وزارة الثقافة ،الهيأة العامة السورية للكتاب (دمشق) سنة2011 : عدد الصفحات514 :
أوالً :في السياق والدواعي
ربما يطرح السؤال حول راهنية العودة إلى كتاب ألف في أواخر القرن التاسع عشر ،بما يعني ذلك ،تباع ًدا زمن ًًّ6يا وسياق ًًّ6يا ومجال ًًّ6يا (الكتاب يتحدث عن ظاهرة االنتحار في أوربا) وتاريخ ًًّ6يا وحتى سوسيوثقاف ًًّ6يا؟ بدوري طرحت على نفسي هذا السؤال قبل االطالع على الكتاب ،لكن ما إن بدأت في قراءته حتى تبين لي قيمته المعرفية واالبستمولوجية والمنهجية ،أل ّنه ليس كتابًا عاد ًًّ6يا ،مثل الكتب التي نقرأها في اآلونة األخيرة ،وليس دراسة خاصة باالنتحار في أوربا ،وال حتى كتابًا يعود إلى القرن ،19وبالتالي ال حاجة لنا في العودة إليه .بل إ ّنني أعتقد أنّ ما من باحث في السوسيولوجيا وفي العلوم اإلنسانية بصفة عامة ،إال .ويجب أن يقرأ هذا الكتاب ،لما يتضمنه من رصيد معرفي ومنهجي ثري ،قلما يتوفر في كتاب ونحن إذ نباشر قراءة هذا المؤلف ،ال بأس من بسط بعض المعطيات العالمية حول ظاهرة االنتحار ،فحسب آخر تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية لسنة ،2014تحدث عن أنّ العالم يشهد حالة انتحار في كل 40ثانية ،بما مجموعه أكثر من 800.000شخص ينتحرون في السنة .وهذا يعني أنّ الظاهرة عالمية وهي ال تفتأ تستفحل سنة بعد أخرى ،هذا على الرغم من أنّ المعطيات المستقاة من طرف المنظمات العالمية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية ،تبقى تقديرية وتقريبية .ألنّ العديد من الدول ،كما هو معروف ،وخصوصًا دول .العالم اإلسالمي ،ال تتوفر على سجالت إلحصاء المنتحرين ،وذلك العتبارات دينية وثقافية ليس المجال مناسبًا لبسطها في هذه القراءة ولكي نوضح طبيعة معضلة االنتحار ،فإنّ المثال التالي الذي نسوقه من دولة الهند ،يبين لنا بالملموس كيف أنّ هذه الظاهرة تبقى مؤرقة على نحو مستمر ،فحسب اللجنة القومية لسجالت الجريمة بالهند ،ما بين عامي 1995و ،2007أكثر من 184000مزارع انتحروا، هربًا من الفاقة والعوز .ولم يستطع هؤالء المزارعون تسديد الديون التي اضطروا إلى اقتراضها من أجل شراء المخصبات والمبيدات والوقود“ ..وقد ساهم كل ما سبق في تكوين طبقة اجتماعية جديدة تعرف باسم الفالحين األطفال ،على نحو ما يشير إليه تقرير لوكالة األنباء المحلية ،..ففي المناطق التي تسجل فيها حاالت انتحار عالية تتجه األرامل الشابات إلى تربية األبناء في ظروف من الحرمان الشديد “.ويسيطر عليهن شبح مستقبل كالح مفزع وبعي ًدا عن لغة األرقام والمعطيات اإلحصائية ،فإنّ الواقع الحالي ،ينبئ بتحول عميق في منظومة القيم المجتمعية لدى كل دول المعمورة. وقد برزت بشكل حاد ،حاالت من القلق الحضاري الذي بدأ ينتاب البشرية كلها ،وبدأ معها السؤال الوجودي يتجدد؟ ما مصير اإلنسان؟ وما هو هدفه في الحياة؟ وما معنى الحياة أصالً؟ إلى غيرها من األسئلة المحرقة التي باتت تؤرق البشرية برمتها في ظل تعدد المرجعيات ضا من الجواب عن حيرة اإلنسان الدينية والثقافية والقانونية والسياسية وما إلى ذلك .ولعنا نجد في استشرافات الكثير من الباحثين بع ً المعاصر ،الذي “أصبح يلهث وراء المال ،ووراء البحث عن الطريف والجديد والصارخ والمتفرد ،فبدأ ينغمس في العوالم االفتراضية بحث ا عن التسلية الواهية ،فيحصل له التبدد ثم الضياع “ .وأصبح يعيش في عزلة تامة ،على الرغم من قوة التدفقات التكنولوجية الوهمية ً التي بدأت تحيطه من كل جانب؟ وهو األمر المفارق للغاية ،في ظل حضور أشكال التواصل الالمتناهية ،فإنّ اإلنسان المعاصر ،يحس .باليتم واالنعزال ،مما يدفعه إلى التفكير في مجموعة من الحلول ،لعل من بينها األكثر دراماتيكية ،االنتحار فكيف يشرح لنا دوركايم ،هذه الظاهرة؟ هل يرجعها إلى ما هو سيكولوجي؟ أم إلى ما هو كوني طبيعي؟ أم إلى محددات عرقية وإثنية؟ أم إلى معطيات طبيعية كالطقس وتغيراته؟ أم إلى أسباب اقتصادية وصناعية؟ أم إلى اعتبارات اجتماعية مرتبطة بالهشاشة والفقر والعوز؟ أم إلى تفكك الرابطة األسرية والعائلية بشكل أوسع؟ أم إلى تراجع دور الدين في تأطير المجتمع؟ أم إلى وجود تحوالت سوسيوثقافية وسوسيواقتصادية ،هي التي دفعت بالظاهرة نحو البروز بشكل الفت للنظر في أواخر القرن 19؟ وما هي أنواع االنتحار التي توقف عندها دوركايم؟ وما هي التفسيرات التي توصل إليها لشرح سوسيولوجيي للظاهرة؟ وأخيرً ا ما هي المداخل التي يقترحها “دوركايم” للخروج من معضلة االنتحار الكونية؟ ثانيا :في مورفولوجية الكتاب /األطروحة نظرً ا للخصوصية التي يتميز بها “دوركايم” والتي تتمثل في الطابع الجدالي والنقدي الذي ينتهجه في الكتابة السوسيولوجية ،فإنّ الكتاب/ األطروحة ،ممفصل على ثالثة أبواب .