You are on page 1of 15

‫التقييم الترجمي‪ ( :‬عبد الرحيم حزل‪ ،‬مجلة الكلمة‪ ،‬لندن‪ ،‬العدد ‪ ،137‬سبتمبر‪)2018‬‬

‫تتألف عملية الترجمة من مجموعة أطوار‪ ،‬أجملها التَّرجمي الكندي روبير الروز على‬
‫الصورة( التالية‪" :‬الترجمة عملية تأويلية‪ ،‬وسيرورة يسائل بها المترجم النص الذي يريد‬
‫بالترجمة‪ ،‬ويسعى إلى الوقوف على معناه"‪ .‬وهي كذلك عمل منتج وممارسة كتابية يمسك‬
‫فيها المترجم بالمعنى‪" .‬فالمترجم‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬ينفذ تعاقداً تلفظياً‪ ،‬أو ينجز دفتر‬
‫تحمالت ُيخضع له مجموع طلبات الكتابة التي تتجسد في منتوج سيكون موضوعاً للتقدير‬
‫من لدن المقيِّم"(‪ .)1‬بما يعني أن العملية الترجمية ال تكتمل إال بالتقييم‪.‬‬

‫تقييم الترجمات‪ ...‬لمحة تاريخية‬

‫تقييم الترجمات من المباحث الترجمية القديمة‪ /‬الجديدة‪ .‬فقد ظل مالزماً للترجمة في جميع‬


‫العصور؛ فكان يظهر بصيغ ذاتية ذوقية‪ ،‬في استحسان ترجمة من الترجمات أو تسفيهها‪،‬‬
‫وظل حاضراً في الحديث عن الترجمة بأسماء ومسميات مختلفة؛ من قبيل‪" :‬ما هي‬
‫الترجمة الجيدة؟‪ ،‬و"هل الترجمة أمينة أم خائنة؟"‪ ،‬و"مفهومة أم غير مفهومة؟"‪ ،‬و"حسنة أم‬
‫رديئة؟"‪ ،‬وسوى ذلك من األحكام والتقييمات الذوقية‪ ،‬التي لم يكن ُي ُّ‬
‫عتد فيها بغير ذاتية‬
‫المقيِّم‪ ،‬وما يحب أو يكره من الترجمات‪ ،‬بل يحب أو يكره من المترجمين ِ‬
‫أنفسهم(‪.)2‬‬

‫ولو حاولنا تحقيباً للتقييم الترجمي‪ ،‬فيمكن القول إن الخصائص المذكورة كانت تمثل‬
‫المسماة عند دانييل غواديك "مرحلةَ حدسية"؛ وهي تقوم‬
‫ّ‬ ‫"المرحلة الذاتية" في هذا التقييم‪،‬‬
‫عنده على "التقدير الذاتي الحدسي الشمولي‪ ،‬الذي يؤتى به معقباً على قراءة ُيراد بها‬
‫االقتصار على اإلعالن أن الترجمة "مقبولة" أو "غير مقبولة"‪ .‬وليس يتطلب هذا النوع من‬
‫التقييم إحصاء وال تبييناً لخصائص النص‪ ،‬وال قياساً لما اعتوره ممن أخطاء‪ .‬ثم يؤول‬
‫إلى تنقيطن أو تصنيف‪ ،‬حسب سلم تجريبي (باطني) عند القائم بذلك التقييم‪ .‬وهذا الضرب‬
‫زعم لها الموضوعية"((‪.)3‬‬
‫من التقييم واسع االنتشار‪ ،‬وكثيراً ما يتخفى خلف أجهزة تُ َ‬
‫هذا التوصيف ينسجم والتقسيم الذي جاءت به يوليانه هاوزه للمراحل التي مر بها تقييم‬
‫جودة الترجمة في الغرب‪ .‬وذلك أنها جعلت هذه المراحل ثالثاً‪ .‬فأما المرحلة األولى‬
‫فتمثلها الدراسات ما قبل اللسانية‪ ،‬التي سادتها التقييمات العامة والذاتية للترجمة والمترجم‪.‬‬
‫وهي تُدخل في هذه العينة ثيودور سافوري‪ ،‬وقائمته الشهيرة من الفروض الترجمية‬
‫المتعارض؛ وهذا ضرب من التقييم الحدسي الذاتي‪ ،‬تداوله‪ ،‬من قديم الزمان‪ ،‬كتَّ ٌ‬
‫اب‬
‫وفالسفة‪ ،‬وسواهم من المتأدبين‪ ،‬من قبيل‪" :‬هل أنصفت الترجمة األص َل؟"‪ ،‬أو "هل‬
‫حافظت على نبر األصل؟"‪ ،‬وسوى ذلك من األحكام ذات المنزع الشمولي‪ .‬بيد أن هذا‬
‫الضرب من التقييمات الذاتية الحدسية لم يتوقف عند فترة سابقة من التصور الترجمي‪،‬‬
‫كما قد يتبادر إلى األذهان‪ ،‬بل صار يلبس لبوساً جديداً يظهر به في كثير من التقييمات‬
‫المعاصرة‪ ،‬ويعرف االنتشار الواسع من خالل بعض التوجهات التأويلية الجديدة‪ ،‬التي‬
‫ترى في الترجمة إبداعاً ذاتياً كل مداره على التأويل الذاتي وقرارات النقل‪ ،‬والحدوس‬
‫الفنية واألدبية‪ ،‬إلى حد القبول بجميع الترجمات التي توضع للنص الواحد‪ ،‬بزعم أنها تمثل‬
‫وجهات نظر خاصة إلى هذا النص‪ ،‬تفيده وال تنتقص منه‪ .‬فيكون النص من هذا المنظور‪،‬‬
‫ال يمتلك من معاني صميمة‪ ،‬بل تختلف معانيه باختالف مواقف المتكلمين األفراد‪ .‬وهذه‬
‫النوعية من األحكام‪ ،‬وخاصة القول بنسبية "المحتوى" ونسبية "المعنى"‪ ،‬يجعلها غير‬
‫فترض أن يستقر إليه على جودتها من أحكام‪.‬‬
‫مالئمة بأي حال لتقييم الترجمة‪ ،‬وما ُي َ‬
‫وأما المرحلة الثانية فكانت مرحلة الدراسات السلوكية‪ ،‬التي سعت إلى تقييم الترجمة تقييماً‬
‫"علمياً مغالياً"؛ بتجاهل األفعال التي تدور في ذهن المترجم‪ ،‬لتعلقها بالمبادئ غير‬
‫المعروفة لما يدخل مدخل "العلبة السوداء"‪ ،‬فيما هي تحكم على جودة الترجمة حسب األثر‬
‫أبرز ممثلي هذه المرحلة؛‬
‫عتبر يوجين نيدا َ‬ ‫الذي ينبغي أن يكون لها على المستقبِل‪ُ .‬‬
‫وي َ‬
‫أهم معيار‬
‫وذلك أنه ُيغلّب ما يتعلق بردود أفعال القراء على الترجمة‪ ،‬حتى ليعتبرها َّ‬
‫لتقدير جودة الترجمة‪ ،‬بناء على تقدير سلوكي شمولي؛ مداره على "المفهومية"؛ التي يقرر‪،‬‬
‫استناداً إليها‪ ،‬أن الترجمة "الجيدة" هي التي تحقق "التكافؤ في االستجابة"؛ بين المستقبِلين‬
‫األوائل للنص األصلي والمستقبلين الثواني للنص المترجم‪ ،‬في غير ما اعتبار لمدى‬
‫مالءمة الترجمة للنص األصلي‪ .‬ومن الواضح أنه ليس باإلمكان دائماً قياس "االستجابة‬
‫المتكافئة"‪ ،‬خاصة مع وجود عنصر الزمن‪ ،‬الذي قد يقوم فاصالً شاسعاً بين زمن النص‬
‫األصلي وزمن ترجمته‪ .‬باإلضافة إلى صعوبة االستقرار إلى معنى "المفهومية"‪ ،‬في‬
‫صورته عند تيار نيدا وثيبر‪ ،‬نظراً للطابع الذاتي الغالب على هذا المفهوم‪ .‬فإذا كان من‬
‫المتعذر قياس هذه الظاهرة‪ ،‬صار من العبث التسليم بأن تكون معياراً لتقييم الترجمة‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فعلى الرغم من االختيارات المبت َكرة‪ ،‬التي جاء بها نيدا في التحقق من االستجابات‬
‫إلى الترجمة‪ ،‬فلقد فشل‪ ،‬في نهاية األمر‪ ،‬في تحقيق النتائج المرومة؛ ألنه عجز عن‬
‫القبض على ظاهرة في مثل تعقيد "جودة الترجمة"‪ ،‬إلهمال هذا التيار عامةً النص‬
‫بحث العالقة بينه والترجمة‪ ،‬بما ال يسعف على معرفة هل‬
‫األصلي‪ ،‬وإ هماله‪ ،‬بالتالي‪َ ،‬‬
‫الترجمة هي‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬ترجمةٌ‪ ،‬أم نص ثان ناتج عن عملية نصية مختلفة‪.‬‬

