You are on page 1of 3

‫في البداية كان الكون مياه ال نهاية لها‬

‫بقلم‬
‫األستاذ الدكتور‬
‫صالح رشيد الصالحي‬
‫تخصص‪ :‬تاريخ قديم‬
‫بغداد ‪2020‬‬

‫(وجعلنا من الماء كل شيء حي)‬


‫ان أصل الكون هو الماء‪ ،‬وما علية اآلن من النباتات والحيوانات بكافة اشكالها واحجامها يعود أصلها الى‬
‫الماء‪ ،‬وهناك اتفاق بين ما تطرحه الديانات الوثنية والسماوية بان األصل األول للكون هو الماء وفيما يلي نظرة‬
‫االنسان في الحضارات القديمة والديانات السماوية حول األرض ونشوئها‪ ،‬وبالمناسبة أثبتت الدراسات العلمية‬
‫مالحظة تنص على (اذا بقيت درجات الحرارة في كوكبنا في االرتفاع فسيودي ذلك إلى ذوبان القطبين الشمالي‬
‫والجنوبي) وعندها يرتفع مستوى الماء إلى ارتفاع (‪ )300‬م حسب التقديرات العلمية‪ ،‬ومن ثم ستختفي مساحات‬
‫شاسعة من اليابسة في الكرة األرضية‪ ،‬ويمكن ان نطلق عليها آنذاك اسم (الطوفان)‪ ،‬ولكن رغم كل ما يحدث‬
‫وسيحدث في المستقبل فان الجنس البشري لن يختفي عن سطح األرض اطالقا‪ ،‬فاإلنسان قادر ان يجد البدائل‬
‫الماكن عيشه‪ ،‬ويتكيف مع الظروف القاسية‪ ،‬ويفكر في الحلول لتحقيق امنه واستمراريه في البقاء‪ ،‬لذا فهو‬
‫قادر على الحياة وحفض ساللته في أي ضرف كان‪ ،‬على أية حال لنلقي نظرة عن أصل الكون كما ورد في‬
‫المصادر التالية‪:‬‬
‫األسطورة السومرية والبابلية‪ :‬من أقدم االساطير عن خلق الكون جاءت من العراق القديم‪ ،‬والكثير من علماء‬
‫اآلثار والتاريخ يؤكدون ان أصل الدين وتطوره كان في بالد الرافدين‪ ،‬ولهذا يعلق االثاري الفرنسي اندرية‬
‫بارو بقوله‪( :‬ليس هناك اثر في بالد الرافدين إال ويكون ذات طابع ديني)‪ ،‬وهذا ينطبق على األبنية الدينية‬
‫والقصور الملكية‪ ،‬والنصوص والحوليات‪ ،‬واالساطير‪ ،‬واالختام المنبسطة واالسطوانية‪ ،‬والمنحوتات بكافة‬
‫‪1‬‬
‫اشكالها والتي تعود إلى كافة العصور التي مرت في تاريخ العراق القديم‪ ،‬وعند الحديث عن اسطورة خلق‬
‫الكون التي وردت مدونة على ألواح سومرية وأخرى بابلية تتحدث عن خلق الكون وكيف خلقت السماء‬
‫واألرض والنبات والحيوان وتقول األسطورة‪:‬‬
‫(ف ي البداية لم تكن هناك سماء ولم تكن هناك أرض‪ ،‬وكان الكون عبارة عن مياه النهائية أو أزلية)‪ ،‬وكانت‬
‫المياه مكونة من ثالثة عناصر رئيسية ‪ :‬مياه عذبة يمثلها اإلله ابسو (‪ ،)Apsu‬ومياه مالحة تمثلها اإللهة تيامة‬
‫(‪ ،)Tiamat‬وعنصر ثالث هو ممو (‪ ،)Mummu‬واختلف الباحثون في تفسيره ربما هي المياه الكائنة في‬
‫السحب والضباب واعتبر ممو وزير اإلله ابسو‪ ،‬وأن اآللهة األولى كانت هائمة بذاتها على وجه الماء فلم تكن‬
‫هناك مقر لها الن السماء لم تخلق‪ ،‬ثم قام اإلله انليل (عند السومريين) أو اإلله مردوخ (عند البابليين) أو اإلله‬
‫آشور (عند االشوريين)‪ ،‬مهما يكن تمكن اإلله انليل من قتل اإللهة تيامة وشطرها نصفين احدهما كون السماء‬
‫والنجوم والنصف الثاني كون األرض‪ ،‬بمعنى خلق الطين الغرين من الماء وهذا دليل على تكوين اليابس بعد‬
‫انفصال الماء المالح عن الماء العذب وهذا ضروري لقيام حياة نباتية وبشرية وحيوانية‪ ،‬وهكذا بدأت الحياة من‬
