You are on page 1of 6

‫”تأليف‪“ :‬إميل دوركايم‬

‫ترجمة‪ :‬حسن عودة‬


‫وزارة الثقافة‪ ،‬الهيأة العامة السورية للكتاب (دمشق)‬
‫سنة‪2011 :‬‬
‫عدد الصفحات‪514 :‬‬

‫أوالً‪ :‬في السياق والدواعي‬


‫ربما يطرح السؤال حول راهنية العودة إلى كتاب ألف في أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬بما يعني ذلك‪ ،‬تباع ًدا زمن ًّ‪ً6‬يا وسياق ًّ‪ً6‬يا ومجال ًّ‪ً6‬يا (الكتاب‬
‫يتحدث عن ظاهرة االنتحار في أوربا) وتاريخ ًّ‪ً6‬يا وحتى سوسيوثقاف ًّ‪ً6‬يا؟‬
‫بدوري طرحت على نفسي هذا السؤال قبل االطالع على الكتاب‪ ،‬لكن ما إن بدأت في قراءته حتى تبين لي قيمته المعرفية واالبستمولوجية‬
‫والمنهجية‪ ،‬أل ّنه ليس كتابًا عاد ًّ‪ً6‬يا‪ ،‬مثل الكتب التي نقرأها في اآلونة األخيرة‪ ،‬وليس دراسة خاصة باالنتحار في أوربا‪ ،‬وال حتى كتابًا يعود‬
‫إلى القرن ‪ ،19‬وبالتالي ال حاجة لنا في العودة إليه‪ .‬بل إ ّنني أعتقد أنّ ما من باحث في السوسيولوجيا وفي العلوم اإلنسانية بصفة عامة‪ ،‬إال‬
‫‪.‬ويجب أن يقرأ هذا الكتاب‪ ،‬لما يتضمنه من رصيد معرفي ومنهجي ثري‪ ،‬قلما يتوفر في كتاب‬
‫ونحن إذ نباشر قراءة هذا المؤلف‪ ،‬ال بأس من بسط بعض المعطيات العالمية حول ظاهرة االنتحار‪ ،‬فحسب آخر تقرير صدر عن منظمة‬
‫الصحة العالمية لسنة ‪ ،2014‬تحدث عن أنّ العالم يشهد حالة انتحار في كل ‪ 40‬ثانية‪ ،‬بما مجموعه أكثر من ‪ 800.000‬شخص ينتحرون‬
‫في السنة ‪ .‬وهذا يعني أنّ الظاهرة عالمية وهي ال تفتأ تستفحل سنة بعد أخرى‪ ،‬هذا على الرغم من أنّ المعطيات المستقاة من طرف‬
‫المنظمات العالمية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية‪ ،‬تبقى تقديرية وتقريبية‪ .‬ألنّ العديد من الدول‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬وخصوصًا دول‬
‫‪.‬العالم اإلسالمي‪ ،‬ال تتوفر على سجالت إلحصاء المنتحرين‪ ،‬وذلك العتبارات دينية وثقافية ليس المجال مناسبًا لبسطها في هذه القراءة‬
‫ولكي نوضح طبيعة معضلة االنتحار‪ ،‬فإنّ المثال التالي الذي نسوقه من دولة الهند‪ ،‬يبين لنا بالملموس كيف أنّ هذه الظاهرة تبقى مؤرقة‬
‫على نحو مستمر‪ ،‬فحسب اللجنة القومية لسجالت الجريمة بالهند‪ ،‬ما بين عامي ‪ 1995‬و‪ ،2007‬أكثر من ‪ 184000‬مزارع انتحروا‪،‬‬
‫هربًا من الفاقة والعوز‪ .‬ولم يستطع هؤالء المزارعون تسديد الديون التي اضطروا إلى اقتراضها من أجل شراء المخصبات والمبيدات‬
‫والوقود‪“ ..‬وقد ساهم كل ما سبق في تكوين طبقة اجتماعية جديدة تعرف باسم الفالحين األطفال‪ ،‬على نحو ما يشير إليه تقرير لوكالة األنباء‬
‫المحلية‪ ،..‬ففي المناطق التي تسجل فيها حاالت انتحار عالية تتجه األرامل الشابات إلى تربية األبناء في ظروف من الحرمان الشديد‬
‫‪ “.‬ويسيطر عليهن شبح مستقبل كالح مفزع‬
‫وبعي ًدا عن لغة األرقام والمعطيات اإلحصائية‪ ،‬فإنّ الواقع الحالي‪ ،‬ينبئ بتحول عميق في منظومة القيم المجتمعية لدى كل دول المعمورة‪.‬‬
‫وقد برزت بشكل حاد‪ ،‬حاالت من القلق الحضاري الذي بدأ ينتاب البشرية كلها‪ ،‬وبدأ معها السؤال الوجودي يتجدد؟ ما مصير اإلنسان؟ وما‬
‫هو هدفه في الحياة؟ وما معنى الحياة أصالً؟ إلى غيرها من األسئلة المحرقة التي باتت تؤرق البشرية برمتها في ظل تعدد المرجعيات‬
‫ضا من الجواب عن حيرة اإلنسان‬ ‫الدينية والثقافية والقانونية والسياسية وما إلى ذلك‪ .‬ولعنا نجد في استشرافات الكثير من الباحثين بع ً‬
‫المعاصر‪ ،‬الذي “أصبح يلهث وراء المال‪ ،‬ووراء البحث عن الطريف والجديد والصارخ والمتفرد‪ ،‬فبدأ ينغمس في العوالم االفتراضية‬
‫بحث ا عن التسلية الواهية‪ ،‬فيحصل له التبدد ثم الضياع “‪ .‬وأصبح يعيش في عزلة تامة‪ ،‬على الرغم من قوة التدفقات التكنولوجية‬ ‫الوهمية ً‬
‫التي بدأت تحيطه من كل جانب؟ وهو األمر المفارق للغاية‪ ،‬في ظل حضور أشكال التواصل الالمتناهية‪ ،‬فإنّ اإلنسان المعاصر‪ ،‬يحس‬
‫‪.‬باليتم واالنعزال‪ ،‬مما يدفعه إلى التفكير في مجموعة من الحلول‪ ،‬لعل من بينها األكثر دراماتيكية‪ ،‬االنتحار‬
‫فكيف يشرح لنا دوركايم‪ ،‬هذه الظاهرة؟ هل يرجعها إلى ما هو سيكولوجي؟ أم إلى ما هو كوني طبيعي؟ أم إلى محددات عرقية وإثنية؟ أم‬
‫إلى معطيات طبيعية كالطقس وتغيراته؟ أم إلى أسباب اقتصادية وصناعية؟ أم إلى اعتبارات اجتماعية مرتبطة بالهشاشة والفقر والعوز؟ أم‬
‫إلى تفكك الرابطة األسرية والعائلية بشكل أوسع؟ أم إلى تراجع دور الدين في تأطير المجتمع؟ أم إلى وجود تحوالت سوسيوثقافية‬
‫وسوسيواقتصادية‪ ،‬هي التي دفعت بالظاهرة نحو البروز بشكل الفت للنظر في أواخر القرن ‪19‬؟‬
‫وما هي أنواع االنتحار التي توقف عندها دوركايم؟ وما هي التفسيرات التي توصل إليها لشرح سوسيولوجيي للظاهرة؟ وأخيرً ا ما هي‬
‫المداخل التي يقترحها “دوركايم” للخروج من معضلة االنتحار الكونية؟‬
‫ثانيا‪ :‬في مورفولوجية الكتاب‪ /‬األطروحة‬