نجد في الباب األول ،تساؤالً عن معنى االنتحار من خالل الوقوف عند األسباب الالاجتماعية ،وهو الذي يضم أربعة فصول :األول (االنتحار والحاالت السيكولجية) ،والثاني( ،االنتحار والحاالت السيكولوجيية السوية) ،والثالث (االنتحار والعوامل الكونية) ،وأخيرً ا (االنتحار والمحاكاة) .أما الباب الثاني فهو عبارة عن نقد لألطروحات السابقة التي وردت في الباب األول ،وهي التي اختار لها الباحث اسم :األسباب االجتماعية لالنتحار ،والتي تتوزع على ستة فصول :أولها (منهج لتحديد األسباب والنماذج) ،ثانيها (االنتحار األناني) ،وثالثها (االنتحار الغيري) ،ورابعها (االنتحار الفوضوي) ،وخامسها (األشكال الفردية لمختلف نماذج االنتحار) .في حين أنّ الباب الثالث ،من الدراسة ،تضمن أهم الخالصات التي توصل إليها الباحث ،حيث عنون هذا الباب ،بـ”االنتحار كظاهرة اجتماعية بوجه عام” ،وفيه نجد ثالثة فصول :األول (العنصر االجتماعي لالنتحار) ،والثاني (صالت االنتحار بالظواهر االجتماعية األخرى) ،وأخير (.نتائج عملية) وهي التي يطرح فيها االقتراحات والحلول للخروج من معضلة االنتحار هكذا يتبين من خالل هذه الهيكلة المتناسقة ،الطرح العلمي والمنهجيي والنقدي الذي اعتمده “دوركايم” في قراءة ظاهرة االنتحار .ولعله بهذا .الطرح ،يفتح آفاقا جديدة في التعامل مع الظاهرة التي تقع على أرضية مشتركة بين العديد من التخصصات العلمية ثالثا :منهجية الدراسة عندما تطالع كتاب “االنتحار” ،تفهم كيف تطورت الظاهرة عبر الحقب الزمنية والتاريخية ،وكيف كانت الظاهرة تعاش في العديد من الثقافات والديانات والخصوصيات السوسيوثقافية .ولم يكن ليتوفر ذلك ،بدون منهج واضح للمؤلف ،إذ أ ّنه آلى على نفسه أال يقحم في كتابه إال ما هو مؤكد من المعلومات ،حيث يقول في هذا الصدد …“ :فقد اتخذنا قاعدة لنا بأن ال نقحم في أبحاثنا معلومات غير مؤكدة بقدر ما هي مفيدة علم ًًّ6يا” .وأكثر من ذلك ،فإنّ المؤلف اجتهد في الوصول إلى مجموعة كبيرة ومتنوعة من اإلحصائيات والمعطيات واألرقام والخرائط التي تبين تطور ظاهرة االنتحار في مجموعة من الدول األوربية في نهاية القرن .19وهذه المعطيات – وجب أن نعترف أ ّنه ليس من السهل على باحث بمفرده أن يجمعها ويبوبها ويستخلص منها خصائص الظاهرة – تبقى جد هامة في توضيح العديد من .الفرضيات التي قد يطرحها كل متتبع ومهتم بظاهرة االنتحار سواء في أوربا أو في غيرها من القارات والدول وعندما نتوقف عند هذا المعطى ،لكي نبين حجم الجهد الذي يتكبده الباحث ،في سبيل توضيح ظاهرة ما .فعلى سبيل المثال :تداول العديد من الباحثين ،فرضية أنّ االنتحار قد يكون في األشهر الباردة من السنة ،خصوصا ونحن نعلم أنّ بعض الدول في أوربا (االسكندنافية منها)، تعرف شتا ًء طويالً يمتد إلى ستة أشهر .ولهذا تتبع “دوركايم” اإلحصائيات السنوية والشهرية ألعداد المنتحرين في أوربا ،ليجد أنّ الشهور .التي يكثر فيها االنتحار ليست هي الشهور التي تقع في فصلي الخريف والشتاء ،وإ ّنما هي التي تقع في فصلي الربيع والصيف من بين الخصائص المنهجية التي تش ّدك في كتاب “االنتحار” ،هو قدرة دوركايم على تطبيق المنهج المقارن بنوع من الحرفية العالية ،ففهم ظاهرة من الظواهر ،سواء دينية أو سياسية أو اجتماعية أو رياضية أو فنية ..يقتضي وضعها في سياقها المقارن .الستخالص النمذجات الضرورية لقراءة الظاهرة .ولهذا فقد استطاع دوركايم من خالل تدقيقه في مختلف خصائص الظاهرة ،أن يستجلي نماذج لالنتحار فردية، وهي :األناني ،الغيري ،الفوضوي .ثم نماذج أخرى مختلطة وهي :انتحار أناني-فوضوي ،انتحار فوضوي-غيري ،وأخيرً ا ،انتحار أناني- غيري .ولعل هذه الميزة قلما تجدها في الدراسات السوسيولوجية ،والتي تكثر فيها المعطيات واألرقام واإلحصائيات والجداول ،إلى درجة يغيب معها المعنى وتشت الفكر .لكن منهج دوركايم ،كان جد موفق ،أل ّنه انتهج الخطوات الثالث في البحث السوسيولوجي ،وهي الوصف والتفسير وأخيرً ا االستشراف ،فهو لم يتوقف في لحظة وصف الظاهرة ،بقدر ما سعى إلى إيجاد تفسير مقنع لها ،وأخيرً ا توصل إلى وضع .بعض االستشرافات الممكنة لتجاوز هذه المعضلة ال يمكن أن تقرأ كتاب “االنتحار” بدون أن تستخلص أهم فكرة إبداعية بلورها “دوركايم” وأصبحت أيقونة المنهج السوسيولوجي برمته، وهي“ ،ال يمكن فهم االجتماعي إال بما هو اجتماعي” أي أنّ فهم الظاهرة ال يمكن أن يكون إال إذا اعتمد الباحث على منهج سوسيولوجي واقعي وموضوعي .في هذا الصدد ،يؤكد دوركايم“ :ال بد لنا من االتفاق ،أ ّنه إذا كان للسوسيولوجيا من وجود ،فال يمكنها إال أن تكون دراسة عالم ما يزال مجهوالً ،ومختل ًفا عن العوالم التي تتحراها العلوم األخرى .