You are on page 1of 387

1

‫أمير فنور‬

‫فراشات ال ّ‬
‫طين‬

‫رواية‬
‫‪2‬‬
‫ملخص‪ :‬تدور أحداث الرواية بين ربيع و صيف سنة ‪ ،4102‬حيث يعيش أمين وشاكي‪ ،‬الصحفي المحقق‬
‫و المهموم بمشاكل البلد و المجتمع من جهة‪ ،‬و الهارب من ذكريات حب جنوني فاشل من جهة أخرى‪،‬‬
‫يعيش حالة من القلق العميق تنتابه تجاه ما يحدث في الجزائر‪ ،‬التي تعيش في تلك الفترة جنون العهدة‬
‫الرابعة و بارانويا الربيع العربي الذي كان في أوج اشتعاله و وعيده‪.‬‬

‫يقرر أمين القيام ببحث صحفي معمق يحاول من خالله الوصول إلى فهم ما سماه '' أم الثمرات الخبيثة ''‪،‬‬
‫العيب األساسي‪ ،‬المشكلة الجوهرية‪ ،‬التي ال تزال تمنع الجزائر كبلد و كأمة شابة من االنطالق الفعلي نحو‬
‫بناء ديمقراطية و مجتمع مدني حقيقيان‪.‬‬

‫في خضم بحوثه و مطالعاته التي تختلط بأعراض أزمة نفسية يعيشها بسبب القلق و اإلحباط و األرق‪ ،‬يقع‬
‫أمين فجأة على رأس خيط مؤامرة ُمفترضة تُحاك من أجل تفجير ربيع عربي في الجزائر خالل أو بعد‬
‫االنتخابات الرئاسية ربيع ‪ .4102‬يقود االستقصاء الصحفي الشاب إلى منطقة القبائل أين يلتقي بحرفي‬
‫قبائلي غامض‪ ،‬حيث يعمل ما في وسعه للوصول إلى الدالئل القاطعة التي تؤكد أنه المدبّر األساسي لهذا‬
‫الربيع الجزائري القادم‪.‬‬

‫تزامنا مع ذلك‪ ،‬يبدأ الصحفي الشاب في اكتشاف عالم القرى و األرياف القبائلية‪ ،‬المجتمع القبائلي‪،‬‬
‫تاريخه‪ ،‬عاداته‪ ،‬محاسنه و عيوبه‪ ،‬تزامنا مع اكتشافه لحقيقة الحرفي الكهل‪ ،‬التي تؤجج فيه '' ربيعا داخليا‬
‫'' يجعله يصل إلى استنتاجات لم يكن يتصور أنه سيصل إليها يوما‪ ،‬تُفضي إلى فهم جزء أساسي من‬
‫أحجية '' أم الثمرات الخبيثة ''‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫إلى الحي بين األحياء‪ ،‬الدّا حسين آيت أحمد ( ‪.) 4102-0241‬‬

‫‪4‬‬
‫الفهرس‬

‫‪ I‬استفزازات في عمق الباطن‬

‫‪ 1-‬حفرة المحظوظين‪90............................................................................................................‬‬

‫‪ 2-‬ليالي كلب الزريبة‪10............................................................................................................‬‬

‫‪ 3-‬تدشين عمود القلق‪22...........................................................................................................‬‬

‫‪ II‬همسات الحسناء المورسكية‬

‫‪ 4-‬منبت الطفل بداخلي‪49...........................................................................................................‬‬

‫شدة‪44..............................................................................................................‬‬
‫‪ 5-‬الفراشة ال ُمر ِ‬

‫‪ 6-‬طيفها ال يزال يسكنني !‪66.....................................................................................................‬‬

‫‪ III‬البذرة و ظل الفرعون‬

‫‪ 4-‬الموسطاشيا و الموسطاشوفوبيا‪29...........................................................................................‬‬

‫‪2-‬حجر الكبريت‪24...................................................................................................................‬‬

‫‪0-‬شهقة الصباح المتوحش‪00.....................................................................................................‬‬

‫‪ IV‬ضائع و مختنق في جوف الطاحونة‬

‫‪ 19-‬انتصار '' احنَ ه َم ربّها ! ''‪114............................................................................................‬‬

‫لونها طيف عابر‪124.........................................................................................‬‬


‫‪ 11-‬الصورة التي ّ‬

‫‪ 12-‬الهروب من األرباب الزائفة‪141.............................................................................................‬‬

‫‪ 13-‬في أية لحظة عابرة‪152.......................................................................................................‬‬

‫‪ V‬بداية الصعود‬

‫‪ 14-‬صفقة الثعبان األشقر‪165.....................................................................................................‬‬

‫‪ 15-‬صغير تحت أنفاس الجبل‪129................................................................................................‬‬

‫‪ 16-‬أحجار الشمس تحكي‪100.....................................................................................................‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ 14-‬س ّد من التين الشوكي‪219....................................................................................................‬‬

‫‪ 12-‬صدى خافت بين الجدران‪222...............................................................................................‬‬

‫صلصلة‬
‫‪ VI‬أيام ال َّ‬

‫‪ 10-‬رهان الدواليب الدوارة‪244...................................................................................................‬‬

‫‪ 29-‬القالب األول‪263................................................................................................................‬‬

‫‪ 21-‬الفواجع ال تزال حية‪241......................................................................................................‬‬

‫‪22-‬اللّب‪222..........................................................................................................................‬‬

‫‪ 23-‬عصفورالنَّحس‪209 ...........................................................................................................‬‬

‫‪392.................................................................................................................''2051 '' 24-‬‬

‫‪ VII‬أسرار الخادرات‬

‫‪25-‬الباقات المنسية‪312............................................................................................................‬‬

‫تحكي‬ ‫األرض‬ ‫(‬ ‫ⴰⴰⴰⴰ‬ ‫ⴰⴰⴰⴰⴰⴰ‬ ‫‪26-‬‬


‫)‪322..................................................................................‬‬

‫‪ 24-‬خمائري‪351.....................................................................................................................‬‬

‫‪َّ 22-‬‬
‫هزة الحب األلفي‪349..........................................................................................................‬‬

‫‪6‬‬
‫تحولي‪ ،‬طبيعتنا ه ّ‬
‫شة‪ ،‬و حياتنا قصيرة "‬ ‫" نحن كالفَراش تماما‪ ،‬وجودنا غائي‪ّ ،‬‬
‫نمونا ُّ‬

‫أغاكال‬
‫أحد شخوص الرواية‬

‫‪7‬‬
‫أذكر لكم أني التقيت بشخص قروي حكيم و غامض ذات يوم‪ ،‬أخبرني أنه كما أن الخبز يُصنع بيدي اإلنسان‬
‫سِّد به رزقه و استمراره في الحياة‪ ،‬فإن الكلمات تُصاغ بعقل و قلب اإلنسان لتغذي معاني وجوده الكلي‪ .‬ما‬
‫ليُج ّ‬
‫تنتجه الكلمات قد يكون نوعا من األرزاق للمجتمعات‪ .‬إنها كقطع الخبز تماما‪ .‬حين تُغمس في الزبدة تصير فلسفة‪.‬‬
‫حين تُغمس في زيت الزيتون تعطينا تاريخا‪ .‬حين تُغمس في المرق تستحيل إلى سياسة‪ .‬حين ت ُغمس في الجبن‬
‫تطلع ثقافة‪ .‬حين تُغمس في اللبن تتم ّخض على تربية‪ .‬حين ت ُغمس في العسل فهي بال شك حب و هوى‪ ....‬و‬
‫ّ‬
‫ألستفز‬ ‫حكايتي هذه هي مزيج من كل ما ذكر الرجل الحكيم‪ .‬حكايتي هذه حكاية كلمات‪ .‬كلمات ابتكرتُها في مهنتي‬
‫بها مسار األحداث العامة‪ ،‬فإذا بها تغيّر مسار حياتي بل و تغيرني قبل كل شيء‪ .‬فقط‪ ،‬أتوسل ألي شخص غير‬
‫مهموم بقضايا هذا البلد بأن يعفي نفسه من عذاب قراءة هذا الكتاب‪.‬‬

‫من ال يعرفني بعد‪ ،‬اسمي أمين و ّ‬


‫شاكي‪ ،‬صحفي محقق و كاتب‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪I‬‬

‫استفزازات في عمق الباطن‬

‫‪9‬‬
‫‪-1-‬‬

‫ُحفرة المحظوظين‬

‫بدأ كل شيء خالل احتفاالت رأس السنة الميالدية ‪ ...4102/4102‬أرق المهنة كان قد عاد ليعبث بي و‬
‫يأخذني كرهينة‪ ،‬لكن ليس في تلك الليلة الصاخبة‪...‬‬

‫كانت تسير أمامي وسط ذلك المحيط الهائج تحت األضواء االستعراضية اللّيزرية الخضراء و الحمراء‬
‫ي بيدها بأن أستمر في‬
‫ي مع كل بضع خطوات‪ ،‬تشير إل ّ‬
‫المخترقة لشيء من الضَّباب االصطناعي‪ .‬كانت تلتفت إل ّ‬
‫التقدم خلفها‪ .‬كنتُ أسير محاوال اختراق تلك الحشود من الشباب المتالطمة أجسادهم و هم في حالة من الهستيريا‬
‫الجماعية‪ ،‬يتحركون بفوضوية عنيفة‪ ،‬و قد أطلقوا العنان لجنون طاقتهم الشبابية‪ ،‬ليُعبروا عما اختمر في نفوسهم‬
‫من مشاعر متنوعة في آخر ليلة سنة ميالدية أخرى متآكلة‪ ،‬تعيش عدها التنازلي في هذا البلد المجنون‪.‬‬

‫كنتُ أحاول العبور وسطهم كزورق صغير يحاول شق طريقه وسط بحر هائج‪ ،‬و أنا أتبع تلك الشابة اللطيفة‬
‫التي كلما نظرتُ إلى وجهها الطفولي الجميل‪ ،‬ينتابني إحساس بعدم عدالة العالم الذي نعيش فيه و لعنة ظروف‬
‫الحياة و خدعها الكثيرة التي أوصلتها إلى هذا العالم السُّفلي الصاخب‪ ،‬لتضعها بين مخالب كل أنواع السّفلة الذين‬
‫يمتهنون تسيير تجارة األجساد الناعمة في عوالم اللّيل ال ُمغلقة !‪.‬‬

‫كان يُفترض بنعيمة ذات السادسة و العشرين ربيعا أن تكون في تلك اللحظات جالسة تذاكر دروسها في شقتها‬
‫بالحي الجامعي‪ ،‬أو في بيت أهلها تستعد للنوم بعد يوم طويل في العمل‪ ،‬بدل التواجد في هذا الملهى " الخاص "‬
‫وسط هذه المنطقة الراقية و المحمية في قلب العاصمة‪ ،‬و الذي سمعتُ عنه الكثير من اإلشاعات‪ ،‬لكن كما يقال في‬
‫المهني‪ :‬أخطر التحقيقات الصحفية هي تلك التي تبدأ بإشاعة فالتة من فم ثرثار !‪ .‬لقد علّمنا كبار الصحفيين‬
‫عالمي ِّ‬
‫من الرعيل األول الذي أسس الصحافة المستقلّة بشق النفس سنوات التسعينات‪ ،‬أن نلتزم بمقولة ماركس ال َّ‬
‫شهيرة‪:‬‬
‫" يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها‪ ،‬حتى ال تلتهمنا "‪ .‬و ال يمكنني في هذا المقام أن أخجل من القول‬
‫بأنني كنت في تلك الليلة مجرد " كلب زريبة " يسبق صاحبه متتبّعا روائح نتنة تنتهي إلى حبة فاكهة فاسدة‪.‬‬

‫التفتت نعيمة إلي و هي تقول شيئا‪ ،‬لكني لم أكن ألمح سوى شفتيها و هما تتحركان وسط األضواء‪....‬‬

‫_ أليسـ‪ ....‬مد‪.!! ....‬‬

‫_ آسف‪ ،‬ماذا تقولين ؟‪ ...‬ال أسمعك !‪.‬‬

‫تصرخ مرة أخرى وسط تلك الفوضى الموسيقية العارمة‪ ،‬لكن من دون فائدة فقد كانت تبدو كصورة‬
‫تلفزيونية من دون صوت‪..‬‬

‫‪10‬‬
‫_ قلت ‪......‬ك ‪ ......‬رائـ‪ ......‬مر‪.!......‬‬

‫ْ‬
‫فتوقفت عن شق طريقها وسط الحشد الراقص و‬ ‫أشرتُ بسبّابتي نحو أذني حتى تفهم أني ال أكاد أسمع شيئا‪،‬‬
‫عادت أدراجها نحوي لتمسك بيدي و هي تصرخ في أذني‪..‬‬

‫_ قلتُ لك إن هذه الموسيقى رائعة‪ .‬هي أول مرة نسمعها هنا بدال من أغاني ّ‬
‫الراي المعتادة !‪.‬‬

‫صرختُ في أذنها شارحا لها أصل المقطوعة‪..‬‬

‫_ هذه مقطوعة ‪ Reload‬لـ ِّ ‪ Rob Zombie‬التي استعملت في الجزء الثاني لثالثية ‪ Matrix‬السينمائية‪.‬‬
‫أال تعلمين ؟‪.‬‬

‫ي للحظة و هي تهز حاجبيها الرقيقان كمن يبدي إعجابه بفكرة أو مالحظة‪ ،‬ثم ابتسمت و شدتني‬ ‫ْ‬
‫نظرت إل ّ‬
‫بسرعة نحو األمام مواصلة الصراخ في أذني‪..‬‬

‫_ أترى الفتيات الراقصات فوق المصطبات األسطوانية ؟‪ .‬جميعهن قادمات من واليات داخلية بعيدة‪ .‬أغلبهن‬
‫جئن إما للدراسة في الجامعة أو بحثا عن عمل‪ ،‬لكن كما ترى‪ ،‬انتهى َّ‬
‫بهن المطاف في هذا المكان كراقصات أو‬
‫صحفي أن الكثيرات هن من ضحايا اإلرهاب ؟‪ .‬أغلبهن فقدن‬
‫رفيقات متعة أو حتى مومسات‪ .‬هل تعلم يا ع ّمي ال ّ‬
‫آباءهن أو إخوانهن أو اختطفت أمهاتهن بداية و أواسط التسعينات‪ .‬بل و هناك من أبيد جميع أفراد أسرهن‪ ،‬إضافة‬
‫إلى من ُهجّرن مع عائالتهن من قراهم األصلية من طرف جماعات الجيا‪.‬‬

‫_ تعرفينهن ؟‪ .‬ثم ال تقولي لي إنهن قاصرات‪ .‬يظهرن لي أنهن صغيرات في السن !!‪.‬‬

‫_ ال‪ ,‬لقد تجاوزن العشرين في الغالب‪ .‬أعرف الكثيرات هنا‪ .‬يمكنني أن أر ِّت ّب لك لقاءات معهن إن أردت أن‬
‫تسمع قصصهن أو تكتب عن تجاربهن المريرة‪ .....‬أو‪ ....‬تحصل على شيء من ال ُمتعة منهن إن رغبت ذات يوم‬
‫في االبتعاد قليال عن ضغوطك المهنية‪ .‬بل الليلة إن أردت !‪ .‬تبدو لي منهكا ؟‪.‬‬

‫تمرة في سحبي من يدي حين تمتمتُ متهكما‪..‬‬


‫ضحكة و هي مس ّ‬ ‫ْ‬
‫أطلقت ِّ‬

‫_ ربما يجدر بي أن أشكر أمراء الجيا على هذا المعروف الذي قدموه ألبناء الحواضر الكبرى !‪.‬‬

‫كانت الكثير من األسئلة تتالطم داخل رأسي و أنا ألتفتُ في كل الجهات‪ ،‬محاوال تشكيل صورة عامة عن‬
‫المكان‪ .‬عن شكله و تفاصيله‪ .‬عن الجو العام فيه و عن هيئة كل هؤالء الناس الغارقين في جنونهم‪ ،‬متماهين مع‬
‫هذه الموسيقى ال ُمه ِّيّجة للتناقضات‪ ،‬التي امتزجت فيها صالبة و غضب موسيقى الروك مع هالمية و انسيابية‬
‫موسيقى التيكنو ‪ .‬كان سهال جدا معرفة إلى أي طبقة ينتمون نظرا أللبستهم و الطريقة التي سمعت بعضهم يتحدث‬
‫بها عند المدخل‪ ،‬كما أن ماركات السيارات المركونة في حظيرة الملهى أيضا تكشف الكثير من التفاصيل‪ .‬لم تكن‬
‫هناك كمرات مراقبة أمنية في الداخل عكس ما هو عليه في الخارج‪ ,‬ربما ألن مرتادي المكان من كبار مسئولي‬
‫الدولة‪ .‬في العادة ال يريدون أي دليل مسجّل عن تفاصيل حياتهم الليلية الخاصة جدا !‪ .‬لكن سبب تواجدي هناك تلك‬

‫‪11‬‬
‫الليلة لم يكن تحقيقا عن تلك الحياة المزدوجة التي يحياها كثير من إطارات الدولة‪ .‬قد يُقال أن ذلك يدخل في صلب‬
‫الحياة الخاصة للناس‪ .‬لكن ما كنتُ من أجله تلك الليلة هو ما سمعتُ عنه‪ ،‬و ما وصلتُ إليه بمساعدة نعيمة‪ .‬كنت‬
‫فقط أريد أن أتأكد بنفسي في إطار تحقيق كنت أقوم به للكشف عن جزء يضل ضئيال جدا من جنون هذا البلد‪ ،‬و‬
‫هو نوع من الجنون غير البريء في ُمطلق األحوال‪.‬‬

‫_ هناك‪ ،‬لقد وصلنا !‪.‬‬

‫صاحت نعيمة في أذني اليمنى و هي تشير إلى درج مرتفع قليال من على أرضية المرقص‪ ،‬يؤدي إلى ممر‬
‫تدرجت بين‬ ‫صغير ينتهي إلى صالة تُغلّفها صفائح من الزجاج العازل لل َّ‬
‫صوت‪ ،‬كانت تنبعث منها أضواء خافتة ّ‬
‫األحمر و البرتقالي و الزهري و البنفسجي‪ .‬كنتُ أتبع نعيمة و أنا أتحسس شاربي االصطناعي للتأكد من التصاقه‬
‫جيدا فوق شفتي العليا‪ ،‬بمجرد أن لمحتُ شاب ثالثيني ضخم الجثة‪ ،‬مفتول العضالت كان يقف عند مدخل الممر‪ ,‬و‬
‫كرس لرصد أي نفس‬
‫قد راح يتفحّصني من بعيد بناظريه‪ ،‬من األسفل إلى األعلى‪ ،‬و كأنه جهاز كاشف ُم ّ‬
‫مضطرب أو نظرات خجولة أو ِّمشية يبرز فيها الخوف و التردُّد على أي شخص يمر أمامه‪ ،‬لكني حاولت أن أبدو‬
‫هادئا و واثقا‪.‬‬

‫بصراحة كنت سأنجح في ذلك قطعا‪ ،‬لوال أني فقط عجزت في اللحظة الحاسمة عن إبعاد تفكيري في كوني‬
‫دخيال على مكان يرتاده أكثر الناس كرها للصحافة المستقلّة في هذا البلد‪ .‬في تلك اللحظات ر ّكزت فقط ناظري‬
‫مباشرة في عينيه الكبيرتين المحتميتين تحت حاجبيه الغليظين‪ .‬لم أو ِّ ّجه تفكيري في تلك اللحظة الطارئة حين غاب‬
‫عن ذهني أي موضوع آخر يمكن أن يُنسيني ارتباكي الذي كان سيبدأ في التّجلي فجأة‪ ،‬إال إلى تلك الطراوة الجميلة‬
‫طو ْ‬
‫قت ذراعي األيسر و هي ترمي ببسمة إلى ذلك الدُّب األسمر‪،‬‬ ‫لنهد نعيمة الذي كان ملتصقا بعضدي‪ ،‬عندما َّ‬
‫جعلتني أفهم أنها تعرفه جيدا‪ ،‬و أفهم كذلك أنها تعرف تماما توقيت َّ‬
‫أدق اللحظات التي توجب على المرأة استخدام‬
‫سالح مفاتنها في تحويل تفكير رجل إليها‪ ،‬حين يكون هو مواجها لخطر التفكير في شيء آخر ال يجدر به أن يفكر‬
‫ي من كل االنفعاالت التي كنتُ أخشى ظهورها غصبا عني‪،‬‬
‫فيه‪ .‬عجبا !‪ ،‬لقد أفرغ نهد نعيمة الرخو الصغير عين ّ‬
‫فجلعني بذلك أرمق الرجل بنظرة باردة كنظرات كل هؤالء الشباب و الشابات‪ ،‬من أبناء األثرياء و المسئولين‬
‫السَّامين و األجانب‪ ،‬الذين اعتادوا المرور على أعوان األمن في أي مكان و كأنهم يمرون على كالب حراسة ال‬
‫تربطهم بها أي عالقة حميمية أو خاصة‪ .‬هكذا و في تلك اللحظة‪ ،‬رأيتُ الرجل يزيغ ببصره نحو نعيمة‪ ،‬حيث‬
‫ارتسمت على شفتيه شبه بسمة خفيفة رد بها‪ ،‬من دون وعي ربّما‪ ،‬على ابتسامتها الصغيرة الغاوية‪.‬‬

‫عجبا من ِّسحر و كيد النساء !‪ .‬لقد سيطرت هذه الشابّة الفاتنة على رجلين بحركة واحدة من جسدها‪ .‬بنه ٍد و‬
‫بسمة‪ ،‬حالت دون تصادم ُمحتمل بينهما كما تريد و تشتهي !!‪.‬‬

‫أومأ الحارس إليها برأسه كأنه يحيّيها ثم عاد للتفرج على المحيط الهائج في المرقص‪ ،‬في حين كانت شفتيها‬
‫ْ‬
‫همست إلي بصوت خافت بعدما‬ ‫تكادان تالمسان أذني و أنا أسترجع أنفاسي التي كانت قد انقطعت لثوان معدودة‪.‬‬
‫دخلنا الرواق‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫_ كان هذا أكثر األعوان مالحظة و نباهة و أكثرهم شراسة أيضا‪ .‬و لهذا وضعوه هنا بالضبط و ليس أمام‬
‫ّ‬
‫يتخطاه يمكنه أن يصول و يجول في كامل المبنى فضال عن الوصول إلى هذه الحانة التي‬ ‫المدخل الرئيسي‪ ،‬من‬
‫تختلف عن المشرب الواقع في مؤخرة قاعة الرقص‪ .‬هذا المكان ال يُفترض في العادة أن يدخله إال جماعة الـ‬
‫‪ ،VIP‬أما الليلة فهو ِّلولد فالن و بنت عالّن‪ .....‬ثم ألم أقل لك أنه ال داعي للقلق ؟‪ .‬السر في مثل هذه األماكن يكمن‬
‫فقط في النظر مباشرة في عيني كل من ت ُ ُّ‬
‫حس بأنه سيكون حاجزا أمامك بك ّل تح ٍدّ و ثقة‪ ،‬كأنك على استعداد تام‬
‫الفتعال شجار معه‪ ،‬ينتهي به مطأطأ رأسه كديّوث في مكتب صاحب الملهى‪ .‬جميع الرواد هنا هم بالضرورة "‬
‫أوالد فالن " أو من األثرياء‪ .‬ال شيء و ال أحد يقف في طريقهم‪ ،‬خاصة في أماكن مثل هذه و التي تُعد ساحة‬
‫سلطتهم‪ ،‬ثراءهم‪ ،‬رجولتهم و فحولتهم المزعومة أمام بعضهم البعض‪ .‬لذلك ال أحد منهم سيقبل بأن‬
‫يبرزون فيها ُ‬
‫يسأله أي عون أمن‪ " :‬وين راك رايح ؟ "‪.‬‬

‫ت ابنة فالن على حد علمي ؟؟‪.‬‬


‫لكنك لس ِّ‬
‫ِّ‬ ‫_‬

‫سألتُ نعيمة بصوت خافت فردّت مباشرة‪...‬‬

‫أرش أعوان األمن بما يكفي ألجعلهم‬


‫ُ‬ ‫صحبتي‪ ...‬كما أني‬
‫_ أنا أعمل مناسباتيا هنا‪ " .‬أوالد فالن " يحتاجون ُ‬
‫يغضُّون الطرف عن جلبي لبعض معارفي إلى المكان من حين آلخر‪ ،‬و من دون علم صاحب الملهى نفسه‪.‬‬

‫أنك ثرية أيضا لتتمكني من رشوة كل هؤالء ؟ !‪.‬‬


‫_ ال أعلم ِّ‬

‫نظرت إلي باسمة و هي تدخل معي إلى تلك الحانة الخاصة المطلة على المرقص‪ ،‬عندها فهمتُ أنها لم تكن‬
‫ترشوا هؤالء بالمال‪ ،‬بل بأشياء أخرى‪.‬‬

‫_ اختر لنا مكانا يالئمك‪ ،‬فلم يبق الكثير من الوقت‪.‬‬

‫كان المكان هادئا بعض الشيء قياسا إلى المرقص‪ ،‬رغم أن صدى الموسيقى و إيقاعاتها السريعة لم يتوقّف‬
‫عن نطح الزجاج العازل من الخارج جاعال منه صفائح مهتزة‪ .‬إنارة خفيفة كانت تداعب تلك األرائك الجلدية‬
‫الحمراء التي كانت تتوزع عبر محيط المكان بشكل مدروس‪ُ ،‬ملت ّفة بشكل دائري حول موائد زجاجية صغيرة‪،‬‬
‫ّ‬
‫تؤطره مصابيح النيون ذات اإلضاءة‬ ‫نُصبت فوقها لمبات صغيرة ذات إنارة خافتة‪ .‬و هناك عند المشرب الذي‬
‫جلس بعض الشباب فرادا و أزواجا يحتسون المشروبات الكحولية المختلفة‪ ،‬إذ‬
‫َ‬ ‫الحمراء و الخضراء و البنفسجية‪،‬‬
‫أن الماركات و األلوان المختلفة للنبيذ و الجعة و أشكال قوارير الويسكي و الشامبانيا و الفودكا و الروم التي كانت‬
‫صة القوم "‪.‬‬
‫معروضة خلف السُّقاة‪ ،‬كانت تعبّر بصدق عن روح المكان الذي كان فعال " ِّلخا َّ‬

‫ْ‬
‫جلست مع نعيمة التي أخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها النسوية الصغيرة و راحت تتفحص‬ ‫بمجرد ما‬
‫مساحيق وجهها و شكل تسريحة شعرها‪ ،‬بدأتُ أنا ألمح بعض الوجوه المعروفة تقريبا عندنا نحن معشر‬
‫صحفيين‪ .‬وجوه يافعة ال تظهر في الغالب على شاشات اإلعالم‪ ،‬ربما من أجل الحفاظ عليها في الظل كذخر‬
‫ال ّ‬
‫للمستقبل النخبوي لهذه الطبقة التي كتبتُ و أكتب عنها الكثير ؟‪ .‬كانوا أبناء بعض الوزراء و المسئولين السّامين‬

‫‪13‬‬
‫في الدولة رفقة صديقاتهم‪ .‬أحدهم معروف جدا بطيشه الالمحدود عندما يُمسك مقود سيارته رباعية الدفع الفاخرة‪،‬‬
‫و هو يمضي جل أيامه وسط مشادّات و سب و شتم لشرطة المرور‪ ,‬كل ّما أوقفه أي شرطي " زوالي " استجمع‬
‫ُحرر له مخالفة‪ ،‬إال و‬
‫شجاعته و ِّحسّه المهني و الموضوعي‪ ،‬بل و حتى الوطني‪ ،‬في مثل هذه الحاالت الجليلة لي ِّ ّ‬
‫انتهى األمر إلى جلبة كبيرة وسط الطريق أو الشارع الذي يتم إيقافه فيه‪ .‬هنالك آخر عرفته عندما التفتَ و هو‬
‫يتفحّص جسد إحدى الساقيات حين كانت تمر خلفه حاملة كأسي مارتيني على طبق متجهة نحو إحدى الطاوالت‪.‬‬
‫ورط والده في سلسلة ال حصر لها من المواقف ال ُمحرجة مع مصالح األمن‪ ،‬بسبب‬ ‫إنه ابن رئيس بنك حكومي ّ‬
‫ّ‬
‫محطم‪ ،‬كلما‬ ‫مغامراته النسائية في الفنادق و التي غالبا ما تنتهي إلى شجارات عنيفة و صراخ و كالم بذيء و أثاث‬
‫اكتشفت إحدى عشيقاته خيانته في أي حانة أو فندق يرتاده مع أخرى‪ .‬أه ! و عن الشخص الذي طلب كأسي‬
‫مارتيني‪ ،‬فهو يجالس ابنة عميد كبير متقاعد من الجيش و هي معروفة في األوساط الضيقة بعجزها عن اإلقالع‬
‫عن إدمان الهيروين‪ ،‬رغم أن والدها فعل المستحيل لعالجها في أرقى المراكز و المستشفيات األجنبية‪ ،‬و لسبب ما‬
‫ظلت هي ترفض االستقرار بإحدى الدول األوروبية‪ .‬اإلشاعات تقول بأن سبب ذلك يرجع إلى رجل متيمة بحبه‪،‬‬
‫كان السبب األول في إدمانها على كل حال‪ .‬يا ترى‪ ،‬إلى أين وصلت حكايتها مع كفاحها المرير ضد ذلك المخدّر‬
‫تحرك بداخلي فضول ُزرع ف ّ‬
‫ي بالفطرة‪ ،‬و رأيتُ نفسي كأنما أنهض من مكاني ُمتوجّها إليها مباشرة‬ ‫الجهنمي ؟‪ّ .‬‬
‫ألفتح معها حديثا يبدو في الظاهر عابرا‪ ،‬يسير بي إلى مجالستها و مشاركتها لبعض الكؤوس التي تجعلها ترغب‬
‫بشدة في الحديث عن أحوالها و كيف تعيش حياتها و صراعها مع آفتها اللعينة‪ ،‬و من يعلم ؟‪ ،‬قد تنتهي إلى سرد‬
‫قصص و أسرار والدها الضابط السامي أيضا !‪ .‬أن تكون صحفيا يعني أن تكون قادرا على اختالق مشاريع‬
‫مقاالت أو تحقيقات من أبسط مالحظة أو تساءل قد يطرأ فجأة على ذهنك‪ .‬أن تملك القدرة على اختراق كل‬
‫عوقات‪ ...‬بكل السبل‪ ،‬و أن تنزع من ذهنك عبارة " قد ال ينجح األمر " !‪.‬‬
‫الحواجز و ال ُم ّ‬

‫_ أين ذهب عقلك أيها الوسيم ؟؟؟‪.‬‬

‫فاجأتني نعيمة و هي تشير بيدها إلى الساقية‪.‬‬

‫أتعرف على بعض الوجوه‪.‬‬


‫ّ‬ ‫_ ال‪ ،‬أنا هنا‪ .‬فقط كنتُ‬

‫ستتعرف على الكل‪ .‬هذا المكان الذي نجلس فيه مثال هو المكان‬
‫ّ‬ ‫_ لو كنتَ من الرواد الدائمين للملهى لكنتَ‬
‫المفضل ألحد المنتخبين المحليين‪ ،‬و الذي يلتقي بانتظام مع عشيقته التي تصغره بخمس و عشرين عاما !‪.‬‬

‫_ و هل يحدث أن يلتقي بأحد أبنائه هنا مثال ؟‪.‬‬

‫_ ال‪ .‬ما أعرفه هو أن أبناءه ال يرتادون مثل هذه األماكن‪ ،‬بل إن زوجته امرأة تقية و صالحة‪ .‬هو نفسه كان‬
‫رجال عاديا و متدينا زار البقاع ال ُمقدّسة قبل أن يفوز في االنتخابات البلدية‪ .‬انقلب بعدها رأسا على عقب‪ .‬هل‬
‫ت ُصدّق هذا ؟‪ ......‬آه صحة حبيبتي‪ِّ ،‬ك ِّ‬
‫راك ؟‪ ،‬غاية ؟‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ي بنظرة متف ِّ ّحصة‬ ‫ْ‬
‫فبادرت إلى سؤالها و هي تلقي إل ّ‬ ‫ارتمت نعيمة على الساقية التي بدى أنها إحدى صديقاتها‪،‬‬
‫و كأنها تسألني شخصيا‪...‬‬

‫_ من هو الفتى الكوبي ؟‪.‬‬

‫أطلقت نعيمة ضحكة عالية جعلت بعض الجلوس في الحانة يلتفتون نحونا للحظة‪.‬‬

‫تعرفت عليه قبل‬


‫_ كوبي ؟ ! كيف لم يخطر على بالي هذا اللقب ؟‪ ....‬إنه فقط صديق و هو ابن سفير سابق ّ‬
‫ُمدة‪ .‬سيد أحمد‪ ،‬هذه صديقتي سارة‪.‬‬

‫_ آسفة لم أقصد‪ ،‬لكنني مولعة بأصحاب الشوارب الالتينية !‪ .‬ثم إنه عليكَ أن ت َحذر هذه الفتاة فهي جد شرسة‬
‫قوتك و جنونك !‪.‬‬
‫و متوحشة في الفراش مهما بلغت ّ‬

‫ابتسمت نعيمة و كأنها تتلذّذ بجهل صديقتها لهويتي الحقيقية‪ ،‬أو ربما تكون قد أحسّت بنوع من اإلطراء من‬
‫ْ‬
‫كالمها أيضا ؟‪ ،‬ال أعلم !‪ .‬ابتسمتُ بهدوء و أنا أشكر بداخلي الشخص الذي نصحني بوضع ذاك الشارب‬
‫االصطناعي و ذاك الشعر المستعار‪ .‬بدى فعال أنهما دفعا بعض من رآني تلك الليلة إلى استنتاجات الخاطئة تماما‪.‬‬

‫ْ‬
‫طلبت نعيمة كأسي جعة خفيفة بينما أشعلتُ سيجارة و ُرحت أتفحّص كل تلك الوجوه اليافعة المتفرقة في‬
‫البار‪ .‬بعضهم شارد مع نفسه و كأن الكحول بدأت تُثقل تفكيره‪ ،‬و البعض اآلخر يتحادث مع الرفيقة بشكل يقترب‬
‫ُّ‬
‫التفت جهة المرقص حيث كان الرقص و الجنون ال يزال ُمتصاعدا‪ .‬ال شيء يبدو من‬ ‫من الهمس منه إلى الكالم‪.‬‬
‫خالله سوى الظالم الذي تخترقه األضواء الخاطفة‪.‬‬

‫_ هل فعال كل هؤالء من أبناء و بنات القماقم ؟‪.‬‬

‫تنهدت نعيمة كمن بدأ يُصاب بالضجر من دون سبب واضح و هي تنظر إليهم بنوع من الشرود واضعة كفّها‬
‫على خدها‪.‬‬

‫_ أممم‪ ،‬كلّهم من أبناء األثرياء و الميسورين على كل حال‪ ،‬لكن ليسوا بالضرورة أبناء أشخاص نافذين‪ .‬أنت‬
‫تعلم‪ ...‬هناك أبناء مسئولين سامين سابقين و حاليين في الحكومة و الجيش‪ .‬أبناء دبلوماسيين جزائريين و أجانب‪.‬‬
‫مقربين من النظام !‪ ....‬و هنالك أبناء‬
‫أبناء نواب برلمانيين و مسئولين محليين‪ .‬هناك حتى صحفيين شباب ّ‬
‫أصحاب شركات عامة و خاصة‪ .‬تجار كبار و أصحاب أعمال مزدهرة‪ ...‬جزائريين و أجانب أيضا‪.‬‬

‫الصحفيون عرفتُهم‪ ,‬لم يفاجئني وجودهم في مكان كذاك‪ ،‬فهو المكان األنسب لتوريطهم في فضائح أخالقية‬
‫تدخل إلى ملفّاتهم السوداء‪ ،‬التي يتم استفزازهم بها من طرف النافذين أو األمن العسكري الموجود في كل مكان و‬
‫ركن في البلد‪ ،‬عندما يحين وقت استغاللهم طبعا !‪ .‬بعض قادة البلد ال يشعرون أنّهم بحاجة إلى شراء صحف‬
‫ماداموا يشترون صحفيين كهؤالء و بسهولة تامة !‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫رميتُ ببصري من بعيد و أنا ألمح أحدهم‪ .‬صحفي قذر يدعى عياش مراد‪ .‬يلقبونه في مجال عملي " الحنش‬
‫الروجي "‪ ،‬الثعبان األشقر‪ .‬كان هناك على بعد أمتار منا‪ ،‬يجلس وسط فتاتين عشرينيتين‪ ،‬كانت إحداهما تقهقه في‬
‫ُّ‬
‫حين كانت الثانية تهمس في أذنه و قد اختفت يدها تحت الطاولة‪ ،‬في حين كان هو غارقا في عالمات النشوة تحت‬
‫سطوة الخمر و الموسيقى الهادئة و سحر األضواء الخافتة و نعومة يد الحسناء الزاحفة على سرواله أو بداخله‪.‬‬
‫الثعبان األشقر ينتمي إلى فصيلة من الصحفيين الذين ليس لهم أي قناعة مبدئية أو التزام أخالقي أو انتماء مهني‬
‫محدد‪ .‬صنف من الصحفيين الذين هم في أتم االستعداد لتجنيد أقالمهم ألي كان و في سبيل أي قضية مقابل المال‬
‫أو االمتيازات التي يتلقونها من تحت الطاولة طبعا‪ .‬على األرجح أن اليد الناعمة التي كانت تدابعه تحت الطاولة‬
‫كانت إحدى تلك االمتيازات‪ ،‬لكن ممن أو لماذا ؟‪ .‬وحده الحنش الروجي يعلم !‪.‬‬

‫وضعت الساقية سارة الكأسين و انصرفت و هي ال تزال ترمقني بتلك النظرة األولى‪ ،‬و كأنها تف ّكر مع نفسها‬
‫ْ‬
‫ُّ‬
‫إلتفت مرة ثانية جهة‬ ‫باستعارة هذا الفتى المتشبّه بفحول الكاريبي من صديقتها إن كان ال يضيره ذلك في شيء‪.‬‬
‫المرقص و أنا أفكر في وضعية تلك الفتيات اللواتي كن يحركن أجسادهن الممشوقة الكاسية العارية فوق تلك‬
‫المصطبات المرتفعة‪ ،‬تماشيا مع تلك اإليقاعات الموسيقية الغربية‪ .‬قلتُ في نفسي أن مثل هذه المشاهد لم نكن‬
‫نراها سوى في أفالم األمريكيين‪ ،‬لكنها اليوم واقع‪ .‬افترض أنه واقع عالمي‪.‬‬

‫كنت أعلم أنه يوجد من بينهن من تعمل لصالح أجهزة األمن‪ ،‬و دورهن ال يقتصر على المراقبة أو التجسس‪،‬‬
‫بل إنهن يشكلن ّ‬
‫خطاف الصنارة الذي يتم به اصطياد عدد ال بأس به من الحيتان الكبيرة‪ ،‬من المسئولين السامين و‬
‫المحليين و رجال المال و الرعايا األجانب‪ ،‬و لنفس الغرض الذي ذكرته سابقا عن الصحفيين‪ .‬االستفزاز‪ ،‬الضغط‬
‫سِّيستام "‪.‬‬
‫و التهديد بالفضح و تدمير السيرة الذاتية في حالة عدم االنصياع لرغبات " ال ّ‬

‫ُرحت فقط أتساءل للحظة‪ :‬أيُعقل أن كل هته الحسناوات اللواتي تم اختيارهن بعناية فائقة مقابل مبالغ مغرية‬
‫على ما يبدو‪ ،‬إلسعاد أنظار أبناء القماقم و البورجوازيين الجدد‪ ،‬هن سعيدات حقا بوضعهن هذا ؟‪ .‬كنت أتساءل‬
‫بالطبع عن اللواتي ال عالقة لهن بأجهزة األمن أو شبكات النفوذ‪ .‬الفتيات اللواتي دفعت الظروف بهن إلى هنا‪ .‬كل‬
‫هذه الشفاه المبتسمة قد تكون مجرد ديكور مصطنع يخفي خلفه قصصا مأساوية كما ل ّمحت لذلك نعيمة‪ .‬ما كانت‬
‫تخفي تلك األعين الجميلة الضاحكة يا ترى ؟‪ .‬أهو الفرح اآلني العابر الذي ال يُمكن أن يكون سوى تجميع غير‬
‫محكم لمنطاد هوائي غير مكتمل‪ ،‬يوحي بفكرة الهروب من أرض الظلم و الدموع‪ ،‬التي عرفنها في قراهن الفقيرة‬
‫الرشيقة يا ترى ؟‪ .‬أهي هروب مجنون من ذكرى أب‬
‫النائية و لو للحظات ؟‪ .‬ما كانت تخفي تلك األجساد الناعمة ّ‬
‫ظلوم و أخ غشوم ؟‪ .‬أهي دخول متع ّمد في غيبوبة الضَّمير انتقاما من ذات ّ‬
‫خطاءة و انسالخا عن مجتمع ال يعرف‬
‫فخربوا حياة اآلالف‬
‫نِّعمة الغفران ؟‪ .‬أهي انتقام ِّمن ُحلم َمن أرادوا فرض تعاليم الدين بقوة الرصاص و السّكين‪ّ ،‬‬
‫من البشر البسطاء‪ ،‬دافعين بهم إلى عوالم الجحيم الكامنة في هذه الدنيا ؟‪.‬‬

‫ثم ماذا عن تحقيقي الصحفي يا ترى ؟‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ُرحتُ أف ّكر في األسلوب األنسب الذي يمكنني من خالله كشف خدعة الليلة‪ ،‬التي باركها مسئولو الثقافة‬
‫بتواطؤ شبه صامت من أجل إرضاء أبناء الطبقة المحظوظة بأموال الشعب‪ ،‬أو هكذا كان األمر يبدو‪ .‬كيف أفعل‬
‫ذلك دون أن أتسبّب في موجة من األحكام ال ُمع َّممة من طرف الجماهير الواسعة على كل من يشغل منصبا مرموقا‬
‫في الدولة ؟‪ .‬هناك موظفين حكوميين ال عالقة لهم و ال ألبنائهم و بناتهم بكل هذا الهرج و بريقه‪ ،‬و الذي قد يُغري‬
‫علب الليل الذي يعتبر مخدرا غاية في القوة لبعض القلوب الهشة !!‪.‬‬
‫الكثيرين بالدخول إلى عالم ُ‬

‫قلتُ في نفسي أن الهدف هو تبيين كيف أنهم جاءوا بمطربين مشارقة‪ .‬من لبنان خصوصا‪ ،‬إلحياء احتفاالت‬
‫رأس السنة الميالدية بمبالغ طائلة جدا‪ ،‬معلنين عبر وسائل اإلعالم أن هؤالء سيحيون حفالت لعامة الناس‪،‬‬
‫جاعلين المواطن العادي يدفع ما يقارب األلف دينار جزائري ليستمتع قليال باألغاني التي يُحب‪ ،‬لساعة على‬
‫ُهرب هؤالء " اآليدولز " في سيارات ُمصفّحة سوداء تحت جنح الظالم إلى هذا المكان‪ ،‬حيث يقدمون‬
‫األكثر‪ ،‬ثم ي َّ‬
‫صبح ألبناء أصحاب الشوارب العريضة دون أن يدفعوا شيئا‪ ،‬و لو دينارا‬
‫حفلة راقصة حتى الساعات األولى من ال ُّ‬
‫أنشر المقال دون دفع هؤالء الموجودين هنا الليلة للشعور بأنهم هم المستهدف الرئيسي من التحقيق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫رمزيا !‪ .‬كيف‬
‫ففي النهاية تواجدهم في هذا الملهى‪ ،‬رقصهم‪ُ ،‬‬
‫شربهم‪ ،‬عريهم‪ ،‬جنونهم‪ ،‬مجونهم الليلة‪ .....‬كل هذا يدخل في إطار‬
‫الحرية الشخصية و اختيارات كل فرد للطريقة التي يود أن يعيش بها حياته‪ .‬حتى الطبقة المتوسطة و حتى الدّنيا‬
‫من المجتمع لها من يختار هذا األسلوب في العيش‪ .....‬توجد اختالفات في اإلمكانيات فقط !‪ .‬ثم إن هؤالء ليسوا هم‬
‫بالضبط من دبّر و رتّب لهذه " المؤامرة الفنية " في النهاية‪.‬‬

‫ْ‬
‫غرقت في صمت تام و هي تنظر إلى ذلك الحشد الراقص‬ ‫عدتُ إلى لحظتي و قد انتبهت إلى نعيمة التي‬
‫سحب من عينيها العسليتين‬
‫َ‬ ‫بشكل أحسستُ لوهلة أن فيه قدرا من التقزز‪ْ .‬‬
‫بدت و كأنها غائصة في شرود غامض‪،‬‬
‫شيئا يشبه الحزن‪ ،‬صعد بشكل خافت في نظراتها البعيدة‪ ،‬كالد ّخان األخير الذي يرتفع من رماد يكاد َيخنق آخر‬
‫جمراته التي استسلمت للنهاية بعد حريق مهول و طويل‪ .‬هذه الفتاة ذات اللكنة الوهرانية تضمر الكثير في نفسها‪،‬‬
‫رغم أنها حتى ذاك الحين كانت ال تزال ترفض أن تطلعني على حكايتها‪ ،‬و كيف وصل بها المطاف إلى عالم‬
‫الليل‪ ،‬بل كانت ال تريد حتى إطالعي على اسمها الحقيقي !‪.‬‬

‫فحولت‬ ‫ْ‬
‫نظرت إلي و أدركت أني أتساءل في قرارة نفسي عن سر ذلك الحزن الغامض البادي على مالمحها‪ّ ،‬‬
‫نظرها إلى كأسها الذي كانت تداعب حافته العلوية بسبّابتها مطلقة بسمة خفيفة‪.‬‬

‫_ أتعلم ؟‪ ،‬أنت من الناس القالئل الذين تعاملوا معي من دون أية أحكام ُمسبقة بخصوص من أكون‪ .‬شعرتُ‬
‫بذلك منذ أول يوم‪ .‬يوم أخفيتني و ساعدتني على الهروب من ذلك الوغد المافياوي الذي كان يطاردني بسبب المال‬
‫الذي كنت أدين له به‪ .‬لو كان شخص آخر مكانك‪ ،‬لكان على األرجح قد ساعده على العثور علي‪ ،‬ليس حبا في‬
‫تاجر مخدرات‪ ،‬بل كرها لفتاة مال ٍه ساقطة‪ ،‬تستحق ما يحدث لها ألنها هي من اختارت هذه الحياة !‪.‬‬

‫_ و من تكونين ؟‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬مجرد فتاة شابة عرفت بعض المطبّات المزعجة التي خرجت بها عن طريق‬
‫أصرت على ذلك و كافحت من أجله !‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حياتها لبعض الوقت‪ ،‬لكنها تستطيع العودة إلى الطريق األول إن‬

‫‪17‬‬
‫ابتسمت كمن ال يُص ِّدّق ما يسمع‪....‬‬

‫_ الّ !‪ .‬تعلم َّ‬


‫أن هذا مستحيل‪ .‬على األقل أنا أعلم ذلك‪ ،‬و قد تقبّلت الوضع على قدر سوؤه‪ .‬فتاة مثلي وقعت في‬
‫الخطيئة و دخلت هذا العالم الغوغائي البارد‪ ،‬ال يمكنها العودة للخروج منه و كأنها لم تدخله أبدا‪ِّ .‬قلّي‪ :‬من هذه‬
‫العائلة التي ستقبل أن أكون فردا منها ؟‪ .‬من هذا الرجل الذي سيقبل يوما بأن أكون شريكة حياته و أما ألطفاله ؟‪.‬‬
‫أتدري ما يثير تهكمي في بعض األحيان حين أسير في الشارع الذي أقطنه و أصادف من هم على علم بخلفيتي ؟‪،‬‬
‫سواء كانوا من المتدينين أو من غير المتدينين‪ ،‬رغم أني أرتدي في العادة ألبسة عادية تماما كألبسة أي فتاة عندما‬
‫الركوب‬
‫الرجم في أعين الفئة األولى‪ ,‬و عاهر تستحق ّ‬
‫أكون خارج الملهى‪ ،‬إال أني ال أكون سوى فاسقة تستحق ّ‬
‫في أعين الفئة الثانية‪ .....‬هِّه !‪ ،‬و يقولون أنهم ال يتفقون في شيء !‪ .‬لو ترى ما أرى يا أمين‪ ،‬إنهم حتما يختلفون‬
‫في مظهرهم الخارجي‪ ،‬لكن‪ ،‬لو ترى نظرات التحقير و االستصغار التي تخرج من عيني ذلك الملتحي و من‬
‫عيني ذلك الس ِّ ّكير‪ ،‬مح ّملة بأطنان من األحكام ال ُمسبقة‪ .‬أحكام إعدام ُمسبقة !‪ .‬إنها نفس األعين‪ ،‬نفس القلوب‪ ،‬نفس‬
‫الكره و االشمئزاز‪.‬‬

‫ْ‬
‫نظرت إلي ثم أخذت رشفة من كأسها و هي تومئ برأسها يمينا و شماال‪...‬‬ ‫ْ‬
‫تنهدت بعمق‪.‬‬

‫_ لقد بلغتُ نقطة الالرجوع يا صديقي‪ .‬أحالمي الجادَّة و الصادقة انتهت عند عتبات غرور الشباب األعمى و‬
‫المتهور تحت أقدام‪ ....‬أو ألقل تحت حوافر صديقات السوء‪ ،‬اللواتي حولنني إلى مجرد بقرة بحوافر مثلهن !‪.‬‬
‫ّ‬

‫استقرت‬
‫ّ‬ ‫نظرتُ إليها متأسفا‪ ،‬و قبل أن أقول أي شيء آخر‪ ،‬توقفت الموسيقى التي كانت تهز المكان‪ ،‬و‬
‫األضواء العابثة باألنظار و االنتباه على إنارة ذات ألوان دافئة‪ ،‬ليرتفع صراخ و هتافات الحشد الراقص كأنّما ال‬
‫يريد أن يترك فرصة واحدة أمام الهدوء ليع ّم المكان و لو للحظات‪ ،‬ليعلو صوت مقدمة وقفت على المسرح‬
‫مخاطبة الجميع بلغة فرنسية ُمتقنة‪ ،‬حيث راحت تشكر الجميع على حضورهم هذه الليلة المتميزة‪ ،‬و تعدهم بحفل‬
‫جد متميّز مع وجوه مشرقية أحبوها و أحبّها العالم العربي‪ ،‬حضرت لتشاركنا االحتفاالت برأس السنة‪ .‬ارتفع‬
‫الهتاف مرة أخرى‪ ،‬عندها قفزت نعيمة من مكانها و عالمات الحماس تتطاير من وجهها كالشرارات النارية‬
‫الملونة‪ ،‬التي تتناثر عادة من األلعاب النارية في المناسبات السعيدة‪ .‬راحت تجذبني من يدي كالطفلة الصغيرة و‬
‫ّ‬
‫هي ترى إحدى فنَّاناتها اللبنانيات المفضّالت تدخل بفستانها اللّماع األنيق و المثير إلى المسرح‪ ،‬تحيي جمهورها‬
‫حاملة ميكروفونا في يدها‪.‬‬

‫_ هيا هيا بنا !‪ .‬لنستمتع ببعض الطرب‪ ،‬إنها ليلة سعيدة و المرء ال يدري أيكون الغد و عامه الجديد أفضل‬
‫من هذا الفائت !‪.‬‬

‫نزلنا رفقة بعض من كانوا في الحانة نحو المرقص‪ .‬كنتُ أجهز هاتفي الج ّوال ألوثق بعضا من جوانب‬
‫الحفل‪ ،‬عن طريق الصور و مقاطع الفيديو حين راح جل الحضور يحملون هواتفهم الجوالة استعدادا لتخليد تلك‬
‫األجواء االحتفالية البهيجة التي ستتحول إلى ذكريات جميلة‪ ،‬يتقاسمونها عبر شبكات التواصل االجتماعي‪ ،‬بينما‬

‫‪18‬‬
‫كنت أنا منهمكا في تجميع المزيد من الدالئل المادية التي أ ُ ّ‬
‫عزز بها تحقيقي الذي يفضح هذه الصفقة القذرة‪ ،‬التي‬
‫تعدُّ حلقة صغيرة جدا من حلقات الخداع‪ ،‬العبث و الفساد في هذا البلد‪.‬‬

‫راحت المطربة الممشوقة الجسد تشكر الجميع و تُعرب عن سعادتها الغامرة في تواجدها في بلد '' المليون‬
‫شهيد '' ‪ ،‬حيث ابتدأت كالمها بلكنتها اللبنانية اللطيفة و ختمته بعابارات من اللهجة الجزائرية و هي تقول‪ '' :‬انحبكم‬
‫بزاف بزاف ''‪ ،‬لتنطلق في أدائها ألول أغنية في السهرة‪ .‬لقد بلغ هُبل بعض الفتيات حد الجنون بتلك المطربة‪،‬‬
‫كن يصرخن بأعلى أصواتهن كلّما أشارت بيدها و هي تحيي معجبيها و معجباتها الذين يهتفون باسمها بأعلى‬
‫حيث ّ‬
‫أصواتهم‪ ،‬حتى إن البعض رحن يبكين من شدة الحماس و اإلثارة و الجميع يردد معها أغانيها الغرامية‪ ،‬في حين‬
‫كانت نعيمة هي األخرى تشارك الجميع الغناء‪ .‬كانت تبتسم بسرور بدى معه رغم ذلك نوع من الكآبة الغريبة على‬
‫وجهها‪.‬‬

‫أظنها كانت هي األخرى تحاول عيش بريق اللحظة فقط بقدر المستطاع رغم علمها بأنه سينتهي ال محالة‪ .‬لقد‬
‫شدّتني إليها في تلك اللحظات‪ .‬رحتُ أراقبها و هي تغني و تميل بجسدها الجميل على اإليقاع الشرقي مغمضة‬
‫يؤرقها و الذي تحتفظ به لنفسها فقط‪ .‬كانت كمن يتخيّل‬
‫عينيها و كأنها فعال تريد الهروب من السر الرهيب الذي ّ‬
‫نفسه في مكان آخر بعيد جدا‪.‬‬

‫استمر الحفل إلى زهاء الثانية صباحا‪ ،‬مع توقف لدقيقتين فقط عند منتصف الليل‪ ،‬تم فيها عد تنازلي جماعي‬
‫آلخر أنفاس سنة ميالدية مجنونة‪ ،‬ودّعها العالم بعد أن أثخنته بالجراح و الكدمات و الخيبات‪ّ .‬‬
‫لعلنا كنا نتشفى فيها‬
‫و نحن نعدُّ آخر لحظات حياتها‪ ،‬ربما بسبب كلفتها الباهظة على سعادتنا الجماعية و على أحالمنا التي بدت صادقة‬
‫و جادة في بدايتها‪ ،‬قبل أن نكتشف أنها كانت مجرد همسات ساذجة من دون معنى في النهاية‪ .‬سنة أخرى منقضية‬
‫خلّفت لنا إرثا جديدا من الحسابات ال ُمعلَّقة التي تنتظر التصفية مع العام الجديد‪.‬‬

‫ملوحة لي بيدها‪ .‬كانت تودعني و هي‬


‫بعدما انتهى كل شيء‪ ،‬رأيت نعيمة و هي تختفي كشبح بين الحشود ّ ِّ‬
‫في طريقها تتبع ذلك الذي أغراها ببسمة و لمسة خالل الحفل‪ .‬قلتُ في نفسي أنها فريسته الليلة‪ .‬أول فريسة للعام‬
‫الجديد !‪.‬‬

‫‪-2-‬‬

‫‪19‬‬
‫ليالي كلب َّ‬
‫الزريبة‬
‫أذكر جيدا ذلك اليوم الذي استقبلني فيه سي ّ‬
‫رزاق‪ ،‬رئيس تحرير جريدة '' النبأ اليومي '' في مكتبه حين‬
‫أتيتُه صحفيا جديدا‪ .‬كنا في أواسط ربيع ‪ .4102‬بعد بضع سنوات قضيتها متنقال بين جرائد مغمورة كأي صحفي‬
‫متدرب و مبتدئ‪ ،‬خرج من جحيم ستة أعوام لعينة في الجامعة‪ .‬كان يوما ماطرا عصفت فيه رياح قوية على‬
‫ّ‬
‫العاصمة‪ .‬كنتُ أجلس في مكتبه و أنا أراقب ذلك الغيث الذي كان ينزل من السماء و كأنه دعاوي و صلوات‬
‫متأخرة أو مكدّسة تم إرسالها على دفعة واحدة‪ .‬إذ يقولون أنه حتى الطبيعة عندنا لها مزاجيتها الخاصة و المتقلبة‪.‬‬
‫بإمكانها أال تمطر إال نادرا طيلة فصل الشتاء‪ ،‬حتى يظن المرء أن البلد فعال على حافة جفاف مؤ ّكد‪ ،‬ثم فجأة يأتي‬
‫ت في وقته على غفلة و من دون إشارات مسبقة واضحة‪ .‬حتى المناخ يبدو كأنه قد استسلم أخيرا و تخلى‬
‫ما لم يأ ِّ‬
‫عن تقاليده متأثرا بميزة هذا الشعب‪ .‬شيء من سرعة التغيُّر المفاجئة الممزوجة بالغضب العارم غير المحسوب في‬
‫عواقبه‪ ،‬بعد وقت طويل من الصمت و السُّكون و ال ُمهادنة‪ .‬هي الجزائر كما عرفها التاريخ‪.‬‬

‫ذاك اليوم‪ ،‬كنتُ أراقب واجهات األبنية المجاورة لمقر الجريدة و قد غيبتها األمطار تماما و جعلتها تبدو ككتل‬
‫و أكوام رمادية من دون معالم‪ .‬كانت الرياح تضرب بسهام المطر المثخنة بالماء وجه المقر‪ ،‬جاعلة إياها تنزلق‬
‫على زجاج النوافذ بانحدار سريع و كثيف‪ ،‬في حين كانت سيارات الحماية المدنية تدوي الشارع المقابل بصفاراتها‬
‫و قد علقت في زحمة السير المشلولة بسبب غزارة المطر‪.‬‬

‫كنتُ صحفيا جدادا و متحمسا‪ .‬أذكر أني جلستُ بصمت أفحص بناظري مكتب سي َّ‬
‫رزاق الذي كان مؤثثا‬
‫بشكل جيد‪ ،‬و قد وجدت فيه أناقة فيها لمسة خفيفة من عدم الترتيب من خالل تلك األوراق و الملفّات المبعثرة‬
‫فوقه‪ .‬ذ ّكرني ذلك بمكتبي المتواضع في البيت‪ ،‬الذي تنتشر عليه األوراق و الدفاتر و المل ّفاَت و الكتب المصطفة‬
‫فوق بعضها إلى جانب حاسوبي المحمول‪ ،‬الذي كان جوادي الذي خضتُ و ال أزل أخوض معاركي برفقته و على‬
‫صهوته‪.‬‬

‫ُعلّق صورة كبيرة في إطار خشبي جميل ألحد رموز الكتابة الحرة في البلد‪ .‬الشهيد‬
‫كان سي رزاق و ال يزال ي ِّ‬
‫الطاهر جاووت صاحب الجملة الخالدة أيام التصفيات الجسدية للصحفيين و المفكرين بداية التسعينات‪ ،‬الجملة التي‬
‫تسبّبت في اغتياله و التي كان مضمونها يقول‪ " :‬إن قلتَ ما تريد فأنت ميت‪ ،‬و إن لم تقل فأنت ميت‪ ،‬إذن قل ما‬
‫تريد و ُمت !"‪.‬‬

‫عدت إلى حاضري تلك اللحظة حين دخل السي ر ّزاق و هو يتنهد ُمطلقا نحنحته مع زفيره ينظر نحو النافذة‪،‬‬
‫ُ‬
‫و قد ارتسمت على وجهه إيماءة سريعة تنم عن انزعاج ما‪ ،‬ثم جلس و قد شابك بين أصابع يديه و من دون أي‬
‫ي‪...‬‬
‫مقدّمات‪ ،‬نظر مباشرة في عين ّ‬

‫_ أخبرني فقط‪ ،‬كيف استطعت أن تصل إلى هذه الوثائق‪ ،‬العقود و الفواتير ؟‪ .‬بل كيف استطعت الدخول إلى‬
‫هذا الملهى الخطير دون أن يت ّ‬
‫فطنوا إلى أنك من الصحافة المستقلة ؟ !‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ابتسمتُ إليه و فهم جوابي مباشرة‪ ،‬فحمل يده مقاطعا يريد اإلجابة مكاني‪...‬‬

‫_ أه صح صح‪ ...‬مصادر الصحفي الموثوقة هي رأس ماله‪ ،‬قلتها لي قبل عام و أنت تجلس في هذا المكان‬
‫تحديدا !‪ .‬مصادرك الموثوقة كثيرة يا هذا ؟‪.‬‬

‫_ لدي قدراتي الخاصة في اكتشاف الناس و كسب ثقتهم‪.‬‬

‫حمل يده و هو يصيح ممتهكما‪...‬‬

‫_ يخدمون الثقافة‪ ......‬ثقاااااافة !!‪ .‬يخي حالة !‪.‬‬

‫احمر وجهه في ظرف لحظات من الغضب الشديد‪ ،‬بينما كنتُ أحدِّّق به و أنا أقول في نفسي‪ " :‬نزوة غضب‬
‫عابرة يا سي ّ‬
‫رزاق‪ ،‬ستنسى األمر مع حلول المساء !‪" .‬‬

‫_ المهم‪ ،‬سي ّ‬
‫رزاق‪ ،‬أنا أعلم و أنت تعلم أن هذا التحقيق سيُحدث هزة أخرى وسط الرأي العام‪ .‬ال أفهم إذن ما‬
‫الذي تفعله و أنت تمسك بهذه األوراق تقلّبها منذ الصباح بين يديك ؟‪ .‬كل شيء موثّق‪ ،‬بل و لدي تسجيالت فيديو‬
‫للحفل إن أردت نشرها في موقع الجريدة على ال ّنت‪ .‬ما الذي ننتظره ؟ !‪.‬‬

‫نظر إلي هنيهة بصمت‪ ،‬ثم نظر إلى كومة األوراق التي كانت فوق المكتب و هو يتنهد متنحنحا مرة أخرى‪،‬‬
‫ثم هز رأسه‪...‬‬

‫_ يُمكنك أن تحتفل يا سي أمين‪ .‬تحقيقك سيُش ِّ ّكل مانشيت الغد‪.‬‬

‫ف ّكر هنيهة مع نفسه ثم مال قليال برأسه و يدقق النظر إلي‪...‬‬

‫_ ثم إنه يجب عليك أن ترتاح قليال‪ .‬عالمات األرق باتت جلية على مالمحك يا ولد ؟‪.‬‬

‫_ شكرا سي ّ‬
‫رزاق‪ ،‬هذا هو عمل رئيس التحرير‪ ،‬نشر األعمال التي تهز ضمير المجتمع و تزيد من أرق‬
‫أصحابها‪.‬‬

‫و كأن شيئا ما استفزه في كالمي َّ‬


‫فهز رأسه متهكما مرة أخرى‪...‬‬

‫_ أجل‪ ،‬إنها مهمة رؤساء التحرير‪ ،‬نشر األعمال التي تهز ضمير المجتمع و تُغضب السّلطة‪ ....‬مع عدم‬
‫نسيان تناول أدوية ضغط الدم طبعا‪.‬‬

‫كنتُ أعاني األرق لليال طويلة بسبب انغماسي الكلي في هموم هذا البلد‪ ،‬لكن نجاحي في النبأ اليومي كان ال‬
‫صرت نجم التحقيقات التي تتسبّب عادة في إحراج الكثير من المسئولين في أكثر‬
‫يزال يتعزز من شهر آلخر‪ .‬لقد ِّ‬
‫من قطاع‪ ,‬بالرغم من أني كنتُ أركز في العادة على األخبار و الريبورتاجات و التحقيقات التي تتناول مشاكل‬
‫المجتمع بصفة عامة‪ ،‬إال أن ميلي إلى كشف فضائح الفساد المالي و السياسي كانت تطغى من حين آلخر‪ ،‬ألنها في‬

‫‪21‬‬
‫النهاية تعبر عن أمراض اجتماعية صارت متأصلة في البلد هي تشكل خبز يومياتنا‪ .‬غريزة شمي الصحفية قلّما‬
‫كانت تخطئ عندما تدفع بي إلى تحسُّس وجود خطب ما في قطاع ما‪ ،‬وزارة أو مؤسسة أو شخص بعينه‪ .‬و قد‬
‫يجادلني البعض حول هذا اإلدعاء بالقول‪ " :‬ما هو القطاع الذي ال يشكو خطبا ما في هذا البلد ؟‪ .‬البالد كلّها تشكو‬
‫خطبا ما ! "‪.‬‬

‫يتلوى و يزحف‬
‫هنا بالضبط‪ ،‬كان ينتصب وتد التحدي الذي اخترته !‪ .‬هنا كان يكمن شيء ما بداخلي ظل ّ‬
‫ُ‬
‫ينفث الشك و الحيرة في أيامي‪ .‬لم أكن بعد قد رأيت شكله الحقيقي‪ ،‬لكنني كنت‬ ‫بصمت كثعبان يعيش بين الظالل‬
‫أرى ظله يتماها مع الظلمة في تلك الزاوية غير الواضحة‪ ،‬و التي كانت ال تزال غير مضاءة بشكل جيد انطالقا‬
‫من زاوية المقعد الذي اختاره القدر لي ألتفرج منه على مسرحية المجتمع‪ .‬مسرحية واقعية جدا‪ ،‬أحد فصولها‬
‫شعب صار كذلك الرجل الذي انهار بعد طول مقاومة‪ ،‬و صار ه ّمه الوحيد هو األكل و النوم‪ .‬فقط !‪.‬‬

‫عندما دخلت مؤسسة النبأ اليومي ألول مرة‪ ،‬أردتُ أن أبتكر شيئا جديدا‪ ،‬شيئا ُمميزا‪ ،‬فكرة ما أحاول بها خلق‬
‫أثور قلقه‪ .‬بعدما اكتشفت بعد‬ ‫ّ‬
‫أستفز سكينته‪ِّ ّ ،‬‬ ‫أحرك بها العقل الجمعي لجمهور الجريدة‪،‬‬
‫" طفرة " و لو صغيرة ّ‬
‫بضعة أشهر من العمل أن تلك المؤسسة التي كانت تعتمد كثيرا على صحافة االستقصاء‪ ،‬إنما كانت تقريبا تعاني‬
‫نفس المشكلة التي كنتُ قد بدأتُ في اكتشافها في المجتمع ككل‪ .‬لقد كانت تتعامل مع تلك التحقيقات الكبيرة التي‬
‫فرغة من مشاعر القلق‬
‫كانت تفضح بها جانبا و لو ضئيال من جنون هذه البالد الضائعة بنوع من الروح اآللية ال ُم َ‬
‫أو الخطر‪ .‬كانت شيئا مقنعا و الواعيا‪ .‬فالصحفيين يسعون طيلة األيام الصطياد األخبار الجادة و نشر التحقيقات‬
‫العميقة التي تحمل حقائق مقلقة عن الوضع السيء الذي بلغته البالد في عشرية الفساد و اإلفساد و اإلفالس‬
‫األخالقي‪ ،‬التي تلت عشرية الذبح و التقتيل و العدمية‪ .‬لكن و بمجرد نشر المقاالت‪ ،‬التي قد تُحدث ضجة كبيرة أو‬
‫تمر بعد أيام و تهدأ إلى أن تختفي تماما‪ .‬ال وجود لرجع‬ ‫متوسطة بحسب ما يحمله اجتهاد كل صحفي‪ّ ،‬‬
‫فإن األمور ُّ‬
‫الصدى أو االستمرار في التّذكير و التثوير لعالج تلك المسائل ؟ ‪ .‬أظنه كان مشكل الصحافة الحرة كلها‪ ،‬بل و‬
‫ربما يكون ذلك مشكل الجزائريين ككل ؟‪ .‬نحن سريعو النسيان‪.‬‬

‫الحقيقة هي أني لم أستطع النوم تلك الليلة بعدما وافق سي رزاق على نشر تحقيقي حول ملهى الحي العاصمي‬
‫الراقي‪ .‬جو تلك الليلة كان دافئا بعض الشيء قياسا إلى ليالي الشتاء‪ .‬فبعد تقلّب في الفراش لنحو ساعة‪ ،‬أدركتُ‬
‫أنني لن أنام مهما حاولت‪ .‬نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الواحدة و النصف صباحا‪ .‬نهضت و اتجهت نحو‬
‫غرفة المعيشة المؤثّثة ببقايا بيت أسرتنا الكبيرة القديم في مدينة المديّة‪ ،‬الذي أحضرته معي تحت ضغط أمي عندما‬
‫قررتُ أن أستقل تماما بحياتي عن عائلتي الصغيرة التي تقطن بالبليدة حيث ُولدتُ و ترعرعت‪ .‬تأ ّملتُ أثاث غرفة‬
‫االستقبال العتيق للحظة و قد تذكرت أن معظمه يعود إلى بيت جدي القديم‪ .‬رحت أستذكر مع كل قطعة منه ذكرى‬
‫طفولية بذاتها‪ ،‬فلكل قطعة حكاية‪ ،‬حدث‪ ،‬أو ُمغامرة‪ ،‬ارتبطت بأشخاص كبار من العائلة لم يعد لهم وجود‪ ،‬أو‬
‫أقران هم اليوم غير أالئك الذين عرفت‪ .‬أناس غرباء يزنون قوة األرحام بقوة المصالح‪ ،‬صاروا أي شيء غير‬
‫مرة‪.‬‬
‫األطفال الودودين الذين عرفتهم ذات ّ‬

‫‪22‬‬
‫ّ‬
‫أتفطن إلى أن هذا األثاث ال يزال هنا و هو يُمثّل شيئا غير عادي في حياتي‪ ،‬ربما‬ ‫في األيام العادية كنتُ بالكاد‬
‫بسبب روتين الحياة السريع و المجنون لمهنة الصحافة و ضغط و ضجيج مدينة الجزائر‪ .‬لكنني في ليال كتلك‬
‫الليلة أو في مناسبات دينية معينة‪ ،‬أنظر إليه بطريقة مختلفة تماما‪ ،‬حيث أشعر بنوع من الحنين تجاهه‪ ،‬عندما‬
‫الروائح‬
‫أدرك إلى أي حد فقدَ رونقه يوم تم تغيير مكانه الحقيقي‪ ،‬رغم أنه ظل يحتفظ بسحره عن طريق تلك ّ‬
‫المميزة له و التي شكلت جزء من ذاكرتي الطفولية !‪ .‬نظرت إليه‪ .‬ابتسمت مع نفسي للحظة‪ ،‬ثم خرجتُ إلى‬
‫شرفتي الصغيرة التي أستطيع منها رؤية جزء من البحر الذي يظهر من خالل الفراغات التي تفصل بين أبنية و‬
‫عمارات باب الوادي البيضاء الموروثة من عهد االحتالل‪ .‬أحنيتُ رأسي ألشعل سيجارة أدخل بها شيئا من الدفء‬
‫إلى صدري وسط تلك النسمة الباردة‪ ،‬فوقع بصري على مجنون الحي ال ُمل ّقب بـ" ح ُّنوفة " صاحب ال ِّق ّ‬
‫صة‬
‫المأساوية‪ ،‬شأنه شأن اآلالف من الذين غيّبت مأساة التسعينات عقولهم‪ .‬كان يقطع الشارع بخطواته المضطربة و‬
‫قامته المنحنية إلى األمام و هو شارد الذهن كعادته يهمهم بينه و بين نفسه‪ُ .‬رحت أراقبه و هو يبتعد شيئا فشيئا إلى‬
‫أن ابتلعته الظالل في أحد المنعطفات الضيقة المظلمة ال ُمش ّكلة للزقاق الصغيرة التي تفصل بين األبنية‪.‬‬

‫من يصدّق أن ذاك الرجل كان سنوات التسعينات فردا من جماعات الجيا‪ .‬حمل السالح و شارك في كمائن و‬
‫غارات على دوريات و ثكنات الجيش و الحرس البلدي‪ ،‬و على األرجح قتل الكثير من العسكر و المدنيين‪ ،‬رغم‬
‫مجرد ميكانيكي بسيط متواضع التعليم يشكو مشكالت في النطق‬
‫ّ‬ ‫أنه كما يُحكى عنه كان شخصا يعيش حياة عادية‪.‬‬
‫و يعيش حياة الفقراء في إحدى قرى منطقة الشبلي بالبليدة‪ ،‬و أن السبب الذي دفع به للصعود إلى الجبل عام‬
‫‪ 0222‬هو كالم ن ابي مهين في حق والدته مع صفعة و ركلة تلقاها من جندي في حاجز أمني و هو برفقة‬
‫خطيبته !‪ .‬لم يستطع الرد بشيء‪ ،‬لكن أنفاس الغضب التي لم يستطع تفجيرها نحو وجه ذلك العسكري ال ُمسلّح و‬
‫ال ُمحاط برفاقه ُكبحت نحو الداخل لتقتل قلبه و بصيرته‪ .‬بعد أسابيع قليلة من تلك الحادثة استجاب في لحظة غيض‬
‫شديد لنداء االلتحاق بالجماعة المسلحة بعد إحدى خطب الجمعة بمسجد القرية التي‪ .‬يُقال بأنه أجاب أمه و هي‬
‫أرملة شهيد و مجاهدة خالل حرب التحرير‪ ،‬عندما راحت تحاول يائسة جعله يتراجع عن قراره قائال لها‪ " :‬رايح‬
‫انحارب أوناد الحنّوفة ! "‪.‬‬

‫البعض يقول أنه فقد عقله في معاقل الجيا بأعالي جبال منطقتي الشريعة و األربعاء بسبب الفظاعة التي رآها‬
‫و عاشها و ربما اقترفها‪ .‬البعض اآلخر يقول أنه نزل عام ‪ 4111‬و هو غارق في االضطرابات النفسية ُمسلّما‬
‫نفسه إلى قوات األمن‪ ،‬لكنه و لسبب ما لم يستفد من تدابير قانون الوئام المدني‪ ،‬لذلك لم ين ُج من االستنطاق الذي‬
‫أفقده عقله أخيرا في إحدى ثكنات األمن العسكري بسبب التعذيب‪ .‬و في كل األحوال انتهى به األمر مجنونا ضائعا‬
‫في شوارع العاصمة بعدما لم يبقَ له شيء أو قريب يعود إليه في قريته األصلية التي هجرها كل سكانها أواخر‬
‫عام ‪ 29‬بسبب الحرب و المجازر‪ .‬ال عائلة‪ ،‬ال ذاكرة و ال حاضر‪ .‬مجرد ضياع في غياهب الهذيان و الهالوس و‬
‫فوضى الزمان و المكان مع نوبات موسمية من الصراخ و الكوابيس و الكالم الغامض المتداخل‪ .‬من يصدّق أن‬
‫كل هذا حدث بسبب كلمة جارحة‪ ،‬صفعة و ركلة !!‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫قلتُ في نفسي و أنا أفكر في تراجيديا حنوفة‪ " :‬كم من تجربة ؟‪ ،‬كم من قصة صحفية ؟‪ ،‬كم من رواية ؟‪ ،‬كم‬
‫من كتاب ؟‪ ،‬كم من دراسة ؟‪ ،‬كم من سلسلة وثائقية أو تلفزيونية ؟‪ ،‬كم من فيلم يمكن توثيق تاريخنا به‪ ،‬لو جمعنا‬
‫كل هذه اآلهات الصامتة آلالف الشباب‪ ،‬الذين تم تضليلهم بطرق ال حصر لها‪ .‬شباب تحالف عليهم جهل و‬
‫مخاوف الذات و غضب و كبت المراهقة و ظلم و ثقل مطالب المجتمع و غطرسة و عنف النظام السياسي و فساد‬
‫تراهت مشايخ الجحيم‪ ،‬فوجدوا أنفسهم يحملون السالح في الجبال و ينشرون الفوضى‬
‫و عجز الحكومة و تدليس و ّ‬
‫و الموت و االنتقام باسم الجهاد في سبيل هللا ؟ ! "‪.‬‬

‫عندما اختفى حنُّوفة في جوف ظالم العمارات‪ ،‬وجدتني أعود إلى نفسي‪ ،‬إلى قلقي العمم تجاه هذا الوطن‪ ،‬إلى‬
‫التحدي الذي رفعته في مهنتي‪ .‬لم ال أستطيع النوم بسالم ؟‪ .‬لم أشعر بكل هذا الخوف تجاه مستقبل هذا البلد ؟‪ .‬لم‬
‫أعيش كل هذا الغضب تجاه السبات المزري الذي يعيشه هذا المجتمع ؟‪ .‬ثم في لحظة عابرة طدتُ اضحك متهكما‪:‬‬
‫أيتوجب علي أن أفقد عقلي مثل حنوفة كي ارتاح من كل هذا القلق ؟‪ .‬أم علي فقط أن أجد '' فكرة '' أترجمها إلى‬
‫كلمة أحاول من خاللها أعادة إحياء ضمير هذا المجتمع تجاه الكارثة التي يسير نحوها مغمض العين ؟‪.‬‬

‫توجهت إلى غرفة الكتابة‪ .‬ولجتها دون أن اشعل األنوار كوني كنت أريد الجلوس في العتمة التي كانت‬
‫تكسرها بعض األضواء الخافتة المتسربة عبر مصرع النافذة من الشارع‪ .‬جلستُ مقابال حاسوبي المطفأ و أنا‬
‫أنظر إلى طيفي الباهت الذي ارتسم على زجاج شاشته الداكن تضيئه شعلة السيجارة كلما سحبتُ منها خيطا من‬
‫الدخان الممتزج بالخواطر‪ .‬كنتُ أشعر بشيء ما يكاد يفجّرني من الداخل‪ .‬تدحرج ْ‬
‫ت األفكار و األحاسيس داخل‬
‫ْ‬
‫قفزت و تالطمت متقاطعة و متطاحنة تتطاير في كل مكان‪ ،‬كقطع الفشار عندما تالمسها موجات‬ ‫رأسي‪.‬‬
‫ّ‬
‫يستفزني بذلك الصوت الداخلي المقلق الذي يقول لي‬ ‫المايكروويف‪ .‬ذاك الشيء كان قد عاد ل ّ‬
‫يهزني من الداخل‪،‬‬
‫يتحرك بطريقة مختلفة لمحاولة فهم ما‬
‫ّ‬ ‫بأن األمور ليست كما يجب أن تكون في هذا البلد‪ ،‬و على أحدهم أن‬
‫صغر وسط هذا الواقع الكبير الهائج‪ .‬هذا الركام الثقيل المتطاير‪ .‬ثم‬ ‫يحصل !‪ْ .‬‬
‫بدت لي نفسي لحظتها في غاية ال ِّ ّ‬
‫هدأت نسبيا مرة ثانية‪ ،‬كدتُ أقول في نفسي‪ " :‬و من أنا حتى أكون هذا الشخص الذي يتحرك بطريقة مختلفة ؟‪.‬‬
‫أولم يسبقني إلى هذه المحاولة جهابذة الفكر و الفلسفة و الصحافة في هذا البلد ؟‪." .‬‬

‫لكن ذلك الشعور صار من القوة بما مكنه من وأد تلك الفكرة االنهزامية في لحظات‪ .‬كان كيَد خفية شكلتها‬
‫بالرغم من وطأته القوية للبحث عن مدخل يكون‬
‫صمت‪ ،‬تدفعني بهدوء حذر ّ‬
‫ظالل المخاوف المختبئة بين ثنايا ال ّ‬
‫بداية طريقي إلى اكتشاف هذا الشيء الذي بات يؤرقني منذ اشهر و يُثقل علي كل شيء‪.‬‬

‫أخذتُ نفسا عميقا‪ِّ .‬ملتُ بالكرسي ال ُمدولب نحو الخلف قليال آخذا وضعية قريبة من التمدّد رافعا رأسي نحو‬
‫سِّيجارة‪ .‬كان ذلك الضيق يتصاعد متلويا يسبح في الهواء مع الدخان الذي كنت‬
‫السَّقف أكمل تدخين ما تبقى من ال ّ‬
‫أنفثه وهو يرتفع نحو السقف متكسرا تحت الضوء الخافت لإلنارة العمومية المتسلل إلى الغرفة‪.‬‬

‫علّمنا أباء الصحافة أن وجود الكائن الصحفي يتشكل من ‪ 19‬أسئلة جوهرية تدور في فلكه‪ ،‬تكون في العادة‬
‫طعامه و شرابه و هواءه الذي يتنفس به‪ .‬من دونها لن يصوغ أي معنى و لن يضيف أي معنى في كل ما يفعله‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫يعرف نفسه على أنه صحفي أو رجل إعالم‪ .‬تلك‬
‫لذلك هو محكوم بأن يعيش قلقه الدائم بالبحث عن أجوبتها مادام ِّ ّ‬
‫األسئلة تبتدئ دوما بمفاتيحها السحرية‪ :‬من ؟‪ ،‬ماذا ؟‪ ،‬متى ؟‪ ،‬أين ؟‪ ،‬كيف ؟‪ ،‬لماذا ؟‪ ،‬كم ؟‪.‬‬

‫تمتمت تلك العبارة التي طالما ردّدتها مع نفسي مذ بدأني هذا األرق الطويل‪...‬‬

‫ق السؤال‪ ،‬ذاك هو السؤال !‪.‬‬


‫ق السؤال‪ ،‬ذاك هو السؤال‪ ....‬قل ُ‬
‫_ قل ُ‬

‫ي للحظة على بسمة مته ّكمة خفيفة عندما ف ّكرت بأنني على األرجح متجه صوب انهيار عصبي‬
‫أغمضتُ عين ّ‬
‫بسبب مشاغل و ضغوط العمل‪ ،‬و إال ما كل هذه األفكار الغامضة التي لم أجد لها حتى صياغة لغوية واضحة تعبر‬
‫عنها بدقة ؟ !‪.‬‬

‫_ " إياكم أن تنسوا يا طلبة !‪ .‬المصطلحات هي مفاتيح العلوم‪ .‬إنها لفظ دقيق يُعبّر عن مفهوم أو فكرة دقيقة و‬
‫ُمحدَّدة أيضا‪ ،‬إما علمية أو فلسفية أو أدبية‪ .‬تذ ّكروا‪ ،‬المصطلح هو عصب الكتابة العلمية القادرة وحدها على بناء‬
‫سرح المعرفة‪ .‬من دون مصطلحات‪ ،‬ال وجود ألي شكل مثمر من أشكال منظومات اإلنتاج الفكري البشري‪ ،‬و من‬
‫ثم ال وجود ألي شكل من أشكال الحلول العملية الحقيقية لمشاكلنا كبشر‪" .‬‬

‫اتَّ ْ‬
‫سعت بسمتي الصغيرة و أنا أستحضر صوت أستاذ مادة المنهجية السيد أبو عماد‪ ،‬بنبرة صوته التي تعلوها‬
‫بحة حادة ُمتر ِّتّبة عن ‪ 41‬سنة من إلقاء المحاضرات و الصراخ داخل المدرجات التي تشكو من تعطل‬
‫ميكروفوناتها أو مكبرات صوتها‪ .‬تذ ّكرتُ حركات يديه و حاجبيه الغريبة عندما كان يجد نفسه غارقا من رأسه في‬
‫إلقاء محاضرات حول فنون البحث العلمي‪ ،‬و كأنه يعرك أشكاال بيديه ال يراها إال هو‪ ،‬حتى يُخيَّل إلينا أنه لم يعد‬
‫المجردة و قد‬
‫ّ‬ ‫بمقدوره رؤيتنا أمامه و هو على تلك الحالة‪ ،‬و أن كل ما تراه عيناه خلف نظاراته الغليظة هو أفكاره‬
‫صارت مجسّدة في عالمه الموسوعي الذي ابتلعه تماما‪ .‬جال بذاكرتي عباراته األولى عندما تطرقنا إلى درس‬
‫المصطلحات و المفاهيم و هو يتحدّث بإعجاب عن الخوارزمي و مؤلّفه الشهير مفاتيح العلوم‪ ،‬الذي نبّه العالم مرة‬
‫أخرى إلى أنه من دون كلمات اصطالحية ضابطة لألفكار التي نود دراستها أو النظريات التي نود طرحها للتداول‬
‫الفكري‪ ,‬ال يمكن بناء علوم أو نسج شبكات معارف قادرة على عالج مرض الفضول البشري المزمن‪ .‬كنتُ أحب‬
‫محاضراته لسبب لم أتمكن من فهمه‪ .‬ربما ألنه كان يشعرني بنوع من اإلشباع الفكري بتفكيره العقالني الممزوج‬
‫بشكل غريب جدا بالكثير من الصور الفلسفية و األمثلة الخارجة عن المألوف أو حتى المستساغ لدى المجتمع‪.‬‬
‫أحس بأنني لست الشخص الوحيد في هذا البلد الذي عاش باعتقاد راسخ أنه شخص مختلف عن‬
‫ّ‬ ‫ربما كان يجعلني‬
‫اآلخرين منذ طفولته ؟‪ .‬أو ربما كونه كان هو اآلخر مهوسا بهموم هذا الوطن و هو الذي صار جزائريا أكثر من‬
‫الجزائريين رغم جذوره الفلسطينية ؟‪ .‬كيف ال و هو الذي عشق هذا البلد حتى قبل أن يأتيه أستاذا شابا بداية‬
‫الستينات ؟‪.‬‬

‫في بعض األحيان أقول أنه هو من كان وراء تفجير ينبوع القلق الدائم تجاه مشاكل هذا المجتمع و هذا البلد‪،‬‬
‫بشكل ما ؟‪ .‬لكنني ال أنسى يوم ْ‬
‫بدت على محياه نظرة تأسُّف حين التقى بي و علم مني أنني قد غيّرتُ مجال‬

‫‪25‬‬
‫صحافة و اإلعالم‪ .‬عبّر عن أسفه بتلك المزحة التي حملتها كلماته التي لم تتخلص‬
‫دراساتي من علم االجتماع إلى ال َّ‬
‫بشكل تام من لكنتها الشامية بعد أكثر من أربعين عاما من العيش في الجزائر‪...‬‬

‫_ إذن يا بني‪ ،‬تريد ان تصير كلب مزرعة ؟ !‪.‬‬

‫تصوركم للصحفي يا أستاذ ؟‪.‬‬


‫ّ‬ ‫_ كلب مزرعة ؟ !‪ .‬هل هذا هو‬

‫_ أه‪ ،‬في الحقيقة هو تصوري عن الصحفي و المجتمع و البلد ككل‪.‬‬

‫_ آسف‪ ،‬لم أفهم ما ترمي إليه بالضبط ؟ !‪.‬‬

‫_ أولسنا نعيش في مزرعة كبيرة ؟‪ .‬ضيعة شاسعة فيها الكثير من البساتين و االسطبالت التي تعطي‬
‫منتوجات زراعية و حيوانية مختلفة‪ .‬المشكلة أنه في مزارعنا في العالم الثالث‪ ،‬نباح الكالب ال يعني الكثير لنا‪،‬‬
‫فهي كائنات محتقرة من األساس رغم أنها في الواقع حيوانات في غاية الوداعة و الوفاء و التعلق بأصحابها‪ .‬لكن‬
‫إذا اكتشف الكلب شيئا ما في مكان ما من الضيعة‪ ،‬و ظل ينبح محاوال تحذير الجميع أو لفت نظرهم‪ ،‬في الغالب‬
‫الرجم بأقرب حجر تصله أيديهم إلسكاته‪.‬‬
‫األعم يقابلونه بنوع من اإلهمال في أحسن األحوال‪ ،‬إن لم يكن السب أو ّ‬
‫صح ؟‪ .‬هذا هو حال الصحافة عندنا‪ .‬الكل يحذرها و الكل يخافها و الكل ال يقدر جهودها‪ .‬هناك من ال يصدّق شيئا‬
‫مما تكتب‪ ،‬و هناك من يصدّق لكن ال يفعل شيئا ظنا منه أنه بعيد عن المشكلة أو أنها ال تعنيه!‪.‬‬

‫_ ألم تضع في حسبانك يا أستاذ أنه هناك بين كالب الضيعة من ال يؤتمن أصال في نباحه‪ .‬بل و ال يؤتمن‬
‫حتى في وجوده داخل هذا الحيز ؟‪.‬‬

‫_ آه !‪ .‬السؤال األكثر منطقية و إلحاحا من الناحية المنهجية هو التالي‪ :‬من سمح بإحضار أو إدخال هذا الكلب‬
‫حول مملكة السّويد إلى‬
‫غير النافع و ربما الضار إلى المزرعة في المقام األول ؟‪ .‬هل تعرف السر الحقيقي الذي ّ‬
‫بلد رائد في مجال الديمقراطية و حرية التعبير و حقوق اإلنسان في العالم ؟‪.‬‬

‫_ أممم بصراحة‪ ...‬ال أعلم‪ .‬ما السبب يا ترى ؟‪.‬‬

‫_ ببساطة ألن السّويد كانت أول أ ّمة في التاريخ أسّست مجلسا وطنيا يراقب أخالقيات مهنة الصحافة‪ ،‬حيث‬
‫كرس على مدا ر نحو قرن من وجوده فكرة الصحفي الذي يراقب ضميره و المؤسسة الصحفية التي تراقب‬
‫ّ‬
‫توجهاتها من الناحية االحترافية و األخالقية بال هوادة و ال تخاذل‪ .‬إذا وصل الفساد األخالقي إلى قلب الصحافة في‬
‫أي بلد مهما كان‪ ،‬فاعلم أن الفساد ينخر كل مناحي حياته بال استثناء و أن ساعته فعال قد حلّت !‪ .‬ال ّ‬
‫صحافة يا بني‬
‫إما أن تكون خط الدفاع األخير عن ضمير األمة‪ ،‬أو ال تكون شيئا على اإلطالق‪.‬‬

‫ي بهدوء ثم أطلق ضحكة و هو يرفع نظارته الغليظة المنزلقة على أنفه بسبّابته‪...‬‬
‫أذكر أنه نظر إل ّ‬

‫_ لكني أعتقد أن كلبا مثلك يا و ّ‬


‫شاكي سيكتشف الكثير من الثمار الفاسدة أو الحشرات الضارة التي تهدد‬
‫المحصول‪ .‬ستكتشف الكثير من الدخالء و ستنبح كثيرا يا بني‪ .‬المهم و مهما حصل‪ ،‬إياك أن تتوقف عن النّباح و‬

‫‪26‬‬
‫إياك أن تخون أو تخذل مهنتك بما أنك اخترت أن تكون في هذا الموقع الذي يخولك اكتشاف األخطار المحدقة بنا‬
‫في هذه الضيعة الضائعة‪ .‬تعلم !‪ .‬في سنوات التسعينات كنا دوما نطرح سؤال " من يقتل من ؟ " لكن اليوم فإن‬
‫السؤال األهم في هذه المرحلة من تاريخ بلدنا الجريح هذا هو‪ " :‬من ينتظر من ؟ "‪.‬‬

‫ذاك الرجل جعلني من خالل طريقته الغريبة في طرح المواضيع أفهم أن معاكسة طرق التفكير السائدة في‬
‫مجتمع ما بشكل مستفز أحيانا – كقصة الكلب تلك – هو أمرض ضروري‪ .‬كان يمكنني أن أشعر باإلهانة و‬
‫الغضب لمجرد أنه مثّلني بكلب !‪ .‬لكنني بالعكس تماما‪ ،‬كنت معجبا بجرأته في رؤية األمور من منظار خاص به‬
‫وحده‪ ،‬سواء أعجب ذلك اآلخرين أم لم يُعجبهم‪ .‬كان يشعرني بطمأنينة غريبة و على األرجح أنه الشخص الوحيد‬
‫حتى اآلن الذي تقاسم معي قلقي الغامض بشكل ما !‪ .‬ال أدري كيف لم يخطر على بالي أن أربط معه عالقة دائمة‬
‫و تركته يضيع من شبكة معارفي هكذا ؟‪.‬‬

‫عندما تركني ذاك اليوم و هو يتجه إلى مدرجه ليلقي محاضراته المعتادة خطر على بالي سؤال آخر‪ .‬تردّدت‬
‫في جعل الدكتور أبو عماد يقطع مشيته المرهقة تلك ليلتفت إلي‪ ،‬لوال أني تذكرت أنه من نوع األساتذة الذين‬
‫تعتريهم دوما مالمح فرح طفولية أمام أي سؤال أو استفسار من طالب حائر أو فضولي‪ .‬ناديته معتذرا‪ .‬التفتَ إلي‬
‫بعد أن توقف و هو يحتضن محفظته الجلدية القديمة المثخنة باألوراق و الملفّات و الكتب بين ذراعيه كعادته‪.‬‬

‫_ ماذا عن كالب المزارع في العالم الشمالي المتقدّم ؟‪.‬‬

‫_ أوووه‪ ،‬تلك ليست كالب ضيعات و مزارع يا بني‪ .‬تلك كالب فيالّت و قصور فاخرة‪ ....‬أنت تعلم‪......‬إذا‬
‫نبح كلب القصر فإن جميع سكانه يسمعونه بشكل واضح و ينفرون إليه لمعرفة السّبب !‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬في تلك الليلية الهادئة و بعد أن رحت أتذ ّكر حواري مع الدكتور الجامعي‪ ،‬قلتُ في نفسي أن الموضوع‬
‫يتعلق بالطرق الممكنة للتعبير عن هذا الخطب و لفت النظر إليه‪ .‬السر يكمن في الكلمات‪ Viktor Hugo .‬نفسه‬
‫قال بأن " الكلمات مخلوقات حية "‪ .‬األديب اللبناني الكبير أمين معلوف تحدث عن وقع الكلمات و قدرتها على‬
‫يحول قلمه إلى‬
‫سرها ليحولها إلى ذخيرة حية و ّ ِّ‬
‫تغيير المجتمعات‪ .‬إنها قويّة و ليست عفوية‪ ،‬إن َوجدت من يفهم ّ‬
‫سالح أفتك من البارود‪ .‬ال عجب أن نابليون بونابارت كان يخشى صرير األقالم أكثر من خشيته دوي المدافع‬
‫إذن !‪ ،William Faulkner .‬عمالق األدب األمريكي‪ ،‬كان يعتقد أن الكلمات إذا ما ُجمعت بشكل جيد فإنها‬
‫حتما تنتج شيئا على قيد الحياة !‪ .‬إذن‪ ،‬الكتابة كالسحر تماما‪ ،‬بل هي شكل من أشكال التأثير الحقيقي‪ ،‬و سر‬
‫نجاحها في سلب عقول الناس و التأثير فيهم يكمن أساسا في مهارة جمع و تشكيل تعويذاتها لتصويبها نحو الهدف‬
‫المرجو‪ .‬العقول‪ ،‬القلوب و األرواح‪ .‬بالنسبة لي‪ ،‬الكمات كانت قوالب و أجساد‪ ،‬األفكار أرواحها‪.‬‬

‫من جانب آخر‪ ،‬لم أكن أبحث عن مجرد ثمار فاسدة رغم أني – كصحفي – عثرت على الكثير منها‪ .‬بل كنتُ‬
‫سبقي‬
‫َ‬ ‫أبحث عن أمهن جميعا‪ .‬الثمرة الشريرة التي أفسدت كل المحصول و جعلت الضيعة تُفلس !‪ .‬هذا ما سميته‬
‫النهائي‪ .‬كلمتان تختزالن فكرة شاملة‪ .‬إنه السبق الشخصي الذي سأحاول جاهدا الوصول إليه ألكشف من خالله‬

‫‪27‬‬
‫مشكلة هذا البلد الجوهرية‪ ،‬لكن التحدي كان في إيجاد مصطلح الفت يقف خلفه مفهوم رمزي عميق‪ ،‬يشد ال ِّفكر و‬
‫أجرهم للتفكير في حل حقيقي لوضع هذا البلد‪.‬‬
‫القلب معا الكتشافه‪ ،‬أقوم بترويجه للنخب و المجتمع‪ ،‬ربما ّ‬

‫نهضتُ من الكرسي و رحتُ أحوم بتثاقل أف ّكر مع نفسي و أدور وسط الغرفة كوطواط يتحسّس سبيله بسمعه‬
‫السوناري الحاد لكنه ال يزال عالقا في مكان لم يجد له مخرجا‪ .‬رحتُ أحك وجنتي تارة‪ ،‬و ذقني تارة أخرى‪.‬‬
‫مددتُ يدي ألدلّك بها عنقي و م ّ‬
‫سدتُ بها شعري‪ .‬كانت تقترب‪ ،‬أكثر فأكثر‪ ،‬أحسستُ بها أخيرا و هي تدنو إلى‬
‫وعيي‪ .‬شيء جديد‪ .‬رؤية مختلفة لكنها قريبة جدا من فهم المجتمع‪ ،‬أو ألقل فهم الجيل اليافع الغاضب من وضع‬
‫البالد على األقل‪ .‬انتصبتُ في مكاني أخيرا‪ .‬فجأة‪ ،‬غصتُ لدقائق في تفكير يقترب إلى التأمل العميق‪ ،‬كنت فقط‬
‫أفكر‪.‬‬

‫ْ‬
‫ومضت في ذهني !‪.‬‬ ‫‪..........‬‬

‫‪-3-‬‬

‫‪28‬‬
‫تدشين عمود القلق‬

‫" كم يوجد من شخص ال يريد ذهنه التغافل عن طرح األسئلة المقلقة في هذا البلد يا ترى ؟‪ .‬أنا و الدكتور أبو‬
‫عماد فقط ؟ "‪ .‬قلت في نفسي و أنا أقود سيارتي " البيجو ‪ " 411‬الرمادية المبعوجة من جانبها األيمن آخذا نهج‬
‫العقيد لطفي متجها إلى مقر الجريدة‪ .‬طرحت ذلك السؤال العابر و العفوي على نفسي و أنا أتذ ّكر الليلة الفارطة‬
‫التي لم أنم فيها حتى وجدت شيئا يهدئ ذلك القلق‪ .‬فكرة موضوع أكتب عنه في الجريدة‪ ،‬و أهادن به جزء من ذلك‬
‫أوصل‬
‫القلق الدفين و المستفز الذي يسكنني حد الهوس‪ .‬موضوع أجعل منه فاتحة طريق نحو سبقي النهائي بشكل ِّ‬
‫به قلقي إلى الرأي العام‪ ،‬لعلي أجد من يتقاسمه معي‪ .‬أشخاص على شاكلة أبو عماد مثال‪ ،‬بل و يُساهم بشكل ما في‬
‫الوصول إلى نفس الغاية‪ ،‬و هي إيجاد تفسير لسؤال كبير كان الرئيس المغتال ال َّ‬
‫شهيد دمحم بوضياف قد طرحه ذات‬
‫يوم مضطرب بداية التسعينيات‪ ،‬بحدسه الذي ثبتته تجاربه الحياتيه المريرة‪ ،‬و حصافته التي صقلتها عقود من‬
‫النضال و التجارب الكبرى‪ ،‬بنظرته الذابلة الحزينة و المرهقة تساءل ‪ ( ." Où va l’Algérie ?! " :‬الجزائر‪,‬‬
‫ْ‬
‫انطلقت منه البالد نحو وجهتها المجهولة تلك‪ ،‬إن‬ ‫إلى أين ؟ ! ) سوى أني كنتُ أريد أن َ‬
‫أفهم السبب األساسي الذي‬
‫أمكن‪.‬‬

‫هكذا كنت أسوق سيارتي متقدما على طول الشوارع و األنهج‪ ،‬أغوص تارة مع أفكاري ثم أعود ألتأمل تلك‬
‫األجواء التي كانت تعلن عن اقتراب فصل الصيف‪ .‬كان الجو مشمسا و جميال جدا‪ ،‬بدأت معه نفحات مبكرة لفصل‬
‫الربيع تتصاعد كلما زاد ارتفاع الشمس في السماء‪ .‬شمس العاصمة التي راحت تمسح أبنية المدينة البيضاء‬
‫بمنديلها الضوئي بلطف ُمزيلة ما تستطيع من الظالل المختبئة في زواياها و تفاصيلها المضطربة‪ ،‬تجعل من‬
‫المتسرب بانسيابية واضحة‪ ،‬و‬
‫ِّ ّ‬ ‫يعرف تفاصيل حياة مدينة الجزائر يستشعر ألقها الهارب في عمق متاهات قلقها‬
‫الذي يميل شيئا فشيئا إلى ضغط و ارتباك يتجلى تدريجيا مع مرور الساعات الصباحية‪ .‬في حركتها الكثيفة‪،‬‬
‫مالمح سكانها و نبرات أصواتهم المختلفة‪ ،‬مع طغيان اللكنة العاصمية الشهيرة طبعا‪ ،‬في صدى صفارات مركبات‬
‫الشرطة أو سيارات اإلسعاف المتالطم بين عماراتها المتراصة‪ ،‬في هوائها البحري الذي يمتزج فيه عدد كبير من‬
‫الروائح التي تجمع بين دخان السيارات و الغبار و روائح األطعمة السريعة و النسمات المتقطعة القادمة من البحر‬
‫القريب‪ ،‬من زقزقة العصافير و تحليق طيور النورس فوق األسطح البيضاء‪ ،‬تجعلك هذه المدينة تتلقى ومضات‬
‫هاربة من وحي أحداثها الماضية‪ .‬إن كنتَ ذو روح متحررة من قيد فيزيقا الجسد و سطوة الزمن‪ ،‬قد يستشعر‬
‫وعيك لبضع أجزاء من الثانية كيف كانت أجواء معركة الجزائر التي وقعت قبل ‪ 29‬عاما من ذاك اليوم‪ ،‬في تلك‬
‫األحياء و تلك الشوارع التي تفص ل بينها الطرق الضيقة و تربط بينها ساللم الدرج و تحيط بها األبنية الكولونيالية‬
‫البيضاء بشرفاتها و نوافذها الصغيرة الجميلة ذات األطر الزرقاء في الغالب‪ ،‬و التي ال تزال مأهولة أطياف‬
‫الماضي‪ ،‬التي عاشت تلك الحقبة المضطربة من تاريخ هذه األمة‪.‬‬

‫عندما وصلت إلى مقر الجريدة داخل دار الصحافة‪ ،‬ركنت السيارة و فقزت منها و أنا أحمل في يدي بعض‬
‫األوراق التي تحتوي على بعض المقاالت‪ ،‬إذ أن رئيس التحرير غالبا ما يُحبذ قراءة ما نبدعه مطبوعا على الورق‬
‫بدل قراءته على شاشة حاسوبه في المكتب‪ .‬دخلت مباشرة و أنا أحيي عامل االستقبال الذي أعطاني نسخة الجريدة‬

‫‪29‬‬
‫لذلك اليوم و التي كانت بحوزته‪ .‬ألقيتُ نظرة فاحصة على العناوين الرئيسية فيها و أنا ألج قاعة التحرير‪ .‬لمحتُ‬
‫صوفيا‪ ،‬زميلتي في العمل و صديقتي الوفية خارج العمل‪ .‬فتاة ذكية‪ ،‬حيوية و جد مرحة‪ ،‬تتقاسم معي ولعي بالكتب‬
‫و الموسيقى و السينيما‪ ،‬رغم أن لها قصة حزينة جدا تجاه هذا الوطن‪.‬‬

‫كنتُ أتوغل داخل مكاتب الجريدة التي كانت تشبه خلية نحل حقيقية‪ ،‬بضجيجها المهني الذي يغلب عليه رنين‬
‫الهواتف و أصوات نقر األصابع على ألواح مفاتيح الحواسب و أحاديث الزمالء‪ ،‬و خصوصا تلك النظرات‬
‫الناعمة و البسمات المنعشة التي تذاعبني بها أعين و شفاه بعض الزميالت‪ .‬آه كم أحبُّ هذه الحركية المهنية في‬
‫متدربا في قسم أخبار المجتمع عن تأخر البريفينغ فأخبرني أن رئيس القسم لم يأت‬
‫ّ‬ ‫مقر جريدتي !‪ .‬سألتُ زميال‬
‫ُّ‬
‫فالتفت إلى صوفيا التي كانت تقف مع زميلين آخرين غير بعيد و أنا أضع كفي على بطني و أقوم بهزه قليال‪.‬‬ ‫بعد‪،‬‬
‫أشارت برأسها إلى مكتب رئيس التحرير‪ .‬تلك هي إشارتنا السرية عن السي رزاق صاحب الكرش البارز‪،‬‬
‫أسرت لي ذات مرة أنها تتقزز من ذوي البطون الكبيرة و الطرية‪ ،‬لهذا غالبا هي تنظر في وجه السي‬
‫فصوفيا ّ‬
‫رزاق مباشرة عندما تحادثه محاولة أال تجعل بصرها ينزل إلى بطنه البارز‪ ،‬خشية أن يجعلها ذلك تقوم بأي رد‬
‫فعل ال إرادي ينم عن االشمئزاز‪ ،‬و لطالما لمتها على هذا التحسس المبالغ فيه‪.‬‬

‫قالت لي ذات مرة متململة وسط غرفة معتمة و نحن في اجتماع مهم مع طاقم الجريدة بصوت خافت‪ " :‬إنه‬
‫الرجل لبطنه بالبروز و التر ّهل ليصبح " شحم ّ‬
‫ي " الملمس هكذا‪ .‬آآآآعق !‪ .‬ال أستطيع تصور‬ ‫ألمر مقزز أن يسمح ّ‬
‫كيف يكون وضع زوجته المسكينة و هي ترزح تحت سطوته الرخوية تلك ليال‪ .‬أراهن على أن وزن السي رزاق‬
‫ال يقل عن التسعين كيلوغراما‪ ،‬يحظى فيها كرشه بحصة األسد‪ .‬أال يبدو لك أنه يزن بين خمسة و عشرين و‬
‫ثالثين كلغ ؟‪ .‬أتفهم سبب شكواه الدائمة من أوجاع ظهره التي يُرجعها إلى سوء تصميم كرسيه الذي قد يحسده‬
‫عليه رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء لجودته و راحته !‪ .‬لكن‪ ...‬تصور‪ ،‬ثالثين كيلو زيادة فوق جسد‬
‫المخلوقة‪ .‬مسكينة ! "‪ .‬واجهتُ غيبتها و مزاحها السّمج مستفزا و الئما‪ " :‬كفي عن هذا يا فتاة !‪ .‬آه أيتها النسوة‪،‬‬
‫ُّ‬
‫صمت قليال و أنا أفكر في األمر‪،‬‬ ‫كم أنتن وقحات !‪ .‬ما شأنك و شأن الحياة الحميمية للرجل ؟‪ .‬دعيه و شأنه ! "‪.‬‬
‫ثم همستُ لها بعدما وجدت نفسي أنساق إلى لعبتها القذرة تلك‪ " :‬ثم ألم تفكري في إمكانية أن تكون حال زوجته‬
‫من ناحية تر ّهل الجسم و زيادة وزنه أسوأ بكثير من حاله ؟ "‪ .‬تغيرت مالمح الفتاة للحظة و زاغت نظراتها في‬
‫ّ‬
‫محطمة هدوء و جدية االجتماع‪ ،‬أمام حيرة بقية الزمالء و‬ ‫الفراغ و كأنها تتخيّل الوضع قبل أن تنفجر ضحكا‬
‫رئيس التحرير المسكين‪ .‬منذ ذلك اليوم صار كل واحد منا يضع يده على بطنه كلّما أراد أن يسأل عن مكان رئيس‬
‫السي رزاق‪ ،‬دون الحاجة إلى قول أي شيء‪.‬‬

‫أخذتُ نفسا عميقا قبل أن أدق على باب سي رزاق الذي كان يتحدث عبر هاتفه الخلوي فنظر إلي و هو‬
‫يدعوني للدخول بإشارة من يده حين كان أحد الصحفيين الجدد يخرج من عنده بوجه متجهم‪ .‬شيء ما لم يكن على‬
‫ما يرام‪ .‬طبعا ليس سهال أن يجعل المرء رئيس تحرير مثل السي رزاق ينشر ما يشتهيه في أحالم يقظته‪ ،‬فهو ال‬
‫يقتنع فقط بمضمون العمل مهما كانت جودته‪ ،‬بل يجب إقناعه أيضا بنتائجه و مردوده في ساحة الرأي العام‪ .‬تلك‬
‫هي قاعدته الذهبية في العمل‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫جلستُ مقابال إياه عندما أقفل الخط متأففا و هو يرمي بجثته الضخمة على كرسيه‪ ،‬ثم نظر إلي و فهمت أنه‬
‫كعادته يريدني أن أدخل مباشرة في صلب الموضوع بما قل و د ّل من كالم‪.‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬لدي فكرة عمود جديد أكتب فيه بعض اآلراء و التحليالت التي تخص واقع المجتمع الحالي‪.‬‬
‫عمود يحمل اسم‪ ،‬و قد يبدو لك األمر غريبا بعض الشيء‪ " ،‬موسطاشيَّات "‪ .‬مساحة ‪ 221‬إلى ‪ 211‬كلمة ستكون‬
‫ممتازة !‪.‬‬

‫ي ِّ كنتُ مباشرا و سريعا فوق اللزوم‪ .‬هذا ما كنتُ أخشاه قبل‬ ‫ُّ‬
‫صمت لوهلة‪ " .‬يا اله ماذا فعلت ؟ ! "‪ .‬أدركتُ أن ّ‬
‫أن أدخل إليه !‪ .‬يحدث لي أني أفقد قدرتي على ترتيب و صياغة األفكار بشكلها المنهجي المقنع كلما وجدت نفسي‬
‫في موقف حاسم يتطلب مهارة إقناع لفظي مختصرة في بنيتها و عميقة شاملة في مضمونها ؟‪.‬‬

‫نظر إلي و هو يتمايل بأريكته يمينا و شماال‪ .‬صمتَ قليال ثم ّ‬


‫حك أنفه للحظة‪ .‬أجل !‪ .‬أعرف ماذا يعني ذلك‪،‬‬
‫بت أفهم لغة جسده جيدا‪ .‬أفكاره أو ردّات فعله االنفعالية غالبا ما ال ت ُترجم إال عن‬
‫فمن خالل عملي معه ألشهر ُّ‬
‫طريق إشارات مجهرية أو صغيرة خاطفة‪ .‬فهو مثال إذا سمع كالما ما أو قرأ مقاال فتن ّهد مطلقا نحنحته مع زفيره‪،‬‬
‫صلب النقاش مباشرة و من دون مقدمات حامال مسبقا حكمه أو قراره أو جوابه النهائي‬
‫فذاك يعني أنه سيدخل في ُ‬
‫حول موضوع النقاش‪ ،‬سواء كان موجبا أم سالبا‪ .‬أما إذا ّ‬
‫حك بطنه فذاك يعني أنه في الحقيقة غير مهتم إطالقا‬
‫بالموضوع حتى لو تظاهر أنه مستعد لإلنصات‪ .‬إذا زاغ ببصره نحو زاوية المكتب و هو يُدخل لسانه بين قواطعه‬
‫السُّفلية و باطن شفته السّفلى‪ ،‬فذاك يعني أنه يستعد لالنفجار بالصراخ و السب بسبب فكرة أو مقال لم يعجبه‪ ،‬سواء‬
‫ّ‬
‫يحك أنفه رافعا حاجبيه قليال إلى األعلى و هو ينظر مباشرة في عيني‬ ‫من حيث المبنى أو المعنى‪ .‬لكنه عندما‬
‫محدّثه‪ ،‬فذاك يعني أنه ينتظر أن يقنعه تماما بوجهة نظره و بأنه ليس مستعدا لتقبلها بسهولة حتى لو أثارت‬
‫اهتمامه‪.‬‬

‫_ اهـــــــه !‪ .‬عمود تطلق عليه اسم " موسطاشيَّات " ؟ !‪.‬‬

‫_ أه‪ .‬حسن‪ .‬كيف أبدأ في شرح األمر ؟‪ ...‬في الحقيقة‪....‬‬

‫قاطعنا الهاتف الذي رن فوق مكتبه‪ ،‬فأشار إلي بإبهامه كمن يطلب دقيقة‪ .‬اغتنمتُ الفرصة ألعيد ترتيب‬
‫أفكاري في ذهني حول هذا المفهوم الذي أود اقتراحه‪ .‬في الوقت الذي راح فيه سي رزاق يتحدث عبر الهاتف‬
‫بانفعال و هو ينقر باصابع يمناه على المكتب‪...‬‬

‫_ نعم !‪ .‬ما األمر ؟‪ .....‬حقا ؟‪ ......‬حسن‪ ،‬ال بأس‪ ،‬يمكنكَ أن تبدأ بالموضوع الثاني‪ .‬لقد تحدّثتُ مع خالد‬
‫بخصوص المساحات الجديدة بعد إنقاص الجمل التي طلبتُ حذفها من المقال‪ .....‬أجل‪ ...‬أجل‪ .‬ال بأس به إذن‪ ،‬لكن‬
‫أريد منك أن تكون سريعا في عمل ذلك فقط‪ .‬ال تجعلني أغضب كما في المرة السابقة‪ .‬ال أريد أن نجد أنفسنا بعد‬
‫يوم غد ننشر تصويبا نعتذر فيه للقراء عن أخطاء مثل تلك‪ .‬تعلم أني أكره هذا كثيرا‪ .‬ال تجعلوني أبدو كأحمق‬
‫مجلس اإلدارة في هذه المؤسَّسة يا جماعة !‪ .‬صحَّه‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫أقفل الخط بشيء من القوة ثم نظر إلي و هو يمد سبابته و إبهامه نحو شاربه األحمر الغليظ ليمسّده بهما‪:‬‬

‫_ موسطاشيات ؟؟؟‪ .‬ماذا تقصد بالضبط ؟‪.‬‬

‫_ هِّه‪ ،‬أعلم‪ ،‬أعلم سي رزاق‪ .‬كلمة تحمل استفزازا ما في مضمونها‪ ،‬لكن ال تقلق‪ .‬لم أستلهم هذا المصطلح من‬
‫شواربك‪......‬‬

‫_ استلهمته من موسطاش هذا الرجل إذن ؟‪.‬‬

‫ُّ‬
‫فصمت للحظة ثم قلت له‬ ‫قاطعني و هو يشير بإبهامه خلف ظهره نحو صورة الطاهر جاووت المعلقة وراءه‪.‬‬
‫بهدوء‪...‬‬

‫_ بل في الحقيقة من شوارب أبي‪.‬‬

‫فتح ذراعيه كمن يريد تل ّقف شيء ما‪..‬‬

‫ّ‬
‫لتستفز عقل الرأي العام !‪ .‬قل ما عندك‪ ،‬أنا ُمنصت !‪.‬‬ ‫صحفية ُوجدت‬
‫_ األعمدة ال ّ‬

‫_ حسن‪ ،‬لنقل أن موسطاشيات هي عنوان داللي أو اختزالي لمفهوم العمود نفسه‪ ،‬لكنها مرتبطة أصال‬
‫بمصطلح " الموسطاشيا "‪ .‬إنها كلمة ابتكرتها ليلة البارحة فقط‪ ،‬تُعبّر عن مفهوم أحاول به تفكيك الواقع‬
‫االجتماعي و السياسي الذي نتخبّط فيه انطالقا من رؤية سوسيو‪ -‬تاريخية‪ ،‬أنت ترى‪.....‬‬

‫قاطعني فجأة و هو يشير بيده‪..‬‬

‫_ طيب‪ ...‬طيب‪ .‬و لكن ما أريد فهمه قبل ذلك هو‪َ :‬لم " الموسطاش " أصال ؟‪.‬‬

‫رزاق‪ .‬إنّه رمز ارتبط بالجيل السَّابق‪ .‬الرسالة التي أودّ بعثها هنا هي أن الشوارب و إن‬
‫_ بسيطة يا سي ّ‬
‫كانت‪ ،‬و ال تزال‪ ،‬تمثل الجيل القديم المش ّكل اليوم من الكهول في الغالب رمزا للرجولة أو الفحولة‪ ،‬فإنه في ذهن‬
‫الجيل الصاعد ال يعدو أن يكون سوى رمز للسلطة األبوية البالية التي أدّت إلى انحرافات اجتماعية و أخالقية و‬
‫سياسية كثيرة‪....‬‬

‫قاطعني للمرة الثانية و هو يشير بيده‪....‬‬

‫_ تقصد صراع أجيال ؟‪.‬‬

‫_ ال ال ال‪ ....‬ليس بالضرورة !‪.....‬لنقل أنه فاصلة بين جيلين ال يفكران بنفس الطريقة و هو ما يخلق ثغرة ال‬
‫تزال تتسع عقدا بعد عقد‪ ،‬خاصة و أن الجيل السابق ال يزال يُصر على التدخل في تخطيط و تسيير حياة الجيل‬
‫الحالي‪ ،‬رغم أنه يعيش زمنا تغيرت قواعد التفكير و التحرك فيه إلى درجة أنها تجاوزته تماما‪....‬‬

‫‪32‬‬
‫_ ما هذا يا فتى ؟‪ .‬ال أزال أشم رائحة صراع أجيال هنا !‪ .‬تريد أن تكتب عن أخطاء هذا الجيل الذي ال يزال‬
‫يتغنى بالشرعية الثورية مثال ؟‪.‬‬

‫_ سي ّ‬
‫رزاق‪ .‬جيل الشرعية الثورية هو نفسه كان نتاج ظروف تاريخية معينة‪ ،‬لها قيمها و معاييرها التي‬
‫صاغت اتجاهاته و أحكامه و أساليبه الخاصة في التعامل مع مختلف ظروف العصر‪ .‬نحن نتحدّث عن ترسبات ما‬
‫ال يقل عن ‪ 11‬عاما نشأت في جيل واحد‪ ،‬الجيل الذي بدأ يغير نمط تفكيره راديكاليا منذ تأسيس منظمة " لوس "‬
‫عام ‪ 0229‬التي كانت نواة ثورة نوفمبر‪ .‬إنها ترسّبات تلقي بأثقالها علينا اليوم‪ .‬أثقال لم يعد من السّهل حملها‬
‫ّ‬
‫تعطل سيرنا إلى حد ال يُطاق‪ ،‬و هذا بالضبط سيكون من األشياء التي سأحاول دراستها و‬ ‫جميعها‪ ،‬فقد باتت‬
‫تفكيكها و الكتابة عنها في قادم األيام‪ .‬صدقا‪ ،‬أريد أن أكرس نفسي لهذه الفكرة يا سي رزاق !‪.‬‬

‫زاغ بصر سي رزاق‪ ،‬ثم تمتم جملة غريبة و هو يكاد يبتسم كأنما يرى لحظة جميلة من ماض بعيد‪....‬‬

‫_ أكلنا الحديد و العذاب مقابل أال نشرب الذل في حليب من يُحاكمنا اليوم‪.‬‬

‫_ عفوا‪ ،‬سي رزاق ؟‪.‬‬

‫_ عبارة قرأتها في إحدى روايات واسيني األعرج و أنا مراهق و هي لشخصية ثورية متخيَّلة‪ .‬آه‪ ،‬أجل‪،‬‬
‫رواية ضمير الغائب‪ .‬الرواية التي حدَّدت مهنة مستقبلي و حياتي‪ .‬أنتَ و أترابك كنتم يومها ال تزالون معلقين‬
‫بأثداء أمهاتكم‪.‬‬

‫_ لم أفهم عما تتحدث ؟‪.‬‬

‫تنهد سي ّ‬
‫رزاق بعدما اختفت تلك البسمة الخفيفة من تقاسيم وجهه العريض‪ ،‬ثم راح يفكر مع نفسه قليال و هو‬
‫يحك شفتيه بسبّابته مع نظرة زائغة عبر النافذة‪ .‬للحظة ظننتُ الفكرة أعجبته‪ُ .‬رحت أتر ّقب إطالقه لنحنحته تلك‪،‬‬
‫لكنه اعتدل في جلسته و هو يشابك بين أصابع يديه و كأنه يود أن يجيبني عن استفساري‪ .‬كان جوابا طويال‪...‬‬

‫_ حسن يا أمين‪ ،‬لننظر إلى الموضوع من هذه الزاوية‪ :‬هذا الجيل الذي تود الكتابة عن ترسباته التي تلقي‬
‫األمرين من أجل أن تولد أنت تحت شمس‬
‫ّ‬ ‫بأثقالها المزعجة على الجيل الذي تنتمي أنت إليه‪ ،‬هو الجيل الذي عانى‬
‫الحرية‪ ،‬و إن كانت حرية مبتورة‪ ،‬و تنعم بتعليم و عالج مجانيّين رغم كل مساوئهما‪ .‬إنه الجيل الذي بنى لك‬
‫تخرجتَ منها لتجد نفسك اليوم إنسانا بشهادة جامعية‪ .‬أنتَ اليوم صحفي يكتب ما يشاء على العموم‪ ،‬و‬
‫الجامعة التي ّ‬
‫يتنقل إلى حيث يشاء في بلد مستقل‪ ،‬على األقل‪ ،‬هو مستقل عن التواجد العسكري األجنبي في أحسن األحوال‪ .‬اآلن‬
‫أال تعتقد أن العيوب أو الترسبات المزعجة التي تود الكتابة عنها قد تجد توازنها بشكل ما مع المحاسن و الحسنات‬
‫التي قدَّمها هذا الجيل إليك بما يستطيع و بما يسمح له مستوى تفكيره و ذهنيته و طريقته في رؤية األمور ؟‪.‬‬
‫يعوض وزنها الضائع إن هي‬ ‫حسنات و إن كانت ناقصة في عدة نواحٍ‪ ،‬فإن رمزيتها قد تكون أكثر شيء قد ّ ِّ‬
‫حر رك صبيحة البارحة فقط من أعتى و أعنف قوة استعمارية عرفها العالم‬ ‫ُوضعت في ميزان التاريخ‪ .‬هذا الجيل َّ‬
‫بعد امبراطورية الرومان !‪ .‬ماذا يمكن القول ؟‪ .‬على األرجح‪ :‬لوال كفاح أجداده المرير ذاك‪ ،‬لربما كان أمين‬

‫‪33‬‬
‫مجرد شاب أ ّمي حافي القدمين‪ ،‬يُح ِّّمل صناديق المشمش و العنب على كتفيه‬
‫ّ‬ ‫وشاكي اليوم‪ ،‬في هذه اللحظة بالذات‪،‬‬
‫في حقول الم ِّتّيجة بأجر رخيص في إحدى ِّملكيّات الكولون !‪ .‬أترى ؟‪ ،‬هذا الطرح قد تجده في انتظارك من طرف‬
‫جربنا فكرة هذا العمود‪ .‬كيف سترد عليه و تقنعه بأن مصطلح " الموسطاشيا "‬
‫البعض أمام الرأي العام في حالة ّ‬
‫ضحك مته ّكما – أراهن‬
‫ِّ‬ ‫هذا يستحق الدخول إلى قاموس التداول اإلعالمي و السياسي و االجتماعي في البلد –‬
‫بم‬
‫صبون للعربية الكالسيكية و في مقدّمتهم والدك !‪َ .‬‬
‫على أن أول من سينتفض ضد كلمة الموسطاشيا هذه هم المتع ِّ ّ‬
‫سترد يا ترى لتقنع الجميع بقراءة عمودك و متابعته ؟‪ .‬كيف ستبرر موقفك و أفكارك تجاههم ؟‪.‬‬

‫هذا الرجل بارع جدا !‪ .‬قد يبدو شخصا بدينا يميل إلى حب الوالئم و لكنه قبل أن يكسب وزنه الزائد ذاك هو‬
‫إعالمي مخضرم‪ .‬كان ضمن شباب أكتوبر ‪ .22‬بدأ طريقه كإعالمي شرس غير مهادن‪ ،‬و رغم التضييق و‬
‫المالحقات و السجن‪ ،‬ظل يكتب ضد النظام المشكل في مجمله من بقايا الجيل الثوري و الجيل التالي الذي عاصره‬
‫و تتلمذ على يديه‪ .‬لكن ِّحسّه المهني و النقدي جعله في تلك اللحظة يضع رأيه الخاص حول جيل الشرعية الثورية‬
‫الذي طالما كتب عنه ما يُغضبه و يُغيظه جانبا‪ .‬كل ما كان يريده هو اختبار ذاك االقتراح الجديد الذي كنتُ أحمله‬
‫له‪ ،‬و مدى جدّيته و قدرته على إضافة شيء جديد تساهم به " النبأ اليومي " كقيمة مضافة و مثمرة في الحياة‬
‫اإلعالمية أو الفكرية للبلد‪.‬‬

‫ف ّكرتُ مع نفسي هنيهة‪ .‬استجمعتُ ما لي من أفكار ثم نظرت إليه‪...‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬تصور معي مثال لو أن شارل ديغول‪ ،‬هذا االستراتيجي الفذ الذي حارب النازية و ساهم في‬
‫تحرير فرنسا من التواجد األلماني‪ ،‬و بذل كل ما يستطيع من أجل إبقاء الجزائر فرنسية‪ ،‬بل و حتى عندما خسر ما‬
‫يسمونه عبثا في فرنسا " حرب الجزائر " بذل أقصى ما يستطيع من خالل دهائه السياسي من أجل الحفاظ على‬
‫استمرار روح فرنسا ثقافيا و اقتصاديا في هذا البلد‪ .‬كل هذه اإلنجازات كان بوسعه أن يصنع منها ما يُسمونه عبثا‬
‫في الجزائر " شرعية ثورية "‪ ،‬فقط ليستمر هو و جيله من أمثال فرانسوا ميتيران‪ ،‬جاك سوستيل‪ ،‬جاك ماسو‪،‬‬
‫مارسيل بيجار و غيرهم الكثير‪ ،‬في الهيمنة على مؤسسات الجمهورية لعقود باسم كفاحهم المرير من أجل‬
‫سولت لهم ابتكار حكاية الشرعية هذه‪ ،‬كيف كانت‬
‫المصلحة العليا لألمة الفرنسية‪ ...‬تصور للحظة لو أن أنفسهم َّ‬
‫حال فرنسا لتكون اليوم يا ترى ؟‪.‬‬

‫_ ال ال ال‪....‬إنّك تتحدّث عن جيل من القادة الفرنسيين يُعتبر حلقة أخرى من سلسلة طويلة جدا من التطور‬
‫الفكري و السياسي في فرنسا‪ .‬إطراد تاريخي بدأ منذ ‪ .0972‬إنهم نتاج مؤسسات ثقافية و سياسية و دينامكية فكرية‬
‫تكرست‬
‫استمرت زهاء ‪ 091‬عاما وصوال إلى عهدهم‪ ،‬معها ّ‬
‫ّ‬ ‫و اجتماعية ثابتة في جذورها و متطورة في نموها‬
‫ثقافة المؤسسات الجمهورية في أذهانهم‪ ،‬و إن كانت الثورة الجزائرية قد أطاحت بالجمهورية الفرنسية الرابعة‪ ،‬إال‬
‫أن ثقافة المؤسسات ظلت تهيمن على فكر الغالبية من القادة الفرنسيين‪ .‬ال أرى مجاال للمقارنة بصراحة‪.‬‬

‫_ حسن إذن‪ ،‬في اعتقادك يا سي ّ‬


‫رزاق‪ ،‬بأي جيل في التاريخ الفرنسي يجب أن نقارن جيلنا الثوري هذا لو‬
‫أننا أجبرنا على عقد مقارنة ؟‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫_ ربما يمكن أن نعتبر جيل الشرعية الثورية عندنا بمثابة جيل ‪ Robespierre‬عند الفرنسيين ؟‪.‬‬

‫نظرت إليه مبتسما بعد أن جعلني بقوله هذا أصل إلى حيث أريد الوصول‪..‬‬

‫_ بالضبط يا سي رزاق !‪ .‬بالضبط !‪ .‬في كل األحوال كنا سننتهي إلى النتيجة نفسها‪ ،‬سواء تحدثنا عن جيل‬
‫بررة في كل األحوال‪ ،‬أو هكذا‬
‫ديغول أو عن جيل روبسبيير‪ .....‬إنه شيء يكاد يكون حتمية تاريخية‪ ،‬لكنها ليست ُم ّ‬
‫أراها‪.‬‬

‫_ ما قصدك‪ ،‬سي وشاكي ؟‪.‬‬

‫_ بيت القصيد في ما أود أن أجعلك تراه هو أن جيل ‪ Maximilien Robespierre‬هو الذي قاد الثورة‬
‫الفرنسية للتحرر من القمع و الظلم‪ .‬لكن ماذا حدث بعد ذلك ؟‪ .‬أخبرني !‪.‬‬

‫صمت سي رزاق قليال‪ ،‬ثم هز حاجبيه ضاغطا شفتيه ببعضهما كمن يتأسف و هو يتنهد‪..‬‬

‫_ انقلب روبسبيير من ثوري إلى دكتاتوري‪....‬‬

‫_ ‪ 0211‬مواطن فرنسي تم إعدامهم بدون رحمة بين سنوات ‪ 0924‬و ‪ 0922‬من طرف روبسبيير الذي لم‬
‫يرحم حتى رفاق دربه و كفاحه‪ ،‬حيث قتل و سجن و نفى الكثيرين منهم‪ .‬من أجل ماذا ؟‪ .‬كل تلك المجازر وقعت‬
‫فقط ألن الكثيرين كانوا ضد حالة االحتقان االنفعالي و الغلو في المواقف الذي خلفته الثورة و دفعوا ثمن‬
‫سِّياسية‪...‬‬
‫معارضتهم أو حتى وسطيتهم ال ّ‬

‫نهظت من مكاني و تقدمت نحو سي رزاق مشيرا بسبابتي‪...‬‬

‫_ ‪ ...‬اآلن سي رزاق‪ ،‬تصور معي لو أنه في الفترة القصيرة‪ ،‬ظهر شاب فرنسي غير راض عن تلك األحوال‬
‫السيئة التي كانت تمر بها فرنسا ما بعد الثورة‪ ،‬و أراد أن يثير انتباه الناس إلى األخطار و النتائج المنجرة عن‬
‫األخطاء التي وقعت فيها الثورة الفرنسية‪ ،‬فيقف له رجل وهو يقول له‪ " :‬هيــــه يا ولد !‪ .‬ال تنسى أن روبسبيير و‬
‫جماعته هم الذين حرروك من استعباد رجال الملك و استغباء رجال المسيح و استغالل رجال اإلقطاع‪ ،‬بصرف‬
‫النظر عن الفظائع التي ارتكبوها‪ ،‬ال بد أال تنسى أنهم أصحاب فضل كبير عليك ! "‪ .‬أترى أن هذا الطرح كان‬
‫ليكون منطقيا أو مقبوال في مطلق األحوال ؟ !‪.‬‬

‫_ أه‪ .‬يمكن للبعض أن يقول لك أن العبرة بالنتائج !‪ .‬سيقولون لك أن التجاوزات الكثيرة التي ارتكبها النظام‬
‫الجزائري الناشئ سنوات الستينات كانت شرا ال بد منه للحفاظ على الوحدة الترابية و تجنيب البالد غزو جيرانها‪،‬‬
‫تهوره السياسي و طغيانه العسكري و ما إلى ذلك من التبريرات‪ .‬ثم إن الثورة‬
‫بالرغم من أخطائه بل و حتى ّ‬
‫قوة عظمى بعد قرنين من الزمن‪.‬‬
‫الفرنسية و رغم كل أخطائها قد جعلت من فرنسا ّ‬

‫التزمتُ لحظة صمت قصيرة و أنا أنظر إليه‪ .‬أعجبتني مقاومته كثيرا‪ ،‬كونها ممتلئة بالواقعية أكثر من‬
‫العاطفة‪ .‬بيّنت لي أنه فعال من النخبة المثقّفة‪ .‬رجل ليس من السّهل التأثير فيه حتى لو كان يحمل أفكارا و مواقف‬

‫‪35‬‬
‫مشابهة لتلك التي يُراد جعله يقف ليساندها و يرعاها عن طريق الجريدة‪ .‬إنه يرفض ذلك حتى يرى درجة ثبات و‬
‫اقتناع صاحبها نفسه بها و مدى استعداده للدفاع عنها ضد من يعارضه فيها‪ .‬ال عجب أن المؤسسة قد عرفت كل‬
‫ّ‬
‫استفزني في نفس الوقت‪ ،‬خاصة عندما قابلني بنظرته الهادئة‬ ‫تألقها في عهده‪ .‬لكن كالمه بقدر ما أعجبني‪ ،‬فقد‬
‫المترقبة تلك‪..‬‬

‫_ إذن يا سّي ّ‬
‫رزاق‪ ،‬ربما يجدر بنا أن ننتظر ‪ 021‬عاما لنرى الجزائر تتحول إلى قوة عظمى ؟ !‪.‬‬

‫_ لمال ؟‪ .‬أال تبدو لك فترة ‪ 021‬عاما منطقية لبروز أولى ثمار أي مشروع وطني ناشئ ؟‪ .‬الصينيون اليوم‬
‫بالكاد بدئوا يقطفون ثمار مشروع ثورة ثقافية وطنية انطلق قبل أكثر من ‪ 11‬عاما و نتائجه النهائية لن تكتمل إال‬
‫بعد نحو ‪ 21‬أو ‪ 11‬سنة من اليوم‪ .‬األمريكيون تحولوا إلى قوة عظمى و نموذج جد رائع في بناء المؤسسات‬
‫الدستورية الراسخة بعد نحو قرنين من نهاية حرب استقاللهم ضد التاج البريطاني‪ .‬األوروبيون وصلوا إلى قمة‬
‫مجد اتحادهم بعد ‪ 91‬عاما من العمل المضني بعدما ورثوا قارة د ّمرتها الحرب‪ ،‬و رغم كل الهزات التي يتعرض‬
‫لها اتحادهم اليوم على المستوى االقتصادي‪ ،‬هم ماضون بثبات و روية في طريقهم !‪ .‬أال ترى أن التاريخ لن‬
‫يكون منصفا إن هو مكننا‪ ،‬بكل عيوبنا و نقائصنا التي يندى لها الجبين‪ ،‬من الوصول إلى مصاف القوى العظمى‬
‫في ظرف نصف قرن فقط ؟‪ .‬حسن‪ ،‬أتريد المراهنة على ‪ 021‬سنة القادمة ؟‪.‬‬

‫أحسسته يستفزني أكثر و يتمادى في ذلك‪ .‬وضعت يدي في جيبي و عدت ألجلس في مكاني واضعا ساقا فوق‬
‫ساق‪ ،‬قبل أن ألتفت إليه‪....‬‬

‫_ بعد ‪ 021‬عاما لن نكون أنتَ و أنا هنا لنرى من سيفوز في هذا الرهان‪ .‬هؤالء الذين يحكمون منذ ‪0214‬‬
‫يسيرون بمنطق الملك لويس الرابع عشر " أنا الدولة ! "‪ .‬المادة ‪ 49‬من الدستور الحالي تؤ ّكد ذلك !‪ .‬ماذا تنتظر‬
‫من مشروع دولة تسير بهذه العقلية غير االنحطاط و االندثار باندثار من يُسيّرونها‪ ،‬ها ؟‪ .‬أنت تعلم هذا جيدا‪.‬‬

‫أطلق ضحكة بعد أن الحظ انفعالي ال ّشديد و احتقان وجهي في تلك اللحظات‪ .‬فاتكأ بظهره على أريكته‪ ،‬ثم‬
‫عاد إلى التأرجح بها يمينا و شماال‪...‬‬

‫_ ما كل هذا االحتقان تجاه الجيل الثوري يا ولد ؟‪.‬‬

‫تمالكتُ نفسي مباشرة‪.‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬لقد أخبرتك‪ ،‬ليست لي مشكلة شخصية تجاه أحد‪ ،‬لكن مشكلتي مع ذهنيته المهيمنة على مفاصل‬
‫حياتي و هي ماضية في تجريدي من إمكانياتي في تقرير شكل هذه الحياة التي أريدها أكثر فأكثر‪ ،‬ال أدري كيف‬
‫أشرح هذا القلق أو الغضب‪ ...‬ال أدري‪ .‬لكني أعتقد أن جيلي يعيشه بطريقة أو بأخرى‪ ،‬سوى أنه ال يعلم ذلك بعد و‬
‫منجر عن ذهنية كانت قبله و هي مستمرة اليوم‬
‫ّ‬ ‫أفترض أن ما نعيشه اليوم‬
‫ُ‬ ‫هو ما يزيد من سوء حالته كما أعتقد‪.‬‬
‫بأشكال متعددة في الجيل الصاعد‪ .‬أود حقا فهم طبيعتها و رؤية شكلها و وصف نتائجها‪ .‬هناك شيء غير طبيعي و‬

‫‪36‬‬
‫شاذ‪ ،‬شيء ما يسير بطريقة خاطئة في هذا البلد برمته‪ ،‬و هو فعال يثير قلقي و غضبي‪ .‬إنه كحجر بركاني يُثقل‬
‫قلبي و يس ِّّممه بالكبريت‪.‬‬

‫نظر سي رزاق إلي متأمال للحظات و قد عاد وجهه ليلبس رداء الجد الكامل‪ ،‬ثم قال و هو يتن ّهد مخرجا‬
‫سيجارة من علبة المارلبورو التي كانت على يمينه فوق المكتب‪...‬‬

‫_ حكاية جيل الشرعية الثورية هذه حكاية معقدة جدا يا ولد‪ ،‬فمعظم الذين فجروا الثورة و الذين يمثلون‬
‫الشرعية التاريخية و الثورية معا‪ ،‬احترقت رؤوسهم بنيران فرنسا و بنيران بعضهم البعض قبل نيل االستقالل‪ ،‬و‬
‫الرهيبة قد رحلوا بعد االستقالل في صمت‪ ،‬أو هم إلى اليوم في بيوتهم ينتظرون أجلهم‬
‫الذين نجوا من تلك الحرب ّ‬
‫بعدما طواهم النّسيان و لم يبق في أيديهم أي قرار أو سلطة‪ ،‬لذلك أنت ترى أن الشرعية الثورية نفسها ليست سوى‬
‫مزور تُمارس به البزنسة السياسوية بأثر رجعي في هذه البالد‪ – .‬ابتسم ناظرا إلي و هو يُشعل‬
‫َّ‬ ‫سجّل تجاري‬
‫صحافة !‪ .‬لديك غريزة الباحث‬
‫سيجارته – لكني اآلن أفهم َلم درستَ علوم االجتماع لسنتين قبل أن تتحول إلى ال َّ‬
‫االجتماعي التي امتزجت اليوم بإصرار و قلق و إقدام الصحفي‪ .‬هذا جيد‪.‬‬

‫صمت للحظة و أنا أنظر إليه‪ .‬بصراحة‪ ،‬كان ذلك مفاجئا لي‪ ،‬فعلى حد علمي فسي رزاق قلّما يمدح أحدا‬
‫ّ‬
‫بشكل مباشر و صريح‪ .‬كان ينظر نحو الصقف ينفث الدخان‪...‬‬

‫_ تعلم يا أمين ؟‪ .‬عشت طفولتي سنوات السبعينات عندما كانت دولة بومدين في أوج قوتها و ألقها‪ .‬كما عشت‬
‫تحوالت الثمانينات كمراهق متأثر بالتيار اليساري حينما بدأت أكتب المقاالت المناهضة لطغيان الحزب الواحد و‬
‫طغيان العسكر‪ .‬بعد انهيار جدار برلين و األنظمة االشتراكية‪ ،‬عشتُ بداية التسعينات كصحفي يافع متح ّمس و‬
‫ُمندفع يوم حقّ ْ‬
‫قت البالد أول طفرة في مجال حرية التعبير و التعددية كثاني بلد عربي يُحقق ذلك بعد لبنان‪ .‬كنا‬
‫سعداء و متح ِّّمسين للغاية‪ ،‬رغم األخطار و الخوف من المجهول – تنهد بعمق و هو يُكمل – لكن أترى ؟‪ ...‬عندما‬
‫أمعن التفكير في الحالة التي وصلنا إليها اليوم و هذه النكسة الرهيبة في كل شيء‪ ....‬أصدقك القول‪ ،‬يساورني‬
‫حنين عميق في بعض األحيان إلى جزائر السبعينات‪.‬‬

‫_ أنت تمزح‪ ،‬أليس كذلك ؟‪.‬‬

‫كانت نظرته جادة للغاية‪ ،‬امتزج فيها شيء يشبه الحزن و الحيرة‪...‬‬

‫صاعد أساسا‪،‬‬
‫_ ال‪ .‬أتعلم َلم أشتاق إلى جزائر السبعينات ؟‪ ،‬رغم كل ما يُمكن أن يُقال عنها من طرف الجيل ال ّ‬
‫فضال عن أنها الجزائر التي عشتُ فيها طفولتي مع كل ذكرياتها الخالدة‪ ،‬و هو ما قد يُؤثر في ُحكمي الموضوعي‬
‫على تلك الفترة‪ ،‬لكنني بصراحة‪ ،‬أفضل جزائر تلك الفترة على جزائر اليوم‪.‬‬

‫نظر في عيني مباشرة و هو يمد يده نحو المنفضة ليطفئ سيجارته التي لم يكمل تدخينها‪...‬‬

‫‪37‬‬
‫_ جزائر السبعينات كان لها سلوك أمهاتنا و جداتنا في البيوت ذاك الوقت‪ ،‬كانت فقيرة‪ ،‬تعلم معنى المعاناة‪ ،‬ال‬
‫تخاطب أبناءها سوى بتسلط أو استصغار و استغباء‪ .‬كانت عنيفة في أكثر األوقات أيضا‪ ،‬لكنها على األقل كانت‬
‫ترى طريقها بوضوح و تعلم تماما ماذا تريد !‪.‬‬

‫أكذب لو قلت أني فهمتُ تماما ما كان يرمي إليه بالضبط من الناحية العاطفية‪ ،‬لكنني‬
‫ُ‬ ‫بدى كالمه عميقا جدا‪.‬‬
‫أظن نفسي فهمته موضوعيا من خالل استحضاري لواقع جزائر اليوم‪ .‬جزائر ثرية بمداخيل نفط خيالية لكنها ذات‬
‫مجرد‬
‫ّ‬ ‫المجرد من أي قيمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرمزي‬
‫وجهة ضائعة تماما‪ ،‬مع استبدالها لمفاهيم الثورة بمفاهيم العنف ال ُمباشر و ّ‬
‫انحدار فضيع نحو التخريب الذاتي و العبثية‪ .‬رغم ذلك كنت متأكدا من أن كالمه كان سيمس أي شخص عاش في‬
‫تلك الفترة التي يحن إليها في لحظات يأسه من وضع البالد الحالي‪ ،‬الغارق في الفساد و الركود السياسي و‬
‫الفوضى االجتماعية و التّهديدات الحدودية‪.‬‬

‫األهم‪ ،‬أنه وافق على فكرة عمودي‪.‬استأذنته لالنصراف إلى العمل و أنا أشعر بحماسة و راحة بال ألنني كنت‬
‫قد شغّلت المحرك لالنطالق في رحلة السبق النهائي‪ .‬عندما كنت أهم بالخروج جاءني صوت سي رزاق من‬
‫الخلف و كأنه استدرك شيئا لم يقله‪...‬‬

‫سي وشاكي !‪.‬‬


‫_ ِّ ّ‬

‫التفتُ إليه‪..‬‬

‫_ إن كان الشارب يمثل لجيل الشوابين رمز الرجولة و الفحولة و البلوغ الذكري‪ ....‬فماذا يُمثل لك و كيف‬
‫تصفه نيابة عن الجيل الذي تنتمي إليه ؟‪.‬‬

‫نظرتُ إليه‪ .‬زغتُ ببصري لبضع ثوان و أنا أبحث عنه‪ .‬لقد كان بسيطا جدا‪ ،‬و أظنه كان معبرا للغاية‪،‬‬
‫فنظرتُ في عينيه ملقيا إليه بالجواب الذي بدى لي في تلك اللحظات األكثر بديهية في العالم‪...‬‬

‫مجرد كتلة من الشعر‪ ،‬تنمو بين األنف و الشفة العليا !‪.‬‬


‫ّ‬ ‫_‬

‫قيمة الرجل الحقيقية تكمن في عقله و قلبه‪ ،‬أي أنه يُوزَ ن بما يمكن أن يُنتجه و يُقدّمه للعالم من أفكار و‬
‫مشاعر !‪ .‬و ليس في شكل شواربه أو كثافة لحيته أو طول قامته أو عرض كتفيه‪ .‬الفكرة الساسية التي جاءت في‬
‫أول عدد من عمود مسطاشيات بعد بضعة أيام من ذلك‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪II‬‬

‫همسات الحسناء المورسكية‬


‫‪39‬‬
‫‪-4-‬‬

‫منبت الطفل بداخلي‬

‫بداية شهر أفريل ‪...4102‬‬

‫‪40‬‬
‫كنتُ أمس ك مقود سيارتي منطلقا على طول الطريق السريع بين العاصمة و البليدة لحضور خطوبة شقيقتي‬
‫عيشة‪ .‬كنتُ أستمع إلى إحدى المحطات اإلذاعية التي كانت بتث هستيريا العهدة الرابعة التي كانت تسير بالبلد إلى‬
‫تكريس علني غير مسبوق لمنطق '' الموسطاشيا '' و جيل '' التيموقراطيين '' الذين أدمنوا فكرة المجد و المغانم إلى‬
‫حد لم يعودوا معه يرون جيال فتيا كامل‪ ،‬يقف بصمت و شرود‪ ،‬يلتفت يمينا و شماال‪ ،‬باحثا عن رقعة مربَّعة‬
‫صغيرة يقف عليها في هذا البلد القاري الشاسع‪.‬‬

‫في تلك األثناء‪ ،‬شيء ما بدأ يرتعش في قلبي و أنا ألمح سالسل األطلس البليدي الجبلية و هي تزداد وضوحا‬
‫خلف طبقة خفيفة من السَّحاب كانت جاثمة بلطف على قممها الشاهقة‪ .‬شمس منتصف النّهار مألت الطريق أنوارا‬
‫نفثت في الحشائش و أزهار البنفسج و النّرجس التي كانت ّ‬
‫تطوق بساتين الحمضيات و مشاتل األزهار روحا ال‬ ‫ْ‬
‫يمكن أن يستشعر جوهرها إال أبناء سهل المتّيجة‪ ،‬ثالث أخصب سهل في العالم‪ .‬كنتُ أستشعر تلك الروح من‬
‫خالل تلك الروائح الزكية التي كان صدري ال ُمثخن بجراح هذا الوطن و جراح هذا الجيل ممتلئا بها‪ ،‬عسى أن‬
‫تك ّمدها بشيء من لطفها الطاغي‪ ،‬الذي أيقظ أحاسيس الماضي الجميل‪ .‬براكين ذاكرتي كانت تت ّقد ببطء كلّما‬
‫ّ‬
‫تقلصت الكيلومترات التي كانت تفصلني عن مدينتي األم‪ .‬ذكريات طفولية ممتلئة بأنوار متناثرة كشرارات ألعاب‬
‫األعياد النارية‪ ،‬تُفشي في بريقها الخاطف المتناثر ال ّ‬
‫سِّر الخالد لدهشة سن الصبى العجيب‪ .‬و هل أنسى في كل‬
‫صغير الذي كنته في مكان ما في أعماقي كالكنز ال ّنفيس ؟‪.‬‬
‫األحوال أني ال أزال أحتفظ بذلك الطفل ال ّ‬

‫كنتُ أكاد أبتسم في لحظة غريبة بعدما أعمت ألوان و أضواء الربيع بصري‪ .‬هذا الربيع الذي أعلن عن‬
‫عودته بأنفاسه األولى التي سحبتني إلى عمقه و انتقلت بي إلى زمن بدى بعيدا جدا‪ .‬زمن كان يُمكن أن يكون أروع‬
‫بكثير لوال فجيعتنا الوطنية سنوات التسعينات‪ .‬تلك الفجيعة التي بترت منا أجزاء ال يُمكن استردادها من طفولتنا‬
‫الرصاص و القنابل‪ .‬كوابيس الملتحين و الملثّمين الذين ّ‬
‫مزقوا‬ ‫المهدورة بالخوف و الحذر و كوابيس السكاكين و ّ‬
‫طفولتنا بحرابهم و أحقادهم الحادة‪.‬‬

‫ابتسمتُ أخيرا و أنا ألمح العارضة الكبيرة التي تنتصب عند مدخل المدينة و قد ُكتبت عليها عبارات الترحيب‬
‫تطوقها بساتين الحمضيات و مشاتل‬
‫بالداخلين إليها من بعيد‪ .‬مضت أشهر عديدة لم أدخل هذه المدينة الهائدة التي ّ ِّ‬
‫الورود و الثكنات العسكرية‪ .‬هذه السّاحرة الغامضة التي أسّسها الفارون من جحيم محاكم التفتيش في األندلس قبل‬
‫ْ‬
‫داوت‬ ‫أكثر من خمسة قرون‪ ،‬أالئك المفجوعين الذين جاءوها بقلوب منكوبة بضياع أرض األندلس الجريحة‪.‬‬
‫البليدة فجيعتهم بأمانها و جمالها‪ ،‬فردوا لها الجميل بسكب سر جمال روح األندلس في جوهرها الذي خرجت منه‬
‫طلّتها البهية التي ظلّت تسترق النظر على الساحل من بعيد‪ ،‬كأنها تبحث عن أمها المفقودة على الضفة األخرى‪،‬‬
‫أرض األندلس التي منحتها الحياة من احتضارها تحت نظرات األطلس الشامخ‪ ،‬و الذي ظل منتصبا في كبريائه‬
‫األزلي يحرسها كما يحرس العمالق الراسخ في مكانه الحورية الصغيرة واضعا إياها بين يديه‪.‬‬

‫حين كنتُ صغيرا‪ ،‬كانت أمي تقول لي أن البليدة ال تتحدث إال بلغة الياسمين‪ .‬كانت دوما تقول ذلك و هي تهم‬
‫بقطف بعض أزهاره من شجرتنا‪ ،‬كي تزين بها قعدة القهوة أو الشاي في البستان مع والدي‪ .‬لم أكن أفهم قصد هذا‬

‫‪41‬‬
‫القول‪ ،‬لكني فهمته بشكل ما في اليوم الذي أحسستُ فيه بأول حنين يشدني إلى هذه المدينة الصغيرة و اللطيفة‪ ،‬لوال‬
‫أني الحظت شيئا بعد دقائق من ولوجي إليها‪...‬‬

‫سر لعنة ال ُحفر في هذه المدينة يا ترى ؟ !‪.‬‬


‫_ ما ّ‬

‫تمتمتُ مع نفسي و أنا أسلك الطريق المؤدّي إلى نهج دمحم بوضياف ألصل إلى الحي بالقاسم الوزري الذي‬
‫ُولدتُ و ترعرعتُ فيه‪ .‬رغم ذلك فقد كنتُ أشعر بإثارة غريبة تنتشر في وجداني كما تنتشر القشعريرة في الجسد و‬
‫أنا أنزلق بسيارتي أقترب ببطء من المنعطف الفاصل بين نهجي دمحم بوضياف و مصطفى بن بولعيد‪ .‬كانت حركة‬
‫السير تتباطأ بسبب زحمة منتصف النهار‪ .‬تلك اإلثارة كانت تزيد كلّما منحتني زحمة السير التي جعلت الحركة‬
‫تتوقف في تلك النقطة مزيدا من الوقت ألمعن النّظر في تلك األرصفة و المحالت و األشجار المصطفة‪ .‬مزيج من‬
‫السعادة و الحذر كان يغمر صدري و أنا أشعر بذلك االنقباض داخل معدتي‪ ،‬ال لشيء سوى ألنني لم أدخل المدينة‬
‫منذ أشهر طويلة‪ ،‬و عندما دخلتها صادفتها و هي تحتفل وحيدة بقدوم الربيع الذي له طعم خاص بها‪ ،‬بل كأنما‬
‫ي أيضا بعدما أدركت أني أعلم سبب بهجتها الصارخة‪ ،‬عكس سكانها المنهمكين في مشاغلهم اليومية‪،‬‬ ‫ْ‬
‫نظرت إل ّ‬
‫ي‪ .‬قلتُ في نفسي أنه الشوق فقط‪ ،‬أو ربما هي الرغبة الجامحة في االبتعاد عن‬
‫فراحت تنثر رداد الحنين في عين ّ‬
‫جنون العاصمة و أصفاد قلق العمل‪ ،‬رغم أن لي قلقا آخر مرتبط بالبليدة نفسها‪ .‬موضوع قديم أحاول تفادي التفكير‬
‫فيه أو تذ ّكره منذ الصباح الباكر‪ .‬سنوات حياتي في هذه المدينة مرتبطة و متداخلة مع سنوات حياتي في حلم طويل‬
‫تجاه كائن لم أره منذ زمن‪ .‬حلمه كان جميال بقدر ما كان مؤلما‪ .‬لكنها كانت فرحة اللقاء أوال‪ .‬دهشة الطفل الصغير‬
‫في أول يوم العيد و هو يعلم أنه سيودّعه و يودّع فرحته به مع مغيب شمس ذاك اليوم تحديدا‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ .‬كم هي غريبة طبائع البشر !‪ .‬نحن‬ ‫أحسستُ بأني بصدد التحول إلى طفل صغير ّ‬
‫بقوة و تواطؤ ّ‬
‫مفطورين على التلذّذ بإهمال أكثر األشياء جماال التي قد تصادفنا في طريق الحياة‪ ،‬ثم إن هي ضاعت من بين‬
‫أيدينا‪ ،‬فإننا نتلذّذ بشكل غريب و مثير للشفقة بتعذيب أنفسنا و جلدها بسوط الحنين و ال ّندم‪ .‬هل من الغريب أن أجد‬
‫معظم أصدقاء الطفولة و زمالء الدراسة يتحسّرون على تلك األيام ؟‪ .‬لطالما تع ّجبتُ من كونهم‪ ،‬و بحق‪ ،‬لم يُدركوا‬
‫تمر أمام أعيننا تماما كسحابة صيفية بعيدة‪ ،‬فنستمر في الغالب بالكذب‬
‫ما كانوا بصدد تضييعه أمام هذه الحياة التي ّ‬
‫صرين على أنها غمام أسود مثخن بصواعق الخوف و أمطار الهموم التي تقودها رياح الخطيئة و‬
‫على أنفسنا ُم ّ‬
‫أثمانها الباهظة المحتومة نحونا منذ األزل‪ ،‬و لهذا بالضطب أعتقد أن ُمعظم األشياء ّ‬
‫اللطيفة التي نُصادفها في‬
‫حياتنا تجعل منّا أكثر الكائنات تشاؤما و غرورا و غباوة !‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬لطالما أدركتُ في مكان ما في نفسي بأنني سأشتاق إلى طفولتي‪ ،‬و سأشتاق إلى كل أيام‬
‫الماضي الذي عشته قبل أن أستق ّل بحياتي كرجل راشد‪ .‬رغبتي الدفينة في أن أبقى طفال صغيرا في مكان ما من‬
‫نفسي‪ .‬ربّما هي طريقتي المختلفة في رؤية األمور و التي ش ّكلت لي دوما عقدة لم أفهمها‪ .‬عقدة أزعجتني كثيرا و‬
‫حيرتني أكثر‪ .‬ربما كان ذاك الباعث الخفي الذي كان يجعلني أستشعر بطريقة ما في نفسي وسط فوضى سنوات‬
‫التسعينات‪ ،‬ما كان ال ُمتس ِّّببون في تلك األزمة بصدد انتزاعه منا‪ .‬لقد كانوا ينتزعون منا أجمل سنوات عمرنا‪,‬‬
‫أجمل المراحل في عمر جيل كامل !‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫حاولتُ رغم ذلك أن أتم ّعن في ما كان يمضي‪ .‬ال أستطيع نسيان تلك التفاصيل الصغيرة الغامضة التي كنتُ‬
‫أراها من دون اآلخرين في كل شيء من حولي‪ .‬و أذكر جيدا‪ .‬أذكر أيام الربيع تلك‪ ،‬منتصف التسعينات‪ .‬كنتُ‬
‫بالكاد أبلغ الثامنة من عمري عندما كنتُ تلميذا بابتدائية ابن سينا المتواضعة التي كان يفصل بينها و بين البيت‬
‫سوى ربع ساعة سيرا على األقدام‪ .‬شيء من ملل الدراسة داخل غرفة الصف بأجوائها البهيجة رغم الصياح و‬
‫الضرب الذي كان يُسلَّط علينا من حين آلخر‪ ،‬و كثير من ّ‬
‫الرعب خارج أصوار المدرسة‪ .‬أذكر اآلنسة مريم و هي‬
‫تحاول السيطرة على صوتها المرتعش في تلك األمسية الربيعية الجميلة التي سمعنا فيها إطالقا كثيفا للرصاص‬
‫غير بعيد عن المدرسة‪ ،‬اعتقدنا أنه كان في شارع العربي التبسي وسط المدينة‪ .‬كانت النوافذ مفتوحة تدخل منها‬
‫نسمة ربيعية مح ّملة بعبق الزهور‪....‬‬

‫_ ال تقلقوا يا أطفال‪ .‬ابقوا هادئين‪ .‬سيتوقّف األمر بعد دقائق فقط‪ .‬هيا‪ ،‬لنحاول العودة إلى الدّرس‪.‬‬

‫أذكر جيدا أنها قالتها و هي تطلق بسمة مضطربة رامية ببصرها إلى خارج غرفة الصف عبر النافذة‪ .‬كان‬
‫فعال الإراديا و قد عجبتُ من أمرها و هي تتحول فجأة إلى امرأة رقيقة و طيبة على غير عادتها بمجرد سماعها‬
‫إلطالق النار ؟‪ .‬كانت تطل بحذر من النافذة‪ ،‬لكن كل ما كان يمكن أن تراه ساعتها هو عمارات حي الوئام غير‬
‫البعيدة و التي كانت قد ُ‬
‫شيدت قبل مدة قصيرة‪ .‬ازداد إطالق النار ضراوة و راح صداه يقترب نزوال من وسط‬
‫المدينة عبر الطرق الفرعية الصغيرة التي تشكل أحياء سكنية هادئة و قليلة الحركة في الغالب‪ ،‬كما هي حال حي‬
‫ْ‬
‫بدأت دقات قلبي تتضاعف و أنا ال أفكر إال في عائلتي و خاصة أمي‪ .‬كان باديا من‬ ‫الوزري السكني المسالم‪.‬‬
‫الرشاشة أنها غير بعيدة تماما عن المنزل‪ .‬طفقنا جميعا ننظر إلى بعضنا البعض و ننظر‬
‫مصدر إطالق النيران ّ‬
‫إلى اآلنسة مريم التي التزمت الصمت بعد أن أدركت أن إكمال حصة التعبير و ال ُمحادثة غير ُممكن‪.‬‬

‫_ صه !‪ .‬اهدئوا يا أبنائي !‪ .‬الزموا أماكنكم‪.‬‬

‫كنتُ أنظر إليها مستغربا بهدوء " أبنائي ؟ ! وااااااوو ! "‪ .‬لم تنطق بها يوما مذ عرفناها في سنتنا األولى !‪.‬‬
‫فجأة فُتح باب غرفة الصف و أطل علينا مدير المدرسة المرحوم سالمي‪ ،‬فتوجهت إليه اآلنسة و راحا يتمتمان و‬
‫درس الصف المجاور‪ ،‬في حين راح بعض التالمذة الجالسين بالقرب من‬
‫يهمهمان مع بعضهما‪ ،‬ليلتحق بهما ُم ّ‬
‫الباب يحاولون إمعان السّمع لعلّهم يفهمون ما يجري في الخارج‪ .‬أتذكر دلك جيدا‪ .‬كنتُ أجلس في مكاني و أنا‬
‫أراقب يوسف مشاكس الصف و هو يستدير مبتسما إلى زهيرة و يسمين الجالستين خلفه بنظرة الواثق المتفاخر‪..‬‬

‫_ أراهن على أنه اشتباك بين أنصار الـ ‪ FIS‬و الـ ‪ .FLN‬قال لي أبي أن األف أل أن هو من سينتصر ألن‬
‫الجيش و الشعب في صفه‪.‬‬

‫غريب !‪ .‬أذكر أن يوسف كان أول من انفجر باكيا و صائحا قبل سنتين أو ثالث من ذلك اليوم عندما سمعنا‬
‫إطالقا للرصاص‪ ،‬أيام المسيرات الحاشدة و اإلضرابات الكثيرة التي كان يدعو إليها قادة الفيس‪...‬‬

‫_ و من يقف إلى جانب الفيس ؟‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫سألته زهيرة ذات الوجه الشاحب و القوام الهزيل و الضفائر الطويلة و التي بدت عليها مالمح الحيرة و القلق‪.‬‬

‫_ أعتقد أن الشرطة تقف في صف الفيس و لكن الجيش أقوى من الشرطة‪.‬‬

‫أجابها بتفاخر‪ ،‬ليرد عليه زميله الجالس إلى جنبه و الذي ال أذكر اسمه‪...‬‬

‫_ ال تكن سخيفا‪ ،‬الشرطة أيضا تقف إلى جانب األف أل أن‪ .‬رأيتهم قبل عامين عندما هجموا على حينا‪ ،‬كانوا‬
‫يعتقلون كل شخص لديه لحية أو يدعي أنه من الفيس‪ .‬و قد سمعت أخي ذات مرة يقول على مائدة العشاء أنهم‬
‫أطلقوا النار من سيارتهم على شاب ملتح و تركوه غارقا في دمائه‪.‬‬

‫_ أنا أقول أن الجيش و الشرطة و رجال النينجا يقفون مع األف أل أن‪ .‬أما الدرك فيقف في صف الفيس !‪.‬‬

‫قال أحمد ذو النظارات الغليظة‪ ،‬ليرد عليه يوسف متهكما‪...‬‬

‫_ و كيف عرفت أن الدرك إلى جانب الفيس يا ذكي ؟‪.‬‬

‫_ ببساطة‪ ،‬ألن رجال الدرك عنيفون جدا‪ .‬رأيتُهم كيف يصفعون و يركلون الناس في طريقهم‪ ،‬و قد أخبرني‬
‫أبي أن الفيس أشرار أيضا ألنهم هم اإلرهابيون الذين يدعّمون عصابة الـ ‪ GIA‬التي تذبح الناس‪.‬‬

‫_ الجيا ذبحوا أحد جيراننا قبل أسابيع‪ ،‬لكن ليس هناك أعنف من رجال النينجا‪ .‬إنهم يقفزون من على أسوار‬
‫المنازل في ساعات متأخرة من الليل ليخطفوا سكانها و هم نيام‪ .‬يُقال أن لهم ثكنات تحت األرض ال أحد يعلم‬
‫مكانها‪ ،‬يأخذون المخت َطفين إليها فيعذبونهم بالماء و الكهرباء‪ ،‬ثم يقتلعون أعينهم و ألسنهم و يقومون بقليها لتناولها‬
‫ي شخص يقول كالما مشينا في حق الحكومة يكون‬
‫في فطور الصباح‪ .‬هكذا أخبرني أحد العسكر ذات مرة‪ .‬أ ّ‬
‫مصيره هكذا !‪ .‬لذلك أرى أن األف أل أن سيفوز ال محالة‪.‬‬

‫قالها يوسف بنوع من التفاخر أمام نظرات الفتيات المشدوهة و الخائفة‪ .‬حينئذ اعتدلتُ في جلستي بعدما كنتُ‬
‫أضع كفي على وجنتي و أنا أستمع إلى أحاديثهم‪ .‬أحسستُ بخوف مفاجئ و شديد في تلك اللحظات و أنا أسمع‬
‫أخبار هؤالء " النينجا " الذين لم أكن قد رأيتهم بعد عكس الكثير من أصدقائي و جيراني‪ .‬كانوا يقولون لي أن‬
‫مالمح وجوههم غير معروفة و ال يظهر منها سوى أعينهم ذات النظرات الحادة‪ ،‬و أنهم يركبون سيارات الشرطة‬
‫و الدرك تارة و يركبون سيارات عادية بيضاء اللون تارة أخرى‪ .‬كنتُ أعتقد أنهم يستقلون أي نوع من السيارات‬
‫يرغبون فيه ألنه ال أحد يقف في طريقهم أو يُملي عليهم ما يفعلون‪ .‬لكن قصة تسلّلهم إلى البيوت ليال الختطاف كل‬
‫من يذكر الدولة بسوء بعثر قلبي من الخوف‪ ،‬كما تُبعثر كومة ورق أبيض على بالط فوقه ِّحبر مسكوب‪ .‬تذ ّكرتُ‬
‫عنف النظام‪ ،‬رغم أنه لم يكن يوما مع‬
‫أحاديث والدي مع بعض أفراد األسرة الكبيرة عن فساد الحكومة و ُ‬
‫أطروحات الحزب المحظور و لم يناصرها عالنية‪ ،‬إال أنه على األرجح كان متف ّهما ألفكارهم و مواقفهم‪ ،‬ما عدى‬
‫تلك المتعلقة باستخدام العنف‪ .‬ربما ألنه عرف الكثير من المناضلين في الفيس قبل أزمة ‪ 0224‬بما أنه موظف قديم‬
‫في سلك التربية و التعليم الذي كان يعج بذوي الفكر اإلسالموي‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫أذكر أنني لم أستطع النوم تلك الليلة‪ .‬كما لم أجرؤ على سؤال أبي أو أمي عن حقيقة رجال النينجا المرعبين‪.‬‬
‫لطالما منعانا من التطرق لهذا النوع من األحاديث سواء داخل البيت أو خارجه‪ُ .‬رحتُ أفكر في فراشي حول كل‬
‫ما يحدث‪ .‬انغمستُ في فراشي و أنا أنظر إلى شقيقي فؤاد الذي يكبرني بثالث سنوات و هو يغط في نومه العميق‪،‬‬
‫ثم رفعتُ بصري إلى أعلى أراقب ضوء السيارة المارة أمام المنزل الذي انعكس على جدران الغرفة و سقفها قادما‬
‫تطوق واجهة المنزل و كأنها ِّشباك صيد سوداء زاحفة فوق‬
‫من النافذة‪ ،‬فبدت معه ظالل أغصان الياسمين التي ّ‬
‫سجّادة من الضوء‪ .‬قد يقول البعض أنها بالضبط ح ال الجزائر في تلك السنوات مع إسالم سياسي أهوج و نظام‬
‫سياسي جاف ؟ !‪.‬‬

‫شيء واحد كان يُحيرني يومها‪ .‬كل األطراف و الجماعات التي كنا نعرفها أو نسمع القصص الرهيبة عنها‬
‫كانت تتناحر فيما بينها‪ ،‬لكن بسبب ماذا و من أجل ماذا بالضبط ؟‪ .‬لم يشرح لنا أحد هذا األمر و كل ما كان يُقال‬
‫بره ! "‪ .‬ل ْم يفهموا أنها كانت دعوة صريحة لهياج‬
‫لنا هو‪ " :‬مازلت صغير باش تفهم السياسة‪ ،‬رد بالك تهدر هكذا ّ‬
‫خيال و مخاوف الطفولة‪ .‬المخاوف التي نشأنا عليها دون ان يلحظوا أنها كانت تبتلعنا كما يبتلع سمك الحبّار‬
‫المتربّص تلك السمكة الصغيرة التائهة في عمق المحيط المظلم البارد‪ .‬هكذا كان يذهب عنفوان الصبى و جمال‬
‫جرد أنصار ما س ّماه عالم االجتماع ‪" Jacques Novicow‬‬
‫أيام الربيع البهيج و حالوة أيام المدرسة هدرا‪ .‬هكذا ّ‬
‫سبب الوحيد األوحد "‪ .‬المتناحرون بينهم طفولتنا من ألوانها البهيجة‪ ،‬تماما كما ت َسحب حقنة مؤلمة لُبّ‬
‫ت ُّراهات ال َّ‬
‫الحياة من جدع نبتة غضة طريّة بكل عنف و قوة و سادي ٍة‪ .‬فقط‪ ،‬حاولتُ طويال النظر إلى الجانب األقل إنارة في‬
‫تلك األيام‪ ،‬فقد كانت مليئة بالظالل في الغالب‪ ،‬لكني لم أفلح في جعل البقية ترى ذلك النور الخافت‪ .‬بال شك‪ ،‬كانت‬
‫البالد تعيش أبشع سنوات جنونها‪ ،‬و كنتُ أريد أن تطول أيام طفولتي لعل الحرب تتوقف‪ ،‬فنجد فسحة أخرى‬
‫للمزيد من اللعب و المزيد من تقليد أبطال الرسوم المتحركة و محاكاة عوالمهم الجميلة ذات التقسيم البسيط الثابت‬
‫" الخير ضد الشر و الخير هو المنتصر في النهاية "‪ .‬السخرية كانت تكمن في أن الفوضى التي غرقت فيها‬
‫الجزائر يومئذ أُريد تقسيمها بنفس الطريقة الساذجة التي يُقسم بها عالم الكرتون‪ :‬دولة خيّرة تحارب قوة ظالمية‬
‫شريرة‪ .‬اليوم يعلم جيلي أن كال المعسكرين كان مليئا باألطفال الكبار‪ .‬بالمجرمين‪ ،‬المجانين‪ ،‬الحمقى و المراهقين‬
‫فكريا‪ ،‬مع قلة من األوفياء و الحكماء الذين أضاعوا خرائطهم و هم يحاولون تصحيح خربشات من أضاعوا‬
‫طريق أمة كاملة !‪.‬‬

‫ال يحظرني سوى ما جاء في رواية إرهابيستان المثيرة للتّأمل و ال ُمسليّة في نفس الوقت لصاحبها عز الدين‬
‫ميهوبي‪ ،‬التي كنتُ قد فرغتُ من قراءتها تلك األيام‪َ .‬‬
‫كتب يقول على لسان قرصان الجو الشهير كارلوس ابن آوى‬
‫أن " التدمير ليس عيبا‪ ،‬إنّما العيب في أن تد ّمر شيئا و ال تستبدله بأفضل نه "‪.‬‬
‫ّ‬

‫غريب !‪ .‬الذين تسبّبوا في حرب التسعينيات د ّمروا كل شيء في البلد‪ ،‬و لم يُفلحوا حتى اليوم في استبدال كل‬
‫خربوه بشيء أفضل‪ .‬فضال عن تدميرهم لشيء ال يُمكن استرداده أو استبداله على اإلطالق‪ :‬طفولة جيل‬
‫الذي ّ‬
‫كامل !‪ .‬طفولة جعلتها كوابيس التسعينات حديدا صدئا‪ ،‬بدال من أن تكون قوس قزح يفيض بألوان ضوئية عجيبة‬
‫متأللئة‪ .‬أعتقد أنها أعظم خسارة يُمكن أل ّمة أن تتكبّدها على اإلطالق !‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫تأملت البليدة و استرجعت كل ذلك تلقائيا‪ .‬شيء أو أشياء كثيرة أريد اختصارها اليوم في عبارة مأساة وطنية‬
‫أو عشرية سوداء‪ ،‬من أجل تجنّب حرج و تبعات توصيفها " حربا أهلية "‪.‬على األقل كانت فعال و بكل المقاييس‬
‫" حربا صريحة " !‪ .‬عبارة " مأساة وطنية " لم تكن أكثر من وصف أدبي أو ِّشعري لحقيقة ما حصل‪ ،‬و ال أعلم‬
‫أن أرباب ما حدث في التسعينات كانوا من عشاق األدب ؟‪.‬‬

‫كما كان يقول الدكتور أبو عماد‪ " :‬كل شيء ينطلق من كلمة أو جملة قد تتحول إلى مصطلح يتطور إلى‬
‫يجر معه أوضاعا فكرية جديدة‪ ،‬تضعنا أمام واقع آخر‪ ،‬بكل تجلياته و تبعاته و التزاماته و مسئولياته ! "‪ .‬و‬
‫مفهوم ُّ‬
‫بذلك‪ ،‬فأرقام األزمة تصرخ بحدة في عصر السماء المفتوحة‪ 411 :‬ألف قتيل‪ 02 ،‬ألف ُمعتقل‪ 0411 ،‬مفقود على‬
‫األقل‪ ،‬مليون نازح في الداخل‪ 211 ،‬ألف مهاجر نحو الخارج و ‪ 41‬مليار دوالر أمريكي من الخسائر المادية !‪ .‬يا‬
‫ترى‪ ،‬ماذا نس ّمي كل هذا ؟ !‪ .‬بل إنه و إلى اليوم ال يوجد نصب تذكاري وطني يُذكرنا بما حصل‪ ،‬و يدفعنا‬
‫الستخالص الدروس مما حصل ؟‪.‬‬

‫ي و هي تعبر أمام بصري و أنا أسوق سيارتي صاعدا عبر‬


‫أه !‪ .‬كم هو غريب وقع تلك الذكريات الماضية عل ّ‬
‫الطرق الفرعية الصغيرة التي تربط نهج بن بولعيد بنهج الوزري‪ .‬كيف ال و أنا ابن المدينة التي كانت أول بقعة‬
‫في هذا الوطن شهدت انطالق اإلسالم الراديكالي المسلّح حتى قبل أحداث أكتوبر ‪ 77‬نفسها‪ .‬كبار ال ّ‬
‫سِّن في المدينة‬
‫ال زالوا يتذكرون صائفة عام ‪ 72‬التي شهدت أول هجوم مسلح قاده إسال َمويّون على مركز للشرطة‪ .‬حدث من هذا‬
‫دو و خارج عن المألوف‪.‬‬
‫النوع و قياسا إلى يوميات المواطنين البسيطة في تلك الفترة هو شيء ُم ّ‬

‫المهم‪ ،‬حدث ما حدث في طفولتنا‪ ،‬ألجد نفسي أعود إلى حاضري‪ ،‬أقود سيارتي و أنا أنظر إلى تلك الطرق‬
‫التي أعرفها جيدا‪ .‬أعرف روائح جدرانها و منازلها و عطور أشجارها المزهرة و أحتفظ بحرارة أرصفتها في‬
‫مسام أخمص قدمي‪ .‬تلك الطرق التي طالما ركضنا عبرها و نحن صبية صغار‪ ،‬حفاة و شبه عراة‪ ،‬نحمل ثمار‬
‫التين أو المشمش أو األجاص التي لم يكتمل نضجها بين أذرعنا‪ ،‬حين كنا نقطفها خلسة من آخر البساتين المكشوفة‬
‫التي كانت تنتشر في المنطقة قبل أن يبتلعها اإلسمنت المسلح‪ ،‬أو من بعض الفيالت االستعمارية القديمة ذات‬
‫األسوار المنخفضة قبل أن يُعاد بنائها و رفعها إلى أعلى مستوى سنوات التسعينات‪ .‬إنها نفس الزقاق التي كنا‬
‫نركض عبرها في أمسيات شهر رمضان الربيعية الدافئة عائدين إلى بيوتنا‪ ،‬عندما يتناهَ إلى مسامعنا أن مسلسل‬
‫الخيال العلمي األسترالي الشهير " فتاة من الغد " قد بدأ لتوه‪ .‬أضحكُ على نفسي في بعض األحيان عندما أفكر بأن‬
‫بطلة ذلك المسلسل‪ ،‬التي أدت دور شخصية " نادين " قد تكون أول فتاة وقعتُ في حبها و أنا مجرد تلميذ في‬
‫المدرسة االبتدائية !‪.‬‬

‫أخيرا‪ ،‬إنه البيت‪....‬‬

‫‪46‬‬
‫‪-5-‬‬

‫شدة‬
‫الفراشة ال ُمر ِ‬
‫مشيتُ في ذلك الرواق الهادئ ذو األرضية المزيّنة بالمربّعات البيضاء و السوداء ال ُمتداخلة و كأنها رقعة‬
‫شطرنج مستطيلة‪ ،‬أنظر إلى نهايته التي انتصبت فيها مدفئة جديدة غير تلك التي ع ّمرت فيه لسنوات طوال‪ .‬كنتُ‬
‫أكاد للحظة أسمع خطواتنا المتسارعة و همساتنا الساخرة و نحن نركض عبر ذاك الرواق حفاة محاولين عدم إثارة‬

‫‪47‬‬
‫جلبة تجعل أبي يخرج من مكتبه لتوبيخنا‪ ،‬فقد كان يُجن جنونه عندما نستسلم لولع اللهو و المرح على طول الرواق‬
‫حين يغوص هو في لذة المطالعة أو الكتابة و هوس التأ ّمل‪.‬‬

‫ْ‬
‫ابتسمت‪.‬‬ ‫كان باب مكتب أبي شبه مفنوح‪ .‬دفعته بهدوء و بطء و أنا أرمي برأسي أوال ملقيا أول نظرة عبره‪.‬‬
‫تلك الصورة المعلقة بالقرب من نافذته ال تزال في مكانها كما ع ِّهدتها مذ كنت صبيا صغيرا يخشى دخول ذلك‬
‫المكتب فقط بسببها‪ .‬إنها صورة العالّمة مح ّمد بن أبي شنب و هو يقف بلباسه العربي و شارباه البارزان و نظرته‬
‫الهائمة في الفراغ‪ .‬إنه الرجل الذي طالما أُعجب به والدي و قلّد طريقته في تربية شواربه‪ ،‬و قد أحبه كثيرا‬
‫بوصفه رمزا للجمع بين الكفاح من أجل اللغة و الفكر العربيين و بين الكفاح من أجل إثبات الذات‪ .‬كان من أوائل‬
‫الجزائريين الذين أصابوا شهادات جامعية مرموقة زمن االحتالل الفرنسي‪ .‬أو ربما ألن والدي طالما حلم بالدراسة‬
‫في الجامعة و لم يوفّق لذلك بسبب ظروفه العائلية‪.‬‬

‫بدى إطار الصورة الخشبي باهت اللون قليال مما كان عليه من قبل‪ ،‬رغم أن صورة العالمة نفسها كانت ال‬
‫تزال في حالة ممتازة بك ّل قدمها‪ .‬كانت النافذة األولى التي تقابل الباب مغلقة و قد غطت أوراق شجرة العنب‬
‫المتسلقة شبّاكها مما حجب أشعة ال ّ‬
‫شمس‪ .‬أذكر أنها كانت فيما مضى تالمس مدخل المكتب و تخرج زاحفة ببطء‬
‫فوق بالط الرواق في الفترة الصباحية‪.‬‬

‫داخل المكتب‪ ،‬كان كل شيء كان في مكانه‪ .‬آلة العود القديمة الموضوعة عند الزاوية‪ .‬صور كبار العائلة‬
‫سدّت فوهتها منذ زمن‪ .‬صورة‬‫باألبيض و األسود المرتّبة فوق الصدر الرخامي ل ِّلمدخنة الحجرية القديمة التي ُ‬
‫متوسّطة الحجم للراحلين اللذين ظل أبي معجبا جدا بما قدّماه لألمة العربية‪ ،‬هواري بومدين و صداّم حسين‪ .‬كانت‬
‫الصورة ُمعلّقة بالقرب من الساعة الحائطية القديمة المتو ّقفة‪ ،‬حيث ظلّت معلقة في مكانها منذ حرب عاصفة‬
‫الصحراء عام ‪ .0220‬نظرتُ إلى تلك الصورة بتمعّن كالعادة‪ .‬كل شيء ظل في مكانه‪ .‬كنتُ أراهن على أن‬
‫أسطوانات فريد األطرش و أم كلثوم و فيروز و وديع الصافي ال تزال مخبأة في األدراج السّفلية للمكتبة المنتصبة‬
‫على جانب المكتب‪ .‬كنتُ متأكدا من أن قصص جورجي زيدان القديمة ال تزال في مكانها أيضا‪ ،‬و ربما زاد لون‬
‫صفحاتها المهترئة اصفرارا‪ .‬قصص شجرة الذر‪ ،‬أحمد بن طولون‪ ،‬فتاة القيروان‪ ،‬جهاد المح ِبّين‪ ،‬كانت أولى‬
‫القصص التي قرأتها بداية مراهقتي رغم أني لم أختم مطالعة أي منها يوما !‪.‬‬

‫في تلك الغرفة‪ ،‬شيء واحد بدى أنه تغيّر بشكل واضح مما كان عليه آخر مرة‪ .‬عندما رفعتُ رأسي نحو‬
‫سقف الغرفة رأيتُ أن حاله لم تختلف عن حالة الجدران الداخلية للمنزل‪ .‬تكاثرت تشققاته و تق ّ‬
‫شر طالءه و بدى في‬
‫حالة مقلقة تثير االضطراب بشكل غريب‪.‬‬

‫_ أدخل يا ولد‪ .‬أنا هنا !‪.‬‬

‫جاءني صوت أبي الذي علته حشرجة خفيفة من داخل الغرفة‪ .‬أخذتُ نفسا عميقا و دخلت‪ .‬كان يجلس على‬
‫ّ‬
‫بالمجلدات و الكتب القديمة ذات الرائحة‬ ‫أريكته الجلدية القديمة ذات اللون البني ال ُمحمر‪ ،‬بالقرب من مكتبته المليئة‬

‫‪48‬‬
‫المميزة‪ .‬عجيب !‪ ،‬عطر هذه الغرفة التي طالما شعرنا بالهيبة و نحن ندخلها في صبانا لم يتغير أيضا‪ .‬مزيج من‬
‫روائح الورق القديم و الخشب العتيق‪.‬‬

‫رفعتُ بصري نحو ذلك اإلطار الذي يحتضن شهادة انتساب والدي الشرفي إلى المؤتمر القومي العربي‬
‫سنوات الثمانينات‪ ،‬و الذي ال يزال يعلقه مباشرة خلف مكتبه و كأنه وثيقة تل ّخص كل شيء عنه أمام كل زائر‬
‫يراه‪ .‬لطالما كان أبي المعلّم ال ِّعصامي من أشد المتح ّمسين و المتع ّ‬
‫صبين لمشروع القومية العربية و وحدة الشعوب‬
‫يبك وفاة والده جدي البشير رحمه هللا‪ ،‬على األقل أمامنا‪ ،‬لكنه لم يستطع كبت دموعه و شهقاته‬
‫العربية‪ .‬لم ِّ‬
‫الهستيرية أمامنا يوم سقوط بغداد في يد القوات األمريكية شهر أبريل ‪ .4112‬كان يومها يبكي كطفل صغير‪ .‬لم‬
‫أره يمر بلحظة ضعف و عجز كما رأيته ذاك اليوم‪ ،‬إلى درجة أنه بدى لي أصغر حجما مما كان يبدو عليه في‬
‫العادة‪.‬‬

‫نظرتُ إليه مبتسما‪ .‬شعره ازداد بياضا منذ آخر ّ‬


‫مرة رأيته فيها قبل أشهر‪ ،‬لكن تجاعيد جبينه التي تحكي‬
‫سنوات كفاح طويل في سلك التعليم و التفتيش لم يتغير فيها شيء‪ُ .‬متراصة و عميقة كتلك األخاديد التي يحفرها‬
‫الزمن على وجه األرض لتكون بصمة الحياة الطويلة و الحبلى باألحداث التي تُحكى دون كالم‪ .‬هدوءه طالما‬
‫أربكني فهو ال يميل مباشرة إلى انفعال اللحظة األولى مهما حصل‪.‬‬

‫_ الحاج‪ ,‬السالم عليكم‪.‬‬

‫سلّمت عليه و قبلت يده و رأسه كما علّمنا ذلك منذ الصبى‪ .‬ألقى أل ّ‬
‫ي بنظرة خاطفة قبل أن يحول بصره إلى‬
‫الكتاب الذي كان بين يديه‪.‬‬

‫_ اجلس يا بني‪ .‬كيف حالك ؟‪.‬‬

‫كان صوته هادئا جدا كغدير صغير يتدفّق بهدوء و لطف في ليلة خريفية مألت سماءها سحب ثقيلة‪ .‬لم أشعر‬
‫باالرتياح لذلك‪.‬‬

‫_ بخير يا أبي‪ .‬لكني لم أجد أحدا في البيت‪ ،‬أين أمي و عايشة ؟‪.‬‬

‫_ آه‪ .‬لن يطول غيابهما فقد خرجتا لشراء بعض المواد الغذائية المتبقية إلقامة الوليمة‪.‬‬

‫_ حالة البيت الخارجية ممتازة‪ .‬صوره يريح النظر و نباتاته في أبهى حلة‪ ،‬لكن بحسب ما أرى الوضع هنا‬
‫في الداخل ينبئ بتصدّعات خطيرة إن قدّر هللا و تعرضت المدينة لهزة أرضية كالتي حدثت الصائفة الماضية !‪.‬‬

‫_ أه‪ .‬األمر ليس بهذه البساطة‪ .‬الخبراء قالوا أن ترميمه جذريا قد يزيد في سوء الوضع بسبب تضعضع‬
‫أساساته‪.‬‬

‫_ و الحل ؟‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫_ قد نضطر إلى هدمه بعد عقد على األكثر‪ ،‬كما هي حال الكثير من المنازل االستعمارية في المدينة‪.‬‬

‫قالها بتأسف و هو يتن ّهد قبل أن تسود بيننا لحظة من الصمت‪ .‬لم يثر كالمه عن هدم ذاك المنزل الذي‬
‫تراهات هؤالء المختصين و إن كنتُ أدرك َّ‬
‫أن تسارع هذا التهالك‬ ‫ترعرعتُ فيه شيئا في نفسي‪ ،‬ألني لم أصدّق ّ‬
‫إنما يعود إلى التعديالت الكثيرة و الثقيلة التي أضافها أبي على البيت‪ ،‬كغيره من الجزائريين الذين غيّروا شكل‬
‫المنازل التي ورثوها عن المع ّمرين هروبا من عقدهم الدفينة تجاه الفراغ و المساحات الخضراء‪ ،‬و ربما انتقاما ال‬
‫حول أبي هذا المنزل الجميل إلى فيلة‬
‫تفوقه و ترفه‪ .‬لقد ّ‬
‫واعيا من آثار اإلنسان األوروبي الذي طالما حسدوه على ّ‬
‫بطابقين بعدما كان بيتا أروبيا بسيطا بسقف قرميدي و صور قصير‪ .‬لم يفهم يوم استولى على البيت أن بعض‬
‫األشياء توجد لتكون بسيطة فقط و ال يمكن تحويلها إلى أكثر من ذلك !‪.‬‬

‫_ ال ُمهم‪ ،‬كيف حالك يا حاج ؟‪.‬‬

‫_ ألم المفاصل يزيد علي من شهر آلخر‪ .‬أعتقد أنه السن‪ ،‬كيف ال و أنا على عتبة الخامسة و الستين ؟‪ ،‬لكن‬
‫يمكن القول أننا بخير على العموم ما دام في هذا العالم ُكتب‪.‬‬

‫يلوح بذلك الكتاب الذي بدى من عنوانه أنه يتحدّث عن جمعية العلماء المسلمين‪.‬‬
‫نظر إلي و هو ّ‬

‫_ ال تقلق يا حاج‪ ،‬نحن هنا إلى جانبكم‪.‬‬

‫أطلق ضحكة ته ّكمية خفيفة و هو يقلب صفحات الكتاب‪..‬‬

‫_ أنتَ في العاصمة تصول و تجول في المالهي الليلية يا بني !‪.‬‬

‫عرفتُ ذلك !‪ .‬عرفتُ أنّه لن ينسى أمر التحقيق الذي قمتُ به قبل ثالثة أشهر عن فضيحة وزارة الثقافة و‬
‫المطربين المشارقة‪ .‬عرفتُ ذلك في اللحظة التي رفض فيها رفع نظره نحوي عندما دخلت عليه‪ .‬عرفتُ أنه‬
‫سيفتتح جلستنا تلك بجدال حول الموضوع‪.‬‬

‫_ أبي !‪ .‬األمر كله مرتبط بالعمل ال أكثر‪ .‬كان يجب أن أتسلّل إلى ذلك المكان لكشف جزء بسيط جدا من‬
‫فساد المسئولين في هذه البالد‪.‬‬

‫استمر يقلّ ُ‬
‫ب صفحات الكتاب من دون سبب واضح‪ .‬هي طريقته الدائمة في التعبير عن عدم رضاه عنا حينما‬ ‫ّ‬
‫نقدم على شيء ال يروقه‪.‬‬

‫تفرج على الرقّاصات‪ .‬أنت ابن‬


‫_ كان يمكن أن تترك هذا النوع من المه ّمات ألشخاص آخرين متحمسين لل ّ‬
‫الحاج الحسن الذي ربى أجياال و أجيال من ال ُمدرسين‪ .‬مكانك يجب أن يكون بين كبار المفكرين و الكتاب الذين‬
‫يستحقون أن تقوم بتعريفهم و تسويق فكرهم البناء وسط المجتمع‪ ،‬بدل تتبع تفاهات من يُسمون عبثا " فنانين عرب‬
‫" و الذين د ّمروا ما تبقى من روح النخوة العربية في نفوس هذه األجيال المهزوزة المهزومة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫_ أبي !‪ ،‬مكاني حيث يكون الفساد و المفسدين‪ .‬مكاني حيث يكون الخبر و المعلومة‬

‫سيطرتُ على نفسي في آخر لحظة‪ .‬كنتُ أريد أن أقول له بأنني سأتبع خيوط تحقيقاتي حتى لو ساقتني إلى‬
‫دخول المواخير و التحدّث إلى المومسات‪...‬‬

‫الخمر ! "‪ .‬ثم كيف ال‬


‫ُ‬ ‫_ ال يفاجئني قولك هذا‪ ،‬إنه يذكرني بقول أبي نواس‪ " :‬أال فاسقني خمرا و قل لي هي‬
‫مرة‬
‫و أنت تشتغل في صحيفة علمانية التوجّه يديرها شيوعيون سابقون ؟‪ .‬أخبرني بصراحة‪ ،‬متى كانت آخر ّ‬
‫أقمتَ فيها صلواتك الخمس ؟‪.‬‬

‫_ آه يا حاج !‪ .‬هل علينا اآلن أن نعود إلى مثل هذا الجدل ؟‪ .‬أنا هنا ألفرح بخطبة شقيقتي !‪.‬‬

‫أغلق د ّفتي الكتاب فجأة بخشونة حتى أنهما أصدرتا صوتا يُشبه صوت الصفعة و هو يطلق نظرته الحادة من‬
‫خلف نظارته ذات اإلطار المعدني‪ .‬إنها النظرة التي طالما أدخلت الرعب إلى قلبي أيام كنتُ أعيش تجربة التمرد‬
‫و التسرب المدرسي بداية مراهقتي‪ .‬أحسست في تلك اللحظة بتوتر غامض يشلني تماما‪ ،‬حتى أني ابتلعت ريقي‬
‫مباشرة !‪.‬‬

‫_ تريد أن تفرح بخطبة أختك هه ؟‪ .‬أوتعلم أن أهل الخاطب كادوا يتراجعون عن هذه الخطوة بعد نشرك‬
‫لتحقيقك في ذلك المكان الفاضح الوضيع لوال إصرار الشاب على تجاوز هذا األمر ؟‪ .‬آه صحيح‪ ،‬أنتَ ال تعلم حتى‬
‫من هم و من أين جاءوا‪ .‬ال تعلم أن والد الفتى مفتش تربوي متحدّر من أسرة شريفة قدمت العشرات من أبنائها إلى‬
‫جمعية العلماء‪ .‬ناس ذوو دين و خلق و ِّرفعة يعرفونني و أعرفهم منذ سنوات‪ ،‬شعروا بالتردّد ل ّما علموا أن ابني‬
‫األصغر يُجري تحقيقاته في العلب الليلية العاصمية‪ .‬ال تقل لي أن مصادرك التي استندت عليها في عملك ذاك‬
‫كانت من الناس المتعلمين المثقفين و المحترمين !‪.‬‬

‫عقد لساني أمام صوته الحاد الذي طغت عليه حشرجته و كأنه تنين ناطق ينفث النار و‬ ‫ُّ‬
‫صمت بعد أن ُ‬
‫الغضب‪ .‬نظر إلي و هو يطلق زفرة السخرية و الغضب‪...‬‬

‫_ أجل !‪ .‬هذا ما توقّعته !‪ .‬ابني صار يخالط السّكيرين و بنات الليل‪ُ .‬حثالة المجتمع و ناشري الفاحشة فيه‬
‫للحصول على معلومات تحقيقاته الكبرى !‪ .‬لقد كان األمر محرجا لنا جميعا‪ ،‬حتى والدتك لم تجد ما تقول أمام‬
‫والدة الفتاة التي اختارتها لك‪ ،‬بل و عانت في األيام األولى من نشر التحقيق ارتفاعا في ضغط دمها‪ .‬لم تشأ اإلقرار‬
‫بالسبب لكننا جميعا كنا نعلم أنه تحقيقك الرائع !‪.‬‬

‫ضاق صدري أكثر فأكثر‪ .‬انقبضت عضالت فكي‪ .‬أحسستُ أن أنفاسي تنهزم و تنحصر بداخلي و كأن أحدهم‬
‫وضع حجرا ثقيال فوق قفصي الصدري‪ ،‬ثم راح يمأل فمي بالقماش المبلّل و يقوم بدفعه بحافره نحو حلقي‪ .‬كنتُ‬
‫عاجزا عن الحديث أمام الحاج‪ .‬ماذا كان يجب أن أفعل و قد ذ ّكرني بأحد الموضوعات التي ال أود في العادة‬
‫التفكير فيها إطالقا ؟‪ .‬لو أنه لم يتحدّث عن موضوع هذه الفتاة التي اختيرت لي لربّما وسعني أن أردّ عليه بما‬
‫أمكن و لو أني كنت أعلم أن ذلك لن يكون بقوة اللسان و الحجة الالزمة لمواجهة هذا الشكل من العنجهية األبوية‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫التي ال يمكنه التعامل إال بها مع أبنائه عندما يسيطر عليه الغضب‪ .‬فقط‪ ،‬تذ ّكرت أني لن أسلم أيضا من حديث أمي‬
‫عن هذه الفتاة التي لم أعرف عنها شيئا وصوال إلى ذاك اليوم حين اقترحت أمي خطبتها لي‪ .‬لم أفهم حتى كيف‬
‫وجدتُ نفسي أوافق على اقتراح كذاك ؟‪ .‬ربما كان ذهني مشغوال يومها بمئات األفكار و المواضيع التي تخص‬
‫هوسي المهني و مشاكل هذا البلد التي أبحث لها عن أجوبة من أجل الجميع ؟‪ .‬أو ربما وفاقت كوني ال أزال أعيش‬
‫وحيدا‪ ،‬عاطفيا‪.‬‬

‫ي‪ .‬لطالما كان يُقال لنا منذ نعومة األظافر‬


‫استمر أبي في النظر إلي و كأنه يبحث عن شيء آخر يضغط به عل ّ‬
‫َّ‬
‫أن رفع الصوت في وجه األب أو األم يعد من المزالق المباشرة التي تؤدي إلى دخول الجحيم و فقدان أي أمل في‬
‫نيل الرحمة أو المغفرة من طرف هللا يوم الحساب‪ .‬لذلك جلستُ و أنا أضغط على يدي اليسرى بيدي اليمنى كما‬
‫كانت عادتي أيام االستجوابات القاسية في هذا المكتب بالذات‪ ،‬عندما كان يستدعيني مسا ًء إلى هذه الغرفة ليستفسر‬
‫عن سبب تغيبي عن الدراسة أيام كنت طالبا في إكمالية العربي التبسي‪ .‬أيام بدأت نتائجي الدراسية تنحدر و تسوء‪.‬‬
‫أيام بدأ الغضب و الخوف من كل شيء يبتلعني‪ .‬نشأتُ على فكرة عدم النظر في عينيه أو رفع صوتي على صوته‬
‫و التي بقيت مالزمة لي إلى تلك اللحظة‪ .‬لم أستطع النظر إليه‪ ،‬رغم أني حاولتُ عبثا البحث عن شيء أدافع به عن‬
‫نفسي‪ ،‬و كنتُ أعلم أنه موجود فعال و لكنه غاب عني في تلك اللحظة بالذات‪ .‬ما كان يزعجني هو أني كنت متيقنا‬
‫بأنني سأعثر عليه الحقا عندما يفوت األوان‪ .‬لذلك تن ّهدتُ فقط و رفعت بصري المضطرب نحوه‪.‬‬

‫الرد بوقاحة على كل ما تقوله لنا حتى و أنت غاضب‪ .‬لذلك ال أجد‬
‫_ لقد ربّيتنا يا حاج على احترامك و عدم ّ‬
‫ما أقول‪ .‬لكن يجب أن تعلم فقط بأنني أحب وظيفتي رغم كل ما يُمكن أن يُقال عنها و عنا و عن ظروف عملنا‪.‬‬

‫_ و ماذا يقولون عنكم ؟‪.‬‬

‫الرخس‪ .‬وجوه القزدير‪ .‬الحرباوات‪ .‬طيّابات الح ّمام‪......‬‬


‫_ الكثير !‪ .‬وظيفة الفتن و إثارة المشاكل‪ .‬أصحاب ُّ‬
‫أشياء من هذا القبيل !!‪.‬‬

‫ي‪ .‬أحسستُ به و قد هدأ قليال بعدما تراجعت ِّحدّة و حشرجة صوته‪.‬‬


‫صمت هنيهة و هو ينظر إل ّ‬

‫_ ليست لي مشكلة مع وظيفتك‪ ،‬فهي نبيلة و مه ّمة في أي بلد‪ .‬ما ال أقبله هو عدم قدرتك على اختيار مواضيع‬
‫تحقيقاتك و مقاالتك التي تتالءم و مكانة أسرتك وسط هذا المجتمع و وسط هذه المدينة بالذات‪ .‬كنا ّ سنفضل قيامك‬
‫بتحقيق عن أسباب ابتعاد شباب األمة عن قيم اإلسالم و العروبة مثال‪ ،‬بدال من تتبّع فضائح مسئولينا في مالهي‬
‫أبناء الجنراالت !‪ .‬هذا ال يُجدي نفعا‪ ،‬ألنهم سيقومون بأسوأ من هذا في يوم غد و كأنك لم تكتب شيئا عنهم‪ .‬أما أن‬
‫بمبررات وجود هذه األمة األبية‪ ،‬فهذا‬
‫توجه مواهبك في التحقيقات إلى تحريك النقاش حول مسائل جوهرية تتعلق ّ‬
‫هو الذي يصنع منك صحفيا ممتازا‪ .‬حينها أنا و أمك نكون فخورين جدا بك‪.‬‬

‫_ أحاول الوصول إلى نفس األمر‪ ،‬لكن عبر مسالك أخرى‪ .‬كنتَ تقول لي دوما أن المجتمعات تموت غالبا‬
‫ُمنتحرة‪ .‬ها أنا ذا أحاول جاهدا فهم السبب‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫تن ّهد و هو يعتدل في جلسته‪..‬‬

‫_ هذا قول للعظيم مالك بن نبي‪ .‬أتعلم أني طالما عرفتُ أنك مميز بين أخويك البشير و فؤاد ؟‪ .‬البشير انتهى‬
‫به المطاف إلى التوقف عن الدراسة و االنضمام إلى الجيش‪ .‬هه !‪ .‬ال أدري كيف لم أستطع ثنيه عن الذهاب إلى أم‬
‫المشاكل في هذه البالد‪ ،‬مؤسسة الجيش‪ ،‬المؤسّسة التي تأخذ منك كل شيء‪ .‬أجمل و أزهى سنوات عمرك و شبابك‬
‫و تمتص منك تربيتك و ذكاءك و إنسانيتك و ال تعطيك سوى الهم و الغم و االنحراف و األمراض‪ ،‬لينتهي بك‬
‫المطاف كعود جاف ملقى به في قلب صحراء مقفرة‪ ،‬دون أن تُحسّن شيئا في مسار هذا البلد أو هذه األمة‪....‬‬

‫_ لو كان البشير هنا لخالفك الرأي يا أبي‪ .‬ثم أال ترى أنك أنت من ربّانا دوما على حب الوطن و الدفاع عنه‬
‫و التضحية في سبيله ؟ !‪.‬‬

‫_ هه‪ ،‬وتعتقد أن أخاك انضم إلى الجيش بدافع حب الوطن ؟‪.‬‬

‫_ عرضتَ عليه حقه من تركة الجد من أراضي الزيتون في تابالط فرفض و ذهب إلى العسكرية‪ .‬ال يزال‬
‫إلى اليوم يرفض حتى أخذ نصيبه المالي من بيعنا غالل آراضي الزيتون التابعة لنا !‪ .‬أليس هذا دليال يؤكد على‬
‫أنه أحب الجيش و انضم إليه عن قناعة تامة ؟‪.‬‬

‫_ هل تحدّثتما عن هذا الموضوع من قبل ؟‪.‬‬

‫_ ال !‪ .‬ال أذكر أننا طرحنا هذا الموضوع للحديث‪ .‬عندما قرر الذهاب أول مرة سألته عن السبب لكنه لم يرد‬
‫الخوض في الموضوع‪ .‬أذكر أنّه ودّعني فقط‪ .‬في اليوم الموالي عند عودتي من الثانوية لم أجده‪ .‬كان قد رحل‪.‬‬

‫_ لو كان البشير هنا لما أراد مجالستي و محادثتي حتى‪ .‬أتعلم َلم ؟‪ .‬ألنه يخشى اكتشافي لمدى ندمه على‬
‫قراره و الوصول إلى نفس النتيجة‪ ،‬و هي أن سنواته في الجيش كصف ضابط قد أفقدته معنى وجوده أصال‪ .‬كلنا‬
‫صعبة‪ ،‬خاصة في الصحراء على الحدود !‪.‬‬
‫نعلم ظروفهم االجتماعية و المهنية ال ّ‬

‫_ نظرتك إلى الجيش سوداوية جدا يا حاج !‪.‬‬

‫_ بل واقعية جدا‪ .‬أتعتقد أني ال أعلم كيف يعيش الجندي أو صف الضابط في هذه البالد ؟‪.‬‬

‫_ ليسوا جميعهم كما تتصور‪.‬‬

‫صمتَ و هو يطلق نظرات الغضب في الفراغ‪ .‬كأنه شعر بأني على حق‪ .‬لكن بدى لي حينها أن عالقته مع‬
‫شقيقي األكبر قد ساءت أكثر مما كانت عليه‪..‬‬

‫مرة ؟ !‪.‬‬
‫_ لكن يا حاج‪ ...‬لم تتحدّثا مع بعضكما بعد ؟‪ .‬منذ أن غادر البيت آخر ّ‬

‫صمت قليال‪ .‬ثم تن ّهد‪..‬‬

‫‪53‬‬
‫قرر ترك الدّراسة و رفض تجريب‬ ‫_ أخوك فؤاد كان أذكى من البشير‪ ،‬رغم أنه ّ‬
‫حطم قلبي هو اآلخر يوم ّ‬
‫مرة ثالثة‪ .‬إنه ذكي‪ ،‬لكنه ضعيف النفس و اإلرادة و طالما كان مهوسا بجمع المال‪ .‬على األقل‬
‫حظه في الباكالوريا ّ‬
‫هو ناجح اليوم في تجارته من جهة و اعتنائه بقسمه من حقول الزيتون في أرض جدِّّه و هذا يُخفّف عني‪ .‬عائشة‬
‫كان بإمكانها أن تكمل دراستها لألدب العربي‪ ،‬لكنها هي األخرى أصيبت بفيروس فؤاد و تركت كل شيء في‬
‫ي – كنتَ‬ ‫عامها الجامعي األول‪ .‬كنتُ أتمنى حقا رؤيتها أستاذة للّغة العربية‪ .‬كان هذا سيزيد ف ّ‬
‫ي الكثير – نظر إل ّ‬
‫الوحيد الذي أت ّم دراسته الجامعية و يطمح للمزيد‪ ،‬و أنت الوحيد اآلن الذي يحمل تصورا مختلفا للحياة و قيما‬
‫مختلفة لكفاحها‪ .‬أنت تُشغّل ذهنك كثيرا‪ .‬تكتب و تفكر و تُبدع و تؤثّر‪ .‬هكذا حلمت أن تكونوا جميعا‪.‬‬

‫نهظ من مكانه و اتجه بخطى وئيدة نحو النافذة و هو يفكر قليال مع نفسه‪ .‬كان كمن يدفع نفسه للبوح بشيء‬
‫ما‪...‬‬

‫_ تعلم يا بني ؟‪ ،‬لطالما راقبتكم من نافذتي هذه و أنتم تلعبون في حديقة البيت‪ .‬كنتُ غالبا ما أتذ ّكر طفولتي‬
‫القاسية التي لم أستمتع بها مطلقا‪ .‬كنا دوما مجبرين على التنقل من مكان إلى مكان بين أرياف و مداشر تابالّط قبل‬
‫يستقر األمر بنا في مدينة المديّة مع نهاية حرب التحرير‪ .‬تعل ُم أن جدّك و بالرغم من أنه كان رجال أ ِّّميا إال أنه‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫كان صاحب أراض فالحية و حقول زيتون كثيرة‪ .‬فقدَ كل شيء بين ليلة و ضحاها‪ ،‬بسبب سياسة األرض‬
‫المحروقة التي عاقبته بها فرنسا بعدما اكتشفت سلطاتها أن غالله الكثيرة كانت تصعد إلى الجبال لتموين كتائب‬
‫المراس‪ ،‬حاد ّ‬
‫الطباع‪ ،‬صلفا و قاسيا جدا‪ .‬هل أخبرتك أنه ذات يوم جلدني‬ ‫جيش التحرير‪ .‬كان رجال أكتع صعب ِّ‬
‫حتى أدمى ظهري و ربطني إلى وتد داخل إسطبل لألنعام تاركا إياي على تلك الحال مدة يومين‪ ،‬فقط ّ‬
‫ألن الذئاب‬
‫أخذت خروفا من القطيع الذي كنتُ أرعاه ؟‪.‬‬

‫_ ال يا حاج‪ .‬ال أذكر أنك أخبرتني بهذا يوما‪.‬‬

‫حقا‪ ،‬لم أفهم َلم راح يتحدّث عن هذا الموضوع في جلسة كتلك‪ .‬تن ّهد و هو يفرك شاربه بأصابع يمناه‪...‬‬

‫_ كان رجال ال يؤمن بالخطأ و يرى أن الرجال إذا أخطأوا فعليهم حمل أثقل األوزار ككفارة ألخطائهم‪ ،‬حتى‬
‫لو كانت أخطاءهم بسيطة‪ .‬هكذا ربّاه جدي الذي ُربي بنفس الطريقة أيضا‪ .‬عندما استشهد عمي األصغر رابح‪ ،‬لم‬
‫يبكه والدي كما رفض أن تبكيه أمي و زوجته اللّه فاطمة رحمها هللا‪ ،‬كون الرجل شهيدا أوال‪ ،‬و كونه دفع ثمن‬
‫سهوه القاتل الذي جعله يدوس على لغم أرضي في يوم عاصف ُمثلج‪ .‬على كل حال كانت تلك الصور القاسية‬
‫ي و تعود إلى ذاكرتي كلّما راقبتكم و أنتم تنعمون باللعب تحت ظل شجرة العنب هذه‪ .‬غريب‪ ،‬كنتُ‬ ‫تسيطر عل ّ‬
‫دوما أش ِّّبهها باالستقالل نفسه !‪ .‬كان إخوتك و أبناء عمومتك ّ‬
‫كلما أرادوا لعب لعبة ما يُعبّرون عن تلك الرغبة‬
‫بعبارات استفهامية‪ " :‬من يريد أن يلعب معي كذا أو كذا ؟ "‪.‬‬

‫ي‪...‬‬
‫التفت ينظر إل ّ‬

‫‪54‬‬
‫_ كنتَ الوحيد الذي إذا جاءت فكرة لعبة ما على خاطره بادر بالقول‪ِّ " :‬لنلعب كذا أو كذا " و تبدأ مباشرة‬
‫بلعب ما تريد قبل أن يلحق بك اآلخرون‪ .‬أدركتُ منذ ذلك الوقت أنك ستكون من نوع الرجال الذين إذا أرادوا شيئا‬
‫فإنّهم يبادرون إليه أوال دون انتظار آراء اآلخرين ال ُمسبقة فيه‪.‬‬

‫ّ‬
‫التفطن إليها‪.‬‬ ‫لم أقل شيئا‪ .‬بصراحة فقد فاجأني الحاج بتلك المالحظة الدقيقة التي لم يكن ربما ألبرع النفسانيين‬
‫لكنه بيّن لي أنه مربّ ٍ حقيقي‪ .‬كنتُ أنظر إليه و قد غاص بعيدا بنظرات عينيه المنهكتين من سنوات التدريس و‬
‫التفتيش التربوي الطويلة و كأنه يبحث عن شيء ما يودّ إضافته‪ .‬فكرة ما يحاول تمحيصها و وضعها في سياق‬
‫الحديث‪ .‬لكن و في غمرة ذلك الصمت الغريب الذي خيّم على الجو دخلت شقيقتي عيشة بوجهها الذي مألته تعابير‬
‫المشرعين نحوي و هي تسرع‬
‫َّ‬ ‫الترقب و الحماس فاتحة فمها رافعة حاجبيها و مطلقة بسمتها المشرقة و ذراعيها‬
‫خطواتها‪...‬‬

‫عمريــــــــــــي ! المازوزي تاعنا !!‪.‬‬


‫_ يا ُ‬

‫سلّمت عل ّ‬
‫ي و عانقتني بحرارة أمام بسمة بالكاد ارتسمت على وجه الحاج الذي قب ْ‬
‫ّلت رأسه‪.‬‬

‫بمجرد أن لمحتُ سيارتك المبعوجة أمام المنزل علمتُ أنك هنا‪ .‬أنا سعيدة جدا بقدومك يا مينو !‪.‬‬
‫ّ‬ ‫_‬

‫_ أنا أيضا سعيد بتواجدي هنا‪ .‬مبارك لك أختاه‪ .‬سعيد جدا من أجلك‪.‬‬

‫ْ‬
‫نظرت إلى ساعة يدها بلهفة و هي تتن ّهد كمن يتفحص جدول أعاله‪...‬‬ ‫لم تكن ُمر ّكزة مع ما كنتُ أقول‪.‬‬

‫_ كل شيء يسير على ما يرام‪ .‬أعتقد أن البشير يكون قد نزل لتوه في قاعدة بوفاريك قادما من تمنراست‪ ،‬و‬
‫فؤاد هو اآلخر على مشارف البليدة قادما من موزايا مع نجيّة‪ .‬حسن‪ ،‬ال بد أن أتصل بهما ألتأ ّكد من قرب‬
‫وصولهما‪.‬‬

‫راحت تتفحّص خصرها بيديها في حركة سريعة و ملهوفة‪..‬‬

‫_ آه يا اله‪ ،‬يا لي من غبية !‪ .‬ظننتني ال أزال أعلّق حقيبتي الصغيرة‪ .‬سأتصل بهما فورا !‪..‬‬

‫اتجهت مسرعة نحو الباب ثم توقّفت بعدما تذ ّكرت شيئا ما‪ ،‬فالتفتت نحونا‪...‬‬

‫_ سيكون الغداء جاهزا في تمام الواحدة‪ .‬سنجتمع كلنا في حديقة الدار حول مائدة واحدة تماما كما كنا في‬
‫الرشتة الذي تحبانه كثيرا‪.‬‬
‫الماضي‪ .‬إنه طبق ّ‬

‫صمتت للحظة و هي تفكر مع نفسها ثم نظرت إلينا مرة أخرى ُمطلقة بسمة تمألها السعادة و اإلثارة‪...‬‬

‫_ كم هذا رائع !‪ .‬لقد التأم جمع عائلتنا الصغيرة !!‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫أطلقت ضحكة طفولية كشفت بها عن مدى سعادتها بهذه الحقيقة التي بدت و كأنها ال تزال غير قادرة على‬
‫ُّ‬
‫التفت إلى‬ ‫صبر‪ ،‬ثم انطلقت مسرعة بخطوات قصيرة لكنها خفيفة جدا‪.‬‬
‫استيعابها أو أنها طالما انتظرتها بفارغ ال ّ‬
‫أبي فوجدته قد غاص بتفكيره مرة أخرى‪ .‬بدى من نظراته و الطريقة التي كان يدلّك بها ذقنه الممتلئ بيده و كأن‬
‫شيئا ما يُقلقه‪ .‬ف ّكرتُ للحظة أنه أخي البشير و لقائه به بعد مدّة طويلة من التوتر بينهما‪ّ .‬‬
‫تفطن إلى كوني أنظر إليه‬
‫فأطلق نحنحة خفيفة قائال‪:‬‬

‫ور ْ‬
‫ثت فرط حركتها هذا من والدتها !‪.‬‬ ‫_ ال تنظر إلي هكذا !‪ .‬لقد ِّ‬

‫اغتنمتُ الفرصة ألشاركه قليال روح الدعابة التي قلّما كان يتّسم بها‪ ،‬فنظرت إليه كمن ّ‬
‫تفطن إلى شيء ما‪..‬‬

‫ّ‬
‫الخطاب بدل اليوم ؟؟‪.‬‬ ‫الرشتة أن يكون حاضرا غدا على مائدة غداء‬
‫_ أال يُفترض بطبق ّ‬

‫هز كتفيه و حاجبيه‪..‬‬

‫_ ال أعلم !‪.‬‬

‫ابتسمتُ ثم استسمحته للذهاب للتسليم على أمي‪ ،‬لكنه ناداني في اللحظة التي كنتُ أعبر فيها باب الغرفة‬
‫فرجعت القهقري ناظرا إليه باستفهما‪ .‬صمت قليال و هو يتظاهر بأنه يمسح شيئا ما علق على غالف الكتاب الذي‬
‫كان بين يديه بسبّابته‪ ،‬قبل أن يرفع بصره نحوي‪..‬‬

‫_ ف ّكر فيما دار بيننا من حديث‪ .‬ال تزال صحفيا في بداية المشوار و يُمكنك فعل الكثير‪ .‬لطالما شعرتُ بذلك‪.‬‬
‫ال أزال مؤمنا بك يا بني‪ .‬ال تجلعني أشعر بأن سنوات تعبي و كدّي من أجلك قد ذهبت هباء‪.‬‬

‫ّ‬
‫أشق طريقي‬ ‫لم أجد غير اإليماء برأسي أن نعم‪ ،‬ثم خرجتُ و أنا متيقّن بأنه لن يتركني في سالم ما دُمتُ‬
‫ي في تلك اللحظة إبعاد تفكيري عن كل الضيق و ذلك‬ ‫بالطريقة التي أراها مناسبة لما أود الوصول إليه‪ .‬كان عل ّ‬
‫ي ّ‬
‫كلما تعلق األمر بالطريق الذي أشقه بنفسي و اختياراتي‬ ‫اإلحساس بالحصار الذي ال أزال أشعر به من ناحية أبو ّ‬
‫الخاصة بحياتي‪ .‬قد يكون السبب األساسي الذي دفعني عن غير وعي ربما من تقليل زياراتي إلى البيت و تفادي‬
‫مواجهتهما ألشهر طويلة‪ ،‬مذ أن أقام فؤاد حفل زفافه قبل نحو أربعة عشر شهرا‪ .‬أغالل عملي المتواصل و‬
‫المرهق و هوسي بكوابيس هذه البالد كانت أكثر شيء أنقذني من أغالل رغبات أبي و أمي في رؤيتي كذا أو فعلي‬
‫كذا‪ .‬كوني الوحيد ضمن أشقائي الذي أكمل دراساته الجامعية و يطمح للتدرج و السمو نحو الماجستير أو الماستر‬
‫و بعدها الدكتوراه‪ .‬قد يزيد في تعقيد الوضع علي أكثر من جهة الحاج‪ .‬شعرتُ أنه سيزيد إلحاحه و ضغوطه علي‬
‫مع الوقت‪ ،‬كلّما أحرزت تقدما نحو سبقي‪ ،‬و كنتُ متيقنا من أن تلك اللحظة قادمة ال محالة‪.‬‬

‫**********‬

‫رفعتُ نظري إلى أوراق شجرة العنب أو شجرة " االستقالل " كما سماها أبي‪ ،‬التي كانت تظلل جلستنا‬
‫العائلية الجميلة‪ .‬كانت أشعة شمس أفريل تتسّلل بينها كومضات ضوئية تحاول القفز في كل االتجاهات نحو‬