‫وأما المرحلة الثالثة فتمثلها الدراسات المهتمة بتحليل النص األصلي‪ ،‬الساعية إلى بناء‬
‫والمترجم‪ .‬وال يزال النموذج الذي وضعته‬
‫َ‬ ‫معيار لساني ومعرفي لوصف النصين األصلي‬
‫يوليانه هاوزه في هذا الباب‪ ،‬منذ خمس وعشرين سنة‪ ،‬معدوداً في أفضل النماذج إلى‬
‫اليوم‪ .‬وضمن المرحلة الثالثة هذه‪ ،‬تدخل مساهمة الترجمي الكندي روبير الروز؛ إذ انتبه‬
‫إلى معضلة الذاتية في التقييم؛ ولذلك جاء بنموذجه الذي أسماه بـ"التكاملي" يتغيى به أن‬
‫يحد كثيراً من هذه الذاتية‪ ،‬باعتماد خطة "غائية" و"نصية"‪ ،‬على أمل أن تؤول هذه الخطة‬
‫بالمقيِّمين إلى أن يحكموا على جميع النصوص على منوال واحد"(‪.)4‬‬

‫خطوات التقييم‬

‫يضع الروز لتقييم جودة الترجمة مجموعة من العناصر التي يلزم استيفاؤها‪:‬‬

‫‪ -1‬الموضوع المراد بالتقييم‪ .‬فماذا نقيِّم على وجه التحديد؟ وفاء النص لنص آخر؟‬
‫تاريخيته؟ نقل المعنى؟ تكافؤ األثر؟ الوضوح؟ المقروئية؟ هذه األمور مجتمعة‪ ،‬وأموراً‬
‫أخرى أيضاً؟ لذلك وجب أن يكون التقييم غائياً؛ ينشد غاية معلومة‪ .‬فباختالف النصوص‬
‫واختالف ترجماتها‪ ،‬من حيث الزمن‪ ،‬والمكان‪ ،‬والغرض من الترجمة‪ ،‬يختلف كذلك‬
‫شبه الروز الترجمة‪ ،‬في موضع آخر‪ ،‬بالسيارة؛ فمن السيارات ما ُيقتنى‬ ‫التقييم‪ .‬ولذلك ّ‬
‫لسرعته‪ ،‬ومنها ما يقتنى لقوته‪ ،‬وما يقتنى إلعماله في المدينة‪ ،‬أو استعماله في الريف‪،‬‬
‫إلخ‪ ،.‬فال يصح خلطها ببعضها‪ ،‬وطلب الغرض الواحد منها جميعاً(‪.)5‬‬

‫‪ -2‬المقيِّم‪ :‬من يكون؟ ما هي احتياجاته؟ وما هي ِقَيمه؟ هل هو مرا ِجع مراقب للجودة في‬
‫مصلحة للترجمة؟ أم هو زبون؟ أال يتباين تقييم الصحة المصطلحية‪ ،‬على سبيل التمثيل‪،‬‬
‫حسب موضوعه؛ أَمتخصص أم عام؟‬
‫‪ -3‬الوسيطات‪ :‬أي شيء َّ‬
‫وجه اختيار المترجم؟ وهل في اإلمكان تعداد وسيطات التقييم أو‬
‫المراتبة بينها؟ وهل تتباين بتباين النصوص؟ وما العنصر الذي ينبغي أن تكون له األسبقية‬
‫في تناول "البنية السردية"‪ ،‬وخالفها "البنية الحجاجية"؟ وهل تكون وسيطة القص في تقييم‬
‫النص السردي متعالية على الوسيطات األخرى؟ ولماذا؟‬