وعليه فإنّ هذا العالم ليس شي ًئا إن لم يكن نظامًا من الحقائق “.الواقعية وفوق كل هذا وذاك ،نجد في منهجية “دوركايم” جدالً في بناء الفرضيات وفي تفنيد األطروحات السابقة ،والتي حاولت أن تحلل ظاهرة االنتحار .فمثالً نجده في الباب األول (الفصل األول) ،يعرض وجهة نظر األطباء العقليين (اسكيرول) ،والذين يؤكدون أنّ “االنتحار ناجم عن االضطراب العقلي” .بيد أنّ دوركايم من خالل تتبعه لمجموعة من المعطيات المتفرقة والمقارنة ،توصل إلى أ ّنه “ال يمكن رد كل حاالت االنتحار إلى وجود أعراض لمرض عقلي”“ .فالخالصة أنّ جميع االنتحارات الناجمة عن االضطراب العقلي ،إما أن تكون مجردة من أي سبب ،أو مدفوعة بأسباب متخيلة بوجه الدقة .والحال فإنّ عد ًدا كبيرً ا من الموتى اإلراديين ال يندرجون في هذه الفئة وال تلك، فالغالبية منهم لهم أسبابهم التي ليست من دون أساس في الواقع .وهكذا فنحن لن نستطيع إذن ،من دون تعسف في استخدام الكلمات ،أن نرى مجنو ًنا في كل منتحر .فمن بين جميع االنتحارات التي قمنا بوصفها ،فإنّ االنتحارات التي الحظناها لدى الناس األسوياء هو االنتحار ضا في حالة من الخور واالكتئاب على غرار المريض العقلي “ .وهذا يعني أنّ السوداوي .ذلك أنّ الرجل السوي الذي ينتحر يكون هو أي ً منهج دوركايم تفكيكي-نقدي في اآلن نفسه ،فهو ال يكتفي بتوجيه النقد لألطروحات السابقة – ومنها بطبيعة الحال النظريات السيكولوجية – بل إ ّن ه يعمل على استعراض وجهة نظرها ،وأدلتها وبراهينها .ثم بعد ذلك ،يقدم النقد بإعمال أدواته العقلية والعلمية والمنهجية .فعلى سبيل المثال ،يتوارد لدى العديد من األطباء النفسانيين ،أ ّنه من أسباب االنتحار ،المرض العصابي أو مدمنو الكحول ،لكن دوركايم لم يستسلم لهذه النتائج ،بل اعتبرها فرضيات أولية ،قابلة للفحص والنقد .وهكذا فقد بين أ ّنه “ليس هناك أية حالة سيكوباتية تحتفظ بعالقة منتظمة وأكيدة مع االنتحارات .فأن يضم مجتمع من المجتمعات في داخله عد ًدا أقل أو أكثر من العصابيين أو الكحوليين ،فإنّ هذا ال يفضي إلى أن يكون لديه عدد أكبر أو أقل من المنتحرين ،ورغم أنّ االنحطاط العضوي بمختلف أشكاله يشكل تربة سيكولوجية صالحة للغاية للتأثير في األسباب التي يمكن أن تدفع إنسا ًنا إلى االنتحار ،فإ ّنه هو ذاته ال يمثل أحد األسباب .ويمكننا أن نسلم بأ ّنه في ظروف مماثلة ،فإنّ المنحط عصب ًًّ6يا ينتحر بسهولة أكبر من اإلنسان السليم ،ولكنه ال ينتحر بالضرورة بمقتضى حالته تلك .فاإلمكانية االفتراضية التي في داخله ال تدخل في “.الفعل إال تحت تأثير عوامل أخرى ال مفر لنا من البحث عنها إنّ هذا المقطع – الذي سقناه على سبيل التمثل ال الحصر – إ ّنما يؤكد النفس النقدي والحجاجي الذي اتسم به الباحث في مجمل تحليالته .وتفسيراته للظاهرة رابعًا :أهم النتائج أ) العوامل الالاجتماعية لم يكن من الهين وال بالسهل على باحث بل باحثين من أن يتوصلوا إلى نتائج مفاجئة في موضوع االنتحار ،ولعل ما قام به “دوركايم” يعد في نظرنا جز ًء ا من هذا التحدي والمغامرة العلمية التي ركبها هذا الباحث والمؤسس لعلم االجتماع .إذ أنّ الظاهرة متلبسة باألحكام الجاهزة وباالنطباعات التي يحملها الحس المشترك ،هذا باإلضافة إلى النتائج العلمية التي توصل إليها باحثون آخرون درسوا الموضوع .لذا فإنّ الوصول إلى تحديد سبب ظاهرة تحدي ًدا دقي ًقا يشكل دائمًا معضلة شائكة .وهذا ما حصل بالضبط لدوركايم في هذا الكتاب .اعتبارً ا لكل ما سبق :نتساءل :ما هي األسباب العميقة والمحددة لظاهرة االنتحار؟ هل يمكن ردها لعوامل سيكولوجية؟ أم إلى عوامل عرقية أو وراثية؟ أم إلى عوامل كونية؟ أم إلى عامل المحاكاة؟ العامل العرقي (اإلثني) واالنتحار 1- ساد الخطاب العلمي في القرن 19مجموعة من المقوالت واألحكام والنتائج التي أصبحت في حكم المسلم بها ،ومن بينها األصل العرقي (اإلثني) ،من حيث هو محدد للعديد من الظواهر ،سواء اللسنية أو االجتماعية أو األصول الصافية لعرق معين .لكن الباحث في السوسيولوجيا أو األنثربولوجيا ،عليه أن يبقى متسلحً ا بحسه النقدي متتب ًعا للمعطيات والنتائج حيثما انتهت به .في هذا السياق ،أكد “دوركايم” في معرض رده على المزاعم التي كانت تعتقد أنّ االنتحار يقع بسبب االنتماء العرقي للشخص ،وأنّ أعرا ًقا (مثل األلمان) أكثر انتحارً ا من غيرهم .فإنّ هذا االستنتاج يبقى جد متسرع .ولهذا نجده يستشهد بالنموذج األلماني ،باعتباره أكثر الشعوب “محافظة” على أصالة عرقه ،فقد تبين أ ّنه “إذا كان األلمان ينتحرون أكثر من الشعوب األخرى ،فإنّ سبب ذلك ال يكمن في الدم الذي يجري في عروقهم، وإ ّنما إلى المدنيات التي تسربوا في كنفها” .