You are on page 1of 10

‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬

‫بول ريكور و الترجمة‪ -‬الترجمة وظيفة إنسانية‪-‬‬


‫د‪.‬حسان راشدي‬
‫قسم اللغة واألدب العربي‬
‫جامعة سطيف‪2‬‬

‫ملخص‬ ‫‪Résumé‬‬
‫‪Cet article est une réflexion, sur la‬‬
‫يتّخذ هذا المقال من مكانة الترجمة في فكر "بول‬
‫ريكور" (‪ )Paul Ricœur‬موضوعا له‪ .‬هذا‬ ‫‪place de la traduction dans la pensée‬‬
‫المنظّر الكبير في مجال التأويل و الهرمينوطيقا أخذ‬ ‫‪de Paul Ricœur. En effet, Ce théoricien‬‬
‫على عاتقه التفكير الفلسفي حول الترجمة مرك از‬
‫على تأويل النصوص‪.‬‬ ‫‪de l'interprétation et de‬‬

‫النص محور‬
‫ّ‬ ‫تعدّ مسألة "أمانة‪/‬خيانة" تجاه مقصد‬ ‫‪l’herméneutique a élaboré une‬‬
‫نص ما مكتوب‬
‫هذا التفكير الريكوري حيث أن نقل ّ‬ ‫‪philosophie de la traduction, comme un‬‬
‫داخل لغة هدف أخرى‪ ،‬يصطدم بإشكالية إعادة‬
‫صياغة المعنى ‪ .‬و قد جعل ريكور من مقوله‬ ‫‪processus de reconstruction du sens; et‬‬
‫"التكافؤ بال هوية" مفتاح ترجمة وظيفية ذات بعد‬ ‫‪cela à travers une reconstruction de‬‬
‫ثقافي حضاري فكان لكل عصر تأويالته الخاصة‬
‫;‪l’unité plurielle du discours humain‬‬
‫مكررة لنصوص‬
‫به‪ ،‬وهذا ما فتح المجال لترجمات ّ‬
‫تعدّ من عيون الفكر اإلنساني‪.‬‬ ‫‪(l’hospitalité langagière).‬‬

‫مدخل‪:‬‬
‫لقد بدأ "بول ريكور" (‪ )Paul Ricœur‬رحلته مع الترجمة ممارسة سنة ‪ ،3991‬وذلك بترجمته لكتاب‬
‫الفيلسوف الظاهراتي "أدموند هوسرل" (‪ )Edmond Husserl‬الموسوم بـ‪ " :‬أفكار رئيسة لفلسفة ظاهراتية "‬
‫(‪ .)Idées directrices pour une philosophie phénoménologique‬وهي األفكار التي فتحت‬
‫يعب من المعين الظاهراتي لفلسفة "هوسرل"‪ ،‬و ليفرز في نهاية المطاف‪ ،‬فرعا يانعا من شجرة‬
‫شهية "ريكور" ألن ّ‬
‫الهيرمينوطيقا (‪ ، )3()Herméneutique‬به عرف "ريكور" في فرنسا‪ ،‬وقد جعل " ريكور" النص (‪ )Texte‬مدا ار‬
‫للفهم‪ ،‬وفهم الذات على الخصوص (‪)La Compréhension de soi‬؛ عندما تقف هذه الذات أمام نص‬
‫اآلخر في لغته‪.‬‬
‫شد اهتمام " ريكور" إلى عالم الترجمة‪ ،‬و ما يحوم حولها من قضايا لسانياتية‬
‫ويمكن إضافة عامل آخر‪ّ ،‬‬
‫وفلسفية‪ ،‬وهو اشتغاله بترجمات اإلنجيل المختلفة‪ .‬و هي الترجمات التي أثيرت في أثرها إشكاالت‪ ،‬تتمحور جلّها‬
‫حول مسألتي الفهم(‪ )Compréhension‬و التأويل (‪ .)interprétation‬ومعلوم أن ترجمات اإلنجيل هذه‬
‫هي‪ :‬الترجمة اإلغريقية‪ ،‬من العبرية المعروفة بالسبعينية (‪ .)La septante‬وكذا الترجمة الالتينية للقديس جيروم‬