‫‪ -4‬طريقة الترجمة‪ :‬كيف يحكم المقيِّم على جودة الترجمة؟ أَبكيفية شمولية (كما في النص‬
‫التداولي)‪ ،‬أم بكيفية تحليلية (كما في النص األدبي)؟ وكيف يفعل في قياس الوفاء‪ ،‬ونقل‬
‫المعنى‪ ،‬والمقروئية‪ ،‬والفعالية‪ ،‬إلخ؟(‪.)6‬‬

‫قسميه‬
‫ْ‬ ‫إنه برنامج عريض لم نعدم بين الترجميين من ُّ‬
‫يشك في إمكانية نجاحه‪ ،‬والسيما في‬
‫الخاصين بغرض "المؤلف" و"استجابة المستقبِل"‪ .‬فهذه سارة فيوال رودريغز ترى أن‬
‫"الترجمة [إذا كانت] تقوم على ثالثة أقطاب‪ :‬غرض المؤلف‪ ،‬واستجابة المستقبل‪ ،‬و[بناء]‬
‫النص نفسه؛ فإن النص هو وحده الذي يمكن تناوله بالدراسة الموضوعية"(‪.)7‬‬

‫والحال أن هذه الصعوبة تزداد كثيراً إذا ما اعتبرنا بالعناصر األخرى الداخلة في عملية‬
‫الترجمة‪ ،‬والتي لم تنتبه إليها سارة رودريغز؛ نريد بها "المترجم" نفسه‪ ،‬و"القناة الترجمية"‬
‫(اللغة ونوعيتها)‪ ،‬و"المقيِّم" أيضاً‪.‬‬

‫مقتضيات التقييم‬

‫خارجي‪ ،‬يبحث في العناصر التي تؤلف "محيط‬


‫ِّ‬ ‫ينبغي في تقييم الترجمة اتباع مسارين‪:‬‬
‫النص"‪ ،‬والمراد بها شروط إنتاج هذا النص‪ ،‬وتتمثل في "هدف المتلفِّظين"‪ ،‬و"الفحوى‬
‫و"المكون المادي" و"الخلفية الثقافية واالجتماعية"‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلخباري"‪،‬‬

‫‪ -1‬المتقضى األول يتمثل في تقييم مدى مالءمة هدف المؤلف لهدف المترجم‪ .‬وهو ما‬
‫نفسه؛ فالبد لتقييم‬
‫"المترجم" ُ‬
‫ُ‬ ‫يريده الروز بـ "استراتيجية الترجمة"‪ .‬فأول مرحلة في التقييم‬
‫الترجمات أن يسائل "توسُّط المترجم"‪ .‬ويمكن القول إن المترجم يظهر حين يختفي‪.‬‬
‫فخطاب النص األصلي مقدم على كل ما يمكن أن يكون للمترجم من قناعات مخالفة‬
‫لقناعات المؤلف‪.‬‬
‫‪  -2‬المقتضى الثاني‪ ،‬هو تقييم مدى حفاظ الترجمة على "الفحوى اإلخباري"‪ ،‬الذي ال يخلو‬
‫منه نص من النصوص‪ ،‬وبموجبه يكون على من يقيِّم النص المترجم أن يبحث فيه عن‬
‫الحمولة اإلخبارية التي تكون في النص األصلي‪ ،‬دونما زيادة أو نقصان‪ .‬ولذلك بات‬
‫الدرس الترجمي يخرج "الترجمة االختصارية" أو الترجمة الترويجية‪ ،‬وما يدخل مدخلهما‬
‫من الترجمات اإليديولوجية‪ ،‬من دائرة الترجمة‪ .‬مثلما أن النصوص التي تبدو في ظاهرها‬
‫متعذرة عن الترجمة ال تشفع للمترجم أن يأتي لها بترجمة معماة خلو من أي معنى‪ .‬فال‬
‫توجد نصوص خلو من معان‪ ،‬بل هي تحتاج إلى اإلتيان لوظيفتها اللغوية الزائدة بمجهود‬
‫ترجمي زائد‪ ،‬لفهمها‪ ،‬ثم تحويلها إلى اللغة المستقبِلة‪.‬‬

‫"المكون المادي"؛ وتالؤم شكل التأليف في‬


‫ِّ‬ ‫‪ -3‬المقتضى الثالث ضمن محيط النص هو‬
‫التواصليين‪ (.‬فهذا التالؤم‬
‫ْ‬ ‫وسيطيهما‬
‫ْ‬ ‫تالؤم‬
‫َ‬ ‫والمترجم‪ ،‬أو‪ ،‬بتعبير آخر‪،‬‬
‫َ‬ ‫النصين األصلي‬
‫ْ‬
‫يغيب‪ ،‬مثالً‪ ،‬بين نص أصلي يأتي مزيناً بالرسوم‪ ،‬وترجمة تأتي خلواً منها‪ ،‬وبين نص‬
‫وترجمة تلتزم اللغة الفصيحة‪ ،‬إلخ‪( .‬مثال‪ :‬كثير من‬
‫َ‬ ‫أصلي تتجلى فيه اللغة العامية‪،‬‬
‫الترجمات المنظومة التي وضعها كبار شعرائنا العرب لبعض ما ترجموا من نصوص‬
‫اآلداب العالمية‪.‬‬

‫‪ -4‬المقتضى الرابع الذي ينبغي أن يتجه إليه التقييم هو الخلفية الثقافية االجتماعية‪ .‬وهي‬
‫حدوث تبديالت على صعيد بنيات النص‬ ‫َ‬ ‫تتباين من لغة إلى أخرى‪ ،‬بما يحتم أن نتوقع‬
‫الصغرى والكبرى‪ .‬ولعل هذا المقتضى في الترجمات العربية‪ ،‬مثالً‪ ،‬هو أكثر ما يقع فيه‬
‫التبديل الترجمي؛ ألن مترجمينا العرب ال يزالون يجدون الحاجة إلى "تفنيد" الرؤى‬
‫األجنبية عن العالم العربي واإلسالمي‪ ،‬خاصة مع اشتداد الصراع الحضاري بين العالمين‬
‫اإلسالمي والمسيحي‪ .‬لكن ربما خرج المترجم من المدافعة إلى المغالطة‪.‬‬