‫الظالم والعدم والمياه المترامية األطراف ‪.‬‬
‫األسطورة المصرية القديمة‪ :‬يختلف الفكر الديني المصري القديم عن الفكر الديني السومري والبابلي اختالفا‬
‫جذريا‪ ،‬وتعود أصول الفكر الديني المصري القديم إلى عصور ما قبل التاريخ‪ ،‬ولكنه تبلور في بداية العصر‬
‫التاريخي‪ ،‬وتذكر االسطورة المصرية القديمة‪( :‬في الماضي السحيق لم تكن فيه أرض وال سماء وال حس وال‬
‫حسيس وما من آلهة أو بشر وانما عدم مطلق ال يشغله غير كيان مائي أزلي عظيم مع ظالم وبرد أطلقوا عليه‬
‫اسم (نون) ظهر فيه روح إلهي أزلي عرف باسم اإلله آتوم )‪ (Atum‬الذي خلق نفسه‪ ،‬ولم يجد مكانا يقف عليه‬
‫فوقف فوق تل ثم صعد فوق صخرة تدعى (بن بن) في (هليوبوليس) على هيئة مسلة رمز الشمس‪ ،‬ويعتبر آتوم‬
‫أبو اآللهة جميعا وظل منفردا بوحدانيته حتى اخرج من ظله عنصرين احدهما ذكرا تكفل بالفضاء والهواء‬
‫والنور ويعرف اإلله (شو) (االسم يدل على صوت العطس الذي يصدر من الفم)‪ ،‬واآلخر انثى تكفلت بالرطوبة‬
‫والندى وتعرف باإللهة (تفنوت) (صوت الذي يصدر عن الفم اذا تفل)‪ ،‬وتزوجا وانجبا اإللهة (جب) وهي إلهة‬
‫األرض واإلله (نوت) إله السماء‪ ،‬وتستمر األسطورة بان اإلله (شو) فصل السماء عن األرض ومأل بينهما‬
‫الهواء والنور ولعل هذه األسطورة تشابه اسطورة العراقية القديمة في خلق الكون‪ ،‬ويالحظ ان (شو‪ ،‬وتفنوت‪،‬‬
‫وجب‪ ،‬ونوت) هم عناصر كونية هي (الهواء‪ ،‬الرطوبة‪ ،‬السماء‪ ،‬األرض)‪ ،‬وهكذا خلقت السماء والهواء والنور‬
‫والرطوبة والندى ثم خلقت األرض ومأل فيها الهواء والنور‪.‬‬
‫في التوراة (سفر التكوين)‪ :‬في البداية (كانت األرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظالم وروح هللا يرف‬
‫على وجه المياه‪ ،‬وقال هللا ليكن نور فكان نور‪( )..‬وفصل هللا بين النور والظالم‪ ،‬وسمى هللا النور نهارا والظالم‬
‫سماه ليال) ثم اعقبها خلق السماء واألرض والنبات والحيوان وفي اليوم السادس خلق االنسان ذكرا وانثى ‪...‬‬
‫ورأى هللا جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدا‪ ،‬وكان مساء وكان صباح يوم سادس) واستراح هللا في يوم السابع‬
‫الذي يصادف السبت‪ ،‬ومن المعروف في الدراسات التوراتية ان كتبة التوراة اخذوا معلوماتهم من حضارة‬
‫العراق خالل ترحيلهم إلى بالد الرافدين في عهد سرجون االشوري (‪ )722‬ق‪.‬م وخالل السبي البابلي األول‬
‫(‪ )597‬ق‪.‬م والسبي البابلي الثاني (‪ )587‬ق‪.‬م في عهد نبوخذنصر الثاني‪ ،‬فاخذوا االساطير الرافدية ونقلوها‬
‫بصيغة تالئم معتقداتهم ومنها أصل الكون المائي‪ ،‬وعمر االنسان قبل الطوفان كان طويال‪ ،‬وان مدينة بابل أقدم‬
‫مدن العالم‪...‬الخ‬
‫في اإلسالم‪ :‬كتب هللا مقادير الخالئق قبل أن يخلق السماوات واألرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬كان هللا ولم يكن‬
‫سبع واألرضين السبع في ستة أيام‪( :‬هو األول واآلخر‬ ‫سماوات ال ّ‬
‫شي ٌء غيره‪ ،‬وكان عرشه على الماء‪ ،‬خلق هللا ال ّ‬
‫والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليم‪ ،‬هو الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام)‪ ،‬ويرى المفسرون أن‬