‫نظرً ا للخصوصية التي يتميز بها “دوركايم” والتي تتمثل في الطابع الجدالي والنقدي الذي ينتهجه في الكتابة السوسيولوجية‪ ،‬فإنّ الكتاب‪/‬‬
‫األطروحة‪ ،‬ممفصل على ثالثة أبواب‪ .‬نجد في الباب األول‪ ،‬تساؤالً عن معنى االنتحار من خالل الوقوف عند األسباب الالاجتماعية‪ ،‬وهو‬
‫الذي يضم أربعة فصول‪ :‬األول (االنتحار والحاالت السيكولجية)‪ ،‬والثاني‪( ،‬االنتحار والحاالت السيكولوجيية السوية)‪ ،‬والثالث (االنتحار‬
‫والعوامل الكونية)‪ ،‬وأخيرً ا (االنتحار والمحاكاة)‪ .‬أما الباب الثاني فهو عبارة عن نقد لألطروحات السابقة التي وردت في الباب األول‪ ،‬وهي‬
‫التي اختار لها الباحث اسم‪ :‬األسباب االجتماعية لالنتحار‪ ،‬والتي تتوزع على ستة فصول‪ :‬أولها (منهج لتحديد األسباب والنماذج)‪ ،‬ثانيها‬
‫(االنتحار األناني)‪ ،‬وثالثها (االنتحار الغيري)‪ ،‬ورابعها (االنتحار الفوضوي)‪ ،‬وخامسها (األشكال الفردية لمختلف نماذج االنتحار)‪ .‬في‬
‫حين أنّ الباب الثالث‪ ،‬من الدراسة‪ ،‬تضمن أهم الخالصات التي توصل إليها الباحث‪ ،‬حيث عنون هذا الباب‪ ،‬بـ”االنتحار كظاهرة اجتماعية‬
‫بوجه عام”‪ ،‬وفيه نجد ثالثة فصول‪ :‬األول (العنصر االجتماعي لالنتحار)‪ ،‬والثاني (صالت االنتحار بالظواهر االجتماعية األخرى)‪ ،‬وأخير‬
‫‪(.‬نتائج عملية) وهي التي يطرح فيها االقتراحات والحلول للخروج من معضلة االنتحار‬
‫هكذا يتبين من خالل هذه الهيكلة المتناسقة‪ ،‬الطرح العلمي والمنهجيي والنقدي الذي اعتمده “دوركايم” في قراءة ظاهرة االنتحار‪ .‬ولعله بهذا‬
‫‪.‬الطرح‪ ،‬يفتح آفاقا جديدة في التعامل مع الظاهرة التي تقع على أرضية مشتركة بين العديد من التخصصات العلمية‬
‫ثالثا‪ :‬منهجية الدراسة‬
‫عندما تطالع كتاب “االنتحار”‪ ،‬تفهم كيف تطورت الظاهرة عبر الحقب الزمنية والتاريخية‪ ،‬وكيف كانت الظاهرة تعاش في العديد من‬
‫الثقافات والديانات والخصوصيات السوسيوثقافية‪ .‬ولم يكن ليتوفر ذلك‪ ،‬بدون منهج واضح للمؤلف‪ ،‬إذ أ ّنه آلى على نفسه أال يقحم في كتابه‬
‫إال ما هو مؤكد من المعلومات‪ ،‬حيث يقول في هذا الصدد‪ …“ :‬فقد اتخذنا قاعدة لنا بأن ال نقحم في أبحاثنا معلومات غير مؤكدة بقدر ما‬
‫هي مفيدة علم ًّ‪ً6‬يا”‪ .‬وأكثر من ذلك‪ ،‬فإنّ المؤلف اجتهد في الوصول إلى مجموعة كبيرة ومتنوعة من اإلحصائيات والمعطيات واألرقام‬
‫والخرائط التي تبين تطور ظاهرة االنتحار في مجموعة من الدول األوربية في نهاية القرن ‪ .19‬وهذه المعطيات – وجب أن نعترف أ ّنه‬
‫ليس من السهل على باحث بمفرده أن يجمعها ويبوبها ويستخلص منها خصائص الظاهرة – تبقى جد هامة في توضيح العديد من‬
‫‪.‬الفرضيات التي قد يطرحها كل متتبع ومهتم بظاهرة االنتحار سواء في أوربا أو في غيرها من القارات والدول‬
‫وعندما نتوقف عند هذا المعطى‪ ،‬لكي نبين حجم الجهد الذي يتكبده الباحث‪ ،‬في سبيل توضيح ظاهرة ما‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ :‬تداول العديد من‬
‫الباحثين‪ ،‬فرضية أنّ االنتحار قد يكون في األشهر الباردة من السنة‪ ،‬خصوصا ونحن نعلم أنّ بعض الدول في أوربا (االسكندنافية منها)‪،‬‬
‫تعرف شتا ًء طويالً يمتد إلى ستة أشهر‪ .‬ولهذا تتبع “دوركايم” اإلحصائيات السنوية والشهرية ألعداد المنتحرين في أوربا‪ ،‬ليجد أنّ الشهور‬
‫‪ .‬التي يكثر فيها االنتحار ليست هي الشهور التي تقع في فصلي الخريف والشتاء‪ ،‬وإ ّنما هي التي تقع في فصلي الربيع والصيف‬
‫من بين الخصائص المنهجية التي تش ّدك في كتاب “االنتحار”‪ ،‬هو قدرة دوركايم على تطبيق المنهج المقارن بنوع من الحرفية العالية‪ ،‬ففهم‬
‫ظاهرة من الظواهر‪ ،‬سواء دينية أو سياسية أو اجتماعية أو رياضية أو فنية‪ ..‬يقتضي وضعها في سياقها المقارن‪ .‬الستخالص النمذجات‬
‫الضرورية لقراءة الظاهرة‪ .‬ولهذا فقد استطاع دوركايم من خالل تدقيقه في مختلف خصائص الظاهرة‪ ،‬أن يستجلي نماذج لالنتحار فردية‪،‬‬
‫وهي‪ :‬األناني‪ ،‬الغيري‪ ،‬الفوضوي‪ .‬ثم نماذج أخرى مختلطة وهي‪ :‬انتحار أناني‪-‬فوضوي‪ ،‬انتحار فوضوي‪-‬غيري‪ ،‬وأخيرً ا‪ ،‬انتحار أناني‪-‬‬
‫غيري ‪ .‬ولعل هذه الميزة قلما تجدها في الدراسات السوسيولوجية‪ ،‬والتي تكثر فيها المعطيات واألرقام واإلحصائيات والجداول‪ ،‬إلى درجة‬
‫يغيب معها المعنى وتشت الفكر‪ .‬لكن منهج دوركايم‪ ،‬كان جد موفق‪ ،‬أل ّنه انتهج الخطوات الثالث في البحث السوسيولوجي‪ ،‬وهي الوصف‬
‫والتفسير وأخيرً ا االستشراف‪ ،‬فهو لم يتوقف في لحظة وصف الظاهرة‪ ،‬بقدر ما سعى إلى إيجاد تفسير مقنع لها‪ ،‬وأخيرً ا توصل إلى وضع‬
‫‪.‬بعض االستشرافات الممكنة لتجاوز هذه المعضلة‬
‫ال يمكن أن تقرأ كتاب “االنتحار” بدون أن تستخلص أهم فكرة إبداعية بلورها “دوركايم” وأصبحت أيقونة المنهج السوسيولوجي برمته‪،‬‬
‫وهي‪“ ،‬ال يمكن فهم االجتماعي إال بما هو اجتماعي” أي أنّ فهم الظاهرة ال يمكن أن يكون إال إذا اعتمد الباحث على منهج سوسيولوجي‬
