتهر
بتربية المواشي .قطعان ال متناهية من الغنم و األبقار كانت تقطع السهوب التي تؤطر األفق الشاسع لوطن الليبيين
أو الليبيقيين أو الليبو ،الذين كانوا يجوبون تلك المساحات في رحالت قبلية جماعية بال كلل أو ملل ،بحثا عن
المراعي الجديدة و األراضي المثمرة .غريب .ذكرني ذلك بمئات البدو الرحل الذين ال يزالون يتبعون نفس نمط
العيش في سهوب و صحاري الجزائر إلى اليوم .هكذا نشأ أسالف البربر األوائل ،رعاة غنم بسطاء منذ فجر
التاريخ .كثرة الرحالت لعقود عبر ماليين الكيلومترات المربعة هذه جعلتهم أناس ذوي بصيرة عميقة .معرفة
دقيقة بالتضاريس و الطقس .لهم منظور متميز تجاه الطبيعة و ارتباط عاطفي عميق بحيواناتهم األليفة.
أن ترى شروق الشمس و مغيبها من عدة أماكن و ارتفاعات و منخفضات على طول العام ،تحتم عليك أن
تكون شخصا ذو نزعة تمتزج فيها العاطفة بالخيال مشكالن ترنيمة إنسانية فريدة من نوعها ،يصعب فهمها و
يصعب السيطرة عليها .ميزتها الكبرى هي صعوبة احتوائها تماما كما يصعب احتواء الدخان بين اليدين ،لكن
عيبها األساسي هو سرعة ميلها إلى التشتت و التبعثر .األفاق الالمتناهية لوطن الليبو جعلت منهم شعبا يُحب تزيين
فروة الرأس بريش الطيور .شعب ال يحب األماكن الضيقة و يسعى دوما للسمو إلى الشمس و القمر .ال عجب
أنهما كانا بذلك أكثر عن صرين في الطبيعة عبدهما البربر القدماء ،تماما كأبناء عمومتهم من الحضارات الحامية
العظيمة التي قامت في جنوب أمريكا ،إلى درجة أنهم تركوا أول ما تركوا ،رسومات صخرية ألغنامهم التي قام
عليها عيشهم و قد أحاطوا رؤوسها بقرص شمسي كنوع من العبادة و التبجيل .الفكرة التي انتقلت رويدا رويدا إلى
المصريين في واحة سيوة التي شهدت ظهور الرب آمون محاطا بقرص الشمس ،معلنا بذلك والدة أكبر و أشهر
العقائد الوثنية القديمة ،التي أعادت ترتيب تاريخ العالم القديم بشكل راديكالي ،مدخلة إياه إلى حقبة جديدة ،كانت
الحضارة الفرعونية الهائلة مركزها األساسي.
325
كأنما كنتُ أنظر إلى هؤالء الليبو أو اآلنو أو الريبو أوالتمحو أوالتحنو أو المشوش وفقا للسان المصري
القديم على فترات متفرقة ،و هم يقودون قوافل الماشية و شجيرات الزيتون ليتاجروا بها مع جيرانهم الشرقيين،
الذين راحوا يكسبون ثقتهم فيقاسموهم الماء و الخبز و التراب .كأنما كنتُ أسمح أسواط الملك المصري نعرمر و
هي تج لد أكتاف الليبو بعد انتصاره عليهم و طرده للكثير منهم من أرضه الممزقة و توحيده لمصر القديمة في
األلف الثالثة قبل الميالد ،ليقوم مؤرخوه بتخليد ذكرى نصره ذاك في لوح التوحيد الذي صار أول وثيقة تاريخية
رسمية تذكر وجود هؤالء البربر كشعب مميز قائم بذاته .و كان أن هاج التاريخ و ماج بالسنين الطويلة التي أنبتت
مزيدا من الزرع بين الشعبين .فترات هدوء و تجارة و مجاورة ،و فترات فر و كر .مواسم من جني الزيتون
ال ُمنقى بمياه المطر و ترانيم الصلوات الجماعية ،و مواسم أخرى من حصاد السنابل المخضبة بالدم المسفوك تحت
ظالل الخيول و الحراب .الليبو في نزوحهم و هجوماتهم المنظمة على دلتا النيل بحثا عن الماء ،و المصريون في
غزواتهم على ليبيا بحثا عن قطعان الماشية و العبيد .رأيتُ ظالل تتعبد في معبد الكرنك تحت جدارياته الزاخرة
بمجد الفرعون مرنبتاح و انتصاراته على جيوش األقوام الخمس ،التي حاولت االستيالء على مصر تحت قيادة
الفارس اللوبي مرى بن أدد .رأيت الملك رعمسيس الثاني يُشير بيده إلى وزرائه متخذا قراره الحيوي بقبول الليبو
في جيوش مصر ،مقتنعا أخيرا بشجاعت هم و فروسيتهم ،وفائهم و صراحتهم .تقززهم الفطري من النفاق و
االنبطاح .رفضهم للطغيان و اإلكراه و جرءتهم في أرض المعركة .رأيتُ أسالف البربر كما كان صانع الفخار
يصف لي ،بلحاهم الحادة و ريش الطيور الذي يزين رؤوسهم ،يخطون مبرزين أنوفهم الطويلة إلى الناس،
مساهمين في بناء مجد حضارة مصر ،إلى اليوم الخالد الذي وصل فيه سليل دمائهم شيشنق ،الذي يعتقد أغاكال
أن اسمه األصلي قد يكون '' شوش نغ '' أو '' زيغ نغ '' ،وصل إلى عرش مصر عام 221ق م ،التي أصلح
أحوالها و هزم خصومها و انتهى به المطاف في صوالته إلى أرض الشام إلى لقائه األسطوري مع الملك سليمان
بن داود لبحث سبل السلم و التعايش بين المملكتين .البركة راحت تتدفق على مصر منذ تلك العهود الغابرة و
المنيرة ،كتدفق نور النيل الخفي الذي روى تاريخ األرض كله .السالالت الفرعونية البربرية راحت تزيد اللبنة
فوق اللبنة في جدار حضارة مصر الذي ال يهتز و ال ينهار ! .مزيج من إلهام العظمة و الغرور الملكي و وحي
الوفاء و التعلق بسر الرمال و قصص الغرام المكتومة و بخور اآللهة الخفية .كل ذلك ساقته سالالت بربرية
حكمت مصر .الفرعون بسماتيك الذي انتصر لمصر في حروبها ضد االثيوبيين .الفرعون آمحوسي الذي أنقذ
مصر من الحروب األهلية و االنقسامات .الفرعون نخاو الذي أزهر اقتصاد مصر بين يديه ،إذ كان من أوائل
المصريين الذين اهتدوا إلى حفر قنوات الماء التي تربط النيل بالبحر األحمر .دون نسيان الفرعون الشاب أينارو
الذي استمات في الدفاع عن محبوبته مصر ضد العدوان الفارسي ،إلى أن وقع أسيرا في يد األعداء ،فسار رافعا
أنفه إلى فارس حيث قضى بطال و شهيدا من أجل األرض .من أجل الحب .من أجل مصر .من أجل '' النيف ''.....
شدّني كل ذلك الحديث و كل تلك المعلومات التي اكتشفتها للمرة األولى ،بصراحة ،قصص مصر مع فراعنتها
الليبيقيين فعال جميلة ! .ظننتُ أن التاريخ على لسان صانع الطين آغاكال سينتهي عند ذلك الحد من التشويق
بانتهاء ما في جعبته عن هؤالء '' األمازيغ '' .ظننته لوهلة تأثير التاريخ المصري نفسه الذي ال يمكن ألحد أن ينكر
أثره المتوارث على المخيال البشري ككل ،خاصة حين تحدَّث الحرفي عن مصير مبهم صادف جيشا فرسيا أرسله
االمبراطور قمبيز لالستالء على واحة سيوة البربرية ،فلم يعد ،و لم يعثر له على أثر ،رغم تفسير القدماء لألمر
326
بطريقة جاهزة و هي أن الرب آمون كان قد انتقم من الغزاة الذين دنسوا رمال أرضه المحبوبة ! .األمر الذي دفع
االسكندر األكبر بعد عقود من ذلك إلى زيارة الواحة الروحانية ،محاوال التقاط أنفاس و همسات آمون الخفية،
طامعا في معرفة الغيب و مصير العالم .كان هناك يسير داخال المعابد المصرية بخشوع ،آمرا جنوده بالتزام
السكوت عند العتبات ،ممعنا السمع ،مطأطأ الرأس ،تاليا الصلوات و منتظرا اإلشارة.
البربر .رعاة الغنم و األبقار البسطاء العاشقين للخيل ،صار لهم اسم و وجود في سجالت التاريخ األولى إذن.
بل و في قيادة التاريخ منذ أيام شيشنق المجيدة .فقد انتهوا أباطرة و قادة جيوش و سدنة معابد و فالسفة و شعراء و
محاربين يرغب كل ملك غاز و مغزو في الحصول على والئهم .إمارات و ممالك راحت تقوم في أرجاء ليبيا
الكبرى .البربر الڨرامانيون أو الڨيتول أسالف التوارڨ ،بنوا مجد حضارة صحراوية كبرى ع ّمرت ألكثر من
0111عام في صمت و سالم ،تاركة بصمة أبدية على حياة إنسان الصحراء و عقليته الميالة إلى الهدوء و حب
مناجاة الذات و األرواح بين صخور الوديان و كهوف الفيافي ،بعيدا عن ضجيج الشعوب األخرى .بصمة كانت
ستسطر مستقبل هوية كاملة بعد قرون .تلك البصمة كانت تُسمى بمنتهى البساطة '' ابتكارنا '' ،أو تيفي نغ بلسان
البربر ،حين كانت سواحلهم تضج بالقيل و القال مع رسو أولى سفن البحارة الفينيقيين على سواحلها المشمسة ،و
نزول أميرتهم الفارة عليسة ،فاتنة أنظارهم بالهدايا الزجاجية القادمة من بالد صور الجميلة ،و فاتنة أنظار ملكهم
يرباس بجسدها األبيض المتأللئ بأمواج المتوسط ،و إن لم يجعله األمر يغفل عن شرطه الوحيد على البحارة و
ه َ
أمريتهم لالستقرار ببلده ،و هو '' :ال توسع و ال استعالء '' .بذلك ُوضع أساس حاضرة قرطاج األول ،حين لم
يتصور واضعوه أنه سيكون أساس إحدى أعظم الحضارات اإلنسانية بعد بضعة قرون فقط .و هناك ،بعيدا عن
نعومة عليسة و غنجها و عطورها و حريرها .كنتُ التقط صدى حوافر الخيول الالهثة بين زوابع الرمال و صليل
السالسل و عجالت العربات المجرورة فوق أراضي العالم القديم لعشرين ألف محارب بربري ،كانوا يعبرون
الجبال الجرداء و البراري الموحشة ،كموجة هائجة ،مشاركين في حملة الملك الفرسي أكسركسيس الخطيرة على
بالد اإلغريق ،حين كان هؤالء اإلغريق يشقون البحر المتوسط إلى الجنوب ،تتمايل قواربهم وسط اليم و تصفع
مجاذيفهم سطح الماء ،بعدما حزموا أمتعتهم باتجاه قرية قورينة التي أسسوها على سواحل ليبيا غير بعيد عن
مصر .هناك كان ثائر بربري متقد و حساس اسمه أدركان يعد العدة رفقة أتباعه ليخوض النزال ضد هؤالء
الدخالء اإلغريق.
كانت تلك و بحق ،دورة إنسانية تجري تحت النظرات الساخرة للتاريخ و هو يتسلى بمراقبة هذه األمم
المتوسطية ،يغزو بعضها بعضا ،و يتالقح بعضها مع بعض ،كان تاريخ اإلنسانية الحديث يومها كالطفل الذي
يتسلى بدماه التي يفتعل بها الحرب تارة و السلم تارة أخرى .يغير من موطئ أقدامها و مساكنها كيفما تهيا له ذلك،
و يقرر مآلها و مصائرها بمزاجية حادة .و كقرطاج تماما ،كان قدر قورينا أن تتحول هي األخرى بعد بضعة
أجيال إلى إحدى المنارات الخالدة للمتوسط ،فتشع عليه بالفنون و الثقافة و الفلسفة و الرياضيات و العمران ،بعدما
امتزجت عقالنية اإلغريقي بروحانية البربري .هكذا كنتُ ماض في سماع أهازيج الشاعر Kallimakhosو هو
يترنَّح سكرانا في شوارع قورينا تحت نسمات ليالي الربيع ،مبدعا و مخلدا أجمل قصائده التي تغنت بجمال موطنه
327
قورينا و ليبيا و الفتيات البربريات .يُقال بأن كلمة Sirèneأو حورية البحر لها ارتباط وطيد بكلمة قورينا في
االغريقية !.
تماما كما كانت سيوة نقطة تالقي البربر بالمصريين و بداية تاريخ مشترك غاية في اإلبهار و الخصوبة.
كانت قورينا نقطة التقاء البربر باإلغريق ،التي تناثرت منها الثمار الوفيرة على الشعبين كما تتناثر القطع الذهبية
عركت طويال بيدي
بغزارة المطر قافزة من جوف جرة سحرية .هكذا اختلطت الدماء و اللغة و الثقافة و الدين .ثم ُ
الوجود اإلنساني ،كما يعرك الطفل عجينته التي تمتز ألوانها و يتداخل بعضها ببعض حتى تصير لونا واحدا .هكذا
راح الشعبان يتبادالن مواثيق التث اقف فأنشأ مخيال اإلغريق الخالد مكانا ألرض البربر و سكانها في موسوعته
الحية ،التي سقت بساتين الفكر و األدب اإلنسانية األولى .فذاك هو هيرودوت ( أب التاريخ ) يداعب لحيته الكثة
تحت ضوء شعلته المترنحة تحت نسمات ليالي بلده اللطيفة ،غامسا رأس قلمه في الحبر ،خاطا شهاداته األبدية عن
أقوام عصره ،فكان أن تعجب بسخرية من تلك الطريقة الفريدة التي كانت نساء البربر يع ِّّبرن بها عن فرحتهن ،و
التي قال بأنها عادة ليبية غريبة ،و قد كان يتحدث عن ما نسميه في أيامنا الحالية '' زغردة '' .كان الرجل يكتب من
ناحية أخرى بجد و تركيز معترفا للبربر بفضلهم الكبير على اإلغريق ،في تعلم طرق جديدة في ترويض و تربية
و ركوب الخيل و العربات .في الزراعة .في الحرب و في عبادة األرباب .معتقدا ببربرية رب البحار و المحيطات
Poseidonو ابنه Tritonسيد بحيرات ليبيا ،الذي منح البحارة اليونانيين قطعة صلصال كعربون اعتراف
لتأسيسهم قورينا .دون نسيان فضل المحاربات الليبيات في إلهام الربة اإلغريقية أثينا مالبسها الحربية.
سمعت الحكايات عن البطل Persesابن زوس و هو يحلق فوق بالد البربر على حصانه المجنح Pegasus
القافز فوق الغمام ،عائدا من الجحيم برأس الشيطان Medusالذي كان يقذف دما راح يتحول إلى أفاعي و
زواحف سامة حين المس كثبان ليبيا الملتهبة .سمعت القصص عن البطل Argosنازال من سفينته محمال بمئات
الهدايا و الحكايا م ن مغامراته عبر العالم القديم ،حامال معه حبوب القمح الليبي المميز ،مائال بجسده الضخم مزهوا
بنفسه كأول إغريقي يحمل الحبوب إلى موطنه ،ليسمع الشاعر الالتيني Valerius Martialisصدى خطواته
الوئيدة و حفيف سنابله الوفيرة عبر العقود ،فيكتب شعره متغنيا بتلك البركة الغامضة المنبعثة من قمح البربر
كوميض لغز الحياة نفسها '' :خذ لك ثالث حفنات قمح من ضيعة ليبية ،فتزدهر بها أرضك البور !! ''.
أسطول بحري رهيب ،شدني فجأة و هو يكاد يحجب البحر ،تتكسر على سفنه األمواج و تسمع أغاني الحرب
المنبعثة من حناجر ألوف من ركابه و قد وصلت إلى أبواب آلهة جبل األولمب .لم أكد أصدق ،فذاك كان أسطول
قرطاجة التي تحولت تحت طرفة عين الزمن الخاطفة من مرفأ بحري صغير إلى حاضرة عظمى ،تجيش الجيوش
و األقوام ،و تنافس اإلغريق في مجد المتوسط .كانت واثقة من نفسها إلى حد الغرور و قد أعمتها حمية الدم فف ّكت
لجام بطلها البربري حملقار برقة الذي انطلق كالوحش الخرافي آڨورزيل تجاه العدو ،قائدا جيشه الجارف نحو
صرة
َّ أوروبا التي راح أبناءها اإلغريق يطيحون بمرافئ الفينيق الواحد تلوى اآلخر و عينها على صقلية،
المتوسط .هكذا أراد القرطاجيون إهانة اإلغريق في عقر دارهم كما أهانهم اإلغريق في صقلية .كانت الخوذ تتدافع
على سواحل هيمرا اليونانية تلفحها الشمس الغاضبة و تجعل الرؤوس التي تحتمي بها تغلي من الحنق .كانت
328
السيوف تلمع بين الشمس و الموج و كانت الصنادل و الحوافر تتدافع فوق رمال الشاطئ .جيش قرطاجي جرار ال
نهاية له ع ّكر نزوله ماء البحر ،فرسان و جنود و محاربون مرتزقة .قرطاجيون ،فينيقيون ،صقليون ،إبيريون،
غاليون و طبعا ليبيون .الكثير من البربر ،اآلالف منهم ،وجدوا أنفسهم مرة أخرى وقودا لحروب جبابرة التاريخ.
التحمت األقوام المتوسطية سريعا .تصاعد الصراخ و الغبار و تطاحنت العظام و المعادن ،و كان أن انهار جيش
قرطاج كأن به مجرد برج بابل بشري هزيل ،أمام استماتة اليونان الذين كانوا يدافعون عن شيء ما في القلوب
بقلب رجل واحد .صرخ جيلون السيراقوسي للنصر و ارتفعت قهقهته حتى ردت قمم الجبال اإليطالية صداها
الذي فاض بالتشفي ،و رثَت قرطاج أسطولها العظيم إلى حد أن كادت تخنق نفسها من األسى و ألم المذلة !.
يُقال أن ملحمة هيمرا التي جرت معظم أطوارها في البحر ،كانت سبب تحول قرطاج إلى جمهورية .لكنها
دفعتها أيضا إلى االخالل بوعدها األول الذي قطعته مع الملك هيرباس قبل نحو أربعة قرون من ذلك .هكذا أنكرت
الملح و الجورة و الصداقة الطويلة و المثمرة ،التي جمعتها بالبربر الذين أنجدوها طويال في حروبها دون تردد أو
نكران ،و بعد أن ك ّفت أنظارها الجشعة مؤقتا عن جزر المتوسط التي ورثها الرومان بهدوء و صمت عن
االغريق ،انقلبت إلى دولة بحرية جائعة تنظر بلهف و سوء نية إلى ما وراء أصوارها الجنوبية .إلى بالد نوميدية.
أو ربما تكون قد أدركت بطول العشرة مدى عاطفية جيرناها الجنوبيين ( عكس الشماليين ) التي قد تصل في
بعض األحيان حد السذاجة .و بعدما ضمنت هيمنتها على سواحلهم ،التفتت نحو أراضيهم الخصبة التي ال تنضب.
جنات بالد البربر ،الطريق الموصلة إلى ج َّنات الهيسبيريد التي تغنى بها اليونان في قصائدهم األلفية األولى تحت
سكرة سحر ليبيا القديمة ! .أراضي القمح و الشعير و الزيتون و العنب و الرمان و العسل و الدفء الدائم..........
'' لمال ؟ '' .أضمرت قرطاج في نفسها....
ساد الصمت فجأة ،فخرجتُ من تلك الغطسة باحثا عن أغاكال .كان جالسا هناك يتأرجح فوق كرسيه الهزاز
رافعا رأسه نافثا دخان غليونه الذي أشعله لتوه .كانت تلك أول مرة أراه يدخن الغليون ،آخذا استراحة من العمل.
_ ال ،ال شيء .أنا أفكر في هذا ،كيف أن التاريخ يدفع األمم لتمخض بعضها بعضا لتخرج زبدتها غير
ال ُمتوقعة .في بعض األحيان يتكاسل شعب ما في إخراج أفضل أو أقوى ما فيه و يعطي الفضل لشعوب أخرى كي
تفعل ذلك ،حين تظن أنها بصدد غزوه و التسيد عليه لضعفه .اإلغريق و الصقليين مخضوا قرطاج في معركة
هيمرا ،ثم جاء بعدها طاغيتهم Agathoclesو أنزل قواته ناقال الحرب ألول مرة إلى أرض األفارقة كي يرد
الصاع صاعين للقرطاجيين ،و يُقال أنه وجد ملك األمازيغيين أيلماس حليفا له على قرطاجة التي التهمت الكثير
من أراضيه مثيرة بذلك حنق األمازيغ عليها ،فدخلوا معها في صراع طويل .البعض يقول بأن النوميد و الصقليين
انقلبوا على بعضهم بعدما هزموا قرطاج و أن أيلماس قُتل في مبارزة ضد .Agathoclesأما قرطاج و بعد عقود
من التغطرس على النوميديين ،وجدت نفسها في أزمة اقتصادية حادة ،انتهت بتمرد جيشها المرتزق بقيادة
األمازيغي ماظوس الذي قاد الثورة رفقة صديقه الروماني ،Spendiosفيما عرف بحرب جيش المرتزقة .و هو
ما جعل قرطاج تحفظ الدروس بجد و مرة أخرى تعقد العزم بعد تلك النكسة على أن تكون أعظم و أقوى ،ثم
329
عادت لتمخض النوميد مرة أخرى ،فجعلتهم يدخلون مرحلة جديدة من تاريخهم .مرحلة ملهمة جدا ،ال نزال نحن
المؤمنين بقضية األمازيغية متأثرين بها إلى اليوم....
كان آغاكال يتحدث عما يشبه بوابة من الرخام االفريقي األبيض ،ظهرت من العدم فوق مرج تونسي واسع
بمجرد أن فتحت قرطاج بواباتها الجنوبية مرة أخرى للتوسع و الغزو ،و يبدو أن األرض النوميدية نفسها قد
تواطأت بكل ما لها من أسرار مشتركة مع إنسانها كي تفتح تلك البوابة على كامل هذه البالد ،لتدشن بها عهدا
ذهبيا خصبا باألحداث كخصوبة تربتها الدافئة العاشقة للشمس و حبات الشعير .كان ذلك عهد '' اإلڨليدن '' أو ''
أسياد القبائل و الحرب '' الذهبي .الملوك المحاربون .السالالت الملكية النوميدية الثائرة التي راحت تتنازع الملك
مع قرطاج تارة و مع بعضها البعض تارة أخرى .األڨليد ڨايا حفيد األڨليد نيبتاسن ملك نوميديا الشرقية و حليف
قرطاج التقليدي يلفظ أنفاسه األخيرة أمام نظرات شقيقه إزلكاس الماكرة الملتصقة بالعرش .إيزلكاس يموت في
ظروف غامضة ليتسلم ابنه كبوسا العرش ،ثم يستمر االقتتال داخل األسرة الملكية البربرية ،فيُقتل كبوسا على يد
قريبه مازلتول الذي انقض على العرش و صار لعبة سهلة و لقمة صائغة أمام نوميديا الغربية التي سرعان ما
انتصرت في حرب الحدود مرة أخرى ،ليدخل أڨليدها صفاقس أرض ڨايا المقبور بعد طول صراع .هكذا ضاع
العرش عبثا ،حين كان وريثه الشرعي في مكان ما في بالد إيبيريا يقاتل الرومان إلى جانب القرطاجيين ،غير
عالم بخداع قرطاج و مكر ثعابينها ،الذين خانوا عهود التحالف مع والده ،و مكنوا غريم والده من االستيالء على
عرشه الذي هشمه أعمامه بتطاحنهم العقيم في سبيله ،بل و فوق كل ذلك ،منحوا صفاقس األميرة القرطاجية
صوفونيبيا التي كانوا قد وعدوا ولي العهد النوميدي بها من قبل .ضم صفاقس الشقيقتين المتخاصمتين ماسيليا و
مازاسيليا ألول مرة في تاريخهما و ذُكر كأول أڨليد في التاريخ المدون لنوميديا ،مثيرا بذلك جنون روما التي لم
تغفر له ذلك أبدا .بينما ضلت قرطاج تتربص ،و هي التي كانت لها حسابات أخرى للمستقبل ،كانت تنتظر بقلق
انتصار جيوشها على الرومان في اسبانيا ،على شرط أال يسمع وريث عرش ماسيليا الشرعي أخبار ما حدث بعد
وفاة والده الكهل .كنتُ أرى بذلك ظالل كل األوفياء الذين أرادوا الفرار ليال من فوق أو تحت أصوار المملكة
إليصال األخبار إلى جيش النوميد في ايبيريا و هي تطعن في الظهر أو تخنق بالحبال من الخلف ،فال يسمع سوى
تخبط أطرافها في الظالم و انزالق أنفاسها األخيرة في العدم .لكن من كان وريث العشر المخدوع ذاك يا ترى ؟.
قلتُ في نفسي و أنا مستمر في سماع القصة ،مشكال شخوصها بالطين التي كانت تهتز بين يدي.
هناك ،في سهول اسبانيا المشمسة أين كانت القوتان المتوسطيتان ،الرومان و القرطاج المدعومين بالنوميد
تستعدان للمواجهة ،كانت ترتفع فجأة الهتافات المتناسقة لجنود المشاة في صفوف الجيش االفريقي الذي كان يقوده
صدربعل و هي تشاهد الفارس النوميدي الشاب ينطلق فوق فرسه يتبعه رجاله من نخبة المحاربين ،يقطعون
السهب الذي امتزجت فيه التربة و األحراش و الدماء و بقايا الرجال و الخيول و الفيلة و العربات .كانوا يتوجهون
مباشرة صوب المساحة المفتوحة نحو خطوط الرومان األولى ،التي راحت تعيد تشكيل دفاعاتها بسرعة.
330
كانت حناجر مشاة و رماة الجيش القرطاجي تهز ميدان المعركة بتلك العبارة الالتينية التي كانت تعني ''
العدو الجديد '' كأنها بذلك تريد التشفي في فرسان و جنود الرومان و هي تخبرهم بأن موجة جديدة من األلم تتقدم
نحوهم ،بعدما علمت فيما تبثه شائعات الحروب أن العدو الجديد كان اللقب الذي راج بين ضباط الجيش الروماني
عن ذاك الفارس البربري المجهول ،الذي كان يقود سالح الفرسان النوميدي ،و الذي أوقع خسائر فادحة في
صفوفهم .كان الجميع يصيح بذلك ...العدو الجديد ...العدو الجديد ....و هم يشاهدونه بقامته الفارعة يشد لجام فرسه
البربري ،ترسه و رماحه في يده ،قطرات العرق تنزلق فوق بشرته السمراء ،عيناه تطلقان شرارات التحدي
كالصواعق من تحت خوذته البراقة و هو يشير إلى فرسانه ليستعدوا للهجمة التالية .الهجمة التي شكلت جزءا
ضئيال من أمجاد البربر في الحروب البونية .الحروب التي جعلت المؤرخ Titus Liviusيقف أمام محكمة
تاريخ الحرب البونية الثانية و هو يخط بقلمه آية االعتراف التالية '' :إن سيوف النوميديين هي التي فصلت الفصل
النهائي في معركة قناي '' ،المعركة التي صنعت مجد حنبعل برقة و نثرت عار جيش روما عبر كامل أوروبا
لقرون الحقة .الحرب البونية الثانية التي جعلت سالح فرسان النوميد يخلد اسمه في التاريخ ،سالح فرسان النوميد
الذي جعل قائده وريث عرش ماسيليا يقتحم الخلود و هو لم يتجاوز الخامسة و العشرين من عمره بعد .و قد عرفه
جميع الناس منذ سنه الصغيرة باسم '' ماس ان سن '' أي '' سيدهم '' بلغة البربر .أو ماسينيسا وفقا للنطق الالتيني.
المحارب الشرس و الرهيب .و السياسي الطموح و الماكر فيما بعد ،الذي كان سيغ ِّيّر مصير أرض و أمة بعد
بضع سنوات من هزيمة قرطاجة أمام روما في موقعتي ليبا و ميتيريس.