‫‪33‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫(‪ )Saint Jérôme‬المعروفة بالفولقايت (‪ .)Vulgate‬وتضاف إليها الترجمة األلمانية لـ" لوثر" (‪.)Luther‬‬
‫وهي الترجمات التي عدها "ريكور"‪ ،‬من عيون ترجمات اإلنجيل‪ .‬فلقد استطاع "لوثر" من خاللها – حسب رأي‬
‫ريكور‪ ،-‬أن يخلق بها ومن خاللها اللغة األلمانية من جديد‪ .‬وقد اعتبر "ريكور"‪ ،‬أن مثل هذا العمل القيم الذي‬
‫قدمه "لوثر"‪ ،‬لم يكن ليحصل عليه لمجرد "إنشاء مماثالت (‪ ،)Comparables‬عن طريق ترجمة اإلنجيل إلى‬
‫األلمانية فحسب‪ ،‬بل لكونه جعل اإلنجيل ألمانيا (‪ .)2( )Germaniser la Bible‬إ ْذ أصبغ " لوثر" على‬
‫لكأن اإلنجيل قد كتب بها أصال‪.‬‬
‫ترجمته لإلنجيل‪ ،‬الروح األلمانية بعينها‪ ،‬حتى ّ‬
‫ولم يكن " ريكور" و هو صاحب الفكر النقدي الهرمينوطيقي أن يدع تعامله مع عالم الترجمة‪ ،‬دون أن يكون‬
‫له فيه تأثير أو بصمة من تفكير في مجال ما يزال حينها‪ ،‬بك ار في مجالي الفكر و الدراسات الترجمية الحديثين‪.‬‬
‫يتبصر من خالل ممارسته الترجمية "مسلكا" (‪ ،)1‬يربط به بين التنظير والممارسة في مجال‬
‫ّ‬ ‫ولقد حاول "ريكور" أن‬
‫تشدد المنظّرين أمثال "هومبولدت"‬
‫العمل الترجمي‪ .‬فلطالما كانت الصلة مقطوعة بين المجالين‪ ،‬و ذلك بفعل ّ‬
‫المجن للترجمة‪ ،‬كونها‬
‫ّ‬ ‫(‪ ،)3311-3171( )Humboldt‬هذا األخير الذي رفع لواء الداعين إلى قلب ظهر‬
‫عملية متعذرة الوقوع إلى حد االستحالة‪ .‬وهذا بسبب تباين اللغات و استحالة تقاطع مجاالتها اللسانياتية‪ .‬ذلك أن‬
‫" اختالف اللغات يوحي بالتنافر الجذري‪ ،‬الذي من شأنه أن يجعل الترجمة مستحيلة ألول وهلة"(‪.)4‬‬
‫قر‬
‫وبينما في الطرف المقابل كان "ريكور" يرى خالف ما جزم به "هومبولدت" من قبل‪ ،‬ذلك أن الواقع نفسه ُي ّ‬
‫رحالون‪ ،‬و سفراء و جواسيس‪...‬‬ ‫بأن النشاط الترجمي‪ ،‬قديم قدم العالقات اإلنسانية نفسها‪ .‬فلقد وجد تجار و ّ‬
‫يقومون ‪ -‬بحكم عملهم‪ -‬بعملية الترجمة‪ ،‬مع شعوب تختلف عنهم في اللغة‪ .‬بينما نجد أن االهتمام بالترجمة‪،‬‬
‫تنظير وممارسة‪ ،‬وهو" علم الترجمة " (‪ ،)traductologie‬وليد اهتمامات الفالسفة‬
‫ا‬ ‫باعتبارها علما مستقال بذاته‬
‫والمفكرين‪ ،‬وعلماء اللغة‪ ...‬وكل قد ساهم في بناء أسس هذا العلم بحسب رؤيته للموضوع‪ ،‬أو بما يمليه عليه‬
‫تخصصه العلمي‪ .‬و فيما يتعلق ب "ريكور" فإنه تناول من جهته الفعل التُّرجمي (‪ ،)Le traduire‬من زاوية‬
‫هيرمينوطقية صرفة‪ ،‬وقد تجسد ذلك في اهتمامه بالنص من منظور تواصلي‪ ،‬و أداته في ذلك‪ ،‬ما يسميه‬
‫" ريكور"‪" :‬التكافؤ بال هوية" (‪.)l'équivalence sans identité‬‬
‫‪ .1‬الترجمة تواصل! و لكن‪..‬‬
‫‪ -1.1‬الترجمة و التواصل ‪:‬‬
‫ينظر "ريكور" إلى الترجمة على أنها عملية تواصلية باألساس‪ ،‬تتمثّل في عمليتي التلقي و التبليغ‪ .‬فالترجمة‬
‫عنده‪ ،‬تلعب دور الوساطة (‪ )médiation‬لتمرير رسالة ما من نسق لسانياتي إلى آخر‪ .‬و مثل هذه الوساطة‬
‫الموكولة للفعل الترجمي "هي المفارقة عينها‪،‬التي هي سبب وجود الترجمة و نتيجتها في اآلن نفسه"(‪.)1‬‬
‫وال يخفى في هذا الصدد‪ ،‬التأثير الواضح لمفهوم التواصل عند "رومان جاكسبون (‪)Roman Jakobson‬‬
‫على منظور "ريكور" للترجمة‪ ،‬باعتبارها عملية تواصلية‪ ،‬أو نتاجا لها‪ .‬حيث يرى "ريكور" في الترجمة أنها لقاء‬
‫مع اآلخر‪ .‬و هذا ما نلمسه فيما استفادة "ريكور" من خطاطة جاكبسون اللسانية(‪ ،)7‬و لكن بشيء من التعديل‬
‫( ‪)1‬‬
‫فإنه ال‬
‫لتتالءم مع نظريته في التأويل‪ .‬فإذا كان التواصل "يفترض إرسال رسالة من مرسل إلى مرسل إليه‪ّ ، "..‬‬
‫مناص لهذا المفهوم ‪ -‬و هو موظف في النشاط الترجمي‪ -‬من أن يتعرض لشيء من التعديل‪ ،‬وهذا ليتالءم مع‬
‫طبيعة العمل الترجمي نفسه‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫أن هذه األخيرة‪ ،‬ليست مجرد تواصل‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬تتضح طبيعة الترجمة عند " ريكور"‪ ،‬و هي ّ‬
‫لسانياتي أو لغوي بسيط‪ ،‬بل هي ذات طبيعة متعددة‪ ،‬من حيث المشارب و الوظائف‪ .‬حيث تتقاطع في فضائها‬
‫مستويات عدة‪ :‬نفسية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬ثقافية و حتى فلسفية‪.‬‬
‫‪ -1.1‬أنـواع الترجمة‪:‬‬
‫وقبل الخوض في عرض بعض مالمح نظريته في الترجمة‪ ،‬يتقدم "ريكور" بخطوة منهجية‪ ،‬تتمثل في حصر‬
‫مجال الدراسة‪ .‬وبهذا الصدد نجده يميز بين نوعين رئيسين من النشاط الترجمي هما‪" :‬الترجمة الداخلية"‬
‫(‪ )traduction interne‬و الترجمة الخارجية (‪ .)3( )traduction externe‬األولى هي تلك التي تتم في‬
‫إطار اللغة الواحدة‪ .‬و أما الثانية فتتطلب على األقل متكلمين بلغتين مختلفتين‪.‬‬
‫( ‪)9‬‬
‫‪:‬‬ ‫و مثل هذا التصور في تصنيف أنواع الترجمة نجده عنده "جاكبسون" حيث ذكرها في ثالث مستويات‬
‫‪-‬الترجمة الضمن لغوية (‪ :)traduction intralingual‬التي تتمثل في تأويل عالمات لسانياتية‪ ،‬بواسطة‬
‫عالمات أخرى من اللغة نفسها‪ .‬يجمعها في ذلك مبدأ الترادف التقريبي ( ‪principe de la synonymie‬‬
‫‪.)approximative‬‬
‫‪-‬الترجمة البينلغوية (‪ :)traduction intérlingual‬و هي التي يتم في مستواها‪ ،‬تأويل عالمات لسانياتية في‬
‫لغة ما بواسطة عالمات لسانياتية من لغة أخرى‪.‬‬
‫‪-‬الترجمة البينسيميائية (‪ :)traduction intersémiotique‬و تتمثل في تأويل عالمات لسانياتية بواسطة‬
‫أنساق (‪ )Systèmes‬عالمات غير لسانياتية‪ ،‬كالرموز‪ ،‬الصور‪...‬الخ‬
‫و لعل عدم تخصيص "ريكور" الحديث عن الفرع الثالث‪ ،‬فألنه يعتبره منضويا عنده‪ ،‬تحت النوعين األول‬
‫و الثاني(‪.)31‬‬
‫‪ .1‬قضيـة "األمانة"‪" /‬الخيانة"‪:‬‬
‫إن مهمة الوساطة التي انتُدب لها المترجم‪ ،‬ال يراها "ريكور" بالمهمة السهلة‪ .‬فالمترجم في واقع مهمته‪ ،‬يعمل‬
‫على " خدمة سيدين‪ :‬األجنبي في مؤلفه‪ ،‬و القارئ في رغبة التملك ليده‪ )33( "..‬و المترجم بين فهم المؤلف في‬
‫أثره‪ ،‬والقارئ في تلقيه للعمل المترجم‪ ،‬يجد نفسه محاص ار بمفارقة‪ ،‬ال يكاد يخرج منها‪ ،‬وان جاهد نفسه بروح‬
‫تنغص عليه عمله‪.‬‬
‫األمانة (‪ )Fidélité‬في التلقي و التبليغ‪ ،‬فإن شبهة من الخيانة (‪ )trahison‬ما تفتأ ّ‬
‫وفي هذا الشأن‪ ،‬يلتمس "ريكور" مخرجا من هذا المأزق‪ ،‬من المنظور الهيمينوطيقي عنده‪ :‬فاإلشكال القائم‬
‫في شبهة الوقوع في الخيانة التي تتهّدد المترجم‪ ،‬وان ظل يحرص على التمسك باألمانة‪ ،‬مصدره تمسك المترجم‬
‫في الغالب بالمظهر الشكلي للغة‪ ،‬وبتعبير آخر‪ ،‬مراعاته لقواعد اللغتين؛ لغة المصدر (‪ )langue source‬ولغة‬
‫الهدف (‪ .)langue cible‬بينما يعزب عنه الواقع الخارج لسانياتي (‪ )extralinguistique‬لكال اللغتين‪ ،‬و هو‬
‫واقع الممارسة‪ .‬ومن ثمة يرى " ريكور" أن الترجمة في واقعها ترجمات (‪ ،)pluralité de la traduction‬تبعا‬
‫أن هذا األمر قائم حتى‬
‫لتعدد اللغات‪ ،‬اإليحاءات‪ ،‬المرجعيات‪ ،‬رؤى العالم‪ ،‬التقاليد و الثقافات‪ .‬ويعتبر " ريكور" ّ‬
‫ّ‬
‫على صعيد اللغة الواحدة؛ فالكاتب وهو ُي ْقدم على كتابه نص معين‪ ،‬يكتشف في نهاية األمر أن الكتابة قد أخذت‬
‫بيده إلى إنتاج نص مختلف أو على األقل ليس ذلك الذي كان يجول في خاطره عند شروعه في فعل الكتابة‪،‬‬

