You are on page 1of 2

‫السؤال‬

‫بعد أن من هللا علي وأنعم علي بالتوب ة ـ أس أل هللا أن يتقبله ا م ني ـ ش عرت بع دها براح ة‬
‫نفسية عجيبة وكأن هموم الدنيا كلها كانت على قلبي فانزاحت‪ ،‬ثم زهدت في الدنيا‪ ،‬صغرت‬
‫الدنيا في عيني حتى أصبحت أراها ال شيء‪ ،‬واتجه قلبي وتفكيري لآلخرة ورضى هللا تعالى‬
‫رق قلبي كثيراً وأصبحت عيني تدمع عند سماع القرآن وعند سماع المواعظ وعند الذكر وفي‬
‫الص الة‪ ،‬ثم ش عرت بع دها براح ة وس كينة وطمأنين ة عجيب ة‪ ،‬أنظ ر إلى الس ماء وأتفك ر في‬
‫خلقها وأنظر إلى جسدي وأتفكر وأقول سبحان هللا‪ ،‬انعزلت أصبحت أخرج وأجلس في مك ان‬
‫وحدي وأتفكر كل يوم وأتذكر النبي صلى هللا علي ه وس لم عن دما ك ان ي ذهب إلى غ ار ح راء‬
‫ويتفكر‪ ،‬ففرحت بهذا وقلت‪ :‬لعل هللا أراد بي خ يراً وهداي ة إلى الح ق‪ ،‬وك ان ذل ك في بداي ة‬
‫الهداية‪ ،‬وأرى الناس تتنافس على الم ال وعلى الوظ ائف‪ ،‬وأن ا ال أمل ك ش يئا ولك ني أش عر‬
‫بالغنى في قلبي فأشعر بأني غني باهلل سبحانه وتع الى وال أش عر ب أي إقب ال على ال دنيا‪،‬‬
‫فكيف أحافظ على هذا الشعور؟ حيث إنني أخاف أن يذهب مني وأدعو دائم اً أن يزي دني هللا‬
‫زهداً في الدنيا وأن يجعل قلبي مقبال ً علي‪ ،‬وأن يثبتني على الحق‪ ،‬ولكن هل هن اك أس باب‬
‫آخذ بها للحفاظ على ذلك؟‪.‬‬

‫اإلجابــة‬

‫الحمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا وعلى آله وصحبه‪ ،‬أما بعد‪ :‬‬

