You are on page 1of 308

0

‫هذا الكتاب‬
‫يحاول هذا الكتاب ـ من خالل األدلة والوثائق الكثيرة ـ إثب ات ج انبين‬
‫مهمين في إيران عبر مسيرتها التاريخية‪ ،‬وواقعها الحالي‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫أوال ـ بيان أن اإليرانيين مسلمون من ذ الفتح األول‪ ،‬لم ي تزحزحوا عن‬
‫إسالمهم شعرة واحدة‪ ،‬وأن إسالمهم ك ان ص ادقا كم ا أخ بر رس ول هللا ‪،‬‬
‫وأنهم لم يتآمروا على اإلسالم بتحريف أحكام ه‪ ،‬وال على المس لمين ب إعالن‬
‫الحرب عليهم‪ ،‬كما يزعم المغرضون‪.‬‬
‫وذكرنا في الكتاب الكثير من التجليات والشواهد والبراهين الدالة على‬
‫ذل ك‪ ،‬ابت داء من اهتم امهم ب القرآن الك ريم ق راءة وتفس يرا وتفعيال في ك ل‬
‫جوانب الحياة‪ ..‬ومثله اهتمامهم بسنة رسول هللا ‪ ‬بحسب م ا وص لت إليهم‬
‫نصوصها‪ ،‬وأنهم ألج ل ذل ك مؤمن ون بعقائ د اإلس الم‪ ،‬ومنف ذون لش رائعه‪،‬‬
‫ومتحل ون بقيم ه األخالقي ة والروحي ة والحض ارية‪ ،‬م ا اس تطاعوا إلى ذل ك‬
‫سبيال‪.‬‬
‫ثانيا ـ بيان أن إيران لم تتمسك بدينها تمس كا أناني ا‪ ،‬احتكرت ه لنفس ها‪،‬‬
‫وإنما راحت تستعمل كل الوسائل لخدمة اإلسالم والمسلمين ابتداء من الق رن‬
‫األول‪ ،‬حيث ك انت أرض ها منبع ا لك ل العل وم اإلس المية‪ ،‬ومحال لتدريس ها‬
‫والكتابة فيها‪.‬‬
‫ففيها ظهرت أكبر تفاسير القرآن الكريم‪ ،‬وأكثر مجامع السنة النبوي ة‪،‬‬
‫ومعظم ما كتب في العقيدة والفق ه واألخالق والعرف ان‪ ،‬وك ل العل وم العقلي ة‬
‫والكونية‪.‬‬
‫وفيها كانت المدارس التي نشأ فيها كبار العلماء‪ ،‬وتتلمذت فيها أجي ال‬
‫طويلة من المس لمين‪ ،‬ال ذين اس تقر بهم اإلس الم‪ ،‬وامت د في األرض‪ ،‬لينش ر‬
‫هداية هللا‪ ،‬ويلبس في كل عصر اللباس الذي يتناسب معه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫هذه إيران ‪ ..‬وهذا مشروعها‬

‫( ‪)1‬‬

‫إيران ‪ ..‬دين وحضارة‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪ 1439‬ـ ‪2018‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



‫فهرس المحتويات‬
‫‪7‬‬ ‫مقدمة السلسلة‬
‫‪15‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬
‫‪19‬‬ ‫إيران‪ ..‬والقرآن الكريم‬
‫‪22‬‬ ‫أوال ـ تقديس القرآن الكريم والتأثر به‪:‬‬
‫‪30‬‬ ‫ثانيا ـ االهتمام بتفسير القرآن الكريم وعلومه‪:‬‬
‫‪41‬‬ ‫ثالثا ـ االهتمام بتفعيل القرآن الكريم في الحياة‪:‬‬
‫‪57‬‬ ‫رابعا ـ االهتمام برد الشبهات عن القرآن الكريم‪:‬‬
‫‪69‬‬ ‫إيران‪ ..‬والسنة النبوية‬
‫‪72‬‬ ‫أوال ـ تعظيم اإليرانيين لرسول هللا ‪:‬‬
‫‪83‬‬ ‫ثانيا ـ اهتمام اإليرانيين بسنة رسول هللا ‪:‬‬
‫‪85‬‬ ‫‪ 1‬ـ المحدثون بنيسابور‪:‬‬
‫‪91‬‬ ‫‪ 2‬ـ المحدثون بأصفهان‪:‬‬
‫‪96‬‬ ‫‪ 3‬ـ المحدثون بطهران‪:‬‬
‫‪102‬‬ ‫‪ 4‬ـ المحدثون بقزوين‪:‬‬
‫‪103‬‬ ‫‪ 5‬ـ المحدثون بطوس‪:‬‬
‫‪107‬‬ ‫‪ 6‬ـ المحدثون بشيراز‪:‬‬
‫‪109‬‬ ‫ثالثا ـ عمل اإليرانيين بسنة رسول هللا ‪:‬‬
‫‪124‬‬ ‫إيران ‪ ..‬والعقيدة اإلسالمية‬
‫‪127‬‬ ‫أوال ـ تمسك اإليرانيين بالعقائد اإلسالمية‬
‫‪133‬‬ ‫‪ 1‬ـ فرية الغلو في األئمة‪:‬‬
‫‪140‬‬ ‫‪ 2‬ـ فرية القول بتحريف القرآن الكريم‪:‬‬
‫‪141‬‬ ‫أ ـ رد علماء السنة على هذه الفرية‪:‬‬
‫‪147‬‬ ‫ب ـ روايات التحريف وكتب المدرسة السنية‪:‬‬
‫‪150‬‬ ‫‪ 3‬ـ فرية الموقف من الصحابة‪:‬‬
‫‪161‬‬ ‫النموذج األول‪ :‬الموقف من اتهام أم المؤمنين عائشة‪:‬‬
‫‪164‬‬ ‫النموذج الثاني‪ :‬الموقف من الفيلم المسيء للصحابة‬
‫‪166‬‬ ‫‪ 4‬ـ فرية الموقف من البداء‪:‬‬
‫‪175‬‬ ‫‪ 5‬ـ فرية التقية وعالقتها بالنفاق‪:‬‬
‫‪176‬‬ ‫أ ـ حفظ الوحدة اإلسالمية‪:‬‬
‫‪181‬‬ ‫ب ـ حفظ الدعاة إلى اإلسالم‪:‬‬
‫‪188‬‬ ‫ثانيا ـ نصرة اإليرانيين للعقيدة اإلسالمية‬
‫‪189‬‬ ‫‪ 1‬ـ علماء العقيدة من المدرسة السنية‪:‬‬
‫‪190‬‬ ‫المتكلمون من طهران‪:‬‬
‫‪191‬‬ ‫المتكلمون من نيسابور‪:‬‬
‫‪196‬‬ ‫المتكلمون من أصفهان‪:‬‬
‫‪199‬‬ ‫المتكلمون من شيراز‪:‬‬
‫‪201‬‬ ‫المتكلمون من شهرستان‪:‬‬
‫‪202‬‬ ‫المتكلمون من طوس‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫‪205‬‬ ‫‪ 2‬ـ علماء العقيدة من المدرسة الشيعية‪:‬‬
‫‪218‬‬ ‫إيران ‪ ..‬والشريعة اإلسالمية‬
‫‪219‬‬ ‫أوال ـ تمسك اإليرانيين بالشريعة اإلسالمية‪:‬‬
‫‪224‬‬ ‫‪ 1‬ـ الرجوع للفقهاء المجتهدين للتعرف على األحكام الشرعية‪:‬‬
‫‪231‬‬ ‫‪ 2‬ـ شمولية الشريعة لكل جوانب الحياة‪:‬‬
‫‪241‬‬ ‫ثانيا ـ خدمة اإليرانيين للشريعة اإلسالمية‪:‬‬
‫‪242‬‬ ‫‪ 1‬ـ إيران ‪ ..‬والمدرسة الشافعية‪:‬‬
‫‪253‬‬ ‫‪ 2‬ـ إيران ‪ ..‬والمدرسة الحنفية‪:‬‬
‫‪257‬‬ ‫‪ 3‬ـ إيران ‪ ..‬والمدرسة المالكية‪:‬‬
‫‪260‬‬ ‫‪ 4‬ـ إيران ‪ ..‬ومدرسة الحنابلة‪:‬‬
‫‪262‬‬ ‫‪ 5‬ـ إيران‪ ..‬والمدارس السنية األخرى‪:‬‬
‫‪266‬‬ ‫‪ 6‬ـ إيران‪ ..‬والمدرسة الشيعية‪:‬‬
‫‪281‬‬ ‫إيران ‪ ..‬والقيم الروحية‬
‫‪285‬‬ ‫أوال ـ اهتمام اإليرانيين بالشعائر التعبدية‪:‬‬
‫‪286‬‬ ‫‪ 1‬ـ االهتمام بالصالة وأبعادها الروحية‪:‬‬
‫‪299‬‬ ‫‪ 2‬ـ االهتمام بقراءة القرآن الكريم وتدبره‪:‬‬
‫‪308‬‬ ‫‪ 3‬ـ االهتمام بالدعاء والذكر‪:‬‬
‫‪322‬‬ ‫‪ 4‬ـ االهتمام بالحج والزيارات وأبعادها الروحية‪:‬‬
‫‪329‬‬ ‫ثانيا ـ اهتمام اإليرانيين بالسلوك التحققي‪:‬‬
‫‪341‬‬ ‫ثالثا ـ اهتمام اإليرانيين باألذواق والمعارف الروحية‪:‬‬
‫‪342‬‬ ‫‪ 1‬ـ نماذج عن اهتمام سلف اإليرانيين بالعرفان‪:‬‬
‫‪348‬‬ ‫‪ 2‬ـ نماذج عن اهتمام المتأخرين من اإليرانيين بالعرفان‪:‬‬
‫‪351‬‬ ‫‪ 3‬ـ نماذج عن اهتمام قادة الجمهورية اإلسالمية اإليرانية بالعرفان‪:‬‬
‫‪359‬‬ ‫إيران ‪ ..‬والقيم األخالقية‬
‫‪360‬‬ ‫أوال ـ القيم األخالقية والتراث اإليراني‪:‬‬
‫‪361‬‬ ‫‪ 1‬ـ التراث الفلسفي واألخالق‪:‬‬
‫‪367‬‬ ‫‪ 2‬ـ التراث الديني واألخالق‪:‬‬
‫‪372‬‬ ‫ثانيا ـ القيم األخالقية والواقع اإليراني‪:‬‬
‫‪372‬‬ ‫‪ 1‬ـ القيم األخالقية والواقع االجتماعي‪:‬‬
‫‪376‬‬ ‫أ ـ المؤسسات الدينية ودورها في نشر القيم األخالقية‪:‬‬
‫‪385‬‬ ‫ب ـ المؤسسات المدنية ودورها في نشر القيم األخالقية‪:‬‬
‫‪393‬‬ ‫‪ 2‬ـ القيم األخالقية والواقع السياسي‪:‬‬
‫‪405‬‬ ‫إيران ‪ ..‬والقيم الحضارية‬
‫‪408‬‬ ‫أوال ـ إيران واالنفتاح الحضاري‪:‬‬
‫‪409‬‬ ‫‪ 1‬ـ المتقدمون من اإليرانيين واالنفتاح الحضاري‪:‬‬
‫‪415‬‬ ‫‪ 2‬ـ المتأخرون من اإليرانيين واالنفتاح الحضاري‪:‬‬
‫‪423‬‬ ‫ثانيا ـ إيران‪ ..‬واإلبداع الحضاري‪:‬‬
‫‪427‬‬ ‫‪ 1‬ـ اإليرانيون واإلبداع في العلوم اللغوية واألدبية‪:‬‬
‫‪436‬‬ ‫‪ 2‬ـ اإليرانيون واإلبداع في العلوم العقلية‪:‬‬
‫‪443‬‬ ‫‪ 3‬ـ اإليرانيون واإلبداع في العلوم الكونية‪:‬‬
‫‪454‬‬ ‫ثالثا ـ اإليرانيون‪ ..‬وتصدير الحضارة‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫‪465‬‬ ‫رابعا ـ إيران والحوار بين الحضارات‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة السلسلة‬
‫يخطئ الكث ير من الن اس حين يتص ورون أن مط امع أع داء األم ة اإلس المية‬
‫محصورة فقط في فلسطين أو في القدس أو في بعض تلك المدن ال تي ك انت وال ت زال‬
‫قبلة لألحرار في العالم‪.‬‬
‫فالجشع االستعماري والحقد الغربي ال يكتفي بتلك الدولة‪ ،‬وال بتل ك الم دن ال تي‬
‫تتشكل منها‪ ،‬وإنما يمد يد مطامع ه وأحق اده إلى جمي ع بالد الع الم اإلس المي‪ ،‬ليلتهمه ا‬
‫دولة دولة‪ ،‬ومدينة مدينة‪ ،‬وشارعا شارعا‪.‬‬
‫وهو يستعمل لكل دولة أو مدينة أسلوبه ووسائله وذرائعه الخاصة‪ ..‬فق د ض رب‬
‫بغداد التي كانت عاص مة الحض ارة والثقاف ة اإلس المية لق رون عدي دة‪ ،‬ع بر اس تعداء‬
‫إخوانها من المدن العربية‪ ،‬ومن خالل قواعده فيه ا نش ر الخ راب وال دمار‪ ،‬وال ي زال‬
‫ينشر الفتنة‪ ،‬وبأياد وأم وال عربي ة تك ذب على نفس ها حين تتص ور أنه ا م ع فلس طين‬
‫والقدس‪ ،‬ويستحيل أن يكون مع فلسطين والقدس من لم يكن مع العراق وبغداد والنجف‬
‫وكربالء‪ ،‬وكل تلك المدن المضمخة بعطر العلم واإليمان والحضارة‪.‬‬
‫ض ربت س ورية ب أموال عربي ة‪ ،‬وبمرتزق ة ع رب‪ ،‬يتوهم ون أنهم م ع‬ ‫وهك ذا ُ‬
‫قضايا األمة‪ ،‬مع كونهم أشد أع دائها‪ ،‬ش عروا ب ذلك أو لم يش عروا‪ ..‬ح تى اإلس الميون‬
‫الذين يشنعون على العدو الصهيوني ضربه لغزة والضفة الغربية‪ ،‬راحوا يب اركون ل ه‬
‫وألمريكا وكل الدول اإلمبريالية الغربية ضربها لدمشق وحلب وحمص‪ ،‬تلك المراك ز‬
‫الكبرى للحضارة اإلسالمية‪ ،‬ولقرون طويلة‪.‬‬
‫وهك ذا نج د أع داء األم ة يس تخدمون أولئ ك المغفلين من الع رب والمس لمين‬
‫لينهشوا كل مرة قطعة جديدة من أرض الع الم اإلس المي‪ ،‬ويرك زون بص ورة خاص ة‬
‫على العواصم الحض ارية ال تي ك انت بمثاب ة المن ارات ال تي أض اءت للبش رية قرون ا‬
‫طويلة‪ ،‬ولذلك يريدون أن تنكس أعالم تلك المنارات‪ ،‬حتى ال يمتد ضياؤها أو يعود لها‬
‫بريقها وإشعاعها‪.‬‬
‫ومن تل ك ال دول ال تي ال يمكن ألح د أن يس تبعد دوره ا المهم في الت اريخ‬
‫والحضارة اإلس المية (الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة)‪ ..‬تل ك الدول ة ال تي ال تح وي‬
‫مركزا واحدا فقط من مراكز الحضارة‪ ،‬بل تحوي مراكز كثيرة جدا‪ ..‬فهي البالد ال تي‬
‫تضم أصفهان وشيراز وقم ومشهد ونيسابور وطهران وكاشان والكثير من المدن ال تي‬
‫ي تربع في ك ل ش بر منه ا فقي ه أو مح دث أو مفس ر أو أديب أو ط بيب أو فلكي أو‬
‫كيميائي‪ ..‬ويتربع في كل قطعة منها أثر من آثار الحض ارة اإلس المية‪ ،‬والقيم العظيم ة‬
‫المرتبطة بها‪.‬‬
‫ولذلك كانت الحمالت الشديدة عليها‪ ،‬ال من أمريكا أو إس رائيل وح دهما‪ ،‬وإنم ا‬
‫من أولئك العرب المغفلين الذين راحوا يشوهون إيران‪ ،‬وي دعون المت آمرين لض ربها‪،‬‬
‫ولم يكتفوا بذلك‪ ،‬بل راحت ك ل وس ائل إعالمهم تش يطنها ب دل أن تش يطن أمريك ا‪ ،‬أو‬

‫‪6‬‬
‫العدو الصهيوني‪.‬‬
‫وإن نسينا فلن ننسى أب دا ذل ك الموق ف ال ذي وقف ه الس لفيون والحركي ون‪ ،‬حين‬
‫عق دت بعض االتفاق ات في مص ر لفتح المج ال للزي ارات الس ياحية المش تركة بين‬
‫طهران والقاهرة‪ ،‬حينها راح السلفيون من معهم من الحركيين يدعون إلى ال ذهاب إلى‬
‫المطارات‪ ،‬ومنع كل سائح إيراني من الدخول إلى مصر‪ ،‬في نفس الوقت ال ذي ي دخل‬
‫فيه اإلسرائليون واألمريكيون‪ ،‬وعبدة الشياطين والهييز‪ ..‬وكل من هب ودب‪.‬‬
‫ولن ننسى أب دا تل ك القن وات ال تي ال هم له ا إال تص وير إي ران بكونه ا ش يطانا‬
‫أكبر‪ ،‬وأنه ال غرض لها إال هدم األمة‪ ،‬وتفري ق ص فها‪ ،‬واس تعمار أرض ها‪ ،‬والهيمن ة‬
‫على خيراتها‪ ،‬في نفس الوقت الذي نرى فيه تلك الخيرات توهب هكذا مجانا‪ ،‬وبمئ ات‬
‫الماليير من الدوالرات لترامب وزوجته وابنته‪ ..‬وكل المقربين أو المبعدين منه‪.‬‬
‫وقد بدأت هذه الحملة منذ لبست إيران لقب (الجمهورية اإلسالمية)‪ ،‬حينه ا فق ط‬
‫تحولت إلى مشروع مجوسي وصفوي وفارسي‪ ،‬أما قبل ذلك‪ ،‬فق د ك انوا مق ربين ج دا‬
‫منها يستقبلون الشاهنشاهات باألحضان‪ ،‬ويرفضون أي إساءة لهم‪ ،‬لسبب بسيط ه و أن‬
‫أولئك الشاهنشات كانوا أصدقاء ألمريكا وإسرائيل والغرب‪.‬‬
‫ولذلك كان الواجب على كل مس لم أن يق ف في وج ه ه ذه الم ؤامرات الموجه ة‬
‫للعالم اإلسالمي‪ ،‬ولمراكز الحضارة فيه‪ ،‬فالغرب ال يستهدف فقط دينن ا وقيمن ا‪ ،‬وإنم ا‬
‫يستهدف كذلك أرضنا‪ ،‬ويستعمل بعضنا بعضا وسيلة لتحقيق ذلك‪.‬‬
‫وبناء على هذا حاولت في هذه السلسلةأن أق وم بواج بي الش رعي في ال ذب عن‬
‫ه ذه القطع ة المبارك ة‪ ،‬ال تي ال يمكن أن أنك ر دوره ا العظيم علي وعلى جمي ع‬
‫المسلمين‪ ..‬فأكثر التراث اإلسالمي الفقهي واألدبي واللغوي والصوفي جاءنا منها‪.‬‬
‫وأذكر أن من أوائ ل كتب األدب ال تي ش غفت به ا كت اب (األغ اني)‪ ،‬ألبي ف رج‬
‫األصفهاني‪ ،‬وهو من أصفهان اإليرانية‪ ..‬وهكذا كان من أوائل الشخصيات التي ق رأت‬
‫كل كتبها‪ ،‬وامتألت تعظيما لها‪ ،‬وأنا ال أزال شابا يافع ا‪ ،‬أب و حام د الغ زالي‪ ،‬وه و من‬
‫طوس‪ ،‬وقبره قريب من مقام اإلمام الرضا في مشهد‪ ...‬ومثل ه الفيض الكاش اني‪ ،‬وه و‬
‫من كاشان‪ ،‬ومثلهما فريد الدين العطار وأشعاره الجميل ة‪ ،‬وه و من نيس ابور ‪ ..‬وهك ذا‬
‫ك ان أك ثر األعالم ال ذين تتلم ذنا على أي ديهم من ص وفية وفقه اء وش عراء ومح دثين‬
‫ومفسرين من تلك البالد الممتلئة بالجمال والقيم الرفيعة‪.‬‬
‫لكن مع ذلك كله‪ ،‬وفجأة‪ ،‬ومن غير مق دمات تح ولت إي ران من تل ك البالد ال تي‬
‫تضم أكبر مراكز الحضارة‪ ،‬وأكثر محاضن العلم والمعرفة‪ ،‬ومهد المدارس اإلسالمية‬
‫بجميع تفرعاتها‪ ،‬إلى بلد المؤامرات على اإلسالم والمسلمين‪ ،‬وطيلة تاريخها‪.‬‬
‫حيث حولته ا الكث ير من األقالم الم أجورة‪ ،‬ومعه ا المؤسس ات اإلعالمي ة‬
‫الض خمة‪ ،‬ومعهم ا س يل كب ير من المغفلين الط ائفيين ال ذين أعمتهم األحق اد عن أن‬
‫يبص روا الحق ائق؛ فراح وا يش ككون في إس الم إي ران‪ ،‬ويطرح ون بين ع وام الن اس‬
‫وخواصهم أن اإليرانيين ليسوا سوى مجوس تستروا باإلسالم ليقضوا عليه‪.‬‬
‫وراحوا يبتدعون في سبيل ذلك الكثير من المص طلحات الغريب ة ال تي لم نس مع‬

‫‪7‬‬
‫به ا طيل ة الت اريخ اإلس المي من أمث ال‪( :‬المش روع الص فوي)‪ ،‬و(اإلمبراطوري ة‬
‫الفارسية) و(الف رس المج وس) و(الخطرالفارس ي) و(ج اء دور المج وس)‪ ،‬وغيره ا‪،‬‬
‫وهي من الكثرة بحيث ال تحتاج أي توثيق‪ ،‬ألن الجميع صار يسمعها ويرددها من غير‬
‫أن يحاول التأكد منه ا‪ ،‬أو التثبت من معانيه ا‪ ،‬ذل ك أن ه يس معها من كب ار رج ال العلم‬
‫والدين في األمة‪ ،‬ومن كبار الحركيين والقيادات االجتماعية فيها‪.‬‬
‫والطام ة الك برى‪ ،‬وال تي ال يمكن تفس يرها هي أن أك بر من حم ل ل واء الع داء‬
‫إليران‪ ،‬وفي ثوبها اإلسالمي‪ ،‬هم أولئك اإلسالميون ال ذين ي دعون أنهم يطمح ون إلى‬
‫تحقيق المشروع اإلسالمي على أرض الواقع‪ ،‬ليستعيدوا بذلك أمجاد اإلسالم‪ ،‬ويحقق وا‬
‫قيم ه في البالد اإلس المية‪ ،‬ويحقق وا معه ا مع اني الحاكمي ة ال تي ج اءت النص وص‬
‫المقدسة بالدعوة إليها في كل مجاالت الحياة‪.‬‬
‫لكنهم‪ ،‬وبعد فترة قصيرة من نجاح الثورة اإلسالمية اإليراني ة‪ ،‬راح وا يخون ون‬
‫ويشيطنون نظام (والية الفقيه)‪ ،‬الذي اعتمده الش عب اإلي راني‪ ،‬وص وت علي ه‪ ،‬وقبل ه‬
‫نظاما لحكمه‪ ،‬وهو نظام ي دعو إلى (الحاكمي ة هلل)‪ ،‬وينف ذها في الواق ع بطريق ة علمي ة‬
‫سمحة ممتلئة بكل القيم الحضارية‪ ،‬مع مراعاة حقوق الشعب في اختيار قادته ونوابه‪.‬‬
‫وكان المنتظر من اإلسالميين أن يفرحوا بذلك‪ ،‬وأن يساندوه باعتباره المش روع‬
‫الذي ظلوا طول أعمارهم ينادون به‪ ،‬لكنهم بدل ذلك راحوا يس بون الفقي ه‪ ،‬ويكفرون ه‪،‬‬
‫ويعتبرونه متآمرا على اإلسالم‪ ..‬وراحوا يمدون أيديهم لجميع أعداء األم ة ال تي تخلت‬
‫عن كل مشاريعها‪ ،‬لتجعل هدفها الوحيد واألكبر هو صد ذلك الزحف من الوعي ال ذي‬
‫مثلته الجمهورية اإلسالمية بوقوفها مع جميع القضايا العادلة‪.‬‬
‫وألجل هذا حاولن ا في ه ذه السلس لةأن نجم ع ك ل تل ك الش بهات ال تي اس تعملها‬
‫اإلسالميون وغ يرهم لض رب الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة وتش ويهها وش يطنتها‪،‬‬
‫العتقادنا أن ذلك من الواجبات الكبرى التي ال يجوز لنا السكوت عنها‪ ،‬فالشبهات ال تي‬
‫تطال اإلسالم ال تكتفي فقط بالشبه المرتبطة بتصوراته العقدية‪ ،‬أو أحكام ه الفقهي ة‪ ،‬أو‬
‫قيمه السلوكية‪ ..‬بل هي تتع دى ذل ك إلى الش بهات ال تي تط ال ش عوبه وبالده وتاريخ ه‬
‫وحضارته‪ ..‬ذلك أن تشويه تلك الشعوب‪ ،‬ليس سوى تفريغ لإلس الم من ك ل المنتس بين‬
‫إليه‪.‬‬
‫وهو يدخل ضمن ما أمرنا ب ه من ال ذب عن إخوانن ا المس لمين واالنتص ار لهم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ورد الظلم عنهم؛ فال يجوز لمسلم يسمع من يكفر إخوان ه المؤم نين الطي بين في إي ران‬
‫أو في أي مكان‪ ،‬ويرميهم بالعظائم‪ ،‬ثم يظل ساكتا ال يتحرك لل دفاع عنهم‪ ،‬ألن ه يك ون‬
‫بذلك شريكا للمتآمرين الظالمين‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقد أشار الق رآن الك ريم إلى ه ذا ال واجب الش رعي في قول ه تع الى‪ ﴿:‬إِ َّن ال ِذينَ‬
‫ك‬‫َص رُوا أُولَئِ َ‬ ‫آووْ ا َون َ‬ ‫آ َمنُوا َوهَا َجرُوا َو َجاهَدُوا بِ أ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فِي َس بِ ِ‬
‫يل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ َ‬
‫اجرُوا َم ا لَ ُك ْم ِم ْن َواَل يَتِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َحتَّى‬ ‫ْض َوالَّ ِذينَ آ َمنُ وا َولَ ْم يُهَ ِ‬ ‫ْض هُ ْم أَوْ لِيَ ا ُء بَع ٍ‬
‫بَع ُ‬
‫هَّللا‬
‫ق َو ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَّل‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِّين ف َعل ْيك ُم النصْ ُر إِ َعلى قوْ ٍم بَ ْينَك ْم َوبَ ْينَهُ ْم ِميثا ٌ‬ ‫َ‬ ‫صرُوك ْم فِي الد ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يُهَا ِجرُوا َوإِ ِن ا ْستَن َ‬
‫صي ٌر ﴾ (ألنفال‪)72:‬‬ ‫بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬

‫‪8‬‬
‫ففي هذه اآلية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعض هم بعض ا؛ فال يص ح أن‬
‫ينعم المسلم باألمن والعافية والسمعة الطيبة والثناء العريض‪ ،‬في ال وقت ال ذي يص اب‬
‫إخوانه في إيران بكل أنواع البالء‪ ،‬من الحصار الجائر‪ ،‬والحرب الض روس الظالم ة‪،‬‬
‫ومعهما كل تلك المكاييل التي ال عد لها من السباب والشتائم والتكفير والتبديع‪.‬‬
‫وهكذا دعانا رسول هللا ‪ ‬أن نبرهن على إسالمنا بنصرة إخواننا في أي مك ان‬
‫تعرضوا له ألي أذى‪ ،‬ففي الحديث قال ‪( :‬المسلم أخو المسلم‪ ،‬ال يظلمه‪ ،‬وال يسلمه‪،‬‬
‫من كان في حاجة أخيه ك ان هللا في حاجت ه‪ ،‬ومن ف رج عن مس لم كرب ة ف رج هللا عن ه‬
‫كربة من كرب يوم القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلما ستره هللا يوم القيام ة‪ ..‬بحس ب ام رئ من‬
‫الشر أن يحقر أخاه المسلم‪ ،‬كل المسلم على المسلم حرام‪ :‬دمه‪ ،‬وعرضه‪ ،‬وماله)(‪)1‬‬
‫وهكذا نجد النصوص المقدس ة ت دعونا إلى نص رة إخوانن ا في ك ل أرض‪ ،‬وفي‬
‫كل حال‪ ،‬ففي الحديث قال رسول هللا ‪ (:‬انصر أخ اك ظالم ا ً أو مظلوم اً)‪ ،‬قي ل‪ :‬ي ا‬
‫رس ول هللا! أنص ره مظلوم اً‪ ،‬فكي ف أنص ره ظالم ا؟)‪ ،‬ق ال‪ (:‬تمنع ه من الظلم؛ ف ذلك‬
‫نصرك إياه)(‪)2‬‬
‫وهكذا نص جميع العلماء من جميع المذاهب اإلسالمية على أنه ال يجوز للمس لم‬
‫أن يسكت عن الذب عن غرض إخوانه إذا ما انتهك‪ ،‬حتى ال يك ون ش ريكا للمنتهكين‪،‬‬
‫يقول الغزالي عند تعديده لحقوق األخوة اإلسالمية (ذب األخ عن أخيه في غيبت ه مهم ا‬
‫قصد بسوء أو تع رض لعرض ه بكالم ص ريح أو تع ريض‪ ،‬فح ق األخ وة التش مير في‬
‫الحماي ة والنص رة وتبكيت المتعنت وتغلي ظ الق ول علي ه‪ ،‬والس كوت عن ذل ك م وغر‬
‫للصدر ومنفر للقلب وتقصير في ح ق األخ وة‪ ..‬فأخس س ب أخ ي راك والكالب تفترس ك‬
‫وتمزق لحومك وهو ساكت ال تحركه الشفقة والحمية لل دفع عن ك وتمزي ق األع راض‬
‫أشد على النفوس من تمزي ق اللح وم ول ذلك ش بهه هللا تع الى بأك ل لح وم الميت ة فق ال‪:‬‬
‫خي ِه ميْتا ً ﴾ (الحجرات‪)3())12 :‬‬
‫﴿ أَيُ ِحبُّ أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن يَأْ ُك َل لَحْ َم أَ ِ َ‬
‫وله ذا‪ ،‬فإن ا في ه ذه السلس لةنحاول أن نطب ق بق در المس تطاع ه ذه الواجب ات‬
‫الشرعية التي تحرم علين ا أن نس كت عن الظلم الموج ه لعش رات الماليين من إخوانن ا‬
‫الذين يغتابهم في كل لحظة اإلعالم المغرض‪ ،‬واألقالم المأجورة‪ ،‬والخطباء المغفلون‪،‬‬
‫والسياسيون المتالعبون‪..‬‬
‫وقد التزمت في هذه المقاالت الحياد المطلق‪ ،‬والموضوعية التامة‪ ،‬فلم أذك ر أي‬
‫مسألة إال مشفوعة بأدلتها والوثائق التي تثبته ا‪ ،‬ذل ك أن الش ريعة ال تي أمرتن ا بنص رة‬
‫إخواننا والذب عنهم‪ ،‬هي نفسها التي أمرتنا بأن نكون موضوعيين وعلميين‪ ،‬وأال نتب ع‬
‫ْس لَكَ بِ ِه ِع ْل ٌم إِ َّن ال َّس ْم َع‬
‫الهوى‪ ،‬فالحق أحق أن يتبع‪ ،‬وقد قال هللا تعالى‪َ { :‬واَل تَ ْقفُ َما لَي َ‬
‫ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولَئِكَ َك انَ َع ْن هُ َم ْس ئُواًل } (اإلس راء‪ ،)36 :‬وق ال‪ { :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ‬ ‫َو ْالبَ َ‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ ،171 / 9‬ومسلم رقم (‪.)2563‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ ،70 / 5‬والترمذي رقم (‪.)2256‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)181 /2‬‬

‫‪9‬‬
‫ْط َواَل يَجْ ِر َمنَّ ُك ْم َشنَآنُ قَوْ ٍم َعلَى أَاَّل تَ ْع ِدلُوا ا ْع ِدلُوا ه َُو‬
‫آ َمنُوا ُكونُوا قَ َّوا ِمينَ هَّلِل ِ ُشهَدَا َء بِ ْالقِس ِ‬
‫أَ ْق َربُ لِلتَّ ْق َوى َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َخبِي ٌر بِ َما تَ ْع َملُونَ } (المائدة‪)8 :‬‬
‫ولهذا نحن نسعد بك ل من ينتق دنا‪ ،‬أو يص حح م ا ق د ن ورده من معلوم ات ي رى‬
‫خطأها‪ ،‬ذلك أننا لم ندع عصمة إيران‪ ،‬وال الش عب اإلي راني‪ ،‬كم ا لم ن دع عص مة أي‬
‫دولة أو أي شعب من الش عوب‪ ..‬لكن نري د فق ط من ال ذي ينتق د أو ي رد أن ينتق د بعلم‪،‬‬
‫وبموضوعية‪ ،‬وبحياد تام‪ ،‬وبما هو ظاهر‪ ..‬ألن الكثير لألسف يدخل تخمينات ه وحدس ه‬
‫وكشفه الباطن في هذا المجال‪..‬‬
‫حيث يذكرون لنا أن إيران وأمريكا وإس رائيل يش كلون حلف ا مش تركا لمواجه ة‬
‫األمة‪ ،‬وتخريبها‪ ..‬فإذا ما طالبتهم بال دليل ذك روا ل ك أن ذل ك يج ري في الخف اء‪ ،‬ومن‬
‫وراء الكواليس‪ ،‬وما تحت الطاولة‪..‬‬
‫ف إذا س ألتهم عن مص در تل ك المعلوم ات الخط يرة لم يجيب وك بش يء‪ ،‬ألنهم‬
‫يتوهمون أن أوه امهم وحدس هم وكش فهم الب اطن وح دها ال دليل على تل ك االدع اءات‬
‫العريضة التي يدل كل شيء على نقيضها‪.‬‬
‫ولهذا ال نحترم أمثال تلك الدعاوى ألن هللا تعالى نهانا أن نرجم بالغيب‪ ،‬أو نبني‬
‫أحكامن ا على س وء الظن‪ ،‬ب ل طولبن ا ب أن نتعام ل بالظ اهر‪ ،‬وأن نك ل إلى هللا الني ات‬
‫والس رائر‪ ،‬وق د ق ال رس ول هللا ‪( :‬إي اكم والظن‪ ،‬ف إن الظن أك ذب الح ديث‪ ،‬وال‬
‫تجسسوا وال تنافسوا‪ ،‬وال تدابروا وال تباغضوا‪ ،‬وكونوا عباد هللا إخوانا)(‪)1‬‬
‫ْض الظَّنِّ‬
‫وقبله قال هللا تعالى‪{ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اجْ تَنِبُ وا َكثِ يرًا ِمنَ الظَّنِّ إِ َّن بَع َ‬
‫إِ ْث ٌم} (الحجرات‪ ،)12 :‬بل اعتبر أن أكبر حجاب وقع فيه المنحرف ون عن األنبي اء ه و‬
‫ك ع َْن‬ ‫ُض لُّو َ‬
‫ضي ِ‬ ‫{وإِ ْن تُ ِط ْع أَ ْكثَ َر َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫س وء ظنهم بأنبي ائهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫َسبِي ِل هَّللا ِ إِ ْن يَتَّبِعُونَ إِاَّل الظَّ َّن َوإِ ْن هُ ْم إِاَّل يَ ْخ ُرصُونَ } (األنعام‪)116 :‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن عقولن ا ال تس تطيع أن تص دق تل ك األراجي ف والوس اوس‪ ،‬في نفس‬
‫الوقت الذي ترى فيه الجمهورية اإلسالمية اإليرانية تدفع الغالي والنفيس في ص راعها‬
‫مع جميع ق وى االس تكبار الع المي من أج ل مواقفه ا الش جاعة والص ادقة من القض ية‬
‫الفلسطينية‪ ،‬ومن الحروب الناعمة والصلبة التي تسلط على العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪)2/482‬‬

‫‪10‬‬
‫مقدمة الكتاب‬
‫يحاول هذا الكتاب الذي جعلناه الجزء األول من هذه السلس لة التعري ف بج انبين‬
‫مهمين في إيران تاريخا وواقعا‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫أوال ـ بيان أن اإليرانيين مس لمون من ذ الفتح األول‪ ،‬لم ي تزحزحوا عن إس المهم‬
‫شعرة واحدة‪ ،‬وأن إسالمهم كان صادقا كما أخبر رسول هللا ‪ ،‬وأنهم لم يتآمروا على‬
‫اإلس الم بتحري ف أحكام ه‪ ،‬وال على المس لمين ب إعالن الح رب عليهم‪ ،‬كم ا ي زعم‬
‫المغرضون‪.‬‬
‫وذكرنا في الكت اب الكث ير من التجلي ات والش واهد وال براهين الدال ة على ذل ك‪،‬‬
‫ابتداء من اهتمامهم تاريخا وواقعا بالقرآن الكريم قراءة وتفسيرا وتفعيال في كل جوانب‬
‫الحياة‪ ..‬ومثله اهتمامهم بسنة رسول هللا ‪ ‬بحسب ما وص لت إليهم نصوص ها‪ ،‬وأنهم‬
‫ألج ل ذل ك مؤمن ون بعقائ د اإلس الم‪ ،‬ومنف ذون لش رائعه‪ ،‬ومتحل ون بقيم ه األخالقي ة‬
‫والروحية والحضارية‪ ،‬ما استطاعوا إلى ذلك سبيال‪.‬‬
‫ثانيا ـ بيان أن إيران لم يكن تمسكها بدينها تمسكا أنانيا‪ ،‬احتكرت ه لنفس ها‪ ،‬وإنم ا‬
‫راحت تستعمل كل الوسائل لخدم ة اإلس الم والمس لمين ابت داء من الق رن األول‪ ،‬حيث‬
‫كانت أرضها منبعا لكل العلوم اإلسالمية‪ ،‬ومحال لتدريسها والكتابة فيها‪.‬‬
‫ففيها ظهرت أكبر تفاسير القرآن الكريم‪ ،‬وأكثر مجامع السنة النبوية‪ ،‬ومعظم ما‬
‫كتب في العقيدة والفقه واألخالق والعرفان وكل العلوم العقلية والكونية‪.‬‬
‫وفيها كانت المدارس التي نشأ فيها كبار العلماء‪ ،‬وتتلمذت فيها أجيال طويلة من‬
‫المسلمين‪ ،‬الذين استقر بهم اإلسالم‪ ،‬وامتد في األرض‪ ،‬لينشر هداية هللا‪ ،‬ويلبس في كل‬
‫عصر اللباس الذي يتناسب معه‪.‬‬
‫وقد حاولنا في هذا الكتاب كذلك أن نبين أن المشروع الحالي إليران ليس س وى‬
‫امتداد لمشروعها القديم في خدمة اإلسالم‪ ،‬ب ل إن ه ذا المش روع ح اول أن يس تفيد من‬
‫كل ما حصل في التاريخ من عبر‪ ،‬ليؤسس من خالله ا دول ة إس المية قوي ة‪ ،‬تحم ل هم‬
‫طرح القيم اإلسالمية بحسب ما هي عليه‪ ،‬بعي دة عن ك ل التحريف ات ال تي وقعت ع بر‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫وحاولنا أن نفند عند ذكرنا لهذا المشروع ك ل الش به ال تي ي ذكرها المغرض ون‪،‬‬
‫والتي على أساسها حولوا من إيران دولة العداء لإلس الم‪ ،‬ب دل أن تك ون دول ة الخدم ة‬
‫لإلسالم‪ ،‬وقد استندنا في ذل ك إلى م ا ذك ره الق ادة الفكري ون له ذا المش روع من خالل‬
‫كتاباتهم وطروحاتهم المختلفة‪.‬‬
‫وقد قسمنا الكتاب إلى سبعة فصول‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫أوال ـ إيران‪ ..‬والقرآن الكريم ‪ :‬وذكرت فيه تعلق اإليرانيين بالقرآن الكريم قراءة‬
‫وتدبرا وتفسيرا وحفظا‪ ،‬ورددت فيه بتفصيل على تلك الشبه المغرضة التي تص ور أن‬
‫إليران قرآنا غير قرآن المسلمين‪ ،‬وبينت أن مشروع إيران الحديث ليس سوى محاولة‬

‫‪11‬‬
‫لتطبيق القرآن الكريم في الواقع بجميع مجاالته‪.‬‬
‫ثانيا ـ إيران‪ ..‬والسنة النبوية‪ :‬ورددت فيه على تلك المغالط ات ال تي يس تعملها‬
‫المغرضون‪ ،‬ليشوهوا بها إيران من خالل تصويرهم له ا بأنه ا بل د البدع ة والض اللة‪،‬‬
‫وأنه ال عالقة لها بسنة رسول هللا ‪ ،‬وقد ذكرت في ه أن إي ران ليس ت متمس كة بس نة‬
‫رسول هللا ‪ ‬في واقع حياتها فقط‪ ،‬وإنما هي أكبر من خدم رسول هللا ‪ ،‬وفي جميع‬
‫مراحل التاريخ‪ ،‬فأكثر كتب السنة رواية ودراية كتبت من طرف أعالمها الكبار‪.‬‬
‫ثالثا ـ إيران ‪ ..‬والعقيدة اإلســالمية‪ :‬وق د بينت في ه باألدل ة الكث يرة م دى ال تزام‬
‫اإليرانيين بالعقيدة اإلسالمية ونصرتها من خالل من ظهر فيه ا من المتكلمين ال ذين لم‬
‫يظهر مثلهم في جميع بالد العالم اإلسالمي‪ ،‬كما رددت فيه على تلك الشبه التي يذكرها‬
‫المغرضون‪ ،‬والتي يحاولون من خاللها شيطنة إيران وتكفيرها‪.‬‬
‫رابعا ـ إيران ‪ ..‬والشريعة اإلسالمية‪ :‬وبينت فيه من خالل األدل ة الكث يرة م دى‬
‫اهتمام اإليرانيين بتطبيق بالشريعة اإلسالمية في جميع مجاالت حياتهم‪ ،‬وأن المشروع‬
‫الح الي ال ذي أُعلن الح رب عليه ا بس ببه ليس س وى تجس يد للنظ ام اإلس المي ال ذي‬
‫استنطبه الفقهاء من المص ادر المقدس ة المعص ومة‪ ..‬باإلض افة إلى ذل ك ذك رت م دى‬
‫اهتمام اإليران يين بخدم ة الش ريعة اإلس المية‪ ،‬والكتاب ة في فقهه ا وأص ولها‪ ،‬وض من‬
‫الرؤى المختلفة للمذاهب اإلسالمية‪.‬‬
‫خامسا ـ إيران ‪ ..‬والقيم الروحية‪ :‬وبينت فيه ـ من خالل األدل ة الكث يرة ـ م دى‬
‫تمسك اإليرانيين بال دين من خالل ال تزامهم بش عائره التعبدي ة‪ ،‬وم ا تنط وي علي ه من‬
‫س مو روحي‪ ،‬باإلض افة إلى ذك ر الكث ير من مس اهماتهم في خدم ة ه ذا الج انب‪ ،‬من‬
‫خالل كب ار الروح انيين ال ذين عاش وا فيه ا‪ ،‬وكتب وا في التص وف والعرف ان والحي اة‬
‫الروحية‪.‬‬
‫سادسا ـ إيران ‪ ..‬والقيم األخالقية‪ :‬وبينت فيه م دى اهتم ام اإلي رايين بالس لوك‬
‫األخالقي‪ ،‬وال دوافع ال تي دفعتهم ل ذلك‪ ،‬كم ا بينت م دى اهتم ام المش روع اإلس المي‬
‫الحديث بتنمية هذا الجانب في الواقع االجتماعي والسياسي واالقتصادي والثقافي وك ل‬
‫المجاالت‪.‬‬
‫كما ذكرت في ه مس اهمات اإليران يين في التأس يس لعلم األخالق‪ ،‬والكتاب ة في ه‪،‬‬
‫وهي المجال الذي كانت لهم الريادة فيه بجدارة‪.‬‬
‫ســـابعا ــــ إيـــران ‪ ..‬والقيم الحضـــارية‪ :‬وبينت في ه م دى تمس ك اإليران يين‬
‫بالحضارة‪ ،‬وعراقتهم فيها‪ ،‬وفي القيم المرتبطة بها‪ ،‬وذكرت ـ من خالل األدلة الكث يرة‬
‫ـ أن مشروعها لألمة ليس مشروعا استعماريا‪ ،‬وال تسلطيا‪ ،‬وال مشروع هيمن ة‪ ،‬وإنم ا‬
‫هو مشروع حضاري راق‪ ،‬يريد أن يخرج األمة من تبعيتها لتبني حياتها وف ق الرؤي ة‬
‫اإلسالمية الحضارية التي جاء األنبياء جميعا لتحقيقها في أرض الواقع‪.‬‬
‫هذه هي الفصول الكبرى التي قسمنا على أساسها مباحث الكتاب‪ ،‬والتي اعتمدنا‬
‫في كتابتها على مصادر تاريخية وفكرية كثيرة‪ ،‬ومن المدارس المختلفة‪ ،‬وقد وثقنا ك ل‬
‫ذلك بحسب ما أطقنا‪ ،‬حتى يتمكن القارئ من العودة إلى المصادر والتأكد بنفسه‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ونحب أن نبين أننا ـ لصعوبة اإلحص اء ـ اكتفين ا ب ذكر النم اذج من ك ل قض ية‬
‫نطرحه ا‪ ،‬ذل ك أن ه من الص عب أن ن ؤرخ في ه ذا الكت اب المختص ر لك ل المفس رين‬
‫والمح دثين والفقه اء والمتص وفة وعلم اء الفل ك والطب والفالس فة وغ يرهم‪ ..‬ول ذلك‬
‫اكتفينا بذكر نماذج عنهم‪ ،‬وعن كبارهم الذين أسسوا للمعارف‪ ،‬أو كانت لهم إس هاماتهم‬
‫الكبرى فيها‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك لم نفص ل كث يرا في ذك ر الن واحي المختلف ة المرتبط ة بالمش روع‬
‫الحضاري الجديد‪ ،‬ذلك أننا خصصنا بالكتاب الثاني من هذه السلس ة‪ ،‬وال ذي عنون اه بـ‬
‫[إيران‪ ..‬نظام وقيم]‪ ،‬والذي تناولنا فيه الشبهات بالمزيد من ال ردود العلمي ة المفص لة‪،‬‬
‫كما وضحنا فيه القيم التي يتبناها هذا النظام ومدى شرعيتها‪.‬‬
‫ونحن وإن كنا بذلنا جهدا كبيرا في البحث والتحقي ق إال أنن ا ال ن دعي العص مة‪،‬‬
‫ولذلك يسرنا أن نجد من يوجهنا أو يصحح أخطاءنا‪ ،‬على أس اس النص ح والنق د البن اء‬
‫الذي ينهض بأمتنا‪ ،‬ألنا عند حديثنا عن إيران‪ ،‬لم نتحدث إال عن قطعة كريم ة من بالد‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتكريمها ال يعني تحقير غيرها‪ ،‬وال التهوين من شأنه‪.‬‬
‫وإنما خصصناها بالحديث‪ ،‬ردا للظلم ال ذي يطاله ا‪ ،‬وال ذي أمرن ا ب الوقوف في‬
‫وجهه‪ ،‬فالعقل والشرع واألخالق الرفيعة ت دعونا للنه وض لنص رة المظل وم‪ ،‬وال دفاع‬
‫عنه‪ ،‬وهذا ما حاولنا فعله في هذا الكتاب‪ ،‬ونستغفر هللا من التقصير في أداء الواجب‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫إيران‪ ..‬والقرآن الكريم‬
‫لعل الخاصية األبرز التي تم يز به ا المش روع الحض اري اإلي راني في طبعات ه‬
‫القديمة‪ ،‬وطبعته الحديثة هو ذلك التعلق بالقرآن الك ريم‪ ،‬وال ذي يص ل إلى ح د العش ق‬
‫والهيام‪ ..‬وذلك وحده كاف لص د ك ل التهم ال تي ينش رها اإلعالم المغ رض‪ ،‬وينش رها‬
‫معه دعاة الفتنة والطائفية‪.‬‬
‫فاإليرانيون جميعا عامتهم وخاصتهم‪ ،‬يقرؤون القرآن الكريم باللغة العربية‪ ،‬م ع‬
‫مراعاة مخارج الحروف‪ ،‬وأحكام الترتيل قدر المستطاع‪ ،‬وذلك وحده ك اف لل رد على‬
‫اتهامهم بالشعوبية الفارسية‪ ،‬ذلك أنه في إمكانهم أن يقرؤوا القرآن الكريم مترجم ا كم ا‬
‫تفعل الكثير من الشعوب‪ ،‬ويكتفوا بذلك‪ ،‬ويج دون ال رخص من الفقه اء ال تي ت تيح لهم‬
‫ذلك‪..‬‬
‫لكنهم ال يفعلون‪ ..‬ب ل يق رؤون الق رآن الك ريم في ص التهم‪ ،‬أو في المص احف‪،‬‬
‫باللغة العربية‪ ،‬التي يحاولون تعديل ألسنتهم عليها لتقرأ القرآن غضا طريا‪ ،‬كما يق رؤه‬
‫إخوانهم من العرب‪ ..‬بل إن علماءهم‪ ،‬وأثناء تدريسهم لع وام الن اس‪ ،‬ال ذين ال يعرف ون‬
‫العربي ة‪ ،‬إذا م روا باآلي ات القرآني ة أثن اء دروس هم‪ ،‬ينطق ون به ا أوال بالعربي ة‪ ،‬ثم‬
‫يترجمونها بعد ذلك للفارسية‪.‬‬
‫وهكذا فإن المصاحف المطبوعة في إيران‪ ،‬والموزعة على جميع مدنها وقراه ا‬
‫وأريافها‪ ،‬وحدها كافية للرد على تل ك الش بهة ال تي يح رص المغرض ون على نش رها‬
‫لتشويه إيران وتشويه ش عبها المس لم‪ ،‬وهي ادع اؤهم أن إلي ران أو للش يعة مص احفهم‬
‫الخاصة‪ ،‬وذلك كذب وبهتان عظيم‪.‬‬
‫فالمصاحف المنتشرة في كل مقاطعات إيران هي نفس المصاحف الموج ودة في‬
‫كل بالد العالم اإلسالمي‪ ،‬وأنا أتحدى أن يجد أحد من الن اس ه ذا المص حف الخ اص‪،‬‬
‫الذي يصوره اإلعالم‪ ،‬ويصوره دعاة الفتنة‪.‬‬
‫وال يحتاج أحد من الناس للتنقل للتأكد من ذل ك‪ ،‬ففي إمك ان أي ك ان أن يفتح أي‬
‫قناة فضائية إيرانية‪ ،‬أو أي إذاع ة محلي ة تابع ة له ا ليس مع الق رآن الك ريم‪ ،‬وبق راءات‬
‫جميلة جدا‪ ،‬ال تختلف عن تلك القراءات التي يقرؤه بها إخوانهم من العرب‪.‬‬
‫وف وق ه ذا كل ه نج د اإليران يين‪ ،‬ومن ذ بداي ة اإلس الم‪ ،‬يهتم ون بتفس ير الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬ويعقدون المجالس لذلك‪ ،‬وقد استمروا على ذلك النهج إلى اليوم‪ ..‬ول ذلك ن رى‬
‫في المكتب ات الورقي ة وااللكتروني ة ث روة كب يرة من كتب التفس ير والعل وم المرتبط ة‬
‫بالقرآن الكريم‪ ..‬وهي ثروة ال يمكن تجاهلها‪ ،‬وال االستهانة بها‪ ،‬بل إننا لن نبالغ إن قلنا‬
‫بأن المصادر الكبرى للتفسير بأنواعه المختلفة كانت من تأليف إيرانيين‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬
‫ولم يكتف اإليرانيون بهذا‪ ،‬بل راحوا يبنون مش روعهم الحض اري الجدي د على‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬باعتبار قداسته أوال‪ ،‬والعتقادهم أنه صالح لكل زمان ومك ان‪ ،‬وأن في ه‬
‫الحلول لكل المشكالت‪ ،‬أو كما عبر عن ذلك قائ دهم األك بر اإلم ام الخمي ني بقول ه في‬

‫‪14‬‬
‫رسالة وجهها إلى الحجيج‪( :‬جيب أن نعلم أن احلكمة هي أن هذا الكتاب اخلالد األبدي‬
‫إمنا ه و ألجل هداية وإرش اد البش رية من أي ل ون أو قومي ة‪ ،‬ويف أي قطب أو قطر وحىت‬
‫قيام الساعة‪ ،‬وأن تبقى املسائل احلياتية املهمة حية سواء فيما خيص املعنويات أو فيما يتعلق‬
‫بنظ ام امللكي ة‪ ،‬وإفه ام الن اس أن مس ائل الق رآن ليس ت لعص ٍر وجه ٍة خاص ة‪ ،‬وال يظن أن‬
‫هدف إبراهيم وموسى وحممد عليهم وعلى آهلم السالم خيتص بزمان خاص)(‪)1‬‬

‫ويقول في نفس الرسالة‪( :‬وينبغي على الحجّاج لبيت هللا الحرام المح ترمين ألي‬
‫قومية انتموا أن يرضخوا ألحك ام الق رآن الك ريم‪ ،‬ويقف وا في مواجه ة س يل الش ياطين‬
‫الذين يريدون اقتالع اإلسالم الذي طهر الشرق والغرب وعمالءهم الذين ال إرادة لهم‪،‬‬
‫ويمدوا يد األخوة اإلسالمية لبعضهم البعض وينتبهوا لآليات الكريمة التي تدعوهم إلى‬
‫االعتصام بحبل هللا‪ ،‬وتنهاهم عن االختالف والتفرقة‪ ،‬وينبغي االس تفادة أك ثر عض ويا ً‬
‫وسياسيا ً من هذه الفريضة العبادية السياسية اإلسالمية‪ ،‬في تل ك األمكن ة الش ريفة ال تي‬
‫شيّدت بحق ألجل مصالح الموحدين والمسلمين في العالم‪ ،‬وااللتفات إلى سر التض حية‬
‫والفداء اإلبراهيمي ـ اإلسماعيلي‪ ،‬حيث يجب الوق وف في س بيل هللا إلى ح د التض حية‬
‫والفداء بأعز وأغلى ثمرة وجوده والدفاع عن األهداف اإللهية) (‪)2‬‬

‫وهكذا نجد الدعوات الكثيرة من جميع قادة المشروع الحضاري اإلي راني الق ديم‬
‫والحديث منه إلى االهتم ام ب القرآن الك ريم ق راءة وت دبرا وانفع اال في جمي ع مج االت‬
‫الحياة‪ ،‬أو كما عبر عن ذلك أبو حامد الغزالي االبن اإليراني األصيل‪ ،‬تعليقا على قوله‬
‫تعالى‪{ :‬يَايَحْ يَى ُخ ِذ ْال ِكت َ‬
‫َاب بِقُ َّو ٍة } (م ريم‪( :)12 :‬أي بج د واجته اد‪ ،‬وأخ ذه بالج د أن‬
‫يكون متجردا له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره‪ ،‬وقي ل لبعض هم (إذا ق رأت‬
‫القرآن تحدث نفسك بشيء‪ ،‬فقال‪ :‬أو شيء أحب إلي من القرآن حتى أحدث به نفسي)‪..‬‬
‫وهذه الصفة تتولد من التعظيم فإن المعظم للكالم الذي يتلوه يستبش ر ب ه ويس تأنس وال‬
‫يغفل عنه‪ ،‬ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهال ل ه؛ فكي ف يطلب األنس‬
‫بالفكر في غ يره وه و في مت نزه ومتف رج‪ ،‬وال ذي يتف رج في المتنزه ات ال يتفك ر في‬
‫غيرها‪ ،‬فقد قيل‪ :‬إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاص ير وع رائس ودي ابيج ورياض ا‬
‫وخانات‪ ..‬فإذا دخل القارىء الميادين‪ ،‬وقطف من البس اتين‪ ،‬ودخ ل المقاص ير‪ ،‬وش هد‬
‫العرائس‪ ،‬ولبس الديابيج‪ ،‬وتنزه في الري اض‪ ،‬وس كن غ رف الخان ات‪ ،‬اس تغرقه ذل ك‬
‫وشغله عما سواه فلم يعزب قلبه ولم يتفرق فكره)(‪)3‬‬
‫بن اء على ه ذا س نحاول في ه ذا المق ال إثب ات أهم تجلي ات اهتم ام اإليران يين‬
‫بالقرآن الكريم طيلة ت اريخهم المش رق‪ ،‬وكون ه الس بب في تل ك ال روح اإليماني ة ال تي‬
‫‪ )(1‬أبعاد الحج‪ ،‬اإلمام الخميني‪ ،‬سلسلة الفكر والنهج الخميني‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ )(2‬أبعاد الحج‪ ،‬اإلمام الخميني‪ ،‬سلسلة الفكر والنهج الخميني‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)281 /1‬‬

‫‪15‬‬
‫صحبتهم قديما‪ ،‬وال تزال تصحبهم حديثا‪.‬‬
‫أوال ـ تقديس القرآن الكريم والتأثر به‪:‬‬
‫وهي أول ميزة يمكن اكتشافها بسهولة لمن يرى اإليرانيين وتعاملهم م ع الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬فالكثير من عاداتهم وتقاليدهم تولي المصاحف اهتماما خاصا‪ ،‬وتعطيها قداس ة‬
‫ال تعطيها لشيء آخر‪ ..‬فهم يقبلونه بمجرد لمسه‪ ،‬ثم يضعونه على جباههم تكريما له‪.‬‬
‫وهم إذا م ا دخل وا أي مح ل أو غ ادروه جعل وا المص احف ف وق رؤوس هم‪ ،‬ثم‬
‫ساروا أسفل منها تيمنا منهم بأن يكونوا في كالءته وحفظه‪.‬‬
‫وهكذا هو حالهم عند قراءته أو سماعه؛ فهم ينفعلون عن دها‪ ،‬ويت أثرون‪ ،‬وربم ا‬
‫تنهمر الدموع الصادقة الخاشعة من عيونهم‪ ،‬مث ل ح الهم عن د س ماع األدعي ة ال واردة‬
‫عن رسول هللا ‪ ‬أو عن أهل بيت النبوة‪ ،‬والتي يرددونها كل حين‪.‬‬
‫ولعل ذلك ما أشار إليه قوله ‪ ،‬وهو يتحدث عن فارس‪ ،‬وص دقها في إيمانه ا‪:‬‬
‫(لو كان اإليمان عند الثريا لنال ه رج ال ‪-‬أو رج ل‪-‬من ه ؤالء)(‪ ،)1‬وأش ار إلى س لمان‬
‫الفارسي‪.‬‬
‫وال يمكنني أن أذكر س بب ذل ك االنفع ال‪ ،‬وتل ك الروحاني ة‪ ،‬ولك ني م وقن أنه ا‬
‫ليست مرتبطة بالعرق ـ كما يذكر بعض الباحثين ـ عن دما يعل ل ظه ور أك ثر الكتاب ات‬
‫العرفانية والصوفية من تلك المناطق‪ ،‬ذلك أني مؤمن بأن هللا تعالى خلق الخل ق جميع ا‬
‫من طينة واحدة‪ ،‬وم ؤمن ك ذلك أن س لوك اإلنس ان ه و ال ذي يح دد وجهت ه‪ ،‬وطريق ة‬
‫تعامله مع األشياء‪.‬‬
‫ولذلك فإن السبب الحقيقي لذلك التقديس وما يص حبه من االنفع ال والت أثر يع ود‬
‫لتل ك التع اليم المقدس ة ال تي يس معها اإليراني ون ـ س نتهم وش يعتهم ـ في المواع ظ‬
‫والمج الس العلمي ة ك ل حين عن رس ول هللا ‪ ‬وعن ورثت ه من آل بيت النب وة ال ذين‬
‫شغفوا بهم‪.‬‬
‫فقد أوصى رسول هللا ‪ ‬ب القرآن الك ريم واعت بره الثق ل األك بر ال ذي ال تنج و‬
‫األمة إال بالتمس ك ب ه‪ ،‬فق ال‪( :‬إني ت ركت فيكم م ا إن تمس كتم بهم ا لن تض لوا بع دي‪،‬‬
‫الثقلين وأح دهما أك بر من اآلخ ر‪ :‬كت اب هللا حب ل مم دود من الس ماء إلى األرض‪،‬‬
‫وعترتي أهل بيتي‪ .‬أال وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(‪)2‬‬
‫واإلم ام علي ال ذي يقدس ه اإليراني ون‪ ،‬ويحفظ ون تعاليم ه‪ ،‬ويرددونه ا في ك ل‬
‫المحال‪ ،‬ويعلقونه ا كش عارات في ش وارعهم ومدارس هم ومس اجدهم‪ ،‬باعتب اره اإلم ام‬
‫األول بعد رسول هللا ‪ ‬يقول‪( :‬هللا هللا في القرآن‪ ،‬ال يسبقكم بالعم ل ب ه غ يركم) (‪،)3‬‬
‫ويقول‪( :‬كتاب هللا تبصرون به‪ ،‬وتنطق ون ب ه‪ ،‬وتس معون ب ه‪ ،‬وينط ق بعض ه ببعض‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪ ،‬والترمذي‪ ،‬والنسائي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة‪ :‬الكتاب ‪.47‬‬

‫‪16‬‬
‫ويش هد بعض ه على بعض‪ ،‬وال يختل ف في هللا‪ ،‬وال يخ الف بص احبه عن هللا)(‪،)1‬‬
‫ويقول‪( :‬تعلموا كتاب هللا تبارك وتعالى فإنه أحسن الح ديث وأبل غ الموعظ ة‪ ،‬وتفقه وا‬
‫فيه فإنه ربيع القلوب‪ ،‬واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور‪ ،‬وأحسنوا تالوته فإنه‬
‫أحسن القصص)(‪ ،)2‬ويقول‪( :‬اعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاق ة‪ ،‬وال ألح د‬
‫قبل القرآن من غنى‪ ،‬فاستشفوه من أدوائكم‪ ،‬واستعينوا به على ألوائكم)(‪)3‬‬
‫وهكذا يسمعون كل حين‪ ،‬وفي كل مناسبة ق ول اإلم ام الحس ن‪( :‬إن ه ذا الق رآن‬
‫فيه مصابيح النور وشفاء الص دور‪ ،‬فليج ل ج ال بض وئه‪ ،‬وليلجم الص فة‪ ،‬ف إن التلقين‬
‫حياة القلب البصير كما يمشى المستنير في الظلمات بالنور)(‪)4‬‬
‫ومثله قول اإلمام زين العابدين الذي عبر عن عالقته الروحي ة ب القرآن الك ريم‪،‬‬
‫بقوله‪( :‬لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحش ت بع د أن يك ون الق رآن معي)‬
‫(‪)5‬‬
‫وهك ذا ك ان لتل ك الكلم ات النوراني ة وغيره ا كث ير ت أثيره الهائ ل في نف وس‬
‫اإليرانيين‪ ،‬مم ا وف ر لهم القابلي ة الس تقبال تع اليم ق ادة المش روع الحض اري الجدي د‪،‬‬
‫والذين حاولوا أن يستنهضوا الهمم من خالل تلك المشاعر الجياشة تجاة القرآن الكريم‪،‬‬
‫وتجاه أهل بيت النبوة‪.‬‬
‫حيث نجد أحاديث اإلم ام الخمي ني‪ ،‬وفي ع ز األزم ات ال تي م رت به ا إي ران‪،‬‬
‫يذكر بالقرآن الكريم‪ ،‬ويتحدث عنه حديث العارفين المحققين‪ ،‬الذين ي دعون إلى ت ذوق‬
‫معانيه‪ ،‬والعروج من خاللها إلى هللا‪ ،‬وعدم االكتفاء بكسوة األلفاظ والحروف‪.‬‬
‫ومن كلماته في هذا المج ال قول ه في بعض خطب ه‪( :‬نحن نفخ ر‪ ،‬ويفخ ر ش عبنا‬
‫المتمسك باإلسالم والقرآن بأننا أتب اع م ذهب يه دف إلى إنق اذ حق ائق الق رآن الممتلئ ة‬
‫دعوة إلى الوحدة بين المسلمين‪ ،‬بل البش رية باعتباره ا أنج ع عالج منق ذ لإلنس ان من‬
‫القي ود المكبل ة لرجلي ه ويدي ه وقلب ه وعقل ه‪ ،‬والس ائقة ل ه إلى الفن اء والع دم وال رق‬
‫والعبودية للطواغيت)(‪)6‬‬
‫ويقول في وصاياه لبعض أولئك الملتفين ب ه‪ ،‬وال ذين ق دموا الغ الي والنفيس في‬
‫سبيل تنفيذ تعاليمه‪( :‬اعلم أيها العزيز أن عظمة كل كالم وكل كتاب إما بعظمة متكلم ة‬
‫وكاتبه‪ ،‬وإم ا بعظم ة مطالب ه ومقاص ده‪ ،‬وإم ا بعظم ة نتائج ه وثمرات ه‪ ،‬وإم ا بعظم ة‬
‫الرسول والواسطة‪ ،‬وإما بعظمة المرسل إليه وحامله‪ ،‬وإم ا بعظم ة حافظ ه وحارس ه‪،‬‬
‫وإما بعظمة ش ارحه ومبيّن ه‪ ،‬وإم ا بعظم ة وقت إرس اله وكيفي ة إرس اله‪ .‬وبعض ه ذه‬

‫‪ )(1‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة ‪133‬‬


‫‪ )(2‬تحف العقول‪150 :‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة ‪ ،176‬شرح نهج البالغة البن أبي الحديد‪18 / 10 :‬‬
‫‪ )(4‬البحار‪6 / 112 / 78 :‬‬
‫‪ )(5‬الكافي‪.13 / 602 / 2 :‬‬
‫‪ )(6‬القرآن في كالم اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪17‬‬
‫األمور دخيل في العظمة ذاتا ً وجوهرا وبعضها عرض ا ً وبالواس طة‪ ،‬وبعض ها كاش ف‬
‫عن العظمة)(‪)1‬‬
‫ثم يذكر أن هذه المعاني جميعا متوفرة في القرآن الكريم‪ ،‬باعتباره حوى العظمة‬
‫في جميع جوانبها‪ ،‬فيقول‪( :‬وجميع هذه األمور التي ذكرناها موجودة في هذه الصحيفة‬
‫النورانية بالوجه األعلى واألوفى‪ ،‬بل هي من مختصّاته بحيث أن أي كتاب اخر إما أالَّ‬
‫يشترك معه في شيء منها أصالً‪ ،‬أو ال يشترك معه في جميع المراتب)‬
‫ثم راح يفصل نواحي العظمة التي تستدعي التقديس المطل ق ل ه‪ ،‬وابت دأ بعظم ه‬
‫المتكلم به‪ ،‬فقال‪( :‬أما عظمة متكلمه ومنشئه وصاحبه‪ ،‬فهو العظيم المطلق الذي جمي ع‬
‫أنواع العظمة المتصورة في الملك والملكوت‪ ،‬وجمي ع أن واع الق درة النازل ة في الغيب‬
‫والشهادة رشحة من تجليات عظمة فعل تلك الذات المقدس ة‪ ،‬وال يمكن أن يتجلّى الح ق‬
‫تعالى بالعظمة ألح ٍد وإنما يتجلى بها من وراء االف الحجب والسرادقات)‬
‫وتحدث عن عظمة محتوياته‪ ،‬فقال‪( :‬وأما عظمته بواس طة محتويات ه ومقاص ده‬
‫ومطالبه فيستدعي ذلك عق د فص ل على ح دة‪ ،‬ب ل فص ول وأب واب‪ ،‬ورس الة مس تقلة‪،‬‬
‫وكتاب مستقل حتى يسلك نبذة منها في سلك البيان والتحرير)‪ ،‬وهو يشير بذلك إلى م ا‬
‫ألفه حول عظمة محتويات القرآن الكريم‪ ،‬وال تي تناوله ا من جمي ع جوانبه ا العرفاني ة‬
‫والسلوكية واالجتماعية والسياسية وكل جوانب الحياة‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬
‫وتحدث عن عظمة الرسول الذي أنزل عليه‪ ،‬بلغة ذوقية عرفاني ة‪ ،‬فق ال‪( :‬وأم ا‬
‫عظم ة المرس ل إلي ه ومتح ّمل ه‪ ،‬فه و القلب التقي النقي األحم دي األح دي الجمعي‬
‫المحم دي ال ذي تجلى ل ه الح ق تع الى بجمي ع الش ؤون الذاتي ة والص فاتية واألس مائية‬
‫واألفعالية‪ ،‬وهو صاحب النبوة الختمية‪ ،‬والوالية المطلق ة‪ ،‬وه و أك رم البري ة‪ ،‬وأعظم‬
‫الخليقة وخالصة الكون‪ ،‬وج وهرة الوج ود‪ ،‬وعص ارة دار التحق ق‪ ،‬واللبن ة األخ يرة‪،‬‬
‫وصاحب البرزخية الكبرى‪ ،‬والخالفة العظمى)‬
‫وتحدث عن الحراسة اإللهية له من التحريف‪ ،‬على عكس ما ي ذكر المغرض ون‬
‫والطائفيون‪ ،‬فقال‪( :‬وأما حافظه وحارسه‪ ،‬فهو ذات الحق ج ّل جالله‪ ،‬كما قال في اآلية‬
‫الكريمة المباركة‪{ :‬إِنَّا نَحْ نُ نَ َّز ْلنَا ال ِّذ ْك َر َوإِنَّا لَهُ لَ َحافِظُونَ } (الحجر‪))9 :‬‬
‫وهك ذا تح دث عن س ائر ن واحي العظم ة في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال تي تس تدعي‬
‫التق ديس المطل ق ل ه‪ ،‬واالنفع ال المطل ق لمعاني ه‪ ،‬باعتباره ا تمث ل الحق ائق الك برى‬
‫للوجود‪ ،‬وتشمل القيم الكبرى للسلوك‪.‬‬
‫وهكذا نرى كل القادة والعلماء الذين أسسوا له ذا المش روع الحض اري الجدي د‪،‬‬
‫يشيدون بالقرآن الكريم‪ ،‬ويدعون إلى قراءته قراءة روحية‪ ،‬وعدم االكتفاء فقط بتجويده‬
‫وترتيله واالهتمام بمخارج حروفه‪.‬‬
‫وذلك ال يعني ع دم اهتم امهم به ذا الج انب‪ ،‬ف اإليرانيون يحب ون تجوي د الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬ومولع ون بص فة خاص ة ببعض الق راء المص ريين كالش يخ عب د الباس ط عب د‬

‫‪ )(1‬منهجية الثورة اإلسالمية ‪ -‬صفحة ‪.79‬‬

‫‪18‬‬
‫الصمد وغيره‪ ،‬وهم يقلدون ه كث يرا في ق راءتهم‪ ،‬وه و دلي ل كب ير على انفت احهم على‬
‫العالم اإلسالمي‪ ،‬وعدم شعورهم بأي فوارق بينهم وبين س ائر إخ وانهم من المس لمين‪،‬‬
‫ولذلك يستقبلون كل حين القراء من مصر وغيرها‪ ،‬وتعقد المجالس العامة لهم‪ ،‬ليستمع‬
‫الناس إلى قراءتهم مع تتبعها في المصاحف‪.‬‬
‫ونحب أن نذكر نموذجا لذلك الولع بالقرآن الكريم بشخص قائ دهم الح الي الس يد‬
‫علي الخامنئي‪ ،‬الذي تحدث عن نفسه وعن بداية عشقه للق رآن الك ريم‪ ،‬فق ال(‪( :)1‬أوّل‬
‫نغمات القرآن العذبة قد سمعتها من والدتي‪ ..‬كنا ّ نجتم ع حوله ا‪ ،‬نجلس‪ ،‬لتق رأ ب دورها‬
‫القرآن لنا بصوت عذب ج ّداً ومؤثّر‪ ،‬وتشرح لنا بعض آياته)‬
‫ثم ذكر كيف كانت والدته تحكي لهم قصص أنبياء هللا‪ ،‬وقصص القرآن‪ ،‬وكي ف‬
‫كانت تحرص على أن تقصّها تماما ً كما يحكيها القرآن الكريم‪.‬‬
‫ثم ذكر كيف أخذه والده السيّد ج واد ه و وأخ وه إلى الكت اب حيث تعلم ا الق رآن‬
‫الكريم على الطريقة التي يدرس بها في سائر بالد العالم اإلسالمي‪ ،‬فقد (ك ان التالم ذة‬
‫يجلسون خلف األرجل المو ّزعة بشكل دائري داخل الغرفة‪ ،‬وجمي ع الحاض رين ك انوا‬
‫يقرأون القرآن‪ ،‬وكان ك ّل واحد يقرأ نصف صفحة)‬
‫ثم يذكر كيف شغف في شبابه الباكر بتالوة القراء المصريين‪ ،‬فقال‪( :‬لقد تعرفت‬
‫على قراءة القرّاء المصريّين ورأيت بعدها أنّي نعم‪ ،‬ينقصني الكثير من ناحي ة الق راءة‬
‫وعندها ك ّملت ما ينقصني)‬
‫ويذكر كيف كان يجتهد في التقاط موج ة اإلذاع ة المص ريّة في مش هد من أج ل‬
‫االستمتاع بقراءة القراء المصريين‪ ،‬وكيف كان يفرح فرحا شديدا عندما يتاح له التقاط‬
‫موجاتها بدقة‪ ،‬أو عندما تتاح له أشرطة الكاسيت‪ ،‬التي يحضرها من يذهب إلى مصر‪.‬‬
‫وقد كان من المشايخ الذين تأثر بهم ه و وجيل ه ـ كم ا ي ذكر ـ الش يخ مص طفى‬
‫إسماعيل‪ ،‬وهو أحد كبار الق راء في ذل ك الحين‪ ،‬وق د ب رر إيث اره لقراءت ه بقول ه‪( :‬إن‬
‫مصطفى إسماعيل يقرأ بااللتفات إلى المعانى والمفاهيم‪ ..‬بعض الق رّاء يق رأ باالعتم اد‬
‫فقط على الصوت‪ ،‬ويكون هدفهم أداء لحن جميل و َش ْغل الناس‪ ،‬أ ّما مصطفى إس ماعيل‬
‫ففي الوقت الذي يقرأ فيه قراءة جميلة‪ ،‬يلفت الناس إلى المعنى)‬
‫ويذكر كيف كان القرآن الكريم هو المؤنس له ولرفاقه أيام المحن التي مروا به ا‬
‫في سجون الشاه‪ ،‬وقد ذكر أنه في االعتقال األوّل‪ ،‬عندما نُقل إلى السجن العس كري في‬
‫مشهد‪ ،‬و ُجرّد من جميع وسائله‪ ،‬طلب منهم أن يتركوا القرآن بحوزته‪ ،‬فوافقوا‪.‬‬
‫ويذكر مدى التخفيف والمواساة التي كانت تحدثها قراءة القرآن الكريم لهم‪ ،‬وهم‬
‫في الس جون والمعتقالت‪ ،‬ومن ذل ك أن ه في االعتق ال الخ امس ل ه عن دما ق ام موظّف و‬
‫السافاك بتعذيب الع الم المجاه د الس يّد عب اس الموس وي القوتش اني‪ ،‬ي ذكر الس يد علي‬
‫الخامنئي أن عزاءه الوحيد كان في قراءته للقرآن‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬الشيء الوحيد ال ذي‬
‫كان في هذا السجن مصدر عزاء للسيّد الموسوي‪ ،‬هو أنّه عندما عاد بعد إنهاء التعذيب‬
‫‪ )(1‬انظر هذه النصوص من كتاب [سيرة حياة آية هللا السيد علي الحس يني الخ امنئي]‪ ،‬طه ران‪ :‬مرك ز الدراس ات‬
‫واألبحاث السياسيّة‪ ،‬ص‪.24‬‬

‫‪19‬‬
‫من زنزانته االنفراديّة‪ ،‬كان يستمع إلي قراءتي للقرآن‪ .‬وقد انتقيت بدوري آيات خاصّة‬
‫من قبل‪ ،‬وقرأتها على مسمعه لتكون بلسما ً لجراحه وراحةً لنفسه‪ ،‬ومقوّية لعزيمته)‬
‫وهكذا يذكر كيف كان الثوار حينها يستعملون القرآن الك ريم وس يلة الس تنهاض‬
‫الهمم‪ ،‬ومواجهة االستبداد والظلم الذي يقوم به الشاه‪ ،‬ومخابراته‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أنهم ـ كما يذكر ـ كانوا يدرسون سورة البقرة‪ ،‬وم ا ج رى‬
‫مع بني إسرائيل‪ ،‬ليوصلوا من خاللها رسائلهم الثورية‪ ،‬ويصف كيفية ذلك‪ ،‬فيذكر أنهم‬
‫المفس رة بص وته‬‫ّ‬ ‫بعد شرح تفسير اآليات القرآني ة يطلب من الق ارىء أن يق رأ اآلي ات‬
‫ت قارئنا‬ ‫الجميل لتستقر في النفس أكثر‪ ،‬ويقول‪( :‬اآلن وقد فهمتم معنى هذه اآليات‪ ،‬فليأ ِ‬
‫ألن الناس كانوا ق د فهم وا مع نى‬ ‫العزيز ويتلوها بلحن وصوت حسن ّ‬
‫لتلتذوا بها أكثر‪ّ ،‬‬
‫القرآن‪ ،‬كانوا يرتبطون به بنحو أسهل)‬
‫هذا نموذج بسيط عن مدى اهتمام اإليرانيين وخاصة في مش روعهم الحض اري‬
‫الجديد بالقرآن الكريم قراءة وانفعاال وتأثرا‪ ،‬وهو ما أفادهم ذلك االنتصار الكبير‪.‬‬
‫ولذلك أولوا ـ بعد انتصار الثورة االسالميّة ـ عناية خاصة بالقرآن الكريم ق راءة‬
‫ودراسة وت دبرا؛ فأسس ت أول إذاع ة للق رآن الك ريم بع د االنتص ار مباش رة‪ ،‬ثم ش كل‬
‫مجلس أعلى للق رآن في مؤسّس ة اإلذاع ة والتلفزي ون‪ ،‬وط ورت جلس ات التالوة من‬
‫خالل مشاركة القرّاء من خارج البالد وخاصّة القرّاء المصريّين‪.‬‬
‫وهكذا كانت تعقد المجالس الكث يرة للق رآن الك ريم في جمي ع أنح اء البالد‪ ،‬وفي‬
‫المؤسس ات التربوي ة المختلف ة‪ ،‬ليش ب النش أ على حب الق رآن‪ ،‬وتنش ر من خالل ذل ك‬
‫الثقافة والقيم القرآنيّة‪.‬‬
‫وقد كان السيد على الخامنئي‪ ،‬حريصا على الحض ور لتل ك المج الس‪ ،‬وخاص ة‬
‫تلك التي تعقد في شهر رمضان‪ ،‬أو أثناء المسابقات الخاصة بالترتيل والتجويد‪ ،‬وك ان‬
‫يدلي بتوجيهاته أثناء تلك القراءات ليزداد الشعب تمسكا بها‪.‬‬
‫ومن أمثلة تلك التوجيهات قوله ـ مخاطبا الشعب اإليراني ـ‪( :‬اسعو جهدكم أن ال‬
‫تقطعوا صلتكم بالقرآن‪ ..‬اقرأوا القرآن ك ّل يوم ولو نصف ص فحة؛ فه ذه جميع ا ً تق رّب‬
‫اإلنسان إلى هللا؛ وهذه األمور نفسها هي التي تجلب لالنسان صفاء ال روح واالنش راح‬
‫والفتوحات المعنويّة)‬
‫وومن أمثلتها قوله في لقائه األوّل م ع أعض اء حكوم ة من الحكوم ات الجدي دة‪:‬‬
‫(أيّها اإلخوة واألخوات األع ّزاء‪ ..‬حملكم ثقيل وعملكم ص عب ‪ ..‬فمن أج ل أن تتم ّكن وا‬
‫من عبور هذا الطريق بسالم‪ ،‬وتمضوا الـ ‪ 1450‬يوما ً ال تي أم امكم بنح و جيّ د‪ ،‬عليكم‬
‫أن ترتبطوا باهلل‪ .‬حتماً‪ ،‬اق رأوا الق رآن يوميّ اً؛ ق در م ا تس تطيعون واجعل وا ه ذا ع ادةً‬
‫حتميّة لكم)‬
‫ً‬
‫وكان يهدي الوزراء في أول توليهم لوظائفهم‪ ،‬نسخة من الق رآن الك ريم ت ذكيرا‬
‫لهم به‪ ،‬ودعوة لهم لرعايته أثناء أدائهم للمسؤوليات المناطة بهم‪.‬‬
‫وهو يعتبر كل ذلك مقدمة لتحقيق االنفعال الكام ل ب القرآن الك ريم‪ ،‬فيق ول‪( :‬من‬
‫وفن التالوة‪ ،‬والموه وبين‬ ‫أن ش بابنا ذوي الص وت وال ذوق ّ‬ ‫بركات الثورة االس الميّة‪ّ ،‬‬

‫‪20‬‬
‫والمستع ّدين للتعلّم‪ ،‬قد وردوا ـ بحم د هللا ـ ه ذا المي دان وحقّق وا نجاح ات‪ ،‬ولكن ه ذه‬
‫جميعا ً مق ّدمات؛ مق ّدمات لفهم القرآن والتخلّق بأخالق القرآن)‬
‫ويقول مخاطب ا الجم وع في جلس ة من جلس ات الق رآن‪( :‬المس ألة األس مى‪ ،‬هي‬
‫التخلّق باألخالق القرآنيّة؛ جعل طريقة الحياة متطابقة مع القرآن)‬
‫هذه مجرد شذرات تدل على مدى تقديس اإليران يين للق رآن الك ريم‪ ،‬وحبهم ل ه‪،‬‬
‫سواء كانوا عامة بسطاء‪ ،‬أو كانوا أصحاب مسؤوليات ضخمة‪.‬‬
‫ثانيا ـ االهتمام بتفسير القرآن الكريم وعلومه‪:‬‬
‫من أهم تجليات اهتمام اإليرانيين بالقرآن الكريم من لدن س لفهم األول إلى الي وم‬
‫ذلك االهتمام بتفسير الق رآن الك ريم‪ ،‬وبالص يغ المختلف ة‪ ،‬وال نب الغ إن ذكرن ا ب أن أهم‬
‫كتب التفسير بأنواعه المختلفة كانت إيرانية المنشأ‪ ،‬وإيراني ة الس بق‪ ..‬وس نحاول هن ا ـ‬
‫باختصار ـ إثبات ذلك من خالل ذكر بعض أهم م ا ألف ه اإليراني ون‪ ،‬وك ان لهم الس بق‬
‫فيه‪.‬‬
‫ونبدأ بأول نوع من أنواع التفسير وأهمها‪ ،‬وهو التفسير بالم أثور‪ ،‬ذل ك التفس ير‬
‫الذي يعتمد (على ما ورد فى القرآن الك ريم نفس ه من البي ان والتفص يل لبعض آيات ه‪،‬‬
‫باإلضافة إلى ما نُقل عن الرسول ‪ ،‬أو عن الصحابة والتابعين)(‪)1‬‬
‫حيث نجد أهم كتاب في هذا النوع من التفسير‪ ،‬بل أهم مرجع ترج ع إلي ه جمي ع‬
‫التفاسير ـ باتفاق جميع المؤرخين ـ كتاب (جامع البيان في تأويل الق رآن) البن جري ر‬
‫الطبري (‪224‬هـ ‪310 -‬هـ)‪ ،‬فهو الجامع ألكبر قدر من الروايات التفسيرية‪ ،‬وص احبه‬
‫إيراني من آمل التابعة لمحافظة مازندران(‪.)2‬‬
‫وقد قال الذهبي مبين ا أهمي ة تفس يره‪ ،‬وت أثيره فيم ا بع ده من التفاس ير‪( :‬يعت بر‬
‫المفس رين‬
‫ِّ‬ ‫تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها‪ ،‬كما يعتبر المرج ع األول عن د‬
‫الذين عنوا بالتفسير النقلى‪ ،‬وإن كان فى الوقت نفسه يُعتبر مرجع ا ً غ ير قلي ل األهمي ة‬
‫من مراجع التفس ير العقلى‪ ،‬نظ راً لم ا في ه من االس تنباط‪ ،‬وتوجي ه األق وال‪ ،‬وت رجيح‬
‫بعضها على بعض‪ ،‬ترجيحا ً يعتمد على النظر العقلى‪ ،‬والبحث الحر ال دقيق‪ ..‬ول و أنن ا‬
‫تتبعنا ما قاله العلماء فى تفسير ابن جرير‪ ،‬لوجدنا أن الباحثين فى الش رق والغ رب ق د‬
‫أجمعوا الحكم على عظيم قيمته‪ ،‬واتفقوا على أنه مرج ع ال ِغنَى عن ه لط الب التفس ير)‬
‫(‪)3‬‬
‫وذكر أس بقيته لجمي ع كتب التفس ير‪ ،‬فق ال‪( :‬ونس تطيع أن نق ول‪ :‬إن تفس ير ابن‬

‫‪ )(1‬التفسير والمفسرون (‪.)112 /1‬‬


‫‪ )(2‬آمل هي مدينة في محافظة مازندران في إي ران وهي من أك بر م دن المحافظ ة ويبل غ ع دد س كانها ‪197470‬‬
‫نسمة (عام ‪ .)2005‬ترتفع آمل ‪ 76‬متراً عن سطح البحر‪ ،‬ويبعد مركز آمل عن شاطيء بح ر ق زوين ‪ 18‬كم وعن أق دام‬
‫سلسلة جبال البرز حوالي ‪ 6‬كم‪ .‬كما تبعد آمل حوالي ‪ 180‬كم شمال شرق مدينة طهران‪ .‬كما تتمتع آم ل بموق ع مهم فهي‬
‫المدخل لعدة مدن في محافظة مازندران‪ .‬تتبع مدينة آمل العديد من القرى ذات الطبيعة الجميلة كما يمكن رؤي ة قم ة جب ل‬
‫دماوند من مدينة آمل‪.‬‬
‫‪ )(3‬التفسير والمفسرون (‪)149 /1‬‬

‫‪21‬‬
‫جرير هو التفسير الذى ل ه األ َّولي ة بين كتب التفس ير‪ ،‬أ َّولي ة زمني ة‪ ،‬وأ َّولي ة من ناحي ة‬
‫الفن والصناعة‪ ..‬أما أ َّوليته الزمنية‪ ،‬فألنه أقدم كتاب فى التفسير وصل إلينا‪ ،‬وما س بقه‬
‫من المحاوالت التفسيرية ذهبت بمرور الزمن‪ ،‬ولم يص ل إلين ا ش ئ منه ا‪ ،‬اللَّهم إال م ا‬
‫وصل إلينا منها فى ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذى نحن بص دده‪ ..‬وأم ا أ َّوليت ه من ناحي ة‬
‫الفن والصناعة‪ ،‬فذلك أم ر يرج ع إلى م ا يمت از ب ه الكت اب من الطريق ة البديع ة ال تى‬
‫سلكها فيه مؤلفه‪ ،‬حتى أخرجه للناس كتابا ً له قيمته ومكانته‪)1().‬‬
‫ونقل عن السيوطى قوله‪( :‬وكتابه ‪ -‬يعنى تفسير محمد بن جرير ‪ -‬أجَّل التفاس ير‬
‫وأعظمها‪ ،‬فإن ه يتع رض لتوجي ه األق وال‪ ،‬وت رجيح بعض ها على بعض‪ ،‬واإلع راب‪،‬‬
‫واالستنباط‪ ،‬فهو يفوق بذلك على تفاسير األقدمين)‬
‫وقال النووى‪( :‬أجمعت األُمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبرى)‪ ،‬وقال أب و‬
‫حامد اإلسفرايينى‪( :‬لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن‬
‫جرير لم يكن ذلك كثيراً)‬
‫وقد شاء هللا أن تكون المدينة التي ولد فيها الطبري هي نفسها المدين ة ال تي نش أ‬
‫فيه ا أك بر أعالم المفس رين في ه ذا العص ر الش يخ عب د هللا الج وادي اآلملي (ول د في‬
‫‪ )1932‬الفيلسوف‪ ،‬والمفس ر والمرج ع‪ ،‬وأح د أب رز العلم اء اإليران يين المعاص رين‪،‬‬
‫وهو من تالمذة المفسر والفيلسوف الكبير محم د حس ين الطباطب ائي‪ ،‬وللش يخ عب د هللا‬
‫الجوادي اآلملي باإلضافة إلى تفسيره الكبير الكثير من الكتب ح ول المع ارف القرآني ة‬
‫من أمث ال (تس نيم في تفس ير الق رآن)‪( ،‬مع ارف الق رآن من خالل الح واميم الس بع )‪،‬‬
‫و(نظرية المعرفة في القرآن الكريم)‪ ،‬و(العقيدة من خالل الفطرة في القرآن الكريم)‬
‫وهكذا نجد من أوائل من اهتم بالبالغة القرآنية‪ ،‬بل يمكن اعتباره المؤس س له ا‪،‬‬
‫عالم كان يسكن قريب ا من تل ك المدين ة‪ ،‬وه و أبــو بكــر عبــد القــاهر بن عبــد الــرحمن‬
‫الجرجاني(‪471 - 400( )2‬هـ) المنتس ب لمدين ة (جرج ان)(‪ )3‬اإليراني ة‪ ،‬وه و أح د‬
‫الل ًذين قي ل عنهم ا‪( :‬لم يفهم الق رآن إال أعرج ان أح دهما في زمخش ر‪ ،‬واآلخ ر في‬
‫جرجان)‬
‫ويعتبر ـ بش هادة ك ل الم ؤرخين ـ مؤس س علم البالغ ة‪ ،‬ويع د كتاب اه‪( :‬دالئ ل‬
‫اإلعجاز) و(أسرار البالغة) من أهم ما ألف في هذا المجال‪ ،‬وقد كان هدف ه منهم ا ه و‬
‫إعجاز القرآن الكريم وفضله على النص وص األخ رى من ش عر ون ثر‪ ،‬باإلض افة إلى‬
‫ذلك ألف رسالة في إعجاز القرآن الكريم بعنوان (الرسالة الشافية في إعج از الق رآن)‪،‬‬
‫وهي من أفضل ما ُكتِب في اإلعجاز القرآني‪ ،‬وقد نفى فيها الجرجاني القول بالص رفة‪،‬‬
‫الذي حاول البعض من خالله نفي البحث عن مدارك اإلعجاز القرآني‪.‬‬

‫‪ )(1‬التفسير والمفسرون (‪.)150 /1‬‬


‫‪ )(2‬وفيات األعيان ‪ 298 :1‬وطبقات السبكي ‪.238 :3‬‬
‫‪ )(3‬أو كركان (بالفارسية‪:‬گرگان)‪ ،‬وكانت تس ّمى قديما ً أستراباذ أو أستراباد‪ ،‬وهي إحدى المدن الشهيرة في إيران‪.‬‬
‫وتقع في شمالي إيران حالياً‪ ،‬وك انت جرج ان مرك ز منطق ة اس ترآباد‪ ..‬وإليه ا ينتس ب الش ريف الجرج اني والميردام اد‬
‫الحسيني الفيلسوف والمير فندرسكي واللغوي النحوي علي الفصيحي وكذلك األمين األسترابادي‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وقريب من تلك الم دن ال تي ول دت فيه ا المؤلف ات المرتبط ة بالتفس ير بالم أثور‬
‫والبالغة القرآنية ولد أكبر من صنّف في التفسير بالرأي الشيخ فخر الدين الرازي‪ ،‬ابن‬
‫خطيب الري‪ ،‬وهو من العلماء الذين جمعوا بين تخصصات مختلفة‪ ،‬فهو مفس ر وفقي ه‬
‫وأصولي‪ ،‬وباحث في الفيزياء‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬والطب‪ ،‬والفلك‪.‬‬
‫ويعتبر كتابه (التفسير الكبير) الذي سماه (مفاتيح الغيب) من أك ثر كتب التفس ير‬
‫تحقيقا وبحثا في المعاني القرآنية‪ ،‬وما يرتبط بها من العل وم المختلف ة‪ ،‬وق د ق ال محم د‬
‫السيد حسين الذهبي عنه‪( :‬إن تفسير الفخر الرازى ليحظى بشهرة واسعة بين العلم اء‪،‬‬
‫وذلك ألنه يمت از عن غ يره من كتب التفس ير‪ ،‬باألبح اث الفيَّاض ة الواس عة‪ ،‬فى ن واح‬
‫شتَّى من العلم‪ ،‬ولهذا يصفه ابن خلكان فيقول‪( :‬إن الفخر الرازى جمع فيه ك ل غ ريب‬
‫وغريبة)(‪)1‬‬
‫وهكذا نجد ناصر الدين البيضاوي ( ت ‪691‬هـ) صاحب تفسير (أن وار التنزي ل‬
‫وأسرار التأوي ل)‪ ،‬وه و من أش هر التفاس ير ال تي اعتم دها المت أخرون لس هولتها‪ ،‬من‬
‫إيران من مدين ة البيض اء‪ ،‬ق رب ش يراز‪ ،‬وت وفي في ت بريز‪ ،‬وتفس يره يعت بر نموذج ا‬
‫للكتب الدراسية المقررة التي تعتمد التلخيص والتبسيط‪.‬‬
‫وهكذا نجد أكبر من اهتم باللغ ة القرآني ة وتحري ر مفرداته ا ومص طلحاتها علم‬
‫كبير من أعالم إيران في التفس ير وغ يره‪ ،‬وه و ال راغب األص فهاني ( ت ‪ 502‬هـ)‪،‬‬
‫وهو من أه ل (أص فهان)‪ ،‬وق د كتب في اللغ ة القرآني ة والتفس ير الكتب ال تي ال ت زال‬
‫مراجع في بابها‪ ،‬ولم يس بق لمثله ا‪ ،‬ومن أهمه ا كتاب ه (المف ردات في غ ريب الق رآن)‬
‫و(حل متشابهات القرآن) و(جامع التفاس ير)‪ ،‬باإلض افة إلى كتب ه في األخالق واآلداب‬
‫من أمث ال (الذريع ة إلى مك ارم الش ريعة) و(األخالق) ويس مى (أخالق ال راغب)‬
‫و(تفصيل النشأتين) في الحكمة وعلم النفس‪ ،‬وغيرها من الكتب‪.‬‬
‫وعلى هذا المنوال نجد أقدم كتب التفسير اإلشاري الصوفي كتاب سهل بن عبــد‬
‫هللا التســتري (المت وفى‪283 :‬هـ)‪ ،‬وه و من (تس تر) إح دى م دن محافظ ة خوزس تان‬
‫الموجودة في إيران‪ ،‬وكان سهل التستري أحد أكبر أئمة الص وفية وعلم ائهم المتكلمين‬
‫في علوم اإلخالص والرياضيات وعيوب األفعال‪ ،‬وقد ق ال عن ه أب و نعيم األص فهاني‬
‫في كتابه (حلية األولياء)‪( :‬عامة كالم سهل في تص فية األعم ال‪ ،‬وتنقي ة األح وال عن‬
‫المعايب واألعالل)‬
‫وهكذا نجد أقدم كتب التفسير الفقهي كت اب (أحك ام الق رآن) ألبي بك ر أحم د بن‬
‫علي الرازي الجصاص ((‪370 - 305‬هـ )‪ ،‬ويعد من أفضل وأسبق ما كتب في أحكام‬
‫القرآن‪ ،‬ويقع في ثالثة مجلدات‪ ،‬وهو رازي منسوب إلى ال ري‪ ،‬وهي ج زء من مدين ة‬
‫طهران في إيران المعاصرة(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬التفسير والمفسرون (‪)208 /1‬‬


‫‪ )(2‬الري (بالفارسية‪:‬شهر ری) هي مدين ة تاريخي ة أض حت الي وم ج ز ًء من الجن وب الش رقي لمدين ة طه ران في‬
‫إيران‪ ،‬وإليها ينسب الكثير من األعالم من أمثال قطب ال دين ال رازي (‪766-694‬هـ) الفيلس وف وع الم المنط ق‪ ،‬ونجم‬
‫الدين الرازي (‪654-573‬هـ) الصوفي المعروف‪ ،‬و‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ومن التفاسير الكبرى التي ألفه ا إيراني ون‪ ،‬وك انت مص ادر ك برى للتفس ير في‬
‫جميع العالم اإلس المي‪ ،‬ولف ترات طويل ة تفس ير (غ رائب الق رآن ورغ ائب الفرق ان)‪،‬‬
‫المعروف بتفسير النيسابوري الذي ألفه العالمة نظام الدين حس ن بن محم د بن حس ين‬
‫القمي النيسابوري‪ ،‬إمام المفسرين في عصره‪ ،‬وهو ينتسب إلى عاصمتين من عواص م‬
‫الحضارة في إيران نيسابور‪ ،‬ومدينة قم‪.‬‬
‫ومنها تفسير ابن أبي حاتم الرازي (‪ 327 - 240‬هـ)‪ ،‬وه و من أق دم التفاس ير‬
‫بالمأثور‪ ،‬وعليه وعلى تفسير الطبري يعتمد هذا النوع من التفسير‪ ،‬وهو كما تدل عليه‬
‫نسبته من مدينة الري‪ ،‬الموجودة حاليا في طهران‪.‬‬
‫ومؤلف ه ه و أب و محم د عب د ال رحمن بن محم د بن أبي ح اتم الحنظلي (‪)1‬‬

‫الرازي(‪ 327 - 240( )2‬هـ)‪ ،‬وهو من كبار حفاظ الحديث‪ ،‬رح ل في طلب الح ديث‬
‫إلى البالد مع أبيه وبعده‪ ،‬وأدرك األسانيد العالية‪،‬كان إماما في معرفة الرجال‪ .‬قال أب و‬
‫الوليد الباجي‪ :‬ابن أبي حاتم ثقة حافظ‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته‪( :‬الجرح والتعديل)‪ ،‬والتفس ير‪ ،‬في ع دة مجل دات‪ ،‬كم ا ص نف في‬
‫الفقه واختالف الصحابة والتابعين‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ه ذه الكتب الس نية‪ ،‬وال تي ك ان له ا الس بق على غيره ا في ه ذا‬
‫المجال‪ ،‬نجد كبار كتب التفسير الشيعية تخرج من المدن اإليرانية‪ ،‬ب ل من نفس الم دن‬
‫التي صدرت منها تلك الكتب السنية‪ ،‬وهو دليل على األخوة التي كانت تربط بين جميع‬
‫سكان إيران سنتهم وشيعتهم‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أشهر كتاب شيعي في التفسير‪ ،‬تفسير (مجمع البيان لعلوم‬
‫المفس ر‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫القرآن)‪ ،‬ألبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسى المشهدى‪ ،‬الع الِم‪،‬‬
‫الفقيه‪ ،‬المحدِّث‪.‬‬
‫وميزته أنه من التفاسير التي تجد رواجا وقبوال عند كل من الشيعة والس نة‪ ،‬ب ل‬
‫اعتبره الفريقان من أقدم المصادر التفسير ية‪ ،‬وق د اعتم د في ه منهجي ة علمي ة مم يزة‪،‬‬
‫حيث يعتمد على اللغة‪ ،‬ثم اإلعراب‪ ،‬ثم الحجة‪ ،‬ثم القراءة‪ ،‬ثم المعنى‪ ،‬وال يقتصر على‬
‫آراء م ذهب دون آخ ر‪ ،‬ب ل ي ذكر آراء جمي ع الم ذاهب اإلس المية‪ ،‬ول ذلك ص ار ه ذا‬
‫التفسير مميزاً عن سائر التفاسير‪ ،‬ومعترفا ً به من قبل األمة اإلسالمية قاطبة‪.‬‬
‫وقد نقل الذهبي في (التفس ير والمفس رون) عن بعض هم ق ولهم عن ه‪( :‬إن عم دة‬
‫المفسِّرين‪ ،‬أمين الدين‪ ،‬ثقة اإلسالم‪ ،‬أبو عل ّى الفاضل بن الحسن بن الفضل الطبرس ى‪،‬‬
‫كان من نحارير علماء التفسير‪ ،‬وتفس يره الكب ير الموس وم بمجم ع البي ان‪ ،‬بي ان ك اف‬
‫ودليل واف لجامعيته لفنون الفضل والكمال‪ ،‬ثم لما وصل إلي ه بع د ه ذا الت أليف كت اب‬
‫الكشاف واستحسن طريقته‪ ،‬ألَّف تفس يراً آخ ر مختص راً‪ ،‬ش امالً لفوائ د تفس يره األول‬
‫ولط ائف الكش اف‪ ،‬وس ماه الجوام ع‪ ،‬ول ه تفس ير ث الث أيض ا ً أخص ر من األولين‪،‬‬

‫‪ )(1‬الحنظلي نسبة إلى درب حنظلة بالري‪.‬‬


‫‪ )(2‬تذكرة الحفاظ ‪46 / 3‬؛ وطبقات الحنابلة ‪55 / 2‬؛ واألعالم للزركلي ‪99 / 4‬‬

‫‪24‬‬
‫والكالم)(‪)1‬‬
‫وتصانيف أخرى فى الفقه‬
‫وقد أشاد بهذا التفس ير جمي ع رواد التق ريب بن الم ذاهب اإلس المية‪ ،‬ومن بينهم‬
‫الشيخ محمود شلتوت شيخ ج امع األزه ر ال ذي ق ال في مقدمت ه إلح دى طبعات ه‪ّ :‬‬
‫(إن‬
‫تفسير مجمع البيان بما فيه من مزايا يفضل على جميع تفاسير الق رآن المؤلف ة من قب ل‬
‫علماء اإلسالم على اختالف مسالكهم ومذاهبهم طوال مئآت السنين)(‪)2‬‬
‫وقال عنه الش يخ عب د المجي د س ليم‪ ،‬ش يخ الج امع األزهر آن ذاك ووكيل جماعة‬
‫التقريب‪( :‬هو كتاب جليل الشأن غزير العلم كثير الفوائد وحس ن ال ترتيب‪ ،‬ال أحس بني‬
‫مبالغا ً إذا قلت إنه في مقدمة كتب التفس ير ال تي تع د مراج ع لعلوم ه وبحوث ه‪ ،‬وج دت‬
‫صاحبه عميق التفكر عظيم التدبر‪ ،‬متمكنا من علم ه‪ ،‬قوي ا في أس لوبه وتعب يره‪ ،‬ش ديد‬
‫الحرص على أن يجلى للنّاس كثيرا من المسائل التي يفيدهم علمها)‬
‫ومن التفاسير الش يعية المؤلف ة في إي ران (تفس ير الص افى) لمؤلف ه مال محس ن‬
‫الفيض الكاش اني‪ ،‬ومؤلف ه من (كاش ان) المدين ة اإليراني ة المعروفة(‪ ،)3‬وتفس يره من‬
‫التفاسير الروائي ة (أي‪ :‬تفس ير اآلي ات بن اء على م ا ورد في الرواي ات)‪ ،‬وه و تفس ير‬
‫مختصر وشامل‪ ،‬وكان موضع اهتم ام المفس رين ال ذين ج اؤوا بع ده‪ ،‬فق د ك ان الس يد‬
‫محمد الحسين الطباطبائي يستشهد كثيرا بأقوال مؤلفه في تفسيره الميزان‪ ،‬وكان محمد‬
‫هادي معرفة يقول عن ه‪( :‬وه ذا التفس ير – على جملته – من نف ائس التفاس ير الجامعة‬
‫ل ُج ّل المرويات عن أئمة أهل البيت إن تفسيراً أو تأويالً‪ .‬وإن كان فيه بعض الخل ط بين‬
‫الغث والسمين)(‪ ،)4‬ويقول عنه محمد علي أيازي‪ :‬هذا التفسير ‪ -‬بالنس بة إلى التفاس ير‬ ‫ّ‬
‫األخرى ‪ -‬تفسير مختصر للقرآن الك ريم‪ ،‬وك ان في الس ابق موض ع اهتم ام أه ل العلم‬
‫والبحث في الحوزات العلمية حتى تم تدريسه للطلبة في الحوزة‪.‬‬
‫هذه نماذج عن بعض التفاسير القرآنية القديمة التي ألفت في إيران‪ ،‬ومن علم اء‬
‫إيرانيين‪ ،‬كان لهم السبق في المجاالت التي كتبوا فيها‪..‬‬
‫أما إيران المعاصرة‪ ،‬فقد أولت التفسير القرآني أهمي ة ال يض اهيها فيه ا ك ل م ا‬
‫ألف في العصور السابقة‪ ،‬حيث نجد الكثير من المفسرين ال ذين ألف وا التفاس ير البديع ة‬
‫المتقنة‪ ،‬والتي حاولت أن تتجاوز المذاهب والطوائف اإلسالمية‪.‬‬
‫ولعل من أهم تلك التفاسير ما ألفه العالمت ان الكب يران الش يخ جعف ر الس بحاني‪،‬‬
‫والشيخ ناصر مكارم الشيرازي‪:‬‬
‫أما أولهما‪ ،‬فهو العالمة الكبير الشيخ جعفر بن محمد حسين السبحاني الخياباني‬
‫الت بريزي‪ ،‬الع الم اإلي راني الكب ير ص احب الت آليف الكث يرة في علم الكالم والتفس ير‬
‫‪ )(1‬التفسير والمفسرون (‪.)74 /2‬‬
‫‪ )(2‬الطبرسي‪ ،‬مجمع البيان لعلوم القرآن‪ ،‬المقدمة‪.‬‬
‫‪ )( 3‬وهي رابع أهم مدينة إيرانية من حيث وجود اآلثار التاريخية فيها بعد أصفهان وشيراز وي زد‪ ،‬فهي عريق ة في‬
‫التاريخ في الفن المعماري اإليراني‪ .‬كما أن كاشان تُعرف عالميا ً بسجّ ادها ال ذي تص نعه أنام ل نس ائها في أغلب بيوته ا‪،‬‬
‫فضالً عن مصانع السجّ اد الحديثة الموجودة في هذه المدينة‪..‬‬
‫‪ )(4‬التفسير والمفسرون‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.336‬‬

‫‪25‬‬
‫والفلسفة (‪ ،)1‬والذي لم تمنعه فارسيته من التبحر في اللغة العربية وت ذوقها‪ ،‬وق د ق ال‬
‫عنه الشيخ محم د تقي التس تري في تقريض ه لبعض كتب ه‪( :‬والعجب أنكم رغم نش أتكم‬
‫في إي ران أخ ذتم بناص ية اللغ ة العربي ة ك أديب مص ري أو بغ دادي‪ ،‬ف أتيتم بتع ابير‬
‫عصرية رائجة)(‪)2‬‬
‫وقد كان من أبرز تالم ذة قائ د الث ورة اإلس المية اإلم ام الخمي ني‪ ،‬حيث حض ر‬
‫درس ه األص ولي لس بع س نوات‪ ،‬وق رر أبحاث ه االص ولية ال تي طبعت تحت عن وان‬
‫(تهذيب األصول) في ثالثة أجزاء‪ ،‬سنة ‪1955‬م‪.‬‬
‫وقد كان من أهم المج االت ال تي أواله ا اهتمام ه الكب ير تفس ير الق رآن الك ريم‬
‫والدراسات المرتبطة ب ه‪ ،‬وق د ع بر عن ذل ك في بعض كتب ه بقول ه‪( :‬ثم من فض ل هللا‬
‫ومنته على عبده الفقير هو أني عشت مع القرآن الكريم قراءة وتفسيراً‪ ،‬م دة مدي دة من‬
‫عمري‪ ،‬منذ شبابي إلى هرمي‪ ،‬وقد ألفت في تفسير الق رآن موس وعتين باللغ ة العربي ة‬
‫والفار سية‪ ،‬كما فسرت عددا كبيرا من سور القرآن الكريم‪ ،‬وأم ا اآلن ف إني ع ازم بما‬
‫يسنح به العمر على تفسير أجزاء القرآن الكريم)‬
‫وكان الشيخ السبحاني رائدا التفسير الموضوعي للقرآن الكريم‪ ،‬حيث أصدر فيه‬
‫كتاب ه الكب ير (مف اهيم الق رآن)‪ ،‬وال ذي ال نج د نظ يرا ل ه لألس ف في س ائر الم دارس‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حيث تناول فيه الكثير من المواضيع والقضايا األساس ية في الق رآن الك ريم‬
‫كالتوحيد والصفات االلهية والنبوة واإلمامة والمعاد والحكومة االسالمية وغيرها‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ه ذا نج د في قائم ة مؤلف ات الش يخ الس بحاني ال تي تن وف على (‬
‫‪ )250‬كتابا ً عشرات الكتب العلمية حول القرآن الكريم‪ ،‬ومعالجة موضوعاته المختلفة‪.‬‬
‫وقد أشار الشيخ حسن الص فار إلى أهمي ة كتاب ات الش يخ الس بحاني في التفس ير‬
‫عند عرضه ألحد تفاسيره‪ ،‬وهو (منية الط البين في تفس ير الق رآن الم بين) بقول ه‪( :‬إن‬
‫الساحة الفكرية االسالمية تستقبل اآلن مشروعا قرآنيا واعداً‪ ،‬يوفر فرصة رائعة ألبناء‬
‫ه ذا الجي ل من األم ة‪ ،‬في التع رف على مع اني آي ات الق رآن الك ريم‪ ،‬واستش فاف‬
‫مضامينها‪ ،‬بما يواكب تطورات الحياة المعاصرة‪ ،‬ويستجيب للتحديات الفكرية القائمة‪،‬‬
‫بلغة واضحة‪ ،‬وأسلوب جذاب‪ ،‬بعيدا عن اإلسهاب الممل‪ ،‬واالختصار المخل‪ ..‬وس يجد‬
‫من يطلع على األجزاء الصادرة من هذا التفسير المميّز‪ ،‬كيف يوظّف الشيخ الس بحاني‬
‫خبرته وتجربته العلمية في مختلف حقول المعرفة‪ ،‬للغوص في اعم اق مع اني اآلي ات‬
‫الكريمة‪ ،‬من أجل تقديم آللئ مضامينها ناصعة مشرقة بين يدي القارئ الكريم)‬
‫ثم وصف طريقته في التفسير‪ ،‬فقال‪( :‬فحينما تستبطن اآلية معنى عق دياً‪ ،‬ي برزه‬
‫ويجلّيه بدقة ووضوح‪ ..‬وحين تشير اآلية إلى حدث تاريخي‪ ،‬يسلط عليه األض واء بم ا‬
‫يخدم هدف اآلية من أخذ العبرة والدروس‪ ..‬وإذا تضمنت اآلي ة حكم ا تش ريعيا‪ ،‬ن اقش‬

‫‪ )(1‬وهو مؤسس مؤسسة اإلمام الصادق والمشرف عليها‪ ،‬وهي من المؤسس ات الثقافي ة اإلس المية الكب يرة في قم‪،‬‬
‫وتتبعها مؤسسات ومراكز فرعية أخرى‪..‬‬
‫‪ )(2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬منية الطالبين في تفسير القرآن المبين عص ارة خ برة علمي ة وثم رة مس يرة حافل ة‪ ،‬الش يخ‬
‫حسن الصفار‪ ،‬مجلة البصائر ‪2015 / 11 / 9‬م ‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫اختالف المذاهب والفقهاء في تشخيص ذل ك الحكم‪ ..‬وعن دما تع الج اآلي ة بع داً تربوي ا ً‬
‫أخالقياً‪ ،‬يتناول مقاصدها في تزكية النفس وتقويم السلوك‪ ..‬وهكذا يج د الق ارئ الك ريم‬
‫نفسه امام بحوث علمية مر ّكزة‪ ،‬وطرح معرفي مكثّف‪ ،‬بلغة عصرية واضحة مشرقة)‬
‫(‪)1‬‬
‫أم ا الث اني‪ ،‬فه و العالمــة الكبــير ناصــر مكــارم الشــيرازي‪ ،‬أح د أك بر العلم اء‬
‫المعاصرين‪ ،‬والذي كان من المشاركين الكبار في قيام الثورة اإلسالمية في إيران‪ ،‬وقد‬
‫تعرض للنفي عدة مرات‪ ،‬ويعد اليوم من أبرز القيادات الدينية في إيران‪.‬‬
‫ومن كتبه في التفس ير (تفس ير األمث ل)‪ ،‬وق د كتب ه في البداي ة باللغ ة الفارس ية‪،‬‬
‫وصدر في سبعة وعشرين مجلَّدًا ث َّم ترجم بعدها إلى العربية‪ ،‬وقد اس تغرق العم ل في ه‬
‫قرابة الخمسة عشر عا ًما امت َّدت من ‪1396‬هـ ولغاية ‪1410‬هـ‪.‬‬
‫ومن مزايا هذا التفسير كونه وضع بعب ارات سلس ة‪ ،‬قابل ة للفهم من قب ل الع وام‬
‫والخواص‪ ،‬ألن الهدف من كتابته كان ـ كما ي ذكر ص احبه ـ أال يستعص ي فهم ه على‬
‫الن اس‪ ،‬ح تى يتمكن وا من فهم وت دبُّر مع اني الق رآن العظيم‪ ،‬ول ذلك ن راه يبتع د عن‬
‫التعقيدات في طرح المطالب العلمية والمصطلحات الغامضة‪.‬‬
‫وقد ذكر في مقدمة التفسير دوافعه لتأليفه‪ ،‬فقال‪( :‬واجهنا دو ًما أسئلة وردت إلينا‬
‫من مختلف الفئات ‪-‬وخاصة الشباب المتعطِّش إلى نب ع الق رآن‪ -‬عن التفس ير األفض ل‪.‬‬
‫هذه األسئلة تنطوي ض منيًا على بحث عن تفس ير ي بيِّن عظم ة الق رآن عن تحقي ق وال‬
‫عن تقلي د ويجيب على م ا في الس احة من احتياج ات وتطلُّع ات وآالم وآم ال‪ ..‬تفس ير‬
‫يجدي ك ّل الفئ ات‪ ،‬ويخل و عن المص طلحات العلمي ة المعقَّدة‪ ،‬وه ذا التفس ير دوّن على‬
‫أساس هذين الهدفين)(‪)2‬‬
‫ومن مزاي ا ه ذا التفس ير كون ه من التفاس ير ال تي راعت التق ريب بين الم ذاهب‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حيث نجده يش تمل على تحقيق ات مهم ة من الم دارس اإلس المية المختلف ة‪،‬‬
‫فهو يرجع لتفسير مجمع البيان للطبرسي‪ ،‬والجامع ألحكام القرآن‪ ،‬والميزان في تفسير‬
‫القرآن للطباطبائي‪ ،‬والمن ار‪ ،‬وتفس ير ن ور الثقلين للح ويزي‪ ،‬والتفس ير الكب ير للفخ ر‬
‫ال رازي‪ ،‬وظالل الق رآن لس يد قطب‪ ،‬وتفس ير الم راغي وغيره ا من الكتب‪ ،‬ويص يغ‬
‫عباراتها بلغة سلسلة مبسطة‪ ،‬يمكن فهمها لعوام الناس وخواصهم‪.‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن اهتمام اإليرانيين بتفسير القرآن الكريم وفهمه والتدبر فيه‪،‬‬
‫والتي لم تكتف بالعلم اء واألس اتذة المتف رغين‪ ،‬وإنم ا ش ملت أيض ا كب ار الق ادة ال ذين‬
‫أنيطت بهم أكبر المهمات إبان الثورة اإلسالمية‪.‬‬
‫ومنهم اإلمام الخميني الذي كان له اهتمام كبير بتفسير الق رآن الك ريم‪ ،‬فق د ك ان‬
‫يفسره في مجالسه المختلفة‪ ،‬وقد جمعت تلك المجالس في تفسير خاص‪ ،‬س مي (تفس ير‬
‫القرآن الكريم المستخرج من آثار اإلمام الخميني)‪ ،‬وقد نشره قسم الش ؤون الدولي ة في‬
‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬منية الطالبين في تفسير القرآن المبين عص ارة خ برة علمي ة وثم رة مس يرة حافل ة‪ ،‬الش يخ‬
‫حسن الصفار‪ ،‬مجلة البصائر ‪2015 / 11 / 9‬م ‪..‬‬
‫‪ )(2‬األمثل في تفسير كتاب هللا المنزل ج‪ -1‬ص‪..5‬‬

‫‪27‬‬
‫مؤسسة تنظيم ونشر تراث اإلمام الخميني في خمسة مجلدات‪.‬‬
‫ثالثا ـ االهتمام بتفعيل القرآن الكريم في الحياة‪:‬‬
‫من مظاهر االهتمام التي يوليها اإليرانيون للقرآن الكريم‪ ،‬تلك الدعوات الكث يرة‬
‫لتفعيله في الحياة‪ ،‬فهو الكتاب الذي يحوي جميع القيم اإليمانية واألخالقية والحضارية‪،‬‬
‫وه و الكت اب ال ذي جعل ه هللا حبل ه المم دود إلنق اذ البش رية وتخليص ها من األه واء‬
‫واالستبداد وكل أنواع الفتن‪ ،‬كما قال اإلمام الصادق‪( :‬من لم يع رف الح ق من الق رآن‬
‫لم يتنكب الفتن)(‪)1‬‬
‫وسر ذلك كما عبر عنه هو (أن هللا تبارك وتعالى لم يجعل ه لزم ان دون زم ان‪،‬‬
‫وال لناس دون ناس‪ ،‬فهو في كل زمان جديد‪ ،‬وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة) (‪)2‬‬
‫ولذلك حم ل اإليراني ون من س الف الزم ان ه ذا الن وع من االهتم ام‪ ،‬وكي ف ال‬
‫يفعلون ذلك‪ ،‬وقد سمعوا صيحات اإلمام الرضا فيهم‪ ،‬وهو يخاطبهم من مشهد‪ ،‬واص فا‬
‫القرآن الكريم بقوله‪( :‬هو حبل هللا المتين‪ ،‬وعروت ه ال وثقى‪ ،‬وطريقت ه المثلى‪ ،‬الم ؤدي‬
‫إلى الجنة‪ ،‬والمنجي من النار‪ ،‬ال يخل ق على األزمن ة‪ ،‬وال يغث على األلس نة‪ ،‬ألن ه لم‬
‫يجعل لزمان دون زمان‪ ،‬ب ل جع ل دلي ل البره ان‪ ،‬والحج ة على ك ل إنس ان‪ ،‬ال يأتي ه‬
‫الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(‪)3‬‬
‫وسمعوا بعده اإلمام الج واد‪ ،‬وه و يح ذرهم من نب ذ الق رآن الك ريم‪ ،‬أو تحري ف‬
‫معانيه وقيمه‪ ،‬ويق ول لهم‪( :‬ك ل أم ة ق د رف ع هللا عنهم علم الكت اب حين نب ذوه ووالهم‬
‫عدوهم حين تول وه‪ ،‬وك ان من نب ذهم الكت اب أن أق اموا حروف ه وحرف وا ح دوده‪ ،‬فهم‬
‫يروون ه وال يرعون ه‪ ،‬والجه ال يعجبهم حفظهم للرواي ة‪ ،‬والعلم اء يح زنهم ت ركهم‬
‫للرعاية)(‪)4‬‬
‫وبناء على تلك الدعوات وغيرها‪ ،‬سار الكثير من المجددين ودعاة اإلحياء الذين‬
‫أنجبتهم إيران طيلة تاريخها‪ ،‬والذين كان لهم األثر البالغ على العالم اإلسالمي جميعا‪.‬‬
‫ولبيان هذا وتأكيده‪ ،‬نحب أن نقتصر هن ا على مث الين من المش روع الحض اري‬
‫اإليراني القديم‪ ،‬ومثالين من المشروع الحضاري الجديد‪.‬‬
‫أما المثال األول من المشروع الحضاري اإليراني القديم‪ ،‬فهو أبو حامد الغ زالي‬
‫الذي عاش وتربى في مشهد‪ ،‬تلك المدينة التي تشرفت باإلمام الرض ا‪ ،‬وك انت تعاليم ه‬
‫ال تزال تؤثر فيها‪ ،‬والذي ال يشك أحد في كونه حلقة مهمة في تاريخ اإلحياء والتجدي د‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫وقد كان من أهم ما تركزت علي ه دع وة الغ زالي اإلحيائي ة‪ ،‬الع ودة إلى الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وعدم االكتفاء بقراءته قراءة مجردة عن أي تأثير واقعي‪ ،‬وق د وض ع في ذل ك‬

‫‪ )(1‬المحاسن‪.702 / 341 / 1 :‬‬


‫‪ )(2‬البحار‪8 / 15 / 92 :‬‬
‫‪ )(3‬عيون أخبار الرضا ‪9 / 130 / 2 :‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪16 / 53 / 8 :‬‬

‫‪28‬‬
‫كتابه المع روف (ج واهر الق رآن) ال ذي بين في ه من اهج ت دبر الق رآن‪ ،‬واالس تفادة من‬
‫حقائقه في جميع من احي الحي اة‪ ،‬وق د ذك ر في مقدمت ه غرض ه من تأليف ه‪ ،‬فق ال‪( :‬إِني‬
‫الوتِ ك‪ ،‬ال ُمتَّ ِخ ُذ دراس ة الق رآن عمالً‪ ،‬ال ُمتَلقِّفُ‬ ‫أُنَبِّهك على َر ْقدَتك‪ ،‬أيُّها ال ُمستَر ِس ُل في تِ َ‬
‫من معاني ه ظ واهر و ُج َمالً‪ ،‬إلى كم تط وف على س احل البح ر ُم َغ َّمض ا ً عيني ك عن‬
‫ْص َر عجائبَه ا؟ وتس افَر إلى جزائره ا‬ ‫غرائبها؟ أَ َو َما كان ل ك أن ت ركب َم ْتنَ لُ َّجتِه ا لِتُب ِ‬
‫ك في‬ ‫أوم ا تُ َعيِّر نفس َ‬ ‫وص في عمقه ا فتس تغني بِنَ ْي ِل جوا ِهره ا؟ َ‬ ‫َ‬ ‫ِآلجتِنَاء أطَايِبِه ا؟ وتغ‬
‫أوم ا بَلغ ك أن‬ ‫الحرمان عن د َُر ِرها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ َ‬
‫واآلخرينَ كما يتشعب عن سواحل‬ ‫ِ‬ ‫القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعَّب عل ُم األَوَّلينَ‬
‫أوما تَ ْغبِطُ أقواما ً خاضوا في غَمرة أمواجه ا فظف روا‬ ‫وجداولُها؟ َ‬
‫ِ‬ ‫البحر المحيط أنهارُها‬
‫بالكبريت األحمر؟ وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوتَ األحم َر‪ ،‬وال ُد َّر األزهَ َر‪،‬‬
‫ق إخائِ ك‪ ،‬و ُمرتَجي ا ً بَ َرك ة دعائ ك إلى‬ ‫قاضيا ً ح َّ‬
‫ِ‬ ‫وال َّزبَرْ َج َد األخضر؟ ‪ ..‬وها أنا أُرشدك‬
‫غوْ صهم وسباحتهم)(‪)1‬‬ ‫كيفية سياحتهم و َ‬
‫ونجد أمثال هذه الدعوة في كل كتبه‪ ،‬وخاصة في (إحياء علوم الدين) ال ذي دع ا‬
‫فيه إلى العبور إلى حقائق القرآن‪ ،‬وعدم االكتفاء بظاهر التالوة‪ ،‬وقد كانت تل ك اآلداب‬
‫من أحسن ما كتب في التعامل اإليماني مع الق رآن الك ريم‪ ،‬وال يمكن ألح د أن يقرأه ا‪،‬‬
‫وينفعل لها دون أن يتأثر بذلك‪ ،‬وتتغير قراءته للقرآن الكريم تغيرا جذريا‪.‬‬
‫ومما له عالقة كبرى بتفعيل الق رآن الك ريم في الحي اة ذل ك األدب الرفي ع ال ذي‬
‫س ماه الغ زالي (التخص يص)‪ ،‬ويع ني ب ه أن يق در ق ارئ الق رآن أثن اء قراءت ه أن ه‬
‫المخصوص بكل خطاب فيه‪ ،‬فإن س مع أم را أو نهي ا ق در أن ه المنهي والم أمور‪ ،‬وإن‬
‫سمع وعدا أو وعيدا فمثل ذلك‪( ،‬وكيف ال يقدر هذا‪ ،‬والقرآن ما أن زل على رس ول هللا‬
‫‪ ‬لرسول هللا ‪ ‬خاصة‪ ،‬بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين) (‪)2‬‬
‫ونتيجة ذلك ـ كما يرى الغزالي ـ أن ال تتخذ دراسة القرآن عمال‪ ،‬بل يق رؤه كم ا‬
‫يقرأ العبد كتاب مواله الذي كتبه إليه ليتأمله‪ ،‬ويعمل بمقتضاه‪ ،‬وينقل الغ زالي في ذل ك‬
‫عن مالك بن دينار قوله‪( :‬ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل الق رآن؟‪ ..‬إن الق رآن ربي ع‬
‫المؤمن‪ ،‬كما أن القرآن ربيع األرض)(‪)3‬‬
‫وال يكون ذلك ـ كم ا ي رى الغ زالي ـ إال بالتعام ل الج دي م ع الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫واعتبار كل ما فيه حكمة وفائ دة في ح ق ك ل ش خص بعين ه‪ ،‬فليس ت قصص ه ـ مثالـ‬
‫سمرا غير مقصود‪ ،‬وإنما هي عبر وتثبيت لمن تأملها‪ ،‬وألجل هذا أمر هللا تعالى الكافة‬
‫بشكر نعم ة الق رآن الك ريم باعتب ار نزول ه غ ير مختص ب ه ‪ ،‬ب ل ه و متعل ق بك ل‬
‫مكل ف‪ ،‬فق د ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُك رُوا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم َو َم ا أَ ْن زَ َل َعلَ ْي ُك ْم ِمنَ ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب‬

‫‪ )(1‬جواهر القرآن (ص‪)21 :‬‬


‫إحياء علوم الدين‪.1/284 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫إحياء علوم الدين‪.1/285 :‬‬ ‫‪)(3‬‬