‫الصعيد الثاني الذي ينبغي أن يتجه إليه التقييم هو "صعيد النص"‪ .‬وينبغي للنص المراد‬
‫بالترجمة أن يكون بين يدي المترجم نصاً نهائياً‪ ،‬قد أحاط بلغته وثقافته وباللغة والثقافة‬
‫اللتين يترجم إليهما‪ ،‬وأحاط بموضوعه‪ ،‬وامتلك تقنيات الترجمة‪ .‬فالكاتب كثيراً ما يعود‬
‫إلى نصوصه بالتحوير والتعديل وتغيير صورة اإلخراج‪.‬‬
‫وينقسم صعيد النص إلى ثالث بنيات كبرى‪" :‬البنية الفوقية"‪ ،‬و"البنية الكبرى" و"البنية‬
‫الصغرى"‪.‬‬

‫فالبنية الفوقية هي "الشكل" اإلجمالي‪ ،‬الذي يكون عليه "محتوى" البنية الكبرى‪ .‬ويريد فان‬
‫دايك بالبنية الفوقية البنيةَ الكبرى التركيبيةَ‪ ،‬بينما يريد بالبنية الكبرى البنيةَ الكبرى‬
‫الدالليةَ‪ .‬ولذلك فهو يجعل للبنية الفوقية مرادفاً هو البنيات "التركيبية الكبرى"‪ ،‬والبنيات‬
‫الكبرى هي البنى اإلجمالية‪ ،‬التي نستنبطها من البنى النصية التفصيلية بواسطة عمليات‬
‫ثالث‬
‫ٌ‬ ‫تختصرها مثل‪" :‬الحذف" و"الدمج" و"الجمع" و"التعميم"(‪ .)8‬والحقيقة أن هذه العمليات‬
‫عند فان دايك وكينتش‪ ،‬وهي "الحذف"‪ ،‬و"التعميم" و"البناء"‪.‬‬

‫‪ -1‬الحذف‪ :‬يقع في الجملة تكون غير ضرورية‪ ،‬بصورة مباشرة أو غير مباشرة لتأويل‬
‫الجملة التالية عليها‪.‬‬

‫‪ -2‬التعميم‪ :‬يمكن للجملة العامة التي تقرر بنية فوقية مباشرة أن تستبدل أي متوالية‬
‫جملية‪.‬‬

‫‪ -3‬البناء‪ :‬يمكن استبدال أي متوالية من الجمل بجملة واحدة تقرر واقعة شمولية تتكون‬
‫منها الجمل الصغرى في صورتها العادية‪.‬‬

‫وفي مقابل هذا المستوى من التحويل‪ ،‬يوجد مستوى آخر يقوم‪ ،‬بخالف األول‪ ،‬على‬
‫استبدال قاعدة الحذف‪ ،‬عند إنتاج عملية معكوسة‪ ،‬بقاعدة اإلضافة‪ ،‬والتعميم بالتخصيص‪،‬‬
‫عمل هذه اآلليات في البنى الكبرى‪ ،‬فتنتج عنها البنى الصغرى التي‬
‫والبناء بالتمييز‪ .‬وتُ َ‬
‫تظهر في الخطاب(‪.)9‬‬

‫وأما النوع الثالث من هذه البنى‪ ،‬فهو البنية الصغرى؛ وهي تعتبر بنيةَ النص السطحيةَ‬
‫التي تقوم على ترتيب خاص والنهائي من المتواليات الصغرى‪.‬‬

‫ولو أردنا التمييز بين البنية الكبرى والبنية الصغرى( لقلنا إن البنية الكبرى تشمل‪:‬‬

‫أ‪ -‬وظائف النص الخاصة‪.‬‬

‫ب‪ -‬تنظيمه الموضوعاتي‪.‬‬


‫والمراد بالبنية الصغرى صوغ المادة النصية وفق‪:‬‬

‫أ‪ -‬شكل العبارة‬

‫ب‪ -‬شكل محتوى الرسالة(‪.)10‬‬

‫وأما البنية الفوقية فتكون‪ ،‬شأن البنية الكبرى‪ ،‬ذات طبيعة مجردة؛ فهي تدلنا على جنس‬
‫ميز فان دايك في النصوص نوعين من البنية الفوقية‪" :‬البنية السردية"؛ وهي‬ ‫النص‪ .‬ولذلك ّ‬
‫تتميز عن "البنية المفاعلية"‪ ،‬التي هي أدخل في البنية الكبرى‪ ،‬ثم "البنية ِ‬
‫الحجاجية"‪.‬‬

‫فالنصوص السردية تتمثل منظومةً من المحتويات المباينة لمحتويات النصوص الحجاجية‪.‬‬


‫فمن أهم مقوالت البنية السردية والدرامية (العقدة والحل)‪ ،‬ومن أهم المقوالت التي تقوم‬
‫عليها البنية الحجاجية "المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى ثم الخالصة"(‪.)11‬‬

‫الكبريين في الترجمة؛ بجعل الحجاجية سردية والسردية‬


‫ْ‬ ‫والشك أن مجانفة هاتين البنيتين‬
‫حجاجية (وما يجري مجراهما من البنى الشعرية والنثرية‪ ،‬ولعل من أبرز نماذج هذا‬
‫الخلل الترجمي الكبير الذي يلحق الترجمة نقف عليها في الترجمات التي ُوضعت عامة‬
‫ظم من مجرد الهنات تقع‪ ،‬على سبيل‬
‫لكتاب ألف ليلة وليلة)‪ُ ،‬يعتبر خطأً في الترجمة أع َ‬
‫التمثيل‪ ،‬في الصوغ األسلوبي على صعيد البنية الصغرى‪(.‬‬

‫وقد بدأت قيمة التصنيفات التي جاء بها فان دايك بين هذه األنواع من البنى وإ يالئه‬
‫األهمية فيها للبنى الكبرى(‪ ،)12‬تتجلى في االنتباه الذي صار للترجميات‪ ،‬في اآلونة‬
‫األخيرة‪ ،‬إلى العالقة القائمة بين استراتيجية الترجمة وصنافة النصوص(‪)13‬؛ بالنظر إلى‬
‫التباين الكبير في وظائف النصوص المختلفة‪ ،‬وما يطرح على الترجمة من رهانات للوفاء‬
‫بها؛ ما يجعل مطلب "الغائية" الذي يقرن به الروز الترجمة عامة أمراً نسبياً ومتغيراً‬
‫حسب استراتيجية الترجمة التي كثيراً ما تتأثر‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬بصنافة النصوص‪.‬‬