‫‪35‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫أي أنه انتقل من حالة كتابة نص‪ ،‬إلى حالة نص الكتابة‪ ،‬أو " نص النص "‪ .‬فما بالك بترجمة نص مكتوب بلغة‬
‫معينة‪ ،‬و العمل على إعادة كتابته (‪ )réécriture‬بلغة أخرى مغايرة ؟‬
‫ويكمن حل اإلشكال عند " ريكور" حينئذ في القبول بواقع الترجمة المتعددة للنص الواحد‪ .‬ولتصبح الترجمة‬
‫وفق هذا التصور عملية إعادة بناء الوحدة المتنوعة للخطاب اإلنساني‪ .‬و هو ُيضفي عليها بعدا أخالقيا قائما‬
‫على حسن ضيافة لغوية (‪ )l’hospitalité langagière‬بين اللغات‪.‬‬
‫(‪)32‬‬
‫ليناقش من خاللها الفعل الترجمي في‬ ‫وقد وجد "ريكور" في هذا الطرح ما يعضد به ثنائيته "أمانة‪/‬خيانة"‬
‫ُب ْعديه اللغوي و األخالقي‪ .‬غير أن "ريكور" وقد قدم فكرة أن الترجمة خطوة اإلنسان نحو لقاء إنسان آخر‪ ،‬فهي‬
‫بهذا الملمح بمثابة تواصل بين اإلنسان(‪ ،)communication interhumaine‬التي تجمع األنا و اآلخر في‬
‫فضاء واحد‪ ،‬يسوده أخالقيات حسن الجوار واالحترام المتبادل‪ ،‬مثل يحدث أو من المفترض حدوثه بين الجيرة‬
‫المتحضرين‪ .‬أو ليست اللغة بمثابة مسكن لإلنسان؟‬
‫‪ -1.1‬اللغة مسكن اإلنسان ‪:‬‬
‫يسترفد "ريكور" لمناقشة مسألة األمانة‪/‬الخيانة‪ ،‬شيخ المترجمين و أحد الهيرمنوطقيين الكبار البارزين‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫" ف‪ .‬شاليرماخر" (‪ .)3314-3173( )F.Schleirmacher‬حيث توصل "ريكور" من تحليله ألعمال‬
‫"شاليرماخر"‪ ،‬وبالخصوص ترجماته آلثار أفالطون (‪ ،)Platon‬إلى استخالص معادلة‪ ،‬يستهدي بها المترجمون‬
‫في أعمالهم الترجمية‪ ،‬و هي عبارة "شاليرماخر" الشهيرة‪ ،‬التي يرسم فيها عمل كل مترجم‪ ،‬وهي‪ " :‬اقتياد القارئ‬
‫إلى المؤلف‪ ،‬و اقتياد المؤلف إلى القارئ‪.)31(".‬‬
‫فالمترجم – وهذا هو نشاطه ‪ -‬يضع لغتين أجنبيتين على صعيد واحد‪ ،‬يضمهما حيز مشترك‪ .‬و هذا ما‬
‫يجعل الترجمة عند "شاليرماخر" متصلة اتصاال شديدا بفعل التفكير (‪ )l'acte de penser‬في حد ذاته(‪ )34‬وهو‬
‫و قارئه‪ ،‬يسكنان اللغة نفسها‪ ،‬وهي اللغة بعينها التي‬
‫إن المؤلف األجنبي‬
‫ما ذهب إليه "ريكور" عند قوله ‪ّ " :‬‬
‫يسكنها المترجم ذاته "(‪ .)31‬فهذا الكالم – على ظاهره ‪ -‬يشي بالخط الفكري المنتهج من لدن "ريكور" في تصوره‬
‫للترجمة‪.‬‬
‫وكون اللغة "مسكن" الكائن البشري (‪ ،)De-sein‬فإن وضعها هذا هو الذي يجعلها ضميمة للفكر البشري؛‬
‫حيث ترتبط بوجود وكينونة اإلنسان نفسه‪ ،‬بل ال ُي ُّ‬
‫عد من المبالغة‪ ،‬القول‪ :‬إن اللغة هي الكينونة اإلنسانية بعينها‪.‬‬
‫وتعد فكرة أن "اللغة مسكن اإلنسان"‪ ،‬من القضايا األساس في الفكر الهرمينوطيقي‪ .‬و من الطبيعي أن تتأكد‬
‫المسألة عندما يتعلق األمر بالترجمة حيث عالقة لغة بلغة أخرى و من ثم يصبح " التفكير في طبيعة الترجمة‪،‬‬
‫وطبيعة اللغة ذا أهمية قصوى لدى المنظرين في حقل الترجمة ال ألنه يشير بالضرورة إلى ضرب مختلف من‬
‫المقاربات‪ ،‬ولكن ألنه يعمق و يوسع اإلطار التصوري الذي نوظفه في التعريف بهذا الحقل على وجه‬
‫التحديد"(‪.)37‬‬
‫فأن تكون اللغة بمثابة السكن (‪ ، )demeure‬فمعنى هذا؛ أن اللغة قد خرجت عن كونها مجرد وسيلة للتكلم‪،‬‬
‫لتصبح هي اإلنسان ذاته؛ يسكنها و تسكنه‪ .‬و ليقول حينئذ‪ ،‬هذا اإلنسان‪ ،‬الكائن البشري‪" :‬أنا اللغة و اللغة أنا"‪،‬‬
‫(‪)31‬‬
‫فإن اللغة هي حياة‬
‫واللغة في هذه الحالة هي التي " تتكلم اإلنسان‪ ،‬ال هو الذي يتكلمها" ‪ .‬و بتعبير موجز‪ّ ،‬‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي موته في اآلن نفسه‪ .‬ومن هذه الزاوية ينظر "ريكور" إلى واقع اختالف اللغات‪ ،‬على أنه عامل‬