‫واقعي وموضوعي‪ .‬في هذا الصدد‪ ،‬يؤكد دوركايم‪“ :‬ال بد لنا من االتفاق‪ ،‬أ ّنه إذا كان للسوسيولوجيا من وجود‪ ،‬فال يمكنها إال أن تكون‬
‫دراسة عالم ما يزال مجهوالً‪ ،‬ومختل ًفا عن العوالم التي تتحراها العلوم األخرى‪ .‬وعليه فإنّ هذا العالم ليس شي ًئا إن لم يكن نظامًا من الحقائق‬
‫‪ “.‬الواقعية‬
‫وفوق كل هذا وذاك‪ ،‬نجد في منهجية “دوركايم” جدالً في بناء الفرضيات وفي تفنيد األطروحات السابقة‪ ،‬والتي حاولت أن تحلل ظاهرة‬
‫االنتحار‪ .‬فمثالً نجده في الباب األول (الفصل األول)‪ ،‬يعرض وجهة نظر األطباء العقليين (اسكيرول)‪ ،‬والذين يؤكدون أنّ “االنتحار ناجم‬
‫عن االضطراب العقلي”‪ .‬بيد أنّ دوركايم من خالل تتبعه لمجموعة من المعطيات المتفرقة والمقارنة‪ ،‬توصل إلى أ ّنه “ال يمكن رد كل‬
‫حاالت االنتحار إلى وجود أعراض لمرض عقلي”‪“ .‬فالخالصة أنّ جميع االنتحارات الناجمة عن االضطراب العقلي‪ ،‬إما أن تكون مجردة‬
‫من أي سبب‪ ،‬أو مدفوعة بأسباب متخيلة بوجه الدقة‪ .‬والحال فإنّ عد ًدا كبيرً ا من الموتى اإلراديين ال يندرجون في هذه الفئة وال تلك‪،‬‬
‫فالغالبية منهم لهم أسبابهم التي ليست من دون أساس في الواقع‪ .‬وهكذا فنحن لن نستطيع إذن‪ ،‬من دون تعسف في استخدام الكلمات‪ ،‬أن نرى‬
‫مجنو ًنا في كل منتحر‪ .‬فمن بين جميع االنتحارات التي قمنا بوصفها‪ ،‬فإنّ االنتحارات التي الحظناها لدى الناس األسوياء هو االنتحار‬
‫ضا في حالة من الخور واالكتئاب على غرار المريض العقلي “‪ .‬وهذا يعني أنّ‬ ‫السوداوي‪ .‬ذلك أنّ الرجل السوي الذي ينتحر يكون هو أي ً‬
‫منهج دوركايم تفكيكي‪-‬نقدي في اآلن نفسه‪ ،‬فهو ال يكتفي بتوجيه النقد لألطروحات السابقة – ومنها بطبيعة الحال النظريات السيكولوجية –‬
‫بل إ ّن ه يعمل على استعراض وجهة نظرها‪ ،‬وأدلتها وبراهينها‪ .‬ثم بعد ذلك‪ ،‬يقدم النقد بإعمال أدواته العقلية والعلمية والمنهجية‪ .‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ ،‬يتوارد لدى العديد من األطباء النفسانيين‪ ،‬أ ّنه من أسباب االنتحار‪ ،‬المرض العصابي أو مدمنو الكحول‪ ،‬لكن دوركايم لم يستسلم لهذه‬
‫النتائج‪ ،‬بل اعتبرها فرضيات أولية‪ ،‬قابلة للفحص والنقد‪ .‬وهكذا فقد بين أ ّنه “ليس هناك أية حالة سيكوباتية تحتفظ بعالقة منتظمة وأكيدة مع‬
‫االنتحارات‪ .‬فأن يضم مجتمع من المجتمعات في داخله عد ًدا أقل أو أكثر من العصابيين أو الكحوليين‪ ،‬فإنّ هذا ال يفضي إلى أن يكون لديه‬
‫عدد أكبر أو أقل من المنتحرين‪ ،‬ورغم أنّ االنحطاط العضوي بمختلف أشكاله يشكل تربة سيكولوجية صالحة للغاية للتأثير في األسباب‬
‫التي يمكن أن تدفع إنسا ًنا إلى االنتحار‪ ،‬فإ ّنه هو ذاته ال يمثل أحد األسباب‪ .‬ويمكننا أن نسلم بأ ّنه في ظروف مماثلة‪ ،‬فإنّ المنحط عصب ًّ‪ً6‬يا‬
‫ينتحر بسهولة أكبر من اإلنسان السليم‪ ،‬ولكنه ال ينتحر بالضرورة بمقتضى حالته تلك‪ .‬فاإلمكانية االفتراضية التي في داخله ال تدخل في‬
‫‪ “.‬الفعل إال تحت تأثير عوامل أخرى ال مفر لنا من البحث عنها‬
‫إنّ هذا المقطع – الذي سقناه على سبيل التمثل ال الحصر – إ ّنما يؤكد النفس النقدي والحجاجي الذي اتسم به الباحث في مجمل تحليالته‬
‫‪.‬وتفسيراته للظاهرة‬
‫رابعًا‪ :‬أهم النتائج‬
‫أ) العوامل الالاجتماعية‬
‫لم يكن من الهين وال بالسهل على باحث بل باحثين من أن يتوصلوا إلى نتائج مفاجئة في موضوع االنتحار‪ ،‬ولعل ما قام به “دوركايم” يعد‬
‫في نظرنا جز ًء ا من هذا التحدي والمغامرة العلمية التي ركبها هذا الباحث والمؤسس لعلم االجتماع‪ .‬إذ أنّ الظاهرة متلبسة باألحكام الجاهزة‬
‫وباالنطباعات التي يحملها الحس المشترك‪ ،‬هذا باإلضافة إلى النتائج العلمية التي توصل إليها باحثون آخرون درسوا الموضوع‪ .‬لذا فإنّ‬
‫الوصول إلى تحديد سبب ظاهرة تحدي ًدا دقي ًقا يشكل دائمًا معضلة شائكة‪ .‬وهذا ما حصل بالضبط لدوركايم في هذا الكتاب‪ .‬اعتبارً ا لكل ما‬
‫سبق‪ :‬نتساءل‪ :‬ما هي األسباب العميقة والمحددة لظاهرة االنتحار؟ هل يمكن ردها لعوامل سيكولوجية؟ أم إلى عوامل عرقية أو وراثية؟ أم‬
‫إلى عوامل كونية؟ أم إلى عامل المحاكاة؟‬
‫العامل العرقي (اإلثني) واالنتحار ‪1-‬‬
‫ساد الخطاب العلمي في القرن ‪ 19‬مجموعة من المقوالت واألحكام والنتائج التي أصبحت في حكم المسلم بها‪ ،‬ومن بينها األصل العرقي‬
‫(اإلثني)‪ ،‬من حيث هو محدد للعديد من الظواهر‪ ،‬سواء اللسنية أو االجتماعية أو األصول الصافية لعرق معين‪ .‬لكن الباحث في‬
‫السوسيولوجيا أو األنثربولوجيا‪ ،‬عليه أن يبقى متسلحً ا بحسه النقدي متتب ًعا للمعطيات والنتائج حيثما انتهت به‪ .‬في هذا السياق‪ ،‬أكد‬
‫“دوركايم” في معرض رده على المزاعم التي كانت تعتقد أنّ االنتحار يقع بسبب االنتماء العرقي للشخص‪ ،‬وأنّ أعرا ًقا (مثل األلمان) أكثر‬
‫انتحارً ا من غيرهم‪ .‬فإنّ هذا االستنتاج يبقى جد متسرع‪ .‬ولهذا نجده يستشهد بالنموذج األلماني‪ ،‬باعتباره أكثر الشعوب “محافظة” على‬