هكذا ،ف إن العدو الجديد صار معروفا للرومان الذين علموا بأمر المؤامرة التي دبرتها قرطاج من رواء
ظهره .تحركت آلة السياسة لتطلق العنان لسباقات الخداع و المكر و التحالفات السرية و التالعب .كأني كنتُ
أراقب األڨليد صفاقس و هو يتشاور هامسا مع مستشاريه في الكواليس ،ثم يعود إلى طاولة الحوار ،يحاول إبعاد
شبح الحرب عن نوميديا ،ساعيا بحكمته المشهود لها للتقريب بين وجهات نظر القرطاجيين و الرومان في
اجتماعه مع صدربعل و Scipion Emilienusفي ساڨا النوميدية ،غير عالم بنوايا الرومان الذين كانوا
يستعدون الطالع ماسينيسا على حقيقة ما حدث لعرشه و مملكته طيلة سنوات غيابه ،مستغلين حرارة دمه الشبابي
و اندفاعه العاطفي .كنتُ أكاد أسمع بذلك همسات ثعلب روما Scipionالعائد من نوميديا في أذن الفارس الشاب
في ليلة ظلماء مألتها زمجرة الضباع الباحثة عن الجثث ،واعدا إياه بأن يجد روما حليفا قويا و صديقا دائما إن هو
ساعده في هزيمة قرطاج المخادعة و سفاقص اللص ،سارق العروش و الحبيبات ،بل و جعل األمير النوميدي
الشاب يخرج عن طوعه نهائيا بأن أخبره أن والدته المسكينة تقبع في األسر القرطاجي .بالنسبة للبربري ،كل
شيء إال األم !.
بهذا الشكل تسير حبائل المؤامرات بين الدول منذ األزل .عاد ماسينيسا بسالح فرسانه األسطوري الذي كسب
سمعته المتوسطية بالدماء و العرق و االحتكاك بالكبار .استعان بأبناء عمومته المور الذين دعموه بآالف الرجال،
ثم راحوا يسحقون الخصوم طيلة طريقهم كما يسحق قطيع هائج أكوام التبن اليابس في سعيه .وصل سيرتا المدينة
المتوسطية الشامخة بعد عدة مواجهات من الكر و الفر التي كاد األمير الثائر يهلك على إثرها .هناك ،غير بعيد
عن أصوار سيرتا ،وقعت الواقعة بينه و بين غريمه ،الذي شاهده جنوده في أرض الكمين المنصوب و هو يفقد
331
خوذته فينكشف بياض شعره األشيب ،ثم يسقط ترسه فتتبدى ذراعه الهزيلة المهتزة ،قبل أن يبدأ في الترنح ترنح
العجائز فوق فرسه ،ثم يهوي على وجهه تحت الحوافر و األقدام و هو يلهث خائرا مختنقا بنسمات شهر جوان
السيرتية الحارة ،بعدما لم يحتمل كل تلك الضربات الشبابية الحاقدة التي حطم بها ماسينيسا عزمه و غروره تماما
كما قسم ترسه و كسر سيفه .تلك كانت سنة الطبيعة في هذا البلد .الشباب يطيحون بالشيوخ ! .دخل ماسينيسا العنيد
م َمجَّدا إلى عاصمة أسالفه سيرتا و استرد عرش والده بالقوة ،و احتفل Scipionبالحصول على سفاقص مكبال
بالسالسل لينال جزاء طموحه على يد روما ،التي ابتهجت أخيرا بالحصول على موطئ قدم لها في افريقيا ،حين
انتحرت الملكة صوفونيبيا بالسم ،وفاء لزوجها ضد حبيبها السابق الذي رأته مجرد خائن جاء باألعداء الشماليين
إلى عقر الدار .شائعات الشارع السيرتي يومها قالت أن ماسينيسا هو من دفعها لشرب السم كي ال يأخذها الرومان
منه كأسيرة حرب ،حتى قبل أن يسألها إن كانت ال تزال تحبه أم باتت فعال تكرهه ! .شائعة أخرى قالت بأن األڨليد
يسلّمها للرومان مهما
ترجى الملكة كي ال تبتلع السم و هو يقسم لها بأنه ال يزال يحبها رغم كل شيء ،و أنه لن ِّ
حدث ،لكن ....ملكة سيرتا كان لها مزاج أنثوي خاص تلك األمسية العنيفة .ابتعلت السم و انتحرت حزنا على
شبابها الذي احترق هباء بنيران حروب الممالك في النهاية.
انتهى زحف الحلفاء إلى سهول زاما مسقط رأس ڨايا ،أين تناطحت القوتين في إحدى أعظم المالحم العسكرية
في التاريخ ،و صاح بطلها حنبعل و حليفه فرمينا ابن صفاقس من وجع الهزيمة .صارت قرطاج تفاوض
متضرعة للحصول على األمان ،و صار ل سيد القوم ماسينيسا الشاب القوي المندفع حلفاء أقوياء من وراء البحر،
بعدما كان باألمس القريب مجرد فارس في جيش صدربعل في أرض المعركة .صار الفارس ملكا ،و صار حليفه
Scipionحامال للقب الذي سيخلده إلى األبد '' .'' Scipion Africanusفي حين أدركت قرطاج و هي تغلق
بواباتها على نفسها بحذر و تو ُّجس أنها تحالفت مع األڨليد األضعف رغم حنكته الطويلة في الحكم ،و أن لعنة
خيانتها لڨايا الماسيلي كانت في بداياتها فقط .كانت تتحسس الهمسات القادمة من نوميديا الشابة الموحدة و هي تقول
بأن ملكها الشاب المسنود بقوة روما بات يريد استرداد جميع أمالك والده التي كان قد فقدها في تسويات سابقة مع
األشفاط.
الحقيقة أن األمر كان أكثر خطورة من ذلك بكثير .كانت هنالك ومضة خفيفة تتراقص في رأس ماسينيسا ،ما
فتئت أن تحولت إلى شعلة راحت تكبر و يزداد لهيبها انتشارا آخذا كامل روحه البربرية المتمردة ،كلما هبت عليها
نسمائم الطموح الوطني الذي اختلط بعنفوان الشباب و غضب الهزائم و غرور االنتصارات و ذكرى حب شبابه
األول ،صوفونيبيا المنتحرة .رأيتُ سيد القوم مستغرقا في التفكير طويال ،مختليا بنفسه في قاعة عرشه أو متجوال
بين أقواص قصره بسيرتا المجيدة و هو يفكر و يفكر .لمحت عالمات الدهشة و الذهول و هي تطبع وجوه قادته
المجتمعين حول مائدة الوليمة و هم يسمعون قراره الكبير .كان يبتسم ساخرا من بعض األحاديث المستكينة التي
كانت تقول بأن قبيلة الماسيل قد حصلوا على السالم و السكينة أخيرا ،بعدما استردوا عرش ڨايا المبجل و فوق
ذلك حصلوا على نوميديا موحدة و حليف قوي جعل قرطاج تكف عن االستئساد عليهم .الرجل كانت له كلمة
أخرى مختلفة تماما ،حين راح يخبر قادته و مقربيه أنه ال يجب عليهم اعتياد حياة الكسل و المجون كثيرا ،كون
األمر لم ينته بعد .كان يخبرهم بغرور و حماسة أن وحدة نوميديا ال تكفي .كان يخبرهم أن قرطاج ستعود يوما ما
332
مادامت قائمة تحاول إعادة زرع أراضيها بالقمح ،و أنها ستظل دوما في عينه مجرد قوة غاشمة دخيلة يجب
إخضاعها للحكم النوميدي أو رميها في البحر .كان يُسر لهم بأن روما أيضا لن تظل حليفا دائما و أنها تحالفت معه
كون عينها على قرطاج و على نوميديا و على المتوسط كله .كان يخبرهم بأنه يحلم بتوحيد جميع بالد البربر و
حرم على كل صغير ضعيف !! .ماسنسن لم يرغب في
يقيم امبراطورية توازي روما في القوة و العظمة ! .حلم ُم َّ
أن يرى بلده ضعيفا مشتتا بعد كل الذي ساهم به أسالفه و قومه في تاريخ المتوسط .كان من حق البربر أخيرا أن
يحلموا بعد كل ذلك بأن يكونوا أمة حرة و مو َّحدة !! .هكذا رفع الملك المحارب قدحه الفضي إلى السماء و هو
يصيح في لحظة اختلط فيها اإللهام بالثمالة '' :تافريقت إي يفريقن ! ( .....إفريقيا لألفارقة ! )''.
صمت أغاكال .ثم وقف و هو يتمدد شادا خصره بيديه ،ثم وضع غليونه فوق طاولة خشبية صغيرة على
يمينه.
_ ماس عميروش ،كان هذا أول شعار وطني حقيقي رفع في هذا البلد على ما أظن ؟.
_ بال .حدث ذلك قبل 4411سنة من اليوم .ربما يكون قد أطلق شعاره الشهير هذا بالليبية ،أو ربما بالبونيقية،
أو بالالتينية ....قد ال نكتشف ذلك أبدا .ميزة ماسينيسا أنه كان محاربا بحق ،لكنه كان داهية في السياسة و فوق كل
ذلك كانت له طموحات فاقت بكثير سقف طموحات كل اإلڨليدن الذين عاصروه بل و كل أسالفه .كان واعيا بأن
قرطاج استغلت قومه طويال في حروبها األنانية الخاصة .كما أدرك مع تقدمه في السن أن روما هي األخرى
كانت تتالعب به لمصالحها الخاصة أيضا ،لذلك قرر هو اآلخر استغالل الجميع من أجل لعبته السياسية الخاصة.
جلس الحرفي مرة أخرى و هو يحمل قطعة طين أخرى و يرمي بها فوق دوالبه الدوار....
_ أقام ماسينيسا مشروعا وطنيا حقيقيا ،و كان أول أڨليد في تاريخنا يبني مشروعه بالبدء في استصالح
أراضي نوميديا الواسعة و الخصبة .هه أقول دوما أنه كان أول و آخر مسؤول جزائري أظهر بالعمل ال بالكالم
أن تربة هذا البلد قادرة على إنتاج و تكديس و تصدير شتى أنواع الخيرات ! .دراسته في قرطاج و الحروب
الطويلة التي خاضها في أوروبا ضد الرومان ،جعلته يفهم أن الحضارات تقوم على أسس اقتصادية و ثقافية صلبة
قبل أن تمر إلى القوة العسكرية و تفرض نفسها في العالم بمزاحمة الكبار .الشيء الذي لم يكن متوفرا في الممالك
األمازيغية التي لم تشتهر سوى بسمعة و جسارة فرسانها فقط .في ظرف سنوات قليلة صار هذا البلد أكبر منتج
للقمح و الشعير في المتوسط و هو ما زاد في تملُّق الرومان و خوف القرطاجيين ،الذين كانوا ينافسونهم في ذلك
االنتاج أيضا .صار ماسينيسا يص ِّدّر الحبوب و الحيوانات إلى بالد اليونان و روما ،مقابل سكوتها عن توسعه و
غزواته التي راحت تلتهم كل األراضي الواقعة تحت سيطرة قرطاج ،التي كانت مجبرة على عدم الرد بسبب
333
معاهدات نهاية الحرب البونية التي وقعتها مع الرومان .كانوا يتفرجون عليها ضاحكين منها و هي تشتكي غلو
يحررون أراضيهم المستعمرة منذ
جيرناها النوميد ،الذين لم يكونوا في الحقيقة يفعلون شيئا سوى أنهم كانوا ِّ ّ
عقود ! .كان ماسينيسا يسحب البساط من تحت أقدام القوتين العظميين بالحرب و السياسة معا .كان استراتيجي
التفكير .سوى أن األمور بدأت تتغير بعدما راح الرومان يستشعرون بخبرتهم الطويلة في السياسة و الحرب و
الحضارات ،أن األڨليد كان يُضمر أكثر مما يُظهر و أن استمرار توسعه كان يؤشر على أشياء أخرى .الرجل
استعاد كل المرافئ التي انتزعها القرطاجيون من والده و جده ،و أخذ يزيد في عدد األساطيل التجارية و الحربية،
مستمرا في ابتالع األراضي األخرى و إخضاع القبائل األمازيغية المتفرقة ،تارة باللين و تارة بالقوة ،جامعا إياها
نواب الجمهورية الرومانية أن الملك صار رجال بالغا اكتسب الكثير من الخبرة
تحت حكم أمازيغي واحد .فهم َّ
العسكرية و السياسية ،و لم يعد ذاك الفارس المراهق المغرور ،المندفع برعونة إلى ساحات المعارك و الذي يسهل
التأثير عليه بالكلمات.
_ همممم إذن كانوا ينظرون إليه على أنه صار تلميذا مستعدا للتمرد في أية لحظة.
_ و على األرجح كان ينظر إليهم على أنهم لم يعودوا أصدقاءه الناصحين بالضرورة .بل مجرد حلفاء
ظرفيين قد يتحولون إلى خصوم في المستقبل ،لهذا كان يسابق الزمن .تلك هي أحوال السياسة على كل .وصل
بقواته حتى غرب ليبيا الحالية و حاصر طرابلس ،فصار مطبقا على قرطاجة من كل الجهات ،لكن مشكلته كانت
تكمن في استحالة اقتحامه لها بسبب تحصينها الممتاز و قوة جيشها ،إال إن هو حصل على سند من صديقه القديم
،! Scipionأو إشعال حرب بين القوتين المتوسطيتين ليكون هو و دولته النوميدية كمكيال ثقيل يُميل الدفة الحليفة
ضد الدفة التي يريد التخلص منها في اللحظة المناسبة ! .فهم أنه ال بد من مؤامرة تجبر القرطاجيين على نقض
معاهداتهم مع الرومان ،كونه كان على علم أن هؤالء أيضا كانوا يبحثون عن أصغر ذريعة تمكنهم من فتح عدوان
جديد على قرطاج .استطاع بدهائه و مكره أن يستدرج قرطاجة للرد على هجماته االستفزازية ،ثم أعلن وقوفه
العسكري مع روما التي وجدت الذريعة النهائية ،فكانت بذلك بداية الحرب البونية الثالثة التي انتهت إلى التدمير
الرهيب الذي تعرضت له قرطاج ،بعد معارك عنيفة و حصار قاس و وحشي دام ثالثة أعوام.
غطستُ سريعا في أحداث هذه القصص المدهشة .السهول التونسية المشتعلة .روائح األعشاب المحترقة التي
امتزجت بروائح الجثث المتفحمة .جيش المرتزقة القرطاجي المهزوم العائد بفؤاد مكسور إلى قرطاجة الجريحة،
ينظر إليها كمن ينظر إلى امرأة جميلة تحتضر دون أن تعلم .لم ينتظر القوم سوى ثالث سنوات من الحصار،
كانت فيها الحسناء تكابد الجوع بصمت و كبرياء ،متمسكة بآخر ذرات عظمتها التي كانت انفاس الجيوش
المحاصرة لها تنفثها بعيدا ،كما تنفث أنفاس التنانين براعم الزهور بعد أن تجعلها فارغة من آخر ذرات الحياة.
حين لم تعد تطيق ألم الحصار ،فتحت بواباتها أمام المعركة اليائسة األخيرة .صارت قرطاج تتخبط في نهاية
درامية حزينة على مسرح التاريخ ،تحت أنظار جميع األمم .قرطاج ،الحسناء االفريقية التي عمرت قرابة 911
عام بمجدها الذي بناه أكثر من 41جيال متتاليا من المتحدرين من الفينيق و البربر األوائل ممن بذروا بذرة
الحضارة البونيقية األولى ،باتت بين فجر و ضحى سبية الرومان ،يفعلون فيها األفاعيل ،حين صرخ وجهاءهم
334
في مجلس الشيوخ في لحظة جنون و لهفة بأنه يجب تدميرها حجرا بحجر حتى تكون عبرة لمن يعتبر .رأيتُ
المتوقع ،تجتث المدينة من
َ Scipionاالفريقي ،يتفرج شبه مشلول على قواته و هي تنفذ أمر مجلس السيناتو غير
جذورها ،كأنها فيلة هائجة اجتمعت حول شجرة زيتون عريقة لتقلبها على تربتها المحروثة بالملح.
قيل بأن ماسينيسا لم يدرك ذلك اليوم األسود ،كونه كان قد خسر معركة الحياة حين كانت قرطاج تحت
الحصار ،فقد خطط لكل شيء إال شيئا واحدا .كما يُقال ،فإن الزمن يهزم كل شيء ،حتى الصخور .مرت حياة
األڨليد األشهر في تاريخ البربر كلمح البصر و انتهى به المطاف يحاول عبثا التشبث بأنفاسه األخيرة ،لكنها لم
تطل أكثر مما كان يأمل مناجيا آلهته البربرية و البونيقية التي لم ترحم أحالمه يوما .لذلك ،انسحبت انفاسه األخيرة
بصعوبة من تحت رداء الغصة التي علقت في صدره إلى األبد .استسلم األڨليد أخيرا و هو الذي حقد على
االستسالم طيلة حياته .استسلم منهكا و متأسفا ،كونه لم يحقق حلمه األعظم :رؤية قرطاج و قد صارت عاصمة
الحلم النوميدي الواعد .حياة زاخرة دامت 21عاما ،أحرق منها ماسينيسا نحو 11عاما في ساحات المعارك ،و لم
ينعم مقابلها بالسكينة فوق عرشه تحت ظالل قصره و نعومة أجساد نسائه و حب أهله سوى عامين فقط .كان بذلك
ْ
غادرت تلك الشعلة الهائجة عيني سيد القوم المغمضتين مع بقايا '' الملك المحارب '' لكل التاريخ البربري بحق.
اللهب الذي أ ُحرق به في معبد سيرتاُ .حملت عظامه في الموكب المهيب الذي شيعه إلى صومعة لخروب ،التي
أغلقت بحجارة مرصوصة على روحه التي استراحت من أثقال االلتزام الوطني و حياة الجندية القاسية و صخب
ساحات الحرب أخيرا.
....انقطع حبل األحداث المدهش بشكل مزعج ،و ساد الظالم مخيلتي ،فتفطنت إلى صمت الحرفي مرة
أخرى .كان يفكر بعمق ،و قبل أن أسأله عن سبب توقفه عن السرد نظر إلي...
_ تعلم يا أمداكول أن التاريخ يكتبه المنتصرون .مصادر التوثيق الرومانية ،في مجملها ،وضعت ماسينيسا
في صورة ضمنية توحي بأنه كان مجرد شخص جشع يتقن لعب دور الحليف الطيع الذي ينفذ كل ما يطلبه
الرومان في سبيل الحصول على السلطة ،و هو ما جعل الكثيرين منا اليوم يعتبرونه السبب األول في دخول
الرومان إلى هذه البالد .بل سمعتُ بأذني بعض السذج من الشباب هنا ينعتونه بالخيانة .هذا ظلم ! ،كم هي عجيبة
طريقة تعامل شعبنا مع تاريخه !.
_ ما قصدك ؟.
_ نحن نتعامل مع تاريخنا و نحكم على أحداثه و نحاكم شخصياته و كأن األمر ال يزال حاضرا معاشا بروح
و ظروف و قوانين و معايير الحاضر ! .ألم تلحظ ذلك ؟ .حتى هذه الشخصيات الوطنية التي عاشت قبل 4111
عام لم تسلم من هذه الظاهرة الجزائرية الغريبة !! .هه ..حنبعل الدخيل...ماسينيسا الخائن ..سفاقص الحقير....
وضع مثير للشفقة ! .أقول دوما أنه لو لم يحرق الرومان مكتبة قرطاج لكان تاريخنا سيبدو مختلفا كثيرا اليوم .لكنا
سنبدو مختلفين كثيرا أمام أنفسنا حتى !.
_ ماس عميروش ،ماذا لو عاش ماسينيسا محرقة قرطاج ؟ .كيف تتصور رد فعله ؟.
335
_ هممم ،ال أدري ،ربما كان ليرفع نخب خراب قرطاج ،التي جرحت قلبه و كادت تض ِّيّع مستقبل مملكة والده
تشرد شعبه ،ثم يستعد رفقة أبنائه و جيوشه لالنقالب على الرومان و مطالبتهم بالرحيل عن افريقيا نهائيا ؟ .أو
و ِّ ّ
ربما كان ليقف مراقبا الجرم عن بعد ،مكفهر الوجه غضبا و أسى على سقوط خططه في الوحل الذي عرك بدماء
ألوف القرطاجيين .ربما كان ليضطرب تحت وطأة األفكار متسائال :هل أخطأ حين تسبب في الحرب التي انتهت
إلى صراخ الرجال و نواح النساء في شوارع قرطاج المنحورة ؟ .هل أساء وضع الحسابات التي كانت لتفضي
إلى هزيمة قرطاج و مطالبة الرومان بها أو حتى انتزاعها منهم عنوة ،قبل أن يقرروا مصيرها الفجائي ذاك ؟ .هل
كان عليه أن ينسى أحقاده الشبابية الماضية و يشتري السلم مع قرطاج التي خدعته ،و ينقلب على الرومان الذين
ساعدوه على استعادة عرش والده ؟ .ألم يكن كل ذلك ليجعل منه رجال بال شرف ؟ .ربما كان سيترسخ الكثير من
اليقين في مقلتيه و هو يشاهد أعمدة الدخان السوداء و هي تتصاعد من داخل أصوار الحاضرة المدَ َّمرة في األفق.
ربما كان سيزداد يقينا حين يلمح عمود الدخان األعظم الذي كان يتوسط بقية األعمدة .كشبح بشع ينبعث من تربة
الجحيم المسقية بالحقد و الخوف ،يفتح ثغرا واسعا ممهدا اللتهام ضوء السماء و حجب الشمس نهائيا على بلدنا
هذا.
_ عمود الدخان المتصاعد من ألسنة اللهب التي التهمت مكتبة قرطاج العظيمة يا أمداكول ! ،المكان الذي كان
يحفظ مخطوطات تاريخ الشمال االفريقي كله .آالف المخطوطات التي كتبت منذ عهد الملك َهيرباس و األميرة
عليسة ،و أخرى نسخت عما كانت مكتبة االسكندرية تزخر به من كنوز تاريخ هذا الشعب.
تمالك نفسه قليال ،ثم عاد للعمل على دوالبه مستمرا في الحديث عما كان سيكون لو....
_ ربما كان ماسينيسا سيقتنع قطعا ب أن روما كانت تريد عمدا غمس بالد البربر في جهل أزلي بتاريخها و
بذاتها .جهل ال تستفيق به من احتالل حتى تجد نفسها ،و من دون أن تدرك ،في أحضان احتالل آخر .ربما كان
األڨليد سيقتنع تماما ،و لو بشكل شبه متأخر ،كيف تحقد القوى العظمى بصبر و طول نفس كي تنتصر و تسود
بوحشية !.
استطرد أغاكال في السرد مرة أخرى ،عائدا إلى نهاية مراسم تشييع ماسنسن في تلك األمسية الحزينة ،حين
أمست مملكته كاألرملة المرتبكة بين يدي Scipionالذي تظاهر باتباع تقاليد الحكم الليبيكية القديمة في توزيع
السلطة ،فقسم الحكم بمكر شديد بين أكبر أبناء األڨليد ،ماكوبسن المفكر و السياسي ،غولوسن الفارس المندفع و
مصطنبعل البطل الرياضي ،الذين سرعان ما تنازعوا العرش بينهم .استمر الدهاء السياسي للرومان إذن .كنتُ
أكاد أسمع صراخ غولوسن و مصطنبعل على شقيقهما وسط القاعات الملكية المغلقة المضاءة باألنوار الخافتة،
يطالبانه باالنضمام إليهما و إعالن الحرب على الرومان الذين خربوا خطط ماسنسن الحي في ضمير األمة .لم
يطل األمر كثيرا .تسللت أيدي المؤامرة بحبال الدهاء السياسي إلى حياة األميرين النوميديين و شنقت حلمهما في
336
الثورة ،فاستأثر ماكوبسن بالعرش آخذا لقب آمنوكل أو القائد األعلى ،مفضال بعقالنيته الفارغة من العاطفة تحويل
سيرتا إلى منارة جديدة في الفكر و الفن ،بدل أن يراها تنتهي كما انتهت جارتها قرطاج قبل وقت قصير.
**********
مرت العقود بعد ذلك مر السحاب الصيفي تحت أنف التاريخ المنهمك في شرب قهوة ما بعد الظهيرة .سادت
َّ
روما سياسيا في افريقيا أخيرا ،لكنها كانت كتلك العجوز المنهكة التي بدأ المرض ينخر عظامها دون أن تدري ،أو
ربما أنها قد أدركت ذلك دون أن ترغب في مواجهة الحقيقة ،مستمرة في االختباء خلف مساحيقها و عطورها
المؤقتة .كنتُ أنظر فجأة إلى أمير نوميدي يافع ،كان يقف على حافة سفينته التي كانت تبتعد به من سواحل روما
عائدة به إلى نوميديا .برنسه البربري األبيض يرفرف تحت نسمات السواحل اإليطالية المنعشة ،أقراط الذهب
المعلقة في أذنيه تتألأل تحت أشعة شمس أوروبا الباهتة ،يده اليسرى تشد على مقبض سيفه النائم في غمده .كان
ينظر متأمال بعمق في ح ال روما و هو يراها عارية من بعيد أمام حقيقتها المرة ،تحاول يائسة ستر عورتها
تسربت بسمة ساخرة خفيفة من بين شفتيه اللتان همستا في
القبيحة ،مستشعرا قرب نهايتها كجمهورية عظمىَّ .
لحظة اإللهام التي كانت ستسطر مصيره السياسي و العسكري للعقود الالحقة '' ...روما ،أيتها المدينة المعروضة
ت مشتريا !'' .لقد رأى تعفن روما الصامت و فساد شيوخها و شعبها .التعفن الذي
للبيع ،ستهلكين ال محالة إن وجد ِّ
كانت الشعوب األخرى الواقعة تحت سيطرتها بعيدة كفاية كي تراه بوضوح فتسترد عزيمتها على التحرر .لكن
األڨلدون رآه بنفسه و استشرف معه المستقبل المنظور .من قال أن الشعلة التي أنارت روح جده ماسينيسا قبل
عقود قد انطفأت ،حتما كان على خطأ .لقد مات ماسنسن ،لكن حلمه و طموحه قد تسلل بصمت عبر منيه إلى
نسله ! .لسخرية التاريخ من روما أن ماسينيسا كان ماكرا حتى في طريقة إنجابه لساللته ،و ما ظن الرومان أنهم
قد تجنبوه بموته ،ظل كامنا في جينات من جاء بعده من أبناء و أحفاد !.
لم يكن ينقص األمير أي شيء ليعيد بعث الحلم الوطني البربري .فهو الشاب المثقف الذي يتحدث الجميع عن
وسامته الشديدة و جمال مالمحه و روحه الفياضة ،التي تغمر كل من يقترب منه بالدهشة و الخضوع اللطيف إن
كان رفيقا ،أو بالرهبة و الشلل إن كان خصما .الفارس القوي الذي لم يشهد ملحمة Nomantiaفي اسبانيا
فحسب ،بل كان أحد صناعها أيضا .المحارب الرهيب الذي قاتل في الجيش الروماني و هضم عقليته و فنونه في
الحرب ،و اطلع على كل أسراره و عيوبه أيضا .ابن األڨليد مصطنبع بطل األلعاب األثينية و حفيد ماسينيسا باني
نوميديا األعظم ،الذي كان ظل تمثاله ال يزال يعانق تراب جزيرة Delosمظال ذاكرة العرفان و االحترام التي
احتفظ بها اليونان للنوميد ....كل هذا اإلرث ...كل هذا المجد ؟ ،لمال يطمح إلى شيء اسمه العظمة و القوة و
الشهرة ؟ ،و هو الذي كان اسمه يحيل إلى التفكير فيها تلقائيا '' جليلهم '' ...أو يوغرتن بلسان الشعب .عقدته
الوحيدة بين أترابه في األسرة الملكية النوميدية كانت أنه جاء كثمرة حب غير مكلل بزواج .شيء مثير للخجل في
األعراف البربرية القديمة .لكن الفتى مسح ذاك العار و أسكت ضحكات التشفي أخيرا ،حين انتفض بمجرد ارتفاع
أصوات األبواق التي دوت بين صخور و مرتفعات سيرتا ،معلنة وفاة األمنوكل ميكيبسا .انتفض األڨلدون أخيرا
بعدما بلغه رغبة الرومان في تقسيم الحكم النوميدي الموحد بين الورثة مرة أخرى .كان يوغرطة سريع البديهة و
337
الحركة .أقنع بعض شيوخ السيناتو ممن كسب صداقتهم في حروب اسبانيا بقبوله تقاسم الحكم مع ابني عمعه
حفصبعل و عزربعل .بمجرد أن تم األمر ،رفض رفضا قاطعا أن يُعيد التاريخ نفسه بتقسيم إرث عمه و جده بين
المتناحرين ،حين رضي ابنا عمه بذلك عطشا للسلطة .كيف ال و هما اللذان شبا على حياة الترف و الرخاء وسط
العبيد و الجواري و جوقات الموسيقى االغريقية ؟ ،حين أمضى هو شبابه في المعسكرات و ميادين الحرب وسط
الفرسان و المشاة و و الرماة و المرتزقة .سمعتُ طبول الحرب و صهيل الخيول و الخطى الوئيدة المنتظمة لجيشه
الموحد بالقوة .أجواء عسكرية ملحمية
الجرار و هو يسير إلى سيرتا للحصار و االقتحام و القتال و انتزاع العرش َّ
يعرفها يوغرطة جيدا ال يمكنها أن تزلزل صدره .انقض على الحكم كنمر غاضب ،لكنه جلس عليه بصمت مثير
للرهبة ،و دو ن لحظة تردد واحدة ،و بعد عقود من االنتظار ،أطلق القرار الذي انتظرته أجيال من الوطنيين
الغاضبين في البلد :تحرير نوميديا من نفوذ روما ،عدو وحدة األرض و األمة !.