‫تقييم أخطاء الترجمة‬

‫يعتبر مبحث الخطإ الترجمي من المكونات األساسية في بحث جودة الترجمة‪ .‬وقد باتت‬
‫الترجميات الحديثة تولي اهتماماً متزايداً إلى دراسة الخطإ الذي يتفق للمترجم‪ ،‬وتبحث‬
‫سياقاته وأسبابه ونتائجه‪.‬‬
‫والمدرس‬
‫ّ‬ ‫إن الخطأ مالزم للعملية الترجمية؛ يطالعنا في خلفيات المترجم (المراجع؟)‪،‬‬
‫(التربوي)‪ ،‬والباحث (المعرفي؟)‪ .‬لكن في مقابل ذلك‪ ،‬ال تزال الترجميات تفتقر إلى نماذج‬
‫قمينة باإلحاطة بطبيعة الخطإ الترجمي‪.‬‬

‫وخالفاً لما يبدو للوهلة األولى من أن الخطأ في الترجمة أمر هين ال يحتاج إلى تعمق‬
‫بحثه‪ ،‬فلقد بات يشكل مبحثاً قائم الذات في جميع أشكال التناول الترجمي‪" :‬فليس من‬
‫ممارسة للترجمة‪ ،‬وال تدريس للترجمة‪ ،‬وال بحث أساسي أو تطبيقي يتعلق بالترجمة‪ ،‬إال‬
‫ويعرج‪ ،‬ضمناً‪ ،‬أو تصريحاً‪ ،‬على مفهوم الخطإ"(‪.)14‬‬

‫وأكثر ما ُيهتم بالخطإ الترجمي في مبحث تقييم الترجمة؛ وذلك أن هذا التقييم يقوم‪ ،‬في‬
‫جوهره‪ ،‬على قياس مدى االبتعاد عن القواعد التي تحكم عملية التبليغ والتواصل التي‬
‫يفترض أن تتحقق في الترجمة‪.‬‬

‫لكن ينبغي التمييز‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬بين تصحيح األخطاء المحتملة (المراجعة)‪ ،‬وتقييم جودة‬
‫الترجمة؛ إذ ينبغي تحاشي أن ُيعهد إلى الشخص الواحد بوظائف المصحح والمراجع‬
‫والمقيم للترجمة الواحدة‪.‬‬

‫يمكن تعريف الخطإ في الترجمة بأنه يتمثل‪ ،‬على وجه العموم‪ ،‬في عدم الوفاء بقواعد‬
‫مشروع الترجمة؛ وهو ضرب من "دفتر تحمالت"‪ ،‬تبين فيه مبادئ الترجمة ومسلماتها‪.‬‬
‫وقد جعل دانييل غواديك‪ ،‬للخطإ الترجمي تعريفاً قريباً من تعريف الروز؛ إذ اعتبر الخطأ‬
‫في الترجمة نقضاً للتناسب في االنتقال من النص األصلي إلى الترجمة‪ .‬أو هو ‪-‬بتعبير‬
‫آخر‪ -‬انحراف غير مسوغ في تبليغ رسالة‪ ،‬و‪ /‬أو في خصائصها‪ ،‬يتم الحكم عليه قياساً‬
‫إلى‪:‬‬

‫أ‪ -‬مجموع القواعد الجنسية للتواصل (انحراف مطلق في التواصل)؛‬

‫ب‪ -‬مجموع محددات مشروع الترجمة (انحراف نسبي في النقل)(‪.)15‬‬

‫وعليه‪ ،‬فإن غواديك يقيم تمييزاً تراتبياً في مستويين من الخطإ الترجمي‪ :‬خطٍإ مطلق‪ ،‬هو‬
‫الذي يقع عنده على صعيد المجانفة غير المسوغة لقواعد النحو الثقافي (المنطق‪ ،‬وتكوين‬
‫المفاهيم‪ ،‬وتنظيمها‪ ،‬وتعالقاتها وتأويلها؛ أي أنه يقع على صعيد التواصل‪ ،‬فيعيق تبليغ‬
‫رسالة النص المراد بالترجمة‪ ،‬أو ينحرف بها انحرافاً‪ .‬وإ لى جانب هذا الخطإ يأتي خطأ‬
‫آخر يقل عنه جسامة‪ ،‬وذلك أن وقوعه على صعيد مكون من مكونات رسالة النص؛ كأن‬
‫يكون خطأ في اللغة‪ ،‬أو في األسلوب(‪.)16‬‬

‫فهذا التمييز في الخطإ الترجمي‪ ،‬بما يجعل األولوية لمسألة التواصل‪ ،‬ويتبعه بخرق قواعد‬
‫الكتابة‪ ،‬يعتبر محط إجماع من الترجميين الذين تناولوا مسألة الخطإ في الترجمة‪ .‬بما يعني‬
‫أن المدار في تقييم الترجمة‪ ،‬وتقييم الخطإ في الترجمة‪ ،‬على الرسالة وتبليغها‪ ،‬وعلى‬
‫مطلب التواصل الذي عمدته ومداره على اشتمال الترجمة على الفحوى اإلخباري الذي‬
‫يرد في النص األصلي كامالً غير منقوص‪.‬‬

‫لكن الحكم على جسامة الخطإ في الترجمة ليس باألمر الثابت على وجه واحد‪ ،‬وما ذلك‬
‫إال ألن مسألة التبليغ والتواصل( نفسيهما في الترجمة‪ ،‬تظل مسألة نسبية‪ .‬فما هو‪ ،‬يا ترى‪،‬‬
‫المحتوى عموماً‪ ،‬وما المحتوى الترجمى‪ ،‬والعناصر التي تدخل في تكوينه؟ ولذلك‪ ،‬وجب‬
‫التنبيه إلى أن‪" :‬الحكم على كل خطإ بكونه أكثر أو أقل جسامة يكون حسب مجال منوالية‬
‫االشتغال التي يمسها‪ ،‬بدل الحكم عليه باالستناد إلى فرض نموذجي‪ ،‬موضوع بصورة‬
‫اعتباطية‪ ،‬ومعتبر‪ ،‬أحياناً‪ ،‬كأنه أبدع ما كان"(‪.)17‬‬