‫‪56‬‬
‫األرض‪ .‬حركتها المضطربة تلك كانت بفعل اهتزاز أوراق و عيدان الشجرة على وقع الهواء العليل الذي كان‬
‫المطهوة‬
‫ّ‬ ‫الرشتة الصغيرة الممتزجة بالدجاج و بعض الخضار‬ ‫ّ‬
‫التفت و أنا أمضغ لقمتي من رقائق ّ‬ ‫يداعبها بلطف‪.‬‬
‫على البخار أتفحّص الحديقة التي طالما استمتعنا فيها بلعب الغ ّميضة أيام الصيف كلّما زارنا األعمام أو األخوال‬
‫ّ‬
‫تتوزع على جنباتها و أطرافها‬ ‫رفقة أبنائهم‪ .‬شعور اإلثارة ذاك ال يزال يالزمني كلّما خرجت إلى تلك الحديقة التي‬
‫شجيرات الورد األبيض و األحمر‪ .‬جشرة مسك الليل عند الزاوية‪ .‬بعض شجيرات البرتقال و الليمون التي مضى‬
‫على غرسها ثالث إلى أربع أعوام‪ .‬شجيرات إكليل الجبل التي جلبها والدي معه من تابالط‪ ،‬إذ يقول أن رائحة‬
‫الزكية تذ ّكره بصباه في أرياف المدية‪ ،‬و طبعا هنالك س ّيد المنازل البليدية بال منازغ‪ ،‬الياسمين‪ .‬رائحته‬
‫أوراقها ّ‬
‫تذ ّكرني دوما بأني في المنزل !‪ .‬أشعر بحرارة في قلبي عندما أدركُ أني حقا في البيت‪ ،‬في البليدة ُ‬
‫الو َريدة !‪.‬‬

‫كان الجميع يتناولون وجبة الغداء و يتبادلون أطراف الحديث‪ ،‬التي كانت في مجملها تدور حول قدوم‬
‫الخاطب و أسرته‪ .‬شقيقي فؤاد لم يتغيّر كثيرا‪ .‬ال يزال يميل بسرعة إلى السخرية و الته ّكم عبر مجمل أحاديثه‪.‬‬
‫كانت زوجته نجيّة الحامل في شهرها الخامس تجلس إلى جانبه و هي تمازح عيشة‪ .‬و ما أثار استغرابي هو أني ال‬
‫أذكر أني حاولت التقرب من هذه الفتاة من قبل رغم أنها صديقة لعيشة منذ أيام الثانوية‪ ،‬و هي زوجة أخي التي‬
‫ستمنحنا خالل الصائفة التالية أول فرد في العائلة سيناديني '' ع ّمو '' ؟ !‪ .‬تذ ّكرت في تلك اللحظات‪ ،‬سأصير‬
‫مرت أسرع بكثير مما توقّعت !‪.‬‬ ‫عما !‪ْ .‬‬
‫بدت الحياة و قد ّ‬

‫كان الحاج يتناول طعامه غارقا في صمته و وقاره المعتاد‪ ،‬بينما كانت أمي تسايره في األمر تارة و تغوص‬
‫في مزاح و ضحكات النسوة مع عيشة و نجيّة تارة أخرى‪ .‬نظرتُ إليها و هي تمضغ طعامها مبتسمة ضاحكة‪ .‬لم‬
‫تنس عادتها في وضع بعض أزهار البرتقال أو الياسمين أمامها على مائدة األكل‪ْ .‬‬
‫بدت لي أكبر سنا منذ آخر مرة‬ ‫َ‬
‫رأيتها فيها رغم أن صوتها ظل نفس الصوت الذي سمعته طيلة حياتي‪ ،‬هادئا كنسمة فجر الشريعة‪ ،‬عذبا كماء‬
‫ينابيع الشفّة‪ ،‬رقيقا و ناعما كالبليدة نفسها‪ .‬أو ألقل أن تحول أمي يشبه تحول البليدة‪ ،‬التي كانت مدينة عذبة و‬
‫صافية ق بل محنة التسعينات‪ ،‬لكنها فقدت الكثير من رونقها و عافتيها بعد ذلك‪ .‬حين نظرتُ إلى أمي تفاجأت قليال‬
‫عندما الحظتُ بياض خصالت صدغيها‪ .‬كانت تجاعيد وجهها قد ازدادت وضوحا خاصة بالقرب من عينيها ذات‬
‫النظرة ال ُمنهكة جراء المرض‪ ،‬مع تع ّمق الخطيّن اللذين يفصالن ذقنها عن خدّيها نزوال من طرفي فمها ال ّ‬
‫صغير‪.‬‬
‫أتراها آثار مرض ضغط الدّم الذي أصيبت به بعدما انخرط البشير في الجيش ؟‪ .‬لم يُعجبن التفكير فيما حصل لها‬
‫عند نشري لتحقيقي الصحفي في رأس السّنة‪ .‬حقيقة تأثر صحتها بما نقوم به نحن في حياتنا اليومية إلى هذا الحد‬
‫تطوقني‪ .‬حجر آخر يُضاف إلى األحجار التي تسقط في‬
‫بات أمرا مقلقا حقا‪ .‬حلقة أخرى من حلقات األغالل التي ّ‬
‫كل مرة على نهاية هذا الطريق الجبلي الطويل و الملتوي الذي ال أزال أحاول عبوره و الخروج منه نحو الطريق‬
‫السريع الذي أودّ أن أسلكه‪.‬‬

‫ظلّت أمي تلومني بلطف في محادثاتنا ال هاتفية على عدم قدرتي على زيارتهم في عطل نهاية األسبوع‪ .‬كنتُ‬
‫دائم التحجج بظروف العمل الذي ال ينتهي و أني كنت أغتنم عطل األسبوع للسفر إلى واليات أخرى من أجل‬
‫تحقيقاتي و مقاالتي‪ ،‬لكن األمر سرعان ما كان يصير أكثر إحراجا أيام األعياد الوطنية و الدينية‪ .‬لم يكن لي من‬

‫‪57‬‬
‫حجة مقنعة‪ .‬لكني كنتُ أزورهم بشكل خاطف أختزله في بضع ساعات فقط قبل أن ّ‬
‫أفر من البيت كاللص‪ ،‬تماما‬
‫كما كنتُ أنوي أن أفعل بعد مرور خطبة شقيقتي‪ .‬الحقيقة هي أني كنتُ و ال أزال أتجنّب إطالة الجلوس مع أمي‬
‫حتى ال تستدرجني إلى حديث هذه الفتاة " المثالية " التي عثرت عليها و تريد ربطي بها‪ .‬أي ظروف كانت و ال‬
‫تزال تسمح لي باالرتباط ؟‪ .‬شعرتُ و أشعر بأني غير جاهز البتّة‪ ،‬فكل ما كان و ال يزال يشغل بالي هو عملي‪ .‬ثم‬
‫إني لم أكن ألرغب في السؤال عن قلبي‪ ،‬إلى أين انتهى به المطاف‪ .‬إلى أين وصل في تيهانه األبدي ؟‪.‬كنتُ أعرف‬
‫أنه هناك‪ ،‬في مكان ما في أرجاء تلك المدينة التي أحبّها‪ .‬ربما هو سبب آخر من األسباب الخفية التي ظلت تغذي‬
‫رغبتي الدائمة في االبتعاد عن البليدة‪ ،‬هذه البليدة التي لم أكن أبدا ألرغب في االبتعاد عنها لوال ما حدث لي‪ .‬كم‬
‫هي مؤلمة هذه المفارقات !‪.‬‬

‫نظرتُ إلى أخي البكر البشير‪ ،‬كان يتناول طعامه بصمت مكتفيا ببعض االبتسامات التي تكاد تكون مصطنعة‬
‫ْ‬
‫صدقت أمي عندما راحت تتفحّص وجهه بيديها و‬ ‫كلّما أراد فؤاد و الفتاتين استدراجه إلى أحاديثهم و مزاحهم‪.‬‬
‫عالمات الحسرة بادية عليها و هي تقول‪ " :‬شيْنت يا وليدي‪ ،‬واش راهم يو ّكلوكم في الصحراء ؟ ! "‪ .‬بدى هزيال‬
‫عما كان عليه‪ .‬وجهه كان أسمر اللون بفعل لفحات الشمس‪ .‬لون شفتيه ازداد قتامة من كثرة التّدخين‪ ،‬حتى أننا‬
‫الحظنا بروز شعيرات بيضاء كثيرة غزت صدغيه‪ .‬كانت مالمح اإلرهاق واضحة جدا على محيّاه و قد فسَّرتها‬
‫عيشة بسذاجة على أنها مالمح تعب السّفر و أزيز طائرة هرقل ‪ C130‬الذي يُحطم الرأس من الداخل‪ .‬لكني كنتُ‬
‫أعلم جيدا أنها مالمح الحرب‪ .‬نفس المالمح التي كان يعود بها في السنوات الفارطة بعدما أمضى عقده األول‬
‫كعسكري متعاقد في فصيلة لمكافحة اإلرهاب بين ‪ 4112‬و ‪.4117‬‬

‫إيراڨن و‬
‫كان كثيرا ما يحكي لي ليال عندما يأتي في إجازاته القصيرة و القليلة عن عمليات التمشيط في جبال َّ‬
‫تاكسنة الرهيبة بنواحي االقبايل‪ .‬يحكي لي عن مخابئ اإلرهابيين الكثيرة التي يد ّمرها الجيش لتعود إلى الظهور‬
‫صنع التي يلقبّها العسكر بـ" بطاطا "‪ .‬تلك‬
‫كالفطريات في األسابيع التالية‪ .‬يحكي لي عن رعب األلغام التقليدية ال ّ‬
‫األلغام الجهنّمية الغادرة التي تأخذ لون تضاريس األرض و كأنّها كائنات شيطانية بشعة تتغذى على أقدام البشر‪.‬‬
‫يحكي لي كيف كانت تنسف سيقان عشرات الجنود و صف الضباط و حتى الضباط كل أسبوع‪ .‬يحكي لي عن‬
‫فِّخاف مدافع الهبهاب المزروعة في أجدع أشجار ّ‬
‫الفلين و الموصولة بأسالك دقيقة تُطلق شحناتها و شظاياها‬
‫المعدنية حال ما تقطعها خطوة عسكري غير منتبه‪ ،‬لتأخذ معها الرؤوس و األجدع و األذرع و ال تُبقي غير‬
‫ي معاناة الجوع و الطعام ال ُمعلّب البارد و انعدام المياه‪ ,‬يحدّثني عن‬
‫يقص عل ّ‬
‫ّ‬ ‫السيقان في حالتها السليمة‪ .‬كان‬
‫الطرق المبتكرة من طرف أالئك األفراد المقاتلين من أجل إيجاد حلول تقيهم الموت في عمق تلك الغابات في‬
‫صقيع رياح ديسمبر و برد ثلوج جانفي القاتلة في تلك الجبال القاسية‪ .‬حكايات الخنادق و ساعات االنتظار و‬
‫الترقب الطويلة تحت األمطار و الضباب‪ .‬حكايات حر الصيف الخانق‪ ،‬ال َبعوض و البراغيث و العقارب و‬
‫األفاعي‪ .‬حكايات الحصار و المطاردات و االقتحام و االشتباكات و الكمائن‪ .‬حكايات الجرحى و القتلى و دموع‬
‫الحرقة على إخوة السالح المتناثرة أشالئهم‪ .‬مأساة االنهيارات العصبية و االنزالق نحو اإلحباط و الالأمل و‬
‫الجنون و اإلدمان على المخدرات و الفرار من الخدمة و االنتحار‪ .‬قصص كوابيس الليل و كوابيس الضمير و‬
‫ال ّندم القاتل‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫رغم ذلك‪ .‬رغم كل ذلك‪ ،‬فقد جدّد البشير عقده مع الجيش للمرة الثانية في ‪ 4117‬و للمرة الثالثة و األخيرة قبل‬
‫الريهبة‪ .‬قلت في نفسي‪ " :‬كم من تجربة ؟‪ .‬كم من قصة صحفية‬
‫نحو عامين‪ .‬و كأنه لم يكتف من كل تلك المعاناة ّ‬
‫؟‪ .‬كم من رواية ؟‪ .‬كم من كتاب ؟‪ .‬كم من دراسة ؟‪ .‬كم من سلسلة وثائقية و تلفزيونية ؟‪ .‬كم من فيلم يمكن توثيق‬
‫تاريخنا به لو جمعنا كل هذه اآلهات الصامتة‪ ،‬التي تحكي معاناة الجيش الجزائري في مكافحة جحيم الجماعات‬
‫اإلسالموية المسلّحة طيلة عشرين عاما‪ ،‬بعيدا عن كل األضواء و في صمت كامل "‬

‫كنتُ أقول بأن ذلك قد يُجيب عن أحد األسئلة الغارقة في التعجب التي يطرحها الجزائريون في العادة و هي‪:‬‬
‫رغم كل ما حدث و يحدث‪ ،‬كيف لهذا البلد أن يبقى واقفا هكذا و هو منهك و خائر القوى تماما ؟ !‪.‬‬

‫نظرتُ إلى يدي البشير و هو يتناول طعامه‪ ،‬فوجدتهما ال تزاالن تحتفظان بآثار الخدوش الكثيرة التي تسببت‬
‫فيها أغصان و أشواك أحراش و أدغال جيجل الكثيفة‪ ،‬تماما كما كانت شمس عين ڨزام تلك األيام تحاول بعناد و‬
‫ثبات تخليد أثرها على مالمح وجهه و في أعماق نفسه‪ .‬لكني ال أزال عاجزا عن فهم سبب رغبته في االستمرار‬
‫رغم أنّه قدّم ما عليه في سبيل هذا البلد‪ ،‬مثله في ذلك مثل عشرات اآلالف من أمثاله‪ .‬و قد كان السبب المباشر‬
‫الذي ج ّنبني الخدمة العسكرية‪ ،‬بعدما أقسمت أمي و أصر أبي على إبقائي إلى جانبهما بأي طريقة‪ .‬الحاج كانت له‬
‫معارف كثيرة في مركز التجنيد بالبليدة و المحكمة العسكرية بحكم منصبه السابق في مديرية التربية‪ ،‬و من ثم لم‬
‫أذهب رغم أني كنت أريد الذهاب في قرارة نفسي‪ ،‬فضوال أكثر منه حبا في الذهاب‪.‬‬

‫تستمرا في فقدان وزنكما و جمالكما و أناقتكما التي أفنيتُ‬


‫ّ‬ ‫أزوجكما في أسرع وقت ممكن‪ ،‬حتى ال‬
‫ي أن ّ‬
‫_ عل ّ‬
‫عمري من أجلها !‪.‬‬

‫المرة و راح يكمل طعامه دون أن يرفع بصره‪،‬‬


‫ي و إلى البشير الذي لم يبتسم هذه ّ‬
‫قالت أمي و هي تنظر إل ّ‬
‫في حين اكتفيتُ بإطالق بسمة مضطربة و أنا ألم ُح عالمات تشبه عالمات الفخر ترتسم على وجه فؤاد كونه بدى‬
‫أفضل حاال منّا نحن اإلثنين‪ ،‬صعلوكا العائلة‪ .‬كنتُ أخشى حقا من أن تنطلق أمي في حكايات العرائس المثاليات‪،‬‬
‫العذارى اللواتي تجتهد في كسب مودّة أمهاتهن‪ ،‬لتعرف المزيد عن تفاصيل حياتهن و مؤ ّهالتهن االجتماعية و‬
‫ّ‬
‫ليكن ربات بيوت كما تريد و تحلم‪ .‬كنتُ حقا أخشى أن تنطلق في الحديث عن‬ ‫الجسدية و العلمية و مدى قابليتهن‬
‫زوجتني بها في أحالم يقظتها األمومية البريئة و المسكينة فأجد نفسي ُمحاصرا‪ ،‬خاصة إذا ما انضمت‬ ‫هذه التي ّ‬
‫عيشة باندفاعها و ثرثرتها إليها‪ .‬لحسن حظي أنّها كانت غارقة في حديثها مع نجيّة التي تُل ّقبها في بعض األحيان "‬
‫جنيّة "‪.‬‬

‫ّ‬
‫التفت فجأة جهة شجيرات الورد‪ .‬ابتسمتُ و أنا أبطئ من مضغي للقمتي التالية‪ .‬انتبهت‬ ‫و أنا على تلك الحال‪،‬‬
‫نجيّة إلى األمر‪ ،‬فالتفتت هي األخرى جهة الورد و سيطرت عليها عالمات االستفهام‪ .‬ما الذي كان يدفع بي ألبتسم‬
‫بذلك الشكل ؟‪ .‬سرعان ما الحظت عيشة عالمات وجه نجيّة و بسمتها المستفسرة‪ ،‬فالتفتت بدورها جهة الورود‬
‫الحمراء و البيضاء‪ ،‬التي طالما رأيتُ نفسي أيام المراهقة أقطف باقات منها و أنا أستعد للذهاب و طرق باب منزل‬

‫‪59‬‬
‫تلك التي تذ ّكرتها بشدّة‪ .‬تلك التي ّ‬
‫أحن إليها مذ وطئت قدمي تراب البليدة‪ ،‬رغم كل محاوالتي اليائسة تجنّب مجرد‬
‫التفكير فيها‪.‬‬

‫_ أعرف ما تف ّكر فيه يا مينو !‪ .‬ال تقل لي إنها نفس الفراشة !!‪.‬‬

‫راحت عيشة تضحك و هي تشير إلى الجميع بأن ينظروا إلى تلك الفراشة الجميلة الصفراء ذات األجنحة‬
‫تزين جلود النّمور البنغالية‪ .‬كانت‬
‫الحادّة أطرافها و المزيّنة بخطوط سوداء دقيقة أشبه بتلك الخطوط المظللة التي ّ‬
‫ّ‬
‫تشق طريقها بين حوانيت‬ ‫كبيرة الحجم تنساب في الهواء بلطف شديد بين الورود و كأنّها أميرة هندية صغيرة‬
‫الحرير‪ ،‬في يوم احتفالي بهيج مليء باأللوان و العطور و البهارات‪.‬‬

‫نظرتُ إلى عيشة مازحا‪..‬‬

‫_ إنها هي !‪ .‬نفس الفراشة التي دأبت على زيارتنا كل عام في نفس الفترة تقريبا مذ كنّا صغارا !‪ .‬أتذكرين ؟‪.‬‬

‫راحت عيشة تطلق ضحكاتها الطفولية و هي تومئ برأسها كمن يقول " يا لك من مجنون ! "‪ .‬في حين ردّ‬
‫ي فؤاد و هو ماض في غزوته الشرسة على صحنه‪...‬‬
‫عل ّ‬

‫_ ال تكن سخيفا‪ ،‬ال توجد فراشة في العالم عاشت كل هذه السنوات !‪.‬‬

‫اكتفيتُ بال ّ‬
‫صمت و االبتسامات و أنا أراقبها محاوال تك ّهن اختيارها بنفس اإلثارة البريئة التي كانت تنتابني في‬
‫ْ‬
‫خلت‪ .‬عندما كنت في الثالثة عشر من عمري‪ ،‬كنتُ أجلس على درج باب المطبخ الذي يُؤدّي إلى الحديقة و‬ ‫سنوات‬
‫صبر أن تختار تلك الفراشة زهرة أو وردة معيّنة تحط عليها أوال‪ .‬كنتُ أقول بأنّها إن حطت‬
‫أنا أنتظر بفارغ ال ّ‬
‫على وردة بيضاء فذاك معناه أني سأتم ّكن من التحدّث إلى فتاة جميلة في ذاك اليوم‪ .‬كان ذلك باعثا على السخرية‬
‫ألني كنتُ شديد الخجل و بالكاد كنت أرفع بصري في عيني أي فتاة جميلة‪ .‬كنتُ أقول‪ :‬إن ّ‬
‫حطت الفراشة على‬
‫سأتعرف قريبا على فتاة شقراء جميلة‪ .‬أما إذا ّ‬
‫حطت على أزهار البرتقال فمعنى ذلك‬ ‫ّ‬ ‫وردة صفراء فذاك معناه أني‬
‫سِّر األمر على‬ ‫أن إحداهن سترسل لي رسالة حب مجهولة المصدر‪ .‬إذا ّ‬
‫حطت الفراشة على زهور الياسمين فإني أف ّ‬ ‫ّ‬
‫أنه قبلة منتظرة من شفتي فتاة جميلة أو صديقة ما أعرفها‪ .‬كان ذلك شيئا سخيفا للغاية أيضا فأنا لم أكن أستطيع‬
‫التحّدث إليهن بطالقة‪ ،‬فما بالك بتقبيلهن ؟ !‪ .‬أما إذا انتهى المطاف بالفراشة فوق وردة حمراء‪ ....‬فكان ذلك يعني‬
‫أني سأقع في حب من يجب أن أقع في حبّها و أني سأعيش تجربة فريدة جدا تزامنا مع ذاك الحب‪.‬‬

‫ّ‬
‫حطت الفراشة بعد جولة أخيرة و بعد طول تردد فوق التُّراب !‪ .‬اكتفيتُ بال َّ‬
‫صمت‪ .‬غريب !‪ ،‬أردتها برغبتي‬
‫الطفولية الدفينة أن تختار وردة حمراء !‪ .‬آخر مرة قبلت فيها فتاة كانت أيام الجامعة‪ ،‬في سنتي الثالثة بجامعة‬
‫الجزائر على ما أذكر‪ .‬يوم اشتهيت شفتي إحدى الزميالت الجميالت الالئي درسن معي‪ ،‬و أعربتُ لها بشكل‬
‫ْ‬
‫انتفضت و انسحبت غاضبة و هي تخبرني بأنها فهمت التلميح جيدا‪ ،‬و‬ ‫ضمني أني فعال أرغب في تقبيلها‪ ،‬لكنها‬
‫بأني قد خيّبت ظنها بي قبل أن تمطرني بسيل من عبارات النقد الالذع و هي تعرب عن انهيار الثقة و الزمالة‬
‫بيننا‪ .‬لكنها عادت بعد نحو أسبوع و هي تستغل فرصة خروجي المتأخر من إحدى غرف الدروس‪ ،‬كي تغلق الباب‬

‫‪60‬‬
‫ي بعض‬ ‫خلفها قبل خروجي مسندة إياه بظهرها و هي تنظر إلي ببسمة مرتبكة‪ ،‬تخبرني بأنها كانت قاسية عل ّ‬
‫ْ‬
‫شعرت بأني لست من نوع الفتيان‬ ‫الشيء آخر مرة و بأنها تعتذر عن تلك العبارات القاسية التي قالتها لي‪ .‬أظنها‬
‫ْ‬
‫كانت تظن ؟‪ .‬اعتذرتُ بدوري و أنا أؤكد لها بأني في بعض‬ ‫الذين يستحقون ذلك في كل األحوال‪ ،‬أو هكذا‬
‫األحيان‪ ،‬و إن كنت فتى خجوال على العموم‪ ،‬فإني ال أتمالك نفسي و لساني أمام فتيات جميالت ال يكففن عن التودد‬
‫ي تارة و تنظر إلى أرضية الغرفة‬
‫إلي و ال يُردن تركي في حالي‪ .‬لم تقل شيئا و لم تفتح لي الباب و ظلت تنظر إل ّ‬
‫تارة أخرى و هي تبتسم بدالل بعدما علت وجنتيها حمرة طفيفة‪ .‬فهمتُ لحظتها أنها لم تقصد فقط االعتذار‪ .‬حينها‬
‫لم أستطع منع نفسي‪ .‬تقدّمت إليها بهدوء و ارتباك و قبّلتها بلطف‪ .‬لم أرغب في أن تكون القبلة عميقة‪ ،‬حتى ال أجد‬
‫نفسي أنجرف إلى منابع أنوثتها الباقية فأفتحها و تتحول القبلة العابرة إلى عاصفة شهوانية هوجاء بنتائج غير‬
‫محسوبة‪ .‬كانت شفتيها الرطبتين تحمالن مذاقا ذكرني فعال بالياسمين‪ .‬ربما كان أحمر شفاهها الخفيف أو كان‬
‫العطر الذي كانت تضعه ؟‪.‬‬

‫عدتُ إلى لحظتي تلك في حديقة البيت وسط األهل‪ .‬كنتُ أكاد أرى طيف نفسي و أنا في بداية مراهقتي أجلس‬
‫هناك‪ ،‬على عتبة باب المطبخ‪ ،‬أرفع ذراعي إلى السماء كالمنتصر‪ُ ،‬محتفال باختيار األميرة المج ّنحة وردة الغرام‪.‬‬
‫مرحى أليام الطفولة بكل عنفوانها و سذاجتها !‪.‬‬

‫عند اقتراب العصر‪ ،‬بحثتُ عن البشير‪ .‬لم أعثر عليه في أي مكان فافترضتُ أنه خرج إلى الحومة للتسليم‬
‫على بعض الجيران الذين لم يرهم منذ مدّة كما فعلتُ أنا عند وصولي منتصف النّهار‪ .‬بدى لي أنه هو اآلخر لم‬
‫سرتُ األمر على أن جداال ما قد‬
‫يسلم من االستقبال الحار للحاج‪ ،‬فهما لم يتبادال كلمة واحدة على مائدة الغداء‪ .‬ف ّ‬
‫نشب بينهما في مكتب والدي قبل أن ينزال إلى البستان على نداءات أمي للجميع‪ .‬ف ّكرتُ قليال فيما يكون قد دار‬
‫بينهما من حديث‪ ،‬ثم انتابتني رغبة في تدخين سيجارة لكن بعيدا عن أنظار الحاج‪ .‬خرجتُ إلى عتبة الدّار‪ ،‬فإذا بي‬
‫أجد البشير واقفا هناك يُدخنُ سيجارته هو اآلخر‪ ،‬غارقا في التفكير الذي لم يخ ُل من التأمل في منازل الحي و‬
‫تتخلله سوى زقزقة بعض الشحارير‪.‬‬ ‫طرقاته الصغيرة المتشابكة و سكونه الجميل‪ .‬كان الجو دافئا و هادئا ال ّ‬

‫الرقيب األول ؟‪.‬‬


‫_ إذن أنتَ هنا أيها ّ‬

‫_ مرحبا أيها المكتئب الغامض !‪ .‬قمتُ بجولة صغيرة في الحي‪ .‬سلّمت على بعض األصدقاء القدامى‪...‬‬

‫التفتَ فرآني أشعل سيجارتي فأطلق زفرة تهكمية‪....‬‬

‫_ كنتُ محقا منذ البداية‪ .‬لم يصدّقني أحد عندما كنتُ أقول بأنك كنت تُد ّخن خلسة عن الجميع‪ ،‬سوى أني لم‬
‫أكتشف يوما الخدعة التي كنت تستعملها من أجل التّخلّص من رائحة التبغ !‪.‬‬

‫مرة !‪.‬‬
‫_ أنتَ بدأت التدخين قبلي‪ .‬لحسن حظي كنتَ غبيا كفاية ليكتشف الحاج أمرك في كل ّ‬

‫‪61‬‬
‫ضحك و هو يدفعني بكتفه و كأنه يطلب مني أن أغلق فمي‪ .‬أحسستُ بجسده الهزيل في تلك اللحظة التي‬
‫ي‬ ‫أذكر ّ‬
‫أن عضالت كتفيه و عضديه كانت مفتولة فيما مضى بفعل تمارين الضغط‪ .‬كان قو ّ‬ ‫ُ‬ ‫اصطدم فيها بي‪.‬‬
‫البنية‪ .‬كان كالجدار‪ .‬لكن في تلك اللحظة شعرت به و كأنّه برميل فارغ‪.‬‬

‫_ أال تريد ترقيع أثر تلك النطحة على سلحفاتك الصغيرة هذه ؟‪.‬‬

‫سألني ناظرا إلى سيارتي البيجو ‪ 411‬الفضّية المبعوجة من جانبها األيمن من بعيد‪...‬‬

‫_ ال‪ .‬هكذا سأتذكر دوما أني كثير الشرود عند القيادة‪ .‬ماذا عنك ؟‪ ،‬كيف هي األحوال على الحدود ؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫ينفث الدخان من فمه و أنفه‪...‬‬ ‫صمتَ قليال و هو‬

‫_ سيئة جيدا‪ .‬العمل ال ينتهي أبدا‪ .‬نطارد و نقاتل الجميع‪ .‬مهربي السالح‪ ،‬مهربي المخدرات‪ ،‬مهربي الكحول‬
‫و التبغ‪ ،‬مهربي الذهب‪ ،‬القاعدة و بناتها‪ ....‬ينتابك إحساس بأنك ّ‬
‫بت تكره نفسك و تكره الجميع‪ .‬الحرب في شمال‬
‫مالي ال تزال مشتعلة بين الماليين من سود و طوارڨ‪ .‬السالح الليبي غطى كثبان الرمل التي صارت تنبعث منها‬
‫رائحة الوقود و البارود من كثرة سيارات الـ ‪ Toyota Stations‬التي تُقصف كل أسبوع من طرف طيراننا‬
‫الحربي‪ .‬أتصدّق أنه حتى مهربي السلع و الكيف صاروا يمتلكون أسلحة مضادة للمدرعات ؟‪ .‬على بركة القذافي‬
‫ملك ملوك إفريقيا الذي فتح مخازن سالحه الروسي ال ُمكدّس ليحرق الجميع بعدما يحترق هو‪ ...‬مجنون !‪ .‬نحن‬
‫نقاتل الجميع و الجميع يُقاتل الجميع !– ضحك مته ّكما – لم يبق لنا غير الفرنسيين المتواجدين ناحية جبال‬
‫إيفوغاس لنقاتلهم كما فعل أجدادنا عام ‪.! 22‬‬

‫_ الفرنسيون في صفّكم ضد القاعدة هذه ّ‬


‫المرة‪.‬‬

‫_ الفرنسيون ليسوا في صف أحد !‪ ،‬أنتَ صحفي‪ ،‬ال تكن ساذجا‪ .‬هم هناك من أجل مصالح بلدهم الغارق في‬
‫األزمة االقتصادية ليس إال‪ .‬إن لم يكن من أجل تل ّمس بطن الجزائر السّمينة قليال بين الحين و اآلخر‪ .‬أراهن على‬
‫أنهم سيعودون قريبا من حيث أتوا و سيتركون لنا فضالتهم لنتولى تنظيفها من داخل حدودنا‪.‬‬

‫لتوه أنه يقف إلى جانبي صحفي‪..‬‬ ‫مرة أخرى و كأنّه ّ‬


‫تفطن ّ‬ ‫ي ّ‬‫حديث منطقي !‪ .‬التفتَ إل ّ‬

‫َـــي !‪ .‬ابتعد عني يا هذا‪ .‬ال تصريحات من المصادر الموثوقة !!‪.‬‬


‫_ه ْ‬

‫صمت بيننا و نحن نستمتع بذلك الجو‬


‫قالها بنبرة غاضبة حذرة تخفي في طياتها المزاح‪ .‬سادت لحظة من ال ّ‬
‫الربيعي الهادئ للحي‪ ،‬قبل أن ألتفت إليه أسأله مترقبا‪...‬‬

‫_ تحدّثتَ إلى الحاج ؟‪.‬‬

‫_ أه لم يكن ذلك حديثا بالمعنى المألوف للكلمة‪ .‬ماذا عنك ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ .‬إنه غير راض ع ّما أفعله‪ .‬يريد مني أن أرفع مستواي قليال باالبتعاد عن علب الليل‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫_ افعل ما تراه مناسبا‪ .‬أؤ ّكد لك بأن ما تنشره و ما تكتبه في عمودك يلقى استحسانا كبيرا من طرف الجميع‪،‬‬
‫بما فيه نحن رغم أن الجرائد ال تلحقنا إال نادرا على الحدود‪.‬‬

‫_ من تقصد بـ " نحن " ؟‪.‬‬

‫_ اآلالف من الغالبى‪ ،‬من الجنود و ضباط الصف و اآلالف من ضباط الميدان الغاضبين !‪ .‬تدري أننا بتنا‬
‫نقاتل دون أن نعلم َلم نقاتل ؟‪ – .‬خفض صوته للحظة – من أجل هؤالء األوغاد في العاصمة من أصحاب األطقم‬
‫الفاخرة‪ ،‬الذين يتسابقون فيما بينهم لنهب المال العام و العقار و تبييض األموال في سويسرا و موناكو و االستثمار‬
‫في فرنسا و إسبانيا و شراء األسهم في بورصة نيويورك بأموال الرشاوي و الصفقات المشبوهة ؟ !‪.‬‬

‫طريف حديثه عن سخط أفراد الجيش !‪ .‬ذ ّكرني بلقائي ذات يوم مع رائد لم يعلم أني صحفي‪ ،‬راح يُعرب عن‬
‫سِّرا و هو يقول‬
‫المدوية‪ .‬ثم راح يتهكم متح ّ‬
‫ّ‬ ‫سخطه على األوضاع العامة في البالد بعد فضائح شركة سوناطراك‬
‫لي‪ '':‬لو لم أكن عسكريا أل ّسستُ حزبا سياسيا أسميه ' حزب كول‪ -‬كول ' !‪ .‬بهذا االسم أحدِّّد صراحة طبيعة‬
‫اإليديولوجية التي يتبناها معظم ساسة هذا البلد في الخفاء‪ ،‬فضال عن أن عبارة كول كول قد تخلق التباسا لدى‬
‫األجانب‪ ،‬الذين سيفسّرون معناها على أنه " ممتاز – ممتاز " تماشيا مع عبارة ‪ Cool‬االنجليزية التي لها نفس‬
‫المدلول ‪.'' Tout va bien...!Tout va bien..‬‬

‫تنهدت ناظرا نحو سيارة كانت تعبر الطريق أمامنا تلك اللحظة و رميت بما جال في خاطري بكل عفوية‪...‬‬

‫_ على كل حال‪ ،‬أنتَ من اختار الذهاب إلى الجيش يا بشير‪ .‬لقد اخترت حياتك بنفسك !‪.‬‬

‫لم يقل شيئا و لم ينظر إلي‪ .‬الحقيقة هي أني لم أستطع فهم البشير يوما رغم أن عالقتنا كانت دوما وطيدة‬
‫مقارنة بعالقتي مع فؤاد‪ ،‬رغم أنني كثيرا ما كنتُ أستشعر ندرة القواسم المشتركة بيننا منذ الطفولة‪ .‬لقد كان‬
‫تورط في الكثير من المشاكل و هرب من البيت لبضع مرات‪ .‬لم يكن يوما من النوع الذي‬
‫مشاكسا منذ طفولته‪ّ ،‬‬
‫يميل إلى التف ّكر و التأ ّمل و البحث و المطالعة كما هي الحال معي‪ .‬ملكته األدبية معدومة تقريبا‪ .‬كان دوما ذو روح‬
‫تمردي‬ ‫متمردة بشكل صريح يميل في الكثير من األحيان إلى ال ّ‬
‫شغب‪ .‬كنتُ أشبهه في ذلك إلى حد ما‪ ،‬سوى أن ّ‬ ‫ّ‬
‫تمردا صامتا خاليا من الضجيج‪ .‬شجاراته في الحي ال تحصى‪ ،‬بينما ال أكاد أذكر أني‬
‫كان دراسيا أكثر‪ ،‬كما كان ّ‬
‫تشاجرتُ يوما مع أي كان‪ .‬ثم لم أشعر أبدا بأنه انضم إلى الجيش بدافع وطني خالص‪ ،‬تاركا وضعه االجتماعي‬
‫المريح مع قصة ميراث العائلة‪.‬‬

‫اعتقدتُ في البداية أنه لم يقم إال بالهروب على طريقته الخاصة‪ ،‬تعبيرا عن سخطه على تلك الصراعات‬
‫الحادة التي نشبت بين أبي و أعمامي يوم قرر الجميع اقتسام إرث األسرة من بيوت و أراض فالحية ناحية تابالط‬
‫و البرواڨية و مدينة المدية مباشرة بعد وفاة الجد البشير‪ .‬أذكر جيدا تلك السنوات من الخصومات و الوقوف أمام‬
‫المحاكم و التهديد و الوعيد و العالقات المقطوعة‪ .‬كنتُ ألعرب للبشير عن مدى موافقتي لرأيه لو أنه جهر به في‬
‫صراعات أشعر بالتقزز مما يُس ّمونه‬
‫تلك الفترة التي غادر فيها البيت‪ .‬أقول له و لآلخرين إلى أي حد جعلتني تلك ال ِّ ّ‬

‫‪63‬‬
‫في الجزائر '' العايلة ''‪ .‬العوائل ال تكون هكذا‪ .‬ليس إلى هذه الدرجة على كل حال‪ .‬لكنّه لم يتحدّث أبدا في األمر‪.‬‬
‫ملف التحاقه‪ .‬اجتاز الخطوات األولى للتجنيد‪ ،‬ثم حزم أمتعته و ذهب بمجرد أن وصله‬
‫ّ‬ ‫اتخذ قراره‪ .‬ج ّهز‬
‫االستدعاء‪ ،‬دون أن يشاور أحدا و دون أن يودّع الحاج و ال أن يشعر بالوهن أمام دموع أمي و توسّلها‪ .‬لطالما كان‬
‫هكذا‪ ،‬ذو قلب حاسم ال يلين عند اتخاذ أي قرار‪ ،‬و هو الشيء الوحيد الذي أهله ليكون عسكريا مقاتال‪ .‬هو الشيء‬
‫الذي طالما أثار إعجابي به و جعلني أحاول أن أكون مثله في اتخاذ قراراتي الحاسمة دون وهن أو تردد‪.‬‬

‫عدتُ إلى واقع اللحظة و نظرت إليه محاوال تغيير الجو قليال‪...‬‬

‫_ لم تقل لنا بعد‪ ....‬هل من حنّونة أو خطيبة محتملة ؟‪.‬‬

‫ي مرة أخرى بتهكم ممزوج باالستغراب‪...‬‬


‫نظر إل ّ‬

‫_ أجل‪ .‬طبعا !‪ .‬سأرتبط قريبا بطير نعام أو سأختار لنفسي ناقة !‪ .‬أتمازحني أم ماذا ؟‪ .‬في المكان الذي أعمل‬
‫فيه ال يوجد سوى أربع‪ :‬الرمال و السماء‪ ،‬الشيطان و هللا‪ ....‬و نحن في وسطهم نتقاتل جميعا‪ .‬لدينا أغنية نعبِّّر بها‬
‫عن واقعنا المر هناك تقول " ال ش ّمة ال د َّخان‪ ....‬ال خرجة ال نسوان " !‪ .‬نحن نعيش اللعنة يا صاحبي‪ .‬تشتاق في‬
‫بعض األحيان إلى سماع صوت أنثى أو أن يلتقط أنفك عطرا نسويا حتى تتذكر فقط أنك رجل و ليس مجرد آلة‬
‫سِّالح المشعّرين من‬
‫للقتال و القتل أو شيئا بال قلب و ال روح‪ ،‬في حين تستدير يمينا و شماال فال تجد سوى إخوة ال ّ‬
‫حولك برائحتهم الذكورية الطاغية‪ ،‬يلبسون نفس البزة التي تلبسها‪ ،‬فينتابك إحساس أنك ال تجالس و ال تنظر إال‬
‫لنفسك‪ ،‬و المشكلة هي أن المالعين جميعا يحملون مالمح الهم و الغم و التّعب على وجوههم و هذا أسوأ شيء قد‬
‫تواجهه مع نفسك !‪ .‬صدقني‪ ،‬الحياة التي يعيشها أفراد الجيش على الحدود ال يعلمها سوى هللا‪.‬‬

‫على قهقهتي من تعبير " ال ُمشعَّرين " نظر نحوي و هو يبتسم كمن يستعدّ للرد على استفزازي‪...‬‬

‫_ ماذا عنك ؟‪ .‬أال تزال تعيش في أفكارك ؟‪ ...‬ال تزال تشغل بالك ؟‪.‬‬

‫_ من ؟‪.‬‬

‫_ ال تتحاذق معي يا ولد !‪ .‬رأيتُ لون وجهك يتغيّر عندما كنّا نهم بالجلوس إلى مائدة الغداء بمجرد أن سألتك‬
‫العجوز عن الحياة في‪ " ....‬البهجة "‪...‬‬

‫للمرة الثانية‪ ،‬بعد تلك األولى على مائدة الغداء‪ .‬حاولت التحكم في ردّة فعلي‪ .‬نَفَسي كاد يخونني‬
‫ارتعش قلبي ّ‬
‫أمامه‪..‬‬

‫صة صارت من الماضي‪..‬‬


‫_ ال تكن سخيفا‪ .‬هذه الق ّ‬

‫لقب البهجة الذي طالما حملته‬


‫راح البشير يضحك بصوت مرتفع معربا عن عدم تصديقه لردّي الشاحب‪ُ .‬‬
‫عاصمة البلد لم يكن في الحقيقة إال قطعة شطرنج أخرى وضعت فوق رقعة قلبي المثقل بهذا االسم‪ ،‬من أجل أن‬
‫تُ ّ‬
‫حرك في أوقات خارج المألوف‪ ،‬إلرباكي‪ ،‬الستفزازي‪ ،‬و لتذكيري بأن البهجة تعيش بداخلي إلى حد االختناق‬

‫‪64‬‬
‫غربني عن هذه المدينة العزيزة‪ ،‬ألجد نفسي أعيش في مدينة تشبهها في الكثير من‬
‫الذي يُسبّبه نطق اسمها‪ ،‬الذي ّ‬
‫األشياء‪ .‬شيء نادر جدا‪ ،‬جذّاب حد اإلرباك‪ ،‬حلو حد الثمالة‪ ،‬قوي حد الترهيب‪ ،‬هش حد التفتّق‪ .‬لكنه و رغم كل‬
‫ذلك مثخن و عابس‪ .‬كان ال بد أن أشعر بالغربة في مدينتي األم بعد ما حصل لي مع بهجة‪ ،‬و كان علي أن أنتفي‬
‫إلى مد ينة أخرى تحمل اسمها للعيش فيها غريبا هاربا من كوابيس قلبي و مخاوف طفولتي‪ ....‬بال فائدة‪ .‬كان‬
‫مفر لي من التفكير فيها مادمت قد اجتزتُ عتبات البليدة‪.‬‬
‫البشير يعلم علم اليقين أنه ال ّ‬

‫بمجرد أن تدخل البليدة إال و‬


‫ّ‬ ‫_ اعترف يا فتى‪ ،‬ال يمكنك أن تتفادى ذكراها و أنت في مدينتها‪ .‬اعترف بأنك و‬
‫تتحول إلى جرو صغير يتحسّس أي أثر لها في هذه الشوارع و الزقاق !‪.‬‬

‫لقد حاصرني حقا‪ .‬لم أستطع قول شيء و اكتفيت بنظرات ساذجة كنتُ ّ‬
‫أوزعها على جدران و أبواب منازل‬
‫الجيران و أنا ّ‬
‫أحك أنفي بسبابتي‪.‬‬

‫_ مينو‪ ،‬لقد مررتُ بهذه التجربة أيام مراهقتي‪ .‬في العادة نحن نتجاوز هذا األمر مع التقدم في السن‪ .‬أترى‬
‫أني في آخر إجازة قضيتها هنا لم التق بسارة ؟‪ .‬أجل‪ ،‬سارة التي كنتُ متيّما بها و متيّمة بي هي اآلن زوجة و أم‪.‬‬
‫التقيت بها برفقة زوجها و ابنيها التوأمين بالقرب من " بازار السردوك "‪.‬‬

‫_ ماذا حدث ؟‪ .‬أقصد‪ ...‬ما الذي شعرتَ به ؟‪.‬‬

‫_ تغير نبض قلبي في اللحظة األولى‪ ،‬ثم‪ ....‬ال شيء‪ ،‬تقاطعت نظراتنا‪ .‬أعتقد أني لمحتُ ما يشبه البسمة‬
‫الخفيفة ترتسم على شفتيها ثم‪ ......‬مضى كل واحد منا في سبيله‪.‬‬

‫_ لم تشعر بأي شيء بعد ذلك ؟ إطالقا !!‪.‬‬

‫نظر إلي باستفهام و برود كامل‪ ،‬كمن يستفسر عما يمكن أن يحدث في حالة مشابهة‪ ،‬ثم ّ‬
‫هز كتفيه‪...‬‬

‫_ ماذا تريد أن يحدث ؟‪ .‬أنتَ نفسك تقول لي عن بهجتك أنها صارت من الماضي !‪.‬‬

‫التزمنا الصمت مرة أخرى‪ .‬ال أدري أين ذهب بال البشير‪ ،‬لكن بالي كان مشدودا نحو تلك الفراشة الصفراء‬
‫الجميلة التي ظهرت مرة أخرى‪ .‬كانت تهتز من بعيد في الهواء كورقة شجر طارت بها ريح الخريف‪ .‬كانت‬
‫تنساب و تتمايل قاطعة طريقها إلى وجهة ما فوق البيوت الهادئة‪.‬‬

‫قلتُ في نفسي أنه لو كنتُ ال أزال في السادسة أو السابعة من العمر‪ ،‬لوجدتني أفترض بأنها كانت تتجه إلى‬
‫حديقة المنزل العائلي‪ ،‬لتلك التي ستصير ذات يوم حب حياتي !‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪-6-‬‬

‫طيفها ال يزال يسكنني !‪.‬‬

‫مألتُ رئتي بتلك النسمة الربيعية المح ّملة بعطر األزهار البيضاء الصغيرة المتفتّحة‪ ،‬التي تُكلّل أشجار‬
‫البرتقال المصطفة على طول شارع العربي التبسي– باب السَّبت كل عام ابتداء من شهر مارس‪ .‬تبدو في العادة و‬
‫كأنها مسامات بيضاء صغيرة ت ُ ّ‬
‫عطر بها تلك األشجار شوارع المدينة‪ ،‬كلّما ه َّمت بصمتها الخالد إلى مالقاة الربيع‬
‫الذي يفد على البليدة من منفذ سري ال تراه إال تلك األشجار‪ .‬كنتُ أراقب الناس‪ ،‬السيارات‪ ،‬المباني الممتدة على‬
‫طول النشوارع التي بدت و قد تغيّرت بعض الشيء‪ ،‬بفعل هدم بعض البنايات االستعمارية القديمة‪.‬‬

‫لم أجد مهربا من التّن ّهد‪ .‬كان اسمها يتالطم داخل رأسي‪ .‬كان قربها ّ‬
‫يهز كياني‪ .‬هي التي عاشت بداخلي‬
‫لخمسة عشر عاما تُشعرني باألمل غير ال ُمكتمل‪ ،‬باإلرادة ال ُمعلّقة‪ ،‬بالشوق الجارف الذي ي ّ‬
‫ُقطع أعماقي بسكين‬
‫مرة ثانية‪ .‬لكن هل كان علي أن أهرب من مواجهة الحقيقة كما‬
‫الشك ناثرا على جروحي ِّملح الخوف من اإلخفاق ّ‬
‫فعلتُ عندما حدّثني البشير عنها ؟‪ .‬مستحيل !‪ .‬كنتُ أف ّكر فيها‪ ،‬بل كنتُ ممتلئا بها‪ ...‬بهجة‪ ...‬بهجة‪ ...‬بهجة‪...‬‬

‫‪66‬‬
‫المرات التي سمعتُ فيها اسمها يتردد بداخلي‪ ،‬كصدى لصوت ضائع في فراغ أعماقي‬
‫بهجة‪ ......‬هللا يعلم عدد ّ‬
‫المرات التي رأيتُ فيها‬ ‫ّ‬
‫أحن إليها‪ ،‬كنتُ ُمثخنا بها‪ ...‬بهجة‪ ...‬بهجة‪ ...‬بهجة‪ ...‬هللا يعلم عدد ّ‬ ‫الدّفينة‪ .‬مستحيل !‪ .‬كنتُ‬
‫طيف وجهها الجميل‪ ،‬الذي كنتُ بالكاد أفقدُ مالمحه الطفولية اللطيفة و هو ّ‬
‫يمر بصمت في طرقات ذاكرتي الخلفية‬
‫ع ْ‬
‫رفت بها وسط كل من يعرفها و كل من يُحبّها بقيت الشيء الوحيد الذي أذكره‬ ‫المظلمة‪ .‬تلك البسمة العجيبة التي ُ‬
‫جيدا من مالمحها‪.‬‬

‫غريب !‪ .‬نفس األسئلة األزلية التي أطرحها دوما كطفل صغير يرغب بشدّة في الحصول على إجاباتها فورا‪:‬‬
‫عرضتني له‬ ‫مرة ؟‪ .‬أتراها قد ند ْ‬
‫ِّمت على ما ّ‬ ‫أتراها أحبّتني ذات يوم ؟‪ .‬هل ف ّكرت ف ّ‬
‫ي بجد بينها و بين نفسها و لو ّ‬
‫في النهاية ؟‪ .‬هل كنتُ ألظفر بفرصة معها لو أني كنتُ أكثر إلحاحا أو حتى أكثر إزعاجا ؟‪ .‬ثم‪ ,‬ماذا عنها اآلن ؟‪.‬‬
‫أين هي ؟‪ .‬ماذا حقّقت في حياتها المهنية و الخاصة يا ترى ؟‪ .‬أهي عاملة أم ماكثة في البيت ؟‪ .‬هل هي مخطوبة‬
‫تزوجت و أنجبت أطفاال مثل حبيبة أخي السابقة ؟‪ .‬على األرجح أن تكون سيّدة اآلن‪ ،‬فقد بلغت حاليا‬
‫اآلن ؟‪ .‬هل ّ‬
‫السادسة و العشرين ؟‪ .....‬هكذا كنتُ أسأل نفسي‪ .‬لم أستطع التصديق بأن فتاة ُحلوة مثلها قد تبقى بال ارتباط و ال‬
‫زواج كل هذه السنوات‪ .‬ثم‪ ،‬هل تغيرت مالمحها كثيرا ؟‪ّ .‬‬
‫أشك في ذلك !‪ .‬آخر مرة رأيتها فيها من بعيد قبل ثالث‬
‫سنوات في إحدى األمسيات المشمسة أواخر شهر نوفمبر‪ .‬كانت ال تزال كما هي‪ .‬فتاة جذابة تحبّ المرح و الت ّ ّ‬
‫سوق‬
‫و التأنّق‪ .‬ذاك اليوم لمحتني من بعيد و أنا أسير بالقرب من إكمالية أحمد عابد – البرتقال وسط المدينة‪ .‬رميتُ‬
‫ْ‬
‫التفتت فيها نحوي‪ .‬كانت رفقة فتاتين أخريين‪ .‬كنتُ أسير متظاهرا بأني لم‬ ‫ي في اللحظة التي‬
‫ببصري تحت قدم ّ‬
‫ألحظها من على الرصيف المقابل و أنا أتفحّص الكيس البالستيكي الذي كنتُ أحمله في يدي‪ .‬ال أذكر ما كان فيه‪.‬‬
‫لكنني رفعتُ بصري مباشرة نحوها‪ ،‬أو ألقل أن شوقي الطفولي الجنوني لها رفع رأسي سريعا نحوها‪ .‬كانت ال‬
‫ْ‬
‫جلست إلى جانبه في‬ ‫ي و كأنّها تحاول التأ ّكد م ّمن أكون !‪ .‬صاحب النظارات غريبة الشكل الذي‬
‫تزال تنظر إل ّ‬
‫األيام األولى للعام الدارسي ‪.4111-22‬‬

‫ْ‬
‫ابتسمت و هي تميل برأسها قليال إلى الجانب‪ .‬تلك هي طريقتها الفريدة في‬ ‫ْ‬
‫ابتسمت بعدما عرفتني‪.‬‬ ‫ذاك اليوم‪،‬‬
‫القول " مرحبا " قبل أن تنطق بها فعال‪ .‬لم أستطع رؤية عينيها الب ّنيتين فقد كانت تضع نظارات ‪ RayBan‬شمسية‬
‫حرمتني العبور الكامل نحو سماء صافية لطالما عرفتُ كيفية التحليق و االرتقاء فيها كصقر منطلق بال قيود‪ ،‬دون‬
‫س َر العظام‪ .‬كانت تلك موهبتي معها و كانت‬
‫أن أجد في الغالب طريقي للعودة إلى الهبوط على األرض‪ ....‬إال ُمك َّ‬
‫مصيبتي معها أيضا‪ .‬كنتُ دوما الصقر ال ُمغ ّفل !‪.‬‬

‫يُقال أن الحبّ ليس أكثر من سجن شاسع بال جدران و ال قضبان ؟‪ .‬ال أدري !‪.‬‬

‫أر حاجبيها اللذين عادة ما ترفعهما قليال و هي تميل برأسها عندما تُطلق بسمة المفاجأة أو‬
‫أر عينيها و لم َ‬
‫لم َ‬
‫السرور برؤية صديق أو زميل قديم لم تره منذ مدّة‪ .‬كنتُ حقا أرغب في رؤية تلك اإليماءات البسيطة الخاطفة‬
‫ي‪.‬‬
‫التي عادة ما كانت توقف الزمن من حولي للحظات‪ ،‬جاعلة تلك الفتاة األشهى في عين ّ‬

‫_ أمين !‪ .‬كيف الحال ؟ !‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ْ‬
‫رفعت صوتها من بعيد‪ .‬عشقتُ الطريقة التي تنطق بها اسمي‪ .‬نبرة حيوية فيها شيء من المرح الممزوج‬
‫بدهشة الطفولة ‪ ،‬و ربما يرجع ذلك إلى كونها هي نفسها و في مكان ما في أعماقها‪ ،‬ال تزال تحتفظ لي بشيء من‬
‫تلك الطفلة الصغيرة التي كانت منجذبة إلي و مسرورة بالتعرف إلي أول مرة ؟ !‪.‬‬

‫في تلك اللحظة لم أقل شيئا‪ .‬هرب لساني القصير إلى أعماق جوفي !‪ .‬اكتفيتُ بالرد عليها ببسمة رافعا حاجب ّ‬
‫ي‬
‫أيضا‪ ،‬مشيرا إليها بيدي التي جمعتُ أصابعها إلى بعض على طريقة الصقليين اإليطالية و كأني أقول لها " كيف‬
‫حالك‪ ،‬بخير ؟ "‪ .‬ثم أشرتُ إليها بإبهامي داللة على أنّي بخير‪ .‬ظلّت تبتسم و هي تكمل طريقها متو ِّ ّ‬
‫سطة صديقتيها‪،‬‬
‫قبل أن تغيب قسمات وجهها الطفولي المشرق أثناء تقدمها في السّير‪ ،‬تاركة إياي خلف ظهرها و تاركا إياها خلف‬
‫ُّ‬
‫التفت إليها و أنا أبطئ خطواتي لوهلة‪ .‬بدى لي أن جسدها صار أكثر أنوثة مما‬ ‫ظهري‪ .‬لكني لم أستطع منع نفسي‪.‬‬
‫كان عليه‪ ،‬خاصة جهة الحوض الذي كان يتمايل على خطواتها‪ .‬يا اله !‪ ،‬صار لها خصر امرأة كاملة البلوغ‪.‬‬

‫تف حول عنقها‬


‫أذكر أنها كانت ترتدي سروال جينز ذو لون أزرق قاتم‪ .‬سترة سوداء‪ .‬وشاح بني اللون كان يل ّ‬
‫منسدِّال على صدرها‪ .‬حذاء بنعل قصير‪ .‬إضافة إلى محفظة نسوية تحمل نفس لون الوشاح و الحذاء‪ .‬لطالما‬
‫أعجبتُ بطريقتها في اختيار لباسها‪ .‬ربّما ألني لم أتقن يوما هذا الفن ؟‪ .‬كانت ُمغرية جدا دون أن تكون فاضحة‪.‬‬

‫أمعنتُ النظر إلى شعرها الكستنائي الممسوك نحو الخلف‪ .‬آه من شعرها ذاك !!‪ .‬هو الذي جعل منها أشبه‬
‫صمت‬
‫دوية جعلت ال ّ‬
‫بأسطورة إغريقية نهايتها مجهولة لدى التاريخ‪ .‬كقصيدة ظاهرها غرام غاو و باطنها فجيعة ُم ّ‬
‫يصمت‪ .‬كربيع أخرج للعالم أجمل ما في جعبته من براعم أزهار لم تتفتّح يوما‪ .‬شَعر له لون شمس الشتاء في‬
‫ْ‬
‫تنسحب بسرعة و هي تُرسل على الكائنات أشعة حمراء لكنها باردة‪ ،‬تُجدّد ولعها‬
‫ُ‬ ‫غروبها اللطيف و الكئيب‪ ،‬حين‬
‫بدفء األمل القادم في األفق بعد الليل الشتوي ّ‬
‫الطويل‪ ،‬يُبدّد شجاعتها في االستمرار نحو ال ّ‬
‫شرق لمالقاة تغريدة‬
‫الصبح المنشودة و ال ُمست َحقّة‪ ،‬فال يتركها في النهاية إال حائرة‪ ،‬ال تعلم ما تفعل بالضبط‪ ،‬ال تعرف أ ّ‬
‫ي قرار حكيم‬
‫شعر بهجة‪ ،‬ولعي و خوفي !‪ .‬كم تمنّيتُ أن يأتي يوم أمدّ أصابع يدي نحوه من دون شك‪ ،‬من دون نفس‬
‫ستُصيب‪َ .‬‬
‫مضطرب و من دون قلب مرتعش‪.‬‬

‫ي بشكل ما مكر األيام !‪.‬‬


‫لطالما آلمني بعدي عنها‪ .‬بُعد فرضه عل ّ‬

‫ثم و ككل مرة نلتقي فيها بشكل غير متوقع‪ ،‬و حين تمضي تلك اللحظات القصيرة المليئة بالتشوش لسرعتها‪،‬‬
‫و حين ينتهي كل شيء و يمضي كل منا في حال سبيله‪ ،‬إال و تعود بي الذاكرة غصبا عني إلى أول مرة التقيت‬
‫فيها بهجة‪ ،‬في تلك األمسية الخالدة من شهر سبتمبر من عام ‪ .22‬المدينة يومها كانت قد بدأت تستعيد أنفاس الحياة‬
‫في جنباتها بعد عشرية كاملة من حظر التجوال و القنابل و المجازر‪ .‬كنا نسمع تلك األيام أن األزمة األمنية على‬
‫مشارف النهاية و أن المسلحين يستعدون لوضع السالح و أن البلد يستعد ليتصالح مع نفسه بعد ذلك االستفتاء الذي‬
‫نظم أواسط سبتمبر‪ .‬قيل لنا إنه الوئام المدني‪ .‬ثم كانت أمسية السابع و الشعرين من نفس الشهر‪ ،‬حين أخبرني أبي‬
‫أنه قام بتحويلي إلى مؤسسة جديدة بعد أيام فقط من انطالق العام الدراسي‪ ،‬كونه لم يكن راضيا بظروف التدريس‬
‫في المؤسسة التي وضعت فيها مباشرة بعد نيلي لشهادة التعليم االبتدائي‪ .‬أرسلني إلى إكمالية العربي التبسي التي‬

‫‪68‬‬
‫دخلتها و أ نا أشعر بتشوش و نوع من الخوف حين قابلني ذاك المراقب التربوي الذي راحي يتملقني و يثني على‬
‫والدي و يخبرني بأن أبلغه تحياتي حين أعود إلى المنزل و أخبره أيضا بأنه قد اعتنى بي جيدا‪ .‬أعطاني رقم غرفة‬
‫الصف‪ '' ....‬هيا روح قبل ما يبداو الحصة التالية و ماتنساش سلم على الشيخ ديالنا '' قال لي و هو يدفع بي من‬
‫ظهري‪ .‬كان المكان مكتظا بالتالميذ الذين نهضوا من أماكنهم بمجد نهاية الحصة و خروج آخر أستاذ من الغرفة‪.‬‬
‫مجموعات و فرادا توزعوا في كل مكان و هو ما جعلني أرتبك‪ ،‬كوني لم أستطع تمييز مكان شاغر بشكل واضح‪،‬‬
‫فالكثير من األماكن كانت شاغرة مؤقتا كون أصحابها لم يكونوا جلوسا فيها‪ .‬خطوت إلى الداخل تحت الكثير من‬
‫األنظار الفضولية و اغتنمت فرصة أول سؤال فضولي لي عمن أكون و من أي مؤسسة جئت‪ ،‬حتى بادلته بسؤال‬
‫خجول عن أي مكان شاغر في الغرفة‪ .‬قيل لي أن هنالك مكانا في الطاولة األولى عند مكتب األستاذ‪ .‬التفت إليه‬
‫مباشرة‪ .‬لم يكن أي تلميذ جالسا فتوجهت صوبه مباشرة‪ .‬كانت طاولة بكرسي واحد‪ .‬جلست و بدأت أضع‬
‫أغراضي الدراسية فوقها‪ ،‬فإذا بتلميذتين تجلسان خلفي مباشرة تخبرانني أني أجلس في مكان أحدهم‪ .‬التفت إليهما‬
‫بخجل سائال عن صاحب المكان‪ ،‬فإذا بهما تشيران بيديهما و هما تخبرانني أن صاحبة المكان قد عادت‪ .‬التفتُ‬
‫إليها‪ .‬أدركتُ أنها الفتاة التي كانت تمسح الصبورة قبل لحظات و هي تعبث فوق المصطبة‪ .‬كانت مالمحها طفولية‬
‫جدا‪.‬‬

‫_ آسف‪ ،‬لم أكن أعلم أنك تجلسين هنا فقد قيل لي‪....‬‬

‫لكنها قاطعتني ضاحكة و هي تضع يدها على كتفي تدفعني على الكرسي‪...‬‬

‫_ ال ال‪ ،‬معليهش‪ ...‬اقعد‪ ،‬نروح نجيب كرسي بش نزيد نضيع شوية وقت !!‪...‬‬

‫ْ‬
‫ركضت إلى خارج غرفة الصف لتجول عبر الغرف األخرى عابثة و هي تتظاهر بالبحث عن كرسي إضافي‬
‫قبل أن تعود بعد نحو خمس دقائق من انطالق حصة اللغة االنجليزية متحججة لألستاذ بأنها كانت تبحث عن‬
‫كرسي‪ .‬جلست على يميني‪ .‬نظرت إلي بفضول‪...‬‬

‫_ ما اسمك ؟‪.‬‬

‫أجبتها متأتأ و أنا أشعر بتلك الحرارة التي كانت تتصاعد من وجنتي‪ ،‬فإذا بها تنزع مني الكراس الذي كان‬
‫بين يدي و هي تقلبه‪...‬‬

‫_ أنتَ لم تكتب شيئا على اإلطالق‪ .‬لقد تقدمنا في الدروس يا أمين‪ .‬سوف أعيرك كراسي اليوم على أن‬
‫تحضره لي غدا‪ ،‬لكن قبل كل شيء دعني أمأل لك جدول التوزيع الزمني الدراسي‪...‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬رحتُ فقط أراقبها و هي تحمل مسطرتها و أقالمها و تنطلق في تسطير و ملء الجدول دون أن‬
‫تنتظر موافقتي على األمر‪ .‬كنتُ أنظر إليها بخجل و أنا أقول في نفسي أنها حقا فتاة جميلة‪ .‬كانت بعض خصالت‬
‫شعرها الكستنائي الفاتح تنسدل على وجهها العريض بين الحين و اآلخر‪ ،‬فتقوم بإعادة ترتيبها خلف أذنها بأناملها‬

‫‪69‬‬
‫البيضاء الصغيرة و هي مستمرة في تسطير الجدول‪ .‬أعادت إلي الدفتر مبتسمة‪ .‬تلك االبتسامة الطفولية المشرقة‬
‫جعلتني أراها أكثر جماال و جاذبية إلى درجة لم أعرف فيها كيف أقول '' شكرا ''‪.‬‬

‫حين أنهينا الدراسة في تلك األمسية الدافئة‪ ،‬عدتُ إلى البيت مسرعا و أنا أحمل كراس اللغة اإلنجليزية‬
‫الخاص بها معي‪ .‬كنتُ مشوشا و سعيدا في نفس الوقت‪ .‬كنتُ متفائال و خائفا أيضا‪ .‬كنتُ أقول في نفسي و أنا أقوم‬
‫بنقل الدروس من كراسها بأنها على األرجح ستكون صديقتي عن قريب‪ ،‬و من الغريب أني ال أزال أتذكر حتى‬
‫لون غالف ذلك الكراس‪ .‬لقد كان أسود اللون !‪.‬‬

‫_ '' يا للعجب‪ ،‬كانت لم تبلغ الثانية عشر من العمر يومها‪ .‬من يصدق أنها صارت اليوم امرأة !! "‪.‬‬

‫قلتُ في نفسي متنهدا و أنا أعود إلى حاضري مستمرا في تأمل بنايات المدينة‪ .‬غريب هو التفكير فيما حدث‪.‬‬
‫كيف كنتُ أخشاها و إلى أي حد كنتُ أرغب فيها ؟‪ .‬كنتُ ُمراهقا ّ‬
‫مقطع األعماق !‪ .‬ظننتُ نفسي تلك اللحظات و أنا‬
‫يو‬ ‫أتذ ّكر آخر مرة رأيتها فيها أني ال أزال ذلك العاشق التائه‪ .‬بدى األمر سخيفا جدا‪ ،‬لكنه كان حاضرا أمام عين ّ‬
‫كان وقعه قويّا و غير قابل لإلنكار‪ .‬كنتُ فعال ال أزال أف ّكر فيها‪ّ ،‬‬
‫بقوة‪ ،‬إن لم أقل أني كنتُ ال أزال واقعا في حبّها‪.‬‬
‫كنت عاجزا عن الهروب منها كما أفعل في العادة مذ سكنتُ العاصمة‪ .‬كان عطر أزهار البرتقال الذي امتألت به‬
‫شوارع المدينة‪ ،‬أشعة شمس أفريل المسائية اللطيفة التي كانت تربّت بحنان على مباني و أسقف منازلها‪ ،‬صيحات‬
‫ي مشاعر مختلطة و غير محددة عن أيام الدراسة الماضية و أحالمي‬
‫طيور السنونو التي مألت سماءها موقظة ف ّ‬
‫ْ‬
‫ألقت بكياني صريعا تحت أقدام شوقي إليها‪ .‬حقا‬ ‫الغرامية الضائعة فيها‪ .‬كل ذلك امتزج في شكل تعويذة قلبية‬
‫صدفة اللقاء على قلّة حدوثها مثّلت‬
‫رغبتُ تلك اللحظات في رؤيتها‪ ،‬أن ألتقي بها مصادفة كما كان يحدث دوما‪ُ .‬‬
‫صورة حظي الوحيد معها‪ .‬أردتُ فقط رؤية وجهها و لو عن بُعد‪ ،‬و لو بشكل عابر و خاطف كما كان يحدث‬
‫دوما‪ ،‬لعلّي أجدّد حياته داخل ذاكرتي و أحتفظ بقسماته الصحيحة و الدقيقة لوقت إضافي‪.‬‬

‫تلك الطرقات‪ .‬تلك األرصفة‪ .‬كانت دوما المنفذ الوحيد للقائنا غير المكتمل‪ .‬كنتُ أسير عبر تلك الشوارع أيام‬
‫كنتُ ُمتيّما بحبّها و أنا أقول في نفسي أنها تكون قد ّ‬
‫مرت من هنا قبل أيام أو ساعات أو حتى قبل دقائق‪ ،‬ثم أتأسف‬
‫و أف ّكر‪ :‬نشأنا في نفس المدينة‪ .‬نسير على نفس األرصفة‪ .‬ننظر إلى نفس الواجهات الزجاجية‪ .‬نسمع آذان نفس‬
‫صوامع‪ .‬نستق ّل نفس وسائل النّقل‪ .‬نستنشق نفس الروائح و العطور كل ربيع‪ .‬نسمع زقزقة نفس الطيور‪ .‬نُصادف‬
‫ال َّ‬
‫نفس الوجوه‪ .‬نعرف نفس الزمالء و األصدقاء القدامى تقريبا‪ .......‬و ننظر إلى نفس القمر‪ .‬بالرغم من ذلك ال‬
‫تجمعنا سوى صدفة عابرة و تحيّة خجولة هاربة و ذكرى موقف ُمبهم بال اسم‪ .‬هذا أمر ُمحزن إن لم يكن ُمخجل !‪.‬‬

‫لطالما ف ّكرتُ بأن واقعا كهذا هو في النهاية شيء بشع للغاية‪ ،‬خاصة بعد كل الذي حملته لها في قلبي‪ .‬ظل‬
‫يسيطر علي شعور من الضيق و عدم الرضى بعد كل الذي حدث‪ .‬هو الشعور عينه الذي انتابني و أنا ماض في‬
‫التجول و التمعّن في البليدة التي يُحبّها قلبي‪ ،‬رغم يقيني بأن ما حدث قد حدث منذ ثمانية أعوام وصوال إلى ذلك‬
‫اليوم‪ ،‬و أني أنا اآلخر ماض أعيش حياتي كما هي‪ .‬عرفتُ الكثيرات أيام الجامعة و بعدها كذلك‪ ،‬جعلنني اتفادى‬
‫ذكرى جرحها الغائر و لو نسبيا‪ ،‬دون أن يجعلنني أنسى ذكراها تماما‪ .‬قلتُ ‪ :‬لدي أهدافي و مشاريعي المستقبلية‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ي من جديد‪ :‬أترها تعلم أني صرت صحفيا اآلن ؟‪ .‬أتقرأ‬
‫لكن لوهلة‪ ......‬نفس األسئلة الطفولية تعود لتتسلل إل ّ‬
‫صحفي يا ترى ؟‪ .‬أتتابعني على صفحتي الفيسبوكية الخاصة ؟‪ .‬حبّا في هللا‪،‬‬
‫مقاالتي و تحقيقاتي و تتابع عمودي ال ّ‬
‫ماذا يُمكن أن تس ّمي نفسها في حسابها على الفيسبوك ؟‪ .‬فتاة مثلها ال يمكن أن تكون بال حساب فيسبوك ؟ !‪.‬‬

‫**********‬

‫غير ذلك‪ ،‬فالبليدة لم تغيّر من عاداتها كثيرا‪ ،‬فهي تحتضن على طول النّهج الرابط بين باب السبت و ساحة‬
‫التوت باعة النباتات و األزهار القادمين من مختلف مشاتل المتّيجة لعرض سلعهم الثّمينة و التي ال يُقدِّّر ثمنها‬
‫سوى البليديون فقط‪ .‬هي عادة راسخة في أشهر الربيع خصوصا‪ .‬كنتُ أسير و أنا أتأ ّمل الوجوه و الناس‪ ،‬كل‬
‫ماض في سبيله صعودا و نزوال‪ ،‬وحيدا أو برفقة صديق أو أفراد من العائلة‪ُ ،‬مر ّكزا نظره على السلع المعروضة‬
‫أو راميا إياه في الفراغ‪ .‬أحاديث الناس في مجملها كانت تدور حول االنسداد السياسي في البالد و اإلحساس العام‬
‫صبونه على‬
‫للتحول إلى ما يُسمى " ربيع عربي " إن لم يجد رؤوس النظام رجل توافق يُن ّ‬
‫ّ‬ ‫بأن األمور قد تتعفن‬
‫رؤوسنا باسمنا‪ .‬أشعرني ذلك بالراحة و ذ ّكرني بأن قلقي المزمن تجاه سبات هذا المجتمع و تجاه التهديدات‬
‫الحقيقية المتربّصة به جراء ذلك السبات قد تراجع نسبيا‪ .‬أال يمكن أن يكون تراج ُع قلقي المزمن تجاه سبقي النهائي‬
‫ه و الذي فتح المجال إلى هذه الفسحة من الحنين ذو الجرعة الزائدة نحو الماضي و مشاعره و أنا أتمشى في‬
‫مدينتي األم ؟‪ .‬أحسستُ و كأني في عطلة !‪ .‬كنتُ فقط أ ُمعن التفكير و النّظر‪ " ...‬فعال‪ ،‬أنا في مسقط رأسي ! إنها‬
‫مدينتي ! "‪.‬‬

‫الكثير من األحاديث أيضا لم تخرج عن صلب الحياة اليومية بتفاصيلها الصغيرة البعيدة عن هرج و مرج‬
‫تسربات الماء المتكررة في‬
‫السياسة‪ .‬أحاديث عن مشاكل البيت و عن السمكري الذي لم يكن عند وعده بتصليح ّ‬
‫المطبخ‪ .‬عن أستاذ الفلسفة المتغطرس المتآمر مع المراقب العام‪ .‬عن المراهقة الجميلة التي وصلها رقم الهاتف‬
‫المحمول مكتوبا في وريقة صغيرة و التي قد تتصل في أية لحظة‪ .‬عن جديد المنافسة الشرسة و العداوة األزلية‬
‫بين لاير مدريد و أف سي برشلونة‪ .‬عن جديد برنامج سكنات عدل‪ .‬عن ضرورة عدم نسيان شراء حفّاظات‬
‫الصغير في المنزل‪ .‬عن ضرورة العودة إلى الثّكنة العسكرية في الوقت المحدد‪ .......‬الحياة العادية للناس في‬
‫البليدة !‪ .‬غريب كيف أنها تبدو جميلة و يبدون معها رائعين عندما يحظى الدّارس أو ال ُمراقب لهم بقسط من السالم‬
‫الداخلي‪ .‬شيء يُشبه الخدعة اللطيفة‪ ،‬لكنّه يُعبر عن جانب من حقيقة غائبة أو ُمغيّبة‪.‬‬

‫أحببتُ دوما إطالق سمعي و بصري نحو الناس و هم في قمة انشغالهم و تفاعلهم مع تفاصيل حياتهم‬
‫الصغيرة‪ ،‬فأي تفصيل‪ ،‬أي زاوية‪ ،‬أي سلوك قد يُشكل في الحقيقة بداية خبر ما‪ .‬سبق إخباري ما‪ .‬تحقيق صحفي أو‬
‫صة‪ .‬البعض قد يس ّمي هذا تطفال‪ .‬أنا أس ّميه غريزة الكائن الصحفي األولى التي تماثل غريزة الغذاء عند الكائنات‬
‫ق ّ‬
‫الحيّة‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫في لحظة ما تذ ّكرتُ أجواء شهر رمضان التي لها وقع خاص و طعم مميز في حياة كل فرد جزائري مهما‬
‫كان توجّهه في الحياة‪ُ ،‬متدينا أم ال‪ .‬ما هي الكلمة المناسبة لهذه الحالة يا ترى ؟‪ .‬ال توجد !‪ .‬لكن ألقل أنها شيء‬
‫يُشبه فرحة الطفل الصغير و هي تراقص حنين الرجل الكهل في األعماق بصمت‪.‬‬

‫و أنا ماض في السير نحو ساحة التوت أول نوفمبر‪ ،‬رفعتُ بصري هنيهة إلى السماء الذي مألته أسراب‬
‫الخطاطيف و هي تطير و تراوغ مطلقة صيحاتها الحادة‪ .‬لطالما أشعرتني هذه الطيور بالدهشة و أنا طفل صغير‪.‬‬
‫في تلك اللحظات كدتُ أبتسم‪ .‬ثم انتبهت مرة أخرى إلى عطر أزهار البرتقال الذي كان يفوح به الشارع‪ .‬يا اله كم‬
‫ْ‬
‫خلت‪ ،‬يجعلني‬ ‫أحب هذا العطر الذي يجعل قلبي يفيض بألوان زاهية قادمة من مكان بعيد !‪ ،‬يُرجعني إلى سنوات‬
‫استردّ ذكريات عمر كامل‪ ،‬عمر الطفولة و المراهقة‪.‬‬

‫بعد باعة النبات ات و الزهور‪ ،‬جاء دور باعة الكتب القديمة الذين اصطفوا يعرضون سلعتهم من كتب قديمة و‬
‫متحركة‪ .‬توقّفت لبعض الدقائق أمام أحدهم و أنا‬
‫ّ‬ ‫أقراص مضغوطة ألفالم وثائقية و برامج دينية و سالسل رسوم‬
‫أمرر بصري ماسحا تلك العناوين المعروضة لعلي أجد ما قد يُثير اهتمامي‪ ،‬فضال عن أن للكتب القديمة سحرا‬
‫ّ‬
‫خاصا أيضا‪ ،‬ليس أقلّه رائحتها المميزة‪ .‬أفسّر دوما ذلك على أنه عائد إلى تلك الروائح المميزة لمكتب والدي و‬
‫المرتبطة بقوة بطفولتي !‪ .‬كانت نخلة البليدة الشهيرة ال تزال تنتصب بشموخها الغامض وسط نصبها المشيد‬
‫صتها التي ال تزال تُحاك عنها األساطير ذات العبق الموريسكي‪ ،‬كما هي عادة كل قوم أو‬
‫حولها و هي تحكي ق ّ‬
‫شعب‪ .‬ففي البليدة لدينا قديسة‪ ،‬و هي عبارة عن شجرة !‪ .‬قلتُ في نفسي أن األسطورة و الخرافة التي تبنى حول‬
‫معالم المدن أو أعالمها‪ ،‬و رغم ابتعادها عن الوقائع الصحيحة و حتى المنطق في كثير من األحيان‪ ،‬إال أنها تكون‬
‫ضرورة اجتماعية للحفاظ على درجة من الدّهشة ّ‬
‫الطفولية في نفوس الكبار قبل الصغار تجاه مسقط الرأس‪ .‬نوع‬
‫من االرتباط األبوي !‪.‬‬

‫كاانت األجواء جميلة جدا‪ .‬مجموعات من الشباب و المسنين هنا و هناك‪ .‬أطفال صغار يركضون وسط‬
‫الساحة‪ .‬بعض األسر تلتق ط صورا تذكارية وسط طيور الحمام التي انتشرت بكثافة وسط إحدى زوايا الساحة‬
‫تبحث عن فُتات الخبز المنثور لها من طرف المارة أو هواة إطعام الحمام‪ .‬هي طريقة جميلة جدا في الحصول‬
‫على بعض االسترخاء و السالم الداخلي‪ ،‬و هي ثقافة بدأت تأخذ طريقها في عادات البليديين بعد العاصميين‪،‬‬
‫ُّ‬
‫تستحق هذا النوع من الحب و الطمأنينة‪ ،‬بعد سنوات الحصار و الرصاص و الحقد و‬ ‫جعلتني أحس أن البليدة‬
‫القنابل‪.‬‬

‫**********‬

‫كان األصدقاء هناك‪ ،‬يجلسون حول طاولة إحدى المقاهي ال ُملتفة حول الساحة و التي وضعت تحت مظالّت‬
‫شمسية‪ .‬عبد الغني‪ ،‬مسعود و ناصر‪...‬‬

‫_ أو جا الموسطاش الصغيّر !‪...‬‬

‫‪72‬‬
‫المقرب منذ أيام اإلكمالية‪ .‬رؤية تلك الوجوه ش ّكل دوما باعثا آخر لرماد الذكريات‬
‫ّ‬ ‫صاح عبد الغني‪ ،‬صديقي‬
‫التي تحيى من جديد‪ .‬رأيتُ في وجوههم بعدما لم أرها منذ زمن إال من خالل الفيسبوك همسات لطيفة لصوت‬
‫ال طفولة البعيد و مالمح أبطال مسلسالت الكرتون و أغاني زمن بداية المراهقة و غرور البلوغ الخادع‪ .‬ذكريات‬
‫خالدة‪ ،‬مواقف طريفة‪ ،‬مغامرات مجنونة‪ ،‬أيام لن تعود‪ .‬رأيتُ في مالمحهم التي غيّرتها السنوات و البلوغ بعض‬
‫الشيء مالمح أشخاص آخرين لم نلتق بهم منذ سنوات‪ ،‬زمالء دراسة و أساتذة في الغالب‪ .‬كما رأيتُ فيهم مالمح‬
‫هاربة من وجهها‪ ،‬هي‪ ،‬تلك التي طالما رأيتُ في مالمحها مالمح كل الذين عرفتهم و أحببتهم في هذه المدينة‬
‫أيضا !‪ .‬ال ريب‪ ،‬علمتُ منذ اللحظة التي رأيتُ فيها وجه عبد الغني صاحب النظرات الحيوية و نبرة الصوت‬
‫المرتفعة مع طريقته المميزة في المزج بين المزاح و الغضب أني سأسأله عنها ال محالة‪ .‬علمتُ أني لن أستطيع‬
‫المقاومة‪ ،‬فقلبي كان في تلك اللحظات كعصفور فينيق يتوهج بسرعة بعدما خرج من رماده و هو يستعدّ لالنطالق‬
‫في مغامرة مجنونة أخرى في فضاء بهجة الذي ظل ملبّدا بغيوم ال ّ‬
‫شك و اإلبهام‪.‬‬

‫_ اقعد يا حبيبي اقعد !‪ .‬وش راك ؟‪.‬‬

‫ارتمى مسعود علي و هو يعانقني بحرارة‪ .‬بصراحة تفاجأت لطوله الفارع‪ ،‬فقد كان قصير القامة أيام‬
‫اإلعدادية و الثانوية !‪ .‬كنتُ سعيدا برؤيتهم جميعا فمالمحهم العامة لم تتغير كثيرا‪ ،‬بعد سنوات طوال انغمس فيها‬
‫كل منا في مشاكل حياته الدراسية و تأمين حياته المهنية‪ .‬غانو لديه محل خاص لتصليح الهواتف النقالة‪ .‬مسعود‬
‫يشتغل بمكتب خاص بالهندسة المدنية و ناصر فقد كان إذّاك من دون عمل بعد‪ .‬لكنه هو اآلخر عانقني بحرارة‬
‫ناعتا إيّاي بـ" الكلب "‪.‬‬

‫_ قل لي بادئا ببدء‪ .‬هل تغيّر شيء ما في البليدة ؟‪.‬‬

‫قال غانو و هو يُشير إلى النادل بيده من بعيد‪..‬‬

‫_ باختصار‪ :‬تضاعف عدد الحفر في الطرق‪ .‬تضاعفت مشاريع البناء‪ .‬اختناق حركة السير صار عجيبا‪.‬‬
‫إضافة إلى أني الحظتُ ازدياد عدد المجانين ا َّ‬
‫لمشردين في الشوارع‪ ،‬و كدى الالجئين و المتسولين السود‪.‬‬

‫_ أؤكد لك يا حنّوني‪ ،‬قريبا سننظم إليهم‪.‬‬

‫قالها ناصر بنبرة فيها كثير من السخرية و الته ّكم‪ .‬قبل أن يقف النادل أمامنا ألخذ طلباتنا‪ .‬طلبتُ عصير‬
‫ال َجزر الذي طالما أحببته منذ أيام امتحانات آخر السنة الحارة في الجامعة‪ .‬مسعود طلب عصير الليمون‪ ،‬بيما‬
‫فضّل كل من غانو و ناصر شرب الشاي‪.‬‬

‫_ إليك آخر خبر‪ .‬ليلة البارحة تعرض مجمع سكني في حي الوئام إلى السّطو ليال من قبل مجموعة من‬
‫المنحرفين‪ .‬أحد الجيران سمع حركة غير عادية بالمنزل المجاور له و الذي كان أصحابه غائبين عنه‪ .‬اتّصل‬
‫بدائرة الشرطة التي ال تبعد كثيرا عن الحي‪ ،‬لكن لم يظهر أثر لرجال األمن‪ .‬أتصدّق هذا ؟‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫قالها مسعود بنبرة ساخرة‪ ،‬قبل أن يستطرد ناصر و هو يحمل كأس الشاي نحو األعلى معرضا إياه إلى أشعة‬
‫الشمس المسائية الخفيفة و كأنّه يتفقّد خلوه من أي شوائب‪ ،‬غير القطع الصغيرة من ورق النّعناع التي كانت تسبح‬
‫فيه‪...‬‬

‫_ األمر أسوأ من هذا لو تعلمون‪ .‬تحدّثتُ إلى صديق يسكن نفس الحي و تعلمون ما أخبرني ؟‪ .‬قال لي بأن‬
‫الجيران عندما سمعوا تلك الحركة غير العادية‪ ،‬بادروا أوال باالتصال ببعضهم البعض ليتفقوا على ما يمكن فعله‪،‬‬
‫قبل أن يستقروا على رأي واحد و هو االتصال بالشرطة‪ ،‬بما أن مركزها يجاور الحي‪ .‬اتصلوا بهم قبل أن يفاجئهم‬
‫الشرطي على الهاتف و هو يقول بالحرف الواحد‪ " :‬كي تحكموهم أعطوهم طريحة "‪.‬‬

‫نظرتُ إليه قبل أن تغلبني ضحكتي‪ .‬ظننته يُن ّكت !‪.‬‬

‫_ أنتَ تمزح !‪.‬‬

‫_ بل جاد تماما‪.‬‬

‫_ ما الذي حدث بعدها ؟‪.‬‬

‫رفضت الشرطة التّدخل‪ ،‬و عندما سأل أحدهم الشرطي على الهاتف عن السبب أجابه األخير بكل برود‪" :‬‬
‫ْ‬ ‫_‬
‫ما فائدة حضورنا ؟‪ ..‬سنلقي عليهم القبض ليُطلق سراحهم مع حلول شهر رمضان القادم أو مع نهايته ! "‪.‬‬

‫_ يجدر بك أن تكتب شيئا بهذا الخصوص يا فتى !‪.‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬أردت تجاوز الموضوع بسرعة‪ .‬رفعتُ رأسي نحو سماء البليدة الذي كانت بعض السّحب‬
‫المتباعدة تعبرها‪ ،‬كقوارب صيد صغيرة اصطبغت بلون زهري باهت فوق أسراب طيور السنونو المتراقصة في‬
‫الجو‪ .‬أشياء راحت تستدعي أحاسيس و أفكار لها طعم و نكهة فريدة‪ ،‬باتت مخبّأة في مكان بعيد جدا رغم أنه فعال‬
‫موجود‪ .‬جذبني حديث األصدقاء مرة أخرى و عاد بي إلى الحاضر‪ ،‬فاستفقت من تلك الغفوة الحلوة و اندمجت مرة‬
‫أخرى مع الواقع و موضوع حديثهم‪ .‬بدى لي األمر واضحا منذ البداية‪ .‬أسباب هذا اإلحباط الذي وصلت إليه‬
‫أجهزة األمن مقابل انتشار مرض اإلدمان على اإلجرام من طرف فئة مش ّكلة في الغالب من مراهقين ولدوا سنوات‬
‫التسعينات‪ ،‬في أجواء لم يكن فيها وجود فعلي للدولة و ال القانون إال على شاشة التلفزيون الرسمي فقط‪ .‬بدأتُ‬
‫تتحرك داخل رأسي و أنا‬
‫ّ‬ ‫أنجرف نحو التفكير مبتعدا عن األصدقاء فجأة‪ ،‬فقد طفقت األفكار و التحاليل األولية‬
‫أراقب تلك الصبية الصغيرة‪ ،‬التي كانت تركض بخطوات صغيرة مضطربة خلف طيور الحمام وسط الساحة على‬
‫صيحات والدتها التي كانت تطلب منها الحذر‪ .‬و ّ‬
‫كأن ذاك السالم الداخلي الوجيز الذي عشته بين ساحة الحرية و‬
‫ساحة الفاتح نوفمبر قد بدأ يتبدّد كما يتبدّد ضباب الصباح الباكر مع تكدّس خيوط ال ّ‬
‫شمس و مرور الساعات‪ ،‬ليُعلن‬
‫أن وقت السكينة و الراحة قد انتهى و حان وقت الكد و الجد و مجالدة القدر في منازلة جديدة‪ .‬لكن يد غانو التي‬
‫ضربت على كتفي في تلك اللحظة أعادتني إليهم مرة أخرى‪ ،‬كان يبتسم و يغمز‪...‬‬

‫‪74‬‬
‫_ كيف هي أحوال العمل في العاصمة ؟‪ .‬قيل لي أنك قمتَ بتحقيق محرج في ملهى ليلي عاصمي راق‪ ...‬ألن‬
‫تحكي لنا عن الفتيات هناك ؟‪...‬‬

‫_ إليك عني يا هذا !‪ .‬لقد وبخني والدي بسبب ذلك !!‪.‬‬

‫زاد ذلك الرد الضحكات‪ ،‬قبل أن أكمل‪...‬‬

‫_ ‪.....‬ال نهاية للعمل يا أصحابي‪ .‬تتمنى في بعض األيام من أعماق قلبك أن يمنحك هللا القدرة على السفر عبر‬
‫الزمن‪ ،‬لتعود طفال صغيرا غير معني بمشاكل هذه الدّنيا‪ .‬مجرد طفل محصور في عالمه بين المدرسة و الحديقة و‬
‫الحي و البيت و شاشة التلفاز‪.‬‬

‫ضحك الجميع‪ .‬وافقوني الرأي تماما‪ .‬أبدوا عالمات فيها شيء من األسف و الندم على ما ضاع من أيام‬
‫الطفولة و المراهقة و ربما فعلوا ذلك من دون أن يُدركوا في الغالب أنّهم يتحسّرون على ما فات‪ .‬شعرتُ أن كل‬
‫واحد منهم يأسف على شيء أو أشياء كانت أمام عينيه‪ ،‬ربّما بين يديه حتى‪ ،‬لكنه لم يُدرك قيمتها إذّاك‪ .‬قلتُ في‬
‫نفسي هي معضلة جميع الجزائريين على األرجح‪ .‬اليوم نلعن غالء المعيشة بشكل فيه الكثير من المبالغة في‬
‫التشاؤم‪ ،‬بينما البارحة فقط كنا نتمنّى أن يعود األمن !‪.‬‬

‫تحدّثنا بعد ذلك عن أيام الدراسة و ذكرياتها المجنونة التي ارتفعت معها قهقهتنا مع استذكار كل قصة طريفة‬
‫أو مغامرة‪ .‬أحسستُ أن ناصر كان يتع ّمد توجيه الحديث عن تلك الذكريات حتى ال يأخذنا مجرى الذكريات إلى‬
‫مواضيع الحب و مغامراتنا العاطفية أيام المراهقة‪ ،‬لمجرد أنني كنتُ الوحيد بينهم الذي سجّل فشال ذريعا مع الفتاة‬
‫التي أحببت‪ .‬على األرجح أن مسعود و غانو شعرا بنفس األمر‪ ،‬غير أن األخير بدى غير مكترث لسياق الحديث‪،‬‬
‫و كأنه كان يعلم بأن األمر لم يكن ليضيرني في ُمطلق األحوال‪ ،‬فما حدث قد حدث منذ زمن و قد علم بأني أيام‬
‫يكف عن سؤالي تلك األيام‪ " :‬ما الذي يجعل الفتيات الجميالت يحببنك و‬ ‫الجامعة كنتُ َ‬
‫نجم الكثيرات‪ ،‬لذلك كان ال ّ‬
‫ّ‬
‫مستفزا‪ " :‬ربّما ألني ال أجبرهن على حبي أو اشتهائي ! "‪ .‬كان مدركا‬ ‫يشتهينك هكذا ؟ ! " فأردّ ساخرا مته ّكما‬
‫في تلك اللحظات أني قد أنزع إلى السؤال عنها '' هي '' بشكل أو بآخر بما أني سألتُ عن أحوال الكثير من زمالء‬
‫الدراسة السابقين‪ .‬بدى لي الفضول ممزوجا بالشوق و أنا أتحيّن الفرصة للحديث عنها‪ ،‬سوى أني لم أرد أن يكون‬
‫ذلك مباشرا لسبب ما‪.‬‬

‫جاءت الفرصة حينما ركن أحد الشباب سيارته بالقرب من الرصيف على الطريق الفاصل بين المقهى و‬
‫أتعرف عليه‪ ،‬لكن مسعود ردّ عليه بإشارة من يده و هو يدعوه إلى‬
‫ملوحا إلينا‪ .‬لم ّ‬
‫الساحة و هو يُطلق بوق سيارته ّ‬
‫االنضمام إلينا‪ ،‬لكن الشاب أشار بسبّابته نحو ساعة يده‪ .‬التفتَ مسعود إلى ناصر و هو يُخبره بأنه الشخص الذي‬
‫حدّثه عنه و الذي قد يساعده في العثور على وظيفة ما‪ ،‬فاستسمحانا و نهظا من مكانيهما متجهين صوبه‪ .‬صافحاه‬
‫ثم ركب مسعود في المقعد األمامي بينما ركب ناصر في الخلف و طفقوا يتبادلون أطراف الحديث‪.‬‬

‫قارة !‪.‬‬
‫_ أتمنى أن يُساعده في العثور على وظيفة ّ‬

‫‪75‬‬
‫قال غانو و هو يطفئ عقب سيجارته في المنفظة و يُكمل متن ّهدا‪...‬‬

‫ّ‬
‫موظف‪ ،‬ذاك مغترب في أوروبا‪،‬‬ ‫_ هكذا يا صاحبي‪ .‬زمالء الدراسة السابقون كل مضى في سبيل حياته‪ .‬هذا‬
‫اآلخر في السجن‪ ،‬تلك ربّة منزل‪ ،‬األخرى لم يظهر لها أثر‪ ...‬كل يعيش حياته كما قُدّر له أن يعيشها‪.‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬لكني كنتُ أف ّكر من أين أبدأ حتى أني لم أفهم َلم بدى صعبا عل ّ‬
‫ي وصوال إلى تلك اللحظة أن أسأله‬
‫عنها‪ ،‬بكل بساطة و عفوية‪ :‬هل التقيت ببهجة ؟‪ ،‬كيف هي أحوالها ؟‪ ،‬أين هي ؟‪ ،‬ماذا ّ‬
‫حل بها ؟‪ ....‬أشياء بسيطة‬
‫صمت الذي طال بيننا لبعض الدقائق‪ ،‬قبل أن ينطق ُمطلقا بسمة خفيفة و هو‬
‫جدا من هذا القبيل !‪ .‬لكني التزمت ال ّ‬
‫ي‪...‬‬
‫يعبث بعلبة سجائره الموضوعة على الطاولة بأصابع يمناه دون أن ينظر إل ّ‬

‫_ جاءتني ماحي قبل نحو شهر إلى المحل لتصليح هاتفها المحمول‪.‬‬

‫انقبض قلبي ككل مرة أسمع فيها اسمها أو اسم أسرتها‪ .‬كأنه وثب في مكانه لوهلة بفعل صاعقة‪ .‬نظرتُ إليه و‬
‫اللهفة المخنوقة تكاد تقفز إلى خارج فمي‪ ،‬لكني سيطرتُ عليها بصعوبة و أجبرتها على االنسياب بهدوء و‬
‫سالسة‪ ،‬و كأني أفتح حنفية ذات ضغط مائي عال بحذر شديد‪...‬‬

‫_ حقا ؟ !‪ ......‬كيف هي حالها ؟‪.‬‬

‫تدرس اللغة االنجليزية في ثانوية ماحي‪ .‬هِّه أتصدّق ‪ ،‬ماحي‪ ،‬الفتاة المشاكسة كثيرة‬
‫_ بخير‪ ،‬بخير‪ .‬إنها ِّ ّ‬
‫الحركة صارت أستاذة !‪ .‬يا لغرابة هذه الحياة !‪.‬‬

‫ابتسمتُ و أنا أكاد أرى وجهها الطفولي و هي تحاول َ‬


‫لكم الفتيان بمكر و استفزاز في غرفة الصف كي تبرهن‬
‫لهم أنه بإمكانها أن تتعارك كفتى حقيقي لو أرادت ذلك‪ .‬كانت تحوم حولهم و تتحرك كمالكم صغير و هي تثب هنا‬
‫و هناك مخرجة لسانها من فمها كمن يُعبِّّر عن عدوانيته‪ ،‬آخذة وضعية الصد بذراعيها و هي تسأل بتحدّ‪ " :‬هيا‪،‬‬
‫من منكم يجرؤ على منازلتي‪ ،‬سأطيح به أرضا بعد بضع لكمات ! "‪ .‬يومها لم تكن قد بلغت الحادية عشرة من‬
‫مجرد طفلة !‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عمرها‪ .‬كانت‬

‫_ لم تكن مشاكسة‪ ،‬بل حيوية فقط‪.‬‬

‫_ ما الفرق يا هذا ؟‪.‬‬

‫ي ِّ‪ ...‬أال تزال كما هي ؟‪ .‬مظهرها‪ ،‬لباسها‪ ،‬حديثها‪...‬‬


‫_ قل ّ‬

‫_ أه‪ ،‬ليس تماما‪ ،‬بدى لي أنها فقدت شيئا من ألقها السابق‪.‬‬

‫_ كيف ؟‪.‬‬

‫بدت عليها عالمات التّعب‪ .‬ربّما هو تعب التّدريس‪ ...‬أنتَ تعرف حال المعلم و األستاذ في هذه البالد‪.‬‬
‫ْ‬ ‫_‬
‫ْ‬
‫رأت هذا الخاتم في إصبعي فضحكت و سألتني إن كنت عثرتُ على سعيدة‬ ‫تحدّثنا طويال في مواضيع شتى‪ .‬ثم‬

‫‪76‬‬
‫الحظ‪ ،‬فأخبرتها بأن الخاتم هو للخداع فقط ألني غير مرتبط‪ ،‬لكني اغتنمتُ الفرصة ألسألها بدوري عن عالقتها‬
‫بذاك الـذي أخذها منك‪ ،‬ففاجأتني بقولها أنها قطعت اتصاالتها به منذ مدّة طويلة‪ ،‬منذُ سنوات ! هل تصدق هذا ؟‪.‬‬

‫اعتدلتُ في جلستي و كأ ِّّني صبي صغير سمع لتوه خبرا مدهشا‪ .‬و في لحظة ضوئية خاطفة‪ ،‬لم يحضرني‬
‫سوى ذلك الجزء األول من تلك الثانية التي أخبرتني فيها عن وجود اتصاالت جادة مع شخص آخر قبل أعوام‪.‬‬
‫كأنها دقة قلب عنيفة‪ ،‬كأنها شهقة صدر تلقى طعنة مفاجئة‪ .‬التزمتُ الصمت للحظات‪ ،‬ثم تمالكتُ نفسي‪...‬‬

‫ْ‬
‫أذكرت السبب ؟ !!‪.‬‬ ‫_ كيف حصل ذلك ؟‪.‬‬

‫بدت مستاءة جدا‪ ،‬إن لم أقل أنها كانت تشعر بالنّدم‪ .‬لم تذكر السبب بالضبط سوى أنها ل ّمحت إلى وقوع‬
‫_ ْ‬
‫مرة‬
‫سوء تفاهم بينهما أدى بها إلى قطع كل شيء معه‪ .‬بل و أقسمت على عدم ترك أي رجل يوهمها بقصة الزواج ّ‬
‫أخرى‪ .‬ظننتُ أنها تته ّكم أو أنها تقول ذلك فقط بدافع غضب تلك اللحظة‪ ،‬لكن‪ ،‬بصراحة بدى على وجهها أنها‬
‫كانت تعني تماما ما تقول‪ .‬حاولتُ إقناعها بأنه قرار خاطئ خاصة و أنها ل َّمحت كذلك إلى أن الكثيرين ال يزالون‬
‫يطمعون في الظفر بفرصة معها‪ ،‬لكن ها بالمقابل راحت تقص على مسامعي‪ ،‬و لسبب لم أفهمه‪ ،‬قصصا كثيرة‬
‫ّ‬
‫المطلقات ألسباب تافهة‪ .‬يبدو أنها لم تعد تؤمن‬ ‫لصديقات و قريبات عشن تجربة الحب و الزواج هن اآلن في عداد‬
‫بشيء تجاه الرجال !‪.‬‬

‫صدقا‪ ،‬أتعتقد أنها بخير ؟‪.‬‬


‫_ ِّ‬

‫تمدّد على كرسيّه رافعا ذراعيه إلى األعلى و هو يتثاءب‪....‬‬

‫الزمان يُف ّكرن‪.‬‬


‫_ ال تقلق‪ ...‬هي بخير‪ .‬لكن أرى أن ما قالته شيء سخيف جدا‪ .‬أترى كيف صارت فتيات آخر ّ‬
‫مصرة على البقاء هكذا‪ ،‬إلى أن تستفيق ذات صبيحة في فراشها وحيدة و تُدرك أنها فعال‬
‫ّ‬ ‫رأسها صلب و هي فعال‬
‫صارت‪ " ....‬بايرة " !‪.‬‬

‫ساد الصمت بيننا لدقائق‪ .‬كان صوت حياة المدينة ممثَّال في أحاديث الناس و صراخ و ضحكات األطفال و‬
‫ي دائما‪...‬‬
‫زقزقة العصافير و أصوات السيارات تكسّره‪ .‬قبل أن ينطق عبد الغني من دون أن ينظر إل ّ‬

‫_ سألتها عما حدث بينكما ذاك اليوم‪...‬‬

‫نظرتُ إليه دون أن أنبس ببنت شفه‪ ،‬فراح يُكمل‪...‬‬

‫_ لم أشأ إخبارك عبر الهاتف أو الفيسبوك‪ .‬قلتُ في نفسي أنه يستحسن بي اطالعك على األمر عندما نلتقي‪.‬‬

‫بقيتُ مشدوها و أنا أنظر إليه مترقبا‪.....‬‬

‫مشوشة تماما‪ ،‬لم أعرف‬


‫ّ‬ ‫ْ‬
‫صمتت للحظة و هي تطأطئ رأسها ثم قالت لي‪ :‬كنتُ‬ ‫ْ‬
‫فعلت‪.‬‬ ‫ْ‬
‫فعلت ما‬ ‫_ سألتُها‪َ ،‬لم‬
‫ما يجب القيام به بالضبط‪ ،‬كما أني لم أكن أتوقع منه أن يقول لي ما قال !‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫_ كفى !‪ ،‬ال تقل لي أنها نادمة مثال !‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬ليس هذا بالضبط‪ ،‬لكنها على األرجح تأكدّت في النهاية من أن اآلخر لم يكن يستحقّها أكثر منك‪.‬‬

‫هتف قلبي لتلك الجملة األخيرة‪ .‬بل صرخ في أعماقي بكل قوة حتى زلزل كياني‪ .‬شيء يشبه لحظة المجد بعد‬
‫بقوة َّ‬
‫أن كل ذلك لم يكن سوى جرعة زائدة من مخدِّّر الحنين‪ .‬قلت في نفسي بأني‬ ‫هزيمة مشرفة‪ .‬كنتُ أفترض ّ‬
‫بمجرد العودة إلى العاصمة و الغوص من جديد في مطاردتي لسبقي النّهائي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سأجتاز األمر و أعود إلى واقعي‬
‫استقريت في العاصمة أول مرة و ذبتُ في حركيّتها‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى عن كل هذا‪ .‬يجب القول أنّني عندما‬
‫الذي سيُبعدني ّ‬
‫بمرها قبل ُحلوها‪ .‬و َّ‬
‫أن بهجة‪،‬‬ ‫و صخبها و عملها و جنونها‪ ،‬ظننتني قد قلبتُ صفحة حياتي الماضية في البليدة ِّ ّ‬
‫ذكريات اإلكمالية و الثانوية‪ ،‬حبي الجنوني لها‪ ،‬إخفاقي المر معها‪ ،‬كلّها عناصر لم تعد سوى ذكرى رمادية باهتة‪،‬‬
‫كد ّخان انبعث من موقد أطفئ بماء بارد‪ .‬لكن عودتي إلى هذه المدينة و مكوثي بها لسويعات و تأ ّملي لها قد شكل‬
‫لي صفعة بشكل ما‪.‬‬

‫قطعا‪ ،‬بهجة كانت ال تزال تعيش بداخلي‪ ،‬كالضوء الخافت في ليل الجبال ‪ .‬كزخات المطر الضئيلة التي‬
‫تجعل األرض البور تحلم بالخالص من الجفاف‪ .‬لكن زاد اعتقادي ّ‬
‫بأن حبّي لها كان ال يزال واسعا كمحيط هائج و‬
‫مضطرب‪ ،‬في مكان ما بعيد جدا في أعماقي‪ .‬ألقل أن قلبي ظل كتلك السفينة التي ّ‬
‫تمز ْ‬
‫قت أشرعتها و هوت‬
‫ساريتها و هي ماضية في التالطم و الدّوران حول نفسها بين أمواج ذاك المحيط الهائلة و رياحه المتجبّرة القاسية‪،‬‬
‫و هي عاجزة عن استعادة توازنها أو إعادة تحديد وجهتها‪ .‬لذلك رفضتُ التّسليم باألمر تاركا إياه للقادم من األيام‪.‬‬
‫أحسستُ بأن شيئا ما سيبدأ بالتغير و الحصول في األشهر القادمة‪ .‬كان إحساسا مثيرا للغاية‪ .‬هكذا أحسستُ تلك‬
‫األمسية الربيعية الجميلة حين عرفتُ أن بهجة لم تعد مرتبطة بأي وعد مع أي وغد‪ .‬سوى أن خلفية من الحذر و‬
‫ي أن أقول ذلك‬
‫ضرورة التحكم في عواطفي شدّتني كي أتنبّه إلى احتمال كوني أعيش دهشة اللحظة فقط‪ .‬كان عل ّ‬
‫لنفسي و ألتزم به ما استطعت‪ ،‬بل فعال استطعت االلتزام به‪ .‬ببساطة‪ ،‬كان ذاك هو الفرق الجوهري بين شاب‬
‫ضر خطبة أختي التي كانت ستقام في مساء اليوم التالي‪ ،‬ثم‬
‫مراهق و رجل راشد كما كنت أعتقد !‪ .‬كان علي أن أح ُ‬
‫أفر إلى عالمي العاصمي ألغرق في جنونه مجددا بكل ما أستطيع‪ ،‬فلربما أنسى '' حب بهجة ''‪ ......‬و لو قليال‪.‬‬
‫ّ‬

‫نظرتُ إلى أعمدة اإلنارة العمومية و هي تشتعل دقائق قليلة قبل مغيب الشمس و قلتُ في نفسي‪ " :‬على كل‬
‫حال‪ ،‬فأنا أحبُّ هذه المدينة المسالمة التي تسكن روحي ! "‪.‬‬

‫ت الصبي الصغير بداخلي حائرا !‪.‬‬


‫ت مني الكثير‪ ،‬و ترك ِّ‬
‫أعطيتن الكثير و أخذ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫البليدة‪ ،‬أيتها الصغيرة الخالدة‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫‪III‬‬

‫البذرة و ظل الفرعون‬

‫‪79‬‬
‫‪-4-‬‬

‫الموسطاشيا و الموسطاشو فوبيا‬

‫أحاول أال أنسى أن كلمة واحدة في الصميم من صحفي مصمم ذو ضمير مهني سليم في صحيفة مدركة‬
‫لرسالتها قد تحدث فارقا ما‪ ،‬و لو في حياة فرد واحد كل يوم على األقل !‪ .‬ال أرغب في العادة أن أتغافل عن مثل‬
‫هذه التفاصيل الصغيرة التي قد يُلغيها روتين المهنة القاتل و يراها الكثير من ممتهني اإلعالم سخيفة أو غير‬
‫مجدية‪ .‬إنها فعال تُحافظ على القدر األدنى من الدافعية نحو السبق النهائي‪ ،‬إن كان لكل صحفي قضية خاصة قد‬
‫يس ِّّميها سبقا نهائيا أو قد يسميها شيئا آخر‪ .‬و الحقيقة هي أني كنت‪ ،‬و بعد عودتي من البليدة‪ ،‬قد ابتكرت في كتاباتي‬
‫الصحفية مصطلح '' الموسطاشيا ''‪ .‬لنقل أنه الكلمة التي أعبر بها عن المرض الحقيقي الذي تشكو منه الطبقة‬
‫الحاكمة في البلد تماما كما يشكو منه المجتمع أيضا‪ .‬الموسطاشيا ببساطة هي ذاك الشذوذ الفكري و السلوكي‬
‫الحتمي الذي أصاب اإلنسان الجزائري‪ ،‬بسبب تكدُّس التفسيرات الزائغة تدريجيا مع َّ‬
‫الزمن لمفاهيم الذكورة و‬
‫األبوة و عنصر السُّلطة‪ .‬هناك تعبير شعبي آخر قديم نسبيا يعبر عن نفس المرض‪ :‬عمر ڨاتالتو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرجولة و‬

‫بعد نهاية يوم عمل مضن في النبأ اليومي‪ ،‬غادرتُ دار الصحافة الطاهر جاووت عائدا إلى البيت‪ .‬كنتُ أقود‬
‫مارا بالقرب من مبنى دار الشعب الذي ُح ّول في الحقيقة إلى عش من أعشاش الموسطاشيا المستشرية في‬
‫سيارتي ّ‬
‫البلد‪ .‬كنتُ أراقب ذلك العدد الهائل من سيارات الشرطة الحاملة لعناصر مكافحة الشغب و قد مألت شارع عيسات‬
‫إيدير صخبا بصفّاراتها و أضوائها الزرقاء و البرتقالية‪ .‬افترضتُ أنها كانت في طريقها لفض اعتصام أو مظاهرة‬
‫أخرى مناهضة للعهدة الرابعة و أنا أزحزح سيارتي المبعوجة جهة الرصيف األيمن كغيري من السواق حتى يمر‬

‫‪80‬‬
‫ذلك الرتل وسط الطريق‪ ،‬رغم أن صوتا صغيرا داخل رأسي أوحى لي بفعل العكس تماما‪ ،‬فكل دقيقة يتم فيها‬
‫تعطيل هؤالء المأمورين عن الوصول إلى المكان الذي تقام فيه الوقفة المنددة بطغيان موسطاشيا التع ّنت و الفساد‬
‫و الجهوية‪ ،‬هي فرصة و دقيقة إضافية تُقال فيها كلمة حق و يتنفس فيها التعبير الحر و لو للحظات‪.‬‬

‫يُقال بأن حالة الطوارئ التي عشنا في كنفها لعقدين من الزمن قد ُرفعت منذ إقرار إصالحات ‪ ،4100‬لكن‬
‫يبدو أن سلوكياتنا اليومية ال تزال بشكل ما تسير على ريتم حالة الطوارئ بعد ؟‪ .‬على األقل فإن المتاريس‬
‫الحديدية و الحواجز األمنية و حالة الترقب و االحتقان االنفعالي التي تُذ ِّ ّكر بصور سنوات التسعينات‪ .....‬ال بل‬
‫بصور حرب االستقالل ربما‪ ،‬ال تزال تراوح مكانها و كأن بهذا البلد قد استأنس بهذا الوضع منذ خمسينات القرن‬
‫الماضي !‪ .‬عسكر فرنسا وضع المتاريس المعدنية‪ .‬ذهب عسكر فرنسا و حل مكانه عسكر الجزائر‪ ،‬و بقيت نفس‬
‫المتاريس تراوح مكانها‪.‬‬

‫حاولتُ مرارا االتصال بصوفيا ألتأكد من أنها ستأتي لتناول العشاء معي في الشقة كما اقترحت علي تلك‬
‫الصبيحة‪ ،‬لكن من دون فائدة‪ ،‬فهاتفها الجوال ظل خارج التغطية على غير العادة‪ .‬زميلة لنا تشتغل معها في القسم‬
‫أخبرتني نهاية العمل أنها بدت شاحبة الوجه و شاردة الذهن طيلة اليوم‪ ،‬و أنها غادرت المقر باكرا‪ .‬قلتُ أني كنت‬
‫على حق عندما افترضت أنها لم تنم جيدا عندما رأيتُ مالمح وجهها في الصباح‪ .‬ليس باألمر الباعث على القلق‪،‬‬
‫فنحن شعب يعاني نوبات منتظمة من األرق و قد صارت فينا أمرا طبيعيا تماما‪.‬‬

‫ف ّكرتُ في شراء بعض الحاجيات لتحضير العشاء‪ ،‬فمررتُ على سوق الداللة بباب الوادي‪ .‬اقتنيت بعض‬
‫البطاطس‪ ،‬الطماطم‪ ،‬الخيار و الخص‪ .‬أعجبتني الفراولة المعروضة للبعيد‪ .‬راح صاحبها يؤ ّكد لي أن منتوج هذا‬
‫العام وافر و جيد جدا‪ ،‬و أنه قد اقتنى السلعة بنفسه من سكيكدة‪ .‬لم أستطع المقاومة فاقتنيت علبتين أردتُ‬
‫تحضيرهما كتحلية ما بعد العشاء‪ .‬دخلتُ عند الجزار لشراء بعض شرائح اللحم ثم انطلقت مرة أخرى عائدا إلى‬
‫شقتي الصغيرة الهادئة في حي باب الوادي الصاخب دون أن أنسى شراء الخبز‪.‬‬

‫كنتُ ال أزال أحاول االتصال بصوفي لكن دون فائدة‪ ،‬على األقل ألعرف إن كانت تفكر في مساعدتي على‬
‫تحضير العشاء أم أني سأجد نفسي مجبرا على تضيره وحدي‪ ،‬خاصة و أني ألغيت موعدا مع بعض األصدقاء في‬
‫إحدى كافيتيريات عين البنيان لتمضية بعض الوقت و الترويح عن النفس برفقتهم‪.‬‬

‫وصلتُ إلى البيت‪ .‬وضعت المقتنيات في المطبخ‪ ،‬الخضار فوق الطاولة و شرائح اللحم في الثالجة‪ .‬تف ّقدتُ‬
‫المجيب اآللي للهاتف‪ .‬ال رسائل فالكل يتصل بي على هاتفي الخلوي‪ .‬وقفتُ من دون سبب واضح في الرواق و قد‬
‫شرد ذهني لثوان معدودة‪ ،‬ال أذكر ما جاء على خاطري‪ .‬ثم ولجت غرفة المعيشة الصغيرة و فتحت نافذة و‬
‫مصراعي الشرفة على ضجيج أطفال الحي و أبواق السيارات و نسمة المساء الربيعية الممزوجة برائحة البحر‪.‬‬
‫انتابتني رغبة في الخروج و التوجه إلى مكاني المعتاد في الحي و هو ما كان‪ .‬خرجت مسرعا و أنا أحيي جارتي‬
‫الخالة ميمونة التي كانت صاعدة لتوها مع بناتها بشكل سريع و خاطف متظاهرا بأني على عجلة من أمري و‬
‫بعبارات خاطفة سريعة كسرعة خطواتي القافزة على الدرج " وش خالتي ميمونة‪،‬الباس ؟‪ ،‬بخير ؟‪ ،‬لبنات راكم‬

‫‪81‬‬
‫بخير ؟‪.....‬الحمد هلل "‪ .‬كان يجب فعل ذلك حتى أتفادى ثرثرتها بخصوص بقية الجيران الذين تعيش معهم صراعا‬
‫يوميا بسبب‪ .........‬ال أعلم حتى بسبب ماذا‪ .‬رغم أني أعرف أن ابنها األكبر يدين بالمال لبعض تجار الحي الذين‬
‫ال يطيقون طريقة هذه العائلة في التهرب من دفع ما عليها من ديون بالرغم من حالتهم المادية الميسورة نسبيا‪.‬‬
‫دون الحديث عن المشاكل و الشجارات التي يتسبب فيها ابنها األصغر‪ ،‬منصور‪ ،‬مدمن الكيف و المسبوق قضائيا‬
‫في قضايا المخدرات و العنف‪ .‬شاب ثالثيني فقد ساقه حين كان جنديا في الجيش بسبب رصاصة رشاش ثقيل‬
‫اخترقت صدر الجندي الذي كان يسير قبله لتخترق ركبته اليمنى مفجرة إياها كليّة و تستقر خلفه في األرض‪ .‬كلما‬
‫نظرتُ إلى ذلك الشاب البطال‪ ،‬إال و أتذكر حكايات أخي بشير عن هؤالء الغالبى التي طالما قصها علي في‬
‫الماضي‪.‬‬

‫خالتي ميمونة‪ ،‬التي ال تقرأ و ال تكتب‪ ،‬ضلت تنتقدني بلطف عن طريق بسمبتها و لكنة صوتها التي تحمل‬
‫نوعا من اللوم اللطيف‪ ،‬و هي تعرب عن أسفها في غالب األحيان عما يقولون لها أني أكتبه عن الحكومة‪ " ....‬و‬
‫هللا يا وليدي ما حق عليك تضحك على الرايس تاعنا و الوزراء تاعه‪ ،‬هو مسكين جابلنا ال ُمصالحة و يضل يخدم‬
‫من نيته و انتم تسبو فيه و في الحكومة ؟ ! "‪ ،‬أو كما تقول في العادة‪ .‬ال أذكر أني كتبتُ عن شخص الرئيس أو‬
‫شخص أي وزير أي شيء من قبل ؟‪ .‬و بالكاد أعرف هذه المرأة و أسرتها حتى !‪.‬‬

‫استقريت به‪ .‬ال أعرف معظم سكانه أو مشاكله و‬


‫ّ‬ ‫غريب عدم معرفتي الكثير م َّما يحدث في هذا الحي الذي‬
‫صراعاته أو حتى تفاصيله الحياتية الصغيرة‪ ،‬بل ال أعرف معظم سكان هذه العمارة الكولونيالية التي أعيش فيها‪،‬‬
‫سوى جارتي المقابلة الخالة ميمونة و صاحبة الشقة التي أقطنها‪ ،‬العجوز المغتربة في فرنسا‪ ،‬رغم أني ّ‬
‫مطلع على‬
‫كبرى مشاكل هذا البلد و أسراره الثقيلة بحكم وظيفتي ؟‪ .‬مفارقة أخرى يعيشها الكثير من الصحفيين ربَّما !‪.‬‬

‫حاولتُ االتصال بصوفي للمرة الثالثين‪ ....‬ال فائدة‪ "...‬إن الرقم الذي طلبتموه قد يكون معطال أو خارج مجال‬
‫ُكرر‪.‬‬
‫التغطية‪ ،‬يرجى إعادة االتصال بعد حين "‪ ..‬ظل ذلك الصوت النسوي ي ِّ ّ‬

‫_ ال بأس إذن‪ ،‬يبدو أني مجبر على تحضير العشاء بمفردي كي تأتي اللّه لالستمتاع به على راحتها‪ .‬أو ربما‬
‫يجدر بي دعوة زميل آخر ؟‪.‬‬

‫قلتُ لنفسي متهكما و أنا أقف عند الواجهة البحرية لشاطئ الرميلة ال َّ‬
‫صغير‪ ،‬الذي أحببت دوما الجلوس فيه‬
‫لقراءة كتاب ما أو السير على طوله لالستماع إلى الموسيقى أو التأ ُّمل مع نهاية كل يوم عمل‪ ،‬بحثا عن نوع من‬
‫االسترخاء و نسيان هموم المهنة و ضغط األيام‪ .‬كان ذلك منذ األيام األولى التي سكنتُ فيها هذه المدينة البيضاء‬
‫التي أتيتها أول مرة كالجئ هارب من سلطة أبوية خانقة و حب منكوب و أهداف مبعثرة‪ .‬إنه الشاطئ الصغير‬
‫الذي يشبه األحالم الصغيرة للكثير من العاصميين البسطاء من سكان باب الوادي‪ .‬بالنسبة لي لم يكن األمر باعثا‬
‫فعال على الراحة في كل وقت‪ ،‬خاصة في أيامي األولى في هذا الحي الذي يحبه جميع الجزائريين لما يُمثله لهم من‬
‫ذاكرة‪ .‬ذاكرة انفعاالتنا الجماعية مرتبطة به كثيرا‪ ،‬منذ أيام علي البوانت و عمر الصغير و المظليين الفرنسيين‬

‫‪82‬‬
‫سنوات الخمسينات مرورا بأيام القلق و الترقب و الخوف و المظاهرات أيام الفيس و القنابل و االغتياالت و حظر‬
‫التجوال أواسط التسعينات وصوال إلى كارثة الفيضانات التي اجتاحته خريف ‪.4110‬‬

‫ُ‬
‫تنبعث من زوايا صغيرة‬ ‫كنتُ تلك األيام األولى من استقراري في باب الوادي أشعر بغربة مخيفة‪ ،‬كانت‬
‫أقرر فيها االبتعاد عن أبوي و االستقالل بحياتي‪ ،‬رغم أن ذلك لم‬
‫تمألها الظالل في عمق ذاكرتي‪ .‬كانت أول مرة ِّ ّ‬
‫يكن سهال أمام كل مناورتهما إلبقائي تحت سقف بيت العائلة‪ .‬و قد فهمت‪ ،‬فهمت بعد صراع مرير مع خوفي أني‬
‫بقدر ما كنتُ أرغب في االستقالل بحياتي و إثبات أني أستطيع االعتماد على نفسي‪ ،‬بقدر ما كنتُ أرغب في‬
‫مبرر و لو كان تافها ليقنعني بالبقاء في البيت‪،‬‬
‫االنصياع لذلك الصوت النمطي الداخلي الذي كان يبحث عن أي ِّ ّ‬
‫تحت سقف الحاج حسن‪.‬‬

‫قررت الرحيل و االنفصال رمزيا عن أسرت ي كي أنتفي في هوس أفكاري و خوفي الذي يبدو أنه قادني‬
‫لكنني ّ‬
‫إلى رؤية أمور أخرى أكبر بكثير من مجرد قضايا حياتي الخاصة‪ .‬أمور أوصلتني إلى فتح الباب على تحدي‬
‫السبق النهائي بعدما نجحت في إعادة ترتيب أولويات حياتي‪ ،‬بمجرد أن أنهيتُ دراساتي الجامعية و ولجت عالم‬
‫قررت االنفصال عن البليدة و تأسيس حياة مستقلة بمساعدة قاسية من بهجة‪ ،‬الفتاة‬
‫مهنة المتاعب التي ال تنتهي‪َّ .‬‬
‫الجميلة المرحة التي جعلتني أرى لون الفجيعة بعد لون الهيام و أشت ّم رائحة حريق الخيبة بعدما كان حريق الغرام‬
‫و أسمع دقّات اإلخفاق بعدما كانت دقات الجنون‪ ،‬يوم الت َّفت روحي بذلك الوشاح ذو اللون الرمادي و هو يُغلّف‬
‫قلبي الذي ظل معلقا بتلك الفتاة العجيبة‪ .‬هل أكذب على نفسي لو قلت أنها ظلت تعيش في أعماقي بين الهيجان و‬
‫الهدوء‪ ،‬بين الصياح و الهمهمة‪ ،‬طيلة خمسة عشر عاما وصوال إلى تلك اللحظة التي أخبرني فيها غانو بأنها‬
‫قطعت اتصاالتها '' الجادة '' بذلك الشخص منذ سنوات كثيرة ؟‪ .‬ليدخل بعدها قلبي مرحلة توقَّف فيها زمنه بين‬
‫بقوة‪.‬‬
‫تسرب من تحت أبواب الماضي الموصدة ّ‬
‫األمل الجديد و الخوف ال ُم ِّ ّ‬

‫غريب أمر تلك األنثى‪ .‬ضلت ذكراها تبع ُ‬


‫ث مخاوفي و تعبث بتوازن قلبي كرقصة خفية و خطيرة‪ .‬كطيف‬
‫أحس في كل مرة بثقل و حرارة خطواته الراقصة الصامتة‬‫ُّ‬ ‫عجزتُ عن رؤيته كلما رغبتُ في ذلك‪ ،‬لكني كنتُ‬
‫على صدري الغارق في عتمة اليأس البارد‪ ،‬الذي حملته لي ال مباالتها التي نمت بصمت عبر السنين‪ ،‬كلما ّ‬
‫علق‬
‫قلبي بخطاطيف الحيرة فوق لهيب كل ما حدث و لم يحدث بيننا‪ .‬كل ما كان يجب أن يحدث بيننا !‪.‬‬

‫تن ّهدت في مكاني مستمرا في اإلنصات إلى صوت األمواج و في التفكير و التأمل‪ .‬ر ّجحتُ أنها قطعت‬
‫عالقتها بذاك الشخص تزامنا مع تلك الفترة التي كنتُ أقوم فيها بحزم أمتعتي و أنا في غمرة الضياع التام للهروب‬
‫من مدينة الورود‪ ،‬التي أدمت أشواكها روحي و جعلتني أخشى االقتراب منها بقدر حبي و اشتياقي لها‪.‬‬

‫رميتُ ببصري نحو األمواج الخفيفة التي كانت تنزلق بلطف على الشاطئ في مدها و جزرها بصوت‬
‫انكسارها الناعم الذي يبعث السالم و السكينة على النفوس‪ .‬كنتُ أتذكر أيامي األولى في هذا الحي‪ .‬ذلك اإلحساس‬
‫الغريب كوني وجدت نفسي بعيدا جدا عن األشياء و األماكن التي طالما أحببتها و أحسستُ باألمان و أنا قريب‬
‫منها رغم كل تناقضاتها‪ .‬األشياء النمطية التي تَشكل منها عالمي ال ُمصغّر منذ الصبى و التي جعلت العالم أمامي‬

‫‪83‬‬
‫يبدو مليئا باألجوبة الجاهزة و المريحة‪ ،‬رغم غيابها في اللحظة و حضورها في التخمين‪ .‬تلك األيام األولى حين‬
‫كنتُ أشعر بالوحدة كوني بعيد جدا عن البيت الذي ترعرعت فيه و عن الحي الذي ألفت طرقاته و وجوه سكانه‪،‬‬
‫عن الفتاة التي شكلت لوحدها حياة أخرى‪ .‬عالم من األحالم التي كان الصبي الصغير بداخلي يعيش على إيقاع‬
‫أملها و قوتها و يتغذى من جمال وجهها و إشراقة بسمتها المدهشة لسنوات و لو عن بعد و بترقب نابض بالحياة و‬
‫الصبر‪ .‬قلق كان يدفع بي في بعض اللحظات إلى التفكير جديا بأني قد أندم على قراري بالرحيل‪ ،‬و أطرح على‬
‫نفسي أسئلة محرجة حول إن كان ذاك القرار المصيري لم يكن سوى ردة فعل على غضب و حزن عابرين ؟‪.‬‬

‫صعدتُ إلى الواجهة االسمنتية و جلست على أحد الكراسي العمومية ّ‬


‫أتفرج على أالئك الصبية الصغار و هم‬
‫يتقاذفون بينهم تلك الكرة‪ ،‬التي انمحت مالمحها و ألوانها بغبار األرصفة و خدوش اإلزفلت‪ ،‬لكنها بقيت منتفخة و‬
‫صالحة للعب و القذف‪ .‬ربما كان حبي لبهجة يواجه نفس المصير بين أقدام الزمن و القدر و الحياة ؟‪ .‬رحتُ أحك‬
‫قفاي و أنا أفكر‪ "....‬ما الذي حدث حتى تقطع عالقتها بذاك الشخص يا ترى ؟‪ .‬كيف حصل ذلك ؟‪ .‬متى حصل ؟‪.‬‬
‫أين ؟‪ .‬لماذا ؟‪ .‬لو لم أرحل عن البليدة لربما أمكنني أن أسمع خبر فشل مشروعهما العاطفي في وقت قصير‪ .‬لربما‬
‫التقيت بها تلك األيام ؟‪ .‬ربما كنتُ ألرى شيئا ما في عينيها يقول لي بأنها قد غيّرت رأيها بخصوصي‪ .‬أيُعقل أن‬
‫أكون أنا السَّبب ؟ "‪.‬‬

‫رفعتُ بصري إلى السماء و أنا أحس برغبة حارقة في تصديق ذلك‪ ،‬قابلها جدار ثخين من الخوف و الحذر‪:‬‬
‫حت بذلك يوم زارت غانو في محلّه‪ .‬لم تترك شيئا خلفها‬
‫رت رأيها بخصوصي لل َّم ْ‬
‫" ال ال ال !‪ ..‬هذا غباء !‪ .‬لو غيَّ ْ‬
‫بعدما صلّحت هاتفها النقال‪ .‬ال رقم هاتف‪ .‬ال عنوان بريد الكتروني‪ .‬ال اسم حساب فيسبوك‪ ،‬ال شيء ‪ .‬لم تسأله‬
‫يخبرن ؟‬
‫ِّ‬ ‫حتى عني‪ ،‬أين أنا‪ ،‬ماذا أفعل‪ ،‬كيف هي حالي‪ ،‬هل أنا مرتبط أم ال‪ ..‬ال شيء !‪ .‬أم تراها قد فعلت لكنّه لم‬
‫‪ ....‬ال‪ ....‬مستحيل‪."....‬‬

‫تأففتُ متنهدا‪ .‬أخرجت هاتفي المحمول من جيبي بعدما بدأ شيء ما يضيق بداخلي و يمنحني إحساسا غير‬
‫ُمريح‪ .‬حاولتُ االتصال بصوفي لكن دون فائدة‪ .‬كنت أكاد أسأل نفسي عما دهاني‪ .‬كان يبدو لي جليا أني ّ‬
‫بت أنزلق‬
‫بهدوء و سالسة خادعة للتفكير في بهجة كثيرا مذ أن عدتُ من البليدة‪ ،‬و في لحظة من التذ ّمر الصامت تساءلت َلم‬
‫ذهبتُ أصال إلى تلك المدينة‪ .‬ربما كان علي اختالق أي عذر لعدم حضور خطبة عيشة بما أن لها أخوين آخرين‬
‫حضرا من أجلها و لتركتُ األمر إلى يوم زفافها‪ .‬يوم ال يكون لي مهرب من حضور ذاك النوع من المناسبات‬
‫الذي أكرهه أصال‪.‬‬

‫ُّ‬
‫التفت إلى ذلك الصف من سيارات الشرطة التي كانت تحمل قوات مكافحة الشغب الذي كسر‬ ‫تأففت‪ .‬تنهدت‪.‬‬
‫يمر هازا المكان بصفاراته و أبواقه و أضوائه‪ .‬ركض‬
‫ريتم شارع عبد الرحمان ميرة المسائي المسالم و هو ّ‬
‫الصبية الصغار إلى حافة الرصيف لمراقبة أصحاب الخوذات الزرقاء و هم يحملون عالمات اإلثارة و الفضول أو‬
‫حتى اإلعجاب في وجوههم‪ ،‬تماما كما كنا نركض أواسط التسعينات إلى حواف األرصفة لرؤية قوات األمن أو‬
‫الجيش بفضول و إعجاب نحو بدالتها و سياراتها المصفحة و أسلحتها المخيفة‪ ،‬حيث كان الكثير منا يرغب في أن‬

‫‪84‬‬
‫يصير شرطيا أو دركيا أو رجل صاعقة أو نينجا عندما يكبر‪ ،‬حتى يحمل سالحا و شارة‪ ،‬فيخشاه الجميع عندما‬
‫يمشي في الطريق أو في الحي‪.‬‬

‫أردتُ فقط أن أبعد فكري عن بهجة و حنينها الذي بدى أنه سيبدأ في التصاعد وسط ذلك الجو المسائي الجميل‬
‫بألوانه الرومانسية الدافئة‪ ،‬و قد اغتنمتُ فرصة تكسّر خيط األفكار ذاك بصفارات سيارات و شاحنات وحدات‬
‫مكافحة الشغب‪ ،‬ألعيد نفسي إلى واقعي الذي أحياه و إلى هوسي المهني و بحثي الدائم و قلقي المزمن تجاه مشاكل‬
‫البلد‪ .‬أحسستُ بقوة تريد تثبيتي في مكاني ألبقى في ذلك المستوى من التفكير و الشعور‪ .‬مستوى جنون المهنة و‬
‫قلقها الدائم حتى خارج أوقات العمل عندما أجد نفسي وحيدا‪ .‬نظرتُ إلى أالئك الصبية الصغار الذي راحوا‬
‫يصفقون و يقفزون محيين رجال الخوذات و يهتفون للعهدة الرابعة و صاحبها‪ .‬فكنتُ أتساءل في نفسي‪ " ....‬يا‬
‫ترى‪ ،‬هل سيربّون شواربهم عند البلوغ ؟‪ ،‬أم أن الموسطاشيا ستتمكن من عقولهم فقط ؟ "‪ ....‬ثم انجرفت تلقائيا‬
‫إلى التفكير في األمر‪ ،‬مبعدا ذهني عن بهجة هاربا بقلبي من ذكراها‪.‬‬

‫األمر ليس بغريب‪ .‬غالبية أجدادنا و آبائنا من أصحاب الشوارب‪ .‬منذُ عهد الدايات و البايات األتراك على‬
‫األقل‪ .‬في البورتريه الذي غيّب التاريخ اسم راسمه‪ ،‬و الذي ي ّ‬
‫ُخلد وجوه مجموعة الـ ‪ 22‬التاريخية التي اتخذت‬
‫قرار اللجوء إلى العنف الثوري لتحرير البالد من االحتالل الفرنسي‪ ،‬يُمكن إحصاء أربعة عشر عنصرا من ذوي‬
‫سسة لجبهة التحرير‬
‫الشوارب‪ ،‬أي أن أكثر من نصف أعضاء المجموعة كانوا َمساطيش‪ .‬مجموعة الستة المؤ ِّ ّ‬
‫الوطني التاريخية‪ ،‬في صورتها الجميلة الخالدة باألبيض و األسود عام ‪ ،0222‬ظهر فيها جميع أعضائها‬
‫بالشنبات‪ .‬يُمكن التأ ُّكد من أن خمسة رؤساء من أصل السَّبعة الذين تولّوا رئاسة البالد منذ استقاللها عام ‪ 0214‬إلى‬
‫غاية ‪ ،4102‬كانوا '' موسطي َّشات '' حين تقلّدهم الحكم‪ ،‬و َّ‬
‫أن أحد عشر من أصل ستة عشر رئيس حكومة أو وزير‬
‫أول – دون احتساب بن بلة و بومدين – الذين تداولوا على رئاسة الحكومة الجزائرية منذ تأسيسها في ‪ 0227‬إلى‬
‫غاية أيامنا هذه كانوا موسطيشات أيضا‪.‬‬

‫سبعة من أصل أربعة عشر أقوى رجل في مؤسستي الجيش و المخابرات‪ ،‬التي حكمت البالد بقبضة حديدية‬
‫رهيبة من خلف الستار خالل الثمانينات و التسعينات كانوا من ذوي ال َّ‬
‫شنبات كذلك‪.‬‬

‫مئات الوزراء السابقين و الحاليين‪ .‬آالف المسئولين‪ .‬مئات اآلالف من األفراد‪ .‬و حتى شخصية طرطور في‬
‫كتاب القراءة للمدرسة االبتدائية سنوات الثمانينات و التسعينات كانت لها شوارب !!‪.‬‬

‫ببساطة ألم أكن محقا حين ابتكرتُ مفهوم '' الموسطاشيا '' هذا ؟‪ .‬ما الذي كان يُفكر فيه أالئك الصبية الصغار‬
‫الواقفون هناك عند حافة الطريق يهتفون بحياة الرئيس بوتفليقة ال ُمنتهية عهدته الرئاسية الثالثة‪ ،‬عندما يقفون إلى‬
‫جانب آبائهم في الحمام و هم يحلقون ذقونهم من دون شواربهم يا ترى ؟‪ .‬أال يتساءلون مثال‪َ " :‬لم يترك أبي شنبه‬
‫ينمو و ال يحلقه ؟ "‪ .‬لطالما راودني هذا السؤال و أنا أطل برأسي على أبي و هو يحلق ذقنه‪ ،‬لكني لم أسأله يوما‬
‫عن معنى تربيته لشاربه‪ ،‬رغم أني اكتشفتُ الحقا أنه كان يقتدي بالعالمة دمحم بن أبـــي شنب‪ ،‬لكن أكان ذالك كافيا‬

‫‪85‬‬
‫لفهم عقليته التي كانت موغلة في التسلط المتّكيء على مثالية عمياء ال ترة النقص إلى في اآلخرين‪ .‬هل كان بن‬
‫أبي شنب بمثل قسوته و بروده يا ترى ؟‪.‬‬

‫أصبتُ بشيء أو اضطراب س ّموه رهاب الشوارب " ‪La‬‬


‫البعض راح يميل في تعليقاته إلى اتهامي بأني ِّ‬
‫‪ " mostachophobie‬؟‪ .‬قول مبالغ فيه بعض الشيء‪ ،‬فأنا أميل فقط إلى قول ما يُخيفني في هذا المجتمع‪ .‬عدم‬
‫تطور‬
‫استمرت األمور على ما هي عليه‪ .‬ثم إن مفهوم الموسطاشيا الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫اكتراثه الفعلي تجاه ما هو ذاهب نحوه إن‬
‫مع األيام من خالل كتاباتي و مناقشاتي و تفاعلي عبر شبكة التواصل االجتماعي‪ ،‬صار فعال يتخذ شكال أكثر‬
‫ّ‬
‫يتفطنون إلى كونهم يعيشون نفس القلق الدفين الذي أعيشه‪ ،‬و يصلون إلى نفس التصور‬ ‫وضوحا‪ ،‬جعل الكثيرين‬
‫مجرد رمز لوضع‬
‫ّ‬ ‫تقريبا‪ ،‬و هو َّ‬
‫أن هذا البلد فعال يعاني " مرض الشالغم " بعدما كان الشلغوم في السابق‬
‫تشوهه فعال موجود‬
‫تحوره و ّ‬
‫اجتماعي و انتماء ثقافي و إعالن قيمي و تعبير شخصي‪ .‬تأثير الموسطاش بدرجة ّ‬
‫بقوة في الوعي الج معي الجزائري‪ ،‬في نفسية اإلنسان الجزائري‪ ،‬في عقليته‪ ،‬في سلوكه‪ ،‬إلى درجة أن أحد‬
‫شات السيستم قال " خشبيا " أيام حملة الرئاسيات التي كانت قد شارفت على االنتهاء‪ ،‬أن الرئيس المتر ّ‬
‫شح‬ ‫موسطي َّ‬
‫للعدة الرابعة " رجّع للجزاير شالغمها " بعد زيارة كاتب الدولة األمريكي للخارجية جون كيري للبلد‪ ،‬الذي لم‬
‫َّ‬
‫ليطمئن على وضع مصالح بلده و يتدارس بنود صفقة سكوت واشنطون عن المهزلة االنتخابية‬ ‫ت في الحقيقة إال‬
‫يأ ِّ‬
‫المرتقبة مع منظري '' خيار االستقرار ''‪ .‬ال يمكن لذاك التصريح و على ذلك المستوى أن يكون نابعا من مجرد‬
‫فكرة عابرة مع الصدفة أو متماهيا فقط مع خطاب الشارع !‪ .‬سطوة الشلغوم فعال موجودة في حياتنا‪ ،‬فكريا‪،‬‬
‫نفسيا‪ ،‬اجتماعيا‪ ،‬ثقافيا و حتى سياسيا‪ .‬مستحيل !‪ ،‬ال يُمكن أن أكون مصابا بالموسطاشوفوبيا‪ ،‬ربما أكون مهوسا‬
‫ذرات األكسجين الذي نتنفّسه‪ .‬ليس أقل داللة عليه ما كان قد‬
‫بعض الشيء بموضوعها‪ ،‬فواقع الشالغم يكاد يخترق ّ‬
‫يعريهم أمام ذواتهم و يكشف أمامهم عيوبها‪ ،‬عندما لم‬
‫دعى إليه الكثير من األشخاص الذين بدأ عمود موسطاشيات ّ‬
‫ّ‬
‫تحث الشباب الجزائري‬ ‫يتقبلوا تلك المالحظات و التحليالت‪ ،‬فقرروا الرد على طريقتهم بتأسيس صفحة فيسبوكية‬
‫صحفي المخصي " الذي يودُّ محاربة رمز الفحولة و الشهامة الذي‬
‫على تربية الشالغم‪ ،‬ردا على من وصفوه بـ" ال ّ‬
‫ميّز الرجل الجزائري لقرون‪ ....‬و هو الشالغم‪ .‬رد فعل غوغائي– موسطاشي صارخ !‪.‬‬

‫ضحكتُ كثيرا من رد الفعل ذاك‪ ،‬بدى األمر مثيرا لي‪ ،‬كيف أن الموسطاشيا صارت شكال من أشكال‬
‫الكائنات االجتماعية الحيّة و ربما الواعية بذاتها دون وعي المجتمع بها حقيقةً‪ .‬كائن يتحرك تلقائيا في أعماق‬
‫النفوس التي يُع ّ‬
‫شِّش فيها ليدافع عن نفسه‪ ،‬بمجرد أن يشعر بأن هنالك من يُهدد بكشف كيانه في العقول‪ .‬من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬فردّة الفعل تلك من أالئك الضَّحايا المساكين بينت جليا كيف هي نظرة الكثير من األفراد تجاه مسائل ذات‬
‫مجردة‪ ،‬فهي ال تتعدى بعدها البصري مؤكدة مرة أخرى على أن المجتمع الذي أعيش فيه ال يزال‬
‫َّ‬ ‫أبعاد فكرية‬
‫سلم النمو الذي وضعه جان بياجي للطفل‪ .‬هذا ما كتبتُ في عمودي ساخرا منهم‬
‫مثبّتا في مرحلة " الشيئية " حسب ُ‬
‫مبيِّّنا كيف أنهم حصروا الموضوع كله في مجرد كتلة شعر تنمو بين األنف و الشفة العليا‪ ،‬رغم أني عملتُ جاهدا‬
‫ليفهم القراء أن تلك الكتلة الشعرية لم تكن سوى حبة الكرز التي ت ُ ّ‬
‫توج اليوم قمة الكعكة و أن الكعكة لطالما كانت‬
‫بالنسبة إلى هذا اإلشكال الجزء الحقيقي المثير لالهتمام‪ ....‬إن رأوا أن األمر جميل و مس ٍّل و شهي من الناحية‬
‫الفكرية‪ .‬البعض طبعا‪ ،‬شعر بالتقزز بمجرد مزج كلمة ال َّ‬
‫شعر بكلمة الكعك !‪ .‬فعال‪ ...‬الكلمات مخلوقات حية !‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ُّ‬
‫التفت على يساري محاوال‬ ‫رفعتُ بصري ُمطلقا زفرة سريعة حين بدأتُ أستشعر ذلك الضيق في صدري‪.‬‬
‫تمتيع بصري بتلك اإلشعاعات المسائية الجميلة ذات األلوان الدافئة المتداخلة لشمس الغروب‪ ،‬التي اختفت خلف‬
‫التلة المعانقة للبحر التي تنتصب فوقها كاتدرائية السيدة اإلفريقية بغموضها و كبريائها الغريب‪ .‬يا اله !‪ ،‬إنها‬
‫األلوان التي طالما ذ ّكرتني بلون شعرها الخريفي '' هي ''‪ ...‬مرة أخرى !‪ .‬أدركتُ أن ذلك الشبح البليدي الجميل‬
‫ماض في استجماع ضبابه تدريجيا ليرتسم بإبهام أمام قلبي الحائر و يُعذّبه مرة أخرى‪ .‬تن ّهدت مرة أخرى و أنا‬
‫أتمتم مع نفسي‪ '' ...‬يجب أن أبقي ذهني بعيدا عنها‪ ....‬بأي ثمن !!‪.''...‬‬

‫‪-2-‬‬

‫حجر الكبريت‬

‫عدتُ إلى الشقة بخطوات متباطئة قبل أذان المغرب بلحظات‪ ،‬حتى ال أجد نفسي أنجرف مرة أخرى نحو‬
‫حنيني لبهجة الذي طالما أحسستُ به كثيرا على ذاك الشاطئ مع مغيب الشمس‪ .‬لم أكن أرغب في التفكير إطالقا‪.‬‬
‫فقط الهروب‪ ،‬كالعادة‪ ،‬بكل خيبتي و غضبي و ذنبي نحو أبعد مكان ممكن كما فعلتُ دوما‪ ،‬مذ ذاك اليوم الربيعي‬
‫الغائم الذي كانت ذكراه السنوية تقترب زاحفة نحوي تلك األيام‪ ،‬كالصرخة البعيدة القادمة من أفق غائم غابت فيه‬
‫الشمس منذ زمن بعيد‪ .‬كنتُ على يقين بأن يوم التاسع و العشرين من أفريل لن أكون قادرا على تفادي ذكراها‬
‫مرة‪ ،‬لكني كنتُ ألفعل المستحيل للصمود في وجه مشاعر ذاك التاريخ المختلطة‪ ،‬و لو ّ‬
‫كلفني‬ ‫تماما كما يحدث كل ّ‬
‫األمر اإلصابة بجنون أو فقدان ذاكرة مؤقّت !‪ .‬كنتُ أقول لنفسي بأنني سأتناسى األمر و سأبعد ذهني عنها‪ ....‬و‬
‫سأقضي على نفسي الليلة‪ ،‬فلدي عمل و سبق نهائي أسعى وراءه‪ .‬تحقيق موسع حول تاريخ '' الحزب العتيد ''‪.‬‬

‫ولجتُ العمارة و أنا أصعد الدرج راكضا‪ .‬دخلت الشقة‪ .‬نظفت يدي‪ .‬أشعلت التلفزيون و رحتُ أصول و‬
‫ي ِّ أجد شيئا مناسبا‪ ،‬فوقع اختياري على إحدى الفضائيات الجزائرية الجديدة و‬
‫أجول بين الفضائيات المختلفة عل ّ‬
‫هي تقوم بتغطية حملة الرئاسيات في ساعاتها األخيرة‪ .‬رفعتُ مستوى الصوت ثم توجهت إلى المطبخ و انطلقت‬
‫في تحضير العشاء‪ .‬كنتُ منهمكا بين عمل يدي و بصري في قلي البطاطا و شرائح اللحم و تجهيز السلطة و تهيئة‬
‫تحلية الفراولة‪ ،‬في نفس الوقت كنتُ أمعن السمع إلى صوت التلفاز القادم من غرفة المعيشة‪ ،‬الذي كان يحمل‬
‫أخبارا و تحاليل و مناقشات ساخنة في العادة لكنها مليئة بالخشبيات كثيرا‪ .‬ضحكتُ حينا على طراطير البوليتيك و‬
‫شتمتهم حينا آخر‪ .‬أدركتُ في لحظات تفاعلي الغاضبة و اليائسة من وضع العمل السياسي في هذا البلد بأنه كان‬

‫‪87‬‬
‫يجدر بي أن أختار قناة موسيقية بدل االستمرار في تتبع أطوار هذه المهزلة‪ ،‬التي ستبقى ذكرى تاريخية فارقة‬
‫ستجعل أجيال الغد تضحك و تبكي كثيرا عند العودة الكتشاف ماضي األسالف في العمل السياسي‪.‬‬

‫بعثتُ برسالة نصية إلى صوفيا أخبرها فيها متهكما بأن رائحة البطاطا المقلية و شرائح اللحم مغرية جدا و‬
‫هي ساخنة‪ ،‬و بأني مجبر تبعا لذلك على عدم االنتظار طويال و سأبدأ في الهجوم سريعا إن لم يرن جرس الباب‪.‬‬
‫مرت‪ ،‬فأدركتُ أنها لن تأت في النهاية‪ ،‬فلم أجد غير إعالن الزحف المقدس‬
‫ت أي رد على مدار الدقائق التي ّ‬
‫لم يأ ِّ‬
‫على عشائي الذي قررت تصفيته‪ ،‬شريحة شريحة‪ ،‬رقيقة رقيقة‪ ،‬قطعة قطعة‪ ،‬حبة حبة‪.‬‬

‫حملتُ بعد وجبة العشاء الدسمة تلك أغراض عملي من غرفة نومي إلى الصالة‪ .‬حاسوبي المحمول‪ .‬بعض‬
‫الكتب االجتماع السياسي‪ .‬بعض الكتب التاريخية التي تحكي عن النضال السياسي الجزائري و حرب االستقالل‪،‬‬
‫و بعض الوثائق التي حصلتُ عليها من مصادر مختلفة و الخاصة بنشاط حزب جبهة التحرير الوطني‪ .‬وضعتُ‬
‫كل شيء على الطاولة الزجاجية قبالة التلفاز الذي خفضت صوته قبل أن أركض بشكل طفولي نحو الثالجة في‬
‫المطبخ و أحضر صحني الذي امتزجت فيه قطع حبات الفراولة الباردة مع ماء الزهر‪ ،‬الذي اصطبغ بلونها‬
‫األحمر القاني متحوال إلى عصير فراولي بارد تسبح فيه تلك القطع‪ .‬بدى شهيا و منعشا جدا‪ .‬ابتسمتُ و أنا أفكر‬
‫بأن السهرة ستكون جيدة بصحبته‪.‬‬

‫في الغال ب‪ ،‬و بعد نهاية يوم عمل شاق‪ ،‬أحب االسترخاء و االستئناس بأغاني ‪ John Mayer‬أو ‪Joshua‬‬
‫‪ Radin‬أو ‪ Jesse Ruben‬الهادئة‪ ،‬لكن في تلك األمسية رغبتُ في االبتعاد عن أغاني الحب و الحياة الهادئة و‬
‫فضلت االستماع إلى الكوكتيالت الموسيقية التي كانت تبثها إحدى اإلذاعات العاصمية و أنا أتجهز للعمل على‬
‫موضوع تحقيقي الجديد‪.‬‬

‫خفضتُ مستوى ال َّ‬


‫صوت قليال كي أبقي تلك الموسيقى و تلك األغاني و الثرثرات اإلداعية الليلية مجرد خلفية‬
‫لسهرتي‪ ،‬أبدد بها صمت غرفة االستقبال‪ ،‬ثم رحتُ أر ِّت ّب وثائقي و أفكاري راميا ببصري إلى شريط األخبار في‬
‫التلفاز بين الحين و اآلخر‪ .‬كنتُ أفكر‪ :‬تحقيق صحفي كالذي أجريه عن الحزب العتيد يقتضي مقدمة صغيرة تعبر‬
‫عشرات العقود‪ ،‬التي م ّهدت لخروج الجبهة التي حققت المعجزة االستقاللية للجزائريين‪ ،‬حين كان أكثر المتفائلين‬
‫بمستقبل هذه األمة يتوقع أن أقصى ما يمكنها أن تصل إليه هو تحقيق المساواة المدنية أمام القانون الفرنسي في‬
‫إطار مشروع االندماج بشكل فدرالي داخل االمبراطورية الفرنسية‪ .‬للمفارقة فقط‪ ،‬صار مئات و ربما آالف‬
‫الجزائريين الشباب اليوم يتمنون بشكل أو بآخر لو كانت الجزائر جزءا فدراليا من فرنسا‪ ،‬و هو ما يعني عمليا أنه‬
‫منذ ظه ور جبهة التحرير الوطني قبل أكثر من ستين عاما وصوال إلى أيامنا هذه‪ ،‬تبقى أهدافها الوطنية الكبرى‬
‫معلقة في صنارة يكاد خيطها ينقطع أخيرا‪.‬‬

‫يمر بسرعة و نفذ صحن الفراولة مع استمرار انسياب الموسيقى و األخاديث في الخلفية مع‬
‫راح الوقت ُّ‬
‫استهالك بعض السجائر و تقليب العشرات من الصفحات من الكتب‪ ،‬التي كنتُ قد طالعتها سابقا و أ َّ‬
‫شرتُ على‬
‫بعض فقراتها بأقالم الرصاص عسى أن أعود إليها في مناسبات أخرى‪ ،‬كوني أحب في العادة إسناد تحقيقاتي‬

‫‪88‬‬
‫الصحفية بلمسة أكاديمية إن أمكن‪ .‬كانت تلك الصفحات تحكي تاريخ النضال السياسي الجزائري الذي كان قد‬
‫وضع أسسه األمير خالد بن الهاشمي حفيد األمير عبد القادر الجزائري بعدما انطوى لسنوات يتباحث مع نفسه‬
‫الكارثة االستعمارية التي حلت ببلد أجداده‪ ،‬و كوارث اإلخفاقات المدوية التي منيت بها انتفاضات جده و من‬
‫عاصروه من زعماء قبائل و زوايا القرن التاسع عشر‪ .‬على األرجح أنه كان يبحث عن سبق نهائي بشكل ما هو‬
‫اآلخر ؟‪ ،‬و لع ّل اجتهاده وصل به لالقتناع باستحالة مواجهة دولة حديثة منظمة‪ ،‬حققت تراكما معرفيا كافيا‪ ،‬ال‬
‫ّ‬
‫المنظرين و الفالسفة الذين كانوا‬ ‫تتحرك جيوشها وفق منطق قوة السالح‪ ،‬بقدر ما تتحرك دوما تحتَ ظالل أقالم‬
‫يع ِّّبدون طريقها فكريا و روحيا ببثهم في سيرها نفخة السبب و الغاية‪ ،‬بغض النظر إن كانت نفخات صادقة أو‬
‫زائفة في اعتقادهم الخفي‪.‬‬

‫قلتُ في نفسي‪ " :‬ماذا ك ان أمام األمير خالد من خيارات تصب في مصلحة الشعب الجزائري المنهك جراء‬
‫سبعين عاما من االنتفاضات و الحروب االستنزافية ضد الفرنسيين وصوال إلى تلك الفترة‪ ،‬غير الدعوة إلى‬
‫النضال السياسي و محاولة تأطيره ؟‪ .‬رغم علمه يقينا‪ ،‬ربما‪ ،‬بأن النضال السياسي لم يكن ليُفرز شيئا أمام شهوة‬
‫صريحة لفرنسا العظمى ! "‪ .‬ليس الكثير من الخيارات على األرجح‪ .‬كان األمر‬
‫الروح االمبريالية الجارفة و ال َّ‬
‫جوف في قلب مستنقع من القطران‪ ،‬بدل‬
‫أشبه بمحاولة االستمرار الشاق في التنفس باستعمال عود رقيق ُم َّ‬
‫االستسالم لالختناق و الموت التام‪.‬‬

‫يا ترى‪ ،‬كيف كانت نظرة األمير خالد إلى الجيل الذي سبقه ؟‪ .‬أكان يلومه على إخفاقاته العسكرية أمام فرنسا‪،‬‬
‫أكان يلومه على خياناته الكثيرة و المتكررة ؟‪ ،‬أم أنه لم يكن يشعر بأنه مختلف كثيرا في نفسيته و تفكيره عن‬
‫آبائه‪ ،‬بما أنه لم يكن يختلف عنهم في الملبس و اللحية و الشنب ؟‪ .‬إلى أيامنا هذه ال يزال غالبية الناس يلقون دوما‬
‫باللوم على النظام االستعماري عندما يرغبون في تبرير كل هزائمنا التاريخية و ما أنتجته من تخلف و بؤس و‬
‫جهل و أمية و تسلّط و عنف‪ ،‬وينحون بالقول بأننا كنا أمة متعلمة و مثقفة و قوية قبل أن تالمس الجزمات السوداء‬
‫شواطئنا قافزتا من مراكبها القادمة من الضفة األخرى‪ .‬لكن ال أحد يود طرح السؤال األهم‪َ :‬لم تم احتاللنا من‬
‫طرف فرنسا في المقام األول ؟‪.‬‬

‫راحت األفكار تتدفق مختلطة مع عالمات االستفهام‪.......‬‬

‫خيط رفيع جدا تركه األمير خالد‪ ،‬لم يجعل من حياة الجزائريين أفضل في تلك المرحلة‪ ،‬لكنه جعل طريق عبد‬
‫الحميد باديس و جماعته و مصالي الحاج و جماعته أيضا ُمعبّدا نسبيا لالنتقال إلى المستوى الثاني من النضال‪.‬‬
‫نضال الجمعيات الدينية و الثقافية و األحزاب السياسية في عشرينات و ثالثينات القرن الماضي‪.‬‬

‫رغم ذلك‪ ،‬لم أستطع الوصول إلى نظرة األمير خالد الدقيقة لألجيال السابقة له‪ ،‬لكني اكتشفتُ نظرة الجيل‬
‫الذي نشأ على يد مصالي الحاج‪ ،‬و الذي كان يعيش غضبا جارفا جراء اإلخفاقات المتتابعة للنضال السلمي داخل‬
‫األطر و المسلّمات التي وضعها له االحتالل‪ .‬رغم أنه الجيل الذي أخذ وعيه الكامل من تراكم كتابات و نضاالت‬
‫الساسة و المفكرين الجزائريين الذي أفنوا حياتهم بحثا عن العدالة و المساواة لهذا الشعب المقهور عاطفيا‪ .‬هذا‬

‫‪89‬‬
‫يتجرع ذاك اإلحساس الدفين بالذل و الهوان إلى حد حقده على نفسه قبل حقده على‬
‫ّ‬ ‫الشعب الذي ظل يمقتُ ذاته و‬
‫عقدة اإلذالل‪ ،‬الدونية‪ ،‬الشعور بوجود نقص جوهري يجعلك تقتنع وجدانيا أنّه يستحيل‬
‫اآلخر‪ .‬أو هكذا تبين لي‪ُ .‬‬
‫ُسمع‬
‫عليك أن تعتبر نفسك ندّا لآلخر أو مساويا له أو منافسا له‪ .‬هو شعور قاتل لكل شيء جميل قد ينبت ببطء أو ي ِّ‬
‫حفيفه الخافت بخجل في أعماق النفس !‪.‬‬

‫ّ‬
‫المتنطعين و‬ ‫يقف في مواجهة أالئك‬
‫تراءى لي فجأة وجه مح ّمد بلوزداد المتجهم نهاية األربعينات‪ ،‬و هو ُ‬
‫أبوة جيل مصالي الحاج و صورة فرنسا العظمى التي ال تُهزم ُّ‬
‫تسلطا و قهرا‪ ،‬إلى حد أنهم‬ ‫المشككين الذين أشبعتهم َّ‬
‫استكانوا إلى ذلك الوضع المزري إن لم يستلذُّوه بين أنفسهم‪ .‬كنتُ أتخيّل بلوزداد الشاب اليافع الثائر الغاضب و هو‬
‫يصيح في مناضلي حركة االنتصار للحريات الديمقراطية سليلة حزب الشعب الجزائري و هم غارقون في‬
‫صراعاتهم السياسية و المصلحية و ماضون أكثر نحو إيهام أنفسهم بأن وقت التغيير الجذري لم يحن بعد‪ ،‬حين‬
‫بالقوة و اآلن َ ؟ ! "‪.‬‬
‫كان بلوزداد يصرخ فيهم غاضبا على وضعهم ال ُمخزي‪َ " :‬لم ؟‪َ ،‬لم ال نستطيع طرد فرنسا ّ‬

‫بعد نحو أربعيت دقيقة من المطالعة و البحث‪ ،‬انتهى بي المطاف متكئا على األريكة أد ّخن سيجارة ناظرا إلى‬
‫تطورات عقود تمر أمام بصري في لحظات‪.‬‬
‫السّقف وسط اإلضاءة المتوسّطة للصالة و أنا أحاول جعل أحداث و ّ‬
‫ي افتراضي ثالثي‬ ‫بشكل تخيّلي‪ ،‬انفصلتُ عن كل شيء يحيط بي‪ .‬كنتُ فقط ّ‬
‫أمرر تلك األحداث التاريخية كفيلم طيف ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫األبعاد أمام عين ّ‬

‫تتحرك‬
‫ّ‬ ‫كانت تلك األحداث و تلك الشخصيات التاريخية تتشكل عبر الدخان الذي كنتُ أنفثه نحو السقف‪،‬‬
‫ي‪ .‬مصالي الحاج‬ ‫كظالل باهتة خرساء يطغى عليها اللون األبيض و األسود و الرمادي المائل إلى ُّ‬
‫الزرقة أمام عين ّ‬
‫ّ‬
‫مؤطرة‬ ‫عام ‪ 0241‬و هو يُعلن أمام مجموعة من المناضلين تأسيس حركة نجم شمال إفريقيا كأول حركة سياسية‬
‫صامت الذي خلّفه نضال األمير خالد‪ .‬الحركة‬
‫تناضل سلميا من أجل حلم االستقالل الوطني‪ ،‬متن ّفسة من اإلرث ال ّ‬
‫تصور الجزائريين لمستقبلهم‪ ،‬قبل أن تنهار‬
‫ّ‬ ‫تروج لمطلب االستقالل و ترفع من سقف‬
‫التي كانت قد بدأت ّ ِّ‬
‫بضربات القوانين الفرنسية‪ ،‬فيعود مصالي مرة أخرى بحركة وطنية جديدة عام ‪ 0229‬تحت اسم حزب الشعب‬
‫الجزائري الذي واصل النضال السياسي مع البدء في الترويج لفكرة الكفاح المسلّح بشكل تدريجي هادئ و سلس‪،‬‬
‫وسط الجماهير الجزائرية المغمورة تحت طبقات ثقيلة من القهر و احتقار الذات الطويل و ال ُمتوارث‪ ،‬لتعود سلطة‬
‫االحتالل عشية الحرب العالمية الثانية عام ‪ 22‬لتحل الحزب خوفا و تعسّفا‪ .‬تراءى لي الحاكم الفرنسي العام‬
‫‪ Georges Le Beau‬بطقمه األوروبي الكالسيكي األنيق و هو يوقع على إجراءات حل الحزب‪ ،‬لينطلق بعدها‬
‫رجاالت الشرطة الفرنسية و محققيها في مداهمة مقرات الحزب و مصادرة وثائقه و اعتقال مناضليه‪ ،‬بعضهم في‬
‫المقرات و بعضهم في المقاهي و البعض اآلخر في منازلهم‪.‬‬

‫رأيتُ القاضي الفرنسي و هو يضرب بمطرقته الخشبية ُمصدرا أحكامه بالسجن و األعمال الشاقة على‬
‫مصالي و أتباعه الذين مات الكثير منهم في سجون االحتالل جراء األمراض و اإلنهاك‪ ،‬في الوقت الذي نظرتُ‬
‫إلى فرحات عباس‪ ،‬الصيدلي المث ّقف المهموم بقضايا بلده و هو يجلس في مكتبه هناك في الزاوية المقابلة شهر‬
‫فيفري ‪ ،22‬يُنهي صياغة بيان الشعب الجزائري بخط يده و يعطيه لكاتبه كي يقوم برقله‪ .‬ها هو هناك‪ ،‬رفقة بعض‬

‫‪90‬‬
‫الشخصيات المو ِّقّعة على البيان‪ ،‬يُسلم نسخة منه للحاكم الفرنسي العام ‪ Marcel Peyrouton‬في مكتبه الفاخر‬
‫بالعاصمة الجزائر‪ ،‬و يُرسل نسخا أخرى إلى الرئيس ‪ Roosevelt‬و حلفائه الذين نزلت قواتهم بسواحل الشمال‬
‫االفريقي‪ ،‬يُذ ِّ ّكرهم فيها بواجباتهم األخالقية تجاه شعوب المستعمرات‪ ،‬األنديجان‪ ،‬األهالي‪ ،‬السكان األصليين الذين‬
‫قص ال ُمخرج رشيد بوشارب معاناتهم في إحدى روائعه السينمائية‪ ،‬التي أحرجت الحكومة الفرنسية في السنوات‬
‫َّ‬
‫قرر االنخراط ببؤسه و جهله و فقره و آماله و أحالمه في المجهود الحربي‬
‫األخيرة‪ .‬ذاك الجيل األنديجاني الذي ّ‬
‫المحور‪ ،‬على أمل أن يُم َّكن من الظفر في المقابل بحقه الثابت في تقرير مصيره بعد نهاية الحرب‪ ،‬أو‬
‫ضد حلف ِ‬
‫الحصول على قدر من العرفان من دول العالم الذي يوصف بالحر‪ ،‬على األقل‪.‬‬

‫تراءت لي هناك بعيدا‪ ،‬في جبهات القتال األوروبية الباردة‪ ،‬تحتَ سمائها الرمادية الداكنة‪ ،‬في ساحات‬
‫المعارك العنيفة وسط الدخان و ال ُحفر التي خلفتها انفجارات قذائف المدافع و الطائرات و الدّبّابات‪ ،‬على طول‬
‫الخنادق الموحلة التي تحيط بها األسالك الشائكة و أكياس التراب و الجثث‪ .‬تراءت لي أطياف بعض الشباب‬
‫الجزائريين اليافعين المجنّدين في الحرب‪ ،‬بعضهم كان منبطحا على صدره و هو يو ِّ ّجه بندقيته نحو التالل التي‬
‫يقبع العدو الفاشي خلفها و قد غطاها الدخان األسود‪ .‬البعض اآلخر كان يجلس داخل الخنادق‪ ،‬إما يكتب رسالة لألم‬
‫الزوجة‪ ،‬أو يتناول رغيف خبز يابس‪ ،‬أو يُد ّخن سيجارة أو بقايا سيجارة‪ ،‬أو يحلق ذقنه بشفرة قديمة و بقايا‬
‫أو ّ‬
‫قطعة صابون اختلطت بها األوساخ و العوالق‪ .‬رأيتُ بعضهم يجلس شارد الذهن دون حراك و عينيه هائميتن في‬
‫الفراغ‪ .‬رأيتُ آخرين يبحثون عن بقايا قماش أو أكياس يلفّونها حول أقدامهم لعلّها تخفف عنهم سطوة البرد و‬
‫سمرتها الطاغية و‬
‫الجليد و البلل المتسرب عبر جزماتهم المهترئة‪ .‬كانت وجوههم ذات القسمات الشمال إفريقية ب ُ‬
‫الرماد اندغاما و سوادا‪ .‬كانوا فقط يحلمون بنهاية تلك الحرب اللعينة و‬
‫شنباتها السوداء هزيلة‪ ،‬زادتها األتربة و َّ‬
‫العودة إلى الوطن‪ ،‬إلى زرقة سمائه و دفء هوائه و حرارة شمسه‪.‬‬

‫تراءى أمامي بعض لحظات أكبر عواصم العالم و هي تزهو و تحتفل بنهاية الحرب الكبرى ربيع ‪.0222‬‬
‫صور الجنود العائدين إلى بلدانهم وسط األعالم و الغناء و الرقص و الشامبانيا و القُبل‪ .‬صورة الجندي األمريكي‬
‫الذي يتلقف أول فتاة فرنسية جميلة تصادفه في الشارع و يهم بالتهام شفتيها الرطبتين بشراهة الطفل الذي عاد‬
‫رجال منتصرا من الحرب‪ ،‬و بين ذلك الرجل الجزائري الذي عاد من الحرب طفال محطما إلى وطنه‪ ،‬و هو يقف‬
‫المخربة على يد السلطات االستعمارية و‬
‫َّ‬ ‫مذهوال أمام منزله الطوبي المهدوم و قريته أو ضيعته المحروقة و‬
‫ميليشيات الكولون‪ .‬المشهدان حدثا في توقيت واحد‪ ،‬ذات يوم من أيام شهر مايو ‪.! 0222‬‬

‫رأيتُ نظرات غضب‪ .‬كدتُ أسمع أنفاسها ثقيلة و هي تزحف صعودا و نزوال مسلسلة بالغل و الحقد في‬
‫صدور أالئك الفتية العائدين من الحرب و هم ينخرطون في حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي أسسها العائد‬
‫من السجون االحتالل مصالي الحاج‪ ،‬الذي زاد يقينه بأن الحل الوحيد لهذه األمة هو االستقالل النهائي عن فرنسا‬
‫المخادعة و المنافقة‪ .‬رأيتُ أطياف المناضلين و هم يسعون بين الجماهير في أعماق القرى النائية البائسة‪ ،‬و‬
‫األحياء الشعبية الفقيرة في المدن يُوزعون نشرات الحزب المنادية بالتجند و التكتّل من أجل الحلم الوطني‪ .‬رأيتُ‬
‫دمحم بوضياف و يوسف زيروت و العربي بن مهيدي نهاية عام ‪ 21‬و هم يخوضون الجداالت الساخنة في المقاهي‬

‫‪91‬‬
‫و النوادي الشعبية‪ ،‬محاولين إقناع بقية الشباب بأن الحل هو التجهيز إلعالن حرب عنيفة كاسحة على النظام‬
‫االستعماري العنصري‪ .‬رأيتُ ذاك الطالب الثانوي القروي العشريني المتّقد ذكاء و حماسا‪ ،‬منكبا على مكتبه‬
‫يحرر تقريرا مفصال لقادة الحزب تحت نور خافت لمصباحه الزيتي‪ ،‬يصف فيه الوضع السياسي‬
‫المتواضع و هو ِّ ّ‬
‫و االجتماعي للبلد بالكارثي‪ ،‬مض ّمنا إياه تفاصيل نظرية عن فكرة ''مجنونة '' أوحت بها نسمات أقدار المستقبل‬
‫متنور من أسرار‬
‫المتنور‪ ،‬جاعلة إياه يرى ما ال يراه سوى نبي أو فيلسوف ّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫المختبئة خلف جبال الغيب إلى ذهنه‬
‫المصير المستقبلي ألرض و شعب‪ .‬لقد كانت فكرة تأسيس منظمة شبه عسكرية سرية تحمل على عاتقها التجهيز‬
‫لعمل مسلح منظم مفاجئ و غير مسبوق ضد النظام االستعماري‪ ،‬في سبيل دفعه لتقبل فكرة تقرير المصير‪ ،‬التي‬
‫تنكر لها بعد الحرب العالمية‪ .‬ذاك المناضل الشاب كان حسين آيت أحمد بال شك‪ ،‬نبي الثورة الجزائرية !‪.‬‬

‫رأيت مصالي الحاج يجتمع في المؤتمر األول للحزب رفقة نحو أربعة و عشرين مناضال آخر في حي‬
‫بيلكور العاصمي أواسط شهر فيفري عام ‪ 29‬مزكين فكرة آيت أحمد و متخذين قرار إنشاء لوس‪ l’OS،‬المنظمة‬
‫سِّرية‪ ،‬المكلفة بتحضير كل الظروف المناسبة إلعالن الكفاح المسلّح‪ ،‬مسندين قيادتها لمناصل‬
‫شبه العسكرية ال ّ‬
‫الشاب دمحم بلوزداد‪.‬‬

‫مع آخر نفثة دخان أطلقتها من فمي نحو السَّقف و هي تُش ّكل المشاهد التالية التي كنتُ أتخيّلها عن تلك‬
‫األحداث‪ ،‬بدأتُ أرى شيئا غريبا بلون غير عادي معاكس لألوان الباردة الطاغية على تلك األطياف‪ .‬شيء يُشبه‬
‫الرمادية و هي تتجادل حول مغزى‬
‫نقطة صغيرة‪ ،‬أو كحبة فراولة‪ ،‬تومض بلون أحمر في جوف تلك األطياف َّ‬
‫العمل الثوري‪ ،‬بين أالئك الذين اعتقدوا أن الوقت لم يحن بعد و أن المنظمة السرية ال تزال ضعيفة‪ ،‬و بين أالئك‬
‫متهور غير محسوب العواقب و هم يُحاولون التأثير على رأي البقية بما حدث‬
‫ّ‬ ‫الذين اعتقدوا أن الثورة أصال عمل‬
‫خراطة ربيع ‪ .22‬كانوا يعتقدون ّ‬
‫أن مواجهة الدولة الفرنسية و جيوشها و مليشيات‬ ‫في سطيف و ڨالمة و ّ‬
‫المستوطنين و عصابات المرتزقة التي تعمل لصالحها أمر مستحيل‪ .‬كانت تلك النواة الحمراء تومض داخل تلك‬
‫أتصورها‪ ،‬ماضية في اللمعان بشكل متصاعد‪ ،‬في ذلك‬
‫ّ‬ ‫األطياف و هي تتجادل دون أصوات فيما بينها‪ .‬كنتُ‬
‫الشريط السنيمائي القديم من دون صوت‪ .‬كنتُ فقط ألمح تلك الومضات الحمراء و هي تنتقل من طيف آلخر تحتَ‬
‫ضغوط األيام و العالقات المكهربة و تع ّمق الخالفات و طول االنتظار و الترقب و الخوف من اكتشاف الجالد‬
‫الفرنسي لما يدور تحته في دهاليز العبودية المظلمة‪ .‬فرصة نسف الباب على عالم جديد مليء بالضوء كانت ُّ‬
‫تهز‬
‫األبوة المليء بروائح الترسُّبات الكريهة‪ ،‬و سوط ال ُمحتل المخضب‬
‫َّ‬ ‫أعماق الكثيرين ممن ولدوا و نشأوا تحت إبط‬
‫صدور في الظالم !‪.‬‬
‫بدماء عقود من االستعباد لماليين األظهر و ال ُّ‬

‫_ هذه هي !!‪..‬‬

‫تمتمتُ مع نفسي و أنا ألمح االنتشار المتسارع لوميض تلك البذور بوهجها األحمر في أعماق النفوس التي‬
‫زادت صراعاتها مع مرور السنوات الثالث األولى من تأسيس المنظمة العسكرية الخاصة‪ ،‬بين متحمس لها و‬
‫خائف منه‪ ،‬و كيف أن األطياف اشتعلت حمرة من كال الطرفين‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫رأيتُ مرا د ديدوش مع مجموعة من المناضلين و هم يطاردون مناضال أخطأ في حق المنظمة الخاصة و قرر‬
‫مغادرتها متحديا قوانينها التي تحظر ذلك‪ .‬اقتحموا منزله‪ ،‬و انهالوا عليه بالضرب المبرح‪ ،‬تنفيذا لقرار العقوبة‬
‫الذي صدر في حقه‪ ،‬ثم تركوه غارقا في دمائه اعتقادا منهم أنه فارق الحياة‪ ،‬ليستفيق بعدها و تشتعل بذرته‬
‫بأنوارها الحمراء التي غمرت شقته الصغيرة برمتها‪ .‬ها هو هناك‪ ،‬يقف بصعوبة و قد اختلطت عليه كلماته بين‬
‫عبارات السب و بين عبارات الوعيد الهائج‪ ،‬ليتوجّه و قد فاض صدره بالغضب و الرغبة في االنتقام إلى شرطة‬
‫االحتالل و يُطلعها على كل شيء يخص المنظمة الثورية‪ ،‬فتندلع الحملة الكبرى من االعتقاالت و المداهمات و‬
‫االستنطاق و التعذيب‪ ،‬لتنهار المنظمة بسبب وشاية ُّ‬
‫تأن تحت آالم جرح نرجسي عميق‪ ،‬و ينهار معها حلم إعالن‬
‫الثورة‪ ،‬ليس بسبب عبقرية مخابرات العدو‪ ،‬بل بسبب تلك البذرة البائسة المزروعة في أعماق كل جزائري على‬
‫ما يبدو‪ ،‬و التي ال تشتعل إال عندما يجد هذا الفرد نفسه أمام لحظات مصرية حاسمة تختبر شجاعته و إخالصه و‬
‫صبره و نضجه الحقيقي‪.‬‬

‫إنها تومض بشكل متسارع !‪ .‬مصالي الحاج و قادة الحزب يدخلون حالة هستيرية بعد كشف المنظمة بسبب‬
‫َبرئهم من التنظيم نفسه خشية حل الحزب و العودة إلى السجون‪ ،‬ثم ها هم‬
‫رعونة سلوك بعض أبنائها إلى درجة ت ُّ‬
‫ينطلقون في صراع آخر عجيب في وقت كان يلزم فيه القدر األدنى من االتحاد و التكافل‪ .‬مصالي و جناحه ضد‬
‫الجناح الذي أراد تجريد " الزعيم " أو " األب " من صالحياته الواسعة في القيادة و اتخاذ القرارات‪.‬‬

‫ال يمكنكَ إقناع قيصر باقتسام تاجه و هو في ق ّمة الثمالة المختلطة بالكبرياء‪ ،‬سواء كان في حالة سلم أو‬
‫حرب !‪ .‬رأيتُ األمر بديهيا جدا‪ ،‬و أنا أشاهد كيف كان اللون األحمر ماضيا في اكتساح تلك الخلفية الرمادية أمام‬
‫مخيلتي وسط مناوشات تكاد تكون صبيانية بين الماصاليين و المركزيين حول اقتسام الحزب‪ ،‬الذي ُح ّ ِّول بشكل‬
‫ي إلى ما يُشبه التركة التي يتم رميها لقطيع من اليتامى ال ُمتحاقدين !‪.‬‬
‫عجيب في تواطئ جماعي خف ّ‬

‫هكذا غرق الحزبيون في صراعاتهم‪ ،‬في حين كان أفراد ‪ l’OS‬الذين نجوا من االعتقال و السجون يواجهون‬
‫الويالت في الجبال‪ ،‬بعدما تخلى عنهم الجميع‪ ،‬جاعلين منهم مجرد مجموعات متفرقة من الكالب الضالة‪ ،‬و هو ما‬
‫نمى فيهم شعورا رهيبا بالحقد على السياسة و أصحابها و على جيل كامل من اآلباء الذين لقنوهم شيئا من الوعي‬
‫الوطني‪ ،‬لكنهم لم يؤمنوا بما يمكنهم تقديمه فعليا حين يحين دورهم على مسرح التاريخ‪.‬‬

‫بدى لي أن مزحة " المشعل " هذه حكاية قديمة قدم العربدة السياسية و التغطرس األبوي في هذا البلد‪ ،‬و لم‬
‫تكن وليدة زمن االستقالل ؟ !‪ .‬كيف ال و أنا أشاهد أطياف أالئك الشباب العائدين من السجون و هم يقفون‬
‫مشدوهين على االقتتال الحزبي بين " اآلباء ال ُملهمين " ؟‪ .‬و لربّما راحوا يسئلون‪ :‬أين وصل حال ‪ l’OS‬الحبيبة‬
‫ُمرروا لهم الـ"مشعل " ّ‬
‫كلفوهم ببيع جرائد الحزب‪.‬‬ ‫؟‪ .‬منعوهم من التحدّث في هذا الموضوع مرة أخرى‪ ،‬و لكي ي ّ‬
‫سِّرية في قلب جبال األوراس و جرجرة و‬
‫أجل !‪ .‬هكذا‪ ،‬ثوار المستقبل الذين أمضوا سنوات في معسكراتهم ال ّ‬
‫بابور يتدربون على حرب العصابات و صنع القنابل التقليدية و يخزنون السالح لليوم الموعود‪ ،‬صاروا باعة‬
‫جرائد !‪ ،‬ف أسلوب االحتقار و وأد الطموحات و تحطيم العزائم هذا نموذجي جدا في بلدي !‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫فقرر الجيل األبوي نفيهم نهائيا خشية السوط االستعماري و خشية ضياع‬
‫أرادوا التشبّث بحلم تفجير الثورة‪َّ ،‬‬
‫صعاليك !‪ّ .‬‬
‫لكن الصعاليك‬ ‫ما كان يظنه إنجازات‪ .‬فطردوا و طوردوا و نعتوا بمثيري الفوضى و المراهقين و ال َّ‬
‫يعودون ليبعثوا " لوس" ال َّ‬
‫شرسة و غير المهادنة‪ ،‬ثم يؤسسوا شهر مارس ‪ 22‬اللجنة الثورية للوحدة و العمل‪،‬‬
‫لتبرز هناك في األفق أخيرا‪ ،‬بعد هذا المشوار المضني‪ ،‬أطياف ‪ 44‬رجال شابّا غاضبا و حانقا على كل تلك‬
‫المهازل و المآسي‪ ،‬ليجتمعوا صائفة ‪ 22‬بحي المدنية العاصمي‪ ،‬و يقرروا أخيرا أنه آن األوان لتفجير ما كان‬
‫يجب تفجيره منذ زمن طويل في وجه ال ُمحتلّين‪ .‬مجموعة الـ ‪ 44‬تُنجب مجموعة الـ ‪ .1‬مجموعة الـ ‪ 1‬تجتمع‬
‫سس جبهة التحرير الوطني التاريخية‬
‫أواخر أكتوبر ‪ 22‬بضواحي العاصمة لتحديد تاريخ انطالق الثورة‪ ،‬فتؤ ِّ ّ‬
‫بجناحها العسكري الثوري‪ ،‬التي ستتولى تنفيذ خيار الكفاح المسلّح و تمريغ وجه '' اإلمبراطورية '' في وحل‬
‫التاريخ‪ ،‬في حدث بعد أيام من ذلك االجتماع ما درسناه في المدارس على العموم من دون تفاصيله المؤلمة و‬
‫مفارقاته المد ِّّمرة‪.‬‬

‫ّ‬
‫تتمزق هي األخرى على تلك اإلشعاعات الحمراء التي‬ ‫كنتُ ألرى‪ ،‬بأسلوبي الخاص‪ ،‬أطياف رجال نوفمبر‬
‫تنفجر من أعماقها منبعثة من تلك البذور الصغيرة‪ ،‬التي تشكلها جزئيات ظاهرة الموسطاشيا‪ .‬كان ذلك الوهج‬
‫ليكون أشد وضوحا و قوة‪ ،‬كونه تفاعل مع أكثر السنوات عنفا و دموية في تاريخ الجزائريين‪ .‬إنها اللحظات‬
‫صدمة النفسية !‪.‬‬
‫المصيرية الحاسمة‪ ،‬عندما تتداخل و تتقاطع مع ال ّ‬

‫تن َّهدتُ بعمق‪ .‬ف ّكرتُ في أن تلك البذرة الجرثومية التي ضلّت كامنة أو ذات نشاط محدود أو بطيء قبل عام‬
‫ْ‬
‫بدأت تنشب و تشتعل بشكل تصاعدي بتآكل‬ ‫‪ ،0222‬قد تم ّ‬
‫هزها بقوة خالل مجازر الثامن من ماي ذاك العام‪ ،‬ثم‬
‫جر حركة االنتصار للحريات الديمقراطية إلى حرب داخلية‬
‫داخلي أدى إلى كشف منظمة " لوس " الثورية‪ ،‬ثم ّ‬
‫غريبة جعلت منها " حركة االنتحار للحريات الديمقراطية "‪ ،‬إلى أن عرفت تلك الجمرة اشتعالها و تفجّرها الكامل‬
‫تحور شكلها إلى بنيته الجديدة‪ ،‬مع الفظائع التي وقعت طيلة ثمانية أعوام من النزاع المسلّح ضد فرنسا‬
‫و ّ‬
‫االستعمارية‪ ،‬دون أن تجد ما يردُّها أو يكبحها في النهاية أمام أمطار نعمة االستقالل الغزيرة‪ .....‬هي لم تنطفئ !‪،‬‬
‫بل استمرت بعد عام ‪ 14‬تنهش ذواتنا و ّ‬
‫تلطخ لوحة تاريخنا بمزيد من دماء تناحرنا و اقتتالنا المخزي ضد بعضنا‬
‫البعض‪......‬‬

‫على تلك الفكرة األخيرة غفوتُ قليال‪.....‬‬

‫**********‬

‫‪.....‬جاءني صوت بعيد جدا‪ .‬أجفلتُ و أنا أفتح عيني و أستردّ وعي كامال ألتفتُ إلى شاشة التلفاز‪ .‬كان بثا‬
‫مسجّال لمباراة في التنيس‪ .‬أدركتُ أن ذاك الصوت الذي سمعته إنما كان صوتا يُشبه صوت جرس الباب !‪َّ .‬‬
‫رن‬
‫مرة ثانية فجعلني أستفيق تماما من غفوتي‪ .‬نظرتُ إلى ساعة يدي فإذا بها الواحدة و ال ّنصف صباحا‪.‬‬

‫_ " غير معقول ؟ !‪ .‬من تراه يكون في هذا الوقت ؟ ! "‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫قلتُ في نفسي و أنا أتجه متثاقال أفرك عيني بأصابعي إلى الباب أسأل نفسي إن سبق و أن زارني أي شخص‬
‫بمجرد أن فتحتُ الباب كانت تقف في منتصف المسافة‬
‫ّ‬ ‫في مثل تلك الساعة مذ أن سكنتُ شقتي الصغيرة تلك‪.‬‬
‫الفاصلة بين باب شقتي و باب منزل الخالة ميمونة‪ .‬كيف حدث ذلك ؟ !‪.‬‬

‫_ صوفيا ؟ !‪ .‬باهلل عليك‪ .....‬في هذا الوقت ؟ !‪.‬‬

‫ي ُمطلقة بسمة ماكرة و هي تتقدّم بخطوتين متثاقلتين نحوي‪ ،‬بعدما جذبتها أصوات الموسيقى الخافتة‬ ‫ْ‬
‫نظرت إل َّ‬
‫المنبعثة من غرفة المعيشة‪...‬‬

‫_ أتعلم ؟‪ .‬بسبب هذا ستجعل الفتيات يشعرن دوما باإلثارة نحوك‪...‬‬

‫_ كيفاش ؟‪.‬‬

‫أجبتها و أنا مشوش الفكر بين النعاس و كالمها الغريب‪ ،‬فزادت بسمتها وضوحا‪...‬‬

‫مكرسا نفسه لمهنته‪،‬‬


‫_ شاب خجول و غامض‪ ،‬غير آبه بكل الملذات التي يركض خلفها أقرانه‪ ،‬يُمضي يومه ِّ ّ‬
‫و يُمضي لياليه ساهرا يستمر في السعي نحو هدفه السري‪ ،‬مع االستئناس بموسيقاه ال ِّتستوستيرونية‪.......‬‬
‫مممممممم كم هذا مثير !‪.‬‬

‫كانت تبتس ُم و تضحك بشكل غريب أثار شكي و غضبي فجأة‪ ،‬كوني أعرف حال الذي يطلق تلك النظرات و‬
‫يتحدث بتلك النبرة ضاحكا بذلك الشكل الغريب‪....‬‬

‫ت بخير ؟‪ .‬هيا‪ ،‬هيا إلى الداخل !‪.‬‬


‫َـــي ! هل أن ِّ‬
‫_ه ْ‬

‫تعثّرت فجأة و هي تدخل الشقة فانطلقت تضحك بشكل غريب و بصوت مرتفع معربة عن مدى غبائها‪ ،‬في‬
‫اللحظة التي صفعتني فيها رائحة الكحول القوية التي كانت تخرج من فمها‪ .‬تر ّن ْ‬
‫حت و هي ترمي بيدها إلى الطاولة‬
‫مرة أخرى في‬
‫الصغيرة التي أضع فوقها مفاتيح الشقة و السيارة عادة عند الباب‪ .‬كانت تحاول استرجاع توازنها ّ‬
‫حين وقفتُ مذهوال و أنا أغلق الباب خلفي‪ .‬لم أكد أصدّق‪ .‬صوفيا ثملة إلى حد ال تستطيع معه السير بتوازن !‪.‬‬
‫شعرتُ بالغضب و العجز عن تفسير الموقف‪ .‬أقصد أني لم أفهم أكان يجب عل ّ‬
‫ي نهرها بسبب الحالة المقرفة التي‬
‫حرة غير الئقة‬
‫ي التريث حتى أفهم السبب الذي دفع بها إلى الرمي بنفسها في سقطة ّ‬
‫كانت عليها‪ ،‬أم كان يجب عل ّ‬
‫بفتاة مثلها‪.‬‬

‫أمسكتها من ذراعها و اقتدتها إلى غرفة االستقبال‪ .‬أجلستها بحذر على األريكة و هي ماضية في الضحك و‬
‫الهمهمة بكالم غير مفهوم‪...‬‬

‫ت إلى هنا سالمة هكذا ؟‪ .‬كان يمكن‬


‫ب بأي مكروه في الخارج‪ .‬كيف وصل ِّ‬
‫_ إنها لمعجزة حقيقية أنك لم تصا ِّ‬
‫أن تتعرضي ألي شيء على يد المنحرفين و الصعاليك في مثل هذه الساعة !‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ي و هي ماضية في الضحك كمن يتهكم على سؤال سخيف‪...‬‬ ‫ْ‬
‫نظرت إل ّ‬

‫ي أن آتيك راجلة بدال من أدع عشيقتي توصلني إلى هنا !‪.‬‬


‫_ أجل‪...‬ربما كان عل ّ‬

‫_ كيفاش ؟ !‪ .‬وش راكي تخلطي ؟‪.‬‬

‫_ شيكورتي‪ .‬هي وصلتني لعندك !‪.‬‬

‫كانت تضحك بشكل غريب‪ .‬لم أفهم بالضبط ما كانت تقصد بكالمها‪ .‬ربما هو عشيق و ليست عشيقة ؟‪ .‬لكنها‬
‫لم تحدّثني عنه من قبل ؟‪ .‬تغيّرت نبرة صوتها و راحت تلك الضحكات تتحول شيئا فشيئا إلى ضحكة هستيرية‪ ،‬و‬
‫كأنها كانت تودّ الضحك على نفسها أو على حالها بكل ّ‬
‫قوة‪ .‬ثم فجأة انخفضت نبرات صوتها و اضطرب تنفسها و‬
‫راح رأسها يتمايل‪ .‬عرفتُ ما كان سيحدث‪ .‬أمسكتها من ذراعها على الفور و اقتدتها إلى الحمام‪ .‬رفعتُ غطاء‬
‫المرحاض بسرعة في حين تقدّمت تلقائيا رامية برأسها إليه‪ .‬راحت تتقيّأ في حين كنتُ أسندُ رأسها بيدي محاوال‬
‫منع شعرها األملس من االنسدال على وجهها‪ .‬لم أرغب في النظر إلى كل تلك القذارة التي كانت تصبُّ من فمها‬
‫صرف‪ ،‬سوى أني لم أستطع تفادي تلك الروائح التي كانت تنبعث منها‪ .‬كانت مزيجا من رائحة القيء‬
‫نحو فوهة ال َّ‬
‫بمجرد نزوة أو زلّة أو مرح احتفالي‪ .‬فالفتاة‬
‫ّ‬ ‫و رائحة المشروبات الكحولية‪ .‬أحسستُ أن األمر جلل و لم يكن يتعلّق‬
‫ال تشرب أبدا على حد علمي‪.‬‬

‫كانت تُحاول قول شيء ما في اللحظات القصيرة التي كانت تسترجع فيها أنفاسها‪ .‬لكنّها لم تستطع بسبب تدافع‬
‫مرة‪ .‬نظرتُ إليها و أنا أحثّها على التنفس جيدا و ترك المجال لجسمها كي يتخلّص من كل‬
‫القيء من جوفها في ك ّل ّ‬
‫تلك المشروبات الزائدة‪.‬‬

‫_ كفى !‪ .‬ما هذا يا فتاة ؟‪ ....‬تمالكي نفسك هيا !‪.‬‬

‫ْ‬
‫أفرغت كل شيء كما بدى لي‪ .‬هدأت فجأة و هي تحاول استرجاع أنفاسها‪ .‬كنتُ أعلم أنها تعيش تلك اللحظات‬
‫المقرفة التي يعيشها أي شخص ينتهي من تلك العملية المزعجة‪ .‬اختناق في التنفس‪ .‬حريق يمأل الجوف و الحلق و‬
‫البلعوم‪ .‬دوار بسبب تدني مستوى السكر في الدم‪ ،‬و روائح مقززة تمال الفم و مذاق غريب في الشفتين‪.‬‬

‫لم أنبس ببنت شفة‪ .‬رأيتُ كتفيها و هما يهتزان بشكل متسارع حين أحنت رأسها قليال إلى األمام مصدرة‬
‫صوتا يشبه صوت االختناق‪ .‬انحنيتُ إليها و أنا أُبعد بعض الخصالت عن وجهها بأطراف أصابعي فإذا بها و قد‬
‫لتوها زفرة طويلة فاضت معها دموعها متساقطة كحبّات مطر مبكرة كانت تعلن عن بدأ عاصفة ما‪ .‬كأنها‬
‫أطلقت ّ‬
‫لم ترغب أبدا في استرجاع ذاك النفس الطويل الضائع الذي أطلقت به بكاءها الحارق‪ ،‬لكنها استسلمت لقوة‬
‫االختناق فراحت تسترجعه ببطء و هي تطلق العنان أكثر لحزنها المتف ِّ ّجر مع كل شهقة و زفرة‪ ،‬إلى أن تحولت‬
‫تلك الشهقات شيئا فشيئا إلى نواح‪.‬‬

‫_ كيف انتهت بي الحال ألصبح سحاقية ؟ !‪ .‬كيف ؟؟‪ .‬لم أعد أعرف من أكون !‪ ...‬ال أدري من أو ماذا‬
‫أكون !!‪ .‬يجدر بك أن تحملني بين ذراعيك و تلقي بي من على الشرفة‪ ....‬أرجوك‪ ،‬افعل ذلك !‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫سر ما كان يُثخن قلبها على ما‬
‫ي بعينيها الواسعتين الجميلتين الغارقتين في دموع ثقيلة ثقل ّ‬
‫رفعت ناظرها إل ّ‬
‫يبدو‪ .‬سر لم تبح به ألحد من قبل‪...‬‬

‫_ ‪....‬لستُ سوى ساقطة !‪ُّ .‬‬


‫بت متأكدة من ذلك اآلن !!‪.‬‬

‫كان صوتها مرتعشا‪ .‬متقطعا‪ ،‬لكنه يفيض بيقين غريب ال يُمكن أن يصدر من أفكار سخيفة تخرج من فم‬
‫شخص سكران‪ .‬و من بين كل األسئلة التي كانت تتنافس داخل رأسي محاولة النزول إلى لساني المعقود‪ ،‬لم أرى‬
‫غير أفضل من واحد لطرحه على نفسي فقط‪ " :‬أليس الوقت متأخرا للحديث ع ّما حدث ؟ "‪ُ .‬رحت فقط أمسح بقايا‬
‫تلك القذارة من على شفتيها و ذقنها بمنشفة ّ‬
‫مبللة‪...‬‬

‫_ هيا يا عزيزتي‪ .‬اهدئي‪ ...‬اهدئي‪ .‬الوقت متأخر اآلن و أنت جد متعبة‪ .‬لماذا ال آخذك إلى الفراش لتنامي‪.‬‬
‫غدا سيكون يوما جديدا و ستكونين أفضل‪ .‬هل أهلك على علم بأنك غائبة عن المنزل ؟‪.‬‬

‫لم تقل شيئا‪ .‬أومأت برأسها أن نعم و هي تراني أحمل جسدها الذابل بين ذراعي متّجها بها إلى غرفة نومي‪.‬‬
‫مرة أحمل فيها فتاة بين ذراعي‪ .‬غريب كيف كان وزنها خفيفا و كيف كان جسمها نحيفا‪ .‬فهمت‬
‫كانت تلك أول ّ‬
‫ليلتها لم تميل صوفيا المسكينة إلى ارتداء المالبس الفضفاضة في العادة‪ .‬جسدها جسد قطة صغيرة‪.‬‬

‫قبل أن أضعها في الفراش‪ ،‬كانت قد غابت تماما في جوف نومها العميق‪ ،‬كطفلة صغيرة عادت لتوها من سفر‬
‫طويل بدأته و لم تستطع إكماله‪ .‬تلك الدمعات كانت ال تزال تلتصق بوجنتيها و قد انسابت نزوال باتجاه أذنيها‬
‫ي أحاسيسي بين الحزن و الشفقة و‬
‫بمجرد أن مدّدتها على السَّرير واضعا رأسها برفق على الوسادة‪ .‬اختلطت عل ّ‬
‫الحيرة‪ ،‬فجلستُ على حافة السرير للحظات و أنا أتأمل وجه صوفيا الجميل ُمحاوال افتراض سبب تلك الحالة التي‬
‫لم أرها عليها من قبل‪.‬‬

‫كنتُ مرهقا تماما و لم يخطر على بالي شيء‪ .‬ف ّكرت في ترك كل شيء لما بعد طلوع الشمس‪ .‬سترتُ الفتاة‬
‫المسكينة و أطفأت الضوء ساحبا باب الغرفة خلفي تاركا إياه مفتوحا جزئيا‪ .‬سرتُ عائدا إلى الصالة على أنغام‬
‫أغنية روك قديمة كانت تبثها أمواج اإلذاعة‪ .‬رميتُ بجثتي التي تضاعف وزنها فوق األريكة مرة أخرى‪ ،‬و على‬
‫ذلك اللحن الثقيل نظرتُ بعينين منطفئتين إلى تلك الفوضى من األوراق و الكتب و الملفات التي كانت تحيط بجهاز‬
‫الالبتوب و منفضة السجائر الممتلئة بالرماد و األعقاب و ذلك الصحن الزجاجي الصغير الذي بقي فيه شيء من‬
‫ماء حبّات الفراولة األحمر‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ ،‬رويدا رويدا‪ ،‬شيئا فشيئا‪ .‬كنتُ منهكا جدا‪ ،‬إلى حد أني لم أستطع‬ ‫‪ ........‬راح خيط أفكاري ي ّ‬
‫تقطع ّ‬
‫االستمرار في التفكير‪ .‬أغمضتُ عيني متن ّهدا على صوت ذلك المطرب المتمدِّّد ّ‬
‫بقوة في صمت الجو الليلي و هو‬
‫يختلط بسالسة بين الموسيقى السيمفونية و موسيقى الروك‪....‬‬

‫‪I’m digging my way‬‬


‫‪Yes I’m digging my way to something‬‬

‫‪97‬‬
‫‪I’m digging my way to something better yeah‬‬
‫‪I’m pushing to stay‬‬
‫‪Yes I’m pushing to stay with something‬‬
‫‪I’m pushing to stay with something better yeah‬‬

‫…‪With something better...oooh… oooh….oooohh‬‬

‫( أنا أشق طريقي‪ ،‬أشق طريقي نحو شيء ما‪ ،‬أشق طريقي نحو شيء أفضل‪ .‬أنا أدفع نفسي ألبقى‪ ،‬أدفع‬
‫نفسي ألبقى مع شيء ما‪ ،‬أدفع نفسي ألبقى مع شيء أفضل‪ ،‬شيء أفضل‪ ...‬آه آه آه‪) ....‬‬

‫_ " ال !‪ ،‬على األرجح سأفقد عقلي بسبب هذا الحفر المضن باتجاه هذا الذي س ّميته سبقا نهائيا !‪ .‬قد ال أكون‬
‫قادرا على إنقاذ نفسي من خدعته القاتلة في النهاية ؟ "‪.‬‬

‫قال ذلك الصوت داخل رأسي‪ .‬كانت مجّرد لحظات ظننتُ فيها أني سأغرق في نوم عميق‪ ،‬قبل أن يهزني‬
‫شيء بعنف قبل انتهاء تلك األغنية بثوان‪ .‬شيء جعلني أفتح عيني و أنا أرغب في االنتفاض من مكاني لوال إرهاق‬
‫سهرة طويلة و نعاس ساعات الصباح األولى‪ .‬لم أجد غير أن ألطم جبهتي بكفّي قبل أن أضعه على فمي و أنا‬
‫مشدوه‪....‬‬

‫_ كيف نسيت األمر ؟‪ .‬يا لغبائي !!‪.‬‬

‫انتابتني رغبة عنيفة في النهوض و الركض مباشرة إلى غرفتي إليقاظ صوفيا و معانقتها بشدّة و االعتذار‬
‫منها على ما رأيتُ أنه شكل ما من أشكال التفريط تجاه صديقة ّ‬
‫تمر بأيام عسيرة على ذاكرتها !‪.‬‬

‫كنتُ قد فهمت لتوي سبب انهيارها المفاجئ ذاك‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫‪-0-‬‬

‫صباح المتو ِ ّحش‬


‫شهقة ال َّ‬
‫يتهيّأ لي دوما بأنني أستطيع سماع صوت أمواج شاطئ الرميلة من شقتي كل صبيحة عندما أفتح عيناي من‬
‫نومي‪ .‬ضل ذلك يمنحني رغبة جامحة في النزول و السير قليال على طول الواجهة البحرية لباب الوادي‪ ،‬في كل‬
‫صباح نقي لم يتلوث بعد بجنون الناس و شرورهم التي ال تنتهي‪.‬‬

‫فتحتُ عيناي على حركة غير عادية‪ ،‬فوجدت نفسي ال أزال في وضعية الجلوس على األريكة مقابال حاسوبي‬
‫المحمول و تلك الفوضى من األوراق و الكتب و رقاقات مقاالت الجرائد على الطاولة الزجاجية وسط الصالة‪.‬‬
‫كنتُ أشعر بآالم في الظهر و الرقبة جراء نومي بتلك الوضعية غير ال ِّ ّ‬
‫صحية‪.‬‬

‫كانت صوفيا تقف عند مدخل الغرفة و هي تحمل جهاز التحكم عن بعد الخاص بالتلفاز و قد أطفأته لتوها‪.‬‬
‫كانت حركتها وسط الغرفة هي التي جعلتني أستيقظ إذن ؟‪ .‬كانت ترتدي بشكيري األزرق و هي تلف شعرها‬
‫المبلّل بمنشفة يبدو أنها أخذتها من خزانة غرفة النوم‪ْ .‬‬
‫بدت في البشكير الذي كان أكبر منها و كأنها عصفورة‬
‫نحيفة مبللة تحاول االختباء في قطعة قماش ناعمة الملمس بحثا عن شيء من الدفء و األمان‪.‬‬

‫_ صباح الخير‪ ...‬لقد‪ ...‬سمحتُ لنفسي بأخذ حمام صغير‪ .‬لم أستطع احتمال نفسي مع كل تلك الروائح‬
‫الكريهة‪ .‬آمل أال يزعجك هذا ؟‪.‬‬

‫التعرف على بعضنا‬


‫ّ‬ ‫كان صوتها هادئا فيه نبرة من الخجل‪ .‬انتابني إحساس من الخجل المتبادل‪ .‬كأننا كنا نعيد‬
‫مرة تراني فيها عند استيقاظي من‬
‫البعض من جديد‪ ،‬فرغم صداقاتنا التي بدأت قبل نحو عامين‪ ،‬كانت تلك أول ّ‬
‫مرة أراها فيها بثياب ما بعد االستحمام‪.‬‬
‫نومي مباشرة‪ ،‬و كانت تلك أول ّ‬

‫_ صباح النور‪ .....‬طبعا ال‪ .‬ال مشكلة !‪ .‬تشعرين بتحسّن ؟‪.‬‬

‫_ صداع رأس رهيب !‪.‬‬

‫_ هناك حبّات أسبرين تجدينها في علبة الطوارئ الطبية في الحمام‪.‬‬

‫_ أخذتُ حبّتين قبل دقائق‪.‬‬

‫ْ‬
‫أطلقت بسمة ساخرة‪...‬‬ ‫ْ‬
‫نظرت إلى أثاث الغرفة و كأنها تعيد اكتشافه مرة أخرى‪ ،‬ثم‬

‫_ أال تفكر في تغيير هذه األثاث ؟‪ .‬تبدو و كأنها من حقبة دار سبيطار !‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫ورطتني في هذا‪ .‬إنه أثاث بيت الجد و الجدة و هي تريدني أن أحتفظ به‪ .‬ربما تخشى أن تُنسيني‬
‫_ أه أمي ّ‬
‫الحياة في العاصمة من أكون أو من أين أتيت ؟‪.‬‬

‫صمتت للحظة و هي تنظر إلى كل تلك األوراق و الكتب المبعثرة فوق الطاولة الزجاجية حول الحاسوب‬
‫مستمرة في التبسم‪ ،‬في حين كنتُ أحك عيني و أربّت على عنقي محاوال طرد بقايا النوم عني‪...‬‬
‫َّ‬

‫ُولّد ما ال يقل عن ستين ألف فكرة في اليوم – قالت و هي تبتسم –‬


‫_ أتعلم ؟‪ ،‬يقول العلماء أن دماغ اإلنسان ي ِّ‬
‫ندونها أو نستغلها في ابتكار شيء ما‪ .‬على ما يبدو أنك‬
‫لكننا ال ننتبه في العادة إال إلى بضع عشرات منها فقط كي ّ‬
‫شخص يرغب في تدوين و التفاعل مع كل األفكار التي تخطر على باله جراء تفاعله مع العالم الخارجي !‪.‬‬

‫ْ‬
‫أطلقت ضحكتها الطفولية المعتادة متجهة نحو األريكة المقابلة حيث جلست جامعة ساقيها إلى‬ ‫قالتها و قد‬
‫بعضهما على الجانب‪ .‬ضحكتها تلك أشعرتني بنوع من االرتياح أخيرا‪ .‬لقد كانت ضحكة صوفي التي أعرفها‬
‫جيدا‪.‬‬

‫_ أه !‪ .‬إنه البحث الذي أجريه في سبيل فهم مسار حزب الجبهة و كيف بدأ كمنظمة ثورية هدفها قلب الطاولة‬
‫على الجيل األبوي المتغطرس و المتهالك و تحقيق االستقالل بسبل أخرى‪ ،‬ليتحول بعد االستقالل إلى جهاز‬
‫بيروقراطي كبير هدفه الهيمنة و السيطرة على السلطة و االحتفاظ بها بكل السبل و تحت كل المبررات‪...‬ألم‬
‫تشعري بالفضول يوما لمعرفة سبب تكرارنا لنفس التجارب االجتماعية – التاريخية ؟‪ ،‬عن ظاهرة تحول كل جيل‬
‫قلب الطاولة على الجيل األكبر منه سنا بسبب غطرسته إلى جيل متغطرس آخر على الجيل الذي يليه‪ ،‬باسم‬
‫شرعيات وهمية مختلفة ؟‪.‬‬

‫_ هممم‪ ...‬ال تزال تر ّكز في أعمالك على علم االجتماع السياسي ؟‪ .‬حسن‪ ..‬من ضمن الستين ألف فكرة التي‬
‫ْ‬
‫عبرت فكرك البارحة‪ ،‬هل من أفكار استطعت اقتناصها أو تسجيلها ؟‪.‬‬

‫_ الكثير‪ ،‬الكثير من االستنتاجات‪.‬‬

‫_ مثل ماذا ؟‪.‬‬

‫_ مثال‪ :‬أنه لوال العيب الجوهري في النفسية الجزائرية لفجّرنا الثورة التحريرية في ظرف ثالث سنوات على‬
‫األقل منذ تأسيس ‪ .l’OS‬و لوال العيب الجوهري في النفسية الجزائرية لحسمنا الصراع مع فرنسا في ظرف ثالث‬
‫إلى أربع سنوات ربّما ؟‪.‬‬

‫ي و هي تتحسس المنشفة التي كانت لتف بها شعرها من حين آلخر‪ ،‬في حين‬
‫لم تقل شيئا و ظلت فقط تنظر إل ّ‬
‫ارتديتُ نظاراتي و وجدتُ يدي تمتد من تلقاء نفسها نحو علبة السجائر لتستل منها السيجارة األخيرة التي كانت‬
‫ي بعقبها األصفر‪ .‬وضعتها بلطف بيم شفتي‪ .‬قمتُ بإشعالها‪ .‬سحبتُ منها النفس األول الذي نفثته في السماء‬
‫تطل عل َّ‬
‫و أنا أعيد أستذكار بعض أفكار اللليلة السابقة‪....‬‬

‫‪100‬‬
‫_ تعلمين ؟‪ ،‬عندما درسنا حادثة المروحة في حصة التاريخ و نحن صغار‪ ،‬لم أفهم السبب المنطقي الذي دفع‬
‫الداي حسين عام ‪0721‬م ِّللَطم القنصل الفرنسي ‪ Pierre Deval‬بمروحة يده‪ .‬قيل لنا إذاك أن ذاك التصرف‬
‫كان كردّ فعل على وقاحة القنصل و سوء أدبه مع حاكم الجزائر األول‪ ،‬و أن تلك الحادثة ش ّكلت الفرصة المواتية‬
‫لفرنسا من أجل إعالن الحرب علينا و بداية الزحف على البالد‪ .‬ذاك اليوم‪ ،‬أذكر أني سألتُ أبي مساء عند عودتي‬
‫ي و قد علت وجهه بسمة فيها شيء ظننته‬
‫نظر إل ّ‬
‫إلى البيت‪َ :‬لم لطم الداي حسين القنصل الفرنسي بمروحته ؟‪َ .‬‬
‫الكبرياء و هو يقول لي بأن الداي فعل ما فعل بسبب " هذا " وأشار بسبّابته إلى أنفه !‪ .‬بصراحة لم أفهم بالضبط‬
‫ورطتنا مع احتالل طويل و متوحّش بـاألنف‪ ،‬رغم أني بعد مدّة فهمت أن‬
‫ما كان يقصد الحاج بتبريره للفعلة التي ّ‬
‫األنف يرمز في ثقافتنا‪ ،‬مثله مثل الشنبات‪ ،‬إلى الرجولة و الشهامة و الكرامة و أن الداي فعل ما فعل ليصون‬
‫كرامة البالد من وقاحة الفرنسيين‪ ،‬و قد أشعرني ذلك بنوع من الفخر يومها‪.‬‬

‫وجدتُ نفسي أتنهد طاردا الدخان من رئتي مكمال عرض وجهة نظري الجديدة‪....‬‬

‫_ يا صديقتي‪ ،‬اليوم أعيدُ ترتيب األمور داخل رأسي بعيدا عن خزعبالت النيف و الشالغم أو هذه الـ" النيفو‬
‫– موسطاشيا " التي زرعوها في عقولنا‪ ،‬و التي ال أراها سوى تبريرا قبيحا ألي إخفاق ممكن في الحياة و تهربا‬
‫الرجلة الفارغة‪ ،‬و الثرثرة الشعبوية‬
‫من المسئولية‪ ،‬بل و تزكية لكل ما يمكن أن يُنتج سلوكيات التفرعن و ُّ‬
‫صلة في أعماق أنفسنا‪ .‬على أحدهم أن يوقف هذا التواتر المرضي‪ ...‬هذا '' التمسطيش '' الفارغ‪.‬‬
‫المتأ ِّ ّ‬

‫ّ‬
‫صمت للحظة بعدما استغربتُ‬ ‫تحك أنفها‪ ،‬ثم ّ‬
‫هزت كتفيها و حاجبيها كمن يقول‪ " :‬ربّما " ؟‪ .‬أما أنا فقد‬ ‫راحت ّ‬
‫مع نفسي كيف لشخصين أن يُدشنا يومهما بحديث في التاريخ و السياسة و الحرب‪ ....‬حتى قبل تناول القهوة !‪.‬‬

‫_ ما عالقة حادثة المروحة مع الحزب العتيد على كل حال ؟‪.‬‬

‫ت فهم ما‬
‫_ التاريخ االجتماعي – السياسي للحزب قد يعطينا فكرة عن بنية الشعب الجزائري العميقة‪ .‬إذا أرد ِّ‬
‫عليك أن تعودي للبحث في ماضي والديك و والديهما و أجدادهم إضافة إلى‬
‫ِّ‬ ‫ت عليه‪،‬‬
‫يحدث لك اليوم و ما أن ِّ‬
‫المجتمع الذي تعيشين فيه ككل‪.‬‬

‫ْ‬
‫رمت بصرها إلى األرض و تاهت فجأة في أفكارها‪ .‬بدى‬ ‫ْ‬
‫ابتسمت و هي تومئ برأسها موافقة على كالمي ثم‬
‫لي أنها فهمت قولي على أنه تلميح للحالة التي كانت عليها الليلة السابقة‪ .‬أحسستُ أني اقترفتُ خطأ غير مقصود‪.‬‬

‫_ صوفيا‪ .‬لم أقصد التلميح‪ ...‬صدّقيني !‪.‬‬

‫ي مطلقة بسمة فيها شيء من األسى أو التأسّف‪...‬‬


‫نظرت إل ّ‬

‫_ ال عليك مينو‪ ...‬أعلم‪ ...‬أعلم‪...‬‬

‫أطفأتُ السيجارة في المنفضة بعدما استهلكتُ نصفها فقط‪ ،‬حينما راحت لحظات الصمت تتمدّد بيننا‪ .‬كنتُ‬
‫أبحث عن العبارات المناسبة التي ألوم بها نفسي أمام صوفيا معربا لها عن مدى غبائي ألني لم أكن طيلة األيام‬

‫‪101‬‬
‫الفارطة حاضرا لمواساتها معنويا‪ ،‬أمام ذكرى ما وقع لها ذات صبيحة من شهر أفريل قبل سبعة أعوام‪ .‬نظرتُ‬
‫الرمال‬
‫إليها و قد بدأ خيط أفكارها يسحبها مني تلك اللحظة و هي ماضية في الشرود مرة أخرى‪ ،‬كمن تسحبه ِّ ّ‬
‫المتحركة دون أن يتخبّط أو يطب النجدة‪.‬‬

‫ْ‬
‫طلبت صوفيا النجدة لما انتهى بها المطاف بين ذراعي ثملة إلى تلك الدرجة الليلة الفارطة‪.‬‬ ‫لو‬

‫كونك تعيشين‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫أتفطن إلى‬ ‫ي أن‬
‫_ اسمعي !‪ .‬ال أدري كيف أقول هذا‪ ،‬لكني فعال أعتذر إليك بشدّة‪ .‬كان عل َّ‬
‫ذكراك السيئة تلك‪ ،‬ألكون حاضرا بجانبك و أساعدك بما أستطيع لتفاديها‪ ....‬اهتمامي الشديد بالعمل و كل هذه‬
‫الضغوط و الترقب و هذه الحملة االنتخابية و هواجس هذا الربيع العربي‪.....‬أخخخ‪ ....‬كل هذا‪ ...‬حقا أنا آسف !‪.‬‬

‫ْ‬
‫ابتسمت بهدوء‪...‬‬

‫_ ليس هنالك ما يدعوك للخجل أو التأسف‪ .‬الحقيقة هي أني أنا من يجدر بها الخجل من نفسها‪ .‬أصدقك القول‬
‫أني لم يسبق لي و أن فعلتُ ما فعلت الليلة الماضية‪.‬‬

‫أهلك على علم بأنك خارج البيت ؟‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫_ هل‬

‫_ أه دعنا منهم !‪ .‬أخبرتهم أمسية البارحة أني سأمضي الليلة رفقة صديقة‪...‬‬

‫أجابتني بنوع من التململ‪...‬‬

‫_ ماذا حدث ؟‪ ....‬أقصد‪ ...‬إن كنت تعتقدين أنه الوقت المناسب إلخباري طبعا !‪.‬‬

‫_ السقوط الحر‪ .‬إنه السقوط الحر !‪.‬‬

‫قالتها و هي تتنهد بع مق و كأنها تستعد للبدء في سحب تلك األكوام من االنفعاالت ال ُمشبعة بالحزن و الخوف‬
‫أرغب في ثنيها عن الخوض‬
‫ُ‬ ‫و الغضب‪ ،‬جراء ما حدث لها صبيحة الحادي عشر أبريل ‪ .2994‬و بقدر ما كنتُ‬
‫في الموضوع كونها ظلت لسنوات تتفادى الخوض فيه‪ ،‬بقدر ما كان الفضول يمنعني من أن أقترح عليها تأجيل‬
‫الحديث عنه الى ما بعد تناول وجبة الفطور أو إلى وقت آخر أكثر مالئمة‪ .‬انتابني شعور أن تلك الفرصة لن‬
‫تتكرر‪ .‬رأيتُ في عينيها رغبة في اقتسام ذكراها الرهيبة تلك معي‪.‬‬

‫ي بصمت‪ .‬كانت مسحة من الحزن بادية على وجهها رغم أنها كانت‪ ،‬كعادتها‪ ،‬تحاول تمويهها‬ ‫ْ‬
‫نظرت إل ّ‬
‫بإيماءات الصالبة و عدم االكتراث لأللم‪ .‬كنتُ أعلم أنها كانت تقاوم رغبتها في عدم البوح بألمها و مخاوفها‬
‫المشبعة بالصدمة و دهشة الحدث الذي غيّر حياتها إلى األبد‪ّ ،‬‬
‫لكن أنفاسها المتدفقة بالحزن و الشعور بالوحدة بدأت‬
‫تغلبها و تدفعها بعنف كي تبوح لي بما يقتلها منذ زمن‪ .‬فهمتُ أنها لحظة الالرجوع‪ .‬لحظة االنهزام أمام كبرياء "‬
‫األنا "‪ .‬لحظة البوح بالضعف‪...‬‬

‫‪102‬‬
‫أطلقت ضحكة ته ُّكمية – يبدو هذا نفسه مثيرا‬
‫ْ‬ ‫ي كان –‬
‫_ أمين‪ ،‬في الغالب‪ ،‬ال أحبُّ أن أشكو حالي أل ّ‬
‫للشفقة !‪ ،‬لكن‪ ...‬يبدو لي أني ال أزال أتصرف وفق ما كنتُ من قبل و ليس ما أصبحتُ عليه اليوم‪ .‬أحيانا يعجبني‬
‫ذلك‪ ،‬لكنه سرعان ما يتبدد‪ .‬تعلم ؟‪ ،‬عندما كنتُ أبلغ التاسعة من عمري كان جميع من حولي يقولون لي أني‬
‫سأصير امرأة جميلة جدا‪ .‬أذكر أحاديث النسوة في األعراس التي كنتُ أحضرها و هن يهمسن ألمي ضاحكات‪،‬‬
‫يخبرنها بأني سأكون امرأة مشتهاة من طرف جميع الرجال‪ ،‬لجمال وجهي و عالمات نضجي جسدي المبكرة التي‬
‫كانت تنبئ بجسد مثير جدا‪ .‬كنتُ أتظاهر بأني ال أسمع أحاديثهن عني‪ ،‬ربما ألدفعهن لقول المزيد‪ .‬كنتُ أستلذّ كل‬
‫ذلك المديح و اإلطراء و كنتُ أشعر بالغبطة‪ ،‬معتقدة أني بعد بضع سنوات سأكون تلك الشابة التي يركض خلفها‬
‫الفتيان في الشارع و يتشاجرون بسببها‪....‬‬

