Professional Documents
Culture Documents
الحكيم بما يقتضيه في كل زم ان ،اللطي ف ِ الحمد هلل الكريم المنان،
بعباده حين تحل بهم الهموم واالحزان ،الذي وعد عباده الص ابرين
أجرهم بغير عد وال حس بان ،القائ ل في محكم تنزيل ه {إِ َّن َم ا ُي َو َّفى
ِس ابٍ} نحم ده س بحانه و تع الى حم د اب ُرونَ أَ ْج َر ُه ْم ِب َغ ْي ِر ح َ
الص ِ
َّ
عباده الصابرين الش اكرين و أش هد أن س يدنا و نبين ا محم دا عب ده
ورسوله خاتم النبيين وإمام الص ابرين و قائ د الغ ر المحجلين اللهم
صل وس لم علي ه ص الة وتس ليما كث يرا إلى ي وم ال دين و على ال ه
الطيبين الطاهرين و الرضا عن صحابته اجمعين..
أيها اإلخوة الكرام إن الصبر من ال دين بمنزل ة ال رأس من الجس د،
فالص بر ه و ال زاد والق وة والعت اد ،يحتاج ه الم ريض في ش كواه
والمبتلى في بل واه و الداعي ة إلى هللا في دعوت ه والم رأة في بيته ا
واألب في أس رته والمعلم في مدرس ته وط الب العلم في دراس ته
والموظف في إدارته و التاجر في تجارته والعامل في خدمته .
ومما ال شك أن الصبر سيد األخالق و أساسها وأس ها وعنوانه ا ،
فالعفة صبر عن الشهوات المحرمات والحلم صبر عن االنتقام عند
الغض ب وس عة الص در ص بر عن د الض جر والقناع ة ص بر على
الكف اف و اليس ر ،وهك ذا بقي ة األخالق و ص دق رس ول هللا
ﷺ إذ قال ما أعطي عبد عطاء خ يرا وأوس ع من
الصبر.
فالص بر إذن ه و حبس النفس على الطاع ة وكفه ا عن المعص ية
والرضا بقضاء هللا وقدره دون شكوى فيه وال معه.
ق ال علي بن أبي ط الب رض ي هللا عن ه إن الص بر م ع اإليم ان
بمنزلة الرأس مع الجسد ثم رفع صوته فق ال :أال إن ه ال إيم ان لمن
ال صبر له.
فالصبر بإعتبار متعلقه ثالثة أقسام:
-الصبر على األوامر والطاعات حتى يؤديها والصبر عن المناهي
والمخالفات حتى ال يقع المرء فيها وص بر على األق دار واألقض ية
حتى ال يتسخطها.
-فأما الصبر على الطاعة فإن النفس ال تستقيم على أم ر هللا بيس ر
و سهولة فال بد من ترويض النفس و كبح جماحها وهذا يحتاج إلى
اصطبار وهو م ا أش ار إلي ه س بحانه و تع الى في كتاب ه فق ال ع ز
اص َط ِب ْر اع ُب دْ هُ َو ْ ض َو َم ا َب ْي َن ُه َم ا َف ْ ت َواأْل َ ْر ِ الس َم َاوا ِ ب َّ وج ل { َّر ُّ
س ِم ًًّ.يا} كما أم ر هللا نبي ه ﷺ لِ ِع َبا َد ِت ِه ۚ َهلْ َت ْع َل ُم َل ُه َ
على االص طبار في أعظم العب ادات وهي الص الة فق ال تع الى
اص َط ِب ْر َع َل ْي َه ا ال َن ْس أَلُ َك ِر ْزقًا َن ْحنُ َن ْر ُزقُ َك صال ِة َو ْ {وا ُم ْر أَهْ َل َك ِبال َّ
َوا ْل َعاقِ َب ُة لِل َّت ْق َوى} وإذا ك ان الم رء يحت اج للص بر في الطاع ة ف إن
األمر يتطلب طاقة وق وة وعزيم ة أك ثر إلى الص بر عن المعص ية
ومل ذات ال دنيا و ش هواتها المحرم ة ألن الجن ة حفت بالش هوات و
الشبهات والملذات ونزغات الشيطان و نزواته ،ومن أعظم الص بر
وأنفع ه منزل ة و أنفس ه وأرفع ه درج ة ه و الص بر على أق دار هللا