‫وهذه صياغة أخرى للقاعدة التي سبق لالروز نفسه أن وضعها للحكم على الخطإ‬
‫الترجمي‪ ،‬وأن الحكم عليه ينبغي أن يكون "حسب المستوى الذي يحتله (‪ )...‬من المناسبة‬
‫في النص"(‪.)18‬‬

‫ويجدر التنبيه إلى أن القول بـ "المناسبة" ال يجعل للممايزة التي أقامها الروز بين‬
‫المستويات النصية من موضوع‪ ،‬إذا كان يراد للمناسبة أن تكون هي المائزة لجسامة‬
‫الخطإ وزهادته(‪ .)19‬وذلك أن الخطأ ربما بدا للوهلة األولى هيناً زهيداً‪ ،‬ال يعدو عن‬
‫ترجمة بالحذف؛ إال أن التمعن في السياق القريب والبعيد ينتقل به إلى ما هو أعظم من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وفي هذا الباب تأتي تلك الصنافة التي باتت شيئاً تقليدياً في المراتبة بين أنواع الخطإ‬
‫الترجمي‪ ،‬من "الالمعنى"‪ ،‬إلى "المعنى المغلوط"‪ ،‬إلى التناقض في المعنى"‪ ،‬وهو أعالها‬
‫مرتبة‪ .‬وذلك أنه ال يشكل عائقاً دون تبليغ رسالة النص األصلي‪ ،‬على غرار النوعين‬
‫األولين؛ بل يقلب تلك الرسالة إلى نقيض(‪.)20‬‬

‫وما دام الروز قد مايز في بنية النص بين تلك المستويات التي رأيناها‪ ،‬من بنية فوقية‪،‬‬
‫وبنية كبرى‪ ،‬وبنية صغرى‪ ،‬فهذا يعني أن الخطأ يتدرج فيها جسامة؛ من خطإ يقع في‬
‫البنية الفوقية‪ ،‬وثان يقع في البنية الكبرى‪ ،‬وثالث يقع في البنية الصغرى‪ .‬وهذا قول ال‬
‫يستقيم واالعتداد بمسألة "المناسبة" في النص‪ .‬وهو الموقف نفسه الذي ألمعت إليه جان‬
‫دانسيت‪ ،‬وقالت فيه‪" :‬إن ِعظم الخطإ يمكن أن يكون غير مرتهن بأهميته على صعيد البنية‬
‫الكبرى (الموقع من التراتبية) حسب وظيفة الترجمة‪ .‬فإذا كان موضوع الترجمة أن تدفع‬
‫المستقبل إلى اإلتيان بفعل معين‪ ،‬فإن خطأ يقع في عنصر زهيد بالقياس إلى البنية‬
‫الكبرى‪ ،‬كأن يكون‪ ،‬على سبيل التمثيل‪" ،‬الزر األيسر" محل "الزر األيمن" من شأنه أن‬
‫يكون جسيم الخطر‪ .‬وعليه‪ ،‬فال ينبغي االقتصار في بناء تصنيف لألخطاء على أهميتها‬
‫في البنية الكبرى"(‪.)21‬‬

‫التكافؤ مقياس جودة الترجمة‬

‫بعد هذا التفصيل في عناصر تقييم جودة الترجمة‪ ،‬يمكن إجمال المقياس العام في تقييم‬
‫الترجمة في قاعدة عامة هي "التكافؤ"‪ .‬فقد بات عليه معول الدرس الترجمي الحديث‪ ،‬بعد‬
‫أن كانت الترجميات التقليدية تقوم على مطلب "التطابق"‪ ،‬ذلك المراد الخرافي في ظل‬
‫االختالفات اللغوية والثقافية بين اللغات‪ .‬فال عبرة بالبنية الفوقية وال بالبنية الكبرى وال‬
‫بحث التكافؤ بين‬
‫البنية الصغرى في تحليل األصل وترجمته‪ ،‬ما لم يكن الغايةَ منها ُ‬
‫النصين‪ .‬هذا التكافؤ يغيب في ترجمة كتاب مراكش‪ ،‬من أكثر من وجه؛ ليس في كثرة‬
‫أخطائه اللغوية والمعنوية واألسلوبية‪ ،‬فحسب‪ ،‬بل وخاصة في لغته "الفقهية"‪ ،‬التي فعلت‬
‫بالنص األصلي ما أسماه بورخيس ترجمة الترجمة لألصل؛ من حيث يكون األصل أسلس‬
‫واقرب إلى القارئ من ترجمته؛ فكأنما الترجمة هي األصل‪ ،‬واألصل هو الترجمة!!‬

‫وأول ما ينبغي أن ينتبه إليه المترجم‪ ،‬لتالفي الوقوع في "الالَّمعنى"‪ ،‬أن يستند إلى سياقها‬
‫األبعد‪ ،‬ال إلى سياقها األقرب(‪.)22‬‬
‫والبد لفهم التكافؤ في تقييم جودة الترجمة من العودة إلى بعض نماذجه األولية ترجميين‬
‫من مثل يوجين نيدا وبيتر نيومارك خاصة‪.‬‬

‫فلم يغب هذا المفهوم عن الدراسات الترجمية السابقة‪ ،‬وحتى لقد فقد َّ‬
‫عده هيدرون‬
‫غيرزيميش( أربوغاست أقدم المفاهيم في نظرية الترجمة وأكثرها مثاراً للنقد(‪َّ .)23‬‬
‫وعده‬
‫فولفغام فيلس مثاراً للتضارب في اآلراء لكثرة ما حفل به من تعريفات‪ ،‬واعتبره ألبريشت‬
‫النواة لكل نظرية للترجمة(‪.)24‬‬

‫ومن المعلوم أن مفهوم التكافؤ لم يعرف الذيوع الذي صار له في ما بعد‪ ،‬إال بفضل‬
‫التوظيف الذي ُه ِّيء له في كنف الترجمة اآللية‪ ،‬حتى لقد كان فيها قطب الرحى‪ .‬ثم‬
‫استثمرته من بعدها‪ ،‬الترجمة البشرية‪ ،‬فأخذته بمعنى "اإلنصاف"‪.‬‬