‫ْ‬
‫أطلقت ضحكة خفيفة و كأنها تشاهد ماضيها يمر أمام عينيها الحزينتين‪...‬‬

‫_ ‪ ....‬يوم علمتُ أن شقيقتي زهيّة التي تكبرني بسبعة أعوام واقعة في حب ابن الجيران الذي كان يبادلها‬
‫أكف طيلة أيام عن مراقبتها و هي في‬
‫ّ‬ ‫نفس المشاعر‪ ،‬جرفني الفضول ألكتشف حال األنثى الواقعة في الحب‪ .‬لم‬
‫خلوتها تستمع إلى أغاني ماجدة الرومي التي كانت تعشقها‪ .‬كانت تبتسم بحنو و هي شاردة النظرات حينا‪ ،‬و تنظر‬
‫إلى مرآتها الصغيرة و تلعب بخصالت شعرها بين أصابع يدها حينا آخر‪ .‬كانت ُمغرمة !‪ .‬زهيّة لم تكن أجمل مني‬
‫بشهادة الجميع‪ ،‬لذلك كنتُ سعيدة جدا من أجل نفسي‪ ،‬كوني كنت متأ ّكدة بأنني لن أجد أي صعوبة في الظفر بقلب‬
‫أي شاب يعجبني حين يحين الوقت‪ .‬أذكر أني كنتُ أتسلّل إلى غرفتها التي كانت تقتسمها مع ابنة خالتي التي كبرت‬
‫ي‪ ،‬و أقف أمام المرآة تارة أتأمل نفسي‪،‬‬
‫المطرز بأشكال أزهار زرقاء صغيرة إل ّ‬
‫ّ‬ ‫معنا‪ .‬كنتُ أض ّم فستانها األبيض‬
‫و أدور راقصة في محيط الغرفة تارة أخرى على أغنية " كلمات " التي أحببتها دوما‪.‬‬

‫_ أه‪ .‬إحدى روائع العمالق نزار قباني !‪.‬‬

‫ت ذراعي‪ ،‬يزرعني‬
‫_ صح‪ ...‬صح‪ " .! ...‬يُسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات‪ ...‬يأخذني من تح ِّ‬
‫في إحدى الغيمات‪ ...‬و المطر األسود في عيني يتساقط زخات زخات "‪ .....‬يااااه كم أحببتُ تلك األغنية !‪ .‬ال‬
‫أدري َلم يُذكرني لحنها بستائر نوافذ منزلنا القديم و هي ترفرف و تتمايل بلطف على نسمات البحر في أمسيات‬
‫الصيف‪ .‬آه أشتاق إلى ذلك البيت كثيرا !‪ .‬كنتُ صبية ككل الصبايا‪ ،‬أرقص أمام المرايا‪ ،‬و أنا أتخيل نفسي أراقص‬
‫فتى األحالم‪.‬‬

‫ي‪...‬‬ ‫تن ّه ْ‬
‫دت آخذة لحظة من الصمت قبل أن تنظر إل ّ‬

‫_ بعد زلزال بومرداس ‪ 2993‬الذي هدم بيتنا القديم تماما‪ ،‬جئنا للعيش هنا في العاصمة محاولين بدء حياة‬
‫صرتُ حديث العام و الخاص‪ .‬اكتمل نضجي‬
‫جديدة‪ .‬كنتُ في الثانوية و كما توقعت و توقع الجميع‪ ،‬في الثانوية ِّ‬
‫الجسدي و امتلكتُ أخيرا الجمال و الجسد اللذين صارا سالحي الذي أنال به كل ما أريد‪ .‬الفتيات كن يتودّدن إلي و‬
‫يخطبن صداقتي من أجل الظفر بمالحظات و نظرات الفتيان و ودِّّهم كونهن صديقات لي‪ ،‬أ ّما الفتيان فكانوا‬
‫يله ثون خلفي طمعا في عالقة غرامية أو صداقة يتخذونها مطية للوصول إلى أشياء أخرى معي‪ .‬أذكر كيف كانت‬

‫‪103‬‬
‫صديقاتي يُخبرنني أن مؤخرتي مثيرة جدا‪ .‬كنا كأي مراهقات في هذا العالم‪ ،‬واقعات تحت سطوة صرعة الجسد و‬
‫الهوس بمفاتنه‪ ،‬نضحك في خلوتنا من تلك المالحظات التي كنا نطلقها على أجساد بعضنا البعض و كأننا نساعد‬
‫بعضنا على اكتشاف حياة جديدة‪ُ ،‬مربكة بتغيراتها الغريبة و السريعة‪ .‬كالمهن عن جسدي الجميل و الممشوق كان‬
‫حقيقيا‪ .‬كان الجميع يرمي بنظراته الصريحة أو الخاطفة أو العابرة إلى قوامي و أنا أسير في أروقة الثانوية‪ .‬كنتُ‬
‫متفوقة في كل شيء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أشعر بأني ملكة حقيقية و كانت الحياة أمامي تبدو ككتلة من االنتصارات الشهية‪ .‬كنتُ‬
‫الدراسة‪ ،‬الرياضة‪ ،‬الموسيقى‪ ،‬الحياة االجتماعية‪ ...‬كل شيء !‪ .‬لكنني لم أعثر قط على فارس األحالم الذي طالما‬
‫انتظرته و تخيلته كلما سمعتُ أغاني ماجدة الرومي !‪.‬‬

‫ت أن الكثيرين كانوا يسعون وراءك ؟‪.‬‬


‫_ قل ِّ‬

‫_ كلّهم كانوا يلهثون ورائي و الكثير منهم كانوا على قدر من الوسامة و الرومانسية‪ .‬أذكر مثال ذاك الفتى‬
‫التلمساني‪ ،‬صالح‪ ،‬بوجهه األسمر الجميل‪ ،‬شعره األزعر و عينيه الخضروين و قوامه المكتمل‪ .‬كان شابا جميال و‬
‫متأنقا جدا‪ ،‬كما كان مغرما بي حدّ الجنون‪ .‬اعتبرتُ ذلك نصرا آخر لي‪ ،‬لكنني لم أفكر يوما بإعطائه فرصة رغم‬
‫محاوالته الكثيرة‪ .‬صديقاتي كن يلمنني على ذلك كونه كان الشاب الوسيم الغامض القادم حديثا من مدينة حدودية‬
‫بعيدة‪ ،‬كما أنه كان من النوع الذي ال يركض خلف أي فتاة من أجل المتعة العابرة‪ .‬كان صادقا جدا في مشاعره‬
‫نحوي‪ّ .‬‬
‫كن يقلن لي بأني ماضية في التحول إلى مغرورة كبيرة و بأني قد أندم ذات يوم على كل أالئك المساكين‬
‫الذين ّ‬
‫حطمتُ قلوبهم‪ .‬لم أكن فقط أرغب في الكذب على نفسي‪ ،‬فهذا الحب الذي طالما سمعتُ و قرأتُ عنه و‬
‫انتظرته لم أشعر به قط و لم أره كما كنتُ أتصور أو أتوقّع‪.‬‬

‫ت في الحب إذن ؟ !‪.‬‬


‫_ لم يسبق و أن وقع ِّ‬

‫بمجرد أن أشعر بأنهم يبادلونني تلك المشاعر من‬


‫ّ‬ ‫_ كنتُ أميل بعاطفتي إلى فتيان معينين من حين آلخر‪ ،‬لكن‬
‫اإلعجاب و الود إال و أشعر فجأة بموجة من البرود تجاههم فأجد نفسي أتجاهلهم تماما‪ .‬يبدو أني كنتُ أبحث عن‬
‫شخص اتحداه‪ .‬فتى مغرور و قوي تحبُّه الفتيات‪ ،‬أقوم بغوايته حتى أبرهن لنفسي و لهن كم أنا قوية‪ ،‬بجعله يلين‬
‫لي و يسقط في شباكي‪ .‬كان ذلك يمنحني شعورا غريبا بالرضى و السعادة‪ .‬لم أكن أعر أي اعتبار لما قد يعيشه‬
‫الطرف اآلخر من خيبة و ألم و إحباط فيما بعد !‪.‬‬

‫صمتت للحظة و كأنها متردّدة في البوح بها‪ ،‬لكنها استجمعت نفسها و شجاعتها‪...‬‬

‫_ ألقل‪ ...‬طيلة مراهقتي‪ ،‬لم أكن في الحقيقة واقعة إال في حب نفسي !!‪.‬‬

‫ضربات مطرقة الندم و األسى على كبرياء كانت واضحة على نظرات الفتاة المسكينة‪ ،‬رغم أني لم أكن‬
‫أستطيع سماع طرقاتها العنيفة و الثقيلة على ضميرها المنهك‪ .‬كنتُ فقط أرى أثر صداها البشع في نظراتها‬
‫المنكسرة و هي مطأطأة الرأس‪ ،‬كوني فهمتُ َلم بدأت قصتها تلك من أيام طفولتها‪ ،‬بدل أن تبدأ في قص ما حدث‬

‫‪104‬‬
‫لها صبيحة ذلك الهجوم اإلرهابي العنيف الذي ّ‬
‫مزق قلب العاصمة‪ .‬كنتُ أكاد أقول أنها تعتبر ما حدث لها تلك‬
‫الصبيحة انتقاما إلهيا من كل تلك القلوب الذكورية التي ّ‬
‫حطمتها عندما كانت نجمة في عالمها الشبابي الصغير‪.‬‬

‫ْ‬
‫ابتعلت ريقها و هي ماضية في التقدّم بذاكرتها المضطربة‪...‬‬

‫_ عندما كنتُ في السنة الجامعية الثانية‪ ،‬كنتُ قد هدأت قليال في تلك المرحلة التي ينفجر فيها جنون الشباب‬
‫تحولتُ في تلك المرحلة إلى صخرة من الجليد و كل ما كان يهمني في الجامعة هو تحصيلي‬
‫في العادة‪ .‬بالكاد ّ‬
‫العلمي كوني كنتُ أرغب في الظفر بمنحة دراسية إلى الخارج‪ّ .‬‬
‫ظن البعض أن ارتدائي للحجاب كان السبب في‬
‫ابتعادي عن البحث عن الفتيان لتحطيم أفئدتهم من أجل إرضاء غروري و تغذيته بأحزانهم و انكساراتهم معي‪،‬‬
‫لكن الحقيقة هي أني كنتُ قد اكتشفتُ بطريقة تشبه الصدفة ّ‬
‫أن أثر الحجاب نفسه ضاعف من أعداد الالهثين خلفي‪.‬‬
‫أبي لم يفرض علي ارتداءه لكنه اجتهد مع والدتي في إقناعي بفوائده‪ .‬كانا يقوالن لي إنه يزيد من الوقار و الهيبة و‬
‫المتحرشين و المنافقين و المخادعين و ال يجلب سوى " أوالد الفاميليا " الحقيقيين‪....‬‬
‫ّ‬ ‫الثقة في النفس‪ ،‬كما يُبعد‬
‫أقنعني بعض هذا الكالم‪ ،‬و أشفقت على الطريقة التي كانا يفكران بها من جهة أخر‪ ،‬كوني ابنة هذا الزمان الخادع‪،‬‬
‫عرفتُ الكثير من المتح ِّ ّجبات الساقطات و عرفتُ الكثير من السافرات المحترمات‪ ،‬لكنني ارتديتُ الحجاب كما‬
‫تفعل نساء أسرتنا في الغالب‪ .‬لم أشعر بأي حرج أو ضيق من األمر رغم أني شككتُ في البداية بأن ذلك سيكون‬
‫سبيال لستر جسدي و جمالي الذي كبرتُ مستمتعة بأسطورت ه بين األلسن و سطوته على العقول‪ ،‬لكنني بعد فترة‪،‬‬
‫وجدت الحجاب هو اآلخر ممتعا بشكل غريب‪ ،‬عندما راح ال ُخطاب يتوافدون على أبي و أشقائي من دون انقطاع‪.‬‬
‫كم أحببتُ أن أجد نفسي أتدلّل رافضة كل شخص يأتي للبيت حامال باقة ورد و علبة حلوى مع أهله‪ .‬كنتُ أتحجّج‬
‫ظاهرا بدراستي‪ ،‬لكنني في باطني كنتُ أستلذّ الرفض و التّمنع‪ .‬شعرتُ بأني فعال كما كنتُ أتوقع‪ ،‬قوية حد القسوة‬
‫و ملكة قلوب حقيقية و أن الحياة ال يمكن إال أن تكون لي كما أريد‪ ،‬و بما أن الجميع كانوا يقعون في حبي بسهولة‪،‬‬
‫ت بعد !‪.‬‬ ‫كنتُ أقول في كل ّ‬
‫مرة أن فارس األحالم لم يأ ِّ‬

‫سكتت صوفيا مرة أخرى‪ .‬انقطع حديثها و ساد الصمت الغرفة‪ ،‬إلى درجة أني تمكنتُ من سماع الحركات‬
‫األولى التي دبّت في الشارع تحت العمارة‪ .‬أصوات األفراد األوائل الذين يخرجون متجهين إلى عملهم قبل البقية‪.‬‬
‫أصوات محركات السيارات التي تُشغّل لتسخن قليال قبل أن ينطلق بها أصحابها إلى مشاربهم المختلفة‪ .‬أصوات‬
‫الدوارة‪ .‬كانت السماء زرقاء و قد زادت ضياء‬
‫أصحاب المحالت و هم يرفعون مصارع محالتهم المعدنية ّ‬
‫بالخيوط األولى لشمس النهار التي راحت تالمس األبنية المجاورة‪ .‬لكن صوفيا عادت لتستردني إلى الغرفة‬
‫بصوتها الذي ارتجف للحظة‪....‬‬

‫_ أذكر جيدا ذاك اليوم‪ .‬كان يوم أربعاء‪ .‬صبيحته كانت رمادية‪ .‬كنتُ رفقة صديقتا الثانوية هِّند و نفيسة‪.‬‬
‫األولى كانت تدرس الحقوق و الثانية كانت تدرس الشريعة‪...‬‬

‫ارتسم ْ‬
‫ت على وجهي بسمة من دون أن أدري‪ ،‬الحظتها صوفي بسرعة‪..‬‬

‫_ ما األمر ؟‪ ،‬أراك تبتسم ؟‪..‬‬

‫‪105‬‬
‫ت الكارهة للمتديّنين‪ ،‬تصادقين فتاة تدرس الشريعة‬
‫_ أه‪ ...‬آسف‪ ،‬فقط أجد صعوبة في تصورك و أن ِّ‬
‫اإلسالمية !‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬بل يجدر بك أن تص ِّدّق أني كنتُ قبل اليوم فتاة متح ِّ ّجبة‪ .‬ال أقول متدينة بالمعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬ألني‬
‫اليوم ال أؤمن أصال بأن هنالك متدينين في أيامنا هذه‪ ،‬حتى من بين أالئك الذين يُحاولون الظهور كأنهم بهذا‬
‫المظهر‪ .‬لكنني كنتُ كغالبية الجزائريين في كل األحوال‪ ،‬أصلي و أصوم رمضان و أؤمن باهلل و الجنة و النار و‬
‫ما إلى ذلك‪ .‬صديقتاي كانتا مثلي أيام الثانوية‪ ،‬لكن إحداهما بقيت سافرة و الثانية قررت ارتداء النقاب‪ ،‬أما أنا‬
‫فاخترت الحجاب‪ .‬بقينا صديقات و لم تؤثر اختياراتنا الذاتية على عالقتنا أبدا !‪ .‬تلك الصبيحة أذكر أني مررتُ‬
‫الربع صباحا في حي الحراش‪ ،‬سلّمت على أمها‪ .‬العبتُ شقيقها الصغيرة‬
‫بنفيسة في بيت أسرتها زهاء العاشرة و ُّ‬
‫ذو األربع سنوات‪ ...‬هِّه كان يريد أن يُريني السلحفاة الصغيرة التي جلبوها من رحلتهم إلى مرتفعات الشريعة ذات‬
‫يوم‪ .‬تناولتُ معهم قهوة بالكعك على الخفيف على ضحكاتي من نفيسة‪ ،‬التي كانت تخاف جميع أصناف الزواحف‬
‫استمر شقيقها بجلبها أمام أنظارها‪ .‬خرجنا مسرعتين و‬
‫ّ‬ ‫و هي تهدد برمي السلحفاة " حياة " من نافذة العمارة إن‬
‫استقلينا سيارة أجرى متجهتين إلى حي باب الزوار لمالقاة هِّند‪ ،‬التي اتصلت بي هاتفيا تخبرني بأنها خرجت لتوها‬
‫ّ‬
‫محطة النقل هناك‪ .‬كانت فتاة‬ ‫من مقر الشرطة بعدما استعادت حقيبة يدها‪ ،‬التي كانت قد أضاعتها قبل أيام في‬
‫كثيرة المشاغل و الشرود و النسيان‪ .‬قالت بأن شقيقها الذي يعمل في ذات المقر قد اتصل بوالدتها و أعلمها أنه‬
‫استرد الحقيبة و أنه في انتظارها كي يُعيدها إليها‪ .‬كانت نبرة صوتها تفيض باالطمئنان كون أوراقها الثبوتية و‬
‫بطاقات االنتساب إلى الكلية و مختلف المكتبات‪ ،‬بعض كراريسها و كتبها‪ ،‬كانت كلها في الحقيبة‪ ....‬أنتَ تعرف‬
‫حال طلبة الحقوق !‪.‬‬

‫صمتت صوفيا مرة أخرى‪ ،‬و انبثقت من عينيها نظرة غريبة لم أستطع فهمها أو تفسيرها‪ .‬ش ُخ َ‬
‫ص بصرها و‬
‫علت وجهها إماءة شخص يستحضر و يُعيد فحص خاطرة ما و هو يحاول االندماج مع مضامينها‪ّ ،‬‬
‫لكن شيئا قويا‬
‫ي ُمستغربة‪...‬‬ ‫ْ‬
‫نظرت إل ّ‬ ‫يمنعه من ذلك‪.‬‬

‫_ تعلم ؟‪ ،‬من يقولون أن هنالك لحظات مفصلية كبرى في حياتنا ينشطر فيها عالمنا إلى شطرين ال يلتقيان‬
‫مرة أخرى محقون فعال !‪ .‬ينتابني إحساس غريب كلما تذكرت صوفيا بن شاللي قبل صبيحة ‪ 2994/94/11‬و‬
‫صوفيا بن شاللي بعد تلك الصبيحة‪ .‬و ّ‬
‫كأن بي أمام شخصين‪ .‬أمام قصتين و أمام حياتين و أمام عالمين منشطرين‬
‫و متباعدين تماما ؟ !!‪ ...‬غريب !‪.‬‬

‫_ ماذا حدث ؟‪ ،‬أقصد‪ ....‬كيف حدث ذلك ؟‪.‬‬

‫سألتُها بصوت متردّد‪ ،‬فتنهدت‪...‬‬

‫_ حقا‪ ...‬كان كل شيء على ما يُرام‪ ،‬هل تصدِّّق ؟‪ .‬الحياة كانت طبيعية جدا‪ .‬موغلة في البداهة‪ .‬السيارات‪.‬‬
‫الناس‪ .‬الجو‪ .‬المباني‪ .‬كان كل شيء يوحي بالحياة اليومية العاصمية كما عرفناها لسنوات‪ .‬وصلنا إلى هناك‪ .‬ال‬
‫أذكر بالضبط ما الذي كان يُضحكنا‪ ،‬لكنني أعلم أنه شيء مضحك قاله سائق التاكسي‪ ،‬الكهل اللطيف الذي كان‬

‫‪106‬‬
‫يتجاذب أطراف الحديث معنا حول مواضيع الدراسة و البحث عن الشغل بعد الدراسة بلكنته العاصمية الخالصة‪.‬‬
‫كان يحدثنا عن مصير بناته الخمس بعد الدراسة‪ ،‬و ع ّما َّ‬
‫علمته الحياة كرجل‪ ،‬مستأنسا في كثير األحيان باألمثال‬
‫الشعبية العاصمية‪ ،‬التي كان يقتبسها من أغاني موسيقى ال َّ‬
‫شعبي التي بدى و كأنه يعشقها حقا كعشقه لحي القصبة‪،‬‬
‫الذي ولد و ترعرع فيه كما قص علينا‪ .‬فجأة لمحنا هند من بعيد على الرصيف غير بعيدة عن مدخل مركز األمن‪.‬‬
‫كانت تسير ببطء و هي تتفقد مقتنيات حقيبتها الجلدية السوداء المنتفخة‪ .‬أذكر أني رحتُ أضحك على حالها‪ ،‬في‬
‫حين طلبت نفيسة من سائق األجرة الكهل ركن السيارة إلى الجانب‪ .‬أذكر كلماتها جيدا‪ " :‬دقيقة ع ُّمو‪ ،‬انروح نجيب‬
‫ْ‬
‫رفضت و هي تقول لي بأنه‬ ‫هذيك المهبولة و نرجع‪ ."...‬أخبرتها بأنه ال داعي لذلك بل يكفي أن ننادي عليها فقط‪.‬‬
‫ال يجدر بنا رفع أصواتنا على قارعة الطريق‪ .‬اقترحتُ عليها بأن نتصل بها هاتفيا‪ ،‬لكنها أصرت على أن تنزل‬
‫إلحضارها بنفسها‪ ،‬حينها راح السائق يحثها على اإلسراع كون المكان الذي ركن فيه السيارة قريب من مركز‬
‫الشرطة التي قد يُزعجها ذلك‪.‬‬

‫اضطربت صوفيا أكثر و هي تستحضر تلك اللحظات‪ ،‬كمن يقترب بتردّد و خوف من باب جهنمي ال يرغب‬
‫َّ‬
‫اهتزت أنفاسها و هي تنظر نحو بالط الغرفة ُمفرغة‬ ‫في فتحه مرة ثانية بعدما عانى األمرين إلغالقه في األولى‪.‬‬
‫نظرها الذي مأله الفزع فوقه‪ ،‬و كأن عينيها كانتا تفيضان بالصدمة و لسانها مثقل بالعجز عن الوصف‪.‬‬

‫ْ‬
‫نزلت نفيسة مسرعة من الباب الخلفي األيمن للمركبة‪ .‬كنتُ فقط أراقبها ضاحكة‪ ،‬في حين كان سائق‬ ‫_ ‪...‬‬
‫األجرة الكهل ملتفتا إلى يساره يراقب حركة السير و هو يربّت بيسراه على كتفه األيمن واضعا يمناه على‬
‫المقود‪...‬‬

‫صمتت مرة أخرى‪ .‬لم تستطع التقدم في الكالم‪ّ .‬‬


‫كأن شيئا كبحها فجأة‪ .‬استجمعت أنفاسها و قد أطبقت بذراعيها‬ ‫ْ‬
‫على بطنها كمن يحضن فجيعته محاوال تركها قريبة منه كي ال تصيب بريئا آخر‪...‬‬

‫_ ‪ ...‬حدث ذلك في لمح البصر‪ ...‬ال أعلم من أين جاء أو أين كان‪ .‬بجانبنا‪ ،‬أمامنا‪ ،‬خلفنا ؟‪ .‬كانت‪ ......‬كانت‪،‬‬
‫ومضة ضوء خاطفة و قوية جدا كوميض آالت التصوير‪ ،‬تالها بسرعة صوت بدى لي لوهلة أنه صوت طرطقة‬
‫في البداية ليتحول في أقل من ثانية إلى صوت يُشبه صوت الرعد تماما‪ ....‬كان قويا جدا‪ .‬لم يكن لي الوقت ألتمعن‬
‫الحارة العنيفة و هي تلطم السيارة بقوة‪ .‬صوت‬
‫َّ‬ ‫فيما حدث بالضبط من حولنا‪ ،‬لكني فقط أحسستُ بتلك النفخة‬
‫انفجار الزجاج و ارتطام ما كنتُ أعتقد أنها الحجارة بجنبات السيارة التي شعرتُ بها و هي ترتفع و تميل بقوة‪.‬‬
‫شعرتُ أنها ستهوي على سقفها‪ .‬لم أملك الوقت للتفكير في تلك الثانيتين‪ .‬كانت ثانيتين أو ثالث ال أكثر !‪ .‬شعرت و‬
‫كأن األرض تحولت إلى بساط نُفض بقوة من تحتنا‪ .‬كل شيء اهتز بقوة و سرعة‪ ....‬ثم‪ ..‬ثم‪ ...‬ال أذكر بالضبط ما‬
‫حدث بعدها‪ ،‬سوى أني عندما فتحتُ عيني أحسست بجسدي ملقى على األرض‪ .‬و تلك الروائح‪ ،‬تلك الروائح‬
‫القوية الغريبة‪ ،‬روائح المواد الكيميائية المتفجرة‪ ...‬ال أدري ما كانت بالضبط‪ ،‬رائحة األسمدة االصطناعية ربما ؟‪.‬‬
‫ْ‬
‫امتزجت الكثير من الروائح في الجو الذي غطته طبقة من الدخان األسود و الرمادي‪ .‬روائح احتراق المعادن و‬
‫البالستيك و عجالت السيارات و الخشب‪ .‬اختلطت الروائح برائحة الغبار و األتربة التي أثارتها نفخة االنفجار في‬
‫محيط الشارع‪ .‬كنتُ أشت ّم كل شيء لكني لم أكن أسمع شيئا بسبب ذلك ال َّ‬
‫صفير الحاد الذي انقض على أذني و‬

‫‪107‬‬
‫رأسي‪ .‬أحسستُ بدوار شديد و رغبة في التقيّؤ‪ .‬حاولت النظر من حولي‪ .‬كان شعري المخضب بدمي يُغطي جزءا‬
‫من وجهي‪ .‬لم أستطع الرؤية جيدا‪ .‬لكنني كنتُ ألمح ظالل أناس يسحبون أجسادهم على األرض أو آخرين‬
‫يركضون في كل االتجاهات وسط الدخان و السيارات المشتعلة‪ .‬ثم حاولتُ التحرك و النهوض لكنني لم أستطع‪.‬‬
‫ي‪ .‬كان فمي مليئا بمذاق الدم المختلط بحبات‬
‫أحس بحرارة غريبة في بطني و ساق ّ‬
‫ُّ‬ ‫ربما بسبب الدوار‪ ،‬لكنني كنتُ‬
‫التراب‪ ،‬لكنني و بما أني لم أكن في كامل وعي‪ ،‬ال أستطيع القول بأني كنت خائفة أو مفزوعة‪ .‬فقط كنتُ مشدوهة‬
‫ي لحظات الحقيقة و الواقع التي كنتُ أحياها قبل دقائق من‬
‫أمام ما كان يقع‪ .‬بدى لي و كأنه حلم غريب جدا قطع عل ّ‬
‫ذلك الوميض الخاطف‪ .‬كيف أصف األمر ؟‪ .‬إنه‪ ...‬إنه أشبه بانتقالك فجأة و من دون إدراك بين قناتين تلفزيونيتين‪،‬‬
‫إحداهما تنقل أجواء صيفية بهيجة في مسبح عمومي إلى أخرى تنقل مشاهد عنيفة جدا لحرب شوارع‪...‬‬

‫_ أعتقد أني أفهمك تماما !‪.‬‬

‫_ لم أدرك كيف فقدتُ الوعي مرة ثانية‪ ،‬سوى أني كنتُ أفتح عيني من حين آلخر و أنا أسمع تلك الضوضاء‬
‫صفير في أذني‪ .‬أذكر أضواء النيون الساطعة‪ ،‬أالئك األطباء‪ ،‬الجراحون و‬
‫من حولي بعدما تراجعت حدة ال َّ‬
‫الممرضات من حولي‪ .‬كنتُ أستفيق للحظات ثم أفقد الوعي مرة أخرى على زعيق النسوة أو صراخ الرجال‪.‬‬

‫صمتت صوفيا مرة أخرى‪ .‬لم أستطع قول شيء لكنني كنتُ أرغب في تلك اللحظات بأن تتوقف و ننهي‬
‫الحديث عما حدث لها‪ .‬كنتُ قد اكتفيت من تلك القصة الفظيعة و اكتفيت من انكسار الفتاة أمامي‪ .‬ف ّكرتُ بأنه ربما‬
‫ي تلك المأساة‪ .‬لكنها رفعت بصرها نحو ي و ألقت بنظراتها‬
‫لتقص عل ّ‬
‫َّ‬ ‫كان يجدر بي فعال أال أدفعها بصمتي الماكر‬
‫التي بدت أقرب إلى نظرات فتاة صغيرة مفزوعة تبحث ع ّمن يعانقها‪...‬‬

‫_ كانت بضع أيام‪ ،‬أجريت لي خاللها عمليتين جراحيتين طارئتين دون أن أعلم !‪ .‬كانوا قد استخرجوا ما‬
‫استطاعوا من شظايا معدنية م ّزقت سيارة األجرة و اخترقت لحمي‪ ،‬فضال عن شظايا زجاج النافذة التي انغرست‬
‫في صدغي األيسر و كتفي‪ .‬قالوا ببسمات مرتبكة بحضور أبوي أني محظوظة ألن تلك الشظايا لم تصب وجهي و‬
‫لم تمسس أعصابي أو عظامي‪ ،‬لذلك سأتمكن من الوقوف و السَّير و الحركة بشكل عادي تماما عندما أسترجع‬
‫كامل عافيتي‪ .‬أردتُ أن أصدق ذلك بقوة لوال أني كنتُ أشعر بأن تغيرا جذريا كان قد طرأ على جسدي‪ .‬كنت‬
‫ي في صبيحة تالية بعدما خرجتُ تماما من دوخة المهدئات و‬
‫أشعر أن شيئا ما ليس على ما يُرام‪ .‬عادوا إل ّ‬
‫المخدرات و مسكنات األلم و قد بدات أتذكر ما وقع‪ ،‬و بعدما علمتُ بأني متواجدة بمستشفى مصطفى باشا منذ أحد‬
‫عشر يوما‪ .‬كانت معهم أخصائية نفسانية لم أرتح لها من الوهلة األولى‪ ،‬حين راح الطبيب المكلف بحالتي يكرر‬
‫علي كالمه كوني محظوظة ألني نجوت من ذلك الهجوم الهمجي و أني سأعيش واقفة على ساقي‪ .‬ثم راحوا‬
‫يتبادلون نظرات مضطربة مع بعضهم‪ .‬أبي طأطأ رأسه و أمي راحت تكبح بكاءها بشدة‪ .‬أخبروني بأني خضعت‬
‫الرحم الستخراج الشظايا الكثيرة التي اخترقتها‪ .....‬في تلك‬
‫لعلميتين جراحيتين أجريتا على منطقة الحوض و ّ‬
‫اللحظة فهمتُ كل شيء‪....‬فهمتُ كل شيء‪ .‬لم أب ِّد أي ردة فعل‪ .‬لم أقل شيئا‪ .‬بقيت أنصتُ ناظرة إليهم جميعا‪ ،‬باردة‬
‫تماما و كأني مجرد دمية التيكس كبيرة موضوعة على سرير‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫تشعر بالصدمة تلك اللحظة ؟‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫_ لم‬

‫_ ال ؟ !‪ .‬إطالقا‪ .....‬قلتُ لك ال شيء‪ ،‬رغم أن الطبيبة النفسية حاولت إقناعي بأنه ال بأس إن تركتُ العنان‬
‫الحداد بعد الفاجعة هي مرحلة طبيعية بل و عملية‬
‫لبكائي و أحزاني تلك األيام‪ ،‬كون ما أسمته مرحلة الرثاء و ِّ‬
‫ضرورية في التعامل مع الصدمة و تجاوزها !‪ .‬لكني لم أشعر بأني أودّ البكاء أو ال ُّ‬
‫صراخ‪ .‬علمتُ بعدها أني على‬
‫أصبتُ برجة دماغية و ضرر في األذنين الداخليتين و جراح غائرة في الفخذين و الساقين‪ ،‬إلى درجة أنهم‬
‫العموم ِّ‬
‫اضطروا النتزاع بعض قطع اللحم من ردفي لترميم فخذّي‪ ،‬أتصدّق هذا ؟ !‪ .‬اضطرب خفقان قلبي و كأنه اهتز‬
‫من مكانه يوم قابلتُ نفسي عارية تماما أمام المرآة أول مرة بعد الحادثة‪ .‬لم أصدِّّق‪ .‬لم أكد أعرف نفسي‪ .‬لم يكن‬
‫ذاك هو الجسد الذي كانت تحسدني عليه الفتيات و يشتهيه الفتيان‪ .‬لم تكن تلك هي صوفيا الجميلة الفاتنة التي‬
‫مشوها بالكدمات و آثار الزجاج و الحديد حول الذراعين و الكتفين و النهدين‪ .‬أسفل‬
‫ّ‬ ‫عرفتها طيلة حياتي !‪ .‬كان‬
‫البطن صار يشبه أرضا جافة مشققة أحرقها الجفاف و الشمس‪ .‬الفخذان صارا أقرب إلى جدعي شجرتين هرمتين‬
‫نالت منهما ضربات الفؤوس دون أن تقطعهما و دون أن تتركهما يتعافيان‪ ،‬و المؤخرة‪ ...‬ال أجد ما أصفها به‪...‬‬
‫صدمة و الرثاء‪ ،‬لكن الصدمة الحقيقية التي تسأل عنها‬
‫احتراما لك !‪ .‬ال أخفيك‪ ،‬فقد بكيت بحرقة و فزع‪ .‬ظننتها ال َّ‬
‫تذوقتها عندما سمعت عن مصير نفسية و هند بعدما كف الجميع عن الكذب علي بالقول أنهما نُقلتا إلى فرنسا‬
‫ّ‬
‫للعالج !‪...‬‬

‫ْ‬
‫بقيت صامتة للحظات و قد‬ ‫فجأة أطلقت صوفيا شهقة عميقة و قد اغرورقت عيناها بالدموع بسرعة شديدة‪.‬‬
‫وضعت كفّها على فمها و كأنها تحاول أال تطلق العنان لبكائها‪ ،‬لكن صوتها الجريح كان يرتجف بشدّة داخل‬
‫صدرها المنكوب‪ ،‬ثم نظرت إلي‪...‬‬

‫_ قالوا لي بعد أيام من خروجي من المشفى الذي مكثت فيه قرابة الشهر‪ ،‬أنه لم يكن تفجير انتحاري واحد‪،‬‬
‫بل اثنان‪ .‬قالوا لي أن نفيسة ُجمعت أشالءها التي تناثرت بين الرصيف و الطريق تحت السيارات‪ .....‬بينما لم‬
‫يعثروا قط على أشالء هِّند و اعتبرت مفقودة‪ ...‬يا اله !!‪ ...‬كم كان ذلك رهيبا !!‪....‬‬

‫أطلقت صوفيا المسكينة صوتا لم أسمعه يخرج منها أبدا و هي تنهار أخيرا أمام بكيتها الطفولية المفزوعة‬
‫تهتز بشدة و هي تُخرج تلك الزفرة المحملة بأطنان و أطنان من الحزن و‬
‫اهتزت نفسي و اقشعر بدني‪ .‬كانت ّ‬
‫ّ‬ ‫تلك‪.‬‬
‫الحرقة على نفسها و على صديقتيها المسكينتين‪ .‬كنتُ عاجزا عن الكالم تماما‪ ،‬لكنني وجدتُ نفسي و أنا أقف من‬
‫مكاني متوجها نحوها فاتحا ذراعي إليها‪ .‬أطبقتُ عليها بكل قوتي ضا ّما رأسها إلى صدري‪ .‬كانت تبكي بشدة‪،‬‬
‫بحرقة‪ ،‬بانكسار‪ ،‬و كأنها تفر ُج أخيرا عن آهات شظايا الغدر الحقيقية التي ضلت كامنة في جراح روحها األنثوية‬
‫الغائرة‪ .‬ضلت على تلك الحال‪ ،‬تبكي بشدة‪ .‬لم أستطع منعها‪ .‬كنتُ أدرك أنها تفرغ ما علق في قلبها و ربما بشكل‬
‫نهائي‪ .‬كنتُ شبه مصدوم من ذاك الكم من الضعف و االنكسار و الشعور بالوحدة و الهلع الذي كانت تعيشه الفتاة‬
‫بصمت في أعماقها‪ ،‬و ضلت تخفيه تحت كدحها في العمل و سعيها للنجومية فيما تقدمه للجريدة‪ .‬ذاك األسى الذي‬
‫ضلّت تخفيه وراء ضحكاتها و صرخاتها و مشاكساتها و غنائها و نكتها و تكبّرها‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫نفس الفكرة كانت تدور في ذهني‪ " :‬من يُصدّق أن تجربة هذه المسكينة مع اإلرهاب األعمى ليست سوى‬
‫قطرة من بحرن تجربة من بين مئات اآلالف من التجارب التي عاشها إنسان هذه البالد خالل عقدين كاملين من‬
‫هذا العنف المجنون ؟ !‪ .‬كم من تجربة ؟‪ ،‬كم من قصة صحفية ؟‪ ،‬كم من رواية ؟‪ ،‬كم من كتاب ؟‪ ،‬كم من دراسة‬
‫؟‪ ،‬كم من سلسلة وثائقية و تلفزيونية ؟‪ ،‬كم من فيلم يمكن توثيق تاريخنا به لو جمعنا كل هذه اآلهات الصامتة‪ ،‬التي‬
‫نصادفها يوميا على قارعة الطريق دون أن نعلم ؟ ! "‪.‬‬

‫خف ارتعاش و اهتزاز الفتاة من البكاء و الشهيق‪ .‬راحت تسكن شيئا‬


‫بعد دقائق طويلة بدت و كأنها ساعات‪َّ ،‬‬
‫فشيئا تماما كما تسكن أجواء السماء بعد عاصفة رعدية عنيفة‪ .‬كنتُ أسمع شهقاتها األخيرة التي كانت تجعلها تهتز‬
‫بين ذراعي بلطف و صمت شبه تام‪.‬‬

‫ثم فجأة جاءني صوتها الهادئ من تحت ذقني‪...‬‬

‫_ أتعلم كيف يكون طعم الحياة بجسد مشوه فقد معالمه الذاتية نهائيا ؟‪ .‬أن تعيش بهذا الطنين المزعج في أذنيك‬
‫طيلة حياتك ؟‪ .‬أن تجد مزاجك اليومي مربوطا باألدوية المختلفة الخاصة باإلذنين و مضادات االكتئاب و أدوية‬
‫النوم ؟‪ .‬أن تستيقظ صباحا و تحس بغربة بداخل ذاتك حين تالمس أناملك تلك النتوء و الندوب و الخدوش و‬
‫سِّل جسد‬
‫الكدمات و الجراح المنتشرة عبر جسدك منزلقة فوقها أثناء االستحمام ؟‪ .‬كيف ينتابك إحساس بأنك تغ ّ‬
‫كائن غريب عنك‪ ،‬ال تراه و ال ترغب في أن تراه ؟‪ ،‬كائن ال يشبه صورتك التي اعتدتَ عليها و ألفتها طيلة‬
‫حياتك‪ ،‬لكنه مرتبط بك رغما عنك ؟‪ .‬أو عندما تنظر إلى نفسك و أنت ترتدي ثيابك أمام المرآة‪ ،‬فيقع بصرك على‬
‫تلك اآلثار البشعة‪ ،‬فتستذكر لحظة الوميض الخاطف و تجد نفسك تجفل فجأة و تهتز في مكانك من دون سبب جلي‬
‫؟‪ .‬أن تشعر بأنك لم تعد تزن شيئا في أعين و أنفس الجنس اآلخر بعدما كنتَ تزن كل شيء ؟‪ .‬أن تُجبر نفسك على‬
‫ابتالع نظرات التعاطف و همسات الشفقة التي يطوقك بها أفراد أسرتك الكبيرة في المناسبات العائلية‪ ،‬أين يجدر‬
‫بك أن تتأنق لها فال تستطيع بسبب تلك الجراح و الكدمات و التشوهات ؟‪ ،‬فقط تُجبر نفسك على اعتياد ذلك‪ ،‬تماما‬
‫كما تُجبر نفسك على اعتياد طعم تلك الحبات َّ‬
‫المرة التي تتناولها يوميا‪.‬‬

‫عليك‪ ،‬ال بأس‪....‬‬


‫ِّ‬ ‫_ ال بأس‬

‫ْ‬
‫وقفت للحظات و هي تراقب‬ ‫ْ‬
‫نهضت من على األريكة و توجهت بخطوات متباطئة إلى نافذة الشرفة الصغيرة‪.‬‬
‫الجو الصباحي الجميل في الخارج‪...‬‬

‫أشعر بأن صوفيا بن شاللي القديمة بعيدة جدا و ال أستطيع استرجاع و لو شيء صغير منها !‪ .‬ليتني لم‬
‫ُ‬ ‫_‬
‫أركب سيارة األجرة تلك‪ .‬كانت القارب المحترق الذي وصل بي إلى ضفاف الجحيم‪ ،‬ثم عاد بي بكل هاته الحروق‬
‫و التشوهات‪ ....‬كان عليه تركي هناك على األقل !‪ .‬كم أنا بحاجة إلى فقاعة تحملني في قلبها و تهرب بي من هذا‬
‫العالم الموبوء الذي تعبث الوحوش به و فيه بقوة و جنون‪.‬‬

‫قالتها متن ّهدة و كأنها تحدِّّث نفسها قبل أن تكمل‪...‬‬

‫‪110‬‬
‫_ صوفيا بن شاللي كانت تكسر قلوب الفتية العاشقين‪ .‬اآلن صارت‪ ،‬و من شدة وحدتها العاطفية‪ ،‬ال ترفض‬
‫أن تق ِّبّلها فتاة كباريه شاذة !!‪ .‬ال أصدِّّق كيف حدث ذلك !‪.‬‬

‫ي و أنا أبحث عن شيء ما أقوله حول قضية القبلة الغريبة تلك‪ ،‬التي يبدو‬
‫طأطأت رأسها هنيهة ثم التفتت إل ّ‬
‫أنها لم تتطور إلى شيء آخر لحسن الحظ‪ ،‬بعدما أرادت الفتاة تمضية الليلة عندي بدل أن تمضيها مع التي تحرشت‬
‫بها‪....‬‬

‫_ علمتُ أن الذين نفذوا ذلك الهجوم االنتحاري صبيحة ذلك األربعاء قد سموا جريمتهم بـ" غزوة بدر‬
‫المغرب اإلسالمي "‪ ....‬هِّه يا للسُّخرية !‪ .‬بعد أيام أخبرني قريب لي يعمل في الصحافة أنهم كانوا مجرد شباب‬
‫يتعاطون المخدرات و المسكرات قبل أن تختطفهم القاعدة بفقرهم و جهلهم‪ ،‬لتغسل أدمغتهم ب ُمسلَّماتها العنيفة‬
‫أن نصف المعرفة أخطر من الجهل كما كان يقول جورش‬ ‫تحولهم إلى آالت للموت‪ .‬أترى يا صديقي ّ‬ ‫المطلقة و ّ ِّ‬
‫برنار شو ؟‪ .‬هكذا‪ ،‬ف َّكرتُ أمسية البارحة بعدما قررتُ أن ِّ ّ‬
‫أجرب ال ُّ‬
‫شرب و السكر و اللهو ألول مرة في حياتي و‬
‫تذوقت طعم الريكار !‪ .‬كنتُ غاضبة جدا‪ .‬كنتُ ضائعة تماما‪ .‬في غمرة الجنون‬
‫هذا ما حدث‪ .‬لم يسبق لي و أن ّ‬
‫تحرشت بي و لم أستطع منعها من االقتراب‬
‫وسط موسيقى الراي الصاخبة داخل الكباريه‪ ،‬و أنا أراقص تلك التي ّ‬
‫مني ‪ ،‬تمنّيتُ أن أموت على تلك الحال حتى أقف يوم الحساب و أقول هلل عندما يسألني‪ ،‬أني ُّ‬
‫مت سحاقية سكرانة‬
‫خرب أنوثتي‪،‬‬
‫نكاية في هؤالء األوغاد‪ ،‬مشيرة بسبابتي إلى من سلب حياة صديقتاي و سلبني نصف حياتي و َّ‬
‫مجرد سمكة ألقوا بها‬
‫ّ‬ ‫تاركا إياي كالمسخ العاقر أتخبط بالنصف اآلخر على الخط الفاصل بين الحياة و الموت‪.‬‬
‫على شاطئ رطب‪ .‬كل ذلك باسم الجهاد لفرض الشريعة و ُمحاربة المرتدين و إبادتهم ؟‪ .‬سأقول هلل أني كنتُ أول‬
‫مرتدّة إن كان الذي اقترفه أالئك صوابا !‪ .‬هِّه سحقا للدين إن كان فعال هو ذا الذي يبشر به هؤالء !‪.‬‬

‫كان صوتها يفيض بالغضب‪ .‬كانت تضغط بشدة على الكلمات‪ .‬حاولتُ إخفاء دهشتي من فكرتها تلك‪ .‬كانت‬
‫أول مرة أرى فيها صوفيا تتحدث متخذة موقفا غارقا في الغضب و الحقد‪ ،‬بعيدة عن عقالنيتها و موضوعيتها‬
‫الكبيرة التي عرفتها بها‪ .‬كيف ال و الجهل الهمجي عندما يلعب بالمتفجرات قد يُحطم رزانة أكثر النفوس و العقول‬
‫عدوة‬
‫هدوء و واقعية و مسالمة ؟‪ .‬لم أخطيء أبدا يوم شبهتها بالصحفية األمريكية المتمردة ‪ّ Abby Martin‬‬
‫الباطل مهما كان شكله أو لونه أو موقعه‪.‬‬

‫محوال تلك الصبيحة الغائمة إلى صبيحة‬


‫ّ ِّ‬ ‫الشاب النيكروفيلي الذي فجر نفسه مع سيارته بالقرب من صوفيا‬
‫متوحشة‪ ،‬لم يكن هو نفسه في النهاية و وفق الصورة الكبيرة الشاملة " البيڨ بيكتشر "‪ ،‬سوى ثمرة خبيثة متأ ِّ ّخرة‬
‫لما أنتجه االستقالل ال ُمصادر‪ ،‬الذي خرج بدوره شبه أعمى أو أعمى بالكامل من جوف الليل االستعماري‬
‫الطويل !‪ .‬هكذا‪ ،‬فهمتُ أخيرا كيف استبدلت تلك الشابة المسكينة ثقتها برجال السياسة بالثقة في رجال الصحافة‪ ،‬و‬
‫كيف استبدلت احترامها لرجال الدين باحترام رجال ال ِّعلم‪ .‬هكذا ظلّت ترفع شعارها الساخر من الساسة و المشايخ‬
‫المراصد و ال ِّعلم‪ ...‬و يسقط رجال العمائم و العَلم ! "‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫نواطير الوطنية و اإليمان‪ " :‬يحيا رجال‬

‫‪111‬‬
‫نجرة عن جنون العظمة و االضطهاد ! "‪.‬‬
‫" نحن بصدد وراثة جمهورية فتيّة د ّمرتها الخالفات و األحقاد ال ُم ّ‬
‫هذا ما قُلتُه في نفسي ناظرا إلى كتب التاريخ المبعثرة فوق الطاولة متن ِّ ّهدا‪ ،‬قبل أن أرفع بصري نحو صوفيا التي‬
‫صمت نهائيا‪ ،‬و كأنها تود أن تقول بذلك أنها تريد أن ننهي الحديث عما جرى‪ ،‬بنظرتها الحزينة الهاربة‬
‫التزمت ال َّ‬
‫نحو نافذة ال ّ‬
‫شرفة مرة أخرى‪ .‬هكذا فهمتُ أن تلك الفتاة المفجوعة في نفسها و في وطنها‪ ،‬كانت مجرد دمعة‬
‫مجرد صرخة مخنوقة علقت في‬
‫ّ‬ ‫التصقت على وجنة َّ‬
‫الزمن المتج ِّّمدة و لم تجد لها سبيال للسقوط و االندثار‪ .‬كانت‬
‫حلق الحياة الموءودة و لم تجد لها مهبا لالنفجار‪ .‬كانت صورة كاملة الوضوح عن وجع الجزائر النازفة‪ .‬الجزائر‬
‫المتعثّرة‪.‬‬

‫ْ‬
‫طالت لحظة الصمت و التأمل بيننا‪ ،‬فأردتُ كسرها‪...‬‬

‫_ تعلمين ؟‪ .‬إنه الوقت المفضل عندي للسير قليال على طول الواجهة البحرية‪.‬‬

‫التفتت إلي و هي تسألني بنظرها عما أتحدث‪ ،‬فابتسمتُ محاوال قلب صفحة كل الذي حدث و بداية اليوم‬
‫بالطريقة التي اعتدتُ عليها‪.‬‬

‫رأيك أن نخرج لنتمشى قليال قبالة الرميلة‪ .‬نشتري بعض الخبز الهاللي و الكعك‪ ،‬و نعود لنتناول قهوتنا‬
‫ِّ‬ ‫_ ما‬
‫معا‪ ،‬ثم ننزلق بسالسة إلى ساحة األول مي لنمضي يوما آخر مع الرفاق و مع أبا كرش ؟‪.‬‬

‫أخيرا‪ .‬أطلقت الشابة بسمة عريضة و مشرقة‪ ،‬قد يرغب كل رجل من رجال هذا الكوكب في رؤيتها و‬
‫الحملقة في جمالها !‪ .‬بسمة أعادتها من مكان مقيت جدا‪ .‬عادت فقط لتكتشف كم هي الحياة جميلة بمثل تلك‬
‫التفاصيل البسيطة التي تجعل منا " بشرا "‪.‬‬

‫‪IV‬‬

‫‪112‬‬
‫ق في جوف الطاحونة‬
‫ضائع و مختن ٌ‬

‫‪-19-‬‬

‫‪113‬‬
‫انتصار " َ‬
‫احن ه َم ربّها ! "‬

‫مرت انتخابات السابع عشر أبريل الرئاسية فاترة و محبطة‪ ،‬بل و مخجلة‪ .‬و قد أراد القدر أن تتزامن مع‬
‫ّ‬
‫فقدان العالم للعمالق غابرييل غارسيا ماركيز صاحب مائة عام من العزلة‪ ،‬الذي يبدو أنه آثر الرحيل ذاك اليوم‬
‫بالشموخ الذي صنعه تواضعه‪ ،‬حتى ال يرى جزائر الشباب التي طالما أعجب بثورتها و عفويتها و حرارة دمها و‬
‫هي تسجل سقطتها ال َّشيخوخية التالية‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬قراري النهائي كان المقاطعة‪ .‬لم أرغب في اإلدالء بصوتي يوم االقتراع بقدر ما رغبتُ يوم اإلعالن‬
‫صراخ بأعلى صوتي العنا جيل الموسطي َّ‬
‫شات‪،‬‬ ‫عن النتائج في الوقوف في شرفة شقتي بباب الوادي و ال ُّ‬
‫ديناصورات الوطنية‪ .‬كم تمنيت لو كان التغيير السلس مقترنا باإلمكان في هذا البلد !‪.‬‬

‫َّ‬
‫حز في نفسي كيف أن هذه الشمولية ال تزال تصر على التعامل معنا كما يتم التعامل مع األفطال‪ ،‬إلى درجة‬
‫صرنا فيها نقبل بصمت و تواطؤ بهذه المعاملة أيضا !‪ .‬انتابني شعور أن الكاتب الفرنسي التشيكي ‪Milan‬‬
‫مرة مستنتجا أن النظام‬
‫‪ Kundera‬كان الوحيد الذي فهم مسبقا ما كان ينتابني ذاك اليوم‪ ،‬و هو الذي كتب ذات َّ‬
‫حول األمة كلها إلى أمة من الصبيان !‪ .‬ثم في النهاية‪ ،‬من كان فعال يصدق‬
‫جرد الناس من ذاكرتهم و يُ ّ‬
‫الشمولي يُ ّ‬
‫أن هذا النظام يريد أن يتغيّر ؟‪ .‬هل يمكن حقا تحطيم كل تلك العادات القبيحة التي ع َّششت في أذهان أراذل العمر‬
‫حين لم يكن ممكنا حتى التخفيف من وطأتها أيام الشباب ؟‪ .‬قالوا لنا أن رغبتهم في التغير و التغيير قوية هذه المرة‪.‬‬
‫من يدري لربما كانوا صادقين ؟‪ .‬لكننا علمنا يقينا أن رغباتهم الدفينة في الوفاء لعهدهم كانت و ستضل أقوى‬
‫َّ‬
‫المحطم الصفعة الرابعة‪...‬‬ ‫بكثير‪ .‬ستضل غير قابلة للقهر‪ .‬هكذا تلقا جيلنا‬

‫كان اإلعالن عن نتائج الرئاسيات أسوأ منها بكثير‪ .‬كان كمسرحية إعالمية سوفياتية في غاية االبتذال‪ .‬أو‬
‫كفيلم دعائي ممل من تلك األفالم ذات النهاية المعروفة‪ ،‬التي كانت تنتجها هوليوود في بداياتها الطفولية األولى‪،‬‬
‫عن أسطورة أمريكا و الحلفاء في حربهم المجيدة المليئة بالبطوالت ضد أشرار العالم الفاشيين ثم الشيوعيين‪.‬‬
‫ربما سيضحك جزائريو الغد بقدر ما سوف يبكون‪ ،‬عندما يعودون إلى دراسة هذه الحقبة من تاريخ بلدهم‪ ،‬و‬
‫يشاهدونه و هو يؤدي في مسيرته المليئة بالعثرات كل هذه الشطحات ال َمرضية الغريبة‪ ،‬المخزية و المضحكة‪،‬‬
‫المتفرجة عليه بدهشة تخفي خلفها االستصغار و التقزز‪ ،‬ثم قد يتساءلون يومها‪:‬‬
‫ِّ ّ‬ ‫أمام أمم القرن الواحد و العشرين‪،‬‬
‫أحقا كان ضروريا على أسالفنا أن يكونوا هكذا‪ ،‬بعدما كانت بدايتهم مع االنفتاح و الديمقراطية جيدة و مشجعة عام‬
‫‪ 0272‬للميالد ؟ !‪.‬‬

‫لنحولها بشيء يُشبه اإلرادة المبيّتة إلى‬


‫ّ ِّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬أولسنا مجبولين على االنحراف بإنجازاتنا الجميلة‪،‬‬
‫َّ‬
‫نكسات و مآس ننتقم بها من أنفسنا ؟‪ .‬هذا البلد يهوى العيش في الصراع !‪ .‬إنها بذرة الموسطاشيا القبيحة‪.‬‬

‫مرت بعض األيام إلى أن وصلت صبيحة التاسع و العشرين أبريل‪ .‬دخلتُ مقر الجريدة و أنا أجر خلفي‬
‫عالمات األرق و االكتئاب‪ .‬كانت وجوه معظم الذين تقاطعت نظراتي مع نظراتهم تتحدّث بصمت عن الغضب و‬

‫‪114‬‬
‫اإلحباط‪ ،‬و هم يحملون في أيديهم نسخا من عدد ذلك اليوم للنبأ اليومي‪ ،‬بعدما اختار سي رزاق مانشيتا مع افتتاحية‬
‫معبرة عن قلق متجدِّّد‪:‬‬

‫أدى القسم الدستوري بصعوبة بالغة‬

‫ُ‬
‫يبعث الجدل حول المادة "‪"22‬‬ ‫بوتفليقة يعجز عن إتمام خطابه الرئاسي و‬

‫تهون و المعارضة تتخوف من اختالل توازنات الحكم في العهدة الرابعة‬


‫الموالة ّ ِّ‬

‫كل صحف ذاك اليوم خَصصت افتتاحياتها لمراسم تأدية القسم الدستوري و الخطاب الرئاسي الذي لم يكتمل‪.‬‬
‫كان ملك المانشيت على صدور جميع الصحف الوطنية ذاك اليوم‪ ،‬التي تحولت إلى ما يشبه فضاء وطنيا للتنفيس‬
‫عن صدمة عنيفة تلقاها المجتمع بر ّمته‪ ،‬لهذا تهافت الجميع على الكتابة عن ذلك الحدث و تهافت الجميع على‬
‫اقتناء الجرائد تلك الصبيحة‪ ،‬عسى أن يواسوا بعضهم بعضا في تلك المحنة الديمقراطية‪.‬‬

‫لم أرد التفكير في األمر كثيرا‪ ،‬فقد جلستُ في م كتبي و أنا أقول بأن األيام ستمر و سيحدث ما حدث دوما‪.‬‬
‫سينسون كل شيء و سيتعلّ مون التعايش مع تلك الخيبة التي غرقت هذه المرة في شعور عميق بالخجل الصامت‬
‫من االنتماء إلى بلد يُسمي نفسه " بلد الشباب "‪ .‬لقد أفاق الجميع على حقيقة مؤلمة جدا صبيحة الثامن و العشرين‬
‫أبريل ‪ ،4102‬و هي تصرخ في وجوههم بأنفاسها الكريهة‪ ،‬تبشرهم بأن " المشعل " لن يتم تسليمه مهما حصل‪.‬‬
‫ليس اليوم‪ ،‬و لن يكون ذلك غدا !‪.‬‬

‫ْ‬
‫حملت رسالة‬ ‫تحررية‬
‫ُّ‬ ‫صلب عملي الصحفي الجديد تلك األيام‪ ،‬هو محاولة فهم لماذا تتحول حكرة‬
‫كان ُ‬
‫أخالقية رائعة إلى حزب أو " لوبي " فاسد‪ .‬مجرد بوتقة تجتمع عند عتباتها و مداخلها و جوفها كل أشكال‬
‫الشمولية و االستبداد و الغطرسة‪ ،‬خاصة بعدما وجدتُ نفسي في النهاية أرغب في تطليق النظرية التي ترجع كل‬
‫هذا التحول إلى امتالء الحزب و من ورائه النظام السياسي بالمنتهزين و الطفيليين منذ سنوات االستقالل األولى‪.‬‬
‫ُ‬
‫يحدث‬ ‫هذه النظرية قد تجيب عن جزء من المشكلة‪ ،‬لكني ما عدتُ قادرا على اعتبارها نظرية أساسية في تفسير ما‬
‫لهذا البلد‪.‬‬

‫كنتُ قد أنهيتُ وضع اللمسات األخيرة لمل ِّفّي عن التطور االجتماعي – السياسي داخل الحزب العتيد‪ ،‬منطلقا‬
‫بمجموعة الستة التي أسست الجبهة التاريخية مقررة التمرد على الجيل المصالي و أطره التي اعتبرتها بالية‪،‬‬
‫بتسطير قناعات جديدة‪ ،‬أولها و أهمها كان استرداد االستقالل الوطني بالطريقة التي صودر بها من طرف‬
‫االمبريالية الفرنسية‪ ،‬القوة‪ ،‬مما ترك تلك الهالة المقدسة في عقول الجزائريين عن الجبهة بعد االستقالل‪ ،‬و هو ما‬
‫سمح كذلك للعصبة التي نفذت االنقالب العسكري على الحكومة المؤقتة صائفة ‪ 14‬من تحويل الجبهة إلى " حزب‬

‫‪115‬‬
‫سياسي " مرورا بالباباوية التي خلقها بومدين لنفسه طيلة سنوات حكمه الثالثة عشر‪ ،‬محاوال حصر هالة الحزب‬
‫حول رأسه فقط‪ ،‬ليتحول هو نفسه‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬إلى ما يُشبه القديس في الوعي الجمعي الوطني‪ .‬القديس بومدين !‪.‬‬
‫وصوال إلى بداية سنوات الثمانينات و ظهور ما س ّميته في الملف " المادة الموسطاشية "‪ .‬آه كم كرهتُ تلك المادة‬
‫و أنا أكتشفها !‪ .‬إنها المادة ‪ 129‬الشهيرة التي أطلّت برأسها المدبّب و وجهها القبيح في القانون الداخلي للحزب‪،‬‬
‫قرة بكل وقاحة و تعجرف‪ ،‬حرمان أي جزائري من أي منصب رفيع في‬
‫في مؤتمره االستثنائي عام ‪ُ ،0271‬م َّ‬
‫ي ِّ الصريح للبذرة القبيحة المغروسة في أعماق‬
‫الدولة ما لم يكن عضوا في الحزب‪ .‬تلك المادة كانت التجل ّ‬
‫الجزائريين‪ .‬النزوع نحو السيطرة ال َمرضية و الرغبة الملهوفة القادمة من تحت طمي ‪ 024‬عاما من الجوع و‬
‫الحرمان‪ ،‬في احتكار كل شيء و تحت كل المبررات‪ .‬االستفزاز الممزوج بالتكبر و التلذذ بممارسة الظلم و‬
‫التمييز و اإلقصاء في حق اآلخر‪ ،‬مادام يحمل نفس المالمح و ّ‬
‫يتكلم نفس اللهجة و يختلف عنا في القناعات‪،‬‬
‫تكريسا للحقد الدفين على الذات و الخوف من كل فكرة جديدة أو مختلفة‪ .‬ثم ج ْ‬
‫اءت سنوات التسعينات التي غرقت‬
‫ضرب الحزب بما سمي المؤامرة العلمية‪ ،‬بعدما حاول الراحل عبد‬
‫فيها البالد في حربها األهلية الشنيعة‪ ،‬حيث ُ‬
‫الحميد مهري جعل هذا الحزب حزبا مستقال عن النظام بهويته و مبادراته‪ ،‬لكنهم قرروا إبقاءه مجرد جهاز ضمن‬
‫أجهزة النظام‪ .‬وصوال إلى ما بعد عام ألفين و االنتكاسة مرة أخرى نحو األحادية و التسلط‪ ،‬بل و أسوأ من ذلك‪،‬‬
‫خلق حزيبات متصارعة داخل أحشاء الحزب منذ أزمة المؤتمر الثامن عام ‪ ،4112‬مرورا بالصراعات الحادة‬
‫غداة تشريعيات ‪ ،4119‬وصوال إلى ما وقع فيه قبل رئاسيات ‪ 4102‬التاريخية و حتما ما سوف يقع فيه في قادم‬
‫األيام‪.‬‬

‫كم صار مخجال على جزائري يافع‪ ،‬يحسد أمما أخرى على ديمقراطيتها و سلمها و استقرارها و تحضّرها‪،‬‬
‫أن يقرأ في الصحف عن معارك العصي و الكراسي و تقاذف الحجارة ال ُمستلهمة من روح القرون الوسطى‪ ،‬التي‬
‫تفان داخل نوادي و قسمات " الحزب العتيد " عبر تراب‬
‫س بفخر و ٍ‬
‫ُمار ُ‬
‫صارت أشبه بطقس موسطاشي عريق‪ ،‬ي َ‬
‫ما يُسمى جمهورية !‪ .‬ثم إننا ال نزال نعيش عهد الـ ‪ ...FLN‬يعني أننا ال نزال نعيش حالة حرب بشكل ما !‪.‬‬

‫فجأة‪ ،‬اعتدلتُ في جلستي و أنا أعيد قراءة تلك الجملة التي أوردتها في الملف‪ " :‬عند إعادة فحص و دراسة‬
‫تصريحات أو كتابات أو خط ب الكثير من مسئولي الحزب العتيد‪ ،‬سواء في وسائل اإلعالم‪ ،‬أو في تجمعاتهم أو‬
‫اجتماعاتهم و محافلهم المختلفة‪ ،‬يتراءى لنا نمط محدد من الميل الدائم للحديث المباشر أو الرمزي عن ذاك "‬
‫المشعل " الذي حمله الحزب عن الثورة الجزائرية‪"....‬‬
‫ِّ‬

‫لم أكمل القراءة‪ ،‬بل شردتُ للحظات مع نفسي إلى أن وجدتني أتمتم‪...‬‬

‫_ بربّك !‪ ....‬مشعل ؟‪ ،‬مشعل ؟ !‪ ...‬تبا لي !‪.‬‬

‫وثبتُ من مكاني و اتجهتُ راكضا مباشرة إلى مكتب رئيس التحرير‪ .‬دخلتُ دون استئذان ألجد السي ّ‬
‫رزاق‬
‫بوجهه الذي علته عالمات الغضب و هو يكاد ينهر صحفي جديد‪ ،‬الذي بدى عليه أنه كان يحاول إقناعه بأمر ما‬
‫في حين راح السي '' حارس البوابة '' يقاطعه في كالمه‪....‬‬

‫‪116‬‬
‫_ قلتُ لك ال !‪ ،‬لستَ أهال بعد إلى هذا النوع من المهام‪ ،‬و قد وقع اختيارنا مسبقا على شخص آخر‪ .‬اآلن‪ ،‬لو‬
‫ْ‬
‫سمحت !‪...‬‬

‫انسحب الفتى و هو يُلقي إلي بتحية برأسه في حين راح السي رزاق يتنحنح محاوال إرخاء ربطة عنقه قليال‬
‫بيده و هو يستعد للجلوس على أريكته‪....‬‬

‫_و ّ‬
‫شاكي‪ ...‬لستُ في مزاج جيد اليوم !‪ ،‬ماذا تريد ؟‪.‬‬

‫قبل أن أنطق‪ ،‬سبقني الفتى الجديد كمن يودُّ رمي آخر حجر‪ ،‬لعله يصيب الهدف‪...‬‬

‫_ سي عبد رزاق‪ ،‬بما أن وشاكي هنا‪ ...‬يمكن أن يحدّثك عن قدراتي و‪...‬‬

‫_ مهمات من هذا النوع ال نُرسل إليها المبتدئين‪ .‬من تحسب نفسك ؟ روبرت فيسك ؟! أغرب عن‬
‫وجهــــــــي !!‪.‬‬

‫احمر بسرعة‪ ،‬في حين خرج الفتى مطأطئا رأسه كأنه يود فقط النجاة‬
‫َّ‬ ‫صرخ سي رزاق بوجهه الذي احتقن و‬
‫بجلده بعدما تأكد من استحالة ما يصبو إليه‪ .‬ألقى السي رزاق بجثته الضخمة على األريكة و هو يُخرج حبة دواء‬
‫من علبته راميا بها في فمه‪ ،‬ثم تبعها بجرعتي ماء من قارورة بالستيكية صغيرة الحجم‪...‬‬

‫_ يوما ما سيقتلني ضغط الدم بسبب هؤالء المالعين !‪.‬‬

‫_ ماعليهش يا سي رزاق‪ ،‬إنه مجرد شاب طموح و متح ّمس يكافح ليثبت نفسه و يجد له مكانا في المهنة !‪ .‬ثم‬
‫سِّيدروتية ''‬
‫إنك أنت من تزرع في أذهان المبتدئين فكرة أن هذه الجريدة ال تؤمن بما تسميه أنتَ '' الممارسات ال ّ‬
‫في اإلعالم!‪ .‬الفتى يرغب في أن يتواجد على أرض المعركة و في قلب األحداث‪ .‬امنحه فرصة !‪.‬‬

‫_ في الحقيقة أنا أسدي له خدمة !‪ .‬هذا الغر له سعة النف س و الدهاء و الشجاعة و سرعة البديهة و شبكة‬
‫المصادر الموثوقة الالزمة للتحقيق في أحداث غرداية ؟‪ .‬أيستطيع برأيك تحمل مشاق و مخاطر و ضغوط مهمة‬
‫في منطقة مشتعلة مثل وادي الميزاب ؟‪ .‬سيستقيل من هذه المهنة بعد أسبوع !‪.‬‬

‫ي و كأنه نسي دخولي عليه‪ ،‬فراح يتساءل بنظراته عما أفعله في مكتبه بحق الجحيم‪....‬‬
‫تنهد ثم نظر إل ّ‬

‫_ ماذا عنك ؟‪ ،‬منذ متى أنت هنا ؟‪ .‬لديك ثالثة دقائق لتقول ما عندك‪ ،‬لدي عمل مهم !‪.‬‬

‫سألني بشكل سريع كمن يرغب في التخلص من أحدهم‪...‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬أود أن تؤجّل نشر ملفي عن حزب الجبهة إلى غاية عدد الثاني من شهر ماي الداخل‪ .‬انتبهتُ‬
‫إلى أن هنالك أشياء يجب إعادة ضبطها في المقال‪.‬‬

‫صمت هنيهة و هو يتأملني‪ ،‬ثم نظر مباشرة نحو الزاوية ففهمتُ ما سيحث‪...‬‬

‫‪117‬‬
‫_ سي رزاق‪ ...‬أعلم‪...‬أعلم‪ ،‬هذا يعني أن تعيد ترتيب إخراج عدد الغد و ما يعنيه من تكسار الراس لك و‬
‫لمديري األقسام اآلخرين‪ .‬لكن اكتشفتُ لتوي أني‪ .......‬غبي !‪.‬‬

‫_ عما تتحدث يا ولد ؟‪ .‬قرأتُ الملف مرات و مرات‪ .‬استعراض التسلسل التاريخي لمحطات و أحداث الحزب‬
‫و البلد جيد‪ .‬تحاليل النمط السياسي – االجتماعي للذهنيات السائدة في الحزب جيدة‪ .‬الخلفيات االجتماعية العامة‬
‫التي تؤثر في الفكر و األداء السياسي لرؤوس و مناضلي الحزب اعتمادا على استراتيجيات المواجهة النفسية –‬
‫االجتماعية‪.......‬واو !‪ .‬ظاهرة الحركات التصحيحية أو الوجه الجديد للذهنية االنقالبية التي أبدعها الوعي‬
‫السياسوي الجزائري في هذا الحزب خصوصا‪ ....‬مثير !‪ .‬قصة المشعل الذي لن ي َّ‬
‫ُسلم أبدا و آراء المختصين و‬
‫الباحثين الذين حاورتهم بخصوصه‪ .‬زد كشفك لمبادرة المناضلين الشباب لتجديد دماء الحزب التي أفشلها قادته‬
‫المسيطرون‪ ،‬و خالصتك عن أن زمن الحزب قد انتهى‪ ،‬و بأنه يجدر بالنخبة الوطنية بداية التفكير في طرق‬
‫إدخاله إلى المتحف‪ ،‬لحماية ما بق ي يمثله للجزائريين من فخر و إرث‪ ،‬قبل أن يُدمره بتدمير نفسه‪ ....‬كان ذلك‬
‫جريئا و ممتعا ! عملك جيد و أنا أرغب في نشره غدا‪ ،‬خاصة و البلد ال يزال يعيش الهزات االرتدادية لزلزال‬
‫الرئاسيات األخيرة !‪.‬‬

‫رحتُ أحك رأسي‪ ،‬ثم نظرتُ إليه‪...‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬المشكلة تكمن هنا‪ ،‬في قصة المشعل‪...‬‬

‫_ ما به ؟‪.‬‬

‫_ مشعل ؟‪ ،‬أي مشعل ؟‪ ،‬ليس هناك مشعل‪ ...‬أقصد أي مشعل ؟‪ ،‬أين هو ؟‪ ،‬لم يكن هنالك مشعل في يوم من‬
‫األيام‪ ،‬و إن ُوجد حقا فهو لم يعد ينفع في شيء !!‪.‬‬

‫ي بصمت‪ .‬في حين نهضتُ من مكاني و أنا أشعر برغبة في التحرك في أرجاء المكان‬ ‫ّ‬
‫حك أنفه و هو ينظر إل ّ‬
‫مع شرح ما كان يدور في رأسي‪...‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬للنظر لألمر من هذه الزاوية‪ :‬كيف تفسر األسلوب الذي يتحدّث به أغلب المسئولين الجزائريين‬
‫على شاشات التلفزيون ؟‪ .‬أقصد تلك الجملة التي يلوكونها كلما تحدثوا عن مشروع أو مشكل ما ؟‪.‬‬

‫_ تقصد عبارة " بفضل فخامته " ؟‪.‬‬

‫قالها سي رزاق و كأنه يود التنكيت قليال ليُخفف من حالة الغضب و االختناق التي كان عليها‪...‬‬

‫_ ال‪ .‬بل عبارة أخرى‪ .‬المسئول الجزائري‪ ،‬سواء كان كبيرا في السن‪ ،‬أو من الجيل الموسطاشي الجديد‪،‬‬
‫يُر ّكز كثيرا على جملة " اعطينا تعليمات "‪ .‬في حين لو كان مسئوال من بلد أوروبي ديمقراطي لوجدناه ينزع في‬
‫الغالب للقول مثال‪ " :‬نحن نبحث هذا األمر " أو " نحن نفكر في حلول " أو " نحن نناقش االقتراحات "‪ .‬لماذا في‬
‫رأيك ؟‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫سكت سي رزاق أخيرا و قد فتح تركيزه التام معي‪ ،‬ثم نظر إلي و هو يتكئ بظهره على أريكته آخذا وضعا‬
‫أكثر راحة‪...‬‬

‫_ أوكي سي وشاكي‪ ...‬أكمل !‪.‬‬

‫_ تميل المجتمعات بشكل بديهي إلى خلق رموز معينة تتحدّث عنها مجازيا‪ ،‬في محاولة منها إلطالة عمر‬
‫لحظة مجد بهيجة أو إنجاز عظيم حققته في مرحلة معينة من تاريخها‪ .‬عندما حاورتُ باحثي علم االجتماع حول‬
‫موضوع قصة هذا " المشعل " الذي يحدثنا الساسة عنه منذ االستقالل‪ ،‬وجدتُ أفكارهم تكاد تتطابق‪ ،‬حول كونه‬
‫مجرد محاولة من الحزب العتيد و األحزاب األخرى ذات التوجّه الوطني بعد االنفتاح السياسي‪ ،‬إلطالة وهج هالة‬
‫الثورة الجزائرية و جعلها نوعا من الصيغ التي يمكن تخيُّلها في شكلها البسيط داخل ذهن الغوغاء‪ ،‬و في هذه‬
‫الحالة كان الرمز هو المشعل‪ ،‬ثم تبنت هذه القوى السياسية هذا الرمز كشعار لها لتنفذ من خالله إلى عقول الناس‬
‫و قلوبهم‪ ،‬فتستميلهم إلى مناصرتها كونها تمثل في باطن أذهانهم و عواطفهم تلك المسحة القدسية من االحترام و‬
‫العرفان و التبجيل‪ ،‬التي تركتها حرب االستقالل في الوعي الجمعي للشعب‪ .‬لكن الحقيقة هي أن هذا المشعل‪،‬‬
‫تحول بسرعة إلى امتياز يعطي شرعية القيادة لمن يُمسك به أو يبدو ُممسكا به على األقل‪ ،‬و هكذا بدأ التقاذف و‬
‫الترافس بين كبار المساطيش منذ سنوات االستقالل األولى‪ .‬كل كان يود أن يبدو أن المشعل في يده أمام الشعب‪،‬‬
‫الذي بدأ بفطرته يتفطن إلى أن األمر صار في غاية االبتذال‪ .‬لهذا‪ ،‬بدأوا يُروجون لحكاية " تسليم و تسلم المشعل‬
‫بين األجيال‪ ،‬أو تسلم الشعب زمام األمر ليقرر شكل مصيره بيده دون وصاية هؤالء " و التي لم نر عنها إشارة‬
‫حقيقية و كبرى بعد‪ ،‬و قد تأكدنا قطعا أنها لن تكون في القريب من خالل الرئاسيات األخيرة كمثال‪ .‬صدقا‪ ،‬نحن لم‬
‫نر هذا المشعل بعد !‪.‬‬

‫أخذتُ لنفسي لحظة صمت قصيرة و أنا أسير ذهابا و إيابا على يمين و شمال السي رزق‪ ،‬الذي ظل يتتبع‬
‫حركتي بعينيه‪ ،‬و هو يسند ذقنه بيده حين و جدتُ نفسي استسلم لتلك الضحكة التهكمية و أنا ّ‬
‫أحك جبيني‪ ،‬ثم أنظر‬
‫إليه بعدما وصلت إلى مالحظة في غاية األهمية‪...‬‬

‫_ سي رزاق‪ ...‬تصور معي للحظة لو أن الشعلة األولمبية انطفأت في يد عداء ما و هو يركض بها في‬
‫المسافة المحددة له سلفا ؟‪.‬‬

‫رفع حاجبيه مطلقا نظرة تحمل جوابا بديهيا‪....‬‬

‫_ بحسب علمي فإن تلك الشعلة ال تنطفئ أبدا طيلة رحلتها الطويلة من موطنها األصلي من بالد اليونان‪،‬‬
‫وصوال إلى البلد الذي يُختار ليحتضن األلعاب األولمبية‪ .‬إنهم يتخذون كل التدابير حتى ال تنطفئ‪ ،‬و إال فإن الحدث‬
‫نفسه يفقد رمزيته‪.‬‬

‫سادت لحظة من الصمت بيننا‪ .‬نظرتُ إليه مبتسما و هو يُخرج نحنحته تلك مع زفيره ببصره الشاخص‪ ،‬كمن‬
‫توصل إلى مضمون كل شيء‪...‬‬

‫‪119‬‬
‫_ سي رزاق‪ ،‬بربّك‪ ،‬ضللنا نتجادل حول هذا المشعل اللعين الذي أكله الصدأ في يد الموسطاش مدة خمسين‬
‫عاما‪ ،‬و لم نسأل أبدا أنفسنا عن الشعلة التي أضاءت لنا السبيل طيلة تلك األيام المظلمة و الحالكة من صراعنا ضد‬
‫الحبر الذي و ِّقّعت به اتفاقية إفيان !‪.‬‬
‫ال ُمحتل‪ .‬الشعلة التي انطفأت أو أط ِّفئت حتى قبل أن يجف ِّ‬

‫اللعنة علي ! كان يجدر بي دراسة علم النفس في الجامعة !!‪ .‬جعلتُ سي رزاق يخرس‪ ،‬و يُقرر نشر المقال‬
‫الطويل في عدد الثاني من ماي‪ ،‬مما أعطاني ثالثة أيام في يدي ألعيد تقييم كذبة المشعل و تفسيرها وفق أسس‬
‫جديدة‪ ،‬غير خاضعة لتأثير الكذبة نفسها على عقلي االجتماعي‪ .‬أولها أن التركيز على فكرة المشعل و تناسي فكرة‬
‫ضرورة إبقاء الشعلة حية‪ ،‬كان أول خدعة انطلت علينا طيلة نصف قرن من االستقالل !‪ .‬و ثانيها التأكيد على أن‬
‫قصة " تسليم المشعل لألجيال الصاعدة " هي كذبة أخرى‪ ،‬ال تزال تفضحها أمامنا السلوكيات السياسية‬
‫الموسطاشية في البلد‪ ،‬و تترجمها جملة " اعطينا تعليمات " من حيث تُعبِّّر الشعوريا عن شيء آخر‪ ،‬قد ال يدركه‬
‫الناطقون بها أنفسهم‪ .‬شيء إذا ما جعلناه يتقاطع مع البذرة القبيحة في النفس الجزائرية‪ ،‬ستتبدى لنا الصياغة‬
‫الصحيحة و الخفية لتلك الجملة‪ ،‬و هي جملة أخرى تقول‪ " :‬احنا هم ربّها " التي ّ‬
‫أطلت على هذا المجتمع منذ أيام‬
‫ْ‬
‫ترعرعت في عمق سلوكياته و ثقافته السياسية و طريقة استيعابه لمفاهيم المسؤولية السياسية‪،‬‬ ‫الكفاح المسلح‪ ،‬و‬
‫طيلة نصف قرن من ممارسة الحكم في جزائر االستقالل بالمنطق األمني و العسكري‪.‬‬

‫كان يجب أن أكتب كل هذا‪ ،‬شارحا ثقافة " احنا هم ربّها " الجزائرية في عمود موسطاشيَّات‪ ،‬تنفيسا و غضبا‬
‫ربما‪ .‬على كل حال كان ال بد أن أكتب شيئا ألستخلص زبدة تحقيقي عن الحزب العتيد‪ ،‬و أجعل الرأي العام يفهم‬
‫أن األمر ال يتعلق بالحزب نفسه و ال باألوليغارشيا الحاكمة من خلفه‪ ،‬بقدر ما يتعلق بطبيعة و بشكل بنية فكرية‬
‫شاذة لمجتمع كامل‪ ،‬لذلك‪ ،‬وصلتُ إلى صياغة و نح ِّ‬
‫ت مصطلح إعالمي – سياسي جديد‪ ،‬مثير و مستفز‪ ،‬يُعبر‬
‫بشكل ُمبسَّط عن ذلك المرض‪ ،‬و هو كلمة واحدة‪ " :‬حهر "‪ .‬إنها تلخيص لجملة احنا هم ربّها !‪ .‬أجل هذا هو !‬
‫الحهر‪ :‬العصارة الحمضية لظاهرة الموسطاشيا !‪.‬‬

‫رغم ذلك‪ ،‬لم أشعر بأن كل تلك السحابة السوداء من دخان الغليان التي كانت تثقل صدري قد تبدَّدت‪ .‬لم أشعر‬
‫باالنتعاش كما كان يحدث كل مرة كنتُ أبدع فيها شيئا ما في مجال الكتابة اإلعالمية‪ .‬لم أشعر بشيء محدّد ذلك‬
‫اليوم و أكملته و أنا أسجل بعض المالحظات و األفكار في أحد دفاتري الكثيرة‪ ،‬الذي كان قد شارف على االمتالء‪.‬‬
‫مالحظات عن هذا الحهر‪ ،‬كيف يوصف‪ ،‬مما يتشكل و كيف يتمظهر في يوميات الجزائريين على اختالف‬
‫مستوياتهم و مسئولياتهم االجتماعية‪ .‬ال يلزمك أن تكون وزيرا أو ضابطا ساميا أو رئيسا حتى تكون " حاهرا "‪،‬‬
‫بل حتى ذاك البواب الفقير الذي يمنعك دون سبب جلي من المرور إلى داخل مقر شركة أو مؤسسة أو مكان‬
‫المشوه عن مفهوم السلطة أو االنتقام من السلطة‪ ،‬هو أيضا حاهر في كل‬
‫َّ‬ ‫عمومي‪ ،‬بدافع خفي من ذلك االعتقاد‬
‫األحوال‪ .‬لذلك يمكن تعريف مفهوم الحهر بأنه و بكل بساطة شهوة الفرعون الصغير المتنامية‪ ،‬التي آثارتها‬
‫األزمات و األزمان الصعبة التي تعاقبت على الجزائر في نواة كل جزائري !‪ .‬إنها الموسطاشيا في نضجها و‬
‫جاهزيتها الكاملة للتعبير عن نفسها بصراحة في الحياة اليومية لهذا المجتمع المكبوت‪ .‬حين يصل الحهر إلى درجة‬
‫الشمولية حيث يصير كل فرد يتصرف وفق هواه ظانا نفسه أنه هو " ربّها "‪ ،‬في ُمجاراة صبيانيه انتقامية مع كبار‬

‫‪120‬‬
‫الحاهرين في البلد‪ ،‬فاللعنة إذن !‪ ،‬نحن أمام مجتمع يستحيل عمليا أن نطبق فيه‪ ،‬على خواصه و عوامه‪ ،‬المفاهيم‬
‫األساسية و العامة ألشياء مثل القانون و النظام و العدالة‪ ،‬مهما حاولنا ذلك‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬و بدءا من بائع التذاكر في الحافلة الذي يشعر أنه هو ربّها أمام السكوت الجماعي للركاب‪ ،‬فيسمح‬
‫لنفسه بتكديس الناس بعضهم فوق بعض كالبهائم‪ ،‬من أجل ربح دنانير إضافية‪ .‬ذلك البطال الذي يستولي على‬
‫صب نفسه سيدا و حارسا لها بعدما يتماها معها و تصير جزء‬
‫األرصفة و الطرق العامة‪ ،‬فيشعر بأنه هو ربّها و ين ِّ ّ‬
‫من شخصيته‪ ،‬فيفرض ضريبة التوقف على الراكنين و إال شعر بأنه فعال مظلوم‪ ،‬فينتقم بعنف من كل متخلف عن‬
‫سر األرصفة التي أنجزها سابقه و يعيد تهيئة‬
‫إيفائه حقه المشروع‪ .‬إلى ذلك المير الذي يشعر أنه هو ربها فيُك ّ‬
‫أرصفة جديدة‪ ،‬مع مقاول يشعر أنه هو ربّها كونه يتعامل مع المير فوق و تحت الطاولة‪ .‬أو ذلك الدركي الذي‬
‫يرى نفسه أنه هو ربها فيُغذي شعوره ذلك بالتلذذ بإهانة موقوف بشتى السبل‪ ،‬بعدما يتأكد من جهله لحقوقه‬
‫المدنية‪ ،‬أو يجعل من مهنته على الحدود نوعا من التجارة الخاصة و الحرة‪ ،‬فيحارب التهريب بيد و يشتغل فيه‬
‫باليد األخرى‪ .‬و ذلك المسئول الحزبي الذي يرى نفسه أنه هو ربّها فيغلق األبواب في وجه مناضلين آخرين‪ ،‬مانعا‬
‫إياهم حضور نشاطات الحزب‪ ،‬فقط ألنهم يخالفونه الرؤى‪ .‬و ذاك الصحفي أو المراسل أو رئيس التحرير الذي‬
‫تُشعره قوة و سحر القلم أو الشاشة بأنه هو ربّها‪ ،‬فيتالعب بالمعلومات و ّ ِّ‬
‫يشوه الحقائق خدمة لقناعات أو ميول‬
‫فكرية ذاتية أو تصفية لحسابات شخصية‪ .‬أو ذلك الوالي الذي يقوده الشعور بأنه هو ربّها إلى التصرف في واليته‬
‫و كأنها إمارة صغيرة ورثها أبا عن جد‪ .‬أو الوزير الذي يشعر أنه هو ربّها كونه يظهر على شاشات التلفاز‬
‫ملتصقا بكتف الرئيس‪ ،‬فيصير ُمهاب الجانب و يتهيأ له مع الوقت أنه أضخم حجما مما كان يبدو لنفسه أمام المرآة‪،‬‬
‫فيستلذ إعطاء التعليمات و يصدر المراسيم التي تلغي و تعيد بعضها البعض و يمأل الوزارة بأفراد عائلة زوجته‪.‬‬
‫وصوال إلى كبار القماقم‪ ،‬الموسطي ّ‬
‫شات‪ ،‬جهابذة الوطنية‪ ،‬نواطير الوطن‪ ،‬ديناصورات التيريكس‪ ،‬الذين يتربّعون‬
‫على عرش هذه السلسلة الغذائية المقرفة‪ ،‬و يشعرون أنهم فعال هم ربّها و هم ماضون في العبث بالوطن و من فيه‬
‫ورم " األنا‬
‫صغار‪ ،‬مترنحين تحت سكرة الحكم المزمنة المصاحبة لشهوة القوة و الفتك في قصة ت ُّ‬
‫من الحاهرين ال ِّ ّ‬
‫" الجزائري السرطاني العجيب‪.‬‬

‫ال عجب أن يكون الجزائريون أكثر الشعوب التي تستعمل كلمة " رب " في خطابها‪ .‬في كل األحوال و‬
‫المواضع و المواضيع‪ .‬شككتُ في كون هذا الرب الذي يذكره الجزائريون في فرحهم كما في غضبهم هو الرب‬
‫الذي نعرفه و تعرفه البشرية في قواميسها و تعاريفها ؟‪.‬‬

‫هذا الحهر حصر في النهاية كل عالقاتنا االجتماعية بين جملتين استفهاميتين موسطاشيتين‪ ،‬صارتا أشبه‬
‫برمح أسود لعين أصاب بعمق النظام و الحرية في حياتنا‪ " :‬وين راك رايح ّ؟ " و " ماتعرفنيش اشكون أنا ؟ "‪.‬‬

‫مروعة و محبطة‪ " :‬كل جزائري‪ ،‬في حقيقة األمر‪ ،‬هو موسطاش حاهر‬
‫ّ ِّ‬ ‫انتهيت إلى نتيجة مخيفة‪ ،‬بل‬
‫محت َمل ! "‪ .‬شعرتُ لحظتها بأنفاسي و هي تنفلتُ مني تحت وطأة الضيق و الغضب‪ .‬شعرتُ أني سأنفجر‪ .‬انتابتني‬
‫رغبة في الركض مباشرة نحو نوافذ مقر الجريدة و إلقاء بجثتي الجزائرية المقهورة منها‪ ،‬متمنيا لها رحلة تعيسة‬

‫‪121‬‬
‫تنتهي بارتطامها على األرض لتنفجر متناثرة بكل قوة‪ ،‬حتى ال يبقى فيها شيء يُثبت أني شخص يحمل مالمح‬
‫جزائري !‪.‬‬

‫كتبتُ خاطرة استفهامية صغيرة على صفحة موسطاشيا في الفيسبوك مع نهاية العمل في ذاك اليوم تقول‪" :‬‬
‫كم من جزائري يدعي الوطنية و السخط على كبار المساطيش في البلد‪ ،‬يتمنى في قرارة نفسه لو كان مثلهم‪،‬‬
‫مسئوال حكوميا رفيعا‪ ،‬يتفرعن على الخلق و يرتشي مليارات البترول و الغاز‪ ،‬التي يُهربها إلى المالذات‬
‫الضريبية ؟ "‪ .‬ثم قلتُ في نفسي و أنا أرى بداية التفاعل مع تلك الخاطرة من طرف متتبعي الصفحة‪ ،‬بأني قد‬
‫أقترح قريبا مبادرة نزع صورة رئيس الدولة من جميع مكاتب المسؤولية‪ ،‬و تعويضها بالفتة أخرى يراها كل‬
‫مسئول يحمل الجنسية الجزائرية في كل صباح يلج فيه مكتبه‪ ،‬و قد ُكتب عليها ببنط أسود عريض‪ " :‬احذر بذرة‬
‫الرب الصغير في أعماقك !"‪.‬‬
‫َّ‬

‫أجر سحابة من اإلحباط ورائي في تلك األمسية الربيعية الجميلة‪ ،‬و أنا مشوش األحاسيس تماما‪ .‬كنتُ‬
‫خرجتُ ُّ‬
‫أشعر و كأني وصلتُ إلى السبق النهائي‪ ،‬بطريقة و زمن غير متوقّعين‪ ،‬لكنني كنتُ أجد صعوبة في تصديق ذلك‪.‬‬
‫ربما لم أكن مستعدا بعد لذلك ؟‪.‬‬

‫هل يكون هذا '' ال ُحهر '' هو النهاية لتفسير المعضلة الجزائرية‪ ،‬بكل ما يرتبط بها في السياسة و الثقافة و‬
‫االقتصاد و التربية و التاريخ و السوسيولوجية و السيكولوجية‪......‬؟‪ .‬أهذا كل شيء ؟‪ .‬بل و هو شيء ال حل له‬
‫بسبب ما وصل إليه من تعقد ؟؟؟‪ .‬آه كم أكره المعضالت المعلَّقة !!‪.‬‬

‫رميتُ بالمحفظة على المقعد الخلفي للسيارة ثم أسندتُ ظهري على الباب األمامي مشعال سيجارة و أنا أسمع‬
‫تلك األبواق و األهازيج الرياضية التي كانت تعبر الشوارع المحيطة بدار الصحافة‪ .‬كانوا أنصار فريق مولودية‬
‫العاصمة وهم يجوبون الشوارع في سياراتهم‪ ،‬يقيمون أفراحهم االستباقية لمباراة نهائي كأس الجمهورية ضد‬
‫شبيبة القبائل التي كانت تفصلنا عنها ساعات قالئل‪.‬‬

‫أخذتُ لنفسي لحظة طويلة من الصمت و التأمل‪ .‬أجل‪ ....‬كنتُ أعيش يوم التاسع و العشرين أبريل‪ .‬في كل‬
‫األحوال لم يكن بإمكاني التهرب من هذا التاريخ في النهاية‪ .‬إنه التاريخ الذي بُحتُ فيه بحبي لذلك الطيف البليدي‬
‫الجميل ذات يوم سبت قبل ثمانية أعوام وصوال إلى ذلك المساء‪ .‬كنتُ ال أزال غير قادر على تخليص نفسي من‬
‫أتربة ركام ذلك االنهيار‪ .‬ندوب الماضي داخل نفسي كانت ال تزال تريد أن تحكي عن تلك السقطة المميتة التي‬
‫عشتها ذاك اليوم‪ ،‬رغم كل األنهار و الجبال و الوديان و مدن الجن المهجورة التي مررت بها زاحفا و أنا أبتعد‬
‫نازفا عما حدث‪ ،‬إال أن قلبي كان ال يزال يحمل بقايا فزع الخيبة و غضب الشعور بالدونية و ألف سؤال ينتظر‬
‫بيأس أن تجيب عنه ذات يوم !‪.‬‬

‫ظلت صوفيا تخبرني بهوسها العلمي الذي يطغى على أحاديثها أن ما يُسمى قانون الجذب الكوني يقضي‬
‫بجذب كل األشياء و المواقف و األشخاص الذين يركز المرء تفكيره حولهم بشكل مستمر‪ ،‬فيصيرون جزءا و‬
‫واقعا ملموسا في حياته‪ .‬لكن بقدر ما كنتُ أفكر في ذلك الطيف األنثوي اللطيف الذي أحببته بكل جنون ذات مرة‪،‬‬

‫‪122‬‬
‫ي بأني لن أراه أبدا‪ .‬ال أدري‪،‬‬
‫سخ فيها اعتقاد ف َّ‬
‫بقدر ما تعمق في نفسي اإلحساس بأنه بعيد جدا‪ .‬بعيد إلى درجة تر َّ‬
‫إما أن قانون الجذب خاطئ‪ ،‬أو أن فهمي له قاصر ؟‪ .‬ثم إن جل تفكيري كان قد ُحصر كلية في كابوس عملي و‬
‫سبقي النهائي و ال شيء آخر‪ .‬و أعترف أني كنتُ أدفع نفسي للغرق في مستنقع عملي هربا من ذكريات تلك التي‬
‫ال يزال اسمها اللطيف يالحقني بعناد و صمت‪ '' ....‬بهجة ''‪.‬‬

‫سمعتُ الرنة الخاصة بالرسائل النصية في هاتفي النقال‪ .‬كانت صوفي التي انجذبت إل ّ‬
‫ي تلك اللحظة طبقا‬
‫لقانون الجذب على ما يبدو !‪ .‬كانت رسالة نصية منها‪...‬‬

‫‪_ Tout est confirmé, le prochain Lindi on ira ensemble avec Hassan au palais de la‬‬
‫‪culture à 19h…. je vais te tuer si tu me dirais que t’es fatigué ou occupé !!.‬‬

‫ّ‬
‫التفت يمينا ثم‬ ‫أغلقتُ النقال متنهدا‪ .‬رميتُ بالسيجارة أرضا و أنا أسحقها بقدمي و كأني أسحق فكرة مزعجة‪.‬‬
‫شماال من دون سبب‪ .‬كنتُ فقط أراقب المارة و السيارات التي كانت تدخل و تخرج من دار الصحافة‪...‬‬

‫_ لمال ؟‪ ،‬قد يكون مفيدا لي حضور معرض فني‪ ،‬عسى أن أخفف قليال من وطأة هذه الحالة المزرية !‪.‬‬

‫تمتمتُ مع نفسي و أنا أركب السيارة‪ .‬لم أرغب في التفكير في أي شيء آخر‪ ،‬ال سيما أني أعيش في هذا البلد‬
‫الحاهر‪.‬‬

‫‪-11-‬‬

‫لونها طيف عابر‬


‫الصورة التي َّ‬
‫أمسية االثنين‪ ،‬الخامس ماي ‪....4102‬‬

‫كنتُ رفقة كل من حسان و صوفيا متجهين إلى قصر الثقافة مفدي زكريا لحضور معرض للصور‬
‫الفوتوغرافية‪ ،‬كانت إحدى المصورات تعتزم إقامته للتعريف بجمال المناطق النائية المعزولة و المنسية التي‬
‫ْ‬
‫أرادت نقل صوتها الخفي عبر جمال و هيبة صمت الصورة الفوتوغرافية‪ ،‬حسب قول‬ ‫زارتها عبر البالد‪ ،‬و التي‬
‫حسان‪ ،‬الذي كان قد أجرى حوارا مع الفنانة قبل أيام و ّ‬
‫افتك منها دعوة لحضور أمسيتها تلك في قصر الثقافة‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫المقود‪ ،‬يسأل صوفيا التي كانت‬
‫َ‬ ‫كان حسان‪ ،‬الفتى الطويل القامة و المتأنق بلباسه الكالسيكي كالعادة في‬
‫تحولت فيما‬
‫تجلس في ال مقعد الخلفي عن تلك الوقفة االحتجاجية بالقرب من البريد المركزي وسط العاصمة‪ ،‬التي ّ‬
‫يبدو إلى أعمال شغب‪ ،‬بعدما تدخلت الشرطة لفض التجمع بالقوة‪ .‬لكن صوفيا لم تبدُ مهتمة بما حدث فضال عن‬
‫أنها لم تكن هناك‪ ،‬إال أن حسان نظر إلي بعدما تذكر أني غالبا ما أسلك شارع حسيبة بن بوعلي المؤدي إلى ذات‬
‫المكان في طريق عودتي إلى المنزل‪...‬‬

‫_ ما الذي حدث هناك ؟‪.‬‬

‫سألني حسان بصوته الرخيم و نظراته التي غالبا ما يطغى عليها االستفهام حتى لو لم يكن مستفهما‪ .‬لم أجبه‬
‫مباشرة‪ .‬كنتُ شبه شارد و أنا أعيد تذكر ما حدث‪ ،‬قبل أن أعود إلى سؤاله‪...‬‬

‫_ كنتُ ُّ‬
‫أمر من هناك بسيارتي عائدا إلى البيت‪ .‬سوى أن حركة المرور كانت شبه متوقفة‪ ،‬قبل أن تضطرب‬
‫األمور عند مفترق الطرق المقابل لمبنى البريد‪ ،‬حيث كان يعتصم مناضلون قبايليون‪ .‬كانوا يحملون تلك الرايات‬
‫الغريبة‪ ،‬أنت تعرفها‪ .‬تلك األعالم باألزرق و األصفر و األخضر التي يتوسطها رمز الحركة البربرية األحمر‪.‬‬
‫كانوا يهتفون كالعادة "…‪ ." Pouvoir assassin…. Pouvoir assassin‬سألتُ أحدهم عن سبب الوقفة‬
‫ْ‬
‫وقعت قبل نحو أسبوعين في تيزي وزو‬ ‫تحديدا‪ ،‬فأجابني بأنها وقفة تضامن مع ضحايا التجاوزات األمنية التي‬
‫على بعض المحتجين من بين الذين أرادوا إحياء ما يُسمى ِّعندهم الربيع البربري‪....‬‬

‫_ كان يجدر بهم المشاركة في المسيرة الجامعية التي نُظمت اليوم انطالقا من جامعة تيزي وزو‪ ،‬فقد جرت‬
‫في جو تنظيمي محكم‪ ،‬بدال من تنظيم وقفتهم تلك في قلب مدينة محاصرة أمنيا كالعاصمة ؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫تساءلت صوفيا و هي مستمرة في العبث على الشاشة اللمسية لهاتفها اآليفون بسباباتها‪ ،‬ألرد على كالمها‪...‬‬

‫_ بحسب ما رأيت‪ ،‬ال أعتقد أنهم قدموا من بالد القبايل‪ ،‬بل هم من قبايل العاصمة على األرجح‪.‬‬

‫_ ماذا حدث بعدها ؟‪.‬‬

‫سألني حسان و هو ينظر أمامه‪.‬‬

‫_ ال شيء‪ ،‬تد َّخ لت الشرطة محاولة تفريق التجمع الذي خرج بعض أفراده إلى الطريق محاولين عرقلة حركة‬
‫المرور‪ .‬بعض الصراخ و السب و الشتم و بعض االعتقاالت‪.‬‬

‫_ مينو‪ ،‬ها قد عدتَ للشرود مرة أخرى‪ ...‬ابقى معنا يا صاح‪ ...‬ابقى معنا و ال تقلق‪ ،‬سوف ننقذك من هوس‬
‫أفكارك في الوقت المناسب !‪.‬‬

‫قالت صوفيا و هي تستمر في العبث بهاتفها‪..‬‬

‫‪124‬‬
‫_ ال‪ ،‬أنا هنا ال أزال في العاصمة‪ .‬كنتُ أفكر فقط في ذلك المراهق القبايلي الذي شارك في وقفة البريد‬
‫المركزي‪ ،‬و الذي تم إيقافه فوق غطاء محرك سيارتي‪.‬‬

‫_ ما به ؟‪.‬‬

‫سأل حسان دون نبرة الفضول الالزمة‪ ،‬كأنه يحاول فقط إبقاء الحديث يدور بيننا‪...‬‬

‫مجرد مراهق‬
‫ّ‬ ‫استرجعت تلك الصور فجأة‪ .‬مراهق قبايلي‪ .‬أعتقد أن سنه ال تتجاوز الخامسة و الشعرين‪.‬‬
‫نحيف‪ ،‬طويل القامة كما هي حال مراهقي هذه األيام‪ ،‬أحمر الشعر‪ ،‬أزرق العينين‪ ،‬يمأل النمش وجنتيه‪ .‬كان يصيح‬
‫و يهتف بشعارات بالقبايلية‪ .‬لم أفهم منها شيئا‪ .‬حاول اإلفالت من رجلي شرطة بالزي المدني‪ .‬ركض بين‬
‫السيارات و هو يحمل رايته البربرية تلك بيديه و هي ترفرف فوق رأسه‪ ،‬لكن أحدهما استطاع اللحاق به و بالكاد‬
‫مدّ ذراعه إلى رايته تلك و هو يُالحقه‪ ،‬مما دفع بالمراهق ليحاول اإلفالت بمراوغة الشرطي‪ ،‬لكنه تعثّر و فقد‬
‫توازنه‪ .‬ظننتُ تلك اللحظة أنه سيسحق وجهه على جانب السيارة‪ ،‬لكنه استطاع إيقاف ذلك بيمناه التي رمى بها‬
‫ُطوقه من الخلف دافعا به على غطاء‬
‫على غطاء المحرك و أسند بها جسده‪ ،‬و ما إن استوى حتى كان الشرطي ي ّ‬
‫محرك السيارة و هو يجمع يديه خلف ظهره لتصفيده‪ .‬ما أثارني هو عندما نظر إلي و أنا خلف مقودي‪ ،‬حين كان‬
‫ضابط الشرطة يضع األصفاد في يديه‪ .‬نظر إلي و هو ال يزال يلهث‪ ،‬ثم راح يصيح غاضبا بمجرد أن حمله‬
‫الشرطي من على الغطاء‪ " :‬إمازيغن‪....‬إمازيغن‪ ."....‬رفض ترك الراية من يده رغم كل شيء‪ ،‬و لم يهدأ حتى‬
‫راح الشرطي يحدثه بقبايلية طليقة هو اآلخر‪ .‬بدى لي أنه كان يحاول إقناعه بإعطائه الراية‪ ،‬فأفلتها من يده في يد‬
‫الضابط الذي قام بوضعها على كتف الفتى‪ ،‬حينها فقط‪ ،‬كف عن التخبط و سار أمامه في هدوء‪ .‬أرت أن احتفظ‬
‫بهذه القصة لنفسي بدل تقاسمها مع حسان الذي كان ال يزال ينتظر أن أجيبه عما حصل‪ .‬لكني فضلت الصمت‪.‬‬

‫_ القبايل قباح بزاف يا أمين‪ ،‬و رجعوا جزء من مشكلة هاذ البالد‪.‬‬

‫قال حسان و هو يتنهد‪ ،‬ليأتيه صوت صوفي من الخلف محذرا مني‪....‬‬

‫_ رد بالك‪ .‬السيد أصله قبايلي !‪.‬‬

‫ضحك حسان بصوت خافت كعادته‪ ،‬في حين التزمتُ ال َّ‬


‫صمت و أنا ماض في استذكار تلك النظرات الغريبة‬
‫التي كانت تخرج من عيني الصبي الصافيتين صفاء سواحل تيڨزيرت و ربما كان صفاءهما هو الذي مكن لي من‬
‫النفوذ جزئيا إلى روحه‪ .‬أحسستُ أنها نظرات صرخة يائسة ال تجد لها صدى في أي مكان‪ ،‬أو شيئا من هذا‬
‫القبيل !‪ .‬ثم تن ّهدت‪...‬‬

‫_ على كل حال‪ ،‬و رغم أني سمعتُ بعض القصص عن هجرة أسرتي من جبال البويرة نحو أرياف تابالط‬
‫في المدية مع نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬و أن جدَّ والدي كان ال يتحدّث إال القبايلية‪ ،‬إال أني لم أعتبر نفسي يوما‬
‫قبايليا بقدر ما كبرتُ و أنا مؤمن كما ربانا الحاج‪ ،‬و أرى الحق معه في هذه الفكرة‪ ،‬بأن كل من تحدث العربية فهو‬
‫عربي و كفى‪ .‬أال يبدو هذا بسيطا و منطقيا ؟‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫هز حسان كتفيه و هو يطلق إماءة من وجهه تقول " ربما " في حين كانت صوفيا ال تزال منشغلة بهاتفها‬
‫النقال‪ .‬لكن نظرات ذلك الفتى أحمر الرأس كانت تباغتُ فكري بين الفينة و األخرى‪ ،‬كأنها دفقة ماء باردة تلطم‬
‫وجه كسالن متململ يكاد يغوص في نوم هنيء‪ .‬تلك النظرة المشتعلة كانت تعود إلي بين الفينة و األخرى و كأني‬
‫أرغب في كشف كل تفاصيلها و الكلمات التي لم تستطع إيصالها إلي‪ ،‬أو لعل صاحبها قالها بالقرب‬
‫ُ‬ ‫كنتُ ال أزال‬
‫مني و لكني لم أفهم ما كان يقول بلهجته القبايلية‪ .‬تلك النظرة كانت تستفز شيئا ما في ضميري أليام طويلة‪.‬‬

‫**********‬

‫وصلنا إلى قصر الثقافة مفدي زكريا‪ ،‬تلك التحفة المعمارية التي د ّ‬
‫شنها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد قبل‬
‫ثالثة عقود خالل احتفاالت عيد الثورة الجزائرية الثالثين‪ .‬كانت تشير إلى زهاء السابعة و الربع مساء‪ .‬ركنَ‬
‫حسان السيارة في موقف السيارات الخاص بالزوار‪ .‬ترجلنا متجهين نحو مدخل القصر حيث كان يحتشد بعض‬
‫الحضور و هم يُدردشون مع صاحبة العرض‪ ،‬التي ّلوح لها حسان بيده و هو يتقدم إليها من بعيد رفقة صوفيا‪،‬‬
‫التي كانت تسير بجانبه بخطواتها المتسارعة و كأنها ال تريد أن تتركه يسير متقدما إياها‪ ،‬في حين كنتُ أتبعهما‬
‫أتفحص أرجاء المكان الفسيحة‬
‫ُ‬ ‫ببضع أمتار بخطوات متململة سائرة نحو التباطؤ و أنا أضع يدي في جيبي‪،‬‬
‫بناظري‪ .‬الهواء الربيعي المسائي لهضبة العناصر المطلة على العاصمة كان منعشا و عليال و هو يراقص نسمات‬
‫البحر على تلك األنغام الموسيقية البعيدة‪ ،‬التي كانت تخرج متسللة من صالة المعارض داخل المبنى األبيض الذي‬
‫تطوقه األقواس ساترة خلفها واجهته الزجاجية‪ .‬لم أستطع تمييز تلك األنغام التي بدى لي و كأنها آللة المندولين‪.‬‬
‫لكني كنتُ أرغب أكثر في اإلفالت من الجميع و التسلل إلى تلك الحديقة الجميلة التي كانت تكلل مدخل القصر‬
‫بأعمدة اسمنتية متصلة ببضعها البعض‪ ،‬كانت تتوزع بشكل دائري مشكلة حلقة حول مساحة بدى أنها مخصصة‬
‫للحفالت التي تقام في الهواء الطلق‪ .‬كنتُ أرغب فقط في االختالء بنفسي‪ .‬كنتُ أرغب في االبتعاد عن الجميع‪.‬‬
‫ْ‬
‫وقفت صاحبة المعرض التي‬ ‫لكننا وصلنا إلى ذلك الجمع الذي كان بعض أفراده يدخلون إلى القصر‪ ،‬في حين‬
‫كانت تبدو فتاة في مقتبل العمر‪ ،‬تنظر إلينا مبتسمة و هي ال تزال تتفقد خمارها األزرق بيديها‪ .‬كانت رفقة سيدة‬
‫ْ‬
‫غزت شعرها األسود القصير الكثير من الخصالت الرمادية منطلقة‬ ‫بدت أنها أربعينية‪ ،‬طويلة القامة‪ ،‬نحيفة القد‪،‬‬
‫من منبته فوق جبينها العريض‪ .‬كانت ترتدي فستانا أسود واضعة شاال رماديا خفيفا على كتفيها‪ .‬شعرتُ لوهلة أني‬
‫رأيتها في مكان ما‪ .‬بدى األمر بديهيا بما أنها كانت تقف إلى جانب فنانة‪ .‬ففكرتُ أنها قد تكون هي األخرى فاعلة‬
‫في الحياة الثقافية كما اعتقدتُ حينها‪.‬‬

‫_ أهال‪ ...‬أهال سي بن ميمون‪ ،‬تسرني رؤيتك مرة أخرى !!‪.‬‬

‫تقدمت الفتاة و هي تطلق بسمة بهيجة رافعة كفها األيمن و كأنها تحيي به حسان الذي كان يرغب في تقديمنا‬
‫إليها‪...‬‬

‫_ زميالي في العمل‪...‬‬

‫‪126‬‬
‫_ السيدة حواسنية‪ .‬دعني أقول لكَ أني معجبة كثيرا بمقاالتك و حواراتك في مجاالت الفكر و األدب و الفن‪،‬‬
‫سيد بن ميمون !‪.‬‬

‫بهذه الطريقة قاطعت السيدة األربعينية حسان و هي تمد يدها مصافحة إياه أمام ارتباك الفنانة الشابة التي‬
‫عادت و كأنها تعتذر‪...‬‬

‫_ آه‪ ,‬طبعا‪ ،‬السيدة حواسنية‪ ،‬النائب بالبرلمان عن حزب جبهة التحرير‪ .‬أعتقد أنكم تعرفونها‪.‬‬

‫عرفتها هي األخرى بنفسها و بمجال كتاباتها في‬ ‫ْ‬


‫صافحت صوفيا التي َّ‬ ‫شكر حسان السيدة األربعينية التي‬
‫الصحيفة أيضا‪ ،‬فأعربت ا لسيدة عن إعجابها بالنبأ اليومي و هي تسأل صوفيا ضاحكة إن كان سي رزاق ال يزال‬
‫ْ‬
‫نظرت إلي ببسمة باردة كانت تنطلق من شفتيها اللتين اصطبغتا بلون أحمر قان كان يقترب إلى‬ ‫يصرخ كثيرا‪ .‬ثم‬
‫البني الغامق‪ ،‬و بأسنان صفراء اللون كانت تؤشر على أنها من المد ِّ ّخنات أو من مدمنات القهوة‪ .‬رمقتني بنظرة‬
‫ْ‬
‫نظرت إلي بشكل باهت غريب و كأنها تعرفني لكنها‬ ‫غريبة كانت تخرج من عينيها اللتان أحاطت بهما المسكرة‪.‬‬
‫أعرف بنفسي حتى تتأكد فعال من شخصي‪...‬‬
‫تنتظر مني أن ِّ ّ‬

‫_ و َّ‬
‫شاكي أمين‪ .‬متخصص في مقاالت السوسيولوجيا السياسية في السبق اإلخباري‪.‬‬

‫مددتُ يدي إليها مبتسما‪ ،‬لكنها لم تحرك ساكنا‪ .‬كانت تنظر إلي و هي على حالها تلك‪ ،‬تبتسم بشكل غريب‪ ،‬إن‬
‫لم أقل أن وجهها النحيف الذي كانت التجاعيد قد بدأت تظهر عليه‪ ،‬كان في الحقيقة يعبِّّر عن تكشيرة تقزز‪ .‬كانت‬
‫بسمتها‪ ،‬أو باألحرى تكشيرتها تلك ال تزال ملتصقة بمحيّاها حتى بدت معها كميت تحجر الدم في وجهه‪ ،‬بعدما‬
‫ودّع الحياة و هو مك ّ‬
‫شِّر عن أنيابه في جو قطبي متجمد‪.‬‬

‫بحسي الفكاهي الطفولي الذي يحضرني فجأة في بعض المواقف‪ ،‬كنتُ سأتظاهر في لحظة ما بالخوف منها‪.‬‬
‫كنتُ أود أن أفصح لها متلعثما بشكل ساخر و تهكمي بأنه ال يجدر بها مقابلة أحفادها ذات يوم بذلك الوجه‪ ،‬خاصة‬
‫إن آووا إلى فراشهم في المساء‪ ،‬عسى أال يروا كوابيس مرعبة في الليل‪.‬‬

‫كانت بضع ثوان‪ ،‬فحصتني فيها السيدة النائب بناظرها من األسفل إلى األعلى قبل أن تنطق أخيرا‪....‬‬

‫_ آه‪ ،‬اإلعالمي و َّ‬


‫شاكي إذن !‪ .‬ظننتُ لوقت طويــــــــــل أنك طويل القامة ؟‪ .‬آسفة‪ ،‬لكن مصافحة الرجال‬
‫تشرفتُ بمعرفتك‪.‬‬
‫الغرباء غير جائزة في ديننا الحنيف‪َّ .‬‬

‫قالتها بصوتها الذي خالطته بحة خفيفة مع نبرة استخفاف و هي تومئ برأسها كمن يرمي بتحية عابرة‪.‬‬
‫شعرتُ أن العبارة األخيرة خرجت من فمها لتُجهز على الدبلوماسية‪ ،‬ال لتنقذها‪ .‬كما لم أفهم عن أي دين كانت‬
‫تتحدث ؟‪ .‬لم أقل شيئا أمام نظرات حسان و صديقته الفنانة المرتبكة التي لم تجد غير التظاهر بأنها تتفقد خمارها‬
‫األزرق بيديها مرة أخرى‪ ،‬و أمام وجه صوفيا التي بدت و كأنها تصارع إحدى ضحكاتها ذات الصوت الصاعق‪.‬‬

‫_ صديقاي‪ ،‬هذه الفنانة الفوتوغرافية بعلي نسرين‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫قال حسان بنبرة من يحاول جعلنا نتجاوز تلك اللحظة الغريبة التي صنعتها السيدة األربعينية صاحبة الوجه‬
‫صورة‬
‫النحيف الشاحب و البسمة المخيفة‪ .‬التي توجهت إلى داخل قاعة العرض‪ ،‬في حين سار حسان رفقة ال ُم ّ ِّ‬
‫تصوب سبابتها نحوي‬
‫ّ ِّ‬ ‫ْ‬
‫وقفت صوفيا مقابلة إياي‬ ‫نسرين و هما يتبادالن بعض األحاديث و األسئلة العابرة‪ .‬بينما‬
‫بشكل صبياني‪ُ ،‬مطلقة ضحكة مصطنعة مخنوقة من حنجرتها‪.‬‬

‫_ قولي لي‪ ،‬ما كان ذلك بحق الجحيم ؟‪ ،‬هل أعرف هذه السيدة ؟ !‪.‬‬

‫_ ال ُّ‬
‫أظن ذلك‪ ،‬و لكنها التقت بك اآلن و عليك أن تحذر حقدها عليك‪ .‬إنها نائب بالبرلمان عن الحزب الذي‬
‫كتبتَ عنه ما لن يُرضي عنك المخلصين له و أتباعه من أبناء النظام‪ .‬آه يا صاح‪ ،‬أنت اآلن تدفع ثمن المواقف‬
‫فصبرا أيها البطل‪ .‬ثم عليك أن تحذرها فهي ليست كالغالبية التي تكتب عنها في حزبها‪ .‬إنها امرأة جد مثقفة و‬
‫أكاديمية متمرسة في ميدان االتصال و الدعاية‪ ،‬لها شهادات جامعية مرموقة و تتقن الحديث بأربع لغات أجنبية‪.‬‬
‫البعض يجزم بأنها ستتولى حقيبة وزارية ذات يوم‪ ....‬و احزر أي حقيبة !‪.‬‬

‫_ الشؤون الدينية ؟‪.‬‬

‫أجبتها متهكما ّ‬
‫فهزت رأسها بسخرية‪..‬‬

‫_ االتصال يا صاح‪ .‬إن حصل ذلك‪ ،‬إياك و التطلع للحصول على بطاقة الصحفي المحترف التي يعدوننا بها‪.‬‬
‫ثم إنها فعال تصلح لتكون وزيرة‪ ،‬أال توافقني الرأي ؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫انصرفت صوفيا ضاحكة في حين وقفتُ أتمتم متهكما و أنا أقول لنفسي بأنها قد تصلح أيضا لتكون السيدة "‬
‫مورتيسيا آدمز الجزائر "‪ ،‬لو أنها فقط تطيل شعرها و تحافظ على ذاك السواد الغارق فيه لباسها مع أنفاسها و‬
‫نظراتها تلك‪.‬‬

‫عندما ولجتُ قاعة العرض وقفتُ للحظات أراقب ذلك الحشد من الناس‪ ،‬الذين جاءوا ليكتشفوا ما جمعته‬
‫المصورة نسرين طيلة بضع سنوات من تنقلها بين أرجاء البلد في رحالت مختلفة‪ .‬أخيرا عرفتُ تلك الموسيقى‬
‫ّ ِّ‬
‫التي أراد المنظمون جعلها تداعب مسامع الزوار‪ ،‬كخلفية مت ِّّممة لجمال تلك الصور المحفوظة في إطاراتها‬
‫البالستيكية المل ّمعة‪ .‬لقد كانت موسيقى العازف مح ّمد روان الهادئة و الملهمة‪ ،‬التي ألف المجتمع الجزائري‬
‫سماعها و ارتبطت في ذهنه بالمسلسالت الدرامية المحلية لشهر رمضان في األعوام األخيرة‪ .‬ر ّجحتُ أنها‬
‫ستتحول شيئا فشيئا إلى عنصر ُمثير للحنين في ذاكرة جيل كامل بعد عشريات من اآلن‪ ،‬و ستجعله يعود إلى‬
‫الوراء مغمضا عينيه‪ ،‬إلى سلسالت رمضان التلفزيونية المسائية لجزائر ما بعد الحرب األهلية‪ ،‬تماما كما تذ ِّ ّكرنا‬
‫نحن اليوم موسيقى برنامج بال حدود بجزائر الحرب األهلية‪.‬‬

‫_ ما الذي تفعله هناك ؟ تعال‪ ...‬هيا اختلط قليال !‪.‬‬

‫فاجأتني صوفيا و هي تشير إلي بيدها كي أتقدم إلى داخل صالة العرض‪ ،‬التي مألتها حركة الزوار‬
‫المنتشرين في كل الزوايا‪ ،‬متنقلين ببطء فرادا و أزواجا و مجموعات صغيرة بين الصور المعروضة‪ ،‬مع بعض‬
‫‪128‬‬
‫الهمهمة و بعض الضحكات الخافتة هنا و هناك‪ .‬في حين كانت المصورة الشابة نسرين تأخذ الصور مع بعض‬
‫األشخاص‪ ،‬بما فيهم السيدة مورتيسيا‪ ،‬التي ظلت ملتصقة بكتفها األيسر كالشيطان المكلّف بالوسوسة في أذن كل‬
‫عرفت أني من يصف قادتها و آبائها السياسيين بالموسطي َّ‬
‫شات و‬ ‫ْ‬ ‫فرد‪ .‬نظرتُ إليها و أنا أفكر في رد فعلها حين‬
‫الحاهرين‪ .‬لذلك ابتسمتُ بمكر و أنا أحاول تخيل ردة فعلها في األيام المقبلة و هي تحمل النبأ اليومي بين يديها‪،‬‬
‫تقرأ المزيد من تحاليلي عن ظاهرة األوليغارشيا الحاهرة و كيف أدخلت الجزائر في هذا التحول االنقالبي العميق‬
‫ْ‬
‫نشأت‬ ‫منذ الرئاسيات األخيرة‪ ،‬من الالشرعية الموسطاشية شبه ال ُم َّ‬
‫بطنة إلى الالشرعية ال ُحهرية الصريحة‪ .‬كيف‬
‫ْ‬
‫ورثت أساليب التسلط على البلد و المجتمع بثالثية " تجهيل‪ ،‬تجويع‪ ،‬ترويع "‬ ‫تلك الظاهرة و تطورت‪ .‬كيف‬
‫الالمنتهية‪ ،‬التي كانت تستعملها بالتداول‪ ،‬بشكل يكاد يكون فطريا بما ورثته عن الطاغية األوروبي األشقر‪ ،‬بحسب‬
‫ما يناسب كل مرحلة من تاريخ االستقالل ال ُمصادَر حتى اآلن‪.‬‬

‫ألم نعش سنوات السبعينات من سياسة الجزأرة‪ ،‬ثم جاءونا سنوات الثمانينات بسياسة العصى و الجزرة‪،‬‬
‫الجزارة أو المجزرة ؟‪ .‬بهذه الطرق الملتوية جدا‪ ،‬ضللنا السبيل اليوم و رهنّا‬
‫َّ‬ ‫لنغرق سنوات التسعينات في سياسة‬
‫كل خيارات مستقبلنا بين خيارين أزليين ال ثالث لهما في بلدنا التعيس هذا‪ :‬إما السَّيء أو األسوأ !‪.‬‬

‫قلتُ في نفسي متنهدا و أنا أراقب السيدة مورتيسيا هناك‪ ،‬و هي تتجاذب أطراف الحديث ضاحكة مع بعض‬
‫األشخاص‪ ،‬الذين كانوا يتردّدون عليها مسلّمين و مصافحين‪ ،‬محاولين التقاط بعض الصور معها‪ ،‬بصفتها الوزيرة‬
‫المستقبلية‪ ،‬و مع تلك الفتاة المسكينة التي أشفقتُ على حالها و قد بدت مه َّمشة بينهم‪ .‬كانت توزع بسماتها الخجولة‬
‫و الحائرة بارتباك واضح متفقدة خمارها األزرق بيديها بين الحين و اآلخر‪ .‬ربما كانت تشعر بالخيبة داخل نفسها‬
‫حولته غربان الموسطاشية الحائمة إلى فضاء لالنتهاز‬
‫و هي ترى ذاك االنحراف الضمني لهدف معرضها‪ ،‬الذي ّ‬
‫و الرياء و اقتناص الفرص‪ ،‬لتأسيس معارف جديدة و إقامة تحالفات مختلفة مع الشخصيات المحسوبة على دوائر‬
‫ْ‬
‫حجبت بظاللها الثقيلة الرسالة الحقيقية التي اجتهدت‬ ‫النظام‪ ،‬أو ال ُمر ّ‬
‫شحة على األقل لدخوله‪ .‬الغربان التي‬
‫المصورة من أجل إبرازها في مناسبة جميلة كتلك‪ ....‬أجل !‪ .‬كثيرون حول السلطة‪ ،‬قليلون حول الفن !‪.‬‬

‫ثم ها هي ذي صوفيا تقف كالحاجز بيني و بينهم فجأة‪ ،‬ترمقني بنظرات غاضبة هذه المرة‪.‬‬

‫بك يا فتاة ؟‪.‬‬


‫_ ما ِّ‬

‫ي‪...‬‬
‫سألتها متغابيا‪ ،‬فركزت نظرة الغضب و الوعيد عل ّ‬

‫_ ألهذا أحضرتك إلى هنا ؟‪ ،‬لتقف شارد الذهن وسط جموع الناس كالمعتوه ؟‪ ،‬أهو المكان المناسب لتمارس‬
‫فيه عادتك السيئة هذه ؟‪.‬‬

‫مجرد صحفي !‪.‬‬


‫َّ‬ ‫_ ماذا ! أراقب الناس فقط‪ .....‬أنا‬

‫ْ‬
‫فهمت تلك النظرة جيدا من عيني‪ ،‬فتقدمت إلي و راحت تسحبني معها من ذراعي‪...‬‬ ‫أجبتها ضاحكا‪ ،‬لكنها‬

‫_ اسمع‪ ،‬إما أن تستمتع بالمعرض أو أقسم أني سأطلب من القائمين عليه أن يطردوك خارجا !‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫على األرجح أنها صارت عادة شبه قبيحة هذه التي تدفعني إلى مراقبة الناس في تفاعلهم و سلوكياتهم من‬
‫بعيد‪ ،‬و أنا أتسلل هاربا بصمت و هدوء من تلك اللحظة أللج عالم عيني الداخلية‪ ،‬التي أتس َّمر في العادة خلفها و‬
‫كأني ذاك الباحث القابع طيلة الليل بعيدا عن عالمه األرضي‪ ،‬خلف مسباره يراقب ظواهر الكون البعيدة‪ ،‬متقدا‬
‫بالقلق‪ ،‬معذَّبا بهوس السؤال‪ ،‬مدفوعا بوقود الفضول لهزيمة تلك الكلمة التي َّ‬
‫أرقت مصير البشر منذ القدم و‬
‫صاغت مصائر الحضارات و الشعوب‪ " :‬لماذا ؟ "‪.‬‬

‫جاء على خاطري أن أس ِّّمي حالتي تلك بـ " متالزمة و َّ‬


‫شاكي " إذ أني كنتُ ال أزال أعيش ذلك اإلحساس‬
‫المخي ف‪ ،‬كوني الوحيد الذي كان يعاني نتائج قلق السؤال المزمن وسط مجتمع استقال كليا‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬من‬
‫استفزاز فكره حول واقعه و التحديات الكبرى التي تحيط به‪ .‬رغم ذلك قلتُ أن صوفيا كانت على حق‪ ،‬فهي التي‬
‫ْ‬
‫ففكرت المسكينة في محاولة‬ ‫ي منذ اإلعالن عن نتائج الرئاسيات‪،‬‬
‫الحظت ازدياد آثار اإلحباط و القلق و األرق عل ّ‬
‫تحطيم طوق ذلك الروتين الذي غرقتُ فيه تلك األيام‪ ،‬بعدما أخبرتني بنبرتها التهكمية المعتادة أني في طريقي‬
‫ألعيش مصيرا مماثال لمصير المراسل األمريكي ‪ Paul Avery‬الذي فقد صوابه و انهارت حياته‪ ،‬بعدما فشل‬
‫في الوصول إلى الهوية الحقيقية للسفاح الشهير ‪ Zodiac‬الذي أرعب المجتمع األمريكي بجرائمه المتسلسلة‬
‫سنوات الستينات و السبعينات من القرن المنصرم‪.‬‬

‫غريب‪ .‬أضحكني األمر‪ .‬فكرتُ أني فقدتُ طريقي نحو زودياك المجتمع الجزائري‪ ،‬الذي ظل يستفزني هناك‬
‫من بعيد في العتمة و الضباب خلف سياج الزريبة !‪ ،‬و قلتُ أني سأنهار عصبيا و أفقد عقلي في النهاية كالصحفي‬
‫األمريكي المسكين‪ .‬لم أرغب في تصديق أن مفهوم ال ُحهر الفتي الذي وصلتُ إليه كان النهاية‪ ،‬رغم أني كنتُ‬
‫أشعر أني وصلتُ إلى طريق مسدود‪ .‬لم تكن لي أفكار أخرى‪ .‬مقاربات أو فرضيات دعم مخبّأة‪ ،‬قوية و ملقحة‬
‫ْ‬
‫علقت عجالتي في رمال الطريق‪ .‬كنتُ فارغ الوفاض و ربما كان ذاك‬ ‫بطابع ثوري‪ ،‬أخرجها من خزانتي في حال‬
‫منبع قلقي الحقيقي تلك األيام ؟‪.‬‬

‫غرة‪ ،‬تجاه موضوع كان يثيره و‬


‫ال شيء أسوء لصحفي من ذلك البياض ال ُمربك الذي يكتسح ذهنه على حين َّ‬
‫َّ‬
‫يبث فيه الرغبة في النهوض باكرا كل صباح لمالحقته‪ ،‬فغالبية الناس يُح ِّبّون اللون األبيض كونه يرمز للنقاء و‬
‫السكينة و الهدوء‪ ،‬لكن الصحفيين يكرهونه بشدة حين يكتسح أذهانهم و أوراقهم‪ ،‬من شدة ألفتهم للعتمة التي ِّّ‬
‫يخلفها‬
‫قلق السؤال‪ ،....‬أجل !‪ .‬قلق السؤال‪ ...‬ذاك هو السؤال !‪.‬‬

‫**********‬

‫مرت‪ ،‬ثم قلتُ في نفسي متهكما أنه ال بأس إذن بشيء من االستمتاع بتلك الصور الجميلة‬
‫كانت مجرد لحظات َّ‬
‫التي جمعتها المصورة نسرين‪ .‬راحت صوفيا تسحبني من ذراعي و هي تشير إلى كل صورة بسباباتها‪ " :‬انظر‬
‫إلى هذه الصورة كم هي جميلة !‪ ....‬و هذه معبرة‪ ....‬و تلك تبدو غامضة‪ ....‬انظر إلى هذا البيت الطوبي القديم‪ ،‬أال‬
‫يبدو كبيت جدك في تابالط ؟‪ ....‬يا للمنظر الطبيعي الخالب‪ ،‬لحظة ! أين التقطت هذه الصورة ؟‪." ......‬‬

‫‪130‬‬
‫ْ‬
‫بدت صور بعض الوجوه جميلة جدا و هي تعبر عن لحظات دقيقة غارقة في العفوية‪ ،‬استطاعت نسرين‬
‫اقتناصها في الوقت المناسب‪ .‬كصورة ذلك القروي ذو القشابية القديمة الرثة و المالمح الغائبة تقريبا‪ ،‬الذي كان‬
‫يسحب حماره خلفه صاعدا طريقا ترابيا شديد االنحدار و هو يُلقي ببسمة بريئة مرتبكة تُعبر عن الفضول‪ ،‬ربما‪،‬‬
‫بدى أنه وجَّهها للمصورة و هي تصوب عدستها نحوه‪ .‬التقطت الصورة من إحدى بلديات عين الدفلى النائية و قد‬
‫عنونتها صاحبتها بـ" ‪ ." Le villagois de Djendel‬تقدمتُ قليال رفقة صوفيا بخطى بطيئة نحو الصورة‬
‫التالية‪ .‬كانت لفتية سود لم يتجاوزوا العقد األول بعد من عمرهم‪ ،‬و قد اجتمعوا متكاتفين و كأنهم يتدافعون أمام‬
‫ْ‬
‫كشفت عن أسنانهم الناصعة‪ .‬كانت صورة جميلة جدا التقطت في قلب‬ ‫المصورة‪ُ ،‬مطلقين بسمات عريضة‬
‫ّ ِّ‬ ‫عدسة‬
‫أحد قصور أدرار الحمراء بحسب ما جاء في عنوان الصورة " ‪ ."Les enfants de Timimoun‬كانت صوفيا‬
‫تبتسم و هي تتأمل قسمات وجوههم اإلفريقية الجميلة و أعينهم السوداء الواسعة‪ ،‬قبل أن تسحبني من ذراعي دون‬
‫أن تهت ّم لرغبتي في تأمل تلك الصورة لمزيد من الوقت‪ .‬كانت الصورة التالية تحمل عنوان " ‪La vendeuse du‬‬
‫‪ " charbon – Oued El Abtal‬الذي و بحسب معرفتي به‪ ،‬يعد من بين أفقر و أتعس مناطق والية معسكر‪ ،‬بل‬
‫و من أتعس مناطق البالد كلها‪ .‬كانت صورة لمرأة عجوز نحيفة تجلس على قارعة طريق و هي منهمكة على ما‬
‫يبدو في إخراج قطع من الفحم من كيس سميد قديم‪ ،‬اختلط لونه البني بسواد الفحم‪ .‬كانت العجوز تبدو منهمكة في‬
‫ُّ‬
‫التفت يمينا و شماال على أمل رؤية صاحبة الصورة‬ ‫ترتيب قطع الفحم أمامها على أمل بيعها لبعض المارة ربما ؟‪.‬‬
‫كي أسألها عما كانت تفعله بالضبط تلك العجوز في الصورة‪ ،‬لكني لم أرها‪ .‬قلتُ في نفسي أنها ال تزال أسيرة في‬
‫قبضة السيدة مورتيسيا و غربان السياسة‪.‬‬

‫سحبتني صوفيا مرة أخرى نحو صورة أخرى عنونتها صاحبتها بـ" ‪ ." Le fils du lac El-Malah‬بمجرد‬
‫أن نظرتُ إل‪ dih‬تذ ّكرت مسلسل رسوم متحركة ياباني مدبلج‪ ،‬كان يُعرض على شاشة التلفزيون الحكومي بداية‬
‫التسعينات‪ ،‬جعلنا نُصاب بصرعة صيد السَّمك‪ .‬إنه مسلسل " رامي‪ ،‬ال َّ‬
‫صياد الصغير "‪ .‬آه يا اله كيف أنسى تلك‬
‫األيام و تلك الصرعة ؟ !‪ .‬شعرتُ فجأة برغبة في الضحك و أنا أستحضر حالي حين كنتُ في السابعة من عمري‪،‬‬
‫أحاول اختراع صنارة رفقة كل من البشير و فؤاد‪ ،‬عسى أن نأخذها معنا إلى وديان منطقة الشفة مع نهاية األسبوع‬
‫الصطياد السمك‪ ،‬سوى أن الحاج كان يرفض في كل مرة أخذنا إلى هناك بسبب الوضع األمني المتردّي‪.‬‬

‫_ ما األمر ؟‪َ ...‬لم تبتسم ؟‪.‬‬

‫أعادني صوت صوفيا المستفهم إلى حاضري‪...‬‬

‫_ ال شيء‪ .....‬تعلمين ؟‪ ،‬ربما يجدر بنا االحتفاظ بالقدر األدنى من االحترام و االمتنان للتلفزة الوطنية‬
‫قديما‪ .....‬قبل أن تصير تلفزة النظام ُحهريا‪ ،‬كوننا نحتفظ بجزء من ذاكرتنا الجميلة في برامجها القديمة‪.‬‬

‫لم تترك لي صوفيا الوقت ألشرح لها ما كنتُ أقصد‪ ،‬إذ أنها لمحت من بعيد بعض األشخاص الذين تعرفهم‪،‬‬
‫فتوجَّهت صوبهم مباشرة و من دون استئذان‪ ،‬تاركة إياي أقف أمام تلك الصورة لذلك المراهق الواقف فوق‬
‫صخرة على ضفاف بحيرة المالح في القالة والية الطارف‪ ،‬الشهيرة ببحيراتها الكبيرة الرائعة و ثرواتها الحيوانية‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫أمعنتُ النظر إليه‪ .‬كان يعتمر قبعة من القش ْ‬
‫بدت أنها أكبر من رأسه و هو يرمي ببصره الشارد تماما في نفس‬
‫النقطة المائية التي رمى فيها خطاف سنَّارته‪ .‬يا ترى فيما كان يفكر ؟‪.‬‬

‫ابتعدتُ خطوة إلى الوراء و أنا أتنهد رافعا بصري إلى سقف القاعة المزين بثريات زجاجية كانت تتألأل بكل‬
‫ألق و صمت تضيء الجو للزوار بلطف‪ .‬كنتُ أفكر مع نفسي‪ ...‬في آخر مرة استحضرتُ طفولتي في البليدة‪،‬‬
‫صادف و سمعتُ أخبارا عنها‪ '' ...‬هي '' !‪ .‬تأ ّملتُ الناس و هم في حركتهم المتباطئة ذهابا و إيابا بين اللوحات‪.‬‬
‫قلتُ أن تلك الفتاة العجيبة و بحسب ما أعرف‪ ،‬تحب كثيرا مثل هذه النشاطات و التظاهرات‪ .‬إنها عاشقة للمعارض‬
‫و الحفالت‪ .‬عاشقة للحركة و االكتشاف و المرح‪ .‬ال عجب أن اسها يفيض بالحياة‪ .....‬بهجة !‪.‬‬

‫_ " أحقا هنالك شيء اسمه قانون الجذب الكوني ؟ "‪.‬‬

‫تساءلتُ و أنا أشعر باالستغراب تجاه ذلك الحنين إلى الماضي‪ ،‬الذي اكتسحني على حين غرة‪ ،‬بمجرد أن‬
‫تذكرتُ مسلسال كرتونيا قديما‪.‬‬

‫أردتُ أن أفيق من تلك اللحظة من الشرود‪ .‬فرجعتُ بوعيي إلى حاضري‪ .‬رحتُ أرمي بصري ماسحا بعض‬
‫الصور عبثا‪ ،‬فشدَّ انتباهي شيء من بعيد‪ ،‬جعل عيناي تتوقفان عن حركتهما و تلتصقان به‪ .‬كان معلقا هناك في‬
‫الطرف اآلخر من قاعة العرض‪ .‬كانت صورة ْ‬
‫بدت غير اعتيادية من بعيد‪ .‬لم أفهم‪ ،‬أهو ضعف بصري ؟‪ .‬دفعتُ‬
‫قليال نظارتي على أنفي بسبابتي شاخصا ببصري نحو تلك اللوحة‪ .‬كان بعض المارة يحجبونها عني بحركتهم‬
‫المستمرة‪ ،‬لكن لم يقف أحد عندها متأ ِّّمال في تلك األثناء‪ْ .‬‬
‫بدت و كأنها تنظر إلي و أنا أقف على بعد نحو خمسة‬ ‫َّ‬
‫عشر مترا منها‪ .‬شعرتُ أنها تنظر إلي‪ ،‬تنتظرني‪ ،‬أو ربّما تود استفزازي‪ .‬تقدّمتُ بهدوء نحوها كمن يتقدم نحو‬
‫سره‪ .‬كلما كنتُ أقترب منها بهدوء كلما كان يتبدّى لي‬
‫صوت صوفي خفي سمعه ألول مرة و هو يحاول اكتشاف ّ‬
‫سبب ظهورها المتميز بين باقي الصور‪ .‬لقد كانت الصورة الوحيدة في المعرض‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬التي التقطتها‬
‫الفنانة باألبيض و األسود‪.‬‬

‫وقفتُ مقابال إياها و أنا أمعن النظر إليها‪ .‬ابتسمتُ وحيدا‪ .‬بدى لي أن قانون الجذب الكوني هذا فعال حقيقي‪.‬‬
‫كانت صورة لمجموعة من الفراشات التي تنتمي إلى نفس صنف الفراشات التي كانت تزور حديقة بيتنا في البليدة‬
‫سِّر ذلك على أنه إشارة معينة لحدوث‬
‫كل ربيع‪ ،‬لتختار نوعا محددا من األزهار تطوف حوله و تحط عليه‪ ،‬فأف ّ‬
‫شيء محدد تجاه الفتيات‪ .‬آه‪ ،‬أذكر ذلك‪ :‬إن حطت الفراشة على وردة بيضاء فذاك معناه أني سأتم ّكن من التحدّث‬
‫سأتعرف قريبا على فتاة شقراء‬
‫ّ‬ ‫إلى فتاة جميلة في ذاك اليوم‪ .‬إن ّ‬
‫حطت الفراشة على وردة صفراء فذاك معناه أني‬
‫جميلة‪ .‬إن ّ‬
‫حطت الفراشة على أزهار البرتقال فمعنى ذلك ّ‬
‫أن إحداهن سترسل لي رسالة حب مجهولة المصدر‪ .‬إن‬
‫ّ‬
‫حطت الفراشة على زهور الياسمين فإن األمر يتعلق بقبلة منتظرة من شفتي فتاة سمراء جميلة أو صديقة ما‬
‫أعرفها‪ .‬أما إذا انتهى المطاف بالفراشة فوق وردة حمراء‪ ....‬فكان ذلك يعني‪ ،‬قطعا‪ ،‬أني سأقع في حب من يجب‬
‫أن أقع في حبّها و أني سأعيش تجربة فريدة جدا تزامنا مع ذاك الحب‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫اقتربتُ أكثر من الصورة و أنا شاخص ببصري أحاول فهم مضمونها‪ .‬كانت صاحبتها قد اختارت لها عنوانا‬
‫غريبا بعض الشيء‪ ." Les Machaons de l’argile " :‬ال مكان محدّد و ال اسم الوالية التي التقطت فيها تلك‬
‫التحفة الفوتوغرافية‪ .‬كانت أربع فراشات تبدو و كأنها قد حطت فوق كتلة من الطين الالزب مع استمرار تحليق‬
‫ثالثة فراشات فوقها و كأنها تستعد هي األخرى للهبوط فوق الكتلة‪ْ .‬‬
‫بدت الطين رطبة كفاية ما يعني أنها كانت‬
‫مشبعة بالماء‪ .‬كانت تعكس بعضا من بريقها المتأللئ تحت أشعة الشمس‪ ،‬التي كانت تالمسها في بعض أجزائها‪،‬‬
‫في حين كانت األجزاء األخرى محجوبة عن الشمس بظل شجرة على ما كان يظهر‪ .‬غصتُ ناظرا إلى الصورة و‬
‫أنا أقترب منها أكثر مائال برأسي قليال جهة اليمين‪ ،‬محاوال رصد كل تفاصيلها‪ .‬توقفت‪ .‬عدتُ قليال إلى الوراء‪ .‬لم‬
‫أستطع تفسير األمر‪ ،‬أهو تالعب ماهر بالضوء الذي تزاوج مع جاذبية اللونين األبيض و األسود في التقائهما بين‬
‫حدودهما الرمادية المتناقضة و المضطربة ؟‪ ،‬أم هي عناصر الصورة األساسية‪ :‬الضوء‪ ،‬الظل‪ ،‬الطين و‬
‫الفراشات ؟‪ .‬أمر مؤ ّكد‪ ،‬الصورة فعال كانت جميلة و جذابة بشكل غامض رغم عجزي عن إدراك رسالتها تحديدا‪.‬‬

‫توقف عندها الكثير من الناس مطوال‪ .‬فيها ِّسحر غريب ال يُقاوم‪ ،‬حتى أنا ال أصدِّّق‬
‫َ‬ ‫_ آه‪ ...‬طبعا‪ .‬إنها صورة‬
‫في بعض األحيان أني الشخص الذي التقطها !‪.‬‬

‫جاءني صوت المصورة نسرين من الخلف‪ .‬التفتُ فوجدتها تقف مبتسمة و هي تتحسس خمارها األزرق‬
‫بيمناها‪ ،‬قبل أن تتقدم لتقف على يساري و هي تبتسم محدقة بالصورة و كأنها تستمتع بإنجازها الفني الذي فاق في‬
‫جودته كل توقعاتها‪.‬‬

‫لك‪ .‬إنها فعال صورة رائعة‪ .‬لو كنتُ مكانك‪ ،‬آنسة بعلي‪ ،‬لشاركتُ بها في مسابقات مجلة ناشيونال‬
‫_ هنيئا ِّ‬
‫جيوغرافيك !‪ .‬لكن ما قصة هذه الصورة فأنا ال أرى سوى عنوانا مبهما هنا ؟‪.‬‬

‫_ التقطتها في إحدى قرى تيزي وزو قبل نحو عامين على ما أذكر‪ .‬كان يوما ربيعيا جميال جدا‪ ،‬أمضيته‬
‫هناك في منطقة إيبودرارن بوضاحي بني ينّي‪ .‬أما العنوان فهو من وحي صاحب هذه الطين‪.‬‬

‫_ عفوا ؟‪.‬‬

‫_ حرفي قبايلي غريب األطوار‪ .‬في الحقيقة اكتشفته عن طريق شخص كنتُ أعرفه‪ .‬هو من تحداني بالقول‬
‫أني سأعثر عند ذاك الحرفي على أشياء تثير اهتمام أي فنان‪ .‬بصراحة لم أحظ منه بالكثير فقد كان شخصا متحفظا‬
‫كثيرا تجاه الغرباء عن قريته و بيئته‪ ،‬رغم أن التحف الف َّخارية الرائعة التي يصنعها من الطين و الصلصال‬
‫تستحق مئات الصور لها‪ .‬ما تراه في هذه الصورة هو كتلة من الطين الخام‪ ،‬حضّرتها له والدته‪ ،‬العجوز الطاعنة‬
‫في السن‪ ،‬كي يصنع منها أوانيه التقليدية الكثيرة‪.‬‬

‫_ ‪ .... Les Machaons de l’argile‬ما معنى ذلك ؟‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫_ ال أعرف الكثير عن الحشرات‪ .‬لكن و بحسب صانع الطين ذاك‪ ،‬فالماكاو هو اسم فصيلة هذه الفراشات‬
‫الظاهرة في الصورة‪ .‬عندما بحثت في الموضوع‪ ،‬وجدت أنها تسمى كذلك " ذيل السنونو "‪ ،‬ذلك أن أجنحتها كما‬
‫ترى‪ ،‬تأخذ شكال حادَّا عند الطرف‪ ،‬يذكر بذيل تلك الطيور المهاجرة‪...‬‬

‫_ اآلن فهمتُ معنى عنوان الصورة‪ .‬جميل و معبِّّر‪ .‬لكن معذرة‪ ،‬إنها الصورة الوحيدة التي التقطتها باألبيض‬
‫و األسود من بين كل صور المعرض‪ ،‬على ما أظن ؟‪.‬‬

‫ضحكت الفتاة‪ ،‬ثم رمت بيدها إلى خمارها األزرق و هي تتفحصه‪...‬‬

‫_ في الحقيقة‪ ،‬كان هذا أحد شروط الحرفي الكهل الغامض‪ .‬فبعدما سمح لي باالحتفاظ بهذه الصورة التي‬
‫التقطتها‪ ،‬و هي لظاهرة غريبة تحدث معه دوما‪ ،‬اشترط علي بأال أذكر مكان التقاط الصورة‪ ،‬بل أكتفي بعنوانها‬
‫ضلت استعمال العنوان بالفرنسية " ‪،" Les Machaons de l’argile‬‬
‫الذي اقترحه علي باللغة البربرية‪ ،‬لكني ف ّ‬
‫و اإلشارة هنا إلى طين الحرفي و ليس أي كتلة طين‪ .‬لقد اشترط علي كذلك أن تكون الصورة باألبيض و األسود‬
‫دون سواها من الصور التي قد ت ُعرض معها ذات يوم‪ ،‬ثم أضاف أنه يتو ّجب علي عدم بيعها أو تقديمها ألي كان‪،‬‬
‫بل أتركها تتجول و تسرح بحرية في كل المعارض و المناسبات التي قد أشارك فيها عبر الوطن‪ .‬عندما سألته عن‬
‫السبب‪ ،‬صمت قليال‪ ،‬ثم ارتسمت على محياه إماءة تشبه البسمة‪ ،‬قبل أن يستدير و يخطو مبتعدا عني و هو يتحدث‬
‫بكالم لم أفهم منه شيئا إذ كان بالقبايلية‪ ،‬و بتلك الطريقة كانت نهاية لقائنا األخير !‪ .‬فعال كان رجال غريب‬
‫األطوار‪ ....‬أه أستسمحك سيد و َّ‬
‫شاكي‪..‬‬

‫المصورة نسرين بلباقة و حياء متوجهة إلى مجموعة من المثقفين الذين عرفتُ بعضهم‪ ،‬كون حسان‬
‫ّ ِّ‬ ‫ْ‬
‫انسحبت‬
‫يُجري معهم بعض المقابالت من حين آلخر‪ ،‬دون الحديث عن مساهماتهم الكتابية في الجريدة‪ .‬عدتُ إلى لحظتي‬
‫الغريبة تلك‪ ،‬الغارقة في اإلعجاب بتلك الصورة و حنين غامض إلى الماضي‪ .‬لم أفهم ما كان يُثيره بالضبط‪ .‬ربما‬
‫هي فراشات الماكاو الجميلة ؟‪ .‬لكني رغبتُ حقا في الحصول على تلك الصورة و حملها معي إلى البيت‪ ،‬رغم‬
‫عجزي عن فهم ما أثارته في نفسي بالضبط‪ .‬أحببتُ فقط تعليقها في الغرفة التي أضع فيها مكتبي الصغير و‬
‫مكتبتي‪ ،‬هناك في زاوية حيث يمكنني أن أراقبها حين أشتغل على بعض مقاالتي أو أبحاثي على النت‪ ،‬أو حين‬
‫أطالع كتابا جيدا أو أضيع في غياهب تأمالتي‪ .‬لم أجد في تلك اللحظة‪ ،‬بعدما قلت في نفسي أني لن أجد طريقة ما‬
‫ألقنع المصورة نسرين ببيعها لي الحقا‪ ،‬سوى أن أكتفي بمحاولة التقاط بعض الصور الرقمية لها بهاتفي المحمول‪،‬‬
‫لكني في كل مرة كنتُ أحاول ذلك إال و يبدو انعكاس نور ذلك المصباح الصغير ال ُمعلّق فوق إطار الصورة‬
‫واضحا في الصورة الملتقطة بالهاتف‪ ،‬كونه كان ينعكس مباشرة على زجاج إطارها البالستيكي‪.‬‬

‫وضعتُ يدي خلف ظهري و أنا ال أزال ممسكا بالسول فون‪ ،‬بعدما استسلمتُ لحقيقة أن النماذج الرقمية‬
‫ال ُملتقَطة لصورة فراشات ذيل السنونو لن تكون واضحة تماما‪ ،‬بسبب تلك اللمعة الضوئية على زجاج اإلطار‬
‫البالستيكي الداكن‪ ،‬فآثرتُ َّ‬
‫مرة أخرى الغوص في صمتي‪ ،‬غير مبال تماما بكل صور المعرض أو المعرض أو‬
‫ضيوف المعرض أو حتى موسيقى دمحم روان‪ .‬فقط غصتُ في تلك الصورة و أنا أتأملها حين راحت الدقائق ُّ‬
‫تمر و‬

‫‪134‬‬
‫أقترب منها مرة أخرى‪ .‬كان زجاج اإلطار البالستيكي ممسوحا و مل ّمعا بشكل‬
‫ُ‬ ‫كأنها قد تسارعت فجأة‪ ،‬ألجد نفسي‬
‫جعلني أستطيع رؤية انعكاس وجهي عليه و انعكاس حركة الناس الذين كانوا يمرون خلفي‪ ،‬أو يقفون متفرجين‬
‫على الصور المقابلة‪ ،‬و أنا في تلك اللحظة بين النشوة التي سببتها لي تلك الصورة بما أثارته في أعماقي من‬
‫أحاسيس غير مفهومة و بين حركات الذهاب و اإلياب خلف ظهري‪ ،‬التي كانت تعكس أطياف أصحابها بشكل‬
‫ْ‬
‫وقعت عيناي اللتان كانتا ال تزاالن تداعبان التفاصيل الرقيقة‬ ‫خفيف على الزجاج‪ ،‬شعرتُ و كأنني أجفل فجأة حين‬
‫لتلك الفراشات و طينها الطرية‪ ،‬فجأة‪ ،‬وقعتا على ظل كان يقف خلفي في جدار العرض المقابل‪ .‬لم أصدق في‬
‫البداية‪ ،‬فقد تدكرت كم من المرات التي كنتُ أعيش فيها نفس الموقف و أخطئ التقدير‪ ،‬كون الشوق كان يجعل‬
‫عيناي تخطئان و تخدعاني بالطيف الخطأ‪ ،‬لمجرد أن له نفس القامة و نفس لون الشعر و طريقة اللباس ذاتها‪،‬‬
‫فأحسبه‪ .....‬ذاك الطيف‪.‬‬

‫شخص بصري على زجاج اإلطار كوني لم أرد أن ألتفت حلفي بشكل مباشر‪ .‬قلتُ في نفسي أنه علي‬
‫االنتظار قليال حتى يتحرك ذاك الطيف من مكانه ثم أرى ما يمكن فعله‪ .‬لكن قلبي اهتز داخل صدري فجأة و‬
‫اضطرب تنفسي‪ ،‬في تلك اللحظة التي سمعتُ فيها صوتا أنثويا عذبا ينطلق بشكل حذر يتوخى عدم إثارة انتباه‬
‫الناس‪ ..." Hey, I’m here ! " :‬حينها‪ ،‬تج ّمدتُ في مكاني تماما و شعرتُ و كأن ركبتاي قد اكتسحهما الجليد‬
‫فجأة‪ .‬لم أستطع االلتفات مطلقا‪ ،‬كوني عرفتُ ذاك الصوت و تلك النبرة الطفولية ذات الصدى الخالد في أعماقي‪.‬‬
‫شخص بصري على زجاج إطار‬
‫َ‬ ‫قطعا‪ ،‬ال يمكنني أن أخطئ تلك النبرة !‪ ،‬رغم الشك الذي استبد بي للحظة‪.‬‬
‫تحول إلى مرآة عاكسة‪ .‬يا اله ! كانت هناك‪ .‬تقف خلفي‪ ،‬ظهري لظهرها‪ ،‬تتأ ّمل‬
‫صورة الفراشات أكثر و الذي َّ‬
‫الصورة المقابلة مباشرة‪ ،‬على بعد أربعة أمتار أو زيادة بقليل‪ .....‬إنها فعال '' هي '' !!‪ .‬تأكدتُ من ذلك قطعا و أنا‬
‫ملوحة بيدها نحو الشخص الذي نادته قبل‬ ‫ألمحها عبر انعكاس طيفها على زجاج اإلطار تلتفتُ إلى يسارها ّ ِّ‬
‫لحظات‪ْ .‬‬
‫بدت مالمح النصف األيسر لوجهها جليّة بشكل جعلني أتأكد من أنها فعال هي‪ ...‬لم أصدق‪ ....‬بهجة ؟ !!‪.‬‬

‫انقض‬
‫َّ‬ ‫طأطأتُ رأسي مغمضا عيني و أنا آخذ نفسا عميقا من أنفي في محاولة للسيطرة على االرتباك الذي‬
‫على أوصالي‪ .‬فتحتُ عيني‪ .‬رفعت رأسي باتجاه الصورة‪ .‬رفعتُ قليال نظاراتي فوق أنفي بسبابتي‪ .‬رحتُ أراقبها‬
‫عبر الزجاج و هي تتأ ّمل تلك الصورة التي مررتُ بها مرور الكرام قبل قليل حين شدتني صورة الماكاو‪ .‬كانت‬
‫صورة المرأة من البدو الرحل سكان ضواحي والية البيض و هي جالسة القرفصاء تحلب عنزتها أمام خيمتها‬
‫المتواضعة‪ .‬كانت بهجة تتأملها في صمت‪.‬‬

‫_ "‪ ....‬ف ّكر‪...‬ف ّكر‪...‬اهدأ و فكر مع نفسك قليال‪ ...‬ال تجزع‪....‬ثم َلم عليك أن تجزع ؟‪ ...‬مجرد زميلة قديمة من‬
‫أيام الدراسة‪ ...‬اهدأ‪...‬اهدأ أيها األحمق‪." !! ....‬‬

‫كنتُ أردد في أعماقي بسرعة و أنا أشعر بقوة دقات قلبي في تلك الثواني الهائجة و قد بدأت تبعث بحرارة‬
‫غريبة تكتسح وجنتي و أذني فزاد قلقي من ذلك‪ .‬أدركتُ حينها أن وجهي كان قد بدأ يستسلم الحمراره اللعين‪ ،‬و‬
‫ي فائض المشاعر المضطربة تجاه تلك الفتاة طيلة سنوات خلت‪ ،‬صار أمرا حتميا يحدث لي‬
‫بدى لي أن ما زرعه ف ّ‬
‫في كل لقاء يتم بالصدفة‪ ،‬ال يمكن التحكم فيه أو تغييره بمحض إرادتي هكذا و ببساطة‪ .‬لكنني و بخبرتي السابقة‬

‫‪135‬‬
‫معها‪ ،‬كنتُ مدركا أن لذلك االضطراب وقتا محددا قبل أن تعود األمور إلى نصابها‪ .‬لطالما عشتُ تلك التجربة في‬
‫يحمر وجهي‪ ،‬ثم رويدا رويدا أهدأ‪....‬‬
‫ّ‬ ‫كل مرة كنتُ ألتقي فيها بهجة صدفة‪ .‬أرتبك‪ .‬يضطرب تنفسي و خفقان قلبي‪.‬‬
‫من الناحية الظاهرة على األقل‪.‬‬

‫استغرق األمر نحو دقيقة أو يزيد بقليل‪ .‬هدأتُ بعدها فعال‪ ،‬ألواجه الحالة التالية التي طالما عشتها تجاه الفتاة‬
‫التي كانت دوما ّ‬
‫تهز عالمي بكل قوة كلما رأيتها‪ ،‬طيلة سنوات الحرمان و الخوف و الشوق و الندم و األماني‬
‫يتحول إلى خالّط‬
‫ّ‬ ‫المتأ ِّ ّخرة‪ ،‬إنها حالة " ال ُجرعتين "‪ ....‬جرعتان من الفرح و الخوف تُحقنان مباشرة في قلبي الذي‬
‫هائج‪ ،‬يمزجهما بسرعة إلى درجة تحويلهما إلى محلول عضوي واحد‪ .‬كان األمر أشبه باختالط القهوة بالحليب !‪.‬‬
‫لم يكن ممكنا الفصل بينهما بعد ذلك‪.‬‬

‫شعرتُ أني سأتحجّر حرفيا إن لم أتحرك فورا نحوها قبل أن ت ِّ ّ‬


‫قرر هي التحرك و الذهاب‪ ،‬حيث لن يكون لي‬
‫ْ‬
‫مضت‬ ‫مثقال ذرة من الشجاعة ّللحاق بها أو مناداتها أو مقاطعتها‪ .‬بدى األمر عسيرا بعض الشيء‪ .‬كيف ال ؟‪.‬‬
‫مرة‪ ،‬ذات أمسية ربيعية‬
‫ثالث سنوات مذ رأيتها آخر مرة‪ .‬و مضى ثمانية أعوام و ستة أيام مذ أن تحادثنا آخر ّ‬
‫غائمة‪ ،‬بالقرب من كلية اللغات بجامعة البليدة أين كانت تدرس‪ .‬يوم أسمعتها كالما لم أقله لفتاة في حياتي‪ .‬كنتُ‬
‫مرتبكا جدا بما أطلعتني عليه‪ ،‬و كنتُ مثقال حد االختناق بعدما غرق صدري بكلمات غرام‪ ،‬تكتّلت في عمقه‬
‫كأكوام ألوراق شجرة الحب التي كدّستها السّنين في مكان واحد لمواسم شتاء متتالية طويلة‪ ،‬إلى أن صارت جبال‬
‫من الندم و األسى و الحيرة‪ .‬لسخرية القدر‪ ،‬كان ذاك الجبل سبيلي الوحيد لالرتقاء و الوصول إليها في النهاية‪.‬‬
‫أحسستُ يومها أني خسرتُ كل شيء و ما كان لي إال أن أقول ما كان يجب قوله منذ فترة طويلة‪ .‬ذاك اليوم‪،‬‬
‫طأطأتُ رأسي و انسحبت تاركا إياها واقفة تراقبني في صمت و ذهول‪ .‬ربما كانت تشفق على حالي أيضا في تلك‬
‫األمسية الكئيبة ؟‪ .‬مذ ذاك الحين‪ ،‬صرتُ أعيش ما كنتُ بصدد عيشه تلك اللحظات‪ ،‬بجرعات مضاعفة من الخوف‬
‫الرجيف و الوجيف‪ ....‬و الكثير من الحب و حتى الغضب‪ ،‬كلما التقينا مصادفة‪.‬‬
‫و الفرح‪ ،‬اليقين و األلم‪ّ ،‬‬

‫أخذتُ نفسا عميقا و أنا على أهبة االستعداد لاللتفات نحوها و التسلل خلفها ألقف بكبريائي و هدوئي‪ ،‬اللذان‬
‫طالما خبّأتُ جنوني بها خلفهما‪ ،‬كالعب خفة متحذلق يدّعي امتالك قدرات سحرية ليست سوى سرابا‪ .‬كنتُ أرغب‬
‫في الوقوف خلفها ألرمي باسمها في أذنها مستعمال نبرتها الطفولية تلك التي علّمتني إياها‪ .‬النبرة التي كانت دوما‬
‫تحولني في لمح البصر‬
‫ي ناطقة باسمي‪ ،‬و كأنها ترمي بتعويذة سحرية ّ ِّ‬ ‫تسحرني و تتركني مبتسما كلما ْ‬
‫ألقت بها عل َّ‬
‫عار من ستائر النفاق و الكذب‪ ،‬ألكون فقط ذلك الطفل الخجول الذي جذبته نحوها ذات يوم في‬
‫إلى تمثال إغريقي ٍ‬
‫كراس‪ .‬كنا صغيرين يومها و كنا جميلين جدا !‪.‬‬
‫صف الدراسة ببسمة و ّ‬

‫ُّ‬
‫التفت نحوها و أنا أشعر بفائض من االضطراب و السعادة و اإلثارة بلقاء صديقة قديمة و حبيبة سابقة‪ ،‬أو‬
‫هكذا حاولتُ أن أرى األمر‪ ،‬بغباء‪ ،‬بعدما ذ ّكرتُ نفسي أن ما حدث قد حدث و انتهى‪ .‬كانت هناك تقف في صمت‬
‫تتأمل صورة المرأة البدوية‪ .‬تقدّمتُ خطوة واحدة نحوها حين ظهر بين المارة شاب أسمر طويل القامة‪ ،‬حليق‬
‫الرأس بزغب ذقن خفيف‪ ،‬يرتدي نظارات طبية غليظة و هو يقف بجانبها يدفعها بكتفه في حركة مازحة‪...‬‬

‫‪136‬‬
‫‪_ Je t’avais cherché partout !..‬‬

‫قال و هو يتأفف‪...‬‬

‫‪_ Et je t’avais dit que je suis là !!, tu m’as pas entendu ?.‬‬

‫رد ْ‬
‫ّت عليه دون أن تنظر إليه‪.‬‬

‫‪_ Hey… elle est pas mal cella !!. C’est ta grand-mère !.‬‬

‫راح يضحك مشيرا بسباباته نحو صورة المرأة البدوية‪ ،‬في حين دفعته بهجة بمنكبها ثم نظرت إلى ساعة يدها‬
‫و هي تطلق شهقة تدل على تفاجؤها بالوقت‪...‬‬

‫ي مونية‪.‬‬
‫طولتها شوية‪ .‬الزم نروح قبل ما تروح عل ّ‬
‫_ يحي ! راح الحال‪ّ .‬‬

‫_ زيدي شوية‪ ...‬مازال‪ ،‬مشفتش كلّش‪ ،‬أنا هذا وين جيت !‪..‬‬

‫قال الشاب بصوت يكاد يكون مترجيا ليأتي ردها قاطعا‪...‬‬

‫! ‪_ J’ai pas envie de prendre le train toute seule‬‬

‫هكذا‪ .‬بكل بساطة‪ .‬انسحبا و الشاب يسير خلفها راميا بقدمه وسط قدميها محاوال جعلها تتعثر‪ .‬راحا يضحكان‬
‫حين أسرعت خطاها و كأنها تهرب منه‪ .‬وقفتُ أنظر إليها بهدوء شديد‪ ،‬أضع يدي في جيبي كمن ال حول و ال قوة‬
‫له‪ .‬عيناي كانتا تحاوالن بيأس التشبّث بآخر خيط ضوئي منبعث منها‪ ،‬شوقا و لهفة‪ ،‬و قد عادت تلك الحرارة‬
‫لتزحف على وجنتي و أذني‪ ،‬و كأن أحدهم قد وضع قطعة قماش مشبعة بماء دافئ على وجهي‪ .‬لكن داخلي كان‬
‫يفيض بنفس الشعور اللعين الذي كرهته و الذي أرقني و أتعبني طيلة أعوام اإلكمالية و الثانوية‪ ،‬حين كنتُ أرى‬
‫أحدهم يقترب من بهجة في الواقع أكثر مما كان يمكنني أن أقترب منها في أحالمي التعيسة‪ " .‬من يعلم ؟ " قلتُ‬
‫محاوال مواساة نفسي‪ " ...‬لعلّه مجرد زميل يشتغل معها في الثانوية ! " لكن ذلك لم يشفع لي‪.‬‬

‫اكتسح نفسي جو شتوي سرعان ما أطفأ حرارة وجنتي و شعلة عيني‪ .‬نسماته الباردة تسلّلت من الماضي‪ ،‬و‬
‫لتوها بعد محاولة فاشلة‬
‫كأنها روح بُعثت من مقبرة األحالم القديمة‪ ،‬لتتغذى على شظايا أمل طفيف تبعثرت ّ ِّ‬
‫لاللتحام‪ .‬نسمات امتزجت بشيء يشبه الخوف الذي يلوح به الهم تُجاه قلب مكسور من بعيد‪ .‬شعور عشته قبل‬
‫ثمانية أعوام من تلك األسمية‪ ،‬يوم وصلتُ إليها متأخرا و أدركتُ ذلك‪ ،‬بل و حين أدركتُ أنها أبدا لن تعطيني‬
‫مجرد قناع‬
‫ّ‬ ‫فرصتي الضالّة معها‪ ،‬بسبب الحالة التي بدوتُ فيها أمامها ذاك اليوم‪ ،‬مرهقا‪ ،‬ضائع و بدون بوصلة‪.‬‬
‫شاحب حائر فقد مالمحه الحقيقية‪ .‬مجرد طيف خائر مألت ندف الثلج بؤبؤ عينيه لحظة االنكسار‪.‬‬

‫ثم‪ ......‬يا له من إحساس غريب و مزلزل ذاك الذي هزني و أنا أراها تختفي وسط جمع الحضور !‪ .‬كانت‬
‫الرغبة الدفينة و المكدَّسة في أن أكون صديقا مقربا لها‪ ،‬على األقل‪ ،‬يمكنه أن يراها و يجالسها و يلتصق بكتفها‬

‫‪137‬‬
‫إلى حد الملل من وجهها‪ ،‬الذي ُخلق – في الحقيقة – ليكون نبعا يرتوي منه أصدقاءها حتى الثمالة‪ ،‬دون أن يفكروا‬
‫في االبتعاد عنه‪ .‬لكني لسوء حظي‪ ،‬لم أر بسمتها الخالدة تلك‪ ،‬بل لم أستطع التمعن جيدا في تفاصيل وجهها و‬
‫صت أمامي و هي تتعارك بصبيانيتها‬
‫لباسها و جسدها !‪ .‬حالة الفوضى و ومضات الذاكرة التي اصطفت و ترا ّ‬
‫التعيسة فجأة داخل رأسي‪ ،‬مثيرة غبار تلك األحاسيس بسبب اللقاء المفاجئ‪ ،‬و رحيل بهجة السريع‪ ،‬قد حرمتني‬
‫جميعها من لحظة تأمل واحدة في البهجة التي طالما أحببت‪ .‬تمنيت فقط لو كنتُ قادرا على أن أكون قريبا منها‬
‫حتى عندما تبتعد !‪ .‬لكنها كانت هناك‪ .‬كانت تبتعد قبل أن تتوارى نهائيا عن أنظاري المحبطة‪ " .‬بهجة‪ ،‬الصديقة‬
‫التي لم أحظ بها يوما‪ ....‬الحبيبة التي لن أحظى بها أبدا "‪ ..‬هكذا كنتُ أردّد طيلة سنوات بعد ذلك اليوم الربيعي‬
‫الكئيب‪ .‬التاسع و العشرون أفريل من عام ‪.! 4111‬‬

‫وجدتني أنسحب في صمت متأففا و قد نسيتُ حتى صورة الماكاو و أحاسيسها تاركا إياها خلفي و كأن شيئا لم‬
‫يحصل‪ .‬خرجتُ إلى سقيفة القصر الرخامية الواسعة التي تطل على العاصمة و البحر و أنا أسحب علبة السجائر‬
‫من جيب قميصي ناظرا إلى ساعتي‪ .‬كانت تشير إلى السابعة و اثنتين و أربعين دقيقة تقريبا‪ .‬وضعتُ سيجارة بين‬
‫شفتي متن ّهدا حين بدأتُ ألتقط بسمعي النداءات األولى البعيدة ألذان المغرب و هي ترتقي في الجو راكبة تلك‬
‫تلتحف برداء ضوئي أحمر لطيف‬
‫ُ‬ ‫النسمات الخفيفة بهدوء و سالسة‪ .‬كان الجو منعشا و جميال‪ ،‬و كانت العاصمة‬
‫نُسج بأشعة غروب الشمس‪ ،‬لون مشع بخجل‪ ،‬طغت عليه الحمرة المائلة إلى اللون الزهري التي كانت تميل إلى‬
‫اللون األحمر عند األفق‪ ،‬حيث ترك قرص الشمس المنسحب من بعيد في صمت آخر آثاره على النهار‪ ،‬بينما‬
‫كانت أطرافها البنفسجية البعيدة تستسلم بهدوء لرداء من األلوان القاتمة و الباردة‪ ،‬التي كانت تتسرب بهدوء و ثقة‬
‫إلى قبة السماء‪ ،‬تماما كما تستسلم النساء لمداعبة أنامل و ألسن الرجال التي تغزو أجسادهن الناعمة بسالسة و مكر‬
‫كل ليلة‪.‬‬

‫رميتُ ببصري إلى يساري أين بدى لي مقام الشهيد منتصبا في عليائه و صمته الجليل من بعيد خلف‬
‫يروح عن نفسه في وحدته تلك بمالمسة ذلك الطيف الضوئي األحمر األخير الذي كان يدفع أكثر‬
‫األشجار‪ ،‬و كأنه ّ ِّ‬
‫بكرة الشمس نحو منحدرها في األفق خلف البحر المتوسّط‪ِّ .‬همتُ في ذاك اللون و أنا أستشعر مدى ّ‬
‫تشوش‬
‫مشاعري‪ ،‬بعدما اعتقدتُ أن زيارتي للمعرض قد تساعدني في ترتيبها‪ ،‬لكن رؤيتي لصاحبة ال َّ‬
‫شعر الغروبي قد‬
‫انتهى ليقلب طاولتي الصغيرة التي كنتُ أحاول عبثا ترتيب أوراقي فوقها‪ ،‬األوراق التي كانت ريح السبق النهائي‬
‫قد عبثت بها بمكر شديد قبل أيام !‪.‬‬

‫_ " يا ترى‪ ...‬أي أثر تركته السنين على مالمح قلبك يا بهجة‪ .‬أال يزال الناس يشربون من نقاء نظراتك‬
‫ت تلتهمين الحياة في شره بضحكاتك الطفولية تلك ؟‪ .‬أال تزالين كما أنت مذ رأيتك آخرة مرة‪،‬‬
‫البريئة تلك ؟‪ ،‬أمازل ِّ‬
‫أم تغير شيء أو أشياء في قلبك تجاهي ؟ ''‪.‬‬

‫أحسستُ أني خائر القوى تماما و أنا عائد مع صوفيا و حسان بعدما انسدل ستار الليل على مدينة البهجة‬
‫البيضاء‪ .‬ربما رغبتُ في لومهما كثيرا ألنهما أخذاني إلى المعرض‪ ،‬لذلك فضّلت الجلوس في المقعد الخلفي‬
‫للسيارة ملتزما الصمت‪ .‬كنتُ في الحقيقة نصف واع و أنا أنظر فقط إلى تلك األنوار الساطعة التي كانت ُّ‬
‫تمر على‬

‫‪138‬‬
‫وجهي و كأنها أمنيات مضطربة‪ ،‬تعبر في لمح البصر في هيامها القلق لتضيع في عمق الفراغ‪ .....‬فراغ‬
‫المستحيل‪ .‬لم أستطع لملمة أفكاري و كانت تلك من المرات النادرة التي لم أستطع فيها التفكير في شيء معين‬
‫أرغب في العودة إلى البيت ألدفن نفسي في فراشي رغم شكي الكبير في مالمسة النوم‬
‫ُ‬ ‫بتمعن و تركيز‪ .‬كنتُ‬
‫لجفني‪.‬‬

‫كان الزميلين يثرثران حول موضوع ما في األمام‪ .‬لم أكن أعلم عما كانا يتجادالن حين كان حسان يستمع إلى‬
‫إحدى حصصه األدبية المفضلة عبر أمواج إحدى اإلذاعات الناطقة باإلسبانية‪ .‬على األرجح كانت صوفيا تود‬
‫سماع شيء آخر كونها ال تتقن اإلسبانية ؟‪ ،‬قبل أن تنتشلني من شرودي الفارغ للحظة و هي تسألني كمن تسأل‬
‫خبيرا عن اسم تلك المقطوعة الموسيقية الهادئة‪ ،‬التي بدت و كأنها ُجعلت فاصال قصيرا لمستمعي البرنامج‬
‫اإلذاعي‪ .‬أمعنتُ السمع للحظة ثم أجبتها بصوت غائب‪...‬‬

‫_ مقطوعة ‪ ( The Reading Room‬غرفة المطالعة )‪ ......Thomas Newman .‬على ما أظن‪....‬‬

‫ْ‬
‫انتهت إلى حلم غائر مليء باالنفعاالت‬ ‫ّ‬
‫المتقطع‪،‬‬ ‫أما عن تلك الليلة‪ ،‬فطبعا‪ ،‬لم أظفر إال بأربع ساعات من النوم‬
‫الكثيفة‪ .‬مضى وقت معتبر لم أر فيه ذاك النوع من األحالم التي تختلف في بعض التفاصيل لكنها دوما تدور حول‬
‫موضوع واحد و تحمل لي نفس اإلحساسات تقريبا‪ .‬األحالم التي أجدني فيها أبحث يائسا عن بهجة وسط ساحة‬
‫مدرسة مكتظة‪ ،‬ثم يُقال لي أنها في غرفة الصف رقم كدى أو كدى‪ ،‬فأركض بكل سرعتي إلى الغرفة الموصوفة‬
‫لي و كلي يقين و اندفاع ذكوري‪ .‬أقتحم بابها بسرعة فإذا بها فارغة تماما‪ ،‬ثم أعود إلى الباب للتأكد من رقم‬
‫الغرفة‪ ،‬فأجده غير الذي قيل لي‪ ،‬فأقتحم الغرفة تلو األخرى و أنا أشعر برغبة عنيفة تقطع أعماقي في الصراخ أو‬
‫حتى البكاء‪ .‬ثم يقال لي أن بهجة قد خرجت لتوها من المؤسسة رفقة مجموعة من األصدقاء‪ .‬أعود أدراجي راكضا‬
‫بين الحشود التي تعيق نظري و تحول دون رؤية البوابة‪ ،‬فإذا خرجتُ أخيرا منها أجد نفسي ألتفت إلى كل الجهات‬
‫محاوال رؤية الفتاة بين المارة‪ ،‬لكن بال جدوى‪ ،‬ثم أدرك أنها اختفت و لن يكون بإمكاني النظر إلى وجهها الطفولي‬
‫كي أنعش ذاكرتي بتفاصيله الربيعية‪ ،‬أو محاولة إقناعها بإلحاح تام كي تعطيني فرصة صغيرة معها‪ .‬لكنها في‬
‫الغالب تكون قد ذهبت‪ .‬أرغب في البكاء الشديد‪ ،‬لكن دموعي كأنما تتجمد في قلبي و تعجز عن االنطالق‪.‬‬

‫غالبا ما كنتُ أستيقظ من تلك األحالم و أنا أشعر باختناق ال يُطاق و شوق شديد لبهجة‪ .‬لكن مع مرور السنين‬
‫و تقدمي في العمر‪ ،‬صرتُ استيقظ منها و أنا أتذوق إحساسا خفيفا من األسف سرعان ما يليه عدم االهتمام‪.‬‬

‫تلك الليلة‪ ،‬استفقت من الحلم‪ .‬فكرتُ فيه قليال‪ .‬ثم تجاوزته إلى مواضيع متسلسلة أخرى‪ ،‬أغلبها مرتبط بعملي‬
‫و أسئلتي‪ .‬ثم وجدتُ نفسي أغادر فراشي‪ ،‬أحوم في ساعات الصبح األولى حافي القدمين في أرجاء الشقة‪ ،‬كشبح‬
‫جوعان يود التهام الحقيقة‪ .‬شبح حائر ضائع باحث عن جثته التي ألقى بها ي ّم زمن الرداءة على شاطئ مظلم و‬
‫بارد ال يعلم أحد مكانه بعدما قتلته جراح هذا الوطن‪ .‬كنتُ أحاول لملمة أفكاري ألفجرها ممزوجة مع حيرتي و‬
‫غضبي و إحباطي من نفسي و من هذا المجتمع الموبوء‪ ،‬الذي كانت حاله المزرية و المباالته الغريبة تجاه وضعه‬
‫تستفزني و تُعذبني بال تو ّقف‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫‪-12-‬‬

‫الهروب من األرباب الزائفة‬

‫‪------------------------------------------------------------------‬‬

‫موسطاش َّيات‬

‫دولة ‪ 195‬و شعب ‪ 196‬؟ !‬

‫أذكر أنه قبل نحو عامين من اليوم‪ ،‬جمعني حديث عابر مع كهل‬
‫التقيته صدفة حين كنتُ مجرد صحفي مبتدئ‪ .‬أخبرته أن الجزائر حلّ ْ‬
‫ت‬
‫في المرتبة ما فوق ‪ 012‬على سلم البلدان التي تعاني الفساد و الرشوة و‬
‫التي تضم قائمتها ‪ 092‬بلد‪ .‬راح يسبّ و يشتم و هو يقول بأننا حقا في‬
‫مواجهة دولة ‪ِّ 012‬بشعب ‪ ،! 011‬نسبة إلى جملة " الغرفة ‪" 011‬‬
‫التي أطلقها الراحل يحيى بن مبروك في رائعة عطلة المفتش الطاهر‬

‫‪140‬‬
‫السينمائية الكالسيكية للمخرج موسى حداد‪ ،‬و التي صارت ترمز في‬
‫الوعي الجمعي الجزائري إلى الرجل الذي يتّخذ من السلوك األنثوي‬
‫الناعم و المداهن طريقة لتحقيق أهدافه‪ ،‬حين يحتاج بدل ذلك إلى الجرأة‬
‫و الحزم أو حتى خوض الصراع‪.‬‬

‫يحضرني هذا‪ ،‬فجأة‪ ،‬و أنا أسأل نفسي‪ :‬هل كنا قبل سنتين فقط‪،‬‬
‫نتصور أن البلد سينحدر إلى ما هو عليه اآلن باسم الفساد السياسي و‬
‫األخالقي الذي انتهى أخيرا للطلوع علينا كما تطلع الشمس الحارقة‬
‫على مختلف األصقاع ال يحجبها عنها شيء ؟‪ .‬و الحال أن الفساد‬
‫السياسي صار يُشكل وحدة عضوية مع المنصب الحكومي بفضل‬
‫سايب‬
‫اسمنت الريع النفطي و المال الفاسد‪ .‬ناس زمان قالوا‪ :‬المال ال َّ‬
‫ْ‬
‫استحالت محاربة الفساد و الرشوة مع كثرة الهيئات و‬ ‫يضل التايب‪ .‬بهذا‬
‫القوانين الفارغة‪ ،‬التي صيغت من أجل اإلضالل و تشتيت الجهود أكثر‬
‫من التركيز على هذا الهدف !‪ .‬فالمنصب الحكومي في الجزائر صار‬
‫العدو األول و األخطر للوازع األخالقي للفرد – الجوعان في رأسه‬
‫أصال – الذي صار ينجرف بشكل سببي نحو االنبهار بامتيازات و أبّهة‬
‫المنصب‪ ،‬و سهولة التّسلّط فيه و ضعف ّ‬
‫الرقابة عليه‪ ،‬الذي يدفع به مع‬
‫مرور السنين إلى بناء شبكة متينة من األقارب و أبناء القرية و العرش‪،‬‬
‫التي تذود عن مصالحها المشتركة معه‪ ،‬و التمادي حد التلذّذ بالتعسف‬
‫الذي يصير هكذا " قاعدة عامة للسلوك " يتم االتفاق عليها بصمت و‬
‫تواطؤ في تلك األوساط المغلقة أو شبه المغلقة‪ ،‬مما يجعل من المنصب‬
‫في النهاية أداة اجتماعية تعزز ما يُسمى " عقدة الغالب " التي يصعب‬
‫التنازل عنها فيما بعد‪ ،‬خاصة حين تتقاطع مع النفسية الجزائرية‬
‫المصابة بعاهة ال ُحهر‪ ،‬حتى لو أدى ذلك إلى تهديد استقرار الدولة في‬
‫العمق‪.‬‬

‫ال نعجب إذن حين نرى كيف أن من بين الميزات العقلية للمتخرجين‬
‫من المدرسة السياسية الموسطاشية هي أن الخصم في السياسة –‬
‫بالنسبة إليهم – هو عدو صريح‪ ،‬و المعارض خائن‪ ،‬و الرعية حسود و‬
‫فوضوي محتمل‪ ،‬و المنصب‪ ،‬طبعا‪ ،‬هو غنيمة حرب ال تنازل عنها !‪.‬‬

‫ثم ماذا عن الشعب أو المجتمع يا ترى ؟‪ .‬أليس هو الغائب األكبر عن‬


‫كل الذي يحدث ؟‪ ،‬أم أنها ثقافة " تخطي راسي " و غيرها من األقوال‬

‫‪141‬‬
‫االجتماعية االنهزامية المأثورة‪ ،‬على شاكلة‪ :‬حشيشة طالبة معيشة‪ .‬اللي‬
‫يرفد راسه للسما ينعمى‪ .‬احفظ الميم يحفظك‪....‬الخ‪ .‬التي جعلت مجتمعنا‬
‫يتنصل من جميع مسئولياته األساسية في الرقابة و الدفاع عن حقوقه‬
‫المدنية التي يقرها الدستور حرفيا‪.‬‬

‫البعض يُرجع سبب هذا االنهيار المعنوي إلى حرب التسعينات‬


‫قررت بها الحكومة‬
‫األهلية‪ .‬بينما يرى البعض اآلخر أن الطريقة التي َّ‬
‫قبل عشر سنوات حل مشاكل القطاعات كل على حدى‪ ،‬هي التي أدّت‬
‫إلى تشتيت جهد و تكاتف طبقات المجتمع و جعلت منها مجرد‬
‫دياسابورا متنافسة و متحاسدة‪ ،‬تتسابق في إرضاء أو استفزاز‬
‫الحكومات المتعاقبة على حساب بعضها‪ ،‬فقط من أجل الحصول على‬
‫قسم من الريع النفطي بكل الوسائل‪ ،‬مما وصل بنا إلى حالة االرتشاء‬
‫األخالقي الشامل و التنصل النهائي من تحمل مسئولياتنا تجاه هذا‬
‫الوطن !‪ .‬لكن مهما تكن التفسيرات المقدمة لهذه الحالة المزرية‪ ،‬فالواقع‬
‫المأساوي جاثم على صدورنا و ضمائرنا اليوم‪ ،‬و هو فعال يقول‬
‫تغول نظام "‬
‫مدو بأننا شعب " تبّع و قول بعععع " مستسلم أمام ُّ‬
‫بصوت ّ‬
‫احنا هم ربّها " !‪.‬‬

‫‪----------------------------------------------------------------‬‬

‫كان هذا مقالي الجديد الذي قدّمته إلى السّي رزاق صبيحة السادس مايو ‪ 4102‬كي ينشره في عمودي‬
‫موسطاشيات‪ .‬كنتُ نصف صاح بعد بضع ساعات من النوم المتقطع و بالكاد مركزا مع ثرثرة إحدى المسئوالت‬
‫بالجريدة‪ ،‬و هي تنتقد عبارة " الحرب األهلية " التي جاءت في آخر المقال‪ ،‬إذ أنها تفضّل في الغالب عبارة "‬
‫المأساة الوطنية " كونها ترى أن لها صدى أعمق في ضمير المجتمع‪ ،‬أكثر من الجملة األولى التي كانت تراها‬
‫مجرد تعبير " تقني " بارد و غير دقيق ال يزال يًعرض الجريدة لكثير من الضغوط من طرف أجهزة األمن‬
‫المكلفة بمراقبة الصحافة‪ .‬كانت لم تفهم بعد أني أنتمي إلى جيل بات ينزع أكثر فأكثر‪ ،‬و بغضب نام‪ ،‬إلى تسمية‬
‫األشياء ب ُمسمياتها أو كما يراها على األقل‪ ،‬دون لبس و ال حرج‪.‬‬

‫لم أعرها أي انتباه‪ .‬ربما ألني كنتُ نصف صاح !‪ .‬خرجتُ من مقر الجريدة ألق َّل أحد الزمالء من القسم‬
‫الحراش‪ ،‬بعدما طلب المس اعدة كونه كان من دون سيارة و كان يخشى زحمة سير العاصمة‬
‫ّ‬ ‫الرياضي إلى معلب‬
‫الخانقة‪ .‬كان يريد الوصول في الوقت المناسب‪ ،‬لتغطية مباراة فريقي إتحاد الحراش و مولودية الجزائر‪ .‬كان الجو‬
‫حارا بعض الشيء‪ ،‬يمسح بكفه على جباه العاصميين مذكرا إياهم بأن الصيف يقترب بسرعة‪ .‬و كان الرجل‬
‫متوترا بسبب التأخر و زحمة السير العاصمية التي عادة ما تتسلل إلى األذهان المرهقة كيد بأظافر طويلة و حادة‪،‬‬

‫‪142‬‬
‫غرضها الوحيد هو تقطيع األوتار اله ّ‬
‫ش ة التي تعزف عليها لحنها النشاز‪ ،‬لتترك العاصميين صرعى لكل أنواع‬
‫الجنون‪.‬‬

‫يكف عن النظر إلى ساعة يده‪ ،‬في حين كنتُ أمسك المقود و أنا‬‫ّ‬ ‫طفق الشاب يُثرثر دون انقطاع و هو ال‬
‫غائص تماما في أفكاري‪ ،‬أقلّبها و أعجنها و ّ‬
‫أمططها فوق فصي الجبهي‪ ،‬تماما كتلك العلكة التي كنتُ أمضغ‪ .‬ألقل‬
‫أني كنتُ عالقا في نوع محدّد من األسئلة التي لم أستطع بلعها كما لم أقدر على بصقها بعيدا ‪ " :‬ما العمل يا ترى ؟‪.‬‬
‫أستمر ؟‪ ." ...‬مصطلح الموسطاشيا لم يعد يجد نفعا‪ ،‬و قريبا سيلتحق به مصطلح ال ُحهر‬
‫ّ‬ ‫من أين المخرج ؟‪ .‬من أين‬
‫و سيدخل مجال " العادي – نورمال " في وعي المجتمع‪ .‬و كأني لم أقم بشيء ؟‪ ،‬في حين كان الهدف المنشود‬
‫لعمود موسطاشيّات هو تثوير وعي المجتمع و النخب حول الكارثة السوسيولوجية و السياسية و الثقافية التي‬
‫يعيشها هذا البلد المسكين !‪ .‬كنتُ أرغب في أن يجعلنا هذا العمود نفتح أعين عقولنا جيدا و ندرك أن المسألة‬
‫الجدلية الحقيقية التي يجدر بنا التركيز عليها ال تتعلّق بمن هو الصالح و من هو الطالح‪ ،‬أو من هو الجالد و من‬
‫هو الضحية‪ ،‬أو من هو السّوي و من هو المنحرف‪ ،‬أو من بدأ أوال برفس وجوهنا و جلد وجودنا‪ .‬كنتُ أستذكر‬
‫ذاك السؤال الذي طرحه أستاذ مادة المنهجية‪ ،‬السيد أبو عماد‪ ،‬ذات يوم في خضم نقاش حام جمعه مع بعض الطلبة‬
‫مدرج الجامعة‪ ،‬حين حاولوا إقناع الجميع بأن الخطأ الوحيد األوحد هو خطأ النظام الحاكم في البلد‪ ،‬لفساده و‬
‫في ّ‬
‫قذارته و جهله‪ .‬لكن الدكتور أبو عماد وضع أحجارا شفّافة ثقيلة في أفواههم بسؤال دقيق و منطقي‪ " :‬أرأيتم في‬
‫حياتكم نظام حكم سياسي فاسد و مخادع و عنيف يحكم شعبا نظيفا و واع و مثقّف أو العكس ؟ "‪.‬‬

‫أسئلة السيد أبو عماد كانت كالشفاء تماما‪ .‬كانت تهدّئ النفس و تف ِّت ّح العقل بسالسة على نور التب ّ‬
‫صر الهادئ‪،‬‬
‫المتسرعة‪.‬‬
‫ِّ ّ‬ ‫البعيد عن الغبار الذي تُثيره لحظة اليقينيات الخاطفة المتل ّهفة إلى الغضب و العناد في حركتها التلقائية‬
‫هذا ما حاولتُ اتّباعه في بحثي عن سبقي النهائي‪ ،‬لكني كنتُ أشعر أني أدور في حلقة مفرغة‪ ،‬ألن النتيجة كانت‬
‫تجهر بذلك و كان يجب أن أتوقع ذلك منذ البداية‪ ،‬كوني كنتُ قد دخلتُ متاهة حقيقية‪ ،‬دون أن أعلم‪ ،‬مذ أول يوم‬
‫اخترعتُ فيه مصطلح " السبق النهائي " ليكون المفتاح الذي يقودني الى حيث أرغب في الوصول‪ .‬لقد اتفقنا منذ‬
‫البداية في بلدنا هذا أننا بصدد عيش أزمة متعددة األوجه ؟!‪ ،‬إذن‪ ،‬كنا لنتيه في بحثنا عن الحقيقة دون أن نشعر‬
‫بذلك‪ .‬لهذا كان سؤال اللحظة األهم‪ " :‬إلى أين وصلتُ بتيهاني و كم ابتعدتُ عن الطريق الذي كان يجب أن أضل‬
‫صخر األصم‪....‬‬
‫عليه يا ترى ؟‪ .‬كان وقع السؤال على نفسي كصدى وقع المطرقة الحديدية على ال ّ‬

‫_ وش بيك يا خو ؟ من الصباح و انت غير تنسف مع روحك !‪.‬‬

‫أعادني صوت الزميل إلى داخل السيارة‪ ،‬لكنني لم أعره اهتماما و اكتفيتُ بغمزه فقط‪ ،‬تاركا إياه يغرق في‬
‫ثرثرته التي كانت أشبه بأزيز جناحي ذبابة‪ّ ،‬‬
‫يهز بقوة خفية طرفي وتر هش للغاية على وشك االنقطاع‪ ،‬ليجعل‬
‫كومة كبيرة من الصخور التي فتّتتها مطارق الحديد تتدحرج من على جرف عال‪ .‬كنتُ فقط أحاول إيصاله في‬
‫أسرع وقت ممكن حتى أتفرغ لنفسي و مأزقي فقط‪ ،‬إذ كانت الثرثرة الجزائرية آخر سلوك إنساني مزعج شعرتُ‬
‫أني قادر على تحمله ذاك اليوم‪ّ ،‬‬
‫لكن الشاب صمت هنيهة حين اقترابنا من الجهة الجنوبية سالكين طريقا مختصرا‬
‫عبر بعض زقاق األحياء السكنية القريبة من ملعب المح ّمدية المحتضن للقاء‪ .‬كان الهواء قد بدأ يحمل شيئا من تلك‬

‫‪143‬‬
‫الحراش القريب‪ .‬كانت األهازيج الرياضية المنبعثة من الملعب تزداد قوة كلما اقتربنا منه‪ .‬راح‬
‫ّ‬ ‫الروائح النتنة لواد‬
‫ينظر إلى ساعة يده كمن فاته شيء ما‪ ،‬لكنني كنتُ متأكدا من أني أوصلته في الوقت المناسب فنظرتُ إليه‪....‬‬

‫_ ما األمر ؟‪ .‬لم تبدأ المباراة بعد‪ ،‬أليس كذلك ؟‪.‬‬

‫لم يُجبني‪ .‬كان يتصل هاتفيا بأحدهم و هو شاخص ببصره نحو الملعب الذي كنا نقترب منه بسرعة ثابة‪ ،‬و‬
‫قبل أن أنطق بشيء آخر‪ ،‬راح يتحدث إلى زميل له كان داخل الملعب تلك األثناء بحسب ما بدى لي‪ ،‬فارتسمت‬
‫على مالمحه بسمة خفيفة علتها نظرة حماس زائد‪ ،‬ثم ّ‬
‫هز حاجبيه كمن ال يُصدّق ما يسمع‪ .‬كنتُ ألظن أن األمر له‬
‫عالقة بالمباراة لوال أني شاهدت من بعيد أعمدة من الدخان األسود تتصاعد من داخل الملعب‪ ،‬زاد معها امتزاج‬
‫صوت الحناجر حدة و هي تفقد تناسقها الصوتي لتتحول في بضع ثوان إلى مجرد كتلة من الصراخ الغوغائي كأنه‬
‫طنين دبابير هائجة‪ .‬كان يع ِّبّر عن حالة واحدة‪ :‬الفوضى !‪.‬‬

‫_ وشاكي‪ ،‬يجدر بك التوقف هنا فقد انقلب الوضع في الملعب‪ .‬سأتوجه راجال إلى هناك لتغطية ما يحدث‪ .‬عد‬
‫أدراجك قبل أن تخرج تلك الغوغاء و تصل إلى هنا‪.‬‬

‫_ ال تكن ساذجا ! سأوصلك إلى أقرب نقطة يُمكن‪...‬‬

‫_ ال داعي يا صاح‪ ،‬أنا معتاد على التعامل مع مثل هذه الظروف‪.‬‬

‫قاطعني و هو يغمزني مصدرا طقطقة بلسانه مع بسمة ماكرة‪ .‬لم أشعر بالطمأنينة عليه‪ ،‬فنزل و انطلق‬
‫راكضا نحو الملعب المحترق من بعيد‪ .‬بقيتُ أراقبه و أنا ال أودّ التحرك بالسيارة‪ .‬كنتُ أراقب دخان نار الجنون‬
‫ّ‬
‫المحطم و الحانق على كل شيء‪ .‬و أنا على تلك الحال‪ ،‬راكن سيارتي الفضية‬ ‫التي أضرمها جيل أطفال التسعينات‬
‫المبعوجة أراقب أعمدة اللهب و أنصتُ إلى أهازيج الفوضى‪ ،‬فإذا بشيء بارد كالظالم‪ ،‬متربص كالموت‪ ،‬حاد و‬
‫قاطع كاليقين‪ ،‬يوضع على حنجرتي في حركة شيطانية خفيفة خفية امتدت بمكر عبر نافذة السيارة‪ ،‬ليليها صوت‬
‫صبي لم تكتمل بعد قوة أحباله الصوتية و هو يُحدثني بلكنة عاصمية باردة جدا‪....‬‬

‫_ ماتزغدتش‪...‬اجبد رب الـ ‪ Portable‬و الـ ‪ ...Port-feuille‬خف‪ ...‬خف !‪.‬‬

‫ثانيتان فقط مرتا على وعيي ليهضم ما كان يحدث‪ .‬كان كل شيء جليا‪ .‬الفتى يبحث عن أحد األرباب الكثيرة‬
‫صب نفسه ربّا على ذلك‬
‫التي يذكرها الجزائريون في غضبهم و مسطشتهم الالمحدودة‪ .‬مراهق حاهر‪ ،‬ربما ن َّ‬
‫الزقاق الضيق الذي اصطادني فيه !!‪ .‬حبستُ أنفاسي حين ضغط بمصله الحاد بعض الشيء على حنجرتي‪ .‬لعله‬
‫ْ‬
‫ثقلت‬ ‫كان يود جعلي أفكر مرتين قبل أن أقوم بأي حركة جريئة‪ .‬تسارعت دقات قلبي فجأة و اضطرب تنفسي‪.‬‬
‫تشوشت أفكاري لبرهة‪ .‬اللعنة عليه !‪ ،‬من أين جاء و كيف لم أشعر بحركته و لم أره عبر المرآة العاكسة‬
‫ي و َّ‬
‫ساق ّ‬
‫؟‪ ...‬اللعنة عليك يا ابن الـ !‪...‬‬

‫_ بالعقل‪ ...‬بالعقل صاحبي !‪ ،‬مشي مشكل‪ ....‬بالعقل‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ّ‬
‫متسلقا من أطرافها نحو‬ ‫أجبته بهدوء مصطنع و أنا أبسط يدي بعدما بدأ برد غريب يزحف على أصابعي‬
‫صدري‪ .‬سمعتُ باب السيارة األيمن يُفتح‪ ،‬فرميتُ بمقلتي جهة اليمين دون أن أحرك رأسي ال ُمحاصر بالخنجر‬
‫الحاد‪ ،‬فإذا بربّ صغير ثان يفتح الباب اليمنى للمركبة و يدخل مباشرة و هو يمد يده اليسرى فاتحا صندوق‬
‫األوراق و هو يحمل سيفا بيمناه‪ .‬رباه !! كان ذلك سيفا حقيقيا !‪ .‬منظر كهذا لم أكن أراه سوى على صفحة قسم‬
‫المجتمع في جريدتنا أو جرائد أخرى أو حتى بعض القنوات التلفزيونية الخاصة‪ ،‬التي تنقل واقع حروب الشوارع‬
‫و العصابات في مدننا الكبرى المثخنة بطعنات االنتقام لهذا الجيل الحاهر الصغير‪ ،‬الذي ال منطق و ال قانون يحكم‬
‫عالمه الصغير الضيق‪ .‬ثم إنها المرة األولى التي أتعرض فيها للسطو !‪ .‬شعرتُ أن العالم سينهار من حولي‬
‫فعليا‪....‬‬

‫_ اخزر قدّامك و خف‪ ...‬الـ ‪ portable‬و الدراهم‪ ...‬خف !‪.‬‬

‫َّ‬
‫تستفز حركة حنجرتي‬ ‫ضغط أكثر بمصله اللعين على رقبتي إلى حد أني لم أجرؤ على ابتالع ريقي‪ ،‬خيفة أن‬
‫مصل الحهر المسلّط عليها فيقطعها حتى دون أن يشعر‪ .‬كنتُ أعلم أن مثل هؤالء المنحرفين مدمني الحبوب‬
‫الملهوسة قادرون على نحر شخص بالغ من أجل وريقة ‪ 411‬دينار جزائري مهترئة و من دون أدنى تردد‪.‬‬

‫الركبتين و أصابع اليدين‪ .‬لطالما تصورتُ‬


‫تسارع خفقان قلبي و أحسستُ أن جسدي سيبدأ في االرتعاش عند ّ‬
‫هذه اللحظة في ذهني و أنا أحاول افتراض شكل ردة فعلي لو تعرضتُ يوما للهجوم و السطو من طرف حاهري‬
‫الشوارع الصغار‪ .‬كنتُ دوما أحاول إقناع نفسي بأني سأكون باردا و هادئا تماما‪ ،‬و أن المعتدي في العادة يكون‬
‫أكثر خوفا و توترا من المعتدى عليه‪ .‬لكني تأكدتُ من خطأ تلك النظرية بمجرد ما التقط سمعي النبرة الهادئة و‬
‫الواثقة لذلك المراهق‪ .‬لقد كان يعلم و يعي جيدا ما يفعل‪ ،‬واألكثر من ذلك أنه كان يبدو أنه و شريكه معتادان و‬
‫متمرسان في ذاك النوع من األعمال القذرة‪ ،‬لوال أنهما نسيا تفصيال صغيرا جدا‪ .‬ال أعلم كيف ّ‬
‫تفطنتُ إليه و أنا‬
‫محرك السيارة الذي كان ال يزال شغاال ؟‪ .‬تركتُ‬
‫ّ‬ ‫على حالة تشوشي و خوفي على حياتي‪ ،‬فهما لم يطلبا مني إطفاء‬
‫دواسة الوقود و دواسة تبديل السرعة‪ .‬مددتُ يدي بحركة هادئة نحو الجيب األيمن‬
‫ي في حالة تأهب على ّ‬
‫رجل ّ‬
‫لسروالي و عيناي مثبّتتين على المقود‪ .‬لم أكن ثابتا‪ ،‬بل كنت أرتعش في الحقيقة‪ ،‬محاوال التحكم في أنفاسي أكثر‪.‬‬
‫كان الفتى يعتقد أني بصدد إخراج هاتفي المحمول‪ ،‬في حين كان الفتى الثاني‪ ،‬الذي بدى أصغر سنا بكثير‪ ،‬مستمرا‬
‫في تقليب تلك األوراق الكثيرة التي فاض بها درج لوحة التحكم‪ ،‬على أمل أن يعثر على أي شيء ذي قيمة‪ ،‬غير‬
‫ْ‬
‫مألت تلك األوراق‪ ،‬و التي كانت لتشكل مادة خصبة‬ ‫مدرك لقيمة كل الخربشات و المالحظات و المعلومات التي‬
‫لعشرات المقاالت و التحقيقات أو حتى الكتب !‪ .‬كنتُ متوترا جدا‪ ،‬إذ أني لم أكن متأكدا من نجاح ما كنتُ أود القيام‬
‫به‪ ،‬لكنني لم أكن أبدا مستعدا لتسليم هاتفي المحمول مع كل ما يختزنه من أرقام هواتف أشخاص و مصادر أخبار‬
‫المرة و خبزه البارد و مصدر هيبته مع كل ذلك !‪" ...‬‬
‫و معلومات ثمينة للغاية‪ ،‬رأسمال الصحفي !‪ ،‬مصدر قهوته ّ‬
‫ال مجال‪ .‬لن أسلمه المحمول‪ ،‬و ليأخذ محفظة األوراق و ما فيها من مال و وثائق رسمية إن أراد ! "‪ ،‬هذا ما كان‬
‫يتردد داخل رأسي المحاصر بمسكينه البارد‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫في تلك اللحظة أحسست بحركة مضطربة من الفتى الذي كان يحاصرني و هو يرمي بصره إلى مصدر‬
‫صدى أصوات كانت تقترب من بعيد تتالطمه الزقاق المحيطة‪ ،‬كان صدى لسيارات شرطة قادمة من بعيد نحو‬
‫الملعب المشتعل ‪.‬وثب الفتى األصغر من السيارة و هو ينظر نحو جهة الصوت و بدى قلقا أكثر من شريكه ‪.‬تلك‬
‫كانت فرصتي ‪.‬بضع ثوان فقط‪ ،‬كانت كخيط الصراط الذي يقطع جهنم‪ ،‬كان علي أن أعبره بسالم و إما أهلك !‪.‬‬

‫_ ما تخافش‪ ...‬ياخي مدامة ياخي‪.....‬راهم بعاد !‪.‬‬

‫قال المراهق األكبر محدثا الفتى الصغير بنبرة ثقة مصطنعة و كأنه يريد استفزازه كي يعود الى السيارة‪ ،‬و‬
‫في اللحظة التي أراد أن يقول فيها شيئا لي و هو ال يزال يرمي ببصره إلى مصدر األبواق‪ ،‬بحركة خاطف‪،‬‬
‫سرعة ‪.‬صرخ الفتى متألما‬
‫أمسكت بمعصمه و لطمته بكل قوة على المقود حين كانت يدي اليمنى على محول ال ُّ‬
‫بعدما أفلت السكين الذي وقع بين ساقي حين انطلقت بالسيارة الى الوراء جاعال الفتى الثاني يرتطم ببابها األيمن‬
‫ْ‬
‫انقبضت أنفاسي عن آخرها و أنا أتراجع بالمركبة إلى الخلف بسرعة قصوى مثيرا غيمة‬‫المفتوح و يسقط أرضا ‪.‬‬
‫من الغبار أمامي‪ ،‬و كأن أحدا سد حلقي و جلس بثقله على قلبي الذي كان يريد القفز من خارج جوفي حين كنتُ‬
‫ألمح الفتى الصغير ينهظ بسرعة و يلتفت نحو شيء ما على الرصيف‪ ،‬حين كان شريكه ال يزال ممسكا بذراعه و‬
‫هو يتألم مطلقا سيال طويال من العبارات النابية‪.‬‬

‫ْ‬
‫انفرجت عقدة حلقي و أنا أسحب دفقة من الهواء بسرعة إلى داخل رئتي ألكتم أنفاسي مرة اخرى‪ ،‬كمن‬
‫يغطس إلى أعماق الذعر مرة أخرى‪ ،‬في اللحظة التي أدرتُ فيها المقود بسرعة جنونية و أنا أ ّ ِّ‬
‫حول السرعة حين‬
‫ارتطمت مؤخرة السيارة بالرصيف مقتحمة إياه بقوة‪ ،‬فانطلقت بها من الجهة المعاكسة حين رميت ببصري على‬
‫الغر الصغير كان قاب قوسين أو أدنى يركض مخترقا الغبار الذي أثارته‬
‫المرآة العاكسة ال أكاد أصدق أن ذلك ّ‬
‫السيارة و هو يلقي بذاك الشيء الصلب الذي فجر به الزجاج الخلفي و استقر تحت المقعد ‪.‬انطلقت بسرعة جنونية‬
‫كادت تهشم زجاج الباب األيمن الذي انغلق بسرعة و أنا أصرخ بأعلى صوتي غضبا على ذلك الوغد الصغير‬
‫الذي كاد يقتلني ‪.‬وددتُ في تلك اللحظة لو أستدير و أعود أدراجي باتجاهه ألسحق جسده الطويل و النحيف تحت‬
‫عجالتي‪ ،‬لوال أني رحتُ أتنفس بعمق محاوال إخراج عقلي من لحظة الذعر و الغضب األعمى و أنا ال أكف عن‬
‫النظر الى زجاج المؤخرة المهشم عن آخره عبر المرآة العاكسة‪.‬‬

‫**********‬

‫ذهبتُ إلى مقر الشرطة‪ .‬أبلغتُ عن الحادثة‪ .‬سلّمتهم السكين الذي وقع من يد الحاهر الصغير تحت قدمي‪ .‬كان‬
‫ذاك الشرطي يمأل المحضر متملمال وسط جو مزعج‪ ،‬زادته أصوات آلته الراقلة القديمة احتقانا‪ ،‬قبل أن يجعلوني‬
‫أنظر إلى وجوه عدد كبير من المراهقين المسبوقين قضائيا‪ ،‬كانوا يحتفظون بصور لهم في سجل ثقيل ذو غالف‬
‫مهترئ ُ‬
‫شدَت أطرافه بشريط الصق‪ .‬لم أستطع التعرف على وجه ربَّي الشارع الصغيرين كوني لم أحصل على‬
‫فرصة للتمعن في تفاصيل وجهيهما‪ .‬كنتُ فقط أرغب في مغادرة ذاك المكان المشحون بالتذمر الصامت‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫أخذتُ السيارة إلى صديق يمتلك ورشة تصليح في منطقة جسر قسنطينة في انتظار أن ترسل شركة التأمين‬
‫التي أتعاقد معها أحد تقنييها لتقييم الضرر الذي أصاب الزجاج الخلفي و الباب األيمن‪ .‬كان الجو حارا نوعا ما‪،‬‬
‫لكني كنتُ أختنق أكثر من الالزم‪ ،‬خاصة حين أردتُ ركوب إحدى حافالت النقل الحضري للتوجه إلى بئر مراد‬
‫رايس دون أن أعلم حتى َلم كنتُ أرغب في الذهاب إلى هناك ؟‪ .‬وقفتُ و أنا أشاهد تدافع الرعاع على ركوب تلك‬
‫الحافلة المهترئة لسائقها الذي بدى غير مكترث تماما لكل تلك الفوضى و هو يتف ّقد شاربه في المرآة العاكسة‪ ،‬حين‬
‫وقف بائع التذاكر ذو الهندام غير الالئق و نبرة الصوت الخشنة و هو يصرخ في الجميع مهددا بغلق الباب و‬
‫االنطالق تارك إياهم في الموقف‪ .‬أجبرتُ نفسي على التدافع و الركوب رغم أن منظر ذلك الفتى لم يختلف كثيرا‬
‫عن الحاهرين اللذين هاجماني بالقرب من الملعب‪ .‬قامة فارعة‪ ،‬جسد نحيف‪ ،‬تسريحة شعر غريبة‪ ،‬بدلة رياضية‬
‫غير متناسقة في شكلها و ألوانها و وجه مك ّ‬
‫شِّر مظلم‪ ،‬على األرجح اكتسب مسحته الكئيبة الغاضبة تلك من‬
‫استهالك الكيف المعالج أيضا‪ .‬يا اله‪ ...‬كنتُ أختنق !‪ .‬ال أدري أكان الجو أم الغضب أم الناس أم كل شيء‪ .‬كنتُ‬
‫فقط أجبر نفسي على الوقوف وسط الحافلة محاصرا ببعض األفراد و أنا أحاول تفادي االلتصاق بهم قدر‬
‫المستطاع دون فائدة في معظم الوقت‪ .‬كلما كنتُ أحاول التحايل على فضاء الحيز كاسبا بضع إنشات تفصلني عن‬
‫جسد ذلك الذي تفوح منه روائح غريبة أو اآلخر الذي لم يكف للحظة عن الصراخ على هاتفه المحمول‪ ،‬إال و‬
‫وجدتُ ثالثا أو رابعا يزاحمني بتشجيع من بائع التذاكر الذي كان ال يكف عن حث الجميع على ترك بعض‬
‫ّ‬
‫محطة‬ ‫المساحة لألشخاص الذين كان يُكدّسهم كالدجاج‪ ،‬إرضاء لربّه الصغير الجشع‪ ،‬داخل مركبته اللعينة مع كل‬
‫توقف‪.‬‬

‫أكف عن توزيع نظراتي التي كانت تكاد تكون متوسلة و هي تسأل وجوه هؤالء‬
‫زاد اختناقي و حنقي و أنا ال ّ‬
‫القوم‪ " :‬أال تعرفون شيئا اسمه الفضاء أو الحيز الحميمي ؟!! "‪ .‬حتى النساء استسلمن لألمر الواقع‪ .‬لم أر عالمات‬
‫ضيق أو تقزز أو نفور واضحة على األقل‪ ،‬تجاه بعض المرضى الذين استبدت بهم لذة االلتصاق بجسد أنثوي‬
‫طري و ممتلئ في ظرف اتسم بالقهر و الالمباالة و المكر‪ .‬تبا ! كيف وصل بنا الحال إلى هذه المرحلة المتقدمة و‬
‫معرفة تتماهى في فوضويتها المكانية و الزمانية إلى آخر‬
‫المخيفة من الشيئية الجماعية ؟‪ .‬مجرد كتل بشرية غير َّ‬
‫رمق من الفشل المتع َّمد‪.‬‬

‫_ يــــــــــاو وش كاين ؟ وش به ربّك ؟ ماكش تشوف قدامك ؟!!‪.‬‬

‫خطف سمعنا صوت ذاك الكهل النحيف و هو يحت ّج بفجاجة على رب ذاك الشاب الذي بدى و كأنه كان‬
‫يحاول االبتعاد عنه بعالمات ضيق واضحة محاوال تقديم اعتذار صامت بإماءات وجهه لكن دون فائدة‪ .‬لم يكن‬
‫هناك مجال للحركة داخل علبة سردين حارة و ممتلئة عن آخرها !‪ .‬بعض الركاب تبادلوا مع الكهل نظرات الئمة‬
‫على ما تلفظ به‪ ،‬لكنه لم يبال و بدى مصرا على المضي قدما في إشعال شيء حهري ال يمكن إطفاءه مع ذاك‬
‫الشاب الذي بدى لي و كأنه قد داس على قدم الرجل دون قصد‪ .‬رحتُ أراقب المشهد في صمت و أنا ألمح تلك‬
‫الحمرة التي كانت تزحف على محيا الشاب و هو ال يزال محاصرا بنظرات الرجل الكهل التي كانت و كأنها‬

‫‪147‬‬
‫تبحث عن زلتها المطلوبة بشدة للضغط على الزناد‪ ،‬فتتحول إلى غضبها العضلي‪ .‬لم أكن مخطئا‪ ،‬فأمام تلك‬
‫النظرات الطويلة القاسية‪ ،‬التفت الشاب إلى الكهل كمن وقع في فخ لزج و مسموم‪...‬‬

‫_ اخالص يا الحاج !‪َ ،‬مشي بالعاني قستك‪ .‬اسمح لنا و خالص !‪.‬‬

‫ي قد جدّك ؟‪ ...‬راك كرازيتلي رجلي ياو‪...‬‬


‫_ راك تتقاعد بيّه ؟‪ ،‬وش من حاج ؟‪ ،‬تشوف ف ّ‬

‫ها هي ذي‪ ،‬لغة خطابنا اليومي لم تسلم من األلغام كذلك !‪ .‬كانت فرصتي ألشير إلى سائق الحافلة بأن يفتح‬
‫الباب‪ ،‬بعدما انقلب كل شيء من حولنا حين قفز الكهل على الشاب و هو يحتج بالّلكمات وسط تدافع البعض‬
‫نحوهما لفصلهما عن بغضهما و تدافع البعض اآلخر بعيدا عنهما مع صراخ بعض النسوة و ذهول بائع التذاكر‬
‫الذي بقي واقفا يتفرج و كأنه يحاول إقناع نفسه بصوته الداخلي تلك اللحظة أنه غير مسئول عما كان يحدث‪ .‬ركن‬
‫السائق الحافلة اضطراريا بالقرب من أحد األرصفة المهترئة‪ .‬فتح الباب وسط الصياح و الشتائم و تهديدات القتل‪.‬‬
‫كنتُ الثالث أو الرابع الذي قفز من المركبة و قد تبعني في ذلك بعض الركاب‪ .‬كنتُ فقط أرغب في االبتعاد عن‬
‫ذلك الحيز المسموم و المشبع بهذا الحهر األفقي األعمى‪ ،‬الذي راحت غربانه الساغبة تحوم بحثا عن آخر شظايا‬
‫العقل فوق أرض الموسطاشيا الجرداء المتشققة‪ .‬كنتُ أرغب في الهروب من كل هذا الجنون فقط‪.‬‬

‫بعدما ابتعدت عن تلك الحافلة الملعونة‪ ،‬سرت على قدمي‪ .‬سرتُ طويال عبر الشوارع و الزقاق في ذلك الجو‬
‫الخانق و أنا أشعر أن أنفاسي ال تريد أن تنفرج بقدر ما كان صدري يريد أن ينفجر‪ .‬سرتُ طويال‪ ،‬حتى أني لم أكن‬
‫أعلم كم من الوقت أو ما المسافة التي قطعتها على قدمي‪ .‬كنت أتمنى أن أعثر على أي حديقة أو متنزه عمومي‬
‫ألرمي رأسي المنهك بين أوراق نباتاته و سكونه بشكل يجعلني ال أستطيع العثور عليه بعد ذلك أبدا‪ .‬لكن األفكار‬
‫كانت شديدة بداخله و هي تعيش لحظات هيجان كامل امتزج باضطراب واضح مع فوضى األسئلة‪ .‬و كأن بقلق‬
‫السؤال نفسه كان يتخبّط محتضرا في أشد لحظات وهنه و خيبته متحوال إلى رماد منثور‪ .‬شعرتُ بنفسي ترغب‬
‫سبات مجتمعه اللئيم المنهار و‬
‫في لفضه و التخلص منه نهائيا تلك اللحظة‪ ،‬تاركة قضية الصحفي المعذب ب ُ‬
‫تشوهاته المزمنة دون عودة‪.‬‬

‫و كأن بكل الصور البشعة الحاضرة أو البعيدة عن هذا البلد راحت تتكدس أمام عيناي و فكري‪ .‬حين حاولتُ‬
‫أن أفكر في أي شيء جميل أو أستحضر أي فكرة تتطاير منها و لو بضع شرارات أمل أو تفاءل‪ .‬انهالت صور‬
‫بلدي البشعة في طريقي كالنفايات المكبوبة بكل قرفها و روائحها المن ِّفّرة‪ .‬صورة أعمدة الدخان األسود المرتفعة‬
‫من ملعب المحمدية‪ .‬روائح وادي الحراش المقرفة‪ .‬مالمح ذاك المراهق الحاهر المتج ِّ ّهم الذي كاد يذبحني قبل‬
‫ساعة‪ .‬صور ذاك الشجار التافه في الحافلة‪ .‬صور القمامة و األوساخ في الطريق‪ .‬اختناق حركة المرور‪ .‬األرصفة‬
‫التي غزتها الحفر و التكسرات‪ .‬الوجوه المحتقنة و صراخ سواق السيارات‪ .‬الغبار و الدخان و الهواء الثقيل الذي‬
‫لبّد الصدور‪.‬‬

‫الريف و هذا البلد المستنقع‪ .‬رحتُ أحاول‬


‫في لحظة ما انفجر حنق ال يوصف بداخلي على هذه المدينة ِّ ّ‬
‫استجماع أعصابي التي كانت تتناثر أمامي و كأنها مجموعة من العيدان اليابسة المتساقطة من قفّة مهترئة مثقوبة‪،‬‬

‫‪148‬‬
‫فكنتُ أدوس عليها في سيري المتعثر بالغضب و الضيق الشديد على طول مسلك مهنتي المليء بالجمر المتّقد و‬
‫ُحفر النار‪ .‬في كل مرة كنتُ أحاول لملمة نفسي و حملها على الهدوء و االقتناع بأن كل ذلك كان بسبب عملية‬
‫السطو الفاشلة التي تعرضتُ لها و ليس بسبب االنسداد الذي أعيشه جراء اقتناعي بأن مفهوم " الحهر " الذي‬
‫ابتكرته من أجل استفزاز ضمير المجتمع و النخب سيكون مصيره إلى مزبلة اسمها " نورمال "‪ .‬كان صدري‬
‫يضيق و مخي يتشنّج أكثر‪.‬‬