‫‪29‬‬
‫َو ْال ِح ْك َم ِة يَ ِعظُ ُك ْم بِ ِه﴾‬
‫(البقرة‪)1()231:‬‬
‫هذا المثال األول‪ ،‬وال يشك أحد في تأثيره في العالم اإلسالمي‪ ،‬ولف ترات طويل ة‬
‫ج دا‪ ،‬ب ل ال نك ون مب الغين إن زعمن ا أن ت أثيره ال ي زال س اريا إلى الي وم‪ ،‬وفي ك ل‬
‫الم دارس اإلس المية‪ ،‬ذل ك أن كتاب ه (إحي اء عل وم ال دين) ق د تناول ه الفيض الكاش اني‬
‫بالته ذيب‪ ،‬ونقل ه إلى المدرس ة الش يعية‪ ،‬لتص بح القيم ال تي ذكره ا في ه مص درا من‬
‫مصادر الوحدة اإلسالمية‪.‬‬
‫أما المثال الثاني‪ ،‬فهو باعث النهضة في العصر الحديث‪ ،‬والذي كان ل ه الت أثير‬
‫الفاعل في كل الدعاة والمفكرين الذين جاءوا بعده (جم ال ال دين األس د أب ادي) وال ذي‬
‫اشتهر بلقب باألفغاني مع كونه ك ان إيراني ا‪ ،‬ولم يكن أفغاني ا‪ ،‬ولكن المص لحة والتقي ة‬
‫دعته ألن يلقب بذلك اللقب خوفا على دعوته من أن تغتال إذا علمت السلطات العثمانية‬
‫خصوصا بأصله(‪.)2‬‬
‫وقد كان جوهر دعوة جمال الدين ينطلق من العودة إلى القرآن الك ريم‪ ،‬وتفعلي ه‬
‫في جميع مناحي الحياة‪ ،‬أو كما عبر عن ذلك بقول ه‪( :‬على العلم اء والخطب اء واألئم ة‬
‫في جمي ع زواي ا اإلس الم أن يتواص لوا ويتح اوروا م ع بعض هم البعض‪ ،‬وأن ينش ؤوا‬
‫مراكز لهم في أنحاء األرض المختلفة‪ ،‬يجتمعوا فيها ليبحث وا قض ايا الوح دة ويرش دوا‬
‫العام ة إلى تع اليم الق رآن الك ريم والح ديث الش ريف‪ ،‬ويجمع وا الش تات في األم اكن‬
‫ي مكان أقدس من بيت هللا الحرام‪ ،‬ينهلوا من فيوضاته الرحمانية‪ ،‬فيمتلؤوا‬ ‫المقدسة‪ ،‬وأ ّ‬
‫عزيمة وثباتا ً بوجه المعتدين‪ ،‬ويقفوا على احتياجات الناس‪ ،‬وفي هذا العمل نشر للعلوم‬
‫وحماية للدين وكذلك طر ٌد للبدع وتنوير لألذهان‪ ،‬وتنظيم هذه العملي ة س يح ّدد الم دارج‬
‫إن تواص ل‬ ‫العلمية ومسؤوليات كل فرد ويس ّد باب البدع‪ ،‬وحتى ل و ظه رت البدع ة‪ ،‬ف ّ‬
‫هذه الشرائح مع بعضها سيتيح وأدها في مهدها لئال تنتشر بين الناس)(‪)3‬‬
‫وه و يرج ع جمي ع أن واع البالء والتخل ف والفق ر واالس تعمار ال تي حص لت‬
‫ك‬‫{وم ا ك انَ َربُّ َ‬ ‫للمسلمين إلى ابتعادهم عن القرآن الكريم‪ ،‬ويستدل لذلك بقول ه تع الى‪َ :‬‬
‫لِيُ ْهلِكَ ْالقُرى بِظُ ْل ٍم َوأَ ْهلُها ُمصْ لِحُونَ } (هود‪ ،)117 :‬ويستخرج منها أسباب الخلل الذي‬
‫حص ل لألم ة اإلس المية‪ ،‬ويتس اءل متعجب ا‪( :‬كي ف أتيح للكف ار أن يظه روا على‬
‫المسلمين؟ ما الذي جرى؟ كيف وصلت الحض ارة اإلس المية إلى م ا وص لت إلي ه من‬
‫الض عف واالنحالل وال وهن بع د عص ر طوي ل من االزده ار والغلب ة؟ كي ف أض اع‬
‫المسلمون جميع تلك اإلمكانات والنعم؟)‬
‫هَّللا‬ ‫َّ‬
‫ثم يطرح الحل من خالل القرآن الكريم نفسه‪ ،‬ومن خالل قوله تعالى‪{ :‬إِن َ ال‬

‫إحياء علوم الدين‪.1/285 :‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪ )(2‬قال مرزا لطف هللا أسد آبادي ابن اخت جمال الدين المشهور باألفغاني في كتابه [جمال الدين األسدابادي‪ ،‬ص‬
‫‪( :]34‬وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجَّهه ا مظف ر ال دين ش اه إلى جم ال ال دين‬
‫بوثيقة سلمها عالء الملك سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت باألدلة القاطع ة أن جم ال ال دين إي راني ش يعي‬
‫يختفي في ثياب األفغاني‪ ،‬ويتّخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به)‪.‬‬
‫‪ )(3‬األفغاني‪ ،‬الجمود وانحطاط المسلمين‪ ،‬مقاالت العروة الوثقى‪ 45 :‬ـ ‪.46‬‬

‫‪30‬‬
‫يُ َغيِّ ُر ما بِقَوْ ٍم َحتَّى يُ َغيِّرُوا ما بِأ َ ْنفُ ِس ِه ْم} (الرعد‪:‬‬
‫‪)1())11‬‬
‫فهذه اآلية الكريم ة ـ كم ا ي ذكر جم ال ال دين ـ هي ال تي تص ف لألم ة طري ق‬
‫الخروج من أزماته ا‪ ،‬وهي نفس اآلي ة ال تي اس تند إليه ا ك ل المص لحين ال ذين ج اءوا‬
‫بعده‪ ،‬وقد قال معبرا عن معناها‪( :‬إ ّن الحكيم المبدع لهذا الكون قد وض ع لألش ياء علالً‬
‫وأسباباً‪ ،‬ومن ث ّم لكل حادث علله ونتائجه الخاصة به‪ ،‬واآليات القرآنية بدورها تصرّح‬
‫أن نظام الكون تحكمه ق وانين دقيق ة وثابت ة اص طلح عليه ا بالس نن‬ ‫بهذه الحقيقة‪ ،‬وهي ّ‬
‫وأن التزامها والتقيّد بها يعني الس ير في طري ق الخ ير والفالح‪ ،‬والحي د عنه ا‬ ‫اإللهية‪ّ ،‬‬
‫يوجب الضالل والخسران)(‪)2‬‬
‫وقد ذكر جمال الدين إدراك المستعمر لهذه الحقائق‪ ،‬ولهذا ك ان يح ارب ك ل من‬
‫(حسْبُ رجل ال دين أن يق ول‪ :‬إنّ ه‬‫يدعو إلى العودة إلى القرآن الكريم‪ ،‬ويقول في ذلك‪َ :‬‬
‫مؤمن بالقرآن وآياته؛ لينفيه االستعمار إلى جزيرة اندومان)(‪)3‬‬
‫هذه بعض النم اذج عن طروح ات جم ال ال دين األس د آب ادي‪ ،‬وال تي يمكن لمن‬
‫شاء أن يرجع إليها‪ ،‬ويتأكد منها ليتبين ل ه أنه ا كله ا تنطل ق من الق رآن الك ريم‪ ،‬وأنه ا‬
‫فوق ذلك كانت األسس الكبرى التي قام عليها اإلصالح والتجديد في العصر الحديث‪.‬‬
‫أما المشروع الحضاري الجديد للجمهورية اإلسالمية اإليرانية؛ فيمكننا اعتب اره‬
‫قائم ا على الق رآن الك ريم باتف اق جمي ع قادت ه ومفكري ه وزعمائ ه السياس يين وغ ير‬
‫السياسيين‪ ،‬فكلهم دعوا إلى تفعيل القرآن الك ريم في جمي ع مظ اهر الحي اة االجتماعي ة‬
‫واالقتصادية والسياسية‪ ،‬واعتباره الدستور األعلى الذي يقوم عليه النظام اإلسالمي في‬
‫جميع جوانبه‪.‬‬
‫وأول من دعا إلى هذا‪ ،‬ونش ره‪ ،‬واهتم بال دعوة إلي ه قائ د المش روع الحض اري‬
‫الجديد في إيران اإلمام الخميني‪ ،‬والذي لم يكن يدع مناسبة ش عبية أو خاص ة إال ودع ا‬
‫فيه ا إلى تفعي ل الق رآن الك ريم في جمي ع مظ اهر الحي اة‪ ،‬باعتب اره الوص ية الك برى‬
‫لرسول هللا ‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك قول ه تعليق ا على ح ديث الثقلين ‪ ، 4‬وتفري ط األم ة في‬
‫)‬ ‫(‬
‫وصية النبي ‪( :‬فهذا الحديث حجة بالغ ة على البش رية جمع اء‪ ،‬وال س يما المس لمين‬
‫بمختلف مذاهبهم‪ ،‬فهم مسؤولون جميعا ً عن ذلك بع د أن ت ّمت الحج ة عليهم‪ ،‬وإن ك ان‬
‫هناك من عذر للعامة بسبب جهلهم وع دم اطالعهم‪ ،‬فال ع ذر لعلم اء الم ذاهب‪ ..‬ول نر‬
‫اآلن ما جرى على القرآن هذه الوديعة اإللهية‪ ،‬وتركة رسول اإلس الم ‪ ‬لق د ش رعت‬
‫ن وائب مفجع ة حري ة أن يُبكى منه ا دم اً‪ ..‬فق د اس تغل عب اد األن ا والط واغيت الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬واتخذوه وسيلة للحكومات المعادية للقرآن‪ ،‬وأبعدوا مفس ري الق رآن الحقيق يين‬
‫‪ )] )(1‬انظر‪ :‬األفغاني‪ ،‬القضاء والقدر‪ 64 :‬ـ ‪ ،75‬مقاالت العروة الوثقی‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬األفغاني‪ ،‬أسباب حفظ الملك‪ 148 :‬ـ ‪ ،157‬العروة الوثقی‪.‬‬
‫‪ )(3‬األفغاني‪ ،‬العروة الوثقى وجرائد اإلنجليز‪ ،‬مقاالت العروة الوثقى‪.206 :‬‬
‫‪ )(4‬وه و قول ه ‪( :‬إني ت ارك فيكم الثقلين‪ ،‬كت اب هللا وع ترتي أه ل بي تي‪ ،‬فإنهم ا لن يفترق ا ح تى ي ردا ّ‬
‫علي‬
‫الحوض)‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫والعارفين بالحق ائق الحق ة ممن تعلم وا الق رآن كل ه من الرس ول األك رم ‪ ‬أبع دوهم‬
‫بذرائع شتى)‬
‫ثم ذكر بعض مظاهر ذلك اإلبع اد‪ ،‬فق ال‪( :‬لق د أخرج وا الق رآن ال ذي ك ان وم ا‬
‫يردوا الحوض من‬ ‫يزال الدستور األعظم لحياة البشر وشؤونهم المادية والمعنوية حتى ِ‬
‫الميدان‪ ،‬وأبطلوا حكومة العدل اإللهي‪ ،‬وهي أحد أهداف هذا الكتاب المقدس‪ ،‬وأسس وا‬
‫أسس االنحراف عن دين هللا وكتابه والس نّة اإللهي ة‪ ،‬فبل غ األم ر ح داً يخج ل القلم عن‬
‫تبيانه‪ ،‬وكلما ارتفع هذا البنيان المنحرف ازداد االنح راف‪ ،‬فق د عطل وا الق رآن الك ريم‬
‫إلى ح د ب دا‪ ،‬وكأن ه ال دور ل ه في الهداي ة‪ ،‬وه و الكت اب ال ذي ت نزل ه دى للع المين‪،‬‬
‫ومحوراً لجميع المسلمين كافة‪ ،‬بل وعموم األسرة البشرية‪ ،‬والسمو بها إلى ما يجب أن‬
‫تسمو إليه‪ ،‬وإنقاذها من شرور الشياطين والطغاة) (‪)1‬‬
‫ثم ذك ر متألم ا األدوار الس لبية ال تي ق ام به ا علم اء الس وء من أج ل إرض اء‬
‫السالطين‪ ،‬فق ال‪( :‬وبل غ االنح راف درج ة أن الحكوم ات الج ائرة والخبث اء من فقه اء‬
‫البالط‪ ،‬وهم أسوأ من الطغاة اتخذوا القرآن وسيلة للظلم وترويج الفساد وتسويغ أعم ال‬
‫الظلمة والمعاندين إلرادة الحق تعالى)‬
‫وذكر من مظاهر اإلفساد التي استغل القرآن الكريم لترويجها من ط رف علم اء‬
‫السوء‪ ،‬فقال‪( :‬وواأس فاه أن الق رآن‪ ،‬وه و كت اب الهداي ة لم يع د ل ه من دور س وى في‬
‫المقابر والمآتم‪ ،‬بسبب األعداء والمت آمرين والجهل ة من األص دقاء‪ ،‬ك ان الح ال ك ذلك‬
‫وم ا زال‪ ،‬فأص بح الكت اب ال ذي ينبغي أن يك ون وس يلة لتوحي د المس لمين والع المين‪،‬‬
‫ودستوراً لحياتهم أصبح وسيلة للتفرقة وإثارة الخالف‪ ،‬أو عُطّل دوره كليّ اً‪ ،‬وق د رأين ا‬
‫كيف يُعتبر مرتكبا ً لكبرى الكبائر من ينادي بالحكومة اإلسالمية ويتحدث بالسياسة‪ .‬في‬
‫حين أن سيرة الرس ول األعظم ‪ ،‬والق رآن والس نة مألى بالنص وص المعني ة ب دور‬
‫اإلسالم الكب ير في الش ؤون السياس ية‪ ،‬وأص بح وص ف ع الم ال دين بالسياس ي مرادف ا ً‬
‫لوصفه بعدم الدين وما زال هذا الوصف موجوداً‪ .‬وأخيراً آل الحال إلى أن تعمد القوى‬
‫الشيطانية الكبرى ابتغاء محو القرآن وحفظ مطامعها الشيطانية إلى طب ع الق رآن بخ ط‬
‫جميل‪ ،‬وتوزيعه على نطاق واسع‪ ،‬وتنفذ ذلك بأيدي الحكومات المنحرفة ال تي تتظ اهر‬
‫باإلسالم زيفاً‪ ،‬وهي بعيدة عن تعاليمه‪ ،‬وبهذا المكر الشيطاني تعطّل القرآن)(‪)2‬‬
‫وهو ال يكتفي بذلك األسف والحسرة‪ ،‬وإنما يض ع المنهج ال ذي من خالل ه يف ّع ل‬
‫القرآن الك ريم في الحي اة جميع ا‪ ،‬ابت داء باإلنس ان نفس ه‪ ،‬فالحض ارة ال يمكن أن تق وم‬
‫بمعزل اإلنسان‪.‬‬
‫وألجل هذا‪ ،‬نراه يعيد بطريقة معاصرة م ا ذك ره الغ زالي من ض رورة تطه ير‬
‫النفس وتربيتها وتهذيبها حتى ترتقي لفهم الحقائق القرآنية‪ ،‬وتنفعل لها؛ فيق ول‪( :‬ل و لم‬
‫تكن التزكية لما أمكن تعليم كت اب الحكم ة‪ ،‬يجب تزكي ة النف وس وتطهيره ا من جمي ع‬

‫‪ )(1‬القرآن في كالم اإلمام الخميني‪ ،‬ص ‪.14‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.16‬‬

‫‪32‬‬
‫األدران‪ ،‬وأعظم األدران هي النفس اإلنس انية واأله واء النفس ية‪ ،‬فم ا دام اإلنس ان في‬
‫حجاب نفسه‪ ،‬فإنه ال يستطيع أن ي درك الق رآن ال ذي ه و ن ور‪ ،‬كم ا يع بر الق رآن عن‬
‫نفس ه‪ ،‬فال ذين يقف ون خل ف حجب عدي دة ال يمكنهم أن ي دركوا الن ور‪ ،‬ويظن ون أنهم‬
‫يستطيعون دركه‪ ،‬لكنهم ال يقدرون على ذلك‪ .‬ما دام اإلنسان لم يخرج من حجاب نفسه‬
‫المظلم جداً‪ ،‬وطالما أنه مبتلى باألهواء النفسية‪ ،‬وطالما أن ه مبتلى ب العجب‪ ،‬طالم ا أن ه‬
‫مبتلى باألمور التي أوجدها في باطن نفسه‪ ،‬وتل ك الظلم ات ال تي بعض ها ف وق بعض‪،‬‬
‫فإنّه ال يكون مؤهالً النعكاس هذا النور اإللهي في قلبه)(‪)1‬‬
‫والوص فة المناس بة ـ كم ا ي ذكر الخمي ني ـ لك ل (ال ذين يري دون فهم الق رآن‬
‫ومحتواه‪ ،‬ال صورته النازلة المحدودة‪ ،‬بل يفهموا محتواه ويزدادون سمواً ورقي ا ً كلم ا‬
‫قرأوه‪ ،‬ويقتربون من مصدر النور والمبدأ األعلى كلما قرأوه‪ ،‬فإن هذا ال يتحقق إالَّ أن‬
‫تزول الحجب ‪ ..‬لذا يجب رفع هذه الحجب حتى تتمكن من رؤي ة ه ذا الن ور كم ا ه و‪،‬‬
‫وكما يليق باإلنس ان أن يدرك ه‪ ،‬فأح د األه داف ه و تعليم الكت اب بع د التزكي ة‪ ،‬وتعليم‬
‫الحكمة بعد التزكية) (‪)2‬‬
‫ولذلك اهتم اإلمام الخميني في كتبه جميعا بالدعوة إلى تزكية النفس‪ ،‬وتطهيره ا‬
‫لتسمو لفهم الحقائق القرآنية‪ ،‬وتنفعل لها‪ ،‬وقد كانت تلك الدعوات هي السبب في توف ير‬
‫القابلية للكثير من الشعب اإليراني الذي سار خلف ه‪ ،‬واس تطاع أن يتحم ل جمي ع أن واع‬
‫الحروب التي حورب بها‪ ،‬ولوال ذل ك اإليم ان‪ ،‬وتل ك التزكي ة لم ا اس تطاع أن يتحم ل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والمثال الثاني في المشروع الجديد ه و قائ د الث ورة اإلس المية الح الي‪ ،‬وال ذي‬
‫استمر على نفس نهج أستاذه اإلمام الخميني في الدعوة لتفعيل القرآن الك ريم في جمي ع‬
‫مناحي الحياة‪ ،‬فال يكاد يخلو مجلس من مجالسه إال ويذكر بذلك‪ ،‬وقد جم ع ل ه في ه ذا‬
‫كتاب كبير الحجم بعنوان‪( :‬الفكر اإلسالمي على ضوء القرآن الكريم)‬
‫ومن تصريحاته فيه قوله ـ متأس فا ـ‪(:‬ص حيح أنن ا نج د الق رآن ومن ذ الخط وات‬
‫األولى التي تلت تح ّول الخالفة اإلسالمية إلى السلطنة الطاغوتية‪ ،‬وقد تحوّل في الواقع‬
‫إلى زائ دة كمالي ة‪ ،‬وخ رج بش كل رس مي وإن لم يكن ذل ك بش كل اس مي عن المج ال‬
‫الحياتي للمسلمين‪ ،‬إالّ أن ما حدث في جاهلية القرن العشرين من خالل عم ل األجه زة‬
‫السياسية واالعالمية المعقدة‪ ،‬يع ُّد أخطر من ذل ك بم راتب‪ ،‬وأك ثر بعث ا ً على القل ق بال‬
‫ريب)(‪)3‬‬
‫وذكر أن السبب األكبر فيم ا حص ل للمس لمين وع زل اإلس الم عن حي اتهم ه و‬
‫فإن أك بر وس يلة وأكثره ا‬ ‫هجر القرآن الكريم‪ ،‬فقال‪( :‬ولكي يُعزل اإلسالم عن الحياة‪ّ ،‬‬
‫أثراً هي إخراج الق رآن عن المج ال ال ذهني والقل بي والعملي لألُم ة اإلس المية‪ ،‬وه ذا‬

‫‪ )(1‬منهجية الثورة اإلسالمية‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬الفكر اإلسالمي على ضوء القرآن الكريم‪ ،‬السيد علي الخامنئي‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫بالتأكيد ما عمل له المتسلطون األج انب والعمالء ال داخليون لهم‪ ،‬س الكين ه ذه الس بيل‬
‫عبر االستعانة بشتى األنماط والوسائل)(‪)1‬‬
‫ولالستدالل على هذا‪ ،‬ذكر أن القرآن الكريم استطاع أن يحدث تغييرا كب يرا في‬
‫(إن‬ ‫الذين طبقوه في حياتهم‪ ،‬ولم يكتفوا بقراءته قراءة مجردة‪ ،‬وقد قال معبرا عن هذا‪ّ :‬‬
‫القرآن هو الكتاب المقدس‪ ،‬والن ور‪ ،‬واله دى‪ ،‬والفرق ان بين الح ق والباط ل‪ ،‬والحي اة‪،‬‬
‫بشكل عملي إالّ إذا ت ّم قبل ك ل ش يء‬ ‫ٍ‬ ‫والميزان والشفاء‪ ،‬والذكر‪ ،‬ال تتم له هذه الخصال‬
‫استيعابه فهماً‪ ،‬وتطبيقه عمالً‪ ..‬لقد كان القرآن في عص ر الحكم االس المي في الص در‬
‫األول‪ ،‬ه و الق ول الفص ل والكلم ة األخ يرة‪ ،‬وح تى كالم الرس ول ‪ ‬فإن ه يجب أن‬
‫يعرض عليه‪ ،‬وكان َح َملَة القرآن‪ ،‬يتمتع ون بمكان ة مرموق ة في المجتم ع بع د أن ك ان‬
‫الرس ول ‪ ‬ق د أعطى األم ة التعليم القائ ل‪( :‬أش راف أُم تي‪ ،‬أص حاب اللّي ل َ‬
‫وح َملَ ة‬
‫القرآن)‪ ،‬لقد كان استيعاب القرآن علما ً وعمالً‪ ،‬يشكل قيمة واقعي ة‪ .‬فللعث ور على ح لٍّ‬
‫ي ح ديث‪،‬‬ ‫لكل مشكلة حياتية يجب الرجوع إلى القرآن‪ ،‬ولقد كان الق رآن مالك قب ول أ ّ‬
‫أو أسلوب‪ ،‬أو م ّدعى‪ ،‬ومعياره‪ ،‬كان عليهم أن يعرفوا الح ق والباط ل من وجه ة نظ ر‬
‫القرآن ليشخصوا نماذجهما ومصاديقهما في ميدان الحياة) (‪)2‬‬
‫ثم ذك ر م ا آل إلي ه األم ر بع د ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬ومن ذ فق دت الق وى الحاكم ة على‬
‫المجتمعات المسلمة القيم اإلسالمية‪ ،‬واغ تربت عنه ا‪ ،‬ورأت في الق رآن وه و الن اطق‬
‫بالحق وفرقان الحق والباطل عقبة في سبيلها‪ ،‬ب دأ الس عي الح ثيث إلبع اد كالم هللا عن‬
‫ميدان الحياة‪ ،‬و ُوجد عقيب ذل ك الفص ل بين ال دين والحي اة اإلجتماعي ة‪ ،‬والتفري ق بين‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬والتقابل بين المتدينين الواقعيين وأهل الدنيا المقت درين‪ ،‬وأُبع د االس الم‬
‫عن مركز إدارة مجاالت الحياة االجتماعية للمجتمعات المسلمة‪ ،‬ليقتصر على المساجد‬
‫والمعابد والبيوت وزوايا القلوب‪ ،‬وهكذا ُوجد الفصل بين الدين والحياة بكل ما ع اد ب ه‬
‫من خسارة وعلى المدى الطويل) (‪)3‬‬
‫وهو عند تعديده ألس باب م ا حص ل للمس لمين من هج ر للق رآن الك ريم‪ ،‬وع دم‬
‫تطبيقه في جميع مناحي الحياة ال يذكر األس باب الداخلي ة فق ط‪ ،‬ب ل ي ذكر أن لألس باب‬
‫الخارجية دوره ا الكب ير أيض ا‪ ،‬يق ول في ذل ك‪( :‬ومن الط بيعي أن الق رآن قب ل أن يت ّم‬
‫الهج وم الواس ع للمتس لّطين الغرب يين الص ليبيّين والص هاينة وإن لم يكن موج وداً في‬
‫المجال الحياتي بالمعنى الحقيقي إالّ أنه كان يحتل مكان ة في أذه ان المس لمين وقل وبهم‬
‫على تفاوت بينهم في ذلك غير أن الهجوم الصليبي الصهيوني في الق رن التاس ع عش ر‬
‫لم يستطع أن يتح ّمل حتى هذا القدر أيضاً‪ ،‬إنهم ال يستطيعون أن يتح ّملوا وجود الق رآن‬
‫اط ْال َخ ْي ِل }‬‫الذي يصدر بكل وضوح أمر‪َ { :‬وأَ ِع ُّدوا لَهُ ْم َما ا ْستَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُ َّو ٍة َو ِم ْن ِربَ ِ‬
‫(األنفال‪ )60 :‬ويصدح بقول‪َ { :‬ولَ ْن يَجْ َع َل هَّللا ُ لِ ْل َكافِ ِرينَ َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َسبِياًل } (النس اء‪:‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪ ،)141‬القرآن ال ذي يري د للمؤم نين أن يكون وا إخ وة فيم ا بينهم‪ ،‬أش داء غض ابا ً على‬
‫أعدائهم‪ ،‬مثل هذا القرآن ال يمكن أن يتح ّمله المتسلطون الساعون للس يطرة على أز ّم ة‬
‫أُمور المسلمين‪ ،‬ونهب كل شيء لديهم) (‪)1‬‬
‫ثم ذك ر بأس ف كي ف اس تطاعت تل ك الم ؤامرات الغربي ة والص هيونية إبع اد‬
‫(إن ه ؤالء المتس لطين‬ ‫المسلمين عن القرآن الكريم‪ ،‬بل حذفه تماما من حياتهم‪ ،‬فيقول‪ّ :‬‬
‫أدركوا بكل وضوح أن القرآن رغم هذا الحضور غير الكامل في حياة األمة‪ ،‬لن يسمح‬
‫لتسلُّطهم ونفوذهم أن يسلكا سبيلهما المنش ودين‪ ،‬ل ذا فق د وض عوا خط ة ح ذف الق رآن‬
‫بشكل كامل‪ ،‬وط بيعي أن ال تمتل ك ولن تمتل ك ه ذه الخط ة تطبيق ا ً عملي اً‪ ،‬ذل ك أن هَّللا‬
‫تعالى قد وعد األُمة اإلسالمية بحفظ القرآن دائما ً على أنن ا ال نس تطيع أن نغض النظ ر‬
‫عن نتائج ذلك السعي الواسع األبعاد الذي ت ّم من قبلهم بهذا الصدد)‬
‫ثم خاطب جميع المسلمين متسائال‪( :‬ألقوا اليوم نظرة على ميدان حياة المسلمين‪،‬‬
‫فأين تجدون القرآن؟ ه ل تجدون ه في أجه زة الحكوم ات؟ أو في النظم اإلقتص ادية؟ أو‬
‫في تنظيم العالقات والمناسبات بين الناس بعضهم مع البعض اآلخ ر؟ أو في الم دارس‬
‫والجامع ات؟ أو في السياس ة الخارجي ة والعالق ات بين ال دول؟ أو في تقس يم ال ثروات‬
‫الوطنية بين فئات الشعب؟ أو في أخالقي ة المس ؤولين في المجتمع ات اإلس المية وك ل‬
‫فئات الشعوب التي تتأثّر بهم قليالً أو كثيراً ؟ أو في السلوك الفردي للحك ام المس لمين؟‬
‫أو في العالق ات بين الرج ل والم رأة؟ أو في األرص دة المص رفية؟ أو في أنم اط‬
‫ولنستثن من كل هذه‬
‫ِ‬ ‫المعاشرة؟ أو في أي مكان من الحركة العامة واإلجتماعية للناس؟‬
‫الميادين الحياتية المساجد والماذن وأحيانا ً بعد البرامج ال تي ال تُع د ش يئا ً من اإلذاع ات‬
‫ريا ًء وخداعا ً لعامة الناس‪ .‬ولكن هل جاء القرآن لهذا فقط؟)‬
‫ثم راح يردد ما ذكره جمال الدين األسد آبادي بقوله‪ ( :‬لقد كان السيد جم ال قب ل‬
‫مئ ة س نة يَبكي ويُبكي له ذا األم ر‪ ،‬حيث ع اد الق رآن يقتص ر على اإله داء وال تزيين‬
‫والتالوة في المقابر والوضع على الرفوف‪ ..‬ولكن ماذا حدث في المئة سنة ه ذه؟ ت رى‬
‫أال يبعث وضع القرآن لدى األُمة اإلسالمية على القلق؟)(‪)2‬‬
‫(إن الحديث كلّه ي تركز على أن‬ ‫ثم أجاب مبينا حقيقة دور القرآن الكريم‪ ،‬فيقول‪ّ :‬‬
‫القرآن‪ ،‬كتاب حياة اإلنسان‪ ،‬إنسان الالنهاية‪ ،‬اإلنس ان المتكام ل‪ ،‬اإلنس ان ذي األبع اد‪،‬‬
‫إن ه ذا اله ادي والمعلم لإلنس ان ق ادر على أن يرع اه في‬ ‫اإلنسان الذي ال ح ّد لتكامله‪ّ ،‬‬
‫كل العصور‪ ،‬وأن نظام الحياة الالئق باالنسان‪ ،‬إنما يتعلّمه اإلنسان من القرآن ال غير‪،‬‬
‫وأن األساليب ال تي يجب أن يتبعه ا ل يرفع عن كاهل ه أن واع الظلم‪ ،‬والتفرق ة والفس اد‪،‬‬
‫والجه ل‪ ،‬والطغي ان‪ ،‬واالنح راف‪ ،‬وال دناءة‪ ،‬والخيان ة ال تي ابتلي به ا خالل تاريخ ه‬
‫الطويل فكانت عقبة في سبيل رش ده وتعالي ه‪ ،‬ك ل ه ذه األس اليب إنّم ا يمكن أن تك ون‬
‫عملية في ظل الهداية القرآنية والمخطط الذي طرحه الكتاب السماوي للحياة اإلنسانية)‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ثم ذك ر مرغب ا الفوائ د ال تي يجنيه ا المؤمن ون إن هم ع ادوا إلى كت اب ربهم‪،‬‬
‫(إن الع ودة الى الق رآن‪ ،‬هي ع ودة إلى الحي اة‬ ‫وطبقوه في جميع نواحي حي اتهم ق ائال‪ّ :‬‬
‫التي تليق باإلنس ان‪ ،‬وهي المهم ة الملق اة على ع اتق المؤم نين ب القرآن‪ ،‬وفي طليعتهم‬
‫وإن الع ودة الى الق رآن‪ ،‬ش عار ل و يط رح‬ ‫العارفون به‪ ،‬والعلماء والمبلغون الدينيُّون‪ّ ..‬‬
‫بش كل حقيقي وج ّدي‪ ،‬الس تطاع أن يق دِّم الف ارق بين الح ق والباط ل‪ ،‬كم ا يجب أن ال‬
‫تتح ّمل الشعوب اإلسالمية وجود تل ك الق وى ال تي ال تري د أن تقب ل مس ألة الع ودة الى‬
‫القرآن) (‪)2‬‬
‫لكنه ومع كل ذل ك األلم ال ذي اع تراه حين ص ور واق ع هج ر المس لمين للق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وما فعله األعداء في سبيل تحقي ق ذل ك‪ ،‬لم ينس أن ينش ر األم ل في المس لمين‬
‫عبر ذكر بعض مظاهر التجربة التي مارستها الجمهورية اإلسالمية اإليرانية في سبيل‬
‫إعادة تفعيل القرآن الكريم في الجياة بجميع جوانبه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬إنن ا بع د أن ابتلين ا ك ذلك‬
‫بالبعد عن القرآن‪ ،‬وأُصبنا بآثار التآمر ضد القرآن من قبل األع داء الع الميين‪ ،‬ق د ذقن ا‬
‫طعم العودة الى القرآن‪ ،‬وإن انتصار الثورة اإلسالمية العظيمة في إيران‪ ،‬وإقامة نظ ام‬
‫إن ه ذا الش عب‬ ‫الجمهورية اإلسالمية‪ ،‬ليع ّدان من اآلثار المباركة الكبرى لهذه العودة‪ّ ..‬‬
‫ليشاهد اليوم في أُفق حياته‪ ،‬وفي عالقاته اإلجتماعي ة‪ ،‬وفي ش كل حكومت ه ومحتواه ا‪،‬‬
‫وفي مناقبية قادته‪ ،‬وفي سياسته الخارجية‪ ،‬وفي نظام التعليم والتربي ة لدي ه‪ ،‬يش اهد في‬
‫إن الذي هبَّ علينا لحد االن إنما هو نسيم في جن ة‬ ‫كل ذلك لمعات من التعليم القرآني‪ّ ...‬‬
‫القرآن‪ ..‬إالّ أن الطريق أمام السعي والحرك ة‪ ،‬م ا زال مفتوح ا ً للوص ول إلى بحبوح ة‬
‫هذه الجنَّة الواقعية) (‪)3‬‬
‫وبذلك‪ ،‬فإن المستقبل ال ذي يرس مه الس يد علي الخ امنيئ للجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليرانية هو المزيد من التحقق بالقرآن الك ريم في الواق ع‪ ،‬ح تى تت نزل البرك ات ال تي‬
‫وعد هللا بها من يقيم كتبه‪ ،‬ويحفظ عهده ووصاياه‪.‬‬
‫هذا مجرد نموذج عن بعض كلماته التي يخاطب به ا األم ة‪ ،‬وي دعوها فيه ا إلى‬
‫الع ودة إلى الق رآن الك ريم‪ ،‬ومن تأم ل توجيهات ه في ه ذا المج ال‪ ،‬وخصوص ا في‬
‫المج الس القرآني ة أو غيره ا يج د الكث ير من ال درر والحكم ة ال تي ت بين م دى تعظيم‬
‫اإليرانيين للقرآن الكريم‪.‬‬
‫ففي حفل اختتام الدورة الثامنة والعشرين من مسابقات القرآن الكريم ألقى الس يد‬
‫علي الخامنئي خطابا راقيا ممتلئا بالتوجيهات السامية قال في ه‪( :‬أن ا س عيد ج داً ألن هللا‬
‫تعالى وفقنا‪ ،‬وله الحمد ألن نبقى أحياء ونشهد مرة أخرى هذه الجلس ة القرآني ة الطيب ة‬
‫المحببة‪ .‬استفدنا من التالوات التي ق دمها اإلخ وة األع زاء‪ .‬نس أل هللا أن يحش ر جمي ع‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫هؤالء األعزاء ويحشركم جميعا ً ويحشرنا جميع ا ً م ع الق رآن في ال دنيا واآلخ رة‪ ،‬وأن‬
‫نعيش بالقرآن‪ ،‬ونتنفس بالقرآن‪ ،‬ويكون القرآن شفيعنا في اآلخرة وفي ي وم القيام ة وال‬
‫يشتكينا إلى هللا‪ ..‬هذا هو أملنا)‬
‫ثم ذكر دور القرآن الكريم في الوح دة اإلس المية‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا يمث ل أم ام أنظ ار‬
‫الم رء في ه ذه المس ابقات العالمي ة ه و أن الق رآن عام ل اجتم اع ووح دة‪ ،‬ل دينا نحن‬
‫المسلمين عوامل اتحاد عديدة أحدها وربما أهمها القرآن الكريم‪ .‬جمي ع المس لمين وك ل‬
‫الشعوب المسلمة خاضعة أمام القرآن الكريم‪ ،‬وتستلهم الدروس منه‪ ،‬وت روم االق تراب‬
‫منه‪ ،‬هذه فرصة‌ على جانب كبير من األهمية‪ ،‬لقد حاول أعداء اإلسالم وأعداء الق رآن‬
‫الكريم إبعاد الشعوب المسلمة عن بعضها وفصلها‪ ،‬ب ل وجعله ا تتواج ه وتتع ادى فيم ا‬
‫بينه ا بعض األحي ان‪ .‬ه ذا ن اجم عن الغفل ة عن الق رآن‪ .‬حينم ا تك ون جمي ع الش عوب‬
‫المس لمة مؤمن ة به ذا الكت اب الس ماوي وه ذه الرس الة الس ماوية وه ذه الهدية‌ اإللهية‬
‫العظيمة فما سيكون أفضل منه ا وس يلة لالجتم اع واالتح اد؟ لنجلس جميعن ا على ه ذه‬
‫المائدة المعنوية ونتز ّود منها فهذا من أسباب العزة والقدرة‌ اإلسالمية‌ واإللهية)‬
‫ثم ذكر سبب ذلك‪ ،‬فق ال‪( :‬ل دينا غفلت ان‪ :‬إح داهما الغفل ة عن أن الق رآن الك ريم‬
‫وسيلة الجتماع المسلمين‪ ،‬والثانية الغفلة عن االعتقاد بالمفاهيم القرآنية واالعتراف بما‬
‫وعدنا هللا تعالى به في القرآن الكريم‪ .‬يجب أن نؤمن بالوعود اإللهية‪ .‬إذا آمن ا ب الوعود‬
‫اإللهية فسينفتح الطريق أمام األمة اإلسالمية نح و الع زة والوح دة واالقت دار وتتخلص‬
‫من التخلف)‬
‫ثم راح يستعرض ما قرئ من آيات قرآنية في ذلك المجلس‪ ،‬ويعقب علي ه‪ ،‬ومن‬
‫نص رْ ُك ُم‬
‫أمثلة ذلك قوله‪( :‬اآليات التي تالها اآلن هذا األس تاذ المص ري المح ترم‪﴿:‬إِن يَ ُ‬
‫﴿وإِن يَ ْخ ُذ ْلك ْمُ‬
‫ب لَ ُك ْم﴾‪ .‬إذا نصركم هللا فلن تستطيع أية قدرة االنتصار عليكم‪َ .‬‬ ‫هّللا ُ فَالَ غَالِ َ‬
‫نص ُر ُكم ِّمن بَ ْع ِد ِه﴾‪ .‬إذا لم ينص ركم هللا ولم يم دد لكم ي د الع ون فمن‬ ‫فَ َمن َذا الَّ ِذي يَ ُ‬
‫سيعينكم؟ إنه سطر مشرق متألق‪ .‬لتكتب الشعوب هذا السطر وترفعه راية تضعها أمام‬
‫ب لَ ُك ْم﴾‪ .‬إذا نص ركم هللا فلن تق در أية‬ ‫أنظارها وفوق رؤوسها‪﴿ .‬إِن يَنصُرْ ُك ُم هّللا ُ فَالَ غَالِ َ‬
‫قوة على أن تتغلب عليكم‪ .‬فما نفعل حتى ينص رنا هللا؟ ه ذه مس ألة‪ .‬م اذا يجب أن نفعل‬
‫َنص رُوا هَّللا َ‬
‫ح تى تش ملنا النص رة اإللهي ة؟ ه ذا أيض ا ً ي ذكره لنا الق رآن الك ريم‪﴿ :‬إِن ت ُ‬
‫ص ُرهُ﴾)‬ ‫ص َر َّن هَّللا ُ َمن يَن ُ‬
‫يَنصُرْ ُك ْم﴾‪َ ﴿ ،‬ولَيَن ُ‬
‫وفي مجلس آخر من جلسات األنس بالقرآن الكريم‪ ،‬قال‪( :‬لقد كانت جلستنا اليوم‬
‫في غاية العذوبة‪ ،‬جلسة حل وة ومنش ودة‪ .‬فق د انتهلن ا من برك ات التالوات والع روض‬
‫الفنية القرآنية التي ألقاها رجالنا وشبابنا األعزاء)‬
‫ثم ذكر بعض فوائد تلك الجلسات التي تقام في جمي ع بل دات وق رى الجمهوري ة‬
‫اإلسالمية اإليرانية‪( :‬إن إحدى المحاسن الكبرى له ذه الجلس ات والمس ابقات القرآني ة‪،‬‬
‫هي األنس المتبادل بين اإلخوة المسلمين من مختل ف البل دان م ع بعض هم اآلخ ر‪ .‬ف إن‬
‫السياسات االس تكبارية المختلف ة تس عى جاه دة إلث ارة الش قاق فيم ا بينن ا والعم ل على‬

‫‪37‬‬
‫إقصاء الشعوب المس لمة بعض ها عن اآلخ ر‪ ،‬ب ل وت أليب بعض ها ض ّد اآلخ ر‪ .‬وعلى‬
‫الشعوب اإلسالمية أن تعم ل بعكس ذل ك تمام اً‪ ،‬وأن توطّ د األنس فيم ا بينه ا بك ل م ا‬
‫الس بُل‪ ،‬هي إقام ة مث ل ه ذه‬
‫أوتيت من قوة وبما أتيح لها من س بيل‪ ..‬وواح دة من ه ذه ُ‬
‫الجلسات‪ .‬فإن القرآن هو المح ور المش ترك والنعم ة اإللهي ة الك برى للمس لمين كاف ة‪.‬‬
‫وعلى الجميع أن ينتهلوا معا ً من بركات هذه المائ دة المعنوي ة اإللهي ة‪ .‬وه ذه الجلس ات‬
‫والمسابقات القرآنية‪ ،‬توفّر للجميع الفرصة للنهوض بهذا العمل)‬
‫ثم دعا كعادته إلى العودة إلى القرآن الكريم والتفاعل مع كل ما يدعو إليه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(إن من البركات األخرى لهذه الجلسات‪ ،‬تعزي ُز األنس ب القرآن ل دى ش بابنا ومختل ف‬ ‫ّ‬
‫أبناء الشعب والشرائح‪ .‬وهذه حقيقة‪ :‬أننا بعيدون عن الق رآن‪ ،‬واألم ة اإلس المية بعي دة‬
‫بون شاس ع بين واق ع حياتن ا والحق ائق القرآني ة! وم ا علين ا إال أن‬‫عن القرآن‪ ،‬وهناك ٌ‬
‫نقرّب أنفسنا منه‪ ،‬وإن سعادة األمة اإلسالمية مرهون ة ب أن تق ترب بنفس ها من الق رآن‬
‫ومفاهيمه ومعارفه ودروسه)‬
‫والمنهج الذي ذكره لتحقيق ذلك هو ـ كم ا ي ذكر ـ (تعزي ُز األنس ب القرآن ل دى‬
‫الشباب وأبن اء الش عب نس ا ًء ورج االً ‪ ..‬فل و ّ‬
‫تمس كنا ب القرآن وبهديِ ِه‪ ،‬لك ان بمق دورنا‬
‫التغلّب على هذه المؤامرات‪ ،‬ولو واصلنا طريق الجهاد‪ ،‬لكان النصر حليفن ا ال محال ة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التمس ك بحب ل هللا‪ ،‬وإرس اء‬ ‫فال بد من التمسّك بالقرآن‪ ،‬والع الم اإلس المي بحاج ة إلى‬
‫دعائمه‪ ،‬وتعزيز ثباته وصموده‪ ..‬هذا ما يحتاج إليه العالم اإلسالمي في الوقت الراهن)‬
‫ه ذه أمثل ة قص دنا ذكره ا بطوله ا ح تى ن رد على تل ك ال دعاوى ال تي تص ور‬
‫اإليرانيين بكونهم مجوسا‪ ،‬وكون دعوتهم دع وة مجوس ية‪ ،‬وه ل يمكن عقال لمجوس ي‬
‫أن يدعو إلى القرآن الكريم بكل هذا الحماس‪ ،‬وهل هناك أي رئيس أو أي زعيم من أي‬
‫دولة مسلمة تحدث بمثل هذه الحماسة عن القرآن الكريم وتفعيله في الحياة؟‬
‫ال يمكن لعاقل أن يقبل ذلك إال بشرط واحد‪ ،‬وهو أن يعتبر الق رآن الك ريم كتاب ا‬
‫للمجوس‪ ،‬وليس للمسلمين‪ ..‬حينها فقط يمكن أن نعتبر الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة‬
‫جمهورية مجوسية‪ ،‬ومشروعها مشروعا مجوسيا‪..‬‬
‫رابعا ـ االهتمام برد الشبهات عن القرآن الكريم‪:‬‬
‫تع رض الق رآن الك ريم في ك ل ف ترة من الف ترات التاريخي ة لهجم ات متع ددة‬
‫ارتبطت بحقيقت ه ومص دره وقيمت ه وأث ره في الحي اة‪ ..‬وق د اس تدعى ك ل ذل ك وج ود‬
‫العلماء الربانيين الذين يفندون الحجج‪ ،‬وينشرون اإليمان‪ ،‬ويردون على الشبه‪.‬‬
‫وقد كان من أكابر الذين تولوا هذه الوظيفة في األمة رجال كث يرون من إي ران‪،‬‬
‫أثبتوا بالبراهين الجليلة كون القرآن الكريم هو رسالة هللا الخاتمة إلى عباده‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫كل ما ورد فيه حقائق مطلقة ال تحتمل الجدل‪ ،‬وال المناقشة‪ ..‬بل هي معصومة عص مة‬
‫مصدرها ومرسلها والمرسلة إليه‪.‬‬
‫وبما أن هذه المس ألة مرتبط ة بنص رة العقي دة اإلس المية‪ ،‬فإنن ا س نتحدث عنه ا‬
‫بتفص يل عن د الح ديث عن كب ار أعالم المناص رين لإلس الم وعقائ ده وش رائعه في‬
‫الفصول الخاصة بذلك‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ونكتفي هنا بذكر ما أورده الشيخ الشهيد مرتضى مطهّ ري (‪،)1979 - 1919‬‬
‫والذي يعتبر من كبار القادة الفكريين المؤسسين للجمهورية اإلسالمية اإليرانية(‪ ،)1‬فقد‬
‫تحدث كثيرا في كتبه عن القرآن الكريم بلغة علمية عقلية فلسفية تناسب هذه األجيال‪.‬‬
‫ومن ذلك ما كتبه في كتابه (دراسات عقائدية) عند الحديث عن اإلعج از العلم ّي‬
‫ي للقرآن بقوله‪( :‬لو أخذنا بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن‪ ،‬كالتوحي د‬ ‫والفكر ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ير م ا ك ان س ائدا ومألوف ا في‬ ‫أن مقاربة القرآن لها كانت بنح ٍو يفوق بكث ٍ‬ ‫مثالً‪ ،‬فسنرى َّ‬
‫ً‬
‫العالم بر ّمته‪ ،‬حتّى ما كان سائدا عند اليونان والرومان‪ ،‬وهذا خي ُر دلي ٍل على إعج ازه‪،‬‬
‫وال س يّما أنَّه ص در عن رج ٍل ع رب ٍّي أُ ِّم ٍّي‪ ..‬وهك ذا ه و الح ال في المس ائل األخ رى‪،‬‬
‫كاألخالق‪ ،‬والتربية‪ ،‬والتعاليم‪ ،‬والقوانين‪ ،‬فهي في الق رآن الك ريم بمس توى يف وق ك ّل‬
‫أن ما جاء في القرآن حول هذه المواض يع‬ ‫مستوى كانت أو تكون عليه‪ ،‬حتّى إنَّه يُلحظ َّ‬
‫أرقى وأسمى م ّما جاء في الروايات والفقه اإلسال ِم ّي حولها‪ ،‬وذلك لتواتر القرآن وبقائه‬
‫البشريَّة في الروايات والفقه‪ ..‬فكي ف تك ون‬ ‫ِ‬ ‫محفوظا ً من التحريف‪ ،‬بينما تدخلت األيدي‬
‫ُ‬
‫رجل أ ِّم ٍّي؟! ‪ ..‬وقد ذك ر الق رآن‬
‫ٍ‬ ‫مقاربةُ هذه الموضوعات بهذا الرق ّي وهي صا ِدرةٌ من‬
‫الكريم مسائل عديدة في مجال الطبيعة‪ ،‬كالذي ذكره حول ال ريح‪ ،‬والمط ر‪ ،‬واألرض‪،‬‬
‫والس ماء‪ ،‬والحيوان ات‪ .‬وال ي زال العلم يص ل بين ف تر ٍة وأخ رى إلى حق ائق ق د أثبته ا‬
‫الق رآن من ذ ‪ 1400‬س نة‪ ،‬ولكنَّه ا لم تكن مفهوم ةً آن ذاك‪ ،‬وك انت تُعتَبَ ر من الم ِ‬
‫وارد‬
‫المتش ابِهات‪ ..‬وقابلِيّ ةُ الكش ف ه ذه في الق رآن الك ريم ق د وردت في كالم النبِ ّي ‪‬‬
‫أن القرآن مع ِج ٌز بلفظ ه ومعن اه‪ ،‬وأنَّه جدي ٌد على ال دوام ال يبلى‪،‬‬ ‫واألئ ّمة‪ ،‬الذين ذكروا َّ‬
‫وأنَّه ال يختصُّ بزمان دون زمان)(‪)2‬‬
‫ومن الشبه التي اهتم اإليرانيون‪ ،‬وخاصة في مشروعهم الحضاري الجديد بالرد‬
‫عليها تلك النزعة التي تحاول أن تجعل من القرآن الكريم كتابا غريبا عن الواقع‪ ،‬وأن ه‬
‫ال يمكن فهمه وال تطبيقه إال من طرف المعصومين‪ ،‬أو تجعل منه مجموعة طلسمات‪،‬‬
‫ال يفكها إال الذين انصرفوا عن الدنيا‪ ،‬وصاروا يتلقون الكشف واإللهام‪.‬‬
‫ومن أبرز الذين فندوا هذه الشبهة‪ ،‬وأعادوا للقرآن الكريم واقعية فهم ه وتطبيق ه‬
‫وتأثيره اإلمام الخميني الذي تصدى بشدة للمنهج الباطني‪ ،‬الذي يرى أن القرآن الك ريم‬
‫ال يدرك ه إال المكاش فون‪ ..‬كم ا تص دى للمدرس ة اإلخباري ة ال تي تعط ل فهم الق رآن‬
‫مباشرة‪ ،‬معتمدة على التفسير بالمأثور عن األئمة‪.‬‬
‫ولهذا نراه يصرح كل حين بأن القرآن الكريم كتاب يمكن فهمه لجميع المس لمين‬
‫كل بحسبه‪ ،‬ومن ذلك قوله‪( :‬إن هذا الكتاب وهذه المائدة الممت دة في الش رق والغ رب‪،‬‬
‫‪ )(1‬هو العضو المؤسس في شورى الثورة اإلسالمية في إي ران إب ان األي ام األخ يرة من س قوط نظ ام الش اه‪ ،‬ومن‬
‫المنظرين جمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬وهوأحد أبرز تالمذة المفسر والفيلسوف اإلس المي محم د حس ين الطباطب ائي و‬
‫روح هللا الخميني‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فهو صاحب المؤلفات التأصيلية والعقائدي ة والفلس فية اإلس المية‪ ،‬من أهم مميزات ه‬
‫بيان تعاليم اإلسالم والتشيع بعبارات سهلة‪ ،‬وواضحة وسهلة‪ ،‬للجيل الصاعد في ذلك الوقت‪ ،‬له مؤلفات كثيرة‪ ،‬في فروع‬
‫العلوم اإلسالمية المختلفة‪ ،‬وقد ترجمت إلى لغ ات مختلف ة‪ ،‬ويع دمطهري من أف راد الث ورة اإلس المية في إي ران وقادته ا‬
‫المؤثرين‪.‬‬
‫‪ )(2‬دراسات عقائدية‪ ،‬الشهيد مطهري‪ ،‬ص ‪.266‬‬

‫‪39‬‬
‫منذ زمان الوحي حتى القيامة‪ ،‬يس تفيد منه ا الن اس جميع ا الع امي والع الم والفيلس وف‬
‫والعارف والفقيه‪ ..‬وإن اإلنسان يستفيد منه على قدر استعداده‪ ،‬فثم مس ائل يس تفيد منه ا‬
‫الفالسفة وحكماء اإلسالم‪ ،‬وهناك مسائل يستفيد منها عرفاء اإلس الم‪ ،‬ومس ائل يس تفيد‬
‫منها الفقهاء‪ ،‬فهذه المائدة عامة للجميع‪ ،‬وكما أن هذه الطوائف تستفيد من الق رآن‪ ،‬ف إن‬
‫فيه ‪-‬أيضا‪ -‬المسائل السياسية واالجتماعية والثقافية)(‪)1‬‬
‫وهو يرد على الذين تصوروا الصراع بين الظ اهر والب اطن‪ ،‬فيق ول‪ ..( :‬وبن اء‬
‫على هذه النظرة‪ ،‬فمن تمسك بالظاهر ووقف على باب ه قص ر وعط ل‪ ،‬وت رده اآلي ات‬
‫والروايات المتكاثرة الدالة على تحسين التدبر في آيات هللا‪ ،‬والتفكر في كتب ه وكلمات ه‪،‬‬
‫ومن سلك طريق الباطن بال نظر إلى الظاهر ضل وأضل عن الطريق المس تقيم‪ ،‬ومن‬
‫أخذ الظاهر وتمسك به للوصول إلى الحقائق‪ ،‬ونظر إلى المرآة لرؤية جمال المحب وب‬
‫فقد هدي إلى الصراط المستقيم‪ ،‬وتال الكتاب حق تالوته)‬
‫وبناء على ذلك ذكر المحاور الكبرى التي يدور حوله ا الق رآن الك ريم‪ ،‬وهي ال‬
‫تختلف كثيرا عن تلك المحاور التي ذكرها الغزالي‪ ،‬وأهمها دعوة الق رآن (إلى معرف ة‬
‫هللا‪ ،‬وبي ان المع ارف اإللهي ة من الش ئون الذاتي ة واألس مائية والص فاتية واألفعالي ة‪،‬‬
‫وأهمها في هذا المقصد توحيد الذات واألسماء واألفعال‪ ،‬وللتوحيد م دلوالت اجتماعي ة‬
‫وسياسية وسلوكية جمة ينبغي استكش افها وتفعيله ا‪ ،‬ومن يرك ز على التوحي د كمقص د‬
‫أقص ى ال ينبغي مطلق ا تجمي د آث اره العملي ة في المجتم ع والسياس ة واالقتص اد وبقي ة‬
‫مرافق الحياة)‬
‫وهك ذا يسترس ل في ذك ر جمي ع المقاص د القرآني ة‪ ،‬ويجم ع فيه ا بين الرؤي ة‬
‫العرفانية الذوقية‪ ،‬والمنهج العقلي الكالمي‪ ،‬واالستنباطات الفقهية‪ ..‬ال يرى أن أي أحد‬
‫منها يزاحم اآلخر أو يرفضه‪.‬‬
‫وبناء على ذلك قسم التعامل مع الق رآن الك ريم إلى ثالث من اطق‪ ،‬اثن تين منهم ا‬
‫مقبولة‪ ،‬وهي (منطقة التفسير)‪ ،‬التي يتحرى فيه ا المفس ر الكش ف عن مقاص د الق رآن‬
‫وبيانه ا وش رحها‪ ،‬فه ذه هي مهم ة التفس ير ال تي يض طلع به ا المفس رون‪ ..‬و(منطق ة‬
‫التفكير والتدبر) واستفادة المع اني والعظ ات األخالقي ة والتربوي ة واإليماني ة‪ ،‬وك ذلك‬
‫المفاهيم والدروس السياسية واالجتماعية‪ ،‬ووعي السنن‪ ،‬وما شابه ذل ك‪ ،‬وه ذه منطق ة‬
‫واسعة تشمل لوازم الكالم ومص اديق المف اهيم‪ ،‬وم راتب الحق ائق والمع اني‪ ،‬وم ا ق ام‬
‫عليه البرهان العقلي أو العرفاني‪..‬‬
‫أما المنطقة الثالثة المرفوضة فهي (منطقة التفسير ب الرأي الممن وع)‪ ،‬بن اء على‬
‫ما ورد في الروايات من أن (من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر‪ ،‬وإن أخطأ خر‬
‫(هوى) أبعد من السماء)‬
‫ومن الشبه التي اهتم العلماء اإليراني ون من ذ العص ور األولى ب الرد عليه ا تل ك‬
‫الش بهة ال تي يثيره ا المغرض ون‪ ،‬وال تي ي ذكرون فيه ا أن الش يعة يقول ون بتحري ف‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬شروط فهم القرآن‪ ،‬اإلمام الخميني‪ ،‬موقع هدى القرآن‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫الق رآن‪ ،‬وليس لهم من س ند في ذل ك س وى م ا كتب ه بعض اإلخب اريين ممن أغرم وا‬
‫بالجمع دون التحقيق‪ ،‬وممن ال أث ر لهم في جمي ع المجتمع ات الش يعية العربي ة وغ ير‬
‫العربية‪ ،‬والتي يطغى عليها الطابع التحقيقي التأصيلي‪ ،‬ال الطابع اإلخباري‪.‬‬
‫ومن أوائل من رد على هذه الشبهة من ق دامى اإليران يين الش يخ محم د بن علي‬
‫بن بابويه القمي (‪ 305‬هـ ‪ 381 -‬هـ) المعروف بـ (الش يخ الص دوق) ص احب كت اب‬
‫(من ال يحضره الفقيه)‪ ،‬وهو من الكتب األربعة الك برى ل دى الش يعة‪ ،‬وال ذي رد على‬
‫هذه الشبهة بقوله‪( :‬اعتقادنا في القرآن الكريم الذي أنزله هللا تعالى على نبيّه محم د ‪‬‬
‫هو ما بين الدفتين‪ ،‬وهو م ا في أي دي الن اس ليس ب أكثر من ذل ك‪ ،‬ومن نس ب إلين ا أنّ ا‬
‫نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب)(‪)1‬‬
‫ومنهم الشيخ أبو علي الطبرسي الملقب بأمين اإلسالم (توفي ‪ 548‬هـ )‪ ،‬والذي‬
‫قال‪ ..( :‬ومن ذلك الكالم في زيادة القرآن ونقصانه فإنه ال يلي ق بالتفس ير فأم ا الزي ادة‬
‫فمجم ع على بطالنه ا‪ ،‬وأ ّم ا النقص ان من ه فق د روى جماع ة من أص حابنا وق وم من‬
‫حشوية العامة‪:‬إن في القرآن تغييراً ونقصانا ً … والص حيح من م ذهب أص حابنا خالفه‪،‬‬
‫وهو الذي نص ره المرتضى – ق ّدس هللا روح ه – واس توفى الكالم فيه غاية االس تيفاء‬
‫في جواب المسائل الطرابلسيات)(‪)2‬‬
‫وهو يشير بوقوع الخالف إلى ما ورد في الروايات من كتب السنة والشيعة مم ا‬
‫يسمى بالمنسوخ تالوة‪ ،‬وال ذي لم يقبل ه إال اإلخب اريون من المدرس تين‪ ،‬وال ذين أطل ق‬
‫عليهم الشيخ الطبرسي لقب (الحشوية) أي الذين يهتمون بالجمع دون التحقيق(‪.)3‬‬
‫ومنهم الش يخ الطوس ي الملقب بش يخ الطائف ة (ت وفي ‪ 460‬هـ )‪ ،‬وال ذي ق ال‪:‬‬
‫(وأما الكالم في زي ادة الق رآن ونقص ه فمم ا ال يلي ق ب ه‪ ،‬ألن الزي ادة في ه مجم ع على‬
‫بطالنها‪ ،‬وأما النقصان فالظاهر من مذهب المسلمين خالفه وهو األلي ق بالص حيح من‬
‫مذهبنا‪ ،‬وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر من الروايات)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬االعتقادات في دين االمامية ص‪. 48‬‬


‫‪ )(2‬مجمع البيان ج ‪ 1‬ص ‪.. 15‬‬
‫‪ )(3‬من األمثلة على ذلك‪ ،‬والتي يتغاضى عنها لألسف من يرمون الشيعة بتحريف الق رآن‪ ،‬م ا رووه عن عم ر بن‬
‫الخطاب أنه قال ـ وهو يخطب الناس على المنبر ـ ( ثم إنا كنا نق رأ فيم ا نق رأ من كت اب هللا ‪( :‬أن ال ترغب وا عن آب ائكم‪،‬‬
‫فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم‪ ،‬أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) رواه البخاري (‪ )6830‬ومسلم (‪)1691‬‬
‫ومنها‪ ( :‬أال بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) [رواه البخاري (‪])3064‬‬
‫ومنها م ا رووه من أن س ورة طويل ة ن زلت‪ ،‬ثم نس خت‪ ،‬ولم يب ق من آياته ا إال ( ل و ك ان البن آدم وادي ان من م ال‬
‫البتغى واديا ثالثا )‪ ،‬واستدلوا لذلك بأن أبا موسى األشعري أرسل إلى قراء أهل البصرة‪ ،‬فدخل عليه ثالث مائة رج ل ق د‬
‫قرؤوا القرآن‪ ،‬فقال ‪( :‬أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم‪ ،‬فاتلوه‪ ،‬وال يطولن عليكم األمد فتقسو قلوبكم كما قس ت قل وب من‬
‫كان قبلكم‪ ،‬وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها‪ ،‬غير أني قد حفظت منها ‪( :‬ل و ك ان البن آدم‬
‫واديان من مال البتغى واديا ثالثا‪ ،‬وال يمأل جوف ابن آدم إال ال تراب)‪ ،‬وكن ا نق رأ س ورة كن ا نش بهها بإح دى المس بحات‬
‫فأنسيتها‪ ،‬غير أني حفظت منها ‪ ( :‬يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما ال تفعل ون ) فتكتب ش هادة في أعن اقكم فتس ألون عنه ا‬
‫يوم القيامة ) رواه مسلم (‪ .. )1050‬وغيرها من الروايات الكثيرة التي ال تختلف عن الروايات ال تي يورده ا أمث الهم من‬
‫إخباريي الشيعة‪ ،‬مع فارق خطير وهو أن جميع محققي الشيعة يرفضون تلك الروايات‪ ،‬بينما أكثر محققي السنة يقبلونها‪.‬‬
‫‪ )(4‬مقدمة تفسير التبيان ص ‪.. 3‬‬

‫‪41‬‬
‫ولم يقتص ر ال رد على ه ذه الش بهة من األص وليين الش يعة فق ط‪ ،‬ب ل ك ان‬
‫لإلخباريين الكبار أيضا سهم في ردها‪ ،‬ومنهم المحدث الكبير الفيض الكاشاني صاحب‬
‫كتاب (الوافي) الذي يعد من الجوامع الحديثية المتأخرة ( توفي ‪ 1091‬ه‍ ) الذي استدل‬
‫َزي ٌز (‪ )41‬اَل يَأْتِي ِه ْالبَ ِ‬
‫اط ُل ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َواَل ِم ْن خَ ْلفِ ِه تَ ْن ِزي ٌل‬ ‫بقوله تعالى‪َ { :‬وإِنَّهُ لَ ِكتَابٌ ع ِ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد} (فصلت‪ ،)42 ،41 :‬وقوله‪{ :‬إِنَّا نَحْ نُ نَ َّزلنَا الذ ْك َر َوإِنَّا لَ هُ لَ َح افِظونَ }‬
‫(الحجر‪ )9 :‬على عدم وقوع التحريف‪ ،‬وعلق عليهما بقوله‪( :‬عندئذ كيف يتط رق إلي ه‬
‫التحريف والتغي ير‪ ..‬م ع أن خ بر التحري ف مخ الف لكت اب هللا‪ ،‬مك ذب ل ه فيجب رده‬
‫والحكم بفساده وتأويله)(‪)1‬‬
‫ومنهم محم د ب اقر المجلس ي (‪ 1037 ( )2‬هـ ـ )‪ ،‬وال ذي يمنع ه كون ه من‬
‫المح دثين الكب ار‪ ،‬ب ل من ال ذين أوردوا رواي ات التحري ف نفس ها أن ينص على ع دم‬
‫صحتها‪ ،‬وأن القرآن يستحيل تحريفه‪ ،‬وقد ق ال مع برا عن ذل ك‪( :‬ف إن ق ال قائ ل كي ف‬
‫يص ّح القول بأن الّذي بين الدفتين ه و كالم هللا تع الى على الحقيق ة من غ ير زي ادة وال‬
‫نقص ان وأنتم ت روون عن األئم ة عليهم الس الم أنّهم ق رأوا ( كنتم خ ير أئم ة أخ رجت‬
‫للناس ) وكذلك ( جعلناكم أئمة وسطا … ) وهذا بخالف ما في المصحف الذي في أيدي‬
‫أن األخب ار ال تي ج اءت بتلك أخب ار‬ ‫الناس ؟ قيل له‪:‬قد مضى الج واب عن ه ذا‪ ،‬وهو ّ‬
‫آحاد ال يقطع على هللا تعالى بصحتها؛ فلذلك وقفنا فيه ا‪ ،‬ولم نع دل ع ّم ا في المص حف‬
‫الظاهر على ما أمرنا به حسب ما بيّناه)(‪)3‬‬
‫أما المعاصرون‪ ،‬فقد ألفوا الكتب الكثيرة في الرد على هذه الشبهة خاصة بع دما‬
‫ألف اإلخباري النوري (ت‪1320‬هـ)‪ ،‬كتاب ه (فص ل الخط اب في تحري ف كت اب رب‬
‫األرباب) معتمدا على مجموعة من الروايات ضعيفة السند‪ ،‬أو مكذوبة على األئمة‪.‬‬
‫ومن تل ك الكتب (كش ف االرتي اب في ع دم تحري ف كت اب رب األرب اب)‬
‫للطهراني (ت ‪1313‬هـ)‪ ،‬ومنها (حفظ الكتاب الش ريف على ش بهة الق ول ب التحريف)‬
‫للسيد هبة الدين الشهرس تاني (ت ‪1315‬هـ)‪ ،‬ومنه ا (الحج ة على فص ل الخط اب في‬
‫إبطال القول بتحريف الكتاب) لعبد الرحمن الهيدجي (‪1372‬هـ)‪ ،‬ومنها (البرهان على‬
‫عدم تحريف القرآن) للميرزا البروجردي (‪1374‬هـ ‪1954 -‬م)‪ ،‬ومنه ا (آالء ال رحمن‬
‫في الرد على تحري ف الق رآن) للم يرزا عب د ال رحيم الم درس الخياب اني (‪1318‬هـ)‪،‬‬
‫ومنه ا (بح ر الفوائ د في ش رح الفرائ د)‪ ،‬للم يرزا األش تياني ( ت ‪1319‬هـ)‪،‬وغيره ا‬
‫كثير‪.‬‬
‫وأحب أن أرد هن ا على أولئ ك المغرض ين ال ذين يزعم ون أن الش يعة رض وا‬
‫بكتاب النوري‪ ،‬وأنهم لم يقفوا منه أي موقف‪ ،‬بأن ذل ك خط أ‪ ،‬ب ل خطيئ ة علمي ة‪ ،‬فق د‬
‫‪ )(1‬عنه مفاهيم القرآن (العدل واإلمامة)‪ ،‬الشيخ جعفر السبحاني – ج ‪ – 10‬ص ‪.. 441‬‬
‫‪ )( 2‬ولد في مدينة أصفهان التي كانت آنذاك من المراكز العلمية المعروفة في العالم اإلسالمي‪ ،‬وكان وال ده الم ولى‬
‫محمد تقي المجلسي من مفاخر علماء الشيعة‪ ،‬له مؤلفات كث يرة في ش تى الـمـجـاالت يـنتهي نس به إلى الحاف ظ أبي نعيم‬
‫المتوفى عام ‪ 430‬هـ صاحب الكتاب المعروف بـ حلية االولياء في طبقات االصفياء‪..‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار ج‪92‬ص‪.75‬‬

‫‪42‬‬
‫ذكر الشيخ جعفر السبحاني ردة الفع ل الش ديدة ال تي ق امت على الكت اب وص احبه من‬
‫الحوزات العلمية‪ ،‬فقال‪( :‬وقد ت ّم تأليف (فص ل الخط اب) على ي د مؤَ لف ه الن وري س نة‬
‫‪ ،1292‬وطبع سنة ‪ ،1298‬وقد َو َج َد المح ّدث النوري منذ نشر كتاب ه نفس ه في وحش ة‬
‫العزلة وفي ضوضاء من نفرة العلماء والطلبة في حوزة سامراء العلمي ة آن ذاك‪ .‬وق د‬
‫ق امت ض ّده نع رات‪ ،‬تتبعه ا ش تائم وس بّات من نبه اء األُ ّم ة في جمي ع أرج اء البالد‬
‫اإلس الم‪ ،‬وال ي زال‬ ‫الشيعيّة‪ ،‬ونهض في وجه ه أص حاب األَقالم من ذوي الحميّ ة على ِ‬
‫اإليمان‪ ،‬يسلقونه بألسنة حداد‪ ،‬على ما جاء في وص ف العاّل م ة الس يد‬ ‫في متناوش أهل ِ‬
‫هبة الدين الشهرستاني‪ ،‬عن موضع هذا الكتاب ومؤَ لفه وناش ره‪ ،‬ي وم ك ان طالب ا ً ش ابّا ً‬
‫في حوزة سامراء)(‪)1‬‬
‫ثم ذكر ثناء علماء الشيعة على الكتب والرسائل التي ردت على النوري‪ ،‬ومنه ا‬
‫رسالة بعثها السيد هبة ال دين الشهرس تاني تقريظ ا ً على رس الة (البره ان) ال تي كتبه ا‬
‫الميرزا مهدي البروجردي بقم ‪ 1373‬هـ يق ول فيه ا‪( :‬كم أنت ش اكر م والك إذ أوالك‬
‫بنعمة ه ذا الت أليف الم نيف‪ ،‬لعص مة المص حف الش ريف عن وص مة التحري ف‪ ،‬تل ك‬
‫آنست بها منذ الصغر أيّ ام مك وثي في س امرّاء‪ ،‬مس قط رأس ي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العقيدة الصحيحة التي‬
‫حيث تمركز العلم والدين تحت لواء االمام الشيرازي الكبير‪ ،‬فكنت أراه ا تم وج ث ائرة‬
‫على نزيلها المح ّدث النوري‪ ،‬بشأن تأليفه كتاب (فصل الخط اب) فال ن دخل مجلس ا ً في‬
‫الحوزة العلمية إاّل ونسمع الضجّة والعجّة ض ّد الكتاب ومؤَ لّفه وناشره‪ ،‬يسلقونه بالس نة‬
‫حداد)(‪)2‬‬
‫ثم يعلق السبحاني على هذا التقريظ بقوله‪( :‬و هك ذا هبّ أرب اب القلم يس ارعون‬
‫لبث آرائ ه‬ ‫في الر ّد عليه ونقض كتابه بأقسى كلمات وأعن ف تع ابير الذع ة‪ ،‬لم ي دعوا ّ‬
‫ونشر عقائ ده مج ااًل وال قي د ش عر ٍة‪ ،‬وم ّمن كتب في ال ر ّد علي ه من معاص ريه‪ ،‬الفقي ه‬
‫المحقّق الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطه راني (المت وفّى ‪ )1313‬في‬
‫رسالة قيّمة أسماها (كشف االرتياب في عدم تحريف الكتاب) ف رغ منه ا في (‪ 17‬ج ‪2‬‬
‫‪ )1302‬تقرب من أربعة آالف بيت في ‪ 300‬ص فحة‪ ،‬و فيه ا من االس تدالالت المتين ة‬
‫والبراهين القاطعة‪ ،‬ما ألجأ الشيخ النوري إلى التراجع عن رأي ه بعض الش يء‪ ،‬وت أثّر‬
‫كثيراً بهذا الكتاب) (‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬كتب في الر ّد علي ه معاص ره العاّل م ة الس يد محم د حس ين الشهرس تاني‬
‫(المت وفّى ‪ )1315‬في رس الة أس ماها (حف ظ الكت اب الش ريف عن ش بهة الق ول‬
‫ب التحريف)‪ ،‬و ق د أحس ن الكالم في الدالل ة على ص يانة الق رآن عن التحري ف ور ّد‬
‫شاف‪ ،‬و الرسالة في واقعها ر ّد على فصل الخطاب‪ ،‬ولكن‬ ‫ٍ‬ ‫واف‬
‫ٍ‬ ‫شبهات المخالف ببيان‬

‫‪ )(1‬موسوعة طبقات الفقهاء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.77 :‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬

‫‪43‬‬
‫المقيت)(‪)1‬‬ ‫في أُسلوب ظريف بعيد عن التعسّف والتح ّمس‬
‫أما القادة الفكريين والسياسيين للجمهورية اإلسالمية اإليراني ة‪ ،‬فق د وقف وا بش دة‬
‫ضد تلك الشبهات‪ ،‬ألنها تتن اقض م ع مش روعهم في إع ادة تط بيق الق رآن الك ريم في‬
‫الحياة‪.‬‬
‫ومن ه ؤالء اإلم ام الخمي ني ال ذي لم يكن ي دع مناس بة إال وي ذكر فيه ا بس المة‬
‫القرآن الكريم من التحريف‪ ،‬ومن ذلك قول ه‪( :‬إن الواق ف على عناي ة المس لمين بجم ع‬
‫القرآن وحفظه وضبطه قراءةً وكتاب ةً يق ف على بطالن تل ك المزعوم ة – التحريف –‬
‫وما ورد فيها من أخب ار – حس بما تمس كوا – إما ض عيف ال يص لح االس تدالل به أو‬
‫مجعول تلوح عليه أمارات الجعل أو غريب يقضي ب العجب أما الص حيح منها ف يرمي‬
‫إلى مسألة التأويل والتفس ير وإن التحريف إنما حصل في ذلك ال في لفظ ه وعبارات ه )‬
‫(‪)2‬‬
‫وهو يشير بذلك إلى التحريف في معاني القرآن بتأويلها أو صرفها عن معانيها‪،‬‬
‫وهو مما اتفقت عليه األمة جميعا‪ ،‬بل أخبر رسول هللا ‪ ‬عن وقوع ه‪ ،‬فعن أبي س عيد‬
‫الخدري قال‪:‬كنا جلوسا ننتظر رسول هللا ‪ ‬فخرج إلينا قد انقطع شسع نعله‪ ،‬فرمى به‬
‫إلى علي‪ ،‬فقال‪(:‬إن منكم رجال يقاتل الناس على تأويل القرآن‪ ،‬كما قاتلت على تنزيل ه‪،‬‬
‫قال أبو بكر‪:‬أنا‪ ،‬قال‪:‬ال‪ ،‬قال عمر‪:‬أنا‪ ،‬قال‪:‬ال‪ ،‬ولكن خاصف النعل)(‪)3‬‬
‫ومثل ذلك نص أئمة أهل البيت على إمكانية وقوع مثل هذا الن وع من التحري ف‬
‫وحذروا منه‪ ،‬كما قال اإلمام علي‪( :‬إلى هللا أشكو من معشر يعيشون جهّ االً‪ ،‬ويموت ون‬
‫ق تالوت ه‪ ،‬وال س لعة أنف ق بيع ا ً وال‬
‫ضاّل الً ليس فيهم سلعة أبور من الكت اب إذا تلي ح ّ‬
‫رف عن مواضعه)(‪)4‬‬ ‫أغلى ثمنا ً من الكتاب‪ ،‬إذا ح ِّ‬
‫وقال اإلمام الباقر‪( :‬وكان من نبذهم الكتاب‪ :‬أن أقاموا حروفه‪ ،‬وحرّفوا ح دوده‪،‬‬
‫فهم يروونه وال يرعونه‪ ،‬والجهّ ال يعجبهم حفظهم للرواي ة‪ ،‬والعلم اء يح زنهم ت ركهم‬
‫للرعاية)(‪)5‬‬
‫ولم يكتف اإلمام الخميني بالرد المجم ل على تل ك الش بهة‪ ،‬ب ل راح ين اقش تل ك‬
‫الروايات التي اعتمدها اإلخباريون‪ ،‬ويفندها‪ ،‬وقد قس مها إلى ثالث ة أقس ام‪( :‬الرواي ات‬
‫الضعيفة التي ال يمكن االستفادة منها واألخذ بها أبدا‪ ..‬والروايات المختلقة ال تي تظه ر‬
‫عليها عالمات الوضع واالختالق‪ ..‬والروايات الصحيحة)‬
‫وعلق عليها بقوله‪( :‬ل و تأملن ا فيه ا بدق ة فسيتض ح أن المقص ود منه ا ليس ه و‬
‫التحريف اللفظي (أي الزيادة والنقصان)‪ ،‬بل هو تحريف تفسيرها وشرحها)‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.89‬‬
‫‪ )(2‬تهذيب األصول ج ‪ 2‬ص ‪ 165‬تقريرات درس اإلمام الخميني‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه النسائي في الخصائص‪ ،‬انظر‪ :‬تهذيب الخصائص ص ‪.. 88‬‬
‫‪ )(4‬الشريف الرضي‪ ،‬نهج البالغة‪ ،‬شرح محمد عبده‪ ،‬الخطبة‪ ،17‬ص‪.54‬‬
‫‪ )(5‬الشيخ الكليني‪ ،‬الكافي‪ ،‬ج‪ ،8‬كتاب الروضة‪ ،‬ح‪ ،16‬ص‪.53‬‬

‫‪44‬‬
‫وقد رد بشدة على الميرزا النوري‪ ،‬معتبرا إياه مث ل الكث ير من المح دثين ال ذين‬
‫يهتمون بجمع الروايات دون التحقيق في معانيها وأسانيدها‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬إنّه لو كان‬
‫األمر كما ت ّوهم صاحب فصل الخطاب (الميرزا النوري)‪ ،‬الذي كان كتبه ال يفيد علم ا ً‬
‫وال عمالً‪ ،‬وإنّما هو إيراد روايات ضعاف أعرض عنها األصحاب‪ ،‬وت ن ّزه عنه ا أول و‬
‫األلب اب‪ ،‬من ق دماء أص حابنا‪ ،‬كالمح ّم دين الثالث ة المتق ّدمين (الص دوق والكلي ني‬
‫والطوسي (رحمهم هللا)‪ ،‬هذا حال كتب روايته غالباً‪ ،‬كالمستدرك‪ ،‬وال تسأل عن س ائر‬
‫كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالج ّد‪ ،‬وه و‬
‫أن اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وم ا ال يقبله ا‬ ‫شخص صالح متتبّع‪ ،‬إال ّ‬
‫العقل السليم والرأي المستقيم‪ ،‬أكثر من الكالم الن افع‪ .‬والعجب من معاص ريه من أه ل‬
‫اليقظة كيف ذهلوا وغفلوا‪ ،‬حتى وقع ما وقع م ّما بكت عليه السماوات‪ ،‬وكادت تتدك دك‬
‫على األرض؟!)(‪)1‬‬
‫وق د اعتم د الخمي ني في رد ه ذه الش بهة الخط يرة على إجم اع المس لمين على‬
‫سالمة القرآن من التحريف‪ ،‬وقد قال معبرا عن ذلك‪( :‬فلو كان األم ر‪ ،‬كم ا ذك ره ه ذا‬
‫وأشباهه‪ ،‬من كون الكت اب اإللهي مش حونا ً ب ِذكر أه ل ال بيت عليهم الس الم وفض لهم‪،‬‬
‫و ِذ ْكر أمير المؤمنين عليه السالم وإثبات وصايته وإمامته‪ ،‬فلِ َم لَ ْم يحت ّج بواح د من تل ك‬
‫اآليات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب اإللهي ك ّل من‪ :‬أمير المؤم نين‪ ،‬وفاطم ة‪،‬‬
‫والحسن‪ ،‬والحسين‪ ،‬وسلمان‪ ،‬وأبو ذر‪ ،‬والمقداد‪ ،‬وعمار‪ ،‬في صدد إثبات خالفته علي ه‬
‫السالم؟! ولِ َم تشبّث عليه السالم باألحاديث النبوي ة‪ ،‬والق رآن بين أظه رهم؟! ول و ك ان‬
‫القرآن مشحونا ً باسم أمير المؤم نين وأوالده المعص ومين وفض ائلهم وإثب ات خالفتهم‪،‬‬
‫ي وجه خاف النبي ‪ ‬في حجّة الوداع آخر س نين عم ره الش ريف‪ ،‬وأخ يرة ن زول‬ ‫فبأ ّ‬
‫ك ِمنَ‬ ‫﴿وهّللا ُ يَع ِ‬
‫ْص ُم َ‬ ‫الوحي اإللهي‪ ،‬من تبليغ آية واحدة مربوطة ب التبليغ‪ ،‬ح تى ورد ّ‬
‫أن َ‬
‫اس﴾‪ .‬ولِ َم احتاج النبي ‪ ‬إلى دواة وقلم حين موته للتصريح باسم علي ؟! فه ل رأى‬ ‫النَّ ِ‬
‫أن لكالمه أثراً فوق أثر الوحي اإللهي؟!)(‪)2‬‬‫ّ‬
‫هذه مجرد نماذج عن مواقف اإليرانيين المتشددة من كل المقوالت التي تري د أن‬
‫تصرف القرآن الكريم عن الواقع إما بحجة عدم فهمه إال للمعصومين‪ ،‬أو بحجة وق وع‬
‫التحريف فيه‪ ،‬أو بحجة إثارة الشبه حوله‪.‬‬
‫والكتب المؤلفة في ذل ك كث يرة ج دا‪ ،‬ال يمكن التعري ف به ا هن ا جميع ا‪ ،‬ول ذلك‬
‫اكتفينا بما ذكره اإلمام الخميني للرد على تلك الطروحات ال تي يطرحه ا من ال يخ اف‬
‫هللا‪ ،‬وال يتورع في مواقفه حين يرمي هذا العمالق من عمالقة التجديد اإلسالمي بكون ه‬
‫يقول بتحريف القرآن‪ ،‬مع كونه قضى حيات ه جميع ا في ال دعوة إلي ه ورد الش به عن ه‪،‬‬
‫ولكن عين السخط ال تبدي المساوئ فقط‪ ،‬بل تصنعها أيضا‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬الخميني والتفسير وقضية التحريف‪ ،‬د‪ .‬حسان عبد هللا‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اإلمام الخميني‪ ،‬أنوار الهداية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.247-244‬‬

‫‪45‬‬
‫إيران‪ ..‬والسنة النبوية‬
‫من المغالطات التي يستعملها المغرضون‪ ،‬ليشوهوا بها تلك القطعة الكريم ة من‬
‫بالد المسلمين تصويرهم لها بأنها بلد البدعة والضاللة‪ ،‬وأنه ال عالقة لها بسنة رس ول‬
‫هللا ‪ ،‬كما ال عالقة لها بالقرآن الكريم‪..‬‬
‫وهم يستعملون في ذلك ما شاع تاريخيا من اعتبار السنة حكرا على تلك الطائفة‬
‫الكريمة من طوائف المسلمين‪ ،‬والمتمثل ة في أص حاب الم ذاهب األربع ة‪ ،‬وه ذا خط أ‬
‫كبير‪ ،‬وهو إن صلح التعبير به سياسيا وتاريخيا‪ ،‬فإنه ال يصلح التعبير ب ه ديني ا‪ ،‬فس نة‬
‫رسول هللا ‪ ‬أعظم من أن يحتكرها أحد من الن اس‪ ،‬ورس ول هللا ‪ ‬ال ذي أرس له هللا‬
‫رحمة للعالمين أعظم من أن يكتفي باتباعه طائفة من الطوائف‪.‬‬
‫فكل المسلمين مهما اختلفت ط وائفهم يعرف ون الس نة‪ ،‬ويحترمونه ا‪ ،‬ويتبعونه ا‪،‬‬
‫وإن كانت مصادرهم لها مختلفة‪ ،‬ورواياتهم لها متباينة‪ ..‬فلكل قوام رواتهم ومح دثوهم‬
‫ورج الهم‪ ،‬وال يص ح أن تف رض طائف ة من الطوائ ف ثقاته ا ورواته ا ورجاله ا على‬
‫غيرها من الطوائف‪ ،‬لتستبعدها عن نبيها‪ ،‬وهديه‪.‬‬
‫وبناء على هذا المفهوم للسنة النبوية‪ ،‬والذي ينسجم مع عدالة اإلسالم وش موليته‬
‫وعالميت ه‪ ،‬نح اول في ه ذا الفص ل أن ن ذكر بعض تجلي ات اهتم ام اإليران يين بالس نة‬
‫النبوية‪ ،‬والتي رأينا انحصارها في ثالثة مظاهر كبرى‪:‬‬
‫المظهر األول‪ :‬ذلك التعلق الشديد برسول هللا ‪ ،‬باعتباره خاتم الرس ل‪ ،‬وخ ير‬
‫خلق هللا كلهم‪ ،‬وأنه يمثل الهداية اإللهية بأسمى صورها‪ ،‬وأنه القرآن الناطق‪ ،‬واألس وة‬
‫الحسنة‪ ،‬التي ينهل منها جميع الورثة‪ ،‬كما ينهل منها جميع األمة‪.‬‬
‫وهذا متفق عليه عند اإليرانيين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم‪ ،‬فهم ال يكتفون بأداء‬
‫الس نن‪ ،‬وإنم ا ينطلق ون فيه ا من ذل ك التعل ق بص احبها ‪ ،‬ف التعلق ب ه ومحبت ه هي‬
‫األساس الذي تبنى عليه كل الممارسات التي دعانا رس ول هللا ‪ ‬إلى فعله ا واالقت داء‬
‫به فيها‪.‬‬
‫لكن المغرضين يوهمون عوام الناس وبسطاءهم أن اإليرانيين الش يعة ال عالق ة‬
‫لهم برسول هللا ‪ ،‬وأن عالقتهم محص ورة ب أئمتهم‪ ،‬وهم واهم ون في ذل ك‪ ،‬فأس اس‬
‫تعلق الشيعة بأئمتهم هو ارتباطهم برسول هللا ‪ ،‬ولوال ذلك االرتباط‪ ،‬وتل ك الوص ية‬
‫لما تعلقوا بهم‪.‬‬
‫فهم إنما تعلقوا باإلمام الحسين لقوله ‪ ‬فيه‪(::‬حسين مني‪ ،‬وأن ا من حس ين) ‪، 1‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫ولذلك يرون أن اتباع الحسين‪ ،‬ومحبته وتعظيمه هو نفس تعظيم رسول هللا ‪.‬‬
‫وهكذا سائر األئمة الذين اتفق على صالحهم وعلمهم وتقواهم وانتسابهم لرسول‬
‫هللا ‪ ‬جميع السنة والشيعة‪.‬‬
‫أما ما يدعيه المغرضون من أن الشيعة يفضلون اإلمام عليا أو غ يره من األئم ة‬
‫‪ )(1‬التوحيد‪.3 / 174 :‬‬

‫‪46‬‬
‫على رسول هللا ‪ ،‬فوهم كبير‪ ،‬وهو ناتج من ذلك التعالي عن س ؤال أه ل العلم منهم‪،‬‬
‫أو مطالعة تراثهم المحقق‪ ،‬والذي يجدون فيه أمثال هذه الرواية ال تي س ئل فيه ا اإلم ام‬
‫علي بن أبي طالب من بعض األحبار ـ بعد أن سمع كالمه العجب ـ‪( :‬يا أمير المؤمنين‬
‫أفنبي أنت؟)‪ ،‬فقال له اإلمام علي‪( :‬ويلك‪ ،‬إنما أنا عبد من عبيد محمد ‪)1()‬‬
‫المظهر الثاني‪ :‬اهتمام اإليرانيين سنتهم وشيعتهم بجمع الس نة النبوي ة والتحقي ق‬
‫فيها‪ ،‬والتعامل معها رواية ودراية‪ ،‬ولذلك ظهر فيهم محدثون كثيرون‪ ،‬وظه رت معهم‬
‫أسفار حديثية كثيرة ال يمكن إلغاؤها‪ ،‬أو الته وين منه ا‪ ،‬ذل ك أنه ا ركن أص يل في كال‬
‫المدرستين‪.‬‬
‫وفي هذا أكبر رد على أولئك المغرض ين ال ذين ي ذكرون عن اإليران يين أنهم لم‬
‫يدخلوا اإلسالم اقتناعا ومحبة‪ ،‬وإنما دخلوه ليشوهوه؛ فإن كان األمر ك ذلك‪ ،‬ف إن الثق ة‬
‫ترفع عن كل تلك الكتب التي جمعت فيها األحاديث‪ ،‬والتي تعت بر مراج ع أساس ية لكال‬
‫المدرستين‪ ،‬ومنها صحاح وسنن ومسانيد ومستخرجات ومعاجم‪ ..‬ولو ألغيناه ا أللغين ا‬
‫معها ثروة حديثية كبيرة‪ ،‬وسننا نبوية عظيمة‪.‬‬
‫المظهــر الثــالث‪ :‬اهتم ام اإليران يين بمختل ف م ذاهبهم بتط بيق الس نة النبوي ة‬
‫المطه رة في جمي ع من احي الحي اة؛ فلم يظه ر فيهم أولئ ك المتك برون عليه ا‪ ،‬ال ذين‬
‫يتوهم ون أنهم يمكنهم االكتف اء ب القرآن الك ريم ب دلها‪ ،‬وإن ظه ر فيهم أمث الهم فهم‬
‫محدودون جدا‪ ،‬وال يهتم بهم اإلعالم‪ ،‬وال الشعب اإلي راني‪ ،‬ذل ك أنهم يص طدمون م ع‬
‫تعلقهم بأهل بيت النبوة الذين اعتبرهم اإليرانيون سفينة نجاتهم التي يتخلصون به ا من‬
‫األهواء والبدع والضالالت‪.‬‬
‫ونحب أن نش ير هن ا إلى م ا ذكرن اه في مناس بات كث يرة من أن تط بيق الس نة‬
‫النبوية ليس محصورا في تلك المظاهر البسيطة المحترمة‪ ،‬بل هو يشمل مناحي الحياة‬
‫جميع ا‪ ،‬فتط بيق الس نة في السياس ة هي تحقي ق الس يادة‪ ،‬والوق وف م ع المستض عفين‬
‫وجمي ع قض ايا األم ة‪ ،‬والح رص على الوح دة اإلس المية‪ ..‬وللسياس ة اإليراني ة الح ظ‬
‫الكبير من هذه السنة‪.‬‬
‫والسنن االجتماعية تنطلق من الحرص على التآلف والمودة والتناص ر والتكاف ل‬
‫بين المسلمين جميعا بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم‪ ،‬بل حتى م ع غ ير المس لمين‬
‫ال ذين أمرن ا أن نؤل ف قل وبهم‪ ،‬ونح ترم مقدس اتهم‪ ..‬وه ذه س نة عظيم ة‪ ،‬وللمجتم ع‬
‫اإليراني حظه الكبير منها‪.‬‬
‫وهكذا نجد السنن النبوية تتغلغل في جميع مناحي الحياة لتمتد حتى لطريقة أكلن ا‬
‫ونومنا ولباسنا وكل حركاتنا لتضبطها ب آداب النب وة‪ ..‬وك ل ذل ك موج ود في المج امع‬
‫الحديثية السنية والشيعية‪ ،‬والتي ال تختلف المسافات بينها كث يرا في ه ذا المج ال‪ ..‬وإن‬
‫كان هناك اختالف فهو اختالف مبرر ب اختالف المواق ف من ال رواة‪ ،‬ال بس بب رفض‬
‫السنة نفسها‪ ،‬فهي أعظم من أن يرفضها مسلم‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪ )3775‬وابن ماجه (‪ )144‬وأحمد (‪)17111‬‬

‫‪47‬‬
‫بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل البرهنة على ه ذه التجلي ات الثالث ة لتعل ق‬
‫اإليران يين بالس نة النبوي ة‪ ،‬وك ون م ا يش اع عنهم إش اعة ظالم ة‪ ،‬تنطل ق من الحق د‬
‫األعمى‪ ،‬ال من البحث العلمي الموضوعي الرصين‪.‬‬
‫أوال ـ تعظيم اإليرانيين لرسول هللا ‪:‬‬
‫وه ذا مظه ر ال يمكن أن يج ادل في ه إال مغ رض‪ ،‬فمن زار إي ران‪ ،‬أو رأى‬
‫مسلسالتها وأفالمها‪ ،‬فسيشاهد الن اس جميع ا يص لون على رس ول هللا ‪ ،‬وبأص وات‬
‫عالية جماعية لمناسبة ولغير مناسبة‪ ،‬بل يكفي أن يصيح أح د في الش ارع‪ ،‬ليق ول لهم‪:‬‬
‫طلبا لشفائي‪ ،‬صلوا على رسول هللا ‪ ،‬فإذا بكل من س معه ي ردد بص وت ع ال‪ :‬اللهم‬
‫صل على محمد وآل محمد‪ ..‬وهكذا تبدأ سلسلة الصلوات‪ ،‬حيث ي ذكر ك ل أح د طلب ه‪،‬‬
‫ويشفعه بطلب الصالة على رسول هللا ‪.‬‬
‫وهذا شاهد واحد من عشرات الشواهد على ذلك التعظيم ال ذي يولي ه اإليراني ون‬
‫لرسول هللا ‪ ،‬وكيف ال يولونه له‪ ،‬وهم يدينون له باإلسالم والتبعي ة‪ ،‬وي دينون أله ل‬
‫بيته بالوالء والنصرة‪ ،‬وهل يمكن أن يوالي شخص أبناء رجل‪ ،‬ثم ال يوالي والدهم؟‬
‫ومن مش اهد تل ك المحب ة باإلض افة للص لوات‪ ،‬إحي اؤهم للمناس بات المختلف ة‬
‫المرتبطة بميالد رسول هللا ‪ ،‬وبعثته واإلسراء به‪ ..‬وغيرها من المناس بات الكث يرة‪،‬‬
‫وهي احتف االت رس مية تمتلئ به ا إي ران جميع ا بالمحاض رات والمس ابقات الخاص ة‬
‫بالتعريف برسول هللا ‪.‬‬
‫وقد شاء اإلمام الخميني‪ ،‬حتى يرفع الخالف بين السنة والشيعة في تحديد موع د‬
‫االحتفال بالمولد النبوي الشريف أن يجعله أس بوعا ك امال‪ ،‬وه و نفس ه أس بوع الوح دة‬
‫اإلس المية‪ ،‬حيث أن المدرس ة الس نية ت رى أن الميالد ك ان في ‪ 12‬ربي ع األول‪ ،‬بينم ا‬
‫ترى المدرسة الش يعية أن ه ك ان في ‪ 17‬من نفس الش هر‪ ..‬ولم يش أ اإلم ام الخمي ني أن‬
‫يمي ل ألح د الج انبين؛ فجع ل جمي ع الم دة بينهم ا احتف اال‪ ،‬وس ماه (أس بوع الوح دة‬
‫اإلسالمية)(‪)1‬‬
‫ومن مشاهد تل ك المحب ة باإلض افة إلى ذل ك كل ه م ا يح رص علي ه اإليراني ون‬
‫كث يرا‪ ،‬ويس مونه بالزي ارات‪ ،‬وهي زي ارات يؤدونه ا من بي وتهم ومح الهم المختلف ة‬
‫لرسول هللا ‪ ‬وأهل بيته‪ ،‬وهي تت وزع على األي ام والمناس بات‪ ،‬لتبقى ذك راهم دائم ا‬
‫عطرة في قلوبهم‪.‬‬
‫وعند التأمل في تلك الزيارات التي أوردها العلم الكب ير الش يخ عب اس القمي في‬

‫‪ )(1‬يذكر السيد علي الخامنئي سبب طرح فكرة أسبوع الوحدة بقوله‪( :‬أنا شخصيا ً كنت منفيّا ً إلى بلوشستان‪ .‬لم تكن‬
‫األجهزة األمنية تريد أن نمارس أي مسعى؛ لكن في الوقت ذاته قلنا فلنَقُم بعمل نظهر من خالله الوحدة بين الشيعة والسنّة‬
‫في هذه المدينة؛ فخطرت على بالنا قضية أسبوع الوحدة ‪ -‬والدة النبي األكرم في ‪ 12‬ربيع األول حسب رواية أهل الس نّة‬
‫وفي ‪ 17‬ربيع األول حسب رواية ال ّشيعة‪ -‬وقُمنا بإجرائها بشكل عملي في إي ران ش هر؛ أي أنّن ا احتفلن ا من الث اني عش ر‬
‫حتى السابع عشر من ربيع األول‪ .‬لقد كان هذا فكراً عميقاً‪ ،‬ليس وليد اليوم والبارحة)[إطالق (أسبوع الوح دة) خالل أي ام‬
‫النفي إلى إيرانشهر‪ ،‬موقع مكتب الس يد علي خ امنئي‪ 17 ،‬أكت وبر ‪ ،] 2010‬وبع د انتص ار الث ورة اإلس المية في إي ران‬
‫طرحت هذه القضية من قبل الجمهورية اإلسالمية في إيران وتم اتخ اذ الق رار بإقام ة م ؤتمر الوح دة اإلس المية في ه ذا‬
‫األسبوع‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫كتابه (مفاتيح الجنان)‪ ،‬الممتلئ باألدعية والصلوات‪ ،‬نجد أن ه ال تك اد تخل و زي ارة وال‬
‫دعاء من الصالة على رسول هللا ‪ ،‬والثناء عليه‪.‬‬
‫ومن تلك الزيارات المهمة والجميلة في ألفاظها ومعانيها الزي ارة الخاص ة بي وم‬
‫السبت‪ ،‬والتي تردد في المساجد والبيوت اإليراني ة ك ل س بت‪ ،‬وباللغ ة العربي ة‪ ،‬وهي‬
‫تحوي معاني سامية في التعريف برسول هللا ‪.‬‬
‫وسنذكر نصها هنا ألولئك الذين يتصورون اإليرانيين أعداء لرس ول هللا ‪ ،‬أو‬
‫ألمته ودينه‪ ،‬وأسألهم‪ :‬هل يفعل ون مثله ا‪ ،‬أو م ا ه و دونه ا‪ ،‬ح تى يرم وا غ يرهم بم ا‬
‫يرمونه به من تهم؟‬
‫وكيفية تلك الزيارة التي تعتبر لوحدها وثيقة كافي ة في الدالل ة على مبل غ التعل ق‬
‫والتعظيم لرس ول هللا ‪ ،‬هي أن يستش عر الم ؤمن ـ كم ا ي ذكرون ـ رس ول هللا ‪،‬‬
‫وكأنه بين يديه‪ ،‬ثم يقول ل ه‪ :‬أش هد أن ال إلـه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬وأش هد أن ك‬
‫رسوله‪ ،‬وأنك محمد بن عبد هللا‪ ،‬وأشهد أنك قد بلغت رساالت ربك‪ ،‬ونص حت ألمت ك‪،‬‬
‫وجاهدت في سبيل هللا بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وأديت الذى عليك من الحق‪ ،‬وأن ك‬
‫قد رؤفت ب المؤمنين‪ ،‬وغلظت على الك افرين‪ ،‬وعب دت هللا مخلص ا ح تى أت اك اليقين‪،‬‬
‫فبلغ هللا بك أشرف محل المكرمين‪ ،‬الحمد هلل الذي استنقذنا ب ك من الش رك والض الل‪،‬‬
‫اللـهم صل على محمد وآل ه‪ ،‬واجع ل ص لواتك وص لوات مالئكت ك المق ربين وأنبيائ ك‬
‫المـرسلين وعب ادك الص الحين وأه ل الس ماوات واألرض ين ومن س بح ل ك ي ا رب‬
‫الع المين من األولين واآلخ رين على محم د عب دك ورس ولك ونبي ك وأمين ك ونجيب ك‬
‫وحبيبك وصفيك وصفوتك وخاصتك وخالص تك وخيرت ك من خلق ك‪ ،‬وأعط ه الفض ل‬
‫والفض يلة والوس يلة والدرج ة الرفيع ة‪ ،‬وابعث ه مقام ا محم ودا يغبط ه ب ه األول ون‬
‫واآلخرون)‬
‫ثم يطأطئ رأسه تواضعا أمام رسول هللا ‪ ،‬ليسأل حاجته‪ ،‬ويتوسل ب ه إلى هللا‬
‫قائال‪( :‬اللـهم إنك قلت { َولَوْ أَنَّهُ ْم إِ ْذ ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َج اءُوكَ فَ ْ‬
‫اس تَ ْغفَرُوا هَّللا َ َو ْ‬
‫اس تَ ْغفَ َر لَهُ ُم‬
‫ال َّرسُو ُل لَ َو َجدُوا هَّللا َ تَ َّوابًا َر ِحي ًما } (النساء‪ ،)64 :‬إلهي فقد أتيت نبيك مستغفرا تائبا من‬
‫ذنوبي‪ ،‬فصل على محمد وآله واغفره ا لي‪ ،‬ي ا س يدنا أتوج ه ب ك وبأه ل بيت ك الى هللا‬
‫تعالى ربك وربي ليغفر لي)‬
‫ثم يتذكر فقده‪ ،‬ويتألم لذلك‪ ،‬ويقول مخاطبا له ثالثا‪( :‬إنا هلل وإن ا الي ه راجع ون)‪،‬‬
‫ثم يقول‪( :‬أصبنا بك يا حبيب قلوبنا‪ ،‬فما أعظم المص يبة ب ك حيث انقط ع عن ا ال وحي‪،‬‬
‫وحيث فقدناك فإنا هلل وإنا اليه راجعون‪ ،‬يا سيدنا يا رسول هللا صلوات هللا علي ك وعلى‬
‫آل بيتك الطاهرين‪ ،‬هذا يوم السبت‪ ،‬وه و يوم ك‪ ،‬وأن ا في ه ض يفك وج ارك‪ ،‬فأض فني‬
‫وأجرني فإنك كريم تحب الضيافة ومأمور باإلجارة‪ ،‬فأضفني وأحسن ضيافتي وأجرن ا‬
‫وأحسن إجارتنا بمنزلة هللا عندك وعن د آل بيت ك وبم نزلتهم عن ده وبم ا اس تودعكم من‬
‫علمه فإنه أكرم األكرمين)‬
‫وهكذا يروون أن أسالفهم سألوا اإلمام الرض ا‪ ،‬إم امهم الث امن‪ ،‬ال ذي يعتبرون ه‬
‫ملكهم والح اكم الحقيقي عليهم‪ ،‬ق ائلين‪ :‬كي ف يص لى على الن بي ‪ ‬ويس لم علي ه بع د‬

‫‪49‬‬
‫الصالة؟ فأجاب‪( :‬الس الم علي ك ي ا رس ول هللا ورحم ة هللا وبركات ه‪ ،‬الس الم علي ك ي ا‬
‫محمد بن عبد هللا‪ ،‬السالم عليك يا خيرة هللا‪ ،‬السالم عليك يا حبيب هللا‪ ،‬السالم عليك ي ا‬
‫صفوة هللا‪ ،‬السالم عليك يا أمين هللا‪ ،‬أشهد أنك رس ول هللا‪ ،‬وأش هد أن ك محم د بن عب د‬
‫هللا‪ ،‬وأشهد أنك قد نصحت ألمتك‪ ،‬وجاهدت في سبيل ربك وعبدت ه ح تى أت اك اليقين‪،‬‬
‫فجزاك هللا يا رسول هللا أفض ل م ا ج زى نبي ا عن أمت ه‪ ،‬اللـهم ص ل على محم د وآل‬
‫محمد أفضل ما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)‬
‫وهكذا نجد الكثير من الصلوات في الصحيفة السجادية‪ ،‬وهي الصحيفة المنسوبة‬
‫لإلمام زين العابدين السجاد‪ ،‬ابن اإلمام الحس ين‪ ،‬وهي ممل وءة باألدعي ة والمناجي ات‪،‬‬
‫وفي كل مقطع منها نرى الصلوات على رسول هللا ‪ ،‬وبالصيغ المختلفة‪.‬‬
‫ومن تلك الصلوات الواردة فيها‪ ،‬والخاصة برسول هللا ‪ ،‬والحاوي ة للمع ارف‬
‫الكثيرة المرتبطة به ‪ ،‬لتمأل القلوب محبة له وشوقا إليه‪( :‬الحم د هللا ال ذي من علين ا‬
‫بمحمد نبيه صلى هللا عليه وآله دون األمم الماض ية والق رون الس الفة‪ ،‬بقدرت ه ال تي ال‬
‫تعج ز عن ش ئ وإن عظم‪ ،‬وال يفوته ا ش ئ وإن لط ف‪ ،‬فختم بن ا على جمي ع من ذرأ‪،‬‬
‫وجعلنا شهداء على من جحد‪ ،‬وكثرنا بمنه على من قل‪ .‬اللهم فص ل على محم د أمين ك‬
‫على وحي ك‪ ،‬ونجيب ك من خلق ك‪ ،‬وص فيك من عب ادك‪ ،‬إم ام الرحم ة‪ ،‬وقائ د الخ ير‪،‬‬
‫ومفتاح البرك ة‪ ،‬كم ا نص ب ألم رك نفس ه‪ ،‬وع رض في ك للمك روه بدن ه وكاش ف في‬
‫الدعاء إليك حامته‪ ،‬وحارب في رضاك أسرته‪ ،‬وقطع في إحياء دينك رحمه‪ ،‬وأقص ى‬
‫األدنين على جح ودهم‪ ،‬وق رب األقص ين على اس تجابتهم ل ك‪ ،‬ووالى في ك األبع دين‪،‬‬
‫وعادى فيك األقربين‪ .‬وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك‪ ،‬وأتعبها بالدعاء إلى ملتك وشغلها‬
‫بالنصح ألهل دعوتك‪ ،‬وهاجر إلى بالد الغربة‪ ،‬ومحل النأي‪)1()..‬‬
‫إلى آخر الصالة التي يحرص اإليراني ون على أدائه ا في المناس بات المختلف ة‪..‬‬
‫وهي مجرد نموذج ومثال عن ص لوات كث يرة‪ ،‬يرددونه ا‪ ،‬وكله ا ـ وبحس ب اطالعي‬
‫ال دقيق عليه ا ـ تح وي من المع ارف واألش واق م ا لم أره في أي دواوين أخ رى من‬
‫دواوين الزيارات أو الصلوات على رسول هللا ‪ ‬المتداولة لدى الصوفية في المدرسة‬
‫السنية‪ ،‬باإلضافة إلى لغتها الجميلة الممتلئة بالبالغة‪ ،‬وكيف ال تكون كذلك‪ ،‬وكله ا من‬
‫صياغة أبناء اإلمام علي‪ ،‬وأحفاد رسول هللا ‪.‬‬
‫وقد كان لذلك كله أثره البالغ في التحقق بالسنة النبوية المطه رة‪ ،‬ذل ك أن الس نة‬
‫تنبني على المحبة‪ ،‬فال يمكن أن نتبع من ال نحب‪ ،‬وال يمكن أن نحب من ال نعرف‪.‬‬
‫ولهذا نجد في التراث الذي تركه علماء السلوك اإليرانيين الكثير من الكتب التي‬
‫تعرف برسول هللا ‪ ،‬وتجعل ذلك مقدمة للدعوة لالستنان بسنته‪.‬‬
‫ولعل من أقرب أمثلتها‪ ،‬وأكثره ا انتش ارا في الع الم اإلس الم كل ه‪ ،‬ذل ك الكت اب‬
‫الذي ألفه الغزالي الطوسي اإليراني‪ ،‬وجعله من جملة كتب إحياء عل وم ال دين‪ ،‬وس ماه‬
‫(آداب المعيشة وأخالق النبوة)‪ ،‬وهو نفسه المت داول في المدرس ة الش يعية ض من كتب‬

‫‪ )(1‬الصحيفة السجادية‪ ،‬ص‪.31‬‬

‫‪50‬‬
‫(المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء)‪ ،‬فق د ح وى ه ذا الكت اب باختص ار ش ديد تعريف ا‬
‫برسول هللا ‪ ،‬ودستورا للتحقق بسنته‪.‬‬
‫هَّلل‬
‫وقد بدأه الغزالي بهذه الديباجة المعبرة‪( :‬الحمد الذي خل ق ك ل ش يء فأحس ن‬
‫خلقه وترتيبه وأ ّدب نبيه مح ّمدا ‪ ‬فأحس ن تأديب ه‪ ،‬وزكى أوص افه وأخالق ه ثم اتخ ذه‬
‫صفيه وحبيبه‪ ،‬ووفق لالقتداء به من أراد تهذيب ه‪ ،‬وح رم عن التخل ق بأخالق ه من أراد‬
‫تخييبه)(‪)1‬‬
‫ثم ذكر غرضه من الكتاب بقول ه‪( :‬رأيت أن أقتص ر في ه ذا الكت اب على ذك ر‬
‫آداب رسول هّللا ‪ ،‬وأخالقه المأثورة عنه باإلسناد فأسردها مجموع ة فص ال فص ال‪،‬‬
‫محذوفة األسانيد‪ ،‬ليجتمع فيه مع جميع اآلداب تجديد اإليمان وتأكي ده بمش اهدة أخالق ه‬
‫الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خل ق هّللا تع الى وأعالهم رتب ة‪ ،‬وأجلهم‬
‫قدرا‪ ،‬فكيف مجموعها‪ ،‬ثم أضيف إلى ذكر أخالقه ذكر خلقت ه‪ ،‬ثم ذك ر معجزات ه ال تي‬
‫صحت بها األخبار ليكون ذلك معرب ا عن مك ارم األخالق والش يم‪ ،‬ومنتزع ا عن آذان‬
‫الجاحدين لنبوته صمام الصمم‪ ،‬وهّللا تعالى ولى التوفي ق‪ ،‬لالقت داء بس يد المرس لين في‬
‫األخالق‪ ،‬واألح وال وس ائر مع الم ال دين‪ ،‬فإن ه دلي ل المتح يرين‪ ،‬ومجيب دع وة‬
‫المضطرين) (‪)2‬‬
‫ويمكن اعتبار هذا الكتاب مع ص غر حجم ه متن ا في التعري ف برس ول هللا ‪،‬‬
‫ومن مزاياه الكبرى كونه يجم ع بين المدرس تين‪ ،‬فه و ي ردد في المحاف ل الس نية‪ ،‬كم ا‬
‫يردد في المحافل الشيعية‪ ،‬وال يتوقف عن ترديده إال أعداء المدرس تين ال ذين يكف رون‬
‫الشيعة‪ ،‬بسبب تشيعهم‪ ،‬ويكفرون الغزالي بسبب تصوفه‪ ،‬وأشعريته‪.‬‬
‫وهكذا كان المشروع الحضاري القديم إليران ممتلئا بالمعرف ة والمحب ة لرس ول‬
‫هللا ‪ ،‬ومنطلقا منها‪ ،‬وهو ما يزيف تلك المقوالت التي تتهم الشيعة بالوالء لزرادشت‬
‫بدل الوالء لرسول هللا ‪ ‬مع أننا ال نجد قصيدة واحدة في م دح زرادش ت‪ ،‬وال ديانت ه‬
‫في نفس الوقت الذي نجد فيه الدواوين الكثيرة التي ألفها إيراني ون في م دح رس ول هللا‬
‫‪.‬‬
‫ولعل من أشهرها ما كتبه أكبر وأشهر ش اعر إي راني يعرف ه العام ة والخاص ة‪،‬‬
‫ويرددون أشعاره‪ ،‬وينشدونها كل حين‪ ،‬وهو الش اعر المع روف س عدي الش يرازي(‪)3‬‬
‫الذي نظم الشعر بالفارسية والعربية‪ ،‬ومن قصائده المترجم ة في م دح رس ول هللا ‪،‬‬
‫والتي ال يزال اإليرانيون يرددونها‪ ،‬ويغنونها‪:‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.96 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.96 :‬‬
‫‪ )(3‬سعدي الشيرازي (الق رن الس ابع الهج ري) ه و ش اعر ومتص وف فارس ي‪ ،‬تم يزت كتابات ه بأس لوبها الج زل‬
‫الواضح وقيم أخالقية رفيعة‪ ،‬مما جعله أكثر ُكتاب الفرس شعبية‪ ،‬فتخطت سمعته حدود البلدان الناطقة بالفارسية إلى عدد‬
‫من مناطق وأقاليم العالم اإلس المي‪ ،‬وبلغت الغ رب أيض اً‪ ،‬حيث ص نف كأح د أب رز الش عراء الكالس يكيين‪ ..‬ومن أش هر‬
‫آثاره‪( :‬الگلستان) و(البوس تان)‪ .‬وك ان من ش دة ت أثر س عدي باللغ ة العربي ة أن اعت بره بعض النق اد األدب يين أح د أب رز‬
‫المؤثرين بالقصيدة العربية من ناحية ما أدخلته أشعاره من نظم موسيقية جديدة عبر اقتباس النظم العروضية الفارسية‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫فيع األمم‬ ‫ا‪ ،‬ش‬ ‫ب ّي البراي‬ ‫ن‬ ‫ك ريم الس جايا‪ ،‬جمي ل ِّ‬
‫الش يم‬
‫ط جبريل‬ ‫وأمين هللا‪ ،‬مهب‬ ‫هو إمام الرسل‪ ،‬ه ادي الس بيل‬
‫يرة‬ ‫ا ً كث‬ ‫خ كتب‬ ‫ه نس‬ ‫لكن‬ ‫إن ه الي تيم‪ ،‬ال ذي لم يع رف‬
‫راءة‬ ‫الق‬
‫انش ق القم ر نص فين إعج ازاً ل هُ‬ ‫وحين س َّل عزم هُ س يف الرهبة‬
‫رى‬ ‫وان كس‬ ‫دع دي‬ ‫تص‬ ‫وحين ت ردد اس مه في أف واه‬
‫دنيا‬ ‫ال‬
‫ومح ا ال دين العزي ز مكان ة ال ُع زى‬ ‫إن هُ حطم الالت‪ ،‬بكلم ة ال‬
‫ب ل نس خ الت وراة واإلنجي ل والكتب‬ ‫زى‪،‬‬ ‫لم يحطم الالت وال ُع‬
‫ب‬ ‫فحس‬
‫ومضى بالتمكين‪ ،‬والج اه‪ ،‬من ال َملَك‬ ‫ركب ليلة القدر‪ ،‬فج اوز الفَلَ ك‬
‫ح تى تخل ف عن ه جبري ل في س درة‬ ‫وج َّد في تي ه القُ ربى‪ ،‬من هللا‬
‫المنتهى‬
‫وقب ل األرض تق ديراً ل ك جبريل‬ ‫أثنى عليك هللا‪ ،‬ومنحك التبجيل‬
‫أنت مخل وق‪ ،‬وآدم ال ي زال طين اً‪،‬‬ ‫خجلت أم ام ق درتك‪ ،‬الس ماء‬
‫اء‬ ‫وم‬ ‫العلى‬
‫إلى آخر القصيدة الجميلة ال تي ذكرناه ا ألج ل معانيه ا‪ ،‬ال ألج ل ألفاظه ا‪ ،‬فهي‬
‫مترجمة‪ ،‬وليست موزونة‪ ،‬وال مقفاة‪ ،‬كما في لغتها األصلية‪.‬‬
‫وقد كان كل ذلك أرضية صالحة للمشروع الحضاري الجديد الذي تبن اه الش عب‬
‫اإليراني لتوافق ه م ع طبيعت ه الروحاني ة‪ ،‬وله ذا نج د ك ل الق ادة الفك ريين والسياس يين‬
‫يذكرون رسول هللا ‪ ‬كل حين‪ ،‬ويش يدون بمكانت ه عن د هللا‪ ،‬وبك ون اإلنس ان الكام ل‬
‫الذي ال يمكن التحقق باإلنسانية من دون التواصل معه‪ ،‬واالستنان بسنته‪.‬‬
‫واألمثلة على ذلك من خطاباتهم وكتاب اتهم كث يرة ج دا‪ ،‬لكن ا سنقتص ر هن ا على‬
‫بعض النم اذج منه ا‪ ،‬وخاص ة من تل ك الشخص يات ال تي أس اء إليه ا المغرض ون‬
‫والطائفيون دون أن يكلفوا أنفسهم بالتعرف عليها‪ ،‬وال بقراءة كتاباتها‪.‬‬
‫ومنهم الشيخ مرتضى مطهري‪ ،‬ال ذي ألقى محاض رة مهم ة عن رس ول هللا ‪‬‬
‫بأسلوبه العقالني الجميل‪ ،‬في تلك الفترة ال تي ك ان يحض ر فيه ا للمش روع الحض اري‬
‫الجديد‪ ،‬وقد نشرت تحت عنوان (اإلنسان الكامل)‪ ،‬حدد فيه ا بعض من احي الكم ال في‬
‫شخصية رسول هللا ‪ ،‬وال تي جعلت ه مح ل عناي ة إلهي ة خاص ة‪ ،‬كم ا جعلت ه س راجا‬
‫منيرا للبشرية جميعا‪.‬‬
‫(إن معرف ة اإلنس ان الكام ل‪ ،‬أو اإلنس ان النم وذج ّي أو‬ ‫ومم ا ج اء فيه ا قول ه‪ّ :‬‬
‫األسمى واجبة علينا كمس لمين‪ ،‬ألنّ ه بحكم المث ال والق دوة الّ تي ينبغي أن يُقت دى به ا‪،‬‬
‫وليس بحثن ا ه ذا مج رّد بحث عل ّمي بحت وإنّم ا ل ه فائ دة عمليّ ة كب يرة‪ ،‬إذ من خالل ه‬

‫‪52‬‬
‫نستطيع أن نش ّخص الطريق الّذي أراد اإلسال ُم من اإلنسان واأل ّمة أن يسلُكاه للوص ول‬
‫إلى اإلنسان الكامل الّذي يريده اإلسالم)(‪)1‬‬
‫وانطالقا من هذا المعنى المتفق عليه راح يع رض كيفي ة التع رف على اإلنس ان‬
‫الكامل‪ ،‬وهو كما يذكر طريقان‪:‬‬
‫أولهما ـ كما يذكر مطهري ـ ه و (الرج وع إلى الق رآن الك ريم والس نّة النبويّ ة‪،‬‬
‫لِنرى األوصاف الّتي ذكرها لإلنسان الكامل‪ ،‬ولو بتعبير المسلم أو الم ؤمن الكام ل‪ ،‬إذ‬
‫المراد منهما هو اإلنسان الّذي يصل إلى الكمال على ضوء تعاليم اإلس الم‪ .‬وفي المق ام‬
‫يوجد الكثير من النّصوص الّتي يمكن االستفادة منها‪)،‬‬
‫وثانيهما ـ كما يذكر ـ هو الرجوع للنماذج الذي تمثل فيه ا الكم ال اإلنس اني في‬
‫أرقى درجاته‪ ،‬ولم يتمثل ذلك إال في رسول هللا ‪ ،‬وفي ورثته ال ذين ورث وا أخالق ه‪،‬‬
‫كما ورثوا سنته‪.‬‬
‫ثم يحدد الكيفية التي نتعرف بها على شخصيّة اإلنسان الكامل‪ ،‬والتي يمكنه ا أن‬
‫تؤثر في حياتنا‪ ،‬فيذكر أنها (ال تعني دراسة هويّته فقط‪ ،‬كمعرفة نسبه وتاريخ والدت ه‪،‬‬
‫وإنّما تعني ما هو أعمق من ذلك بكثير‪ ،‬تعني التع رّف على حقيق ة شخص يّته لنس تطيع‬
‫من خالل ذلك تشخيص القدوة‪ ،‬ونكون بالتالي قادرين على االقتداء بها‪ ..‬وبهذا االقتداء‬
‫نكون مستحقّين لالتصاف بأنّنا أتباع مح ّمد ‪)‬‬
‫وهك ذا راح يت درج بالمس تمعين والق راء بطريقت ه المنهجي ة ال تي تختل ط فيه ا‬
‫الفلسفة بالروحانية إلى الدرجة التي يقتنع فيها الق ارئ والمس تمع أن ه ال من اص ل ه من‬
‫اتباع رسول هللا ‪ ‬ال لينال أجور اآلخرة فقط‪ ،‬وإنما ليتحقق بإنسانيته أيضا‪.‬‬
‫وهكذا نجد نفس الخطاب الممتزج بالعقالنية والروحانية يردد ل دى جمي ع الق ادة‬
‫الروحيين والسياسيين في الجمهورية اإلس المية اإليراني ة‪ ،‬ومن بينهم اإلم ام الخمي ني‬
‫الذي كتب الكث ير عن رس ول هللا ‪ ،‬وق د جمعت بعض خطابات ه في ه ذا المج ال في‬
‫كتاب بعنوان (الرسول األكرم ‪ ‬في فكر اإلمام الخميني)‬
‫ومن ذل ك قول ه عن د الح ديث عن عبودي ة رس ول هللا ‪ ‬هلل‪ ،‬وكونه ا أش رف‬
‫أن العبوديّ ة المطلق ة هي من أعلى‬ ‫م راتب الكم ال اإلنس اني‪( :‬ال ب ّد من اإلش ارة إلى ّ‬
‫مراتب الكمال ومن أرفع مقام ات اإلنس انيّة‪ ،‬وال نص يب ألح د من البش ر منه ا س وى‬
‫أكمل خلق هللا مح ّمد ‪ ‬أصالة وس ائر األولي اء ال ُك ّم ل عليهم الس الم تبع ا ً ل ه‪ ،‬أ ّم ا من‬
‫سواهم فقدم عبوديّتهم عوجاء وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة بأسباب أخرى)(‪)2‬‬
‫ومن خالل هذا المعنى يفسر المعراج الذي حصل لرسول هللا ‪ ،‬فيقول‪( :‬ول ّم ا‬
‫كان من غير الممكن الوصول إلى المعراج الحقيق ّي المطلق إاّل بقدم العبوديّة‪ ،‬ن رى ّ‬
‫أن‬
‫قدم العبوديّة وجذبة الربوبيّة هي الّتي أ ْس َرت بتل ك ال ذات المق ّدس ة إلى مع راج الق رب‬
‫﴿س ب َْحانَ الَّ ِذي أَ ْس َرى بِ َع ْب ِد ِه‪ ،﴾...‬وله ذا أيض ا ً ك ان تأكي د‬
‫والوص ول‪ ،‬ل ذا ق ال تع الى‪ُ :‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اإلنسان الكام ل‪ ،‬مرتض ى مطه ري‪ ،‬نش ر‪ :‬جمعي ة المع ارف اإلس المية الثقافي ة‪ ،‬مرك ز ن ون للت أليف‬
‫والترجمة‪ ،‬ص‪.‬‬
‫الخميني‪ ،‬ص ‪ 89‬ـ ‪..90‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )(2‬سرّ الصالة‪ ،‬اإلمام‬

‫‪53‬‬
‫العبوديّة قبل الرسالة في تشهّد الصالة الّذي يمثّل الرج وع من الفن اء المطل ق المتحقّ ق‬
‫أن مقام الرسالة بالنتيجة ه و ثم رة لج وهرة‬ ‫في السجدة‪ .‬ولع ّل في ذلك أيضا ً إشارة إلى ّ‬
‫العبوديّة)(‪)1‬‬
‫وهك ذا يتح دث اإلم ام الخمي ني عن رس ول هللا ‪ ‬مبين ا م دى ص لته باهلل‪ ،‬من‬
‫خالل تلك القابليات التي لم يطقها غيره‪ ،‬وهو يذكر أن تلك القابليات أص يلة في رس ول‬
‫هللا ‪ ،‬بينما هي تبعية في غيره بمقدار صلته برسول هللا ‪.‬‬
‫وهذه المقولة‪ ،‬أو هذا التعريف أكبر رد على تلك الفرية التي ينسبها المغرض ون‬
‫لإلمام الخميني‪ ،‬والتي تمتلئ بها المواقع والكتب‪ ،‬وكأنها الكفر البواح‪ ،‬وهي قوله ـ في‬
‫خطاب له عن اإلمام المهدي ـ‪(:‬لقد جاء األنبياء جميع ا من أج ل إرس اء قواع د العدال ة‬
‫في العالم‪ ،‬لكنهم لم ينجحوا‪ ،‬ح تى الن بي محم د ‪ ‬خ اتم األنبي اء ال ذي ج اء إلص الح‬
‫البشرية وتنفيذ العدالة لم ينجح في ذلك)(‪ ،)2‬وهم يتصورون أنه بقوله هذا فضل اإلم ام‬
‫المهدي على رسول هللا ‪ ،‬مع أن األمر ليس كذلك‪.‬‬
‫فالنصوص المقدسة كلها تدل على م ا ذك ره؛ فرس ول هللا ‪ ‬بل غ ال دين ك امال‪،‬‬
‫وأدى الرسالة‪ ،‬لكن الواقع لم يكن يسمح بانتشار الدين وال العدالة في عهده في األرض‬
‫جميعا‪ ،‬مثلما سيحصل زمن اإلم ام المه دي‪ ،‬وذل ك بس بب ع دم ت وفر القابلي ة في تل ك‬
‫المجتمعات‪ ،‬ال في تقصير الرسول ‪.‬‬
‫وق د أش ار رس ول هللا ‪ ‬إلى ه ذا المع نى في الح ديث المع روف‪ ،‬ال وارد في‬
‫الصحاح‪ ،‬والذي شكا فيه رس ول هللا ‪ ‬ألم المؤم نين عائش ة قوم ه‪ ،‬وأن ه ك ان ين وي‬
‫إج راء بعض التع ديالت في الكعب ة‪ ،‬لكن خش يته منهم ومن ارت دادهم‪ ،‬جعل ه يتركه ا‪،‬‬
‫حيث قال لها ‪( :‬يا عائشة لوال أن قومك حديث عهد بجاهلي ة ألم رت ب البيت فه دم‪،‬‬
‫فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته باألرض‪ ،‬وجعلت له ب ابين باب ا ش رقيا وباب ا غربي ا‬
‫فبلغت به أساس إبراهيم)(‪)3‬‬
‫وقد عل ق ابن حج ر على ه ذا الح ديث بقول ه‪( :‬خش ي رس ول هللا ‪ ‬أن يظن وا‬
‫ألجل قرب عهدهم باإلسالم أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذل ك‪ ،‬فيس تفاد من ه‬
‫ترك المصلحة ألمن الوقوع في المفسدة‪ ،‬وترك إنك ار المنك ر خش ية الوق وع في أنك ر‬
‫منه)(‪)4‬‬
‫ولذلك نرى أن القابلية لو توفرت كاملة في ذلك الجيل الذي عاش فيه رس ول هللا‬
‫‪ ‬أللغى الرق‪ ،‬وألغى معه الكثير من المظاهر السلبية التي جاء اإلسالم للتنفير منه ا‪،‬‬
‫لكن لم يتسن تنفيذها في ذلك الحين‪ ،‬بسبب عدم توفر القابلية الكافية‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن كالم اإلمام الخميني ينص ب في ه ذا االتج اه‪ ،‬ويفس ر على‬
‫الخميني‪ ،‬ص ‪..10‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )(1‬آداب الصالة‪ ،‬اإلمام‬
‫‪ )(2‬من خطبة القاها بمناسبة ذكرى مولد المهدي في ‪/15‬شعبان ‪ 1400/‬هـ‪ ،‬انظر كتاب نهج خميني ص‪.46‬‬
‫‪ )(3‬البخ اري ح (‪ ،)1586‬ومس لم ح (‪ ،)1333‬والترم ذي ح (‪ ،)875‬والنس ائي ح (‪ ،)2900‬وابن ماج ه ح (‬
‫‪)2955‬‬
‫‪ )(4‬فتح الباري (‪)225 /1‬‬