كفراق األحبة وخسارة المال وزوال الصحة وفقدان النعم وكل ه ذا
من االبتالء الذي يجريه هللا على خلقه ليميز الص ابرين المحتس بين
ش ْي ٍء مِنَ من الق انطين من روح هللا فق ال تع الى { َو َل َن ْبلُ َو َّن ُك ْم ِب َ
ش ِر ت َو َب ِّس َوال َّث َم َرا ِ ال َواأْل َ ْنفُ ِص مِنَ اأْل َ ْم َو ِ وع َو َن ْق ٍ
ف َوا ْل ُج ِ ا ْل َخ ْو ِ
ص ي َب ٌة َق الُوا إِ َّنا هَّلِل ِ َوإِ َّنا إِ َل ْي ِه ص ا َب ْت ُه ْم ُم ِ اب ِرينَ ا َّلذِينَ إِ َذا أَ َ الص ِ َّ
ات مِنْ َر ِّب ِه ْم َو َر ْح َم ٌة َوأُو َل ِئ َك ُه ُم ص َل َو ٌ َرا ِج ُع ونَ أُو َل ِئ َك َع َل ْي ِه ْم َ
ا ْل ُم ْه َت دُونَ } وأعظم الص ابرين هم من يتلق ون المص يبة بص در
منشرح وقلب طاهر و لسان ذاكر شاكر هلل والصبر إنما يكون عند
الض ربة و الص دمة األولى ،فق د روى البخ اري و مس لم في
ص حيحهما من ح ديث أنس رض ي هللا عن ه ق ال "م ر الن بي
ﷺ بامرأة تبكي عند قبر فق ال اتقي هللا واص بري
قالت إليك عني فإنك لم تص ب بمص يبتي ولم تعرف ه فقي ل له ا إن ه
النبي صلى هللا عليه وسلم فأتت باب النبي صلى هللا عليه وس لم فلم
تجد عنده بوابين فقالت لم أعرف ك فق ال إنم ا الص بر عن د الص دمة
األولى " ولوال الصبر لغرق المهموم في همومه و لض اق الح زين
ذرعا بأحزانه وغمومه ومن أراد طرق المجد و سبل المعالي سلك
سبيل الصبر ،وكل الناجحين في الدنيا إنم ا حقق و آم الهم بالص بر،
فاستمرؤوا المر واستعذبوا العذاب بالصعاب ،وما فات ألحد كم ال
إال لضعف في قدرته على الصبر واالحتم ال ،وإذا ك انت ال دنيا ال
تنال إال بالصبر وهي ال تعدل وال تساوي عن د هللا جن اح بعوض ة،
فكيف بجن ة عرض ها الس ماوات و األرض وفيه ا م ا ال عين رأت
وال أذن س معت وال خط ر على قلب بش ر وق د جم ل هللا تع الى
بالص بر األنبي اء وأم ر ب ه نبين ا ﷺ وه و خ اتم
ص َب َر أُولُو ْال َع ْز ِم
األنبياء وسيد الصابرين فقال تعالى { َفاصْ ِبرْ َك َما َ
م َِن الرُّ س ُِل }
اص ِب ْر لِ ُح ْك ِم َر ِّب َك َفإِ َّن َك ِبأ َ ْع ُي ِن َنا}
وقال في حقه { َو ْ
وإذا كانت معاشر المؤمنين م رارة ال دواء يعقبه ا الش فاء فق د رتب
المولى سبحانه و تع الى على الص بر عظيم الث واب والعط اء فق ال
اب ُرونَ أَ ْج َر ُه ْم ِب َغ ْي ِر ِح َ
سابٍ} ص ِعز وجل {إِ َّن َما ُي َو َّفى ال َّ
و قد قرن هللا الصبر بأعظم القيم العليا وأجم ل الص فات المثلى في
ص ِب ُروا َو َت َّتقُ وا َف إِنَّ ٰ َذلِ َك مِنْ اإلسالم ،قرن ه ب التقوى فق ال { َوإِن َت ْ
َع ْز ِم اأْل ُ ُمور}
{و َج َع ْل َن ا ِم ْن ُه ْم أَ ِئ َّم ًة َي ْه دُونَ ِبأ َ ْم ِر َن ا َل َّما
وقرنه ب اليقين فق ال تع الى َ
ص َب ُروا ۖ َو َكا ُنوا ِبآ َيا ِت َنا ُيوقِ ُنونَ }
َ
كم ا ق رن س بحانه وتع الى الص بر بإيج اب محب ة هللا ومعيت ه
للصابرين ،معية خاص ة ال تي تتض من حفظهم ونص رهم وتأيي دهم