ويضيف “دوركايم” مثاالً آخر يفند نظرية العرق وعالقتها باالنتحار ،قائالً :فإذا كان أناس في الشمال (فرنسا) ينتحرون إذن أكثر من أناس الجنوب ،فليس أل ّنهم أكثر استعدا ًدا بحكم مزاجهم العرقي ،وإ ّنما ببساطة ،ألنّ األسباب ”.االجتماعية لالنتحار أكثر تجم ًعا بنحو خاص ،في شمال اللوار أكثر مما في جنوبه إنّ مسألة العالقة بين العرق واالنتحار تقتضي أنّ هناك أجناسا “خالصة” وأخرى مختلطة ،والحاصل أن هذا الصفاء العرقي لم يستطع الكشف عنه كبار األنثروبولوجيين ،لما يكتنفه من صعوبات إبستمولوجية وتاريخية معقدة ومتعبة ،والتي لم تخرج إال ببعض الفرضيات التي تعوزها األدلة الدامغة .ولهذا فإنّ هذا الطرح يتهاوى أمام وجود معطيات علمية تؤكد أ ّنه ال توجد عالقة وطيدة بين انتشار االنتحار .واألصل العرقي ،بل إنّ المحدد الرئيس في العملية هو الشروط االجتماعية كما يذهب إلى ذلك دوركايم االنتحار والعوامل الكونية 2- يقصد بالعوامل الكونية ،مختلف العوامل الفزيائية الطبيعية ،كالطقس داخل المناطق المختلفة ،واالختالفات بين الفصول السنوية .حيث أ ّنه ساد في الحس المشترك أنّ المناطق الباردة هي التي تكثر فيها ظاهرة االنتحار ،لكن هذه الدعوى ،أصبحت باطلة بدليل ما أفصحت عنه المعطيات اإلحصائية المجمعة حول تتبع الظاهرة عبر الشهور والفصول السنوية في أوربا .حيث تبين أنّ أكثر الفصول انتشارً ا لالنتحار هما فصال الربيع والصيف وليس الخريف والشتاء .ولهذا تساءل دوركايم ،لماذا ال تكثر االنتحارات في المناطق األكثر سخونة على وجه البسيطة؟ هذا المثال ال ينقض األول ،لك ّنه يعزز المنحى الذي توصل إليه “دوركايم” ،وهو أ ّنه إذا كان من نتيجة يمكننا استخالصها ،فهي أ ّن ه إذا الحظنا كثرة االنتحارات سواء في شهر دجنبر أو يوليوز ،فليس ذلك بسبب درجة الحرارة أو البرودة ،بقدر ما هو نتيجة لطبيعة الحياة االجتماعية وللقابلية التي يتمتع بها السكان في منطقة محددة .أي مختلف الشروط القبلية والبعدية التي يقيمها الفرد مع البيئة التي .يعيش فيها وكيفية استجابته لها ،ومدى وجود محفزات اجتماعية تغذي عملية التفكير في االنتحار أو تنفيذه مطل ًقا ) (L’imitationالمحاكاة 3- يمكن القول إنّ هذا العامل مثير للعديد من الجداالت العلمية والسوسيولوجية في إعطائه القدرة على التأثر لدى األفراد ،في استبطان ظاهرة صا إذا كان من األقران (أي الفئات المتقاربة في السن) .في هذا السياق ،قد توصل التقرير االنتحار والنسج على منوال من يقوم بها .خصو ً األخير لمنظمة الصحة العالمية حول االنتحار ،إلى أنّ كل بالغ يقوم باالنتحار فإ ّنه يؤثر في أكثر من 20شخصًا آخرين .ونظرً ا ألهمية حيزا مه ًًّ6ما في كتابه ،مبي ًنا سطحية هذا التحليل ،الذي يذهب في تفسير الظاهرة، هذا العامل ،فقد توقف عنده “دوركايم” ،وخصص له ً انطال ًقا من تأثير فرد معين في آخرين .وكأ ّن نا لسنا أمام مجتمع – بكل ما يختزنه من بنيات ومن ديناميات ومن شبكات معقدة – بل نحن أمام أفراد يتأثرون بصورة سلبية وساذجة أحيا ًنا ،وكأ ّنهم آالت وليسوا بشرً ا .والحاصل أنّ هذا األمر ،إذا كان ينطبق على عالم الحيوان، فهو جد معقد بالنسبة إلى الكائن البشري .وهذا ما يناقض المسلمات التي قام عليها العلم .ولعل الداعين لهذه الفكرة (أي المحاكاة) يفتقرون إلى نتائج تجريبية تسند مقوالتهم .إنّ الذين يروجون لمثل هذه األقوال (المحاكاة) ليسوا أكثر من ال هوتيين يرددون المقوالت بدون إعطاء الدليل العملي عليها“ .كيف يمكن لفرد وهو ليس شي ًئا أكثر من فرد ،أن يكون لديه القوة الكافية كي يصنع مجتم ًعا على صورته؟” .صحيح أ ّن ه مر في التاريخ – وما زال – أشخاص يستطيعون التأثير في مجتمعات بأكملها .لكن الذي يجب أن ننتبه إليه ،هو الخوف في السقوط في .سذاجة علمية ما ب) العوامل االجتماعية ال شك أنّ المتتبع لكتاب “دوركايم” يكتشف إلى أي حد نافح هذا السوسيولوجي عن أطروحة “االجتماعي يفسر بما هو اجتماعي” ،بمعنى آخر فإذا كانت ظاهرة االنتحار نابعة من المجتمع ،فال يمكن تفسيرها عمل ًًّ6يا وعلم ًًّ6يا إال بالبحث عما هو اجتماعي فيها .في هذا السياق ،فإنّ البحث السوسيولوجي يتخذ أبعا ًدا علمية منهجية تمتح من طبيعة هذا العلم ،القائم أسا ًسا على المنهج العلمي ،في تتبع الظاهرة من خالل .المالحظة والفرضيات واإلحصائيات والنتائج للخلوص إلى نماذج مثالية في الظاهرة .وهو ما توفق فيه “دوركايم” إلى أبعد حدود اعتبارً ا لكل ما سبق ،فقد توصل “دوركايم” إلى مجموعة من العوامل المؤثرة في ظاهرة االنتحار ،منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سوسيوثقافي إلى ما هناك من العوامل .