‫أصالة عرقه‪ ،‬فقد تبين أ ّنه “إذا كان األلمان ينتحرون أكثر من الشعوب األخرى‪ ،‬فإنّ سبب ذلك ال يكمن في الدم الذي يجري في عروقهم‪،‬‬
‫وإ ّنما إلى المدنيات التي تسربوا في كنفها”‪ .‬ويضيف “دوركايم” مثاالً آخر يفند نظرية العرق وعالقتها باالنتحار‪ ،‬قائالً‪ :‬فإذا كان أناس في‬
‫الشمال (فرنسا) ينتحرون إذن أكثر من أناس الجنوب‪ ،‬فليس أل ّنهم أكثر استعدا ًدا بحكم مزاجهم العرقي‪ ،‬وإ ّنما ببساطة‪ ،‬ألنّ األسباب‬
‫‪”.‬االجتماعية لالنتحار أكثر تجم ًعا بنحو خاص‪ ،‬في شمال اللوار أكثر مما في جنوبه‬
‫إنّ مسألة العالقة بين العرق واالنتحار تقتضي أنّ هناك أجناسا “خالصة” وأخرى مختلطة‪ ،‬والحاصل أن هذا الصفاء العرقي لم يستطع‬
‫الكشف عنه كبار األنثروبولوجيين‪ ،‬لما يكتنفه من صعوبات إبستمولوجية وتاريخية معقدة ومتعبة‪ ،‬والتي لم تخرج إال ببعض الفرضيات‬
‫التي تعوزها األدلة الدامغة‪ .‬ولهذا فإنّ هذا الطرح يتهاوى أمام وجود معطيات علمية تؤكد أ ّنه ال توجد عالقة وطيدة بين انتشار االنتحار‬
‫‪.‬واألصل العرقي‪ ،‬بل إنّ المحدد الرئيس في العملية هو الشروط االجتماعية كما يذهب إلى ذلك دوركايم‬
‫االنتحار والعوامل الكونية ‪2-‬‬
‫يقصد بالعوامل الكونية‪ ،‬مختلف العوامل الفزيائية الطبيعية‪ ،‬كالطقس داخل المناطق المختلفة‪ ،‬واالختالفات بين الفصول السنوية‪ .‬حيث أ ّنه‬
‫ساد في الحس المشترك أنّ المناطق الباردة هي التي تكثر فيها ظاهرة االنتحار‪ ،‬لكن هذه الدعوى‪ ،‬أصبحت باطلة بدليل ما أفصحت عنه‬
‫المعطيات اإلحصائية المجمعة حول تتبع الظاهرة عبر الشهور والفصول السنوية في أوربا‪ .‬حيث تبين أنّ أكثر الفصول انتشارً ا لالنتحار‬
‫هما فصال الربيع والصيف وليس الخريف والشتاء‪ .‬ولهذا تساءل دوركايم‪ ،‬لماذا ال تكثر االنتحارات في المناطق األكثر سخونة على وجه‬
‫البسيطة؟ هذا المثال ال ينقض األول‪ ،‬لك ّنه يعزز المنحى الذي توصل إليه “دوركايم”‪ ،‬وهو أ ّنه إذا كان من نتيجة يمكننا استخالصها‪ ،‬فهي‬
‫أ ّن ه إذا الحظنا كثرة االنتحارات سواء في شهر دجنبر أو يوليوز‪ ،‬فليس ذلك بسبب درجة الحرارة أو البرودة‪ ،‬بقدر ما هو نتيجة لطبيعة‬
‫الحياة االجتماعية وللقابلية التي يتمتع بها السكان في منطقة محددة‪ .‬أي مختلف الشروط القبلية والبعدية التي يقيمها الفرد مع البيئة التي‬
‫‪.‬يعيش فيها وكيفية استجابته لها‪ ،‬ومدى وجود محفزات اجتماعية تغذي عملية التفكير في االنتحار أو تنفيذه مطل ًقا‬
‫)‪ (L’imitation‬المحاكاة ‪3-‬‬
‫يمكن القول إنّ هذا العامل مثير للعديد من الجداالت العلمية والسوسيولوجية في إعطائه القدرة على التأثر لدى األفراد‪ ،‬في استبطان ظاهرة‬
‫صا إذا كان من األقران (أي الفئات المتقاربة في السن)‪ .‬في هذا السياق‪ ،‬قد توصل التقرير‬ ‫االنتحار والنسج على منوال من يقوم بها‪ .‬خصو ً‬
‫األخير لمنظمة الصحة العالمية حول االنتحار‪ ،‬إلى أنّ كل بالغ يقوم باالنتحار فإ ّنه يؤثر في أكثر من ‪ 20‬شخصًا آخرين ‪ .‬ونظرً ا ألهمية‬
‫حيزا مه ‪ًًّ6‬ما في كتابه‪ ،‬مبي ًنا سطحية هذا التحليل‪ ،‬الذي يذهب في تفسير الظاهرة‪،‬‬ ‫هذا العامل‪ ،‬فقد توقف عنده “دوركايم”‪ ،‬وخصص له ً‬
‫انطال ًقا من تأثير فرد معين في آخرين‪ .‬وكأ ّن نا لسنا أمام مجتمع – بكل ما يختزنه من بنيات ومن ديناميات ومن شبكات معقدة – بل نحن‬
‫أمام أفراد يتأثرون بصورة سلبية وساذجة أحيا ًنا‪ ،‬وكأ ّنهم آالت وليسوا بشرً ا‪ .‬والحاصل أنّ هذا األمر‪ ،‬إذا كان ينطبق على عالم الحيوان‪،‬‬
‫فهو جد معقد بالنسبة إلى الكائن البشري‪ .‬وهذا ما يناقض المسلمات التي قام عليها العلم‪ .‬ولعل الداعين لهذه الفكرة (أي المحاكاة) يفتقرون‬
‫إلى نتائج تجريبية تسند مقوالتهم‪ .‬إنّ الذين يروجون لمثل هذه األقوال (المحاكاة) ليسوا أكثر من ال هوتيين يرددون المقوالت بدون إعطاء‬
‫الدليل العملي عليها‪“ .‬كيف يمكن لفرد وهو ليس شي ًئا أكثر من فرد‪ ،‬أن يكون لديه القوة الكافية كي يصنع مجتم ًعا على صورته؟”‪ .‬صحيح‬
‫أ ّن ه مر في التاريخ – وما زال – أشخاص يستطيعون التأثير في مجتمعات بأكملها‪ .‬لكن الذي يجب أن ننتبه إليه‪ ،‬هو الخوف في السقوط في‬
‫‪.‬سذاجة علمية ما‬
‫ب) العوامل االجتماعية‬
‫ال شك أنّ المتتبع لكتاب “دوركايم” يكتشف إلى أي حد نافح هذا السوسيولوجي عن أطروحة “االجتماعي يفسر بما هو اجتماعي”‪ ،‬بمعنى‬
‫آخر فإذا كانت ظاهرة االنتحار نابعة من المجتمع‪ ،‬فال يمكن تفسيرها عمل ًّ‪ً6‬يا وعلم ًّ‪ً6‬يا إال بالبحث عما هو اجتماعي فيها‪ .‬في هذا السياق‪ ،‬فإنّ‬
‫البحث السوسيولوجي يتخذ أبعا ًدا علمية منهجية تمتح من طبيعة هذا العلم‪ ،‬القائم أسا ًسا على المنهج العلمي‪ ،‬في تتبع الظاهرة من خالل‬
‫‪.‬المالحظة والفرضيات واإلحصائيات والنتائج للخلوص إلى نماذج مثالية في الظاهرة‪ .‬وهو ما توفق فيه “دوركايم” إلى أبعد حدود‬