‫‪54‬‬
‫هذا المحمل‪ ،‬بل قد أشار إليه رسول هللا ‪ ‬حين تحدث عن األنبي اء‪ ،‬فق ال‪( :‬عرض ت‬
‫علي األمم‪ ،‬فرأيت النبي ومعه الرهيط‪ ،‬والنبي ومعه الرجل وال رجالن‪ ،‬والن بي وليس‬
‫معه أحد)(‪)1‬‬
‫وقد علق بعض أولئك الذين يتهم ون اإلم ام الخمي ني بس بب ذل ك الخط اب على‬
‫هذا الحديث بقوله‪( :‬فتصور هذا النبي ي أتي ومع ه رهي ط‪ ،‬تص غير لقل ة ع ددهم‪ ،‬فه ذا‬
‫النبي ال ينقصه إخالص‪ ،‬وال ينقصه علم‪ ،‬وال ينقصه تأييد من هللا تب ارك وتع الى‪ ،‬وال‬
‫ينقصه معرفة بوسائل الدعوة‪ ،‬وطرق الت أثير في الن اس‪ ،‬فه ذه األم ور األنبي اء عليهم‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬هم أكمل الناس فيها‪ ،‬ومع ذل ك ي أتي ومع ه الرهي ط‪ ،‬ومن ه ذا نأخ ذ‬
‫فائدة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن الهداية بيد هللا عز وج ل‪ ،‬وأن القل وب بي ده‪ ،‬فاألنبي اء ي أتون إلى‬
‫أقوامهم فما تفتح تلك القلوب‪ ،‬ليس نقصا ً في ذلك الن بي‪ ،‬وال في أس لوبه‪ ،‬وإنم ا ه ؤالء‬
‫أعماهم هللا عز وجل وأذلهم وأخزاهم‪ ،‬فحجبهم عن هذا النور‪ ،‬وعن هذا الهدى)(‪)2‬‬
‫ولو أنه وغيره طبق هذا الخط اب على تل ك المقول ة ال تي قاله ا اإلم ام الخمي ني‬
‫ألجاب نفسه بنفسه‪ ،‬ولكن المش كلة ليس ت في العق ول ال تي ال تعي‪ ،‬وإنم ا في النف وس‬
‫الممتلئة بالدنس الذي يعميها عن تبصر الحقائق‪ ،‬أو االعتراف بها‪.‬‬
‫ثانيا ـ اهتمام اإليرانيين بسنة رسول هللا ‪:‬‬
‫من أهم تجليات اهتمام اإليرانيين بالسنة النبوية المطهرة رواية ودراي ة وش رحا‬
‫تلك المصنفات الكثيرة التي ألفها رجال ينتسبون لكل مدين ة من م دن إي ران‪ ..‬ول و أنن ا‬
‫طبقنا تلك المقولة التي يرددها المغرضون عن موقف اإليرانيين من اإلسالم ومن س نة‬
‫رسول هللا ‪ ‬لفقدنا ثروة حديثية كبيرة ال يمكن تعويضها‪.‬‬
‫ذلك أن عصر االهتمام بالحديث من ل دن اإليران يين ابت دأ من ذ العه د األول‪ ،‬أي‬
‫من عه د الرواي ة‪ ،‬ثم نش ط في عه د الت دوين‪ ،‬وبقي نش يطا طيل ة العه ود اإلس المية‬
‫المختلفة إلى العصر الحاضر‪.‬‬
‫ونحب أن نذكر هنا إلى أن علم الحديث نفسه ـ كعلم مس تقل ـ أس س في إي ران‪،‬‬
‫ومن طرف اثنين من علمائها الكبار‪ ،‬أما أولهما‪ ،‬فهو اإلمام الحافظ أب و محم د الحس ن‬
‫بن عبد الرحمن بن خالد الرامهرمزي(‪265( )3‬هـ ـ ‪ 360‬هـ )‪ ،‬وذلك في كتابه الذي‬
‫يعد أول كتاب ظهر في هذا العلم الجليل كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي)‬
‫وقد نوه العلماء كثيراً بكتابه (المحدث الفاضل)‪ ،‬وصرحوا بانه أول كتاب ج امع‬
‫في أصول الحديث‪ ،‬وباحتوائه على كثير من مسائل الفن صار أساسا لم ا ص نف بع ده‬
‫من الكتب في أصول الحديث‪ ،‬قال الذهبي عنه‪( :‬كان اإلمام الرامهرمزي من أئمة ه ذا‬
‫الشأن (يقصد به علوم الحديث) ومن تأمل كتابه في علوم الحديث الح له ذل ك‪ .‬وذك ره‬
‫الثع البي في يتيم ة ال دهر‪ :‬وت بين لن ا من آث ار ابن خالد العلمي ة ومن اق وال العلم اء‬
‫‪ )(1‬الجمع بين الصحيحين (‪)54 /2‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬شرح كتاب رياض الصالحين‪ ،‬د‪ .‬خالد بن عثمان السبت‪.‬‬
‫‪ )(3‬وه و من رامهرم ز وهي مدين ة في محافظ ة خوزس تان‪ ،‬وتنتهي من الجه ة الغربي ة إلى مدين ة أه واز مرك ز‬
‫المحافظة المذكورة‪..‬‬

‫‪55‬‬
‫وأصحاب التراجم في وصفه ووصف مصنفاته‪ ،‬وق د جم ع بين العلم واألدب ونب غ في‬
‫الحديث والشعر وبرع في الرواية والتأليف)(‪)1‬‬
‫وقد ذكر في مقدمة الكتاب‪ ،‬فض ل علم الح ديث ورجال ه‪ ،‬وم نزلتهم الرفيع ة‪ ،‬ثم‬
‫ابتدأ الكتاب باب فضل الناقل لسنة رسول هللا ‪ ‬ثم باب فضل الطالب لسنة رسول هللا‬
‫‪ ‬وال راغب فيه ا والمس تن به ا‪ ،‬ثم ب اب الني ة في طلب الح ديث‪ ،‬ثم بب اب أوص اف‬
‫الطالب وآدابه‪ ،‬وختمه بباب المصنفون من رواة الفقه في األمصار‪.‬‬
‫أما الكتاب الثاني‪ ،‬فهو بعنوان [معرفة علوم الحديث]‪ ،‬وهو للحاكم النيسابوري‪،‬‬
‫(‪405 - 321‬هـ)‪ ،‬وهو أوسع من كتاب الرامهرمزي بالنسبة لعدد األنواع‪.‬‬
‫ولم يكت ف اإليراني ون ب ذلك التأص يل لعلم الح ديث‪ ،‬وإنم ا دخل وا ب اب الرواي ة‬
‫والدراية من بابها الواسع‪ ،‬وم ا على من يري د أن يتحق ق من ذل ك‪ ،‬ويتثبت من ه س وى‬
‫الذهاب إلى كتب الطبقات والرجال‪ ،‬ليرى بنفسه ذلك الكم الكبير من المحدثين والحفاظ‬
‫ال ذين ول دوا في إي ران‪ ،‬وانتس بوا إلى م دنها‪ ،‬ل يرى م اذا س يبقى ل و أزيلت أس ماؤهم‬
‫وكتبهم من دواوين أهل الحديث‪.‬‬
‫وحتى نريح القارئ من عناء ذلك البحث‪ ،‬أو من المنهج المتبع فيه‪ ،‬فسنذكر هنا‬
‫باختصار نماذج محدودة جدا عن رج ال من كب ار المح دثين اإليران يين بحس ب الم دن‬
‫التي ينتسبون إليها‪ ،‬ومن شاء المزي د من ذل ك‪ ،‬فم ا علي ه س وى أن يكتب اس م المدين ة‬
‫اإليرانية‪ ،‬ثم يبحث في كتب الطبقات والتاريخ‪ ،‬ليرى بعينه حقيق ة ذل ك االهتم ام ال ذي‬
‫يفن د جمي ع ش بهات المغرض ين‪ ،‬ال ذين يص ورون اإليران يين بص ورة المت آمرين‪ ،‬ال‬
‫بصورة الذين بذلوا كل ما لديهم لخدمة اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ المحدثون بنيسابور‪:‬‬
‫تعتبر نيسابور من مراكز الحضارة اإلسالمية الكبرى ال في إي ران وح دها‪ ،‬ب ل‬
‫في العالم اإلسالمي أجمع‪ ،‬وهي مشهورة بكثرة محدثيها‪ ،‬واهتم امهم خصوص ا بجم ع‬
‫األحاديث الصحيحة‪ ،‬ولذلك اجتمع فيها كبار المح دثين ال ذين جمع وا الص حيح كمس لم‬
‫وابن حبان وابن خزيمة والحاكم وغيرهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقد اهتم أهلها بجمع الحديث من العصور األولى لإلسالم‪ ،‬ول ذلك أف رد رجاله ا‬
‫وتاريخها بالتأليف‪ ،‬كما سنرى في الفصل المخصص لمراكز الحض ارة اإلس المية في‬
‫إيران‪ ،‬وقد عبر بعضهم عن ذلك بقوله‪( :‬وقد نبغ فيها جماعة من العلماء في كل فن ما‬
‫ال يحصی عددهم في القرون األولی اإلسالمية‪ ،‬ال س يما في فن الح ديث والفق ه‪ ،‬ح تی‬
‫فاقت نظاميةُ نيسابور نظاميةَ بغ داد‪ .‬فق د قي ل بل غ ع دد مح دثيها ورجاله ا العلمي ة في‬
‫القرون األربعة األولی إلی ‪ 3000‬عالماً)(‪)2‬‬
‫وممن أفرد تاريخها ورجاله ا بالت أليف‪ ،‬مم ا يرتب ط بالح ديث وعلوم ه م ا كتب ه‬
‫اإلمام الحافظ الحاكم (‪405 - 321‬هـ)‪ ،‬صاحب كتاب المستدرك على الصحيحين‪ ،‬وقد‬

‫‪ )(1‬تذكرة الحفاظ = طبقات الحفاظ للذهبي (‪)81 /3‬‬


‫‪ )(2‬خراسان قديمي ترين پايگاه علوم اسالمي‪ ،‬مولوي عبد الحميد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ذكر البيهقي في (تاريخ بيهق) أنه يتألّف من (‪ )12‬ج زءا مرتب ا على ح روف المعجم‪،‬‬
‫ويضم تراج َم للشخصيات البارزة في نيسابور إلى سنة ‪380‬هـ‪ ،‬ول ه تكمل ة فيه ا ذك ر‬
‫للشيوخ الذين ماتوا بعد سنة ‪388‬هـ‪.‬‬
‫ومن المحدثين الكبار في نيس ابور‪ ،‬وال ذين ال يمكن االس تغناء عن أح اديثهم في‬
‫المدرسة السنية مسلم بن الحجاج النيســابوري (‪ 206‬هـ ‪ 261 -‬هـ)‪ ،‬ص احب كت اب‬
‫(الصحيح)‪ ،‬أو (الجامع الصحيح)(‪ )1‬الذي يعتبر أحد أهم كتب جوامع الحديث النب وي‬
‫عند المسلمين في المدرسة السنية‪ ،‬ب ل إنهم يعتبرون ه ث الث أص ّح الكتب على اإلطالق‬
‫بعد القرآن الكريم‪ ،‬وصحيح البخاري‪.‬‬
‫بل إن هناك‪ ،‬وخصوصا من المغاربة‪ ،‬من يفضله على صحيح البخاري‪ ،‬وذل ك‬
‫بسبب المنهجية التي اتبعها في تصنيفه‪ ،‬فه و يس رد االح اديث بأكمله ا دون تقطي ع‪ ،‬ال‬
‫كما صنع البخارى‪ ،‬ومنها سرده أسانيد الح ديث قب ل ذك ره له ا‪ ،‬ومنه ا االهتم ام بدق ة‬
‫األلفاظ‪ ،‬وخصوصا تلك التي وقع فيها الخالف‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن حجر العسقالني سبب ذلك التفضيل‪ ،‬فقال‪( :‬حصل لمسلم في كتاب ه‬
‫حظ عظيم مفرط لم يحصل ألح ٍد مثله بحيث أن بعض الناس كان يفض له على ص حيح‬
‫محمد بن إسماعيل‪ ،‬وذلك لما اختص به من جميع الط رق وج ودة الس ياق والمحافظ ة‬
‫على أداء األلفاظ كما هي من غير تقطيع وال رواية بمعنى‪ ،‬وقد نسج على منواله خل ق‬
‫عن النيسابوريين فلم يبلغ وا ش أوه وحفظت منهم أك ثر من عش رين إمام ا ممن ص نف‬
‫المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهّاب)(‪)2‬‬
‫ولذلك أجمع العلماء على فضله‪ ،‬فقد قال فيه أبو علي النيسابوري‪( :‬ما تحت أديم‬
‫الس ماء أص ح من كت اب مس لم بن الحج اج في علم الح ديث)‪ ،‬وق ال مس لمة بن القاس م‬
‫القرطبي‪( :‬مسلم بن الحجاج النيسابوري جليل القدر ثقة من أئمة المحدثين له كتاب في‬
‫الصحيح‪ ،‬لم يضع أح د مثل ه)‪ ،‬وق ال ال ذهبي‪( :‬كت اب نفيس كام ل في معن اه‪ ،‬فلم ا رآه‬
‫الحفاظ أعجبوا به)‪ ،‬وقال النووي‪( :‬ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه هللا واطلع‬
‫على ما أودعه في أسانيده وترتيب ه وحس ن س ياقته وب ديع طريقت ه من نف ائس التحقي ق‬
‫وج واهر الت دقيق وان واع ال ورع واالحتي اط والتح ري في الرواي ة وتلخيص الط رق‬
‫واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطالعه واتساع روايت ه وغ ير ذل ك م ا‬
‫فيه من المحاسن واألعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات َعلِ َم أنه إما ٌم ال يلحقه من‬
‫بعد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقت ه وده ره وذل ك فض ل هللا يؤتي ه من‬
‫يشاء)(‪)3‬‬

‫‪ )( 1‬لم ينص مسلم ‪-‬في كتابه الصحيح‪ -‬على تسميته ولذلك وقع االختالف في اسمه‪ ،‬ف ُذكرت له عدة تس ميات‪ ،‬منه ا‬
‫[الجامع]‪ :‬ذكره الفيروزآبادي وابن حجر العسقالني وحاجي خليفة والقنوجي وغ يرهم‪ ،‬ومنه ا [المس ند الص حيح]‪ :‬هك ذا‬
‫س ّم اه اإلمام مسلم‪ ،‬ومنها [المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول هللا ‪ ]‬وغيرها‪..‬‬
‫‪ )(2‬تهذيب التهذيب‪ ،‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬ج‪ 10‬ص‪.127‬‬
‫‪ )(3‬انظر هذه النصوص وغيرها في‪ :‬ص يانة ص حيح مس لم من اإلخالل والغل ط وحمايت ه من اإلس قاط والس قط ‪-‬‬
‫عثمان بن عبد الرحمن‪ ،‬أبو عمرو‪ ،‬تقي الدين المعروف بابن الصالح (طبعة دار الغرب اإلسالمي‪ :‬ج‪ 1‬ص‪)62‬‬

‫‪57‬‬
‫ومن المحدثين الكبار بنيسابور الحافظ محمد بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري‬
‫(‪ 311-223‬هـ ) الملقب بش يخ اإلس الم‪ ،‬وإم ام األئم ة‪ ،‬وص احب كت اب ص حيح ابن‬
‫خزيمة‪ ،‬والذي ق ال في ه أب و ح اتم بن حب ان‪( :‬م ا رأيت علی وج ه األرض من يحس ن‬
‫صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتی ك ان الس نن كله ا بين عيني ه إال‬
‫ابن خزيمة)(‪)1‬‬
‫وقال السبكي عنه في ترجمت ه‪( :‬المجته د المطل ق‪ ،‬البح ر العج اج جمع أش تات‬
‫العلوم‪ ،‬وهو إمام األئمة)(‪)2‬‬
‫وقال عنه ابن كثير‪( :‬هو من المجتهدين في دين اإلسالم)(‪)3‬‬
‫وق ال عن ه ال ذهبي‪( :‬الحاف ظ الكب ير‪ ،‬انتهت إلي ه اإلمام ة والحف ظ في عص ره‬
‫بخراسان)(‪)4‬‬
‫وغيرها من المقوالت التي يتبناها السلفيون خصوص ا‪ ،‬ف ابن تيمي ة يش يد كث يرا‬
‫بابن خزيم ة‪ ،‬ولس ت أدري كي ف يوفق ون بين ذل ك‪ ،‬وبين اته امهم لإليران يين بك ونهم‬
‫مؤامرة على اإلسالم‪ ،‬وأنهم ما دخلوا اإلسالم إال ليشوهوه؟‬
‫ومن كب ار المح دثين بنيس ابور‪ :‬محمـــد بن عبـــد هللا المشـــهور بــــ (الحـــاكم‬
‫النيسابوري) (‪405 - 321‬هـ)‪ ،‬الذي يلقب بـ (اإلمام‪ ،‬الحافظ‪ ،‬الناق د‪ ،‬العالم ة‪ ،‬ش يخ‬
‫المحدثين‪ ،‬صاحب التصانيف)‪ ،‬وقيل فيه‪( :‬أدرك األسانيد العالية بخراسان‪ ،‬والع راق‪،‬‬
‫وم ا وراء النه ر‪ ،‬وس مع من نح و ألفي ش يخ‪ .‬ص نّف وخ رَّج ورجَّح وص حَّح وع َّدل‪،‬‬
‫وكان من بحور العلم‪ .‬كان إمام عصره في الحديث‪ ،‬العارف به ح ق معرفت ه‪ ،‬ص الحا ً‬
‫ثقة)(‪)5‬‬
‫وه و ص احب (المس تدرك على الص حيحين)‪ ،‬و(ت اريخ نيس ابور)‪ ،‬و(عل وم‬
‫الح ديث)‪ ،‬وكتب ه ال ت زال تعتم د في الرواي ة والدراي ة‪ ،‬وال يمكن لمن ي درس عل وم‬
‫الحديث أن يستغنى عن كتبه فيها‪ ،‬ذلك أنها كانت من أوائل ما كتب في الموضوع‪.‬‬
‫وقد قال الشيخ أحمد شاكر عن كتابه المستدرك‪( :‬ص حيح ابن خزيم ة وص حيح‬
‫ابن حبان والمستدرك علی الصحيحن للح اكم‪ ،‬ه ذه الكتب الثالث ة هي أهم الكتب ال تي‬
‫ألفت في الص حيح المج رد بع د الص حيحين للبخ اري ومس لم)(‪ ،)6‬ومن العجيب أن‬
‫ه ؤالء الثالث ة ال ذين ذك رهم كلهم من نيس ابور‪ ،‬باإلض افة لمس لم‪ ،‬وإن ش ئنا أض فنا‬
‫البخاري‪ ،‬فقد كان كثير التردد على نيسابور‪ ،‬في حال تلمذته‪ ،‬وحال أستاذيته (‪. )7‬‬
‫‪ )(1‬سير أعالم النبالء ‪.14/372‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية‪.)3/109( ،‬‬
‫‪ )(3‬الثقات إلبن حبان‪.9/156 ،‬‬
‫‪ )(4‬تذكرة الحفاظ‪.2/720 ،‬‬
‫‪ )(5‬سير أعالم النبالء ‪.)17/163‬‬
‫‪ )(6‬مقدمة صحيح ابن حبان ص ‪.7-6‬‬
‫‪ )(7‬قال الحاكم النيسابوري‪( :‬أول ما ورد البخاري نيسابور سنة تس ع وم ائتين‪ ،‬وورده ا في األخ ير س نة خمس ين‬
‫ومائتين‪ ،‬فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام) [تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم ‪ -‬شمس ال دين أب و عب د هللا‬

‫‪58‬‬
‫ومن كبار المحدثين بنيسابور‪ :‬اإلمام ابن حبان (‪270‬هـ — ‪354‬هـ)‪ ،‬ص احب‬
‫الصحيح‪ ،‬وهو الذي وصف بأنه (اإلمام العالمة الحافظ‪ ،‬المح ّدث‪ ،‬الم ؤرخ‪ ،‬القاض ي‪،‬‬
‫شيخ خراسان‪ ،‬من كبار أئمة علم الحديث والجرح والتعديل)(‪)1‬‬
‫وهو الذي قال فيه قال أبو سعد عبد الرحمن بن أحمد اإلدريسي‪( :‬أبو ح اتم ك ان‬
‫من فقهاء الن اس‪ ،‬وحفّ اظ اآلث ار‪ ،‬المش هورين في األمص ار واألقط ار‪ ،‬عالم ا ب الطب‬
‫والنجوم وفنون العلوم‪ ،‬ألّف المسند الصحيح‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والضعفاء‪ ،‬والكتب المش هورة‬
‫في كل ّ‬
‫فن)‬
‫وق ال ي اقوت الحم وي في معجم البل دان‪( :‬ك ان ابن حب ان مك ثرا من الح ديث‬
‫والرّحلة والشيوخ‪ ،‬عالما بالمتون واألس انيد‪ ،‬أخ رج من عل وم الح ديث م ا عج ز عن ه‬
‫غيره‪ ،‬ومن تأ ّمل تصانيفه تأ ّمل منصف‪ ،‬علم أن الرجل كان بحرا في العلوم)‬
‫وقال عنه ابن حجر العسقالني‪( :‬كان من أئمة زمان‪ ،‬وطلب الح ديث على رأس‬
‫سنة ثالث مئة‪ ..‬وكان عارفا بالطب والنجوم والكالم والفقه‪ ،‬رأسا في معرفة الح ديث‪،‬‬
‫صاحب فنون‪ ،‬وذكاء مفرط‪ ،‬وحفظ واسع إلى الغاية)‬
‫ومن كب ار المح دثين بنيس ابور‪ :‬الحافــظ أحمــد بن حســين الــبيهقي ‪-384( 2‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫‪ ،)458‬والذي وصف بأنه (الحافظ الكبير الفقيه األصولي الناقد)‪ ،‬وهو صاحب مراجع‬
‫كبرى في الحديث وعلومه ال يمكن االستغناء عنها‪ ،‬منها (الس نن الك بری)‪ ،‬و(الم دخل‬
‫إلی السنن الكبری)‪ ،‬و(معرفة السنن واآلثار)‪ ،‬والذي قال عنه السبكي‪( :‬ه ذا كت اب ال‬
‫يستغني عنه فقيه شافعي)(‪)3‬‬
‫ومن أهم كتبه في نظري كتابين تميز بهما‪ ،‬األول (دالئل النبوة)‪ ،‬وهو من أجمع‬
‫وأفضل ما كتب في براهين النبوة‪ ،‬وق د ق ال عن ه ابن كث ير‪( :‬دالئ ل النب وة ألبي بك ر‬
‫البيهقي من عيون ما صنّف في السيرة والشمائل)‬
‫والثاني (األسماء والصفات)‪ ،‬والذي قال عنه السبكي‪( :‬ال أعرف له نظيراً)‬
‫وقد أشاد بالبيهقي ك ل من ترجم وا ل ه‪ ،‬ق ال ال ذهبي عن ه‪( :‬ك ان ال بيهقي أوح د‬
‫زمانه وفرد أقرانه وحافظ أوانه)‪ ،‬وقال عنه‪( :‬ل و ش اء ال ذهبي أن يعم ل لنفس ه م ذهبا‬
‫يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك لسعة علومه‪ ،‬ومعرفته باالختالف)(‪)4‬‬
‫وقال عنه إمام الحرمين الجويني‪( :‬ما من شافعي إال وللشافعي في عنق ه من ة إال‬
‫البيهقي فإن له علی الشافعي منة لتصانيفه ونصرته لمذهبه وأقاويله)(‪)5‬‬
‫وقال عنه ابن خلكان‪( :‬الفقي ه الش افعي الحاف ظ الكب ير المش هور‪ ،‬واح د زمان ه‪،‬‬
‫محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (طبعة دار الغرب اإلسالمي‪:‬ج‪ 6‬ص‪])140‬‬
‫‪ )(1‬سير أعالم المحدثين ص ‪.298‬‬
‫‪ )(2‬بيهق من نواحي نيسابور‪ ،‬قد خرج منها ـ كما يذكر المؤرخون ـ ما ال يحصی من الفضالء المح دثين واألدب اء‬
‫الفقهاء‪..‬‬
‫‪ )(3‬السبكي في الطبقات ‪.4/9‬‬
‫‪ )(4‬سير أعالم النبالء ‪.18/163‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬طبقات الشافعية الكبری ‪ ،11-4/10‬سير أعالم النبالء ‪.18/168‬‬

‫‪59‬‬
‫وفرد أقرانه في الفن ون‪ ،‬من كب ار أص حاب الح اكم أبي عب د هللا ال بيع في الح ديث‪ ،‬ثم‬
‫الزائد عليه في أنواع العلوم)(‪)1‬‬
‫وقال ابن كثير‪( :‬كان أوح د زمان ه في اإلتق ان‪ ،‬والح ديث‪ ،‬والفق ه‪ ،‬والتص نيف‪،‬‬
‫وكان فقيها محدثا‪ ،‬أصوليا‪ ..‬وجمع أشياء كثيرة نافع ة‪ ،‬لم يس بق إلى مثله ا‪ ،‬وال ي درك‬
‫فيها‪ ،‬وكان فاضال من أهل الحديث‪ ،‬مرضي الطريقة) (‪)2‬‬
‫باإلضافة إلى هؤالء نجد الكثير من الرواة المتقدمين الذين اعتمد على رواي اتهم‬
‫أهل الحديث‪ ،‬وخصوصا أص حاب الص حاح منهم‪ ،‬ومنهم يح يی بن يح يی أب وبكر بن‬
‫عب د ال رحمن أب و زكري ا النيس ابوري الحاف ظ (‪ 142‬هـ ـ )‪ .‬ال ذي تتلم ذ على يدي ه‬
‫البخاري ومس لم وال دارمي وبن بش ار وال ذهلي وال بيهقي واآلخ رون‪ ..‬وق د ق ال عن ه‬
‫إسحاق بن راهويه‪( :‬ما رأيت مثل يحيی بن يح يی‪ ،‬وال أحس ب أن ه رأی مث ل نفس ه)‪،‬‬
‫وقال‪( :‬أصبح يحيی بن يحيی إمام أهل الشرق والغرب)‪ ،‬وقال‪( :‬مات يح يى بن يح يى‬
‫يوم مات وهو إمام ألهل ال دنيا)‪ ،‬وق ال عن ه عب د هللا بن أحم د بن حنب ل‪( :‬س معت أبي‬
‫يذكر يحيی بن يحيی فأثنی علیه خيراً وقال‪ :‬ما أخرجت خراسان بعد ابن مبارك مثل ه)‬
‫(‪)3‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن كبار المحدثين من أهل نيسابور‪ ،‬والذين ال يمكن بحال من‬
‫األحوال أن نستغني عن جهودهم في خدمة السنة النبوية‪ ،‬ونحن نطلب من أولئك ال ذين‬
‫يشككون في إيران‪ ،‬وإسالم أهلها‪ ،‬أن يتركوا العودة لهذه المص ادر‪ ،‬ألن ه ال يس تقيم أن‬
‫يأخذوا أحاديثهم من الفرس المتآمرين على اإلسالم‪ ،‬أو من المج وس ال ذين ال ح ظ لهم‬
‫في اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المحدثون بأصفهان‪:‬‬
‫تعتبر أصفهان من مراكز الحضارة اإلسالمية الكبرى‪ ،‬وقد كانت مقص د الكث ير‬
‫من العلم اء وطلب ة العلم‪ ،‬وخاص ة علم الح ديث ابت داء من العص ور األولى لإلس الم‪،‬‬
‫ولذلك أتيح لها أن تنجب كبار المحدثين باإلض افة لكب ار األدب اء والفقه اء والم ؤرخين‬
‫وغيرهم‪ ،‬والذين سنذكر بعضهم في الفصول التالية من هذا الكتاب‪.‬‬
‫ومن المحدثين الكبار ال ذين أنجبتهم أص فهان أبــو نعيم األصــفهاني (‪ 336‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 430‬هـ) المؤرخ الرحالة‪ ،‬وصاحب المؤلفات المهمة جدا في الحديث وغ يره‪ ،‬ومنه ا‪:‬‬
‫حلية األولياء‪ ،‬والمسـتخرج على البخاري‪ ،‬ودالئ ل النبـوّة‪ ،‬وت اريخ أص فهان‪ ،‬ومعجم‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫ويعد كتابه (حلية األولياء) من أجمع ما كتب في بابه‪ ،‬حتى أن الكث ير من الكتب‬
‫ال تي أتت بع ده ك انت عي اال علي ه‪ ،‬فق د جم ع في ه أس امي جماع ة كب يرة من العلم اء‬
‫والمحدثين والنساك وغيرهم ابتداء من قرن الصحابة والت ابعين وت ابعيهم ومن بع دهم‪،‬‬

‫‪ )(1‬دالئل النبوة للبيهقي محققا (المقدمة‪.)5 /‬‬


‫‪ )(2‬دالئل النبوة للبيهقي محققا (المقدمة‪.)6 /‬‬
‫‪ )(3‬سير أعالم النبالء ‪.10/512‬‬

‫‪60‬‬
‫وقد اشتمل على زهاء ‪ 800‬ترجمة‪ ،‬وقد قال عنه الحافظ الذهبي‪(:‬لم يصنف مثل حلي ة‬
‫األولياء)‬
‫ومن المحدثين الكبار ال ذين أنجبتهم أص فهان إســماعيل بن محمــد األصــفهاني‪،‬‬
‫الملقب بقوام السنة (‪ 535 - 457‬هـ)‪ ،‬وكان من أعالم الحفاظ‪ ،‬ومن كتبه (الجامع) في‬
‫التفسير‪ ،‬ثالثون مجلدة‪ ،‬و(اإليضاح) في التفس ير‪ ،‬أرب ع مجل دات‪ ،‬وتفس يران آخ ران‪،‬‬
‫وتفسير بالفارسية‪ ،‬عدة مجلدات‪ ،‬و(دالئل النبوة) و(الت ذكرة) نح و ‪ 30‬ج زءا‪ ،‬و(س ير‬
‫السلف) في تراجم الصحابة والتابعين‪ ،‬و(ال ترغيب وال ترهيب) و(ش رح الص حيحين)‬
‫و(الحجة في بيان المحجة) و(إعراب القرآن) و(المبعث والمغازي)(‪)1‬‬
‫وقد قال عنه تلميذه أبو س عد الس معاني‪( :‬ك ان إما ًم ا في فن ون العلم في التفس ير‬
‫والح ديث واللغ ة واألدب حافظً ا متقنً ا‪ ،‬كب ير الش أن‪ ،‬جلي ل الق در‪ ،‬عارفً ا ب المتون‬
‫واألسانيد‪ ،‬سمع الكثير بنفسه ونسخ‪ ،‬ووهب أكثر أصوله في آخر عمره‪ ،‬وأملى بجامع‬
‫أص فهان قريبً ا من ثالث ة آالف مجلس‪ ،‬وك ان يحض ر مجلس ه جماع ة من الش يوخ‬
‫والشبان ويكتبون‪ ،‬ووقت مق امي م ا ف اتني من أمالي ه ش يء‪ ،‬وك ان يملي عل ّي في ك ل‬
‫خاص ا في داره وأق رأ علي ه في ك ل أس بوع ي ومين ‪ ...‬كتبت عن ه‬ ‫ً‬ ‫مجلس ا‬
‫ً‬ ‫أسبوع يو ًما‬
‫الكثير واستفدت منه‪ ،‬وهو من شيوخ والدي رحمه هللا)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬كان وال دي يق ول‪ :‬م ا رأيت ب العراق من يع رف الح ديث ويفهم ه غ ير‬
‫اثنين‪ :‬إسماعيل الجوزي بأصفهان‪ ،‬والمؤتمن بن أحمد ببغداد)(‪)3‬‬
‫وقال أبو موسى المديني في معجمه‪(:‬أبو القاسم الحافظ إم ام أئم ة وقت ه‪ ،‬وأس تاذ‬
‫علماء عصره‪ ،‬وقدوة أهل السنة في زمانه‪ ،‬حدثنا عنه غير واح ٍد من مشايخنا في ح ال‬
‫حياته بمكة‪ ،‬وبغداد‪ ،‬وأصفهان ‪ ...‬وال أعلم أحدًا ع اب علي ه ق وال وال فعال‪ ،‬وال عان ده‬
‫أحد إال ونصره هللا‪ ،‬وكان نزه النفس عن المطامع‪ ،‬وال يدخل على الس الطين وال على‬
‫المتصلين بهم‪ ،‬قد أخلى دا ًرا من ملكه ألهل العلم مع خفة ذات يده‪ ،‬ولو أعط اه الرج ل‬
‫ال دنيا بأس رها لم يرتف ع عن ده‪ ،‬أملى ثالث ة آالف وخمس مائة مجلس‪ ،‬وك ان يُملي على‬
‫البديهة)‬
‫وقال‪( :‬وقد قرأ عدة ختمات بقراءات على جماعة‪ ،‬وأما علم التفسير‪ ،‬والمع ني‪،‬‬
‫واإلعراب‪ ،‬فقد صنف فيه كتابًا بالعربية والفارسية‪ ،‬وأما علم الفقه فق د ش هرت فتاوي ه‬
‫في البلد والرساتيق‪ ،‬بحيث لم ينكر أح ٌد ش يئا من فتاوي ه في الم ذهب‪ ،‬وأص ول ال دين‪،‬‬
‫والسنة)(‪)4‬‬
‫وقال عنه ابن كثير‪( :‬اإلم ام الحاف ظ الفقي ه الكب ير‪ ،‬أب و القاس م التميمي الطلحي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تذكرة الحفاظ للذهبي (ج‪ 4‬ص‪)51‬؛ سير أعالم النبالء أيضا للذهبي (ج‪ 20‬ص‪)81‬‬
‫‪ )(2‬األنساب للسمعاني (ج‪ 2‬ص‪)120‬‬
‫‪ )(3‬التقييد البن نقطة (ج‪ 1‬ص‪)252‬‬
‫‪ )(4‬تاريخ اإلسالم للذهبي (ج‪ 36‬ص‪ 368‬و‪ ،)371‬وتذكرة الحفاظ له (ج‪ 4‬ص‪)51‬‬

‫‪61‬‬
‫األصفهاني الجوزي الملقب بقوام السنة‪ ،‬أحد أئمة الشافعية وجهابذة الح ديث ونق ادهم)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومن المحدثين الكب ار ال ذين أنجبتهم أص فهان أبــو الشــيخ األصــفهاني (‪- 274‬‬
‫‪ 369‬هـ)‪ ،‬الذي وص فه ال ذهبي في (الس ير) بأن ه (اإلم ام‪ ،‬الحاف ظ‪ ،‬الص ادق‪ ،‬مح دث‬
‫أصفهان)‪ ،‬وقال‪( :‬سمع في سنة أربع وثمانين وهلم جرا‪ ،‬وكتب العالي والن ازل‪ ،‬ولقي‬
‫الكبار)‪ ،‬وقال‪( :‬قد كان أبو الشيخ من العلماء العاملين صاحب سنة واتباع لوال م ا يمأل‬
‫تصانيفه بالواهي ات)‪ ،‬وق ال‪( :‬وي روي عن ه أن ه ق ال‪ :‬م ا عملت في ه ح ديثا إال بع د أن‬
‫استعملته)‪ ،‬وقال‪( :‬عن بعض الطلبة قال‪ :‬ما دخلت على أبي القاسم الط براني إال وه و‬
‫يمزح أو يضحك‪ ،‬وما دخلت على أبي الشيخ إال وهو يصلي)‬
‫ومن مص نفاته ال تي ال ت زال منتش رة ومش تهرة‪( :‬الس نة )‪ ،‬و(العظم ة )‪،‬‬
‫و(الس نن)‪ ،‬و(التفس ير)‪ ،‬و(ث واب األعم ال)‪ ،‬و(أخالق الن بي)‪ ،‬و(الت وبيخ والتنبي ه)‪،‬‬
‫و( الفوائد)‪ ،‬و( التاريخ)‪ ،‬و(طبقات المحدثين بأصفهان)‬
‫باإلضافة إلى هؤالء نجد الكثير من المحدثين من غير أهل أصفهان الذين أقاموا‬
‫بها مدة طويلة‪ ،‬وتخ رج على أي ديهم الكث ير من طلب ة العلم‪ ،‬ومنهم أبــو ســعيد الــرازي‬
‫ال ذي أق ام باص فهان ‪ 45‬س نة ثم رح ل إلی الع راق‪ ،‬ثم راج ع منه ا إلی أص فهان‬
‫واستوطنها‪ ،‬وهو صاحب المسند وغيره من كتب الحديث‪.‬‬
‫ومنهم الحافظ أبوبكر عبد هللا بن أبي داود السجستاني صاحب السنن‪ ،‬ال ذي ق دم‬
‫أصفهان‪ ،‬فقال‪( :‬حدثت من حفظي بإصفهان ستة وثالثين ألفا ً ألزم وني ال وهم فيه ا في‬
‫سبعة أحاديث‪ ،‬فلما انصرفت وجدت في كتابي خمس ة منه ا علی م ا كنت ح دثتهم ب ه)‬
‫(‪ ،)2‬وهذا يدل على مبلغ اهتمام االصفهانيين بالسنة النبوية الشريفة‪.‬‬
‫هذا من المدرسة السنية‪ ،‬أما المدرسة الشيعية‪ ،‬فقد ك ان في أص فهان الكث ير من‬
‫المحدثين‪ ،‬لعل من أشهرهم‪ ،‬وأكثرهم جمعا للحديث محمد باقر المجلسي (‪ 1037‬هـ ـ‬
‫‪ ،)1111‬صاحب المؤلفات الروائية الكثيرة‪ ،‬ومنها (م رآة العق ول في ش رح أخب ار آل‬
‫الرسول) في شرح كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني في ‪ 26‬مجلَّداً‪.‬‬
‫ومنها (مالذ األخيار في فهم تهذيب األخبار) شرح على كتاب (تهذيب األحك ام)‬
‫لمحمد بن الحسن الطوسي‪ ،‬يقع في ‪ 16‬مجلَّداً بطبعته الجديدة‪.‬‬
‫ومن أشهرها (بحار األنوار الجامعة لدرر أخبار األئم ة األطه ار)‪ ،‬وال ذي يع د‬
‫بحق من أكبر الموسوعات الحديثيَّة عند الشيعة‪ ،‬بل عن د المس لمين جميع ا‪ ،‬إذ تتج اوز‬
‫ع دد مجلَّدات ه ‪ 100‬مجل د‪ ،‬وت رجمت كث ير من مجلَّدات ه إلى الفارس يَّة واألردويَّة‬
‫واإلنگليزيَّة‪ ،‬ونحب أن ننبه هنا إلى أن غرض ه من كتاب ه ه ذا هوجم ع أك بر ق در من‬
‫األحاديث والروايات من المصادر المختلفة حرصا على الحفظ عليه ا‪ ،‬ول ذلك ال يع ني‬
‫أن كل م ا في ه ص حيح‪ ،‬على عكس م ا يفع ل الس لفيون والط ائفيون حين يعم دون إلى‬

‫‪ )(1‬طبقات الفقهاء الشافعيين البن كثير (ج‪ 2‬ص‪)591‬‬


‫‪ )(2‬تذكرة الحفاظ ‪.3/915‬‬

‫‪62‬‬
‫الروايات الواردة فيها ويرمون بها الشيعة من غير نظر في موقفهم منها‪.‬‬
‫وأحب أن أش يد هن ا بال دور التص حيحي ال ذي تق وم ب ه الجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليرانية في تنقيح التراث الشيعي‪ ،‬ومن بينها هذه الموسوعة التي يستثمرها الط ائفيون‬
‫في التفريق بين المسلمين‪.‬‬
‫وقد ذكرت وكالة (تسنيم لألنباء) أن العالم ة ناص ر مك ارم ش يرازي‪ ،‬طلب من‬
‫رئيس وخ براء مرك ز األبح اث اإلس المية في مدين ة قم‪ ،‬ض رورة تجمي ع المص ادر‬
‫الشيعية وصيانتها‪ ،‬وقال إنهم ق د ب دأوا مش روعا ً مهم ا ً لغربل ة كت اب (بح ار األن وار)‬
‫واستخالصه‪ ،‬وأكد أنهم في حوزة قم يعملون بشكل جاد على تدوين (طبعة جدي دة) من‬
‫كتاب (بحار األنوار) خالية من التحريف واألحاديث الموضوعة‪.‬‬
‫وأوض ح أنهم ومن خالل ه ذا المش روع الكب ير يح اولون غربل ة األح اديث‬
‫والرواي ات الض عيفة والزائف ة‪ ،‬وأنهم انته وا من طباع ة ‪ 6‬مجل دات من أص ل ‪110‬‬
‫مجلدات من هذا الكتاب العمالق‪.‬‬
‫ولفت العالمة الشيرازي إلى أن (الطبعة الجديدة) لكتاب (بحار األن وار) س تحل‬
‫العديد من المش اكل الحالي ة‪ ،‬كم ا ش دد على ض رورة تع ديل العدي د من مص ادر الفق ه‬
‫الشيعي والكتب األخرى في هذا المجال وفق متطلبات العصر الحاضر‪.‬‬
‫وم ا ذكرت ه الوكال ة دلي ل على أن الجه ود الكب يرة ال تي تق وم به ا الجمهوري ة‬
‫اإلس المية اإليراني ة في مش روعها الحض اري الجدي د ال تقتص ر على تل ك الج وانب‬
‫السياسية‪ ،‬بل تتعداها إلى التصحيح الديني نفسه‪ ،‬بتنقيته من التحريف والتبديل والتغيير‬
‫الذي اعتراه عبر العصور المختلفة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ المحدثون بطهران‪:‬‬
‫قد يتصور البعض أنه ال يوجد علماء وال حضارة قديمة في طه ران بس بب قل ة‬
‫وجود النسبة إليه ا في مع اجم الرج ال‪ ،‬مثلم ا توج د النس بة للنيس ابوري واألص فهاني‬
‫والطوسي وغيرها‪.‬‬
‫وسبب ذلك هو أن طه ران الحالي ة لم تكن ق ديما س وى قري ة ص غيرة من ق رى‬
‫مدينة ال ري‪ ،‬ول ذلك ف إن من ش اء أن يبحث في حض ارة طه ران‪ ،‬فعلي ه أن يبحث في‬
‫حض ارة ال ري‪ ،‬ومن ش اء أن يع رف علماءه ا ورجاله ا الكب ار‪ ،‬فعلي ه أن يبحث في‬
‫النسبة المعروفة بـ [ال رازي]‪ ،‬وهي نس بة مش هورة ج دا في كتب الت اريخ والرج ال‪،‬‬
‫وتدل على مبلغ الحضارة التي بلغتها‪.‬‬
‫وق د اهتمت ال ري‪ ،‬أو طه ران الحالي ة‪ ،‬بعلم الح ديث اهتمام ا بالغ ا‪ ،‬أش ار إلي ه‬
‫السمعاني بقوله‪( :‬أقمت به ا قريب ا ً من أربعين يوم ا ً في انص رافي من الع راق‪ ،‬وكتبت‬
‫بها عن جماعة من الرازية تقرب من الثالثين نفساً)(‪ ،)1‬وهو ع دد هائ ل مقارن ة بم دة‬
‫إقامته‪.‬‬
‫ومن كبار المحدثين فيها أبو حاتم الرازي (‪ 277 - 195‬هـ)‪ ،‬الذي وصف بأنه‬

‫‪ )(1‬األنساب ( ‪)25 /3‬‬

‫‪63‬‬
‫(حاف ظ للح ديث‪ ،‬من أق ران البخ اري ومس لم)‪ ،‬ومن كتب ه (طبق ات الت ابعين) وكت اب‬
‫(الزينة) و(تفسير القرآن العظيم) و(أعالم النبوة)‬
‫ومنهم أبوزرعة عبيدهللا بن عبدالكريم الرازي (‪ 264 – 200‬هـ )‪ ،‬وقد وصف‬
‫بأنه (كان اماما ً ربانيا ً متقنا ً حافظا ً مكثراً صادقاً‪ ،‬قدم بغداد غير مرة‪ ،‬وجالس أحم د بن‬
‫حنبل وذاكره وكثرت الفوائد في مجلسها)(‪)1‬‬
‫ومن مؤلفاته التي كانت مصادر للمحدثين منذ تأليفها إلى اليوم‪ :‬فوائد ال رازيين‪،‬‬
‫الفوائد‪ ،‬الفضائل‪ ،‬أعالم النبوة‪ ،‬أو دالئل النبوة‪ ،‬كتاب السير‪ ،‬كت اب المختص ر‪ ،‬كت اب‬
‫الزهد‪ ،‬كتاب األطعمة‪ ،‬كتاب الفرائض‪ ،‬كتاب الصوم‪ ،‬كتاب اآلداب‪ ،‬كت اب الوض وء‪،‬‬
‫كتاب الشفعة‪ ،‬كتاب األفراد‪ ،‬كت اب العل ل‪ ،‬كت اب الج رح والتع ديل‪ ،‬كت اب بي ان خط أ‬
‫البخاري في تاريخه‪ ،‬التفسير‪ ،‬أجوبته على أسئلة ال برذعي في الض عفاء‪ ،‬أجوبت ه على‬
‫أسئلة البرذعي في الثقات‪ ،‬كتاب أسماء الضعفاء‪ ،‬كتاب الصحابة‪ ،‬كتاب المسند‪.‬‬
‫وقد اتفق جميع المحدثين على حفظه وإتقانه(‪ ،)2‬فقد روى محمد بن جعف ر ق ال‪:‬‬
‫سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطالق‪ :‬أن أبا زرعة يحف ظ م ائتي أل ف ح ديث‪ ،‬ه ل‬
‫حنث؟ فقال‪ :‬ال‪ .‬ثم قال أبو زرعة‪ :‬أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ اإلنسان ﴿ قل ه و‬
‫هللا أحد ﴾‪ ،‬وفي المذاكرة ثالثمائة ألف حديث‪.‬‬
‫وقال صالح بن محم د‪ :‬س معت أب ا زرع ة يق ول‪ :‬كتبت عن رجلين م ائتي أل ف‬
‫حديث‪ ،‬كتبت عن إبراهيم الفراء مائة أل ف ح ديث‪ ،‬وعن ابن أبي ش يبة‪ :‬عب د هللا مائ ة‬
‫ألف حديث‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن راهويه‪( :‬كل حديث ال يعرفه أب و زرع ة فليس ل ه أص ل)‪ ،‬وق ال‬
‫عبد هللا بن أحمد‪( :‬لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي‪ ،‬فك ان كث ير الم ذاكرة ل ه‪ ،‬فس معت‬
‫أبي يوما ً يقول‪ :‬ما صليت غير الفرض؛ استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي)‬
‫وقال أبو يعلى الموصلي‪( :‬ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إال كان اسمه أك بر من‬
‫رؤيته‪ ،‬إال أبا زرعة الرازي؛ فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه‪ ،‬وكان قد جمع حف ظ‬
‫األبواب والشيوخ والتفسير‪ ،‬كتبنا بانتخابه بواسط ستة آالف حديث)‬
‫وقال يونس بن عبد األعلى‪( :‬إن أبا زرعة أشهر في الدنيا من الدنيا)‬
‫وقال الذهبي‪( :‬يعجبني كثيراً كالم أبي زرع ة في الج رح والتع ديل؛ ي بين علي ه‬
‫الورع والمخبرة‪ ،‬بخالف رفيقه أبي حاتم؛ فإنه جراح)‬
‫ومن كبار المحدثين في الري محمد بن حميد الرازي [‪ 248 – 160‬هـ]‪ ،‬وكان‬
‫من الرواة الكبار أصحاب األسانيد العالية‪ ،‬وقد قال عنه أبو زرعة‪( :‬من فاته محم د بن‬
‫حمي د‪ ،‬يحت اج أن ي نزل في عش رة آالف ح ديث)‪ ،‬ق ال عب د هللا بن أحم د بن حنب ل‪:‬‬
‫(سمعت أبي يقول ال يزال ب الري علم م ا دام محم د بن حمي د حي ا)‪ ،‬وق ال أب و ق ريش‬

‫‪ ( )(1‬االنساب للسمعاني ‪.26 /3‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الجرح و التعديل البن أبي حاتم‪ ،‬وسير أعالم النبالء للذهبي‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الحافظ‪( :‬قلت لمحمد بن يحيى ما تقول في محمد بن حميد فقال أال ت راني أح دث عن ه)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومنهم أبو عبدهللا جرير الرازي (توفي ‪ 188‬هـ)‪ ،‬وقد روى عنه كبار المحدثين‬
‫من أمثال عبدهللا بن المبارك‪ ،‬وأب وداود الطيالس ي‪ ،‬وأحم د بن حنب ل ويح يي بن معين‬
‫وعلي ابن المديني وغيرهم من مشاهير األئمة واألعالم(‪.)2‬‬
‫ومنهم إسماعيل بن علي بن حسين الرازي المعروف بالس ّمان الحافظ‪ ،‬ك ان من‬
‫المك ثرين من الح ديث‪ ،‬س مع من نح و ‪ 4000‬ش يخ‪ ،‬روي عن ه الخطيب ومحم د بن‬
‫عبدهللا بن جعفر بن عبدهللا بن الجنيد ابو الحسين الرازي‪ ،‬ووص ف بأن ه (ك ان حافظ ا ً‬
‫ثقة مكثراً)‪ ،‬قال الكنائي عنه‪( :‬توفي شيخنا وأس تاذنا تم ام ال رازي وك ان ثق ة مأمون ا ً‬
‫حافظا ً لم أر أحفظ منه حديث الشاميين)‬
‫وقال أبوبكر الحداد‪(:‬مالقينا مثله في الحفظ والخبر)‪ ،‬وال أب و األه وازي‪( :‬ك ان‬
‫عالما ً بالحديث ومعرفة الرجال وما رأيت مثله في معناه)(‪)3‬‬
‫هذه بعض النماذج عن المحدثين المنتسبين للري أو طهران الحالي من المدرسة‬
‫السنية‪ ،‬أما المحدثون من الش يعة‪ ،‬فهم ال يقل ون عنهم‪ ،‬ومن أش هرهم الش يخ محمــد بن‬
‫يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (‪ 255‬ـ ‪ 329‬هـ )‪ ،‬وهو ـ باتف اق الم ؤرخين ـ من‬
‫كبار فقهاء ومحدثي الشيعة‪ ،‬وه و ص احب كت اب الك افي ال ذي يع ّد من أهم المص ادر‬
‫الحديثية األربعة عند الشيعة‪ ،‬وهو أوّل من لقّب بـ (ثقة اإلسال)‪،‬م وكان الناس يرجعون‬
‫إليه في مسائلهم اإلجتماعية والفقهية لفضله وعلمه وتقواه(‪.)4‬‬
‫قال فيه ابن األث ير‪( :‬أب و جعف ر محم د بن يعق وب ال رازي‪ ،‬الفقي ه‪ ،‬اإلم ام على‬
‫مذهب أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬عالم في مذهبه‪ ،‬كبير‪ ،‬فاضل عندهم‪ ،‬مشهور)‪ ،‬وق ال‬
‫الذهبي‪( :‬عالم اإلمامية وصاحب المؤلفات المعروفة)‬
‫وقد اتفق جميع علماء الشيعة على الثناء عليه‪ ،‬فقد قال الش يخ الطوس ي‪( :‬محم د‬
‫بن يعقوب الكليني‪ ،‬يكنّى أبا جعفر‪ ،‬ثقة‪ ،‬عارف باألخبار)‪ ،‬وقال في رجاله‪ ( :‬يكنى أبا‬
‫جعفر األعور‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬عالم باألخبار‪ ،‬وله مصنفات منها كتاب الك افي)(‪ ،)5‬وق ال‬
‫النجاشي‪( :‬أبو جعفر الكلينيشيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم‪ ،‬وك ان أوث ق الن اس‬
‫في الحديث وأثبتهم صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكافي‪ ،‬في عشرين سنة)(‪)6‬‬
‫ويعتبر كتابه (الكافي)‪ ،‬من مصادر الحديث لدى المدرسة الشيعية‪ ،‬وأكثر الكتب‬
‫األربعة اعتبارا بأقسامه الثالثة أصول الكافي‪ ،‬وفروع الكافي‪ ،‬وروضة الكافي‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر ترجمته بتفصيل في‪ :‬سير اعالم النبالء الرقم ‪.8/292 ،2073‬‬
‫‪ )(2‬األنساب ‪.26 /3‬‬
‫‪ )(3‬معجم البلدان ‪.121 /3‬‬
‫‪ )(4‬انظر ترجمته والثناء عليه في ‪ :‬الكليني والكافي‪ ،‬ص ‪..267 - 264‬‬
‫‪ )(5‬الطوسي‪ ،‬رجال الطوسي‪ ،‬ص ‪.429‬‬
‫‪ )(6‬النجاشي‪ ،‬رجال النجاشي‪ ،‬ص ‪..377‬‬

‫‪65‬‬
‫وقد قال عنه الشيخ المفيد‪( :‬إن كتاب الكافي من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة)‬
‫(‪ ،)1‬وقال الشهيد األول‪( :‬كتاب الكافي في الحديث‪ ،‬الذي لم يعمل لإلمامية مثله)(‪)2‬‬
‫وأحب أن أنبه هنا كم ا نبهت س ابقا إلى أن ثن اء العلم اء علي ه‪ ،‬ال يع ني ص حته‬
‫صحة مطلقة‪ ،‬أو أنهم ال ينتقدون أحاديثه‪ ،‬فليس عند الشيعة ما يطلق ون علي ه الص حيح‬
‫المجرد‪ ،‬حتى ال يضاهون ما يكتبه البشر بكتاب هللا تعالى‪.‬‬
‫وقد قال بعضهم في ذلك‪( :‬أما تضعيف العلماء المتأخرين لجملة من مروياته فال‬
‫يق دح في مكانت ه أو التقلي ل من ش أنه‪ ،‬إذ ينبغي المالحظ ة أن للتض عيف والتص حيح‬
‫معنيان عند اإلمامية ـ أحدهما عند المتقدمين ـ ويمثلهم الش يخ الكلي ني ومن في طبقت ه‪،‬‬
‫والثاني عند المتأخرين ـ ويمثلهم العالمة الحلي ومن في طبقته ـ ومعنى الص حيح عن د‬
‫المتقدمين هو القبول بالحديث والعم ل ب ه الحتفائ ه بق رائن ت دل على ص حة ص دوره‪،‬‬
‫وهذا عندهم بغض النظر عن وثاقة رواة السند‪ ..‬أما المت أخرون فهم ال ي رون الح ديث‬
‫صحيحا ً إال إذا ثبت عندهم وثاقة رواته بالخصوص‪ ..‬والسر في ذلك هو االبتعاد زمن ا ً‬
‫عن عصر صدور النص‪ ،‬إضافة إلى غياب القرائن التي يمكن له ا أن تفي د االطمئن ان‬
‫بالصدور في قبول الحديث وعدمه‪ ،‬لذا فإن ما سمعتموه من التضعيف الحاديث الك افي‬
‫إنما كان باصطالح المت أخرين دون المتق دمين‪ ،‬ال ذين كتب الش يخ الكلي ني كتاب ه على‬
‫منوالهم وصرّح في بداية كتابه بأن ه ذك ر في ه اآلث ار الص حيحة عن الص ادقين (عليهم‬
‫السالم) ليعمل بها)‬
‫وردا على الشبهة المقابلة لهذه‪ ،‬والتي يوردها بعض السلفية خصوص ا في رمي‬
‫الشيعة بأنه ليس عندهم كتاب في الصحيح المجرد‪ ،‬قال‪( :‬ودع وى المح اور الس ني أن‬
‫الشيعة ليس عندهم كتاب صحيح ال تعد قدحاً‪ ،‬وإنما هي م يزة علمي ة عالي ة امت از به ا‬
‫اتباع أهل البيت في أخذهم للعقيدة والفقه الصحيح المبرئ للذمة أمام هللا عز وج ل‪ ،‬فلم‬
‫يرضوا ألنفسهم االعتماد على رأي شخص واحد غ ير معص وم ك الكليني أو الص دوق‬
‫مثالً أو حتى عالم من علماء الرجال بالحكم بص حة كتاب ه واألخ ذ ب ه مطلق ا‪ ،‬كم ا ه و‬
‫الحال عند إخواننا أهل السنة في أخذهم للح ديث من كت ابي البخ اري ومس لم‪ ،‬فه ذا من‬
‫التقليد غير المبرئ للذم ة‪ ،‬ول و نظرن ا إلى المس ألة نظ رة علمي ة منص فة‪ ،‬فالش يعة ال‬
‫يقرون بتواتر كتاب وصحته من الغالف إلى الغالف سوى كتاب هللا عز وجل )(‪)3‬‬
‫وما ذك ره ه ذا الب احث الفاض ل ال ينطب ق على المدرس ة الس نية جميع ا؛ ب ل ال‬
‫ينطب ق ح تى على المدرس ة الس لفية نفس ها‪ ،‬ذل ك أن الكث ير من المح دثين نق د بعض‬
‫أحاديث الصحيحين‪ ،‬سواء كانوا من المتقدمين أو المتأخرين‪ ،‬وقد ق ال الش يخ األلب اني‬
‫مبررا نقده لبعض أحاديث الص حيحين‪( :‬إن انتق اد أح اديث الص حيحين لم يغل ق باب ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬اعتقادات االمامية‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ )(2‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬
‫‪ )(3‬موسوعة االسئلة العقائدية‪ ،‬مركز األبحاث العقائدية‪( ،‬بتصرف)‬

‫‪66‬‬
‫ينتقد)(‪)1‬‬ ‫فكما أنه جاز للدارقطني أن ينتقد‪ ،‬وكذلك يجوز لمن تأهل بعده أن‬
‫وقال المحدث الكبير جمال الدين القاسمي في ت برير ل رد ح ديث الس حر ال وارد‬
‫في الصحاح‪( :‬وال غرابة في أن ال يقبل هذا الخبر لما ب رهن علي ه‪ ،‬وإن ك ان مخرَّج ا ً‬
‫في الصحاح ؛ وذلك ألنه ليس ك ل مخ رج فيه ا س الما ً من النق د‪ ،‬س نداً أو مع نى‪ ،‬كم ا‬
‫يعرفوه الراسخون‪ .‬على أن المناقشة في خبر اآلحاد معروفة من عهد الصحابة)(‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ المحدثون بقزوين‪:‬‬
‫تعتبر ق زوين(‪ )3‬بس بب موقعه ا االس تراتيجي‪ ،‬ومناخه ا الطيب‪ ،‬وتضاريس ها‬
‫الجميلة‪ ،‬مركزا من مراكز الحضارة والعلم في إيران منذ بداية اإلسالم إلى اليوم‪.‬‬
‫وقد ظهر فيها الكثير من المحدثين‪ ..‬ومن أشهرهم الحافظ الكبير محمد بن يزيد‬
‫بن ماجة القزويني (‪ 209‬هـ ـ ‪ 273‬هـ)‪ ،‬صاحب كتاب السنن‪ ،‬المعروف بـ (س نن ابن‬
‫ماجة)‪ ،‬وهو سادس الكتب الستة التي هي أصول السنة النبوية في المدرسة السنية‪.‬‬
‫ومنهم عمــرو بن رافــع البجلي القزويــني ( ت وفي ‪ 237‬هـ) وه و من الطبق ة‬
‫العاش رة من كباراآلخ ذين عن تب ع األتب اع‪ ،‬ق ال عن ه أب و ح اتم ـ أح د أئم ة الج رح‬
‫والتعديل ـ‪( :‬سمعت ابراهيم بن موسى يق ول‪ :‬م ا بقي أح د ممن ك ان يطلب معن ا العلم‬
‫غير عمرو بن رافع)‪ .‬وقال أيضا‪( :‬قل من كتبنا عنه أصدق لهجة وأصح حديثا منه)‪،‬‬
‫ومنهم محمد بن سعيد أبو سعيد الــرازي ثم القزويــني‪( ،‬توفي ‪ 216‬هـ)‪ ،‬وه و‬
‫أيضا من الطبقة العاشرة من كبار اآلخذين عن تبع األتباع‪ ،‬وقد وصف بأنه (المح دث‬
‫الراوي الثبت الثق ة)‪ ،‬روى عن عم رو بن ابي قيس وابي جعف ر ال رازي ويعق وب بن‬
‫عب د هللا القمي‪ ،‬وروى عن ه أب و زرع ة ومحم د بن مس لم بن وارة ويح يى بن عب دك‬
‫وكثير بن شهاب وأبو داود والنسائي‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ومنهم هارون بن موسى بن حيان القزويني (توفي ‪ 248‬هـ )‪ ،‬وهو من الطبق ة‬
‫الحادية عشرة من أوس اط اآلخ ذين عن تب ع األتب اع‪ ،‬روى عن ه الكث ير من المح دثين‬
‫منهم ابن ماجة وابنه موسى بن ه ارون القزوي ني وس عيد بن عم رو ال بردعي ومحم د‬
‫ابن مسعود األسدي وأبو زرعة‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ومنهم الخليل بن عبد هللا أبو يَعلى القزويني (ت وفي ‪ 405‬هـ)وق د وص ف بأن ه‬
‫(حافظ جليل‪ ،‬كان يحدث كثيراً من حفظه‪ ،‬سمع أصحاب البغ وي وغ يره)‪ ،‬ومم ا قي ل‬
‫فيه‪( :‬كان فهما ً حافظا ً ذكيا فريد عصره في الفَهْم والذكا ِء)‬
‫ومنهم أبو الخير أحمد بن إسماعيل الملقب برضي الدين (توفي ‪ 590‬هـ)‪ ،‬وق د‬

‫‪ )( 1‬منهم أبو الحسن الدارقطني‪ ،‬وأبو علي النيسابوري‪ ،‬وأبو الفضل بن عمار‪ ،‬وأبو علي الغس اني‪ ،‬وأب و الحس ين‬
‫العطار‪ ،‬وأبو مسعود الدشقي وأبو عبد هللا الذهبي‪ ،‬انظ ر ‪ :‬كت اب اإللزام ات والتتب ع ألبي الحس ن ال دارقطني‪ ،‬م يزان‬
‫االعتدال (‪ ،)40-4/39‬مقدمة الفتح (‪ ،)344‬شرح مسلم للن ووي (‪ ،)1/27‬سلس لة األح اديث الض عيفة (‪( )1/142‬‬
‫‪)5/218( )475-2/471‬‬
‫‪ )(2‬محاسن التأويل (‪)577 /9‬‬
‫‪ )(3‬قزوين هي عاصمة محافظة قزوين‪ ،‬بإيران‪ ،‬وأكبر مدنها‪ .‬تبعد حوالي ‪130‬كيلومترا غرب مدينة طهران‪ ،‬له ا‬
‫ً‬
‫مناخ بارد وجاف‪ ،‬بها أكثر من ‪ 2000‬معلم معماري تاريخي‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫وصف بأنه (الشيخ اإلمام‪ ،‬العالمة‪ ،‬الواعظ‪ ،‬ذو الفنون‪ ،‬الفقي ه الش افعي‪ ،‬ل ه تص انيف‬
‫في الحديث وغيره)‬
‫وغيرهم كث ير‪ ،‬باإلض افة إلى أعالمه ا في المج االت العلمي ة األخ رى‪ ،‬وال ذين‬
‫سنعرض لهم في الفصول الخاصة بهم في هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ المحدثون بطوس‪:‬‬
‫وهي من المدن التاريخية األثرية ب إيران‪ ،‬وتس مى الي وم (مش هد الرض ا)‪ ،‬وق د‬
‫ك انت عاص مة من عواص م الحض ارة اإلس المية‪ ،‬بس بب ك ثرة علمائه ا في جمي ع‬
‫المجاالت‪.‬‬
‫أما المح ّدثون منهم‪ ،‬فكثيرون‪ ،‬منهم تميم بن محمــد أبــو عبــد الــرحمن الطوسي‬
‫(توفي ‪ 255‬هـ) صاحب المسند الكبير‪ ،‬قال عنه الحاكم‪( :‬تميم بن محمد بن طمغاج أبو‬
‫عبد الرحمن الطوسي محدث ثقة كثير الحديث والرحلة والتصنيف جمع (المسند الكبير‬
‫) ورأيتُه عند جماعة من مشايخنا)(‪)1‬‬
‫وقال الذهبي‪( :‬طوف‪ ،‬وسمع من‪:‬شيبان بن ف روخ‪ ،‬وهدب ة بن خال د‪ ،‬وأحم د بن‬
‫حنبل‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وعلي بن حجر‪ ،‬وإبراهيم بن الحجاج السامي‪ ،‬ومحم د بن‬
‫رمح‪ ،‬وحرمل ة‪ ،‬وعيس ى بن حم اد‪ ،‬وأبي الربي ع الرش ديني‪ ،‬والح ارث بن مس كين‪،‬‬
‫وسليمان بن سلمة الخب ائري‪ ،‬وطبقتهم بخراس ان والحج از ومص ر والش ام والع راق‪،‬‬
‫وحدث عنه‪:‬الحسن بن سفيان رفيقه‪ ،‬وعلي بن حمش اذ‪ ،‬وأب و عب د هللا بن األخ رم‪ ،‬نعم‬
‫سهوت‪ ،‬وإنما حدث الحسن بن سفيان عن ولده أبي بكر بن الحسن‪ ،‬عن تميم)(‪)2‬‬
‫ومنهم زياد بن أيــوب بن زيــاد الطوســى البغــدادىـ ( ‪ 166‬هـ ـ ‪ 252‬هـ)‪ ،‬وق د‬
‫وصف بأنه (أحد الحفاظ الثقاة وهو من طبق ة كب ار األخ ذين عن تب ع األتب اع روى ل ه‬
‫البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي)‬
‫ومنهم أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوســي الشــافعي‪ 250( ،‬ـ ‪344‬‬
‫هـ)والذي وصف بأنه (اإلمام الحافظ الفقيه العالمة القدوة ش يخ اإلس الم ش يخ الم ذهب‬
‫بخراسان) (‪)3‬‬
‫ومن أهم مص نفاته في الح ديث (المس تخرج على ص حيح مس لم]‪ ،‬ق ال الح اكم‪:‬‬
‫(رحلت إليه إلى طوس مرتين‪ ،‬وسألته متى تتفرغ للتصنيف مع ه ذه الفت اوى الكث يرة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬جزأت الليل أثالثا؛ فثلث أصنف‪ ،‬وثلث أنام‪ ،‬وثلث أقرأ القرآن)‬
‫وقال‪( :‬وكان إماما عابدا بارع األدب‪ ،‬ما رأيت في مشايخي أحسن ص الة من ه‪،‬‬
‫وكان يصوم الدهر‪ ،‬ويقوم ويتصدق بما فضل من قوته‪ ،‬وكان ي أمر ب المعروف وينهى‬
‫عن المنكر‪ ..‬سمعت أحمد بن منصور الحافظ يقول‪ :‬أبو النضر يفتي الناس من س بعين‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪ ،536 /2‬وتهذيب التهذيب ‪.60 /6‬‬


‫‪ )(2‬سير أعالم النبالء (‪)41 /10‬‬
‫‪ )(3‬انظر في ترجمته‪ :‬ترجمته في األنساب للسمعاني ‪ ،264 /8‬والمنتظم البن الجوزي ‪ ،379 /6‬وتذكرة الحفاظ‬
‫‪ /3‬ترجمة رقم ‪ ،861‬والعبر ‪ ،264 /2‬والنجوم الزاهرة البن تغري بردي ‪ ،313 /3‬وشذرات الذهب البن العم اد ‪/2‬‬
‫‪. 368‬‬

‫‪68‬‬
‫سنة أو نحوها‪ ،‬ما أخذ عليه في فتوى قط)‬
‫ثم قال الحاكم‪( :‬دخلت طوس وأبو أحمد الحافظ على قضائها‪ ،‬فقال لي‪ :‬ما رأيت‬
‫قط في بلد من بالد اإلسالم مثل أبي النضر )‬
‫ومنهم عبد هللا بن هاشم الطوسى الراذكــانى(ت وفي ‪ 159‬هـ) وه و من الطبق ة‬
‫العاشرة من كباراآلخ ذين عن تب ع األتب اع‪ ،‬وق د روى عن ه ابن عيين ة ويح يى القط ان‬
‫وابن مه دي ووكي ع وغ يرهم من مش اهیر علم الح دیث‪ ،‬كم ا روى عن ه مس لم وابن‬
‫خزيمة في صحيحه وصالح بن محمد األسدي وأحمد بن سلمة وابن صاعد وحاجب بن‬
‫اركين الفرغاني وغيرهم‪.‬‬
‫ومنهم على بن مسلم بن سعيد الطوسى (‪ 160‬ـ ‪ 253‬هـ) الملقب بالعاب د لك ثرة‬
‫عبادته‪ ،‬روى عن يوس ف بن يعق وب بن الماجش ون وهش يم وابن المب ارك وعب اد بن‬
‫العوام وعباد بن عباد وابن نمير ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعب د الص مد بن عب د‬
‫الوارث وأبي داود الطيالسي وغ يرهم‪ ،‬كم ا روى عن ه البخ اري وأب و داود والنس ائي‬
‫ويحيى بن معين وغيرهم‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ه ؤالء ازدهت ط وس ب الكثير من أعالم الح ديث من المدرس ة‬
‫الشيعية‪ ،‬ومن أشهرهم أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (‪385‬‬
‫‪460-‬هـ)‪ ،‬الملقب بشيخ الطائفة‪ ،‬وهو مؤلف كت ابين من الكتب األربع ة المعتم دة ل دى‬
‫الشيعة‪ ،‬كما أنه يعتبر من كبار المتكلمين والمحدثين والمفسرين والفقهاء الشيعة‪.‬‬
‫قدم الطوسي العراق سنة ‪ 408‬هـ في سن الثالثة والعشرين وتتلمذ على يد الشيخ‬
‫المفيد (المتوفي ‪ 413‬هـ) م ّدة خمس س نوات وعلى ي د ابن الغض ائري (المت وفي ‪411‬‬
‫هـ) ثالث سنوات وعند ابن الحاشر البزاز‪ ،‬وابن أبي جيد‪ ،‬وابن الص لت وال ذي ت وفي‬
‫بعد سنة ‪ 408‬هـ‪ .‬وشارك النجاشي (‪ 372‬ــ ‪ 450‬هـ) في بعض مش ايخه‪ .‬أدرك الس يد‬
‫المرتضي (المتوفي ‪ 436‬هـ)‪ ،‬وقد أسند إليه الخليفة العباسي القائم بأمرهللا كرس ي علم‬
‫كالم بغداد‪ ،‬وبذلك اجتمع حوله العلماء وتوجه إليه الطالب وكان من بين تالمذته ‪300‬‬
‫من العلماء وظ ّل محتفظا بمنصبه إلى أن سقطت بغداد بيد األتراك السالجقة‪.‬‬
‫وقد اتفق الجميع على الثناء عليه‪ ،‬منهم الشيخ آق ا ب زرك الطه راني‪ ،‬ال ذي ق ال‬
‫عن ه‪( :‬كتب الش يخ الطوس ّي في كاف ة العل وم‪ ،‬من‪ :‬الفق ه وأص وله‪ ،‬والكالم والتفس ير‬
‫والحديث والرجال‪ ،‬واألدعية والعبادات‪ ..‬وغيرها‪ .‬وكانت ـ ولم تزل ـ مؤلّفات ه في ك ّل‬
‫علم من العل وم مآخ َذ عل وم ال دين‪ ،‬بأنواره ا يستض يئون‪ ،‬ومنه ا يقتبس ون‪ ،‬وعليه ا‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يعتمدون‪ ..‬ولم يدع الشيخ الطوس ّي بابا إال طرقه‪ ،‬وال طريق ا إال س لكها‪ ،‬وق د ت رك لن ا‬
‫قرون وأجيال)‬
‫ٍ‬ ‫نتاجا ً طيّبا ً متنوّعا ً ّ‬
‫غذى به عقو َل فطاحل ع ّدة‬
‫وق ال العالم ة الحلي‪( :‬ش يخ اإلمامية ووجههم‪ ،‬ورئيس الطائف ة‪ ،‬جليل الق در‪،‬‬
‫عظیم المتزلة‪ ،‬ثقة عين صدوق‪ ،‬عارف باألخبار والرجال‪ ،‬والفقه واألص ول‪ ،‬والكالم‬
‫واألدب‪ ،‬وجميع الفضائل تنسب إليه‪ ،‬صف في كل فنون اإلسالم)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬العالمة الحلي‪ ،‬خالصة األقوال‪ ،‬ص ‪..249‬‬

‫‪69‬‬
‫وق ال الس يد بح ر العل وم في الفوائ د الرجالي ة‪( :‬أبو جعفر ش يخ الطائفة ورافع‬
‫أعالم الشريعة الحقة‪ ،‬إمام الفرقة بعد األئمة المعصومين‪ ،‬وعم اد الش يعة اإلمامي ة في‬
‫كل ما يتعلق بالمذهب والدين‪ ،‬ومحقق األصول والفروع)‬
‫وه و من المك ثرين من الت أليف‪ ،‬وتعت بر كتب ه من أهم المص ادر في المدرس ة‬
‫الشيعية‪ ،‬وق د ق ال بعض هم عنه ا‪( :‬ك ان الش يخ مخلص ا ً في تآليف ه‪ ،‬لم يطلب ش هرةً أو‬
‫رئاسة‪ ،‬ولم يكن منه مراء أو مباه اة‪ ،‬ف ُكتب ل ه التوفي ق حتّى ج اءت كتب ه متميّ زةً عن‬
‫السابقين‪ ،‬إذ أصبحت مص دراً لمعظم م ؤلّفي الق رون الوس طى‪ ،‬تُس تقى منه ا م ا ّدتُهم؛‬
‫ألنّها حوت خالصة الكتب األصول بأس لوب جدي د وب راهين واف رة‪ .‬إض افة إلى ع دد‬
‫كبير من كتبه ورسائله ومسائله في القرآن والكالم والعبادات والفقه والدعاء والرواية)‬
‫وأحب أن أنبه هنا إلى أن الكثير من المدرسة السنية يعتبرونه من ال ذين تحول وا‬
‫من المذهب الشافعي إلى الشيعة‪ ،‬مثلما نص على ذلك تقي ال دين الس بكي في (طبق ات‬
‫الشافعية الكبرى)‪ ،‬فقال‪( :‬محمد بن الحسن بن علي أب و جعف ر الطوس ي‪ ،‬فقي ه الش يعة‬
‫ومصنفهم كان ينتمي إلى مذهب الشافعي‪ ،‬ل ه تفس ير الق رآن وأملى أح اديث وحكاي ات‬
‫تشتمل على مجلدين‪ ،‬ق ِدم بغداد وتفقه على مذهب الشافعي‪ ،‬وقرأ األصول والكالم على‬
‫أبي المفيد‪ ،‬فقيه االمامية‪ ،‬وح ّدث عن هالل الحف ار‪ ،‬روى عن ه ابن ه أب و علي الحس ن‪،‬‬
‫وقد أحرقت كتبه عدة مرات بمحضر من الناس)(‪)1‬‬
‫وقد رأيت بعض الشيعة ي رد على ذل ك‪ ،‬وينفي كون ه ك ان ش افعيا‪ ،‬وإنم ا (تفق ه‬
‫على م ذهب الش افعي‪ ،‬وبقي ة الم ذاهب األخ رى كالحنفي ة‪ ،‬والمالكي ة‪ ،‬والحنابل ة‪،‬‬
‫والظاهرية وغيرها‪ ،‬وتضلّع بها وكتب عنها الكثير‪ ،‬لكن ذلك ال يعني انه قد انتمى إلى‬
‫أحد تلك المذاهب‪ ،‬علما ً بأن التاريخ لم يذكر بأن الطوسي كان شافعياً‪ ،‬أو انه قد انتح ل‬
‫إحدى المذاهب األخرى)‬
‫والمسألة بسيطة جدا‪ ،‬وهي ال تحتاج أي انفعال من أي طرف من األطراف‪ ،‬بل‬
‫إنه ا تثبت ذل ك التواص ل والحري ة ال تي ك انت بين الم دارس اإلس المية‪ ،‬بحيث يت اح‬
‫للعلماء التنقل بينها كيف شاءوا‪.‬‬
‫وهي ت دل ك ذلك على أن م ا يس مى بـ (التم دد الش يعي)‪ ،‬ال عالق ة ل ه بالنظ ام‬
‫الح الي للجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة‪ ،‬وال بالدول ة الص فوية‪ ،‬وإنم ا هي اختي ارات‬
‫شخصية مبنية على قناعات علمية‪ ،‬وال عالقة لها بالسياسة‪ ،‬وال بأي دولة من الدول‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ المحدثون بشيراز‪:‬‬
‫تعتبر مدينة شيراز(‪ )2‬اإليرانية من أهم مراك ز الحض ارة في الع الم اإلس المي‪،‬‬
‫ولقرون طويلة‪ ،‬وفي جوانبها المختلفة‪ ،‬وهي التمث ل التن وع الحض اري الجمي ل ال دال‬

‫‪ )(1‬طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (‪)126 /4‬‬


‫‪ )(2‬تقع مدينة شيراز عاصمة محافظة ف ارس من حيث الموق ع الجغ رافي‪ ،‬في الجن وب الغ ربي من إي ران‪ ،‬وهي‬
‫بمساحة ‪ 340‬كم‪ ،‬ثالث مدن إيران من حيث المساحة حيث تأتي مرتبتها بعد طه ران ومش هد‪ ،‬وتنتهي من ناحي ة الش مال‬
‫بأصفهان‪ ،‬ومن الجانب الشرقي محاط ة ب يزد وكرم ان‪ ،‬ومن الجن وب تج اور محافظ ة هرمزك ان‪ ،‬كم ا هي منتهي ة من‬
‫الجهة الغربية ببوشهر‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫على سماحة اإلسالم‪.‬‬
‫وقد ازدهر فيها علم الحديث رواية ودراية كما ازدهر في سائر المدن اإليرانية‪،‬‬
‫ومن كبار المحدثين الذين أنجبتهم أبو العبــاس أحمــد بن منصــور بن ثــابت الشــيرازي‬
‫(توفي ‪ 382‬هـ)‪ ،‬وك ان ذا رحل ة واس عة في طلب الح ديث‪ ،‬ق ال الح اكم النيس ابوري‪:‬‬
‫(كان أحد الرحالة في طلب الحديث‪ ،‬المكثرين من السماع والجمع‪ ،‬ورد نيس ابور س نة‬
‫ثمان وثالثين وثالثمائة وأقام بها سنين ثم خرج الى هراة وانحدر منها الى مرو الروذ‪،‬‬
‫ودخل مرو وجمع من الحديث ما لم يجمعه غيره‪ ،‬ودخل الع راق والش ام‪ ،‬ثم انص رف‬
‫الى شيراز‪ ،‬وصار في القبول عن دهم بحيث يض رب ب ه المث ل)‪ ،‬وروي أن ه كتب عن‬
‫الطبراني ثالثمائة ألف حديث(‪.)1‬‬
‫ومنهم الحسن بن عثمان أبو حسان الزيادي الشيرازي‪( ،‬توفي ‪272‬هـ)‪ ،‬وه و‬
‫من كبار المحدثين‪ ،‬وقد وصف بأنه (كان فاضالَ بارعا َ ثقة‪ ،‬سمع منه محمد بن إدريس‬
‫الشافعي‪ ،‬وإسماعيل بن علية‪ ،‬ووكيع بن الجراح)‬
‫ومنهم أحمد بن عبد الرحمن الحافظ الشيرازي (توفي ‪ 405‬هـ)‪ ،‬وهو من كبار‬
‫حفاظ الحديث‪ ،‬قال عن ه ال ذهبي‪( :‬اإلم ام الحاف ظ الفقي ه أب و علي الحس ن بن أحم د بن‬
‫محمد بن الليث الكشي ثم الشيرازي‪ ،‬من كبار األئم ة ببالد ف ارس‪ :‬ارتح ل وس مع من‬
‫إسماعيل الصفار وأبي جعفر بن البختري وعبد هللا بن درستويه وجماعة ببغ داد‪ ،‬ومن‬
‫أبي العباس األصم وأبي عبد هللا محمد بن يعق وب بن األخ رم بنيس ابور‪ ،‬ومن الحس ن‬
‫بن عبد الرحمن الرامهرمزي الحافظ بف ارس‪ ..‬ذك ره أب و عب د هللا الح اكم ف أثنى علي ه‬
‫وقال‪ :‬هو متقدم في معرفة القراءات حافظ للحديث رحال‪ ،‬قدم علينا أيام األصم ثم ق دم‬
‫علينا سنة ‪ 353‬هـ وسمعت من ه‪ .‬وذك ره أب و عم رو بن الص الح في طبق ات الش افعية‬
‫مختصرًا وقال‪ :‬هو والد الليث وأبي بكر‪ .‬وذكره أبو عب د هللا الص فار في طبق ات أه ل‬
‫شيراز وأثنى عليه كثيرًا ثم قال‪ :‬ومن أصحابه زيد بن محمد بن خل ف الحاف ظ ومحم د‬
‫بن موسى الحافظ وأحمد بن عبد الرحمن المقرئ الحافظ)(‪)2‬‬
‫ثالثا ـ عمل اإليرانيين بسنة رسول هللا ‪:‬‬
‫اتفق اإليرانيون س نتهم وش يعتهم‪ ،‬ومن ذ فج ر اإلس الم إلى الي وم على أن الس نة‬
‫النبوية المطهرة مصدر من مصادر التشريع‪ ،‬بل مصدر من المص ادر األساس ية ال تي‬
‫يستلهم المؤمن منها قيمه وعقائده وشعائره وشرائعه وحياته ومواقفه‪ ،‬وأن ه ال يمكن أن‬
‫يستغني عنها أبدا‪.‬‬
‫ويتجلى ذلك واقعيا من خالل الكثير من الممارسات التي ال نجد له ا دليال إال في‬
‫السنة التي سطرها علماء الحديث الذين سبق ذكر بعضهم في المبحث الس ابق‪ ،‬وال ذين‬
‫يكادون يتفقون في أكثر أصول السنن‪ ،‬وإن كانوا يختلفون في بعض فروعها البس يطة‪،‬‬
‫بناء على المواقف من الرواة‪ ،‬أو من شروط صحة الحديث‪.‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم‪ ،‬شمس الدين الذهبي‪:‬ج‪ 8‬ص‪.532‬‬


‫‪ )(2‬تذكرة الحفاظ للذهبي (‪)161 /3‬‬

‫‪71‬‬
‫فالمدرسة السنية مثال تعتبر من أس باب ض عف الح ديث ع دم اتص ال الس ند‪ ،‬أو‬
‫وجود علة قادحة في راو من رواته‪ ..‬وتتفق معها المدرسة الشيعية في الكثير من ذلك‪،‬‬
‫وتضيف إليها عدم معارضة الحديث للقرآن الكريم‪ ،‬أو لما ثبت في السنة النبوية األكثر‬
‫قطعية‪ ،‬أو مخالفته للعقل‪ ،‬أو يكون إِخباراً عن أمر هام تتوافر الدواعي لنقله‪ ،‬ومع ذلك‬
‫لم ينقله إال واح د‪ ،‬أو يك ون ال راوي مناص راً للح اكم الج ائر‪ ،‬م ع العلم أن بعض ه ذه‬
‫الفروع فيه خالف بين المدرسة السنية نفسها‪.‬‬
‫وقد اتف ق أك ثرهم ك ذلك على أن ه يج وز العم ل بالح ديث الض عيف في فض ائل‬
‫األعمال(‪ ،)1‬والتي ال تتعارض مع أص ول الش ريعة‪ ،‬وقواع دها العام ة‪ ،‬وق دموا ذل ك‬
‫على الرأي‪.‬‬
‫ومن هذا الباب نجد الكثير من السنن عن د الف ريقين لم تثبت بأس انيد قوي ة‪ ،‬وم ع‬
‫ذلك يعملون بها بناء على انسجامها مع الشريعة‪ ،‬وكونها مزي د تأكي د وبي ان لمعانيه ا‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أن ضعف الحديث ال يعني طرحه كليا‪.‬‬
‫وله ذا نج د الوع اظ من المدرس تين يعتم دون الكث ير من األح اديث الض عيفة‪،‬‬
‫ويقبلون العم ل به ا‪ ،‬ومن أش هر أمثلتهم في المدرس ة الس نية من اإليران يين أب و حام د‬
‫الغ زالي‪ ..‬ومن أش هر أمثلتهم في المدرس ة الش يعية الفيض الكاش اني‪ ،‬وعب اس القمي‬
‫وغيرهما من الذين اهتموا بجمع األدعية وفضائل األعمال ونحوها‪.‬‬
‫وبناء على هذا يمكن أن نجد قواسم مش تركة كث يرة بين كال مدرس تي األم ة في‬
‫العمل بالسنة المطهرة‪ ،‬وكون المؤمن المحب لرسول هللا ‪ ،‬يفعل ذلك بداهة‪ ،‬ألن ه ال‬
‫يمكن أن يحب رسول هللا ‪ ،‬ثم يرغب عن اتباعه‪.‬‬
‫وأحب أن أرد هن ا على تل ك المق والت ال تي ي ذكرها المغرض ون‪ ،‬وال تي‬
‫يتص ورون أن الس نة حك ر على من يس مون أنفس هم أه ل الس نة‪ ،‬فه ذا موق ف غ ير‬
‫صحيح‪ ،‬وغير أخالقي‪ ،‬ألنه يستعمل العصبية التي نهينا عنها في الحكم على األشياء‪.‬‬
‫والواقع يدل على أن للشيعة اهتماما كب يرا بالس نن‪ ،‬ال يق ل عن اهتم ام إخ وانهم‬
‫من المدرسة السنية‪ ،‬بل إن تشيعهم ـ كما يرون ـ ال يكمل من دون االلتزام بالسنن‪ ،‬فهم‬
‫يرون أئمتهم ممثلين للسنة‪ ،‬ناطقين بها‪ ،‬داعين إليه ا‪ ،‬ول ذلك ف إن ك ل م ا يص در منهم‬
‫سنة نبوية صرحوا بذلك أو لم يصرحوا‪.‬‬
‫وهم يفسرون بذلك قول ه ‪( :‬عليكم بس نتي وس نة الخلف اء الراش دين المه ديين‬
‫عضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات األمور‪ ،‬فإن كل بدعة ضاللة)(‪)2‬‬

‫‪ )( 1‬ومنهم من المدرسة الشيعية الشهيد العاملي األول والعاملي الثاني والشيخ البهائي واألنصاري‪ ،‬وقبلهم ابن فه د‬
‫الحلّي‪ ،‬ومنهم من لم يجوز العمل بالخبر الضعيف مطلقًا‪ ،‬ومنهم صاحب المدارك السيد محم د الع املي‪ ،‬حيث ق ال‪( :‬وم ا‬
‫ألن اإلستحباب حكم شرعي فيتوقف على الدليل‬ ‫أن أدلّة السنن يتسامح فيها بما ال يتسامح في غيرها فمنظور فيه‪ّ ،‬‬‫قيل من ّ‬
‫الشرعي كسائر األحكام)‬
‫وهك ذا وق ع الخالف بين أه ل الس نّة في المس ألة‪ ،‬فمنهم من ج وز العم ل ب الخبر الض عيف في خص وص فض ائل‬
‫األعم ال‪ ،‬وال ترغيب وال ترهيب‪ ،‬ومنهم س فيان الث وري‪ ،‬و الخطيب البغ دادي‪ ،‬و ابن ص الح‪ ..‬ومنهم من رفض العم ل‬
‫بالخبر الضعيف مطلقًا‪ ،‬مثل ابن حزم األندلسي الظاهري‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود [‪ ]611 /2‬حديث [‪ ،]4607‬والترمذي [‪ ]44 /5‬حديث [‪]2676‬‬

‫‪72‬‬
‫وليس في ذلك أي غلو‪ ،‬ففي المدرس ة الس نية ك ذلك نج د من يعت بر مالك ا ممثال‬
‫للسنة بأقوال ه وأفعال ه‪ ،‬ونج د من الص وفية من يعت برون مش ايخهم ممثلين للس نة‪ ،‬ب ل‬
‫لرسول هللا ‪ ‬نفسه‪ ..‬بل نجد من السلفية أنفس هم من يعت بر ابن تيمي ة أو اإلم ام أحم د‬
‫ممثال للسنة‪ ،‬ومعبرا عنها‪ ،‬وكل ما يصدر عنه سنة‪ ،‬حيث نجد في مصادرهم المعت برة‬
‫أن اإلمام أحمد به يعرف المسلم من الزنديق‪ ،‬وأن نظرة من أحمد خير من عبادة س نة‪،‬‬
‫وأن هللا ع ز وج ل ي زوره في ق بره ك ل ع ام‪ ،‬وأن هللا يب اهي ب ه المالئك ة‪ ،‬وأن أح د‬
‫الحنابلة رأى هللا في المنام فقال له هللا‪ :‬من خ الف أحم د بن حنب ل ع ذب‪ ،‬وأن هللا أم ر‬
‫أهل السموات وجميع الشهداء أن يحضروا جنازة أحمد‪ ،‬وأن أهل السموات من السماء‬
‫السابعة إلى السماء الدنيا اشتغلوا بعقد األلوية الستقبال أحمد بن حنبل(‪.)1‬‬
‫وله ذا نج دهم عن د ذك رهم لألق وال في أي مس ألة ي ذكرون رس ول هللا ‪ ‬م ع‬
‫السلف‪ ،‬وكأنه واحد من القائلين‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك قول البربه اري‪( :‬التكب ير على‬
‫الجنائز أربع‪ ،‬وهو قول مالك بن أنس وس فيان الث وري والحس ن بن ص الح وأحم د بن‬
‫حنبل والفقهاء وهكذا قال رسول هللا ‪)2()!‬‬
‫وإن ك ان ه ؤالء مع ذورون في م واقفهم بس بب اعتق ادهم لرس وخ أئمتهم في‬
‫المعرفة بالحديث وكيفية اس تنباط األحك ام من ه‪ ،‬فالش يعة أيض ا مع ذورون‪ ،‬فهم أيض ا‬
‫يعتبرون أئمتهم تالميذ إلمامهم علي الذي كان مص احبا دائم ا لرس ول هللا ‪ ،،‬ابت داء‬
‫من صغره الباكر إلى وفاته‪ ،‬وأنه أخذ عنه كل شيء يرتبط بأصول الدين وفروع ه‪ ،‬ثم‬
‫نقله ألوالده وأحفاده‪.‬‬
‫ولهذا نجد الشيعة كثيرا ما يقرنون بين رس ول هللا ‪ ‬واإلم ام علي‪ ،‬ال باعتب ار‬
‫أن اإلمام علي صنو لرسول هللا ‪ ،‬فهم ال يقولون بذلك‪ ،‬وإنما مرادهم منه أنه التلمي ذ‬
‫األكبر لرسول هللا ‪ ،‬وأنه لذلك يمثل السنة أحسن تمثيل‪ ،‬وذل ك ال يختل ف كث يرا عن‬
‫موقف السلفية من ابن تيمية أو اإلمام أحمد حين يعتبرونهما ممثال للسنة والشريعة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ذكره الش هيد مطه ري في كتاب ه عن اإلنس ان الكام ل‪،‬‬
‫فقد راح ينقل عن اإلمام علي الكثير من السنن المغيبة‪ ،‬والتي تمثل ج وهر ال دين أك ثر‬
‫من تلك السنن الفرعية البسيطة التي ترتبط ببعض هيئات األعمال‪.‬‬
‫ومن ذلك تلك السنة التي سماها [األلم العرفان ّي]‪ ،‬واستنبطها مما ورد في ح وار‬
‫اإلم ام عل ّي م ع كمي ل بن زي اد‪ ،‬وقول ه ل ه‪( :‬اللّه ّم بلى! ال تخل و األرض من ق ٍ‬
‫ائم هلل‬
‫بحجَّة‪ ،‬إ ّم ا ظ اهراً مش هوراً‪ ،‬وإ ّم ا خائف ا ً مغم وراً‪ ...‬أولئ ك وهللا األقلّ ون ع دداً‪،‬‬
‫واألعظم ون عن د هللا ق دراً‪ ،‬يحف ظ هللا بهم حجج ه وبيّنات ه‪ ،‬حتّى يودعوه ا نظ راءهم‪،‬‬
‫ويزرعوه ا في قل وب أش باههم‪ .‬هجم بهم العلم على حقيق ة البص يرة‪ ،‬وباش روا روح‬
‫اليقين‪ ،‬واس تالنوا م ا اس توعره الم ترفون‪ ،‬وأنس وا بم ا اس توحش من ه الج اهلون‪،‬‬
‫وصحبوا ال دنيا بأب دا ٍن أرواحه ا معلّق ة بالمح ّل األعلى‪ ،‬أولئ ك خلف اء هللا في أرض ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجا ً (‪)184‬‬


‫‪ )(2‬شرح السنة‪ ،‬ص‪.86‬‬

‫‪73‬‬
‫رؤيتهم!)(‪)1‬‬ ‫والدعاة إلى دينه‪ .‬آ ٍه آ ٍه شوقا ً إلى‬
‫ثم علق على ذلك بقوله‪( :‬فهؤالء كما يصفهم األمير يتألّمون بسبب البع د عن هللا‬
‫والشوق إليه‪ ،‬فما لم يصل اإلنسان إلى هللا فلن تفارقه حالة االضطراب‪ ،‬ولذا فإن الذ ّكر‬
‫َط َمئِ ُّن قُلُ وبُهُ ْم بِ ِذ ْك ِر هَّللا ِ أَاَل بِ ِذ ْك ِر هَّللا ِ ت ْ‬
‫َط َمئِ ُّن ْالقُلُ وبُ }‬ ‫يك ون ل ه دوا ًء {الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ْ‬
‫[الرعد‪)]28 :‬‬
‫ولذلك فإن السنة الحقيقية في الصالة ـ كما يصف مطهري ـ هي أن يحص ل لن ا‬
‫مثلما كان يحصل لإلمام علي الذي كان يمثل السنة أحسن تمثيل‪ ،‬فقد ك ان ـ كم ا يع بر‬
‫مطهري ـ (يغيب عن ك ّل ما حوله إذا دخل في الصالة‪ ،‬من دمجا ً بكلِّه في معش وقه حتّى‬
‫إن هك ذا ألم ا ً‬ ‫أنّهم إذا أرادوا اقتالع السهم من جسمه‪ ،‬كانوا يستخرجونه حال الص الة‪ّ .‬‬
‫هو خير من ملك الدنيا)‬
‫وااللتفات لتحقيق هذه السنة في الواقع وتطبيقه ا ه و م ا يقي المس لمين من ذل ك‬
‫الصراع الذي تحدثه تلك الخالفات الهامشية ح ول ف روع بس يطة ك القبض والس دل أو‬
‫السجود على التربة وغيرها‪ ..‬والتي نجد لكل مذهب فيها أدلت ه‪ ،‬وك ان يمكن تجاوزه ا‬
‫واالهتم ام بالس نة الحقيقي ة ال تي هي االس تغراق في المقص ود من الص الة ال ذي ه و‬
‫التواصل مع هللا‪.‬‬
‫وهو نفس ما يشير إليه الخميني كثيرا‪ ،‬باعتباره الهدف الحقيقي من الصالة‪ ،‬وقد‬
‫قال عن الصالة وآدابها وأسرارها وسننها الخفية‪ ...( :‬فإذا تحقّق للسائل مقام االس ميّة‪،‬‬
‫رأى نفسه مستغرقا ً في مقام األلوهيّة‪ ،‬ورأى نفسه اسم هللا‪ ،‬وعالمة هللا‪ ،‬وفاني ا ً في هللا‪،‬‬
‫ورأى سائر الموجودات على هذه الحالة‪ ..‬وإذا أصبح الول ّي كامالً أصبح متحقّقا ً باالسم‬
‫المطلق ووصل إلى التحقّق بالعبوديّة المطلقة‪ ،‬فصار عبداً حقيقيّا ً هلل) (‪)2‬‬
‫وعندما نق ارن بين الس نن ال تي اهتم به ا اإلم ام الخمي ني في كتاب ه عن الص الة‬
‫وأسرارها مع تلك السنن التي اهتم بها األلباني واالتجاه السلفي نجد البون بينهم ا كب ير‬
‫جدا‪.‬‬
‫فالسنن التي ذكرها الخميني تنب ع من مقاص د ال دين من الص الة‪ ،‬وتحويله ا إلى‬
‫مع راج للم ؤمن يع رج به ا إلى هللا‪ ،‬ألن نفس ه ال يمكن أن ته ذب من دون تل ك الس نن‬
‫المغيبة‪ ،‬بخالف السنن التي ذكره ا األلب اني‪ ،‬وتص ور أن من خالفه ا مبت دع‪ ،‬ألنه ا لم‬
‫تفعل سوى أن زادت الفرقة بين األمة‪.‬‬
‫وقد ذكر األلباني بصراحة دوافعه من ت أليف كتاب ه [ص فة ص الة الن بي ‪ ‬من‬
‫التكبير إلى التسليم كأنك تراها]‪ ،‬والذي أثار فتنة كبيرة بين المسلمين‪ ،‬فقال‪( :‬ولما كنت‬
‫لم أق ف على كت اب ج امع في ه ذا الموض وع فق د رأيت من ال واجب علي أن أض ع‬
‫ألخواني المسلمين ممن همهم االقتداء في عب ادتهم به دي ن بيهم ‪ ‬كتاب ا مس توعبا م ا‬
‫أمكن لجميع ما يتعلق بصفة صالة النبي ‪ ‬من التكب ير إلى التس ليم بحيث يس هل على‬

‫‪ )(1‬نهج البالغة‪ ،‬خطبة ‪..214‬‬


‫الخميني‪ ،‬ص ‪..110‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )(2‬آداب الصالة‪ ،‬اإلمام‬

‫‪74‬‬
‫من وقف عليه من المحبين للنبي ‪ ‬حبا صادقا القيام بتحقيق أمره في الحديث‪( :‬صلوا‬
‫كما رأيتموني أصلي)‪ ،‬ولهذا فإني شمرت عن س اعد الج د وتتبعت األح اديث المتعلق ة‬
‫بما إليه قصدت من مختلف كتب الحديث فكان من ذلك هذا الكتاب الذي بين يديك)(‪)1‬‬
‫وبع د عش ر س نوات من الفتن ة بس بب ذل ك الكت اب‪ ،‬لم ي تراجع عم ا في ه‪ ،‬ولم‬
‫يتواضع‪ ،‬ليعتبر ما رآه من سنن مجرد اجته اد‪ ،‬وإنم ا راح يق ول في طبع ة جدي دة من‬
‫الكتاب‪( :‬ذلك ما كنت كتبته منذ عشر سنوات في مقدمة ه ذا الكت اب وق د ظه ر لن ا في‬
‫هذه البرهة أن له تأثير طيب في صفوف الشباب المؤمن إلرشادهم إلى وجوب الع ودة‬
‫في دينهم وعبادتهم إلى المنب ع الص افي من اإلس الم‪ :‬الكت اب والس نة فق د ازداد فيهم ‪-‬‬
‫والحمد هلل ‪ -‬العاملون بالسنة والمتعبدون بها حتى صاروا معروفين بذلك) (‪)2‬‬
‫وهذه الطائفية بعينها‪ ..‬فالصالة رمز لوحدة المسلمين‪ ،‬لكنها تح ولت عن دهم إلى‬
‫أداة للتفرق ة والطائفي ة ال بينهم وبين المدرس ة الش يعية فق ط‪ ،‬ب ل بينهم وبين س ائر‬
‫المذاهب المنتمية للمدرسة السنية‪.‬‬
‫وبناء على هذا نرى تركيز المشروع الحض اري الجدي د للجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليرانية على إحياء تلك الس نن الخفي ة المرتبط ة بالخش وع والتق وى وتحقي ق مقاص د‬
‫العبادات‪ ،‬دون المبالغة في الهيئات التي وقع فيها الخالف‪.‬‬
‫ومن السنن التي اهتم بها المشروع الحضاري الجديد ـ أيضا ـ تلك السنن المغيبة‬
‫المرتبطة بالحياة بجميع جوانبها‪ ،‬ولهذا نرى اإلمام الخمين ّي في جمي ع أقوال ه ورس ائله‬
‫وخطابات ه وكتب ه‪ ،‬يتع رّض لس يرة الن ب ّي األعظم ‪ ،‬ويش ير إلى مس يرته الدعوي ة‪،‬‬
‫وكيفية تطبيقها في الحياة‪ ،‬إلعادة إحياء اإلسالم من جديد‪.‬‬
‫(إن أوّل آية ‪ -‬حسبما ينقل لنا الت اريخ والرواي ات ‪-‬‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله‪ّ :‬‬
‫نزلت على النب ّي ‪ ‬هي آية {ا ْق َر ْأ بِاس ِْم َربِّكَ } [العلق‪ ،]1 :‬حيث تالها جبرائي ل علي ه‬
‫السالم على الرسول األكرم ‪ ،‬ودع ا فيه ا إلى الق راءة والتعلّم‪ ..‬وج اء في نفس ه ذه‬
‫طغَى (‪ )6‬أَ ْن َرآهُ ا ْستَ ْغنَى } [العل ق‪ ،]7 ،6 :‬ه ذه الس ورة‬ ‫السورة‪َ { :‬كاَّل إِ َّن اإْل ِ ْن َسانَ لَيَ ْ‬
‫هي أوّل ما نزل من الوحي على النب ّي ‪ ،‬وفي أوّل ما نزل منه ا اآليت ان اللت ان نتعلّم‬
‫أن وجود الطغيان والطاغوت من األش ياء الّ تي تحت ّل قائم ة األم ور‪ ،‬فمن أج ل‬ ‫منهما ّ‬
‫سحق الطاغوت يجب تعليم الكتاب والحكمة وتعلّم الكتاب والحكمة والتزكية‪ .‬فاإلنس ان‬
‫ما دام إنسانا ً مجرّد أن يستغني فإنّه يطغى‪ ،‬فلو استغنى ماليّا ً يطغى به ذا المق دار‪ ،‬ول و‬
‫استغنى علميّا ً يطغى بهذا المقدار‪ ،‬ولو حصل على مقام يطغى بهذا المقدار) (‪)3‬‬
‫ثم يبين خطور الطغيان‪ ،‬وكونه البدع ة األعظم ال تي تحطم ك ل الس نن النبوي ة‪،‬‬
‫والذي قد يقع في ه نفس الم دعين أنهم على الس نة؛ فيق ول‪( :‬ففرع ون يُس ّميه هللا تب ارك‬
‫وتعالى طاغية ألنّه حصل على المقام‪ ،‬ولم يكن في حصوله غاي ة إلهيّ ة‪ ،‬فأوص له ه ذا‬

‫‪ )(1‬صفة صالة النبي ‪ ‬األلباني (ص‪.)40 :‬‬


‫‪ )(2‬صفة صالة النبي ‪ ‬األلباني (ص‪.)40 :‬‬
‫‪ )(3‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،14‬ص ‪ 391‬ـ ‪.389‬‬

‫‪75‬‬
‫المقام إلى الطغيان‪ .‬فاألشخاص الّذين يحص لون على مت اع ال دنيا ب دون تزكي ة النفس‪،‬‬
‫وإن وبال هذا المال وهذا المن ال وه ذا المق ام‬ ‫فإن طغيانهم سوف يزداد‪ّ .‬‬ ‫فمهما حصلوا ّ‬
‫ّ‬
‫وهذا الجاه وهذا المنصب‪ ،‬من األشياء التي تُعرّض اإلنسان للمت اعب والص عوبات في‬
‫إن هدف البعث ة ه و أن تخلّص نا من ه ذا الطغي ان‬ ‫الحياة الدنيا‪ ،‬وهي في اآلخرة أكثر‪ّ .‬‬
‫بأن نز ّكي أنفسنا ونصفّيها ونخلّصها من هذه الظلمات‪ .‬فلو حصل هذا التوفيق للجمي ع‪،‬‬
‫ق‪ .‬ك ّل الخالف ات الموج ودة‬ ‫ستضحى الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن‪ ،‬وتجلّيا ً لنور الح ّ‬
‫بين البشر‪ ،‬ك ّل الخالفات الموجودة بين السالطين‪ ،‬ك ّل الخالفات الموجودة بين األقوياء‬
‫أن اإلنس ان ي رى لنفس ه مقام ا ً‬ ‫هي بسبب الطغيان الموجود في النفوس‪ ،‬ومر ّد هذا إلى ّ‬
‫سبب تجاوزه‪ .‬وعندما يحص ل‬ ‫َ‬ ‫ومنصباً‪ ،‬لذلك يطغى‪ ،‬وحيث إنّه يطغى‪ ،‬يكون الطغيان‬
‫التجاوز يحصل الخالف‪ ،‬وال ف رق في ذل ك بين مرتب ة طغي ان دني ا أو مرتب ة طغي ان‬
‫علي ا؛ ففي المرتب ة الص غيرة ك أن يحص ل الخالف في قري ة ّم ا بين أفراده ا بس بب‬
‫الطغيان‪ ،‬وفي مرتبة أعلى إذا حصل الخالف سيكون الطغيان أكثر)‬
‫إن هذه‬‫ثم يحدث تالميذه ومريديه من األمة جميعا داعيا لهم إلى التواضع قائال‪ّ ( :‬‬
‫النزع ة التجاوزي ة موج ودة عن د الجمي ع ال في فرع ون وح ده‪ ،‬فل و اعتلى إنس ان م ا‬
‫وارتفع فوق رؤوس البشر فس وف يق ول‪ :‬أن ا ربّكم األعلى‪ .‬غاي ة البعث ة هي الس يطرة‬
‫على نفوس العاص ين ونف وس الطغ اة والمتم ّردين وال واغلين في العص يان والطغي ان‬
‫والتمرّد‪ ،‬ودفع هذه النفوس إلى التزكية)‬
‫ثم يبين أن هذه هي السنة الحقيقية‪ ،‬بل هي هدف الرسالة النبوية بأكملها‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫(إن سبب ك ّل الخالفات الموجودة بين بني اإلنسان عدم تزكي ة النف وس‪ ،‬وه دف البعث ة‬ ‫ّ‬
‫هو دعوتهم إلى التزكية‪ ،‬فبواسطتها يتعلّمون الحكمة ويتعلّمون القرآن والكت اب أيض اً‪.‬‬
‫وإذا زكت النفوس سينتفي الطغيان)(‪)1‬‬
‫وهكذا نرى اإلمام الخميني في كل خطاباته يدعو إلى فهم الس نة فهم ا ص حيحا‪،‬‬
‫بعيدا عن تلك الجزئيات التي ركز عليها الطائفيون ليفرقوا صف األمة‪ ،‬ويخالفوا ب ذلك‬
‫السنن الداعية إلى وحدتها وتآلف قلوبها‪.‬‬
‫وهو يدعو كل حين إلى التعالي على ك ل الخالف ات الفرعي ة‪ ،‬ومن األمثل ة على‬
‫ذلك قوله في بعض خطبه‪( :‬يريد نب ّي اإلسالم أن يوحّد الكلمة في جميع أصقاع الع الَم‪.‬‬
‫يريد أن تنضوي جمي ع مس الك ال دنيا تحت كلم ة التوحي د‪ .‬يري د أن تع ّم كلم ة التوحي د‬
‫جميع أرجاء العالَم المأهول)(‪)2‬‬
‫ومن الس نن المغيب ة ال تي يح رص الخمي ني على ال دعوة إليه ا مواجه ة الظلم‬
‫والنضال من أجل ذلك‪ ،‬ال كما يفعل أولئ ك ال ذين ي دعون الس نة في نفس ال وقت ال ذي‬
‫(إن بعثة الرس ول ‪ ‬ك انت‬ ‫يؤيدون فيه أئمة الظلم والجور‪ ،‬ومن خطبه في ذلك قوله‪ّ :‬‬
‫من أجل رفع الظلم عن الناس‪ ،‬من أجل أن يستطيع الناس أن يواجهوا الق وى الك برى‪،‬‬

‫‪ )(1‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،14‬ص ‪ 391‬ـ ‪.389‬‬


‫‪ )(2‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.32‬‬

‫‪76‬‬
‫كانت البعثة من أجل نجاة أخالق الناس ونفوس هم وأرواحهم وأجس ادهم من الظلم ات‪،‬‬
‫ليخ رج الن اس من الظلم ات إلى الن ور‪ ،‬يخ رجهم إلى ن ور العلم‪ ،‬يخ رجهم من ظلم ة‬
‫إن جمي ع المس لمين إخ وة يجب‬ ‫الجهل إلى نور العدالة ويدلهم على الطريق‪ ،‬ليقول لهم ّ‬
‫عليهم أن يتّحدوا جميعا ً وال يتفرّقوا)(‪)1‬‬
‫ومن السنن التابعة لهذه السنة‪ ،‬والمنجرة عنها هي تحمل األلم والعن اء في س بيل‬
‫تحقيق العدالة كما فعل رسول هللا ‪ ،‬يقول الخميني‪( :‬الحظوا أنتم جيّداً كيف ّ‬
‫أن النب ّي‬
‫األكرم ‪ ‬قد تح ّمل أكثر من الجمي ع من أج ل تربي ة الن اس‪ ،‬من أج ل أن ينق ذ ه ؤالء‬
‫المظلومين من أيدي الظالمين)(‪)2‬‬
‫ومن الس نن ال تي يح رص الخمي ني على التنبي ه له ا‪ ،‬خاص ة ألولئ ك ال ذين‬
‫أن‬‫يتب وؤون المناص ب‪ ،‬ويتحمل ون المس ؤوليات التواض ع‪ ،‬فيق ول‪( :‬ورد في الح ديث ّ‬
‫جبرائيل عليه السالم قد هبط من قبل هللا تع الى بمف اتيح خ زائن األرض لخ اتم الن بيّين‬
‫‪ ،‬فتواضع ‪ ‬ورفض قبولها‪ ،‬وافتخر بفقره (‪ .. )3‬النب ّي الكريم ‪ ‬الّذي كان علم ه‬
‫من الوحي اإلله ّي‪ ،‬وكانت روح ه من العظم ة بحيث إنّه ا بمفرده ا غلبت نفس يّات ك ّل‬
‫إن هذا النب ّي قد وض ع جمي ع الع ادات الجاهليّ ة واألدي ان الباطل ة تحت قدمي ه‪،‬‬ ‫البشر‪ّ ،‬‬
‫ونس خ جمي ع الكتب‪ ،‬واختتم حلق ة النب وّة بشخص ه الك ريم‪ .‬وك ان ه و س لطان ال دنيا‬
‫واآلخرة والمتص ّرف في جميع العوالم بإذن هللا‪ ،‬ومع ذل ك ك ان تواض عه م ع عب اد هللا‬
‫ي شخص آخر‪ .‬كان يكره أن يقوم له أصحابه احترام اً‪ ،‬وإذا دخ ل مجلس ا ً لم‬ ‫أكثر من أ ّ‬
‫يتص ّدره‪ ،‬ويتناول الطعام جالسا ً على األرض‪ ،‬قائالً‪ :‬إنّني عب ٌد‪ ،‬آكل مثل العبيد وأجلس‬
‫مجلس العبيد)(‪)4‬‬
‫(إن رسول هللا ‪ ‬كان يحبّ أن ي ركب الحم ار‬ ‫ثم نقل عن اإلمام الصادق قوله‪ّ :‬‬
‫من دون س رج‪ ،‬ويتن اول الطع ام م ع العبي د على األرض‪ ،‬وك ان يعطي الفق راء بكلت ا‬
‫يديه)‪ ،‬ثم عل ق علي ه بقول ه‪( :‬ك ان ذل ك اإلنس ان العظيم ي ركب الحم ار م ع غالم ه أو‬
‫غيره‪ ،‬ويجلس على األرض مع العبيد‪ .‬وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال الم نزل‪،‬‬
‫ويحتلب األغنام ويرقّع ثيابه ويخصف نعله بي ده‪ ،‬ويطحن م ع خادم ه ويعجن‪ ،‬ويحم ل‬
‫متاعه بنفسه‪ ،‬ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم‪ 4‬هذه وأمثالها‪ ،‬نماذج من س يرة‬
‫ي كان في أكمل ح االت‬ ‫ذلك اإلنسان العظيم وتواضعه‪ ،‬مع أنّه فضالً عن مقامه المعنو ّ‬
‫الرئاسة الظاهريّة) (‪)5‬‬
‫وهكذا نراه في خطاباته للمسؤولين بمختلف مراتبهم يذكرهم بأمثال هذه السنن‪،‬‬
‫فيقول‪( :‬لقد كانت سيرة األنبي اء عليهم الس الم وتع اليمهم هي الوق وف بح زم في وج ه‬

‫‪ )(1‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ح ‪ ،13‬ص ‪ 435‬ـ ‪.434‬‬


‫صحيفة اإلمام‪ ،‬ج‪ ،13‬ص ‪.233‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الخميني‪ ،‬ص‪.242‬‬
‫ّ‬ ‫األربعون حديثاً‪ ،‬اإلمام‬ ‫‪)(3‬‬
‫الخميني قدس سره‪ ،‬ص ‪ 95‬ـ ‪..96‬‬
‫ّ‬ ‫األربعون حديثاً‪ ،‬اإلمام‬ ‫‪)(4‬‬
‫الخميني قدس سره‪ ،‬ص ‪ 95‬ـ ‪..96‬‬
‫ّ‬ ‫األربعون حديثاً‪ ،‬اإلمام‬ ‫‪)(5‬‬

‫‪77‬‬
‫أن الع رب ك انوا إذا‬ ‫الطواغيت‪ ،‬والتواضع للضعفاء والفقراء والمستضعفين‪ .‬فق د ورد ّ‬
‫ّ‬
‫وفدوا على مسجد الرسول يسألون الناس‪ ( :‬أيكم مح ّمد؟) في الوقت ال ذي ك ان رس ول‬
‫هللا ‪ ‬على رأس الحكومة الّتي ت ّم تشكيلها في المدينة‪ ،‬هكذا كانت األمور في المدين ة‪.‬‬
‫ي قدرة بلغت ما بلغت ألنّ ه ك ان ي رى هللا تع الى ويس تم ّد‬ ‫في المقابل ما كان ليخضع أل ّ‬
‫منه القدرة والقوّة‪ ،‬ألنّه ص احب الق درة والغ نى الحقيقيّين باألص الة ل ذا م ا ك ان الن ب ّي‬
‫ي مقتدر بالتبع)(‪)1‬‬
‫ٍ‬ ‫ليخضع أل ّ‬
‫ومن السنن العظيمة التي يحرص الخمين ّي على التنبيه لها‪ ،‬وخاصة في لقائه مع‬
‫ي وحي ازة‬ ‫أن الرف اه الم ا ّد ّ‬
‫المسؤولين سنن العفاف والزهد‪ ،‬فيقول‪( :‬يعتقد بعض الناس ّ‬
‫لكن ه ذا‬ ‫األموال واألراضي والحدائق‪ ،‬وحسابات البن وك ق د تجلب الس عادة لإلنس ان‪ّ .‬‬
‫أن السعادة هي بامتالك الحدائق واألراضي وجمع الثروة‬ ‫خطأ يرتكبه اإلنسان‪ ،‬فيتوهّم ّ‬
‫ّ‬
‫واإلتجار‪ .‬عندما ندرس حالة الفقراء والمساكين الذين يسكنون بيوت متواض عة نج دهم‬
‫قد نالوا حظّا ً من السعادة يفوق الّذين يسكنون القص ور‪ ،‬ب ل ق د ال نج دها في القص ور‪.‬‬
‫لقد كان هناك بيت متواضع في صدر اإلسالم يتكوّن من أربعة أف راد‪ ،‬إنّ ه بيت فاطم ة‬
‫لكن ه ذا ال بيت ك ان يحم ل س ّراً‬ ‫الزهراء عليها الس الم‪ ،‬بيت أبس ط من ه ذه ال بيوت‪ّ ،‬‬
‫إن اإلنس ان يحت اج إلى جه د كب ير ليقط ع ه ذا‬ ‫مألت بركاته ك ّل أرجاء الع الم ب النور‪ّ .‬‬
‫الطريق الطويل ويصل إلى بركات ساكني هذا الكوخ المتواضع‪ ،‬المتواضع ماديّاً‪ ،‬لكن‬
‫روحيّة هذا البيت بلغت أقصى المدى فال تصل إليها حتّى المالئكة‪ .‬لقد كانت نوراً ش ّع‬
‫على جميع بالد المسلمين ومثاالً تربويّا ً مألت بركاته جميع األرجاء وخاصّة بالدنا)‬
‫ويضيف قائال ـ بتأثر شديد ال يستطيع كتمانه ـ‪( :‬الرس ول ‪ ‬الّ ذي ك ان ي رأس‬
‫متوس طة الح ال مش ابهة‬ ‫ّ‬ ‫ك ّل شيء كان يعيش في بيت ال يمكن أن نساويه بغرفة واحدة‬
‫في مجتمعنا‪ .‬كان في هذا ال بيت حج رات متع ّددة الوظ ائف ومتواض عة‪ .‬ه ذا اإلنس ان‬
‫المتعالي في مقامه كان نوره يش ّع من هذه الحج رة المتواض عة ليص ل إلى ع الَم المل ك‬
‫والملكوت‪ ،‬ولتتّسع آثار هذه الحجرة التربوية إلى جميع أرجاء العالَم‪ .‬ص حيح أنّ ه لح ّد‬
‫ألن‬‫اآلن م ا أراده الرس ول ‪ ‬من التربي ة لم يتحقّ ق بع د ولم تص ل إلي ه البش ريّة‪ّ ،‬‬
‫ي الموع ود‬ ‫النموذج الّذي رسمه س يتحقّق بش كل كب ير على ي د الخل ف الص الح المه د ّ‬
‫عجل هللا تعالى فرجه الشريف عندما يأتي‪ ،‬ويحقّق بيديه المباركتين ذلك)(‪)2‬‬
‫ويق ول في مح ل آخ ر‪( :‬ك ان الوض ع المعيش ّي للرس ول األك رم ‪ ‬في غاي ة‬
‫البساطة‪ ،‬فلم يستفد أبداً من مقامه ومنصبه لنف ع م ا ّدي شخص ّي‪ ،‬فلم ي ترك إرث ا ً ماديّ ا ً‬
‫خلفه‪ ،‬لم يترك إاّل العلم الّذي هو أشرف األمور‪ ،‬خاصّة العلم اإلله ّي الّذي ه و من عن د‬
‫هللا تعالى)(‪)3‬‬
‫ومن السنن التي حرص اإلمام الخميني على الدعوة إلى تفعيله ا في الحي اة س نة‬

‫‪ )(1‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،16‬ص ‪..451‬‬


‫‪ )(2‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،17‬ص ‪ 373‬ـ ‪..474‬‬
‫‪ )(3‬الحكومة اإلسالمية‪ ،‬اإلمام الخميني‪ ،‬ص ‪ 103‬ـ ‪.104‬‬

‫‪78‬‬
‫المساواة‪ ،‬ولذلك كان يحذر كل حين من بدع االستكبار والتف اخر والتمي يز العنص ريّ‪،‬‬
‫ومن خطابات ه في ذل ك قول ه‪( :‬اذهب وا وط العوا س يرة الن ب ّي األك رم ‪ ‬الّ ذي ك ان‬
‫ي األوّل‪ .‬ه ل ك ان ط الب س لطة وحكم؟‬ ‫المؤس س األوّل للكي ان اإلس الم ّي والجه اد ّ‬ ‫ّ‬
‫انظ روا إلى أص حابه وأتباع ه س تجدون األس ود واألبيض‪ ،‬الجمي ع ك ان يجلس ح ول‬
‫إن تعامل وسلوك‬ ‫الجميع ال يوجد من يجلس في األعلى أو في األسفل أو هنا أو هناك‪ّ ..‬‬
‫النب ّي األعظم ‪ ‬مع أصحابه وكافّة الناس كان على أساس المس اواة في جمي ع ش ؤون‬
‫الحي اة‪ ،‬حتّى على مس توى المجالس ة والح ديث والنظ ر‪ ،‬فه و لم يكن لينظ ر إلى ف رد‬
‫ويستثني آخر‪ ،‬بل كان يحادث ويخاطب الجميع‪ ،‬يقول اإلمام الصادق‪( :‬كان رسول هللا‬
‫س ُم لحظاته بين أصحابه‪ ،‬فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة)(‪)1‬‬ ‫‪ ‬يَق ِ‬
‫ويق ول في خط اب ل ه بحض ور جم ع من الش باب الفرنس يّين ـ‪ّ :‬‬
‫(إن الح اكم‬
‫اإلسالم ّي ليس كرؤساء الجمهوريّات والس الطين اآلخ رين‪ّ .‬‬
‫إن الح اكم اإلس الم ّي ه و‬
‫الّذي يقصد المسجد الصغير في محلّت ه ويس تمع إلى ح ديث الن اس وال يميّ ز بين فق ير‬
‫وغن ّي فكلّهم سواسية‪ .‬فاألغنياء ك انوا كبقيّ ة الن اس يجتمع ون في المس جد‪ ،‬والش خص‬
‫الغريب إذا دخ ل عليهم ال يع رف من ه و ال رئيس ومن ه و الم رؤوس منهم‪ ،‬من ه و‬
‫صاحب المقام ومن هو من عا ّمة الشعب‪ .‬كان لباسهم مثل لب اس الن اس وس لوكهم مث ل‬
‫بقيّة الناس‪ ،‬وفي إجراء العدالة‪ ،‬إذا ا ّدعى أحد أفراد المجتمع على حاكم المسلمين‪ ،‬كان‬
‫القاضي ي ُحضر حاكم المسلمين إلى جانب الم ّدعي)(‪)2‬‬
‫ويقول في موضع آخر‪( :‬النب ّي األكرم ‪ ‬الّذي وق ف في وج ه ق ريش ك ان من‬
‫قريش أيضاً‪ ،‬لكنّه كان يع ّد نفسه من طبقات الناس العاديّة رغم أنّ ه ك ان من األش راف‬
‫وصاحب عشيرة لم يكن يمل ك ش يئاً‪ .‬والّ ذين اجتمع وا حول ه ك انوا من الدرج ة الثالث ة‬
‫أن الرس ول نفس ه لم يكن يمل ك م نزالً‪ ،‬ك ان يمل ك‬ ‫وكانوا فقراء ال يملكون شيئاً‪ ،‬حتّى ّ‬
‫غرفة مصنوعة من ألياف النخل‪ ،‬حتّى مسجده كان كذلك)(‪)3‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن السنن المغيبة التي دعا إليها اإلمام الخمي ني‪ ،‬وال تي تمث ل‬
‫في حقيقتها غايات هذا الدين وقيمه العليا‪ ،‬ويمكننا مقارنتها إذا شئنا بتلك الجزئي ات من‬
‫السنن التي يحرص عليها الطائفيون‪ ،‬وفي سبيل يخربون الوحدة اإلسالمية‪ ،‬وك ل القيم‬
‫التي جاء بها رسول هللا ‪.‬‬
‫وعلى نفس ه ذا المنهج نج د الس يد علي الخ امنئي ي دعو إلى االقت داء الكام ل‬
‫برسول هللا ‪ ‬في كل جزئيات الحياة وتفاصيلها‪ ،‬ال في تلك السنن المحدودة المرتبطة‬
‫بالشعائر التعبدية ونحوها‪ ،‬فيقول‪( :‬نحن المسلمين واجبنا أن نقتدي به ذا العظيم‪ ،‬يق ول‬
‫هللا سبحانه‪{ :‬لَقَ ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي َرسُو ِل هَّللا ِ أُ ْس َوةٌ َح َسنَةٌ} [األحزاب‪ ،]21 :‬يجب أن نقتدي‬
‫ونهتدي ونتأسّى بالنب ّي ‪ ،‬فال يكفي أن نقتدي بصالة ركعات ع ّدة‪ ،‬وإنّم ا ال واجب أن‬

‫‪ )(1‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،17‬ص ‪..185‬‬


‫‪ )(2‬سمات المعصومين في فكر اإلمام الخميني‪ ،‬مؤسسة تنظيم ونشر آثار اإلمام‪ ،‬ص ‪ 99‬ـ ‪.100‬‬
‫‪ )(3‬صحيفة اإلمام‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪ 456‬ـ ‪.457‬‬

‫‪79‬‬
‫يتيس ر ك ّل ه ذا إاّل‬ ‫نقتدي بسلوكنا وأقوالنا‪ ،‬بعالقتنا فيما بيننا‪ ،‬وبتعاملنا مع اآلخر‪ ،‬وال ّ‬
‫من خالل معرفة النبي ‪)1()‬‬
‫ّ‬
‫وقد حدد في الكثير من خطاباته األسس الكبرى التي تدور حولها الس نة النبوي ة‪،‬‬
‫وهي سبعة‪ ،‬نختصرها فيما يلي(‪:)2‬‬
‫‪ .1‬نفخ روح اإليم ان وتقويت ه وترس يخه وتغذي ة أبن اء األ ّم ة بالمعتق د والفك ر‬
‫السليمين‪ ،‬وهذا ما باشره النب ّي ‪ ‬في م ّكة ورفع رايته في المدينة بك ّل اقتدار‪.‬‬
‫‪ .2‬العدل والقسط‪ ،‬فمنطلق العمل كان يقوم على أس اس الع دل والقس ط وإعط اء‬
‫ق حقّه دون أدنى مداهنة‪.‬‬ ‫ك ّل ذي ح ّ‬
‫ي ه و العلم والمعرف ة‬ ‫‪ .3‬العلم والمعرف ة‪ ،‬فأس اس ك ّل ش يء في النظ ام النب و ّ‬
‫والوعي واليقظة‪ ،‬فهو ال يحرّك أحداً في اتّجا ٍه معيّن حركةً عمياء‪ ،‬بل يحوّل األ ّمة عن‬
‫طريق الوعي والمعرفة والقدرة على التشخيص‪ ،‬إلى قوّة فعّالة ال منفعلة‪.‬‬
‫ي ينب ذ الص راعات الّ تي تغ ذيها ال دوافع‬
‫ّ‬ ‫‪ .4‬الص فاء واألخ وّة‪ ،‬فالنظ ام النب و ّ‬
‫ال ُخرافية والشخصية والمصلحية والنفعية ويحاربها‪ .‬فاألجواء هي أجواء تتّسم بالصدق‬
‫واألخوّة والتآلف والحميميّة‪.‬‬
‫‪ .5‬الص الح األخالق ّي والس لوك ّي‪ ،‬فه و ي ز ّكي الن اس ويطهّ رهم من رذائ ل‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َم ةَ}‬
‫األخالق وأدرانها‪ ،‬ويصنع إنسانا ً خلوقا ً ومز ّك ًى { َويُزَ ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكت َ‬
‫[آل عمران‪ ،]164 :‬فالتزكية هي أحد المرتكزات األساس الّتي كان يس تند إليه ا الن ب ّي‬
‫ي مع أبناء األ ّمة فرداً فرداً لبناء اإلنسان‪.‬‬ ‫‪ ‬في عمله التربو ّ‬
‫ي ال يتميّ ز بالتبعيّ ة والتس وّل من‬ ‫‪ .6‬االقت دار والع ّزة‪ :‬ف المجتمع والنظ ام النب و ّ‬
‫اآلخرين‪ ،‬بل يتميّز بع ّزته واقتداره وإصراره على اتّخاذ القرار؛ فهو م تى م ا ش َّخص‬
‫ق طريقه إلى األمام‪.‬‬ ‫موطن صالحه سعى إليه وش ّ‬
‫‪ .7‬العمل والنش اط والتق ّدم المطّ رد‪ :‬فال مج ال للتوقّ ف في النظ ام النب ويّ‪ ،‬ب ل‬
‫إن ك ّل شيء قد انتهى فلنركن‬ ‫الحركة الدؤوبة والتق ّدم الدائم‪ .‬وال معنى لدى أبنائه للقول ّ‬
‫لذة وسرور وليس مدعاة للكسل والملل‬ ‫إلى ال ّدعة! وهذا العمل ‪ -‬بطبيعة الحال ‪ -‬مبعث ّ‬
‫واإلرهاق‪ ،‬بل هو عمل يمنح اإلنسان النشاط والطاقة واالندفاع‪.‬‬
‫ه ذه مج رد نم اذج عن الرؤي ة الش مولية للس نة النبوي ة في مش روع إي ران‬
‫الحضاري الجديد‪ ،‬وهي ما يجعلها أداة للنه وض والتحض ر والتحلي بجمي ع القيم ال تي‬
‫جاء القرآن الكريم لل دعوة إليه ا‪ ،‬فالس نة الحقيقي ة هي ال تي تح ول الم ؤمن إلى إنس ان‬
‫قرآني‪ ،‬ال إلى إنسان طائفي مستكبر مغرور مملوء بكل أنواع السلبية‪.‬‬