لكن أهم نتيجة توصل إليها “دوركايم” – في اعتقادنا – هي .النمذجة المثالية لالنتحار ،والتي يمكن إسقاطها على كثير من التجارب سواء التي تعود إلى القرن 19أو 20أو حتى 21 :االنتحار األناني 1- توصل “دوركايم” بعد تفحص العديد من اإلحصائيات والمعطيات والمقارنات ،إلى أنّ مفهوم االنتحار ليس مفهومًا واح ًدا ،بل إ ّنه يتعدد ً طبيعية ً نتيجة بحسب السياقات والشروط االجتماعية التي تشرطه .في هذا السياق ،أطلق الباحث ،مفهوم “االنتحار األناني” الذي يأتي النحالل الروابط االجتماعية ،سواء العائلية أو السياسية أو الدينية .وقد انطلق من مجموعة من الفرضيات التي عزز بها دواعي إطالق هذا المفهوم .فأوالً ،يتغير االنتحار تغيرً ا عكس ًًّ6يا مع درجة اندماج المجتمع الديني .ثانيًا يتغير االنتحار تغيرً ا عكس ًًّ6يا مع درجة اندماج المجتمع وثالثا ،يتغير االنتحار عكس ًًّ6يا مع درجة اندماج المجتمع السياسي .وأخيرً ا يتغير االنتحار عكس ًًّ6يا مع درجة اندماج الجماعات ً العائلي. االجتماعية التي يشكل الفرد جزءًا منها .ولكي يشرح هذه الفرضيات ،فإنّ “دوركايم” اعتمد على منهج نقدي صارم في بناء أدلته ،حيث يؤكد أنّ االنتحار األناني ،يتولد عندما تنتهي صالحية القيم المجتمعية السابقة ،لتولد معها قيم جديدة ،أو “أخالق جديدة” .وهذه األخالق ال تستطيع أن تقدم للفرد ،ذلك الدعم والسند اللذين كان يحظى بهما في السابق“ .مثلما أنّ الكرب الفردي حينما يكون مزم ًنا ،فهو يعكس بطريقته ،الحالة العفوية السقيمة للفرد .وحينئذ تظهر تلك النظم الميتافيزيقية والدينية التي بتحويلها تلك المشاعر المظلمة إلى صيغ تبادر إلى تقديم البراهين للناس بأنّ الحياة المعنى لها ،وأنّ من خداع الذات أن ننسب إليها أي معنى .حينذاك تتشكل أخالق جديدة ،وقيم هي التي تشكل الواقع وتجعله واق ًعا بحق ،فهي توحي باالنتحار ،أو على األقل توجه الناس إليه ناصحة إياهم بالعيش أقل ما يمكن” .وال تحصل هذه الحالة إال إذا وقع نوع من “البؤس السيكولوجي للجسد االجتماعي” ،وانحلت الروابط االجتماعية التي كانت قوية في الماضي .وساد قلق اجتماعي مزمن .وفي كل هذه الحجج ،ينتصر “دوركايم” لما هو اجتماعي وليس لما هو فردي .فاالنتحار األناني ال يقع إال إذا تهيأت أسبابه االجتماعية ،وحينها يستسلم الفرد ألقل صدمة من صدمات الظروف المحيطة ،من قلق وحيرة وتصدع وصدمة وغياب المعنى ،مما يوقع الفرد في أحضان االنتحار .وبكلمة ،فإنّ االنتحار األناني هو تعبير عن تراخ عن الفعل في المجتمع ،وهو انفصال سوداوي ،ينجم عن حالة مفرطة من التفردن .حيث أ ّنه إذا انعزل الفرد ،فألنّ الروابط التي توحده باآلخرين وهنت أو تقطعت .لذا فهذه الفراغات التي تفصل .الوجدانات وتجعلها غريبة بعضها عن بعضها اآلخر ،تنبع بالتحديد من تحلل النسيج المجتمعي االنتحار الغيري 2- يمثل النوع الثاني من االنتحارات التي عرفتها البشرية منذ القدم .فقد كان يقع في لحظات تاريخية وفي ظروف سوسيوثقافية مختلفة .ولهذا استخلص “دوركايم” من خالل تتبعه ألهم ما كتب في الموضوع ،أنّ وقوع مثل هذه االنتحارات“ ،متواتر لدى الشعوب البدائية” ،وقد توقف :الباحث على ثالثة أنواع منه .انتحار الرجال الذين بلغوا عتبة الشيخوخة أو أصيبوا بمرض – .انتحار النساء بعدما فقدوا أزواجهن – .انتحار الحاشية أو الخدم أو الجنود ،لدى موت زعمائهم – ولعل في هذه األنواع الثالثة ،ما نجده منتشرً ا في بعض الشعوب حتى في أيامنا هذه .ولهذا فهذه األصناف تقربنا من طبيعة هذا االنتحار وتعريفه .وهو الذي يقع عندما يكون الفرد مندمجً ا بشكل قوي مع المجتمع .وعلى عكس النوع األول (األناني) ،فإنّ “الفردانية الناقصة” .تحدث النتائج نفسها وهو االنتحار وهذا النوع ،يقع في التجمعات الدينية المنغلقة (الكاست) وفي الثكنات العسكرية وفي لحظات الحروب والنزاعات القبلية .أما عن األسباب التي تدفع لهذا االنتحار ،فهي تتمثل في القيم المجتمعية التي تدفع لالنتحار عبر تثمينه وشرعنته ،أل ّنه في مثل هذه الحاالت ،يكون ضغط المجتمع قو ًًّ6ي ا على الفرد ،وهذا الضغط يمنعه من أن يتحرك حركة خاصة واحدة .وهذا الضغط يشكل بيئة معنوية ،ويمثل األرضية الخصبة .النتعاش االنتحار الغيري االنتحار الفوضوي 3- ثمة بعض المسلمات التي أصبحت بمثابة بديهيات .