{و َكأ َ ِّين ِّمن َّن ِب ٍّي قتل َ َم َع ُه ِر ِّب ُّيونَ َك ِث ي ٌر َف َم ا َو َه ُن وا لِ َم ا
فقال تعالى َ
اس َت َكا ُنوا ۗ َوهَّللا ُ ُيح ُّ
ِب ض ُعفُوا َو َم ا ْ يل هَّللا ِ َو َم ا َ س ِب ِ ص ا َب ُه ْم فِي َ أَ َ
اب ِرينَ }
ص ِ
ال َّ
بل إن الصبر من أحسن و أنف ع م ا ينعم هللا ب ه على عب ده الم ؤمن
وهو خير و أوس ع عط اء يعطي ه هللا لعب ده ،كم ا ج اء في الح ديث
الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من ح ديث أبي س عيد
الخدري رضي هللا عنه أن النبي ﷺ قال لألنص ار
الذين سألوه فأعطاهم ،ث َّم سألوه فأعط اهم ،ح تى إذا ن ِف دَ م ا عن دَ ه،
ير ،فلن أَ َّدخ َِره عنكم ،و َمن َيسْ تعف ْ
ِف ُي ِع َّفه قال :ما يكونُ عندي مِن َخ ٍ
أح ٌد َعطا ًء َخ يرا يصبرْ يُصبِّرْ ه هللاُ ،وما أُعطِ َي َ ِ عز وجلَّ ،و َمن هللاُ َّ
الصبر.
ِ وأو َسع مِن
ثمار الصبر:
أحبتي في هللا
اذا ك ان طري ق الص بر عظيم ا ف ان ثم اره تك ون أعظم عط اء
وأعظم مثوبة وأرفع درجة ومنزلة
وإن من أعظم الثم ار ال تي يجنيه ا المس لم من الص بر والتحم ل
والمصابرة تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ومح و الخطاي ا ودخ ول
الجنان قال تعالى مبينا حال الصابرين وأعم الهم وم آلهم فق ال ع ز
الص اَل َة َوأَن َفقُ وا ص َب ُروا ا ْب ِت َغا َء َو ْج ِه َر ِّب ِه ْم َوأَ َق ا ُموا َّ {وا َّلذِينَ َ وجل َ
الس ِّي َئ َة أُو ٰ َل ِئ َك َل ُه ْمس َن ِة َّ ِم َّما َر َز ْق َنا ُه ْم سِ ًّرا َو َعاَل ِن َي ًة َو َي دْ َر ُءونَ ِبا ْل َح َ
ُع ْق َبى ال َّد ِار}
ومن ثمار الصبر وعظمه ومكانته عند هللا ،جعل اإلمامة في ال دين
{و َج َع ْل َنا ِم ْن ُه ْم أَ ِئ َّم ًة
منوطة ومترتبة على الصبر واليقين فقال تعالى َ
ص َب ُروا ۖ َو َكا ُنوا ِبآ َيا ِت َنا ُيوقِ ُنونَ } َي ْهدُونَ ِبأ َ ْم ِر َنا َل َّما َ
فالصبر واليقين ينال العبد الص ابر اإلمام ة في ال دين وق د ق رأ ابن
عيينة هذه اآلية فقال أخذوا برأس األمر فجعلهم هللا رؤساء وسادة
كما أخبرنا سبحانه بأن الخير كل الخير والفضل العظيم في الصبر
اب ِرينَ }
ص ِص َب ْر ُت ْم َل ُه َو َخ ْي ٌر ِّلل َّ
{و َلئِن َ
وقد أكد ذلك فقال عز وجل َ
بل إن من أعظم الخير فيه والجزاء والمثوبة عليه أن أجره ال يقدر
اب ُرونَ أَ ْج َر ُه ْم وال يحد وال يعد فقال سبحانه وتعالى {إِ َّن َما ُي َو َّفى َّ
الص ِ
سابٍ} ِب َغ ْي ِر ِح َ
ومن ثم ار الص بر ال تي يناله ا الص ابر المحتس ب أم ره هلل المس لم
تدبيره لمواله المفوض شؤونه لخالقه ورازقه الصابر في البأساء و
الض راء وحين الب أس فج زاؤه وثواب ه ه و معي ة هللا ،يحفظ ه هللا
بحفظ ه ويكل ؤه ويحرُس ه بعين ه ال تي ال تن ام فق ال ع ز وج ل
اب ِرينَ } اص ِب ُروا إِنَّ هَّللا َ َم َع َّ
الص ِ {و ْ َ
ومن كان هللا معه لم يضره ش يء في األرض وال في الس ماء ومن
كان هللا معه فقد حاز وفاز وحظي بخير الدنيا واآلخرة.