تلك األيام الحاسمات التي أغرقت سيرتا في االضطراب و الحيرة .هزت شيوخ الجمهورية الرومانية من
الدهشة و عدم التصديق ،و هي تسمع صراخ جاليتها اإليطالية القادمة من نوميديا .صراخ الطبقة األرستقراطية
الرومانية المذبوحة ،تحت األصوار الخارجية للمدينة المعلقة فوق الصخور التي تمألها أعشاش العقبان .كرسالة
شديدة الوضوح من يوغرطة :نوميديا ستبقى للنوميديين ! ،و من تسول له نفسه الهيمنة عليها و تقسيمها مرة
أخرى ،ستكون عيناه طعاما دسما للجوارح.
جاءت الحرب إذن .لكنها لم تكن كأي حرب .دخلت روما بعساكرها أرض نوميديا طمعا في االحتالل
المباشر ،فوجدت يوغرطة الثائر كالبركان المتفجر أمامها .حقق الرجل انتصارات تغنت بها حناجر األمهات و
الفتيات البربريات طويال في حقول نوميديا أثناء مواسم الحصاد ،على طول سهول سيرتا و سطيف و ميلة و
مداورش وصوال إلى دوڨة المحتضنة للضريح الرمزي المخلد لذكرى جده ماسينيسا .يوغرطة ابن سيرتا البار.
صن الشعب .يوغرطة الفهد الوسيم .الرجل الذي
المو ِّ ّحد المجيد .يوغرطة مح ِّ ّ
يوغرطة قاهر الرومان .يوغرطا َ
أعاد بعث تقاليد أسالفه بعدما كادت تندثر من تقاليد حكام نوميديا الذين أخذوا بالحياة الهيلينية الرهيفة .كان هو
الملك الذي يصدر القرارات و ينظم شؤون الدولة و يستقبل الوفود و يحوك المؤامرات السياسية ،و كان المحارب
الذي ينام في الخيام في قلب المعسكرات ،يحمل الترس و الرماح و تحتك كتفه بأكتاف جنوده و فرسانه أثناء
تقدمهم نحو خطوط العدو في ساحات الوغى تحت المطر .يوغرطة كان يجعل من نوميديا تلك السنين تحمل حلمها
الجميل فوق كفها مرة أخرى ،حلمها بأن تكون ذاتا مو َّحدة و مستقلة .حلم اخترق قلوب الجميع و انظم إليه الجميع،
من شرق بالد البربر حتى غربها ،حين أعلن أڨليد المور بوخوس مساندته لزوج ابنته دون شروط.
روما كانت تغرق .كانت في ورطة و هي التي صارت غير قادرة على تسيير الجيوش العظيمة لضعف
حالها .كانت تشاهد يوغرطة و هو يلقي بحامياتها العسكرية في البحر الواحدة تلوى األخرى ،كأنها مجرد أكداس
من البطاطا الفاسدة أو الدواجن النافقة .كنتُ أ رى الرجل الفارع القامة و هو يجلس بكبرياء و ببسمة متعالية فوق
كرسيه تحت خيمته المتنقلة ،يستقبل بعض موفدي الجمهورية الذي كانوا يبحثون عن مخرج مرض لروما ،فكانوا
يدخلون عليه مهددين بعقاب مر ،ليخرجوا من عنده و هم يخفون أكياس القطع الذهبية تحت جبابهم .كان يوغرطة
338
سرع في حسم المعارك كما يفعل ذلك المال
ماض في شراء روما الهالكة بحق ،و هو الذي فهم أن العسكر قد ال يُ ِّ ّ
الفاسد !.
_ هه واو ! ،لم يخطر ببالي أن يوغرطة كان حاذقا و صادقا في تكهنه بحال و مصير روما حتى قبل أن
يصير أڨليدا !.
قاطعتُ آغاكال و أخرجته من حالة السرد و الشرود هذه المرة ،فنظر إليه متأمال....
_ أه يا أمداكول ،المال سالح أيضا ،بل قد يكون أخطر و أفتك من سالح الجيش ،حين َّ
يوظف ضد عدو فاسد.
_ هه ستقول لي أن يوغرطة كان أول مسؤول جزائري وظف هذا النوع من الحروب ....إفساد ساسة العدو
بالمال !.
_ لقد نجح في توظيف ثروات عائلته الملكية في شراء ذمم الكثير من ساسة روما المرتشين ،حين كان ماضيا
عن طريق حرب عصابات منظمة و شاملة في إنهاك جيوشهم ،التي كانت تعاني ضعف اإلمدادات على أرض
الميدان ،و هو ما أدخل مجلس السيناتو في صراعات مصالح حادة جدا ،زادت في إضعاف الجمهورية الرومانية.
األڨليد لم يكن فقط ماضيا في االقتراب من كسب الحرب ،بل أكثر من ذلك ،كان ماضيا في جر روما إلى حرب
أهلية حقيقية ! .كانت نبوءة شبابه ماضية في التحقق .....لكن.......
صمت الحرفي للحظة و هو ينظر إلى صلصاله ،ثم مطط شفتيه كمن يتأسف...
_ عدو الرومان كان الفساد السياسي يومها ،أما عدونا نحن فقد ظل شيئا واحدا أوحد طيلة كل تاريخنا :إنه
الخيانة و التشرذم ! .لهذا كان يوغرطة يشتهر بعنفه المفرط تجاه الخونة من أبناء جلدته أكثر من عنفه تجاه
الرومان.
كانت نهاية يوغرطة غير متوقعة ،بل كانت مؤسفة نظرا لكل ما حققه .بعد 17سنوات من الثورة و حرب
الكر و الفر على الرومان ،قام هؤالء باالنتقام منه بأن نجحوا هم أيضا في استعمال سالحه الفتاك .لقد اشتروا
قريبه الملك بوخوس ،الذي سلمه إليهم رفقة أبنائه في كمين نصب بتزاوج الدهاء الروماني و الخيانة البربرية.
هناك ،ضاع الحلم النوميدي و سقط الستار عن بوخوس و هو يعدّ أموال العار بلهفة و اضطراب .سقطت بضع
دمعات حارة من عيني يوغرطة و هو ال يصدق ما حصل .يومها أطلق بعض ممن حضروا الواقعة القول المأثور
الذي استمر إلى يومنا الحاضر '' :إذا رأيتَ بربريا يبكي ،فاعلم قطعا أن أخاه قد ضربه '' .لو ناح يوغرطة ذاك
اليوم لما المه أحد من أعدائه .كيف ال و هو الذي لم يبق بينه و بين النصر النهائي على روما سوى بضعة معارك
فقط ؟ ! .سقط الطائر الحر أخيرا ،لكنه لم يتخبَّط قط .ضل ثابتا و هادئا و صامتا .يوغرطة أيها الثائر الجريح ،لقد
سرقوا منك النصر ،لكنهم أبدا لن ينتزعوا منك المجد ،فقد صار جزء من روحك !.
صليل سالسل األڨليد النوميدي الثائر انعكس على جدران شوارع روما و هو يجرها متقدما نحو سجن
Tullianumالرهيب ،يتمايل من االنهاك و الجوع و البرد .يتلقى اللطمات و الركالت و البصاق و كل أشكال
339
الكالم البذيء ،لكنه رفض رغم ذلك االنحناء .ظل ثابتا كشجرة زيتون أوراسية وحيدة منتصبة بعناد وسط
الصخور الصماء و الزوابع الرملية .وضعوه في حفرة قذرة مظلمة لعلهم يجرونه إلى البكاء و االستجداء .تلك
كانت طريقة الرومان في التعامل مع الملوك المهزومين .أو ربما كونه لم يُهزم ،بل ُغدر به ؟ .قبع الرجل أليام
يرفض التوسل أو طلب الصفح من مجلس الشيوخ .لكأن بي كنتُ أرى شيئا من انعكاس الضوء الخافت في عينيه
المنهكتين الغارقتين في العتمة الشديدة ،بنظراتها الحزينة الشاردة .كان يُحاول مواساة نفسه باستحضار الرنين
الرقيق لزغاريد و أغاني النساء المزارعات اللواتي كن يصطففن في مخارج القرى و المدن التي كان يعبرها
بجيوشه ،ينشدن أمامه أغاني النصر التي كانت تدوي في آذانه جنوده طيلة الطريق إلى أرض المعركة .كان
يحاول التشبث ببقايا نور شمس نوميديا الساطعة .يحاول سماع حفيف سنابل وطنه الخضراء ،التي تسرق خيوط
شمس البلد الذهبية لتنسج بها جبابها الصفراء استعدادا ألعراس الحصاد البهيجة .يتصور تمايل ثمار التين الطرية
في أغصانها و هي تتراقص كالبنات الشهيات تحت نسمات بدايات الصيف النوميدي الحار و الهادئ .يحاول تذكر
روائح البنفسج و الريحان و زقزقة طيور الحسُّون في البراري التي كان يعشق الصيد فيها و هو في ريعان
الشباب .ربما تكون دمعة حنين و أسى قد انزلقت من إحدى عينيه تلك اللحظة وسط الظالم في جوف الليل ،حين
أحس بوطء تلك األرض الباردة الغريبة التي سجن بها ،و هي تدوس على روحه بكل قوة و حقد منتقمة منه
لسخريته من أحوالها قبل سنوات خلت .سقطت تلك الدمعة حين أحس بالوحدة و األلم و الغربة و االشتياق لوطنه
الذي كان يعلم يقينا أنه لن يراه مرة أخرى .لكنه سارع إلى مسح الدمعة الثانية بسرعة .لقد ظل على تلك الحال من
التعنت البربري '' ....تاغنَّانت ...إلى النهاية ! '' .إلى أن انحنت روحه مثقلة بكبريائه إلى الموت الذي جاءه فوق
فرسه األسود ليحمله بعيدا عن هذا العالم المتوحش .سرعان ما تركت تلك الروح ذاك الجسد المتسخ الهزيل الذي
تمأله الكدمات لتعرج على سلم الخلود بثبات ،ملقية آخر نظراتها إلى األرض ،نحو مسقط الرأس ،سيرتا ،عقر
الطفولة و الحب األول .جبل الطاولة عقر الثورة و التمرد و قهقهة رفاق الكفاح .نوميديا ،بلد األجداد و السر
األكبر.
روما صارت عجوزا نكدة تتقاذفها األمراض و الخرف .رغم ذلك ظلت تتطلع إلى حكم مباشر و نهائي في
بالد البربر ،التي كانت تزيد في تعنتها كلما زادت روما في نبرة التهديد و الوعيد ،إلى أن جاءت الضربة التي
كادت تقسم ظهرها حين صدق وعد يوغرطة الشهيد.
من كان يصدق أنه سيأتي يوم يقتتل فيه الرومان ضد بعضهم في شوارع روما العامرة ؟ ! .جمهوريون ضد
قيصريين .نقلوا حربهم العبثية إلى الشمال االفريقي الذي هاج بالحروب التي برز وسط غبارها و دخانها أڨليد آخر
من ساللة ماسينيسا نفسه .يوبا ابن همبسال الثاني .الرجل الذي أنجبته بونا ( عنابة ) المدينة النوميدية المتوسطية
الساحرة .الرجل الذي خاض الصراعات بكل قوة و شرف دفاعا عن مصالح نوميديا ،األمانة المترنحة فوق خيط
التاريخ المتوسطي الرفيع ،الذي كان األخوين العدوين Pompeius Magnusو Julius Caesarيتنازعانه
بينهما بكل صبيانية و شقاوة ،و انتهى إلى إحراق نوميديا ،التي بقيت واقفة للحظات بكل إصرار و عناد ،غير
أصر يوبا على أن يموت ميتة
ّ راغبة في السقوط إال بعد أن ترى جمهورية روما العجوز تسقط أوال ! .يومها
اإلڨليدن األوائل ،الذين كانوا يحصرون مصائرهم بين نصر الملوك المذكورين في المخطوطات األلفية أو ميتة
340
الفرسان المخلدين في القصائد و األشعار ،بأن طلب من رفيق روماني جمهوري أن يقتتال حتى الموت بدل
االستسالم ألعدائهما القيصريين .انتحر يوبا أمام أصوار عاصمته سيرتا سيڨا التي رفضت استقباله ،بدل أن يرى
نفسه مكبال بسالسل الحقد كما حدث لجده يوغرطة .مات آخر أڨليد ثائر من ساللة الماسيل مبتسما ،كونه شعر
باالمتنان حين سنحت له حياته الزاخرة في وقفة إنصاف بالتفرج ضاحكا على مهزلة الرومان و تناحرهم ،كما
وقفوا هم ضاحكين قبله بعقود على تناحر أسالفه الماسيل و المازاسيل ،لكنه و هو يلفظ أنفاسه األخيرة وسط
العشب الذي تخضّب بحمم دمه الحارقة ،لم يعلم أن عدوه اللدود يوليوس قيصر كان يحمل ابنه البكر يوبا الثاني
في أحضانه مبتسما بمكر هو اآلخر ،عائدا به إلى روما التي سترضعه من ثديها و تجعل منه ابنها الالتيني بالتبني.
روما الماكرة التي كانت تصر على التقدم على خصومها دوما بخطوة واحدة على األقل ،نحو المستقبل.
يوبا الثاني ،ذاك الطفل البربري الجميل الذي نشأ نشأة األمراء و حاز أعظم االهتمام بعدما استبشر فيه
الجميع عالمات العظمة ،و رأى فيه القيصر نفسه أنه سيكون المفتاح الذي سيمكن روما من ضم افريقيا تحت
حكمها المباشر بكل سالسة و هدوء ،بعدما فشلت في ذلك بالقوة .كنتُ أسمع صدى خطواته السريعة راكضا بين
أعمدة قسر القيصر ،يطارد تلك الصبية المصرية السمراء ،يلهوان في بساتين الورد و النعناع تحت ظالل أشجار
البرتقال و الليمون والياسمين .سرعان ما تبدى لي ظله الطويل و هو يختلي بنفسه طويال في صمت المكتبات
المهيب ،ينهل من علوم اليونان و الرومان و المصريين القدماء .ثم يشرد مع نفسه للحظات ،يحلم بتلك المدينة
الفاضلة التي كان يرغب في تأسيسها على تراب وطنه.
مرة أخرى ،فعلها البربر .فبعد سيوة التي القتهم بالمصريين ،قورينة التي القتهم باإلغريق ،قرطاج التي
القتهم بالفينيق ...جاءت شرشال أو سيزاريا التي القت حضارة هذه األرض بحضارة الالتين ،جاعلة إياها
تصافحها ....و لو عن مضض .يوبا الثاني كان الملك المثالي .الملك العادل الذي ينصف الجميع ،و يدعو للعمل و
المحبة و التصالح و نبذ الحروب .المفكر الذي يلتهم المخطوطات التهاما ،الشغوف بدراسة تاريخ بلده و أسالفه
اإلڨليدن األوائل .كان يبحث عن ا لوصفة السحرية التي تمكن لهذا الوطن من النهوض من كبواته المتتالية و تنقذه
من تاريخه المهتز و المضطرب ....ربما كان يبحث عن سبق نهائي هو اآلخر ؟ .يوبا الصغير كان قلقا بأسئلته و
هو يرى حال شعبه المستعبد من طرف روما ،بنوع من الهيمنة التي ال تمد بصلة لهيمنة جيوش قيصر ،التي كانت
في الحقيقة غير قادرة بعد على فرض الخضوع على كل أرض نوميديا و موريتانيا ،بل ربما كان يعلم يقينا
كبربري أنها لن تستطيع ذلك مهما حاولت .كان يُراقب عن بعد تلك الثورة العارمة التي أشعل فتيلها فتى بربري
فار من الجيش الروماني يُدعى طاقفارن و هو يرفع نداء إلى شعبه أقلق قيصر كثيرا '' :إلى كل الذين يؤثرون
الحرية على العبودية ! '' .فعال علم يوبا الفتى أن روما لن تسود في وطنه بجيوشها مهما حاولت.
لكنه فهم أن هيمنتها كانت من نوع آخر ،نوع أكثر دماثة و تجذرا .يوبا الثاني كان يفكر و يتأمل .عين على
الحقيقة المرة للحاضر المضطرب لبلده ،و أخرى على أسئلة اإلمكان المستقبلي .علم أن السر يكمن في تأسيس و
توريث المعرفة ! .كفاح من نوع جديد لم يكن مألوفا لشعبه الذي نشأ باالنتجاع و خوض الحروب من أجل
اآلخرين ،منذ عهود أسالفه الليبو األولين .تلك المخطوطات القليلة التي ه ِّ ُّربت تحت آباط بعض الضباط الرومان
341
من رفوف مكتبة قرطاج المحترقة ،و تلك التي خطتها يدا جديه ماكوبسن و همبسال الثاني ...لم تصل إلى يديه
فقط ،بل المست لحظة حقيقته األكثر إشراقا و تجلت في انبجاس ينبوع ضميره األكثر نقاء ،حين كان البعض
ينعته بالجبن و المثالية السخيفة و العبودية للرومان و البعد عن مآسي البربر الحقيقية تجاه االحتالل .الرجل الشاب
كان غير آبه بكل ذلك .كان ماضيا في مشروع وطني آخر يختلف عن شكل مشاريع أسالفه .هم كانوا ملوكا
محاربين .هو أراد أن يكون ملكا ّ
منظرا للمستقبل .كان طفرة حقيقية في حكام هذه البالد....
كدتُ أنتفض من مكاني تلك اللحظة بتذمر شديد ،كطفل صغير ينتفض على انقطاع برنامج التلفزيوني مفضل
فجأة ! .كان الحرفي قد التزم الصمت و هو يتثاءب ،ثم يلتفت إلي....
_ أمداكول ...لقد أنهينا العمل .أال تشعر بالتعب و النعاس ؟ .لقد تأخر الوقت كثيرا.
_ .....أنت تمزح ! .ال رغبة لي في النوم و قد وصلنا إلى هذه المرحلة من التاريخ ! .أريدك أن تكمل
أرجوك ....ماذا حدث ليوبا الثاني ؟ ،ما الذي حققه إبان حكمه ؟ .....أرجوك أكمل !...
_ أكمل..!....
حك رأسه للحظة ،ثم أطفأ دوالبه الدوار ،تناول منشفته و نهض متجها مباشرة نحو كرسيه الهزاز فاركا يديه
من بقايا الصلصال العالقة بهما....
_ يوبا الثاني يا أمداكول شكل استثناء لكل الملوك األمازيغ الذين سبقوه إلى حكم هذا الوطن .كان ملكا ،أديبا،
مؤرخا ،جغرافيا ،عالم أحياء و رحالة .قام برحالت طويلة بحثا عن منبع نهر النيل .أظنه فعل ذلك من
فيلسوفاّ ِّ ،
أجل سواد عيني زوجته المصرية الجميلة و صديقة طفولته ،كليوباترا سيليني .هه أليس ذلك في غاية الرومانسية
؟ .صال و جال في بالد اليونان بحثا عن المعرفة و الحكمة و حقائق العالم .يُقال أن مغامراته االستكشافية قادته
إلى اكتشاف جزر الكناري و يُقال أنه زار شبه جزيرة العرب و وضع خريطة لها .الرجل كان عبقريا بإتقانه التام
للغة االغريقية ،التي كان يؤلف بها مخطوطاته متفوقا بذلك على الكثير من الكتاب و العلماء و الملوك الذين كانوا
يكتفون باللغة الالتينية في التأليف .التأليف بلغة هوميروس ،سقراط ،هيراقليطس ،أفالطون ،أرسطو و غيرهم،
كان في نظر إنسان ذاك العصر أشبه بإتقان لغة اآللهة .كان شرفا ال يناله جميع من يصنفون أنفسهم من النخبة.
الرجل كان يؤلف الموسوعات أيضا يا هذا .عمل عظيم جدا في مقياس أقوام ذلك العهد ،الذين كانت نظرتهم إلى
واضعي الموسوعات تشبه إلى حد ما نظرة أقوام أيامنها الحالية إلى رواد الفضاء .لقد فهم ببساطة أن أحد أسرار
قيام الحضارات يكمن في .....التوثيق يا أمداكول .توثيق الفكر كسلوك و كثقافة ! .لهذا كرس كل اهتمامه لبناء
مكتبته الكبيرة التي جعلت من شرشال منارة ثقافية أخرى منتصبة بفخر و كبرياء على سواحل الشمال االفريقي،
كما كانت االسكندرية و قورينة و قرطاج و سيرتا .قلي ،ماذا نكون بدون مكتباتنا و مخطوطاتنا يا هذا ؟ ......لقد
أراد الرجل إحياء روح هذا البلد بثمرة أفكاره.LYBICA ...
342
_ ما هذا ؟.
_ أشهر مخطوطاته على االطالق .المجلد الذي أراد أن يعيد به جمع تاريخ و تراث تامزغة الشعبي ،بما
استطاع جمعه من مصادر يونانية و رومانية و قرطاجية و مصرية و أمازيغية .لألسف فهذا المخطوط قد ضاع
منه الكثير .ال ريب ،في بلد تعرض للكثير من الغزو و االحتالالت و الثورات المتعاقبة ! .حياة هذا الملك
المستكشف كانت فعال عامرة بالمطالعة و البحث و التأليف .شيء يبعث على الفخر حقا ! .البعض قد يعتقد أن
األمازيغ برعوا في الزراعة و خوض الصراعات الدولية و تأسيس الحركات التحررية المسلحة فقط .أه يا
أمداكول .....لم ينصفنا التاريخ فقط ،أو ربما لم ننصف نحن أنفسنا أيضا ! .في هذه الحقبة الالتينية ،أهدت بالد
األمازيغ للبشرية أول عمل روائي مكتوب ،خطته يد رجل شاوي كان يلقبه الرومان بـ '' النوميدي المزعج '' كونه
لم يكف عن الكتابة و الحديث عن الفقراء و المضطهدين في بلده ،و معارضة السلطة الرومانية بلغتها الرسمية.
أبوالي المداوري ( أبوليوس لوكيوس ) الذي فهم مغزى حياة يوبا الثاني ،فأبدع روايته الخالدة .التحوالت أو
الحمار الذهبي .قلي ،كم من جزائري يعلم أن أدب الرواية ولد عندنا ها ؟.
انتهت أيام يوبا الحكيم و زوجته كليوباترا بأن تعانق جثمانيهما في خلوتهما األبدية ،تحت حجارة ضريحهما
الملكي المشرف على جنة المتيجة و البحر المتوسط ،الذي سيُعرف بعد قرون طويلة باسم شعبي شهير :قبر
الرومية .و انتهى الفتى الثائر طاكفاريناس نهاية األبطال بسيفه في يده ،رافضا االستسالم ،و تعلمت بالد البربر
كيف تقاوم بالقلم و السيف معا .لكن روما كانت شاردة و شاخصة بنظراتها القلقة نحو المشرق و هو ينتفض
ورث حكمته و كلمات ربه المنيرة إلى أصحاب دربه و قضيته
بكلمات رجل عبراني شاب اسمه عيسىّ ،
المطاردين من قبل الوثنية .هكذا كنتُ ماضيا في سماع خطوات التاريخ المتسارعة ،متزامنة مع خطوات أحد
َ
أالئك االتباع األوائل للمسيح ،القديس مرقس ،الالجئ إلى أرض البربر ،التي وجد فيها األمان و السكينة اللذان
صبا على قلبه األنوار التي جعلته يخط اإلنجيل الذي سيحمل اسمه إلى يوم البعث !.
تعاليم المسيح أغرت البربر كثيرا بدعوتها إلى السالم و المحبة و نبذها للحرب و االستعباد ،جاعلة إياهم
يحملون على كتفهم معركة جديدة ،معركة اإليمان و الحقيقة ،جنبا إلى جنب مع معركتهم األزلية ،معركة األرض
و الحرية ،التي كانوا يحملونها على الكتف األخرى .كان ذلك عهد الكنائس الالتينية االفريقية األولى ،التي وقفت
في وجه الطغيان الروماني و نزفت لعقود طويلة من أجل الحق اإلنساني في الكرامة و الحرية و معرفة االله .أمة
البربر ،كانت من أوائل األمم التي نصرت كلمة هللا قوال و عمال ،بجحافل من القديسين و القديسات و المجاهدين و
الشهداء .القديس Cyprianusالقرطاجي الذي قبل الشهادة في سبيل هللا و خلد قوله الشهير و هو على مشارف
مالقاة الموت '' :لقد فتحت األبواب المغلقة ،و انبعث النور مشرقا في الظلمة '' Perpetua .و Feliciteشهيدتا
العفة و اإليمان و هما تواجهان السباع المفترسة باسمتين تحت أنظار جماهير قرطاج المذهولة .القديس
Tertullianusالرجل الذي أحرز المعجزة ،بأن جعل أشد قبائل البربر تمردا و عنفا ضد روما ،تستكين و
تخضع لكلمات اإلنجيل بخشوع عجيب .بل و تحمل المعركة الدينية للمسيح ضد الغطرسة الوثنية الرومانية لعقود
343
متالحمة ،مازجة إياها بمعارك الحرية .هكذا التقت قضية السماء بقضية األرض .أسلوب حياة جديد قد تم صقله
في ربوع هذه البالد .أسلوب حياة أضاف لبنة جديدة إلى مغزى حياة و وجود البربر .كنتُ أسمع صياحهم و
تجرهم خيول العسكر االمبراطوري في الحواضر و القرى النائية البعيدة ،يُجلدون حتى الموت تحت
ّ أنينهم،
الشمس الحارقة ،و تفيض أرواحهم بالشعار الذي كان يهز شمال افريقيا تمردا و روما خوفا و توجسا '' .بمشيئة
هللا '' .كانت آخر ما يتلفظ به شهداء النصرانية من البربر .اإليمان الشديد ،العناد ضد الطغيان ،و اإلقبال بصدر
رحب على الشهادة ،جعلت التاريخ يطلق على هؤالء المسيحيين األفارقة اسم '' المعذبون المبتهجون '' !.
رأيتُ القديس أغسطين ابن سوق اهراس ،يخوض المجادالت الفلسفية الكبرى في ساحات جامعة قرطاج ،و
يخط آيات فكره بعدما استسلمت روما أخيرا لكلمة المسيح بعد عقود من العناد .مدينة هللا .المراسالت و اعترافات
التوبة .ثمار خالدة ال يزال أثرها بارزا في حياة مسيحيي اليوم دون أن تعي أغلبيتهم ذلك .رأيتُ دونا األكبر فوق
جواده البربري الهائج يحشد همم المجاهدين ،يلقي عليهم العضة و الصلوات ،يحثهم على قتال الكنيسة الرومانية
المنافقة التي حرفت دين المسيح .القتال و االستشهاد في سبيل نقاء عقيدة االنجيل التوحيدية و بقاء كنيسة افريقيا
مستقلة عن كل هيمنة .صار القديسون البربر يتنازعون عالم الالهوت المسيحي بينهم و يخطون مصيره و تاريخه
و تراثه .فمن أيام تارتليانوس مرورا بأيام القديس أغسطين وصوال إلى عصر القديس غيالس ،رأت الكنيسة
ذاتها ،و رأى العالم روحا جديدة تسكن جسده المنهك بالحركة و التفاعل ،حين كانت روما بصدد التصدع و
االنقسام النهائي أمام بالد البربر التي لم تهدأ قط ،بين ثورات الدين و الدنيا ،كانت ال تزال تصر على رفض
أصفاد روما المتجبرة ،حتى و هي مؤمنة ،بل حتى و هي في قبضة قياصرة من أصول بربرية ! .لم ينفع شيء.
فشل منح البربر حق المواطنة الرومانية في قتل ضمائرهم ،و فشل خط الليمس العسكري في إخماد غضب هذه
األرض و هياجها الثوري الفطري.
ثورة القمح الشهيرة ،التي هزت جبال و تالل سطيف و ضواحيها ،كانت الدليل على أن هذه األرض ال
تخضع لألجانب حتى بطول األزمان ،و أن هذا الشعب ال يمل القتال من أجل كرامته بالمطلق .هكذا اندلعت
المتمرد إغماسن و مباركة الكنيسة الدوناتية ،و ما فتئت أن
ِّ ّ بصرخات الثائر الوسيم فيرموس و مساعدة األڨليد
عمت أرجاء البلد كله ،مذكرة الرومان بأنه ال يزال أمامهم مشكل عويص اسمه بيربيريا .لكن روما العجوز
المحتضرة ،لم تكن قادرة على الصراع و استسلمت في النهاية ،تاركة مكانها لشقيقتها الصاعدة بيزنطيا الفتاة
الشابة المتحمسة ،التي ورثت مشعل حضارة أوروبا و الكنيسة معا ،فكان بذلك فصل جديد من الحروب و الثورات
العارمة التي هيجت أرجاء هذا البلد مرة أخرى ،كما تهيج الريح الجديدة النيران من تحت الركام و الجمر.
جاءت بيزانطا بالجحافل و هجم الوندال بالقبائل و ع َّم الغزو و السلب و الفوضى و القتل من طنجة إلى خليج
السرت .و قبل أن يتصارع البربر مع الوندال ،كان لهم حساب قديم يصفونه مع روما التي آلمتهم طيلة قرون.