‫‪36‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫قوي‪ ،‬وسبب بارز لوجود الترجمة‪ ،‬بهدف تحقيق التواصل البشري فك ار وحضارة‪ .‬فاللغة و األلسن والترجمة هي‬
‫قوام سيرورة بناء المعنى وتشكيله‪.‬‬
‫وقد اعتبر "ريكور" ‪ ،‬أن مثل هذا التصور الذي وضعه للترجمة‪ ،‬يشكل مصد ار أساسيا لنماء اللغات اإلنسانية‬
‫واثرائها‪ .‬وهذا بفعل ما تحمل ه هذه اللغات اإلنسانية‪ ،‬من تجارب و تصورات مختلفة‪ ،‬تنتقل بفعل المثاقفة من لغة‬
‫إلى أخرى‪ ،‬بله من ثقافة إلى أخرى‪ .‬فاللغات اإلنسانية عند "ريكور"‪" ،‬ال تختلف فيما بينها تبعا الختالف طريقة‬
‫(‪)33‬‬
‫لعل هذا ما‬
‫كل منها في تقطيع الواقع فحسب‪ ،‬بل في إعادة تشكيل هذا الواقع في مستوى الخطاب أيضا‪ ".‬و ّ‬
‫يدل على مدى قوة العالقة الجدلية بين اللغة و الواقع من جهة‪ ،‬و بين اللغة ومستعمليهما من جهة األخرى‪.‬‬
‫وليس من مهمة المترجم حينئذ – حسب " بول ريكور" ‪ ،-‬البحث في نقل المعنى بحرفيته من لغة إلى لغة‬
‫أخرى‪ ،‬بقدر ما يكمن دوره في السعي إلى تيسير عملية الفهم و التواصل بين الشعوب‪ .‬وهذا انطالقا من مبدأ أن‬
‫فهم الذات لنفسها في وجودها‪ ،‬يستند أساسا إلى فهم هذه الذات نفسها لآلخر في وجودها‪ .‬و لعل أهم صورة من‬
‫صور وجود اإلنسان هي اللغة نفسها؛ حيث أنها ليست في مظهر من مظاهرها إال تعبير عن وجود اإلنسان بقوة‬
‫في هذا العالم‪ .‬وقد أحسن " ريكور" بتشبيه اللغة – لغة األم‪ -‬بالجسد إال أنها جسد كالمي(‪)corps verbale‬؛‬
‫فكما أن اإلنسان يكتشف أجساد اآلخرين انطالقا من جسده‪ ،‬ومن ثمة يزداد معرفة بجسده هو‪ ،‬كذلك العالقة بين‬
‫اللغات األجنبية واللغة األم‪ ،‬فهذه األخيرة و هي الجسد الكالمي‪ ،‬ال تحبس اإلنسان ضمن حدودها بقدر ما تجعله‬
‫ينفتح نحو اللغات األخرى ليزداد بذلك غنى بمعرفة لغته فضال عن اللغات األخرى‪ .‬وبهذا جعل " ريكور" اللغات‬
‫كلها على صعيد واحد‪ ،‬ليس للغة فضل على أخرى‪ ،‬متجاو از بذلك النظرية العرقية في الترتيب المتعالي للغات‪.‬‬
‫وبشكل ضمني يرسم "ريكور" بهذا الفهم والتصور للعالقة بين اللغات منهجا وهدفا للترجمة‪ ،‬حيث جعل منها‬
‫أداة للحوار الفكري‪ ،‬و الحضاري‪ ،‬تنمي التواصل السلمي بين بني البشر‪ .‬ولـ" تغدو الترجمة و الحال هذه‪ ،‬اللحظة‬
‫المفضلة إلعادة بناء الوحدة الجامعة لتعدد الخطاب اإلنساني‪ ،‬فاتحة بذلك السبيل ألخالق الضيافة اللغوية‬
‫ُ‬
‫(‪)39‬‬
‫و هذا ما يبرر حسب "ريكور" الترجمات المتكررة لألعمال اإلنسانية‬ ‫‪". (l’hospitalité langagière‬‬
‫الخالدة عبر عصور متعاقبة‪ .‬و لكل عصر ترجمته القائمة على فهم العمل بحسب التجارب الفكرية واإلدراكية‬
‫لذلك العصر‪ .‬و هذا طبعا بالمعنى التاريخي و االنطلوجي و االبسموتوجي(‪.)21‬‬
‫إنّ الترجمة‪ ،‬وهي عملية تأويل وتفسير )‪ (interprétation‬هي التي تباشر فهم النص ومساءلته‪ ،‬بوساطة‬
‫فعل القراءة‪ .‬وهو فعل هيرمينوطيقي باألساس‪ .‬وعليه فالمناص لـ " قراءة نص ما من أن تُصطنع على الدوام‬
‫داخل طائفة‪ ،‬داخل تقاليد‪ ،‬أو داخل تيار فكري حي‪ ،‬الذي يطور المسلمات (‪)présupposés‬‬
‫‪.‬‬ ‫[ المفترضات] و االقتضاءات (‪") éxigences‬‬
‫)‪(21‬‬