‫‪ )(1‬خطاب قائد الثورة في صالة الجمعة‪ 7 ،‬صفر‪1421 ،‬هـ‪.‬‬


‫‪ )(2‬النبي األعظم ‪ ‬في كالم الولي دام ظله‪ ،‬شبكة المعارف اإلسالمية‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫إيران ‪ ..‬والعقيدة اإلسالمية‬
‫من أول األسس التي يقوم عليها أي دين من األدي ان تل ك التص ورات والحق ائق‬
‫التي يحملها عن الوجود والكون والحياة‪ ،‬أو تلك المعارف ال تي تتأس س عليه ا نظرت ه‬
‫لعلة الكون ومصيره والحقائق ال تي ينب ني عليه ا‪ ..‬أو م ا يطل ق على ذل ك جميع ا لقب‬
‫[العقيدة] و[اإليمان]‪ ،‬فعلى أساسها يصنف الدين أو المذهب أو التوجه الفكري‪.‬‬
‫وم ع أن الحق ائق والتص ورات ال تي تنب ني عليه ا عقائ د اإليران يين من ذ دخل وا‬
‫اإلس الم في أيام ه األولى إلى الي وم هي نفس عقائ د المس لمين في مش ارق األرض‬
‫ومغاربها‪ ،‬وهي نفس العقائد التي نص عليها القرآن الكريم والسنة المطه رة ال تي بين ا‬
‫مدى التزام اإليرانيين لهما‪ ،‬واهتمامهم بهما‪ ،‬إال أن ا نج د من المغرض ين من ي ذكرون‬
‫مجوسية إيرانية وضاللها وكفرها‪ ،‬وأنها لم تدخل اإلسالم أصال‪.‬‬
‫ولس ت أدري كي ف ش ق ه ؤالء على قل وب اإليران يين‪ ،‬ومن ت اريخهم الب اكر‬
‫ليحكموا عليهم بهذا الحكم الخطير؟‬
‫وهم يذكرون هذا مع أنهم يقرؤون قول ه تع الى‪{ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا َ‬
‫ض َر ْبتُ ْم‬
‫ض ْال َحيَ ا ِة‬‫فِي َسبِي ِل هَّللا ِ فَتَبَيَّنُوا َواَل تَقُولُوا لِ َم ْن أَ ْلقَى إِلَ ْي ُك ُم ال َّساَل َم لَسْتَ ُم ْؤ ِمنًا تَ ْبتَ ُغونَ ع ََر َ‬
‫ال ُّد ْنيَا فَ ِع ْن َد هَّللا ِ َم َغ انِ ُم َكثِ ي َرةٌ َك َذلِكَ ُك ْنتُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل فَ َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْي ُك ْم فَتَبَيَّنُ وا إِ َّن هَّللا َ َك انَ بِ َم ا‬
‫تَ ْع َملُونَ َخبِيرًا (‪[ } )94‬النساء‪]94 :‬‬
‫ويرددون معها في خطبهم ودروسهم أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول هللا‬
‫‪ ‬ذهبوا يتطرقون‪ ،‬فلقوا أناسا من الع دو فحمل وا عليهم فهزم وهم‪ ،‬فش د رج ل منهم‪،‬‬
‫فتبعه رجل يريد متاعه‪ ،‬فلما غشيه بالسنان‪ ،‬قال‪ :‬إني مسلم إني مسلم‪ ،‬فأوجره الس نان‪،‬‬
‫فقتله وأخذ متاعه‪ ،‬فرفع ذلك إلى رسول هللا ‪‬؛ فقال رسول هللا ‪ ‬للقاتل‪( :‬أقتلته بع د‬
‫أن قال إني مسلم) قال‪ :‬يا رسول هللا إنما قالها متعوذا‪ ،‬قال‪( :‬أفال شققت عن قلبه) ق ال‪:‬‬
‫لم يا رسول هللا؟ قال‪( :‬لتعلم أصادق هو أو كاذب؟)(‪)1‬‬
‫ونفس الش يء يق ال ألولئ ك ال ذين يت ألون على هللا‪ ،‬ويرم ون اإليران يين س لفهم‬
‫وخلفهم بتلك الطامات الكبرى من التكفير والتبديع والتض ليل من غ ير أن يحقق وا‪ ،‬وال‬
‫أن يسألوا‪ ،‬وال أن يبحثوا‪ ،‬ولكن لمجرد الهوى‪ ،‬أو لمجرد بعض المتاع الذي ين الهم إن‬
‫هم فعلوا ذلك‪.‬‬
‫ولألسف فإن هذه الهجمة العنيف ة على اإليران يين لم تش تد إال بع د نج اح الث ورة‬
‫اإلسالمية في الواقع اإليراني‪ ،‬أما قبل ذل ك‪ ،‬وفي عه د الش اه‪ ،‬خصوص ا‪ ،‬فإن ه لم يكن‬
‫هناك اهتمام بإيران‪ ،‬وال بدينها‪ ،‬ولم يظهر حينها اعتبارهم مجوسا‪ ،‬وال مت آمرين على‬
‫اإلس الم‪ ..‬م ع أن الش اه ك ان حينه ا يم ارس دور الش رطي عليهم‪ ،‬وبمعون ة أمريكي ة‬
‫وإسرائيلية‪.‬‬
‫ولتقريب الصورة لمن لم يعايش الواقع‪ ،‬ن ذكر أن إي ران قب ل الث ورة اإلس المية‬
‫‪ )(1‬رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدالئل‪ ،‬انظر‪ :‬الدر المنثور في التفسير بالمأثور (‪)635 /2‬‬

‫‪81‬‬
‫كانت أقرب ما تكون في مواقفها السياسية إلى دول ة أذربيج ان‪ ،‬فهي دول ة ذات أغلبي ة‬
‫شيعية(‪ ،)1‬وفيها مزارات وأضرحة(‪ )2‬وحوزات علمية‪ ،‬ومع ذلك ال نجد من يهتم بها‪،‬‬
‫أو يعتبر األذريين مجوسا أو كفرة أو متآمرين‪.‬‬
‫والس بب بس يط‪ ،‬وه و تل ك العالق ات الجي دة ال تي تقيمه ا دول ة أذربيج ان م ع‬
‫إسرائيل‪ ،‬بل إن الصحف اإلسرائيلية تذكر أن اإلسرائيليين يخطوط لضرب إي ران من‬
‫خالل جارتها أذربيجان(‪. )3‬‬
‫لكن لو أن رجال مثل الخميني ظهر في أذربيجان(‪ ،)4‬وأبعدها عن ذل ك الخن وع‬
‫للغرب‪ ،‬ومن تلك التبعية لالستكبار العالمي‪ ،‬وحول وجهته ا عن إس رائيل ليض عها في‬
‫ي د الفلس طينيين‪ ،‬ف إن الح رب حينه ا س تعلن على أذربيج ان لتتح ول إلى دول ة ك افرة‬
‫مارقة‪ ،‬فالكفر عندهم والمروق ليس كفرا باهلل‪ ،‬وال مروق ا عن دين ه‪ ،‬وإنم ا ه و الكف ر‬
‫بأمريكا وإسرائيل وكل المحور االستكباري‪.‬‬
‫بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل بيان تلك العالقة الشديدة التي تربط إي ران‬
‫منذ تاريخها الباكر باإليمان والعقيدة اإلسالمية‪ ،‬وهو ما يؤكد شهادة رس ول هللا ‪ ‬لهم‬
‫بذلك‪ ،‬وذلك عبر مظهرين كبيرين‪:‬‬
‫األول ـ بيان عالقة العقائد التي يتبناها اإليرانيون‪ ،‬وخصوصا ش يعتهم‪ ،‬بالعقائ د‬
‫التي يتبناها سائر المس لمين‪ ،‬وبي ان م دى االش تراك ال ذي تش ترك في ه العقي دة الس نية‬
‫بالعقيدة الشيعية‪ ،‬وبذلك فإن الذي يكفر المدرسة الشيعية بسبب عقائدها‪ ،‬علي ه أن يكف ر‬
‫المدرسة السنية أيضا‪.‬‬
‫الثاني ـ بيان الدور الذي قام به اإليراني ون لنص رة العقي دة اإلس المية‪ ،‬وال دعوة‬
‫إليها من خالل المتكلمين الذين ظهروا فيها عبر التاريخ‪ ،‬والذي تش كل أبح اثهم وكتبهم‬
‫أكبر مصدر في التراث اإلسالمية للعقيدة والعلوم المرتبطة بها‪.‬‬

‫‪ )(1‬يعتبر المذهب االمامي هو الثقل االكبر في هذا البلد حيث تبلغ نسبة الشيعة اك ثر من ‪ % 70‬أي م ا يق ارب من‬
‫‪ 6‬ماليين شخص بالنسبة للعدد العام‪ ،‬وبنسبة ‪ %80‬للمسلمين خاصة‪.‬‬
‫‪ )(2‬توجد للشيعة مزارات مهمة في هذا البلد حيث يتردد عليها الناس بشكل كبير وملحوظ ويشد لها الرحال من كل‬
‫انحاء البالد ومن اهمها مزار اخوات االمام الرضا الواق ع في مدين ة ن ارداران‪ ،‬وم زار بي بي هيبت الواق ع في اط راف‬
‫باكو‪ ،‬وكذلك يوجد مزار لهم في مدينة گنجة‪ ،‬وايضا ً يوجد مزار واقع في مدينة بيلغان يقال انه لنبي هللا جارجيس‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر مقاال بعنوان [صحيفة إسرائيلية‪ :‬الح رب م ع إي ران س تنطلق من أذربيج ان‪ ،‬ع ربي‪ -21‬يح يى عي اش‪،‬‬
‫السبت‪ 07 ،‬أبريل ‪ ،]2018‬وقد ورد فيه‪( :‬وأشارت صحيفة معاريف اإلسرائيلية في تقرير ترجمته [ع ربي‪ ،]21‬إلى أن‬
‫الواليات المتحدة وإسرائيل وقعتا سلسلة من االتفاقيات العسكرية مع بعض جيران إيران من ضمنها أذربيج ان‪ ،‬الفت ا إلى‬
‫أن اإليرانيين يعتقدون أن باكو ستس مح للق وات الجوي ة إلس رائيل والوالي ات المتح دة ب اإلقالع من قواع دها‪ ،‬لقربه ا من‬
‫طهران)‬
‫‪ )( 4‬ولهذا نرى االستكبار العالمي يستعمل كل وسائله الطائفية ليحول السكان األذريين من التشيع إلى التسنن خشية‬
‫تأثرهم بإيران‪ ،‬وقد ورد في بعض الصحف ه ذا الخ بر‪( :‬انتش ر في اآلون ة األخ ير ح ديث‪ ،‬بين األوس اط األذربيجاني ة‪،‬‬
‫بشأن احتمالية تحويل سكان البالد من غالبية شيعية إلى أغلبية سنية‪ ،‬الفتين إلى أن باكو ترغب بحدوث هذا التحول ح تى‬
‫تصطف مع تركيا وكازاخستان‪ ،‬وليس مع إيران‪ ،‬وفي هذا الس ياق‪ ،‬يش ير المحل ل األذري‪ ،‬علي عباس وف‪ ،‬إلى أن مث ل‬
‫ه ذا التح ول يح دث‪ ،‬بس بب الت وترات بين ال دول اإلس المية الس نية وإي ران الش يعية ورغب ة ب اكو في تفض يل تركي ا‬
‫وكازاخس تان على إي ران)[ أذربيج ان تخط ط للتح ول الط ائفي من دول ة ش يعية إلى س نية لالبتع اد عن مح ور إي ران‪،‬‬
‫المصدر‪ :‬حنين الوعري ‪ -‬إرم نيوز]‬

‫‪82‬‬
‫وبذلك فإن النتيجة التي سنخلص إليه ا من خالل ه ذا الفص ل هي أن اإليران يين‬
‫ليسوا متمسكين فقط بالعقي دة اإلس المية‪ ،‬وإنم ا ك ان لهم دور كب ير في نش رها‪ ،‬وص د‬
‫الش بهات عنه ا‪ ،‬ال في إي ران وح دها‪ ،‬وإنم ا في الع الم اإلس المي أجم ع‪ ،‬وفي جمي ع‬
‫الفترات التاريخية‪.‬‬
‫أوال ـ تمسك اإليرانيين بالعقائد اإلسالمية‬
‫ال نريد بالعقائد اإلسالمية هنا تلك العقائد الكثيرة التي ولدها الص راع الم ذهبي‪،‬‬
‫والذي أدخل الكثير من الفروع الفقهية والتاريخية ض من العقائ د م ع أن ه ال عالق ة له ا‬
‫بها‪.‬‬
‫وإنما نريد بها تلك العقائد التي قررها القرآن الكريم‪ ،‬والتي نص على مجموعها‬
‫ب َولَ ِك َّن ْالبِ َّر َم ْن آ َمنَ‬
‫ق َو ْال َم ْغ ِر ِ‬
‫ْس ْالبِ َّر أَ ْن تُ َولُّوا ُو ُج وهَ ُك ْم قِبَ َل ْال َم ْش ِر ِ‬
‫قوله تعالى‪{ :‬لَي َ‬
‫ب َوالنَّبِيِّينَ } [البقرة‪]177 :‬‬ ‫بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َوال َماَل ئِ َك ِة َوال ِكتَا ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وهي العقائد التي اتفق أكثر العلماء على تقسيمها إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫‪ .1‬اإللهيات‪ ،‬ويبحثون فيها عن وجود هللا والصفات التي يتنزه عنها‪ ،‬والص فات‬
‫التي تجب له‪ ،‬وما يرتبط بذلك من القضاء والقدر ونحوهما‪.‬‬
‫‪ .2‬النبوات‪ ،‬ويبحثون فيها الرسل الكرام وما يجب عليهم‪ ،‬وما يج وز في حقهم‪،‬‬
‫وما يستحيل‪ ،‬كما يبحثون عن براهين نبوتهم‪ ،‬وم ا يجب في حقهم من الطاع ة واألدب‬
‫ونحوهما‪.‬‬
‫‪ .3‬السمعيات أو الغيبيات‪ :‬ويقصدون بها ما يتوقف اإليمان به على مجرد ورود‬
‫السمع أو ال وحي‪ ،‬وليس للعق ل في إثباته ا أو نفيه ا م دخل كالمالئك ة والقيام ة والجن ة‬
‫والنار‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذه األقسام‪ ،‬وانحص ار العقائ د اإلس المية فيه ا ك ل المتكلمين من‬
‫أبناء المدارس اإلسالمية المختلفة‪ ،‬وذلك استنادا لما ورد في الحديث المعروف بحديث‬
‫جبريل‪ ،‬فقد أجابه ‪ ‬عندما سأله عن أركان اإليمان بقوله‪( :‬أن تؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكت ه‪،‬‬
‫وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره)(‪)1‬‬
‫ولم يذكر فيه تلك اإلض افات الكث يرة ال تي أض افها الس لفيون خصوص ا للعقائ د‬
‫اإلسالمية‪ ،‬مثل اإليمان بالصحابة‪ ،‬واعتقاد تفاضلهم بحسب ال ترتيب ال ذي ح ددوه‪ ،‬أو‬
‫اإليمان بالمسح على الخفين‪ ،‬أو كما قال بعضهم‪( : :‬من لم يس مح على الخفين ف اتهموه‬
‫على دينكم)(‪)2‬‬
‫وهكذا فإن اإليمان الذي نريده‪ ،‬والذي يتميز به المسلم عن غيره هو ذلك اإليمان‬
‫الوارد في القرآن الكريم‪ ،‬وهو نفسه ما أكدته السنة المطه رة‪ ،‬في نصوص ها القطعي ة‪،‬‬
‫والتي حكمت باإليمان لكل من ش هد أن ال إل ه إال هللا‪ ،‬وأن محم دا رس ول هللا‪ ،‬دون أن‬
‫تلزمه بتلك اإللزامات الكثيرة التي ألزم بها أثناء الصراع المذهبي‪ ،‬حتى وص ل األم ر‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ )٤٧٧٧‬ومسلم (‪)٩‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه أبو نعيم في الحلية ‪..7/32‬‬

‫‪83‬‬
‫إلى إدخال اإليمان بمعاوية في العقيدة اإلسالمية‪ ،‬وألفت الكتب الكثيرة في ذلك (‪. )3‬‬
‫ونحب أن نش ير هن ا إلى أن م ا ي ذكره الش يعة في كتب عقائ دهم مم ا يرتب ط‬
‫باإلمامة ال يقص دون به ا ـ كم ا ينص علم اؤهم وم راجعهم ـ [أص ول ال دين]‪ ،‬وإنم ا‬
‫يقصدون بها ما يطلقون علي ه [أص ول الم ذهب]‪ ،‬أي أن ه ال يمكن أن يك ون الش خص‬
‫شيعيا اثنا عشريا‪ ،‬وهو ال يعرف األئمة‪ ،‬أو ال يسلم بكونهم أئمة موصى بهم‪.‬‬
‫وهذا مما ال حرج فيه‪ ،‬فلكل مذهب خصوصياته‪ ،‬وعقائده الخاص ة‪ ،‬ال تي من لم‬
‫يسلم لها‪ ،‬أو يعتقد بها‪ ،‬يعتبر خارجا من ذلك المذهب‪ ،‬فاألشعري الذي ال يلتزم بالعقائد‬
‫التي اختص بها األشاعرة‪ ،‬ويوافق الماتريدية في مقوالتهم‪ ،‬ال يخرج من اإلسالم ـ كما‬
‫ينص األشاعرة ـ وإنما يخرج من األشعرية إلى الماتريدية‪.‬‬
‫وهكذا الصوفي ال ذي ينتق ل من القادري ة إلى النقش بندية ال يخ رج من اإلس الم‪،‬‬
‫وإنما يخرج من طريقة كان يسلم لها‪ ،‬ويعتقد أنها المنهج األكمل في التربية إلى طريقة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ولو أن الس لفية ال تزموا ه ذا المع نى عن د نص هم على تل ك الخالف ات الفرعي ة‪،‬‬
‫واعتبروها من أصول المذهب لكان ذلك مقبوال ال ح رج في ه‪ ،‬فاألم ة كم ا أتيح له ا أن‬
‫تتفق في الكثير من المشتركات‪ ،‬أتيح لها ك ذلك أن تختل ف في بعض ها‪ ،‬ولكن من غ ير‬
‫أن يكفر بعضها بعضا‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الشيعة يتفقون مع سائر المس لمين في جمي ع العقائ د‪ ،‬ويض يفون إلى‬
‫ذلك اعتقادهم في أئمتهم باعتبارهم أئمة هدى‪ ،‬وأنهم الموص ى بهم من رس ول هللا ‪،‬‬
‫وأنهم سفينة النجاة‪ ،‬ونحو ذلك من العقائد‪ ،‬التي نجدها عن د الف رق اإلس المية المختلف ة‬
‫عند تعديدها لفضائل أئمتها‪ ،‬واعتبارهم سفينة نجاة‪ ،‬وأن الهدى في كالمهم‪.‬‬
‫وقد ذكرنا أن السلفية أكثر من يقول بهذا‪ ،‬خصوصا عند ذكرهم لإلم ام أحم د أو‬
‫ابن تيمي ة أو ابن عب د الوه اب‪ ،‬ب ل إن لقب [الس لفية] لم يطل ق عليهم إال لتعظيمهم‬
‫لسلفهم‪ ،‬وهو ال يختلف عن لقب [االثن ا عش رية] إال في ف ارق بس يط‪ ،‬وه و أن [االثن ا‬
‫عشرية] تقصر السلف والهداية المرتبطة بهم على اث ني عش ر إمام ا‪ ،‬بينم ا [الس لفية]‬
‫تتجاوز ذلك الرقم بكثير‪ ،‬ب ل تص ل ب ه إلى عش رات اآلالف‪ ..‬ألن ك ل الص حابة ومن‬
‫عاصرهم أو من عاصر من عاصرهم يعتبر عندهم إماما يمكن تلقي الدين عنه‪.‬‬
‫ب ل إنهم ال يكتف ون ب ذلك‪ ،‬وإنم ا يض يفون إليهم الكث ير من المت أخرين ال ذين‬
‫يعتبرونهم سلفا‪ ،‬ويحكمون لهم بحكم السلف رغم تل ك الح واجز الزم ني‪ ،‬ومن األمثل ة‬
‫على ذل ك ق ول عم اد ال دين الواس طي في ابن تيمي ة‪( :‬وهللا‪ ،‬ثم وهللا‪ ،‬لم يُ َر تحت أديم‬

‫‪ )( 3‬من األمثلة على إدخال معاوية في كتب العقائد ما قاله اآلجري في (الشريعة)‪ ،‬وهو من الكتب التي يعتمد عليها‬
‫السلفية في تقرير العقائد‪( :‬معاوية رحمه هللا كاتب رسول هللا ‪ ‬على وحي هللا عز وجل وهو القرآن بأمر هللا ع ز وج ل‬
‫وصاحب رسول هللا ‪ ‬ومن دعا له النبي ‪ ‬أن يقيه العذاب ودعا له أن يعلمه هللا الكتاب ويمكن له في البالد وأن يجعله‬
‫هاديا ً مهدياً‪ ..‬وهو ممن قال هللا عز وجل ﴿ يَوْ َم ال ي ُْخ ِزي هَّللا ُ النَّ ِب َّي َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعهُ ﴾ (التحريم‪ )8 :‬فق د ض من هللا الك ريم‬
‫له أن ال يخزيه ألنه ممن آمن برسول هللا ‪ ()‬الشريعة [ ‪)496 / 3‬‬
‫وقال ابن بطة في (اإلبانة الصغرى)‪( :‬تترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيب ة زوج الن بي‬
‫‪ ‬خال المؤمنين أجمعين وكاتب الوحي وتذكر فضائله)( اإلبانة الصغرى [ ص‪)] 299 :‬‬

‫‪84‬‬
‫السماء مثل شيخكم ابن تيمية‪ ،‬علماً‪ ،‬وعمالً‪ ،‬وحاالً‪ ،‬وخلُق اً‪ ،‬واتِّباع اً‪ ،‬وكرم اً‪ْ ،‬‬
‫وحلم اً‪،‬‬
‫وقيام ا ً في ح ق هللا تع الى عن د انته اك حرمات ه‪ ،‬أص دق النَّاس عق داً‪ ،‬وأص حهم علم ا ً‬
‫وعزماً‪ ،‬وأنفذهم وأعالهم في انتصار الحق وقيامه همةً‪ ،‬وأسخاهم كفّاً‪ ،‬وأكملهم اتباع ا ً‬
‫لسنَّة محمد ‪ ،‬ما رأينا في عصرنا هذا َمن تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله‬
‫وأفعاله إال هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو االتباع حقيقة)(‪)1‬‬
‫وهذا الوصف الذي ذك ره الواس طي‪ ،‬وال ذي تعتق ده الس لفية في ابن تيمي ة‪ ،‬ه و‬
‫نفسه الذي تعتقده الشيعة في أئمتها‪ ،‬ولذلك ال مبرر لكل تلك الشدة عليهم‪.‬‬
‫بل إن السلفية ال يكتفون بذلك‪ ،‬وإنما يجعلون أئمتهم قسماء للجنة والن ار‪ ،‬فمن لم‬
‫يعتقد فضلهم ولم يسلم لهم أو راح ينتقدهم‪ ،‬فإنه عن دهم ض ال ك افر ليس ل ه م أوى إال‬
‫جهنم‪ ،‬كما نص على ذلك الش يخ ابن ع ثيمين حين ذك ر أن ه يش هد البن تيمي ة بالجن ة‪،‬‬
‫ويشهد ألعدائه بالنار‪ ،‬فقال في [شرح رياض الص الحين]‪( :‬وش يخ اإلس الم ابن تيمي ة‬
‫رحمه هللا أجمع الناس على الثناء عليه إال من شذ‪ ،‬والشاذ شذ في النار‪ ،‬يشهد له بالجنة‬
‫على هذا الرأي)(‪)2‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا المبحث أن نذكر بعض القضايا الكبرى ال تي يكف ر‬
‫من خاللها المغرضون اإليرانيين وخصوصا الش يعة منهم‪ ،‬معتم دين في ذل ك على م ا‬
‫ورد في رسالة خطيرة كانت من أول السهام المسمومة المصوبة للجمهورية اإلسالمية‬
‫اإليرانية في بداية اعتمادها لنظام والية الفقيه‪.‬‬
‫ولألسف فإن مؤلف هذه الرسالة رجل من أبناء الحرك ة اإلس المية‪ ،‬ممن ي زعم‬
‫أنه صاحب مشروع إلقامة الدولة اإلسالمية‪ ،‬بينم ا راح يغ در بالدول ة ال تي ت دعو إلى‬
‫نفس ما يدعو إليه‪.‬‬
‫وهذا الداعية هو الشيخ سعيد حوى في كتابه (الخميني‪ :‬شذوذ في العقائد ‪..‬شذوذ‬
‫في المواقف)‪ ،‬والذي حمل فيه حملة الشديدة‪ ،‬ال على شخص الخميني فقط‪ ،‬وإنم ا على‬
‫كل الشيعة‪ ،‬وذلك رغم أن ه ينتمي لمدرس ة (اإلخ وان المس لمين) ال تي ك ان مؤسس ها‪،‬‬
‫والكثير من أتباعه يتبنون التقارب بين المذاهب اإلسالمية‪.‬‬
‫لكن سعيد حوى ـ رغم ما يدعيه من تصوف ـ تكلم بلسان السلفية‪ ،‬وال عجب في‬
‫ذلك‪ ،‬فقد كتب كتابه‪ ،‬وهو في السعودية‪ ،‬في فترة حقدها الش ديد على إي ران خش ية من‬
‫تصديرها للثورة إليها أو إلى سائر دول الخليج‪.‬‬
‫وكعادة الحركيين في تبنيهم لنظرية المؤامرة بشكلها المعكوس‪ ،‬فقد راح يتصور‬
‫أن الثورة اإلسالمية في إي ران م ؤامرة ض د الص حوة اإلس المية‪ ،‬فق د ق ال في مقدم ة‬
‫رسالته‪( :‬وقد تحقق أعداء اإلسالم من خط ورة ه ذه الص حوة اإلس المية الرش يدة على‬
‫مصالحهم‪ ،‬وأنه ا القاض ية الماحق ة لغاي اتهم ال تي خطط وا له ا زمان اً‪ ،‬فأع ادوا لعبتهم‬
‫القديمة الجديدة‪ ،‬وتشاور كهنة المجوس وأحبار اليه ود يري دون الكي د لإلس الم وأهل ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬العقود الدرية‪ ( ،‬ص ‪.) 311‬‬


‫‪ )(2‬شرح رياض الصالحين ‪.573 - 570 /4‬‬

‫‪85‬‬
‫وبان لهم بأن تشويه هذه الصحوة الواعية وحرفها عن مقاصدها النبيلة الكريمة أفض ل‬
‫وسيلة وأنجح طريق لضربها وإخراجها من مضمونها اإلسالمي السليم تحريفا ً لغاياتها‬
‫وتدميراً السسها‪ ،‬فسلطوا عليها من المتظاهرين باإلس الم قوم اً‪ ،‬علّهم يحقق ون لهم م ا‬
‫خططوا له وبيتوا من سوء ليغتالوا الوليد في مهده وأول نشأته ونمائه )(‪)1‬‬
‫ثم بين اآلليات التي تم من خالله ا تنفي ذ الم ؤامرة؛ فق ال‪( :‬وهك ذا ك ان األم ر ؛‬
‫جاءت الخمينية المارقة تحذو حذو اسالفها من حركات الغلو والزندقة التي جمعت بين‬
‫الش عوبية في ال رأي والفس اد في العقي دة‪ ،‬تت اجر بمش اهر جم اهير المثقفين المتعلقين‬
‫باإلسالم تاريخا ً وعقيدة وتراثاً‪ ،‬فتتظ اهر باإلس الم ق والً وتبطن جمل ة الش ذوذ العق دي‬
‫والحركي الذي كان سمة مشتركة وتراثا ً جامع ا ً لله الكين من اس الفها من األبامس لمية‬
‫والبابكية والصفوية‪ ،‬فيعيدوا إلى واقع المسلمين كل نزعات الشر والدمار التي جسدتها‬
‫تل ك الحرك ات المش بوهة الس اقطة في ش رك الكف ر والزندق ة والعص يان‪ ،‬وتعي د إلى‬
‫األذهان كل مخططات البرامج الباطنية القائمة على التدليس والتل بيس‪ ،‬فت دعي نص رة‬
‫اإلسالم وهي ح رب علي ه – عقي دة ومنهج ا ً وس لوكا ً – وتتظ اهر ب الغيرة على وح دة‬
‫الصف اإلسالمي وهي تدق صباح مساء إسفينا ً بع د إس فين في أرك ان األم ة الواح دة‪،‬‬
‫متوسلة إلى ذلك بنظ رة مذهبي ة ش اذة‪ ،‬وت زعم نص رة المستض عفين في األرض وهي‬
‫تجند األطفال والص غار وت دفعهم قس راً وإلج ا ًء إلى محرق ة الم وت ال زؤام‪ ،‬ثم هي ال‬
‫تكتفي بكل هذا الشر األسود بل تقيم فلسفتها جملة وتفصيالً على قراءة منحرف ة قوامه ا‬
‫التلفي ق والت دليس لك ل ت اريخ المس لمين‪ ،‬فت أتي على رم وزه وأك ابر مؤسس يه ه دما ً‬
‫وتشويها ً وتمويهاً‪ ،‬وتجدد الدعوة بإصرار إلى كل الصفحات السلبية الس وداء الماض ية‬
‫في الت اريخ‪ ،‬وال تي ظن المخلص ون أنه ا ب ادت فليس من مص لحة المس لمين وال في‬
‫صالح اإلسالم إعادة قراءته ا من جدي د‪ ،‬فلق د قاس ى الجمي ع من ش رها م ا ال يحص ره‬
‫كتاب) (‪)2‬‬
‫وهك ذا راح بلغ ة خطابي ة يتب نى ك ل األطروح ات ال تي نش رها الس لفية ح ول‬
‫الشيعة‪ ،‬مع العلم أن الخميني وجمي ع المؤسس ين للث ورة اإلس المية لم يزي دوا ش يئا في‬
‫التش يع‪ ،‬ولم ينقص وا من ه‪ ،‬ب ل ك ل م ا أض افوه ه و ذل ك االنفت اح على قض ايا األم ة‪،‬‬
‫والخوض الجاد في عالج مشكالتها‪ ،‬وكانت هذه فرصة للحركيين الذين كانوا ينتق دون‬
‫سلبية التشيع‪ ،‬لكنهم راحوا يرمون إيجابيته‪ ،‬في نفس الوقت الذي راحوا يفضلون علي ه‬
‫السلبيين من الشيعة‪ ،‬الذين لم يقوموا بأي حركة تغييرية في صالح األمة‪.‬‬
‫وعن دما راح س عيد ح وى ي ذكر المق والت ال تي تنس ب للخمي ني‪ ،‬وال تي على‬
‫أساسها اتهمه بالكفر والمؤامرة‪ ،‬لم يزد على ما ذكره السلفية‪.‬‬
‫ولذلك سنحاول اإلجابة عما ذكره من أسباب التكفير في هذا المبحث‪ ،‬مع إضافة‬
‫بعض العقائد التي يرك ز الس لفية من خالله ا على تكف ير الش يعة عموم ا‪ ،‬واإليران يين‬

‫‪ )(1‬الخميني‪ :‬شذوذ في العقائد ‪..‬شذوذ في المواقف‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬ص‪.3‬‬


‫‪ )(2‬الخميني‪ :‬شذوذ في العقائد ‪..‬شذوذ في المواقف‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬ص‪.4‬‬

‫‪86‬‬
‫منهم خصوص ا‪ ،‬من غ ير فهم لمقاص دهم فيه ا‪ ،‬وال مطالع ة لكتبهم المعتم دة‪ ،‬أو‬
‫مراجعهم المعتمدين‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ فرية الغلو في األئمة‪:‬‬
‫من أكثر التهم التي يتهم بها المش روع اإلس المي اإلي راني‪ ،‬وعلى أساس ه يكف ر‬
‫اإليرانيون قادة وشعبا ما يطلق عليه السلفيون والحركيون‪ ،‬ومن تبعهم من المغ رر بهم‬
‫[الغلو في األئمة]‪ ،‬واعتبارهم مشركين ألجل ذلك‪ ،‬وقد كان يمكن قبول هذه الفري ة من‬
‫السلفية ألنها تكفر الص وفية وك ل المس لمين به ذا االعتب ار‪ ،‬لكن العجب أن ي ورد ه ذه‬
‫الفرية من يؤمن بالتصوف‪ ،‬وهو يعرف أقوال الصوفية في مشايخهم ومقاماتهم‪.‬‬
‫وهم يوردون لهذا تلك الكلمة التي قالها الخميني في كتابه [الحكومة اإلسالمية]‪،‬‬
‫والتي اختصروا بها كل مشروعه‪ ،‬وكأنه لم يقل سواها‪ ،‬وهي قوله‪ ( : :‬إن لإلمام مقاما ً‬
‫محموداً ودرجة سامية وخالفة تكويني ة تخض ع لواليته ا وس يطرتها جمي ع ذرات ه ذا‬
‫الك ون‪ ،‬وإن من ض روريات م ذهبنا أن ألئمتن ا مقام ا ً ال يبلغ ه َملَ ك مق رب وال ن بي‬
‫مرسل‪ ،‬وبموجب ما لدينا من الروايات واألحاديث فإن رس ول هللا األعظم ‪ ‬واالئم ة‬
‫عليهم السالم كانوا قبل ه ذا الع الم أن واراً فجعلهم هللا بعرش ه مح دقين‪ ،‬وق د ورد عنهم‬
‫عليهم السالم ‪( :‬إن لنا مع هللا حاالت ال يسعها ملك مقرب وال نبي مرسل)(‪)1‬‬
‫وقد مهد سعيد حوى القتباسه لهذه الفقرة بقوله‪( :‬فانظر إلى الخمي ني وه و يغل و‬
‫في حق ائمته فيعطيهم العصمة والتدبير والعلم اإللهي ويرفعهم فوق مقام األنبياء)(‪)2‬‬
‫وقد نق ل ه ذه العب ارة ك ل من تح دث عن الخمي ني‪ ،‬وعن مش روعه في الث ورة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬من غير أن يرجعوا إلى م ا ذك ره في كتب ه وخطابات ه األخ رى‪ ،‬والممتلئ ة‬
‫بالدعوة للتوحيد‪ ،‬وتفريد هللا بالخلق والتدبير‪ ،‬أو ما كتبه عن النب وة ومكانته ا الس امية‪،‬‬
‫حتى يفهموا كالمه هذا على ضوئه كالمك ذلك‪.‬‬
‫وكان من الممكن أن نختصر للقارئ هذا‪ ،‬ونأتي له بما ذك ره الخمي ني نفس ه في‬
‫هذا المجال‪ ،‬ولكنا آثرنا أن نناقش العبارة نفسها‪ ،‬وكأنه لم يقل سواها‪ ،‬فهل يستحق حق ا‬
‫من قال تلك العبارة أن يكفر؟‪ ..‬سنجيب عن هذا من خالل الوجوه التالية‪:‬‬
‫أوال ـ الخميني قال هذه العبارة من باب المحبة والتعظيم للذين اتفقت األم ة على‬
‫محبتهم وتعظيمهم‪ ،‬أولئ ك ال ذين أوص ى بهم رس ول هللا ‪ ،‬واعت برهم س فينة نج اة‪،‬‬
‫ولذلك هو لم يذكر تلك الكلمات في حق كفرة وال منحرفين عن الدين‪ ،‬أو في حق ن اس‬
‫مشكوك فيهم‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬قد يحمل كالمه على ما يحم ل علي ه كالم الص وفية في‬
‫مشايخهم وتعظيمهم لهم‪ ،‬بل ما يحمل علي ه كالم الس لفية أنفس هم عن دما يكتب ون الكالم‬
‫الكثير في فضائل أئمتهم‪ ،‬وي بررون ذل ك ب أن حبهم ه و حب للس نة‪ ،‬وال دعوة لهم هي‬
‫دعوة للسنة‪.‬‬
‫ولو ذهبنا إلى النصوص التي كتبها الس لفية وس لفهم في أئمتهم لوج دنا األم ر ال‬

‫‪ )(1‬الحكومة اإلسالمية ‪ :‬ص ‪.52‬‬


‫‪ )(2‬الخميني‪ :‬شذوذ في العقائد ‪..‬شذوذ في المواقف‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬ص‪.7‬‬

‫‪87‬‬
‫يختلف كثيرا‪ ،‬بل ربما نجد من الغلو ما ال نجده عند الخمي ني نفس ه‪ ،‬وم ع ذل ك لم يق ل‬
‫أحد بكفر من قال ذلك‪..‬‬
‫ثانيا ـ أن ما ورد في كلمته من المقام الرفيع لألئمة‪ ،‬والذي قد يتج اوز في بعض‬
‫مناحيه األنبياء أو المالئكة المقربين‪ ،‬مب ني على تل ك القاع دة المعروف ة في التفاض ل‪،‬‬
‫وهي أن الفضل مراتب متعددة‪ ،‬وليس مرتبة واحدة‪ ،‬ولذلك قد يفضل الشخص بالنبوة‪،‬‬
‫ولكن يفضل غيره عليه في صفة أخرى‪ ،‬أو موقف آخر‪..‬‬
‫وهو مما دلت عليه النصوص المقدسة‪ ،‬ففي الحديث المتفق عليه‪ ،‬والم روي في‬
‫مج امع كث يرة من كتب الح ديث عن أبى مال ك األش عرى ق ال ‪ :‬كنت عن د الن بى ‪،‬‬
‫فنزلت عليه هذه اآلية‪ { :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل ت َْس أَلُوا ع َْن أَ ْش يَا َء إِ ْن تُ ْب َد لَ ُك ْم ت َُس ْؤ ُك ْم }‬
‫[المائ دة‪ ،]101 :‬ق ال‪ :‬فنحن نس أله إذ ق ال ‪( :‬إن هلل عب ادا ليس وا بأنبي اء وال ش هداء‪،‬‬
‫يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من هللا يوم القيامة)‪ ،‬ق ال‪ :‬وفى ناحي ة الق وم‬
‫أعرابى‪ ،‬فجثا على ركبتيه‪ ،‬ورمى بيديه ثم قال حدثنا يارس ول هللا عنهم من هم؟ ق ال ‪:‬‬
‫ف رأيت فى وج ه الن بى ‪ ‬البِش ر‪ ،‬فق ال الن بى ‪ ( :‬هم عب اد من عب اد هللا من بل دان‬
‫ش تى‪ ،‬وقبائ ل ش تى من ش عوب القبائ ل لم تكن بينهم أرح ام يتواص لون به ا‪ ،‬والدني ا‬
‫يتابذلون بها‪ ،‬يتحابون بروح هللا‪ ،‬يجعل هللا وجوههم ن ورا ويجع ل لهم من ابر من لؤل ؤ‬
‫قدام الناس‪ ،‬وال ينزعون‪ ،‬ويخاف الناس وال يخافون)(‪)1‬‬
‫فهذا الحديث‪ ،‬والذي ورد بطرق كثيرة ج دا في المص ادر الس نية‪ ،‬ي دل على م ا‬
‫ذكرنا من أن الفضل مراتب متع ددة‪ ،‬ول ذلك ـ كم ا ورد في الح ديث ـ ق د ين ال بعض‬
‫الناس فضال كبيرا‪ ،‬لم يتح لغيره ممن هو أفض ل من ه‪ ..‬فالش هادة في س بيل هللا مثال ق د‬
‫تتاح لغير نبي أو لغير ولي‪ ،‬فيكون للشهيد فضل عليه فيها‪ ،‬ولكن فضله مرتب ط به ا ال‬
‫بغيرها‪.‬‬
‫وه ذا األم ر ليس خاص ا بالفض ائل المرتبط ة بالبش ر‪ ،‬ب ل ه و عام ة في ك ل‬
‫الفضائل حتى المرتبطة باألعمال‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك قول ه ‪ ( :‬من ص لى الغ داة‬
‫في جماعة ثم قعد يذكر هللا حتى تطلع الشمس ثم صلى ركع تين ك انت ل ه ك أجر حج ة‬
‫وعمرة‪ ،‬تامة تامة تامة )(‪)2‬‬
‫فهذا الحديث يدل على أن هذا العمل يساوي في أجره الحج والعمرة‪ ،‬لكنه ال يدل‬
‫ـ باتفاق العلماء ـ على أن ذلك العمل مغن عن الحج والعمرة‪ ،‬بل يظل حكمهما خاصا‪.‬‬
‫وق د س ئل الش يخ ابن ع ثيمين عن الح ديث‪ ،‬فأج اب ‪ ..( :‬على تق دير ص حته‬
‫فالثواب ال قياس فيه‪ ،‬قد يثاب اإلنسان على عمل قليل ث واب عم ل كث ير ؛ ألن الث واب‬
‫فضل من هللا عز وجل يؤتيه من يشاء)(‪)3‬‬
‫وهذا نفسه ما يجاب به على ما ذكره الخميني‪ ،‬ذلك أن األم ة جميع ا متفق ة على‬
‫‪ )(1‬رواه أحم د (‪ )5/341،343‬والبغ وى فى ش رح الس نة (‪ )13/51‬والح اكم فى المس تدرك (‪)4/170،171‬‬
‫وصححه وأقره الذهبى وآخر من حديث أبى هريرة عند ابن حبان فى صحيحه (‪)2508‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي (‪.)586‬‬
‫‪ )(3‬اللقاء الشهري‪.)74/22( ،‬‬

‫‪88‬‬
‫أن هذه األمة أفضل من غيرها من األمم‪ ،‬نتيجة تبعيتها لرسول هللا ‪ ،‬بل هم يذكرون‬
‫أن الرسل عليهم الصالة والسالم يتمن ون ل و ك انوا أتباع ا ل ه‪ ،‬وب ذلك ف إن فض ل ه ذه‬
‫التبعية ليس خاصا باألئمة فقط‪ ،‬بل هو عام لك ل المس لمين‪ ،‬باإلض افة إلى تل ك التعبي ة‬
‫الشريفة لألئمة لجدهم ‪.‬‬
‫ونحب أن نض يف إلى ه ذا المع نى م ا ذك ره الخمي ني نفس ه عن د الح ديث عن‬
‫عبودية رسول هللا ‪ ‬هلل‪ ،‬وكونها أشرف مراتب الكم ال اإلنس اني‪ ،‬فق د ذك ر في ه تل ك‬
‫أن العبوديّ ة المطلق ة‬ ‫المسافة الهائية بين النبوة واإلمامة‪ ،‬فقال‪( :‬ال ب ّد من اإلش ارة إلى ّ‬
‫هي من أعلى مراتب الكمال ومن أرفع مقامات اإلنسانيّة‪ ،‬وال نص يب ألح د من البش ر‬
‫منها سوى أكمل خلق هللا مح ّمد ‪ ‬أصالة وسائر األولياء ال ُك ّمل عليهم السالم تبعا ً ل ه‪،‬‬
‫أ ّما من سواهم فقدم عبوديّتهم عوجاء وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة بأسباب أخرى)(‪)1‬‬
‫فهذا نص صريح في ك ون المكان ة العالي ة لألئم ة‪ ،‬ليس ت بس بب ذواتهم‪ ،‬وإنم ا‬
‫بسبب تبعيتهم لرسول هللا ‪ ..‬فالشرف في التبعية‪ ،‬وبما أن متب وعهم أش رف الرس ل‪،‬‬
‫فقد تحقق لهم بسببه بعض ذلك الشرف‪.‬‬
‫رابعا ـ ما ذكره سعيد وحوى غيره من تكف ير الخمي ني بس بب قول ه‪( :‬إن لإلم ام‬
‫مقاما ً محموداً ودرجة سامية وخالفة تكوينية تخض ع لواليته ا وس يطرتها جمي ع ذرات‬
‫هذا الكون) عجيب جدا‪ ،‬ذلك أن ه ذا المع نى مع نى ق رآني تمت إلي ه اإلش ارة إلي ه في‬
‫نصوص كثيرة جدا‪ ،‬بل هو من مقتضيات الخالف ة‪ ،‬وك ل المس لمين يقول ون ب ه‪ ،‬ح تى‬
‫أبناء المدرسة السلفية نفسها‪.‬‬
‫فلو تأملنا في قوله تعالى عن صاحب سليمان عليه السالم‪ ،‬الذي أخ بر هللا تع الى‬
‫ك بِ ِه قَ ْب َل أَ ْن‬
‫ب أَنَ ا آتِي َ‬‫عنه‪ ،‬وعن قدراته العجيبة‪ ،‬فقال‪{ :‬قَا َل الَّ ِذي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ض ِل َربِّي} [النم ل‪ ،]40 :‬فاآلي ة‬ ‫ك طَرْ فُكَ فَلَ َّما َرآهُ ُم ْستَقِ ًّرا ِع ْن َدهُ قَا َل هَ َذا ِم ْن فَ ْ‬ ‫يَرْ تَ َّد إِلَ ْي َ‬
‫خص هم بالخط اب اإلتي ان‬ ‫ّ‬ ‫أن س ليمان علي ه الس الم طلب م ّمن‬ ‫الكريم ة ص ريحة في ّ‬
‫بعرش بلقيس في لحظات‪ ،‬مع علمه عليه السالم بالمسافة الشاسعة بين اليمن ال ذى ه و‬
‫مكان عرش بلقيس‪ ،‬وبين فلسطين التي كان فيها سليمان علي ه الس الم‪ ،‬فق ام إلي ه ال ذى‬
‫عنده علم من الكتاب‪ ،‬وجاء بذلك العرش بأق ّل من طرف ة عين‪ ،‬وق د تح دث عن قدرت ه‬
‫على ذل ك بثق ة عظيم ة‪ ،‬ألن ه يعلم أن هللا تع الى مكن ه من ذل ك‪ ،‬وجع ل الع رش تحت‬
‫تحكمه وسلطته يمكنه أن يحضره في وقت وجيز‪ ،‬وهو طبع ا لم يفع ل ذل ك إال بع د أن‬
‫طلب منه‪.‬‬
‫وه و نفس م ا أش ار إلي ه الق رآن الك ريم عن د حديث ه عن الق درات ال تي وهبت‬
‫ك‬‫يت ِمنَ ْال ِجنِّ أَنَ ا آتِي كَ بِ ِه قَ ْب َل أَ ْن تَقُ و َم ِم ْن َمقَا ِم َ‬ ‫للعفريت من الجن‪ ،‬فقال‪{ :‬قَا َل ِع ْف ِر ٌ‬
‫أن هللا تعالى ق د أعطى ل ذلك‬ ‫ين } [النمل‪ ،]39 :‬فاآلية واضحة في ّ‬ ‫ي أَ ِم ٌ‬ ‫َوإِنِّي َعلَ ْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬
‫الجن القدرة التكوينية الخارقة‪ ،‬ولكنها أقل من القدرة التي أوتيه ا ص احب‬ ‫ّ‬ ‫العفريت من‬
‫سليمان من اإلنس‪.‬‬

‫الخميني‪ ،‬ص ‪ 89‬ـ ‪..90‬‬


‫ّ‬ ‫‪ )(1‬سرّ الصالة‪ ،‬اإلمام‬

‫‪89‬‬
‫وعلى ضوء هاتين اآليتين الكريمتين يمكننا فهم ما ذكره الخميني‪ ،‬ب ل م ا ذك ره‬
‫الكثير من الشيعة في مسألة الوالية التكوينية‪ ،‬فمعناها أن هللا تعالى يعطي المق ربين من‬
‫عباده‪ ،‬سواء كانوا رسال‪ ،‬أو لم يكونوا كذلك قدرات عجيبة‪ ،‬قد يمارس وها في حي اتهم‪،‬‬
‫وق د ال يمارس وها‪ ،‬وهي تل ك ال تي تس مى بالكرام ة‪ ..‬وهي مم ا اتف ق علي ه جمي ع‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وكيف ال يتفقون عليه‪ ،‬وقد نص عليه القرآن الكريم‪ ،‬ليس في حق الرس ل فق ط‪،‬‬
‫وإنما في حق غيرهم أيضا‪ ،‬فقد قال هللا تعالى عن مريم عليه ا الس الم‪ { :‬فَتَقَبَّلَهَ ا َربُّهَ ا‬
‫اب َو َج َد‬ ‫ُول َح َس ٍن َوأَ ْنبَتَهَا نَبَاتًا َح َس نًا َو َكفَّلَهَ ا زَ َك ِريَّا ُكلَّ َم ا َدخَ َل َعلَ ْيهَ ا َز َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ‬ ‫بِقَب ٍ‬
‫ق َم ْن يَ َش ا ُء بِ َغ ْي ِر‬ ‫هَّللا‬ ‫هَّللا‬
‫ت ه َُو ِم ْن ِع ْن ِد ِ إِ َّن َ يَ رْ ُز ُ‬ ‫ك هَ َذا قَالَ ْ‬ ‫َ‬
‫ِع ْن َدهَا ِر ْزقًا قَا َل يَا َمرْ يَ ُم أنَّى لَ ِ‬
‫ب } [آل عمران‪]37 :‬‬ ‫ِح َسا ٍ‬
‫فاآلية الكريمة تش ير إلى أن ه ك ان في ق درة م ريم عليه ا الس الم أن تحض ر أي‬
‫طعام تشاء في وقته وفي غير وقته‪ ،‬وبذلك يمكن أن يقال بأن ك ل ذرة في ذل ك الطع ام‬
‫كانت خاضعة لها‪ ،‬ولطلبها‪.‬‬
‫ومن خالل هذه المفاهيم القرآنية يفهم قول الخميني‪ ،‬بل من العجيب أن ينكر أحد‬
‫ذلك‪ ،‬فالمؤمن المرتب ط باهلل‪ ،‬ال يحم ل هم اإلجاب ة‪ ،‬وإنم ا يحم ل هم ال دعاء‪ ،‬ذل ك أن ه‬
‫موقن أنه بمجرد صدقه في طلب شيء‪ ،‬يحققه هللا تعالى له‪.‬‬
‫وكان في إمكاننا باإلضافة لتلك النصوص القرآنية أن نضيف إليها قول ه تع الى‪:‬‬
‫ين َكهَ ْيئَ ِة‬ ‫ق لَ ُك ْم ِمنَ الطِّ ِ‬ ‫{ َو َر ُسواًل إِلَى بَنِي إِس َْرائِي َل أَنِّي قَ ْد ِج ْئتُ ُك ْم بِآيَ ٍة ِم ْن َربِّ ُك ْم أَنِّي أَ ْخلُ ُ‬
‫ص َوأُحْ ِي ْال َم وْ تَى بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ‬ ‫ئ اأْل َ ْك َمهَ َواأْل َب َْر َ‬ ‫الطَّي ِْر فَأ َ ْنفُ ُخ فِي ِه فَيَ ُكونُ طَ ْيرًا بِإِ ْذ ِن هَّللا ِ َوأُب ِْر ُ‬
‫ك آَل يَ ةً لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ } [آل‬ ‫َوأُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما تَأْ ُكلُونَ َو َما تَ َّد ِخرُونَ فِي بُيُوتِ ُك ْم إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫عمران‪ ،]49 :‬وهي واضحة في كون المس يح علي ه الس الم ذك ر أن ه يخل ق من الطين‬
‫كهيئة الطير‪ ،‬فهل كان المسيح عليه السالم مشركا بذلك؟‬
‫لكنا لم نذكر ذلك النص وغيره من النصوص الكثيرة التي ذكرها القرآن الك ريم‬
‫عن سليمان عليه السالم وغيره من الرسل‪ ،‬حتى ال يقال بأن ذلك خ اص باألنبي اء دون‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫خامسا ـ من األمور ال تي أنكره ا س عيد ح وى على الخمي ني قول ه‪ ( :‬إن تع اليم‬
‫األئمة كتعاليم الق رآن ال تخص جيالً خاص اً‪ ،‬وإنم ا هي تع اليم للجمي ع في ك ل عص ر‬
‫ومصر إلى يوم القيامة يجب تنفيذها واتباعها )(‪ )1‬و(إنه ال يتص ور فيهم – أي األئم ة‬
‫– السهو والغفلة)(‪)2‬‬

‫ولست أدري ما الضرر في هذا‪ ،‬وهل يمكن لم ؤمن أن يكف ر مؤمن ا بس بب ه ذا‬
‫القول‪ ..‬فاألمة جميعا تعتقد أن المالئكة عليهم السالم ال يغفل ون ال يس هون‪ ،‬فه ل يع ني‬
‫هذا أنهم آلهة أو أنداد هلل؟‬
‫‪ )(1‬الحكومة اإلسالمية ‪.112 :‬‬
‫‪ )(2‬المصدر نفسه ‪.91 :‬‬

‫‪90‬‬
‫وما الضرر في أن يجعل هللا في بعض عباده الصالحين من الق درات م ا يجعل ه‬
‫للمالئكة عليهم السالم‪ ،‬أليس ذلك في قدرة هللا؟‬
‫ب ل إن الرس ول ‪ ‬أخ بر عن نفس ه ببعض ذل ك‪ ،‬فق ال ـ عن د بيان ه لع ذره في‬
‫الوص ال في الص وم ال ذي ال يطي ق أح د ـ ‪( :‬إني لس ت كه يئتكم‪ ،‬إني يطعم ني ربي‬
‫ويسقيني)(‪ ،)1‬وهذا يدل على أن رسول هللا ‪ ‬مع كونه بشرا إال أنه كان له بسبب تلك‬
‫المكان ة العظيم ة من هللا من الص فات م ا ال يطي ق البش ر أن يش اركوه فيه ا‪ ،‬ذل ك أن‬
‫الروح بقدر شفافيتها وطهرها وسموها تكون قدرتها وتأثيرها على الجسد نفسه‪.‬‬
‫ثم إن ما ذكره الخميني عن تجاوز تعليمات األئمة لعص رهم ال ض رر في ه‪ ،‬وال‬
‫ح رج من ه‪ ،‬ب ل الك ل يقول ه‪ ،‬فالس لفية ال زال وا إلى اآلن يأخ ذون بكالم س لفهم‪ ،‬وهم‬
‫يعتقدون أن تعاليمهم تتجاوز الزمان والمكان‪ ،‬وهكذا نرى أص حاب الم ذاهب ال زال وا‬
‫يلتزمون أقوال أئمتهم على الرغم من طول المسافة بينهم‪ ..‬ولست أدري لم جاز ألولئك‬
‫أن يتجاوز الزمان‪ ،‬ولم يجز ألئمة أهل البيت الذين نهلوا من منبع النب وة الص افي ه ذا‬
‫التجاوز؟‬
‫‪ 2‬ـ فرية القول بتحريف القرآن الكريم‪:‬‬
‫وهي الفرية الثانية التي بنى عليها سعيد حوى تكفيره للخمي ني ولجمي ع الش يعة‪،‬‬
‫ومثله كل الطائفيين ال ذين لم يب ذلوا أي جه د في التحق ق من م دى ص حة ذل ك‪ ،‬وإنم ا‬
‫اكتف وا ب ذلك البحث االنتق ائي المب ني على الم زاج والرغب ة‪ ،‬ال على التحقي ق العلمي‬
‫الصادق‪ ،‬ولذلك يظهرون ما يشاءون ويكتمون ما يشاءون‪.‬‬
‫ب َربِّ‬
‫ف ِكت ا ِ‬
‫ب في تَحري ِ‬ ‫ولهذا نجدهم ك ل حين ي ذكرون كت اب (فَص ُل ِ‬
‫الخط ا ِ‬
‫ب) لميرزا حسين بن محمد تقي النوري‪ ،‬ويتركون عشرات الكتب التي ألفت في‬ ‫األربا ِ‬
‫الرد عليه‪ ،‬من أمث ال كت اب (كش ف االرتي اب في ع دم تحري ف كت اب رب األرب اب)‬
‫للطهراني‪ ،‬وكتاب (حفظ الكتاب الشريف على شبهة القول بالتحريف) للسيد هبة ال دين‬
‫الشهرستاني‪ ،‬وكتاب (الحجة على فصل الخط اب في إبط ال الق ول بتحري ف الكت اب)‬
‫لعب د ال رحمن الهي دجي‪ ،‬وكت اب (البره ان على ع دم تحري ف الق رآن) للم يرزا‬
‫البروجردي‪ ،‬وكتاب (آالء الرحمن في الرد على تحريف القرآن) للميرزا عب د ال رحيم‬
‫المدرس الخياباني‪ ،‬وكتاب (بحر الفوائد في شرح الفرائد)‪ ،‬للميرزا األشتياني‪ ،‬وكت اب‬
‫(التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف) للس يد علي الميالني‪ ،‬وكت اب (حق ائق‬
‫هامة حول القرآن الكريم) للسيد جعفر مرتض ى الع املي‪ ،‬وكت اب (س المة الق رآن من‬
‫التحريف) لفتح هللا المحمدي‪ ..‬وغيرها كثير‪،‬‬
‫وهكذا نجدهم يأخذون بعض أقوال الخميني ال تي ي بين فيه ا التحري ف المعن وي‬
‫الذي وقع للمسلمين أثناء تعاملهم مع الق رآن الك ريم ع بر الت اريخ‪ ،‬ويجعل ون ذل ك من‬
‫أس باب تكف يره‪ ،‬م ع أن ذل ك من المتف ق علي ه بين المس لمين جميع ا‪ ،‬ف القرآن الك ريم‬
‫معصوم في تنزيله‪ ،‬ولكن ليس معصوما في فهمه وتفسيره‪ ،‬وإال أص بح التفس ير نفس ه‬

‫‪ )(1‬البخاري‪ ،)37 /3( ،‬برقم‪ ،)1964( :‬ومسلم (‪ ،)774 /2‬برقم‪..)1102( :‬‬

‫‪91‬‬
‫منزال من هللا تعالى‪ ،‬ولم يقل بذلك أحد‪.‬‬
‫وهم في أثناء حملتهم عليه ينسون أنه كان ال يدع مناسبة إال ويذكر فيها بس المة‬
‫القرآن الكريم من التحريف‪ ،‬ومن ذلك قول ه‪( :‬إن الواق ف على عناي ة المس لمين بجم ع‬
‫القرآن وحفظه وضبطه قراءةً وكتاب ةً يق ف على بطالن تل ك المزعوم ة – التحريف –‬
‫وما ورد فيها من أخب ار – حس بما تمس كوا – إما ض عيف ال يص لح االس تدالل به أو‬
‫مجعول تلوح عليه أمارات الجعل أو غريب يقضي ب العجب أما الص حيح منها ف يرمي‬
‫إلى مسألة التأويل والتفس ير وإن التحريف إنما حصل في ذلك ال في لفظ ه وعبارات ه )‬
‫(‪)1‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬وبناء على أنه سبق أن تحدثنا عن رد الشيعة على هذه الفري ة في‬
‫الفص ل األول من ه ذا الكت اب‪ ،‬فس نكتفي هن ا ب وجهين مهمين م رتبطين بأه ل الس نة‬
‫أنفسهم‪ ،‬وهي شهادة كبار أعالمهم على كون القول بتحري ف الق رآن فري ة موجه ة من‬
‫الط ائفيين ض د الش يعة‪ ،‬والث اني أن أمث ال تل ك الرواي ات ال تي ي رمي من خالله ا‬
‫الطائفيون الشيعة يوجد في كتب المدرسة السنية‪.‬‬
‫ونرى أن هذين الوجهين وحدهما كافيان في الرد على هذه الفري ة‪ ،‬لكن للم ؤمن‬
‫الورع الذي يخاف هللا‪ ،‬أما غير الورع‪ ،‬والذي يتجاهل أمثال هذه الردود‪ ،‬فن دعوه ب أن‬
‫يذهب إلى إيران‪ ،‬ويفتش لنا عن هذه المصاحف ال تي يتح دث عنه ا‪ ،‬ليخرجه ا للع الم‪،‬‬
‫ويكون بذلك أكبر مكتشف في التاريخ‪.‬‬
‫أ ـ رد علماء السنة على هذه الفرية‪:‬‬
‫لم يكتف علماء الشيعة وحدهم بالرد على ه ذه الفري ة‪ ،‬بم ا فيهم اإلم ام الخمي ني‬
‫نفسه كما ذكرنا ذلك سابقا‪ ،‬وإنم ا تص دى له ا أيض ا الكث ير من الص ادقين من العلم اء‬
‫والب احثين من المدرس ة الس نية‪ ،‬وخصوص ا أولئ ك ال ذين تس نى لهم أن يرجع وا إلى‬
‫مراجع الشيعة‪ ،‬أو يلتقوا بعلمائهم‪ ،‬أو يزوروا بالدهم‪.‬‬
‫ومنهم الشيخ رحمة هللا الهندي في رده على الشبهة التي يبثها المبش رون ح ول‬
‫تحريف القرآن الكريم‪ ،‬والتي اعتمدوا فيها لألسف على ما يفتريه السلفية على الش يعة‪،‬‬
‫فقد قال‪( :‬القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة اإلمامية االثني عش رية محف وظ من‬
‫التغيير والتبديل‪ ،‬ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه‪،‬فقوله مردود غير مقب ول عن دهم)‬
‫(‪)2‬‬
‫ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة الذي ق ال في كتاب ه عن اإلم ام الص ادق‪( :‬الق رآن‬
‫بإجماع المسلمين ه و حج ة اإلس الم األولى‪ ،‬وه و مص در المص ادر ل ه‪ ،‬وه و س جل‬
‫شريعته‪ ،‬وهو الذي يش تمل على كلّه ا وق د حفظ ه هللا تع الى إلى ي وم ال دين كم ا وع د‬
‫س بحانه إذ ق ال{إِنَّا نَحْ نُ نَ َّز ْلنَ ا ال ِّذ ْك َر َوإِنَّا لَ هُ لَ َح افِظُونَ }(الحج ر‪ ،)9 :‬وإن إخوانن ا‬

‫‪ )(1‬تهذيب األصول ج ‪ 2‬ص ‪ 165‬تقريرات درس اإلمام الخميني‪.‬‬


‫‪ )(2‬إظهار الحق‪ ،‬ص ‪.. 431‬‬

‫‪92‬‬
‫اإلمامي ة على اختالف من ازعهم يرون ه كم ا ي راه ك ل المؤم نين)(‪ ،)1‬وق ال في نفس‬
‫الكتاب‪( :‬إن الش ريف المرتض ى وأه ل النظ ر الص ادق من إخوانن ا اإلثن ا عش رية ق د‬
‫اعت بروا الق ول بنقص الق رآن أو تغي يره أو تحريف ه تش كيكا في معج زة الن بي ‪،‬‬
‫واعتبروه إنكارا ألمر علم من الدين بالضرورة) (‪)2‬‬
‫ومنهم الش يخ محم د الغ زالي ال ذي رد على ه ذه الش بهة كث يرا في محاض راته‬
‫وكتبه‪ ،‬ومن ذلك قوله‪( :‬سمعت من هؤالء يقول في مجلس علم ‪ :‬أن للشيعة قرآن ا آخ ر‬
‫يزيد وينقص عن قرآننا المعروف ! فقلت ‪ :‬أين هذا الق رآن ؟ ! ولـماذا لم يطل ع اإلنس‬
‫والجن على نسخة منه خالل هذا الدهر الطويل ؟ لمـاذا يساق هذا االف تراء ؟ … ولمـاذا‬
‫هذا الكذب على الناس وعلى الوحي)(‪)3‬‬
‫ومنهم الشيخ محمد علي الزعبي الذي قال‪( :‬لقد اتفق المسلمون ‪ -‬ويحز في قلبي‬
‫األلم حين أصفهم بالسنة والشيعة بعد أن دعاهم هللا مسلمين ورضي لهم اإلسالم دين ا ‪-‬‬
‫اتفقوا على عصمة القرآن وحفظ ه من ذ عه د نـزوله ح تى اآلن‪ ،‬فالس نيون على تع داد‬
‫مذاهبهم الفقهية المعروف ة‪ ،‬وال تي أص بحت في ذم ة الت اريخ‪ ،‬والش يعة‪ ،‬س واء أك انوا‬
‫إمامية اثني عش رية أو زيدي ة أو إس ماعيلية ‪ :‬بـهرة أم مو ّح دين أم آغاخانية… جميعهم‬
‫ينظرون كتاب هللا الموجود بين أيدي الناس معصوما محفوظا كما أنزل‪ ،‬ويعتقدون أنه‬
‫هو نفسه الذي أنزله هللا لرسوله محمد ‪ ،‬ووصل الناس دون زيادة أو نقص‪ ،‬نعم هذا‬
‫ما اتفق عليه مسلمو الع الم في جمي ع عص ورهم وه ذا م ا س جله مؤلف وهم ومحقق وهم‬
‫ومخلصوهم ولو أردنا أن نقول للق ارئ راج ع كت اب ك ذا وص فحة ك ذا ألذهبن ا س جال‬
‫بأسماء الكتب)(‪. )4‬‬
‫ومنهم الشيخ سالم البهنساوي ال ذي ق ال ‪( :‬إن الش يعة الجعفري ة االث ني عش رية‬
‫ي رون كف ر من ح رّف الق رآن ال ذي أجمعت علي ه األم ة من ذ ص در اإلس الم‪ ..‬وإن‬
‫المصحف الموجود بين أهل السنة هو نفسه الموجود في مساجد وبيوت الشيعة وأن ه ال‬
‫يوجد منهم في عصرنا من يقول بما جاء في بعض كتبهم القديم ة عن مص حف فاطم ة‬
‫بل يقولون إن ه ذه رواي ات غ ير ص حيحة م ردودة كم ا أن أئم ة الش يعة في عص رنا‬
‫يؤكدون ذلك)(‪)5‬‬
‫ومنهم الشيخ الدكتور محمد عبد هللا دراز ال ذي ق ال‪( :‬ومهم ا يكن من أم ر ف إن‬
‫هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم اإلس المي‪ ،‬بـما في ه ف رق الش يعة‪ ،‬ومن ذ‬
‫ثالثة عشر قرنا من الزمان‪ ،‬ونذكر هنا رأي الشيعة اإلمامية‪ ،‬أهم فرق الش يعة)(‪ ،)6‬ثم‬
‫‪ )(1‬اإلمام الصادق ص‪.296‬‬
‫‪ )(2‬اإلمام الصادق ص‪.329‬‬
‫‪ )(3‬دفاع عن العقيدة و الشريعة‪ ،‬ص‪.220‬‬
‫‪ )(4‬ال سنة وال شيعة ص ‪. 239‬‬
‫‪ )(5‬السنة المفترى عليها ص‪.60‬‬
‫‪ )(6‬مدخل إلى القرآن الكريم ص ‪.40 -39‬‬

‫‪93‬‬
‫ذكر كالم الشيخ الصدوق الذي سبق ذكرنا له‪.‬‬
‫ومنهم الدكتور علي عبد الواح د وافي ال ذي ق ال‪( :‬يعتق د الش يعة الجعفري ة كم ا‬
‫يعتقد أهل السنة أن القرآن الكريم هو كالم هللا عز وجل المنـزل على رس وله المنق ول‬
‫بالتواتر والمدوّن بين دفتي المصحف بسوره وآياته المرتب ة بتوقي ف من الرس ول ‪،‬‬
‫وأنه الجامع ألصول اإلسالم عقائده وشرائعه وأخالق ه‪ ،‬والخالف بينن ا وبينهم في ه ذا‬
‫الص دد يتمث ل في أم ور ش كلية وجانبي ة ال تمس النص الق رآني بزي ادة وال نقص وال‬
‫تحريف وال تبديل وال تثريب عليهم في اعتقادهم)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬أما ما ورد في بعض مؤلفاتـهم من آراء تثير ش كوكا في النص الق رآني‬
‫وتنسب إلى بعض أئمتهم‪ ،‬فإنـهم ال يقرونـها وتعتقدون بطالن م ا ت ذهب إلي ه‪ ،‬وبطالن‬
‫نسبتها إلى أئمتهم وال نع دها من م ذهبهم‪ ،‬مهم ا ك انت مكان ة رواتـها عن دهم ومكان ة‬
‫الكتب التي وردت فيها‪ ..‬وقد تصدى كث ير من أئمة الش يعة الجعفرية أنفس هم ل رد ه ذه‬
‫األخبار الكاذبة وبيان بطالنـها وبطالن نسبتها إلى أئمتهم وأنـها ليس ت من م ذهبهم في‬
‫شيء) (‪)2‬‬
‫دروزة ال ذي ق ال‪( :‬وبحيث يمكن الق ول بج زم بن اء‬ ‫ومنهم الدكتور محمد ع زة َ‬
‫على ذلك إن ما ورد في الرواي ات ال تي جله ا أو كله ا غ ير وثي ق الس ند م ع ذل ك من‬
‫زيادات أو نقص في الكلمات واآليات والسور‪ ،‬ومن مخالفة للترتيب لم يثبت عن د المأل‬
‫من أص حاب رس ول هللا ون اتج عن وهم وخط أ‪ ،‬ولبس وع دم تثبت فأهم ل‪ ،‬ومن ه م ا‬
‫يصح القول بقـوة ‪ :‬إنـه مخـترع ومـدسـوس بنيـة سيئـة وقص د مغـرض‪ .‬وجمه ور‬
‫العلماء والمـؤلفيـن مجمـعون على هذه الحقائـق بدون خـالف‪ ،‬ومن جمل ة ذل ك علم اء‬
‫ومؤلفو الشيعة اإلمامية)(‪)3‬‬
‫ومنهم األديب الكبير مصطفى صادق الرافعي ال ذي ق ال‪( :‬والق رآن الك ريم ه و‬
‫الموجود اآلن بأيدي الناس من غير زيادة وال نقصان‪ ،‬وما ورد من ّ‬
‫أن الشيعة اإلمامية‬
‫يقولون بأن القرآن قد اعتراه النقص هذا االدعاء أنكره مجموع علماء الشيعة األعالم ‪..‬‬
‫فالقرآن الكريم –إذن هو عصب الدولة اإلسالمية‪ ،‬تتفق مذاهب أه ل الس نة م ع م ذهب‬
‫الشيعة اإلمامية على قداسته ووجوب األخذ به‪ .‬وهو نسخة موحدة ال تختلف في ح رف‬
‫وال رسم لدى السنة والشيعة اإلمامية في مختلف ديارهم وأمصارهم)(‪)4‬‬
‫ومنهم المح دث الكب ير‪ ،‬ال ذي ق ال في بعض الحص ص التلفزيونية(‪ّ : )5‬‬
‫(إن‬
‫الشيعة من ي وم أن ب رزوا إلى وقتن ا ه ذا‪ ،‬ال نع رف لهم بين أي دينا وال بين أي ديهم‪ ،‬ال‬
‫نع رف لهم مص حفا ً آخ ر‪ ،‬فالموض وع انتهى والقض ية منتهي ة والمعادل ة ص فرية وال‬
‫‪ )(1‬بين الشيعة وأهل السنة ص‪.35‬‬
‫‪ )(2‬بين الشيعة وأهل السنة ص‪.37‬‬
‫‪ )(3‬القرآن والملحدون ص ‪.322‬‬
‫‪ ) )(4‬إسالمنا ص ‪.75‬‬
‫‪ )(5‬أكذوبة مصحف الشيعة‪ ،‬قناة الميادين‪ ،‬حصة ألف الم ميم بتاريخ‪.5/10/2017 ،‬‬

‫‪94‬‬
‫تحت اج إلى أخ ذ ورد‪ ،‬ولكن تحت اج إلى ش ي ٍء من المجه ود من خالل ه ن بيّن للن اس أن‬
‫أن الشيعة ليس لهم كتاب آخر وال مصحف آخر وال هذه األشياء)‬ ‫الحقيقة ّ‬
‫ثم رد على تلك الفرية التي يتعلق بها السلفيون‪ ،‬والتي يطلقون عليه ا (مص حف‬
‫فاطمة)(‪ ،)1‬فقال‪( :‬وحتى بعض الشيعة‪ ،‬هذه أمور علمية‪ ،‬ا ّدعوا بوجود مصحف اسمه‬
‫مصحف فاطمة‪ ،‬هذا مصحف فاطمة عبارة عن أوراق ُس ّميت صحفاً‪ ،‬وه ذه الص حف‬
‫كانت كثيرة‪ ،‬حقيقتها أنها كتبت في بيت فاطمة بعد وفاة النبي ‪ ،‬واتّفق علماء الشيعة‬
‫قاطبة من األولين واآلخرين بالروايات الصحيحة وغير الصحيحة أنه ال يوجد في ه ذا‬
‫المصحف‪ ،‬أي في هذه الص حف‪ ،‬آي ة قرآني ة واح دة‪ ،‬وال يوج د في ه ذه الص حف م ا‬
‫يتعل ق بالتش ريعات على اإلطالق‪ ،‬إنم ا هي وص ايا وأس ماء بعض الن اس‪ ..‬فمص حف‬
‫فاطمة كذلك‪ ،‬ال يوجد شيء اسمه مصحف فاطمة إطالقاً‪ ،‬ه ذه أكذوب ة ليس ت حقيقي ة‪،‬‬
‫أنا ال أدري من أين يأتي هؤالء الناس بهذا الكالم)‬
‫ثم تحدث عن مصحف علي بن أبي ط الب‪ ،‬فق ال‪( :‬ه و مص حف جمع ه اإلم ام‬
‫علي كما جمع غيره من الصحابة وليست فيه زيادة وال نقص ان‪ ،‬ول و ك ان هن اك ن وع‬
‫ع كثيرون‪،‬‬ ‫من الزيادة أو النقصان فإن اإلمام علي عليه سالم هللا له ذرية كبيرة وله أتبا ٌ‬
‫ولم ينقطع وا على اإلطالق‪ ،‬ه ؤالء ك انوا س يُبرزون ه ذه االختالف ات بين المس لمين‬
‫وكانوا سيبيّنون هذه السورة عندكم كذا وهذه الس ورة عن دنا ك ذا‪ ،‬وه ذا لم يح دث على‬
‫اإلطالق‪ ،‬فالمسلمون جميعا ً مجمعون على أن المصحف والذي بين دفّتي ه ذا الكت اب‪،‬‬
‫من وقت رسول هللا ‪ ‬إلى وقتنا هذا)‬
‫ومنهم د‪ .‬محمد س ليم الع وا في كتاب ه [العالق ة بين الس نة والش يعة](‪ ،)2‬وال ذي‬
‫حاول أن يعالج فيه بإنصاف كبير الكثير من المشتركات بين السنة والشيعة‪ ،‬مما ص ب‬
‫عليه وابال من التهم بعد ذلك‪ ،‬بل راح الكثير يغيبه عن الساحة العلمية والبحثي ة بس بب‬
‫موقفه ذلك‪.‬‬
‫وقد توقف طويال أثناء بحث ه ذل ك عن د ه ذه الفري ة‪ ،‬معلال ذل ك ب أن (كث يرا من‬
‫علماء أهل السنة وعامتهم يعتقدون اعتقادا شبه ج ازم أن الش يعة اإلمامي ة يعتق دون أن‬
‫القرآن محرف بالنقص منه)‬
‫ومن تصريحاته في الكتاب حول تكذيب فرية تحريف القرآن الكريم عند الش يعة‬
‫قوله‪( :‬ما يجمع بيننا وبين إخواننا من الشيعة اإلمامية اإليمان باهلل تع الى رب ا وبمحم د‬
‫نبيا ورسوال وبكل ما جاء به من عند هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وكذلك اإليم ان ب القرآن كتاب ا‬
‫منزال من عند هللا‪ ،‬وااللتزام باألحكام العملية من صالة وصيام وزكاة وحج)‬
‫وهو يستشهد في الكتاب بما نص عليه الشيخ يوسف القرضاوي نفس ه في كتاب ه‬

‫‪ )(1‬الشيعة اإلمامية يعتقدون أن لفاطمة كتابا يسمى [مصحف فاطمة]‪ ،‬وأنه ال يوجد به شيء من القرآن‪ ،‬وإنما في ه‬
‫أخبار من يملك والحوادث اآلتية على الناس‪ ،‬وليس بقرآن للشيعة كما يذكر السلفية‪ ،‬والمصحف في اللغ ة يع ني م ا جم ع‬
‫في الصحف سواء كانت صحفا كتب فيها قرآن أم غيره‪..‬‬
‫‪ )(2‬أصل الكتاب محاضرة ألقيت في مقر نقابة الصحفيين بالقاهرة مساء األربع اء ‪ 6‬س بتمبر‪/‬أيل ول ‪ 2006‬ب دعوة‬
‫من لجنة المتابعة في النقابة وأذاعتها قناة الجزيرة‪ ،‬وهو من منشورات دار الزمن‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى ‪..2007‬‬

‫‪95‬‬
‫(مبادئ في الحوار والتقريب بين الم ذاهب اإلس المية)‪ ،‬وال ذي ق ال في ه‪( :‬وال يخ الف‬
‫مسلم سني أو شيعي في أن ما بين الدفتين من سورة الفاتحة إلى سورة الن اس ه و كالم‬
‫هللا الم نزل على محم د ‪ ،‬ب ه يس تدل الفقه اء والمتكلم ون وإلي ه يرج ع ال دعاة‬
‫والمرشدون‪ ،‬ومن ه يس تمد الموجه ون والمرب ون بال خالف بين أح د منهم وآخ ر على‬
‫حرف فما فوقه أنه من كالم هللا تعالى)‬
‫ب ـ روايات التحريف وكتب المدرسة السنية‪:‬‬
‫وهو وجه خطير جدا‪ ،‬ذلك أنه لو اعتبرنا أمثال تلك الروايات التي يعتم د عليه ا‬
‫المفترون في ادعائهم بأن الشيعة يقولون بتحريف القرآن الكريم‪ ،‬فإننا سنجد أمثالها في‬
‫المدرسة السنية‪ ،‬وبذلك تعطي الذريعة لمن يريد أن يتهم السنة بالقول بتحريف القرآن‪،‬‬
‫وذلك ما حصل لألسف في الواقع اإلسالمي‪ ،‬وجعل الكثير من المبشرين والمستشرقين‬
‫والحداثيين‪ ،‬يشككون في القرآن الكريم‪.‬‬
‫وقد قال األستاذ محمد المديني عمي د كلي ة الش ريعة بجامع ة األزه ر مع برا عن‬
‫هذه الحقيق ة‪( :‬وأ ّمـا أن اإلمامي ة يعتق دون نقص الق رآن‪ ،‬فمع اذ هللا‪ .‬إنم ا هي رواي ات‬
‫رويت في كتبهم‪ ،‬كم ا روي مثله ا في كتبن ا‪ .‬وأه ل التحقي ق من الف ريقين ق د زيّفوه ا‪،‬‬
‫وبينوا بطالنـها وليس في الشيعة اإلمامي ة أو الزيدي ة من يعتق د ذل ك كم ا أن ه ليس في‬
‫السنة من يعتقده)‬
‫ثم ذكر مثاال على ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬وقد ألّف أحد المصريين كتاب ا اس مه ( الفرق ان )‬
‫حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة‪ ،‬ن اقال له ا عن الكتب‬
‫والمصادر عند أهل السنة‪ ،‬وقد طلب األزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بع د أن‬
‫بين بالدليل والبحث العلمي أوجه البطالن والفساد فيه‪ ،‬فاستجابت الحكومة له ذا الطلب‬
‫وصادرت الكتاب‪ ،‬فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضا‪ ،‬فحكم القضاء اإلداري في‬
‫مجلس الدولة برفضها)‬
‫أن أهل السنة ينك رون قداس ة الق رآن ؟ أو‬ ‫ثم تساءل بناء على هذا قائال‪( :‬أفيقال ّ‬
‫يعتق دون نقص الق رآن لرواي ة رواه ا فالن ؟ أو لكت اب ألف ه فالن ؟ فك ذلك الش يعة‬
‫اإلمامية‪ ،‬إنما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا)(‪)1‬‬
‫وم ا ذك ره لألس ف ص حيح‪ ،‬فق د روى ابن أبي داود بس نده إلى ابن ش هاب‬
‫الزهري‪ ،‬أنه قال‪( :‬بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير‪ ،‬فقتل علماؤه يوم اليمامة الذين ك انوا‬
‫قد وعوه ولم يعلم بعدهم ولم يكتب)(‪)2‬‬
‫وروى عبد الرزاق الصنعاني في المصنف عن س فيان الث وري‪ ،‬وه و من أئم ة‬
‫السلف قوله‪( :‬وبلغنا أن أناسا من أصحاب النبي ‪ ‬كانوا يقرؤون القرآن أص يبوا ي وم‬
‫مسيلمة فذهبت حروف من القرآن)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬مجلة رسالة اإلسالم العدد الرابع من السنة الحادية عشرة ص ‪ 382‬و ‪.383‬‬
‫‪ )(2‬المص احف ألبي بك ر بن أبي داود ص‪ ،31‬وفي طبع ة قط ر المحقق ة من محب ال دين واع ظ في المجلد‪1‬ص‬
‫‪216‬ح‪ 81‬نص على صحة األثر عن الزهري‪.‬‬
‫‪ )(3‬المصنف للصنعاني ج‪7‬ص‪.330‬‬

‫‪96‬‬
‫وروى الحافظ ابن عبد البر عن مجاهد قال ‪( :‬كانت األحزاب مثل سورة البق رة‬
‫أو أطول‪ ،‬ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير‪ ،‬ولم يذهب منه حالل وال حرام)(‪)1‬‬
‫وروى الذهبي في [تاريخ اإلسالم] عن الزهري أن ه س ئل عن التق ديم والت أخير‬
‫في الح ديث‪ ،‬فق ال ‪( :‬ه ذا يج وز في الق رآن فكي ف ب ه في الح ديث إذا أص يب مع نى‬
‫الحديث فال بأس)(‪)2‬‬
‫{حتَّى‬ ‫وروى عبد بن حميد عن محمد بن سيرين أنه سئل كي ف تق رأ ه ذه اآلي ة َ‬
‫{حتَّى إِ َذا فُ ِّز َع ع َْن‬ ‫إِ َذا فُ ِّز َع ع َْن قُلُ وبِ ِه ْم}(س بأ‪ ،)23 :‬أو ( ف رغ عن قلوبـهم ) ق ال ‪َ :‬‬
‫قُلُوبه ْم}‪ ،‬قال ‪ :‬فإن الحسن يقول بـرأيه أشياء أهاب أن أقولـها)(‪)3‬‬
‫ِِ‬
‫وروى الطبري عن الحسن البصري أنه قال ‪ :‬في قوله تعالى‪َ { :‬ما نَن َس ْخ ِم ْن آيَ ٍة‬
‫ت بِخَ ي ٍْر ِم ْنهَ ا}(البق رة‪ )106:‬ق ال ‪ :‬إن ن بيكم ‪ ‬أق رئ قرآن ا‪ ،‬ثم نس يه فلم‬ ‫أَوْ نُن ِسهَا نَأْ ِ‬
‫يكن شيئا‪ ،‬ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه)(‪)4‬‬
‫وروى ابن الضريس في فضائله عن حماد بن سلمة ـ الذي يعتبره الس لفية إمام ا‬
‫كب يرا من أئمتهم ـ ق ال ‪( :‬قرأن ا في مص حف أبي بن كعب ( اللهم إن ا نس تعينك‬
‫وتستغفرك ونثني عليك الخير وال نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك )‪ ،‬قال حماد ‪ :‬ه ذه‬
‫اآلن سـورة‪ ،‬وأحسبه قال ‪ ( :‬اللهم إياك نعبد ولك نص لى ونس جد والي ك نس عى ونحف د‬
‫نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق)(‪)5‬‬
‫ق‬ ‫الى‪{:‬وإِ ْذ أَخَ َذ هَّللا ُ ِميثَ ا َ‬
‫َ‬ ‫وروى الط بري في تفس يره عن الربي ع في قول ه تع‬
‫النَّبِيِّينَ }(آل عمران‪ )81:‬يقول ‪ ( :‬وإذ أخذ هللا ميثاق الذين أوتوا الكتاب )‪ ،‬وكذلك ك ان‬
‫يقرؤها الربيع ( وإذ أخ ذ هللا ميث اق ال ذين أوت وا الكت اب ) إنـما هي ( أه ل الكت اب )‪،‬‬
‫قال ‪ :‬وكذلك ك ان يقرؤه ا أبي بن كعب‪ .‬ق ال الربي ع ‪ :‬أال ت رى أن ه يق ول {ثُ َّم َج ا َء ُك ْم‬
‫ص ُرنَّهُ }(آل عمران‪ )81:‬يقول ‪ :‬لتؤمنن بمحمد‬ ‫ق لِ َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤ ِمنُ َّن بِ ِه َولَتَ ْن ُ‬
‫ص ِّد ٌ‬
‫َرسُو ٌل ُم َ‬
‫ولتنصرنه‪ ،‬قال ‪ :‬هم أهل الكتاب)(‪)6‬‬
‫ان}(ط ه‪ )63 :‬عن أبي‬ ‫اح َر ِ‬ ‫وروى أبو عبيد في قوله تعالى‪{:‬قَ الُوا إِ ْن هَ َذ ِ‬
‫ان لَ َس ِ‬
‫ان } كم ا‬ ‫عم رو وعيس ى وي ونس ‪ ( :‬إن ه ذين لس احران ) في اللف ظ و ُكـتب { هَ َذ ِ‬
‫يزيدون وينقصون في الكتاب (‪.)7‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن النصوص الواردة في كتب المدرسة السنية‪ ،‬والتي لو شاء‬
‫أي أحد أن يواجههم به ا لك ان ل ه بعض الحج ة في ذل ك‪ ،‬ل ذلك ك ان األج در ب المؤمن‬

‫‪ )(1‬التمهيد في شرح الموطأ ج ‪4‬ص‪ 275‬شرح حديث رقم ‪.21‬‬


‫‪ )(2‬تاريخ اإلسالم حوادث (‪140-121‬ه‍ ) ص‪.. 241‬‬
‫‪ )(3‬الدر المنثور ج‪5‬ص‪.237‬‬
‫‪ )(4‬جامع البيان للطبري ج‪1‬ص‪665‬ح‪.1448‬‬
‫‪ )(5‬الدر المنثور ج‪ 6‬ص‪.420‬‬
‫‪ )(6‬تفسير الطبري ج‪3‬ص‪.331‬‬
‫‪ )(7‬مجاز القرآن ج‪2‬ص‪ 21‬ألبي عبيدة المتوفى ‪210‬ه‍ ‪..‬‬

‫‪97‬‬
‫الورع أال يحمله حقده على اآلخر على تقويض دينه ومصادره المقدس ة‪ ،‬وإال ك ان من‬
‫المكتالين بالمكاييل المزدوجة‪ ،‬فهو إما أن يقر بم ا في كتب ه من ورود النقص والزي ادة‬
‫في القرآن الكريم على حسب ما تدل عليه تلك الروايات‪ ،‬أو ينكره ا‪ ،‬وعلي ه حينه ا أن‬
‫يتعامل بنفس المعاملة مع ما ورد في كتب المدرسة الشيعية‪.‬‬
‫وأحب أن أذك ر هن ا أن الم يرزا الن وري ص احب ذل ك الكت اب ال ذي يش هره‬
‫السلفيون‪ ،‬ويبشرون به‪ ،‬ليفتروا من خالله مث ل ه ذه الفري ة الخط يرة على الش يعة‪ ،‬لم‬
‫يكتف بالروايات من كتب الشيعة‪ ،‬وإنما ذكر الكث ير منه ا من كتب الس نة‪ ،‬وب ذلك ف إن‬
‫الذي يساهم في إشهار الكتاب والدعوة إليه هو في الحقيقة ي رمي كال المدرس تين به ذه‬
‫الفرية الخطيرة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ فرية الموقف من الصحابة‪:‬‬
‫وهي فرية عجيبة يستند فيه ا المغرض ون والحاق دون على إي ران‪ ،‬وخاص ة في‬
‫ثوبها اإلسالمي الجديد إلى بينات ال تمت لها بصلة‪ ،‬بل هي بعيدة عنها‪ ،‬وال عالقة له ا‬
‫بها‪ ،‬بل إنه ا ت دخل ض من م ؤامرات أع دائها‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي يغفل ون في ه عن‬
‫آالف‪ ،‬بل عشرات آالف الوثائق التي تبين الموقف الصحيح لإليرانيين‪ ،‬ولق ادة الث ورة‬
‫اإلس المية خصوص ا من ه ذه القض ية‪ ،‬ال تي جعله ا األع داء قميص عثم ان ال ذي ب ه‬
‫يعلنون الحرب عليها‪.‬‬
‫فالكثير ممن يتح دث عن س ب الص حابة‪ ،‬ولعنهم يس تند لياس ر الح بيب وقنوات ه‬
‫ال تي تبث من لن دن‪ ،‬أو للهي اري‪ ،‬وقنات ه ال تي تبث من واش نطن‪ ،‬وكالهم ا ليس ا من‬
‫إيران‪ ،‬وكالهما يعادي الجمهورية اإلس المية اإليراني ة‪ ،‬وكالهم ا يع ادي نظ ام والي ة‬
‫الفقيه‪ ،‬بل كالهما يعتبر قادة الجمهورية اإلسالمية من النواصب الذين يجب حربهم‪.‬‬
‫فهل يمكن عقال أن نستند لمثل ه ؤالء في دعاوان ا‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي ن ترك‬
‫فيه المراجع الكبار إليران والعراق وغيرهما‪ ،‬وال ذين يص درون ك ل ي وم الفت اوى في‬
‫تحريم أمثال تلك التصرفات البشعة التي تهدد الوحدة اإلسالمية‪ ،‬بل يعتبرونها م ؤامرة‬
‫على اإلسالم؟‬
‫وقب ل أن أذك ر بعض الوث ائق الك برى للدالل ة على الم دى ال ذي يح ترم ب ه‬
‫اإليرانيون الصحابة‪ ،‬قادة وشعبا‪ ،‬أتحدى أي شخص أن يأتيني بشاهد واحد من قناة من‬
‫القنوات التي تبث من إي ران أو الع راق‪ ،‬في ه لعن أو س ب ألح د من الص حابة‪ ،‬أو ألي‬
‫مقدس من مقدسات المدرسة السنية‪.‬‬
‫لن يجد ذلك أبدا‪ ،‬ألن ذلك محرم على كل من يؤمن بوالية الفقيه ال تي أص درت‬
‫فتاواها المشددة في تحريم التعرض للصحابة بما ال يلي ق م ع مك انتهم‪ ،‬وق د تب نى ه ذه‬
‫الفتاوى كل قادتها ابتداء من الخميني وانتهاء بالخامنئي‪ ،‬ومعهم ا ك ل المراج ع الكب ار‬
‫الذين يحظون بماليين األتباع‪ ،‬ال في إيران وحدها‪ ،‬بل في جميع العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫ول ذلك فإن ه ل و أحص ينا ذل ك الجمه ور ال ذي يس تند إلي ه المغرض ون في س ب‬
‫الصحابة‪ ،‬فلن يجدوا إال فئات محدودة جدا‪ ،‬وهي من الشواذ الذين ال يقاس عليهم‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬ال يصح ـ دينا وخلق ا ـ أن يحمل وا على الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة‬

‫‪98‬‬
‫أوزار أع دائها‪ ،‬كم ا ال تحم ل الجمهوري ة اإلس المية أوزار أولئ ك ال ذين يس يئون إلى‬
‫السنة في المدرسة السنية‪ ،‬سواء بتلك األفك ار الش اذة ال تي نس معها ك ل حين‪ ،‬أو ب ذلك‬
‫العنف الذي تأسست منه الكثير من الجماعات‪ ،‬وهي تدعي نسبتها للمدرسة السنية‪.‬‬
‫وقبل أن أذكر بعض النماذج من أقوال الق ادة السياس يين والفك ريين للجمهوري ة‬
‫اإلس المية اإليراني ة ح ول الص حابة‪ ،‬أحب أن أذك ر أن لهم دع اء خاص ا للص حابة‪،‬‬
‫يدعون به كل حين‪ ،‬مثلهم مثل جميع الش يعة في الع الم‪ ،‬وه و دع اء ال نج د نظ يرا ل ه‬
‫لألسف في المدرسة السنية‪.‬‬
‫ونص الدعاء هو‪( :‬اللهم وأصحاب محمد ( صلى هللا عليه وآل ه ) خاص ة ال ذين‬
‫أحسنوا الصحبة‪ ،‬والذين أبلوا البالء الحسن في نصره‪ ،‬وكانفوه وأس رعوا إلى وفادت ه‪،‬‬
‫وس ابقوا إلى دعوت ه‪ ،‬واس تجابوا ل ه حيث أس معهم حج ة رس االته‪ ،‬وف ارقوا األزواج‬
‫واألوالد في إظهار كلمته‪ ،‬وقاتلوا اآلباء واألبناء في تثبيت نبوته‪ ،‬وانتصروا ب ه‪ ،‬ومن‬
‫كانوا منطوين على محبته‪ ،‬يرجون تجارة لن تبور في مودته‪ ،‬والذين هجرتهم العشائر‬
‫إذ تعلقوا بعروته‪ ،‬وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته‪ ،‬فال تنس لهم اللهم م ا‬
‫تركوا لك وفيك‪ ،‬وأرضهم من رضوانك‪ ،‬وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا م ع رس ولك‬
‫دعاة لك إليك‪ ،‬واشكرهم على هجرهم فيك ديار ق ومهم‪ ،‬وخ روجهم من س عة المع اش‬
‫إلى ضيقه‪ ،‬ومن كثرت في إعزاز دينك من مظل ومهم‪ .‬اللهم وأوص ل إلى الت ابعين لهم‬
‫بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا وإلخواننا)(‪)1‬‬
‫بل إن المتدينين منهم يخصونهم بالدعاء كل يوم ثالثاء‪ ،‬فمن أدعية ي وم الثالث اء‬
‫في المدرسة الشيعية‪( :‬اللـهم صل على محمد خاتم النبيين‪ ،‬وتمام عدة المرس لين وعلى‬
‫آله الطيبين الطاهرين‪ ،‬واصحابه المنتجبين)‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فهم يرددون في مساجدهم ك ل حين بأص واتهم الش جية ذل ك‬
‫الثناء العطر الذي قاله اإلمام علي عن الصادقين الس ابقين من الص حابة‪ ،‬وال ذي يق ول‬
‫في ه‪( :‬أين إخ واني ال ذين ركب وا الطري ق ومض وا على الح ق ؟ أين عم ار ؟ وأين ابن‬
‫التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظ راؤهم من إخ وانهم ال ذين تعاق دوا على المني ة‬
‫وأبرد برؤوسهم إلى الفج رة ؟ أوه على إخ واني ال ذين تل وا الق رآن ف أحكموه وت دبروا‬
‫الفرض فأق اموه‪ .‬أحي وا الس نة وأم اتوا البدع ة‪ ،‬دع وا للجه اد فأج ابوا‪ ،‬ووثق وا بالقائ د‬
‫فاتبعوه)(‪)2‬‬
‫ويرددون معها قوله يوم صفين‪ ،‬يوم فرض عليه الصلح‪( :‬ولق د كن ا م ع رس ول‬
‫هللا ‪ ‬نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا‪ ،‬ما يزيدنا ذلك إال إيمانا وتسليما‪ ،‬ومضيا‬
‫على اللقم‪ ،‬وصبرا على مض ض األلم‪ ،‬وج دا في جه اد الع دو‪ ،‬ولق د ك ان الرج ل من ا‬
‫واآلخر من عدونا يتصاوالن تصاول الفحلين‪ ،‬يتخالسان أنفسهما أيهم ا يس قي ص احبه‬
‫كأس المنون‪ ،‬فمرة لنا من عدونا‪ ،‬ومرة لعدونا منا‪ .‬فلم ا رأى هللا ص دقنا أن زل بع دونا‬

‫‪ )(1‬الصحيفة السجادية‪ ،‬الدعاء ‪..4‬‬


‫‪ )(2‬نهج البالغة‪ ،‬الخطبة ‪..182‬‬

‫‪99‬‬
‫الكبت‪ ،‬وأنزل علينا النصر‪ ،‬حتى استقر اإلسالم ملقيا جرانه ومتبوئا أوطانه‪ ،‬ولعمري‬
‫لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود‪ ،‬وال اخضر لإليمان عود)(‪)1‬‬
‫ويق رؤون معه ا قول ه في تل ك الخطب ة العص ماء‪ ،‬ال تي ال نج د له ا نظ يرا في‬
‫المدرسة السنية في وصف الصحابة‪ ،‬فقد قال عنهم‪( :‬لقد رأيت أصحاب محمد ‪ ،‬فما‬
‫أرى أح داً يش بههم منكم لق د ك انوا يص بحون ش عثا ً غ براً‪ ،‬وق د ب اتوا س جّداً وقيام ا ً‬
‫يراوحون بين جبا ِه ِهم وخـدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذك ر معـادهم‪ ،‬ك أن بين‬
‫أعينهم رُكب المعزي من طول سجودهم‪ ،‬إذا ذكر هللا هملت أعينهم حتى تبُ َّل جي وبهم‪،‬‬
‫ومـادوا كمـا يميـد الشجـر يوم الريح العاصف‪ ،‬خـوفا ً من العقاب ورجـا ًء للثواب)(‪)2‬‬
‫وهكذا نجد النصوص الكثير في التراث الشيعي‪ ،‬وخصوصا ذلك الذي يتعب دون‬
‫به‪ ،‬ويقرؤونه في مساجدهم ودورهم وفي كل محل‪.‬‬
‫ونقطة الخالف بين السنة والشيعة في المسألة ال تعدو أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن الشيعة ال يرون عصمة الصحابة‪ ،‬ولذلك يجوزون نقدهم‪ ،‬وخصوصا‬
‫في إعراضهم عن اإلمام علي باعتباره عندهم هو وص ي رس ول هللا ‪ ،‬ول ذلك هم ال‬
‫ينك رون ك ون ال ذين أعرض وا عن ه من الص حابة‪ ،‬وال أن لهم فض ل الص حبة‪ ،‬ولكن‬
‫ينكرون عليهم ذلك اإلعراض‪.‬‬
‫وهكذا هم ال ينكرون كون عائشة زوجة لرسول هللا ‪ ،‬وأنها أم المؤمنين‪ ،‬وأن‬
‫له ا الكث ير من الفض ل بس بب ذل ك‪ ،‬ولكن ينك رون عليه ا خروجه ا على اإلم ام علي‪،‬‬
‫وحربها له‪ ،‬وله ذا ي روون في مص ادرهم المعت برة أن علي ا بع د انتص اره في معرك ة‬
‫الجمل لم يسئ إليها ولم يؤذها‪ ،‬بل ردها مكرمة إلى بيتها‪ ،‬بعد أن عاتبها على خروجها‬
‫الذي سبب فتنة للمسلمين‪.‬‬
‫وهو ما تتفق معهم فيه المدرسة السنية‪ ،‬فقد قال الذهبي‪( :‬روى إسماعيل بن أبي‬
‫خالد‪ ،‬عن قيس قال‪ :‬قالت عائشة وكانت تح دث نفس ها أن ت دفن في بيته ا‪ ،‬فق الت‪ :‬إني‬
‫أحدثت بعد رسول هللا ‪‬حدثا‪ ،‬ادفنوني مع أزواجه فدفنت بالبقيع)‪ ،‬ثم عل ق على ذل ك‬
‫بقوله‪( :‬تعني بالحدث‪ :‬مسيرها يوم الجمل؛ فإنها ندمت ندامة كلية وتابت من ذلك‪ ،‬على‬
‫أنها ما فعلت ذلك إال متأولة قاصدة للخير‪ ،‬كم ا اجته د طلح ة بن عبي د هللا والزب ير بن‬
‫العوام وجماعة من الكبار)(‪)3‬‬
‫وقال الزيلعي‪( :‬وأجمعوا على أن علي ا ك ان مص يبا في قت ال أه ل الجم ل‪ ،‬وهم‬
‫طلح ة‪ ،‬والزب ير‪ ،‬وعائش ة‪ ،‬ومن معهم‪ ،‬وأه ل ص فين‪ ،‬وهم معاوي ة‪ ،‬وعس كره‪ ،‬وق د‬
‫أظه رت عائش ة الن دم‪ ،‬كم ا أخرج ه ابن عب د ال بر في كت اب االس تيعاب عن ابن أبي‬
‫عتيق‪ ،‬وهو عبد هللا بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق‪ ،‬قال‪ :‬ق الت عائش ة‬
‫البن عمر‪ :‬يا أبا عبد ال رحمن‪ ،‬م ا منع ك أن تنه اني عن مس يري؟! ق ال‪ :‬رأيت رجال‬

‫‪ )(1‬نهج البالغة‪ ،‬الخطبة ‪..56‬‬


‫‪ )(2‬نهج البالغة للشريف الرضى شرح محمد عبده ص ‪..225‬‬
‫‪ )(3‬سير أعالم النبالء‪.462 /3 :‬‬

‫‪100‬‬
‫خرجت)(‪)1‬‬ ‫غلب عليك ‪ -‬يعني ابن الزبير‪ -‬فقالت‪ :‬أما وهللا لو نهيتني ما‬
‫وقال األلباني ـ والذي يزعم السلفية أنهم شيعة له ـ بع د ذك ره لح ديث الح وأب‪:‬‬
‫(وجملة القول أن الحديث صحيح اإلسناد‪ ،‬وال إش كال في متن ه‪ ..‬ف إن غاي ة م ا في ه أن‬
‫عائشة لما علمت بالحوأب كان عليها أن ترجع‪ ،‬والحديث يدل أنها لم ترجع! وهذا مم ا‬
‫ال يليق أن ينسب ألم المؤمنين‪ .‬وجوابنا على ذلك أنه ليس كل ما يق ع من الكم ل يك ون‬
‫الئقا بهم‪ ،‬إذ ال عصمة إال هلل وحده‪ .‬والسني ال ينبغي ل ه أن يغ الي فيمن يحترم ه ح تى‬
‫يرفعه إلى مصاف األئمة الشيعة المعص ومين! وال نش ك أن خ روج أم المؤم نين ك ان‬
‫خطأ من أصله‪ ،‬ولذلك همت بالرجوع حين علمت بتحقق نبوءة النبي ‪‬عند الح وأب‪،‬‬
‫ولكن الزبير أقنعها بترك الرجوع بقوله‪( :‬عسى هللا أن يصلح بك بين الناس) وال نش ك‬
‫أنه كان مخطئا في ذلك أيضا‪ .‬والعق ل يقط ع بأن ه ال من اص من الق ول بتخطئ ة إح دى‬
‫الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى‪ .‬وال شك أن عائشة المخطئة ألسباب‬
‫كثيرة‪ ،‬وأدلة واضحة‪ ،‬ومنها ندمها على خروجها‪ ،‬وذلك هو الالئ ق بفض لها وكماله ا‪،‬‬
‫وذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور بل المأجور)(‪)2‬‬
‫ولهذا عندما نرج ع إلى أعالم الش يعة الكب ار وم راجعهم‪ ،‬وعلى م دار الت اريخ‪،‬‬
‫نجدهم يحترون عرض رسول هللا ‪ ،‬بل عرض جميع األنبياء‪ ،‬بل يرون من عصمة‬
‫النبي عصمة عرضه‪ ،‬ولذلك لم يسيئوا لرسول هللا ‪ ‬في عرضه‪ ،‬حتى لو اختلفوا مع‬
‫بعض أمهات المؤمنين بسبب حربهم لإلمام علي‪ ..‬ألن أمه ات المؤم نين وإن عص موا‬
‫في أعراضهم بسبب ارتباطهم بالمعصوم إال أنهم ليسوا معصومين فيما عدا ذل ك‪ ،‬وق د‬
‫نص القرآن الكريم على ذلك‪ ،‬بل ذك ر أن من نس اء األنبي اء من وق ع في الكف ر ذات ه‪..‬‬
‫وفرق كبير بين الكفر والفاحشة‪ ..‬فالفاحشة ترتبط بعرض النبي‪ ،‬بخالف الكفر وغيره‪،‬‬
‫فال عالقة لذلك بعرض النبي‪ ..‬بل إن القرآن الكريم ذكر أن أبناء األنبياء أنفسهم ليس وا‬
‫معصومين من الكفر‪ ،‬وقد قص علين ا من قص ة ابن ن وح علي ه الس الم م ا يثبت ذل ك‪،‬‬
‫وقص علينا من أمر امرأة نوح ولوط ما يدل على ذلك أيضا‪.‬‬
‫وقد قال العالمة السيد شرف الدين الموسوي‪ ،‬وهو من أعالم الش يعة الكب ار في‬
‫هذا العصر‪ ،‬في أجوبة مسائل جار هللا‪( :‬من الوجوه التي اعتمد عليها الناص ب موس ى‬
‫جار هللا في تكف ير الش يعة اإلمامي ة أنهم يطول ون ألس نتهم على عائش ة‪ ،‬ويتكلم ون في‬
‫حقها من أمر االفك والعياذ باهلل ما ال يليق بشأنها‪ ..‬إلى آخ ر افك ه وبهتان ه‪ ..‬والج واب‬
‫أنها عند االمامية‪ ،‬وفي نفس األمر والواقع أنقى جيبا‪ ،‬وأطهر ثوب ا وأعلى نفس ا وأغلى‬
‫عرضا وامنع صوتا وارفع جنابا وأعز خدرا واس مى مقام ا من أن يج وز عليه ا غ ير‬
‫النزاهة أو يمكن في حقها اال العف ة والص يانة‪ ،‬وكتب االمامي ة ق ديمها وح ديثها ش اهد‬
‫عدل بما أقول‪ ،‬على أن أصولهم في عصمة االنبياء تحيل ما بهتها به أهل االف ك بتات ا‪،‬‬
‫وقواعدهم تمنع وقوعه عقال ول ذا ص رح فقي ه الطائف ة وثقته ا أس تاذنا المق دس الش يخ‬

‫‪ )(1‬نصب الراية (‪)69 /4‬‬


‫‪ )(2‬نصب الراية (‪)70 - 69 / 4‬‬

‫‪101‬‬
‫محمد طه النجفي أعلى هللا مقامه بما يستقل بحكمه العقل من وجوب نزاهة األنبياء عن‬
‫أقل عائبة ولزوم طهارة أعراضهم عن أدنى وصمة‪ ،‬فنحن وهللا ال نحت اج في براءته ا‬
‫الى دليل‪ ،‬وال نجوز عليها وال على غيرها من أزواج األنبياء واألوصياء ك ل م ا ك ان‬
‫من هذا القبيل)‬
‫ثم نقل عن الش ريف المرتض ى علم اله دى ردا على من نس ب الخن ا الى ام رأة‬
‫نوح ـ كما يقول بذلك ابن تيمية نفسه ـ ‪( :‬إن األنبياء عليهم الص الة والس الم يجب عقال‬
‫ان ينـزهوا عن مثل هذه الحال ألنها تعر وتشين وتغض من القدر‪ ،‬وقد جنب هللا تع الى‬
‫أنبياءه عليهم الصالة والسالم ما ه و دون ذل ك تعظيم ا لهم وتوق يرا لك ل م ا ينف ر عن‬
‫القبول منهم)‬
‫ثم نقل اإلجماع على ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬وعلى ذلك اجم اع مفس ري الش يعة ومتكلميهم‬
‫وسائر علمائهم)‬
‫ثم بين موضع انتقاد الشيعة لها‪ ،‬وهو مما يتفقون فيه مع السنة‪ ،‬فقال‪( :‬نعم ننتق د‬
‫﴿وقَ رْ نَ فِي بُيُ وتِ ُك َّن ﴾‬
‫من أفع ال أم المؤم نين خروجه ا من بيته ا بع د قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫[األحزاب‪ ]33 :‬وركوبها الجمل بعد تحذيرها من ذلك ومجيئها الى البصرة تقود جيشا‬
‫عرمرما تطلب على زعمها بدم عثمان‪ ،‬وهي التي أمالت حربه وألبت عليه وقالت في ه‬
‫ما قالت‪ ،‬ونلومها على أفعالها في البصرة ي وم الجم ل األص غر م ع عثم ان بن ح نيف‬
‫وحكيم بن جبلة ونستنكر أعمالها يوم الجمل األكبر مع أمير المؤمنين ويوم البغل حيث‬
‫ظنت أن بني هاشم يريدون دفن الحسن المجتبى عند جده ‪ ‬فك ان م ا ك ان منه ا ومن‬
‫مروان‪ ،‬بل نعتب عليها في سائر سيرتها مع سائر أهل البيت عليهم السالم)‬
‫وهذا الذي قاله شرف الدين الموسوي ه و نفس ه ال ذي تنص علي ه ك ل المراج ع‬
‫الشيعية المعتمدة‪ ..‬أما الروايات الباطلة التي اعتمدها عليها المغرضون فهي مرفوض ة‬
‫من جميع المراجع لمعارضتها العقل والفطرة والقرآن الكريم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هو أن الشيعة يقصرون لقب الصحبة وش رفها على من ص حبوا رس ول‬
‫هللا ‪ ‬حقيق ة‪ ،‬وورد الثن اء عليهم في الق رآن الك ريم‪ ،‬واعتب ارهم من المه اجرين‬
‫واألنصار‪ ،‬وهو خالف م ا تتبن اه المدرس ة الس نية ال تي تجع ل الص حابة ك ل من رأى‬
‫رس ول هللا ‪ ،‬وهي ب ذلك ال تف رق بين ق وم رس ول هللا ‪ ،‬وبين أص حابه‪ ،‬م ع أن‬
‫الصحبة في األصل ال تكون إال لعدد محدود‪.‬‬
‫والمشكلة ليست في مجرد اللقب‪ ،‬وإنما في اعتب ار ك ل من رأى رس ول هللا ‪،‬‬
‫وهم عشرات اآلالف من الناس‪ ،‬ثقات وعدول‪ ،‬يمكن أن يؤخذ عنهم ال دين ح تى ل و لم‬
‫يكن حظهم من الصحبة إال رؤية رسول هللا ‪.‬‬
‫مع أننا لو عدنا للقرآن الكريم‪ ،‬فإننا نجده يصنف قوم رسول هللا ‪ ‬إلى أصناف‬
‫متع دد‪ ،‬حيث نج د في ه الح ديث عن الس ابقين األولين‪ ،‬والمب ايعين تحت الش جرة‪،‬‬
‫والمهاجرين المهجرين عن دي ارهم وأم والهم‪ ،‬وأص حاب الفتح‪ ،‬وه ؤالء جميع ا يث ني‬
‫عليهم ويذكر فضلهم‪.‬‬
‫لكنه في نفس الوقت يذكر أصنافا أخرى‪ ،‬وضعت لألسف بعد ذلك جميعا ض من‬

‫‪102‬‬
‫الص حابة‪ ،‬كالمن افقين‪ ..‬أو المن افقين المتس ترين ال ذين ال يع رفهم الن بي ‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ب ُمنَ افِقُونَ َو ِم ْن أَ ْه ِل ْال َم ِدينَ ِة َم َردُوا َعلَى النِّفَ ِ‬
‫اق اَل‬ ‫{و ِم َّم ْن َحوْ لَ ُك ْم ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫َظ ٍيم} [التوب ة‪ ،]101 :‬أو‬ ‫بع ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫تَ ْعلَ ُمهُ ْم نَحْ نُ نَ ْعلَ ُمهُ ْم َس نُ َعذبُهُ ْم َم َّرتَي ِْن ث َّم يُ َر ُّدونَ إِلَى َع َذا ٍ‬
‫مرضى القلوب وضعفاء اإليمان الذين ذكروا كث يرا في الق رآن الك ريم‪ ..‬أو الس ماعين‬
‫ألهل الفتن ة‪ ،‬أو ال ذين خلط وا عمال ص الحا وآخ ر س يئا‪ ..‬أو المش رفين على االرت داد‬
‫عندما دارت عليهم الدوائر ‪ ..‬أو الفساق الذين ال يصدق قولهم وال فعلهم‪ ..‬أو المس لمين‬
‫الذين لم يدخل اإليمان في قلوبهم‪ ..‬أو المؤلفة قلوبهم الذين يظه رون اإلس الم ويت آلفون‬
‫بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم‪ ..‬أو المولين أمام الكفار‪.‬‬
‫وبذلك فإن القرآن الكريم يذكر لنا أن المسلمين الذين عاصروا رس ول هللا ‪ ‬لم‬
‫يكون وا ص نفا واح دا‪ ،‬ب ل ك انوا مختلفين في ق وة اإليم ان وض عفه‪ ،‬وفي م دى طاع ة‬
‫رسول هللا ‪ ..‬لذلك ال يصح عند الش يعة اعتب ارهم جميع ا ع دوال وثق ات‪ ،‬أو الق ول‬
‫بأنهم جميعا هداة ومهتدين‪ ،‬وأن ه يص ح االقت داء ب أي منهم‪ ،‬ألن ذل ك س يعرض ال دين‬
‫للتحريف والتشويه‪.‬‬
‫وأحب أن أنبه هنا إلى الخطأ الكبير الذي يذكره الكثير من المغرضين إم ا جهال‬
‫أو عن سوء قصد‪ ،‬وهي اعتبارهم أن الشيعة يقولون بردة جميع الصحابة‪ ،‬وأنه لم يبق‬
‫منهم إال عدد محدود جدا‪ ،‬وهذا ناتج عن عدم مراجعة كتبهم‪ ،‬أو عدم التحقيق فيها‪ ،‬ب ل‬
‫عن عدم الرجوع لكتب المدرسة السنية نفسها‪ ،‬فقد ورد في الصحيحين ق ال الن بي ‪:‬‬
‫( إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب‪ ،‬ومن شرب لم يظم أ أب دا‪ ،‬ل يردن علي‬
‫أقوام أعرفهم ويعرفوني‪ ،‬ثم يحال بيني وبينهم‪ ،‬فأقول ‪ :‬إنهم مني‪ ،‬فيقال ‪ :‬إنك ال تدري‬
‫ما أحدثوا بعدك‪ ،‬فأقول ‪ :‬سحقا‪ ،‬سحقا‪ ،‬لمن غير بعدي )(‪)1‬‬
‫وفي رواية أخرى عن الن بي ‪ ‬أن ه ق ال ‪ ( :‬ل يردن علي الح وض رج ال ممن‬
‫ص احبني‪ ،‬ح تى إذا رأيتهم ورفع وا إلي اختلج وا دوني‪ ،‬فألق ولن ‪ :‬أي رب أص يحابي‬
‫أصيحابي‪ ،‬فليقالن لي ‪ :‬إنك ال تدري ما أحدثوا بعدك )(‪)2‬‬
‫ول ذلك ف إن الش يعة ـ في مدرس تهم األص ولية ـ ال يقص دون ب الردة مفهومه ا‬
‫الحقيقي‪ ،‬الذي هو الكفر‪ ،‬وإنما يقصدون بها تضييع وصية رسول هللا ‪ ،‬ومخالفته ا‪،‬‬
‫وهم يقولون بأن الكثير من الصحابة تداركوا ذلك بعد ذلك‪ ،‬ولذلك يض عونهم من جمل ة‬
‫الصحابة المرضي عنهم‪ ،‬خاصة بعد وق وفهم م ع اإلم ام علي‪ ،‬واس تماتتهم في ال دفاع‬
‫عن خالفته الراشدة‪.‬‬
‫ولو أننا رجعنا إلى كتب الطبقات ل ديهم‪ ،‬لوج دنا كم ا كب يرا ج دا من الص حابة‪،‬‬
‫كلهم ممن يقبلونه ويترضون عنه‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك كتاب (ال درجات الرفيع ة في‬
‫طبقات الشيعة)‪ ،‬وهو لصدر الدين السيد على خان المدنى الش يرازي الحس يني (ت وفي‬
‫‪ 1120‬هـ)‪ ،‬وه و علم من أعالم إي ران الكب ار في علم الرج ال‪ ،‬وق د رتب كتاب ه على‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ( ‪ ) 6212‬ومسلم ( ‪.) 2290‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ( ‪ ) 6211‬ومسلم ( ‪.) 2304‬‬

‫‪103‬‬
‫اثنتي عشرة طبقة‪ ،‬تبتدئ بالصحابة‪ ،‬وقد ذكر فيه الكثير من كبارهم وأعالمهم‪.‬‬
‫وحتى أوضح األمر أكثر أنقل خطابا واجه ب ه الش يخ محم د الحس ين آل كاش ف‬
‫الغطاء بعض الكتاب الذين أش اعوا مث ل ه ذه الفريق ة في عص ره‪ ،‬حيث ق ال لهم‪..( :‬‬
‫أن نسأل من ذل ك الك اتب ‪ :‬أي طبق ات ِّ‬
‫الش يعة أراد ه دم اإلس الم ؟ الطبق ة‬ ‫ولكنّا نريد ْ‬
‫األولى وهم أعيان صحابة النَّبي ‪ ‬وأبرارهم ‪ :‬كسلمان المح َّمدي ـ أو الفارسي ـ وأبي‬
‫الش هادتين‪ ،‬وأبي التيه ان‪ ،‬وحذيف ة بن اليم ان‪،‬‬ ‫ذر‪ ،‬والمق داد‪ ،‬وع ّم ار‪ ،‬و ُخزيم ة ذي َّ‬
‫والزبير‪ ،‬والفضل بن العبَّاس‪ ،‬وأخيه الح بر عب د هللا‪ ،‬وهاش م بن عتب ة المرق ال‪ ،‬وأبي‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫أيوب األنصاري‪ ،‬وأبان‪ ،‬وأخيه خالد ابني سعيد العاص األم ويين‪ ،‬وأبي بن كعب س يِّد‬
‫راء‪ ،‬وأنس بن الحرث بن نبيه ‪)1()..‬‬ ‫ألق ّ‬
‫أن أع َد عليك ال ِّشيعة من الصحابة‪ ،‬وإثبات تش يّعهم من نفس‬ ‫ُ‬
‫أردت ْ‬ ‫ثم قال‪( :‬ولو‬
‫كتب الس نَّة ألحوج ني ذل ك إلى إف راد كت اب ض خم‪ ،‬وق د كف اني مؤون ة ذل ك علم اء‬
‫جمعت ما وجدتُه في كتب تراجم الصحابة ( كاإلصابة ) و( أُسد الغاب ة )‬ ‫ُ‬ ‫ال َشيعة ‪ ..‬وقد‬
‫الش يعة زه اء ثالثمائ ة رج ل من عظم اء‬ ‫و( االس تيعاب ) ونظائره ا من الص حابة َ‬
‫أصحاب النبي ‪ ‬كلّهم من شيعة علي عليه السَّالم‪ ،‬ولعل المتتب ع يع ثر على أك ثر من‬
‫ذلك)‬
‫وهذا العدد الذي ذكره كبير جدا‪ ،‬ذلك أن ه محص ور في كب ار الص حابة‪ ،‬وطبع ا‬
‫هو ال يقصد بهم أولئ ك ال ذين ح اربوا اإلم ام علي‪ ،‬ألن ذل ك عن دهم من الكب ائر ال تي‬
‫تخرج صاحبها من العدالة‪ ،‬بنص رسول هللا ‪ ‬نفسه‪ ،‬فقد قال مخاطبا اإلمام علي‪( :‬ال‬
‫يحبك إال مؤمن وال يبغضك إال منافق)(‪)2‬‬
‫بل إن اإلمام أحمد الذي يزعم السلفية أنه إمامهم‪ ،‬بل إمام أهل السنة يقول ب ذلك‪،‬‬
‫فقد حدث محمد بن منصور الطوسي قال‪ :‬كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رج ل‪ :‬ي ا أب ا‬
‫أن عليا ً قال‪( :‬أنا قسيم النار)؟ فق ال‪ :‬وم ا‬
‫عبد هللا‪ ،‬ما تقول في هذا الحديث الذي يروى ّ‬
‫أن النبي ‪ ‬قال لعلي‪( :‬اليحبّك إالّ م ؤمن وال يبغض ك إالّ‬ ‫تنكرون من ذا؟ أليس روينا ّ‬
‫منافق)؟ قلن ا‪ :‬بلى‪ .‬ق ال‪ :‬ف أين الم ؤمن؟ قلن ا‪ :‬في الجن ة‪ .‬ق ال‪ :‬وأين المن افق؟ قلن ا‪ :‬في‬
‫النار‪ ،‬قال‪ :‬فعل ٌّي قسيم النار (‪.)3‬‬
‫ولذلك ال يرى الشيعة ـ مثل الكثير من أهل الس نة ـ حرم ة لمعاوي ة ومن تبع ه‪،‬‬
‫ويروون في ذل ك األح اديث الكث يرة المح ذرة من ه‪ ،‬وهي نفس ها موج ودة في مص ادر‬
‫السنة(‪. )4‬‬
‫وأحب أن أنبه هنا كذلك أن هن اك من الص حابة الكب ار ال ذين يعت برهم الش يعة‪،‬‬
‫لكن المدرسة السنية ترفضهم‪ ،‬بل تقول بكفرهم‪ ،‬وعلى رأسهم أبو طالب عم رسول هللا‬

‫‪ )(1‬أصل الشيعة وأصولها‪ ،‬الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء‪ ،‬ص‪.161‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد في فضائل الصحابة ‪ ،650 / 2‬وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الحنابلة‪.1/320:‬‬
‫‪ )(4‬أوردنا الكثير منها في كتاب معاوية بن أبي سفيان في الميزان‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫‪ ‬الذي لم يبذل أحد من الصحابة من الجهد والم ال م ا بذل ه‪ ،‬لكن حظ ه في المدرس ة‬
‫الس نية لألس ف ص ار أدنى من ح ظ أبي س فيان الع دو الل دود لإلس الم‪ ،‬ال ذي ص اروا‬
‫يترضون عليه وعلى ابنه في نفس الوقت الذي يحرمون فيه الترضي على أبي ط الب‪،‬‬
‫بل يحكمون عليه بكونه من أهل جهنم‪.‬‬
‫بن اء على ه ذه التوض يحات الض رورية‪ ،‬س أذكر هن ا نم وذجين من المواق ف‬
‫اإليراني ة ض د من يس بون الص حابة‪ ،‬وخصوص ا ياس ر الح بيب‪ ،‬ومن يق ف مع ه من‬
‫المتآمرين على وحدة األمة اإلسالمية‪ ..‬أما النموذج األول‪ ،‬فيتعلق بال دفاع عن ع رض‬
‫رسول هللا ‪ ،‬وأما النموذج الثاني‪ ،‬فيتعلق بمواجهة الفلم المزمع إنتاجه إلث ارة الفتن ة‬
‫بين المسلمين‪.‬‬
‫النموذج األول‪ :‬الموقف من اتهام أم المؤمنين عائشة‪:‬‬
‫وهذا النموذج يبين مدى المظلومي ة ال تي يوجهه ا من يض عون أنفس هم موض ع‬
‫الن اطق الرس مي باس م األم ة‪ ،‬حين ي تركون عش رات‪ ،‬ب ل مئ ات‪ ،‬ب ل آالف العلم اء‪،‬‬
‫ومعهم القنوات الفض ائية الكث يرة‪ ،‬ليس تمعوا لمراه ق‪ ،‬ليس ت ل ه ش هادة علمي ة وغ ير‬
‫معترف به‪ ،‬في أمر خطير جدا هو عرض رسول هللا ‪.‬‬
‫وقد ك ان أول من تص دى ل ذلك ك ل مراج ع الش يعة الكب ار في إي ران والع راق‬
‫ولبن ان والبح رين وباكس تان والهن د وغيره ا‪ ..‬فكلهم اس تنكروا ذل ك الموق ف الش نيع‪،‬‬
‫وأصدروا البيانات في الرد عليه‪.‬‬
‫ومن أمثلتهم الس يد علي الخ امنئي ال ذي يعت بر أك بر مرج ع للش يعة في إي ران‬
‫والعالم اإلسالمي‪ ،‬باإلض افة إلى كون ه ال ولي الفقي ه ال ذي يعت بر الموال ون ل ه طاعت ه‬
‫واجبة شرعيا‪ ،‬فقد سئل هذا السؤال‪( :‬تمر األمة اإلسالمية بأزمة منهج يؤدي إلى إثارة‬
‫الفتن بين أبناء المذاهب اإلسالمية‪ ،‬وعدم رعاية األولويات لوحدة صف المسلمين‪ ،‬مما‬
‫يكون منشأ لفتن داخلية وتش تيت الجه د اإلس المي في المس ائل الحساس ة والمص يرية‪،‬‬
‫ويؤدي إلى صرف النظر عن اإلنجازات التي تحققت على يد أبناء األمة اإلسالمية في‬
‫فلسطين ولبنان والعراق وتركيا وإيران والدول اإلس المية‪ ،‬ومن إف رازات ه ذا المنهج‬
‫المتطرف طرح ما يوجب اإلساءة إلى رموز ومقدسات أتب اع الطائف ة الس نية الكريم ة‬
‫بصورة متعمدة ومكررة‪ ،‬فما هو رأي سماحتكم فيم ا يط رح في بعض وس ائل اإلعالم‬
‫من فضائيات وانترنت من قب ل بعض المنتس بين إلى العلم من إهان ة ص ريحة وتحق ير‬
‫بكلمات بذيئة ومسيئة لزوج الرسول ‪ ‬أم المؤمنين السيدة عائش ة واتهامه ا بم ا يخ ل‬
‫بالشرف وو الكرام ة ألزواج الن بي أمه ات المؤم نين رض وان هللا تع الى عليهن‪ ..‬ل ذا‬
‫نرجو من سماحتكم التكرم ببيان الموقف الشرعي بوضوح لما سببته اإلثارات المس يئة‬
‫من اضطراب وسط المجتمع اإلسالمي وخلق حالة من التوتر النفسي بين المسلمين من‬
‫أتب اع مدرس ة أه ل ال بيت وس ائر المس لمين من الم ذاهب اإلس المية‪ ،‬علم ا أن ه ذه‬
‫اإلس اءات اس تغلت وبص ورة منهجي ة من بعض المغرض ين ومث يري الفتن في بعض‬