‫دق نفسي كما ي ُّ‬


‫ُدق الزجاج‬ ‫في تلك اللحظات العصية على الفهم و السيطرة‪ ،‬بدى كل شيء يلتح ُم ببعضه لي ّ‬
‫الهش‪ .‬ما كنت أراه أمامي من صور قبيحة تصرخ بتخلف هذا الشعب و هذا البلد البائس الذي يدعي العظمة‬
‫ْ‬
‫قفزت‬ ‫الحتمية الدائمة غير المتغ ِّيّرة‪ ،‬و بين مشاعري في مجملها‪ .‬اإلحباط‪ ،‬الغضب‪ ،‬الخوف‪ ،‬الضياع‪ ،‬إلى أن‬
‫جملة عفوية إلى خلدي حين كنتُ ّ‬
‫أجر روحي المنهكة المربوطة بسالسل رمق العناد الصحفي األخير في أزقة حي‬
‫بئر خادم‪ " :‬انتهى بك المطاف يا أمين إلى هذا الطريق المسدود المليء باللعنات ؟‪ ،‬حين وصلتَ إلى اكتشاف كيف‬
‫صة و القتامة ! "‪ .‬عجبا‪ ...‬يبدو أن عضَّة الدابّة‬
‫يتحول حلم الجزائر من جزائر العزة و الكرامة إلى واقع جزائر الغ ّ‬
‫ّ‬
‫" ‪ " NEAD‬كانت أخطر مما ظننت بكثيــــــــــر ؟‪ .‬من هو ‪ Nead‬؟‪ .‬إنه '' الكلب الجزائري الشرير القذر‪،‬‬
‫الوجه اآلخر للورم السرطاني الحهري للذات الجزائرية ! ''‪ ،The Nasty Evel Algerian Dog ...‬الذي‬
‫استلهمتُ اسمه من أحد أفالم العمالق ‪.Joel Schumacher‬‬

‫كانت النتيجة مستمرة في التجلي أمامي كحقيقة بشعة جدا‪ :‬في هذه البالد‪ ،‬الحياة فعال عبثية‪ ،‬تقسو في عنف و‬
‫سادية على المخلصين و المتميزين‪ ،‬تتسلى باستمرار بالغوغاء الغنمية الضائعة‪ ،‬و تنحني في خشوع و استسالم‬
‫أمام كبار المساطيش الحاهرين‪ ،‬و ال أحد يمكنه فعل شيء لتغيير شيء !‪.‬‬

‫توقفتُ فجأة وسط الطريق و أنا أفتح الزرين العلويين لقميصي محاوال فضفضته قليال‪ ،‬عسى أن أطرد ذلك‬
‫ْ‬
‫حملت‬ ‫االختناق الذي كان يعانقني بقوة كغول مليء بالشحم و روائح العرق‪ .‬كان بعض المارة يرمونني بنظرات‬
‫فيها قدرا من الفضول‪ .‬أدركتُ حينها أني لستُ على ما يرام‪ .‬رحتُ ألتفتُ و أمسح المحيط بنظراتي الضائعة‪ ،‬في‬
‫ذاك النهج الذي يحمل‪ ،‬على األرجح‪ ،‬اسم شهيد ما من شهداء ثورة نوفمبر‪ ،‬ال أحد يعرفه بعدما محاه الزمن و‬
‫التواطؤ‪ ،‬في حلقة ألعاب النفاق الدنيئة لهذا الشعب و مسئوليه و براعتهم جميعا في ابتكار كل ألوان الدسائس التي‬
‫تطحن عظام الشهداء كل يوم ألف مرة في جزائر االستقالل‪ .‬ال أدري َلم خطرت تلك الفكرة على بالي المنطفئ و‬
‫طوقت قلبي مع مرور األيام و األشهر‪ .‬طوقته بكل شراسة و كأنها كومة من األسالك‬
‫أنا أقف وسط مدينة عاصمة ّ‬
‫الشائكة الصدئة‪.‬‬

‫لم يطرأ على ذهني تلك اللحظة‪ ،‬و بشكل غريب جدا‪ ،‬غير فكرة واحدة جاءت مباشرة و هي تصرخ بعنف‬
‫خلف سابقتها‪ " :‬الهروب من هذا البلد الطاحونة "‪ .‬لكن‪ ،‬أين المفر من بلد كهذا‪ .‬من مجتمع كهذا‪ .‬من التزام‬
‫أخالقي كهذا ؟‪ .....‬لكن تبا لهذا المجتمع الذي يعشق الكسل و يستلذ االستبداد و يُبدع الرتابة بكل أشكالها‪ .‬هذا‬
‫المجتمع الذي يستنشق الجهل و يشرب الشك و يُدمن الحسد و يتغذى على النميمة‪ ....‬ليتقيأ الصراعات في النهاية‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫عندها‪ ،‬ضاق تنفسي أكثر فأكثر و راحت نفسي تستغيث بصمت مكبوت‪ .‬شعرتُ بذلك الشيء الغريب في‬
‫لتوها بشكل سريع في يوم داكن و‬ ‫ْ‬
‫انتفخت ّ ِّ‬ ‫جوفي و هو يتوسع ليحاصر أعضائي الداخلية‪ ،‬كثمرة يقطين فاسدة‬
‫سيء‪ .‬كان يت ّسع و ينتفخ و هو يحاصر أنفاسي و كأنه يتغذى عليها لينفخ نفسه و يزيد من ثقله داخل صدري‪ .‬راح‬
‫ْ‬
‫أشبعت بماء المجارير‪ ،‬حتى صارت كتال من‬ ‫يثقل و يستقر في معدتي ككومة من رقاقات الجرائد القديمة التي‬
‫العجين النّتن الذي سد منفذ التن ُّهد‪ .‬كنتُ أرغب في نزع قميصي تماما‪ ،‬حين كنتُ أرى ذلك الشارع و هو يضيق‬
‫من حولي و جدران بنياته تقترب و تدنو مني بشكل غريب و ُمفزع‪ ،‬إلى أن حاصرت وجهي و لم أستطع التحرك‪.‬‬
‫حينها فقط‪ ،‬غابت عني كل أصوات الشارع و ضوضائه و لم أكن أسمع سوى أنفاسي المخنوقة المضطربة و هي‬
‫تتقلص داخل قصباتي الهوائية‪ ،‬إلى أن صارت مجرد أنفاس عصفور طنان محتضر وسط سحابة عظيمة من‬
‫الدخان الكيمياوي‪.‬‬

‫في تلك اللحظة المليئة بالضباب المتصاعد‪ ،‬قفزَ مشهد واحد إلى ذهني المنسحب تحت مالءة من الضباب‬
‫الداكن‪ .‬مشهد أخير‪ ،‬قبل أن أسمع صوت ارتطام جسدي باألرض و يكتسح الظالم و السكون ذهني‪ .‬كانت صورة‬
‫بهجة في معرض الصور الفوتوغرافية قبل يوم و هي تبتعد مختفية بين األكتاف و األظهر‪ ،‬مقتلعة بعنف صامت‬
‫تلك األحراش الكثيفة التي غطت طويال فوهة تلك الحفرة الغائرة التي تمأل قلبي بالفراغ و الصمت و البرد‪ ،‬مذ‬
‫ْ‬
‫رفضت حبي لها قبل سنوات خلت‪ .‬حينها فقط ساد السكون رأسي فاسحا المجال لصوت ارتطام جثتي على‬
‫الرصيف المهترئ‪.‬‬

‫‪ ...‬أخيرا‪ ،‬سقط كلب الزريبة‪ .‬ال أحد تساءل عن سبب نباحه الشديد‪ .‬لم يكن ذلك مهما‪ .‬لقد سقط في النهاية في‬
‫ضة مسمومة من الكلب الجزائري الشرير القذر !‪.‬‬
‫عراك دام و ع ّ‬

‫‪150‬‬
‫‪-13-‬‬

‫في أية لحظة عابرة‬

‫فتحتُ عيناي ببطء و حذر كأني كنتُ ال أرغب في التأكد من كوني مستلق على سرير داخل عيادة أو‬
‫مستشفى‪ ،‬لكن ظني خاب‪ .‬كنتُ فعال هناك ممدا داخل إحدى الغرف ذات الرائحة الغريبة‪ .‬رائحة األشياء المعقّمة و‬
‫بقايا روائح األدوية‪ .‬كانت هنالك حركة ما خارج الغرفة في الرواق‪ .‬بدى لي لوهلة أنه حديث شخصين ال أكثر‪.‬‬
‫تنهدت‪ .‬مسحت بكفي على كامل وجهي ثم حاولت النظر إلى الساعة‪ ،‬لكنها لم تكن في معصمي‪ .‬نظرتُ على‬
‫يساري إلى الطاولة الصغيرة لعلي أجد الساعة و أغراضي الخاصة فوقها‪ ،‬لكن لم ألمح سوى تلك مزهرية‬
‫احتضنت بعض األزهار الذابلة‪ .‬ربما أحضرت للمريض الذي شغل هذا السرير قبل أن يغادره‪ .‬لقد نسوا أن‬
‫يرفعوا تلك األزهار الشاحبة من هناك‪ ،‬لكنهم وضعوا نظراتي بالقرب من المزهرية‪ .‬كان هناك أنبوب تغذية‬
‫وريدية يلتصق بذراعي األيسر‪ ،‬موصول بقارورة فيها سائل شفاف‪ .‬وضعتُ نظاراتي على وجهي ألقرأ ما كتب‬
‫على القارورة‪ ،‬و بمجرد أن اعتدلت في جلستي حتى دخلت صوفيا التي كانت تتحدث إلى طبيبة خارج الغرفة و‬
‫هي تحمل محفظة أوراقي و هاتفي المحمول و ساعة يدي‪...‬‬

‫_ نوض نوض‪ ،‬بركة ما لعبت فيها ميت !‪.‬‬

‫قالتها متهكمة و هي تضع أغراضي على الطاولة الصغيرة‪...‬‬

‫‪151‬‬
‫لك‪.‬‬
‫_ أجل‪ ،‬أجل‪ ،‬أنا أيضا سعيد كوني بخير‪ .‬شكرا ِّ‬

‫مد ْ‬
‫ّت ذراعها نحو كرسي معدني أسود كان موضوعا بالقرب من الزاية و زحزحته إلى جانبي ثم جلست و‬
‫هي تتنهد متفحصة زوايا الغرفة بعينيها حين كنتُ أحاول استرجاع ما حدث لي قبل أن أنظر إليها سائال‪...‬‬

‫_ كم الساعة اآلن ؟‪ ،‬كم مضى على وجودي هنا ؟‪.‬‬

‫_ الساعة تشير إلى السادسة مساء‪ .‬أما مدة وجودك هنا فقد قاربت الستة أيام‪.‬‬

‫كدتُ أقفز من سريري فزعا و دهشة لوال أني رأيت بسمتها الصبيانية تلك تغلبها بسرعة‪ ،‬قبل أن تتحول إلى‬
‫ضحكة مخنوقة في حلقها حتى ال تنفجر في األرجاء و تفزع باقي نزالء المشفى‪...‬‬

‫_ اللعنة عليك يا فتاة !‪ ،‬أهو الوقت المناسب لهذا الهراء ؟‪..‬‬

‫_ اهدأ‪ ...‬اهدأ‪ .‬ال داعي للقلق فقد أحضروك قبل بضع ساعات فقط‪ ،‬و ها أنتَ مستفيق و تبدو في حالة جيدة‬
‫بعدما غفوت بعمق على بعض المهدئات التي حقنوك بها‪.‬‬

‫_ ماذا قالو ؟‪.‬‬

‫_ ليس هناك أي مرض عضوي بحسب ما أظهرته التحاليل األولية‪ ،‬لذلك لم يشخصوا بعد حالتك بدقة‪ ،‬لكنهم‬
‫يعتقدون أنك تعاني انهاكا عصبيا فقط‪ .‬قد تراك الطبيبة النفسانية التي عالجتني في الماضي صبيحة يوم غد للتأكد‬
‫من األمر‪ .‬امرأة في غاية الحسن و الرقة لو تعلم !‪.‬‬

‫قالتها بتهكم واضح‪...‬‬

‫_ أنا في مصطفى باشا ؟‪.‬‬

‫_ أجل يا صاح‪ ،‬و بصراحة عليك أن تشكرني كوني متواجدة هنا معك‪ .‬ال تتصور الصعوبة التي واجهتها‬
‫حين دخلت هذه األروقة و أنا أرى أضواءها و ناسها و أتحسس روائحها‪ .‬بدني مقشعر يرغب في قوقعة تخبّئه‪،‬‬
‫وجهي بارد‪ ،‬و قلبي يدور‪ .‬أشعر برغبة في التقيؤ و لكني أقاوم‪ .‬لي ذكريات سيئة جدا في هذا المكان كما قصصتُ‬
‫عليك آخر مرة !‪.‬‬

‫قالتها و هي تشدّ على عضدها األيسر بيمناها بحركة ال إرادية ربما‪ ،‬كمن يحاول إمساك شخص حتى ال‬
‫ْ‬
‫كانت مستمرة في تفحص زوايا الغرفة بنظرة حملت في عمقها الخوف و‬ ‫يتعثر و هو يحاول اإلفالت من كابوس‪.‬‬
‫االشمئزاز الذي كانت تقاومه بتهكم‪.‬‬

‫طتك في هذا‪ .‬من يعلم بوجودي هنا ؟‪.‬‬


‫ور ِّ‬
‫_ آسف للغاية كوني ّ‬

‫‪152‬‬
‫_ لقد اتصلوا بي من هاتفك رأسا حين وصولك إلى هنا‪ .‬أتيتُ مباشرة و لم أخبر غير رئيس التحرير الذي‬
‫يكون قد أعلم مدير الجريدة كذلك‪ .‬لم أشأ االتصال بعائلتك قبل أن أعلم ما هي حالتك ّأوال‪ .‬و بما أن األمر ليس‬
‫خطير‪ ،‬فضلتُ أن أترك لك الخيار حين استيقاظك مباشرة‪.‬‬

‫_ أه ممتاز‪ ،‬ال أريد أن تعلم أمي أني هنا‪ .‬أنت فتاة رائعة‪ .‬شكرا صوفي‪ ،‬شكرا‪.‬‬

‫أطلقت بسمة كبرياء خفيفة ثم صمتت‪ .‬تاه كل منا في سكوت عابر قبل أن أتفطن إليها و هي تتأملني‪...‬‬

‫_ إذن مينو‪ ...‬أال تخبرني بما حدث لك ؟‪.‬‬

‫_ صدقيني‪....‬ال أعلم‪.‬‬

‫_ بل تعلم‪ .‬لقد حذرناك طويال من الضغط على نفسك في العمل لكنك صلب الرأس‪ .‬أنتَ تقتل نفسك !‪.‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬التزمتُ الصمت لبعض الدقائق‪ ،‬في حين كانت الفتاة تتأملني بتقاسيم وجهها األسمر الجميل و قد‬
‫بدت عليه بعض عالمات اللوم ثم عادت تسألني بشكل مباشر‪...‬‬

‫_ و ماذا بعد ؟‪ ،‬إلى أين وصلت بك الطريق ؟‪ ،‬هل اكتشفتَ أ َّم الثمرات الخبيثة في هذا المجتمع‪ ،‬التي‬
‫حدّثتني عنها طويال ؟‪.‬‬

‫نطقت بالعبارة األخيرة بعصبية حملت في عمقها شيئا من الشفقة و كأنها تود خنقي كي تخلصني من عذابي‪.‬‬
‫نظرتُ إليها قبل أن أزيغ بنظري في الفراغ‪....‬‬

‫_ أجل‪ ،‬أعتقد أني اكتشفتها !‪.‬‬

‫_ حسن‪ ،‬أعطها وصفا دقيقا إن استطعت !‪.‬‬

‫ْ‬
‫اعتقدت صوفيا أني سأقف عاجزا عند هذا الحد‪ ،‬لذلك راحت ترمقني بنظرات من انتصر بقوة الواقع المحرج‬
‫ي أن أعتبر وصفي لالكتشاف الذي وصلتُ‬
‫و المؤلم‪ ،‬لكنني بادلتها نظرة هادئة و متعبة و أنا ال أعلم إن كان عل ّ‬
‫إليه كمعيار نهائي و ثابت لوصف حالتي مع سبقي النهائي أم ال ؟‪ .‬لكنني أجبتها بكل بساطة‪...‬‬

‫_ مكعَّب روبيك‪ ،‬بحثت عنه طويال و عثرتُ عليه أخيرا !‪ ،‬أمسكُ به اآلن بين يدي بإحكام‪ ،‬لكني ال زلتُ‬
‫عاجزا عن حل أحجيته بعد‪ .‬يبدو عصيا جدا على الفك‪.‬‬

‫ْ‬
‫تنهدت صوفيا بعدما أخذت لحظة لنفسها و هي تنظر إلي‪...‬‬ ‫كان جوابي بسيطا بقدر ما هو معقد‪.‬‬

‫_ تعلم يا أمين ؟‪ ،‬فيما ما مضى كان لي أستاذ رياضيات فظ و عصبي و متحرش بالفتيات‪ .‬لم يكن أحد يحبه‪.‬‬
‫كان متعجرفا و ظا لما و مستفزا‪ ،‬حتى أنه حاول ذات يوم مساومتي في جسدي و كرامتي مقابل العالمات‪ ،‬رغم‬
‫أني كنت مجتهدة في مادته أصال‪ .‬رغم ذلك فأنا أشعر دوما أني أدين له بجملة واحدة تزن كل عقلي اليوم‪ ،‬فهو لم‬

‫‪153‬‬
‫يكف يوما عن ترديدها على مسامعنا و هو شارد الذهن أحيانا‪ ،‬حين كان يستعصي علينا حل بعض المعادالت أو‬
‫المسائل الرياضية‪ " :‬الحقيقة موجودة هناك‪ ،‬حيث ال يرغب أحد في البحث عنها " و كأنه يل ِّّمح إلى أن حل المسألة‬
‫يكمن في أطرافها أو أعدادها أو رموزها التي ال نوليها اهتماما أكبر‪ .‬هاذا ما ضل يقوله لنا طيلة موسم دراسي‬
‫كامل‪ .‬إذن‪...‬‬

‫وقفت مباشرة و قد بدى عليها أنها تستعد للرحيل‪...‬‬

‫سمح لي وحدي بذلك في هذه الساعة كونهم يعرفونني‪ .‬كما ال‬


‫_ اسمع‪ ،‬ال يحق لي أن أطيل الجلوس معك فقد ُ‬
‫أخفي عليك رغبتي الشديدة في مغادرة هذا المبنى في أسرع وقت‪ .‬أخاف أن يش َّل روحي و يغمسها في االكتئاب‬
‫مرة أخرى‪ .‬سنكمل الحديث الحقا ‪.! ok‬‬
‫الشديد ّ‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬تبعتها ببصري و هي تهم بفتح باب الغرفة ملتفتة إلي للحظة‪..‬‬

‫_ مينو‪ ،‬أنتَ ال تزال في الثامنة و العشرين من العمر‪ .‬الشباب شيء ثمين جدا‪ ،‬ال ت ُحرقه في أمور ال يمكن‬
‫س ِّّمينا " أفرادا " لسبب وجيه‪.‬‬
‫أبدا أن تغيّرها بنفسك‪ .‬لقد ُ‬

‫بقيت ملتزما الصمت و حالي كحال جندي اخترق جدران العدو بشكل معجز بعد طول قتال‪ ،‬ثم لسبب هو‬
‫أقرب إلى الخيانة التي جاءت زاحفة من مكان ما‪ ،‬وجد نفسه مهزوما و عاجزا عن تبرير خيبته أمام نفسه و أمام‬
‫اآلخرين‪.‬‬

‫ألقل أني نمتُ نوما عميقا جدا تلك الليلة‪ ،‬بعد ما أعطوني أقراصا غريبة جعلت النوم يعقد معي جلسة صلح‬
‫مؤقت و يسمح لي بالغوص في سحابته القطنية الطائرة‪ ،‬التي أخذتني بعيدا عن حصار كوابيس الواقع و هزيم‬
‫رعود مهنة الصحافة المجنونة‪ .‬طرتُ بعيدا جدا‪ .‬رأيتُ أحالما لم أستطع تذكر أي شيء منها في صبيحة اليوم‬
‫الموالي‪ ،‬لكني أتذكر جيدا مالمح تلك األخصائية النفسانية التي حدثتني عنها صوفيا في مناسبات متقطعة‪ ،‬و فهمتُ‬
‫حينها َلم رفضت الفتاة متابعة حصصها العالجية معها‪ .‬امرأة بهندام غير متناسق تماما‪ ،‬قصيرة القامة‪ ،‬غليظة‬
‫الصوت‪ ،‬ال تعرف البسمة طريقا لشفتيها الغليظتين‪ ،‬وجهها يبدو كقناع بهلوان بكل تلك المساحيق‪ .‬حين جلستُ‬
‫إليها ندمتُ في لحظة ما و قلتُ في نفسي أن '' من ي ّ‬
‫صبح على فيڨورة كي ّمه هاذي موحال يبرا و إذا كان مرتاحا‬
‫أصال رايح يمرض من بعد ! ''‪ .‬أشفقتُ على حال صوفيا المسكينة التي أصروا عليها أيام محنتها مع اإلصابة و‬
‫الصدمة أن ترى تلك السيدة كل يوم تقريبا‪.‬‬

‫تكف عن مضغ العلكة و هي‬


‫ّ‬ ‫كانت جلسة التقييم النفسي باردة جدا‪ ،‬بل و مملّة‪ .‬بدى لي أن السيدة التي لم‬
‫تطرح أسئلتها علي كأنما تحدّث نفسها أو تحدث جدارا أو طاولة‪ .‬كانت تقرأ أسئلتها تلك من على ورقة فيها جدول‬
‫يحوي على خانات كانت تمألها بحسب اإلجابات التي كنتُ أقدمها‪ْ .‬‬
‫بدت من ذاك النوع من الناس الذين أجبروا‬
‫على دراسة تخصص لم يرغبوا في دراسته‪ ،‬و أجبرتهم فوق ذلك ظروف الحياة على االشتغال في مضماره بعدما‬
‫سدّت في أوجههم بقية الفرص‪ .‬أو من يدري ؟‪ ،‬ربما أحبت المرأة تخصصها و مهنتها في يوم من األيام‪ ،‬لكنها‬
‫ُ‬

‫‪154‬‬
‫فقدت إيمانها بها بسبب صدمات و كوارث قطاع الصحة‪ ،‬تماما كما يحدث لنا نحن رجال اإلعالم حين نصل في‬
‫بعض األحيان لطرح ذاك السؤال العجيب في أقصى درجات التعب و االستسالم و الغضب على كوارث و فساد‬
‫قطاع اإلعالم‪ :‬بحق الجحيم‪ ،‬ما الذي دفع بي ألختار مهنة لعينة كهذه ؟!‪ .‬و الحقيقة أن البلد كله ملعون !‪.‬‬

‫كانت نتيجة الفحص تقول ّ‬


‫بأن األمر يتعلق بحالة قلق عام قد تم ِّ ّهد للدخول في أزمة إنهاك عصبي طويل إن‬
‫استمريت في الضغط على نفسي مهنيا و حرمانها من بعض الراحة و التسلية و االسترخاء‪ ،‬أو هكذا استنتجت‬
‫َّ‬
‫األخصائية التي قدمت لي بعض النصائح و وصفت لي بعض األدوية المساعدة على النوم‪ ،‬بعدما منحتني إجازة‬
‫ْ‬
‫اقترحت علي رؤيتها دوريا فوق ذلك‪ .‬لم أجد ما أقول غير إجابتها ببسمة مضطربة و عبارة "‬ ‫طبية لمدة أسبوع و‬
‫إن شاء هللا " و أنا أنزلق من مكتبها كظل متسلل من تحت األبواب حين كانت اإلجابة الحقيقية تتراقص داخل‬
‫رأسي المنهك‪." Hell no !! " :‬‬

‫خرجتُ أخيرا من المشفى و أنا أشعل سيجارة بين شفتي بعدما رفضتُ أن يقلني أي زميل إلى البيت‪ .‬أردتُ‬
‫فقط العودة وحيدا‪ .‬كنتُ أفترض أني سأجد نفسي أجر جسدي من التعب و القلق‪ ،‬لكني نمت جيدا الليلة السابقة على‬
‫كل حال‪ ،‬و ربما كان ذلك سببا في الخفة التي كنتُ أتحرك بها عابرا أمواج العباد و السيارات التي كانت تتالطم‬
‫عند مدخل المشفى‪ .‬رغم ذلك لم يهنأ شيء ما بداخل رأسي و لم يقبل شراء قطعة السالم التي اقترحوها علي مذ أن‬
‫وقعت صريع قلقي فوق ذلك الرصيف المهترئ‪ ،‬وصوال إلى خروجي من المؤسسة االستشفائية الضخمة‪ .‬لم‬
‫يصر على رفض عودتي للعمل‬
‫ُّ‬ ‫تقنعني فكرة ‪ 9‬أيام من الراحة‪ ،‬لكني فوجئت حين حادثتُ سي رزاق هاتفيا و وهو‬
‫قبل انقضاء مدة العطلة المرضية‪ ،‬بل و أضاف لي ثالثة أيام أخرى من عنده مؤكدا على أني أستحقها‪ .‬أفزعني‬
‫األمر‪ ،‬يا اله‪ 01 ....‬أيام كاملة من دون عمل‪ .‬ما الذي اقترفته في حقهم يا رب ؟!‪.‬‬

‫ترجّلت قليال حتى وصلتُ إلى محطة عيسات إيدير للنقل‪ .‬كنتُ أنظر إلى بنايات العاصمة الموروثة عن عهد‬
‫االحتالل و هي تستسلم رويدا رويدا لعناق أشعة الشمس اليومي مع ازدياد جنون ازدحام كل هؤالء الخلق‬
‫المندفعين إلى قلبها المثقل بجنون و عنف‪ .‬حاولتُ أن أنظر إلى األمر من زاويته الجمالية كي أخ ِّفّف عن نفسي آالم‬
‫متورمة بشكل غريب‬
‫ِّ ّ‬ ‫بدت المدينة نكدة و‬ ‫خدوش بقايا شظايا تلك االنفجارات التي ّ‬
‫هزتها قبل يوم‪ ،‬لكني لم أستطع‪ْ .‬‬
‫كأنها لم تتصالح معي بعد الذي شعرتُ به تجاهها قبل يوم‪ .‬فكرت للحظة في الهروب من منظرها الذي بدى بشعا‬
‫على غير العادة بالنزول إلى محطة الميترو ّ‬
‫لكن شيئا ما في داخلي منعني من النزول إلى ذلك النفق الطويل‬
‫ال ُمضاء اصطناعيا‪ .‬نظرتُ إلى حافالت النقل العمومية لكني سرعان ما أشحتُ ببصري عنها حتى ال يعود ذلك‬
‫الكيس البالس تيكي األسود لالنتفاخ داخل جوفي فيخنقني أو يفجرني إلى قطع من اليأس مرة أخرى‪.‬‬

‫_ " ما العمل ؟ "‪.‬‬

‫سألتُ نفسي و أنا أسحق ما بقي من سيجارتي الثانية تحت حذائي بعدما ثقل دخانها في صدري‪ .‬ثم أدركت أن‬
‫الحل قد يكمن فقط‪ ،‬و بكل بساطة‪ ،‬في استوقاف سيارة أجرة و التوجه رأسا إلى شقتي الصغيرة في باب الوادي‪،‬‬

‫‪155‬‬
‫آخذ حماما جيدا‪ ،‬أحلق لحيتي‪ ،‬أغيّر مالبسي‪ ،‬أحضّر غداء جيدا‪ ،‬ثم أسترخي و أحاول أخذ قسط من الراحة‪ ،‬لعله‬
‫يساعدني في البدء في إعادة ترتيب أوراق طاولة أفكاري المبعثرة في كل مكان جراء عاصفة الغضب و الخيبة‪.‬‬

‫فكرة واحدة كانت تدور في رأسي و أنا أتفرج على حشود الناس الزاحفة على طول رصيف شارع األمير‬
‫عبد القادر وصوال إلى ساحة الشهداء‪ ،‬و أنا ال أكاد أسمع شيئا مما كان يثرثر ذاك الشاب الذي ركبت سيارة‬
‫أجرته‪ .‬كانت الفكرة تقول أنه من المحتمل جدا أن السبق النهائي قد انتهى بنحت مصطلح الحهر‪ ،‬ثمرة المرض‬
‫صب في وعي المجتمع تماما كتمثال األمير عبد القادر الممتطى جواده وسط ذلك الدوار‬
‫الموسطاشي‪ ،‬الذي سيُن َّ‬
‫الذي يعبره يوميا عشرات األلوف‪ .‬يمرون تحته‪ ،‬يجلسون بمحاذاته‪ ،‬ينظرون إليه بشكل عابر‪ ،‬بل قد يلتقطون‬
‫بعض الصور له أو بالقرب منه ليتباهوا بها أمام أصدقائهم على صفحات الفيسبوك‪ ،‬ثم يمضون و أغلبهم ال يرى‬
‫حقيقة ما يمثله الرجل الراكب على الجواد‪ .‬مجرد ديكور و زينة لمدينة و بلد فقد قدرات التأمل و االستنباط‪.‬‬

‫**********‬

‫مر اليوم األول دون أن أشعر بشيء‪ .‬مر بسرعة‪ .‬أمضيت فترة ما بعد الظهيرة في شقتي الصغيرة مستلقيا‬
‫ّ‬
‫على األريكة قبالة العصير و الكعك و المكسرات أمام التلفاز‪ .‬شاهدتُ فيلمين سينمائيين و بعض الحصص‬
‫الترفيهية‪ .‬ثم أمضيت المساء مع بعض زمالء المهنة نتمشى على طول شاطئ شنوة في تيبازة الهادئة‪.‬‬

‫في اليوم الثاني استيقظتُ ببطء و كسل زهاء التاسعة و النصف‪ .‬بدى لي األمر غريبا جدا‪ .‬بقيت مستلقيا في‬
‫فراشي لمدة فاقت النصف ساعة‪ .‬نصف ساعة من التثاؤب و التفكير في أمور كثيرة‪ .‬كنتُ أريد تحديد و ترتيب ما‬
‫يمكنني أن أفعله طيلة اليوم‪ .‬خرجت لشراء بعض المقتنيات و أنا ألتقي بخالتي ميمونة في الدرج الحلزوني للعمارة‬
‫و هي تكنس عتبة شقتها‪ .‬تفاديتها بلباقة حتى ال أترك لها مجاال لثرثرتها التي ال تخلو من الشكاوي المتكررة من‬
‫سلوك عاملة النظافة المكلفة بتنظيف درج العمارة‪ ،‬أو سلوك البائع الفالني أو مشاكل أسرة الجارة الفالنية‪ ،‬دون‬
‫الحديث عن أسئلتها التي تتغذى من فضولها الشديد تجاه حياتي الخاصة و رغبتها الدائمة في اكتشاف سبب عيشي‬
‫وحيدا هنا و فهم سبب مقدرة شاب في مثل سني‪ ،‬مجرد صحفي‪ ،‬على دفع مستحقات اإليجار الملتهبة في العاصمة‪.‬‬
‫طبعا مع انتقادها الدائم لي و لو بلطف‪ ،‬حول ما تعتقده سبا و قدحا في حق الرئيس المريض و الحكومة‬
‫المجتهدة‪ .....‬تفاديت كل ذلك‪ .‬انزلقت عبر طرقات باب الوادي التي مألتها الحياة و الحركة و أشعة الشمس‬
‫المتوسطية‪ .‬كنتُ فقط أحاول أن ال أعير انتباهي إلى بعض المظاهر السيئة التي قد تبدأ في استفزاز تلك البرغوثة‬
‫الصغيرة النشطة داخل رأسي‪.‬‬

‫مر اليوم الثالث و الرابع أيضا بنفس الوتيرة الهادئة تقريبا‪ .‬حادثتُ والدي هاتفيا‪ .‬ال شيء تغير في البليدة‬
‫الغالية كما فهمت‪ .‬البليدة هي البليدة‪ ،‬ماضية في االختناق بأبنيتها الجديدة الشاهقة التي ال تزال تنمو على صدرها‬
‫المنبسط كالفطر‪ .‬شعرتُ أن صحة الحاج مستقرة حسب نبرات صوته البارد كالعادة‪ .‬أما أمي فقد راحت تلح علي‬
‫كعادتها أن أزور العائلة و البيت في نهايات األسبوع و هي تعرب لي عن عدم هضمها لفكرة عجزي الدائم عن‬
‫زيارتهم و هم على بعد خمسين كيلومترا فقط جنوب العاصمة‪ .‬كنتُ أشعر أنها تزحف رويدا رويدا إلى الحديث‬

‫‪156‬‬
‫بقوة‬
‫عن الملف الذي ال أريد الحديث عنه‪ .‬عن هذه الفتاة الشبح التي لم أرها و ال أعلم عنها شيئا و التي صارت ّ‬
‫نزوات أمي األمومية الطاغية عروسا لي‪ .‬على األقل في أحالمها البريئة‪.‬‬

‫كررت علي أسئلة الصحة و األحوال عدة مرات خالل الحديث لكن بصيغ مختلفة‪،‬‬
‫ما أثار انتباهي هو أن أمي ّ‬
‫مباشرة و غير مباشرة‪ .‬آخر مرة حدث لي هذا كان أيام الحزن جراء انكساري أمام بهجة‪ .‬كانت كمن شعر بحزني‬
‫العميق تلك األيام رغم أني بذلت كل ما لدي حتى ال يشعر أحد به‪ .‬غريب !‪ .‬أمي كانت تقول لي في الماضي أن‬
‫الشياطين في العادة تتسلى بأحزاننا و تقامر بها مع بعضها البعض‪ .‬كانت تقول لي‪ " :‬إياك إذن أن تستسلم للحزن‪.‬‬
‫ال تدع له منافذ في نفسك مهما تكن المشكالت‪ .‬تفاءل و افرح ما استطعت فأغلب أحزان جيلكم هي مجرد عطاس‬
‫صغير للقدر "‪ .‬أمي عاشت و خبرت اليتم و الفقر و الخوف في جزء من طفولتها‪ ،‬التي تزامنت مع آخر سنوات‬
‫حرب التحرير الوطنية و بداية مخلفاتها العاجلة و الجارفة بعد االستقالل‪ .‬أمي خبيرة في الحزن‪.‬‬

‫عرضها المغري لزيارة البليدة الوريدة أغراني لكني تج ّنبت اإلطالة و اإلطناب و ختمت المحادثة بطلبي تبليغ‬
‫تحياتي لشقيقتي عيشة و شقيقي سفيان‪ .‬كانت نسمات حارة في أعماقي تنتظر الفرصة إلشعال حرائق الشوق و‬
‫الحنين إلى قمر البليدة الذي لم يمر حتى أسبوع عن رؤيته الغامضة و غير المكتملة في معرض الصور تلك‬
‫األمسية الجميلة‪ .‬لذلك كان علي إبعاد تفكيري عن ذاك االقتراح المجحف في حق قلبي المنكسر‪ " .‬ال أدري ما‬
‫يمكن أن يحدث إن زرت البليدة هذه المرة و أنا أعلم في أي مكان تشتغل فيه‪( ...‬هي) "‪ .‬تردّد هذا االنطباع‬
‫الصامت في أعماقي كثيرا إلى نهاية اليوم و كاد يدفع بي لسهر الليل لوال أني حطمته بحبة دواء مما ُوصف لي في‬
‫المستشفى آخر مرة‪ .‬نمتُ نوما عميقا و كان ذلك جيدا جدا‪ .‬أدركتُ بشكل فيه نوع من التهرب تجاه ذاتي أني ربما‬
‫فعال كنتُ أقسو عليها طيلة أشهر في العمل أكثر من الالزم !‪ .‬اعتراف ال يحب أي صحفي شرس تجاه تحدياته‬
‫مواجهة نفسه به‪.‬‬

‫خالل اليوم السادس من الراحة بدأتُ أستشعر تلك الطاقة التي راحت تكتنزها ذاتي‪ .‬ذهني كان يميل أكثر‬
‫فأكثر إلى الصفاء‪ ،‬كقطعة زجاج تخلصت من أوحال العواصف المتتالية التي جعلتها في لحظة ما تبدو كأنها‬
‫مجرد كتلة صلبة مهملة غير واضحة المعالم‪ .‬كان الماء زالال ذاك الذي نظف قطعة الزجاج‪ .‬حينها بدأت أشعر أن‬
‫أفكاري تنتظم تلقائيا داخل رأسي‪ .‬بدأتُ أرى مالمح الحالة التي كنت عليها قبل دخولي المستشفى‪ .‬من شدة غرقي‬
‫في عملي كأنما كنتُ أغوص برأسي في كيس قمامة محاوال رؤية و استنشاق و تذوق كل ما فيه دفعة واحدة‪.‬‬

‫سمحتُ لنفسي في اليوم السابع بتصفح مواقع التواصل االجتماعي لكني تفاديتُ صفحة موسطاشيا‪ .‬تصفحت‬
‫بعض الصحف‪ .‬األخبار في مجملها لم تخرج عن سياق الحديث عن تحدي الدستور الجديد الذي وعدت به السلطة‬
‫و تجاذبات المعارضة بين إغراءات النظام و تهديداته بعد المجزرة الرئاسية األخيرة‪ ،‬إضافة إلى أخبار الوضع‬
‫األمني المزري في غرداية‪ .‬بينما كانت بعض األخبار الدولية تتحدث عن المساعي الدبلوماسية الحثيثة لدفع‬
‫أطراف النزاع في مالي لوقف إطالق النار للبدء في المفاوضات‪ ،‬لكن معظم أخبار العالم كانت تتحدث عن النصر‬
‫الروسي و احتفاالت فالديمير بوتين و جيشه في شبه جزيرة القرم باالنتصار على الكتلة الغربية في حرب باردة‬
‫جديدة تتقض بوتيرة متصاعدة مع الزمن‪ .‬الفظاعات السُّورية كالعادة حاضرة بقوة‪ .‬أزمة شرعية رئاسة الوزراء‬

‫‪157‬‬
‫الليبية و شبح الحرب األهلية هناك‪ .‬احتقان الجو السياسي في مصر بين اإلخوان المسلمين و الصاعد العسكري‬
‫الجديد المحتمل في رئاسيات ال يمكن أن تختلف عن أي انتخابات رئاسية في أوطاننا المتخلفة المطحونة‪ .....‬و‬
‫بعض األخبار الصغيرة المتفرقة عند الزوايا ال ُمهملة هنا و هناك عن الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي‪.‬‬

‫في اليوم الثامن بدأ أمين وشاكي القديم يعود رويدا رويدا‪ ،‬بعدما راح ذهني يسترجع و يلوك تلك العبارة التي‬
‫التقطها من شفتي صوفيا حين زيارتها لي في المشفى‪ ''....‬الحقيقة موجودة هناك حيث ال يرغب أحد في البحث‬
‫عنها‪ ...‬الحقيقة موجودة هناك حيث ال يرغب أحد في البحث عنها ! '' ‪ .‬أليست هي بركة خالصة الحصول على‬
‫أصدقاء في مستوى صوفي الفكري ؟‪ .‬كأن بي أصاحب نسخة مصغرة و مؤنّثة من الدكتور أبو عماد‪ .‬للحديث مع‬
‫أناس من هذه الطينة الفكرية حالوة ال يستشعرها سوى عقل مهموم و موجوع بسذاجة و سطحية و ضحالة فكر‬
‫محيطه االجتماعي‪ ،‬الهائم على وجهه المليء باألوساخ و الخدوش التي خلفها زحفه الطويل على طريقه الوعر و‬
‫المجهول!‪ ،‬و نتيجة االتصال بأشخاص كصوفيا و تبادل األ فكار معهم هي إحساس باألمان غالبا ما يكون غير قابل‬
‫للتفسير أو حتى الرصد‪ ،‬لكنه يوصل إلى استرخاء و راحة‪ ،‬ثم طاقة متفجرة فانبعاث من مكان بعيد ينتهي إلى‬
‫العودة إلى المعركة‪ ،‬بكل الحزم و الجد و اإلصرار الالزم إلكمال أطوارها‪.‬‬

‫كانت صوفيا‪ ،‬أو ألقل أستاذها الوغد على حق !‪ ,‬هه يا لمفارقات األشخاص و الطبائع !‪.‬‬

‫مع نهاية ذاك اليوم التاسع‪ ،‬تجولتُ قليال على طول شاطئ الرميلة الذي كانت أمواجه الهادئة تتألأل بانعكاس‬
‫البراقة‪ .‬كانت بعض‬
‫اإلنارة المسائية فوق سطحها‪ .‬كان سطح الماء كالقماش الداكن الفضفاض المتراقص بجزيئاته َّ‬
‫العوائل تتجول على طول الواجهة البحرية لباب الوادي‪ .‬تلك إشارة استباقية لقروب أمسيات و ليالي الصيف‬
‫تحو ل الحي في العادة إلى كومة كبيرة من األضواء و األصوات و الروائح و الحركة‪ ،‬التي ال تهدأ‬
‫الطويلة‪ ،‬التي ّ ِّ‬
‫إال في ساعات الصباح األولى‪ .‬خاصة في شهر الصيام الذي اقترن مجيئه في السنوات األخيرة بفصل الصيف‪.‬‬

‫اشتريتُ دفتر مالحظات و قلم رصاص جديدين من أحد األكشاك و أنا في طريقي إلى شقتي‪ .‬بعد وجبة‬
‫العشاء و مشاهدة األخبار و التحدث إلى بعض األصدقاء و التفاعل معهم عبر الفيسبوك على أنغام جون ماير‬
‫الهادئة كالعادة‪ ،‬لجأتُ إلى فراشي على ألحان و كلمات أغنية ‪ Gravity‬الثقيلة المثخنة بالسكينة التي طالما‬
‫وضعتني في مواجهة حاالت ذهنية مختلفة مع نفسي‪ ،‬أغلبها كان مرتبطا بالنعاس و الرغبة في النوم بعد يوم عمل‬
‫طويل مليء بالضغوط و الركض وراء األخبار و التحقيقات و مطاردة الحقيقة‪ .‬لكنها نادرا ما كانت تجعلني أفكر‬
‫في الحب أو ممارسته‪ ،‬لكنها حين كانت تجرني إلى التفكير فيه‪ ،‬غالبا ما كان يحدث ذلك خالل استشعاري لوحدتي‬
‫التي ال يزال إدماني و هوسي المهنيان يحجبانها عني كثيرا‪ .‬لكن حين يعجزان عن ذلك‪ ،‬أستمع فقط إلى األغنية و‬
‫أنا أتساءل بشكل عابر عن ذاك يوم الذي أجلس فيه مراقبا رفيقة ما و هي تقف أمام أنظاري تتمايل يمينا و شماال‬
‫بجسدها األنثوي الناعم و قدميها الحافيتين في هدوء و دالل على لحن األغنية الثقيل‪ ،‬تشدّ شعرها بيديها نحو أعلى‪،‬‬
‫تدور حول نفسها‪ ،‬تنشد كلمات األغنية ناظرة إلي برغبة و إغراء‪ ،‬تدعوني ببسمتها الخفيفة إلى النهوض‬
‫لمراقصتها أو تقبيلها بهدوء‪ ،‬أو تأتي إلي بخطوات متأنية فوق رؤوس أصابع قدميها للجلوس فوق حجري‪ ،‬فتميل‬

‫‪158‬‬
‫علي حتى إذا المس نهدها كتفي أو صدري همست بما يحلو لها من كالم الحب و اإلغراء في إذني و هي ماضية‬
‫في تمسيد قفاي بأناملها‪.‬‬

‫رجل بدون امرأة ؟‪ ....‬هذا ال يمكن أن يكون شفاء ألي شكل من أشكال جنون الحياة !‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬فإن أغنية ‪ Gravity‬هي األغنية التي تغريني في العادة بتدخين آخر سيجارة في اليوم و أنا‬
‫أتأمل أفكاري أو أقلب أرشيفات مقاالتي أو أجري بحوثا سريعة على النت‪ ،‬قبل تنظيف أسناني و التوجه إلى عرفة‬
‫النوم ساحبا نعلي فوق البالط بتثاقل لالضمحالل في الفراش‪ .‬ما ألذها من أغنية‪ ،‬لو كانت مصحوبة بامرأة تهمس‬
‫صاحكة في أذني ليال على إنارة خفيفة !‪ .‬رجل بدون امرأة ؟‪ ،‬هذا ليس عدال !‪.‬‬

‫**********‬

‫تقلّبت على جنبي األيمن متنهدا‪ .‬نظرتُ إلى لوحة المنبه الموضوع فوق الطاولة و هي تشع بلونها األحمر‬
‫الخافت نوعا ما بسبب اقتراب نهاية مدة صالحية بطارياته‪ .‬كانت تشير إلى الثانية و ثالثة و أربعين دقيقة صباحا‪.‬‬
‫استمريت على تلك الحال‪ ،‬أتأمل تغير األرقام و مرورها على اللوح االلكتروني وسط العتمة المستسلمة بشكل‬
‫طفيف لبعض األضواء الخافتة جدا‪ ،‬و التي كانت تتسلل عبر الفجوات الضيقة لمصرعي النافذة الخشبيين‪ .‬الحركة‬
‫في الشارع كانت شبه معدومة‪ ،‬ما عدى من بعض السيارات التي كانت تعبره بين الحين و اآلخر‪ .‬أدركتُ أن أرقي‬
‫قد عاد و أني لن أنام قريبا‪.‬‬

‫خرجتُ إلى الشرفة المطلة على الشارع و عمارات باب الوادي البيضاء التي تحجب شاطئ الرميلة خلفها‪.‬‬
‫أشعلت سيجارة رافعا رأسي تحت تلك النسمات البحرية اللطيفة التي كانت تداعب وجهي و شعري و مالبسي‪.‬‬
‫فجأة شعرت بحركة سيارة قادمة من طرف الشارع و هي تقترب بأضوائها و ريتم موسيقى الراي المدوي‬
‫المنبعث منها‪ ،‬دون أن أتمكن من رصد كلمات تلك األغنية بسبب نوافذ السيارة المغلقة‪ .‬لكن أضواءها التي الحت‬
‫إلى طرف الشارع جعلتني أنتبه إلى مجموعة من شباب الحي كانوا يجلسون أمام درج أحد الحوانيت المغلقة في‬
‫زاوية مظلمة‪ .‬لقد كان ابن خالتي ميمونة منصور‪ ،‬معطوب الجيش الذي كان يجلس رفقة شابين آخرين على‬
‫الدرج واضعا عكازيه بالقرب منه‪ .‬كنتُ أكاد أجزم أنهم يستهلكون الكيف كعادتهم‪.‬‬

‫ُّ‬
‫التفت إلى السيارة التي توقفت مباشرة وسط الطريق ببطء أمام مدخل العمارة مباشرة‪ ،‬قبل أن يفتح بابها‬
‫األمامي األيمن و بابها الخلفي األيسر‪ ،‬لتنبعث منها تلك األنغام و الكلمات الرايوية منفجرة من الداخل و هي تلطم‬
‫ْ‬
‫نزلت فتاتين في مقتبل العمر بدت إحداهما صغيرة جدا مقارنة باألخرى‪ .‬كانتا‬ ‫جدران العمارات و سكون الحي‪.‬‬
‫تقوالن أشياء غير مفهومة لصاحب السيارة وهما تطلقان ضحكات مختلطة مع ذاك الحديث‪ ،‬قبل أن أسمع الفتاة‬
‫ّ‬
‫تحث الشاب على عدم نسيان موعد الحفلة القادمة‪ ،‬أو شيئا من هذا القبيل‪ ،‬قبل أن تغلق الباب و‬ ‫األكبر سنا و هي‬
‫تنطلق رفقة صاحبتها بخطوات متسارعة‪ ،‬في حين انطلقت السيارة مبتعدة و هي تفسح المجال لعودة السكون و‬
‫الظالم الجاثم تحت ظالل أشجار الرصيف‪ ،‬و بين ثنايا تلك الزقاق الصغيرة الفاصلة بين البنيان‪ ،‬اختفت الفتاتين‬

‫‪159‬‬
‫في أحدها‪ ،‬حين ظهر حنوفة المجنون من عتمة زقاق آخر و كأنه خارج من ظالم حنجرة شيطان‪ ،‬يمشي بخطواته‬
‫الهائمة و هو يشد سبابة يده اليمنى بأصابع يده اليسرى كالعادة‪.‬‬

‫سار حنوفة بخطواته المضطربة و هو يهمهم مع نفسه قبل أن يتوقف للحظة و يلزم الصمت‪ ،‬حين رأى تلك‬
‫الجمرة الصغيرة المشتعلة وسط الظالم و سمع تلك األحاديث الخافتة التي كان يتبادلها منصور و رفيقاه‪ .‬توجّه‬
‫حنوفة مباشرة إلى الشباب الثالثة مادا ذراعه األيسر نحوهم و كأنه يطلب شيئا ما من بعيد قبل أن يصل إليهم‪ .‬كان‬
‫واضحا جدا أنه علم سر تلك الجلسة الظالمية الحميمية بين الرفاق‪ ،‬فرغب بالظفر بجزء من الوهم الصامت الذي‬
‫يلف المكان من حولهم ساحبا إياهم إلى سديم األكاذيب و نشوة اللحظة‪ .‬راقبتُ منصور و هو يمدُّ يده نحو‬
‫كان ّ‬
‫حنوفة يقدم له تلك اللفيفة المشتعلة بالقنب الهندي‪ .‬بدى لي األمر مثيرا للسخرية و مثيرا للحزن في نفس الوقت‪،‬‬
‫فحتى حربنا األهلية السابقة لها مفارقاتها و نوادرها‪ .‬قلتُ في نفسي أنه في الوقت الذي يقتسم فيه أرباب تلك‬
‫الحرب العبثية و من كلى الطرفين المغانم المادية لما يُسمى المصالحة الوطنية‪ ،‬يقتسم جنودهم السابقون لفيفة قنب‬
‫هندي !‪ .‬من يعلم‪ ،‬قد يكون منصور و حنوفة قد التقيا ذات يوم في أرض المعركة‪ ،‬لكن القدر لم يمكنهما من‬
‫االقتتال وجها لوجه ؟‪ ،‬لكان أحدهما قد أجهز على اآلخر على األرجح ؟‪ .‬لكن بدال من ذلك‪ ،‬ها هما اليوم يصنعان‬
‫مصالحة على طريقتهما الخاصة‪ .‬طريقة الطبقة الكادحة لهذا الشعب الذي ُجعل سنوات التسعينات بارودا لكل‬
‫أنواع المدافع و طعاما مجانيا لها أيضا‪.‬‬

‫عدتُ إلى فراشي‪ .‬استلقيتُ واضعا قفاي فوق يدي محملقا في سقف الغرفة للحظات‪ ،‬قبل أن أشعر برداء النوم‬
‫الشفاف يزحف بثقله و صمته المتواطئ على وجهي‪ .‬أغمضتُ عيناي ببطء مستسلما لذاك الثقل‪ .‬كان السقف ماض‬
‫في التشتت و االبتعاد عن نظري الغارق رويدا رويدا في العتمة اللذيذة‪ .‬ظننتُ نفسي قد غفوتُ لبضع دقائق‪ ،‬أو‬
‫ربع ساعة على األرجح‪ .‬كنتُ ماض في االنسحاب إلى أعماق النوم و السكون و األحالم السفلى‪ ،‬في اللحظة التي‬
‫ُ‬
‫أبحث عنها‬ ‫تنور المكان الذي كنتُ أتوقع أن أجد فيه إشارتي التي‬
‫جاء فيها كالوميض تماما‪ .‬و كأني رأيتُ للحظة ّ‬
‫أو تبحث عني ؟‪.‬‬

‫كانت تلك اللحظة العابرة في محيط الغياب و الصمت‪ ،‬التي جعلت عقلي يجفل كالحصان‪ .‬كنتُ كمن يقفز من‬
‫مكانه بعدما تذكر شيئا كان قد أغفله منذ مدة‪ .‬شيء قد يحمل في تجاويف تفاصيله الدقيقة الغائبة جزء من‬
‫اإلجابة !‪ .‬شيء يشبه لحظة آسرة غريبة غيّبتها شظايا الحيرة و دخان التعب و اإلنهاك‪.‬‬

‫فتحتُ عيناي على عينيه الزرقاوين التي اقتحمتا بضجيجهما سكون تلك اللحظة و ذاك الجو‪ .‬نظراته الملتهبة‬
‫بالغضب و الصراخ المكبوت و شيئا آخر‪ .‬شيء جعل ذاك المراهق القبائلي األشقر الذي تم اعتقاله من على غطاء‬
‫محرك سيارتي قبل أيام يختلف اختالفا جوهريا عن ذاك الذي حاول سرقتي‪ ،‬بل و كاد ينحرني قبل أسبوع أو يزيد‬
‫بقليل‪ ،‬رغم أنهما بنفس العمر تقريبا‪ .‬من نفس الجيل حتما ؟‪ .‬تلك العينين الزرقوين اللتين أسرني شيء ما بداخلهما‬
‫لم أستطع تحديده و ظل يستفزني مذ تلك األمسية‪ .‬تبا لي !‪ ،‬كيف نسيتُ هذا الموضوع حتى ؟‪ .‬أكانت أمسية قصر‬
‫الثقافة و رؤيتي لبهجة ؟‪ ،‬أم كان السطو الذي تعرضتُ له بالقرب من ملعب المحمدية ؟‪ .‬أكان انهياري العصبي‬
‫ّ‬
‫المتشظية ؟‪ .‬مراهقان من جيل واحد‪ .‬أحدهما يحمل‬ ‫هو ما جعلني أنسى تلك العينان المشتعلتان و أسئلتهما الملحّة و‬

‫‪160‬‬
‫راية يدافع عما تمثّله له و اآلخر يحمل خنجرا ينتقم به مما يمقته !‪ .‬مراهقان من جيل واحد‪ .‬جيل الحرب األهلية‪.‬‬
‫صورتان متنافرتان من واقع واحد ؟‪ .‬شرخ عجيب و مح ِّيّر !‪.‬‬

‫ذاك الفتى القبايلي كان يحمل في نظرته إلي شيئا عميقا جدا‪ .‬شيء يتعدى حدود غضب اللحظة أو رد فعل‬
‫السلوك‪ .‬طبعا شككتُ في أن يكون كامل النضج سياسيا‪ ،‬رغم أنه كان يتظاهر من أجل قضية سياسية أو تم‬
‫تسييسها على كل حال ؟‪ '' .....‬القضية البربرية ''‪ ....‬أي مكن أن تكون زاويتي الجديدة في السعي إلى سبقي النهائي‬
‫اتباعا لنصيحة صوفيا ؟‪ '' .‬الحقيقة موجودة هناك حيث ال يرغب أحد في البحث عنها ''‪.‬‬

‫قفزتُ من فراشي‪ .‬جلستُ مرة أخرى و أنا على وشك العثور على الكلمة المناسبة لما حملته تلك النظرات‬
‫القبايلية الغاضبة‪ .‬التعبير الدقيق عن تلك الحالة الوجدانية العميقة‪ .‬أجل‪...‬كانت قادمة‪ ...‬كانت تقترب‪ ...‬أجل‪ ...‬إنها‬
‫هنا‪ ...‬ها هي ذي‪ " .....‬اليقين "‪ ...‬تماما‪ ....‬نظراته حملت اليقين‪ .‬يقين ما !‪.‬‬

‫فكرت لدقائق معدودات‪ .‬سجلت بعض األفكار في دفتر المالحظات الجديد‪ .‬لم أقتنع فعال بأن القضية البربرية‬
‫المبتذلة و المستغلة سياسويا بشكل مفجوج و رديء منذ سنوات‪ ،‬بل و منذ عقود‪ ،‬يمكن أن تحمل لي طرف الخيط‬
‫إلى سبقي النهائي‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬قررتُ في الصباح التالي أن أكتب شيئا ما عن الموضوع‪.‬‬

‫في البادئ كنتُ أكاد أكتب شيئا موضوعيا جدا بخصوص االستغالل السياسي لهذه المشكلة العالقة منذ‬
‫االستقالل‪ .‬مقال جديد في عمودي على الجريدة‪ .‬سوى أني أدركتُ سريعا أني ال أملك من الزاد المعرفي و‬
‫التاريخي عن الموضوع الكثير‪ .‬فكرت للحظة في االتصال ببعض الزمالء في الصحافة و بعض األساتذة‬
‫الجامعيين للحصول على آراءهم و وجهات نظرهم‪ ،‬و ذلك قبل البدء في بعض البحوث على النت لوال أني توقفت‬
‫عن ذلك فجأة و بقيت تائها أمام شاشة حاسوبي المحمول لدقائق‪ .‬قلت في نفسي أني مطالب بتجريب شيء جديد‪.‬‬
‫طريقة أخرى في رمي الطعم في البحر‪ .‬أسلوب كتابتي الصحفي المعتاد كان يجب عليه االختفاء لبعض الوقت‪.‬‬
‫كان علي تجريب شيء آخر أقرب إلى الكتابات النمطية المقولبة السائدة‪ ،‬التي تحاول إمساك العصى من الوسط أو‬
‫تريد االمتداد في فضاء العموميات المثالية‪ .‬لذلك انطلقت أصابع يدي بأناملها و هي تجري و تقفز على لوح‬
‫المفاتيح‪ ،‬كأنها فريق من راقصات الباليه الرشيقات الممشوقات و هن يؤدين رقصة جماعية متقنة‪ .‬لكني في‬
‫الحقيقة كنتُ أرقن شيئا في غاية االبتذال على صفحتي في الفيسبوك‪ .‬شيء عن عروبة و إسالم الجزائر و عن‬
‫فولكورها البربري الذي ال يمكن إنكاره‪ .‬شيء عن األلفة و التعاضد و االتحاد التاريخي الذي عاش في كنفه‬
‫العرب و البربر مذ قدوم اإلسالم إلى هذه البالد‪ ،‬و عن ضرورة قطع الطريق أمام دعاة الفرقة و التشرذم و‬
‫الصراع العرقي‪ ....‬بدى لي أني أريد أن أكون والدي‪ ،‬الحاج حسن‪ ،‬في تلك اللحظات حتى كدتُ أضحك على‬
‫نفسي‪ ،‬خاصة و أنا أربط الموضوع كذلك بما يُعرف بـ" األيادي الخارجية " التي تن ِّّفذ مخططاتها اللئيمة في‬
‫ضرب الوحدة الوطنية‪ .....‬بالبالبالبال‪.....‬‬

‫ردود الفعل كانت كما كنتُ أتوقع‪ .‬كثيرة‪ .‬األغلبية من المتفاعلين على الصفحة كانوا ممتنين لتلك الخاطرة‬
‫التي اعتقدوا أنها مقال‪ ،‬فراحوا يشكرونني على '' مقالي '' العميق و الرائع‪ .‬لم يطل األمر كذلك حتى بدأت تنتشر‬

‫‪161‬‬
‫في قوائم التعليقات صور لرايات يطغى عليها األزرق‪ ،‬األصفر و األخضر‪ ،‬أو صور لتماثيل منحوتة أو رموز‬
‫بربرية على األرجح‪ ،‬مع أسماء بروفايالت على شاكلة‪,Illis N’umazigh ,Je suis Amazigh Berbère :‬‬
‫المتمرد‪ ،‬نوميدي إلى األبد‪ ....‬و غيرها من األسماء القريبة إلى الشعارات السياسية‬
‫ّ‬ ‫‪ ،Izem N Djorjor‬الشاوي‬
‫منها إلى األلقاب‪ .‬حيث راح أصحابها ينعتونني بأبشع الصفات‪ ،‬مغدقين علي بكم ال حصر له من األوصاف‬
‫الشائنة و الكالم النابي‪ ،‬دون أن ينسوا معركة السباب و التالبز باأللقاب بينهم و بين من أعجبتهم الخاطرة‪.‬‬

‫بعض التعليقات كانت صادرة من بعض زمالء المهنة الذين استغربوا تغييري ألسلوبي في الكتابة‪ ،‬و راحوا‬
‫يبعثون لي رسائل على الخاص‪ ،‬يسألونني عن غياب أي تحليل عميق و موضوعي للفكرة التي عبّرت عنها‪ .‬لم‬
‫أجب‪ .‬جلست فقط متربصا و أنا أسبر ردود فعل الغوغاء المتقاتلة على الصفحة مع إحساس خفيف بالذنب‪ ،‬حمل‬
‫في طياته شيئا من التسلية‪ ،‬لكني كنتُ أراه شيئا عابرا‪ .‬في بعض األحيان و حتى يحصل الصحفي على ما يصبو‬
‫إليه‪ ،‬عليه لعب بعض األدوار القذرة و الشريرة‪ .‬ينشر بعض الكتابات الفجّة المنقّحة بجرعات مختلفة من‬
‫االستفزاز حسب الظروف و المهام‪ .‬لكن ما هو قذر يجذب ما هو قذر بالضرورة‪ ،‬و قذ جذبه فعال نحوي !‪.‬‬

‫اتصال هاتفي من شخص غير مرغوب فيه بتاتا‪ ،‬أكد لي مرة أخرى كم هي غريبة مفارقات األشخاص‪ .‬فبعد‬
‫ْ‬
‫حملت فيها كما هائال من االنبعاث داخل نفسي و نبّهتني إلى وجوب‬ ‫الجملة المزلزلة ألستاذ صوفيا الوغد التي‬
‫تغيير مكان تمترسي في المعركة من أجل فرصة أفضل في إصابة الهدف‪ .‬جاءت تلك المكالمة من " الحنش‬
‫الروجي "‪ .‬عيّاش مراد‪ ،‬الصحفي القذر‪ ،‬لتلقي لي بشيء ما‪ ،‬لم أكن ألدرك قيمته الكاملة في تلك اللحظة‪ ،‬فالمكالمة‬
‫لم تدم سوى بعض دقائق‪ ،‬أخبرني فيها الثعبان بأنه قرأ ما كتبت على صفحتي الفيسبوكية و بأنه مستعد لتمكيني من‬
‫معلومة ستجعلني أحقق سبقا صحفيا ال مثيل له‪ ،‬و هي مرتبطة مباشرة بموضوع المسألة البربرية ؟‪.‬‬

‫شيء ما في أعماقي‪ .‬دافع خفي‪ .‬ربما هو نفسه الذي انتابني الليلة التي كنتُ أبحث فيها عن طرف خيط‪ .‬دافع‬
‫عميق جدا هو أقرب إلى الوحي‪ ،‬كان قد اختلط مع الحدس‪ ،‬دفع بي لقبول لقاء الحنش الروجي في المكان الذي‬
‫اقترحه علي‪ .‬كان علي فقط أن أنتظر و أنا أعلق أمال على رجع الصدى الذي انتظرته من خاطرتي التي رميتُ‬
‫بها في بحيرة الفيسبوك‪ ،‬كما يرمى حجر في قعر بحيرة إلثارة األسماء فيها‪ ،‬علها ترسم صورة عامة عما يوجد‬
‫بها من أنواع و أشكال‪.‬‬

‫الحجر الذي رميتُ به في بحيرتي أخرج لي سمكة مقرفة على كل حال‪ ،‬لكنها كانت في الحقيقة تحمل شيئا لي‬
‫لم أتصور أنه قد يُغيُّر مجرى بحثي كله‪ .‬كانت تحمل في أحشائها النتنة مفتاح مثير للفضول !!‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫‪V‬‬

‫بداية الصعود‬

‫‪163‬‬
‫‪-14-‬‬

‫صفقة الثعبان األشقر‬

‫األربعاء ‪ 47‬ماي ‪ 4102‬بأعالي حي حيدرة‪ .‬الجزائر العاصمة‪...‬‬

‫كانت الظهيرة قد ألقت بثقلها الكامل على ظهر المدينة و كأن النهار نفسه يرغب في أخذ قيلولة قصيرة كانت‬
‫ستطول رغما عن العاصمة‪ ،‬التي ال تهدأ حركتها سوى في أحيائها السكنية الراقية مثل حي حيدرة الجميل‪ .‬ولجتُ‬
‫قاعة الشاي الفاخرة التي كانت الحركة هادئة بها بعض الشيء‪ .‬بعض أزواج الشباب كانوا يتفرقون حول‬
‫الطاوالت و الموائد المتوزعة عبر فضاء الطابق الثاني‪ ،‬مع بعض الموسيقى الهادئة في الخلفية‪.‬‬

‫وقفتُ عند مدخل الطابق ال ثاني و أنا أفسح الطريق لشاب كان يمسك بيد رفيقته و هما يهمان بمغادرة المكان‬
‫على بعض الضحكات الخافتة‪ .‬كنتُ أمسح المكان ببصري كالصقر قبل أن أقع على الحنش و هو هناك في الزاوية‬
‫يتكور و يتمدد في مكانه و كأنه يبحث عن‬
‫ي ُّلوح بذراعه و يتكلم عبر هاتفه المحمول في نفس الوقت‪ .‬كان يتلوى و ّ‬
‫فرسية سهلة‪ ،‬لذلك لم يكن صعبا علي فهم سبب اختياره الجلوس قبالة مراهقتين كانتا تجلسان غير بعيد عنه و هما‬
‫ترتشفان فنجاني قهوة أو شاي مع بعض الحلويات‪ ،‬في اللحظة التي كانت فيها فتاة تبدو ملتزمة من ثيابها تهم‬
‫بتغيير مكان جلوسها و وجهها يفيض بعالمات االنزعاج من تلك النظرات التي كان يرمقها بها الحنش و قد أنزل‬
‫نظارته السوداء قليال من فوق أرنبة أنفه كي تتبدى عينيه الزرقوين الماكرتين‪ .‬لكنه سرعان ما رفع النظارة التي‬
‫غطت عينيه مرة أخرى بعدما فقد فريسته األولى‪ ،‬ليُو ِّ ّجه اهتمامه بالمراهقتين المقابلتين له‪ .‬عاد و حمل ذراعه و‬
‫يلوح لي بالتقدم مستمرا بالحديث عبر هاتفه الخلوي‪ .‬ذاك هو الثعبان‪ .‬يعمل في كل الظروف و بسبق اإلصرار‬
‫هو ّ‬
‫و الترصد‪ ،‬تماما كرئيس تحريره و جريدته الصفراء‪ .‬االجتهاد على خلط العمل الصحفي مع المتع الجنسية‬
‫الرخ يصة المختلفة مع تصيد فرص المال القذر مع ضرب خصومه و خصوم أصدقائه بعضهم ببعض مع التزلف‬
‫المستمر لكل شخص أو زمرة فاسدة يشتم فيها رائحة المال‪ ،‬الجنس‪ ،‬القوة و النفوذ‪ .‬إنه عالمه الصغير‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫شعرتُ و كأني أود فعال الرجوع من حيث أتيت تلك اللحظة‪ .‬ليس فقط بسبب ذلك الشعور بأن الموضوع الذي‬
‫كان يود مناقشته معي ظل يبدو لي مبتذال و غير مقنع فحسب‪ ،‬بل ألني كنتُ مضطرا لمجالسة أحمق مثله إلى‬
‫درجة الخشية من أن يظننا الناس صديقين‪ ،‬فضال عما كان سيُطالبني به ثمنا لمقايضة المعلومة الحصرية التي‬
‫جاءني بها‪ .‬تنهدت مع نفسي بعمق‪ ،‬ثم خطوت متجها نحوه بتململ‪ .‬وصلت إليه‪ .‬كان ال يزال منهمكا في الحديث‪.‬‬
‫جلستُ مباشرة دون تحية و لم أكن أعلم أكان ينظر إلي تلك اللحظة أم كان يركز بصره على إحدى المراهقتين‬
‫الجالستين خلفي بعدما‪ ،‬وضعت ساقا على األخرى و هي ترتب خصالت شعرها األسود فوق أذنها اليسرى بأنامل‬
‫يدها‪ ،‬بعدما بدى لها أن الثعبان يُراقبها باهتمام و تلذذ‪.‬‬

‫_ آه‪ ....‬و ّ‬
‫شاكي !‪ .‬مضى وقت طويل جدا هه ؟‪.‬‬

‫قال الحنش و هو يلقي بهاتفه الخلوي على الطاولة قبل أن يستطرد‪...‬‬

‫_ كم ؟‪ ،‬سنة‪ ،‬سنتان ؟‪ ،‬أو قل منذ ليلة رأس السنة الفارطة ؟‪ .‬قرأتُ تحقيقك الفاضح و المدوي عما اصطلح‬
‫عليه بفضيحة المطربين اللبنانيين و متأكد أنا من أنك رأيتني ذاك المساء في الملهى لكن ال أدري كيف لم أرك ؟‪...‬‬

‫ابتسم بمكر ثم أكمل‪...‬‬

‫_ ‪ ...‬كنتَ متنكرا بزي ما‪ .‬زي راقصة شرقية ربما ؟‪ .‬لكن قل لي‪ ...‬هل رأيتني أجلس رفقة ساقطتين في جناح‬
‫الشخصيات المهمة و المتنفذة يا ترى ؟‪.‬‬

‫_ رأيتُ الكثير من الحثالة تلك الليلة‪ ،‬لذلك‪ ...‬ربما كنتُ رأيتك و لم أتعرف عليك‪.‬‬

‫أجبته ببرودة دم هازا كتفي‪ .‬ابتسم ببرودة مماثلة ثم هز حاجبيه متغابيا‪...‬‬

‫_ أوه ‪ ،‬آسف‪ ...‬هل تود شرب شيء ما ؟‪...‬‬

‫_ ال شكرا‪ .‬لن يطول مكوثي هنا‪ .‬لدي التزامات أخرى‪.‬‬

‫أجبته بسرعة البرق مشيرا للنادل الذي كان يتقدم نحوي بأني ال أريد طلب شيء‪ ،‬ثم ر ّكزت نظراتي الباردة‬
‫على وجهه األصفر المتجمد حين راح يرتب شعره األشقر األملس بيده‪ ،‬قبل أن يميل بجسمه قليال إلى الجانب و‬
‫هو يُنزل نظارته السوداء على أنفه مرة أخرى‪ ،‬كاشفا نظراته التي تتآكلها الشهوة و الرغبة في االنقضاض‪ .‬راح‬
‫ينظر باسما إلى تلك المراهقة ذات التنورة القصيرة و البسمة الودودة‪ ،‬التي راحت تبادله بسمة بدت و كأنها بريئة‬
‫على العموم‪ ،‬أو ألقل ساذجة‪ ،‬قبل أن تنفجر و هي تحاول كتم صوت ضحكاتها رفقة صاحبتها‪...‬‬

‫_ أنظر يا صديقي إلى تلك األرنوبة البيضاء الشهية‪ .‬أتعلم أنها تع ّمدت وضع ساق فوق ساق كي تكشف لي‬
‫عن حالوة فخذها األبيض الطري ؟‪ .‬إنها تريدني أن ألتهمه‪ ،‬و حتما سأفعل الليلة !‪.‬‬

‫_ هل جئتَ بي إلى هنا لتحكي لي عما تود فعله الليلة ؟‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫‪_ Ah, mon ami !. Les belles jambes de la petite nana, écartées en l’air… avec ses‬‬
‫‪hurlements …okh putain !! il n’y a pas plus excitant et plus délicieux au monde !!.‬‬

‫قالها و هو ينزع نظارته واضعا إياها فوق الطاولة‪ ،‬كاشفا بذلك عن نظراته القبيحة التي تنضح بالخبث الذي‬
‫كان يُقذف منهما كحمم الجحيم صوب ذلك الجسد األنثوي الغض الذي كان يستهدف‪ .‬نظر إلي لحظة و هو يتفحّص‬
‫مالمح وجهي الذي كان كالحجر البارد‪...‬‬

‫_ وش بك حنّوني ؟‪ .‬تبدو منزعجا ؟‪ .‬أال يروق لك الجنس أم أنك لست من البشر ؟‪.‬أه أجل‪ ...‬أنتَ شخص‬
‫يأخذ العالم على محمل الجد فوق اللزوم‪ ،‬ال متعة‪ ،‬ال صخب‪ ،‬ال ترف‪ ،‬ال لهو‪ ...‬مجرد قتال و معارك أخالقية‬
‫عنيفة ال نهاية لها ضد شياطينك‪ ....‬لكن في النهاية أنظر إلى أين أوصلت نفسك !‪ ...‬إلى مصطفى باشا !!‪ .‬لذلك‬
‫اسمح لي بإعطائك نصيحة‪ :‬ال تتردد في ركل كل شيء و رميه خلف ظهرك و ال تخجل من تلبية رغباتك بين‬
‫الحين و اآلخر يا رجل ! ما العيب في كون الطبيعة هكذا‪ ،‬فوضوية و شهوانية ؟‪ ،‬لوال هذا لما كانت هناك حياة !‪.‬‬
‫أما إذا كنت تعتقد أنك بحسك الدونكيشوتي الدرامي هذا تكون الوحيد القادر على التأمل و ابتكار المفاهيم و‬
‫المصطلحات " الثورية " التي تنتصر بها في معاركك إلنقاذ هذا العالم الفاسد‪ ،‬فأقول لك أنه حتى أنا أستطيع فعل‬
‫ذلك‪ ،‬دون الحاجة إلى أن أكون عبوس الوجه مثلك‪.‬‬

‫هز حاجبيه و قد أطلق العنان لتلك اإليماءات الغبية التي كان يحاول أن يظهر بها بمظهر الشخص المرح و‬
‫الفكاهي الذي على وشك إطالق نكتة ساخرة‪...‬‬

‫_ هل تعلم يا وشاكي ما خطر ببالي و أنا في قمة التأمل و التفلسف قبل بضعة أيام‪ ،‬بعدما م َّكنتني إحداهن من‬
‫ركوب ردفيها حد الجنون و اإلنهاك ؟‪ ....‬وصلتُ إلى إدراك أن عالم البشر‪ ...‬مثله مثل عالم الحواسيب تماما‪....‬‬
‫صفر !!‪..‬‬
‫بني بتالقي الواحد مع ال ّ‬

‫نظر إلي لحظة ثم انفجر ضاحكا و هو يضع يده على فمه‪ .‬كنتُ أستعر غضبا من الداخل و أنا أشعر لوهلة كم‬
‫كنت غبيا إذ قبلت لقاء هذا األحمق في مكان عمومي‪ ،‬ألجلس و أسمع سخافاته السَّمجة و هو يقتل وقتي المثخن‬
‫بالعمل‪ .‬تنهدت‪ .‬كنتُ أود أن أقول شيئا في غاية البذاءة أوقف به تلك الضحكة لوال أني أعلم أنه شخص ال يتأثر‬
‫بأي كلمة سب أو قدح في حقه‪ ،‬إن لم أقل أنه من نوع البشر الذين يشعرون طوال الوقت أنهم موجودون بفضل‬
‫شتم و سب اآلخرين لهم‪ .‬لذلك هممت فقط بالنهوض من مكاني و أنا عازم على المغادرة‪ ،‬قبل أن يرمي يده إلى‬
‫ذراعي و هو يحاول السيطرة على ضحكته‪...‬‬

‫_ كال يا رجل‪ ...‬اهدأ‪ ...‬اهدأ‪ ...‬أنا أمازحك فقط‪ ...‬أعلم أنك ال تطيقني على كل حال لكن ال بأس !‪ .‬اجلس‪،‬‬
‫أؤكد لك أن لي شيئا يحلم به أي صحفي يسعى خلف سبق كبير !‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫نظرتُ مباشرة في عينيه بعدما استشعرت تغيرا واضحا في نبرة صوته التي بدت أكثر جدية فجأة‪ .‬كانت‬
‫عيناه تقوالن شيئا ما‪ .‬شيء جعلني أجلس مرة أخرى و أنا آمل أن تكون الضربة فعال مناسبة‪ .‬من يدري‪ ،‬لعل هذا‬
‫األحمق يحمل لي شيئا حقيقيا في جعبته ؟‪.‬‬

‫_ هات ما عندك و أخبرني بما تريد في المقابل !‪.‬‬

‫لم يقل شيئا‪ .‬تنهد بل حمل كيس شاي معطر ثم راح ينقعه في قدح فيه ماء ساخن‪ ،‬قبل أن ينطق و قد اكتسحت‬
‫محياه عالمات جد واضحة‪...‬‬

‫_ يجب أوال يا وشاكي أن أطلب منك إغالق هاتفك الخلوي و نزع بطاريته و وضعهما على الطاولة أمامي‪.‬‬

‫_ عفوا ؟ !‪.‬‬

‫سألته باستغراب كان يتدحرج إلى الدهشة المصطنعة‪ ،‬رغم علمي المسبق بما كان يدور في رأسه‪...‬‬

‫_ وشاكي‪ ...‬ال تتغابى اآلن أيها الغر !‪ .‬أنا صحفي و أنت صحفي و تعلم أن بمقدور أي منا تسجيل حديث هذه‬
‫الجلسة الستعماله كمرجع أو مصدر لمقال أو كتاب‪ ،‬أو في االستفزاز و المساومة الحقا‪.‬‬

‫_ أتعتقد فعال أن ضميري يسمح لي بهذا ؟‪.‬‬

‫_ أخخخ‪ ....‬أرجوك‪ ،‬لم أطلب لقاءك هنا لنتناقش في مسائلك األخالقية المثيرة للضحك‪ .‬يكفيني أنك تبقى‬
‫صحفيا في كل األحوال و من ثم فجانبك غير مأمون مهما قيل عنك‪ .‬ثم أال تعلم أن هواتفنا دوما مراقبة ؟‪ .‬أنا هنا‬
‫من أجل مقايضة معلومة حصرية في غاية األهمية و السرية‪ ،‬ال أحد يعلم بها في ميدان الصحافة سواي‪.‬‬

‫ردة فعله و انزعاجه ذاك حملني فعال على االعتقاد بأن الرجل كان يحمل في جعبته شيئا بدأت أشتم فيه رائحة‬
‫اإلثارة و المغامرة بأنفي الصحفي‪ .‬ن ّفذتُ طلبه‪ ،‬حين قام هو اآلخر بإغالق هاتفه و نزع شريحته و بطاريته‪ .‬تبادلنا‬
‫نظرات التركيز لثوان و كأننا راعيي بقر أمريكيين يودان خوض معركة أعين من دون مسدسات‪ .‬أخذ رشفة من‬
‫كأس الشاي ثم نظر إلي‪...‬‬

‫_ إذن يا وشاكي‪ ...‬ما النتيجة التي وصلتَ إليها ؟‪.‬‬

‫تن ّهدت ناظرا إليه لوهلة‪ .‬فهمت تماما عما كان يتحدث‪..‬‬

‫_ '' حصلة ''‪ .‬انسداد تام‪ .‬أعتقد أنها الكلمة األقرب لوصف النتيجة‪ .‬المسألة الجزائرية و البربرية لم تنتج‬
‫سوى الفشل و التفريق و العنصرية و التحريض على الفوضى العفوية‪ ،‬التي يمكن أن تُركب من أكثر من جهة‪.‬‬

‫_ و هل تلقي بأصل المشكلة على هؤالء القبايل األغبياء اآلن ؟‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫_ لم أقل أنهم أصل المشكلة‪ .‬بل هم نتيجة لها بشكل ما‪ .‬المشكلة بدأت مع ما أطلقت عليه بعض األقالم سياسة‬
‫معالجة األزمات بالتعفن التي يتعامل بها ا لنظام السياسي مع هكذا عقبات منذ االستقالل‪ .‬يتجاهل المشكلة عند‬
‫نشوئها عمدا‪ .‬يتركها للتخمر ثم إذا تعفّنت يدخل على خط مواجهتها بقمع شديد غير ُم َّ‬
‫برر أو يركبها ليعالج بها‬
‫مشاكل أخرى من أجل أن يبقى هو سيد المبادرة و التحكم في سير األحداث‪ .‬بعبارات أخرى فهذه السياسة تساعده‬
‫على إبقائنا في نفس الوضع األزلي الذي نعيشه‪ ....‬من السيء إلى األسوأ‪ ،‬ثم من األسوأ إلى السيء‪ .‬ما يُطلق عليها‬
‫القضية البربرية هي مسألة مبتذلة و متعفنة منذ زمن و هي آيلة مع الجيل الصاعد من المدافعين عنها إلى الفشل‬
‫المحتوم‪.‬‬

‫_ أنت متأكد ؟؟‪..‬‬

‫_ ما قصدك ؟‪.‬‬

‫_ قولك أن القضية البربرية ستسير إلى فشل محتوم ؟‪.‬‬

‫عادت بسمته مرة أخرى لتستفز فضولي‪...‬‬

‫_ عيّاش‪ ،‬هات ما عندك و ف ّكنا يا رجل !‪.‬‬

‫زادت بسمته الماكرة اتساعا‪ .‬أخذ رشفة أخرى من كأسه‪ .‬حك أنفه للحظة و هو يمعن التركيز‪...‬‬

‫_ ليس قبل أن تعطيني ما أريد‪ ...‬أنتَ تعلم المقايضات بين الصحفيين‪ ...‬ساعدني‪ ...‬أساعدك !‪ ...‬اعطني شيئا‬
‫نادرا أعطيك شيئا نادر‪...‬‬

‫_ ما الذي يجعلني أصدق أنك لن تلتف علي إن منحتك ما تريد ؟‪ ...‬هذا إن كان عندي معلومة تعادل في‬
‫أهميتها معلومتك ؟‪.‬‬

‫نظر إلي مطلقا ضحكة خفيفة‪...‬‬

‫_ ال تقلق يا و َّ‬
‫شاكي‪ .‬أنت لديك الكثير مما أبحث عنه اليوم‪ .‬لديك فائض حتى‪ .‬أما أنا‪ ،‬فإن المعلومة التي‬
‫بحوزتي لم أعد بحاجة إليها في الحقيقة‪.‬‬

‫كان أمره غريبا جدا‪ .‬ما كان هدفه الحقيقي يا ترى من كل ذلك ؟‪ .‬صمتُ للحظات‪ ،‬ثم اعتدلت في جلستي آخذا‬
‫وضعية أكثر انبساطا في محاولة مني ألظهر له أني واثق من نفسي و مستعد للسيطرة على الوضع ككل‪...‬‬

‫_ لستُ متأكدا بعد‪ .‬أريد أن أعرف شيئا عاما عن معلومتك الحصرية هذه‪ .‬بعدها يمكنني أن ِّ ّ‬
‫أقرر إن كانت‬
‫جيدة و تستحق المقايضة مع ما تطلبه مني‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫أطلق ضحكة قصيرة‪ .‬أخذ رشفة أخرى من كأسه‪ .‬ف ّكر قليال و هو ال يكف عن النظر إلى األرنوبة الجالسة‬
‫ي كثعبان يريد إلقاء شيء ما من ثغره الضخم‪.‬‬
‫خلفي‪ ،‬الحسا جسدها بعينيه الزرقوين مرة أخرى‪ ،‬قبل أن ينظر إل ّ‬
‫يتحرك من مكانه‪...‬‬
‫ّ‬ ‫فدنى قليال مني بجدعه دون أن‬

‫مدو تعمل أجهزة األمن ليل نهار‬


‫_ ما رأيك بسبق صحفي يخص حدثا هاما على وشك االنفجار‪ .‬حدث ّ‬
‫لمعرفة طبيعته و كيف سيتم‪...‬؟‪.‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬جاء على بالي أن هذا الشخص له الكثير من المصادر األهلية و الموثوقة من داخل األجهزة‬
‫الحكومية بحكم قرابته العائلية مع الكثير من ضباط الجيش و المخابرات السابقين‪ .‬ر ّكزت نظري في عينيه‬
‫الباردتين‪ ،‬قبل أن يأتيني صوته الخافت و كأنه يلقي بهمسة شيطانية مشعلة للغرائز المجنونة‪...‬‬

‫_ '' ربيع جزائري‪ ......‬جديد '' !!‪.‬‬

‫قالها و هو يرفع حاجبيه الرقيقين مع اتساع واضح في بسمته‪ .‬أعترف أن أنفاسي انقطعت للحظة بعدما‬
‫أحسست أن الزمن قد تباطأ‪ .‬سماع عبارة كهذه ممزوجة بالتفكير في سبق صحفي‪ ...‬واااو !!‪ ،‬إنها أشبه بالرعشة‬
‫صحفي‪ .‬ممتعة‪ ،‬مربكة‪ُّ ،‬‬
‫تهز البدن و الوجدان بعنف يقفز نحو استرخاء لذيذ يتبعه إحساس‬ ‫الجنسية داخل كيان ال ّ‬
‫غامر بالرضى و السعادة ثم تجدد في الطاقة التي يتم اختزانها للصباح التالي الحامل لمغامرة ما !‪.‬‬

‫_ أتسمي هذه معلومة حصرية و أنت تعلم أن هذا البلد يسير و يتنفس باإلشاعات ؟‪.‬‬

‫صغير‪ ،‬ألم يعلّموك في الصحافة أن أعظم القصص اإلخبارية هي تلك التي تبدأ كإشاعة‬
‫_ وشاكي أيها الغر ال ّ‬
‫تنتقل همسا بين ال ّ‬
‫شِّفاه ؟‪.‬‬

‫صمت الثعبان ناظرا إلي‪ ،‬ثم اكتفى بغمزة على طرف الوجه كشيطان يحمل حقيقة باطنها مؤامرة ما‪ .‬لم أرتح‬
‫له‪ ،‬لكني صحفي في كل األحوال !‪ .‬ما طعم و ما قيمة هذه المهنة من دون مغامرات و مخاطر ؟‪.‬‬

‫_ ماذا تريد في المقابل ؟‪.‬‬

‫كلص ثمل يريد أن يُشعر نفسه أنه سيد العالم‪.‬‬


‫ّ‬ ‫عاد أدراجه مبتعدا و هو ينساب على كرسيه كثعبان حقيقي‪ ،‬أو‬
‫رفع رأسه عاليا و هو يتنهد‪ ،‬ثم راح ينظر إلى أظافر يمناه تارة و ينظر إلي تارة أخرى‪...‬‬

‫_ حسن يا وشاكي‪ .‬أنت من بين الصحفيين و اإلعالميين النادرين في هذا البلد الذين لهم موهبة خاصة مع‬
‫الكلمات‪ .‬معظمنا يستخدمها ككلمات‪ ،‬لكنك تستخدمها كالرصاص الحي‪ .‬أنتَ بارع جدا في إصابة الضمائر بما‬
‫تكتب‪ .‬أعترف أنك بارع في ابتكار المصطلحات و المفاهيم التي ته ّز بها المجتمع هزا‪ .‬ال أدري ما هو ّ‬
‫سرك‪،‬‬
‫خاصة عندما أفكر في أنك صغير السن و لم يمض على دخولك عالم هذه المهنة سوى ثالثة أو أربعة أعوام ؟‪....‬‬
‫أعني‪ :‬كيف تفعل ذلك يا رجل ؟‪ .‬أنت تأتي بكل تلك األشياء التي تكتبها في عمودك و كأنها كتاكيت صغيرة‬
‫تجمعها من سالل بيض تقوم بتفقيصها في مكان ما و بطرق ال يعلمها أحد ؟‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫لم أشعر باالرتياح‪ .‬لم أقل شيئا حتى‪ ،‬فقد كنت أراقب إيماءات وجهه فقط بعدما طغت عليها لمسة داكنة من‬
‫مالمح اللصوصية الواضحة‪ .‬لكنه تفطن إلى كوني بدأتُ أفكر مسبقا في االنقضاض عليه فراح يستفز مترقبا‪...‬‬

‫_ أمين‪ ،‬هل أنت جاد أم ماذا ؟‪ .‬مصطلح أو مفهوم واحد‪ ،‬تعطينيه لعلي أحقق به شيئا ضئيال من قوتك في‬
‫الكتابة‪ ،‬مقابل معلومة قد تقودك إلى أهم سبق في الحياة المهنية التعيسة التي تعيشها‪ .‬أنتَ ت ُحب االحتراق و التدمير‬
‫الذاتي من أجل معاركك الوجودية التافهة‪ .‬أشعر بذلك الغيض الدفين الذي يجعلك تتأوه مقاالتك المليئة باأللم و‬
‫الغضب من وضع هذا الشعب المقرف‪ ،‬أفال تبدو لك هذه فرصة العمر ؟‪ .‬امنحني شيئا من مجدك الدّنيوي و خذ‬
‫الشهادة التي تبحث عنها !!‪.‬‬

‫_ َلم تعتقد أن هذه القصة قد توصلني إلى ما وصفته بالشهادة ؟‪.‬‬

‫يورطك في مشاكل كثيرة ؟‪ .‬لقد أخبرتك يا‬


‫_ أال يبدو لك جليا أنها قصة ثقيلة جدا و فيها من المخاطرة ما قد ّ‬
‫رجل‪ ،‬حتى الـ ‪ DRS‬يتابع هذه القضية ليل نهار‪ .‬األمور ال تزال ضبابية حقا ألنها ال تزال في بداياتها‪ .‬ستكون‬
‫في طليعة األحداث يا رجل و أنت تعلم ما يعنيه ذلك في معيار تصنيف الصحفيين !‪.‬‬

‫_ هذه سخافة‪ .....‬كيف ؟‪.‬‬

‫_ لقد أخبرتك الكثير‪ ،‬ربما فوق اللزوم‪ ...‬أتريد الحصول على هذه الفرصة أم ال ؟‪.‬‬

‫تنهدتُ و وافقتُ أخيرا‪ .‬فحمل المحتال دفتر مالحظاته و قلمه بعدما طلب من النادل قطعة من الحلوى المزينة‬
‫بالشوكوال و قطع الفراولة‪ .‬رفضتُ مرة أخرى عرضه علي بتناول شيء ما‪ .‬كنتُ أتألم و أنا أود التضحية بإحدى‬
‫الطلقات التي كنتُ قد أعددتها سالفا من أجل استخدامها في مالحقة الدابة الهائجة التي أسعى خلفها منذ زمن‪ .‬راح‬
‫الثعبان يسجل ما كنتُ أتفوه به‪ ،‬و هو ما أطلقتُ عليه اصطالحا '' الثقب األسود الجيلي " الذي استلهمته من مأساة‬
‫صوفيا و أحاديثها التي ال تكاد تنتهي عن علوم الفضاء‪ .‬و قد وضعتُ تلك العبارة معبِّّرا من خاللها عن فكرة‬
‫جوهرية لخصتها في عبارة سابقة و هي " المجال االنفعازماني بين األجيال "‪ .‬كنتُ أفكر بتمعن في ظاهرة كنتُ‬
‫ْ‬
‫التقطت فيها مسامعي حديث أمي مع‬ ‫ال أزال أعيش تجاذباتها إلى ذلك اليوم في حياتي الخاصة‪ ،‬منذ اللحظة التي‬
‫والدة خاطب شقيقتي ذاك اليوم قبل نحو شهرين‪ ،‬حين كانت والدة الخاطب تدعو للخطيبين بالتوفيق و السداد مهما‬
‫تكن العقبات في طريقهما‪ ،‬فإذا بوالدتي تردّ عليها بعبارة لم تمر مرور الكرام على ذهني‪ " :‬المهم يعيشوا لنا‪." ...‬‬

‫تساءلتُ مع نفسي مذ ذاك اليوم‪َ :‬لم لم تقل أمي كالما من قبيل‪ ....‬المهم يعيشوا لبعضهم‪ ،‬أو المهم يعيشوا‬
‫ألوالدهم‪ ...‬مثال ؟‪ .‬فكرتُ في أن هناك مشكلة " أحالم " و " انفعاالت عالقة " في المجتمع الجزائري‪ ،‬نظرا‬
‫مر بها من ذ االحتالل الفرنسي الذي قام بتدمير ممنهج للنظام االجتماعي التقليدي الذي كان‬
‫لألزمات المتتالية التي ّ‬
‫ينظم حياة الناس و يسير الطاقات االقتصادية و االنفعالية فيه‪ ،‬بحيث خلف ذلك فراغا أدى إلى تكدس الصراعات و‬
‫االحتقانات العاطفية و العقد التي لم تجد لها – في الغالب – منافذ و سبال يستسيغها وعي المجتمع‪ ،‬فاالحتالل أقام‬
‫بنية شاذة بعدما مأل تلك الفراغات التي تركها النظام القديم‪ ،‬باستبدالها ببناه االجتماعية ذات النظام القيمي و أسلوب‬

‫‪170‬‬
‫الحياة المختلف‪ ،‬مما خلف هذا التشوه المزمن في الحس أو اإلدراك االجتماعي و المدني للجزائري‪ .‬ال نزال نلحظ‬
‫ذلك إلى أيامنا هذه في مظاهر كثيرة على شاكلة أريفة المدن و االبتعاد عن حل المشاكل عن طريق المؤسسات‬
‫سط األمر لذاك األحمق الذي كان يسجل‬
‫صة في ذلك كالمحاكم و مراكز الشرطة‪ ...‬كان علي أن أب ِّ ّ‬
‫التعويضية المخت َّ‬
‫ما كنت أقوله دون أن ينسى مد يده إلى الشوكة بجنبه ليقضم بها أجزاء من قطعة الكعك على يمينه‪ .‬أما أنا فقد كنت‬
‫أبتعد عن الحديث عن عالقة هذا الموضوع بحياتي الخاصة و كيف اكتشفته‪...‬‬

‫توقف الثعبان للحظة و هو و هو يحك صدغه بالقلم‪...‬‬

‫_ هذا ممتع يا وشاكي !‪ ،‬لكن هال ل ّخصتَ هذا األمر لي في معادلة واحدة فقط ؟‪ .‬يمكنني أن أتوسع فيه الحقا‪.‬‬

‫_ نظام اجتماعي تقليدي متص ِّدّع منذ أكثر من قرن ‪ +‬نظام استعماري مستبد = انفعاالت معلّقة و مشحونة‬
‫سببها العنف و القهر و االضطرابات‪ ،‬التي تتبع كل ذلك و التي ال تجد لها منافذ آنية و مقنِّعة‪ ،‬بل تتكدس و تبدأ في‬
‫الترسب بين األجيال المتتابعة بطرق انحصارية و شاذة‪ .‬أو لنقل أنها حين تبلغ نقطة الفيضان تبدأ في التداخل مع‬
‫المجال العاطفي لكل جيل فتي و هنا تبدأ الضغوط و األلم‪.‬‬

‫_ ما عالقة كل هذا بالثقب األسود ؟‪ .‬آه‪ ...‬تبا لك يا وشاكي !‪ ،‬هذه العبارة حقا تذكرني بنوع آخر من الثقوب‬
‫لو تعلم‪..‬‬

‫_ ال تنطلق مجددا في هوسك اإلباحي اللعين ذاك‪ .‬دعك مركزا على حديثنا‪ .‬حين أنصرف‪ ،‬فكر بما يحلو لك‪.‬‬

‫قاطعته و هو ينظر مرة أخرى إلى تلك المراهقة التي وصل بها األمر أخيرا إلى مبادلته نظرات الغواية و‬
‫الدعوة إليها بشكل واضح صريح‪ .‬لكنه عاد و كأنه يريد اإلسراع في إتمام المقايضة‪...‬‬

‫_ حسن… حسن يا وشاكي‪ ...‬المهم‪ ...‬بسّط لي اآلن‪ ،‬ما عالقة المشكلة التي تحدثتَ عنها بعبارة الثقب األسود‬
‫الجيلي ؟‪ ،‬كيف يعمل هذا الشيء ؟‪ ،‬أقصد هذا المفهوم ؟‪.‬‬

‫_ بكل بساطة‪ّ ،‬‬


‫فإن تلك االنفعاالت العالقة التي تتشكل في مجملها من رغبات و أحالم متعثرة كان جيل سابق‬
‫قد أخفق في عيشها‪ ،‬تبدأ في التكدّس فوق األحالم المتعثرة للجيل التالي ثم الذي يليه‪ .‬هكذا تبدأ في تشكيل قوة جذب‬
‫مركزية هائلة تشبه الهوس بالفرص التي تحصل عليها األجيال األكثر صغرا أو ربما حتى تلك التي لم تولد بعد‪،‬‬
‫لتبدأ في زيادة قوة امتصاصها لتلك األحالم الجديدة و األفاق الواعدة نحو الخلف و ليس إلى األمام‪ .‬نحو الماضي‬
‫إن هذا المفهوم يل ِّ ّخص مشكلة العالقات االنفعالية المتداخلة بين األجيال في هذا المجتمع‪ .‬قل لي‪ :‬ألم‬
‫بدل المستقبل‪َّ .‬‬
‫تشعر يوما ما بأن أحد والديك أو كليهما‪ ،‬أو أحد أفراد أسرتك الكبار‪ ،‬يحاول دفعك بطرق مباشرة أو غير مباشرة‬
‫إلى تبني خيارات أساسية معينة في حياتك‪ ،‬ليس لكونه يرى أنها األكثر مالءمة لك‪ ،‬بقدر ما يشعر في مكان ما من‬
‫نفسه أنه يودّ أن يعيشها في مكانك‪ .....‬عن طريق رؤيتك أنت تعيشها في مكانه ؟‪.‬‬

‫لم يقل الثعبان شيئا‪ .‬زاغت مقلتاه ملتفة عبر أرجاء المكان و كأنها عيني حرباء‪ ،‬قبل أن تستقرا على وجهي و‬
‫هما تطلقان نظرات إما غبية أو متغابية‪...‬‬
‫‪171‬‬
‫ُ‬
‫يحدث في أي‬ ‫_ ال يا وشاكي‪ ...‬لم أشعر بذلك أبدا‪ .‬ثم أال ترى أن هذا البراز الذي رميته اآلن على الطاولة قد‬
‫بلد أو مجتمع آخر ؟‪.‬‬

‫_ عليك أن تراقب مجتمعك عن كثب يا هذا‪ .‬إنها مشكلة حقيقية و إن كانت غير مرئية بشكل واضح‪ .‬سترى‬
‫أن كل جيل يفوته الكثير مما رغب في عيشه أيام شبابه و في غمرة سن عطائه و لم يستطع ذلك لظروف تاريخية‬
‫معينة‪ ،‬يتجه إلى طريقين‪ :‬إما أن يحاول التأثير على خيارات و قناعات الجيل التالي ليدفع به كي يعيش الحلم‬
‫تجرع ما يكفي من خيبات‬
‫السابق‪ ،‬ظانا أنه بذلك يصنع معروفا في الجيل الفتي كونه – أي الجيل األكبر – قد َّ‬
‫الحياة‪ ،‬و ال يريد للنشأ أن يمر بنفس التجارب‪ .‬و إما أنه يتخذ الطريقة الثانية و هي األكثر وقاحة و مجاجة‪:‬‬
‫مزاحمة الجيل الشاب عنوة في أحالمه و طموحاته‪ ،‬بل و األبشع من ذلك‪ ،‬محاولة السطو عليها و أخذها منه‪ .‬و‬
‫في كلتي الحالتين فإن هذه الظاهرة تنتج عنها اختالالت في تحقيق أحالم األجيال المتتابعة‪ ،‬مما ينتج عنها خلل في‬
‫سير الطاقة االنفعالية للمجتمع و من ثم خلل في حركة تاريخ و نمو المجتمع ككل‪ .‬تكدّس شديد لالنفعاالت المعلّقة‬
‫التي تشكل في النهاية هذا الثقب األسود الهائج‪ ،‬الذي يمتص طاقات األفراد لصالح األكبر سنا و يشتّْتها في سعيها‬
‫إلى تحقيق أحالمها المشروعة‪ ،‬فينتهي األمر بكل جيل إلى عيش نصف أو ربع ما كان يُفترض به عيشه في‬
‫الحاالت الطبيعية‪ ،‬كون طاقته االنفعالية و الفكرية قد تم امتصاصها واستنزافها بسبب الظروف التي تسبب فيها‬
‫الجيل األكبر سنا بطريقة أو بأخرى‪ .‬هكذا تحترق األجيال كالورق تماما و تستحيل إلى مجرد كتل من الرماد‬
‫البارد و هي على مشارف منتصف عمرها أو أقل‪ .‬في هذه المنظومة‪ ،‬كلما كنتَ نابغة أو عبقري أو مميز‪ ،‬كنتَ‬
‫األسرع احتراقا مقارنة باألقل نبوغا أو تميزا‪.‬‬

‫لم ينبس ببنت شفة‪ ،‬بل غاص بنظره في الفراغ‪ ،‬قبل أن يعود لتدوين الفكرة األخيرة‪ ،‬حتى أن انزالق قلمه‬
‫على ورق الدفتر كان في الحقيقة انزالق سكين على قلبي‪ .‬تلك المالحظة كان يمكن أن ّ‬
‫أولد منها عشرات المقاالت‬
‫التي كانت ربما ستتناسل منها مئات المفاهيم و المصطلحات الجديدة‪ .‬لكن‪ ،‬كان علي أن أق ِّدّم تنازال مؤلما مقابل ما‬
‫أودّ الحصول عليه من ذاك الوغد‪ ،‬الذي رمقني بنظرة ساخرة و هو يضحك‪...‬‬

‫_ لهذا يقولون أن مرحلة الشباب في هذا البلد تبدأ من ّ‬


‫سن الستين هه !‪.‬‬

‫_ ممتاز‪ .‬أنتَ تعرف النكتة إذن ؟‪ .‬نحن نعيش ألحالم الماضي المتعثرة يا عيّاش وليس ألحالم اليوم و‬
‫الغد ‪....‬المهم انعيشو لهم! ‪ .‬إنها الضريبة الجيلية الجائرة‪.‬‬

‫نطقت العبارة األخيرة و أنا أتن ّهد مع نفسي متذكرا كيف ال يزال أبي يحاول جعلي أسير في ما يراه صالحا لي‬
‫في ميدان الكتابة و التأليف‪ ،‬و الذي ال يعد سوى طريقة أو محاولة أخرى منه لخدمة ما فشل فيه هو و جيله من‬
‫المهوسين بالقومية العربية و الموجوعين بإخفاقاتها و نكباتها‪ .‬ثم ال أدري كم من مرة وجدتُ نفسي على وشك‬
‫االنفجار في وجهه و هو في قمة غيضه و صراخه‪ ،‬حين كان يحاول إقناعي بصحة رأيه في مسائل مختلفة يود‬
‫مني أن أشاطره الرأي فيها بكل قوة و أساندها من خالل ما أكتب‪ ،‬لكني كنتُ فقط أبتلع ريقي و أصمت عاجزا عن‬
‫فعل شيء‪ ،‬حتى النظر في عينيه و هما تطلقان تلك النظرات الحادة كالصواعق‪ ،‬كان أمرا عسيرا للغاية‪ .‬بال ريب‪،‬‬

‫‪172‬‬
‫كان ذلك الخوف الذي زرعه في أحشائنا منذ الطفولة‪ .‬في النهاية و يوم صغت هذا المفهوم مع رأسي وصلتُ إلى‬
‫عبارة مجازية واحدة عبّرت بها عما كان يختلج في صدري‪ " :‬الغصات العاطفية المخنوقة لجيلكم يا أبي‪ ،‬كانت‬
‫وباال على حياتنا إذن ! "‪ .‬ليتني أستطيع أن أسمعها إياه ذات يوم‪.‬‬

‫كنتُ أستحضر ذلك مع نفسي دون اإلفصاح عنه أمام الحنش‪ ،‬الذي كان يس ّجل ما أطنبتُ عليه به و هو يبتسم‬
‫متمتما مع نفسه و كأنه مشعوذ غارق في تحضير إحدى تعاويذه الشريرة‪...‬‬

‫…‪_ Oh que oui !, j’aime bien !..., ça c’est de l’écriture‬‬

‫_ هل انتهينا من هذا ؟‪ ....‬اآلن يا عياش‪ ....‬هات ما عندك و دعني أنصرف فلدي مشاغل و مواعيد أخرى !‪.‬‬

‫وضع قلمه جانبا و هو يتنهد‪ .‬رفع رأسه ناظرا إلي‪ ،‬ثم مد يده إلى الشوكة حامال طبق القطعة التي كان يأكلها‬
‫باليد األخرى‪ ،‬فراح يكمل تقطيع و أكل ما بقي منها و هو يمضغ بشكل غريب متسارع كما تمضغ األرانب‬
‫طعامها‪ ،‬ناظرا إلي مبتسما بتحدّ‪ .‬أدركتُ أنه كان يلعب على أعصابي بإصداره تلك األصوات المزعجة من فمه‬
‫مؤكدا لي أنه من نوع البشر الذين يجب جلدهم باألسالك الشائكة‪ ،‬ال لشيء سوى لفخرهم الشديد بوضاعتهم و‬
‫وقاحتهم في عالقتهم مع اآلخرين‪ .‬لكني لم أحرك ساكنا‪ ،‬إال حين نظرتُ إلى ساعتي متنهدا‪ .‬ربما كان ذلك هو‬
‫السبيل األقرب للقول‪ :‬أرجوك‪ ...‬من فضلك !‪ .‬حينها فقط تنحنح و هو يخرج من جيبه ورقة مطوية قام بفتحها‪،‬‬
‫ليتبين أنها كانت تحوي صورة فوتوغرافية في طياتها‪ .‬وضع الورقة و الصورة فوق الطاولة ثم دفعها نحوي‪.‬‬
‫حملتُ الصورة أوال‪ .‬كانت لرجل كهل نحيف الوجه‪ ،‬بدى لي في العقد الخامس من العمر‪ ،‬غزى الشيب صدغيه‬
‫في حين تشابك مع بقية فروة رأسه التي استحالت رمادية اللون‪ .‬كانت بشرته مائلة إلى السمرة آخذة لون ال َّ‬
‫شعير‪.‬‬
‫جبهة عريضة‪ .‬ذقن حاد بعض الشيء‪ .‬أنف معقوف قليال‪ .‬تجاعيد واضحة على الخدين و العنق‪ .‬عينين حادتين‬
‫متمترستين خلف نظارة طبِّّية لها خيط تعليق و زجاج غليظ نوعا ما يظللهما حاجبين أسودين غليظين‪ .‬كان الرجل‬
‫الكهل مائال برأسه نحو األسفل‪ ،‬فاتحا فمه قليال‪ْ .‬‬
‫بدت خزرته و كأنها ضائعة في الفراغ و هو يقف أو يسير أمام‬
‫جدار من اآلجر األحمر كان منتصبا خلفه‪.‬‬

‫شعرتُ أن من التقط له الصورة كان قد باغته بذلك و لم يُعلمه بنية تصويره أصال‪ ،‬كون إطارها كان مائال‬
‫المصور كان يتحرك و هو يحمل آلة تصويره في ارتفاع منخفض بعض الشيء‪ .‬أو أنه كان‬
‫ّ ِّ‬ ‫بعض الشيء و كأن‬
‫يتظاهر بأنه يُجهزها أو يقوم ببرمجة إحداثياتها‪ .‬الصورة كانت رقمية بشكل جلي‪ .‬لكن السؤال الذي تراقص أمام‬
‫فكري الحائر تلك اللحظة هو‪ :‬من يكون هذا الشخص ؟‪ .‬نظرتُ مباشرة إلى الحنش و أنا ‪H‬رمي إليه بإيماءات‬
‫االستفهام‪ ،‬لينطق من فوره وهو يقوم بإشعال سيجارة‪....‬‬

‫قال بأن اسمه آفاو عميروش‪ 21 ،‬عاما‪ ،‬صانع فخار‪ .‬ابن آفاو إيدير‪ ،‬مجاهد سابق من الوالية التاريخية‬
‫مررت حرفتها إلى ابنها الوحيد‬
‫الثالثة‪ ،‬و واعلي تاملسة‪ ،‬صانعة فخار هي األخرى‪ .‬بحسب الحنش هي التي َّ‬
‫حاليا‪ ،‬و هو يعيش مع والديه في قرية منسية تدعى " تيميزر "‪ .‬مكان نائي ال يكاد يُعرف له طريق و ال يظهر‬
‫حتى في الخرائط‪ ،‬يقع على الشط الشمالي لسالسل جرجرة في إقليم والية تيزي وزو‪ .‬يلقبون هذا الرجل في تلك‬

‫‪173‬‬
‫المنطقة بـ" أغاكال "‪ .‬كلمة بربرية مركبة من كلمتين في األصل‪ :‬أڨ أي ابن‪ ،‬و أكال أي الطين‪ .‬بحسب‬
‫المعلومات التي استقاها الحنش من مصدره الضليع في الـ ‪ ،DRS‬و من مصادر مختلفة فإن هذا الشخص الغامض‬
‫و الغريب األطوار قد يكون على رأس تيار سياسي سري‪ ،‬بدأ يتش ّكل و ينشط فعليا في أعقاب ثورة ‪ 25‬يناير‬
‫المصرية‪ ،‬بهدف نشر فكرة القيام بربيع على شاكلة الربيع البربري بأساليب جديدة‪ ،‬تماما كما فعل المصريون في‬
‫ثورتهم‪ ،‬و األخطر من ذلك أن هذا الربيع سيأخذ بعدا وطنيا هذه المرة بدال من أن يبقى محصورا في منطقة‬
‫القبايل‪ .‬الهدف‪ :‬قلب نظام الحكم و االعتراف التام و النهائي بكل الحقوق السياسية و الثقافية للحركة األمازيغية‪.‬‬
‫مصدر الحنش يقول بأن التوقعات من داخل أجهزة المخابرات تتوقع ّ‬
‫بأن األمر إن حدث بطريقة سريعة و غير‬
‫محسوبة فإن في ذلك لعبة خطيرة جدا‪ ،‬قد تؤدي بنا هذه المرة إلى حرب أهلية " صريحة " تكون أعنف من‬
‫المأساة التي شهدناها في التسعينات !‪.‬‬

‫أعترف أن كالمه ذو النبرة الجادة و الريتم الموزون و الثابت كان مثيرا لالهتمام‪ .‬لكني رغم ذلك كنتُ أشعر‬
‫ُ‬
‫باإلثارة و هي تسري في عروقي كالكهرباء‪ .‬كنتُ أحاول كبح ذلك الكم الهائل من األسئلة التي كانت تعبث بعقلي و‬
‫صبري‪...‬‬

‫_ المهم يا عيَّاش‪ ...‬تبدو معلومة في غاية الثقل‪ ،‬لكن أال تعتقد أن األمر فيه شيء من النفخ و المبالغة ؟‪.‬‬

‫_ قلتُ نفس الشيء في بادئ األمر‪ ،‬ثم بدأت أفكر‪ ...‬أحداث منطقة القبايل األخيرة‪ ،‬أحداث غرداية‪ ،‬زيادة‬
‫الحس القومي للطوارڨ في الصحراء بعد عملية ‪ ،Serval‬الحرب في ليبيا‪ ....‬ف ّكر مع نفسك قليال‪...‬‬

‫_ و هل تقول لي أن كل ذلك من تدبير هذا الجبلي المسكين ؟‪.‬‬

‫ألوح بصورة صانع الفخار في يدي‪ .‬لكن الحنش الروجي ظل ثابتا و جادا‪...‬‬
‫قلت متهكما و أنا ّ ِّ‬

‫_ ال يخدعنَّك مظهره الساذج هذا‪ .‬يقولون أنه فيلسوف حقيقي ؟‪ .‬رجل موسوعي له دراية واسعة بالتاريخ و‬
‫الثقافة و السياسة‪ ،‬ثم ّ‬
‫إن البعض في مصالح األمن يفترضون أنه قد يكون واجهة ألطراف دولية تحاول تسييره و‬
‫التّحكم به عن بُعد‪ ،‬كونه يحظى بسمعة هائلة في كل منطقة القبايل و حتى خارجها‪ ،‬فهو يربط صالت وثيقة مع‬
‫ناشطين من أجل القضية البربرية في األوراس و الميزاب و إليزي‪ ،‬بل إن له صالت صداقة و مكانة من االحترام‬
‫لدى بعض الناشطين المغاربة في منطقة الريف‪.....‬‬

‫ركز نظرة الشك التي تطايرت منها عالمات االستفهام علي و هو يحمل حاجبا فوق آخر ضاغطا على كلمة "‬
‫مغاربة " قبل أن يُكمل‪...‬‬

‫_ إن كانت له كل هذه المكانة‪ ،‬فكيف لم نسمع به من قبل في وسائل اإلعالم مثال ؟‪.‬‬

‫_ أه‪ ...‬هذه مشكلته في الحقيقة‪ .‬إنه شخص غريب و متوحد كثيرا و ال يحب الزوار و الغرباء و ال يأبه لشيء‬
‫اسمه األضواء‪ .‬الكثير من الصحفيين و المراسلين حاولوا على مدار سنوات التقرب منه‪ ،‬للظفر بلقاء صحفي أو‬
‫ربورتاج يسلط الضوء على ما يسمونه عبثا " تحفا فخارية " يصنعها بتفان و إتقان لكن‪ ....‬بال فائدة‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫التزمتُ الصمت للحظة و أنا أنظر إلى تقاسيم وجهه الجاد و هو يدخن سيجارته‪ .‬ثم حملتُ تلك الورقة و‬
‫رحتُ أقرأ عليها عبارات و جمل و أرقام‪ ،‬لم تدع لي مجاال إال الفتراض أنها أسماء لجماعات ناشطة على شبكات‬
‫التواصل االجتماعية‪ ،‬فجاءني صوت الثعبان متنهدا‪...‬‬

‫_ ما تراه اآلن أمامك هو أحد ألغاز هذه القضية‪ .‬أنا نفسي وقفتُ طويال أمامه دون أن أتمكن من فك شفرته‪.‬‬

‫_ كيف ذلك ؟‪.‬‬

‫تنهد الحنش و كأنه يتألم بسبب عجزه عن حل اللغز‪ ،‬قبل أن يخبرني أنها كانت مجرد حسابات على‬
‫اليوتيوب‪ .‬هواة يهتمون بترجمة الكثير من األغاني البربرية و بعض األغاني الجزائرية إلى لغات أخرى‪ ،‬و في‬
‫مقدمتها اللغة العربية‪ ،‬الفرنسية‪ ،‬اإلنجليزية‪ ،‬اإلسبانية‪ ،‬الروسية‪ .....‬و حتى اليابانية و الصينية‪ .‬في مقابل ترجمة‬
‫بعض األغاني األجنبية إلى البربرية ؟ !‪ .‬قال بأنه لم يفهم سر كل هذا‪ ،‬لكن األمر يبدو و كأنهم يتعاملون مع‬
‫أشخاص أجانب أيضا‪ .‬عملية تمويه أخرى على ما يبدو ؟‪ ،‬عملية تمويه ربما ؟‪ .‬قال الحنش أن هؤالء الناشطين‬
‫الجزائريين فمرتبطون بعضهم ببعض ببرنامج عمل أو خطة أو ما شابه‪ ،‬يتلخص في صفحة واحدة يتيمة على‬
‫الفيسبوك تحمل اسما مختصرا و هو‪ .TTS ....‬البعض خ َّمن أنها اختصار لثالث كلمات قد تحمل في طياتها كل‬
‫شيء فيما يخص نوايا هؤالء األشخاص‪ ." Tendance Transformation Sociale " :‬الشيء المؤكد هو أنهم‬
‫جميعا من فئة الشباب و أن هنالك رابطا يجمعهم مع ذاك الرجل الغريب‪ ،‬يتل ّخص في رمز واحد‪ :‬فصيلة محددة‬
‫من الفراشات يتخذونها شعارا لهم‪ .‬أما أجهزة األمن فلم تتمكن من اعتقالهم حتى اآلن‪ ،‬كونهم يستخدمون منهج و‬
‫أساليب جماعات ‪ Anonymous‬العالمية في التهرب من الرقابة و المالحقة الرقمية‪ .‬الدارك ويب‪.‬‬

‫_ هاكرز ؟‪ ،‬هذا مثير‪ .‬حسن‪َ ....‬لم لم يعتقلوا آفاو هذا إذن ؟‪.‬‬

‫_ ال دالئل دامغة عليه حتى اآلن فهو ال يستخدم االنترنت إطالقا‪ ،‬بل ال يعرف كيف يستخدمه حتى ؟‪.‬‬

‫_ ماذا عنك‪.....‬هل قابلت هذا الرجل شخصيا ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ .‬لكنه صدني بعنف و تعنّت‪ .‬لم أستطع أن أحظى منه و لو بخمس دقائق‪ .‬لذلك عاودتُ المحاولة بعد‬
‫نحو شهر باستخدام إحدى الساذجات ممن أوقعتهن في حبي‪ .‬لكن بال فائدة‪.‬‬

‫_ أيمكنك تزويدي بمعلومات عن هذه الفتاة ؟‪ ،‬أريد الحديث مها إن أمكن‪.‬‬

‫َي لقد أعطيتكَ كل ما تحتاج يا فتى‪ .‬ال أتحدث عن هوية مصادري‪ .‬دبّر راسك درك‪ .‬روح هللا‬
‫_ مستحيل !‪ .‬ه ْ‬
‫يسهل عليك‪ .‬لن أخبرك المزيد و عليك أن تجتهد اآلن كي تصل إلى تلك القرية النائية الملعونة‪ .‬أنت رجل بالغ و‬
‫ملقّح ضد داء الحصبة‪ .‬اآلن‪ ...‬أششش‪ ....‬أششش‪ ...‬اذهب‪ ..‬اذهب و حاول أن تُنجز شيئا مميزا في مسارك‬
‫المهني‪ ،‬لعلّك تصبح عبد الباري عطوان أو سعد بوعقبة أو ‪ Edwy Plenel‬التالي !‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫خف‬
‫كان أساي على الطلقة التي منحتها إلى الحنش الروجي من أجل الحصول على هذا السبق المذهل قد َّ‬
‫كثيرا‪ ،‬نظرا ألهمية ما حصلتُ عليه‪ ،‬إلى أن اختفى تماما حين تذكرتُ أن ذاك المغفل كان يشتغل في كل األحوال‬
‫صة تملكها ابنة وزير سابق‪ ،‬تقوم على المشاركة في‬
‫جرد شركة فساد خا َّ‬
‫لدى صحيفة ال يكاد أحد يسمع باسمها‪ .‬م َّ‬
‫النهب المنظم للمال العام عن طريق صفقات اإلشهار العام التي تجود بها الدولة عليها‪ ،‬مقابل أن تعمل كمؤسسة‬
‫مرتزقة إعالميا‪ ،‬تز ِّّمر و ت طبل للنظام ليل نهار و تنال من خصومه بكل الطرق الدنيئة البعيدة عن أطر األخالق و‬
‫الموضوعية‪ .‬لكن في النهاية‪ ،‬ما كان بوسع الحنش الروجي أن يفعل بطلقتي تلك و جريدته الصفراء ال يقرأها‬
‫أحد‪ ،‬إذ تنتهي معظم نسخها في أسواق الخضر و الفاكهة أو محال بيع السمك ؟‪.‬‬

‫شيئ من نشوة االنتصار اعتراني و أنا أنصرف عنه‪ ،‬تاركا إياه يزحف نحو تلك األرنبة التي كانت تستعد‬
‫لستليم نفسها إليه بلذة و طوع‪ .‬لكن بالنسبة لي ف ذلك البياض الذي سيطر على فكري منذ مدة متزاوجا مع صمت‬
‫األفكار المزعج كان يتداعى مفسحا المكان لعتمة شهية مختلطة بألوان و أصوات مختلفة‪ ،‬كانت تتمازج بضجيج‬
‫جعل قلق السؤال ينبعث من رماده مجددا و هو يذكي في نار الحماس النهائي لمحاولة البحث عن الحقيقة‪ ....‬هناك‪،‬‬
‫حيث ال يرغب أحد في البحث عنها !‪.‬‬

‫**********‬

‫ثالث ساعات قضيتها أمام حاسوبي نهاية ذاك اليوم في مقر الجيدة‪ ،‬أبحث تاريخ منطقة القبايل و مشكلتها‬
‫السياسية الثقافية‪ ،‬و أنا ال أكف عن تسجيل كل المالحظات الممكنة‪ ،‬من تواريخ و أحداث و أسماء شخصيات‬
‫طبعت الحياة السياسية و الثقافية البربرية في المنطقة‪ .‬ظهور التيار الثقافي و القومي البربري أواسط ثالثينات‬
‫القرن الماضي على يد الكثير من المناضلين القبايل في صفوف حزب الشعب الجزائري‪ .‬األزمة البربرية داخل‬
‫حزب الشعب ‪ .1040‬حرب عام ‪ 1063‬بين جيش الوالية الثالثة ‪ -‬القبايل و قوات بن بلة و بومدين و ظهور‬
‫جبهة القوى االشتراكية بقيادة حسين أيت أحمد‪ .‬الربيع البربري ‪ .1029‬إضراب المحفظة ‪ .1004‬اغتيال‬
‫معتوب الوناس ‪ .1002‬الربيع البربري األسود ‪ .2991‬أرضية القصر وظهور حركة الـ ‪ MAK‬جوان ‪.2991‬‬
‫مسيرة العروش المليونية في العاصمة ‪14‬جوان ‪ .....2991‬فعال‪ ،‬منطقة بركانية بامتياز‪ ،‬اجتماعيا‪ ،‬سياسيا و‬
‫ثقافيا !‪.‬‬

‫تفقدت حسابات اليوتيوب المتخصصة في ترجمة األغاني البربرية و بعض األغاني الجزائرية إلى لغات‬
‫أجنبية‪ ،‬و العكس‪ ...‬بدى الحنش الروجي محقا‪ .‬تلك الحسابات تعمل بشكل متناسق و منظم جدا‪ .‬صفحة ‪ TTS‬على‬
‫الفيسبوك كانت تبث روابط جميع األغاني المترجمة و تلقى رواجا كبيرا‪ .‬هل حقا يتعلق األمر بحركة منظمة لها‬
‫أهداف تتجاوز مجرد نشر األغاني البربرية المترجمة ؟‪ ،‬هل حقا تجهز ألمر ما ؟‪ .‬حراك ما ؟‪.‬‬

‫كنتُ أنظر إلى صورة " أغاكال " اللغز بين الحين و اآلخر‪ ،‬ثم أعود إلى البحث و المطالعة في وقت يتمدد‬
‫مع الدقائق و هو يستعين بسيجارة بعد أخرى كانت تحرقه بسرعة و تخفف من وطأته‪ .‬ثم تفطنت إلى كون الجميع‬
‫قد غادروا مقر العمل‪ ،‬بعدما حاصر الظالم نوافذ البناء من الخارج و ساد الصمت و السكون أرجاء المكاتب و‬

‫‪176‬‬
‫األروقة المضاءة بالنيون في الداخل‪ .‬كنتُ أجلس وحيدا و أنا أسمع خطوات عامل النظافة الجديد و هو يجر بتثاقل‬
‫عربته المليئة بأوراق المسودات و المقاالت غير المنقحة و بقايا أقالم الرصاص و السياالت الفارغة و كؤوس‬
‫القهوة و الشاي المستعملة و أكياس و علب الطعام الجاهز‪ ،‬عبر حواجز الخشب و األلومينيوم القصيرة التي تفصل‬
‫مكاتب قاعة التحرير بعضها عن بعض‪.‬‬

‫المواضيع الصحفية حول قرية تيميزر كانت شحيحة‪ .‬فقط بعض المقاالت التي تتحدث عن القرية كونها من‬
‫آخر القرى القبايلية التي ال تزال تحافظ بشكل شبه كامل على نمط الحياة التقليدي في المنطقة‪ .‬الصور القليلة‬
‫المتوفرة على النت تبرز قرية تقليدية تماما‪ .‬روبورتاج تلفزيوني من ستة دقائق يعود إلى خمس سنوات خلت‪،‬‬
‫يتحدث عن االحتفاالت برأس السنة البربرية في القرية‪ ،‬هو كل ما وجدتُ على شبكة اليوتيوب‪ ،‬و فوق كل ذلك‪،‬‬
‫موقع القرية ال يكاد يظهر على الصور الفضائية التي يوفرها ‪ .Google Earth‬مجرد كتلة باهتة من األبنية‬
‫المتالحمة المحاطة بالغابات من كل جهة و التي ال تظهر الطرق المؤدية إليها‪ ،‬عدى الطريق الوالئي الحادي عشر‬
‫الطويل و الملتوي‪ ،‬الذي يمر بمحاذات الكتل الجبلية التي ال تنتهي في المنطقة‪.‬‬

‫من جانب آخر‪ ،‬ال أثر لعميروش أو صناعته و أعماله التي يشتهر بها على النّت‪.‬‬

‫عدتُ و ر ّكزتُ على تاريخ ‪ 2991/96/14‬تاريخ زحف القبايل على العاصمة في ذاك اليوم المشئوم الذي‬
‫أعدتُ مشاهدة بعض أجواءه المشحونة بالغضب و العنف في ما يحتفظ به اليوتيوب من فيديوهات حوله‪ .‬كانت‬
‫المسيرة التاريخية التي كان يفترض بها أن تبدأ و تنتهي سلميا بتسليم قائمة مطالبها في رئاسة الجمهورية‪ ،‬قد بدأت‬
‫بالتربص و الشك عند المدخل الشرقي للعاصمة‪ ،‬و انتهت بالنار و الشظايا و الدخان و الموت في حي حسين داي‬
‫الشعبي و ساحة أول ماي وسط العاصمة‪ .....‬ليتصاعد بعدها المستوى التالي للحهر المضاد‪ :‬تعزز فكرة الحكم‬
‫الذاتي و حتى االنفصال عن الجمهورية في أذهان الكثير من القبايل ممن عاشوا رعب ذاك اليوم‪.‬‬

‫_ ‪ ...‬من يعلم ؟‪ .‬قد يكون تاريخ الرابع عشر جوان المقبل هو تاريخ إطالق هذا الحراك الجديد ؟‪ .‬أو هو‬
‫تاريخ الخامس و العشرين جوان القادم‪ ،‬الذي يُصادفا الذكرى ‪ 01‬الغتيال معتوب الونّاس ؟‪ ....‬يا اله !‪.‬‬

‫تمتمتُ مع نفسي متنهدا و أنا أحك جبيني بعدما أدركتُ كم هو وقتي ضيق‪ .‬قرأت في بعض المقاالت القليلة‬
‫أن أهل قرية تيميزر ينظمون احتفاال سنويا كبيرا يُدعى '' الوزيعة '' في أول يوم جمعة من الشهر السادس من كل‬
‫سنة‪ .‬ممتاز !‪ .‬ذلك ساعدني على العثور على الموضوع الصحفي الذي سأتستَّر به للقيام بمهمتي الحقيقية‪ .‬سيكون‬
‫قناعي الذي سأدخل به وسط أالئك القوم بسهولة‪ ،‬ألبحث عن عميروش ابن الطين و مراقبته و محاولة الوصول‬
‫سره بسالسة أكثر‪ .‬حملتُ قلم الرصاص و رسمتُ حيزا ثخينا حول ذلك اليوم الذي كان سيصادف تاريخ‬
‫إلى ّ‬
‫‪ 4102/11/11‬رابطا بينه و بين تاريخ ‪ 4102/11/02‬بسهم‪ ،‬الذي كان يصادف الذكرى ‪ 02‬لمسيرة العروش‬
‫المليونية في العاصمة‪ ،‬و التاريخ المفترض النطالق الحراك الجديد الذي تحضر له حركة تي تي أس في هدوء و‬
‫صمت‪ .....‬ربما ؟‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ّ‬
‫فالتفت إلى صورته‬ ‫تنهدتُ حين أحسستُ بنظرات أب صحافة االستقصاء ‪ Joseph Pulitzer‬ملتصقة بي‪،‬‬
‫الصغيرة التي أحتفظ بها بجانب الحاسوب مطلقا بسمة خفيفة إليه‪ ،‬ثم غمزته‪...‬‬

‫_ وش ''‪ '' Joe the Germam‬؟‪ ،‬راي جاية ضربة كبيرة !‪.‬‬

‫لم يقل شيئا‪ ،‬بل ظل ملتزما الصمت و الحياد دون أن يسمح لنفسه بالتسرع في أخذ موقف واضح و نهائي‪،‬‬
‫أما أنا فبالكاد نمتُ تلك الليلة عند عودتي إلى شقتي الصغيرة في حيي الشعبي الذي هدأت الحركة به في الساعات‬
‫الصباحية األولى‪ ،‬باستثناء جوالت و صوالت حنّوفة الليلية مع همهمته و كوابيسه و هواجس ماضيه و مصائبه‪.‬‬

‫أما أنا فقد كنتُ ضائعا في صحراء من األسئلة الغريبة و الكبيرة حول كل ما توصلتُ إلى اكتشافه‪ .‬لم أستطع‬
‫النوم‪ ،‬لذلك أكملت ما بقي لي من طاقة ذاك اليوم في مشاهدة بعض القنوات اإلخبارية‪ ،‬إلى أن استقر بي الحال‬
‫على إحدى القنوات التي كانت تبث بشكل مر ّكز فظائع الحرب األهلية العبثية الحاصلة في سوريا‪ .‬انتابني قلق‬
‫زحف على صدري كالظل البارد المثخن بالشكوك‪ .‬كانت الرغبة الشديدة في االنطالق في مهمتي لكشف خيوط‬
‫قضية عميروش و جماعته تلك‪ ،‬و عن هذا الربيع الجزائري الوشيك‪ .‬لم أشعر باالرتياح للفكرة و أنا أرى انتكاسة‬
‫ربيع العرب و انقالبه إلى شتاء تملؤه األسالك الشائكة المخضبة بدماء األبرياء‪ ،‬مع صعود جنون العنف المكبوت‬
‫لعقود من طرف أنظمة البوليس السياسي بسرعة خرافية تشوي حتى العظام الغضة لألجنة و هي في أحشاء‬
‫أمهاتها‪ .‬أي ربيع هذا الذي يقتل األحالم قبل أن تالمس األرض قادمة من السماوات ؟‪ .‬و هل يُدرك عميروش هذا‬
‫ُدخلون البالد فيه و إن كانت نياتهم – ربما – حسنة ؟‪.‬‬
‫و أتباعه ما قد ي ِّ‬

‫كانت مسألة أيام معدودة ألقنع فيها سي رزاق بفكرة مهمتي تلك دون أن أفصح له عن أسبابها الحقيقية و ال ما‬
‫توصلت إليه‪ .‬أضع فيها خطتي لمحاولة القيام بالسبق الصحفي المهول الذي ألقى به قلق السؤال و جهد البحث و‬
‫مفارقات األشخاص و المواقف في يدي‪ .‬كنتُ على وشك االنطالق نحو مغامرة صحفية‪ ،‬كنتُ أستشعر بغريزة‬
‫الصحفي أنها تخبّيئ لي تجربة مميزة جدا‪ .‬شيء جعل قلبي يسبق قدمي ببضع خطوات نحو تلك المنطقة الجبلية‬
‫تاركا فارق نبضة واحدة بينهما‪ ،‬بدايتها إثارة و اندفاع و نهايتها شكل من الوحي الذي لم ينكشف بعد‪ ،‬بعدما كنت‬
‫شبه متأكد من تسارع العالم و األحداث بشكل جنوني تزامنا مع تلك الرحلة المرتقبة‪ .‬حتما‪ ،‬األحداث كانت قد بدأت‬
‫في التسارع !‪.‬‬

‫كنتُ ذاهبا إلى منطقة القبايل الغريبة و الغامضة التي ُولد بها جد والدي في القرن التاسع عشر !‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫‪-15-‬‬

‫صغير تحت أنفاس الجبل‬

‫األربعاء ‪ 12‬جوان ‪ ...4102‬قبل طلوع الشمس‪....‬‬

‫نظرتُ إلى نفسي في تلك اللحظة بالذات قائال في أعماقي أنه لوال قلق السؤال‪ ،‬مفهوم السبق النهائي‪ ،‬عمود‬
‫موسطاشيات‪ ،‬نظرات ذاك المراهق القبايلي األشقر المعتقل من فوق غطاء محرك سيارتي‪ ،‬صورة فراشات‬
‫الطين في قصر الثقافة تلك األمسية‪ ،‬انهياري العصبي المفاجئ بسبب اإلخفاق في زعزعة وعي المجتمع تجاه‬
‫الخطر المحدق به‪ ،‬حديث صوفيا في المشفى و اقتباسها لعبارة أستاذها المنحرف‪ ،‬لقاء الثعبان األشقر‪ .....‬كل هذا‬
‫أوصلني إلى تلك اللحظة بالذات‪ ،‬إلى ذلك الصباح الباكر و المنعش‪ ،‬الذي كنتُ أنطلق فيه بسيارتي المبعوجة على‬
‫طول الطريق السيار شرق‪-‬غرب في طريقي إلى األخضرية متفاديا طريق بودواو من أجل الدخول إلى بالد‬
‫القبايل من هناك‪.‬‬

‫سؤال واحد قد يغيّر مصير شخص !‪ .‬فاألسئلة أيضا لها وقعها الخاص على حركة الكون و إن كان هذا الوقع‬
‫غير محسوس في الغالب‪ ،‬إال أنه فعال موجود‪ .‬نحن نرسم األكوان و العوالم و نوجّه مصائرها باألسئلة !‪ .‬و يبدو‬
‫أن السؤال الذي كان بصدد تغيير مجرى حياتي كلّه و يُعيد رسم عالمي‪ ،‬كان منذ البداية السؤال الذي ولّد مفهوم‬
‫السبق النهائي‪ :‬ما خطب هذا البلد بالضبط ؟‪ .‬سؤال أحبُّ عادة طرحه بلغة أجنبية أخرى علي أراه بمنظور مختلف‬
‫عن منظور هذه الماليين التي أعيش وسطها‪:‬‬

‫‪_ Waht the hell is wrong with this nation ?!.‬‬

‫كانت قدمي اليمنى تصارع رغبة جنونية في الضغط على دواسة السرعة أكثر‪ .‬كنتُ أتل ّهف للوصول إلى‬
‫منطقة بني يني التي تشتهر بصناعة الجبة القبايلية الشهيرة‪ ،‬أواني الفخار و الكسكسي‪ .‬إضافة إلى اشتهارها بكثرة‬
‫الجماعات اإلرهابية الناشطة عبر جبالها و غاباتها الكثيفة الوعرة‪ .‬هناك‪ ،‬في منطقة عين الحمام غير البعيدة عن‬
‫إيبودرارن موطن أغاكال قيض السؤال‪ ،‬قضى ‪ 00‬عسكريا رميا بالرصاص في كمين رهيب ليلة االنتخابات‬
‫الرئاسية األخيرة‪ .‬افترضتُ أن دمائهم كانت لم تجف بعد من على التراب و الصخور و الحشائش و أجدع أشجار‬
‫الدردار و البلوط المسنّة‪ ،‬التي كتمت صرخاتهم األخيرة‪ .‬هي الجبال التي تشتهر بجمالها و طبيعتها الخالبة‪ ،‬و‬

‫‪179‬‬
‫تشتهر بكونها مأوى آخر الصرخات المكتومة لوطن لم يبرأ بعد من داء ال َكلَب الذي أصابه بداية التسعينات‪ .‬داء لم‬
‫يُشفى منه و لم يقضي بسببه أيضا‪ .‬بشكل غريب‪ ،‬ق ِّدّر لمنطقة القبايل مرة أخرى أن تكون مسرحا ألحداث كتلك‪ ،‬و‬
‫قررت أن تجعل من جمالها علّة تألّمها أمام ضربات التاريخ المضطرب لهذه‬
‫كأن قدرها قد خط بيد إلهية غاضبة‪َّ ،‬‬
‫األمة ؟‪.‬‬

‫انتابتني رغبة شديدة في تدوين تلك األفكار التي كانت تعبر ذهني بسرعة عبور خط الطريق السيارة األبيض‬
‫المتقطع أحيانا و الممتد أحيانا أخرى على جانب األيسر للسيارة‪ ،‬لكني كنتُ أمسك المقود و لم أفكر إال في أخذ‬
‫وجبتي اليومية من األخبار كأي صحفي‪ ،‬تماما كما قيل لنا أيام الجامعة " القطط تحتاج إلى أخذ حمامها الشمسي‬
‫اليومي‪ ،‬كذلك يحتاج الصحفي ألخذ حمامه اإلخباري اليومي "‪ .‬لم يكن لي إال أمواج اإلذاعة التي كانت ت ُعيد ّ‬
‫بث‬
‫حصة سياسية‪ ،‬راح المدعوون إليها يتحدثون عن المساعي التي بُذلت من أجل الوصول إلى اتفاق وقف إطالق‬
‫النار بين األطراف المتناحرة في مالي‪.‬‬

‫مر الوقت و أبانت شمس أواخر الربيع عن بريقها الهائج أكثر فأكثر و هي ماضية ببطء و إصرار في ابتالع‬
‫َّ‬
‫تلك الجبال الشاهقة من قممها الحادة التي بدأت تلوح في األفق و تقترب مع الكيلومترات‪ .‬كنتُ أشعر بأن ارتفاعي‬
‫مع سيارتي عن سطح البحر كان يزيد أكثر فأكثر كلما اقتربت من منطقة األخضارية التابعة لوالية البويرة التي‬
‫تنحدر منها أصول عائلتي األولى‪ ،‬و كوني تخطيتُ عتبات هذه الوالية‪ ،‬فقد كنتُ رسميا في منطقة القبايل‪ .‬خاصة‬
‫بعدما تذكرت زميل قبايلي لي في العمل حين قال لي‪ '' :‬إذا كثرت حقول التين و الزيتون و مراكز المراقبة‬
‫المتقدمة الخاصة بالجيش من حولك‪ ،‬فاعلم أنك في بالد القبايل ''‪ .‬ها هي ذي تظهر على جنبات الطريق‪ .‬حقول‬
‫واسعة من أشجار الزيتون تبدو في حالة جيدة مما يدل على أنها تحظى بالعناية الشديدة من طرف مالكها‪ ،‬كانت‬
‫في كل الربوع تتوزع عبر الحقول التي تعلوها ربوات صخرية على جنبات الطريق السيار‪ ،‬تنتصب فوقها منشآت‬
‫هندسية مستطيلة الشكل في الغالب تأخذ ارتفاعها نحو األعلى‪ ،‬تظهر من خاللها بعض الرؤوس اآلدمية المعتمرة‬
‫للخوذات العسكرية من بعيد‪.‬‬

‫وجدتني أتساءل مع نفسي و سرعة سيارتي تزداد على طول الطريق بشكل الإرادي غاضب‪ ،‬بشيء من‬
‫الخوف الذي طمسه الكثير من االشمئزاز‪ '' :‬أين كنتُ أنا من كل هذا‪ ،‬أقصد من هذه البدعة الهوياتية القبايلية‬
‫المسيَّسة‪ ،‬و هل يعلم الجزائريون كل هذا ؟ !''‪ ،‬ثم تنهدتُ بقوة و أنا ألمح تلك األبراج العسكرية من بعيد على‬
‫جنبات الطريق السيار‪ ،‬التي جعلتني أتأكد من صحة قلق السؤال داخل نفسي‪ .‬كم هي غريبة رؤية تلك األبراج‬
‫العسكرية و كم هو غريب عدم اكتراث عامة الناس بذلك المظهر غير المنسجم مع طبيعة تلك المنطقة‪ ،‬و هو‬
‫يصيح أمامنا قائال بأن األمور في هذا البلد ليست على ما يرام‪ ،‬إال أنه ال أحد صار يُدرك و يسأل نفسه عن هذا‬
‫الواقع ؟‪ .‬كنتُ ألمح تلك األبراج و أتساؤل في غضب صامت‪ " :‬ما الذي نريد أن ّ‬
‫نبرره ألنفسنا بنصب هذه‬
‫تطو ُق إدراكنا يا ترى ؟ "‪.‬‬
‫األبراج العسكرية القبيحة التي ّ‬

‫ك ان الفرق واضحا و كبيرا جدا بين سرعة و حركة و اتساع الطريق السيار و بين تلك الطرق الضيقة نسبيا‬
‫و الملتوية بشكل حاد في بعض األحيان‪ ،‬التي تربط تلك السالسل الجبلية الالمتناهية التي ترتفع قممها الشاهقة فوق‬

‫‪180‬‬
‫طبقات خفيفة و متفرقة من السحاب‪ .‬الغطاء النباتي كثيف جدا و يزداد كثافة مع الغوص أكثر في ذاك العالم‬
‫أعترف أن المشاهد‬
‫ُ‬ ‫الهادئ نسبيا و الذي يمنح المرء إحساسا غريبا‪ ،‬أو هكذا أحسستُ في بادئ األمر‪ ،‬كما‬
‫الطبيعية كانت تسلب األلباب‪ .‬كانت تحمل في طياتها نفحات من طفولتي األولى و هي تلوح بمنديل الذكريات‬
‫العطر في األفق‪ .‬ذكريات رحالتنا و عطلنا القديمة في أرياف تابالط أواخر الثمانينات في جزائر ما قبل الفوضى‬
‫الكاملة و الجنون األقصى‪ ،‬أين كان كل شيء مرتبط بتلك العيشة بسيطا‪ ،‬عفويا و آمنا‪ .‬لم يبق من كل ذلك سوى‬
‫ْ‬
‫داعبت نفسي‬ ‫الملونة المصطفة هناك في األفق خلف ظهري !‪ .‬أحسستُ بتشوش غريب و‬
‫ّ‬ ‫أسراب من األطياف‬
‫هواجس لم أستطع التعرف على طبيعتها و أنا أقطع تلك الطرق الجبلية الملتوية‪ ،‬مع تشوش البث اإلذاعي لتلك‬
‫القناة المحلية التي كانت تبث بعض األغاني القبايلية‪.‬‬

‫كانت القرى القبايلية البعيدة التي تطل علي من أعلى قمم جبالها الشاهقة تقترب من أفقي تارة و تبتعد تارة‬
‫أخرى‪ ،‬بحسب حدة المنعرجات التي كنت أقطعها و أنا أتقاطع بمركبتي مع بعض السيارات و مركبات النقل‬
‫الجماعي القديمة القادمة في االتجاه المعاكس‪ .‬زادت حدة المنعرجات و كثافة الغطاء الغابي و زاد معها أزيز‬
‫حشرات السيكادة‪ .‬كنتُ ألمح من حين آلخر نقاط مراقبة متقدمة للجيش هناك‪ ،‬في أعلى الربوات الجبلية الشاهقة‪.‬‬
‫حررة '' لتنظيم '' الكمي'' المغاربي‪ ،‬و‬
‫يُقال أنها خطوط التماس األخيرة بين جمهورية الجزائر و '' المناطق الم َّ‬
‫معها الحدود الفاصلة بين وجهتي نظر لم يو ِّ ّحد بينهما سوى حقد متبادل كدّسته سنوات طويلة من حرب الكر و‬
‫الفر‪.‬‬

‫منطقة إيبودرارن في بني يني‪ .‬جميلة حد التوحش‪ ،‬لكن نظرتها األولى لكل زائر غريب هي نظرة سائر بالد‬
‫القبايل للغرباء‪ ،‬نظرة استجوابية حتما‪ ،‬إن لم تكن اتهامية بشكل ما‪ .‬شعرتُ بذلك و أنا أتجاوز منطقة تالة ان‬
‫ّ‬
‫تازرت‪ .‬الطريق ملتو بلى نهاية واضحة‪ ،‬و كأنه تجسيد لتاريخ البلد في وعورته و خطورة مسالكه‪ .‬وصلتُ إلى‬
‫مشارف مرتفعات درنة و أنا ال أكف عن التحديق جيدا إلى كل الفتة تصادفني على طول الطريق‪ ،‬ألقرأ ما كتب‬
‫أفوته‪ ،‬كون الكثير منها كان بأسماء يصعب حفظها و كل ما يعلق منها في الذهن هو بداياتها التي‬
‫عليها حتى ال ّ‬
‫غالبا ما تأتي على نحو '' تالة '' أو '' آت ''‪ ،‬تالة ان كذا أو آت فالن‪ ...‬بعض الالفتات كان مشوها و ممحيا‪ ،‬حيث‬
‫عمد المشوهون إلى حجب الكلمات العربية بالطالء األسود تاركين فقط الكلمات الالتينية‪ .‬رد فعلي ُحهري من‬
‫غالة البربرية ؟‪...‬‬

‫توقفت ألستريح قليال بالقرب من بعض األكواخ المشيدة بالقصب‪ ،‬التي كانت تصطف على جانبي طريق‬
‫يطل على جرف عال يعبر تحته نهر صغير‪ ،‬كانت مياهه تتدفق بكثرة نازلة عبر عدد من الرواسي المتقاطعة مع‬
‫بعضها عبر الصخور‪ ،‬ليمر من تحت الطريق عبر ممرات محفورة و يكمل انزالقه عبر المنحدرات‪ .‬ذكرني ذلك‬
‫برواسي منطقة الشفة الخالبة في البليدة‪.‬‬

‫كان بعض المتوقفين على جنبات الطريق يقومون بمأل قواريرهم من تلك المياه المتدفقة‪ ،‬في حين كان‬
‫أصحاب األكواخ القصبية الصغيرة و المفتوحة يعرضون بعض السلع للبيع‪ .‬قوارير زيت الزيتون‪ .‬قبعات القش‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫بعض الجبب النسوية التقليدية ألعمار مختلفة‪ .‬ثمار التين الشوكي و طبعا‪ ...‬أواني فخارية‪ ،‬كانت تجذب إليها‬
‫المتوقفين الذين كانت بعض لوحات ترقيم سيارتهم غير محلية‪ .‬بعضها كان فرنسيا أو سويسريا‪.‬‬

‫تناولتُ شطيرة و احتسيت بعض العصير الذي جلبته معي من البيت‪ .‬تركت رسالة صوتية لشقيقتي عيشة‪،‬‬
‫أخبرها فيها بأني في مهمة لمنطقة القبايل أليام و أني قد ال أكون قادرا على االتصال بأمي بسبب ضعف تغطية‬
‫شبكة الهاتف في المكان الذي أتواجد به‪ .‬تر ّجلت من السيارة و توجهت نحو ذلك المراهق المحلي‪ ،‬الذي كان‬
‫يعتمر قبعة قش بدى أن الزمن و المناخ قد تركا آثارهما عليها و على مالمح وجهه بوجنتيه المحمرتين من لفحات‬
‫الشمس‪ .‬تظاهر أنه لم ينتبه لوجودي و أنا أقف متفحصا تلك األواني الفخارية المتنوعة‪ ،‬التي كان يعرضها من‬
‫على طاولة خشبية أسند سيقانها ببعض قطع اآلجر األحمر‪ .‬أمعنتُ النظر إليه‪ .‬بدى لي أنه قد اجتهد في تلميع‬
‫سلعته و قد وضعها بشكل متناسق بجانب بعضها البعض‪ ،‬بحسب أصنافها و أحجامها و ألوانها‪ ،‬التي كانت تميل‬
‫في الغالب إلى األحمر اآلجوري أو البني الترابي‪ .‬كؤوس‪ ،‬صحون‪ ،‬أباريق‪ ،‬مزهريات‪ ،‬جرار صغيرة و أخرى‬
‫متوسطة الحجم‪ ،‬مسجّاة برسوم و رموز هندسية تطغى عليها المثلثات و المعيّنات و الخطوط المتكسّرة و‬
‫المتقاطعة‪ .‬أعترف أنها كانت أشياء بديعة‪ .‬كانت حتما تحمل فيها روح المنطقة و أصوات سكانها‪ .‬كانت تعبّر عن‬
‫ذلك بشكل فج لكنه جميل على نحو ما ؟‪ .‬زاد ذلك من درجة اقتناعي بأنها قد تكون من صنع ابن الطين‪ ،‬أغاكال‪.‬‬
‫على األقل كنتُ متأكدا من أني لستُ بعيدا عن قريته المخفية في عمق الغابة‪.‬‬

‫تقدّمتُ من المراهق الذي كان منهمكا في عقد صفقة مع امرأة كبيرة في السن‪ ،‬بدت من خالل مالمحها و‬
‫لباسها و األشخاص الذين كانوا يرافقونها أنها مغتربة‪ .‬كانت تقتني بعض األغراض التذكارية‪ .‬كانا يتحدثان‬
‫بالقبايلية و هو يجمع لها مجموعة من األواني الفخارية المختلفة‪ .‬شعر باقتراب حركتي منه‪ ،‬لكنه تفادى النظر إلي‪.‬‬
‫قلتُ في نفسي لوهلة أنه يكون قد علم أني لستُ قبايليا‪ .‬ظننتُ أن مالمح وجهي قد تخدع الجميع في هذه المنطقة ؟‪.‬‬
‫قلتُ أنه ربما يكون من صنف القبايل الذين ال يشعرون بالراحة في التعامل مع الغرباء عن بيئتهم و لغتهم‪ ،‬و من‬
‫ثم فهم ينزحون بشكل ما إلى تجاهلهم بشكل فج أحيانا‪ ،‬أو بشكل مقنّع أحيانا أخرى‪ .‬كنتُ أنتظر ردّ فعله مني‪،‬‬
‫فترددتُ لوهلة و أنا أتظاهر أني ال أزال أتفحص أواني الفخار‪ ،‬ثم اغتنمت فرصة حديث السيدة إلى فتاة شابة كانت‬
‫ترافقها أللتفت إليه‪....‬‬

‫_ سلعة هايلة‪ ،! vraiment ...‬بشحال راك تحسب فيهم هاذوما ؟‪.‬‬

‫ألقى إلي بنظرة خاطفة و أنا أشير بيدي نحو الصحون المعروضة خلفه‪ ،‬ثم أكمل تجهيز طلبية المرأة‬
‫المغتربة‪ .‬كنتُ أتساءل في نفسي‪ :‬ربما ال يفهم شيئا من العربية الدارجة ؟‪ ،‬أو ربما فهمها‪ ،‬لكنه ال يرغب في‬
‫التعامل معي بها ؟‪ .‬لطاما سمعتُ قصصا مشابهة عن هذا الوضع‪ .‬عن القبايل الذين يتجاهلونك ببساطة إن تحدّثت‬
‫إليهم بغير القبايلية أو الفرنسية !‪ .‬أيعقل أن يكون ذلك صحيحا ؟‪...‬‬

‫_ باين براني‪ .‬مشي منا انتَ ؟‪..‬‬

‫‪182‬‬
‫جاءني صوته الذي طغت عليه لكنة قبايلية واضحة جدا‪ ،‬عبَّرت عنها طريقته في نطق الكلمات العربية أو‬
‫الدارجة‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬جاي من دزاير‪.‬‬

‫_ حسبتك قبايلي‪ ،‬يمكن أصلك من هنا ؟‪.‬‬

‫_ أه‪ ،‬أصل فاميلتي من البويرة‪.‬‬

‫_ ايـــــــاه‪ ...‬و هللا ؟ !‪..‬‬

‫أشرق شيء ما في تقاسيم وجهه فجأة و هو يوجه إلي كامل انتباهه هذه المرة‪..‬‬

‫_ من اين ؟‪.‬‬

‫_ اه‪ ،‬و هللا ما نعرف‪ ،‬جد بابا هو لي أصله من البويرة‪ .‬من اين‪ ...‬مانيش عارف‪..‬‬

‫_ المهم قبايلي و خالص‪..! ça fait plaisir ...‬‬

‫يبدو أن جذور أسرتي التي تعود إلى البويرة ستخدمني كثيرا في تقليص بعض المسافات و هدم بعض‬
‫الحواجز سريعا مع هؤالء القوم ؟‪ .‬فكرت و أنا أراه يودّع السيدة التي دفعت له ثمن ما باعها‪ ،‬ثم التفت إلي‪...‬‬

‫_ إذن‪ ...‬جئت سائحا ؟‪.‬‬

‫_ أه يمكن القول أني جئت من أجل عمل‪ ،‬لكني طبعا بصدد اغتنام الفرصة الكتشاف‪ ....‬منطقة أجدادي‪..‬‬

‫انتابتني برغبة في الضحك على نفسي و أنا أتفوه بالعبارة األخيرة‪ ،‬فاألمر لم يخطر على بالي بهذا الشكل‬
‫أبدا‪ ،‬و لم أعتبر نفسي بصدد البحث عن جذوري أو إعادة ربط صلة ما بهذه الجبال‪ ،‬التي سكنها أفراد أسرتي‬
‫األقدمون‪ .‬مهمتي كانت واضحة جدا داخل رأسي‪ :‬العثور على أغاكال هذا و كشف أسرار قضيته مع منظمته‬
‫السرية التي تهدد البالد بربيع ال تحمد عقباه‪ .‬لكني كنتُ ألحظ أثر تلك العبارة على وجه المراهق الذي بدى‬
‫متحمسا أكثر‪..‬‬

‫_ إذن‪ ،‬أنت هنا الكتشاف جبال جرجرة تحديدا ؟‪..‬‬

‫_ في الحقيقة سمعت عن قرية قديمة جدا في هذه الناحية‪ ،‬و هي إحدى آخر القرى القديمة المأهولة المتبقية‬
‫في كامل المنطقة بحسب ما قيل لي‪..‬‬

‫ابتسم لحظة و هو يحك أنفه بسبابته‪..‬‬

‫_ كل القرى هنا قديمة و كلها مأهولة‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫_ أبحث عن أقدمها على اإلطالق‪...‬‬

‫_ ارفع رأسك !‪..‬‬

‫قالها ضاحكا و هو ينظر خلفي نحو األعلى‪ .‬التفت‪ .‬رفعتُ بصري‪ .‬لم أر شيئا غير الكتلة الجبلية الهائلة التي‬
‫كن الطريق الذي كنا على جنباته يمر من تحتها غاطسا ببطء تحت ظلها تبعا لحركة الشمس‪ .‬كتلة هائلة ال يظهر‬
‫ُّ‬
‫التفت إليه‬ ‫منها شيء‪ ،‬بسبب الغطاء الغابي الكث الذي يغلفها و كأنه يريد حجب ما كان المراهق يود مني أن أراه‪.‬‬
‫مستفهما‪ .‬وجدته ال يزال يبتسم‪...‬‬

‫_ القرية التي تبحث عنها تقع على ارتفاع نحو ‪ 911‬متر فوق هذا الجبل‪ .‬إنها القرية التي أقطنها‪ .‬هناك‬
‫طريق ترابي غير واضح بسبب كثافة األشجار يربطها بهذا الطريق‪ ،‬من خالله ننزل و نصعد يوميا من و إلى هذه‬
‫الفسحة هنا لممارسة تجارتنا‪ .‬أنتَ تبحث عن قرية تيميزر !‪.‬‬

‫_ بلى‪ ..‬بلى‪ ،! ...‬إذن‪ ،‬وصلت إلى وجهتي ؟‪ .‬هذا رائع‪ .‬ظننتني ال أزال بعيدا !‪.‬‬

‫أومأ برأسه و كأنه يخالفني الرأي‪..‬‬

‫_ ليس بعد‪ .‬يمكن أن تصعد مشيا إليها من هنا‪ ،‬لكنك ستضطر لترك سيارتك مركونة على جانب الطريق و‬
‫هو ليس المكان األنسب‪ .‬عليك أن تكمل سيرك اآلن‪ ،‬إلى أن تلتف حول الجبل على مسافة كيلومترين و نصف‬
‫تقريبا‪ ،‬هناك‪ ،‬يوجد تفرع ترابي صغير مخصص لمرور المراكب‪ ،‬خذه إلى أن تصل إلى منطقة خصصها أهل‬
‫القرية لركن مراكبهم و جراراتهم و حافالتهم‪ .‬اترك السيارة هناك‪ ،‬و أكمل طريقك مشيا على األقدام صعودا إلى‬
‫الجبل‪ .‬لكن قلي‪ ،‬هل تعرف أحدا ما في القرية اتفقت معه على اإليواء ؟‪ ،‬عليك أن تعلم أنه ال فنادق هنا‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬سأتدبر أمري في هذا الجانب‪..‬‬

‫كنتُ ال أزال أحملق في الجبل معلقا أنظاري إلى األعلى و أنا أشعر بحماس شديد كوني وصلت إلى حيث‬
‫ينتظرني سبقي الهائل‪ ،‬ثم نظرت إلى المراهق الذي كان يلف شيئا ما في جريدة قديمة و يقدمه لي‪..‬‬

‫_ ما هذا ؟‪.‬‬

‫_ هدية صغيرة من المنطقة إليك بما أنك تزورها ألول مرة !‪ .‬حين تصل القرية توجه إلى مسجدها و اسأل‬
‫عن '' لمين ''‪ .‬هو يُخبرك عن البيت الذي يأوي عابري السبيل الليلة‪ ،‬فهو محدد سلفا‪ ،‬أو إن رغبت يمكنك المبيت‬
‫قرابة آث يوسف‪،‬‬
‫في قبة الولي أيضا‪ ،‬ستجد من يطعمك هناك‪ .‬إن احتجت ألي شيء آخر‪ ،‬يمكنك أن تسأل عن ّ‬
‫حين تصل إلى شارعها اسأل عن بيت آيت يوسف موسى‪ ،‬ذاك هو اسمي‪ .‬سأكون سعيدا بمساعدتك في أي شيء‪.‬‬

‫**********‬

‫‪184‬‬
‫إذن‪ ،‬أصعدُ ذلك الممر الترابي الطويل و الضيق في بعض أجزاءه بشق النفس‪ .‬أشعر و كأن وزني يتضاعف‬
‫و يزيد ضغطه على ساقي مع مرور الدقائق وسط ذلك الهدوء الغريب‪ ،‬الذي تتخلله زقزقة الطيور و أزيز ذكور‬
‫الزيز‪ .‬أسير و أنا ألهث ناظرا أمامي لعلي ألمح تيميزر‪ ،‬القرية المخفية في عمق الغابة أعلى الجبل‪ .‬ال شيء !‪.‬‬

‫قد يحتاج المرء إلى نفَس '' ثوري '' حتى يتمكن من بلوغ قمم جبال كجبال القبايليين‪ ،‬و هو ما كان يبقيني‬
‫صامدا و مصرا على بلوغ الهدف‪ .‬كنتُ مقتنعا بأن ما كان يدفع جسدي صعودا وسط ذلك الجو الحار هو شيء‬
‫يتعدى طاقة المادة على االحتمال‪ ،‬إلى شيء يتعلق بقوة الذهن و توقّده‪ .‬كنتُ مؤمنا أني أسعى خلف هدف كبير‬
‫جدا‪.‬‬

‫تقاطعت طريقي مع بعض السكان المحليين الذين كانوا في طريقهم إلى األسفل‪ .‬بضع عجائز بجببهن القبايلية‬
‫البنفسجية‪ ،‬الزرقاء و األرجوانية المطرزة بخطوط و برسوم ألزهار يكثر عليها اللون األبيض‪ .‬بادلنني نظرات‬
‫غير واضحة المعالم‪ .‬ابتسمت و أنا أفسح لهن الطريق‪ ،‬أومأن برؤوسهن فقط مع بسمة خفيفة ال تكاد ت ُرى على‬
‫شفاههن و كأنهن يشكرنني بصمت‪ .‬وقفتُ و أنا أحاول استعادة أنفاسي أراقبهن و هن يبتعدن عني يتحادثن بلغتهم‬
‫غير المفهومة‪ .‬ربما كن يتساءلن عن سر هذا الغريب الذي يتصارع مع الجبل‪ ،‬لع ّل هذا األخير يسمح له بالوصول‬
‫إلى القرية‪.‬‬

‫سرتُ و سرتُ ‪ .‬التقيت برجل كهل و هو يمتطي حماره في طريقه نحو األسفل هو اآلخر‪ .‬استسمحته بالتوقف‪.‬‬
‫كنت أودّ أن أسأله عن المسافة التقريبية المتبقية لوصول القرية‪ ،‬لكنه ما إن سمع كلماتي األولى أطلق بسمة مرتبكة‬
‫مشيرا بيده‪...‬‬

‫_ سورف إيي‪ ،‬أوفهمغ أرا‪ ..‬أوفهمغ أرا الراب‪...‬‬

‫فهمتُ من قسمات وجهه‪ ،‬نظرته و نبرة صوته أنه كان يعتذر كونه ال يتحدث أو ال يفهم العربية‪ ،‬فبادرتُ مرة‬
‫أخرى بطرح السؤال بلغة أخرى‪...‬‬

‫…‪_ Pourriez-vous me‬‬

‫_ آه أوفهمغ أرا ال ُّرومية‪...‬أوفهمغ أرا آ ّمي‪...‬‬

‫كان واضحا أنه يخبرني بأنه ال يفهم '' الرومية '' أيضا !‪ .‬تركته لحاله و هو يسير مع دابته التي كانت تحمل‬
‫بعض القوارير البالستيكية متوسطة الحجم‪ ،‬مملوءة بزيت الزيتون حسب اللون األخضر الطاغي عليها‪ ،‬و وقفتُ‬
‫أسترجع أنفاسي و أنا أراقب قمم جرجرة الصخرية الحادة البادية خلف أغصان األشجار‪ ،‬التي كانت تنتصب قبالة‬
‫ذاك الجبل المحتال الذي بدى و كأنه ال يريدني أن أصل إلى غايتي‪.‬‬

‫_ اللعنة !‪ ،‬هذه ليست ‪ 911‬متر !‪ ،‬البد أنني قطعتُ ما يفوق الكيلومترين صعودا ؟ !‪...‬‬

‫‪185‬‬
‫ما إن استرجعتُ ريتم تنفسي الطبيعي حتى انطلقت مرة أخرى و أنا ال أكف في معظم األحيان عن التركيز‬
‫مع شكل الطريق غير المستوي‪ ،‬المليء باألحجار و االنحرافات يمينا و شماال‪ ،‬بعدما تعثرتُ بضع مرات بل و‬
‫كدتُ أهوي بوجهي على حافة تمألها النباتات الشوكية‪ ،‬حين تعثرتُ على حجر و وجدتُ وزن جسدي يغلب قوة‬
‫ساقي المنهكتين‪ ،‬لوال أن رميت بيدي نحو جدع شجرة كانت تنتصب أمامي مباشرة‪ .‬كان علي أن أضع في‬
‫الحسبان أن ساقي قد ألفا طرق المدن الكبرى لسنوات عداد‪ ،‬و أن أمامي قدرا من التعب و آالم العضالت كضريبة‬
‫لدخولي هذا العالم‪ ،‬الذي و رغم جماله و سكينته‪ ،‬إال أنه يخبّئ قدرا من القساوة و الصالفة لمن ال يحفظ لغته‬
‫البدائية‪ .‬ذلك العذاب البدني لم يكن سوى البداية على ما يبدو ؟‪ .‬كنتُ و بشكل غير متوقّع أستردّ ذكريات طفولتي‬
‫األولى مرة أخرى‪ ،‬ربما ألرفع بها شيئا من قدري أمام ذاك الجبل الذي كأنما كن يتسلى بإذاللي و أنا ألهث و‬
‫أتعرق و أسعل‪ ،‬أكاد أتوسل في نفسي بأن ينتهي الطريق و أنا أحدثها متهكما بين الفينة و األخرى‪ ،‬محاوال اللحاق‬
‫ّ‬
‫بأنفاسي الهاربة مني‪.‬‬

‫_ ‪ ....‬ال بدّ أن أقلل من عدد السجائر التي أستهلكها يوميا !‪ ....‬ال أصدّق !‪..‬‬

‫غريب كيف كان ذاك الجبل يُذكرني بريف تابالّط‪ .‬بروائح األعشاب و الحشائش‪ .‬بأصوات الطيور و‬
‫الحشرات‪ .‬بنسمات األمسيات المنبعثة من الغابة‪ .‬بصدى األقدام الصغيرة الراكضة بين األحراش في عمق الجبل‪،‬‬
‫الباحثة عن المغامرة و الحماقات‪ .‬كان ذلك منذ زمن طويل‪ .‬أو بدى لي أنه أطول مما هو عليه‪ ،‬كون سنوات‬
‫اإلرهاب و جنون المدينة و لعنة اإلسمنت‪ ،‬ثم هياج التمدرس و بعدها حروب المهنة‪ ،‬كلها قد دفنت كل شيء تحت‬
‫أطنان من النسيان و ربما الالمباالة أيضا‪.‬‬

‫مع تقدمي في السير بدأتُ ألحظ تغيرا في تضاريس الغابة‪ .‬كانت أعداد أشجار التين و الزيتون في ازدياد من‬
‫ْ‬
‫تحولت بعض الشجيرات التي كانت تتقاطع معي في الطريق الملتوي الذي لم يكف لحظة‬ ‫حولي‪ .‬و شيئا فشيئا‪،‬‬
‫واحدة في أخذ طريقه نحو األعلى‪ ،‬من عشرة‪ ،‬إلى عشرين‪ ،‬إلى نحو أربعين شجرة تين متماهية أحيانا مع أشجار‬
‫الزيتون و بعض األشجار البرية‪ ،‬إلى أن بدأتُ ألحظ تغيرا واضحا جدا في موازين القوى النابتية‪ ،‬فأشجار التين و‬
‫الزيتون راحت تأخذ غالبية األماكن و تهيمن على المساحات في الطريق‪ ،‬و كأني كنتُ أل ُج حدودا تصادم فيها عالم‬
‫األشجار البرية مع األشجار المستأنسة المثمرة‪ ،‬و خسر معركة الهيمنة على خريطة خضرة المكان‪.‬‬

‫تطوقها األسيجة‪ ،‬كان يعني بالضرورة‬


‫انتبهت إلى كون وصولي إلى مكان تمأله حقول األشجار المثمرة التي ّ ِّ‬
‫أني وصلتُ أخيرا إلى مكان مأهول ببني البشر‪ ،‬حتى و إن كان يقع في قلب تلك الغابة الهائلة المائلة‪ .‬هكذا بدأت‬
‫أذني تلتقط بعض األصوات البعيدة‪ ،‬فخرجتُ عن الطريق قافزا على سياج من األوتاد و األسالك غير الشائكة و‬
‫أنا شاخص البصر أتبع مصدر تلك الهمهمات اإلنسية‪ .‬سرتُ تحت ظل األشجار حتى رأيتُ مجموعة أطفال من‬
‫بعيد كانوا يجوبون المكان‪ .‬ر ّجحتُ أنهم كانوا يبحثون عن أولى ثمرات التين الناضجة‪ ،‬لعلّهم يضفرون ببعضها‬
‫خلسة‪ .‬سلوك صباني تقليدي عرفناه جميعا في ماضينا‪ .‬زاد يقيني أن وجودهم هناك لم يكن بريئا حين بدت عليهم‬
‫عالمات االرتباك و هم يرونني أتّجه إليهم‪ ،‬حتى أني أجزم أنهم كانوا على أهبة االنطالق مع الريح لوال أنهم‬
‫أدركوا أني غريب عن المنطقة‪ ،‬و لحسن الحظ أنهم كانوا يتقنون الحديث بالعربية الدارجة‪ .‬سألتهم عن تيميزر و‬

‫‪186‬‬
‫الرطب‪ ....‬إنها عند‬
‫كم بقي أمامي ألصل إليها‪ ،‬فكان الجواب منعشا كعصير البرتقال وسط ذلك الجو الحار و ّ‬
‫نهاية تلك البساتين‪ ،‬على بعد خمس دقائق من السير فقط !‪.‬‬

‫صدقوا !‪ .‬كانت هناك تنتصب فوق جرف عال‪ .‬بمنازلها الحجرية و الطوبية ذات المعمار البربري العتيق‪.‬‬
‫كانت و كأنها تنظر إلي و تقول للجبل في سخرية‪ " :‬أه عفوتَ عن هذا الغر الصغير أخيرا و سمحت له بلقائنا ؟ "‪.‬‬

‫ظنتني لن أصل أبدا بعدما أحسست أني سرتُ دهرا و أنا أصعد عذاب سؤالي الذي وصل بي إلى هذا المنحى‬
‫تؤرقني منذ وقت ليس‬
‫الجديد نسبيا في حياتي !‪ .‬إنها تيميزر إذن‪ .‬قرية سؤالي‪ ،‬لغزي‪ ،‬بحثي‪ ،‬أحجيتي التي ّ‬
‫بالطويل‪ ،‬غايتي أو حتى خالصي القريب أيضا‪ ،‬من يعلم ؟‪ .‬إنها فعال هي‪ ،‬تقابلني من فوق صخرة عمالقة‬
‫منتصبة على جانب الجبل‪ ،‬تليها ربوة أخرى أكثر ارتفاعا تغلفها غابة أخرى‪ ،‬يصعد بها المسار إلى ما ال يقل عن‬
‫‪ 211‬متر أخرى‪ ،‬إلى حيث لم يكن يظهر شيء بسبب تلك الغمامة الصيفية البيضاء العابرة‪ ،‬التي كانت تمسح‬
‫بلطف قمة هذا الطود الجاثم على األرض قبالة سالسل جرجرة الباهرة‪.‬‬

‫كان لزاما علي أن أمسح نهاية عذابي الطويل مع الطريق بنظرة شاملة للمكان و أنا أسترد أنفاسي المسلوبة‬
‫مني غصبا‪ ،‬و بغض النظر عن اإلحساس الغامر بالحماس الذي اجتاحني حين تراءت تيميزر لي من فوق ربوتها‬
‫الحجرية‪ ،‬فإن باقي المناظر التي صدمتني بجمالها و عذريتها‪ ،‬جعلتني أدرك أن بالد القبايل تستحق كل ذلك‬
‫التعب‪ ،‬فقط للظفر برؤيتها عن قرب و هي في كامل عفويتها و حريّتها‪ ،‬بعيدا عن الصور أو الفيديوهات أو أي‬
‫شكل آخر من اإلطارات المصطنعة !‪.‬‬

‫بالنسبة لي‪ ،‬كان وقت العمل قد حان في تلك اللحظة بالذات‪ .‬لم أكن قادرا على الصبر أو االنتظار رغم سطوة‬
‫اإلرهاق علي‪ .‬الذين درسونا الصحافة و اإلعالم في الجامعة‪ ،‬أخبرونا بأن وقت عمل الصحفي ال يتحدد ببداية أو‬
‫نهاية خالل الساعات األربع و العشرين التي ّ‬
‫تؤطر أيام البشر اآلخرين‪ ،‬فساعة عمله حين تأتي‪ ...‬تأتي‪ ...‬فأمسكتُ‬
‫بهاتفي المحمول‪ .‬ج ّهزتُ المسجّل الصوتي‪ .‬لم يكن في نيتي ترك أي فكرة مما كان يجول في رأسي فريسة للضياع‬
‫أو النساين‪ ،‬فانطلقت أناجي نفسي بصوت خافت نسبيا‪ ،‬أسجل انطباعاتي األولى عن المكان‪ ،‬ناظرا إلى سالسل‬
‫جرجرة الشامخة‪:‬‬

‫يحف األفق‪ ،‬يبدو بعيدا جدا‪ ،‬لكن يا للهول !‪ ،‬هو قريب و‬


‫ّ‬ ‫جرجرة العظيم‪ ،‬هناك‪،‬‬
‫عمالق‪ .‬كبير جدا و ممتد بثبات و وثوق نحو الشرق البعيد و كأنه يغزوه و يفتحه بكل‬
‫سهولة و من دون عناء يُذكر‪ .‬حين تراه من قمم جبال تيزي وزو التي يرعاها‬
‫بنظراته‪ ،‬يبدو فعال مختلفا عن جرجرة الباهت الذي تراه و أنتَ تعبر الطريق السيار‬
‫شرق – غرب‪ ،‬كونك تمر فقط من خلف ظهره‪ ،‬إذ يرمي هو بنظره نحو البحر و بالد‬
‫القبايل التي يحرصهما بنفسه‪ .‬حين تقترب منه ألول مرة‪ ،‬ينظر إليك بتمعن‪ ،‬كأنه‬
‫ُعريها‬
‫عمالق يثقب جسدك ببصره النافذ‪ ،‬يحفر في أعماقك حتى يصل إلى روحك في ّ‬
‫من أكاذيبها‪ ،‬فت ُصيبك دوخة غريبة على أثر ذلك و تجد نفسك تفصح له عن مكنوناتك‬

‫‪187‬‬
‫و أنتَ تشعر بالرهبة بسبب ضآلة ذاتك أمام عظمة حجمه‪ .‬تفصح فقط عن هواجسك و‬
‫أهدافك‪ .‬تصارحه بالسبب الحقيقي الذي جاء بك إليه‪ ،‬رغما عنك !‪ .‬و قد كنتُ فعال‬
‫أخبره أني جئت إلى هذه القرية الواقعة تحت أنفاسه مباشرة‪ ،‬ألعيد اكتشاف تقليد‬
‫اجتماعي قديم‪ ،‬يكاد يندثر نهائيا من البلد الذي يكلّل هو رأسه منذ آالف السنين‪.‬‬

‫الربورتاج هه ؟‪.‬‬
‫تصل ُح لتكون مقدمة ّ‬

‫ّ‬
‫التفت نحو القرية‪:‬‬

‫للوهلة األولى‪ ،‬تبدو قرية تيميزر للناظر إليها من بعيد كعش دبابير عمالق‪ ،‬فوضوي‬
‫الشكل و غير مرتب في مبناه العام‪ ،‬رغم ذلك تبعث تلك الفسيفساء الهندسية المتالحمة‬
‫ببعضها في نفسك شعورا بالراحة و اإلعجاب‪ ،‬كونها تحمل في طياتها جماال ما ؟‪.‬‬
‫إنها تشبه معظم قرى القبايل و األوراس بشكل عام‪ ،‬منازلها متراصة و ملتصقة‬
‫ببعضها البعض‪ ،‬يطغى عليها اللون الترابي و األحمر بسبب أسطحها القرميدية‪.‬‬

‫تقدمت ب ّ‬
‫تأن و أنا أراقب حركة بعض السكان‪ .‬مجموعة من الفتيات الصغيرات كن يلعبن بالقرب من المدخل‬
‫الذي يمتد على طول طريق ترابي عريض نسبيا‪ ،‬تحتَ أنظار بعض الكهول الذين كانوا يجلسون في مجموعات‬
‫صغيرة متفرقة عند عتبات بعض المنازل أو تحت ظل بعض األشجار أو تحت بعض األصوار القصيرة القديمة‪،‬‬
‫تحف القرية و التي انهارت بعض أجزائها‪ .‬الجميع كانوا يتف ّحصونني بنظرات غير صريحة‪ ،‬إال أن الفتيات‬
‫ّ‬ ‫التي‬
‫لم يخفين فضولهن تجاهي بعدما توقّفن عن اللعب و هن على األرجح يتساءلن عما كنتُ أهمس به لهاتفي المحمول‬
‫‪ .‬رفعتُ يدي نحو أقرب مجموعة كهول مررتُ بها‪ ،‬و قد كانت تضم ثالثة منهم كانوا يجلسون القرفصاء في حلقة‬
‫يتجاذبون أطراف الحديث تحت ظل شجرة بلوط مائلة نسبيا‪ .‬بادلوني نفس التحية دون قول الكثير ليعودوا إلى‬
‫االنغماس في أحاديثهم‪.‬‬

‫كنتُ في تلك اللحظات إذن‪ ،‬ألج تيميزر و كل خطوة من خطواتي بدت مختلفة تماما عن تلك الخطوات التي‬
‫أختزل بها حجم المدن الكبرى على شساعتها دون أن أشعر بذلك في العادة‪ .‬كانت كل خطوة من تلك الخطوات‬
‫الصغيرة و المتأنية على ذلك الطريق الترابي عند مدخل تيميزر‪ ،‬تمنحني إحساسا حدسيا بأن تلك القرية قد تكون‬
‫فعال أكبر بكثير مما تبدو عليه‪ ،‬رغم أني مسحتها كاملة ببصري من مدخلها السفلي وصوال إلى قمتها التي تكللها‬
‫مئذنة المسجد‪ ،‬الذي بدى مختلفا بعض الشي عن عمرانها بطالء جدرانه األبيض و عدم التصاقه بالمنازل المحيطة‬
‫به من كل جانب‪.‬‬

‫زاد تركيز نظرات الفضول علي مع ولوجي ما ظننته الشارع الرئيسي الذي استقبلني مع نهاية الطريق‬
‫الترابي الطويل‪ ،‬الذي قطعته من موقف السيارات المتواضع أسفل الجبل وصوال إلى مدخل القرية‪ .‬كان عريضا‬
‫هو اآلخر‪ .‬ألقل أني تفاجأت قليال‪ ،‬كونه كان طريقا حجريا مهيأ معبدا بأحجار صبغت عليه لونا يتمايل بين البني‬

‫‪188‬‬
‫الترابي و الرمادي الخافت‪ ،‬بعدما صقلت تلك األحجار في شكل مربعات متوسطة الحجم‪ ،‬كانت تتوزع بشكل‬
‫منتظم على األرضية التي شدني نقاءها أيضا‪.‬‬

‫_ '' أيعقل هذا ؟ !‪ ،‬في قرية منسية و معزولة عن العالم في قلب هذه الجبال الوعرة‪ ،‬تبدو طرقها أنظف و‬
‫أجمل من شوارع عاصمة البلد ؟ !‪ ،‬يا للمفارقة ! ''‬

‫قلتُ في نسفي متهكما و أنا أكاد أبتسم ملتفتا في كل االتجاهات أتفحص الشارع و طرقه الفرعية التي كانت‬
‫تصطف على جنباتها عتبات المنازل العتيقة‪ ،‬بأبوابها الخشبية و أحجارها التي كنتُ أظنها ذات لون ترابي باهت‬
‫حين نظرتُ إليها من بعيد قبل دقائق‪ّ ،‬‬
‫لكن لونها كان يميل إلى اللون األصفر المتوهج‪ ،‬ربما بسبب أشعة الشمس‪،‬‬
‫قربتُ هاتفي من شفتي‪...‬‬
‫فضال عن أنها كانت تبدو أحجارا قديمة جدا‪ّ .‬‬

‫ْ‬
‫بنيت منذ عقود طويلة جدا و لم يتغير فيها الكثير‪ .‬أصوار‬ ‫تبدو المنازل هنا و كأنها‬
‫عالية نسبيا‪ .‬بعضها بدأ يستسلم فعليا لسطوة الزمن‪ .‬أبواب خشبية متوسطة الحجم بل‬
‫و ذات ارتفاع ضئيل في بعض األحيان‪ ،‬تقابلك بصمت غريب يغريك لقرعها و‬
‫اقتح ام عالمها الصامت المليء بمئات القصص القديمة‪ ،‬التي تحكي تاريخ أجيال‬
‫عاشت في هذا المكان‪ .‬و أنتَ تعبر أطراف الطرقات أو ممرات الزقاق الساكنة التي‬
‫تتفرع عن الشوارع‪ ،‬فإنك تلمح تلك النوافذ الصغيرة و القليلة التي تتميز بها المنازل‪،‬‬
‫و التي تجعلك تشعر و كأن أحدهم يسترق النظر إليك عبرها‪ ،‬لكنك ال ترى من خاللها‬
‫غير الظالل‪ .‬منازل تبدو مهجورة و مغلقة بإحكام‪ ،‬و أخرى تسمع بعض الحركات و‬
‫األصوات المنبعثة من ساحاتها الداخلية‪ ،‬ت ُشعرك أن هؤالء القوم محافظون رغم‬
‫التصاق منازلهم بعضها ببعض‪ ،‬و بشكل الفت في بعض الشوارع الفرعية‪ ،‬إال أن كل‬
‫ضل رغم ذلك االحتفاظ بقدر معتبر من الخصوصية داخل البيت‪ ،‬أو‬
‫ساكن منهم قد يُف ِّ ّ‬
‫هكذا يبدو من خالل توزيع الديار‪.‬‬

‫كانت نظراتي تتالقى و تتقاطع مع نظرات بعض المارة من المحليين‪ ،‬الذي كانوا يتفادون اتصال العيون‬
‫المباشرة بمجرد أن أنظر إليهم‪ .‬أحسستُ أن هنالك شيئا من الخجل أو الحياء امتزج بفضولهم و أسئلتهم المفاجأة‬
‫التي ربما ك ان كل واحد منهم يطرحها على نفسه و هو يلمح هذا الزائر الغريب‪ ،‬بلباسه األنيق و محفظته الرمادية‬
‫مقربا هاتفه الخلوي إلى ذقنه مهمهما بكالم يبدو أنه من لغة‬
‫و حقيبة ظهره الصغيرة‪ ،‬و هو يجوب طرقات قريتهم ّ‬
‫أخرى غريبة عن بيئتهم ؟‪ .‬و أعترف أني و بشكل حدسي‪ ،‬كنتُ أسير صعودا عبر تلك الشوارع الهادئة نسبيا و‬
‫النقية بشكل الفت و أنا التفتُ بين الحين و اآلخر خلفي‪ ،‬كأني أحاول فقط أن أكون حذرا‪ .‬من يعلم ؟‪ ،‬قد أتعرض‬
‫العتداء أو سطو من طرف بعض صعاليك هذا المجتمع المحلي البسيط في مظهره ؟‪ .‬ال بد أن يكون هنالك‬
‫صعاليك في كل مجتمع !‪ .‬محفظتي الرمادية كانت تصيح بشكلها و حجمها و هي تفصح عن حمولتها الثمينة‪.‬‬
‫حاسوبي المحمول !‪ .‬هاتفي الخلوي قد يراه الكثير هنا على أنه شيء يستحق أن يُسرق و يباع بثمن جيد ؟‪ .‬حقيبة‬

‫‪189‬‬
‫ظهري الصغيرة خفيفة و سهلة المنال‪ ،‬إذ يكفي لمراهق ينتعل حذاء ركض رياضي أن يطير بها و يختفي وسط‬
‫تلك الزقاق المتقاطعة دون أن يقلق بشأن صاحبها كثيرا !‪.‬‬

‫**********‬

‫كل الطرق تؤدي إلى روما‪ .‬مثل يعرفه الجميع‪ .‬لكن في تيميزر كان واضحا أن كل الطرق تؤدي إلى‬
‫مسجدها المتواضع الذي يُشرف على كامل القرية في أعلى الربوة التي وصلتها أخيرا و أنا ألهث مرة أخرى‪ ،‬رغم‬
‫أن الطريق إليها صعودا لم تكن بمثل تلك الصعوبة التي واجهتها مع الطريق الجبلي‪ ،‬ربما كوني كنتُ مشدودا نحو‬
‫معمار القرية و توزيع أبنيتها و اصطبالتها و بساتينها الصغيرة و دكاكينها المتواضعة و سكانها و نظراتهم‬
‫االستفسارية الفضولية و شوارعها و زقاقها النظيفة الهادئة ؟‪.‬‬

‫كانت هنالك ساحة واسعة نسبيا‪ ،‬استقبلتني مباشرة مع نهاية الشارع الذي قادني إلى المسجد‪ .‬فضاء ترابي‬
‫مست ِّو نسبيا مقارنة مع طرق و شوارع القرية المائلة‪ ،‬تتوزع عبره بعض األشجار التي كانت تنشر ظلها فوق‬
‫أجزاء منه‪ ،‬في حين كانت األجزاء األخرى منغمسة مباشرة تحت أشعة شمس شهر جوان الحارة‪ ،‬التي كانت‬
‫جلب انتباهي‬
‫َ‬ ‫تحضن ترابها الجاف في صمت‪ ،‬غير آبهة بتلك األقدام القليلة التي كانت تعبرها ذهابا و إيابا‪ .‬و قد‬
‫تؤطر الساحة و تحدد شكلها الذي بدى أنه شبه مستطيل غير متساوي األضالع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تلك الصفائح الكلسية التي كانت‬
‫صفائح ملتصقة بالجدران الخلفية لبعض المنازل‪ ،‬و أخرى ملتصقة بأجدع أشجار البلوط و الصنوبر و الدردار‬
‫التي ت ُحيط بالساحة‪ ،‬في حين كانت بعض الصفائح قد ُوضعت تحت الجدار األمامي للمسجد‪ ،‬الذي بدى أصغر‬
‫حجما و أكثر تواضعا مما بدى عليه حين نظرتُ إليه من بعيد في أسفل القرية‪.‬‬

‫تقدمتُ ببطء نسبي إلى منتصف الساحة وسط أنظار بعض من كانوا يجلسون فرادا أو في مجموعات صغيرة‬
‫فوق بعض من تلك الصفائح‪ .‬كنتُ أسج ل صوتيا كل تلك المالحظات و أنا أرمي ببصري إلى الجهة اليمنى للمسجد‬
‫الصغير بنحو عشرة أمتار‪ ،‬حيث كان ينتصب مبنى صغير نسبيا تكلله قبة بيضاء و قد انتصبت بعض األشجار‬
‫المثمرة أمام مدخله‪ .‬تين‪ ،‬تفاح‪ ،‬مشمش‪ ،‬خوخ و عنب‪ .‬كانت ثمارها بالكاد ناضجة‪ ،‬تغري العين و تفتح شهية‬
‫يتورعون‬
‫َّ‬ ‫القلب بألوانها الصيفية البهيجة‪ .‬طبعا‪ ،‬كان بديهيا لي أنها ال تزال معلقة في أغصانها‪ ،‬كون أطفال القرية‬
‫عن االقتراب منها وسط هذه الساحة المكشوفة و الموضوعة مباشرة تحت أنظار الكبار !‪.‬‬

‫وصلتُ إلى عتبة باب المسجد الذي لم تكن له ساحة خاصة به‪ .‬مجرد بناء بسيط مطلي باللون األبيض‪،‬‬
‫تلتصق به مئذنة تزيد عن ارتفاع جدرانه بضعف واحد أو أقل بقليل‪ .‬حين رفعتُ رأسي نحوها تساءلتُ ببداهة‪:‬‬
‫معهم حق‪ ،‬ما فائدة مئذنة فارعة الطول في قمة تطل على كل القمم هنا ؟‪ .‬يمكن للمرء أن يؤذّن للصالة من فوق‬
‫سطح المسجد دون عناء استعمال مكبر الصوت الوحيد المعلق في الصومعة و الذي التهمه الصدأ !‪.‬‬

‫نظرتُ إلى العتبة التي كان يظللها القصب‪ .‬كانت مجموعة من األحذية و الصنادل و النعال قد وضعت‬
‫بترتيب أمامها في جهة‪ ،‬في حين كانت جهة أخرى تحوي بعض األكياس و القفف و بعض المقتنيات التي لم‬

‫‪190‬‬
‫أستطع التعرف على طبيعتها‪ ،‬كانت تبدو أنها لبعض األشخاص المتواجدين بالداخل‪ ،‬و طبعا فإن شكلها كان‬
‫يعرف بطبيعة أصحابها بوضوح تام‪ .‬إنهم قرويون بسطاء‪.‬‬

‫ّ‬
‫التفت يمينا و شماال ثم نزعتُ حذائي و وضعته بالرقب من تلك النعال و األحذية المتواضعة‪ .‬في المدن ال‬
‫يمكنك ترك حذائك خارج مسجد‪ ....‬مستحيل !‪ .‬بل إن األحذية صارت تسرق بداخل المساجد حتى !‪ .‬هاجسي‬
‫الداخلي كان قد عاد لتوه ليرسم لي صورة بقدر ما كانت قاتمة‪ ،‬فإن الصبي الصغير بداخلي جعلها كاريكاتورية‬
‫أيضا‪ .‬صورتي و أنا أركض خلف لص أحذية حافي القدمين و هو ينطلق كالسهم بحذائي الجديد المل ّمع !‪.‬‬
‫للمفارقة‪ ،‬بدت لي فكرة تلميعي لذاك الحذاء شيئا يشبه الخطأ و أنا الذي اعتاد أن ال يلمع حذاءه و هو خارج للتجول‬
‫في قلب العاصمة !!‪ .‬لحسن الحظ أن طول الطريق الذي قطعته جعله يبدو أغبر بعض الشيء‪.‬‬

‫_ دعني أحزر !‪ ...‬أنتَ ال تشعر بالراحة كونك على وشك ترك حذائك عند المدخل وحيدا ؟‪.‬‬

‫ّ‬
‫التفت إليه فإذا به رجل ستيني كان ينحني ببطء نسبي و‬ ‫كان ذلك صوت أحدهم و هو يعبر خلفي يه ّم بالدخول‪.‬‬
‫هو ينتزع حذاءه الجلدي البسيط‪ .‬كان يرتدي برنسا أبيض و يعتمر قبعة من القش‪ .‬كان ذو مالمح قبايلية صرفة‪.‬‬
‫وجه يُشبه في شكله مثلثا مقلوب على رأسه‪ ،‬جبهة عريضة نسبيا مع ذقن حاد و بارز إلى األمام‪ ،‬مع اعوجاج‬
‫صغير في الفك السفلي‪ ،‬بعض الشعيرات البيضاء المتفرقة عبر الوجه‪ ،‬كانت تزيد كثافة عند أسفل الدقن‪ ،‬أنف‬
‫معقوف‪ ،‬نظرات حادة شاخصة كمعظم تلك النظرات التي تقاطعت معي طيلة صعودي إلى هنا‪ ،‬هي نظرات‬
‫أخذت حدّتها و شخوصها من كثرة تعرضها ألشعة الشمس القوية هنا‪ ،‬حتى صارت سمة الكثير من الوجوه‪ ،‬حين‬
‫تنظر إلى بعضها فإنها تبدو و كأنها تنظر إلى الشمس نفسها و هي تحاول تقليل حدة توهجها على العينين أو‬
‫إحداهما بإغماضها تماما‪ ،‬مع ترك العين األخرى تقوم بواجب التعرف الحذر على األشياء أو األشخاص ؟‪.‬‬

‫لم أقل شيئا و أنا أنظر إلى الرجل الستيني الذي بدى لوهلة أنه يبتسم‪ ،‬لكن بروز فكه السفلي نحو األمام و‬
‫نظراته الشاخصة جعلتني أشعر أنه لم يكن مبتسما فعليا‪ ،‬كانت تلك السمة البارزة لمالمح وجهه فقط‪ ،‬التي كانت‬
‫ستخدع الكثيرين في نظري‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬ابتسمتُ و أنا أشهر بطاقتي المهنية و أمد إليه يدي مصافحا‪...‬‬

‫_ أمين وشاكي‪ .‬صحفي في جريدة النبأ اليومي‪ .‬أنا هنا للقيام بربورتاج عن قريتكم و مجتمعكم الصغير هذا‪.‬‬

‫صافحني بصمت و هو ال يزال ماض في تصفّح شيء ما في مالمحي‪ ،‬شيء ما كان يبحث عنه دون االعتماد‬
‫على الكلمات و ال على الوثائق الرسمية‪ .‬ثم تغيرت تقاسيم وجهه بشكل طفيف‪ .‬كانت تلك بسمة خفيفة‪ ،‬أو ربما‬
‫بسمة كاملة قد ارتسمت بشكل خافت على وجهه‪..‬‬

‫_ أهال بك ضيفا كريما عندنا !‪ .‬ال تقلق على حذائك و حقائبك‪ ،‬فهنا ال أحد يجرؤ على سرقة حذاء أو أغراض‬
‫عابر سبيل أو ضيف‪ ،‬ففي ذلك عار كبير جدا حتى بالنسبة للصوص القرية‪.‬‬

‫أفلتَ يدي مشيرا إلي بحركة من رأسه بأن أتبعه و سبقني إلى داخل المسجد الذي كان فيه بعض المواطنين‬
‫الذين أمكنني عدُّهم على األصابع‪ ،‬بعضهم كان متكئا على األرضية و البعض اآلخر كان يصلي على انفراد‪ ،‬في‬

‫‪191‬‬
‫حين جلس بعضهم مسندا ظهره إلى دعامة من دعامات البناء الداخلية و هو منغمس في قراءة القرآن‪ .‬كنتُ أتبع‬
‫الرجل الستيني متفاديا االستمرار في التسجيل الصوتي حتى ال أشعره بأي شكل من أشكال االرتياب أو التوتر أو‬
‫االمتعاض أو المعارضة‪ ،‬كوني لم أكن مطلعا كفاية على ردود أفعال هؤالء القوم من تسجيل المعلومات صوتيا‬
‫أمامهم مباشرة‪ ،‬و تلك النظرات االستفسارية التي واجهوني بها طيلة صعودي إلى هنا كانت كافية‪ ،‬لذلك لجأتُ إلى‬
‫األسلوب اآلخر‪ ،‬فرحتُ أسجّل كل شيء يمكنني تسجيله في ذاكرتي البصرية‪ ،‬السمعية و الشمية‪ ،‬التي صقلتها‬
‫تكوني النظري و التطبيقي على يد كبار الصحفيين و المراسلين في الجامعة‪ ،‬تُضاف لها سنواتي القليلة من‬
‫سنوات ّ‬
‫صرت أسجل كل ما أراه‬
‫الخدمة في الصحافة‪ ،‬بشكل جعلها ترتبط شرطيا بذاكرة االنطباعات لدي‪ .‬كأي صحفي‪ِّ ،‬‬
‫و أسمعه متزامنا ما كل ما ينتابني من أحاسيس فطرية أو حدسية بدائية أو انطباعات أولية‪ ،‬كون األخيرة تدوم‬
‫طويال‪ ،‬مما يجعل مني آلة توثيق تمشي على ساقين‪.‬‬

‫على العموم‪ ،‬و مقارنة بالجو الحار في الخارج‪ ،‬فالمكان كان هادئا و منعشا تنتشر فيه رائحة غريبة لم أستطع‬
‫تحديد نوعها أو مصدرها‪ ،‬لكني ظننت أنه السجاد األخضر الكبير الذي كان يغطي كامل األرضية‪ ،‬أو هي رائحة‬
‫الكلس األبيض الذي دهنت به الجدران الداخلية للبناء‪ .‬رفعتُ بصري إلى السقف‪ .‬وجدته خال من أي رسوم‬
‫زخرفية‪ .‬المراوح الكهربائية كانت تدور و الظالل قد سكنت معظم الزوايا بعدما ساعدها في ذلك الزجاج الثخين و‬
‫صنعت منه النوافذ الكبيرة نسبيا‪ ،‬لكن الزجاج كان يكسّر أشعة الشمس و‬
‫المصقول الملون بشكل فسيفسائي‪ ،‬الذي ُ‬
‫يُضعفها بسماكته و ألوانه‪ .‬افترضتُ أن مردّ ذلك وقوع المسجد ككل فوق الربوة العالية الجاثمة على كتف الجبل‬
‫الذي ُ‬
‫شيدت عليه القرية‪ ،‬بشكل يجعله معرضا ألشعة الشمس على مدار اليوم‪...‬‬

‫_ هل لي أن أسألك كم ستدوم مهمتك عندنا أيها الرجل الشاب ؟‪.‬‬

‫باغتني الرجل الستيني تركيزي بصوته و هو يضع قبعة القش فوق خزنة خشبية صغيرة فاتحا أحد أدراجها‬
‫مخرجا دفترا صغيرا منه‪...‬‬

‫_ آسف يا سيدي‪ ،‬لكن‪ ،‬هلي أن أعرف من تكون من فضلك ؟‪.‬‬

‫التفت إلي للحظة و قد ابتعد بصره عني و كأنه يبحث عن فكرة ما‪ ،‬قبل أن يعود و قد أمسك برأس خيطها‬
‫بعدما كانت قد فلتت منه على ما يبدو‪..‬‬

‫أعرفك بنفسي حين عرفتني أنتَ بمن تكون‪ ،‬يا للفظاظة !‪ ،‬أعترف أني أخطأت و‬
‫_ أه‪ ...‬صح‪ ...‬صح‪ ،‬أنا لم ِّ ّ‬
‫أنا حقا آسف‪ .‬اعذرني يا بني فقد كانت صبيحتي شاقة جدا و أنا متعب كثيرا‪.‬‬

‫_ البأس !‪.‬‬

‫_ اسمي عبد السالم‪ ،‬و أنا إمام القرية و لمين األعيان فيها و القائم بمراقبة سير أعمال ثاجماعث هنا‪ .‬يمكنك‬
‫مناداتي بـ'' لمين '' فقط‪.‬‬

‫آه !‪ ،‬هكذا إذن‪ '' .‬لمين '' لم يكن اسم شخص كما اعتقدت‪ ،‬بل كلمة تدل على مركز اجتماعي أو ما شابه !‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫تشرفتُ بك‪ .‬بما أنك كذلك‪ ،‬فقد تكون مصدر معلومات جيد لي في العمل الذي أج ِّ ّهز له و أتيتُ من أجله‬
‫_ ّ‬
‫خصيصا إلى هنا‪.‬‬

‫_ و ما هو موضوعك تحديدا ؟‪.‬‬

‫_ الوزيعة الكبرى التي تقام عندكم في الجمعة األول من الشهر السادس لكل عام‪.‬‬

‫مرتين أو حتى ثالث مرات في كل عام‪،‬‬ ‫_ كل قرية من قرى القبايل لها وزيعة أو ثاوزيعت‪ ،‬ت ُقام مرة أو ّ‬
‫فلم تتكبّد عناء الوصول إلى هذه القرية المع ّلقة في دقن الجبل من أجل ثاوزيعت‬
‫بحسب الظروف و المناسبات‪َ ،‬‬
‫خاصتنا تحديدا‪ ،‬بينما مررت على عشرات القرى في طريقك ؟‪.‬‬

‫قالها بنبرة ضاحكة و هو يهم بالجلوس متفاديا النظر في عيني‪ .‬فجلست مقابال إياه‪ ،‬حين راح يقلّب صفحات‬
‫الدفتر الصغير بين يديه‪...‬‬

‫_ في الحقيقة يا شيخ عبد السالم‪ ،‬سمعتُ أن قريتكم تعدّ من أقدم القرى المأهولة في المنطقة كلها‪ ،‬حيث ال يزال‬
‫نمط العيش و التقاليد و الذهنيات مستمرة و مستمدة مباشرة من الماضي البعيد‪ .‬بصراحة ال أعرف شيئا عن تاريخ‬
‫هذه القرية‪ ،‬لكني فعال آمل أن تروي فضولي في هذا الجانب‪ ،‬كوني لم أجد الشيء الكثير في المراجع التي لجأتُ‬
‫إليها قبل مجيئي إلى هنا‪.‬‬

‫_ بصراحة‪ ،‬ال نعلم عن تاريخ القرية إال ما وصلنا مشافهة أبا عن جد‪ .‬حين تتجول في بالد القبايل أو في أي‬
‫منطقة أخرى مأهولة بالناطقين بثامازيغت‪ ،‬فستلحظ أن تاريخها تقريبا يتوارث مشافهة بين األجيال التي تحفظه‬
‫عن دهر قلب و‪...‬‬

‫قاطعته مشيرا له بهاتفي المحمول‪...‬‬

‫_ عذرا يا شيخ‪ ،‬هل أستطيع تسجيل معلوماتك في هذا كي أوردها في مقالي النهائي ؟‪.‬‬

‫أخذ لحظة تفكير ثم نظر إلي مستفهما‪...‬‬

‫_ تريد البدء في عملك اآلن ؟ !‪.‬‬

‫_ هه‪ ...‬حين تأتي ساعة عمل الصحفي‪ ...‬تأتي !‪.‬‬

‫_ عذرا يا بني‪ ،‬ليس اآلن فأنا حقا مرهق‪ .‬أنا فقط بصدد البحث في قائمة بيوت القرية عن البيت الذي يتكفل‬
‫اليوم وفق مبدأ التداول باستضافة أي غريب أو عابر سبيل للمبيت بين أهله‪ .‬عليك أن تستريح فأنتَ تبدو منهكا‬
‫أيضا‪ .‬ثاوزيعت ستقام بعد يوم غد‪ ،‬إذا ما بغى ربي‪ .‬هذه مدة كافية لتحصل فيها على كل المعلومات التي تود‬
‫الحصول عليها‪ ،‬أعدك !‪.‬‬

‫_ اه قيل لي أنه يوجد مكان مخصص لمبيت الزوار غير البيوت يا شيخ‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫نظر إلي‪ .‬صمت للحظة‪ ،‬ثم تنهد‪...‬‬

‫_ دعني أحزر‪ :‬هذه أول مرة تزور فيها قرية قبايلية و فكرة أن يُفرض على أحدهم استضافتك دون أن يوجه‬
‫لك هو الدعوة إلى المبيت في منزله‪ ،‬تبدو لك فكرة غير مريحة ؟‪.‬‬

‫ابتسمت مباشرة و من دون تردد‪ .‬أعجبتني سرعة بديهة ذاك الرجل‪...‬‬

‫_ بصراحة‪ ،‬لقد قرأتَ ما يجول في خاطري يا شيخ !‪.‬‬

‫بادر إلى االبتسام هو اآلخر رافعا حاجبيه كمن يود وضعي في اختبار ما‪..‬‬

‫_ أنتَ متأكد من أنك ال تود المبيت عند أحدهم ؟‪ .‬نظام استضافة الغرباء يعد جزءا من قوانيننا االجتماعية‬
‫التي نتبعها منذ قرون هنا‪ ،‬لذلك إن كان يبدو لك غريبا فهذا ألنك آت من بيئة أخرى لها قوانين مختلفة‪ ،‬لكن عندنا‬
‫فاألمر عادي جدا‪ ،‬عادي إلى درجة أنه ال أحد سيشعر بأي انزعاج أو عدم راحة من استضافة غريب في بيته‪ ،‬فقد‬
‫كبرنا مع هذه التقاليد و هي تشكل جزءا من وعينا و حياتنا اليومية‪.‬‬

‫التزمت الصمت قليال قبل أن أنظر إليه مبتسما‪..‬‬

‫ضل المبيت في هذا المكان المخصص لعابري السبيل لو سمحت‪.‬‬


‫_ ال بأس يا شيخ‪ .‬أف ِّ ّ‬

‫ابتسم‪ ،‬ثم ّ‬
‫هز رأسه و هو يعيد الدفتر إلى درجه‪ ،‬حين لم يرغب ذلك الكائن الصحفي الصغير و العنيد الذي‬
‫يعيش بداخلي في االستسالم‪ .‬سألتُ ذاك الشيخ و كان علي أن أحصل على شيء منه قبل أن أحمل ردفي من على‬
‫السجاد‪ .‬معلومة‪ ،‬رأس خيط أو أثر بحجم الرمشة‪...‬‬

‫_ حسن يا شيخ‪ ،‬هل لي أن أعرف على األقل في أي سنة بني مسجدكم هذا ؟‪.‬‬

‫_ بني أواخر أربعينات القرن الماضي‪ ،‬على أنقاض المسجد القديم الذي هدّه الزمن في النهاية بعدما صارت‬
‫جدرانه تهدد سالمة المصلين‪.‬‬

‫_ حقا ؟‪ .‬و هل تعلمون إلى متى يعود بناء المسجد األول ؟‪.‬‬

‫_ بلغنا أنه بني منذ عهد األتراك يا بني‪ .‬منذ عهد األتراك‪.‬‬

‫قرية تيميزر إذن‪ ،‬موجودة منذ ما ال يقل عن ‪ 072‬سنة‪ ،‬إن ص ّح ما قاله اإلمام‪ ...‬أو لمين !!‪.‬‬

‫**********‬

‫حين قدوم الليل‪ ،‬فمهتُ َلم كان الشيخ عبد السالم يبتسم بتلك الطريقة الغامضة‪ .‬فبعد أن أكرمني بعشاء في‬
‫منزله مع أسرته و أبنائه الكثر‪ ،‬و بعد أن أصريتُ على المبيت في هذا المكان المخصص للغرباء و الزوار حين‬
‫أراد الرجل دعوتي للمبيت في منزله‪ ،‬أخذني أحد أبنائه و لم يكن سوى مراهقا في السادسة عشر من عمره‪ ،‬إلى‬

‫‪194‬‬
‫قبة الولي المجاورة للمسجد‪ .‬الفتى كان خجوال جدا‪ ،‬و كان يتقدّمني في السير و هو صامت تماما‪ .‬حاولتُ ممازحته‬
‫لكنه لم يكن يردّ على مزاحي سوى ببسمة خجولة أو إماءة رأس خفيفة‪ ،‬قبل أن يغوص بوجهه في األرض متتبعا‬
‫خطواته و هو يحاول أن يبقى أمامي‪ .‬جو القرية الليلي كان هادئا جدا لكنه منعش بشكل الفت‪ .‬اإلنارة موجودة في‬
‫معظم الشوارع‪ .‬بعض المارة كانوا يسيرون في هدوء و هم يحيوننا بإماءات صغيرة من رؤوسهم أو بعض‬
‫الكلمات القبايلية غير المفهومة‪.‬‬

‫وصلنا إلى القبة‪ .‬كان هناك شاب ثالثيني رأيته في الظهيرة حين كنتُ أه ّم بدخول المسجد خلف الشيخ عبد‬
‫السالم‪ .‬فهمتُ أنه مؤذّن القرية‪ .‬كان واقفا بطوله الفارع بالقرب من مدخل البناء األبيض المتواضع و هو يضع‬
‫يديه خلفه‪ .‬تبادل بعض الجمل غير المفهومة مع المراهق‪ ،‬الذي التفتَ إلي و هو يلوح بيده متمنيا لي ليلة هادئة أو‬
‫هكذا فهمت من نظراته و نبرة صوته المنحصر تحت حنجرته‪ .‬شكرته مبتسما في حين دعاني المؤذّن الشاب إلى‬
‫الدخول‪ .‬أول مفاجأة كانت اكتشافي أن قبة الولي فالن آيت فالن لم تكن مضاءة بالكهرباء‪ ،‬بل بالشموع‪ .‬بمجرد‬
‫عبوري باب المبنى األبيض الصغير و أنا أتبع خطوات الشاب الثالثيني‪ ،‬وجدتُ نفسي في رواق داخلي قد يصل‬
‫طوله السبعة أمتار على جانبيه بابين‪ .‬كانت هنالك حجرتين صغيرتين على كل طرف‪ .‬إحداهما كانت تحتوي على‬
‫سرير خشبي متهالك و طاولة خشبية صغيرة‪ ،‬ظننتهما عائدين إلى عهد حرب االستقالل‪ .‬كانت بعض الشموع‬
‫المشتعلة قد وضعت فوق الطاولة و في إحدى زوايا الحجرة حيث بدى الجدار القريب منها مسودا في بعض‬
‫ّ‬
‫التفت يمينا و شماال محاوال مسح المكان ببصري‪ .‬لم تكن هناك‬ ‫أجزائه جراء وضع الشموع المشتعلة بالقرب منه‪.‬‬
‫سوى نافذة واحدة للغرفة‪ ،‬ضيقة و صغيرة بشكل الفت‪ ،‬تطل على منظر لم أستطع فرز كل جزئياته‪ ،‬كونه كان‬
‫غارقا تحت رداء غليظ من السواد‪ ،‬لكن في النهاية فهمتُ أن تلك الغرفة لم تكن سوى المكان المخصص لمبيت‬
‫الزوار أو عابري السبيل‪ ،‬الذي حدثني عنه اإلمام و قبله ذاك الفتى الذي أهداني إحدى األواني الفخارية التي‬
‫يحتمل أنها من صنع أغاكال !‪.‬‬

‫نظرتُ إلى الغرفة األخرى التي كان بابها يقابل باب '' غرفتي ''‪ .‬كانت موصدة بإحكام‪...‬‬

‫_ ما الذي يوجد في تلك الغرفة يا صديقي ؟‪.‬‬

‫_ ضريح الولي الصالح‪ ،‬سيدي عبد هللا أوعابد‪.‬‬

‫ُ‬
‫أبعث بتلك‬ ‫أجابني المؤذن مباشرة و أعترف أني لوهلة شعرتُ بكامل جسدي قد تجمد في تلك اللحظة و أنا‬
‫النظرة الفزعة و غير المص ِّدّقة لذاك الشاب الذي كان منهمكا في تحضير فراشي‪...‬‬

‫_ عفوا ؟‪..‬‬

‫_ غرفة الولي !‪.‬‬

‫كرر جوابه باختصار و هو ينظر إلي كمن يسألني عن سر تلك المالمح غير المصدقة و ذاك الوجه الشاحب‪.‬‬
‫ّ‬
‫فهمتُ في تلك اللحظة َلم كان الشيخ عبد السالم يبتسم أمام إصراري على المبيت في هذا المكان المظلم و المخيف‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫كيف ال و قد كنتُ أستعد للنوم بجوار رجل ميت مدفون هنا‪ ،‬كانت له أعمال و سلوكات يعتبرها سكان مثل هذه‬
‫المناطق خوارق و غرائب منذ قرون على األرجح‪ ،‬ال يفصل بيني و بينه سوى بضع أمتار‪ ،‬تحت سقف واحد !!‪.‬‬

‫شكرتُ الشاب بطريقة كان فيها من التهكم ما كان و هو ينصرف متوجها إلى مسجده‪ ،‬و بالكاد أغمضتُ عيني‬
‫تلك الليلة‪ ،‬و أول شيء أثار قلقي هو انعدام إشارة الهاتف الجوال‪ .‬جعلني ذلك أشعر وكأني معزول في برج‬
‫صخري عال و مظلم عن عالم االتصاالت و المعلومات و األضواء و المعرفة الذي أعرفه و يعرفني‪ .‬كانت مجرد‬
‫دقائق من الحملقة الفارغة في الهاتف‪ ،‬مجرد دقائق قبل أن تبدأ المحنة الكبرى‪ ،‬فقد افترستني هواجس غير عقالنية‬
‫ال حصر لها‪ .‬في مواقف كتلك‪ ،‬يتسلق الطفل الصغير الذي يعيش بداخلي من أعماقي ليزعجني بأفكاره و مزاعمه‬
‫الصبيانية‪ ،‬ال لشيء‪ ،‬إال لكوني أبعدته عن الفراش الذي ألف النوم فيه‪ ...‬أو لكونه يشعر بالضجر و يرغب في‬
‫اللهو ؟‪.‬‬

‫_ تبا !‪َ ،‬لم اخترتُ المبيت هنا ؟ !‪.‬‬

‫كان المكان مظلما و صامتا بشكل موحش‪ ،‬و ما زاد األمر سوءا هو أن ال ُحجرة لم يكن لها باب مما جعل باب‬
‫غرفة الولي يقابل بصري الشاخص نحوه مباشرة‪ ،‬إذ لم يكن يفصل بيني و بينه سوى الرواق الصغير المظلم‪ ،‬لكن‬
‫و مع ذلك القدر الضئيل من النور الذي كان ينبعث من الشموع فوق الطاولة القريبة مني و عند الزاوية‪ ،‬كنتُ‬
‫قادرا على رؤية باب غرفة الدفين متماهيا مع الظالل و الصمت و الترقّب‪ .‬لم أستطع التخلص من تلك القشعريرة‬
‫التي سرت في جسدي و كبلته جاعلة منه مجرد كتلة ثقيلة باردة‪ ،‬فقد كانت تلك أول مرة في حياتي أنام فيها‬
‫بالقرب من ميت !‪.‬‬

‫قمتُ بتغيير موقع تموضع رأسي مكان قدمي‪ ،‬متمنيا أال يُغضب ذلك الولي عبد هللا أوعابد فيُلحق بي لعنة ما‪،‬‬
‫تحولني إلى مجرد شخص مجنون أو أسوأ من ذلك‪ ،‬قد أفيق في الصباح التالي ألجد نفسي و قد ُمسختُ إلى دجاجة‬
‫تحول إلى ذكر المة !‪.‬‬
‫أو تيس‪ ،‬تماما مثل شخصية االمبراطور الهندي '' كوسكو '' الذي َّ‬

‫افترضتُ ساخرا في صمت أن قوم تيميزر و سكان هذه المناطق النائية ال يزالون يؤمنون بمثل هذه األشياء‬
‫المرتبطة بما يُسما أولياء صالحين‪ ،‬على األرجح ألنهم كنوا مجرد دراويش أو حتى سحرة في عقود سطوة‬
‫الطالسم و الجهل و الظالم األكبر التي عاش فيها أسالفنا‪ ،‬أو هكذا كان أبي الحاج حسن يعتقد و ال يزال‪.‬‬

‫ت يا صوفيا ؟‪ ،‬سوف تحبين هذا المكان و هذا الشخص النائم تحت التراب بالقرب مني !‪ .‬إن‬
‫_ '' هه أين أن ِّ‬
‫سمع هذا الدرويش صدى هذه األفكار داخل رأسي‪ ،‬فحتما سأفيق في الصباح التالي و أنا أكاد أختنق من رائحة‬
‫الخراف التي ستعم الغرفة‪ ،‬ألدرك أني صرتُ خروفا !! ''‪ ....‬تلك هي طريقتي في إبعاد التوتر عن نفسي‪ .‬أتذ ّكر‬
‫أشياء صبيانية تثير السخرية و التهكم علّي أنسى و أتجاوز بها أي أفكار غير عقالنية مزعجة‪.‬‬

‫حين حاولتُ إبعاد تفكيري عما أو عمن يوجد في الغرفة المقابلة‪ ،‬وجدتُني أصاب بلعنة أفكار أخرى‪ .‬تذ ّكرتُ‬
‫أمر سيارتي المسكينة التي تركتها بين أيدي أالئك القرويين‪ .‬هل فعال هم جديرون بالثقة ؟‪ ،‬ماذا لو اتفقوا على‬

‫‪196‬‬
‫سرقتها و االدعاء أنهم لم يجدوا لها أثرا‪ ،‬بما أن صاحبها مجرد زائر غريب عن القرية و المنطقة ؟‪ ،‬ماذا لو ادعوا‬
‫و بكل بساطة أن مجموعة إرهابية استولت عليها و لم يكن بوسعهم فعل شيء ؟‪ ،‬على كل حال‪ ،‬من يجرؤ على‬
‫الوقوف أمام عصاب ة من األشخاص الملتحين بلباسهم األفغاني و رشاشات الكالشينكوف و القنابل اليدوية و‬
‫الخناجر ؟‪ .‬ثم هل يُعقل أن أكون أنا في مأمن هنا‪ ،‬في هذا المكان المفتوح على من هبّ و دبّ للدخول متى و كيفما‬
‫ي اآلن‪ ،‬إنها الثانية صباحا !‪ ،‬من يمنعهم من االستيالء على حاسوبي النقال و‬
‫شاء ؟‪ .‬ماذا لو جاء لصوص القرية إل ّ‬
‫هاتفي الخلوي‪ ...‬و ربما حذائي الجديد أيضا ؟‪ ،‬من يمنعهم حتى من ذبحي من دون سبب و تركي هنا غارقا في‬
‫دمائي‪ ،‬تماما كما يحدث في أيامنا هذه عبر تراب جمهوريتنا المريضة هذه ؟ !‪......‬أعتقد أن تلك األفكار لم تكن‬
‫سخيفة على كل حال‪ ،‬عكس ما تعلق بالمغفور له الموجود في الغرفة المجاورة‪ .‬جعلني ذلك أجزم أن أول ليلة لي‬
‫في تيميزر كانت صعبة‪ ،‬خاصة في مكان مظلم و موحش مثل قبة وليها الصالح‪ ،‬و ما زاد األمر سوءا هو عواء‬
‫الذئاب‪ ،‬نعيق البوم‪ ،‬نباح الكالب البعيد‪ ،‬و تلك الريح الخفيفة التي كانت كلما هبّت على القبة أحدثت صفيرا من‬
‫تحت باب غرفة الضريح أشبه بتأوه خافت‪.‬‬

‫ْ‬
‫أنهكت كل تلك األفكار الصبيانية و السوداوية ذهني‪ ،‬و بدى لي أني على وشك النوم‪ ،‬فوجئتُ بسرب‬ ‫حين‬
‫كامل من البعوض يحوم من حولي‪ ،‬و يا ليته كان مثل بعوض العاصمة‪ .‬لسعاته كان لها وقع خاص على البشرة‪،‬‬
‫كأنها وخز إبر تُزرع تحت جلدك و تجعلك ترغب في اقتالعه من شدة أثر الح ّكة‪ .‬لقد بدى لي ناموس باب الوادي‬
‫الذي طالما اشتكيتُ منه أليفا لوهلة‪ ،‬لكني وضعتُ األمر كله تحت معادلة الجبل و المدينة‪ ،‬فقوم قرية تيميزر بدوا‬
‫من خالل سمات وجوههم السمراء معتادين تماما على الحياة الصعبة في هذا الجبل الوحيد وسط كل هذه الجبال‪،‬‬
‫فال عجب إذن أن يكون بعوض القرية نفسه ذو جلد و قوة أيضا ؟ !‪.‬‬

‫ال أذكر شيئا آخر بعد تلك الفكرة‪ ،‬سوى أني كنتُ تائه البصر ذبالنا أتفرج على لهب تلك الشموع المتمايل بين‬
‫أمواج تيار الهواء الخفيف‪ ،‬كأنها بقايا أفكار تاهت وسط أكوام الظالم و الليل‪ ،‬إلى أن أخذتني األحالم الفوضوية‬
‫عن تيميزر و الربيع الجزائري و الفوضى األمنية بعيدا‪.‬‬

‫‪-16-‬‬

‫أحجار الشمس تحكي‬

‫‪197‬‬
‫أفقتُ ببطيء شديد على حركة غير عادية في الصباح الباكر‪ .‬أصوات غير تلك التي اعتدتُ النهوض معها و‬
‫أنا في المدينة‪ .‬بل و ربما كانت تلك أول مرة ال أفيق فيها على صوت هدير محرك سيارة أو شاحنة تعبر تحت‬
‫شرفتي ؟‪.‬‬