‫اعتبارً ا لكل ما سبق‪ ،‬فقد توصل “دوركايم” إلى مجموعة من العوامل المؤثرة في ظاهرة االنتحار‪ ،‬منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي‬
‫ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سوسيوثقافي إلى ما هناك من العوامل‪ .‬لكن أهم نتيجة توصل إليها “دوركايم” – في اعتقادنا – هي‬
‫‪.‬النمذجة المثالية لالنتحار‪ ،‬والتي يمكن إسقاطها على كثير من التجارب سواء التي تعود إلى القرن ‪ 19‬أو ‪ 20‬أو حتى ‪21‬‬
‫‪:‬االنتحار األناني ‪1-‬‬
‫توصل “دوركايم” بعد تفحص العديد من اإلحصائيات والمعطيات والمقارنات‪ ،‬إلى أنّ مفهوم االنتحار ليس مفهومًا واح ًدا‪ ،‬بل إ ّنه يتعدد‬
‫ً‬
‫طبيعية‬ ‫ً‬
‫نتيجة‬ ‫بحسب السياقات والشروط االجتماعية التي تشرطه‪ .‬في هذا السياق‪ ،‬أطلق الباحث‪ ،‬مفهوم “االنتحار األناني” الذي يأتي‬
‫النحالل الروابط االجتماعية‪ ،‬سواء العائلية أو السياسية أو الدينية‪ .‬وقد انطلق من مجموعة من الفرضيات التي عزز بها دواعي إطالق هذا‬
‫المفهوم‪ .‬فأوالً‪ ،‬يتغير االنتحار تغيرً ا عكس ًّ‪ً6‬يا مع درجة اندماج المجتمع الديني‪ .‬ثانيًا يتغير االنتحار تغيرً ا عكس ًّ‪ً6‬يا مع درجة اندماج المجتمع‬
‫وثالثا‪ ،‬يتغير االنتحار عكس ًّ‪ً6‬يا مع درجة اندماج المجتمع السياسي‪ .‬وأخيرً ا يتغير االنتحار عكس ًّ‪ً6‬يا مع درجة اندماج الجماعات‬ ‫ً‬ ‫العائلي‪.‬‬
‫االجتماعية التي يشكل الفرد جزءًا منها‪ .‬ولكي يشرح هذه الفرضيات‪ ،‬فإنّ “دوركايم” اعتمد على منهج نقدي صارم في بناء أدلته‪ ،‬حيث‬
‫يؤكد أنّ االنتحار األناني‪ ،‬يتولد عندما تنتهي صالحية القيم المجتمعية السابقة‪ ،‬لتولد معها قيم جديدة‪ ،‬أو “أخالق جديدة”‪ .‬وهذه األخالق ال‬
‫تستطيع أن تقدم للفرد‪ ،‬ذلك الدعم والسند اللذين كان يحظى بهما في السابق‪“ .‬مثلما أنّ الكرب الفردي حينما يكون مزم ًنا‪ ،‬فهو يعكس‬
‫بطريقته‪ ،‬الحالة العفوية السقيمة للفرد‪ .‬وحينئذ تظهر تلك النظم الميتافيزيقية والدينية التي بتحويلها تلك المشاعر المظلمة إلى صيغ تبادر إلى‬
‫تقديم البراهين للناس بأنّ الحياة المعنى لها‪ ،‬وأنّ من خداع الذات أن ننسب إليها أي معنى‪ .‬حينذاك تتشكل أخالق جديدة‪ ،‬وقيم هي التي‬
‫تشكل الواقع وتجعله واق ًعا بحق‪ ،‬فهي توحي باالنتحار‪ ،‬أو على األقل توجه الناس إليه ناصحة إياهم بالعيش أقل ما يمكن”‪ .‬وال تحصل هذه‬
‫الحالة إال إذا وقع نوع من “البؤس السيكولوجي للجسد االجتماعي”‪ ،‬وانحلت الروابط االجتماعية التي كانت قوية في الماضي‪ .‬وساد قلق‬
‫اجتماعي مزمن‪ .‬وفي كل هذه الحجج‪ ،‬ينتصر “دوركايم” لما هو اجتماعي وليس لما هو فردي‪ .‬فاالنتحار األناني ال يقع إال إذا تهيأت أسبابه‬
‫االجتماعية‪ ،‬وحينها يستسلم الفرد ألقل صدمة من صدمات الظروف المحيطة‪ ،‬من قلق وحيرة وتصدع وصدمة وغياب المعنى‪ ،‬مما يوقع‬
‫الفرد في أحضان االنتحار‪ .‬وبكلمة‪ ،‬فإنّ االنتحار األناني هو تعبير عن تراخ عن الفعل في المجتمع‪ ،‬وهو انفصال سوداوي‪ ،‬ينجم عن حالة‬
‫مفرطة من التفردن‪ .‬حيث أ ّنه إذا انعزل الفرد‪ ،‬فألنّ الروابط التي توحده باآلخرين وهنت أو تقطعت‪ .‬لذا فهذه الفراغات التي تفصل‬
‫‪.‬الوجدانات وتجعلها غريبة بعضها عن بعضها اآلخر‪ ،‬تنبع بالتحديد من تحلل النسيج المجتمعي‬
‫االنتحار الغيري ‪2-‬‬
‫يمثل النوع الثاني من االنتحارات التي عرفتها البشرية منذ القدم‪ .‬فقد كان يقع في لحظات تاريخية وفي ظروف سوسيوثقافية مختلفة‪ .‬ولهذا‬
‫استخلص “دوركايم” من خالل تتبعه ألهم ما كتب في الموضوع‪ ،‬أنّ وقوع مثل هذه االنتحارات‪“ ،‬متواتر لدى الشعوب البدائية”‪ ،‬وقد توقف‬
‫‪:‬الباحث على ثالثة أنواع منه‬
‫‪.‬انتحار الرجال الذين بلغوا عتبة الشيخوخة أو أصيبوا بمرض –‬
‫‪.‬انتحار النساء بعدما فقدوا أزواجهن –‬
‫‪.‬انتحار الحاشية أو الخدم أو الجنود‪ ،‬لدى موت زعمائهم –‬
‫ولعل في هذه األنواع الثالثة‪ ،‬ما نجده منتشرً ا في بعض الشعوب حتى في أيامنا هذه‪ .‬ولهذا فهذه األصناف تقربنا من طبيعة هذا االنتحار‬
‫وتعريفه‪ .‬وهو الذي يقع عندما يكون الفرد مندمجً ا بشكل قوي مع المجتمع‪ .‬وعلى عكس النوع األول (األناني)‪ ،‬فإنّ “الفردانية الناقصة”‬
‫‪.‬تحدث النتائج نفسها وهو االنتحار‬
‫وهذا النوع‪ ،‬يقع في التجمعات الدينية المنغلقة (الكاست) وفي الثكنات العسكرية وفي لحظات الحروب والنزاعات القبلية‪ .‬أما عن األسباب‬
‫التي تدفع لهذا االنتحار‪ ،‬فهي تتمثل في القيم المجتمعية التي تدفع لالنتحار عبر تثمينه وشرعنته‪ ،‬أل ّنه في مثل هذه الحاالت‪ ،‬يكون ضغط‬
‫المجتمع قو ًّ‪ً6‬ي ا على الفرد‪ ،‬وهذا الضغط يمنعه من أن يتحرك حركة خاصة واحدة‪ .‬وهذا الضغط يشكل بيئة معنوية‪ ،‬ويمثل األرضية الخصبة‬
‫‪.‬النتعاش االنتحار الغيري‬
‫االنتحار الفوضوي ‪3-‬‬
‫ثمة بعض المسلمات التي أصبحت بمثابة بديهيات‪ .‬كالتي تعتقد أنّ االنتحار ينتج عن الهشاشة والفقر والعوز وما إلى ذلك من العوامل‬