كانت المدينة تحترق في أحلك لياليها البشعة .و نيران انتقام من كانت تعتبرهم '' شعوبا همجية '' كانت تلتهم
حجارتها العتيقة التهاما .كانت جيوش الوندال و قبائل البربر المتحالفة معها تدك مدن إيطاليا العجوز دكا ،و كان
344
البربر يستذكرون القصص التي توارثوها عن أسالفهم حول معركة قناي العظمى و أمجاد حنبعل برقة ،كأنهم
يخاطبون أرواح األسالف أن '' ها نحن ندخل روما المتجبرة أخيرا ! ''.
أكثر الوندال من الحرق و اإلفساد في أرض افريقيا .سقط الحلف بسقوط روما و حان وقت تصفية الحساب
اآلخر .كنتُ أتخيل المشهد .الغبار و صهيل الخيول و هي تتصادم ببعضها البعض .صراخ الرجال و النساء في
أرض المعركة .الوندال الجرمانيين الشماليين ضد البربر األفارقة الشماليين .أ ّمتان استأثرتا بثلثي العناد الموجود
في األرض ! .توالت الثورات المسلحة و محاوالت استرداد األرض من األجانب .ثالثة أبطال و ثالث ثورات
كبرى خرجت من رحم األوراس الولود ،التي صارت مهدا و حضنا لكل ثورة في هذا البلد .ايبداسن ،انتاالس و
كاركاسن ،الثوار الثالث الذين خلدت أغاني الجدات األوراسيات بطوالتهم ضد البرابرة الوندال لعقود ،دون نسيان
الزعيم الثوري ڨزمول ،بطل نُحت قلبه من حجارة األوراس نفسها ،و استطاع بذلك مواجهة أعتى عتاة
امبراطورية الروم الجبارة .بطل حطم أسرع رقم للنصر .ثالثة معارك طاحنة ،ثالثة انتصارات ساحقة مع ثالثة
جنراالت بيزنطيين مقطوعي الرؤوس ! .جبال األوراس كانت كالشعلة اإلالهية التي أضاءت ليالي هذا البلد الذي
يصر على الصراع ضد الغزاة مهما كانت صفتهم أو أسلوبهم ،في السنوات التي كانت فيها بالد الشرق تهتز
ُّ كان
مرة أخرى على كلمات رجل عربي مثير لالهتمام اسمه دمحم ،كان قد ترك لتوه رسالة خالدة أخرى للعالم ،مفادها
أن االله واحد ،و أن األنبياء كلهم إخوة ،و أن البشر كلهم شعوب و قبائل لم توجد إال لتتعارف و تتثاقف ،ال
ليستعبد بعضها بعضا.....
_ أنتَ أخبرتني أن الكلمات هي التي تغيُّر عقليات و تواريخ المجتمعات ،بل و تصوغ طريقتها في رؤية و
فهم األشياء .ثم إن وجود الكون كله انطلق من كلمة .! Un logos ..إد أمڨّاز تيرڨا العالي أمداكول ( .أحالما
سعيدة أيها الصديق ).
أي نوم كان ليأخذني بعد كل ما سمعت و اكتشفت .اعترفت بصمت أني فعال جاهل صغير ،و اقتنعت أن
مشكلة األرق التي كنت دوما أعاني وطأتها على حياتي ستختفي ليحل مكانها شيء آخر على األرجح .تبادر إلى
345
ذهني أني لن أنام بعد تلك الليلة مرة أخرى .لذلك صعدتُ بالكرسي الهزاز إلى السطح و جلستُ لنحو ساعة و
نصف أفكر في كل هذا التاريخ الذي ال نزال نجهله دون أن نطرح السؤال حول سبب جهلنا له حتى ،أو قل تجاهلنا
له ؟ .ثم كم من رواية ؟ ،كم من كتاب ؟ ،كم من دراسة ؟ ،كم من سلسلة وثائقية أو تلفزيونية ؟ ،كم من مسرحية و
أوبرا ؟ ،كم من فيلم سينمائي يمكننا عن طريقه تخليد كل هذا الزخم التاريخي ....األمازيغي ؟ .كنتُ أسأل نفسي و
أنا أتفكر في هذا النفس الطويل الذي حافظت به هذه البالد على جوهرها األول ،منذ وصول األسالف األوائل
لهؤالء الذين يسمون أنفسهم أمازيغ ،قبل خمس ألفيات من فجر ذاك اليوم أو يزيد .كم نحن صغار أمام تاريخنا !.
ما أجهلنا و ما أقبحنا بهذا الجهل !.
كانت خيوط الصبح األولى تبعث ببشاراتها من خلف جرجرة الجاثم بهدوء أزلي ،كضمير حي ال يزال يذكر
هذا البلد بحقيقته التي ال يمكن الهرب منها عبر القرون الطويلة .كان الجو المثخن بنسمات الفجر منعشا للغاية،
جعلني أبقى متسمرا في مكاني أرقب طلوع الشمس بفارغ الصبر .و حين جاء الفجر بعد دقائق من ذلك ،كنتُ
أشعر برضى غريب امتألت به نفسي .كنتُ أشعر بطمأنينة عميقة أيضا ال لشيء ،سوى كوني فكرت في بهجة
مرة أخرى ،بعدما قلت متهكما أني قد اكتفيت من جرعة التاريخ الزائدة التي حقن بها الفخارجي ذهني .لكنها كانت
المرة األولى ،منذ سنوات ،التي أفكر فيها '' هي '' دون قلق أو ضيق.
-24-
خمائري
الفيلسوف الفرنسي Gaston Bachelardكان يعتقد أن اللحظة هي نقطة التقاء الماضي بالمستقبل .و أنها
واقع محصور بين عدمين .لقد كان يؤمن بالقطيعة التامة مع االعتقادات القديمة كشرط للتغ ُّير الصحيح.
ال أدري إلى أي مدى كان دقيقا في كالمه ،لكن ما كنتُ بصدد عيشه في كل هذه التجربة ،منذ أن قررتُ
البحث عن سبقي النهائي ،كنتُ أعتبره لحظتي الخاصة .كل هذه التغيرات العميقة .كل هذه االعتقادات الجديدة التي
كانت ال تزال تضطرب و تهتز بداخلي ،تتقدم و تتراجع .تستعر بسرعة جارفة ثم يتباطأ لهيبها شيئا فشيئا .كل هذه
المشاعر الجديدة تجاه رؤيتي لشخصية هذا البلد و كيانه .نظرتي لنفسي و لمن أكون حقا .كنتُ أعيش لحظتي مع
وعيي التام بأن مرد اضطرابي و تشوشي ذاك يعود إلى كوني ولدتُ في مجتمع يُتقن صناعة القوالب الصماء و
تلقين األجوبة المطلقة إتقانا رهيبا ! .كان ال بد لي من أن آتي إلى بني يني في أعالي تيزي وزو ألدرك و أعي هذا
346
األمر ! .ذاك الوعي كان باعثا أوليا على الثقة .كنتُ أقول أن األمر إذن طبيعي و ال يجب الخوف منه كثيرا .هذا
الشعور راح يجد مكانته في نفسي كلما أمعنت النظر إلى آغاكال عن بعد و هو غارق في عمله ،منكبا على دوالبه
الدوار ،مأخوذا بتأمالته و ذكرياته و أسراره .كنتُ أقول مكررا كل مرة أن هذا الرجل كان عنصريا متعصبا
متهورا أيام شبابه ،و بالرغم من كل األذى الذي لحقه من هذا البلد ،فهو و بطريقة ما وصل إلى حكمته الذاتية ،إلى
سبقه النهائي الذي صنع منه الرجل المثقف و الحكيم و المتسامح و الواثق الذي هو عليه اآلن ،ال رجال غاضبا
يلوك األحكام المسبقة و المطلقة ،ينفث الحقد و يسعى لالنتقام بأي شكل و بأي ثمن بسبب كل ما أصابه في حياته.
ذلك زاد في إعجابي به ،و شجعني على المضي في دربي الخاص الذي راحت معالمه تتغير ،دون أن أجزع
مجددا و أنا أراها تتغير.
ذاكرة األمة ،كذاكرة الشخص ،ترتبط بالماضي حين يرتبط مستقبلها بالتصور ،و أن الواقع الذي تعيشه إنما
يقوم على طرفي هذه المعادلة .هكذا فهمتُ بشكل و لو مبدئي أن نظرتنا لذات هذا البلد إنما قامت على طريقة
تعاملنا مع ماضيه '' .دولة الحريات ،الحقوق و الواجبات المدنية '' .هذا ما يؤمن به آغاكال في تصوره لمستقبل
آمن لهذا البلد .في اعتقاده ،ذلك يقوم على أمرين :تجذير الثقافة و المعرفة ،و تقديس االحترام لبعضنا البعض مهما
اختلفت آراءنا.
كانت تلك العبارات تتردد داخل نفسي ذات صبيحة غائمة نسبيا و أنا أجلس قبالة الطين التي وضعتها نانه
تاملسة لتجف ،منتظرا ظهور أي فراشة قد تنجذب إليها لتحط فوقها و تتبعها بقية الفراشات .كما في الصورة التي
التقطتها الفنانة نسرين قبل سنوات حين زارت آل آفاو.
تراءت لي فراشة ماكاو صفراء اللون تحوم في األفق تهتز بجناحيها المخططين باألسود .تحمست و أنا
أرتقب اقترابها من الطين المبللة لتحط عليها و تثبت لي أن القصة التي حكتها لي المصورة نسرين لم تكن مجرد
صدفة غريبة ،لكن الفراشة لم تقترب قط من الطين ،بل م َّرت على الجانب حتى كادت تختفي بين أغصان أشجار
التين و الزيتون .وثبتُ خلفها بصبيانية و عناد و رحتُ أتتبع مسارها المائل و غير المستقر إلى أن راحت تنخفض
شيئا فشيئا لتستقر فوق شتالت شجيرات الفراولة ،التي كانت موضوعة بالقرب من أحد البساتين استعدادا لغرسها.
ابتسمت لوهلة متذكرا شيئا من وميض بستان بيتنا بالبليدة ،ثم انصرفت و في يدي بعض الكتب التي كنتُ
أطالعها و أبحث في صفحاتها عن تغذية تأمالتي و تثوير أسئلتي .أعدتها إلى الخزانة الخشبية ثم استلقيت قليال في
غرفة الحرفي ،نظرت إلى الساعة ،كانت تشير إلى تمام منتصف النهار .ال يزال المشوار بعيدا عن اإلفطار.
أغمضت عيني و انزلقتُ في غفوة قصيرة .بعد دقائق فقط ،أو ما اعتقدت أنه مجرد دقائق ،شعرت بشيء يلطم
قدمي مع صوت يناديني من بعيد....
_ ...أمداكول ....أمداكول.....
347
_ لم يحن وقت العمل بعد ،ماس عميروش ؟.
خرج مباشرة من الغرفة .نظرتُ إلى الساعة فوجدتها تشير إلى زهاء الواحدة بعد الظهر .سرتُ خارجا من
الغرفة و أنا أخبره بنبرة تهكمية أنه ربما حان الوقت ليناديني باسمي ،فإذا بي أجده يحمل قفة صغيرة فيها أدوات
عمل .فأس صغيرة .منشار .قفازات عمل .إضافة إلى أكياس بالستيكية كبيرة .ناولني القفة و هو يطلب مني انتعال
حذائي ألننا سوف نسير طويال .لم أنبس ببنت شفة .رميت قدمي في الحذاء و اعتمرت قبعة قش ،ثم سرتُ خلفه
مباشرة و نحن نسلك طريق المقبرة على طريق المخرج الشرقي للقرية المؤدي إلى غابة األحاديث .ظننت لوهلة
أنه يأخذني إلى المقبرة للقيام بعمل ما اتباعا لنظام التداول في الخدمات العمومية الذي تفرضه تاجماعت على
سكان القرية ،لكن الرجل كان يسير دون توقف .عبرنا المقبرة طوال لنلج مباشرة مقبرة الشهداء الملتصقة بها .كان
الفرق طفيفا بين المقبرتين من خالل قبور شهداء حرب االستقالل المربعة الشكل و الناصعة البياض ،إضافة إلى
النصب التذكاري الصغير المنتصب قبالتها ،كحارس أمين يُذ ِّ ّكر المارين بأن يلتزموا الهدوء و يتجنبوا الهرج.
وصل الفخارجي بي إلى طرف المقبرة و كان يسير دون توقف متجها مباشرة إلى مدخل الغابة الكثيفة
صعودا .سمع توقف خطواتي خلفه .التفت فرآني أقف راميا إليه بنظراتي االستفهامية....
_ بشأنك أنت ؟ .ال تقلق بهذا الخصوص .أنت ال تزال تلميذي الطيع ،أتذكر ؟ .أنا الذي سيتحمل مسئولية ما
يحدث هنا .تعال .ستكون مغامرة شيقة !.
همستُ بين شفتي منطلقا خلفه مباشرة دون أن أطرح المزيد من األسئلة .كانت تيزڨي اس إول مكانا هادئا
جدا ،ما عدى من موجات ضجيج الكثيف الذي كانت حشرات السيكادة تدوي بها على أجدع و أغصان أشجار
البلوط و الدردار و الصنوبر المنتصبة بارتفاعاتها التي ال تدل إال على سنها الكبيرة .ازداد الجو برودة ،خاصة و
أن األمسية تخللتها بعض السحب الرمادية التي حجبت جانبا من ضوء النهار .كلما كنا نرتفع سيرا على طول
الطرق الوعرة التي كانت تتجه بنا نحو قمة الجبل ،كلما ازداد الهدوء و الصمت مخلفا إحساسا غريبا فيه لسمة من
التوجس .ربما هي وطأة فكرة الغابة التي تسكنها كل الكائنات التي آمن بها األمازيغ منذ القدم .الجنيات فارعات
الطول و األرواح التي تتشكل في أجساد صغيرة وقامات قصيرة .أنصاف البشر و الماعز .أشباح األشخاص الذين
348
كانوا يُعدمون وقت حرب االستقالل بتهمة خيانة الثورة .كان الفخارجي يسير أمامي و يحكي قصصا مختلفة عن
ذلك .كان يشير إلي بسبابته إلى بعض األماكن التي نمت األشجار و األحراش حولها ،كونها األماكن التي شهدت
محاكمة فالن من طرف ضباط الوالية الثالثة ،بتهمة كذا أو كذا و تم إعدامه شنقا أو ذبحا .أو شهدت تلك
اإلعدامات المنظمة التي كانت القوات الفرنسية تنفذها في أسرى جيش التحرير أو حتى في بعض المعتقلين
المشتبه في تعاونهم مع الثورة ،بعدما تعذبهم كفاية .كان الحرفي يحكي لي كيف أن بعض سكان القرية ينقلون
همسا بعض القصص عن الظهور المتكرر ألشباح هؤالء الناس بالقرب من أماكن إعدامهم أو أماكن استخراج
رفاتهم إلعادة دفنها بعد االستقالل .يقولون أن ذلك يقع غالبا بين الفترة الممتدة بين العصر و مغيب الشمس .معظم
أشباح أالئك الناس تبدو مالمحها باهتة و نظراتها هائمة .تسير بصمت بين األشجار كأنما تبحث عن شيء ما .و
إذا صادف و تقاطعت مع شخص ما من القرويين ،فإنها في الغالب تقابل نظراته الفزعة بنظرات فارغة مبهمة
تُعجّل بهروبه .إنها ال تهاجم الناس و ال تحدثهم .ربما ليس لها الوقت لذلك ،رغم أنها ال تزال أسيرة هذا الجبل منذ
ما يقرب الخمسة عقود ؟ .سألته مازحا إن كان قد صادف بعضها فكان جوابه قاطعا و مقنعا....
قبل أن يصمت فجأة و هو مستمر في السير .تركته يتقدمني ببعض الخطوات حين أبطأتُ من سيري ثم
توقفت و أنا ألتفت إلى يساري أمعن السمع و النظر .رمقته بنظرة استغراب .لم يقل شيئا .ظل يتفرس وجهي....
_ ماس عميروش ...قد تظنني مجنونا اآلن ،لكن ...أعتقد أني رأيت شيئا لتوي هناك...
_ لست متأكدا ،لكن بدت لي أشكاال شبه آدمية تتحرك بين األشجار .....اآلن فقط !.
_ أنا ال أمزح ! .هناك ...على بعد نحو 41مترا ،خلف جدع شجرة البلوط...
علمتُ من فوري أنه تفطن إلى نفس الحركة مثلي .لكنه طفق يمشي مرة أخرى غير آبه بما رأى و هو
يتحسس األرض بعصاه و بصره كأنه يبحث عن شيء ما أو يقتفي أثرا ما ،في حين كنتُ أتبع خطواته و أنا أنظر
يمينا و شماال و خلف ظهري ،علي أتيقن من أن تلك '' األشياء '' المتحركة ال تزال تتبعنا أو تقترب منا .ما كان
349
ذلك ،أو من ؟ .إرهابيان أو ثالث مثال ؟ .جماعة إجرامية مختصة في خطف األشخاص لطلب الفدية ؟ .شاة ضلت
سبيلها ؟ ،ذئب ؟ ،خنزير بري ؟ .كنت متأكدا من أن األمر لم يكن مجرد خيال تحرك تحت وطأة ما كان الحرفي
يقصه على مسامعي ،و ال كان عبث نسبة األكسجين المتقهقرة في ذاك االرتفاع الشاهق بخاليا دماغي !.
توقف آغاكال فجأة و هو ينظر أسفل يمينه .وصلتُ إليه الهثا و أنا أسأله بنظراتي عما يوجد تحت شجيرة
الريحان الصغيرة تلك .كانت 2عبوات جعة متفرقة حول كيس بالستيكي أسود كان يحوي على عبوات أخرى.
جمعتُ العبوات في كيس القمامة ،في حين انطلق الرجل يمشي مرة أخرى و هو يطأطئ رأسه متحسسا
األرض و األحراش بعصاه .كلما كنا نتقدم في السير ،كلما كنا نلتقي بمخلفات ال تدع مجاال للشك في أن مجموعات
من البشر قد مرت على تلك الطريق الترابية الضيقة أو جلست تحت تلك األشجار أو وسط تلك األحراش في
فترات متفاوتة .بقايا الطعام .قنينات الجعة .قوارير الخمر .أعقاب السجائر و حتى بقايا لفائف الكيف .كنتُ قد بدأتُ
أفهم ما كان يجري .آغاكال كان يمر على األماكن التي اعتاد بعض شباب القرية االختالء فيها لتعاطي مسكراتهم،
حتى ينظف قاذوراتهم التي يتركونها خلفهم في كل مرة يعتدون فيها على حرمة الغابة .القول بأن جميع سكان
تيميزر ملتزمون و واعون فيه شيء من المبالغة .في أي جماعة بشرية ،هنالك دوما صنف من األفراد الذين ال
تردعهم ضمائرهم عن كسر قوانين جماعاتهم حين يتأكدون قطعا من غياب رقابتها عليهم.
_ ماس عميروش ...األشباح التي رأيتها قبل نحو نصف ساعة ....كانت حقيقية إذن.
_ أجل .كانت حقيقية .شاب و شابة من القرية كانا يتهامسان مع بعضهما ،أفسدنا عليهما موعدهما الغرامي
السري .القرية كلها تعلم أن تيزڨي كانت دوما و ال تزال مكانا نفعل فيه ما نخشى فعله في القرية مخافة عقابها أو
كالمها الجارح على األقل .الشرب و السكر علنا ممنوع .و عالقات الحب خارج الزواج ممنوعة كذلك عندنا.
األعيان يعلمون طول الوقت أني آتي إلى هنا باستمرار لتنظيف هذه المخلفات ،لكنهم أبدا لم يواجهوني بالحديث
عن األمر بصراحة .طابوهات يحاولون الهرب منها باستمرار .لذلك فهم يفرضون علي غرامتهم المالية البسيطة
التي اعتدت دفعها كل مرة ألج فيها الغابة ،دون أن يمروا إلى وسائل الردع التالية التي تتبع استمراري في كسر
القانون الذي يمنع الصعود إلى هنا .أما أنا فقد وجدتُ في ذلك فرصة سانحة لالختالء بنفسي ،للتجوال و التأمل و
التفكير و االبتعاد عن فظائع الناس و ردائتهم .أنت ترى اآلن سببا من أسباب كره الكثير من سكان القرية لي .جزء
منهم يعلم أني مطلع على األسرار القذرة ألبنائهم و بناتهم أو حتى أسرارهم الصغيرة هم أنفسهم .الجزء اآلخر
ممن يكرهونني يفعلون ذلك كوني ال أستجيب إلى رغباتهم المريضة في الكشف عما أعلمه حول ما يحدث هنا.
يتهمونني بتشجيع الفساد و النفاق في مجتمع القرية ،كوني ال أفضح فاسديها و منافقيها لينالوا ما يستحقون من
الغرامات و العزل االجتماعي .األمر مرتبط بصراع بعض العوائل و القرابات كالعادة .كل طرف يبتسم في وجه
350
الطرف اآلخر علنا و يعمل المستحيل لفضح مساوئه و تسويد صورته و شرفه في الخفاء .حقيقة من حقائق الشعب
الجزائري المريض ! .لكن كل ما أريده أنا هو أن يتركني الجميع في سالم !.
_ همممم أرى ذلك .و كيف تعلم أن المرابطين يعلمون ما يحدث هنا ؟.
كنا ال نزال ماضيين في االرتفاع كلما زدنا الخطى .امتأل كيسين بالقاذورات .زادت الغابة امتالء بالصمت.
بالكاد كنتُ أسمع شيئا سوى خطواتنا فوق التراب و الحصى و العيدان و الحشائش .حفيف أوراق األشجار و
بعض الزقزقة المتفرقة ،إضافة إلى نعيق الغربان و بعض الكواسر التي كانت تحلق على ارتفاعات شاهقة .كان
الجو داكنا بقطع الضباب التي كانت تغطي الجبل .فهمتُ أننا كنا قد وصلنا إلى مستوى السحاب الثقيل الذي كان
يغطي سماء ذلك اليوم الصيفي الرتيب .أحسستُ ببعض البرد في أطرافي ،لكن الحرفي أخبرني أنني مادمتُ أسير
منذ ما يقارب الساعة فال داعي للقلق من البرد ،لكن علي فقط أن أتنفس جيدا حتى ال أصاب بالدوار.
أنهينا العمل .سحبنا أكياس القمامة التي امتألت بقوارير الخمر و عبوات الجعة و بقايا المخدرات و بعض
بقايا المجالت اإلباحية و الواقيات الذكرية .وضعنا كل شيء تحت إحدى أشجار البلوط .قال آغاكال أنه يجب
إنزالها إلى القرية من أجل التخلص منها .ثم وقف بالقرب مني و هو يومئ برأسه كأنه راض عن العمل الذي قمنا
به ،ثم أخذ نفسا عميقا و هو يلتفت إلي...
لم ينتظر مني جوابا بل انطلق يسير مباشرة مكمال طريقه إلى األعلى .لم يتطلب األمر أكثر من عشرين دقيقة
حتى كنا نقف فوق مستوى السحاب وسط تلك الفسحة المدببة فوق قمة الجبل .كنا قد اجتزنا لتونا سالسل من
الصخور الحادة الصفراء اللون ،التي كانت تطوق المكان و ولجنا ما بدى أنه بقايا مساكن قديمة جدا .طرقات
الشوارع كانت ال تزال واضحة و مرسومة على األرض .بعض الجدران كانت ال تزال قائمة مشكلة بقايا مساكن
مربعة و مستطيلة الشكل تقف بدون أسطح .بعض أكوام الحجارة و الطوب المتفرقة هنا و هناك ،استنتجت أنها
بقايا المساكن و الجدران التي كانت تستسلم أخيرا أمام قبضة الزمن فتنزل بتدرج و هدوء إلى األرض ،منتظرة
أيادي أهل تيميزر كي تجمعها و تكدسها في أمكنة محددة .في بالد القبايل ،أحجار المنازل القديمة المنهارة ال تفقد
قيمتها أبدا ،بل تظل محفوظة في ذاكرة الناس و تحت أنظارهم الدائمة.
كنت أقف وسط إيجودار إذن .ال شيء غير الصمت المحدق بنا من كل الجهات ،مع نفخة رياح متوسطة
الشدة كانت تهب على القمة الشاهقة التي تخترق السماء الزرقاء التي كانت بعض الطيور الجارحة تسبح في
أحضانها أزواجا .سرنا عبر زقاق تلك القرية الصامتة ،و قد زاد ذلك اإلحساس الغامض و العميق في رفع نبرته
النافذة من داخل نفسي .كنتُ أنظر إلى تلك النوافذ التي كانت تختزن فراغا غريبا و قاسيا بين إطارتها المتشققة
المتداعية .و كانت تلك المنازل أو ما بقي منها كأنما ال تزال تحفظ شيئا أخيرا من صدى خطوات آخر جيل سكن
351
بين جدرانها .نزر ضئيل و خفي من حياة كانت تضج في هذا المكان ذات مرة .أحسستُ بمدى قوة الزمن أمام عناد
اإلنسان .و فهمتُ عناد إنسان هذا البلد و تشبثه بحياته و وجوده على هذه األرض .ففي النهاية انتصرت الطبيعة و
الظروف على سكان قرية إيجودار ،لكنها لم تجعلهم يتراجعون سوى بضع خطوات ،ليؤسسوا القرية التي
سيعمرها أحفادهم بعدهم و هي ال تزال عامرة إلى اليوم بعد قرون و قرون طويلة .بل و فوق ذلك ،فسكان تيميزر
اليوم يحجون إلى هذه األطالل مرة في السنة جالبين معهم أطفالهم ،ليقوموا بترميم الجدران التي ال تزال صالحة
للترميم ،بحسب ما أخبرني آغاكال.
قطع صوته حبل األفكار و التأمالت تلك ،فنظرت إليه و أنا ال أزال أتبع خطواته...
_ ال أنا على ما يرام .فقط يُخالجني شعور غريب تجاه المكان ...إنه موحش بعض الشيء.
_ أجل .أعتقد أني أستطيع تخيل ذلك .لكن يجدر بك أن تراه حين يمتلئ بالعوائل و المغتربين و الزوار يوم
نأتي إلى هنا لنرمم هذه البيوت القديمة .هيا تعال ،سأريك نبع إيجودار.
سرنا إلى طرف القمة المقابل جبال جرجرة .مكان يرتفع عن مستوى تلك األطالل بنحو خمسة أمتار إضافية،
حيث تظهر تهيئته بوضوح تام .عبارة عن فسحة مربعة الشكل ،يتم الوصول إليها عن طريق مدرج ،يحفها سياج
خشبي يرتفع نحو متر ،ال بد أنه ن ّْ
ص ب كي يقي األطفال أو حتى الكبار من خطر السقوط أو التدحرج من فوق
القمة نحو الجرف الصخري الهائل و المخيف الذي يحيط بالمكان من ثالث جهات .أرضية المربع مبلطة بالحجارة
المرصوصة تماما كطرقات تيميزر ،يتوسطها سرح صغير يرتفع إلى نحو مترين محتضنا النبع الذي كان يتدفق
منه الماء بسرعة متوسطة ،بحيث تجتاز مياهه العذبة منطقة الحوض المخصصة لوضع األواني من أجل ملئها ،و
تتسرب عبر فتحة خلفية لتأخذ مسارها عبر أنبوب يسير إلى الحافة الشرقية لتلك الفسحة ،حيث يشكل شالال
صغيرا تنزل منه المياه عبر المنحدرات الصخرية الحادة و تأخذ طريقها نحو األسفل ،لتشكل تدريجيا رواسي
صغيرة تتصل بشبكة الوديان التي تتخلل الجبال و الغابات المحيطة.
لم يشدن كل هذا كما شدني المنظر من أعلى قمة الجبل .منظر ال يمكن وصفه بالروعة المطلوبة .وقفت
بالقرب من النبع و أنا ألتفت من جميع الجهات .استبد بي دوار خفيف لبعض اللحظات حين أدركتُ أني أقف على
ارتفاع شاهق جدا .كان العالم كله تحت قدمي ،بما فيه سحابه ! .كنتُ أشعر كأنما أقف على قمة األوليمب الخرافية
نفسها .أتخاطب باطنيا مع الوجود ،و أشرح نفسي كشراع شمسي تحت أثيره الخارق .كان إحساسا رائعا حقا،
أنساني فيما كان آغاكال يقصه عي حول تاريخ نبع إيجودار ،لكنني كنت فقط ِّّ
أخلد تلك اللحظات بكمرا هاتفي
الجوال ،و ألتهم تلك المناظر المدهشة بناظري .شيء منها ذكرني بقمم جبال الشريعة ،سوى أن قمة إيجودار كانت
أكثر ارتفاعا و سموا نحو بوابة السماء .شمس ما بعد العصر كانت تمسح على ظهري بلطف و أنا أتقدم نحو
الحافة المقابلة لجبال جرجرة التي كانت الوحيدة التي شعرتُ أني ال أزال غير قادر على بلوغ ارتفاع قممها
الصخرية الحادة .لمحتُ واديا من الغمام األبيض الذي كان يفصل بيننا و هو يتدفق تحت الرياح بانسيابية من جهة
352
الغرب آخذا طريقه نحو الشرق ،فكان يالمس الجبال المحيطة بلطف .يستحم بأشعة الشمس تارة و بظالل جبال
تيزي وزو الهادئة تارة أخرى '' .لن أندم أبدا على مجيئي إلى هذه المنطقة المدهشة ،منطقتي األصلية ! '' .كانت
تلك فكرة ترددت في نفسي تلقائيا و أنا أشعر أن آخر حواجز التردد تتداعى أمام جاللة ذلك المشهد الطبيعي الذي
اختصر وجه '' أرض األسالف '' التي كان ال بد لي في النهاية أن أستشعر بكل ذرة من كياني أني منها و هي مني
منذ بداياتها األولى و إلى تلك اللحظة ! .كانت المرة األولى التي أصارح فيها نفسي أن '' نعم ! ،أنا أمازيغي ....و
أفتخر بذلك !! '' .كان األمر فعال يستحق كل هذه الجهود و البحث.