‫‪105‬‬
‫الفضائيات واإلنترنت لتشويش وإرباك الساحة اإلسالمية وإث ارة الفتن ة بين المس لمين)‬
‫(‪)1‬‬
‫فأجاب بقوله‪( :‬يحرم النيل من رموز إخواننا السنة فض ال عن اته ام زوج الن بي‬
‫‪ ‬بم ا يخ ل بش رفها‪ ،‬ب ل ه ذا األم ر ممتن ع على نس اء األنبي اء‪ ،‬وخصوص ا س يدهم‬
‫الرسول األعظم ‪)‬‬
‫ولم يكتف بذلك‪ ،‬بل هو يشير في خطبه كل حين إلى حرمة ذل ك‪ ،‬وينب ه إلى أن ه‬
‫دسائس أجنبية‪ ،‬ويسمي التشيع المرتبط بمثل هذا تشيعا بريطاني ا‪ ،‬وليس تش يعا علوي ا‪،‬‬
‫مثلما يسمى التسنن الداعي إلى الفتنة تسننا أمريكيا ال تسننا نبويا‪.‬‬
‫ونفس الفتوى ال تي أص درها الس يد علي الخ امنئي أص درها الكث ير من مراج ع‬
‫الشيعة الكبار في إيران وغيرها‪ ،‬ومنهم الش يخ ناص ر مك ارم الش يرازي‪ ،‬ال ذي حم ل‬
‫حملة شديدة على ياسر الحبيب ومن يقف معه وخلفه(‪ ،)2‬حيث قال‪( :‬سمعتم مؤخرا أن‬
‫شخصا جاهال يرتدي زي علماء الشيعة ويقيم في لندن أساء باسم الش يعة إلى مقدس ات‬
‫بعض المذاهب‪ ،‬واتهم أحدى زوجات النبي ‪ ‬تهمة عجيبة باطلة‪ ،‬وتكلم بكلمات بذيئة‬
‫حول بعضهن)‬
‫وأكد على أن مثل هؤالء األشخاص ال يمثلون الش يعة‪ ،‬ب ل هم ال يع دون ك ونهم‬
‫عمالء أو سفهاء‪ ،‬فقال‪( :‬إن هذا الشخص إما أن يكون عميال‪ ،‬أو هو سفيها أحمق‪ ،‬لكن‬
‫األشد سفاهة وحماقة منه هم بعض علم اء الوهابي ة‪ ،‬حيث اس تندوا إلى أقوال ه‪ ،‬وق الوا‬
‫متبجحين‪ :‬لق د انكش ف م ا يض مره الش يعة من عقائ د! م ع أن ع ددا كب يرا من علم اء‬
‫الشيعة في إيران ولبنان والدول العربية وأوروبا أدان وا تص ريحات ه ذا المتلبس ب زي‬
‫رجال الدين‪ ،‬وقالوا إنه سفيه)‬
‫وأضاف المرج ع الش يرازي ق ائال‪( :‬وال دليل على ع دم منطقي ة الوه ابيين أنهم‬
‫تجاهلوا جميع اإلدانات التي صدرت عن علماء الشيعة لتصريحات الح بيب‪ ،‬واس تندوا‬
‫إلى كالم هذا األحمق أو العميل وجعلوه الدليل الوحيد إلصدار حكمهم‪ ،‬ونحن نق ول إن‬
‫هذا الشخص المنحرف هو كاذب وجاهل‪ ،‬إال أن الوهابيين تمسكوا بكالمه ال غير)‬
‫وتح دث عن نفس ه مش يرا إلى ذل ك الغبن ال ذي يلق اه‪ ،‬وتلق اه مؤلفات ه‪ ،‬في نفس‬
‫الوقت الذي يلقى فيه ياسر الحبيب كل تل ك األهمي ة‪ ،‬يق ول في ذل ك‪( :‬لق د ألفت أن ا م ا‬
‫يقارب ‪ 140‬كتابا في العقائد‪ ،‬والتفسير‪ ،‬وسائر العلوم‪ ،‬ولم تشتمل على أي نسبة مشينة‬
‫لزوجات النبي‪ ،‬إال أنهم لم يعتمدوا عليها‪ ،‬وذهبوا وراء كالم هذا اإلنسان العميل)‬
‫وق ال ـ مش يرا إلى الم ؤامرات المعق دة ال تي يحوكه ا االس تكبار الع المي ض د‬
‫اإلسالم ـ‪( :‬يمكن أن تكون الدوافع وراء هذا الشخص وتصريحاته هي مؤامرة أجنبية‪،‬‬
‫ويكون الوهابيون في الحجاز انساقوا وراء هذه المؤامرة‪ ،‬وبذلك يكونون متواطئين مع‬
‫هذه المؤامرة من أجل الوقيعة بين المسلمين‪ ،‬وبذلك يخلوا لهم الجو لتحقي ق مص الحهم‬

‫‪ )(1‬االستفتاء جاء بتوقيع‪ :‬جمع من علماء ومثقفي األحساء‪ ،‬بتاريخ ‪ 4‬شوال ‪ 1434‬هـ‪.‬‬
‫‪ )( 2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬الشيخ مكارم الشيرازي‪ -‬ياسر الحبيب سفيه‪ ،‬والوهابيون أشد سفاهة منه‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫في المنطقة)‬
‫ثم أشار إلى تلك األعذار التي يذكرها بعض أصحاب الدعايات المغرضة ق ائال‪:‬‬
‫(ويطرحون هنا شبهة أخرى تقول‪ :‬إذا كان مراجع الشيعة يدينون ه ذا الس لوك فلم ا لم‬
‫صمتوا تجاهه؟! وهذا باطل ألننا أدنا هذا السلوك‪ ،‬وقلنا إننا ال نرتضي توجيه اإلس اءة‬
‫إلى زوجات النبي ‪ ‬وتكون هذه اإلساءة موجهة للنبي األكرم ‪ ‬نفسه‪ ،‬ونش رنا ه ذا‬
‫الكالم في قناة الوالية)‬
‫ثم ذكر هؤالء المغرض ين بموق ف اإلم ام الخمي ني من ع رض رس ول هللا ‪،‬‬
‫فقال‪( :‬هل نسي الوهابيون أن اإلم ام الخمي ني حكم على س لمان رش دي باالرت داد ألن‬
‫قسما كبيرا من كتابه [آيات شيطانية] يوجه فيه اإلساءة إلى زوجات النبي ‪ ،‬إال أنهم‬
‫لم تصدر عنهم أي إدانة لكتابه‪ ،‬واآلن نراهم يتجاهلون كل هذه الشواهد ويس تندون الى‬
‫كالم هذا المجنون‪ ،‬وهذا يكشف عن أن هؤالء ال يمتلكون أي منطق‪ .‬وطبع ا هن اك من‬
‫علماء السنة المنصفين من أشاد بإدانتنا لهذا الشخص)‬
‫النموذج الثاني‪ :‬الموقف من الفيلم المسيء للصحابة‬
‫لم يكتف ياسر الح بيب المت آمر على اإلس الم والوح دة اإلس المية بتل ك الس باب‬
‫واللعن ات ال تي يوجهه ا للص حابة‪ ،‬وإنم ا راح ب دعم غ ربي يبش ر بإنت اج فيلم يس يء‬
‫للصحابة‪ ،‬ويسيء بعدها للشيعة في الع الم اإلس المي جميع ا‪ ،‬ويض عهم في ح رب م ع‬
‫إخوانهم من أهل السنة‪.‬‬
‫ول ذلك وق ف ك ل مراج ع الش يعة‪ ،‬وخصوص ا اإليران يين منهم في وج ه ه ذا‬
‫المشروع قبل بروزه‪ ،‬واستعماله وسيلة للفتن ة‪ ،‬وال يمكنن ا اس تعراض ك ل فت اواهم في‬
‫ذلك‪ ،‬فلذلك نكتفي ببعض كبارهم هنا (‪.)1‬‬
‫فمنهم المراجع الكبير ناصر مكارم شيرازي‪ ،‬الذي أكد في معرض إجابت ه على‬
‫اس تفتاء به ذا الخص وص على حرمت ه‪ ،‬بقول ه‪( :‬ال ش ك في أن من ي دعم انت اج ونش ر‬
‫ومشاهدة ه ذا الفلم ق د ارتكب معص ية كب يرة‪ ،‬ال س يما في الظ روف الراهن ة حيث أن‬
‫إثارة أي اختالف بين المسلمين سيصبّ في خانة أعداء اإلسالم والمتربص ين ب ه‪ .‬كم ا‬
‫أنه يترتب على هكذا تصرفات مسيئة مسؤولية شرعية ثقيل ة‪ ،‬وباحتم ال ق وي ف إن ي د‬
‫أعداء اإلسالم (الذين ينتجون الفلم) في ه مبس وطة‪ ،‬وس يتح ّمل ك ل من أس هم بش كل من‬
‫األش كال في دعم ه ذا الفلم‪ ،‬ال دماء ال تي ق د ت راق ج راء ردود األفع ال الغاض بة‬
‫المحتملة‪ ..‬يجب عليكم أن تبلّغوا الجميع أن القائمين على إنتاج هكذا برامج تثير الفرقة‬
‫بين المسلمين‪ ،‬ليسوا منّا‪ ،‬وال يمتون إلينا بص لة‪ ،‬ب ل إنهم نف ر قلي ل يس تغلون مش اعر‬
‫طائفة من محبي أهل البيت ال س يما مح بي الس يدة الط اهرة فاطم ة الزه راء؛ لتحقي ق‬
‫مآربهم‪ ،‬وإن رسالة هكذا أفالم هي ليست رسالة اإلسالم وشيعة أهل البيت إطالقاً)‬
‫وهكذا أفتى المرجع الكبير الشيخ نوري همداني‪ ،‬على االس تفتاء الخ اص به ذا‪،‬‬
‫بقوله‪( :‬نحن ضد هذه األنشطة وال نعتبرها أبدا لصالح اإلسالم‪ ،‬ونرى في أي مس اعدة‬
‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬مراجع الدين في قم يفت ون بحرم ة اي ت برع له ذا العم ل المش بوه‪ ،‬م ا ه و مش روع ياس ر‬
‫الحبيب الفتنوي الجديد ؟ قناة العالم‪ ،‬الجمعة ‪ ٠٨‬يوليو ‪.. ٢٠١٦‬‬

‫‪107‬‬
‫أو إبداء اي اهتمام أو مشاهدة للفيلم‪ ،‬حراما وخالفا للشرع)‬
‫ومثلهما أفتى المرجع الكبير الشيخ جعفر سبحاني‪ ،‬فقد قال‪( :‬في الظ روف ال تي‬
‫تعيشها البلدان اإلسالمية في الوقت الحاضر والفتنة الكبرى التي أثارها األجانب والتي‬
‫أدت الى تقات ل المس لمين وتش ريد الماليين من العراق يين والس وريين من من ازلهم‬
‫وأوطانهم ليلجأوا إلى الغرب‪ ،‬فإن إنتاج هكذا فيلم ال يحق ق إال مط الب األع داء‪ ،‬وه و‬
‫بعيد كل البعد عن العقل والتقوى وعلى هذا فإن انتاج ه ح رام وأي مس اعدة مالي ة ل ه‪،‬‬
‫تعاون على اإلثم)‬
‫وجاء في فتوى الشيخ لطف هللا صافي كلبايك اني‪( :‬لق د قلن ا م رارا وتك رارا إن‬
‫الش يعة ومح بي أه ل ال بيت يجب أن يكون وا دائم ا ح ذرين وأن يحرص وا على نش ر‬
‫المعارف القرآنية والعترة النبوية وأن يتجنبوا القي ام ب أي عم ل ق د ي ؤدي الى اإلس اءة‬
‫لإلسالم والمذهب ويسبب في قتل أو جرح الشيعة المضطهدين على يد أع داء اإلس الم‬
‫أو ينتهي بتشريد البعض من أوطانهم)‬
‫هذه أمثلة عن البيانات والفتوى ال تي أص درها كب ار مراج ع الش يعة في إي ران‪،‬‬
‫ومثلها فتاوى كثيرة في العراق ولبنان والهند وباكس تان وغيره ا‪ ،‬لكن لألس ف س نرى‬
‫أنه في حال إنتاج الفلم‪ ،‬كيف تثار الفتنة من جديد‪ ،‬وكيف يزعم المغرضون أن الش يعة‬
‫هم الذين جمعوا المال‪ ،‬وهم الذين حرضوا‪ ،‬وأن يد إيران الخفية هي وراء كل ذلك‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ فرية الموقف من البداء‪:‬‬
‫من التهم التي يتهم بها الشيعة بناء على ع دم فهم مص طلحاتهم م ا يمكن تس ميته‬
‫فرية البداء‪ ،‬وهي مع كون الش يعة يقول ون به ا‪ ،‬ب ل لهم نصوص هم الكث يرة ال تي ت دل‬
‫عليه ا‪ ،‬إال أنن ا س ميناها فري ة‪ ،‬ألن المغرض ين ال ذين يتهم ون الش يعة به ا‪ ،‬يفهمونه ا‬
‫بحسب أهوائهم‪ ،‬ال بحسب ما ينص عليه المفترى عليهم‪.‬‬
‫وقد أشار الشيخ العالمة ناص ر مك ارم الش يرازي إلى تل ك الفه وم الس يئة ال تي‬
‫يحملها الكثير من المدرسة السنية حول البداء عند الشيعة (‪ ،)1‬فقال ـ يح دث عن بعض‬
‫ما حصل له معهم ـ‪( :‬إن من العقائد الثابتة عند الشيعة اإلمامية‪ ،‬هو القول بالبداء‪ ..‬وقد‬
‫أنكرت عليهم السنة أشد اإلنك ار خصوص ا في مس ألة الب داء‪ ،‬ولكنهم ل و ك انوا واقفين‬
‫على مراد الشيعة من تجويز البداء على هللا لتوقف وا عن االس تنكار‪ ،‬وألعلن وا الوف اق‪،‬‬
‫وأقول عن جد‪ :‬لو أتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخالفية بعيدا عن‬
‫التعصب والتشنج لتجلى الحق بأجلى مظاهره‪ ،‬وألقروا بصحة مقال ة الش يعة‪ ،‬غ ير أن‬

‫‪ )(1‬لألسف فإن هذه الشبهة مع وفرة الردود عليها من متكلمي الشيعة األوائ ل إال أنن ا نج د الكث ير ي ذكرها‪ ،‬ينقله ا‬
‫بعضهم عن بعض‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك ما قاله الرازي في تفسيره‪( :‬قالت الرافضة ‪ :‬البداء جائز على هللا تعالى ‪ ،‬وه و‬
‫ت } ‪ ،‬ثم ق ال ‪ :‬إن‬‫أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن األمر بخالف ما اعتقده ‪ ،‬وتمسكوا فيه بقوله ‪ { :‬يَ ْم ُح و هّللا ُ َم ا يَ َش اء َوي ُْث ِب ُ‬
‫هذا باطل ‪ ،‬ألن علم هللا من لوازم ذاته المخصوصة ‪ ،‬وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه باطال) [تفسير الرازي‬
‫‪،]216 : 4‬مع كونه كان يعيش في ذلك الحين في مدينة الري‪ ،‬وكان فيها الكث ير من أعالم الش يعة ال ذين ينك رون ه ذا‪،‬‬
‫ومنهم الشيخ محمود بن علي بن الحس ن س ديد ال دين الحمص ي ال رازي ص احب كت اب [المنق ذ من التقلي د والمرش د إلى‬
‫التوحيد]‪ ،‬وقد سبقه إلى هذا البلخي ( ‪ 319‬ه‍ )‪ ،‬ونقله األشعري ( ‪ 324 - 260‬هـ ) ونقله أبو الحسن النوبختي في ف رق‬
‫الشيعة عن بعض فرق الزيدية‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫تلك أمنية ال تتحقق إال في فترات خاصة‪ ،‬وقد سألني أحد علماء أه ل الس نة عن حقيق ة‬
‫البداء فأجبته بإجمال ما أفصله في هذا المقام‪ ،‬فتعجب عن إتق ان معن اه‪ ،‬غ ير أن ه زعم‬
‫أن ما ذكرته نظرية شخصية ال صلة بها بنظرية اإلمامية في الب داء‪ ،‬فطلب م ني كتاب ا‬
‫لقدماء علماء الشيعة‪ ،‬فدفعت إليه أوائل المقاالت‪ ،‬وشرح عقائ د الص دوق لش يخ األم ة‬
‫محمد بن النعمان المفيد (‪ 413 - 336‬ه‍) فقرأهما بدقة‪ ،‬وجاء بالكتاب بعد أيام وق ال‪:‬‬
‫لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنة وال‬
‫يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبدا)(‪)1‬‬
‫ثم أجاب على ذلك بوجوه كثيرة نح اول اختص ارها وإع ادة ص ياغتها هن ا‪ ،‬م ع‬
‫العلم أن ك ل م ا ذك ره من المتف ق علي ه عن د الش يعة جميع ا‪ ،‬وإنم ا خصص نا بال ذكر‬
‫واالقتباس باعتباره من كالم المراجع اإليرانيين في العصر الحديث‪ ،‬ولكونه ك ذلك من‬
‫القادة الفكريين للمشروع الحضاري الجديد للجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪.‬‬
‫وأحب أن أذكر هنا أنني قد تناولت البداء بتفص يل في كت ابي [أس رار األق دار]‪،‬‬
‫من خالل ما ورد حوله من النصوص المقدسة‪ ،‬ذلك أن البداء بالمفهوم الشيعي‪ ،‬يرتب ط‬
‫بما يسميه أهل السنة بمنازعة األق دار‪ ،‬أو م دافعتها‪ ،‬وك ذلك بم ا يمكن أن يطل ق علي ه‬
‫المقادير المؤقتة‪.‬‬
‫وقد ذكرت فيه أنه ‪ 2‬ال يشبه التأكيد ال ذي وردت ب ه النص وص في الحث على‬ ‫)‬ ‫(‬
‫اإليمان بقدر هللا وقضائه ومشيئته إال التأكيد الذي وردت ب ه في الحث على مدافع ة م ا‬
‫نتوهمه من أقدار‪ ،‬فالشرع الذي أمرنا باإليمان بالقدر هو الذي أمرنا بمنازعة القدر‪.‬‬
‫بل إن الذي ينازع القدر أعرف باهلل من الذي يستسلم ل ه وأك ثر تواض عا وأعظم‬
‫أدبا‪ ،‬فالذي يستسلم للقدر الذي يتصوره يجعل من نفسه خبيرا بأقدار هللا‪ ،‬فلذلك يستس لم‬
‫ألي عقبة تحصل له في حياته ويسميها قدر هللا‪ ،‬بينما ال ذي ين ازع الق در ي درك أن أي‬
‫حركة يفعلها أو أي اتجاه اتجه إلي ه ه و ق در هللا‪ ﴿:‬فَأ َ ْينَ َم ا تُ َولُّوا فَثَ َّم َوجْ هُ هَّللا ِ ﴾ (البق رة‪:‬‬
‫‪ ،)115‬فلذلك يعرف الحق ألهله‪ ،‬فيتأدب مع عالم الحكمة كما تأدب مع عالم القدرة‪.‬‬
‫وهو أكثر معرفة ألنه يع رف هللا بجمي ع أس مائه الحس نى وص فاته العلي ا‪ ،‬بينم ا‬
‫المستسلم ال يعرف من أسماء هللا إال ما يبرر تواكله وعجزه‪.‬‬
‫وله ذا جم ع ‪ ‬بين حق ائق التوحي د في الق در‪ ،‬وبين الق وة‪ ،‬فق ال ‪(:‬الم ؤمن‬
‫القوي خير وأحب إلى هللا من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪ ،‬احرص على ما ينفع ك‬
‫واستعن باهلل وال تعجز‪ ،‬وإن أصابك شيء فال تقل‪ :‬لو أني فعلت لكان ك ذا وك ذا‪ ،‬ولكن‬
‫( )‬
‫قل قدر هللا وما شاء فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان) ‪3‬‬
‫وقد حض ‪ ‬على هذه المنازعة ليرد األوه ام عن التطبيق ات الخاطئ ة لإليم ان‬
‫بالقدر لما قيل له‪(:‬أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها ه ل ت رد من‬

‫‪ )(1‬أضواء على عقائد الشيعة اإلمامية وتاريخهم‪ ،‬ص ‪..428‬‬


‫‪ )(2‬النص المقتبس هنا بطوله من كتابي‪ :‬أسرار األقدار‪ ،‬ص‪.74‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ومسلم وابن ماجة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫( )‬
‫قدر هللا شيئا؟) فقال ‪(:‬هي من قدر هللا تعالى) ‪1‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪(:‬ال يغنى حذر من قدر‪ ،‬والدعاء ينف ع مم ا ن زل ومم ا‬
‫( )‬
‫ينزل‪ ،‬فإن البالء ينزل فليقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) ‪2‬‬
‫وإلى هذا المعنى أشار قول ه ‪(:‬يق ول هللا ي ا ابن آدم انم ا هى أرب ع واح دة لى‬
‫وواح دة ل ك وواح دة بي نى وبين ك وواح دة بين ك وبين خلقى‪ ،‬فأم ا ال تى لى فتعب دنى‬
‫التشرك بى شيئا‪ ،‬وأما التى لك فعملك أجزيك به أحوج م ا تك ون الي ه‪ ،‬وأم ا ال تى هى‬
‫بينى وبينك فمنك الدعاء وعلى اإلجابة‪ ،‬وأما التى بينك وبين خلقى فأت الى الن اس بم ا‬
‫( )‬
‫تحب أن يأتوه اليك) ‪3‬‬
‫فهذا الحديث نظم عالقات الم ؤمن ح تى ال يطغى بعض ها على بعض‪ ،‬ومن أهم‬
‫ما نظمه عالقة المؤمن باهلل‪ ..‬فاهلل ه و ال رب اإلل ه‪ ..‬والعب د ه و المرب وب المتوج ه هلل‬
‫بالعبودية‪ ..‬وأول ما يقتضيه هذا التوجه أن ال ينازع العبد ربه في ربوبيته فينفي ق دره‪،‬‬
‫وأن ال يتخلى عن وظائف عبوديته‪ ،‬بحجة قدر ربه‪.‬‬
‫أما ما يقال بأن الكمال في التسليم لألقدار‪ ،‬وأن من نازع األقدار كان خصما هلل‪،‬‬
‫وللنظام الذي أراد هللا‪ ،‬فالجواب عليه هو أن الذي أمر الشرع بالتسليم له تسليما مطلقا‪،‬‬
‫وعدم منازعته في شيء‪ ،‬هو القدر الذي ليس لإلنسان فيه أي اختي ار‪ ،‬ألن منازعت ه ال‬
‫دور لها إال تحطيم قلب صاحبها من غير أن يكون لها أي تأثير عملي‪.‬‬
‫أما النوع الثاني‪ ،‬وهو م ا ي دخل من التس ليم فيم ا يرتب ط ب الجوانب االختياري ة‪،‬‬
‫والتي لإلنسان فيها اإلرادة المطلقة‪ ..‬فم رادهم من ذل ك المزاوج ة والجم ع بين اإلقب ال‬
‫على العمل بهمة المكتسب الذي يعتقد تأثير العمل في حصول المطلوب‪ ،‬وبين االعتقاد‬
‫بقدر هللا‪ ،‬وأن كسب اإلنسان أقصر من أن يحقق نفعا‪ ،‬أو يدفع ضرا‪.‬‬
‫فبكلت ا النظ رتين يس تقيم الس لوك بجانبي ه‪ :‬الس لوك الظ اهر بالعم ل الص الح‪،‬‬
‫والسلوك الباطن بأدب الباطن‪.‬‬
‫وسر التعامل مع األقدار بهذا النوع من التعامل هو أن األقدار نوع ان‪ ،‬منه ا م ا‬
‫هو ثابت قطعي‪ ،‬ومنها ما هو محتمل مؤقت‪ ،‬أو مرتبط بأوقات معينة مح دودة‪ ،‬ول ذلك‬
‫قد يلحق كتبها التغيير والتبديل‪ ،‬وهذه المق ادير مم ا يطل ع هللا علي ه المالئك ة الم وكلين‬
‫بالعب اد‪ ،‬أو من تقتض ي وظيفت ه التع رف على ه ذا الن وع من المع ارف‪ ،‬كاألنبي اء‬
‫والمرسلين والمحدثين والملهمين‪.‬‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫وإلى هذا النوع من المقادير اإلش ارة بقول ه تع الى‪ ﴿:‬يَ ْم ُح وا ُ َم ا يَ َش ا ُء َويُثبِ ُ‬
‫ب﴾ (الرعد‪)39:‬‬‫َو ِع ْن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫وإليها اإلشارة كذلك بالنصوص الواردة في منازعة األقدار كقول ه ‪(:‬ال يغ نى‬
‫حذر من قدر‪ ،‬والدعاء ينفع مما ن زل ومم ا لم ي نزل‪ ،‬وإن البالء لي نزل فيلق اه ال دعاء‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن حبان وغيره‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن عدي والحاكم وتعقب والخطيب‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبرانى‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫فيعتلجان الى يوم القيامة)(‪ ،)1‬وقوله ‪(:‬ال يرد القدر إال ال دعاء‪ ،‬وال يزي د في العم ر‬
‫اال البر‪ ،‬وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) (‪)2‬‬
‫وقد ذكر ابن عباس في تفسير اآلية السابقة‪(:‬من أحد الكتابين هم ا كتاب ان يمح و‬
‫ب ﴾ أي جملة الكتاب)(‪)3‬‬ ‫هللا ما يشاء من أحدهما ويثبت ﴿ َو ِع ْن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫ومن النصوص المقدسة التي تشير إلى ه ذا قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ولَ وْ أَ َّن أَ ْه َل ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب‬
‫ت النَّ ِع ِيم ﴾ (المائ دة‪ ،)65:‬فه ذه اآلي ة‬ ‫آ َمنُوا َواتَّقَوْ ا لَ َكفَّرْ نَا َع ْنهُ ْم َسيِّئَاتِ ِه ْم َوأَل َ ْد َخ ْلنَ اهُ ْم َجنَّا ِ‬
‫الكريمة تذكر تأثير األعمال في جانب عالقة هؤالء العباد بربهم تعالى‪.‬‬
‫ومثلها قوله تعالى‪َ ﴿:‬ولَ وْ أَ َّن أَ ْه َل ْالقُ َرى آ َمنُ وا َواتَّقَ وْ ا لَفَتَحْ نَ ا َعلَ ْي ِه ْم بَ َر َك ا ٍ‬
‫ت ِمنَ‬
‫ض َولَ ِك ْن َك َّذبُوا فَأ َ َخ ْذنَاهُ ْم بِ َم ا َك انُوا يَ ْك ِس بُونَ ﴾ (ألع راف‪ )96:‬أي أن‬ ‫الس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫َّ‬
‫أرزاق هللا مفتوحة على العباد‪ ،‬ولكن العباد هم الواقفون دون نزولها‪.‬‬
‫ومثال هذا مثل من تفرض له جه ة م ا مبلغ ا مح ددا أو ج ائزة معين ة‪ ،‬وتش ترط‬
‫عليه الحضور لتسلمها‪ ،‬ولكنه يظل راضيا بفقره شاكيا منه غافال عما قدر له‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن النصوص المقدسة تدل على أن المقادير المشتملة على مصالح العب اد‬
‫متوقفة على أعمال العباد‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك أنه م ع ك ون األعم ار بآجاله ا إال أن‬
‫رس ول هللا ‪ ‬أخبرن ا بم ا ي زاد في ه العم ر المق در‪ ،‬فق ال ‪(:‬من س ره أن يعظم هللا‬
‫رزقه‪ ،‬وأن يمد في أجله‪ ،‬فليصل رحمه)(‪)4‬‬
‫وق د أش ار ابن عب اس إلى ه ذا المع نى عن دما قي ل ل ه‪(:‬كي ف ي زاد في العم ر‬
‫ضى أَ َجالً َوأَ َج ٌل ُم َس ّم ًى‬ ‫ين ثُ َّم قَ َ‬ ‫واألجل؟)‪ ،‬فقال‪(:‬قال هللا تعالى‪ ﴿:‬ه َُو الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن ِط ٍ‬
‫ِع ْن َدهُ ثُ َّم أَ ْنتُ ْم تَ ْمتَرُونَ ﴾ (األنعام‪ ،)2:‬فاألج ل األول أج ل العب د من حين والدت ه إلى حين‬
‫موته‪ ،‬واألجل الثاني ـ يعني المسمى عنده ـ من حين وفاته إلى يوم يلق اه في ال برزخ ال‬
‫يعلمه إال هللا؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده هللا في أجل عمره األول من أج ل‬
‫البرزخ ما شاء‪ ،‬وإذا عصى وقطع رحمه نقصه هللا من أجل عمره في ال دنيا م ا ش اء‪،‬‬
‫فيزيده في البرزخ)‪ ،‬فهذه الزيادة في نفس العمر وذات األجل كما هو ظاهر اللفظ‪.‬‬
‫بناء على هذا تفسر ك ل النص وص ال واردة في الب داء عن أئم ة الش يعة‪ ،‬وال تي‬
‫جعلتهم يهتمون كثيرا به باعتباره من العقائد الكبرى التي لها تأثيرها السلوكي الكبير‪.‬‬
‫وأحب أن أسوق هنا باختصار بعض ما ذكره العالمة ناص ر مك ارم الش يرازي‬
‫في الرد على هذه الشبهة من وجوه (‪.)5‬‬
‫أوال ـ اتفاق الشيعة على أنه س بحانه ع الم ب الحوادث كله ا غابره ا وحاض رها‪،‬‬
‫ومستقبلها‪ ،‬ال يخفى عليه شئ في األرض وال في السماء‪ ،‬فال يتصور فيه الظهور بع د‬

‫‪ )(1‬رواه ابن عدي والحاكم وتعقب والخطيب‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه النسائي وابن ماجه وأحمد وأبي يعلى وابن منيع والطبراني‪.‬‬
‫‪ )( 3‬رواه ابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(5‬أضواء على عقائد الشيعة اإلمامية وتاريخهم‪ ،‬ص ‪ 425‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الخفاء‪ ،‬وال العلم بعد الجهل‪ ،‬ب ل األش ياء دقيقه ا وجليله ا‪ ،‬حاض رة لدي ه‪ ،‬وه ذا وح ده‬
‫كاف في الرد على الشبهة من جذورها ذلك أن المغرضين يتص ورون أن الب داء يع ني‬
‫عدم علم هللا باألحداث قبل وقوعها‪ ،‬وهذا لم يقل به الشيعة‪ ،‬وال نص علي ه أئمتهم‪ ،‬فق د‬
‫قال اإلمام علي‪( :‬من زعم أن هللا ع ز وج ل يب دو ل ه من ش ئ لم يعلم ه أمس‪ ،‬ف ابرأوا‬
‫منه)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا وردت النصوص الكث يرة عن أئم ة أه ل ال بيت في بي ان علم هللا‬
‫تعالى المطلق باألشياء‪ ،‬فعن اإلمام علي قال‪( :‬كل سر عندك عالنية‪ ،‬وكل غيب عندك‬
‫شهادة)‪ ،‬وقال‪( :‬ال يعزب عنه عدد قطر الماء‪ ،‬وال نجوم السماء‪ ،‬وال سوافي الريح في‬
‫اله واء‪ ،‬وال دبيب النم ل على الص فا‪ ،‬وال مقي ل ال ذر في الليل ة الظلم اء‪ ،‬يعلم مس اقط‬
‫األوراق‪ ،‬وخفي طرف األحداق)‬
‫وقال اإلمام موسى الكاظم‪( :‬لم ي زل هللا عالم ا باألش ياء قب ل أن يخل ق األش ياء‪،‬‬
‫كعلمه باألشياء بعد ما خلق األشياء)‬
‫ت َو ِع ْن َدهُ أ ُّمُ‬
‫وق ال اإلم ام الص ادق في تفس ير قول ه‪{ :‬يَ ْم ُح و هَّللا ُ َم ا يَ َش ا ُء َوي ُْثبِ ُ‬
‫ب} [الرعد‪( :]39 :‬فكل أمر يريده هللا‪ ،‬فه و في علم ه قب ل أن يص نعه‪ ،‬ليس ش ئ‬ ‫ْال ِكتَا ِ‬
‫يبدو له إال وقد كان في علمه‪ ،‬إن هللا ال يبدو له من جهل)‪ ،‬وغيرها من الرواي ات ال تي‬
‫تدل على إحاطة علمه بكل شئ قبل خلقه وحينه وبعده‪ ،‬وأنه ال يخفى عليه شئ أبدا‪.‬‬
‫ثانيا ـ أن النصوص المقدسة ت دل على أن مص ير العب اد يتغ ير‪ ،‬بس بب حس ن‬
‫{اس تَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم‬
‫أفعالهم أو سوئها‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن نوح علي ه الس الم‪ْ :‬‬
‫ال َوبَنِينَ َويَجْ َع لْ‬ ‫إِنَّهُ َكانَ َغفَّارًا (‪ )10‬يُرْ ِس ِل ال َّس َما َء َعلَ ْي ُك ْم ِم ْد َرارًا (‪َ )11‬ويُ ْم ِد ْد ُك ْم بِ أ َ ْم َو ٍ‬
‫ت َويَجْ َعلْ لَ ُك ْم أَ ْنهَارًا } [نوح‪ ،]12-10 :‬فقد اعتبر نوح عليه السالم االس تغفار‬ ‫لَ ُك ْم َجنَّا ٍ‬
‫علة مؤثرة في نزول المطر‪ ،‬وكثرة األموال والبنين‪ ،‬وجريان األنهار‪.‬‬
‫وهكذا أخبر القرآن الك ريم على أن لألعم ال الس يئة تأثيره ا في المق ادير‪ ،‬ومن‬
‫ط َمئِنَّةً يَأْتِيهَ ا ِر ْزقُهَ ا‬ ‫َت آ ِمنَةً ُم ْ‬ ‫ب هَّللا ُ َمثَاًل قَرْ يَةً َكان ْ‬ ‫ض َر َ‬ ‫األمثلة على ذلك قوله تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف بِ َم ا ك انوا‬ ‫خَ‬
‫وع َوال وْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت بِ أ َ ْنع ُِم ِ فأذاقهَ ا ُ لِبَ َ‬
‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َر َغ دًا ِم ْن ُك ِّل َم َك ا ٍن فَ َكفَ َر ْ‬
‫اس ال ُج ِ‬
‫ك ُم َغيِّرًا نِ ْع َم ةً أَ ْن َع َمهَ ا َعلَى قَ وْ ٍم‬ ‫يَصْ نَعُونَ } [النحل‪ ،]112 :‬وقوله‪َ { :‬ذلِكَ بِ أ َ َّن هَّللا َ لَ ْم يَ ُ‬
‫َحتَّى يُ َغيِّرُوا َما بِأ َ ْنفُ ِس ِه ْم َوأَ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم} [األنفال‪]53 :‬‬
‫ومن ه ذا الب اب يفس ر قول ه تع الى‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ اَل يُ َغيِّ ُر َم ا بِقَ وْ ٍم َحتَّى يُ َغيِّرُوا َم ا‬
‫ك ُم َغيِّرًا نِ ْع َمةً أَ ْن َع َمهَا َعلَى قَ وْ ٍم َحتَّى‬ ‫بِأ َ ْنفُ ِس ِه ْم } [الرعد‪ ،]11 :‬وقوله‪َ { :‬ذلِكَ بِأ َ َّن هَّللا َ لَ ْم يَ ُ‬
‫{ولَ وْ أَ َّن أَ ْه َل ْالقُ َرى‬ ‫يُ َغيِّرُوا َما بِأ َ ْنفُ ِس ِه ْم َوأَ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم } [األنف ال‪ ،]53 :‬وقول ه‪َ :‬‬
‫ض َولَ ِك ْن َك َّذبُوا فَأَخَ ْذنَاهُ ْم بِ َم ا َك انُوا‬ ‫ت ِمنَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫آ َمنُوا َواتَّقَوْ ا لَفَتَحْ نَا َعلَ ْي ِه ْم بَ َر َكا ٍ‬
‫يَ ْك ِسبُونَ } [األعراف‪ ،]96 :‬وغيرها من اآليات الكريمة التي تربط الجزاء بالعمل‪.‬‬
‫ومن ه ذا الب اب م ا ورد في الرواي ات الكث يرة عن رس ول هللا ‪ ‬وأئم ة أه ل‬
‫ال بيت‪ ،‬وال تي توض ع في كتب الش يعة في ب اب الب داء‪ ،‬ومنه ا م ا روى الص دوق في‬

‫‪ )(1‬انظر الروايات الواردة في حول علمه تعالى في بحار األنوار‪.. 121 : 4 :‬‬

‫‪112‬‬
‫الخصال عن أنس قال‪ :‬قال رسول هللا ‪( :‬أكثر من صدقة السر‪ ،‬فإنه ا تطفئ غض ب‬
‫الرب جل جالله)‬
‫ومنها ما روى في عيون األخبار عن الرضا عن آبائه قال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫(باكروا بالصدقة‪ ،‬فمن باكر بها لم يتخطاها البالء)‬
‫وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر قال‪ :‬قال أمير المؤمنين‪( :‬أفض ل م ا‬
‫توسل به المتوسلون اإليمان باهلل‪ ،‬وصدقة السر‪ ،‬فإنها تذهب الخطيئ ة‪ ،‬وتطفئ غض ب‬
‫الرب‪ ،‬وصنائع المعروف‪ ،‬فإنها تدفع ميت ة الس وء‪ ،‬وتقي مص ارع اله وان)‪ ،‬وغيره ا‬
‫من الروايات الكثيرة التي يتفقون فيها مع المدرسة السنية‪.‬‬
‫ثالثا ـ أن لالعتقاد في البداء ت أثيرا تربوي ا وس لوكيا كب يرا‪ ،‬كم ا نص على ذل ك‬
‫ناصر مكارم الشيرازي بقوله‪( :‬االعتقاد بالمحو واإلثبات‪ ،‬وأن العب د ق ادر على تغي ير‬
‫مصيره بأفعاله وأعماله‪ ،‬ال بد من أن يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهر‪ ،‬وينمي‬
‫ن واة الخ ير الكامن ة في نفس ه‪ ،‬فتش ريع الب داء‪ ،‬مث ل تش ريع قب ول التوب ة‪ ،‬والش فاعة‪،‬‬
‫وتكفير الصغائر باالجتناب عن الكبائر‪ ،‬كلها ألجل بعث الرجاء وإيقاد ن وره في قل وب‬
‫العص اة والعت اة‪ ،‬ح تى ال ييأس وا من روح هللا‪ ،‬وال يتول وا بتص ور أنهم من األش قياء‬
‫وأهل النار قدرا‪ ،‬وأنه ال فائدة من السعي والعمل‪ ،‬فلعلم اإلنس ان أن ه س بحانه لم يج ف‬
‫قلمه في لوح المحو واإلثبات‪ ،‬وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يش اء‪ ،‬يس عد من يش اء‪،‬‬
‫ويشقي من يشاء‪ ،‬وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية‪ ،‬ألن العبد لو ت اب‪،‬‬
‫وعمل بالفرائض‪ ،‬وتمسك بالعروة الوثقى‪ ،‬فإنه يخ رج من س لك األش قياء‪ ،‬وي دخل في‬
‫صنف السعداء‪ ،‬وبالعكس‪ ..‬وهكذا فإن كل ما قدر في حقه من الموت والمرض والفق ر‬
‫والشقاء يمكن تغييره بالدعاء‪ ،‬والصدقة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وإكرام الوال دين‪ ،‬وغ ير ذل ك‪،‬‬
‫فجمي ع ه ذا من ب اب الرحم ة اإللهي ة ألج ل بث األم ل في قلب اإلنس ان‪ ،‬وعلى ه ذا‬
‫فاالعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته)(‪)1‬‬
‫ثم ساق الروايات التي تبين مدى اهتمام أئمة أهل ال بيت ببثت العقي دة في نف وس‬
‫المؤمنين حتى ال يضعفوا أو يكلوا‪ ،‬ومن ذلك ما روي عن الباقر والصادق أنهم ا ق ال‪:‬‬
‫(ما عبد هللا عز وجل بشئ مثل البداء)(‪)2‬‬
‫وروى عن الصادق أنه قال‪( :‬لو يعلم الناس م ا في الق ول بالب داء من األج ر م ا‬
‫فتروا من الكالم فيه)(‪)3‬‬
‫وروى عن أبي عبد هللا قال‪( :‬م ا عظم هللا ع ز وج ل بمث ل الب داء)(‪ ،)4‬ثم عل ق‬
‫عليه بقوله‪( :‬إذ لوال اإلقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف هللا ح ق المعرف ة‪ ،‬ب ل ويب دو‬
‫سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطالن البداء) أنه مكتوف األيدي‪ ،‬ال يق در على‬

‫‪ )(1‬أضواء على عقائد الشيعة اإلمامية وتاريخهم‪ ،‬ص ‪..447‬‬


‫‪ )(2‬البحار ‪.107 : 4‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ‪ ، 115 : 1‬التوحيد للصدوق ‪ ،‬باب البداء ‪ ،‬الحديث ‪.. 7‬‬
‫‪ )(4‬التوحيد للصدوق ‪ ،‬باب البداء ‪ ،‬الحديث ‪.. 2‬‬

‫‪113‬‬
‫تغيير ما ق دره‪ ،‬وال مح و م ا أثبت ه) (‪ ،)1‬كم ا يش ير إلى ذل ك قول ه تع الى عن اليه ود‪:‬‬
‫ت أَ ْي ِدي ِه ْم َولُ ِعنُوا بِ َما قَالُوا بَلْ يَدَاهُ َم ْبسُوطَت ِ‬
‫َان يُ ْنفِ ُ‬
‫ق َك ْيفَ‬ ‫ت ْاليَهُو ُد يَ ُد هَّللا ِ َم ْغلُولَةٌ ُغلَّ ْ‬
‫{ َوقَالَ ِ‬
‫يَ َشا ُء} [المائدة‪]64 :‬‬
‫‪ 5‬ـ فرية التقية وعالقتها بالنفاق‪:‬‬
‫ال نكاد نجد مصدرا من المصادر التي تحدثت عن الشيعة أو إي ران إال وتح دثت‬
‫معهما عن التقية‪ ،‬واعتبرتها من النفاق(‪ ،)2‬واعتبرت على أساسها ك ل اإليران يين ق ادة‬
‫وشعبا من المنافقين‪ ،‬حتى أنهم يعتبرون كل تضحياتهم في مواجهة االستكبار الع المي‪،‬‬
‫أو في خدمة القضية الفلسطينية مجرد تقية ونفاق ال عالقة لها بالحقيقة والواقع‪.‬‬
‫بل إن األمر بلغ بهم إلى حد اعتبار جهود إيران في خدم ة الوح دة اإلس المية أو‬
‫في التقريب بين المذاهب اإلسالمية مجرد تقية تريد منه ا التم دد والس يطرة‪ ،‬وال تري د‬
‫منها أن تؤدي ما كلف به كل مؤمن من الس عي إلى إص الح ذات ال بين وتوحي د ص ف‬
‫المسلمين‪ ،‬وهم يقولون ذلك مع علمهم باألض رار الش ديدة والتض حيات العظيم ة ال تي‬
‫قدمها الشعب اإليراني جراء تلك المواقف‪.‬‬
‫وهكذا ال نجد موقفا من المواقف الطيب ة إال وي ؤول ت أويال خبيث ا‪ ،‬والمرج ع في‬
‫ذلك التأويل ه و التقي ة‪ ..‬حيث نج د المخ الف المتم دد على أريكت ه‪ ،‬يتث اءب بكس ل‪ ،‬ثم‬
‫يقول‪ :‬ما ترونه أو تسمعونه مجرد تقية‪ ..‬ألم يقل إمامهم‪( :‬التقية ديني ودين آبائي)؟‬
‫ولهذا ال نجد عند هؤالء المغرض ين الط ائفيين س وى االس تنكار والنق د الممتلئ‬
‫بالحقد‪ ،‬فهم إذا ما رأوا سيئة أضافوا إليها ما شاءت لهم أهواؤهم من الك ذب والبهت ان‪،‬‬
‫وإن رأوا حسنة غمطوا أصحابها‪ ،‬وزعموا أن دافعهم إليها مجرد تقية‪.‬‬
‫ولألسف ف إن ه ؤالء ال ذين يطلق ون مث ل ه ذه االف تراءات لم يكلف وا أنفس هم أن‬
‫يط العوا م ا كتب ه أعالم الش يعية في الق ديم والح ديث‪ ،‬ولم يكلف وا أنفس هم أن يس ألوا‬
‫أعالمهم أو مراجعهم ليفهم وا منهم حقيق ة التقي ة‪ ،‬وحظه ا من الش رعية‪ ،‬ب ل لم يكلف وا‬
‫أنفسهم ليقرؤوا تراثهم الذي يؤمنون به ليروا ما ورد فيها من النصوص المقدسة‪ ،‬ومن‬
‫شروح العلماء لها‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬سنحاول هنا ـ باختصار شديد ـ أن ن ذكر أه داف التقي ة‪ ،‬ون بين‬
‫م دى ش رعيتها‪ ،‬وق د رأين ا من خالل اس تقراء النص وص المقدس ة‪ ،‬أن له ا غرض ان‬
‫ش رعيان ممتلئ ان ب القيم األخالقي ة‪ ،‬أولهم ا حف ظ الوح دة اإلس المية‪ ،‬وثانيهم ا حف ظ‬

‫‪ )(1‬أضواء على عقائد الشيعة اإلمامية وتاريخهم‪ ،‬ص ‪..448‬‬


‫‪ )(2‬من األمثل ة على ذل ك‪ :‬الش يعة والتش يع ‪ ،‬إحس ان إلهي ظه ير ‪ 79 :‬و‪ ،84‬وتبدي د الظالم ‪ ،‬إب راهيم س ليمان‬
‫الجبه ان ‪ 483 :‬و‪ ،483‬والش يعة وتحري ف الق رآن ‪ ،‬مح ّم د م ال هّللا ‪ 35 :‬و‪ ،36‬والتش يّع بين مفه وم األئ ّم ة والمفه وم‬
‫الفارسي ‪ ،‬الدكتور مح ّمد البنداري ‪ ،235 :‬ورجال الشيعة في الميزان ‪ ،‬عبد الرحمن ال زرعي ‪ 6 :‬و‪ 17‬و‪ 18‬و‪ 50‬و‪51‬‬
‫و‪ 126‬و‪ 148‬و‪ ،173‬والثورة االيرانية في ميزان اإلسالم ‪ ،‬الشيخ مح ّمد منظ ور نعم اني ‪ 122 :‬و‪ 180‬و‪ 182‬و‪ 183‬و‬
‫‪ 184‬و‪ 185‬و‪ 186‬و‪ 187‬و‪ ،222‬والص راع بين اإلس الم والوثني ة ‪ ،‬القص يمي ‪ 458 :‬و‪ ،459‬والش يعة في التص وّ ر‬
‫اإلسالمي ‪ ،‬علي عمر فريج ‪ 150 :‬و‪ 151‬و‪ 152‬و‪ 154‬و‪ 165‬و‪ ،183‬والخطوطة العريضة ‪ ،‬محبّ الدين الخطيب ‪9 :‬‬
‫و‪ ،10‬والشيعة معتقداً ومذهبا ً ‪ ،‬الدكتور صابر عبد الرحمن طعيمة ‪ 5 :‬و‪ 88‬و‪ ،118‬وبطالن عقائد الش يعة ‪ ،‬مح ّم د عب د‬
‫الستار التونسي ‪ :‬و‪ 72‬و‪ 73‬و‪ 78‬و‪ ،79‬والوشيعة ‪ ،‬موسى جار هّللا ‪.104 :‬‬

‫‪114‬‬
‫القائمين على اإلسالم والدعاة إليه‪.‬‬
‫أ ـ حفظ الوحدة اإلسالمية‪:‬‬
‫ويشير إلى هذا المقصد من التقية قوله تعالى على لسان هارون علي ه الس الم في‬
‫يت أَ ْن تَقُ و َل‬ ‫حواره مع أخيه موسى عليه السالم‪ { :‬اَل تَأْ ُخ ْذ بِلِحْ يَتِي َواَل بِ َر ْأ ِسي إِنِّي ِ‬
‫خَش ُ‬
‫فَ َّر ْقتَ بَ ْينَ بَنِي إِ ْس َرائِي َل َولَ ْم تَرْ قُبْ قَوْ لِي } [طه‪]94 :‬‬
‫وذلك جوابا عن ذلك العتاب الذي تلقاه من أخيه بسبب عدم ش دته م ع الس امري‬
‫ض لُّوا (‪ )92‬أَاَّل تَتَّبِ َع ِن‬‫وأص حابه‪ ،‬وق ال ل ه في ذل ك‪ { :‬يَاهَ ا ُرونُ َم ا َمنَ َع كَ إِ ْذ َرأَ ْيتَهُ ْم َ‬
‫صيْتَ أَ ْم ِري} [طه‪]93 ،92 :‬‬ ‫أَفَ َع َ‬
‫وقد قبل موسى علي ه الس الم العل ة ال تي ذكره ا ه ارون‪ ،‬لكونه ا عل ة ش رعية‪،‬‬
‫فالفتنة الناتجة من التفرقة والصراع كانت أكبر من تلك الوثنية التي وقع فيها الس امري‬
‫وأصحابه‪.‬‬
‫وهكذا نجد رسول هللا ‪ ‬يمارس هذا النوع من التقية حرص ا على وح دة األم ة‬
‫اإلسالمية في بداية نشأتها‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة قالت‪:‬‬
‫جر‪ ،‬فقال‪ :‬هو من البيت‪ ،‬قلت‪ :‬م ا منعهم أن ي دخلوه في ه؟‬ ‫سألت رسول هّللا ‪ ‬عن ِ‬
‫الح ِ‬
‫قال‪ :‬عجزت بهم النفقة‪ ،‬قلت‪ :‬فما شأن بابه مرتفعاً‪ ،‬ال يُصعد إليه إال بسلّم؟ ق ال‪( :‬ذل ك‬
‫أن قوم ك ح ديثو عه د بكف ر‬ ‫فعل قومك‪ ،‬ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا‪ ،‬ولوال ّ‬
‫مخافة أن تنف ر قل وبهم‪ ،‬لنظ رت ه ل أغيّ ره فأدخ ل في ه م ا انتقص من ه‪ ،‬وجعلت باب ه‬
‫باألرض)(‪)1‬‬
‫أن‬‫ومثله ما ورد في مداراة بعض الناس خشية من شرهم‪ ،‬فعن عروة بن الزبير ّ‬
‫أن رجالً استأذن في الدخول إلى منزل النب ّي ‪ ،‬فقال‪( :‬ائذنوا له ف بئس‬ ‫عائشة أخبرته ّ‬
‫ابن العشيرة‪ ،‬أو بئس أخو العشيرة)؛ فل ّما دخل أآلن ل ه الكالم‪ .‬فقلت ل ه‪ :‬ي ا رس ول هّللا‬
‫إن ش ّر الن اس منزل ة عن د هّللا من‬ ‫قلت ما قلت ث ّم ألنت له في القول؟ فقال‪( :‬أي عائشة‪ّ ،‬‬
‫تركه ـ أو و َد َعهُ الناس ـ اتّقاء فُحشه)(‪ ،)2‬فقد صرح رسول هللا ‪ ‬في هذا الحديث بأنه‬
‫ترك مصارحة ذلك الشخص‪ ،‬اتقاء لفحشه‪ ،‬م ع أن رس ول هللا ‪ ‬لم يخ ف على نفس ه‬
‫منه‪ ،‬وإنما حرص على الوحدة وتآلف القلوب‪ ،‬ولو في الظاهر‪.‬‬
‫وي دخل في ه ذا الب اب ك ل األح اديث ال واردة في ال دعوة للم داراة والص بر‬
‫والتحمل‪ ،‬كما في الحديث المعروف عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬الم ؤمن ال ذي يخال ط‬
‫الناس‪ ،‬ويص بر على أذاهم أعظم أج راً من الم ؤمن ال ذي ال يخال ط الن اس وال يص بر‬
‫على أذاهم)(‪ ،)3‬وال يمكن للمؤمن أو غ يره أن يص بر على الن اس دون أن ي داريهم أو‬
‫يتعامل معهم بما يشتهون من المعاملة‪ ،‬وإن لم يكن راضيا عن ذلك‪.‬‬
‫ومثله ما روي عنه ‪ ‬أنّه قال‪( :‬كي ف أنتم في ق وم م رجت عه ودهم وأمان اتهم‬
‫‪ )(1‬صحيح البخاري ‪ ، 179 : 2‬سنن ابن ماجة ‪.2955 / 985 : 2‬‬
‫‪ )(2‬صحيح البخاري ‪ ، 38 : 8‬سنن أبي داود ‪ 4791 / 251 : 4‬و‪ 4792‬و‪ ،4793‬ورواه مح ّدثو الشيعة باختالف‬
‫يسير كما في اُصول الكافي‪..1 / 245 : 2 :‬‬
‫‪ )(3‬سنن ابن ماجة ‪ ،4032 / 1338 : 2‬والسنن الكبرى ‪ /‬البيهقي ‪.89 : 10‬‬

‫‪115‬‬
‫وصاروا حثالة؟ وشبّك بين أصابعه‪ .‬قالوا‪ :‬كيف نصنع؟ قال‪( :‬اصبروا وخالقوا الن اس‬
‫بأخالقهم‪ ،‬وخالفوهم بأعمالهم)(‪ ،)1‬وهو ح ديث ص ريح في ال دعوة للتقي ة في مخالط ة‬
‫الناس‪ ،‬ومخالقتهم بأخالقهم‪.‬‬
‫وقد ورد في النصوص ذم أمثال هؤالء الناس الذين يحتاج الم ؤمن إلى ممارس ة‬
‫التقية عند صحبته لهم‪ ،‬ففي الحديث قال رسول هللا ‪( :‬بئس القوم قوم يمشي الم ؤمن‬
‫فيهم بالتقية والكتمان)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذه النصوص وغيرها‪ ،‬نجد أئمة الشيعة يجيزون أن ي ترك الم والي‬
‫لهم ما يراه من أحكام شرعية حتى لو كانت مبطلة لعمله حرصا على عدم صدع وحدة‬
‫األمة‪ ..‬فالتقية بمفهومها عندهم ال تع ني الح رص على النفس فق ط ح تى ال ت ؤذى‪ ،‬ب ل‬
‫تعني كذلك الح رص على حف ظ وح دة ص ف األمة‪ ،‬وع دم التس بب في وق وع الش قاق‬
‫بينها‪.‬‬
‫فمن الروايات في ذلك ما رواه جابر الجعفي‪ ،‬قال‪ :‬سألت أب ا جعف ر الب اقر‪( :‬إن‬
‫لي جيرانا ً‪ ،‬بعضهم يعرف هذا األمر ـ أي والية أهل البيت ‪ ‬ـ وبعض هم ال يع رف‪،‬‬
‫(أذن‬‫موس عا ً لي؟ فق ال‪ّ :‬‬
‫َّ‬ ‫أؤذن لهم‪ ،‬وأصلي بهم‪ ،‬فخفت أن ال يك ون ذل ك‬ ‫قد سألوني أن ّ‬
‫ر األوقات)(‪)3‬‬ ‫لهم‪ ،‬وص ِّل بهم‪ ،‬وتح َّ‬
‫وروي عن الصادق أنه قال‪( :‬من صلى معهم في الصف األول كان ك َم ْن ص لى‬
‫خلف رسول هللا ‪ ‬في الصف األول)(‪ ،)4‬وقال‪( :‬إذا صلَّيت معهم غف ر ل ك بع دد َم ْن‬
‫خالفك)(‪)5‬‬
‫وعن أبي علي قال‪ :‬قلت ألبي عبدهللا الصادق‪ :‬إن لنا إماما ً مخالف ا ً‪ ،‬وه و يبغض‬
‫أص حابنا كلهم؟ فق ال‪( :‬م ا علي ك من قوله‪ ،‬وهللا لئن كنت ص ادقا ً ألنت أح ق بالمس جد‬
‫ك ْن أول داخل وآخر خارج‪ ،‬وأحسن خلقك مع الناس‪ ،‬وقُلْ خيراً)(‪)6‬‬ ‫منه‪ ،‬ف ُ‬
‫وعن إسحاق بن عمار‪ ،‬قال‪ :‬قال لي أب و عبدهللا الص ادق‪( :‬ي ا إس حاق‪ ،‬أتص لي‬
‫معهم في المسجد؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬ص لِّ معهم؛ ف إن المص لي معهم في الص ف األول‬
‫كالشاهر سيفه في سبيل هللا)(‪)7‬‬
‫وعن عبدهللا بن سنان ق ال‪ :‬س معت أب ا عبدهللا يق ول‪( :‬أوص يكم بتق وى هللا ع ز‬
‫وجل‪ ،‬وال تحمل وا الن اس على أكت افكم فت ذلّوا‪ ،‬إن هللا تب ارك وتع الى يق ول في كتابه‪:‬‬
‫ُس ناً﴾‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬ع ودوا مرض اهم‪ ،‬واش هدوا جن ائزهم‪ ،‬واش هدوا لهم‬ ‫﴿ َوقُولُ وا لِلنَّ ِ‬
‫اس ح ْ‬

‫‪ )(1‬كشف األستار‪ ،‬الهيثمي ‪..2324 / 113 : 4‬‬


‫‪ )(2‬رواه الديلمي في مسند الفردوس‪ ،‬نقال عن الجامع الصغير للسيوطي ‪..491 : 1‬‬
‫‪ )(3‬جامع أحاديث الشيعة‪ ،‬حديث رقم ‪.10996‬‬
‫‪ )(4‬وسائل الشيعة‪ ،‬حديث رقم‪.10717‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق ‪ ،‬حديث رقم ‪.10718‬‬
‫‪ )(6‬المرجع السابق ‪ ،‬حديث رقم ‪.10721‬‬
‫‪ )(7‬المرجع السابق ‪ ،‬حديث رقم ‪.10723‬‬

‫‪116‬‬
‫وعليهم‪ ،‬وصلّوا معهم في مساجدهم)‬
‫(‪)1‬‬
‫وعن زي د الش حّام‪ ،‬عن جعف ر بن محمد‪ ،‬أن ه ق ال له‪( :‬ي ا زيد‪ ،‬خ القوا الن اس‬
‫بأخالقهم‪ ،‬صلّوا في مساجدهم‪ ،‬وعودوا مرض اهم‪ ،‬واش هدوا جن ائزهم‪ ،‬وإن اس تطعتم‬
‫أن تكونوا األئمة والمؤ ِّذنين فافعلوا‪ ،‬ف إنكم إذا فعلتم ذل ك ق الوا‪ :‬ه ؤالء الجعفرية‪ ،‬رحم‬
‫هللا جعفراً ما كان أحسن ما ي ؤدِّب أص حابه‪ .‬وإذا ت ركتم ذل ك ق الوا‪ :‬ه ؤالء الجعفرية‪،‬‬
‫فعل هللا بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدِّب أصحابه)(‪)2‬‬
‫وهكذا يفتي كبار علماء الشيعة وم راجعهم في الق ديم والح ديث‪ ،‬فمن المتق دمين‬
‫قال الشهيد األول محمد بن مكي العاملي‪( :‬ويستحبّ حضور جماعة العامة‪ ،‬كالخاصة‪،‬‬
‫بل أفضل‪ ،‬فقد روي‪ :‬من صلى معهم في الصف األول ك ان ك َم ْن ص لى خل ف رس ول‬
‫هللا‘ فيه‪ .‬ويتأكد مع المجاورة‪ .‬ويقرأ في الجهرية س ّراً‪ ،‬ولو مثل ح ديث النفس‪ ،‬وتس قط‬
‫لو فجأه ركوعهم‪ ،‬فيت ّم فيه إن أمكن‪ ،‬وإال سقط)(‪)3‬‬
‫ومن المتأخرين قال السيد شرف الدين الموسوي‪( :‬حاشا أمير المؤمنين ـ علي ا ً ـ‬
‫أن يصلّي إال تقرُّ با ً هلل وأدا ًء لما أمره هللا به‪ ،‬وصالته خلفهم ـ أي الخلفاء ـ ما ك انت إال‬
‫خالصة لوجهه الكريم‪ ،‬وقد اقتدينا به ع‪ ،‬فتقرّبنا إلى هللا ع ّز وج ّل بالص الة خل ف كث ير‬
‫من أئ ّم ة جماع ة أه ل الس نّة‪ ،‬مخلص ين في تل ك الص لوات هلل تع الى‪ .‬وه ذا ج ائز في‬
‫مذهب أهل البيت‪ .‬ويُثاب المص لّي منّ ا خل ف اإلم ام الس ني كم ا يُث اب بالص الة خل ف‬
‫الشيعي‪ .‬والخبير بمذهبنا يعلم أنّا نشترط العدال ة في إم ام الجماع ة إذا ك ان ش يعيّا ً‪ ،‬فال‬
‫يجوز االئتمام بالفاسق من الشيعة‪ ،‬وال بمجهول الحال‪ ،‬أ ّما السنّي فقد يجوز االئتمام ب ه‬
‫مطلقاً)(‪)4‬‬
‫ونفس الموقف نجده عند الكثير من أئمة المدرسة السنية‪ ،‬فقد روي عن الش افعي‬
‫أنه صلى الصبح في مسجد أبي حنيفة‪ ،‬وكان الشافعي يرى القنوت في ص الة الص بح‪،‬‬
‫ويرى الجهر بالبسملة‪ ،‬لكنه لم يقنت ولم يجهر ببسم اهلل تأدب ا ً م ع أبي حنيف ة واحترام ا‬
‫ألصحابه(‪..)5‬‬
‫وقد ذكر القرطبي أن ذلك كان شأن أئمة المذاهب الفقهية‪ ،‬فقال‪( :‬كان أبو حنيف ة‬
‫وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكي ة وإن ك انوا ال‬
‫يقرؤون البسملة ال سراً وال جهراً‪ ..‬وصلى أبو يوسف خلف الرش يد وق د احتجم وأفت اه‬
‫مالك بأنه ال يتوضأ فص لَّى خلف ه أب و يوس ف ولم يُعد‪ ،‬رغم أن ه ي رى أن خ روج ال دم‬
‫بحجامة أو غيرها ينقض الوضوء)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق ‪ ،‬حديث رقم ‪.10724‬‬


‫‪ )(2‬جامع أحاديث الشيعة‪ ،‬حديث رقم ‪.10995‬‬
‫‪ )( 3‬محمد بن مكي العاملي‪ ،‬الدروس الشرعية‪ ،‬ضمن سلسلة الينابيع الفقهية‪ ،‬الصالة ‪.651 :10‬‬
‫‪ )(4‬أجوبة مسائل موسى جار هللا ‪.73 :4‬‬
‫‪ )(5‬طبقات الحنفية (‪)1/433‬‬
‫‪ )(6‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬للقرطبي (‪)23/375‬‬

‫‪117‬‬
‫ب ـ حفظ الدعاة إلى اإلسالم‪:‬‬
‫وقد اخترنا أن نعبر بهذا التعبير للتفرقة بين سعي اإلنسان لحف ظ نفس ه من أج ل‬
‫نفسه‪ ،‬والذي قد يكون مذموما إن لم يصادف محل ه المناس ب‪ ،‬وبين التقي ة ال تي يقص د‬
‫صاحبها الحفاظ على نفسه‪ ،‬حتى يستطيع أن يؤدي دوره الدعوي في أكمل صوره‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم مثاال لذلك بمؤمن آل فرعون‪ ،‬ال ذي أخ بر أن ه ك ان يكتم‬
‫إيمانه‪ ،‬واستطاع بسبب ذلك أن يثني فرعون ع ّما عزم عليه من جرم عظيم‪.‬‬
‫ومن ه ذا الب اب ورد في النص وص المقدس ة إج ازة التقي ة للمؤم نين ال ذين‬
‫يتعرضون للبالء حرصا عليهم‪ ،‬ألنه ال يمكن أن تستمر ال دعوة اإلس المية من دونهم‪،‬‬
‫ْس‬‫ُون ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو َم ْن يَ ْف َعلْ َذلِ كَ فَلَي َ‬
‫قال تعالى‪{ :‬اَل يَتَّ ِخ ِذ ْال ُم ْؤ ِمنُونَ ْال َكافِ ِرينَ أَوْ لِيَا َء ِم ْن د ِ‬
‫ِمنَ هَّللا ِ فِي َش ْي ٍء إِاَّل أَ ْن تَتَّقُوا ِم ْنهُ ْم تُقَاةً } [آل عمران‪]28 :‬‬
‫ولهذا مارس الصحابة المستضعفون التقية في عهد رسول هللا ‪ ،‬فقد روي في‬
‫كتب الس يرة في ش أن تع ذيب المش ركين للمستض عفين من المس لمين‪ ..( :‬فأخ ذهم‬
‫المش ركون وألبس وهم أدراع الحدي د وص هروهم في الش مس‪ ،‬فم ا منهم أح د إال وق د‬
‫وآتاهم على ما أرادوا إال بالالً)(‪)1‬‬
‫فعذبوه حتّى ب اراهم في بعض‬ ‫وفي حديث آخر‪( :‬أخذ المشركون ع ّمار بن ياسر ّ‬
‫ما أرادوا‪ ،‬فش كا ذل ك إلى الن ب ّي ‪ ،‬فق ال الن ب ّي ‪ :‬كي ف تج د قلب ك؟ ق ال‪ :‬مطمئنّ ا ً‬
‫ي ‪( :‬فإن عادوا فعد)(‪)2‬‬ ‫باإليمان‪ ،‬قال النب ّ‬
‫إن عم اراً كف ر‪،‬‬ ‫وفي رواية أن ه قي ل لرس ول هللا ‪ ‬عن ع ّم ار‪ :‬ي ا رس ول هّللا ّ‬
‫إن ع ّماراً مليء إيمانا ً من فرقه إلى قدمه‪ ،‬واختل ط اإليم ان بلحم ه ودم ه)‪،‬‬ ‫فقال‪( :‬كال‪ّ ،‬‬
‫فأتى ع ّمار رسول هّللا ‪ ‬وهو يبكي‪ ،‬فجعل رسول هّللا ‪ ‬يمسح عينيه ويقول‪ :‬ما لك؟‬
‫إن عادوا لك‪ ،‬فعد لهم بما قلت)(‪)3‬‬
‫وهك ذا اس تمرت ممارس تهم له ا في ك ل المراح ل ح تى بع د م رور مرحل ة‬
‫أن عيون ا ً لمس يلمة الك ّذاب أخ ذوا رجلين من‬ ‫االستضعاف؛ فقد روى الحسن البصري ّ‬
‫أن مح ّمداً رسول هّللا ؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬أتش هد‬ ‫المسلمين فأتوه بهما‪ ،‬فقال ألحدهما‪ :‬أتشهد ّ‬
‫انّي رسول هّللا ‪ ،‬فأبى ولم يشهد‪ ،‬فقتلهُ‪ .‬وقال مثل ذلك للثاني فشهد لمس يلمة الك ّذاب بم ا‬
‫أراد‪ ،‬فأطلقه‪ ،‬فأتى النب ّي ‪ ،‬وأخبره بما جرى‪ ،‬فقال ‪( :‬أ ّم ا ص احبك فمض ى على‬
‫إيمانه‪ ،‬وأ ّما أنت فأخذت بالرخصة)(‪)4‬‬
‫وقد استمر الصحابة في ممارسة هذا النوع من التقي ة بع د وف اة رس ول هللا ‪،‬‬
‫لنكش ر في وج وه أق وام‪ ،‬وإن قلوبن ا‬ ‫ّ‬ ‫فق د روي عن أبي ال درداء أنّ ه ك ان يق ول‪( :‬إنّ ا‬

‫‪ )(1‬سنن ابن ماجة ‪.53 : 1‬‬


‫‪ )(2‬جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.122 : 14‬‬
‫‪ )(3‬سنن ابن ماجة ‪.53 : 1‬‬
‫‪ )(4‬تفسير القرطبي (‪)189 /10‬‬

‫‪118‬‬
‫لتلعنهم)(‪)1‬‬
‫وروي عن أبي هريرة ق ال‪( :‬حفظت من رس ول هّللا ‪ ‬وع اءين‪ :‬فأ ّم ا أح دهما‬
‫فبثثته‪ ،‬وأ ّما اآلخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)(‪)2‬‬
‫وقد ذكر ابن حجر العسقالني (توفي ‪852‬ه‍) أن التقية هي التي حملت أبا هريرة‬
‫على فعل ذلك‪ ،‬فقد قال‪( :‬وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبث ه على األح اديث ال تي فيه ا‬
‫تبيين أسامي اُمراء السوء‪ ،‬وأحوالهم‪ ،‬وزمنهم‪ .‬وقد ك ان أب و هري رة يك ني عن بعض ه‬
‫وال يص رح ب ه خوف ا ً على نفس ه منهم‪ ،‬كقول ه‪( :‬أع وذ باهّلل من رأس الس تين‪ ،‬وإم ارة‬
‫الصبيان)‪ .‬يشير إلى خالفة يزيد بن معاوية‪ ،‬النّها كانت سنة ستين من الهجرة)‪ ،‬ثم نقل‬
‫عن ابن المنير قوله‪( :‬وانما أراد أبو هريرة بقوله‪( :‬قُطع) أي‪ :‬قَطع أهل الج ور رأس ه‪،‬‬
‫إذا سمعوا عيبه لفعلهم‪ ،‬وتضليله لسعيهم)(‪)3‬‬
‫وحكى السرخسي ممارسة حذيفة بن اليمان للتقية‪ ،‬فقال‪( :‬وقد كان حذيفة رضي‬
‫هّللا عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنّه يداري رجالً‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنّك منافق!! فقال‪:‬‬
‫ال‪ ،‬ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه)(‪)4‬‬
‫وهكذا وردت في الروايات ممارسة الكثير من الصحابة وغيرهم التقية في عه د‬
‫معاوية ومن بعده من األمراء الظلمة‪ ،‬فعن س عيد بن جب ير ق ال‪( :‬كنت م ع ابن عب اس‬
‫بعرف ات‪ ،‬فق ال م ا لي ال اس مع الن اس يلب ون؟ قلت‪ :‬يخ افون من معاوي ة‪ ،‬فخ رج ابن‬
‫عباس من فسطاطه‪ ،‬فقال‪ :‬لبيك اللهم لبيك‪ ،‬لبيك فإنهم تركوا السنة من بغض علي)(‪)5‬‬
‫وهكذا استمر القول بالتقية والعمل بها عند التابعين ومن بعدهم‪ ،‬وبناء على ذل ك‬
‫أجازها الفقهاء من جميع المذاهب اإلسالمية‪.‬‬
‫وكنموذج على ذلك من المذهب الحنفي ما ذكره السرخسي (توفي ‪490‬ه‍)‪ ،‬وهو‬
‫من كبار فقهاء الحنفية‪ ،‬فقد ذكر تقيّة ع ّمار بن ياس ر وأص حابه‪ ،‬ثم عل ق عليه ا بقول ه‪:‬‬
‫(هذا النوع من التقية يجوز لغير األنبي اء والرس ل عليهم الص الة والس الم)(‪ ،)6‬وعلّ ق‬
‫(إن التقيّ ة ج ائزة إلى ي وم القيام ة)‪ ،‬بقول ه‪( :‬وب ه نأخ ذ‪،‬‬ ‫على كالم الحس ن البص ري‪ّ :‬‬
‫والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بم ا يظه ره وإن ك ان يض مر خالف ه‪ .‬وق د ك ان بعض‬
‫ان ذل ك ج ائز‪ ،‬لقول ه تع الى‪ { :‬اَل‬ ‫الناس يأبى ذلك‪ ،‬ويقول إنّ ه من النف اق‪ ،‬والص حيح ّ‬
‫ُون ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو َم ْن يَ ْف َع لْ َذلِ كَ فَلَي َ‬
‫ْس ِمنَ هَّللا ِ فِي‬ ‫يَتَّ ِخ ِذ ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ ْال َك افِ ِرينَ أَوْ لِيَ ا َء ِم ْن د ِ‬
‫َش ْي ٍء إِاَّل أَ ْن تَتَّقُ وا ِم ْنهُ ْم تُقَ اةً } [آل عم ران‪ ،]28 :‬وإج راء كلم ة الش رك على اللس ان‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪.37 : 8‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪.41 : 1‬‬
‫‪ )(3‬فتح الباري‪.175 : 1 ،‬‬
‫‪ )(4‬المبسوط ‪ ،‬السرخسي ‪..46 : 24‬‬
‫‪ )(5‬سنن النسائي ‪.253 : 5‬‬
‫‪ )(6‬المبسوط ‪ ،‬السرخسي ‪.25 : 24‬‬

‫‪119‬‬
‫التقيّة) (‪)1‬‬‫مكرها ً مع طمأنينة القلب باإليمان‪ ،‬من باب‬
‫ومثله ذهب أبو حامد الغ زالي (ت وفي ‪505‬ه‍)‪ ،‬وه و من كب ار فقه اء الش افعية‪،‬‬
‫إن الكذب ليس حرام ا ً‬ ‫حيث قال في إحيائه عند (بيان ما ر ّخص فيه من الكذب)‪( :‬إعلم ّ‬
‫لعينه‪ ،‬بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره‪ّ ،‬‬
‫فإن أق ّل درجات ه أن يعتق د‬
‫المخبر الشيء على خالف ما هو عليه فيكون جاهالً‪ ،‬وقد يتعلّق به ضرر غيره‪ .‬ورُبَّ‬
‫جهل فيه منفعة ومصلحة‪ ،‬فالكذب محصّل لذلك الجهل‪ ،‬فيكون مأذونا ً فيه‪ ،‬وربّم ا ك ان‬
‫ّ‬
‫التوص ل إلي ه بالص دق‬ ‫واجباً‪ ..‬والكالم وسيلة إلى المقاصد‪ ،‬فك ّل مقصود محمود يمكن‬
‫ّ‬
‫التوص ل إلي ه بالك ذب دون الص دق‪،‬‬ ‫والك ذب جميع اً‪ ،‬فالك ذب في ه ح رام‪ ،‬وإِن أمكن‬
‫فالكذب فيه مباح‪ ،‬إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً‪ ،‬وواجب إن كان المقصود واجب اً‪،‬‬
‫ان عصمة دم المسلم واجبة‪ .‬فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مس لم ق د اختفى‬ ‫كما ّ‬
‫من ظالم‪ ،‬فالكذب فيه واجب)(‪)2‬‬
‫وبيّن الغزالي األحكام المرتبطة بذلك‪ ،‬وهي نفس األحك ام ال تي ي ذكرها الش يعة‬
‫عند حديثهم عن التقية‪ ،‬فقال‪( :‬فلو صدق اإلنسان في مواضع الض رر تولّ د من ص دقه‬
‫مح ذور‪ ،‬فك ان علي ه أن يقاب ل أح دهما ب اآلخر‪ ،‬وي زن ب الميزان القس ط‪ ،‬ف إذا علم ّ‬
‫ان‬
‫المحذور الذي يحصل بالصدق أش ّد وقعا ً في الشرع من الكذب فله أن يكذب‪ ،‬وإن ك ان‬
‫المقصود أهون من مقصود الصدق‪ ،‬فيجب الصدق‪ .‬وق د يتقاب ل األم ران بحيث ي تر ّدد‬
‫ألن الكذب يباح لضرورة‪ ،‬أو حاجة مه ّم ة)‬ ‫فيهما‪ ،‬وعند ذلك‪ ،‬الميل إلى الصدق أولى‪ّ ،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ومثلهم ا نج د أعالم الم ذهب الحنبلي ي ذكرون التقي ة‪ ،‬ويجيزونه ا في محاله ا‬
‫المناسبة لها‪ ،‬فقد نص ابن قدامة الحنبلي (توفي ‪620‬ه‍) على عدم جواز الص الة خل ف‬
‫المبتدع والفاسق إال إذا (خاف م ّما يلحق ه من ض رر إن ت رك الص الة خلف ه‪ ،‬ففي ه ذه‬
‫الحالة يمكنه أن يصلّي خلفه تقية ث ّم يعيد الصالة)‪ ،‬واحتج عليه بم ا روي عن ج ابر بن‬
‫عبد هّللا األنصاري أنه قال‪ :‬سمعت النب ّي ‪ ‬على منبره يقول‪( :‬ال ت ؤ ّم ّن ام رأة رجالً‪،‬‬
‫وال يؤ ّم أعرابي مهاجراً‪ ،‬وال يؤ ّم فاجر مؤمنا ً إال أن يقهره بسلطان‪ ،‬أو يخاف س وطه‪،‬‬
‫أو سيفه)(‪)4‬‬
‫ومثلهم جميعا أعالم المدرسة المالكية الذين اتفقوا على جواز التقي ة في محاله ا‪،‬‬
‫فقد ذكر اإلمام مالك (توفي ‪279‬ه‍) في المدوّنة الكبرى عدم وق وع طالق المك ره على‬
‫نحو التقية‪ ،‬محت ّجا ً بذلك بقول ابن مسعود‪( :‬ما من كالم يدرأ عنّي س وطين من س لطان‬
‫إال كنت متكلّما ً به)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق ‪.45 : 24 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪ ،‬الغزالي ‪.137 : 3‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.138 : 3 :‬‬
‫‪ )(4‬المغني‪ ،‬ابن قدامة ‪ 186 : 2‬و‪..192‬‬
‫‪ )(5‬المدونة الكبرى‪.29 : 3 :‬‬

‫‪120‬‬
‫وهكذا نرى كل المذاهب الفقهية تقول بالتقية‪ ،‬وتجيزها للض رورة بن اء على م ا‬
‫ورد في ذلك من النصوص المقدسة‪ ،‬بل قد حكي اإلجماع في ذلك‪ ،‬فقد قال جمال الدين‬
‫القاسمي‪( :‬ومن هذه اآلية‪ { :‬إِالَّ أَن تَتَّقُ ْ‬
‫وا ِم ْنهُ ْم تُقَ اةً } اس تنبط األئم ة مش روعية التقي ة‬
‫عند الخوف‪ ،‬وقد نقل اإلجماع على جوازها عند ذلك اإلمام مرتضى اليماني في كتاب ه‬
‫[إيثار الحق على الخلق])(‪)1‬‬
‫وهو يشير بذلك إلى قوله‪( :‬وزاد الحق غموضا ً وخف ا ًء أم ران‪ :‬أح دهما‪ :‬خ وف‬
‫العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء الس وء وس الطين الج ور وش ياطين الخل ق م ع ج واز‬
‫التقية عند ذلك بنص القرآن‪ ،‬واجماع أهل اإلسالم‪ ،‬وما زال الخ وف مانع ا ً من إظه ار‬
‫الحق‪ ،‬وال برح المحق عد ّواً ألكثر الخلق‪ ،‬وقد ص ّح عن أبي هري رة أنّ ه ق ال في ذل ك‬
‫العصر األوّل‪ :‬حفظت من رسول هّللا ‪ ‬وعاءين‪ ،‬أ ّم ا أح دهما فبثثت ه في الن اس وأ ّم ا‬
‫اآلخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم)(‪)2‬‬
‫ولم يخرج الشيعة عن إجماع العلماء في ذل ك‪ ،‬ول ذلك أفت وا بم ا أف تى ب ه س ائر‬
‫األئمة‪ ،‬وربما يكون سبب ش هرة التقي ة عنهم م ا تعرض وا ل ه من البالء طيل ة الت اريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬مما لم تتعرض له سائر المذاهب‪ ،‬ذلك أنهم كانوا يعت برون من المعارض ة‪،‬‬
‫ولهذا اضطروا إلى حفظ أنفسهم ودعوتهم من ظلم الظلمة‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذه الضرورة العالمة المرج ع الش يخ جعف ر الس بحاني في كتاب ه‬
‫عن التقية‪ ،‬فقال‪( :‬الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف‬
‫من الس لطات الغاش مة فل و لم يكن هن اك في غ ابر الق رون ـ من عص ر األم ويين ث ّم‬
‫ّ‬
‫مخض بة‬ ‫العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الش يعة‪ ،‬ولم تكن بالدهم وعق ر دارهم‬
‫بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك‪ ،‬كان من المعق ول أن تنس ى الش يعة كلم ة التقي ة‬
‫إن كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد‬ ‫وأن تحذفها من ديوان حياتها‪ ،‬ولكن يالألسف ّ‬
‫األمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم‪ ،‬فك انوا‬
‫يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الش يعة يقتل ونهم ويض طهدونهم وينكل ون بهم‪ ،‬ول ذا‬
‫ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة‪ ،‬بل لكل من يملك ش يئا ً من العق ل وس يلة‬
‫إالّ اللجوء إلى التقية أو رفع الي د عن المب ادئ المقدس ة ال تي هي أغلى عن ده من نفس ه‬
‫وماله)(‪)3‬‬
‫ثم ذكر الشواهد التاريخية الكثيرة الدالة على ذلك‪ ،‬وعلق عليه ا بقول ه‪( :‬ونتيج ة‬
‫لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة‪ ،‬فقتل اآلالف منهم‪،‬‬
‫وأ ّما من بقي منهم على قي د الحي اة فق د تع رض إلى ش تى ص نوف التنكي ل واالره اب‬
‫إن من األُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك‬ ‫والتخويف‪ ،‬والحق يقال ّ‬

‫‪ )(1‬جمال الدين القاسمي‪ ،‬محاسن التأويل ‪..82 : 4‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق ‪..82 / 4 :‬‬
‫‪ )( 3‬التقية (مفهومها‪ ،‬غايتها‪ ،‬دليلها‪ ،‬حدها في ضوء الكتاب والسنة)‪ ،‬جعفر السبحاني‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪121‬‬
‫الذريع) (‪)1‬‬ ‫الظلم الكبير والقتل‬
‫ثم خاطب السنيين الذين ينكرون على الشيعة ممارسة التقي ة‪ ،‬فق ال‪( :‬فل و ك ان‬
‫األخ السنّي يرى التقية أمراً محرّما ً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي‪ ،‬وأن ال‬
‫يضيق عليه في الحرية التي سمح بها اإلسالم ألبنائه‪ ،‬وليعذره في عقيدت ه وعمل ه كم ا‬
‫هو عذر أُناسا ً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهب وا ال دور فكي ف بطائف ة‬
‫تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته‪ ،‬وإذا كان معاوية وأبن اء بيت ه والعباس يون‬
‫كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخ الفيهم فم اذا يمنع ه عن إع ذار الش يعة‬
‫باعتبارهم مجتهدين؟)(‪)2‬‬
‫ورد على تلك االفتراءات التي تصور التقية باعتبارها تنظيم ات س رية‪ ،‬بقول ه‪:‬‬
‫يصور أن الغاية منها ه و تش كيل‬ ‫ِّ‬ ‫(إن أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها‪ ،‬يتصور أو‬ ‫ّ‬
‫جماعات سرية هدفها اله دم والتخ ريب‪ ،‬كم ا ه و المع روف من الب اطنيين واألح زاب‬
‫اإللحادية السرية‪ ،‬وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئ ك جهال أو عم داً دون أن ير ّك زوا‬
‫في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة‪ ،‬فأين ما ذكرناه من هذا الذي ي ذكره‪ ،‬ول و لم‬
‫تُلجئ الظروف القاهرة واألحكام المتعسفة هذا الجم وع المستض عفة من المؤم نين لم ا‬
‫كانوا عمدوا إلى التقية‪ ،‬ولما تح ّملوا عبء اخف اء معتق داتهم ول دعوا الن اس إليه ا علن ا ً‬
‫أن السيف والنطع سالح ال ت تردد ك ل الحكوم ات الفاس دة من التل ويح‬ ‫ودون تر ّدد‪ ،‬إالّ ّ‬
‫بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها) (‪)3‬‬
‫هكذا عرض الشيخ جعفر السبحاني التقية بمفهومها اإلس المي األص يل‪ ،‬وال ذي‬
‫دلت عليه النصوص المقدسة‪ ،‬ودلت عليه قبل ذل ك الفط رة اإلنس انية الس ليمة‪ ،‬وال ذي‬
‫يعارضه لألسف يكيل بالمكاييل المزدوجة‪ ،‬ألنه يجوز لنفس ه‪ ،‬ولطائفت ه م ا ال يج وزه‬
‫لغيرها‪ ،‬وهو الظلم بعينه‪.‬‬
‫ثانيا ـ نصرة اإليرانيين للعقيدة اإلسالمية‬
‫ال يمكن لمن يؤرخ للجهود التي قام به ا علم اء المس لمين في التعري ف بالعقي دة‬
‫اإلسالمية ونصرتها ورد الشبه المختلفة عنها أن يلغي ذلك ال تراث الكب ير ال ذي ترك ه‬
‫كبار العلماء اإليرانيين من مختلف المدارس اإلسالمية‪ ،‬وال أن ينك ره‪ ،‬ذل ك أن ه ج زء‬
‫مهم جدا ال يمكن االستغناء عنه‪.‬‬
‫فأكبر الكتب في التوحيد وأصول الدين ألفت في مدن إيرانية تنعت اليوم لألس ف‬
‫بكونها أرضا للمجوس‪ ،‬وكون أهلها لم يسلموا طواعية ورغب ة‪ ،‬وإنم ا أس لموا لينف ذوا‬
‫مؤامرتهم على األمة‪ ،‬ولست أدري هل يمكن اعتبار تلك الكتب التي لم يؤلف مثلها في‬
‫نصرة العقيدة اإلسالمية من أدوات تلك المؤامرة المزعومة‪ ،‬أم ال؟‬
‫قد يستغرب القارئ الكريم هذا‪ ،‬ولكن هذا هو الواقع‪ ،‬ويمكن لمن ش اء التأك د أن‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.18‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.3‬‬

‫‪122‬‬
‫يبحث عن علماء التوحيد وأصول الدين في كتب الطبقات والرجال‪ ،‬وليس علي ه س وى‬
‫أن يكتب النسبة إلى الم دن اإليراني ة ال تي ال ت زال إلى اآلن تس مى بأس مائها القديم ة‪،‬‬
‫وسيجد العجب العجاب‪.‬‬
‫ومثلما فعلنا في الفص ول الس ابقة‪ ،‬فس نكتفي هن ا ب ذكر نم اذج عن كب ار علم اء‬
‫التوحيد اإليرانيين الذين أثروا الساحة العقدي ة اإلس المية بمنتج اتهم العلمي ة‪ ،‬وال تي ال‬
‫تزال تدرس إلى اآلن‪ ،‬والتي يمكن االستغناء عن كثير من غيرها‪ ،‬وال يمكن االستغناء‬
‫عنها‪ ،‬وقد اخترنا تقس يمها بحس ب الم دارس العقدي ة الك برى إلى الط ائفتين الكب يرتين‬
‫الكريمتين في اإلسالم‪ :‬السنة والشيعة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ علماء العقيدة من المدرسة السنية‪:‬‬
‫من أهم المزايا ال تي نج دها في ال تراث العق دي المؤل ف في إي ران ذل ك التن وع‬
‫الكبير في المدارس التي ينتمي إليها أصحاب ذلك التراث‪ ،‬وهو ما يدل على أن ال روح‬
‫العلمية كانت سائدة في المدن اإليرانية ومدارسها المختلفة‪ ،‬وهي ميزة ال ن زال نج دها‬
‫إلى اآلن‪ ،‬فالمكتب ات اإليراني ة تح وي جمي ع أص ناف الكتب‪ ،‬ومن جمي ع الم دارس‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والمجامع العلمية اإليرانية تدرس جميع المذاهب‪ ،‬وال تضيق بواحد منها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أننا نجد علماء التوحيد من مدرسة أه ل الح ديث يعيش ون‬
‫في بالد واحدة مع الذي يختلف ون معهم اختالف ا ش ديدا من علم اء الكالم‪ ،‬ف ابن خزيم ة‬
‫مثال‪ ،‬والذي يعتبره السلفية وأهل الحديث إمام أئمتهم كان يعيش في نيسابور تلك البل دة‬
‫التي خرج منها كبار المتكلمين في اإلس الم من أمث ال أبي القاس م القش يري وأبي س عد‬
‫النيسابوري وغيرهم كثير‪.‬‬
‫بناء على هذا سنذكر هنا نم اذج مختص رة لكب ار المتكلمين المناص رين للعقي دة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬مع التعريف بأهم آثارهم التي تركوها في المجال العق دي‪ ،‬وذل ك من خالل‬
‫نسبتهم إلى المدن اإليرانية‪ ،‬كما فعلنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫المتكلمون من طهران‪:‬‬
‫ونبدأ بطهران التي كانت في ذلك الحين قرية صغيرة من قرى الري‪ ،‬حيث نج د‬
‫الكث ير من ال رازيين ممن اش تهروا ب البحث في العقي دة اإلس المية‪ ،‬ونص رتها‪ ،‬وعلى‬
‫رأسهم أكبر متكلم في اإلسالم‪ ،‬ممن كتب في العقيدة وناظر فيها‪ ،‬وترك فيها المؤلف ات‬
‫الكثيرة‪ ،‬وهو فخر الدين الرازي (توفي ‪ 606‬هـ)‬
‫وميزته التي أتاحت له أن ينتصر للعقيدة اإلسالمية ورد الشبه عنها ه و امتالك ه‬
‫للكثير من األدوات التي تخول له ذلك‪ ،‬فهو متكلم أصولي ومفسـر وم ؤرخ وع الم لغ ة‬
‫وطبيب وفيلسوف(‪.)1‬‬
‫ول د الفخ ر ال رازي في مدين ة ال ري ق رب طه ران‪ ،‬في أس رة اش تهرت ب العلم‬
‫والفضل؛ فقد كان أبوه أحد علماء الشافعية في مدينة الري‪ ،‬وكان هو اآلخ ر أح د أئم ة‬

‫‪ )(1‬انظر في ترجمة الرازي‪ :‬وفيات األعيان‪ ،‬البن خلكان ‪ ،249/4-248‬تاريخ اإلسالم للذهبي‪ ،137/13 ،‬البداي ة‬
‫والنهاية البن كثير‪ ،/65 13،‬شذارات الذهب البن عماد الحنبلي‪ ،7 /40 ،‬اإلمام الفخر الرازي حيات ه وآث اره للعم اري‪،‬‬
‫‪.16-11‬‬

‫‪123‬‬
‫اإلس الم ومق دما فِي علم الكالم‪ ،‬حيث درس ه على ابن القاس م األنص اري تلمي ذ إم ام‬
‫الحرمين الجويني‪.‬‬
‫وقد ترك لنا الكثير من المص ادر العقدي ة الك برى باإلض افة إلى تفس يره الكب ير‬
‫ال ذي يعت بر نموذج ا مثالي ا عن التفاس ير العقدي ة‪ ،‬ومنه ا األربعين في أصول ال دين‪،‬‬
‫وأساس التق ديس‪ ،‬ومحصل أفك ار المتق دمين والمت أخرين من الحكم اء والمتكلمين في‬
‫علم الكالم‪ ،‬وشرح عيون الحكمة البن س ينا‪ ،‬واعتق ادات ف رق المس لمين والمش ركين‪،‬‬
‫ونهاية العقول في دراية األصول‪ ،‬وكتاب القضاء والق در‪ ،‬وعص مة األنبي اء‪ ،‬ورس الة‬
‫الحدوث‪ ،‬والمباحث المشرقية في العلم اإللهي‪ ،‬والمطالب العالية في الكالم‪ ،‬والملخص‬
‫في المنطق والحكمة‪.‬‬
‫وه ذه كله ا مراج ع ك برى ال يمكن للب احثين في العقي دة اإلس المية أن يس تغنوا‬
‫عنه ا‪ ،‬وله ذا أث نى الكث ير من العلم اء علي ه‪ ،‬وعلى جه وده في جمي ع المج االت‪،‬‬
‫وخصوصا في نصرة العقيدة اإلسالمية‪.‬‬
‫فقد وصفه الصفدي بقوله (‪:)1‬‬
‫اَل يَ ْنتَ ِهي َول ُك ل بح ٍر‬ ‫عَال َمة ْالعل َم اء َو ْالبَحْ ر الَّ ِذي‬
‫احل‬ ‫َس‬
‫قَلم ا بِأَحْ َس ن من ثن اه‬ ‫َم ا دَار فِي الحن ك اللِّ َس ان‬
‫أنامل‬ ‫وقلبت‬
‫وقال عنه‪( :‬كان ش ديد الح رص ج دا في العل وم الش رعية والحكم ة‪ ،‬اجتم ع ل ه‬
‫خمسة أشياء ما جمعها هللا لغيره فيما علمت ه من أمثال ه‪ ،‬وهي س عة العب ارة في الق درة‬
‫على الكالم‪ ،‬وص حة ال ذهن‪ ،‬واالطالع ال ذي م ا علي ه مزي د‪ ،‬والحافظ ة المس توعبة‪،‬‬
‫والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير األدلة وال براهين‪ ،‬وك ان في ه ق وة جدلي ة‪،‬‬
‫ونظره دقيق‪ ،‬وكان عارفا باألدب له شعر بالعربي ليس في الطبق ة العلي ا وال الس فلى‪،‬‬
‫وشعر بالفارسي لعله يكون فيه مجيدا) (‪)2‬‬
‫وهك ذا نج د الكث ير من المتكلمين في ال ري‪ ،‬وال ذين يغ ني عنهم جميع ا الفخ ر‬
‫الرازي‪.‬‬
‫المتكلمون من نيسابور‪:‬‬
‫وهم كث يرون ج دا‪ ،‬ومن م دارس مختلف ة‪ ،‬وعلى رأس هم إمــام الحــرمين أبي‬
‫المعالي الجويني (‪419‬هـ ‪478 -‬هـ)‪ ،‬الذي ولد ـ مثل الفخر الرازي ـ في أسرة علمية‪،‬‬
‫فقد كان ف أبوه واح دا من علم اء وفقه اء نيس ابور المع روفين‪ ،‬ول ه مؤلف ات كث يرة في‬
‫التفسير والفقه والكالم‪.‬‬
‫ويعتبر من علماء الكالم الكبار‪ ،‬وقد قال عنه د‪ .‬محم د ال زحيلي في كتاب ه ال ذي‬
‫ألفه عنه‪( :‬كان الدافع لدراسة أصول الدين أوال‪ ،‬وتأكي ده بدراس ة الفلس فات المتنوع ة‪،‬‬
‫ه و الح رص على اإلس الم وال دعوة إلي ه‪ ،‬ورد ش بهات األع داء عن ه‪ ،‬وتفني د حجج‬

‫‪ )(1‬الوافي بالوفيات (‪)175 /4‬‬


‫‪ )(2‬الوافي بالوفيات (‪)176 /4‬‬

‫‪124‬‬
‫الطاعنين به من الكفار والمشركين خارج الدعوة اإلسالمية‪ ،‬والملحدين الذين انض ووا‬
‫تحت ل واء المس لمين‪ ،‬وتس تروا بالباطني ة وغيره ا من الف رق الض الة‪ ،‬لل دس على‬
‫اإلسالم‪ ،‬والتشكيك فيه‪ ،‬وإثارة الشبه بين المسلمين‪ ..‬فصار دراسة أص ول ال دين وعلم‬
‫الكالم وتدريسه والتأليف فيه السبيل القويم أمام المسلمين‪ ،‬فانكب العلم اء على دراس ته‬
‫وتدريسه والتصنيف فيه‪ ،‬وهو ما سلكه إمام الحرمين الجويني)(‪)1‬‬
‫وقال عنه الحافظ أبو محمد الجرجاني‪( :‬هو إمام عصره‪ ،‬ونسيج وحده‪ ،‬ون ادرة‬
‫دهره‪ ،‬عديم المثل في حفظه‪ ،‬وبيانه ولسانه)(‪)2‬‬
‫وقال عنه تلميذه عبد الغافر الفارسي‪( :‬إمام الحرمين‪ ،‬فخر اإلسالم‪ ،‬إمام األئم ة‬
‫على اإلطالق‪ ،‬حبر الشريعة‪ ،‬المجمع على إمامته شرقا وغرب ا‪ ،‬المق ر بفض له الس راة‬
‫والحداة‪ ،‬عجما وعربا‪ ،‬لم ترى العيون مثله قبل ه‪ ،‬وال ت رى بع ده‪ ،‬رب اه حج ر اإلمام ة‬
‫وحرك ساعده السعادة مهده‪ ،‬وأرضعه ثدي العلم وال ورع‪ ،‬إلى أن ترع رع في ه وين ع‪،‬‬
‫أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب‪ ،‬فزاد فيها على كل أديب‪ ،‬ورزق من‬
‫التوسع في العبارة وعلوها ما لم يعهده من غيره)(‪)3‬‬
‫وق د أل ف الكتب الكث يرة في الفق ه واألص ول وعلم الكالم والسياس ة الش رعية‬
‫والجدال وغيرها‪ ،‬ومما كتبه في نصرة العقي دة اإلس المية‪ :‬الش امل في أص ول ال دين‪،‬‬
‫واإلرشاد إلى قواطع األدلة في أصول االعتقاد‪ ،‬ولمع األدلة في قواعد عقائد أهل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬والعقيدة النظامية في األركان اإلسالمية‪ ،‬وشفاء العليل في بيان م ا وق ع في‬
‫التوراة واإلنجيل من التبديل‪ ،‬وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ومنهم أبو القاسم األنصاري النيســابوري(‪( )4‬ت وفي ‪ 511‬هـ) الملقب باألس تاذ‬
‫اإلمام‪ ،‬ناصر السنة‪ ،‬إمام المتكلمين‪ ،‬سيف النظر (‪ ،)5‬وقد كان من كب ار علم اء الكالم‬
‫األشاعرة باإلضافة إلى اهتمامه بعلم التفسير‪ ،‬وعلم الحديث والتصوف‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته في علم الكالم [شرح اإلرشاد]‪ ،‬وهو من أشهر كتبه‪ ،‬وق د نهج في ه‬
‫على طريقة األشاعرة‪ ،‬وخصوصا على طريقة ش يخه أبي المع الي الجوي ني؛ ال ذي ال‬
‫يذكره إال بأجل األلقاب المشعرة بتوقيره واحترامه واالعتراف له لإلمامة والفضل(‪.)6‬‬
‫وقد قال بعض الباحثين عن مدى تأثيره في الثقافة اإلس المية‪( :‬ح از أب و القاس م‬
‫األنص اري على الس بق في اإلمام ة في ال دين والعلم والزه د وال ورع؛ وفي علم‬
‫األصول‪ ،‬والسلوك‪ ،‬والتفسير‪ .‬ففي األخالق والسلوك‪ :‬ه و الص وفي‪ ،‬اإلم ام‪ ،‬ال ورع‪،‬‬
‫فريد عصره في الفقه‪ ،‬بيته بيت الصالح والتصوف الزهد‪ ..‬وفي أصول الدين‪ :‬ص نف‬
‫‪ )(1‬الجويني لمحمد الزحيلي‪ ،‬ص‪.96-94 :‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية الكبرى‪..5/173 :‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الشافعية الكبرى‪..5/174 :‬‬
‫‪ )(4‬انظر في ترجمته‪ :‬طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي ‪.99-96/7‬‬
‫‪ )(5‬الغنية في الكالم‪ ،‬أبو قاسم األنصاري‪ ،‬المقدم ة التعريفي ة ب المؤلف‪ :‬مص طفى حس نين عب د اله ادي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪:‬‬
‫‪.27‬‬
‫‪ )(6‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.49‬‬

‫‪125‬‬
‫تصانيف حسنة‪ ،‬وأخذ في اإلفادة‪ ،‬وكان حسن الطريقة‪ ،‬دقيق النظر‪ ،‬واقفا ً على مسالك‬
‫األئمة وطرقهم في علم الكالم‪ ،‬بصيراً بمواض ع اإلش كال‪ ..‬وفي أص ول الح ديث‪ :‬فق د‬
‫كان العالم المؤصل للمسائل ذا منهج قويم‪ ،‬وق د ظه ر ت أثير ه ذه الثقاف ة التأص يلية في‬
‫كتابه الغنية؛ فنجده يناقش قضايا في منهجية الحديث؛ مثل‪ :‬مراتب نقل األخبار‪ ،‬وإفادة‬
‫خبر الواحد العلم‪ ،‬واالستدالل بالخبر فرع ثبوته‪ ،‬وغيرها‪ .‬واألنصاري ك ذلك ص احب‬
‫رواية؛ له رواي ات حكى بعض ها ابن عس اكر‪ .‬كم ا أن عناي ة األنص اري بالح ديث في‬
‫كتابه الغنية دراية أمر راس خ في اس تدالالته‪ ..‬وفي التفس ير‪ :‬ه و اإلم ام المق دم؛ ال ذي‬
‫يعتمد المفسرون ما أثر عنه من أقوال في التفسير‪ ،‬مطمئنين مستأنسين بما رجحه‪ ،‬كما‬
‫ذكر عنه أنه صنف في التفسير)(‪)1‬‬
‫ولعل أحسن صفة فيه باإلضافة إلى كل ما ذكر سابقا هو ذلك البعد المتسامح في‬
‫شخص ه‪ ،‬وال ذي جعل ه ين أى عن التعص ب والتكف ير‪ ،‬فق د روي أن ه ُس ئل عن تكف ير‬
‫المعتزلة‪ ،‬فقال ال؛ ألنهم نزهوه‪ ،‬ثم سئل عن أهل الحديث‪ ،‬فقال ال؛ ألنهم عظم وه(‪..)2‬‬
‫فقد اعتذر لكال الفريقين مع البعد الشديد بينهما‪.‬‬
‫ومنهم أبو عثمــان الصــابوني النيســابوري ‪ 373( 3‬هـ ‪ 449-‬هـ)‪ ،‬وه و من‬
‫)‬ ‫(‬
‫كبار علماء العقيدة في المدرسة السلفية‪ ،‬وصاحب أشهر كتبها [عقيدة الس لف أص حاب‬
‫الحديث]‬
‫وصفه عبد الغافر الفارسي في كتابه [السياق لتاريخ نيسابور] بأنه (اإلم ام ش يخ‬
‫اإلسالم الخطيب المفسّر المحدث الواعظ‪ ،‬أوحد وقته في طريقت ه‪ ،‬وع ظ المس لمين في‬
‫مجالس التذكير سبعين س نة‪ ،‬وخطب وص لى في الج امع ‪-‬يع ني‪ :‬بنيس ابور‪ -‬نح واً من‬
‫عشرين سنة)‬
‫وقال‪( :‬كان أكثر أه ل العص ر من المش ايخ س ماعا ً وحفظ ا ً ونش راً لمس موعاته‬
‫وتصنيفاته‪ ،‬وجمعا ً وتحريض ا ً على الس ماع‪ ،‬وإقام ة لمج الس الح ديث‪ ،‬س مع الح ديث‬
‫بنيس ابور وبس رخس وبه راة وبالش ام وبالحج از وبالجب ال‪ ،‬وح دث بكث ير من البالد‪،‬‬
‫وأكثر الناس في السماع منه)‬
‫قال‪( :‬أقعد بمجلس الوعظ مقام أبيه‪ ،‬وحضر أئمة ال وقت مجالس ه‪ ،‬وأخ ذ اإلم ام‬
‫أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي في تربيته وتهيئة أسبابه‪ ،‬وك ان يحض ر مجالس ه‬
‫ويثني عليه‪ ،‬وكذلك سائر األئمة كاألستاذ أبي إسحاق اإلسفراييني واألس تاذ اإلم ام أبي‬
‫بكر بن فورك‪ ،‬وس ائر األئم ة ك انوا يحض رون مجلس تفس يره‪ ،‬ويتعجب ون من كم ال‬
‫ذكائه وعقله وحسن إيراده الكالم عربيه وفارسيه‪ ،‬وحفظه لألحاديث‪ ،‬ح تى ك بر وبل غ‬
‫مبلغ الرجال ولم يزل يرتفع شأنه حتى صار إلى ما صار إلي ه‪ ،‬وه و في جمي ع أوقات ه‬
‫مشتغل بكثرة العبادات ووظائف الطاع ات‪ ،‬ب الغ في العف اف والس داد وص يانة النفس‪،‬‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.27‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬فخر الدين الرازي‪ ،‬تفسير مفاتيح الغيب ‪..323/1‬‬
‫‪ )(3‬قال في شرح عقيدة السلف للصابوني‪ ،‬ناصر العقل ( ‪ :)2 /1‬وأما لفظ (الصابوني) فقد ذكر السمعاني في كتاب‬
‫(األنساب) أنه نسبة إلى عمل الصابون‪ ،‬وقال‪ :‬هو بيت كبير بنيسابور الصابونية‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫معروف بحسن الصالة وطول القنوت واستشعار الهيبة حتى كان يُضرب به المثل)‬
‫النيسابوري(‪)1‬‬ ‫ومنهم أحمد بن الحسين بن علي بن عبد هللا بن موسى البيهقي‬
‫[‪ 384‬ـ ‪458‬هـ]‪ ،‬الذي وص ف بأن ه (اإلم ام‪ ،‬العالم ة‪ ،‬الحاف ظ)‪ ،‬وق د ول د في ولد في‬
‫خسروجرد‪ ،‬وهي قري ة من ق رى بيه ق بنيس ابور‪ ،‬ونش أ في بيه ق ال تي ك انت تم وج‬
‫حينها بالحركة العلمية الواسعة‪ ،‬ولذلك تسنى ل ه أن يلتقي ب الكثير من علم اء عصـره‪،‬‬
‫في سن مبكرة‪ ،‬ويكتب عنهم الحديث‪.‬‬
‫وقد قال متحدثا عن نفسه‪ ،‬وعن مرحلة طلبه للعلم‪( :‬كتبت الحديث من س نة تسع‬
‫وتس عين وثالثمائ ة‪ ،‬وأدركت بعض أص حاب الش رقيين‪ ،‬وابن األع رابي‪ ،‬والص فار‬
‫والرزاز واألصم وابن األخرم‪ ..‬وإني منذ نشأت‪ ،‬وابت دأت في طلب العلم أكتب أخب ار‬
‫سيدنا المصطفى ‪ ،‬وأجمع آث ار الص حابة ال ذين ك انوا أعالم ال دين‪ ،‬وأس معها ممن‬
‫حملها‪ ،‬وأتعرف أحوال روايتها من حفظها‪ ،‬وأجته د في تمي يز ص حيحها من س قيمها‪،‬‬
‫ومرفوعها من موقوفها‪ ،‬وموصولها من مرسلها‪ ،‬ثم أنظر في كتب هؤالء األئمة ال ذين‬
‫قاموا بعلم الشريعة‪ ،‬وبنى كل واحد منهم مذهب ه على مبل غ علم ه من الكت اب والس نة‪،‬‬
‫فأرى كل واحد منه رضي هللا عنهم جميعهم قصد الحق فيما تكلف واجته د في أداء م ا‬
‫كلف)‬
‫من أشهر مؤلفاته في العقائد‪ :‬إثبات عذاب القبر‪ ،‬واألسماء والصفات‪ ،‬واالعتق اد‬
‫والهداية إلى سبيل الرشاد على م ذهب الس لف وأص حاب الح ديث‪ ،‬والبعث والنش ور‪،‬‬
‫وشعب اإليمان‪ ،‬وحي اة األنبي اء في قب ورهم بع د وف اتهم‪ ،‬والقض اء والق در‪ ،‬واإليم ان‬
‫(مختصر شعب اإليمان)‪ ،‬وأحكام القرآن‪ ،‬ودالئل النبوة‪.‬‬
‫ومنهم أبو سهل محمد بن سليمان الصــعلوكي النيســابوري (‪296‬هـ‪369-‬هـ)‪،‬‬
‫وهو فقيه شافعي ومتكلم ونحوي ومفسر ولغوي وصوفي‪.‬‬
‫وقد وصفه الح اكم بقول ه‪( :‬ه و ح بر زمان ه‪ ،‬وبقي ة أقران ه‪ ..‬ون اظر وب رع‪ ،‬ثم‬
‫استدعي إلى أصبهان‪ ..‬أفتى ودرس بنيسابور نيفا ً وثالثين سنة)‪ ،‬وق ال الفقي ه أب و بك ر‬
‫الصيرفي‪( :‬لم يَ َر أهل خراسان مثل أبي سهل)‪ ،‬وقال الصاحب بن عباد‪( :‬ما رأينا مثل‬
‫أبي س هل‪ ،‬وال رأى مث ل نفس ه)‪ ،‬وق ال أب و عب د هللا الح اكم‪( :‬أب و س هل مف تي البل دة‬
‫وفقيهها‪ ،‬وأجدل من رأينا من الش افعية بخراس ان‪ ،‬وه و م ع ذل ك أديب ش اعر نح وي‬
‫كاتب عروضي‪ ،‬صحب الفقراء)(‪)2‬‬
‫المتكلمون من أصفهان‪:‬‬
‫باعتبار أصفهان كانت مركزا من مراك ز الحض ارة اإلس المية‪ ،‬فق د ظه ر فيه ا‬
‫ورك‬‫الكثير من أعالم العقيدة‪ ،‬ومن الم دارس المختلف ة‪ ،‬ولع ل أش هرهم أب و بك ر بن فُ َ‬
‫األص فهاني(‪ ،)3‬الع الم في المج االت المختلف ة‪ ،‬فه و متكلم ومفس ر وفقي ه وأص ولي‬
‫‪ )(1‬انظر في ترجمته‪ :‬ابن خلكان وفيات األعيان‪ ،1/75‬طبقات الشافعية للسبكي ‪ ،1/124‬الوافي بالوفيات للص فدي‬
‫‪..2/316‬‬
‫‪ )(2‬انظر في ترجمته‪ :‬سير أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬الطبقة العشرون‪ ،‬الصعلوكي‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر في ترجمته‪ :‬الجوهر الثمين في بعض من اشتهر ذكره بين المسلمين‪ ،‬أبو بك ر بن ف َ‬
‫ورك رأس األش اعرة‬

‫‪127‬‬
‫ونحوي وأديب‪ ،‬له ما يقرب من المائة كتاب في أص ول ال دين وأص ول الفق ه ومع اني‬
‫القرآن وعلم الحديث‪.‬‬
‫وه و من كب ار من ردوا على الس لفية المجس مة‪ ،‬وك ان ق د رأى أن الس بب في‬
‫وقوعهم في التشبيه ما ورد في النص وص المقدس ة من المتش ابه ال ذي لم يفهم وه ح ق‬
‫فهمه‪ ،‬لذلك راح يشتغل برد المحكم إلى المتشابه في أكثر كتب ه‪ ،‬وال تي يمكن اعتباره ا‬
‫مصادر في هذا الباب‪ ،‬وق د أعان ه علي ه كون ه نحوي ا وأديب ا ول ه ذوق كب ير في اللغ ة‬
‫العربية‪.‬‬
‫وقد ذكر سبب ذلك االهتمام برد المتشابه إلى المحكم‪ ،‬فقال‪( :‬كان سبب اشتغالي‬
‫بعلم الكالم أني كنت بأص فهان أختل ف إلى فقي ه‪ ،‬فس معت أن (الحج ر يمين هللا في‬
‫األرض)(‪ ،)1‬والمعنى أنه وضع في األرض للتقبيل واالستالم تش ريفًا ل ه كم ا ش رفت‬
‫اليمين وأكرمت بوض عها للتقبي ل دون اليس ار في الع ادة‪ ،‬فاس تعير لف ظ اليمين للحج ر‬
‫لذلك‪ ،‬وأضيف الحجر إلى هللا إضافة تشريف وإكرام‪ ،‬فسألت ذلك الفقي ه عن معن اه فلم‬
‫يُجب بج واب ش اف‪ ،‬فأُرش دت إلى فالن من المتكلمين فس ألته فأج اب بج واب ش اف‪،‬‬
‫فقلت البد لي من معرفة هذا العلم فاشتغلت به)‬
‫وقد جعله ذلك يتعرض لكثير من المحن من طرف المجسمة ال ذين ك انت تمثلهم‬
‫في ذلك الحين فرقة الكرامية‪ ،‬فقد وشوا به إلى السلطان محمود بن سبكتكين مدعين أنه‬
‫أنكر رسالة محمد ‪ ‬بعد موته(‪ ،)2‬فعظم األم ر عن د الس لطان ف أمر بإحض اره‪ ،‬ولم ا‬
‫حضر بين يديه ظهر كذب المفترين عليه‪ ،‬فأمر السلطان ب إعزازه وإكرام ه وإرجاع ه‬
‫إلى وطنه‪ ..‬لكن الكرامية لم ا أيس ت من ه‪ ،‬وعلمت أن الوش اية ب ه لم تتم‪ ،‬وأن مكاي دها‬
‫وحيلها لن تؤت نتيجة‪ ،‬سعت إلى قتله فدفعت إليه من دس له السم فمات على أثره(‪.)3‬‬
‫وقد قال يح دث عن نفس ه وعن بعض المحن ال تي م ر به ا منط رف المجس مة‪:‬‬
‫(حملت مقيدا إلى شيراز لفتنة في الدين‪ ،‬فوافينا باب البلد مصبحا‪ ،‬وكنت مهموما‪ ،‬فلما‬
‫أسفر النهار وقع بصري علي محراب في مسجد على باب البل د‪ ،‬مكت وب علي ه {أَلَي َ‬
‫ْس‬
‫اف َع ْب َدهُ} [الزمر‪ ،]36 :‬فحصل لي تعريف ب اطني أني أكفى عن ق ريب‪ ،‬فك ان‬ ‫هَّللا ُ بِ َك ٍ‬
‫كذلك‪ ،‬وصرفوني بالعز)‬
‫ومن مؤلفاته في العقي دة‪ :‬مج رد مق االت الش يخ أبي الحس ن األش عري‪ ،‬وش رح‬

‫وشيخ المتكلمين‪ ،‬ص‪ ،351-346 :‬المجددون في اإلسالم‪ :‬من القرن األول إلى الرابع عشر‪ ،‬تأليف الش يخ‪ /‬عب د المتع ال‬
‫الصعيدي‪ ،‬طبعة مكتبة اآلداب‪ ،‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ )(1‬يشير إلى ما ورد في الحديث‪( :‬الحجر األسود يمين هللا في أرضه)‪.‬‬
‫‪ )(2‬ذكر تاج الدين السبكي وغيره من األشاعرة أن هذه التهمة من التهم ال تي اتهم به ا األش اعرة‪ ،‬فق ال‪( :‬والمس ئلة‬
‫المشار إليها وهي انقطاع الرسالة بعد الموت مكذوب ة ق دي ًما على اإلم ام أبي الحس ن األش عري نفس ه‪ .‬وق د مض ى الكالم‬
‫عليها في ترجمته‪ .‬إذا عرفت هذا فاعلم أن أبا محمد بن حزم الظاهري ذكر في النصائح أن ابن س بكتكين قت ل ابن ف ورك‬
‫بقوله لهذه المسئلة ثم زعم ابن حزم أنها قول جميع األشعرية‪ ،‬قلت وابن حزم ال يدري م ذهب األش عرية وال يف رق بينهم‬
‫وبين الجهمية لجهله بما يعتقدون‪ ،‬وقد حكى ابن الصالح ما ذكره ابن حزم ثم قال‪ :‬ليس األمر كما زعم بل هو تشنيع على‬
‫األشعرية أثارته الكرامية فيما حكاه القشيري)‬
‫‪ )(3‬أبو بكر بن َ‬
‫فورك رأس األشاعرة وشيخ المتكلمين‪ ،‬ص‪..350-349 :‬‬

‫‪128‬‬
‫أوائل األدلة للكسبي في األصول‪ ،‬والحدود في األصول‪ ،‬والنظ امي في أص ول ال دين‪،‬‬
‫و ُم ْش ِكل الحديث وغريبه‪ .‬وهو كتاب يتناول فيه عددًا من األح اديث المتش ابهة فيؤوله ا‬
‫ويبين معانيها‪ ،‬ومشكل اآلثار‪ ،‬ودقائق األسرار‪ ،‬وطبقات المتكلمين‪.‬‬
‫وقد أثنى عليه الكثير من العلماء‪ ،‬وخصوصا من األشاعرة‪ ،‬فقد قال عنه الح اكم‬
‫النيسابوري‪( :‬أحيا هللا به بلدنا أنواعًا من العل وم لم ا اس توطنها‪ ،‬وظه رت بركت ه على‬
‫جماعة من المتفقهة وتخرجوا به)‬
‫وقال ابن عساكر‪( :‬أخبرنا الشيخ أبو الحسن عب د الغ افر بن إس ماعيل في كتاب ه‬
‫ي من نيسابور قال‪ :‬س معت الش يخ أب ا ص الح أحم د بن عب د هللا الم ؤذن يق ول‪ :‬ك ان‬ ‫إل َّ‬
‫األستاذ أوحد وقت ه أب و علي الحس ن بن علي ال دقاق يعق د المجلس وي دعو للحاض رين‬
‫والغائبين من أعيان البلد وأئمتهم فقيل له‪ :‬قد نسيت ابن ف ورك ولن ت دع ل ه‪ ،‬فق ال أب و‬
‫علي‪ :‬كيف أدعو له وكنت أقسم على هللا البارحة بإيمانه أن يشفي علتي‪ .‬وكان به وج ع‬
‫البطن تلك الليلة)(‪)1‬‬
‫وق ال ابن خلك ان في الوفي ات‪( :‬ه و األس تاذ أب و بك ر المتكلم األص ولي األديب‬
‫النح وي الواع ظ األص بهاني‪ ،‬درس ب العراق م دة‪ ،‬ثم توج ه إلى ال ري‪ ،‬فس معت ب ه‬
‫المبتدعة‪ ،‬فراسله أهل نيسابور‪ ،‬فورد عليهم‪ ،‬وين وا ل ه به ا مدرس ة‪ ،‬ودارا‪ ،‬وظه رت‬
‫بركته على المتفقهة‪ ،‬وبلغت مصنفاته قريبا من مائة مصنف‪ ،‬ودعي إلى مدينة غزن ة‪،‬‬
‫وجرت له بها مناظرات‪ ،‬وكان شديد الرد على ابن كرام‪ ،‬ثم عاد إلى نيسابور‪ ،‬فَ ُس َّم في‬
‫الطري ق‪ ،‬فم ات بق رب بس ت‪ ،‬ونق ل إلى نيس ابور‪ ،‬ومش هده ب الحيرة ظ اهر ي زار‪،‬‬
‫ويستجاب الدعاء عنده)‬
‫وقال التاج السبكي‪( :‬ابن فورك األستاذ أب و بك ر األنص اري األص بهاني اإلم ام‬
‫الجليل‪ ،‬والحبر الذي ال يجاري فقها‪ ،‬وأص وال‪ ،‬وكالم ا‪ ،‬ووعظ ا‪ ،‬ونح وا م ع مهاب ة‪،‬‬
‫وجاللة‪ ،‬وورع بالغ‪ ،‬رفض الدنيا وراء ظه ره‪ ،‬وعام ل هللا في س ره وجه ره‪ ،‬وص مم‬
‫على دينه)(‪)2‬‬
‫المتكلمون من شيراز‪:‬‬
‫حظيت شيراز بالكثير من علماء العقيدة الكبار‪ ،‬ومنهم ناصــر الــدين البيضــاوي‬
‫الشــيرازي(‪ )3‬الش افعي (ت وفي ‪ 685‬هـ)‪ ،‬وق د وص ف بأن ه (أح د علم اء أه ل الس نة‬
‫والجماعة‪ ،‬وهو فقيه وأصولي شافعي‪ ،‬ومتكلم ومحدث ومفسر ونحوي)(‪)4‬‬
‫ول د في أس رة علمي ة‪ ،‬ف أبوه أب و القاس م عم ر بن محم د بن أبي الحس ن علي‬

‫‪ )(1‬تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى اإلمام أبي الحسن األشعري‪.‬‬
‫‪ )( 2‬طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد بن الحسن بن فورك‪..‬‬
‫‪ )( 3‬لقب بالشيرازي نسبة إلى مدينة شيراز التي نشأ بها وتولى فيها منصب قاضي القض اة‪ ،‬ولقب ب التبريزي نس بة‬
‫إلى تبريز حيث توفي بها‪ ،‬وبالبيضاوي نسبة إلى مدينة البيضاء بفارس قرب شيراز‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬بغية الوعاة للسيوطي (‪)50 /2‬كش ف الظن ون ح اجي خليف ة (‪ )186 /1‬ش ذرات ال ذهب البن العم اد (‬
‫‪ )392-5/393‬طبقات المفسرين للداودي (‪ )242 /1‬طبقات المفسرين لألدنهوي (‪ )254 -255‬طبقات الشافعية الكبرى‬
‫البن السبكي (‪.)5/59‬‬

‫‪129‬‬
‫ّ‬
‫وحدث‪ ،‬وقد ذكر‬ ‫البيضاوي كان عالما تقلّد القضاء بشيراز سنين عديدة ودرسّ وأسمع‬
‫البيضاوي أنه أخذ الفقه عن والده فقال‪( :‬اعلم أني أخذت الفقه عن والدي مولى الموالي‬
‫الصدر العالي ولي هللا الوالي قدوة الخلف وبقية الس لف إم ام المل ة وال دين أب و القاس م‬
‫عمر قدسّ هللا روحه وهو عن والده قاضي القضاة السعيد فخر الدين‪ :‬محم د بن اإلم ام‬
‫الماضي صدر الدين‪ :‬أبي الحسن علي البيضاوي قدس هللا أرواحهم)(‪)1‬‬
‫ومن مؤلفاته في العقيدة اإلسالمية [طوالع األنوار من مط الع األنظ ار]‪ ،‬وال ذي‬
‫اعتبره السبكي في طبقات الشافعية الك برى (أج ل مختص ر في علم الكالم)‪ ،‬وذك ر أن‬
‫العلماء اعتنوا به كثيرا وشرحوه شروحا عديدة‪ ،‬وقد وضع لهذا الكتاب مختصرا س ماه‬
‫[مصباح األرواح]‬
‫ومن مؤلفاته كذلك‪ :‬مختصر الكشاف‪ ،‬والمنه اج في األص ول‪ ،‬وش رحه أيض ا‪،‬‬
‫وشرح مختصر ابن الحاجب في األصول‪ ،‬وش رح المنتخب في األص ول لإلم ام فخ ر‬
‫الدين‪ ،‬وشرح المطالع في المنطق‪ ،‬واإليضاح في أصول الدين‪.‬‬
‫ومنهم جالل الــدين ال ـ َّد َّواني (‪830‬هـ ‪918 -‬هـ) وه و ق اض‪ ،‬وفقي ه ش افعي‪،‬‬
‫ومتكلم‪ ،‬ومفس ر‪ ،‬وفيلس وف‪ ،‬وق د ش رح ع دداً من الكتب المش هورة في الفلس فة‬
‫والتصوف‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته‪ :‬شرح العقائد العضدية‪ ،‬وشرح هياكل النور للسهروردي‪ ،‬وحاشية‬
‫على ش رح آداب الفاض ل للش رواني‪ ،‬وحاش ية على ش رح القوش جي لتجري د الكالم‪،‬‬
‫وحاشية على تحرير القواع د المنطقي ة للقطب ال رازي‪ ،‬و(رس الة في إثب ات ال واجب)‬
‫تحتوي على مسائل من كل علم(‪.)2‬‬
‫ومنهم القاض ي عضـــد الـــدين أبـــو الفضـــل عبـــد الـــرحمن بن ركن الـــدين‬
‫قاض ومتكلم وفقيه ولغوي‪ ،‬ومن كبار علماء األش اعرة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشيرازي(‪ 680( )3‬ـ)‪ ،‬وهو‬
‫وقد وصف بأنه كان (إمام ا ً في المعق والت‪ ،‬محقّق اً‪ ،‬م دقّقاً‪ ،‬قائم ا ً باألص ول والمع اني‬
‫والعربي ة‪ ،‬مش اركا ً في الفق ه وغ يره من الفن ون‪ ،‬وأنجب تالمي ذ عظام ا ً اش تهروا في‬
‫اآلفاق)‬
‫ومن أشهر مؤلفاته في العقيدة اإلسالمية‪ :‬كتاب المواق ف في علم الكالم‪ ،‬وال ذي‬
‫اعتنى به العلماء عناية بالغة‪ ،‬بل ظل عمدة في تدريس علم الكالم ب األزهر وغ يره من‬
‫معاهد العلم فترات طويلة‪ ،‬وما زال كذلك إلى يومنا هذا وعليه شروح كثيرة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواهر الكالم‪ ،‬وهو مختصر لكتابه المواقف‪ ،‬ومنها الكواش ف في ش رح‬
‫المواقف‪ ،‬ومنها العقائد العضدية‪ ،‬وهي مشهورة الختصارها‪ ،‬ومنه ا عي ون الج واهر‪،‬‬
‫ومنها بهجة التوحيد‪ ،‬ومنها تحقيق التفسير في تكثير التنوير في تفس ير الق رآن‪ ،‬ومنه ا‬
‫الرسالة العضدية في الوضع ضمن مجموع من مهم ات المت ون‪ ،‬ومنه ا ش رح المقال ة‬
‫‪ )(1‬مقدمة الغاية القصوى‪.)184 /1(.‬‬
‫‪ )( 2‬انظر‪ ::‬لوائح األنوار السنية ولواقح األفكار السنية‪ ،‬محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي‪.221 /2 ،‬‬
‫‪ )(3‬انظر في ترجمته‪ :‬الدرر الكامنة ‪ ،196 /2‬البدر الطالع ‪ ،227 /1‬شذرات ال ذهب ‪ ،174 /6‬طبق ات الش افعية‬
‫لألسنوي ‪ ،109 /2‬بغية الوعاة‪.296 :‬‬

‫‪130‬‬
‫المفردة في صفة الكالم‪.‬‬
‫قال عنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الك برى‪( :‬قاض ي القض اة عض د‬
‫ال دين الش يرازي ك ان إمام ا في المعق والت‪ ،‬عارف ا باألص لين‪ ،‬والمع اني‪ ،‬والبي ان‪،‬‬
‫والنحو‪ ،‬مشاركا في الفقه‪ ،‬له في علم الكالم كتاب (المواقف) وغيره‪ .‬وفي أصول الفقه‬
‫(شرح المختصر) وفي المعاني والبيان (الفوائ د الغياثي ة)‪ .‬وك انت ل ه س عادة مفرط ة‪،‬‬
‫ومال جزيل‪ ،‬وإنعام على طلبة العلم‪ ،‬وكلمة نافذة)(‪)1‬‬
‫المتكلمون من شهرستان‪:‬‬
‫وهي مدينة من المدن الواقعة في إقليم فارس في إيران‪ ،‬وإليها ينسب الكث ير من‬
‫األعالم وخصوصا من الشيعة‪ ،‬وإليها ينتسب ك ذلك أب و الفتح الشهرس تاني (‪479‬هـ ‪-‬‬
‫‪548‬هـ) الذي يعتبر من كبار المؤرخين لألديان والمذاهب اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد ألف في التفسير والفقه وعلم الكالم والفلسفة والتاريخ الفرق‪ ،‬وق د بل غ ع دد‬
‫مؤلفاته ما يزيد على عش رين مؤلف اً‪ ،‬ومنه ا المل ل والنح ل وه و أش هر كتب ه‪ ،‬ونهاي ة‬
‫اإلق دام في علم الكالم‪ ،‬ومص ارعة الفالس فة‪ ،‬ومجلس في الخل ق واألم ر‪ ،‬وبحث في‬
‫الج وهر الف رد‪ ،‬ومف اتيح األس رار ومص ابيح األب رار‪ ،‬ورس الة في المب دأ والمع اد‪،‬‬
‫والمن اهج في علم الكالم‪ ،‬ودق ائق األوه ام‪ ،‬وش بهات أرس طو وب رقلس وابن س ينا‬
‫ونقضها‪.‬‬
‫المتكلمون من طوس‪:‬‬
‫وهي ـ كما ذكرن ا س ابقا ـ من الم دن التاريخي ة األثري ة ب إيران‪ ،‬وتس مى الي وم‬
‫(مش هد الرض ا)‪ ،‬وق د ظه ر فيه ا الكث ير من أعالم المتكلمين من الم دارس اإلس المية‬
‫المختلف ة‪ ،‬وأش هرهم على اإلطالق أب و حام د محم د الغ ّزالي الطوس ي النيس ابوري‬
‫الصوفي الشافعي (‪ 450‬هـ ‪ 505 -‬هـ)‪ ،‬والذي اشتهر في الفنون العلمية المختلفة‪.‬‬
‫وباإلضافة إليها‪ ،‬فقد كتب في نص رة العقي دة اإلس المية مجموع ة كتب ال ت زال‬
‫تدرس إلى اآلن منها [االقتصاد في االعتق اد]‪ ،‬وه و كت اب في عقي دة أه ل الس نة على‬
‫طريقة األشاعرة‪ ،‬وهو آخر كتاب ألفه الغ زالي قب ل تخلي ه عن الت دريس في المدرس ة‬
‫النظامية ودخ ول العزل ة‪ ،‬وق د ش رح من قب ل كث ير من العلم اء‪ ،‬ومن ش روحه كت اب‬
‫االقتصاد في كفاية االعتقاد‪ ،‬لمؤلفه شهاب الدين أحمد بن عماد األقفهسي‪.‬‬
‫ومن كتب ه المهم ة والرائ دة في العقي دة (المقص د األس نى في ش رح أس ماء هللا‬
‫الحسنى)‪ ،‬وهو كتاب فريد في بابه تكلم فيه كالم الذائق المش اهد ال ذي ع اش اإليم ان‪،‬‬
‫واستولى على قلبه‪ ،‬ال كالم من غلبت عليه صناعة المتكلمين وتدقيقاتهم‪.‬‬
‫ومنه ا (إلج ام الع وام عن علم الكالم)‪ ،‬وق د رد في ه على غل و المجس مة كـ‬