‫كان هنالك أصوات أخرى‪ ،‬بعضها بعيد و اآلخر كان يقترب و يبتعد‪ .‬صياح ديكة‪ ،‬نقنقة دجاج‪ ،‬ثغاء غنم و‬
‫ماعز‪ ،‬خوار بقر و الكثير من زقزقة الطيور‪ .‬بعض النِّّعال و األقدام كانت تعبر بالقرب من النافذة الصغيرة و‬
‫أصحابها إما يحدّثون بعضهم البعض أو يسعلون‪ ،‬إلى أن سمعتُ صوتَ أحدهم و هو يتفل مخاطه بعدما سحبه‬
‫بشهقة قوية من أنفه نحو حنجرته حين كان يمر بالرقب من النافذة جارا نعليه على األرض أثناء سيره‪ .‬القروي‬
‫األحمق‪ ،‬أفسد تلك الحالوة الغريبة التي كنتُ أش عر بها و أنا مغمض عيني بين الحلم و اليقظة‪ ،‬ألتقط أصوات‬
‫حيوانات الريف‪ ،‬التي كانت تدغدغ ذاكرتي الطفولية بلطف‪ ،‬حاملة إلي حنينا مبكرا إلى أيام جدي و منزله الطوبي‬
‫القديم‪ .‬أملتُ رأسي‪ .‬نظرتُ إلى ساعتي فوجدتها تشير إلى السادسة و أربع و عشرين دقيقة‪ .‬لقد أفقتُ قبل أن‬
‫يوقظني منبه الهاتف الخلوي المضبوط على السادسة و النصف‪ .‬نهضتُ من فراشي‪ .‬مسحتُ الغرفة بنظري‪ .‬كانت‬
‫تلك الشموع فوق الطاولة و عند الزاوية قد ذابت عن آخرها‪ ،‬مخلّفة بقعا بيضاء من بقايا الشمع و الخيوط‬
‫المحترقة‪ .‬نظرتُ إلى باب غرفة الولي و أمكنني أخيرا من تمييز لونه‪ .‬لقد كان أخضر غامق‪.‬‬

‫استدرتُ خلفي ملقيا بنظرة عبر النافذة الصغيرة حيث أمكنني رؤية ذاك المنظر الذي حرمني الظالم الدامس‬
‫لليلة السابقة من سبر شكله و حدوده‪ .‬إنها المساحة التي تقع خلف مسجد القرية و بناء وليها الصالح‪ .‬بعض المنازل‬
‫و االصطبالت المتفرقة و المتباعدة نسبيا‪ ،‬تنتهي عند ربوة حادة تقابل سالسل جرجرة‪ ،‬بدت أنها تطل على منحدر‬
‫حاد جهة اليمين‪ ،‬أما إلى جهة اليسار فبداية غابة كثيفة تكمل صعودها إلى قمة الجبل التي كانت تختفي في طبقة‬
‫من السحاب الخفيف‪ .‬استنشقتُ جرعة أكسجين جبلي كاملة و أنا أراقب أحد الرعاة يسوق قطيعه من بعيد تحت‬
‫النظرات الحارسة لجرجرة العظيم‪ ،‬الذي كان يبدو داكن اللون و هو ال يزال يحجب بارتفاعه الشاهق أشعة‬
‫الشروق األولى و كأنه يعيق تسلقها إليه‪ ،‬كعمالق يقوم بتجميع كتل الضوء حامال إياها على ظهره قبل البدء في‬
‫توزيعها على الحقول و الغابات و الشواطئ الواقعة في عهدته‪.‬‬

‫'' أزول‪ ....‬أزول فالّك‪ ....‬أزول فالّون‪ '' ...‬إنها العبارات الصباحية األولى التي يُالقيك بها كل من تصادفه‬
‫في طريقك‪ .‬هذا ما كان يحدث لي و أنا أسير متجها نحو مقهى القرية‪ ،‬الذي دلني عليه أول رجل صادفته عند‬
‫خروجي من القبة‪ .‬أزول فالك‪ ،‬يَرمون بها إليك بهدوء و بصوت خافت نسبيا‪ ،‬مع إماءة وجه أو حركة رأس ال‬
‫تترك لك المجال إال لتفهم أنها تحمل في طياتها كل االنتباه لشخصك و االحترام لك‪ ،‬عكس ما يحدث لنا نحن سكان‬
‫المدن‪ ،‬إذ صرنا نحيّي بعضنا البعض صباحا على عجل أو في شرود و قلق دون أن نرى بعضنا البعض فعليا‪ .‬هذا‬
‫إن فكرنا في تبادل تحية الصباح أصال !‪.‬‬

‫وصلتُ إلى المقهى الذي لم يكن بعيدا عن الساحة التي يقع فيها المسجد‪ .‬كان مقهى موريّا ذو سطح قرميدي و‬
‫فسحة مغطاة جزئيا بالقصب يحيط بها حاجز طوبي قصير‪ ،‬تتوزع عبرها بعض الطاوالت و الكراسي الخشبية‪.‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ذكرني ذلك بمقاهي تابالط المورية نهاية الثمانينات‪ ،‬التي اختفت تماما في أيامنا هذه على ما أعتقد‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫أخذت مكانا شاغرا‪ .‬الحظتُ أن نظرات االستفهام و الفضول التي القاني بها السكان في أول يوم قد خفّت‬
‫بشكل واضح‪ .‬جعلني ذلك أفترض أن الخبر قد سرى في القرية و دخل كل منازلها العتيقة‪ ،‬كأنه ريح صامتة تحمل‬
‫رائحة يسهل التنبه لها و معرفة طبيعتها‪ .‬خبر الصحفي الذي جاء من العاصمة للقيام بربورتاج عن الوزيعة‬
‫المرتقبة بعد غد‪ .‬ربما هي الحياة البسيطة و الرتيبة في مثل هذه المناطق التي تجعل من انتشار األخبار و‬
‫اإلشاعات غير االعتيادية أسرع من غيرها ؟‪.‬‬

‫القهوة كانت بمذاق متميز و نكهة ريفية خالصة‪ .‬كانت مطهوة على الجمر و يمكن القول أن رائحة السجائر‬
‫تكون أجمل و أحلى حين تالمس الدخان المنبعث من األغصان الجافة المحترقة في موقد المقهى‪ .‬رائحة العيدان‬
‫المحترقة في ذاك الموقد كما في مواقد و كوانين كل المنازل المحيطة‪ ،‬لم تترك لي المجال إال ألتذكر طيف جدتي‬
‫الغابر و هي تجلس القرفصاء أمام كانونها وسط الدار الكبيرة‪ ،‬تنفخ على العيدان اليابسة بعدما ترمي تحتها عود‬
‫ثقاب أو قطعة ورق مشتعلة‪ .‬تنسف ببطء و ّ‬
‫تأن في ريتم منتظم‪ ،‬يجعل تلك النار الصغيرة التي ال تظهر من تحت‬
‫الدخان األبيض الكثيف الذي يخز األعين‪ ،‬تنتشر من تحت العيدان و هي تكتسب لونا أحمر متوهج مع أصوات‬
‫تلك الطرطقة التي تحدثها حين تنطلق في التهام بعض األغصان التي لم تجف جيدا‪.‬‬

‫_ '' كي تشوف الدخان نقص و راح‪ ،‬غير و ّخر وجهك من الكانون يا بني !! ''‪.‬‬

‫عبار ة كانت تقولها لي جدتي كلما أرادت أن تنسف على الموقد من أجل إشعاله‪ .‬اعتقدتُ طويال أنها كانت‬
‫تقصد بكالمها كانون بيت جدي فقط‪ ،‬لكني فهمتُ بعد سنوات مغزى كالمها ذاك و اكتشفتُ عيبي األساسي‪ ،‬الذي‬
‫ال أزال أعتقد أنه عيب كل كائن صحفي‪ ،‬و هو أننا كثيرا ما ندخل برؤوسنا مباشرة في كل كانون حتى قبل أن‬
‫يتراجع دخانه !‪ .‬فضولنا القاتل‪ ،‬نقطة قوتنا و ضعفنا في نفس الوقت‪.‬‬

‫دخان قضيتي لم يكن قد انجلى بعد‪ ،‬و لم أكن أعلم مقدار النار التي قيل لي أن عميروش أو أغاكال ذاك كان‬
‫ينسف فيها بصمت بعيدا عن األنظار‪ ،‬و إن كانت روائح دخان المواقد التقليدية قد غيَّرت شيئا ما في تفكيري و‬
‫جعلتني أجادل نفسي حول بعض الحسابات‪ ،‬حين كنتُ أراقب أالئك القوم من حولي و أنا أتساءل في نفسي إن لم‬
‫يكن بينهم شخص واحد على األقل يعلم بأمر جماعة تي تي أس‪ ،‬أم أنهم جميعا يعلمون‪ ،‬كونهم يعرفون أغاكال‬
‫جيدا و أن أخبار هذه القرية ال يمكنها أن تخفى عن سكانها ؟‪ .‬إن كان هذا صحيحا فهو يعني أن مهمتي '' السرية ''‬
‫ستكون أصعب من المهمة الرسمية التي جئتُ من أجلها !‪ ...‬كيف يمكنني كسب ثقتهم أوال‪ ،‬بحيث أدفع بعضهم‬
‫للحديث عن أغاكال بمحض إرادته ؟‪ ،‬ثم أعرف مكان بيته أو بيت والديه بالتحديد‪ ،‬ثم أحاول الربط بين موضوع‬
‫تحقيقي و قضية العادات و التقاليد و ما يُسمى القضية البربرية التي يُدافع الرجل عنها مع الكثيرين في هذه القرى‬
‫و الجبال ؟‪ ،‬ثم أجعل من كل ذلك سببا أحاول عبره التقرب نسبيا من الرجل‪ ،‬على األقل للقيام بربورتاجي دون أي‬
‫محاولة إلثارة أي موضوع أو حتى كلمة من شأنها جعله يشك في أمري !‪.‬‬

‫_ '' يوم واحد قد ال يكون كافيا‪ ،‬لكن ربما هي الطريقة الوحيدة للرفع من نسبة نجاح ما أصبو إليه هنا ؟‪ .‬لن‬
‫أغادر هذه القرية قبل أن أعرف و لو كلمة واحدة عن السر الكبير الذي يسير بصمت تحت أحجارها العتيقة‪ ،‬السر‬

‫‪199‬‬
‫الخطير الذي يقفز خفية بين ظالل هؤالء القوم‪ .‬هه رغم كل هذا‪ ،‬يبدو األمر مجنونا‪ ،‬كيف لقرية نائية كهذه أن‬
‫تنجب حراكا له القدرة على التحول إلى ربيع عربي أو ما شابه‪ ،‬قد يجرف البلد برمته المجهول‪ .‬ال أصدّق ! ''‪.‬‬

‫ّ‬
‫أحك رأسي و أنا أنظر إلى المنازل المحيطة بالمقهى مراقبا حركات و سكنات أالئك‬ ‫قلتُ في نفسي متنهدا‬
‫القرويين‪ ،‬الذين بدوا من مالمحهم و طريقة مشيهم و جلوسهم و كالمهم خارج السياق الحضاري تماما‪ ،‬كأنهم قوم‬
‫نسيهم الماضي وراءه حين كان يعتذر تاركا مكانه للحاضر !‪ .‬كنتُ أراقبهم في صمت متأمال و مستشعرا عمق‬
‫تلك المفارقة الغريبة‪ ،‬قبل أن أرفع جسدي و رأسي المنتشي بنكهة قهوة الجبل و سجائر دخان عيدان الغابة‪،‬‬
‫متوجها إلى المسجد بحثا عن الشيخ عبد السالم للبدء في حلب رأسه المليء بالكثير من المعلومات عن تاريخ‬
‫القرية و عادات و تقاليد مجتمعها‪ ،‬بحكم سنه و مكانته وسط القوم‪ .‬كنتُ أسير بتأن أراقب األطفال و هم في‬
‫طريقهم إلى المدرسة فرادا و جماعات‪ ،‬يركضون في الزقاق و الشوارع‪ ،‬بعضهم يرمقني بنفس نظرة الفضول‬
‫التي استقبلني بها الجميع قبل يوم‪ ،‬و البعض اآلخر لم يكن منتبها أصال لوجودي‪.‬‬

‫يعرف عن نفسه إال في تلك اللحظة‪ .‬قال أنه يُدعى‬


‫حين وصولي إلى المسجد‪ ،‬قابلني المؤذن الشاب الذي لم ِّ ّ‬
‫مولود‪ .‬كان يعتذر كون الشيخ ذهب إلى قرية مجاورة رفقة بعض أعيان القرية ألمر طارئ‪ .‬فهمتُ منه أنه يتعلق‬
‫بفض نزاع خطير بين أسرتين متصاهرتين من القريتين‪ ،‬و في هذه الحالة فقد أعلن للسكان أن مجلس القرية‬
‫األسبوعي أو ما يُعرف بـ'' تاجماعت '' قد تم تأجيله استثنائيا إلى يوم االثنين القادم‪.‬‬

‫تأسفت لذلك كوني كنتُ أرغب في حضور هذا الملجس الذي تشتهر به قرى منطقة القبايل‪ .‬لكن الشاب مولود‬
‫عاد ليذكرني بأني مدعو لتناول الغذاء معه في بيت أسرته‪ ،‬ثم أخبرني بأنه سيكون مرافقي و ترجماني أثناء القيام‬
‫بمهمتي‪ ،‬إن رغبتُ في ذلك‪ ،‬كون الغالبية الساحقة من سكان القرية ال يتحدثون سوى '' ثاقفايليت '' على حد قوله‪،‬‬
‫و أن من يتقنون شيئا من العربية أو الفرنسية من الشباب يغيبون معظم فترات النهار‪ ،‬فإما هم يدرسون أو يعملون‬
‫أو يهومون على وجه األرض بحثا عن عمل‪ .‬الفئة األخيرة هي الغالبة بين هؤالء بحسب قوله‪ ،‬و هو ما جعلني‬
‫أفهم سر كثرة الصبية الصغار و الشيوخ في تلك القرية‪ ،‬دون الشباب‪.‬‬

‫ْ‬
‫بزغت الشمس على رأس الجبل و القرية أخيرا‪ ،‬وسرتُ أنا رفقة مولود بعدما أخبرته أن أول خطوة من‬
‫تحقيقي ستكون جمع بعض المعلومات العامة عن تاريخ القرية‪ ،‬لذلك استوقفنا رجال كهال كان يبدو في العقد السابع‬
‫من عمره‪ .‬تحدث إليه مولود لوهلة بالقبايلية و هو يشير إلي بيده من الحين و اآلخر‪ .‬كان العجوز المحدودب يومئ‬
‫برأسه و هو ينظر إلي بعينيه اللتين كانتا تختبآن خلف حاجبين رماديين غليظين و كأنهما مجرد موسطاش‪ ،‬قبل أن‬
‫يلتفت مولود إلي‪...‬‬

‫_ ماس وشاكي‪ ،‬هذا عمي حسين و هو في التاسعة و السسبعين من العمر‪ .‬لقد أخبرته بمن تكون و سبب‬
‫وجودك هنا و قد وافق على أن تأخذ رأيه حول تاريخ القرية‪ ...‬سأترجم لكما‪.‬‬

‫_ إن كان هذا‪ ،‬سأغتنم الفرصة ألسأله عن تاريخ القرية و عن ثاوزيعت أيضا‪ ،‬كونه من أبناء القرية الكبار و‬
‫يمكن أن يفيدني بشهادته‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫ترجم مولود كالمي للعجوز الذي أطلق بسمة خفيفة و بدى عليه تواضع واضح و هو يومئ برأسه داللة على‬
‫القبول‪ .‬كنتُ أمد بهاتفي الخلوي إلى وجهي تارة حين أطرح أسئلتي‪ ،‬ثم أترك ذراعي ممدودة مناصفة بين وجه‬
‫الشيخ و المؤذن الذي كان يترجم كالمي‪ ،‬ثم يترجم أجوبة الشيخ لي‪ .‬كان بعض الصبية الصغار الذين لم يبلغوا سن‬
‫التمدرس قد أحاطوا بنا و هم يحالون رؤية ما كان في يدي و عما كنا نتحدّث‪ ،‬إال أن مولود كان في كل مرة‬
‫يصرفهم بإشارة بيده و بكلمات قبايلية لم أفهم معانيها‪ .‬الشيخ كان يعتقد أن اسم القرية التي بنيت في هذا المكان منذ‬
‫العهد التركي‪ ،‬إنما يعود فقط إلى اسم '' تامزر '' الذي يعتقد أنه جد هؤالء القوم و هو ينحدر من القبيلة األصلية‬
‫األولى التي سكنت قمة الجبل منذ عهود غابرة جدا‪ ،‬هناك حيث ال تزال تتواجد أطالل القرية األصلية ألسالف‬
‫هؤالء القوم‪ ،‬و المسماة '' إيجودار ''‪ ..‬أو '' إيودر '' كما تُلقب أيضا‪.‬‬

‫_ سي مولود‪ ،‬هل لكلمة إيجودار هذه معنى محددا ؟‪.‬‬

‫_ إنها جمع لمفردة '' أيادر ''‪ .‬البعض يعتقد أنها تعني الطير الكاسر أو ال ّنسر‪ ،‬رغم أننا نسميه الباز هنا‪.‬‬

‫نظرت إليه بشكل كاد يكون تهكميا بشكل ال إرادي تقريبا‪ .‬تذ ّكرتُ بسرعة الضوء مسلسل الكواسر الشامي‬
‫الذي خبلنا أيام الطفولة و جعلنا نصاب ألسابيع بصرعة العشائرية و المبارزة و المعارك‪ ،‬كغيره من المسلسالت‬
‫الدينية و التاريخية التي لم تهتم إال بجانب الحروب و الجهاد و الغزو‪ .‬بعضنا كان يتخلص سريعا من تلك الصرعة‬
‫ْ‬
‫انغرست في نفسه و استحكمت‬ ‫بمجرد عرض الحلقات األخيرة من تلك المسلسالت‪ ،‬و البعض اآلخر يبدو أنها‬
‫بشكل خفي و شاذ‪ ،‬و ال أزال أعتقد إلى اليوم أن أالئك الذين يسمون جنونهم '' غزوات '' في أرجاء متفرقة من‬
‫بالد العرب‪ ،‬ضد بعضهم و ضد حكوماتهم و شعوبهم إنما ينتمون إلى الصنف الثاني !‪ ....‬طبعا‪ ،‬بعضهم ال يزال‬
‫يتخندق في تلك الجبال المحيطة بقرية تيميزر‪ ....‬عدتُ سريعا إلى مولود‪...‬‬

‫_ آسف سي مولود‪ .‬تريد القول أنكم قبيلة‪ '' ....‬الكواسر '' مثال ؟‪.‬‬

‫كنتُ أصارع رغبة جامحة ل لضحك كانت تريد الصعود من أعماقي و أنا ألقي بذلك السؤال إلى الشاب الذي‬
‫ّ‬
‫حك رأسه لوهلة و هو ينظر إلى األرض‪ ،‬كأنه يُحاول تفادي الدخول في ورطة ما من خالل ما كان يريد انتقاءه‬
‫لي من كلمات‪...‬‬

‫_ ال يا ماس وشاكي‪ ،‬نحن هنا ننحدر من عدة عروش اختلطت و اندمجت منذ زمن بعيد‪ .‬بعضها لجأ إلى هذا‬
‫فارة من القمع العثماني‪ ،‬و‬
‫الجبل أثناء الغزو الفرنسي للمنطقة‪ ،‬و قد وجدوا عشائر أخرى كانت قد سبقتهم إلى هنا َّ‬
‫يُتوارث شفهيا أن تلك العشائر نفسها كانت قد طلبت الحماية من القبيلة األصلية التي سكنت هذا الجبل منذ عهد‬
‫غير معلوم‪ ...‬األمر معقد قليال‪..‬‬

‫استوقفنا رجال في األربعين يُدعى الشريف‪ ،‬كان ينزع بعض النباتات الشوكية و األعشاب الضارة من تحت‬
‫بعض األشجار بالقرب من منزله‪ .‬لم تختلف إجابته عن إجابة الشيخ حسين كثيرا فيما يخص اسم تيميزر و هي من‬
‫'' تامزر '' أو '' آمزر ''‪ ،‬الجد األكبر لهؤالء القوم‪ ،‬إال أنه أضاف شيئا باختصار عن تاريخ القرية و هو أنها‬

‫‪201‬‬
‫عرفت زيارة واحد من أشهر قادة جيش التحرير الوطني و الثورة الجزائرية‪ ،‬العقيد عميروش قائد الوالية‬
‫التاريخية الثالثة أثناء حرب االستقالل عام ‪ 0229‬و التي قال بشأنها أنها ال تزال ذكرى يعتز بها الجميع في‬
‫القرية‪ ،‬بل و ال تزال عجائزها تحفظ أغان حول العقيد و مآثره ضد الجيش الفرنسي‪.‬‬

‫نظرتُ إلى مولود فأومأ إلي برأسه كمن يؤكد كالم الرجل الذي عاد إلى عمله دون أن يُضيف كلمة أخرى‪،‬‬
‫بعدما حمل قبعة القش التي كان يعلقها على أحد األغصان و خبأ رأسه تحتها و هو يبني جدارا من الصمت‬
‫الخجول بيننا‪.‬‬

‫_ قلي يا ماس مولود‪ ،‬هل من الممكن الحديث إلى بعض نساء القرية في الموضوع ؟‪ ...‬أقصد هل الحديث‬
‫إليهن ممكن أصال ؟‪.‬‬

‫_ طبعا‪ ،‬يمكن الحديث إليهن لكن مع كامل االحترام الالزم‪ ،‬سوى أني أخشى أن ذلك غير ممكن حاليا كون‬
‫أغلبهن في تالة بصدد ملء جرار الماء أو غسل الثياب‪.‬‬

‫_ نذهب إلى تالة إذن ؟‪.‬‬

‫ضحك الشاب بهدوء ثم نظر إلي و هو مستمر في السير‪..‬‬

‫_ إياك أن تكرر مثل هذا الكالم الغريب و غير المستساغ أمام شخص آخر من السكان‪ ،‬فقد يسيء فهمك و‬
‫تجد نفسك في ورطة حقيقية‪.‬‬

‫_ حقا !‪َ ،‬لم ؟‪.‬‬

‫_ قوانين و أعراف القرية تمنع منعا باتا أي رجل‪ ،‬خاصة إن كان في مقتبل العمر‪ ،‬االقتراب من تالة‪ .‬وحدهن‬
‫النساء و الفتيات يذهبن إلى هناك‪ .‬لنقل أنه مكان ذو خصوصية نسائية خالصة‪.‬‬

‫‪_ C’est noté !.‬‬

‫مررنا بجانب دكان صغير من دون واجهة‪ ،‬كان صاحبه يبيع بعض البقول‪ .‬دكان قد ال تتعدى مساحته أربعة‬
‫أمتار مربَّعة‪ ،‬مظلم و قليل التهوية بسبب نافذته الصغيرة‪ ،‬اختلطت فيه روائح و نكهات متعددة للسلع التي كان‬
‫يعرضها‪ .‬حبوب‪ ،‬بقوليات‪ ،‬زيوت‪ ،‬ملح‪ ،‬سكر‪ ،‬حليب مبستر‪ ،‬و رائحة طاغية للقهوة التي لم أر المكان المعروضة‬
‫فيه‪ .‬كانت السلع موضوعة في أدراج خشبية عند الزوايا‪ ،‬علب مفتوحة جزئيا بالقرب من النضذ الرئيسي للدكان‪،‬‬
‫و أكياس فيها قمح و شعير و كسكسي إضافة إلى التين المجفف خلف عتبة الباب مباشرة‪ .‬كان التاجر األربعيني‬
‫الذي يُدعى محند يجلس فوق كرسي خشبي قصير و هو منهمك في قراءة إحدى الجرائد الصادرة بالفرنسية‪ .‬رجل‬
‫صب للقبايلية و‬
‫أصلع قصير القامة ذو شارب أسود كث و غليظ‪ .‬عرفني مولود إليه و هو يخبرني أن الرجل متع ِّ ّ‬
‫من ثم فهو ال يتحدث إال بها‪ ،‬رغم إتقانه للفرنسية‪ ،‬فباشرته بنفس األسئلة التي طرحتها على الشيخ حسين مع تغيير‬
‫طفيف في ترتيبها‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫راح الرجل يتحدث بحماسة و مولود يترجم بأمانة‪ .‬كان يخبرني أنه و بحسب ما قصته عليه جدته المتوفية‪ ،‬و‬
‫التي عاشت قرابة القرن قبل أن تنتقل إلى ملكوت العلي القدير‪ ،‬فإن سبب جعل الوزيعة الكبرى للقرية تصادف‬
‫أول جمعة من الشهر الميالدي السادس هو أن ولي القرية‪ ،‬سيدي عبد هللا أوعابد حين وصوله الجئا رفقة أسرته و‬
‫عشرات العوائل التي فر بها من بطش الجنود الترك‪ ،‬أثناء انتفاضة المنطقة في وجه داي العاصمة‪ ،‬أمضى ثالثة‬
‫أيام كاملة و هو يصلي من دون توقف‪ ،‬من شروق الشمس حتى مغيبها‪ ،‬دون أن يأكل أو يشرب شيئا‪ ،‬داعيا سيدي‬
‫ربي أن يقطع الطريق أمام الكتيبة التركية التي كانت تالحقه هو و قومه‪ .‬كان سكان القرية األصليون يشعرون‬
‫بقلق شديد بعدما تسلحوا و أعدوا العدة لمواجهة جند الداي‪ ،‬بعدما قرر مجلس أعيان القرية ( ثاجماعت ) توفير‬
‫الحماية للالجئين مهما كلف األمر‪ .‬كان ذلك خالل اليوم الثالث من صلوات الولي‪ ،‬الذي صادف أول خميس من‬
‫شهر جوان‪ ،‬حين جاءت أخبار غير مؤكدة عن وصول الجنود الترك بخيولهم و مشاتهم و مدفعيتهم إلى أسفل‬
‫الجبل‪ ،‬و أنهم قد تمركزوا خلف الواد الذي يعبر المنطقة و الذي كان شبه جاف‪ ،‬و أنهم يتأهبون لصعود الجبل و‬
‫القدوم القتحام القرية‪ .‬هكذا ق َّر ر رجال و فرسان تيميزر النزول و مالقاتهم‪ ،‬حتى يقطعوا الطريق أمامهم‪ ،‬كونهم‬
‫كانوا رافضين لفكرة محاصرة القرية و د ّكها بالمدفعية‪ .‬نزل الفرسان و المحاربون مع رجال العشائر التي جلبها‬
‫ْ‬
‫حاولت‬ ‫الولي معه‪ ،‬من الفتيان القادرين على حمل السالح‪ ،‬بينما بقي الشيوخ‪ ،‬النساء و األطفال متحصنين بالقرية‪.‬‬
‫بعض النسوة دعوة سيدي أوعابد لالحتماء مع الجميع في البيوت خلف األصوار‪ ،‬لكنه ضل ساجدا من دون حراك‬
‫طيلة الصبيحة‪ ،‬حتى أنه يُقال أن مجموعة من الطير حطت على برنسه و فوق عمامته و هو في تلك الحالة الغريبة‬
‫من التعبد‪.....‬‬

‫كان التاج ر محند غارقا بحواسه و نظراته الهائمة في قص ما ورثه عن جدته حول تاريخ هذه الوزيعة‪ ،‬و‬
‫استمر مولود يترجم كالمه إلى الدارجة دون عناء أو تركيز أو حتى اهتمام واضح بمضمون كالم محند‪...‬‬

‫بحسب األسطورة‪ ،‬فإنه و عند الظهيرة كان رجال تيميزر يقتربون بحذر شديد تحت ظالل األشجار الكثيفة‪،‬‬
‫يستعدون لعبور مجرى النهر و اإلحاطة بجنود الداي ليسهل االنقضاض عليهم بمجرد تحركهم نحو القرية‪ ،‬حين‬
‫غشت األجواء غيوم رمادية داكنة و كثيفة‪ ،‬تحركت تحتها رياح هزت السكون الذي كان يطوق المكان‪ .‬هبوب تلك‬
‫الريح باتجاه معسكر الجيش التركي جعل كالب الحراسة فيه تلتقط روائح الفرسان القبايل‪ ،‬الذين كانوا قد اجتازوا‬
‫النهر و هو ما أدخلها في حالة هستيرية جعلت العسكر التركي يتفطن لألمر‪ .‬أدرك رجال العروش أنهم في ورطة‬
‫كون عنصر المفاجأة قد اختفى حتى قبل أن تبدأ المواجهة‪ .‬كان األتراك قد قفزوا على ظهور خيولهم و أطلقوا‬
‫وثاق كالبهم‪ .‬تراجع القبايل إلى ما وراء النهر حين كان أول كلب يركض في اتجاههم‪ .‬ظنوا أنها النهاية إذ كان‬
‫أضعفهم يُدرك أن الهروب بهذه البساطة من وجه العدو يُعدّ عارا ما بعده عار‪ ،‬خاصة و أن قوانين العروش‬
‫القديمة كانت تعاقب المدبر من أرض المعركة باإلعدام !‪...‬‬

‫صمت التاجر محند لوهلة و هو يمسح بأصابعه على شاربه األسود الغليظ الذي يُذكر بشوارب أبطال مسلسل‬
‫باب الحارة‪ ،‬قبل أن ينطلق مرة أخرى و ينطلق معه مولود و هو يترجم كالمه‪ .‬بديا و كأنهما جوادان يتسابقان‬
‫بحيث كان أحدهما يتقدم اآلخر ببضع ميلمتيرات فقط‪...‬‬

‫‪203‬‬
‫صوب فيها بعض العروش بنادقهم نحول الكلب األول الذي‬
‫قال محند أن معجزة حدثت في تلك اللحظة التي َّ‬
‫كان يعبر مجرى النهر الجاف متجها نحوهم مباشرة‪ ،‬و هم يسمعون أصوات حوافر أحصنة األتراك و هي تقترب‬
‫من خلف األشجار الكثيفة‪ .‬لقد كانت صاعقة نزلت من السماء مباشرة على الكلب‪ .‬صاعقة قوية اهتز على أثرها‬
‫الواد و الغابة و الجبل‪ ،‬كادت تعمي أبصار الجميع من قوة وهجها و وميضها‪ ،‬تطايرت معها بعض الحصى و‬
‫الكثير من الغبار الذي انجلى بعد لحظات ليكشف لرجال القرية عن جثة الكلب المتفحمة‪ .‬نظروا خلف النهر فإذا‬
‫ببقية الكالب التي سبقت أصحابها متسمرة في مكانها‪ ،‬تأبى التقدم‪ ،‬كما سمعوا أصوات األتراك و هم يصرخون في‬
‫خيولهم التي أجفلها صوت الصاعقة و جعلها تهتاج و تتفرق راكضة في كل االتجاهات‪ .‬بعد ذلك بلحظات‪ ،‬راحت‬
‫قطرات من المطر تتساقط من السماء تحت وقع الرعود‪ ،‬تحولت سريعا إلى مطر غزير جدا‪ ،‬جعل الوادي يمتلئ‬
‫و يتحول إلى سيل جارف في ظرف دقائق معدودة‪ .‬عجبا !‪ ،‬لم يستطع الجنود العبور رغم محاوالتهم‪ ،‬فاكتفوا في‬
‫النهاية بإطالق بعض األعيرة النارية باتجاه المقاومين القبايل الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة‪ ،‬بل اكتفوا بمراقبة‬
‫الوضع عن بعد و هم يرون األتراك بين األشجار يحملون أو يسحبون بعض جنودهم الذين سقطوا من على الخيول‬
‫التي فرت جراء الصاعقة‪ ،‬أو أالئك الذين رفستهم في طريقها‪ .‬كان شيئا ال يصدَّق‪ ،‬فقد أمر قائد الكتيبة باالنسحاب‬
‫في النهاية حتى قبل أن يتوقف هطول تلك األمطار‪ ،‬بل و يُقال أنه و بمجرد انسحاب العسكر العثماني توقفت‬
‫العاصفة‪ .‬حينها فقط رأى السكان المتحصنون هنا في هذه المنازل القائمة إلى اليوم‪ ،‬رأوا سيدي أوعابد و هو يرفع‬
‫رأسه من سجدته الطويلة التي استمرت لساعات‪ ،‬حامال يديه إلى السماء شاكرا سيدي ربي‪ .‬لم يفهموا سبب ذلك‬
‫إلى حين عودة الرجال من أسفل الجبل حاملين أخبار ما حدث‪ .‬كان األمر معجزة حقيقية حذت بالسكان في اليوم‬
‫التالي الذي صادف أول يوم جمعة من شهر جوان إلى تنظيم ثاوزيعت‪ ،‬فذبحوا األبقار و تصدقوا بها على الفقراء‬
‫و عابري السبيل في القرية و حتى في القرى المجاورة‪ ،‬و منذ ذاك اليوم سرت العادة عند أهل تيميزر و صارت‬
‫تقليدا سنويا ال يمكن تقديمه أو تأخيره عن موعده المحدد‪.‬‬

‫ابتسم التاجر محند متنهدا و هو ينظر إلي يشير بيده كأنه يود القول '' هذه هي قصة ثاوزيعت عندنا '' و يا لها‬
‫من قصة !‪.‬‬

‫تركتُ السي محند في متجره البسيط رفقة جريدته‪ ،‬و استمر تجوالي رفقة المؤذن مولود الذي كان كريما و‬
‫صبورا‪ ،‬فقد مررنا بالكثير من شوارع القرية التي بدت مضيافة بشكل الفت‪ ،‬ربما لنظافتها و انعدام أي شوائب أو‬
‫أوساخ فيها‪ .‬طرحت أسئلتي على مجموعة أخرى من السكان الذين اقتربت إجاباتهم مما سبق حول تاريخ القرية‪،‬‬
‫معجزة وليها الصالح الذي غلب جيش الترك مما أوجد وزيعتها السنوية‪ ،‬زيارة العقيد عميروش عام ‪ ،29‬التي‬
‫يتحدث عنها الكل بنوع من الفخر المبالغ فيه‪ ،‬أو هكذا بدى لي‪ .‬لكن قصة الوزيعة بينت لي إلى أي حد تختلط فيه‬
‫األحداث التاريخية مع الخيال الشعبي لتتحول إلى أساطير تخلق نوعا من االلتفاف حولها من طرف المجتمع‪ ،‬من‬
‫خالل تخليد ذكراها بطقوس أو أعياد يُر ِّّمم بها المجتمع تصدعاته و يحارب بها نسيانه أو تنصله من طبيعته و‬
‫شخصيته التي تميزه عن باقي البنى االجتماعية األخرى‪ .‬ربما هذا هو مقصد سكان القرى القبايلية في النهاية‪ ،‬فمن‬
‫خالل تقليد ثاوزيعت‪ ،‬يتذكر القبايليون أنهم قبايليين فقط ؟‪ .‬أما مولود فلم يبتعد باستنتاجاته عما ذهبتُ إليه‪ ،‬حين‬
‫وقفنا برهة نتبادل األفكار من أمام باب منزله بعدما أكرمني أهله بطبق شهي من الكسكسي بلحم الدجاج على مائدة‬

‫‪204‬‬
‫الغذاء‪ .‬وقفنا أمام باب البيت القرميدي التقليدي المتماهي في معمار القرية ككل‪ .‬استسمحت الشاب بتدخين سيجارة‪.‬‬
‫كان رأسي قد بدأ يضغط علي منذ آخر سيجارة تناولتها في المقهى الموري‪ .‬كان الشاب ينظر إلى ساعته يُخبرني‬
‫يطوقونه من كل جهة‪.‬‬
‫أن وقت صالة الظهر يقترب‪ ،‬لكني فضولي و أنانيتي و حتى روحي الصبيانية كانوا ّ ِّ‬

‫_ قلي يا ماس مولود‪ ،‬هل فعال شهدت هذه المنطقة اضطرابات سياسية أو اجتماعية إبان الحكم العثماني ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ ،‬على كل حال فطبيعة بالد القبايل كانت دوما مضطربة سياسيا و اجتماعيا منذ قرون‪ .‬إنها تلك الدودة‬
‫الصغيرة التي تعيش داخل مخ كل قبايلي تقريبا !‪...‬‬

‫كانت ضحكته تهكمية بشكل واضح قبل أن يكمل‪..‬‬

‫_ ‪ ...‬نعلم أن سكان هذه الجبال تمردوا طويال على سلطة الحكام األتراك و كانوا يرفضون دفع ضرائبهم‬
‫المستحقة على خزينة الدايات‪ ،‬بدعوى أنها ضرائب مجحفة‪ .‬طغيان العسكر و سلوك الباش آغاوات المتعالي على‬
‫السكان المحليين زاد األمور سوء‪ ،‬و من أجل صون حريتهم و كرامتهم‪ ،‬أقام القبايل حكما ذاتيا هنا‪ ،‬فقد قامت‬
‫إمارة أمازيغية قوية في هذه الربوع خالل القرن السادس عشر للميالد و استمرت ألكثر من قرنين‪ ،‬و قد خاضت‬
‫خالل مدة وجودها حروبا طويلة ضد االنكشاريين و دفعت بالدايات لتفادي االقتراب من جبال القبايل لسنوات‪.‬‬

‫_ أوه حقا ؟‪ .‬لم أسمع بقيام دولة هنا خالل تلك الفترة التاريخية‪.‬‬

‫_ كانت تدعى دولة كوكو نسبة للجبل الذي تأسست فيه و هو يقع غير بعيد عن منطقة إيلولة إيمولة حاليا‪ ،‬و‬
‫قد امتدت هيمنتها على كل هذه الجبال و القرى منذ عهد مؤ ِّ ّسسي تلك الدولة من أسرة أولقاضي الشهيرة‪.‬‬

‫_ و كيف كانت نهاية هذه الدولة ؟‪.‬‬

‫_ بعد قرنين و نيف من استقاللها الذاتي‪ ،‬كانت نهايتها كما هي نهاية دول تلك الحقبة من تاريخنا‪ .‬لقد أنهكتها‬
‫حرب طويلة و غير متكافئة ضد امبراطورية الترك القوية‪ ،‬و شتّتتها الصراعات الداخلية بين أبناء الجلدة الواحدة‬
‫و انتهت كما تقول بعض المصادر بآخر زعمائها‪ ،‬ماس أحمد الغبريني‪ ،‬بتزويج ابنته لقائد البحرية العثمانية في‬
‫الجزائر يومها علي بتشين‪ .‬الفتاة الحسناء كانت شجاعة بأن وهبت نفسها للعدو من أجل شعبها !‪ .‬لكن على األقل‬
‫ففترة هيمنة كوكو هنا كانت كافية ليبرهن سكان هذه الجبال مرة أخرى على أنهم يرفضون الذل و الوصاية و‬
‫الهيمنة‪ ،‬خاصة إن جاءت من طرف أجنبي أو مستبد‪ .‬إنها قناعة راسخة في نفوس سكان هذه الجبال يا ماس‬
‫وشاكي‪.‬‬

‫_ هل تؤمن بها أنت ؟‪.‬‬

‫اكتفى بالتبسم‪.‬‬

‫انصرف مولود متجها نحو المسجد‪ .‬نظرتُ إليه لوهلة و هو يتمايل بجسده الطويل و خطواته المتسارعة‬
‫سالكا أحد الشوارع التي تصعد مباشرة إلى ساحة تاجماعت‪ .‬رأيتُ فيه شيئا يندر وجوده في األشخاص الملتحين‬

‫‪205‬‬
‫الذين يسكنون المدن‪ ،‬بسلوكهم االنعزالي و مالمحهم المكفهرة بسبب اختالط مفهوم الرزانة مع اندغام الوجه داخل‬
‫عقولهم ال ُمسيجة باألحكام المطلقة و المسبقة تجاه المجتمع الذي يعيشون غربتهم الموحشة داخله‪ .‬كانت تلك مفارقة‬
‫تحتاج إلى شرح منطقي‪ ،‬فمولود الذي بدى أنه إسالم ي التوجه من خالل ملمحه و أفكاره و نشاطه اليومي‪ ،‬بدى‬
‫مع ذلك شخصا متسامحا للغاية و شبه متفهم لما يراه من حوله على أنه عادات أو تقاليد بالية و غير منسجمة مع‬
‫معتقداته الدينية‪ .‬أمر مثير لالهتمام !‪.‬‬

‫أخذتُ نفسا عميقا‪ .‬منعتني نفسي المتحمسة من استراحة ما بعد الظهيرة رغم حرارة الجو و خلو القرية من‬
‫الحركة وقت القيلولة‪ .‬سرت طويال و أنا أكتشف شوارعها و طرقاتها و زقاقها شارعا شارعا‪ ،‬طريقا طريقا‪ ،‬زقاقا‬
‫زقاقا‪ ،‬دون أن أنسى التقاط بعض الصور لبعض المنازل القديمة جدا‪ ،‬التي كانت كأنها تنظر إلي بثقة لم يكن‬
‫لعشريات كاملة من الزمن أن تزعزعها و هي تعبِّّر لي عن طريق لون أحجارها الترابية التي كانت تشع تحت‬
‫الشمس أنها فعال موجودة في هذا المكان المرتفع منذ قرنين على األقل‪ .‬قطع حية من التاريخ !‪.‬‬

‫كنتُ أوثق انطباعاتي حامال هاتفي الخلوي أسجل بعض الفيديوهات‪ ،‬أتحدث عن طبيعة القرية الهادئة‪ ،‬عن‬
‫طرقاتها النظيفة بشكل الفت يجعل المرء يتساءل عن الكيفية التي يتخلص بها هؤالء القرويين من فضالتهم و أين‬
‫يأخذونها‪ .‬كل شيء يبدو في مكانه رغم أن توزيع المنازل متداخل و فوضوي‪ ،‬إال أني كنتُ أستشعر روحا مهيمنة‬
‫كرس بشكل آلي في حياتهم اليومية إلى درجة‬
‫من النظام الجماعي‪ .‬شيء ما يُسيّر أمور القوم‪ .‬شيء واع و ربما ُم ّ‬
‫أنهم قد ال يستشعرونه من كثرة ألفتهم به‪ ،‬لكن الدخيل على هذه الديار يكاد يراه مرأى العين‪.‬‬

‫مع كل خطوة كنتُ أخطوها‪ .‬مع كل منعطف كنتُ أسلكه‪ ،‬كانت أسئلتي تتكاثر و كان علي أن أضبطها و‬
‫أر ِّت ّبها حتى ال أجد نفسي خارج سياق موضوعي الصحفي‪ ،‬بل وجدتني أصارع بعضها كونها كانت تود أخذ‬
‫الريادة‪ .‬في أحايين كثيرة يحدث لي أن أصير كمثل ذلك الراعي الذي تفرق قطيعه في كل االتجاهات‪ ،‬بعدما يفقد‬
‫السيطرة على أفراده‪ ،‬بالرغم من ذلك فقد كنتُ أستمتع و أنا أشتغل على موضوع ربورتاجي‪ ،‬ربما كوني كنتُ‬
‫أحس أني أكتشف أشياء جديدة‪ ،‬فضال عن األسباب الحقيقية التي أوصلتني إلى تيميزر‪ ،‬أو ربما هي الجولة‬
‫السياحية التي كنتُ أقوم بها بعيدا عن الروتين الذي ألفته في العاصمة ؟‪ .‬ربما هي متعة تفقيص الكثير من األفكار‬
‫المستلهمة من تجربة تيميزر القصيرة و التي قد تساعدني كثيرا في مقاالتي االجتماعية مستقبال ؟‪ .‬متعة التطلع إلى‬
‫اكتشاف المزيد من أرجاء القرية و األماكن التي تحيط بها‪ ،‬و تجاذب أطراف الحديث مع بعض سكانها ممن‬
‫يتقنون شيئا من العربية أو الفرنسية‪ ،‬و مع مرور الساعات لم ألبث أن وجدتُ أشعة الشمس و قد انسحبت من‬
‫الزوايا حيث اغتنم ظل األبنية و األشجار الفرصة ليطول و يتمدد على األرض و فوق األصوار الدافئة بشكل‬
‫الفت‪ ،‬كأنه أمنيات جريئة أو رغبات غير مضبوطة‪.‬‬

‫أمضيت تلك الليلة في غرفتي الصغيرة في مقام سيدي أوعابد قاهر العثمانيين وسط أصوات الصراصير‪،‬‬
‫أشتغل على مقدمة الربورتاج‪ ،‬مستحضرا عبر هاتفي المحمول كل تلك االنطباعات األولى التي عشتها في طريقي‬
‫إلى القرية و حين وصولي إليها‪ ،‬و ما جمعته عن تاريخها و أساطيرها طيلة يوم كامل‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫كان الطفل الذي يعيش بداخلي يقفز مرحا و بنشاط غير معهود تماما‪ ،‬يركض بين قطع و أكوام األفكار التي‬
‫كنتُ أج ِّّمعها ألبني بها قصتي الصحفية‪ ،‬التي رآها هو على شكل منزل مبني بالحلوى‪ ،‬بداخله متاهة أغوته‬
‫بالدخول و االكتشاف و اللهو على ما أعتقد ؟‪ .‬شيء ما تح ّرك في نفسي و أنا أستمع في التسجيالت الرقمية إلى‬
‫صوت المؤذن مولود الذي اختلط بأصوات من استجوبتهم حول حادثة سيدي أوعابد و األتراك التي المست‬
‫الخرافة‪ .‬حول بطوالت العقيد عميروش المشبعة بالفخر و التقديس و األغاني النسوية‪ .‬عن قصة مملكة كوكو‬
‫الغابرة‪ .‬عن الجد أمزر و أطالل إجودار المنسية هناك في قمة الجبل وسط السحاب كتاريخ البلد بر َّمته‪ .‬أعادني كل‬
‫ذلك و بشكل شبه سببي إلى حكايات و قصص جدتي حول مغامراتها مع جدها أيام الصبى في غابات و جبال‬
‫تابالط‪ ،‬التي كانت تقصها علينا كل ليلة حين نجتمع حولها وسط دار جدي القرميدية‪ ،‬قبل أن ننام على نعيق البوم‬
‫الذي يتماها مع أحالمنا الطفولية و هواجسنا البريئة‪ .‬صدى قصص الساحرات اللواتي يظهرن في صور حسناوات‬
‫عند ينابيع المياه‪ ،‬و الغيالن التي تسطو على المواشي‪ ،‬و الحيوانات الناطقة‪ ،‬و اللصوص األقزام اللذين يعشقون‬
‫تتبع خطى األطفال األشقياء لخطفهم من مهاجعهم ليال‪ .‬لذلك كنتُ أبتسم بين الفينة و األخرى و أنا أشتغل على‬
‫المقال‪ ،‬خاصة حين وصلتُ إلى الفقرة التي أتحدث فيها عن أسطورة ولي القرية‪ ،‬إذ أوردتها هكذا‪:‬‬

‫مرت عليه العقود و األزمان‪ ،‬و‬


‫شيء ما في هذه الجبال ال يمكن أن يتغير مهما َّ‬
‫هو روح القصص القديمة التي تختلط فيها الحقيقة بالمبالغة في الوصف أو التقديس‬
‫لتتحول إلى أساطير تفيض باإلدهاش‪ ،‬و التي ال يزال السكان يحفظونها في وجدانهم‬
‫الجمعي كما يحتفظ الطفل بحجر قديم و عادي‪ ،‬يُريد له بقوة خياله و براءته أن يكون‬
‫حجرا سحريا بالفعل‪ ،‬فقط ليعيش متعة رؤية الدهشة على وجوه اآلخرين كلما حدّثهم‬
‫عنه‪.‬‬

‫الحقيقة هي أن الطفل الذي بداخلي كان يريد بكل قوة أن يجعلني أعتقد فعليا أن قرية تيميزر قد ُ‬
‫شيدت بأحجار‬
‫جيء بها من الشمس‪ ،‬فقد استشعر أو رأى شيئا مميزا فيها !‪ .‬لم أرغب في السير على خطاه‪ .‬كنتُ كمن يحثه على‬
‫الجلوس و التزام الهدوء إذ أن األمر في النهاية ال يتعلق بشيء خارق فعليا‪ .‬مجرد أساطير متوارثة و عادات و‬
‫تقاليد راسخة في قرية نائية لم تتأثر بالمد الخارجي بسبب موقعها الطبيعي الحصين‪ ،‬مثلها مثل كل القرى المنسية‬
‫في ربوع هذه البالد الشاسعة‪ .‬لكني أمام تحديه و هرجه و غضبه اكتفيت بمغافلته و القول أن أحجارها العتيقة قد‬
‫تشبعت بوهج الشمس لقرون طويلة‪ ،‬و هو ما جعله يهدأ و يخلد إلى النوم أخيرا‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫‪-14-‬‬

‫س ّد من التين الشوكي‬

‫صبيحة الجمعة ‪ 11‬جوان ‪...4102‬‬

‫كنتُ أقف عند باب قبة الولي أوعابد بذهن سارح محمول فوق تلك النسمات الهوائية اللطيفة التي كانت تعبث‬
‫بدخان سيجارتي المحترقة بين شفتي‪ ،‬أفكر مرة أخرى في أمر آغاكال و جماعة الـ تي تي أس‪ .‬من يمكنه أن‬
‫يوصلني إلى حقيقة ما يدبِّّر له صانع الطين و أصحابه ؟‪ .‬من يؤكد لي ذلك عن طريق وثائق ال تقبل الشك‪ ،‬تتحدث‬
‫عن برنامجهم و ما ينوون فعله على أرض الواقع‪ ،‬أو على األقل وثائق أتبين من خاللها أفكارهم األساسية ؟‪.‬‬

‫الصحفي األلماني ‪ Gunter Wallraff‬كان أول من ابتكر أسلوبا فريدا من نوعه في التحري و القيام‬
‫بالتحقيقات الصحفي ة‪ ،‬يقوم على محاولة تغيير مالمح الوجه و اللباس و اللكنة حتى تطابق تلك المنتشرة في‬
‫المجتمع أو الجماعة التي يود الصحفي المحقق اختراقها و القيام بتحقيقه فيها‪ .‬فإن كان يود القيام بتحقيق وسط‬

‫‪208‬‬
‫المجتمع الهيبّي ارتدى لباسه و تصرف كما يتصرف الهيبيون‪ .‬إن أراد القيام بتحقيق وسط النازيين الجدد حلق‬
‫رأسه و كشر عن أنيابه و تظاهر بهوسه بفكرة العرق النقي‪ .‬إن اهتدى للقيام بتحقيق عن عالم الشذوذ الجنسي‪،‬‬
‫مروج‬
‫فليس عليه سوى تمثيل دور شاذ بين الشواذ‪ .‬إن رغب في اختراق جماعة مروجي مخدرات‪ ،‬أدى دور ّ ِّ‬
‫حقيقي قلبا و قالبا‪ ....‬و هكذا‪.‬‬

‫آه لو كان بإمكاني فقط تعلم اللهجة القبايلية و إتقانها اتقانا تاما في ظرف قياسي !‪ .‬ربما كنتُ في تلك اللحظة‬
‫أسير و أنا ملفوف وسط برنس أبيض اللون‪ ،‬معتمرا قبعة من القش أو شاشا أصفر‪ ،‬أمشي بتمايل واضعا يدي‬
‫خلف ظهري‪ ،‬مبرزا ذقني و مغمضا إحدى عيني تحت لفحات الشمس التي تتربص بالرؤوس‪ .‬حتما كنتُ ألجد من‬
‫يهمس لي عن الحراك االجتماعي الذي يجهز آغاكال و أتباعه إلطالقه في الذكرى السنوية للربيع البربري‬
‫األسود‪ ،‬ثم أصل لوضع يدي على وثيقة ما من وثائق الجماعة السرية‪ .‬وثيقة تتحدث عن مغامرة ربيع عربي آخر‬
‫هنا في بلدنا هذا‪ ....‬حتى لو سمي عبثا '' بربريا ''‪.‬‬

‫_ ال بد أن تكون بدايته بعد نحو ‪ 02‬يوم تقريبا !‪.‬‬

‫ارتأيت أن أسترخي قليال و أبعد ذهني عن آغاكال اللع ين إلى غاية إقامة الوزيعة الذي كان يفصلنا عنه نحو‬
‫ساعة‪ ،‬لذلك انتهى بي المطاف جالسا في المقهى الموري الموتاضع بالقرب من الحاجز الطوبي القصير‪ ،‬أستمتع‬
‫بلقهوى المج ّهزة فوق الجمر‪ ،‬قبل أن يلتحق بي الفتى موسى الذي بدى سعيدا برؤيتي‪ .‬دعوته إلى مشاركتي فنجان‬
‫قهوة‪ ،‬فقبل ذلك بسرور واضح‪ .‬جعلتني بسمته شبه الدائمة أشعر أني أخطأتُ في تصنيفه أول مرة‪ ،‬حين افترضتُ‬
‫أنه من صنف القبايل الذي يُقال عنهم أنهم ال يحبون التعامل مع أي غريب عن منطقتهم‪ .‬فالفتى بدى اجتماعيا و‬
‫منفتحا جدا‪ ،‬بل و ثرثار أيضا‪ .‬كانت تلك فرصتي ألحلب ما يوج في رأسه‪ ،‬علي أعثر على معلومات مفيدة عن‬
‫صانع الطين‪...‬‬

‫_ تعلم ماس موسى‪ ،‬أرغب فعال في إتمام اكتشافي لقريتكم هذه‪.‬‬

‫_ ماذا بقي لك يا ماس أمين لتكتشف ؟‪ ،‬إنها أمام عينيك‪ ،‬يمكنك أن تراها كاملة و أنت عند المسجد دون أن‬
‫تخطوة خطوة واحدة !‪.‬‬

‫_ ما وراء المسجد ؟‪.‬‬

‫_ أه ليس بالشيء الكثير‪ .‬باقي المنازل و هي متباعدة نسبيا عن بعضها‪ ،‬مقارنة مع المنازل الواقعة على هذه‬
‫الجهة‪ .‬اسطبالت األنعام‪ .‬المقبرة في مدخل الغابة‪ ،‬و هي مفصولة إلى جزئين‪ .‬جزء ظاهر للسكان و جزء يغوص‬
‫إيول '' ‪.‬‬
‫بشكل أعمق في بداية الغابة و هو المكان الذي يرقد فيه شهداء القرية‪ .‬ثم تجد نفسك في '' ثيزڨي أوس َ‬

‫_ ما هذا ؟‪.‬‬

‫_ غابة األحاديث‪ ..‬أو غابة الكلمات إن أردت‪ .‬مكان مخيف و سيء‪ .‬لنقل أنه مسكون بالشياطين و قانون‬
‫القرية يمنع التجوال فيها‪ ،‬لذلك ال أنصحك‪...‬‬
‫‪209‬‬
‫_ هممم‪ ...‬ال أحد في القرية يصعد إلى غابة األحاديث هذه ؟‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬ال أحد‪ .‬األطفال الصغار يخافون المكان من كثرة ما يقص عليهم حولها ليال قبل النوم‪ ،‬و الكبار يعلمون‬
‫أنه مكان مسكون‪ ،‬فقد شهد الكثير من أعمال اإلعدام و القتل البشعة أثناء حرب االستقالل‪ ،‬سواء من طرف الجيش‬
‫الفرنسي و عصابات الحركى األوغاد‪ ،‬أو من طرف جيش التحرير الوطني‪.‬‬

‫_ تقصد‪ ..‬ال أحد ‪ ...‬ال أحد ؟‪.‬‬

‫صمت للحظة و كأنه يفكر مع نفسه قبل أن يجيب‪ .‬تنهد دون أن ينظر إلي‪...‬‬

‫_ أجل‪ ،‬ال أحد‪ ...‬سوى بعض من مجانين القرية‪ ...‬أنت تعلم‪ ،‬ال يمكن لوم المجانين على كسر قوانين المجتمع‬
‫و فوق ذلك فالمجنون مجنون أصال‪ ،‬ما الذي يمكن أن تفعله العفاريت به ؟ !‪.‬‬

‫أطلق موسى ضحكة خفيفة مبرزا أسنانه المهترئة و هو يحك جبينه بأنامل يمناه‪ .‬رأيت على مالمحه أمارات‬
‫من وجد نفسه فجأة في ورطة أوقع نفسه فيها‪ .‬ورطة قد تؤدي إلى شيء كبير جدا‪ .‬كيف ال و قد كان يجالس‬
‫صحفيا قادما لنفض الغبار عن قريته الهاربة من الماضي ؟‪ .‬شعرتُ به يكاد يعرب لي عن رغبته في أن أكف عن‬
‫السؤال و ذا ك ما ألقى إلي بوريقة حدس ممزقة عليها عبارة غير مكتملة‪ ،‬لكن معنى الكلمات الظاهرة عليها كان‬
‫يشير إلى أن موسى قد يكون على علم بشيء ما‪ .‬كنتُ أكاد أقسم على أن مجانين القرية الذين يدخلون إلى غابة‬
‫الكلمات دون أن يعترض أحد سبيلهم‪ ،‬لم يكونوا في الحقيقة سوى شخص واحد‪ ،‬متوحد‪ ،‬غريب األطوار‪ ،‬متمرد‬
‫على األطر الجماعية التي تسير هؤالء القوم‪ ،‬فنان عبقري‪ ......‬مجنون !‪.‬‬

‫_ غريب‪ .‬لم أر أي مجنون مذ قدمتُ إلى هنا‪ .‬أين تضعونهم ؟ !‪.‬‬

‫رميتُ إليه بالسؤال ساخرا و أنا أراقب بدقة شديدة تغير أصغر تعابير وجهه التي أبانت أكثر عن شخص وقع‬
‫في ورطة‪ ،‬لكنه كان يبتسم رغم ذلك‪...‬‬

‫_ آه يا ماس أمين !‪ ،‬هه أنت لم تلتق بمجنون نُلقبه هنا بـ '' بو ورفان ''‪ ،‬و الذي يطارد األطفال في شوارع‬
‫القرية إن هم تعمدوا حك ظهورهم أمام أنظاره‪ .‬لم تر '' نانه عواوش ''‪ ،‬العجوز المجنونة التي تنفجر بكم ال حصر‬
‫له من السب و الشتم و اإلشارات المحرجة أمام أي شخص أو جماعة تستفزها بالسؤال عن مكان إخفائها غلة‬
‫الزيتون الخاصة بها‪ ،‬طبعا المسكينة ال تملك شيئا إال ما يقدمه لها لمين من الطعام الذي يأتيها مما تدره بعض‬
‫أوقاف تاجماعت‪ .‬كما يجب حتما أن ترى '' سنيترة '' و هو يؤدي أغاني لونيس آيت منڨالت بشكل مبهر‪ ،‬مقلدا‬
‫صوته و صوت القيطار أمام الناس‪ ،‬مقابل الحصول على بعض السجائر أو الشمة !‪.‬‬

‫الوغد الصغير !‪ .‬لقد أخرج نفسه من ورطته بسرعة و هو يلتزم الصمت سريعا منكفيا على نفسه بعدما‬
‫تخندق خلف صف من مجانين القرية‪ ،‬الذين وضعهم أمامي كما يضع حارس المرمى جدار العبيه أمام خصم‬
‫يبحث عن ثغرة يقذف عبرها كرته التي يودها أن تهز الشباك !‪ .‬ال ال ال يا ماس موسى‪ ،‬أبحث عن المجنون‬
‫األخطر في هذه القرية !‪ .‬كنتُ أردِّّد بداخلي و أنا أراقب الفتى و هو يُصارع شيئا ما كان يود البوح به‪ .‬كنتُ قد‬
‫‪210‬‬
‫علمتُ أنه شخص ثرثار‪ .‬هذا الصنف من البشر ليس عليك إال أن تفاتحه في موضوع لتتوقف عن الحديث في‬
‫منتصفه‪ ،‬و تتركه يصارع رغبته الموجعة في إكمال البوح بما ال يجدر البوح به‪ .‬لذلك التزمتُ الصمت متظاهرا‬
‫أني تجاوزت موضوع الحديث و وضعته خلفي‪ .‬لم يطل األمر حتى جائني صوت موسى بعد لحظات‪...‬‬

‫_ أه تذكرتُ مجنونا آخر من مجانين القرية‪ ،‬أو هكذا يعتبره البعض‪...‬‬

‫نظرتُ إليه مطلقا ضحكة غير آبهة‪....‬‬

‫_ يبدو أن قريتكم هذه تعج بالمجانين‪ ،‬ماس موسى‪...‬‬

‫ثم عدتُ إلى التظاهر أني ال آبه بالموضوع‪ ،‬و هو ما زاد في تأجيج الفتى بشهوة البوح‪ ،‬فدنى مني قليال‬
‫بكرسيه‪...‬‬

‫_ في الحقيقة هو ليس بمجنون‪ ،‬لكن البعض يعتقد أنه شخص غامض و خطير‪....‬‬

‫_ كيف ذلك ؟‪.‬‬

‫سألته مختبئا خلف وجه هادئ‪ ،‬بالكاد غير آبه‪ ،‬فدنى أكثر بكرسيه مني حتى أمكنني التقاط أنفاسه المليئة‬
‫برائحة التبغ الممضوغ ( الشمة )‪...‬‬

‫_ إنه عميروش ابن الدا إيدير‪ .‬نلقبه هنا بآغاكال‪ .‬شخص تحبه القرية و تكرهه في نفس الوقت‪ .‬يعيش متوحدا‬
‫و ال يكاد يتعامل مع أحد‪ .‬إنه الوحيد الذي يدخل تيزڨي بكل حرية و في أي وقت شاء دون أن يتعرض للردع من‬
‫قبل تاجماعت‪ .‬قصته طويلة و معقدة‪ .‬لكن و بما أنه أبرع فخارجي في المنطقة‪ ،‬فأعتقد أنه يستحق شيئا من‬
‫االهتمام من طرف الصحافة‪ .‬إنه فنان و رجل مثقف‪ .‬ربما تجعل منه موضوعا لك في مقال أو روبورتاج آخر ؟‪.‬‬

‫_ ربما‪....‬‬

‫هززتُ رأسي كمن يزن اقتراحا ما في عقله دون أن يعيره اهتماما كامال‪ ،‬رغم أني كنتُ في داخلي أحترق‬
‫في صمت بشهوة الفضول الصحفي و كنتُ أرغب في سحب لسان موسى الثرثار من حلقه ألطول وقت ممكن‪،‬‬
‫لوال أن الفتى لم يكمل جلسته معي‪ ،‬بل استسمحني للذهاب لمساعدة بعض أفراد القرية على جلب و تجهيز الثيران‬
‫المخصصة للذبح في البطحة التي ستقام فيها الوزيعة‪.‬‬

‫لم يطل جلوسي بعده سوى بعض الدقائق‪ ،‬ألجد نفسي أتبع بعض رجال القرية المتوجهين إلى مكان الحدث‪،‬‬
‫ألجد نفسي أقف أعلى تلك البطحة التي تذبح فيها الثيران كل سنة‪ ،‬مذ أن ذبح فيها سكان تيميزر ثيرانهم و أبقارهم‬
‫تحت إشراف الولي أوعابد‪ ،‬حين ساعدته الطبيعة بصدفها الغريبة على هزيمة األتراك في ذاك اليوم المشهود من‬
‫أيام مملكة كوكو الغابرة‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫بدت الحركة غير عادية عبر المكان‪ .‬األطفال و الصبية يركضون في كل االتجاهات مرحين‪ .‬الوجوه‬
‫متحمسة و معظمها مبتسم‪ ،‬مع كثرة الحضور الذين يتوافدون على البطحة المائلة نسبيا و التي تقابل سالسل‬
‫جرجرة التي كانت قممها تطل علينا من فوق طبقات خفيفة من الضباب‪ .‬كنتُ أراقب الحضور القوي‪ .‬رجال و‬
‫شباب من مختلف األعمار يتوافدون على المكان ممن يعملون أو يدرسون في أماكن بعيدة‪ ،‬هم اليوم حضور بين‬
‫أهلهم في هذه العطلة األسبوعية‪ ،‬فضال عن هذه المناسبة السنوية‪.‬‬

‫الثيران كانت مربوطة إلى بعض أشجار البلوط الضخمة المتباعدة نسبيا و التي راحت أغصانها تتمايل ببطء‬
‫على نسمات الهواء الصباحية‪ ،‬حين كان بعض الرجال الذين يحملون األدوات الالزمة لعملية النحر يتقدمون وسط‬
‫القوم الذين راحوا يفسحون لهم الطريق‪ .‬بحثتُ عن موسى الثرثار‪ ،‬لكني لم أره بسبب الحضور الكثيف للناس‬
‫الذين تماهت قسمات وجوههم مع بعضها البعض و راحت همهمتهم تتغلغل بين المسامع مع بعض الضحكات‬
‫المرتفعة بين الحين و اآلخر‪ ،‬أو بعض عبارات التحية الصاخبة التي كان يطلقها بعض القرويين الذين كانوا‬
‫يسيرون نحو شخص ما أو مجموعة أشخاص فاتحين أذرعهم معانقين بعضهم البعض‪.‬‬

‫كان واضحا أن المناسبة هي فرصة التقاء من ال تم ِّ ّكن لهم ظروف الحياة أو شقاء األيام من أن يلتقوا‬
‫باستمرار‪ ،‬و تماما كما وصفت من قبل كل الذين حاورتهم قبل يوم‪ ،‬هي مناسبة يُعاد فيها ترميم العالقات‬
‫االجتماعية التي تصدعت بسبب األيام و البعد و الغياب و حتى الحزازات‪ .‬الجميع هنا اليوم ليسلموا على بعضهم‬
‫البعض‪ ،‬ليتبادلوا األخبار و القصص‪ ،‬ليتفقوا على مشاريع مستقبلية ربما‪ .‬إن ما سوف يحدث هنا في هذه البطحة‬
‫هو شيء يتجاوز توزيع قطع لحم الثيران المذبوحة على الفقراء و المحتاجين و عابري السبيل‪ ،‬بل هو شكل من‬
‫اشكال العرفان نحو هللا أو السماء أو الطبيعة حول ما حدث في هذا الجبل قبل نحو ‪ 211‬عام‪.‬‬

‫رأيتُ المؤذن مولود يلوح لي بيده من بعيد‪ .‬اتجهت إليه و أنا ال أكف عن التحديق في جميع االتجاهات علي‬
‫ألمح هدفي‪ ،‬حين راح اإلمام عبد السالم يدعوا القوم لالقتراب و رفع أيديهم إلى السماء من أجل الدعاء كما‬
‫أخبرني مولود الذي أراد أن يكون ترجماني مرة أخرى‪.‬‬

‫شكل القوم حلقة دائرية كبيرة مكتظة حول أشجار البلوط التي كانت الثيران تقف تحتها و هي تلقي بنظراتها‬
‫الهادئة نحو كل هؤالء الذين اجتمعوا حولها حاملين أذرعهم نحو السماء‪ ،‬في اللحظة التي راح فيها مولود يُرتجم‬
‫لي ما كان اإلمام يدعو به‪ :‬اللهم نسألك بركة هذا اليوم السعيد من أيام هذه القرية الشامخة‪ ،‬اللهم بارك في زرعها‬
‫و شجرها و قطعانها و عيونها‪ ،‬اللهم بارك في أهلها و ضاعف الخير في بيوتها و اجعله ينساب منها بغزارة‬
‫كانسياب الماء من بين أحجار هذا الجبل‪ .‬اللهم اعط من تصدق أضعافا و ارزق من احتاج أضعافا و أجر وليك‬
‫الصال ح سيدي عبد هللا أوعابد أجرا كريما و حسنات جارية مادامت هذه السنة المباركة‪ ،‬و ارزق أهله و نسله‬
‫الخير و زدهم في الشأن‪ ،‬و احفظ ذريته إلى اليوم الدين‪....‬‬

‫كنتُ أراقب القوم عن كثب و أنا أمد بهاتفي المحمول إلى فم مولود الذي كان مستمرا في ترجمة تلك األدعية‪.‬‬
‫كانت فرصتي ألمسح القوم جميعا بناظري ما داموا متسمرين في أماكنهم‪ ،‬لعلي أقع على صانع الفخار‪ .‬كنتُ‬

‫‪212‬‬
‫أالحظ أيضا ردود فعل غريبة و متباينة‪ .‬الكثير من الرجال الذين كانوا يرفعون أذرعهم إلى السماء خفضوها‬
‫بمجرد أن راح اإلمام يدعو للولي سيدي أوعابد و أهله و المنحدرين منه‪ .‬البعض اآلخر لم يكلف نفسه رفع يديه‬
‫منذ البداية و األهم أن معظم هؤالء كانوا من فئة الشباب ؟‪.‬‬

‫نظرتُ إلى مولود علي ألحظ ردة فعله من األمر‪ ،‬لكنه بدى غير آبه تماما و هو يركز فقط على البحث السريع‬
‫ّ‬
‫التفت خلفي لحظة و أنا أفحص‬ ‫عن الكلمات العربية المناسبة التي توافق ما كان الشيخ يدعو به بلسانه القبايلي‪.‬‬
‫الوقوف فإذا بي أقع على موسى و هو يرفع يديه بشكل بدى من خالله و كأنه يود خفضهما‪ .‬بدى و كأنه ورط نفسه‬
‫مرة أخرى في فعل ندم عليه‪ ،‬تماما كما ورط نفسه معي قبل نحو نصف ساعة بسبب عدم سيطرته على لسانه‪.‬‬
‫لكن‪ ...‬لحظة‪ ....‬لحظة‪ .! ....‬هناك‪ ،‬إلى كتفه األيمن وقف شاب ذو بشرة شديدة البياض كأنها رخام نقي مع الكثير‬
‫من النمش الذي غزى وجنتيه‪ .‬شعر أجعد أحمر اللون كالحمم البركانية‪ .‬بدن نحيل و طول فارع‪ .‬لمحتُ تلك‬
‫النظرات غير المبالية تقريبا‪ ،‬التي كانت تخرج من عينيه الزرقوين و هو يرمي يديه داخل جيب سرواله األسود‪.‬‬
‫تسمرت للحظة حتى شعرت أني سأصاب بتشنج في الرقبة‪ .‬لم أكد أصدق‪ ،‬إنه فعال هو !‪ ،‬المراهق الذي تم اعتقاله‬
‫من فوق غطاء محرك سيارتي تلك األمسية الربيعية المضطربة من أمام البريد المركزي في العاصمة !!‪.‬‬

‫تذكرت تلك الحادثة و كأنها تمر أمامي مباشرة‪ .‬كيف كان يصيح و يركض في الطريق بين السيارات و هو‬
‫يلوح بقطعة القماش الغريبة تلك التي يعتبرها البعض '' راية ''‪ .‬كيف تعثر محاوال االفالت من يد ضابط الشرطة‬
‫الذي كان يالحقه و كاد يلطم رأسه في مقدمة سيارة أخرى‪ .‬كيف راح يصيح و يصرخ في هياج كامل و هو يقفز‬
‫حين كان الضابط يحاول تصفيده‪ .‬كيف سكن فجأة بركان الغضب ذاك بمجرد أن أعاد له الضابط رايته واضعا‬
‫إياها فوق كتفيه و هو ينصرف مطلقا نحوي تلك النظرة الغاضبة‪ ،‬التي زلزلت دواخلي و جعلتني أبحث طويال عن‬
‫وصف مالئم لها و للحالة التي كانت تعبِّّر عنها‪ ،‬إلى أن أدركتُ أنها حالة '' يقين '' بعد مدة‪ .‬يقين تام بما يسمى‬
‫قضية بربرية !‪.‬‬

‫اصطفت األشياء فجأة داخل رأسي و بسرعة عجيبة‪ ،‬كأنها مجموعة جنود يفاجؤون بدخول الرقيب إلى‬
‫مهجعم على حين غرة‪ .‬اصطفت بعدما ظلت مبعثرة مذ وصولي إلى تيميزر‪ .‬بدى سبب ميجيئي إلى هنا أكثر‬
‫وضوحا من تلك الشمس المشرقة فوق رؤوسنا و برهن لي أني اتخذتُ الخطوات الصحيحة للوصول إلى هنا‪ ،‬و‬
‫قد أوصلتني فعال إلى هنا‪ .‬بدأتُ أستوعب '' قانون الجذب الكوني '' الذي حدثتني عنه صوفي أخيرا‪ .‬ال بد أن ذلك‬
‫صحيح ! ‪ ،‬و إال فما معنى كل هذا الذي يحدث معي مذ رأيت نظرات ذاك الفتى الغاضبة التي تركتني مستفزا في‬
‫أعماقي أكثر من أي وقت مضى ؟‪ .‬تلك النظرات التي كانت تود اقتالع شيء ما من جوفي حتى أمسك به بين يدي‬
‫و أفهم تماما كيف أغير من وجهة بحثي عن سبقي النهائي‪ ،‬هي التي دفعت بي فعال إلى االلتفات إلى هته التي‬
‫يسمونها '' قضية بربرية ''‪ ،‬التي أخذتني بدورها إلى الحنش األشقر‪ ،‬الذي قدم لي المعلومات الحصرية التي‬
‫وصلت بي إلى هذه القرية النائية‪ ،‬ألجد نفس الفتى يقابلني هناك‪ ،‬شارد الذهن و غير آبه تماما بما يقوله اإلمام‪.‬‬

‫أوقفت التسجيل بمجرد أن سكت اإلمام و المؤذن و علت كلمة '' آمين '' األخيرة الجمع‪ ،‬و أقبل الرجال لذبح‬
‫الثيران و بعضهم يتعاون على سحبها بالحبال نحو األرض لتثبيتها تحت السكاكين المتربصة بها‪ .‬أما أنا فقد كنت‬

‫‪213‬‬
‫أتربص بهدفي األساسي‪ ،‬لكني رغبت في االحتكاك بذاك الفتى الذي أدين له بتلك النظرة الحاسمة قبل نحو شهر‪،‬‬
‫و التي بفضلها كنتُ أتحسس آثار أغاكال و سره المخبّأ‪ .‬تقدمتُ نحو موسى الذي كان منهمكا في الحديث إلى الفتى‬
‫األشقر الذي لمحني و أنا قادم نحوهم‪ ،‬حيث ركز نظراته علي‪ .‬جعلني ذلك أتساءل‪ :‬أيعقل أنه تذكرني ؟‪ ،‬تذكر ذاك‬
‫الشخص الذي كان خلف مقود سيارته و هو ينظر إليه بفضول ؟‪ ،‬أم أنه فقط ينظر إلي كون موسى أخبره أني‬
‫صحفي ؟‪.‬‬

‫_ آه ماس أمين‪ ،‬إنه يوم ثاوزيعت ثامقرانت يا رجل‪ ،‬إنه يوم روبورتاجك المرتقب !‪.‬‬

‫هكذا قابلني موسى ببسمة عريضة أبانت عن أسنانه الصفراء المهترئة‪ ،‬قبل أن يستدير نحو المراهق األشقر‬
‫و المراهقين اللذان كانا معه و هو يقول لهم كالما لم أفهم منه سوى اسمي و كلمتين نطقهما بالفرنسية فصل بينهما‬
‫بحرف النون ( ‪ .) Journaliste n Alger‬ثم التفت إلي و هو يشير بيده إليهم‪...‬‬

‫_ أبناء القرية‪ ،‬مقران‪ ،‬سيد علي و سيفاقص‪.‬‬

‫صافحت الفتيان و كان آخر من أمسكت بيده هو سيفاقص‪ ،‬الفتى العشريني األشقر الذي بادل نظرتي و بسمة‬
‫بنظرة غير مبالية و إماءة رأس خفيفة‪ ،‬حتى أني بالكاد شعرت بيده تالمس يدي‪ ،‬بل كانت مجرد أصابعه التي‬
‫ي‪ .‬لكني تظاهرت‬
‫انفلتت بسرعة منزلقة من كفي حتى قبل أن أشد عليها‪ .‬بدى واضحا أن هنالك شيئا ما لم يرقه ف ّ‬
‫أني لست مباليا و أنا مستمر في تأدية دور الصحفي الذي يغطي الحدث‪...‬‬

‫_ إذن يا شباب‪ ،‬أنا هنا من أجل القيام بربورتاج عن عيدكم السنوي هذا لجريدة النبأ اليومي‪ .‬ماذا يمكنكم أن‬
‫تخبروني عن ثاوزيعت بدوركم ؟‪.‬‬

‫أطلقتُ بسمة و أنا أرقب مالمح وجوههم التي كانت تعبر عن شيء ما‪ .‬شيء ليس في صالحي‪ ،‬لكن أحدهم و‬
‫هو مقران و هو شاب كان يستند على عكازين للوقوف بسبب شلل أو إصابة ما‪ ،‬نطق دون أن ينظر في عيني‪...‬‬

‫_ تدعى تاوزيعت‪ ...‬و لها اسم آخر في اللغة األمازيغية‪ '' ...‬تامشيرت ''‪.‬‬

‫_ آه !‪ ،‬شكرا على المعلومة‪.‬‬

‫نظرتُ إلى المدعو سيد علي لك نه كان يمضغ العلكة و هو مكتوف األيدي يتفرج على عملية الذبح‪ .‬ثم التفت‬
‫إلى سيفاقص ألتفاجأ بعينيه ملتصقتين على وجهي و وجهه أقرب إلى الجماد‪.‬‬

‫_ سي سيفاقص‪ .‬لديك ما تقوله عن هذه المناسبة الهامة ؟‪.‬‬

‫لم يقل شيئا‪ .‬كان ينظر إلي فقط‪ ،‬حين راح موسى يحك أنفه و هو يتظاهر بأنه يتفرج على الثيران التي كانت‬
‫قد تحولت في ظرف دقائق إلى أضاحي‪ .‬لكن سيفاقص نطلق بعد برهة بعربية دارجة تغلفها لكنة قبايلية صرفة‪...‬‬

‫_ أنا أعرفك !‪ .‬أنت صاحب الموسطاشيات‪ ،‬أليس كذلك ؟‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫كان صوته رقيقا لم يتخلص بعد من ذبذباته الطفولية‪ .‬أحسستُ بالراحة و شعرت أن اطالعه على ما أكتب‬
‫سوف يختصر علي الطريق إلى اقتحام فكره و فهم سر تلك المفارقة‪ ،‬التي تعثر ذهني بها يوم لمحته في تلك‬
‫المظاهرة بالقرب من البريد المركزي‪ .‬كيف لمراهق في سن الثامنة أو التاسعة عشر يخوض صراعا أو كفاحا من‬
‫أجل قضية سياسية يراف ع عنها و يواجه المطاردة و االعتقال بسببها دون أن يتراجع إلى الخلف‪ ،‬في حين يأتيني‬
‫مراهق آخر في نفس السن تقريبا‪ ،‬ليضع خنجره فوق حلقي من أجل سلب محفظة أوراقي ؟‪ .‬نفس السن‪ ،‬نفس‬
‫الجيل !‪ .‬كيف أتفاجأ إذن بكونه يقرأ مواضيعي و على اطالع بأفكاري ؟‪ .‬قلتُ في نفسي أني سأجده بعد دقائق‬
‫ملتصقا بكتفي يخطب معرفتي و صداقتي حتى ؟‪ .‬فنظرت إليه مبتسما‪...‬‬

‫_ أجل‪ ،‬أجل‪ ،‬صدقت‪ .‬أنا صاحب مصطلحي '' الموسطاشيا '' و '' الحهر ''‪ .‬ما رأيك فيهما ماس سيفاقص ؟‪.‬‬

‫سألته بنبرة ممازحة فجاءني جوابه سريعا و من دون تردد‪....‬‬

‫_ رأيي في نتيجتها يا سي ‪.....‬وشاكي‪ .‬لم تقدما شيئا في النهاية !‪.‬‬

‫صوته كان باردا جدا كمالمح وجهه‪.‬‬

‫_ أظن أن معك حق‪ .‬فأنا نفسي أشعر في كثير من األحيان أن ابتكاري لهاذين المفهومين كان مضيعة للوقت‪..‬‬

‫_ كما أن مقالك األخير في صفحتك على الفيسبوك عن هوية جمهوريتك البدوية كان سيئا جدا‪ ،‬بل مقرف !‪.‬‬
‫تقرر أن هذه األرض '' عربية – إسالمية '' ؟‪ .‬من أنت حتى تحكم على طبيعتها و تبتلع آالف‬
‫من تحسب نفسك كي ِّ ّ‬
‫تأن ؟‪ .‬من أعطاك الحق لتص ِّّنف تاريخي و لغتي و‬
‫السنين من وجودها و تاريخها و كينونتها دون تمحيص أو ّ‬
‫ثقافتي في خانة '' الفولكلور '' ؟‪ ،‬ثم تأتي اليوم هنا محاوال إقناعي بأنك تهتم ألمر هذه المناسبة '' االجتماعية '' !‪.‬‬
‫ماذا ستقول عنها في مقالك المقبل يا ترى ؟‪ ،‬أنها عادة بربرية أكل الزمن عليها و شرب‪ ،‬أو أنها مستحدثة لدى‬
‫البرابرة الذين كانوا يعيشون في الكهوف المظلمة‪ ،‬و أن أجدادك الفرسان الذين أخرجوهم إلى نور الحضارة هم‬
‫من ألهمهم كل هذا بسبب تعاليم دينكم الحنيف‪ ......‬هه‪ ،‬يا للوقاحة !‪.‬‬

‫تجمدت تعابير وجهي‪ ،‬كأنها تعابير شخصية كرتونية في فيلم تم إيقاف عرضه فجأة‪ .‬بصراحة‪ ،‬لم أتوقع‬
‫االنحدار إلى هذا العنف اللفظي و بهذه السرعة‪ ،‬التي جعلت موسى نفسه يتدخل و هو ينظر إلى الفتى محاوال‬
‫تهدئة الجو مرددا‪ '' :‬آها سيفاقص‪ ،‬أس تاويل كان‪ ،‬أور حصر آرا‪ ...‬أور حصر آرا‪ ،'' ...‬أو شيئا قريبا من هذا‪،‬‬
‫في حين راح الفتى يرد عليه بكلمات لم أصطد حروفها رغم أن نبراتها ذات النغمة المتهكمة التي دعمتها حركات‬
‫رأسه و إيماءات وجهه المستهزئة اقتحمت سمعي كأنها أحجار وديان‪ ،‬ملساء و قاسية‪ ،‬و اخترقت عيني و‬
‫إدراكي‪ ،‬كأنها مسامير مقذوفة‪.‬‬

‫بدى لي أني قد أغرقتُ نفسي في بحر من البعر و القذارة في نظره و من يتقاسمون قناعاته بذلك الحجر‪ ،‬بعد‬
‫الذي نشرته على صفحتي في الفيسبوك قبل مدة عن الجزائر العربية اإلسالمية المدعوة للتصالح مع فلكلورها‬
‫البربري !‪ .‬لهذا السبب كان الفتى ينظر إلي بتلك الطريقة التي تنم عن االشمئزاز و هو يود أن يرد لي الصاع‬

‫‪215‬‬
‫صاعين من خالل كلماته المستهزئة بما كتبت‪ ،‬لكني و بحكم خبرتي‪ ،‬و من جهتي‪ ،‬تركتُ األمر موضوعيا على‬
‫قدر االستطاعة‪ .‬ال يمكن لوم مراهق غير ناضج سياسيا و فوق هذا ُمستفَز إيديلوجيا من طرف '' خاطرة '' رقمية‬
‫غير بريئة‪ .‬من يمكنه أن يلومه على ردة فعله مني على كل حال ؟‪.‬‬

‫بالرغم ذلك‪ ،‬أعترف أن مشاعر دفينة كانت تقترب من الغثيان امتزجت باللعاب في حلقي‪ ،‬راحت تتصاعد من‬
‫معدتي و أنا أنظر إلى الفتى الذي لم تتزحزح عينيه الزرقوين القويتين من أمام عيني‪ ،‬و هما تؤكدان لي أنه جاد و‬
‫مؤمن تماما بما قال و بما يعتقد‪ .‬كان ينظر في عيني بثبات كامل‪ .‬عجيبة تلك القوة !!‪.‬‬

‫زاد الشعور بذلك الغثيان‪ .‬ربما بسبب غرابة الموقف و عدم مالءمته للطبيعة المضيافة اللطيفة لقوم تيميزر‬
‫بشكل مفجوج‪ ،‬أو ربما كوني كنتُ في تلك الثواني التي بدت أنها دقائق مددها ذاك التحدي المجاني و غير‬
‫المجدي‪ ،‬كنتُ أحاول تبرير شعوري بتلك الروائح التي بدأت تغزو المكان‪ .‬روائح أحشاء تلك الدواب الرطبة و‬
‫الحارة التي كان يتم إخراجها من بطونها و أجوافها بعد أن وضعت جلودها الكبيرة على األرض كي تتنفس و‬
‫ّ‬
‫تجف تحت أشعة الشمس‪ ،‬و تعالت معها صرخات بعض الرجال الذين كانوا يحاولون إبعاد كالب القرية التي‬
‫أحاطت بالمكان لعلها تضفر ببعض البقايا‪.‬‬

‫نبّه سيد علي الفتى األشقر بحركة من يده و إماءة من رأسه‪ ،‬كأنه يشير إلى شخص ما كان يقف من مسافة‬
‫بعيدة بعض الشيء‪ .‬تحرك سيفاقص بخطوات ثابتة قاسما طريقه بين الناس المجتمعين حول الذبائح التي كانت في‬
‫مرحلة التقسيم حين راح بعض الرجال يحثون األطفال الصغار على االبتعاد‪ ،‬بعدما أكثروا من هرجهم و‬
‫ضوضائهم التي كانت قد زادت الجو بهجة و حيوية‪.‬‬

‫امتد صمتي مع موسى و الشابين اآلخرين لبعض الدقائق‪ .‬كنتُ أراقب الجمع‪ ،‬أو ألقل‪ ،‬كنتُ أتظاهر‬
‫بمراقبتهم مغطيا الحدث‪ .‬أخذت هاتفي الخلوي‪ .‬التقطت بعض الصور‪ ،‬فيها مزيج بين عمل الصحفي و سلوك‬
‫السائح‪ .‬ثم انتابني شعور أن موسى يركز نظره علي لسبب ما‪ .‬نظرتُ إليه‪ ،‬فإذا بالفتى يُحرك شفتيه رافعا حاجبيه‬
‫و هو يرمي بمقلتيه بيني و بين شيء ما يودني أن أراه‪ .‬حركة شفتيه و لسانه كانت تقول شيئا صامتا‪ ،‬لكنه جعلني‬
‫أكاد أبتسم‪ .‬لقد كان يقول لي‪ '' :‬أغاكال‪.....‬أغاكال‪ ،'' ....‬مستمرا في استعمال مقلتيه كغمازتي سيارة‪ ،‬تؤشران على‬
‫الجهة التي يقف فيها الهدف‪.‬‬

‫لم أبد أي ردة فعل‪ ،‬سوى إماءة خفيفة من رأسي نحو موسى‪ ،‬جعلته يدرك أني فهمت قصده تماما‪ .‬رحتُ‬
‫أتظاهر بأني مستمر في التقاط بعض الصور و أنا أكاد أقفز من اإلثارة و الفرحة‪ .‬شعرتُ أني وصلتُ إلى هدفي‪.‬‬
‫غنيمتي‪ ...‬فريستي‪.‬‬

‫في الحقيقة‪ ،‬يلزمك أطنان من القلق و الغضب و الترقب و األعصاب و الفضول و اإلقدام و الحركة‪ ،‬حتى‬
‫تشعر بحالوة تلك اللحظة‪ ،‬التي كنتُ واعيا بأنها لن تكتمل إال باكتمال المهمة الحقيقية التي جئت من أجلها إلى هنا‪.‬‬
‫لكن بصراحة‪ ،‬فإن لحظة استدارتي ببطء نحو الجهة التي أشار إليها موسى‪ ،‬و تثبيت ناظري على آغاكال اللغز‪،‬‬

‫‪216‬‬
‫عميروش آفاو‪ ،‬الرجل الذي يستعد ليزلزل بلد المخابرات و الجنراالت العتاة بربيع آخر‪ ،‬تلك اللحظة‪ ،‬كانت لحظة‬
‫اللحظات‪.‬‬

‫_ '' أخيرا‪ ،‬ها أنتَ ذا‪ ....‬آغاكال ! ''‪.‬‬

‫همستُ في أعماقي كاتما تلك الجملة حتى ال تسمعها أنفاسي نفسها‪ .‬كان الرجل يقف و هو يتحدث إلى‬
‫سيفاقص‪ .‬كان يقابلني بظهره‪ .‬صندلة من الجلد البني الذي تكدست فوقه كمية من الغبار‪ .‬سروال جينز بزرقة باهتة‬
‫جدا‪ .‬قميص صيفي بمربعات خضراء كبيرة و خطوط بيضاء متقاطعة‪ ،‬بدى أنه جديد نسبيا‪ ،‬و قبعة قش بدت من‬
‫خالل لونها الفاقع و شكلها أنها جديدة تماما‪ .‬كان يتحدث إلى الفتى األشقر و هو يحيي بيده بعض األشخاص عن‬
‫بعد من حين آلخر‪ .‬ذلك مكنني من مالحظة بعض الوشوم على معصمه األيسر‪.‬‬

‫تقدمت بضع خطوات متظاهرا أني أراقب الجو االجتماعي البهيج الذي كان يسود القرية محاوال إيجاد‬
‫الفرصة المواتية للتقرب من صانع الطين بمجرد أن يبتعد سيفاقص عنه‪ .‬هكذا اقتربت من بعض سكان القرية من‬
‫الذين أخبروني أنهم يتحدثون الدارجة الجزائرية قليال‪ .‬رحتُ أتظاهر أني أسجل انطباعاتهم عن عرس تيميزر‬
‫السنوي‪ ،‬و أنا ال أكف عن استراق النظر‪ ،‬أنتظر فرصتي المواتية لالنقضاض على فريستي‪.‬‬

‫هل سيقبل أن آخذ انطباعاته عن وزيعة القرية ؟‪ .‬هل سيقبل الحديث إلى صحفي حتى ؟‪ .‬بدأ كل شيء يتسارع‬
‫من حولي‪ .‬أحاديث القوم‪ ،‬حركة األطفال‪ ،‬ضحكاتهم المرتفعة‪ .‬حركة رأسي و مقلتي في كل االتجاهات المؤدية‬
‫إلى عميروش‪ .‬و طبعا حركة األفكار و األسئلة داخل رأسي‪ .‬ما الذي يقوله لسيفاقص يا ترى ؟‪ .‬عما يتحدثان ؟‪ .‬أو‬
‫ما الذي يخططانه له ؟‪ .‬هل يمكن أن يكون سيفاقص هذا عنصرا من الـ تي تي أس ؟‪.‬‬

‫رأسي يدور في كل االتجاهات كرأس بومة تترصد الحركات و األصوات‪ .‬عيناي تكادان تتحركان في‬
‫اتجاهات مختلفة و في زوايا صعبة كعيني حرباء‪ .‬أذناي تكادان تأخذان طول أذني ذئب‪ .‬أرى الرجل و المراهق‬
‫يقفان و هما يتبدالن األحاديث و أحاول رصد حركات أخرى في كامل الحيز الذي يقفان وسطه‪ .‬أي نظرات قادمة‬
‫من أعين أخرى تترصدهما عن بعد‪ ،‬علها تكون نظرات المخبرين السريين ألجهزة األمن‪ ،‬التي تراقب تحركات‬
‫الرجل و تحاول فك شيفرة الشيء الغامض الذي يقوم بعجنه و تشكيله تحت ظالل عالمات االستفهام الكبرى‪.‬‬

‫بالكاد كنتُ مركزا على ما كان ذلك الشاب يقوله لي عن مناسبة الوزيعة ناظرا إلى هاتفي المحمول بفضول و‬
‫إعجاب‪ .‬استدرتُ إليه شاكرا حين لمحتُ آغاكال يضع يده على كتف سيفاقص مربتا عليه‪ ،‬ثم يتحرك واضعا يديه‬
‫خلف ظهره‪.‬‬

‫_ '' هذه هي فرصتي‪ .....‬تحرك يا صحفي !! ''‪.‬‬

‫صحتُ بها داخلي و أنا أنطلق متسلال أكاد أزحف كثعبان أرقط بين ظالل الرجال المتفرقين عبر الساحة‪.‬‬
‫كنتُ أراه يتحرك بين األكتف و هو يرفع يده بين الحين و اآلخر يحي البعض‪ ،‬و يمر بصمت و هو يضع رأسه‬
‫أرضا يراقب خطواته كمن يقوم بطوي العالم بين قدميه حامال سرا ما فوق كتفيه‪ .‬و رغم ثقلك ذلك الشيء الخفي‬

‫‪217‬‬
‫الذي كان ينهك كاهله‪ ،‬و لسبب ما‪ ،‬وجدته يبتعد عني أسرع مما كنت أتوقع‪ .‬لم أستطع الوصول إليه في الوقت و‬
‫المكان المناسبين كي أتظاهر أني أود إجراء حديث قصير معه حول المناسبة‪ ،‬فقد ابتعد الرجل بشكل عجيب عن‬
‫الجمع‪ ،‬لكني شعرت بجمجمتي و هي تتحول إلى كتلة من الصخر األصم‪ .‬لم أتوقف‪ .‬لم أرغب في التوقف‪ ،‬ألنه و‬
‫ببساطة لم يبق هنالك مجال للتوقف !‪.‬‬

‫ف ها أنا ذا أغافل القوم منسحبا من زاوية تمألها األشجار و األحراش‪ ،‬بعدما قدّرتُ المسار الذي أخذه أغاكال‬
‫الذي كان يتجه نحو الجهة الخلفية للقرية على الطريق المؤدية إلى غابة األحاديث أو '' تيزڨي أوس َإول '' كما‬
‫يس ُّمونها‪ .‬ممتاز !‪ ،‬لم أعد أسمع ضجيج الجمع‪ .‬ال أصوات غير أزيز الزيز و خطوات الرجل التي كنتُ ألتقطها‬
‫غير بعيدة من خلف ذلك الحاجز الترابي القصير الذي كانت تمأله شجيرات التين الشوكي‪.‬‬

‫_ '' ما العمل اآلن ؟‪ ،‬اللعين ماض في االبتعاد‪ ،‬و سوف يتوجس مني إن رآني أستوقفه في هذا المكان بعيدا‬
‫عن األنظار‪ ،‬مصرحا له أني صحفي يود إجراء مقابلة صغيرة معه بخصوص الوزيعة ! ''‪.‬‬

‫كانت خطواته أسرع مما كانت عليه قبل دقائق فقط‪ .‬كنتُ أحاول التحكم في أنفاسي و صوت خطواتي فوق‬
‫التراب و األعشاب شبه الجافة‪ ،‬أحاول استراق النظر من بين أوراق التين الشوكي العريضة‪ .‬هناك كانت قبعته‬
‫الصفراء تتحرك‪ ،‬لكني لم أكن أرى مالمح وجهه بعد و هو ماض في االبتعاد أكثر‪.‬‬

‫زاد ارتفاع الحاجز الترابي الذي تحول شيئا فشيئا إلى هضبة صغيرة تمألها األشجار المختلفة التي تمازجت‬
‫بأشجار التين الشوكي‪ ،‬كأنها تتآمر علي ضاحكة‪ ،‬بعدما صار يستحيل علي عبور ذاك الحاجز النباتي‪ ...‬فطفقت‬
‫أباعد بين الخطوة و األخرى و أنا أكاد أثب على المسافة المتبقية‪ ،‬ثم انطلقت أرضك بعدما فقدت أذني صدى‬
‫خطوات الرجل‪ .‬ركضت بأقصى سرعتي إلى نهاية الهضبة الصغيرة المسيجة باألشجار ملتفا حولها‪ ،‬فإذا بي أمام‬
‫مجموعة من المنازل القرميدية المتفرقة و المتباعدة على طول الطريق المؤدية إلى المقبرة‪.‬‬

‫التزمت اله دوء و الصمت‪ ،‬علي أسمع خطوات الرجل في مكان ما أو ألمحه يتحرك بين الجدران أو األشجار‪.‬‬
‫لم يكن هنالك حركة في تلك الس اعة التي صادفت تواجد معظم الرجال و األطفال في الوزيعة‪ .‬ال شيء غير‬
‫أصوات بعض النسوة داخل أحواشهن‪ ،‬نقنقة الدجاج و صياح الديكة من بعيد‪ .‬جعلني ذلك أتنهد و أنا أحك رأسي‬
‫أكاد ألطمه بيدي غير مصدق أني فقدتُ أثر ذاك الشخص الغامض‪ .‬تقدمت أسير بتأن و أنا أستدير من كل الجهات‪،‬‬
‫ثم توقفت لوهلة‪.‬‬

‫من بين كل تلك األصوات الطبيعية التي كانت أذني تلتقطان‪ ،‬كان هنالك أصوات أخرى تكاد تكون خافتة‪،‬‬
‫حملتها إلي تلك النسما ت الهوائية الدافئة من جنبات القرية التي كانت تطل على جرف الجبل القصي المقابل‬
‫لسالسل جرجرة المستح ّمة بطبقة ناعمة من السحاب األبيض‪ .‬اقتربتُ من مصدر تلك األصوات‪ .‬مررتُ بين‬
‫بعض المنازل ثم سرت بخطوات متوازنة مشعال سيجارة بين شفتي و أنا أبعث بأمان خافتة داخل نفسي تماما كتلك‬
‫األصوات التي بدأتُ أكتشف طبيعتها‪ .‬أجل‪ ،‬لم تكن أصواتا للطبيعة‪ .‬تلك كانت نغمات موسيقية !‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫اقتربتُ أكثر فأكثر من المنحدر الذي كان ينتهي إلى الجرف العالي الذي يطل على مجرى مائي‪ .‬شيء ما كان‬
‫يدفع بي لالعتقاد أني كنتُ أسير نحو الشيء الذي جاء بي إلى تيميزر‪ ،‬رغم أني كنتُ أخطو في تلك اللحظات نحو‬
‫منحدر ينتهي إلى جرف صخري ينتهي بدوره إلى وادي جار‪.‬‬

‫اقتربت أكثر‪ ،‬و مع الخطوات كانت تتبدى لي طبيعة تلك النغمات الموزونة التي طغت عليها إيقاعات ثابتة‬
‫آللة الدربكة‪ .‬بصفتي عاصمي حديث‪ ،‬لم يكن لي أن أخطئ‪ .‬تلك كانت موسيقى شعبي‪ ،‬سوى أن كلمات األغنية لم‬
‫تكن واضحة بعد‪ .‬فاستمريت في االقتراب و الدنو و أنا أدخن سيجارتي المحصورة بين السبابة و الوسطى ليدي‬
‫التعرق وسط ذلك‬
‫ّ‬ ‫اليمنى‪ ،‬بينما كانت يدي اليسرى تداعب مفاتيح سيارتي داخل جيب سروالي‪ .‬كنتُ قد بدأتُ في‬
‫الجو الحار نسبيا‪ ،‬لكني افترضت أن يداي كانت تعرقان كوني كنتُ مضطربا على نحو ما‪ .‬كان اليقين الغامض في‬
‫أعماقي يخبرني فعال أني وصلتُ إلى منزله‪ ،‬و من ثم لم يكن لي أال أقلق بشأن ما سوف أقوله أو ما الذي سأفعله‬
‫حين أصل إليه و أقابله‪.‬‬

‫ْ‬
‫وصلت بي إلى هنا‪ .‬أو قانون الجذب‪ ،‬كما تقول صوفي‪ .‬ال بد من وجود سبب ما وراء ذلك ! ''‪.‬‬ ‫_ '' السُّبل‬

‫كان يجب أن أقول لنفسي هذا الكالم‪ ،‬إما ألني كنتُ أريد أن أجعلها ت َثبتُ لوقت إضافي أخير‪ ،‬أو كوني كنت‬
‫أريد تهنئتها على الجهد الذي بذلته وصوال إلى تلك اللحظة التي وقفت فيها أخيرا أمام منزل قبايلي تقليدي بني‬
‫بالحجر ‪ ،‬معزول نسبيا عن بقية البيوت على الجهة اليمنى للطريق المؤدية إلى مقبرة القرية و غابة األحاديث‪.‬‬
‫الحظتُ أنه لم يكن بعيدا عن ذلك جرف الجبل‪.‬‬

‫أخيرا وصلتُ إلى منزل عميروش آفاو‪ ،‬أغاكال قيض السؤال‪ .‬اليقين بداخلي كان يؤكد ذلك بشكل يكاد يتحول‬
‫إلى هيستيريا أفكار صارخة‪ ،‬تقول بأنه ال يمكن إطالقا أن أخطئ في هذا الحدس‪ .‬إنه بيت الحرفي و والديه‬
‫الكهلين‪ .‬وقفتُ للحظة و أنا أرمي النصف المتبقي من سيجارتي ساحقا إياه بقدمي‪ ،‬ثم التففت حول البيت الحجري‬
‫القديم الذي كانت زوايا صوره الخارجي قد تفتت و انهارت جزئيا‪ ،‬فإذا بي أقابل بناء حديثا مشيدا بالطوب األحمر‬
‫البارز في معظم أجزائه التي لم يتم تلبيسها باإلسمنت‪ .‬حتى األجزاء التي كانت مكسوة كانت من دون طالء‪ ،‬مما‬
‫جعله يبدو بشعا على نحو ما‪ ،‬و قد تفرق لونه بين األجوري األحمر و الرمادي الباهت‪ .‬ابتسمت‪ ،‬كوني تأكدت‬
‫قطعا أنه منزله‪ ...‬أو ورشته‪ ،‬ال لشيء سوى أني تفطنتُ أنه أول بناء أجوري في تيميزر كلها‪ .‬حتما هي ورشة‬
‫المتفرد !‪.‬‬
‫ِّ ّ‬ ‫المجنون‬

‫ّ‬
‫التفت على يساري أنظر إلى تلك األكداس من األواني الفخارية المختلفة التي كانت تصطف تحت الشمس‪.‬‬
‫بدت حديثة من خالل لونها الطيني الذي كان يميل شيئا فشيئا ليأخذ لون التراب‪ .‬لقد وضعت تحت شمس تيميزر‬
‫لتجف و تكتسب الصفاء الغامض لهذه الجبال‪ ،‬و إن كان صانعها‪ ،‬في نظري‪ ،‬غارقا في نوع آخر من الغموض‬
‫الذي بدى لي سيئا للغاية‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫تحف جميلة‪ .‬لكن جمالها و أناقتها و دقة صنعها‪ ،‬لم تكن لتشفع للحرفي لدى صحفي شرس غير مهادن في‬
‫تلك اللحظات الحاسمة !‪ .‬فكرتُ في أن عضة الكلب الجزائري الشرير القذر األخيرة قد أكسبتني مزيدا من المناعة‬
‫و اإلصرار‪ ،‬و ربما شيئا من غضب و جنون داء الكلب أيضا‪.‬‬

‫كانت نافذة الورشة مفتوحة و كانت تنطلق منها أنغام موسيقى شعبي واضحة‪ ،‬لكن بكلمات قبايلية لم أفهم شيئا‬
‫منها‪ .‬حتى ذاك الصوت الرخيم الحزين لم أستطع تكهن من يكون صاحبه‪ .‬أعلم أن معتوب الوناس كان يعشق‬
‫موسيقى الشعبي الجزائرية و غنى كثيرا من أغانيه بردائها‪ ،‬لكنه لم يكن صوته الذي كنت أسمع‪ .‬كان صوت فنان‬
‫آخر‪.‬‬

‫_ '' ماذا اآلن ؟‪ .‬ها قد وصلت إليه‪ ،‬فما الخطوة التالية‪ ....‬تخيلت ألف سيناريو محتمل للقائي بهذا الرجل مذ‬
‫أن حصلت على المعلومات الخاصة به و بجماعته السرية‪ ،‬وها أنا ذا عاجز عن التفكير تماما اآلن‪ ...‬؟ ! ''‪.‬‬

‫فجأة سمعتُ باب الورشة أو الغرفة أو المنزل الذي كانت تنطلق منه تلك الموسيقى الشعبية و هو يُفتح‪.‬‬
‫استدرت إليه‪ .‬فعال‪ ،‬كان هو‪ .‬كان قد نزع قبعته‪ .‬شعره كان رمادي اللون‪ ،‬رطبا و مرتبا بشكل جيد‪ .‬لم يقل شيئا و‬
‫لم أستطع بدور ي قول أي شيء في تلك الثواني الغريبة التي كانت الفاصل الكبير و الطويل بين تلك اللحظة و كل‬
‫المراحل التي قطعتها مذ نشرتُ خاطرتي المستفزة على الفيسبوك‪.‬‬

‫كان يقف واضعا يديه في جيبه هو اآلخر‪ .‬نظراته الشاخصة كانت تنطلق من عينيه الصغيرتين المختبئتين‬
‫بشكل جزئي تحت حاجبيه الغليظين السودوين‪ ،‬خلف نظارته ذات اإلطار المعدني الرمادي‪ ،‬و كأنها مجال‬
‫مغناطيسي ذو تأثير عكسي يدفعك في االتجاه المعاكس بدال من أن يسحبك نحوه‪.‬‬

‫غريب ما كنتُ أشعر به تلك األثناء‪ .‬فالرجل اللغز الذي سعيت جاهدا للقائه علي أكتشف سره الذي يهدد البلد‬
‫بفوضى اجتماعية أو سياسية فوق تلك التي تعيشها‪ ،‬كان يقف في تلك الثواني الطوال أمام أنظاري‪ ،‬و بقوة غريبة‬
‫و خفية كان كأنما يدفع بي لالبتعاد عنه و الرحيل من قريته دون رجعة ؟‪ .‬كان بعثا مختلطا بين التردد و الشك و‬
‫الحيرة و كثرة األسئلة ذات اإليحاءات السلبية التي كانت قد بدأت تكبل تفكيري‪ ،‬و قد كان أهمها على اإلطالق‪'' :‬‬
‫كيف سأحصل على دليلي المادي الذي يؤكد كل ما قاله لي الصحفي عياش ذاك اليوم حول هذا الشخص و جماعته‬
‫السرية المزعومة ؟ ''‪.‬‬

‫ال أدري ما حصل لي في تلك اللحظات التي كانت بصدد التحول إلى شيء يشبه الوهن و الضعف و العجز‬
‫عن التفكير‪ ،‬أمام ذلك الوجه الصخري الخالي من أي تعبير إنساني‪.‬‬

‫_ '' وجه ودود جدا ! ''‬

‫قلت في نفسي متهكما من الرجل الذي ظل واقفا على عتبته ينظر إلي بصمت و كأنه مجرد فزاعة طارت‬
‫الريح بقبعتها‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫_ أزول فالك ! ‪ ،‬أدعى أمين وشاكي و أنا صحفي من العاصمة جيئت ألقوم بربورتاج عن تاوزيعت‬
‫تامقرانت خاصتكم‪...‬‬

‫لم يحرك الرجل ساكنا‪ .‬غريب !‪ ،‬فقد قيل لي عنه أنه يفهم و يتحدث العربية ؟‪ .‬أو ربما يتقنها لكنه ال يحب‬
‫الحديث بها ؟‪.‬‬

‫‪_ Bonjour !, je m’appelle Amine Wechaki, je suis journaliste à El-nabaa El-yaoumi‬‬


‫…‪et je suis là pour faire un reportage sur‬‬

‫لم أكد أكمل جملتي حتى انفجر الرجل بصوته الذي غلفته بحة كمن ينهرني بكلمات قبايلية لم أفهم فيها شيئا‪،‬‬
‫رغم أني فهمت نبرة صوته و حركة يده التي كانت كحركة شخص ينش الذباب عنه‪ .‬كل ما كنت أستوعب من تلك‬
‫األلفاظ هو شيء من قبيل‪ '' ...‬اتف ايبردان إيك تروحد‪ ....‬يا هللا‪ ...‬اتف ايبردان إيك تروحد‪ ....‬روح‪،‬‬
‫روح‪''...!! ...‬‬

‫تراجع الرجل خطوة إلى الخلف بينما تسمرت في مكاني و أنا أحاول اتخاذ القرار النهائي حول التراجع‬
‫تكتيكيا أو الهجوم اليائس األخير‪ .‬لكن الرجل بدا منذ البداية مصرا على أنه لن يطيل الكالم معي و لن يمنحني أية‬
‫فرصة‪ ،‬فتقدمتُ نحوه و أنا أرفع سباب تي كمن يود استسماحه لتقديم شرح أو تبرير لكني لم أر و لم أسمع سوى بابه‬
‫الخشبي و هو يلطم بقوة على بعد شبرين من أنفي‪ ،‬حتى اعتقدت أن الرجل كان يود فعال سحق وجهي لو كنتُ‬
‫أكثر سرعة و جرأة في اقتحام عتبة دراه‪.‬‬

‫انتابني غضب فجائي‪ .‬لم أرغب في التراجع أو االستسالم‪ .‬ألصقت أذني في الباب‪ .‬كنتُ أسمع خطواته في‬
‫الداخل و هو يسير ذهابا و إيابا و كأنه يحمل أشياء ما بين يديه يغير مواضعها وسط تلك األغاني الشعبية البربرية‪.‬‬
‫تراجعت خطوتين إلى الخلف‪ .‬كانت مصارع النافذتين األماميتين الخشبية موصدة‪ ،‬فاستدرت حول المبنى فإذا‬
‫بنافذة صغيرة نسيا تطل مباشرة على سالسل جرجرة مفتوحة‪ ،‬حيث كانت تنطلق منها ألحان آلة المندلين معانقة‬
‫الهواء الدافئ الذي كان يعبر بين أشجار التين و الزيتون‪.‬‬

‫اقتربت من النافذة بحذر و أنا أكاد أقف على أطراف أصابع قدمي بسبب ارتفاعها النسبي‪ ،‬محاوال رؤية ما‬
‫يفعله الرجل و أنا أفكر أنه ربما يجب محاولة جذبه بقصة أصول عائلتي‪ ،‬التي جعلت الكثير من سكان هذه القرية‬
‫يتحمسون للحديث إلي بدأ بموسى آيت يوسف‪.‬‬

‫‪_ Monsieur !!, monsieur !, s’il vous plait !. Puis-je vous parler un moment !, je ne‬‬
‫‪suis pas venu ici uniquement pour Timchret, mais à vrai dire, je suis là aussi pour‬‬
‫‪découvrir mes origines, voyez-vous ?, moi aussi je suis Kabyle !. Je peux même vous‬‬
‫…‪dire que je suis fière de l’être, car mes parents ont toujours su comment garder cette‬‬
‫‪sacrée… flamme… berbère en nous, depuis que nous étions enfants !, et là, j’ai vu ce‬‬

‫‪221‬‬
‫‪que vous faites…. Je veux dire vos œuvres, vraiment ça m’a attiré et m’impressionné.‬‬

‫توقفتُ للحظة و أنا أمعن السمع‪ .‬لم تكن هنالك أية حركة في الداخل‪ .‬اختفى صوت خطواته و الضجيج الذي‬
‫كان يحدثه‪ .‬ال شيء‪ ،‬سوى تلك األغنية القبايلية التي كان يلوكها ذلك الجهاز الذي كانت تنبعث منه بشكل ممل‪.‬‬

‫ظننت لوهلة أن الرجل ينصت إلى التراهات التي كنتُ أت ّ‬


‫فوه بها فبدأ حيز الطمع يتوسع من حولي مجددا‪،‬‬
‫كحيز من الطاقة الماكرة التي كانت تتمدد محاولة التسلل عبر تلك النافذة لتطويق الفخارجي و سحبه بسالسة و‬
‫هدوء نحو بابه إلي‪.‬‬

‫‪_ Bah, monsieur, puis-je au moins acheter une de vos chef-doeuvres d’argile ?. S’il‬‬
‫‪vous plait !..‬‬

‫استمر الصمت في الداخل‪ .‬رفعت رأسي نحو النافذة الصغيرة أكثر فإذا بمصراعيها يلطمان يقوة و عنف أمام‬
‫وجهي‪...‬‬

‫‪_ Sale Kabyle !!...‬‬

‫الجملة الوحيدة التي همستُ بها لفنسي تلقائيا في تلك اللحظة‪ .‬تراجعت إلى الخلف و أنا أنظر نحو النافذة‬
‫المغلقة‪ ،‬قبل أن أسمع خطوات الرجل و هو يعود إلى ما كان يفعله قبل لحظات‪ .‬أيعقل أنه شعر بالكذب و النفاق‬
‫الذي نفثته كالمخدر في كالمي المن َّمق حول أصولي القبايلية يا ترى ؟‪ .‬هل فعال رأى ما كان يدور في رأسي ؟‪ .‬أم‬
‫أنه لم يكن مهتما منذ الداية بأي شيء و أنه لم يرني سوى غريب متطفل بغض الطرف عن الصفة التي أتيته بها ؟‪.‬‬
‫هل تصرفت بتسرع و غباء فاضحا نفسي في النهاية ؟‪.‬‬

‫انتابني إحساس بأن كل ما كنت سأفعله أو أقوله لذاك الشخص المتعجرف سيكون مجرد مضيعة للوقت‪ .‬لذلك‬
‫أشعلت سيجارة أخرى ثم عدت إلى الجهة األمامية و وقفت مرة أخرى أمام تلك األواني الفخارية التي كانت تجف‬
‫تحت الشمس و أنا أقلب أفكاري‪ ،‬أتشاجر مع ذلك اإلحساس بالعجز الذي كان يدفع بي للرحيل فقط‪ .‬كنتُ أرغب‬
‫في إنهاء األمر‪ ،‬فقد أنجزت مهمتي الظاهرية التي جئت من أجلها و كفى‪.‬‬

‫الحنش الروجي قال بأن جماعة الـ تي تي أس تأثروا بالثورة المصرية‪ .‬و عودة إلى ذلك الحراك الفريد من‬
‫نوعه‪ ،‬و قبله ثورة الياسمين في تونس‪ ،‬األمور بدأت بالتدرج شيئا فشيئا عبر دعوات للتجمهر الهادئ على‬
‫صفحات التواصل االجتماعية‪ ،‬ثم وقفات احتجاجية‪ ،‬ثم مسيرات سلمية هنا و هناك‪ ،‬لتتحول مع مرور األسابيع‬
‫إلى تجمعات ش عبية كبيرة فتجمعات حاشدة فتجمعات شعبية مليونية مطالبة برحيل النظام و رموزه‪ .....‬قد يكون‬
‫األمر هكذا مع هؤالء ؟‪ .‬ما العمل ؟‪.‬‬

‫_ على كل حال‪ ،‬حدث مثل الفاتح نوفمبر ‪ 22‬ال يمكن أن يتكرر مرة أخرى في التاريخ‪ .‬مستحيل !‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫تمتمت مع نفسي بتهكم و أنا أرمي ببصري نحو باب و نوافذ بيت الرجل المنغلق كي أتأكد من أنه ال يراقبني‪.‬‬
‫أخرجتُ هاتفي المحمول و تقدمت نحو تلك األواني أللتقط لها صورة و أنا مستمر في التمتمة مع نفسي و‬
‫سيجارتي ماضية في االهتزاز بين شفتي‪..‬‬

‫ألصور هذه‪ ،‬بالنظر إلى فظاظتك معي أيها الفظ المتعجرف‪ .‬ال تريد أن‬
‫ّ ِّ‬ ‫_ ‪ ....‬لست مجبرا على طلب إذنك‬
‫تبيعني واحدة ؟‪ ،‬حسن‪ ،‬سآخذ صورها كلها و أنصرف‪ .‬ما رأيك ؟‪..‬‬

‫التقطت صورة أولى و ما إن تقدمت خطوتين إلى األمام كي ألتقط صورة أكثر قربا و وضوحا حتى تعثرت‬
‫فوق حجر صغير ال أدري من أين برز لقدمي‪ .‬اندفعتُ إلى األمام فاقدا توازني و أنا ال أفكر إال في سالمة هانفي‬
‫الخلوي ناسيا كل شيء‪.‬‬

‫أعتقد أن رأسي الغليظ هو من دفع بي نحو األمام ثم نحو األسفل و أنا أسقط كجدع شجرة بلوط فوق تلك‬
‫األواني محاوال إيقاف تلك السقطة بمد يدي اليسرى نحو أقرب شيء أمامها‪ .‬لم يكن ذلك الشيء سوى جرة‬
‫متوسطة الحجم ارتطمتُ بها دافعا إياها لترتطم ببقية األواني التي راحت تتساقط و تتبعثر محدثة فوضى و ضجة‬
‫كبيرتين جعلتا العصافير تفزع من األشجار المحيطة و الدواجن تقفز جافلتا في كل االتجاهات و جعلت حشرات‬
‫الزيز الملتصقة بأجدع البلوط و الدردار تلتزم السكوت‪.‬‬

‫بعض فوضى السقوط و االنفجارات هيمن الصمت على األجواء‪ .‬رفعتُ رأسي غير مستوعب تماما لسرعة‬
‫ما حدث‪ .‬وجدتني ملقى على األرض و أنا ال أزال أمسك بهاتفي الذي لم يتأد لحسن الحظ‪ .‬لكني أدركتُ مدى سوء‬
‫حظي حين وقفت و أنا أرى تلك الفوضى التي تسببت بها‪ .‬كانت أواني الرجل مبعثرة‪ ،‬مهشمة‪ ،‬وسط الغبار الذي‬
‫تصاعد من حولها ليلفني بداخله !‪.‬‬

‫‪_ Oh fuck !!!.‬‬

‫و أنا وسط تك الدهشة و ذلك الشرود و التشوش‪ ،‬سمعتُ حركة خلفي‪ .‬التفت فإذا بعجوز طاعنة في‬
‫السن‪ ،‬قصيرة القامة‪ ،‬تقف عند عتبة البيت الطوبي القديم وسط دجاجاتها تراقبني بعالمات من الفضول التي بانت‬
‫نسبيا على مالمح وجهها المليء بالتجاعيد‪ .‬حتما كنتُ أقف أمام نانه تاملسة‪ ،‬والدة آغاكال‪ .‬كانت كمن تساءل‬
‫قدري اللعين الذي جاء بي إلى هنا و أوقعني في تلك المصيبة‪ ،‬أكثر مما كانت تود سؤالي مباشرة‪ .‬لم أستطع‬
‫اإلتيان سوى بكلمة واحدة كنتُ قد تعلمتها فيما تعلمت من بعض كلمات اللهجة القبايلية طيلة مكوثي وسط سكان‬
‫تيميزر‪...‬‬

‫_ سورف إيي‪ ...‬سورف إيي‪.! ...‬‬

‫فُ ْ‬
‫تحت باب الورشة مرة أخرى‪ .‬استدرت نحوها بهدوء‪ .‬كان الحرفي يقف على عتبته مرة أخرى‪ ،‬واضعا يديه‬
‫في جيبه يرمقني بنفس نظرة الشبح الباردة الشاحبة التي استقبلني بها قبل دقائق‪ .‬لم يتغير شيء من مالمح وجهه‪،‬‬
‫و لم أجد ما أقول سوى أني رفعت يدي كمن يريد تهدئة الوضع قبل حدوث أي شيء غير محمود‪...‬‬

‫‪223‬‬
‫_ ع ّمي‪ ......‬و هللا ما درتها بالعاني‪ ....‬نخلصك فيهم دراهم !!‪....‬‬

‫**********‬

‫ال أؤمن بالنحس كثيرا عندما يتعلق األمر بمهنتي‪ ،‬ذلك أنني ال أحب تعليق إخفاقاتي المهنية على أظهر‬
‫اآلخرين‪ ،‬لكني لم أستطع منع نفسي من التفكير فيه بعدما حصل‪ ،‬و لم أستطع تحديد من كان فينا جالبا له حقا‪ ،‬أنا‪،‬‬
‫أم آغاكال اللعين ؟‪.‬‬

‫كنتُ فقط أقود سيارتي تلك األمسية عائدا إلى العاصمة و أنا ال أنفك أتذكر تلك األوجه غير المرتاحة و‬
‫المحر َجة التي ودعني بها أعيان تيميزر بعدما سمعوا بما حصل‪ ،‬و بعدما وجدتني في ورطة مع مجلسهم كونه‬
‫كان مجبرا على التدخل وفقا للنظم التي تسير مجتمعهم الصغير‪ ،‬للتوسط و وضع حل للورطة التي تسببتُ فيها‬
‫لنفسي‪ ،‬و حد علمي أنهم كرهوا وقوع مشكلة بيني و بين أغاكال أكثر من كرههم لتلك المشكلة نفسها و السبب بدى‬
‫جليا لي‪ ،‬و هو تلك الحساسية غير المعلنة الموجودة بينهم و بين صانع الفخار‪ .‬تعابير وجه لمين كانت تنضح‬
‫بانزعاجه الشديد لوجوده في موقف يح ِّتّم عليه التكلم مع آغاكال '' الضحية '' و التعامل معه‪ ،‬خاصة و أن األمر‬
‫يتعلق بمشكل بينه وبين غريب عن القرية‪.‬‬

‫أعوض الحرفي على‬


‫جل ما دار بين الجماعة كان بلهجتهم التي لم أفهم منها الكثير‪ ،‬فقد اتفقوا على أن ّ ِّ‬
‫الخسائر التي تسببتُ بها نقدا في أقرب فرصة‪ .‬أعطوني رقم حساب بريدي جار ألحدهم و طلبوا مني بأن أرسل‬
‫األموال إليه حتى ال أضطر لتكبد عناء الرجوع إلى تلك القرية الغابرة‪ ،‬وهم يخبرونني أنه بإمكاني أن أفعل ذلك‬
‫بالتقسيط و على مراحل إن رغبتُ في ذلك‪ ،‬خاصة بعدما وافق الضحية على ذلك‪ ،‬و الذي ظل بعيدا عني و لم‬
‫ينظر إلي كثيرا حين كان أعضاء تاجماعت يتدارسون الوضع بينه و بيني‪ .‬أعترف أن تصرفهم كان نبيال معي‬
‫رغم كل شيء‪ ،‬ففي النهاية و رغم وجوههم الشاحبة التي ودعوني بها و التي حملت في طياتها الكثير من اللوم‬
‫الصامت‪ ،‬فقط أصروا علي أن آخذ قطعة من لحم الثيران التي ذُبحت‪ ،‬بالرغم من كل محاولتي اليائسة إفهامهم أنه‬
‫ال يمكنني ذلك‪ ،‬و أن اللحم قد يفسد و يفوح قبل أن أصل إلى بيتي في العاصمة‪ ،‬و هو فعال ما حدث‪ ،‬لكن ال‬
‫فائدة !‪ ،‬فقد أخذته مرغما و أنا أنسحب نازال من الجبل أجر خيبة ثقيلة معي‪ ،‬امتزجت بإحساس عارم من الخجل و‬
‫اإلحراج‪ ،‬جعلت خطوات نزولي تبدو أثقل من خطواتي صعودي إليهم أول مرة‪.‬‬

‫رغم ذلك وجدتني في النهاية أطوف شوارع العاصمة عند مغيب الشمس و هي تتألأل باألنوار و تفيض‬
‫بالحركة و الضجيج‪ ،‬و فوق كل ذلك تفاجأت بالمدينة و هي تزدان باألعالم الوطنية في كل شارع و زاوية‪ ،‬عمارة‬
‫و محل‪ ،‬مع الكثير من السيارات التي كانت تشكل طوابير طويلة تجوب الشوارع الرئيسية مطلقة العنان لألبواق و‬
‫األغاني الصاخبة التي تتغنى بالمنتخب الوطني كرة القدم‪.....‬آه أجل !‪ ،‬نسيت ذلك تماما‪ ،‬فبعيدا عن عالم تيميزر‬
‫الصامت و البسيط و الغارق في الرتابة و الحياة الريفية البسيطة‪ ،‬كان عالم العاصمة يهتز مهتاجا على وقع‬
‫صرعة الساحرة المستديرة‪ ،‬و منتخب البلد يستعد بعد أيام قليلة لدخول منافسات كأس العالم في البرازيل‪ .‬لوهلة‪،‬‬
‫بدى إيقاع العالم الذي أعرفه سريعا كالعادة‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫كنتُ أقود سيارتي إلى باب الوادي و أنا أراقب األجواء االحتفالية في الشوارع‪ ،‬األغاني الكروية و األهازيج‬
‫الرياضية و صور نجوم المنتخب‪ .‬ذلك بعث في نفسي إحساسا جميال رغم علمي أن األمر ال يعدو سوى موجة‬
‫أخرى من تخدير الذات و الوعي الذي يدمنه هذا المجتمع من أجل الهروب من قساوة و مرارة خيبته الوجودية‬
‫التي لم يجد لها حال بعد‪ .‬و بالتفكير في ذلك‪ ،‬شعرتُ به و قد عاد ليتربص بي من بعيد وسط ظالل الزقاق المعتمة‬
‫التي لم يكن يصلها القدر الكافي من تلك األنوار و األهازيج‪ ،‬لكنه و بشكل غريب كان يحاول ترك مسافة أمان‬
‫يجس النبض عن بعد‬
‫ُّ‬ ‫بيني و بينه هذه المرة‪ ،‬كون روائح تيميزر كانت ال تزال تفوح من كلب الزريبة ربما‪ .‬كان‬
‫فقط‪.‬‬

‫الكلب الجزائري الشرير القذر كان قد عاد‪ ،‬لكنه لم يكن مستعدا للدخول في عراك جديد معي‪ ،‬على األقل‬
‫مؤقتا‪ .‬أما أنا فلم آبه به كثيرا‪ ،‬فقد كنتُ أبذر بذور األسئلة التي أخذتني إلى أغاكال و التي كان يجب أن أحصد‬
‫أجوبتها رغم ذلك اإلحساس الغامر بالفشل بعد الذي حصل في نهاية مهمتي في تيميزر‪ .‬كنت فقط أبذر أسئلتي‬
‫رغم كل شيء‪ ،‬آمال في أن يحدث شيء ما فيما يلي من أيام‪ ،‬كدعوة غامضة على الفيسبوك تدعو إلحياء ذكرى‬
‫الربيع البربري األ سود‪ ،‬قد تبدأ في أخذ منحنيات أخرى‪ ،‬تجعلني أتحرك بسرعة البرق ألكشف ما أستطيع كشفه‪،‬‬
‫و لو من دون وثائق أو أدلة دامغة‪.‬‬

‫لم أحصل على الحقيقة رغم ذهابي إلى حيث ال يبحث عنها أحد‪ ،‬لكن ذلك الحدس الصحفي العميق‪.........‬؟‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫‪-12-‬‬

‫صدى خافت بين الجدران‬

‫منتصف شهر جوان ‪...4102‬‬

‫زادت حرارة األيام و لم يكن يسعني إال االستظالل من فضولي المهني الحارق و المرهق بالحدث العالمي‬
‫الذي كان الجزائريون ينتظرونه بفارغ الصبر‪ .‬مونديال البرازيل كان قد حل علينا بالكثير من األلوان و البهجة و‬
‫اإلثارة الكروية‪ ،‬و أعترف أني أحببتُ أن يأتي‪ ،‬عله يرفّه عني قليال و يخ ِّّفف عني ثقل الضغط الذي كنت أعيشه‬
‫مترقبا الحراك اللعين المتربص بنا دون دليل قاطع عن وجوده‪.‬‬

‫في تلك األيام الصيفية التي كانت تالمس الذكرى الثالثة عشرة للربيع البربري األسود بحذر صامت‪ ،‬و حين‬
‫كان العالم‪ ،‬و معه الجزائر‪ ،‬مشدودا نحو بالد السامبا التي تزينت بأعالم و أحالم أمم مختلفة حطت رحالها‬
‫للتعريف بنفسها رياضيا و صنع الفرحة و الفرجة‪ ،‬بعيدا عن المآسي التي اثقلت عالمنا و منطقتنا العربية‬
‫خصوصا‪ ،‬كنتُ أحاول االستنجاد بأي إشارة ممكنة ِّ ّ‬
‫تبرر هوسي بموضوع الربيع البربري الجديد‪ ،‬ألشعر أني‬
‫لست بصدد تضييع وقتي على األقل‪ .‬فبعد نشر روبورتاجي عن وزيعة تيميزر الكبرى‪ ،‬حاولتُ عبثا إقناع السي‬
‫رزاق بما علمتُ من مصدري بعدما أفصحت له عن كل شيء‪ ،‬لكنه قابلني و هو يتنهد مطلقا نحنحته تلك في نهاية‬
‫جدالنا يخبرني بأنه ربما آن األوان آلخذ عطلة‪.‬‬

‫_ '' اسمعني جيدا يا ولد ‪ ،‬افتراضاتك خطيرة‪ ،‬صحيح أن راهن البلد حاليا ال يبعث بتاتا على الطمأنينة منذ‬
‫الرئاسيات األخيرة‪ ،‬فأنا لستُ غبيا ألصدق أن األمور على ما يرام !‪ ،‬لكنك تبالغ حاليا في توقعاتك‪ .‬أجل‪ ،‬انظر‬
‫ق بأي شيء مادي يدعم ما تقول على هذا المكتب !‪ .‬خذ عطلتك السنوية‪ .‬افعل شيئا ما‪،‬‬
‫إلى نفسك يا فتى‪ ،‬أنتَ لم تل ِّ‬
‫خذ قسطا من الراحة‪ ،‬اذهب إلى البحر‪ ،‬زر العائلة‪ ،‬استرخي‪ ...‬أو اذهب إلى البرازيل لتشجيع فتيان هاليلوزيتش‪،‬‬
‫أخرج نفسك من هذا البلد و هذا‬
‫اصرخ‪ ،‬ارقص‪ ،‬تجول‪ ،‬عش مغامرات مجنونة مع حسناوات البرازيل‪ ...‬فقط‪ِّ ...‬‬
‫الروتين القاتل لبعض الوقت يا رجل !! ''‪.‬‬

‫هه‪ ،‬أفترض أن ظنه قد خاب بعض الشيء إذ كان ينتظر مني أن أج ِّدّد أنفاسي و أصفي ذهني برحلتي إلى‬
‫تيزي وزو‪ ،‬لكني بدال من ذلك‪ ،‬عدتُ إليه مقتنعا كالمهوس بأن هنالك مؤامرة فعلية تحاك إلدخال البالد في فوضى‬
‫اجتماعية تكون سابقة لفوضى سياسية‪ ،‬تنحدر حتما إلى فوضى أمنية جديدة !!‪ .‬من كان ليصدق ؟‪.‬‬

‫هكذا وجدت نفسي في شقتي أتجول سابحا عبر صفحات الفيسبوك و حسابات اليوتيوب المهتمة بما يسمى‬
‫القضية البربرية‪ ،‬و أنا أتابع في نفس الوقت حفل افتتاح المونديال البرازيلي الذي كان يبث مباشرة على الهواء‬
‫عبر عشرات المحطات العالمية‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫ما من شيء كان يؤكد لي على عودتي إلى روتيني بعد رحلتي إلى بالد القبايل أكثر من النسيم البحري‪،‬‬
‫أصوات صبية الحي الذي يلعبون الكرة على قارعة الطريق‪ ،‬و أشعة شمس المساء العاصمية التي كانت تدخل من‬
‫نافذة شرفتي إلى غرفة االستقبال‪ ،‬مجاورة لصوت أمي عبر الهاتف و هي تحثني على تخصيص بعض من أيام‬
‫شهر رمضان الذي كان على األبواب لإلفطار رفقة ال عائلة في بيتنا بالبليدة‪ ،‬كونه قد يكون األخير لشقيقتي عيشة‬
‫تحت سقف أبيها قبل أن تتزوج‪.‬‬

‫لم أجد بما أرد‪ .‬كنتُ على يقين بأن األمر بالنسبة ألمي يتخطى مجرد ذلك‪ ،‬كونها كانت تنتظر الفرصة‬
‫المواتية لتختلي بي و لو قليال و تحدثني عن هذه العروس التي اختارتها لي‪ ،‬و قد كان األمر يتخطى ذلك بالنسبة‬
‫لي كذلك‪ ،‬كوني كلما وضعت قدمي فوق أرصفة البليدة إال و تحولتُ إلى المراهق صاحب الثالثة عشرة أو الرابعة‬
‫عشرة‪ ،‬الواقع في حب زميلته في الصف‪ ،‬الفتاة المشاكسة التي تهوى مشاجرة الفتيان‪ .‬الفتاة العجيبة‪ .‬الفتاة التي ال‬
‫أحبُّ عادة أن أذكر نفسي باسمها رغم أني دأبت على ذكره في أعماقي و لو مرة في اليوم لسنوات طويلة‪.‬‬
‫اسمها‪ .....‬وجعها‪ '' ...‬هي ''‪.‬‬

‫لم أعط أمي جوابا واضحا‪ .‬مجرد رد مبهم‪ ،‬كالعادة‪ ،‬و أنا أتحجج بعملي الذي كاد يوصلني إلى هاوية انهيار‬
‫عصبي قبل مدة قصيرة و قد عاد ليستعد لجولة أخرى‪ ،‬بعد ظهور الكلب الجزائري الشرير القذر الذي كان في تلك‬
‫األثناء يتربص بي عند أول منعطف خارج العمارة !‪ .‬فقط‪ ،‬أقفلتُ الخط مودعا أمي‪ .‬غصتُ قليال مع أفكاري‪ ،‬قبل‬
‫أن أعود و أرفع مستوى صوت التلفاز قليال على ألحان و كلمات أغنية '' ‪ ، '' We are one‬أغنية مونديال‬
‫البرازيل الرسمية‪.‬‬

‫ربما هي خاصية الجيل الذي أنتمي إليه ؟‪ .‬معظم مآالته إنما هي مجرد نتائج لهروب حتمي يائس من ضغوط‬
‫أو آالم نهايات أخرى قد سبقتها من قبل ؟‪ .‬أوليس إخفاقي في الحب هو من أخرجني من البليدة بحجة رغبتي في‬
‫االستقالل بحياتي ؟‪ .‬أوليس إخفاقي في الوصول إلى سبقي النهائي هو من أخرجني من العاصمة إلى جبال القبايل‬
‫بحجة بحثي عن سبق صحفي يبدو أنه مجرد إشاعة مغرضة ؟‪ .‬كنتُ أف ِّ ّكر‪.‬‬

‫لكن و بعد انتظار و ترقب استمر طيلة األيام األولى المتزامنة مع المونديال و الذكري ‪ 02‬للربيع األسود‪ ،‬لم‬
‫يحدث أي شيء‪ .‬ال مسيرات‪ .‬ال احتجاجات‪ .‬ال دعوات إلسقاط النظام‪ .‬ال شيء !!‪ ..‬خاب ظني كوني أدركتُ أني‬
‫ربما قد أضللتُ نفسي كثيرا و أدمنتُ الشك و الريبة و إن كان وجعي لهذا البلد هو الذي جعلني كذلك‪ ،‬لكني‬
‫أحسستُ بالراحة في نفس الوقت‪ ،‬كون أمر '' ربيع جزائري '' في عهد الثورات العربية المخضبة بالدم و العالقة‬
‫وسط الركام بدى شيئا بعيد الحدوث‪ ،‬أو صعب الحدوث على األقل‪ .‬ال أحد يود أن نقفز من السيء إلى األسوأ مرة‬
‫أخرى‪ .‬ال أحد سيقبل بأن نعاود تحطيم ذاك النزر القليل الذي شيدناه بأيدينا و نعود إلى نقطة البداية من جديد !‪.‬‬

‫لو كان الثعبان األشقر عياش أمامي لخنقته‪ ،‬كونه كان غير دقيق أو ربما رفض إعطائي تاريخا دقيقا عن‬
‫الحراك المزعوم أو أسماء أعضاء منظمة تي تي أس المفترضة‪ ،‬لكنه ربما كان محقا في شيء واحد فقط‪ ،‬و هو‬

‫‪227‬‬
‫أني رحتُ آخذ العالم على محمل الجد فوق اللزوم‪ .‬ربما كان األوان قد حان لشيء من الترفيه‪ ،‬فقد جاءت الفرصة‬
‫لذلك على األقل‪.‬‬

‫وجدتُ نفسي تبعا لذلك أصرخ و أصيح بأعلى صوتي في ساحة الرميلة‪ ،‬التي أقيمت فيها شاشة عرض‬
‫ضخمة تبث من خاللها مباريات المونديال‪ ،‬في تلك األمسية الصيفية الرائعة التي ال يمكن نسيانها‪ ،‬حين أدى‬
‫األفناك مباراة ال تنسى ضد منتخب كوريا الجنوبية‪.‬‬

‫تشجيعنا الجماعي للمنتخب الوطن ي جعل باب الوادي تهتز و تترنح كأنها مدينة ورقية معلقة في السحب فوق‬
‫أوتارنا الصوتية و رجفات قلوبنا‪ .‬صحنا‪ .‬هتفنا‪ .‬ترقبنا‪ .‬تفاعلنا و تمايلنا مع تعليق نجم الصحافة الرياضية في‬
‫العالم العربي حفيظ دراجي‪ .‬كنا نشعر بأن المنتخب مختلف عن مباراته األولى ضد البلجيكيين بالرغم من مسحة‬
‫ْ‬
‫عبرت عنها أحاديث بعض الشباب من حولي‪ ،‬لكن و في‬ ‫الشك و عدم اليقين الخفيفة التي انتابتنا في بداية المقابلة و‬
‫ظرف دقيقتين سيطر علينا الجنون و الهستيريا الكاملة بعد رأسية رفيق حليش المزلزلة في شباك الكوريين و التي‬
‫جاءت بالهدف الثاني‪ ،‬بعد هدف القناص إسالم سليماني الذي سبقها بلحظات فقط‪ ،‬حين كان حفيظ يصرخ‪.... '' :‬‬
‫تعرفون و تُحسنون لعب الكرة‪ ،‬لماذا ال تلعبونها ؟‪ ...‬تعرفون و تُحسنون لعب الكرة‪ ،‬لماذا ال تلعبونها ؟‪.'' ...‬‬
‫مع الهدف الثالث للمقاتل عبد المؤمن جابو و اهتزاز العاصمة للمرة الثالثة وجدت ُني أقفز من كرسيي البالستيكي‬
‫األبيض دون أن أشعر و دون أن أصرخ‪ .‬ابتسمت فقط فاتحا فمي غير مصدق و أنا أرفع نظارتي فوق أرنبة أنفي‪.‬‬
‫كنتُ مندهشا مما كان يحدث لنا تلك األثناء و أنا ألتفتُ خلفي أراقب ذلك الجنون ال ُمباح و تلك الفوضى الجميلة‬
‫التي كانت تتفاعل و تغلي عبر كامل الساحة‪ .‬الشباب يهتفون بأعلى أصواتهم ملوحين باألعالم الوطنية‪ .‬بعضهم‬
‫يعانق رفاقه أو يقفز فوق ظهورهم تماما كما كان يفعل العبونا على أرضية الملعب‪ .‬األطفال الصغار يقفزون و قد‬
‫تعالت قهقهتهم مع بعض نظرات الدهشة من سلوك الكبار الذين تحولوا إلى صبيان هم أيضا‪ .‬زغاريد النساء وسط‬
‫العوائل الحاضرة أو تلك التي كانت تنطلق عبر نوافذ عمارات الواجهة البحرية للحي‪.‬‬

‫وقع نظري على منصور‪ ،‬ابن الجارة خالتي ميمونة‪ .‬كان يقف من مكانه وسط باقي أترابه من أبناء الحي‪،‬‬
‫يصرخ بكل ما أوتي من روح على هدف جابو‪ ،‬ملوحا بعكازه في السماء على صرخات حفيظ دراجي الذي كان‬
‫يصيح بدوره‪ '' :‬ما هذا العجب ؟ !‪ ...‬ما هذا العجب ؟ !‪ ..‬الجماهير الجزائرية سيصيبها الجنون من هذا الذي‬
‫تشاهدون في هذه المباراة‪ .'' ...‬كنتُ أراقب منصور و أنا أرى بوضوح أوردته الدموية التي برزت من عنقه‬
‫كالحبال المشدودة حين كان يرفع رأسه نحو السماء و هو يصيح‪ .‬ابتسمت ثم جلستُ في مكاني‪ .‬حملتُ هاتفي‬
‫الخلوي مرة أخرى‪ .‬بحثتُ عن رقم شقيقي بشير الذي حاولت عبثا االتصال به مذ بداية المباراة‪ ،‬كوني أعلم مدى‬
‫عشقه للمنتخب الوطني لكرة القدم‪ .‬حاولتُ االتصال به للمرة السابعة‪ ،‬لكن بال فائدة‪ .‬أعدتُ الهاتف إلى جيبي‬
‫متنهدا و أنا أتمنى أن ال يكون في تلك األثناء مغروسا في خندق ترابي أو حجري‪ ،‬يراقب الكثبان أو نجوم السماء‬
‫األولى‪ .‬كم تمنيتُ لو كان تلك اللحظات بجانبي أو في غرفته القديمة وسط بيتنا البليدي يصرخ كالمجنون حتى‬
‫يُسمع صراخه في أرجاء الحي !‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫نفض ال ّ‬
‫شِّهاب األسمر ياسين براهيمي األرض من تحت أقدامنا مرة أخرى بهدفه الرابع‪ ،‬الذي حاكه بلعبة‬
‫فنية رائعة رفقة زميله سفيان فيغولي كما لو كانا ريشتي رسام ماهر كان يخط طريق لوحته بكلتي يديه بكل تناغم‬
‫و انسجام‪ .‬كانت هجمة معاكسة متقنة و دقيقة‪ ،‬كأنها من مباراة افتراضية من سلسلة ألعاب ‪ FIFA‬االلكترونية‬
‫الشهيرة‪ .‬لم أستطع سماع ما كان حفيظ دراجي يقول بعدما اكتسح ساحة الرميلة صراخ الجميع الممزوج باهتزاز‬
‫الكراسي و الطاوالت و زغاريد النساء و هتاف الصبية و الصبيات‪ .‬كان هدفا أعاد إلينا الثقة بعدما تحرك‬
‫الكوريون و سجلوا هدفهم األول قبله بوقت قصير‪.‬‬

‫كنتُ سعيدا جدا‪ .‬ربما كوني ابن الجيل الذي تسنى له أخيرا أن يعتز بفوز جميل و مقنع لمنتخب بالده الوطني‬
‫في أهم منافسة رياضية عالمية‪ .‬كنتُ فقط أقول في نفسي أن الصحف و القنوات البرازيلية و العالمية ستكتب و‬
‫ستتحدث عن منتخب عائد من بعيد إلى واجهة عرس المونديال‪ ،‬من بلد اسمه '' الجزائر ''‪ ،‬بما أن الغالبية الساحقة‬
‫من الشعوب البعيدة عنا جغرافيا و ثقافيا ال تعرف عنا شيئا‪ ،‬أما تلك التي تعرفنا فهي تعرفنا بأربع كما يُقال‪ :‬الثورة‬
‫الجزائرية‪ .‬النفط‪ .‬الغاز و اإلرهاب‪.‬‬

‫'' هنيئا لمنتخبنا الوطني لكرة القدم هذا النصر الجميل‪ ،‬لكن أتمنى فقط أن ال يحاول المتملقون التقليديون عندنا‬
‫من دجالي السياسة الشعبوية ربط الرباعية المسجلة ضد الكوريين بعالمة إلهية أخرى‪ ،‬تحاول إخبارنا أن السماء‬
‫تبارك العهدة الرابعة !! ''‪.‬‬

‫تلك كانت خاطرة ساخرة صغيرة تركتها على صفحة موسطاشيات نهاية تلك السهرة الرائعة مرفقا إياها‬
‫بصورة للعلم الوطني‪ .‬كانت األجواء في الخارج غير طبيعية مع أبواق السيارات و األعالم و األهازيج‪ .‬لم تكد‬
‫العاصمة تنام تلك الليلة‪ .‬الجميع كان يهتف بحياة الجزائر‪ .‬قطعا كانت تلك جرعة زائدة عن المعتاد من مخدر الكرة‬
‫لتسكين آالم خيباتنا الوطنية‪ ،‬التي ال تزال تتسلسل أمام ضمائرنا المثخنة بالفشل و محاوالت نهوضنا اليائسة منذ‬
‫حرب االستقالل‪.‬‬

‫رن هاتفي المحمول‪ .‬هرعتُ إليه ظانا أنه البشير و قد أصيب بنوبة جنون مؤقتة بسبب ما فعله الخضر‬
‫بالكوريين‪ ،‬لكن المتصل كان صوفيا‪ .‬كانت تتحدث بصعوبة وسط ما يشبه الحفلة الصاخبة التي تعالت منها‬
‫األغاني الرياضية‪...‬‬

‫ت ؟‪.‬‬
‫_ يا مهبولة‪ ،‬أنا ال أسمعك جيدا !!‪ ...‬ارفعي صوتك !‪..‬أين أن ِّ‬

‫_ هل رأيت هدف براهيمي ؟‪ ...‬هل رأيت هدف سليماني ؟‪ ...‬واااااو‪ ......‬هل شاهدت كيف صدَّ رايس تلك‬
‫َي ماذا عنك‪ ....!!..‬أين أنت ؟‪.‬‬
‫القذفة الصاروخية لحظات فقط قبل أن نسحقهم بالرابع ؟‪،‬ه ْ‬

‫_ في شقتي حاليا‪ .‬شاهدنا المباراة جماعيا في ساحة الرميلة‪...‬‬

‫_ ماذا ؟‪ ،‬أنا ال أسمعك‪...‬‬

‫رفتُ نبرة صوتي أكثر و أنا أسد أذني بسبابتي‪...‬‬


‫‪229‬‬
‫ت ؟‪.‬‬
‫_ أنا أيضا ال أسمعك‪ ..‬أين أن ِّ‬

‫_ في السيارة رفقة أشقائي نجوب العاصمة في كورتيج سيارات طويل‪ .‬الكل خرج لالحتفال‪ ،‬األجواء رائعة‬
‫حقا‪ ،‬أال تخرج لالحتفال ؟‪.‬‬

‫_ لقد دخلتُ لتوي إلى البيت و ال رغبة لي الخروج مجددا‪ .‬لكن أال تعتقدين أنكم تبالغون قليال في هذا ؟‪.‬‬

‫ضحكت و هي تصرخ متهكمة‪...‬‬

‫_ طبعا نبالغ أيها األحمق !‪ ،‬قد ال يتكرر هذا الشعور الرائع إال بعد مرور ثالثين سنة أخرى !!‪ ..‬المهم‪،‬‬
‫اتصلتُ بك ألعلمك أن الجماعة في فريق العمل اتفقوا على أن نجتمع في مقر الجريدة الخميس المقبل لنشاهد‬
‫مباراتنا ضد روسيا‪ .‬هل ستأتي ؟‪.‬‬

‫_ تبدو فكرة جيدة‪ .‬ال بأس‪ ،‬سأكون في الموعد و عليك أن‪...‬‬

‫أقفلت المجنونة الخط قبل أن أكمل جملتي األخيرة‪.‬‬

‫**********‬

‫الخميس ‪ 41‬جوان ‪...4102‬‬

‫اجتمع الزمالء و الرفاق في صالة التحرير لمشاهدة المباراة الفاصلة التي تح ِّدّد الصاعد إلى الدر الثاني من‬
‫المجموعة‪ .‬ال أدري ما كان علي أن أتفقد في المدينة‪ ،‬النسائم األولى لشهر رمضان المقدس‪ ،‬أم صرعة المونديال‬
‫التي كانت تعبث برؤوسنا‪ ،‬و هوسنا بفكرة تواجد منتخب البلد رفقة الكبار العالميين في الدور التالي ؟‪ .‬البعض في‬
‫الصالة كانو يتحدثون عن الحر المرتقب في شهر الصيام‪ ،‬و البعض اآلخر يتحدثون في أمور شتى تخص المهنة‬
‫أو الحياة اليومية البعيدة عن الصحافة و مشاكلها‪.‬‬

‫ْ‬
‫انطلقت المباراة ضد الروس حين راح الجميع يطالبون صوفيا بأن تلزم مكانها و هي تركض أمام التلفاز‬
‫ملوحة بالراية الوطنية التي أحضرتها معها من البيت‪ ،‬و كأنها طفلة صغيرة تتع َّمد خلق جو من التشويش و‬
‫االرتباك‪ ،‬في حين أنها كانت تفعل ذلك فقط إلزعاج بعض الزمالء الذين نعرف عنهم سرعة استثارتهم و غضبهم‪.‬‬
‫جلست الفتاة بالقرب مني و هي تومئ برأسها نحو سي رزاق الجالس بجانب بعض أعضاء مجلس اإلدارة‪ ،‬و‬
‫فهمت فورا أنها تود لفت نظري إلى جثته الضخمة و وزنه الزائد كالعادة‪ .‬لطمتها على رأسها أخبرها بأن تهدأ و‬
‫تشاهد المباراة حين اهتز هاتفي الخلوي في جيبي بعد مرور نحو أربع دقائق من صافرة البداية‪ .‬اعتقدتُ أنه أخي‬
‫البشير‪ ،‬لكني قطبت حاجبي مستغربا‪ .‬لقد كان مولود‪ ،‬مؤذن قرية تيميزر‪ ،‬الذي نسيت تماما أنني تركتُ له رقمي‬
‫و أنا أغادر القرية قبل أيام‪.‬‬

‫_ '' غريب ! ''‪...‬‬

‫‪230‬‬
‫نهضت منسحبا من الصالة تاركا الكل على أعصابهم إلى درجة أنه ال أحد الحظ وقوفي و خروجي‪...‬‬

‫_ ألو‪ ،‬السالم عليكم ماس أمين‪...‬‬

‫_ ماس مولود ؟ !‪ ،‬أهال !‪ ،‬كيف حالكم ؟‪.‬‬

‫_ بخير‪ ...‬بخير‪ ،‬آسف على هذه المكالمة في هذا الوقت‪ ،‬أر ِّ ّجح أنك منشغل بالمباراة‪..‬‬

‫_ أجل‪ ،‬ألستم كذلك ؟‪.‬‬

‫فهم نبرة صوتي المازحة فضحك‪...‬‬

‫_ بال‪ ،‬القرية خاوية على عروشها يا آڨما‪ ،‬الكل في منازلهم يتابعون المباراة‪....‬‬

‫صمت الشاب قليال و كأنه يبحث عن الكلمات قبل أن ينطلق بصوت و نبرته القبايلية التي امتزجت بشيء من‬
‫الحرج الذي كان واضحا فيها‪...‬‬

‫_ ماس أمين‪ ،‬قبل قليل كنتُ رفقة الدا عبد السالم‪ ،‬و قد كلفني بأن أنقل إليك عبارات التقدير‪ ،‬كونك قمتَ‬
‫بتسوية وضعك تجاه المشكلة الصغيرة التي حدثت بينك و بين المدعو آفاو ذاك اليوم‪ .‬لقد دفعتَ ما عليك وفق ما تم‬
‫االتفاق عليه و من دون تأخير‪ .‬ثاجماعت تقدر لك هذا و تشكرك على التزامك‪...‬‬

‫َي ال بأس‪ .‬ال شيء يدعو لكل هذا‪ .‬أنا من اقترف الخطأ في حق الرجل‪ .‬أنا من ذهب إليه على قدميه‪.‬‬
‫_ه ْ‬

‫_ يحصل أن يكون كدرا جدا في مثل هذا الشهر‪ ،‬كونه الشهر الذي فقد فيه ابنه البكر‪ .‬لكنه عادة ما يميل إلى‬
‫الهدوء شيئا فشيئا بعد ذلك‪.‬‬

‫ُ‬
‫تحدث إلى السكان اآلخرين‪.‬‬ ‫_ هكذا إذن !‪ .‬ربما لم أختر اليوم المناسب للحديث معه كما‬

‫ّ‬
‫التفت على يميني حين سمعتُ جلبة من دون صراخ أو هتافات قادمة من‬ ‫فاجأني األمر‪ .‬أغاكال كان أبا !‪.‬‬
‫قاعة التحرير‪ ،‬فأدركتُ أن الروس قد فاجأونا بهدف مبكر‪ ،‬ليعيدني صوت مولود المرتبك عبر الهاتف إلى‬
‫المكالمة الغامضة‪...‬‬

‫_ هنالك مشكل صغير قد وقع‪ ....‬في الحقيقة ال أعلم أهو صغير أو كبير بالنسبة لك‪ ،‬لنقل أنه شيء شكل‬
‫بعض الحرج لثاجماعت‪...‬‬

‫_ ما األمر يا رجل ؟‪ ،‬هل من مشكلة ؟‪.‬‬

‫_ ال ال‪ ،‬اطمئن‪ ،‬ليس األمر بجلل‪ ،‬و حق ربي‪ ،‬لكنه غريب و غير معتاد بالنسبة لنا و إن كنا معتادين على‬
‫الخرجات الغريبة آلفاو ذاك منذ سنوات‪ .‬كنا سنشعر بحرج أقل لو تعلق األمر بمشكلة بينه و بين قروي من عندنا‪،‬‬
‫لكن المشكلة قد وقعت بينه و بين رجل غريب عنا‪ ،‬كان يفترض أن يُعامل كالضيف‪....‬‬

‫‪231‬‬
‫_ ما األمر يا رجل ؟‪ ،‬تكلم !!‪.‬‬

‫_ ‪ .....‬في الحقيقة‪ ....‬الرجل قد تنازل عن اتفاق التسوية األول بينكما‪ ...‬و اقترح طريقة أخرى لحل المشكلة‪.‬‬

‫ذهبت من الكلمات فجأة‪ .‬رحتُ أحلل كالم الرجل الذي بدى غير معقول‪ ،‬لكنه فسر لي حالة الحرج التي كان‬
‫يعيشها و هو يحدثني عن ذاك المجنون آغاكال‪..‬‬

‫_ حسن يا ماس مولود‪ ،‬ال بأس‪ ،‬ما الذي يقترحه هذا الشخص كبديل ؟‪.‬‬

‫_ في الحقيقة‪ ...‬سيبدو لك هذا أكثر غرابة حتى‪ ،‬فقد أخذ منا عهدا على أن ال نخبرك حتى تأتي إلينا‪ ،‬رغم أن‬
‫تاجماعت نهروه و دخلوا معه في مالسنات طويلة بسبب هذا الهراء‪ .‬لمين أخبره بعد االتفاق مع الجميع على أنك‬
‫لست مجبرا على الموافقة أو القدوم‪ ،‬و خيَّ ره بين أخذ المبلغ المالي الذي أرسلته إليه أو تتم إعادته إليك بإرساله إلى‬
‫حسابك البريدي الجاري‪ ،‬لذلك فالقرار لك في النهاية‪ ،‬و طبعا ال داعي لتعطيني ردك اآلن‪ .‬فقط فكر مع نفسك‪ .‬إن‬
‫أردت تركت األمر على ما هو عليه‪ ،‬و إن أردت تأتي إلى القرية لسماع ما سيقوله لك هذا الرجل‪ ،‬و طبعا‪ ،‬في‬
‫كلتي الحالتين‪ ،‬تسترد مالك غير منقوص‪ .‬آه شيء أخير ماس أمين‪....‬‬

‫_ أنا في االستماع يا ماس مولود !‪.‬‬

‫_ إن قررت المجيء لقبول اقتراحه‪ ،‬فاعلم أن بقاءك في القرية قد يطول لبعض الوقت‪ .‬آسف ال أستطيع‬
‫إخبارك بالمزيد كوني ملتزم بالعهد الذي ألزمنا بقطعه معه‪ .‬فكر مع نفسك و اعلم أنك لست ملزما بمجاراة جنون‬
‫هذا الرجل‪ .‬اعف نفسك منه يا ماس أمين‪ .‬حسن‪ ،‬أتركك اآلن في رعاية هللا‪ .‬السالم عليكم‪.‬‬

‫أقفل الشاب الخط على عجل و وقفت لدقيقة أو دقيقتين و أن أعيد ترتيب كل ما قاله في رأسي غير مصدق أن‬
‫آغاكال الغامض و المنعزل يود رؤية شخص غريب ليعيد اقتراح طريقة ما يعوضه من خاللها على خسارته‬
‫لتحفه تلك‪...‬‬

‫_ بفففففف‪ ،‬كل هذا بسبب صحون و جرار طينية !‪.‬‬

‫قلتُ متهكما و أنا أعود إلى صالة التحرير أراقب تلك الوجوه المكفهرة و تلك األنظار المسلوبة بأضواء‬
‫الشاشة التي غلب عليها اللون المتوهج تحت األضواء الكاشفة ألرضية ملعب ‪ Da Baixada‬الخضراء‪ ،‬مع‬
‫بعض الهمسات و التنهدات التي كان بعض الزمالء يتشاركون قلقهم بها‪ .‬أخذتُ مكاني بالقرب من صوفيا التي‬
‫كانت قد التزمت الصمت أخيرا و هي تأكل أظافر يدها كأنها مجرد شخصية كرتوينة نكدة‪.‬‬

‫_ سجلوا علينا هدفا هه ؟‪.‬‬

‫_ لعين اسمه ‪ Kokorin‬أو شيء من هذا القبيل‪ .....‬رأسية مزلزلة‪.‬‬

‫_ ما عليهش‪ ...‬ما عليهش‪ ،‬اللقاء ال يزال في بدايته‪....‬‬

‫‪232‬‬
‫تنهدت‪ ،‬ثم التزمت الصمت‪ .‬أفكاري كانت تتأرجح بين أجواء المباراة الصعبة و بين ما يخبئه لي الفخارجي‬
‫الغامض الفظ‪ .‬ما الذي جعله يغير رأيه يا ترى ؟‪ .‬ما االقتراح الجديد الذي ارتطم برأسه الصلب ؟‪ .‬ما الذي يريده‬
‫مني ؟‪ .‬ثم كيف لرجل يشتهر بتوحده و انعزاله الشديد حتى مع أبناء قريته‪ ،‬أن يرغب في الحديث إلى صحفي‬
‫غريب و متطفل ؟ !‪ .‬لماذا أجبر الجماعة على أال يخبروني بما يدور في رأسه و يصر على أن أسمعه منه‬
‫شخصيا ؟‪ ،‬أال يبدو ذلك مؤشرا واضحا على رغبة ما في التواصل معي أو االحتكاك بي ؟‪.‬‬

‫في تلك الدقائق الطوال التي كان فيها العبونا يتخبطون تحت عجالت الوقت الذي كان يمر فوق أذهانهم‬
‫بسرعة‪ ،‬و يتالطمون مصطدمين بعناد الروس و صالبتهم التي يشتهرون بها‪ ،‬لم يكن هنالك سوى احتمالين فقط‬
‫كانا يتصارعان داخل رأسي‪ :‬إما أن الرجل ليس بذلك التوحد الذي تم تصويره لي من طرف من تحدثوا معي عنه‪،‬‬
‫و بالتالي قد يكون رجال عاديا و إن كان يحب في العادة االختالء بنفسه فقط‪ ،‬كغالبية الحرفيين الذين يلبسون ثوب‬
‫الفن‪ .‬و إما أنه فعال يبحث عني لغاية أخرى غير تلك التي أعلنها أمام قومه‪.‬‬

‫بصراحة‪ ،‬كنتُ أود أن أعثر لنفسي على كل المبررات المنطقية التي تعزز رغبتي في التصديق بأن‬
‫عميروش آفاو ليس في النهاية إال قرويا عاديا‪ ،‬و إن كان غريب الطباع قياسا إلى مجتمعه المحلي‪ ،‬و أنه ال يوجد‬
‫أي دليل قطعي على '' مؤامرة '' يحوكها الرجل رفقة منظمة سرية أو تيار ايديولوجي أو حركة ثورية تعمل في‬
‫الظل تحت اسم مختصر في حروف '' تي تي أس ''‪ ....‬كنتُ ألكون آخر شخص يرغب رجل كهذا في االحتكاك به‬
‫أو التواصل معه مرة أخرى‪ ،‬خاصة بعدما سوى مشكلته معه !‪.‬‬

‫استمر األمر على حاله بين شوطي المباراة‪ .‬أفكار مشتتة بين إثارة المقابلة الفاصلة و بين البحث عن المنطق‬
‫الذاتي‪ .‬جنوني الصحفي كان يرغب في إقناعي أن هنالك أمرا ما يدور في رأس الحرفي و أن أمر القصة الصحفية‬
‫التي حاولتُ الظفر بسبقها في أعالي تيزي وزو ال يزال قائما و محتمال‪ ،‬لكن ذاك الجنون كان مجرد جنون !‪،‬‬
‫إثارة طفولية كان يجب لجمها بصرامة‪ ،‬مادامت األدلة المادية الدامغة غير موجودة‪ .‬ال شيء في األجواء‪ .‬حتى‬
‫ذكرى الربيع البربري األسود مرت فاترة‪ ،‬بل حتى ذكرى اغتيال معتوب الوناس كانت هي األخرى قد مرت قبل‬
‫يوم فقط‪ ،‬زاحفة بصمت ابتلعته ضجة مشاركة البلد في المونديال‪.‬‬

‫لم أتحرك من مكاني على عكس معظم الزمالء الذين تفرقوا عبر صالة التحرير و هم يصفقون و يهتفون في‬
‫محاولة الحفاظ على جو التفاؤل و المتعة الرياضية البحتة في أقصى األحوال‪ ،‬في حين فضل البعض اآلخر‬
‫الخروج لتدخين سيجارة‪ ،‬على غرار سي رزاق‪ ،‬حارس البوابة‪ ،‬الذي أغلق باب مكتبه على نفسه و هو يتحدث‬
‫عبر هاتفه الخلوي آخذا جرعته المنتظمة من النيكوتين‪ .‬كان يدور حول المكتب و هو يتحدث و يحك جبينه أو ذقنه‬
‫أو أنفه بسبابته‪.‬‬

‫_ '' ال أعتقد أني سأعود إلى تلك القرية المعلقة وسط الفراغ !‪ .‬فليذهب أغاكال هذا إلى الجحيم !‪ .‬لن يكون‬
‫هنالك أي ربيع‪ ،‬ال عربي و ال بربري‪ .‬كلب الزريبة لن يعود إلى تيميزر تلك ! ''‪.‬‬

‫_ مينو‪...‬‬

‫‪233‬‬
‫ّ‬
‫التفت إليها فإذا بها تشير برأسها إلى مكتب السي رزاق‪...‬‬ ‫جاءني صوت صوفيا على يميني‪.‬‬

‫_ أعتقدُ أنه يطلبك‪..‬‬

‫التفت إليه فإذا به خلف الفاصل الزجاجي الذي يؤطر مكتبه‪ ،‬يستدعيني بإشارات يده و هو ال يزال يتحدث‬
‫عبر الهاتف‪ .‬دخلتُ إليه تاركا الجميع خلفي مسلوبي العقول و األفئدة حين أقفل الخط و هو يشير إلي بأن أغلق‬
‫باب المكتب الخشبي‪.‬‬

‫_ اجلس يا وشكاي‪...‬‬

‫قالها و هو يقابلني بظهره يفكر مع نفسه حاكا ذقنه‪ .‬صوته كان هادئا بعض الشيء‪ .‬لم أفهم عليه لكني أخذتُ‬
‫مكاني على األريكة الجلدية و أنا أراقب وقفته الطويلة تلك‪...‬‬

‫_ سي رزاق ؟ !‪.‬‬

‫ظل صامتا لمزيد من الوقت و هو يفكر‪ ،‬قبل أن يلتفت إلي و هو يتنهد متنحنحا كأنه موقوف مصفّد بين التردد‬
‫و عدم اليقين‪...‬‬

‫_ أصارحك أن من بين أغلى أحالمي كرجل إعالم كان و ال يزال لقاء بعض عمالقة الصحافة و الميديا في‬
‫العالم لمجالستهم و تبادل األفكار معهم‪ .‬مصافحة يد رجل إعالم متنور و موضوعي و ملتزم بقناعاته و مبادئه مثل‬
‫أمير طاهري مثال‪ ،‬و التحادث معه حول كبرى المسائل التي عايشها في شبابه إبان الحرب الباردة و حرب‬
‫الخليج‪ ،‬سيكون شيئا أعتبره إنجازا شخصيا لي‪ .‬هه يؤسفني أن أزمة التسعينات سلبتنا إعالميا كالطاهر جاعوت !‪.‬‬

‫قالها متنهدا و هو يرمي بنظرة خاطفة خلفه إلى صورة الطاهر المبتسم بشاربيه البارزين و نظارته الغليظة و‬
‫هو يراقبنا بصمت من داخل إطار صورته الخشبي األسود‪...‬‬

‫_ لكنك حققت شيئا من تلك األماني يا سي رزاق ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ ،‬صافحتُ العمالق حسنين هيكل ذات يوم حين كنتُ صحفيا شابا‪ .‬تبادلتُ معه بعض أطراف الحديث‬
‫رفقة جماعة من اإلعالميين في القاهرة‪ .‬كان ذلك رائعا‪.‬‬

‫رميتُ إليه بنظرة ال تزال حائرة‪ ،‬فتنحنح مرة أخرى و كأنه يعود إلى صلب الموضوع الحاضر‪...‬‬

‫_ ما هو أغلى حلم لك كصحفي في الوقت الحالي ؟‪.‬‬

‫_ كان لي واحد قبل أيام قليلة فقط‪ ،‬حيث كنتُ أتطلع إلى إنجاز صحفي نوعي‪ ،‬لكن حاليا‪ ....‬ال أعلم‪.‬‬

‫راح يشير إلي بسبابته كمن يريد لومي أو تنبيهي‪...‬‬

‫_ إياك أن تتخلى عن طموحاتك المهنية بهذه السهولة يا فتى‪ ،‬حتى و إن لم يؤمن بها رئيس تحريرك !‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫سار إلى أريكته و صب عليها كل ثقل جسده البدين‪ ،‬ثم راح يترنح بها يمينا و شماال و هو ينظر إلي مستمرا‬
‫في التأمل‪...‬‬

‫_ سي رزاق‪ ،‬هال دخلتَ في صلب الموضوع ؟‪.‬‬

‫_ كنتُ أتحدث إلى صديق قديم لتوي‪ ،‬و من جنون الصدف أنه أخبرني بقصة غريبة‪ .‬يُشاع في المكان الذي‬
‫يشتغل به أن أجهزة األمن في حالة استنفار قصوى هذه األيام‪ ،‬لكن استنفارها هذا ال يكاد يُالحظ بتاتا‪.‬‬

‫_ و بعد‪ ....‬؟‪.‬‬

‫سألته بصوت مترقب بعدما تلقفت مضمون ما كان يود الوصول إليه‪ ،‬فنظر إلي قبل أن يشيح ببصره نحو‬
‫النافذة متنهدا‪...‬‬

‫_ قال أنهم يتوقعون حدوث ما وصفه بـ‪ ''..............‬اضطرابات اجتماعية ُمدبَّر لها '' !‪.‬‬

‫_ عجبا سي رزاق !‪ .‬أتعتقد أنه وصل إلى ما وصلتُ إليه قبل نحو شهر ؟‪ .‬كنتَ محقا ذاك اليوم حين أخبرتني‬
‫أنه يلزمنا دالئل دامغة حول هذا الحراك حتى نستطيع كشفه‪.‬‬

‫أطلق ضحكة تهكمية و هو يمسح شنباته الحمراء بأصابع يسراه‪...‬‬

‫_ يا فتى‪ '' ،‬حين تعجز عن تتبع مصدر صوت الحقيقة وسط ضوضاء الشك و تختلط عليك األمور‪ ،‬أغمض‬
‫عينيك و حاول على األقل التقاط صداه الخافت بين الجدران لتحدد وجهته أوال ''‪ .‬جملة أذكرها مع نفسي كلما‬
‫وقعت في معضلة مهنية مشابهة لهذه‪.‬‬

‫رفعتُ حاجبي ملقيا إليه بنظرة متغابية فرفع رأسه مستمرا في التهكم‪...‬‬

‫_ يا اله !‪ .‬أنت لم تقرأ مقال زميلك زيغومي اليوم‪ ،‬أو مررتَ عليه دون أن تلحظ شيئا ؟!!‪.‬‬

‫_ ال أعتقد ذلك‪ ....‬ال‪.‬‬

‫راح يقلب بين األوراق الكثيرة المبعثرة فوق مكتبه‪ ،‬إلى أن وجد العدد األخير لذاك اليوم من النبأ اليومي‬
‫فرمى به إلي‪...‬‬

‫_ الق نظرة على مقاله في الصفحة الثالثة‪.‬‬

‫كان مقاال خبريا صغيرا نسبيا‪ ،‬احتل الجانب السفلي األيسر للصفحة الثالثة لعدد ذاك الخميس‪ .‬زميلنا قاسم‬
‫زيغومي صحفي متفان و كاتب افتتاحيات في العادة‪ .‬عشر سنوات من الخدمة في الميدان جعلته ضليعا في الكثير‬
‫من األمور و الخبايا كونه شكل شبكة هائلة من المصادر الموثوقة التي تفيده بالكثير مما يجري في الحياة السياسية‬

‫‪235‬‬
‫للبلد‪ .‬لكني في كل األحوال كنتُ قد هزمته في تلك النقرة‪ ،‬كوني توصلتُ إلى معلومة هذا الربيع أو الحراك‬
‫المفترض‪ ،‬حين كان يفترض به أن يكون هو من يقتنص هذه القصة بحكم عمله في قسم األخبار‪.‬‬

‫قرأتُ العنوان بصوت مسموع‪...‬‬

‫_ '' بعدما شهدت تغييرات هيكلية عميقة شهر سبتمبر الماضي‪ :‬بوتفليقة ينزع صفة الضبطية القضائية عن‬
‫المخابرات ''‪.‬‬

‫نظرتُ إلى سي رزاق‪...‬‬

‫_ هه يبدو أن الصراع ال يزال مشتعال بين الرئاسة و المخابرات‪ ،‬لكن ما عالقة األمر بقصتي ؟!‪.‬‬

‫أومأ برأسه متنحنحا‪...‬‬

‫_ اقرأ‪ ،‬اقرأ ما جاء في الخبر و ستفهم‪...‬‬

‫بعدما شهدت تغييرات هيكلية عميقة شهر سبتمبر الماضي‬

‫بوتفليقة ينزع صفة الضبطية القضائية عن المخابرات‬

‫وقَّع رئيس الجمهورية على جملة من المراسيم الرئاسية‪ ،‬التي نُشرت في الجريدة‬
‫الرسمية في عددها ‪ 24‬الصادر بتاريخ ‪ 04‬جوان الجاري‪ ،‬و التي جاء من ضمنها‬
‫المرسوم الرئاسي رقم ‪ 123-14‬الذي يتضمن إنشاء مصلحة التحقيق القضائي لمديرية‬
‫األمن الداخلي التابعة لمديرية االستعالم و األمن ( ‪ ،) DRS‬حيث تقرر إعادة النظر في‬
‫أولويات القضايا محل البحث و التحقيق و التدخل من طرف هذا الجهاز النظامي الهام‪،‬‬
‫إذ تم حصرها بموجب المرسوم المذكور أعاله في مجاالت‪ :‬الوقاية من التدخل األجنبي‬
‫( محاربة التجسس )‪ .‬الوقاية من اإلرهاب و األعمال التي تمس بأمن الدولة‪ .‬الوقاية من‬
‫األنشطة التخريبية ضد مؤسسات الدولة‪ .‬محاربة المنظمات التي تهدد األمن الوطني و‬
‫محاربة الجرائم االلكترونية‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة إلى أن المادة ‪ 04‬من قانون اإلجراءات الجزائية – التي صادق عليها‬
‫البرلمان سابقا – كانت تمنح ضباط الشرطة القضائية التابعين للمخابرات‪ ،‬كغيرهم من‬
‫ضباط الشرطة القضائية لألجهزة األمنية األخرى‪ ،‬صالحيات واسعة في البحث و‬
‫التحري في كل أصناف الجريمة المحددة في القانون الجزائي ( بما فيها الجريمة‬
‫االقتصادية ) و مالحقة و تقديم مرتكبيها إلى العدالة‪ ،‬إال أنه و بعد المصادقة على‬
‫المرسوم األخير لن يتمكن '' دي أر أس '' من متابعة ملفات الفساد المالي و االقتصادي‬
‫الكبرى التي كانت محل تحقيقه سابقا‪ ،‬كملفات سوناطراك و الطريق السيار شرق –‬
‫غرب‪ .‬إذ يرى بعض المهتمين بالشأن الداخلي أن هذا المرسوم جاء لتحييد المخابرات ''‬
‫نهائيا '' عن متابعة و التحقيق في قضايا فساد '' كبرى ''‪ ،‬تكون قد أزعجت بعض‬
‫المتنفذين في السلطة‪ .‬في حين يرى قطاع آخر من المتابعين أن المرسوم السالف الذكر‬
‫سيمنعها من استغالل صفة الضبطية القضائية كورقة ضغط سياسية و تصفية حسابات‬
‫و تجا وز للقانون من طرف بعض ضباطها‪ ،‬و التي كثيرا ما أثارت ردود أفعال منتقدة‬

‫‪236‬‬
‫لتغول جهاز المخابرات و تحوله إلى دولة داخل الدولة نفسها‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ق‪.‬ز‬

‫أكملتُ قراءة المقال ثم وجت مقلتاي تعودان تلقائيا لمراجعة ثالث جمل جاءت متجاورة في سياق الخبر‪:‬‬
‫الوقاية من التدخل األجنبي‪ ،‬محاربة المنظمات التي تهدد األمن الوطني‪ ،‬محاربة الجرائم االلكترونية‪ ....‬أيعقل أن‬
‫يكون ذلك إشارة إلى أغاكال و أتباعه و مخططهم السري ؟ !!‪ .‬زغتُ ببصري في الفراغ و أنا أسمع صوتا داخل‬
‫رأسي ينطق مستدركا‪ '' ....‬أعتقد أني سأعود إلى تلك القرية المعلقة وسط الفراغ ! ''‪.‬‬

‫_ كان يجدر بي جعله مانشيت اليوم‪ ،‬مع دفع زيغومي و بقية الفريق للتعمق و النبش أكثر في الموضوع !‪...‬‬

‫جاءني صوت سي رزاق في نبرة تخفي الحسرة و هو يمسح بكفه على صلعته العريضة كمن يريد مواساة‬
‫نفسه‪ ،‬قبل أن يكمل مفترضا‪...‬‬

‫_ ‪ ....‬إن كان أمر هذا الربيع الجزائري حقيقيا فهذا يعني أنه أمامنا الكثير من العمل يا فتى‪.‬‬

‫_ سأعود إلى تيزي وزو في أقرب وقت‪ .‬أعتقد أني تمكنت من اإلمساك برأس الخيط جيدا هذه المرة‪ ،‬لكني‬
‫أحتاج المزيد من الوقت‪ .‬ال أريد التسرع في إنجاز األمور‪.‬‬

‫_ أعطيك الوقت الذي تحتاجه‪ ،‬لكنك فقط ملزم بإنجاز تحقيقك في كنف التكتم الشديد و السرية الكاملة‪ ،‬كون‬
‫األمر بدأ ينتشر وسط بعض الصحف المنافسة‪ .‬كن حذرا من أجهزة األمن أيضا‪.‬‬

‫_ سي رزاق‪ .‬هنالك أمر يزعجني في كل هذا‪.‬‬

‫نظر إلي‪ ،‬ثم سألني بإماءة من وجهه بعدما راح صمتي يطول‪...‬‬

‫_ أقول في نفسي‪ :‬مذا لو وصلتُ إلى هذا السبق الصحفي ؟‪ .‬مذا لو كشفنا خيوط هذا الحراك و تم وأده قبل أن‬
‫ينطلق ؟‪ ....‬أال يمكن لذلك أن يحمل نفعا كبيرا ألناس ال يستحقونه ؟‪ ،‬أو يضر آخرين ال يستحقون األذى ؟‪...‬‬

‫نظر إلي بشيء من الغضب‪...‬‬

‫_ أنتَ اآلن لستَ صحفيا يا وشاكي‪ .....‬أو لنقل صحفي غمس رأسه في مرحاض مسدود بالفضالت !‪ .‬إن فكرتَ‬
‫على هذا النحو فهذا يعني أنك ستجبر نفسك على تجرع الحد الزائد من الذاتية‪ .‬هنا سيتحول كل ما تكتبه إلى مواد‬
‫ضارة بالضرورة‪.‬‬

‫_ رغم ذلك تجد حيرتي وسط هذه الدوامة‪ .‬كيف يجب أن أقف ؟‪ ...‬أو أين يجب أن أكون ؟‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫زاد انفعال سي رزاق‪ ،‬لكنه سرعان ما سيطر عليه عبر تلك اللحظات التي رمقني فيها بصمت بتلك النظرة‬
‫المدققة‪ ،‬التي ربما حملت في طياتها شيئا من إشفاق المجرب الخبير على من ال يزال في بداية طريقه‪.‬‬

‫_ ‪ ...‬يا فتى !‪ ،‬قف إلى جانب حليفك األول كصحفي و فقط في هذه الحال‪ :‬الحق المقدس في اإلعالم‪ .‬على‬
‫األمة أن تعرف و تفهم ما يحدث من حولها و من تحت أقدامها‪ ....‬و كفى‪ .‬لسنا هنا إلنقاذ و ال لتحطيم أحد‪.‬‬

‫جواب سي رزاق كان عفويا تماما و دون أدنى تفكير‪ .‬كان ذلك كافيا لي ألغلق هذا الجدال مع نفسي‪ .‬أردتُ‬
‫أن أشكره‪ ،‬فرغم طابعه الحاد و سرعة غضبه حين يتعلق األمر بالعمل‪ّ ،‬‬
‫فإن له طريقة غريبة في إعادة تنظيم‬
‫األمور داخل رأس أي صحفي يفقد توازنه بسبب تلك المعركة األزلية بين الموضوعية و الذاتية‪ ،‬وهو يضبط‬
‫برغي هذا الميزان المضطرب و المثقل بقلق السؤال عن طريق جمل قليلة تختصر الكثير‪ .‬نظرتُ إليه فوجدته و‬
‫قد عاد إلى التفكير مع نفسه‪ ،‬فإذا بمقر الجريدة يهتز فجأة على صراخ و هتافات فريق العمل‪ .‬التفتُ على يساري‬
‫فإذا بالجميع يقفزون و يتعانقون أمام صوفيا التي راحت تركض حول الجميع و هي ترفع العلم الوطني فوق رأسها‬
‫مرفرفا مع مالبسها الفضفاضة و قد عادت لتتحول إلى طفلة صغيرة مشاكسة مرة أخرى‪...‬‬

‫_ أه‪ ،‬يبدو أن فتياننا قد ع ّقدوا حسابات الروس للتو !‪.‬‬

‫قال سي رزاق و هو ُّ‬


‫يحك بطنه الكبير قبل أن يلتفت إلي‪...‬‬

‫_ وشاكي‪ ،‬افعل شيئا ما‪ .‬أريد هذه القصة على الصفحات األولى لجريدتي في أقرب وقت‪ ،‬قبل أو مع انطالق‬
‫هذا الحراك االجتماعي الجزائري‪ ....‬أو الربيع البربري الجديد‪ ....‬أو الفوضى‪ ....‬أو أيا كان ُمس َّماه‪ .‬لن أتحدث مع‬
‫مجلس اإلدارة حول هذا األمر إال بعد أن يصير الموضوع جاهزا للنشر‪ .‬ال أرغب في أن يسمع أي شخص بهذا‪.‬‬
‫ابق األمر بيننا فقط‪ .‬احصل على السبق مهما كلف األمر‪ .‬أريدك أن تتسرب إلى داخل رأس هذا الحرفي القبايلي‬
‫كما تتسرب الرمال التي تحملها السيروكو من تحت األبواب الموصدة بإحكام‪ .‬اكتشف نواياه‪ ،‬خلفياته‪ ،‬مخططاته‪،‬‬
‫عصب من الداخل أم أطراف أجنبية‪ .‬أريد كل شيء حول ما سيحدث‪ ،‬أتفهم !‪.‬‬
‫شركائه و من يقف خلفه‪ُ ،‬‬

‫رفعتُ نظري نحوه بوجه مازح متهكم و مستفز‪....‬‬

‫_ حسبتك تريدني أن أذهب إلى البرازيل لخوض مغامرات نسائية هناك‪ ،‬و أنسى هذه اللعنة المهنية التي‬
‫أعيش في خضمها و التي ال مفر منها في كل األحوال ؟ !‪.‬‬

‫هز كتفيه و هو يشير إلي برأسه كأنه يرغب في أن أنطق معه ما كان يجول في رأسه‪ ،‬فنطفنا بها في وقت‬
‫متزامن‪ '' ....‬حين تأتي ساعة عمل الصحفي‪ ....‬تأتي ! ''‪.‬‬

‫تبادلنا نظرات متناسقة قبل أن أخرج من عنده ملتحقا بالرفاق حيث أكملت تلك اللحظات التي بدت عصيبة و‬
‫طويلة على الجميع إال علي‪ ،‬كوني كنتُ أتابع المباراة بعيني فقط‪ ،‬حين كان فكري بعيدا تماما‪ ،‬حتى أني لم أشعر‬
‫بطول الوقت إلى أن أفقتُ على صيحات النصر التي َّ‬
‫دوت مقر الجريدة و دار الصحافة و ساحة الفاتح ماي و‬
‫العاصمة و البلد برمته‪ ،‬بعد صافرة النهاية‪ .‬انتهت المباراة بتعادل بطعم الفوز الباهر‪ ،‬و نحن نختبر و ألول مرة‬
‫‪238‬‬
‫في تاريخ وطننا طعم الصعود إلى الدور الثاني للمونديال‪ .‬رغم ذلك فقد فكرت أنه لم يكن مقدَّرا لي أن أطيل‬
‫االستمتاع بمخدر كرة القدم لوقت إضافي و ال أن أقتسم فرحة وطني بنصره ذاك‪ ،‬و أنا أعلم أن هنالك أمرا خطيرا‬
‫قادما في طريقه‪ ،‬ليُنغص عليه حالوة بعض اإلنجازات التي يحققها بين الحين و اآلخر في سيره المضطرب على‬
‫درب تاريخه المحفوف باألخطار‪.‬‬

‫_ '' آه ما أشقاك يا وطني !!‪ ،‬و ما أشقاني بشقائك !!!‪.''....‬‬

‫هكذا‪ ،‬احتفل الجزائريون تلك الليلة بالتأهل إلى الدور الثاني لمونديال البرازيل بالشماريخ و األلعاب النارية و‬
‫الحفالت الصاخبة في الشوارع و البيوت‪ .‬كانت أصداءها تهز أركان كل جدار مبني عبر تراب البلد‪ ،‬لكني شعرتُ‬
‫أني مقطوع تماما عنهم و أنا أقطع باب الوادي عائدا إلى شقتي أحرق السجائر األخيرة ليومي‪ ،‬أمشي بين الحشود‬
‫الراقصة و الراكضة كأني شبح ملعون بأسراره الثقيلة‪.‬‬

‫كان آخر ما تفقدته تلك الليلة هو الصحن الفخاري المزين بتلك المثلثات السوداء‪ ،‬الذي صنعه عميروش و‬
‫أهداه لي الفتى موسى‪ .‬كنتُ أحدق إليه و أفكر‪ ....‬أعتقد أنه لو كان قلق السؤال شخصا يمشي على قدمين‪ ،‬ألحببته‬
‫و كرهته في نفس الوقت‪ .‬ألعربت له عن كامل امتناني و ألشبعته ضربا في لحظات الضعف و اليأس !‪ .‬لقد جعل‬
‫مني ما أعتقد أنه '' جزائري حي ''‪ ،‬لكنه ورطني في آالم و عذاب ال حصر له حين كشف لي بشكل مستمر عن‬
‫واقع هذا البلد !‪ .‬لقد ورطني في هذه المغامرة‪ ،‬أو الحيرة القبايلية الغريبة مع ذاك الفخارجي الغريب‪ ،‬الذي كان‬
‫يخبئ لي أمرا كان يجب أن ينجلي بعودة كلب الزريبة إلى تيميزر في أقرب وقت ممكن‪ ،‬و قد كان فعال عائدا إلى‬
‫هناك‪ .......‬بخطى أكثر ثباتا هذه المرة‪.‬‬

‫_'' أغاكال‪ ،‬ما الذي تد ِّبّره لي هناك‪ ،‬في رأس الجبل ؟ ''‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫‪VI‬‬

‫صلة‬
‫صل َ‬
‫أيام ال َّ‬

‫‪240‬‬
‫‪-10-‬‬

‫رهان ال َّدواليب الدوارة‬

‫السبت ‪ 47‬جوان ‪ ،4102‬أمام مدخل قرية تيميزر‪...‬‬

‫أقف هناك إذن‪ ،‬و أنا ألهث و أتعرق و أسعل‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬عند نفس العتبة التي وقفت عندها قبل مدة وجيزة‪،‬‬
‫سوى أن األسئلة التي حملتها على ظهري إليها كانت قد تضاعفت‪ .‬تيميزر‪ ،‬بأحجارها العتيقة التي استحمت بشمس‬
‫البلد لقرون طويلة كانت و بشكل غريب ترحب بي‪ ،‬عكس نظرات بعض سكانها ممن كنتُ أصادفهم و أنا في‬
‫طريقي إلى مسجد القرية صعودا وسط ذلك الجو الخانق لشمس ما بعد الضحى‪ .‬طبعا‪ ،‬فضولي و أسئلتي و‬
‫طوارئي المهنية جعلتني أصل باكرا إلى بالد القبايل‪ ،‬إلى تيزي وزو‪ ،‬إلى بني يني‪ ،‬إلى إيبودراررن‪ ،‬إلى تيميزر‪.‬‬

‫كنتُ أسير على طول تلك الشوارع المعبدة باألحجار و أنا أسمع صدى خطواتي يعانق جدران المنازل‬
‫القبايلية القديمة التي كانت تصطف على طول الطريق‪ ،‬و كلما كنتُ أ قترب من قمة الربوة التي يكلل المسجد‬
‫األبيض الصغير رأسها‪ ،‬كانت أسئلتي تتصاعد بشأن تلك النظرات التي كنتُ أحصدها خالل سيري‪ .‬لم يكن هنالك‬
‫قروي واحد ممن تقاطعت خطواتي مع خطواته‪ ،‬سواء كان رجال‪ ،‬شابا‪ ،‬شيخا‪ ،‬امرأة أو حتى صبي أو صبية‪ ،‬لم‬

‫‪241‬‬
‫يرمي إلي بنفس النظرة المستجوبة و المستغربة في آن واحد‪ .‬حتى جرجرة لم يكن آبها لعودتي إلى تيميزر تلك‬
‫الصبيحة‪ ،‬إذ لم يعرني اهتمامه هذه المرة و كأنه صار يعرفني بعد أول لقاء‪ ،‬أو ربما كوني بالغت في وصف‬
‫جماله و هيبته في مقالي المطول عن وزيعة تيميزر التي جعلته فيما يبدو يغض الطرف عن وجودي بجواره هذه‬
‫المرة ؟ !‪ .‬في الحقيقة لم أفهم ما نوع اإلشاعة التي تكون قد انتشرت انتشار النار في الهشيم بين األلسن في هذه‬
‫الديار‪ ،‬لكني كنت أعلم قطعا أنها تخص رغبة أغاكال في لقائي مرة أخرى‪.‬‬

‫وصلتُ إلى المسجد‪ .‬عبرتُ نادي القرية الذي يسمونه هم بتاجماعت‪ ،‬و الذي كانت به حركة ال بأس بها في‬
‫تلك الساعة‪ .‬مجموعات من الرجال متفرقة هنا و هناك‪ ،‬تستظل باألشجار و جدران المنازل‪ ،‬و بعض الصبية‬
‫الذين كانوا يركضون هنا و هناك عبر الساحة‪ .‬لمحني الجميع و أنا أعبر منتصف الساحة فكانت تلك الضوضاء‬
‫اللطيفة تخف شيئا فشيئا مع خطواتي التي كانت تقترب من المسجد‪ ،‬إلى أن ساد شبه سكوت تام المكان‪ .‬الكل كان‬
‫ينظر إلي‪ ،‬حتى الصبية توقفوا عن اللعب و وقفوا يراقبونني و هم يتهامسون فيها بينهم‪ .‬حاولتُ عبثا أال أعير‬
‫انتباهي للجميع لكني رحتُ أوزع عليهم نظرات عسى أن يحدث ما حدث أول مرة يوم جئت القرية‪ ،‬حين كان كل‬
‫من ال يعرفني يلقي إلي بنظرة فاحصة خاطفة قبل أن يشيح ببصره في حياء بمجرد أن أنظر في عينيه‪.‬‬

‫ذلك لم يحدث هذه المرة‪ .‬دخلتُ إلى المسجد تاركا حذائي أمام الباب‪ .‬كان الشيخ عبد السالم رفقة المؤذن‬
‫مولود يقفان بالرقب من المحراب يتحادثان بصوت خافت‪ ،‬و حين لمحني اإلمام علت سحنته إشارة خاطفة تدل‬
‫على االنزعاج أو اإلحراج‪ ،‬حاول إخفاءها بسرعة و هو يستبدلها ببسمته المعتادة‪.‬‬

‫لم يطل حديثي إليهما و لم أستطع فهم لب الموضوع الذي خطه عميروش آفاو هذه المرة‪ .‬الشيخ عبد السالم‬
‫كان يردد فقط بأني فعال لم أكن ملزما بالقدوم بما أن تاجماعت انتصرت لي هذه المرة‪ ،‬إلى درجة خيل لي أو‬
‫أحسستُ أنه كان يريد فقط دفعي للعودة من حيث أتيت‪ .‬أما المؤذن الشاب فقد كان ملتزما الصمت أثناء معظم ما‬
‫دار بيننا من حديث‪ ،‬و اكتفى بالقول أني إن كنتُ أصر على معرفة التسوية الجديدة التي يدعو إليها ابن الدا ّ إيدير‬
‫على حد قوله‪ ،‬فما ع لي إال أن أذهب إليه إلى منزله و التحادث معه‪ ،‬و هو الشيء الذي جعل إمام القرية يغتاظ‬
‫بشكل ما و هو يوجه نظراته نحو الشاب‪ ،‬فعاد ليحثني على فكرة تركي لكل هذه السخافة و أعود إلى العاصمة و‬
‫هو يلح على أن األول من رمضان سيكون في اليوم التالي‪ ،‬و خير لي أن أصومه حيث اعتدت على صيامه على‬
‫أن أصومه في مكان قد يزيد من مشاق صيامي فيه‪ ،‬كون نمط عيشه و مناخه مختلفين عما اعتدت عليه‪.‬‬

‫لم أقل شيئا ذي داللة و اضحة‪ ،‬رغم أن كالم لمين كان واقعيا إلى حد ما‪ ،‬لكن ذلك لم يكن ليغير شيئا في‬
‫الواقع‪ .‬قراري كنتُ قد اتخذته و هو قبول أي شيء يقترحه الفخارجي‪ ،‬فقط من أجل مهمتي و هدفي‪ .‬لذلك سرتُ‬
‫إلى منزله الواقع على طرف القرية‪ .‬وصلتُ إلى هناك‪ ،‬كان المكان هادئا كأول مرة تقريبا‪ .‬لم تكن هنالك أواني‬
‫طينية تجف بالقرب من الورشة التي دنوت من بابها الموصدة علي أسمع حركة الرجل بداخلها أو التقط شيئا من‬
‫موسيقاه على األقل ألعلم إن كان موجودا لكن‪ .....‬ال شيء‪ ،‬لكن صوتا نسويا مهتزا و شبه خافت جاءني من خلف‬
‫ظهري‪...‬‬

‫‪242‬‬
‫_ آ ِّ ّخير آ ّمي !‪ ( ...‬صباح الخير يا بني )‪.‬‬

‫التفت مباشرة و أنا ألمح تلك العجوز القبايلية‪ .‬امرأة قصيرة القامة جسد هزيل‪ ،‬كانت تحيط بها بعض‬
‫الدجاجات التي تبعت خطواتها على ما يبدو‪ .‬كانت ترتدي جبة زرقاء مزينة بأزهار برتقالية‪ .‬تغطي رأسها‬
‫بمحرمة سوداء و تضع فوطة برتقالية ناصعة على كتفيها‪ ،‬كانت انعكاسات الشمس عليها قد زادتها بريقا و‬
‫إشعاعا‪ .‬لقد أدركتُ من فوري أني أقف وجها لوجه مع نانه تاملسة‪ ،‬والدة أغاكال‪ .‬إنها العجوز التي وقفت في نفس‬
‫حولتها إلى حطام‪.‬‬
‫المكان آخر مرة حين سمعت سقطتي فوق أواني الطين التي َّ‬

‫ر ّكزت نظري على وجهها الذي‪ ،‬و بالرغم من التجاعيد و بعض الوشوم الصغيرة‪ ،‬كان أبيضا و نضرا بشكل‬
‫غريب‪ .‬عيناها الزرقوين كانتا ضاحكتين بشكل طبيعي زاد من لطافة بسمتها العريضة التي استقبلتني بها جاعلتا‬
‫إياي أبتسم حتى من دون أن أشعر‪ ،‬قبل أن أبدأ في البحث عن بعض الكلمات البربرية التي تعلمتها من السكان في‬
‫المرة السابقة‪ ،‬لكني وجدتُ نفسي أتلعثم أمامها فقط‪....‬‬

‫_ آزول فالك !‪ ،‬أه‪...‬أ‪ ....‬عميروش في‪ ...‬أه‪.....‬اس‪.....‬أ‪ ...‬أخام ؟‪.‬‬

‫أطلقت ضحكة و هي تضع كفها على فمها الصغير كأنما تستمتع بموقفي الطريف معها‪....‬‬

‫_ أزول فالم‪.....‬أزول فالم‪.‬‬

‫ردّت علي قائلة في لكنة من تصحح لي خطأي اللغوي و هي تلتفت نحو البيت العتيق‪...‬‬

‫_ آعميروش‪...‬آعميروش‪ ،‬آقشيش انّي ان لدزاير آت يدّه‪ ( ..‬عميروش‪ ،‬لقد وصل الشاب العاصمي )‪.‬‬

‫التفتت نحوي مرة أخرى و قد عادت إلى االبتسام و هي تومئ برأسها محتفية بي‪....‬‬

‫_ مرحفا‪ ...‬مرحفا‪...‬‬

‫ارتبكتُ و أنا أبحث عن عبارة الشكر المناسبة التي قد تفهمها‪ ،‬لكني لم أجد غير العامية الجزائرية‪...‬‬

‫_ هللا يعيشك‪ ،‬الحاجة !‪.‬‬

‫فُتح باب الفناء الداخلي للمنزل المتواضع‪ ،‬و إذا به صانع الفخار يخرج بخطوات وئيدة فاسحا المجال لوالدته‬
‫التي تمتمت بضع كلمات إليه قبل أن تدخل و هي تتقدم دجاجاتها اللواتي تبعنها أيضا إلى داخل الفناء‪ .‬لم أقل شيئا‪.‬‬
‫رمقته بنظرة خالية من أي تعبير‪ .‬ربما كوني تذكرتُ كيف كان لقاءنا األول مريعا و فاشال‪ ،‬خاصة و أنه كان‬
‫يرتدي نفس المالبس التي كان يرتديها ذاك اليوم‪ .‬أفعل ذلك عمدا كي يضعني في اختبار ما ؟‪ .‬هذا الرجل أذكى‬
‫بكثير مما يبدو عليه !‪ .‬كنتُ أفكر و أنا أنظر إليه بصمت‪ ،‬في حين كان يبادلني نفس النظرات واضعا يديه في‬
‫جيبه قبل أن يبادر إلي بعامية جزائرية طليقة علتها لكنته القبايلية‪...‬‬

‫_ إذن‪ ،‬قبلتَ ضمنيا اقتراحي و إال لما كنتَ واقفا هنا ؟‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫_ أنت ترى أني ال أحمل أغراضي الشخصية‪ .‬لم أقبل بشيء بعد‪ .‬ليس قبل أن أسمع منك هذا االقتراح‪.‬‬

‫_ هممم‪ .‬قطعتَ كل هذه المسافة قادما من دزاير فقط لتسمع اقتراحي إذن ؟‪.‬‬

‫_ أستطيع االنقالب حاال على أعقابي و أعود من حيث أتيت‪ .‬ال مشكلة عندي‪ ،‬فنحن الصحفيون معتادون‬
‫على مثل هذا‪ .‬ثم ال تنسى أن تاجماعت قد أنصفوني بدعوتي إلى االحتفاظ بمالي و لن أكون ملزما بأي شيء من‬
‫جهتك بالمرة‪ .‬بالنسبة لي فقد أخذتُ عطلتي السنوية لتوي‪ .‬قلتُ في نفسي أنه ال مانع من التجوال في بالد القبايل‬
‫قليال‪.‬‬

‫ي مرة أخرى كأنه‬


‫أشاح ببصره عني للحظة و كأنه يتأمل القرية و الجبال المحيطة بها‪ ،‬ثم عاد ليركزه عل ّ‬
‫يفحص خصما‪...‬‬

‫_ بدون مماطلة‪ ،‬إليك االقتراح‪ :‬أعيد إليك مالك‪ ،‬لكنك ستعيد لي كل األواني التي حطمتها بتصرفك األرعن‬
‫ذاك اليوم‪.‬‬

‫قالها ببرودة تامة دون أن ينظر إلي‪ .‬ففضال عن وقاحة هذا الشخص صاحب السادسة و الخمسين تقريبا !‪،‬‬
‫فإن اقتراحه كان غير معقول‪ .‬لذلك ألقيت إليه بنظرات مزجتُ فيها السخرية و االستغراب و قد كنتُ أرغب في‬
‫مجاراته في المباالته باللياقة الالزمة للحديث مع شخص غريب‪....‬‬

‫_ إما أنك تمزح‪ ،‬و إما أنك فعال مجنون !!‪.‬‬

‫_ أه‪ .‬مجنون واحد يعلم ما يفعل‪ ،‬خير من مائة عاقل ال يعلم ما يفعل‪ ،‬كما يقول جيراننا الكورسيكيون !‪.‬‬

‫_ و كيف تريدني أن‪ ......‬أرجع لك صحونك و جرارك المحطمة ؟‪.‬‬

‫كان في نبرتي شيء من التهكم و االستخفاف‪ ،‬لكن الرجل ظل ثابتا و غير مبال بنظرتي و نبرتي‪ ،‬فقد بدى‬
‫جادا كل الجد‪...‬‬

‫_ تعيد صنعها‪ ،‬بكل بساطة‪.‬‬

‫_ يا سيد حرفي‪ ....‬أنا صحفي‪ .‬مهمتي هي كتابة المقاالت بهاتين اليدين و ليس صنع الطين‪ .‬ال أعرف شيئا‬
‫فرق كما ترى‪ .‬ثم ال أرى فوق كل هذا سببا يدفعني لقبول اقتراحك من األساس‪.‬‬
‫عن حرفتك هذه‪ .....‬ربي خلق و ّ‬

‫تقدم نحوي حتى صار بيني و بينه أقل من متر‪ .‬انتزع نظراته الغليظة التي تدلت فوق صدره و قد أبان عن‬
‫عينيه البنيتين‪ .‬ظهرت سحنته جلية لي أخيرا جالعتا إياي أفكر بأنها تشبه سحنة ممثل إيطالي معروف لم يحضرني‬
‫اسمه تلك اللحظة‪.‬‬

‫_ قلتَ بأنك تود التجوال في ثامورث ان لقبايل خالل عطلتك هذه ؟‪ ،‬أه‪ ،‬يمكنك أن تستفيد أكثر خالل هذا‬
‫الوقت‪ ...‬تتعلم حرفة جديدة‪ ،‬أو قل‪ ...‬هواية جديدة‪ .‬طبعا مأواك و مأكلك سيكونان على عاتقي‪ .‬ما رأيك ؟‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫_ تقصد أنك تريدني أن أمضي شهري هذا هنا‪ّ ،‬‬
‫أتعلم صناعة الطين لكي أعيد صناعة ما حطمته من أواني‬
‫فخارية ؟‪.‬‬

‫_ أال تبدو فكرة جيدة كفاية ؟‪.‬‬

‫_ و لعلك تريد القول أنك أنت من سيعلمني هذه الحرفة أيضا ؟‪.‬‬

‫_ أنا متفرغ تماما‪ .‬و عليك أن تعلم أنك لن تكون التلميذ الوحيد في ذلك‪ .‬اتفقتُ مع مجموعة من سكان القرية‬
‫الراغبين في تعلم صناعة الفخار بأن أعلمهم ذلك مقابل أجرة بسيطة‪ ،‬هكذا سأكسب رزقي‪ ،‬بما أنك قد حرمتني‬
‫منه بتدميرك لعمل شهر أو يزيد‪ ،‬في ظرف دقيقة واحدة !‪.‬‬

‫_ أه آسف لسماعي هذا‪ .‬لكن ألم يكن بإمكانك أخذ التعويض المالي الذي أرسلت لك و تنتهي المشكلة ؟‪.‬‬

‫مال برأسه يمينا و شماال ثم نظر إلي‪...‬‬

‫_ أخذ مال رجل تسبب لي في ضرر غير مقصود‪ ،‬كان ليجعل خبزي خاليا من الملح‪ .‬احتفظ بمالك‪ ،‬لكنك‬
‫ملزم أخالقيا بتعويضي عن هذا الضرر‪ .‬أال تشعر بذلك ؟‪.‬‬

‫لم أعرف بما أرد‪ .‬ربما كون نظرتي للموضوع كانت بالضرورة مختلفة عن نظرته هو‪ ،‬بسبب اختالف البيئة‬
‫التي قدم منها كل واحد منا‪ .‬لكني كنتُ أحاول التفكير بعمق‪ ،‬فالرجل قد ال يكون بريئا في نواياه أبدا‪ ،‬و إنما يريد‬
‫فقط وضعي في موقف يح ِّتّم علي القبول بعرضه ألهداف أخرى‪ .‬لذلك قررتُ اللعب على المكشوف بشكل مفجوج‬
‫حتى أجعله يقتنع نهائيا بأني غير مبال و أني لستُ هنا من أجل هدف محدد‪ ،‬فتقدمتُ منه خطوة مركزا نظري في‬
‫نظره الثابت‪...‬‬

‫_ سأكون صريحا معك يا سيد‪ .‬ال أشعر باالرتياح لكل هذه القصة و هل تعلم َلم ؟‪ ،‬ألن بعضا من سكان‬
‫القرية يعتقدون أنك شخص متوحد و منعزل كثيرا‪ ،‬و أنك غريب األطوار أيضا‪ .‬بالنسبة لشخص بصفاتك‪ ،‬أال يبدو‬
‫أمر تعامله فجأة مع شخص غريب عن بيئته شيئا فيه الكثير من الغرابة ؟‪.‬‬

‫_ هه !‪ ،‬ليس بعض سكان القرية من يعتقدون أنني هكذا‪ .‬بل قل كلهم و ال تخجل‪.‬‬

‫_ إذن‪ ....‬ما الذي وراءك ؟‪.‬‬

‫صمت هنيهة و هو مستمر في وزني بعينيه كمن يزن معدنا من المعادن‪ ،‬ليق ِّدّر نوعه و نقاءه و ثقله و صالبته‬
‫ثم نطق‪...‬‬

‫_ لو كان لي مراد آخر من تعاملي معك‪ ،‬لكنتُ أخبرتك في كل األحوال‪ .‬لكن لب الموضوع كله ليس هنا‪ ،‬و‬
‫إنما في السؤال التالي‪ :‬تريد تعويضي في الضرر الذي تسببت به لي بيديك الناعمتين هاتين أم ال ؟‪ .‬إن كنتَ تشعر‬

‫‪245‬‬
‫بأن عليك دينا ما تجاهي فأنت ال تملك إال أن تقبل‪ .‬و إن كنتَ تصر على أنك غير مهتم أو غير مقتنع باالتفاق‪،‬‬
‫فكما قلتَ سابقا‪ ،‬تاجماعت تقف في صفك‪ ،‬و ما عليك إال استرداد مالك و الذهاب في جولتك السياحية المنتظرة‪.‬‬

‫اللعين !‪ .‬إنه ذكي فعال‪ .‬على األرجح أنه شعر فطريا أني كنتُ ألعب على المكشوف فأراد مكاشفتي بما‬
‫يضمره في نفسه من وراء كل هذا‪ ،‬فضال عن سعيه لتوريطي مع ضميري حتى يدفع بي نحو مراده‪ .‬كانت تلك‬
‫فرصتي لمجاراته أكثر‪....‬‬

‫_ حسن‪ .‬ماذا لو تكشف لي عن مرادك الحقيقي من وراء كل هذا‪ ،‬و أقبل باالتفاق كله ؟‪.‬‬

‫ظهرت على شفتيه بسمة خفيفة جدا‪...‬‬

‫_ سمعتَ عني الكثير من األقاويل على ما يبدو‪ .‬تعلم ؟‪ ،‬أسالفنا كانوا يقولون في حكمهم أن األفاعي ال تزدهر‬
‫إال بين األطالل‪ .‬الناس تعشق خلق الخرافات و األكاذيب و تدمن النميمة في قرانا النائية هذه‪ .‬لكن لي شيء صغير‬
‫أود إخبارك به و هو أني قرأت روبورتاجك عن تيميزر و شدني شيء ما فيه‪....‬‬

‫_ ما هو ؟‪.‬‬

‫رد ببسمة أكثر وضوحا و مكرا هذه المرة‪...‬‬

‫_ تقبل اتفاقنا الجديد و أخبرك يوم تتقن صناعة أول قالب طيني لك‪ .‬ما رأيك ؟‪ .‬ماذا ستخسر إن قبلت ؟‪.‬‬

‫بصراحة‪ ،‬في تلك اللحظة‪ ،‬أحسستُ أنني أمام رجل قد يكون صادقا تماما في كل ما ذهب إليه‪ ،‬أو مجرد‬
‫مجنون متروك في حال سبيله وسط قريته‪ ،‬أو مجنون يعرف تماما ما يفعل و له أجندة فعلية داخل رأسه‪ .‬الطرح‬
‫األخير هو الذي وجتُ غريزتي الصحفية تجذبني نحوه‪ ،‬تماما كما تنجذب نحلة ما تجاه زهرة بحد ذاتها قبل بقية‬
‫األزهار األخرى‪.‬‬

‫_ حسنا‪ .‬ألقل أنه ليس لي ما أخسره من كل هذه التجربة !‪ .‬ال بأس‪ ....‬أنا موافق على اقتراحك‪.‬‬

‫_ هناك شيء أخير‪ ......‬أعترف أني شخص صعب المراس على األجانب‪ ،‬و هذا بشهادة جميع السكان هنا‪.‬‬
‫سوف أعلمك هذه الحرفة لكن ال تتوقع أن أعاملك بلطف أو لين ألنك قادم من العاصمة أو ألنك صحفي‪ ...‬و ما‬
‫إلى ذلك من االعتبارات األخرى‪ .‬لقد اتفقتُ مع تاجماعت على أنه في حال قبلتَ عرضي فسوف تعامل كأي‬
‫مواطن آخر في هذا المجتمع المحلي‪ ،‬أي أن قوانين القرية التي تحمي الضيوف و عابري السبيل من سوء المعاملة‬
‫لن تكون سارية عليك معي‪ .‬ستكون خالل كل هذه مواطنا من تيميزر ال أكثر‪ .‬إيه نغ خاطي ؟‪ ...‬نعم أو ال ؟‪.‬‬

‫_ ال يهم‪ .‬لن يقتلني ذلك على كل حال‪ .‬إيه‪ ...‬موافق‪.‬‬

‫اتسعت بسمته كلية هذه المرة‪...‬‬

‫‪246‬‬
‫_ أه‪ ،‬العاصميون !‪ .‬اسمع يا فتى‪ ...‬والدتي دفعتني ألدعوك لشرب القهوة‪ ،‬لكن طرأ شيء اآلن على رأسي و‬
‫يجب أن أفعله‪ .‬لذلك سأراك على الغداء بعد نحو ساعة و نصف‪ .‬ال تتأخر !‪.‬‬

‫سار الرجل فجأة فاتحا باب ورشته‪ .‬دخل‪ .‬أغلق الباب على نفسه‪ .‬هكذا و بكل بساطة‪ .‬وقفتُ مدهوشا أراقب‬
‫أحمقا فظا يبدو أن اللباقة كانت آخر ما قد يعيره االهتمام في تعامله مع الغير و أنا أضع افتراضا آخر عن سلوكه‬
‫االنعزالي و توحده الغريب‪ ،‬الذي قد ال يكون إال نتيجة حتمية البتعاد القوم عنه بسبب سلوكه المتحجر و الالمباالة‬
‫الصريحة التي يبدوها في تعامله مع الناس‪.‬‬

‫توجهتُ إلى المقهى الموري سالكا شارعا آخر بطريق يقع خلف البيوت التي تطل على تاجماعت من أجل‬
‫تفادي تلك النظرات و الهمسات التي استقبلني بها السكان‪ ،‬لكن األمر لم يختلف كثيرا في المقهى‪ ،‬فقد خيم شبه‬
‫ص مت كامل على المكان بمجرد أن أخذت مكاني‪ ،‬قبل أن يأتي الفتى موسى آيت يوسف‪ .‬كان يرتدي قميصا جديدا‬
‫للمنتخب الوطني‪ .‬سلم علي و هو يطلق بسمته العريضة التي تكشف دوما عن أسنانه الصفراء المهترئة‪ .‬شعرتُ‬
‫بنوع من االرتياح كوني التقيت بشخص كان من بين أول المرحبين بي يوم وصولي إلى إيبودرارن أول مرة‪.‬‬

‫_ ما كان عليك أن تعود يا ماس أمين‪ .‬هذا الرجل مجنون و منحوس أيضا !‪.‬‬

‫_ ال يهم‪ .‬لكن قل لي‪ ،‬مذ أن وصلت إلى هنا و الناس ال يكفّون عن الحملقة في بشكل مفضوح ؟‪.‬‬

‫دنى مني حتى أمكنني التقاط روائح التبغ و الش َّمة المنبعثة منه و هو يخفض صوته‪....‬‬

‫_ ألنها سابقة في القرية يا آڨما‪ .‬أنت و ابن الشيخ إيدير على كل لسان في تيميزر‪ ،‬إلى درجة أنكما قد أنسيتما‬
‫الجميع المقابلة الكروية المرتقبة بين دزاير و ألمانيا لو تعلم‪ .‬الجميع ال يتحدثون إال عنك و يتساءلون ما الذي فعلته‬
‫لعميروش حتى يُقبل عليك هكذا و من دون سبب مقنع !‪.‬‬

‫_ حطمتُ جراره و أباريقه يا هذا‪ .‬أال يبدو سببا كافيا برأيك ؟‪.‬‬

‫أجبتُ موسى بشيء من التهكم‪...‬‬

‫_ ال !‪ .‬هذه أول مرة يبدر فيها سلوك كهذا من عميروش و الجميع ال يفهم ما السر في ذلك‪ .‬أخبرتك أن‬
‫الرجل ال يكاد يصادق أو يصاحب أحدا في القرية إال في إطار مصالح قليلة أو واجبات قروية محدودة‪ .‬فكيف به‬
‫يطلب لقاء شخص غريب و فوق كل ذلك صحفي‪ ،‬ليقترح عليه العمل معه في ورشته ؟ !‪.‬‬

‫_ أه إذن أنت تعلم باالتفاق‪....‬‬

‫_ الجميع يعلمون باألمر‪ .‬األخبار هنا تنتقل أسرع من الريح‪ .‬لكن أخبرني‪ ،‬ما الذي دار بينكما من حديث ؟‪.‬‬

‫التزمت الصمت قليال‪ ،‬ثم التفت إليه محاوال صرف فضوله عني‪...‬‬

‫_ هل فعال يقوم بتعليم حرفته إلى البعض من السكان هنا ؟‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫_ أجل‪ .‬هناك مقهى قديم و مهجور في الشارع السفلي و هو يتخذ منه مكانا يعلم فيه صناعة الفخار كل صيف‬
‫لكل من يرغب في ذلك من سكان القرية أو القرى المجاورة‪ .‬ها !‪ ،‬يريد تعليمك الحرفة أوال ؟‪.‬‬

‫_ الظاهر أن الخطة هي هذه‪ .‬غذا سأبدأ هذا '' التربص ''‪.‬‬

‫_ أتعتقد أنك ستحتمل الحر‪ ...‬العطش‪ ...‬الجوع‪ ...‬انقطاع النيكوتين‪ ...‬ال تنسى‪ ،‬فغدا هو األول من رمضان‪،‬‬
‫أم أنك من الذين ال يصومون هذا الشهر ؟‪.‬‬

‫أع تقد أن شيئا من الوجوم كان قد ترك أثرا خفيفا على وجهي في تلك اللحظة‪ ،‬فقد ذكرني موسى بأني خيبتُ‬
‫أمل أمي و شقيقتي اللتان حاوالتا يائستين إقناعي بتمضية بعض األيام في المنزل خالل رمضان‪ ،‬كون الجو سوف‬
‫يكون حميميا و عائليا و هما تخبراني أن البشير سيكون في البيت هو اآلخر‪ ،‬حيث سيمضي عطلته السنوية معهم‪،‬‬
‫لكني تملصت كالعادة متحججا بطارئ جدي اصطدم بي في العمل‪ ،‬و أني سأكون طيلة الوقت في مكان االتصاالت‬
‫فيه شبه معدومة مع شبكة الهاتف و االنترنت‪ .‬شعرتُ كأني مسافر عبر الزمن و أنا أحاول أن أشرح الوضع لهما‬
‫دون إ عطاء تفاصيل دقيقة‪ ،‬و بدى صوت كل واحدة منهما غير مقتنع بحججي المهنية‪ .‬إنها مهنة المصاعب حقا !‪.‬‬

‫رمضان في مدينة البليدة هو رمضان آخر‪ .‬إنه عالم يفيض بنكه طفولية خالدة و حنين خالص و خاص جدا‪،‬‬
‫لكني لم أكن أرغب في أن تخطفني تلك األفكار و المشاعر التي لم يكن لها نفع و أنا في قلب مهمة صحفية دقيقة‪.‬‬
‫ألقل أن جانبا خافتا من نفسي كان ينبئني بأنه ال مفر من الحنين خالل اليومين و األيام الثالث األولى لرمضان كما‬
‫هي العادة‪ .‬بعد ذلك سوف يعتمد األمر على مدى غوصي الكلي في واقعي هنا‪ ،‬في قرية تيميزر‪ ،‬مع ذلك الرجل‬
‫المجنون‪ ،‬الذي عدتُ إليه بحلول منتصف النهار و وجدته يقف عند باب بيت والديه واضعا يديه في جيبه‪ ،‬يلعب‬
‫بقطعة من القش اليابس بين أسنانه و شفتيه‪.‬‬

‫دعاني بحركة من رأسه إلى الدخول‪ ،‬فخطوت خلفه إلى الفناء الداخلي للبيت القرميدي‪ ،‬الذي بدى في حالة‬
‫أفضل مقارنة مع حالة جدرانه الخارجية المهترئة تقريبا‪ .‬كان الدجاج يمكث تحت ظل شجرتي تين و ليمون‬
‫متجاورتين عند الزاوية التي انتصبت فيها جرة طينية ضخمة انمحت الرسوم التي تزينها بشكل شبه كامل‪.‬‬
‫افترضت أنها من صنع يدي أغاكال الذي دعاني بإشارة من يده إلى الجلوس تحت ظل كرمة عتيقة كانت تظلل‬
‫نصف الفناء تقريبا‪ .‬أخذتُ مكاني على مقعد خشبي صغير مقابل مائدة خشبية شبه مهترئة‪ ،‬كان طالئها ذو اللون‬
‫األزرق الباهت قد بلغ مرحلة جد متقدمة من التقشر‪ ،‬خاصة على األطراف‪.‬‬

‫كان الهواء لطيفا بعض الشيء مقارنة بالجو الحار و الثقيل الذي خيم على شوارع القرية‪ .‬بعض من زقزقة‬
‫العصافير زاد من عذوبة المكان و أزال عني بعضا من الضغط و التشنج الذي أصابني به أغاكال بسلوكه الغريب‬
‫و غير المضياف‪ .‬كنتُ ألتفت على جانبي و أنا أسمع ثغاء عنزة لم أستطع معرفة مكانها‪ ،‬رغم أن صوتها كان‬
‫صادرا من داخل البيت‪ .‬أيعقل أن يضعوا حيوانا بحجم عنزة ليقاسمهم العيش داخل الدار ؟‪ .‬لم ألمح عند الباب‬
‫المفتوح غير هر رمادي مرقط نحيف لكنه جميل‪ ،‬كان يجلس بسالم يلعق أطرافه و صدره و بطنه‪ ،‬قبل أن يتمدد‬
‫فوق العتبة‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫خرج أغاكال من البيت رفقة رجل طاعن في السن كان يلتف بجسده الصغير وسط برنس أبيض و يعتمر ما‬
‫يسمونها '' ثاشاشيت '' حمراء اللون على رأسه‪ .‬نهضت من مكاني و أنا أمد بيدي إليه‪ ،‬فإذا بأغاكال يشير لي من‬
‫وراءه بأن أسلم على رأسه‪ .‬كان الشيخ يبتسم و قد أحنى رأسه نحوي قليال‪ ،‬فانحنيت في ارتباك و سلمت على‬
‫جبينه‪ ...‬يبدو أنها طريقة التعبير عن االحترام لكبار السن في هذا المجتمع القروي‪ .‬سلوك انقرض بشكل شبه كامل‬
‫في المدن‪.‬‬