‫وتوالت النماذج الترجمية‪ ،‬ناظرةً إلى التكافؤ بمنظورات عدة وتصورات( شتى‪ .‬فقد َّ‬
‫ميز‬
‫يوجين نيدا‪ ،‬في الستينيات‪ ،‬على هدي من المنظور التواصلي‪ (،‬بين "التكافؤ الفعال"‪" :‬الذي‬
‫يؤثَر فيه قارئ الترجمة" و"التكافؤ الشكلي"‪" :‬الذي تؤثَر فيه خصائص النص األصلي‬
‫الشكلية"‪ .‬وسعى بعض الترجميين‪ ،‬في هذه الفترة‪ ،‬إلى تحديد الشروط لوجود التكافؤ؛‬
‫قيام التكافؤ باشتراك األصل وترجمته في‪:‬‬
‫شرط َ‬‫فألفينا طارنوتشي َ‬
‫‪ -‬المحتوى اإلخباري (وظيفة معرفية)؛‬

‫‪ -‬القصد التواصلي (وظيفة تعبيرية)؛‬

‫‪ -‬األثر على المستقبل(‪.)25‬‬

‫َّ‬
‫وميز بيتر نيومارك‪ ،‬في ثمانينيات القرن العشرين‪ ،‬بين "الترجمة التواصلية"‪" (:‬التي ْتؤثر‬
‫القارئ"‪ ،‬و"الترجمة الداللية"‪" :‬التي ْتؤثر المؤلف"‪َّ .‬‬
‫وميز جـ‪ .‬ييغر بين "التكافؤ الفعال"‬
‫و"التكافؤ الوظيفي" الذي أقامه على أساس من الزوج اللساني المحور‪ /‬التعليق‪ ،‬باعتباره‬
‫عتبر التقسيم الذي جاء به كولر أكثر هذه النماذج تفصيالً؛ إذ َّ‬
‫ميز‬ ‫وسيطة تكافؤية‪ .‬لكن ُي َ‬
‫فيه خمسة نماذج‪" :‬التقريري‪ ،‬واإليحائي‪ ،‬والمعياري النصي‪ ،‬والتداولي والشكلي"(إحالة)‪.‬‬
‫وسار بوبوفيتش السيرة نفسها في التكافؤ‪َّ ،‬‬
‫فميز فيه أربعةَ أنواع‪ ،‬هي‪:‬‬

‫أ‪ -‬اللغوي "كلمة كلمة"‪،‬‬


‫ب‪" -‬الجدولي" الذي يقع في العناصر النحوية"‪،‬‬

‫ج‪" -‬األسلوبي" التكافؤ الوظيفي للعناصر للحصول على الوظيفة التعبيرية الواحدة مع أداء‬
‫المعنى الواحد"‪،‬‬

‫د‪ -‬النصي والتركيبي " التكافؤ على صعيد البنية‪ ،‬ونظام النص وشكله"(إحالة)‪.‬‬

‫ثم جاءت هاوزه فوضعت ثمانية معايير لقيام تكافؤ بين األصل وترجمته‪:‬‬

‫أ‪ -‬ينبغي لمستقبِل األصل والترجمة أن يتوفر لهما‪:‬‬

‫‪ -1‬األصل الجغرافي الواحد‪.‬‬

‫‪ -‬أن يكونا من الشريحة االجتماعية الواحدة‪.‬‬

‫‪ -‬أن يكونا في الموقع الزمني الواحد‪.‬‬

‫ب‪ -‬ينبغي للترجمة أن تحترم‪:‬‬

‫‪ -‬الحامل‪ :‬هل النص مكتوب أم شفهي؟‬

‫– المشاركة‪ :‬بسيطة أم معقدة‪ ،‬كما في الحوار‪.‬‬

‫– الدور االجتماعي‪.‬‬

‫‪ -‬الموقف االجتماعي (من خطاب خاص إلى خطاب شكلي)‪.‬‬

‫‪ -5‬النشاط المهني(‪.)26‬‬

‫وجاءت جويل رضوان بتكملة للشرط بـ‪2‬؛ إذ رأت من الضروري( احترام الوظيفة التي‬
‫جزء من الملفوظ‪ ،‬قياساً إلى بقية النص؛ هل هو دليل تصاعد أو دليل هبوط في‬
‫يؤديها ٌ‬
‫التوتر الدرامي؟ أم يعبر عن وقفة فيه؟(‪.)27‬‬

‫ويمكن القول إن هاوزه هي التي حاولت اإلحاطةَ‪ ،‬في مقارنتها بين النص األصلي‬
‫والترجمة‪ ،‬بكافة جوانب الرسالة؛ فنظرت إلى تلك المقارنة من محاور ثالثة‪ :‬مستويات‬
‫اللغة‪ /‬النص‪ ،‬واللهجة‪ /‬الحقل‪ ،‬الجهة والنبرة‪ ،‬والجنس‪ .‬واعتبرت التكافؤ الترجمي من‬
‫المفاهيم األساسية التي يقوم عليها هذا النموذج‪.‬‬
‫يعتبر كذلك معياراً أساسياً‬
‫وزيادة على ما لهذا المفهوم من أهمية مكينة في الترجمة‪ ،‬فإنه َ‬
‫في الحكم على جودة الترجمة‪ .‬وقد َّنبهت هاوزه كذلك إلى أمر مهم في التكافؤ؛ أال وهو‬
‫نسبيته‪ .‬فهو يصدر عن سياق المقام‪ ،‬كما يحدده تفاعل كثير من العوامل المختلفة‪ .‬وليس‬
‫وجود خارج هذا السياق‪ ،‬وهو خاصة شيء ال يمكن التسليم به مسبقاً بقلب رياضي‬
‫ٌ‬ ‫له‬
‫[المترجم] اللغوية‪.‬‬
‫َ‬ ‫لوحدات النص ‪[ 1‬األصلي] اللغوية إلى وحدات النص ‪2‬‬

‫فمن الواضح أن التكافؤ ال يمكن أن ُي َقرن بالتماثالت الشكلية‪ ،‬والتركيبية والمعجمية‬