جلستُ على الدرج الموصل إلى مربع النبع ألستجمع أنفاسي .كنتُ أستمتع بمشهد جرجرة المضاء بالشمس و
قد بدأت بعض تعرجاته و ثناياه تغرق في الظل مع استمرار انسحاب الشمس نحو جهة الغرب ،فإذا بآغاكال يأخذ
مكانه على يميني...
_ مكان رائع حقا ! ،من المؤسف أنه تمنع زيارته في أي وقت على سكان القرية .أعتقد أنكم ستستفيدون أيضا
لو وظفتموه للسياحة الجبلية .سيعود ذلك بالكثير من الموارد المالية على خزانة القرية.
_ أجل ،ما عميروش .رحلتي إلى هنا كشفت لي الكثير حول لب واقع هذه البالد التي أحبها حتى النخاع.
راح يبتسم و هو يتفرس وجهي .لم أفهم تماما عما كان يتحدث...
_ أنت شاب في الثامنة و العشرين .يستحيل عليك إقناعي بأنه ال يوجد حب ما في حياتك ،إلى جانب حبك
الجنوني لوطنك.
كدتُ أنتفض من مكاني تلك اللحظة .لكني استجمعت نفسي في الوقت المناسب ناظرا إلى الرجل المبتسم
بهدوء مصطنع .ما الذي دفعه للحديث عن شيء كهذا في تلك اللحظة و في ذلك المكان ؟ .ما الذي كان يرمي إليه
بالضبط ؟ .ما البذرة التي كان يقصدها بكالمه ؟ .بذرة الحب بشكل عام ؟ ،أم بذرة بهجة بشكل جوهري ؟ .لم أرد
إطالة الصمت حتى ال أجعله يتأكد من اضطرابي و حيرتي تلك...
_ اه ماس عميروش ،أنت تعلم .لقد اجتزت هذه المرحلة قبلي و تعلم ...لكن َلم تجلب حديثا كهذا اآلن ؟.
353
_ ألنك تصر على الهروب مما يحبُّ قلبك مذ أتيت إلى هنا ،و ربما قبله بوقت طويل.
استمر في التبسم أمام تعابير وجهي التي راحت تخونني بشكل واضح منهارة كجدار زجاجي رقيق...
_ اه لهواء هذه الجبال قدرة عجيبة في وضع المرء وجها لوجه أمام أسرار نفسه .ثم إني علمتُ بأمرك من
خالل نظراتك الشاردة على الدوالب الدوار و أنت تشكل قوالب الصلصال .لقد راقبتك طويال و فكرت في أمرك
كثيرا لو تعلم .كنت تبدو لي في أغلب األحيان و كأنك تفكر في امرأة ما حين ننهمك في عملنا بصمت .....اه ال
ي أن أخبرك
تنظر إلي هكذا ،فلحرفة صناعة الطين أساليبها الغامضة في الكشف عما يؤرق من يمارسها .كان عل ّ
بهذا منذ اليوم األول حتى تحترز مني.
أطلق ضحكة و هو يحك أنفه .لم أجد إال أن أقابل تلك الضحكة ببسمة متهكمة...
_ إذن كانت تلك طريقتك في الكشف عما يدور في خلد الناس ؟ .ما الذي استطعت معرفته عني عدى هذا ؟.
_ باختصار ،عرفت أنك شاب ذو نية حسنة رغم أنك مشوش النفس قليال بسبب هواجسك المهنية .و أنك
مهموم حقا بمآسي هذا الوطن و هذا ما أثار تقديري لك .لكن ال تحاول االلتفاف علي اآلن .هيا ،من هذه التي
تفر دوما من ذكراها و َلم تفر من هذه الذكرى أصال ؟.
جعلتك ّ
تفرس وجهي جيدا ثم ابتسم مرة أخرى دون أن يرفع عينيه عن عيني ،أجابني بصوت هادئ و نبرة جد
واثقة....
_ نحن الرجال بارعون في الهروب من مآسي قلوبنا ،بافتعال مآس خارجية ندمنها ،أو تبني حروب جانبية
نخوضها من أجل أن تدمرنا قبل أن تدمرنا قلوبنا.
تشنج صدري تلك اللحظة .انتابني إحساس أن الرجل كان يعلم تماما عما يتحدث ،إلى درجة أنه جعلني أكف
مباشرة عن المقاومة ،ألستبدلها برغبة في أن أفصح له عمن كانت تؤرق قلبي طيلة تلك األيام ،فأفر إلى شبحها
الذي يسكن أعماقي بعناد تام ،كلما أنهكني التفكير فيما يؤرقني في هذا العالم الخارجي.
_ حسن ماس عميروش .في الحقيقة فقد عرفتُ بعض الفتيات مذ كنتُ مراهقا .خضتُ بعض التجارب
الصغيرة ،لكن هنالك فتاة واحدة فقط يمكنني أن أعتبرها حب حياتي .على األقل هكذا كانت .أو ال تزال...ال أدري.
لكن ال أزال أعتقد أنها فتاة ال مثيلة لها إطالقا .و األمر هنا ال يتعلق بالجمال الخارجي ،بل بشيء جوهري في
نفسها .شيء لطالما حرك أعماقي نحوها .شيء لم أجد له اسما أو وصفا إلى اآلن .لهذا أظن كثيرا أني ال أزال
أحبها بطريقة ما ....ال أدري....
354
_ و لم هذا الشك ؟.
_ جربتُ فرصتي معها قبل ثماني سنوات .لم ينجح األمر ،بل ترك في نفسي أثرا عميقا جدا.
_ هممممم منذ ثماني سنوات ،ال تزال تكافح نفسك لتجاوز األمر .رغم ذلك يبدو أنه لم يجد نفعا ها ؟.
_ لهذا أكرس نفسي كلية لعملي .أنشغل في بحث مسائلي الكبرى التي تؤرقني .لكن و بصراحة ،يحدث لي
كثيرا أني حين أنغمس في بحث مشكالت هذا المجتمع و هذا البلد ،أفعل ذلك بغضب دفين منبعث من انكساري
العاطفي معها .كأن بي أحاول تعويض نفسي عن ذلك بشيء أسمى و أعظم .يحدث أيضا حين أكتب معظم مقاالتي
ي مرة أخرى ،لعلها
الصحفية أن أفترض أن إحداها قد تسقط بين يديها ذات يوم ،لعلها تتذكرني ،لعلها تفكر ف ّ
تحاول االتصال بي ذات يوم ؟.
راح يبتسم و هو يهز رأسه و كأنه يوافقني هذا االستنتاج حين رحتُ أغوص بسرعة في السرد.....
_ ....في الغالب ،و بطريقة ما ،أجد نفسي أعود إلى التفكير فيها كلما شعرتُ باالرتباك أو االنهاك أو ضاق
العالم من حولي .على مدار سنوات ،كلما زاد عدد الكيلومترات التي أقطعها مبتعدا عنها ،إال و زاد معها عدد
المرات التي أذكر فيها اسمها بيني و بين نفسي يوميا ،فيبقى الحب ممزقا بداخلي بجانب قلبي ! .كأن بشيء ما
بداخلي ال يزال يرفض بشدة هذا المآل .هذا يثير قلقي بل حتى خوفي في بعض األحيان .ال أريد أن أعيش ما عشته
بسبب هذا الحب مرة أخرى .لكن ...بصراحة أجد أنه ال فكاك لي من هذا الحب إطالقا.
_ أجل !.
أخذت لنفسي لحظة ،ثم رحتُ أقص عليه متذكرا ما حدث .آه أجل ....كان يوما ربيعيا غائما نهاية أفريل
.4111استيقظت تلك الصبيحة في فراشي مع صوت داخلي يُخبرني أنه لم يعد يستطيع االحتمال أكثر من ذاك
الحد .كنتُ أختنق حرفيا .كنتُ قد كتبت لها رسالة قبل ذلك بأيام أخبرها فيها بكل شيء .كيف بدأت قصتي معها.
كيف وجدتُ نفسي أميل إليها أيام اإلعدادية .كيف وجدت نفسي أقع في حبها بجنون أيام الثانوية .كيف صاغ كل
ذلك عالمي و نظرتي للحياة و انتهى ليصوغ مبدئيا الرجل الذي سأكونه ذات يوم .كنتُ سأعطي الرسالة إلى
صديقي عبد الغني ليوصلها إليها ،سوى أني لم أفعل .قلتُ في نفسي أن ذلك قد يكون عالمة ضعف أخرى تجاه هذا
الحمل الثقيل .أقصد تكليف شخص آخر بحمله و إيصاله لها حتى تعرف ،رغم أنها كانت تعرف مسبقا ،فغانو كان
قد حدَّثها في الموضوع قبل مدة ،حيث عاد ليخبرني أنها غير مرتبطة و لكنها في نفس الوقت لم تبد أي رد فعل
مما قصه عليها.
355
استرجعتُ تلك المشاعر التي ظننتها خالدة ،يوم أخبرني غانو أن بهجة ليست على عالقة مع أحد أول مرة،
أحسست أن الكوكب ال يكاد يحملني من فرط الحماس و الراحة .قلتُ في نفسي أنها فرصتي الذهبية التي لن
تتكرر .كنتُ أكاد أرى نفسي و أنا منكب على كتابة الرسالة التي كان من المفترض أن تغير حياتي و حياتها نهائيا،
قبل أن يعيدني صوت آغاكال إلى قمة إيجودار حين التزمت الصمت للحظة...
_ اه أجل .قررتُ فعل شيء مختلف لم أتصور نفسي يوما أقدم عليه من فرط أني كنتُ مراهقا خجوال جدا.
قررتُ تلك الصبيحة أن أفصح لها عن مشاعري وجها لوجه و ليحدث ما يحدث .قلتُ في نفسي أن تلك كانت
مسئوليتي تجاه نفسي و تجاهها أيضا .لطالما اختبأتُ خلف صديقي ذاك كلما أردتُ أن تعلم أني أحبها .كان على
ذلك أن يتوقف .كان علي أن أواجه األمر بنفسي .ذهبت إلى جامعة البليدة يومها .كنتُ رفقة هذا الصديق الذي
اخذني مباشرة إلى الكلية التي تدرس بها...
استجمعت أنفاسي تلك اللحظة و وجدتني أتوقف عن الحديث مرة أخرى .كان ذلك األلم الحي بصدد الصعود
مجددا .أحسست بانقباض في صدري .ثم التفتُ إلى الحرفي الذي كان ينصت إلي بكل اهتمام....
_ ماس عميروش ...أنت تدفعني إلى إحياء ذكرى انفعالية سيئة جدا ...هال عدنا للحديث عن السياسة أو دزاير
أو التاريخ أو األمازيغ ؟.
_ هيا ..هيا ..اخرج ما في صدرك يا أمداكول .أنا أيضا كان علي أن أقص عليك أكثر التجارب مرارة في
حياتي ،أتذكر ؟.
_ .....حسنا .أوكي.
أخذت لنفسي شهقة و زفرة ،ثم انطلقت في الحديث بصدر متشنج متذكرا اللحظة التي وصلتُ فيها إلى المكان
الذي اعتادت الجلوس فيه رفقة زمالئها في الجامعة ،كانت هناك رفقة زميلة قديمة من أيام اإلعدادية .....اه يا اله
حين أتذكر ذلك الموقف ! .كانت جميلة و متأنقة كالعادة ،و كان يبدو عليها شيء من االنزعاج أو عدم الراحة،
لكنها حاولت إخفاء ذلك ببسمتها المعتادة .أجل ! ،كانت لها بسمة تعطيني أجنحة زرقاء كلما رأيتها على وجهها !.
كانت تعلم سبب وجودي ذاك ا ليوم و على األرجح كانت تنتظر مني أن أخبرها أني أريد فرصة معها .أما أنا فقد
كنتُ مضطربا للغاية .تقدمت نحوها و أنا أتنفس بعمق محاولة السيطرة على نفسي ..كنت أردِّّد حينها '' :لقد جاءت
تلك اللحظة ...اللعنة ...لقد جاءت اللحظة الحاسمة .'' ....حاولت تصور الموقف من قبل لكن تصوره شيء و عيشه
كان شيئا مختلف تماما .كل ما كنت أريد تذكير نفسي به هو أن الفتاة غير مرتبطة ،و مهما كان سيحدث تلك
اللحظة فسيدفعها للتفكير فيما كنت سأقوله لها في كل األحوال ،و سوف يجعلها تقتنع في النهاية بأني صاحب
قدرها ال محالة .تبادلنا التحية و األسئلة العابرة ،ثم فاتحتها بالموضوع بعدما استرجعت هدوئي و تجاوزت
356
لحظات اضطرابي .كنت أريد أن أفهم و أعرف نظرتها لي ،كونها كانت تعلم أني أكن لها مشاعر عميقة ،لكنها
تهربت من إعطاء إجابات واضحة...
سألني آغاكال بفضول واضح ،ألجيبه فورا بأنها راحت تخبرني أن األمر ليس بجلل و أنه مجرد شيء عادي
يعيشه كل البشر و أنه ال يجب تضخيمه كثيرا .أذكر أن ذلك أغضبني لكني لم أظهر لها ذلك .الحب مجرد شيء
عاد ؟ .يا له من كالم ! .لكني لم أفهم حينها أنها كانت تتحدث من منطلق أنها اعتقدت أن كل ما كنت أريده هو ربط
عالقة معها ،كمعظم الشباب الذين يبحثون عن عالقة عابرة ال شيء جدي فيها .عالقة هدفها هو البحث فقط عن
الرفقة اللطيفة أو حتى التفاخر أمام األتراب ال أكثر .بينما أنا كنت أريد '' حياة '' كاملة المعالم معها .سألتها '' :إذن،
ما موقفك من كل هذا ؟ ،ما موقفك مما أكنه لك في نفسي ؟ '' .نظرت إلي بشيء من التردد .آه أذكر تلك النظرة
جيدا ! .قالت بصوت يكاد يكون خافتا '' :أق ِّدّر لك ذلك كثيرا ،لكن األمر غير ممكن ،أنا مرتبطة حاليا ! '' .كانت
تلك اللحظة الفارقة التي َّ
مزقت عالمي حرفيا .جملتها تلك كانت كصاعقة حقيقية غير متوقعة حطت على رأسي.
كانت أشبه بطارئ أحدث تغيرا فجائيا و دائما على الذرات التي ت ُشكل كوني الصغير .بقيت فاتحا فمي لوهلة و أنا
أنظر إلى وجهها المضطرب .اهتز العالم من تحت قدمي و لثانية أو ثانيتين انتابني شعور بأن العالم يهوي من
وراء ظهري إلى نقطة سحيقة ،حيث بقيت واقفا على أطراف أصابعي على حافة تلك الهاوية و قبل أن أسقط ،عاد
بشكل جارف ليدفع بي نحو تلك الحقيقة المتجسدة لتوها أمامي كي أصطدم بها بكل قوة .شعرتُ بقلبي و كأنه يقع
فجأة في قبضة خفية راحت تعصره بشدة .كنتُ أريد استيعاب الموقف .شعرتُ حينها أني خسرتُ كل شيء في
لحظة ضوئية ،حين ينقلب األمل الجارف الذي تغذيه أطنان من أحالم اليقظة الطويلة ،إلى مجرد فقاعة صابون
صغيرة تنفجر عند أول نفخة من نفخات الواقع في ثانية أو ثانيتين ؟ ..تلك اللحظة الخاطفة التي ال تستطيع حتى
اإلمساك بخيطها األخير لتفهم ما جرى فعال قبل مضيها ؟ ! .إنه عيب المراهقة األساسي .ردود الفعل الدرامية !.
نفذ صوتي مني .رغبت في التزام الصمت تحت وطأة تلك الغصة الغليظة .لكن الرجل كان يترجاني بنظراته
كي أكمل صب ذاك الوجع الدفين .الحديث عن تلك الصدمة المكبوتة ،ما أجبرني على االستمرار في الحديث
مسترجعا ما حدث بصعوبة و ألم .هكذا إذن ،قابلت ُها بوجه ولهان و منهك بعد أن كبحتُ عالمات الصدمة و
الغضب منه .كنت أريد أن ألومها بشدة عن المعلومة الزائفة التي أعطتها لغانو كونها ليست على تواصل بأحد،
لكني لم أفعل .ما كان ذلك لينفع أمام حجم الشعور اآلخر .شعوري بأن الموقف كله صار عبثيا حقا و أن اللحظة قد
فقدت كل معانيها .كان علي أن أنقذ البريق األخير فقط .لذلك نظرت في عينيها البنيتين مباشرة .نطقت تلك الكلمات
كما جاءت ،هكذا و بكل بساطة '' :إن كان األمر هكذا ،فأنا هنا ألخبرك بشيء لطالما أردتُ إخبارك به منذ أيام
الثانوية ....انحبك بهجة ،في حياتي ماحبيت و ما عزيت طفلة كيما حبيتك و عزيتك انتي .....انحبك و انموت
عليك ...هذا ما كان ! '' .كل ما أردته تلك اللحظة هو أن أخلص نفسي من ذلك الحمل الرهيب .رأيت وجهها
توردت وجنتيها و هي تر ِّت ّب خصالت شعرها الكستنائي فوق أذنها
يحمر خجال و قد غرق في عالمات الدهشةَّ .
محاولة أال تنظر مباشرة إلى وجهي .زادها ذلك جماال و سحرا في عيني ،بل و فجّر كل ينابيع شغفي بها و
357
عطشي لها و ألمي بسببها .زاد ذلك في رغبتي في لومها أكثر .كنتُ أنظر إلى الكائن الذي رغبت فيه بكل ذرة
مني في نفس اللحظة التي كان يجعلني فيها أتذوق مرارة اليأس المطلق تجاه فكرة الحصول عليه .في تلك اللحظة
التي لن أنساها ما حييت ،كنتُ أعيش أكثر المفارقات ألما في حياتي ! .كنتُ أود فعال أن أتو َّ
سل إليها كي تغير
رأيها .كي تقبل .كي تقول '' :أنا أيضا أحمل لك نفس المشاعر '' .كنت أود أن أقول لها أني ال أقبل بهذه النتيجة و
لن أرضى بها ما حييت .كنت أود إخبارها أني مستعد لتحدي هذا الشخص الذي أخذها مني وأنتزعها منه بالقوة.
كنتُ فقط أود أن أتوسل إلى جمالها تلك اللحظة كي تغير ذاك الواقع المر كون األمر كان بيدها ،إال أن كبريائي
منعني .أعتقدتُ أني قد أهين نفسي أكثر لو فعلت ذلك ،كاشفا لها عن ضعفي الالمتناهي تلك اللحظة التي كانت
تنظر فيها إلى انكساري الظاهر .حاولت البقاء هادئا و صلبا قدر المستطاع .حاولت إنقاذ ما أمكن من صورتي
المتشظية .من كياني الذي كان يتفت ّضت و يتساقط بين يديها العاريتين كقطع من الرماد .كان شيئا من هذا القبيل'' .
هي '' كانت فقط جميلة و ال تُقاوم تلك اللحظة ،كانت فعال جميلة ،لكنها كانت بعيدة المنال !.
كان صوتي عبر صدري مهتزا و أنا أعود إلى الحاضر .أغمضتُ عيني متنهدا تحت وطأة تلك الغصة الحارة
التي كانت تقتلع صدري بذاك األسى الدفين الذي حمل رأسه كأفعى سامة من تحت كثبان من الرماد .كان فعال ال
يزال حيا .شعرتُ بحضوره الثقيل و المثخن .آغاكال كان قد استحضر شياطين ذاركتي حرفيا .كانت قد بدأت
تُبعث بدخانها األسود لتوها من توابيتها ،بعدما أيقضها ذاك الصدى البعيد .سجلت لحظة صمت أللملم نفسي .لم أكد
أشعر بتلك الدموع التي كانت تنساب تلقائيا فوق وجنتي .كانت تلك أول مرة أبكي فيها ما حدث لي مع بهجة و لم
أكد أصدِّّق ،فقد نجح آغاكال في فتح ينبوع األلم !.
أذكر أن بهجة كانت مندهشة أيضا .كانت تبدو غير مصدقة لألمر .لم تتوقع قط أن تسمع مني ما سمعت.
صح عالش ما قلتليش من قبل ؟ !! '' .اعترفتُ لها أني كنت خجوال فوق ْ
طأطأت رأسها مبتسمة في اضطراب '' :ب ّ
اللزوم .بل كنتُ أكاد أعترف لها أني كنتُ جبانا و مغفال طيلة سنوات .كبريائي الجريح منعني من انتقاد نفسي
أمامها أكثر من ذلك الحد .لكني اعترفت لنفسي أنه ما كان علي أن أنتظر كل تلك السنوات .أدركتُ ذلك متأخرا
جدا و أنا أنظر إلى وجهها األنثوي المحمر الجميل .تبادلنا بعض الكلمات بعدها ،حيث أخبرتني أنها ال تزال تتذكر
أول يوم تعرفنا فيه على بعضنا في المتوسطة حين جلسنا في طاولة واحدة .افترضتُ أنها قالت ذلك لتواسيني قليال
كونها اشفقت على حالي .أغضبني األمر مرة أخرى .ودعتها بهدوء و انصرفت عائدا من حيث أتيت ...كنت
مكسور الخاطر لكني كنت راضيا عن نفسي كوني خلصتها من ذلك الحمل الثقيل .علمتُ بعدها أن خمصي لم يكن
سوى طالبا وسيما من جنسية عراقية.
_ أنت لم تستهلك قط فرصتك معها .لقد أخذتك اآلالم الشديدة للخيبة التي عشتها تجاه تلك العثرة إلى حد نسيت
فيه أنها في الحقيقة لم ترفضك صراحة .بل و أكثر من ذلك فقد ل ّمحت لك على أنها ال تزال تذكر لقاءكما األول و
في ذلك الكثير من اإلشارات حين تقرأ لغة األنثى الخفية ! .لكنك اآلن ال تزال أسير خوفك من تكرار تلك الخيبة.
في الحقيقة فأنت تخشى المحاولة مجددا ،كون الصبي الصغير بداخلك هو الذي تحطم فعليا بسبب تلك الحادثة.
358
غابت مني الكلمات .فضلت أن أصمت للحظات كون كالم الرجل كان في الصميم .كان واقعيا و مقنعا بشكل
يثير الدوار.
_ ال يا أمدوكال ،لم أقل أنه بهذه البساطة ،فما يعيشه قلب اإلنسان على أنه مأساة من أجل إنسان آخر ال يمكن
إال أن يكون فعال كذلك ،وفقا لمنطق القلب نفسه .لكل قلب منطقه و طرائقه الغامضة .ال وجود لقاعدة معيارية
نقيس بها ما يحدث في القلوب كي نقرر ما إذا كان فعال عظيما أو ال يستحق الذكر...
_ تعلم ؟ ،في السابق لم أكن أؤمن حقا بمثل هذه األمور أيام شبابي .أقصد أني كبرتُ في هذه القرية و أنا
أنظر إلى المرأة ،باستثناء أمي ،ككائن من الدرجة الثانية ،أو مجرد شيء وظيفته هي إشعال نار الحطب و طهو
الخبز و الكسكس و حلب الماعز و جني الزيتون و جلب الماء و إنجاب قطيع من األطفال .أما أيام الجامعة فقد
كانت لي عالقات جنسية عابرة مع بعض العاصميات المؤدلجات .بعض الماركسيات و التروتيسكيات و
التقدميات .إلى اليوم الذي التقيت فيه برجل تارڨي من رجال القبائل ،حيث غير مفهومي تجاه المرأة و الحب جذريا
بجملة واحدة ختم بها أحد جداالتنا .لقد كان رجال مسنا ،مثقفا و حكيما ،شديد الحياء و قليل الكالم ،ال يتحدث إال
بكلمات و وجهات نظر هي أقرب إلى السهام من الكالم .أفترض أنه توفي اآلن ؟.
_ طبعا تحدثنا طويال أنا و هو عن المسألة األمازيغية التي كنتُ مناصرا راديكاليا لها .كنت بيربريست حامي
الدم و غاضبا طوال الوقت من أوضاع البلد .لكن حين وصلنا إلى موضوع مكانة المرأة في هذه البالد اختلفنا
بعض الشيء .كان يتحدث عن النساء و الحب بشيء من القداسة و التبجيل ،الشيء الذي بدى لي مبتذال جدا و
مثاليا فوق اللزوم .كنت أعتقد أن مسألة األمازيغية و مواجهة هستيريا التعريب التي كانت تهدد وجودنا اللغوي و
الثقافي في الصميم أهم من مسائل المرأة ،لكنه كان يعتقد أن كل شيء ينطلق من المرأة ،حتى المسألة األمازيغية
نفسها ! .لذلك كنتُ آخذ على التوارڨ أنهم شاعريون فوق اللزوم حين يتعلق األمر بالنساء .رأى ذلك على وجهي
لكنه لم يبد أي ردة فعل ،بل راح يستعرض تاريخ النساء في هذا البلد و ما قدمنه في سبيله .ذكرني بجداتنا
المحار بات األمازونيات اللواتي كن يركبن الخيل و العربات و يقاتلن بشراسة إلى جانب الرجال دفاعا عن
قبائلهن .نساء قرطاج اللواتي بعن حليهن من أجل تمويل ثورة ماظوس على قرطاج .كيريا المورية التي شاركت
شقيقها فيرموس ثورته على روما .ملكة سيرتا صوفونيبيا التي آثرت االنتحار بالسم على أن ترى نفسها عبدة
أسيرة لجنود .Scipionالمتمردة روبا الدوناتية الت ي حاربت الوثنية الرومانية ببسالة و إيمان إلى أن سقطت
شهيدة .الملكة تن هينان التي غزت صحراء الساحل بقبضة حريرية قوامها الحكمة و عاطفة األمومة .تامغارت
359
دِهية التي قادت الثورة على األمويين إلى آخر رمق من حياتها .المتمردة الله فاظمة نسمور التي قادت جيشا من
الثوار القبايل و واجهت ببسالة نادرة جيوش الماريشال Randonفي هذه الجبال بالذات .جميلة بوحيرد .جميلة
بوباشا .حسيبة بن بوعلي .مليكة قايد .لويزة إغيل أحريز و غيرهن من أمازونيات حرب االستقالل الجزائرية،
اللواتي واجهن مظليي الجيش الفرنسي بقلوب نسوية تحولت إلى فوالذ من أجل هذه األرض ....و صوال إلى
النسوة اللواتي حاولن تضميد جراح هذا البلد بأبدانهن و أقالمهن الناعمة خالل التسعينات ،في مواجهة وحشية
ذكورية دينية و عسكرية منقطعة النظير .صحفيات .أديبات .معلمات ......نساء عظيمات !.
أخذ لحظة صمت و كأنه يسترجع شيئا قويا علق بذاكرته ،ثم نظر نحو جرجرة مكمال حديثه....
_ .....استمالني بكالمه هذا ،لكنه لم يترك أثرا في نفسي كالذي تركته خالصته التي انتهى إليها ،حيث انتهى
يقول لي بالحرف الواحد ،بصوته العميق الغائب تحت لثامه األبيض ،و هو يرسم بعض األشكال األمازيغية
بسبابته على الرمل ،حيث قال لي '' :المصريون القدامى عمدوا إلى تخليد خطهم الهيروغليفيي على جدران
معابدهم و أهراماتهم .أما نحن فأبجديتنا و رموزنا األمازيغية قد ُحفظت على الصخور البركانية لهذا البلد ،و على
أجساد أمهاتنا و نسائنا .نساء هذه البالد هن معابدها و أهراماتها يا بني ''.
_ أجل .يجب اإلقرار بأن للتوارڨ وجهة نظر شديدة الغموض و اإلبهار عن عالم المرأة المعقّد ! .لكن
أتتصور يا أمداكول لو كان هذا العالم خاليا من النساء و حبهن ؟ ،كيف كانت حياتنا لتكون يا ترى ؟ .خالية من
األلوان و العطر و الرفقة اللطيفة و سكينة النفس و الرغبة في العيش و اإلنجاز ...بل و الرغبة في الخلود ! .ابحث
عن هرمك يا أمداكول مادام الوقت ال يزال سانحا .أخبرها أنك ال تزال تحبها .صدقني سيجعلها ذلك تحفظك في
نفسها إلى األبد ،حتى و إن استحالت العالقة بينكما !.
عقَّ بت على كالمه و أنا أتمنى في قرارة نفسي أن يزيد في صب تلك الكلمات التي كانت تشحنني من جديد
بشيء يشبه الحياة نفسها...