‫_ هذا دادّه إيدير‪ .‬و هو يرحب بك في بيته‪ .‬إنه عاجز عن الكالم لذلك هو يعتذر منك على عدم قدرته التحدث‬
‫إليك‪ ....‬كما أنه ال يفهم شيئا من العربية في الحقيقة‪.‬‬

‫_ أه أرى ذلك‪ ...‬ال بأس‪ .‬قل له بأني ممتن كثيرا و أتمنى أال أكون ضيفا ثقيال عليه‪.‬‬

‫نظر أ غاكال إلي للحظة ثم راح يترجم كالمي للدا إيدير الذي كان يبتسم و هو يهز رأسه‪ ،‬قبل أن يقوم‬
‫بمجموعة من اإلشارات العفوية بيديه‪ ،‬التي كانت تدل على الترحيب بي‪ .‬أخذ مكانه بالقرب مني حين عاد ابنه‬
‫ليساعد والدته في إحضار الطعام و وضعه على المائدة‪ ،‬و طبعا كما كنتُ أتوقع‪ ،‬فقد كان طبقا من الكسكسي‬
‫المطهو بالخضار و الدجاج‪ .‬حيث و طيلة تلك اللحظات التي سيطر فيها الخجل و الحرج علي‪ ،‬لم تكف نانه تاملسة‬
‫من دعوتي لإلقبال بشهية و دون تردد على الطعام‪ ،‬فكانت تحث عميروش على ترجمة كالمها لي‪ '' ...‬كل يا بني‬
‫و ال تخجل‪ ...‬كل حتى تشبع‪ ...‬سيدنا رمضان قادم و عليك أن تكون في لياقة جيدة كي تستطيع الصوم‪ ...‬ها هو‬
‫العنب و التين و التفاح بالقرب منك فمد يدك و ال تخجل‪ .'' ...‬هكذا كان أغاكال يترجم لي كالمها و هو منهمك في‬
‫األكل كالدابة دون أن ينظر إلي مما زاد في امتعاضي منه‪ .‬كل ما كنتُ أفعله هو محاولة رصدي الجيد لتلك‬
‫الوشوم ذات األشكال الغريبة على معصمه األيسر‪ .‬كانت تشبه كتابة األحرف البربرية كما يُقال‪.‬‬

‫أعتقد أن العجوز المسكينة كانت الوحيدة التي كانت تحاول جاهدة كسر ذلك الحاجز الذي جعلني أشعر بأني‬
‫فعال غريب و أحس و كأني أثقل على هاذان الزوجان بشكل ما‪ .‬فسبب وجودي هو ابنهما الذي لو دعاني للغداء‬
‫على حسابه لما أحرجني ذلك‪ ،‬لكن الرجل على ما يبدو قد اقتسم العيش رفقة والديه بشكل نسبي رغم أن له بيتا‬
‫مجاورا لمنزلهما‪ .‬ثم تساءلت في نفسي لوهلة‪ :‬أال يفترض به أن يكون متزوجا ؟‪.‬‬

‫كان علي أن أحاول قول شيء ما‪ ،‬كون مضيفي بدى غير مهتم بالحديث إلي‪ .‬ال أسئلة فضولية حول الحياة في‬
‫العاصمة مثال‪ ،‬أو حول مهنة الصحافة أو حتى حديث عابر عن المنتخب الوطني لكرة القدم و مباراته الثأرية‬
‫المرتقبة ضد األلمان‪ ،‬التي انتظرها جيل كامل من الجزائريين‪ .‬انقطعت األفكار عن رأسي حين صمتت نانه‬
‫تاملسة أخيرا و هي تنهمك في تقشير حبة تفاح لزوجها األبكم‪ ،‬الذي كان يُقلب الطعام داخل فمه الخالي تماما من‬
‫األسنان و هو شارد الذهن تقريبا‪.‬‬

‫ّ‬
‫التفت نحو أغاكال و من تلقاء نفسي وجدتني ألقي إليه بالجملة الوحيدة التي خطرت ببالي تلك اللحظة‪....‬‬

‫_ الدجاج هنا له طعم رائع حقا !!‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫_ أجل‪ ...‬الدجاجة التي التهمتها لتوك كانت ت ُل ّقب '' اللّه ''‪ .‬كانت األعز و األقرب إلى قلب أمي‪ .‬كانت‬
‫دجاجتها المفضلة و قد آثرت أن تطهوها لك اليوم إكراما لك‪ ،‬فقط لكونك ضيفا غريبا عن القرية يدخل بيتها ألول‬
‫مرة‪ .....‬بصحتك !‪.‬‬

‫هذا ما فسر لي امتناع العجوز المسكينة عن مد يدها إلى لحم الدجاج !‪ .‬أما آغاكال فقد قال ما قال بكل برود‬
‫بال أدنى شفقة‪ ،‬دون أن ينظر إلى وجهي الذي تجمد تلك اللحظة التي تح ّول فيها ذلك الكسكسي الطيب و تلك‬
‫الدجاجة المطهوة بشكل مبهر و تلك الخضار الطازجة و ذلك المرق األبيض‪ ...‬تحولوا جميعا إلى شيء بارد جدا‬
‫و بال طعم‪ ،‬إن لم أقل أن الوجبة كلها كانت قد تحولت إلى حجارة باردة في جوفي‪ .‬أحسستُ بقلبي و هو ينكمش‬
‫داخل صدري بسماعي لذلك‪ ،‬و تعمق إحساسي بعدم الراحة و الذنب أكثر فأكثر‪ .‬التفت إلى تلك العجوز التي‬
‫رمقتني بنظراتها الوديعة مرة أخرى و هي تشير إلي بيدها النحيفة المهتزة كي استمر في األكل‪ .‬لكن ذراعي‬
‫تخ ّشبت‪ .‬وددتُ لو أرتمي عليها ألحضنها بكل قوتي و أسلم على جبينها و أعتذر منها كوني لم أدرك أن األمر كان‬
‫كذلك و أنا الذي بدى منبهرا و متلذذا بطعم اللّه المسكينة !‪ .‬شهيدة كرم و طيبة هؤالء القوم البسطاء‪ .‬كنتُ فقط‬
‫أرغب عاجزا في أن أقول لها أنها حقا لم تكن ملزمة بتكبد تلك الخسارة من أجلي‪ ،‬لكن كل الكلمات خانتني‪.‬‬

‫لم أستطع رمي لقمة إضافية في فمي‪ .‬ابتلعت بعض حبات العنب في تشنج ثم استأذنت الشيخين بعد أن أتمم‬
‫أغاكال طعامه‪ .‬أرادت نانه تاملسة أن تصر علي حين بدت أنها تشكو البنها و تشير إليه بأني لم آكل كثيرا‪،‬‬
‫فأخبرها بكالم بدى و كأنه من قبيل '' لقد شبع الرجل‪ ،‬ال يمكنكم إجباره على ما هو فوق طاقة بطنه ! ''‪ .‬أما والده‬
‫الدا إيدير فقد أشار إليه بيده فأخبرني أنهما يدعوانني على الشاي‪ .‬اعتذرت بخجل متحججا بمشاغل أخرى‪ ،‬فقد كان‬
‫علي النزول مرة أخرى إلى أسفل الجبل كي أجري بعض المكالمات الهاتفية المهمة وأحضر أغراضي الشخصية‬
‫من السيارة‪ .‬سلمت على رأس األب‪ ،‬و سلمت على رأس الوالدة الكريمة مرتين و أنا أشعر بالعجز عن اإلعراب‬
‫ّ‬
‫تعلق هؤالء السكان البسطاء بحيواناتهم األليفة أفضل و‬ ‫لها عن مدى تقديري و تأثري بصنيعها المع ِّبّر‪ .‬ال بد أن‬
‫أعمق بكثير عن تلعقنا نحن سكان الحواضر الكبرى الموبوءة ببعضنا البعض كبشر ؟‪ .‬لو أنني فقط نطقت‬
‫بالبربرية !‪.‬‬

‫تبعتُ عميروش إلى خارج المنزل و أنا ألومه كونه أخبرني بما فعلت والدته من أجلي‪ ،‬لكنه راح من جهته‬
‫يخبرني أني متأخر عن بقية تالمذته في صف تعليم صناعة الطين بأيام و أنه يتوجب علي البدء في تعلم الحرفة‬
‫في اليوم الموالي على الساعة التاسعة صباحا‪ .‬ثم أخذني إلى بيته‪ ،‬أو ورشته التي دخلتها و أنا أمشي خلفه بتمهل‪.‬‬
‫طبعا علي القول أنه في مثل هذه الحاالت‪ ،‬فإن دعوة صحفي فضولي إلى عالمك الصغير المليء بالخصوصية أو‬
‫األسرار تشبه إلى حد ما دعوة مصاص دماء إلى عبور عتبات منزلك‪....‬‬

‫منزل الحرفي كان عبارة عن فوضى حقيقية من األواني الفخارية المنتهية و غير المنتهية‪ .‬الكثير من الشظايا‬
‫و الفتات و رائحة طاغية تميل بين نكهة التراب و نكهة الطين و حتى نكهة الجير على ما أعتقد‪ ،‬و روائح أخرى‬
‫لم أستطع تمييز ماهيتها‪ ،‬إال أني افترضت أنها قد تكون للمواد المستعملة في الرسم و التزيين و التلوين‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫فتح الرجل المصارع الخشبية لتهوية قلب الغرفة قليال و التي بدت أنها كانت غرفة االساتقبال فيما مضى‪...‬‬

‫_ اسمع يا فتى‪ ،‬ستنام في غرفتي ابتداء من الليلة‪ .‬إنها هناك‪ .‬دورة المياه و الحمام في الجهة المقابلة‪ .‬المطبخ‬
‫لم يعد صالحا لالستعمال‪ .‬عليك أن تكون حذرا دوما حين تخطو حافيا في أرجاء الورشة‪ ،‬فال أستطيع أن أحصي‬
‫لك عدد المرات التي اخترقت فيها شظايا فخارية حادة قدمي و كم من مرة قُسمت فيها أظافري و ازرقّت و أنا‬
‫ألطمها إلى أواني قاسية أو ضخمة‪ ،‬فضال عن أنك مطالب دوما بالحذر و أنت تخطو هنا‪ ،‬فأي حركة خاطئة أو‬
‫عثرة‪ ،‬قد تتسبب في كارثة أخرى على شاكلة ما حدث لك آخر مرة‪ .‬لقد حصل لي كثيرا و أن حطمت جرارا و‬
‫صحونا و أباريق بمجرد أني لم أعرف أين أضع قدمي و أنا أعبر من هنا أو هناك‪.‬‬

‫_ كنتُ أفضل العودة للنوم بجوار الولي سيدي أوعابد على أن أنام هنا وسط هذه الكارثة الطينية‪....‬‬

‫تمتمت مع نفسي مما جعل أغاكال يستدير نحوي‪...‬‬

‫_ ذا شو ؟‪.‬‬

‫_ أه‪ ...‬ال شيء‪ ....‬أوالش‪ ...‬أوالش‪ ....‬لكن هال ناديتني باسمي من فضلك‪ ،‬أعتقد أننا تعارفنا بطريقة ما !‪.‬‬

‫كان يشعل سيجارة و هو ينظر إلي بصمت كمن يقول في نفسه‪ '' :‬ما خطب هذا األحمق ؟ ! ''‪ ،‬ثم انصرف‬
‫إلى فتح باب الغرفة التي ستكون لي طيلة وجودي في '' ضيافته ''‪ .‬فتح نافذته الصغيرة التي تطل مباشرة على‬
‫سالسل جرجرة فأبانت لي عن غرفة صغيرة نسبيا‪ ،‬و قد أدركتُ للتو أنها نفس النافذة التي لطمها في وجهي آخر‬
‫مرة‪ .‬كان في الغرفة فراش واحد مشكل من أغطية موضوعة على األرض‪ .‬طاولة بالستيكية صغيرة بلون زهري‬
‫باهت عند الزاوية األولى فوقها تلفاز صغير و فوقه مستقبل رقمي‪ .‬خزانتين متجاورتين على الجهة اليسرى للباب‬
‫متصلتين بالزاوية الثانية للغرفة‪ ،‬إحداهما خشبية بالية من طراز قديم جدا قد يعود لسنوات السبعينات‪ ،‬و األخرى‬
‫معدنية تشبه خزائن المكاتب اإلدارية‪ ،‬بدت في حال أفضل من األولى‪ ،‬كان بابها مغلقا بمغالق معدني أصفر‬
‫ناصع‪ .‬و هناك عند الزاوية الثالثة على يسار الفراش قابلنني ثالجة صغيرة‪ ،‬قام أغاكال بتحويل سطحها إلى طاولة‬
‫على ما يبدو‪ ،‬حيث وض ع عليها منفضة السجائر و بعض قوارير الماء البالستيكية‪ ،‬إضافة إلى بقايا جرائد قديمة‬
‫صفر لون صفحاته‪ .‬أما عند الزاوية الرابعة مباشرة خلف باب الغرفة فقد كان هنالك‬
‫صادرة بالفرنسية‪ ،‬معظمها ا َّ‬
‫شيء ما ُجمع بشكل عمودي و قد غطاه الحرفي بعدة لحائف بيضاء اصفر لونها و مال إلى البني الخافت بسبب‬
‫الغبار‪.‬‬

‫ال صور‪ .‬ال أغراض شخصية أو عائلية تدل على أن الرجل كانت له حياة زوجية و اجتماعية ؟‪ .‬شيء‬
‫بداخلي قال لي بأن ذلك قد يكون مؤشرا ليس فقط على وحدة و عزلة اختيارية قدَّمها الرجل لحياته‪ ،‬بل أيضا يبدو‬
‫أنه رجل يسعى للهروب من ذكرياته الخاصة ؟‪ .‬هذا يعني شيئا واحدا في الحقيقة‪ .....‬ألم داخلي م ِّبّرح ال يطاق !‪.‬‬

‫بغض الطرف عن السلوك المستفز و الالمبالي الذي استقبلني آغاكال به‪ ،‬فإن حسي المهني كان أكثر طغيانا‬
‫في تلك اللحظة من العاطفة‪ .‬كنتُ مجرد آلة مسح و تسجيل و تحليل صحفية‪ ،‬جاءت إلى هذا المكان لتكشف السر‬

‫‪251‬‬
‫الكبير المفترض لهذا الرجل و ما يدور في رأسه‪ ،‬و ما زاد من جنون تلك الشهوة الصحفية الجارفة‪ ،‬هو شيئان في‬
‫الحقيقة‪ ،‬شعرتُ أنهما قد أزاحا كتلة كبيرة من الندم و الشك كانت قد بدأت ترتسم داخل رأسي بخصوص قراري‬
‫المجيء إلى تيميزر و هما ‪ :‬تلك الخزانة المعدنية الموصدة بإحكام‪ .‬و بقايا تلك الجرائد التي انتبهتُ إلى كونها قد‬
‫صدرت قبل ‪ 2‬إلى ‪ 2‬سنوات‪ ،‬أي بين ‪ 4101‬و ‪ ....4100‬عناوينها أزاحت الكثير من الضباب الزائف حول ذاك‬
‫الشخص‪ .....‬لقد كانت في مجملها تتحدث عن بدايات الربيع العربي في تونس و مصر !!!‪ .....‬زادت أرجحية أن‬
‫يكون الرجل الواقف عند باب الغرفة هو فعال '' آغاكال '' الذي أبحث عنه‪.‬‬

‫_ إن كنتُ سأنام هنا في غرفتك‪ ...‬فأين ستنام أنت ؟‪.‬‬

‫_ ال تشغل بالك بهذه التفاصيل التافهة‪...‬‬

‫نظر إلي مطلقا بسمة ظننتها بسمة التحدي‪ ،‬لكني أدركت متأخرا تلك الليلة أنها فعال كانت بسمة المكر حين‬
‫ختم عبارته قائال‪....‬‬

‫_ ‪ ....‬غدا سيبدأ الجد الحقيقي !‪.‬‬

‫كانت ليلة مضطربة و متقلبة‪ .‬كنتُ قد أعلمتُ آل آفاو أني لن أقوم لتناول السحور رغم إلحاح نانه تاملسة‬
‫علي‪ .‬كنتُ أود أن أنام فقط‪ ،‬لكن بدني لم يستطع التفاهم مع الفراش الذي تركه آغاكال لي‪ ،‬فقد كان مسطحا و‬
‫قاسيا ‪ ،‬زد عليه تلك الرائحة الطاغية لألواني الفخارية التي كان يفوح بها البيت الصغير الذي لم يكن بيتا بقدر ما‬
‫كان عبارة عن مخزن لتلك السلعة‪ .‬صمتُ المكان لم يرق لي أيضا‪ ،‬تماما كما حدث لي أول ليلة قضيتها في قبة‬
‫ولي القرية قبل أسابيع‪ ،‬سوى أنه لم يكن هنالك قبر بالقرب مني‪ ،‬بل مجرد أكداس من األسئلة و الترقب و‬
‫النظريات التي كانت تحيط بي و تتالعب بوعيي و بآخر الومضات المحترقة في ذهني‪ .‬أما تلك الكتلة التي كانت‬
‫مغطاة بلحاف أبيض خلف الباب‪ ،‬فكانت تبدو و كأنها '' روحاني '' فارع القامة يقف ناظرا إلي بتهكم و بال ملل‬
‫ينتظر مني أن أغفو كي ينقض علي‪ .‬انتظرت قليال‪ ،‬و حين تأكدتُ من أن الفخارجي قد غادر للنوم في بيته والده و‬
‫أنه لن يعود‪ ،‬و حين خيم الهدوء التام على األرجاء المحيطة بالبيت‪ ،‬نهضت ألزيل ذلك اللحاف فإذا بها قطع مفككة‬
‫لسرير خشبي لشخصين‪ ،‬و قد فهمت ما كان يعني ذلك‪.‬‬

‫حاولتُ عبثا فتح الخزانة الخشبية التي كان واضحا أنها خزانة ألبسة‪ ،‬إال أن الرجل كان قد أقفلها بالمفاتيح‪ .‬أما‬
‫الخزانة المعدنية فقد كان واضحا منذ الوهلة األولى أنها لن تفتحت إال إذا حصلتُ على مفتاح ذلك المغالق األصفر‬
‫الغليظ‪ .‬لذلك آويتُ إلى فراشي مرة أخرى بع دما أشعلت التلفاز الصغير و راح ذهني يقفز ككنغر مشوش ال يعرف‬
‫وجهته بين تلك القنوات الفضائية الناطقة بالفرنسية و قد كانت في مجملها إما قنوات إخبارية أو تثقيفية‪ .‬أطفأت‬
‫التلفاز بعد أقل من ‪ 01‬دقائق‪ .‬تركتُ المصباح مشتعال و رحتُ أحدق في السقف كالسكران‪ ،‬حتى خطف النوم‬
‫أجفاني المرهقة من شمس نهار كان طويال على أعصابي بشكل خاص‪ ،‬وقد كانت آخر فكرة نِّمت عليها قد أثارت‬
‫ضغينتي الشديدة و هي أن آغاكال قيض السؤال‪ ،‬كان قد وضعني في قلب المكان الذي قد أعثر فيه على سبقي‬
‫الصحفي المهول‪ ،‬لكنني كنتُ عاجزا عن فعل أي شيء ألضع يدي عليه !!‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫**********‬

‫في الصباح التالي‪ ،‬سرتُ خلف عميروش وسط شوارع القرية و نحن نأخذ طريق النزول إلى حيث ينتظرني‬
‫أول درس لي في صناعة الطين‪ .‬تبادلنا بعض الكلمات العابرة التي لم يكن لها مقصد واضح‪ .‬كنتُ فقط أراقب‬
‫نظرات السكان لي إذ أنها لم تختلف في شيء‪ .‬كان السكان يتبادلون معه التحية في طريقهم ثم ينظرون إلي‬
‫باستغراب مفضوح رغم محاوالتهم إخفاءه‪ ،‬أما أنا فقد كنتُ أتظاهر بأني غير منتبه أو غير مبال حتى و أنا أحييهم‬
‫بدوري‪ '' ...‬أزول فالك‪ ،‬أزول فالم‪ ،‬آزول فالون‪ ،‬صباح الخير‪ ''.....‬فكانوا يردون علي التحية بدورهم و هم‬
‫يمضون في حال سبيلهم‪ ،‬كل إلى مشاغل يومه‪.‬‬

‫حين كنا نمر عبر زقاق ضيق تحاصره أصوار حجرية عالية‪ ،‬صادفنا مجموعة من الفتيات الشابات بجببهن‬
‫القبايلية و محارمهن التي تستر شعورهن و هن يسرن خلف بعضهن حامالت جرارا طينية فوق أظهرهن و‬
‫أكتافهن‪ .‬كن يتحادثن بصوت عال و هن يتبادلن الضحكات‪ ،‬فإذا بهن يلتزمن الصمت حين التفت آغاكال إلي‪...‬‬

‫_ افعل مثلي يا آقشيش‪ .‬غض بصرك و أظهر احترامك‪.‬‬

‫توقف الرجل عن السير و أفسح الطريق للبنات و هو يكاد يلتصق بالجدار مقابال إياه بوجهه‪ ،‬فتبعته في ذلك و‬
‫أنا أسمع خطواتهن المتسارعة خلفنا‪ .‬كن يتهامسن ضاحكات‪ ،‬و هو ما دفع بي و من دون وعي تقريبا ألرمي‬
‫إليهن بنظرة فضولية خاطفة‪ ،‬فإذا بهن يسترقن النظرات إلي باسمات‪ ،‬و قد زاد ذلك من ضحكاتهن و هن يتالمزن‬
‫ماضيات في طريقهن نحو تالة على ما يبدو‪...‬‬

‫_ يبدو أنك تروق لهن يا آقشيش !‪.‬‬

‫قال عميروش و هو ينطلق مكمال دربه مرة أخرى‪.‬‬

‫_ ما الذي يجعلك تقول هذا ؟‪.‬‬

‫_ البنات هنا فضوليات‪ ،‬و هن في مثل هذه السن يبدأن تلقائيا و بتحريض من أمهاتهن في البحث عن زوج‬
‫محتمل بال كلل و ال ملل‪ .‬ثم لو كنت تفهم ثامازيغت لفهمت ما كن يتهامسن به عنك‪.‬‬

‫استمر الرجل في طريقه غير مكترث لرغبتي الشديدة في معرفة ما قالته المراهقات عني‪ ،‬إلى أن وصلنا إلى‬
‫ما كنتُ أتصور أنه صف لتعليم صناعة الفخار‪ .‬بناء حجري قديم منهار في بعض أجزائه‪ ،‬يقف غير بعيد عن‬
‫مدخل القرية‪ .‬لم يبد لي أنه كان في الماضي مقهى موريا‪ ،‬فقد انهار حاجزه الخارجي بشكل شبه كامل و لم يبق من‬
‫القصب الذي كان يظلل واجهته سوى بعض العيدان‪.‬‬

‫كنتُ أقترب من الباب خلف الحرفي و قد أثار ذلك شيئا ما من ذاكرتي‪ .‬ال شيء كان أكثر وضوحا لي في تلك‬
‫اللحظة أكثر من كون الصبي الصغير بداخلي كان قد استفاق من غفوته و انتفض تماما و بشكل غير متوقع‪ ،‬و هو‬
‫ينفث أنفاسه المليئة بالعفوية و التلقائية و حتى الحنين في صدري‪ .‬غريب !‪ .‬أبطأت خطواتي لوهلة و أنا أتلمس‬

‫‪253‬‬
‫ذلك اإلحساس العميق بداخلي‪ ،‬متذكرا ما كنتُ عليه أول يوم لي عند دخولي متأخرا إلى صفي الجديد في العام‬
‫الدراسي ‪.! 4111-22‬‬

‫ما الذي حدث لي ؟‪ .‬ما الذي جعلني أسترد تلك األحاسيس من اإلثارة و االرتباك‪ .‬أصوات جرس متوسطة‬
‫العربي التبسي وسط مدينة البليدة‪ .‬أصوات ضوضاء التالميذ في الصفوف‪ ،‬صراخهم‪ ،‬ضحكاتهم‪ ،‬خطواتهم‬
‫الراكضة عبر األروقة‪ ،‬أصوات اهتزاز المقاعد و الطاوالت فوق أرضيات األقسام و نقرات مسطرات المعلمين‬
‫على المكاتب‪ .....‬و طبعا‪ ،‬بقايا ضوئية غائرة غير واضحة من مالمح ذاك الوجه األنثوي اللطيف الباسم لصاحبته‬
‫و هي تأخذ مكانها إلى جانبي في أول لقاء لي بها‪ '' ...‬هي '' !!‪....‬‬

‫_ ما بك يا آقشيش ؟‪ ،‬أهي رهبة اليوم الدراسي األول أم ماذا ؟‪.‬‬

‫أعادني صوت آغاكال إلى الحاضر بسرعة البرق‪ .‬نظرتُ إليه باستغراب تام‪ .‬كان يقف بهدوء واضعا يمناه‬
‫في جيبه و عينيه تفحصانني خلف نظاراته الغليظة‪ ،‬التي كانت تظللها قبعة قشه الصفراء المتوهجة تحت شمس‬
‫تيميزر الحارة‪ ،‬فهل يُعقل أنه رأى ما كان يدور بداخل رأسي ؟ !‪.‬‬

‫دخل الحرفي إلى الغرفة‪ ،‬بينما وقفتُ هنيهة و أنا أذكر نفسي بصمت أني لستُ في البليدة بل في تيميزر‪ .‬نحن‬
‫لسنا في شهر سبتمبر بل على مشارف شهر جويلية‪ ،‬و العام ليس ‪ 0222‬بل ‪ ،4102‬و أنا لستُ طالبا في الصف‬
‫السابع بل صحفيا في مهمة‪ ،‬ثم إن آخر شيء كنتُ أود التفكير فيه وسط تلك الظرف و ذلك الزخم المهني هو‪...‬‬
‫بهجة !‪ .‬ما الذي دهاني ؟ !!‪.‬‬

‫خطوتُ إلى داخل القسم فإذا بي أهمس بين شفتي‪....‬‬

‫‪_ C’est pas vrai !!!.....‬‬

‫أدركتُ أن أغاكال الوغد اللعين كان قد خدعني بشكل ما قبل يوم و هو يتحدث عن هؤالء '' السكان '' الذين‬
‫يخصص لهم حصصا يعلمهم فيها حرفته‪ .‬كنتُ أعتقد أنه يتحدث عن مجموعة من الشباب أو الرجال الذين كان‬
‫وجودي وسطهم ليخفف عني وطأة هذا الشخص الغامض‪ ،‬لكني بدال من ذلك وجدتني أجلس وسط ثلة من األطفال‬
‫الصغار الذين ال يزيد عمر أكبرهم عن التاسعة أو العاشرة‪.‬‬

‫أمسكتُ بأعصابي بقوة كما يمسك فارس بلجام فرس هائج‪ ،‬حين راح األطفال يرمقونني بنفس تلك النظرة‬
‫الفضولية المستجوبة التي أشبعتني عيون كبار القرية بها‪ .‬تنهدتُ و أنا أنظر إلى آغاكال نظرة من يرغب في خنفه‪،‬‬
‫حين بدى أنه يرد علي ببسمة خفية في نفسه و هو يشير إلي كي آخذ مكاني الذي كان خلف تالمذته الصغار‬
‫الجالسين في شكل حلقة حوله‪ .‬كل شيء كان جاهزا‪ .‬الدواليب الكهربائية الموصولة جماعيا بسلك كان يدخل عبر‬
‫إحدى النوافذ الصغيرة‪ .‬كتل الطين اللين الذي بدأ يجف نوعا ما و قد تم تقطيعها إلى كريات متساوية في الحجم و‬
‫الوزن‪ .‬أسالك معدنية رقيقة‪ .‬قطع خشبية صغيرة مثلثة الشكل‪ .‬أوعية بالستيكية بها ماء تسبح وسطه قطع من‬
‫االسفنج و قطع من القماش مطوية بعنايةأامام كل تلميذ‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫جلستُ و أنا أخرج قلم رصاص و الكناش الصغير الذي قررت حمله معي بشكل مستمر كي أسجل فيه كل‬
‫الكلمات القبايلية التي سأصادفها طيلة مكوثي في تيميزر‪ .‬و الحقيقة أن الواقع بدى أصعب بعد دقائق فقط من‬
‫انطالق الدرس‪ .‬طبعا كان ذلك الكهل الشرير يحادث تالمذته بلغته الهندية التي لم أكن أفهم منها سوى ما تعلمته‬
‫من عبارات قليلة كنتُ قد حفظتها مسبقا في هذه القرية‪ ...‬عبارات من قبيل '' آكال ''‪ ...‬الطين‪ '' .‬آفوس ''‪ ...‬اليد‪'' .‬‬
‫آمان ''‪ ...‬الماء‪ ....‬كلمات لم تكن لتجعلني أستوعب صلب الدرس كونه مرتبط بالتطبيق أكثر من النظرية‪ ،‬لذلك‬
‫وجدتني بعد دقائق فقط أرفع يدي ملوحا ‪ ،‬فصمت المعلم و هو يرمقني بنظرة مستفهمة و كأنه فعال لم يفهم سبب‬
‫المقاطعة‪ ،‬بينما التفت جميع األطفال إلي و هم يمطرونني بنظراتهم المستفهمة المليئة بالبراءة‪.‬‬

‫_ أيمكنك أن تشرح لي ما تقول بالعربية لو سمحت‪ .‬أنا ال أفهم ما تقول‪...‬‬

‫نظر إلي باستغراب متغابيا و ساخرا‪...‬‬

‫_ هل هو ذنبي كونك ال تفهم لغة األغلبية هنا ؟‪.‬‬

‫_ ال أقصد‪ ...‬لكن‪ ،‬يمكنك على األقل أن تستعمل اللغتين معا ؟‪.‬‬

‫_ يا للوقاحة !‪ ،‬أأنت المعلم هنا أم أنا ؟‪ .‬أخبرتك أن األمر لن يكون سهال عليك أليس كذلك ؟‪.‬‬

‫حاولتُ أن أحافظ على هدوئي و رباطة جأشي أمام ذاك األحمق العنصري‪ ،‬فرحتُ أشرح الوضع له مستعمال‬
‫إشارات يدي بتهكم‪....‬‬

‫_ إن لم أفهم ما تقول‪ ،‬فكيف تريدني أن أتعلم هذه الحرفة‪ ،‬و جميع هؤالء الصغار‪ ،‬قد تقدموا علي بأشواط ؟‪.‬‬

‫_ إن لم تستطع التعلم عن طريق السمع‪ ،‬فعليك أن تجبر نفسك على التعلم عن طريق البصر و كفى‪ .‬ال‬
‫تزعجني مرة أخرى و دعني أكمل درسي !‪.‬‬

‫ثم تلفظ بشيء ما أمام الصغار جعلهم يطلقون ضحكات متفاوتة بين العفوية و التصنّع‪ ،‬و قد كان يشير بسبابته‬
‫إلى رأسه كمن يقول بأن أحدهم يواجه دوارا أو صداعا ما‪ .‬كلمة '' الدخان '' التي تلفظ بها بسخرية وسط الجملة‬
‫جعلتني أفهم تقريبا ما كان فحوى النكتة‪ ،‬فقد كان يخبرهم أنني بدأت أعاني من صداع غياب النيكوتين عن دماغي‬
‫مع ساعات الصيام األولى‪ .‬ألقل أني صدقته‪ ،‬فقد كنتُ مضطربا و ممتعضا جدا‪ .‬كنتُ أشعر أن وجهي متجهم و‬
‫أسود‪ ،‬و كل ما كان يعتريني من رغبة هو النهوض و مغادرة الصف و االختالء مع سيجارة ألملم بها شتات فكري‬
‫أهون بها على نفسي‪ ،‬لكن اليوم كان في بدايته و هو يوم صيفي حار و طويل‪ .‬ال أكل و ال شراب و ال دخان فيه‬
‫و ّ ِّ‬
‫حتى مغيب الشمس‪ .‬األكثر قس اوة في كل ذلك هو واقع أنه لن يكون هنالك ال انترنت و ال مواقع تواصل اجتماعي‬
‫طيلة أيام !‪ .‬من هذا المجنون الذي كان ليصبر على حرمان كهذا في قرننا الجديد هذا‪ ،‬عدى سكان هذه الديار‬
‫الحجرية المحبوسة في الزمن الماضي منذ أيام العثمانيين ؟‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫شغل الجميع دواليبهم التي راحت تدور بينما رحتُ أنا كاألبله أبحث عن زر تشغيل ذاك الدوالب الذي بدى‬
‫في حالة يرثى لها مقارنة ببقية اآلالت األخرى‪ .‬لقد بدى و كأنه أخرج من جوف األرض حيث ظل مطمورا‬
‫بالتربة لعقود‪ ،‬كما أنه ظهر غير مستو تماما‪ ،‬بل كان مائال على جنبه‪ .‬و لحسن الحظ أن إحدى التلميذات و هي‬
‫صبية صهباء موردة الخدين قد ال يتعدى سنها العاشرة‪ ،‬كانت تشير إلي بشكل حذر حتى ال يراها آغاكال‪ ،‬تود أن‬
‫تريني مكان تشغيل الدواليب‪ .‬حين عثرت على الزر نظرتُ إليها مبتسما بامتنان فإذا بها تبتسم في خجل و سعادة و‬
‫قد احمر وجهها بسرعة‪ .‬شغّلتُ الدوالب أخيرا فإذا به يُصدر صوتا غريبا جعل كل األطفال يلتفتون نحوي بفضول‬
‫مرة أخرى‪ ،‬في حين أمسك آغاكال الملعون بكرية من عجين الطين و ألقى بها فوق دوالبه بحركة جعلتها تلتصق‬
‫به بمرونة تامة‪ ،‬و كذا سار على خطاه البقية‪ ،‬حيث تعالت أصوات لطم قطع كتل الطين ذات الشكل البيضوي‬
‫عموديا فوق الدواليب‪....‬‬

‫_ حسن‪ .....‬البداية سهلة‪ ،‬هذا بسيط للغاية‪ .....‬هكذا‪...‬‬

‫تمتمت مع نفسي بتحد و أنا أرغب بشدة في رؤية تلك النظرة التي ستعلو وجه الكهل المتحادق حين يراني و‬
‫قد نجحت في أول رمية‪ ،‬لكن ما حدث هو أنني لم أقدر قوة لطم القطعة فوق أصطوانة الدوالب الدائرية‪ ،‬فإذا بها‬
‫تطير على جانبي و تسقط على األرض‪ .‬حاولت مرة ثانية بقوة أكبر فطارت القطعة من على الدوالب مرة أخرى‬
‫لكنها سقطت بالرقب مني‪ ،‬ثم المرة الثالثة بقوة أكبر حيث كادت تلتصق و تثبت لكنها تدحرجت فوق الدوالب‬
‫لدورتين أو ثالث قبل أن تستقر تحت قدمي‪ ،‬أمام الضحكات المتعالية أكثر فأكثر لألطفال الصغار الذين كانوا‬
‫يتظاهرون أنهم مركزون على أعمالهم‪ ،‬لكن أعينهم كانت تقفز نحوي في كل لحظة و كأن بهم قد عثروا على‬
‫موضوع مرح و مس ّل يتناسون به ما قد يعتريهم من ملل في الحصة‪ .‬لم ألق أبدا باللوم عليهم‪ ،‬لكني كرهتُ معلمهم‬
‫كثيرا‪ .‬كنتُ قد بدأت أشك مرة أخرى في هدفه الحقيقي من وراء كل ذلك‪.‬‬

‫استطعتُ في حركة كانت أقرب إلى الحظ العابر تثبيت كرة الطين على دوالبي الذي كان يدور بشكل‬
‫مضطرب بسبب اعوجاجه‪ ،‬فإذا بي كالملهوف أحاول تلقف حركات الجميع في تشكيل مجسماتهم‪ ،‬و هم يتبعون‬
‫حركات معلمهم الذي كان يسند نموذجه بكلتي يديه بثبات عال‪ ،‬فكان يضع يمناه في إناء الماء ثم يخرجها و يعود‬
‫ليمسك بقطعته الطينية التي كانت تدور بسرعة حول نفسها‪ ،‬فيزداد لمعانها و تبدو كأنها تزداد مرونة‪ ،‬فيبدأ الرجل‬
‫في الضغط عليها بين يديه بشكل يجعلها تتقلص نحول األسفل ليزداد عرضها ثم تتمدد نحو األعلى ليتقلص‬
‫عرضها و يزداد طولها‪.‬‬

‫اللعين‪ ،‬كيف كان يفعل ذلك و هو يح ِّدّث األطفال في نفس الوقت و يراقب عمل و حركة كل واحد منهم دون‬
‫أن ينظر طويال نحو يديه ؟‪ .‬حاولت فعل نفس الشيء‪ .‬رحت أضغط على قطعة الطين التي كانت تدور أمامي في‬
‫اضطراب‪ .‬حاولتُ السيطرة عليها حين كنتُ أشعر أنها تود اإلفالت من بين يدي لتقفز في الهواء مرة أخرى‪ ،‬و‬
‫أدركتُ أنه يلزمني شيء من الماء كي أجعلها تلين و تستقر بين يدي‪ .‬قمت سريعا بتبليلها و إذا بملمسها يصير‬
‫أكثر ملوسة و رطوبة في راحة يدي‪ .‬ابتسمتُ من دون أن أشعر لوهلة‪ ،‬كون ذلك اإلحساس كان لطيفا‪ ،‬لكن بسمتي‬
‫سرعان ما زالت حين رحتُ أشاهد كرية الطين و هي تفقد بسرعة شكلها البيضوي و تتداعى بين يدي كتداعي‬

‫‪256‬‬
‫أملي تلك اللحظة‪ .‬كانت تذوب بسرعة و كنتُ متفاجئا أنظر كالمعتوه إلى أصابعي و هي تغوص في الطين‪ ،‬الذي‬
‫تحول إلى شيء يشبه الشكوالتة التي وضعت تحت الشمس الحارقة‪ .‬انفطر الصلصال تماما‪ ،‬بل و ساح فوق‬
‫الدوار‪ ،‬و صار في ظرف لحظات أقرب في شكله و لونه إلى اآليسكريم المصنوع من الشوكوال و‬
‫الدوالب ّ‬
‫الحليب حين يستحيل إلى سائل امتزج فيه العنصران معا‪ ....‬يا للسخرية !‪.‬‬

‫كانت المرة الوحيدة التي رمقني فيها آغاكال بنظرة كانت تدل بوضوح على أن الرجل مستمتع حد النشوة بما‬
‫كان يحصل لي‪ .‬فقد سار الدرس على ما يرام لجميع الصبية و الصبيات الذين كانوا يحاولون صنع قوالبهم‪ ،‬فكانوا‬
‫ينجحون في ذلك نسبيا‪ ،‬و حتى بالنسبة للذين كانوا يفشلون في ذلك‪ ،‬ففشلهم كان يشبه النجاح مقارنة مع فشلي‪ .‬ثم‬
‫إن الحرفي راح يدور حول الجميع و هو يسدي نصائحه لكل فرد منهم على حدى‪ .‬كان يمر بالقرب مني من حين‬
‫آلخر و هو يلقي بنظرة عابرة على تلك الفوضى الطينية التي عرقتُ فيها‪ ،‬و نظراته تلك كانت تحمل االستهتار و‬
‫الضحك في مضمونها بكل أوجهه‪ ،‬خاصة حين كنتُ أقابله بنظرتي المترجية التي كانت تقوله له‪ '' :‬هيا ال تكن‬
‫وغدا و ساعدني قليال !''‪.‬‬

‫مرت ساعة و نصف‪ ،‬أدركت خاللها حجم الهزيمة التي تلقيتها على يد عميروش‪ .‬بل أدركتُ أنه قد أوقع بي‬
‫َحرفيا في فخ هذا االتفاق اللعين‪ ،‬فهل فعال كنتُ مجبرا على القبول بكل هذا من أجل سبقي الصحفي ؟‪ .‬كنتُ ألجد‬
‫أعرض نفسي لكل هذا االستفزاز و السخرية و مضيعة‬
‫طرقا أخرى من أجل القيام بمهمتي في تيميزر دون أن ِّ ّ‬
‫الوقت ؟‪.‬‬

‫عند منتصف النهار‪ ،‬كان على الحرفي إنهاء الحصة و فسح المجال أمام األطفال للعودة إلى منازلهم لتناول‬
‫غدائهم‪ .‬كان يمسح يديه بقطعة قماش و هو ينظر إلي و قد استحلتُ إلى كتلة هائلة من اإلحباط و االمتعاض و‬
‫الجوع و العطش‪....‬‬

‫_ آقشيش‪ ،‬هال حملتَ معك هذه األقمشة إلى البيت‪ .‬ستقوم بغسلها و تعليقها كي تجف‪.‬‬

‫_ عفوا ؟‪......‬‬

‫حملق في وجهي المتجهم ثم تنهد‪.....‬‬

‫_ هل علي أن أعيد كالمي في كل مرة و أذكرك بأنك قبلت طوعا بأن تكون تلميذي الطيع طيلة هذا المشوار‬
‫الذي ينتظرك هنا ؟‪ .‬ستنفذ ما أطلبه منك و إلى حين أن تُكمل تنفيذ الجزء المفروض عليك من اتفاقنا‪ ،‬عليك أن‬
‫تضع كبريائك العاصمي الحضري المصطنع السخيف جانبا‪ .‬هنا نتعلم طاعة و احترام من هم أكبر منا سنا و أكثر‬
‫تجربة في الحياة‪ ،‬سواء أحببناهم أم ال‪.‬‬

‫لم يظف كلمة واحدة و خرج ماشيا نحو وجهة غير وجهة منزله‪ .‬بقيت لدقائق مع نفسي داخل الغرفة التي‬
‫اكتسحها حر منتصف النهار و أنا عاجز عن التفكير في حل أو مخرج لهذه الورطة التي أوقعتُ فيها نفسي مع هذا‬
‫الكهل المجنون المتزمت‪ ،‬و األكثر قساوة من ذلك هو أنني لو انهرتُ في أي لحظة و تركتُ كل شيء فقد أجد‬

‫‪257‬‬
‫نفسي في مشكلة أخرى مع تاجماعت‪ ،‬التي لطمتُ وقفتها معي و إنصافها لي عرض الحائط من أجل أحمق كهذا‪،‬‬
‫فضال عن تضييع هدفي من وجودي هنا !‪.‬‬

‫هكذا فقط‪ ،‬حملتُ المنشفات التي لطختها أيادي األطفال ببقايا الطين و الصلصال و عدتُ أجر خطاي ككلب‬
‫زريبة منهك و ضائع ال يعرف ماذا عليه أن يفعل بالضبط‪ ،‬و هو يسير مدحورا ملتصقا بجدران الشوارع واضعا‬
‫ذيله بين فخذيه ساحبا أذنيه على األرض‪ .‬طبعا لم أتخلص من تلك النظرات القروية التي كانت تبين عن سخرية‬
‫من وضعي بشكل متزايد‪ .‬كأن هؤالء القوم كانوا يتوقعون مني االنتفاضة و مغادرة القرية بكبرياء‪ ،‬بمجرد أن‬
‫أدرك أن الحرفي قد وضعني عمدا وسط ثلة من األطفال ألتعلم معهم حرفته‪ ،‬لكن ما حدث هو أنني قد فاجأتُ‬
‫الجميع بقبولي باألمر كما هو‪ ،‬و بقائي وسط تلك المسخرة التي هندسها آغاكال بمهارة و مكر كبيرين‪.‬‬

‫_ '' الرجل يريد فقط إنهاكي‪ ،‬إذاللي و السخرية مني‪ ،‬ليجعلني أنهار و أعرب عن انسحابي من هذه المهزلة‪،‬‬
‫ثم أغادر قريته خاوي الوفاض في النهاية ! ''‪.‬‬

‫كانت تلك الفكرة الوحيدة التي سيطرت علي بشكل جعلني أستسلم للحنق الشديد‪ .‬كانت كشفرة حادة تقطع‬
‫كبريائي الصحفي‪ ،‬رغم أني حاولت تبرير األمر بكوني منهك و جائع و أن دماغي يبحث فقط عن جرعاته‬
‫المعتادة من الكافيين و النيكوتين و حتى الماء‪ .‬كنتُ أشعر طيلة ساعات النهار الطويلة بصداع رهيب كان يسحق‬
‫رأسي و يطحنه و يفتته إلى أجزاء صغيرة متدحرجة متناثرة في كل االتجاهات‪ ،‬و أنا عاجز عن التخلص من‬
‫الحلم و‬
‫صدى صوت دوران الدواليب داخل جمجمتي‪ .‬كانت أالم ظهري و كتفي و ذراعي تقتلع آخر ذرات ِّ‬
‫الرزانة و الصبر من روحي‪ ،‬جاعلتا مني مجرد حيوان يود أن يتشاجر بعنف مع أول كائن يصادفه في طريقه و‬
‫ألتفه سبب‪ ،‬و كم كنت أتمنى أن يأتيني آغاكال الوغد الستفزازي في تلك اللحظات التي كنتُ أنشر فيها ما غسلته‬
‫من مناشف و قطع قماش على سلك معدني مربوط بين شجرتي تين و زيتون تقابالن بعضهما بالقرب من منزل‬
‫الدا إيدير‪ .‬كنتُ أتربص و أنتظر ظهور الفخارجي لعله يُقدم على حماقة الحديث إلي‪ ،‬لكن و لحسن الحظ أنني لم‬
‫أصادف غير وجه نانه تاملسة البشوش‪ ،‬بعينيها الضاحكتين أمامي و هي تأتيني بإزار أبيض نقي تحدثني بكلماتها‬
‫القبايلية غير المفهومة و تشير إلي بحركاتها على أنه ربما يجدر بي أن آخذ قيلولة و أحصل على قسط من الراحة‪،‬‬
‫أو هكذا فهمت من حركاتها و هي ال تكف عن االبتسام وسط دجاجاتها اللواتي كن يتبعنها أينما تحركت في محيط‬
‫الدار‪.‬‬

‫كانت تلك فكرة جد مغرية‪ ،‬فقد نمت طيلة الظهيرة و استفقت عند العصر و قد عاد مزاجي لالستقرار مع‬
‫اختفاء آالم الظهر و صداع الرأس‪ ،‬و كي أقتل ما تبقى من ساعات اليوم‪ ،‬قررت المشي نزوال إلى أسفل الجبل كي‬
‫أجري بعض المكالمات الهاتفية‪ .‬أتحدث قليال مع وأبوي‪ ،‬شقيقتي و شقيقاي‪ .‬قلتُ أن الجماعة مجتمعون كلهم في‬
‫البيت اليوم و يا لها من مناسبة جميلة أتى بها رمضان الحامل الدائم للّمة العائلية و الحنين‪ .‬حين خروجي من البيت‬
‫الورشة‪ ،‬لمحتُ نانه تاملسة و هي تجلس القرفصاء بالقرب من كتلة كبيرة من الطين الجاف‪ ،‬كانت تدقه بوتد‬
‫خشبي غليظ و هي تتوقف في كل مرة لبعض اللحظات لتستجمع أنفاسها الهاربة منها‪ ،‬قبل أن تنهال على تلك‬
‫القطع اليابسة بالضرب مرة أخرى و هي تفتتها إلى شظايا أصغر فأصغر حجما‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫وقفتُ أراقبها عن بعد لبعض الدقائق‪ ،‬فإذا بها تحمل إناء من الماء و تبدأ في تبليل ما فتّته‪ ....‬ال بد أنها الطين‬
‫التي سيشتغل عليها ابنها الحرفي في وقت الحق‪ .‬نظرتُ إلى ساعتي ثم انصرفت نازال نحو األسفل وسط جو حار‬
‫و جاف و أنا ال أسمع صوى أزيز حشرات السيكادة و زقزقة عصافير بطني‪ .‬كنتُ فقط أتمتم مشجعا نفسي‪....‬‬

‫_ '' سينتهي هذا اليوم إلى غروب شمس جميل فوق هذه السفوح‪ .‬على األقل سأحاول أن أراه كذلك‪ ،‬و سأدرك‬
‫قطعا أنها مسألة شهر واحد سيمر‪ ،‬رغما عن ذلك الكهل المجنون ! ''‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫‪-29-‬‬

‫القالب األول‬

‫الناس في قرية تيميزر بسطاء جدا‪ .‬بسطاء إلى درجة أنهم ال يتكلفون كثيرا في مسألة وجبة اإلفطار‪ ،‬التي ال‬
‫تختلف ع ما يأكلونه في باقي األيام‪ ،‬كما قيل لي‪ ،‬إال أن آل آفاو كانوا قد أكرموني مرة أخرى بديك مشوي وضع‬
‫لي مع حساء خضار و الكثير من الفاكهة التي طغت عليها حبات التين بشكل الفت‪ .‬األمر الذي جعلني أعرب لهم‬
‫عن امتناني الشديد و أطلب بلطف و لباقة من نانه تاملسة أال تكلف نفسها كل هذا العناء مرة أخرى‪ ،‬ثم أضفت في‬
‫شيء من السخرية أني و إن كنتُ ابن البيئة الحضرية إال أن جذوري قروية كذلك و أنا شخص مقتصد في حياته‬
‫بشكل فطري‪ ،‬مما جعلها تضحك و هي تسألني عن أصولي‪ ،‬فكانت متفاجئة حين أخبرها ابنها بنبرة ال مبالية بأني‬
‫قبايلي األصل‪ ،‬من الجارة البويرة تحديدا‪ ،‬فراحت تضحك و تقول له بأن سحنتي ال تخدع أبناء جلدتي‪ ،‬فهي قد‬
‫شعرت بذلك منذ اليوم األول‪ ،‬ثم ردَّت على مزحتي حين طلبت من عميروش إخباري أن هنالك في القرية عديد‬
‫الفتيات الشابات الجميالت‪ ،‬اللواتي نضجن و صرن جاهزات للزواج‪ ،‬في حال ما رغبتُ في االندماج مرة أخرى‬
‫مع دمائي القبائلية‪ .‬الدا إيدير راح يهمهم بصوته المحبوس في عمق حنجرته‪ ،‬مشيرا بحركات يده مقطبا وجهه‬
‫ممازحا هو اآلخر‪ ،‬فالتفت إلي عميروش يخبرني أن والده ال ينصحني بذلك إطالقا و أنه يجدر بي أن أحذر بنات‬
‫الموردة الكثير من الخشونة و الغضب و‬
‫َّ‬ ‫القرية ألنهن – و رغم جمالهن األخاذ – يخفين خلف وجوههن البيضاء‬
‫الحسد و النفاق بسبب قساوة حياهن في هذه الربوع‪ ،‬ثم ختم عميروش يخبرني أن والده يعتقد أنهن ساحرات‬
‫متمرسات أيضا و أنهن ورثن أعمال السحر و الشعوذة عن عجائز القرية‪ ،‬و هنا‪ ،‬دفعته نانه تاملسة بمنكبها و هي‬
‫تضحك مرددة‪ .... '' ...‬تيخر إي ور ارغاز الحالة أس‪ ( .'' ....‬دع الرجل الشاب و شأنه ! )‬

‫راح آغاكال الذي كان ماضيا في األكل دون أن يبين عن ابتسامة واحدة‪ ،‬يخبرني أن والدته تنصحني أال‬
‫أستمع إلى سخافات العجوز إيدير‪ ،‬في حين اكتفيت فقط بالضحك وسط ذلك الجو العائلي الطريف الذي خلقه‬
‫الكهالن وسط فناء دارهما البسيطة‪ ،‬قبل أن يعود بالي تلك اللحظة و ينشغل بالجو المحتمل في البيت‪ .‬تذكرتُ‬
‫صوت أخي البشير الذي حدثته تلك األمسية عبر الهاتف و هو يعرب عن أسفه الشديد كوني لن أكون حاضرا في‬
‫أول إفطار عائلي يحضره الجميع منذ سنتين أو ثالث‪ ،‬و فوق هذا لن أكون حاضرا إلى جانبه لتشجيع المنتخب‬
‫الوطني ضد نظيره األلماني‪ ،‬لكنه راح يحاول تهوين األمر على نفسه بدعوتي للمراهنة معه حول النتيجة‪ .‬أخبرته‬
‫أن الفوز سيكون صعبا جدا على '' المانشافت '' رغم المنتخب الرائع الذي كسبناه في هذا المونديال‪ ،‬و هو ما جعله‬
‫يمتعض و يتعصب لبلده قائال بأننا سنحقق معجزة شبيه بتلك التي حققناها عام ‪ ،74‬و سنتأثر لتلك المؤامرة الجبانة‬
‫و غير الرياضية التي حاكها األلمان مع جيرانهم النمساويين ضدنا في مونديال المكسيك‪.‬‬

‫أبي كان صوته هادئا على غير العادة عبر السماعة‪ .‬بدى منشغال كثيرا بما يحدث في الشرق األوسط‪ ،‬و هو‬
‫يعرب لي في شيء من العصبية التي راحت تتصاعد شيئا فشيئا عبر نبرة صوته أن الجميع منهمكون بمباراة جلد‬
‫منفوخ ناسين تماما ما يحدث لألمة العربية و شعبها األبي في سوريا‪ ،‬التي كانت ت ُ ّ‬
‫مزق على مرأى و مسمع العرب‬

‫‪260‬‬
‫المنتشين بسكرة المونديال اللعين‪ .‬أخبرني أن األمريكيين يبحثون سبل دعم ما وصفه بالمعارضة العميلة بنصف‬
‫مليار دوالر‪ ،‬و هو مبلغ يحمل في طياته حبا جما و حرصا أكيدا على مصلحة العرب‪ ،‬حسب نبرته التهكمية‬
‫الغاضبة‪ ،‬قبل أن يقول بأن قلبه مثخن بهذا الجرح السوري و أنه بدأ يفكر جديا بتأليف ديوان شعري يرثي فيه حال‬
‫العرب اليوم بعد الثورات العربية‪ .‬لم أجد شيئا أقوله له سوى أني شجعته على فعل ذلك‪ ،‬و الحقيقة هي أني كنتُ‬
‫أود تشجيعه ضمنيا على تفريغ غضبه و كبته على األوراق بدل أن يفعل ذلك على صحته المتدهورة‪.‬‬

‫لم أكن مهتما كثيرا بالمباراة في تلك األمسية الصيفية الدافئة و الهادئة و ال أعلم السبب بالضبط‪ .‬شيوخ و‬
‫كهول تيميزر كانوا قد توجهوا إلى جامع القرية الصغيرة لتدشين ليالي التراويح‪ ،‬في حين التزم السواد األعظم من‬
‫السكان مساكنهم لمتابعة المباراة‪ ،‬و هو ما جعلني أتل ّمس كالم والدي حول سكرة الجلد المنفوخ‪ ،‬فحتى هنا‪ ،‬في‬
‫تيميزر‪ ،‬التي تبدو في وجودها و نمط عيشها معزولة عن العالم الخارجي و عن القرن الواحد و العشرين في كيس‬
‫زمني ثخين جدا‪ ،‬إال أن نفحات عرس البرازيل الرياضي كانت قد تسربت إليها و غيرت شيئا ما من نمط حركتها‬
‫تل ك األمسية‪ ،‬فأذهان الجميع كانت مضبوطة على توقيت و حيثيات المباراة‪ ،‬ما عدى ذهني و ذهن آغاكال أيضا‪.‬‬

‫كنت أستمتع بتدخين سيجارتي األولى فوق سطح ورشته الذي صعدتُ إليه عن طريق سلم خشبي كان منتصبا‬
‫على الوجه الجانبي له‪ ،‬حيث وجدتُ فوق السطح كرسيا بالستيكيا مسحت عنه الغبار و جلستُ فوقه أستمتع بتلك‬
‫النسمات الخفيفة‪ ،‬التي كانت تلعب بالدخان المنبعث من فمي و أنفي‪ .‬كنتُ ألتقط أصوات الصراصير و الصدى‬
‫الذي كان ينبعث من مكبرات صوت جامع القرية لصالة التراويح‪ ،‬و كذا أصداء جوامع أخرى كانت قادمة من‬
‫بعيد بين مرتفعات بني يني الجبلية المظلمة المحيطة بنا‪ .‬كنتُ أراقب تلك األشعة السمائية األخيرة من بقايا الشفق‬
‫األحمر و هي تهدي جبال جرجرة لمساتها الرقيقة األخيرة‪ ،‬و كأنها تمنحها مداعبة الوداع لتجعلها تغفو في سالم‪.‬‬
‫غريب ! ‪ ،‬كان فكري قد عاد للدوران حول تلك التي يخطر اسمها ببالي و لو مرة في اليوم‪ ،‬و بكل تأكيد أحاول‬
‫طمسه دوما بحبر مهنتي و مشاغلي الصحفية ؟‪ .‬طبعا‪ ،‬الشهر هو شهر رمضان‪ ،‬و هو أحد المواسم التي تجعلني‬
‫أتذكرها بطريقة ما‪ ،‬و السبب في ذلك هو أنني تذكرت أنه في السنوات الماضية حين باعدت الظروف و األيام‬
‫بيننا‪ ،‬و حين نال مني الندم على ما فاتني معها و حطمني الشوق إليها‪ ،‬كان إذا جاء شهر رمضان‪ ،‬الذي كان‬
‫يزورنا في فصل البرد و المطر‪ ،‬إال و كنتُ كلما جلستُ إلى مائدة اإلفطار‪ ،‬أقول متهكما و ساخرا على وضعي‬
‫البائس ذاك‪ ،‬أنها الدقائق الوحيدة التي أعلم فيها يقينا ما الذي تفعله بهجة !‪.‬‬

‫_ هذه المرة لن يكون بمقدوري أن أعلم‪ ،‬إال أذا تتبعتُ توقيت اإلفطار في البليدة !‪ .‬لكن من يعلم اليوم‪ ،‬ربما‬
‫هي اآلن تتابع المقابلة على غرار ‪ 21‬مليون جزائري و ‪ 411‬مليون عربي ؟ !‪.‬‬

‫كان الحرفي قد شغل دوالبه في األسفل‪ ،‬سمعته و هو يطلق العنان ألغانيه القبايلية الكالسيكية و ينطلق في‬
‫العمل تحت ضوء الغرفة الكبيرة نسبيا‪ .‬نزلتُ من على السطح‪ .‬دخلتُ عليه و وقفتُ غير بعيد عن الباب أراقبه و‬
‫هو في تلك الحالة الغريبة من الصمت‪ .‬كان مركزا تماما مع تلك القطعة التي كان يشكلها بين أنامله و راحتا يداه‪،‬‬
‫ممسكا بسيجارة محترقة بين شفتيه حيث كان دخانها يتصاعد ببطء مالمسا وجهه و عينيه‪ .‬التفتَ إلي و رآني شارد‬

‫‪261‬‬
‫الذهن أراقب حركات يديه الخفيفة على الصلصال األملس كمن راح ضحية تنويم مغناطيسي‪ ،‬فكسر لحظة التأمل‬
‫تلك‪....‬‬

‫_ أليس لك مباراة كرة قدم تتابعها يا هذا ؟‪....‬‬

‫فهمتُ مراده‪ .‬ألقيت إليه بنظرة تهكم و انصرفت و أنا أرفع التحدي بإصرار ممزوج بالغضب داخل نفسي‪،‬‬
‫بعدما قررتُ أن أصنع أول قالب طيني لي في ظرف أيام مهما كلف األمر‪ ،‬خاصة بعدما خطر ببالي فكرة‬
‫صغيرة‪ .‬فطيلة األيام التي تلت‪ ،‬كنتُ أنهض باكرا‪ ،‬أحمل معي قطع الصلصال المجهزة مسبقا فوق نقالة‪ .‬أصل إلى‬
‫القسم‪ ،‬أوزعها بالقرب من مكان كل تلميذ‪ ،‬ثم أجلس ألتمرن على القطع الزائدة التي كنتُ آخذها معي‪ .‬كان األمر‬
‫شبيها بما حدث لي في اليوم األول‪ ،‬فمن اليوم الثاني إلى اليوم الثالث كنتُ ال أزال عاجزا على جعل كريات الطين‬
‫تستقر بين يدي في دورانها‪ ،‬و إن كنتُ قد بدأت أعتاد على ريتم دوران اآللة‪ .‬بدأت يداي و ذراعي تثبتان و‬
‫تتوازنان ريتم الدوالب‪ ،‬لكن كريات الطين كانت إما تذوب و تستحيل إلى طين سائلة فوق الصحن‪ ،‬و إما تلتصق‬
‫بشكل مقرف في يدي حين أحاول أال أبللها كثيرا فتكون أشبه بالبراز تماما‪ .‬لكن لحسن الحظ أن تلك الصبية‬
‫الصهباء و اسمها تاسعديت‪ ،‬و التي اكتشفتُ أنها كانت معجبة بي على نحو ما‪ ،‬قد دأبت ابتداء من اليوم الثالث‬
‫على القدوم مبكرا رفقة جارتين لها إلى القسم‪ ،‬فقط لتجلس و هي تسترق إلي النظر في إعجاب ممزوج بالخجل‪ ،‬و‬
‫كثيرا ما كانت وجنتيها الورديتين تحمران بسرعة حين التفتُ إليها فأكتشف أن عينيها العسليتين الواسعتين‬
‫تلتصقان بوجهي‪ .‬كانت المسكينة تحاول إخفاء وجهها الباسم المحمر خلف صديقتيها الثرثارتين‪ ،‬و هي تتفقد شكل‬
‫جبتها الزهرية المطرزة بأزهار بيضاء و خطوط أرجوانية و محرمتها الزرقاء الداكنة‪ ،‬كي تتأكد من أن منظرها‬
‫الئق‪.‬‬

‫تقربت منها و من صديقتيها تحت ذريعة رغبتي في تسجيل بعض الكلمات و األفعال القبايلية‪ ،‬و هو ما‬
‫ّ‬
‫أسعدها و أربكها في نفس الوقت‪ ،‬ثم تحول حديثي إليهن إلى الحرفة التي نتعلمها على يدي الفظ المتعنت‪ ،‬فكانت‬
‫تاسعديت تشرح لي مكامن ضعفي في تعاملي مع الطين و التي رفض آغاكال أن يشرحها لي‪ ،‬و هي تحاول‬
‫اإلمساك بالكلمات العربية الدارجة التي كانت تنفلت منها بصعوبة في خجل و سعادة‪ .‬كأن بها كانت تعتقد في‬
‫قرارة نفسها أني أود الحديث إليها كوني أبادلها اإلعجاب‪ .‬كانت أفكارها صغيرة و ساذجة‪ ،‬و على األرجح أنها‬
‫كانت متأثرة فقط بحكايات المراهقات و الفتيات األكثر نضجا في قريتها حين يتعلق األمر بشاب وسيم غريب عن‬
‫ديارهن‪ .‬أما أنا فقد اغتنمت فرصة ذللك االنجذاب العفوي البريء من طرف الصبية ألحصل منها على ما أريد‬
‫من شروح‪ ،‬هكذا بدأتُ أفهم أن السر في تبليل الطين الذي يدور على الدوالب ليس الهدف منه جعله أملس ال‬
‫يلتصق ببشرة الكف فقط‪ ،‬بل أيضا جعله لينا قابال للتركيز‪ ،‬و عملية التركيز هذه هي تلك التي كنتُ أشاهد القوم‬
‫يقومون بها‪ ،‬حين يأخذ آغاكال و تالمذته بالضغط على كريات الطين تارة‪ ،‬حتى إذا زاد طولها و ارتفعت يقومون‬
‫بضغطها من األعلى نحو األسفل بأكفهم فيزيد عرضها و يتقلص طولها‪ .‬كانت تاسعديت تشرح لي أن تكرار هذه‬
‫العملية عدة مرات في بداية العمل على كل قالب‪ ،‬يجعل الطين تتركز على نفسها و ما إن يشعر الحرفي أنها‬
‫صارت أكثر كثافة و صالبة و ثقال بين يديه‪ ،‬يدرك فورا أنها صارت جاهزة للتشكيل‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫فهمتُ حينئذ َلم كانت الكريات الطينية التي كنت ّ ِّ‬
‫أدورها بين يدي تنهار بسرعة و تتفتت أو تذوب !‪ ،‬من كان‬
‫ليفكر بأن األمر هو هكذا ؟‪ .‬تركيز الطين على نفسها بمدها و ضغطها مع تبليلها قليال بالماء حتى تظل ملساء و‬
‫مرنة !‪ .‬هكذا راح أدائي يتحسن بشكل ملحوظ ابتداء من اليوم الرابع لي رفقة األطفال أمام نظرات تاسعديت‪ ،‬التي‬
‫كانت تلقي بها إلي بين الحين و اآلخر و هي تومئ برأسها مبتسمة كأنها تقول لي '' أجل‪...‬أجل‪ ...‬أنت تبلي حسنا !‬
‫''‪ ،‬إال أن آغاكال الحظ األمر أيضا‪ ،‬و بدل أن يُشجعني‪ ،‬و لو بطريقة ضمنية أو مبطنة‪ ،‬فإنه زاد فقط من درجة‬
‫استفزازه لي‪ ،‬فتارة كان يطلق نكتا عني جاعال األطفال يتضاحكون‪ ،‬و أحيانا أخرى كان يشير إلي بيده و هو‬
‫يسخر من تلك األشكال الغريبة التي كنتُ أحصل عليها فتنتشر الضحكات وسط الغرفة‪ ،‬كما كان يتقدم نحوي ثم‬
‫يقف بطريقة ساخرة‪ ،‬يحملق مبتسما بحماقة إلى كريات الطين المرتعشة بين يدي و هو يدعو البقية بنظراته و‬
‫حركات رأسه بأن يتوقفوا عن العمل و ينظروا إلى الورطة التي كنتُ أجاهد بصعوبة للخروج منها‪ ،‬كأنه يقول‬
‫بنظراته المستهترة‪ '' :‬انظروا‪ ...‬انظروا إلى هذا الغبي و ما يصنع ! ''‪ .‬بل وصل به األمر في المرة التالية إلى أن‬
‫مشى خلف ظهري حين كنت منهمكا تماما في عملي و محاوالتي الجادة‪ ،‬و ألقى على رأسي كتلة الزبة من الطين‪،‬‬
‫غطت كامل شعري و ساحت على وجهي و نظارتي‪ .‬انفجر األطفال ضحكا بأعلى أصواتهم‪ ،‬بل كان فيهم من كاد‬
‫يختنق من الضحك‪ ،‬في حين راح الوغد يخبرني بكلمات فرنسية بأني أضيع وقتي في هذا المكان‪ ،‬و هو ما جعلني‬
‫أتأكد من العكس تماما‪ .‬لقد كان يعلم أني بصدد التحسن و أني في طريقي ألصنع له أول قالب يضعه أمام األمر‬
‫الواقع‪ .‬التزمت الهدوء في تلك اللحظة‪ .‬لم أقل شيئا و لم أقم بشيء‪ ،‬سوى أني مسحتُ رأسي و وجهي و نظاراتي‬
‫بالمنشفة و أنا أفكر في صب الماء البارد على جسدي حين العودة إلى البيت عند منتصف النهار الحار و الجاف‪،‬‬
‫لكن مع نهاية ذلك اليوم حدث بيننا جدل حاد بعد اإلفطار‪ ،‬حين حاولتُ دفعه ليشرح لي سر استفزازاته المستمرة‬
‫لي‪ ،‬لكنه ظل متعنتا ثم صدني بوقاحة مبتعدا عني‪ ،‬ف ما كان لي إال أن أبتعد عنه و أنا ألقي إليه بما جال في رأسي‬
‫من كلمات قدح كان يرد عليها هو اآلخر و هو ماض في حال سبيله‪...‬‬

‫_ جايح‪...‬‬

‫_ آبهلول‪...‬‬

‫_ داب‪....‬‬

‫_ آغيول‪....‬‬

‫_ و ّكال رمضان‪...‬‬

‫_ ‪................‬‬

‫‪ ....‬إلى أن لم يعد أحدنا قادرا على سماع ما كان يقوله اآلخر‪ ،‬حيث اختفى كل واحد منا في طريقه الذي كانت‬
‫تلفه ظلمة المساء التي لفت قلب كل واحد منا تجاه اآلخر‪ .‬قلتُ أنه لو لم يكن رجال كهال في السادسة و الخمسين‬

‫‪263‬‬
‫من عمره‪ ،‬لربما وجدتني أفقد رباطة جأشي و أعصابي ألندفع نحوه و أحطم وجهه‪ ،‬ثم أنصرف عائدا إلى بيتي‬
‫في العاصمة أو البليدة‪.‬‬

‫في اليوم الخامس لي في الورشة التعليمية الجهنمية‪ ،‬أخبرني أنه قد يتأخر قليال عن الوقت المعتاد‪ ،‬كونه كان‬
‫سيحضر اجتماع سكان القرية‪ ،‬فقد كان يوم خميس و هو يوم تاجماعت في تيميزر‪ .‬كانت تلك فرصتي ألطلب من‬
‫تاسعديت و بقية األطفال الذين صاروا يعرفونني و يحاولون التقرب مني بدافع الفضول‪ ،‬بأن يشرحوا لي كيفية‬
‫تشكيل قالب طيني‪ ،‬فاعترف الجميع أنهم لم يصلوا بعد إلى درجة االتقان التام للعملية‪ ،‬إال أنهم راحوا يشرحون لي‬
‫األمر من زاوية نظرية‪ ،‬و هي أنه و حين تصل الطين إلى التركيز الالزم حول نفسها‪ ،‬فإنني أبدأ أوال بتقريب إبهام‬
‫يدي إلى بعضهما و أغرسهما بثبات و سالسة في منتصف رأس الكتلة الطينية الدائرة حول نفسها‪ ،‬مع ترك يدي‬
‫محيطتين بهما من الجانبين بشكل يُحدث ما يُشبه الثقب الذي يغوص على طول لب الكتلة‪ ،‬ثم أبدأ في توسيعه‬
‫بالمباعدة التدريجية بين إبهام يدي اليمنى عن إبهام يدي اليسرى‪ ،‬مع االحتفاظ بثبات بقية أصابع اليدين التي تبدأ‬
‫المجوف لإلناء‪ ،‬فتبدأ بذلك صورته بالظهور شيئا فشيئا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫في نحت الشكل‬

‫ْ‬
‫اعترفت تاسعديت بصوتها الطفولي اللطيف و عربيتها المكسَّرة و وجهها المحمر بأن األمر يتطلب الكثير من‬
‫التركيز و الممارسة‪ ،‬إال أني كنتُ قد اكتفيت من دروس تشكيل قوالب الطين و كان قد حان وقتي ألنهي األمر مع‬
‫عميروش‪ ،‬بعدما قررتُ استعمال الدوالب الذي تشتغل عليه تاسعديت في العادة و هو ما جعلها تغتبط بشكل‬
‫واضح جدا‪ ،‬ترك بقية ا ألطفال يتهامسون في آذان بعضهم و هم يرمقونها بنظرات ساخرة‪ ،‬بينما اكتفت هي‬
‫بالتظاهر أنها غير مهتمة لخياري لوال أن االحمرار الشديد لوجنتيها الموردتين قد فضحها مرة أخرى‪ .‬لكن من‬
‫جهتي‪ ،‬فقد كانت تلك طريقتي في شكرها على اهتمامها بي‪ .‬لقد استقبلتها الفتاة اللطيفة كقبلة عرفان مني إليها‪ ،‬و‬
‫على األرجح كانت لتشغل تفكيرها و توقد أحالم يقظتها الطفولية البريئة لما تبقى من اليوم‪.‬‬

‫طبعا كانت محاوالتي األولى فاشلة أمام نظرات زمالئي الصغار الذين تجمعوا من حولي كما يجتمع األطفال‬
‫حول ساحر أو العب خفة و هو يستعد ليخرج لهم شيئا عجيبا من العدم‪ .‬كانت حركاتي األولى غير موفقة‪ ،‬فقد‬
‫كان الشكل المجوف لإلناء ينتهي إلى اعوجاج فاضح على الطرف أو في الفوهة‪ ،‬و استمر األمر يتكرر مدة نصف‬
‫ساعة تقريبا‪ ،‬لكن ما حصل بعد ذلك هو أنه حين اقترب آغاكال قادما من تاجماعت‪ ،‬كان يسمع تلك الجلبة داخل‬
‫الغرفة‪ ،‬و حين ولجها رأى األطفال يصفقون و يهتفون بحرارة ملتفين حول شيء ما‪ .‬وقفتُ في وسطهم و أنا‬
‫أرمي بنظرتي نحو الحرفي الذي فهم ما يحدث‪ .‬لقد أفلحتُ في صناعة أول قالب طيني لي‪ ،‬القالب الذي رأيتُ فيه‬
‫مفتاحي الذي من خالله كنتُ سأفتح تلك البوابة الغليظة من السخرية و االستفزاز و الصد و الجفاء الذي استقبلني‬
‫به آغاكال مذ أن قبلتُ اقتراحه المجنون ذاك‪ ،‬لدخول عالمه الحقيقي‪.‬‬

‫كان يعلم يقينا أنني ما كنت ألصل إلى تلك النتيجة لو اعتمدتُ على الدوالب المعوج الذي خصصه لي‪ ،‬فلم‬
‫يكن في وسعه إال أن يبتسم و هو يتأمل فرحة األطفال و اإلثارة التي شعروا بها أمام إنجازي الصغير‪ ،‬كأنهم كانوا‬
‫يهنئونني على تخلصي من تجبر معلمهم علي‪ .‬كانت تلك أول مرة أرى فيها عميروش يبتسم من غير مكر أو‬
‫استهزاء‪ .‬و في نهاية ذلك اليوم الرائع‪ ،‬كنتُ أقف عند الباب الخارجي لدار الدا إيدير و قد أشعلت سيجارة لتوي‬

‫‪264‬‬
‫مباشرة بعدما نهضنا من حول مائدة اإلفطار‪ .‬سمعتُ أحد مصراعي الباب الخشبي يفتح‪ ،‬فإذا به عميروش يخرج‬
‫ماشيا بخطوات بطيئة متظاهرا بأنه لم يرن حين كنتُ مستندا على الصور الحجري بكتفي‪...‬‬

‫_ إذن يا ماس عميروش‪....‬‬

‫وقف في مكانه للحظة‪ ،‬ثم استدار نحوي‪ ،‬ثم تقدم إلي بهدوء مختزال عشرات األفكار التي كانت تدور في خلده‬
‫عبر تلك الخطوات الحذرة و تلك النظرة التي كثيرا ما استحمت في بحر من الشرود‪ .‬كان عليه أن يميل برأسه و‬
‫هو يجمع كل انتباهه لشخصي‪ ،‬و طبعا كان نوع من االعتراف يكاد يسيل من بين شفتيه‪ ،‬أمام إرادتي و عزمي‬
‫على وضعه أمام التزامه من االتفاق‪ ،‬و هو أن يطلعني على الشيء الذي أثار انتباهه أو فضوله أو أسئلته حين قرأ‬
‫مقالي عن وزيعة تيميزر‪ .‬انتصب مواجها بثقة غامضة وقفة الغرور التي كنتُ أستمتع بها و هو يضع يديه في‬
‫جيبه‪ ،‬قبل أن يدخل في صلب الموضوع بشكل مباشر و سريع‪...‬‬

‫_ أه‪ ...‬أجل‪ ..‬الروبورتاج‪ .‬مقالك عن تاوزيعت كان جيدا‪ .‬استعراض تاريخ تيميزر و تراثها الشفوي‪ ،‬نفحات‬
‫مملكة كوكو المتمردة و أسطورة الولي أوعابد مع األتراك‪ .‬المجتمع المحلي هنا‪ ...‬وصفك لجو الحياة اليومية و‬
‫جو الوزيعة و أبعادها االجتماعية بلمسة إنسانية عميقة‪ ...‬كان ذلك جميال‪ ،‬أعترف بذلك‪ .‬أنتَ ترى‪ ،‬طول العيش‬
‫في هذا الجزء الصغير من العالم‪ ،‬قد يؤثر على قدرة المرء في تقييم التفاصيل الصغيرة التي تحيط به و قد يراها‬
‫مجرد أشياء تشعل نكده المستمر و يأسه الدائم من المكان‪ .‬لقد ذكرتني أن في تيميزر‪ ،‬أرض أجدادي و قرية‬
‫أسالفي‪ ،‬أشياء صغيرة ذات بعد إنساني تستحق أن تؤخذ على محمل التقدير‪ .‬شكرا لك على المقال‪.‬‬

‫ارتبكت للحظة و اعتدلت في وقفتي‪ .‬عينا الرجل كانتا غير ظاهرتين لي بشكل جلي بسبب الظالم الذي أخذ‬
‫يهبط على الجبل كقطع غليظة من الحذر الذي باعد بيننا‪ ،‬و إال لكنتُ سأحزر بسرعة إن كان الرجل جادا في كل‬
‫ما قال أو كان يهزأ مني مرة أخرى‪ ،‬كوني اكتشفت الحياة الصعبة و المرة لسكان هذا المكان طيلة مكوثي بينهم‪،‬‬
‫بينما لم أذكر ذلك كثيرا في المقال‪.‬‬

‫_ أه‪ ،‬ال بأس يا ماس عميروش‪ ،‬قمتُ بعملي فقط و الحق أني قد استمتعتُ كثيرا بكتابة القصة تلك األيام‪....‬‬

‫تقدم نحوي قبل أن أكمل جملتي تلك و هو مركز نظراته النافذة في عيني‪...‬‬

‫_ رغم ذلك يا آقشيش‪ ،‬هنالك شيء شدني أكثر في المقال‪ ،‬و هو الجزء الذي تتحدث فيه عن أن مكوثك في‬
‫تيميزر كان قد دغدغ ذاكرتك الطفولية البعيدة و أيقظ فيك ما وصفته بـ'' الصبي الصغير بداخلك ''‪ .‬بالطبع وجدت‬
‫هذا التعبير مثيرا لالهتمام‪ .‬ماذا كنت تقصد بهذه العبارة ؟‪ '' ،‬الصبي الصغير بداخلك ''‪.‬‬

‫انفلتت أنفاسي مني لوهلة‪ .‬بل قل أني أحسستُ بقشعريرة سريعة و خاطفة و هي تسري في أطرافي و أنا‬
‫عاجز عن تحريك عيني من عيني الحرفي‪ .‬غريب ما شعرتُ به تلك اللحظة‪ .‬كأن بالرجل كان ينظر فعليا إلى‬
‫داخل رأسي تاركا جسدي و قد شل عن الحركة !‪ .‬كان صعبا علي التفكير في وصف بسيط و مالئم لفكرة األحمق‬
‫الصغير بداخلي‪...‬‬

‫‪265‬‬
‫_ يصعب علي إيجاد وصف دقيق لهذا المصطلح لو تعلم‪...‬‬

‫_ ال بأس‪ ،‬هات ما يدور في رأسك‪ ،‬حتى و إن كنت سترى الحقا أنه كان ناقص أو غير دقيق‪.‬‬

‫صم ُّ‬
‫ت و أنا أنظر إليه‪ .‬مططتُ شفتي و أنا التقط أول فكرة كانت في ذهني عن هذا الشيء الغريب الذي ظل‬
‫يعيش بداخلي و ظللت عاجزا عن شرحه لنفسي‪ ،‬كونه كان كثير الخمول و الكمون‪ ،‬ال يستيقظ إال في مواسم‬
‫متقطعة من السنة‪ ،‬أو في حدوث أمور محددة غير متوقعة ليُذكرني بمن كنت ذات يوم‪ ....‬كان شيئا من هذا‬
‫القبيل‪...‬‬

‫_ لنقل‪ ،‬أنه شيء مليء بعنفوان طفولتي الذي أشتاق إليه‪ ،‬كوني أعتقد أن سنوات البلوغ و مشاكل الرشد قد‬
‫غيرتني كثيرا‪ .‬إنه شيء ال أود أن أخسره‪ ،‬لذلك‪ ،‬أقوم بحمايته‪ ...‬أو حماية ما تبقى منه بطرق ال أستطيع إدراكها‬
‫في الغالب‪ .‬أحميه فقط من قذارة هذا الزمن‪ .‬أنا صحفي و باحث اجتماعي‪ ،‬مهنتي و مجال بحثي جراني ألفهم و‬
‫أرى مدى تعفن أحوال هذا الشعب و هذا البلد‪ ،‬و هي ربما ليست سوى امتدادا لتعفن وضع العالم الذي نعيش فيه‪،‬‬
‫و هو ما يجعلني ربما أخشى أكثر على هذا الشيء الضئيل المتبقي من الطفل الذي كنته ذات مرة‪ .‬أحيانا أشعر به‬
‫أنه هنا ليريني طريق الهروب إلى مكان ما‪ ،‬لكني مجبر على البقاء حيث أنا ألواجه الواقع القذر للعالم الحاضر‪،‬‬
‫فأقوم فقط بتعنيفه و طرده‪ ،‬ليس كرها له بل خوفا عليه مما قد يصيبه‪ .......‬شيء من هذا القبيل‪.‬‬

‫طأطأتُ رأسي و كأني منكسر الجناح‪ .‬ال أعلم لم أحسستُ بذلك‪ .‬وجدتني و قد تقهقرتُ بظهري مهزوما نحو‬
‫صور الدار‪ ،‬و كأني فعال قد تحولت إلى صبي صغير بصدد االعتراف بشيء يخجل من االعتراف به‪ .‬بدى لي‬
‫األمر في غاية الغرابة‪ .‬نحن نعيش طول حياتنا نعتقد أن لنا أسرارا أكثر قذارة و أفكارا أكثر جنونا و ال عقالنية‪،‬‬
‫نخبئها هنيهة لنبوح بها ألول شخص قد يصادف أنه يروق لنا‪ .‬أما في حالتي تلك‪ ،‬فقد كان ما بحتُ به قد يبدو شيئا‬
‫سخيفا ال يستحق كل ذلك االنكسار أو الخجل‪ ،‬كما أني قد بحتُ به لشخص لم يرق لي منذ اليوم األول للقائي به‪.‬‬
‫كيف و َلم ؟‪ .‬المقال نشر في الجريدة بنسختيها الورقية و الرقمية‪ ،‬و لم يثر موضوع الصبي الصغير انتباه أي‬
‫شخص وسط آالف القراء‪ ،‬لكنه شد هذا الرجل المتوحد و غريب األطوار الذي يعيش في هذا المكان النائي ؟‪ .‬ال‬
‫أعلم ما الذي جعله يستشعر هذا األمر و يبحث عنه‪ ،‬كما لم أفهم كيف وجدتني أحدثه عنه بتلك التلقائية‪.‬‬

‫رفعتُ بصري نحو آغاكال‪ .‬كان ال يزال يحملق في متأمال‪ ،‬إن لم أقل أن شيئا يشبه الدهشة كان قد تسلل من‬
‫نظراته الثابتة‪ ،‬و ألول مرة أحسستُ أن شيئا ما قد تغير في طريقة تفحصه لي‪ .‬كانت تقاسيم وجهه قد أزالت عنها‬
‫ندف الثلج و قطع الجليد التي اختفت تحتها منذ التقيت به أول مرة‪ .‬غريب !‪ .‬كانت تلك نظرات رجل يبدو أنه‬
‫لطيف و متفهم‪ ،‬راحت تخرج من عينيه كوهج خافت كان يمهد الطريق لبزوغ فجر ما‪ .‬فجر واعد‪ ،‬بعد ليل طويل‬
‫و بارد و مستفز‪.‬‬

‫_ ممممم ال بأس‪ ....‬ال بأس‪ .‬اآلن عليك أن تستعد أيها الشاب المثابر‪ ،‬قريبا ستبدأ العمل معي في الورشة على‬
‫أواني الفخار‪ .‬ستحاول تعويضي عن أكبر قدر ممكن مما حطمته قبل انقضاء عطلتك هذه هه ؟‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫استدار‪ .‬خطى بضع خطوات ثم التفت إلي و كأنه تذكر شيئا آخر‪....‬‬

‫_ أه‪ ،‬عيد استقالل مجيد يا أقشيش !‪.‬‬

‫أكمل طريقه دون أن يضيف كلمة واحدة و هو يبتعد متداعيا في العتمة آخذا طريق المقبرة‪ .‬كان يمشي‬
‫بخطوات وئيدة مع انحناءة ظهره الصغيرة و هو يضع يديه في جيبه مطأطأ رأسه كأنه يتحسس الطريق أمامه‪ ،‬أو‬
‫أنه كان قد غاص في أفكاره الخفية التي يض ُّج بها رأسه على ما يبدو‪ .‬وقفتُ في مكاني و أنا أتساءل عن أي عيد‬
‫استقالل مجيد كان يتحدث و نحن لم نزل في نهاية اليوم الثالث من شهر جويلية ؟‪ .‬تعجبتُ من أمر هذا الرجل الذي‬
‫دأب على مناداتي '' آقشيش '' منذ اليوم األول‪ ،‬و هي كلمة بربرية تعني ببساطة '' الصبي '' !‪.‬‬

‫‪-21-‬‬

‫الفواجع ال تزال حية‬


‫‪267‬‬
‫استفقتُ صبيحة الخامس يوليو‪ ،‬عيد االستقالل الوطني‪ ،‬على أنغام تلك المطربة القبايلية صاحبة الصوت‬
‫الشجي‪ .‬ألقل أني كنتُ قد بدأتُ أعتاد على يومياتي وسط آل آفاو‪ ،‬فسلوكياتهم اليومية كانت قد بدأت تترسخ في‬
‫ذاكرتي بشكل يجعلني أستطيع تكهن ما تفعله نانه تاملسة مع الضحى أو أين يمكن للدا إيدير أن يذهب بعد صالة‬
‫الظهر أو العصر‪ .‬في أي ساعة تطعم نانه تاملسة دجاجاتها أو تحلب عنزتها أو تحضر حطب الموقد أو تحضر‬
‫الماء من تالة‪ ،‬و في أي ساعة يأخذ الدّا إيدير بغلته الحمراء الهزيلة المسماة '' تامكديت '' إلى أسفل الجرف بالقرب‬
‫من مجرى الواد ليجمع قطع الصلصال‪ ،‬التي يستعملها ابنه في صناعة أوانيه الفخارية‪.‬‬

‫كانت تشير إلى زهاء السابعة صباحا‪ .‬كان نهوضي من الفراش ثقيال كوني لم أنم إال في ساعة متأخرة‪ ،‬بعدما‬
‫أمضيت ليلة كاملة أتفحص تلك الكتب و المؤلفات التي فاضت بها الخزانة الخشبية‪ ،‬التي قرر عميروش أخيرا‬
‫تركها مفتوحة – عن عمد بكل تأكيد – من ذ حديثنا األخير بالقرب من صور دار والديه حول الصبي الصغير‬
‫بداخلي‪ ،‬حين أحسست أن شيئا ما قد تغير أخيرا في سلوك الرجل تجاهي‪ ،‬و أنه قرر أن يُدخلني إلى عالمه الخاص‬
‫من دون تحفظ‪ .‬طبعا بدى لي فتح الخزانة الخشبية أشبه بجائزة حصلت عليها بعد جهد جهيد‪ ،‬و قد كانت مليئة‬
‫بكتب جلها باللغة الفرنسية من طبعات سنوات السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي‪ .‬روايات مولود فرعون‬
‫و مولود معمري و الطاهر جاووت و كاتب ياسين و دمحم ديب و رشيد بوجدرة و ‪ .Albert Camus‬الكثير من‬
‫أعمال ‪ .Fiodor Dostoïevski‬أشعار جان عمروش و ‪ .Victor Hugo‬كتب فرحات عباس و فرانس‬
‫فانون‪ .‬مذكرات حسين أيت أحمد‪ .‬كتب فلسفية لـ ‪ Heidegger‬و ‪ Merleau Ponty‬و ‪ Spinoza‬و‬
‫‪ .Bachelard‬أعمال مترجمة لمشارقة مثل نجيب محفوظ‪ ،‬جبران خليل جبران‪ ،‬أمين معلوف‪ ،‬ميكاييل نعيمة‪.‬‬
‫إيدوارد سعيد‪ .‬بل حتى بعض كتب مالك بن نبي !‪.‬‬

‫كتب أخرى كانت في مجملها حول التاريخ القديم للجزائر لبعض المؤلفين الذين ال أعرفهم‪ ،‬أشخاص مثل‬
‫‪ Henri Basset‬و ‪ Gabriel Camps‬و ‪ .Charles André Julien‬كتب تاريخية أخرى تتحدث عن‬
‫ثورة نوفمبر في مجملها للمؤرخ الشهير ‪ ....Benjamin Stora‬إضافة إلى مجلد ضخم ذو لون بني داكن و‬
‫أطراف متآكلة‪ ،‬فوجئت به ينام في صمت تحت الكتب األخرى‪ .‬إنه كتاب المقدمة ألب علم االجتماع عبد الرحمن‬
‫بن دمحم ابن خلدون الحضرمي !!‪ .‬لقد كان المجلد بالعربية‪ .‬تذكرتُ تلك اللحظة حديث الثعبان األشقر عن آغاكال‪،‬‬
‫فهو أكثر من مجرد حرفي أو قروي فقير يعيش على قمة جبل معزول‪ .‬يكفي أن الرجل يقرأ كثيرا !‪.‬‬

‫تقدمتُ نحو الخزانة مرة أخرى‪ .‬ألقيت نظرة سريعة على تلك المؤلفات التي كانت تفوح منها رائحة األوراق‬
‫و الكتب القديمة التي أعشقها‪ ،‬ثم التفت إلى الخزانة المعدنية الموصدة بقفلها المعدني علي ألحظ أنه قد فتح هو‬
‫اآلخر‪ ،‬لكنه كان ال يزال مقفال‪.‬‬

‫كان عميروش يجلس منكبا على دوالبه الدوار بالقرب من باب الورشة المفتوح على نسمة صباحية لطيفة‬
‫منهمكا بكل كيانه في تدوير الصلصال الذي كان يصنع منه قوالب كبيرة نوعا ما‪ .‬طول مراقبتي له و لعمله عن‬
‫بعد طيلة أيام أيضا‪ ،‬جعلني أستطيع تكهن أي نوع من األواني يجهز الرجل لصنعها بمجرد إمعان النظر إلى حجم‬

‫‪268‬‬
‫الكتل التي تدور بين يديه و الطريقة التي يقوم بتشكيلها بين أصابعه الطويلة الرقيقة‪ ،‬و وفقا لما رأيت‪ ،‬فقد كان‬
‫الرجل يستعد لصنع بضع مزهريات تلك الصبيحة‪.‬‬

‫تقدمتُ نحوه‪ .‬لم أقل شيئا كوني كنت متأكدا أنه لن يعيرني أي انتباه أو اهتمام مادام يشتغل على تلك القطعة‬
‫من الصلصال كعادته‪ .‬وقفتُ بالقرب منه و أنا ال أزال أمسك المنشفة بين يدي أمسح بقايا كريمة حالقة الوجه‪ ،‬فإذا‬
‫بصوته و على غير العادة يباغتني‪ .‬كانت تلك أول مرة يعمد فيها الرجل إلى الحديث إلي و هو في كامل انغماسه‬
‫في عمله ذاك‪....‬‬

‫_ جيراننا المصريين القدماء كانوا من أوائل الذين اخترعوا دوالب الفخار منذ ما ال يقل عن ‪ 2111‬عام‪.‬‬
‫كانوا يعتقدون أن الرب '' خيمو '' يصنع اإلنسان من الفخار على هذا الدوالب‪ ،‬و أن الرب '' توت '' كان يقف‬
‫بالقرب منه‪ ،‬تماما كما تقف أنت اآلن‪ ،‬ليُسجل عمر االنسان و حياته و رزقه و حظه في الحياة‪ .‬لهذا يجعل البعض‬
‫من هذه الحرفة قريبة جدا من الناحية الرمزية إلى الصناعة التي ال تتقنها سوى اآللهة‪ ،‬و هي خلق الكائنات‪ .‬أه‬
‫طبعا نحن اليوم في العام ‪ 4102‬للميالد‪ .‬إنسان هذا العصر مفتون بالفيديو كليبات و كرة القدم و إعالنات‬
‫المأكوالت الجاهزة‪ ،‬أليس كذلك ؟‪ .‬من يتأمل في ِّحكم الطين و أسرارها العجيبة اليوم ؟‪ .‬من يتأمل في ِّحكم و‬
‫أسرار الطين ؟‪.‬‬

‫أومأت برأسي كمن شده الحديث‪ .‬طبعا‪ ،‬كنتُ قد ضغطت على هاتفي المحمول و بدأتُ التسجيل متظاهرا أنني‬
‫اتفقده فقط‪ .‬آغاكال كان قد بدأ في االنفتاح و الحديث‪ ،‬و كان علي اغتنام الفرصة لتسجيل كل ما يمكن تسجيله‪ ،‬عله‬
‫يسقط في زلة لسان قاتلة تفضي إلي ما أبحث عنه‪ .....‬نظرتُ إليه ممازحا و أنا آخذ مكاني بالقرب منه فوق كرسي‬
‫خشبي صغير‪.‬‬

‫_ أعترف أن أبناء الحواضر الكبرى يعتبرون الطين شيئا مرادفا للعفن أو القذارة‪ .‬يجدر بك ماس عميروش‬
‫أن ترى وجوه األمهات حين يستقبلن أطفالهن و هم ملطخون بالطين !‪.‬‬

‫_ سكان الحواضر في هذه البالد ال يزالون يشكون من عقدة نقص تجاه جذورهم الجبلية يا فتى‪ .‬هذا مثير‬
‫للشفقة‪ .‬من ذا الذي ينكر أصله األول ؟‪ .‬الشعب الجزائري ينحدر من الجبال و البوادي يا أقشيش و البشر كلهم‬
‫ينحدرون من التراب في النهاية‪ ...‬كما كان يقول النبي دمحم‪ '' :‬كلّكم آلدم و آدم من تراب ''‪.‬‬

‫_ إذن أنت تؤمن بأننا كبشر قد خلقنا من التراب ؟‪.‬‬

‫_ ربما هي النقطة الوحيدة التي قد يلتقي عندها المؤمنون و غير المؤمنين اليوم !‪.‬‬

‫_ كيف ذلك ؟‪.‬‬

‫لم ينظر إلي‪ ،‬بل استمر في العمل و هو يتحدث‪...‬‬

‫_ المؤمن سيقول بأننا خلقنا من تراب هذه األرض‪ .‬الملحد قد يقول بأننا قد تش ّكلنا من تراب النجوم‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫_ هه‪ ،‬لو كان تشارلز داروين أمامك لما اتفق معك في هذا و لجادلك بالقول أن تركيب أنسجتنا الحية قد‬
‫ورثناه من آبائنا القردة‪ ،‬و الذي حتما تأثر بعناصر الطين كون كل ما نأكله سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة‬
‫قادم من التراب و الماء‪ .‬لكن لي زميلة في العمل كانت لت ُسر كثيرا بهذا الحديث معك لو تعلم‪.‬‬

‫_ الطين أكثر من مادة عضوية يا أقشيش‪ .‬أحيانا أقول أن صناعة الطين قد تتقاطع مع صناعة األفكار !‪ .‬ثم‬
‫هل تعلم ؟‪ ،‬العالم اليوم قد تم خداعه على طـــــول الخط بالقول أن تاريخه قد صيغ بحد السيف‪ ،‬لكن من وجهة‬
‫نظري الخاصة‪ ،‬فالحقيقة هي أن تاريخ العالم قد صيغ بتالقي عنصرين ال يستريحان أبدا في الطبيعة‪ ،‬فإذا التقيا‬
‫وقعت المعجزة‪ .‬الماء و التراب‪ .‬أما هذا العنصر العجيب المسمى '' صلصال '' فقد ّ‬
‫سطر تاريخ العالم و بني البشر‬
‫منذ البداية‪ .‬وجودنا‪ ،‬حياتنا‪ ،‬تاريخنا‪ ،‬تطورنا في العمران و كل ما يتبع ذلك ندين بهم له‪ .‬انظر إلى أهرامات‬
‫الجيزة‪ ،‬إلى أصوار بابل و أطالل سومر و بقايا آشور و مدينة بم و أضرحة تومبوكتو‪ ......‬انظر إلى رائعة‬
‫جيش التيراكوتا الذي رافق االمبراطور الصيني ‪ Qin Shi Huang‬إلى العالم اآلخر‪ ،‬في مشهد جنائزي فني لن‬
‫يتكرر أبدا‪ .‬جيش من الفخار !!!‪...‬‬

‫قالها رافعا يديه إلى السماء‪ ،‬ثم صمت و هو يتناول السلك المعدني الرقيق الذي مرره من تحت المزهرية التي‬
‫كان قد انتهى من صياغتها و تشكيلها‪ .‬فصلها عن صحن الدوالب ثم حملها بحذر و تأن ليضعها أمام المزهرية‬
‫التي سبقتها كي تجف قليال‪ ،‬ثم تناول قطعة الطين التالية و ألقى بها على الدوالب لكنه لم يكمل حديثه الذي أعجبني‬
‫و أثارني كثيرا‪ .‬كان يبدو لي أنه الرجل الذي كنتُ أبحث عنه‪ ،‬و كان علي أن أخزه بلطف و حذر حتى يسترسل‬
‫في تأمالته الفلسفية‪...‬‬

‫_ وجهة نظر مثيرة‪.‬‬

‫_ أه أنت ترى‪ .‬مالك بن نبي خط معادلته العظيمة حول الحضارة‪ :‬إنسان ‪ +‬تراب ‪ +‬وقت = حضارة‪ .‬و أنا‬
‫أقول‪ :‬تراب ‪ +‬ماء ‪ +‬حرارة‪ ...‬يُعطيك خزفا و الخزف مرادف للحضارة و المدنية أيضا‪ .‬كل الحضارات العريقة‬
‫تركت لنا شواهد من الخزف و الفخار أكثر من أي شواهد أخرى‪ .‬المصريون‪ .‬الفينيق‪ .‬اإلغريق‪ .‬الصينيون‪.‬‬
‫الفرس‪ .‬العرب‪ .‬الرومان‪ .‬الوندال‪ .‬القرطاجيون و أسالفنا النوميد‪ .‬حيثما ذهبت‪ ،‬إذا صادف و التقيت ببقايا أواني‬
‫طينية‪ ،‬تعلم أن إنسانا ما مر من هناك ذات مرة‪.‬‬

‫توقف عن العمل لحظة و غاص بصره في الفراغ و كأنه ينظر إلى داخل رأسه‪ ،‬ثم التفت إلي‪...‬‬

‫_ تعلم ؟‪ ،‬كنتُ دوما أقول أنه لو كنتُ من أصحاب األصوات المسموعة في هذا البلد‪ ،‬لدعوتُ إلى اتخاذ آنية‬
‫تيدّيس الفخارية رمزا قوميا لنا‪ ،‬بدال من االستمرار في اعتبار حيوان ضعيف يدمن الحفر و مطاردة الصراصير‬
‫و االختباء في الرمال كالفنك '' رمزا '' لهذا البلد الشاسع‪ .‬أال توافقني الرأي ؟‪.‬‬

‫_ هممم تيدّيس ؟‪ .‬هذه الكلمة ليست بغريبة علي‪ .‬أليست اسم أطالل رومانية توجد ناحية قسنطينة ؟‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫_ افحص الكلمة قليال‪ ''....‬تيدّيس ''‪ .‬رنة االسم وحدها كفيلة بجعلك تشعر أنها أمازيغية األصل‪ .‬الفخاريات‬
‫التي اكتشفت هناك في المدافن و التي بقيت سليمة و معافاة على مدار ألفي سنة‪ ،‬شبيهة تماما في أشكالها و الرسوم‬
‫الهندسية التي تزينها لما نصنعه اليوم في تامورت لقبايل و تامورت إيشاوين‪ .‬لم يتغير فيها الكثير‪ .‬هذه األواني‬
‫الفخارية و الرسوم التي تزينها هي أكثر من أواني يا هذا‪ .‬إنها صلتنا المباشرة بأكثر من ألفيتين من وجودنا في‬
‫هذه البالد‪ ،‬و هذا شيء حتما يبعث على الفخر‪ ........‬و سكينة النفس أيضا !‪.‬‬

‫ممتـــــــــــــاز !‪ .‬الرجل كان يبلي حسنا و هو ماض في الغرق في البوح لي عما يؤثث رأسه من أفكار و‬
‫قناعات‪ ،‬يبدو أنها نبتت كلها من فكرة '' الطين '' تلك كما ينبت برعم نبتة متسلقة من بذرة خفية مغطاة بتربة‬
‫خصبة و مسقية جيدا‪ .‬لكن ما الذي سقى تربتك يا أغاكال ؟‪ ،‬أهي خسارة أو خيبة ما ؟‪ ،‬أهو غضب ما ؟‪ ،‬حقد دفين‬
‫جعلك تتوحد في عالمك الخاص و تؤسس لهذه البدايات التي تنبئ بوجود شيء ثوري لم يتبد لي بعد ؟‪ .‬شخص‬
‫يطالع روايات دوستويفسكي ال بد أنه إنسان وصل إلى اكتشاف معنى اليأس الكامل‪ .‬ما الذي يسقي أفكارك يا رجل‬
‫؟‪ .‬هيا يا رجل‪ ....‬اعطني المزيد‪ ...‬المزيد !!‪...‬‬

‫_ هه أصدقك القول ماس عميروش‪ ،‬مفهومك عن الطين و الصلصال مميز جدا !!‪...‬‬

‫صه عليهم ذاك اليوم‬


‫_ هذا ما أحاول نقله لتالمذتي الصغار في ورشة صناعة الطين سنويا‪ .‬هذا ما كنت أق ُّ‬
‫حين رفعتَ يدك مستفسرا عن فحوى كالمي‪ .‬أحاول أن أجعلهم يعشقون هذه الحرفة‪ ،‬و يعتزون بمن يكونون‪.‬‬
‫بالنسبة لي فصناعة الفخار هي أكثر من حرفة أو نشاط تجاري أو هواية‪ .‬إنها طقس قومي يُجدد االنتماء إلى‬
‫حضارة ال تزال تكافح من أجل البقاء بالقليل الذي بقي منها‪ ،‬إن لم نقل أنها تكافح من أجل العودة و االنبعاث مجددا‬
‫من هذا القليل‪ .‬تعلم ؟‪ ،‬بعض اآلباء في القرية يعتبرونني مجنونا‪ ،‬كوني اقترحتُ على تاجماعت ذات مرة أن‬
‫يوضع المواليد الجدد دوما في مكان يستطيعون فيه شم رائحة التربة المبللة‪ ،‬إذ افترضت أن ذلك سيجعلهم‬
‫يشعرون دوما بالطمأنينة و راحة البال‪ ،‬حيث أن رائحة الطين قد تخفف عنهم قلق الخروج من أرحام أمهاتهم‪،‬‬
‫فضال عن أن ذلك قد يكون سببا في نمو عقلي سليم‪ ،‬بل و ربما أكثر من ذلك‪ ....‬وطنية راسخة و تعلق بهذه‬
‫األرض غير قابل للكسر ؟‪ .‬طبعا الفكرة لم تطبق حتى اليوم‪ ،‬فقد اعتبرها الجميع سخيفة‪ ،‬لذلك ال أستطيع أن أجزم‬
‫أنها صالحة أو مفيدة !‪.‬‬

‫_ أليس غريبا أن شخصا متوحدا و غريب األطوار مثلك يتواصل بهذا الشكل الجميل و البنّاء مع األطفال ؟‪.‬‬

‫أطلق عميروش أول ضحكة أسمعها منذ أن عرفته و هو مستمر في العمل‪...‬‬

‫_ الحقيقة أنني أتعلم منهم أكثر مما يتعلمون مني‪ .‬تعلم ؟‪ ،‬مع األطفال تكتشف أن األشياء تحتاج فقط لتُرى كما‬
‫هي‪ ،‬من دون روتوشات أو تعقيدات جانبية تافهة‪ .‬نحن معشر الكبار نميل بشكل غريب إلى تعقيد األمور األكثر‬
‫بداهة في العالم و في ذلك سببين يلتقيان في نقطة محددة‪ :‬إما رغبة في الشعور بأننا بالغين و متمكنين فعليا من هذا‬
‫العالم‪ ،‬و إما هروبا من حقائق نخشى مواجهتها في الغالب‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫_ أشياء أكثر بداهة ؟‪....‬مثل ماذا ؟‪.‬‬

‫_ أه ال أدري‪ ...‬بديهيات‪ ....‬أعطني فكرة ما تجول في خاطرك اآلن تحديدا‪ ،‬و سأحاول النظر إليها بعيني‬
‫طفل صغير !‪.‬‬

‫_ هممممم‪ ........‬العهدة الرابعة !!‪...‬‬

‫توقف عن العمل فجأة‪ .‬التزم الصمت لثوان معدودة ثم التفت إلي‪...‬‬

‫_ في عالم سريع الحركة‪ ،‬األصغر سنا هم من سينتصرون في السباقات !‪.‬‬

‫_ حسن‪ ...‬حسن‪ ...‬ماذا عن‪ '' ...‬البحبوحة المالية '' ؟‪.‬‬

‫أطلق ضحكة أخرى و هو يحك خده الذي اصطبغ بمسحة صلصالية‪...‬‬

‫تخضر الحقول في فصل الربيع‪ ،‬تتسابق‬


‫ُّ‬ ‫_ في هذا يا أقشيش ال يحضرني سوى مثل أمازيغي قديم يقول‪ :‬حين‬
‫نحوها البهائم على أحجامها‪.‬‬

‫تبادلتُ معه نظرة و ضحكة متواطئة‪ ،‬قبل أن يقف من مكانه و يخطو إلى خارج الغرفة حين سمع أحد تالمذته‬
‫الصغار يناديه من أمام المنزل‪ ،‬حيث تبادل معه بعض الكلمات‪ ،‬فاغتنمت الفرصة لتفقد هاتفي المحمول و التأكد‬
‫من أنه ال يزال يسجل كل ذلك الحديث الرائع و يجمع كل تلك المادة الصحفية الدسمة و الثمينة‪ ،‬قبل أن يعود‬
‫عميروش ليخبرني أن سكان القرية يستعدون لزيارة مقبرة الشهداء لالحتفاء بذكرى عيد االستقالل‪ ،‬و أن الجميع‬
‫مطالبون بحضور الوقفة التي تعتبر منذ سنوات إلزامية بنص من تاجماعت‪ .‬عجّل بمسح يديه و وجهه مما علق به‬
‫من طين ثم خرج ليخبر والديه‪ .‬كنتُ أجلس و أنا أكاد أبتسم من اإلثارة‪ .‬ربما كانت بسمة المكر أيضا ؟‪ .‬كنتُ أدرك‬
‫أنني أول صحفي يقوم بتسجيل أحاديث آغاكال الغامض المليئة بالتأمل و البوح‪ .‬كنتُ مسرورا و مدهوشا من ذاك‬
‫المستوى الفكري‪ ،‬الذي أزاح عنه الرجل ستائر البالدة المصطنعة‪ ،‬ستائر كان قد فرش أمامها مساميرا مزعجة‬
‫من الفظاظة التي كان لي أن أجتازها بألم و غضب قبل أن أصل إلى تلك اللحظة الشهية‪.‬‬

‫**********‬

‫سرنا في موكب قروي كبير جدا‪ .‬على األرجح أن كل سكان القرية كانوا حاضرين ضمن تلك السلسلة‬
‫البشرية الطويلة التي انطلقت من أكبر شارع يقابل مدخل القرية و تبعا لذلك رحنا نصعد الطرقات في سير‬
‫امتزجت فيه األلوان و األصوات و الروائح‪ ،‬فتشكل بذلك الطابور الطويل المتحرك شبه ثعبان بشري أرقط‪ ،‬طغى‬
‫عليه اللون األبيض للبرانيس مع بقع من األلوان الزاهية التي كانت تعكسها جباب النسوة و محارمهن تحت أشعة‬
‫الشمس‪ .‬شباب و شابات‪ ،‬رجال و نساء‪ ،‬شيوخ و عجائز‪ ،‬و أطفال كان بعضهم يحمل العلم الوطني و هم‬
‫يركضون و يقفزون بين األرجل و األجدع‪ .‬الكل كان حاضرا بشكل أثار إعجابي الشديد بهذا النوع من االلتزام ''‬
‫ْ‬
‫طلقت‬ ‫المواطناتي '' بعد ذلك الذي أثاروه في نفسي خالل عيد تاوزيعت قبل مدة قصيرة‪ .‬كيف يعقل ذلك ؟‪ ...‬أفلو أ ُ‬

‫‪272‬‬
‫نفس الدعوة في بلدية أو حي من أحياء العاصمة أو البليدة أو أي مدينة جزائرية أخرى للسير نحو مقابر الشهداء‬
‫لتذكر تضحياتهم في يوم االستقالل‪ ،‬كم من '' مواطن '' كان ليلبي الدعوة يا ترى ؟‪ .‬مسيرة أهل تيميزر لم يكن فيها‬
‫أي مسؤول حكومي‪ .‬مجرد موكب من القرويين البسطاء يتقدمه مجموعة من المشايخ المرابطين و بقايا مجاهدي‬
‫جيش التحرير الوطني يتوسطهم الدا إيدير‪ ،‬و قد تقوست ظهورهم و انكمشت مالمح وجوههم‪.‬‬

‫قلتُ في نفسي و أنا أحمل هاتفي المحمول و التقط بعض الصور و المقاطع للمسيرة جازما في نفسي أنه في‬
‫تلك الليلة‪ ،‬الخامس من جويلية‪ ،‬لن تطلق الشماريخ و األلعاب النارية التي مألت سماء الجمهورية يوم تأهل‬
‫المنتخب الوطني لكرة القدم إلى الدور الثاني للمونديال البرازيلي !‪ .‬كنتُ أجزم في قرارة نفسي في شيء من‬
‫الغضب الذي ّلون أنفاسي أن الليلة و هذا اليوم ككل‪ ،‬سيمر كيوم عطلة مدفوعة األجر و كفى‪ .‬حيث سيكون هم‬
‫اإلنسان الجزائري فيه هو تحصيل وجبة إفطاره اليومية‪ ،‬مشاهدة بعض البرامج الفكاهية الرمضانية الساذجة على‬
‫قنوات التلفزيون‪ ،‬ثم السهر إلى ساعات الصبح األولى مع األلعاب و المشروبات و الثرثرة‪ ....‬ال أثر لعيد‬
‫االستقالل !‪ .‬التفتُ إلى عميروش الذي كان يسير إلى جانبي في صمت واضعا يديه خلف ظهره‪...‬‬

‫_ هل إحياء عيد االستقالل دوما يسير بهذه الطريقة عندكم هنا في تيميزر ؟‪ ،‬أهو نفسه في القرى المجاورة‬
‫في المنطقة ؟‪.‬‬

‫أومأ برأسه بأن نعم‪.‬‬

‫_ حتى القرى المجاورة تحيي الذكرى هكذا ؟‪ ،‬بالمسيرات و الوقفات و األعالم ؟‪.‬‬

‫أومأ برأسه مرة أخرى‪ .‬كان يبدو مضطربا على نحو ما‪ .‬طبعا فهو ال يحب االكتظاظ و االختالط‪...‬‬

‫ازدادت أعداد المنضمين للمسيرة على طول الشارع و األزقة الفرعية التابعة له‪ .‬كانوا يقفون على طول‬
‫المنحدر ينتظرون مرور الموكب لالندماج فيه كقطرات شاردة من الماء تنتظر فوق األوراق لتقفز في السيل و هو‬
‫في طريقه‪ .‬واصل الثعبان البشري زحفه البطيء إلى غاية مقبرة القرية التي اجتازها ليصل بعدها إلى مقبرة‬
‫الشهداء التي كانت تجاورها و ال تبعد عنها سوى ببضعة أمتار‪ ،‬ال يفصل بينهما سوى حاجز حجري قصير‬
‫تمكنت منه الحشائش الشوكية التي تمكن منها الحر و الجفاف هي األخرى‪ .‬وصلنا إلى مقبرة الشهداء و قد خف‬
‫ضجيج الحناجر بشكل ملحوظ‪ ،‬حين لم يرغب عميروش في التقدم و فضل البقاء في ظهر الجمع‪ .‬أخبرت ُه بأني أود‬
‫أن أرى ما يحدث في المقدمة و شققت طريقي بين السكان‪ ،‬الذين استطعت تمييز بينهم بعض الوجوه التي بت‬
‫أعرفها و تعرفني‪ ،‬كالقرويين الذي أجريت معهم حوارات متفرقة أول مرة حول تاوزيعت و أسطورة سيدي‬
‫أوعابد‪ .‬الشاب سيفاقص و صديقيه سيد علي و مقران‪ ،‬و طبعا زمالئي الصغار في صف صناعة الطين و في‬
‫مقدمتهم الصغيرة تاسعديت‪ ،‬التي كانت تسترق النظر إلي بخجل و هي تقف إلى جانب سيفاقص‪ ،‬تش ّع كنجمة‬
‫صغيرة في جبتها القبايلية البرتقالية الناصعة‪ .‬تفطنتُ فجأة إلى الشبه الكبير بينهما و أدركتُ أنهما شقيقان‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫لم تكن الوقفة طويلة زمنيا‪ .‬ربما أ رادتها تاجماعت كذلك بسبب حر الجو و مشاغل الناس‪ ،‬خاصة النساء‬
‫منهم‪ ،‬و هن مرتبطات بمشاغل الطبخ و تحضير إفطار اليوم‪ .‬فكان هناك رفع للعلم الوطني و تالوة لفاتحة الكتاب‬
‫و ترحم على أرواح من سقطوا خالل حرب االستقالل‪ ،‬ثم كلمة قصيرة إلمام القرية الشيخ عبد السالم أو لمين‪،‬‬
‫الذي كان يقف بالقرب من النصب التذكاري المتواضع الذي يتوسط المكان‪ ،‬الذي بدى أنه قد أقيم بجهود محلية‬
‫صرفة‪ ،‬و الذي وضعت عليه حينها بعض باقات الزهور‪ ،‬لتذ ّكر أبطال القرية ممن سقطوا خالل العمليات ضد‬
‫الجيش الفرنسي‪ ،‬أو أالئك الذين سقطوا خالل الغارات التي كان ينفذها الطيران الفرنسي على القرية من حين‬
‫آلخر‪ ،‬أو أالئك الذين تم إيقافهم و تعذيبهم و قتلهم على يد العسكر الفرنسي و عمالئه من الحركيين‪ ....‬طبعا علمت‬
‫كل ذلك كون الفتى موسى كان قد وقف إلى جانبي خارجا من الفراغ كشبح متربص و هو يترجم لي تقريبا ما كان‬
‫يسمعه عن بعد‪ ،‬لكنني قاطعته فجأة حين طرأ سؤال على ذهني كان بعيدا تماما عن الحدث‪....‬‬

‫_ هل يملك ابن الدا إيدير مستوى تعليميا معينا ؟‪.‬‬

‫_ ماذا‪ ،‬ألم يُخبرك و أنت الذي بات يالزمه كظله ؟‪ .‬الرجل ذو مستوى جامعي‪.‬‬

‫نظرتُ إليه ألتأكد من مالمح وجهه التي بدت جادة‪...‬‬

‫_ ما كان مجال تخصصه في الجامعة ؟؟‪.‬‬

‫_ أه ال أدري يا آڨما‪ .‬شيء تقني‪ .‬كان فرعا تقنيا لكن ال أدري ما اسمه بالضبط‪ .‬على كل حال فهو لم يكمل‬
‫دراسته في النهاية بسبب كثرة التوقيفات التي كان يتعرض لها من قبل البوليس السياسي وقتها‪ ،‬فقد وقعت له‬
‫مشاكل عدة مع الحكومة كغيره من الطلبة الذين كانوا ينشطون في الحركة البربرية نهاية السبعينات‪ .‬الجميع في‬
‫القرية يحفظون أن عميروش كان من أوائل أبناء القرية الذين وصلوا إلى الجامعة بسبب تفوقه الدراسي و ذكائه‬
‫الشديد‪ .‬لكن أنت ترى حال المسكين اليوم‪ ،‬هه مجرد رجل معتوه يعيش وحيدا في عالم خاص و غريب ال أحد يعلم‬
‫ما يدور فيه‪ ،‬و فوق كل هذا فقد دمر حياته األسرية و خسر كل أصدقائه‪ .....‬دعنا منه و من الغيبة اآلن‪.‬‬

‫كانت الجمل األخيرة التي نطق بها موسى قد امتزجت بشيء عكر في وجهه‪ .‬البسمة الماكرة و النبرة المتشفية‬
‫كانتا جليتين‪ ،‬و هو شيء لم يعجبني فيه‪ ،‬لكني لم اشغل بالي به مع نهاية الوقفة‪ ،‬بل هممت فقط باالنصراف كما‬
‫كان يفعل القوم‪ ،‬قبل أن أرى الفتى األشقر سيفاقص الذي كان يتقدم مباشرة نحوي‪ ،‬عبعينيه الزرقاوين‬
‫المغروستين في وجهي‪ ،‬قبل أن يبعدهما عني في اللحظة التي كان يمر فيها على يساري‪ ،‬ملقيا إلي بعبارة واحدة‬
‫جعلتني أوقن بأن الفتى يشكو من غل شديد و سوء فهم مستشر و جحيم ال يُطاق من األحكام المسبقة و المعممة‪...‬‬

‫حرركم من ظلم الروميين‪ ،‬لكنكم كافأتموه بالنكران و بالقتل يا خرب !‪.‬‬


‫_ الشعب القبايلي ّ‬

‫طبعا‪ ،‬كنتُ '' الخربي '' الوحيد الواقف وسط جمع كبير من البربر‪ ،‬لذلك وصلتني الرسالة بوضوح كامل‪.‬‬
‫أردتُ أن أخبر أحدا من أقاربه بأن الفتى فعال بحاجة إلى المساعدة‪ .‬ربما بحاجة أيضا إلى شقيقته الصغرى‪،‬‬
‫تاسعديت صاحبة الوجه األبيض المورد و النظرات الخجولة البريئة‪ ،‬لعلها تعلمه شيئا من الود‪ ،‬لكن ذلك كان‬

‫‪274‬‬
‫ليكون صعبا جدا‪ ،‬فاألفكار التي تفتك بعقل الشاب المسكين كانت على األرجح نتاج سنوات من الغليان الداخلي‬
‫الصامت‪ ،‬الذي لم ير أحد فواره‪ ،‬و الذي قام بتسعيره بعض من هم أكبر سنا ممن يتقاسمون و يتوارثون نفس‬
‫األفكار التي يجاهر بها الفتى اليوم‪ .‬طبعا مشكلة الجزائريين ضلت كما هي‪ ،‬فنحن بارعون في التعبير عن قناعاتنا‬
‫بأسوأ الطرق الممكنة‪.‬‬

‫بحثتُ ببصري عن عميروش فلم أجده‪ .‬اعتقدتُ أنه على األرجح قد سبق الجميع في االنسحاب عائدا إلى‬
‫البيت كونه كالهر‪ ،‬ال يحب االختالط كثيرا ببني جنسه إال للضرورة‪ ،‬لكنني كنتُ مخطئا‪ ،‬فحين عبرتُ الحاجز‬
‫الحجري القصير الفاصل بين المقبرتين‪ ،‬لمحتُ الرجل من بعيد و هو منحن على أحد القبور‪ ،‬يقوم بتنقيته من‬
‫بعض األعشاب الجافة و اليابسة التي أحاطت به و قد غزت وجهه مسحة داكنة جدا و امتأل جبينه بقطرات عرق‬
‫كبيرة‪ .‬كان يقتلع تلك األعشاب على عجل‪ .‬حجم القبر و طوله لم يتركا لي المجال للشك‪ .‬لقد كان قبر ابنه البكر‬
‫الذي قيل لي أنه قد فقده‪.‬‬

‫وقفتُ أراقب عميروش المسكين و هو على تلك الحال‪ .‬كان يحاول اإلسراع و هو ال يكاد يجد القوة للنظر إلى‬
‫شاهد القبر حتى !‪ .‬أعترف أنني شعرتُ بأسف عميق تجاهه تلك اللحظة‪ ،‬حتى و إن لم أكن أعرف بعد تفاصيل ما‬
‫حدث‪ .‬لكن عميروش و هو على تلك الحال من االضطراب و السرعة‪ ،‬كان كمن يحاول يائسا و بال جدوى اقتالع‬
‫بقايا ألم تطوق اإلشعاع األخير لذاكرة غالية اختطفها الظالم بشكل خاطف و غير متوقع‪ ،‬أو كمن يحاول الهروب‬
‫مبكرا من فجع جارف عبر نافذة ضيقة على وشك االنغالق‪ ،‬حتى ال تمسك به أيادي من الدخان‪ ،‬تجره نحو هاوية‬
‫عويل سابق قد يُغرق قلبه مرة أخرى في الرعب و الوجل و الشلل التام !‪ .‬بال ريب‪ ،‬الرجل كان يود الهرب مبتعدا‬
‫في أسرع وقت ممكن من قبر ابنه‪ ،‬و هذا يعني أنه ال يزوره إال نادرا على ما يبدو‪ .‬الذاكرة ال تزال حية و الجرح‬
‫لم يندمل بعد‪ ...‬بل لم يندمل يوما‪ ،‬تبعا لما كنتُ أرى‪.‬‬

‫تقدم رجالن بشوارب بارزة‪ ،‬يبدوان في العقد الرابع من عمرهما‪ ،‬و راحا يتحدثان إليه في انفعال واضح حين‬
‫توقف عن تنقية القبر و هو ينظر إليهما في صمت‪ .‬ألقى بحفنة األعشاب اليابسة التي كانت بين يديه على الجانب و‬
‫راح ينفض يديه و إذا بأحد الشابين يتقدم نحوه في حركة انفعالية شادا إياه من قميصه بعنف و هو يصرخ‪.‬‬
‫صرخاته أثارت آخر المنسحبين من المقبرة و جعلتهم يلتفتون خلفهم و يعودون أدراجهم ليقفوا متفرجين عن بعد‬
‫دون أن يتدخل أحد منهم‪ .‬لم أفهم ما كان يحدث‪ .‬تحركتُ تلقائيا من مكاني بفضولي الصحفي القترب من الرجال‬
‫الثالث الواقفين عند قبر الفتى‪ ،‬لكني أحسست بمسكة قوية تلك اللحظة و هي تطوق عضدي األيسر‪ .‬التفت ورائي‬
‫فإذا به الشيخ عبد السالم مومئا برأسه بأال أتقدم‪...‬‬

‫_ إلى أين يا بني ؟‪ .‬هذه مسألة عائلية خاصة جدا‪ .‬من فضلك ال تتدخل‪ .‬دعنا نحن أهل القرية نتصرف‪.‬‬

‫أومأت برأسي موافقا على كالمه‪ .‬تركني واقفا في مكاني و هرع رفقة المؤذن مولود و بعض مشايخ‬
‫تاجماعت ليحولوا بين عميروش و الرجلين‪ .‬لم أستطع الصبر على فضولي‪ ،‬فتقدمت نحو موسى الذي كان هو‬
‫اآلخر يراقب الوض ع عن بعد سائال إياه عمن يكونان‪ ،‬فأجاب بنوع من الشرود و هو مأخوذ بفضوله الكامل نحو‬

‫‪275‬‬
‫ما كان يحدث‪ ،‬بأنهما خالي الصبي '' المقتول ''‪ ،‬زيري‪ ،‬ابن عميروش‪ ،‬و أنهما رفقة كل أفراد عائلة '' طليقته ''‬
‫يمنعون عميروش منذ سنوات طويلة من االقتراب من قبر ابنه‪....‬‬

‫_ طفله قتيل ؟‪.‬‬

‫_ أه‪ ...‬انعم‪ ...‬انعم آڨما‪ .‬قتل في أحداث ‪ 4110‬بتيزي وزو‪...‬‬

‫انقضت قشعريرة شديدة على كامل جسدي تلك اللحظة‪ ،‬مع إحساس قريب إلى الصدمة و أنا أنظر إلى‬
‫عميروش الواقف هناك وسط القوم المتجادلين‪...‬‬

‫_ ‪....‬و لماذا يمنعونه من زيارة قبر ابنه ؟ !‪.‬‬

‫_ يح ِّّملونه مقتل الطفل زيري‪ ،‬آد يرحم ربي‪.‬‬

‫اتَّضحت الصورة أكثر في ذهني‪ .‬فهمتُ كل شيء‪ .‬فالرجل كان يسرع في تنقية قبر ابنه من الحشائش خشية‬
‫أن يراه أفراد أسرة الزوجة السابقة !‪ .‬نظرتُ إلى الرجل‪ .‬كان هادئا جدا أمام كم الصراخ و الشد الذي صبه عليه‬
‫شقيقي طليقته‪ ،‬إن لم أقل أنه كان مستسلما تماما للوضع‪ .‬رأيته على تلك الحال كجندي ألقى ببندقيته أرضا و وقف‬
‫من مكانه المحصن وسط وابل النيران ينتظر الطلقة الشاردة أو المصوبة التي ستنهي عذابه و حزنه الخفي‪ .‬لكن‬
‫األمر لم يستمر أكثر من ‪ 01‬دقائق بتدخل المشايخ المرابطين‪ ،‬حيث انسحب الرجلين و عالمات الغضب الشديد‬
‫كانت لم تغادر وجهيهما المكفهرين بعد‪ ،‬بل كانا يستديران نحو عميروش بين الحين و اآلخر و هما يتوعدانه‬
‫ب حركاتهما‪ ،‬حين وصل الدا إيدير و نانه تاملسة لتوهما عائدين أدراجهما و هما يلهثان بعدما سمعا بما يحدث‬
‫خلفهما‪ .‬مرا عبر القوم و هما يحاوالن اإلسراع بصعوبة واضحة بسبب سنهما و آالم جسديهما الهرمين‪ ،‬متجهين‬
‫مباشرة نحو ابنهما الذي كان ال يزال واقفا رفقة اإلمام و بعض الكهول و هو يضع يديه في جيبه‪ ،‬بدون حراك‪،‬‬
‫كتمثال خزفي أثري فقدَ كل المعالم التي قد تمكن من تفسير المشاعر التي يعبر عنها في تقاسيم وجهه‪.‬‬

‫_ هل ترى ؟‪ ،‬لم يعد هنالك أحد يرغب في الدفاع عن آل آفاو المكحوسين في القرية‪ ،‬و لوال أن تاجماعت‬
‫تُنصف الكل هنا و تتحرى الحياد بشدة في مسائل الصراع بين العوائل‪ ،‬لتم نفيهم من القرية إلى األبد !‪.‬‬

‫قال موسى بنبرته القبايلية و هو ينسحب عائدا إلى بيته‪ ،‬عاجزا عن إخفاء تلك البسمة الماكرة التي زادت من‬
‫امتعاضي منه و تيقني أنه شخص يحمل حقدا غامضا على عميروش‪ ،‬رغم أنه يشتري منه أوانيه الفخارية ليقوم‬
‫ببيعها للزوار و المارة على طول الطريق الوالئي الحادي عشر‪ .‬أهو حقد شخصي ؟‪ ،‬أم مجرد عدوى حقد و كره‬
‫أصيب بها موسى من طرف من ال يحتملون آغاكال في القرية‪ ،‬بغض الطرف عن سبب كل هذا الكره ؟‪ .‬لكن أي‬
‫وحدة هذه‪ ،‬و أ ي عجز هذا الذي يجعل من رجل خمسيني ال يفكر في رد هجوم لفظي عنيف و ال يملك سوى أن‬
‫يقف مكتوف األيدي منتظرا أبويه العجوزين للتدخل و الوقوف بجانبه ؟ !‪ .‬ال أشقاء و شقيقات‪ ،‬ال أقارب‪ ،‬ال أبناء‬
‫عمومة و ال حتى أصدقاء ؟‪ .‬تساءلتُ في نفسي طيلة تلك األمسية الحارة و الثقيلة‪ ،‬التي طغت على أجوائها روائح‬

‫‪276‬‬
‫هاربة من الغابات المحترقة‪ ،‬و هو ما قاله لي عميروش حين عودتنا إلى البيت بنوع من التهكم و السخرية‬
‫الحزينة‪ ،‬ربما في محاولة للنسيان أو تناسي ما حدث في المقبرة‪....‬‬

‫_ إنه موسم إحراق غابات القبايل يا فتى !‪ ...‬أليس جميال أن يتزامن ذلك مع عيد االستقالل ؟ !‪...‬‬

‫طلب مني أن أنتظره أمام باب الدار إلى أن يطلب مني إدخال دلوي ماء كان قد وضعهما تحت شجرة بلوط‬
‫قريبة‪ ،‬ثم دخل إلى فناء منزل أبويه ليقوم بمساعدة والده على االستحمام‪ ،‬بعدما جهز له آنية معدنية كبيرة‪ ،‬ظل‬
‫الشيخ إيدير يفضل مألها بالماء صيفا و الدخول فيها لالستحمام و التبرد‪ .‬بينما يقوم ابنه بحك ظهره و تبديل الماء‪.‬‬

‫بقيتُ واقفا هناك شاردا تماما مع أفكاري أستعيد و أر ِّتّب كل ما جاد به يومي من أحداث رفقة هذا الرجل‬
‫الغامض الذي رأيته كبئر عميقة‪ ،‬كلما سحبت منها دلوا من األسرار و المعلومات أدركت أن ما يزال في قعرها‬
‫يفوق بكثير مما هو بين يدي‪ .‬تفقدتُ هاتفي المحمول‪ .‬أرختُ الوثيقة الصوتية التي تحمل الحديث الصباحي المبكر‬
‫آلغاكال حول ما س ّميته بـ'' أيدولوجية الطين '' خاصته‪ .‬ثم نقلت الملف من ذاكرة الهاتف نحو شريحة تخزين‬
‫معلومات رقمية‪ .‬نزعتها من الهاتف و وضعتها في جيبي حيث لن يصل إليها أحد‪ ،‬قبل أن تسحبني أفكاري مرة‬
‫أخرى و أنا أتفقد الساعة بين الحين و اآلخر‪ .‬كان يفصلنا عن موعد اإلفطار سوى نصف ساعة‪ .‬لذلك كثرت الجلبة‬
‫في فناء البيت‪ .‬كنتُ أسمع حركة و حديث نانه تاملسة و هي منهمكة في تحضير مائدة اإلفطار‪ ،‬قبل أن يأتيني‬
‫صوت آغاكال و هو يناديني بأن أحضر الدلوين و أدخل‪.‬‬

‫حملتهما ثم دفعت أحد مصراعي الباب الخشبي المهترئ بكتفي و أنا أطل برأسي أوال‪ .‬أشار إلي بالتقدم‬
‫فدخلت و أنا أقترب منهما‪ .‬كان الدا إيدير مقابال إياي بظهره في حين كان ابنه يجلس على جانبه األيمن و هو‬
‫صرف عبر قناة‬
‫مستمر في تفريغ آنية االستحمام المصنوعة من األلومينيوم من الماء الذي ابيض من الصابون‪ ،‬ال ُم َّ‬
‫صغيرة محفورة بعنياة‪ ،‬كانت تعبر تحت جدار الفناء الحجري‪ ،‬لتأخذ مجرا الماء العكر نحو المنحدر الذي يطل‬
‫على الجرف الصخري الذي بني البيت بالقرب منه‪.‬‬

‫بدى الدا إيدير أصغر حجما بكثير و هو من دون مالبس‪ .‬كان جسده نحيال جدا‪ .‬رأسه كبيضة نعام يغطيها‬
‫زغب أبيض خفيف‪ .‬ذراعيه كعودي شجرة زعرور‪ .‬عنقه كعنق سلحفاة‪ ،‬و ظهره مقوس بشكل جلي جعل عموده‬
‫الفقري أكثر بروزا‪ ،‬و أكثر من ذلك ‪ ،‬كان مليئا بندوب غائرة كانت تتوزع على طوله و عرضه !‪ .‬آثار لجروح و‬
‫حروق قديمة‪ ،‬و آثار لطلقين ناريين تحت كتفه األيسر ال ريب أنهما من أيام حرب االستقالل‪ .‬كل تلك اآلثار جعلت‬
‫قشعريرة غريبة تسري في جسدي و تسمرني في مكاني‪ ،‬حتى قبل أن أضع الدلوين بالقرب من عميروش الذي‬
‫شوهت جسد والده‪ ،‬الذي كان‬
‫الحظ عالمات التأثر و االستفهام الكبيرة التي قفزت من وجهي نحو تلك اآلثار التي َّ‬
‫يبدو غير مبال بوجودي و هو يستمتع بحمامه كأنه رضيع يوضع في الماء‪.‬‬

‫_ ضعهما هنا يا أقشيش‪ .‬سوف يوضع اإلفطار بعد قليل فال تبتعد كثيرا‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫وضعتُ اآلنيتين ثم انصرفت في صم ت‪ ،‬و طبعا بعد يوم مثخن بمختلف األحاسيس المتناقضة‪ ،‬كان صعبا‬
‫علي أن أبتلع تلك اللقيمات القليلة من الكسكسي‪ ،‬في حين كان آغاكال أول من نهض من أمام المائدة‪ ،‬فحضوره‬
‫اليومي هو من أجل مجالسة والديه و مشاركتهما بعض الطعام‪ ،‬كونه ال يكلف نفسه الصيام أصال‪ .‬ألقل أن إفطار‬
‫تلك األمسية كان أقل حميمية و مرحا مما سبقه‪ .‬فنانه تاملسة كانت قليلة الثرثرة و الضحك‪ ،‬و الدا إيدير كان أكثر‬
‫شرودا مما هو عليه في العادة‪ .‬كنتُ أمضغ طعامي ببطء و تصنع و أنا ألقي بناظري إلى وجهه الشاحب بين الحين‬
‫و اآلخر‪ ،‬أجزم أنه يفكر فيما حدث البنه في المقبرة‪ .‬ثم رحتُ أفكر في تلك الندوب و الكدمات المزمنة التي يحتفظ‬
‫بها جلده األجعد و يغطيها قميصه المهترئ‪...‬‬

‫_ '' ما قصتك مع ابنك القتيل يا أغاكال ؟‪ .‬و أي نوع من القصص كنت لتحكيها لي يا دادّه إيدير‪ ،‬لو أمكنك‬
‫النطق فقط ؟ ''‪.‬‬

‫‪-22-‬‬

‫الّلب‬

‫التحقتُ مباشرة بورشة آغاكال الذي كان قد شغل دوالبه بعد اإلفطار مباشرة على غير العادة‪ .‬كان يدخن غلي‬
‫مشاغال من دون موسيقى‪ .‬كونه ال يفعل ذلك إال في فترات الصباح في الغالب‪ .‬دخلتُ عليه‪ .‬ألقيت إليه بنظرة‬

‫‪278‬‬
‫سريعة‪ .‬لم ينظر نحوي‪ ،‬فاتجهت نحو الغرفة و شغلت التلفاز‪ .‬دخنت سيجارتي األولى ذلك اليوم‪ .‬افترضت أنه‬
‫ربما يكون عكر المزاج لذلك ال فائدة من محاولة فتح حديث معه شبيه للحديث الذي جمعنا تلك الصبيحة‪ .‬لكن‬
‫صوته فاجأني تلك اللحظة‪ .‬خرجتُ من الغرفة إليه‪ ،‬فطلب مني أن أقوم بإحضار كريات الطين التي عند الباب‪.‬‬
‫خرجتُ و أنا أرم ي بأناملي إلى هاتفي المحمول أجهزه للتسجيل الصوتي ثم ألقيت به في الجيب الصدري‬
‫لقميصي‪ .‬حملتُ إليه كريات الطين التي كانت مرتبة على صفيح معدني واضعا إياه على جنبه‪.‬‬

‫_ أتريد مني أن أبدأ في العمل معك اآلن ؟‪.‬‬

‫_ ال‪ ..‬ال‪ ،‬أنت مشوش الذهن هذه األمسية كما أفترض‪ .‬لذلك قد يكون أداءك أسوء مما كان عليه أول مرة في‬
‫الورشة مع األطفال‪.‬‬

‫التزمت الصمت‪ ،‬كإشارة مني إليه على أنني فعال مشوش الذهن و أن أسئلة كثيرة تعبث به‪ ،‬فنظر إلي بسرعة‬
‫و بديهة عجيبة‪...‬‬

‫_ أظنني أفهم ما تمر به اآلن يا فتى‪ .‬لديك الكثير من األسئلة حولي و حول والدي‪ ،‬أسرتي‪ ،‬حول حياتنا في‬
‫تيميزر ‪ ،‬و بالرغم من محاولتك التهرب من طرحها علي‪ ،‬كونها ربما يجب أن تدخل في اإلطار اللبق لألشياء التي‬
‫ال تعنيك كشخص‪ ،‬إال أن غريزة الفضول الصحفي التي صقلتها سنوات عملك في هذا الميدان و تسربت إلى نفسك‬
‫و اندمجت في شخصك‪ ،‬تجرك جرا لتسألني حول أمور عائلية أو خاصة عديدة‪ ...‬أم أنا مخطئ ؟‪.‬‬

‫_ المشكلة هي أنني كغريب عن دياركم هذه‪ ،‬ال أزال عاجزا عن تحديد الخط الفاصل بين حياة الفرد و حياة‬
‫العائلة أو الجماعة هنا‪ .‬لهذا ال أعرف أي نوع من األسئلة يجدر بي طرحه في مواقف كهذه‪.‬‬

‫تنهد لحظة‪ ،‬ثم طفق يتحدث بصوت هادئ و نبرة تقترب إلى نبرات الكتاب في العادة و هم يستعرضون أفكارهم‬
‫في غير تحفظ‪...‬‬

‫_ قرى القبايل يا أقشيش أشبه بأشجار التين تماما‪ .‬أوراقها تشبه في شكلها شكل الورقة التي سترت عورتا آدم‬
‫و حواء حين تجرآ على أكل الثمرة المحرمة كما تذكره العقائد اإلبراهيمية‪ .‬إنها مورقة جميلة المنظر صيفا‪ ،‬يابسة‬
‫مخيفة الشكل في الشتاء‪ .‬ثمارها طيبة جدا بالنسبة لكل غريب أو سائح يتذوقها أول مرة‪ ،‬لكن بالنسبة لنا نحن الذين‬
‫ولدنا و ترعرعنا فيها‪ ،‬فإنا ال نعيش إال على بلبُّها األبيض ذو الطعم المر‪ ...‬و احزر !‪ ،‬نحن نحب قرانا رغم ذلك‪.‬‬
‫نحن نحب هذا الوطن رغم كل شيء‪.‬‬

‫توقف عن تشكيل طينه مرة أخرى‪ .‬أمسك سيجارته بأطراف أنامله و وضعها في المنفضة‪ .‬زاغ بصره قليال‬
‫على إحدى الجرار الموضوعة في الزاوية‪ .‬ثم هكذا و بكل بساطة راح يتحدث عن طفولته التي كانت كطفولة جل‬
‫أبناء جيله بحسب قوله‪ .‬كانت قاسية جدا في هذه القرية‪ .‬قال آغاكال بأنه ال يتذكر كل تفاصيل سنوات حياته‬
‫األولى‪ ،‬لكنه يتذكر جيدا حين تم أخذه و هو بين الثالثة و الرابعة إلى تلك العجوز التي قامت بكي صدغه كما كانت‬
‫تقتضي العادة‪ ،‬حتى تبتعد عنه األمراض كما كان يُقال‪ .‬خاصة و أن أمه‪ ،‬نانة تاملسة‪ ،‬كانت قد فقدت الكثير من‬

‫‪279‬‬
‫المواليد قبل أن يولد شقيقه آعراب الذي كان أول مولود نجى من الموت‪ ،‬تبعته شقيقته مليكة قبل أن يصل هو إلى‬
‫هذا العالم و يكون األخير من أبناء إيدير آفاو‪ .‬قيل له أنه و عند والدته‪ ،‬سارعت العجوز القابلة إلى وضع شيء‬
‫من الملح في فمه حتى تمنعن تسلل األرواح الخبيثة إلى جسده‪ ....‬معتقدات أمازيغية منقرضة‪ ،...‬لكنه يتذكر ختانه‬
‫جيدا أيضا حيث تم مع الكثير من أترابه في ليلة من ليالي المولد النبوي‪ .‬أولى األشياء التي بدأت تتكدس في ذاكرة‬
‫ْ‬
‫المست فيها‬ ‫عميروش هي فصل الشتاء و برده القارص الذي يجعل أطراف البدن تتنمل‪ .‬قال بأنه يتذكر أول مرة‬
‫أنامله ندف الثلج المتساقط عند عتبة باب الدار حين خطى خطواته األولى نحوه‪ .‬المنظر مشوش قليال بالنسبة إليه‪،‬‬
‫لكنه احتفظ ببعض التفاصيل الصغيرة‪ .‬الجو الذي يشع بياضا في الخارج‪ .‬و ظلمة البيت التي تظهر خاللها وجوه‬
‫بعض النساء مجتمعات حول الكانون الموقد بالعيدان المجففة‪ .‬قال بأنه يتذكر صراخ جدته الدائم‪ .‬قسوتها الشديدة‬
‫في التعامل معهم جميعا‪ .‬كان دائم السؤال عن السبب الذي جعلها كذلك‪ ،‬فكان يُلح على خالته الصغرى علجية‬
‫لتعطيه جوابا مقنعا‪ .‬كانت تكتفي بالقول ضاحكة أن كل العجائز قاسيات بالطبيعة‪ ،‬و هو ما أثار خوف عميروش‬
‫طويال‪ ،‬كونه علم أن كل النساء حين يكبرن في السن يتحولن إلى عجائز‪ ،‬و هكذا كان يتصور أمه التي لم يعرف‬
‫ألطف منها تتحول إلى عجوز نكدة و شرسة‪ ،‬تمضي جل أيامها في سب و شتم و لعن كل من يمر من أمامها‪ ،‬بل‬
‫و قذفه بأي شيء يقع في يدها‪.‬‬

‫أطلق ضحكة و هو ينظر إلي هازا حاجبيه‪ ،‬ثم عاد ليغوص داخل رأسه كمن يستمر في تقليب صفحات دفتر‬
‫قديم يخبيئه في مكان عميق‪ ،‬حين كان هاتفي الخلوي يسجل قصته‪....‬‬

‫كبر عميروش في منزل والده الذي كانت تملؤه النسوة و يغيب عنه الحضور الرجالي إال نادرا‪ .‬حين كبر‬
‫قليال علم أن له أبا قيل له عنه أنه '' مجاهد '' يُحارب الروميين و يختبئ في هذه الغابات و الجبال‪ ،‬التي طوقت‬
‫عالم طفولته بشكل جعله يعتقد بسذاجة الصبي أن الكون يتوقف عند أفقها‪ .‬طبعا لم يكن يفهم بعد َلم كان يحارب‬
‫هؤالء الروميين الذين طالما تم تصويرهم له و ألترابه على أنهم ضخام األجسام‪ ،‬شقر الرؤوس‪ ،‬صفر الوجوه‪،‬‬
‫يأكلون لحم الجيف و الخنزير و يتزاوجون أمام الملء كما تفعل الكالب‪ ،‬و هي صورة زرعت في نفسه الخوف و‬
‫الكره تجاه هؤالء الذين لم يكونوا في مخيلة أطفال القرية سوى غيالن بشعة‪ ،‬كتلك التي كانوا يعتقدون أنها تعيش‬
‫إيول‪.‬‬
‫بجوارهم في تيزڨي أوس َ‬

‫لكنه أكد على أن خوفه األكبر كان دوما من الحركى‪ ،‬كونهم و وفقا لما كان يُحكى ألطفال القرية‪ ،‬كانوا أناسا‬
‫تعرضوا لعضات الروميين فتحولوا إلى كائنات تشبههم في األفعال مع احتفاظهم بمالمحهم القبايلية‪ ،‬أي أنهم كانوا‬
‫يعيشون بين القرويين متربصين في صمت‪ ،‬ينتظرون الفرصة المواتية لالنقضاض عليهم و قتلهم‪ ،‬أو عضهم و‬
‫تحويلهم إلى مسوخ شبيهة بهم في أسوء األحوال‪ .‬هي الفكرة التي أثارت رعب عميروش ليال لوقت طويل‪ ،‬إلى‬
‫درجة جعلته يصاب بالريبة و الرعب من معظم الجيران‪ .‬لكنه بدأ يفهم وفقا إلدراكه الطفولي َلم كان والده‪ ،‬الدا‬
‫إيدير‪ ،‬و من معه يحاربون الحركى و إيرومين‪ ،‬الذين قيل له بشأنهم أنهم جاءوا بضع مرات إلى تيميزر حين كان‬
‫رضيعا و أنهم فعلوا األفاعيل‪ .‬عذبوا و قتلوا و أحرقوا المنازل‪ ،‬إلى اليوم الذي عادوا فيه إلى القرية مرة أخرى‪.‬‬
‫كان يوما شتويا ممطرا خيم عليه ضباب كثيف على القرية‪ .‬كان ذلك في أوائل عام ‪ 10‬و كان عميروش في‬

‫‪280‬‬
‫الرابعة من العمر تقريبا‪ ،‬حين استفاق بعد الظهيرة من نومه على جلبة غير طبيعية في البيت و في القرية ككل‪،‬‬
‫حين نودي على الجميع بالخروج و الوقوف في تاجماعت بأمر من ضابط الوحدة العسكرية التي جاءت‪ .‬كانت تلك‬
‫المرة األولى التي يلمح فيها الطفل روميا‪ .‬كانوا من المظليين‪ ،‬أو '' إيفيسن '' ( الضباع ) كما كانوا يلقبونهم في‬
‫القرية‪ .‬لكن ما أثار انتباه عميروش يومها هو أنهم كانوا بشرا عاديين‪ .‬لكنهم بدوا طويلي القامة و زرق العيون‪.‬‬
‫اعتقد الطفل أنها هيئة مزيفة و كان يترقّب تحولهم في أية لحظة‪ ،‬لكن ذلك لم يحدث‪ .‬كانوا قد أتوا رفقة بعض‬
‫الحركى الذين كانوا يغطون رؤوسهم بأكياس من القش‪ ،‬جاءوا رفقتهم ليدلوهم على البيت الذي اجتمع فيه عناصر‬
‫جيش التحرير قبل أيام قليلة‪ .‬لم يمكن لعميروش أن يرى ما فعلوه بصاحب البيت الذي كان شخصا سكيرا و فاسقا‬
‫كما كان يُشاع عنه‪ .‬لم يتوقع أحد أنه في الحقيقة كان متعاونا مع جيش التحرير‪ ،‬خاصة و أنه كان دوما يتلقى‬
‫رسائل التهديد من الجبل بسبب سوء خلقه‪ ....‬من كان ليصدق أنه مسبّل في الحقيقة ؟‪.‬‬

‫_ ماذا حدث له ؟‪.‬‬

‫قاطعتُ عميروش بفضول‪ ،‬فقال بأنهم أشبعوه ضربا رفقة ثالثة من أبنائه‪ .‬قلبوا منزله رأسا على عقب‪.‬‬
‫ضربوا والدته العجوز حين حاولت أن تمنعهم من ضرب أحفادها‪ .‬و بعد نحو ساعة من التعذيب و االستنطاق‪ ،‬و‬
‫جره ضابط من شعره و هو شبه عار‬
‫بعدما زاد سوء األحوال الجوية و مال اليوم الشتوي إلى نهايته السريعة‪ّ ،‬‬
‫وسط تاجماعت و أخذه محاطا بجنوده إلى حافة الجرف الصخري‪ ،‬ليس بعيدا من بيت الدا إيدير‪ ،‬أين أطلق عليه‬
‫رصاصة في الرأس ‪ ،‬ثم ألقى به إلى أسفل المنحدر أمام صراخ والدته العجوز و عويل زوجته و هما تشاهدان‬
‫جثته تتدحرج إلى أسفل الواد أين اختلطت أحشائه بالوحل‪ .‬اعتقل اثنين من أبنائه رفقة خمسة شباب آخرين من‬
‫القرية و أخذوا جميعا‪ ،‬حيث لم يعد سوى رجل واحد منهم بعد وقف إطالق النار ربيع ‪ .14‬لقد كان االبن األصغر‬
‫لذاك الشهيد‪ .‬طبعا عاد و هو يشكو خطبا ما في نفسه‪ ،‬إذ لم تكتمل فرحة أمه و جدته به‪ .‬لقد مكث طويال ال يحادث‬
‫أحدا و ال يبتسم مطلقا‪ ،‬حتى اختلى بنفسه في غابة األحاديث أليام طويلة‪ ،‬ثم ُوجد بعدها و قد شنق نفسه في شجرة‬
‫بلوط‪ ،‬أيام قليلة فقط قبل استفتاء تقرير المصير‪ .‬جدته المسكينة ظلت تصر على أنه لم يكن الفاعل‪ ،‬بل األرواح‬
‫الخبيثة التي تفيض بها الغابة‪ .‬ماتت المسكينة بعد أشهر قليلة من االستقالل بسبب الحزن و الحسرة على حفيدها‪.‬‬

‫مد آغاكال يده نحو آنية الماء على يساره و راح يعيد تبليل و ترطيب قطعة الطين التي كانت تدور على‬
‫دوالبه و هو يتنهد قائال‪...‬‬

‫_ أعتقد أني ال أزال أتذكر صوت تلك الطلقة التي أنهت حياة والده‪ .‬على كل‪ ،‬كانت سنوات قاسية‪ ،‬رغم أننا‬
‫نحن أطفال القرية كنا نوجد أوقات السعادة و المرح من ال شيء‪ .‬أمي كانت تعلينا بفضل حرفتها التي ورثتها عن‬
‫جدتي‪ .‬لقد أنقذتها صناعة الطين من التسول‪ .‬لكن عدد أفراد األسرة كان معتبرا‪ ،‬من جهة العمات‪ ،‬فأسرة أبي كانت‬
‫تشكو من صراعات كبيرة حول النزر القليل من الميراث الذي خلفه األجداد‪ ،‬لكن سبب إفالس أسرتنا أصال‪ ،‬و‬
‫كما هي حال جل األسر القبايلية‪ ،‬يعود أساسا إلى تلك الصراعات العبثية التي تتضاعف حول الميراث كلما توفي‬
‫رب األسرة المسيطر‪ ،‬بحيث يؤدي ذلك في النهاية إلى انهيار مقدراتها االقتصادية التي بنيت من طرف جيل‬
‫كامل‪ .‬هذا ما هضم حقوق الكثير من أفراد أسرة آفاو و شتت شملها‪ .‬كنا حفاة و جياعا معظم الوقت و قد كبرت و‬

‫‪281‬‬
‫أنا أعتقد أن كل الناس يعيشون نفس الوضع من قلة الطعام و المصادر‪ .‬لكن حين أفكر في األمر من وجهة نظر‬
‫أخرى‪ ،‬أعتبر نفسي أكثر حظا من بعض أطفال القرية آنذاك ؟‪ .‬هناك من كانت حالته المادية أسوأ بكثير‪ .‬هناك‬
‫أيضا من شاهدوا فظائع العسكر االستعماري بأعينهم في حين ال أكاد أذكر شيئا من ذلك‪ .‬أنا لم أر شيئا من ذلك‪،‬‬
‫كوني بدأت أتذكر تفاصيل األشياء إال مع سنوات االستقالل األولى‪.‬‬

‫_ أليس ذلك جيدا ؟‪ ،‬أن تبدأ ذاكرتك الكاملة في توثيق سنوات بداية االستقالل و ما حمله من فرح و احتفاالت‬
‫و فخر ؟‪.‬‬

‫التفت إلي مطلقا نظرة تهكم‪ ،‬ثم عاد لينكب على عمله يخبرني أنه يذكر أن والده‪ ،‬الدا إيدير‪ ،‬كان قد عاد بعد‬
‫وقف إطالق النار و مكث مع العائلة أطول مدة يذكرها عميروش في البيت‪ .‬كان صيفا ال يُنسى بالنسبة إليه طفل‪.‬‬
‫كان مضطربا جدا تجاه هذا الرجل ذو الواحد و الثالثين ربيعا‪ ،‬الذي ظل غائبا عن حياته لسنوات طوال‪ .‬حتى حين‬
‫كان يأتي مرة كل أربعة أو خمسة أشهر كان يبيت ليلة واحدة‪ ،‬ثم يرحل في الصباح الباكر حيث يعيش ابنه حالة‬
‫شديدة من اإلحباط حين ينهض من فراشه و يقال له أنه قد رحل‪ .‬أما تلك األيام فقد كان وجوده طاغيا على البيت‪،‬‬
‫طاغيا جدا‪ ،‬إلى درجة أن عميروش كان يشعر بشيء يشبه االختناق و يجد حركته ثقيلة و صعبة جدا داخل الدار‪.‬‬
‫صمت هنيهة ثم قال بأنه ال يزال إلى اليوم عاجزا عن تفسير ذلك‪ ،‬فقد كان األب لطيفا و عطوفا على أبنائه و‬
‫بخاصة ابنه األصغر‪ ،‬لكن هذا األخير كان يتفادى إطالة االحتكاك به‪ .‬كان رفاقه في السالح يخبرون عميروش‬
‫سمي عميروش تيمنا بالعقيد عميروش الذي أرعب الروم لسنوات‪ ،‬و أن الدا إيدير‬
‫كلما التقوا به في تاجماعت‪ ،‬أنه ُ‬
‫ظل يفتخر كون هذا القائد و حين زيارته للقرية قبل مولد أغاكال بأسابيع قليلة‪ ،‬كان قد ربت بيده على كتفه حين‬
‫أسمعه شعرا قبائليا أعجبه‪.‬‬

‫_ مهال‪ ...‬مهال !‪ .‬عمي إيدير كان شاعرا ؟‪ ،‬و قد التقى بالعقيد عميروش شخصيا ؟ !‪.‬‬

‫قال بأن الذين عرفوا الدا إيدير جيدا قبل أن يفقد القدرة على النطق‪ ،‬كانوا يجزمون على أنه خليفة يوسف‬
‫أوقاصي‪ ،‬أشهر شاعر عرفته بالد القبايل في تاريخها‪ .‬لقد كان‪ ،‬رغم أنه ال يقرأ و ال يكتب‪ ،‬أفصح قبايلي لسانا‪،‬‬
‫ليس في تيميزر وحدها‪ ،‬بل في كل المنطقة‪ .‬كان شاعرا و كان فوق ذلك يحفظ مئات األشعار القبايلية القديمة جدا‪،‬‬
‫بما فيها أشعار يوسف أوقاصي و محند أومحند‪ .‬تنهد عميروش بعمق و الحصرة تتطاير في أنفاسه‪ .‬أخبرني كم‬
‫من األسى ينتابه حين يفكر أنه لم يخطر على بال أحد توثيق تلك الكنوز األدبية األمازيغية التي كانت تصنع ربيعا‬
‫أبديا داخل رأس والده‪ ...‬و عودة إلى سؤالي‪ ،‬فنعم !‪ ،‬لقد جاء عميروش العظيم قبل أن يكون عقيدا إلى هنا‪ .‬وصل‬
‫إلى حواشي القرية و لم يدخلها‪ ،‬لكنه سمع بأن الدا إيدير كان شاعرا فصيح اللسان‪ ،‬فأراد أن يسمع منه‪ ،‬فأسمعه‬
‫بعض القصائد الثورية التي أبدعها الجدي الشاب تلقائيا و من دون قلم أو ورقة‪ ،‬فأعجبت عميروش كثيرا‪ .‬شجعه‬
‫و ربَّت على كتفه األيمن‪ .‬القصة التي ظل الدا إيدير ير ِّدّدها بفخر شديد و هو ينظر بزهو إلى كتفه األيمن كلما‬
‫قصها على الناس‪.‬‬

‫_ جميل !‪ .‬إذن‪ ...‬مكث عمي إيدير معكم أطول مدة بعد وقف إطالق النار‪ ....‬ثم ؟‪...‬‬

‫‪282‬‬
‫أعاد سؤالي آغاكال من تأمالته الحميمية‪ ،‬فعاد يدور الصلصال بين يديه مستمرا في الحكي‪...‬‬

‫_ كنتُ قد ألفت وجود والدي في البيت‪ ،‬لكن األخبار التي كانت تأتينا من بعيد كانت مقلقة‪ ،‬كانت تقول بأن‬
‫هنالك حربا مستعرة بين الجزائريين أنفسهم‪ .‬كنا نسمع دوي المدفعية في بعض الليالي الصافية من تلك الصائفة‪ ،‬و‬
‫هو ما كان يربكني و يجعلني أخشى ظهور شكل جديد من الكائنات الغريبة‪ ،‬التي تنتج عن تحول هؤالء‬
‫الجزائريين إلى مسوخ جديدة تأكل لحوم البشر‪ ،‬أو شيئا من هذا القبيل‪.‬‬

‫_ كانت تلك اشتباكات جيش الحدود مع جيش الداخل‪....‬‬

‫أومأ برأسه أن نعم ببسمة ساخرة و هو يلقي بكرة طين أخرى فوق صحن الدوالب‪...‬‬

‫_ هه ما أسخف تقسيمات الجزائريين !‪ ...‬جيش الحدود‪ ...‬جيش الداخل‪ ...‬جماعة تلمسان‪ ...‬جماعة تيزي‬
‫وزو‪ ...‬المهم‪ ،‬كانوا يقولون لنا أن األمور سيئة و تنبئ بحرب أهلية بين الطرفين‪ ،‬لكن طبعا الحرب األهلية كانت‬
‫فعال قد اشتعلت‪ ،‬رغم أن االشتباكات لم تصل إلى هنا‪ ،‬إال أن االضطرابات تواصلت‪ .‬كنتُ فقط أخشى أن يعود‬
‫أبي لحمل السالح و يغيب مرة أخرى عني‪ ،‬لكن ذلك لم يحدث‪ ،‬كونه كان يشكو من تلك اإلصابات التي تعرض‬
‫لها في الحرب األولى‪ .‬سمعته ذات يوم و هو يتذمر في المقهى قائال بأنه ضاق ذرعا بهذه الحروب و أنه قدم ما‬
‫استطاع من أجل هذا البلد و قد حان وقته ليعتني بأسرته الصغيرة و فقط‪ ،‬إذ يكفيه ما عناه في الجبل طيلة ‪19‬‬
‫سنوات‪ .‬يكفيه آثار الرصاص و األسالك الشائكة و شظايا القذائف التي تزخرف جسده و أطرافه‪ ...‬و يكفيه آثار‬
‫الجلد الذي تعرض له على أيدي إخوة السالح أيضا‪....‬‬

‫_ تقصد تلك اآلثار على ظهره‪ .‬ماذا حدث ؟‪.‬‬

‫_ ماذا حدث ؟‪ ،‬أبي كان و لسوء حظه ضحية من ضحايا مؤامرة البلويت التي دبرتها المخابرات الفرنسية و‬
‫كادت تجهز على الثورة كلها‪ .‬ألقي عليه القبض رفقة الكثير من الجنود على أيدي رفاق لهم‪ .‬أتهموا زورا بالتخابر‬
‫مع العدو‪ .‬استنطقوا‪ .‬عذبوا‪ ...‬فيهم من لفظ أنفاسه تحت التعذيب‪ .‬أبي تم تعليقه رأسا على عقب إلى شجرة دردار‬
‫لساعات و تم جلده بعيدان الخيزران التي تركت فيه بصماتها البشعة إلى األبد‪ .‬صديق له حكى لي بعد سنوات أنه‬
‫فقد وعيه عدة مرات بسبب ذلك التعذيب‪ .‬حين أراد مسؤوله المباشر‪ ،‬و قد كان يتلذذ بتعذيبه بسبب حزازات سخيفة‬
‫سابقة وقعت بينهما‪ ،‬حين أراد قتله أخيرا‪ ،‬جاءت األوامر من قيادة أركان العقيد عميروش بأن تتوقف عمليات‬
‫التحقيق و االستنطاق و يُخلى سبيل كل العساكر الموقوفين‪.‬‬

‫تنهد آغاكال‪ .‬صمت قليال و كأنه يأخذ استراحة قصيرة من وجع السرد‪ ،‬ثم نظر إلي‪....‬‬

‫_ أعتقد أن البلويت و صدمتها العاطفية الكبيرة‪ ،‬كانت السبب الرئيسي الذي جعل أبي يقرر مع نفسه عدم‬
‫التورط في أي حرب أخرى قد تشتعل في هذا البلد‪ .‬لعله أدرك في قرارة نفسه أن الفظاعة التي تأتيك من شقيقك‬
‫تكون عادة أكبر و أقسى و أكثر إذالال من تلك التي تأتيك من عدوك الصريح‪ .‬لقد فهم ببديهته ما يمكن للجزائريين‬

‫‪283‬‬
‫أن يفعلوه في بعضهم البعض‪ ،‬حين تسقط االعتبارات األخالقية و القوانين المدنية بينهم‪ .‬لهذا كان مالك بن نبي‬
‫يحذر بشدة من أن ننتزع بلداننا من طغيان الكبار لنلقي بها فريسة لحقد الصغار‪.‬‬

‫_ أوافقك الرأي تماما‪ ...‬أوافقك الرأي !‪.‬‬

‫أجبته و أنا أتذكر فكرة '' البذرة الحمراء المشعة '' التي كانت تلتهم أعماق نفس الفرد الجزائري أيام حرب‬
‫التحرير‪ .‬كنتُ أشعر بنشوة عارمة تلك اللحظة التي أكد فيها آغاكال األمر نفسه‪ ،‬بطريقته الخاصة‪ ،‬قبل أن أعود‬
‫إليه و أدفعه بتأن و حذر ليبوح لي بالمزيد‪...‬‬

‫_ ‪ ...‬إذن يا سي عميروش‪ .‬لم يعد الدا إيدير إلى حمل السالح غداة حرب ‪ 12‬؟‪.‬‬

‫قال لي بأن الكثير من شباب القرية أرادوا حمل السالح و االلتحاق بصفوف جبهة القوى االشتراكية التي‬
‫كان يقودها أيت أحمد‪ .‬قال بأن البعض اعتبر ذلك خطأ جسيما وقع فيه الرجل الرمز‪ ،‬كونه دعى الجزائريين لحمل‬
‫السالح على بعضهم بعد حرب تحررية مضنية ناهزت العقد من الزمن‪ ،‬في حين رأى البعض اآلخر أنه لم يكن‬
‫أمام الرجل خيار آخر‪ ،‬كون البلد كان قد وقع في قبضة طغمة من االنتهازيين الذين ظلوا يختبئون وراء الحدود‬
‫طيلة سنوات الثورة‪ ،‬يك ِّدّسون السالح المصري و السوفياتي‪ ،‬منتظرين لحظة االستقالل ليدخلوا بقواتهم متوجهين‬
‫صوب العاصمة إلسقاط الحكومة المؤقتة و أخذ السلطة عنوة‪ ،‬و هو ما شكل انقالبا صارخا على لوائح مؤتمر‬
‫الصومام و بيان أول نوفمبر‪ .....‬كنتُ فقط أنصت مجدَّدا إلى أصداء التاريخ المضطرب للبلد‪.‬‬

‫تحدث آغاكال عن مجيء ما سماه '' عسكر بومدين '' إلى المنطقة بحثا عن '' المتمردين القبايل '' و المتعاونين‬
‫يدورها و يشكلها بين يديه‪ .‬أحسست به و هو يحاول إحياء‬
‫معهم‪ .‬تشنجت أصابعه فجأة حول الطين التي كان ّ ِّ‬
‫ذكرى عاصفة ما ليتقاسمها معي و أعترف أن أنانيتي الصحفية منعتني من مواساته و إخباره بأنه ال داعي للحديث‬
‫عن األمر إن كان ال يُحتمل‪.‬‬

‫كان الرجل يدفع نفسه دفعا إلخراج ما في صدره‪ .‬أخبرني أن قوات بومدين ألقت القبض على الكثير من‬
‫الجنود السابقين في جيش التحرير للوالية التاريخية الثالثة و قد كان والده من بينهم‪ .‬عبثا حاول في تلك اللحظة‬
‫السيطرة على مشاعره و هو يتحدث عما حدث لهم‪ .‬فقد استنطقوا و عذبوا على أيدي من وصفهم بجنود الجالد‬
‫الجديد‪ .‬و لسوء حظ الدا إيدير مرة أخرى‪ ،‬فقد وجد نفسه مقيدا إلى وتد إسطبل رفقة البقية من رفاق السالح‬
‫السابقين‪ ،‬يتلقون الركالت و اللكمات و السباب تحت جزمات عسكرية '' جزائرية '' هذه المرة‪ .‬فجأة دمعت عينا‬
‫آغاكال و هو يطلق بسمة ساخرة‪ .‬كانت تلك أول مرة أرى فيها دموعه‪ .‬كان يعبر بها في الحقيقة عن حزنه و‬
‫المروعة‪ ،‬يُخبرني بأنهم حين اطلعوا على آثار الرصاص التي بقي كتف و بطن‬
‫ّ ِّ‬ ‫غضبه الشديد على تلك المفارقة‬
‫الدا إيدير محتفظا بها من معاركه السابقة ضد العسكر الفرنسي‪ .‬قاموا بإطفاء أعقاب سجائرهم عليها و هم‬
‫يقهقهون‪ .‬قال بأنهم كانوا يخبرونه و السخرية تتقاطر من وجوههم السمراء الهزيلة بأنهم يفعلون ذلك كي يتأكدوا‬
‫من كونه فعال مجاهدا حقيقيا ال مزيفا‪ ،‬بما أن تلك الفترة كانت قد عرفت تكاثرا فيروسيا فظيعا للمدَّعين زورا و‬

‫‪284‬‬
‫كذبا أنهم شاركوا في حرب االستقالل !‪ .....‬قبل أن أسمع ما يشبه الشهقة التي انزلقت آغاكال و هو يحاول أن‬
‫يتمالك نفسه بصعوبة كبيرة‪...‬‬

‫_ حين فكوا وثاقه لم يقوى على الوقوف على ساقيه بسبب تنمل أطراف جسده الهزيل‪ .‬تقدم إليه أحد الجنود و‬
‫قام بدفعه بكل قوة نحو الباب‪ ،‬فتعثر أبي و هوى برأسه على حجر غير ظاهر كان مغطى بالتبن‪ُ .‬‬
‫شج رأسه و‬
‫أغمي عليه‪ .‬لم يسمح ألحد بالتحرك من القرية لذلك لم يستطع الجماعة أخذه إلى مستشفى المدينة‪ .‬حين استفاق بقي‬
‫يشكو الدوار و الغثيان و كان عاجزا عن الحديث‪ .‬ظن الجميع أن ذلك بسبب الصدمة‪ ،‬لكنهم فوجيئوا بعد أيام‬
‫بالرجل و قد فقد القدرة على النطق نهائيا و تحول إلى الدا إيدير الذي تعرفه اليوم‪ .‬لقد سلبني االحتالل لذة الجلوس‬
‫إلى جانبه سنوات طفولتي األولى‪ ،‬و سلبني االستقالل لذة الحديث إليه و االستماع إلى أشعاره سنوات شبابي يا‬
‫أقشيش !‪.‬‬

‫هز هذا الكالم كياني‪ .‬صدمني في الصميم إلى درجة أني أحسست بانقباض مفاجئ في معدتي‪ .‬حتى أن بدني‬
‫اقشعر بطريقة غير مسبوقة‪ .‬قشعريرة كانت أقرب من هياج كلي لبشرة الجسد تجاه مؤثر خارجي ال يطاق‪ .‬زاغ‬
‫بصري حين كنت أحاول استحضار الموقف و استشعار أثره الكامل على نفسية و قناعات رجال أحرقوا زهرة‬
‫شبابه م في الجبال من أجل استرداد هذا الوطن‪ ،‬فكان أن تمت مكافأتهم بهذا الشكل و في غرة أيام النصر و‬
‫االستقالل ؟‪ .‬يبدو أن الموسطاشيا و الحهر أشر و أشرس و أفظع مما توقعت على اإلطالق‪ ،‬و ما فعلناه نحن في‬
‫هذا البلد و في بعضنا البعض قد كان أكثر بشاعة مما فعله الطاغية األشقر !!!‪ .‬ماذا يعني أن نعمد إلى استبدال‬
‫ندوب المستعمر بندوب أبشع منها‪ ،‬نفتعلها بأيدينا ؟‪ .‬ما هي الرسالة التي كنا نريد أن نبعث بها إلى التاريخ بل و‬
‫إلى أنفسنا ؟‪ .‬ما هي القيمة التي كنا نود أن نمحقها محقا عن جهل أو عن قصد ؟‪ ...‬لقد كنا فعال نود التبرز في‬
‫البلد‪ ،‬نكاية في الفرنسيين و نكاية في أنفسنا‪ ...‬إنه في النهاية ذاك السوء المنغرس في ذاتنا الجزائرية العليلة ؟ !!‪.‬‬

‫كنتُ ماض في التأكد قطعا من قوة الفرضيات التي كنتُ قد وضعتها في بداية بحثي عن معضلة هذه األمة‪.‬‬
‫الحقيقة التي رأيتها من بعيد في بداية بحثي أول مرة‪ ،‬كنتُ أضع يدي على قرفها الالمتناهي تلك اللحظة و أنا أسمع‬
‫تلك الشهادات من فم آغاكال‪ .‬تلك حقائق لم يطلع عليها الجزائريون في كتب التاريخ الرسمية المليئة بالكذب و‬
‫التزييف و العموميات على ما يبدو ؟‪ .‬لكن بعد لحظة تفكير و تأمل عقالني قلتُ لنفسي‪ :‬من منا كان ليحتمل حمل‬
‫حقيقة كهذه في قلبه ؟‪ .‬سألتُ نفسي متنهدا و أنا أفترض أن أحداث كهذه قد حفرت بعنف و عمق في نفوس أبناء و‬
‫عوائل هؤالء القوم‪ .‬تراءت لي نظرة الفتى سيفاقص األشقر تلقائيا‪ ،‬يوم تم اعتقاله من على محرك سيارتي‪ ،‬و ال‬
‫أدري َلم لم أفكر في أي قبايلي آخر غيره تلك اللحظة‪ .‬لكن‪ ....‬كم من قصة صحفية ؟‪ ،‬كم من رواية ؟‪ ،‬كم من‬
‫كتاب ؟‪ ،‬كم من دراسة ؟‪ ،‬كم من سلسلة وثائقية أو تلفزيونية ؟‪ ،‬كم من فيلم يمكن توثيق هذه األحداث من خالله ؟‪.‬‬

‫_ نسيت أن أخبرك يا أقشيش‪ ،‬لقد تركت لك أمي صحنا من ثمار التين الشوكي في الثالجة الصغيرة‪ .‬قد‬
‫ترغب في تناوله على السحور‪ .‬إنه حلو و منعش‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫أعادني صوت آغاكال إلى اللحظة‪ .‬قبل أن يعود هو لينغمس كلية في عمله بصمت مطبق‪ ،‬كأنه غطاس أنقذني‬
‫من الغرق للتو‪ ،‬ثم عاد راجعا بهدوء إلى عمق بحيرته الصامتة في منتصف ليلة هادئة‪ ،‬ليختلي بنفسه تحت مياهها‬
‫الداكنة و قاعها الذي يخبئ أسرارا بعيدة‪ .‬فهمتُ أنه قد وصل إلى بعض األشياء التي تقلب مواجع طفولته‬
‫المشحونة بالبؤس و الحيرة و حتى الغل و الغضب‪ .‬انسحبتُ في صمت و أنا أمد أصابع يدي نحو هاتفي ألوقف‬
‫التسجيل‪ .‬و لغرابة الصدف أني أنهيت سهرتي تلك مع فيلم العفيون و العصا للعمالق أحمد راشدي‪ ،‬الذي بثته‬
‫إحدى الفضائيات الجزائرية بمناسبة عيد االستقالل‪ .‬امتزجت لقطات الفيلم الذي يحكي عن أيام الكفاح المسلح في‬
‫ْ‬
‫امتزجت فيها حرب االستقالل‬ ‫هذه الجبال ذات الروح التمردية الغريبة‪ ،‬مع نومي الذي حمل لي أحالما مختلطة‪،‬‬
‫مع الغابات و الجبال و قصف المدفعية و المسيرات المحتفلة باالستقالل و صرخات التهديد و الوعيد و المؤامرات‬
‫و االنقالبات و أحقاد اإلخوة‪ .‬أعتقد أني كنتُ أسمع نفسي و أنا أصيح في المنام بين أحجار منازل تيميزر التي‬
‫أثخنها طعم قنابل طائرات الفرنسيين‪ .‬كنتُ أصيح على عمي إيدير‪ '' :‬إيدير‪ُ ....‬مت واقف !! ''‪....‬‬

‫‪-23-‬‬

‫عصفور النحس‬

‫‪ .4102/19/01‬الرجل يبدو متحمسا جدا ليتقاسم معي صفحات من ماضيه‬


‫الطفولي التي اقترنت مع الماضي الثوري لهذه القرية المعزولة‪ ،‬و هو ما يجعلني‬
‫أتساءل بواقعية عن الدافع األساسي من وراء ذلك‪ :‬هل يريد جذبي إليه أكثر و كسب‬
‫ثقتي بالمقابل لغاية ما ؟‪ .‬أم هي مجرد رغبة في سرد حياته كونه يعيش ما يشبه‬
‫العزلة التامة وسط مجتمعه و ال يجد مع من يتقاسم أفكاره ؟‪ .‬أم هي مجرد عملية‬
‫تمويه تمكنه من سحبي نحو ماضيه و ماضي أبوية للحديث عن مسائل اجتماعية‪،‬‬
‫سياسية و تاريخية عامة تأخذ شكال هامشيا بالتدرج‪ ،‬حتى يبعدني عن طرح أسئلة قد‬

‫‪286‬‬
‫تكون لها صلة بموضوع هذا الحراك االجتماعي‪ ،‬الذي يُفترض بالرجل أنه المنظر أو‬
‫المد ِّبّر الرئيسي له ؟‪ .‬أم هو العكس تماما ؟‪ .‬على كل فمستواه الفكري و الثقافي كان‬
‫مفاجئا لي‪ ،‬و ال أدري َلم أشعر طول الوقت أنه يُدرك بشكل ما دوافعي الخفية من‬
‫االحتكاك به‪ ،‬بل إنه لم يعد محترسا من ذلك كما كان في السابق ؟‪ ،‬خاصة بعدما‬
‫قاسمته بدوري الكثير من أفكاري التي أكتب مقاالتي انطالقا منها‪ ،‬فقد استمع مطوال‬
‫و بتركيز لحديثي عن البذرة القبيحة و أم الثمرات الخبيثة و الكلب الجزائري الشرير‬
‫القذر‪ .‬قصتي مع تطوير مفهوم مرض الموسطاشيا و وباء الحهر اللذان صارا‬
‫مصطلحين إعالميين معروفين‪ .‬لقد انفتح الرجل أكثر على تبادل األفكار معي و هو‬
‫ما رأيته خطوة أخرى نحو ما أسعى إليه‪ .‬سيدفعني ذلك للنبش أكثر في ماضي حياته‬
‫الخاصة‪ ،‬كونه يبدو مرتبطا بشكل حاسم بالمواقف و القناعات السياسية التي قد يحملها‬
‫أو يتبناها‪ ،‬و التي يبدو – حتى اآلن – غير متحفظ بالبوح بها لي ؟‪ .‬ال أزال في بداية‬
‫اكتشاف و تفكيك ذهنية الرجل‪ .‬هدفي الحالي هو أن أصل إلى تحديد طبيعة قناعاته و‬
‫مواقفه من بعض المواقف الوطنية و العربية‪.‬‬

‫أوقفت التسجيل الصوتي‪ .‬رميت الهاتف الجوال في جيبي و أنا أصعد ذلك المنحدر الترابي الذي كانت قدماي‬
‫و عضالت ساقي قد بدأت تألف صعوده و هبوطه مع مرور تلك األيام الصيفية الرمضانية الحارة‪ ،‬إذ كنتُ مجبرا‬
‫على مغادرة القرية و النزول إلى حواف الطريق الوالئي الحادي عشر كي أجري محادثاتي الهاتفية و تصفح‬
‫االنترنت‪.‬‬

‫كنتُ قد تركتُ الفتى موس ورائي على حافة الطريق و هو منغمس في عملية بيع بعض األباريق و الصحون‬
‫الفخارية لبعض المارة‪ ،‬بعدما جالسته و تجاذبت معه الكثير من األحاديث‪ .‬تحادثنا عن حركة الماك‪ .‬عن دعوات‬
‫اإلفطار العلني في وضح النهار التي ارتفعت تلك األيام في تيزي وزو‪ ،‬التي أخبرني موسى بشأنها أنها قد ال تكون‬
‫فكرة جيدة‪ ،‬لكنه يحترم أصحابها الذين يعبرون فقط عن آرائهم بكل حرية‪.‬‬

‫حين ألقيتُ نظرة على شبكة الفيسبوك‪ ،‬أحسست أن العالم كان هو العالم الذي أعرف‪ .‬عجوز مراهق‪ ،‬تعبث‬
‫التناقضات الصارخة بدفتيه المنهكتين من الهز العنيف‪ .‬حروب و أزمات عسكرية و أمنية و اقتصادية من جهة‪ ،‬و‬
‫صرعات موسيقى و أفالم و موضة و اقتراب نهاية مونديال البرازيل من جهة أخرى‪ ...‬هي تناقضات ماضية في‬
‫تمزيق وعي إنسان القرن الواحد و العشرين بكل سخرية و بال حد أدنى من الشفقة‪.‬‬

‫تفقدت صفحة '' تي تي أس '' لعلي أجد فيها ما يثير انتباهي‪ .‬لكن ال شيء‪ .‬كانت ماضية في عملها و هو نشر‬
‫ترجمات جديدة ألغان بربرية و جزائرية إلى لغات أخرى‪ ،‬في مقدمتها اليابانية و االنجليزية و العكس كذلك‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي كانت فيه معظم صفحات الفيسبوك الجزائرية و العربية ال تزال تنعي الموت البشع الذي تعرض له‬
‫الطفل الفلسطيني دمحم أبو خضير‪ ،‬الذي كان مصيره أن أ ُحرق و هو حي على أيدي قاتليه من المتطرفين‬
‫اإلسرائيليين‪ .‬الغالبية العظمى‪ ،‬طبعا‪ ،‬كانت تعيش الحدث القومي الجلل و هو انطالق عدوان صهيوني جديد على‬

‫‪287‬‬
‫قطاع غزة‪ ،‬عملية عسكرية كبيرة سميت الجرف الصامد‪ ،‬و هو ما جعلني أتساءل عن الحالة النفسية المحتملة ألبي‬
‫و هو المهموم بأم القضايا العربية‪ ،‬القضية الفلسطينية‪.‬‬

‫عدتُ إلى القرية‪ .‬كنتُ متحمسا الستفزاز آغاكال إيديولوجيا ألحصل على خباياه‪ .‬كنتُ أسير و أنا أرتب‬
‫األفكار و الكلمات و الحجج داخل رأسي‪ ،‬أحبك مصايد اللغة بيد صحفية ماكرة‪ ،‬لكن اإلمام عبد السالم شتت‬
‫تركيزي من بعيد و هو يلوح لي بيده‪ .‬كان يقف بالقرب من مدخل قبة الولي أوعابد تحت ظل تلك األشجار‬
‫المثمرة‪ ،‬التي كانت ثمارها الناضجة تتدلى منها‪ .‬توجهت إليه و بنبرة ساخرة مازحته بعدما سلمت على رأسه كما‬
‫تقتضي العادة في تيميزر‪....‬‬

‫_ تعلم يا شيخ عبد السالم ؟‪ ،‬مذ أن أتيتُ إلى قريتكم هذه أول مرة و أنا ال أكف عن سؤال نفسي‪ :‬كيف ال‬
‫يتجرأ أطفال هذه القرية على سرقة ثمار هذه األشجار ذات المنظر المغري ؟ !‪.‬‬

‫احمر جانب منها‪ ،‬ليقطفها و يقدمها إلي‪...‬‬


‫َّ‬ ‫ضحك و هو يمد يده نحو ثمرة مشمش طرية برتقالية اللون و قد‬

‫_ يا بني‪ ،‬هذه األشجار هي وقف من أوقاف تاجماعت منذ عقود طويلة‪ .‬ثمارها مخصصة فقط لعابري السبيل‬
‫أو الضيوف كحسنة جارية للولي طيب هللا ثراه‪ .‬و بما أن قريتنا هذه ال يزورها الغرباء إال نادرا‪ ،‬تجد ثمار هذه‬
‫األشجار تنتظر بيأس من يقطفها فال تجد غير مناقير الطيور لتتقاسمها مع أيدي الفقراء و المجانين في النهاية‪ .‬و‬
‫األطفال هنا يخ شون االقتراب منها كونهم يعتقدون‪ ،‬كما كنا نعتقد و نحن بمثل سنهم‪ ،‬أن قطفها قد يجلب غضب‬
‫الولي و لعنته عليهم ألنها مخصصة فقط لضيوفه‪ .‬أخبرني‪ ،‬كيف هي حالك مع ابن الدا إيدير ؟‪.‬‬

‫_ بخير‪ ...‬بخير‪ .‬لقد تعلمت المبادئ األساسية لحرفته‪ ،‬و قد بدأت في صناعة ما أفسدته أول مرة‪ .‬والداه في‬
‫غاية الطيبة معي‪.‬‬

‫_ انعم‪...‬انعم‪ ....‬إنهم أناس في غاية الطيبة بشهادة كل سكان القرية‪ ...‬لقد عاشوا مآس عائلية كبيرة‪ ،‬لكنها لم‬
‫تغير من طيبة و صفاء قلبي الدا إيدير و زوجه‪.‬‬

‫_ لكنها غيرت ما في قلب ابنهما‪ ،‬أو أبنائهما ؟‪.‬‬

‫_ أه ال أستطيع الجزم بشيء‪ ،‬فأنت حاليا أكثر شخص استطاع التقرب من عميروش منذ سنوات‪....‬‬

‫قالها و هو يتظاهر بأنه يتفحص الثمار المتدلية من شجرة التين بجانبه‪ ،‬قبل أن يصمت و هو ينظر إلي نظرة‬
‫من ينتظر مني أن أفضي إليه بالمزيد‪ .‬أحسستُ أنه كان يود استجوابي عن عميروش‪ .‬عما نتقاسمه من أحاديث و‬
‫أفكار طيلة ساعات عملنا معا في ورشته‪ ،‬لكنه لم يستطع أن يكون مباشرا و اكتفى بتلك النظرات المستجوبة و‬
‫الوجه المترقب‪ ،‬لكني التزمت الصمت و أنا أرمقه بنظرة مستجوبة معاكسة‪ ،‬كمن يود أن يعرف سبب استدعائه‬
‫لي‪ ،‬و الذي لم يكن فقط من أجل إعطائي حبة مشمش في كل األحوال‪ .‬أعتقد أن الرجل الكهل و ببديهته القبايلية‬
‫علم أني تفطنت لذلك‪ ،‬فهز رأسه قليال و هو يتنهد‪...‬‬

‫‪288‬‬
‫_ تعلم يا بني ؟‪ ،‬هناك خرافة كانت تقص على مس امعنا و نحن صبية صغار‪ ،‬كان الغرض منها منعنا من‬
‫التجوال و اللعب في غابة األحاديث‪ .‬كان يُحكى لنا عن وجود عصفور غريب يعيش في هذه الغابة بين الطيور‬
‫األخرى‪ ،‬و هو طير شديد الجمال‪ ،‬زاهي األلوان‪ ،‬يشد نظر كل من يشاهده‪ ،‬بحيث يسحره أوال ببهائه‪ ،‬ثم يسحبه‬
‫نحوه بزقزقته المدهشة التي تسحر السمع‪ ،‬ثم إذا وصل إليه الطفل '' الضحية '' صار العصفور يبكي مستعطفا‬
‫الطفل إذ يقول له أنه يشعر بالوحشة الشديدة و ال يجد أين يبيت الليلة‪ ،‬فما إن يستجيب له الطفل الضحية بالقول أنه‬
‫على استعداد ليأخذه معه إلى بيته‪ ،‬يتحول المسكين إلى حجر أو شجر‪ ،‬و يظهر العصفور الشرير بشكله الحقيقي و‬
‫ألوانه الداكنة بعدما يسقط عنه ذلك الريش البهي الزائف‪ ،‬ثم يطير إلى غابة أخرى ليحط على شجرة أخرى‪ ،‬مترقبا‬
‫مرور أطفال آخرين ليمارس عليهم نفس الحيلة و يوقعهم في نفس الفخ‪ .‬أه طالما أرعبتنا هذه القصة و جعلتنا ال‬
‫نفكر البتة في االقتراب من تيزڨي أوس إيول‪...‬‬

‫_ أه‪ ،‬قصة جميلة‪ ....‬أقصد‪...‬على ما أظن‪...‬‬

‫ابتسم الشيخ وهو يلقي إلي بنظرة متواطئة بعض الشيء‪ ،‬ثم ربت على كتفي كأنه يقول لي '' اعتن بنفسك '' و‬
‫انسحب متمنيا لي إفطارا طيبا‪ .‬كنت متأكدا بشكل قاطع أنه لم يقصد بقصته الغريبة تلك غير التلميح لي عن‬
‫آغاكال‪ .‬كنتُ أعلم عن طريق بعض الثرثارين في القرية كأمثال موسى أن األمور كانت تسوء تلك األيام أكثر‬
‫فأكثر بين أغاكال و بين أسرة طليقته‪ ،‬التي فوجئتُ بكونها ليست سوى ابنة إلحدى شقيقات نانه تاملسة‪ .‬هذه‬
‫األخيرة أيضا يبدو أن عالقتها بعائلتها لم تكن يوما على ما يرام‪ ،‬و السبب في ذلك كان عمي إيدير بحسب ما‬
‫فهمت من ثرثرة موسى دائما‪ ،‬و أن األخبار التي استقيتها من حديثه كانت تقول بأن أسرة الزوجة السابقة سمعت‬
‫عن اقتراب آغاكال من قبر ابنه القتيل قبل أيام‪ ،‬و هي تحاول إخفاء األمر عن الطليقة التي يبدو أنها ال تزال تح ِّّمله‬
‫المسؤولية في مقتل ابنهما‪ .‬لكن موسى قال بنبرة ساخرة أن ذلك شبه مستحيل‪ ،‬فاألخبار في هذه القرية هي الشيء‬
‫الوحيد الذي ال يمكن صده أو حصره أو منعه من االنتشار‪ .‬قال بأن هنالك أناس كثرا سينقلون إليها الخبر‪ ،‬ال‬
‫لشيء‪ ،‬إال ليروها تتعذب من جديد و تخرج عن طوعها لتتسبب في إشعال فتنة جديدة بين العائلتين‪ .‬آل آفاو و آل‬
‫واعلي‪.‬‬

‫لم يشغل ذلك بالي بقدر شيء آخر كنتُ قد حصلت عليه من افواه بعض الفتية الصغار في القرية‪ ،‬من تالمذة‬
‫آغاكال‪ ،‬حين نقلوا إلي حديثا مفاده أن آباءهم قد أخبروهم أن عميروش كان شابا عاديا جدا‪ ،‬إلى أن عاد من رحلته‬
‫غامضة قام بها إلى الصحراء !‪ .‬حين سألتُ موسى الثرثار عن ذلك‪ ،‬هز كتفيه و هو يقول بأنها تبقى سرا كبيرا ال‬
‫يعلمه سوى عميروش نفسه‪ .‬حتى رفاقه الذين كانوا معه في الرحلة ال يعلمون ما أصابه‪ .‬ال أحد من القرية استطاع‬
‫معرفة ما الذي حدث له هناك و غيّره‪ ،‬رغم أن مشايخ تاجماعت افترضوا أنه أصيب بمس من الجن‪ .‬الكبار هنا‬
‫يتذكرون أن الرجل غادر مع رفاقه شتاء ‪ 92‬في رحلة الستكشاف الطاسيلي ناجر ‪ .‬كانوا مجموعة من الشباب‬
‫المتحمسين بشدة لألفكار القومية البربرية‪ ،‬و الذين واجهوا عدة مضايقات بوليسية أيام الجامعة‪ .‬حين عادوا من‬
‫تلك الرحلة‪ ،‬كان عميروش شخصا آخر تماما‪ .‬بل إن مشكلة انعزاله و خالفاته و صراعاته مع من حوله بدأت‬

‫‪289‬‬
‫تلتهم حياته االجتماعية منذ ذلك الحين‪ ،‬حيث صار مدمنا على شرب الخمر و القمار و قد أصيب بحالة من الجنون‬
‫مكث تحت سطوتها نحو ثالث سنوات‪ .‬كالم أحسستُ أن فيه مبالغة و رغبة في تشويه صورة الرجل !‪.‬‬

‫**********‬

‫حين انطلقتُ في العمل مع عميروش بعد العصر ذلك اليوم‪ ،‬أعدتُ عليه القصة التي حكاها لي الدا عبد السالم‬
‫و نحن نقوم بتدوير الصلصال كل على دوالبه‪ ،‬فضحك هازا رأسه بعدما فهم الرسالة و هو يُخبرني أنها قصة‬
‫العصفور ال ُمس َّمى '' إزغي ''‪ ،‬طائر النحس في التراث الشعبي البربري‪ .‬الطائر الخرافي الذي بسببه تموت كل‬
‫يحول الناس الذين ينخدعون بحديثه إلى أحجار أو حيوانات‪ .‬الطائر الذي‬
‫شجرة يحط فوق أغصانها‪ .‬الطائر الذي ّ ِّ‬
‫يجلب سوء الطالع على القرى و الحقول التي يزورها‪ ،‬حامال معه الفقر و الجوع و ضياع األرزاق‪ .‬ثم التفت إلي‬
‫مترقبا‪:‬‬

‫َي‪ ...‬أداءك على الدوالب‬


‫_ لقد كان ذلك اللقب الذي اختاره لي سكان القرية أيام طفولتي '' إزغي ''‪ ...‬ه ْ‬
‫يتحسن يا فتى‪ ،‬لكن حاول فقط جعل يديك أكثر ثباتا بشكل متوازن أثناء فتح الفجوة وسط الكرة الطينية !‪.‬‬

‫قال آغاكال و هو يشير بنظره إلى كرة الصلصال التي كنتُ أقوم بتمديدها و ضغطها بين يدي‪ ،‬مستلذا ذلك‬
‫اإلحساس اللطيف النزالق الطين اللزج بين كفي و أناملي‪ ،‬قبل أن يأتيني صوته مجددا‪...‬‬

‫_ أنت لم تخبرني َلم تحولتَ من علم االجتماع إلى الصحافة أيام الجامعة‪ .....‬هل من سبب محدد ؟‪.‬‬

‫نظرتُ إليه‪ .‬كان مستمرا في العمل على دوالبه‪ .‬أحسستُ أن الرجل فعال كان ماض في التأسيس لنوع محدد‬
‫من العالقة معي‪ ،‬يقوم على تبادل األفكار و كأن به يود مني أن أفهم أنه مهما كان سبب رغبتي في التواجد معه‬
‫هنا من خالل قبولي ب االتفاق الذي عرضه علي أول مرة‪ ،‬فأنا مطالب بأن أفصح له عن أفكاري و خلفياتي و‬
‫ماضي بقدر ما يفعل هو نفس الشيء‪ .‬و قد رأيتُ في ذلك صفقة '' خفية '' مربحة لي في كل األحوال‪...‬‬
‫َ‬

‫_ أه حسن ماس عميروش‪ ...‬حين كنتُ في الجامعة درستُ مادة المنهجية عند أستاذ فلسطيني يعيش في‬
‫الجزائر منذ عقود‪ ،‬هه حتى إنه كان جزائريا أكثر من الجزائريين‪ ،‬الدكتور أبو عماد‪ ،‬كان رجال متنورا بحق‪،‬‬
‫حطم الكثير من األفكار النمطية التي ترعرعتُ بها منذ طفولتي و غيّر الكثير من القناعات '' الصماء '' التي كنتُ‬
‫أعيش بها‪ ،‬و في مقدمتها أنه ال مجال لتغيير أنماط التفكير نفسها التي ل ّقنت لنا في سنوات حياتنا األولى‪ ،‬على يد‬
‫آبائنا إال بأيدينا نحن‪.‬‬

‫_ مثال‪....‬‬

‫_ أه أعطيك مثاال‪ ....‬خالل وضع ميثاق ‪ 1026‬الوطني كان الخطاب السياسي الوطني يعتبر و بكثير من‬
‫التعنت أن الخيار االشتراكي خيار ال رجعة فيه‪ .....‬أنا أسأل اآلن‪ :‬أين هو خيار االشتراكية اليوم و أين هي عبارة‬
‫'' خيار ال رجعة فيه '' ؟‪ .‬رغم ذلك تجد الجزائري يُجادل عادة بصبيانية غريبة‪ ،‬حين تطرح مسائل المسلمات على‬
‫النقاش و ليس حتى على محك التغيير‪ .‬تجده يقسم و يؤكد و يهدد بأن المساس بها غير وارد و تغييرها مستحيل و‬
‫‪290‬‬
‫الحديث عنه غير مقبول‪ ،‬و هو ال يريد بعد أن يص ِّدّق بأن ما يراه هو اليوم غير مقبول و مستحيل الوقوع‪ ،‬قد‬
‫يصير ضروريا أو يحدث تلقائيا بعد بضع عقود من بعده !‪ .‬السيد أبو عماد راح يثيرنا تجاه كل هذا‪ .‬التفكير‬
‫العلمي‪ .‬التشكيك في المسلمات‪ .‬المرونة في رؤية و فحص المسائل األساسية التي تعتبرها العامة مسائل صلبة ال‬
‫جدال فيها بل و يُمنع الحديث عنها‪ .‬كسر الطابوهات‪ .‬تحدي وجهة نظر الغوغاء بوجهات نظر مخالفة و جديدة‪،‬‬
‫سس على حجج قوية تبتعد بقدر المستطاع عن األهواء الذاتية‪ .‬المسكين ضل يلقي محاضراته في‬
‫على شرط أن تؤ َّ‬
‫مدرجات شبه فارغة‪.‬‬

‫نظر إلي آغاكال و هو يهز حاجبيه‪....‬‬

‫_ و َلم الصحافة ؟‪ ،‬أليس علم االجتماع أيضا جدير بأن يكون وسيلة عظيمة في إعادة بناء هذا المجتمع ؟‪.‬‬

‫_ بسيطة‪ ....‬الشعب الجزائري يدمن قراءة الجرنان يا ماس عميروش‪ .‬الكتب و األبحاث األكاديمية هي آخر‬
‫اهتماماته‪.! ...‬‬

‫استشعر النبرة الساخرة في صوتي فراح يبتسم و هو يهز رأسه‪ ،‬في حين رحتُ أخبره بالسبب الحقيقي‪...‬‬

‫_ ‪ ....‬الحقيقة يا ماس عميروش هي أني شعرتُ بوجود فجوة كبيرة في فهمي لواقع هذا البلد‪ .‬هناك شيء ما‬
‫منقوص في إدراكنا ألنفسنا و لبلدنا‪ .‬شيء أساسي يجب إدراكه و اإللمام به حتى ينغلق العقد و نبدأ في البحث عن‬
‫حل أو حلول‪ .‬لذلك أستمر في البحث و التنقيب‪ ،‬يُحركني في ذلك قلق السؤال الدائم‪ ،‬إلى درجة أنه صار يؤرقني‬
‫ليال و ألشهر طويلة‪.‬‬

‫رفعتُ بصري إلى آغاكال‪ ،‬فإذا به متوقف عن العمل‪ ،‬يرمقني بنظرة عميقة جدا و كأنه يتطلع ليرى بوضوح‬
‫ما كان بداخلي‪ .‬أخذ نفسا عميقا و هو يهز رأسه ببطء كأنه يود إخباري أنه فهم إلى أين كنتُ أريد الوصول‬
‫بكالمي‪...‬‬

‫تفر من حقيقة ما !‪...‬‬


‫_ أقشيش‪ ....‬أنت تبحث عن حقيقة ما‪ ...‬أو ُّ‬

‫التزمت الصمت قليال‪ .‬ربما لخشيتي أن يكون الموقف كله مجرد لحظة اعتراف ال واعية و خاطفة‪ ،‬ارتسمت‬
‫بمتعة الحديث و تقاسم األفكار العميقة مع الرجل‪ ،‬قد تفضح أمري أمامه‪ ،‬كون قعدتي تلك إلى جانبه‪ ،‬لم تكن في‬
‫الحقيقة إال محصلة لقراري بالبحث عن الحقيقة حيث ال يرغب أحد في البحث عنها‪ .‬لكن أظن أنه كان ينظر تماما‬
‫إلى روحي بعدما اخترقت نظرته الغريبة لحمي و عظمي‪ ،‬فإذا بي أسارع فقط إلى تمالك نفسي و أراوغه بالحديث‬
‫معطيا إياه الحقيقة التي جعلتني أرغب في أن أكون صحفيا‪ ،‬حتى أبعده عن اكتشاف الحقيقة التي جاءت بي إلى‬
‫تيميزر‪ .‬إليه تحديدا‪.....‬‬

‫_ تعلم ماس عميروش‪ ،‬في ستينات القرن الماضي كان هنالك عالم لغويات اسمه ‪ John Austin‬كرس‬
‫نفسه لوضع نظرية كاملة‪ ،‬تقول بأن نطق الكلمات ال يقتصر على تحديد معاني األشياء فقط‪ ،‬بل فعلها أيضا‪ .‬لقد‬
‫أردتُ أن أدفع هذا المجتمع الثرثار ليفعل شيئا ما بالكلمات‪ ،‬بل إني مذ ذاك الحين أحاول أن أبدأ بنفسي أوال و أفعل‬
‫‪291‬‬
‫األشياء بالكالم ال أن اكتفي بنطقه أو اجتراره فقط !‪ .‬لقد غيرتُ اختصاصي الدراسي ألجد نفسي في المكان‬
‫المناسب للبحث عن الحقيقة التي أود الوصول إليها‪ .‬الكتابة الصحفية‪.‬‬

‫_ هممممم‪ ،‬أعتقد أني أفهمك جيدا‪ .‬لكن الحقيقة ال وطن لها‪ ،‬و ال حاجة لها لذلك على اإلطالق كما قال‬
‫فرحات عباس ذات مرة‪ .‬ربما ألنه قد فهم أن محاوالتنا الجسورة لتعريف ماهية الحقيقة و التوصل إليها ستظل‬
‫دوما مغامرة أو رحلة مفتوحة و مستمرة ال نهاية على اإلطالق‪ .‬من يقول أنه يمتلك الحقيقة الكاملة إما أنه دجال أو‬
‫أنه مجنون‪ ،‬أو هكذا أظن‪.‬‬

‫_ ‪ ...‬إذن ؟‪...‬‬

‫_ حين نصل إلى اكتشاف الحقيقة المطلقة‪ ....‬اليقين المطلق‪....‬إذن‪ ،‬هل يبقى لنا سبب فعلي لنكون ؟‪.‬‬

‫سمعنا فجأة جلبة خارج الورشة‪ .‬نهض آغاكال من مكانه لتفقد ما يحدث‪ .‬بقيت جالسا و أنا شارد الذهن تماما‬
‫أحاول جعل كلمات الرجل األخيرة تتكرر داخل رأسي‪ '' .‬هذا الرجل‪ ،‬و عكس كل ما قيل لي‪ ،‬يستحيل أن يكون‬
‫مجنونا‪ ،‬و ال حتى متعصبا‪ ...‬يستحيل ! '‪ .‬قلتُ في نفسي‪ .‬قبل أن أنهض و أتبع خطواته خارجا بعدما تضاعفت‬
‫تلك الجلبة في بضع دقائق‪.‬‬

‫كان هنالك أصوات رجال و نساء كأن بهم يتجادلون‪ .‬راحت أصوات الجدال ترتفع أكثر فأكثر‪ ،‬حتى تحولت‬
‫إلى صراخ اختلطت فيه أصوات الكثير من الشخاص و من كلي الجنسين‪ ،‬كانوا يجتمعون بالقرب من باب منزل‬
‫الدا إيدير‪ ،‬الذي كان قد خرج متبوعا بنانه تاملسة التي بدت عليها عالمات الهلع الواضح‪ ،‬و هي تومئ بوجهها و‬
‫يديها و نبرات صوتها المهتز كأنها تحاول تهدئة األمور‪.‬‬

‫غاب آغاكال وسط الحش د الذي راح يكبر بعد أن أحاط به الكثير من السكان الذين سمعوا كل ذلك الصراخ‬
‫فراحوا يفدون متجمهرين حول المكان و نظرات الفضول تتسابق من أعينهم نحو شيء ما كان يحدث وسط الحشد‪.‬‬
‫شققتُ طريقي بين الناس‪ ،‬كبارا و صغار‪ .‬لمحتُ عميروش و هو يقف واضعا يديه في جيبه دون حراك‪ .‬كانت‬
‫نانه تاملسة تقف على يمناه و هي تضم يديها المرتعشتين إلى بعضهما في حين كان الدا إيدير يحاول ثني شقيقا‬
‫طليقة أغاكال من التقدم إليه‪ ،‬سوى أن جسده النحيف المقوس لم يمكنه من ذلك‪ ،‬فقد اجتازاه بسهولة‪ ،‬كما يجتزا‬
‫السيل الغاضب جدع نبتة ضعيفة منهكة جعلها قدرها تنبت في منتصف واد سحيق‪ .‬اندفعا نحو آغاكال الذي لم‬
‫يتحرك من مكانه‪ ،‬قبل أن يتمالكا نفسيهما للحظات أمام دموع نانه تاملسة التي كانت تقف أمامه فاتحة ذراعيها‬
‫الرقيقان تحاول صدهما عن ابنها‪ ،‬و هي تتوسل باكية و في حلقها قد ارتفعت غصة متقطعة اختزلت كامل معاني‬
‫الرجاء و التوسّل‪ .‬لكنهما راحا ينهرانها بقوة طالبين منها أن تتنحى جانبا‪ ،‬فكانت المسكينة تهتز كريشة تحت‬
‫صراخهما‪ .‬ألقل أن دموع نانه تاملسة قد هزتني بحق‪ .‬خاصة و أنا التفت من حولي غارقا في التعجب‪ .‬كان الجميع‬
‫يقفون متفرجين دون أن يجرأ أحد على التدخل و رد الرجلين الهائجين عن هؤالء القوم الفقراء المساكين‪ ،‬الذين‬
‫يعيشون خيباتهم االجتماعية بعيدا عن الجميع في صمت و صبر‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫لم فهم شيئا على اإلطالق‪ .‬ال أحد تحرك من مكانه‪ ،‬فوجدتني‪ ،‬و من دون وعي تقريبا‪ ،‬مأخوذا بغضب مهول‬
‫يزلزل صدري و كأنه صواعق كانت تقصفه تباعا‪ ،‬ربما بسبب دموع نانه و ارتعادها و رعبها‪ ،‬أكثر من أي شيء‬
‫أو سبب آخر‪ .‬وجدتني أنطلق و أنا في قمة الغضب أدفع أحدهما عنها معاتبا و الئما‪ ،‬فإذا بي أجد نفسي محاطا‬
‫بشقيقه و معه أربعة أو خمسة مراهقين آخرين تدخلوا لتوهم مجتمعين حولي و هم يدفعون بي بكل عنف‪،‬‬
‫يصرخون في وجهي و أعينهم تتقاطر غضبا و تنفث نارا‪ .‬حينها فقط تدخل بعض رجال القرية ممن كانوا مكتفين‬
‫بالتفرج و هم يحولون بيني و بين أفراد أسرة واعلي الذين كأنما كانوا يتهمونني بالتدخل في أمر عائلي ال يعنيني‪،‬‬
‫بل إني من خالل النزر القليل الذي تعلمته من القبايلية‪ ،‬فهمت من بعض كلماتهم أنهم كانوا يصيحون في وجهي أن‬
‫'' اترك القرية و عد من حيث أتيت ! ''‪ .‬سوى أن الرجال الذين حالوا بيني و بينهم كانوا يردون عليهم بنبرة من‬
‫يرغبون في جعلهم يتعقلون‪ ،‬مذكرين بأني ضيف القرية كلها‪ ،‬و أنه ال يجوز التعرض إلي بأي أذى مهما كان‬
‫السبب‪ ،‬إال أن يكون متعلقا ب شرف إحدى نساء القرية‪ ،‬أو سطوا على أحد منازلها أو سرقة ألحد بساتينها‪ .....‬أو‬
‫هكذا فهمت من تلك الكلمات المتقطعة التي استطعت إدراك معانيها‪.‬‬

‫هاجت تيميزر من تحت قدمي و تداخل سكانها بي و تمايلت الجبال المحيطة من حولي‪ ،‬كأني في وسط‬
‫معركة من معارك القرون الغابرة‪ ،‬أين ال يسع المشارك فيها إال سماع الصراخ من كل جهة تحيط به‪ ،‬مع تصاعد‬
‫في التدافع و الغبار الذي يحجب عنه رؤية كاملة لما يحدث‪ .‬لم يكن يسعني رؤية إال تلك البرانيس البيضاء و هي‬
‫تتدافع و تتداخل و تتشابك في حركة فوضوية بشعة‪ .‬فحين يسلب ذلك الصراخ تفكير العقل الهادئ و يشوش عليه‬
‫الرؤية السليمة لألمور‪ ،‬و يجعله عاجزا عن التفكير فيما يجب فعال فعله أو قوله‪ ،‬يجد المرء نفسه و قد تسمر في‬
‫مكانه فاتحا فاه و هو ال يكاد يعقل شيئا مما يحدث‪ .‬الكل يتدافع من أمام ناظري و هم يصرخون في وجهي و في‬
‫وجوه بعضهم‪ .‬شيء من صلب الحياة العادية لألقوام الغابرة على ما أظن ؟‪ ،‬و الذي ال يزال يجد استمراريته بشكل‬
‫ما في هذه القرية ؟‪.‬‬

‫الحقيقة أني أدركتُ بعد دقائق حين عاد إلي تركيزي الكامل و وعي بما يحدث من حولي‪ ،‬أن تدخلي الالواعي‬
‫في تلك المناوشات العائلية‪ ،‬كان قد أبعد التركيز على عميروش و والديه ليتركز علي‪ ،‬و هو ما سمح لهم بالتنفس‬
‫قليال‪ ،‬سوى أن ذلك لم يطل‪ ،‬حيث عاد تركيز جل أنظار ذلك الحشد الذي بدى لي هائال حين عدتُ إلى وعيي‪ ،‬و‬
‫كأنه تضاعف و انقسم على نفسه كما تفعل البكتيريا في العادة‪ .‬من أين خرج كل أالئك القوم ؟‪ .‬بدى لي أن القرية‬
‫كلها قد صعدت إلى حيث منزل آل آفاو‪ ،‬و ربما التحقت بها أقوام القرى المجاورة !‪.‬‬

‫خف الصياح و التهديد بحيث أمكنني من تمييز صوت أنثوي باك و صارخ من خلفي‪ .‬استدرت و عدتُ ألشق‬
‫طريقي وسط الحشد عائدا من حيث جرني آل واعلي‪ ،‬الذين كانوا يقفون هذه المرة دون حراك و أعينهم شاخصة‬
‫على تلك المرأة التي لم أستطع سبر مالمحها جيدا‪ .‬كانت في حالة هستيرية واضحة و هي تبكي و تصرخ الطمة‬
‫عميروش بكفيها على صدره‪ .‬كان المسكين يهتز على وقع تلك اللطمات و هو ال يزال واضعا يديه في جيبه‬
‫مستسلما تماما‪ .‬بال ريب‪ ،‬أيقنتُ أنها زوجته السابقة‪ .‬آغاكال الذي صنع قوته و جاذبيته الغريبتان من خالل‬

‫‪293‬‬
‫غموضه و انغالقه على عالمه المليء بالتأمالت القوية‪ ،‬كان تلك اللحظة يقف أمام بصيرتي عار تماما‪ .‬كان غارقا‬
‫في أحلك لحظة ضعف يمكن أن يُرى رجل فيها‪.‬‬

‫_ اس السبة اك ي ّمــوث‪ ....‬اس السبة اك ي ُّمـــــــــــــــوث !!‪ ( .....‬لقد مات بسببك )‪.‬‬

‫كانت الطليقة تصيح و قد انفلت منديلها ذو اللون األرجواني من على رأسها و سقط أرضا بين األرجل‪،‬‬
‫فانسدل شعرها األشقر على وجهها و هي تهتز صارخة بقوة‪ ،‬كأنها فرس بري هائج‪ ،‬قبل أن تنهار تماما و تقع‬
‫على األرض مكتفية بدرف الدموع و النواح و هي تتمايل و تردد ضاربتا كفيها على فخذيها‪ '' :‬زيري آ حفيفـــي‪...‬‬
‫زيري آ حفيفـــــــي‪ .'' ....‬هرعت إليها بعض النسوة و الفتيات اللواتي أحطن بها لحملها و االبتعاد بها عن المكان‪،‬‬
‫حين تراجع عميروش خطوتين إلى الخلف و وقف مجددا و بصره شاخص على األرض‪ .‬كانت عيناه تكادان‬
‫تبيضان تماما‪ .‬فمه نصف مفتوح و وجهه أصفر كحبة ليمون‪ .‬كان الرجل عاجزا تماما عن اإلتيان بأي كلمة أو أي‬
‫تعبير حين راح والداه المسكينان يحاوالن جذبه إلى منزلهما‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه الدا عبد السالم رفقة بعض‬
‫شيوخ القرية المرابطين قد وصلوا مسرعين إلى عين المكان‪ ،‬فراح اإلمام يصرخ في شقيقي طليقة آغاكال و‬
‫وجهه المحمر يكاد ينفجر من الغضب‪.‬‬

‫هدأت األمور بسرعة شديدة حين راح المرابطون يحثون الجميع على المغادرة‪ ،‬فما كانت إال لحظات حتى‬
‫عاد الهدوء ليخيم على الجو فلم تكن تتخلله سوى بعض الهمهمات‪ ،‬حين كان الجماعة يتحدثون إلى الدا إيدير و‬
‫ابنه الذي ظل واقفا و هو يطأطئ رأسه‪ .‬مالمح وجهه كانت تدل على أنه بعيد تماما عما كان يُقال له‪.‬‬

‫وقفتُ غير بعيد أحاول التقاط بعض الكلمات مما كان المشايخ يتحدثون به إلى الرجلين‪ .‬فهمتُ أنهم كانوا‬
‫سيفرضون غرامة مالية على آل واعلي باسم تاجماعت‪ ،‬لتسببهم في شجار مع عميروش و والديه أوال‪ ،‬و لكونهم‬
‫قد عكروا هدوء القرية و أثاروا االضطراب و البلبلة فيها ثانيا‪ ،‬و أن الغرامة ستكون مضاعفة كون كل ذلك حدث‬
‫في شهر رمضان‪ .‬كانوا سيدعون إلى اجتماع طارئ لتاجماعت بعد انتهاء صالة التراويح من ذلك اليوم‪ ،‬بعدما‬
‫تأكدوا من أن حالة االضطراب بين آل آفاو و آل واعلي‪ ،‬كانت ال تزال قائمة‪ ،‬رغم أنها نوقشت في اجتماع تلك‬
‫الصبيحة نفسها‪ .‬شيء واحد تأكدت منه و هو صحة كالم الفتى موسى الثرثار‪ .‬كان هنالك بعض األشخاص‪ ،‬و من‬
‫الجنسين على ما يبدو‪ ،‬يبذلون المستحيل الفتعال صراع جاد بين األسرتين‪ ،‬و لسبب ربما لن يكون في النهاية أكثر‬
‫من الرغبة في رؤية أحد الطرفين يتأذى ‪ ،‬بحيث يكون موضوعا خصبا لإلثارة و للثرثرة و القيل و القال لدى من‬
‫يقتلهم روتين الحياة اليومية الرتيبة في تيميزر‪ .‬حتى لو أدى ذلك إلى عاهات دائمة على الكيان االجتماعي لهذه‬
‫القرية الرائعة !‪.‬‬

‫تركتُ الجميع و دخلتُ بهدوء و حذر خلف نانه تاملسة التي كانت تقف وحيدة في فناء بيتها و قد أحاطت بها‬
‫دجاجاتها‪ .‬كانت المسكينة تمسح دموعها ثم تشد على يديها معا‪ .‬كان جسدها الضئيل ال يزال يهتز‪ .‬ربما كانت تلك‬
‫ردة فعل كدستها سنوات طوال من المعاناة و األلم و الصبر على أذى ذوي القربى و الغرباء على حد سواء‪ .‬لقد‬
‫شاهدت نانه تاملسة عشرات المرات و هي تحمل الحطب على ظهرها عائدة به من الغابة السفلية التي تجاور‬

‫‪294‬‬
‫بساتين الفاكهة‪ .‬كانت دوما تصعد به على طول شوارع القرية و هي منحنية بشكل شبه كامل‪ ،‬تسير بثبات عجيب‬
‫و هي تهمهم و تتمتم مع نفسها‪ ،‬كأنها بسخ رية تتحدى جلدات القدر الذي عذبها طويال بسبب القرار المصيري الذي‬
‫اتخذته يوم قبلت باقتسام حياتها مع الدا إدير‪ .‬لم أرها و لو مرة واحدة تشكو أو تبدو في حالة سيئة جراء حملها‬
‫الحطب الذي يعجز عن حمله شباب هذه األيام‪ .‬لكني في تلك اللحظة و أنا أرى جسدها النحيف يهتز بذلك الشكل‬
‫الغريب‪ ،‬فهمتُ ما يمكن لخوف األم على ابنها أن يفعله !‪.‬‬

‫وقفتُ للحظة و أنا أبحث مع نفسي في الئحة التعابير القبايلية التي أمكنني تعلمها تلك األيام‪ ،‬لعلي أجد ما أقوله‬
‫لها‪ .‬تقدمت إليها‪ .‬قبلتُ رأسها و ضممتها إلي‪ .‬كانت تلك أول مرة أتعثر فيها على تلك الرائحة المميزة التي كانت‬
‫تمأل ثياب جدتي منذ وفاتها‪ .‬كانت تلك رائحة زكية مسحت ذاكرتي و أحاسيس طفولتي األولى و هو ما حرك‬
‫الكثير بداخلي‪ .‬الكثير مما ال يمكن وصفه‪ ،‬و أظنني أحسستُ بسيولة زائدة في عيني‪ .‬كانت المرة األولى منذ‬
‫وصولي إلى تيميزر‪ ،‬أشعر فيها بأن واجب التحفظ الصحفي‪ ،‬حسي الموضوعي و المهني‪ ،‬قد فقد كل مفعوله على‬
‫طريقة تفسير و تبرير غاية وجودي بين هؤالء القوم‪.‬‬

‫_ أور‪ ...‬أور اسنزغوم آرا‪ ....‬آ نانه تاملسة‪ ...‬ماعليهش‪ ...‬ماعليهش‪...‬‬

‫**********‬

‫بعد وجبة إفطار صامتة و باردة تخلف عنها آغاكال‪ .‬توجهتُ إلى ورشته‪ .‬لمحتُ ذلك إلى الكرسي الهزاز‬
‫الذي يفضل آغاكال عادة الجلوس عليه لقراءة كتبه أو لتدخين غليونه و االستماع ألغاني الشيخ الحسناوي و‬
‫المطربة حنيفة‪ .‬إنه الكرسي الذي أخبرني بشأنه أنه كان قد حصل عليه من صديقة فرنسية كانت تعيش سنوات‬
‫الثمانينات في آزفّون على الساحل القبايلي‪ ،‬قبل أن تغادر البلد سنوات التسعينات‪ .‬حملته و صعدتُ به إلى سطح‬
‫منزل الحرفي‪ .‬وضعته في المنتصف و جلست أدخن أول سيجارة و أرتشف قهوة ما بعد إفطار ذلك اليوم الحافل‪.‬‬
‫كنتُ أقابل بقايا الشفق األحمر األخيرة و أذناي تلتقطان معزوفات صراصير الليل التي راحت تتردد في جو القرية‬
‫الهادئ‪ ،‬مع نسمات هوائه الدافئة التي كانت و بشكل كئيب ال تزال مثخنة بروائح غابات الصنوبر و البلوط‬
‫المحروقة‪ .‬رحتُ فقط أحاول ترتيب جل أفكاري و مشاعري المتقلبة و المتداخلة جراء كل ما حدث بعد عصر ذاك‬
‫اليوم‪ .‬حديثي مع آغاكال حول حقيقة '' الحقائق ''‪ ،‬الفوضى القروية التي وجدتني وسطها فجأة‪ .‬حالة الغضب‬
‫الجارف الذي اعتراني من أجل نانه تاملسة و دا إيدير و التي أخرجتني تماما عن طوعي الموضوعي و المحايد‬
‫كصحفي‪ .‬و وجه آغاكال األبيض الخالي من الحياة و هو يقف أمام زوجته السابقة المنهارة أمام قدميه‪ .‬يا لها من‬
‫صور‪ .‬تلك كانت حقيقة !‪.‬‬