‫ولهذا ينتظر "ريكور" من المترجم أن يمسك بخيوط النسيج النصي للعمل المزمع ترجمته‪ ،‬بحيث يقف في اآلن‬
‫نفسه‪،‬على جدلية انغالق النص على نفسه ضمن بناء لغوي من جهة و انفتاحه على مرجعه الذي يسمح بتجاوزه‬
‫بتحيين‬ ‫إلى دالالت جديدة يسمح بها السياق من جهةأخرى‪ .‬وهي العلمية التي يسميها علماء النص‬
‫النص(‪ ،)actualisation du texte‬وهي الخطوة األولى و األساس نحو تأويل النص وتفسيره عند " ريكور "‬
‫أي التي تُرجع للنص أشياءه‪ .‬فما موقع الترجمة من تأويل النص‪ ،‬أو باألحرى ما موقعها النص وأشيائه؟‬
‫‪ .3‬الترجمة و "شيء" النص‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫‪ .1.3‬النص و النصية عند "ريكور"‪:‬‬
‫يعتبر "ريكور" النص من جانبين هما ‪ :‬البعد اللغوي أو اللسنياتي و البعد الداللي‪ .‬فأما البعد اللغوي‪ ،‬فقد‬
‫استند فيه "ريكور" على نظرية "بنفنيست" (‪ )E.Benveniste‬حول "الكليات اللغوية" القائلة بأن "اللغة تعتمد على‬
‫نوعين من العمليات‪ ،‬و هما االندماج في كليات أكبر‪ ،‬و كذا االنقسام إلى األجزاء المكونة‪ .‬حيث يتولد المعنى من‬
‫(‪)22‬‬
‫و من هذا التصور نحصل على الوحدات اآلتية ‪ :‬الفونيم‪ ،‬اللكسيم‬ ‫العملية األولى‪ ،‬و الشكل من العملية الثانية‬
‫(‪ ،)Lexème‬الجملة‪ ،‬و النص‪ .‬علما أن الوحدة األعلى‪ ،‬ال تعني مجموع الوحدات الدنيا‪ ،‬بل هي شكل مميز في‬
‫حد ذاته(‪ .)21‬و أما البعد الداللي‪ ،‬فيتمثل في النظر إلى النص على أنه كل متكامل‪ .‬و هو بهذا‪ ،‬ذو استقاللية‬
‫فيما يتضمنه من رؤى‪ ،‬و تصورات‪ ،‬يطلق عليها "ريكور" "شيء النص (‪ )24( ،)La chose du texte‬حينا‬
‫وعالم النص (‪ )21()Le monde du texte‬حينا آخر‪ .‬حيث "يتكلم النص عن عالم ممكن وعن طريقة ممكنة‬
‫يوجد بها المرء ذاته فيه و أبعاد هذا العالم يفتحها النص و يفضحها معا النص نفسه"(‪. )27‬‬
‫كل خطاب مثبت بواسطة‬
‫سم نصا ّ‬
‫ولكن ما النص الذي يعنيه "ريكور" ؟ يجيبنا "ريكور" معرفا النص بقوله‪ُ ":‬لن ّ‬
‫الكتابة (‪ )21( " )l'écriture‬أو بتعبير آخر‪ ،‬النص خطاب مكتوب؛ و الكتابة هي عماد النص و شرط وجود‬
‫الخطاب مرقوما أو مسط ار‪ .‬و لكن الكتابة التي يزعمها "ريكور" المنشئة لعالم النص بداية و نهاية‪ ،‬هي الكتابة‬
‫األثر (‪ ،)trace‬الكتابة الخط(‪.)23‬‬
‫ويناقش "ريكور" مفهومه للكتابة الذي هو مفتاح نظريته للنص‪ ،‬عن طريق مقارنة يعقدها بين الكتابة والكالم‪.‬‬
‫فعلى منوال مقولة "هـ‪.‬ج‪ .‬جادامير" (‪" ،)H.G. gadamer‬الكائن البشري يتكلم" يرى " ريكور" أنه يمكن نسج‬
‫عبارة "الكائن البشري يكتب" بل "ينكتب"‪ .‬فالكتابة بهذا الطرح صنو الكالم‪ ،‬ال تقييد له فحسب‪ ،‬كما يعتقد هذا‬
‫الرأي كثير من الناس‪ .‬ذلك "أن التثبيت بالكتابة يحدث مكان الكالم نفسه أو بدال منه"(‪ .)29‬حيث يرى "ريكور"‬
‫أن الكالم و الكتابة‪ ،‬و إن كانا يشتركان في نقطة أساس‪ ،‬و هي إرسال رسالة ما‪ ،‬فإن فارقا جوهريا يفصل بينهما‬
‫ّ‬
‫وهو " ما تجلبه الكتابة من التنائي (‪ ،)distanciation‬يفص ل الرسالة عن متكلمها‪ ،‬وعن مقامها المبدئي‬
‫وعن المرسل إليه األولي(‪ .)11‬بيد أن الموقف الكالمي الحواري تتعاضد فيه هيئاته ( ‪instances de la‬‬
‫‪.)13( )parole‬‬
‫فإذا كان األمر كذلك بين الكالم و الكتابة‪ ،‬ففيم الكتابة فاعلة بالخطاب‪ ،‬و ما شأن هذا األخير بها و الحال‬
‫(‪)12‬‬
‫أن الكتابة تحررت‪ ،‬من‬
‫أن الخطاب نشاط لغوي ألفراد مندرجين في سياقات معينة ؟ ‪ .‬يرى "ريكور" ّ‬
‫أننا نعلم‪ّ ،‬‬
‫(‪)11‬‬
‫تحتل مكان الكالم نفسه‪ .‬و هو ما يعد عقدا لميالد النص" ومن‬
‫ّ‬ ‫كونها مجرد نسخ لعالمات الكالم و أخذت‬
‫المبرر العملي‪ ،‬لعالقة الكتابة بالخطاب‪ .‬فـ"الخطاب يعتبر‬‫ّ‬ ‫هذا فالكتابة معنية أصال‪ ،‬بالقصد (‪)l'intention‬‬
‫قصدا للقول و الكتابة تسجيال مباش ار لهذا القصد"(‪ )14‬و تعتبر الكتابة بهذا استبداال للحوار الشفوي‪.‬‬
‫‪.1.3‬النص الكتابة‪/‬النص القراءة‪:‬‬
‫إنّ اهتمام "ريكور" بالكتابة دون الكالم يدخل ‪ ،‬من باب اهتمامات الرجل الفلسفية‪ ..‬فالكتابة و هي نسق من‬
‫(‪)11‬‬
‫بحاجة إلى آلية تفك رموزها بحثا‬ ‫اآلثار (‪ )traces‬تضمن للخطاب دوامه و للنص ديمومته ما بقيت الكتابة‬
‫أن العالقة " الكتابة‪-‬القراءة " مخصوصة‪ ،‬حيث أن‬ ‫عن ذلك القصد‪ ،‬و هذه اآللية هي القراءة (‪ .)Lecture‬بيد ّ‬
‫المْنتج‬
‫غيابا يحصل للمؤلف ساعة قراءة ما كتب‪ ،‬و غيابا يحدث للقارئ وقتما كتب ما يق أر‪ .‬و هكذا يغدو " النص ُ‬