‫‪2‬‬
‫طول اليوم قد يكون ألف سنة‪ ،‬أو أنه بطول أيامنا األرضيّة‪ ،‬مع نهاية اليوم الثاني اكتمل خلق األرض‪ ،‬ومع‬
‫نهاية اليوم السادس اكتملت تسوية البناء السماوي‪ ،‬وبعد تمام خلق السماء واالرض‪ ،‬خلقت المجرات والنجوم‪،‬‬
‫العرش) كلمة استوى‬
‫ِ‬ ‫َّللاُ الهذِي خلَق السماوات َواألرض في ِستة أيام ثُم ا ْست َوى على‬
‫في اليوم السابع‪ِ ( :‬إن ربكم ه‬
‫لها عدة تفسيرات منها (تربع) ومنها استلقى من كلمة االستواء‪ ،‬ومنها انتهى من عمله كما نقول استوى الشيء‬
‫أي نضج واكتمل‪ ،‬وبقلب الحروف بدل حرف (س) نضع حرف (ش) تصبح اشتوى من الشواء بمعنى نضج‬
‫وانتهى وهللا اعلم‪ ،‬كما ورد في سورة األنبياء اآلية (‪ )30‬قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي كل‬
‫االحياء منه‪ ،‬و إن الحياة على وجه األرض سواء كانت حياة اإلنسان‪ ،‬وحياة الحيوان‪ ،‬وحياة النبات‪ ،‬قوامها‬
‫الماء‪ ،‬ألنه الوسيط الوحيد الذي يحمل األمالح والمواد الغذائية منحلة فيه إلى الكائن الحي‪ ،‬ولوال الماء لما كان‬
‫على وجه األرض حياة‪.‬‬
‫النظرية العلمية‪ :‬كانت الكره األرضية (عمر األرض قدر(‪ )4.5‬مليار سنة ويعتقد ستنتهي الحياة على االرض‬
‫مع انتهاء الشمس كمصدر للنور والحرارة بعد ‪ 4‬مليار سنة) يغطيها محيط واسع أطلق عليه اسم (تيثس) (نسبة‬
‫إلى إلهة يونانية) ونتيجة للحركة الصفائح التكتونية بدأت تتسع اليابسة واخذت القارات تبتعد عن بعضها البعض‬
‫‪ ،‬ثم مرت األرض بعصور جليدية وأخرى دفيئة أثرت على انتشار االنسان والحيوانات فحسب العصور الجليدية‬
‫(تتوسع اليابس بسبب انجماد مياه المحيطات في القطب الشمالي والجنوبي‪ ،‬فمثال كان اإلنسان في العصور‬
‫الحجرية قادرا على عبور البحر المتوسط في المنطقة ما بين تونس وصقلية )‪ ،‬أما في العصور الدفيئة (تتقلص‬
‫مساحة األرض بسبب ذوبان المياه‪ ،‬فمثال الخليج العربي كان منخفض طبيعي خالي من الماء في العصور‬
‫الجليدية ثم اصبح مغمورا بالمياه في العصور الدافئة ما بين (‪ )5000-18000‬ق‪.‬م)‪ ،‬ويعتقد ان منخفض الخليج‬
‫العربي كان جنة خضراء يمر فيه نهري دجلة والفرات ليصل إلى مضيق هرمز‪ ،‬وأيضا كانت الحيوانات ترعى‬
‫في ذلك المنخفض ومع تدفق مياه المحيط الهندي انسحب السكان شيئا فشيئا جيل بعد جيل حتى وصل الماء إلى‬
‫المستوى حاليا ولهذا السبب فان اقدم اللقى االثرية المكتشفة على سواحل غرب الخليج العربي تعود زمنيا إلى‬
‫حضارة العبيد (‪ )4000‬ق‪.‬م‪ ،‬وحتما الذاكرة البشرية ال تنسى اتساع المياه الذي غطى عالمهم المعروف آنذاك‬
‫فدمجوا مجموعة اساطير مع بعضها البعض اسطورة أصل الكون المائي‪ ،‬واسطورة الطوفان‪ ،‬والجنة‪،‬‬
‫واألخيرة هي دلمون التي يعتقد بانها (البحرين) في النصوص السومرية‪ ،‬وحتى رحلة كلكامش من اجل لقاء‬
‫جده اتو‪-‬نبشة بطل الطوفان كان عليه ان يعبر بقاربه البحر المر (البحر السفلي) أو (الخليج العربي)‪.‬‬

‫‪3‬‬

You might also like