وقد وعد هللا عباده الصابرين بالفوز بالجن ة والنج اة من الن ار ،ب ل
إن طريق الجنة وسبيلها يتطلب الصبر واالصطبار فالمداومة على
الطاعة ال تحصل إال بالصبر واالبتعاد عن الشهوات والشبهات.
ال يُدرك هذا األمر وال يحصل إال بالصبر و مجاه دة النفس و كبح
جماحها ال يكون إال بالصبر ،كما أن تحقيق تقوى هللا وخشيته ليس
لها طريق و سبيل أمثل وأنجع وأنجح مثل طريق الصبر.
فإذا كان طريق الصبر عظيما فإن ثماره تك ون من أع الي األم ور
وأعظمها و أنفعها عطاء
ولنتأمل ذل ك الوع د الك ريم من هللا س بحانه وتع الى للص ابرين من
عب اده المؤم نين ذل ك الوع د ال ذي يبعث في النفس األم ل ويمأل
القلب باليقين ويق وي الع زائم ويح رك الهمم فق ال ع ز وج ل {إِ ِّني
ص َب ُروا أَ َّن ُه ْم ُه ُم ا ْل َف ا ِئ ُزونَ } والف وز والنج اح
َج َز ْي ُت ُه ُم ا ْل َي ْو َم ِب َم ا َ
والفالح ال يتأتي إال بالصبر.
ومن ثم ار الص بر وعظم ه ورفعت ه أيض ا أن هللا بش ر عب اده
الصابرين ببشارات عظيمة يظف ر به ا الم ؤمن عن طري ق وس بيل
الص بر ال ذي س لكه األنبي اء والمرس لون .ولنتأم ل تل ك البش ارة
الص ِاب ِرينَش ِر َّ {و َب ِّ
العظيمة للصابرين من العلي الكريم قال تع الى َ
ص ي َب ٌة َق الُوا إِ َّنا هَّلِل ِ َوإِ َّنا إِ َل ْي ِه َرا ِج ُع ونَ أ ُ ْو َل ِئ َك ا َّلذِينَ إِ َذا أَ َ
ص ا َب ْت ُه ْم ُم ِ
ات مِنْ َر ِّب ِه ْم َو َر ْح َم ٌة َوأ ُ ْو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْه َت دُونَ } جم ع هللا ص َل َو ٌ
َع َل ْي ِه ْم َ
في ه ذه اآلي ة لهم بين الص لوات من ه س بحانه وتع الى وهي الثن اء
على العبد في المأل األعلى والرحمة و االهتداء.
ول و لم يكن من فوائ د الص بر وثم اره إال أن ه س بب ل دخول الجن ة
ونيل متاعها وخيراتها ،وه ل يوج د ش يء أعظم من دخ ول الجن ة
والفوز بالرؤيا والنظر إلى وجهه الك ريم وه ذا أك بر ح افز للمس لم
{و َج َزاهُم للتحلي بخلق الصبر في جميع جوانب حيات ه ق ال تع الى َ
ص َب ُروا َج َّن ًة َو َح ِري ًرا} وق ال في آي ة أخ رى {أُو ٰ َل ِئ َك ُي ْج َز ْونَ ِب َم ا َ
ص َب ُروا َو ُي َل َّق ْونَ فِي َها َت ِح َّي ًة َو َ
ساَل ًما} ا ْل ُغ ْر َف َة ِب َما َ
ومما يعين المسلم على الصبر بأنواعه المختلف ة ومعاني ه المتنوع ة
هو وقوفه على حقيقة الدنيا وتقبلها وتغيرها
فتجمل وا أحب تي في هللا بالص بر وتخلق وا بأخالق ه فإن ه نعم ال زاد
واتقوا هللا وكونوا من الصابرين على م ر القض اء تف وزوا ب أجركم
يوفيه إليكم ربكم يوم القيامة بغير حساب
نسأل هللا أن يجعلنا ممن إذا ابتلي صبر وإذا أذنب اس غفر وإذا أنعم
عليه شكر اللهم اجعلنا من الصابرين وألنعمك من الشاكرين .