‫‪ )(1‬طبقات الشافعية الكبرى للسبكي‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫(الكرامية)(‪)1‬و(المشبهة)(‪ )2‬وغيرهم‪ ،‬ولذلك فإن الغزالي ناصر‪ ،‬بالنس بة للعام ة‪ ،‬في‬
‫هذا الكتاب منهج التفويض‪ ،‬بعد أن ناصر في كتبه األخرى منهج التأويل (‪.)3‬‬
‫ولعل أهم كتبه في هذا المجال كتابه الذي واجه به ظاهرة التكفير التي استش رت‬
‫في زمان ه‪ ،‬وأعطى ق وانين مهم ة ل ذلك‪ ،‬وه و كتاب ه المع روف [فيص ل التفرق ة بين‬
‫اإلسالم والزندقة]‪ ،‬والذي يقول في مقدمته‪( :‬إني رأيتك أيها األخ المشفق منقس م الفك ر‬
‫لم ا ق رع س معك من طعن طائف ة من الحس دة على بعض كتبن ا المص نفة في أس رار‬
‫معامالت الدين‪ ،‬وزعمهم أن فيه ا م ا يخ الف م ذاهب األص حاب المتق دمين والمش ايخ‬
‫المتكلمين‪ ،‬وأن العدول عن مذهب األشعري ولو في قي د ش بر كف ر‪ ،‬ومباينت ه ول و في‬
‫شيء نزر ضالل وخسر)(‪)4‬‬
‫ثم يس أل ه ؤالء المتعص بين عن الم يزان ال ذي رأوا ب ه أن الح ق قاص ر على‬
‫األشعري أو غيره مع أن الباقالني نفسه‪ ،‬وه و من أتب اع األش عري‪ ،‬يخالف ه في ص فة‬
‫البقاء هلل تعالى‪ ،‬وأن ه ليس وص فا زائ دا على ال ذات‪( ،‬لم ص ار الب اقالني أولى ب الكفر‬
‫بمخالفته األشعري من األشعري بمخالفته الباقالني؟ ولم صار الحق وقف ا على أح دهما‬
‫دون الثاني؟ أكان ذلك ألجل السبق في الزمان‪ ،‬فقد سبق األشعري غيره من المعتزل ة‪،‬‬
‫فليكن الحق للسابق عليه‪ ،‬أم ألجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان ومكيال ق در‬
‫درجات الفضل؟)(‪)5‬‬
‫ثم يعقب على ذل ك بقول ه‪(:‬ف إن رخص للب اقالني في مخالفت ه فلم حج ر على‬
‫غيره؟)(‪)6‬‬
‫وه و ي بين أن س بب ه ذه الظ اهرة‪ ،‬وال تي لم يخل و منه ا عص ر من العص ور‬
‫اإلسالمية‪ ،‬غلبة الجهل‪ ،‬أو ما يسمى بالجه ل الم ركب‪ ،‬وخاص ة ممن بض اعتهم الفق ه‬

‫‪ )(1‬أتباع محمد بن كرام ـ ت ‪ 869‬م ـ وهي من الفرق المجسمة القائلة ب أن هللا تع الى مح ل للح وادث‪ ،‬انظ ر‪ :‬عب د‬
‫القاهر البغدادي‪ ،‬الفرق بين الفرق‪ ،‬ص‪.214 ،202‬‬
‫‪ )( 2‬وهو طوائف شتى اجتمعت على القول بتشبيه ذات هللا تعالى صفاته بغيرها‪ ،‬انظر‪ :‬عبد القاهر البغدادي‪ ،‬الفرق‬
‫بين الفرق‪ ،‬ص‪.214‬‬
‫‪ )(3‬دعا في كتابه هذا إلى معاملة المتشابهات بسبع وظائف هي‪:‬‬
‫التقديس‪ :‬وهو تنزيه هللا تعالى عن الجسمية وتوابعها من صفات الحوادث‪.‬‬
‫التصديق‪ :‬وهو اإليمان بأن ما ورد من النصوص حق‪ ،‬وأنه أريد بها معنى يليق بجالل هللا وعظمته‪.‬‬
‫االعتراف بالعجز عن معرفة حقيقتها‪.‬‬
‫السكوت عن السؤال عن معناه‪ ،‬ألن كل ذلك بدعة‪ ،‬كما نص عليه اإلمام مالك‪.‬‬
‫اإلمس اك عن التص رف في ألفاظه ا بالتص ريف والتب ديل للغ ة أخ رى والزي ادة فيه ا والنقص ان منه ا والجم ع‬
‫والتفريق‪...‬بل ال ينطق إال بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من اإليراد واإلعراب والصيغة‪.‬‬
‫كف الباطن عن البحث عنها والتفكير فيها‪.‬‬
‫التسليم ألهلها ممن يعلمون ما تشابه منه من األنبياء والراسخين في العلمانظر تفصيل ذلك في‪ :‬الغزالي‪ ،‬إلجام العوام‬
‫عن علم الكالم‪ ،‬ص‪ 54:‬ـ ‪.85‬‬
‫‪ )(4‬الغزالي‪ ،‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.147‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.47‬‬
‫‪ )(6‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.171‬‬

‫‪132‬‬
‫المجرد‪ ،‬يقول في ذلك‪(:‬فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخ وض في التكف ير‬
‫والتضليل‪ ،‬فأعرض عنه‪ ،‬وال تشغل به قلبك ولسانك‪ ،‬فإن التح دي ب العلوم غري زة في‬
‫الطبع ال يصبر عنه الجهل‪ ،‬وألجله كثر الخالف بين الناس)(‪)1‬‬
‫ويمث ل له ؤالء ببعض المتكلمين في العقائ د ال ذين كف روا ع وام المس لمين‪،‬‬
‫و(ضيقوا رحمة هللا الواسعة على عب اده‪ ،‬وجعل وا الجن ة وقف ا على ش رذمة يس يرة من‬
‫المتكلمين)(‪)2‬‬
‫ول ذلك يتش دد الغ زالي في ش روط من ل ه ح ق التكف ير والتض ليل ح تى ال يبقى‬
‫مشاعا بين العامة‪ ،‬أو من ه و في حكمهم‪ ،‬يق ول الغ زالي‪(:‬وال ينكش ف ه ذا إال لقل وب‬
‫طه رت عن وس خ أوض ار ال دنيا أوال‪ ،‬ثم ص قلت بالرياض ة الكامل ة ثاني ا‪ ،‬ثم ن ورت‬
‫بالذكر الصافي ثالثا‪ ،‬ثم غذيت بالفكر الصائب رابعا‪ ،‬ثم زينت بمالزم ة ح دود الش رع‬
‫خامسا حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة)(‪)3‬‬
‫وبناء على ذلك وضع قوانين مهمة جدا يمكنه ا ل و طبقت في عص رنا الحاض ر‬
‫أن تقي المجتمعات اإلسالمية من ظاهرة التكفير بصورها المختلفة‪.‬‬
‫وبذلك يمكن اعتبار الغزالي رائدا في نواح كثيرة‪ ،‬مثله مثل الفخر ال رازي وابن‬
‫فورك والكثير من األعالم الذين أنجبتهم إيران طيلة تاريخها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ علماء العقيدة من المدرسة الشيعية‪:‬‬
‫يتصور الكثير من الناس بسبب الهجمة اإلعالمية الشرس ة على إي ران والش يعة‬
‫عموما‪ ،‬أن العقائد الشيعية مختلفة تماما عن العقائ د الس نية‪ ،‬وأن المس افة بينهم ا هائل ة‬
‫جدا‪ ،‬وهذا خطأ كبير‪ ،‬وهو ناتج من عدم المطالعة والبحث‪ ،‬وإال فإن الباحث المنص ف‬
‫يجد أن المسافة التي تربط مدرسة كب يرة كاألش عرية مثال م ع الش يعة أك بر بكث ير من‬
‫المسافة التي تربط بينها وبين المدرسة السلفية‪ ،‬وخاص ة في أمه ات العقائ د‪ ،‬وال يع دو‬
‫الخالف بينهما مسألة اإلمامة‪ ،‬ومن هم األئمة‪ ،‬كما ذكرنا ذلك في المبحث األول‪.‬‬
‫وح تى ال يق ال‪ :‬إن ه ذه المس افة القريب ة ناش ئة عن التقي ة‪ ،‬وأنه ا من فع ل‬
‫المعاص رين‪ ،‬فسأس وق نصوص ا من المت ون العقدي ة الش يعية ال تي يتبناه ا في الع الم‬
‫اإلسالمي جميعا‪ ،‬مثلما تتبنى المدرسة السنية العقيدة الطحاوية أو الخريدة أو الج وهرة‬
‫أو الواسطية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وأول تلك المتون العقدية م ا كتب ه اإلم ام الرض ا‪ ،‬وه و اإلم ام الث امن من أئم ة‬
‫الشيعة‪ ،‬والذي كان له تأثيره الكبير في نشر التشيع خاصة بعد رحلته إلى ط وس‪ ،‬وق د‬
‫كتب في رس الته في العقي دة ال تي ال ي زال يحفظه ا الش يعة‪ ،‬ويش رحونها‪ ،‬يق ول‪( :‬إن‬
‫محض اإلسالم شهادة أن ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬إله ا واح دا‪ ،‬أح دا‪ ،‬ف ردا‪،‬‬
‫صمدا‪ ،‬قيوما‪ ،‬س ميعا‪ ،‬بص يرا‪ ،‬ق ديرا‪ ،‬ق ديما‪ ،‬قائم ا‪ ،‬باقي ا‪ ،‬عالم ا ال يجه ل‪ ،‬ق ادرا ال‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.171‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.145‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.176‬‬

‫‪133‬‬
‫يعجز‪ ،‬غنيا ال يحتاج‪ ،‬عدال ال يجور‪ ،‬وأنه خالق كل شئ‪ ،‬ليس كمثله شئ‪ ،‬ال ش به ل ه‪،‬‬
‫وال ضد له‪ ،‬وال ند له‪ ،‬وال كفو له‪ ،‬وأنه المقصود بالعبادة وال دعاء والرغب ة والرهب ة‪،‬‬
‫وأن محمدا عبده ورسوله وأمينه وص فيه وص فوته من خلق ه‪ ،‬وس يد المرس لين وخ اتم‬
‫النبيين وأفضل العالمين‪ ،‬ال نبي بعده وال تبديل لملته وال تغيير لشريعته‪ ،‬وأن جميع م ا‬
‫جاء به محمد بن عبد هللا هو الحق المبين‪ ،‬والتص ديق ب ه وبجمي ع من مض ى قبل ه من‬
‫رسل هللا‪ ،‬وأنبيائه‪ ،‬وحججه‪ ،‬والتصديق بكتابه الصادق العزيز ال ذي {اَل يَأْتِي ِه ْالبَ ِ‬
‫اط ُل‬
‫ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َواَل ِم ْن َخ ْلفِ ِه تَ ْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد} [فص لت‪ ،]42 :‬وأن ه المهيمن على‬
‫الكتب كله ا‪ ،‬وأن ه ح ق من فاتحت ه إلى خاتمت ه‪ ،‬ن ؤمن بمحكم ه ومتش ابهه‪ ،‬وخاص ه‬
‫وعام ه‪ ،‬ووع ده ووعي ده‪ ،‬وناس خه ومنس وخه‪ ،‬وقصص ه وأخب اره‪ ،‬ال يق در أح د من‬
‫المخلوقين أن يأتي بمثله)(‪)1‬‬
‫وه ذا النص وح ده ك اف في تقري ر جمي ع المس ائل العقدي ة ال تي يتف ق فيه ا‬
‫المسلمون مع الشيعة‪ ،‬ذلك أن مبنى العقائد هو اإليمان باهلل وبرسوله وب القرآن الك ريم‪،‬‬
‫أما سائر العقائ د كاإليم ان بالمالئك ة والي وم اآلخ ر وغيره ا فهي موج ودة في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وال يمكن لمن يؤمن بالقرآن الكريم أال يؤمن بها‪.‬‬
‫ثم ذكر لهم ما اختص به الشيعة من العقائد المرتبطة بالوالي ة‪ ،‬وهي كم ا ذكرن ا‬
‫موجودة عن د ك ل طائف ة‪ ،‬ول و لم ينص وا عليه ا‪ ،‬ذل ك أن ه ال يمكن ألح د أن يتب نى أي‬
‫مذهب دون أن يثق في األئمة المؤسسين له‪.‬‬
‫ومن المتون العقدية ال تي ال ي زال الش يعة يت داولونها م ا نص علي ه الس يد عب د‬
‫العظيم الحسنى(‪ )2‬عند عرض ه لعقيدت ه على اإلم ام اله ادي‪ ،‬فق د روي عن ه أن ه ق ال‪:‬‬
‫دخلت على سيدي علي بن محمد‪ ،‬فلما بصر بي‪ ،‬قال لي‪ :‬مرحبا بك ي ا أب ا القاس م أنت‬
‫ولينا حقا‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا بن رسول هللا إني أريد أن أعرض عليك ديني‪ ،‬فإن كان مرض يا‬
‫أثبت علي ه ح تى ألقى هللا ع ز وج ل‪ .‬فق ال‪ :‬هاته ا أب ا القاس م‪ ،‬فقلت‪ :‬إني أق ول‪ :‬إن هللا‬
‫تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شئ‪ ،‬خ ارج من الح دين‪ ،‬ح د اإلبط ال‪ ،‬وح د التش بيه‪،‬‬
‫وأنه ليس بجسم وال صورة وال عرض وال جوهر‪ ،‬ب ل ه و مجس م األجس ام ومص ور‬
‫الصور‪ ،‬وخالق األعراض والج واهر‪ ،‬ورب ك ل ش ئ ومالك ه وجاعل ه ومحدث ه‪ ،‬وإن‬
‫محمدا عبده ورسوله‪ ،‬خاتم النبيين فال نبي بعده إلى يوم القيامة)(‪)3‬‬
‫وفي ه ذا النص رد على تل ك الش بهة ال تي يثيره ا الكث ير من المغرض ين‬
‫ويص ورون فيه ا أن الش يعة يقول ون بالتجس يم‪ ،‬وه ذا م ا ترفض ه جمي ع مص ادرهم‪،‬‬

‫‪ )(1‬عيون أخبار الرضا ‪.122 - 121 :2‬‬


‫‪ )( 2‬هو عبد العظيم بن عبد هللا بن علي‪ ،‬من أصحاب اإلمام الهادي‪ ،‬قال النجاشي‪ :‬له كت اب خطب أم ير المؤم نين‪،‬‬
‫ورد الري هاربا من السلطان وسكن سربا (حفيرا تحت األرض) في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي فكان يعب د هللا‬
‫في ذلك السرب ويصوم نهاره ويقوم ليله‪ ،‬وكان يخرج مستترا‪ ،‬فيزور القبر المقابل ق بره وبينهم ا الطري ق‪ ،‬ويق ول‪ :‬ه و‬
‫قبر رجل من ولد موسى بن جعفر (عليه السالم)‪ .‬فلم يزل يأوي إلى ذلك السرب ويق ع خ بره إلى الواح د بع د الواح د من‬
‫شيعة آل محمد (عليهم السالم) حتى عرفه أكثرهم‪ .‬رجال النجاشي (‪ ،)66 - 65 :2‬ومات عبد العظيم بالري‪.‬‬
‫‪ )(3‬التوحيد‪ :‬باب التوحيد والتشبيه‪..37 / 81 :‬‬

‫‪134‬‬
‫والنصوص الثابتة عن أئمتهم‪.‬‬
‫ومن المت ون العقدي ة ال تي ال ي زال يتبناه ا الش يعة رس الة م وجزة ألفه ا الش يخ‬
‫الصدوق (‪ 381 - 306‬ه‍) جاء فيها‪( :‬اعلم أن اعتقادنا في التوحيد‪ :‬أن هللا تعالى واحد‬
‫أحد‪ ،‬ليس كمثله ش ئ‪ ،‬ق ديم‪ ،‬لم ي زل‪ ،‬وال ي زال س ميعا بص يرا‪ ،‬عليم ا‪ ،‬حكيم ا‪ ،‬حي ا‪،‬‬
‫قيوما‪ ،‬عزيزا‪ ،‬قدوسا‪ ،‬عالما‪ ،‬قادرا‪ ،‬غنيا‪ ،‬ال يوصف بجوهر وال جسم وال صورة وال‬
‫عرض‪ ..‬وأنه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه‪ ،‬خ ارج عن الح دين‪ :‬ح د اإلبط ال‪،‬‬
‫وحد التشبيه‪ ،‬وأنه تعالى شئ ال كاألشياء‪ ،‬أحد صمد لم يلد فيورث‪ ،‬ولم يولد فيش ارك‪،‬‬
‫ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬وال ند وال ض د‪ ،‬وال ش به وال ص احبة‪ ،‬وال مث ل وال نظ ير‪ ،‬وال‬
‫شريك له‪ ،‬ال تدركه األبصار وهو يدرك األبصار وال األوهام‪ ،‬وهو ي دركها‪ ،‬ال تأخ ذه‬
‫سنة وال نوم‪ ،‬وهو اللطيف الخبير‪ ،‬خالق كل شئ ال إله إال هو‪ ،‬له الخلق واألمر تبارك‬
‫هللا رب الع المين‪ ،‬ومن ق ال بالتش بيه فه و مش رك‪ ،‬ومن نس ب إلى اإلمامي ة غ ير م ا‬
‫وصف في التوحيد فهو كاذب‪ ،‬وكل خبر يخالف ما ذك رت في التوحي د فه و موض وع‬
‫مخترع‪ ،‬وكل ح ديث ال يواف ق كت اب هللا فه و باط ل‪ ،‬وإن وج د في كتب علمائن ا فه و‬
‫مدلس‪ ..‬واعتقادنا أن القرآن الذي أنزله هللا تعالى على نبيه محم د ه و م ا بين ال دفتين‪،‬‬
‫وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك‪ ..‬ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذل ك‬
‫فهو كاذب)(‪)1‬‬
‫بعد هذا العرض الموجز للعقيدة اإلسالمية التي يتبناها الش يعة‪ ،‬نحب أن نلخص‬
‫هنا بعض ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني ـ وهو من كبار علماء العقائد المعاصرين في‬
‫إي ران‪ ،‬ب ل في الع الم اإلس المي أجم ع ـ من مواض ع االتف اق واالختالف بين الش يعة‬
‫وغيرهم من المدارس اإلسالمية‪ ،‬فقد عقد مطلب ا بعن وان [الف رق بين الش يعة اإلمامي ة‬
‫والمعتزلة] في كتابه [أض واء على عقائ د الش يعة اإلمامي ة وت اريخهم]‪ ،‬ومن مواض ع‬
‫االتفاق واالختالف التي ذكرها (‪:)2‬‬
‫الشــفاعة‪ :‬أجم ع المس لمون كاف ة على ثب وت أص ل الش فاعة‪ ،‬وأنه ا تقب ل من‬
‫الرسول األكرم ‪ ،‬إال أنهم اختلفوا في تعيين المشفع‪ ،‬فقالت اإلمامي ة واألش اعرة‪ :‬إن‬
‫النبي يشفع ألهل الكبائر بإسقاط العقاب عنهم أو بإخراجهم من النار‪ ،‬وقالت المعتزل ة‪:‬‬
‫ال يشفع إال للمطيعين المستحقين للثواب‪ ،‬وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة‪.‬‬
‫حكم مرتكب الكبيرة‪ :‬هو عند اإلمامية واألشاعرة مؤمن فاسق‪ ،‬وقالت المعتزلة‪:‬‬
‫بل منزلته بين المنزلتين‪ ،‬أي بين الكفر واإليمان‪.‬‬
‫الجنة والنار‪ :‬قالت اإلمامية واألشاعرة‪ :‬إنهما مخلوقتان اآلن بداللة الشرع على‬
‫ذلك‪ ،‬وأكثر المعتزلة يذهب إلى أنهما غير موجودتين‪.‬‬
‫األمــر بــالمعروف والنهي عن المنكر‪ :‬اتف ق المس لمون على وجوبهم ا‪ ،‬فق الت‬
‫اإلمامي ة واألش اعرة‪ :‬يجب ان س معا‪ ،‬ول وال النص لم يكن دلي ل على الوج وب‪ ،‬خالف ا‬

‫‪ )(1‬رسالة الصدوق في اإلعتقادات‪.‬‬


‫‪ )(2‬أضواء على عقائد الشيعة اإلمامية وتاريخهم‪ ،‬ص‪.378‬‬

‫‪135‬‬
‫للمعتزلة الذين قالوا‪ :‬بوجوبهما عقال‪.‬‬
‫اإلحبــاط‪ :‬اتفقت اإلمامي ة واألش اعرة على بطالن اإلحب اط‪ ،‬وق الوا‪ :‬لك ل عم ل‬
‫حسابه الخاص‪ ،‬وال ترتبط الطاع ات بالمعاص ي وال المعاص ي بالطاع ات‪ ،‬واإلحب اط‬
‫يختص بذنوب خاصة كالشرك وم ا يتل وه‪ ،‬بخالف المعتزل ة حيث ق الوا‪ :‬إن المعص ية‬
‫المتأخرة تسقط الثواب المتقدم‪ ،‬فمن عبد هللا طول عمره ثم ك ذب فه و كمن لم يعب د هللا‬
‫أبدا‪.‬‬
‫الشرع والعقلـ‪ :‬تشددت المعتزل ة في تمس كهم بالعق ل‪ ،‬وتش دد أه ل الظ اهر في‬
‫تمسكهم بظاهر النص‪ ،‬وخالفهم ا اإلمامي ة واألش اعرة‪ ،‬ف أعطوا للعق ل س هما فيم ا ل ه‬
‫مجال القضاء‪ ،‬نعم أعطت اإلمامية للعقل مجاال أوسع مما أعطته األشاعرة‪.‬‬
‫قبول التوبة‪ :‬اتفقت اإلمامية واألشاعرة على أن قب ول التوب ة بفض ل من هللا وال‬
‫يجب عقال إس قاطها للعق اب‪ ،‬وق الت المعتزل ة‪ :‬إن التوب ة مس قطة للعق اب على وج ه‬
‫الوجوب‪.‬‬
‫التفاضــل بين األنبيــاء والمالئكة‪ :‬اتفقت اإلمامي ة على أن األنبي اء أفض ل من‬
‫المالئكة‪ ،‬وأجمعت المعتزلة على خالف ذلك‪.‬‬
‫الجبر والتخيير‪ :‬اتفقت اإلمامية على أن اإلنسان غير مسير وال مفوض إليه‪ ،‬بل‬
‫ه و في ذل ك المج ال بين أم رين‪ ،‬بين الج بر والتف ويض‪ ،‬وأجمعت المعتزل ة على‬
‫التفويض‪.‬‬
‫حاجــة التكليــف لرســول‪ :‬اتفقت اإلمامي ة واألش اعرة على أن ه ال ب د في أول‬
‫التكليف وابتدائه من رسول‪ ،‬وخالفت المعتزلة وزعموا أن العقول تعم ل بمجرده ا عن‬
‫السمع‪.‬‬
‫هذه جملة األصول التي خالفت اإلمامية فيه ا المعتزل ة ووافقت فيه ا األش اعرة‪،‬‬
‫أما األصول التي وافقت فيها اإلمامية المعتزلة وخالفت األشاعرة‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫اتحاد الصفات الذاتية مــع الــذات‪ :‬إن هلل س بحانه ص فات ذاتي ة ك العلم والق درة‪،‬‬
‫فهي عن د األش اعرة ص فات قديم ة مغ ايرة لل ذات زائ دة عليه ا‪ ،‬وهي عن د اإلمامي ة‬
‫والمعتزلة متحدة مع الذات‪.‬‬
‫أفعال العباد‪ :‬هي عند اإلمامية صادرة من نفس العباد‪ ،‬صدورا حقيقيا بال مج از‬
‫أو توسع‪ ،‬فاإلنسان هو الضارب‪ ،‬هو اآلكل‪ ،‬هو القاتل‪ ،‬هو المصلي‪ ،‬واس تعمال كلم ة‬
‫[الخلق] في أفعال اإلنس ان اس تعمال غ ير ص حيح‪ ،‬فال يق ال‪ :‬خلقت األك ل والض رب‬
‫والص وم والص الة‪ ،‬وإنم ا يق ال‪ :‬فعلته ا‪ ،‬وأم ا األش اعرة ف ذهبوا إلى أن أفع ال العب اد‬
‫مخلوقة هلل سبحانه‪ ،‬فليس لإلنسان فيها صنع وال دور‪ ،‬وليس لقدرته أي تأثير في تحقق‬
‫الفعل‪ ،‬وتحاشيا من الجبر قالوا بنظرية الكسب‪ ،‬أي‪ :‬إن هللا هو الخالق واإلنسان‪.‬‬
‫االستطاعة‪ :‬نص الشيعة على أن االستطاعة في اإلنس ان على فع ل من األفع ال‬
‫تقارنه تارة‪ ،‬وتتقدم عليه أخرى‪ ،‬فلو أريد من القدرة العلة التامة فهي مقارنة‪ ،‬ولو أريد‬
‫العلة الناقصة فهي متقدمة‪ ،‬خالفا لألشاعرة فقد قالوا بالتقارن مطلقا‪.‬‬
‫رؤية هللا باألبصار في اآلخرة‪ :‬مس تحيلة عن د اإلمامي ة والمعتزل ة‪ ،‬ممكن ة عن د‬

‫‪136‬‬
‫األشاعرة‪..‬‬
‫الكالم‪ :‬كالمه سبحانه عند اإلمامية ه و فعل ه‪ ،‬فه و ح ادث ال ق ديم‪ ،‬وه ذا خالف ا‬
‫لألشاعرة‪ :‬فكالمه عبارة عن الكالم النفسي القائم بذاته‪ ،‬فهو قديم كقدم الذات‪.‬‬
‫التحسين والتقبيح‪ :‬ذهبت اإلمامية إلى أن العقل ي درك حس ن بعض األفع ال أو‬
‫قبحها‪ ،‬خالفا لألشاعرة‪ ،‬فق د عزل وا العق ل عن إدراك الحس ن والق بيح‪ ،‬وب ذلك خ الفوا‬
‫اإلمامية والمعتزلة في الفروع المترتبة عليه‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا التمهي د ال ذي الب د من ه‪ ،‬س نذكر هن ا ـ باختص ار ـ كب ار أعالم‬
‫المدرس ة الش يعية من اإليران يين‪ ،‬وإن ك ان من الص عب تص نيفهم به ذا االعتب ار ألن‬
‫ألكثر علماء الشيعة مساهماتهم في العقائد باإلض افة إلى مس اهماتهم في س ائر العل وم‪،‬‬
‫ولهذا يمكن اعتبار جميعهم ـ فقه اء ك انوا أو مح دثين أو مفس رين ـ من علم اء الكالم‪،‬‬
‫ألنهم عادة ما يحتاجون إلى الحوار مع اآلخر ومناظرته‪ ،‬وهو ما يستدعي إلمامهم بعلم‬
‫الكالم‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك العالم ة الكب ير محمــد بن الحســن الجهــرودي الطوسي‪،‬‬
‫المشهور بـالخواجة نصير الدين الطوسي (‪ 672 – 597‬هـ)‪ ،‬الذي يعت بر أح د أب رز‬
‫الشخصيات في تاريخ الفكر اإلسالمي‪.‬‬
‫فل ه باإلض افة لم ا كتب ه في عل وم األخالق‪ ،‬والمنط ق‪ ،‬والفلس فة‪ ،‬والرياض يّات‬
‫والنج وم‪ ،‬مش اركات مهم ة ج دا في نص رة العقي دة اإلس المية‪ ،‬منه ا كتاب ه [تجري د‬
‫االعتق اد]‪ ،‬وه و كت اب في تحري ر عقائ د اإلمامي ة‪ ،‬ويتص ف ب العمق واإلحك ام م ع‬
‫االختصار‪ ،‬فهو من أخصر النصوص الكالمية الشيعية‪ ،‬ومن هن ا اش تهر ومن ذ األي ام‬
‫األولى لتأليفه بين أعالم المسلمين بشتّى مذاهبهم‪ ،‬وحظي باهتمام كبير من قبلهم شرحا‬
‫وتعليقا وباللغتين العربية والفارسية‪.‬‬
‫وسبب ذلك هو أن ه يمكن اعتب اره نقل ة مهم ة في ت اريخ علم الكالم‪ ،‬حيث تمكن‬
‫الطوس ي من التلفي ق بين الفلس فة المش ائية والكالم الش يعي مم ا أدى إلى التق ارب بين‬
‫الفلسفة والكالم في الوسط الفكري الشيعي(‪.)1‬‬
‫وق د أش ار إلى ه ذا المع نى الش يخ مرتض ى مطه ري‪ ،‬فق ال‪( :‬تمكن الفيلس وف‬
‫والحكيم المتبحر الخواجة نصير الدين من تصنيف كت اب كالمي يع د من أعم ق الكتب‬
‫الكالمية وأتقنها‪ ،‬وقد حظي الكتاب باهتمام المتكلمين من الفريقين وتمكن ‪-‬الى حد م ا‪-‬‬
‫من نقل الكالم من أسلوب الحكمة الجدلية‪ ،‬واالقتراب به من أسلوب الحكمة البرهاني ة)‬
‫(‪)2‬‬
‫وق د ك ان له ذا المنهج ال ذي اتبع ه الطوس ي أث ره في بعض الكتاب ات الكالمي ة‬
‫السنية‪ ،‬وخاصة فيم ا كتب ه القاض ي عض د ال دين االيجي (المت وفى ‪ 756‬ه) في كتاب ه‬
‫المواقف‪ ،‬والتفتازاني (المتوفى ‪792‬ه) في كتابه المقاصد‪.‬‬

‫‪ )(1‬أحمد احمدي‪،‬نظرة إجمالية على مسيرة الفلسفة بعد ابن رشد‪ ،‬ص‪.224‬‬
‫‪ )(2‬دراسة تعريفية بالعلوم اإلسالمية‪ ،‬مطهري‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪..68‬‬

‫‪137‬‬
‫وقد حظي الكتاب باهتمام كبير من لدن جميع المسلمين سنتهم وش يعتهم‪ ،‬ول ذلك‬
‫شرح شروحا كثيرة منها شرح العالمة الحلي والمعروف بـ [كش ف الم راد في ش رح‬
‫تجريد اإلعتقاد]‪ ،‬ومنها [تعريد االعتماد في شرح تجريد اإلعتقاد]‪ ،‬للشيخ شمس ال دين‬
‫محمد األسفراييني البيهقي (المتوفي ‪ ،)746‬ومنها [تس ديد أو تش ييد القواع د في ش رح‬
‫تجريد العقائد]‪ ،‬المعروف بالشرح الق ديم‪ ،‬لش مس ال دين محم ود بن عب د الرحم ان بن‬
‫أحمد الع امي األص فهاني‪ ،‬ومنه ا ش رح الفاض ل القوش جي (المت وفي ‪ )879‬الموس وم‬
‫بالشرح الجديد‪ ،‬وغيرها من الشروح‪.‬‬
‫وأحب أن أذكر هنا بأن ابن تيمية‪ ،‬وفي أثناء هجمته على الشيعة لم يكتف بإنكار‬
‫األح اديث الص حيحة وتض عيفها وتأويله ا‪ ،‬وإنم ا راح إلى أعالم المتكلمين الش يعة‬
‫يرميهم باإللحاد مثلما فعل مع الصوفية واألشاعرة وغيرهم‪.‬‬
‫ومن تل ك الشخص يات ال تي نالته ا س هام ابن تيمي ة التكفيري ة نص ير ال دين‬
‫الطوسي‪ ،‬والذي رماه باإللحاد والخيان ة والكث ير من التهم ال تي ص ارت في عص رنا‪،‬‬
‫وكأنها حقائق مع أنها مجرد مفتريات ال تختلف عن مفترياته على س ائر علم اء وف رق‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ونحن ال نريد أن نرد عليه انطالقا مما كتبه الشيعة‪ ،‬بل نرد علي ه من خالل علم‬
‫كبير من أعالم الح ديث في المدرس ة الس نية‪ ،‬وه و بالش يخ جم ال ال دين القاس مي (ت‬
‫‪1332‬هـ)‪ ،‬وهو من علماء الح ديث والتفس ير‪ ،‬وال يمكن للس لفية أن يزاي دوا علي ه في‬
‫ذلك‪ ،‬فقد قال‪( :‬ال عبرة برمي شيخ اإلس الم ابن تيمي ة وابن القيم وأمثالهم ا رحمهم هللا‬
‫باإللحاد مثل النصير الطوسي وابن عربي وبعض األشاعرة المتأولين آلي ات الص فات‬
‫وآثارها فإن ذلك منه ومن أمثاله حمية مذهبي ة وغ يرة على نص رة م ا ق وي لديه‪ .‬وق د‬
‫عهد في العالم الغيور الذي ال يتسع ص دره لخالف الخص م أن يحم ل علي ه أمث ال ه ذا‬
‫وأعظم‪ .‬وإال فالنصير قد علم أن له مؤلفات في فن الكالم خدمت وشرحت‪ ،‬وكله ا مم ا‬
‫يبرئه عن اإللحاد والزندقة‪ .‬وعقيدته ومشربه وترجمته المحفوظة تبرئ ه من مث ل ذلك‪.‬‬
‫وابن عربي حق الباحث مع ه المنك ر علي ه أن ينك ر علي ه موض عا ال يحتم ل التأويل‪،‬‬
‫ويقول ظاهره إلحاد‪ .‬إال أن الرجل له عقيدة نشرها أوال‪ ،‬ومذهب في الفقه حسن‪ .‬فمثل ه‬
‫( )‬
‫ال يسوغ رميه باإللحاد) ‪1‬‬
‫( )‬
‫وقد ك ان ه ذا الموق ف س ببا في رمي الس لفية ل ه وطعنهم فيه ‪ 2‬م ع إق رارهم‬
‫بكونه عالما في التفسير والحديث وغيرهم ا من العل وم الش رعية‪ ،‬وأن ه ينه ل من نفس‬
‫المنابع التي ينهلون منها‪ ،‬لكنه تميز عنهم بكونه ال يعتقد بعصمة ابن تيمية‪ ،‬وال يخضع‬
‫له خضوعا مطلقا مثلما يفعلون‪.‬‬
‫ومثلم ا فع ل القاس مي‪ ،‬فع ل ب احث س عودي متح رر ه و أ‪ .‬د‪ .‬س عد بن حذيف ة‬
‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬كتاب جمال الدين القاسمي وعصره ص ‪.٢٧٤‬‬
‫‪ )( 2‬انظر أقوال الشيخ ربيع بن هادي في جمال الدين القاسمي في [بيان مافي نصيحة إب راهيم ال رحيلي من الخل ل‬
‫واإلخالل] ص (‪])١٥-١٤‬‬

‫‪138‬‬
‫الغامدي أستاذ التاريخ اإلسالمي ودراساته الشرقية في كلية اآلداب قسم التاريخ جامعة‬
‫الملك سعود الذي رد على الكثير من األوهام التي يتعلق بها السلفية هذا الجانب‪ ،‬وذل ك‬
‫في كتابه (سقوط الدولة العباسية ودور الشيعة بين الحقيقة واإلتهام)‪ ،‬والذي ن ال بس ببه‬
‫حظه من النقد والطرد والحرمان السلفي الذي ال يفرق في الطرد بين المس ائل العقدي ة‬
‫والتاريخية‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك ما كبته سليمان بن صالح الخراشي في منتدى صيد الفوائ د وردا‬
‫على كتاب الدكتور الغامدي فق د كتب مق اال بعن وان‪( :‬دكت ور في جامع ة المل ك س عود‬
‫يردد أكذوبة شيعية)‪ ،‬ومما جاء فيه‪( :‬سقوط الدولة العباس ية ودور الش يعة بين الحقيق ة‬
‫واإلتهام) كتابٌ لألستاذ الدكتور س عد بن حذيف ة الغام دي أح د منس وبي جامع ة المل ك‬
‫سعود قسم الت اريخ‪ ،‬ص در قريبً ا وكتب على طرت ه (دراس ة جدي دة لف ترة حاس مة من‬
‫تاريخ أمتنا)وهذا ما أغراني القتنائه منتظرًا ماسيجود به قلم الدكتور من جديد في ه ذه‬
‫القضية‪ ،‬إال أنني تفاجأت عندما رأيته ي ردد م ا ردده الش يعة الرافض ة من تك ذيب ألي‬
‫خيانة ألسالفهم‪ ،‬وهو ما تتابع عليه ثقات المؤرخين‪ ،‬فهذا الجديد عن ده‪ ،‬يق ول ال دكتور‬
‫محاوالً دفع تهمة الخيانة عن الرافضة‪( :‬ومع ه ذا ف إن س ؤاالً يتب ادر إلى ال ذهن وه ذا‬
‫السؤال هو‪ :‬هل كان هوالكو محتاجا ً إلى مساعدة المسلمين الشيعة ضد المسلمين السنة‬
‫ح تى نقب ل أنهم ك انوا أح د العوام ل ال تي أدت إلى س قوط بغ داد؟ في الحقيق ة لم يكن‬
‫هوالكو محتاجا ً إلى مساعدة من أي فرد شيعيا ً كان أم سنيا ً‪ ،‬لذلك فإننا نج د كم ا يظه ر‬
‫لنا أنه من غير المحتمل إن لم يكن من المستحيل أن يك ون له ذه الطائف ة من المس لمين‬
‫أي دور فعال‪ ،‬سواء من داخ ل أو من خ ارج بغ داد في هج وم المغ ول ض د العاص مة‬
‫العباسية بغداد وخالفتها السنية)‬
‫باإلض افة إلى الكم الكب ير من المتكلمين في الت اريخ اإلس المي‪ ،‬وال ذين نج د‬
‫أسماءهم في كتب الطبقات والرجال‪ ،‬فقد اهتمت إيران الحديثة‪ ،‬وخاصة في مشروعها‬
‫الحضاري الجديد بالعقيدة اإلسالمية‪ ،‬وتيسيرها‪ ،‬وعرضها بثوب يتناس ب م ع حاج ات‬
‫العصر وتساؤالته‪.‬‬
‫ومن المتكلمين المعاص رين الكب ار الش يخ مرتض ي المطه ري (‪1919‬م ـ‬
‫‪1979‬م) الفيلس وف والمتكلم ال ذي اس تطاع أن يص يغ العقائ د اإلس المية بلغ ة علمي ة‬
‫بسيطة سهلة متناسبة مع العصر‪ ،‬باإلضافة إلى مس اهمته في نج اح الث ورة اإلس المية‬
‫اإليرانية التي عرفت كيف تختار قادتها ورجالها في الفكر والسياسة‪.‬‬
‫وقد ك ان من أب رز تالم ذة العالم ة الكب ير محم د حس ين الطباطب ائي وروح هللا‬
‫الخميني‪ ،‬وحس ين ال بروجردي‪ ،‬ومح ّم د تقي الخونس اري‪ ،‬ومحم د ص دوقي‪ ،‬والس يد‬
‫شهاب الدين المرعشي النجفي‪ ،‬وهاشم الح داد‪ ،‬ومحم د الحس ين الحس يني الطه راني‪،‬‬
‫وغيرهم من أعالم الفلسفة والعرفان وعلم الكالم‪.‬‬
‫وكل مؤلفاته ـ حتى الفلسفية منها ـ يمكن اعتبارها من الكتب المناص رة للعقي دة‪،‬‬
‫ذلك أنه يطرح كل المسائل وفق رؤية إسالمية أصيلة‪.‬‬
‫ومن أهم مؤلفات ه‪ :‬وعلم الكالم والحكم ة العملي ة‪ ،‬وأص ول الفلس فة والم ذهب‬

‫‪139‬‬
‫الواقعي (‪ 5‬أجزاء)‪ ،‬ونق د الماركس ية‪ ،‬والحرك ة والزم ان‪ ،‬ومس ألة المعرف ة‪ ،‬والع دل‬
‫اإللهي‪ ،‬واإلنس ان والمص ير‪ ،‬وال دوافع نح و المادي ة‪ ،‬ومقدم ة ح ول الرؤي ة الكوني ة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ويشمل‪( :‬اإلنسان واإليمان‪ ،‬والمفه وم التوحي دي للع الم‪ ،‬والنب وة وال وحي‪،‬‬
‫واإلنس ان في الق رآن‪ ،‬والمجتم ع والت اريخ‪ ،‬والحي اة الخال دة‪ ،‬واإلمام ة والقي ادة‪،‬‬
‫والخاتمية‪ ،‬والفطرة‪ ،‬والمعاد‪ ،‬وفي السيرة والتاريخ)‪ ،‬وغيرها من الكتب‪.‬‬
‫وقد كان الشيخ مطهري من المقربين جدا من الخمي ني‪ ،‬وق د أش اد ب ه كث يرا في‬
‫مؤلفاته التي يمكن اعتبارها جميعا شرحا لفك ر الخمي ني‪ ،‬وأسس ا نظري ة لنظ ام والي ة‬
‫الفقيه‪ ،‬وقد قال عنه في كتابه (حول الثورة اإلسالمية)‪( :‬إنني درست اثنتي عشرة س نة‬
‫تقريبا ً عند هذا الرجل العظيم (الخمي ني)‪ ،‬لكن ذهبت إلى لقائ ه في س فري األخ ير إلى‬
‫باريس‪ ،‬فكشفت أم وراً في معنويات ه لم ت زد في ح يرتي فحس ب‪ ،‬ب ل ازداد إيم اني ب ه‬
‫أيضاً‪ .‬وعندما رجعت سألني الزمالء‪ :‬ماذا رأيت؟ فقلت‪ :‬رأيت فيه أربع اَ‪ :‬آمن بهدف ه‪،‬‬
‫فلو تكالبت عليه الدنيا‪ ،‬لم تصرفه عن هدفه‪ ..‬وآمن بسبيله‪ ،‬فال يمكن صرفه عنه‪ ،‬وهو‬
‫أشبه بإيمان الرسول بهدفه وس بيله‪ ..‬وآمن بقوم ه‪ ،‬فمن بين من أع رفهم‪ ،‬لم أج د أح داً‬
‫يؤمن بمعنويات الش عب اإلي راني مثل ه‪ ،‬فينص حونه أن تمهّ ل قليالً‪ ،‬فالن اس ق د تعب وا‬
‫وفتروا‪ ،‬فيقول‪ :‬كالّ‪ ،‬ليس الناس كما تقولون‪ ،‬إنني أعرف الش عب أفض ل منكم‪ .‬ون رى‬
‫صحة كالمه تتجلى يوما ً بعد يوم‪ ..‬وأخيراً‪ ،‬واألسمى منها جميعاً‪ ،‬آمن بربّه)‬
‫وهكذا نج د الخمي ني يش يد كث يرا بتلمي ذه ال وفي‪ ،‬ومن ذل ك م ا ذك ره عن ه بع د‬
‫استشهاده‪( :‬إنني أع زي وأه نئ اإلس الم واألولي اء الك رام واألم ة اإلس المية وخاص ة‬
‫الشعب اإليراني المجاهد‪ ،‬بمصابهم المؤسف بالشهيد الجليل والمفكر الفيلسوف والفقي ه‬
‫الكبير المرحوم الحاج الشيخ مرتضى مطهري قدس سره؛ أما الع زاء فباستش هاد ذل ك‬
‫الرجل الف ّذ ال ذي قض ى حيات ه الكريم ة الغالي ة في س بيل تحقي ق األه داف اإلس المية‬
‫المقدسة والكفاح المتواصل مع كل األفكار الملتوية المنحرفة‪ .‬ذلك الرجل الذي ع ّز ل ه‬
‫مثيل في معرفة الدين اإلسالمي والمعارف اإلسالمية المختلفة وتفسير الق رآن الك ريم‪.‬‬
‫فقدت ولداً عزيزاً‪ ،‬وقد فُجعت بوفاته فكان من الشخصيات التي أع ّدها ثم رة‬ ‫ُ‬ ‫أما أنا فقد‬
‫ّ‬
‫حياتي‪ ،‬وقد ثلم في اإلس الم باستش هاد ه ذا الول د الب ار والمفك ر الخال د ثلم ة ال يس دها‬
‫شيء‪ ..‬وأما التهنئة فألننا نحظى بوجود أمثال هؤالء الرج ال ال ذين يض حّون بأنفس هم‬
‫ويش عون ب النور في حي اتهم وبع د وف اتهم‪ .‬إن ني أهنّئ اإلس الم العظيم م ربّي األجي ال‬
‫واهنّئ األمة اإلسالمية بتربية رجال يفيضون بالحياة على القلوب الميّت ة وب النور على‬
‫الظلمات‪ .‬وإني وان خسرت ابنا ً عزي زاً ك ان كبض عة م ني‪ ،‬ولك ني أفتخ ر؛ بأن ه ك ان‬
‫وسيكون في اإلسالم وسيكون مثله)‬
‫وهكذا قال عنه السيد علي الخامنئي مبين ا آث اره الفكري ة على نظ ام الجمهوري ة‬
‫اإلسالمية اإليرانية‪( :‬يوجد القالئل من العلماء من أمث ال الش هيد مطه ري‪ ،‬به ذه الق وة‬
‫الفكرية والروحية‪ ،‬إن ك ل خطب ة من خطب ه يمكن أن تك ون عنوان ا وعمال تخصص يا‬
‫كامال‪ ،‬ولهذا البد من العمل على مبانيه وخطه الفلسفي وبش كل كب ير‪ ،‬إن آث ار الش هيد‬
‫مطهري تمثل المباني الفكرية للجمهورية اإلسالمية)‬

‫‪140‬‬
‫ومنهم العالمة الكبير جعفر السبحاني التــبريزي ال ذي ل ه مش اركات في العل وم‬
‫الكثيرة‪ ،‬وقد سبق ذكره عند الحديث عن مساهماته المم يزة في تفس ير الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫وله باإلضافة لها كتب كثيرة في العقائد اإلسالمية‪.‬‬
‫لكن العمل األهم الذي قام به هو تأسيسه لمؤسسة اإلمام الص ادق‪ ،‬وهي مؤسس ة‬
‫إسالمية ثقافية تربوي ة ي تركز نش اطها في مج ال الت أليف والتحقي ق‪ ،‬وتربي ة الك وادر‬
‫المتخصّصة في الرد على الشبهات المثارة‪ ،‬من أجل نش ر اإلس الم المحم دي األص يل‬
‫والتص ّدي لألفكار المنحرفة والشبهات‪ ،‬بأُسلوب علمي‪ ،‬وبلغة هادئة بعي دة عن التش نج‬
‫والتطرّف‪.‬‬
‫ومن أهم المراك ز التابع ة له ذه المؤسس ة المعه د المتخص ص في الدراس ات‬
‫الكالمية‪ ،‬الذي أسسه الش يخ جعف ر الس بحاني ع ام ‪ 1412‬هـ‪ ،‬لتخ ريج ك وادر علمي ة‬
‫متخصّصة في علم الكالم‪.‬‬
‫ومن أه داف المؤسس ة ـ حس بما ذك ر في موقعه ا الرس مي ـ‪( :‬إع داد ك وادر‬
‫متخصّصة في علم الكالم‪ ،‬وإحياء التراث اإلس المي الّ ذي ترك ه الق دماء من علمائن ا‪،‬‬
‫اإلجابة عن االستفسارات الكالمية والشبهات الّتي يثيرها الغرب)(‪)1‬‬

‫ومن نشاطات هذه المؤسسة في هذا المجال إصدار مجلة الكالم اإلسالمي‪ ،‬وهي‬
‫مجلة كالمية فصلية‪ ،‬وقد استمرت بالصدور منذ عام ‪ 1413‬هـ‪ ،‬إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫‪ )(1‬موقع الشيخ السبحاني‪..‬‬

‫‪141‬‬
‫إيران ‪ ..‬والشريعة اإلسالمية‬
‫من أهم مظاهر التدين اإلي راني ذل ك االهتم ام بالش ريعة اإلس المية س واء على‬
‫مستوى االلتزام الشخص ي واالجتم اعي‪ ،‬أو على مس توى االهتم ام العلمي وال تربوي‬
‫والثق افي‪ ،‬ف إيران‪ ،‬وخاص ة في ثوبه ا اإلس المي الجدي د‪ ،‬لم ت رتض ش ريعة س وى‬
‫اإلس الم‪ ،‬ولم ت رتض نظام ا س وى ذل ك النظ ام ال ذي اس تنطبه الفقه اء من المص ادر‬
‫المقدسة المعصومة‪.‬‬
‫ولهذا لم تسم نفسها باسم [الجمهوري ة الفارس ية]‪ ،‬كم ا تس مي الكث ير من ال دول‬
‫العربية أسماءها بحسب لغتها وقوميتها‪ ،‬وإنما اختارت أن تتسمى باسم اإلسالم‪ ،‬فسمت‬
‫نفس ها [الجمهوري ة اإلس المية]‪ ،‬ال كمج رد ش عار‪ ،‬وإنم ا كمش روع كب ير تس عي ك ل‬
‫جهدها لتحقيقه في الواقع‪.‬‬
‫وتجليات االهتمام بالشريعة اإلسالمية في الواقع اإليراني كثيرة جدا‪ ،‬أهمها ذلك‬
‫الح رص على التمس ك بك ل جزئي ة من جزئي ات ال دين‪ ،‬س واء على مس توى الش عائر‬
‫التعبدي ة‪ ،‬أو على مس توى المع امالت بمختل ف أص نافها‪ ،‬أو على مس توى االهتم ام‬
‫العلمي بحضور دورس العلماء والمراجع وااللتزام بتعليماتهم‪.‬‬
‫وه ذا طبع ا ال يع ني عص مة اإليران يين‪ ،‬ف ذلك لم يتحق ق في أي عص ر من‬
‫العصور‪ ،‬وألي دولة من الدول‪ ،‬ولكن يمكن اعتبار إيران الحالية‪ ،‬وبمناهجها التربوية‬
‫والثقافية‪ ،‬وبمؤسساتها العلمية واإلعالمي ة‪ ،‬تس ير نح و تحقي ق نس بة عالي ة من الت دين‬
‫الوس طي الص حيح ال ذي لم يم تزج ب العنف وال التش دد‪ ،‬وإنم ا اكتفى بتل ك الس ماحة‬
‫النبوية‪ ،‬وامتزج بتلك القيم التي ورثها اإليرانيون عن آل بيت النبوة الذين امتألوا عشقا‬
‫لهم‪.‬‬
‫ومن خالل هذه المعاني نحاول في هذا الفص ل أن نثبت م دى تمس ك اإليران يين‬
‫بالشريعة اإلسالمية‪ ،‬وخاصة في ظل نظامها الجديد‪ ،‬والذي اختار فيه الشعب اإليراني‬
‫عبر انتخابات حرة نزيهة أن يحكمه الولي الفقي ه‪ ،‬ذل ك ال ولي المجته د ال ذي ال يكتفي‬
‫باجتهاده فقط‪ ،‬وإنما يستشير الخبراء في جميع المج االت ح تى يطب ق الفق ه اإلس المي‬
‫في الواقع تطبيقا صحيحا متناسبا مع حاجات العصر وتغيراته‪.‬‬
‫وبن اء على ذل ك االجته اد ال واقعي المب ني على المص ادر الش رعية اس تطاع‬
‫اإليراني ون أن يج دوا الكث ير من الحل ول الش رعية للكث ير من الن وازل الواقعي ة في‬
‫االقتص اد والسياس ة واإلعالم وال دفاع والمجتم ع والتربي ة وك ل المج االت‪ ،‬وهي‬
‫اجتهادات جديرة بأن يطلع عليه ا المق اومون للعلماني ة‪ ،‬وال دعاة للدول ة اإلس المية من‬
‫أبناء الحركات اإلسالمية‪ ،‬ليجدوا فيها من الرؤى التي تفيدهم في تحقيق أهدافهم‪.‬‬
‫وقد قسمنا هذا الفصل بحسب ما ذكرنا إلى قسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬تناولنا فيه مدى تمسك اإليران يين بالش ريعة اإلس المية‪ ،‬ودوافعهم ل ذلك‪،‬‬
‫وحاولن ا أن ن رد في ه باألدل ة القطعي ة على تل ك الهجم ات المغرض ة ال تي تص ورهم‬

‫‪142‬‬
‫بصورة المجوس والمالحدة الذين ال يع يرون الش ريعة اإلس المية أي اهتم ام‪ ،‬وتعت بر‬
‫التشيع سبب ذلك‪ ،‬مع أن التشيع في الواقع هو سبب التزامهم الديني‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تناولنا فيه انفتاح إي ران على الم ذاهب اإلس المية جميع ا‪ ،‬ذل ك االنفت اح‬
‫الذي تجلى في ال ثروة الفقهي ة واألص ولية الكب يرة ال تي أنتجه ا علم اء إيراني ون ع بر‬
‫المراح ل التاريخي ة المختلف ة‪ ،‬وكله ا ال ت زال مص ادر معت برة ل دى جمي ع الم ذاهب‬
‫الفقهية‪ ،‬وفي هذا أيضا رد على تلك الهجمات التي تصور إيران بكونها دولة الم ؤامرة‬
‫على اإلسالم‪ ،‬ال الدولة التي خدمت اإلسالم في جميع المجاالت‪ ،‬وفي جميع العصور‪.‬‬
‫أوال ـ تمسك اإليرانيين بالشريعة اإلسالمية‪:‬‬
‫عندما نسلم عقولنا لوسائل اإلعالم المغرض‪ ،‬ونس لمها لرج ال ال دين الط ائفيين‬
‫ال ذين يخ دمون أه داف أع داء اإلس الم‪ ،‬نخ رج بنتيج ة خط يرة ج دا هي أن إلي ران‬
‫ولإليرانيين دينا آخر مختلفا تماما عن اإلسالم‪ ،‬وأن شرائعهم وشعائرهم مختلفة تماما‪.‬‬
‫بينما إذا تركنا المغرضين والحاق دين‪ ،‬وعملن ا بم ا أمرن ا ب ه ربن ا من اس تعمال‬
‫العقل والحجة والبرهان‪ ،‬وطبقن ا م ا أمرن ا هللا تع الى ب ه من اس تعمال المنهج العلمي‪،‬‬
‫عن دما ق ال‪ { :‬قُ لْ هَ اتُوا بُرْ هَ انَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫ص ا ِدقِينَ } [البق رة‪ ،]111 :‬وق ال مخاطب ا‬
‫اليهود‪{ :‬قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْ َرا ِة فَا ْتلُوهَا إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫صا ِدقِينَ } [آل عمران‪]93 :‬‬
‫إذا فعلنا ذلك‪ ،‬وذهبنا إلى إيران‪ ،‬أو إلى مراجعها الكبار‪ ،‬أو إلى وليها الفقي ه‪ ،‬أو‬
‫إلى تراثها الضخم في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬أو إلى أبناء شعبها الذي يرت ادون المس اجد‪،‬‬
‫ويحيون المناسبات الدينية المختلفة‪ ،‬فإننا نجد األمر مختلفا تماما‪.‬‬
‫ف اإليرانيون يطبق ون نفس الش ريعة ال تي نص عليه ا الق رآن الك ريم ابت داء من‬
‫الصالة التي تقام في مساجدها الكثيرة‪ ،‬وفي كل مدينة أو قري ة من قراه ا‪ ،‬وال ينس ون‬
‫بعد الصالة أن يستمعوا أو يقرؤوا من نفس المصاحف التي يقرأ فيها س ائر المس لمين‪،‬‬
‫وال ينسون كذلك أن يؤدوا المعقبات التي يعقب بها سائر المس لمين ص التهم‪ ..‬والكث ير‬
‫منهم ال يغفل عن أداء الرواتب المستحبة قبل الصالة وبعدها كسائر المسلمين‪.‬‬
‫وأغنياؤهم ال يغفلون عن أداء ما وجب في أم والهم من زك اة أو خمس‪ ،‬بحس ب‬
‫ما ينص عليه فقه أئمتهم‪ ،‬والذي ال يختلف كثيرا عن فقه سائر أئمة المسلمين‪.‬‬
‫ومن استطاع منهم الحج‪ ،‬فإنه ال يقص ر في ذل ك‪ ،‬ب ل إنهم يع دون أنفس هم للحج‬
‫قبل ف ترة طويل ة ج دا‪ ،‬وربم ا يقيم ون مجس مات للحج(‪ ، )1‬ح تى تيس ر عليهم تط بيق‬
‫المناسك بنفس الطريقة التي طبقه ا رس ول هللا ‪ ،‬وال تي رووه ا عن أئمتهم‪ ،‬وهي ال‬
‫تختل ف إال في بعض الف روع البس يطة عن س ائر م ا نص علي ه الفقه اء من س ائر‬
‫المذاهب‪.‬‬
‫‪ )(1‬وقد أثار هذا لألسف نقمة المغرض ي‪ ،‬فب دل أن يش يدوا ب ه راح وا يص ورون للن اس أن إي ران وض عت كعب ة‬
‫أخرى بدل الكعبة التي يحج إليها سائر المسلمين‪ ،‬ومن ذلك ما نشره موقع [البوابة] السعودي‪ ،‬حيث نش ر في ديو وص وراً‬
‫وخبراً تحت عنوان (بالفي ديو‪ ..‬إي ران تب ني كعب ة على أراض يها وت دعو الن اس للحج)‪ ،‬م ع أن الفي ديو والص ور خاص ة‬
‫بدروس تعليم أحكام الحج يلقيها وبشكل تف اعلي عملي تط بيقي رؤس اء بعث ات الحج لتس هيل فريض ة الحج حين وص ول‬
‫الحاج اإليراني إلى الديار المقدسة‪ ،‬كما أن هذا التقلي د متب ع في العدي د من البل دان اإلس المية لتهئي ة حجاجه ا لكي ي ؤدوا‬
‫مناسك الحج بشكل صحيح‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫بل إننا نجد فوق ذلك كله أن كل فرد من اإليرانيين ـ مث ل س ائر الش يعة ـ يتخ ذ‬
‫عالما من العلماء إماما في الفتوى‪ ،‬يرجع إليه‪ ،‬ويقلده‪ ،‬حتى ال يختلط عليه دينه‪ ،‬وحتى‬
‫ال يبحث عن الرخص من خالل تجوله في الكتب أو بين الفقهاء‪ ،‬وهي م يزة ال نج دها‬
‫لألسف في المدرسة السنية‪ ،‬وهو ما تس بب في ظه ور الكث ير من الفت اوى الش اذة‪ ،‬ب ل‬
‫أتاح الفتوى لكل من هب ودب من غير أن تكون له اآلليات التي تسمح له بذلك‪.‬‬
‫ولهذا نجد اإليرانيين يس تفتون عن دينهم في ك ل المس ائل ابت داء من المع امالت‬
‫المالية‪ ،‬والمحظورات من المأكوالت والمشروبات والملبوس ات‪ ،‬وس ائر أم ور ال دين‪،‬‬
‫وعند الرج وع إلى أمه ات الكتب الفقهي ة‪ ،‬أو الرس ائل العملي ة نج دها تتف ق م ع س ائر‬
‫المسلمين في أكثر األصول‪ ،‬وإن اختلفت معها في بعض الفروع البسيطة‪.‬‬
‫لكن األنظار الحاقدة لألسف ال تنظر لكل هذا‪ ،‬وتنظر فقط إلى ما يس مى ب زواج‬
‫المتعة أو الزواج المؤقت‪ ،‬مع كونه ليس سوى فرع بسيط من فروع الش ريعة‪ ،‬ويوج د‬
‫مثله في المدارس السنية‪ ،‬حيث ن رى زواج المس يار وال زواج الع رفي‪ ،‬وزواج فرن د‪،‬‬
‫وزواج المحلل‪ ،‬وغيرها من أنواع ال زواج ال تي أجازه ا الفقه اء من ب اب الض رورة‪،‬‬
‫والتي ال يطبقها أكثر الناس في حياتهم إال الشاذ والنادر منهم‪.‬‬
‫وهك ذا األم ر بالنس بة لل زواج الم ؤقت في إي ران‪ ،‬حيث ال يك اد يس مع ب ه إال‬
‫أصحاب الضرورات‪ ،‬وفي المواضع المحدودة جدا‪ ،‬فاآلباء اإليرانيون ـ كس ائر اآلب اء‬
‫في الدنيا ـ حريصون على أن يزوجوا بناتهم زواجا دائما‪ ،‬ومن األكف اء‪ ،‬وال يس محون‬
‫أبدا بممارسة ذلك النوع من الزواج‪ ،‬وإن كان الفقهاء ينصون على ج وازه للض رورة‪،‬‬
‫حماية للمجتمع من أن ينتشر فيه أبناء الفاحشة‪.‬‬
‫ولألس ف‪ ،‬ف إن ال ذين يرم ون إي ران‪ ،‬والش يعة به ذا يس معون في بالدهم بمن‬
‫يُسمون [األمهات العازبات]‪ ،‬ويسمعون ك ذلك باألبن اء غ ير الش رعيين‪ ،‬ويش كون من‬
‫كثرتهم‪ ،‬ومن تحمل الدول ة ألعب اء تك اليفهم‪ ،‬ول و أنهم طبق وا م ا نص علي ه الفقه اء ـ‬
‫بالنسبة لهؤالء ـ ما يسمى بالزواج المؤقت‪ ،‬لعُرف آباء هؤالء‪ ،‬ولما وقعت المجتمع ات‬
‫اإلسالمية ضحية النتشار الفاحشة‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الفقه الذي يستند إليه اإليرانيون فقه واقعي يعالج المشكالت الواقعية‪،‬‬
‫وال يغض الط رف عنه ا‪ ،‬وال يته رب منه ا بالمثالي ات ال تي ال يمكن أن ينس جم معه ا‬
‫الكثير من الناس‪.‬‬
‫وله ذا اس تطاع فقه اؤهم أن يض عوا الحل ول لك ل المش كالت‪ ،‬بم ا فيه ا مش كلة‬
‫االنحراف األخالقي‪ ،‬حيث أتاحوا لهؤالء ـ بحسب ما تنص علي ه أدلتهم ـ أن ي تزوجوا‬
‫زواجا مؤقتا بشرط التوثيق‪ ،‬حتى إذا م ا نتج عن ذل ك ال زواج أوالد نس بوا إلى آب ائهم‬
‫وأمهاتهم‪ ،‬وربما يكون ذلك سببا لتحول الزواج المؤقت إلى زواج دائم‪.‬‬
‫وهكذا نجدهم يضعون الحلول ـ بناء على م ا ورد في المص ادر المقدس ة ـ لك ل‬
‫المشكالت الواقعية في جميع أبواب الفقه من غير خ روج منهم عن مص ادر الش ريعة‪،‬‬
‫ولهذا نراهم ـ مثل سائر الشيعة ـ ينصون على وجوب تقليد المجته د الحي ال ذي يعيش‬
‫الواقع‪ ،‬ويعرف مالبساته جيدا‪ ،‬حتى يفتي فيها بما يتناسب معها‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫وفوق ذلك كله نرى اإليرانيين يسعون للتمسك بالش ريعة في الج وانب السياس ية‬
‫والعالقات الدولية‪ ،‬وكل الشؤون الكبرى التي ال ن رى للفقه اء في المدرس ة الس نية أي‬
‫حضور فيها‪.‬‬
‫ولهذا فإن للولي الفقيه عندهم سلطة فوق كل سلطة‪ ،‬ذلك أن ه يمكن ه أن يلغي أي‬
‫قرار تخرجه الحكومة أو مجلس الشعب أو القض اء‪ ،‬أو غيره ا إن ع ارض الش ريعة‪،‬‬
‫ولم يكن هناك أي مسوغ شرعي لقبوله‪.‬‬
‫وبناء على هذا نجد الفقيه حاض را في ك ل المج االت ‪ ..‬فه و في البن وك ي راقب‬
‫معامالته ا ومص ارفها بدق ة لتتناس ب م ع الش ريعة‪ ..‬وفي اس تديوهات الس ينما ي راقب‬
‫السيناريوهات والحوارات والمالبس والديكور حتى يتناسب مع الشريعة‪ ..‬وهكذا نج ده‬
‫حاض را في ك ل مح ل‪ ،‬ح تى الش رطة األخالقي ة الم ؤتمرة ب أوامر الفقي ه‪ ،‬تنتش ر في‬
‫الشوارع واألزقة لتراقب سلوكات الناس‪ ،‬حتى ال تصطدم بالشريعة‪.‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا المبحث أن نذكر المالمح الكبرى للت دين اإلي راني‪،‬‬
‫والتي ال يمكن أن يجحدها إال حقود مغرض‪ ،‬أما العاقل‪ ،‬فإنه إن لم يتس ن ل ه الثق ة بم ا‬
‫نق ول‪ ،‬أو باألدل ة ال تي نورده ا‪ ،‬فإن ه يمكن أن يراج ع الفق ه الش يعي من مص ادره‬
‫المعتمدة‪ ،‬أو يذهب إلى إيران نفسها ليتأكد‪ ،‬وقبل ذل ك‪ ،‬واحترام ا لدين ه وورع ه يك ف‬
‫لسانه عن الخوض في أعراض المسلمين‪ ،‬وفي ثلبهم بما هم بريئون منه‪.‬‬
‫وق د حاولن ا أن نرج ع فيم ا ن ذكره من أدل ة إلى الق ادة الفك ريين المؤسس ين‬
‫للجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬ذلك أنهم يمثلون ن وع التمس ك بالش ريعة الموج ود في‬
‫إيران في الوقت الحالي‪ ،‬كما يقال [الناس على دين ملوكهم] ‪ ،‬وه و نفس التوج ه ال ذي‬
‫كان عليه الكثير من اإليرانيين قبل الثورة اإلسالمية‪ ،‬ولهذا أتيح لها أن تنجح‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هذا ردا على أولئك المغرضين الذين يأتون بالفتاوى من كل مص در‪،‬‬
‫وأحيانا يأتون بالنص وص من [بح ار األن وار]‪ ،‬وغ يره متج اهلين أن ذل ك ت راث في ه‬
‫الغث والسمين‪ ،‬وفيه ما يقبل ما يرفض‪ ،‬ومثله موجود في المدرسة السنية‪ ،‬والعاقل هو‬
‫الذي ال يحمل أي جهة جريرة من انتسب إليها‪.‬‬
‫ولألسف فإن كل ال ذين ي ردون على الق ادة الفك ريين للجمهوري ة اإلس المية‪ ،‬ال‬
‫يستندون إلى أحاديثهم‪ ،‬أو ما كتبوه في كتبهم‪ ،‬وإنما يستندون لجهات أخرى‪ ،‬وه ذا من‬
‫الظلم المجحف‪ ،‬الذي ال يرتضيه عاق ل‪ ،‬فالعاق ل ه و ال ذي يطب ق في ك ل ش يء قول ه‬
‫از َرةٌ ِو ْز َر أُ ْخ َرى } [األنعام‪ ،]164 :‬ومعه ا قول ه تع الى عن أه ل‬
‫تعالى‪َ { :‬واَل ت َِز ُر َو ِ‬
‫الكتاب‪ { :‬لَ ْيسُوا َس َوا ًء} [آل عمران‪ ،]113 :‬فهذه المقولة شعار للباحث الم ؤمن ال ذي‬
‫ال يحمل أحدا مسؤولية أحد‪.‬‬
‫وكمث ال على ذل ك م ا ذكرن اه س ابقا من ت رك أولئ ك المغرض ين لعش رات‬
‫النصوص والتصريحات من اإلمام الخميني عن الق رآن الك ريم‪ ،‬وخل وه من التحري ف‬
‫والتبديل‪ ،‬ودعوته لتفعيله في الحياة‪ ،‬ثم الرد عليه من خالل مقوالت غ يره‪ ..‬وه ذا ظلم‬
‫كبير‪.‬‬
‫فلكل مذهب أو مدرسة من انحرف بها أو عنها انحرافا كليا أو جزئيا‪ ،‬وال يصح‬

‫‪145‬‬
‫أن نح ّمل المعتدلين وزر المنحرفين‪ ..‬وكذلك األمر بالنسبة إلي ران ال تي لم تكت ف فق ط‬
‫بتصحيح مسار الدولة السياسي‪ ،‬وإنما صححت قبل ذلك فهمه ا لل دين‪ ،‬وتص ورها ل ه‪،‬‬
‫ولذلك يمكن اعتبار التشيع اإليراني عملية تصحيحية كبيرة‪ ،‬جعلته أقرب إلى المصادر‬
‫المقدسة‪ ،‬من كل العصور السابقة‪ ،‬ح تى أن الطبق ة المثق ة من إي ران اآلن ال ترتض ي‬
‫تسمية التشيع‪ ،‬بل تعتبره نوعا من التسمية الطائفي ة‪ ،‬وإنم ا تس ميه [اإلس الم المحم دي‬
‫األصيل]‬
‫‪ 1‬ـ الرجوع للفقهاء المجتهدين للتعرف على األحكام الشرعية‪:‬‬
‫المرجع ـ في المصطلح الشيعي ـ هو الع الم المجته د ال ذي بل غ أقص ى درج ات‬
‫العلم واالجتهاد التي تخول له اإلفتاء‪ ،‬ورعاي ة بعض المص الح الديني ة لمن يثق ون في ه‬
‫من عام ة الن اس؛ فيعتبرون ه واس طة للتع رف على أحك ام الش ريعة اإلس المية‪،‬‬
‫وتنفيذها(‪.)1‬‬
‫وميزة هذا النظام هو تنظيم الحياة الدينية للعام ة ال ذين ال يس تطيعون االجته اد‪،‬‬
‫وفي نفس ال وقت ال يج دون في أنفس هم الق درة على التمي يز بين األق وال الفقهي ة‬
‫واالختالفات الواردة فيها‪ ،‬ولذلك يتاح لهم ـ بكل حري ة ـ أن يبحث وا عن الفقه اء ال ذين‬
‫وصلوا إلى درجة المرجعية واالجتهاد‪ ،‬ليجعلوهم مراجع لهم‪ ،‬يرجعون إليهم في أمور‬
‫دينهم‪.‬‬
‫والذي ينتقد هذا النظام مثل الذي ينتق د الم ريض ال ذي يبحث في األطب اء‪ ،‬ليج د‬
‫طبييا واحدا ثقة يرى فيه القدرة على عالجه‪ ،‬أو اإلشارة عليه‪ ،‬فيتخذه طبيبه الشخصي‬
‫الدائم الذي يلجأ إليه كلما احتاج إلى ذلك‪ ،‬أو الذي يختار محاميا واحدا يعالج كل مشكلة‬
‫تحل به‪.‬‬
‫والشيعة يستندون في ه ذا النظ ام إلى م ا ورد عن أئمتهم ال ذين ك انوا يرش دون‬
‫أتباعهم إلى فقهاء بالدهم‪ ،‬فقد روي عن اإلمام الب اقر أن ه ق ال ألب ان بن تغلب‪( :‬اجلس‬
‫في مسجد المدينة وأفت الناس‪ ،‬فإني أحب أن يرى في ش يعتي مثل ك)(‪ )2‬أي أن اإلم ام‬
‫اعتبره مرجعا ألهل ذلك المسجد‪.‬‬
‫وروي عن اإلمام الصادق أن ه ق ال لبعض أتباع ه‪( :‬إئت أب ان بن تغلب فإن ه ق د‬
‫سمع مني حديثا ً كثيراً‪ ،‬فما رواه لك فاروه عني) (‪)3‬‬
‫ومثله روي عن اإلمام الرض ا عن دما ق ال لبعض أتباع ه‪( :‬خ ذ مع الم دين ك من‬
‫زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬كم ا نص على ذل ك الس يد الخ وئي في كت اب [االجته اد والتقلي د‪119 /‬و‪ ،]203‬فق ال‪( :‬يجب تقلي د األعلم م ع‬
‫اإلمك ان على األح وط‪ ،‬ويجب الفحص عن ه‪ ..‬الم راد من األعلم من يك ون أع رف بالقواع د والم دارك للمس ألة وأك ثر‬
‫اطالعاً‪..‬وأجود فهما ً لألخبار‪ ،‬والحاصل أن يكون أجود استنباطاً‪ .‬والمرجع في تعيينه أهل الخبرة واإلستنباط‪ ..‬وال يج وز‬
‫تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم‪ ،‬كما أنه يجب على غير المجتهد التقليد‪ ،‬وإن كان من أهل العلم)‪.‬‬
‫‪ )(2‬وسائل الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،30‬ص ‪.291‬‬
‫‪ )(3‬وسائل الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،27‬ص ‪.147‬‬
‫‪ )(4‬وسائل الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،27‬ص ‪.146‬‬

‫‪146‬‬
‫وغيرها من النصوص الكثيرة التي استنبط منه ا الش يعة أن ه يجب على الع امي‬
‫المقلد أال يكتفي بما في الكتب من فتاوى‪ ،‬وإنما عليه أن يرجع إلى المجتهدين األحي اء‪،‬‬
‫ألنهم أدرى بالواقع‪ ،‬وبكيفية تنفيذ األحكام الشرعية‪ ،‬ذلك أن باب االجتهاد عن د الش يعة‬
‫لم يغلق مثلما حصل في المدرسة السنية‪ ،‬بسبب التدخل السياسي‪.‬‬
‫والميزة األخرى لهذا النظام ه و بعض الص الحيات ال تي تت اح للمرج ع‪ ،‬بحيث‬
‫يصبح قاض يا بين أتباع ه‪ ،‬يس اهم في ف ك النزاع ات بينهم بحس ب األحك ام الش رعية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى توليه أو تولي وكالئه حل المشاكل التي قد يقعون فيها‪.‬‬
‫وهم لذلك يضعون له قداسة خاصة تخول له أن يكون ل ه من الس لطة في قل وب‬
‫الن اس م ا يجعلهم يخض عون ل ه وألوام ره‪ ،‬كم ا ق ال العالم ة محم د رض ا المظف ر‪:‬‬
‫(عقيدتنا في المجتهد الجامع للش رائط‪ ،‬أن ه ن ائب لإلم ام في ح ال غيبت ه‪ ،‬وه و الح اكم‬
‫والرئيس المطلق‪ ،‬له ما لإلم ام في الفص ل في القض ايا والحكوم ة بين الن اس‪ ،‬وال راد‬
‫عليه راد على اإلمام والراد على اإلمام راد على هللا تعالى‪ ،‬وهو على حد الشرك باهلل)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومن مزاياه ا أيض ا ـ وال تي أس اء فهمهم ا المغرض ون ـ اس تقبال المرج ع‬
‫للمس اهمات المالي ة‪ ،‬ال لشخص ه‪ ،‬وإنم ا لتوزيعه ا على األص ناف ال تي ورد األم ر‬
‫الشرعي بتوزيعها لها‪ ،‬ومن بينها المؤسسة الدينية نفسها‪ ،‬من المدارس الديني ة‪ ،‬ونش ر‬
‫الكتب ونحوها(‪.)2‬‬
‫وهو ما جعل النظام الديني عند الش يعة مس تقال تمام ا عن الساس ة والسياس يين‪،‬‬
‫على خالف ما نراه في المؤسسات الدينية السنية‪ ،‬والتي تأخذ أموالها من الدولة‪ ،‬والتي‬
‫تفرض بعد ذلك سلطتها عليها لكونها تابعة لها‪.‬‬
‫وهذا ال يع ني اس تقاللية ه ذه المؤسس ة عن الش عب‪ ،‬ب ل هي تابع ة ل ه‪ ،‬وتخ دم‬
‫مصالحه‪ ،‬وهو يراقبها بعد إعطائها من ماله‪ ،‬وكيفية توزيعه‪.‬‬
‫وهي لذلك تسعى في مصالح الشعب‪ ،‬وتتعرض للكثير من األذى من الحكومات‬
‫المتعاقبة بسبب ذلك‪ ،‬فهي ليست واسطة الحكومة إلرضاء الش عب‪ ،‬وإنم ا هي واس طة‬
‫الشعب إلخضاع الحكومة‪.‬‬
‫وبن اء على ه ذا المع نى اس تطاع الش عب اإلي راني بمس اندة المراج ع والح وزة‬
‫العلمية أن ينجح في تحقيق ثورته؛ فلم يكن الخميني س وى مرج ع من المراج ع الكب ار‬
‫الذين قدسهم الشعب واحترمهم‪ ،‬وكانوا في مستوى ذلك التقديس واالحترام‪.‬‬
‫ول ذلك يمكن اعتب ار نظ ام والي ة الفقي ه نوع ا من تفعي ل المرجعي ة‪ ،‬وإعطائه ا‬

‫‪ )(1‬عقائد اإلمامية‪ ،‬المظفر‪ ،‬ص ‪..45‬‬


‫‪ )(2‬ولهذا نرى للح وزات العلمي ة التابع ة للمراج ع أوقاف ا ً عدي دة‪ ،‬كالم دارس‪ ،‬والمكتب ات‪ ،‬وبي وت س كن للطلب ة‪،‬‬
‫والعلماء‪ ،‬وغيرها‪ ،‬والطابع العام إلدارة هذه األوقاف‪:‬احترام إرادة الواقف ومتولي الوقف فيها‪ ،‬وغالبا ً ما تشترط وقفيته ا‬
‫إشراف المرجع العام‪ ،‬أي الذي يرج ع الي ه أكثري ة الش يعة في الع الم‪ ،‬وال ذي يح ترم رأي ه وتوجيهات ه في إدارة الح وزة‬
‫وطلبتها‪ ..‬ويقوم المرجع عادة برعاية هذه األوقاف ومساعدتها مالياً‪ ،‬لتواصل العمل لهدفها الذي نصت عليه وقفيتها‪ ،‬كما‬
‫يقوم بتأسيس المشروعات الالزمة للحوزة من مدارس أو مساكن أو مكتبات‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الصالحيات الحقيقية التي أتاحتها لها الشريعة(‪ ،)1‬كما نص على ذل ك الخمي ني بقول ه‪:‬‬
‫(المس تفاد من المقبول ة كم ا ذكرن اه ه و أن الحكوم ة مطلق ا ً للفقي ه‪ ،‬وق د جعلهم اإلم ام‬
‫حكام ا ً على الن اس‪ ،‬وال يخفى أن جع ل القاض ي من ش ؤون الح اكم والس لطان في‬
‫اإلسالم‪ ،‬فجعل الحكوم ة للفقه اء مس تلزم لج واز نص ب القض اة‪ ،‬فالحك ام على الن اس‬
‫شأنهم نصب األمراء والقضاة وغيرهما مما تحتاج إليه األمة)(‪)2‬‬
‫ومثله قال الخامنئي القائد الحالي للجمهورية اإلس المية اإليراني ة‪ ،‬وال ذي يعت بر‬
‫أكبر مرجع فيها‪( :‬والية الفقي ه في قي ادة المجتم ع وإدارة المس ائل اإلجتماعي ة في ك ل‬
‫عصر وزمان من أركان المذهب الحق اإلثني عشري‪ ،‬ولها جذور في أص ل اإلمام ة‪،‬‬
‫ومن أوصله اإلستدالل إلى عدم القول بها فهو مع ذور‪ ،‬ولكن ال يج وز ل ه بث التفرق ة‬
‫والخالف )(‪)3‬‬
‫ومن مزايا هذا النظام كذلك تلك الحرية الدينية التي تجع ل عام ة الن اس أح رارا‬
‫في اختيار المراجع الذين يقلدونهم‪ ،‬وتجعلهم ك ذلك يتس امحون م ع المختلفين معهم من‬
‫سائر الفقهاء والمراجع‪.‬‬
‫ومن أحسن األمثلة على ذلك التس امح ال ديني ال ذي نفتق ده لألس ف في المدرس ة‬
‫السنية ـ بسبب التعصب بين المذاهب ـ م ا أج اب ب ه الخمي ني على رس الة أرس لها ل ه‬
‫بعضهم يعترض عليه فيها قبوله باالختالف بين المجتهدين‪ ،‬وكيف أن الخميني بم ا ل ه‬
‫من سلطة لم يمل إلى أح د الط رفين‪ ،‬أو لم يس تعمل الس لطات المتاح ة ل ه لتكميم أف واه‬
‫الطرف الذي يخالفه‪ ،‬وقال له‪ ..( :‬لعل األكثر من ذل ك أن الط رفين يحظي ان بتأيي دكم‪،‬‬
‫ولم نر حتى اآلن تأييدا لطرف منهما‪ ،‬بل نالحظ أنكم قد تؤي دون طرف ا في مناس بة‪ ،‬ثم‬
‫تؤيدون طرفا آخر في مناسبة أخرى‪ ..‬والشواهد على ذلك كث يرة‪ ،‬مثال إنكم دافعتم عن‬
‫أفراد جماعة المدرسين أو مؤسسة اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬في ال وقت ال ذي دافعتم في ه عن‬
‫أفراد مكتب اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬وإذا دافعتم عن شورى المحافظ ة على الدس تور ف إنكم‬
‫دافعتم عن شورى تشخيص المصلحة)(‪)4‬‬
‫فأجابه الخميني بقوله‪( :‬إني انصحك وأمثالك الكثيرين‪ ،‬وأذكركم بأن كتب فقه اء‬
‫اإلس الم العظ ام ممل وءة ب اختالف وجه ات النظ ر‪ ،‬وك ل منهم ل ه رأي في المج االت‬
‫العسكرية والثقافية والسياسية واالقتصادية والعبادية‪ ..‬ففي بعض المسائل هناك إجم اع‬
‫للفقهاء‪ ،‬وحتى في المسائل التي فيها إجماع هناك قول أو أقوال تخ الف اإلجم اع‪ ،‬وفي‬

‫‪ )( 1‬هناك اتجاه آخر في المدرسة الشيعية يرى أنه ليس للفقيه سوى الفتوى‪ ،‬وممن يمثلونه في الواقع الشيعي الس يد‬
‫السيستاني مرجع العراق األكبر‪ ،‬والذي أفتى بأن يحكم الشعب الع راقي نفس ه عن طري ق اإلنتخاب ات‪ ،‬وأعطى الش رعية‬
‫لمن ينتخبه الشعب‪ ،‬ونصح العلماء وطلبة العلم أن اليدخلوا في الحكم ومؤسساته‪ ،‬إال بقد الضرورة التشريعية أحياناً‪..‬‬
‫‪ )(2‬الخميني‪ ،‬االجتهاد والتقليد‪ ،‬ص ‪..53‬‬
‫‪ )(3‬الخامنئي‪ ،‬أجوبة اإلستفتاءات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪..23‬‬
‫‪ )( 4‬النصوص المذكورة في رسالة الشيخ األنصاري وجواب اإلمام عليها مأخوذة عن جري دة اطالع ات الص ادرة‬
‫في طهران عدد ‪ 18799‬بتاريخ ‪9‬ذي الحجة ‪1409‬هـ ‪ ،‬انظر مقاال بعن وان‪ :‬االجته اد المتن وع في الدول ة اإلس المية في‬
‫فكر اإلمام الخميني‪ ،‬محمد حسين فضل هللا‪ ،‬من كتاب‪ :‬اإلمام الخميني الفكر والثورة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫الماضي فإن هذه االختالفات كتبت باللغة العربية مما جع ل اطالع أك ثر الن اس عليه ا‬
‫قليال‪ ،‬والذي يعلم بها فإنه ال يتابع إال المسائل التي تهمه)‬
‫وبعد أن أصل له المس ألة من الناحي ة الش رعية‪ ،‬وبحس ب م ا ي دل علي ه ت اريخ‬
‫الفقهاء في المدرسة الشيعية‪ ،‬ب ل في جمي ع الم دارس اإلس المية‪ ،‬ق ال ل ه‪( :‬واآلن ه ل‬
‫نستطيع أن نتص ور أن ه ؤالء الفقه اء عن دما اختلفت وجه ات نظ رهم ك انوا يعمل ون‬
‫خالفا لما يريد هللا سبحانه وتعالى وخالفا للدين اإلس المي وللح ق؟!‪ ..‬أب دا!!‪ ..‬والي وم‪،‬‬
‫والحمد هلل‪ ،‬فإن كالم الفقهاء وأصحاب النظر يبث في الرادي و والتلفزي ون أو يكتب في‬
‫الصحف‪ ،‬ألن الناس يحتاجون إليه في حياتهم العملية)‬
‫ثم ذكر له أن هناك الكثير من النوازل‪ ،‬وأنه ال يمكن أن يجتمع الفقهاء فيه ا على‬
‫ق ول واح د‪ ،‬ألن لك ل منهم وجه ة نظ ره الخاص ة‪ ،‬فق ال‪ ..( :‬مثال‪ ،‬في مس ألة تحدي د‬
‫الملكي ة وفي تقس يم األراض ي‪ ،‬وفي ال ثروات العام ة واإلنف اق وفي المس ائل المعق دة‬
‫لألموال والعملة الصعبة في البنوك‪ ،‬وفي األمور المالية والتجارة الداخلي ة والخارجي ة‬
‫والمزارعة والمضاربة واإلج ارة وال رهن واقام ة الح دود وال ديات والق وانين المدني ة‬
‫والمسائل الثقافية والمسائل الفنية أمثال الرسم والتصوير والنحت والموس يقى والس ينما‬
‫والمسرح والخط وغيره‪ ،‬وفي حفظ الطبيع ة س المة من التل وث ومن ع قط ع األش جار‪،‬‬
‫ح تى الموج ودة في ال بيوت والممتلك ات الخاص ة‪ ،‬وفي مس ائل األطعم ة واأللبس ة‬
‫واألشربة‪ ،‬وفي مسألة تحديد النسل في ح االت الض رورة أو تع يين فواص ل بين ولي د‬
‫وآخر‪ ،‬وفي حل المشاكل الطبية وأمثال زرع أعضاء جس م إنس ان إلنس ان آخ ر‪ ،‬وفي‬
‫مسألة المعادن داخل طبقات األرض وفوقه ا وفي تغي ير موض وعات الحالل والح رام‬
‫وتوسيع وتضييق دائ رة بعض األحك ام في األزمن ة واألمكن ة المختلف ة‪ ،‬وفي المس ائل‬
‫الحقوقية حسب نظر الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ودور المرأة في المجتمع اإلس المي‪ ،‬وح دود‬
‫حري ة الف رد داخ ل المجتم ع‪ ،‬والتعام ل م ع الكف ار والمش ركين واألفك ار االلتقاطي ة‬
‫والمعسكرات التابعة له ا‪ ،‬وكيفي ة انج از الف رائض في ال رحالت الهوائي ة والفض ائية‪.‬‬
‫واألهم من ذلك حاكمية والية الفقيه في الحكومة والمجتمع‪ ،‬وكل هذه المسائل جزء من‬
‫آالف المسائل التي هي محل ابتالء الناس والحكومة‪ ،‬والتي ك انت م ورد بحث الفقه اء‬
‫واختالف وجهات نظرهم)‬
‫وقد دعا في رسالته تلك إلى البحث الجاد من طرف الفقهاء جميعا للتع رف على‬
‫حكم الش ريعة في تل ك الن وازل وغيره ا‪ ،‬وأن ه ال يج وز أن يص ادر رأي أي مجته د‪،‬‬
‫فقال‪( :‬ل ذا ففي الحكوم ة اإلس المية يجب أن يك ون ب اب االجته اد مفتوح ا دائم ا‪ ،‬ألن‬
‫طبيعة الثورة تقتضي أن تطرح وجهات النظر الفقهية في مختلف المجاالت‪ ،‬وال يح ق‬
‫ألحد الحيلولة دون ذلك‪ ،‬ولكن بشرط أن يكون الطرح بص ورة ص حيحة على األم ور‬
‫في نطاق الحكومة والمجتمع من أج ل بن اء مجتم ع إس المي يمكن ه أن يخط ط لص الح‬
‫المسلمين ويدعو إلى الوحدة واالتحاد)‬
‫ولهذا فإن من أكبر دالئل التسامح ال ديني في إي ران ع دم مص ادرة المرجعي ات‬
‫الفقهية المختلفة‪ ،‬حتى التي ال ترى مس وغا لوالي ة الفقي ه‪ ،‬وله ذا ن رى الخمي ني ي دعو‬

‫‪149‬‬
‫عامة الناس ال إلى تبني مرجعيته في األقوال الفقهية‪ ،‬واالكتفاء برسالته العملية‪ ،‬وإنم ا‬
‫يدعوهم إلى الرجوع إلى المراجع والفقهاء‪ ،‬للتعرف على أحكام الدين‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله في الرسالة التي وجهه ا للحجيج بع د بيان ه للن واحي‬
‫العرفانية والذوقية في الحج‪( :‬إن المراتب المعنوي ة للحج هي رأس مال الحي اة الخال دة‪،‬‬
‫وتقرب اإلنسان من أفق التوحيد والتنزيه‪ ،‬وس وف لن نحص ل على النتيج ة م ا لم ننف ذ‬
‫أحك ام وق وانين الحج العبادي ة بش كل ص حيح والئ ق وش عرة بش عرة‪ ،‬على الح ّج اج‬
‫المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الح ّج اج أن يص رفوا وقتهم ويك ون ك ل‬
‫ه ّمهم هو تعليم وتعلّم مناسك الحج وعلى العارفين مراقبة من ي رافقهم ح تى ال يتخل ف‬
‫أحد عن األوامر‪ ..‬على أيّة حال هذه وظيفة العلم اء الموج ودين في القواف ل يع ني هي‬
‫إحدى وظائفهم‪ ،‬وإن إحدى الوظائف المهم ة أيض ا ً هي تعري ف الن اس بمس ائل الحج‪،‬‬
‫إننا نرى الكثيرين من األشخاص الذين يذهبون إلى الحج ويتحملون المص اعب وهم ال‬
‫يعرفون مسائل الحج ويصبحون مقيّدين بح ركتهم هن اك‪ ،‬وعن دما يع ودون وبع د ع دة‬
‫سنوات يسألون أننا قد أنجزنا علمنا على الشكل التالي‪ ،‬فه ل حجّن ا ص حيح أم ال؟ فه ل‬
‫نحن ما زلنا على إحرامن ا أيض ا ً أم ال؟ فيجب على الس ادة العلم اء أن يعق دوا جلس ات‬
‫للتدريس ويدرّسوا الن اس آداب الحج‪ ،‬واجب ات الحج‪ ،‬محرّم ات الحج‪ ،‬ف إذا لم يتعلّم وا‬
‫اآلداب‪ ،‬فليس في ذلك إشكال‪ ،‬أما المحرمات والواجب ات فيجب تعليمه ا للن اس يومي اً‪،‬‬
‫ويجب على الناس أيضا ً الذهاب عن د الس ادة العلم اء لحض ور ه ذه ال دروس‪ ،‬ف إذا م ا‬
‫انعقدت هذه الدروس فيجب أن ي ذهبوا إليهم ويس تمعوا ويتعلم وا مس ائل الحج ح تى ال‬
‫يصبحوا مأسورين فيما بعد عند عودتهم ويتساءل أحدهم كيف ك ان ط وافي‪ ،‬ه ل ك ان‬
‫صحيحا ً أم ال؟)(‪)1‬‬
‫هذه بعض مزايا المرجعية الديني ة‪ ،‬وال تي تمنين ا ل و أن المدرس ة الس نية تبنته ا‬
‫لتقضي على تلك الفوضى التي يسببها ترك المجتمع ألهواء المتع المين ممن لم تتحق ق‬
‫فيهم الشروط الشرعية للفتوى‪ ،‬فيضلون ويُضلون‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ شمولية الشريعة لكل جوانب الحياة‪:‬‬
‫عند مطالعتنا ألي كتاب فقهي شيعي‪ ،‬أو رسالة علمي ة ألي مرج ع من المراج ع‬
‫المعتمدين‪ ،‬نجد األبواب الفقهية تشمل جميع مناحي الحياة‪ ،‬ذل ك أن ه ال يك ون المرج ع‬
‫مرجعا إال إذا وصل به االجتهاد إلى اإلجابة عن ك ل األس ئلة الفقهي ة ال تي ت رد علي ه‪،‬‬
‫والتي تتعلق عموما بجميع مناحي الحياة‪.‬‬
‫وبذلك؛ فإن الشريعة اإلسالمية التي يتبناها اإليرانيون هي نفس ها الش ريعة ال تي‬
‫يتبناه ا جمي ع أبن اء الع الم اإلس المي‪ ،‬فهي ال تقتص ر على التش ريعات المرتبط ة‬
‫بالعبادات‪ ،‬وإنما تضم إليها التشريعات المرتبطة بجميع شؤون الحياة‪.‬‬
‫وما يميز الشيعة باإلضافة إلى ذلك هو تبنيهم للمش روع السياس ي اإلس المي في‬
‫جمي ع مراح ل ت اريخهم‪ ،‬خالف ا لبعض الم ذاهب في المدرس ة الس نية‪ ،‬وال تي أج ازت‬

‫‪ )(1‬أبعاد الحج في كالم اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪.20‬‬

‫‪150‬‬
‫علمانية الدولة‪ ،‬وأن للحاكم شؤون الدنيا‪ ،‬وللفقيه شؤون الدين‪.‬‬
‫وسبب تبني الشيعة لذلك هو توليهم ألئمة أهل ال بيت‪ ،‬ال ذين ك انوا يعت برون من‬
‫المعارضة السياسية إبان الفترات المختلف ة للدول ة اإلس المية‪ ،‬وله ذا ش ن عليهم وعلى‬
‫أتباعهم كل صنوف األذى‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا؛ فإن الشيعة بإحيائهم لعاشوراء ونحوها من المناسبات يعي دون‬
‫التذكير بأن الدين ليس شعائر تعبدية فق ط‪ ،‬وإنم ا ي دخل في ك ل ش ؤون الحي اة‪ ،‬دقيقه ا‬
‫وجليلها‪ ،‬وقد قال الخميني ـ مشيدا بدور عاشوراء في نج اح الث ورة اإلس المية ـ ‪( :‬إن‬
‫كل ما لدينا هو من عاشوراء)‬
‫وبناء عليه نرى اهتمام الجمهورية اإلسالمية اإليرانية بعد الثورة وقبله ا بإحي اء‬
‫عاشوراء بأبعاده ا الثوري ة الحقيقي ة‪ ،‬ح تى (تخ دم بش كل مباش ر خصوص ية الث ورة‪،‬‬
‫وتذكر بمضمونها الت اريخي ‪ ..‬وتحمي الث ورة الكربالئي ة من ع وارض ال زمن‪ ،‬حيث‬
‫تبقى عاشوراء على طول الخط مؤججة لروح الثورة والمناعة)(‪)1‬‬
‫ولم تكت ف الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة ب ذلك‪ ،‬ب ل راحت تق وم بعملي ة‬
‫تصحيحية كبيرة للتدريس الديني‪ ،‬ليتناسب مع تفعيل الشريعة اإلسالمية في كل ش ؤون‬
‫الحي اة‪ ،‬فال يمكن أن يطب ق الش ريعة بص يغتها الش املة الفقي ه ال ذي يكتفي بالدراس ة‬
‫التقليدية للفقه اإلسالمي‪.‬‬
‫وقد قال الخميني في الرسالة التي أشرنا إليها سابقا مبينا هذا المعنى‪( :‬ومن هنا‪،‬‬
‫فان االجتهاد في االصطالح الحوزوي وحده ال يكفي‪ ،‬وإذا كان هناك ش خص أعلم في‬
‫عل وم الح وزة ولكن ال يس تطيع تش خيص المص لحة العام ة أو ال يس تطيع تش خيص‬
‫األفراد الصالح ومن الطالح‪ ،‬والمفيد من غير المفيد‪ ،‬وبشكل عام فإن ه فاق د التش خيص‬
‫في المجاالت السياسية واالجتماعية وفاقد القدرة في اتخاذ الق رار؛ إن ه ذا الش خص ال‬
‫يعتبر مجتهدا في المس ائل الحكومي ة واالجتماعي ة وال يس تطيع أن يمس ك زم ام أم ور‬
‫المجتمع بيده) (‪)2‬‬
‫وهك ذا نج د القائ د الح الي للجمهوري ة اإلس المية الس يد علي الخ امنئي يوج ه‬
‫النصائح الكثيرة للح وزة لتتناس ب م ع الواق ع‪ ،‬ولتع الج مش كالته وف ق رؤي ة اإلس الم‬
‫األص يل‪ ،‬ال وف ق الرؤي ة العلماني ة ال تي تفص ل ال دين عن الحي اة والسياس ة‪ ،‬ومن‬
‫(إن الدين اإلسالمي يدعو إلى إصالح الدين والدنيا وال يقتصر‬ ‫توجيهاته في ذلك قوله‪ّ :‬‬
‫على طقوس دينية يمارسها المت ديّن من أج ل الخالص في اآلخ رة‪ .‬فه ذه الخصوص ية‬
‫تتطلب من الح وزيين أن ينطلق وا في تق ديرهم لألم ر وفي تخطيطهم للعم ل التعليمي‬
‫متبن على أساس أن الدين هو رس الة‬ ‫ٍ‬ ‫والتربوي من هذا االعتبار ّ‬
‫وأن الطرح اإلسالمي‬
‫الحياة‪ ،‬والطريق الوحي د للخالص من المش اكل والمص اعب ال تي حلّت بالع الم وال تي‬
‫ستحلُّ فيما بعد‪ ،‬وهو القادر على إعطاء الحلول الناجع ة للمعض الت االجتماعي ة ال تي‬
‫‪ )( 1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬عاشوراء الحسين وثورة اإلمام الخميني ‪ ،‬من كتاب‪ :‬اإلمام الخميني‪ ..‬الفكر والثورة‪.‬‬
‫‪ )( 2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬االجتهاد المتنوع في الدولة اإلسالمية في فكر اإلمام الخميني‪ ،‬محمد حس ين فض ل هللا‪ ،‬من‬
‫كتاب‪ :‬اإلمام الخميني الفكر والثورة‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫البشرية)(‪)1‬‬
‫تعاني منها المجتمعات‬
‫ويق ول‪( :‬يجب االهتم ام بقض ية الوح دة بين ال دين والسياسة‪ ،‬في التفق ه وفي‬
‫العمل‪ .‬وليعلم األخ وة أن فك رة فص ل ال دين عن السياس ة هي آف ة لم تستأص ل بش كل‬
‫كامل‪ ،‬وال ت زال إلى اآلن موج ودة في الح وزات م ع األسف‪ ..‬يجب تأص يل وترس يخ‬
‫فكرة وحدة ال دين والسياس ة في الح وزة بحيث تك ون الفقاهة‪ ،‬واالس تنباط الفقهي على‬
‫أساس إدارة النظام والمجتمع ال مجرد اإلدارة الفردية)(‪)2‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬نرى ق ادة الث ورة اإلس المية يص بغون ك ل حكم من األحك ام‬
‫الشرعية بتلك الصبغة الشمولية لإلسالم‪ ،‬حتى تؤدي كل جزئي ة في ه دوره ا في خدم ة‬
‫الشريعة‪ ،‬وتكون أساسا من األسس التي يقوم عليها النظام اإلسالمي‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ن راه من ترك يز الخمي ني على الحج باعتب اره مناس بة‬
‫لتحقي ق الوح دة اإلس المية‪ ،‬وبث ال وعي بين المس لمين بض رورة مواجه ة االس تكبار‬
‫العالمي‪ ،‬وتحقيق العدالة االجتماعية وفق الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫فبعد أن ذكر الكثير من الج وانب العرفاني ة ال تي تص ل الم ؤمن باهلل أثن اء أدائ ه‬
‫للمناسك‪ ،‬راح يذكر الجوانب األخرى المغيبة‪ ،‬فالحج ـ بحسب طروحاته ـ ليس مجرد‬
‫شعائر تؤدى‪ ،‬وإنم ا ه و مناس بة عظيم ة لتحقي ق الكث ير من القض ايا ال تي ت دل عليه ا‬
‫شمولية اإلسالم لجميع مناحي الحياة‪.‬‬
‫ومن أقواله في ذلك‪ ،‬عند حديثه عن سر المناسك‪ ،‬وبعد ذكره للجوانب العرفانية‬
‫منها‪( :‬إن الطواف حول الكعبة المشرّفة يعني أن اإلنس ان لن يط وف لغ ير هللا‪ ،‬ورجم‬
‫العقبات هو رجم شياطين اإلنس والجن‪ ،‬وأنتم عن دما ترجم ون عاه دوا هللا أن تقتلع وا‬
‫شياطين اإلنس والقوى العظمى من البالد اإلسالمية‪ ..‬اليوم كل الع الم اإلس المي أس ير‬
‫بيد أمريكا‪ ،‬احملوا من هللا رسالة إلى مسلمي القارات المختلفة للعالم اإلسالمي‪ ،‬رس الة‬
‫أن ال تخضعوا لغير هللا وال تكونوا عبيداً ألحد) (‪)3‬‬
‫ولمزيد من التفص يل راح ي بين لهم المع اني ال تي تختزنه ا ش عائر الحج؛ فق ال‪:‬‬
‫(عندما تلفظون لبّي ك لبّي ك‪ ،‬قول وا ال لجمي ع األص نام‪ ،‬واص رخوا ال لك ل الط واغيت‬
‫الكبار والصغار‪ ،‬وأثناء الطواف في حرم هللا حيث يتجلى العشق اإللهي‪ ،‬خلّ وا قل وبكم‬
‫من اآلخرين‪ ،‬وطهّروا أرواحكم من أي خ وف لغ ير هللا‪ ،‬وفي م وازاة العش ق اإللهي‪،‬‬
‫تبرأوا من األص نام الكب يرة والص غيرة والط واغيت وعمالئهم وأزالمهم‪ ،‬حيث إن هللا‬
‫تع الى ومحبّي ه ت برأوا منهم‪ ،‬وأن جمي ع أح رار الع الم بريئ ون منهم‪ .‬وحين تلمس ون‬
‫الحجر األسود أعقدوا البيعة مع هللا أن تكونوا أع داء ألع داء هللا ورس وله والص الحين‬
‫واألحرار‪ ،‬ومطيعين وعبيداً له‪ ،‬أينما كنتم وكيفم ا كنتم‪ .‬ال تحن وا رؤوس كم‪ ،‬واط ردوا‬
‫الخوف من قل وبكم‪ ،‬واعلم وا أن أع داء هللا وعلى رأس هم الش يطان األك بر جبن اء وإن‬

‫‪ )( 1‬من خطاب ألقي اإلمام الخامئي في بداية العام الدراسي في الحوزة العلمية في ‪ 9‬ربيع الثاني ‪1416‬هـ‪..‬‬
‫‪ )(2‬خطاب بمناسبة بدء العام الدراسي في الحوزة العلمية في ‪ 12‬ربيع األول ‪1412‬هـ‪..‬‬
‫‪ )(3‬أبعاد الحج في كالم اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪152‬‬
‫كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم‪ .‬أثناء سعيكم بين الص فا والم روة‬
‫اسعوا سعي من يريد الوصول إلى المحبوب‪ ،‬حتى إذا ما وج دتموه ه انت ك ل األم ور‬
‫الدنيوية‪ ،‬وتنتهي كل الشكوك والترددات‪ ،‬وتزول ك ل المخ اوف والحبائ ل الش يطانية‪،‬‬
‫وتزول ك ل االرتباط ات القلبي ة المادي ة‪ ،‬وتزده ر الحري ة‪ ،‬وتنكس ر القي ود الش يطانية‬
‫والطاغوتية التي أسرت عباد هللا‪ .‬سيروا إلى المش عر الح رام وعرف ات وأنتم في حال ة‬
‫إحس اس وعرف ان‪ ،‬وكون وا في أي موق ف مطمئ ني القلب لوع د هللا الح ق بإقام ة حكم‬
‫المستضعفين‪ .‬وبسكون وهدوء ف ّك روا بآي ات هللا الح ق‪ ،‬وفك روا بتخليص المح رومين‬
‫والمستضعفين من براثن االستكبار العالمي‪ ،‬واطلبوا من الحق تعالى في تل ك المواق ف‬
‫الكريمة تحقيق سُبل النجاة‪ ،‬بعد ذلك عندما تذهبون إلى م نى واطلب وا هن اك أن تتحق ق‬
‫اآلمال الحقّة حيث التض حية هن اك ب أثمن وأحب ش يء في طري ق المحب وب المطل ق‪،‬‬
‫واعلموا أنه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات والتي أعاله ا حب النفس وحب ال دنيا الت ابع‬
‫له ا‪ ،‬فس وف لن تص لوا إلى المحب وب المطل ق‪ .‬وفي ه ذه الح ال ارجم وا الش يطان‪،‬‬
‫واط ردوا الش يطان من أنفس كم وك رروا رجم الش يطان في مواق ع مختلف ة بن اء على‬
‫األوامر اإللهية‪ ،‬لدفع شر الشياطين وأبنائهم عنكم) (‪)1‬‬
‫وهكذا راح يذكر بالوحدة اإلسالمية في الحج‪ ،‬والتي تتع الى على ك ل الخالف ات‬
‫الفرعي ة‪ ،‬يق ول مخاطب ا الحجيج‪( :‬ينبغي على جمي ع اإلخ وة واألخ وات المس لمين‬
‫والمسلمات االنتباه إلى أن إحدى مهمات فلسفة الحج إيجاد التفاهم وتوثيق عرى األخوة‬
‫بين المسلمين‪ ،‬وينبغي على المفك رين والمعممين ط رح مس ائلهم األساس ية‪ ،‬السياس ية‬
‫واالجتماعي ة م ع اآلخ رين من إخ وانهم‪ ،‬وتق ديم االقتراح ات من أج ل رفعه ا وحله ا‬
‫ووضعها بتصرّف وتحت نظر العلماء وأصحاب الرأي عند عودتهم إلى بالدهم‪ ،‬يجب‬
‫أن نعلم أن إحدى الفلسفات االجتماعية لهذا التج ّمع العظيم من جميع أنحاء العالم توثيق‬
‫عرى الوحدة بين أتباع نبي اإلسالم‪ ،‬أتب اع الق رآن الك ريم في مقاب ل ط واغيت الع الم‪،‬‬
‫وإذا ال سمح هللا أوجد بعض الحجّاج من خالل أعم الهم خلالً في ه ذه الوح دة أ ّدت إلى‬
‫التفرقة‪ ،‬فذلك سيوجب سخط رسول هللا ‪ ‬وعذاب هللا القادر الجبار)(‪)2‬‬
‫وهو ـ خالفا لتلك الطروحات المغرضة التي تصف اإليرانيين بالتع الي ـ ي دعو‬
‫حجاج شعبه إلى أن يخالطوا جميع حجاج الشعوب المسلمة‪ ،‬ويتعارفوا عليهم‪ ،‬ويطبقوا‬
‫معهم جمي ع آداب األخ وة اإليماني ة ال تي تتع الى على األع راق واألول وان واللغ ات‬
‫والمذاهب‪ ،‬فيقول‪( :‬الحجّاج المحترمون الموجودون في جوار بيت هللا ومحل رحمت ه‪،‬‬
‫تعاطوا برفق ومروءة وأخوة إسالمية م ع جمي ع عب اد هللا‪ ،‬واعت بروا الجمي ع ـ ودون‬
‫النظر إلى اللون واللسان والمنطقة والمحيط ـ منكم‪ ،‬وكون وا جميع ا ً ي داً قرآني ة واح دة‬
‫حتى تسيطروا على أعداء اإلسالم واإلنسانية) (‪)3‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.18‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬

‫‪153‬‬
‫ويقول‪( :‬إن الحج ه و أفض ل مك ان لتع ارف الش عوب اإلس المية حيث يتع رّف‬
‫المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في دين اإلسالم من جميع أنح اء الع الم‪ ،‬ويجتمع ون‬
‫في ذلك البيت المتعلّق بجميع المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وباتباع دين إبراهيم الحنيف وبع د‬
‫أن يضعوا جانبا ً المفردات واأللوان والعرقي ة والقومي ة‪ ،‬يرجع ون إلى أرض هم وبيتهم‬
‫األول‪ ،‬وم ع مراع اة األخالق الكريم ة اإلس المية واجتن اب الج دال والتجمالت يتجلى‬
‫ويتمظهر صفاء األخوة اإلسالمية وأبعاد تنظيم األمة المحمدية في جميع أنح اء الع الم)‬
‫(‪)1‬‬
‫بل إن ه ي دعو الحج اج الش يعة الل تزام جمي ع المناس ك مثلم ا يفع ل إخ وانهم من‬
‫المدرس ة الس نية‪ ،‬وي دعوهم إلى الص الة خلفهم‪ ،‬وع دم االنف راد بالص الة‪ ،‬أو إقام ة‬
‫جماعات بديلة‪ ،‬ويعتبر كل التصرفات ال تي تس يء إلى الوح دة اإلس المية من الجه ل‪،‬‬
‫فيق ول‪( :‬طوف وا ح ول الكعب ة ب الطواف المتع ارف على النح و ال ذي يق وم ب ه جمي ع‬
‫الحجّاج‪ .‬واحترزوا من األعمال التي يفعلها األشخاص الجاهلون‪ ،‬واح ترزوا ب المطلق‬
‫من األعمال التي زكون موجبة لوهن المذهب وفي الوقوفين فإن أتباع حكم قضاة أه ل‬
‫السنّة الزم ومبرئ ما لم يُقطع بالخالف‪ ،‬ويجب على األخ وة اإليران يين وش يعة س ائر‬
‫الدول االحتراز من األعمال الجاهل ة ال تي ت ؤدي لتفرق ة المس لمين‪ ،‬وينبغي الحض ور‬
‫بين جماعات أهل السنّة‪ .‬واجتناب الصالة جماع ة في المن ازل‪ ،‬واالح تراز من وض ع‬
‫م ّكبرات الصوت خالف المتعارف‪ ،‬واجتناب االرتماء على القبور المطهرة واألعم ال‬
‫التي تكون أحيانا ً مخالفة للشرع الحنيف) (‪)2‬‬
‫وهكذا نجد الخامنئي يردد نفس المعاني حيث يتحدث عن دور الش عائر التعبدي ة‬
‫(إن الحي اة مدرس ة‬‫في تحقي ق القيم اإلس المية في واق ع الحي اة‪ ،‬ويق دم ل ذلك بقول ه‪ّ :‬‬
‫ومختبر الب ّد أن نطبق فيها جميع القوانين والنظريات التي أوجدها خالق العالم والحياة ‪،‬‬
‫ليمكن الوصول إلى نتيجة عالية ومرض ية‪ .‬ه ذه الق وانين ال تي هي س نن هللا في خلقه‪،‬‬
‫يجب معرفته ا وص ياغة حياتن ا وفق ا ً لها‪ ،‬والب د أيض ا ً من معرف ة النفس واستكش اف‬
‫ذخائره ا واحتياجاتها‪ .‬تل ك هي مس ؤولية اإلنس ان وواجب ه العظيم ال ذي بمج رد أدائ ه‬
‫يكون اإلنسان قادراً على التحرك ال واعي الن اجح‪ ،‬ول واله ال يمكن التح رك‪ ،‬أو يك ون‬
‫عن غير وعي‪ ،‬فال يحالفه التوفيق)(‪)3‬‬
‫وانطالق ا من ذل ك ي بين دور الش عائر التعبدي ة في تحقي ق ه ذا اله دف‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(والدين عبر تحديده لله دف واالتج اه والطري ق والوس يلة يمنح اإلنس ان أيض ا ً الق درة‬
‫وإن أهم متاع يحمله سالكو هذا الطريق هو ذكر هللا ‪،‬‬‫والزاد الضروري لقطع الطريق‪ّ ،‬‬
‫وإن روح الطلب والرجاء واالطمئنان ـ وهي أجنحة هذا التحليق ـ إنّم ا تتف رع وتتول د‬ ‫ّ‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.27‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.33‬‬
‫‪ )(3‬من أعماق الصالة‪ ،‬السيد علي الخامنئي‪ ،‬ص‪.9‬‬

‫‪154‬‬
‫هللا)(‪)1‬‬‫من ذكر‬
‫ويبين اآللية التي يقوم بها ذكر هللا في تحقيق االنصياع الت ام لش ريعته بص يغتها‬
‫(إن ذكر هللا يجعل الهدف‪ ،‬وهو االتصال به تعالى‪ ،‬أي منتهى الكمال‬ ‫الشمولية‪ ،‬فيقول‪ّ :‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والحسن‪ ،‬نصب العين دوما ‪ ،‬ويحول دون الضياع‪ ،‬ويجعل السائر حاسا وحذرا بالنسبة‬
‫إلى الطريقة والوسيلة‪ ،‬ويمنحه قوّة القلب واالطمئنان والنش اط‪ ،‬ويحفظ ه من االن زالق‬
‫واالنخداع بالمظاهر الخالبة‪ ،‬أو الخوف من المنغصات) (‪)2‬‬
‫وبذلك‪ ،‬فإن تلك الشعائر ـ بحس ب م ا ينص علي ه الخ امنئي ـ تجع ل (المجتم ع‬
‫اإلسالمي وكل مجموعة أو فرد مسلم‪ ،‬يخطو في الطريق الذي حدده اإلسالم ودعا إليه‬
‫جميع األنبياء‪ ،‬باستقامة ودون توقف أو تراج ع إذا لم ينس هللا‪ ،‬ومن هن ا يس عى ال دين‬
‫جاهداً وبمختلف الطرق والوسائل إلحياء ذكر هللا في قلوب المتدينين بشكل دائم) (‪)3‬‬
‫وهو يعتبر االهتمام بالصالة اهتمام ا بالش ريعة جميع ا‪ ،‬فالص الة ـ كم ا ي ذكر ـ‬
‫(جرس منبّه‪ ،‬ومنذر في مختلف س اعات اللّي ل والنه ار‪ ،‬إنه ا ت زود اإلنس ان ببرن امج‬
‫وتريد منه عهداً‪ ،‬وتعطي لليله ونهاره معنى وتش عره بقيم ة ال زمن‪ .‬إنّه ا ت دعوه خالل‬
‫الزمان الذي يكون فيه منشغالً غير ملتفت إلى مضي ال زمن وانقض اء العم ر وترش ده‬
‫وأن عليه أن يج ّد ويتحمل مسؤولية أك بر وأن يفع ل م ا‬ ‫إلى انقضاء يوم وشروع آخر‪ّ ،‬‬
‫هو أهم؛ لقد انقضى جزء من العمر بال استثمار فيجب أن يكون أكثر سعيا ً وعط ا ًء‪ ،‬إذ‬
‫ّ‬
‫ان الهدف عظيم‪ ،‬فلنسع لنيله قبل فوات األوان) (‪)4‬‬
‫وهو يشبه الصالة بالسالم الوطني للدول‪( ،‬مع فارق في المع نى ون وع العط اء‪،‬‬
‫ألجل أن ترسّخ الدول ة أص ولها ومتبنياته ا الفكري ة في ذهن الش عب‪ ،‬وبنائ ه على ه ذا‬
‫النم ط الفك ري‪ ،‬تعم د إلى تك رار ق راءة الس الم الوط ني ال ذي يمث ل خالص ة الش كل‬
‫المقبول لنمط الحياة وأهدافها لدى الدولة‪ ،‬فتكرار الس الم الوط ني س بب لتث بيت الن اس‬
‫على ه ذا النح و من الفكر‪ ،‬وتلقينهم أنهم أتب اع ه ذا ال وطن‪ ،‬والس ائرون باتج اه تل ك‬
‫إن نسيان أصول وأهداف الدولة‪ ،‬يعني تغيير المس ار وع دم انتهاجه‪ .‬ه ذا‬ ‫األهداف؛ إذ ّ‬
‫التك رار يجعلهم مس تعدين للخدم ة في ه ذه الجبهة‪ ،‬ويعلمهم المخطط ات والط رق‪،‬‬
‫ويرش دهم إلى المس ؤوليات والواجب ات ويح يي في أذه انهم أس س الدولة‪ ،‬ويعيّن لهم‬
‫الوظيفة‪ ،‬ويزودهم ـ حينئذ ـ بالشجاعة والجرأة واإلقدام‪ ،‬ويهيّئهم للعمل) (‪)5‬‬
‫ولهذا نرى االهتمام الكبير الذي توليه الجمهورية اإلسالمية اإليراني ة للمس اجد‪،‬‬
‫ليس باعتبارها محال ألداء الشعائر التعبدية فقط‪ ،‬وإنم ا باعتباره ا وس ائل لبث ال وعي‬
‫الديني ومواجهة كل أنواع العداء ال تي تش ن عليه ا وعلى اإلس الم‪ ،‬كم ا ق ال الخمي ني‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.9‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.12‬‬

‫‪155‬‬
‫معبرا عن ذلك‪( :‬أحيوا الثورة من خالل المساجد‪ ،‬التي تعتبر حصون اإلسالم المنيعة)‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال شارحا لعبارته تلك‪( :‬اسعوا في إعادة المساجد إلى ما كانت عليه في صدر‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولتنتبهوا إلى أنه ليس في اإلسالم عزلة أو اعتزال)(‪)2‬‬
‫ويوضح في كلمة أخرى ما هو المقصود بالضبط من إعادة المسجد إلى م ا ك ان‬
‫عليه في صدر اإلسالم‪ ،‬فيق ول‪( :‬ك ان المس جد في اإلس الم وفي ص در اإلس الم دوم ا‬
‫مركزا للتحرك اإلسالمي‪ ،‬وكان اإلعالم اإلسالمي يبدأ من المسجد‪ ،‬وتنطل ق الجي وش‬
‫وقوى المسلمين منه لدحر الكفار المعتدين وإدخ الهم تحت ل واء اإلس الم‪ ،‬فالمس جد في‬
‫صدر اإلسالم كان مركزا للتحرك واالنطالق دوما)(‪)3‬‬
‫ويقول‪( :‬ك ان المس جد الح رام والمس اجد في زمن الرس ول األك رم ‪ ‬مرك زا‬
‫للحروب‪ ،‬ومركزا للقضايا االجتماعية والسياسية‪ ،‬فلم يقتصر دور مس جد الرس ول ‪‬‬
‫على المسائل العبادية كالص الة والص وم‪ ،‬ب ل ك انت المس ائل السياس ية أك ثر من ذل ك‬
‫وكان يبدأ من المسجد متى ما أراد تعبئة الناس وإرسال الجيوش)(‪)4‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن تصريحات قادة الث ورة اإلس المية اإليراني ة‪ ،‬وال تي ت بين‬
‫مدى سعيهم لتطبيق الشريعة اإلسالمية في جميع مج االت الحي اة‪ ،‬وهي نفس م ا تتبن اه‬
‫الحركة اإلس المية في المدرس ة الس نية‪ ،‬وال تي ت رى ش مولية اإلس الم لجمي ع من احي‬
‫الحياة‪ ،‬كما نص على ذلك الشيخ حسن البنا في األصل األول من ركن الفهم من رسالة‬
‫التعاليم بقوله‪( :‬اإلسالم نظام شامل‪ ،‬يتناول مظاهر الحياة جميعا‪ .‬فه و‪ :‬دول ة ووطن أو‬
‫حكومة وأمة‪ ،‬وهو خلق وقوة أو رحم ة وعدال ة‪ ،‬وه و ثقاف ة وق انون أو علم وقض اء‪،‬‬
‫وهو مادة وثروة أو كسب وغنى‪ ،‬وهو جه اد ودع وة أو جيش وفك رة‪ ،‬كم ا ه و عقي دة‬
‫صادقة وعبادة صحيحة‪ ،‬سواء بسواء)(‪)5‬‬
‫لكن الفرق بينهما هو أن ما تذكره الحركات اإلسالمية مجرد أدبي ات وش عارات‬
‫وطروحات نظرية‪ ،‬لكنه ا تح ولت عن د اإليران يين إلى واق ع ملم وس‪ ،‬يتق دم ك ل حين‬
‫ليحق ق اإلس الم في الواق ع‪ ،‬ويقض ي على المق والت ال تي يردده ا العلم انيون بع دم‬
‫صالحية اإلسالم للتطبيق في مجاالت الحياة عدا مجال الشعائر التعبدية‪.‬‬
‫وكان األحرى بأبناء الحرك ات اإلس المية االس تفادة من ه ذه التجرب ة الواقعي ة‪،‬‬
‫ومحاولة تصحيحها لتنسجم مع رؤاهم ومدرستهم‪ ،‬لكنهم لألسف راحوا يشنون الحرب‬
‫عليها‪ ،‬ولست أدري لم‪ ..‬أرجو أال يكون ذلك فق ط حس دا لك ون ق ادة الث ورة اإلس المية‬
‫نجحوا في تحقيق ما عجز عنه كل قادة الحركات اإلسالمية‪ ،‬وع بر ت اريخهم الح ركي‬

‫‪ )(1‬الكلمات القصار‪ ،‬ص‪..65‬‬


‫‪ )(2‬الكلمات القصار ص‪..64‬‬
‫‪ )(3‬منهجية الثورة‪ ،‬ص‪.478‬‬
‫‪ )(4‬منهجية الثورة‪ ،‬ص‪.478‬‬
‫‪ )(5‬نقال عن ‪ :‬في التدريب التربوي‪ ،‬مصطفى محمد الطحان ‪ ،‬ص‪.25 -‬‬

‫‪156‬‬
‫الطويل‪.‬‬
‫ثانيا ـ خدمة اإليرانيين للشريعة اإلسالمية‪:‬‬
‫ال يمكن ألي مؤرخ للتش ريع اإلس المي أن يهم ل األداور الكب يرة ال تي ق ام به ا‬
‫كب ار الفقه اء واألص وليين من اإليران يين‪ ،‬ومن ذ العص ور األولى لإلس الم‪ ،‬ذل ك أن‬
‫المذاهب الفقهية جميعا تدين بالكثير من مصادرها وتراثها في هذه الناحية لجميع المدن‬
‫اإليرانية‪ ،‬وخصوصا المدن الكبرى التي كانت مراكز للحضارة اإلسالمية‪.‬‬
‫وسنحاول هنا أن نذكر نم اذج من الفقه اء واألص وليين في الم دارس اإلس المية‬
‫الكبرى تدل على ذلك‪ ،‬مقتصرين على ترجماتهم المختصرة‪ ،‬ولمن ش اء أن يبحث عن‬
‫المزيد عنهم‪ ،‬يمكنه أن يراجع الهوامش التي وضعنا فيها مصادر ترجمتهم‪ ،‬ليت بين ل ه‬
‫من خاللها األيادي البيضاء له ذا الش عب الك ريم في خدم ة اإلس الم والمس لمين ط وال‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ إيران ‪ ..‬والمدرسة الشافعية‪:‬‬
‫يمكننا الجزم بأن أكبر المصادر الفقهية واألص ولية في المدرس ة الش افعية ألفت‬
‫في إيران‪ ،‬وبأياد إيراني ة‪ ،‬وللدالل ة على ذل ك ن ذكر نم اذج مختص رة ج دا عن أس ماء‬
‫بعض هؤالء اإليرانيين مع أس ماء بعض كتبهم في ه ذا المج ال‪ ،‬ولمن ش اء التفص يل‪،‬‬
‫يمكن ه أن يبحث عن ت أثير تل ك المص ادر في الكتب المؤلف ة في ت اريخ التش ريع‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫فمنهم أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي(‪ 458 - 384( )1‬هـ)‪ ،‬وه و من كب ار‬
‫فقهاء الشافعية ومحدثيهم‪ ،‬وهو كما ذكر في ترجمته‪( :‬حافظ كب ير‪ ،‬وأص ولي نحري ر‪،‬‬
‫ومكثر من التصنيف‪ ،‬غلب عليه الحديث واشتهر به ورحل في طلب ه‪ ،‬وك ان من أك ثر‬
‫الناس نصرا لمذهب الشافعي)‬
‫وقد قال إمام الحرمين في حقه‪( :‬ما من شافعي المذهب إال وللش افعي علي ه من ة‬
‫إال أحمد البيهقي‪ ،‬فإن له على الشافعي منة)‪ ،‬وسبب ذلك كونه أول من جم ع نص وص‬
‫اإلمام الشافعي‪ ،‬في عشر مجلدات‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬السنن الكبير)‪ ،‬و(الس نن الص غير)‪،‬‬
‫و(كتاب الخالف)‪ ،‬و(مناقب الشافعي)‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫ومنهم أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني(‪ 502 - 415( )2‬هـ)‪،‬‬
‫وه و فقي ه ش افعي‪ ،‬درس بنيس ابور ومياف ارقين وبخ ارى‪ ،‬ويعت بر أح د أئم ة م ذهب‬
‫الشافعي‪ ،‬اشتهر بحفظ المذهب حتى يحكى عن ه أن ه ق ال‪( :‬ل و اح ترقت كتب الش افعي‬
‫ألمليته ا من حفظي) ؛ وقي ل في ه‪( :‬ش افعي عص ره)‪ ،‬ولي قض اء طبرس تان وروي ان‬
‫وقراها‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬البح ر) وه و من أوس ع كتب الم ذهب الش افعي؛ و(الف روق) ؛‬
‫(الحلية) ؛ و(حقيقة القولين)‬