_ يا أمداكول ،حين يكون المرء في عشرينات عمره فهو يبقى قادرا على أن يحب حقا .الحب في هذه
المرحلة الثورية يكون عفويا ،حالما ،طبيعيا ،غريزيا ،فوضويا .يكون مندفعا و هائجا ال يؤمن بأي حد من الحدود.
ال يضع أي اعتبارات عقالنية في طريق هدفه الوحيد .يكون ال مشروطا .هو حب تجرفه العاطفة قبل العقل...
360
_ آه إن لم يكن هو ذا الحب فما هو يا ترى ؟ .أوليس هو ذا الوصف الحقيقي للحب ؟ .مغامرة مجنونة و غير
مضمونة ! .أوليس هو ذا الحب الذي يغير حياتنا إلى األبد مهما كانت نهايته ؟ .الحب الذي يصوغ شخصياتنا و ما
سوف نكونه ما بقي لنا من عمر ؟ .الحب الذي يحدد شكل و حجم ما سوف نقدمه لهذه الحياة أو نخلفه وراءنا في
هذا العالم حين نرحل ؟ .أوليس ذا هو الحب ؟ !.
التزمت الصمت أمام تلك الكلمات المغرية و المخيفة و الثقيلة .ماذا كان يجب أن أقول ؟.
ربت على كتفي ،ثم نهض منصرفا لتفقد نبع إيجودار .لم أتحرك من مكاني لكني تتبعته بنظراتي الحائرة و أنا
أبحث بين ثنايا كالمه الفلسفي الغامض عن معان دقيقة و صريحة .فبين أحاديث التاريخ و الحاضر ،و بين أحاديث
الوطن و الموت و الحب ،رأيت خيوطا جد رفيعة تحاك بين كل تلك العناصر .الحرفي كان كمن يراها بوضوح
شديد ،تماما كما يُرى الجبل العمالق في منتصف النهار .ربما هي سنه و تجربته في الحياة ؟ .بالنسبة لي فقد كان
األمر أشبه بسديم متداخل من المشاعر المختلطة .بعضها كان جديدا .بعضها اآلخر كان مبعوثا من أعماقي من
جديد .األمر كله ارتبط برحلتي هذه إلى تيميزر بكل ما حدث فيها و ميزها .آغاكال كان المايسترو الذي قاد هذه
السيمفونية الهائلة داخل نفسي بطرقه الغامضة في رؤية الكون و تفكيك طالسمه األكثر خصوصية.
كنتُ أتأمل ميالن أشعة الشمس إلى االحمرار و هي تلتصق بتأن و صمت فوق صدر جرجرة ،كااللتصاق
الغريزي ألنفاس الناس بالحياة .شيء واحد طفى فوق كل ما كان يُعجن في صدري :ما الذي سيدفعني بعد اآلن
للهروب من حب بهجة ؟ .ما الحجة التي ال تزال واقفة أمامي و أنا جاثم فوق هذه القمة مشحون النفس بروح
جديدة تصرخ بأعلى صوتها باحثة عن كيان بهجة الناعم ؟ .و كما قلت سابقا ،تلك و بال شك كانت لحظتي التي
كنت فيها أقوم باختيار ما يتوجب علي أن أكونه و ما سأفعله .كنتُ أعترف أخيرا بأني غير قادر على نسيان تلك
الفتاة و أني حرفيا ال أزال أحبها كما أحببتها دوما .ألول مرة منذ سنوات أبتسم و أنا أحاول تذكر مالمح وجهها
الطفولي األول ،كوني كنتُ أعلم أني سأراه مجددا بعد ذلك .قطعا كنت سأراه.
حين كنا نهم بالعودة إلى القرية وسط الغابة التي زادت عتمة مع اقتراب الشمس من المغيب ،كنت أشعر بأن
خطواتي لم تكن هي نفسها التي اعتدت على رسمها على الطريق .كنتُ أشعر بكياني الذي كان ينزل عائدا من قمة
إيجودار غير ذاك الذي صعد إليها .هل كان آغاكال يعلم ؟ .أر ِّ ّجح أنه كان يعلم ما يفعل بي منذ اليوم الذي أخبرني
فيه أن مجنونا واحدا يعلم ما يفعل خير من مائة عاقل ال يعلم ما يفعل ! .أر ِّ ّجح أنه كان يستشعر أسبابي الخفية التي
جاءت بي إليه و جعلتني أقبل اتفاقه ذاك .لقد أدركَ أني كنتُ بحاجة إلى مساعدة أحدهم في تحطيم قيود كنت أسمع
صليلها الكثيف الذي كان يدفع بي إلى الجنون ،حين لم أدرك ذلك بنفسي.
انتبه الرجل إلى طيف كان يتتبعنا بين األشجار لكني لم أعلم بذلك إال حين وصولنا إلى مشارف القرية ،حين
أخبرني أن طيفا آخر من أطياف تيزڨي كان يتطفل علينا مذ نزلنا من قمة الجبل .أكمل طريقه إلى المنزل في حين
توقفت عن السير خلفه و أنا ألتفت جهة الغابة ،أحاول أن أعرف من يكون هذا الشخص ،فإذا بموسى الثرثار
يظهر من بين األشجار و هو يسير نحوي مباشرة .حين وصل ،راح يعتذر بشدة و هو يقسم أنه لم يكن يقصد
361
التطفل ،كونه كان يختلي بنفسه في الغابة من أجل أن يهدئ من آالم رأسه الفظيعة بشيء من التبغ الممضوغ ،لكنه
لمح طيفين يسيران نزوال بين األشجار فاقترب بحذر ليعرف من يكونان ،إال أن أحدهما تفطن إلى وجوده و قد
كان الحرفي بطبيعة الحال.
_ اللعنة ! ،كأن بعفاريت الغابة كانت تهمس في أذنه تخبره أني أتبعكما ! .أرجوك ماس أمين ،ال داعي
لسماع سكان القرية بأني دخلت الغابة الملعونة !.
_ ال ،ال تقلق بهذا الشأن ماس موسى .هذا أمر ال يعنيني أصال.
_ أه هذا مطمئن .لكن ما السبب الذي دفع بابن الدا إيدير إلى اصطحابك إلى الغابة ؟ ،أتعلم أن ذلك يمكن أن
يُسبب لك المشاكل مع تاجماعت ؟.
_ ماس موسى ،أال تعتقد أنه وقت آذان المغرب ؟ ،أال نذهب اآلن لنفطر ؟ .ما رأيك ؟.
_ أه طبعا ...ماس أمين ...طبعا ،رغم أني عمليا مفطر .آي يسورف ربي ( ليغرف هللا لي ).
**********
بعد تلك األمسية بيوم ،أخبرني أغاكال على مائدة اإلفطار بأني حر و أن عملي معه قد انتهى .أشعرني ذلك
باألسف كون مغامرتي الداخلية الكبيرة معه قد جاءت إلى نهايتها ،إال أني كنتُ مغتبط النفس و منشرح الصدر .كل
ما جاء على خ اطري هو أن أسرق األيام األربعة األخيرة من شهر رمضان ألمضيها رفقة أهلي في البليدة .بدت
حينها تلك الفكرة أكثر من شيء رائع .كنتُ كأنما أود مكافأة نفسي على مشوارها ذاك .أن أرميها في حوض ممتلئ
بالرضى الداخلي و الرؤى الجديدة .ممتلئ باألمل العاطفي الكامل الذي أعاد تلك اإلشراقة التي طالما افتقدتها داخل
قلبي .أجل ! ،كنتُ أتلمس روعتها الالمتناهية في كل لحظة يومض فيها قلبي باسم بهجة ،حبي الطفولي.
لم يكن سهال أن أتخلص من قُبل و عناق نانه تاملسة في الصبيحة التالية و هي ال تكف عن الدعاء لي و قد
امتألت عينيها الضاحكتين بالدموع .كانت تبتسم و تقول لي بكالم لم أفهم إال نصفه أنها ستشتاق لي و سوف
تتذكرني كلما نظرت إلى مكاني المعتاد الذي دأبتُ على الجلوس فيه كل مساء لتناول اإلفطار .كان ابنها يخبرها
محاوال إخفاء تهكمه أنها تض ِّ ّخم األمور كوني فقط عائد إلى منزلي و لستُ ذاهبا إلى الحرب ،لكنها اعترفت
ضاحكة و هي تمسح دموعها أنها عاطفية جدا في مثل هذه المواقف التي تذكرها كثيرا بكل الذين شاهدتهم
يغادرون القرية نحو الغربة مذ كانت طفلة ،إلى حين صارت أما و هي تشاهد ابنيها أعراب و مليكة يأخذان نفس
المخرج الذي كنتُ بصدد أخذه .البكاء في مثل هذه المواقف و في مثل هذه السن صار عادة سيئة يصعب عليها
التخلص منها .أما أنا فقد تأثرت أيضا ،كون عناقها حمل لي قطعا هاربة من رائحة جدتي و هو ما جعلني أتأثر
للحظات .كنتُ أود أن أعانقها أطول مدة ممكنة ،لكن كان علي الذهاب.
362
الدا إيدير كان أكثر هدوء و ثباتا كابنه تماما .كان يقف خلف زوجته يضع يديه خلف ظهره المقوس و هو
يشير إلى ابنه بإيماءات من وجهه فهمها من فوره فالتفت إلي...
_ أبي يخبرك بأن الدار دارك اآلن .يمكنك زيارتهما وقتما شئت.
_ سأفعل يا داده إيدير .أخبرهما بأني لن أنسى لطفهما و ضيافتهما و كرمهما ما حييت ! .ماذا عنك ماس
عميروش ،أترحب بي إن عدت أم أن كل شيء قد انتهى بانتهاء عقدنا غير المعلن ؟.
مازحته ضاحكا فأطلق بسمة تهكمية مصطنعة ،ثم تقدم إلي و مد يده نحوي .صافحني بحرارة .ربما كان يود
أن يجعلها مصافحة حقيقية تمسح الطريقة الشنيعة التي استقبلني بها أول مرة.
سلمت على رأسي العجوزين ،ثم انصرفت و أنا ألتفت خلفي كل بضع خطوات ،أراقبهما و هما ال يكفان عن
التلويح لي بيديهما .ودعت بقية القرويين الذين تسنى لي وجودي طيلة شهر كامل من التعرف إليهم .بعضهم كان
يحاول إقناعي بالمكوث و تمضية عيد الفطر معهم ،لكني كنتُ أتذرع برغبتي في تمضية العيد مع أمي التي اشتقت
إليها ،الحجة التي كانت تقنعهم جميعا و تجعلهم يصمتون .الفتى موسى الذي كان أول من أحسن إلي يوم مجيئي
إلى تيميزر ،رغم ثرثرته و فضوله المزعج في بعض األحيان .المؤذن مولود الذي عرفني على ضريح الولي
أوعابد .لمين رئيس األعيان الهادئ و الحكيم .تاسعديت صاحبة الوجنتين المورديتن و النظرات الفضولية
الخجولة ،مع أصدقائي الصغار في قسم صنعة الطين .و غيرهم كثيرون .تلك الوجوه التي كانت تعبر تفكيري و
أنا أمسك بمقود سيارتي في طريقي إلى البليدة .ما أروع هؤالء القبايل الذين بت أعد نفسي منهم و هم مني !.
بوجوههم القروية الباسمة .بنظراتهم الخجولة في أوقات الود و الصريحة في أوقات الجد .بحبهم الغامر
ألراضيهم ،ألشجارهم ،لعوائلهم و أبنائهم و حتى حيواناتهم .بآالف الكلمات التي تفيض بها قلوبهم و تخجل ألسنتهم
النطق بها .تلك الكلمات التي تنطق بها أعينهم في نظراتها الثابتة و الواثقة .بصمتهم المهيب الذي يتواصلون به مع
جبالهم .بأغانيهم الجماعية التي يستحضرون بها أطياف أسالفهم .بدندنتهم الفردية التي يهربون بها إلى لب
ذكرياتهم الحميمة التي ال تموت .بروحهم الجماعية الفريدة و بطريقتهم الخاصة في اإليمان و االلتزام بما يعتقدون
أنه حق .بكل هذا ،كنتُ أصدح بحبي لهم جميعا و أنا أغادر بالد القبايل الثائرة و الغامضة .أعترف أني كنت
عاطفيا جدا هذه المرة .لم أكن قط ذلك الصحفي الموضوعي الباحث عن المعلومة و السبق .لكن كنت فقط ذلك
الشاب الجزائري الذي فهم فعليا ما يجب أن يحدث و ما ال بد له أن يكون.
363
ماذا نكون بغير الكلمات و األسئلة التي تقلقنا و تدفعنا للتغيُّر الذي قد ينقذ كياننا من التحجر النهائي القاتل ؟.
لن نكون بغير تلك الكلمت و األسئلة سوى انعكاس باهت و كاذب ألشياء لم يعد لها وجود فعلي ،أو لم يعد لها نفع
حاضر في أحسن األحوال .هذا ما تعلمته من مصاحبتي آلغاكال العجيب .الرجل الذي جعلني أدرك شيئا في غاية
األهمية ،و هو أني لم أكن طيلة بحثي هذا سوى يرقة فراش بدأت مشوارها صغيرة و نحيفة ،شقت طريقها
باضطراب و جرأة وسط الشك و الخوف و مضت تبتلع ما استطاعت من غذاء ،إلى أن حان وقت تحولها إلى
خادرة .هذا ما حدث لي في مرتفعات بني يني بالضبط .كنت أتحول جذريا إلى شيء جديد تماما .شيء كان على
وشك أن يشق غشاءه الرقيق و يخرج إلى العالم الذي كان قد انعزل عنه قبل ذلك ،تحت وطأة األسباب الفطرية
التي لم يفهم مغزاها من قبل .للتغيُّر طرق فطرية و حتمية أيضا .ال شيء ثابت على حاله في هذا الكون .في كثير
من األحيان ،إن لم تغير نفسك و تماشي متطلبات المرحلة ،فمآلك الهالك ال محالة .و الحال أنه ال توجد فراشة في
العالم تستطيع الوقوف في طريق تغيرها و تحولها الكامل !.
كان لضجيج شوارع العاصمة عند منتصف النهار وقع كوقع عشرات األسواق التي كأنما أقحم ضجيجها
مجتمعا فجأة في رأسي .الكثير من الزحمة .دخان وسائل النقل .الجو الحار .أبواق السيارات و أزيز الدرجات
النارية .صراخ الناس الصيام و تذمرهم .كنتُ أعود إلى عالم المدن الكبرى الموبوء الذي غادرته قبل نحو شهر.
بدى لي مائال و متعرجا بشكل بشع .تداخل البنايات الضخمة ببضعها البعض ال يشبه ذلك التداخل الحميم و اآلمن
لبيوت تيميزر .إنه طاغ و مقتحم و غير أمين .و الشيء نفسه مع وجوه الناس و نظراتهم القلقة .يا للغرابة !.
وصلتُ إلى عمارتي بباب الواد .صعدت راكضا الدرج مخافة أن ألتقي بأحد الجيران .دخلت شقتي مسرعا.
أغلقت الباب .وقفت لوهلة في الرواق المعتم مغلقا عيني و متنفسا بعمق استجمع ما استطعت من سكون الشقة،
محاوال طرد ذلك الضجيج الهائل من رأسي .تنهدت مبتسما و أنا أفتح عيني أمسح المكان بناظري .أخيرا كنت في
منزلي بعد غياب .وضعت أغراضي على البالط .و فوق الطاولة الصغيرة بالقرب من المرآة التي رمقتُ نفسي
فيها بفضول .شعرتُ أني فقدت بعض الوزن و اكتسبت سمرة الفالحين .نزعت قبعة القش التي أحضرتها كذكرى
من أهل تيميزر و علقتها على المشجب بالقرب من الباب .لم أرد فتح مصاريع النوافذ .أخذت حماما رائعا ثم
ذهبت إلى غرفتي التي اشتقت إليها .استلقيت فوق سريري حيث أخذني النوم بسرعة خاطفة.
استفقت بعد العصر على منبه هاتفي المحمول .اتصلت بأمي التي كانت جد سعيدة بسماع صوتي و بتلقي خبر
رغبتي في تمضية عيد الفطر في البيت .كانت تضحك و تدعو لي برحلة آمنة و تحذرني من مغبة استعمال
السرعة و أن أكون حذرا من السائقين المتهورين على الطريق .غيرتُ ثيابي .خرجت .وثبتُ في السيارة و انطلقت
مباشرة آخذا مخرج العاصمة نحو الطريق السريع إلى البليدة .كان الطفل الصغير بداخلي يقفز هنا و هناك من
حولي .كان حيويا فوق اللزوم ،ثم هدأ صخبه بعض الشيء بمجرد أن تراءت لي سالسل الشريعة الجبلية.
كنتُ على يقين أني على مشارف منزلي و مدينتي الغالية ،التي تكتنز لي بين أحضانها الموريسكية شيئا
يخصني .كان الوقت قد حان فعليا آلخذه لي و بشكل نهائي.
364
-22-
َّ
هزة الحب األلفي
كم كان رائعا أن أجد نفسي أجلس في غرفة الطعام على مائدة اإلفطار ،وسط المنزل ،محاطا بكل أفراد
العائلة .أمي ،أبي ،البشير ،فؤاد و زوجته النافس التي أهدته رضيعة في غاية الجمال كانا قد أطلقا عليها اسم هبة،
و عيشة التي كانت تحضر لعرسها المرتقب أواخر شهر أوت .كانت ال تكف عن حمل المولودة الجديدة ،تحضنها،
تقبلها و ترمقها بنظرات العروس الحالمة.
أبي كان منهمكا في تأليف ديوانه الشعري الذي يرثي فيه حال ما يسميه '' الوطن العربي '' ،بينما كان البشير
يمضي األيام األخيرة من عطلته السنوية في المنزل قبل عودته إلى وحدته العسكرية في أقصى الحدود الجنوبية
الشرقية للبالد .كان متفائال بعض الشيء كونه قال بأن الجيش بصدد التجهيز لتأسيس قاعدة انتشار جوي هناك،
ستخفف الكثير من أعباء التنقل على أفراد الجيش في تلك المناطق المعزولة المالمسة لصحراء الساحل .فؤاد ،و
رغم تصريحه بأنه كان يتمنى أن يكون مولوده األول ذكرا ،إال أنه و رغم ذلك كان غارقا تماما في تلك األحاسيس
الجديدة التي كان يخبرها أول مرة مع زوجته .أحاسيس األبوة و فرحة الحصول على المولود األول في عائلته
365
الصغيرة .كان يحاول إخفاء سعادته الشديدة ،الشيء الذي لم أفهمه فعالَ .لم يخجل الرجل من إبداء سعادته بكونه
صار أبا ؟ .أمي كانت بعكس ذلك تماما .كانت في غاية الغبطة و السرور كونها صارت جدة .الشيء الذي جعلها
ال تخوض معي إطالقا في الموضوع الذي تحب دوما أن تحاصرني به .موضوع العروس المحتملة التي اختارتها
لي قبل مدة .أعترف بأن ذلك جعلني أشعر بالكثير من الراحة .بل كنتُ أتمنى أن تنسى هذا الموضوع تماما ،كوني
قد عدت إلى البليدة الوريدة و في جعبتي مشروع عاطفي آخر ،كان وقت بعثه قد حان فعال ،بعد طول مماطلة و
انتظار و هروب إلى األمام.
األيام الرمضانية األخيرة في المنزل كانت رائعة .إخوتي لم يكفوا لحظة واحدة من الضحك و السخرية من
مشيتي الجديدة .استغربتُ األمر كوني لم أالحظ أني صرت أمشي بطريقة مختلفة ؟ .لكني افترضت أنهم كانوا
على حق .شهر كامل من السير وسط األحراش و الطرق الجبلية غير المعبدة و الملتوية صعودا و نزوال ،قد يغير
شيئا ما من مشية اإلنسان .أخبروني أن وجهي صار أحمر اللون ،كوجوه الفالحين تماما ،و لم يفهم فؤاد كيف لي
أن أقرر إمضاء عطلتي في مكان جبلي معزول و قاس ليس فيه شيء سوى المعاناة و الرتابة.
أيامي الرمضانية األخيرة كانت بواعث على التأمل .شيء من الماضي و أشياء كثيرة تخص الحاضر و
المستقبل .لم أح ِّدّث أحدا عن األسباب الحقيقية لرحلتي إلى بني يني سوى صوفيا ،التي أسررت لها عن كل شيء
عبر الهاتف و أنا أسير قاطعا طول باب السبت ،وسط الحركة و الضوضاء و األضواء التي بدأت تعج بها المدينة
مباشرة بعد اإلفطار ،في ذلك الجو الليلي البليدي الرمضاني الحار و الرطب...
_ أيها اللعين ! .كان عليك إخباري بكل شيء منذ اليوم األول ،كي أساعدك في حل لغز جماعة تي تي أس
هذه .لدي بعض األصدقاء العباقرة في مجال السيبرنتيك !.
قالت بنبرة الئمة ،ألرد عليها متنهدا و أنا أحك رأسي باحثا عن أي عذر...
_ هه أه طبعا ! .ال تنسي أني كنت في عطلة سنوية و لم أكن في مهمة ! .تعلمين ؟ ،لو التزمت بمهمتي
الصحفية حرفيا لكان اكتشف أمري و أبعدني عنه ال محالة .إنه فطن و ذكي للغاية .كان علي أن أكون على سجيتي
366
التامة ،أن أكون إنسانا فقط ،و أضع شخصية الصحفي جانبا .لقد نجحت عبر ذلك في كسب اهتمامه و تقبله .إنه
فعال رجل عجيب !.
_ أنت لم تجب عن سؤالي .هل اكتشفت أمره ؟ .هل هو فعال الشخص الذي يُعتقد أنه يخطط لحراك اجتماعي
ما ؟.
_ ماذا يمكن القول يا صوفي ؟ .كان يمكنه أن يكون ذاك الشخص لو أراد فعال أن يكون ذاك الشخص !.
_ أقصد أنه فعال شخص شديد الذكاء ،واسع المدارك .عميق النظر .إنه فنان و فيلسوف .رجل مميز حقا .إنه
من صنف األشخاص الذين يمكنهم فعال خلق قضية أو تيار أو حراك يقلبون به األوضاع في المجتمع أو البلد.
لكني و طيلة م كوثي معه لم أصل إلى أي دليل مادي قاطع يثبت صلته مع هذا '' التيار السري '' الذي يتهامسون
حوله .ال شيء سوى السجائر و الجرائد و الكتب و األواني الفخارية و الكثير من الذكريات الحزينة التي تحاصر
عالمه الصغير .الرجل مقطوع تماما عن العالم .ال هاتف محمول .ال انترنت ،بل إنه معزول حتى في مجتمعه
القروي !.
_ أمين ،تعلم أن هذا سيغضب سي رزاق كثيرا ! .أراهن على أنه ينتظر بفارغ الصبر أن تدخل عليه بعد
العيد ،لتخبره أنه في حوزتك وثائق و مواد تثبت أن الربيع الجزائري فعال موجود و هو على وشك االنطالق ،و
أن حرفيك الغامض هذا هو رأس الحراك...
_ مـ ..ماذا ؟ ! .ال يهم ؟ ! .مينو ،هل حقا أنت على ما يرام ؟.
_ هممم ،بعد لحظة تفكير ،أعتقد أن ذلك ممكن .فتمضية شهر كامل في الريف القبايلي ،بعيدا عن تلوث
العاصمة و العاصميين ،و بعيدا عن جحيم سي رزاق ،أعتقد أن ذلك قد ساعدك فعال على تجديد أنفاسك و تصفية
أفكارك .بصحتك .! Amigo
367
لم تقل شيئا .بقيت صامتة عبر السماعة و كأنها مندهشة قبل أن تنطق في تسرع....
بقيت صامتا و أنا أنظر إلى تلك األضواء الليلية التي كانت تتقاطع مع بصري ،ثم تنهدت و أنا أجيبها بصوت
هادئ تماما...
_ في الحقيقة ،لقد عملت بالنصيحة التي أسدي ِّتها لي ذاك اليوم في المشفى .لقد غيرت من زاوية نظري
لألمور .منذ ذلك اليوم بدأ كل شيء يتغيّر من حولي .إلى أن جاءت رحلتي هذه إلى تيزي وزو التي جعلتني أفهم
مشكلة هذا البلد بشكل أفضل .هذا البلد ال رائع الذي لم نتصالح معه بعد ،كوننا لم نجد بعد طرقنا الخاصة في
التصالح مع أنفسنا .عالقتي بنفسي و عالقتي بهذا البلد كشخص .صوفي ،سبقي النهائي ...لم يكن سوى '' أنا ''،
طيلة كل هذه المدة .و صدقيني ،بقدر ما قد يبدو هذا األمر بسيطا لوهلة ،إال أنه عميق جدا بالنسبة لي.
_ أوكي .إن كنت تعتقد ذلك فعال ! .ربما ستشرح لي التفاصيل الحقا ها ؟.
_ لقد أعلنوا على التلفاز أن عيد الفطر سيكون غدا .سأنهض اآلن لمساعدة البنات على طهو ما بقي من
حلويات .صح عيدك يا صاح .نلتقي قريبا.
_ صح عيدك .amiga
رفعتُ رأسي متنفسا بعمق متمتما و ناظرا إلى تلك اللمعات الضوئية البرتقالية البعيدة المتفرقة فوق جبال
الشريعة...
_ أهال سي أمين .كيف حالك حنوني ؟ .أعتقد أنك خارج المنزل ؟.
_ ال يا صاح ،آسف .الزبونة التي أخبرتك عنها قالت أن ابنتها درست فعال عند بهجة ،لكنها مذ غيرت
مؤسستها التعليمية فقدت االتصال بها .كما أنها أخبرتني أن الفتاة ال تربط عالقات مع غالبية طالبها عبر
تدرس االنجليزية في ثانوية ماحي.
الفيسبوك .الشيء المؤكد هو أنها ال تزال ِّ ّ
368
_ المشكلة هي أن الجميع في عز العطلة الصيفية .و أنا فعال ال أريد االنتظار حتى شهر سبتمبر .تعلم ،كان
عليك الحصول على رقم هاتفها يوم جاءتك لتصليحه.
_ حدث هذا قبل أشهر طويلة ،أال تزال تصر على لومي حتى اآلن ؟ ! .لكن هل لي أن أفهم لم كل هذا
اإلصرار ؟ .ما الذي حدث حتى تهتاج عليها هكذا ؟ .رأيتها مؤخرا ،أم حلمت بها ،أم ماذا ؟ !.
_ أريد فقط أن أفهم .لم أر حالة كهذه في حياتي الواقعية ! .شخص يعود للبحث عن امرأة بعد ثماني سنوات
من آخر اتصال فعلي بينهما ؟ ! .ما هذا بحقك ؟ ،فيلم هندي ؟ ! .ما خطبك يا رجل ؟ !.
_ أجل .في أي وقت تريد حنوني .أقفل المحل على الثانية صباحا.
أقفلت الهاتف .وقفت متأمال للحظات .وضعت يدي في جيبي و أكملت السير ببطء و تأن محاوال تفادي
األرصفة الكثيرة التي كانت تحت الصيانة .الحقيقة أن طرق المدينة كلها تقريبا كانت قد تحولت إلى ورشة عمل و
صيانة كبيرة .طرق البليدة أعرفها و تعرف قدمي جيدا .أعرف هواءها الصيفي المثخن بالرطوبة ،و تستطيع هي
سماع أنفاسي حين أقطع أزقتها القديمة .إنها تعلم مرادي الخفي حين أتجول عبر شوارعها الرئيسية ليال .تنصت
لهمساتي السرية بهدوء .كل خطوة أخطوها عبر طرقها ،تحت أشجارها الحمضية ،كل وقفة آخذها عند زاوية أو
منعطف ،أو تحت صور منزل تفوح منه عطور الياسمين أو مسك الليل ،تعلم البليدة أني أفكر في ذلك الكنز
الصغير الذي تخبئه بعناية و مكر بعيدا عني .بهجة .كانت تمأل أنفاسي طيلة تلك األمسيات الرمضانية األخيرة ،في
كل ساعات بحثي عنها عبر مواقع التواصل االجتماعي .حتى حين كنتُ أخرج للتجوال و قتل ما بقي من وقت
الصيام ،أو بعد اإلفطار للتأمل أو مالقاة بعض األصدقاء ،كانت ال تبرح بالي .كان لحضورها طعم افتقدته كثيرا،
منذ تلك السنوات التي كنتُ أعيش فيها شيئا من ألم االفتقاد و حالوة األمل ورجائه تجاه ما يخ ِّّبئه المستقبل ،كلما
جاءت على خاطري .ذاك اإلحساس كان قد عاد و قد نُ ِّقّح بجرعة أخرى من القوة و الثقة .كنتُ واثقا من كوني
فعال أود العثور عليها و آخذ منها ما كان دوما لي .قلبها ،جسدها ،روحها ،كيانها .......وجودها !.
حاولتُ العثور على حسابات فيسبوك خاصة ببعض زمالء الدراسة السابقين علي أجدهم على عالقة بها .ال
فائدة .معظم الذين درسنا معهم و كأنهم قد اختفوا تماما من على سطح هذا الكوكب .ال أسماء حقيقية .ال بيانات
شخصية .ال مجموعات زمالة أو صداقة محددة بفترة دراسية أو زمنية معينة كما هو الحال مع مراهقي هذه األيام.