‫‪38‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫احتجابا مزدوجا للقارئ و المؤلف‪ ،‬و بهذه الكيفية يصبح بديال لعالقة الحوار التي تربط تواصل أحدهما يسمع‬
‫اآلخر"(‪.)17‬‬
‫موضع به "ريكور" النص ال يخلو من إثارة إشكاالت عدة‪ ،‬سواء على الصعيد‬
‫غير أن هذا التشخيص الذي ْ‬
‫اللسانياتي‪ ،‬أو الفلسفي و الهيرمينوطقي‪ .‬و لعل مصدر تلك اإلشكاالت‪ ،‬هو قضية المعنى (‪ )sens‬والداللة‬
‫(‪ .)Signification‬أو ما يمكن أن نطلق عليهما‪ :‬المعنى اللفظي للنص و القصد الذهني للمؤلف‪ .‬و لندع‬
‫"ريكور" يعالج اإلشكال من زاويته حيث يقول ‪ " :‬إن قدرة الخطاب على اإلحالة إلى الذات المتكلمة في الخطاب‬
‫المنطوق سمة بديهية‪ ،‬ألن المتكلم ينتمي إلى سياق القول المتبادل]…[ لكن قصد المؤلف و معنى النص‬
‫يكفان عن التطابق و التمازج في الخطاب المكتوب]…[ و هكذا تفلت وظيفة النص من األفق المحدود الذي‬
‫يعيشه مؤلفه‪ ،‬و يصبح النص يعني [ بفعل القراءة] أكثر مما كان يعنيه المؤلف حين كتبه "(‪.)11‬‬
‫ف"ريكور" بهذا الطرح‪ ،‬يؤسس مبدأ أساسا و جوهريا قامت عليه تأويليته النصية‪ ،‬و هو مبدأ "االستقالل‬
‫(‪)13‬‬
‫الداللي للنص"‪ ،‬حيث يغدو التأويل " حالة خاصة من الفهم‪ ،‬الفهم حين يطبق على تعبيرات الحياة المكتوبة "‬
‫(‪)19‬‬
‫‪.‬‬ ‫ويصبح الفهم حينئذ كتابة (ثانية) لقراءة أو على حد تعبير بارت " كتابة القراءة " (‪)Ecrire la lecture‬‬
‫‪ .4‬حدود الترجمة عند "ريكور" ‪:‬‬
‫‪ 1.4‬حلم الترجمة الكاملة‪:‬‬
‫حمال أوجه‪ ،‬ال يقف عند معنى واحد بعينه‪ .‬فهو و الحال هذه " يتكلم‬ ‫يتجلى لنا النص مما سبق عرضه‪ ،‬أنه ّ‬
‫(‪)41‬‬
‫فإن االعتقاد في إمكانية وجود ترجمة‬
‫ولذا ّ‬ ‫عن عالم ممكن‪ ،‬و عن طريقة ممكنة‪ ،‬يوجه بها المرء ذاته فيه "‬
‫أن المعنى الذي تصب الترجمة عليه‬ ‫تامة أو حرفية (‪ )Traduction littérale‬أمر غير وارد مطلقا‪ .‬ذلك ّ‬
‫اهتمامها‪ ،‬ال ينبثق من اللفظ في حد ذاته‪ ،‬بل هو نتاج حوار اللفظ مع الموقف و الفكر و الوجود‪ .‬و على هذا ال‬
‫ينظر "ريكور" إلى اللغة " بوصفها وسيلة تعبير أو إبالغ‪ ،‬بل بوصفها الوجود و التجلّي‪.)43( "...‬‬
‫وكون اللغة بهذا البعد الهيرمينوطيقي‪ ،‬هي "اللغة الخالصة" (‪ )langage pur‬و النص في هذه الحالة في‬
‫أن للمترجم دورا‪ ،‬غير ذلك الذي ُيناط به في العادة‪ ،‬وهو أن‬
‫تجاوز سرمدي لمقصد صاحبه‪ .‬و عليه يرى "ريكور" ّ‬
‫يلعب دور الوسيط (‪ )médiateur‬بين الك اتب و القارئ‪ ،‬وهو بهذا يضطلع بدور محوري بين الثقافات‬
‫والحضارات االنسانية‪ .‬وهذا ما يجعل " الترجمة تأبى أن تكون مجرد عملية نقل من لغة إلى لغة‪ ،‬إلى أن تكون‬
‫عامل تأسيس النطولوجيا فهم الكائن [ البشري] في التاريخ "(‪ .)42‬هذا الكائن البشري الذي ال يتوقف عن فعل‬
‫الفهم؛ فهم العالم‪ ،‬و فهم نفسه‪ .‬فحدود الترجمة إذا ليست قيودا‪ ،‬بقدر ما هي انعتاق نحو تحقيق الوظيفة العملية‬
‫للنصوص‪ ،‬ضمن التفاعل الحضاري اإلنساني‪ ،‬الذي يعد بوابة الهيرمينوطقيا نحو العالمية‪.‬‬
‫‪ 1.4‬التكافؤ بال هوية (‪)l'équivalence sans identité‬‬
‫أهم عامل دفع بعلم الترجمة (‪ )traductologie‬إلى التطور‪ ،‬هو البحث المقارن في التغيرات‬ ‫لعل ّ‬
‫ّ‬
‫واالختالفات القائمة بين الترجمة و األصل‪ .‬وهو البحث المتمثل في مقدار مستوى تكافؤ (‪)l’équivalence‬‬
‫نص الوصول (‪ ،)texte d’arrivée‬قياسا بنص االنطالق (‪ .)texte de départ‬فكم من حبر سال في هذه‬
‫القضية‪ ،‬وكم من صفحات ُدبجت في منا قشاتها منذ سبعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا‪ ،‬و إن شهدت الوتيرة‬
‫مسا ار تنازليا‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫ويعرف التكافؤ (‪ )équivalence‬بأنه "عالقة التماثل الموضوعة في "الخطاب" بين "وحدتي ترجمة"‬
‫(‪ )unités de traduction‬للغات مختلفة حيث تصبح الوظيفة الخطابية مماثلة أو مماثلة تقريبا"(‪ .)41‬فالتكافؤ‬
‫أو التماثل يتموقع في الخطاب‪ ،‬و من ثم وجد فيه "ريكور" ضالته لبلورة نظريته في الترجمة‪ .‬و بما أن تحقيق‬
‫فإن المماثلة بالتقريب هي التي تصبح عملية‪ ،‬بل وظيفية‬
‫المماثلة بشكل كامل متعذر لألسباب المذكورة آنفا‪ّ ،‬‬
‫(‪ .)fonctionnelle‬ذلك أن " الفارق يستحيل تجاوزه بين ما هو خاص و ما هو أجنبي"(‪ .)44‬و الحال أن‬
‫التكافؤات‪ ،‬لم تُوضع إال لتتماثل‪ -‬بالتقريب‪ -‬مع " معنى" نص االنطالق (‪ ،)texte de départ‬و هذا مع‬
‫معرفة ُمحيطة‪ ،‬باللغة و الوقائع التي يستند إليها نص االنطالق‪ ،‬إضافة إلى مراعاة تحقيق شروط التواصل‬
‫ووظائفه لدى نص الوصول (‪.)41()texte d’arrivée‬‬
‫وعلى هذا الفهم للترجمة من حيث طبيعتها‪ ،‬ووظيفتها دلف " بول ريكور" إلى الحديث عن إشكالية ثنائية‪:‬‬
‫أن هذه القضية‬‫أمانة‪/‬خيانة باعتبارها معضلة عملية‪ ،‬قائمة في قلب الممارسة الترجمية ذاتها‪ .‬ويرى " ريكور" ّ‬
‫صادرة عن عوز لمعيار موثوق فيه‪ ،‬و هو ما يطلق عليه في أوساط المترجمين بـ" المعنى نفسه " المتواجد فوق‬
‫(‪)47‬‬
‫أن هذا " المعنى نفسه" متعذر الوقوع‪ ،‬تبقى الترجمة الجيدة عند‬
‫وبين نص األصل ونص الوصول ‪ .‬و لكن بما ّ‬
‫"ريكور"‪ ،‬هي التي يكفيها الحصول على" تكافئ ُمفترض‪ ،‬غير مؤسس على هوية لمعنى قابل للبرهنة عليه‪،‬‬
‫بالهوية (‪.)41( ".)identité‬‬
‫تكافؤ ُ‬
‫ويريد "ريكور" بكلمة " هوية " في هذا المجال المماثالت التي لها " قرابات ثقافية تخفي في طياتها الطبيعة‬
‫الحقيقية للتكافئ"(‪ )43‬و يكون لتلك المماثالت في لغة االستقبال أو لنقل في ثقافة االستقبال التأثير الفكري والثقافي‬
‫نفسه‪ ،‬وهذا ما يطلق عليه " المقارنة البناءة " (‪ .)49( )comparatisme constructif‬و هكذا يصبح معنى‬
‫التكافئ بال هوية الذي اقترحه "ريكور" متالئما مع نظريته في التأويل‪.‬‬
‫وبما أنه قد ُعفي عن مصادر تلك المماثالت أو "التكافؤات" األصلية‪ ،‬و لذلك أصبحت ميراثا إنسانيا مشتركا‪،‬‬
‫فقد فقدت جراء هذا هويتها األصلية‪ ،‬و غدت ملكا مشاعا لإلنسانية جمعاء‪ ،‬ويحق للمترجمين جميعهم تبنيها‬
‫على حد سواء‪ .‬و لهذا يدعو "ريكور" إلى إنجاز مسرد (‪ )Glossaire‬لكل "التكافؤات بال هوية" تلك‪.‬‬
‫ومن بين العقبات التي تعترض طريق المترجم أيضا التكافؤ التصوري (‪،)équivalence conceptuelle‬‬
‫وهي العقبة التي تُنسب في غالب األحيان إلى النص المصدر(‪ .)texte source‬حيث يتعين على المترجم‪،‬‬
‫الحرص على نقل" واقع " هذا النص من بناءات ثقافية وأيديولوجية‪...،‬الخ‪ .‬وباختصار‪ ،‬هوية النص المصدر التي‬
‫عد من أكبر الرهانات التي يطلب من المترجم أن يأخذها في الحسبان‪ ،‬و التي تعكس بقليل أو بكثير حجم‬ ‫تُ ُّ‬
‫مسؤوليته األخالقية في عمله التُّرجمي‪.‬‬
‫وباقتراحه لفكرة " التكافؤ بال هوية "‪ ،‬يكون "بول ريكور" قد فتح بابا يسمح بالتواصل بين مختلف ثقافات‬
‫وحضارات العالم قديمها و حديثها‪ .‬متجاو از بذلك فكرة تعالي و هيمنة ثقافات على أخرى أو لغات على أخرى تبعا‬
‫للنظرية العرقية الذائعة الصيت حينها‪ .‬و إذا كان فهم اآلخر "األجنبي" عند " ريكور "‪ ،‬دافعا للقاء الثقافات‪ ،‬فإن‬
‫فهم الذات الذي يتم بوساطة فعل الترجمة‪ ،‬هو التغذية الراجعة (‪ )feed back‬التي يتلقاها المترجم في الوقت‬
‫نفسه‪ .‬و تلك هي إذا نظرية ال"سكوبو" (‪ ،)Skopos‬التي تنظر إلى الترجمة على أنها إحدى العناصر األساس‬
‫للدينامية الثقافية المحققة للتواصل البين ثقافي (‪.)communication interculturelle‬‬