كالتي تعتقد أنّ االنتحار ينتج عن الهشاشة والفقر والعوز وما إلى ذلك من العوامل االقتصادية والمادية ،لكن الباحث “دوركايم” ،من خالل تتبعه لهذا النوع من االنتحار ،قلب الطاولة على أصحاب هذه الدعوى ،مبي ًنا أنّ السبب ال يرجع إلى الفقر والبؤس في حد ذاتهما ،بل هو نتيجة ألزمات واضطرابات في النظام الجمعي ناتجة عن األوضاع االقتصادية. فالنتيجة التي توصل إليها “دوركايم” هو أنّ الغنى كما الفقر يسبب االنتحار الفوضوي .وقد وسمه بهذا االسم أل ّنه يأتي نتيجة االضطراب واالختالل اللذين يقعان في المجتمع .ولعل السمة البارزة في مجتمعاتنا المعاصرة اليوم وحتى زمن إجراء الدراسة (القرن ،)19هي حالة “الفوضى الناجمة عن فقدان النظام الطبيعي أو الشرعي ،والذي يحدث على هيئة فوران متقطع وفي شكل أزمات حادة ،مما يتغير معها المعدل االجتماعي لالنتحار ،أل ّنه بفعل التحوالت العميقة والنوعية التي تحصل في جل المجتمعات البشرية اليوم ،فإنّ حالة الفوضى واضطراب المرجعيات ،أصبحت حالة مزمنة وليست عرضية وزائلة .ولعل من بين العوامل المساهمة في هذه الفوضى ،ذلك التشابك العالئقي والعولمي الذي دخلته البشرية بحيث لم يعد هناك حديث عن الخصوصيات أو المرجعيات الوحيدة أو الصفة الثقافية المميزة لشعب من الشعوب .بل إنّ الكل انسحق في الكل ،وأصبحنا أمام وضع جديد سمته أنا إنسان عالمي وعولمي .بطبيعة الحال ،ال يمكن االعتقاد فقط في النتائج السلبية لهذه الموجة ،والتي تبرز في أبهى صورها ،في االنتحار .لكن ذلك ال يمنع من الوقوف عند بعض المؤشرات البارزة والتي وإن – كان دوركايم قد تحدث عنها في سياق مختلف – فإ ّننا نزعم أنّ تحليالته تلتقي بشكل كبير مع ما يشهده العالم المعاصر من .تموجات خام ًسا :المدخل التفسيري (االجتماعي) لظاهرة االنتحار بعدما فند “دوركايم” األصل النفسي لالنتحار وبين العوامل االجتماعية المحددة للظاهرة ،مستخلصًا النماذج األكثر انتشارً ا لالنتحارات ،فإنّ الباب الثاني من الكتاب ،سيخصص لتفسير الظاهرة ،انطال ًقا من أطروحته المركزية ،وهي أنّ الظاهرة تنجم عن ما هو سوسيولوجي .حيث يؤكد أنّ “المعدل االجتماعي لالنتحارات ال يجد تفسيره إال سوسيولوج ًًّ6يا ،ذلك أنّ البنية األخالقية للمجتمع هي التي تحدد في كل لحظة القسط العددي للموتى اإلراديين” .فكيف يمكن فهم هذا العامل التفسيري؟ وهل يستقيم عامالً محد ًدا ووحي ًدا للظاهرة المعقدة والمركبة والملغزة في آن واحد؟ ال شك أنّ المطلع على كتاب “قواعد المنهج السوسيولوجي” لدوركايم ،يلحظ قوة طرح هذا السوسيولوجي عندما اعتبر أنّ من خصائص الظاهرة السوسيولوجية ،كونها خارجية عن الفرد ،وليس ثمة من شيء خارجي سوى المجتمع .ولهذا نفهم لماذا شدد “دوركايم” على رد تفسير ظاهرة االنتحار إلى هذا المعطى ،مبي ًنا أنّ “االعتراف بحقيقتها الواقعية ،وتصورها كمجموع من الطاقات التي تدفعنا من الخارج إلى الفعل ،على غرار القوى الفزيا-كميائية والتي نتعرض لتأثيرها .وهي أشياء من نوع خاص ،وليست جواهر لفظية ،بحيث يمكن قياسها، ومقارنة حجمها النسبي مثلما نفعل مع قوة التيارات الكهربائية أو المصادر الضوئية” .لهذا إذا كان هناك من خالصة ،يمكن استخالصها من هذه األطروحة ،هو أنّ دوركايم كان ينظر إلى الظواهر االجتماعية ،ومن بينها االنتحار بمنظار السوسيولوجي الذي يرجع الظاهرة إلى موضعها األصلي الذي تخلقت فيه وتولدت عنه ،وذلك عبر موضعتها ،وعبر استنطاق كل اإلحصائيات والمؤشرات الرقمية التي تظهر إلى أي حد أنّ الشروط االجتماعية هي المحددة أوالً وأخيرً ا في إبراز الظاهرة .ولتوضيح األمر بشكل جلي ،يمكن قراءة هذا المقطع من الكتاب ،والذي يورد فيه “دوركايم” تصوره للظاهرة ،قائالً …“ :على هذا النحو يتوضح الطابع المزدوج لالنتحار ،فحينما ننظر إليه عبر جميع تجلياته الخارجية ،نميل إلى أن ال نرى فيها سوى مجموعة من الحوادث المستقلة عن بعضها ،أل ّنه ال يحدث في مواقع منفصلة (أي االنتحار) ،دون روابط مرئية فيما بينها .ومع ذلك فالمجموع المكون من كل هذه الحاالت الخاصة المجتمعة يمتلك وحدته وفرديته ،ما دام المعدل االجتماعي لالنتحارات يمثل سمة مميزة لكل شخصية جمعية” .وما يستشف من هذا التحليل ،هو أنّ “دوركايم” عندما يحلل ظاهرة االنتحار وكيف تقع في المجتمع ،يربط بشكل جدلي بين االستعدادات القبلية للمجتمع لتخلق الظاهرة ،أي العوامل الفاعلة فيها ،وبين الميل الجمعي لتوليد الظاهرة .وهذا يعني أنّ هناك مستويين من التحليل ،األول يركز على ما هو واقعي عملي ،متمثالً في الشروط البنيوية التي تسبق ظهور أي ظاهرة ،وبين القبول االجتماعي لها .وبكلمة جامعة ،مادام المجتمع هو الذي يصنع الفرد وليس العكس ،فهذا يعني أنّ “القوة الجمعية التي تدفع اإلنسان إلى االنتحار ال تتغلغل فيه إال قليالً قليالً .