ال شيء !.
ربما يكون هذا أحد التشوهات المزمنة فيما يخص العالقات اإلنسانية داخل مجتمعنا هذا .نحن ننسى بعضنا
البعض سريعا ،بل و أكثر من ذلك فنحن نسرع إلى التخلص من كل الذكريات الطفولية و الدراسية المنقحة بألوان
مشاعر الماضي المختلفة ،بمجرد أن تمر آخر مرة نتعامل فيها مع بعضنا البعض بشكل مباشر .نكون أصدقاء في
369
االبتدائية ،ثم نصير رفاقا في اإلكمالية ،ثم نتحول إلى زمالء سابقين في الثانوية ،ثم إلى مجرد معارف قديمة في
الجامعة ،لننتهي إلى غرباء مع بداية حياتنا المهنية .سأقول أن النسيان هو السبب األول لعقم القلوب !.
لم أرد أن أفترض أن بهجة قد أصيبت بعدوى هذه اللوثة ،هذا الداء الغريب الذي يشكو منه جيل الحرب
األهلية .كل ما كنت أتمناه و آمله هو أن أعثر عليها و هي مازالت تلك الطفلة الصغيرة الشغوفة بمصادقة
اآلخرين ،ممازحتهم و إمضاء أوقات ممتعة معهم .لكن كان علي أوال أن أجد حسابها على الفيسبوك ،إن كان لها
حساب أصال ،مادام الحصول على رقم هاتفها قد بدى دربا من المستحيل.
كنتُ أشعر أنها في مكان ما .مكان قريب .كانت تتنفس و تتحرك تحت سقف ما من كل تلك األسقف البليدية
التي تحيط بي .ربما كنتُ قد مررتُ لتوي من أمام باب منزلها الذي لم أعرفه يوما ؟ .ربما كانت قد مرت علي
لتوها و هي تركب السيارة مع أهلها الذين لم أتعرف عليهم أبدا ؟ .كنتُ أعلم أنها قريبة و أنا أقف في قلب المدينة
التي جمعتنا ذات مرة وجها لوجه ،و كادت تجمع مصائرنا في جرة واحدة لوال تسارع أحداث الحياة .كانت قريبة،
لكني كنتُ عاجزا عن رؤية تفاصيل وجهها الطفولي مرة أخرى .كنتُ متلهفا لذلك بحق .لكني كنتُ عاجزا عن
جعله حقيقيا ،بل و أكثر من ذلك كنت متلهفا إلى حد األلم لتعلم أني قد عدتُ للبحث عنها.
**********
جاء عيد الفطر إذن ،و أفاقت البليدة مبتهجة ،كطفلة صغيرة تبحث عن مالبس العيد ،على أنغام أغنية من
زينو نهار اليوم األندلوسية للفنان عبد الكريم دالي .األغنية التي تحولت إلى تراث عاطفي جماعي للمجتمع
الجزائري .منذ عشريات كاملة ،ال يمكن لصبيحة عيد الفطر في دزاير أن تمر من دون ألحانها.
نظرتُ إلى جدران المنزل .إلى أشجار البستان .استمعت إلى أصوات األطفال الضاحكين الراكضين على
الرصيف .تفرست وجه أمي الباسم و هي تقبلني و تتمنى لي عيدا سعيدا .وجوه كل أفراد العائلة ،بما فيهم وجه
أبي ،الحاج الذي لم يبتسم كثيرا .كان يقول بأن العيد ليس عيدا و سوريا العروبة تغرق في حمام من الدم ،لترد
عليه أمي بأنها األيام التي تتداول على الدول .ففي سنوات التسعينات لم تكن أعيادنا أعيادا حين كانت أعيادا سعيدة
عند أمم أخرى ! .قالت بأن هذا سيجعلنا ندرك نعمة األمن التي نعيشها اليوم بفضل جهود و أتعاب من هم في
الجبال و على الحدود .قالت ذلك و هي تمسح بيدها على خد البشير .و على كل ،مر العيد جميال جدا ،و سرعان ما
وجدتني أعود إلى العاصمة مباشرة بعد انقضائه.
وددتُ لو يرى العام وجه سي رزاق حين علم أن الشهر الذي أمضيته في مرتفعات بني يني لم يأت بشيء.
كان ينظر إلي طيلة شرحي لكل ما حدث و هو يفتح فمه جزئيا و يداعب دقنه بأنامله ،يحاول رصد الشاردة و
الواردة من كالمي .كنتُ مرتاحا جدا في جلستي على األريكة الجلدية في مكتبه ،و كنتُ مرتاحا في كالمي و
نظراتي أيضا .و الحقيقة هي أني لم أكن مبال بأي رد فعل غير متوقع منه .كنتُ فقط أعرض عليه الحقيقة كما
لمستها حتى و إن كانت غير تلك التي كان يتمناها .و الحقيقة كانت تقول بأن الحرفي القبايلي ال يحمل في طياته
أي دليل مادي دامغ يربطه بمجموعة تي تي اس و ال بهذا الربيع البربري المفترض الذي يتحدثون عنه.
370
كان وجه سي رزاق ماض في االحمرار و االنتفاخ أكثر فأكثر .أسند ردفيه إلى مكتبه و أخرج سيجارة من
علبة المارلوبور التي كانت موضوعة على حافة المكتب وهو يتنهد .وضعها بين السبابة و الوسطى ليمناه ،ثم
استمر في االستماع لقصتي '' الفارغة '' .أوه ،كنتُ متيقنا تماما من أنه كان يراها كذلك .و ما حدث بعدها جعلني
أتأكد قطعا من أنه في قمة االمتعاض و الخيبة .فقد أنهيت كالمي و نظرتُ مباشرة في وجهه المحمر و المتحجر.
كان يحاول أال يبدي ذلك الغضب ،ففي النهاية بدى له أمر قروي قبايلي متوحد عاش مأساة عائلية خالل الربيع
البربري األسود ،رجال يحاول قدر المستطاع أن يكون و حيدا مع ذكرياته ،على أن يلعب دور البطل المخلص كما
هي حال الكثير من المدعين السياسيين في هذا البلد .و ما زاد في اقتناعه الصامت ذاك هو أن الرجل ليس لديه
إمكانية ربط اتصاالت بأي كان و هو يعيش في ربوته الجبلية التي يصلها اإلرسال التلفزيوني األرضي مشوشا.
كان يود أن يقول شيئا ،لكن إحدى الزميالت كسرت صمت المكتب تلك اللحظة حين فتحت الباب الذي تسرب
منه ضجيج قاعة التحرير...
هزت صرخة سي رزاق المكتب و قذفت بالصحفية المسكينة خارجا .لقد أدركت أنها دخلت دون استئذان
لفظي و أن طرق الباب ال يكون عادة كافيا للدخول على سي رزاق حين يكون في ثورة غضب .تنهد .حاول
السيطرة على نفسه .أشعل سيجارته بانفعال واضح ،ثم نظر إلي بعد أول نفخة دخان أطلقها على شكل زفرة
غاضبة رافعا يديه كمن يبحث عن حل...
_ ال أريد أن أقول هذا ،سي رزاق .على األقل فإن مكوثي في بني يني قد جعلني أكتشف الكثير من األشياء و
أستلهم الكثير من األ فكار الجديدة التي سأطعم بها عموي و مقاالتي و مواضيعي .هذا سيضيف شيئا جديدا
للجريدة .صدقني.
_ ال ..ال...ال .دعنا من هذا الهراء اآلن .أريد أن أفهم أوال .ال شيء في حوزة الرجل ؟ .ال رسائل .ال
مطبوعات تحريضية .ال مذكرات تنظر ألفكار ما .ال تجمعات أو تجمهرات سرية أو علنية .....ال شيء ؟.
ُّ
صمت قليال و أنا أنظر بهدوء و برودة إلى وجهه الذي كان يشبه حبة طماطم كبيرة ،ثم رفعتُ حاجبي قليال..
تحرك ملتفا حول مكبته و رمى بجثته الضخمة على أريكته مستمرا في التفكير .سوى أنه لم يستطع تصفية
أفكاره و تمحيصها بسبب حالة الغضب التي كان عليها...
_ طيب ..ماذا عن هؤالء الهاكرز األوغاد الذين يترجمون األغاني إلى لغات أخرى ؟ .اللعنة ! ال أعلم حتى
سبب تسميتهم هاكرز .هم ال يقرصنون شيئا على اإلطالق ! .هل من تفسير لوضعهم و نشاطهم ؟.
371
_ التفسير الوحيد الذي وصلتُ إليه يا سي رزاق هو أنهم مجرد مراهقين يهتمون بالتبادل الموسيقي المترجم
مع مراهقين من جنسيات أخرى ،و على رأسهم اليابانيين .ال ريب ،فالجيل الصاعد مأخوذ بصرعة فنون المانڨا و
سحر اليابان أكثر من جيلنا ! .لم أعد أرى أي دافع قوي يجعلني أشك في أمرمهم .المصدر الذي جاءني بتلك
المعلومة و الفرضية التي تقف خلفها ،من كونهم هم الذين يجهزون للحراك ،قد يكون هو نفسه راح ضحية استنتاج
خاطئ أو مغالطة ما ؟ .البارانويا قد تفعل فعلتها في هكذا ظروف سياسية و اجتماعية .إنه الخوف مما يمسى
ثورات الربيع العربي ،ليس اال !.
_ على األقل ،هل فكرت في تسمية تي تي أس هذه ؟ .كان يمكنهم أن يسمو مجموعتهم بأي اسم جذاب بما
أنهم مراهقين يبحثون عن البروز و التميز !.
_ بال .لقد فكرت طويال في تسمية تي تي أس و وصلت إلى شيء قد يجعلك تهدأ ،سي رزاق...
_ أنرني !!.
_ األمر بسيط TTS .قد ال تكون سوى اختصار للجملة االنجليزية .Teens Translating Songs
مراهقون يترجمون األغاني ! .هذا كل ما في األمر .ثم إنه و إلى حد الساعة ،فأغانيهم المترجمة إلى لغات العالم
األخرى أو تلك التي يترجمونها إلى الدزيرية و العربية الكالسيكية ،ال تحمل في طياتها أي رسائل سياسية مهما
كانت .مجرد أغان أمازيغية تحكي عن الحب و الجمال و الطبيعة و ما شابه ؟ .أين هو الحراك من كل هذا ؟.
صمت لوهلة و هو يحك قفاه محاوال لملمة غضبه الذي مأله حتى الحنجرة...
_ اللعنة يا وشاكي ...اللعنة ! .ال أريد أن أصدق بأن كل هذه القصة لم تكن سوى فراغ ! .يجب أن تفعل شيئا
ما .عليك بأن تصل إلى مدبري هذا الحراك .اتصل بهؤالء المراهقين ،أخبرهم أنك تود القيام بروبورتاج عن
صفحتهم ! .افعل شيئا ما يا رجل !.
_ أي حرااااك يا سي رزاق ؟ .ال وجود ألي حراك .ها قد مضى أكثر من شهرين مذ حصلتُ على تلك
المعلومة الحصرية .مرت ذكرى الربيع البربري و الربيع البربري األسود و ذكرى مسيرة العروش المليونية و
مونديال البرازيل و ذكرى اغتيال معطوب و عيد االستقالل و شهر رمضان ،و ها نحن في آخر يوم من شهر
جويلية ...و ال شيء حدث !.
_ من قال لك أنهم سيتحركون في الصيف ؟ .ربما سيكون ذلك شهر أكتوبر القادم اقتداء بحراك 77؟ .عليك
أن تجد هؤالء الفتية يا وشاكي .جدهم و اكتشف ما يدبرونه بأي ثمن.
_ يا سي رزاق ،أنت قلتها .مجرد فتية يلهون عبر االنترنت ،ما الذي يمكن أن يفعلوه ؟ .بربك.
372
_ اه سي رزاق ،أنت تدفع بي ألفعل ما فعله Brian Bethelحين كتب قصته عن األطفال ذوي العيون
المسودَّة .قصة مرعبة تشعرك برغبة جامحة في تصديقها ،لكنها تبقى رغم ذلك دون سند واقعي أو دالئل مادية
يكونون منظمة مغلقة على أسلوب
تثبت صحتها ! .أتودني أن أختلق لك قصة عن شباب تي تي أس الذين ّ
الجمجمة و العظام ،تهدف إلى اإلطاحة أو االستحواذ على نظام الحكم الدزيري األحرش ،النظام الموسطاشي
الذي لم يفلح أكثر من 41ألف ملتح مسلح في اإلطاحة به طيلة التسعينات ؟ !! ...يا سي رزاق ...مجرد مراهقين
يترجمون األغاني.! ....
تمتم سي رزاق و هو يصفع جبينه بيده .كان فعال عاجزا عن التسليم بحقيقة أن السبق الضخم الذي كان يسعى
خلفه باسم الجريدة ،لم يعد ممكنا لعدم توفر أي دالئل قطعية عنه .كان يعلم أنه قد وصل إلى الحد الذي عليه أن
عرض المؤسسة إلى بدايات مرض
يسلم فيه بأن ضوابط المهنة تحتم عليه فعال أن يتوقف عند هذا الحد ،و إال َّ
الصحف الصفراء المعدي .المسكين كان يتألم كونه رغب بشدة في هذه القصة ،لكن مهنة الصحافة تشبه الحياة في
تلوح به إليك من بعيد ،ثم ترميه في رمشة عين إلى ما وراء
هذا الجانب .إنها ال تمنحك دوما كل ما تشتهيه .بل ّ ِّ
األفق ،ناظرة إلى خيبتك بكل سادية و مكر.
أنا أيضا كنتُ في السابق أغضب كثيرا ،مثل حارس البوابة تماما ،حين أصل إلى طريق مسدود .لكني هذه
المرة كنتُ راض تماما عن الوضع .ربما كوني كنتُ أعيش نشوة ما قدّرت أنه كان أهم بكثير من مجرد سبق
صحفي لحدث قد يفشل في التجسد في النهاية .كنتُ أعيش نشوة صامتة قوامها هدوء و ثقة و سكينة نفس أمام ما
اكتشفته في تيميزر ،بيني و بين نفسي.
حين كنت أهم بالخروج من مكتبه ،راح سي رزاق يستعيد شيئا من هدوئه بعدما أخذ غضبه يخمد ببطء،
ففاجأني بسؤال و أنا أفتح الباب...
_ وشاكي ...قلتَ أنك اكتشفت الكثير من األمور خالل تواجدك ببالد القبايل .ما كان أهمها ؟.
نظرتُ إليه و أنا أفكر في ذلك الوجه الهزيل الغامض الذي يشبه شاطئا نائيا تعبره موجات من التأمل
الممزوج باأللم ،خاصة حين ينظر بتلك العينين الغائرتين خلف زجاج نظارته الغليظة إلى قوالب الطين التي
يشكلها في صمت مهيب و هو يستمع إلى أغاني الشيخ الحسناوي ،وسط هدوء ما بعد الظهيرة ،حين تسحب
القيلولة قريته إلى السكون التام ،حين تتنازع ظاللها مع أصوار منازلها الحجرية حول حراصة أسرار ناسها
النيام ،حين يصير هو وحيدا في كونه الخاص ،و تحظره أفكاره الهادئة ،التي تتنازع المكان هي األخرى مع
ذكرياته المعسولة و المرة ،و يغرق في التفكير في شيء فريد من نوعه في الكون اسمه دزاير.
373
كان ذاك جوابي .ال شيء لمحته بعد تلك اللحظة الخاطفة و أنا أدفع الباب خلفي ،سوى عالمة استفهام كبرى
طبعت مالمح رئيس تحريري الذي التزم الصمت محاوال أن يقرأ ما بين السطور ،و طبعا عجز عن فهم فحوى
كالمي .كنت متأكدا من ذلك.
بصراحة ،فما بقي من ذاك اليوم العاصمي العادي ،ال أعلم كيف مر .كنتُ ال أزال أرى حركة األفكار و
األشخاص و األشياء من حولي محافظة على ريتم هادئ و مسالم غير اعتيادي ،لكن الوقت كان يمر بخفة و لطف.
عكس ما كان في السابق ،حين كانت أيامي تجري بسرعة جنونية و هي تفيض بنوع من العدوان الذي كان الزمن
يمارسه علي .كانت تبدو عالقة في بوتقة ذروة محدَّدة مليئة بالقلق و التوتر غير المنقطع ،تاركة ذهني حائرا و
خائرا حد الرغبة في االنطفاء النهائي ،أو االنفالت إلى قلب ثالجة .لكن ذاك اليوم مر بسرعة و انتهى إلى أمسية
صيفية جميلة جدا على شاطئ السابليت .حين سرت على طول الواجهة البحرية لباب الوادي قبل مغيب الشمس
بلحظات ،متأمال تلك األطياف المسائية التي كانت تتعانق في السماء بلطف ،دون حتى أن تلحظ غالبية الناس
وجودها.
كان لمرور األمواج الصغيرة اللطيفة حول قدمي الحافيتين ملمس مداعب و صوت مسكن للروح .ال شيء
كان يشغل تفكيري تلك اللحظة غير بهجة .عجبا ...عجبا ،! ...ما عدتُ أفر من اسمها إلى مهنتي و هواجسي
الفكرية ،بل صار العكس هو الصحيح .كان كامل كياني يغرق فجأة في لحظات وله شهية و حماس فائض و منه
ينتهي إلى شاطئ من السعادة و الطمأنينة ،كلما مر اسمها ببالي .كانت كغيمة وردية تتزحلق فوق ريح صيفي
لطيف ،وحيدة في كبد سماء صاف ،تحمل سرها الصغير معها إلى أفق منظور ،كنتُ أحاول إدراكه قبلها ،كي
تجدني هناك ،أقف فوق إحدى القمم التي تشبه قمم القبايل الخالدة ،أحدق إليها ،مبتسما ،آمال ،مشبعا بالشغف و
الشوق ،علي أسحب منها نظرة غبطة ،أو أتقاسم معها لحظة سكوت تختصر آالف الكلمات ،يُمهد لكل ما سوف
يلي.
نظرتُ إلى تلك األشعة المسائية األخيرة التي طالما ذكرتني بلون شعرها الدافئ .ذكرت ُها في نفسي كما لم
أذكرها منذ سنوات ،حتى حين كنتُ في البليدة قبل أيام .لم أفهم كيف و ما السبب في تلك الومضة الهائلة التي
اجتاحت كياني فجأة كشروق شموس من جهات أربع أنارت كامل روحي .أحسستُ أنها قريبة جدا .امتألت بها
نفسي و أنفاسي إلى حد الحرقة و االختناق الغرامي الشهي .تنهدت بعمق و أنا أقول في نفسي '' :كيف ؟ .كيف
تكون هنا و هي في مكان ما في البليدة ؟ ...إال أن تكون قد جثمت نهائيا في مكانها القديم هنا ...في أعماق كبدي،
بعد سنوات من القفز السريع و المضطرب بين صدري و رأسي .كبدي كان المكان الذي تنتمي إليه بهجة في
النهاية ! .إن كان هو ذا ،فأهال بها في عرشها هذا ''.
اشتريت أكال خفيفا للعشاء .ساندويتش شاورمة صغير و علبة عصير فواكه .ثم دخلت شقتي الصغيرة .كانت
ستائر غرفة المعيشة تتراقص على نسمة المساء البحرية حين أشعلت أضواء اإلنارة العمومية عبر شوارع الحي
المزدحم ،مما جعل ضجيج األطفال يتمدد مرة أخرى و تتمدد معه مباريات كرة القدم المقامة على قارعة الطرق و
األرصفة ألشواط إضافية.
374
تناولت عشائي الجاهز على نشرات أخبار الفضائيات المتفرقة التي كنتُ أقفز عليها كقرد ماڨو قبايلي قافز
بين الصخور الحادة ،و بين العشاء و األخبار على التلفاز ،شيء من العصير البارد و بعض المكالمات الهاتفية مع
بعض الزمالء ،لينتهي بي األمر أضع حاسوبي المحمول فوق حجري و علبة سجائري مع سيالة سوداء و دفتر
مالحظات جديد على الطاولة الزجاجية الصغيرة قبالتي .طفقتُ أح ّمل كل تلك الملفات و التسجيالت التي كانت
تزخر بها بطاقة السيكيور ديجيتال سعة 01جيغا بايتس ،التي رافقتني طيلة مكوثي في تيميزر .صور و فيديوهات
للقرية و المناطق الطبيعية المتاخمة لها .صور و فيديوهات للوزيعة .لضريح الولي أوعابد .و سجالت تاجماعت
التي تحوي قوانين مجتمعها القروي .صور لورشة آغاكال و منزل الدا إيدير .صورة تذكارية مع أصدقائي
الصغار في ورشة تعليم صناعة الطين .صور سيلفي مع بعض سكان القرية من فالحين و تجار و شباب ربطت
معهم صالت مودة أيام كنتُ ابذل جهدي لتعلم القبايلية .صور جميلة للدا إيدير و هو يهم بتحميل قطع الغضار في
السالل المعلقة ببغلته الوفية تامكديت .صورة نانه تاملسة و هي تزين تحف ابنها الفخارية وسط دجاجاتها .و طبعا
كان علي أن آخذ صورة تذكارية لي مع الكهلين الرائعين ! .صورة جعلتني ابتسم للحظة تلقائيا حين تفحصتها.
بدت أجمل و هي تبدو أكبر حجما على شاشة الحاسوب العريضة.
صور أخرى لغابة األحاديث .صور و تسجيالت ألطالل إيجودار و نبعها المائي ،و طبعا مقطع فيديو خالب
لما رأيته من فوق تلك القمة .الفيديو كان رائعا ،لكن الصوت فيه كان مشوشا بعض الشيء بسبب هبوب الرياح
على القمة تلك األمسية.
عدتُ مرة أخرى إلى الصورة التي جمعتني بالدا إيدير و نانه تامسلة من أمام أحجار صور منزلهما
المتواضع .حدّقتُ فيها للحظات ،ثم رفعتُ رأسي إلى الثرية التي كانت تضيئ غرفة المعيشة .كل تلك المناظر .كل
تلك الوجوه .كل تلك المواقف و كل ما تمخض عنها كان...
تمتمتُ مع نفسي ،قبل أن أعود و أبدأ في تحميل و أرشفة كل التسجيالت الصوتية الخاصة بكل األحاديث و
الجداالت التي جمعتني بالحرفي صانع الطين الذي كان الوحيد الذي رفض أن تلتقط له أي صورة .ركضتُ نحو
غرفتي و عدتُ بنفس الخطوات السريعة حامال سماعة األذن التي أوصلتها بالالبتوب و وضعتها في أذني .انتابني
لوهلة إحساس خاطف بأن الرجل يجلس على جانبي و يحدثني ،خاصة و أن صوت دوران دوالبه كان حاضرا في
أغلب التسجيالت ،حتى أني كذتُ أغمض عيني محاوال استحضار رائحة الصلصال العطرة ،و ملمسها المعجز
على أناملي.
هكذا أمضيت تلك الليلة أع يد مراجعة كل ما استطعت تسجيله مع أغاكال ،مع تسجيل كل األفكار و
المالحظات و الخواطر التي صالت و جالت في رأسي ،كقطيع هائل من الخيول البرية الراكضة بحرية و سعادة
في مرج مزهر ال حدود له .بدأت اقتنص ما استطعت فوق صفحات الدفتر الصغير ،مع كل حديث جمعني
بالحرفي ،منذ اليوم الذي حدثني فيه عن رؤية المصريين القدامى لحرفة صناعة الطين و ما قدمته للحضارات
375
اإلنسانية األولى ،وصوال إلى الحديث الذي جمعني به على قمة إيجودار .....عن الحب ،مرورا بقصصه عن
طفولته القاسية و ما عاشه رفقة سكان قريته مع جيش االحتالل و جيش االستقالل .قصصه الحزينة عن انهيار
عائلته الصغيرة و فقدان ابنه الوحيد.
تسجيل يلي تسجيل .سيجارة تحرق سيجارة .صفحة تقلب صفحة .أمست علبة السجائر فارغة و أصبح دفتر
المالحظات ممتلئا عن آخره .تمددتُ على األريكة ،مستحضرا بعض المقوالت '' اآلغاكالية '' التي علقت في ذهني
و لم أدرك كامل مغازيها .افترضت أنها عبارات مفتوحة على جدار الزمن ،ال يمكن إدراك كل أسرارها إال مع
مرور الوقت و تتالي التجارب الملموسة ،تماما كما حدث في حياة الحرفي .كتلك الجملة االستنتاجية التي انتهى
إليها الرجل يوم قص علي النهاية المأساوية البنه العربي و نهاية عالقته بزوجته فاظمة و قيام تلك الجدران العالية
التي فصلته عن قومه...
_ '' ......أحبَّ هذا الوطن على طبيعتك الحقة ،على طبيعته األلفية ،و لسوف يعطيك ما يريده قلبك !.''....
أعتقد أنه لو عاش هذا الرجل في زمن مضى .في زمن أسالفنا النوميديين مثال ،فمن يعلم ؟ ،لكان قد تحول
إلى إله في الميثولوجيا األمازيغية مع مرور القرون '' ....آغاكال ،اله الطين ! ''.بالنسبة إليه كل شيء ينطلق من
التراب ،حتى الحب !.
تناولت دفتر المالحظات .قلبت صفحاته مسرعا باحثا علي أجد مكانا فارغا ألضع تلك الخاطرة الخاطفة،
القريبة إلى الشعر ،التي علقت لتوها في شباكي .كانت كل الصفحات ممتلئة عن آخرها بالخربشات و الهلوسة
الفكرية ،فلم أجد سوى الغالف الداخلي للدفتر ألدون عليه ما كان يهز نفسي تلك اللحظة راغبا في االنطالق
منها...
ماذا يعني أن تحب هذا الوطن حتى تكون على قيد الحياة فيه ؟ .ربما يعني ذلك أن
يتعرق كفك حين تمسك بحفنة من ترابه الجاف في يدك .أن تمأل رئتيك بأقدس
الهمسات السرية السابحة في هوائه .أن يزهو قلبك بأغاني صباحات أيامه السرمدية.
أن تتشبع جميع خاليا بدنك بأشعة شمسه الذهبية .أن تلمح بوضوح بسمات سحاب
المساء في آفاقه المتوهجة .أن تسع عينيك كل نجومه حين تنظر إلى سمائه ليال .أن
ترى كل صخر أو جبل منه روحا حية .أن يسع صدرك قصص كل أمواج شواطئه
المترامية .أن تسقي دمعة واحدة من عينك كل كثبانه المتماهية .أن تكون قادرا على
اإلنصات بتمعن و خشوع إلى صلوات الفجر الجماعية ألشجاره .أن تتعرى أمام
أنظاره ،بدون تردد أو وجل ،بل برغبة و شهية .أو أن تكون فقط فراشة مكاو عادية،
تجوب أجواءه هناك ،في زاوية أو مكان ما ،قد ال يعيره أحد أي انتباه ،أو ال يعبُره
ضمير كائن.
376
وضعت السيالة على الطاولة ناظرا إلى الساعة الجدارية القديمة التي احتضنها جدار بيت جدي القديم في
تابالط ذات مرة .كانت عقاربها متوقفة منذ سنوات عند الثالثة و ست دقائق .نظرت إلى ساعة يدي فكانت تشير
إلى الثالثة و ست دقائق دقائق أيضا .اقترب الفجر و وجدتُ نفسي خائر القوى .لم أرد أن أتحرك من مكاني.
رميت بنظارتي فوق الطاولة .تمددتُ على األريكة و غصت بسرعة خاطفة في نوم عميق.
**********
كان ذاك الصوت أقرب إلى جرس االستراحة .كان ممتزجا مع أصوات الكثير من التالميذ من حولي .كنتُ
أقف وسطهم متأمال نوافذ أقسام الدراسة الواقعة في الطابق الثاني أين كانت بعض الفتيات يقفن على حواف الرواق
العلوي يسترقن النظر إلى بعض الفتية في األسفل و يتهامسن ضاحكات.
فجأة اتسعت عيناي و فتحت فمي من الدهشة و اإلثارة حين فكرت '' ....أنا في الثانوية ....ال بد من أنها هنا
في مكان ما وسط هذه الجموع .'' ! ...تحركتُ فورا راكضا باتجاه الدرج المؤدي إلى الصاالت العلوية .كنت
أعتذر من الطالب الذين كنتُ أحتك بأطرافهم و أنا أقفز صاعدا الدرج....
_ '' المعذرة حنوني ...آسف يا صاح أنا في عجلة من أمري ...افسح الطريق لو سمحت ....آسف..'' ....
وصلت إلى الرواق بسرعة .وقفت أمعن النظر في مجموعات من الفتيات كن يقفن على طوله .البعض
يتجاذبن أطراف الحديث مع بعضهن .البعض كن يتحادثن مع الفتيان .البعض كن يسرن على طول الرواق ذهابا
أو إيابا .حاولت التعرف على بعض الوجوه لكن لم أفلح في ذلك .تقدمت سيرا و أنا أسأل بعضهم و بعضهن إن
كانوا يعرفون طالبة تدعى بهجة ماحي .كانوا يومئون بأن ال ،أو يهزون أكتافهم و عبارات وجوههم تخبرني بأنه
ليس لديهم أي فكرة عن الشخص الذي أبحث عنه.