‫االقتصادية والمادية‪ ،‬لكن الباحث “دوركايم”‪ ،‬من خالل تتبعه لهذا النوع من االنتحار‪ ،‬قلب الطاولة على أصحاب هذه الدعوى‪ ،‬مبي ًنا أنّ‬
‫السبب ال يرجع إلى الفقر والبؤس في حد ذاتهما‪ ،‬بل هو نتيجة ألزمات واضطرابات في النظام الجمعي ناتجة عن األوضاع االقتصادية‪.‬‬
‫فالنتيجة التي توصل إليها “دوركايم” هو أنّ الغنى كما الفقر يسبب االنتحار الفوضوي‪ .‬وقد وسمه بهذا االسم أل ّنه يأتي نتيجة االضطراب‬
‫واالختالل اللذين يقعان في المجتمع‪ .‬ولعل السمة البارزة في مجتمعاتنا المعاصرة اليوم وحتى زمن إجراء الدراسة (القرن ‪ ،)19‬هي حالة‬
‫“الفوضى الناجمة عن فقدان النظام الطبيعي أو الشرعي‪ ،‬والذي يحدث على هيئة فوران متقطع وفي شكل أزمات حادة‪ ،‬مما يتغير معها‬
‫المعدل االجتماعي لالنتحار‪ ،‬أل ّنه بفعل التحوالت العميقة والنوعية التي تحصل في جل المجتمعات البشرية اليوم‪ ،‬فإنّ حالة الفوضى‬
‫واضطراب المرجعيات‪ ،‬أصبحت حالة مزمنة وليست عرضية وزائلة‪ .‬ولعل من بين العوامل المساهمة في هذه الفوضى‪ ،‬ذلك التشابك‬
‫العالئقي والعولمي الذي دخلته البشرية بحيث لم يعد هناك حديث عن الخصوصيات أو المرجعيات الوحيدة أو الصفة الثقافية المميزة لشعب‬
‫من الشعوب‪ .‬بل إنّ الكل انسحق في الكل‪ ،‬وأصبحنا أمام وضع جديد سمته أنا إنسان عالمي وعولمي‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬ال يمكن االعتقاد فقط‬
‫في النتائج السلبية لهذه الموجة‪ ،‬والتي تبرز في أبهى صورها‪ ،‬في االنتحار‪ .‬لكن ذلك ال يمنع من الوقوف عند بعض المؤشرات البارزة‬
‫والتي وإن – كان دوركايم قد تحدث عنها في سياق مختلف – فإ ّننا نزعم أنّ تحليالته تلتقي بشكل كبير مع ما يشهده العالم المعاصر من‬
‫‪.‬تموجات‬
‫خام ًسا‪ :‬المدخل التفسيري (االجتماعي) لظاهرة االنتحار‬
‫بعدما فند “دوركايم” األصل النفسي لالنتحار وبين العوامل االجتماعية المحددة للظاهرة‪ ،‬مستخلصًا النماذج األكثر انتشارً ا لالنتحارات‪ ،‬فإنّ‬
‫الباب الثاني من الكتاب‪ ،‬سيخصص لتفسير الظاهرة‪ ،‬انطال ًقا من أطروحته المركزية‪ ،‬وهي أنّ الظاهرة تنجم عن ما هو سوسيولوجي‪ .‬حيث‬
‫يؤكد أنّ “المعدل االجتماعي لالنتحارات ال يجد تفسيره إال سوسيولوج ًّ‪ً6‬يا‪ ،‬ذلك أنّ البنية األخالقية للمجتمع هي التي تحدد في كل لحظة‬
‫القسط العددي للموتى اإلراديين”‪ .‬فكيف يمكن فهم هذا العامل التفسيري؟ وهل يستقيم عامالً محد ًدا ووحي ًدا للظاهرة المعقدة والمركبة‬
‫والملغزة في آن واحد؟‬
‫ال شك أنّ المطلع على كتاب “قواعد المنهج السوسيولوجي” لدوركايم‪ ،‬يلحظ قوة طرح هذا السوسيولوجي عندما اعتبر أنّ من خصائص‬
‫الظاهرة السوسيولوجية‪ ،‬كونها خارجية عن الفرد‪ ،‬وليس ثمة من شيء خارجي سوى المجتمع‪ .‬ولهذا نفهم لماذا شدد “دوركايم” على رد‬
‫تفسير ظاهرة االنتحار إلى هذا المعطى‪ ،‬مبي ًنا أنّ “االعتراف بحقيقتها الواقعية‪ ،‬وتصورها كمجموع من الطاقات التي تدفعنا من الخارج إلى‬
‫الفعل‪ ،‬على غرار القوى الفزيا‪-‬كميائية والتي نتعرض لتأثيرها‪ .‬وهي أشياء من نوع خاص‪ ،‬وليست جواهر لفظية‪ ،‬بحيث يمكن قياسها‪،‬‬
‫ومقارنة حجمها النسبي مثلما نفعل مع قوة التيارات الكهربائية أو المصادر الضوئية”‪ .‬لهذا إذا كان هناك من خالصة‪ ،‬يمكن استخالصها من‬
‫هذه األطروحة‪ ،‬هو أنّ دوركايم كان ينظر إلى الظواهر االجتماعية‪ ،‬ومن بينها االنتحار بمنظار السوسيولوجي الذي يرجع الظاهرة إلى‬
‫موضعها األصلي الذي تخلقت فيه وتولدت عنه‪ ،‬وذلك عبر موضعتها‪ ،‬وعبر استنطاق كل اإلحصائيات والمؤشرات الرقمية التي تظهر إلى‬
‫أي حد أنّ الشروط االجتماعية هي المحددة أوالً وأخيرً ا في إبراز الظاهرة‪ .‬ولتوضيح األمر بشكل جلي‪ ،‬يمكن قراءة هذا المقطع من‬
‫الكتاب‪ ،‬والذي يورد فيه “دوركايم” تصوره للظاهرة‪ ،‬قائالً‪ …“ :‬على هذا النحو يتوضح الطابع المزدوج لالنتحار‪ ،‬فحينما ننظر إليه عبر‬
‫جميع تجلياته الخارجية‪ ،‬نميل إلى أن ال نرى فيها سوى مجموعة من الحوادث المستقلة عن بعضها‪ ،‬أل ّنه ال يحدث في مواقع منفصلة (أي‬
‫االنتحار)‪ ،‬دون روابط مرئية فيما بينها‪ .‬ومع ذلك فالمجموع المكون من كل هذه الحاالت الخاصة المجتمعة يمتلك وحدته وفرديته‪ ،‬ما دام‬
‫المعدل االجتماعي لالنتحارات يمثل سمة مميزة لكل شخصية جمعية”‪ .‬وما يستشف من هذا التحليل‪ ،‬هو أنّ “دوركايم” عندما يحلل ظاهرة‬
‫االنتحار وكيف تقع في المجتمع‪ ،‬يربط بشكل جدلي بين االستعدادات القبلية للمجتمع لتخلق الظاهرة‪ ،‬أي العوامل الفاعلة فيها‪ ،‬وبين الميل‬
‫الجمعي لتوليد الظاهرة‪ .‬وهذا يعني أنّ هناك مستويين من التحليل‪ ،‬األول يركز على ما هو واقعي عملي‪ ،‬متمثالً في الشروط البنيوية التي‬
‫تسبق ظهور أي ظاهرة‪ ،‬وبين القبول االجتماعي لها‪ .‬وبكلمة جامعة‪ ،‬مادام المجتمع هو الذي يصنع الفرد وليس العكس‪ ،‬فهذا يعني أنّ “القوة‬
‫الجمعية التي تدفع اإلنسان إلى االنتحار ال تتغلغل فيه إال قليالً قليالً‪ .‬فكلما تقدم اإلنسان في العمر‪ ،‬غدا أسهل تأثرً ا بهذه القوة‪ ،‬ذلك أل ّنه‬