‫كان األمر أشبه بمحاولة إعادة ترتيب صفحات تفرقت في الظالم من كتاب ضخم كان قد سقط من مكان‬
‫شاهق فتبعثر من شدة الصدمة‪ .‬كنتُ عاجزا بشكل شبه كلي عن إعادة ربط و ضبط مشاعري و أفكاري المشتتة‬
‫في ذلك الصدع الكبير و الواسع الذي ج عل وجودي في تيميزر يتمزق بين واقعين يبدوان متباعدين‪ .‬عالم آغاكال‬
‫الغامض المليء باألفكار العميقة و التأمل الفكري و الفلسفي‪ ،‬الذي وضعني هو نفسه أمام تناقضات مربكة‪ ،‬إذ‬

‫‪295‬‬
‫رحتُ أفكر في كيفية جلب الرجل إلى جدال فكري حول مواضيع السياسة و اإليديولوجية‪ ،‬كي أضبط تماما‬
‫أجرده أمام نيته الحقيقية و أتأكد من كونه‬
‫توجهاته تجاه قضايا المجتمع و الوطن الجزائري و العالم العربي‪ ،‬علي ِّ ّ‬
‫فعال '' آغاكال '' الذي قيل لي عنه أنه يج ِّ ّهز رفقة جماعة ما لربيع بربري أو جزائري آخر‪ .‬سوى أن الرجل‬
‫وضعني بعزلته و بطريقته الفريدة في رؤية مسائل أعمق من السياسة نفسها أمام حالة غريبة مع نفسي‪ ،‬التي كأنما‬
‫راحت تتراجع عن رغبتها في مواجهته‪ ،‬ليس خوفا أو نقصا في الثقة‪ ،‬لكن الرجل بدَ حينها – رغم مآسي والده و‬
‫قريته مع االستعمار كما مع االستقالل – كمن تجاوز مرحلة الحنق و الضغائن أو االندفاع الغاضب نحو الجدال‬
‫الفكري مع اآلخر‪ .‬لقد حسم آغاكال صراعات األسباب و الحجج بينه و بين نفسه‪ ،‬بشكل ما‪.‬‬

‫من جهة أخرى وجدتني في واقع ثان‪ ،‬مخالف بأشد ما يمكن أن يكون للواقع األول‪ ،‬و هو عالم قرية تيميزر‪،‬‬
‫الذي وضعني هو اآلخر أمام تناقضات مربكة أخرى‪ .‬فمن جهة لم يكن باستطاعتي أن أخفي إعجابي الشديد بنمط‬
‫النظام االجتماعي السائد في القرية و الذي يدور كله في فلك شخصية '' تاجماعت '' المعنوية‪ ،‬التي تنظم حياة‬
‫الناس و تضبط سلوكهم و تحرس على بقاء الضوابط و النظام في مكانهما بين األفراد و العوائل‪ .‬إنها المؤسسة‬
‫االجتماعية التي مكنت لهؤالء القوم من أن يكونوا شبه مجتمع قروي بروح مدنية‪ .‬مجتمع معتمد على نفسه و‬
‫مستقل ذاتيا‪ ،‬هو في غنى شبه تام عن حضور المؤسسات المدنية الرسمية‪ .‬لكن من جهة أخرى اكتشفت أن هؤالء‬
‫القوم ذوي االبتسامات الخجولة و الروح العائلية الوطيدة‪ ،‬يشكون فعال من أنماط تفكير غائصة في البداهة التي‬
‫تالمس السذاجة بشكل مفجوج أحيانا‪ ،‬خاصة حين يميلون إلى إعطاء كل األحداث التي تقع في عالمهم الصغير‬
‫تفسيرات سحرية‪ ،‬تتعلق بعالم األرواح و الجن و السحر و لعنات أو بركات وليهم الصالح‪ ،‬و انزالقهم السريع إلى‬
‫الفوضى و الصراع و الحزازات تحت مبررات خاطئة أو حتى ألتفه األسباب أحيانا‪.‬‬

‫ربما كان فكري يتلقى ما فوق طاقته على التأمل و التحليل و التصنيف و الحفظ وسط كل ذلك الزخم‪ ،‬بين‬
‫عالم آغاكال و عالم تيميزر ؟‪ .‬لكن بين الدفتين المهتزتين بشدة‪ ،‬استقر فكري و بشكل الإرادي على موضوع آخر‬
‫بعيد تماما‪ ،‬ال عالقة له بأي شيء من كل هذا الذي كنت أعيشه في تيميزر مع عميورش‪ .‬كنت فقط كطيف أنهكته‬
‫األضواء و ا لضوضاء‪ ،‬يحاول التسرب و الهروب إلى مكان مظلم عميق تغلفه أصوار من الصمت المقصود‪ ،‬كي‬
‫يسكن إلى سر تعلق به منذ األزل هروبا من جنون هذا العالم‪ .‬فقد وجدتني و بشكل يشبه الغفوة الخفيفة أتمتم بشكل‬
‫غير واع مع نفسي متنهدا‪....‬‬

‫_ أتساءل عما تفعله اآلن ؟‪....‬‬

‫كنتُ مرة أخرى أفكر في تلك الفتاة‪ '' ،‬هي '' !‪ .‬كيف و َلم ؟‪ ،‬ال أعلم حقا !‪ .‬رحتُ أهز رأسي و أفرك عيني‬
‫بسبابتي و إبهامي و أنا أود حقا أن ألعن هذا القلب الصبياني الذي بات يذكرها و يجلب همسة اسمها الخفية إليه‬
‫كلما اشتد انغماسي في عملي و بحثي عن حقائق قلق السؤال‪ .‬تلك كانت معضلة يواجهها عقلي مع قلبي‪ ،‬الذي كان‬
‫أشبه بذاك الذي يتسلل إلى منزله عند منتصف الليل بقارورة خمر تحت اإلبط‪ ،‬حتى ال يراه شريكه في الشقة‪.‬‬
‫القارورة التي ربما يداوي بها أوجاع روحه و يغوص بها في النشوة و الحلم أو حتى األمل الزائف و لو لبضع‬
‫ساعات‪ .‬لقد بات قلبي يجلب اسمها إلي أكثر من المعتاد في اآلونة األخيرة‪ ،‬حين كان عقلي المنهك غارقا تماما في‬

‫‪296‬‬
‫البحث عن شيء بعيد تماما عن ذكرى حب فاشل‪ .‬حقا لم أفهم‪َ ،‬لم كنت أشعر برغبة تجرني بهدوء و بشكل متزايد‬
‫إلى التفكير في بهجة و بهذا الشكل المستمر بعد كل هذه السنين ؟‪ ،‬بل و في مكان كتيميزر‪ ،‬عند شخص‬
‫كعميروش‪ ،‬في مهمة كهذه و ظرف مهني كهذا !‪.‬‬

‫تنهدت و أنا مسترخ فوق الكرسي الذي كان يهتز بي إلى األمام و إلى الخلف‪ ،‬كتلك األفكار التي كانت‬
‫تسحبني إلى الماضي و تعيدني إلى الحاضر و تكاد تقذفني نحو مستقبل مجهول بال توقف‪ .‬رحتُ أستسلم لسكرة‬
‫قلبي العابرة تلك‪ '' :‬ما الذي تفعله بهجة يا ترى ؟‪ ،‬كيف هي أحوالها في محيطها االجتماعي و المهني ؟‪ ،‬مع من‬
‫تمضي أوقاتها و أين ؟‪ ،‬فيما و في من تفكر ؟‪ ،‬هل وجدت الحب مع أحدهم أخيرا‪ ،‬أم أنها ال تزال كما أخبرني‬
‫عنها غانو آخر مرة‪ ،‬تصد كل رجل متودد عن نفسها ؟‪ ،‬لديها مشاريع أو اهتمامات ما ؟‪ ،‬من هم الزمالء و‬
‫الزميالت القدم الذين ال تزال تتصل بهم ؟‪ .....‬أتتذكر وقفتنا تلك يا ترى ؟‪ ،‬أتتذكر تلك الكلمات الغرامية الحزينة و‬
‫اليائسة التي قلتها لها في ذلك اليوم الغائم يا ترى ؟‪ ،‬هل يعقل أنها ال تعلم أين أنا و ما هي مهنتي و أين أشتغل ؟‪،‬‬
‫أيعقل أنها ال تقرأ مقاالتي أبدا ؟‪ ،‬ال تعرف صفحتي على الفيسبوك أو حسابي على نفس الموقع ؟‪ .‬هل تتذكرني‬
‫حين تم ّ‬
‫شِّط شعرها أمام مرآتها ليال يا ترى ؟‪ ....‬بهجة‪ ...‬هذا االسم كان الكلمة الوحيدة في العالم التي كانت لها‬
‫القدرة على جعل كل ذرة من كياني جمرة حمراء تحرق في صمت كل زاوية و تفصيل في عالمي الصغير‬
‫بالشوق و االفتقاد‪ ،‬بقدر ما رغبتُ في كيانها صاحبة االسم‪ ،‬جسدا و روحا‪ ،‬ذرة بذرة ؟ ! ''‪.‬‬

‫نهضتُ من مكاني فجأة‪ ،‬كمن يهرب من أفكار حاصرته و كادت تطبق عليه و تبتلعه‪ .‬نزلت من على السطح‪.‬‬
‫سرت قليال حول المنزل و أنا أترقب عودة آغاكال الذي كان قد ذهب رفقة والده‪ ،‬المجاهد البطل‪ ،‬إلى تاجماعت‬
‫كما طلب منهما‪ .‬كان جليا أن الجلسة االستثنائية تلك كانت ستطول‪ ،‬ففكرت في المبادرة و البدء في العمل على‬
‫دوالبي بعدما أغراني منظر عجينة الطين التي كانت نانه تاملسة قد أعدتها ذاك المساء‪ .‬كانت طرية و باردة‬
‫تتصاعد منها رائحة مهدئة‪ .‬ثم إن األمسية كانت ثقيلة و مملة بعض الشيء‪ .‬لذلك وجدتني أرتدي مئزر العمل و‬
‫أجلس و أنطلق في تشكيل القوالب‪ ،‬الواحد تلو اآلخر و أنا أدندن مع نفسي ألحانا ارتجالية من دون معنى‪ .‬كنت و‬
‫بشكل غامض أحوم حول ذكرى بهجة‪ .‬شيء ما في أعمق مكان في نفسي‪ ،‬كان يبعث بإشارات لم أفهم فحواها‪ .‬لقد‬
‫كانت أشبه بنجم بعيد جدا وصلتني ومضاته القوية على حين غرة‪ ،‬لكنه رغم ذلك كان ال يزال بعيدا جدا ؟‪ .‬كنت‬
‫أتوقف عن العمل لبعض الدقائق و أنا أتلمس ذلك االستغراب كتلمسي لتلك الطين اللزجة‪ ،‬أفحص عالمات‬
‫االستفهام التي جاءت بها ذكرى بهجة دون سابق إنذار‪.‬‬

‫مرت السهرة على ذاك النحو و قد كانت بهجة نجمتها بال منازع‪ .‬في ساعات الصبح األولى كنت قد أنهيت‬
‫َّ‬
‫العمل على كامل العجين الذي أنهيت معه علبة السجائر كلها‪ ،‬و قد انتبهتُ إلى أن الهواء قد صار أكثر لطفا و‬
‫إنعاشا‪ .‬دلني ذلك على أن حرائق الغابات قد تراجعت‪ ،‬أو ربما هي روائح الصلصال التي كانت تمأل الورشة و‬
‫تمأل أنفي و فمي و حت ى حلقي‪ ،‬بعدما تفطنت إلى كوني صرت أشبه بصانع طين حقيقي بدل صحفي !‪ .‬لكن‬
‫عميروش لم يعد إلى البيت‪ .‬كنتُ قلقا عليه لكني تيقنت أن السؤال أو البحث عنه غير مجد‪ ،‬فكما علمت مسبقا من‬
‫موسى الثرثار‪ ،‬فالرجل كان و على مدار أعوام يختلي بنفسه في غابة األحاديث أو يبيت بين أطالل أسالفه في‬

‫‪297‬‬
‫بقايا قرية إيجودار فوق سفح الجبل‪ ،‬كلما واجه أزمة شديدة مع نفسه أو مع اآلخرين‪ ،‬ثم يعود إلى القرية‪ ،‬فيتجه‬
‫إلى الجامع كي يدفع غرامة خرق قانون القرية الذي يمنع التجوال في الغابة المحرمة و أطالل الجبل‪ ،‬ثم يدخل إلى‬
‫البيت و هو يشعر بتحسن‪.‬‬

‫اغتسلت ثم جلستُ أنتظر لبعض الوقت و أنا أتحسس ذلك الهدوء الشديد الذي خيم على الجو و الذي كانت‬
‫تتخلله أصوات الصراصير و صياح الديكة التي راحت تعلن عن اقتراب الفجر‪ ،‬ثم آويت إلى فراشي و أنا أشعر‬
‫بسكينة غريبة مع نفسي‪ .‬الطين كانت قد أطفأت تلك الجمرات‪.‬‬

‫‪-24-‬‬

‫'' ‪'' 2051‬‬


‫استفقتُ بعد الظهيرة من اليوم التالي الذي صادف يوم الجمعة‪ .‬علمتُ أن عميروش كان قد عاد‪ ،‬فقد سمعتُ‬
‫حركته حول الدار حين كان يحادث والده الذي أحضر قطع الصلصال فوق دابته من الواد‪ ،‬ثم سمعته بعد ذلك‬
‫يخاطب والدته التي كانت تغسل الطين و تعجنه‪ ،‬كما سمعته و هو يفتح باب الورشة و باب الغرفة‪ ،‬حين دخل علي‬
‫في ساعة مبكرة ثم خرج تاركا إياي أتقلب بكسل في فراشي و أنا أغطي رأسي باإلزار‪ .‬ظننته دخل ليأخذ أحد كتبه‬
‫من الخزانة الخشبية لكنه في الحقيقة لم يفعل‪.‬‬

‫نهضت ببطء و تثاقل أجر نعلي على أرضية الغرفة‪ .‬عبرت الباب الذي كان مفتوحا جزئيا قبل أن أتوقف‬
‫للحظة‪ ،‬بعدما بدى لي أن تفصيال صغيرا قد تغير في الغرفة‪ ،‬فعدتُ أمشي القهقري و أنا أميل برأسي واضعا‬
‫نظارتي على وجهي محملقا في تلك الخزانة المعدنية‪ .‬كان قفلها األصفر الفاقع قد اختفى‪ .‬حينها فهمت سبب دخول‬
‫قرر أخيرا اطالعي على ما ظل يخبئه بحرص في تلك‬
‫آغاكال علي في الصباح الباكر أثناء نومي‪ .‬الرجل َّ‬
‫الخزانة‪ .‬لم أتردد لحظة واحدة‪ .‬تقدمتُ نحوها و بسمة اإلثارة تكاد ترتسم بوضوح تام على شفتي‪ .‬كنتُ أفترض أن‬
‫ما يوجد بداخلها هو سبقي الصحفي الثمين الذي أالحقه في تيميزر و في بيت عميروش آفاو نفسه‪ .‬دليل مادي يثبت‬
‫لي قطعا أن الرجل له ما يشبه المنظمة السرية التي تعمل على بلورة خطته في خلق حراك اجتماعي ما‪ .‬في تلك‬
‫األثناء كان أمين وشاكي الذي هزته قصص آغاكال و والديه و مأساتهم اإلنسانية بعنف‪ ،‬إلى درجة جعلته يستسلم‬
‫لتلك العاطفة العميقة تجاههم قد انمحى بشكل شبه كلي‪ ،‬كأنه مجرد رسم خطه قلم رصاص‪ .‬ليحل مكانه أمين‬
‫وشاكي‪ ،‬الصحفي الموضوعي المحايد الذي كرس نفسه ليكون جندي الخبر فقط‪ ،‬فيكون بذلك رسما ُخ ّ‬
‫ط بحبر‬

‫‪298‬‬
‫أسود‪ .‬كل ما كان يدور في رأسي و أنا أخطو نحو الخزانة مادا يدي نحو مقبض بابها هو الحصول على دليلي‬
‫ال مادي‪ ،‬الذي يجعلني أضع هذا الحراك الذي عجزت أجهزة األمن عن كشف حقيقته و طبيعته تحت الضوء‪ ،‬و‬
‫أعترف أن لمسة من الرغبة في تحقيق النجاح و الشهرة في عملي كانت قد دغدغت طموحي الذاتي أيضا‪ .‬لقد‬
‫تراءت لي نهاية مهمتي في تيميزر بسرعة و رأيتُ نفسي عائدا إلى العاصمة و في حوزتي أخطر و أثمن سبق‬
‫صحفي حصل عليه صحفي منذ ثورات الربيع العربي !‪.‬‬

‫فتحت الخزانة بهدوء و حذر‪ .‬لم تكن بها رفوف و كل ما كان بداخلها هو ثالث علب كرتونية موضوعة‬
‫ش َّق الشريط الالصق الذي كان يغلقها بآلة حادة‪ .‬الرائحة العتيقة التي كانت تنبعث منها‬
‫الواحدة فوق األخرى‪ ،‬و قد ُ‬
‫جعلتني أدرك أن الخزانة لم تفتح منذ سنوات طويلة‪ .‬ألقيت بنظري و سمعي إلى الرواق خارج الغرفة كي أطمئن‬
‫إلى أن آغاكال غير قريب و حقا ال أدري لم فعلت ذلك‪ ،‬ففي كل األحوال كان هدف الرجل هو اطالعي على ما هو‬
‫مخبأ في الخزانة ؟‪.‬‬

‫أخرجتُ العلبة ا ألولى واضعا إياها على األرض بهدوء تام محاوال عدم إصدار أي صوت الفت‪ .‬فتحتها بتأن‪.‬‬
‫كانت مليئة بدفاتر و سجالت و كراريس قديمة‪ '' ..‬هذا ما أبحث عنه !!‪ ''...‬قلتُ في نفسي‪ .‬بدأتُ أقلب صفحات‬
‫أول دفتر وقع في يدي‪ .‬كان غالفه الخارجي قد تآكل بشكل جعله يفقد لونه األصلي تماما‪ .‬صفحاته كانت صفراء‬
‫تحتفظ بدروس هندسة الميكانيك مكتوبة بالفرنسية ؟‪.‬‬

‫_ دروس الجامعة‪...‬‬

‫وضعت الدفتر جانبا و بدأتُ أتناول الكراس تلو اآلخر‪ .‬أقلب صفحات الدفاتر و السجالت‪ .‬أتصفحها واحدا‬
‫واحدا‪ .‬لم تكن سوى كراريس و دفاتر الحياة الدراسية الماضية للرجل و ال شيء بين صفحاتها له عالقة بنوع‬
‫األوراق التي كنتُ أبحث عنها‪.‬‬

‫أعدت كل الكراريس إلى الصندوق األول حين قفز بصري مباشرة نحو الصندوق الثاني‪ .‬سحبته نحوي و‬
‫كلي أمل في العثور على شيء قد يُفيد تحقيقي حول آغاكال و حركة تي تي أس السرية المفترضة و مخططها‬
‫الغامض‪ .‬فتحته ملقيا بنظرة أولية فاحصة‪ .‬كان مليئا باإلطارات التي وضعت فيها صور مختلفة‪ .‬بعضها كان‬
‫باألبيض و األسود‪ ،‬البعض اآلخر كان ملونا لكنه قديم نسبيا‪ .‬جل الصور كان يظهر فيها عميروش أيام شبابه‬
‫بمالمحه و مالبسه التي تذكر بموضة سنوات السبعينات‪ .‬الشعر الطويل‪ .‬القمصان المزركشة ذات الياقات الكبيرة‬
‫و السراويل الطويلة و العريضة عند الساقين‪ .‬بدى لي أن الشيء الوحيد الذي لم يتغير في آغاكال هو عيناه‬
‫الصغيرتين خلف نظاراته الغليظة‪ .‬أما الشيء الذي بدى مختلفا في جل تلك الصور هو أن عميروش الشاب كان‬
‫يظهر مبتسما أو ضاحكا في الغالب‪ .‬صور رفقة الكثير من الرفاق في أماكن مختلفة‪ ،‬في الجامعة‪ ،‬في شوارع مدن‬
‫كبرى‪ ،‬على شاطئ الب حر‪ ،‬رفقة والديه‪ ،‬صور أخرى رفقة تلك المرأة الشقراء التي رأيتها منهارة أمامه قبل يوم‬
‫فقط‪ ،‬و طبعا صور مع ابنه الفقيد‪ .‬طفل هزيل البنية لكنه جميل الوجه‪ ،‬أملس الشعر‪ ،‬عريض الجبهة‪ ،‬كان يظهر‬
‫هو اآلخر مبتسما في أغلب الصور التي التقطت له رفقة والده على شاطئ البحر و في ملعب كرة القدم و ما بدى‬

‫‪299‬‬
‫أنه أعراس و أعياد مختلفة عاشتها القرية سابقا‪ .‬حملقت طويال في تلك الصور آلغاكال رفقة عائلته الصغيرة‪ ،‬قبل‬
‫أن أضعها جانبا بعدما لفت انتباهي حقيبة جلدية غريبة الشكل و األلوان كانت تقبع في قاع الصندوق‪ .‬سحبتها ببطء‬
‫ألال أحدث ضجة بإطارات الصور‪ .‬كانت حقيبة جلدية متوسطة الحجم‪ ،‬يطغى عليها اللونان األحمر و البني‪،‬‬
‫تزينها رسوم هندسية بربرية مربعة و مثلثة سوداء اللون في غاية االتساق‪ ،‬ال تختلف كثيرا عن نوع الرسوم التي‬
‫تزين أواني آغاكال الفخارية‪ .‬حملتُ الحقيبة التي كانت تتدلى منها شراشف جدلية رقيقة ذات ألوان سوداء‪،‬‬
‫حمراء‪ ،‬برتقالية و خضراء‪ .‬أحسست أن بداخلها شيئا ما‪ .‬فتحتها فإذا بإطارين أخرين يقبعان بداخلها‪ .‬األول كان‬
‫ملونة قديمة ألغاكال و هو يقف على يسار اثنين من رفاقه بينما يجلس اثنين آخرين مستندان على الركبة‬
‫لصورة ّ‬
‫و قد انتصبت خلفهم الفتة كبيرة بدى عليها شيء من الصدأ و قد كتب عليها بالفرنسية و العربية جانت ‪.Djanet‬‬
‫أخرجتُ الصورة من إطارها و قلبتها فكان بها كتابة خطية تقول‪.Djanet, Décembre 1979 :‬‬

‫_ إنها رحلته الغامضة إلى الطاسيلي‪....‬‬

‫اإلطار الثاني كان أكبر حجما‪ 40 .‬على ‪ 09‬سم و كان بمثل حجم الحقيبة الجلدية تقريبا‪ .‬أخرجته بروية و‬
‫أمسكته بكلتي يدي‪ .‬كانت صورة باألبيض و األسود ألغاكال و هو منهمك تماما في تدوير الطين بين يديه يضع‬
‫غليونا في فمه و رأسه مائل قليال كأن به يتفحص جوانب تلك التحفة التي كان يصنعها‪ .‬الصورة كانت قديمة و‬
‫مؤرخة في ‪ .0272‬كان شعره أسود حينها و وجهه كان هزيال جدا مما كان عليه في كل صوره السابقة‪ .‬شيء من‬
‫القوة الغامضة كان يتراقص في تلك الصورة‪ .‬ربما كونها التقطت للرجل في المرحلة التي كان فيها قد بدأ في‬
‫النهوض بنفسه مجددا‪ ،‬بعد األزمة الغامضة التي عصفت بعقله بعد عودته من الصحراء ؟‪ .‬لقد قيل لي أنه لم يجد‬
‫مخرجا من إدمانه و اضطراباته النفسية الحادة إال عن طريق البدء في صناعة الطين !‪ .‬لكني تساءلت فقط عن‬
‫هوية ملتقط الصورة الذي و من خالل فحص اإلضاءة فيها و الزاوية التي التقطت منها‪ ،‬أدركت أنه لم يكن هاويا‪،‬‬
‫ثم أنّا له االقتراب من آغاكال يومها ؟‪ .‬الصورة ذكرتني بصورة فراشات الطين !!‪.‬‬

‫_ رباه !‪ ....‬صورة المعرض !‪ .‬المصورة نسرين‪ ،‬أكانت تتحدث عن‪ ....‬يا اله !!‪.‬‬

‫اقشعر بدني‪ ،‬حين ربطتُ تلك القطع الصغيرة التي بقيت مهمشة بعضها ببعض‪ .‬الحرفي القبايلي الذي التقت‬
‫نسرين به في مرتفعات بني يني لم يكن سوى آغاكال‪ .‬الطين التي تحوم حولها الفراشات في الصورة التي التقطتها‬
‫لم تكن سوى الطين التي تجهزها نانه تاملسة‪ .‬لقد رغبتُ بكل قوتي في تناسي أمسية المعرض تلك كي ال أتذكر‬
‫صورة بهجة و هي تحتفي بين األظهر‪ ،‬إلى درجة أني نسيت هذا التفصيل المتعلق بصورة فراشات المكاو !‪.‬‬

‫أعدت كل شيء إلى العلبة الثانية‪ .‬فكرت قليال مع نفسي‪ ،‬ثم عدتُ مخرجا العلبة األخيرة التي بدت خفيفة‬
‫نسبيا‪ .‬فتحتها ملقيا بنظرة الترقب و الفضول الالمتناهي بداخلها‪ ،‬فإذا بها مجموعة من الثياب المطوية و‬
‫الموضوعة في أكياس بالستيكية شفافة‪ .‬قمصان‪ .‬قبعات‪ .‬سراويل طويلة و قصيرة‪ .‬مالبس رياضية من بينها‬
‫قميص متوسط الحجم لفريق شبيبة القبائل‪ .‬إضافة إلى مالبس رضّع ؟‪.‬‬

‫_ مالبس الطفل زيري ؟‪....‬‬

‫‪300‬‬
‫تمتمت مع نفسي و أنا أقلبها دون أن أخرجها من أكياسها البالستيكية‪ ،‬إلى أن سحبت يدي كيسا بالستيكيا‬
‫أسود اللون من تحت بقية األكياس‪ .‬فتحته بحذر‪ .‬ألقيت بنظرة فاحصة على ما بداخله‪ ،‬و بمجرد أن علمتُ أنها‬
‫ثياب أخرى‪ ،‬أخرجتها بشيء من عدم االنتباه الذي سرعان ما عاد ليكتسح تقاسيم وجهي مع الكثير من الشخوص‪.‬‬
‫كان قميصا صيفيا بدت الصفرة التي طغت عليه ليست سوى نتيجة لعدم غسله لوقت طويل‪ ،‬فقد كان قميصا أبيض‬
‫في األساس‪ .‬الشيء الذي جعل بصري يشخص هو الجزء الخلفي منه‪ .‬لقد كان محتفظا ببقعة عريضة من الدم‬
‫الذي غار لونه حتى كاد يصير أسود‪ .‬تلك الرائحة القوية التي جعلتني أنفر للحظة قطعت الشك باليقين حول تلك‬
‫الفكرة التي كانت تتبادر لتوها إلى ذهني‪ .‬كان ذلك القميص الذي كان الطفل زيري يرتديه يوم أصيب‪ .‬ذلك الثقب‬
‫الوحيد الذي كان يتوسط بقعة الدم لم يكن سوى منفذ الرصاصة التي أنهت حياة المراهق المسكين‪ .‬حاولتُ أن أق ِّدّر‬
‫المكان الذي أصابته الطلقة في جسم الضحية‪ ،‬فبدى لي أنها قد أصابته من الخلف جهة الكلية اليمنى‪.‬‬

‫_ ‪ ...‬كم هذا فظيع !‪ ..‬لكن لم ال يزال يحتفظ بشيء كهذا في خزانته ؟ !‪..‬‬

‫كنتُ ماض في التمتمة و أنا أخرج ما بقي في الكيس البالستيكي األسود‪ .‬كان سروال جينز تنبعث منه رائحة‬
‫قربته من أنفي بحذر قبل أن أبعده بسرعة بعدما تعرفت على الرائحة العالقة به‪ .‬لقد كانت بقايا‬
‫السعة غريبة‪ّ .‬‬
‫رائحة بول‪ ،‬جعلتني أتصور ما حدث‪ .‬الطفل المسكين تبول على نفسه حين سقط على إثر الطلق الناري الذي‬
‫أصابه‪ ،‬أو قبله بلحظات ربما ؟‪.‬‬

‫_ ال وجود ألي شيء متصل بالـ تي تي أس‪....‬‬

‫كان عميروش يقف متأمال تلك الجرار الصغيرة التي أمضيتُ الليلة السابقة في صناعتها بعدما أعادتها نانه‬
‫تاملسة التي قامت بشويها‪ .‬وقفتُ خلفه على عتبة الباب الخارجي للورشة و أنا أمسد بيدي على عنقي و قد جلب‬
‫نظر إلي و‬
‫انتباهي تلك األتربة العالقة بصندله‪ .‬ال ريب‪ ،‬الرجل أمضى الليل كامال في السير عبر المسالك الجبلية‪َ .‬‬
‫قد علت شفتيه بسمة اإلعجاب و هو يشير إلى الجرار المصفوفة تحت إحدى أشجار الزيتون القريبة‪...‬‬

‫_ هذا أفضل عمل قمتَ به حتى اآلن يا أمداكول !‪ .‬إنها في غاية اإلتقان !!‪.‬‬

‫حاولت بسرعة تذكر معنى كلمة '' أمداكول '' البربرية التي لم يسبق له و أن ناداني بها‪ .‬أه‪ ...‬أجل‪ ..‬لقد كانت‬
‫تعني '' الصديق ''‪ .‬أومأت برأسي متظاهرا عدم االنتباه للكلمة حين تقدم إلي فجأة و هو يركز عينيه في عيني‬
‫مستمرا في التبسم‪...‬‬

‫_ فيما كان فكرك مشغوال ليلة البارحة يا ترى ؟‪.‬‬

‫_ كنتُ قلقا عليك‪ ،‬فقد تأخرت كثيرا في العودة‪...‬‬

‫_ لكن فيما كنت تفكر معظم الوقت ؟‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫هززت كتفي مطلقا نظرة متغابية مستفهمة‪ .‬لم أرد التصديق بأن الرجل كان و بطريقة ما قد علم ما كان يدور‬
‫في خلدي طيلة ساعات الليلة السابقة‪ ،‬و قد كان موضوعا في غاية الخصوصية و الحميمية‪ ،‬بهجة‪ ،‬التي لم يسبق و‬
‫أن قصصت حكايتي معها على أحد‪ .‬ال يُعقل بتاتا أنه يعلم‪ ،‬ثم أنا له أن يعلم ؟‪.‬‬

‫_ كنتُ قلقا عليك يا رجل‪ ،‬بسبب ما حدث البارحة‪...‬‬

‫صمت قليال و هو يتأملني ثم هز رأسه ببطء كأنه لم يقتنع بجوابي‪..‬‬

‫_ أشكر لك اهتمامك‪ .‬ما قمت به البارحة كان في غاية النبل‪ .‬لقد مضت سنوات طوال لم يتدخل فيها فرد‬
‫للوقوف إلى جانبنا في موقف مماثل‪ .‬أق ِّدّر لك هذا و أبواي يشكرانك أيضا من صميم قلبيهما‪ .‬تانميرت‪.‬‬

‫_ أوالش أوغيف‪ ....‬ال عليك‪ .‬كان رد فعل تلقائي فقط‪...‬‬

‫نظرته و نبرة صوته في نهايتها أثارت في نفسي شفقة غير مفهومة في تلك اللحظة بالذات‪ .‬أحسست أن‬
‫الرجل كان في لحظة صفاء تام و هو يقول ذلك‪ .‬أشحتُ ببصري عنه و التزمت الصمت‪ ،‬لكني أدركتُ أنها كانت‬
‫مسألة ساعات فقط ألحصل فيها على ما بقي من قصة و ماضي الرجل‪ ،‬فقد فتح لي خزانة أغراضه الخاصة‪.‬‬
‫بكلمات أخرى كان الرجل قد فتح لي قلبه‪ .‬لذلك لم يكن صعبا علي فهم سبب مناداته لي '' أمداكول '' طيلة ذلك‬
‫اليوم بعدما تخلص من لقب '' آقشيش ''‪ .‬كان األمر برمته مع هذا الرجل أشبه بامتحان مفتوح على درجات كنتُ‬
‫أرتقي عبرها كما يرتقي التلميذ المواظب‪ .‬و المادة األساسية في هذا االمتحان كانت شيئا أقرب ما يكون إلى ''‬
‫العالقة اإلنسانية '' منه إلى أي شيء آخر‪ .‬لكن عميروش لم يكن مركزا على كشف ما أخفيه عنه في الجانب‬
‫المظلم من هذه المغامرة‪ ،‬رغم أنه كان يستشعر أن نواياي ليست كاملة الصفاء من وراء تواجدي معه و وسط‬
‫والديه المسكينين‪ .‬و هو شيء راح يترك مسحة بمذاق مر داخل نفسي كلما فكرتُ فيه‪ .‬لقد فهمتُ أن الرجل لم يكن‬
‫مكترثا فعال للهدف المظلم الذي جاء بي إلى تيميزر و إليه تحديدا‪ ،‬لكن بدى لي أنه حقا لم يملك شيئا يخفيه عني‪،‬‬
‫عدى أغراضه الشخصية المرتبطة بماضيه الجريح‪ ،‬و هي أشياء لم يكن ليلومه أي شخص على االحتفاظ بها‬
‫لنفسه‪ ،‬فج ميعنا لنا أغراض و أسرار ننزع إلى االحتفاظ بها ألنفسنا في النهاية‪.‬‬

‫حين حل المساء‪ ،‬كنا نجلس و نحن نعمل على القسم األخير من عجينة اليوم‪ .‬كان الجو هادئا تتخلله أصوات‬
‫طيور السنونو التي كانت تحلق فوق رأسينا في أسراب متالحمة‪ .‬كان الرجل ملتزما الصمت في معظم الوقت و‬
‫هو منغمس في تدوير الطين بين يديه‪ ،‬و كانت نظراته الشاردة تحمل الكثير من الكالم و األحاديث الداخلية‪.‬‬
‫انتابني إحساس أنه كان ينتظر مني أن أجلبه للحديث عن األغراض الشخصية الموجودة في الخزانة المعدنية‪،‬‬
‫لكني لم أكن متأكدا من كونها فكرة جيدة‪ .‬لم أكن متيقنا من أنه فعال يود أن يحكي لي ما صحل له في جانت أو ما‬
‫حصل البنه المسكين في الربيع البربري األسود‪ .‬و بعد مرور قرابة نصف ساعة من العمل الصامت‪ ،‬رأيت‬
‫مالمح وجهه تتبدل‪ ،‬و قد عادت نظرته التي ألفتها‪ ،‬و كأنه استفاق من حالة تشبه الغيبوبة كانت قد أخذت وجدانه‬
‫إلى صحراء بعيدة جدا‪ .‬التفت إلي فقابلته ببسمة مرتبكة و عدتُ ألتظاهر أني منغمس في عملي‪ ،‬لكن صوته‬
‫الهادئ قاطعني‪....‬‬

‫‪302‬‬
‫_ أعلم ما يدور في خلدك يا أمداكول‪....‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬نظرتُ إليه فابتسم بهدوء‪...‬‬

‫_ ال بأس‪ .‬يمكنك إخباري بما تفكر فيه‪.‬‬

‫ترددت قليال‪ ،‬ثم نظرت إليه مرتقبا‪....‬‬

‫_ لقد اطلعتُ على ما يوجد في الخزانة األخرى‪ .‬آسف‪ ،‬يبدو أن فضولي الصحفي صار عادة سيئة‪...‬‬

‫استشعر نبرتي المتهكمة الساخرة‪ ،‬لكن نظرته لي كانت تقول بأنه ال داعي لكل هذا‪ .‬هز رأسه مستمرا في‬
‫التبسم‪...‬‬

‫_ رأيتَ مالبسي ابني القتيل ؟‪.‬‬

‫أومأت برأسي أن نعم‪ .‬فأخذ لحظة صمت و كأن به كان يلملم قطع الحزن العميق التي يزخر بها عالمه‬
‫ي للحظة‪ ،‬ثم عاد ليتأمل أشياء لم أكن ألتقط سوى أطيافها الهاربة من‬
‫الداخلي الممزق و المبعثر‪ .‬تنهد‪ .‬نظر إل ّ‬
‫عينيه اللتان اكتسحتهما ظلمة مفاجئة‪ ،‬قبل أن يأتيني صوته الهادئ الذي كان يثقل بوزنه و بكل قوة على اهتزازات‬
‫و شهقات تود االندفاع و الخروج دفعة واحدة‪ .‬علمتُ من فوري أنه يستعد ليحكي لي جزء آخر من ماضيه المثخن‬
‫باأللم‪ ،‬و بالفعل‪ ،‬فقد بدا يسرد لي‪...‬‬

‫_ إيـــــه أجل‪ ،‬كنتُ أحبه كثيرا‪....‬‬

‫كانت أول جملة خرجت من قلب الرجل‪ ،‬قبل أن يكمل و هو يخبري بأنه ال يزال يشتاق لرائحته و صوته‬
‫معظم الوقت‪ .‬فيما مضى‪ ،‬كان آغاكال رجال سيئا و طائشا‪ .‬أدمن الخمر و القمار لسنوات‪ .‬كان يعيش في دوامة‬
‫عاصفة كادت تودي به إلى الهالك المؤكد‪ ،‬لوال شيئين أنقذا وجوده بحسب قوله‪ .‬هذه الحرفة اللغز‪ .‬و زواجه بابنة‬
‫خالته الصغرى‪ ،‬فاظمة‪ ،‬التي عرفها منذ طفولته‪ .‬امرأة جميلة و وفية‪ .‬قبلت الزواج به عن طيب خاطر رغم كل ما‬
‫أصابه‪ .‬أحيانا يعتقد بأنها فعلت ذلك عن حب‪ ،‬و أحيان أخرى يتراءى له أنها فعلت ذلك تقديرا و إكبارا لوالديه‪ ،‬و‬
‫حبا و تعلقا بنانه تاملسة التي رأت أنها ستتعلم منها الكثير فضال عن كونها ستجد راحتها معها‪ ،‬لطيبتها و سعة‬
‫قلبها‪ ،‬فمعظم الكنات في القرى قاسيات بالثقافة و التطبع كما قال‪ .‬هكذا كان الزواج‪Un mariage de raison '' ،‬‬
‫'' كما يُقال‪ .‬لم يرد آغاكال حينها أن يبحث في الموضوع أكثر‪ ،‬فحياته كانت على شفير الهاوية و كان يقاوم بشدة‬
‫حتى ال يضيع في غياهب الظالم األبدي‪ .‬شيء ما كان يدفعه ألال يفقد عقله أو ينتحر أو شيئا من هذا القبيل‪ .‬عقد‬
‫الزوجان القران‪ .‬أقيم العرس بمساعدة تاجماعت و مشاركة القرية‪ .‬دخل العريس على عروسه ليلة الوفاف كما‬
‫يدخل أي عريس على عروسه‪ .‬شيء من الخجل و التردد و عدم اليقين‪ ...‬كما قال و هو يبتسم قليال‪ .‬لكن األمر تم‬
‫بسالسة تامة و غير متوقعة كما يحدث في الغالب األعم‪ .‬أطلق العريس ضربتي بارود في الفناء كما تقتديه العادة‬
‫في تيميزر‪ ،‬حتى تعلم القرية أن العروس العذراء لم تعد آنسة بعد اليوم و قد صارت سيدة‪ .‬كان عميروش سعيدا‬
‫يومها‪ .‬ثم اعترف أن فاظمة قد ساعدته كثيرا على التوقف عن معاقرة الخمر و القمار و اعترف أنها تعذبت كثيرا‬
‫‪303‬‬
‫في بادئ األمر‪ ،‬و قد كان عند حسن ظنها به‪ .‬و بعد تلك المحنة التي عاشها قبل االرتباط بها‪ ،‬أحس ألول مرة أنه‬
‫كان بصدد استعادة شيء من نفسه و حياته الماضيتين‪ .‬اعترف أنه ألف تلك المرأة الجميلة‪ ،‬ثم تعلق بها كثيرا‪.‬‬
‫كهول القرية يقولون دوما أن ما يجعل الكسكس كسكسا هو المرق‪ ،‬و ما يجعل الزواج زواجا هو الحب‪ .‬أعتقد أن‬
‫آغاكال أحب زوجته بشكل ما و إن لم يفصح لي عن ذلك بوضوح‪ .‬ثم جاء اليوم الذي رزقا فيه بمولودهما األول‪.‬‬
‫كان ذلك أواخر صيف ‪ .72‬فرحته به لم يتكن لتصفها أي كلمات‪ ،‬رغم كل تلك الشوائب التي حاول البعض من‬
‫خاللها تعكير حالة اإلشراق الكامل التي كانت تمر بها روحه‪.‬‬

‫_ كيف ذلك ؟‪.‬‬

‫سألته بصوت هادئ و شبه متر ِّدّد‪ ،‬فعاد إلي من غطسته في بحر السرد‪...‬‬

‫_ أرادوا أن يسموه زيري‪ ،‬لكني اخترتُ له اسم العربي تيمنا ببطل حرب االستقالل‪ ،‬العربي بن مهيدي‪ ،‬الذي‬
‫أحبه كثيرا‪ ،‬لكنهم عارضوا االسم كونهم رءوا فيه يمثل عرقا رغم محاوالتي إقناعهم أنه ال عالقة له بالعرب أو‬
‫العروبة أو ما شابه‪ .‬االسم هو اسم بطل شاوي من أبطال تاريخ هذا الوطن و فقط‪ .‬إال أنه أفزعهم حقا‪ ،‬فقد رءوا‬
‫األمر مثيرا للخجل و الحرج !!‪ .‬في بعض األحيان أتفهم موقفهم‪ ،‬فبعد كل الذي عشناه في بالد القبايل من طرف‬
‫القوة العروبية المقصية التي أرادت مسح وجودنا الهوياتي تماما‪ .....‬أنتَ تعلم اآلن ما عشناه مع حكم االستقالل‪.‬‬

‫أطلق ضحكة تهكمية‪ .‬صمت هنيهة‪ ،‬ثم غاص مرة أخرى في ذلك البحر الذي ال يعلم أغواره إلى هو‪..‬‬

‫_ قال بأنه فقد صلة الكثير من الرفاق و األقرباء بسبب موضوع اسم الوليد‪ ،‬خاصة و أنه كان مصرا على أن‬
‫يسمى العربي‪ ،‬و لم يكن مهتما لرأي أحد‪ .‬كل ما كان يهمه هو أن يربي ذاك الطفل الجميل الرائع في كنفه‪ ،‬و أن‬
‫يجنبه عيش ما عاشه هو مع والده‪ .‬منذ سنواته األولى لم يكن العربي يبتعد عن والده‪ .‬كان دوما هنا يلعب من حوله‬
‫و هو ال يزال صبيا صغيرا‪ .‬كان أحيانا يالعبه بالطين و هو ما كان يثير غضب والدته من آغاكال حين يدخل‬
‫عليها ابنها ترابي اللون‪ .‬كانا يرددان األغاني القبايلية التي يسمعانها في الراديو‪ .‬يذهبان الصطياد السمك أسفل‬
‫الوادي‪ .‬يتجوالن في الغابة‪ .‬يذهبان إلى شاطئ البحر‪ .‬يتابعان بشغف مباريات شبيبة القبايل‪ .‬كانت السنوات التسع‬
‫أو العشر األولى من حياته جنة حقيقية‪ ،‬إال أن األمور بدأت تتغير تدريجيا حين راح العربي يسأل والده بنظرة‬
‫حزينة عن سبب تسميته العربي‪ .‬شرح آغاكال األمر له مرارا‪ ،‬خاصة و أنه كان دوما اقص عليه بطوالت كبار‬
‫عقداء الثورة و خاصة حياة و موت كل من عميروش و بن مهيدي‪ ،‬إال أنه ظل يشتكي من سخرية و تنكيت‬
‫أصحابه في القرية و المدرسة‪ ،‬الذين كانوا يعايرونه باسمه‪ ،‬أضف إلى أن أفراد األسرة الكبرى ظلوا يصرون‬
‫على مناداته بزيري بدال من العربي‪ .‬أحس آغاكال أن التيار البربري بدأ يأخذ ابنه منه‪ .‬فحين كان مراهقا كان يأتيه‬
‫غاضبا في بعض األمسيات و هو يريد أن يعطيه سببا مقنعا عن امتناعه عن المشاركة في تظاهرات الربيع‬
‫األمازيغي عام ‪ 71‬عكس رفاق شبابه‪ ،‬و َلم قطع صلته بمناضلي القضية و ابتعد عن النضال الهوياتي الذي كان‬
‫آغاكال قد برز فيه سنوات شبابه األولى‪ .‬الطفل كان في سن لم تكن لتسمح له باستيعاب حجج األب‪.‬‬

‫_ و ما كانت حججك في ذلك ؟‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫سألته بتأن و ترقب شديد و أنا أحاول إخفاء لهفتي الصحفية اللئيمة‪ ،‬فصمت و بصره زائغ في السماء‪ .‬ظل‬
‫على تلك الحال لدقيقتين أو أكثر‪ ،‬ثم تنهد‪...‬‬

‫_ ببساطة‪ .‬خضتُ تجربة شخصية جعلتني أفهم شيئا مهما جدا‪ ،‬ظل الكثير من المدافعين عن القضية‬
‫األمازيغية ال يرغبون في االعتراف به يومها‪ ،‬و هو أن حالنا ال تختلف كثيرا عن حال عروبيي هذا البلد في‬
‫النهاية‪ .‬صراخ و عويل و تهويل و تخوين و عواطف جياشة و تهييج للجماهير و إدمان لهوس االضطهاد و‬
‫نظريات المؤامرة و حين تأتي لحظة الحقيقة و المسئولية التي يفترض بها أن تؤكد على صحة مبادئنا األخالقية و‬
‫الحضارية األساسية‪ ،‬تقع الصدمة و تأتي الحقيقة المرة التي تقول‪ :‬نحن شعب غير ناضج بعد و مشتت فعال‪ .‬هل‬
‫كان ابني ليفهم األمر إن كان الجيل الذي أنتمي أنا إليه لم يفهمه‪ ،‬أو لم يرد أن يره على حقيقته ؟‪ .‬لقد حاولتُ تحذير‬
‫العربي من مغبة الدفاع عن هوية هذا الوطن الحقيقية عن طريق الحقد و الغضب‪ ،‬خاصة و أن قناعتي العميقة‬
‫كانت تبشرني بأن هذا الوطن سيعثر على نفسه ال محالة في النهاية‪ ،‬مهما طال الزمن‪ ،‬لكن لألسف‪ ،‬التيار كان‬
‫أقوى مني و من العربي و منا جميعا‪.‬‬

‫أشار بسباباته إلي‪...‬‬

‫_ أنتَ أخبرتني أن الجزائري يؤكد و يهدد بشكل متعصب أقرب إلى الصبيانية حين يتعلق األمر بما يظنه هو‬
‫مسلمات صماء ال يُعقل أن تُغير أو تتغير مع الوقت‪ .‬لقد صدقت في ذلك يا أمداكول‪ .‬كان هنالك أناس غير أمناء‬
‫في هذه المنطقة‪ ،‬راحوا يستغلون غضب الشباب تجاه النظام السياسي و حماسهم القومي الشديد ألغراض‬
‫مشبوهة‪ .‬تماما كما حصل في التيار اإلسالمي‪ .‬نفس الظاهرة تكررت مع بعض االختالف الطفيف‪ ،‬فالنضال‬
‫الهوياتي األمازيغي و بفضل الكثير من عقالئه ظل محتفظا بطابعه السلمي رغم كل شيء‪.‬‬

‫_ قد يخالفك البعض هذا الرأي‪ .‬نضالكم لم يخ ُل يوما من المناوشات و المظاهرات التي كثيرا ما تحولت إلى‬
‫مواجهات مفتوحة مع السلطة في الشارع‪.‬‬

‫هز كتفيه و حاجبيه‪...‬‬

‫ع يوما أي أمازيغي للصعود إلى الجبل و استعمال الكالشينكوف و الخناجر و‬


‫_ الحركة األمازيغية لم تد ُ‬
‫األحزمة الناسفة ضد الجزائريين‪ ،‬لفرض وجهة نظرها أو رد القمع عنها !!‪ .‬جل أسلحتنا كانت مشكلة من األقالم‬
‫و الحناجر و آالت الموسيقى يا أمداكول !!‪ .....‬مع بعض الحجارة بين الحين و اآلخر‪ ،‬حتى أكون موضوعيا‪ .‬لكل‬
‫تيار اجتماعي مشاكسوه !‪.‬‬

‫التزمت الصمت و أنا أفكر في هذه المالحظة‪ ،‬حين شرد بصر آغاكال مرة أخرى و هو يتنهد‪..‬‬

‫قا آغاكال أنه حين قتل المراهق ڨرماح حمزة في مركز للدرك في آث دوالة شهر يبرير ‪ 4220‬كاد كل شيء‬
‫ينهار في المنطقة في نفس اليوم‪ ،‬لوال نداءات عقالء القرى و المداشر للمواطنين اللتزام الهدوء و الرزانة‪ ،‬و قد‬
‫لبى غالبيتهم النداء رغم الغضب الشديد من الوفاة المأساوية للطالب المسكين صاحب ‪ 07‬ربيعا‪ ،‬لكن السلطة‬

‫‪305‬‬
‫عادت بفجاجة و وقاحة غير مفهومة‪ ،‬لتضيف القطرة الثانية إلى الكأس الممتلئة أصال بعد ساعات فقط‪ ،‬بادعائها‬
‫في بيان رسمي أن الضحية هو مجرد مسبوق قضائي في السادسة و العشرين من العمر‪ .‬كأن بالذين لفقوا التقرير‬
‫الكاذب كانوا يبتسمون بسخرية محاولين تبرير قبحهم بالقول للجميع أن األمر يتعلق بمجرد كلب لن يفتقده أحد‪.‬‬
‫انفجر كل شيء بعدها و بسرعة كبيرة انزلق في بضعة أيام إلى تصادم شامل جديد بين منطقة القبايل و السلطة‬
‫المركزية‪ .‬الشبيبة في هذه المدن و الجبال كانت قد ضاقت ضرعا بممارسات السلطة لسنوات و كان بديهيا أن يتم‬
‫تذكير الجميع بأن السكين كانت قد وصلت إلى العظم‪ .‬بالنسبة آلغاكال فقد رفض دعوات كثيرة من طرف رفاقه‬
‫القدماء للتجمهر و السير و التظاهر‪ .‬كان يظن أنه ال طائل من ذلك‪ ،‬فبمجرد أن رأى بعض المتشدّدين و الغالة و‬
‫علم أن الغضب سيتم تحويره إلى غير وجهته و أنه مهما ارتفعت‬
‫بعض مناضلي األحزاب يركبون الموجة َ‬
‫مطالبهم الثقافية و االجتماعية أو حتى السياسية مرة أخرى في أذن السلطة و المجتمع‪ ،‬سيتم تسييسها و التالعب‬
‫بها من طرف الجميع‪ .‬رفض السير في التيار‪ .‬أيام من الجدال الحامي مع الجميع لم تفض لشيء‪ .‬لقد رفض‬
‫التظاهر و حاول ثني ابنه بكل ما استطاع عن السير معهم‪ .‬لكن بال فائد‪ ،‬لقد انتهى به األمر للصراخ في وجه والده‬
‫قائال‪ '' :‬سوف أتظاهر ضد هؤالء القتلة و لن أهرب من مسؤوليتي التاريخية تجاه هذه المنطقة !‪ ،‬سوف أتظاهر‬
‫علي أمحو العار الذي جلبه لي جبنك و خذالنك لقضيتنا !! ''‪.‬‬

‫تنهد آغاكال ناظرا إلي يخبرني أن تلك الكلمات قد صدمته و آذانه كثيرا‪ ،‬و علم أن رأس الصبي قد فاض‬
‫بالخطب األيديولوجية المتشددة و الشحن العاطفي المستمر‪ ،‬ففي تلك األيام بدأ آغاكال يسمع أقرانا البنه يتحدثون‬
‫المستعمرة !‪ .‬لم يصدق أنها كانت كلماتهم فقد كانت أكبر و أخطر من أعمارهم و‬
‫ِّ‬ ‫عن فكرة االنفصال عن الجزائر‬
‫عقولهم الغضة الطرية !‪ .‬و حين يئس تماما و أنهكه الجدال و الصراخ‪ ،‬حاول بصوت يكاد يكون متوسال أن يجعل‬
‫العربي يغير رأيه في المشاركة في مواجهات اليوم التالي‪ ،‬أخبره أنها ليست الطريقة المثلى لنصرة األمازيغية و‬
‫حلم الديمقراطية‪ ،‬ليس بهذا الشكل‪ .‬قال له أنه أبدا لم يخ ّل بواجبه تجاه هذه المسؤولية التي قرر حملها على عاتقه‬
‫منذ أيام شبابه في الجامعة‪ ،‬و هي الدفاع عن هوية هذا الوطن‪ ،‬الهوية الوحيدة التي ستط ِّ ّعمه ضد كل أشكال الهيمنة‬
‫و االختراق مستقبال بحسب اعتقاده‪ ،‬و أن ذلك ال يكون أبدا بإدمان تبادل الحقد مع من نعتقد عبثا أنه '' اآلخر"‪،‬‬
‫حتى لو بدى لنا متشككا و رافضا أو حتى خائفا مما ندعوه إليه‪ .‬أصعب أشكال التغيير في الطبيعة هي تغيير فكرة‬
‫تجذرت في ذهن صاحبها كما قال آغاكال‪ .‬لكن الصبي لم يرد أن يُنصت‪ .‬وقف عند عتبة الباب الورشة التي كانت‬
‫يومها بيتا عائليا ككل البيوت‪ .‬تأمل والده قليال‪ .‬ظن األب أنه رأى شيئا من االرتباك و مراجعة الذات في عيني‬
‫الغالم‪ ،‬لكن األخير انصرف و هو يُخبر أباه بأنه سينام في دار جده‪.‬‬

‫صمت آغاكال مرة أخرى و هو يحول تمالك نفسه‪ ،‬ثم طأطأ رأسه‪ .‬كان كمن يحاول رفع ثقل شديد من مكان‬
‫سحيق نحو السطح‪ .‬كان يسحب بقوة تلك الكلمات التي كامنت مخبأة في صدره المثخن باألوجاع بينما كنتُ أراقبه‬
‫في صمت‪ .‬جزء مني كان يريد ثنيه عن االستمرار في الحكي‪ ،‬و جزء آخر مني كان ملتزما الصمت‪ ،‬ينتظر‬
‫بفضول معرفة باقي تلك التجربة اإلنسانية المريرة المرتبطة بجزء من تاريخ هذا البلد‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫_ أذكر ذلك جيدا يا أمداكول‪ .‬كانت صبيحة السابع و العشرين يبرير‪ .‬كنت أقلب الفضائيات اإلخبارية‬
‫الفرنسية التي كانت مهتمة بما كان يحدث هنا‪ ،‬حين كانت قنوات هذا الوطن تحاول إلهاء بقية الجزائريين بأحداث‬
‫فلسطين‪ .‬أذكر أنها كانت صبيحة مشحونة جدا‪ ،‬فقد تشاجرت مع فاظمة مرة أخرى‪ .‬كانت متعجبة مني‪ ،‬كيف لي‬
‫أن أكون عاجزا عن السيطرة على ابني و ردعه و منعه من الذهاب للمشاركة في أعمال الشغب ضد رجال‬
‫الدرك‪ .‬كان شجار تلك الصبيحة األعنف‪ .‬الكثير من الصراخ و السباب انتهى بي ألصدمها بعبارات عنيفة تحت‬
‫وطأة الغضب بعدما سئمتُ األمر كله‪ .‬ال أدري كيف تفوهت بذلك‪ ،‬أقصد‪ ،‬ربما كنت فعال أعني ما قلت الشعوريا‬
‫؟‪ ...‬قالت لي بأنها لن تسامحني أبدا إن أصابه مكروه‪ ،‬خاصة مع تواتر األخبار عن وقوع الكثير من القتلى و‬
‫الجرحى‪ .‬أتصور أن ذلك كان ليهز قلب أي أم تعلم أن ابنها يقف أمام مواسير الرشاشات ؟‪ .‬لكني صرختُ في‬
‫وجهها‪ :‬إن كان ال بد له أن يموت من أجل هذه القضية فال بد له أن يموت و لن أقف في طريق هذا القرار‬
‫النبيل !!‪.‬‬

‫تشنَّجت عضالت وجه آغاكال أكثر‪ .‬أخذ لنفسه لحظة صمت أخرى‪ ،‬ثم تنهد ناظرا إلي‪..‬‬

‫_ حين نظرتُ إل ى فاظمة‪ ،‬كانت تحمل في وجهها كل عالمات الصدمة و عدم التصديق لما سمعته مني‪.‬‬
‫أحسستُ أني ه َّ‬
‫شمت كل الثقة التي وضعتها في كزوج و كرجل‪ .‬لقد هشمتُ الميثاق الغليظ الذي جمعني بها إلى‬
‫آخر شظية‪ .‬أحسستُ أنها لن تغفر لي أبدا ما قلت حتى لو عاد ابنها سالما‪ ،‬بل أحسست أن زواجي معها قد انتهى‬
‫من الناحية العاطفية‪ .‬لم تقل شيئا على اإلطالق لكنها قالت كل شيء عبر تلك النظرات‪ .‬لقد حطمت فؤادها حرفيا‪.‬‬
‫انصرفت المسكينة إلى دار أهلها غاضبة باكية‪ .‬ظننتُ أنها ستهدأ و تعود بعد عودة العربي مساء ذاك اليوم‪ .‬كنتُ‬
‫أجلس هنا أستمع إلى أخبار القناة اإلذاعية المحلية عند منتصف النهار‪ ،‬حين جاءني سيفاقص راكضا و وقف على‬
‫بعد بضعة أمتار من الباب شاحب الوجه‪ .‬كان صبيا صغيرا يومها و كان من أكثر الصبية حبا للعربي في القرية‪.‬‬
‫نظرتُ إليه سائال و شيء ما قد تشنج داخل صدري‪ .‬أخبرني الصبي بصوت خاشع بسماعه أن زيري قد أصيب‬
‫بطلق ناري و بأنه في المستشفى‪...‬‬

‫صمت الرجل مرة أخرى‪ .‬توقف تماما عن االشتغال على الطين‪ .‬تنهد ثم نظر نحو الخارج و كأنه يسترد تلك‬
‫الصور السوداء‪ ،‬الواحدة تلو األخرى‪ ،‬ثم انطلق في السرد بصوته الذي يمأله الوجع و الوجل‪...‬‬

‫_ ‪ ....‬ذهبتُ مسرعا رفقة رجلين من أبناء القرية سمعا أن ابنيهما قد جرحا أيضا‪ .‬لم أخبر فاظمة و ال أهلها‬
‫بشيء‪ ،‬رغم علمي بأن الخبر سيصل إلى مسامعهم ال محالة‪ .‬حين وصلنا إلى مستشفى المدينة سيطر علينا فزع‬
‫حقيقي و نحن نرى تلك الفوضى التي سببتها حالة الطوارئ التي كان يضج بها المكان‪ .‬عشرات الجرحى‪ .‬بقع الدم‬
‫في أروقة االنتظار‪ .‬ممرضون و أطباء يركضون في جميع االتجاهات‪ .‬بكاء و صراخ و أنين في الكثير من‬
‫الزوايا و عند مدخل المشفى‪ .‬كنت أسمع أن الطرف اآلخر أيضا قد أصيب كثيرا‪ ،‬حين راح البعض يقولون أن‬
‫سيارات اإلسعاف كانت تحمل رجال الدرك المصابين بجروح بليغة عائدة بهم إلى العاصمة و البليدة‪ .‬أدركتُ‬
‫حينها حجم األزمة التي غرقت فيها المنطقة‪ .‬لن أبالغ لو قلت أنني استشعرت أجواء حرب أهلية حقيقية كانت‬
‫بصدد االشتعال !‪ .‬كان إحساسا غريبا‪ ،‬ذلك الفرق الشاسع و المخيف بين هدوء القرية و ضجيج مستشفى و‬

‫‪307‬‬
‫شوارع المدينة التي كانت أعمدة الدخان السوداء تتصاعد على جنباتها !‪ .‬علم الرجالن أن ابنيهما لم يصابا إال‬
‫بجروح خفيفة‪ .‬أحدهما كسرت ذراعه و اآلخر كان يعاني أزمة تنفسية بسبب الغاز المسيل للدموع‪ .‬أما أنا‪ ،‬فقالوا‬
‫لي أن ابني في حالة حرجة بسبب إصابته بطلق ناري في الظهر‪...‬‬

‫اهتز صوته فجأة كأن بالمشهد عاد ليلطم نظراته الفزعة مباشرة‪...‬‬

‫المبيض كالورقة‪ .‬كم رغبتُ في أن أكون مخطئا ألنقلب‬


‫ّ‬ ‫_ ‪ ...‬حين رأيته لم أكد أتعرف عليه بسبب لون وجهه‬
‫على أعقابي هاربا بجلدي من ذلك المكان و أنا أشكر سيدي ربي على كونه مجرد شبه في األسماء و الوجوه‪،‬‬
‫فأعود إلى القرية و أجده في بيت أخواله‪ .‬تمنيت أن يحدث ذلك بحرقة ال توصف‪ ،‬لكن ال مفر من الحقيقة‪ ،‬كان‬
‫ذلك الشبح الصغير الممدد على سرير الموت هو العربي‪ ،‬ابني‪ .‬كان بين اليقظة و الغيبوبة و هو شاخص البصر ال‬
‫يعلم ما يحدث له مع كل أالئك الذين كانوا يحيطون به بمآزرهم البيضاء‪ .‬لم أستطع التقدم إليه‪ .‬تجمدت ركبتاي‬
‫تماما و كل ما بدر إلى ذهني تلك اللحظة هو أنه كان بإمكاني أن أردعه بالقوة عن الذهاب إلى المظاهرات‪.‬‬
‫جاءتني طبيبة راحت تصف لي حالته و هي تحدثني بالفرنسية‪ .‬قالت بأنه أصيب إصابة بليغة في كليته و أنه قد فقد‬
‫الكثير من الدم و هم يجهزونه لعميلة جراحية مستعجلة لوقف النزيف كما أنهم قد يُجبرون على استئصال الكلية‬
‫المصابة‪ ....‬الكثير من التفاصيل الطبية التي لم أستوعبها في وقتها‪ .‬كنت مشدوها و غير مصدق تماما‪ .‬ثم‪ ...‬ال‬
‫أدري بالضبط ماذا حدث أو أين كنت بقية اليوم‪ .‬حدث شجار بيني و بين أشقاء فاظمة الذين الموني على عدم‬
‫تبليغهم بما حدث‪ .‬انهارت المرأة تماما حين قدومها و علمها أن ابنها في قاعة العمليات‪ ...‬ثم ماذا حدث‪ ...‬ماذا‬
‫حدث‪ ...‬ال أتذكر التفاصيل‪ .‬الكثير من الصور و األصوات و الصراخ و الفزع و عدم األكل و النوم‪ ...‬ثم كانت‬
‫أمسية التاسع و العشرين يبرير‪ .....‬كانت أمسية التاسع و العشرين يبرير‪.‬‬

‫التزم آغاكال الصمت تاركا فسحة لتلك الثواني التي راحت تتحول إلى دقائق‪ .‬كان شارد البصر تماما و كان‬
‫فمه مفتوحا قليال‪ ،‬كأن به يعيد رؤية ما حدث البنه أمسية التاسع و العشرين أفريل‪ .‬ارتبكتُ قليال كوني لم أعلم ما‬
‫يجب عمله‪ .‬أحاول دفعه إلنهاء الحديث عن األمر أم العكس ؟‪ .‬كنتُ بحاجة لسماع أصعب جزء من شهادة الرجل‬
‫الحية في تجربته مع الربيع البربري األسود‪ ،‬لذى اتخذت قراري و بصوت هادئ و حذر أعدته إلى الحاضر‪...‬‬

‫_ ‪ ...‬و في أمسية التاسع و العشرين يبرير‪ ...‬ماس عميروش ؟‪.‬‬

‫تفطن فجأة إلى كوني ال أزال أجلس بالقرب منه و أنا أترقب ما سيقول‪ ،‬فتنهد و قد علت وجهه نظرات عبرت‬
‫عن شيء من الفزع أو عدم التصديق‪ ،‬كأن به ال يزال غير قادر على تصديق ما حدث‪...‬‬

‫_ بدى لنا في صبيحة ذاك اليوم أنه قد اجتاز مرحلة الخطر‪ ،‬فقد استفاق من غيبوبته قليال‪ ،‬تمتم في أذن أمه‪،‬‬
‫حاول تناول بضع ملعقات من الحساء‪ .‬أمسك بيدي محاوال التبسم بصعوبة بالغة‪ .‬كنتُ أخبره بأن األطباء يقولون‬
‫أنه إن استمر في التحسن فسيغادر المشفى في غضون أيام‪ .‬رغم لون وجهه الشاحب جدا‪ ،‬كان شيء من الطمأنينة‬
‫قد بدأ يتسلل بصمت إلى قلوبنا جميعا‪ .‬أنا و والدته‪ ،‬أبواي و أخواله و عمه و عمته‪ .‬جاءني شقيقي األكبر أعراب‬
‫بعد الظهيرة يحثني على العودة إلى المنزل آلخذ حماما و أنام قليال‪ .‬عملتُ بنصيحته سوى أنه و في منتصف‬

‫‪308‬‬
‫الطريق توقفت عند تاجر من العائلة القتناء بعض األغراض‪ ،‬حين أخبرني أن شقيقي اتصل به من المشفى و حثه‬
‫على أن يخبرني بأن أعود أدراجي فورا دون أن يذكر له السبب‪ .‬عدتً أدراجي بسرعة و قد عاد قلبي ليقع أسير‬
‫الوجل و الحيرة‪ .‬كنتُ أشعر به يخفق بشدة و كانت يداي ترتعشان على مقود سيارة أخي‪ .‬كانت معدتي و أمعائي‬
‫منقبضة من الخوف‪ .‬الحقيقة أن حالة العربي كانت قد ساءت فجأة و قد جاءتني طبيبته و هي تخبرني متأسفة أن‬
‫الفريق الطبي يحاول عمل المستحيل حتى يستعيد استقراره‪ .‬شرحت لي الوضع‪ ...‬لكني لم أستوعب ما كانت تقوله‬
‫لي‪ .‬أخرجونا جميعا و قاموا بعزله‪ .‬كانت أطول ساعتين عشتهما في حياتي فقد مرتا و كأنهما مائتي سنة‪ .‬كنتُ‬
‫عاجزا عن النظر إلى والدته المحاطة بأشقائها و كانت هي ال تريد النظر أو الحديث إلي مطلقا فقد كنا نجلس في‬
‫زاويتين متباعدتين‪ .‬جاءنا ممرض و عالمات االرتباك و األسف تملء وجهه‪ .‬تج َّمدتُ في مكاني و أظن أن قلبي‬
‫قد توقف عن الخفقان تلك اللحظة‪ .‬كنتُ أنتظر سماعه و هو يقول أنهم لم يستطيعوا فعل شيء للولد و أنه قد فارق‬
‫الحياة‪ ،‬لكنه أخبرنا بأنه يهدي باسم أمه و هو ما جلع الحياة تعود لي و أنا أتنفس الصعداء‪ .‬قلتُ في نفسي أنه ال‬
‫يزال حيا و أن الوضع ال يمكن أن يكون بمثل الخطورة التي توقعتها‪ .‬طلب الممرض من فاظمة مرافقته لرؤية‬
‫ْ‬
‫فقزت من مكانها مهرولة خلفه حين بقيتُ واقفا في مكاني و أنا عاجز عن التفكير‪ .‬أردت‬ ‫ابنها بطلب من الطبيبة‪،‬‬
‫مرافقتهما‪ ،‬لكن‪ ،‬انتابني الشك‪ ،‬قلتُ في نفسي أن الطبيبة طلبت حضور والته و ليس حضوري‪ ،‬قلت ربما يود‬
‫الصبي رؤية والدته من دوني‪ ....‬كنتُ حائرا تماما‪ .‬جلست في مكاني و أنا أقول لنفسي أنه ال بأس إن كان فعال ال‬
‫يرغب في وجودي بقربه‪ ،‬ف المهم أن تعود فاظمة و هي تخبرنا بأن حاله قد عادت للتحسن‪ .‬لكن بعد نحو ربع‬
‫ساعة‪...‬‬

‫صمت الفخارجي للمرة السابعة أو الثامنة‪ .‬كانت أنفاسه محملة بأثقال حارة كان يسحبها بصعوبة بالغة من‬
‫أعماقه جحيمه‪ ،‬كأنه مكبل بسالسل من العذاب القديم‪ .‬كنتُ أكاد أسمع صوتها بوضوح تام في أنفاسه‪ .‬طأطأ رأسه‬
‫و هو يحاول تمالك نفسه‪ .‬مطط شفتيه‪ .‬ضغط على فكيه ثم أغمض عينيه على إماءة ألم نفسي شديدة الوضوح‪...‬‬

‫_ ارتفع صراخها من الصالة في نهاية الرواق‪ .‬كانت تصرخ بشدة‪ .‬يا اله ال أزال أستطيع سماع تلك‬
‫الصرخات بوضوح داخل رأسي !‪ .‬تلك الصرخات جاءتني كأجراس قيامة معلنة نهاية الكون‪ .‬مجرد أمصال‬
‫راحت تقطع روحي و تهوي بكامل وجودي إلى أعمق مكان يعشش فيه الظالم‪ .‬كانت تلك الصرخات إشارة نهاية‬
‫شيء جميل في حياتي‪ .‬شيء ما اختفى و سيجعل من وجودي شيئا جديدا و مختلفا تماما عما كان‪ .‬أدركتُ ذلك في‬
‫اللحظة التي رأيت فيها الجميع يركضون متجهين صوب مصدر الصراخ‪ .‬بقيت جالسا في مكاني كالتمثال شاخص‬
‫البصر فاتحا فمي من الصدمة و عدم الرغبة في التصديق‪ .‬كيف أمكنني أن أصدق أن ابني الوحيد قد رحل ؟ !‪.‬‬
‫المحمر بكلتي يديه ناحبا و انحنى علي يعانقني بشدة و نحيبه يتدفق‬
‫ّ‬ ‫إلى أن عاد شقيقي أعراب و هو يغطي وجهه‬
‫في أذني كسيل جارف من األسى '' يموث‪ ...‬زيري‪ ..‬يموث‪ ،‬آڨما‪ ...‬يموث‪ '' ...‬كان يقول لي مكررا كلماته‪.‬‬

‫تنهد أغاكال بعمق و هو يخرج علبة السجائر و تناول سيجارة منها كانت تهتز بين إصبعيه واضعا إياها بين‬
‫شفتيه و وجهه يقطر حزنا و أسى‪..‬‬

‫‪309‬‬
‫_ مات الصبي بين ذراعي أمه‪ ،‬فقط ألنه رفض الظلم و النكران في وطنه‪ .‬حدث ذلك قبل وقت قصير من‬
‫مغيب شمس ذاك اليوم‪ .‬أذكر لون تلك األشعة المسائية الحمراء على جدار الغرفة التي احتضنت األنفاس األخيرة‬
‫البني‪...‬‬

‫صمت قليال و هو يتذكر‪ ،‬ثم أشعل السيجارة التي تلطخت بشيء من الصلصال الذي علق بين أصابعه‪ .‬و‬
‫وضع الوالعة جانبا دون أن يلتفت إلي‪ .‬كان بصره ال يزال سارحا في الفراغ‪...‬‬

‫_ أجل‪ .‬أذكر لون تلك األشعة‪....‬‬

‫نهض فجأة و عبر إلى خارج الورشة‪ .‬ابتعد بضع خطوات عن عتبة الباب و راح يسير ذهابا و إيابا و هو‬
‫يطأطئ رأسه ممسدا بيمناه على قفاه‪ .‬اغتنمت الفرصة لتفقد هاتفي المحمول الذي كان يسجل كل شيء‪ ،‬ثم نظرت‬
‫إلى الرجل و أنا أشعر بأسف شديد على حاله‪ .‬كنتُ فقط أر ِّدّد بداخلي‪ '' :‬كم من قصة صحفية ؟‪ ،‬كم من رواية ؟‪،‬‬
‫كم من كتاب ؟‪ ،‬كم من دراسة ؟‪ ،‬كم من سلسلة وثائقية و تلفزيونية ؟‪ ،‬كم من فيلم‪ ،‬يمكن توثيق تاريخنا به لو‬
‫جمعنا كل هذه اآلهات الصامتة لهؤالء اآلباء و األمهات المفجوعين في أبنائهم الذين راحوا ضحايا انتفاضة‬
‫‪ .'' ! 4110‬كان الرجل في تلك األثناء كمن يصارع وحشا من األلم‪ ،‬ظل حبيسا في صدره و هو عاجز تماما عن‬
‫طرده أو إخماده‪ .‬بعد نحو خمس دقائق من التفكير و السير في حلقة مفرغة‪ ،‬تنهد بعمق ماسحا دموعه ثم عاد‬
‫ليجلس في مكانه‪.‬‬

‫_ أنا‪ ،‬أنا حقا آسف‪ ،‬ماس عميروش !‪...‬‬

‫أعادته كلماتي إلى الحاضر مرة أخرى‪ .‬التفت إلي‪ .‬ألقى ببسمة مصطنعة ثم طأطأ رأسه مكمال الحديث عما‬
‫حدث بعد ذلك‪ .‬أقيم المأتم‪ .‬تم دفن الفقيد الصغير‪ .‬بعد بضعة أيام من ذلك تم استدعاء آغاكال إلى تاجماعت‪ .‬قيل له‬
‫بأن أهل المرا يرغبون في استردادها إلى عهدة وليها‪ .‬هي نفسها طلبت منه الطالق‪ .‬لم يعترض و لم يقاوم‪ .‬أعادها‬
‫إلى أهلها و كأن شيئا لم يكن‪ .‬قال لي بأن الحياة تُفرق بين األحبّة تماما كالموت‪ ،‬كما يُقال في أمثال القبايل‪ .‬لم يكن‬
‫في طوره إطالقا تلك األيام‪ .‬لم يكن يستطيع الشعور بشيء‪ ،‬حتى حين قيل له أن المسكينة قد تم إدخالها إلى مصح‬
‫عقلي بعد نحو أسبوعين من ذلك‪ .‬لم تستطع تجاوز محنة ابنها القتيل فانهارت عصبيا !‪.‬‬

‫بعد أسابيع جاءه شقيقه آعراب ليحاول إقناعه بالمشاركة في المسيرة الحاشدة التي قررت حركة العروش‬
‫تنظيمها نحو العاصمة لمحاولة لقاء رئيس الدولة و إعطائه أرضية مطالب القصر‪ .‬قال بأنه راح يضحك و هو‬
‫ينظر إلى وجه أخيه الذي علته الحيرة الممزوجة بالغضب خاصة و أنه كان نصف سكران‪ ،‬قبل أن يزيده‪'' :‬‬
‫حناجر حاقدة في مواجهة آذان صماء‪ ...‬ال أفهم الغاية من كل هذا ''‪ .‬انتفض شقيقه في مكانه‪ .‬نعته بكل األوصاف‬
‫القبيحة‪ .‬نعته باألبله و الجبان و عديم الضمير و الخائن‪ ....‬و سأله كيف يمكنه أال يشارك في المسيرة و هو ضحية‬
‫مباشرة لألحداث المأساوية التي عصفت بالمنطقة !‪ .‬قال بأنه لم يزد معه في الجدال و دخل إلى هذه الشقة مغلقا‬
‫الباب خلفه و هو يتحدا أعراب قائال‪ '' :‬انتظر بعد بضعة أشهر‪ ،‬بل بعد بضع سنوات‪ ،‬و أخبرني عن قادة العروش‬

‫‪310‬‬
‫أين سيصلون بنضالهم هذا ''‪ .‬لم ير شقيقه بعد ذلك‪ .‬هاجر أعراب إلى كندا ملتحقا بحركة الماك‪ .‬بعده بوقت قصير‬
‫هجرت شقيقته مليكة رفقة زوجها و أبنائها إلى فرنسا و هي تقسم بأال تعود أبدا إلى هذا البلد‪.‬‬

‫_ لكن هذه األحداث و المسيرة المليونية التي أعقبتها في العاصمة قد جعلت صوت هذه القضية يفرض نفسه‬
‫فعليا‪ ،‬ماس عميروش ؟‪.‬‬

‫_ بفضل دماء ‪ 049‬قتيل و أكثر من ‪ 2111‬جريح فيهم عشرات المشلولين و المعطوبين‪ ،‬و العشرات من‬
‫األقالم و العقول و الحناجر المتنورة و المتع ّقلة التي أحسنت التعريف بعدالة هذه القضية و أهميتها القصوى‬
‫بالنسبة لمستقبل البلد‪ ،‬كان ال بد على النظام السياسي أن يفهم و يُنصت في النهاية يا أمداكول‪ .‬أجل‪ 049 ،‬شهيدا‪،‬‬
‫من بينهم ابني‪ .‬و إلى اليوم الكثيرون ال يزالون يصرون على نكران هوية هذا الوطن !‪.‬‬

‫_ و الحل‪ ،‬برأيك‪ ،‬ماس عميروش‪...‬‬

‫_ القديس أغسطين حصر األمر قبل ‪ 0111‬عام من اليوم في جدلية أساسية‪ :‬أنؤمن حتى نفهم أم نفهم حتى‬
‫نؤمن ؟‪.‬‬

‫_ لقد سبقني إذن إلى قلق السؤال على ما يبدو !‪ .‬كيف سأستريح بعد اآلن من عذاب هذا الوطن و أنا أسمع‬
‫قصصا و تجارب كهته ؟ !‪.‬‬

‫نظر إلى ببسمة بانت في عينيه أكثر مما ارتسمت على شفتيه و هو يقول بنبرة داعية تكاد تكون مجرد‬
‫همسات‪...‬‬

‫_ أال تعتقد أنك حفرت طويال بحثا عن كل السلبيات الموجودة في عقلية هذا الشعب ؟ و قد عثرت عليها‬
‫فعال !‪ .‬ألم يحن الوقت اآلن لتبحث في األشياء الجميلة التي تميزه ؟‪.‬‬

‫_ ال أرغب إطالقا في أن يعود هذا البلد إلى األسوأ‪ ،‬بل أريد لنا اآلن أن نقفز إلى الحسن‪ ،‬لكن‪ ...‬تلك البذرة‪،‬‬
‫تلك البذرة القبيحة الدنيئة !‪.‬‬

‫_ ال لقاح لكلبك الجزائري الشرير القذر يا فتى !‪ .‬في اعتقادي أن الخطأ هو أن تستمر في تركيز كامل قلقك‬
‫منه على نفسك و تغفل البحث عن شيء أفضل منه‪.‬‬

‫نظرتُ إليه فجأة‪ .‬كان يبتسم بهدوء‪...‬‬

‫_ البذرة موجودة فينا بالفطرة و ال سبيل إلى تجاوز أضرارها إال بالبدء في االعتناء بالبذرة الطيبة فينا يا‬
‫أمداكول !‪ .‬انظر إلى األمم التي سطرت تاريخا عظيما فيما مضى‪ ،‬جميعها ركزت على ما يصنع قوتها‪ ،‬و رغم‬
‫كل عيوبها الفطرية‪ .‬أحبَّ هذا الوطن على طبيعتك الحقة‪ ،‬أحبه على طبيعته األلفية‪ ،‬و لسوف يعطيك ما يريده‬
‫قلبك !‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫بدى لي كالمه تلك اللحظة قد حاد نحو شيء من االبتذال‪ ،‬و قد استشعر ما أحسست به من فوره و هو يفحص‬
‫نظرتي غبر الواثقة‪ ،‬فعاد سريعا ليؤكد لي أنه جاد تماما فيما يقول دون أن ينظر إلي‪...‬‬

‫_ أتعلم يا أمداكول السر الذي جعل الشعب اإلنكليزي‪ ،‬كمثال‪ ،‬يفتح ثالثة أرباع العالم خالل ثالثة قرون‪ .‬السر‬
‫الذي جعل هؤالء االنجليز الشجعان يربحون معظم نزاالتهم التي خاضوها مع التاريخ‪ ،‬على شراستها ؟‪.‬‬

‫نظرتُ إليه مستفهما أنتظر جوابه‪ ،‬فتنهد ملقيا إلي بنظرة الواثق‪....‬‬

‫_ إنهم شعب يهوى المالكمة من دون قفازات !‪.‬‬

‫على قلة تلك الكلمات‪ ،‬وصلتني فكرته بوضوح صارخ‪ .‬التزمنا الصمت و لم نزد كلمة واحدة بعد كل ذلك‬
‫الحديث‪ .‬كان كل واحد فينا يعاني نزيف أفكار حاد داخل رأسه‪ .‬آغاكال كان نزيفه مرتبطا بالذاكرة أكثر في تلك‬
‫اللحظات كما خ َّمنت‪ .‬كان قد عاد للعمل على دوالبه و هو يرمق قطعة الطين تلك بنظرات غائرة و حزينة‪ .‬كان‬
‫يفكر في ابنه على األرجح‪ .‬أما أنا‪ ،‬فقد كنت مأخوذا تماما بكل الذي سمعته منه‪ ،‬و بقدر ما تأثرت بمأساته‬
‫الشخصية جراء فقدانه البنه الوحيد و انهيار حياته الخاصة و االجتماعية‪ ،‬إال أن فكري كان مشدودا أكثر إلى ما‬
‫ختم به حديث تلك األمسية‪ '' .‬هل كان ا لموضوع كله يدور حول موضوع شخصية أو هوية الشعب و الوطن منذ‬
‫البداية يا ترى ؟ ''‪ .‬سألتُ نفسي بشكل متكرر غير منقطع‪ .‬هل يعقل أن طريقي في بحثي عن سبقي النهائي قد‬
‫أوصلني فعال إلى الساحة التي كان ال بد لي أن أعثر فيها على '' أم الثمرات الخبيثة '' التي بحثت عنها طويال‪ ،‬فإذا‬
‫بي أع ثر على هذا الرجل الذي أقنعني بشكل ما على أن أنسى أمرها و أبحث عن شيء آخر مختلف تماما‪ :‬أم‬
‫الثمرات الطيبة ؟‪ .‬الحقيقة التي ال يرغب أحد في البحث عنها !‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬ماذا لو كان آغاكال على حق في النهاية ؟‪ .‬ماذا لو كانت معضلة هذا البلد و هذا المجتمع تكمن أساسا في‬
‫كونه لم يطرح األسئلة الصحيحة و لم يبحث عن الحلول في األماكن الصحيحة ؟‪ .‬ماذا لو كانت مشكلته تكمن في‬
‫كونه لم يرغب يوما في طرح األسئلة األكثر إزعاجا لراحته و األكثر تهديدا ليقينياته‪ ،‬أو لما يعتقده يقينيات غير‬
‫قابلة للتغيير ؟‪ .‬من قال أن اليقينيات ال يمكنها أن تتغير أو تُغير ؟‪ .‬ماذا لو كنا فعال نعيش في نهاية المطاف أزمة‬
‫الال ُمفكَّر فيه ؟؟؟‪ .‬ما أغربك يا آغاكال !!‪.‬‬

‫_ هي الهوية الوطنية يا ترى ؟ !‪.‬‬

‫تمتمت مع نفسي في اللحظة التي جاءنا فيها صوت الشاب مولود و هو يرفع آذان المغرب من مسجد القرية‬
‫الصغير معلنا عن دخول وقت اإلفطار‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫‪VII‬‬

‫أسرار الخادرات‬

‫‪313‬‬
‫‪-25-‬‬

‫الباقات المنسية‬

‫ربما وجب على كل جزائري أن يبدأ حقا في محاوالت جادة و صادقة و نهائية ليفهم روح هذا البلد و كيف‬
‫يتنفس حياته منذ قرون‪ .‬كانت تلك قناعة بدأت تترسخ في ذهني الذي كان قد ألف جرعات هواء الجبال القبايلية‪.‬‬

‫مرت األيام و انغمستُ كلية في حياتي اليومية وسط قوم تيميزر‪ .‬أستفيق صباحا على أنغام الشيخ الحسناوي‬
‫أو سيدة الطرب القبايلي حنيفة‪ .‬أرافق الدا إيدير إلى أسفل األخدود لنجمع قطع الصلصال المترامية على أطراف‬
‫الوادي في سالل تحملها تامكديت‪ ،‬البغلة الحمراء الهزيلة التي اشتراها الدا إيدير قبل أكثر من عقد‪ ،‬و التي حفظت‬
‫مسار ذلك الطريق غير المعبد بكل تعرجاته الوعرة و أحجاره المباغتة‪ ،‬كما حفظ صاحبها ثنايا الوادي التي تكتنز‬
‫قطع الغضار التي انحصر عنها مسار المياه‪ ،‬و التي يقوم عليها رزق أسرته الصغيرة المتواضع‪ .‬نعود صعودا‬
‫بالمادة األولية إلى البيت‪ ،‬حيث تقوم نانه تاملسة صاحبة الوجه البشوش و العينين الضاحكتين بتفتيتها و تبليلها ثم‬
‫غ سلها و عجنها و تجهيزها في شكل كومة تتركها لتجف بعض الشيء داخل وعاء خشبي مفروش بالرمل‪ ،‬عادة‬
‫ما يوضع تحت شجرة زيتون‪ ،‬لنقوم أنا و آغاكال الحقا بتقطيع الطين الرطبة التي تتحول إلى عجينة ذات رائحة‬
‫مميزة إلى أجزاء و كريات صغيرة ذات أحجام و أوزان محدَّدة‪ ،‬نخرج منها أواني مختلفة على دواليبنا الدوارة‪،‬‬
‫جرار‪ ،‬كؤوس‪ ،‬صحون‪ ،‬أباريق‪ ،‬نتركها لتجف بعد التشكيل‪.‬‬

‫تعود نانه تاملسة لتأخذها إلى الحرق‪ ،‬ثم أستمتع بمجالستها في فناء بيتها‪ ،‬حين تنطلق في زخرفة و تلوين‬
‫األواني الفخارية الجاهزة بأشكال هندسية بربرية ذات استمرار ألفي‪ ،‬غاية في الدقة و التناسق‪ .‬مثلثات و مربعات‬
‫و معينات سوداء و حمراء‪ .‬بنية و صفراء و خضراء‪ .‬متداخلة تارة و متباعدة تارة أخرى‪ ،‬تأخذ في الكثير من‬
‫األحيان أشكاال أقرب إلى السالسل الجبلية و النباتات و الطيور و بعض الزواحف و الحشرات‪ .‬تكون نانة تاملسة‬
‫تلك اللحظة بصدد التأكيد على عالم بربر الجبال المليء بالرموز التي تجد ارتباطا عميقا لم ينقطع منذ قرون‬
‫طويلة مع أنفاس الطبيعة و مزاج الطقس المتداخل فطريا مع مزاج هؤالء الناس‪ .‬تخط تلك الرسوم بيدها التي‬
‫يو‬
‫تمألها التجاعيد و بعض الوشم‪ .‬يد ثابتة جدا لم تؤثر عليها السن المتقدمة للعجوز التي ال تكف عن الحديث إل ّ‬
‫أنا أجالسها‪ ،‬رغم علمها أني ال أكاد أفقه شيئا من كالمها‪ ،‬إال أنها تستمر في الحديث و الضحك بل و حتى الغناء‬
‫في بعض األحيان‪ ،‬كأنها تبذل جهدها كي تجعلني ال أشعر بالملل‪ ،‬أو أنها ببساطة تعبِّّر بطريقة ما عن امتنانها‬

‫‪314‬‬
‫بمجالسة أحدهم‪ ،‬بما أن زوجها الكهل يمضي الكثير من وقته زائغ البصر غائصا في أفكار و ذكريات ال أحد يعلم‬
‫تفاصيلها‪ ،‬و إن كان آغاكال قد قص علي كل شيء‪ ،‬أو هذا األخير الذي يمضي جل ساعات يومه على دوالبه أو‬
‫هائما في غابة األحاديث‪ .‬طبعا يجب التذكير بأنه ال أحد في القرية يزور العجوز تاملسة أو يحتك بها عدا بعض‬
‫العجائز الالتي تلتقي بهن في تالة‪ .‬لهذا تبدو المسكينة كمن أثقلها ضجر الشيخوخة التي لم تنصفها بعد سنوات‬
‫حافلة باألحداث و التحديات المؤلمة و الصبر الخارق‪ .‬هكذا تجد سعادة شبه طفولية حين يجالسها أحد ما و هو‬
‫يبين لها أنه مهتم بما تفعل‪.‬‬

‫تقدمتُ كثيرا في تنفيذ اتفاقي مع الفخارجي و بالكاد كنتُ قد أنهيت عدد األواني الفخارية ال ُم َّ‬
‫عوضة و أكثر من‬
‫ذلك‪ ،‬صرتُ أتحكم بشكل شبه كلي في دوالبي و في القطع الطينية التي أداعبها بلطف و مهارة بأناملي‪ .‬صار ذلك‬
‫شيئا يعجبني كثيرا إذ أنه دفعني إلى اكتشا ف بعض األمور عن سر إدمان آغاكال لهذه الحرفة‪ ،‬و هي أنها صنعة‬
‫أو نشاط قد يخفف الكثير من التوتر النفسي‪ ،‬بل و قد يدفع صاحبه إلى الغوص في التأمل‪ ،‬و بمساعدة عامل الزمن‬
‫فإن تلك الحرفة تعيد صياغة طريقة تفكير ممارسها بشكل ما‪ ،‬و تجعل منه مفكرا بطبعه‪ ،‬تماما كما يقوم هو‬
‫بصياغة أشكاله التي تدور فوق دوالبه‪ .‬آغاكال كان قد تحول من شاب قبايلي شديد االندفاع و التعصب لقضيته‬
‫القومية إلى كهل مرن التفكير‪ ،‬أو ألقل أن فكره كان مرنا و سلسا و هادئا كالطين تماما !‪.‬‬

‫كنتُ في بعض األحيان أرافق آغاكال إلى ورشته لتعليم أطفال القرية أصول صناعة الطين‪ ،‬حيث كنتُ أراقبه‬
‫و هو يحدث تالمذته الصغار عن التراب و الطين و اإلنسان و الثقافة في هذا البلد‪ .‬لم أكن أفهم كل ما كان يقوله‪،‬‬
‫لكنني و من كثرة مجالستي له‪ ،‬بتُ أعرف تقريبا عما يتحدث بمجرد فحص تقاسيم وجهه و التفاصيل الصغيرة‬
‫لحركة حاجبيه و شفتيه و يديه و نبرة صوته‪ .‬التالمذة الصغار صاروا أصدقائي أيضا‪ .‬يحيونني بحرارة‪ .‬بعضهم‬
‫يفعل ذلك بخجل‪ ،‬كالطفلة تاسعديت‪ ،‬و البعض اآلخر يفعل ذلك بالقفز علي و محاولة تسلق ظهري أو التشبث‬
‫بذراعي‪ .‬كنتُ أ جالسهم أوقات الفراغ داخل غرفة الدرس و أنا أحمل دفتري و قلم الرصاص‪ ،‬أسجل ما استطعت‬
‫من كلمات و ألفاظ و تعابير بربرية‪ ،‬بما أني كنت ماض في بذل ما أستطيع لتعلم هذه اللغة التي حتما كان يتحدثها‬
‫جدي فيما مضى‪ .‬كان األمر برمته يبعث شكال من االبتهاج في عيون األطفال أو غيرهم من القرويين الذين باتوا‬
‫يعرفونني‪ ،‬حين أستوقف أحدهم ألسأله بنبرة بربرية متعثرة عن معنى كدى أو كدى‪ ،‬فيضحك و تظهر على وجهه‬
‫إشراقة غامضة و هو يصحح لي جملتي االستفهامية ثم يُجيب عن سؤالي بكل حماس و مودة‪ .‬بالنسبة إلى هؤالء‪،‬‬
‫فإن شخصا يحاول قدر المستطاع تعلم لغتهم األم‪ ،‬هو شخص جدير بكل االحترام و حتى الحب‪ ،‬ال لشيء‪ ،‬سوى‬
‫لعمق الجراح التي يحملها وعيهم الجماعي حول كل ما عانوه في سبيل افتكاك حقهم الدستوري في االعتراف‬
‫بلغتهم و ثقافتهم األصلية‪ ،‬التي كنتُ قد بدأتُ أعتقد في النهاية أنها يجب فعال أن تكون لها مكانتها الكاملة في هذا‬
‫الوطن‪.‬‬

‫ال أدري‪ ،‬لكن األمر برمته بدا تلك األيام و كأنه علبة دخلتها بتلقائية و أقفلت على نفسي كي أستغرق في‬
‫التأمل و التفكير و اكتشاف األشياء الجديدة‪ .‬كنتُ كثيرا ما أسير رفقة آغاكال في شوارع و زقاق القرية النظيفة و‬

‫‪315‬‬
‫المرصوصة بالحجارة‪ ،‬بين المنازل و أصوار الحجر و الطوب العريقة‪ ،‬و هو ال يكف عن الحديث عن التاريخ‬
‫القديم لهذه األرض‪ ،‬و هذا الشعب‪ ،‬و قد تزامن ذلك و رغبة قوية و غريبة‪ ،‬كانت قد بدأت تنتابني في معرفة‬
‫الحكاية منذ بدايتها‪ .‬فقط كنتُ مترددا لسبب لم أفهمه تحديدا‪.‬‬

‫الوقت الذي وفرته على نفسي حين لم أعد ملزما بصناعة الفخار لساعات طويلة‪ ،‬أفسح لي المجال للقيام‬
‫بأمور أخرى‪ .‬لقد عدتُ إلى المطالعة‪ ،‬لذلك عكفت على قراءة ما يوجد في خزانة الحرفي من كتب و روايات‬
‫لوجوه طالما عرفتها و قرأتُ عنها‪ ،‬لكن لم أقرأ لها من قبل‪ ،‬و المثير في األمر أني حين انطلقت في قراءة رواية‬
‫‪ Le Fils Du Pauvre‬لمولود فرعون‪ ،‬كنتُ أعيد اكتشاف قرية تيميزر و يومياتها بشكل ما‪ ،‬بل و كنتُ أرى‬
‫لمحات هاربة من طفولة آغاكال في طفولة و أحالم بطل الرواية‪ ،‬الطفل البربري '' فورولو ''‪ .‬وصف مولود‬
‫فرعون لشكل قريته التي كتب عن األحوال التي كانت تسودها و تسود قرى القبايل بين سنوات األربعينات و‬
‫الخمسينات‪ ،‬كان أقرب بكثير إلى حال قرية تيميزر التي توقف تغيرها في العمران و تجمد عند عتبة الخمسينات‪،‬‬
‫في حين استمرت قرى القبايل األخرى في التطور رويدا رويدا مع الزمن‪.‬‬

‫أنهيت قراءة ابن الفقير في بضع ساعات ألنطلق في اكتشاف ‪ La Terre Et Le Sang‬لنفس األديب‪ ،‬التي‬
‫جعلتني اكتشف شخصية العجوز '' كمومة '' و مأساتها مع الفقر و الوحدة‪ ،‬بعد فقدان زوجها الشيخ '' قاسي '' قبل‬
‫عودة ابنها الوحيد '' عامر '' من غياهب الغربة رفقة زوجته الفرنسية‪ .‬كنتُ ماضيا في اكتشاف أو إعادة اكتشاف‬
‫الحياة الصعبة لهؤالء القبايل في قمم جبالهم الوعرة القاسية‪ ،‬و اكتشافي لبدايات ثقافة الهجرة المتجذرة فيهم أيضا‪.‬‬
‫قيمهم األخالقية العالية و عيوبهم القبيحة كذلك‪ ،‬التي طالما شممتُ روائحها المستفزة المتصاعدة من المجتمع‬
‫الجزائري الحالي‪ ،‬فالكاتب انتقد كثيرا حال المهاجرين القبايل األوائل الذين غامروا بالتنقل إلى الضفة األخرى قبل‬
‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬ناقلين بؤسهم‪ ،‬جهلهم و صراعاتهم القروية السخيفة إلى مدن أوروبا الكبيرة‪ ،‬حين كانت‬
‫جماعات إثنية أو ثقا فية أخرى مهاجرة قد تجاوزت ذلك و تعلمت سبل التكتل و التنظيم و الدفاع عن مصالحها‬
‫الجماعية‪ .‬جعلني ذلك أفكر في كالم آغاكال أول مرة يوم فتح لي خزانة كتبه‪ ،‬كون أن هذا الشعب في النهاية ال‬
‫ينتمي إال إلى الجبال و البوادي‪ ،‬حيث عاش أسالفه األولون‪ ،‬مهما حاول إنكار ذلك‪ .‬أما مولود فرعون و بحديثه‬
‫عن قيم القوة و الضعف‪ ،‬الفقر و الثراء‪ ،‬األبهة و الوضاعة في المجتمع القروي لعشرينات القرن الماضي‪ ،‬قد أكد‬
‫لي على أن نفس القيم قد تسربت خفية إلى المجتمع الجزائري الحالي‪ ،‬بل و حتى إنها ال تزال تنام بكل ثقلها على‬
‫وعي و ال وعي من يحكمون البالد و تحدد سلوكياتهم في الحكم‪ ...‬تلكم هي الموسطاشيا و ابنها غير الشرعي‪...‬‬
‫الحهر !!‪ .‬هكذا إذن‪ ،‬جل العيوب الحالية للجزائريين قد تجد جذورها األولى في الحياة الجبلية السابقة ألسالفهم‪.‬‬
‫أعتقد أن نظريتي حول الموضوع كانت صحيحة منذ البداية و ها هو فرعون ينصفني حتى قبل أن أولد !‪ .‬دفعني‬
‫ذلك إلى التأمل في كل مرة أرمي فيها ببصري إلى سالسل جرجرة الشاهقة‪ ،‬التي وصفها فرعون في روايته‬
‫وصفا فيه الكثير من الخشوع‪ ،‬و أنا أقول في نفسي أن جدي عاش في مكان ما من هذه األرياف القبايلية المترامية‬
‫عند أقدام الجبل العمالق ذات يوم‪ .‬تص ورته شيخا قبايليا نكدا‪ ،‬سريع الغضب‪ ،‬سليط اللسان‪ ،‬نافذ البصيرة‪ ،‬واسع‬
‫الحيلة‪ ،‬يتمايل في برنسه األبيض و يغطي رأسه المليء بالحكم و التجارب و الفطنة و الخدع تحت قلنسوة بيضاء‪،‬‬
‫و ربما يجر خلفه حمارا‪ .‬كالشخصيات التي رسمت عالم مولود فرعون ؟‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫لألمانة‪ ،‬فقد بدأتُ فعال أعجب بهؤالء القبايل و أكثر ما أعجبني فيهم هو حسهم العميق بالمسؤولية‪ ،‬ثقافتهم‬
‫المجتمعية العميقة التي يجسدها تعلقهم بعوائلهم و أراضيهم و حيواناتهم و تماسكهم و التزامهم باألفكار التي‬
‫يؤمنون بها– بغض الطرف عن فحوى تلك األفكار– بل بدأتُ أعجب بفكرة أصولي القبايلية‪ ،‬التي راحت تدغدغ‬
‫فكري و تغريني بشكل غامض امتزج فيه الفضول بشيء من التردد‪.‬‬

‫راح ذلك اإلعجاب و الحماس يتصاعدان أكثر فأكثر حين انطلقتُ في قراءة الرواية التالية لمولود فرعون‬
‫‪ Jours De Kabylie‬حيث صادف و أن حضرتُ مجلس القرية األسبوعي الذي يعقد صبيحة كل يوم خميس‪،‬‬
‫و تزامن ذلك مع انتهائي من فصل الرواية اآلنفة الذكر الذي يتحدث عن تاجماعت‪ .‬توجهتُ إلى تاجماعت تيميزر‬
‫و أنا ال أزال أحمل الكتاب في يدي‪ .‬وجدتُ األمر في غاية اإلثارة و حتى التسلية للطفل الصغير بداخلي‪ .‬قلت في‬
‫نفسي أني أعيش فصال من فصول حكايات فرعون و أنا أرى ساحة تاجماعت التي تقابل جامع القرية و قد بدأت‬
‫تمتلئ بالمواطنين القادمين لحضور الجلسة‪ ،‬التي خصص جزء كبير منها لمناقشة موضوع مشاركة تيميزر‬
‫األولى في مسابقة أجمل و أنظف قرية قبايلية‪ ،‬التي تقام كل عام في تيزي وزو‪ ،‬و التي تعرف منافسة شديدة بين‬
‫مختلف القرى التي تحاول إعطاء النموذج األروع عن القرية القبايلية النموذجية‪ .‬عجبا‪ ،‬فتلك كانت أول مرة أسمع‬
‫فيها بوجود مسابقة كهذه في الجزائر‪ ،‬و الحقيقة أنها ال توجد إال في بالد القبايل فقط !‪ .‬فهمتُ سبب نظافة و تنظيم‬
‫قرى '' إيقفايلين '' في أيامنا الحالية على العموم‪ ،‬و قد كانت تلك نقطة اختالف جوهرية مع قرى زمن مولود‬
‫مغبرة بشكل خانق في فصول الحر و موحلة متسخة في مواسم األمطار و البرد‪ .‬بدى‬
‫ّ‬ ‫فرعون‪ ،‬التي وصفها بأنها‬
‫لي أن القبايل القرويين قد رفعوا التحدي و تجاوزوا تلك العثرة الحضارية الصغيرة بخطوات عمالقة‪.‬‬

‫كنتُ أراقب الناس و هم يستمعون آلراء بعضهم البعض بكل اهتمام و احترام‪ .‬من يرغب في الحديث يستسمح‬
‫الجمع و يقف في مكانه أو يسير إلى وسط الساحة‪ ،‬أين يمكن للجميع رؤيته و سماعه بوضوح‪ ،‬خاصة أعالم‬
‫القرية و شيوخها المرابطين‪ ،‬فيدلي بدلوه و رأيه‪ ،‬و قد يحدث و أن يدخل في مد و شد مع أحدهم أو الكثير منهم‪،‬‬
‫ق د يصل إلى بعض التشنج‪ ،‬إال أن األمور كلها تسير في إطار من النظام و االنضباط العام‪ ،‬خاصة أن الجميع على‬
‫وعي تام أن كل المسائل المطروقة إنما هي مسائل تصب في المصلحة العامة للقرية‪ ،‬فال وجود لجداالت ذات‬
‫خلفيات شخصية بين الناس في تاجماعت إال نادرا‪ ،‬حين يتعلق األمر بفك نزاعات ذات طابع عائلي‪ .‬و الغريب في‬
‫األمر – بالنسبة لي كشاب و غريب – هو أن الشباب في مقتبل العمر يشاركون الجلسات العامة و يناقشون‬
‫المشكالت و يتجادلون في األفكار بكل فصاحة و جرأة‪ ،‬و األكثر إثارة من ذلك هو أن األكبر سنا يستمعون إليهم‬
‫بكل اهتمام كاستماع هم لمن هم في مثل سنهم المتقدمة‪ ،‬حتى و إن لم يوافقوا على ما يحمله شباب القرية من‬
‫توجهات أو أفكار أو نزعات قد تبدو غريبة بالنسبة لألكبر سنا‪ .‬حين سألتُ آغاكال الذي كان يتقاسم مكانه المعتاد‬
‫في تاجماعت معي‪ ،‬أفادني بأنها ثقافة مجتمعية تجذرت مع مرور القرون بفضل تاجماعت‪ ،‬جعلت من اإلنسان‬
‫القبايلي – على العموم – شخصا ملتزما و ذو عقلية '' حركية '' أو '' جمعوية '' تدفعه دوما لالنخراط في شيء ما‪،‬‬
‫ثم أشار بيده إلى الكثير من الصبية الذين كانوا يراقبون سير الجلسة‪ ،‬و قال بأن كل واحد منهم يتوق في نفسه‬
‫ليكون قادرا ذات يوم على اختيار مكانه الدائم في هذه الساحة حين يبلغ سن الرشد القانونية‪ ،‬التي تأذن باالنتساب‬
‫الرسمي لتاجماعت‪ ،‬و أضاف بنبرة ساخرة أنه لطالما حلم بذلك مع أقرانه أيام الصبى و مثلوا أدوار أعضاء‬

‫‪317‬‬
‫تاجماعت في ألعابهم‪ .‬من يجد مكانه في تاجماعت‪ ،‬يعني أنه قد صار رجال بالغا و أن له صوت و رأي مسموعين‪.‬‬
‫ثم سألني بصوت خافت و هو مستمر في مراقبة سير الجلسة‪....‬‬

‫_ ألم تسأل نفسك يوما عن سر التواجد الالفت للقبايل في كل أشكال المنظمات و االتحادات و النقابات و‬
‫األحزاب و الحركات النضالية‪ ،‬بدأ بالحركة الوطنية و وصوال إلى أيامنا هذه ؟‪ .‬برأيك‪َ ،‬لم يُعتبر القبايل‪ ،‬قياسا إلى‬
‫بقية الجزائريين‪ ،‬األكثر ميال نحو التكتل و التنظيم و األكثر قدرة على التجند لمختلف أشكال النظم االجتماعية ؟‪.‬‬

‫لم أقل شيئا‪ .‬تفرست وجهه للحظة‪ ،‬ثم نظرت إلى كتيب أيام القبائل الذي فتحته على الفصل الذي كنتُ قد‬
‫أنهيت مطالعته و أنا في طريقي إلى تاجماعت‪ .‬أعدتً قراءة فقرة أثارتني في األمر‪ ،‬حيث كتب فرعون يقول‪:‬‬

‫‪« On vient à la djmaâ pour se comporter en homme, tenir un‬‬


‫‪langage d’homme, regarder les autres en face : son frère, son‬‬
‫‪ami, son ennemie. On y vient écouter les vieux ou enseigner les‬‬
‫‪jeunes. On y vient pour se montrer, pour ne pas céder sa place‬‬
‫‪sur la dalle. Rien n’est plus beau qu’une djmaâ pleine comme‬‬
‫‪une grande famille unie, décidée et forte. Autrefois c’était cela‬‬
‫» ‪la djmaâ….‬‬

‫( نحضر إلى الجماعة – تاجماعت – للتصرف بصفتنا رجاال‪ ،‬لنتحدث كالرجال‪ ،‬لنقابل اآلخرين وجها لوجه‪،‬‬
‫نعلّم الصغار‪ .‬نحضر هنا لنفرض ذواتنا‪ ،‬كي ال نترك‬
‫األخ‪ ،‬الصديق‪ ،‬الخصم‪ .‬نحضر هنا لننصت إلى الكبار أو ِّ‬
‫أماكننا شاغرة في الساحة‪ .‬ليس هنالك أجمل من جماعة ممتلئة كعائلة كبيرة موحَّدة‪ ،‬عازمة و قوية‪ .‬هكذا كانت‬
‫الجماعة ذات مرة )‪.‬‬

‫أقفلتُ الكتاب متأمال القوم‪ .‬كان آغاكال ينظر إل ّ‬


‫ي قبل أن يشير ببصره نحو مجلس القرية‪ ،‬كأنه يقول لي بأن‬
‫الجواب عن سؤاله اآلنف يكمن في مؤسسة تاجماعت و ما تزرعه في نفس القبايلي منذ الصغر‪ ،‬من حب االنتماء‬
‫التج ّند و االلتزام و النضال‪ ........‬و التضحية‪.‬‬

‫_ '' َلم لم أر األمر من هذه الزاوية حين أتيتُ إلى هنا أول مرة ؟ ''‪.‬‬

‫سألتُ نفسي بصمت‪ ،‬قبل أن يأتيني الصوت الخافت ألغاكال مرة أخرى و هو مستمر في مراقبة سير الجلسة‬
‫و نقاشاتها‪ ،‬ثم أخبرني بأنه قديما‪ ،‬حين كان الطفل القبايلي يولد‪ ،‬يحصل تلقائيا على ثالثة حقوق أساسية ال يستطيع‬
‫أحد في العالم حرمانه منها‪ :‬األول هو الحصول على حماية ال مشروطة من طرف أسرته الصغيرة من الجور‬
‫المحتمل لعائلته الكبيرة و حماية هذه األخيرة من أي ظلم محتمل للعرش أو القبيلة‪ ،‬إال إذا تعلق األمر بأوامر أو‬
‫أحكام تاجماعت‪ .‬األمر الثاني هو حقه الثابت في الميراث مهما كان متواضعا‪ ،‬و غالبا ما كان ذلك على حساب‬
‫اإلناث في العائلة لألسف‪ .‬و األمر الثالث هو مكان ثابت يكتسبه في تاجماعت عند البلوغ‪ .‬اليوم اختلفت الكثير من‬

‫‪318‬‬
‫األمور في معظم قرى القبايل‪ ،‬إال أن تاجماعت بقيت واقفة كحارس أمين ضد كل أشكال التعصب القبلي‪،‬‬
‫النزعات الفردية المد ِّّم رة و الالمسئولية االجتماعية‪ ،‬رغم التغير الذي مسها هي األخرى من حيث أنماط العمل و‬
‫القوانين‪.‬‬

‫نقر بسبابته على كتاب أيام القبائل و هو يبتسم‪ .‬و الحقيقة أن تاجماعت كانت أشبه باكتشاف جديد لي‪ ،‬أو ألقل‬
‫أني طالما سمعت بوجود مثل هذا التنظيم في هذه المنطقة‪ ،‬لكن لم أعمل يوما تفكيري فيه و ال أردتُ اكتشافه عن‬
‫قرب‪ .‬األمر أشبه ببرلمان صغير‪ ،‬يلزم الجميع بال حضور مرة في األسبوع لمناقشة القضايا التي تهم الصالح العام‪.‬‬
‫حتى أالئك الذين يحضرون من أجل الحضور فقط‪ ،‬فإنهم يكونون على األقل على علم بكل ما يجري في قريتهم‪.‬‬
‫أالئك المتخلفون عن االجتماع بدون سبب مقنع فإنه يتم إنذارهم شفهيا في المرة األولى‪ ،‬ثم يكونون مضطرين إلى‬
‫دفع غرامة مالية رمزية إن تكرر غيابهم عن الجمعية في األسبوع التالي‪ ،‬فإن هم تجرءوا على الغياب للمرة الثالثة‬
‫و من دون حجة مقنعة‪ ،‬فإنه تتم معاقبتهم بالعزل االجتماعي‪ ،‬إذ يمتنع مجتمعهم القروي عن التعامل معهم إال في‬
‫الحدود القصوى‪ ،‬و هذا – بالنسبة لقروي قبايلي – يمثل أسوأ أشكال العقاب االجتماعي بحسب ما استنتجت‪.‬‬
‫اإلنسان الريفي أو القروي ال يمكنه بتاتا تسيير أمور حياته اليومية باتباع أسلوب حياة فردي‪ .‬على كل حال‪ ،‬ال أحد‬
‫في تيميزر يرغب في أن يرى نفسه منبوذا من طرف الجماعة‪ .‬أعتقد أن األمر صار له أثر معنوي مع مرور‬
‫القر ون‪ ،‬إذ صار الحديث عن عزل تاجماعت لشخص ما أو لعائلة ما له وصمة قد تكون سلبية من الجانب المعنوي‬
‫أكثر مما تخلفه في الواقع المادي المحسوس لدى هؤالء‪ .‬هكذا فإنه يتم تلقين احترام تاجماعت ( إرادة و ضمير‬
‫الجماعة ) لألجيال المتالحقة في هذه القرية و في غيرها من القرى المنثورة على سفوح هذه الجبال و حواشيها‪،‬‬
‫بحيث يجعل منها و بشكل رائع أشبه بباقات من الديمقراطيات االغريقية الصغيرة‪ ،‬التي ال تزال تعمل بهدوء و‬
‫صمت على ترميم النظم االجتماعية المتماسكة و الواعية بذواتها‪ ،‬و كذا بث أساسيات الوعي االجتماعي و‬
‫السياسي و الثقافي ألفرادها‪ ،‬حتى إن هم ابتعدوا عنها فإنهم يعيشون دوما لمبادئ عليا ذات طابع جماعي‪ ،‬يؤمنون‬
‫بها و يتجندون لها و يناضلون في سبيلها‪ ،‬و لربما هم أنفسهم قد ال يدركون أن سبب ذلك راجع إلى مدرسة‬
‫تاجماعت المذهلة هذه !‪ .‬بدأتُ حينها أفهم سر استمرار التيار النضالي البربري‪ ،‬خاصة مع هؤالء القبايل !‪.‬‬

‫كنتُ أفكر في ذلك و أنا أقلب صفحات ذلك السجل الذي قدمه لي لمين قبل أن يعود إلى اجتماعه مع لجنة‬
‫منتخبي القرية بعدما أنهيت الجلسة المفتوحة مع سكان القرية‪ .‬كان السجل يحوي على القانون الداخلي لتيميزر‬
‫الذي كان بلغ ة بربرية مكتوبة بأبجدية عربية‪ ،‬في حين أخبرني المؤذن مولود أن بعض شباب القرية كانوا ماضين‬
‫في كتابة و نقل تلك القوانين في سجل آخر باعتماد األبجدية البربرية‪ .‬قوانين قديمة جدا قد يفوق عمر بعضها‬
‫القرن‪ ،‬ترجم لي الكثير منها‪ .‬تحديد واجبات الفرد تجاه الصالح العام للقرية و حقوقه عليها‪ .‬حراسة األمالك و‬
‫نظافة الشوارع و حمالت الوزيعة و التويزة و كيفية تنظيم الوالئم‪ .‬ذكر المخالفات الممكنة التي قد يقترفها الفرد‬
‫في حق الجماعة و تحديد العقوبات المالية المنجرة عنها‪ .‬مسائل الزواج و الطالق و عقوبات جرائم السطو و القتل‬
‫و الشرف‪ .‬مكانة المرأة في القرية‪ .‬تقسيم مياه السقي و كيفيات عدم تبذيرها‪ .‬ضبط المعامالت التجارية و المالية‬
‫داخل القرية و مع القرى المجاورة‪ .‬طرق فظ النزاعات بين العوائل الكبرى‪ .‬تقسيم الميراث‪ .‬استقبال الغرباء عن‬
‫القرية و إيوائهم‪ .‬مهام مجلس القرية و انتخاب أعضائه و صالحياتهم و سبل مراقبة أعمالهم و عزلهم في حالة‬
‫‪319‬‬
‫اإلخالل بتلك المهام‪ .‬ضوابط انعقاد تاجماعت‪ 002 ......‬نصا قانونيا قديما و محدثا في المجمل‪ .‬مولود كان بصدد‬
‫اطالعي على دستور حقيقي لجمهورية تيميزر الصغيرة !!‪ .‬دستور قد يلخص الحياة االجتماعية و السياسية‬
‫ألجيال عديدة في هذا المكان‪ ،‬ربما منذ أيام مملكة كوكو الغابرة ؟‪.‬‬

‫كنتُ فقط ماضيا في االنبهار بأمر هذا '' النموذج القبايلي '' أكثر فأكثر‪ ،‬رغم تلك المسحة المرة التي كانت‬
‫تعبر وعي بين الحين و اآلخر‪ ،‬كلما كنت أتساءل‪ :‬لم تطلب األمر حضوري الشخصي إلى هذه الجبال و اختالطي‬
‫العميق بهؤالء القوم حتى أكتشف كل هذا اإلرث المستمر في النمو الهادئ الوئيد‪ ،‬الذي يمكن أن يحمل في طياته‬
‫الكثير من المفاتيح لمستقبل أفضل لهذا البلد‪ ،‬إن وجد أبناء مخلصين لهذه األرض يكلفون أنفسهم البحث عنها و‬
‫العثور عليها !‪ .‬كنتُ أفكر في ذلك و أنا أجوب شوارع القرية ألمسيات عديدة‪ ،‬يدي في جيبي‪ ،‬نظراتي تتسلق‬
‫الطرق المرصوصة التي تسير بي دوما إما إلى األعلى أو إلى األسفل‪ ،‬كحالة مزاجي المتقلبة بين الصعود‬
‫الحماسي و الهبوط المزعج‪ .‬بين الشعور بالراحة غير المفهومة و الشعور بالخوف الغامض‪ .‬لكني في كل مرة‬
‫كنتُ أجد نفسي فقط أش تغل على أواني الفخار رفقة صديقي الفخارجي كل سهرة‪ ،‬أتجاذب معه أطراف الحديث‬
‫حول مسائل التاريخ القديم للبلد‪ .‬كنتُ أرغب في معرفة و فهم المزيد‪ .‬كنتُ فعال مستمتعا بتلك األحاديث‪.‬‬

‫الحقيقة أن أغاكال كان قد غاص بي إلى أعمق من التاريخ النوميدي‪ .‬كان قد أمسك بيد الصبي الصغير‬
‫صاحب الخيال الواسع ساحبا إياه‪ ،‬كما تسحب الجنيات األطفال و هم على عتبات النوم من أناملهم نحو عوالم‬
‫الرؤى و األحالم‪ .‬انطلق األمر بشكل شبه عبثي‪ ،‬حين ساقنا النقاش و تجاذب األفكار حول نظم تاجماعت و‬
‫فرضية أنها قد تكون آخر ما بقي من نظم الحكم النوميدية القديمة‪ .‬الشيء الذي أثار تهكمي و عدم اقتناعي باألمر‬
‫مرة أخرى‪ ،‬قبل أن يذكرني آغاكال بما دار بيننا من قبل و أن األسئلة التي أبحث عن أجوبتها قد ترتبط بالتاريخ‬
‫القديم لهذا البلد‪ .‬التزمت الصمت باسما‪ .‬نظرتُ إليه بتحد و بنبرة تحمل الكثير من السخرية و االستفزاز تحديته‪....‬‬

‫_ تصوم يوم غد‪ .‬و أعدك أنك ستجدني آذانا صاغية لتاريخ '' نوميديا '' هذه التي تريدون بعثها عينا‪ ،‬رغم‬
‫أنها ولّت و انقرضت و صار مكانها اليوم بلد عربي يُدعى الجزائر !‪.‬‬

‫ابتسم في هدوء مقبال هازا رأسه متفطنا الستفزازي الصريح‪....‬‬

‫_ نوميديا كانت مرحلة من تاريخ بدأ قبلها بآالف السنين‪ .‬تماما كما هي جزائرك العربية اليوم‪ ،‬مجرد مرحلة‬
‫أخرى من تاريخ ألفي ال يزال يسير نحو األمام‪ .‬أصوم يوم غد و تفتح ذهنك و خيالك لعظمة تاريخ أمتك الحقيقية‬
‫ها ؟‬

‫**********‬

‫في أمسية اليوم التالي‪ ،‬كنتُ أسير رفقة آغاكال متجولين في القرية‪ ،‬نقتل ما بقي من األمسية الصيفية الطويلة‪،‬‬
‫في انتظار آذان المغرب و موعد اإلفطار‪ .‬كان الرجل الكهل يكاد يترنح من التعب و الجوع و العطش و الحاجة‬
‫الماسة إلى النيكوتين‪ .‬لم أرد أن أعرف كم مضى عليه مذ أن صام آخر مرة‪ ،‬أم أنه لم يصم يوما في حياته‪ .‬الشيء‬

‫‪320‬‬
‫الذي جعلني في لحظة ندم أراجع نفسي‪ .‬ربما لم يكن علي أن أساومه بشيء مؤلم و مرهق كالصيام و هو رجل‬
‫كهل نحيف ؟‪ .‬أعترف أني شعرت بشيء من الشفقة عليه و هو على تلك الحالة‪ ،‬مصفر الوجه‪ ،‬يحاول إخفاء تعبه‬
‫الشديد وراء بسمته الهائدة المعتادة‪ .‬لقد آلمه الصيام فعال‪ ،‬لكني أدركتُ كم كان مخلصا و وفيا لقضيته‪.‬‬

‫ال أدري كيف ساقنا الكالم عبثا إلى الحديث عن أول من عزف على آلة الناي !‪ .‬ابتسم آغاكال أمام نظراتي‬
‫االستفهامية و كأن به ينتبه إلى التزام الطفل الصغير بداخلي الصمت و الهدوء بعد شوط من الضجيج و الحركة‪.‬‬
‫قال بأن كاتبا عاش في األقوام الغابرة اسمه آثيناوس شهد بأن رجال يُدعى سرتس‪ ،‬كان أول من أطلق ألحانا‬
‫شجية من عودين مجوفين التقيا برأسيهما بين شفتيه‪ ،‬و كان أن تحول ذلك إلى ما يعرف اليوم بالناي‪ ،‬و أن هذا‬
‫الرجل حسب كالم آغاكال كان بربريا !‪.‬‬

‫ال أدري كيف بدأ األمر بالحديث عن هذا العازف األول على الناي‪ .‬لكن الفخارجي انتبه إلى فضولي و‬
‫انجذابي الفجائي لألمر‪ ،‬خاصة و أني أخبرته أنني أبدا ال أعلم سبب عدم تذكري لدروس المرحلة اإلعدادية التي‬
‫كانت تتحدث عن التاريخ الوطني قبل مجيء اإلسالم إلى البلد ؟‪ .‬حقا ال أعلم لم‪ ،‬رغم أني أتذكر جيدا دروس‬
‫الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬العثمانيون‪ ،‬االحتالل الفرنسي‪ ،‬االنتفاضات الشعبية و طبعا ثورة نوفمبر‪ ،‬التي كانت أكثر‬
‫مرحلة تاريخية ترسخت في ذاكرتي و أنا طالب‪ ،‬حتى أني ال أزال أتذكر نصا قصصيا ثوريا كان مغروسا في‬
‫المقرر الرسمي السنوي للغة العربية للسنة التاسعة متوسط‪ ،‬وهو لألديب أبو العيد دودو تحت عنوان الظل‪ .‬نص‬
‫قصصي أبهرني و عبث كثيرا بمخيلتي و أحاسيسي‪ ...‬لكن ال وجود للتاريخ النوميدي أو ما يسبقه في ذاكرتنا أو‬
‫عواطفنا رغم وجوده في المقررات الدراسية الرسمية‪َ .‬لم ؟‪ .‬لم يُفكر أحد من النخب في اإلجابة – بجرأة و‬
‫موضوعية – عن هذا السؤال‪ .‬أما صانع الطين فقد التزم الصمت لوهلة‪ ،‬ثم أخبرني أنه ال شيء يضاهي فخر و‬
‫اعتزاز انتماء يناهز ‪ 2111‬عام لوطن أبدي !‪ .‬العبارة خدشت شيئا ما في أعماقي‪ ،‬خاصة حين أخبرني أنها قناعة‬
‫يقتسمها كل صبي قبايلي بكل فخر‪ ،‬بل و حتى مع شيء من الغرور‪ .‬ربما أحسست بشيء من الحسد تلك اللحظة‬
‫تجاه هؤالء القوم‪ .‬أو ربما كان ذلك حسد الصبي الصغير الذي يعيش بداخلي‪ ،‬الذي عاد ليسترق النظر بكل فضول‬
‫خلف شق الباب و هو ال يرغب في أن يتم كشف أمره حتى ال يشعر بالسوء و الحرج‪ ،‬كونه ظل يكابر و هو‬
‫يُعرب في شبه عناد عدم اهتمامه بشيء سخيف‪ ،‬رغم يقينه أن ذاك الشيء يستحق فعال التذوق !‪.‬‬

‫خمسة آالف عام ؟‪ .‬تبدو مدة طويلة جدا‪ ،‬لكني شككت في كون الرقم دقيقا أو موضوعيا‪ .‬بهذا واجهت آغاكال‬
‫في شيء من االستفزاز‪ ،‬لكن الرجل بدى ثابتا و متيقنا مما يحمل في جعبته‪ .‬صحيح أنه كان مع فكرة تعدد‬
‫النظريات الت ي حاولت معرفة أصول البربر و التي ال تزال قائمة‪ ،‬إال أن األهم بالنسبة إليه هو أن لحظة النشوء‬
‫كانت قد وقعت قبل آالف السنين‪ ،‬و أن هذا الشعب قد فتح عينيه على الحياة و عرف وجوده اللغوي و اإلثني و‬
‫الجغرافي‪ ،‬و راح يتطور ببطء و صمت خلف ستائر السديم البدائي لتاريخ العالم‪ .‬سديم ضبابي كان كثيفا و غير‬
‫واضح المعالم و الحدود‪ .‬أغلب الظن أن أسالف الجد األول لهذا الشعب كانوا قد جاءوا من مكان ما من أرض‬
‫إثيوبية الحالية‪ ،‬التي يعتقد البعض أنها المكان الذي شهد والدة الجنس البشري ككل‪ .‬أو على األقل كانت البوتقة‬
‫التي تفرقت منها األجناس الحامية كما تتفرق حبات الذرة من الكوز الذي يحملها‪ ،‬متناثرة بذلك عبر أرجاء القارة‬

‫‪321‬‬
‫السمراء‪ .‬من بين تلك الحبات المتناثرة‪ ،‬كان ما يسمى البربر الذين استقر بهم الحال في صحاري شمال افريقيا‪.‬‬
‫حدث ذلك قبل نحو ‪ 1111‬عام بحسب الشواهد الجنائزية الموجودة في بالد التوارڨ في قلب صحراء الجزائر‪.‬‬
‫د َّع مه اكتشاف علماء آثار إيطاليين قبل عقود لمومياء طفل بربري تعود إلى ‪ 2211‬عام في جبال أكاكوس الليبية‪،‬‬
‫فكانت إحدى أقدم المومياوات المكتشفة في العالم‪ .‬من هناك راح البربر األوائل يُوقِّّعون وجودهم و ينزحون شيئا‬
‫فشيئا نحو تالل و سواحل الشمال اإلفريقي‪ .‬نظريات أخرى أرجعت وجود العنصر البربري‪ ،‬أو على األقل‬
‫اإلنسان الذي تحدر منه الرجل البربري األول في هذه البالد إلى أقدم من ذلك بكثير‪ ....‬إلى ‪ 2111‬آالف عام !‪ .‬و‬
‫ال يزال البعض يود بناء نظريات تقول بأن أحد أسالف الرجل العاقل المعروف اليوم‪ ،‬إنما عاش في مكان ما من‬
‫الشمال االفريقي و هو أقدم بكثير من أقدم حفرية بشرية مكتشفة حتى اآلن ؟‪.‬‬

‫_ المهم‪...‬هذا ال يمنع من اختالط البربر مع شعوب أو مجموعات بشرية أخرى !!‪...‬‬

‫قاطعت آغاكال بشيء من التسرع‪ ،‬فكان مستمرا في السير ضاما يديه خلف ظهره مبتسما‪...‬‬

‫_ و بعد ؟‪ .‬هل خلق ذلك مشكلة '' وجود '' لهم أو جعلهم يندثرون ؟‪ .‬أم أنك من الذين يؤمنون بوجود أعراق‬
‫خالصة النقاء ؟‪ .‬ما هذه النكتة العنصرية السمجة يا أمداكول ؟‪ ،‬رباه‪ ،‬أنت تذكرني ببعض القبايل و البربريست‬
‫الذين راحوا ضحايا نظريات العرق الخالص‪ ،‬حتى صاروا نازيين أكثر من هتلر !‪ .‬أالئك الذين يضعون رؤوسهم‬
‫تحدث ّهم حديثا خالصا عن العرق و لون البشرة‪ ،‬فتحمل تلك القفة لتأخذها معك إلى حيث شئت !‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫في قفتك حين‬

‫_ أبي ظل مقتنعا أن أسالف البربر جاءوا من اليمن‪ .‬ما قولك ؟‪.‬‬

‫توقف فجأة عن السير‪ .‬قابلني بنظرة من يقع على شيء ضل يقع عليه لعقود حتى صار ممال‪...‬‬

‫_ أه‪ ،‬نظرية العرب العاربة و العرب المستعربة ؟‪ .‬نظرية مثيرة لالهتمام‪ .‬أعتقد أن والدك ضل مسرورا و‬
‫مرتاح البال لهذه النظرية‪ ،‬أليس كذلك ؟‪ .‬الحقيقة هي أنها نظرية تغيظ الكثيرين و تغبط الكثيرين في هذا البلد‪ .‬إنها‬
‫سبب الفتنة‪ ،‬و أعتقد للمرة المليار أن كال الطرفين لم يفهما جوهر المسألة بغيظهم أو بغبطتهم على حد السواء‪.‬‬

‫_ كيف ذلك ؟‪.‬‬

‫_ السبب بسيط جدا‪ :‬في نظري ال شيء جدير بالثقة كالعلم‪ ،‬و ال شيء يتطلب الوعي و النضج و التريت‬
‫كاإليديولوجية !‪ .‬لكننا نحن الجزائريون نشعق الصراع فيما بيننا و ندمنه‪ .‬شخصيا‪ ،‬أنا مطمئن تماما تجاه موضوع‬
‫جذور أسالفي‪ .‬إن أثبت العلم '' قطعا '' و بعيدا عن تأثيرات السياسة أن األمازيغ فعال قدموا من اليمن‪ ،‬و هو ما لم‬
‫يثب بعد‪ ،‬فلن أجادل في األمر و سأضل فخورا بمن أكون و فقط‪ .‬رجل أمازيغي و ابنا بارا ألرض تامزغة‪.‬‬
‫المعرفة يا أمداكول‪ ،‬المعرفة هي المفتاح‪ ،‬هي من تجعلني اآلن أعرف أين يقع بيتي في هذه القرية و ما الطريق‬
‫الذي سوف اسلكه ألصل إليه‪ .‬ماذا عنك ؟‪.‬‬

‫ابتسم‪ ،‬ثم انطلقَ مكمال مشواره واضعا يديه خلف ظهره مرة أخرى يراقب بعض األطفال و هم يلعبون على‬
‫حافة الممر‪ .‬وقفتُ مسلوب اللسان مشدوها أراقب هذا الرجل العجيب‪ .‬رباه !‪ ،‬كأن بنسخة أخرى عن الدكتور أبو‬
‫‪322‬‬
‫عماد كانت تتحدث إلي تلك اللحظة‪ ،‬لكن مع مسحة جد عميقة من الحكمة !‪ .‬كنتُ مستَفزا تماما في أعماقي‪.‬‬
‫استفزاز كان يتغلغل كرعشة في أطراف جسدي قادما من فكري و أنا أشعر بغرابة مفاجئة تجاه ذلك الرد الهاديء‬
‫كالليل‪ ،‬القوي كاإلعصار‪ ،‬الثابت كالجبل و السلس كالماء !‪.‬‬

‫أجوبة آغاكال كانت فعال مخيفة‪ ،‬تبث في النفس شيئا يُشبه تلك األصوات األولية غير الواضحة التي نسمعها‬
‫و ال نستطيع إدراك ماهيتها عادة قبل وصول الهزات األرضية بثوان‪ .‬أو تلك الشهقة التي تلي ارتطام الماء المجمد‬
‫على صدر شخص نائم‪ .‬ردود كاألصابع الطويلة الثابتة التي تنغرس في عمق الجرح مباشرة‪ ،‬غير آبهة بحجم‬
‫األلم و الدوخة المنجران عن ذلك‪ ،‬بقدر ما تُرينا عمق الجرح كي نقدِّّر حجم ما ينتظرنا من عمل لمداواته‪ .‬ببساطة‪:‬‬
‫إجابات بسيطة خالية من اللف و الدوران و النفاق‪ ''.‬كان الدكتور أبو عماد ليسعد كثيرا بتجاذب أطراف الحديث‬
‫معك يا آغاكال ! ''‪ .‬هذا ما جال بخاطري و أنا أراقب الحرفي يبتعد بخطاه الثابتة يتمايل بظهره المقوس قليال و‬
‫هو يحني رأسه الذي كان يختفي تحت قبعة القش الصفراء تلك‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫‪-26-‬‬

‫ⴰⴰⴰⴰⴰⴰ ⴰⴰⴰⴰ‬

‫( األرض تحكي )‬

‫أحيانا‪ ،‬كي تفهم مغزى وجودك في البلد الذي ُولدتَ و ترعرعتَ فيه‪ ،‬قد تحتاج إلى غطسة عميقة و طويلة في‬
‫تاريخه البعيد‪ .‬غطسة إلزامية ال مفر منها لكل عاشق لوطنه‪ .‬تلك هي إحدى قناعات القبايل أنفسهم !‪ .‬الفخارجي‬
‫كان يعلم ذلك و كان يج ِّ ّهزني لتلك الغطسة‪ ،‬كما يج ِّ ّهز الرجل الروسي ابنه الرضيع لغطسته األولى في المياه‬
‫المتج ِّّمدة كي يكتسب مناعته الطبيعية و ارتباطه األزلي بوطنه روسيا‪ .‬كان الحرفي يستعد لتعميدي بشكل ما !‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬جاءت تلك السهرة‪ ،‬التي كان ال بد لي فيها أن أفي بوعدي للحرفي‪ ،‬و أجلس مستسلما ألسمع منه حكاية‬
‫قومه‪ .‬البربر‪ ،‬أو األمازيغ كما يُناديهم باعتزاز‪ .‬كنا نشتغل على دوالبينا معا‪ ،‬وسط رائحة الطين العبقة و أغاني‬
‫الصراصير و الصدى المتدفق من بعيد لصالة التراويح في مسجد القرية‪.‬‬

‫كان يتحدّث و هو يعبث بسيجارة بين شفتيه مشتغال على قطعته‪ .‬كان يتحدث عن الجدور األولى المفترضة‬
‫لشعبه‪ .‬و بغض النظر عن كل النظريات التي حاولت و ال تزال تحاول الكشف عن الجذور األولى للرجل االفريقي‬
‫أو اآلسيوي األول‪ ،‬الذي حدثت في جيناته الوراثية الطفرة التي أدت إلى ظهور الجين البشري المميز ‪E-M81‬‬
‫الذي توارثه أبناءه و أحفاده‪ ،‬الذين استوطنوا الشمال االفريقي و صاروا يُعرفون اختصار بالبربر و بأسماء أخرى‬
‫كثيرة‪ ،‬فإن ما كان يهم آغاكال أكثر هو جانب الثقافة و اللغة و نمط العيش و المساهمة في التاريخ القديم و الحديث‬
‫للعالم الذي تميَّز به هؤالء‪ ،‬أكثر من اهتمامه بحروب المدارس العنصرية‪ .‬و الحقيقة هي أني كنتُ أتلقى كلماته‬
‫التي تخص '' هذه المساهمة العظيمة في بناء تاريخ العالم '' التي ساهم بها أسالفه البربر بكثير من التشكك أو حتى‬
‫التهكم الصامت‪ .‬لو كان ذلك صحيحا لرأينا كتب التاريخ العالمية تعترف بذلك علنا‪ ،‬و تذكر فضل هؤالء على‬
‫تاريخ البشرية‪ ،‬كذكرها لإلغريق و الرومان و الفرس و العرب و الصينيين و شعوب المايا و األزتك كمثال‪ .‬لكني‬
‫أردتُ أن أفسح للرجل المجال دون جدل كي يُقنعني بوجهة نظره‪ ،‬لذلك التزمت الصمت‪ .‬أما هو‪ ،‬فكان يتحدث‬
‫بإسهاب‪ ،‬و كنتُ في معظم الوقت أشتغل على دوالبي‪ .‬أنصت إليه بكثير من التمعن و الرغبة في اكتشاف القصة‬
‫كاملة‪ .‬هاتفي الخلوي موضوع بجانبي يُسجل الشاردة و الواردة‪ .‬يداي تشكالن القوالب بثبات‪ .‬عيناي تعانقان اللون‬
‫الدافئ للطين اللزج‪ ،‬و خيالي يزخر بتلك الصور و األصوات و حركات تلك األشكال و األجساد التي كانت‬
‫تنعكس على الصلصال مصقولة بلمسة طفولية بخيال الصبي الصغير بداخلي‪ ....‬و أعترف أني كنت أستمتع بكل‬
‫ذلك!‪ .‬أعترف أن حكاية آغاكال عن قومه كانت مستوية كحزام طويل‪ ،‬بمعنى كامل و وجه جميل‪ ….‬كما تقول‬
‫الجدات القبايليات حين ينطلقن في سرد حكايا الـ '' الثيمشوها '' الشعبية على الصغار كل مساء حول الكوانين‬
‫الموقدة‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫بدأ األمر كله بوصول أسالف هذ الشعب الذين ُيقال بأنهم ورثوا هذه األرض عن ملوك الجان‪ .‬هذه األرض‬
‫الشاسعة الممتدة من الضفاف الغربية لدلتا النيل إلى أعمدة هرقل التي ضلت تحرس البحر المتوسط آلالف السنين‬
‫حتى ال يلتهمه بحر الظلمات الغاشم‪ .‬بسائط ال نهاية لها من الكثبان الرملية الذهبية‪ ،‬و الجبال الصخرية الفضية‬
‫الشاهقة التي تخترق السحاب‪ ،‬و الغابات شديدة االخضرار التي تعانق بدورها الساحل المتوسطي بحرارة‪ .‬الحدود‬
‫الحالية التي تفصل بلدان هذا الشمال االفريقي لم تكن موجودة يومها‪ ،‬فقد كان األمر يتعلق بكتلة جغرافية واحدة‬
‫أطلق عليها اسم '' ليبيا ''‪ .‬ال أحد استطاع كشف سر هذا االسم و ال كيفية ظهوره‪ .‬اإلغريق ظنوا عبر أساطيرهم‬
‫أن ليبيا كانت حفيدة اله الرعد و الصواعق اليوناني زوس‪ ،‬بينما ذهب العبرانيون في كتبهم القديمة لالعتقاد بأن‬
‫أحد أحفاد حام ابن نوح و كان يدعى '' بوت '' هو من سماها كذلك‪ .‬أما األسطورة الشائعة هي أن وطن هؤالء‬
‫البربر كان قد أخذ اسمه األول عن امرأة بربرية قوية‪ ،‬كانت ملكة و محاربة أمازونية‪ ،‬اسمها ‪ .Lilybya‬أو ''‬
‫اللة بية '' كما قال آغاكال مازحا‪ .‬هل كانت هي نفسها ابنة اله الرعد ؟‪ ،‬أم كانت ملكة في األسالف الغابرين ؟‪.‬‬

‫كان المصريون القدماء و اإلغريق هم أول من احتكوا بسكان هذه األرض‪ ،‬الذين كانوا يتوزعون في شكل‬
‫قبائل كبيرة من البدو الرحل‪ ،‬فوثقوا عنهم القصص و الحكايات‪ .‬يقول المؤرخون اإلغريق أنها كانت بالدا تشتهر‬
‫بتربية المواشي‪ .‬قطعان ال متناهية من الغنم و األبقار كانت تقطع السهوب التي تؤطر األفق الشاسع لوطن الليبيين‬
‫أو الليبيقيين أو الليبو‪ ،‬الذين كانوا يجوبون تلك المساحات في رحالت قبلية جماعية بال كلل أو ملل‪ ،‬بحثا عن‬
‫المراعي الجديدة و األراضي المثمرة‪ .‬غريب‪ .‬ذكرني ذلك بمئات البدو الرحل الذين ال يزالون يتبعون نفس نمط‬
‫العيش في سهوب و صحاري الجزائر إلى اليوم‪ .‬هكذا نشأ أسالف البربر األوائل‪ ،‬رعاة غنم بسطاء منذ فجر‬
‫التاريخ‪ .‬كثرة الرحالت لعقود عبر ماليين الكيلومترات المربعة هذه جعلتهم أناس ذوي بصيرة عميقة‪ .‬معرفة‬
‫دقيقة بالتضاريس و الطقس‪ .‬لهم منظور متميز تجاه الطبيعة و ارتباط عاطفي عميق بحيواناتهم األليفة‪.‬‬

‫أن ترى شروق الشمس و مغيبها من عدة أماكن و ارتفاعات و منخفضات على طول العام‪ ،‬تحتم عليك أن‬
‫تكون شخصا ذو نزعة تمتزج فيها العاطفة بالخيال مشكالن ترنيمة إنسانية فريدة من نوعها‪ ،‬يصعب فهمها و‬
‫يصعب السيطرة عليها‪ .‬ميزتها الكبرى هي صعوبة احتوائها تماما كما يصعب احتواء الدخان بين اليدين‪ ،‬لكن‬
‫عيبها األساسي هو سرعة ميلها إلى التشتت و التبعثر‪ .‬األفاق الالمتناهية لوطن الليبو جعلت منهم شعبا يُحب تزيين‬
‫فروة الرأس بريش الطيور‪ .‬شعب ال يحب األماكن الضيقة و يسعى دوما للسمو إلى الشمس و القمر‪ .‬ال عجب‬
‫أنهما كانا بذلك أكثر عن صرين في الطبيعة عبدهما البربر القدماء‪ ،‬تماما كأبناء عمومتهم من الحضارات الحامية‬
‫العظيمة التي قامت في جنوب أمريكا‪ ،‬إلى درجة أنهم تركوا أول ما تركوا‪ ،‬رسومات صخرية ألغنامهم التي قام‬
‫عليها عيشهم و قد أحاطوا رؤوسها بقرص شمسي كنوع من العبادة و التبجيل‪ .‬الفكرة التي انتقلت رويدا رويدا إلى‬
‫المصريين في واحة سيوة التي شهدت ظهور الرب آمون محاطا بقرص الشمس‪ ،‬معلنا بذلك والدة أكبر و أشهر‬
‫العقائد الوثنية القديمة‪ ،‬التي أعادت ترتيب تاريخ العالم القديم بشكل راديكالي‪ ،‬مدخلة إياه إلى حقبة جديدة‪ ،‬كانت‬
‫الحضارة الفرعونية الهائلة مركزها األساسي‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫كأنما كنتُ أنظر إلى هؤالء الليبو أو اآلنو أو الريبو أوالتمحو أوالتحنو أو المشوش وفقا للسان المصري‬
‫القديم على فترات متفرقة ‪ ،‬و هم يقودون قوافل الماشية و شجيرات الزيتون ليتاجروا بها مع جيرانهم الشرقيين‪،‬‬
‫الذين راحوا يكسبون ثقتهم فيقاسموهم الماء و الخبز و التراب‪ .‬كأنما كنتُ أسمح أسواط الملك المصري نعرمر و‬
‫هي تج لد أكتاف الليبو بعد انتصاره عليهم و طرده للكثير منهم من أرضه الممزقة و توحيده لمصر القديمة في‬
‫األلف الثالثة قبل الميالد‪ ،‬ليقوم مؤرخوه بتخليد ذكرى نصره ذاك في لوح التوحيد الذي صار أول وثيقة تاريخية‬
‫رسمية تذكر وجود هؤالء البربر كشعب مميز قائم بذاته‪ .‬و كان أن هاج التاريخ و ماج بالسنين الطويلة التي أنبتت‬
‫مزيدا من الزرع بين الشعبين‪ .‬فترات هدوء و تجارة و مجاورة‪ ،‬و فترات فر و كر‪ .‬مواسم من جني الزيتون‬
‫ال ُمنقى بمياه المطر و ترانيم الصلوات الجماعية‪ ،‬و مواسم أخرى من حصاد السنابل المخضبة بالدم المسفوك تحت‬
‫ظالل الخيول و الحراب‪ .‬الليبو في نزوحهم و هجوماتهم المنظمة على دلتا النيل بحثا عن الماء‪ ،‬و المصريون في‬
‫غزواتهم على ليبيا بحثا عن قطعان الماشية و العبيد‪ .‬رأيتُ ظالل تتعبد في معبد الكرنك تحت جدارياته الزاخرة‬
‫بمجد الفرعون مرنبتاح و انتصاراته على جيوش األقوام الخمس‪ ،‬التي حاولت االستيالء على مصر تحت قيادة‬
‫الفارس اللوبي مرى بن أدد‪ .‬رأيت الملك رعمسيس الثاني يُشير بيده إلى وزرائه متخذا قراره الحيوي بقبول الليبو‬
‫في جيوش مصر‪ ،‬مقتنعا أخيرا بشجاعت هم و فروسيتهم‪ ،‬وفائهم و صراحتهم‪ .‬تقززهم الفطري من النفاق و‬
‫االنبطاح‪ .‬رفضهم للطغيان و اإلكراه و جرءتهم في أرض المعركة‪ .‬رأيتُ أسالف البربر كما كان صانع الفخار‬
‫يصف لي ‪ ،‬بلحاهم الحادة و ريش الطيور الذي يزين رؤوسهم‪ ،‬يخطون مبرزين أنوفهم الطويلة إلى الناس‪،‬‬
‫مساهمين في بناء مجد حضارة مصر‪ ،‬إلى اليوم الخالد الذي وصل فيه سليل دمائهم شيشنق‪ ،‬الذي يعتقد أغاكال‬
‫أن اسمه األصلي قد يكون '' شوش نغ '' أو '' زيغ نغ ''‪ ،‬وصل إلى عرش مصر عام ‪ 221‬ق م‪ ،‬التي أصلح‬
‫أحوالها و هزم خصومها و انتهى به المطاف في صوالته إلى أرض الشام إلى لقائه األسطوري مع الملك سليمان‬
‫بن داود لبحث سبل السلم و التعايش بين المملكتين‪ .‬البركة راحت تتدفق على مصر منذ تلك العهود الغابرة و‬
‫المنيرة‪ ،‬كتدفق نور النيل الخفي الذي روى تاريخ األرض كله‪ .‬السالالت الفرعونية البربرية راحت تزيد اللبنة‬
‫فوق اللبنة في جدار حضارة مصر الذي ال يهتز و ال ينهار !‪ .‬مزيج من إلهام العظمة و الغرور الملكي و وحي‬
‫الوفاء و التعلق بسر الرمال و قصص الغرام المكتومة و بخور اآللهة الخفية‪ .‬كل ذلك ساقته سالالت بربرية‬
‫حكمت مصر‪ .‬الفرعون بسماتيك الذي انتصر لمصر في حروبها ضد االثيوبيين‪ .‬الفرعون آمحوسي الذي أنقذ‬
‫مصر من الحروب األهلية و االنقسامات‪ .‬الفرعون نخاو الذي أزهر اقتصاد مصر بين يديه‪ ،‬إذ كان من أوائل‬
‫المصريين الذين اهتدوا إلى حفر قنوات الماء التي تربط النيل بالبحر األحمر‪ .‬دون نسيان الفرعون الشاب أينارو‬
‫الذي استمات في الدفاع عن محبوبته مصر ضد العدوان الفارسي‪ ،‬إلى أن وقع أسيرا في يد األعداء‪ ،‬فسار رافعا‬
‫أنفه إلى فارس حيث قضى بطال و شهيدا من أجل األرض‪ .‬من أجل الحب‪ .‬من أجل مصر‪ .‬من أجل '' النيف ''‪.....‬‬
‫شدّني كل ذلك الحديث و كل تلك المعلومات التي اكتشفتها للمرة األولى‪ ،‬بصراحة‪ ،‬قصص مصر مع فراعنتها‬
‫الليبيقيين فعال جميلة !‪ .‬ظننتُ أن التاريخ على لسان صانع الطين آغاكال سينتهي عند ذلك الحد من التشويق‬
‫بانتهاء ما في جعبته عن هؤالء '' األمازيغ ''‪ .‬ظننته لوهلة تأثير التاريخ المصري نفسه الذي ال يمكن ألحد أن ينكر‬
‫أثره المتوارث على المخيال البشري ككل‪ ،‬خاصة حين تحدَّث الحرفي عن مصير مبهم صادف جيشا فرسيا أرسله‬
‫االمبراطور قمبيز لالستالء على واحة سيوة البربرية‪ ،‬فلم يعد‪ ،‬و لم يعثر له على أثر‪ ،‬رغم تفسير القدماء لألمر‬
‫‪326‬‬
‫بطريقة جاهزة و هي أن الرب آمون كان قد انتقم من الغزاة الذين دنسوا رمال أرضه المحبوبة !‪ .‬األمر الذي دفع‬
‫االسكندر األكبر بعد عقود من ذلك إلى زيارة الواحة الروحانية‪ ،‬محاوال التقاط أنفاس و همسات آمون الخفية‪،‬‬
‫طامعا في معرفة الغيب و مصير العالم‪ .‬كان هناك يسير داخال المعابد المصرية بخشوع‪ ،‬آمرا جنوده بالتزام‬
‫السكوت عند العتبات‪ ،‬ممعنا السمع‪ ،‬مطأطأ الرأس‪ ،‬تاليا الصلوات و منتظرا اإلشارة‪.‬‬

‫البربر‪ .‬رعاة الغنم و األبقار البسطاء العاشقين للخيل‪ ،‬صار لهم اسم و وجود في سجالت التاريخ األولى إذن‪.‬‬
‫بل و في قيادة التاريخ منذ أيام شيشنق المجيدة‪ .‬فقد انتهوا أباطرة و قادة جيوش و سدنة معابد و فالسفة و شعراء و‬
‫محاربين يرغب كل ملك غاز و مغزو في الحصول على والئهم‪ .‬إمارات و ممالك راحت تقوم في أرجاء ليبيا‬
‫الكبرى‪ .‬البربر الڨرامانيون أو الڨيتول أسالف التوارڨ‪ ،‬بنوا مجد حضارة صحراوية كبرى ع ّمرت ألكثر من‬
‫‪ 0111‬عام في صمت و سالم‪ ،‬تاركة بصمة أبدية على حياة إنسان الصحراء و عقليته الميالة إلى الهدوء و حب‬
‫مناجاة الذات و األرواح بين صخور الوديان و كهوف الفيافي‪ ،‬بعيدا عن ضجيج الشعوب األخرى‪ .‬بصمة كانت‬
‫ستسطر مستقبل هوية كاملة بعد قرون‪ .‬تلك البصمة كانت تُسمى بمنتهى البساطة '' ابتكارنا ''‪ ،‬أو تيفي نغ بلسان‬
‫البربر‪ ،‬حين كانت سواحلهم تضج بالقيل و القال مع رسو أولى سفن البحارة الفينيقيين على سواحلها المشمسة‪ ،‬و‬
‫نزول أميرتهم الفارة عليسة‪ ،‬فاتنة أنظارهم بالهدايا الزجاجية القادمة من بالد صور الجميلة‪ ،‬و فاتنة أنظار ملكهم‬
‫يرباس بجسدها األبيض المتأللئ بأمواج المتوسط‪ ،‬و إن لم يجعله األمر يغفل عن شرطه الوحيد على البحارة و‬
‫ه َ‬
‫أمريتهم لالستقرار ببلده‪ ،‬و هو‪ '' :‬ال توسع و ال استعالء ''‪ .‬بذلك ُوضع أساس حاضرة قرطاج األول‪ ،‬حين لم‬
‫يتصور واضعوه أنه سيكون أساس إحدى أعظم الحضارات اإلنسانية بعد بضعة قرون فقط‪ .‬و هناك‪ ،‬بعيدا عن‬
‫نعومة عليسة و غنجها و عطورها و حريرها‪ .‬كنتُ التقط صدى حوافر الخيول الالهثة بين زوابع الرمال و صليل‬
‫السالسل و عجالت العربات المجرورة فوق أراضي العالم القديم لعشرين ألف محارب بربري‪ ،‬كانوا يعبرون‬
‫الجبال الجرداء و البراري الموحشة‪ ،‬كموجة هائجة‪ ،‬مشاركين في حملة الملك الفرسي أكسركسيس الخطيرة على‬
‫بالد اإلغريق‪ ،‬حين كان هؤالء اإلغريق يشقون البحر المتوسط إلى الجنوب‪ ،‬تتمايل قواربهم وسط اليم و تصفع‬
‫مجاذيفهم سطح الماء‪ ،‬بعدما حزموا أمتعتهم باتجاه قرية قورينة التي أسسوها على سواحل ليبيا غير بعيد عن‬
‫مصر‪ .‬هناك كان ثائر بربري متقد و حساس اسمه أدركان يعد العدة رفقة أتباعه ليخوض النزال ضد هؤالء‬
‫الدخالء اإلغريق‪.‬‬

‫كانت تلك و بحق‪ ،‬دورة إنسانية تجري تحت النظرات الساخرة للتاريخ و هو يتسلى بمراقبة هذه األمم‬
‫المتوسطية‪ ،‬يغزو بعضها بعضا‪ ،‬و يتالقح بعضها مع بعض‪ ،‬كان تاريخ اإلنسانية الحديث يومها كالطفل الذي‬
‫يتسلى بدماه التي يفتعل بها الحرب تارة و السلم تارة أخرى‪ .‬يغير من موطئ أقدامها و مساكنها كيفما تهيا له ذلك‪،‬‬
‫و يقرر مآلها و مصائرها بمزاجية حادة‪ .‬و كقرطاج تماما‪ ،‬كان قدر قورينا أن تتحول هي األخرى بعد بضعة‬
‫أجيال إلى إحدى المنارات الخالدة للمتوسط‪ ،‬فتشع عليه بالفنون و الثقافة و الفلسفة و الرياضيات و العمران‪ ،‬بعدما‬
‫امتزجت عقالنية اإلغريقي بروحانية البربري‪ .‬هكذا كنتُ ماض في سماع أهازيج الشاعر ‪ Kallimakhos‬و هو‬
‫يترنَّح سكرانا في شوارع قورينا تحت نسمات ليالي الربيع‪ ،‬مبدعا و مخلدا أجمل قصائده التي تغنت بجمال موطنه‬

‫‪327‬‬
‫قورينا و ليبيا و الفتيات البربريات‪ .‬يُقال بأن كلمة ‪ Sirène‬أو حورية البحر لها ارتباط وطيد بكلمة قورينا في‬
‫االغريقية !‪.‬‬

‫تماما كما كانت سيوة نقطة تالقي البربر بالمصريين و بداية تاريخ مشترك غاية في اإلبهار و الخصوبة‪.‬‬
‫كانت قورينا نقطة التقاء البربر باإلغريق‪ ،‬التي تناثرت منها الثمار الوفيرة على الشعبين كما تتناثر القطع الذهبية‬
‫عركت طويال بيدي‬
‫بغزارة المطر قافزة من جوف جرة سحرية‪ .‬هكذا اختلطت الدماء و اللغة و الثقافة و الدين‪ .‬ثم ُ‬
‫الوجود اإلنساني‪ ،‬كما يعرك الطفل عجينته التي تمتز ألوانها و يتداخل بعضها ببعض حتى تصير لونا واحدا‪ .‬هكذا‬
‫راح الشعبان يتبادالن مواثيق التث اقف فأنشأ مخيال اإلغريق الخالد مكانا ألرض البربر و سكانها في موسوعته‬
‫الحية‪ ،‬التي سقت بساتين الفكر و األدب اإلنسانية األولى‪ .‬فذاك هو هيرودوت ( أب التاريخ ) يداعب لحيته الكثة‬
‫تحت ضوء شعلته المترنحة تحت نسمات ليالي بلده اللطيفة‪ ،‬غامسا رأس قلمه في الحبر‪ ،‬خاطا شهاداته األبدية عن‬
‫أقوام عصره‪ ،‬فكان أن تعجب بسخرية من تلك الطريقة الفريدة التي كانت نساء البربر يع ِّّبرن بها عن فرحتهن‪ ،‬و‬
‫التي قال بأنها عادة ليبية غريبة‪ ،‬و قد كان يتحدث عن ما نسميه في أيامنا الحالية '' زغردة ''‪ .‬كان الرجل يكتب من‬
‫ناحية أخرى بجد و تركيز معترفا للبربر بفضلهم الكبير على اإلغريق‪ ،‬في تعلم طرق جديدة في ترويض و تربية‬
‫و ركوب الخيل و العربات‪ .‬في الزراعة‪ .‬في الحرب و في عبادة األرباب‪ .‬معتقدا ببربرية رب البحار و المحيطات‬
‫‪ Poseidon‬و ابنه ‪ Triton‬سيد بحيرات ليبيا‪ ،‬الذي منح البحارة اليونانيين قطعة صلصال كعربون اعتراف‬
‫لتأسيسهم قورينا‪ .‬دون نسيان فضل المحاربات الليبيات في إلهام الربة اإلغريقية أثينا مالبسها الحربية‪.‬‬

‫سمعت الحكايات عن البطل ‪ Perses‬ابن زوس و هو يحلق فوق بالد البربر على حصانه المجنح ‪Pegasus‬‬
‫القافز فوق الغمام‪ ،‬عائدا من الجحيم برأس الشيطان ‪ Medus‬الذي كان يقذف دما راح يتحول إلى أفاعي و‬
‫زواحف سامة حين المس كثبان ليبيا الملتهبة‪ .‬سمعت القصص عن البطل ‪ Argos‬نازال من سفينته محمال بمئات‬
‫الهدايا و الحكايا م ن مغامراته عبر العالم القديم‪ ،‬حامال معه حبوب القمح الليبي المميز‪ ،‬مائال بجسده الضخم مزهوا‬
‫بنفسه كأول إغريقي يحمل الحبوب إلى موطنه‪ ،‬ليسمع الشاعر الالتيني ‪ Valerius Martialis‬صدى خطواته‬
‫الوئيدة و حفيف سنابله الوفيرة عبر العقود‪ ،‬فيكتب شعره متغنيا بتلك البركة الغامضة المنبعثة من قمح البربر‬
‫كوميض لغز الحياة نفسها‪ '' :‬خذ لك ثالث حفنات قمح من ضيعة ليبية‪ ،‬فتزدهر بها أرضك البور !! ''‪.‬‬

‫أسطول بحري رهيب‪ ،‬شدني فجأة و هو يكاد يحجب البحر‪ ،‬تتكسر على سفنه األمواج و تسمع أغاني الحرب‬
‫المنبعثة من حناجر ألوف من ركابه و قد وصلت إلى أبواب آلهة جبل األولمب‪ .‬لم أكد أصدق‪ ،‬فذاك كان أسطول‬
‫قرطاجة التي تحولت تحت طرفة عين الزمن الخاطفة من مرفأ بحري صغير إلى حاضرة عظمى‪ ،‬تجيش الجيوش‬
‫و األقوام‪ ،‬و تنافس اإلغريق في مجد المتوسط‪ .‬كانت واثقة من نفسها إلى حد الغرور و قد أعمتها حمية الدم فف ّكت‬
‫لجام بطلها البربري حملقار برقة الذي انطلق كالوحش الخرافي آڨورزيل تجاه العدو‪ ،‬قائدا جيشه الجارف نحو‬
‫صرة‬
‫َّ‬ ‫أوروبا التي راح أبناءها اإلغريق يطيحون بمرافئ الفينيق الواحد تلوى اآلخر و عينها على صقلية‪،‬‬
‫المتوسط‪ .‬هكذا أراد القرطاجيون إهانة اإلغريق في عقر دارهم كما أهانهم اإلغريق في صقلية‪ .‬كانت الخوذ تتدافع‬
‫على سواحل هيمرا اليونانية تلفحها الشمس الغاضبة و تجعل الرؤوس التي تحتمي بها تغلي من الحنق‪ .‬كانت‬

‫‪328‬‬
‫السيوف تلمع بين الشمس و الموج و كانت الصنادل و الحوافر تتدافع فوق رمال الشاطئ‪ .‬جيش قرطاجي جرار ال‬
‫نهاية له ع ّكر نزوله ماء البحر‪ ،‬فرسان و جنود و محاربون مرتزقة‪ .‬قرطاجيون‪ ،‬فينيقيون‪ ،‬صقليون‪ ،‬إبيريون‪،‬‬
‫غاليون و طبعا ليبيون‪ .‬الكثير من البربر‪ ،‬اآلالف منهم‪ ،‬وجدوا أنفسهم مرة أخرى وقودا لحروب جبابرة التاريخ‪.‬‬
‫التحمت األقوام المتوسطية سريعا‪ .‬تصاعد الصراخ و الغبار و تطاحنت العظام و المعادن‪ ،‬و كان أن انهار جيش‬
‫قرطاج كأن به مجرد برج بابل بشري هزيل‪ ،‬أمام استماتة اليونان الذين كانوا يدافعون عن شيء ما في القلوب‬
‫بقلب رجل واحد‪ .‬صرخ جيلون السيراقوسي للنصر و ارتفعت قهقهته حتى ردت قمم الجبال اإليطالية صداها‬
‫الذي فاض بالتشفي‪ ،‬و رثَت قرطاج أسطولها العظيم إلى حد أن كادت تخنق نفسها من األسى و ألم المذلة !‪.‬‬

‫يُقال أن ملحمة هيمرا التي جرت معظم أطوارها في البحر‪ ،‬كانت سبب تحول قرطاج إلى جمهورية‪ .‬لكنها‬
‫دفعتها أيضا إلى االخالل بوعدها األول الذي قطعته مع الملك هيرباس قبل نحو أربعة قرون من ذلك‪ .‬هكذا أنكرت‬
‫الملح و الجورة و الصداقة الطويلة و المثمرة‪ ،‬التي جمعتها بالبربر الذين أنجدوها طويال في حروبها دون تردد أو‬
‫نكران‪ ،‬و بعد أن ك ّفت أنظارها الجشعة مؤقتا عن جزر المتوسط التي ورثها الرومان بهدوء و صمت عن‬
‫االغريق‪ ،‬انقلبت إلى دولة بحرية جائعة تنظر بلهف و سوء نية إلى ما وراء أصوارها الجنوبية‪ .‬إلى بالد نوميدية‪.‬‬
‫أو ربما تكون قد أدركت بطول العشرة مدى عاطفية جيرناها الجنوبيين ( عكس الشماليين ) التي قد تصل في‬
‫بعض األحيان حد السذاجة‪ .‬و بعدما ضمنت هيمنتها على سواحلهم‪ ،‬التفتت نحو أراضيهم الخصبة التي ال تنضب‪.‬‬
‫جنات بالد البربر‪ ،‬الطريق الموصلة إلى ج َّنات الهيسبيريد التي تغنى بها اليونان في قصائدهم األلفية األولى تحت‬
‫سكرة سحر ليبيا القديمة !‪ .‬أراضي القمح و الشعير و الزيتون و العنب و الرمان و العسل و الدفء الدائم‪..........‬‬
‫'' لمال ؟ ''‪ .‬أضمرت قرطاج في نفسها‪....‬‬

‫ساد الصمت فجأة‪ ،‬فخرجتُ من تلك الغطسة باحثا عن أغاكال‪ .‬كان جالسا هناك يتأرجح فوق كرسيه الهزاز‬
‫رافعا رأسه نافثا دخان غليونه الذي أشعله لتوه‪ .‬كانت تلك أول مرة أراه يدخن الغليون‪ ،‬آخذا استراحة من العمل‪.‬‬

‫_ ما األمر‪ ،‬ماس عميروش‪ ،‬لم توقفت ؟‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬ال شيء‪ .‬أنا أفكر في هذا‪ ،‬كيف أن التاريخ يدفع األمم لتمخض بعضها بعضا لتخرج زبدتها غير‬
‫ال ُمتوقعة‪ .‬في بعض األحيان يتكاسل شعب ما في إخراج أفضل أو أقوى ما فيه و يعطي الفضل لشعوب أخرى كي‬
‫تفعل ذلك‪ ،‬حين تظن أنها بصدد غزوه و التسيد عليه لضعفه‪ .‬اإلغريق و الصقليين مخضوا قرطاج في معركة‬
‫هيمرا‪ ،‬ثم جاء بعدها طاغيتهم ‪ Agathocles‬و أنزل قواته ناقال الحرب ألول مرة إلى أرض األفارقة كي يرد‬
‫الصاع صاعين للقرطاجيين ‪ ،‬و يُقال أنه وجد ملك األمازيغيين أيلماس حليفا له على قرطاجة التي التهمت الكثير‬
‫من أراضيه مثيرة بذلك حنق األمازيغ عليها‪ ،‬فدخلوا معها في صراع طويل‪ .‬البعض يقول بأن النوميد و الصقليين‬
‫انقلبوا على بعضهم بعدما هزموا قرطاج و أن أيلماس قُتل في مبارزة ضد ‪ .Agathocles‬أما قرطاج و بعد عقود‬
‫من التغطرس على النوميديين‪ ،‬وجدت نفسها في أزمة اقتصادية حادة‪ ،‬انتهت بتمرد جيشها المرتزق بقيادة‬
‫األمازيغي ماظوس الذي قاد الثورة رفقة صديقه الروماني ‪ ،Spendios‬فيما عرف بحرب جيش المرتزقة‪ .‬و هو‬
‫ما جعل قرطاج تحفظ الدروس بجد و مرة أخرى تعقد العزم بعد تلك النكسة على أن تكون أعظم و أقوى‪ ،‬ثم‬

‫‪329‬‬
‫عادت لتمخض النوميد مرة أخرى‪ ،‬فجعلتهم يدخلون مرحلة جديدة من تاريخهم‪ .‬مرحلة ملهمة جدا‪ ،‬ال نزال نحن‬
‫المؤمنين بقضية األمازيغية متأثرين بها إلى اليوم‪....‬‬

‫كان آغاكال يتحدث عما يشبه بوابة من الرخام االفريقي األبيض‪ ،‬ظهرت من العدم فوق مرج تونسي واسع‬
‫بمجرد أن فتحت قرطاج بواباتها الجنوبية مرة أخرى للتوسع و الغزو‪ ،‬و يبدو أن األرض النوميدية نفسها قد‬
‫تواطأت بكل ما لها من أسرار مشتركة مع إنسانها كي تفتح تلك البوابة على كامل هذه البالد‪ ،‬لتدشن بها عهدا‬
‫ذهبيا خصبا باألحداث كخصوبة تربتها الدافئة العاشقة للشمس و حبات الشعير‪ .‬كان ذلك عهد '' اإلڨليدن '' أو ''‬
‫أسياد القبائل و الحرب '' الذهبي‪ .‬الملوك المحاربون‪ .‬السالالت الملكية النوميدية الثائرة التي راحت تتنازع الملك‬
‫مع قرطاج تارة و مع بعضها البعض تارة أخرى‪ .‬األڨليد ڨايا حفيد األڨليد نيبتاسن ملك نوميديا الشرقية و حليف‬
‫قرطاج التقليدي يلفظ أنفاسه األخيرة أمام نظرات شقيقه إزلكاس الماكرة الملتصقة بالعرش‪ .‬إيزلكاس يموت في‬
‫ظروف غامضة ليتسلم ابنه كبوسا العرش‪ ،‬ثم يستمر االقتتال داخل األسرة الملكية البربرية‪ ،‬فيُقتل كبوسا على يد‬
‫قريبه مازلتول الذي انقض على العرش و صار لعبة سهلة و لقمة صائغة أمام نوميديا الغربية التي سرعان ما‬
‫انتصرت في حرب الحدود مرة أخرى‪ ،‬ليدخل أڨليدها صفاقس أرض ڨايا المقبور بعد طول صراع‪ .‬هكذا ضاع‬
‫العرش عبثا‪ ،‬حين كان وريثه الشرعي في مكان ما في بالد إيبيريا يقاتل الرومان إلى جانب القرطاجيين‪ ،‬غير‬
‫عالم بخداع قرطاج و مكر ثعابينها‪ ،‬الذين خانوا عهود التحالف مع والده‪ ،‬و مكنوا غريم والده من االستيالء على‬
‫عرشه الذي هشمه أعمامه بتطاحنهم العقيم في سبيله‪ ،‬بل و فوق كل ذلك‪ ،‬منحوا صفاقس األميرة القرطاجية‬
‫صوفونيبيا التي كانوا قد وعدوا ولي العهد النوميدي بها من قبل‪ .‬ضم صفاقس الشقيقتين المتخاصمتين ماسيليا و‬
‫مازاسيليا ألول مرة في تاريخهما و ذُكر كأول أڨليد في التاريخ المدون لنوميديا‪ ،‬مثيرا بذلك جنون روما التي لم‬
‫تغفر له ذلك أبدا‪ .‬بينما ضلت قرطاج تتربص‪ ،‬و هي التي كانت لها حسابات أخرى للمستقبل‪ ،‬كانت تنتظر بقلق‬
‫انتصار جيوشها على الرومان في اسبانيا‪ ،‬على شرط أال يسمع وريث عرش ماسيليا الشرعي أخبار ما حدث بعد‬
‫وفاة والده الكهل‪ .‬كنتُ أرى بذلك ظالل كل األوفياء الذين أرادوا الفرار ليال من فوق أو تحت أصوار المملكة‬
‫إليصال األخبار إلى جيش النوميد في ايبيريا و هي تطعن في الظهر أو تخنق بالحبال من الخلف‪ ،‬فال يسمع سوى‬
‫تخبط أطرافها في الظالم و انزالق أنفاسها األخيرة في العدم‪ .‬لكن من كان وريث العشر المخدوع ذاك يا ترى ؟‪.‬‬
‫قلتُ في نفسي و أنا مستمر في سماع القصة‪ ،‬مشكال شخوصها بالطين التي كانت تهتز بين يدي‪.‬‬

‫هناك‪ ،‬في سهول اسبانيا المشمسة أين كانت القوتان المتوسطيتان‪ ،‬الرومان و القرطاج المدعومين بالنوميد‬
‫تستعدان للمواجهة‪ ،‬كانت ترتفع فجأة الهتافات المتناسقة لجنود المشاة في صفوف الجيش االفريقي الذي كان يقوده‬
‫صدربعل و هي تشاهد الفارس النوميدي الشاب ينطلق فوق فرسه يتبعه رجاله من نخبة المحاربين‪ ،‬يقطعون‬
‫السهب الذي امتزجت فيه التربة و األحراش و الدماء و بقايا الرجال و الخيول و الفيلة و العربات‪ .‬كانوا يتوجهون‬
‫مباشرة صوب المساحة المفتوحة نحو خطوط الرومان األولى‪ ،‬التي راحت تعيد تشكيل دفاعاتها بسرعة‪.‬‬

‫_ '' ‪.'' ..........Novos Hostis…..Novos Hostis….Novos Hostis‬‬

‫‪330‬‬
‫كانت حناجر مشاة و رماة الجيش القرطاجي تهز ميدان المعركة بتلك العبارة الالتينية التي كانت تعني ''‬
‫العدو الجديد '' كأنها بذلك تريد التشفي في فرسان و جنود الرومان و هي تخبرهم بأن موجة جديدة من األلم تتقدم‬
‫نحوهم‪ ،‬بعدما علمت فيما تبثه شائعات الحروب أن العدو الجديد كان اللقب الذي راج بين ضباط الجيش الروماني‬
‫عن ذاك الفارس البربري المجهول‪ ،‬الذي كان يقود سالح الفرسان النوميدي‪ ،‬و الذي أوقع خسائر فادحة في‬
‫صفوفهم‪ .‬كان الجميع يصيح بذلك‪ ...‬العدو الجديد‪ ...‬العدو الجديد‪ ....‬و هم يشاهدونه بقامته الفارعة يشد لجام فرسه‬
‫البربري ‪ ،‬ترسه و رماحه في يده‪ ،‬قطرات العرق تنزلق فوق بشرته السمراء‪ ،‬عيناه تطلقان شرارات التحدي‬
‫كالصواعق من تحت خوذته البراقة و هو يشير إلى فرسانه ليستعدوا للهجمة التالية‪ .‬الهجمة التي شكلت جزءا‬
‫ضئيال من أمجاد البربر في الحروب البونية‪ .‬الحروب التي جعلت المؤرخ ‪ Titus Livius‬يقف أمام محكمة‬
‫تاريخ الحرب البونية الثانية و هو يخط بقلمه آية االعتراف التالية‪ '' :‬إن سيوف النوميديين هي التي فصلت الفصل‬
‫النهائي في معركة قناي ''‪ ،‬المعركة التي صنعت مجد حنبعل برقة و نثرت عار جيش روما عبر كامل أوروبا‬
‫لقرون الحقة‪ .‬الحرب البونية الثانية التي جعلت سالح فرسان النوميد يخلد اسمه في التاريخ‪ ،‬سالح فرسان النوميد‬
‫الذي جعل قائده وريث عرش ماسيليا يقتحم الخلود و هو لم يتجاوز الخامسة و العشرين من عمره بعد‪ .‬و قد عرفه‬
‫جميع الناس منذ سنه الصغيرة باسم '' ماس ان سن '' أي '' سيدهم '' بلغة البربر‪ .‬أو ماسينيسا وفقا للنطق الالتيني‪.‬‬
‫المحارب الشرس و الرهيب‪ .‬و السياسي الطموح و الماكر فيما بعد‪ ،‬الذي كان سيغ ِّيّر مصير أرض و أمة بعد‬
‫بضع سنوات من هزيمة قرطاجة أمام روما في موقعتي ليبا و ميتيريس‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬ف إن العدو الجديد صار معروفا للرومان الذين علموا بأمر المؤامرة التي دبرتها قرطاج من رواء‬
‫ظهره‪ .‬تحركت آلة السياسة لتطلق العنان لسباقات الخداع و المكر و التحالفات السرية و التالعب‪ .‬كأني كنتُ‬
‫أراقب األڨليد صفاقس و هو يتشاور هامسا مع مستشاريه في الكواليس‪ ،‬ثم يعود إلى طاولة الحوار‪ ،‬يحاول إبعاد‬
‫شبح الحرب عن نوميديا‪ ،‬ساعيا بحكمته المشهود لها للتقريب بين وجهات نظر القرطاجيين و الرومان في‬
‫اجتماعه مع صدربعل و ‪ Scipion Emilienus‬في ساڨا النوميدية‪ ،‬غير عالم بنوايا الرومان الذين كانوا‬
‫يستعدون الطالع ماسينيسا على حقيقة ما حدث لعرشه و مملكته طيلة سنوات غيابه‪ ،‬مستغلين حرارة دمه الشبابي‬
‫و اندفاعه العاطفي‪ .‬كنتُ أكاد أسمع بذلك همسات ثعلب روما ‪ Scipion‬العائد من نوميديا في أذن الفارس الشاب‬
‫في ليلة ظلماء مألتها زمجرة الضباع الباحثة عن الجثث‪ ،‬واعدا إياه بأن يجد روما حليفا قويا و صديقا دائما إن هو‬
‫ساعده في هزيمة قرطاج المخادعة و سفاقص اللص‪ ،‬سارق العروش و الحبيبات‪ ،‬بل و جعل األمير النوميدي‬
‫الشاب يخرج عن طوعه نهائيا بأن أخبره أن والدته المسكينة تقبع في األسر القرطاجي‪ .‬بالنسبة للبربري‪ ،‬كل‬
‫شيء إال األم !‪.‬‬

‫بهذا الشكل تسير حبائل المؤامرات بين الدول منذ األزل‪ .‬عاد ماسينيسا بسالح فرسانه األسطوري الذي كسب‬
‫سمعته المتوسطية بالدماء و العرق و االحتكاك بالكبار‪ .‬استعان بأبناء عمومته المور الذين دعموه بآالف الرجال‪،‬‬
‫ثم راحوا يسحقون الخصوم طيلة طريقهم كما يسحق قطيع هائج أكوام التبن اليابس في سعيه‪ .‬وصل سيرتا المدينة‬
‫المتوسطية الشامخة بعد عدة مواجهات من الكر و الفر التي كاد األمير الثائر يهلك على إثرها‪ .‬هناك‪ ،‬غير بعيد‬
‫عن أصوار سيرتا‪ ،‬وقعت الواقعة بينه و بين غريمه‪ ،‬الذي شاهده جنوده في أرض الكمين المنصوب و هو يفقد‬

‫‪331‬‬
‫خوذته فينكشف بياض شعره األشيب‪ ،‬ثم يسقط ترسه فتتبدى ذراعه الهزيلة المهتزة‪ ،‬قبل أن يبدأ في الترنح ترنح‬
‫العجائز فوق فرسه‪ ،‬ثم يهوي على وجهه تحت الحوافر و األقدام و هو يلهث خائرا مختنقا بنسمات شهر جوان‬
‫السيرتية الحارة ‪ ،‬بعدما لم يحتمل كل تلك الضربات الشبابية الحاقدة التي حطم بها ماسينيسا عزمه و غروره تماما‬
‫كما قسم ترسه و كسر سيفه‪ .‬تلك كانت سنة الطبيعة في هذا البلد‪ .‬الشباب يطيحون بالشيوخ !‪ .‬دخل ماسينيسا العنيد‬
‫م َمجَّدا إلى عاصمة أسالفه سيرتا و استرد عرش والده بالقوة‪ ،‬و احتفل ‪ Scipion‬بالحصول على سفاقص مكبال‬
‫بالسالسل لينال جزاء طموحه على يد روما‪ ،‬التي ابتهجت أخيرا بالحصول على موطئ قدم لها في افريقيا‪ ،‬حين‬
‫انتحرت الملكة صوفونيبيا بالسم‪ ،‬وفاء لزوجها ضد حبيبها السابق الذي رأته مجرد خائن جاء باألعداء الشماليين‬
‫إلى عقر الدار‪ .‬شائعات الشارع السيرتي يومها قالت أن ماسينيسا هو من دفعها لشرب السم كي ال يأخذها الرومان‬
‫منه كأسيرة حرب‪ ،‬حتى قبل أن يسألها إن كانت ال تزال تحبه أم باتت فعال تكرهه !‪ .‬شائعة أخرى قالت بأن األڨليد‬
‫يسلّمها للرومان مهما‬
‫ترجى الملكة كي ال تبتلع السم و هو يقسم لها بأنه ال يزال يحبها رغم كل شيء‪ ،‬و أنه لن ِّ‬
‫حدث‪ ،‬لكن‪ ....‬ملكة سيرتا كان لها مزاج أنثوي خاص تلك األمسية العنيفة‪ .‬ابتعلت السم و انتحرت حزنا على‬
‫شبابها الذي احترق هباء بنيران حروب الممالك في النهاية‪.‬‬

‫انتهى زحف الحلفاء إلى سهول زاما مسقط رأس ڨايا‪ ،‬أين تناطحت القوتين في إحدى أعظم المالحم العسكرية‬
‫في التاريخ‪ ،‬و صاح بطلها حنبعل و حليفه فرمينا ابن صفاقس من وجع الهزيمة‪ .‬صارت قرطاج تفاوض‬
‫متضرعة للحصول على األمان‪ ،‬و صار ل سيد القوم ماسينيسا الشاب القوي المندفع حلفاء أقوياء من وراء البحر‪،‬‬
‫بعدما كان باألمس القريب مجرد فارس في جيش صدربعل في أرض المعركة‪ .‬صار الفارس ملكا‪ ،‬و صار حليفه‬
‫‪ Scipion‬حامال للقب الذي سيخلده إلى األبد '' ‪ .'' Scipion Africanus‬في حين أدركت قرطاج و هي تغلق‬
‫بواباتها على نفسها بحذر و تو ُّجس أنها تحالفت مع األڨليد األضعف رغم حنكته الطويلة في الحكم‪ ،‬و أن لعنة‬
‫خيانتها لڨايا الماسيلي كانت في بداياتها فقط‪ .‬كانت تتحسس الهمسات القادمة من نوميديا الشابة الموحدة و هي تقول‬
‫بأن ملكها الشاب المسنود بقوة روما بات يريد استرداد جميع أمالك والده التي كان قد فقدها في تسويات سابقة مع‬
‫األشفاط‪.‬‬

‫الحقيقة أن األمر كان أكثر خطورة من ذلك بكثير‪ .‬كانت هنالك ومضة خفيفة تتراقص في رأس ماسينيسا‪ ،‬ما‬
‫فتئت أن تحولت إلى شعلة راحت تكبر و يزداد لهيبها انتشارا آخذا كامل روحه البربرية المتمردة‪ ،‬كلما هبت عليها‬
‫نسمائم الطموح الوطني الذي اختلط بعنفوان الشباب و غضب الهزائم و غرور االنتصارات و ذكرى حب شبابه‬
‫األول‪ ،‬صوفونيبيا المنتحرة‪ .‬رأيتُ سيد القوم مستغرقا في التفكير طويال‪ ،‬مختليا بنفسه في قاعة عرشه أو متجوال‬
‫بين أقواص قصره بسيرتا المجيدة و هو يفكر و يفكر‪ .‬لمحت عالمات الدهشة و الذهول و هي تطبع وجوه قادته‬
‫المجتمعين حول مائدة الوليمة و هم يسمعون قراره الكبير‪ .‬كان يبتسم ساخرا من بعض األحاديث المستكينة التي‬
‫كانت تقول بأن قبيلة الماسيل قد حصلوا على السالم و السكينة أخيرا‪ ،‬بعدما استردوا عرش ڨايا المبجل و فوق‬
‫ذلك حصلوا على نوميديا موحدة و حليف قوي جعل قرطاج تكف عن االستئساد عليهم‪ .‬الرجل كانت له كلمة‬
‫أخرى مختلفة تماما‪ ،‬حين راح يخبر قادته و مقربيه أنه ال يجب عليهم اعتياد حياة الكسل و المجون كثيرا‪ ،‬كون‬
‫األمر لم ينته بعد‪ .‬كان يخبرهم بغرور و حماسة أن وحدة نوميديا ال تكفي‪ .‬كان يخبرهم أن قرطاج ستعود يوما ما‬

‫‪332‬‬
‫مادامت قائمة تحاول إعادة زرع أراضيها بالقمح‪ ،‬و أنها ستظل دوما في عينه مجرد قوة غاشمة دخيلة يجب‬
‫إخضاعها للحكم النوميدي أو رميها في البحر‪ .‬كان يُسر لهم بأن روما أيضا لن تظل حليفا دائما و أنها تحالفت معه‬
‫كون عينها على قرطاج و على نوميديا و على المتوسط كله‪ .‬كان يخبرهم بأنه يحلم بتوحيد جميع بالد البربر و‬
‫حرم على كل صغير ضعيف !!‪ .‬ماسنسن لم يرغب في‬
‫يقيم امبراطورية توازي روما في القوة و العظمة !‪ .‬حلم ُم َّ‬
‫أن يرى بلده ضعيفا مشتتا بعد كل الذي ساهم به أسالفه و قومه في تاريخ المتوسط‪ .‬كان من حق البربر أخيرا أن‬
‫يحلموا بعد كل ذلك بأن يكونوا أمة حرة و مو َّحدة !!‪ .‬هكذا رفع الملك المحارب قدحه الفضي إلى السماء و هو‬
‫يصيح في لحظة اختلط فيها اإللهام بالثمالة‪ '' :‬تافريقت إي يفريقن !‪ ( .....‬إفريقيا لألفارقة ! )''‪.‬‬

‫صمت أغاكال‪ .‬ثم وقف و هو يتمدد شادا خصره بيديه‪ ،‬ثم وضع غليونه فوق طاولة خشبية صغيرة على‬
‫يمينه‪.‬‬

‫_ ماس عميروش‪ ،‬كان هذا أول شعار وطني حقيقي رفع في هذا البلد على ما أظن ؟‪.‬‬

‫_ بال‪ .‬حدث ذلك قبل ‪ 4411‬سنة من اليوم‪ .‬ربما يكون قد أطلق شعاره الشهير هذا بالليبية‪ ،‬أو ربما بالبونيقية‪،‬‬
‫أو بالالتينية‪ ....‬قد ال نكتشف ذلك أبدا‪ .‬ميزة ماسينيسا أنه كان محاربا بحق‪ ،‬لكنه كان داهية في السياسة و فوق كل‬
‫ذلك كانت له طموحات فاقت بكثير سقف طموحات كل اإلڨليدن الذين عاصروه بل و كل أسالفه‪ .‬كان واعيا بأن‬
‫قرطاج استغلت قومه طويال في حروبها األنانية الخاصة‪ .‬كما أدرك مع تقدمه في السن أن روما هي األخرى‬
‫كانت تتالعب به لمصالحها الخاصة أيضا‪ ،‬لذلك قرر هو اآلخر استغالل الجميع من أجل لعبته السياسية الخاصة‪.‬‬

‫_ لمن كانت الكلمة الفصل ؟‪.‬‬

‫_ لألكثر دهاء و‪ ......‬حقدا !‪.‬‬

‫_ ماذا حدث ؟‪ .‬استمر !‪.‬‬

‫جلس الحرفي مرة أخرى و هو يحمل قطعة طين أخرى و يرمي بها فوق دوالبه الدوار‪....‬‬

‫_ أقام ماسينيسا مشروعا وطنيا حقيقيا‪ ،‬و كان أول أڨليد في تاريخنا يبني مشروعه بالبدء في استصالح‬
‫أراضي نوميديا الواسعة و الخصبة‪ .‬هه أقول دوما أنه كان أول و آخر مسؤول جزائري أظهر بالعمل ال بالكالم‬
‫أن تربة هذا البلد قادرة على إنتاج و تكديس و تصدير شتى أنواع الخيرات !‪ .‬دراسته في قرطاج و الحروب‬
‫الطويلة التي خاضها في أوروبا ضد الرومان‪ ،‬جعلته يفهم أن الحضارات تقوم على أسس اقتصادية و ثقافية صلبة‬
‫قبل أن تمر إلى القوة العسكرية و تفرض نفسها في العالم بمزاحمة الكبار‪ .‬الشيء الذي لم يكن متوفرا في الممالك‬
‫األمازيغية التي لم تشتهر سوى بسمعة و جسارة فرسانها فقط‪ .‬في ظرف سنوات قليلة صار هذا البلد أكبر منتج‬
‫للقمح و الشعير في المتوسط و هو ما زاد في تملُّق الرومان و خوف القرطاجيين‪ ،‬الذين كانوا ينافسونهم في ذلك‬
‫االنتاج أيضا‪ .‬صار ماسينيسا يص ِّدّر الحبوب و الحيوانات إلى بالد اليونان و روما‪ ،‬مقابل سكوتها عن توسعه و‬
‫غزواته التي راحت تلتهم كل األراضي الواقعة تحت سيطرة قرطاج‪ ،‬التي كانت مجبرة على عدم الرد بسبب‬

‫‪333‬‬
‫معاهدات نهاية الحرب البونية التي وقعتها مع الرومان‪ .‬كانوا يتفرجون عليها ضاحكين منها و هي تشتكي غلو‬
‫يحررون أراضيهم المستعمرة منذ‬
‫جيرناها النوميد‪ ،‬الذين لم يكونوا في الحقيقة يفعلون شيئا سوى أنهم كانوا ِّ ّ‬
‫عقود !‪ .‬كان ماسينيسا يسحب البساط من تحت أقدام القوتين العظميين بالحرب و السياسة معا‪ .‬كان استراتيجي‬
‫التفكير‪ .‬سوى أن األمور بدأت تتغير بعدما راح الرومان يستشعرون بخبرتهم الطويلة في السياسة و الحرب و‬
‫الحضارات‪ ،‬أن األڨليد كان يُضمر أكثر مما يُظهر و أن استمرار توسعه كان يؤشر على أشياء أخرى‪ .‬الرجل‬
‫استعاد كل المرافئ التي انتزعها القرطاجيون من والده و جده‪ ،‬و أخذ يزيد في عدد األساطيل التجارية و الحربية‪،‬‬
‫مستمرا في ابتالع األراضي األخرى و إخضاع القبائل األمازيغية المتفرقة‪ ،‬تارة باللين و تارة بالقوة‪ ،‬جامعا إياها‬
‫نواب الجمهورية الرومانية أن الملك صار رجال بالغا اكتسب الكثير من الخبرة‬
‫تحت حكم أمازيغي واحد‪ .‬فهم َّ‬
‫العسكرية و السياسية‪ ،‬و لم يعد ذاك الفارس المراهق المغرور‪ ،‬المندفع برعونة إلى ساحات المعارك و الذي يسهل‬
‫التأثير عليه بالكلمات‪.‬‬

‫_ همممم إذن كانوا ينظرون إليه على أنه صار تلميذا مستعدا للتمرد في أية لحظة‪.‬‬

‫_ و على األرجح كان ينظر إليهم على أنهم لم يعودوا أصدقاءه الناصحين بالضرورة‪ .‬بل مجرد حلفاء‬
‫ظرفيين قد يتحولون إلى خصوم في المستقبل‪ ،‬لهذا كان يسابق الزمن‪ .‬تلك هي أحوال السياسة على كل‪ .‬وصل‬
‫بقواته حتى غرب ليبيا الحالية و حاصر طرابلس‪ ،‬فصار مطبقا على قرطاجة من كل الجهات‪ ،‬لكن مشكلته كانت‬
‫تكمن في استحالة اقتحامه لها بسبب تحصينها الممتاز و قوة جيشها‪ ،‬إال إن هو حصل على سند من صديقه القديم‬
‫‪ ،! Scipion‬أو إشعال حرب بين القوتين المتوسطيتين ليكون هو و دولته النوميدية كمكيال ثقيل يُميل الدفة الحليفة‬
‫ضد الدفة التي يريد التخلص منها في اللحظة المناسبة !‪ .‬فهم أنه ال بد من مؤامرة تجبر القرطاجيين على نقض‬
‫معاهداتهم مع الرومان‪ ،‬كونه كان على علم أن هؤالء أيضا كانوا يبحثون عن أصغر ذريعة تمكنهم من فتح عدوان‬
‫جديد على قرطاج‪ .‬استطاع بدهائه و مكره أن يستدرج قرطاجة للرد على هجماته االستفزازية‪ ،‬ثم أعلن وقوفه‬
‫العسكري مع روما التي وجدت الذريعة النهائية‪ ،‬فكانت بذلك بداية الحرب البونية الثالثة التي انتهت إلى التدمير‬
‫الرهيب الذي تعرضت له قرطاج‪ ،‬بعد معارك عنيفة و حصار قاس و وحشي دام ثالثة أعوام‪.‬‬

‫غطستُ سريعا في أحداث هذه القصص المدهشة‪ .‬السهول التونسية المشتعلة‪ .‬روائح األعشاب المحترقة التي‬
‫امتزجت بروائح الجثث المتفحمة‪ .‬جيش المرتزقة القرطاجي المهزوم العائد بفؤاد مكسور إلى قرطاجة الجريحة‪،‬‬
‫ينظر إليها كمن ينظر إلى امرأة جميلة تحتضر دون أن تعلم‪ .‬لم ينتظر القوم سوى ثالث سنوات من الحصار‪،‬‬
‫كانت فيها الحسناء تكابد الجوع بصمت و كبرياء‪ ،‬متمسكة بآخر ذرات عظمتها التي كانت انفاس الجيوش‬
‫المحاصرة لها تنفثها بعيدا‪ ،‬كما تنفث أنفاس التنانين براعم الزهور بعد أن تجعلها فارغة من آخر ذرات الحياة‪.‬‬
‫حين لم تعد تطيق ألم الحصار‪ ،‬فتحت بواباتها أمام المعركة اليائسة األخيرة‪ .‬صارت قرطاج تتخبط في نهاية‬
‫درامية حزينة على مسرح التاريخ‪ ،‬تحت أنظار جميع األمم‪ .‬قرطاج‪ ،‬الحسناء االفريقية التي عمرت قرابة ‪911‬‬
‫عام بمجدها الذي بناه أكثر من ‪ 41‬جيال متتاليا من المتحدرين من الفينيق و البربر األوائل ممن بذروا بذرة‬
‫الحضارة البونيقية األولى‪ ،‬باتت بين فجر و ضحى سبية الرومان‪ ،‬يفعلون فيها األفاعيل‪ ،‬حين صرخ وجهاءهم‬

‫‪334‬‬
‫في مجلس الشيوخ في لحظة جنون و لهفة بأنه يجب تدميرها حجرا بحجر حتى تكون عبرة لمن يعتبر‪ .‬رأيتُ‬
‫المتوقع‪ ،‬تجتث المدينة من‬
‫َ‬ ‫‪ Scipion‬االفريقي‪ ،‬يتفرج شبه مشلول على قواته و هي تنفذ أمر مجلس السيناتو غير‬
‫جذورها‪ ،‬كأنها فيلة هائجة اجتمعت حول شجرة زيتون عريقة لتقلبها على تربتها المحروثة بالملح‪.‬‬

‫قيل بأن ماسينيسا لم يدرك ذلك اليوم األسود‪ ،‬كونه كان قد خسر معركة الحياة حين كانت قرطاج تحت‬
‫الحصار‪ ،‬فقد خطط لكل شيء إال شيئا واحدا‪ .‬كما يُقال‪ ،‬فإن الزمن يهزم كل شيء‪ ،‬حتى الصخور‪ .‬مرت حياة‬
‫األڨليد األشهر في تاريخ البربر كلمح البصر و انتهى به المطاف يحاول عبثا التشبث بأنفاسه األخيرة‪ ،‬لكنها لم‬
‫تطل أكثر مما كان يأمل مناجيا آلهته البربرية و البونيقية التي لم ترحم أحالمه يوما‪ .‬لذلك‪ ،‬انسحبت انفاسه األخيرة‬
‫بصعوبة من تحت رداء الغصة التي علقت في صدره إلى األبد‪ .‬استسلم األڨليد أخيرا و هو الذي حقد على‬
‫االستسالم طيلة حياته‪ .‬استسلم منهكا و متأسفا‪ ،‬كونه لم يحقق حلمه األعظم‪ :‬رؤية قرطاج و قد صارت عاصمة‬
‫الحلم النوميدي الواعد‪ .‬حياة زاخرة دامت ‪ 21‬عاما‪ ،‬أحرق منها ماسينيسا نحو ‪ 11‬عاما في ساحات المعارك‪ ،‬و لم‬
‫ينعم مقابلها بالسكينة فوق عرشه تحت ظالل قصره و نعومة أجساد نسائه و حب أهله سوى عامين فقط‪ .‬كان بذلك‬
‫ْ‬
‫غادرت تلك الشعلة الهائجة عيني سيد القوم المغمضتين مع بقايا‬ ‫'' الملك المحارب '' لكل التاريخ البربري بحق‪.‬‬
‫اللهب الذي أ ُحرق به في معبد سيرتا‪ُ .‬حملت عظامه في الموكب المهيب الذي شيعه إلى صومعة لخروب‪ ،‬التي‬
‫أغلقت بحجارة مرصوصة على روحه التي استراحت من أثقال االلتزام الوطني و حياة الجندية القاسية و صخب‬
‫ساحات الحرب أخيرا‪.‬‬

‫‪ ....‬انقطع حبل األحداث المدهش بشكل مزعج‪ ،‬و ساد الظالم مخيلتي‪ ،‬فتفطنت إلى صمت الحرفي مرة‬
‫أخرى‪ .‬كان يفكر بعمق‪ ،‬و قبل أن أسأله عن سبب توقفه عن السرد نظر إلي‪...‬‬

‫_ تعلم يا أمداكول أن التاريخ يكتبه المنتصرون‪ .‬مصادر التوثيق الرومانية‪ ،‬في مجملها‪ ،‬وضعت ماسينيسا‬
‫في صورة ضمنية توحي بأنه كان مجرد شخص جشع يتقن لعب دور الحليف الطيع الذي ينفذ كل ما يطلبه‬
‫الرومان في سبيل الحصول على السلطة‪ ،‬و هو ما جعل الكثيرين منا اليوم يعتبرونه السبب األول في دخول‬
‫الرومان إلى هذه البالد‪ .‬بل سمعتُ بأذني بعض السذج من الشباب هنا ينعتونه بالخيانة‪ .‬هذا ظلم !‪ ،‬كم هي عجيبة‬
‫طريقة تعامل شعبنا مع تاريخه !‪.‬‬

‫_ ما قصدك ؟‪.‬‬

‫_ نحن نتعامل مع تاريخنا و نحكم على أحداثه و نحاكم شخصياته و كأن األمر ال يزال حاضرا معاشا بروح‬
‫و ظروف و قوانين و معايير الحاضر !‪ .‬ألم تلحظ ذلك ؟‪ .‬حتى هذه الشخصيات الوطنية التي عاشت قبل ‪4111‬‬
‫عام لم تسلم من هذه الظاهرة الجزائرية الغريبة !!‪ .‬هه‪ ..‬حنبعل الدخيل‪...‬ماسينيسا الخائن‪ ..‬سفاقص الحقير‪....‬‬
‫وضع مثير للشفقة !‪ .‬أقول دوما أنه لو لم يحرق الرومان مكتبة قرطاج لكان تاريخنا سيبدو مختلفا كثيرا اليوم‪ .‬لكنا‬
‫سنبدو مختلفين كثيرا أمام أنفسنا حتى !‪.‬‬

‫_ ماس عميروش‪ ،‬ماذا لو عاش ماسينيسا محرقة قرطاج ؟‪ .‬كيف تتصور رد فعله ؟‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫_ هممم‪ ،‬ال أدري‪ ،‬ربما كان ليرفع نخب خراب قرطاج‪ ،‬التي جرحت قلبه و كادت تض ِّيّع مستقبل مملكة والده‬
‫تشرد شعبه‪ ،‬ثم يستعد رفقة أبنائه و جيوشه لالنقالب على الرومان و مطالبتهم بالرحيل عن افريقيا نهائيا ؟‪ .‬أو‬
‫و ِّ ّ‬
‫ربما كان ليقف مراقبا الجرم عن بعد‪ ،‬مكفهر الوجه غضبا و أسى على سقوط خططه في الوحل الذي عرك بدماء‬
‫ألوف القرطاجيين‪ .‬ربما كان ليضطرب تحت وطأة األفكار متسائال‪ :‬هل أخطأ حين تسبب في الحرب التي انتهت‬
‫إلى صراخ الرجال و نواح النساء في شوارع قرطاج المنحورة ؟‪ .‬هل أساء وضع الحسابات التي كانت لتفضي‬
‫إلى هزيمة قرطاج و مطالبة الرومان بها أو حتى انتزاعها منهم عنوة‪ ،‬قبل أن يقرروا مصيرها الفجائي ذاك ؟‪ .‬هل‬
‫كان عليه أن ينسى أحقاده الشبابية الماضية و يشتري السلم مع قرطاج التي خدعته‪ ،‬و ينقلب على الرومان الذين‬
‫ساعدوه على استعادة عرش والده ؟‪ .‬ألم يكن كل ذلك ليجعل منه رجال بال شرف ؟‪ .‬ربما كان سيترسخ الكثير من‬
‫اليقين في مقلتيه و هو يشاهد أعمدة الدخان السوداء و هي تتصاعد من داخل أصوار الحاضرة المدَ َّمرة في األفق‪.‬‬
‫ربما كان سيزداد يقينا حين يلمح عمود الدخان األعظم الذي كان يتوسط بقية األعمدة‪ .‬كشبح بشع ينبعث من تربة‬
‫الجحيم المسقية بالحقد و الخوف‪ ،‬يفتح ثغرا واسعا ممهدا اللتهام ضوء السماء و حجب الشمس نهائيا على بلدنا‬
‫هذا‪.‬‬

‫_ عن أي عمود تتحدث‪ ،‬ماس عميروش ؟‪.‬‬

‫تنهد ثم نظر إلي بانفعال‪....‬‬

‫_ عمود الدخان المتصاعد من ألسنة اللهب التي التهمت مكتبة قرطاج العظيمة يا أمداكول !‪ ،‬المكان الذي كان‬
‫يحفظ مخطوطات تاريخ الشمال االفريقي كله‪ .‬آالف المخطوطات التي كتبت منذ عهد الملك َهيرباس و األميرة‬
‫عليسة‪ ،‬و أخرى نسخت عما كانت مكتبة االسكندرية تزخر به من كنوز تاريخ هذا الشعب‪.‬‬

‫تمالك نفسه قليال‪ ،‬ثم عاد للعمل على دوالبه مستمرا في الحديث عما كان سيكون لو‪....‬‬

‫_ ربما كان ماسينيسا سيقتنع قطعا ب أن روما كانت تريد عمدا غمس بالد البربر في جهل أزلي بتاريخها و‬
‫بذاتها‪ .‬جهل ال تستفيق به من احتالل حتى تجد نفسها‪ ،‬و من دون أن تدرك‪ ،‬في أحضان احتالل آخر‪ .‬ربما كان‬
‫األڨليد سيقتنع تماما‪ ،‬و لو بشكل شبه متأخر‪ ،‬كيف تحقد القوى العظمى بصبر و طول نفس كي تنتصر و تسود‬
‫بوحشية !‪.‬‬

‫استطرد أغاكال في السرد مرة أخرى‪ ،‬عائدا إلى نهاية مراسم تشييع ماسنسن في تلك األمسية الحزينة‪ ،‬حين‬
‫أمست مملكته كاألرملة المرتبكة بين يدي ‪ Scipion‬الذي تظاهر باتباع تقاليد الحكم الليبيكية القديمة في توزيع‬
‫السلطة‪ ،‬فقسم الحكم بمكر شديد بين أكبر أبناء األڨليد‪ ،‬ماكوبسن المفكر و السياسي‪ ،‬غولوسن الفارس المندفع و‬
‫مصطنبعل البطل الرياضي‪ ،‬الذين سرعان ما تنازعوا العرش بينهم‪ .‬استمر الدهاء السياسي للرومان إذن‪ .‬كنتُ‬
‫أكاد أسمع صراخ غولوسن و مصطنبعل على شقيقهما وسط القاعات الملكية المغلقة المضاءة باألنوار الخافتة‪،‬‬
‫يطالبانه باالنضمام إليهما و إعالن الحرب على الرومان الذين خربوا خطط ماسنسن الحي في ضمير األمة‪ .‬لم‬
‫يطل األمر كثيرا‪ .‬تسللت أيدي المؤامرة بحبال الدهاء السياسي إلى حياة األميرين النوميديين و شنقت حلمهما في‬

‫‪336‬‬
‫الثورة‪ ،‬فاستأثر ماكوبسن بالعرش آخذا لقب آمنوكل أو القائد األعلى‪ ،‬مفضال بعقالنيته الفارغة من العاطفة تحويل‬
‫سيرتا إلى منارة جديدة في الفكر و الفن‪ ،‬بدل أن يراها تنتهي كما انتهت جارتها قرطاج قبل وقت قصير‪.‬‬

‫**********‬

‫مرت العقود بعد ذلك مر السحاب الصيفي تحت أنف التاريخ المنهمك في شرب قهوة ما بعد الظهيرة‪ .‬سادت‬
‫َّ‬
‫روما سياسيا في افريقيا أخيرا‪ ،‬لكنها كانت كتلك العجوز المنهكة التي بدأ المرض ينخر عظامها دون أن تدري‪ ،‬أو‬
‫ربما أنها قد أدركت ذلك دون أن ترغب في مواجهة الحقيقة‪ ،‬مستمرة في االختباء خلف مساحيقها و عطورها‬
‫المؤقتة‪ .‬كنتُ أنظر فجأة إلى أمير نوميدي يافع‪ ،‬كان يقف على حافة سفينته التي كانت تبتعد به من سواحل روما‬
‫عائدة به إلى نوميديا‪ .‬برنسه البربري األبيض يرفرف تحت نسمات السواحل اإليطالية المنعشة‪ ،‬أقراط الذهب‬
‫المعلقة في أذنيه تتألأل تحت أشعة شمس أوروبا الباهتة‪ ،‬يده اليسرى تشد على مقبض سيفه النائم في غمده‪ .‬كان‬
‫ينظر متأمال بعمق في ح ال روما و هو يراها عارية من بعيد أمام حقيقتها المرة‪ ،‬تحاول يائسة ستر عورتها‬
‫تسربت بسمة ساخرة خفيفة من بين شفتيه اللتان همستا في‬
‫القبيحة‪ ،‬مستشعرا قرب نهايتها كجمهورية عظمى‪َّ .‬‬
‫لحظة اإللهام التي كانت ستسطر مصيره السياسي و العسكري للعقود الالحقة‪ '' ...‬روما‪ ،‬أيتها المدينة المعروضة‬
‫ت مشتريا !''‪ .‬لقد رأى تعفن روما الصامت و فساد شيوخها و شعبها‪ .‬التعفن الذي‬
‫للبيع‪ ،‬ستهلكين ال محالة إن وجد ِّ‬
‫كانت الشعوب األخرى الواقعة تحت سيطرتها بعيدة كفاية كي تراه بوضوح فتسترد عزيمتها على التحرر‪ .‬لكن‬
‫األڨلدون رآه بنفسه و استشرف معه المستقبل المنظور‪ .‬من قال أن الشعلة التي أنارت روح جده ماسينيسا قبل‬
‫عقود قد انطفأت‪ ،‬حتما كان على خطأ‪ .‬لقد مات ماسنسن‪ ،‬لكن حلمه و طموحه قد تسلل بصمت عبر منيه إلى‬
‫نسله !‪ .‬لسخرية التاريخ من روما أن ماسينيسا كان ماكرا حتى في طريقة إنجابه لساللته‪ ،‬و ما ظن الرومان أنهم‬
‫قد تجنبوه بموته‪ ،‬ظل كامنا في جينات من جاء بعده من أبناء و أحفاد !‪.‬‬

‫لم يكن ينقص األمير أي شيء ليعيد بعث الحلم الوطني البربري‪ .‬فهو الشاب المثقف الذي يتحدث الجميع عن‬
‫وسامته الشديدة و جمال مالمحه و روحه الفياضة‪ ،‬التي تغمر كل من يقترب منه بالدهشة و الخضوع اللطيف إن‬
‫كان رفيقا‪ ،‬أو بالرهبة و الشلل إن كان خصما‪ .‬الفارس القوي الذي لم يشهد ملحمة ‪ Nomantia‬في اسبانيا‬
‫فحسب‪ ،‬بل كان أحد صناعها أيضا‪ .‬المحارب الرهيب الذي قاتل في الجيش الروماني و هضم عقليته و فنونه في‬
‫الحرب‪ ،‬و اطلع على كل أسراره و عيوبه أيضا‪ .‬ابن األڨليد مصطنبع بطل األلعاب األثينية و حفيد ماسينيسا باني‬
‫نوميديا األعظم‪ ،‬الذي كان ظل تمثاله ال يزال يعانق تراب جزيرة ‪ Delos‬مظال ذاكرة العرفان و االحترام التي‬
‫احتفظ بها اليونان للنوميد‪ ....‬كل هذا اإلرث‪ ...‬كل هذا المجد ؟‪ ،‬لمال يطمح إلى شيء اسمه العظمة و القوة و‬
‫الشهرة ؟‪ ،‬و هو الذي كان اسمه يحيل إلى التفكير فيها تلقائيا '' جليلهم ''‪ ...‬أو يوغرتن بلسان الشعب‪ .‬عقدته‬
‫الوحيدة بين أترابه في األسرة الملكية النوميدية كانت أنه جاء كثمرة حب غير مكلل بزواج‪ .‬شيء مثير للخجل في‬
‫األعراف البربرية القديمة‪ .‬لكن الفتى مسح ذاك العار و أسكت ضحكات التشفي أخيرا‪ ،‬حين انتفض بمجرد ارتفاع‬
‫أصوات األبواق التي دوت بين صخور و مرتفعات سيرتا‪ ،‬معلنة وفاة األمنوكل ميكيبسا‪ .‬انتفض األڨلدون أخيرا‬
‫بعدما بلغه رغبة الرومان في تقسيم الحكم النوميدي الموحد بين الورثة مرة أخرى‪ .‬كان يوغرطة سريع البديهة و‬

‫‪337‬‬
‫الحركة‪ .‬أقنع بعض شيوخ السيناتو ممن كسب صداقتهم في حروب اسبانيا بقبوله تقاسم الحكم مع ابني عمعه‬
‫حفصبعل و عزربعل‪ .‬بمجرد أن تم األمر‪ ،‬رفض رفضا قاطعا أن يُعيد التاريخ نفسه بتقسيم إرث عمه و جده بين‬
‫المتناحرين‪ ،‬حين رضي ابنا عمه بذلك عطشا للسلطة‪ .‬كيف ال و هما اللذان شبا على حياة الترف و الرخاء وسط‬
‫العبيد و الجواري و جوقات الموسيقى االغريقية ؟‪ ،‬حين أمضى هو شبابه في المعسكرات و ميادين الحرب وسط‬
‫الفرسان و المشاة و و الرماة و المرتزقة‪ .‬سمعتُ طبول الحرب و صهيل الخيول و الخطى الوئيدة المنتظمة لجيشه‬
‫الموحد بالقوة‪ .‬أجواء عسكرية ملحمية‬
‫الجرار و هو يسير إلى سيرتا للحصار و االقتحام و القتال و انتزاع العرش َّ‬
‫يعرفها يوغرطة جيدا ال يمكنها أن تزلزل صدره‪ .‬انقض على الحكم كنمر غاضب‪ ،‬لكنه جلس عليه بصمت مثير‬
‫للرهبة‪ ،‬و دو ن لحظة تردد واحدة‪ ،‬و بعد عقود من االنتظار‪ ،‬أطلق القرار الذي انتظرته أجيال من الوطنيين‬
‫الغاضبين في البلد‪ :‬تحرير نوميديا من نفوذ روما‪ ،‬عدو وحدة األرض و األمة !‪.‬‬

‫تلك األيام الحاسمات التي أغرقت سيرتا في االضطراب و الحيرة‪ .‬هزت شيوخ الجمهورية الرومانية من‬
‫الدهشة و عدم التصديق‪ ،‬و هي تسمع صراخ جاليتها اإليطالية القادمة من نوميديا‪ .‬صراخ الطبقة األرستقراطية‬
‫الرومانية المذبوحة‪ ،‬تحت األصوار الخارجية للمدينة المعلقة فوق الصخور التي تمألها أعشاش العقبان‪ .‬كرسالة‬
‫شديدة الوضوح من يوغرطة‪ :‬نوميديا ستبقى للنوميديين !‪ ،‬و من تسول له نفسه الهيمنة عليها و تقسيمها مرة‬
‫أخرى‪ ،‬ستكون عيناه طعاما دسما للجوارح‪.‬‬

‫جاءت الحرب إذن‪ .‬لكنها لم تكن كأي حرب‪ .‬دخلت روما بعساكرها أرض نوميديا طمعا في االحتالل‬
‫المباشر‪ ،‬فوجدت يوغرطة الثائر كالبركان المتفجر أمامها‪ .‬حقق الرجل انتصارات تغنت بها حناجر األمهات و‬
‫الفتيات البربريات طويال في حقول نوميديا أثناء مواسم الحصاد‪ ،‬على طول سهول سيرتا و سطيف و ميلة و‬
‫مداورش وصوال إلى دوڨة المحتضنة للضريح الرمزي المخلد لذكرى جده ماسينيسا‪ .‬يوغرطة ابن سيرتا البار‪.‬‬
‫صن الشعب‪ .‬يوغرطة الفهد الوسيم‪ .‬الرجل الذي‬
‫المو ِّ ّحد المجيد‪ .‬يوغرطة مح ِّ ّ‬
‫يوغرطة قاهر الرومان‪ .‬يوغرطا َ‬
‫أعاد بعث تقاليد أسالفه بعدما كادت تندثر من تقاليد حكام نوميديا الذين أخذوا بالحياة الهيلينية الرهيفة‪ .‬كان هو‬
‫الملك الذي يصدر القرارات و ينظم شؤون الدولة و يستقبل الوفود و يحوك المؤامرات السياسية‪ ،‬و كان المحارب‬
‫الذي ينام في الخيام في قلب المعسكرات‪ ،‬يحمل الترس و الرماح و تحتك كتفه بأكتاف جنوده و فرسانه أثناء‬
‫تقدمهم نحو خطوط العدو في ساحات الوغى تحت المطر‪ .‬يوغرطة كان يجعل من نوميديا تلك السنين تحمل حلمها‬
‫الجميل فوق كفها مرة أخرى‪ ،‬حلمها بأن تكون ذاتا مو َّحدة و مستقلة‪ .‬حلم اخترق قلوب الجميع و انظم إليه الجميع‪،‬‬
‫من شرق بالد البربر حتى غربها‪ ،‬حين أعلن أڨليد المور بوخوس مساندته لزوج ابنته دون شروط‪.‬‬

‫روما كانت تغرق‪ .‬كانت في ورطة و هي التي صارت غير قادرة على تسيير الجيوش العظيمة لضعف‬
‫حالها‪ .‬كانت تشاهد يوغرطة و هو يلقي بحامياتها العسكرية في البحر الواحدة تلوى األخرى‪ ،‬كأنها مجرد أكداس‬
‫من البطاطا الفاسدة أو الدواجن النافقة‪ .‬كنتُ أ رى الرجل الفارع القامة و هو يجلس بكبرياء و ببسمة متعالية فوق‬
‫كرسيه تحت خيمته المتنقلة‪ ،‬يستقبل بعض موفدي الجمهورية الذي كانوا يبحثون عن مخرج مرض لروما‪ ،‬فكانوا‬
‫يدخلون عليه مهددين بعقاب مر‪ ،‬ليخرجوا من عنده و هم يخفون أكياس القطع الذهبية تحت جبابهم‪ .‬كان يوغرطة‬

‫‪338‬‬
‫سرع في حسم المعارك كما يفعل ذلك المال‬
‫ماض في شراء روما الهالكة بحق‪ ،‬و هو الذي فهم أن العسكر قد ال يُ ِّ ّ‬
‫الفاسد !‪.‬‬

‫_ هه واو ! ‪ ،‬لم يخطر ببالي أن يوغرطة كان حاذقا و صادقا في تكهنه بحال و مصير روما حتى قبل أن‬
‫يصير أڨليدا !‪.‬‬

‫قاطعتُ آغاكال و أخرجته من حالة السرد و الشرود هذه المرة‪ ،‬فنظر إليه متأمال‪....‬‬

‫_ أه يا أمداكول‪ ،‬المال سالح أيضا‪ ،‬بل قد يكون أخطر و أفتك من سالح الجيش‪ ،‬حين َّ‬
‫يوظف ضد عدو فاسد‪.‬‬

‫_ هه ستقول لي أن يوغرطة كان أول مسؤول جزائري وظف هذا النوع من الحروب‪ ....‬إفساد ساسة العدو‬
‫بالمال !‪.‬‬

‫_ لقد نجح في توظيف ثروات عائلته الملكية في شراء ذمم الكثير من ساسة روما المرتشين‪ ،‬حين كان ماضيا‬
‫عن طريق حرب عصابات منظمة و شاملة في إنهاك جيوشهم‪ ،‬التي كانت تعاني ضعف اإلمدادات على أرض‬
‫الميدان‪ ،‬و هو ما أدخل مجلس السيناتو في صراعات مصالح حادة جدا‪ ،‬زادت في إضعاف الجمهورية الرومانية‪.‬‬
‫األڨليد لم يكن فقط ماضيا في االقتراب من كسب الحرب‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬كان ماضيا في جر روما إلى حرب‬
‫أهلية حقيقية !‪ .‬كانت نبوءة شبابه ماضية في التحقق‪ .....‬لكن‪.......‬‬

‫صمت الحرفي للحظة و هو ينظر إلى صلصاله‪ ،‬ثم مطط شفتيه كمن يتأسف‪...‬‬

‫_ عدو الرومان كان الفساد السياسي يومها‪ ،‬أما عدونا نحن فقد ظل شيئا واحدا أوحد طيلة كل تاريخنا‪ :‬إنه‬
‫الخيانة و التشرذم !‪ .‬لهذا كان يوغرطة يشتهر بعنفه المفرط تجاه الخونة من أبناء جلدته أكثر من عنفه تجاه‬
‫الرومان‪.‬‬

‫كانت نهاية يوغرطة غير متوقعة‪ ،‬بل كانت مؤسفة نظرا لكل ما حققه‪ .‬بعد ‪ 17‬سنوات من الثورة و حرب‬
‫الكر و الفر على الرومان‪ ،‬قام هؤالء باالنتقام منه بأن نجحوا هم أيضا في استعمال سالحه الفتاك‪ .‬لقد اشتروا‬
‫قريبه الملك بوخوس‪ ،‬الذي سلمه إليهم رفقة أبنائه في كمين نصب بتزاوج الدهاء الروماني و الخيانة البربرية‪.‬‬
‫هناك‪ ،‬ضاع الحلم النوميدي و سقط الستار عن بوخوس و هو يعدّ أموال العار بلهفة و اضطراب‪ .‬سقطت بضع‬
‫دمعات حارة من عيني يوغرطة و هو ال يصدق ما حصل‪ .‬يومها أطلق بعض ممن حضروا الواقعة القول المأثور‬
‫الذي استمر إلى يومنا الحاضر‪ '' :‬إذا رأيتَ بربريا يبكي‪ ،‬فاعلم قطعا أن أخاه قد ضربه ''‪ .‬لو ناح يوغرطة ذاك‬
‫اليوم لما المه أحد من أعدائه‪ .‬كيف ال و هو الذي لم يبق بينه و بين النصر النهائي على روما سوى بضعة معارك‬
‫فقط ؟ !‪ .‬سقط الطائر الحر أخيرا‪ ،‬لكنه لم يتخبَّط قط‪ .‬ضل ثابتا و هادئا و صامتا‪ .‬يوغرطة أيها الثائر الجريح‪ ،‬لقد‬
‫سرقوا منك النصر‪ ،‬لكنهم أبدا لن ينتزعوا منك المجد‪ ،‬فقد صار جزء من روحك !‪.‬‬