‫فنس أل هللا أن يزي دك حرص ا على الخ ير ورغب ة في ه‪ ،‬ثم اعلم أن س بيل المحافظ ة على م ا‬
‫تشعر به أن تعلم أن القلب ال يقف عند حال واحدة أبدا‪ ،‬فإن لم تقبل به على الطاعة وتشغله‬
‫بما ينفع ه اش تغل بض د ذل ك‪ ،‬وإن لم تجته د في الص عود ب ه هب ط ب ك وال ب د‪ ،‬وال يتم للعب د‬
‫مقصوده من االستقامة على الشرع والزهد في الدنيا واإلقبال على اآلخ رة إال ب أمور‪ ،‬فمنه ا‬
‫دوام محاس بة النفس والتفك ر في عيوبه ا والح ذر من العجب أن يتس لل إلى نفس ه فيحب ط‬
‫عمله وهو ال يشعر‪ ،‬فيستحض ر العب د تقص يره وتفريط ه في جنب رب ه‪ ،‬وأن م ا ي أتي ب ه من‬
‫الطاعة ليس شيئا بجانب فضل ربه عليه وما يس توجبه من ه‪ ،‬وأن ه ال نج اة ل ه إال برحم ة هللا‬
‫وأن ه ل و وك ل إلى نفس ه لوك ل إلى ض عف وعيل ة‪ ،‬فيحاس ب نفس ه كم ا يحاس ب الش ريك‬
‫الخوان‪ ،‬يقول‪ ‬ابن القيم‪ ‬رحمه هللا‪ :‬وقد مثلت النفس مع ص احبها بالش ريك في الم ال‪ ،‬فكم ا‬
‫أنه ال يتم مقصود الشركة من الربح إال بالمشارطة على ما يفعل الشريك أوال‪ ،‬ثم بمطالعة ما‬
‫يعمل‪ ،‬واإلشراف عليه ومراقبته ثانيا‪ ،‬ثم بمحاسبته ثالثا‪ ،‬ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع علي ه‬
‫رابعا‪ ،‬فكذلك النفس‪ :‬يشارطها أوال على حفظ الجوارح التى حفظه ا ه و رأس الم ال‪ ،‬وال ربح‬
‫بعد ذلك‪ ،‬فمن ليس ل ه رأس م ال فكي ف يطم ع في ال ربح‪ ...‬ف إذا ش ارطها على حف ظ ه ذه‬
‫الجوارح انتق ل منه ا إلى مطالعته ا واإلش راف عليه ا ومراقبته ا‪ ،‬فال يهمله ا‪ ،‬فإن ه إن أهمله ا‬
‫لحظة رتعت في الخيانة وال ب د‪ ،‬ف إن تم ادى على اإلهم ال تم ادت في الخيان ة ح تى ُت ذهب‬
‫رأس المال كله‪ ،‬فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة‪ ،‬فحينئذ يت بين ل ه حقيق ة ال ربح‬
‫س بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يس تدركه الش ريك من ش ريكه‪ :‬من‬ ‫ح َّ‬
‫والخسران فإذا أ َ‬
‫الرجوع عليه بما مضى‪ ،‬والقيام بالحفظ والمراقب ة في المس تقبل‪ ،‬وال مطم ع ل ه في فس خ‬
‫عقد الشركة م ع ه ذا الخ ائن‪ ،‬واالس تبدال بغ يره‪ ،‬فإن ه ال ب د ل ه من ه فليجته د في مراقبت ه‬
‫ومحاسبته‪ ،‬وليحذر من إهماله‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫ومنه ا دوام ت ذكر الجن ة وم ا أع د هللا ألهله ا من الكرام ة والن ار وم ا أع د ألهله ا من الخ زي‬
‫والنكال‪ ،‬فإن الفكرة فيهما من أعظم بواعث االجتهاد في العب ادة والزه ادة في ال دنيا وف راغ‬
‫القلب منه ا‪ ،‬ومنه ا إدم ان الفك رة في حق ارة ال دنيا وض آلتها وأنه ا ال تس اوي عن د هللا جن اح‬
‫بعوضة‪ ،‬فيرغب العاقل بنفسه عن أن ينافس فيما ه ذا ش أنه‪ ،‬وين أى عن أن يك ون ممن ب اع‬
‫آخرته بع رض من ال دنيا قلي ل‪ ،‬يق ول‪ ‬ابن القيم‪ :‬ولم ا علم الموفق ون م ا خلق وا ل ه وم ا أري د‬
‫بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فش مروا إلي ه‪ ،‬وإذا ص راطها المس تقيم‬
‫قد وضح لهم فاس تقاموا علي ه‪ ،‬ورأوا من أعظم الغبن بي ع م ا ال عين رأت وال أذن س معت وال‬
‫خطر على قلب بشر في أبد ال يزول وال ينفد بصبابة عيش إنما هو كأض غاث أحالم‪ ،‬أو كطي ف‬
‫زار في المنام‪ ،‬مشوب بالنغص‪ ،‬ممزوج بالغصص‪ ،‬إن أض حك قليال أبكى كث يرا وإن س ر يوم ا‬
‫أحزن شهورا‪ ،‬آالمه تزيد على لذّاته‪ ،‬وأحزانه أضعاف مسراته‪ ،‬أوله مخاوف وآخره مت الف‪ ،‬في ا‬
‫عجبا من سفيه في صورة حليم ومعتوه في مسالخ عاقل آث ر الح ظ الف اني الخس يس على‬
‫الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها الس ماوات واألرض بس جن ض يق بين أرب اب العاه ات‬
‫والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها األنهار بأعطان ض يقة آخره ا الخ راب‬
‫والب وار‪ ،‬وأبك ارا عراب ا أتراب ا ك أنهن الي اقوت والمرج ان بق ذرات دنس ات س يئات األخالق‬
‫مسافحات أو متخذات أخدان‪ ..‬إلى آخر كالمه رحمه هللا‪.‬‬
‫ومن هذه األسباب المعين ة على زي ادة اإليم ان والزه د في ال دنيا واإلقب ال على اآلخ رة دوام‬
‫الفكرة في أسماء الرب تعالى وص فاته‪ ،‬فإن ه ب اب من فتح ل ه وولج من ه أش رقت على قلب ه‬
‫ه أَ ْن َ‬
‫وا ُر آثَ ا ِر‬ ‫ش َرقَ عَ لَى َ‬
‫ق ْلبِ ِ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫َص ُّ‬
‫ح إِاَّل لِ َ‬ ‫ِم اَل ت ِ‬ ‫ع َزائ ُ‬ ‫ذ ِه ا ْل َ‬ ‫ه ِ‬ ‫أنوار المسرات‪ ،‬يق ول‪ ‬ابن القيم‪َ  :‬و َ‬
‫ِين بِ َها‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫َةُ‬
‫ق‬ ‫ِي‬ ‫ق‬‫ح‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َا‬
‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ِي‬ ‫ن‬ ‫معَا‬ ‫َّت عَ لَ ْي ِ‬
‫ه َ‬ ‫جل ْ‬‫صّفَاتِ‪َ ،‬وتَ َ‬
‫ما ِء َوال ِ‬ ‫اأْل َ ْ‬
‫س َ‬

‫ومنها االجتهاد في العبادات واألخذ منها بنصيب وافر‪ ،‬فإن هللا إنم ا ش رعها لم ا يحص ل للقلب‬
‫به ا من النعيم والراح ة ولم ا ل ه فيه ا من المص لحة العظيم ة‪ ،‬ق ال العالم ة ‪ ‬ابن القيم‪ ‬علي ه‬
‫الرحم ة‪ :‬والمقص ود باألعم ال كله ا ظاهره ا وباطنه ا إنم ا ه و ص الح القلب وكمال ه وقيام ه‬
‫بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه ومن تم ام ذل ك قيام ه ه و وجن وده في حض رة معب وده‬
‫وربه‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫فإذا استعملت ما مر مع الح ذر من الش يطان ومك ره والعلم بعداوت ه الدائم ة لجنس اإلنس ان‬
‫وأنه ال يكف عن محاربته والحذر كذلك من شياطين اإلنس واالجتهاد في االبتهال والتضرع هلل‬
‫سبحانه رجي أن تنال مقصودك من القرب من هللا تعالى وتدوم لقلبك لذته باألنس ب ه وح ده‬
‫واإلقبال عليه دون ما سواه‪ ،‬نسأل هللا أن يذيقنا وإياك حالوة اإليمان‪.‬‬

‫وهللا أعلم‪.‬‬

You might also like