‫يلزمه‪ ،‬من دون شك‪ ،‬تجارب متكررة لكي تقوده إلى الشعور بالخواء المطبق لوجود أناني‪ ،‬وبعبثية طموحات ال نهاية لها‪ ،‬لهذا فإنّ‬
‫المنتحرين يملؤون مصيرهم بطبقات متعاقبة من األجيال”‪ .‬وكما أ ّنه ال يسقط مطر إال بعد توفر الشروط الموضوعية له‪ ،‬فكذلك الفعل‬
‫اإلنساني ال يقع على أرض الواقع‪ ،‬إال إذا استنفد كافة الشروط القبلية التي تدفع إلى بروز سلوك وممارسات في الواقع‪ ،‬ولعل االنتحار واحد‬
‫من هذه السلسلة المجتمعية التي ال تتخلق إال بوجود هذا الشرط القبلي‪ ،‬وهو المجتمع‪ ،‬وكذلك االستعداد الشخصي الذي يتفاعل بشكل جد‬
‫‪.‬معقد مع مختلف االستعدادات ليعطينا سلو ًكا بهذا النوع‬
‫يجب أن نقر‪ ،‬أنّ هذا التحليل الذي ساقه دوركايم لظاهرة االنتحار‪ ،‬سوف يعرضه لمجموعة هائلة من االنتقادات‪ ،‬والتي شككت في مصداقية‬
‫تفسير الظاهرة بما هو اجتماعي محض‪ ،‬أل ّنها تقع على أرض مشتركة من مجموعة من العوامل‪ ،‬منها ما هو مرئي ومالحظ وهو ال يمثل‬
‫إال جزء الجليد البارز‪ ،‬ومنها ما هو خفي وكامن ال يظهر إال عبر سنوات وبعد إعمال آليات منهجية جد صارمة وأكثر مطابقة لظاهرة‬
‫‪ .‬تنفلت من كل تفسير‬
‫”ساد ًسا‪ :‬عناصر الحل المقترح من طرف “دوركايم‬
‫ال شك أنّ عمالً بحث ًّ‪ً6‬يا بهذا الحجم‪ ،‬إال وينتهي إلى مجموعة من التوصيات أو الحلول أو مقدمات للعالج من ظاهرة مؤرقة للمجتمعات‪ ،‬هذا‬
‫على الرغم من أنّ السوسيولوجيا ال تهتم بوضع الحلول‪ ،‬بقدر ما تهتم بفهم الظاهرة وتحليلها وتجلية غوامضها‪ .‬إال أنّ دوركايم‪ – ،‬وهو‬
‫الذي تعلمنا منه هذا المنهج في التعامل مع الظواهر االجتماعية ‪ ،-‬يفاجئنا بتقديم رؤية خاصة للعالج من الظاهرة‪ .‬فما هي وجهة نظره في‬
‫الموضوع؟ وهل يمكن التعويل عليها للتغلب على الظاهرة اليوم؟‬
‫بعدما يستعرض بعض اإلجراءات القانونية والدينية التي اعتمدتها بعض الشعوب في مواجهة ظاهرة االنتحار بشتى أنواعه‪ ،‬فإنّ “دوركايم”‬
‫ال يميل إلى “تجريم” االنتحار‪ ،‬نظرً ا أل ّنه ال يقدم أيّ فائدة في مواجهته‪ ،‬بقدر ما يؤزم الوضع أكثر‪ .‬بل أقصى ما يمكن الوصول إليه‪ ،‬هو‬
‫‪.‬الحرمان من استفادة المنتحر من الطقوس الدينية المصاحبة للميت‪ ،‬وهذا ما يتوافق مع ما تنص عليه الكثير من الديانات السماوية‬
‫بيد أن “دوركايم” ال يستسلم لهذا الطرح‪ ،‬معتبرً ا أ ّنه غير كاف للقضاء على الظاهرة‪ ،‬فما سيتفيد المجتمع إذا ما وضع قانو ًنا زجر ًّ‪ً6‬يا أو رسخ‬
‫طقوسًا تدين االنتحار؟‬
‫لهذا نجده يتتبع بعض الحلول التي عبر عنها من سبقوه بالدراسة للموضوع‪ ،‬أمثال “فرانك” والذي اعتبر أنّ أهم ما يمكن االستثمار فيه‬
‫لتجنيب المجتمع معضلة االنتحار‪ ،‬هو التربية‪ ،‬عبر “االشتغال على تطوير الطبائع والقناعات” بما يستقيم مع ميالد قيم جديدة تقدس الحياة‬
‫‪.‬وتدنس الموت كيفما كان‬
‫وعلى الرغم من أنّ هذا الطرح‪ ،‬قد يعتقد البعض أ ّنه يتماشى من التوجه الدوركايمي في سوسيولوجيا التربية – على اعتباره من أوائل من‬
‫بلور هذا التخصص – لكن الشيء المفاجئ هو أنّ “دوركايم” يتساءل‪ :‬أليست “التربية سوى صورة عن المجتمع وانعكاس له‪ ،‬فهي تحاكيه‬
‫‪”.‬وتعيد إنتاجه بنحو مجمل‪ ،‬ولكنها ال تخلقه؟‬
‫ولهذا ال يمكن عمل ًّ‪ً6‬يا االعتماد على شيء هو جزء من “أزمة” المجتمع‪ .‬ألنّ هذا األمر يعيدنا إلى جدل ال يتوقف‪ :‬من يصلح من‪ :‬التربية أو‬
‫المجتمع؟‬
‫ويتساءل بعد ذلك “دوركايم” هل يمكن التعويل على المجتمع السياسي إلصالح المجتمع وبالتالي إليقاف آفة االنتحار؟ أم وجب االعتماد‬
‫على المجتمع العائلي (االسري) في تدعيم قيم الترابط المجتمعي وإعادة اللحمة له؟ أم أ ّنه وجب اللجوء إلى الدين‪ ،‬باعتباره يتضمن معاني‬
‫سامية وقي ًما عليا تستطيع أن ترفد المجتمع وتخرجه من براثن التفكك والترهل إلى العافية والتالحم؟‬
‫بخصوص التعويل على الجماعة السياسية‪ ،‬فهو غير مأمون العواقب‪ ،‬نظرً ا لترهل العالقة بين المواطن وهذه الجماعات التي ابتعدت عن‬
‫تأطير الفرد وتربيته بشكل واضح ومستمر‪ .‬وعلى الرغم من بروز بعض حاالت التشبب بهذه الجماعات في حاالت استثنائية‪ ،‬كالحروب‬
‫والنزعات واالضطرابات‪ ،‬فإ ّنها تبقى موسمية وال تعكس التجذر الحقيقي لهذه المؤسسات في بناء المواطن الفرد‪ .‬ولهذا فإنّ هذه الحالة‬
‫المتقطعة والمتوترة بين الفرد والجماعات السياسية‪ ،‬ال تمنع من حصول انتحارات بشكل مضطرد‪ .‬ولعل في هذا المثال ما يذكرنا بما آلت‬
‫إليه األوضاع اليوم‪ ،‬من موت السياسة ومن فقدان الثقة بين المجتمع السياسي والمواطن العادي‪ ،‬لدرجة يصعب معها تصور عالقة متداخلة‬
‫‪.‬ومتواشجة ومتالحمة‬
‫لعل قائالً يقول‪ :‬عن العاصم من هذه اآلفة االجتماعية‪ ،‬هو الدين‪ ،‬فهو األمضى سالحً ا مقارنة ببقية العناصر؟ وهذا القول‪ ،‬نجد من يكرره‬