‫‪ )(1‬وهو منتسب إلى بيهق وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور‪ ،‬انظر في ترجمته‪ :‬طبقات الشافعية ‪ ،3 / 3‬وفيات‬
‫األعيان ‪ ،75 / 1‬وشذرات الذهب ‪ ،304 / 3‬واللباب ‪ ،202 / 1‬واألعالم للزركلي ‪.131 / 1‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية للسبكي ‪ ،264 / 4‬واألعالم للزركلي ‪324 / 4‬؛ وسير النبالء‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ومنهم القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد هللا الطبري(‪450 - 348( )3‬هـ)‪ ،‬وهو‬
‫فقي ه‪ ،‬أص ولي ج دلي‪ ،‬من أعي ان الش افعية‪ ،‬ول د في آم ل‪ ،‬وهي مدين ة في محافظ ة‬
‫مازندران في إيران‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬شرح مختصر المزني)‪ ،‬في فروع الفقه الشافعي‪،‬‬
‫و(شرح ابن الحداد المصري) وكتاب في (طبقات الشافعية)‪ ،‬و(المجرد)‬
‫ومنهم فخر الدين الــرازي (‪ 606 - 544( )2‬هـ) ال ذي س بق ذك ره في علم اء‬
‫العقي دة اإلس المية‪ ،‬ومن مؤلفات ه في الش ريعة اإلس المية‪( :‬مع الم األص ول) ؛‬
‫و(المحصول) في أصول الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي الشــافعي(‪ 447 - 360( )3‬هـ)‪ ،‬وه و‬
‫فقيه‪ ،‬مقرئ‪ ،‬محدث‪ ،‬قال ابن عساكر‪ :‬وكان فقيها مش ارا إلي ه ص نف الكث ير في الفق ه‬
‫وغيره‪ ،‬ودرس‪ ،‬وهو أول من نشر ه ذا العلم بص ور‪ ،‬وانتف ع ب ه جماع ة‪ ،‬منهم الفقي ه‬
‫نصر حدث عن‪ :‬محمد بن عبد الملك الجعفي ومحمد بن جعفر التميمي والحاف ظ أحم د‬
‫بن محمد بن البصير الرازي وأبي حامد اإلسفراييني وتفقه به وغيرهم‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪:‬‬
‫(البسملة)‪ ،‬و(غسل الرجلين)‪ ،‬وله تفسير كبير شهير وغير ذلك‪.‬‬
‫ومنهم أبو المظفر منصور بن محمد المعروف بابن السمعاني(‪489 - 426( )4‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو من أهل مرو‪ ،‬وكان فقيها أصوليا مفس را مح دثا متكلم ا‪ ،‬تفق ه على أبي ه في‬
‫مذهب أبي حنيفة النعماني حتى برع‪ ،‬ثم ورد بغداد ومنه ا إلى الحج از‪ ،‬ولم ا ع اد إلى‬
‫خرسان دخ ل م رو وألقى عص ا الس فر‪ ،‬رج ع عن م ذهب أبي حنيف ة وقل د الش افعي‪،‬‬
‫وتسبب ذلك في قيام الع وام علي ه‪ ،‬فخ رج إلى ط وس ثم قص د نيس ابور‪ ،‬ومن مؤلفات ه‬
‫(القواطع في أصول الفقه)‪ ،‬و(البرهان) في الخالف وه و يش تمل على ق ريب من أل ف‬
‫مسألة خالفية؛ و(تفسير القرآن)‬
‫ومنهم محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري(‪ 319 - 242( )5‬هـ)‪ ،‬وهو من‬
‫كب ار الفقه اء المجته دين‪ ،‬لم يكن يقل د أح دا؛ لكن ع ده الش يرازي في الش افعية‪ ،‬ولقب‬
‫بشيخ الحرم‪ ،‬وأكثر تص انيفه في بي ان اختالف العلم اء‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬المبس وط) في‬
‫الفقه؛ و(األوسط في السنن) ؛ و(اإلجماع واالختالف) ؛ و(اإلشراف على مذاهب أه ل‬
‫العلم) و(اختالف العلماء)‪.‬‬
‫ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد األسفراييني(‪ 418 -( )6‬هـ)‪ ،‬وهو منسوب‬
‫إلى (إسفرايين) وهي بلدة بنواحي نيسابور‪ ،‬وهو فقيه وأص ولي ش افعي‪ ،‬قي ل إن ه بل غ‬
‫رتب ة االجته اد وك ان ش يخ أه ل خراس ان في زمان ه‪ ،‬أق ام ب العراق م دة ثم رح ل إلى‬
‫‪ )(3‬طبقات الشافعية ‪ ،176 / 3‬وتهذيب األسماء واللغات ‪ ،247 / 2‬واألعالم ‪ ،321 / 3‬ومعجم المؤلفين ‪.37 / 5‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية الكبرى ‪33 / 5‬؛ والفتح المبين في طبقات األصوليين ‪47 / 2‬؛ واألعالم للزركلي ‪.203 / 7‬‬
‫‪ )(3‬سير أعالم النبالء ‪ ،645 / 17‬تهذيب األسماء واللغات ‪ ،231 / 1‬وطبقات السبكي ‪.388 / 4‬‬
‫‪ )(4‬طبقات الشافعية البن السبكي ‪21 / 4‬؛ والنجوم الزاهرة ‪160 / 5‬؛ ومعجم المؤلفين ‪.20 / 13‬‬
‫‪ )(5‬تذكرة الحفاظ ‪5 ،4 / 3‬؛ واألعالم للزركلي ‪84 / 6‬؛ وطبقات الشافعية ‪.126 / 2‬‬
‫‪ )(6‬طبقات الفقهاء للشيرازي ص‪ ،106‬وطبقات الشافعية البن هداية ص‪ ،45‬وشذرات الذهب ‪ ،209 / 3‬واللب اب‬
‫‪.43 / 1‬‬

‫‪158‬‬
‫أس فرايين فب ني ل ه به ا مدرس ة‪ ،‬فلزمه ا ودرس فيه ا‪ ،‬وب ه تفق ه القاض ي أب و الطيب‬
‫الطبري‪ ،‬وعنه أخذ الكالم واألصول عامة شيوخ نيسابور‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬الج امع في‬
‫أصول الدين) خمس مجلدات وتعليقته في أصول الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمــد اإلســفرائيني(‪ 406 - 344( )1‬هـ)‪،‬‬
‫وقد كان إمام الش افعية في زمان ه‪ ،‬وانتهت إلي ه رئاس ة الم ذهب‪ ،‬ومن مؤلفات ه (ش رح‬
‫المزني) في تعليقة نحو من خمسين مجلدا‪ ،‬وله تعليقة في أصول الفقه‪.‬‬
‫ومنهم عبد هللا بن يوسف بن محمد بن حيويه‪ ،‬الجويني(‪ 438 -( )2‬هـ)‪ ،‬وه و‬
‫منسوب إلى (جوين) بنواحي نيسابور‪ ،‬وهو من كبار فقه اء الش افعية‪ ،‬أخ ذ عن القف ال‬
‫المروزي وأبي الطيب الص علوكي‪ ،‬ق ال عن ه الص ابوني‪( :‬ل و ك ان من ب ني إس رائيل‬
‫لنقل وا إلين ا ش مائله‪ ،‬والفتخ روا ب ه)‪ ،‬وه و وال د عب د المل ك الجوي ني الملقب بإم ام‬
‫الحرمين‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬الفروق) ؛ و(السلسلة) ؛ و(التبصرة) ؛ و(التفسير)‬
‫ومنهم أبو المعالي عبد الملك بن عبد هللا بن يوسف الجويني‪ ،‬إمام الحرمين(‪)3‬‬
‫(‪ 478 - 419‬هـ)‪ ،‬وهو كما ذكر في ترجمت ه‪( :‬من أعلم أص حاب الش افعي‪ ،‬مجتم ع‬
‫على إمامته وغزارته‪ ،‬تفقه على والده‪ ،‬وأتى على جميع مصنفاته وتصرف فيه ا ح تى‬
‫زاد عليه في التحقيق والتدقيق‪ .‬جاور بمكة أربع سنين وبالمدينة يدرس ويف تي ويجم ع‬
‫طرق المذهب‪ ،‬فلهذا قيل له إمام الح رمين‪ .‬وت ولى الخطاب ة بمدرس ة النظامي ة بمدين ة‬
‫نيسابور‪ ،‬وفوض إليه األوقاف وبقى على ذلك ثالثين س نه)‪ ،‬ل ه مؤلف ات كث يرة منه ا‪:‬‬
‫(نهاية المطلب في دراية المذهب) في فقه الشافعية‪ ،‬و(الشامل) و(اإلرشاد ) في أصول‬
‫الدين‪ ،‬و(البرهان) في أصول الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو الحسن علي بن أحمــد الواحــدي النيســابوري(‪ 468 -( )4‬هـ)‪ ،‬وه و‬
‫فقيه شافعي‪ ،‬واحد عصره في التفسير‪ ،‬وكان إماما عالما بارع ا مح دثا‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪:‬‬
‫(البسيط) ؛ و(الوسيط) ؛ و(الوجيز) كلها في التفسير؛ و(أسباب النزول)‬
‫ومنهم أبو الفتح ناصر بن سلمان النيسابوري(‪ 552 - 489( )5‬هـ)‪ ،‬وهو من‬
‫علماء الشافعية‪ .‬كان محدثا إماما مناظرا بارعا في الكالم‪ ،‬حاز قصب الس بق في ه على‬
‫أقرانه‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬كتاب في علم الكالم)‬
‫ومنهم محمد بن عبد هللا بن حمدويه‪ ،‬الشهير بالحاكم‪ ،‬يعرف بابن البيع(‪3( :)6‬‬
‫‪ ،)405 - 21‬وهو من حفاظ الحديث والمصنفين فيه‪ .‬من أهل نيسابور‪ .‬سمع بنيسابور‬
‫وحدها من نحو ألف شيخ‪ ،‬وبغيرها من نح و أل ف‪ ،‬ك ان يرج ع إلي ه في عل ل الح ديث‬

‫‪ )(1‬طبقات الفقهاء للشيرازي ص‪103‬؛ وطبقات الشافعية البن هداية ص ‪42‬؛ وشذرات الذهب ‪.178 / 3‬‬
‫‪ )(2‬طبقات السبكي ‪208 / 3‬؛ ‪209‬؛ واألعالم للزركلي ‪.290 / 4‬‬
‫‪ )(3‬وفيات األعيان ‪ ،341 / 3‬وطبقات الشافعية ‪ ،249 / 3‬واألعالم ‪.306 / 4‬‬
‫‪ )(4‬طبقات الشافعية البن السبكي ‪289 / 3‬؛ والنجوم الزاهرة ‪104 / 5‬؛ ومعجم المؤلفين ‪.26 / 7‬‬
‫‪ )(5‬طبقات الشافعية ‪ ،317 / 4‬واألعالم للزركلي ‪ ،311 / 8‬ومعجم المؤلفين ‪ ،70 / 13‬وهدية العارفين ‪.488 / 6‬‬
‫‪ )(6‬طبقات الشافعية للسبكي ‪64 / 3‬؛ وميزان االعتدال ‪85 / 3‬؛ وتاريخ بغداد ‪.473 / 5‬‬

‫‪159‬‬
‫وص حيحه وس قيمه‪ .‬وحف ظ نح و ‪ 300‬أل ف ح ديث‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬المس تدرك على‬
‫الصحيحين)؛ و(تاريخ نيسابور)؛ و(معرفة علوم الحديث)‬
‫ومنهم أبو سعد عبد الرحمن بن مأمون بن علي النيسابوري (‪478 - 426( )1‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو ـ كما ذكر في ترجمته ـ أحد األئم ة الرفع اء من فقه اء الش افعية‪ ،‬ك ان فقيه ا‬
‫محققا وحبرا مدققا‪ ،‬برع في الفقه واألص ول والخالف‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬تتم ة (اإلبان ة)‬
‫للفوراني)‪ ،‬وكتاب في الفرائض مختصر‪ ،‬وكتاب في أصول الدين مختصر‪.‬‬
‫ومنهم أحمد بن محمد‪ ،‬أبو سهل‪ ،‬الزوزني (‪ ، )2‬ويعرف بابن عفريس(‪( )3‬؟ ‪-‬‬
‫‪ 362‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه من فقهاء الش افعية‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬جم ع الجوام ع) اختص ره من‬
‫كتب الشافعي‪ ،‬وذكر السبكي في الطبق ات أن ه جم ع في ه ذا الكت اب الق ديم والمبس وط‬
‫واألمالي ورواية المزني في الجامع الكبير والمختصر‪.‬‬
‫ومنهم أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي‪ ،‬الجرجاني االستراباذي(‪242( )4‬‬
‫‪ 323 -‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه محدث‪ ،‬حافظ‪ ،‬أصولي‪ ،‬قال عنه أبو الوليد حسان بن محمد‪( :‬لم‬
‫يكن في عصرنا أحف ظ للفقهي ات‪ ،‬وأقاوي ل الص حابة بخراس ان من ه)‪ ،‬وق ال أب و علي‬
‫النيسابوري‪( :‬ما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة مث ل أبي نعيم ك ان يحف ظ الموقوف ات‬
‫والمراسيل كلها كما نحفظ نحن المس انيد)‪ .‬ق ال حم زة الس همي‪( :‬ك ان مق دما في الفق ه‬
‫والحديث)‬
‫ومنهم أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن النيسابوري القشــيري الشــافعي(‪3( )5‬‬
‫‪ 465 - 76‬هـ)‪ ،‬وهو شيخ خراسان في عصره‪ .‬فقيه‪ ،‬أصولي‪ ،‬محدث‪ .‬حافظ‪ ،‬مفسر‪،‬‬
‫متكلم‪ ،‬أديب‪ ،‬ن اثر‪ ،‬ن اظم‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬التيس ير في التفس ير)‪ ،‬ويق ال ل ه (التفس ير‬
‫الكبير)‪ ،‬و(الرسالة القشيرية)‪ ،‬و(لطائف اإلشارات)‬
‫ومنهم أحمد بن الحسين بن سهل‪ ،‬أب و بك ر‪ ،‬الفارسي(‪( )6‬ت وفى في ح دود ‪350‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو فقيه شافعي‪ .‬تفقه على المزني وابن سريج‪ .‬تولى قضاء بالد فارس وأقام مدة‬
‫ببخ ارى‪ ،‬ثم بنيس ابور‪ .‬ومن مؤلفات ه‪( :‬عي ون المس ائل في نص وص الش افعي)‪،‬‬
‫و(الذخيرة في أصول الفقه)‪ " ،‬كتاب االنتقاد على المزني) ومنهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬طبقات الشافعية للسبكي ‪ ،223 / 3‬وطبقات الشافعية البن الهداية ص ‪62‬؛ شذرات الذهب ‪388 / 3‬؛ ومعجم‬
‫المؤلفين ‪ ،166 / 5‬واألعالم ‪.98 / 4‬‬
‫‪ )(2‬نسبته إلى زوزن (وهي بلدة كبيرة حسنة بين هراه ونيسابور)‬
‫‪ )(3‬طبقات الشافعية الكبرى ‪ ،227 / 2‬وطبقات الشافعية البن هداية ص ‪ ،28‬واألعالم ‪ ،201 / 1‬ومعجم المؤلفين‬
‫‪.103 / 2‬‬
‫‪ )(4‬البداية والنهاية ‪ ،183 / 11‬وتذكرة الحفاظ ‪ ،816 / 3‬وطبقات الشافعية ‪ ،335 / 3‬وشذرات الذهب ‪،299 / 2‬‬
‫األعالم‪ ،309 / 4 ،‬ومعجم المؤلفين ‪.191 / 6‬‬
‫‪ )(5‬طبقات السبكي ‪ ،243 / 3‬وتاريخ بغداد ‪ ،83 / 11‬واألعالم ‪ ،180 / 4‬ومعجم المؤلفين ‪.6 / 6‬‬
‫‪ )(6‬طبقات الش افعية الك برى ‪ ،287 - 286 / 1‬وطبق ات الش افعية البن هداي ة ص (‪ ،)23‬واألعالم ‪،111 / 1‬‬
‫ومعجم المؤلفين ‪.192 / 1‬‬

‫‪160‬‬
‫هو عبد هللا بن أحمد بن عبد هللا‪ ،‬أبو بكر‪ ،‬المعروف بالقفال المروزي(‪327( )1‬‬
‫‪ 417 -‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه شافعي‪ ،‬ش يخ الخراس انيين من الش افعية‪ ،‬ومن مؤلفات ه (ش رح‬
‫فروع ابن الحداد) في الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد السرخسي المروزي الشافعي(‪432( )2‬‬
‫‪494 -‬هـ)‪ ،‬قال فيه ابن السمعاني‪( :‬أحد أئمة اإلسالم‪ ،‬ومن يضرب به المثل في اآلفاق‬
‫بحفظ مذهب الشافعي)‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬كتاب األماني) في الفقه‪.‬‬
‫ومنهم محمد بن الحسن بن فورك األصفهاني(‪ 406 -( )3‬هـ)‪ ،‬وهو متكلم فقيه‪،‬‬
‫أصولي‪ ،‬ولغ وي‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬مش كل اآلث ار)‪( ،‬تفس ير الق رآن) ؛ و(النظ امي) في‬
‫أصول الدين‪.‬‬
‫ومنهم أبو إســحاق إبــراهيم بن أحمــد المــروزي(‪( )4‬؟ ‪ 340 -‬هـ) ‪ ،‬وه و فقي ه‬
‫ش افعي‪ ،‬انتهت إلي ه رئاس ة الش افعية ب العراق بع د ابن س ريج‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬ش رح‬
‫مختصر المزني)‬
‫ومنهم أبو إسحاق إبــراهيم بن أحمــد المــروزي(‪( )5‬ت وفي ‪340‬هـ)‪ ،‬وه و أح د‬
‫األئمة من فقهاء الشافعية‪ ،‬شرح الم ذهب ولخص ه‪ ،‬وأق ام ببغ داد ده را ط ويال ي درس‬
‫ويف تي‪ .‬وتخ رج ب ه أئم ة ك أبي زي د الم روزي‪ ،‬والقاض ي أبي أحم د أحم د بن بش ر‬
‫المروروذي مفتي البصرة‪.‬‬
‫ومنهم أبو علي الحسين بن شعيب بن محمد السنجي‪ ،‬الشافعي(‪( )6‬ت وفي ‪430‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو فقيه مرو في عصره‪ ،‬أخذ الفقه بخراسان عن أبي بكر القفال المروزي وأب و‬
‫محمد الجوي ني وغيرهم ا‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬ش رح التلخيص) ألبي العب اس بن الق اص‪،‬‬
‫وكتاب (المجموع)‪ ،‬و(شرح مختصر المزني)‪ ،‬و(شرح الفروع)‪ ،‬البن الح داد‪ .‬وكله ا‬
‫في فروع الفقه الشافعي‪ ،‬وجمع مسند الشافعي‪.‬‬
‫ومنهم أبــو زيــد محمــد بن أحمــد الفاشــاني الشــافعي(‪ 371 - 301( )7‬هـ)‪،‬‬
‫والفاشان نسبة إلى قرية من قرى مرو‪ ،‬حدث عن محم د بن يوس ف الفرب ري‪ ،‬وعم ر‬
‫بن علك المروزي‪ ،‬ومحمد بن عبد هللا الس عدي وغ يرهم‪ .‬وروى عن ه الهيثم بن أحم د‬
‫الصباغ‪ ،‬وعبد الوهاب الميداني‪ ،‬وأبو عبد هللا الحاكم وغيره‪ .‬وقال الخطيب‪( :‬كان أحد‬
‫أئمة المسلمين حافظا لمذهب الشافعي)‬

‫‪ )(1‬طبقات الشافعية البن الهداية ص ‪45‬؛ وهدية العارفين ‪45 / 1‬؛ ومعجم المؤلفين ‪26 / 6‬؛ واللباب ‪.127 / 3‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية ‪ ،221 / 3‬وشذرات الذهب ‪ ،400 / 3‬وتهذيب األسماء واللغات ‪ ،263 / 2‬ومعجم المؤلفين‬
‫‪.121 / 5‬‬
‫‪ )(3‬الطبقات الكبرى البن السبكي ‪21 / 4‬؛ والنجوم الزاهرة ‪240 / 4‬؛ ومعجم المؤلفين ‪.208 / 9‬‬
‫‪ )(4‬األعالم ‪22 / 1‬؛ وشذرات الذهب ‪255 / 2‬؛ والوفيات ‪.4 / 1‬‬
‫‪ )(5‬تاريخ بغداد ‪ ،11 / 6‬سير أعالم النبالء ‪.429 / 15‬‬
‫‪ )(6‬وفيات األعيان ‪ 401 / 1‬وطبقات الشافعية البن هداية ‪ ،48‬واألعالم ‪ ،258 / 2‬ومعجم المؤلفين ‪.11 / 4‬‬
‫‪ )(7‬شذرات الذهب ‪ ،76 / 3‬والنجوم الزاهرة ‪ ،141 / 4‬وطبقات الشافعية ‪.108 / 2‬‬

‫‪161‬‬
‫ومنهم أبــو حامــد محمــد بن محمــد الغــزالي(‪ 505 - 450( )8‬هـ)‪ ،‬وه و فقي ه‬
‫شافعي أصولي‪ ،‬باإلضافة إلى كونه متكلما‪ ،‬ومتصوفا‪ ،‬من مؤلفات ه الفقهي ة المش هورة‬
‫في المذهب الشافعي‪( :‬البسيط) ؛ و(الوسيط) ؛ و(الوج يز) ؛ و(الخالص ة)‪ ،‬ومن كتب ه‬
‫في أصول الفقه المستصفى من علم األصول‪ ،‬والمنخول من تعليقات األصول‪ ،‬وش فاء‬
‫الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أن كتاب الغزالي [المستصفى من علم األصول] أح د الكتب‬
‫األربعة التي على أساسها كتبت كل كتب أصول الفقه على طريق ة المتكلمين‪ ،‬وثانيهم ا‬
‫[البرهان] ألستاذه إمام الحرمين الجويني النيسابوري( م‪ 478 .‬هـ )‪ ،‬وق د ق ام بجمعه ا‬
‫وتلخيصها اإلمام فخر الدين الرازي ( م ‪ 606 .‬هـ ) في كتابه ( المحصول )‬
‫ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي(‪ 467 - 393( )2‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه‬
‫شافعي‪ ،‬كان مناظرا فص يحا ورع ا متواض عا‪ ،‬انتهت إلي ه رئاس ة الم ذهب الش افعي‪،‬‬
‫ب نيت ل ه النظامي ة ودرس به ا إلى حين وفات ه‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬المه ذب) في الفق ه‪،‬‬
‫و(النكت) في الخالف‪ ،‬و(التبصرة) في أصول الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو عبد هللا نصر بن علي الشيرازي الفارســي الفســوي المعــروف بــابن‬
‫أبي مريم (‪( )3‬توفي بعد ‪ 565‬هـ)‪ ،‬خطيب شيراز وعالمها وأديبها والمرجوع إلي ه في‬
‫األم ور الش رعية والمش كالت األدبي ة‪ ،‬أخ ذ عن ه محم ود بن حم زة الكرم اني‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفاته‪( :‬تفسير القرآن)؛ و(الموضح في القراءات الثمان)‬
‫ومنهم أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني‪ ،‬المروزي(‪461 - 388( )4‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو فقيه‪ ،‬أصولي‪ ،‬كان مقدم الشافعية بمرو‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬اإلبان ة) في م ذهب‬
‫الشافعية‪ ،‬و(تتمة اإلبانة) و(العمدة)‬
‫ومنهم أبــو بكــر أحمــد بن محمــد بن محمــد الشــيرازي الشــافعي الشــهير بــابن‬
‫الجزري(‪- 780( )5‬؟)‪ ،‬وهو مقرئ‪ ،‬مجود‪ ،‬حاف ظ‪ ،‬مش ارك في بعض العل وم‪ .‬وأج از‬
‫له الصالح ابن أبي عم ر والحاف ظ أب و بك ر ابن المحب وابن قاض ي ش هبه وغ يرهم‪،‬‬
‫ومن مؤلفاته‪( :‬شرح طيب ة النش ر)‪ ،‬و(ش رح مقدم ة التجوي د)‪ ،‬و(ش رح مقدم ة عل وم‬
‫الحديث)‬
‫ومنهم أب ــو س ــعيد عب ــد هللا بن عم ــر ناص ــر ال ــدين البيض ــاوي‪ ،‬الشـــيرازي‪،‬‬
‫الشافعي(‪( )6‬توفي ‪685‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه‪ ،‬مفسر‪ ،‬أص ولي‪ ،‬مح دث‪ ،‬ولي قض اء القض اة‬
‫بشيراز‪ ،‬أخذ الفقه عن والده ومعين الدين أبي سعيد وعن زين الدين حجة اإلس الم أبي‬

‫‪ )(8‬طبقات الشافعية ‪180 - 101 / 4‬؛ واألعالم للزركلي ‪247 / 7‬؛ والوافي بالوفيات ‪.277 / 1‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية الكبرى ‪ ،88 / 3‬وشذرات الذهب ‪ ،349 / 3‬واللباب ‪ ،451 / 2‬ومعجم المؤلفين ‪.68 / 1‬‬
‫‪ )(3‬معجم األدباء ‪224 / 19‬؛ وبغية الوعاة ‪314 / 2‬؛ وهدية العارفين ‪491 / 6‬؛ ومعجم المؤلفين ‪.90 / 13‬‬
‫‪ )(4‬لسان الميزان ‪ ،433 / 3‬وطبقات السبكي ‪ ،225 / 3‬واألعالم ‪.102 / 4‬‬
‫‪ )(5‬غاية النهاية في طبقات القراء ‪ ،129 / 1‬والضوء الالمع ‪.193 / 2‬‬
‫‪ )(6‬طبقات الشافعية ‪ ،59 / 5‬والبداية والنهاية ‪ ،309 / 13‬ومرآة الجنان ‪ ،220 / 4‬ومعجم المؤلفين ‪.97 / 6‬‬

‫‪162‬‬
‫حامد الغزالي وغيرهم‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬منه اج األص ول إلى علم الوص ول)‪ ،‬و(الغاي ة‬
‫القص وى في دراس ة الفت وى) في ف روع الفق ه الش افعي‪ ،‬و(أن وار التنزي ل وأس رار‬
‫التأويل)‪ ،‬وهو المشهور بتفسير البيضاوي‪ ،‬و(شرح مصابيح السنة) للبغوي‪.‬‬
‫ومنهم أبو القاسم عبــد الكــريم بن محمــد الــرافعي القزويــني(‪623 - 557( )1‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو من كبار الفقهاء الشافعية‪ ،‬ومن مؤلفاته‪ :‬الشرح الكب ير ال ذي س ماه (العزي ز‬
‫شرح الوجيز للغزالي)‪ ،‬وقد تورع بعض هم عن إطالق لف ظ العزي ز مج ردا على غ ير‬
‫كتاب هللا فقال (فتح العزيز في شرح الوجيز) ؛ و(شرح مسند الشافعي)‬
‫ومنهم أبو حاتم محمد بن الحسن القزويني‪ ،‬الطــبري الشــافعي(‪( )2‬ت وفي ‪414‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو فقيه‪ ،‬أصولي‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬كتاب الحيل) في الفقه‪ ،‬و(تجريد التجريد)‬
‫ومنهم عبد الغفار بن عبد الكريم القزويني(‪( )3‬توفي ‪ 665‬هـ)‪ ،‬وهو فقي ه ع الم‬
‫بالحساب‪ ،‬من فقهاء الشافعية‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬الحاوي الصغير)‪ ،‬و(العج ائب في ش رح‬
‫اللباب)‪ ،‬وكالهما في فروع الفقه الشافعي‪ ،‬وكتاب في (الحساب)‬
‫ومنهم أبــو علي الحســين القاســم الطــبري(‪ 350( )4‬هـ)‪ ،‬وه و فقي ه وأص ولي‬
‫شافعي‪ ،‬كان إماما عالما بارعا في عدة فنون‪ ،‬سكن بغداد ودرس فيها وتوفي بها كهال‪،‬‬
‫ومن مؤلفاته‪( :‬اإلفصاح) في فروع الفقه الشافعي‪ ،‬و(المحرر) وهو أول كت اب ص نف‬
‫في الخالف المجرد‪.‬‬
‫ومنهم أحمد بن أبي أحمد‪ ،‬الطبري الشافعي‪ ،‬المعروف بابن القــاص(‪( )5‬ت وفي‬
‫‪ ،)335‬وهو فقيه شافعي‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬التخليص في ف روع الفق ه الش افعي)‪ ،‬و(أدب‬
‫القاضي)‪ ،‬و(كتاب المواقيت)‪ ،‬و(فتاوى)‬
‫ومنهم محمــد بن عبــد الملــك بن خلــف‪ ،‬الطــبري الســلمي الشــافعي(‪( )6‬ت وفي‬
‫‪470‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه‪ ،‬صوفي‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬الكناي ة) في الفق ه‪ ،‬و(ش رح المفت اح البن‬
‫القاص) في فروع الفقه الشافعي‪ ،‬و(المعين على مقتضى الدين)‬
‫ومنهم القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد هللا الطبري(‪450 - 348( )7‬هـ)‪ ،‬وهو‬
‫فقيه‪ ،‬أصولي جدلي‪ ،‬من أعيان الش افعية‪ ،‬ول د في آم ل بطبرس تان‪ ،‬واس توطن بغ داد‪،‬‬
‫سمع الحديث بجرجان‪ ،‬ونيسابور‪ ،‬وبغداد‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬شرح مختصر المزني)‪ ،‬في‬
‫فروع الفقه الش افعي‪ ،‬و(ش رح ابن الح داد المص ري) وكت اب في (طبق ات الش افعية)‪،‬‬
‫و(المجرد)‬
‫‪ )(1‬األعالم للزركلي ‪179 / 4‬؛ وطبقات الشافعية للسبكي ‪119 / 5‬؛ وفوات الوفيات ‪.3 / 2‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية ‪ ،12 / 4‬وتهذيب األسماء واللغات ‪ ،207 / 2‬ومعجم المؤلفين ‪.158 / 12‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الشافعية ‪ ،118 / 5‬ومرآة الجنان ‪ ،167 / 4‬واألعالم ‪ ،157 / 4‬ومعجم المؤلفين ‪.267 / 5‬‬
‫‪ )(4‬طبقات الشافعية البن السبكي ‪ ،217 / 2‬والنجوم الزاهرة ‪ ،328 / 3‬ومعجم المؤلفين ‪.270 / 3‬‬
‫‪ )(5‬شذرات الذهب ‪ ،339 / 2‬واألعالم ‪ ،86 / 1‬ومعجم المؤلفين ‪ ،149 / 1‬وتهذيب األسماء واللغات ‪،252 / 2‬‬
‫ومعجم المطبوعات ص ‪.479‬‬
‫‪ )(6‬طبقات الشافعية ‪ ،76 / 3‬ومعجم المؤلفين ‪ ،256 / 10‬واألعالم ‪.127 / 7‬‬
‫‪ )(7‬طبقات الشافعية ‪ ،176 / 3‬وتهذيب األسماء واللغات ‪ ،247 / 2‬واألعالم ‪ ،321 / 3‬ومعجم المؤلفين ‪.37 / 5‬‬

‫‪163‬‬
‫ومنهم عبـــد القـــادر بن محمـــد الحســـيني‪ ،‬الطـــبري‪ ،‬الشـــافعي(‪- 976( )1‬‬
‫‪1033‬هـ)‪ ،‬وه و ع الم‪ ،‬أديب‪ ،‬ن اظم‪ ،‬ن اثر‪ ،‬مش ارك في أن واع العل وم‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪:‬‬
‫(عيون المسائل من أعيان الرسائل)‪ ،‬و(اآلي ات المقص ورة على األبي ات المقص ورة)‪،‬‬
‫و(حسن السريرة على حسن الس يرة)‪ ،‬ول ه رس ائل علمي ة منه ا‪( :‬إفح ام المج اري في‬
‫أفهام البخاري)‪ ،‬و(سل السيف على حل كيف) وغيرها‪.‬‬
‫ومنهم أبو عبد هللا الحسين بن محمد بن عبد هللا الحناطي الطــبري الشــافعي(‪)2‬‬
‫(ت وفي بع د ‪ 400‬هـ)‪ ،‬وه و فقي ه‪ ،‬مح دث‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬الكفاي ة في الف روق)‪،‬‬
‫و(الفتاوى)‬
‫ومنهم أبو الحسن علي بن محمد الطبري‪ ،‬الملقب بعماد الدين‪ ،‬المعروف بإلكيا‬
‫الهراسي(‪ 504 - 450( )3‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه شافعي‪ ،‬مفسر‪ ،‬أصولي‪ ،‬متكلم‪ ،‬وتفقه على‬
‫(إمام الحرمين) وهو أجل تالمذته بعد الغزالي‪ ،‬وحدث عن (إمام الح رمين) وأبي علي‬
‫الحسن ابن محمد الصفار وغيرهما‪ .‬ودرس بالنظامية‪ ،‬ووع ظ‪ .‬ومن مؤلفات ه‪( :‬أحك ام‬
‫الق رآن)‪ ،‬و(لوام ع ال دالئل في زواي ا المسلس ل)‪ ،‬و(ش فاء المسترش دين في مب اح‬
‫المجتهدين)‪ ،‬و(التعليق في أصول الفقه)‬
‫ومنهم أبو علي الحسن بن محمد الزجاجي‪ ،‬الطــبري‪ ،‬المعــروف بالزجــاجي(‪)4‬‬
‫(توفي ‪ 400‬هـ)‪ ،‬وهو محدث وفقيه شافعي‪ ،‬تولى القضاء‪ ،‬أخ ذ العلم عن ابن الق اص‪،‬‬
‫والقاض ي أبي الطيب الط بري‪ ،‬وأخ ذ عن ه فقه اء آم ل‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬الته ذيب) في‬
‫فروع الفقه الشافعي‪ ،‬و(زيادة المفتاح)‪ ،‬و(كتاب الدر)‬
‫ومنهم أبو عبد هللا الحسين بن علي الطبري(‪ 498 - 418( )5‬هـ)‪ ،‬وه و فقي ه‬
‫شافعي‪ ،‬نزيل مكة ومحدثها‪ ،‬وفقيهه ا‪ ،‬وك ان ي دعى إم ام الح رمين‪ ،‬تفق ه على ناص ر‬
‫العم ري بخراس ان‪ ،‬وعلى القاض ي أبي الطيب الط بري ببغ داد‪ ،‬ثم الزم أب ا إس حاق‬
‫الشيرازي حتى برع في المذهب‪ ،‬والخالف‪ ،‬وصار من أكابر أصحابه ودرس بنظامية‬
‫بغداد‪.‬‬
‫ه ذه مج رد نم اذج عن كب ار الفقه اء واألص وليين اإليران يين من من المدرس ة‬
‫الشافعية‪ ،‬ومن شاء المزيد يمكنه الرجوع لكتب الرجال‪ ،‬وخاصة ما تعلق منها برج ال‬
‫المذهب الشافعي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إيران ‪ ..‬والمدرسة الحنفية‪:‬‬
‫مثلم ا ك ان لإليران يين اهتم ام بدراس ة الم ذهب الش افعي ال ذي يعت بر من أك ثر‬
‫المذاهب اإلسالمية انتشارا‪ ،‬نراهم يهتمون بالمذهب الحنفي‪ ،‬ولو بدرجة أقل‪.‬‬

‫‪ )(1‬خالصة األثر ‪ ،457 / 2‬والبدر الطالع ‪ ،371 / 2‬واألعالم ‪ ،168 / 4‬ومعجم المؤلفين ‪.303 / 5‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الشافعية ‪ ،160 / 3‬وتهذيب األسماء واللغات ‪ ،254 / 2‬ومعجم المؤلفين ‪.48 / 4‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الشافعية ‪ ،241 / 4‬وشذرات الذهب ‪ ،8 / 4‬ومعجم المؤلفين ‪ ،220 / 7‬واألعالم ‪.149 / 5‬‬
‫‪ )(4‬طبقات الشافعية ‪ ،146 / 3‬وطبقات الفقهاء ص ‪ ،36‬ومعجم المؤلفين ‪.284 / 3‬‬
‫‪ )(5‬طبقات ابن الصالح ‪ ،744 / 2‬الطبقات للسبكي ‪ ،349 / 4‬طبقات ابن هداية هللا ص ‪.79 ،66‬‬

‫‪164‬‬
‫فمن كبار الحنفية من اإليرانيين زفــر بن الهــذيل بن قيس العنــبري(‪- 110( )1‬‬
‫‪ 158‬هـ)‪ ،‬وأصله من أصبهان‪ ،‬وهو من كبار فقهاء الحنفية‪ ،‬بل من تالمي ذ أبي حنيف ة‬
‫المباشرين‪ ،‬ومن أكثرهم أخذا بالقياس‪ ،‬وقد قال متحدثا عن نفسه‪( :‬ما خالفت أبا حنيف ة‬
‫في قول إال وقد كان أبو حنيفة يقول به)‬
‫ومما روي في مناقبه عن إبراهيم بن سليمان‪ ،‬قال‪( :‬كان إذا جالسناه ـ أي زف ر ـ‬
‫لم نق در أن ن ذكر ال دنيا بين يدي ه‪ ،‬وإذا ذكره ا واح د من ا ق ام عن مجلس ه وترك ه فى‬
‫موضعه‪ ،‬وكنا نحدث فيما بيننا أن الخوف قتله)‬
‫وقال شداد‪( :‬سألت أسد بن عمرو أأبو يوسف أفقه أم زف ر؟ فق ال‪( :‬زف ر أورع)‬
‫قلت‪ :‬عن الفقه سألتك‪ ،‬قال‪( :‬يا شداد بالورع يرتفع الرجل)‬
‫ومنهم أبو بكر إبراهيم بن رستم‪ ،‬المروزي(‪( )2‬توفي ‪211‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه حنفي‬
‫من أصحاب محمد بن الحسن‪ ،‬أخذ عن محمد وغ يره من أص حاب أبي حنيف ة‪ ،‬وس مع‬
‫من مالك والثوري وحماد بن سلمة وغيرهم‪ ،‬وعرض الم أمون علي ه القض اء ف امتنع‪،‬‬
‫ومن مؤلفاته‪( :‬النوادر) كتبها عن محمد‪.‬‬
‫ومنهم أبو ســهل موســى بن نصــير‪ ،‬أو ابن نصــر الــرازي‪( )3( ،‬كان حي ا قب ل‬
‫‪ 189‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني‪ ،‬تفقه عليه أبو علي ال دقاق‬
‫وأبو سعيد البردعي‪ ،‬روى الحديث عن عبد الرحمن بن مغراء أبي زه ير‪ ،‬وه و آخ ر‬
‫من روى الحديث عنه‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬كتاب الشفعة)‪ ،‬و(كتاب المخارج)‬
‫ومنهم عبد هللا بن المبارك‪ ،‬أبو عبد الرحمن‪ ،‬الحنظلي بالوالء‪ ،‬المروزي(‪1( )4‬‬
‫‪ 181 - 18‬هـ)‪ ،‬كان فقيها كثير الحديث‪ ،‬صاحب أبا حنيفة وسمع السفيانين وس ليمان‬
‫التيمي وحميدا الطويل‪ ،‬حدث عنه خلق ال يحصون من أهل األقاليم منهم عب د ال رحمن‬
‫بن مهدي ويح يى بن معين وأحم د بن حنب ل ع د جماع ة من أص حابه خص الة فق الوا‪:‬‬
‫(جمع العلم والفق ه واألدب والنح و واللغ ة والش عر والزه د والفص احة وال ورع وقي ام‬
‫اللي ل والعب ادة والس داد في الرواي ة وقل ة الكالم فيم ا ال يعني ه وقل ة الخالف على‬
‫أصحابه)‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬تفسير القرآن)‪ ،‬و(الدقائق في الرقائق)‪ ،‬و(رقاع الفتاوى)‬
‫ومنهم أبو يعلى معلى بن منصور الرازي(‪( )5‬توفي ‪ 211‬هـ)‪ ،‬وه و من رج ال‬
‫الح ديث المص نفين في ه‪ ،‬ومن أص حاب أبي يوس ف ومحم د بن الحس ن ص احبي أبي‬
‫حنيف ة‪ ،‬ح دث عن مال ك وس ليمان بن بالل ومحم د بن ميم ون الزعف راني والهيثم بن‬

‫‪ )(1‬الجواهر المضية ‪243 / 1‬؛ ‪244‬؛ والفوائد المضية؛ واألعالم للزركلي ‪.78 / 3‬‬
‫‪ )(2‬الجواهر المضيئة ‪ ،38 / 1‬والفوائد البهية ص‪.9‬‬
‫‪ )(3‬الجواهر المضية ‪ ،188 / 2‬وتاج التراجم ص ‪ ،74‬والفوائد ص ‪ ،216‬ومعجم المؤلفين ‪.49 / 13‬‬
‫‪ )(4‬الجواهر المضية ‪281 / 1‬؛ والفوائد البهية ص ‪103‬؛ وتذكرة الحفاظ ‪253 / 1‬؛ وشذرات الذهب ‪295 / 1‬؛‬
‫وهدية العارفين ‪.438 / 5‬‬
‫‪ )(5‬تهذيب التهذيب ‪ ،238 / 10‬والجواهر المضيئة ‪ ،177 / 2‬والفوائد البهية ص ‪ ،215‬واألعالم ‪.189 / 8‬‬

‫‪165‬‬
‫حميد الغساني وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وغ يرهم‪ ،‬وروى عن ه ابن ه يح يى وأب و‬
‫خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو ثور وغيرهم‪ .‬وطلب للقضاء غ ير م رة ف أبى‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفاته‪( :‬النوادر)‪ ،‬و(األمالي) في الفقه‪.‬‬
‫ومنهم علي بن موســى بن يــزداد(‪( )1‬ت وفي ‪ 305‬هـ)‪ ،‬من أه ل قم‪ ،‬ثم ق دم‬
‫نيس ابور‪ ،‬إم ام الحنفي ة في عص ره‪ ،‬ول ه كتب في ال رد على أص حاب الش افعي‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفاته (كتاب الضحايا)‬
‫ومنهم أبــو بكــر محمــد بن إبــراهيم الضــرير الميــداني(‪ ، )2‬نس بة إلى مي دان‪،‬‬
‫موضع بنيسابور‪ ،‬قال الذهبي‪ :‬من أئمة الحنفية‪ ،‬وقال اللكنوي‪ :‬هو ش يخ كب ير ع ارف‬
‫بالمذهب قلما يوجد مثله في األعصار‪ ،‬حدث عن أبي محمد المزني‪ ،‬وعن ه ميم ون بن‬
‫علي الميموني‪ .‬وله مناظرات مع أحمد بن نصر العياضي أخي أبي بكر العياضي‪.‬‬
‫ومنهم أبو الحســن علي بن موســى النيســابوري الحنفي(‪( )3‬ت وفي ‪ 305‬هـ)‪،‬‬
‫وهو إمام الحنفية في عصره‪ ،‬تصدر بنيسابور لإلفادة‪ ،‬وتخرج به الكبار وبع د ص يته‪،‬‬
‫وطال عمره‪ ،‬وكان صاحب رحلة ومعرفة‪ ،‬سمع من محم د بن حمي د ال رازي ومحم د‬
‫بن معاوية بن مالح‪ ،‬وتفقه بمحمد بن شجاع الثلجي‪ ،‬حدث عنه أبو بكر أحمد بن محم د‬
‫بن نصر وغيره‪ ،‬ذكره الحاكم فعظمه وفخمه‪ ،‬وقال‪( :‬هذا وأب و س عيد الخرش اني كان ا‬
‫عالمي خراسان في مذهب أبي حنيفة‪ ،‬تخرج بهم ا جماع ة من الكب ار)‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪:‬‬
‫(أحكام القرآن)‬
‫ومنهم أبو الفضل محمد بن محمــد المــروزي‪ ،‬الســلمي البخلي(‪( )4‬ت وفي ‪334‬‬
‫هـ)‪ ،‬الشهير بـ (الحاكم الشهيد)‪ ،‬وكان عالم مرو وإمام الحنيفة في عصره‪ ،‬ولي قض اء‬
‫بخ ارى‪ ،‬ثم ولي ال وزارة لبعض األم راء الساس انية‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬الك افي) ؛‬
‫و(المنتقى) كالهما في الفقه الحنفي‪.‬‬
‫ومنهم الحسن بن منصور بن محمود األوزجنــدي(‪ )5‬المشــهور بقاضــيخان(‪)6‬‬
‫(‪ 592 -‬هـ)‪ ،‬وهو من كبار فقهاء الحنفية في المشرق‪ ،‬وفتاواه متداول ة دائ رة في كتب‬
‫الحنفية‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬الفتاوى) و(األمالي) و(شرح الجامع الصغير)‬
‫ومنهم عبـــد هللا بن أحمـــد بن محمـــود‪ ،‬أبـــو البركـــات حافـــظ الـــدين النســـفي‬

‫‪ )(1‬الجواهر المضية ‪380 / 1‬؛ وطبقات الفقهاء للشيرازي ص ‪.119‬‬


‫‪ )(2‬الجواهر المضيئة ‪ ،6 / 2‬والفوائد البهية ص‪ ،155‬واللبان ‪.281 / 3‬‬
‫‪ )(3‬سير أعالم النبالء ‪ ،236 / 14‬واألعالم ‪ ،178 / 5‬والجواهر المضية ‪ ،380 / 1‬وتاج التراجم ص ‪.31‬‬
‫‪ )(4‬الجواهر المضية ‪112 / 2‬؛ والفوائد البهية ص ‪195‬؛ واألعالم للزركلي ‪.242 / 7‬‬
‫‪( )(5‬أوزجند) بلدة بنواحي أصبهان قرب فرغانة‪.‬‬
‫‪ )(6‬الجواهر المضية ‪205 / 1‬؛ والفوائد البهية ص ‪64‬؛ واألعالم للزركلي‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫األصــفهاني(‪ 701( )1‬هـ)‪ ،‬وه و فقي ه حنفي ك ان إمام ا ك امال م دققا رأس ا في الفق ه‬
‫واألصول‪ ،‬بارعا في الحديث ومعانيه‪ ،‬عده ابن كمال باشا من طبقة المقل دين الق ادرين‬
‫على التمي يز بين الق وي والض عيف‪ ،‬وع ده غ يره من المجته دين في الم ذهب‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفاته (كنز الدقائق)‪ ،‬وهو متن مشهور في الفقه؛ و(ال وافي) في الف روع؛ و(الك افي)‬
‫في شرح الوافي؛ (والمنار) في أصول الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو بكر أحمد بن علي‪ ،‬الرازي المعروف بالجصاص(‪370 - 305( )2‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو من فقهاء الحنفية‪ ،‬انتهت إليه رئاسة الحنفية في وقته‪ .‬كان إمام ا‪ ،‬رح ل إلي ه‬
‫الطلبة من األفاق‪ .‬خوطب في أن يلي القضاء ف امتنع‪ ،‬وأعي د علي ه الخط اب فلم يقب ل‪،‬‬
‫ومن مؤلفات ه‪( :‬أحك ام الق رآن) ؛ و(ش رح مختص ر ش يخه أبي الحس ن الك رخي) ؛‬
‫و(شرح الجامع الصغير)‬
‫ومنهم أبــو العبــاس أحمــد بن محمــد بن عمــر النــاطفي الطــبري(‪( )3‬ت وفي‬
‫‪446‬هـ)‪ ،‬وه و فقي ه حنفي من أه ل ال ري‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬الواقع ات)‪ ،‬و(األجن اس‬
‫والفروق) و(الهداية) و(األحكام) كلها في فروع الفقه الحنفي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إيران ‪ ..‬والمدرسة المالكية‪:‬‬
‫من أعالم المالكية الكبار الذين أنجبتهم إيران‪ ،‬وال ذين ك انوا من أوائ ل من أل ف‬
‫في الفقه المالكي أبو عبد هللا أسد بن الفرات الخراساني النيســابوري(‪ 142( )4‬ـ ‪213‬‬
‫هـ)وهو األمير‪ ،‬القاضي‪ ،‬الفقيه‪ ،‬فاتح صقلّية‪ ،‬سمع من مالك بن أنس الموطأ وغيره‪.‬‬
‫وقد ذكر في ترجمته أنه (تفق ه بعلي بن زي اد التّونس ي‪ ،‬ثم ارتح ل إلى المش رق‬
‫فسمع مالكا‪ ،‬وكانت له رغبة كبيرة في الغوص في المس ائل وتفريعاته ا ولم يكن مال ك‬
‫يرغب في مثل ذلك‪ ،‬فانتقل أسد إلى العراق‪ ،‬فلقي أبا يوس ف‪ ،‬والزم محم د بن الحس ن‬
‫وتفقه ب ه وأخ ذ بمذهب ه‪ ،‬ثم ع اد إلى م ذهب مال ك ول زم أص حابه المص ريين‪ ،‬وجم ع‬
‫مسائله لمحمد بن الحسن وما سمعه من علم أبي حنيف ة ب العراق‪ ،‬وس أل ابن القاس م أن‬
‫يجيبه فيها على مذهب مالك فأجابه إلى ما طلب‪ ،‬وس ميت تل ك الكتب باألس دية‪ ،‬كتبه ا‬
‫عنه أهل مصر وأه ل الق يروان‪ ،‬واش تهر به ا‪ ،‬وق د منعه ا من س حنون‪ ،‬لكن س حنون‬
‫حصل عليها‪ ،‬وحملها إلى ابن القاس م بمص ر‪ ،‬فعرض ها علي ه‪ ،‬وكاش فه عنه ا مكاش فة‬
‫فقيه‪ ،‬فغير فيها ابن القاسم أشياء كثيرة ألنه كان أمالها على أسد من حفظه‪ّ ،‬‬
‫وهذبها مع‬
‫سحنون‪ ،‬وكتب إلى أسد بأن يعارض كتبه بكتب سحنون لما أجرى فيها من تع ديل‪ ،‬فلم‬
‫يرض أسد بذلك‪ ،‬وقد اقتصر الن اس بع د ذل ك على ته ذيب س حنون‪ ،‬وترك وا األس دية‬
‫حسب سماع أسد‪ ،‬وهذا ما حمل أسدا على المي ل أخ يرا إلى كتب أبي حنيف ة‪ ،‬وس معها‬
‫‪ )(1‬الفوائد البهية ص ‪101‬؛ والجواهر المضية ص ‪270‬؛ واألعالم ‪.192 / 4‬‬
‫‪ )(2‬الجواهر المضية ‪84 / 1‬؛ واألعالم ‪156 / 1‬؛ والبداية والنهاية ‪256 / 11‬؛ و(اإلمام أحمد بن علي الرازي‬
‫الجصاص) للدكتور عجيل جاسم النشمي‪.‬‬
‫‪ )(3‬الجواهر المضيئة ‪ ،113 / 1‬والفوائد البهية ‪ ،36‬واألعالم ‪ ،207 / 1‬ومعجم المؤلفين ‪.140 / 2‬‬
‫‪ )(4‬ترتيب المدارك‪.309 - 291 /3 :‬‬

‫‪167‬‬
‫منه أكثر من كان يميل إلى مذهب الكوفيين بالقيروان)‬
‫قال ال ّشيرازي‪( :‬واقتص ر الن اس على التفق ه في كتب س حنون‪ ،‬ونظ ر س حنون‬
‫فيها نظرا آخر‪ ،‬فهذبها وبوبها ودونها وألحق فيه ا من خالف كب ار أص حاب مال ك م ا‬
‫اخت ار ذك ره‪ ،‬وذي ل أبوابه ا بالح ديث واآلث ار‪ ،‬إال كتب ا منه ا مفرق ة بقيت على أص ل‬
‫اختالطه ا في الس ماع‪ ،‬فه ذه هي كتب س حنون‪ :‬المدون ة والمختلط ة؛ وهي أص ل‬
‫المذهب‪ ،‬المرجح روايته ا على غيره ا عن د المغارب ة‪ ،‬وإياه ا اختص ر مختص روهم‪،‬‬
‫وشرح شارحوهم‪ ،‬وبها مناظرتهم ومذاكرتهم‪ ،‬ونسيت األسدية فال ذكر لها اآلن)‬
‫ومنهم أبو زكريا يحيى بن يحيى الحنظلي‪ ،‬النيسابوري(‪ 226 - 142( )1‬هـ)‪،‬‬
‫وهو من تالميذ اإلمام مالك المباشرين‪ ،‬حيث قرأ عليه الموطأ والزمه مدة لالقتداء به‪،‬‬
‫وهو مع دود في الفقه اء من أص حاب مال ك‪ ،‬ك ان من س ادات أه ل زمان ه علم ا ودين ا‬
‫ونسكا وإتقانا‪ ،‬روى عن مالك وسليمان بن بالل والحمادين وأبي األحوص وأبي قدامة‬
‫وغيرهم‪ .‬وعنه البخاري ومسلم وروى الترمذي عن مسلم عنه وغيرهم‪.‬‬
‫ومنهم القاض ــي أب ــو بك ــر محم ــد بن أحم ــد بن الجهم‪ ،‬يع ــرف بـــابن الـــوراق‬
‫المروزي(‪( )2‬توفي ‪329‬هـ)‪ ،‬وقد ذكر في ترجمته أنه (اإلم ام الثق ة‪ ،‬الفاض ل‪ ،‬الع الم‬
‫بأصول الفقه القاضي العادل‪ ،‬س مع القاض ي إس ماعيل وتفق ه ب ه‪ ،‬أل ف كتب ا جليل ة في‬
‫مذهب مالك منها كت اب في بي ان الس نة‪ ،‬وكت اب مس ائل الخالف‪ ،‬والحج ة في م ذهب‬
‫مالك)‬
‫ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي‪ ،‬األبهري الشيرازي‪ ،‬المعروف بــابن‬
‫القصار(‪( )3‬توفي ‪ 398‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه‪ ،‬مالكي أصولي‪ ،‬حافظ‪ ،‬ولي قضاء بغداد‪ .‬تفق ه‬
‫بأبي بكر األبهري وغيره‪ ،‬وبه تفقه أبو ذر الهروي والقاضي عبد الوه اب ومحم د بن‬
‫عمروس وغيرهم‪ .‬قال أبو ذر‪ :‬هو أفق ه من رأيت من الم الكيين‪ ،‬وق ال الش يرازي‪ :‬ال‬
‫أعرف للمالكيين كتابا في الخالف أكبر من كتابه‪ ،‬ولعله يع ني كتاب ه المس مى‪( :‬عي ون‬
‫األدلة وإيضاح الملة في الخالفيات)‬
‫ّ‬
‫ومنهم إبراهيم بن محمود بن حمزة أبو إسحاق النيسابوري المعروف بالقطــان‬
‫(‪( )4‬توفي ‪ 299‬هـ) وهو فقيه م الكي‪ ،‬تفق ه بعب د هللا بن عب د الحكم‪ ،‬وس مع ي ونس بن‬
‫عب د األعلى‪ ،‬وأحم د بن م نيع‪ ،‬وغيرهم ا‪ ،‬ق ال القاض ي عي اض‪( :‬وك ان من فقه اء‬
‫المالكية‪ ،‬وأئمة الخراسانيين فيهم‪ ،‬ودرس المذهب بنيسابور‪ ،‬وه و آخ ر من درس به ا‬
‫مذهب مالك رحمه هللا ذكر ذلك أبو نصر بن ماكوال الحافظ)‬

‫‪ )(1‬تهذيب التهذيب ‪ ،296 / 11‬وشجرة النور الزكية ص ‪ ،58‬والديباج المذهب ص ‪ ،349‬واألعالم ‪.223 / 9‬‬
‫‪ )(2‬شجرة النور الزكية ‪.79 – 78 / 1‬‬
‫‪ )(3‬شجرة النور الزكية ص ‪ ،92‬والديباج ‪ ،199‬ومعجم المؤلفين ‪.12 / 7‬‬
‫‪ )(4‬ترتيب المدارك‪ ،429 /4 :‬ومختصر المدارك البن رشيق‪ .91 :‬تاريخ ابن الفرضي‪ ،25 /1 :‬وجذوة المقتبس‪:‬‬
‫‪ ،141‬وبغية الملتمس‪.224 :‬‬

‫‪168‬‬
‫ومنهم حامد بن أحمد المروزي ثم النيسابوري (‪ 142()1‬ـ ‪ 226‬هـ)‪ ،‬وهو فقيه‪،‬‬
‫حافظ‪ ،‬عالم خراسان‪ ،‬صحب مالك‪ ،‬وحم ل عن ه الموط أ ‪ ،‬وروى عن اللّيث بن س عد‪،‬‬
‫وس ليمان بن بالل‪ ،‬وغيرهم ا‪ ،‬وروى عن ه البخ اري‪ ،‬ومس لم‪ ،‬وإس حاق بن راهواي ه‪،‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫ق ال إس حاق بن راهوي ه‪( :‬لم أكتب العلم عن أح د أوث ق في نفس ي من ه‪ ،‬ومن‬
‫الفضل بن موسى السّيناني)‪ ،‬وقال أبو عمر بن عبد البر‪( :‬كانت له حال بنيسابور‪ ،‬وله‬
‫حظ من الفقه‪ ،‬وكان ثقة مأمون ا مرض يا‪ ،‬روى عن ه جماع ة من أه ل بل ده وغ يرهم)‪،‬‬
‫وكان أحمد بن حنبل يثني عليه‪ ،‬قال عبد هللا بن أحمد بن حنبل‪ :‬سمعت أبي يذكر يحيى‬
‫بن يحيى النيسابوري فأثنى عليه خيرا‪ ،‬وقال‪ :‬م ا أخ رجت خراس ان بع د ابن المب ارك‬
‫مثل يحيى بن يحيى‪ ،‬كان من ورعه يشك في الحديث كثيرا‪ ،‬حتى سموه الشكاك‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن إسحاق‪( :‬لم يكن بخراسان أعقل من يحيى بن يحيى‪ ،‬وكان أخذ‬
‫تل ك الش مائل من مال ك بن أنس رحم ه هللا‪ ،‬أق ام علي ه ألخ ذها س نة بع د أن ف رغ من‬
‫س ماعه‪ ،‬فقي ل ل ه في ذل ك فق ال‪ :‬إنم ا أقمت مس تفيدا لش مائله‪ ،‬فإنه ا ش مائل الص حابة‬
‫والتابعين)‬
‫‪ 4‬ـ إيران ‪ ..‬ومدرسة الحنابلة‪:‬‬
‫من المذاهب الفقهية التي اهتم بها اإليرانيون منذ بداية تأسيسها المذهب الحنبلي‪،‬‬
‫حتى أن بعضهم ينسب إمام المذهب نفسه إلى مدينة مرو اإليرانية‪ ،‬كم ا ق ال ال زركلي‬
‫في األعالم في ترجمته‪( :‬اإلمام ابن َح ْنبَل (‪ 241 - 164‬هـ) أحمد محمد بن بن حنبل‪،‬‬
‫أبو عبد هللا‪ ،‬الشيبان ّي الوائلي‪ ،‬إمام المذهب الحنبل ّي‪ ،‬وأح د األئم ة األربع ة‪ .‬أص له من‬
‫مرو‪ ،‬وكان أبوه والي سرخس)(‪)2‬‬
‫ومن أعالم الحنابلة الذين أنجبتهم المدن اإليرانية أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم‬
‫النيسابوري(‪ 275 - 218( )3‬هـ)‪ ،‬وهو من تالميذ اإلمام أحمد المباش رين‪ ،‬ق ال أب و‬
‫يعلى‪( :‬خدم إمامنا أحمد بن حنبل‪ ،‬وهو ابن تسع سنين)‬
‫ومنهم أبو يعقوب إسحاق بن منصور الكوسج المروزي(‪( )4‬ت وفي ‪ 251‬هـ)‪،‬‬
‫وهو كذلك من أصحاب اإلمام أحمد المباشرين‪ ،‬ومن رج ال الح ديث‪ ،‬س مع س فيان بن‬
‫عيينة ويحيى بن سعد القطان‪ ،‬وعبد الرحمن بن مهدي وغ يرهم‪ ،‬وروى عن ه إب راهيم‬
‫بن إسحاق الحربي وعبد هللا بن أحمد بن حنبل‪ ،‬والبخاري ومسلم في الصحيحين‪ ،‬وأبو‬
‫زرع ة‪ ،‬وأب و عيس ى الترم ذي وغ يرهم‪ .‬ق ال مس لم بن الحج اج وأب و عب د ال رحمن‬
‫النسائي‪ :‬إسحاق بن منصور ثقة مأمون‪ .‬وقال أبو يعلى‪ :‬كان إس حاق عالم ا فقيه ا وق د‬
‫‪ )(1‬جمهرة تراجم الفقهاء المالكية (‪)1369 /3‬‬
‫‪ )(2‬األعالم للزركلي (‪.)203 /1‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الحنابلة ‪.109 – 108 / 1‬‬
‫‪ )(4‬طبقات الحنابلة ألبي يعلى ‪ ،113 / 1‬وشذرات الذهب ‪ ،123 / 2‬واألعالم ‪ ،289 / 1‬ومعجم المؤلفين ‪/ 2‬‬
‫‪.239‬‬

‫‪169‬‬
‫دون عن اإلمام أحمد المسائل في الفقه‪ ،‬ومن مؤلفاته‪( :‬المسائل) في الفقه‪.‬‬
‫ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن هاني النيسابوري(‪( )1‬توفي ‪ 265‬هـ)‪ ،‬وه و من‬
‫كبار أصحاب اإلمام أحمد‪ ،‬كان أحد أئمة الح ديث‪ ،‬وح دث عن أبي عبي د هللا العيش ي‪،‬‬
‫ويعلى ومحمد ابني عبيد وغيرهم‪ ،‬نقل عن اإلمام أحمد بن حنبل مس ائل كث يرة‪ .‬وك ان‬
‫أحمد يقول‪( :‬إن كان في البلد رجل من األبدال‪ ،‬فأبو إسحاق النيس ابوري)‪ ،‬وي روى أن‬
‫اإلمام أحمد اختفى في داره أيام المحنة‪.‬‬
‫ومنهم أبــو بكــر عبــد هللا بن ســليمان بن األشــعث بن إســحاق‪ ،‬بن أبي داود‪،‬‬
‫السجستاني(‪ 316 - 230( )2‬هـ)‪ ،‬وهو ـ كم ا ي ذكر في ترجمت ه ـ (اإلم ام العالم ة‬
‫الحافظ شيخ بغداد‪ ،‬صاحب التصانيف‪ .‬رحل به والده من سجس تان‪ ،‬فط وف ب ه ش رقا‬
‫وغربا وأسمعه من علماء ذلك ال وقت‪ ،‬س مع بخراس ان‪ ،‬والجب ال وأص بهان وف ارس‪،‬‬
‫والبصرة‪ ،‬وبغداد‪ ،‬والكوفة‪ ،‬والمدين ة والش ام‪ ،‬ومك ة‪ ،‬ومص ر‪ ،‬والجزي رة‪ .‬واس توطن‬
‫بغداد وكان فهما عالما حافظا‪ .‬وحدث عن علي خشرم المروزي وأبي داود س ليمان بن‬
‫معبد السنجي وسلمة بن شبيب ومحمد بن يحيى الذهلي وأحمد بن األزه ر النيس ابوري‬
‫وغ يرهم‪ .‬روى عن ه أب و بك ر بن مجاه د المق رئ وأب و بك ر الش افعي وال دارقطني‬
‫وغيرهم)‬
‫ومن مؤلفات ه‪( :‬المس ند)‪ ،‬و(الس نن)‪ ،‬و(التفس ير)‪ ،‬و(الق راءات)‪ ،‬و(الناس خ‬
‫والمنسوخ)‬
‫‪ 5‬ـ إيران‪ ..‬والمدارس السنية األخرى‪:‬‬
‫باإلضافة إلى تلك المدارس السنية الك برى ظه ر الكث ير من الفقه اء في إي ران‪،‬‬
‫ومن المدرسة السنية نفسها‪ ،‬لكنهم لم يتسن لهم أن يكون لهم تالميذ ينش رون م ذاهبهم‪،‬‬
‫أو كان لهم تالميذ‪ ،‬وكانت لهم مذاهب‪ ،‬ولكنها اندثرت‪ ،‬ولم يعد لها وجود‪.‬‬
‫وذلك ال يعني إلغاءهم تماما‪ ،‬فال تزال أقوالهم الفقهية‪ ،‬تدرس في الفقه المق ارن‪،‬‬
‫وهناك من يأخذ بها في الترجيح واالختيار‪.‬‬
‫ومن هؤالء مؤسسي المذهب الظاهري‪ ،‬الذي كان إيراني ا بامتي از‪ ،‬ف أكثر أئمت ه‬
‫إيرانيون(‪ ،)3‬وأولهم أبو سليمان داود بن علي بن خلف األصبهاني(‪270 - 201( )4‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو ال ذي تنس ب إلي ه المدرس ة الظاهري ة‪ ،‬وال تي س ميت ب ذلك ألخ ذها بظ اهر‬
‫الكتاب والسنة وإعراضها عن الرأي والقياس‪ ،‬وكان داود أول من جهر بهذا القول‪.‬‬
‫قال النووي عنه‪( :‬فضائل داود‪ ،‬وزهده‪ ،‬وورعه‪ ،‬ومتابعنه للسنة مشهورة)‬
‫تعص با ً‬
‫ُّ‬ ‫صفَدي‪( :‬كان زاهداً متقلِّالً كثير ال ورع‪...‬وك ان من أك ثر الن اس‬
‫وقال ال ّ‬
‫‪ )(1‬طبقات الحنابلة ألبي يعلى ‪ ،27 / 1‬وشذرات الذهب ‪ ،149 / 2‬والنجم الزاهرة ‪.41 / 3‬‬
‫‪ )(2‬طبقات الحنابلة ‪ ،51 / 2‬وميزان االعتدال ‪ ،433 / 2‬وسير أعالم النبالء ‪ ،221 / 13‬والنجوم الزاهرة ‪/ 3‬‬
‫‪.222‬‬
‫‪ )(3‬حتى ابن حزم ذكر في ترجمته أنه فارسي األصل‪.‬‬
‫‪ )(4‬األعالم ‪ ،8 / 3‬واألنساب للسمعاني ص ‪ ،377‬والجواهر المضية ‪.419 / 2‬‬

‫‪170‬‬
‫للشافعي‪ ،‬وصنَّف في فضائله والثناء عليه كتابين‪،‬وكان صاحب م ذهب مس تقل وتبع ه‬
‫جمع كثير من الظاهرية‪،‬وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد‪ .‬قيل إن ه ك ان يحض ر مجلس ه‬
‫أربعمائة صاحب طيلسان أخضر‪ ،‬وكان من عقالء الناس)‬
‫وقال شمس الدين محم د بن علي ال ّداوودي‪( :‬اإلم ام الحاف ظ المجته د الكب ير‪...‬‬
‫كان إماما ً فاضالً صادقا ً ورعاً)‬
‫وقال الذهبي‪( :‬اإلما ُم‪ ،‬البحرُ‪ ،‬العالمة‪ ،‬ع ال ُم ال وقت رئيس أه ل الظ اهر بص ي ٌر‬
‫بالفقه‪ ،‬عال ٌم بالقرآن‪،‬حافظٌ لألثر‪ ،‬رأسٌ في معرف ة الخالف‪ ،‬من أوعي ِة ِ‬
‫العلم‪ ،‬ل ه ذك ا ٌء‬
‫ٌ‬
‫متين)‬ ‫ق‪ ،‬وفيه ِد ٌ‬
‫ين‬ ‫خار ٌ‬
‫وقال السيوطي‪( :‬صنّف التصانيف‪ ،‬وك ان بص يراً بالح ديث ص حيحه وس قيمه‪،‬‬
‫إماما ً ورعا ً ناسكا ً زاهداً‪ .‬كان في مجلسه أربعمائة صاحب طَ ْيلَسان أخضر)‬
‫وقال السبكي‪( :‬وكان أحد أئمة المس لمين وه داتهم‪ ...‬وق د ك ان موص وفا ً بال دين‬
‫المتين)‬
‫ومنهم أبو بكر محمــد بن داود األصــبهاني‪ ،‬الظــاهري(‪297 - 255( ،)1‬هـ)‪،‬‬
‫كان فقيها على مذهب أبيه مناظرا‪ ،‬وعالما أديبا‪ ،‬وشاعرا فصيحا إخباريا‪ ،‬تصدر للفتيا‬
‫بعد والده وخلفه في حلقته‪ ،‬قال ال ذهبي‪( :‬ل ه بص ر ت ام بالح ديث‪ ،‬وب أقوال الص حابة‪،‬‬
‫وكان يجتهد وال يقلد أح دا)‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪ :‬الزه رة في اآلداب والش عر‪ ،‬والتقص ي في‬
‫الفقه‪ ،‬والوصول في معرفة األصول‪ ،‬والفرائض والمناسك‪.‬‬
‫ومنهم أبو عاصم أحمد بن عمرو النبيل قاضــي أصــبهان (‪،)287 - 206( )2‬‬
‫كان إماما حافظا فقيها ظاهريا صالحا ورعا‪ ،‬له رحلة واسعة في طلب الح ديث‪ .‬وك ان‬
‫مذهبه القول بالظاهر وترك القياس‪ .‬وقيل ذهبت كتبه في فتن ة ال زنج فأع اد من حفظ ه‬
‫خمس ين أل ف ح ديث‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬المس ند الكب ير)‪ ،‬و(اآلح اد والمث اني)‪ ،‬وكت اب‬
‫(السنة) و(الديات)‬
‫ومن الفقه اء ال ذين أنجبتهم إي ران‪ ،‬وك انت لهم مدارس هم الخاص ة الليث بن‬
‫سعد(‪ 175 - 94( )3‬هـ)‪ ،‬فأصله فارسي من أصفهان‪ ،‬ومم ا قي ل في ترجمت ه‪( :‬ك ان‬
‫أحد أشهر الفقهاء في زمانه‪ ،‬فاق في علمه وفقهه إم ام المدين ة المن ورة مال ك بن أنس‪،‬‬
‫غير أن تالمذته لم يقوموا بت دوين علم ه وفقه ه ونش ره في اآلف اق‪ ،‬مثلم ا فع ل تالم ذة‬
‫اإلمام مالك‪ ،‬وكان اإلمام الشافعي يقول‪( :‬الليث أفقه من مالك إال أن أصحابه لم يقوموا‬
‫ب ه)‪ ..‬بل غ مبلغ ا عالي ا من العلم والفق ه الش رعي بحيث إن مت ولي مص ر‪ ،‬وقاض يها‪،‬‬
‫وناظرها كانوا يرجعون إلى رأيه‪ ،‬ومشورته‪ ،‬عرف بأنه كان كثير االتص ال بمج الس‬
‫العلم)‬
‫وقال يحيى بن بكير‪( :‬ما رأيت أح دا أكم ل من الليث)‪ ،‬وق ال‪( :‬ك ان الليث فقي ه‬
‫‪ )(1‬الفهرست ص‪ ،460‬تاريخ بغداد ‪ ،256 / 5‬سير أعالم النبالء ‪.109 / 13‬‬
‫‪ )(2‬تذكرة الحفاظ ‪193 / 2‬؛ وشذرات الذهب ‪195 / 2‬؛ والبداية والنهاية ‪184 / 11‬؛ واألعالم للزركلي ‪182 / 1‬‬
‫‪ )(3‬األعالم ‪115 / 6‬؛ ووفيات األعيان ‪438 / 1‬؛ وتذكرة الحفاظ ‪.207 / 1‬‬

‫‪171‬‬
‫البدن‪ ،‬عربي اللسان‪ ،‬يحسن القرآن والنحو‪ ،‬ويحفظ الحديث والشعر‪ ،‬حسن المذاكرة)‬
‫ومنهم محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري(‪ 319 - 242( )1‬هـ)‪ ،‬وهو من‬
‫كب ار الفقه اء المجته دين‪ ،‬لم يكن يقل د أح دا؛ لكن ع ده الش يرازي في الش افعية‪ ،‬ولقب‬
‫بشيخ الحرم‪ ،‬وأكثر تص انيفه في بي ان اختالف العلم اء‪ ،‬ومن مؤلفات ه‪( :‬المبس وط) في‬
‫الفقه؛ و(األوسط في السنن) ؛ و(اإلجماع واالختالف) ؛ و(اإلشراف على مذاهب أه ل‬
‫العلم) و(اختالف العلماء)‬
‫قال فيه الن ووي‪( :‬ابن المن ذر النيس ابوري اإلم ام المش هور أح د أئم ة اإلس الم‪،‬‬
‫المجم ع على إمامت ه وجاللت ه ووف ور علم ه‪ ،‬وجمع ه بين التمكن في علمي الح ديث‬
‫والفقه‪ ،‬وله المصنفات المهمة النافعة في اإلجماع والخالف وبيان مذاهب العلماء‪ ،‬ول ه‬
‫من التحقي ق في كتب ه م ا ال يقارب ه في ه أح د‪ ،‬وه و في نهاي ة من التمكن من معرف ة‬
‫الحديث‪ ،‬وله اختيار فال يتقيّد في االختيار بمذهب بعينه‪ ،‬بل يدور مع ظهور الدليل)(‪)2‬‬
‫أحد أعالم هذه األمة وأحبارها‪ ،‬كان‬ ‫وقال السبكي‪( :‬ابن المنذر النيسابوري‬
‫إما ًما مجتهدًا‪ ،‬حافظًا ورعًا)(‪)3‬‬

‫ومنهم أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن المــروزي(‪242 - 159( )4‬‬
‫هـ)‪ ،‬وهو القاضي المشهور‪ ،‬ومما قيل في ترجمته‪( :‬فقيه صدوق‪ ،‬عالي الشهرة‪ ،‬كثير‬
‫األدب‪ ،‬حسن المعارضة)‬
‫قال ابن خلكان‪ :‬كانت كتب يح يى في الفق ه أج ل كتب‪ ،‬فتركه ا الن اس لطوله ا‪..‬‬
‫وله كتب في األصول وكتاب أورده على العراقيين سماه [التنبيه]‪ ،‬وبينه وبين داود بن‬
‫علي مناظرات‪.‬‬
‫ومنهم أبــو جعفــر محمــد بن جريــر الطــبري(‪ 310 - 224( )5‬هـ)‪ ،‬وك ان ل ه‬
‫مذهب فقهي خاص‪ ،‬وله اختيار من أقوال الفقهاء‪ ،‬وقد تفرد بمسائل حفظت عن ه‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفات ه‪( :‬اختالف الفقه اء)‪ ،‬و(كت اب البس يط في الفق ه)‪ ،‬و(ج امع البي ان في تفس ير‬
‫القرآن)‪ ،‬و(التبصير في األصول)‬
‫ومنهم إســحاق بن راهويه(‪ 238 - 161( )6‬هـ)‪ ،‬وه و من نيس ابور‪ ،‬ط اف‬
‫البالد لجمع الحديث‪ ،‬وأخذ عنه أحمد والشيخان‪ ،‬قال فيه الخطيب البغدادي‪( :‬اجتمع ل ه‬
‫الفقه والحديث والحفظ والصدق والورع والزهد)‬

‫‪ )(1‬تذكرة الحفاظ ‪5 ،4 / 3‬؛ واألعالم للزركلي ‪84 / 6‬؛ وطبقات الشافعية ‪.126 / 2‬‬
‫‪ )(2‬النووي كتاب تهذيب األسماء واللغات ‪.197\2‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الشافعية ‪.2/126‬‬
‫‪ )(4‬وفيات األعيان ‪ ،197 / 5‬وتهذيب التهذيب ‪ ،179 / 11‬وتاريخ بغداد ‪ ،191 / 14‬واألعالم ‪.167 / 5‬‬
‫‪ )(5‬تذكرة الحفاظ ‪251 / 2‬؛ والبداية والنهاية ‪145 / 11‬؛ وميزان االعت دال ‪498 / 3‬؛ واألعالم لل زركلي ‪/ 6‬‬
‫‪.294‬‬
‫‪ )(6‬األعالم للزركلي؛ وتهذيب التهذيب ‪216 / 1‬؛ واالنتقاء ص ‪.108‬‬

‫‪172‬‬
‫ومنهم أبو عبد هللا محمد بن نصر المروزي(‪ 294 - 202( )1‬هـ)‪ ،‬وه و إم ام‬
‫في الفقه والحديث‪ .‬كان من أعلم الناس باختالف الصحابة فمن بعدهم في األحكام‪ ،‬نش أ‬
‫بنيسابور‪ ،‬ورحل رحلة طويلة استوطن بعدها سمرقند وتوفي به ا‪ .‬روى عن يح يى بن‬
‫يحيى النيس ابوري وإس حاق بن راهوي ه‪ ،‬وإب راهيم بن المن ذري وغ يرهم‪ .‬وعن ه ابن ه‬
‫إسماعيل‪ ،‬ومحمد بن إسحاق الرشادي وغيرهما‪ .‬وومن مؤلفات ه‪( :‬القس امة) في الفق ه‪،‬‬
‫و(المسند) في الحديث‪ ،‬و(ما خالف به أبو حنيفة عليا وابن مسعود)‪ ،‬و(السنة)‬
‫ومنهم أبو أحمــد محمــد بن عبــد الوهــاب الفــراء النيســابوري(‪( )2‬بعد ‪- 180‬‬
‫‪ 272‬هـ)‪ ،‬ذكر في ترجمته أنه كان وجه مشايخ نيسابور عقال وعلما وجاللة وحش مة‪،‬‬
‫سمع حفص بن عبد الرحمن الفقيه جعفر بن عون وعبيد هللا بن موسى ويعلى بن عبي د‬
‫وغيرهم‪ ،‬وحدث عنه بشرين الحكم وأحمد بن األزهر والنسائي في س ننه وابن خزيم ة‬
‫وغيرهم‪ ،‬قال الحاكم‪ :‬كان يفتي في الفقه والحديث والعربية ويرجع إليه فيها‪ .‬ق ال علي‬
‫بن الحسن الدرابجردي‪ :‬أبو أحمد عندي ثقة مأمون‪ .‬ووثقه مسلم‪ ،‬وذكره ابن حب ان في‬
‫الثقات‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ إيران‪ ..‬والمدرسة الشيعية‪:‬‬
‫مما يدل على مدى تغلغل التشيع في إيران‪ ،‬وأنه ليس وليد الفترة الصفوية فقط ـ‬
‫كما ي زعم المرجف ون ـ ه و أن الكث ير من الفقه اء والمح دثين والمفس رين من الش يعة‬
‫ظهروا في إيران‪ ،‬وفي العصور األولى من اإلسالم‪ ،‬وقبل أن يظه ر الص فويون بم دة‬
‫طويلة‪ ،‬بل ظهروا في ظل دول كانت تقمع الشيعة‪ ،‬وتحاصرهم‪.‬‬
‫وال يمكننا في هذا المحل اإلحاطة بهم‪ ،‬فقد ألفت فيهم المؤلف ات الكث يرة‪ ،‬ول ذلك‬
‫نكتفي ب ذكر بعض هم هن ا‪ ،‬ثم نعقب عليهم ب ذكر بعض المعاص رين ال ذين ازده ر في‬
‫عه دهم الت أليف في العل وم المرتبط ة بالش ريعة‪ ،‬كم ا لم يزده ر في جمي ع العص ور‬
‫السابقة‪.‬‬
‫فمنهم أبــو القاســم ســعد بن عبــد هللا القمي (المتوفى ‪ 299‬هـ)‪ ،‬ومم ا ذك ر في‬
‫ترجمته‪( :‬شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها‪ ،‬كان قد سمع من حديث العامى ـ أي أه ل‬
‫السنة ـ شيئا كثيرا‪ ،‬وسافر لطلب الحديث‪ ،‬لقى من وجوههم‪ ،‬وصنف كتبا كثيرة)(‪)3‬‬
‫ومن مؤلفات ه‪ :‬كت اب الرحم ة وه و يش تمل على كتب‪ ،‬منه ا‪ :‬كت اب الطه ارة‪،‬‬
‫وكتاب الصالة‪ ،‬وكتاب الزكاة‪ ،‬وكتاب الصوم‪ ،‬وكتاب جوامع الحج(‪.)4‬‬
‫ونقل النجاشي‪ ،‬عن الحسين بن عبيد هللا (ابن الغضائري) قال‪ :‬جئت بالمنتخبات‬
‫إلى أبي القاسم بن قولويه أقرأه ا علي ه‪ ،‬فقلت‪ :‬ح دثك س عد‪ ،‬فق ال‪ :‬ال‪ ،‬ب ل ح دثني أبي‬

‫‪ )(1‬تهذيب التهذيب ‪ ،489 / 9‬وتاريخ بغداد ‪ ،315 / 3‬واألعالم ‪.346 / 7‬‬


‫‪ )(2‬تهذيب التهذيب ‪ ،319 ،388 / 9‬وشذرات الذهب ‪ ،163 / 2‬وسير أعالم النبالء‪ ،606 / 12‬وطبقات الحفاظ‬
‫ص ‪.262‬‬
‫‪ )(3‬الرجال للنجاشي‪ :‬برقم ‪.465‬‬
‫‪ )(4‬الفهرست للطوسي‪ :‬برقم ‪.318‬‬

‫‪173‬‬
‫وأخي عنه‪ ،‬وأنا لم أسمع من سعد إال حديثين(‪.)1‬‬
‫ومنهم أبو القاســم جعفــر بن محمــد بن قولويــه القمي (المت وفى ‪ 369‬هـ)‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وهو ـ كما ذكر في ترجمته ـ من مشايخ اإلمامية وأعيانها‪ ،‬قال النجاشي‪ :‬أبو القاسم من‬
‫خيار أصحاب سعد‪ ،‬وكان من ثقات أصحابنا وأجالئهم في الح ديث والفق ه‪ ،‬روى عن‪:‬‬
‫أبيه وأخيه عن سعد‪ ،‬وعليه قرأ شيخنا أبو عبد هللا المفي د الفق ه‪ ،‬ومن ه حم ل‪ ،‬وك ل م ا‬
‫يوصف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه‪ ،‬ثم ذكر أسماء كتبه‪ ،‬وقال‪ :‬قرأت أكثر ه ذه‬
‫الكتب على ش يخنا أبي عب د هللا المفي د رحم ه هللا وعلى الحس ين ابن عبي د هللا رحم ه‬
‫هللا(‪.)3‬‬
‫وقال الشيخ الطوسي‪ :‬جعفر بن محمد بن قولويه القمي يكنى (أبا القاسم) ثقة‪ ،‬ل ه‬
‫تصانيف كثيرة على عدد أبواب الفقه(‪.)4‬‬
‫ومنهم محمــد بن علي بن الحســين الصــدوق (‪ 381 -306‬هـ)‪ ،‬وه و رئيس‬
‫المح دثين الش يعة على اإلطالق‪ ،‬وه و ك ذلك فقي ه اإلمامي ة ووجههم‪ ،‬وق د قي ل في‬
‫ترجمته‪( :‬صدوق الطائفة‪ ،‬المولود بدعوة ص احب األم ر‪ ،‬المخص وص بح ق رعايت ه‬
‫وألطاف ه‪ ،‬الش يخ الفقي ه المح دث أب و جعف ر محم د بن علي بن الحس ين بن موس ى بن‬
‫بابوي ه القمي‪ ،‬ول د في محت د طيب وبل دة عريق ة في مدين ة قم‪ ،‬وت ربى في بيت رفي ع‬
‫عرف بالصالح والعلم وزعامة الدين‪ ،‬وقد تتلمذ على أبيه وتخرج على يديه‪ ،‬ثم ه اجر‬
‫من قم واختلف إلى حواضر العلم لتبادل السماع واالس ماع م ع المح دثين وأئم ة العلم)‬
‫(‪)5‬‬
‫ق ال النجاش ي عن ه‪( :‬أب و جعف ر‪ ،‬نزي ل ال ري‪ ،‬ش يخنا وفقيهن ا‪ ،‬ووج ه الطائف ة‬
‫بخراسان‪ ،‬وكان ورد بغداد سنة ‪ 355‬هـ‪ ،‬وسمع منه شيوخ الطائفة وه و ح دث الس ن‪،‬‬
‫ثم ذكر أسماء كتبه وذكر أنه ينقل كتب الصدوق عن طريق وال ده وه و علي بن أحم د‬
‫ابن العباس النجاشي‪ ،‬وهو الواسطة الوحيدة بينه وبين الص دوق‪ ،‬ف إن الوال د ق د تتلم ذ‬
‫على الصدوق وسمع كتبه)(‪)6‬‬
‫وقال الطوسي عنه‪( :‬جليل القدر‪ ،‬حفظة‪ ،‬بص ير بالفق ه واألخب ار والرج ال‪ ،‬ل ه‬
‫مصنفات كثيرة)(‪)7‬‬
‫و قال في فهرسته‪( :‬محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي‪ ،‬يكنى‬
‫أبا جعفر‪ ،‬ك ان جليال‪ ،‬حافظ ا لألح اديث‪ ،‬بص يرا بالرج ال‪ ،‬ناق دا لألخب ار‪ ،‬لم ي ر في‬

‫‪ )(1‬الرجال للنجاشي‪ :‬برقم ‪.465‬‬


‫‪ )(2‬موسوعة طبقات الفقهاء‪.243 /1 ،‬‬
‫‪ )(3‬الرجال للنجاشي‪ :‬برقم ‪.316‬‬
‫‪ )(4‬الفهرست للطوسي‪ :‬برقم ‪.141‬‬
‫‪ )(5‬موسوعة طبقات الفقهاء‪.244 /1 ،‬‬
‫‪ )(6‬الرجال للنجاشي‪ ،311 :‬برقم ‪.1050‬‬
‫‪ )(7‬الطوسي‪ :‬الرجال‪.495 :‬‬

‫‪174‬‬
‫القم يين مثل ه في حفظ ه وك ثرة علم ه‪ ،‬ل ه نح و من ثالثمائ ة مص نف وفهرس ت كتب ه‬
‫معروف)(‪)1‬‬
‫وقال الخطيب البغدادي‪( :‬ك ان من ش يوخ الش يعة ومش هوري الرافض ة‪ ،‬ح دثنا‬
‫عنه محمد بن طلحة النعالي)(‪)2‬‬
‫و قال الذهبي‪( :‬رئيس اإلمامي ة‪ ،‬أب و جعف ر محم د بن العالم ة علي بن الحس ين‬
‫ابن موس ى بن بابوي ه القمي‪ ،‬ص احب التص انيف الس ائرة بين الرافض ة‪ ،‬يض رب في‬
‫حفظه المثل‪ ،‬يقال له (‪ )300‬مصنف)(‪)3‬‬
‫وقال ابن إدريس‪( :‬كان ثقة‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬بصيرا باألخب ار‪ ،‬ناق دا لآلث ار‪ ،‬عالم ا‬
‫بالرجال‪ ،‬حفظة‪ ،‬وهو أستاذ شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان)(‪)4‬‬
‫ومنهم محمــد بن الحســن الطوسي (‪ 460 -385‬هـ)‪ ،‬وه و من الفقه اء ال ذين‬
‫جمع وا بين الح ديث والفق ه‪ ،‬ومم ا قي ل في ترجمت ه‪( :‬يمت از الش يخ محم د بن الحس ن‬
‫الطوسي عن أكثر معاصريه بأنه ك ان ذا م واهب كث يرة‪ ،‬ففي حين أن ه مح دث كب ير‪،‬‬
‫وألف للشيعة اإلمامية الجامعين الكبيرين (التهذيب) و(االستبص ار) فه و فقي ه متض لع‬
‫في الفقه‪ ..‬وقد تتلمذ على علمين كبيرين للشيعة هما‪ :‬المفي د والمرتض ى‪ ،‬فص ار علم ا‬
‫للفقه‪ ،‬ومرجعا للشيعة على اإلطالق بعد رحيل أس تاذه الش ريف المرتض ى‪ ،‬وص ارت‬
‫كتبه مرجعا ومصدرا لرواد العلم‪ ،‬حتى أضحى كتاب ه (النهاي ة) في مج رد الفق ه كتاب ا‬
‫دراسيا عدة قرون) (‪)5‬‬
‫قال النجاشي في حقه‪( :‬محمد بن الحسن بن علي الطوسي‪ ،‬أبو جعفر‪ ،‬جلي ل من‬
‫أصحابنا‪ ،‬ثقة‪ ،‬عين‪ ،‬من تالمذة شيخنا أبي عبد هللا)‬
‫و قال العالمة‪( :‬شيخ اإلمامية‪ ،‬ورئيس الطائفة‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬عظيم المنزلة‪ ،‬ثقة‪،‬‬
‫عين‪ ،‬صدوق‪ ،‬ع ارف باألخب ار والرج ال والفق ه واألص ول والكالم واألدب‪ ،‬وجمي ع‬
‫الفضائل تنسب إليه‪ ،‬صنف في كل فن ون اإلس الم‪ ،‬وه و المه ذب للعقائ د في األص ول‬
‫والفروع‪ ،‬والجامع لكماالت النفس في العلم والعمل)(‪)6‬‬
‫وقال المحقق البروجردي‪( :‬وأنت إذا نظ رت إلى كلمات ه في الكت ابين (الطه ارة‬
‫والصالة) وما جادل به المخالفين في المس ائل الخالفي ة‪ ،‬كمس ألة مس ح ال رجلين‪ ،‬وم ا‬
‫أفاده في مقام الجمع بين األخب ار واختيارات ه في المس ائل‪ ،‬وم ا يس تند في ه إليه ا‪ ،‬وم ا‬
‫يورده من األخبار في كل مسألة‪ ،‬تخيلته من أبناء السبعين وأنه ص رف عم ره الطوي ل‬
‫في تحصيل العلوم األدبية واألصولين والقراءات والتفسير ومس ائل الخالف والوف اق‪،‬‬

‫‪ )(1‬الفهرست للطوسي‪ ،184 :‬برقم ‪.709‬‬


‫‪ )(2‬الخطيب‪ :‬تاريخ بغداد‪.89 /3 :‬‬
‫‪ )(3‬الذهبي‪ :‬سير أعالم النبالء‪.303 /16 :‬‬
‫‪ )(4‬ابن إدريس‪ :‬السرائر‪.529 /2 :‬‬
‫‪ )(5‬موسوعة طبقات الفقهاء‪.270 /1 ،‬‬
‫‪ )(6‬الخالصة‪.148 :‬‬

‫‪175‬‬
‫وطاف البالد في طلب أحاديث الفريقين وما يتعلق بها من الجرح والتعديل‪ ،‬حتى صار‬
‫له قدم راسخ في جميع العلوم الدينية‪ ،‬ولو قيل لك إنه كان شابا ح دثا من أبن اء أرب ع أو‬
‫ثمان وعشرين ألنكرت ذلك وقلت ان هذا لشي عجاب)(‪)1‬‬
‫و قد خدم الشيخ الطوسي علم الفقه بأساليب ش تى(‪ ، 2‬فت ارة أل ف في الفق ه على‬
‫)‬
‫مس لك األخب اريين وأص حاب الح ديث‪ ،‬فج رد النص وص عن األس انيد وأس ماه ب‬
‫[النهاية] في مجرد الفتاوى‪ ،‬وك ان الكت اب كتاب ا دراس يا إلى زمن المحق ق الحلي قب ل‬
‫تأليف الشرائع‪ ،‬كما ألف في الفقه على مس لك المجته دين وأس ماه ب [المبس وط] وآث ر‬
‫فيه طريق المجتهدين‪ ،‬وقال في مقدمته‪ :‬إن ه كت اب لم يص نف مثل ه‪ ،‬وال نظ ير ل ه بين‬
‫كتب األصحاب‪ ،‬وال في كتب المخالفين‪ ،‬إلى أن ق ال‪ :‬إن أص حابنا ألف وا األخب ار وم ا‬
‫رووه من صريح األلفاظ‪ ،‬حتى أن مسألة لو غير لفظها وع بر عن معناه ا بغ ير اللف ظ‬
‫المعتاد لهم‪ ،‬تعجبوا منها‪ ،‬وقصر فهمهم عنها‪)3(.‬‬
‫كما انه خدم الفقه بتأليف كتاب على نم ط ث الث‪ ،‬وه و العلم بالخالفي ات‪ ،‬فكتاب ه‬
‫[الخالف] يعد فقها مقارنا يوقف القارئ على آراء فقهاء مختلف النحل‪ ،‬وهو ليس ممن‬
‫يجمع اآلراء المختلفة في المسائل الفقهي ة دون إج راء موازن ة بينه ا‪ ،‬ب ل ي ذكر اآلراء‬
‫ويقومها ويوازنها بترجيح ما اختاره على غيره من اآلراء‪.‬‬
‫وقد ذكر الشيخ جعفر السبحاني خصائص فق ه الش يخ الطوس ي ودوره في الفق ه‬
‫الشيعي‪ ،‬فذكر منها(‪:)4‬‬
‫‪ .1‬اتبع الشيخ الطوسي في فتاواه وتآليفه الفقهية نهج أستاذيه المفيد والمرتض ى‪،‬‬
‫وقد أتيحت له فرصة الوقوف على الكتب الفقهية أكثر مما وقف علي ه أس تاذاه‪ ،‬فأح اط‬
‫بآراء المذاهب األخرى إحاطة تامة ال نجد مثيلها في كتب المفيد والمرتضى‪.‬‬
‫‪ .2‬بلغ التفريع والتخريج على يده القمة‪ ،‬فما ت رك فرع ا إال خاض ه ويع د كتاب ه‬
‫المبسوط خير شاهد على ذلك‪ ،‬وقد مضى على تأليفه قرابة عشرة ق رون وم ع ذل ك لم‬
‫يؤلف كتاب مثله‪ ،‬والكتاب مع كونه يحتوي على دورة فقهية كاملة‪ ،‬لكنه سلس األلفاظ‪،‬‬
‫سهل التناول‪ ،‬موجز في النقل‪ ،‬مختصر في االستدالل‪ ،‬على خالف ما ن راه في كت ابي‬
‫(التذكرة) و(المنتهى)‬
‫‪ .3‬اس تخرج قواع د عقلي ة واعتم د عليه ا في مق ام التفري ع‪ ،‬وب ذلك رد على‬
‫خصماء الشيعة وصمة العار التي ألصقوها بهم‪ ،‬قال في أول (المبسوط)‪( :‬إني ال أزال‬
‫أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا‬
‫اإلمامية‪ ،‬ويستنزرونه‪ ،‬وينسبونهم إلى قلة الفروع وقل ة المس ائل‪ ،‬ويقول ون‪ :‬إنهم أه ل‬
‫حشو ومناقض ة‪ ،‬وإن من ينفي القي اس واالجته اد ال طري ق ل ه إلى ك ثرة المس ائل وال‬

‫‪ )(1‬الخالف‪ :‬مق ّدمة السيد المحقّق البروجردي‪ ،‬ص ‪ ،2‬الطبعة األولى‪.‬‬


‫‪ )(2‬موسوعة طبقات الفقهاء‪.270 /1 ،‬‬
‫‪ )(3‬المبسوط‪.2 /1 :‬‬
‫‪ )(4‬موسوعة طبقات الفقهاء‪.275 /1 ،‬‬

‫‪176‬‬
‫التفريع على األصول‪ ،‬ألن جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين؛ وه ذا جه ل‬
‫منهم بمذهبنا‪ ،‬وقلة تأمل ألص ولنا‪ ،‬ول و نظ روا في أخبارن ا وفقهن ا لعلم وا أن ج ل م ا‬
‫ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تلويحا عن أئمتنا ال ذين ق ولهم‬
‫في الحجة يج ري مج رى ق ول الن بي ‪ ‬إم ا خصوص ا‪ ،‬أو عموم ا‪ ،‬أو تص ريحا‪ ،‬أو‬
‫تلويحا‪ ،‬وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع‪ ،‬فال فرع من ذلك إال وله م دخل في‬
‫أصولنا ومخرج على مذهبنا ال على وجه القياس‪ ،‬بل على طريقة ي وجب علم ا ويجب‬
‫العمل عليها ويسوغ الوصول إليها من البناء على األصل‪ ،‬وب راءة الذم ة‪ ،‬وغ ير ذل ك‬
‫مع أن أكثر الفروع لها مدخل فيما نص عليه أصحابنا‪ ،‬وإنما ك ثر ع ددها عن د الفقه اء‬
‫ل تركيبهم المس ائل بعض ها على بعض وتعليقه ا والت دقيق فيه ا‪ ،‬ح تى أن كث يرا من‬
‫المسائل الواضحة دق لضرب من الصناعة وإن كانت المسألة معلومة واضحة)‬
‫ومنهم أبو علي بن شيخ الطائفة أبي جعفــر محمــد بن الحســن الطوسي (ت وفى‬
‫‪ 515‬هـ) (‪ ،)1‬قرأ على أبيه جميع تصانيفه‪ ،‬وروى عنه‪ ،‬وعن س الر بن عب د العزي ز‬
‫الديلمي وغيره‪ ،‬وكان من كبار العلماء‪ ،‬فقيه ا‪ ،‬مح دثا‪ ،‬راوي ة لألخب ار‪ ،‬ق ال عن ه ابن‬
‫حجر مثنيا عليه‪( :‬الحس ن بن محم د بن الحس ن بن علي الطوس ي‪ ،‬أب و علي س مع من‬
‫والده وأبي الطيب الطبري والخالل والتنوخي‪ ،‬ثم ص ار فقي ه الش يعة وإم امهم بمش هد‬
‫علي‪ ،‬سمع منه‪ :‬أبو الفضل بن عطاف‪ ،‬وهبة هللا السقطي‪ ،‬ومحم د بن محم د النس في‪،‬‬
‫وهو في نفسه صدوق مات في حدود ‪ 500‬هـ كان متدينا)(‪)2‬‬
‫و من آثاره الفقهية‪ :‬شرح النهاي ة ألبي ه أبي جعف ر‪ ،‬والمرش د إلى س بيل التعب د‪،‬‬
‫ورسالة في الجمعة‪ ،‬وكتاب األنوار(‪.)3‬‬
‫ومنهم أمين الــدين أبــو علي الفضــل بن الحســن بن الفضــل الطبرسي (‪-471‬‬
‫‪ 548‬هـ)‪ ،‬وقد قيل في ترجمته‪( :‬الشيخ اإلمام الطبرس ي‪ ،‬ثق ة‪ ،‬فاض ل‪ ،‬دين‪ ،‬عين‪ ،‬ل ه‬
‫تص انيف‪ ،‬منه ا‪( :‬مجم ع البي ان) في تفس ير الق رآن في عش رة أج زاء‪( ،‬الوس يط) في‬
‫التفسير في أربعة أجزاء‪( ،‬الوجيز) في التفسير أيضا‪( ،‬إعالم ال ورى ب أعالم اله دى)‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من اآلثار ذكرها منتجب الدين قال‪ :‬شاهدته وقرأت بعضها عليه‪ ،‬ي روي‬
‫عن الشيخ أبي الوفاء المقري الرازي‪ ،‬وعن الشيخ أبي علي الطوس ي‪ ،‬والش يخ حس كا‬
‫جد منتجب الدين‪ ،‬إلى غير ذلك من األسانيد)(‪)4‬‬
‫قال عنه الذهبي في كتابه [التفسير والمفسرون]‪( :‬والح ق أن تفس ير الطبرس ي‪،‬‬
‫بصرف النظر عما فيه من نزعات تشيعية‪ ،‬وآراء اعتزالية‪ ،‬كتاب عظيم في بابه‪ ،‬ي دل‬
‫على تبحر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة‪ ،‬والكتاب يج ري على الطريق ة‬

‫‪ )(1‬موسسه امام صادق (ع)‪ .‬گروه علمى‪ ،‬موسوعة طبقات الفقهاء‪14 ،‬جلد‪ ،‬مؤسسة اإلمام الصادق (عليه السالم)‬
‫‪ -‬ايران ‪ -‬قم‪ ،‬چاپ‪ 1418 ،1 :‬ه‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ )(2‬لسان الميزان‪ :‬ج ‪ 2‬الترجمة ‪.1046‬‬
‫‪ )(3‬الحظ أعيان الشيعة‪.246 /5 :‬‬
‫‪ )(4‬أنظ ر ترجمت ه في روض ات الجن ات‪ ،357 /5 :‬أعي ان الش يعة‪ ،398 /8 :‬طبق ات أعالم الش يعة؛ مس تدرك‬
‫الوسائل‪ ،387 /3 :‬الذريعة‪ ،24 /20 :‬و قد ترجم له في مقدمة تفسير( مجمع البيان)‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫التي أوضحها لنا صاحبه في تناسق تام‪ ،‬وترتيب جميل‪ ،‬وه و يجي د في ك ل ناحي ة من‬
‫النواحي التي يتكلم عنها‪ ،‬فإذا تكلم عن القراءات ووجوهها أجاد‪ ،‬وإذا تكلم عن المعاني‬
‫اللغوي ة للمف ردات أج اد‪ ،‬وإذا تكلم عن أس باب ال نزول وش رح القص ص اس تعرض‬
‫األقوال وأفاض‪ ،‬وإذا تكلم عن األحكام‪ ،‬تعرض لمذاهب الفقهاء وجهر بمذهبه ونصره‬
‫إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء‪ ،‬وإذا ربط بين اآليات آخى بين الجم ل‪ ،‬وأوض ح لن ا‬
‫عن حسن السبك وجم ال النظم‪ ،‬وإذا ع رض لمش كالت الق رآن أذهب اإلش كال وأراح‬
‫البال‪ ،‬وهو ينقل أقوال من تقدمه من المفس رين مع زوة ألص حابها وي رجح ويوج ه م ا‬
‫يختار منها‪ ...‬إلى أن قال‪ :‬والحق أن يق ال ان ه ليس مغالي ا في تش يعه‪ ،‬وال متطرف ا في‬
‫عقيدته)‪)1‬‬
‫ومنهم الشيخ عماد الــدين الحســن بن علي الطــبري (ك ان حي ا ع ام ‪ 698‬هـ)‪،‬‬
‫ومما قيل في ترجمته‪( :‬متكلم‪ ،‬فقيه‪ ،‬معاصر للمحقق الطوسي والمحقق الحلي‪ ،‬وأقواله‬
‫منقولة في كتب الفقه‪ ،‬ويعبرون عنه فيها بالعماد الطبري‪ ،‬وبعماد الدين الط بري‪ ،‬وق د‬
‫نقل شيخنا الشهيد الث اني رأي ه في رس الة الجمع ة‪ ،‬وليس رأي ه إال أن وج وب الجمع ة‬
‫موقوف على حضور السلطان العادل المبسوط اليد)(‪)2‬‬
‫و ق ال األفن دي الت بريزي‪( :‬ه و ع الم‪ ،‬فاض ل‪ ،‬متبح ر‪ ،‬ج امع‪ ،‬دين‪ ،‬ك ان من‬
‫أفاضل علماء طبرستان‪ ،‬ومن المعاصرين لنصير الدين الطوس ي‪ ،‬وق د أل ف في غ ير‬
‫واحد من الموضوعات تربو على ‪ 17‬كتابا‪ ،‬ففي الفقه ألف (المنهج) في فقه العب ادات‪،‬‬
‫واألدعية واآلداب الدينية‪ ،‬وكتاب (العمدة) في أصول الدين وفروعه الفرضية والنقلية‪،‬‬
‫و(نهج اإليمان إلى هداية اإليم ان) وه و أيض ا في الف روع الفقهي ة‪ ،‬إلى غ ير ذل ك من‬
‫التآليف)(‪)3‬‬
‫ومن المتأخرين من علم اء الش يعة في الفق ه واألص ول وغيرهم ا الســيد محمــد‬
‫حسن بن محمــود بن إســماعيل الحســيني الشــيرازي(‪ 1224( )4‬ـ ‪ 1312‬هـ)‪ ،‬ومم ا‬
‫قيل في ترجمته‪( :‬كان فقيه ا‪ ،‬عالم ا‪ ،‬م اهرا‪ ،‬محقق ا‪ ،‬م دققا‪ ،‬ورع ا‪ ،‬تقي ا‪ ،‬انتهت إلي ه‬
‫رئاسة اإلمامية العامة في عصره وطار صيته واشتهر ذكره ووصلت رسائله التقليدي ة‬
‫وفتاواه إلى جميع األصقاع)‬
‫من مؤلفاته األصولية‪ :‬رسالة في اجتماع األمر والنهي‪ ،‬وتلخيص إفادات أستاذه‬
‫األنصاري‪ ،‬ورسالة في المشتق‪.‬‬
‫ومنهم عبد هللا الرشتي(‪ 1312 -1234( )5‬هـ)‪ ،‬ومم ا قي ل في ترجمت ه‪( :‬ه و‬
‫الشيخ حبيب هللا بن محم د علي الرش تي‪ ،‬أح د األك ابر من تالمي ذ ش يخنا األنص اري‪،‬‬
‫‪ )(1‬التفسير و المفسرون للذهبي‪.104 /2 :‬‬
‫‪ )(2‬السيد األمين‪ :‬أعيان الشيعة‪.212 /5 :‬‬
‫‪ )(3‬اقرأ ترجمته الوافية في روضات الجنات برقم ‪ ،194‬و رياض العلماء‪.‬‬
‫‪ )(4‬موسوعة طبقات الفقهاء‪.445 /1 ،‬‬
‫‪ )(5‬موسوعة طبقات الفقهاء‪440 /1 ،‬‬

‫‪178‬‬
‫تلقى دروسه في مسقط رأسه رشت‪ ،‬ثم ارتحل إلى قزوين‪ ،‬فمكث فيها م دة ح تى ب رز‬
‫في الفقه واألصول‪ ،‬ثم غادرها إلى النجف األشرف فحض ر درس ص احب الج واهر‪،‬‬
‫ولما توفي أس تاذه ت ردد إلى أندي ة دروس ش يخنا األنص اري‪ ،‬وق د وق ف على منزلت ه‬
‫ومكانته في العلم والزمه طيلة عمره‪ ،‬ولم ا ل بى ش يخنا األنص اري دع وة رب ه اس تقل‬
‫بالتدريس والتأليف)‬
‫ومن كتبه في الفقه واألصول‪( :‬ب دائع األص ول) في أص ول الفق ه‪ ،‬و(المش تق)‪،‬‬
‫( )‬
‫و(القضاء والشهادات)‪ ،‬و(اإلجارة) ‪1‬‬
‫ومنهم الســيد أبــو القاســم الخــوئي (‪ 1317‬ـ ‪1413‬هـ)‪ ،‬وه و من مدين ة خ وي‬
‫اإليرانية‪ ،‬ويعد من أبرز فقهاء الشيعة ومراجع التقليد في القرن الرابع عشر الهج ري‪،‬‬
‫تتلمذ على يد كبار العلم اء في النج ف األش رف وتخ رج على يدي ه الكث ير من األعالم‬
‫والشخص يات العلمي ة‪ ،‬تس لم البعض منهم س ّدة المرجعي ة الش يعية بع د رحي ل أس تاذه‬
‫الخوئي‪.‬‬
‫وقد تعلّم الكثير من العلوم الرائجة في الحوزة العلمية وك ان أس تاذاً ب ارزاً فيه ا‪،‬‬
‫وتع ّد نظرياته األصولية والفقهية والرجالية والتفسيرية من النتاجات الفكرية التي يشار‬
‫إليها بالبَنان‪.‬‬
‫تسلم الس يد الخ وئي مق ام مرجعي ة الش يعة العام ة لس نين عدي دة ص بّ اهتمام ه‬
‫خاللها على نشر اإلس الم في س ائر بق اع المعم ورة‪ ،‬كم ا ش يّد الكث ير من المؤسس ات‬
‫العلمية والثقافية في شتّى بلدان العالم‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته التي كتبت على شكل تقريرات لدروسه كتبها تالميذه‪ :‬دراسات في‬
‫علم األصول بقلم تلميذه السيد علي الهاشمي الش اهرودي ق رر فيه ا ال دورة األص ولية‬
‫الثالثة لمحاضراته‪ ،‬ومنها محاضرات في أصول الفقه بقلم الشيخ محمد إسحاق الفياض‬
‫وهي دورة أصولية امتدحها السيد الخ وئي كث يراً‪ ،‬ومنه ا مب اني االس تنباط بقلم تلمي ذه‬
‫السيد أبو القاسم الكوكبي الت بريزي‪ ،‬ومنه ا مص ابيح األص ول‪ :‬بقلم الس يد عالء ال دين‬
‫بح ر العل وم‪ ،‬ومنه ا رس الة في األم ر بين األم رين بقلم محم د تقي الجعف ري‪ ،‬ومنه ا‬
‫مصباح الفقاهة في المعامالت‪ :‬بقلم محمد علي التوحي دي ال ذي وص فه الس يد الخ وئي‬
‫عند تقريظه للكتاب بالمتتبع المدقق واسع االطالع‪ ،‬ومنها التنقيح في ش رح المكاس ب‪:‬‬
‫بقلم علي الغ روي الت بريزي‪ ،‬ومنه ا محاض رات في الفق ه الجعف ري‪ :‬بقلم الس يد علي‬
‫الهاش مي الش اهرودي‪ ،‬ومنه ا المس تند في ش رح الع روة ال وثقى‪ :‬بقلم مرتض ى‬
‫البروجردي‪ ،‬ومنها تحرير العروة الوثقى‪ :‬بقلم قربانعلي محقق الكابلي‪ ،‬ومنه ا دروس‬
‫في الفقه الجعفري‪ :‬بقلم السيد مهدي الخلخالي‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته التي كتبه ا بنفس ه‪ :‬معجم رج ال الح ديث‪ ،‬ومنه ا البي ان في تفس ير‬
‫القرآن‪ ،‬وقد حظي باهتمام الب احثين من ذ األي ام األولى لص دوره على مس توى الح وزة‬
‫والجامعة‪.‬‬
‫‪ )(1‬له ترجمة ضافية في مق ّدمة كتابه( القضاء) بقلم السيد أحمد الحسيني‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ومنها رسالة في نفح ات اإلعج از‪ :‬كت اب كالمي ي دافع في ه عن إعج از الق رآن‬
‫الك ريم‪ ،‬ر ّد في ه على رس الة [حس ن االيج از في إبط ال اإلعج از] ال تي لفقه ا بعض‬
‫االمريكان المعرف لنفسه بنصير الدين الظافر في إنكار إعجاز القرآن(‪.)1‬‬
‫ومنها معجم رج ال الح ديث‪ ،‬ويع د من أهم المص نفات ال تي ش هدها ت اريخ علم‬
‫الرجال حيث لم يدون مثله كتاب جامع‪ ،‬مع مدخل مفصل في المجلد االول تعرض في ه‬
‫لمجموعة من االبحاث الض روية في علم الرج ال من قبي ل‪ :‬الحاج ة الى علم الرج ال؛‬
‫بماذا تثبت الوثاقة او الحسن؛ التوثيقات العامة؛ مناقشة س ائر التوثيق ات العام ة؛ نظ رة‬
‫في رواي ات الكتب األربع ة؛ األص ول الرجالي ة‪ ،‬إض افة الى ترجم ة لجم ع غف ير من‬
‫الرواة‪.‬‬
‫ومنها مباني تكملة منهاج الصالحين‪ :‬وهو شرح استداللي لرس الة تكمل ة منه اج‬
‫الصالحين ذكر فيه مبانيه ودليل الفتاوى المدرجة في الرسالة‪.‬‬
‫أما فقهــاء الشــيعة المعاصــرون‪ ،‬فكثيرون ج دا‪ ،‬ومنهم الس يد علي السيس تاني‪،‬‬
‫وهو من أكبر مراجع الشيعة في العالم‪ ،‬وإليه يرجع كثير من الش يعة في تقلي دهم‪ ،‬وق د‬
‫ولد سنة ‪ 1349‬هـ في مدينة مشهد من أسرة علمي ة معروف ة‪ ،‬فوال ده ه و الع الم الس يد‬
‫محمد ب اقر‪ ،‬ووالدت ه هي كريم ة العالم ة المرح وم الس يد رض ا المهرب اني الس رابي‪،‬‬
‫وج ّده األدنى هو الع الم الجلي ل الس يد علي ال ذي ت رجم ل ه العالم ة الش يخ آغ ا ب زرك‬
‫الطهراني في طبقات أعالم الشيعة(‪.)2‬‬
‫وفي بلده مشهد درس الفقه واألصول والمعارف المختلفة عند جم ع من العلم اء‬
‫األعالم‪ ،‬منهم آي ة هللا الم يرزا محم د مه دي األص فهاني‪ ،‬وآي ة هللا الم يرزا مه دي‬
‫األشتياني صاحب التعليقة على شرح منظومة السبزواري‪ ،‬والميرزا هاش م القزوي ني‪،‬‬
‫ثم انتق ل الى الح وزة العلمي ة في قم فحض ر بح وث المرج ع الكب ير الس يد حس ين‬
‫الطباطبائي البروجردي في الفقه وأصول الفق ه‪ ،‬وتلقى عن ه الكث ير من خبرت ه الفقهي ة‬
‫ونظرياته في علم الرجال والحديث‪ ،‬كما حضر درس الفقيه الكبير السيد محم د الحج ة‬
‫الك وهكمري‪ ،‬ثم انتق ل إلى النج ف‪ ،‬وحض ر البح وث الفقهي ة واألص ولية للعلمين‬
‫الكب يرين الس يد أب و القاس م الموس وي الخ وئي والش يخ حس ين الحلي‪ ،‬والزمهم ا م دة‬
‫طويل ة‪ ،‬وحض ر خالل ذل ك أيض ا بح وث بعض األعالم اآلخ رين منهم الس يد الحكيم‬
‫والسيد الشاهرودي‪.‬‬
‫قال عنه د‪ .‬محمد حسين الصغير‪( :‬الرجل عاش منعزال في النجف طيلة نص ف‬
‫قرن من الزمان‪ ،‬ه ٌمه الدرس والتدريس فقط وقد ن ال مرتب ة االجته اد في ع ام ‪1380‬‬
‫هـ‪ ،‬أج يز باالجته اد من ذل ك ال وقت‪ .‬ي درس درس ه ويحض ر دروس اآلخ رين من‬
‫المراجع العظام‪ .‬وهو قارئ جيد لكل الفلسفات المعاصرة فهو يعرف الشيوعية بدقائقها‬
‫خاص ا‬
‫ٌ‬ ‫وهو يعرف الرأسمالية بدقائقها وهو يع رف الوجودي ة ب دقائقها‪ ،‬كم ا لدي ه ول ع‬

‫‪ )(1‬أقا بزرك الطهراني‪ ،‬الذريعة الى تصانيف الشيعة‪.24/246 ،‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السيرة الذاتية‪ ،‬موقع السيد السيستاني‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫بالحكمة والفلسفة فقد درسهما دراسة مجدية‪ ،‬وهو يحترم كل أحد‪ ،‬وي رحب بك ل أح د‪،‬‬
‫ويعظم أهل ال دين ويقاب ل الص امدين بمب ادئهم مقابل ة روحي ة خاص ة ألن ه يع رف ان‬
‫هؤالء ليسوا بانتهازيين‪ .‬وق د ض حوا بأعم ارهم في س بيل المب دأ والثب ات على المب دأ‪.‬‬
‫وهو يعي مشكالت العصر بكل حذافيرها)(‪)1‬‬
‫ومن ميزاته الكبرى وقوفه ضد الطائفية‪ ،‬وه و ص احب المقول ة المش هورة‪( :‬ال‬
‫تقولوا إخواننا السنة بل قولوا أنفسنا)‪ ،‬وكان له الدور األك بر في إخم اد الفتن ة الطائفي ة‬
‫في الع راق بين الس نة والش يعة م ا بين ‪ 2004‬ـ ‪2006‬م‪ ،‬فعلى ال رغم من أن أك ثر‬
‫التفجيرات في العراق كانت تحدث في األحياء الشيعية إال أنه رفض اته ام الس نة به ذه‬
‫التفج يرات‪ ،‬عازي ا ه ذه التفج يرات الى م ؤامرات خارجي ة تح اول تمزي ق النس يج‬
‫االجتماعي للشعب العراقي‪ ،‬كما وكان ل ه دور ب ارز بع د هج وم داعش على الع راق‪،‬‬
‫حيث أصدر فتوى الجهاد الكفائي مما سببت في حضور اآلالف من الشباب إلى مقابل ة‬
‫داعش‪.‬‬
‫ومن صفاته التواضع والزهد‪ ،‬فمع كونه من كبار المراجع في العالم اإلس المي‪،‬‬
‫وتأتيه الحقوق الشرعية من شرق األرض وغربها لكنه اليمل ك بيت ا‪ ،‬ب ل يس تأجر دارا‬
‫بسيطة قديمة البنيان في أحد األحياء النجفية القديمة(‪.)2‬‬
‫ومن المعاص رين أيض ا‪ ،‬وال ذين لم تش غلهم الحي اة السياس ية عن البحث والعلم‬
‫والتأليف السيد علي الحسيني الخامنئي(‪ ،)3‬القائد الحالي للثورة اإلس المية في إي ران‪،‬‬
‫وهو من مواليد مدينة مشهد عام ‪ 1939‬م في عائلة علمية‪.‬‬
‫وله الكثير من المؤلفات في المجاالت المختلف ة‪ ،‬منه ا‪ :‬االس تفتاءات‪ ،‬واإليم ان‪،‬‬
‫والتوحيد‪ ،‬والنب ّوة‪ ،‬واإلمامة‪ ،‬والوالية‪ ،‬وبحث في الفكر اإلسالم ّي‪ ،‬ودروس في معرفة‬
‫اإلسالم‪ ،‬ودروس في الفكر اإلسالم ّي‪ ،‬والفهم الص حيح لإلس الم‪ ،‬ودروس في العقائ د‪،‬‬
‫وتفس ير الق رآن‪ ،‬والق رآن والع ترة‪ ،‬ودروس في الق رآن‪ ،‬والمش روع الع ام للفك ر‬
‫اإلسالم ّي في القرآن‪ ،‬ودروس في الح ديث‪ ،‬وقبس من نهج البالغ ة‪ ،‬وعنص ر الجه اد‬
‫في حياة األئ ّمة عليهم السالم‪ ،‬والهجرة‪ ،‬ومعرفة اإلمام عل ّي عليه الس الم‪ ،‬وآالم اإلم ام‬
‫علي عليه السالم وآالمنا‪ ،‬والحياة السياسيَّة لإلم ام الص ادق علي ه الس الم‪ ،‬والشخص ية‬
‫السياس يَّة لإلم ام الرض ا علي ه الس الم‪ ،‬وكت اب الجه اد (بحث الخ ارج للس يد القائ د)‪،‬‬
‫والحكومة في اإلسالم‪ ،‬ودروس في األخالق‪ ،‬ومن أعماق الصالة‪ ،‬وبحث في الص بر‪،‬‬
‫وخص ائص اإلنس ان المس لم‪ ،‬وس ؤال وج واب (‪ 5‬مجل دات)‪ ،‬وأربع ة كتب رجاليّ ة‬
‫ّ‬
‫والفن الثامن‪ ،‬وبحث في الث أر‪ ،‬وجه اد اإلم ام‬ ‫رئيسيّة‪ ،‬ودور المسلمين في ثورة الهند‪،‬‬
‫السجاد عليه السالم‪ ،‬وبحث فقه ّي في الهدن ة‪ ،‬وبحث فقه ّي في حكم الص ائبة‪ ،‬ومناس ك‬
‫الحج‪ ،‬والكلمات القصار‪ ،‬والشيخ المفيد وهويّة التشيّع‪ ،‬والعودة إلى نهج البالغة‪.‬‬

‫‪ )(1‬شبكة العراق الثقافية‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر سيرته الذاتية في موقعه‪.‬‬
‫‪ )( 3‬انظر في ترجمته‪ :‬اإلمام الخامنئي دام ظله القائد المرجع‪ ،‬جمعية المعارف اإلسالمية الثقافية‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد ترجم الكثير من الكتب إلى اللغة العربية‪ ،‬ومنه ا ترجم ة‬
‫تفسير في ظالل القرآن لسيّد قطب‪ ،‬وترجمة كتاب ص لح اإلم ام الحس ن علي ه الس الم‪،‬‬
‫وترجمة كتاب المستقبل لهذا الدين‪.‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن بعض الخدمات التي قدمها اإليرانيون للشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫وهي دليل على مدى تغلغل الدين في نفوس هم وقل وبهم في جمي ع م راحلهم التاريخي ة‪،‬‬
‫ذلك أنه ال يمكن ألحد من الناس أن يهتم بشيء‪ ،‬ويكتب فيه دون أن يكون ل ه ت أثر ب ه‪،‬‬
‫وعشق له‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫إيران ‪ ..‬والقيم الروحية‬
‫ربما يكون االهتمام بالجوانب الروحية ه و الس مة الب ارزة في إي ران من ذ بداي ة‬
‫اإلسالم إلى اليوم‪ ،‬ذلك أن أكبر مشايخ السلوك‪ ،‬وأكثر ال تراث ال روحي‪ ،‬م ا ك ان من ه‬
‫من المدرسة السنية أو المدرسة الشيعية كانت له عالقة بإيران‪ ،‬ومدنها‪.‬‬
‫فالجنيد وأبو يزيد البس طامي والس رّاج الطوس ي وأب و علي ال دقاق النيس ابوري‬
‫وأبو القاسم القشيري والغزالي والكاشاني وصدر المتألهين وحيدر اآلملي وفريد ال دين‬
‫العطار وابن تركة وغيرهم كثير هم من أبناء إيران‪.‬‬
‫وهكذا فإن أكثر التراث الص وفي‪ ،‬وخاص ة المص ادر األولى من ه‪ ،‬نج دها ألفت‬
‫في إيران‪ ،‬ومن أمثلتها إحياء علوم الدين للغزالي‪ ،‬والمحجة البيضاء للكاشاني‪ ،‬واللم ع‬
‫للطوسي‪ ،‬والرسالة للقشيري‪ ،‬وتمهيد القواعد البن تركة‪ ،‬واألسفار لص در المت ألهين‪..‬‬
‫وغيرها من الكتب التي تشكل المصادر الكبرى للعرف ان والتص وف والحي اة الروحي ة‬
‫في اإلسالم‪.‬‬
‫وال نبالغ إن قلنا بأن هذا الجانب في حياة اإليرانيين هو الذي أتاح لهم االنتص ار‬
‫على ذل ك االس تبداد ال ذي عاش وه في ظالل الش اه‪ ،‬وغ يره من الط واغيت‪ ،‬ذل ك أن‬
‫الخميني كان يمتلك جميع المواص فات الروحي ة ال تي يخض ع لمثله ا اإليراني ون‪ ..‬فق د‬
‫جمع مع تلك المواصفات الروحية األبعاد السياسية والثورية التي قلما نجدها تجتمع في‬
‫شخص واحد‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإننا عندما نطالع تراث الخميني‪ ،‬أو نستمع إلى خطبه ودروسه المسجلة‪،‬‬
‫نج ده يهتم ب الجوانب الروحي ة‪ ،‬أك ثر من اهتمام ه ب أي ج انب آخ ر‪ ،‬ح تى في أحل ك‬
‫األزمات السياسية‪ ،‬كان يوجه خطابه الروحي لشعبه‪ ،‬مفعما بالحياة‪ ،‬والرقة والجمال‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله في مخاطبة مريده‪( :‬أيها العزيز‪ ...‬اجتهد لتص بح ذا‬
‫عزم وإرادة‪ ،‬فإنك إذا رحلت من ه ذه ال دنيا دون أن يتحق ق في ك الع زم‪ ،‬ف أنت إنس ان‬
‫صوري‪ ،‬بال لب‪ ،‬ولن تحشر في ذلك العالم على هيئة إنسان‪ ،‬ألن ذلك العالم ه و مح ل‬
‫كشف الباطن وظه ور الس ريرة‪ ،‬وإن التج رؤ على المعاص ي يفق د اإلنس ان ت دريجيا‪،‬‬
‫العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف‪ ..‬تجنب المعاصي‪ ،‬واع زم على الهج رة إلى‬
‫الحق تعالى‪ ،‬وأجعل ظاهرك ظاهرا إنسانيا‪ ،‬وادخل في سلك أرب اب الش رائع‪ ،‬واطلب‬
‫من هللا تعالى في الخلوات العون على بلوغ هذا الهدف واستشفع برس ول هللا ‪ ‬وأه ل‬
‫بيته عليهم السالم حتى يوفقك هللا على ذلك‪ ،‬ويعصمك من المزالق التي تعترضك‪ ،‬ألن‬
‫هناك مزالق كثيرة تعترض اإلنسان أيام حياته‪ ،‬ومن الممكن أنه في لحظة واحدة يسقط‬
‫في مزلق مهلك‪ ،‬يعجز من السعي إلنقاذ نفسه‪ ،‬بل قد ال يهتم بإنق اذ نفس ه‪ ،‬ب ل ربم ا ال‬
‫تشمله حتى شفاعة الشافعين‪ .‬نعوذ باهلل منها)(‪)1‬‬
‫ويقول له‪( :‬أيها العزيز؛ كن ذاكرا لعظمة رب ك‪ ،‬وت ذكر نعم ه وألطاف ه‪ ،‬وت ذكر‬
‫‪ )(1‬األربعون حديثا‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.8‬‬

‫‪183‬‬
‫أنك في حضرته‪ ،‬وهو شاهد عليك‪ ،‬فدع التمرد عليه‪ ،‬وفي هذه المعركة الك برى تغلب‬
‫على جنود الشيطان‪ ،‬واجعل من مملكتك مملكه رحمانية وحقانية‪ ،‬وأحل ل فيه ا عس كر‬
‫الحق تعالى محل جنود الشيطان‪ ،‬كي يوفقك هللا تبارك وتعالى في مقام مجاهدة أخرى‪،‬‬
‫وفي ميدان معركة أكبر تنتظرنا وهي الجهاد مع النفس في الع الم الب اطن‪ ،‬وفي المق ام‬
‫الثاني للنفس‪ ..‬وال تعلق على نفسك اآلمال‪ ،‬ألنه ال ينهض أح د يعم ل غ ير هللا تع الى‪،‬‬
‫ف اطلب من الح ق تع الى نفس ه بتض رع وخش وع‪ ،‬كي يعين ك في ه ذه المجاه ة لعل ك‬
‫تنتصر) (‪)1‬‬
‫وهكذا نجد خطاباته ودروسه وكتبه مشحونة بأمثال هذه العظات‪ ،‬ال تي يخ اطب‬
‫فيها النفوس والعقول واألرواح لتعود لربها‪ ،‬وتعيش في صحبته‪.‬‬
‫ولم يكن ذلك مجرد خطابات يخ اطب به ا مريدي ه وش عبه‪ ،‬وإنم ا ك انت مع اني‬
‫يعيشها‪ ،‬كما يذكرها عنه ك ل من عاش ره أو ع اش مع ه‪ ،‬وق د ذك ر ك ل المق ربين من ه‬
‫حرصه على قيام الليل‪ ،‬وجميع النوافل‪ ،‬وكثرة قراءته للق رآن‪ ،‬ورع ه الش ديد من ك ل‬
‫الشبهات‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك ما قاله بعضهم يصف بعض ذلك‪( :‬النقطة ال تي ينبغي‬
‫االلتفات اليها هنا تكمن في ذلك التضرع وفي تلك المناجاة التي كان يعيش ها اإلم ام في‬
‫صالة الليل‪ ،‬نحن قد سمحت لن ا الظ روف أن ن رى تض رعاته وبك اءه أم ام المحض ر‬
‫اإللهي في الليالي الحالكة حيث كنا دائما إلى جانبه‪ ،‬وحتى في تلك الليلة التي نق ل فيه ا‬
‫إلى المستشفى‪ ،‬وكان مقررا أن تجرى له عملية جراحية في الي وم الت الي‪ ،‬اس تيقظ من‬
‫نوم ه كعادت ه وق ام الى الص الة‪ ،‬وق د عرض ت ه ذه المش اهد على م رأى الجمي ع في‬
‫التلفزي ون حيث تم التقاطه ا بواس طة ك اميرا خفي ة‪ ،‬ولكن مقطع ا من الفيلم لم يع رض‬
‫لمصلحة ما‪ ،‬وهو لحظات مناجاة اإلم ام وبكائ ه في محض ر حض رة ذي الجالل‪ ،‬ول و‬
‫أني كنت أتمنى أن يعرض هذا المقطع أمام الجميع‪ ،‬حتى يعلموا أنه في الوقت ال ذي لم‬
‫يكن للخوف مكان في حياة اإلمام حيث كان يقف وحيدا فريدا ال يخاف أحدا وال يخشى‬
‫أحدا‪ ،‬كان في الجانب اآلخر يقف أمام بارئه يبكي ويرتج ف وتنهم ر دموع ه بش كل ال‬
‫مثيل له)(‪)2‬‬
‫وقال آخر‪ ،‬يذكر ورعه‪( :‬في [نوفل لوشاتو] يعتبر ذبح الحيوانات خارج المسلخ‬
‫ممنوع حسب القوانين‪ ،‬وفي أحد األيام ذبح خروف في مكان إقامة االمام‪ ،‬فقال‪( :‬أنا ال‬
‫آكل من هذا اللحم‪ ،‬ألنه مخالف لقانون ه ذه الدول ة)‪ ..‬وخ رجت ذات ي وم واش تريت ‪2‬‬
‫كيلو من البرتقال‪ ،‬وعندما رأني تس اءل‪ :‬لم اذا ك ل ه ذا البرتق ال؟‪ ،‬فقلت‪ :‬إن ه رخيص‬
‫الثمن‪ ،‬ويكفينا لعدة أيام‪ ،‬فقال اإلمام‪( :‬لقد ارتكبت اثمين‪ ،‬األول أن ك اش تريت البرتق ال‬
‫بهذه الكمية ونحن ال نحتاجها‪ ،‬والثاني أن ه ربم ا يوج د في الحي من لم يش تر البرتق ال‬
‫لحد اآلن بسبب الغالء‪ ،‬ويمكنه آن يشتريه بهذا السعر الزهيد)‪،‬ثم أمر بإعطائه الفقراء)‬