‫‪40‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬

‫خاتمـة‪:‬‬
‫ولعل أهم فكرة خرج بها "ريكور"‪ ،‬هي عبارته الشهيرة " الضيافة اللغوية" (‪)hospitalité langagière‬‬
‫ّ‬
‫أن متعة السكن في لغة اآلخر‪ ،‬تعوض بمتعة‬ ‫التي هي عنده واحة المترجم‪ ،‬التي يجد فيها سعادته‪ .‬حيث " ّ‬
‫استقبال كالم األجنبي في البيت الخاص‪ )11( ".‬فالمترجم الجيد عند "ريكور" هو من ال يقنعه السكن في لغة‬
‫واحدة‪ ،‬بل يجد سعادته في استضافة لغة اآلخر‪ ،‬و يسمح له بالتعبير عن ذاته‪ ،‬و بلغته‪.‬‬
‫كما يمكن للمترجم في الجهة المقابلة أن يعبر عن ذاته بلغة اآلخر‪ .‬وبهذا نقل "ريكور" قضية الترجمة من‬
‫إشكالية ثنائية" القابل للترجمة‪ /‬المتعذر ترجمته"(‪ ،)traduisible/ intraduisible‬وهي إشكالية فكرية وفلسفية‬
‫بالماهية والجوهر‪ ،‬إلى حقل عملي وتطبيقي مشهود وملموس بل و معيش؛ وهو بناء المماثالت‬
‫(‪ .)construction des comparables‬ولتصبح الترجمة وفق هذا التصور ذات توجه عملي ممارساتي‪ ،‬بدال‬
‫من أن تبقى تراوح مكانها‪ ،‬في ميدان الطروحات النظرية‪.‬‬
‫وان كان" بول ريكور" لم يرسم خريطة لترجمة تطبيقية‪ ،‬فحسبه‪ ،‬أنه عالج الموضوع بفكر علمي و عملي‪ ،‬فتح‬
‫به مجاال خصبا وواعدا لترجمة وظيفية تخدم اإلنسانية‪ .‬و لقد كانت آراؤه النظرية ومقترحاته العملية بمثابة الخطوة‬
‫النوعية التي ساهمت في خلق بعد جديد للوساطة بين الثقافات اإلنسانية التي جعلها أقدس مهمة للترجمة وأنبل‬
‫البعد" (‪ )l'auberge du lointain‬كما كان يحلو لفقيد‬
‫رسالة للمترجمين‪ .‬و حسبه أنه أعاد ترتيب بيت " مقام ُ‬
‫الترجمة أنطوان بيرمان إطالقه على الترجمة‪.‬‬