‫صليل سالسل األڨليد النوميدي الثائر انعكس على جدران شوارع روما و هو يجرها متقدما نحو سجن‬
‫‪ Tullianum‬الرهيب‪ ،‬يتمايل من االنهاك و الجوع و البرد‪ .‬يتلقى اللطمات و الركالت و البصاق و كل أشكال‬
‫‪339‬‬
‫الكالم البذيء‪ ،‬لكنه رفض رغم ذلك االنحناء‪ .‬ظل ثابتا كشجرة زيتون أوراسية وحيدة منتصبة بعناد وسط‬
‫الصخور الصماء و الزوابع الرملية‪ .‬وضعوه في حفرة قذرة مظلمة لعلهم يجرونه إلى البكاء و االستجداء‪ .‬تلك‬
‫كانت طريقة الرومان في التعامل مع الملوك المهزومين‪ .‬أو ربما كونه لم يُهزم‪ ،‬بل ُغدر به ؟‪ .‬قبع الرجل أليام‬
‫يرفض التوسل أو طلب الصفح من مجلس الشيوخ‪ .‬لكأن بي كنتُ أرى شيئا من انعكاس الضوء الخافت في عينيه‬
‫المنهكتين الغارقتين في العتمة الشديدة‪ ،‬بنظراتها الحزينة الشاردة‪ .‬كان يُحاول مواساة نفسه باستحضار الرنين‬
‫الرقيق لزغاريد و أغاني النساء المزارعات اللواتي كن يصطففن في مخارج القرى و المدن التي كان يعبرها‬
‫بجيوشه‪ ،‬ينشدن أمامه أغاني النصر التي كانت تدوي في آذانه جنوده طيلة الطريق إلى أرض المعركة‪ .‬كان‬
‫يحاول التشبث ببقايا نور شمس نوميديا الساطعة‪ .‬يحاول سماع حفيف سنابل وطنه الخضراء‪ ،‬التي تسرق خيوط‬
‫شمس البلد الذهبية لتنسج بها جبابها الصفراء استعدادا ألعراس الحصاد البهيجة‪ .‬يتصور تمايل ثمار التين الطرية‬
‫في أغصانها و هي تتراقص كالبنات الشهيات تحت نسمات بدايات الصيف النوميدي الحار و الهادئ‪ .‬يحاول تذكر‬
‫روائح البنفسج و الريحان و زقزقة طيور الحسُّون في البراري التي كان يعشق الصيد فيها و هو في ريعان‬
‫الشباب‪ .‬ربما تكون دمعة حنين و أسى قد انزلقت من إحدى عينيه تلك اللحظة وسط الظالم في جوف الليل‪ ،‬حين‬
‫أحس بوطء تلك األرض الباردة الغريبة التي سجن بها‪ ،‬و هي تدوس على روحه بكل قوة و حقد منتقمة منه‬
‫لسخريته من أحوالها قبل سنوات خلت‪ .‬سقطت تلك الدمعة حين أحس بالوحدة و األلم و الغربة و االشتياق لوطنه‬
‫الذي كان يعلم يقينا أنه لن يراه مرة أخرى‪ .‬لكنه سارع إلى مسح الدمعة الثانية بسرعة‪ .‬لقد ظل على تلك الحال من‬
‫التعنت البربري‪ '' ....‬تاغنَّانت‪ ...‬إلى النهاية ! ''‪ .‬إلى أن انحنت روحه مثقلة بكبريائه إلى الموت الذي جاءه فوق‬
‫فرسه األسود ليحمله بعيدا عن هذا العالم المتوحش‪ .‬سرعان ما تركت تلك الروح ذاك الجسد المتسخ الهزيل الذي‬
‫تمأله الكدمات لتعرج على سلم الخلود بثبات‪ ،‬ملقية آخر نظراتها إلى األرض‪ ،‬نحو مسقط الرأس‪ ،‬سيرتا‪ ،‬عقر‬
‫الطفولة و الحب األول‪ .‬جبل الطاولة عقر الثورة و التمرد و قهقهة رفاق الكفاح‪ .‬نوميديا‪ ،‬بلد األجداد و السر‬
‫األكبر‪.‬‬

‫روما صارت عجوزا نكدة تتقاذفها األمراض و الخرف‪ .‬رغم ذلك ظلت تتطلع إلى حكم مباشر و نهائي في‬
‫بالد البربر‪ ،‬التي كانت تزيد في تعنتها كلما زادت روما في نبرة التهديد و الوعيد‪ ،‬إلى أن جاءت الضربة التي‬
‫كادت تقسم ظهرها حين صدق وعد يوغرطة الشهيد‪.‬‬

‫من كان يصدق أنه سيأتي يوم يقتتل فيه الرومان ضد بعضهم في شوارع روما العامرة ؟ !‪ .‬جمهوريون ضد‬
‫قيصريين‪ .‬نقلوا حربهم العبثية إلى الشمال االفريقي الذي هاج بالحروب التي برز وسط غبارها و دخانها أڨليد آخر‬
‫من ساللة ماسينيسا نفسه‪ .‬يوبا ابن همبسال الثاني‪ .‬الرجل الذي أنجبته بونا ( عنابة ) المدينة النوميدية المتوسطية‬
‫الساحرة‪ .‬الرجل الذي خاض الصراعات بكل قوة و شرف دفاعا عن مصالح نوميديا‪ ،‬األمانة المترنحة فوق خيط‬
‫التاريخ المتوسطي الرفيع‪ ،‬الذي كان األخوين العدوين ‪ Pompeius Magnus‬و ‪ Julius Caesar‬يتنازعانه‬
‫بينهما بكل صبيانية و شقاوة‪ ،‬و انتهى إلى إحراق نوميديا‪ ،‬التي بقيت واقفة للحظات بكل إصرار و عناد‪ ،‬غير‬
‫أصر يوبا على أن يموت ميتة‬
‫ّ‬ ‫راغبة في السقوط إال بعد أن ترى جمهورية روما العجوز تسقط أوال !‪ .‬يومها‬
‫اإلڨليدن األوائل‪ ،‬الذين كانوا يحصرون مصائرهم بين نصر الملوك المذكورين في المخطوطات األلفية أو ميتة‬

‫‪340‬‬
‫الفرسان المخلدين في القصائد و األشعار‪ ،‬بأن طلب من رفيق روماني جمهوري أن يقتتال حتى الموت بدل‬
‫االستسالم ألعدائهما القيصريين‪ .‬انتحر يوبا أمام أصوار عاصمته سيرتا سيڨا التي رفضت استقباله‪ ،‬بدل أن يرى‬
‫نفسه مكبال بسالسل الحقد كما حدث لجده يوغرطة‪ .‬مات آخر أڨليد ثائر من ساللة الماسيل مبتسما‪ ،‬كونه شعر‬
‫باالمتنان حين سنحت له حياته الزاخرة في وقفة إنصاف بالتفرج ضاحكا على مهزلة الرومان و تناحرهم‪ ،‬كما‬
‫وقفوا هم ضاحكين قبله بعقود على تناحر أسالفه الماسيل و المازاسيل‪ ،‬لكنه و هو يلفظ أنفاسه األخيرة وسط‬
‫العشب الذي تخضّب بحمم دمه الحارقة‪ ،‬لم يعلم أن عدوه اللدود يوليوس قيصر كان يحمل ابنه البكر يوبا الثاني‬
‫في أحضانه مبتسما بمكر هو اآلخر‪ ،‬عائدا به إلى روما التي سترضعه من ثديها و تجعل منه ابنها الالتيني بالتبني‪.‬‬
‫روما الماكرة التي كانت تصر على التقدم على خصومها دوما بخطوة واحدة على األقل‪ ،‬نحو المستقبل‪.‬‬

‫يوبا الثاني‪ ،‬ذاك الطفل البربري الجميل الذي نشأ نشأة األمراء و حاز أعظم االهتمام بعدما استبشر فيه‬
‫الجميع عالمات العظمة‪ ،‬و رأى فيه القيصر نفسه أنه سيكون المفتاح الذي سيمكن روما من ضم افريقيا تحت‬
‫حكمها المباشر بكل سالسة و هدوء‪ ،‬بعدما فشلت في ذلك بالقوة‪ .‬كنتُ أسمع صدى خطواته السريعة راكضا بين‬
‫أعمدة قسر القيصر‪ ،‬يطارد تلك الصبية المصرية السمراء‪ ،‬يلهوان في بساتين الورد و النعناع تحت ظالل أشجار‬
‫البرتقال و الليمون والياسمين‪ .‬سرعان ما تبدى لي ظله الطويل و هو يختلي بنفسه طويال في صمت المكتبات‬
‫المهيب‪ ،‬ينهل من علوم اليونان و الرومان و المصريين القدماء‪ .‬ثم يشرد مع نفسه للحظات‪ ،‬يحلم بتلك المدينة‬
‫الفاضلة التي كان يرغب في تأسيسها على تراب وطنه‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ ،‬فعلها البربر‪ .‬فبعد سيوة التي القتهم بالمصريين‪ ،‬قورينة التي القتهم باإلغريق‪ ،‬قرطاج التي‬
‫القتهم بالفينيق‪ ...‬جاءت شرشال أو سيزاريا التي القت حضارة هذه األرض بحضارة الالتين‪ ،‬جاعلة إياها‬
‫تصافحها‪ ....‬و لو عن مضض‪ .‬يوبا الثاني كان الملك المثالي‪ .‬الملك العادل الذي ينصف الجميع‪ ،‬و يدعو للعمل و‬
‫المحبة و التصالح و نبذ الحروب‪ .‬المفكر الذي يلتهم المخطوطات التهاما‪ ،‬الشغوف بدراسة تاريخ بلده و أسالفه‬
‫اإلڨليدن األوائل‪ .‬كان يبحث عن ا لوصفة السحرية التي تمكن لهذا الوطن من النهوض من كبواته المتتالية و تنقذه‬
‫من تاريخه المهتز و المضطرب‪ ....‬ربما كان يبحث عن سبق نهائي هو اآلخر ؟‪ .‬يوبا الصغير كان قلقا بأسئلته و‬
‫هو يرى حال شعبه المستعبد من طرف روما‪ ،‬بنوع من الهيمنة التي ال تمد بصلة لهيمنة جيوش قيصر‪ ،‬التي كانت‬
‫في الحقيقة غير قادرة بعد على فرض الخضوع على كل أرض نوميديا و موريتانيا‪ ،‬بل ربما كان يعلم يقينا‬
‫كبربري أنها لن تستطيع ذلك مهما حاولت‪ .‬كان يُراقب عن بعد تلك الثورة العارمة التي أشعل فتيلها فتى بربري‬
‫فار من الجيش الروماني يُدعى طاقفارن و هو يرفع نداء إلى شعبه أقلق قيصر كثيرا‪ '' :‬إلى كل الذين يؤثرون‬
‫الحرية على العبودية ! ''‪ .‬فعال علم يوبا الفتى أن روما لن تسود في وطنه بجيوشها مهما حاولت‪.‬‬

‫لكنه فهم أن هيمنتها كانت من نوع آخر‪ ،‬نوع أكثر دماثة و تجذرا‪ .‬يوبا الثاني كان يفكر و يتأمل‪ .‬عين على‬
‫الحقيقة المرة للحاضر المضطرب لبلده‪ ،‬و أخرى على أسئلة اإلمكان المستقبلي‪ .‬علم أن السر يكمن في تأسيس و‬
‫توريث المعرفة !‪ .‬كفاح من نوع جديد لم يكن مألوفا لشعبه الذي نشأ باالنتجاع و خوض الحروب من أجل‬
‫اآلخرين‪ ،‬منذ عهود أسالفه الليبو األولين‪ .‬تلك المخطوطات القليلة التي ه ِّ ُّربت تحت آباط بعض الضباط الرومان‬

‫‪341‬‬
‫من رفوف مكتبة قرطاج المحترقة‪ ،‬و تلك التي خطتها يدا جديه ماكوبسن و همبسال الثاني‪ ...‬لم تصل إلى يديه‬
‫فقط‪ ،‬بل المست لحظة حقيقته األكثر إشراقا و تجلت في انبجاس ينبوع ضميره األكثر نقاء‪ ،‬حين كان البعض‬
‫ينعته بالجبن و المثالية السخيفة و العبودية للرومان و البعد عن مآسي البربر الحقيقية تجاه االحتالل‪ .‬الرجل الشاب‬
‫كان غير آبه بكل ذلك‪ .‬كان ماضيا في مشروع وطني آخر يختلف عن شكل مشاريع أسالفه‪ .‬هم كانوا ملوكا‬
‫محاربين‪ .‬هو أراد أن يكون ملكا ّ‬
‫منظرا للمستقبل‪ .‬كان طفرة حقيقية في حكام هذه البالد‪....‬‬

‫كدتُ أنتفض من مكاني تلك اللحظة بتذمر شديد‪ ،‬كطفل صغير ينتفض على انقطاع برنامج التلفزيوني مفضل‬
‫فجأة !‪ .‬كان الحرفي قد التزم الصمت و هو يتثاءب‪ ،‬ثم يلتفت إلي‪....‬‬

‫_ أمداكول‪ ...‬لقد أنهينا العمل‪ .‬أال تشعر بالتعب و النعاس ؟‪ .‬لقد تأخر الوقت كثيرا‪.‬‬

‫_ ‪ .....‬أنت تمزح !‪ .‬ال رغبة لي في النوم و قد وصلنا إلى هذه المرحلة من التاريخ !‪ .‬أريدك أن تكمل‬
‫أرجوك‪ ....‬ماذا حدث ليوبا الثاني ؟‪ ،‬ما الذي حققه إبان حكمه ؟‪ .....‬أرجوك أكمل !‪...‬‬

‫_ أه يا فتى‪ ....‬اعييييييغ ( ت ِّعبت ) !‪....‬‬

‫_ أكمل‪..!....‬‬

‫حك رأسه للحظة‪ ،‬ثم أطفأ دوالبه الدوار‪ ،‬تناول منشفته و نهض متجها مباشرة نحو كرسيه الهزاز فاركا يديه‬
‫من بقايا الصلصال العالقة بهما‪....‬‬

‫_ يوبا الثاني يا أمداكول شكل استثناء لكل الملوك األمازيغ الذين سبقوه إلى حكم هذا الوطن‪ .‬كان ملكا‪ ،‬أديبا‪،‬‬
‫مؤرخا‪ ،‬جغرافيا‪ ،‬عالم أحياء و رحالة‪ .‬قام برحالت طويلة بحثا عن منبع نهر النيل‪ .‬أظنه فعل ذلك من‬
‫فيلسوفا‪ّ ِّ ،‬‬
‫أجل سواد عيني زوجته المصرية الجميلة و صديقة طفولته‪ ،‬كليوباترا سيليني‪ .‬هه أليس ذلك في غاية الرومانسية‬
‫؟‪ .‬صال و جال في بالد اليونان بحثا عن المعرفة و الحكمة و حقائق العالم‪ .‬يُقال أن مغامراته االستكشافية قادته‬
‫إلى اكتشاف جزر الكناري و يُقال أنه زار شبه جزيرة العرب و وضع خريطة لها‪ .‬الرجل كان عبقريا بإتقانه التام‬
‫للغة االغريقية‪ ،‬التي كان يؤلف بها مخطوطاته متفوقا بذلك على الكثير من الكتاب و العلماء و الملوك الذين كانوا‬
‫يكتفون باللغة الالتينية في التأليف‪ .‬التأليف بلغة هوميروس‪ ،‬سقراط‪ ،‬هيراقليطس‪ ،‬أفالطون‪ ،‬أرسطو و غيرهم‪،‬‬
‫كان في نظر إنسان ذاك العصر أشبه بإتقان لغة اآللهة‪ .‬كان شرفا ال يناله جميع من يصنفون أنفسهم من النخبة‪.‬‬
‫الرجل كان يؤلف الموسوعات أيضا يا هذا‪ .‬عمل عظيم جدا في مقياس أقوام ذلك العهد‪ ،‬الذين كانت نظرتهم إلى‬
‫واضعي الموسوعات تشبه إلى حد ما نظرة أقوام أيامنها الحالية إلى رواد الفضاء‪ .‬لقد فهم ببساطة أن أحد أسرار‬
‫قيام الحضارات يكمن في‪ .....‬التوثيق يا أمداكول‪ .‬توثيق الفكر كسلوك و كثقافة !‪ .‬لهذا كرس كل اهتمامه لبناء‬
‫مكتبته الكبيرة التي جعلت من شرشال منارة ثقافية أخرى منتصبة بفخر و كبرياء على سواحل الشمال االفريقي‪،‬‬
‫كما كانت االسكندرية و قورينة و قرطاج و سيرتا‪ .‬قلي‪ ،‬ماذا نكون بدون مكتباتنا و مخطوطاتنا يا هذا ؟‪ ......‬لقد‬
‫أراد الرجل إحياء روح هذا البلد بثمرة أفكاره‪.LYBICA ...‬‬

‫‪342‬‬
‫_ ما هذا ؟‪.‬‬

‫_ أشهر مخطوطاته على االطالق‪ .‬المجلد الذي أراد أن يعيد به جمع تاريخ و تراث تامزغة الشعبي‪ ،‬بما‬
‫استطاع جمعه من مصادر يونانية و رومانية و قرطاجية و مصرية و أمازيغية‪ .‬لألسف فهذا المخطوط قد ضاع‬
‫منه الكثير‪ .‬ال ريب‪ ،‬في بلد تعرض للكثير من الغزو و االحتالالت و الثورات المتعاقبة !‪ .‬حياة هذا الملك‬
‫المستكشف كانت فعال عامرة بالمطالعة و البحث و التأليف‪ .‬شيء يبعث على الفخر حقا !‪ .‬البعض قد يعتقد أن‬
‫األمازيغ برعوا في الزراعة و خوض الصراعات الدولية و تأسيس الحركات التحررية المسلحة فقط‪ .‬أه يا‬
‫أمداكول‪ .....‬لم ينصفنا التاريخ فقط‪ ،‬أو ربما لم ننصف نحن أنفسنا أيضا !‪ .‬في هذه الحقبة الالتينية‪ ،‬أهدت بالد‬
‫األمازيغ للبشرية أول عمل روائي مكتوب‪ ،‬خطته يد رجل شاوي كان يلقبه الرومان بـ '' النوميدي المزعج '' كونه‬
‫لم يكف عن الكتابة و الحديث عن الفقراء و المضطهدين في بلده‪ ،‬و معارضة السلطة الرومانية بلغتها الرسمية‪.‬‬
‫أبوالي المداوري ( أبوليوس لوكيوس ) الذي فهم مغزى حياة يوبا الثاني‪ ،‬فأبدع روايته الخالدة‪ .‬التحوالت أو‬
‫الحمار الذهبي‪ .‬قلي‪ ،‬كم من جزائري يعلم أن أدب الرواية ولد عندنا ها ؟‪.‬‬

‫_ حسنا‪ .‬أنا لم أكن أعلم حتى هذه اللحظة !‪.‬‬

‫انتهت أيام يوبا الحكيم و زوجته كليوباترا بأن تعانق جثمانيهما في خلوتهما األبدية‪ ،‬تحت حجارة ضريحهما‬
‫الملكي المشرف على جنة المتيجة و البحر المتوسط‪ ،‬الذي سيُعرف بعد قرون طويلة باسم شعبي شهير‪ :‬قبر‬
‫الرومية‪ .‬و انتهى الفتى الثائر طاكفاريناس نهاية األبطال بسيفه في يده‪ ،‬رافضا االستسالم‪ ،‬و تعلمت بالد البربر‬
‫كيف تقاوم بالقلم و السيف معا‪ .‬لكن روما كانت شاردة و شاخصة بنظراتها القلقة نحو المشرق و هو ينتفض‬
‫ورث حكمته و كلمات ربه المنيرة إلى أصحاب دربه و قضيته‬
‫بكلمات رجل عبراني شاب اسمه عيسى‪ّ ،‬‬
‫المطاردين من قبل الوثنية‪ .‬هكذا كنتُ ماضيا في سماع خطوات التاريخ المتسارعة‪ ،‬متزامنة مع خطوات أحد‬
‫َ‬
‫أالئك االتباع األوائل للمسيح‪ ،‬القديس مرقس‪ ،‬الالجئ إلى أرض البربر‪ ،‬التي وجد فيها األمان و السكينة اللذان‬
‫صبا على قلبه األنوار التي جعلته يخط اإلنجيل الذي سيحمل اسمه إلى يوم البعث !‪.‬‬

‫تعاليم المسيح أغرت البربر كثيرا بدعوتها إلى السالم و المحبة و نبذها للحرب و االستعباد‪ ،‬جاعلة إياهم‬
‫يحملون على كتفهم معركة جديدة‪ ،‬معركة اإليمان و الحقيقة‪ ،‬جنبا إلى جنب مع معركتهم األزلية‪ ،‬معركة األرض‬
‫و الحرية‪ ،‬التي كانوا يحملونها على الكتف األخرى‪ .‬كان ذلك عهد الكنائس الالتينية االفريقية األولى‪ ،‬التي وقفت‬
‫في وجه الطغيان الروماني و نزفت لعقود طويلة من أجل الحق اإلنساني في الكرامة و الحرية و معرفة االله‪ .‬أمة‬
‫البربر‪ ،‬كانت من أوائل األمم التي نصرت كلمة هللا قوال و عمال‪ ،‬بجحافل من القديسين و القديسات و المجاهدين و‬
‫الشهداء‪ .‬القديس ‪ Cyprianus‬القرطاجي الذي قبل الشهادة في سبيل هللا و خلد قوله الشهير و هو على مشارف‬
‫مالقاة الموت‪ '' :‬لقد فتحت األبواب المغلقة‪ ،‬و انبعث النور مشرقا في الظلمة ''‪ Perpetua .‬و ‪ Felicite‬شهيدتا‬
‫العفة و اإليمان و هما تواجهان السباع المفترسة باسمتين تحت أنظار جماهير قرطاج المذهولة‪ .‬القديس‬
‫‪ Tertullianus‬الرجل الذي أحرز المعجزة‪ ،‬بأن جعل أشد قبائل البربر تمردا و عنفا ضد روما‪ ،‬تستكين و‬
‫تخضع لكلمات اإلنجيل بخشوع عجيب‪ .‬بل و تحمل المعركة الدينية للمسيح ضد الغطرسة الوثنية الرومانية لعقود‬

‫‪343‬‬
‫متالحمة‪ ،‬مازجة إياها بمعارك الحرية‪ .‬هكذا التقت قضية السماء بقضية األرض‪ .‬أسلوب حياة جديد قد تم صقله‬
‫في ربوع هذه البالد‪ .‬أسلوب حياة أضاف لبنة جديدة إلى مغزى حياة و وجود البربر‪ .‬كنتُ أسمع صياحهم و‬
‫تجرهم خيول العسكر االمبراطوري في الحواضر و القرى النائية البعيدة‪ ،‬يُجلدون حتى الموت تحت‬
‫ّ‬ ‫أنينهم‪،‬‬
‫الشمس الحارقة‪ ،‬و تفيض أرواحهم بالشعار الذي كان يهز شمال افريقيا تمردا و روما خوفا و توجسا‪ '' .‬بمشيئة‬
‫هللا ''‪ .‬كانت آخر ما يتلفظ به شهداء النصرانية من البربر‪ .‬اإليمان الشديد‪ ،‬العناد ضد الطغيان‪ ،‬و اإلقبال بصدر‬
‫رحب على الشهادة‪ ،‬جعلت التاريخ يطلق على هؤالء المسيحيين األفارقة اسم '' المعذبون المبتهجون '' !‪.‬‬

‫رأيتُ القديس أغسطين ابن سوق اهراس‪ ،‬يخوض المجادالت الفلسفية الكبرى في ساحات جامعة قرطاج‪ ،‬و‬
‫يخط آيات فكره بعدما استسلمت روما أخيرا لكلمة المسيح بعد عقود من العناد‪ .‬مدينة هللا‪ .‬المراسالت و اعترافات‬
‫التوبة‪ .‬ثمار خالدة ال يزال أثرها بارزا في حياة مسيحيي اليوم دون أن تعي أغلبيتهم ذلك‪ .‬رأيتُ دونا األكبر فوق‬
‫جواده البربري الهائج يحشد همم المجاهدين‪ ،‬يلقي عليهم العضة و الصلوات‪ ،‬يحثهم على قتال الكنيسة الرومانية‬
‫المنافقة التي حرفت دين المسيح‪ .‬القتال و االستشهاد في سبيل نقاء عقيدة االنجيل التوحيدية و بقاء كنيسة افريقيا‬
‫مستقلة عن كل هيمنة‪ .‬صار القديسون البربر يتنازعون عالم الالهوت المسيحي بينهم و يخطون مصيره و تاريخه‬
‫و تراثه‪ .‬فمن أيام تارتليانوس مرورا بأيام القديس أغسطين وصوال إلى عصر القديس غيالس‪ ،‬رأت الكنيسة‬
‫ذاتها‪ ،‬و رأى العالم روحا جديدة تسكن جسده المنهك بالحركة و التفاعل‪ ،‬حين كانت روما بصدد التصدع و‬
‫االنقسام النهائي أمام بالد البربر التي لم تهدأ قط‪ ،‬بين ثورات الدين و الدنيا‪ ،‬كانت ال تزال تصر على رفض‬
‫أصفاد روما المتجبرة‪ ،‬حتى و هي مؤمنة‪ ،‬بل حتى و هي في قبضة قياصرة من أصول بربرية !‪ .‬لم ينفع شيء‪.‬‬
‫فشل منح البربر حق المواطنة الرومانية في قتل ضمائرهم‪ ،‬و فشل خط الليمس العسكري في إخماد غضب هذه‬
‫األرض و هياجها الثوري الفطري‪.‬‬

‫ثورة القمح الشهيرة‪ ،‬التي هزت جبال و تالل سطيف و ضواحيها‪ ،‬كانت الدليل على أن هذه األرض ال‬
‫تخضع لألجانب حتى بطول األزمان‪ ،‬و أن هذا الشعب ال يمل القتال من أجل كرامته بالمطلق‪ .‬هكذا اندلعت‬
‫المتمرد إغماسن و مباركة الكنيسة الدوناتية‪ ،‬و ما فتئت أن‬
‫ِّ ّ‬ ‫بصرخات الثائر الوسيم فيرموس و مساعدة األڨليد‬
‫عمت أرجاء البلد كله‪ ،‬مذكرة الرومان بأنه ال يزال أمامهم مشكل عويص اسمه بيربيريا‪ .‬لكن روما العجوز‬
‫المحتضرة‪ ،‬لم تكن قادرة على الصراع و استسلمت في النهاية‪ ،‬تاركة مكانها لشقيقتها الصاعدة بيزنطيا الفتاة‬
‫الشابة المتحمسة‪ ،‬التي ورثت مشعل حضارة أوروبا و الكنيسة معا‪ ،‬فكان بذلك فصل جديد من الحروب و الثورات‬
‫العارمة التي هيجت أرجاء هذا البلد مرة أخرى‪ ،‬كما تهيج الريح الجديدة النيران من تحت الركام و الجمر‪.‬‬

‫جاءت بيزانطا بالجحافل و هجم الوندال بالقبائل و ع َّم الغزو و السلب و الفوضى و القتل من طنجة إلى خليج‬
‫السرت‪ .‬و قبل أن يتصارع البربر مع الوندال‪ ،‬كان لهم حساب قديم يصفونه مع روما التي آلمتهم طيلة قرون‪.‬‬
‫كانت المدينة تحترق في أحلك لياليها البشعة‪ .‬و نيران انتقام من كانت تعتبرهم '' شعوبا همجية '' كانت تلتهم‬
‫حجارتها العتيقة التهاما‪ .‬كانت جيوش الوندال و قبائل البربر المتحالفة معها تدك مدن إيطاليا العجوز دكا‪ ،‬و كان‬

‫‪344‬‬
‫البربر يستذكرون القصص التي توارثوها عن أسالفهم حول معركة قناي العظمى و أمجاد حنبعل برقة‪ ،‬كأنهم‬
‫يخاطبون أرواح األسالف أن '' ها نحن ندخل روما المتجبرة أخيرا ! ''‪.‬‬

‫أكثر الوندال من الحرق و اإلفساد في أرض افريقيا‪ .‬سقط الحلف بسقوط روما و حان وقت تصفية الحساب‬
‫اآلخر‪ .‬كنتُ أتخيل المشهد‪ .‬الغبار و صهيل الخيول و هي تتصادم ببعضها البعض‪ .‬صراخ الرجال و النساء في‬
‫أرض المعركة‪ .‬الوندال الجرمانيين الشماليين ضد البربر األفارقة الشماليين‪ .‬أ ّمتان استأثرتا بثلثي العناد الموجود‬
‫في األرض !‪ .‬توالت الثورات المسلحة و محاوالت استرداد األرض من األجانب‪ .‬ثالثة أبطال و ثالث ثورات‬
‫كبرى خرجت من رحم األوراس الولود‪ ،‬التي صارت مهدا و حضنا لكل ثورة في هذا البلد‪ .‬ايبداسن‪ ،‬انتاالس و‬
‫كاركاسن‪ ،‬الثوار الثالث الذين خلدت أغاني الجدات األوراسيات بطوالتهم ضد البرابرة الوندال لعقود‪ ،‬دون نسيان‬
‫الزعيم الثوري ڨزمول‪ ،‬بطل نُحت قلبه من حجارة األوراس نفسها‪ ،‬و استطاع بذلك مواجهة أعتى عتاة‬
‫امبراطورية الروم الجبارة‪ .‬بطل حطم أسرع رقم للنصر‪ .‬ثالثة معارك طاحنة‪ ،‬ثالثة انتصارات ساحقة مع ثالثة‬
‫جنراالت بيزنطيين مقطوعي الرؤوس !‪ .‬جبال األوراس كانت كالشعلة اإلالهية التي أضاءت ليالي هذا البلد الذي‬
‫يصر على الصراع ضد الغزاة مهما كانت صفتهم أو أسلوبهم‪ ،‬في السنوات التي كانت فيها بالد الشرق تهتز‬
‫ُّ‬ ‫كان‬
‫مرة أخرى على كلمات رجل عربي مثير لالهتمام اسمه دمحم‪ ،‬كان قد ترك لتوه رسالة خالدة أخرى للعالم‪ ،‬مفادها‬
‫أن االله واحد ‪ ،‬و أن األنبياء كلهم إخوة‪ ،‬و أن البشر كلهم شعوب و قبائل لم توجد إال لتتعارف و تتثاقف‪ ،‬ال‬
‫ليستعبد بعضها بعضا‪.....‬‬

‫_ أظن أنك تعلم بقية القصة اآلن يا أمداكول !‪.‬‬

‫قال الحرفي و هو يقف متثائبا من مكانه‪....‬‬

‫_ أنت تقصد وصول الفتوحات العربية االسالمية ؟‪.‬‬

‫انتصب في مكانه‪ ،‬ثم ه ّم بالخروج‪...‬‬

‫_ إن كنتَ تسميها فتوحات !‪.‬‬

‫قال و هو يقف عند عتبة الباب ثم التفت إلي باسما‪...‬‬

‫_ أنتَ أخبرتني أن الكلمات هي التي تغيُّر عقليات و تواريخ المجتمعات‪ ،‬بل و تصوغ طريقتها في رؤية و‬
‫فهم األشياء‪ .‬ثم إن وجود الكون كله انطلق من كلمة‪ .! Un logos ..‬إد أمڨّاز تيرڨا العالي أمداكول‪ ( .‬أحالما‬
‫سعيدة أيها الصديق )‪.‬‬

‫_ تصبح على خير‪ ،‬ماس عميروش‪.‬‬

‫أي نوم كان ليأخذني بعد كل ما سمعت و اكتشفت‪ .‬اعترفت بصمت أني فعال جاهل صغير‪ ،‬و اقتنعت أن‬
‫مشكلة األرق التي كنت دوما أعاني وطأتها على حياتي ستختفي ليحل مكانها شيء آخر على األرجح‪ .‬تبادر إلى‬

‫‪345‬‬
‫ذهني أني لن أنام بعد تلك الليلة مرة أخرى‪ .‬لذلك صعدتُ بالكرسي الهزاز إلى السطح و جلستُ لنحو ساعة و‬
‫نصف أفكر في كل هذا التاريخ الذي ال نزال نجهله دون أن نطرح السؤال حول سبب جهلنا له حتى‪ ،‬أو قل تجاهلنا‬
‫له ؟‪ .‬ثم كم من رواية ؟‪ ،‬كم من كتاب ؟‪ ،‬كم من دراسة ؟‪ ،‬كم من سلسلة وثائقية أو تلفزيونية ؟‪ ،‬كم من مسرحية و‬
‫أوبرا ؟‪ ،‬كم من فيلم سينمائي يمكننا عن طريقه تخليد كل هذا الزخم التاريخي‪ ....‬األمازيغي ؟‪ .‬كنتُ أسأل نفسي و‬
‫أنا أتفكر في هذا النفس الطويل الذي حافظت به هذه البالد على جوهرها األول‪ ،‬منذ وصول األسالف األوائل‬
‫لهؤالء الذين يسمون أنفسهم أمازيغ‪ ،‬قبل خمس ألفيات من فجر ذاك اليوم أو يزيد‪ .‬كم نحن صغار أمام تاريخنا !‪.‬‬
‫ما أجهلنا و ما أقبحنا بهذا الجهل !‪.‬‬

‫كانت خيوط الصبح األولى تبعث ببشاراتها من خلف جرجرة الجاثم بهدوء أزلي‪ ،‬كضمير حي ال يزال يذكر‬
‫هذا البلد بحقيقته التي ال يمكن الهرب منها عبر القرون الطويلة‪ .‬كان الجو المثخن بنسمات الفجر منعشا للغاية‪،‬‬
‫جعلني أبقى متسمرا في مكاني أرقب طلوع الشمس بفارغ الصبر‪ .‬و حين جاء الفجر بعد دقائق من ذلك‪ ،‬كنتُ‬
‫أشعر برضى غريب امتألت به نفسي‪ .‬كنتُ أشعر بطمأنينة عميقة أيضا ال لشيء‪ ،‬سوى كوني فكرت في بهجة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬بعدما قلت متهكما أني قد اكتفيت من جرعة التاريخ الزائدة التي حقن بها الفخارجي ذهني‪ .‬لكنها كانت‬
‫المرة األولى‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬التي أفكر فيها '' هي '' دون قلق أو ضيق‪.‬‬

‫‪-24-‬‬

‫خمائري‬

‫الفيلسوف الفرنسي ‪ Gaston Bachelard‬كان يعتقد أن اللحظة هي نقطة التقاء الماضي بالمستقبل‪ .‬و أنها‬
‫واقع محصور بين عدمين‪ .‬لقد كان يؤمن بالقطيعة التامة مع االعتقادات القديمة كشرط للتغ ُّير الصحيح‪.‬‬

‫ال أدري إلى أي مدى كان دقيقا في كالمه‪ ،‬لكن ما كنتُ بصدد عيشه في كل هذه التجربة‪ ،‬منذ أن قررتُ‬
‫البحث عن سبقي النهائي‪ ،‬كنتُ أعتبره لحظتي الخاصة‪ .‬كل هذه التغيرات العميقة‪ .‬كل هذه االعتقادات الجديدة التي‬
‫كانت ال تزال تضطرب و تهتز بداخلي‪ ،‬تتقدم و تتراجع‪ .‬تستعر بسرعة جارفة ثم يتباطأ لهيبها شيئا فشيئا‪ .‬كل هذه‬
‫المشاعر الجديدة تجاه رؤيتي لشخصية هذا البلد و كيانه‪ .‬نظرتي لنفسي و لمن أكون حقا‪ .‬كنتُ أعيش لحظتي مع‬
‫وعيي التام بأن مرد اضطرابي و تشوشي ذاك يعود إلى كوني ولدتُ في مجتمع يُتقن صناعة القوالب الصماء و‬
‫تلقين األجوبة المطلقة إتقانا رهيبا !‪ .‬كان ال بد لي من أن آتي إلى بني يني في أعالي تيزي وزو ألدرك و أعي هذا‬

‫‪346‬‬
‫األمر !‪ .‬ذاك الوعي كان باعثا أوليا على الثقة‪ .‬كنتُ أقول أن األمر إذن طبيعي و ال يجب الخوف منه كثيرا‪ .‬هذا‬
‫الشعور راح يجد مكانته في نفسي كلما أمعنت النظر إلى آغاكال عن بعد و هو غارق في عمله‪ ،‬منكبا على دوالبه‬
‫الدوار‪ ،‬مأخوذا بتأمالته و ذكرياته و أسراره‪ .‬كنتُ أقول مكررا كل مرة أن هذا الرجل كان عنصريا متعصبا‬
‫متهورا أيام شبابه‪ ،‬و بالرغم من كل األذى الذي لحقه من هذا البلد‪ ،‬فهو و بطريقة ما وصل إلى حكمته الذاتية‪ ،‬إلى‬
‫سبقه النهائي الذي صنع منه الرجل المثقف و الحكيم و المتسامح و الواثق الذي هو عليه اآلن‪ ،‬ال رجال غاضبا‬
‫يلوك األحكام المسبقة و المطلقة‪ ،‬ينفث الحقد و يسعى لالنتقام بأي شكل و بأي ثمن بسبب كل ما أصابه في حياته‪.‬‬
‫ذلك زاد في إعجابي به‪ ،‬و شجعني على المضي في دربي الخاص الذي راحت معالمه تتغير‪ ،‬دون أن أجزع‬
‫مجددا و أنا أراها تتغير‪.‬‬

‫ذاكرة األمة‪ ،‬كذاكرة الشخص‪ ،‬ترتبط بالماضي حين يرتبط مستقبلها بالتصور‪ ،‬و أن الواقع الذي تعيشه إنما‬
‫يقوم على طرفي هذه المعادلة‪ .‬هكذا فهمتُ بشكل و لو مبدئي أن نظرتنا لذات هذا البلد إنما قامت على طريقة‬
‫تعاملنا مع ماضيه‪ '' .‬دولة الحريات‪ ،‬الحقوق و الواجبات المدنية ''‪ .‬هذا ما يؤمن به آغاكال في تصوره لمستقبل‬
‫آمن لهذا البلد‪ .‬في اعتقاده‪ ،‬ذلك يقوم على أمرين‪ :‬تجذير الثقافة و المعرفة‪ ،‬و تقديس االحترام لبعضنا البعض مهما‬
‫اختلفت آراءنا‪.‬‬

‫كانت تلك العبارات تتردد داخل نفسي ذات صبيحة غائمة نسبيا و أنا أجلس قبالة الطين التي وضعتها نانه‬
‫تاملسة لتجف‪ ،‬منتظرا ظهور أي فراشة قد تنجذب إليها لتحط فوقها و تتبعها بقية الفراشات‪ .‬كما في الصورة التي‬
‫التقطتها الفنانة نسرين قبل سنوات حين زارت آل آفاو‪.‬‬

‫تراءت لي فراشة ماكاو صفراء اللون تحوم في األفق تهتز بجناحيها المخططين باألسود‪ .‬تحمست و أنا‬
‫أرتقب اقترابها من الطين المبللة لتحط عليها و تثبت لي أن القصة التي حكتها لي المصورة نسرين لم تكن مجرد‬
‫صدفة غريبة‪ ،‬لكن الفراشة لم تقترب قط من الطين‪ ،‬بل م َّرت على الجانب حتى كادت تختفي بين أغصان أشجار‬
‫التين و الزيتون‪ .‬وثبتُ خلفها بصبيانية و عناد و رحتُ أتتبع مسارها المائل و غير المستقر إلى أن راحت تنخفض‬
‫شيئا فشيئا لتستقر فوق شتالت شجيرات الفراولة‪ ،‬التي كانت موضوعة بالقرب من أحد البساتين استعدادا لغرسها‪.‬‬

‫ابتسمت لوهلة متذكرا شيئا من وميض بستان بيتنا بالبليدة‪ ،‬ثم انصرفت و في يدي بعض الكتب التي كنتُ‬
‫أطالعها و أبحث في صفحاتها عن تغذية تأمالتي و تثوير أسئلتي‪ .‬أعدتها إلى الخزانة الخشبية ثم استلقيت قليال في‬
‫غرفة الحرفي‪ ،‬نظرت إلى الساعة‪ ،‬كانت تشير إلى تمام منتصف النهار‪ .‬ال يزال المشوار بعيدا عن اإلفطار‪.‬‬
‫أغمضت عيني و انزلقتُ في غفوة قصيرة‪ .‬بعد دقائق فقط‪ ،‬أو ما اعتقدت أنه مجرد دقائق‪ ،‬شعرت بشيء يلطم‬
‫قدمي مع صوت يناديني من بعيد‪....‬‬

‫_ ‪ ...‬أمداكول‪ ....‬أمداكول‪.....‬‬

‫فتحتُ عيني‪ .‬كان أغاكال يقف أمام قدمي‪...‬‬

‫‪347‬‬
‫_ لم يحن وقت العمل بعد‪ ،‬ماس عميروش ؟‪.‬‬

‫_ اضفر إيد‪ ( .....‬اتبعني )‪.‬‬

‫خرج مباشرة من الغرفة‪ .‬نظرتُ إلى الساعة فوجدتها تشير إلى زهاء الواحدة بعد الظهر‪ .‬سرتُ خارجا من‬
‫الغرفة و أنا أخبره بنبرة تهكمية أنه ربما حان الوقت ليناديني باسمي‪ ،‬فإذا بي أجده يحمل قفة صغيرة فيها أدوات‬
‫عمل‪ .‬فأس صغيرة‪ .‬منشار‪ .‬قفازات عمل‪ .‬إضافة إلى أكياس بالستيكية كبيرة‪ .‬ناولني القفة و هو يطلب مني انتعال‬
‫حذائي ألننا سوف نسير طويال‪ .‬لم أنبس ببنت شفة‪ .‬رميت قدمي في الحذاء و اعتمرت قبعة قش‪ ،‬ثم سرتُ خلفه‬
‫مباشرة و نحن نسلك طريق المقبرة على طريق المخرج الشرقي للقرية المؤدي إلى غابة األحاديث‪ .‬ظننت لوهلة‬
‫أنه يأخذني إلى المقبرة للقيام بعمل ما اتباعا لنظام التداول في الخدمات العمومية الذي تفرضه تاجماعت على‬
‫سكان القرية‪ ،‬لكن الرجل كان يسير دون توقف‪ .‬عبرنا المقبرة طوال لنلج مباشرة مقبرة الشهداء الملتصقة بها‪ .‬كان‬
‫الفرق طفيفا بين المقبرتين من خالل قبور شهداء حرب االستقالل المربعة الشكل و الناصعة البياض‪ ،‬إضافة إلى‬
‫النصب التذكاري الصغير المنتصب قبالتها‪ ،‬كحارس أمين يُذ ِّ ّكر المارين بأن يلتزموا الهدوء و يتجنبوا الهرج‪.‬‬

‫وصل الفخارجي بي إلى طرف المقبرة و كان يسير دون توقف متجها مباشرة إلى مدخل الغابة الكثيفة‬
‫صعودا‪ .‬سمع توقف خطواتي خلفه‪ .‬التفت فرآني أقف راميا إليه بنظراتي االستفهامية‪....‬‬

‫_ هل تؤمن بقصص الغابات المسكونة أيضا يا أمداكول ؟‪.‬‬

‫_ و هل تؤمن بها أنت ؟‪.‬‬

‫_ إنها فعال مأهولة !‪.‬‬

‫_ هل يعلم مجلس القرية بهذا األمر ؟‪.‬‬

‫_ بشأنك أنت ؟‪ .‬ال تقلق بهذا الخصوص‪ .‬أنت ال تزال تلميذي الطيع‪ ،‬أتذكر ؟‪ .‬أنا الذي سيتحمل مسئولية ما‬
‫يحدث هنا‪ .‬تعال‪ .‬ستكون مغامرة شيقة !‪.‬‬

‫_ أحب المغامرات !‪.‬‬

‫همستُ بين شفتي منطلقا خلفه مباشرة دون أن أطرح المزيد من األسئلة‪ .‬كانت تيزڨي اس إول مكانا هادئا‬
‫جدا‪ ،‬ما عدى من موجات ضجيج الكثيف الذي كانت حشرات السيكادة تدوي بها على أجدع و أغصان أشجار‬
‫البلوط و الدردار و الصنوبر المنتصبة بارتفاعاتها التي ال تدل إال على سنها الكبيرة‪ .‬ازداد الجو برودة‪ ،‬خاصة و‬
‫أن األمسية تخللتها بعض السحب الرمادية التي حجبت جانبا من ضوء النهار‪ .‬كلما كنا نرتفع سيرا على طول‬
‫الطرق الوعرة التي كانت تتجه بنا نحو قمة الجبل‪ ،‬كلما ازداد الهدوء و الصمت مخلفا إحساسا غريبا فيه لسمة من‬
‫التوجس‪ .‬ربما هي وطأة فكرة الغابة التي تسكنها كل الكائنات التي آمن بها األمازيغ منذ القدم‪ .‬الجنيات فارعات‬
‫الطول و األرواح التي تتشكل في أجساد صغيرة وقامات قصيرة‪ .‬أنصاف البشر و الماعز‪ .‬أشباح األشخاص الذين‬

‫‪348‬‬
‫كانوا يُعدمون وقت حرب االستقالل بتهمة خيانة الثورة‪ .‬كان الفخارجي يسير أمامي و يحكي قصصا مختلفة عن‬
‫ذلك‪ .‬كان يشير إلي بسبابته إلى بعض األماكن التي نمت األشجار و األحراش حولها‪ ،‬كونها األماكن التي شهدت‬
‫محاكمة فالن من طرف ضباط الوالية الثالثة‪ ،‬بتهمة كذا أو كذا و تم إعدامه شنقا أو ذبحا‪ .‬أو شهدت تلك‬
‫اإلعدامات المنظمة التي كانت القوات الفرنسية تنفذها في أسرى جيش التحرير أو حتى في بعض المعتقلين‬
‫المشتبه في تعاونهم مع الثورة‪ ،‬بعدما تعذبهم كفاية‪ .‬كان الحرفي يحكي لي كيف أن بعض سكان القرية ينقلون‬
‫همسا بعض القصص عن الظهور المتكرر ألشباح هؤالء الناس بالقرب من أماكن إعدامهم أو أماكن استخراج‬
‫رفاتهم إلعادة دفنها بعد االستقالل‪ .‬يقولون أن ذلك يقع غالبا بين الفترة الممتدة بين العصر و مغيب الشمس‪ .‬معظم‬
‫أشباح أالئك الناس تبدو مالمحها باهتة و نظراتها هائمة‪ .‬تسير بصمت بين األشجار كأنما تبحث عن شيء ما‪ .‬و‬
‫إذا صادف و تقاطعت مع شخص ما من القرويين‪ ،‬فإنها في الغالب تقابل نظراته الفزعة بنظرات فارغة مبهمة‬
‫تُعجّل بهروبه‪ .‬إنها ال تهاجم الناس و ال تحدثهم‪ .‬ربما ليس لها الوقت لذلك‪ ،‬رغم أنها ال تزال أسيرة هذا الجبل منذ‬
‫ما يقرب الخمسة عقود ؟‪ .‬سألته مازحا إن كان قد صادف بعضها فكان جوابه قاطعا و مقنعا‪....‬‬

‫_ حين ال تفكر في األوهام‪ ،‬فأنت تعفي نفسك من عيشها يا أمداكول‪...‬‬

‫قبل أن يصمت فجأة و هو مستمر في السير‪ .‬تركته يتقدمني ببعض الخطوات حين أبطأتُ من سيري ثم‬
‫توقفت و أنا ألتفت إلى يساري أمعن السمع و النظر‪ .‬رمقته بنظرة استغراب‪ .‬لم يقل شيئا‪ .‬ظل يتفرس وجهي‪....‬‬

‫_ ماس عميروش‪ ...‬قد تظنني مجنونا اآلن‪ ،‬لكن‪ ...‬أعتقد أني رأيت شيئا لتوي هناك‪...‬‬

‫ابتسم بهدوء غريب أمام صوتي الحذر‪...‬‬

‫_ ماذا رأيت ؟‪.‬‬

‫_ لست متأكدا‪ ،‬لكن بدت لي أشكاال شبه آدمية تتحرك بين األشجار‪ .....‬اآلن فقط !‪.‬‬

‫_ أخبرتك أن الغابة مأهولة !‪.‬‬

‫_ أخبرتني لتوك أنك ال تؤمن بهذه القصص !‪.‬‬

‫_ أخبرتك أني أبتعد عن التفكير في تلك القصص‪.‬‬

‫_ أنا ال أمزح !‪ .‬هناك‪ ...‬على بعد نحو ‪ 41‬مترا‪ ،‬خلف جدع شجرة البلوط‪...‬‬

‫_ استمر في السير يا أمداكول‪ .‬ال تنظر خلفك‪.‬‬

‫علمتُ من فوري أنه تفطن إلى نفس الحركة مثلي‪ .‬لكنه طفق يمشي مرة أخرى غير آبه بما رأى و هو‬
‫يتحسس األرض بعصاه و بصره كأنه يبحث عن شيء ما أو يقتفي أثرا ما‪ ،‬في حين كنتُ أتبع خطواته و أنا أنظر‬
‫يمينا و شماال و خلف ظهري‪ ،‬علي أتيقن من أن تلك '' األشياء '' المتحركة ال تزال تتبعنا أو تقترب منا‪ .‬ما كان‬

‫‪349‬‬
‫ذلك‪ ،‬أو من ؟‪ .‬إرهابيان أو ثالث مثال ؟‪ .‬جماعة إجرامية مختصة في خطف األشخاص لطلب الفدية ؟‪ .‬شاة ضلت‬
‫سبيلها ؟‪ ،‬ذئب ؟‪ ،‬خنزير بري ؟‪ .‬كنت متأكدا من أن األمر لم يكن مجرد خيال تحرك تحت وطأة ما كان الحرفي‬
‫يقصه على مسامعي‪ ،‬و ال كان عبث نسبة األكسجين المتقهقرة في ذاك االرتفاع الشاهق بخاليا دماغي !‪.‬‬

‫توقف آغاكال فجأة و هو ينظر أسفل يمينه‪ .‬وصلتُ إليه الهثا و أنا أسأله بنظراتي عما يوجد تحت شجيرة‬
‫الريحان الصغيرة تلك‪ .‬كانت ‪ 2‬عبوات جعة متفرقة حول كيس بالستيكي أسود كان يحوي على عبوات أخرى‪.‬‬

‫_ إليك هذا الكيس‪ .‬اجمع هذه القمامة فيه‪.‬‬

‫جمعتُ العبوات في كيس القمامة‪ ،‬في حين انطلق الرجل يمشي مرة أخرى و هو يطأطئ رأسه متحسسا‬
‫األرض و األحراش بعصاه‪ .‬كلما كنا نتقدم في السير‪ ،‬كلما كنا نلتقي بمخلفات ال تدع مجاال للشك في أن مجموعات‬
‫من البشر قد مرت على تلك الطريق الترابية الضيقة أو جلست تحت تلك األشجار أو وسط تلك األحراش في‬
‫فترات متفاوتة‪ .‬بقايا الطعام‪ .‬قنينات الجعة‪ .‬قوارير الخمر‪ .‬أعقاب السجائر و حتى بقايا لفائف الكيف‪ .‬كنتُ قد بدأتُ‬
‫أفهم ما كان يجري‪ .‬آغاكال كان يمر على األماكن التي اعتاد بعض شباب القرية االختالء فيها لتعاطي مسكراتهم‪،‬‬
‫حتى ينظف قاذوراتهم التي يتركونها خلفهم في كل مرة يعتدون فيها على حرمة الغابة‪ .‬القول بأن جميع سكان‬
‫تيميزر ملتزمون و واعون فيه شيء من المبالغة‪ .‬في أي جماعة بشرية‪ ،‬هنالك دوما صنف من األفراد الذين ال‬
‫تردعهم ضمائرهم عن كسر قوانين جماعاتهم حين يتأكدون قطعا من غياب رقابتها عليهم‪.‬‬

‫_ ماس عميروش‪ ...‬األشباح التي رأيتها قبل نحو نصف ساعة‪ ....‬كانت حقيقية إذن‪.‬‬

‫استشعر النبرة المازحة في صوتي فضحك‪...‬‬

‫_ أجل‪ .‬كانت حقيقية‪ .‬شاب و شابة من القرية كانا يتهامسان مع بعضهما‪ ،‬أفسدنا عليهما موعدهما الغرامي‬
‫السري‪ .‬القرية كلها تعلم أن تيزڨي كانت دوما و ال تزال مكانا نفعل فيه ما نخشى فعله في القرية مخافة عقابها أو‬
‫كالمها الجارح على األقل‪ .‬الشرب و السكر علنا ممنوع‪ .‬و عالقات الحب خارج الزواج ممنوعة كذلك عندنا‪.‬‬
‫األعيان يعلمون طول الوقت أني آتي إلى هنا باستمرار لتنظيف هذه المخلفات‪ ،‬لكنهم أبدا لم يواجهوني بالحديث‬
‫عن األمر بصراحة‪ .‬طابوهات يحاولون الهرب منها باستمرار‪ .‬لذلك فهم يفرضون علي غرامتهم المالية البسيطة‬
‫التي اعتدت دفعها كل مرة ألج فيها الغابة‪ ،‬دون أن يمروا إلى وسائل الردع التالية التي تتبع استمراري في كسر‬
‫القانون الذي يمنع الصعود إلى هنا‪ .‬أما أنا فقد وجدتُ في ذلك فرصة سانحة لالختالء بنفسي‪ ،‬للتجوال و التأمل و‬
‫التفكير و االبتعاد عن فظائع الناس و ردائتهم‪ .‬أنت ترى اآلن سببا من أسباب كره الكثير من سكان القرية لي‪ .‬جزء‬
‫منهم يعلم أني مطلع على األسرار القذرة ألبنائهم و بناتهم أو حتى أسرارهم الصغيرة هم أنفسهم‪ .‬الجزء اآلخر‬
‫ممن يكرهونني يفعلون ذلك كوني ال أستجيب إلى رغباتهم المريضة في الكشف عما أعلمه حول ما يحدث هنا‪.‬‬
‫يتهمونني بتشجيع الفساد و النفاق في مجتمع القرية‪ ،‬كوني ال أفضح فاسديها و منافقيها لينالوا ما يستحقون من‬
‫الغرامات و العزل االجتماعي‪ .‬األمر مرتبط بصراع بعض العوائل و القرابات كالعادة‪ .‬كل طرف يبتسم في وجه‬

‫‪350‬‬
‫الطرف اآلخر علنا و يعمل المستحيل لفضح مساوئه و تسويد صورته و شرفه في الخفاء‪ .‬حقيقة من حقائق الشعب‬
‫الجزائري المريض !‪ .‬لكن كل ما أريده أنا هو أن يتركني الجميع في سالم !‪.‬‬

‫_ همممم أرى ذلك‪ .‬و كيف تعلم أن المرابطين يعلمون ما يحدث هنا ؟‪.‬‬

‫_ أه نحن سكان الجبال نتقن قراءة رسائل األعين اتقانا فطريا‪.‬‬

‫كنا ال نزال ماضيين في االرتفاع كلما زدنا الخطى‪ .‬امتأل كيسين بالقاذورات‪ .‬زادت الغابة امتالء بالصمت‪.‬‬
‫بالكاد كنتُ أسمع شيئا سوى خطواتنا فوق التراب و الحصى و العيدان و الحشائش‪ .‬حفيف أوراق األشجار و‬
‫بعض الزقزقة المتفرقة‪ ،‬إضافة إلى نعيق الغربان و بعض الكواسر التي كانت تحلق على ارتفاعات شاهقة‪ .‬كان‬
‫الجو داكنا بقطع الضباب التي كانت تغطي الجبل‪ .‬فهمتُ أننا كنا قد وصلنا إلى مستوى السحاب الثقيل الذي كان‬
‫يغطي سماء ذلك اليوم الصيفي الرتيب‪ .‬أحسستُ ببعض البرد في أطرافي‪ ،‬لكن الحرفي أخبرني أنني مادمتُ أسير‬
‫منذ ما يقارب الساعة فال داعي للقلق من البرد‪ ،‬لكن علي فقط أن أتنفس جيدا حتى ال أصاب بالدوار‪.‬‬

‫أنهينا العمل‪ .‬سحبنا أكياس القمامة التي امتألت بقوارير الخمر و عبوات الجعة و بقايا المخدرات و بعض‬
‫بقايا المجالت اإلباحية و الواقيات الذكرية‪ .‬وضعنا كل شيء تحت إحدى أشجار البلوط‪ .‬قال آغاكال أنه يجب‬
‫إنزالها إلى القرية من أجل التخلص منها‪ .‬ثم وقف بالقرب مني و هو يومئ برأسه كأنه راض عن العمل الذي قمنا‬
‫به‪ ،‬ثم أخذ نفسا عميقا و هو يلتفت إلي‪...‬‬

‫_ إذن‪ ،‬تريد رؤية أطالل إيجودار ؟‪.‬‬

‫لم ينتظر مني جوابا بل انطلق يسير مباشرة مكمال طريقه إلى األعلى‪ .‬لم يتطلب األمر أكثر من عشرين دقيقة‬
‫حتى كنا نقف فوق مستوى السحاب وسط تلك الفسحة المدببة فوق قمة الجبل‪ .‬كنا قد اجتزنا لتونا سالسل من‬
‫الصخور الحادة الصفراء اللون‪ ،‬التي كانت تطوق المكان و ولجنا ما بدى أنه بقايا مساكن قديمة جدا‪ .‬طرقات‬
‫الشوارع كانت ال تزال واضحة و مرسومة على األرض‪ .‬بعض الجدران كانت ال تزال قائمة مشكلة بقايا مساكن‬
‫مربعة و مستطيلة الشكل تقف بدون أسطح‪ .‬بعض أكوام الحجارة و الطوب المتفرقة هنا و هناك‪ ،‬استنتجت أنها‬
‫بقايا المساكن و الجدران التي كانت تستسلم أخيرا أمام قبضة الزمن فتنزل بتدرج و هدوء إلى األرض‪ ،‬منتظرة‬
‫أيادي أهل تيميزر كي تجمعها و تكدسها في أمكنة محددة‪ .‬في بالد القبايل‪ ،‬أحجار المنازل القديمة المنهارة ال تفقد‬
‫قيمتها أبدا‪ ،‬بل تظل محفوظة في ذاكرة الناس و تحت أنظارهم الدائمة‪.‬‬

‫كنت أقف وسط إيجودار إذن‪ .‬ال شيء غير الصمت المحدق بنا من كل الجهات‪ ،‬مع نفخة رياح متوسطة‬
‫الشدة كانت تهب على القمة الشاهقة التي تخترق السماء الزرقاء التي كانت بعض الطيور الجارحة تسبح في‬
‫أحضانها أزواجا‪ .‬سرنا عبر زقاق تلك القرية الصامتة‪ ،‬و قد زاد ذلك اإلحساس الغامض و العميق في رفع نبرته‬
‫النافذة من داخل نفسي‪ .‬كنتُ أنظر إلى تلك النوافذ التي كانت تختزن فراغا غريبا و قاسيا بين إطارتها المتشققة‬
‫المتداعية‪ .‬و كانت تلك المنازل أو ما بقي منها كأنما ال تزال تحفظ شيئا أخيرا من صدى خطوات آخر جيل سكن‬

‫‪351‬‬
‫بين جدرانها‪ .‬نزر ضئيل و خفي من حياة كانت تضج في هذا المكان ذات مرة‪ .‬أحسستُ بمدى قوة الزمن أمام عناد‬
‫اإلنسان‪ .‬و فهمتُ عناد إنسان هذا البلد و تشبثه بحياته و وجوده على هذه األرض‪ .‬ففي النهاية انتصرت الطبيعة و‬
‫الظروف على سكان قرية إيجودار‪ ،‬لكنها لم تجعلهم يتراجعون سوى بضع خطوات‪ ،‬ليؤسسوا القرية التي‬
‫سيعمرها أحفادهم بعدهم و هي ال تزال عامرة إلى اليوم بعد قرون و قرون طويلة‪ .‬بل و فوق ذلك‪ ،‬فسكان تيميزر‬
‫اليوم يحجون إلى هذه األطالل مرة في السنة جالبين معهم أطفالهم‪ ،‬ليقوموا بترميم الجدران التي ال تزال صالحة‬
‫للترميم‪ ،‬بحسب ما أخبرني آغاكال‪.‬‬

‫_ هل أنت بخير يا أمداكول ؟‪.‬‬

‫قطع صوته حبل األفكار و التأمالت تلك‪ ،‬فنظرت إليه و أنا ال أزال أتبع خطواته‪...‬‬

‫_ ال أنا على ما يرام‪ .‬فقط يُخالجني شعور غريب تجاه المكان‪ ...‬إنه موحش بعض الشيء‪.‬‬

‫_ أجل‪ .‬أعتقد أني أستطيع تخيل ذلك‪ .‬لكن يجدر بك أن تراه حين يمتلئ بالعوائل و المغتربين و الزوار يوم‬
‫نأتي إلى هنا لنرمم هذه البيوت القديمة‪ .‬هيا تعال‪ ،‬سأريك نبع إيجودار‪.‬‬

‫سرنا إلى طرف القمة المقابل جبال جرجرة‪ .‬مكان يرتفع عن مستوى تلك األطالل بنحو خمسة أمتار إضافية‪،‬‬
‫حيث تظهر تهيئته بوضوح تام‪ .‬عبارة عن فسحة مربعة الشكل‪ ،‬يتم الوصول إليها عن طريق مدرج‪ ،‬يحفها سياج‬
‫خشبي يرتفع نحو متر‪ ،‬ال بد أنه ن ّْ‬
‫ص ب كي يقي األطفال أو حتى الكبار من خطر السقوط أو التدحرج من فوق‬
‫القمة نحو الجرف الصخري الهائل و المخيف الذي يحيط بالمكان من ثالث جهات‪ .‬أرضية المربع مبلطة بالحجارة‬
‫المرصوصة تماما كطرقات تيميزر‪ ،‬يتوسطها سرح صغير يرتفع إلى نحو مترين محتضنا النبع الذي كان يتدفق‬
‫منه الماء بسرعة متوسطة‪ ،‬بحيث تجتاز مياهه العذبة منطقة الحوض المخصصة لوضع األواني من أجل ملئها‪ ،‬و‬
‫تتسرب عبر فتحة خلفية لتأخذ مسارها عبر أنبوب يسير إلى الحافة الشرقية لتلك الفسحة‪ ،‬حيث يشكل شالال‬
‫صغيرا تنزل منه المياه عبر المنحدرات الصخرية الحادة و تأخذ طريقها نحو األسفل‪ ،‬لتشكل تدريجيا رواسي‬
‫صغيرة تتصل بشبكة الوديان التي تتخلل الجبال و الغابات المحيطة‪.‬‬

‫لم يشدن كل هذا كما شدني المنظر من أعلى قمة الجبل‪ .‬منظر ال يمكن وصفه بالروعة المطلوبة‪ .‬وقفت‬
‫بالقرب من النبع و أنا ألتفت من جميع الجهات‪ .‬استبد بي دوار خفيف لبعض اللحظات حين أدركتُ أني أقف على‬
‫ارتفاع شاهق جدا‪ .‬كان العالم كله تحت قدمي‪ ،‬بما فيه سحابه !‪ .‬كنتُ أشعر كأنما أقف على قمة األوليمب الخرافية‬
‫نفسها‪ .‬أتخاطب باطنيا مع الوجود‪ ،‬و أشرح نفسي كشراع شمسي تحت أثيره الخارق‪ .‬كان إحساسا رائعا حقا‪،‬‬
‫أنساني فيما كان آغاكال يقصه عي حول تاريخ نبع إيجودار‪ ،‬لكنني كنت فقط ِّّ‬
‫أخلد تلك اللحظات بكمرا هاتفي‬
‫الجوال‪ ،‬و ألتهم تلك المناظر المدهشة بناظري‪ .‬شيء منها ذكرني بقمم جبال الشريعة‪ ،‬سوى أن قمة إيجودار كانت‬
‫أكثر ارتفاعا و سموا نحو بوابة السماء‪ .‬شمس ما بعد العصر كانت تمسح على ظهري بلطف و أنا أتقدم نحو‬
‫الحافة المقابلة لجبال جرجرة التي كانت الوحيدة التي شعرتُ أني ال أزال غير قادر على بلوغ ارتفاع قممها‬
‫الصخرية الحادة‪ .‬لمحتُ واديا من الغمام األبيض الذي كان يفصل بيننا و هو يتدفق تحت الرياح بانسيابية من جهة‬

‫‪352‬‬
‫الغرب آخذا طريقه نحو الشرق‪ ،‬فكان يالمس الجبال المحيطة بلطف‪ .‬يستحم بأشعة الشمس تارة و بظالل جبال‬
‫تيزي وزو الهادئة تارة أخرى‪ '' .‬لن أندم أبدا على مجيئي إلى هذه المنطقة المدهشة‪ ،‬منطقتي األصلية ! ''‪ .‬كانت‬
‫تلك فكرة ترددت في نفسي تلقائيا و أنا أشعر أن آخر حواجز التردد تتداعى أمام جاللة ذلك المشهد الطبيعي الذي‬
‫اختصر وجه '' أرض األسالف '' التي كان ال بد لي في النهاية أن أستشعر بكل ذرة من كياني أني منها و هي مني‬
‫منذ بداياتها األولى و إلى تلك اللحظة !‪ .‬كانت المرة األولى التي أصارح فيها نفسي أن '' نعم !‪ ،‬أنا أمازيغي‪ ....‬و‬
‫أفتخر بذلك !! ''‪ .‬كان األمر فعال يستحق كل هذه الجهود و البحث‪.‬‬

‫جلستُ على الدرج الموصل إلى مربع النبع ألستجمع أنفاسي‪ .‬كنتُ أستمتع بمشهد جرجرة المضاء بالشمس و‬
‫قد بدأت بعض تعرجاته و ثناياه تغرق في الظل مع استمرار انسحاب الشمس نحو جهة الغرب‪ ،‬فإذا بآغاكال يأخذ‬
‫مكانه على يميني‪...‬‬

‫_ إذن !‪ ،‬ما رأيك ؟‪.‬‬

‫_ مكان رائع حقا !‪ ،‬من المؤسف أنه تمنع زيارته في أي وقت على سكان القرية‪ .‬أعتقد أنكم ستستفيدون أيضا‬
‫لو وظفتموه للسياحة الجبلية‪ .‬سيعود ذلك بالكثير من الموارد المالية على خزانة القرية‪.‬‬

‫س معة تيزڨي اس إيول السيئة ال تزال تشل العقول عن التفكير و الرغبة‬


‫_ أجل‪ ،‬أعتقد ذلك‪ ،‬لكن كما ترى‪ ،‬ف ُ‬
‫في كسر الطابوهات‪ .‬البذرات القبيحة فينا كما تسميها في كتاباتك الصحفية‪ .‬هل ارتويت منها ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ ،‬ما عميروش‪ .‬رحلتي إلى هنا كشفت لي الكثير حول لب واقع هذه البالد التي أحبها حتى النخاع‪.‬‬

‫التزم الصمت لبعض الثوان مطأطئ رأسه ثم ابتسم‪...‬‬

‫_ ماذا عن البذرة الطيبة الخاصة بك ؟‪.‬‬

‫_ بذرتي الطيبة ؟‪.‬‬

‫راح يبتسم و هو يتفرس وجهي‪ .‬لم أفهم تماما عما كان يتحدث‪...‬‬

‫_ أنت شاب في الثامنة و العشرين‪ .‬يستحيل عليك إقناعي بأنه ال يوجد حب ما في حياتك‪ ،‬إلى جانب حبك‬
‫الجنوني لوطنك‪.‬‬

‫كدتُ أنتفض من مكاني تلك اللحظة‪ .‬لكني استجمعت نفسي في الوقت المناسب ناظرا إلى الرجل المبتسم‬
‫بهدوء مصطنع‪ .‬ما الذي دفعه للحديث عن شيء كهذا في تلك اللحظة و في ذلك المكان ؟‪ .‬ما الذي كان يرمي إليه‬
‫بالضبط ؟‪ .‬ما البذرة التي كان يقصدها بكالمه ؟‪ .‬بذرة الحب بشكل عام ؟‪ ،‬أم بذرة بهجة بشكل جوهري ؟‪ .‬لم أرد‬
‫إطالة الصمت حتى ال أجعله يتأكد من اضطرابي و حيرتي تلك‪...‬‬

‫_ اه ماس عميروش‪ ،‬أنت تعلم‪ .‬لقد اجتزت هذه المرحلة قبلي و تعلم‪ ...‬لكن َلم تجلب حديثا كهذا اآلن ؟‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫_ ألنك تصر على الهروب مما يحبُّ قلبك مذ أتيت إلى هنا‪ ،‬و ربما قبله بوقت طويل‪.‬‬

‫_ ‪....‬ما الذي جعلك تفترض هذا ؟‪.‬‬

‫استمر في التبسم أمام تعابير وجهي التي راحت تخونني بشكل واضح منهارة كجدار زجاجي رقيق‪...‬‬

‫_ اه لهواء هذه الجبال قدرة عجيبة في وضع المرء وجها لوجه أمام أسرار نفسه‪ .‬ثم إني علمتُ بأمرك من‬
‫خالل نظراتك الشاردة على الدوالب الدوار و أنت تشكل قوالب الصلصال‪ .‬لقد راقبتك طويال و فكرت في أمرك‬
‫كثيرا لو تعلم‪ .‬كنت تبدو لي في أغلب األحيان و كأنك تفكر في امرأة ما حين ننهمك في عملنا بصمت‪ .....‬اه ال‬
‫ي أن أخبرك‬
‫تنظر إلي هكذا‪ ،‬فلحرفة صناعة الطين أساليبها الغامضة في الكشف عما يؤرق من يمارسها‪ .‬كان عل ّ‬
‫بهذا منذ اليوم األول حتى تحترز مني‪.‬‬

‫أطلق ضحكة و هو يحك أنفه‪ .‬لم أجد إال أن أقابل تلك الضحكة ببسمة متهكمة‪...‬‬

‫_ إذن كانت تلك طريقتك في الكشف عما يدور في خلد الناس ؟‪ .‬ما الذي استطعت معرفته عني عدى هذا ؟‪.‬‬

‫_ باختصار‪ ،‬عرفت أنك شاب ذو نية حسنة رغم أنك مشوش النفس قليال بسبب هواجسك المهنية‪ .‬و أنك‬
‫مهموم حقا بمآسي هذا الوطن و هذا ما أثار تقديري لك‪ .‬لكن ال تحاول االلتفاف علي اآلن‪ .‬هيا‪ ،‬من هذه التي‬
‫تفر دوما من ذكراها و َلم تفر من هذه الذكرى أصال ؟‪.‬‬
‫جعلتك ّ‬

‫_ من قال لك أني أفر منها يا هذا ؟‪.‬‬

‫تفرس وجهي جيدا ثم ابتسم مرة أخرى دون أن يرفع عينيه عن عيني‪ ،‬أجابني بصوت هادئ و نبرة جد‬
‫واثقة‪....‬‬

‫_ نحن الرجال بارعون في الهروب من مآسي قلوبنا‪ ،‬بافتعال مآس خارجية ندمنها‪ ،‬أو تبني حروب جانبية‬
‫نخوضها من أجل أن تدمرنا قبل أن تدمرنا قلوبنا‪.‬‬

‫تشنج صدري تلك اللحظة‪ .‬انتابني إحساس أن الرجل كان يعلم تماما عما يتحدث‪ ،‬إلى درجة أنه جعلني أكف‬
‫مباشرة عن المقاومة‪ ،‬ألستبدلها برغبة في أن أفصح له عمن كانت تؤرق قلبي طيلة تلك األيام‪ ،‬فأفر إلى شبحها‬
‫الذي يسكن أعماقي بعناد تام‪ ،‬كلما أنهكني التفكير فيما يؤرقني في هذا العالم الخارجي‪.‬‬

‫_ حسن ماس عميروش‪ .‬في الحقيقة فقد عرفتُ بعض الفتيات مذ كنتُ مراهقا‪ .‬خضتُ بعض التجارب‬
‫الصغيرة‪ ،‬لكن هنالك فتاة واحدة فقط يمكنني أن أعتبرها حب حياتي‪ .‬على األقل هكذا كانت‪ .‬أو ال تزال‪...‬ال أدري‪.‬‬
‫لكن ال أزال أعتقد أنها فتاة ال مثيلة لها إطالقا‪ .‬و األمر هنا ال يتعلق بالجمال الخارجي‪ ،‬بل بشيء جوهري في‬
‫نفسها‪ .‬شيء لطالما حرك أعماقي نحوها‪ .‬شيء لم أجد له اسما أو وصفا إلى اآلن‪ .‬لهذا أظن كثيرا أني ال أزال‬
‫أحبها بطريقة ما‪ ....‬ال أدري‪....‬‬

‫‪354‬‬
‫_ و لم هذا الشك ؟‪.‬‬

‫_ جربتُ فرصتي معها قبل ثماني سنوات‪ .‬لم ينجح األمر‪ ،‬بل ترك في نفسي أثرا عميقا جدا‪.‬‬

‫_ هممممم منذ ثماني سنوات‪ ،‬ال تزال تكافح نفسك لتجاوز األمر‪ .‬رغم ذلك يبدو أنه لم يجد نفعا ها ؟‪.‬‬

‫_ لهذا أكرس نفسي كلية لعملي‪ .‬أنشغل في بحث مسائلي الكبرى التي تؤرقني‪ .‬لكن و بصراحة‪ ،‬يحدث لي‬
‫كثيرا أني حين أنغمس في بحث مشكالت هذا المجتمع و هذا البلد‪ ،‬أفعل ذلك بغضب دفين منبعث من انكساري‬
‫العاطفي معها‪ .‬كأن بي أحاول تعويض نفسي عن ذلك بشيء أسمى و أعظم‪ .‬يحدث أيضا حين أكتب معظم مقاالتي‬
‫ي مرة أخرى‪ ،‬لعلها‬
‫الصحفية أن أفترض أن إحداها قد تسقط بين يديها ذات يوم‪ ،‬لعلها تتذكرني‪ ،‬لعلها تفكر ف ّ‬
‫تحاول االتصال بي ذات يوم ؟‪.‬‬

‫راح يبتسم و هو يهز رأسه و كأنه يوافقني هذا االستنتاج حين رحتُ أغوص بسرعة في السرد‪.....‬‬

‫_ ‪....‬في الغالب‪ ،‬و بطريقة ما‪ ،‬أجد نفسي أعود إلى التفكير فيها كلما شعرتُ باالرتباك أو االنهاك أو ضاق‬
‫العالم من حولي‪ .‬على مدار سنوات‪ ،‬كلما زاد عدد الكيلومترات التي أقطعها مبتعدا عنها‪ ،‬إال و زاد معها عدد‬
‫المرات التي أذكر فيها اسمها بيني و بين نفسي يوميا‪ ،‬فيبقى الحب ممزقا بداخلي بجانب قلبي !‪ .‬كأن بشيء ما‬
‫بداخلي ال يزال يرفض بشدة هذا المآل‪ .‬هذا يثير قلقي بل حتى خوفي في بعض األحيان‪ .‬ال أريد أن أعيش ما عشته‬
‫بسبب هذا الحب مرة أخرى‪ .‬لكن‪ ...‬بصراحة أجد أنه ال فكاك لي من هذا الحب إطالقا‪.‬‬

‫_ هل رفضت حقا ؟‪.‬‬

‫_ أجل !‪.‬‬

‫_ ماذا حدث ؟‪.‬‬

‫أخذت لنفسي لحظة‪ ،‬ثم رحتُ أقص عليه متذكرا ما حدث‪ .‬آه أجل‪ ....‬كان يوما ربيعيا غائما نهاية أفريل‬
‫‪ .4111‬استيقظت تلك الصبيحة في فراشي مع صوت داخلي يُخبرني أنه لم يعد يستطيع االحتمال أكثر من ذاك‬
‫الحد‪ .‬كنتُ أختنق حرفيا‪ .‬كنتُ قد كتبت لها رسالة قبل ذلك بأيام أخبرها فيها بكل شيء‪ .‬كيف بدأت قصتي معها‪.‬‬
‫كيف وجدتُ نفسي أميل إليها أيام اإلعدادية‪ .‬كيف وجدت نفسي أقع في حبها بجنون أيام الثانوية‪ .‬كيف صاغ كل‬
‫ذلك عالمي و نظرتي للحياة و انتهى ليصوغ مبدئيا الرجل الذي سأكونه ذات يوم‪ .‬كنتُ سأعطي الرسالة إلى‬
‫صديقي عبد الغني ليوصلها إليها‪ ،‬سوى أني لم أفعل‪ .‬قلتُ في نفسي أن ذلك قد يكون عالمة ضعف أخرى تجاه هذا‬
‫الحمل الثقيل‪ .‬أقصد تكليف شخص آخر بحمله و إيصاله لها حتى تعرف‪ ،‬رغم أنها كانت تعرف مسبقا‪ ،‬فغانو كان‬
‫قد حدَّثها في الموضوع قبل مدة‪ ،‬حيث عاد ليخبرني أنها غير مرتبطة و لكنها في نفس الوقت لم تبد أي رد فعل‬
‫مما قصه عليها‪.‬‬

‫‪355‬‬
‫استرجعتُ تلك المشاعر التي ظننتها خالدة‪ ،‬يوم أخبرني غانو أن بهجة ليست على عالقة مع أحد أول مرة‪،‬‬
‫أحسست أن الكوكب ال يكاد يحملني من فرط الحماس و الراحة‪ .‬قلتُ في نفسي أنها فرصتي الذهبية التي لن‬
‫تتكرر‪ .‬كنتُ أكاد أرى نفسي و أنا منكب على كتابة الرسالة التي كان من المفترض أن تغير حياتي و حياتها نهائيا‪،‬‬
‫قبل أن يعيدني صوت آغاكال إلى قمة إيجودار حين التزمت الصمت للحظة‪...‬‬

‫_ إذن قررتَ أال تبعث لها بالرسالة‪....‬‬

‫_ اه أجل‪ .‬قررتُ فعل شيء مختلف لم أتصور نفسي يوما أقدم عليه من فرط أني كنتُ مراهقا خجوال جدا‪.‬‬
‫قررتُ تلك الصبيحة أن أفصح لها عن مشاعري وجها لوجه و ليحدث ما يحدث‪ .‬قلتُ في نفسي أن تلك كانت‬
‫مسئوليتي تجاه نفسي و تجاهها أيضا‪ .‬لطالما اختبأتُ خلف صديقي ذاك كلما أردتُ أن تعلم أني أحبها‪ .‬كان على‬
‫ذلك أن يتوقف‪ .‬كان علي أن أواجه األمر بنفسي‪ .‬ذهبت إلى جامعة البليدة يومها‪ .‬كنتُ رفقة هذا الصديق الذي‬
‫اخذني مباشرة إلى الكلية التي تدرس بها‪...‬‬

‫استجمعت أنفاسي تلك اللحظة و وجدتني أتوقف عن الحديث مرة أخرى‪ .‬كان ذلك األلم الحي بصدد الصعود‬
‫مجددا‪ .‬أحسست بانقباض في صدري‪ .‬ثم التفتُ إلى الحرفي الذي كان ينصت إلي بكل اهتمام‪....‬‬

‫_ ماس عميروش‪ ...‬أنت تدفعني إلى إحياء ذكرى انفعالية سيئة جدا‪ ...‬هال عدنا للحديث عن السياسة أو دزاير‬
‫أو التاريخ أو األمازيغ ؟‪.‬‬

‫_ هيا‪ ..‬هيا‪ ..‬اخرج ما في صدرك يا أمداكول‪ .‬أنا أيضا كان علي أن أقص عليك أكثر التجارب مرارة في‬
‫حياتي‪ ،‬أتذكر ؟‪.‬‬

‫_ ‪.....‬حسنا‪ .‬أوكي‪.‬‬

‫أخذت لنفسي شهقة و زفرة‪ ،‬ثم انطلقت في الحديث بصدر متشنج متذكرا اللحظة التي وصلتُ فيها إلى المكان‬
‫الذي اعتادت الجلوس فيه رفقة زمالئها في الجامعة‪ ،‬كانت هناك رفقة زميلة قديمة من أيام اإلعدادية‪ .....‬اه يا اله‬
‫حين أتذكر ذلك الموقف !‪ .‬كانت جميلة و متأنقة كالعادة‪ ،‬و كان يبدو عليها شيء من االنزعاج أو عدم الراحة‪،‬‬
‫لكنها حاولت إخفاء ذلك ببسمتها المعتادة‪ .‬أجل !‪ ،‬كانت لها بسمة تعطيني أجنحة زرقاء كلما رأيتها على وجهها !‪.‬‬
‫كانت تعلم سبب وجودي ذاك ا ليوم و على األرجح كانت تنتظر مني أن أخبرها أني أريد فرصة معها‪ .‬أما أنا فقد‬
‫كنتُ مضطربا للغاية‪ .‬تقدمت نحوها و أنا أتنفس بعمق محاولة السيطرة على نفسي‪ ..‬كنت أردِّّد حينها‪ '' :‬لقد جاءت‬
‫تلك اللحظة‪ ...‬اللعنة‪ ...‬لقد جاءت اللحظة الحاسمة‪ .'' ....‬حاولت تصور الموقف من قبل لكن تصوره شيء و عيشه‬
‫كان شيئا مختلف تماما‪ .‬كل ما كنت أريد تذكير نفسي به هو أن الفتاة غير مرتبطة‪ ،‬و مهما كان سيحدث تلك‬
‫اللحظة فسيدفعها للتفكير فيما كنت سأقوله لها في كل األحوال‪ ،‬و سوف يجعلها تقتنع في النهاية بأني صاحب‬
‫قدرها ال محالة‪ .‬تبادلنا التحية و األسئلة العابرة‪ ،‬ثم فاتحتها بالموضوع بعدما استرجعت هدوئي و تجاوزت‬

‫‪356‬‬
‫لحظات اضطرابي‪ .‬كنت أريد أن أفهم و أعرف نظرتها لي‪ ،‬كونها كانت تعلم أني أكن لها مشاعر عميقة‪ ،‬لكنها‬
‫تهربت من إعطاء إجابات واضحة‪...‬‬

‫_ ماذا قالت ؟‪.‬‬

‫سألني آغاكال بفضول واضح‪ ،‬ألجيبه فورا بأنها راحت تخبرني أن األمر ليس بجلل و أنه مجرد شيء عادي‬
‫يعيشه كل البشر و أنه ال يجب تضخيمه كثيرا‪ .‬أذكر أن ذلك أغضبني لكني لم أظهر لها ذلك‪ .‬الحب مجرد شيء‬
‫عاد ؟‪ .‬يا له من كالم !‪ .‬لكني لم أفهم حينها أنها كانت تتحدث من منطلق أنها اعتقدت أن كل ما كنت أريده هو ربط‬
‫عالقة معها‪ ،‬كمعظم الشباب الذين يبحثون عن عالقة عابرة ال شيء جدي فيها‪ .‬عالقة هدفها هو البحث فقط عن‬
‫الرفقة اللطيفة أو حتى التفاخر أمام األتراب ال أكثر‪ .‬بينما أنا كنت أريد '' حياة '' كاملة المعالم معها‪ .‬سألتها‪ '' :‬إذن‪،‬‬
‫ما موقفك من كل هذا ؟‪ ،‬ما موقفك مما أكنه لك في نفسي ؟ ''‪ .‬نظرت إلي بشيء من التردد‪ .‬آه أذكر تلك النظرة‬
‫جيدا !‪ .‬قالت بصوت يكاد يكون خافتا‪ '' :‬أق ِّدّر لك ذلك كثيرا‪ ،‬لكن األمر غير ممكن‪ ،‬أنا مرتبطة حاليا ! ''‪ .‬كانت‬
‫تلك اللحظة الفارقة التي َّ‬
‫مزقت عالمي حرفيا‪ .‬جملتها تلك كانت كصاعقة حقيقية غير متوقعة حطت على رأسي‪.‬‬
‫كانت أشبه بطارئ أحدث تغيرا فجائيا و دائما على الذرات التي ت ُشكل كوني الصغير‪ .‬بقيت فاتحا فمي لوهلة و أنا‬
‫أنظر إلى وجهها المضطرب‪ .‬اهتز العالم من تحت قدمي و لثانية أو ثانيتين انتابني شعور بأن العالم يهوي من‬
‫وراء ظهري إلى نقطة سحيقة‪ ،‬حيث بقيت واقفا على أطراف أصابعي على حافة تلك الهاوية و قبل أن أسقط‪ ،‬عاد‬
‫بشكل جارف ليدفع بي نحو تلك الحقيقة المتجسدة لتوها أمامي كي أصطدم بها بكل قوة‪ .‬شعرتُ بقلبي و كأنه يقع‬
‫فجأة في قبضة خفية راحت تعصره بشدة‪ .‬كنتُ أريد استيعاب الموقف‪ .‬شعرتُ حينها أني خسرتُ كل شيء في‬
‫لحظة ضوئية‪ ،‬حين ينقلب األمل الجارف الذي تغذيه أطنان من أحالم اليقظة الطويلة‪ ،‬إلى مجرد فقاعة صابون‬
‫صغيرة تنفجر عند أول نفخة من نفخات الواقع في ثانية أو ثانيتين ؟‪ ..‬تلك اللحظة الخاطفة التي ال تستطيع حتى‬
‫اإلمساك بخيطها األخير لتفهم ما جرى فعال قبل مضيها ؟ !‪ .‬إنه عيب المراهقة األساسي‪ .‬ردود الفعل الدرامية !‪.‬‬

‫نفذ صوتي مني‪ .‬رغبت في التزام الصمت تحت وطأة تلك الغصة الغليظة‪ .‬لكن الرجل كان يترجاني بنظراته‬
‫كي أكمل صب ذاك الوجع الدفين‪ .‬الحديث عن تلك الصدمة المكبوتة‪ ،‬ما أجبرني على االستمرار في الحديث‬
‫مسترجعا ما حدث بصعوبة و ألم‪ .‬هكذا إذن‪ ،‬قابلت ُها بوجه ولهان و منهك بعد أن كبحتُ عالمات الصدمة و‬
‫الغضب منه‪ .‬كنت أريد أن ألومها بشدة عن المعلومة الزائفة التي أعطتها لغانو كونها ليست على تواصل بأحد‪،‬‬
‫لكني لم أفعل‪ .‬ما كان ذلك لينفع أمام حجم الشعور اآلخر‪ .‬شعوري بأن الموقف كله صار عبثيا حقا و أن اللحظة قد‬
‫فقدت كل معانيها‪ .‬كان علي أن أنقذ البريق األخير فقط‪ .‬لذلك نظرت في عينيها البنيتين مباشرة‪ .‬نطقت تلك الكلمات‬
‫كما جاءت‪ ،‬هكذا و بكل بساطة‪ '' :‬إن كان األمر هكذا‪ ،‬فأنا هنا ألخبرك بشيء لطالما أردتُ إخبارك به منذ أيام‬
‫الثانوية‪ ....‬انحبك بهجة‪ ،‬في حياتي ماحبيت و ما عزيت طفلة كيما حبيتك و عزيتك انتي‪ .....‬انحبك و انموت‬
‫عليك ‪ ...‬هذا ما كان ! ''‪ .‬كل ما أردته تلك اللحظة هو أن أخلص نفسي من ذلك الحمل الرهيب‪ .‬رأيت وجهها‬
‫توردت وجنتيها و هي تر ِّت ّب خصالت شعرها الكستنائي فوق أذنها‬
‫يحمر خجال و قد غرق في عالمات الدهشة‪َّ .‬‬
‫محاولة أال تنظر مباشرة إلى وجهي‪ .‬زادها ذلك جماال و سحرا في عيني‪ ،‬بل و فجّر كل ينابيع شغفي بها و‬

‫‪357‬‬
‫عطشي لها و ألمي بسببها‪ .‬زاد ذلك في رغبتي في لومها أكثر‪ .‬كنتُ أنظر إلى الكائن الذي رغبت فيه بكل ذرة‬
‫مني في نفس اللحظة التي كان يجعلني فيها أتذوق مرارة اليأس المطلق تجاه فكرة الحصول عليه‪ .‬في تلك اللحظة‬
‫التي لن أنساها ما حييت‪ ،‬كنتُ أعيش أكثر المفارقات ألما في حياتي !‪ .‬كنتُ أود فعال أن أتو َّ‬
‫سل إليها كي تغير‬
‫رأيها‪ .‬كي تقبل‪ .‬كي تقول‪ '' :‬أنا أيضا أحمل لك نفس المشاعر ''‪ .‬كنت أود أن أقول لها أني ال أقبل بهذه النتيجة و‬
‫لن أرضى بها ما حييت‪ .‬كنت أود إخبارها أني مستعد لتحدي هذا الشخص الذي أخذها مني وأنتزعها منه بالقوة‪.‬‬
‫كنتُ فقط أود أن أتوسل إلى جمالها تلك اللحظة كي تغير ذاك الواقع المر كون األمر كان بيدها‪ ،‬إال أن كبريائي‬
‫منعني‪ .‬أعتقدتُ أني قد أهين نفسي أكثر لو فعلت ذلك‪ ،‬كاشفا لها عن ضعفي الالمتناهي تلك اللحظة التي كانت‬
‫تنظر فيها إلى انكساري الظاهر‪ .‬حاولت البقاء هادئا و صلبا قدر المستطاع‪ .‬حاولت إنقاذ ما أمكن من صورتي‬
‫المتشظية‪ .‬من كياني الذي كان يتفت ّضت و يتساقط بين يديها العاريتين كقطع من الرماد‪ .‬كان شيئا من هذا القبيل‪'' .‬‬
‫هي '' كانت فقط جميلة و ال تُقاوم تلك اللحظة‪ ،‬كانت فعال جميلة‪ ،‬لكنها كانت بعيدة المنال !‪.‬‬

‫كان صوتي عبر صدري مهتزا و أنا أعود إلى الحاضر‪ .‬أغمضتُ عيني متنهدا تحت وطأة تلك الغصة الحارة‬
‫التي كانت تقتلع صدري بذاك األسى الدفين الذي حمل رأسه كأفعى سامة من تحت كثبان من الرماد‪ .‬كان فعال ال‬
‫يزال حيا‪ .‬شعرتُ بحضوره الثقيل و المثخن‪ .‬آغاكال كان قد استحضر شياطين ذاركتي حرفيا‪ .‬كانت قد بدأت‬
‫تُبعث بدخانها األسود لتوها من توابيتها‪ ،‬بعدما أيقضها ذاك الصدى البعيد‪ .‬سجلت لحظة صمت أللملم نفسي‪ .‬لم أكد‬
‫أشعر بتلك الدموع التي كانت تنساب تلقائيا فوق وجنتي‪ .‬كانت تلك أول مرة أبكي فيها ما حدث لي مع بهجة و لم‬
‫أكد أصدِّّق‪ ،‬فقد نجح آغاكال في فتح ينبوع األلم !‪.‬‬

‫أذكر أن بهجة كانت مندهشة أيضا‪ .‬كانت تبدو غير مصدقة لألمر‪ .‬لم تتوقع قط أن تسمع مني ما سمعت‪.‬‬
‫صح عالش ما قلتليش من قبل ؟ !! ''‪ .‬اعترفتُ لها أني كنت خجوال فوق‬ ‫ْ‬
‫طأطأت رأسها مبتسمة في اضطراب‪ '' :‬ب ّ‬
‫اللزوم‪ .‬بل كنتُ أكاد أعترف لها أني كنتُ جبانا و مغفال طيلة سنوات‪ .‬كبريائي الجريح منعني من انتقاد نفسي‬
‫أمامها أكثر من ذلك الحد‪ .‬لكني اعترفت لنفسي أنه ما كان علي أن أنتظر كل تلك السنوات‪ .‬أدركتُ ذلك متأخرا‬
‫جدا و أنا أنظر إلى وجهها األنثوي المحمر الجميل‪ .‬تبادلنا بعض الكلمات بعدها‪ ،‬حيث أخبرتني أنها ال تزال تتذكر‬
‫أول يوم تعرفنا فيه على بعضنا في المتوسطة حين جلسنا في طاولة واحدة‪ .‬افترضتُ أنها قالت ذلك لتواسيني قليال‬
‫كونها اشفقت على حالي‪ .‬أغضبني األمر مرة أخرى‪ .‬ودعتها بهدوء و انصرفت عائدا من حيث أتيت‪ ...‬كنت‬
‫مكسور الخاطر لكني كنت راضيا عن نفسي كوني خلصتها من ذلك الحمل الثقيل‪ .‬علمتُ بعدها أن خمصي لم يكن‬
‫سوى طالبا وسيما من جنسية عراقية‪.‬‬

‫_ أنت لم تستهلك قط فرصتك معها‪ .‬لقد أخذتك اآلالم الشديدة للخيبة التي عشتها تجاه تلك العثرة إلى حد نسيت‬
‫فيه أنها في الحقيقة لم ترفضك صراحة‪ .‬بل و أكثر من ذلك فقد ل ّمحت لك على أنها ال تزال تذكر لقاءكما األول و‬
‫في ذلك الكثير من اإلشارات حين تقرأ لغة األنثى الخفية !‪ .‬لكنك اآلن ال تزال أسير خوفك من تكرار تلك الخيبة‪.‬‬
‫في الحقيقة فأنت تخشى المحاولة مجددا‪ ،‬كون الصبي الصغير بداخلك هو الذي تحطم فعليا بسبب تلك الحادثة‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫غابت مني الكلمات‪ .‬فضلت أن أصمت للحظات كون كالم الرجل كان في الصميم‪ .‬كان واقعيا و مقنعا بشكل‬
‫يثير الدوار‪.‬‬

‫_ أيعقل أن يكون األمر بهذه البساطة ؟ !‪.‬‬

‫تنهد و هو يستطرد راميا بصره نحو جرجرة‪...‬‬

‫_ ال يا أمدوكال‪ ،‬لم أقل أنه بهذه البساطة‪ ،‬فما يعيشه قلب اإلنسان على أنه مأساة من أجل إنسان آخر ال يمكن‬
‫إال أن يكون فعال كذلك‪ ،‬وفقا لمنطق القلب نفسه‪ .‬لكل قلب منطقه و طرائقه الغامضة‪ .‬ال وجود لقاعدة معيارية‬
‫نقيس بها ما يحدث في القلوب كي نقرر ما إذا كان فعال عظيما أو ال يستحق الذكر‪...‬‬

‫التفت إلي متنهدا‪...‬‬

‫_ تعلم ؟‪ ،‬في السابق لم أكن أؤمن حقا بمثل هذه األمور أيام شبابي‪ .‬أقصد أني كبرتُ في هذه القرية و أنا‬
‫أنظر إلى المرأة‪ ،‬باستثناء أمي‪ ،‬ككائن من الدرجة الثانية‪ ،‬أو مجرد شيء وظيفته هي إشعال نار الحطب و طهو‬
‫الخبز و الكسكس و حلب الماعز و جني الزيتون و جلب الماء و إنجاب قطيع من األطفال‪ .‬أما أيام الجامعة فقد‬
‫كانت لي عالقات جنسية عابرة مع بعض العاصميات المؤدلجات‪ .‬بعض الماركسيات و التروتيسكيات و‬
‫التقدميات‪ .‬إلى اليوم الذي التقيت فيه برجل تارڨي من رجال القبائل‪ ،‬حيث غير مفهومي تجاه المرأة و الحب جذريا‬
‫بجملة واحدة ختم بها أحد جداالتنا‪ .‬لقد كان رجال مسنا‪ ،‬مثقفا و حكيما‪ ،‬شديد الحياء و قليل الكالم‪ ،‬ال يتحدث إال‬
‫بكلمات و وجهات نظر هي أقرب إلى السهام من الكالم‪ .‬أفترض أنه توفي اآلن ؟‪.‬‬

‫_ ماذا قال لك ؟‪.‬‬

‫_ طبعا تحدثنا طويال أنا و هو عن المسألة األمازيغية التي كنتُ مناصرا راديكاليا لها‪ .‬كنت بيربريست حامي‬
‫الدم و غاضبا طوال الوقت من أوضاع البلد‪ .‬لكن حين وصلنا إلى موضوع مكانة المرأة في هذه البالد اختلفنا‬
‫بعض الشيء‪ .‬كان يتحدث عن النساء و الحب بشيء من القداسة و التبجيل‪ ،‬الشيء الذي بدى لي مبتذال جدا و‬
‫مثاليا فوق اللزوم‪ .‬كنت أعتقد أن مسألة األمازيغية و مواجهة هستيريا التعريب التي كانت تهدد وجودنا اللغوي و‬
‫الثقافي في الصميم أهم من مسائل المرأة‪ ،‬لكنه كان يعتقد أن كل شيء ينطلق من المرأة‪ ،‬حتى المسألة األمازيغية‬
‫نفسها !‪ .‬لذلك كنتُ آخذ على التوارڨ أنهم شاعريون فوق اللزوم حين يتعلق األمر بالنساء‪ .‬رأى ذلك على وجهي‬
‫لكنه لم يبد أي ردة فعل‪ ،‬بل راح يستعرض تاريخ النساء في هذا البلد و ما قدمنه في سبيله‪ .‬ذكرني بجداتنا‬
‫المحار بات األمازونيات اللواتي كن يركبن الخيل و العربات و يقاتلن بشراسة إلى جانب الرجال دفاعا عن‬
‫قبائلهن‪ .‬نساء قرطاج اللواتي بعن حليهن من أجل تمويل ثورة ماظوس على قرطاج‪ .‬كيريا المورية التي شاركت‬
‫شقيقها فيرموس ثورته على روما‪ .‬ملكة سيرتا صوفونيبيا التي آثرت االنتحار بالسم على أن ترى نفسها عبدة‬
‫أسيرة لجنود ‪ .Scipion‬المتمردة روبا الدوناتية الت ي حاربت الوثنية الرومانية ببسالة و إيمان إلى أن سقطت‬
‫شهيدة‪ .‬الملكة تن هينان التي غزت صحراء الساحل بقبضة حريرية قوامها الحكمة و عاطفة األمومة‪ .‬تامغارت‬

‫‪359‬‬
‫دِهية التي قادت الثورة على األمويين إلى آخر رمق من حياتها‪ .‬المتمردة الله فاظمة نسمور التي قادت جيشا من‬
‫الثوار القبايل و واجهت ببسالة نادرة جيوش الماريشال ‪ Randon‬في هذه الجبال بالذات‪ .‬جميلة بوحيرد‪ .‬جميلة‬
‫بوباشا‪ .‬حسيبة بن بوعلي‪ .‬مليكة قايد‪ .‬لويزة إغيل أحريز و غيرهن من أمازونيات حرب االستقالل الجزائرية‪،‬‬
‫اللواتي واجهن مظليي الجيش الفرنسي بقلوب نسوية تحولت إلى فوالذ من أجل هذه األرض‪ ....‬و صوال إلى‬
‫النسوة اللواتي حاولن تضميد جراح هذا البلد بأبدانهن و أقالمهن الناعمة خالل التسعينات‪ ،‬في مواجهة وحشية‬
‫ذكورية دينية و عسكرية منقطعة النظير‪ .‬صحفيات‪ .‬أديبات‪ .‬معلمات‪ ......‬نساء عظيمات !‪.‬‬

‫أخذ لحظة صمت و كأنه يسترجع شيئا قويا علق بذاكرته‪ ،‬ثم نظر نحو جرجرة مكمال حديثه‪....‬‬

‫_ ‪ .....‬استمالني بكالمه هذا‪ ،‬لكنه لم يترك أثرا في نفسي كالذي تركته خالصته التي انتهى إليها‪ ،‬حيث انتهى‬
‫يقول لي بالحرف الواحد‪ ،‬بصوته العميق الغائب تحت لثامه األبيض‪ ،‬و هو يرسم بعض األشكال األمازيغية‬
‫بسبابته على الرمل‪ ،‬حيث قال لي‪ '' :‬المصريون القدامى عمدوا إلى تخليد خطهم الهيروغليفيي على جدران‬
‫معابدهم و أهراماتهم‪ .‬أما نحن فأبجديتنا و رموزنا األمازيغية قد ُحفظت على الصخور البركانية لهذا البلد‪ ،‬و على‬
‫أجساد أمهاتنا و نسائنا‪ .‬نساء هذه البالد هن معابدها و أهراماتها يا بني ''‪.‬‬

‫_ كالم عميق جدا !‪.‬‬

‫نظر إلي متنهدا‪....‬‬

‫_ أجل‪ .‬يجب اإلقرار بأن للتوارڨ وجهة نظر شديدة الغموض و اإلبهار عن عالم المرأة المعقّد !‪ .‬لكن‬
‫أتتصور يا أمداكول لو كان هذا العالم خاليا من النساء و حبهن ؟‪ ،‬كيف كانت حياتنا لتكون يا ترى ؟‪ .‬خالية من‬
‫األلوان و العطر و الرفقة اللطيفة و سكينة النفس و الرغبة في العيش و اإلنجاز‪ ...‬بل و الرغبة في الخلود !‪ .‬ابحث‬
‫عن هرمك يا أمداكول مادام الوقت ال يزال سانحا‪ .‬أخبرها أنك ال تزال تحبها‪ .‬صدقني سيجعلها ذلك تحفظك في‬
‫نفسها إلى األبد‪ ،‬حتى و إن استحالت العالقة بينكما !‪.‬‬

‫_ لكأني بك تصر على أن أعثر عليها مرة أخرى !‪.‬‬

‫عقَّ بت على كالمه و أنا أتمنى في قرارة نفسي أن يزيد في صب تلك الكلمات التي كانت تشحنني من جديد‬
‫بشيء يشبه الحياة نفسها‪...‬‬

‫_ يا أمداكول‪ ،‬حين يكون المرء في عشرينات عمره فهو يبقى قادرا على أن يحب حقا‪ .‬الحب في هذه‬
‫المرحلة الثورية يكون عفويا‪ ،‬حالما‪ ،‬طبيعيا‪ ،‬غريزيا‪ ،‬فوضويا‪ .‬يكون مندفعا و هائجا ال يؤمن بأي حد من الحدود‪.‬‬
‫ال يضع أي اعتبارات عقالنية في طريق هدفه الوحيد‪ .‬يكون ال مشروطا‪ .‬هو حب تجرفه العاطفة قبل العقل‪...‬‬

‫_ و لهذا بالضبط يكون مغامرة مجنونة عواقبها قد تكون مدمرة !‪...‬‬

‫‪360‬‬
‫_ آه إن لم يكن هو ذا الحب فما هو يا ترى ؟‪ .‬أوليس هو ذا الوصف الحقيقي للحب ؟‪ .‬مغامرة مجنونة و غير‬
‫مضمونة !‪ .‬أوليس هو ذا الحب الذي يغير حياتنا إلى األبد مهما كانت نهايته ؟‪ .‬الحب الذي يصوغ شخصياتنا و ما‬
‫سوف نكونه ما بقي لنا من عمر ؟‪ .‬الحب الذي يحدد شكل و حجم ما سوف نقدمه لهذه الحياة أو نخلفه وراءنا في‬
‫هذا العالم حين نرحل ؟‪ .‬أوليس ذا هو الحب ؟ !‪.‬‬

‫التزمت الصمت أمام تلك الكلمات المغرية و المخيفة و الثقيلة‪ .‬ماذا كان يجب أن أقول ؟‪.‬‬

‫ربت على كتفي‪ ،‬ثم نهض منصرفا لتفقد نبع إيجودار‪ .‬لم أتحرك من مكاني لكني تتبعته بنظراتي الحائرة و أنا‬
‫أبحث بين ثنايا كالمه الفلسفي الغامض عن معان دقيقة و صريحة‪ .‬فبين أحاديث التاريخ و الحاضر‪ ،‬و بين أحاديث‬
‫الوطن و الموت و الحب‪ ،‬رأيت خيوطا جد رفيعة تحاك بين كل تلك العناصر‪ .‬الحرفي كان كمن يراها بوضوح‬
‫شديد‪ ،‬تماما كما يُرى الجبل العمالق في منتصف النهار‪ .‬ربما هي سنه و تجربته في الحياة ؟‪ .‬بالنسبة لي فقد كان‬
‫األمر أشبه بسديم متداخل من المشاعر المختلطة‪ .‬بعضها كان جديدا‪ .‬بعضها اآلخر كان مبعوثا من أعماقي من‬
‫جديد‪ .‬األمر كله ارتبط برحلتي هذه إلى تيميزر بكل ما حدث فيها و ميزها‪ .‬آغاكال كان المايسترو الذي قاد هذه‬
‫السيمفونية الهائلة داخل نفسي بطرقه الغامضة في رؤية الكون و تفكيك طالسمه األكثر خصوصية‪.‬‬

‫كنتُ أتأمل ميالن أشعة الشمس إلى االحمرار و هي تلتصق بتأن و صمت فوق صدر جرجرة‪ ،‬كااللتصاق‬
‫الغريزي ألنفاس الناس بالحياة‪ .‬شيء واحد طفى فوق كل ما كان يُعجن في صدري‪ :‬ما الذي سيدفعني بعد اآلن‬
‫للهروب من حب بهجة ؟‪ .‬ما الحجة التي ال تزال واقفة أمامي و أنا جاثم فوق هذه القمة مشحون النفس بروح‬
‫جديدة تصرخ بأعلى صوتها باحثة عن كيان بهجة الناعم ؟‪ .‬و كما قلت سابقا‪ ،‬تلك و بال شك كانت لحظتي التي‬
‫كنت فيها أقوم باختيار ما يتوجب علي أن أكونه و ما سأفعله‪ .‬كنتُ أعترف أخيرا بأني غير قادر على نسيان تلك‬
‫الفتاة و أني حرفيا ال أزال أحبها كما أحببتها دوما‪ .‬ألول مرة منذ سنوات أبتسم و أنا أحاول تذكر مالمح وجهها‬
‫الطفولي األول‪ ،‬كوني كنتُ أعلم أني سأراه مجددا بعد ذلك‪ .‬قطعا كنت سأراه‪.‬‬

‫حين كنا نهم بالعودة إلى القرية وسط الغابة التي زادت عتمة مع اقتراب الشمس من المغيب‪ ،‬كنت أشعر بأن‬
‫خطواتي لم تكن هي نفسها التي اعتدت على رسمها على الطريق‪ .‬كنتُ أشعر بكياني الذي كان ينزل عائدا من قمة‬
‫إيجودار غير ذاك الذي صعد إليها‪ .‬هل كان آغاكال يعلم ؟‪ .‬أر ِّ ّجح أنه كان يعلم ما يفعل بي منذ اليوم الذي أخبرني‬
‫فيه أن مجنونا واحدا يعلم ما يفعل خير من مائة عاقل ال يعلم ما يفعل !‪ .‬أر ِّ ّجح أنه كان يستشعر أسبابي الخفية التي‬
‫جاءت بي إليه و جعلتني أقبل اتفاقه ذاك‪ .‬لقد أدركَ أني كنتُ بحاجة إلى مساعدة أحدهم في تحطيم قيود كنت أسمع‬
‫صليلها الكثيف الذي كان يدفع بي إلى الجنون‪ ،‬حين لم أدرك ذلك بنفسي‪.‬‬

‫انتبه الرجل إلى طيف كان يتتبعنا بين األشجار لكني لم أعلم بذلك إال حين وصولنا إلى مشارف القرية‪ ،‬حين‬
‫أخبرني أن طيفا آخر من أطياف تيزڨي كان يتطفل علينا مذ نزلنا من قمة الجبل‪ .‬أكمل طريقه إلى المنزل في حين‬
‫توقفت عن السير خلفه و أنا ألتفت جهة الغابة‪ ،‬أحاول أن أعرف من يكون هذا الشخص‪ ،‬فإذا بموسى الثرثار‬
‫يظهر من بين األشجار و هو يسير نحوي مباشرة‪ .‬حين وصل‪ ،‬راح يعتذر بشدة و هو يقسم أنه لم يكن يقصد‬

‫‪361‬‬
‫التطفل ‪ ،‬كونه كان يختلي بنفسه في الغابة من أجل أن يهدئ من آالم رأسه الفظيعة بشيء من التبغ الممضوغ‪ ،‬لكنه‬
‫لمح طيفين يسيران نزوال بين األشجار فاقترب بحذر ليعرف من يكونان‪ ،‬إال أن أحدهما تفطن إلى وجوده و قد‬
‫كان الحرفي بطبيعة الحال‪.‬‬

‫_ اللعنة !‪ ،‬كأن بعفاريت الغابة كانت تهمس في أذنه تخبره أني أتبعكما !‪ .‬أرجوك ماس أمين‪ ،‬ال داعي‬
‫لسماع سكان القرية بأني دخلت الغابة الملعونة !‪.‬‬

‫_ ال‪ ،‬ال تقلق بهذا الشأن ماس موسى‪ .‬هذا أمر ال يعنيني أصال‪.‬‬

‫_ أه هذا مطمئن‪ .‬لكن ما السبب الذي دفع بابن الدا إيدير إلى اصطحابك إلى الغابة ؟‪ ،‬أتعلم أن ذلك يمكن أن‬
‫يُسبب لك المشاكل مع تاجماعت ؟‪.‬‬

‫نظرتُ إلى ساعتي ثم قابلته ببسمة خفيفة و أنا أهم باالنصراف‪...‬‬

‫_ ماس موسى‪ ،‬أال تعتقد أنه وقت آذان المغرب ؟‪ ،‬أال نذهب اآلن لنفطر ؟‪ .‬ما رأيك ؟‪.‬‬

‫_ أه طبعا‪ ...‬ماس أمين‪ ...‬طبعا‪ ،‬رغم أني عمليا مفطر‪ .‬آي يسورف ربي ( ليغرف هللا لي )‪.‬‬

‫**********‬

‫بعد تلك األمسية بيوم‪ ،‬أخبرني أغاكال على مائدة اإلفطار بأني حر و أن عملي معه قد انتهى‪ .‬أشعرني ذلك‬
‫باألسف كون مغامرتي الداخلية الكبيرة معه قد جاءت إلى نهايتها‪ ،‬إال أني كنتُ مغتبط النفس و منشرح الصدر‪ .‬كل‬
‫ما جاء على خ اطري هو أن أسرق األيام األربعة األخيرة من شهر رمضان ألمضيها رفقة أهلي في البليدة‪ .‬بدت‬
‫حينها تلك الفكرة أكثر من شيء رائع‪ .‬كنتُ كأنما أود مكافأة نفسي على مشوارها ذاك‪ .‬أن أرميها في حوض ممتلئ‬
‫بالرضى الداخلي و الرؤى الجديدة‪ .‬ممتلئ باألمل العاطفي الكامل الذي أعاد تلك اإلشراقة التي طالما افتقدتها داخل‬
‫قلبي‪ .‬أجل !‪ ،‬كنتُ أتلمس روعتها الالمتناهية في كل لحظة يومض فيها قلبي باسم بهجة‪ ،‬حبي الطفولي‪.‬‬

‫لم يكن سهال أن أتخلص من قُبل و عناق نانه تاملسة في الصبيحة التالية و هي ال تكف عن الدعاء لي و قد‬
‫امتألت عينيها الضاحكتين بالدموع‪ .‬كانت تبتسم و تقول لي بكالم لم أفهم إال نصفه أنها ستشتاق لي و سوف‬
‫تتذكرني كلما نظرت إلى مكاني المعتاد الذي دأبتُ على الجلوس فيه كل مساء لتناول اإلفطار‪ .‬كان ابنها يخبرها‬
‫محاوال إخفاء تهكمه أنها تض ِّ ّخم األمور كوني فقط عائد إلى منزلي و لستُ ذاهبا إلى الحرب‪ ،‬لكنها اعترفت‬
‫ضاحكة و هي تمسح دموعها أنها عاطفية جدا في مثل هذه المواقف التي تذكرها كثيرا بكل الذين شاهدتهم‬
‫يغادرون القرية نحو الغربة مذ كانت طفلة‪ ،‬إلى حين صارت أما و هي تشاهد ابنيها أعراب و مليكة يأخذان نفس‬
‫المخرج الذي كنتُ بصدد أخذه‪ .‬البكاء في مثل هذه المواقف و في مثل هذه السن صار عادة سيئة يصعب عليها‬
‫التخلص منها‪ .‬أما أنا فقد تأثرت أيضا‪ ،‬كون عناقها حمل لي قطعا هاربة من رائحة جدتي و هو ما جعلني أتأثر‬
‫للحظات‪ .‬كنتُ أود أن أعانقها أطول مدة ممكنة‪ ،‬لكن كان علي الذهاب‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫الدا إيدير كان أكثر هدوء و ثباتا كابنه تماما‪ .‬كان يقف خلف زوجته يضع يديه خلف ظهره المقوس و هو‬
‫يشير إلى ابنه بإيماءات من وجهه فهمها من فوره فالتفت إلي‪...‬‬

‫_ أبي يخبرك بأن الدار دارك اآلن‪ .‬يمكنك زيارتهما وقتما شئت‪.‬‬

‫_ سأفعل يا داده إيدير‪ .‬أخبرهما بأني لن أنسى لطفهما و ضيافتهما و كرمهما ما حييت !‪ .‬ماذا عنك ماس‬
‫عميروش‪ ،‬أترحب بي إن عدت أم أن كل شيء قد انتهى بانتهاء عقدنا غير المعلن ؟‪.‬‬

‫نظر إلي صامتا ثم هز رأس‪...‬‬

‫_ بال‪ ،‬الورشة مفتوحة أمامك وقتما شئت يا أمداكول‪.‬‬

‫_ حسنا‪ ،‬على األقل أعتقد أنه الوقت كي تنادني باسمي ها ؟‪.‬‬

‫مازحته ضاحكا فأطلق بسمة تهكمية مصطنعة‪ ،‬ثم تقدم إلي و مد يده نحوي‪ .‬صافحني بحرارة‪ .‬ربما كان يود‬
‫أن يجعلها مصافحة حقيقية تمسح الطريقة الشنيعة التي استقبلني بها أول مرة‪.‬‬

‫‪_ A bientôt, mon ami le blidéen !.‬‬

‫سلمت على رأسي العجوزين‪ ،‬ثم انصرفت و أنا ألتفت خلفي كل بضع خطوات‪ ،‬أراقبهما و هما ال يكفان عن‬
‫التلويح لي بيديهما‪ .‬ودعت بقية القرويين الذين تسنى لي وجودي طيلة شهر كامل من التعرف إليهم‪ .‬بعضهم كان‬
‫يحاول إقناعي بالمكوث و تمضية عيد الفطر معهم‪ ،‬لكني كنتُ أتذرع برغبتي في تمضية العيد مع أمي التي اشتقت‬
‫إليها‪ ،‬الحجة التي كانت تقنعهم جميعا و تجعلهم يصمتون‪ .‬الفتى موسى الذي كان أول من أحسن إلي يوم مجيئي‬
‫إلى تيميزر‪ ،‬رغم ثرثرته و فضوله المزعج في بعض األحيان‪ .‬المؤذن مولود الذي عرفني على ضريح الولي‬
‫أوعابد‪ .‬لمين رئيس األعيان الهادئ و الحكيم‪ .‬تاسعديت صاحبة الوجنتين المورديتن و النظرات الفضولية‬
‫الخجولة‪ ،‬مع أصدقائي الصغار في قسم صنعة الطين‪ .‬و غيرهم كثيرون‪ .‬تلك الوجوه التي كانت تعبر تفكيري و‬
‫أنا أمسك بمقود سيارتي في طريقي إلى البليدة‪ .‬ما أروع هؤالء القبايل الذين بت أعد نفسي منهم و هم مني !‪.‬‬
‫بوجوههم القروية الباسمة‪ .‬بنظراتهم الخجولة في أوقات الود و الصريحة في أوقات الجد‪ .‬بحبهم الغامر‬
‫ألراضيهم‪ ،‬ألشجارهم‪ ،‬لعوائلهم و أبنائهم و حتى حيواناتهم‪ .‬بآالف الكلمات التي تفيض بها قلوبهم و تخجل ألسنتهم‬
‫النطق بها‪ .‬تلك الكلمات التي تنطق بها أعينهم في نظراتها الثابتة و الواثقة‪ .‬بصمتهم المهيب الذي يتواصلون به مع‬
‫جبالهم‪ .‬بأغانيهم الجماعية التي يستحضرون بها أطياف أسالفهم‪ .‬بدندنتهم الفردية التي يهربون بها إلى لب‬
‫ذكرياتهم الحميمة التي ال تموت‪ .‬بروحهم الجماعية الفريدة و بطريقتهم الخاصة في اإليمان و االلتزام بما يعتقدون‬
‫أنه حق‪ .‬بكل هذا‪ ،‬كنتُ أصدح بحبي لهم جميعا و أنا أغادر بالد القبايل الثائرة و الغامضة‪ .‬أعترف أني كنت‬
‫عاطفيا جدا هذه المرة‪ .‬لم أكن قط ذلك الصحفي الموضوعي الباحث عن المعلومة و السبق‪ .‬لكن كنت فقط ذلك‬
‫الشاب الجزائري الذي فهم فعليا ما يجب أن يحدث و ما ال بد له أن يكون‪.‬‬

‫‪363‬‬
‫ماذا نكون بغير الكلمات و األسئلة التي تقلقنا و تدفعنا للتغيُّر الذي قد ينقذ كياننا من التحجر النهائي القاتل ؟‪.‬‬
‫لن نكون بغير تلك الكلمت و األسئلة سوى انعكاس باهت و كاذب ألشياء لم يعد لها وجود فعلي‪ ،‬أو لم يعد لها نفع‬
‫حاضر في أحسن األحوال‪ .‬هذا ما تعلمته من مصاحبتي آلغاكال العجيب‪ .‬الرجل الذي جعلني أدرك شيئا في غاية‬
‫األهمية‪ ،‬و هو أني لم أكن طيلة بحثي هذا سوى يرقة فراش بدأت مشوارها صغيرة و نحيفة‪ ،‬شقت طريقها‬
‫باضطراب و جرأة وسط الشك و الخوف و مضت تبتلع ما استطاعت من غذاء‪ ،‬إلى أن حان وقت تحولها إلى‬
‫خادرة‪ .‬هذا ما حدث لي في مرتفعات بني يني بالضبط‪ .‬كنت أتحول جذريا إلى شيء جديد تماما‪ .‬شيء كان على‬
‫وشك أن يشق غشاءه الرقيق و يخرج إلى العالم الذي كان قد انعزل عنه قبل ذلك‪ ،‬تحت وطأة األسباب الفطرية‬
‫التي لم يفهم مغزاها من قبل‪ .‬للتغيُّر طرق فطرية و حتمية أيضا‪ .‬ال شيء ثابت على حاله في هذا الكون‪ .‬في كثير‬
‫من األحيان‪ ،‬إن لم تغير نفسك و تماشي متطلبات المرحلة‪ ،‬فمآلك الهالك ال محالة‪ .‬و الحال أنه ال توجد فراشة في‬
‫العالم تستطيع الوقوف في طريق تغيرها و تحولها الكامل !‪.‬‬

‫كان لضجيج شوارع العاصمة عند منتصف النهار وقع كوقع عشرات األسواق التي كأنما أقحم ضجيجها‬
‫مجتمعا فجأة في رأسي‪ .‬الكثير من الزحمة‪ .‬دخان وسائل النقل‪ .‬الجو الحار‪ .‬أبواق السيارات و أزيز الدرجات‬
‫النارية‪ .‬صراخ الناس الصيام و تذمرهم‪ .‬كنتُ أعود إلى عالم المدن الكبرى الموبوء الذي غادرته قبل نحو شهر‪.‬‬
‫بدى لي مائال و متعرجا بشكل بشع‪ .‬تداخل البنايات الضخمة ببضعها البعض ال يشبه ذلك التداخل الحميم و اآلمن‬
‫لبيوت تيميزر‪ .‬إنه طاغ و مقتحم و غير أمين‪ .‬و الشيء نفسه مع وجوه الناس و نظراتهم القلقة‪ .‬يا للغرابة !‪.‬‬

‫وصلتُ إلى عمارتي بباب الواد‪ .‬صعدت راكضا الدرج مخافة أن ألتقي بأحد الجيران‪ .‬دخلت شقتي مسرعا‪.‬‬
‫أغلقت الباب‪ .‬وقفت لوهلة في الرواق المعتم مغلقا عيني و متنفسا بعمق استجمع ما استطعت من سكون الشقة‪،‬‬
‫محاوال طرد ذلك الضجيج الهائل من رأسي‪ .‬تنهدت مبتسما و أنا أفتح عيني أمسح المكان بناظري‪ .‬أخيرا كنت في‬
‫منزلي بعد غياب‪ .‬وضعت أغراضي على البالط‪ .‬و فوق الطاولة الصغيرة بالقرب من المرآة التي رمقتُ نفسي‬
‫فيها بفضول‪ .‬شعرتُ أني فقدت بعض الوزن و اكتسبت سمرة الفالحين‪ .‬نزعت قبعة القش التي أحضرتها كذكرى‬
‫من أهل تيميزر و علقتها على المشجب بالقرب من الباب‪ .‬لم أرد فتح مصاريع النوافذ‪ .‬أخذت حماما رائعا ثم‬
‫ذهبت إلى غرفتي التي اشتقت إليها‪ .‬استلقيت فوق سريري حيث أخذني النوم بسرعة خاطفة‪.‬‬

‫استفقت بعد العصر على منبه هاتفي المحمول‪ .‬اتصلت بأمي التي كانت جد سعيدة بسماع صوتي و بتلقي خبر‬
‫رغبتي في تمضية عيد الفطر في البيت‪ .‬كانت تضحك و تدعو لي برحلة آمنة و تحذرني من مغبة استعمال‬
‫السرعة و أن أكون حذرا من السائقين المتهورين على الطريق‪ .‬غيرتُ ثيابي‪ .‬خرجت‪ .‬وثبتُ في السيارة و انطلقت‬
‫مباشرة آخذا مخرج العاصمة نحو الطريق السريع إلى البليدة‪ .‬كان الطفل الصغير بداخلي يقفز هنا و هناك من‬
‫حولي‪ .‬كان حيويا فوق اللزوم‪ ،‬ثم هدأ صخبه بعض الشيء بمجرد أن تراءت لي سالسل الشريعة الجبلية‪.‬‬

‫كنتُ على يقين أني على مشارف منزلي و مدينتي الغالية‪ ،‬التي تكتنز لي بين أحضانها الموريسكية شيئا‬
‫يخصني‪ .‬كان الوقت قد حان فعليا آلخذه لي و بشكل نهائي‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫‪-22-‬‬

‫َّ‬
‫هزة الحب األلفي‬

‫األحد ‪ 49‬جويلية ‪ ،4102‬بالبليدة‪...‬‬

‫كم كان رائعا أن أجد نفسي أجلس في غرفة الطعام على مائدة اإلفطار‪ ،‬وسط المنزل‪ ،‬محاطا بكل أفراد‬
‫العائلة‪ .‬أمي‪ ،‬أبي‪ ،‬البشير‪ ،‬فؤاد و زوجته النافس التي أهدته رضيعة في غاية الجمال كانا قد أطلقا عليها اسم هبة‪،‬‬
‫و عيشة التي كانت تحضر لعرسها المرتقب أواخر شهر أوت‪ .‬كانت ال تكف عن حمل المولودة الجديدة‪ ،‬تحضنها‪،‬‬
‫تقبلها و ترمقها بنظرات العروس الحالمة‪.‬‬

‫أبي كان منهمكا في تأليف ديوانه الشعري الذي يرثي فيه حال ما يسميه '' الوطن العربي ''‪ ،‬بينما كان البشير‬
‫يمضي األيام األخيرة من عطلته السنوية في المنزل قبل عودته إلى وحدته العسكرية في أقصى الحدود الجنوبية‬
‫الشرقية للبالد‪ .‬كان متفائال بعض الشيء كونه قال بأن الجيش بصدد التجهيز لتأسيس قاعدة انتشار جوي هناك‪،‬‬
‫ستخفف الكثير من أعباء التنقل على أفراد الجيش في تلك المناطق المعزولة المالمسة لصحراء الساحل‪ .‬فؤاد‪ ،‬و‬
‫رغم تصريحه بأنه كان يتمنى أن يكون مولوده األول ذكرا‪ ،‬إال أنه و رغم ذلك كان غارقا تماما في تلك األحاسيس‬
‫الجديدة التي كان يخبرها أول مرة مع زوجته‪ .‬أحاسيس األبوة و فرحة الحصول على المولود األول في عائلته‬

‫‪365‬‬
‫الصغيرة‪ .‬كان يحاول إخفاء سعادته الشديدة‪ ،‬الشيء الذي لم أفهمه فعال‪َ .‬لم يخجل الرجل من إبداء سعادته بكونه‬
‫صار أبا ؟‪ .‬أمي كانت بعكس ذلك تماما‪ .‬كانت في غاية الغبطة و السرور كونها صارت جدة‪ .‬الشيء الذي جعلها‬
‫ال تخوض معي إطالقا في الموضوع الذي تحب دوما أن تحاصرني به‪ .‬موضوع العروس المحتملة التي اختارتها‬
‫لي قبل مدة‪ .‬أعترف بأن ذلك جعلني أشعر بالكثير من الراحة‪ .‬بل كنتُ أتمنى أن تنسى هذا الموضوع تماما‪ ،‬كوني‬
‫قد عدت إلى البليدة الوريدة و في جعبتي مشروع عاطفي آخر‪ ،‬كان وقت بعثه قد حان فعال‪ ،‬بعد طول مماطلة و‬
‫انتظار و هروب إلى األمام‪.‬‬

‫األيام الرمضانية األخيرة في المنزل كانت رائعة‪ .‬إخوتي لم يكفوا لحظة واحدة من الضحك و السخرية من‬
‫مشيتي الجديدة‪ .‬استغربتُ األمر كوني لم أالحظ أني صرت أمشي بطريقة مختلفة ؟‪ .‬لكني افترضت أنهم كانوا‬
‫على حق‪ .‬شهر كامل من السير وسط األحراش و الطرق الجبلية غير المعبدة و الملتوية صعودا و نزوال‪ ،‬قد يغير‬
‫شيئا ما من مشية اإلنسان‪ .‬أخبروني أن وجهي صار أحمر اللون‪ ،‬كوجوه الفالحين تماما‪ ،‬و لم يفهم فؤاد كيف لي‬
‫أن أقرر إمضاء عطلتي في مكان جبلي معزول و قاس ليس فيه شيء سوى المعاناة و الرتابة‪.‬‬

‫أيامي الرمضانية األخيرة كانت بواعث على التأمل‪ .‬شيء من الماضي و أشياء كثيرة تخص الحاضر و‬
‫المستقبل‪ .‬لم أح ِّدّث أحدا عن األسباب الحقيقية لرحلتي إلى بني يني سوى صوفيا‪ ،‬التي أسررت لها عن كل شيء‬
‫عبر الهاتف و أنا أسير قاطعا طول باب السبت‪ ،‬وسط الحركة و الضوضاء و األضواء التي بدأت تعج بها المدينة‬
‫مباشرة بعد اإلفطار‪ ،‬في ذلك الجو الليلي البليدي الرمضاني الحار و الرطب‪...‬‬

‫_ أيها اللعين !‪ .‬كان عليك إخباري بكل شيء منذ اليوم األول‪ ،‬كي أساعدك في حل لغز جماعة تي تي أس‬
‫هذه‪ .‬لدي بعض األصدقاء العباقرة في مجال السيبرنتيك !‪.‬‬

‫قالت بنبرة الئمة‪ ،‬ألرد عليها متنهدا و أنا أحك رأسي باحثا عن أي عذر‪...‬‬

‫_ اه أعلم‪ .‬كانت األمور مختلطة داخل رأسي‪ .‬حدث كل شيء بسرعة‪.‬‬

‫_ ماذا عن الحرفي ؟‪.‬‬

‫_ ماذا عنه ؟‪.‬‬

‫_ هل وصلت إلى اكتشاف أمره ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ .‬رجل في غاية الروعة‪ .‬تعلمت منه و معه الكثير‪.‬‬

‫_ مينو‪ .‬أنت لست موضوعيا و محايدا اآلن !‪ .‬ما خطبك ؟‪.‬‬

‫_ هه أه طبعا !‪ .‬ال تنسي أني كنت في عطلة سنوية و لم أكن في مهمة !‪ .‬تعلمين ؟‪ ،‬لو التزمت بمهمتي‬
‫الصحفية حرفيا لكان اكتشف أمري و أبعدني عنه ال محالة‪ .‬إنه فطن و ذكي للغاية‪ .‬كان علي أن أكون على سجيتي‬

‫‪366‬‬
‫التامة‪ ،‬أن أكون إنسانا فقط‪ ،‬و أضع شخصية الصحفي جانبا‪ .‬لقد نجحت عبر ذلك في كسب اهتمامه و تقبله‪ .‬إنه‬
‫فعال رجل عجيب !‪.‬‬

‫_ أنت لم تجب عن سؤالي‪ .‬هل اكتشفت أمره ؟‪ .‬هل هو فعال الشخص الذي يُعتقد أنه يخطط لحراك اجتماعي‬
‫ما ؟‪.‬‬

‫التزمت الصمت للحظة و أنا أحك جبيني بسبابتي‪...‬‬

‫_ ماذا يمكن القول يا صوفي ؟‪ .‬كان يمكنه أن يكون ذاك الشخص لو أراد فعال أن يكون ذاك الشخص !‪.‬‬

‫_ ما هذا يا صاح ؟‪ .‬أيفترض بي أن أفهم هذا الكالم الفلسفي ؟‪.‬‬

‫_ أقصد أنه فعال شخص شديد الذكاء‪ ،‬واسع المدارك‪ .‬عميق النظر‪ .‬إنه فنان و فيلسوف‪ .‬رجل مميز حقا‪ .‬إنه‬
‫من صنف األشخاص الذين يمكنهم فعال خلق قضية أو تيار أو حراك يقلبون به األوضاع في المجتمع أو البلد‪.‬‬
‫لكني و طيلة م كوثي معه لم أصل إلى أي دليل مادي قاطع يثبت صلته مع هذا '' التيار السري '' الذي يتهامسون‬
‫حوله‪ .‬ال شيء سوى السجائر و الجرائد و الكتب و األواني الفخارية و الكثير من الذكريات الحزينة التي تحاصر‬
‫عالمه الصغير‪ .‬الرجل مقطوع تماما عن العالم‪ .‬ال هاتف محمول‪ .‬ال انترنت‪ ،‬بل إنه معزول حتى في مجتمعه‬
‫القروي !‪.‬‬

‫صمتت قليال و كأنها تزن األمر برمته‪...‬‬

‫_ أمين‪ ،‬تعلم أن هذا سيغضب سي رزاق كثيرا !‪ .‬أراهن على أنه ينتظر بفارغ الصبر أن تدخل عليه بعد‬
‫العيد‪ ،‬لتخبره أنه في حوزتك وثائق و مواد تثبت أن الربيع الجزائري فعال موجود و هو على وشك االنطالق‪ ،‬و‬
‫أن حرفيك الغامض هذا هو رأس الحراك‪...‬‬

‫_ أجل‪ ..‬أجل‪ ..‬أعلم‪ .‬ال يهم‪.‬‬

‫_ مـ‪ ..‬ماذا ؟ !‪ .‬ال يهم ؟ !‪ .‬مينو‪ ،‬هل حقا أنت على ما يرام ؟‪.‬‬

‫_ لم أكن يوما أفضل حاال من اآلن‪.‬‬

‫أجبتها ضاحكا‪ ،‬فصمتت مرة أخرى ثم استطردت‪...‬‬

‫_ هممم‪ ،‬بعد لحظة تفكير‪ ،‬أعتقد أن ذلك ممكن‪ .‬فتمضية شهر كامل في الريف القبايلي‪ ،‬بعيدا عن تلوث‬
‫العاصمة و العاصميين‪ ،‬و بعيدا عن جحيم سي رزاق‪ ،‬أعتقد أن ذلك قد ساعدك فعال على تجديد أنفاسك و تصفية‬
‫أفكارك‪ .‬بصحتك ‪.! Amigo‬‬

‫الروبيك‪ .‬لقد وصلتُ إلى سبقي النهائي‪...‬‬


‫_ صوفي‪ ،‬لقد حللتُ أحجية مكعَّب ُّ‬

‫‪367‬‬
‫لم تقل شيئا‪ .‬بقيت صامتة عبر السماعة و كأنها مندهشة قبل أن تنطق في تسرع‪....‬‬

‫_ ال تلتزم الصمت هكذا أيها األحمق !‪ ،‬هيا أخبرني !‪.‬‬

‫بقيت صامتا و أنا أنظر إلى تلك األضواء الليلية التي كانت تتقاطع مع بصري‪ ،‬ثم تنهدت و أنا أجيبها بصوت‬
‫هادئ تماما‪...‬‬

‫_ في الحقيقة‪ ،‬لقد عملت بالنصيحة التي أسدي ِّتها لي ذاك اليوم في المشفى‪ .‬لقد غيرت من زاوية نظري‬
‫لألمور‪ .‬منذ ذلك اليوم بدأ كل شيء يتغيّر من حولي‪ .‬إلى أن جاءت رحلتي هذه إلى تيزي وزو التي جعلتني أفهم‬
‫مشكلة هذا البلد بشكل أفضل‪ .‬هذا البلد ال رائع الذي لم نتصالح معه بعد‪ ،‬كوننا لم نجد بعد طرقنا الخاصة في‬
‫التصالح مع أنفسنا‪ .‬عالقتي بنفسي و عالقتي بهذا البلد كشخص‪ .‬صوفي‪ ،‬سبقي النهائي‪ ...‬لم يكن سوى '' أنا ''‪،‬‬
‫طيلة كل هذه المدة‪ .‬و صدقيني‪ ،‬بقدر ما قد يبدو هذا األمر بسيطا لوهلة‪ ،‬إال أنه عميق جدا بالنسبة لي‪.‬‬

‫صمتت قليال بدوها‪ ،‬ثم نطقت بنبرة صوت مهتمة‪...‬‬

‫_ أوكي‪ .‬إن كنت تعتقد ذلك فعال !‪ .‬ربما ستشرح لي التفاصيل الحقا ها ؟‪.‬‬

‫_ أوكي‪ .‬سوف نلتقي و نتحدث‪.‬‬

‫_ لقد أعلنوا على التلفاز أن عيد الفطر سيكون غدا‪ .‬سأنهض اآلن لمساعدة البنات على طهو ما بقي من‬
‫حلويات‪ .‬صح عيدك يا صاح‪ .‬نلتقي قريبا‪.‬‬

‫_ صح عيدك ‪.amiga‬‬

‫رفعتُ رأسي متنفسا بعمق متمتما و ناظرا إلى تلك اللمعات الضوئية البرتقالية البعيدة المتفرقة فوق جبال‬
‫الشريعة‪...‬‬

‫_ هل كنت ألصل إلى سبقي النهائي لوالك ؟‪ ،‬آغاكال الجبلي !‪.‬‬

‫رن الهاتف في يدي‪ .‬كان صديقي المقرب غانو‪ .‬أجبت بسرعة‪...‬‬

‫_ أهال يا صاح‪ ،‬صح فطورك !‪.‬‬

‫_ أهال سي أمين‪ .‬كيف حالك حنوني ؟‪ .‬أعتقد أنك خارج المنزل ؟‪.‬‬

‫_ أجل‪ .‬أنا بالقرب من ساحة الحرية‪ .‬قلي هل من جديد ؟‪.‬‬

‫_ ال يا صاح‪ ،‬آسف‪ .‬الزبونة التي أخبرتك عنها قالت أن ابنتها درست فعال عند بهجة‪ ،‬لكنها مذ غيرت‬
‫مؤسستها التعليمية فقدت االتصال بها‪ .‬كما أنها أخبرتني أن الفتاة ال تربط عالقات مع غالبية طالبها عبر‬
‫تدرس االنجليزية في ثانوية ماحي‪.‬‬
‫الفيسبوك‪ .‬الشيء المؤكد هو أنها ال تزال ِّ ّ‬

‫‪368‬‬
‫_ المشكلة هي أن الجميع في عز العطلة الصيفية‪ .‬و أنا فعال ال أريد االنتظار حتى شهر سبتمبر‪ .‬تعلم‪ ،‬كان‬
‫عليك الحصول على رقم هاتفها يوم جاءتك لتصليحه‪.‬‬

‫_ حدث هذا قبل أشهر طويلة‪ ،‬أال تزال تصر على لومي حتى اآلن ؟ !‪ .‬لكن هل لي أن أفهم لم كل هذا‬
‫اإلصرار ؟‪ .‬ما الذي حدث حتى تهتاج عليها هكذا ؟‪ .‬رأيتها مؤخرا‪ ،‬أم حلمت بها‪ ،‬أم ماذا ؟ !‪.‬‬

‫_ أيها اللعين‪ ،‬ال وقت للتهكم اآلن‪.‬‬

‫_ أريد فقط أن أفهم‪ .‬لم أر حالة كهذه في حياتي الواقعية !‪ .‬شخص يعود للبحث عن امرأة بعد ثماني سنوات‬
‫من آخر اتصال فعلي بينهما ؟ !‪ .‬ما هذا بحقك ؟‪ ،‬فيلم هندي ؟ !‪ .‬ما خطبك يا رجل ؟ !‪.‬‬

‫سأمر عليك فيما بعد أوكي ؟‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫_ يصعب علي شرح هذا األمر‪ .‬اسمع‪،‬‬

‫_ أجل‪ .‬في أي وقت تريد حنوني‪ .‬أقفل المحل على الثانية صباحا‪.‬‬

‫أقفلت الهاتف‪ .‬وقفت متأمال للحظات‪ .‬وضعت يدي في جيبي و أكملت السير ببطء و تأن محاوال تفادي‬
‫األرصفة الكثيرة التي كانت تحت الصيانة‪ .‬الحقيقة أن طرق المدينة كلها تقريبا كانت قد تحولت إلى ورشة عمل و‬
‫صيانة كبيرة‪ .‬طرق البليدة أعرفها و تعرف قدمي جيدا‪ .‬أعرف هواءها الصيفي المثخن بالرطوبة‪ ،‬و تستطيع هي‬
‫سماع أنفاسي حين أقطع أزقتها القديمة‪ .‬إنها تعلم مرادي الخفي حين أتجول عبر شوارعها الرئيسية ليال‪ .‬تنصت‬
‫لهمساتي السرية بهدوء‪ .‬كل خطوة أخطوها عبر طرقها‪ ،‬تحت أشجارها الحمضية‪ ،‬كل وقفة آخذها عند زاوية أو‬
‫منعطف‪ ،‬أو تحت صور منزل تفوح منه عطور الياسمين أو مسك الليل‪ ،‬تعلم البليدة أني أفكر في ذلك الكنز‬
‫الصغير الذي تخبئه بعناية و مكر بعيدا عني‪ .‬بهجة‪ .‬كانت تمأل أنفاسي طيلة تلك األمسيات الرمضانية األخيرة‪ ،‬في‬
‫كل ساعات بحثي عنها عبر مواقع التواصل االجتماعي‪ .‬حتى حين كنتُ أخرج للتجوال و قتل ما بقي من وقت‬
‫الصيام‪ ،‬أو بعد اإلفطار للتأمل أو مالقاة بعض األصدقاء‪ ،‬كانت ال تبرح بالي‪ .‬كان لحضورها طعم افتقدته كثيرا‪،‬‬
‫منذ تلك السنوات التي كنتُ أعيش فيها شيئا من ألم االفتقاد و حالوة األمل ورجائه تجاه ما يخ ِّّبئه المستقبل‪ ،‬كلما‬
‫جاءت على خاطري‪ .‬ذاك اإلحساس كان قد عاد و قد نُ ِّقّح بجرعة أخرى من القوة و الثقة‪ .‬كنتُ واثقا من كوني‬
‫فعال أود العثور عليها و آخذ منها ما كان دوما لي‪ .‬قلبها‪ ،‬جسدها‪ ،‬روحها‪ ،‬كيانها‪ .......‬وجودها !‪.‬‬

‫حاولتُ العثور على حسابات فيسبوك خاصة ببعض زمالء الدراسة السابقين علي أجدهم على عالقة بها‪ .‬ال‬
‫فائدة‪ .‬معظم الذين درسنا معهم و كأنهم قد اختفوا تماما من على سطح هذا الكوكب‪ .‬ال أسماء حقيقية‪ .‬ال بيانات‬
‫شخصية‪ .‬ال مجموعات زمالة أو صداقة محددة بفترة دراسية أو زمنية معينة كما هو الحال مع مراهقي هذه األيام‪.‬‬
‫ال شيء !‪.‬‬

‫ربما يكون هذا أحد التشوهات المزمنة فيما يخص العالقات اإلنسانية داخل مجتمعنا هذا‪ .‬نحن ننسى بعضنا‬
‫البعض سريعا‪ ،‬بل و أكثر من ذلك فنحن نسرع إلى التخلص من كل الذكريات الطفولية و الدراسية المنقحة بألوان‬
‫مشاعر الماضي المختلفة‪ ،‬بمجرد أن تمر آخر مرة نتعامل فيها مع بعضنا البعض بشكل مباشر‪ .‬نكون أصدقاء في‬

‫‪369‬‬
‫االبتدائية‪ ،‬ثم نصير رفاقا في اإلكمالية‪ ،‬ثم نتحول إلى زمالء سابقين في الثانوية‪ ،‬ثم إلى مجرد معارف قديمة في‬
‫الجامعة ‪ ،‬لننتهي إلى غرباء مع بداية حياتنا المهنية‪ .‬سأقول أن النسيان هو السبب األول لعقم القلوب !‪.‬‬

‫لم أرد أن أفترض أن بهجة قد أصيبت بعدوى هذه اللوثة‪ ،‬هذا الداء الغريب الذي يشكو منه جيل الحرب‬
‫األهلية‪ .‬كل ما كنت أتمناه و آمله هو أن أعثر عليها و هي مازالت تلك الطفلة الصغيرة الشغوفة بمصادقة‬
‫اآلخرين‪ ،‬ممازحتهم و إمضاء أوقات ممتعة معهم‪ .‬لكن كان علي أوال أن أجد حسابها على الفيسبوك‪ ،‬إن كان لها‬
‫حساب أصال‪ ،‬مادام الحصول على رقم هاتفها قد بدى دربا من المستحيل‪.‬‬

‫كنتُ أشعر أنها في مكان ما‪ .‬مكان قريب‪ .‬كانت تتنفس و تتحرك تحت سقف ما من كل تلك األسقف البليدية‬
‫التي تحيط بي‪ .‬ربما كنتُ قد مررتُ لتوي من أمام باب منزلها الذي لم أعرفه يوما ؟‪ .‬ربما كانت قد مرت علي‬
‫لتوها و هي تركب السيارة مع أهلها الذين لم أتعرف عليهم أبدا ؟‪ .‬كنتُ أعلم أنها قريبة و أنا أقف في قلب المدينة‬
‫التي جمعتنا ذات مرة وجها لوجه ‪ ،‬و كادت تجمع مصائرنا في جرة واحدة لوال تسارع أحداث الحياة‪ .‬كانت قريبة‪،‬‬
‫لكني كنتُ عاجزا عن رؤية تفاصيل وجهها الطفولي مرة أخرى‪ .‬كنتُ متلهفا لذلك بحق‪ .‬لكني كنتُ عاجزا عن‬
‫جعله حقيقيا‪ ،‬بل و أكثر من ذلك كنت متلهفا إلى حد األلم لتعلم أني قد عدتُ للبحث عنها‪.‬‬

‫**********‬

‫جاء عيد الفطر إذن‪ ،‬و أفاقت البليدة مبتهجة‪ ،‬كطفلة صغيرة تبحث عن مالبس العيد‪ ،‬على أنغام أغنية من‬
‫زينو نهار اليوم األندلوسية للفنان عبد الكريم دالي‪ .‬األغنية التي تحولت إلى تراث عاطفي جماعي للمجتمع‬
‫الجزائري‪ .‬منذ عشريات كاملة‪ ،‬ال يمكن لصبيحة عيد الفطر في دزاير أن تمر من دون ألحانها‪.‬‬

‫نظرتُ إلى جدران المنزل‪ .‬إلى أشجار البستان‪ .‬استمعت إلى أصوات األطفال الضاحكين الراكضين على‬
‫الرصيف‪ .‬تفرست وجه أمي الباسم و هي تقبلني و تتمنى لي عيدا سعيدا‪ .‬وجوه كل أفراد العائلة‪ ،‬بما فيهم وجه‬
‫أبي‪ ،‬الحاج الذي لم يبتسم كثيرا‪ .‬كان يقول بأن العيد ليس عيدا و سوريا العروبة تغرق في حمام من الدم‪ ،‬لترد‬
‫عليه أمي بأنها األيام التي تتداول على الدول‪ .‬ففي سنوات التسعينات لم تكن أعيادنا أعيادا حين كانت أعيادا سعيدة‬
‫عند أمم أخرى !‪ .‬قالت بأن هذا سيجعلنا ندرك نعمة األمن التي نعيشها اليوم بفضل جهود و أتعاب من هم في‬
‫الجبال و على الحدود‪ .‬قالت ذلك و هي تمسح بيدها على خد البشير‪ .‬و على كل‪ ،‬مر العيد جميال جدا‪ ،‬و سرعان ما‬
‫وجدتني أعود إلى العاصمة مباشرة بعد انقضائه‪.‬‬

‫وددتُ لو يرى العام وجه سي رزاق حين علم أن الشهر الذي أمضيته في مرتفعات بني يني لم يأت بشيء‪.‬‬
‫كان ينظر إلي طيلة شرحي لكل ما حدث و هو يفتح فمه جزئيا و يداعب دقنه بأنامله‪ ،‬يحاول رصد الشاردة و‬
‫الواردة من كالمي‪ .‬كنتُ مرتاحا جدا في جلستي على األريكة الجلدية في مكتبه‪ ،‬و كنتُ مرتاحا في كالمي و‬
‫نظراتي أيضا‪ .‬و الحقيقة هي أني لم أكن مبال بأي رد فعل غير متوقع منه‪ .‬كنتُ فقط أعرض عليه الحقيقة كما‬
‫لمستها حتى و إن كانت غير تلك التي كان يتمناها‪ .‬و الحقيقة كانت تقول بأن الحرفي القبايلي ال يحمل في طياته‬
‫أي دليل مادي دامغ يربطه بمجموعة تي تي اس و ال بهذا الربيع البربري المفترض الذي يتحدثون عنه‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫كان وجه سي رزاق ماض في االحمرار و االنتفاخ أكثر فأكثر‪ .‬أسند ردفيه إلى مكتبه و أخرج سيجارة من‬
‫علبة المارلوبور التي كانت موضوعة على حافة المكتب وهو يتنهد‪ .‬وضعها بين السبابة و الوسطى ليمناه‪ ،‬ثم‬
‫استمر في االستماع لقصتي '' الفارغة ''‪ .‬أوه‪ ،‬كنتُ متيقنا تماما من أنه كان يراها كذلك‪ .‬و ما حدث بعدها جعلني‬
‫أتأكد قطعا من أنه في قمة االمتعاض و الخيبة‪ .‬فقد أنهيت كالمي و نظرتُ مباشرة في وجهه المحمر و المتحجر‪.‬‬
‫كان يحاول أال يبدي ذلك الغضب‪ ،‬ففي النهاية بدى له أمر قروي قبايلي متوحد عاش مأساة عائلية خالل الربيع‬
‫البربري األسود‪ ،‬رجال يحاول قدر المستطاع أن يكون و حيدا مع ذكرياته‪ ،‬على أن يلعب دور البطل المخلص كما‬
‫هي حال الكثير من المدعين السياسيين في هذا البلد‪ .‬و ما زاد في اقتناعه الصامت ذاك هو أن الرجل ليس لديه‬
‫إمكانية ربط اتصاالت بأي كان و هو يعيش في ربوته الجبلية التي يصلها اإلرسال التلفزيوني األرضي مشوشا‪.‬‬

‫كان يود أن يقول شيئا‪ ،‬لكن إحدى الزميالت كسرت صمت المكتب تلك اللحظة حين فتحت الباب الذي تسرب‬
‫منه ضجيج قاعة التحرير‪...‬‬

‫علي‪ .....‬برااااااااا‪...! .....‬‬


‫_ اخرجي َ‬

‫هزت صرخة سي رزاق المكتب و قذفت بالصحفية المسكينة خارجا‪ .‬لقد أدركت أنها دخلت دون استئذان‬
‫لفظي و أن طرق الباب ال يكون عادة كافيا للدخول على سي رزاق حين يكون في ثورة غضب‪ .‬تنهد‪ .‬حاول‬
‫السيطرة على نفسه‪ .‬أشعل سيجارته بانفعال واضح‪ ،‬ثم نظر إلي بعد أول نفخة دخان أطلقها على شكل زفرة‬
‫غاضبة رافعا يديه كمن يبحث عن حل‪...‬‬

‫_ إذن‪ ،‬وشاكي‪ ،‬أهذا كل شيء ؟‪ ....‬ال شيء ؟ !‪.‬‬

‫_ ال أريد أن أقول هذا‪ ،‬سي رزاق‪ .‬على األقل فإن مكوثي في بني يني قد جعلني أكتشف الكثير من األشياء و‬
‫أستلهم الكثير من األ فكار الجديدة التي سأطعم بها عموي و مقاالتي و مواضيعي‪ .‬هذا سيضيف شيئا جديدا‬
‫للجريدة‪ .‬صدقني‪.‬‬

‫_ ال‪ ..‬ال‪...‬ال‪ .‬دعنا من هذا الهراء اآلن‪ .‬أريد أن أفهم أوال‪ .‬ال شيء في حوزة الرجل ؟‪ .‬ال رسائل‪ .‬ال‬
‫مطبوعات تحريضية‪ .‬ال مذكرات تنظر ألفكار ما‪ .‬ال تجمعات أو تجمهرات سرية أو علنية‪ .....‬ال شيء ؟‪.‬‬

‫ُّ‬
‫صمت قليال و أنا أنظر بهدوء و برودة إلى وجهه الذي كان يشبه حبة طماطم كبيرة‪ ،‬ثم رفعتُ حاجبي قليال‪..‬‬

‫_ ال‪ ،‬سي رزاق‪ ...‬ال شيء !‪.‬‬

‫تحرك ملتفا حول مكبته و رمى بجثته الضخمة على أريكته مستمرا في التفكير‪ .‬سوى أنه لم يستطع تصفية‬
‫أفكاره و تمحيصها بسبب حالة الغضب التي كان عليها‪...‬‬

‫_ طيب‪ ..‬ماذا عن هؤالء الهاكرز األوغاد الذين يترجمون األغاني إلى لغات أخرى ؟‪ .‬اللعنة ! ال أعلم حتى‬
‫سبب تسميتهم هاكرز‪ .‬هم ال يقرصنون شيئا على اإلطالق !‪ .‬هل من تفسير لوضعهم و نشاطهم ؟‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫_ التفسير الوحيد الذي وصلتُ إليه يا سي رزاق هو أنهم مجرد مراهقين يهتمون بالتبادل الموسيقي المترجم‬
‫مع مراهقين من جنسيات أخرى‪ ،‬و على رأسهم اليابانيين‪ .‬ال ريب‪ ،‬فالجيل الصاعد مأخوذ بصرعة فنون المانڨا و‬
‫سحر اليابان أكثر من جيلنا !‪ .‬لم أعد أرى أي دافع قوي يجعلني أشك في أمرمهم‪ .‬المصدر الذي جاءني بتلك‬
‫المعلومة و الفرضية التي تقف خلفها‪ ،‬من كونهم هم الذين يجهزون للحراك‪ ،‬قد يكون هو نفسه راح ضحية استنتاج‬
‫خاطئ أو مغالطة ما ؟‪ .‬البارانويا قد تفعل فعلتها في هكذا ظروف سياسية و اجتماعية‪ .‬إنه الخوف مما يمسى‬
‫ثورات الربيع العربي‪ ،‬ليس اال !‪.‬‬

‫_ على األقل‪ ،‬هل فكرت في تسمية تي تي أس هذه ؟‪ .‬كان يمكنهم أن يسمو مجموعتهم بأي اسم جذاب بما‬
‫أنهم مراهقين يبحثون عن البروز و التميز !‪.‬‬

‫_ بال‪ .‬لقد فكرت طويال في تسمية تي تي أس و وصلت إلى شيء قد يجعلك تهدأ‪ ،‬سي رزاق‪...‬‬

‫_ أنرني !!‪.‬‬

‫_ األمر بسيط‪ TTS .‬قد ال تكون سوى اختصار للجملة االنجليزية ‪.Teens Translating Songs‬‬
‫مراهقون يترجمون األغاني !‪ .‬هذا كل ما في األمر‪ .‬ثم إنه و إلى حد الساعة‪ ،‬فأغانيهم المترجمة إلى لغات العالم‬
‫األخرى أو تلك التي يترجمونها إلى الدزيرية و العربية الكالسيكية‪ ،‬ال تحمل في طياتها أي رسائل سياسية مهما‬
‫كانت‪ .‬مجرد أغان أمازيغية تحكي عن الحب و الجمال و الطبيعة و ما شابه ؟‪ .‬أين هو الحراك من كل هذا ؟‪.‬‬

‫صمت لوهلة و هو يحك قفاه محاوال لملمة غضبه الذي مأله حتى الحنجرة‪...‬‬

‫_ اللعنة يا وشاكي‪ ...‬اللعنة !‪ .‬ال أريد أن أصدق بأن كل هذه القصة لم تكن سوى فراغ !‪ .‬يجب أن تفعل شيئا‬
‫ما‪ .‬عليك بأن تصل إلى مدبري هذا الحراك‪ .‬اتصل بهؤالء المراهقين‪ ،‬أخبرهم أنك تود القيام بروبورتاج عن‬
‫صفحتهم !‪ .‬افعل شيئا ما يا رجل !‪.‬‬

‫_ أي حرااااك يا سي رزاق ؟‪ .‬ال وجود ألي حراك‪ .‬ها قد مضى أكثر من شهرين مذ حصلتُ على تلك‬
‫المعلومة الحصرية‪ .‬مرت ذكرى الربيع البربري و الربيع البربري األسود و ذكرى مسيرة العروش المليونية و‬
‫مونديال البرازيل و ذكرى اغتيال معطوب و عيد االستقالل و شهر رمضان‪ ،‬و ها نحن في آخر يوم من شهر‬
‫جويلية‪ ...‬و ال شيء حدث !‪.‬‬

‫_ من قال لك أنهم سيتحركون في الصيف ؟‪ .‬ربما سيكون ذلك شهر أكتوبر القادم اقتداء بحراك ‪ 77‬؟‪ .‬عليك‬
‫أن تجد هؤالء الفتية يا وشاكي‪ .‬جدهم و اكتشف ما يدبرونه بأي ثمن‪.‬‬

‫_ يا سي رزاق‪ ،‬أنت قلتها‪ .‬مجرد فتية يلهون عبر االنترنت‪ ،‬ما الذي يمكن أن يفعلوه ؟‪ .‬بربك‪.‬‬

‫صمت ناظرا إلي و وجهه ال يزال محمرا‪...‬‬

‫_ الذين أطاحوا بنظامي بن علي و مبارك كانوا كهوال ؟ !‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫_ اه سي رزاق‪ ،‬أنت تدفع بي ألفعل ما فعله ‪ Brian Bethel‬حين كتب قصته عن األطفال ذوي العيون‬
‫المسودَّة‪ .‬قصة مرعبة تشعرك برغبة جامحة في تصديقها‪ ،‬لكنها تبقى رغم ذلك دون سند واقعي أو دالئل مادية‬
‫يكونون منظمة مغلقة على أسلوب‬
‫تثبت صحتها !‪ .‬أتودني أن أختلق لك قصة عن شباب تي تي أس الذين ّ‬
‫الجمجمة و العظام‪ ،‬تهدف إلى اإلطاحة أو االستحواذ على نظام الحكم الدزيري األحرش‪ ،‬النظام الموسطاشي‬
‫الذي لم يفلح أكثر من ‪ 41‬ألف ملتح مسلح في اإلطاحة به طيلة التسعينات ؟ !!‪ ...‬يا سي رزاق‪ ...‬مجرد مراهقين‬
‫يترجمون األغاني‪.! ....‬‬

‫_ اخخخخخ ال أصدق !‪...‬‬

‫تمتم سي رزاق و هو يصفع جبينه بيده‪ .‬كان فعال عاجزا عن التسليم بحقيقة أن السبق الضخم الذي كان يسعى‬
‫خلفه باسم الجريدة‪ ،‬لم يعد ممكنا لعدم توفر أي دالئل قطعية عنه‪ .‬كان يعلم أنه قد وصل إلى الحد الذي عليه أن‬
‫عرض المؤسسة إلى بدايات مرض‬
‫يسلم فيه بأن ضوابط المهنة تحتم عليه فعال أن يتوقف عند هذا الحد‪ ،‬و إال َّ‬
‫الصحف الصفراء المعدي‪ .‬المسكين كان يتألم كونه رغب بشدة في هذه القصة‪ ،‬لكن مهنة الصحافة تشبه الحياة في‬
‫تلوح به إليك من بعيد‪ ،‬ثم ترميه في رمشة عين إلى ما وراء‬
‫هذا الجانب‪ .‬إنها ال تمنحك دوما كل ما تشتهيه‪ .‬بل ّ ِّ‬
‫األفق‪ ،‬ناظرة إلى خيبتك بكل سادية و مكر‪.‬‬

‫أنا أيضا كنتُ في السابق أغضب كثيرا‪ ،‬مثل حارس البوابة تماما‪ ،‬حين أصل إلى طريق مسدود‪ .‬لكني هذه‬
‫المرة كنتُ راض تماما عن الوضع‪ .‬ربما كوني كنتُ أعيش نشوة ما قدّرت أنه كان أهم بكثير من مجرد سبق‬
‫صحفي لحدث قد يفشل في التجسد في النهاية‪ .‬كنتُ أعيش نشوة صامتة قوامها هدوء و ثقة و سكينة نفس أمام ما‬
‫اكتشفته في تيميزر‪ ،‬بيني و بين نفسي‪.‬‬

‫حين كنت أهم بالخروج من مكتبه‪ ،‬راح سي رزاق يستعيد شيئا من هدوئه بعدما أخذ غضبه يخمد ببطء‪،‬‬
‫ففاجأني بسؤال و أنا أفتح الباب‪...‬‬

‫_ وشاكي‪ ...‬قلتَ أنك اكتشفت الكثير من األمور خالل تواجدك ببالد القبايل‪ .‬ما كان أهمها ؟‪.‬‬

‫نظرتُ إليه و أنا أفكر في ذلك الوجه الهزيل الغامض الذي يشبه شاطئا نائيا تعبره موجات من التأمل‬
‫الممزوج باأللم‪ ،‬خاصة حين ينظر بتلك العينين الغائرتين خلف زجاج نظارته الغليظة إلى قوالب الطين التي‬
‫يشكلها في صمت مهيب و هو يستمع إلى أغاني الشيخ الحسناوي‪ ،‬وسط هدوء ما بعد الظهيرة‪ ،‬حين تسحب‬
‫القيلولة قريته إلى السكون التام‪ ،‬حين تتنازع ظاللها مع أصوار منازلها الحجرية حول حراصة أسرار ناسها‬
‫النيام‪ ،‬حين يصير هو وحيدا في كونه الخاص‪ ،‬و تحظره أفكاره الهادئة‪ ،‬التي تتنازع المكان هي األخرى مع‬
‫ذكرياته المعسولة و المرة‪ ،‬و يغرق في التفكير في شيء فريد من نوعه في الكون اسمه دزاير‪.‬‬

‫_ صبت كيف اش نحب البالد هاذي‪.! à poil ......‬‬

‫‪373‬‬
‫كان ذاك جوابي‪ .‬ال شيء لمحته بعد تلك اللحظة الخاطفة و أنا أدفع الباب خلفي‪ ،‬سوى عالمة استفهام كبرى‬
‫طبعت مالمح رئيس تحريري الذي التزم الصمت محاوال أن يقرأ ما بين السطور‪ ،‬و طبعا عجز عن فهم فحوى‬
‫كالمي‪ .‬كنت متأكدا من ذلك‪.‬‬

‫بصراحة‪ ،‬فما بقي من ذاك اليوم العاصمي العادي‪ ،‬ال أعلم كيف مر‪ .‬كنتُ ال أزال أرى حركة األفكار و‬
‫األشخاص و األشياء من حولي محافظة على ريتم هادئ و مسالم غير اعتيادي‪ ،‬لكن الوقت كان يمر بخفة و لطف‪.‬‬
‫عكس ما كان في السابق‪ ،‬حين كانت أيامي تجري بسرعة جنونية و هي تفيض بنوع من العدوان الذي كان الزمن‬
‫يمارسه علي‪ .‬كانت تبدو عالقة في بوتقة ذروة محدَّدة مليئة بالقلق و التوتر غير المنقطع‪ ،‬تاركة ذهني حائرا و‬
‫خائرا حد الرغبة في االنطفاء النهائي‪ ،‬أو االنفالت إلى قلب ثالجة‪ .‬لكن ذاك اليوم مر بسرعة و انتهى إلى أمسية‬
‫صيفية جميلة جدا على شاطئ السابليت‪ .‬حين سرت على طول الواجهة البحرية لباب الوادي قبل مغيب الشمس‬
‫بلحظات‪ ،‬متأمال تلك األطياف المسائية التي كانت تتعانق في السماء بلطف‪ ،‬دون حتى أن تلحظ غالبية الناس‬
‫وجودها‪.‬‬

‫كان لمرور األمواج الصغيرة اللطيفة حول قدمي الحافيتين ملمس مداعب و صوت مسكن للروح‪ .‬ال شيء‬
‫كان يشغل تفكيري تلك اللحظة غير بهجة‪ .‬عجبا‪ ...‬عجبا‪ ،! ...‬ما عدتُ أفر من اسمها إلى مهنتي و هواجسي‬
‫الفكرية‪ ،‬بل صار العكس هو الصحيح‪ .‬كان كامل كياني يغرق فجأة في لحظات وله شهية و حماس فائض و منه‬
‫ينتهي إلى شاطئ من السعادة و الطمأنينة‪ ،‬كلما مر اسمها ببالي‪ .‬كانت كغيمة وردية تتزحلق فوق ريح صيفي‬
‫لطيف‪ ،‬وحيدة في كبد سماء صاف‪ ،‬تحمل سرها الصغير معها إلى أفق منظور‪ ،‬كنتُ أحاول إدراكه قبلها‪ ،‬كي‬
‫تجدني هناك‪ ،‬أقف فوق إحدى القمم التي تشبه قمم القبايل الخالدة‪ ،‬أحدق إليها‪ ،‬مبتسما‪ ،‬آمال‪ ،‬مشبعا بالشغف و‬
‫الشوق‪ ،‬علي أسحب منها نظرة غبطة‪ ،‬أو أتقاسم معها لحظة سكوت تختصر آالف الكلمات‪ ،‬يُمهد لكل ما سوف‬
‫يلي‪.‬‬

‫نظرتُ إلى تلك األشعة المسائية األخيرة التي طالما ذكرتني بلون شعرها الدافئ‪ .‬ذكرت ُها في نفسي كما لم‬
‫أذكرها منذ سنوات‪ ،‬حتى حين كنتُ في البليدة قبل أيام‪ .‬لم أفهم كيف و ما السبب في تلك الومضة الهائلة التي‬
‫اجتاحت كياني فجأة كشروق شموس من جهات أربع أنارت كامل روحي‪ .‬أحسستُ أنها قريبة جدا‪ .‬امتألت بها‬
‫نفسي و أنفاسي إلى حد الحرقة و االختناق الغرامي الشهي‪ .‬تنهدت بعمق و أنا أقول في نفسي‪ '' :‬كيف ؟‪ .‬كيف‬
‫تكون هنا و هي في مكان ما في البليدة ؟‪ ...‬إال أن تكون قد جثمت نهائيا في مكانها القديم هنا‪ ...‬في أعماق كبدي‪،‬‬
‫بعد سنوات من القفز السريع و المضطرب بين صدري و رأسي‪ .‬كبدي كان المكان الذي تنتمي إليه بهجة في‬
‫النهاية !‪ .‬إن كان هو ذا‪ ،‬فأهال بها في عرشها هذا ''‪.‬‬

‫اشتريت أكال خفيفا للعشاء‪ .‬ساندويتش شاورمة صغير و علبة عصير فواكه‪ .‬ثم دخلت شقتي الصغيرة‪ .‬كانت‬
‫ستائر غرفة المعيشة تتراقص على نسمة المساء البحرية حين أشعلت أضواء اإلنارة العمومية عبر شوارع الحي‬
‫المزدحم‪ ،‬مما جعل ضجيج األطفال يتمدد مرة أخرى و تتمدد معه مباريات كرة القدم المقامة على قارعة الطرق و‬
‫األرصفة ألشواط إضافية‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫تناولت عشائي الجاهز على نشرات أخبار الفضائيات المتفرقة التي كنتُ أقفز عليها كقرد ماڨو قبايلي قافز‬
‫بين الصخور الحادة‪ ،‬و بين العشاء و األخبار على التلفاز‪ ،‬شيء من العصير البارد و بعض المكالمات الهاتفية مع‬
‫بعض الزمالء‪ ،‬لينتهي بي األمر أضع حاسوبي المحمول فوق حجري و علبة سجائري مع سيالة سوداء و دفتر‬
‫مالحظات جديد على الطاولة الزجاجية الصغيرة قبالتي‪ .‬طفقتُ أح ّمل كل تلك الملفات و التسجيالت التي كانت‬
‫تزخر بها بطاقة السيكيور ديجيتال سعة ‪ 01‬جيغا بايتس‪ ،‬التي رافقتني طيلة مكوثي في تيميزر‪ .‬صور و فيديوهات‬
‫للقرية و المناطق الطبيعية المتاخمة لها‪ .‬صور و فيديوهات للوزيعة‪ .‬لضريح الولي أوعابد‪ .‬و سجالت تاجماعت‬
‫التي تحوي قوانين مجتمعها القروي‪ .‬صور لورشة آغاكال و منزل الدا إيدير‪ .‬صورة تذكارية مع أصدقائي‬
‫الصغار في ورشة تعليم صناعة الطين‪ .‬صور سيلفي مع بعض سكان القرية من فالحين و تجار و شباب ربطت‬
‫معهم صالت مودة أيام كنتُ ابذل جهدي لتعلم القبايلية‪ .‬صور جميلة للدا إيدير و هو يهم بتحميل قطع الغضار في‬
‫السالل المعلقة ببغلته الوفية تامكديت‪ .‬صورة نانه تاملسة و هي تزين تحف ابنها الفخارية وسط دجاجاتها‪ .‬و طبعا‬
‫كان علي أن آخذ صورة تذكارية لي مع الكهلين الرائعين !‪ .‬صورة جعلتني ابتسم للحظة تلقائيا حين تفحصتها‪.‬‬
‫بدت أجمل و هي تبدو أكبر حجما على شاشة الحاسوب العريضة‪.‬‬

‫صور أخرى لغابة األحاديث‪ .‬صور و تسجيالت ألطالل إيجودار و نبعها المائي‪ ،‬و طبعا مقطع فيديو خالب‬
‫لما رأيته من فوق تلك القمة‪ .‬الفيديو كان رائعا‪ ،‬لكن الصوت فيه كان مشوشا بعض الشيء بسبب هبوب الرياح‬
‫على القمة تلك األمسية‪.‬‬

‫عدتُ مرة أخرى إلى الصورة التي جمعتني بالدا إيدير و نانه تامسلة من أمام أحجار صور منزلهما‬
‫المتواضع‪ .‬حدّقتُ فيها للحظات‪ ،‬ثم رفعتُ رأسي إلى الثرية التي كانت تضيئ غرفة المعيشة‪ .‬كل تلك المناظر‪ .‬كل‬
‫تلك الوجوه‪ .‬كل تلك المواقف و كل ما تمخض عنها كان‪...‬‬

‫_ ‪ ...‬تجربة فكرية ؟‪ .....‬تجربة إنسانية ؟‪...‬‬

‫تمتمتُ مع نفسي‪ ،‬قبل أن أعود و أبدأ في تحميل و أرشفة كل التسجيالت الصوتية الخاصة بكل األحاديث و‬
‫الجداالت التي جمعتني بالحرفي صانع الطين الذي كان الوحيد الذي رفض أن تلتقط له أي صورة‪ .‬ركضتُ نحو‬
‫غرفتي و عدتُ بنفس الخطوات السريعة حامال سماعة األذن التي أوصلتها بالالبتوب و وضعتها في أذني‪ .‬انتابني‬
‫لوهلة إحساس خاطف بأن الرجل يجلس على جانبي و يحدثني‪ ،‬خاصة و أن صوت دوران دوالبه كان حاضرا في‬
‫أغلب التسجيالت‪ ،‬حتى أني كذتُ أغمض عيني محاوال استحضار رائحة الصلصال العطرة‪ ،‬و ملمسها المعجز‬
‫على أناملي‪.‬‬

‫هكذا أمضيت تلك الليلة أع يد مراجعة كل ما استطعت تسجيله مع أغاكال‪ ،‬مع تسجيل كل األفكار و‬
‫المالحظات و الخواطر التي صالت و جالت في رأسي‪ ،‬كقطيع هائل من الخيول البرية الراكضة بحرية و سعادة‬
‫في مرج مزهر ال حدود له‪ .‬بدأت اقتنص ما استطعت فوق صفحات الدفتر الصغير‪ ،‬مع كل حديث جمعني‬
‫بالحرفي‪ ،‬منذ اليوم الذي حدثني فيه عن رؤية المصريين القدامى لحرفة صناعة الطين و ما قدمته للحضارات‬

‫‪375‬‬
‫اإلنسانية األولى‪ ،‬وصوال إلى الحديث الذي جمعني به على قمة إيجودار‪ .....‬عن الحب‪ ،‬مرورا بقصصه عن‬
‫طفولته القاسية و ما عاشه رفقة سكان قريته مع جيش االحتالل و جيش االستقالل‪ .‬قصصه الحزينة عن انهيار‬
‫عائلته الصغيرة و فقدان ابنه الوحيد‪.‬‬

‫تسجيل يلي تسجيل‪ .‬سيجارة تحرق سيجارة‪ .‬صفحة تقلب صفحة‪ .‬أمست علبة السجائر فارغة و أصبح دفتر‬
‫المالحظات ممتلئا عن آخره‪ .‬تمددتُ على األريكة‪ ،‬مستحضرا بعض المقوالت '' اآلغاكالية '' التي علقت في ذهني‬
‫و لم أدرك كامل مغازيها‪ .‬افترضت أنها عبارات مفتوحة على جدار الزمن‪ ،‬ال يمكن إدراك كل أسرارها إال مع‬
‫مرور الوقت و تتالي التجارب الملموسة‪ ،‬تماما كما حدث في حياة الحرفي‪ .‬كتلك الجملة االستنتاجية التي انتهى‬
‫إليها الرجل يوم قص علي النهاية المأساوية البنه العربي و نهاية عالقته بزوجته فاظمة و قيام تلك الجدران العالية‬
‫التي فصلته عن قومه‪...‬‬

‫_ '' ‪ ......‬أحبَّ هذا الوطن على طبيعتك الحقة‪ ،‬على طبيعته األلفية‪ ،‬و لسوف يعطيك ما يريده قلبك !‪.''....‬‬

‫أعتقد أنه لو عاش هذا الرجل في زمن مضى‪ .‬في زمن أسالفنا النوميديين مثال‪ ،‬فمن يعلم ؟‪ ،‬لكان قد تحول‬
‫إلى إله في الميثولوجيا األمازيغية مع مرور القرون‪ '' ....‬آغاكال‪ ،‬اله الطين ! ''‪.‬بالنسبة إليه كل شيء ينطلق من‬
‫التراب‪ ،‬حتى الحب !‪.‬‬

‫تناولت دفتر المالحظات‪ .‬قلبت صفحاته مسرعا باحثا علي أجد مكانا فارغا ألضع تلك الخاطرة الخاطفة‪،‬‬
‫القريبة إلى الشعر‪ ،‬التي علقت لتوها في شباكي‪ .‬كانت كل الصفحات ممتلئة عن آخرها بالخربشات و الهلوسة‬
‫الفكرية‪ ،‬فلم أجد سوى الغالف الداخلي للدفتر ألدون عليه ما كان يهز نفسي تلك اللحظة راغبا في االنطالق‬
‫منها‪...‬‬

‫ماذا يعني أن تحب هذا الوطن حتى تكون على قيد الحياة فيه ؟‪ .‬ربما يعني ذلك أن‬
‫يتعرق كفك حين تمسك بحفنة من ترابه الجاف في يدك‪ .‬أن تمأل رئتيك بأقدس‬
‫الهمسات السرية السابحة في هوائه‪ .‬أن يزهو قلبك بأغاني صباحات أيامه السرمدية‪.‬‬
‫أن تتشبع جميع خاليا بدنك بأشعة شمسه الذهبية‪ .‬أن تلمح بوضوح بسمات سحاب‬
‫المساء في آفاقه المتوهجة‪ .‬أن تسع عينيك كل نجومه حين تنظر إلى سمائه ليال‪ .‬أن‬
‫ترى كل صخر أو جبل منه روحا حية‪ .‬أن يسع صدرك قصص كل أمواج شواطئه‬
‫المترامية‪ .‬أن تسقي دمعة واحدة من عينك كل كثبانه المتماهية‪ .‬أن تكون قادرا على‬
‫اإلنصات بتمعن و خشوع إلى صلوات الفجر الجماعية ألشجاره‪ .‬أن تتعرى أمام‬
‫أنظاره‪ ،‬بدون تردد أو وجل‪ ،‬بل برغبة و شهية‪ .‬أو أن تكون فقط فراشة مكاو عادية‪،‬‬
‫تجوب أجواءه هناك‪ ،‬في زاوية أو مكان ما‪ ،‬قد ال يعيره أحد أي انتباه‪ ،‬أو ال يعبُره‬
‫ضمير كائن‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫وضعت السيالة على الطاولة ناظرا إلى الساعة الجدارية القديمة التي احتضنها جدار بيت جدي القديم في‬
‫تابالط ذات مرة‪ .‬كانت عقاربها متوقفة منذ سنوات عند الثالثة و ست دقائق‪ .‬نظرت إلى ساعة يدي فكانت تشير‬
‫إلى الثالثة و ست دقائق دقائق أيضا‪ .‬اقترب الفجر و وجدتُ نفسي خائر القوى‪ .‬لم أرد أن أتحرك من مكاني‪.‬‬
‫رميت بنظارتي فوق الطاولة‪ .‬تمددتُ على األريكة و غصت بسرعة خاطفة في نوم عميق‪.‬‬

‫**********‬

‫كان ذاك الصوت أقرب إلى جرس االستراحة‪ .‬كان ممتزجا مع أصوات الكثير من التالميذ من حولي‪ .‬كنتُ‬
‫أقف وسطهم متأمال نوافذ أقسام الدراسة الواقعة في الطابق الثاني أين كانت بعض الفتيات يقفن على حواف الرواق‬
‫العلوي يسترقن النظر إلى بعض الفتية في األسفل و يتهامسن ضاحكات‪.‬‬

‫فجأة اتسعت عيناي و فتحت فمي من الدهشة و اإلثارة حين فكرت‪ '' ....‬أنا في الثانوية‪ ....‬ال بد من أنها هنا‬
‫في مكان ما وسط هذه الجموع‪ .'' ! ...‬تحركتُ فورا راكضا باتجاه الدرج المؤدي إلى الصاالت العلوية‪ .‬كنت‬
‫أعتذر من الطالب الذين كنتُ أحتك بأطرافهم و أنا أقفز صاعدا الدرج‪....‬‬

‫_ '' المعذرة حنوني‪ ...‬آسف يا صاح أنا في عجلة من أمري‪ ...‬افسح الطريق لو سمحت‪ ....‬آسف‪..'' ....‬‬

‫وصلت إلى الرواق بسرعة‪ .‬وقفت أمعن النظر في مجموعات من الفتيات كن يقفن على طوله‪ .‬البعض‬
‫يتجاذبن أطراف الحديث مع بعضهن‪ .‬البعض كن يتحادثن مع الفتيان‪ .‬البعض كن يسرن على طول الرواق ذهابا‬
‫أو إيابا‪ .‬حاولت التعرف على بعض الوجوه لكن لم أفلح في ذلك‪ .‬تقدمت سيرا و أنا أسأل بعضهم و بعضهن إن‬
‫كانوا يعرفون طالبة تدعى بهجة ماحي‪ .‬كانوا يومئون بأن ال‪ ،‬أو يهزون أكتافهم و عبارات وجوههم تخبرني بأنه‬
‫ليس لديهم أي فكرة عن الشخص الذي أبحث عنه‪.‬‬

‫رحتُ أدخل إلى األ قسام الواحد تلو اآلخر‪ ،‬آمال في العثور عليها أو العثور على إحدى صديقاتها القديمات‬
‫على األقل‪ .‬كأنما كنتُ أقول في نفس ي أنه إن كان حظي في العثور عليها عاثرا كالعادة‪ ،‬فعلى األقل سوف تعلم من‬
‫إحد معارفها أن وشاكي قد جاء يسأل عنها‪ ،‬و قد بدى مصرا على الحديث إليها في أمر مهم جدا !‪.‬‬

‫بدأت أيأس فجأة‪ .‬كل الوجوه التي كان نظري يتقاطع معها بدت غريبة و غير مألوفة‪ .‬بدأت أوقن أنها غير‬
‫موجودة أو أني متواجد في المدرسة الخطأ‪ .‬ثم انتابني شعور بأني أتواجد في هذا المكان كوني أخطأت حساب‬
‫تخرجت و رحلت رفقة بقية الجماعة عن هذا المكان منذ وقت طويل‪ ،‬و أن كل هؤالء‬
‫األعوام‪ .‬شعرت أن بهجة قد َّ‬
‫المغفلين ال تربطهم صلة بها أو بأحد من أصدقائنا أو زمالئنا المشتركين‪ .‬افترسني إحساس عنيف بالضياع و‬
‫الغربة و الوحدة و الغضب وسط المكان‪ .‬بدأتُ أهمس بكالم نابي من صنف الكالم الذي يعبِّّر به المراهقون عن‬
‫حنقهم على وضع قاهر ال يستطيعون تغييره كما ال يستطيعون باندفاعهم و عاطفيتهم تقبله‪.‬‬

‫خرجتُ من الصف ما قبل األخير و أنا أحك جبيني و أفكر بقلق و حيرة‪ .‬بقيت واقفا في مكاني لما بدى لي أنه‬
‫دقيقتين أو ثالث‪ ،‬أحاول من دون فائدة جعل ذهني يُدرك الخطأ الزمني الذي ارتكبته بغباء‪ .‬حاولت تذكر في أي‬

‫‪377‬‬
‫عام دراسي أنا‪ ،‬لكني لم أفلح مما زاد في ضيقي و حنقي‪ .‬إال أن تلك اللحظة الموحشة و القاسية قطعتها صافرة‬
‫أحدهم كان يقف وسط مجموعة من الشباب عند الطرف اآلخر من الرواق قبالة غرفة الصف األخيرة‪ .‬التفت إليه‪،‬‬
‫و إذا بكل شيء يُبعث من جديد‪ .‬ابتسمت غير مصدق‪ .‬كان غانو بمئزره األبيض التي تمأله الخربشات و الرسوم و‬
‫أسماء نجوم كرة القدم اإليطاليين الذين يعشقهم‪ .‬كان يقف مع بعض من تهيأ لي أني أعرفهم جيدا رغم مالمحهم‬
‫التي بدت متغيرة‪ .‬كان غانو يشير بسبابته إلى غرفة الصف األخيرة مبتسما بحماسة‪ ،‬كأنه يقول لي بأن الشخص‬
‫الذي أبحث عنه متواجد داخل صالة التدريس األخيرة‪.‬‬

‫من دون تردد‪ ،‬تقدمت نحو باب الصالة و ولجته و أنا أحيي صديقي بإشارة بإبهامي‪ .‬كان في الغرفة نحو ‪41‬‬
‫طالبا و طالبة‪ ،‬متوزعين على أربعة أو خمسة مجموعات متفرقة حول زوايا القسم‪ .‬أمعنت النظر و الرغبة في‬
‫رؤيتها تأكل قلبي‪ ،‬تحت وطأة فكرة عدم رؤيتي لها لسنوات طويلة‪ .‬رميتُ ببصري إلى آخر القاعة و حبستُ‬
‫أنفاسي لوهلة‪ .‬أخيرا‪ .‬ها هي ذي‪ ،‬تجلس فوق طاولة مشكلة حلقة صغيرة مع ثالث فتيات‪ ،‬يتجاذبن أطراف‬
‫الحديث‪ .‬كانت تقابلني بظهرها‪ .‬لم أ ستطع رؤية وجهها لكني كنت متأكدا من كونها هي‪ .‬شعرها الكستنائي الرائع‬
‫المشدود إلى الخلف مع بعض الخصالت الجانبية المسدولة فوق األذنين و الرقبة‪ ،‬كان الجسر الذي يختصر دوما‬
‫الميل األخير الذي أقطعه بين الشوق الحارق في رؤيتها و سيل اللقاء بها‪ ،‬الذي أرتوي منه كل مرة في آخر لحظة‬
‫و أخفف به على نفسي عطشها األزلي تجاه تلك األنثى‪.‬‬

‫أهون على نفسي مبتسما‪ .‬كنتُ أخبر نفسي بأن األمر‬


‫تقدمتُ نحوها و في قلبي غصة أعوام من االفتقاد‪ .‬كنتُ ّ‬
‫قد انتهى و أني لن أتركها اآلن إال و معي رقم هاتفها أو حسابها على الفيسبوك كي نتواصل و نتحادث حول ما هو‬
‫قادم‪ .‬وصلتُ إليها في اللحظة التي كانت تضرب كفها بكف إحدى صديقاتها و هي تضحك‪ .‬بدأتُ أسمع بعض‬
‫التعليقات المختلطة ببعض الضحكات األنثوية من الطالب اآلخرين و هم يتهامسون حولي‪...‬‬

‫_ '' انظروا إليه‪ ...‬انظروا إلى هذا القروي القذر‪ ...‬من أين له هذه الشاجعة التي تسمح له أن يأتي إلى هنا‬
‫بهيئة كهذه ؟‪.'' ....‬‬

‫نظرتُ إلي يدي فإذا بهما ممتلئتين ببقايا الصلصال‪ .‬كانتا بنيتين تماما‪ .‬نظرتُ إلى ثيابي فإذا بي ألبس نفس‬
‫المئزر الذي دأبت عل ى حمله حين أهم بمذاعبة الطين على الدوالب في ورشة آغاكال‪ .‬كان لونه األبيض متماهيا‬
‫مع لون التراب و بقايا الصلصال الجاف عليه‪ .‬لم أفهم ما كان يحدث‪ .‬غصت في لحظة تردد‪ .‬كيف لي أن أجعلها‬
‫تراني و أنا على تلك الحالة ؟‪ .‬كانت ال تزال ماضية في الحديث إلى زميالتها اللواتي رحن ينظرن إلي بتعجب و‬
‫دهشة أيضا‪.‬‬

‫كنت قد وصلت إليها و لم يكن لي مجال للتردد أو التراجع‪ .‬استجمعت أنفاسي مبتسما‪ .‬انتابني يقين من كوني‬
‫فخور بمن أكون و أني سوف أحب بهجة ما حييت‪ ،‬سواء كنت صحفيا أو صانع طين‪ .‬و إن كان عليها أن تحبني‬
‫فعليها أن تحبني كما أنا‪ .‬كنت متيقنا من أنها لن تخيب ظني في ذلك‪ .‬قلت أني سأعيش تلك اللحظة بكل ما فيها و‬
‫عليها فقط‪ ،‬لكن شيئا غريبا ما طرأ على المشهد فجأة‪ .‬كان أشبه بصوت انفجار هز الشارع في الخارج‪ .‬صوت‬

‫‪378‬‬
‫قريب من أصوات انفجار القنابل وسط شوارع البليدة التي ألفنا سماعها فيما مضى سنوات التسعينات‪ .‬اهتز المكان‬
‫و اضطرب التيار الكهربائي و تحركت الطاوالت من أماكنها و قفزت الكراسي إلى الصقف‪ .‬كل ما جاء على‬
‫خاطري تلك اللحظة هو أن ألعب دور الرجل الوطواط و أقفز على حبيبتي كي أحميها ببدني من أي شظايا‪ ،‬لكنها‬
‫كانت قد اختفت فجأة‪.! .....‬‬

‫فتحتُ عيني من ذلك الحلم على دوي غريب و شديد كان يجتاح الشقة‪ ،‬مع صوت طاغ الهتزاز أثاث غرفة‬
‫المعيشة‪ .‬أصوات احتكاك الخشب و الزجاج بشكل عنيف جعلني استفيق سريعا من صرعة النعاس و أنا أشعر بأن‬
‫األريكة تتراقص بي فوق البالط‪ .‬أدركتُ لحظتها بأن األمر ال يعدو أن يكون سوى زلزاال !‪.‬‬

‫أذكر أنه و بعد زلزال بومرداس عام ‪ ،4112‬بدأت تنتشر ثقافة الزالزل في البلد‪ .‬حمالت توعية و تحسيس و‬
‫تمارين في كيفية التصرف العقالني أثناء الهزات األرضية‪ .‬قيل لنا أن أول شيء يجب فعله حين يباغتنا الزلزال و‬
‫نحن نيام هو أن ال نركض مباشرة نحو الباب‪ ،‬بل أن نحتمي تحت الطاوالت أو نقف عند أركان المنزل‪ .‬أعتقد أن‬
‫كل ذلك كان مضيعة للوقت !‪ .‬ال أعلم فيما فكرت تحديدا تلك اللحظة كوني لم أستحضر شيئا من كل الذي قيل لنا‬
‫عن السلوك الصحيح أ ثناء الهزات األرضية‪ ،‬لكني و من دون أن أشعر وجدت نفسي أركض مباشرة نحو الباب و‬
‫أنا أنظر إلى جدران الشقة التي كانت تدنو من وجهي تارة و تبتعد تارة أخرى‪ ،‬مع أصوات ارتطام بعض األشياء‬
‫على األرض و تكسر أواني الزجاج‪ .‬فتحت باب الشقة مباشرة ألفاجأ بكل سكان العمارة يتدافعون عبر الدرج نحو‬
‫األسفل‪ .‬رجال بعباءاتهم‪ ،‬بعضهم يحمل أبنا أو اثنين بين ذراعيه‪ .‬شباب يقفزون فوق الدرج و هم يصيحون‪'' ...‬‬
‫عندك‪ ...‬عندك !‪ ..‬هللا أكبر !‪ ...‬يا ستار !‪ ...‬اجري‪ .! ..‬نساء يصرخن‪ .‬بعضهن يبكين‪ .‬بعضهن ينادين على‬
‫أقاربهن‪ .‬حتى أن بعضهن كن يتقافزن أمامي شبه عاريات !‪.‬‬

‫ببساطة‪ ،‬كان سكان العمارة كالسيل العارم الذي كان يمر أمام أنظاري وسط ذلك الديكور المهتز تحت أقدام و‬
‫فوق رؤوس الجميع‪ .‬لم أ ستطع التقدم من مكاني ألدخل وسط ذلك الجمع الهائل من الناس المتدافعين‪ .‬بقيت واقفا‬
‫مكاني ممسكا باب شقتي بيسراي في حين كنتُ أحمل شيئا ما بيدي اليمنى‪ ،‬أراقب ذلك العجوز السبعيني و هو‬
‫ينزل الدرج بخطوات بطيئة نسبية كآخر شخص من ذاك الحشد الهائج‪ .‬كان يمر لتوه من أمامي و هو يسب و يلعن‬
‫كل الذين سبقوه و تركوه خلفهم دون أن يستدير أحد نحوه‪.‬‬

‫_ ‪ ....‬شفت ؟‪ ...‬شفت يا وليدي ؟ !‪ ...‬هاذوا زعمة يقولولك مسلمين و يآمنوا بربي !‪ ...‬قريب ما رفسوني في‬
‫في‪ ..‬هللا يذلهم‪ ...‬هللا يذلهم !!‪ ....‬مراد‪ ....‬مراد !‪ ،‬وين راك يا وحد المصيبة ؟ هربت و‬
‫طريقهم‪ ..‬واحد ما خزر َ‬
‫سمحت في باباك !!‪...‬‬

‫_ سالمات‪ ،‬الحاج‪ ......‬سالمات‪..! ...‬‬

‫أجبته بصوت فيه نبرة تتأرجح بين الحذر و التهكم و أنا أرمق كل ما حولي بنظرات فاحصة وجلة‪ ،‬محاوال‬
‫التأكد من أن الهزة قد انتهت‪ .‬كان يبدو كل شيء قد عاد إلى االستقرار و هيمن صمت كامل على األرجاء‪ ،‬تخلله‬
‫حديث العجوز المسكين الذي كان قد اقترب من باب العمارة‪.‬‬

‫‪379‬‬
‫كان قلبي يخفق بشدة و أنفاسي تتقافز من صدري متسارعة‪ .‬كان ذلك مفعول األدرينالين بال شك‪ .‬دخلتُ الشقة‬
‫لكني تركتُ الباب مفتوحا‪ .‬لم أستطع طمأنة نفسي لكون الهزة الرئيسية قد انتهت و أن كل ما سوف يليها لن يكون‬
‫سوى بعض الهزات الصغيرة‪ .‬نظرتُ إلى يدي اليمنى فإذا بها ممسكة بحاسوبي المحمول !‪ .‬متى وصلت إليه و‬
‫كيف امسكت به و َلم لم تفلته‪ ،‬بل و َلم اختارته بدل أن تختار شيئا أصغر و أخف وزنا ؟‪ ....‬إنه الشعور‬
‫الصحفي !‪.‬‬

‫تفقدت حال الشقة التي لم تصب بأي ضرر واضح‪ ،‬ما عدى بعض األواني الزجاجية التي سقطت في المطبخ‪.‬‬
‫بعض الكتب التى وجدتها على األرض أمام مكتبتي الصغيرة و بعض إطارات الصور التي انفلتت من الجدار في‬
‫غرفة المعيشة‪ .‬خرجتُ إلى الشرفة‪ .‬كانت عشرات العوائل قد نزلت إلى الشارع‪ .‬بكاء األطفال كان طاغيا وسط‬
‫الكثير من الهمهمة و رنات الهواتف الخلوية‪ ،‬زامنه ارتفاع أبواق سيارات األمن و اإلسعاف التي راحت تنتشر‬
‫شيئا فشيئا عبر شوارع باب الواد المختلفة‪ ،‬التي بدأت أبنيته المتالصقة تخرج بحذر من ظلمة الليل إلى إشعاعات‬
‫الصباح األولى‪.‬‬

‫حين نزلتُ إلى شاطئ الرميلة‪ ،‬كانت أول مرة منذ أن سكنتُ باب الواد‪ ،‬أراه فيها ممتلئا بالناس و العائالت في‬
‫تلك الساعة الصباحية المبكرة‪ .‬بل قل أن رؤية شوارع العاصمة تعج بالناس من مختلف األعمار على السادسة‬
‫صباحا‪ ،‬أمر أشبه برؤية المصطافين يملئون شواطئ مستغانم أو وهران في شهر جانفي‪ .‬بدى الوضع غريبا و‬
‫غير اعتيادي بحق‪ .‬حتى أني لم أجد كرسيا عموميا شاغرا في الواجهة البحرية التي امتألت بالناس‪ ،‬حيث ذكرتني‬
‫بآخر مرة حصل فيها ذلك خالل لقاء المنتخب الوطني مع نظيره الكوري الجنوبي قبل شهرين من تلك الصبيحة‪.‬‬

‫أجريت بعض المكالمات الهاتفية مع أمي‪ ،‬أبي‪ ،‬عيشة و البشير الذي اتصل من ثكنته في الصحراء ليطمئن‬
‫على حالي‪ .‬خاصة و أن كل األخبار كانت تشير إلى أن مركز الهزة كان في ساحل بولوغين بن زيري‪ ،‬المجاور‬
‫لباب الواد‪ ،‬و هذا ما جعلني أفهم سبب قوة الهزة‪.‬‬

‫حين كانت السادسة و النصف‪ .‬كانت معظم األنفس قد هدأت و زال خوفها و صدمتها‪ .‬رغم ذلك فأغلب الناس‬
‫لم يعودوا إلى منازلهم‪ .‬ربما كونهم قد استلطفوا النسمات الصباحية للشاطئ‪ ،‬و الجماعات التي شكلوها حول‬
‫أحاديثهم و ثرثرتهم قد شجعتهم على البقاء لفترة أطول على طول الواجهة‪ .‬البعض نزل إلى الشاطئ ليتمشى قليال‬
‫أو يجلس على حافة البحر‪ .‬حتى األطفال الصغار كانوا قد استلطفوا ذاك الجو غير االعتيادي‪ ،‬و ربما يكون قد‬
‫ساعدهم على تخطي الفزع الذي اختطفهم من نومهم و أحالمهم الصغيرة‪ .‬الحقيقة أني كنتُ في تلك اللحظة أفكر‬
‫في الحلم الذي رأيت قبل الهزة‪ .‬كان ذاك من نوع األحالم التي طالما سببت لقلبي هزات عنيفة‪ ،‬حين كنتُ أستيقظ‬
‫منه وسط حرائق من الغضب و األسى التي ظل ضميري و شوقي يشعالنها عبثا في نفسي أثناء النوم‪ ،‬تحت‬
‫مبررات أخرى‪ ،‬تماما كما تُشعل النيران العبثية التي تلتهم غابات تيزي وزو و البويرة سنويا‪ .‬من قال أن‬
‫االحتقانات يمكن أن تخمدها النيران ؟ !!‪.‬‬

‫‪380‬‬
‫في الماضي‪ ،‬كنتُ أشتاق إلى رؤية بهجة إلى حد االختناق و أنا صاح‪ ،‬فإذا غفوت جاءتني على جناح السرعة‬
‫بمالمح شبحية غير واضحة‪ .‬لقد ضلت في أحالم نومي تضع دوما أقنعة من الضباب و الدخان‪ .‬تجلعني أرى‬
‫وجهها بعاطفتي األولى تجاهها‪ ،‬لكني ال أراه يقينا بعيني‪ ،‬ثم كانت كل مرة تفلت مني في اللحظة التي أكاد أتيقن‬
‫فيها من أنها في قبضتي‪ ،‬كفكرة متمردة‪ ،‬أدرك نصفها و يغيب عني النصف اآلخر‪ ،‬فيضيع مني المعنى برمته‪ ،‬ثم‬
‫أستفيق من نومي على حال ال تسر‪ .‬أحيانا كان الشوق‪ ،‬أحيانا كان الندم‪ ،‬أحيانا كان الغضب‪ ،‬أحيانا كان االستسالم‬
‫و اليأس و التناسي‪.‬‬

‫أشعلتُ أ ول سيجارة ليومي و أنا أتمشى مراقبا الناس على طول الواجهة البحرية و كنتُ أفكر مع نفسي‪ .‬كيف‬
‫لي أن أغضب هكذا كوني ال أزال غير قادر على العثور عليها مجددا ؟‪ ،‬و أنا الذي اختار الفرار من جرحها‬
‫كالجبان‪ .‬رحلت عن البليدة هربا من ذكراها و بسمتها التي ال ت ُقاوم‪ .‬هربتُ كجندي جبان ال يقوى على تحمل آالم‬
‫المعركة‪ .‬ثم جئت إلى العاصمة حيث ضللت أتعامل مع ذكرى حبها كالعميل المزدوج‪ ،‬تارة أعود إليه‪ ،‬تارة أفر‬
‫منه إلى عملي‪ .‬ثم انتهت بي أسباب كل ذلك في بالد القبايل كالجاسوس الالجئ‪ ،‬ألعود أدراجي من كل تلك الرحلة‬
‫كالخائن التائب‪ ،‬أبحث عنها علي أحاول مجددا استدراك كل ما فات‪ .‬لعلي أتصالح مع تاريخ قلبي كما تصالحت‬
‫مع تاريخ هذا الوطن‪.‬‬

‫_ '' كيف أعود إليها ؟‪ ....‬ربما كان هذا هو الوجه الخفي لقلق السؤال‪ ،‬إن شبَّهتُ هذا األخير بقمر كان دوما‬
‫يدور حول كوكب أفكاري و عالمي الصغير و هو يرسم مناخه و تقلباته التي تصوغ شكله و مصيره !!! ''‪.‬‬

‫قلتُ في نفسي متنهدا و أنا أسحق عقب السيجارة بقدمي‪ .‬بقيتُ واقفا هنيهة أحاول أن أجد مقاربة أخرى‬
‫تمكنني من الوصول إليها‪ .‬لم أجد شيئا أفضل من تلك الفكرة القاسية نوعا ما علي‪ ،‬لكنها كانت األكثر إقناعا و‬
‫تدرس‪.‬‬
‫رجاحة على األقل‪ ،‬و هي أن أنتظر الدخول المدرسي و أذهب لرؤيتها حيث ِّ ّ‬

‫رحتُ أحك رأسي‪ .‬بل في تلك اللحظة كرهتُ نفسي كثيرا ال لشيء‪ ،‬سوى لكوني شخص يفكر كثيرا !‪ .‬ثم‬
‫قلت في نفسي أنه يجدر بي أن أعود إلى الشقة و أنام طيلة النهار لعلي أقلص ساعات ذاك األلم على نفسي‪ ،‬ثم‬
‫أستيقظ مساء ألذهب و أمضي ما بقي من عطلة نهاية األسبوع في البليدة‪.‬‬

‫خطوت على األرجح خطوتين باتجاه الرصيف كي أقطع الطريق‪ .‬التفت إلى يميني ثم توقفت عند حافة‬
‫الطريق تماما‪ .‬التفت إلى يساري منتظرا خلو الطريق من السيارات التي كانت تعبره‪ .‬التفت إلى يميني مرة اخرى‬
‫بحركة عفوية تماما‪ ،‬ثم بقيت واقفا على تلك الحال‪ .‬خلت الطريق من السيارات حيث عبر الناس من كلى حافتي‬
‫الرصيف‪ ،‬لكني لم أتحرك من مكاني‪ .‬شخص بصري و أنا ال أزال أنظر إلى يميني‪ ،‬إلى تلك التي كانت تقف على‬
‫بعد نحو عشرين مترا أو يزيد بقليل‪ .‬كانت تقابلني بظهرها و هي تقف رفقة فتاتين أخريين‪ .‬طول بنحو متر و‬
‫خمسة و ستين سنتيمترا‪ .‬حذاء نسوي أبيض بدون كعب‪ .‬سروال جينز داكن‪ .‬قميص نسوي صيفي بلون أزرق‬
‫فاتح و لطيف‪ .‬محفظة نسوية بيضاء‪ ....‬و شعر أملس بلون كستنائي يميل إلى اللون البني‪ ،‬ملتف و مشدود إلى‬

‫‪381‬‬
‫األعلى‪ ...‬مع خصالت منسدلة على الجانبين‪ .! ...‬ربما يتقرر مقدار الحظ الذي يتدفق بغزارة غير متوقعة على‬
‫بعض الناس في صباحات مماثلة لذاك الصباح !‪ .‬ربما كنتُ أحدهم هذه المرة‪ ،‬لسبب ما ؟‪.‬‬

‫_ ‪ُ ......‬محال‪..! ...‬‬

‫همست بين شفتي‪ ،‬بنبرة راجية أكثر منها يائسة‪ .‬لكن األمر حصل معي دوما في الماضي‪ ،‬في المرات القليلة‬
‫التي كنتُ التقي فيها ببهجة صدفة‪ ،‬حين أراها من بعيد‪ ،‬و ينتابني الشك من كونها هي‪ ،‬الشك من كوني أهذي و‬
‫أختلق لها الشبيهات حين أعقلن األمر قائ ال أنه الشوق الذي يمارس علي أالعيبه الذهنية اللعينة‪ ،‬حين أغوص في‬
‫ذلك اليقين خالل لحظات قصيرة قد تحسب بثوان فقط‪ .‬يقين ينبع من أعماقي أعماقي يخبرني أني غير مخطئ و‬
‫أن التي أراها عن بعد و أعجز عن التأكد من كونها هي أم فتاة أخرى‪ ،‬إنما هي فعال‪ '' ...‬هي '' !‪.‬‬

‫هذا ماحدث تماما تلك اللحظة‪ .‬هي لم تلتفت كي أقطع شكي باليقين‪ ،‬لكن ذاك اليقين الدالخي كان يؤكد لي أنها‬
‫هي !‪ .‬لم أنتظر طويال‪ .‬خطوت بتأن و حذر نحوها حين تباطأت حركة كل شيء من حولي‪ .‬كانت الخطوة التي‬
‫تلي األخرى كأنما تحسب بعشرات األميال التي راحت تتقلص بشكل معجز و عجيب‪ .‬كنتُ أرى نفسي و أنا أدنو‬
‫منها تماما كما حدث في حلمي المبكر‪ ،‬مضطربا‪ ،‬أكاد ابتسم‪ ،‬سوى أن دقات قلبي تلك اللحظة كانت تتسارع عكس‬
‫ما حدث في الحلم‪.‬‬

‫حين بقي بيني و بينها نحو ثمانية أمتار‪ ،‬أخذت نفسا عميقا محاوال السيطرة على اضطرابي‪ .‬يا اله كم كنتُ‬
‫مضطربا !‪ .‬لم أستطع حصر األمر في سبب واحد‪ .‬كانت أسبابا كثيرا و متقاطعة و متدافعة و متداخلة و متماهية‪.‬‬
‫شيء من السعادة و االمتنان حيال الحاضر‪ .‬شيء من الحزن و األلم المنبعث من الماضي‪ .‬شيء من األمل و‬
‫الرجاء تجاه المستقبل‪ .‬كنتُ أخطو نحوها و قد ارتسمت على وجهي بسمة تلقائية حين كنتُ أتأكد مع تتالي‬
‫الخطوات األخيرة أنها فعال '' هي ''‪ .‬توقفتُ عند المتر الخامس أو أقل بقيليل عنها‪ .‬نظرت إلى إحدى رفيقتيها و أنا‬
‫أوجه لها تحية بإماءة برأسي‪ ،‬فردت علي بنفس الحركة و هي تهمس لبهجة بكالم جعلها تستدير نحوي‪.‬‬

‫ما الكلمات المناسبة التي يمكن أن أصف بها اللحظة التي رأيتُ فيها وجهها الذي عشقته منذ األزل ؟‪ .‬ال شيء‬
‫يحاكي سحر اللحظة‪ .‬خاصة و أن أشعة الشمس الصباحية كانت تأتي من خلفي قافزة بلهفة من على كتفي و هي‬
‫تصب شيئا يشبه الخلود على ذاك الوجه الذي يشبه الحياة نفسها‪ ،‬إلى درجة جعلتني أبهت و أتجمد مكاني عاجزا‬
‫عن اإلتيان بأي حركة أو كلمة‪ .‬فعال‪ ،‬مضى وقت طويل جدا لم أر فيه مالمح وجهها الطفولي المشرق بذاك‬
‫الوضوح و الصفاء‪ .‬أجل‪ ،‬كانت فعال هي‪ ...‬كانت قطعا بهجة !!‪ .‬لم يكن ذلك وهما‪ ،‬بل كان وحما ورديا لطيفا‬
‫ت كل هذه القرون أيتها القطعة الحية‬
‫خرج به واقعي غير المنتظر من رحم تلك الصبيحة العارية‪ '' .‬بربّك‪ ،‬أين كن ِّ‬
‫الهاربة من الجنة ؟ ! ''‪.‬‬

‫ْ‬
‫نظرت إلي و كأنها تستجوب شيئا ما‬ ‫لم تحرك ساكنا هي األخرى على عكس ما كان يحدث في الماضي !‪.‬‬
‫في نفسها‪ ،‬أو أنها كانت تستذكر تلقائيا شيئا آخر‪ .‬كانت كأنما تفكر أو تتذكر‪ ......‬ال أدري‪ .‬لكنها بقيت على تلك‬
‫الحالة متجدمة الوجه لنحو ستة أو سبع ثوان‪ ،‬قبل أن ترفع حاجبيها أخيرا و هي تبتسم‪...‬‬

‫‪382‬‬
‫_ ‪ ......‬وشاكي ؟ !‪ .....‬يا اله‪ ،‬وشاكي !!‪.....‬‬

‫كان في نبرتها شيء من عدم التصديق‪ .‬تقدمتُ نحوها بخطوة و تقدمت نحوي بثالث خطوات كاملة و هي‬
‫تزيد من وضوح بسمتها و انفتاح سرائر وجهها الدائري الساحر‪...‬‬

‫_ وشاكي‪....‬واو !!‪ ...‬مضى وقت طويل !‪...‬‬

‫_ هه أجل‪ ...‬مضت سنوات في الحقيقة !‪...‬‬

‫_ كيف حالك ؟‪.‬‬

‫أحوالك ؟‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ت ما‬
‫_ بخير‪ .‬و أن ِّ‬

‫_ بخير‪ ...‬بخير‪...‬‬

‫كانت تهز رأسها مبتسمة‪ ،‬في اللحظة التي بدأت تلك الحرارة تختفي من على وجنتي و راحت نفسي تتخلص‬
‫من ذاك الزلز ال االنفعالي االعتيادي الذي يصيبها في كل لقاء غير متوقع مع هذه األنثى العجيبة‪ .‬وضعتُ يدي في‬
‫جيبي حين مالت هي برأسها مقطبة حاجبيها بشكل ساخر‪....‬‬

‫_ ما الذي تفعله هنا ؟‪.‬‬

‫_ هاه !‪ ،‬يجدر بي أن أوجه إليك نفس السؤال‪ .‬ما الذي تفعلينه هنا ؟‪ ....‬ال يعقل أن تقولي لي أنك رحلت عن‬
‫البليدة أيضا ؟‪..‬‬

‫_ ال‪ ...‬ال‪ ،‬إطالقا‪ .‬خالتي تقطن هنا و قد أتيت البارحة ألمضي الليلة مع بناتها – التفت إلى الفتاتين األخريين‬
‫– هذه حميدة و مونيا‪ ...‬هذا أمين‪ ،‬زميل قديم لي منذ أيام اإلعدادية‪...‬‬

‫حييت الفتاتين بحركة من يدي‪ ،‬ثم س َّمرت أنظاري العطشة فيها حين التفتت إلي مرة أخرى‪..‬‬

‫_ لو علمتُ أن هذا الزلزال المرعب كان سيهز العاصمة لما أتيت البتة‪ ،‬لقد كدنا نخرج بمالبس نومنا حافيات‬
‫من فرط الفزع‪ .‬أمر محرج جدا‪ ...‬تبهديلة‪ ،‬ربي ستر من الفضيحة !!‪..‬‬

‫أطلقت ضحكة من ضحكاتها الساحرة التي طالما كانت تقتلني ثم تبعثني إلى الحياة و أنا أكثر جنونا بها‪ .‬كانت‬
‫تضحك ملتفتة مرة أخرى إلى الفتاتين‪ ،‬حين كنتُ أشكر بصمت هذا الزلزال الذي القاني بها من أعماق قلبي‪...‬‬

‫_ إذن‪ ،‬أنتَ تقطن هنا ؟‪.‬‬

‫_ اه‪ ...‬أجل‪ ..‬أجل‪ ،‬هناك على بعد شارعين من هذا الشارع‪ ،‬و أشتغل في صحيفة النبأ اليومي‪..‬‬

‫‪383‬‬
‫_ ها قد صرت صحفيا !‪ ..‬سمعتُ هذا من أحدهم قبل مدة‪ ،‬ال أعلم من بالضبط‪ ،‬لكني لم أتأكد حتى هذه‬
‫اللحظة‪..‬‬

‫_ ال تطالعين الجريدة ؟‪..‬‬

‫_ ال‪ ...‬ليس كثيرا‪ ،‬بصراحة‪.‬‬

‫كان لجوابها الصريح لمسة خيبة عبرتني لوهلة محاولة جلبي إليها بمكر‪ ،‬قبل أن أرميها بسرعة خلف ظهري‬
‫و أعود إلى بهجة‪...‬‬

‫عنك ؟‪.‬‬
‫_ ماذا ِّ‬

‫أدرس اللغة االنجليزية في الثانوية‪.‬‬


‫_ ِّ ّ‬

‫_ أه‪ ،‬هذا جيد‪ ..‬جيد‪..‬‬

‫_ أجل‪...‬‬

‫كانت ال تزال تبتسم حين مدت يدها البيضاء الرقيقة نحو صدغها مرتبة بعض خصالت شعرها الرائع فوق‬
‫أذنها بسبابتها‪ .‬نظرتُ إليها بصمت‪ .‬بدأت أفقد تركيزي و ثباتي مرة أخرى‪ .‬كانت الحركة التي تذكرني بأول لقاء‬
‫بيننا قبل نحو ‪ 02‬عاما !‪ .‬الحركة التي تجعلني فجأة أدخل في شلل ذكوري تعلوه نظرة غبية‪ ،‬حين أنطلق في‬
‫الحملقة في ذاك الشعر و ذاك الوجه األنثوي المغري‪ ،‬مع تلك القوة الخفية التي بدأت فجأة في التسلل إلي و تعذيبي‬
‫بصمت و مكر‪ ،‬كأنها أعواد ثقاب تشتعل على حين غرة تحت أناملي‪ ،‬ال لشيء سوى أنها تود مداعبة تلك‬
‫الخصالت عساها تطفئ تلك النار المنبعثة من قلبي‪ .‬نار أعوام من الشوق و االفتقاد و الرغبة‪.‬‬

‫أظنها قد الحظت شيئا ما في صمتي‪ ،‬فسارعتُ إلى قطعه مجددا‪...‬‬

‫_ اه‪ ..‬هل من أخبار عن األصدقاء السابقين ؟‪.‬‬

‫_ ال‪ ...‬ال شيء‪ .‬ال أثر لهم على اإلطالق‪ .‬أحيانا أعجب من اختفائهم هذا !‪..‬‬

‫ت هذه الفكرة من ذهني !‪ .‬ال أثر للجماعة على اإلطالق‪ ،‬سوى غانو الذي ال أزال أزوره‬
‫_ أجل‪ ....‬لقد اختطف ِّ‬
‫مناسباتيا في محله لتصليح الهواتف‪...‬‬

‫_ آه‪ ...‬أجل‪ ...‬أجل‪ ،‬لقد مررت به قبل مدة لتصليح هاتفي الخلوي‪ .‬هو لم يتغير كثيرا أيضا !‪ .‬دوما ودود و‬
‫أنيق في ملبسه‪.‬‬

‫التفتت إحدى الفتاتين نحو جانب الطريق في حين نادت األخرى على بهجة‪ .‬كان هنالك شاب ركن سيارته‬
‫للتو بجانب الرصيف‪ .‬نظرت إليه بهجة ثم التفتت إلي‪...‬‬

‫‪384‬‬
‫سررت بلقائك‪...‬‬
‫_ ها قد جاء ابن خالتي‪ .‬سيأخذنا إلى البليدة‪ُ .‬‬

‫_ اه‪ ...‬أ‪ ...‬أنا أيضا‪ .‬سررت كثيرا برؤيتك‪...‬‬

‫الحقيقة أن كلماتي ضاعات مني تلك اللحظة كوني كنتُ أبحث عن صيغة لغوية مناسبة و غير مثيرة للشبهة‬
‫تمكنني من طلب رقم هاتفها‪ ،‬لكن كل ما كان يدور في رأسي لحظتها و أنا أرى الفتاة تلوح لي بيدها و تهم‬
‫بالمغادرة هو جملة واحدة‪ '' ...‬اطلب رقم هاتفها‪ ...‬اطلب رقم هاتفها‪ ....‬أيها الغبي تحرك و اطلب رقم هاتفها‪...‬‬
‫إنها تغادر‪ ....‬اطلب رقم هاتفها ! ''‪..‬‬

‫_ بهجة‪.! ...‬‬

‫نظرت إلي في صمت و ترقّب كامل‪.‬‬


‫ْ‬ ‫التفت إلي حين كانت قريبتيها تهمان بركوب السيارة‪.‬‬

‫_ ام‪ ...‬اه‪ ....‬ليدك حساب على الفيسبوك‪ ...‬؟‪.‬‬

‫بقيت صامتة لنحو أربع ثوان ثم هزت رأسها مبتسمة‪...‬‬

‫_ طبعا‪ .‬من ال يملك حساب فيسبوك هذه األيام ؟‪ ...Bahdja Insomnia .‬أعاني األرق كثيرا حتى تفهم‬
‫سبب هذا البسودو الغريب‪...‬‬

‫أطلقت ضحكة و هي تميل برأسها‪ ،‬كأنها تتهكم على حالها لسبب ال يعرفه أحد سواها‪...‬‬

‫لك دعوة صداقة في أقرب وقت إذن‪...‬‬


‫_ أرسل ِّ‬

‫تأملتني بصمت للحظة‪ .‬ثم ابتسمت و هي تهز رأسها أن نعم‪ .‬ثم ركبت السيارة مغلقة بابها الخلفي األيمن‬
‫ملوحة لي بيدها مبتعدة و آخذة معها معظم تلك األنوار الصباحية التي كان يشع بها شارع ميرة قبل لحظات فقط‪.‬‬
‫ّ ِّ‬
‫كل شيء هدأ فجأة من حولي و انتباني شعور بأني أقف فقط وسط عالم من األشياء المألوفة جدا‪.‬‬

‫رجلك األوحد بال منازع‪ ،‬منذ اليوم األول الذي جلستي فيه‬
‫ِّ‬ ‫_ اللعنة علي !‪ ،‬كان يجدر بي أن أكون‬
‫بجانبي !!‪....‬‬

‫يكف أني أخيرا أطفأتُ حرقة عيني ببياض‬


‫ِّ‬ ‫ال شيء رغم ذلك يعادل لحظة نصر عاطفي على صغرها‪ ،‬ثم ألم‬
‫وجهها ذو المالمح الطفولية العفوية األبدية‪ .‬وجهها الذي دندن طفلي الصغير بداخلي حد الغفوة الجميلة‪ .‬وجهها‬
‫الذي حاك أطيب ما في الرجل الذي أنا عليه اليوم ؟!‪ .‬أدركتُ فورا أني و ألول مرة و منذ أن عرفتُ هذه المرأة‬
‫الطفلة التي لم تكف يوما عن إدهاش الصبي الصغير بداخلي‪ ،‬لم أشعر بشيء من األسى يعتصر قلبي و أنا أراها‬
‫تبتعد عني‪ .‬كان ذاك جزء من ماض مبهم بيننا‪ ،‬كنتُ مصرا حد الموت على عدم تكرره أبدا‪ .‬ال !‪ .‬كنتُ بحاجة إلى‬
‫بعض الدقائق كي أصدق ذلك‪ ...‬بيني و بين بهجة‪ ،‬و ألول مرة منذ أن عرفنا بعضنا‪ ،‬صار هنالك '' رابط '' – و‬
‫أصر على أن الباقي سيأتي‪ .‬سأجعله يأتي رغما عنه !‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لو رقمي – يجمعنا !!‪ .‬كان يجب أن‬

‫‪385‬‬
‫ماذا بقي ألقول عن كل الذي حدث في نفسي ؟‪ .‬الحب ؟‪ .‬الحب‪ ،‬كالكلمات‪ ،‬يمكن أن يغير مصائرنا فعال‪ ،‬كما‬
‫اعتقد الفخارجي‪ .‬يمكن للحب أن يصنع منا أشخاصا مختلفين ت ماما‪ ،‬و من لم يجد طريق الصلح مع قلبه‪ ،‬سيصعب‬
‫عليه الحديث عن الصلح مع أي شيء آخر في هذا العالم !‪.‬‬

‫كنتُ أرى نفسي و أنا ابن السابعة‪ ،‬هناك وسط بستان بيتنا البليدي‪ ،‬أقفز فرحا و غبطة‪ ،‬بعدما حطت فراشة‬
‫الماكاو على وردة حمراء كاملة التفتح‪ ،‬متشبّعة بقطرات الندى و بركة الشمس‪ ،‬تفيض بالعبير و الحياة !‪.‬‬

‫________________________________________________________‬

‫مدينة البليدة في ‪.4109/19/42‬‬

‫‪386‬‬
387

You might also like