‫وحدها‪ ،‬ألن أي مفردتين في لغتين مختلفتين تكونان شديدتي االختالف عن بعضهما‪،‬‬
‫الختالف طرائق اللغات في تقطيع الواقع‪ .‬وزيادة على ذلك‪ ،‬فإن استعمال اللغات يستدعي‬
‫بصورة غير مباشرة‪ ،‬تداخالت على كثير من المستويات‪ .‬وهذا ما يجعل التكافؤ الوظيفي‪،‬‬
‫والتداولي( ‪-‬وهو مفهوم لقي المقبولية من اللسانيات التفاضلية أمداً طويالً‪ -‬هو نوع التكافؤ‬
‫المستعمل في‬
‫َ‬ ‫األنسب لوصف العالقات بين األصل والترجمة‪ .‬وهذا كذلك هو نوع التكافؤ‬
‫النموذج الذي جاءت به هاوزه سنة ‪ ،1977‬والقائم على شرط الحفاظ على "المعنى" عبر‬
‫مختلف اللغات والثقافات‪ .‬وهو معنى يأتلف من ثالثة جوانب‪ ،‬لها أهمية خاصة على‬
‫الترجمة‪ :‬الجانب الداللي والجانب التداولي والجانب النصي‪.‬‬

‫حسب هذا التعريف للمعنى‪" ،‬إعادةَ تسييق" للنص في اللغة المترجم منها‬ ‫فتكون الترجمة‪ْ ،‬‬
‫بمكافئ داللي وتداولي في اللغة المترجم إليها؛ ُيحافَط فيها على عنصر الوظيفة‪ .‬فالتكافؤ‬
‫معين‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ِ‬
‫تستعمل نصاً في حدود مقام َّ‬ ‫ال يكون إال وظيفياً؛ والوظيفة في التكافؤ أن‬
‫فإن نصين يكونان متكافئين إذا كانت وظيفتاهما متكافئتين‪.‬‬

‫بيد أن مفهوم التكافؤ‪ ،‬الذي جاءت به هاوزه‪ ،‬يظل‪ ،‬على الرغم من تلك المكونات كلها‬
‫التي جعلتها له‪ ،‬وبسطت فيها الحديث‪ ،‬مفهوماً متعالياً‪ ،‬يفتقر إلى اآلليات التنسيبية التي‬
‫تجعله قابالً للتطبيق على النصوص‪ .‬ولذلك زاد إليه الروز مفهومين على سبيل التحديد‪.‬‬
‫أولهما مفهوم "المستوى"‪ ،‬أو "درجة الترجمة"؛ أي درجة فهم ناتِج الترجمة‪ ،‬وثانيهما هو‬
‫"الغرض من الترجمة" ولذلك‪ ،‬فإن عملية تقييم جودة الترجمة ينبغي أن تنطبق على كل‬
‫هدفي المؤلف والمترجم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مستوى على حدة‪ ،‬محتكمة إلى ُبغيتها األولى واألخيرة؛ تكافؤ‬
،‫فإن اختالف هدفيهما دليل على أن مسخاً شاب وظائف النص عند مروره بقناة الترجمة‬
.‫ من نسيج النص‬،‫مما سيغير المحالة‬

)"‫(مترجم ومدير مجلة "ترجميات‬

***

‫الهوامش‬
(1) Robert Larose, "Qualité et Žefficacité en traduction: réponse à F. W. Sixel", Meta, vol. XXXIX, n° 2, 1994,
362.

‫ وإ لى إقامة التقييم( الترجمي على‬،‫ إلى اإلقالع عن التصورات التقليدية التي سادت تقييم الترجمات‬، ً‫ دعوة لحوحا‬،‫) لذلك دعا دانييل غواديك‬2(
:‫ رآها الروز انعكاساً لتأثر غواديك بالرياضيات‬،‫أسس صارمة من الموضوعية‬

Daniel Gouadec, "Paramètres de l’'évaluation des traductions", Meta, vol. XXVI, n° 2, 1981, p. 99-100.

(3) D. Gouadec, "Comprendre, évaluer, prévenir, pratique, enseignement et recherche face à l'erreur et la faute
en traduction", TTR., op. cit., p. 35.

(4) Robert Larose, op. cit., p. 292.

(5) Robert Larose, «La traduction à quatre roues », Meta, Vol. 40, N° 3, septembre 1995, pp. 406-408.

(6) Robert Larose, op. cit.

(7) Sara Viola Rodrigues, "Translation quality: a Housian analysis", Meta, vol. XLI, n° 2, 1996, p. 224.

(8) ibid., p. 222.

(9) Kintsc, W. & Van Djik, T. A., "Comment on se rappelle et on résume les histoires", Langages, n° 40, pp.
89-116.

(10) Larose, op. cit., pp. 229230.

(11) Van Djik, "On the Notion of an Analytical Unit of Translation", Babel, Paris, SFT, n° 100, 1982, pp. 115-
153.

‫ ) ذلك بأن الخاصية النصية التي تتعلق بالبنية الفوقية أو بالبنية الكبرى تكون أكثر "تمييزاً وفارقية" من الخاصية التي تتعلق بالبنية‬12(
.‫ بحكم أن البنية الفوقية والبنية الكبرى تحتالن مستوى نصياً أعلى من مستوى البنية الصغرى‬،‫الصغرى‬

(13) R. Larose, op. cit., p. 237.

(14) D. Gouadec, "Comprendre, évaluer, prévenir, pratique, enseignement et recherche face à l'erreur et la
faute en traduction, op. cit., p. 35.

(15) R. Larose, "L'erreur en traduction", op. cit., p. 7.


(16) D. Gouadec, op. cit., p. 38.

(17) R. Larose, Théories, op. cit., p. 253.

(18) ibid., p.237.

‫ والمقام الذي يحتل من بنية‬،‫ "إن جسامة اإلخفاق في الترجمة تكون حسب العنصر الذي يمسه هذا اإلخفاق‬:‫ ) كتب الروز في هذا الصدد‬19(
:"Œ‫النص‬

R. Larose, op. cit., p. XVII.

:‫) انظر هذه الصنافة لدى روبير الروز في‬20(

(21) Jeanne Dancette, "La faute de sens en traduction", TTR, vol. 2, n° 2, 2ème semestre 1989, p. 91.

(22) ibid., p. 279.

(23) Heidrun Gerzymisch-Arbogast, « Equivalence parameters and evaluation», Meta, vol. XLVI, p. 2001, p.
228.

(24) Heidrun Gerzymisch-Arbogast, op. cit., p. 117.

(25) J. Redoune, op. cit., p. 117.

(26) J. Redoune, op. cit., p. 115-116.

(27) ibid., p. 115-116.

You might also like