فكلما تقدم اإلنسان في العمر ،غدا أسهل تأثرً ا بهذه القوة ،ذلك أل ّنه يلزمه ،من دون شك ،تجارب متكررة لكي تقوده إلى الشعور بالخواء المطبق لوجود أناني ،وبعبثية طموحات ال نهاية لها ،لهذا فإنّ المنتحرين يملؤون مصيرهم بطبقات متعاقبة من األجيال” .وكما أ ّنه ال يسقط مطر إال بعد توفر الشروط الموضوعية له ،فكذلك الفعل اإلنساني ال يقع على أرض الواقع ،إال إذا استنفد كافة الشروط القبلية التي تدفع إلى بروز سلوك وممارسات في الواقع ،ولعل االنتحار واحد من هذه السلسلة المجتمعية التي ال تتخلق إال بوجود هذا الشرط القبلي ،وهو المجتمع ،وكذلك االستعداد الشخصي الذي يتفاعل بشكل جد .معقد مع مختلف االستعدادات ليعطينا سلو ًكا بهذا النوع يجب أن نقر ،أنّ هذا التحليل الذي ساقه دوركايم لظاهرة االنتحار ،سوف يعرضه لمجموعة هائلة من االنتقادات ،والتي شككت في مصداقية تفسير الظاهرة بما هو اجتماعي محض ،أل ّنها تقع على أرض مشتركة من مجموعة من العوامل ،منها ما هو مرئي ومالحظ وهو ال يمثل إال جزء الجليد البارز ،ومنها ما هو خفي وكامن ال يظهر إال عبر سنوات وبعد إعمال آليات منهجية جد صارمة وأكثر مطابقة لظاهرة .تنفلت من كل تفسير ”ساد ًسا :عناصر الحل المقترح من طرف “دوركايم ال شك أنّ عمالً بحث ًًّ6يا بهذا الحجم ،إال وينتهي إلى مجموعة من التوصيات أو الحلول أو مقدمات للعالج من ظاهرة مؤرقة للمجتمعات ،هذا على الرغم من أنّ السوسيولوجيا ال تهتم بوضع الحلول ،بقدر ما تهتم بفهم الظاهرة وتحليلها وتجلية غوامضها .إال أنّ دوركايم – ،وهو الذي تعلمنا منه هذا المنهج في التعامل مع الظواهر االجتماعية ،-يفاجئنا بتقديم رؤية خاصة للعالج من الظاهرة .فما هي وجهة نظره في الموضوع؟ وهل يمكن التعويل عليها للتغلب على الظاهرة اليوم؟ بعدما يستعرض بعض اإلجراءات القانونية والدينية التي اعتمدتها بعض الشعوب في مواجهة ظاهرة االنتحار بشتى أنواعه ،فإنّ “دوركايم” ال يميل إلى “تجريم” االنتحار ،نظرً ا أل ّنه ال يقدم أيّ فائدة في مواجهته ،بقدر ما يؤزم الوضع أكثر .بل أقصى ما يمكن الوصول إليه ،هو .الحرمان من استفادة المنتحر من الطقوس الدينية المصاحبة للميت ،وهذا ما يتوافق مع ما تنص عليه الكثير من الديانات السماوية بيد أن “دوركايم” ال يستسلم لهذا الطرح ،معتبرً ا أ ّنه غير كاف للقضاء على الظاهرة ،فما سيتفيد المجتمع إذا ما وضع قانو ًنا زجر ًًّ6يا أو رسخ طقوسًا تدين االنتحار؟ لهذا نجده يتتبع بعض الحلول التي عبر عنها من سبقوه بالدراسة للموضوع ،أمثال “فرانك” والذي اعتبر أنّ أهم ما يمكن االستثمار فيه لتجنيب المجتمع معضلة االنتحار ،هو التربية ،عبر “االشتغال على تطوير الطبائع والقناعات” بما يستقيم مع ميالد قيم جديدة تقدس الحياة .وتدنس الموت كيفما كان وعلى الرغم من أنّ هذا الطرح ،قد يعتقد البعض أ ّنه يتماشى من التوجه الدوركايمي في سوسيولوجيا التربية – على اعتباره من أوائل من بلور هذا التخصص – لكن الشيء المفاجئ هو أنّ “دوركايم” يتساءل :أليست “التربية سوى صورة عن المجتمع وانعكاس له ،فهي تحاكيه ”.وتعيد إنتاجه بنحو مجمل ،ولكنها ال تخلقه؟ ولهذا ال يمكن عمل ًًّ6يا االعتماد على شيء هو جزء من “أزمة” المجتمع .ألنّ هذا األمر يعيدنا إلى جدل ال يتوقف :من يصلح من :التربية أو المجتمع؟ ويتساءل بعد ذلك “دوركايم” هل يمكن التعويل على المجتمع السياسي إلصالح المجتمع وبالتالي إليقاف آفة االنتحار؟ أم وجب االعتماد على المجتمع العائلي (االسري) في تدعيم قيم الترابط المجتمعي وإعادة اللحمة له؟ أم أ ّنه وجب اللجوء إلى الدين ،باعتباره يتضمن معاني سامية وقي ًما عليا تستطيع أن ترفد المجتمع وتخرجه من براثن التفكك والترهل إلى العافية والتالحم؟ بخصوص التعويل على الجماعة السياسية ،فهو غير مأمون العواقب ،نظرً ا لترهل العالقة بين المواطن وهذه الجماعات التي ابتعدت عن تأطير الفرد وتربيته بشكل واضح ومستمر .وعلى الرغم من بروز بعض حاالت التشبب بهذه الجماعات في حاالت استثنائية ،كالحروب والنزعات واالضطرابات ،فإ ّنها تبقى موسمية وال تعكس التجذر الحقيقي لهذه المؤسسات في بناء المواطن الفرد .ولهذا فإنّ هذه الحالة المتقطعة والمتوترة بين الفرد والجماعات السياسية ،ال تمنع من حصول انتحارات بشكل مضطرد .ولعل في هذا المثال ما يذكرنا بما آلت إليه األوضاع اليوم ،من موت السياسة ومن فقدان الثقة بين المجتمع السياسي والمواطن العادي ،لدرجة يصعب معها تصور عالقة متداخلة .ومتواشجة ومتالحمة لعل قائالً يقول :عن العاصم من هذه اآلفة االجتماعية ،هو الدين ،فهو األمضى سالحً ا مقارنة ببقية العناصر؟ وهذا القول ،نجد من يكرره اليوم في المحافل العلمية واللقاءات األكاديمية والنقاشات العمومية ،بل إنّ بعض جماعات اإلسالم السياسي اليوم ،تؤكده ،نظرً ا أل ّنه يشكل الصمغ التي تنضغط فيه كل اآلفات و”األمراض” .