‫اليوم في المحافل العلمية واللقاءات األكاديمية والنقاشات العمومية‪ ،‬بل إنّ بعض جماعات اإلسالم السياسي اليوم‪ ،‬تؤكده‪ ،‬نظرً ا أل ّنه يشكل‬
‫الصمغ التي تنضغط فيه كل اآلفات و”األمراض”‪ .‬لكن “دوركايم” و – وإن كان يتحدث في سياق االنتقال من الفكر الكنسي إلى الفكر‬
‫العلمي في أوربا القرن ‪ 18‬و‪ – ،19‬فإ ّنه مع ذلك‪ ،‬حاول أن يبين أنّ هذا الرابط (الدين)‪ ،‬فقد الكثير من عناصر قوته وامتداده داخل‬
‫المجتمع الحديث‪ ،‬فعلى الرغم من “التفوق األخالقي والفكري للعقيدة‪ ،‬ال يمكنه أن يمارس أي تأثير فيى االنتحار”‪ .‬ولعل أقوى األمثلة يمكن‬
‫تقديمها اليوم‪ ،‬من الدول اإلسالمية والمغرب واحد منها‪ ،‬فعلى الرغم من أنّ الحس العام المجتمعي مصبوغ بصبغة دينية بارزة‪ ،‬فإنّ ذلك لم‬
‫يمنع الظاهرة من االستفحال‪ ،‬فحسب التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية المشار إليه آن ًفا‪ ،‬فإنّ المغرب عرف تطورً ا في السنوات‬
‫‪”.‬األخيرة‪ ،‬ما بين (‪ )2014-2000‬في ظاهرة االنتحار‪ .‬ولهذا فإنّ ذلك ما يؤكد محدودية هذا العامل كما ذكر “دوركايم‬
‫بالموازاة مع ذلك‪ ،‬هناك من طرح أنّ الحل‪ ،‬يكمن في الجماعة العائلية‪ ،‬والتي تعد البيت الدفيء الحتضان الفرد ولتعزيز روابط التالحم بين‬
‫مكونات المجتمع؟‬
‫وبالفعل‪ ،‬فقد توقف “دوركايم” عند هذا العنصر‪ ،‬شارحً ا له ومقدمًا مجموعة من التوضيحات بشأنه‪ .‬حيث يرى “دوركايم”‪ ،‬أنّ العائلة طرأت‬
‫عليها تغيرات كبيرة في بنيتها وفي وظيفتها‪ ،‬ولم “تعد تمارس التأثير الواقعي نفسه الذي كان لها في ما مضى”‪ .‬ويضيف أيضًا‪“ :‬ففي حين‬
‫كانت العائلة قديمًا تصون أغلبية أعضائها الذين يعيشون في كنفها منذ والدتهم وحتى مماتهم‪ ،‬مكونة كتلة متراصة عصية على االنقسام‪،‬‬
‫موهوبة نو ًعا من الخلود‪ ،‬لم يعد لها اليوم سوى ديمومة عابرة‪ ،‬فما تكاد تتشكل حتى تتشتت‪ ،‬وما إن يترعرع األوالد جسد ًّ‪ً6‬يا حتى يذهبوا‬
‫ليتابعوا حياتهم في الخارج”‪ .‬ونحن ال نستغرب من هذا التحليل‪ ،‬فعلى الرغم من أ ّننا نتباعد زمن ًّ‪ً6‬يا وسياق ًّ‪ً6‬يا مع زمن الدراسة‪ ،‬فإنّ هذا‬
‫التحليل‪ ،‬ينطبق بأجلى صوره في واقعنا المعاصر‪ ،‬سواء في المجتمعات األوربية واألمريكية أو حتى في المجتمعات العربية اإلسالمية‪،‬‬
‫حيث فقدت العائلة الكثير من أدوارها ووظائفها التنشئوية والتثقيفية والتربوية‪ ،‬لتحل مكانها وسائط جديدة‪ ،‬رسخت تلك القطيعة بين أفرادها‪.‬‬
‫ولعل المثال الصارخ على ذلك‪ ،‬هو بروز األسر النووية‪ ،‬والتي تعد مؤشرً ا على انحالل الروابط األسرية‪ ،‬مما أصبح معه الفرد يتيمًا في‬
‫‪.‬مجتمع فيه إفراط في األنانية المجتمعية‪ .‬ولهذا ال نستغرب إذا ما وجدنا االنتحارات تكثر في السنوات األخيرة‪ ،‬في جل هذه المجتمعات‬
‫لكن ما هو الحل بالنسبة إلى دوركايم؟‬
‫يقدم “دوركايم” حًال‪ – ًّ6‬قد يعتبره البعض بعي ًدا عن العالج الحقيقي للظاهرة – إذ أ ّنه يتحدث في نهاية بحثه عن “الجماعية الوظيفية” أو ما‬
‫يمكن أو نطلق عليه “النقابات العمالية والوظيفية”‪ .‬ذلك “أنّ التماثل في األصل والثقافة واالهتمامات يجعل النشاط المهني المادة األكثر ثراء‬
‫لحياة مشتركة‪ ،‬إ ّنها أكثر من إطار تنظيمي‪ ،‬بل إ ّنها وسط أخالقي”‪ .‬قادر – حسب دوركايم – على أن يقدم عناصر التالحم والترابط ألفراد‬
‫المجتمع‪ .‬ألنّ التنظيم الحرفي (أو النقابي)‪ ،‬ال يجسد – دائمًا حسب دوركايم – وحدة تنظيمية فحسب‪ ،‬بل إ ّنه كيان يتوفر على قيم أخالقية‬
‫وآداب وأعراف وله حقوق وواجبات‪ ،‬يمكنه إذا توفرت بعض شروط إصالحه وتأهيله‪ ،‬أن يؤدي أدوارً ا جد طالئعية في التخفيف أو القضاء‬
‫‪.‬على معضلة االنتحار‬
‫طبعًا‪ ،‬يمكن القول إنّ هذا الحل قد يواجه اليوم – على األقل – بعدة اعتراضات جد وجيهة‪ ،‬وهي أنّ هذا التنظيم لم يعد بدوره يستقطب‬
‫الكثير من الموظفين والعمال والمستخدمين‪ ،‬فقد غدا بدوره – أي التنظيم النقابي – جد متأخر عن السيرورات والديناميات المجتمعية‬
‫المتسارعة‪ ،‬وبدا وكأنه غير قابل لإلصالح أو الرجوع إلى اختالل مكانته السابقة‪ ،‬في ظل منافسات شرسة يقدمها اإلعالم الجديد‪ ،‬والشبكات‬
‫االفتراضية وكل الوسائط الجديدة‪ .‬عالوة على أنّ هذا التنظيم ال يشمل الحياة المجتمعية ككل‪ ،‬فهو يقتصر على شريحة من العمال‬
‫والموظفين والمستخدمين (أي شريحة متوسطة أو متوسطة عليا من المجتمع) في حين أنّ باقي الفئات غير ممثلة فيه‪ .‬زد على ذلك هامشيه‬
‫حركيته في كل تفاصيل المجتمع‪ ،‬مما نعتقد معه‪ ،‬أ ّنه يصعب التعويل عليه في القضاء على معضلة بل هي آفة تحتاج في نظرنا إلى تظافر‬
‫الكثير من العوامل والمداخل‪ ،‬منها ما ذكره “دوركايم” كالعامل السياسي والديني والعائلي والتربوي‪ ،‬بتجديد وظائفها بإعادة موضعتها‬
‫التموضع المطابق‪ .‬ونضيف إليها اليوم العامل اإلعالمي‪ ،‬باعتباره عامالً حاسمًا في صناعة الرأي واألذواق واالتجاهات والميول‬
‫‪.‬والممارسات‬
‫المصدر ‪ :‬مؤسسة مؤمنون بال حدود‬

You might also like