‫الهـوامـش و إإلحاالت‪:‬‬
‫‪1- voir : Paul Ricœur, du texte à l'action essais d'herméneutique II Paris, ed du seuil 1986.‬‬
‫و هذا الكتاب تكملة للكتاب األول المرسوم بـ‪":‬صراع التأويالت"‪-‬‬
‫‪"le conflit des interprétations essais d'herméneutique I Paris, ed du seuil 1969.‬‬
‫‪2- Paul Ricœur, sur la traduction. Paris, ed Bayard, 2004 pp 66.67.‬‬
‫‪3- Ibid p 53.‬‬
‫‪4- Ibid pp 53.54.‬‬
‫‪5- Ibid p 53.‬‬
‫‪6- voir Jean Dubois et autres. Linguistique et science du langage. Paris, larousse. 2007. pp 94.97.‬‬
‫‪7- Roman Jakobson. Essais de linguistique générale. Paris, ed de minuit, 1963 p 79.‬‬
‫‪8 - Paul Ricœur, op cit p 46.‬‬
‫‪9 - Roman Jakobson op cit 1963 p 79.‬‬
‫‪10- Paul Ricœur, op cit pp48.49.‬‬
‫‪11- Paul Ricœur, op cit p 09.‬‬
‫‪12- Ibid.‬‬
‫‪13- Ibid.‬‬
‫‪14- voir F.Schleimacher. des différentes méthodes du traduire Trad Française, Paris. Ed‬‬
‫‪seuil.1999.‬‬
‫‪15- Paul Ricœur,op cit p 09.‬‬
‫‪ -11‬إدوين غينتسلر‪ .‬في نظرية الترجمة‪ :‬اتجاهات معاصرة‪ .‬ترجمة سعد عبد العزيز مصلوح‪ .‬بيروت لبنان‪ .‬المنظمة العربية‬
‫للترجمة ط‪ 2111 3‬صص ‪.141.143‬‬

‫‪41‬‬
‫‪2132‬‬ ‫عدد‪ -13‬سبتمبر‬ ‫التواصل في اللغات والثق افة واآلداب‬
‫‪ -11‬يحبذ "هيدجر" (‪ )Heifeger‬بهذا الصدد استخدام مصطلح "كالم" (‪ )parole‬بدال من لفظة "لغة" باعتبار أن الكالم يحمل‬
‫بصمات متكلمه و منه يأخذ الخطاب (‪ )discours‬مفهوما ممي از لدى معشر الهرمينوطيقيين أمثال "جادامير"‪" ،‬ريكور"‪" ،‬نوكو"‬
‫صاحب مقولة "الوجود في اللغة"‪.‬‬
‫‪18- Paul Ricœur, op cit p 54.‬‬
‫‪11- Voir, Paul Ricœur, op cit pp.19-20, et 42-43.‬‬
‫‪ -20‬ينظر للتوسع "الهرمينوطيقا و الترجمة" في "الهرمينوطيقا و الفلسفة" (نحو مشروع عقل تأويلي) لـ عبد الغني بارة‪ .‬منشورات‬
‫االختالف‪/‬الجزائر‪-‬الجزائر‪ -‬الدار العربية للعلوم تاشرون‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ .‬ط‪ ،2113 3‬ص ‪ .331-311‬وكذلك‪" :‬الترجمة‬
‫الهرمينوطيقا" لمصطفى العريصة‪ ،‬في‪":‬الترجمة في اآلداب و العلوم اإلنسانية (الواقع واآلفاق)‪ .‬منشورات كلية اآلداب و العلوم‬
‫اإلنسانية أكادير ‪ 3999‬صص ‪.13،17‬‬
‫‪21- Paul Ricœur, Le conflit des interprétaions , Paris, éd du Seuil,1969, p.7.‬‬
‫‪ -21‬بول ريكور‪ :‬نظرية التأويل‪-‬الخطاب و فائض المعنى‪-‬المركز الثقافي العربي المغرب‪/‬بيروت لبنان‪ .‬ط‪ 2111 3‬ص‪.12‬‬
‫‪ -13‬ينظر – م‪ ،‬ن‪ .‬ص‪ ،‬ن‪.‬‬
‫‪24- Paul Ricœur, du texte à l'action, Paris, ed du seuil, 1986, pp 140-145.‬‬
‫‪25- Ibid, pp 125-129.‬‬
‫‪ -14‬بول ريكور‪ :‬نظرية التأويل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.341‬‬
‫‪21- Paul Ricœur, op cit p 154‬‬
‫‪ -‬ينظر ‪:‬‬
‫‪Roland Barthes, de l'œuvre du texte" Bruissement de la langue. Paris édition du seuil 1984. pp 71-‬‬
‫‪80.‬‬
‫‪ -12‬ينظر‪ :‬عبد الغني بارة‪ ،‬الهرمينوطيقا و الفلسفة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪21- Paul Ricœur, du texte à l'action op cit p 154.‬‬
‫‪33- Ibid p 140.‬‬
‫‪31- Ibid p 155.‬‬
‫‪ -31‬ينظر مادة "الخطاب" (‪ )discours‬لـدومينيك مانغونو‪ ،‬المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب‪ .‬ترجمة‪ :‬محمد يحياتن‪،‬‬
‫منشورات االختالف ط‪ 2113 3‬الجزائر ص ‪.13‬‬
‫‪33- Paul Ricœur, op cit p 156.‬‬
‫‪34- Ibid.‬‬
‫‪35- voir Paul Ricœur, "Herméneutique philosophique et Herméneutique biblique" in du texte à‬‬
‫‪l'action op cit pp 133.148‬‬
‫‪31- Paul Ricœur, op cit p 155.‬‬
‫‪31- Ibid. pp 154-155.‬‬
‫‪32- Ibid. pp 159-162.‬‬
‫‪31- Roland Barthes : Bruissement de la langue. Édition du seuil, Paris. 1984- pp 33. 56.‬‬
‫‪ -43‬بول ريكور‪" :‬نظرية التأويل"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.341‬‬
‫‪ -41‬عبد الغني بارة‪ :‬الهيرمينوطيقا و الفلسفة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.319‬‬
‫‪ -41‬المرجع نفسه ص ‪.313‬‬
‫‪43- Jean Delisle et autres : Terminologie de la traduction (équivalence p 36).‬‬
‫‪44- Paul Ricœur : sur la traduction, op cit p 62.‬‬
‫‪45- Voir, Ibid.‬‬
‫‪41- Ibid 60.‬‬
‫‪41- Ibid 60.‬‬
‫‪42- Ibid p 62.‬‬
‫‪41- Ibid p 63.‬‬
‫@‪50- Ibid p 21.]31111223173913171[+‬‬

‫‪42‬‬

You might also like