لكن “دوركايم” و – وإن كان يتحدث في سياق االنتقال من الفكر الكنسي إلى الفكر العلمي في أوربا القرن 18و – ،19فإ ّنه مع ذلك ،حاول أن يبين أنّ هذا الرابط (الدين) ،فقد الكثير من عناصر قوته وامتداده داخل المجتمع الحديث ،فعلى الرغم من “التفوق األخالقي والفكري للعقيدة ،ال يمكنه أن يمارس أي تأثير فيى االنتحار” .ولعل أقوى األمثلة يمكن تقديمها اليوم ،من الدول اإلسالمية والمغرب واحد منها ،فعلى الرغم من أنّ الحس العام المجتمعي مصبوغ بصبغة دينية بارزة ،فإنّ ذلك لم يمنع الظاهرة من االستفحال ،فحسب التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية المشار إليه آن ًفا ،فإنّ المغرب عرف تطورً ا في السنوات ”.األخيرة ،ما بين ( )2014-2000في ظاهرة االنتحار .ولهذا فإنّ ذلك ما يؤكد محدودية هذا العامل كما ذكر “دوركايم بالموازاة مع ذلك ،هناك من طرح أنّ الحل ،يكمن في الجماعة العائلية ،والتي تعد البيت الدفيء الحتضان الفرد ولتعزيز روابط التالحم بين مكونات المجتمع؟ وبالفعل ،فقد توقف “دوركايم” عند هذا العنصر ،شارحً ا له ومقدمًا مجموعة من التوضيحات بشأنه .حيث يرى “دوركايم” ،أنّ العائلة طرأت عليها تغيرات كبيرة في بنيتها وفي وظيفتها ،ولم “تعد تمارس التأثير الواقعي نفسه الذي كان لها في ما مضى” .ويضيف أيضًا“ :ففي حين كانت العائلة قديمًا تصون أغلبية أعضائها الذين يعيشون في كنفها منذ والدتهم وحتى مماتهم ،مكونة كتلة متراصة عصية على االنقسام، موهوبة نو ًعا من الخلود ،لم يعد لها اليوم سوى ديمومة عابرة ،فما تكاد تتشكل حتى تتشتت ،وما إن يترعرع األوالد جسد ًًّ6يا حتى يذهبوا ليتابعوا حياتهم في الخارج” .ونحن ال نستغرب من هذا التحليل ،فعلى الرغم من أ ّننا نتباعد زمن ًًّ6يا وسياق ًًّ6يا مع زمن الدراسة ،فإنّ هذا التحليل ،ينطبق بأجلى صوره في واقعنا المعاصر ،سواء في المجتمعات األوربية واألمريكية أو حتى في المجتمعات العربية اإلسالمية، حيث فقدت العائلة الكثير من أدوارها ووظائفها التنشئوية والتثقيفية والتربوية ،لتحل مكانها وسائط جديدة ،رسخت تلك القطيعة بين أفرادها. ولعل المثال الصارخ على ذلك ،هو بروز األسر النووية ،والتي تعد مؤشرً ا على انحالل الروابط األسرية ،مما أصبح معه الفرد يتيمًا في .مجتمع فيه إفراط في األنانية المجتمعية .ولهذا ال نستغرب إذا ما وجدنا االنتحارات تكثر في السنوات األخيرة ،في جل هذه المجتمعات لكن ما هو الحل بالنسبة إلى دوركايم؟ يقدم “دوركايم” حًال – ًّ6قد يعتبره البعض بعي ًدا عن العالج الحقيقي للظاهرة – إذ أ ّنه يتحدث في نهاية بحثه عن “الجماعية الوظيفية” أو ما يمكن أو نطلق عليه “النقابات العمالية والوظيفية” .ذلك “أنّ التماثل في األصل والثقافة واالهتمامات يجعل النشاط المهني المادة األكثر ثراء لحياة مشتركة ،إ ّنها أكثر من إطار تنظيمي ،بل إ ّنها وسط أخالقي” .قادر – حسب دوركايم – على أن يقدم عناصر التالحم والترابط ألفراد المجتمع .ألنّ التنظيم الحرفي (أو النقابي) ،ال يجسد – دائمًا حسب دوركايم – وحدة تنظيمية فحسب ،بل إ ّنه كيان يتوفر على قيم أخالقية وآداب وأعراف وله حقوق وواجبات ،يمكنه إذا توفرت بعض شروط إصالحه وتأهيله ،أن يؤدي أدوارً ا جد طالئعية في التخفيف أو القضاء .على معضلة االنتحار طبعًا ،يمكن القول إنّ هذا الحل قد يواجه اليوم – على األقل – بعدة اعتراضات جد وجيهة ،وهي أنّ هذا التنظيم لم يعد بدوره يستقطب الكثير من الموظفين والعمال والمستخدمين ،فقد غدا بدوره – أي التنظيم النقابي – جد متأخر عن السيرورات والديناميات المجتمعية المتسارعة ،وبدا وكأنه غير قابل لإلصالح أو الرجوع إلى اختالل مكانته السابقة ،في ظل منافسات شرسة يقدمها اإلعالم الجديد ،والشبكات االفتراضية وكل الوسائط الجديدة .عالوة على أنّ هذا التنظيم ال يشمل الحياة المجتمعية ككل ،فهو يقتصر على شريحة من العمال والموظفين والمستخدمين (أي شريحة متوسطة أو متوسطة عليا من المجتمع) في حين أنّ باقي الفئات غير ممثلة فيه .زد على ذلك هامشيه حركيته في كل تفاصيل المجتمع ،مما نعتقد معه ،أ ّنه يصعب التعويل عليه في القضاء على معضلة بل هي آفة تحتاج في نظرنا إلى تظافر الكثير من العوامل والمداخل ،منها ما ذكره “دوركايم” كالعامل السياسي والديني والعائلي والتربوي ،بتجديد وظائفها بإعادة موضعتها التموضع المطابق .ونضيف إليها اليوم العامل اإلعالمي ،باعتباره عامالً حاسمًا في صناعة الرأي واألذواق واالتجاهات والميول .والممارسات المصدر :مؤسسة مؤمنون بال حدود