رحتُ أدخل إلى األ قسام الواحد تلو اآلخر ،آمال في العثور عليها أو العثور على إحدى صديقاتها القديمات
على األقل .كأنما كنتُ أقول في نفس ي أنه إن كان حظي في العثور عليها عاثرا كالعادة ،فعلى األقل سوف تعلم من
إحد معارفها أن وشاكي قد جاء يسأل عنها ،و قد بدى مصرا على الحديث إليها في أمر مهم جدا !.
بدأت أيأس فجأة .كل الوجوه التي كان نظري يتقاطع معها بدت غريبة و غير مألوفة .بدأت أوقن أنها غير
موجودة أو أني متواجد في المدرسة الخطأ .ثم انتابني شعور بأني أتواجد في هذا المكان كوني أخطأت حساب
تخرجت و رحلت رفقة بقية الجماعة عن هذا المكان منذ وقت طويل ،و أن كل هؤالء
األعوام .شعرت أن بهجة قد َّ
المغفلين ال تربطهم صلة بها أو بأحد من أصدقائنا أو زمالئنا المشتركين .افترسني إحساس عنيف بالضياع و
الغربة و الوحدة و الغضب وسط المكان .بدأتُ أهمس بكالم نابي من صنف الكالم الذي يعبِّّر به المراهقون عن
حنقهم على وضع قاهر ال يستطيعون تغييره كما ال يستطيعون باندفاعهم و عاطفيتهم تقبله.
خرجتُ من الصف ما قبل األخير و أنا أحك جبيني و أفكر بقلق و حيرة .بقيت واقفا في مكاني لما بدى لي أنه
دقيقتين أو ثالث ،أحاول من دون فائدة جعل ذهني يُدرك الخطأ الزمني الذي ارتكبته بغباء .حاولت تذكر في أي
377
عام دراسي أنا ،لكني لم أفلح مما زاد في ضيقي و حنقي .إال أن تلك اللحظة الموحشة و القاسية قطعتها صافرة
أحدهم كان يقف وسط مجموعة من الشباب عند الطرف اآلخر من الرواق قبالة غرفة الصف األخيرة .التفت إليه،
و إذا بكل شيء يُبعث من جديد .ابتسمت غير مصدق .كان غانو بمئزره األبيض التي تمأله الخربشات و الرسوم و
أسماء نجوم كرة القدم اإليطاليين الذين يعشقهم .كان يقف مع بعض من تهيأ لي أني أعرفهم جيدا رغم مالمحهم
التي بدت متغيرة .كان غانو يشير بسبابته إلى غرفة الصف األخيرة مبتسما بحماسة ،كأنه يقول لي بأن الشخص
الذي أبحث عنه متواجد داخل صالة التدريس األخيرة.
من دون تردد ،تقدمت نحو باب الصالة و ولجته و أنا أحيي صديقي بإشارة بإبهامي .كان في الغرفة نحو 41
طالبا و طالبة ،متوزعين على أربعة أو خمسة مجموعات متفرقة حول زوايا القسم .أمعنت النظر و الرغبة في
رؤيتها تأكل قلبي ،تحت وطأة فكرة عدم رؤيتي لها لسنوات طويلة .رميتُ ببصري إلى آخر القاعة و حبستُ
أنفاسي لوهلة .أخيرا .ها هي ذي ،تجلس فوق طاولة مشكلة حلقة صغيرة مع ثالث فتيات ،يتجاذبن أطراف
الحديث .كانت تقابلني بظهرها .لم أ ستطع رؤية وجهها لكني كنت متأكدا من كونها هي .شعرها الكستنائي الرائع
المشدود إلى الخلف مع بعض الخصالت الجانبية المسدولة فوق األذنين و الرقبة ،كان الجسر الذي يختصر دوما
الميل األخير الذي أقطعه بين الشوق الحارق في رؤيتها و سيل اللقاء بها ،الذي أرتوي منه كل مرة في آخر لحظة
و أخفف به على نفسي عطشها األزلي تجاه تلك األنثى.
_ '' انظروا إليه ...انظروا إلى هذا القروي القذر ...من أين له هذه الشاجعة التي تسمح له أن يأتي إلى هنا
بهيئة كهذه ؟.'' ....
نظرتُ إلي يدي فإذا بهما ممتلئتين ببقايا الصلصال .كانتا بنيتين تماما .نظرتُ إلى ثيابي فإذا بي ألبس نفس
المئزر الذي دأبت عل ى حمله حين أهم بمذاعبة الطين على الدوالب في ورشة آغاكال .كان لونه األبيض متماهيا
مع لون التراب و بقايا الصلصال الجاف عليه .لم أفهم ما كان يحدث .غصت في لحظة تردد .كيف لي أن أجعلها
تراني و أنا على تلك الحالة ؟ .كانت ال تزال ماضية في الحديث إلى زميالتها اللواتي رحن ينظرن إلي بتعجب و
دهشة أيضا.
كنت قد وصلت إليها و لم يكن لي مجال للتردد أو التراجع .استجمعت أنفاسي مبتسما .انتابني يقين من كوني
فخور بمن أكون و أني سوف أحب بهجة ما حييت ،سواء كنت صحفيا أو صانع طين .و إن كان عليها أن تحبني
فعليها أن تحبني كما أنا .كنت متيقنا من أنها لن تخيب ظني في ذلك .قلت أني سأعيش تلك اللحظة بكل ما فيها و
عليها فقط ،لكن شيئا غريبا ما طرأ على المشهد فجأة .كان أشبه بصوت انفجار هز الشارع في الخارج .صوت
378
قريب من أصوات انفجار القنابل وسط شوارع البليدة التي ألفنا سماعها فيما مضى سنوات التسعينات .اهتز المكان
و اضطرب التيار الكهربائي و تحركت الطاوالت من أماكنها و قفزت الكراسي إلى الصقف .كل ما جاء على
خاطري تلك اللحظة هو أن ألعب دور الرجل الوطواط و أقفز على حبيبتي كي أحميها ببدني من أي شظايا ،لكنها
كانت قد اختفت فجأة.! .....
فتحتُ عيني من ذلك الحلم على دوي غريب و شديد كان يجتاح الشقة ،مع صوت طاغ الهتزاز أثاث غرفة
المعيشة .أصوات احتكاك الخشب و الزجاج بشكل عنيف جعلني استفيق سريعا من صرعة النعاس و أنا أشعر بأن
األريكة تتراقص بي فوق البالط .أدركتُ لحظتها بأن األمر ال يعدو أن يكون سوى زلزاال !.
أذكر أنه و بعد زلزال بومرداس عام ،4112بدأت تنتشر ثقافة الزالزل في البلد .حمالت توعية و تحسيس و
تمارين في كيفية التصرف العقالني أثناء الهزات األرضية .قيل لنا أن أول شيء يجب فعله حين يباغتنا الزلزال و
نحن نيام هو أن ال نركض مباشرة نحو الباب ،بل أن نحتمي تحت الطاوالت أو نقف عند أركان المنزل .أعتقد أن
كل ذلك كان مضيعة للوقت ! .ال أعلم فيما فكرت تحديدا تلك اللحظة كوني لم أستحضر شيئا من كل الذي قيل لنا
عن السلوك الصحيح أ ثناء الهزات األرضية ،لكني و من دون أن أشعر وجدت نفسي أركض مباشرة نحو الباب و
أنا أنظر إلى جدران الشقة التي كانت تدنو من وجهي تارة و تبتعد تارة أخرى ،مع أصوات ارتطام بعض األشياء
على األرض و تكسر أواني الزجاج .فتحت باب الشقة مباشرة ألفاجأ بكل سكان العمارة يتدافعون عبر الدرج نحو
األسفل .رجال بعباءاتهم ،بعضهم يحمل أبنا أو اثنين بين ذراعيه .شباب يقفزون فوق الدرج و هم يصيحون'' ...
عندك ...عندك ! ..هللا أكبر ! ...يا ستار ! ...اجري .! ..نساء يصرخن .بعضهن يبكين .بعضهن ينادين على
أقاربهن .حتى أن بعضهن كن يتقافزن أمامي شبه عاريات !.
ببساطة ،كان سكان العمارة كالسيل العارم الذي كان يمر أمام أنظاري وسط ذلك الديكور المهتز تحت أقدام و
فوق رؤوس الجميع .لم أ ستطع التقدم من مكاني ألدخل وسط ذلك الجمع الهائل من الناس المتدافعين .بقيت واقفا
مكاني ممسكا باب شقتي بيسراي في حين كنتُ أحمل شيئا ما بيدي اليمنى ،أراقب ذلك العجوز السبعيني و هو
ينزل الدرج بخطوات بطيئة نسبية كآخر شخص من ذاك الحشد الهائج .كان يمر لتوه من أمامي و هو يسب و يلعن
كل الذين سبقوه و تركوه خلفهم دون أن يستدير أحد نحوه.
_ ....شفت ؟ ...شفت يا وليدي ؟ ! ...هاذوا زعمة يقولولك مسلمين و يآمنوا بربي ! ...قريب ما رفسوني في
في ..هللا يذلهم ...هللا يذلهم !! ....مراد ....مراد ! ،وين راك يا وحد المصيبة ؟ هربت و
طريقهم ..واحد ما خزر َ
سمحت في باباك !!...
أجبته بصوت فيه نبرة تتأرجح بين الحذر و التهكم و أنا أرمق كل ما حولي بنظرات فاحصة وجلة ،محاوال
التأكد من أن الهزة قد انتهت .كان يبدو كل شيء قد عاد إلى االستقرار و هيمن صمت كامل على األرجاء ،تخلله
حديث العجوز المسكين الذي كان قد اقترب من باب العمارة.
379
كان قلبي يخفق بشدة و أنفاسي تتقافز من صدري متسارعة .كان ذلك مفعول األدرينالين بال شك .دخلتُ الشقة
لكني تركتُ الباب مفتوحا .لم أستطع طمأنة نفسي لكون الهزة الرئيسية قد انتهت و أن كل ما سوف يليها لن يكون
سوى بعض الهزات الصغيرة .نظرتُ إلى يدي اليمنى فإذا بها ممسكة بحاسوبي المحمول ! .متى وصلت إليه و
كيف امسكت به و َلم لم تفلته ،بل و َلم اختارته بدل أن تختار شيئا أصغر و أخف وزنا ؟ ....إنه الشعور
الصحفي !.
تفقدت حال الشقة التي لم تصب بأي ضرر واضح ،ما عدى بعض األواني الزجاجية التي سقطت في المطبخ.
بعض الكتب التى وجدتها على األرض أمام مكتبتي الصغيرة و بعض إطارات الصور التي انفلتت من الجدار في
غرفة المعيشة .خرجتُ إلى الشرفة .كانت عشرات العوائل قد نزلت إلى الشارع .بكاء األطفال كان طاغيا وسط
الكثير من الهمهمة و رنات الهواتف الخلوية ،زامنه ارتفاع أبواق سيارات األمن و اإلسعاف التي راحت تنتشر
شيئا فشيئا عبر شوارع باب الواد المختلفة ،التي بدأت أبنيته المتالصقة تخرج بحذر من ظلمة الليل إلى إشعاعات
الصباح األولى.
حين نزلتُ إلى شاطئ الرميلة ،كانت أول مرة منذ أن سكنتُ باب الواد ،أراه فيها ممتلئا بالناس و العائالت في
تلك الساعة الصباحية المبكرة .بل قل أن رؤية شوارع العاصمة تعج بالناس من مختلف األعمار على السادسة
صباحا ،أمر أشبه برؤية المصطافين يملئون شواطئ مستغانم أو وهران في شهر جانفي .بدى الوضع غريبا و
غير اعتيادي بحق .حتى أني لم أجد كرسيا عموميا شاغرا في الواجهة البحرية التي امتألت بالناس ،حيث ذكرتني
بآخر مرة حصل فيها ذلك خالل لقاء المنتخب الوطني مع نظيره الكوري الجنوبي قبل شهرين من تلك الصبيحة.
أجريت بعض المكالمات الهاتفية مع أمي ،أبي ،عيشة و البشير الذي اتصل من ثكنته في الصحراء ليطمئن
على حالي .خاصة و أن كل األخبار كانت تشير إلى أن مركز الهزة كان في ساحل بولوغين بن زيري ،المجاور
لباب الواد ،و هذا ما جعلني أفهم سبب قوة الهزة.
حين كانت السادسة و النصف .كانت معظم األنفس قد هدأت و زال خوفها و صدمتها .رغم ذلك فأغلب الناس
لم يعودوا إلى منازلهم .ربما كونهم قد استلطفوا النسمات الصباحية للشاطئ ،و الجماعات التي شكلوها حول
أحاديثهم و ثرثرتهم قد شجعتهم على البقاء لفترة أطول على طول الواجهة .البعض نزل إلى الشاطئ ليتمشى قليال
أو يجلس على حافة البحر .حتى األطفال الصغار كانوا قد استلطفوا ذاك الجو غير االعتيادي ،و ربما يكون قد
ساعدهم على تخطي الفزع الذي اختطفهم من نومهم و أحالمهم الصغيرة .الحقيقة أني كنتُ في تلك اللحظة أفكر
في الحلم الذي رأيت قبل الهزة .كان ذاك من نوع األحالم التي طالما سببت لقلبي هزات عنيفة ،حين كنتُ أستيقظ
منه وسط حرائق من الغضب و األسى التي ظل ضميري و شوقي يشعالنها عبثا في نفسي أثناء النوم ،تحت
مبررات أخرى ،تماما كما تُشعل النيران العبثية التي تلتهم غابات تيزي وزو و البويرة سنويا .من قال أن
االحتقانات يمكن أن تخمدها النيران ؟ !!.
380
في الماضي ،كنتُ أشتاق إلى رؤية بهجة إلى حد االختناق و أنا صاح ،فإذا غفوت جاءتني على جناح السرعة
بمالمح شبحية غير واضحة .لقد ضلت في أحالم نومي تضع دوما أقنعة من الضباب و الدخان .تجلعني أرى
وجهها بعاطفتي األولى تجاهها ،لكني ال أراه يقينا بعيني ،ثم كانت كل مرة تفلت مني في اللحظة التي أكاد أتيقن
فيها من أنها في قبضتي ،كفكرة متمردة ،أدرك نصفها و يغيب عني النصف اآلخر ،فيضيع مني المعنى برمته ،ثم
أستفيق من نومي على حال ال تسر .أحيانا كان الشوق ،أحيانا كان الندم ،أحيانا كان الغضب ،أحيانا كان االستسالم
و اليأس و التناسي.
أشعلتُ أ ول سيجارة ليومي و أنا أتمشى مراقبا الناس على طول الواجهة البحرية و كنتُ أفكر مع نفسي .كيف
لي أن أغضب هكذا كوني ال أزال غير قادر على العثور عليها مجددا ؟ ،و أنا الذي اختار الفرار من جرحها
كالجبان .رحلت عن البليدة هربا من ذكراها و بسمتها التي ال ت ُقاوم .هربتُ كجندي جبان ال يقوى على تحمل آالم
المعركة .ثم جئت إلى العاصمة حيث ضللت أتعامل مع ذكرى حبها كالعميل المزدوج ،تارة أعود إليه ،تارة أفر
منه إلى عملي .ثم انتهت بي أسباب كل ذلك في بالد القبايل كالجاسوس الالجئ ،ألعود أدراجي من كل تلك الرحلة
كالخائن التائب ،أبحث عنها علي أحاول مجددا استدراك كل ما فات .لعلي أتصالح مع تاريخ قلبي كما تصالحت
مع تاريخ هذا الوطن.
_ '' كيف أعود إليها ؟ ....ربما كان هذا هو الوجه الخفي لقلق السؤال ،إن شبَّهتُ هذا األخير بقمر كان دوما
يدور حول كوكب أفكاري و عالمي الصغير و هو يرسم مناخه و تقلباته التي تصوغ شكله و مصيره !!! ''.
قلتُ في نفسي متنهدا و أنا أسحق عقب السيجارة بقدمي .بقيتُ واقفا هنيهة أحاول أن أجد مقاربة أخرى
تمكنني من الوصول إليها .لم أجد شيئا أفضل من تلك الفكرة القاسية نوعا ما علي ،لكنها كانت األكثر إقناعا و
تدرس.
رجاحة على األقل ،و هي أن أنتظر الدخول المدرسي و أذهب لرؤيتها حيث ِّ ّ
رحتُ أحك رأسي .بل في تلك اللحظة كرهتُ نفسي كثيرا ال لشيء ،سوى لكوني شخص يفكر كثيرا ! .ثم
قلت في نفسي أنه يجدر بي أن أعود إلى الشقة و أنام طيلة النهار لعلي أقلص ساعات ذاك األلم على نفسي ،ثم
أستيقظ مساء ألذهب و أمضي ما بقي من عطلة نهاية األسبوع في البليدة.
خطوت على األرجح خطوتين باتجاه الرصيف كي أقطع الطريق .التفت إلى يميني ثم توقفت عند حافة
الطريق تماما .التفت إلى يساري منتظرا خلو الطريق من السيارات التي كانت تعبره .التفت إلى يميني مرة اخرى
بحركة عفوية تماما ،ثم بقيت واقفا على تلك الحال .خلت الطريق من السيارات حيث عبر الناس من كلى حافتي
الرصيف ،لكني لم أتحرك من مكاني .شخص بصري و أنا ال أزال أنظر إلى يميني ،إلى تلك التي كانت تقف على
بعد نحو عشرين مترا أو يزيد بقليل .كانت تقابلني بظهرها و هي تقف رفقة فتاتين أخريين .طول بنحو متر و
خمسة و ستين سنتيمترا .حذاء نسوي أبيض بدون كعب .سروال جينز داكن .قميص نسوي صيفي بلون أزرق
فاتح و لطيف .محفظة نسوية بيضاء ....و شعر أملس بلون كستنائي يميل إلى اللون البني ،ملتف و مشدود إلى
381
األعلى ...مع خصالت منسدلة على الجانبين .! ...ربما يتقرر مقدار الحظ الذي يتدفق بغزارة غير متوقعة على
بعض الناس في صباحات مماثلة لذاك الصباح ! .ربما كنتُ أحدهم هذه المرة ،لسبب ما ؟.
_ ُ ......محال..! ...
همست بين شفتي ،بنبرة راجية أكثر منها يائسة .لكن األمر حصل معي دوما في الماضي ،في المرات القليلة
التي كنتُ التقي فيها ببهجة صدفة ،حين أراها من بعيد ،و ينتابني الشك من كونها هي ،الشك من كوني أهذي و
أختلق لها الشبيهات حين أعقلن األمر قائ ال أنه الشوق الذي يمارس علي أالعيبه الذهنية اللعينة ،حين أغوص في
ذلك اليقين خالل لحظات قصيرة قد تحسب بثوان فقط .يقين ينبع من أعماقي أعماقي يخبرني أني غير مخطئ و
أن التي أراها عن بعد و أعجز عن التأكد من كونها هي أم فتاة أخرى ،إنما هي فعال '' ...هي '' !.
هذا ماحدث تماما تلك اللحظة .هي لم تلتفت كي أقطع شكي باليقين ،لكن ذاك اليقين الدالخي كان يؤكد لي أنها
هي ! .لم أنتظر طويال .خطوت بتأن و حذر نحوها حين تباطأت حركة كل شيء من حولي .كانت الخطوة التي
تلي األخرى كأنما تحسب بعشرات األميال التي راحت تتقلص بشكل معجز و عجيب .كنتُ أرى نفسي و أنا أدنو
منها تماما كما حدث في حلمي المبكر ،مضطربا ،أكاد ابتسم ،سوى أن دقات قلبي تلك اللحظة كانت تتسارع عكس
ما حدث في الحلم.
حين بقي بيني و بينها نحو ثمانية أمتار ،أخذت نفسا عميقا محاوال السيطرة على اضطرابي .يا اله كم كنتُ
مضطربا ! .لم أستطع حصر األمر في سبب واحد .كانت أسبابا كثيرا و متقاطعة و متدافعة و متداخلة و متماهية.
شيء من السعادة و االمتنان حيال الحاضر .شيء من الحزن و األلم المنبعث من الماضي .شيء من األمل و
الرجاء تجاه المستقبل .كنتُ أخطو نحوها و قد ارتسمت على وجهي بسمة تلقائية حين كنتُ أتأكد مع تتالي
الخطوات األخيرة أنها فعال '' هي '' .توقفتُ عند المتر الخامس أو أقل بقيليل عنها .نظرت إلى إحدى رفيقتيها و أنا
أوجه لها تحية بإماءة برأسي ،فردت علي بنفس الحركة و هي تهمس لبهجة بكالم جعلها تستدير نحوي.
ما الكلمات المناسبة التي يمكن أن أصف بها اللحظة التي رأيتُ فيها وجهها الذي عشقته منذ األزل ؟ .ال شيء
يحاكي سحر اللحظة .خاصة و أن أشعة الشمس الصباحية كانت تأتي من خلفي قافزة بلهفة من على كتفي و هي
تصب شيئا يشبه الخلود على ذاك الوجه الذي يشبه الحياة نفسها ،إلى درجة جعلتني أبهت و أتجمد مكاني عاجزا
عن اإلتيان بأي حركة أو كلمة .فعال ،مضى وقت طويل جدا لم أر فيه مالمح وجهها الطفولي المشرق بذاك
الوضوح و الصفاء .أجل ،كانت فعال هي ...كانت قطعا بهجة !! .لم يكن ذلك وهما ،بل كان وحما ورديا لطيفا
ت كل هذه القرون أيتها القطعة الحية
خرج به واقعي غير المنتظر من رحم تلك الصبيحة العارية '' .بربّك ،أين كن ِّ
الهاربة من الجنة ؟ ! ''.
ْ
نظرت إلي و كأنها تستجوب شيئا ما لم تحرك ساكنا هي األخرى على عكس ما كان يحدث في الماضي !.
في نفسها ،أو أنها كانت تستذكر تلقائيا شيئا آخر .كانت كأنما تفكر أو تتذكر ......ال أدري .لكنها بقيت على تلك
الحالة متجدمة الوجه لنحو ستة أو سبع ثوان ،قبل أن ترفع حاجبيها أخيرا و هي تبتسم...
382
_ ......وشاكي ؟ ! .....يا اله ،وشاكي !!.....
كان في نبرتها شيء من عدم التصديق .تقدمتُ نحوها بخطوة و تقدمت نحوي بثالث خطوات كاملة و هي
تزيد من وضوح بسمتها و انفتاح سرائر وجهها الدائري الساحر...
أحوالك ؟.
ِّ ت ما
_ بخير .و أن ِّ
_ بخير ...بخير...
كانت تهز رأسها مبتسمة ،في اللحظة التي بدأت تلك الحرارة تختفي من على وجنتي و راحت نفسي تتخلص
من ذاك الزلز ال االنفعالي االعتيادي الذي يصيبها في كل لقاء غير متوقع مع هذه األنثى العجيبة .وضعتُ يدي في
جيبي حين مالت هي برأسها مقطبة حاجبيها بشكل ساخر....
_ هاه ! ،يجدر بي أن أوجه إليك نفس السؤال .ما الذي تفعلينه هنا ؟ ....ال يعقل أن تقولي لي أنك رحلت عن
البليدة أيضا ؟..
_ ال ...ال ،إطالقا .خالتي تقطن هنا و قد أتيت البارحة ألمضي الليلة مع بناتها – التفت إلى الفتاتين األخريين
– هذه حميدة و مونيا ...هذا أمين ،زميل قديم لي منذ أيام اإلعدادية...
حييت الفتاتين بحركة من يدي ،ثم س َّمرت أنظاري العطشة فيها حين التفتت إلي مرة أخرى..
_ لو علمتُ أن هذا الزلزال المرعب كان سيهز العاصمة لما أتيت البتة ،لقد كدنا نخرج بمالبس نومنا حافيات
من فرط الفزع .أمر محرج جدا ...تبهديلة ،ربي ستر من الفضيحة !!..
أطلقت ضحكة من ضحكاتها الساحرة التي طالما كانت تقتلني ثم تبعثني إلى الحياة و أنا أكثر جنونا بها .كانت
تضحك ملتفتة مرة أخرى إلى الفتاتين ،حين كنتُ أشكر بصمت هذا الزلزال الذي القاني بها من أعماق قلبي...
_ اه ...أجل ..أجل ،هناك على بعد شارعين من هذا الشارع ،و أشتغل في صحيفة النبأ اليومي..
383
_ ها قد صرت صحفيا ! ..سمعتُ هذا من أحدهم قبل مدة ،ال أعلم من بالضبط ،لكني لم أتأكد حتى هذه
اللحظة..
كان لجوابها الصريح لمسة خيبة عبرتني لوهلة محاولة جلبي إليها بمكر ،قبل أن أرميها بسرعة خلف ظهري
و أعود إلى بهجة...
عنك ؟.
_ ماذا ِّ
_ أجل...
كانت ال تزال تبتسم حين مدت يدها البيضاء الرقيقة نحو صدغها مرتبة بعض خصالت شعرها الرائع فوق
أذنها بسبابتها .نظرتُ إليها بصمت .بدأت أفقد تركيزي و ثباتي مرة أخرى .كانت الحركة التي تذكرني بأول لقاء
بيننا قبل نحو 02عاما ! .الحركة التي تجعلني فجأة أدخل في شلل ذكوري تعلوه نظرة غبية ،حين أنطلق في
الحملقة في ذاك الشعر و ذاك الوجه األنثوي المغري ،مع تلك القوة الخفية التي بدأت فجأة في التسلل إلي و تعذيبي
بصمت و مكر ،كأنها أعواد ثقاب تشتعل على حين غرة تحت أناملي ،ال لشيء سوى أنها تود مداعبة تلك
الخصالت عساها تطفئ تلك النار المنبعثة من قلبي .نار أعوام من الشوق و االفتقاد و الرغبة.
_ ال ...ال شيء .ال أثر لهم على اإلطالق .أحيانا أعجب من اختفائهم هذا !..
ت هذه الفكرة من ذهني ! .ال أثر للجماعة على اإلطالق ،سوى غانو الذي ال أزال أزوره
_ أجل ....لقد اختطف ِّ
مناسباتيا في محله لتصليح الهواتف...
_ آه ...أجل ...أجل ،لقد مررت به قبل مدة لتصليح هاتفي الخلوي .هو لم يتغير كثيرا أيضا ! .دوما ودود و
أنيق في ملبسه.
التفتت إحدى الفتاتين نحو جانب الطريق في حين نادت األخرى على بهجة .كان هنالك شاب ركن سيارته
للتو بجانب الرصيف .نظرت إليه بهجة ثم التفتت إلي...
384
سررت بلقائك...
_ ها قد جاء ابن خالتي .سيأخذنا إلى البليدةُ .
الحقيقة أن كلماتي ضاعات مني تلك اللحظة كوني كنتُ أبحث عن صيغة لغوية مناسبة و غير مثيرة للشبهة
تمكنني من طلب رقم هاتفها ،لكن كل ما كان يدور في رأسي لحظتها و أنا أرى الفتاة تلوح لي بيدها و تهم
بالمغادرة هو جملة واحدة '' ...اطلب رقم هاتفها ...اطلب رقم هاتفها ....أيها الغبي تحرك و اطلب رقم هاتفها...
إنها تغادر ....اطلب رقم هاتفها ! ''..
_ بهجة.! ...
_ طبعا .من ال يملك حساب فيسبوك هذه األيام ؟ ...Bahdja Insomnia .أعاني األرق كثيرا حتى تفهم
سبب هذا البسودو الغريب...
أطلقت ضحكة و هي تميل برأسها ،كأنها تتهكم على حالها لسبب ال يعرفه أحد سواها...
تأملتني بصمت للحظة .ثم ابتسمت و هي تهز رأسها أن نعم .ثم ركبت السيارة مغلقة بابها الخلفي األيمن
ملوحة لي بيدها مبتعدة و آخذة معها معظم تلك األنوار الصباحية التي كان يشع بها شارع ميرة قبل لحظات فقط.
ّ ِّ
كل شيء هدأ فجأة من حولي و انتباني شعور بأني أقف فقط وسط عالم من األشياء المألوفة جدا.
رجلك األوحد بال منازع ،منذ اليوم األول الذي جلستي فيه
ِّ _ اللعنة علي ! ،كان يجدر بي أن أكون
بجانبي !!....
385
ماذا بقي ألقول عن كل الذي حدث في نفسي ؟ .الحب ؟ .الحب ،كالكلمات ،يمكن أن يغير مصائرنا فعال ،كما
اعتقد الفخارجي .يمكن للحب أن يصنع منا أشخاصا مختلفين ت ماما ،و من لم يجد طريق الصلح مع قلبه ،سيصعب
عليه الحديث عن الصلح مع أي شيء آخر في هذا العالم !.
كنتُ أرى نفسي و أنا ابن السابعة ،هناك وسط بستان بيتنا البليدي ،أقفز فرحا و غبطة ،بعدما حطت فراشة
الماكاو على وردة حمراء كاملة التفتح ،متشبّعة بقطرات الندى و بركة الشمس ،تفيض بالعبير و الحياة !.
________________________________________________________
386
387