‫‪ )(1‬األربعون حديثا‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.12‬‬


‫‪ )(2‬قبسات من حياة االمام (ص‪)36 :‬‬

‫‪184‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهكذا نجد األمثلة الكثيرة التي يتناقلها محبوه‪ ،‬والتي وضعت فيها الكتب‪ ،‬والتي‬
‫كان لها الدور الكب ير ال في توف ير القابلي ة ل ه بين ش عبه فق ط‪ ،‬وإنم ا في إحي اء ونش ر‬
‫الكث ير من القيم الروحي ة واألخالقي ة ال تي ب نيت على أساس ها الجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليرانية‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا نحاول في هذا الفص ل أن ن ذكر أهم تجلي ات اهتم ام إيران يين‬
‫بالقيم الروحية‪ ،‬وقد رأينا أنها ثالثة تجليات كبرى‪:‬‬
‫أولها االهتمام بالشعائر التعبدية‪ ،‬والتركيز على الجوانب الروحية العميقة فيه ا‪،‬‬
‫بدل الجوانب الشكلية‪.‬‬
‫وثانيها االهتم ام بالمجاه دات الس لوكية ال تي وردت في النص وص المقدس ة‪،‬‬
‫وذكرها أئمة أهل البيت‪ ،‬واستفادها منهم الصوفية والعرفاء‪.‬‬
‫وثالثها االهتم ام ب األذواق والمع ارف الروحي ة‪ ،‬وف ق م ا ورد في النص وص‬
‫المقدسة وفي الروايات الشارحة لها‪.‬‬
‫وهذه التجليات الثالث كافية للداللة على أن مفه وم الت دين في إي ران ـ وخاص ة‬
‫في ظل نظامها اإلسالمي الجديد ـ ليس محصورا في تلك الظواهر والش عارات‪ ،‬وإنم ا‬
‫يمتد إلى أعمق أعماق النفس اإلنسانية‪ ،‬وه و م ا يم يز التجرب ة اإليراني ة عن تج ارب‬
‫الحركات اإلسالمية التي احتقرت التصوف والسلوك الباطني‪ ،‬واحتقرت معه ا الط رق‬
‫الصوفية‪ ،‬واعتبرته ا خراف ة وض اللة‪ ،‬وله ذا لم تس تطع أن تنجح في أي مش روع من‬
‫مشاريعها‪.‬‬
‫وق د اعتم دنا للدالل ة على ه ذه التجلي ات على م ا ورد في ال تراث ال روحي‬
‫اإليراني‪ ،‬وخصوصا ما سجله قادة ثورتها اإلسالمية‪ ،‬باعتبارهم يمثلون امتدادا طبيعيا‬
‫للطبيعة اإليرانية‪ ،‬ونوع التدين الذي يحكمها‪.‬‬
‫أوال ـ اهتمام اإليرانيينـ بالشعائر التعبدية‪:‬ـ‬
‫تعت بر الش عائر التعبدي ة من ص الة وق راءة ق رآن وذك ر ودع اء وغيره ا هي‬
‫الوسائل التي اعتبرتها الشريعة بنصوصها المقدس ة مع ارج ل رقي ال روح‪ ،‬وتواص لها‬
‫مع ربها سبحانه وتعالى‪ ،‬ولذلك اهتم بها كل علماء الس لوك ومش ايخ التربي ة‪ ،‬وش نعوا‬
‫على من قصر في الش ريعة‪ ،‬أو اتخ ذ غيره ا وس ائل للوص ول‪ ،‬كم ا روي عن الجني د‬
‫قوله في جماعة زعموا أنهم يصلون إلى حالة يسقط عنهم التكليف‪( :‬وصلوا‪ ،‬ولكن إلى‬
‫سقر)‪ ،‬وروي أنه لم يترك أوراده في حال نزاعه‪ ،‬فقيل ل ه في ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬ومن أولى‬
‫مني بذلك‪ ،‬وهذه صحائفي تطوي)(‪)2‬‬
‫وهكذا شدد أئمة أهل البيت ـ الذين اعتبرهم اإليرانيون مشايخهم الروحيين ـ في‬
‫التنفير من كل سلوك غير السلوك الذي جاءت به الشريعة للسير التحققي‪ ،‬ذل ك أن ك ل‬

‫‪ )(1‬قبسات من حياة االمام (ص‪)45 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.265 :‬‬

‫‪185‬‬
‫سلوك مبتدع إنما يبعد عن هللا‪ ،‬أكثر مما يقرب منه‪.‬‬
‫ولهذا وردت عباراتهم في النهي عن صحبة أدعياء التص وف من المبتدع ة‪ ،‬ال‬
‫الصوفية الملتزمين بالشريعة‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك قول االم ام الص ادق عن دما س ئل‬
‫عن ذلك الن وع من الص وفية‪( :‬إنهم أع داؤنا‪ ،‬فمن م ال إليهم فه و منهم ويحش ر معهم‪،‬‬
‫وس يكون أق وام‪ ،‬ي ّدعون حبن ا ويميل ون إليهم ويتش بهون بهم‪ ،‬ويلقب ون أنفس هم بلقبهم‪،‬‬
‫ويقولون أقوالهم‪ ،‬أال فمن مال إليهم فليس منا‪ ،‬وإنّا منه براء‪ ،‬ومن أنكرهم ورد عليهم‪،‬‬
‫( )‬
‫كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول هللا ‪1 )‬‬
‫وله ذا ن رى اهتم ام الق ادة الروح يين للمش روع الحض اري اإلي راني الجدي د‬
‫بالش عائر التعبدي ة‪ ،‬وإش اعتها‪ ،‬وال دعوة إليه ا ع بر الوس ائل المختلف ة‪ ،‬وتوف ير ك ل‬
‫اإلمكان ات المتاح ة ألدائه ا والتش جيع عليه ا‪ ،‬لتك ون مرق اة لألرواح للتحق ق ب القرب‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫وسنذكر هنا نماذج عن ذلك من خالل الشعائر التعبدية الكبرى‪ ،‬التي ال يمكن أن‬
‫تتحقق القيم الروحية من دون التزامها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ االهتمام بالصالة وأبعادها الروحية‪:‬‬
‫عند مطالعة كل التراث الروحي الذي ألفه اإليرانيون في عصورهم السابقة نجد‬
‫ذلك االهتمام الشديد بالصالة‪ ،‬والقيم الروحية ال تي تحمله ا‪ ،‬وهم في ذل ك يتأس ون بم ا‬
‫كان عليه رس ول هللا ‪ ‬وأئمتهم ال ذين اعت بروا اتب اعهم واجب ا ش رعيا ال من اص لهم‬
‫منه‪.‬‬
‫وكي ف ال يفعل ون ذل ك‪ ،‬وهم ي رددون ك ل حين‪ ،‬وبش غف وش وق كب يرين تل ك‬
‫الوصايا العظيمة التي كان يوصي بها أمير المؤمنين علي بن أبي ط الب ال ذي اتخ ذوه‬
‫إمامهم وقائ دهم وش يخهم ال روحي؛ فق د ك ان من وص اياه الك برى ال تي ت ردد في ك ل‬
‫الص الة‪ ،‬وح افظوا عليه ا‪،‬‬ ‫المساجد اإليرانية ـ كلما قرئ نهج البالغة ـ‪( :‬تعاهدوا أم ر ّ‬
‫َت َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ِكتاب ا ً َموْ قوت ا﴾‪ ..‬أال تس معون‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫واستكثروا منها‪ ،‬وتقرّبوا بها‪ ،‬فإنّها ﴿كان ْ‬
‫ص لينَ ﴾‪..‬‬‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫ك ِمنَ ال ُم َ‬ ‫ُ‬
‫إلى جواب أهل النّار حين سئلوا‪﴿ :‬ما َسلَ َك ُك ْم فِي َسقَ َر (‪ )42‬قالوا لَ ْم نَ ُ‬
‫هّللا‬
‫حت الورق‪ ،‬وتطلقها إطالق الرّبق‪ ،‬وشبّهها رسول ‪ ‬بالح ّم ة‬ ‫الذنوب ّ‬ ‫لتحت ّ‬
‫ّ‬ ‫وإنّها‬
‫ّ‬
‫تكون على باب الرّجل‪ ،‬فهو يغتسل منها في اليوم والليل ة خمس م رّات‪ ،‬فم ا عس ى أن‬
‫يبقى عليه من ال ّدرن‪ ..‬وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين‪ ،‬الّذين ال تشغلهم عنها زينة‬
‫﴿رجا ٌل ال تُ ْل ِهي ِه ْم تِجا َرةٌ وال بَ ْي ٌع‬ ‫متاع‪ ،‬وال ق ّرة عين من ولد وال مال‪ ،‬يقول هّللا سبحانه‪ِ :‬‬
‫الص ال ِة وإِيت ا ِء ال َّزك ا ِة﴾ [ط ه‪ ..]132 :‬وك ان رس ول هّللا ‪ ‬نص با‬ ‫ع َْن ِذ ْك ِر هَّللا ِ وإِق ِام َّ‬
‫واص طَبِرْ‬ ‫ْ‬ ‫الص ال ِة‬ ‫بالصّالة بع د التّبش ير ل ه بالجنّ ة‪ ،‬لق ول هّللا س بحانه‪ْ :‬‬
‫﴿وأ ُم رْ أَ ْهلَ كَ بِ َّ‬
‫( )‬
‫َعلَيْها﴾‪ ،‬فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه) ‪2‬‬
‫وفي خطبة أخرى‪ ،‬يقول‪( :‬طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها‪ ،‬وعركت بجنبه ا‬

‫‪ )(1‬سفينة البحار للمحدث القمي ج‪ 2‬ص‪)57‬‬


‫‪ )(2‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة رقم(‪)199‬‬

‫‪186‬‬
‫بؤس ها‪ ،‬وهج رت في اللي ل غمض ها‪ ،‬ح تى إذا غلب الك رى عليه ا افترش ت أرض ها‪،‬‬
‫وتوس دت كفه ا‪ ،‬في معش ر أس هر عي ونهم خ وف مع ادهم‪ ،‬وتج افت عن مض اجعهم‬
‫جنوبهم‪ ،‬وهمهمت بذكر ربهم ش فاههم‪ ،‬وتقش عت بط ول اس تغفارهم ذن وبهم‪{ ،‬أُولَئِ َ‬
‫ك‬
‫ب هَّللا ِ هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ } [المجادلة‪1 )]22 :‬‬
‫( )‬
‫ِح ْزبُ هَّللا ِ أَاَل إِ َّن ِح ْز َ‬
‫وهكذا كانت هذه الوصايا وغيره ا كث ير تفع ل فعله ا في نف وس اإليران يين من ذ‬
‫سالف العصور‪ ،‬ولهذا ال نعجب من ذلك االهتمام الش ديد ال ذي أواله الق ادة الروحي ون‬
‫إليران الحديثة بالصالة‪ ،‬حتى أن لكال القائدين‪ :‬الخميني والخامنئي كتبا حوله ا وح ول‬
‫أسرارها وأعماقها‪ ،‬على الرغم من كل تلك األعباء الكبيرة التي كانوا يؤدونها في فترة‬
‫الثورة والمواجهة مع الش اه وأزالم ه‪ ،‬أو في في ف ترة االنتص ار والمواجه ة م ع ق وى‬
‫االستكبار العالمي‪.‬‬
‫ويسرنا أن ن ذكر بعض رؤاهم هن ا‪ ،‬ال باعتباره ا تمث ل أشخاص هم فق ط‪ ،‬وإنم ا‬
‫باعتبارها تمثل نوع اهتمامهم بالصالة‪ ،‬لنكتش ف الف رق بين رؤيتهم ورؤي ة الط ائفيين‬
‫الذين ال ينظرون إلى الص الة إال باعتباره ا مجموع ة طق وس وحرك ات يص نفون من‬
‫خالله ا المس لمين إلى س نة ومبتدع ة‪ ،‬ناس ين أن أعظم س نة في الص الة هي الخش وع‬
‫وحضور القلب والترقي بها إلى هللا‪.‬‬
‫ونذكرها كذلك لتك ون تجرب ة ألولئ ك الحرك يين ال ذين يري دون إع ادة اإلس الم‬
‫للحياة‪ ،‬ولكن وفق الرؤية العلمانية‪ ،‬ال الرؤية الدينية‪ ،‬ول ذلك ن راهم في ف ترة انش غالهم‬
‫بالمعارضة السياسية يغفلون عن االهتمام بمثل ه ذه القض ايا‪ ،‬وكأنه ا ليس ت لب ال دين‬
‫وعماده وعمقه‪.‬‬
‫بخالف ذلك نرى الخميني ـ وهو قائ د أك بر ث ورة ناجح ة في الق رن العش رين ـ‬
‫يتحدث عن الصالة بأشواق روحية عالية؛ فهو يقول في الدعاء الذي قدم به لكتابه [سر‬
‫الص الة‪ ،‬أو ص الة الع ارفين]‪( :‬اللهم اه دنا الص راط المس تقيم اإلنس اني‪ ،‬وأبرئن ا من‬
‫جهالة العجب وضاللة الكبر‪ ،‬واسمح لن ا بال دخول إلى محف ل األنس ألرب اب الع روج‬
‫الروح اني‪ ،‬ومق ام الق دس ألص حاب القل وب العرفاني ة‪ ،‬وارف ع عن بص ائرنا حجب‬
‫األناني ة الظلماني ة‪ ،‬واالني ة النوراني ة ح تى نص ل إلى المع راج الحقيقي الص التي‬
‫للمصلين المتضرعين‪ ،‬ونكبر التكبيرات األربع إلى الجهات األرب ع للمل ك والملك وت‪،‬‬
‫وافتح لنا أبواب األسرار الغيبية‪ ،‬واكش ف عن ض مائرنا أس تار األحدي ة لنن ال مناج اة‬
‫أهل الوالية ونفوز بحالوة ذكر أرباب الهداية‪ ،‬واصرف التعلقات القلبية لنا عن الغ ير‪،‬‬
‫واجعله ا مص روفة إلي ك‪ ،‬وأغمض عيونن ا عن األغي ار ال ذين هم ش ياطين طري ق‬
‫السلوك‪ ،‬ونورها بجمالك الجميل‪ ،‬إنك ولي الهداية والتوفيق)(‪)2‬‬
‫وهو يركز في كتابه على المعاني الروحية في الص الة‪ ،‬وكونه ا المع راج ال ذي‬
‫يع رج ب ه الم ؤمن إلى هللا‪ ،‬س واء في مرحل ة الس لوك أو الوص ول‪ ،‬فيق ول‪( :‬ق د ت بين‬

‫‪ )(1‬نهج البالغة‪ :‬خطب ‪.217‬‬


‫‪ )(2‬سر الصالة‪ ،‬أو صالة العارفين‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.3‬‬

‫‪187‬‬
‫واتض ح عن د أرب اب المع ارف اإللهي ة أن اإلنس ان الس الك م ا دام في الس ير إلى هللا‬
‫والس لوك إلى ج انب هللا‪ ،‬فص الته وك ذلك س ائر مناس كه تف ترق عن تل ك ال تي لل ولي‬
‫الكام ل ال ذي أنهى س يره ووص ل إلى الغاي ة القص وى للع روج الكم الي والمع راج‬
‫الروحي المعنوي‪ ،‬ووضع قدمه في محف ل أنس (ق اب قوس ين) ألن الس الك م ا دام في‬
‫السلوك والسير إلى هللا فصالته براق العروج ورفرف الوصول‪ ،‬وبعد الوصول تك ون‬
‫صالته خارطة التجليات‪ ،‬وصورة مشاهدات جمال المحبوب من دون إعمال روي ة في‬
‫تركيبها‪ ،‬بل تكون من قبي ل س راية حكم الغيب إلى الش هادة‪ ،‬وظه ور آث ار الب اطن في‬
‫الظاهر)(‪)1‬‬
‫وهو يرى أن هذا النوع من الصالة ال يمكن أن يؤتي ثم اره إال بحض ور القلب‪،‬‬
‫والخشوع التام‪ ،‬الذي يجعل صاحب الصالة منش غال به ا عمن س واها‪ ،‬يق ول في ذل ك‪:‬‬
‫(بعدما علمت مراتب حضور القلب‪ ،‬فاألفضل واألهم أن يكون اإلنسان بص دد معالج ة‬
‫النفس‪ ،‬وإذا ك انت ي ده قاص رة عن الوص ول إلى ذي ل جمي ع مراتب ه فال أق ل من أن‬
‫يص رف همت ه في تحص يل بعض مراتب ه ال ذي تس قط العب ادة بأق ل من ه عن درج ة‬
‫االعتبار‪ ،‬وال تكون موردا للقبول في جنابه المقدس)(‪)2‬‬
‫ويبين كيفية تحصيل حضور القلب في الصالة‪ ،‬فيقول‪( :‬فليعلم أن منشأ حض ور‬
‫القلب في أي عمل من األعمال وسبب إقبال النفس علي ه وتوجهه ا إلي ه أن يتلقى القلب‬
‫ذلك العمل بالعظمة‪ ،‬ويعده من المهمات) (‪)3‬‬
‫ثم يضرب على ذلك مثاال يبسط به هذا المعنى‪ ،‬فيق ول‪( :‬إذا أج از ل ك الس لطان‬
‫حضورك في محفل أنسه العظيم‪ ،‬وجعل ك م وردا للتوج ه والتلط ف بحض رة الجمي ع‪،‬‬
‫فحيث أن هذا المقام عظيم في قلبك‪ ،‬ويتلقاه القلب بالعظمة واألهمية‪ ،‬فلهذا يحضر قلبك‬
‫بتمام ه في ذل ك المحض ر‪ ،‬ويحاف ظ على جمي ع خصوص يات المجلس‪ ،‬ومخاطب ات‬
‫السلطان وحركاته وسكناته‪ .‬ويكون قلبك حاضرا في المحضر في جميع األح وال‪ ،‬وال‬
‫يغفل عنه ولو للحظة‪ ،‬وعلى خالف ذلك إذا كان المخاطب غير مهم‪ ،‬ويراه القلب تافها‬
‫فال يحصل لك حضور القلب في المكالمة معه وتكون غافال عن حاالته وأقواله) (‪)4‬‬
‫ومن خالل هذا المثال يبين سبب الغفلة التي تجع ل المص لي غ افال في ص الته‪،‬‬
‫غير مستفيد من ثمارها العظيمة في ترقية روحه‪ ،‬والعروج به ا إلى هللا‪ ،‬فيق ول‪( :‬ومن‬
‫هنا يعلم السبب في ع دم حض ور قلوبن ا في العب ادات وغفلته ا عنه ا‪ .‬فنحن ل و أهمتن ا‬
‫المناجاة للحق تعالى ومناجاة ولي نعمنا بمق دار م ا تهمن ا المكالم ة م ع مخل وق ع ادي‬
‫ضعيف لما حصل لنا هذا القدر من النسيان والغفلة والسهو‪ ،‬ومن المعل وم ج دا أن ه ذا‬
‫التساهل والتسامح ناشئ من ضعف اإليم ان باهلل تع الى وبالرس ول وبأخب ار أه ل بيت‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.10‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.24‬‬

‫‪188‬‬
‫العصمة‪ ،‬بل هذه المساهلة ناشئة من التساهل بالمحض ر الرب وبي ومق ام الق دس للح ق‬
‫تعالى‪ ..‬إن ولي النعم هو الذي دعانا إلى مناجاته وحضرته بلسان األنبياء واألولياء ب ل‬
‫بقرآنه المقدس‪ ،‬وفتح لنا أبواب المكالمة والمناجاة معه) (‪)1‬‬
‫وهك ذا ن رى الخمي ني ال ي ذكر أب دا تل ك المع اني ال تي ي ذكرها الط ائفيون من‬
‫االهتمام بشكل الصالة وحركاتها مع الغفلة عن حقيقتها‪ ،‬وإنما يولي كل اهتمامه لكيفي ة‬
‫تحصيل حضور القلب‪ ،‬والخشوع‪ ،‬وذكر هللا الذي هو المقصد األعلى من الصالة‪.‬‬
‫لهذا ال نراه في كتابه ذلك يناقش أي مذهب‪ ،‬أو يجادل أي فقيه‪ ،‬أو يسخر من أي‬
‫صالة‪ ،‬وإنما يشن نقده على تلك الصالة الفارغ ة من محتواه ا‪ ،‬أو كم ا ع بر عن ذل ك‬
‫بقوله‪ ..( :‬كلما شرعنا في الصالة التي هي باب من أبواب محضره الربوبي وحض ور‬
‫جنابه فكأنها فرصة لنا لنشتغل باألفكار المتشتتة‪ ،‬والخواطر الش يطانية‪ ،‬فك أن الص الة‬
‫مفتاح الدكان أو آلة المحاسبة أو أوراق الكت اب‪ ،‬فال يحتس ب ه ذا إال من وهن اإليم ان‬
‫وضعف اليقين دون غيرهما) (‪)2‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن الح ل ال ذي ي راه إلع ادة الحي اة للص الة‪ ،‬ليس ه و البحث في كتب‬
‫الفقهاء والمح دثين لل ترجيح بين الهيئ ات المختلف ة‪ ،‬وإنم ا ه و في تعظيم هللا‪ ،‬فال يمكن‬
‫للمصلي أن يعظم الصالة‪ ،‬وهو ال يعظم من يتوجه إليه به ا‪ ،‬يق ول في ذل ك ـ مخاطب ا‬
‫مريده ـ‪( :‬ي ا أيه ا العزي ز تفك ر قليال في حاالت ك‪ ،‬وراج ع أخب ار أه ل بيت العص مة‪،‬‬
‫وشمر ذيل الهمة عن ساقيك‪ ،‬وفهم النفس بالتفكر والتدبر أن ه ذه المناس ك وخصوص ا‬
‫الص الة وب األخص الف رائض منه ا س بب للس عادة والحي اة في ع الم اآلخ رة‪ ،‬ومنب ع‬
‫الكماالت ورأس م ال الحي اة في تل ك النش أة‪ ،‬وبحس ب الرواي ات الكث يرة في األب واب‬
‫المتفرقة وضرب من البرهان ومشاهدة أصحاب الكشف والعيان‪ ،‬إن لكل من العب ادات‬
‫المقبولة صورا غيبية بهية وتمثاال ملكوتيا أخرويا يصاحب اإلنسان ويرافق ه في جمي ع‬
‫النشآت الغيبية ويساعده في جميع الشدائد‪ ،‬بل الجنة الجسمانية في الحقيقة هي الص ور‬
‫الغيبية الملكوتية لألعم ال ومس ألة تجس م األعم ال من األم ور ال تي ال ب د أن تع د من‬
‫الواضحات‪ .‬والعقل والنقل يتوافقان فيه ا‪ .‬وتل ك الص ور الغيبي ة تابع ة لحض ور القلب‬
‫وإقباله والعبادة التي ال يؤتى بها بتوجه من القلب وإقباله س اقطة عن درج ة االعتب ار‪،‬‬
‫وغير مقبولة لجناب الحق) (‪)3‬‬
‫وهو يورد في ذل ك الرواي ات الكث يرة عن أئم ة أه ل ال بيت وتعظيمهم للص الة‪،‬‬
‫ودعوتهم للخشوع فيها‪ ،‬ويذكر نماذج عن ذلك الخشوع‪ ،‬ومنها ما رواه عن أبي جعف ر‬
‫قال‪( :‬كان علي بن الحسين إذا قام إلى الصالة تغير لونه‪ ،‬فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى‬
‫يرفض عرقا‪ ،‬وكان إذا قام في الصالة كأنه ساق شجرة ال يتح رك من ه إال م ا ح ركت‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.24‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫‪189‬‬
‫منه) (‪)1‬‬ ‫الريح‬
‫وروى عن أبي حمزة الثمالي قال‪( :‬رأيت علي بن الحسين يصلي‪ ،‬فس قط رداؤه‬
‫عن منكبه‪ ،‬فلم يسوه حتى فرغ من صالته‪ ،‬قال‪ :‬فسألته عن ذل ك فق ال‪ :‬ويح ك أت دري‬
‫بين يدي من كنت‪ ،‬إن العب د ال تقب ل من ه ص الة إال م ا أقب ل منه ا‪ ،‬فقلت‪ :‬جعلت ف داك‬
‫هلكنا‪ ،‬فقال‪( :‬كال إن هللا متمم ذلك للمؤمنين بالنوافل) (‪)2‬‬
‫وهن ا ن رى الف ارق الكب ير بين تل ك الرواي ات ال تي يس تند إليه ا الط ائفيون في‬
‫تفضيل صالتهم على صالة غيرهم من المؤمنين‪ ،‬م ع أنه ا ال تهتم إال بف روع وهيئ ات‬
‫وقع فيها الخالف بين المسلمين‪ ،‬وبين تلك الروايات التي أوردها الخميني والتي تجع ل‬
‫الف وارق بين ص لوات المس لمين مهم ا اختلفت م ذاهبهم هي في م دى حض ور قل وبهم‬
‫فيها‪ ،‬ال في حركاتهم وسكناتهم وهيئاتهم‪ ،‬التي ال يؤاخذون عليها ما داموا يتبعون فيه ا‬
‫من يثقون في اجتهاده وفقهه‪.‬‬
‫وال يكتفي الخميني بإيراد تلك الروايات الواردة عن أئم ة أه ل ال بيت وتحليله ا‪،‬‬
‫وإنما ينقل أيضا تجارب العارفين ممن سلك على أيديهم؛ فيقول‪( :‬ك ان الش يخ الع ارف‬
‫الكامل شاه آبادي روحي فداه يق ول‪( :‬إن اإلنس ان في ح ال ال ذكر ال ب د أن يك ون كمن‬
‫يمرن الطفل على التكلم‪ ،‬ويلقنه ليتكلم‪ ،‬فكذلك على اإلنس ان أن يلقن القلب ال ذكر‪ ،‬وم ا‬
‫دام اإلنسان ذاك را باللس ان ومش غوال بتعليم القلب فالظ اهر يس اعد الب اطن‪ ،‬ف إذا انفتح‬
‫لسان القلب فيساعد الباطن الظاهر‪ ،‬كما أن تلقين الطفل أيض ا ك ذلك‪ ،‬فم ا دام اإلنس ان‬
‫يلقنه الكالم فهو يس اعده وإذا أج رى الطف ل ذل ك الكالم على لس انه في دب في اإلنس ان‬
‫نشاط يذهب بالتعب السابق‪ .‬ففي البداية يس اعده المعلم وفي النهاي ة يأخ ذ المعلم الع ون‬
‫والمساعدة منه‪ .‬وإذا واظب اإلنسان في الصالة واألذك ار واألدعي ة على ه ذا ال ترتيب‬
‫مدة فإن النفس تعت اده وتك ون األعم ال العبادي ة كاألعم ال العادي ة ال يحت اج لحض ور‬
‫القلب فيها إلى أعمال الروية بل تكون مثل األمور الطبيعية المعتادة) (‪)3‬‬
‫وال يكتفي الخميني بتلك الوص ايا والنص ائح العام ة‪ ،‬وإنم ا ن راه يض ع الحل ول‬
‫واآلليات التنفيذية لكل قضية يطرحها‪ ،‬مثلما هو شأنه في جميع المسائل‪ ،‬فهو في كتاب ه‬
‫عن أعماق الصالة‪ ،‬يتناول الصالة ركنا ركنا‪ ،‬بل يتناول شروطها ومستحباتها‪ ،‬وي بين‬
‫المعاني المرتبطة بها‪.‬‬
‫ومن ذلك مثال قول ه عن د حديث ه عن [أس رار القي ام]‪( :‬ه و عن د الخاص ة إقام ة‬
‫الص لب في الحض رة المقدس ة للح ق‪ ،‬وتش مير ال ذيل إلطاع ة األم ر‪ ،‬والخ روج من‬
‫الت دثار‪ ،‬والقي ام باإلن ذار {يَاأَيُّهَ ا ْال ُم َّدثِّ ُر (‪ )1‬قُ ْم فَأ َ ْن ِذرْ (‪َ )2‬و َربَّكَ فَ َكبِّرْ (‪َ )3‬وثِيَابَ َ‬
‫ك‬
‫فَطَهِّرْ } [المدثر‪ ]4 - 1 :‬واالستقامة في األخالق‪ ،‬والعدل في الملكات‪ ،‬وعدم الميل إلى‬
‫اإلفراط والتفريط‪ ..‬ومن أعلى مراتب اإليمان الوقوف بين ي دي هللا على نح و ال يغلب‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪ ،27‬والرواية من كتاب [أسرار الصالة] للشهيد الثاني‪.‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪ ،27‬والرواية من كتاب [أسرار الصالة] للشهيد الثاني‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪190‬‬
‫الخوف على الرجاء‪ ،‬وال الرجاء على الخوف‪ ،‬وال يصل الصبر إلى مقام التجلد‪ ،‬فإن ه‬
‫في م ذهب األحب ة من أش د المنك رات‪ ..‬وال يك ون الج زع إلى ح د اإلف راط المن افي‬
‫للرضا‪ ،‬ويكون االطمئنان على نحو يرى معه يوم الجزاء والوعد والوعيد قائما)(‪)1‬‬
‫ومن ذل ك قول ه عن د حديث ه عن [أس رار الني ة]‪( :‬الني ة عن د العام ة الع زم على‬
‫الطاعة خوفا أو طمعا‪ ..‬وعند أهل المعرفة الع زم على الطاع ة هيب ة وتعظيم ا (فاعب د‬
‫ربك كأنك تراه‪ ،‬وإن لم تكن تراه فإنه يراك)‪ ،‬وعن د أه ل الجذب ة والمحب ة الع زم على‬
‫الطاعة شوقا وحبا‪ ..‬وعند األولياء العزم على الطاعة تبع ا وغ يرا بع د مش اهدة جم ال‬
‫المحبوب استقالال وذاتا والفناء في الجناب الربوبي ذاتا وصفة وفعال) (‪)2‬‬
‫ومن ذلك قوله عند الحديث عن [أسرار الركوع]‪( :‬هو عند الخاص ة عب ارة عن‬
‫الخروج من م نزل القي ام ب األمر واالس تقامة في الخدم ة المس تلزم لل دعوى عن د أه ل‬
‫المعرف ة وللخيان ة والجناي ة عن د أه ل المحب ة‪ ،‬وال دخول في م نزل ال ذل واالفتق ار‬
‫واالستكانة والتضرع منزل المتوس طين‪ ،‬وعن د أص حاب القل وب عب ارة عن الخ روج‬
‫عن مق ام القي ام هلل إلى مق ام القي ام باهلل‪ ،‬وعن مش اهدة القيومي ة إلى مش اهدة أن وار‬
‫العظمة‪ ،‬وعن مقام توحيد األفعال إلى مقام توحيد األسماء‪ ،‬وعن مقام الت دلي إلى مق ام‬
‫قاب قوسين‪ ،‬كما أن السجود هو مقام (أو أدنى) (‪)3‬‬
‫وهكذا نجده يتناول الصالة جزءا جزءا‪ ،‬وي بين م راتب الس الكين والع ارفين في‬
‫التعامل معها‪ ،‬وهو يستند في ذلك كله لما ورد في القرآن الكريم‪ ،‬أو أحاديث رسول هللا‬
‫‪ ،‬أو الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة‪ ،‬أو التجارب الروحية ال تي اس تفادها من‬
‫شيوخه‪.‬‬
‫ومثله‪ ،‬نرى الخامنئي في كتابه عن الصالة‪ ،‬والذي س ماه [من أعم اق الص الة]‬
‫يتحدث عن الصالة باعتبارها أكبر محرك روحي لإلنسان‪ ،‬وأنه ا ال ت ؤدي أغراض ها‬
‫الشرعية إال إذا أقامها صاحبها بحس ب م ا وص فته الش ريعة‪ ،‬ال في ش كلها وحركاته ا‬
‫فقط‪ ،‬وإنما في معانيها وأعماقها‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬اإلسالم في صميم األ ّمة يحث الجس م‬
‫والفك ر وال روح اإلنس انية على العم ل‪ ،‬ويس تخدم ه ذه الثالث ة بأجمعه ا إلس عادها‪،‬‬
‫والصالة أيضا ً تصنع هذا الش يء نفس ه م ع الف رد‪ ،‬إذ إنّ ه عن د الص الة يك ون ك ّل من‬
‫جسمه وروح ه وفك ره في ح ال العم ل والفعالي ة‪ :‬الجس م‪ :‬بحرك ات الي دين وال رجلين‬
‫واللسان والركوع والجلوس والسجود‪ ..‬والفكر‪ :‬بالتفكر في مضامين ألفاظ الصالة التي‬
‫تشير عموما ً إلى األهداف والوسائل واجتياز دورة من التأمل والرؤية اإلسالمية بشكل‬
‫مجمل‪ ..‬والروح‪ :‬بذكر هللا والتحليق في ج ّو من المعنوي ات الروحي ة‪ ،‬ومن ع القلب من‬
‫الركون إلى التفاهات والفراغ‪ ،‬وغرس بذرة الخشوع وخشية هللا في الروح)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.72‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.73‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.94‬‬
‫‪ )(4‬من أعماق الصالة‪ ،‬الخامنئي‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪191‬‬
‫ولذلك فإن الصالة ـ بحسب رؤية الخامنئي ـ هي خالص ة ال دين‪ ،‬ففيه ا (الجم ع‬
‫بين الروح والجسم‪ ،‬وبين المادة والمعنى‪ ،‬وبين الدنيا واآلخرة‪ ،‬س واء في اللّف ظ أو في‬
‫المحتوى أو في الحركات)(‪)1‬‬
‫والمسلم المؤدي للص الة ب ذلك الش كل (يعم ل جمي ع طاقات ه في طري ق تعالي ه‪،‬‬
‫يعني أنّه يستعمل في آن واح د جمي ع مكانياته ا الجس مية والفكري ة والروحي ة في ه ذا‬
‫األمر) (‪)2‬‬
‫ومثلما فعل الخميني في شرحه ألعماق الحركات التي ت ؤدى في الص الة‪ ،‬ن رى‬
‫الخامنئي يفعل نفس الشيئ‪ ،‬ولكن بتبسيط أكبر‪ ،‬مراعاة لنوع المخاطبين‪ ،‬فهو يقول في‬
‫أسرار التكبير‪( :‬يبدأ المصلي مناجاته بهذه الجملة [هللا أكبر]‪ ،‬وألجل الدخول في عم ل‬
‫عظيم يوض ع م دخل مفعم بالعظم ة [هللا أك بر] من أن يوص ف‪ ،‬أك بر من أن يق اس‬
‫باألرباب المتخذة على م ّر العص ور‪ ،‬أك بر من جمي ع الق درات والق وى ال تي يمكن أن‬
‫يخشاها اإلنسان أو يطمع فيها‪ ،‬وأكبر من أن يتمكن شخص من نقض قوانينه) (‪)3‬‬
‫ثم يذكر تأثير هذه الكلمة في نفس المقيم للصالة المتذوق لمعاني التكبير؛ فيقول‪:‬‬
‫ي ق وة عجيب ة‬ ‫(إذا أدرك العبد هذه السنن‪ ،‬وانتخب في ضوئها طريق س عيه وج ّده‪ ،‬ف أ ّ‬
‫ي أمل مفعم يعيشه‪ ،‬إنّه يش عر بش كل كام ل ب أن‬ ‫يحتويها عند استذكاره ّ‬
‫أن هللا أكبر‪ ،‬وأ ّ‬
‫وأن عاقبة عمله خير‪ ،‬وينظر إلى مستقبله وطريقه بسعادة وأم ل)‬ ‫جهوده كانت موفقة‪ّ ،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ويتح دث عن أس رار ق راءة البس ملة ال تي له ا أهميته ا الخاص ة في الص الة‬
‫وغيرها في الفقه الشيعي؛ فيقول‪( :‬هذه الجمل ة‪( ،‬البس ملة)‪ ،‬هي مق ّدم ة جمي ع الس ور‪،‬‬
‫إن بداي ة جمي ع‬ ‫مق ّدم ة الص الة‪ ،‬مق ّدم ة جمي ع أعم ال اإلنس ان المس لم وحركات ه‪ ،‬أي ّ‬
‫األعمال تت ّم باسم هللا فقط‪.‬ك ّل ما لإلنسان‪ ،‬وجميع مظ اهر عيش ه وحيات ه هي باس م هللا‪.‬‬
‫يفتتح المسلمون أيّامهم باسم هللا‪ ،‬وباسمه يختتمون أعمالهم في النه ار‪ ،‬وب ذكره ي أوون‬
‫إلى فراشهم‪ ،‬وبعونه يرفعون رؤوسهم من ه ليباش روا أعم الهم اليوميّ ة من جدي د‪ .‬وفي‬
‫نهاية المطاف يو ّدع المسلم الحياة باسمه وذكره‪ ،‬ويمضي إلى الدار الخالدة)(‪)5‬‬
‫وقد تمنيت لو أن مث ل ه ذه الكلم ات وص لت إلى أولئ ك المغرض ين الط ائفيين‬
‫الذين يرمون اإليرانيين وقادتهم بالشرك‪ ،‬وهل يمكن أن يكون مشركا من تك ون حيات ه‬
‫كلها بسم هللا‪ ،‬ومشاعره كلها متوجهة بصدق إلى هللا؟‬
‫ويتحدث الخامنئي عن أسرار الفاتحة التي ال تص ح الص الة من دونه ا‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫ألن ك ّل عظم ة وجالل من ه‪ ،‬وك ّل رحم ة تص در عن‬ ‫(ك ّل حم د وثن اء يختصّ باهلل‪ّ ،‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.22‬‬

‫‪192‬‬
‫فيض وج وده تص ُد ُر ك ّل الخ يرات‬ ‫ِ‬ ‫جانب ه‪ ،‬وه و َمج َم ع ك ّل الخص ال الحمي دة‪ ،‬ومن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والحس نات وك لُّ جمي ل وإحس ان‪ ،‬فيك ون حم ده‪ ،‬إذا‪ ،‬حم دا لإلحس ان والمع روف‪،‬‬
‫وموجّها ً لجمع الجهود التي تبذل في طريق اإلحسان) (‪)1‬‬
‫ويخاطب المغرورين الذين يشعرون بأن كل ش يء عن دهم من ح ولهم وق وتهم‪،‬‬
‫فيقول‪( :‬على كل من يرى في نفسه خصلة من الخص ال المحم ودة أن يع ّدها من فيض‬
‫إن هللا ه و ال ذي أودع فط رة اإلنس ان ب ذور اإلحس ان‪،‬‬ ‫هللا ورحمته وعطفه ولطفه‪ ،‬إذ ّ‬
‫وجعل من سجاياه تقبّل االحسان والفضيلة‪ ،‬ومنحه الق درة على التص ميم‪ ،‬وه و وس يلة‬
‫إن هذه الرؤية تغلق بوج ه اإلنس ان أب واب العجب‬ ‫أخرى في طريق الطيبة واإلحسان‪ّ ،‬‬
‫والغرور‪ ،‬وتحول دون تعطيل الخصال الحميدة‪ ،‬والقدرات الخيّرة فيه) (‪)2‬‬
‫{ربِّ ْال َع الَ ِمينَ } [الفاتح ة‪ ]2 :‬فيق ول‪( :‬وفي‬
‫ثم يتحدث عن أسرار قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫جملة (ربّ العالمين) نستشعر وجود العالم والعوالم األخرى وترابطها؛ فيحس المصلي‬
‫أن وراء هذا العالم ووراء رؤيته الضيقة‪ ،‬وخل ف ه ذا الط وق ال ذي افترض ه لحيات ه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إن ه ذا‬‫وأن ربّ ه ربّ جمي ع ه ذه الكائن ات‪ّ ،‬‬ ‫توج د ع والم وأفالك ومج رّات أخ رى‪ّ ،‬‬
‫الش عور يميت في ه النظ رة الض يّقة‪ ،‬القص يرة الم دى‪ ،‬ويمنح ه الج رأة وروح التنقيب‬
‫والبحث‪ ،‬واإلحساس ب الفرح لعبوديت ه هلل تع الى‪ ،‬وتب دو ل ه عظم ة عب ادة هللا وجالله ا‬
‫العجيب‪ ،‬ومن جه ة أخ رى ي رى جمي ع الكائن ات؛ البش ر والحيوان ات والنبات ات‬
‫والجمادات والسماوات‪ ،‬وعوالم الوجود التي ال تحصى‪ّ ،‬كله ا مخلوق ات هلل‪ ،‬وأنّ ه ه و‬
‫ان ربّه ليس فقط رب لعرق ه أو ش عبه أو لإلنس انية بأجمعه ا‪،‬‬ ‫مديرها ومدبّرها‪ ،‬ويفهم ّ‬
‫بل هو أيضا ً رب تلك النملة الصغيرة وتلك النبتة الض عيفة‪ ،‬ربّ الس موات والمج رات‬
‫والكواكب‪ .‬وبإدراك ه له ذه الحقيق ة يش عر بأنّ ه ليس وحي داً‪ ،‬ويعلم أنّ ه متص ل بجمي ع‬
‫وإن الن اس إخوت ه‬ ‫ذرّات العوالم‪ ،‬وجميع الكائن ات الدقيق ة والكب يرة‪ ،‬وبجمي ع الن اس‪ّ ،‬‬
‫وإن هذه القافلة العظيمة متجهة بأجمعها نحو هدف واحد) (‪)3‬‬ ‫والمسافرون معه‪ّ ،‬‬
‫ويذكر هذه المعرفة‪ ،‬فيقول‪( :‬إن هذا االرتباط واالتصال يجعله يرى نفسه مكلّف ا ً‬
‫وملتزم ا ً بالنس بة لجمي ع الكائن ات‪ ،‬مكلّف ا ً بهداي ة الن اس ومع ونتهم‪ ،‬وبمعرف ة بقي ة‬
‫الموجودات واستخدامها في الطريق الصحيح والمناسب للهدف من خلقها) (‪)4‬‬
‫وهكذا يتحدث عن كل كلمة أو حركة من حركات الص الة‪ ،‬ي بين المش اعر ال تي‬
‫يشعر بها المؤمن‪ ،‬وتأثيرها في سلوكه‪ ،‬وال يمكننا ذكر ك ل ذل ك هن ا‪ ،‬على ال رغم من‬
‫جمال المعاني واألسرار ال تي ذكره ا‪ ،‬وال تي ال ن رى في خطاب ه فيه ا تمي يزا بين أي‬
‫مدرسة من المدارس اإلسالمية‪.‬‬
‫وأحب أن أذكر هن ا قول ه في المش اعر المرتبط ة بق راءة الم ؤمن لقول ه تع الى‪:‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.22‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.23‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.23‬‬

‫‪193‬‬
‫{إِيَّاكَ نَ ْعبُدُ} [الفاتح ة‪ ،]5 :‬باعتباره ا رس الة لكال الجن احين الل ذين يتوجه ان إلي ران‬
‫وقادتها بكل أن واع التكف ير‪ ،‬أولهم ا للس لفيين ال ذين يص ورون إي ران وقادته ا بك ونهم‬
‫مش ركين‪ ،‬وثانيهم ا ألولئ ك الحرك يين ال ذين تص وروا أنهم وح دهم من يفهم الق رآن‬
‫وأعماقه الحركية‪.‬‬
‫(إن المصلي بتلفظه هذه الجمل ة‬ ‫يقول الخامنئي في المشاعر المرتبطة بقراءتها‪ّ :‬‬
‫ك قيود عبودية غير هللا عن يديه ورجليه ورقبته‪ ،‬ويجيب داعي هللا‪ ،‬ويرفض م ّدعي‬ ‫يف َّ‬
‫األلوهية الذين كانوا على م ّر التاريخ السبب في جعل شريحة كبرى من البش ر مقي دين‬
‫بأغالل العبودية واالستضعاف واألسر‪ ،‬ويقرب نفس ه وجمي ع المؤم نين باهلل أك ثر إلى‬
‫طاع ة هللا واالنص ياع ألوام ره‪ .‬والخالص ة أنّ ه بقبول ه العبودي ة هلل يتح رر من جمي ع‬
‫العبوديات األخرى وبذلك يسلك نفسه في سلك الموحدين الحقيقيين) (‪)1‬‬
‫(إن االع تراف ب ّ‬
‫أن العبودي ة‬ ‫ثم يفص ل آث ار ذل ك على الحي اة جميع ا‪ ،‬فيق ول‪ّ :‬‬
‫منحصرة باهلل فق ط ه و واح د من أهم األص ول الفكري ة والعملي ة في اإلس الم وجمي ع‬
‫األديان السماوية‪ ،‬والذي يعبّر عنه (انحصار األلوهي ة باهلل)‪ ،‬أي ّ‬
‫أن هللا فق ط ه و ال ذي‬
‫ينبغي أن يكون معبوداً‪ ،‬وأن ال يعبد أحد سوى هللا‪ ،‬لقد كان هن اك دوم ا ً من ال يفهم ون‬
‫هذه الحقيقة بشكل صحيح‪ ،‬فكانوا يستنتجون منها أموراً خاطئة ومحدودة‪ ،‬ول ذا وقع وا‬
‫أن عبادة هللا تكون فقط بتقديسه ومناجات ه‪ ،‬وبم ا‬‫غافلين في عبوديّة غير هللا؛ إنّهم ظنّوا ّ‬
‫أن هؤالء كانوا يص لّون هلل ويناجون ه فق ط‪ ،‬فك انوا على يقين كام ل من أنهم لم يعب دوا‬ ‫ّ‬
‫سوى هللا) (‪)2‬‬
‫(إن العب ادة في اص طالح‬‫ثم يبين شمولية العبودية هلل كل مناحي الحياة‪ ،‬فيق ول‪ّ :‬‬
‫القرآن والحديث عبارة عن (الطاعة والتسليم واالنقياد المطلق) لألمر والقانون والنظام‬
‫ي مق ام أو ق درة‪ ،‬س واء ك ان ه ذا االنقي اد وه ذه الطاع ة م ع‬ ‫الذي يوجَّه لإلنسان في أ ّ‬
‫التق ديس والمناج اة أم من دونهم ا‪ ،‬وعلى ه ذا فك ّل ال ذين ينص اعون للنظم والق وانين‬
‫واألوامر الصادرة من أية قدرة غير هللا تعالى‪ ،‬هم عباد تلك األنظمة والموج دون له ا‪،‬‬
‫ولو أنّه ترك بعضا ً من شريعة هللا‪ ،‬وعمل ببعض آخر‪ .‬وأما من ال يعم ل البت ة بق انون‬
‫هللا سبحانه‪ ،‬فإنّه سيكون كافراً متجاهالً الحقيقة الواضحة والساطعة لوجود هللا‪ ،‬منك راً‬
‫إياها اعتقاداً أو عمالً) (‪)3‬‬
‫وبهذا فإن الصالة عند الق ادة الروح يين للجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة ليس ت‬
‫مجرد شعيرة ت ؤدى‪ ،‬وإنم ا هي منهج حي اة‪ ،‬يحم ل ك ل التص ورات ال تي يق وم عليه ا‬
‫اإلسالم‪ ،‬بجوانبه الروحية واالجتماعية والسياسية واألخالقية وغيرها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االهتمام بقراءة القرآن الكريم وتدبره‪:‬‬
‫سبق وأن ذكرنا في الفصل األول من هذا الكتاب مدى اهتمام اإليرانيين ب القرآن‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.27‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.28‬‬

‫‪194‬‬
‫الكريم قراءة وتفسيرا‪ ،‬وكيف أن معظم الثروة التفسيرية بأنواعه ا المختلف ة ت دين له ا‪،‬‬
‫ولعلمائها في القديم والحديث‪.‬‬
‫وذكرنا تفاهة تلك الشبهات ال تي يرميه ا المغرض ون‪ ،‬وال تي تجع ل لإليران يين‬
‫قرآنا غير قرآن المسلمين‪ ،‬ومصاحف غير مصاحفهم‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن كل ذلك زور وبهتان‪،‬‬
‫ال يدل عليه الواقع‪ ،‬وال التاريخ‪.‬‬
‫وس نذكر هن ا ـ باختص ار ش ديد ـ م دى س مو التعام ل ال ذي يبدي ه المش روع‬
‫الحض اري الجدي د إلي ران للق رآن الك ريم‪ ،‬وال نب الغ إن قلن ا‪ :‬إن ه ذا المش روع ه و‬
‫مشروع قرآني بالدرجة األولى‪ ،‬ذلك أنه يستمد فلس فته النظري ة وتطبيقات ه العملي ة من‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وهو يعتبر األح اديث النبوي ة الش ريفة‪ ،‬والرواي ات ال واردة عن األئم ة‬
‫تفسيرا وبيانا وتأكيدا للمعاني القرآنية‪ ،‬وال يعارض ه به ا‪ ،‬مثلم ا تفع ل بعض الم دارس‬
‫السنية والشيعية اإلخبارية التي ت ؤخر الق رآن الك ريم‪ ،‬وت رمي بمعاني ه الكث يرة بس بب‬
‫تقديمها لبعض األحاديث أو الروايات‪.‬‬
‫ولهذا نجد القادة الفكريين للثورة اإلسالمية مث ل الخمي ني والخ امنئي ومطه ري‬
‫ومصباح يزدي وجوادي آملي والسبحاني ومكارم الشيرازي وغيرهم كث ير‪ ،‬ي ذكرون‬
‫في مجالس هم‪ ،‬وعن د ك ل قض ية يطرحونه ا آي ات من الق رآن الك ريم ينطلق ون منه ا‪،‬‬
‫ليؤسسوا عليها بعد ذلك مباحثهم‪ ،‬بل إنهم يخصون القرآن الكريم بجوام ع في التفس ير‪،‬‬
‫تدل على عمق تعاملهم معه‪.‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬نرى اهتمامهم بالدعوة لقراءة الق رآن الك ريم للتحق ق بالطه ارة‬
‫النفسية‪ ،‬والسمو الروحي‪ ،‬ذلك أن القرآن الكريم حسبما يرد في تعابيرهم ه و المع راج‬
‫الموصل إلى هللا‪.‬‬
‫وقد ذكر بعض المقربين من الخميني مدى عشقه للقرآن الكريم‪ ،‬فقال‪( :‬كان يقرأ‬
‫القرآن بعد صالة الفجر‪ ،‬وقبل صالة الظهر والعصر والمغ رب والعش اء‪ ،‬وقلم ا اتف ق‬
‫أن زرناه في هذه األوقات دون أن نراه مستغرقا بتالوة القرآن الكريم‪ ،‬كان يق رأ يومي ا‬
‫عشرة أجزاء من القرآن‪ ،‬وهذا يعني أنه كان يختم القرآن كل ثالثة أيام)(‪)1‬‬
‫وهكذا نجده في كل اآلثار التي نقلت عنه‪ ،‬أو كتبها بنفسه تلك الش فافية الروحي ة‬
‫ال تي يتح دث به ا عن الق رآن الك ريم‪ ،‬باعتب اره الحب ل المم دود من هللا إلنق اذ عب اده‬
‫وتخليصهم والعروج بهم‪.‬‬
‫ومن أحاديثه الجميلة التي يرغب فيها شعبه في ق راءة الق رآن الك ريم‪ ،‬والتعم ق‬
‫في معانيه‪ ،‬قوله‪( :‬القرآن الكريم هو آيات إلهية‪ ،‬والغرض من البعثة ه و المجيء به ذا‬
‫الكت اب العظيم‪ ،‬وتالوة ه ذا الكت اب العظيم واآلي ة اإللهي ة العظيم ة‪ ،‬ورغم أن جمي ع‬
‫العالم هو آيات الحق تعالى‪ ،‬لكن القرآن الكريم هو عصارة الخليقة‪ ،‬وعص ارة األش ياء‬
‫ال تي يجب أن تتم في البعث ة‪ ،‬ف القرآن الك ريم عب ارة عن مائ دة أع دها الب اري تب ارك‬

‫‪ )(1‬اإلمام قدوة‪ ،‬ص‪..83‬‬

‫‪195‬‬
‫استعداده)(‪)1‬‬ ‫وتعالى للبشر بواسطة نبيه األكرم‪ ،‬ليستفيد كل إنسان بمقدار‬
‫وفي ه ذه الكلم ات أبل غ رد على أولئ ك اإلخب اريين من الش يعة ال ذين يحق رون‬
‫القرآن الك ريم‪ ،‬ويعتبرون ه في المرتب ة الثاني ة‪ ،‬والثق ل األص غر‪ ،‬وفي ه رد ك ذلك على‬
‫أولئك الطائفيين الذين يصورون للعامة بأن اإليرانيين ال عالقة لهم بالقرآن‪ ،‬وال اهتمام‬
‫لهم به‪.‬‬
‫والخميني يستعمل كل الوسائل لترغيب كل شعبه بطبقاتهم جميعا ـ المثقفين منهم‬
‫والعوام ـ في االستفادة من القرآن الك ريم باعتب اره كتاب ا للجمي ع‪ ،‬ويعطي ك ل ش خص‬
‫بحسب قابليته‪ ،‬فيقول‪( :‬ه ذا الكت اب وه ذه المائ دة الممت دة في الش رق والغ رب‪ ،‬ومن ذ‬
‫زمان ال وحي وح تى ي وم القيام ة‪ ،‬ه و كت اب يس تفيد من ه ك ل الن اس الجاه ل والع الم‬
‫والفيلسوف والعارف والفقيه‪ ،‬والكل يستفيدون منه)(‪)2‬‬
‫ثم يفصل ـ بتحلي ل عرف اني جمي ل ـ كيفي ة حص ول ذل ك؛ فيق ول‪( :‬أي أن ه في‬
‫الوقت الذي هو كتاب نازل من مرتب ة الغيب إلى مرتب ة الش هود‪ ،‬ومنبس ط عن دنا نحن‬
‫الموج ودون في ع الم الطبيع ة‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي ه و في ه م نزل من ذل ك المق ام‪،‬‬
‫ووصل إلى الموضع ال ذي يمكنن ا االس تفادة من ه‪ ،‬وإن ه في ال وقت ال ذي يحت وي على‬
‫مسائل يستفيد منها جميع الناس الجاه ل والع ارف والع الم وغ ير الع الم‪ ،‬فإن ه يحت وي‬
‫على مس ائل تختص بالعلم اء الكب ار والفالس فة العظ ام‪ ،‬والعرف اء الكب ار‪ ،‬واألنبي اء‬
‫واألولياء‪ ،‬إذ أن بعض مسائله ال يتمكن من دركها سوى أولياء هللا تب ارك وتع الى‪ ،‬إال‬
‫من خالل التفسير الوارد عنهم ويستفيد من ه الن اس بمق دار اس تعداداتهم‪ ،‬وثم ة مس ائل‬
‫يستفيد منها الفالسفة والحكماء اإلسالميين ومسائل يس تفيد منه ا الفقه اء الكب ار‪ ،‬وه ذه‬
‫المائدة عامة للجميع‪ ،‬وكما أن هذه الطوائف تستفيد منه فإن فيه أيضا المسائل السياسية‬
‫واالجتماعي ة والثقافي ة والعس كرية وغ ير العس كرية‪ ،‬إذ أن جميع ا موج ودة في ه ذا‬
‫الكتاب المقدس)(‪)3‬‬
‫وهو يكرر هذا المعنى كل حين‪ ،‬ليرد على أولئك اإلخب اريين ال ذين يتص ورون‬
‫أن الق رآن الك ريم ال يمكن تناول ه إال من خالل الع ترة‪ ،‬ومثل ه أولئ ك الس لفيين من‬
‫المدرس ة الس نية ال ذين يحج رون فهم الق رآن أو تفس يره إال للس لف‪ ،‬ول ذلك ي ذكر أن‬
‫(الغرض من نزول هذا الكتاب المقدس‪ ،‬ومن بعث ة الن بي األك رم ه و لكي يص بح ه ذا‬
‫الكتاب في متناول أيدي الجميع‪ ،‬حتى يستفيدون منه بمقدار سعتهم الوجودية والفكرية)‬
‫(‪)4‬‬
‫وهو يتألم لتقصير األمة في القرآن الكريم‪ ،‬أو تحريفه ا لمعانيه ا‪ ،‬فيق ول‪( :‬وم ع‬
‫األس ف فلم نتمكن نحن وال البش رية‪ ،‬وال علم اء اإلس الم االس تفادة من ه ذا الكت اب‬

‫‪ )(1‬منهجية الثورة اإلسالمية ص‪..91‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫منه)(‪)1‬‬ ‫المقدس بالمقدار الذي ينبغي االستفادة‬
‫ويكرر دعوته للجميع بأن يحيوا المع اني القرآني ة بالت دبر واالعتب ار ليس تنبطوا‬
‫منها كل شؤو ن الحياة‪ ،‬فيقول‪( :‬يجب على الجميع استخدام أفكارهم‪ ،‬وتسخير عق ولهم‬
‫نحو هذا الكتاب العظيم حتى نتمكن من االستفادة منه بمقدار استعدادنا وكما ه و علي ه‪،‬‬
‫فالقرآن جاء لتستفيد منه جميع الطبقات كل بمقدار استعداده‪ ،‬وطبعا ف إن بعض اآلي ات‬
‫ال يمكن أن يفهمها إال رسول هللا ‪ ‬والمتعلم بتعليمه ويجب علين ا فهممه ا بواس طتهم‪،‬‬
‫وإن الكثير من اآليات األخرى هي في متناول أيدي الجميع‪ ،‬حيث يجب عليهم استخدام‬
‫أفكارهم وعقولهم ليستفيدوا منها مسائل للحياة‪ ،‬سواء في هذه الدنيا أو الحي اة األخ رى)‬
‫(‪)2‬‬
‫وهو يذكر أن الهدف من قراءة القرآن الكريم ليس فق ط اس تنباط ش ؤون الحي اة‪،‬‬
‫وإنما قبل ذلك وبعده تزكية النفس وتطهيرها‪ ،‬وهو يس تنبط ه ذا من قول ه تع الى‪{ :‬لَقَ ْد‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُسواًل ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُزَ ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم‬
‫َم َّن هَّللا ُ َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ إِ ْذ بَ َع َ‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ} [آل عمران‪ ،]164 :‬ويعلق عليها بقوله‪( :‬فق د تك ون ه ذه هي الغاي ة‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫من التالوة‪ ،‬فالتالوة تكون ألجل التزكية والتعليم‪ ،‬وتعليم الجميع‪ ..‬تعليمهم الحكمة ال تي‬
‫هي من هذا الكتاب أيضا‪ ،‬إذن فهدف البعثة هو نزول ال وحي ون زول الق رآن‪ ،‬وه دف‬
‫تالوة القرآن على البشر هو ل يزكوا أنفس هم وينق ذوا نفوس هم من ه ذه الظلم ات‪ ،‬ح تى‬
‫تتمكن أرواحهم وأذهانهم بعد ذلك أن تفهم الكتاب والحكمة‪ ،‬فالهدف هو التزكي ة ألج ل‬
‫فهم الكتاب والحكمة فال يستطيع أي إنسان وأي نفس أن ت درك ه ذا الن ور المتجلي من‬
‫الغيب المتنزل إلى مرتبة الشهادة)(‪)3‬‬
‫وهو بهذا يرد على أولئ ك الح داثيين ال ذين ظه روا في عص ره‪ ،‬وفي عص رنا‪،‬‬
‫والذين راحوا يستعملون أهواءهم ومناهجهم البشرية في فهم الق رآن الك ريم‪ ،‬باعتب اره‬
‫نصا عاديا كسائر النصوص‪ ،‬وهو ما حرمهم من فهم القرآن‪ ،‬ذلك أنه ال يفهم ه إال من‬
‫عرف مصدره‪ ،‬وعظمته‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الخميني يرى أن كل التفاسير ال تمثل القرآن‪ ،‬أو ال يمكنه ا أن تحي ط‬
‫به‪ ،‬ذلك أنه كالم هللا الذي يستحيل اإلحاطة به‪ ،‬يقول في ذل ك‪( :‬إن تفس ير الق رآن ليس‬
‫من المهام ال تي يس تطيع أمثالن ا أداء حقه ا‪ ،‬ب ل إن علم اء الط راز األول ـ من العام ة‬
‫والخاصة ـ ألفوا على طوال التاريخ اإلس المي كتب ا كث يرة في ه ذا الب اب‪ ،‬ومس اعيهم‬
‫مشكورة بال شك‪ ،‬ولكن كل واحد منهم لم يقم بأكثر من تفسير احد وجوه القرآن الك ريم‬
‫وفقا لتخصصه والوقت الذي ك ان لدي ه وح تى ه ذا فليس من المعل وم ان ه ك ان بش كل‬
‫كامل)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫ثم راح يستعرض نماذج عن ذل ك من التفاس ير المختلف ة ال تي ألفه ا العلم اء من‬
‫المدرستين السنية والشيعية‪ ،‬مبينا أنها جميعا مجرد فهوم مح دودة‪ ،‬وأن عط اء الق رآن‬
‫الكريم دائم التنزل‪ ،‬ال ينفذ أبدا‪ ،‬وأنه ال يحتاج سوى الوعاء الطاهر الذي يتقبل معانيه‪،‬‬
‫ويتحمل تنزالته‪.‬‬
‫وهو يرد على أولئك الذين لم تكتمل لديهم أدوات التفسير‪ ،‬وإنما راحوا يتطفل ون‬
‫على القرآن‪ ،‬ويحملونه ما ال يحتمل‪ ،‬فيقول‪( :‬وق د ظه ر في اآلون ة األخ يرة أش خاص‬
‫ليسوا من أهل التفسير أص ال أرادوا تحمي ل م ا ل ديهم من أفك ار على الق رآن والس نة‪،‬‬
‫حتى إن فئة من اليساريين والشيوعيين عمدت إلى التمسك بالقرآن أيضا لنفس أه دافهم‬
‫التي لهم‪ ،‬وهؤالء ال عالق ة لهم أص ال بالتفس ير وال ب القرآن‪ ،‬فم ا يريدون ه ه و خ داع‬
‫شبابنا بما يقدمونه لهم على أنه هو اإلسالم)(‪)1‬‬
‫وبناء على ذلك يفرق بين التدبر الشخصي للقرآن الكريم‪ ،‬وبين تفس يره‪ ،‬وال ذي‬
‫ال يحق ألحد أن يتجرأ عليه ما لم تكتمل لديه أدواته‪ ،‬فيقول‪( :‬ال ينبغي للذين لم يص لوا‬
‫بعد إلى المستويات العالية من النضوج العلمي أن ي دخلوا مض مار التفس ير‪ ،‬فال ينبغي‬
‫للشباب‪ ،‬غير المطلع على هذه المسائل‪ ،‬وعلى المع ارف اإلس المية‪ ،‬وال ذين ال إطالع‬
‫لهم على اإلسالم ـ اقتحام ميدان تفسير القرآن‪ ،‬وإذا حدث أن تطفل أمثال هؤالء لغايات‬
‫وأهداف معينة‪ ،‬فال ينبغي لشبابنا أن يولوا أهمية‪ ،‬أو يقيموا وزن ا لمث ل ه ذه التفاس ير‪،‬‬
‫فمن األمور الممنوعة في اإلسالم التفسير بالرأي كان يعم د أي ا ك ان إلى ف رض آرائ ه‬
‫على القرآن‪ ،‬فليطبق المادي أفكاره على بعض اآليات القرآنية‪ ،‬ويفسر الق رآن ويؤول ه‬
‫وفق رأيه‪ ،‬أو أن يعتمد أحد أصحاب اآلراء المعنوي ة والروحي ة إلى تأوي ل ك ل م ا في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ويفسره بما يعتقده هو‪ ،‬لذا يجب علين ا أن نح ترز من كليهم ا من جمي ع‬
‫هذه الجهات)(‪)2‬‬
‫والخميني مع اهتمامه الشديدة بالجوانب الروحية‪ ،‬والمع اني العميق ة في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬والتي ال يصل إليها إال من س ار في طري ق التزكي ة‪ ،‬ينتق د بش دة أولئ ك ال ذين‬
‫يقصرون القرآن الك ريم على تل ك المع اني‪ ،‬ويعزلون ه عن الت أثير في الحي اة‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(بعد مضي مدة من نزول اإلسالم‪ ،‬اهتمت مجموعات مختلفة من أه ل العلم بمعنوي ات‬
‫اإلسالم‪ ،‬وركزوا أنظارهم على تلك اآليات والروايات المرتبط ة بالمعنوي ات وته ذيب‬
‫النفس وما وراء الطبيع ة‪ ..‬اس تمر الوض ع لف ترة طويل ة على ه ذه الش اكلة حيث ك ان‬
‫االهتم ام مع دوما أو ض عيفا بتل ك األحك ام االجتماعي ة والسياس ية وقض ايا الس اعة‪،‬‬
‫وهؤالء وقعوا من هذا الطرف أي اقتصرت اهتماماتهم على ه ذه المس ائل االجتماعي ة‬
‫واألحك ام السياس ية وقض ايا الحكم فق ط‪ .‬أولئ ك ك انوا ينظ رون إلى ذل ك الج انب من‬
‫الورق لفترات س ابقة كالفالس فة والعرف اء والمتص وفة وأمث الهم‪ ،‬وك ان كالمهم ي دور‬
‫حول بيان هذه المعنويات‪ ،‬ويدعون الناس إلى هذه الجهات المعنوي ة اإلس المية‪ ،‬ح تى‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫إن بعضهم حاول إرجاع اآليات أو الروايات الواردة بشأن األمور الطبيعي ة والمتحدث ة‬
‫عن قضايا االجتماع والسياسة إلى تلك األمور المعنوية‪ ،‬ويعت برون أن الجمي ع مرتب ط‬
‫بذلك الجانب‪ ،‬فهم كانوا ينظرون إلى الجانب الباطني للقرآن واإلس الم‪ ...‬ينظ رون إلى‬
‫المعنويات فقط‪ ،‬ويغض ون أبص ارهم عن المواض يع والرواي ات ال واردة بش أن الحكم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والسياسة اإلسالمية‪ ،‬والقضايا االجتماعية‪ ،‬وإعم ار ه ذا الع الم‪ ،‬وه ذه هي‬
‫الغفلة) ‪1‬‬
‫وهو ال يعتبرها غفلة فقط‪ ،‬وإنما يعتبرها غفلة عن اإلس الم نفس ه‪ ،‬ويعل ل ذل ك‪،‬‬
‫بأنهم (ينظرون إلى اإلسالم من زاوية واحدة فق ط‪ ،‬أم ا الج انب اآلخ ر وع الم طبيعت ه‬
‫فإنهم لم يهتموا به‪ ،‬ولم يعلموا أن اإلسالم يهتم بعالم الطبيع ة أيض ا‪ ،‬ويهتم بجمي ع تل ك‬
‫األمور التي يحتاجها اإلنسان‪ ،‬لذا فإن إحدى االبتالءات التي ابتلى به ا اإلس الم هي أن‬
‫ه ؤالء األش خاص أمث ال المتكلمين‪ ،‬واألك ثر منهم الفالس فة‪ ،‬واألك ثر منهم العرف اء‬
‫والص وفية‪ ،‬أرادوا تفس ير جمي ع اآلي ات ال واردة في الق رآن الك ريم تفس يرا معنوي ا‪..‬‬
‫اهتموا بالباطن وغفلوا عن الظاهر)(‪)2‬‬
‫وفي كلمات ه ه ذه رد بلي غ على أولئ ك ال ذين يص ورون الخمي ني بص ورة ذل ك‬
‫الغ ارق في متاه ات العرف ان والتص وف‪ ،‬ويرمون ه بالغنوص ية‪ ،‬وه و ن اتج عن ع دم‬
‫قراءتهم لكل آثاره؛ فهم يبنون على بعض ما يقرؤون تصوراتهم‪ ،‬ويلزمون ه بفه ومهم‪،‬‬
‫ال بواقع الحال‪ ،‬وإال فإنه كما يقبل ما صح من المع اني العميق ة للق رآن الك ريم‪ ،‬وال تي‬
‫يذكرها الفالسفة والعرفاء‪ ،‬ال يقتصر عليها‪ ،‬بل يرى من التقصير والغفلة االكتفاء بها‪.‬‬
‫وه و ك ذلك ي رد على الط رف المقاب ل ال ذي ال يتعم ق في المع اني القرآني ة‪،‬‬
‫ويتصور أن معانيه ا هي تل ك المع اني الظ اهرة المادي ة المح دودة‪ ،‬فيق ول‪( :‬إن ابتالء‬
‫اإلسالم أخذ منحنى آخر وهو أن شبابنا ومثقفينا وعلماءنا الذين تعلموا العل وم المادي ة‪،‬‬
‫يحاولون تفسير جميع آيات القرآن والروايات الخاصة باألمور المعنوية تفسيرا طبيعي ا‬
‫عاديا‪ ،‬وهؤالء مهتمون باإلسالم أيض ا‪ ،‬لكنهم غ افلون أيض ا‪ ،‬ألنهم ينظ رون لإلس الم‬
‫من ج انب واح د‪ ،‬وهات ان الطائفت ان لم تفهم ان اإلس الم بمعن اه الحقيقي‪ ،‬فاإلس الم ال‬
‫يدعوا إلى المعنويات فقط‪ ،‬وال يدعوا إلى الماديات فقط‪ ،‬إنه يدعوا إلى كليهما‪ ،‬فقد جاء‬
‫اإلسالم والقرآن الكريم من أجل بناء اإلنسان وتربيته في جميع أبعاده)(‪)3‬‬
‫ومن المعاني التي نرى اهتمام الخمي ني به ا م ا يطل ق علي ه [المقاص د الك برى‬
‫للقرآن الكريم]‪ ،‬وهو يلخص هذه المقاصد في قوله‪( :‬اعلم أن هذا الكتاب الشريف ـ كما‬
‫صرح هو به ـ كتاب الهداية‪ ،‬وهادي سلوك اإلنسانية ومربي النفوس وشافي األمراض‬
‫القلبية‪ ،‬ومنير طريق اإلسالم إلى هللا‪ ..‬وبالجملة‪ :‬فإن هللا تبارك وتعالى ـ لس عة رحمت ه‬
‫على عباده ـ أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قرب ه وقدس ه الس تخالص المس جونين‬

‫‪ 1‬منهجية الثورة اإلسالمية ص‪.79‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫في س جن ال دنيا المظلم‪ ،‬وخالص المغل ولين ب أغالل اآلم ال واألم اني‪ ،‬وإيص الهم من‬
‫حضيض النقص والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة اإلنس انية‪ ،‬ومن مج اورة‬
‫الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين‪ ،‬بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتب ة لق اء هللا‬
‫التي هي أعظم مقاصد أهل هللا ومطالبهم‪ ،‬فمن هذه الجهة هذا الكتاب هو كتاب ال دعوة‬
‫إلى الحق والسعادة‪ ،‬وبيان كيفية الوصول إلى هذا المقام‪ ،‬ومحتوياته إجماال هي م ا ل ه‬
‫دخل في هذا السير والسلوك اإللهي‪ ،‬أو يعين السالك والمسافر إلى هللا)(‪)1‬‬
‫وي ذكر أن من مقاص د الق رآن الك ريم الك برى بن اء على ذل ك المقص د ته ذيب‬
‫النفوس‪ ،‬وتطهير البواطن من أرجاس الطبيع ة‪ ،‬وتحص يل الس عادة‪ ،‬ول ذلك ي دعو إلى‬
‫قراءة القرآن الكريم من هذه الزاوية ال من غيرها من الزواي ا‪ ،‬وال تي ق د تنح رف عن‬
‫مقاصده‪.‬‬
‫ويض رب المث ل على ذل ك بالقص ص الق رآني‪ ،‬فه و ليس قصص ا للتس لية أو‬
‫للت اريخ‪ ،‬وإنم ا ه و للتربي ة والته ذيب‪ ،‬يق ول في ذل ك‪( :‬وألج ل ه ذه النكت ة ك ررت‬
‫القصص القرآنية كقصة آدم وموسى وإبراهيم وسائر األنبي اء عليهم الص الة والس الم‪،‬‬
‫فليس هذا الكتاب كتاب قصة وتاريخ‪ ،‬ب ل ه و كت اب الس ير والس لوك إلى هللا‪ ،‬وكت اب‬
‫التوحيد والمع ارف والمواع ظ والحكم‪ ،‬والمطل وب في ه ذه األم ور ه و التك رار لكي‬
‫يؤثر في القلوب القاسية‪ ،‬وتأخذ منها الموعظة‪ ،‬وبعب ارة أخ رى إن من يري د أن ي ربي‬
‫ويعلم وينذر ويبشر فال بد له أن يرزق مقصده بالعبارات المختلفة والبيان ات المتش تتة‪،‬‬
‫فتارة في ضمن قصة وحكاية وأخرى في ض من ت اريخ ونق ل‪ ،‬حين ا بص راحة اللهج ة‬
‫وحينا بالكناية واألمثال والرموز حتى تتمكن كل من النفوس المختلفة والقلوب المتشتتة‬
‫االستفادة منها‪ ،‬وحيث أن هذا الكت اب الش ريف ألج ل س عادة جمي ع الطبق ات وسلس لة‬
‫البش ر قاطب ة‪ ،‬ويختل ف ه ذا الن وع اإلنس اني في ح االت القل وب والع ادات واألخالق‬
‫واألزمنة واألمكنة‪ ،‬وال يمكن أن تكون دعوته على نحو واح د‪ ،‬ف رب نف وس ال تك ون‬
‫حاضرة ألخذ التعاليم بصراحة اللهجة وإلقاء اصل المطلب بنحو عادي‪ ،‬وال تتأثر بهذا‬
‫النحو‪ ،‬فال بد أن تكون دعوة ه ؤالء وف ق كيفي ة تفك يرهم‪ ،‬فيفهم إي اهم المقص د‪ ،‬ورب‬
‫نفوس ال شغل لها بالقصص والحكايات والتواريخ‪ ،‬وإنما عالقتها بلب المطالب‪ ،‬ولباب‬
‫المقاصد‪ ،‬فال يوزن هؤالء مع الطائفة األولى بميزان واح د‪ ،‬ورب قل وب تتناس ب م ع‬
‫التخويف واإلنذار‪ ،‬وقلوب لها األلفة مع الوعد والتبشير‪ ،‬فلهذه الجه ة دع ا الن اس ه ذا‬
‫الكتاب الشريف باألقسام المختلفة‪ ،‬والفنون المتعددة‪ ،‬والطرق المتشتتة والتك رار لمث ل‬
‫هذا الكتاب الزم وحتمي‪ ،‬وال دعوة والموعظ ة من دون تك رار وتفنن خارج ة عن ح د‬
‫البالغة‪ ،‬وما يتوقع منها وهو التأثير في النفوس ال يحصل من دون تكرار)(‪)2‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن دعوات الخميني الستعمال القرآن الكريم للتهذيب والتربية‬
‫وك ل ش ؤون الحي اة‪ ،‬وه و م ا يؤك د م ا ذكرن ا من الط ابع الق رآني للث ورة اإلس المية‬

‫‪ )(1‬اآلداب المعنوية للصالة ـ ص‪..223‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫اإليرانية‪ ،‬وهو ما أتاح لها النجاح‪ ،‬ألنها ابتعدت عن كث ير من األطروح ات اإلخباري ة‬
‫التي تتعارض مع القرآن الكريم‪ ،‬وتجعلها أقرب إلى األسطورة منها إلى الواقع‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ االهتمام بالدعاء والذكر‪:‬‬
‫مما تتميز به المدرسة الشيعية عن المدرس ة الس نية ك ثرة األدعي ة والمناجي ات‪،‬‬
‫والتي يرويها الش يعة عن أئمتهم‪ ،‬وهي تق رأ إم ا في مناس بات مخصوص ة‪ ،‬كاألدعي ة‬
‫المرتبطة باأليام واألحوال المختلفة‪ ،‬أو عام ة تق رأ ك ل حين‪ ،‬ومنه ا ك ذلك م ا ي رتقي‬
‫سنده إلى األئمة إلى التواتر‪ ،‬ومنها ما ينزل إلى ما دون ذلك بكثير‪.‬‬
‫وهم ـ باعتبارها ـ من األعمال المس تحبة ـ ال يب الغون في البحث عن أس انيدها‪،‬‬
‫ما دامت مضامينها ال تتناقض مع القرآن الكريم والسنة القطعية‪.‬‬
‫وقد حرص القادة الفكريين للجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة على االهتم ام به ذه‬
‫األدعية ونشرها في المساجد والقنوات الفضائية وغيرها‪ ،‬باعتبارها من أحسن وس ائل‬
‫التربية والرقي الروحي‪.‬‬
‫فمض امين تل ك األدعي ة تغ ني عن أك ثر كتب العقائ د والس لوك‪ ،‬ذل ك أنه ا تعلم‬
‫التضرع إلى هللا‪ ،‬وكيفية مخاطبته‪ ،‬باإلض افة إلى كونه ا تحم ل الكث ير من المض امين‬
‫األخالقية الرفيعة‪.‬‬
‫ولهذا نرى الخميني في كل حين يهتم بهذه األدعي ة‪ ،‬وي رد على من يزه د فيه ا‪،‬‬
‫بل يؤلف الكتب في شرحها‪ ،‬وقد قال في كتابه عن البسملة ينتقد أولئ ك ال ذين يزه دون‬
‫فيها‪ ،‬ويرغبون عنها‪( :‬الذين يبعدون الناس األدعية ـ كما فع ل كس روي حيث دع ا إلى‬
‫يوم لحرق كتب العرفان وكتب األدعية ـ هؤالء ال يعرفون ما الدعاء‪ ،‬وم ا هي طبيع ة‬
‫تأثيره في النفوس‪ ،‬ال يفقهون أن جميع هذه الخيرات والبركات هي من ق راء نفس ه ذه‬
‫األدعية‪ ،‬ح تى ال ذين يقرؤونه ا ـ بكيفي ة ض عيفة ـ وي رددون ذك ر هللا‪ ،‬ول و بص ورة‬
‫ببغاوية فإنهم يتأثرون بها‪ ،‬وهم خير من تاركيها)(‪)1‬‬
‫ويضرب المثل لذلك بالمصلين ال ذين لم يرتق وا إلى إقام ة الص الة أو إعطاءه ا‬
‫حقها‪ ،‬ولكنهم مع ذلك أحسن حاال من الذين ال يصلون أصال‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬المص لي‬
‫ـ ولو وفق أدني مراتب إقامة الص الة ـ ه و خ ير من تاركه ا وأك ثر ته ذيبا‪ ..‬راجع وا‬
‫ملفات الجرائم‪ ،‬والحظ وا نس بة مرتكبيه ا من طلب ة العل وم الديني ة ونس بة غ يرهم من‬
‫مرتكبي جرائم السرقة وشراب الخمر وغيرها‪ ،‬هناك في هذه الطائفة ـ المعممين ـ من‬
‫تسلل إليهم وال شك لكن هؤالء ليسوا ال من هل الصالة والغيرها تستروا بهذه الظ اهر‬
‫الستغالله فقط‪ ،‬أما أهل الدعاء والعاملون بش عائر اإلس الم‪ ،‬فليس ت لهم ملف ات جنائي ة‬
‫مقارنة باآلخرين وإن كان هناك من شيء فهو قليل جدا)(‪)2‬‬
‫وي بين أث ر ال دعاء ال ذي غ اب عن أذه ان أولئ ك ال ذين دع وا إلى ح رق كتب‬
‫األدعية‪ ،‬أو زه دوا فيه ا‪ ،‬ق ال‪( :‬لل دعاء وأمثال ه دخ ل وت أثير في نظم ه ذا الع الم‪ ،‬فال‬

‫‪ )(1‬تفسير البسملة (محاضرات معرفية) ص‪ ،76 ،75 ،74 ،‬ط‪ 1412 ،1 ،‬هـ ‪1992 -‬م‪..‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫ينبغي أن يختفي الدعاء من أوساط المجتم ع‪ ،‬ال ينبغي لش بابنا أن يعزف وا عن ال دعاء‪،‬‬
‫وليس من الصحيح الدعوة للعزوف عن الدعاء تحت شعار الدعوة لعودة الق رآن‪ ،‬فه ذا‬
‫يعني تضييع الطريق إلى القرآن‪ ،‬ه ذه من الوس اوس الش يطانية‪ ،‬فالش يطان ي دعو إلى‬
‫ترك الدعاء والحديث لفسح المج ال للق رآن‪ ،‬يق ول يجب أخ ذ الق رآن واإلع راض عن‬
‫الحديث‪ ،‬وأمثال هؤالء ال يستطيعون األخذ بالقرآن‪ ،‬فه ذه من وس اوس الش يطان ال تي‬
‫تخدع اإلنسان) (‪)1‬‬
‫ويدعو هؤالء إلى النظر إلى الواقع‪ ،‬ومن هو أكثر تأثيرا في المجتمع هل أولئ ك‬
‫المتكاس لين ال ذين زعم وا االكتف اء ب القرآن الك ريم‪ ،‬أم ال ذين أخ ذوا ال دين من جمي ع‬
‫مصادره المقدسة‪ ،‬فيقول‪( :‬على هؤالء الشباب أن يالحظوا هل أن الذين كانوا من أهل‬
‫الحديث والذكر والدعاء خدموا المجتمع أكثر‪ ،‬أم الذين لم يكونوا من أهل ذلك‪ ،‬وك انوا‬
‫يزعمون (نحن أهل القرآن)‪ ،‬جميع هذه الخيرات والمبررات التي ترونها وجمي ع ه ذه‬
‫األوقاف المخصصة لمطلق األمور الخيرية وإلعانة التي ترونها‪ ،‬وجميع هذه األوقاف‬
‫المخصصة لمطلق األمور الخيرية وإلعانة الضعفاء هي من عمل هؤالء المؤمنين من‬
‫أهل الذكر والدعاء والصالة ال من غيرهم‪ ،‬ح تى األعي ان األثري اء ال ذين بن وا ـ فيم ا‬
‫مضى ـ المدارس والمصحات وأمثال ذلك إنما كانوا من أه ل الص الة‪ ،‬وه ذا األم ر ال‬
‫ينبغي أن يغيب عن أذه ان الن اس‪ ،‬ب ل على العكس يجب ترس يخه يجب جع ل الن اس‬
‫متوجهين هلل تعالى) (‪)2‬‬
‫وهو يذكر كل حين ب أن نش ر األدعي ة وال دعوة إليه ا هي أفض ل الس بل لتربي ة‬
‫المجتمع وتهذيبه وتأهيله للوصول إلى الرقي الحضاري‪ ،‬يق ول في ذل ك‪( :‬إذا تجاوزن ا‬
‫كل هذه األم ور ف إن األدعي ة تعين اإلنس ان على الوص ول إلى الكم ال المطل ق‪ ،‬وهي‬
‫تعين على إدارة وتس يير أم ور البالد‪ ..‬به ذه األدعي ة وبه ذه األم ور ال واردة عن هللا‬
‫ورسوله تتم تربية المجتمع)(‪)3‬‬
‫وه و يخ اطب ه ؤالء ال ذين يزه دون الن اس في األدعي ة‪ ،‬والع ودة إلى الق رآن‬
‫الكريم بم ا ورد في الق رآن نفس ه من الحض على األدعي ة‪ ،‬ويق ول‪( :‬إن كنتم تق رؤون‬
‫القرآن فهو يمدح الدعاء ويدعو الناس له‪{ :‬قُلْ َما يَ ْعبَأ ُ بِ ُك ْم َربِّي لَوْ اَل ُدعَا ُؤ ُك ْم فَقَ ْد َك َّذ ْبتُ ْم‬
‫فَ َس وْ فَ يَ ُك ونُ لِ َزا ًم ا} [الفرق ان‪ ،]77 :‬إذن فال ذين ي دعون إلى ت رك ال دعاء واألخ ذ‬
‫بالقرآن يرفضون القرآن أيضا)(‪)4‬‬
‫وبناء على هذا نرى االهتمام الكبير من الجمهورية اإلسالمية اإليرانية باألدعي ة‬
‫والمناجي ات الكث يرة‪ ،‬ونش رها في المس اجد وع بر وس ائل اإلعالم المختلف ة‪ ،‬وتيس ير‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫الحصول على كتبها‪ ،‬بل توزيعها كهدايا مجانية‪ ،‬ح تى أن الص حف ت ذكر أن ه ال يك اد‬
‫يوج د بيت في إي ران ليس في ه أمث ال ه ذه الكتب‪ ،‬وخصوص ا [مف اتيح الجن ان] ال ذي‬
‫استوعب جميع كتب األدعية‪.‬‬
‫وقد كان الخميني شديد االهتمام به حتى أنه كان يدعو لتسليمه لكل مجاهد يلتحق‬
‫بالجبه ة‪ ،‬وق د أش اع اإلعالم المغ رض حينه ا‪ ،‬أي بين (‪ )1988-1980‬ب أن الخمي ني‬
‫يوزع مف اتيح بالس تيكية للجن ة على الش باب المتط وعين في الجيش اإلي راني‪ ،‬بس بب‬
‫العنوان الذي يحمله الكتاب‪.‬‬
‫وأحب أن أشير هنا إلى أن هذا االهتمام بالدعاء بين اإليران يين ليس ولي د الق ادة‬
‫الفكريين الحاليين فقط‪ ،‬وإنما ك ان قب ل ذل ك‪ ،‬ب دليل أن أك ثر الكتب ال تي ألفت في ه ذا‬
‫المجال ألفها إيرانيون‪ ،‬وكانت من أكثر الكتب انتشارا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولعل أهمها كتاب [مفاتيح الجنان]‪ ،‬وهو أشمل كتاب لألدعي ة والزي ارات‪ ،‬ألف ه‬
‫الش يخ عبّ اس القمي‪ ،‬ويش تمل على مجموع ة كب يرة من األدعي ة‪ ،‬والمناجي ات‪،‬‬
‫والزيارات‪ ،‬واألعمال الخاصّة باأليام والشهور فضالً عن اآلداب والسّنن الدينية‪ ،‬وق د‬
‫أرف ق الش يخ عب اس القمي كتاب ه اآلخ ر [الباقي ات الص الحات[به امش كتاب ه مف اتيح‬
‫الجنان‪ ،‬وطُبع الكتابان معاً‪.‬‬
‫وأحب أن أشير هنا ـ كذلك إلى ـ كت اب مهم في األدعي ة تم نيت ل و أن المدرس ة‬
‫السنية تبنته‪ ،‬وهو كتاب [الصحيفة السجادية] لإلمام الس جاد‪ ،‬وه و كت اب يش متل على‬
‫‪ 54‬دعاء ومناجاة‪ ،‬وهو مدرسة كاملة في العقائ د والعرف ان والس لوك‪ ،‬وق د كتب بلغ ة‬
‫قوية جميلة مستمدة من اللغة القرآنية‪.‬‬
‫ولهذا الكتاب شأن كبير عند الشيعة‪ ،‬فهو يوض ع في المرتب ة التالي ة بع د الق رآن‬
‫الكريم ونهج البالغة‪ ،‬ويسمى عندهم [زبور آل محمد ‪ ]‬و[إنجيل أهل البيت]‬
‫وق د ح وى الكت اب الكث ير من المع ارف العلي ا‪ ،‬كمعرف ة هللا‪ ،‬وع الم الغيب‪،‬‬
‫والمالئكة‪ ،‬ورسالة األنبياء‪ ،‬ومكانة األنبياء‪ ،‬والفضائل األخالقية‪ ،‬واألمور االجتماعية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬ونعم هللا‪ ،‬وآداب الدعاء‪ ،‬وتالوة القرآن‪ ،‬والصالة‪.‬‬
‫ولمكانته الكبيرة شرح شروحا كثيرة‪ ،‬ذكر اآلغ ا ب زرك الطه راني في الذريع ة‬
‫ما يقارب ‪ 50‬شرحا ً للصحيفة‪ ،‬من أشهرها‪ :‬رياض السالكين لـابن معصوم المدني‪.‬‬
‫وقد رويت هذه الصحيفة باألسانيد الكثيرة جدا‪ ،‬والتي بلغت حد التواتر‪ :‬وقد قال‬
‫الشيخ أغا بزرك الطهراني عنها‪( :‬هي الصحيفة االولى التي يرج ع س ندها الى االم ام‬
‫زين العابدين‪ ..‬وال تي خص ها األص حاب بال ذكر في إج ازاتهم واهتم وا براويته ا من ذ‬
‫القديم وتوارث ذلك الخل ف عن الس لف وطبق ة عن طبق ة‪ ،‬وتنتهي روايته ا الى اإلم ام‬
‫الباقر وزيد الشهيد ابني اإلمام زين العابدين)(‪)1‬‬
‫وذك ر الش يخ محم د تقي المجلس ي أن أس انيدها تزي د على أل ف أل ف س ند (م ا‬

‫‪ )(1‬آقا بزرك الطهراني‪ ،‬الذريعة‪ ،‬ج ‪ ،15‬ص ‪.18‬‬

‫‪203‬‬
‫وروايتها(‪)1‬‬‫يساوي المليون) في نقل الصحيفة‬
‫وقال‪( :‬والذي رأيت من أس انيد الص حيفة بغ ير ه ذه األس انيد فهي أك ثر من أن‬
‫تحصى وال شك في أنها من كالم سيد الساجدين أما من جهة اإلسناد فإنه ا مت واترة من‬
‫طرق الزيدية أيضا)‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد رويت مقاطع منه ا في المص ادر الس نية‪ ،‬مث ل س بط ابن‬
‫الجوزي في خصائص األئمة‪ ،‬والحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي في ين ابيع الم ودة‬
‫(‪.)2‬‬
‫ومع ك ل ه ذا نج د إهم اال كب يرا له ذه الص حيفة من المدرس ة الس نية‪ ،‬في نفس‬
‫الوقت الذي نجدهم يرددون بعض األدعي ة الص وفية ذات المض امين الغريب ة‪ ،‬واللغ ة‬
‫الركيكة‪.‬‬
‫والسبب في ذلك كله هو تلك القطيعة بين المدرستين‪ ،‬وكأنهما دين ان منفص الن‪،‬‬
‫وقد ذكر بعضهم أن السيد المرعشي النجفي أرسل نسخة من الص حيفة م ع رس الة إلى‬
‫العالمة الشيخ الطنطاوي جوهري (توفي ‪ 1358‬هـ) صاحب التفسير المعروف‪ ،‬فكتب‬
‫في جواب رسالته‪( :‬ومن الش قاوة إنّ ا إلى اآلن لم نق ف على ه ذا األث ر القيّم الخال د في‬
‫مواريث النبوة‪ ،‬وأهل البيت‪ ،‬وإنّي كلّما تأملتها رأيتها فوق كالم المخل وق‪ ،‬ودون كالم‬
‫الخالق)(‪)3‬‬
‫وقد أثنى عليها من أهل السنة سبط ابن الج وزي في كتاب ه [خص ائص األئم ة]‪،‬‬
‫فق ال‪( :‬إن لعلي بن الحس ين زين العاب دين ح ق التعليم على المس لمين في اإلمالء‬
‫واإلنش اء وكيفي ة التكلم والخط اب وطلب الحاج ة من الب اري تع الى؛ فل واله لم يكن‬
‫ليعرف المسلمون آداب التحدث وطلب الحوائج من هللا تعالى؛ إن هذا اإلمام علّم البشر‬
‫كيف يستغفرون هللا وكيف يستسقون ويطلبون الغيث من ه تع الى وكي ف يس تعيذون ب ه‬
‫عند الخوف من األعداء لدفع شرورهم)(‪)4‬‬
‫ومن نماذج األدعية البليغ ة ال واردة في الص حيفة الس جادية‪ ،‬وال تي ال نج د له ا‬
‫نظيرا في كل التراث الس ني لألس ف‪ ،‬م ا يس مى بالمناجي ات(‪ )5‬الخمس ة عش ر‪ ،‬وهي‬
‫مناجيات تشمل معاني مختلفة مصنفة إلى خمسة عشر صنفا(‪..)6‬‬
‫فمنها مناجاة التائبين‪ ..‬وهي مناج اة تب دأ به ذا المقط ع الجمي ل ال ذي يمأل النفس‬
‫بجمي ع مع اني العبودي ة والخض وع هلل‪ ،‬وكأنه ا تعلم الت ائب كي ف يق ف بين ي دي رب ه‬
‫متضرعا معترفا منبيا‪( :‬إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي وجلل ني التباع د من ك لب اس‬

‫‪ )(1‬المرعشي النجفي‪ ،‬الصحيفة السجادية‪ ،‬البالغي‪ ،‬ص ‪ 11‬المقدمة‪..‬‬


‫‪ )(2‬القندوزي‪ ،‬ينابيع المودة‪ ،‬ج ‪ ،2 - 1‬ص ‪..599‬‬
‫‪ )(3‬مقدمة المرعشي النجفي للصحيفة السجادية‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ )(4‬نقالً‪ :‬عن مقدمة المرعشي على الصحيفة‪ ،‬ص ‪.45 -43‬‬
‫َاجيَات‪ ،‬بقلب األلف إلى أصلها الياء‪ ،‬وذلك مثل‪[ :‬مباراة ومباريات]‬ ‫‪ )(5‬جمع ُمن َ‬
‫َاجاة ‪ُ :‬من َ‬
‫‪ )(6‬ربما يكون الذي قام بذلك المؤلفون والمصنفون ال اإلمام السجاد نفسه‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫مسكنتي وأمات قلبي عظيم جنايتي فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي وياسؤلي ومني تي‪،‬‬
‫فوعزت ك ماأج د ل ذنوبي س واك غ افرا وال أرى لكس ري غ يرك ج ابرا وق د خض عت‬
‫باإلنابة إليك وعنوت باالستكانة لديك‪ ،‬ف إن طردت ني من باب ك فبمن أل وذ وإن رددت ني‬
‫عن جناب ك فبمن أع وذ‪ ،‬ف وا أس فاه من خجل تي وافتض احي ووالهف اه من س وء عملي‬
‫( )‬
‫واجتراحي) ‪1‬‬
‫وثانيها مناجاة الشاكين‪ ،‬وهي مناجاة يتوجه فيها العب د إلى هللا تع الى ش اكيا إلي ه‬
‫أع داءه ال ذين يحول ون بين ه وبين التوج ه إلي ه‪ ،‬وأولهم النفس األم ارة بالس وء‪ ،‬يق ول‬
‫الس جاد في مناجات ه‪( :‬إلهي إلي ك أش كو نفس ا بالس وء أم ارة وإلى الخطيئ ة مب ادرة‬
‫وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرضة‪ ،‬تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون‬
‫هالك كثيرة العلل طويلة االمل إن مسها الشر تجزع وإن مس ها الخ ير تمن ع ميال ة إلى‬
‫ومملوة بالغفلة والس هو تس رع بي إلى الحوب ة وتس وفني بالتوب ة)(‪ ..)2‬إلى‬
‫‌‬ ‫اللعب وهللا‬
‫آخر المناجاة التي تزرع في نفس تاليها تل ك المع اني ال تي أك د عليه ا الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫والتي تختصر العداوة في النفس والشيطان والقلب القاسي الغليظ‪.‬‬
‫وثالثها مناجاة الخائفين‪ ،‬وهي مناجاة تختصر لتاليها كل المع اني ال تي تمأل قلب ه‬
‫بالخوف‪ ،‬ب ل ترفع ه إلى مقام ه الرفي ع‪ ،‬وم ا يثم ره من س لوك تحققي وتخلقي‪ ..‬يق ول‬
‫السجاد في بداية هذه المناجاة‪( :‬إلهي أتراك بعد االيمان ب ك تع ذبني أم بع د ح بي إي اك‬
‫تبعدني أم مع رجائي لرحمت ك وص فحك تحرم ني أم م ع اس تجارتي بعف وك تس لمني؟‬
‫حاشا لوجه ك الك ريم أن تخيب ني! ليت ش عري أللش قاء ول دتني أمي أم للعن اء ربت ني؟‬
‫فليتها لم تلدني ولم تربني وليت ني علمت أمن أه ل الس عادة جعلت ني وبقرب ك وج وارك‬
‫خصصتني‪ ،‬فتقر بذلك عيني وتطمئن له نفسي‪ .‬إلهي هل تس ود وجوه ا خ رت س اجدة‬
‫( )‬
‫لعظمتك‪ ،‬أو تخرس ألسنة نطقت بالثناء على مجدك وجاللتك‪3 )..‬‬
‫ورابعه ا مناج اة ال راجين‪ ،‬وهي مناج اة تمأل القلب بمع اني الرج اء في هللا وفي‬
‫فضله العظيم‪ ،‬لتضع المداوم عليها في ه ذا المق ام الرفي ع‪ ،‬وم ا يثم ره من قيم س لوكية‬
‫وعرفانية‪ ..‬يقول السجاد في مقدمة هذه المناجاة‪( :‬يا من إذا سأله عب د أعط اه وإذا أم ل‬
‫ماعنده بلغه من اه وإذا أقب ل علي ه قرب ه وأدن اه وإذا ج اهره بالعص يان س تر على ذنب ه‬
‫وغطاه وإذا توكل عليه أحسبه وكفاه‪ ،‬إلهي من الذي نزل بك ملتمس ا ق راك فم ا قريت ه‬
‫ومن الذي أن اخ بباب ك مرتجي ا ن داك فم ا أوليت ه؟ أيحس ن أن أرج ع عن باب ك بالخيب ة‬
‫مصروفا ولست أعرف سواك مولى باالحسان موص وفا؟ كي ف أرج و غ يرك والخ ير‬
‫كله بيدك وكيف أؤمل سواك والخلق واألمر لك أأقطع رج ائي من ك وق د أوليت ني م الم‬
‫( )‬
‫أسأله من فضلك‪ ،‬أم تفقرني إلى مثلي وأنا أعتصم بحبلك؟!) ‪4‬‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.142 / 94 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪.143 / 94 :‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪.143 / 94 :‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪..144 / 94 :‬‬

‫‪205‬‬
‫وخامس ها مناج اة الراغ بين‪ ،‬وهي مناج اة تمأل القلب بالرغب ة في هللا والتع رف‬
‫عليه والسير إليه‪ ،‬يقول السجاد في مقدمتها‪( :‬إلهي إن ك ان ق ل زادي في المس ير إلي ك‬
‫فلقد حسن ظني بالتوكل عليك وإن كان جرمي قد أخافني من عقوبت ك ف إن رج ائي ق د‬
‫أشعرني باألمن من نقمتك‪ ،‬وإن كان ذنبي قد عرض ني لعقاب ك فق د آذن ني حس ن ثق تي‬
‫( )‬
‫بثوابك‪ ،‬وإن أنامتني الغفلة عن االستعداد للقائك فقد نبهتني المعرفة بكرمك وآآلئك) ‪1‬‬
‫وسادسها مناجاة الشاكرين‪ ،‬وهي مناج اة ترف ع القائ ل له ا‪ ،‬والم داوم عليه ا إلى‬
‫مقام الشكر‪ ،‬وتعرفه بحقيقت ه ومنازل ه‪ ،‬وفيه ا يق ول الس جاد‪( :‬إلهي أذهل ني عن إقام ة‬
‫ش كرك تت ابع طول ك وأعج زني عن إحص اء ثنائ ك فيض فض لك وش غلني عن ذك ر‬
‫محامدك ت رادف عوائ دك وأعي اني عن نش ر عوارف ك ت والي أيادي ك‪ ،‬وه ذا مق ام من‬
‫اعترف بسبوغ النعماء وقابله ا بالتقص ير‪ ،‬وش هد على نفس ه باآلم ال والتض ييع وأنت‬
‫الرؤوف الرحيم البر الكريم الذي ال يخيب قاصديه وال يطرد عن فنائ ه آملي ه بس احتك‬
‫تح ط رح ال ال راجين وبعرص تك تق ف آم ال المس ترفدين فال تقاب ل آمالن ا ب التخييب‬
‫( )‬
‫واالياس وال تلبسنا سربال القنوط واالبالس) ‪2‬‬
‫وسابعها مناجاة المطيعين هلل‪ ،‬وهي مناجاة تحث على طاعة‪ ،‬وتعلم المناجي به ا‬
‫كيف يجعل هللا مقصده األعلى واألهم واألولى من كل شيء‪ ..‬يقول السجاد فيها‪( :‬اللهم‬
‫احملنا في سفن نجاتك ومتعنا بلذيذ مناجاتك وأوردن ا حي اض حب ك وأذقن ا حالوة ودك‬
‫وقربك واجعل جهادنا فيك وهمنا في طاعتك وأخلص نياتنا في معاملتك‪ ،‬فإنا ب ك ول ك‬
‫( )‬
‫وال وسيلة لنا إليك إال أن) ‪3‬‬
‫وثامنها مناجاة المريدين‪ ،‬وهي مناجاة التوجه الصادق هلل‪ ،‬واإلرادة الخالصة له‪،‬‬
‫اص بِرْ‬
‫﴿و ْ‬
‫والتي عبر عنها قوله تع الى في وص ف أص حاب رس ول هللا ‪ ‬الص ادقين‪َ :‬‬
‫نَ ْف َسكَ َم َع الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغدَا ِة َو ْال َع ِش ِّي ي ُِري ُدونَ َوجْ هَهُ﴾ [الكه ف‪ ،]28 :‬وق د ع بر‬
‫السجاد في هذه المناجاة عن معنى هذه اإلرادة وحدودها ووجهتها‪ ،‬فق ال ـ مخاطب ا هللا‬
‫تعالى ـ‪( :‬فأنت ال غيرك مرادي ول ك ال لس واك س هري وس هادي ولق اؤك ق رة عي ني‬
‫ووصلك منى نفسي وإلي ك ش وقي وفي محبت ك ولهي‪ ،‬وإلى ه واك ص بابتي ورض اك‬
‫بغي تي ورؤيت ك ح اجتي وج وارك طل بي وقرب ك غاي ة س ؤلي‪ ،‬وفي مناجات ك روحي‬
‫وراحتي وعندك دواء علتي وشفاء غلتي وبرد لوعتي وكشف كرب تي‪ ،‬فكن أنيس ي في‬
‫وحش تى ومقي ل ع ثرتي وغ افر زل تي وقاب ل توب تي ومجيب دع وتي وولي عص متي‬
‫ومغني فاقتي‪ ،‬وال تقطعني عنك وال تبعدني منك يا نعيمي وجنتي ويادنياي وآخرتي ي ا‬
‫( )‬
‫أرحم الراحمين) ‪4‬‬
‫وتاسعها مناجاة المحبين‪ ،‬وهي مناجاة ممتلئ ة بمع اني المحب ة هلل‪ ،‬والش وق إلي ه‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪..145 / 94 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪..146 / 94 :‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪..147 / 94 :‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪.147 / 94 :‬‬

‫‪206‬‬
‫واألنس به‪ ،‬وهي تضع صاحبها المدمن عليها في تلك المقامات العالي ة ال تي هي غاي ة‬
‫آمال العارفين المحققين‪ ،‬والتي عبر عنها هللا تعالى بقوله‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َم ْن يَرْ تَ َّد‬
‫ِم ْن ُك ْم ع َْن ِدينِ ِه فَ َسوْ فَ يَأْتِي هَّللا ُ بِقَوْ ٍم ي ُِحبُّهُ ْم َوي ُِحبُّونَهُ ﴾ [المائدة‪ ..]54 :‬يق ول الس جاد في‬
‫هذه المناجاة‪( :‬إلهي من ذا الذي ذاق حالوة محبت ك ف رام من ك ب دال ومن ذا ال ذي أنس‬
‫بقربك فابتغى عنك حوال‪ ،‬إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وواليتك وأخلصته ل ودك‬
‫ومحبت ك وش وقته إلى لقائ ك ورض يته بقض ائك ومنحت ه ب النظر إلى وجه ك وحبوت ه‬
‫برض اك‪ ،‬وأعذت ه من هج رك وقالك وبوأت ه مقع د الص دق في ج وارك وخصص ته‬
‫بمعرفتك وأهلته لعبادتك‪ ،‬وهيمت قلبه إلرادتك واجتبيته لمشاهدتك واخليت وجه ه ل ك‬
‫وفرغت ف ؤاده لحب ك ورغبت ه فيم ا عن دك وألهمت ه ذك رك وأوزعت ه ش كرك وش غلته‬
‫( )‬
‫بطاعتك) ‪1‬‬
‫وعاشرها مناجاة المتوس لين‪ ،‬وهي مناج اة يتوس ل فيه ا اإلم ام زين العاب دين هلل‬
‫تعالى بفضله وعطفه ورأفته وأسمائه الحسنى‪ ،‬ويستشفع فيه ا ب النبي ‪ ..‬يق ول فيه ا‪:‬‬
‫(إلهي ليس لي وسيلة إليك إال عواطف رأفتك وال لي ذريعة إليك إال ع وارف رحمت ك‬
‫وشفاعة نبيك نبي الرحمة ومنقذ االمة من الغم ة‪ ،‬فاجعلهم ا لي س ببا إلى ني ل غفران ك‬
‫وصيرهما لي وصلة إلى الفوز برضوانك‪ ،‬وقد حل رجائي بحرم كرم ك وح ط طمعي‬
‫بفناء جودك فحقق فيك أملي واختم ب الخير عملي واجعل ني من ص فوتك ال ذين أحللتهم‬
‫بحبوحة جنتك وبوأتهم دار كرامتك وأقررت أعينهم ب النظر إلي ك ي وم لقائ ك وأورثتهم‬
‫( )‬
‫منازل الصدق في جوارك) ‪2‬‬
‫والحادية عشرة منها مناجاة المفتقرين‪ ،‬والتي يعبر فيها اإلمام السجاد عن مع نى‬
‫االفتقار الخالص هلل‪ ،‬والذي ه و ذروة مق ام المعرف ة والتحقي ق‪ ،‬وه و أس اس ك ل القيم‬
‫واألخالق الرفيعة‪ ،‬يقول فيها السجاد‪( :‬إلهي كسري اليجبره إال لطفك وحنانك وفق ري‬
‫اليغنيه إال عطفك وإحسانك وروعتي اليس كنها إال أمان ك وذل تي اليعزه ا إال س لطانك‬
‫وأمني تي اليبلغنيه ا إال فض لك وخل تي اليس دها إال طول ك وح اجتي اليقض يها غ يرك‬
‫وك ربي اليفرج ه س وى رحمت ك وض ري اليكش فه غ ير رأفت ك وغل تي اليبرده ا إال‬
‫وصلك ولوعتي اليطفيها إال لقاؤك وشوقي إليك اليبله إال النظ ر إلى وجه ك وق راري‬
‫اليق ر دون دن وي من ك ولهف تي اليرده ا إال روح ك وس قمي اليش فيه إال طب ك وغمي‬
‫اليزيله إال قربك وجرحي اليبرئه إال صفحك ورين قلبي اليجلوه إال عف وك ووس واس‬
‫( )‬
‫صدري اليزيحه إال أمرك‪3 )..‬‬
‫والثاني ة عش رة منه ا مناج اة الع ارفين‪ ،‬وهي مناج اة ت دل على المنهج الحقيقي‬
‫للتعرف على هللا‪ ،‬وهو التوجه الخ الص إلي ه‪ ،‬فال يع رف باهلل إال هللا‪ ،‬وال يض ع ب ذور‬
‫َب فِي قُلُوبِ ِه ُم اإْل ِ ي َمانَ َوأَيَّ َدهُ ْم‬ ‫اإليمان والمحبة في القلب غيره‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫ك َكت َ‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.148 / 94 :‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪..149 / 94 :‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪.149 / 94 :‬‬

‫‪207‬‬
‫ُوح ِم ْنهُ ﴾ [المجادلة‪ ..]22 :‬يق ول الس جاد في ه ذه المناج اة‪( :‬إلهي قص رت االلس ن‬
‫بِر ٍ‬
‫عن بلوغ ثنائك كما يليق بجاللك وعج زت العق ول عن إدراك كن ه جمال ك وانحس رت‬
‫االبص ار دون النظ ر إلى س بحات وجه ك ولم تجع ل للخل ق طريق ا إلى معرفت ك إال‬
‫بالعجز عن معرفتك‪ ،‬إلهي فاجعلنا من الذين ترس خت أش جار الش وق إلي ك في ح دائق‬
‫صدورهم وأخذت لوع ة محبت ك بمج امع قل وبهم‪ ،‬فهم إلى أوك ار االفك ار ي أوون وفي‬
‫ري اض الق رب والمكاش فة يرتع ون ومن حي اض المحب ة بك أس المالطف ة يكرع ون‬
‫وشرايع المصافات يردون‪ ،‬قد كشف الغطاء عن أبص ارهم وانجلت ظلم ة ال ريب عن‬
‫عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قل وبهم وس رائرهم وانش رحت بتحقي ق‬
‫( )‬
‫المعرفة صدورهم‪1 )..‬‬
‫والثالثة عشرة منه ا مناج اة ال ذاكرين‪ ،‬وهي مناج اة تعلم ال ذاكر هلل آداب ال ذكر‬
‫والحض ورمع هللا‪ ،‬وت بين قيمت ه وأهميت ه ودوره في التحق ق بمعرف ة هللا‪ ،‬يق ول فيه ا‬
‫السجاد‪( :‬إلهي لوال الواجب من قبول أمرك لنزهتك عن ذكري إياك على أن ذكري لك‬
‫بقدري البقدرك وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محال لتقديس ك ومن أعظم النعم‬
‫علينا جريان ذكرك على ألسنتنا وإذن ك لن ا ب دعائك وتنزيه ك وتس بيحك‪ ،‬إلهي فألهمن ا‬
‫ذكرك في الخالء والمالء واللي ل والنه ار واالعالن واالس رار وفي الس راء والض راء‬
‫وآنس نا بال ذكر الخفي واس تعملنا بالعم ل ال زكي والس عي المرض ي وجازن ا ب الميزان‬
‫ال وفي‪ ،‬إلهي ب ك ه امت القل وب الواله ة وعلى معرفت ك جمعت العق ول المتباين ة فال‬
‫تطمئن القلوب إال بذكرك وال تسكن النفوس إال عند رؤياك‪ ،‬أنت المسبح في ك ل مك ان‬
‫والمعبود في كل زم ان والموج ود في ك ل أوان والم دعو بك ل لس ان والمعظم في ك ل‬
‫جنان‪ ،‬وأستغفرك من كل لذة بغير ذكرك ومن كل راحة بغ ير أنس ك ومن ك ل س رور‬
‫( )‬
‫بغير قربك ومن كل شغل بغير طاعتك‪2 )..‬‬
‫والرابعة عشرة منها مناجاة المعتصمين‪ ،‬وهي ترجم ة لك ل م ا ورد في الق رآن‬
‫الك ريم من ال دعوة إلى اللج وء إلى هللا‪ ،‬والف رار إلي ه‪ ،‬واالس تعاذة ب ه‪ ،‬والتحص ن في‬
‫حصونه‪ ..‬يقول فيها السجاد‪( :‬اللهم يا مالذ الآلئذين ويامعاذ العائذين ويامنجي الهالكين‬
‫وي ا عاص م البائس ين وي اراحم المس اكين وي ا مجيب المض طرين وي ا ك نز المفتق رين‬
‫وياج ابر المنكس رين ويام أوى المنقطعين وياناص ر المستض عفين وي امجير الخ ائفين‬
‫وي امغيث المك روبين وياحص ن الال ج ئين‪ ،‬إن لم أع ذ بعزت ك فبمن أع وذ وإن لم أل ذ‬
‫بقدرتك فبمن ألوذ؟ وقد ألجأتني الذنوب إلى التشبث بأذي ال عف وك وأحوجت ني الخطاي ا‬
‫إلى استفتاح أبواب صفحك ودعتني االسأة إلى االناخ ة بفن اء ع زك وحملت ني المخاف ة‬
‫من نقمتك على التمسك بعروة عطفك‪ ،‬وما حق من اعتص م بحبل ك أن يخ ذل وال يلي ق‬
‫( )‬
‫بمن استجار بعزك أن يسلم أو يهمل؟‪3 )..‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.150 / 94 :‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪..151 / 94 :‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪..152 / 94 :‬‬

‫‪208‬‬
‫والخامسة عشرة منه ا مناج اة الزاه دين‪ ،‬وهي مناج اة يس تعيذ فيه ا الس جاد من‬
‫الدنيا وإغرائها وتالعبها بأهلها‪ ،‬وهي تعلم المدمن عليها التالي لها قيمة الزهد وأهميت ه‬
‫ودوره في السير التحققي والتخلقي‪ ،‬يقول فيها الس جاد‪( :‬إلهي أس كنتنا دارا حف رت لن ا‬
‫حفر مكرها وعلقتنا بأيدي المنايا في حبائل غدرها فإليك نلتجي من مكائد خ دعها وب ك‬
‫نعتصم من االغترار بزخارف زينته ا فإنه ا المهلك ة طالبه ا المتلف ة حالله ا المحش وة‬
‫باآلفات المشحونة بالنكبات‪ ،‬إلهي فزهدنا فيها وسلمنا منها بتوفيق ك وعص متك وان زع‬
‫عن ا جالبيب مخالفت ك وت ول أمورن ا بحس ن كفايت ك وأوف ر مزي دنا من س عة رحمت ك‬
‫( )‬
‫وأجمل صالتنا من فيض مواهبك‪1 )..‬‬
‫هذه مجرد نماذج ومقتطفات قليلة جدا بجنب ذلك التراث الكب ير ال ذي ترك ه لن ا‬
‫السجاد‪ ،‬وتركته لنا العترة الطاهرة من أدعي ة وأذك ار ومناج اة‪ ..‬كله ا تمتلئ بالمع اني‬
‫السامية الرفيعة‪..‬‬
‫وهي جميع ا تخل و من ك ل تل ك األك اذيب ال تي يروجه ا المتطرف ون من أنه ا‬
‫تتعرض للصحابة أو لغ يرهم ب الطعن واإلس اءة‪ ..‬ب ل إنه ا على العكس من ذل ك‪ ،‬فمن‬
‫األدعية الواردة في الصحيفة السجادية‪ ،‬والتي ال ي زال يردده ا الش يعة اقت داء بإم امهم‬
‫السجاد ذلك الدعاء المخصص للصحابة‪ ..‬ال لصحابة النبي ‪ ‬فقط‪ ،‬بل لصحابة جميع‬
‫األنبياء عليهم السالم‪ ،‬وهو الدعاء المس مى [الص الة على أتب اع الرس ل ومص دقيهم]‪،‬‬
‫والذي سبق لنا ذكره في الفصل السابق‪.‬‬
‫وهكذا نجد فيها الدعاء للتابعين لهم بإحس ان‪ ،‬يق ول الس جاد‪( :‬اللهم وأوص ل إلى‬
‫التابعين لهم بإحسان الذين يقولون‪ :‬ربنا اغفر لنا والخواننا الذين سبقونا بااليم ان خ ير‬
‫جزائك‪ ،‬الذين قصدوا سمتهم‪ ،‬وتح روا وجهتهم‪ ،‬ومض وا على ش اكلتهم‪ ،‬لم يثنهم ريب‬
‫في بص يرتهم‪ ،‬ولم يختلجهم ش ك في قف و آث ارهم واالئتم ام بهداي ة من ارهم‪ ،‬مك انفين‬
‫وموازرين لهم‪ ،‬يدينون بدينهم‪ ،‬ويهتدون بهديهم‪ ،‬يتفقون عليهم‪ ،‬وال يتهمونهم فيما أدوا‬
‫إليهم‪ .‬أللهم وصل على التابعين من يومن ا ه ذا إلى ي وم ال دين‪ ،‬وعلى أزواجهم‪ ،‬وعلى‬
‫ذري اتهم‪ ،‬وعلى من أطاع ك منهم ص الة تعص مهم به امن معص يتك‪ ،‬وتفس ح لهم في‬
‫رياض جنتك‪ ،‬وتمنعهم بها من كيد الشيطان‪ ،‬وتعينهم بها على م ا اس تعانوك علي ه من‬
‫بر‪ ،‬وتقيهم طوارق الليل والنهار إال طارقا يطرق بخير‪ ،‬وتبعثهم بها على اعتقاد حسن‬
‫الرجـاء لك‪ ،‬والطمع فيم ا عن دك‪ ،‬وت رك النهم ة فيم ا تحوي ه أي دي العب اد ل تردهم إلى‬
‫الرغب ة إلي ك والرهب ة من ك‪ ،‬وتزه دهم في س عة العاج ل وتحبب إليهم العم ل لالج ل‪،‬‬
‫واالستعداد لما بعد الموت وته ون عليهم ك ل ك رب يح ل بهم ي وم خـروج االنفس من‬
‫أبدانها‪ ،‬وتعافيهم مما تق ع ب ه الفتن ة من مح ذوراتها‪ ،‬وكب ة الن ار وط ول الخل ود فيه ا‪،‬‬
‫( )‬
‫وتصيرهم إلى أمن من مقيل المتقين) ‪2‬‬
‫لكن التكفيريين لألسف ال ينظروف لمئات األدعي ة الممتلئ ة بمث ل ه ذه المع اني‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪..152 / 94 :‬‬


‫‪ )(2‬الصحيفة السجادية (ص‪)40 :‬‬

‫‪209‬‬
‫السامية‪ ،‬ويذهبون إلى بعض األدعي ة ال تي ورد الخالف في ش أنها‪ ،‬وهي ال تش كل إال‬
‫جزءا ضئيال جدا من ذلك التراث العظيم من المعاني التحققية والتخلقية‪..‬‬
‫وحتى تلك التي يشيرون إليها ليس فيها أي تص ريح ب أي اس م من األس ماء‪ ،‬ب ل‬
‫هي تشير إلى وجود من سعى إلى تغيير الدين وتبديله وتحريف ه وتش ويهه‪ ..‬وك ل ذل ك‬
‫صحيح وإن وقع الخالف في المصاديق‪.‬‬
‫لكن التكفيريين ال ينظرون إلى كل ذلك‪ ،‬وال يهتمون به‪ ،‬ألن هدفهم ليس التحقق‬
‫وال التخلق‪ ،‬وإنما هدفهم تفريق األمة وتشتيتها‪ ،‬ولو بحرمانه ا من ذل ك ال تراث العظيم‬
‫الذي أوصى رسول هللا ‪ ‬بأصحابه‪ ،‬ودعا إلى التمسك بهم‪ ،‬واالهتداء بهديهم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ االهتمام بالحج والزيارات وأبعادها الروحية‪:‬‬
‫من وسائل التربية الروحية التي اهتم بها اإليرانيون ق ديما‪ ،‬وال يزال ون يهتم ون‬
‫بها ح ديثا الحج وم ا يرتب ط ب ه وبغ يره من زي ارات‪ ،‬فلكليهم ا ه دف واح د ه و ت ذكر‬
‫أحداث تاريخية مرتبطة باألنبياء وورثتهم‪ ،‬وفي نفس الوقت فرص ة لتالقي المؤم نين‪،‬‬
‫وممارسة كثير من العب ادات الجماعي ة ال تي توح د قل وبهم‪ ،‬وتطه ر نفوس هم‪ ،‬وتس مو‬
‫بأرواحهم‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذه المعاني وغيرها الخميني في رسائله وخطبه للحج اج‪ ،‬وال تي‬
‫جمعت في كت اب [أبع اد الحج في كالم اإلم ام الخمي ني]‪ ،‬وال تي دع ا فيه ا إلى تفعي ل‬
‫مقاصد الحج‪ ،‬وعدم تعطيها؛ فالحج أك بر مناس بة لبث ال وعي بين المس لمين‪ ،‬وتوحي د‬
‫صفوفهم‪ ،‬ووضع الخطط لمواجهة أعدائهم‪.‬‬
‫ومن أقواله في ذلك ـ وهو يش ير إلى المع اني ال تي على الحج اج أن يالحظوه ا‬
‫أثناء حجهم ـ ‪( :‬من النقاط المهمة ال تي ينبغي على الحج اج الك رام االلتف ات إليه ا‪ ،‬أن‬
‫مك ة المكرم ة والمش اهد المش رفة م رآة لألح داث الكب يرة لنهض ة األنبي اء واإلس الم‬
‫ورسالة النبي األكرم ‪ ،‬وهي مكان نزل في ه األنبي اء وجبري ل األمين‪ ،‬وه ذا المك ان‬
‫الذي يذكرنا بالمصائب والصعوبات التي تحمله ا الن بي األك رم ‪ ‬في س بيل اإلس الم‬
‫والبشرية لعدد من السنين‪ ..‬وإذا ما أخذنا بعين االعتبار الشروط الص عبة لبعث ة الن بي‪،‬‬
‫عرفنا أكثر مسؤولية الحفاظ على إنج ازات ه ذه النهض ة وه ذه الرس الة اإللهي ة‪ ،‬وكم‬
‫عانى النبي األكرم وأئمة الهدى (عليهم الس الم) من الغرب ة ألج ل دين الح ق وإزه اق‬
‫الباط ل‪ .‬لق د اس تقاموا ووقف وا ولم يه ابوا أو يجزع وا من التهم واإلهان ات وجراح ات‬
‫ألس نة أمث ال أبي لهب وأبي جه ل وأبي س فيان‪ ،‬وفي نفس ال وقت اس تمروا وأكمل وا‬
‫طريقهم رغم الحصار االقتصادي في شعب أبي طالب‪ ،‬ولم يستسلموا ولم يهن وا‪ ،‬ومن‬
‫بعدها تحملوا الهجرات والمرارات في سبيل دعوة الحق‪ ،‬وتبليغ رس الة هللا‪ ،‬وتواج دوا‬
‫في الح روب المتتالي ة وغ ير المتكافئ ة وهم رغم اآلالف من الم ؤامرات ورغم ك ثرة‬
‫المنافقين‪ ،‬قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمة عالية وصلبة حيث تش هد ص خور وحص ى‬
‫مكة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقتها وأسواقها على آثار تبليغ رسالتهم)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬أبعاد الحج في كالم اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪.10‬‬

‫‪210‬‬
‫ومن المعاني المتربت ة على ه ذا‪ ،‬وال تي ي دعو الخمي ني في خطب ه الحج اج إلى‬
‫االلتفات إليها البراءة من الط واغيت والمج رمين ال ذي يعت بر ت وليهم أك بر مظه ر من‬
‫مظاهر الشرك‪ ،‬ذلك أنهم يمثلون األعداء الحقيقيين للنبوة واألدي ان‪ ،‬وال يكتم ل الت دين‬
‫إال بالبراءة منهم‪ ،‬ومن أقواله في ذلك‪( :‬إن الكعبة المعظمة هي المركز األوحد لتحطيم‬
‫األصنام‪ ،‬لقد رفع نداء التوحي د من الكعب ة إب راهيم الخلي ل في أول الزم ان‪ ،‬وس يرفعه‬
‫حبيب هللا ولده المهدي العزيز الموعود روحي فداه في آخر الزمان‪ ،‬وس يبقى مرتفع ا)‬
‫(‪)1‬‬
‫وفي هذا النص أبلغ رد على أولئك الذين يتوهمون أن الشيعة‪ ،‬وخصوصا الق ادة‬
‫الفك ريين والسياس يين للجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة يكره ون مك ة أو الكعب ة‪،‬‬
‫ويفضلون عليهما المشاهد والمزارات المرتبطة باألئمة‪ ،‬وهذا من البهتان العظيم‪.‬‬
‫فالمصادر الشيعية جميعا‪ ،‬وأولها اآلثار المنقول ة عن أئمتهم تعظم الكعب ة‪ ،‬وك ل‬
‫المحال التي كان فيها رسول هللا ‪ ،‬وهم يعتبرون الحج واجبا شرعيا على المستطيع‪،‬‬
‫كم ا نص على ذل ك الق رآن الك ريم‪ ،‬بينم ا ال يعت برون الزي ارات إال من المس تحبات‬
‫واألعمال الصالحة التي ال ترقى إلى الوجوب‪ ،‬فكيف تغني عن الحج؟‬
‫أما ما ورد عنهم من نصوص في ذلك‪ ،‬فهو ال يختلف عن تل ك النص وص ال تي‬
‫وردت في األحاديث الشريفة التي نجدها في المصادر السنية من أمثال قول ه ‪( :‬من‬
‫سبح مائة بالغداة‪ ،‬ومائة بالعشي‪ :‬كان كمن حج مائة حجة‪ ،‬ومن حمد مائة مرة بالغداة‪،‬‬
‫ومائة بالعشي‪ :‬كان كمن حم ل على مائ ة ف رس في س بيل هللا‪ ،‬ومن هل ل مائ ة بالغ داة‬
‫ومائة بالعشي‪ :‬كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل‪ ،‬ومن ك بر هللا مائ ة بالغ داة‬
‫ومائة بالعشي‪ :‬لم يأت في ذلك اليوم أحد بأفضل مما جاء به‪ ،‬إال من قال مث ل م ا ق ال‪،‬‬
‫أو زاد على ما قال)(‪)2‬‬
‫ومثله قوله ‪ ‬في أجر من ذهب إلى المسجد لحضور درس علم أو ليعلـم علما‪،‬‬
‫ففي الحديث‪( :‬من غدا إلى المسجد ال يريد إال أن يتعلم خيرا أو يعلم ه‪ ،‬ك ان ل ه ك أجر‬
‫حاج تاما حجته)(‪)3‬‬
‫ومثلهم ا قول ه ‪ ‬في أج ر من ذهب إلى المس جد على وض وء؛ ليص لي في ه‬
‫المكتوبة‪ ،‬ففي الحديث‪( :‬من خ رج من بيت ه متطه را إلى ص الة مكتوب ة ف أجره ك أجر‬
‫الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى ال ينصبه إال إياه ف أجره ك أجر المعتم ر)‬
‫(‪)4‬‬
‫ومثلهم قول ه ‪ ‬في أج ر من يص لي ص الة الص بح في جماع ة‪ ،‬ويمكث في‬
‫المسجد يذكر هللا تعالى حتى تطل ع الش مس‪ ،‬ثم يص لي ركع تين‪( :‬من ص لى الغ داة في‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.11‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في الكبير‪ ،‬وصححه األلباني‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود‪ ،‬وحسنه األلباني‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫جماعة‪ ،‬ثم قعد يذكر هللا ح تى تطل ع الش مس ثم ص لى ركع تين ك انت ل ه ك أجر حج ة‬
‫وعمرة تامة تامة تامة)(‪ ،)1‬وفي رواية‪( :‬من ص لى الص بح ثم جلس في مجلس ه ح تى‬
‫تمكنه الصالة كان بمنزلة عمرة وحجة متقبلتين)(‪)2‬‬
‫فلم يق ل أح د من الن اس أن ه ذه األعم ال تغ ني عن الحج‪ ،‬أو أن له ا األفض لية‬
‫المطلقة على الحج‪ ،‬وهكذا يفس ر م ا ورد عن األئم ة في فض ل تجش م المش اق لزي ارة‬
‫اإلمام الحسين أو غيره من األئمة‪ ،‬لما في تلك الزي ارة من فوائ د ديني ة كث يرة ال يمكن‬
‫أن يعوضها عمل آخر‪.‬‬
‫وقد أشار الشيخ الشيخ ابن عثيمين ـ والذي يتبناه السلفية‪ ،‬ويعتقدون إمامته ـ إلى‬
‫هذا المع نى‪ ،‬عن دما س ئل عن قول ه ‪( :‬من جلس في مص اله بع د ص الة الفج ر إلى‬
‫طلوع الشمس كان كحجة وعمرة تامة تامة)‪ ،‬وهل أن من فعل هذا فله مث ل أج ر الحج‬
‫والعمرة؟‬
‫فأجاب بقوله‪ ..( :‬الثواب ال قياس فيه ‪ ،‬فقد يثاب اإلنسان على عم ل قلي ل ث واب‬
‫عمل كثير ؛ ألن الثواب فضل من هللا عز وجل يؤتيه من يشاء)(‪)3‬‬
‫وب ذلك ال مع نى لتل ك الحمل ة الش ديدة ال تي تش ن على الش يعة بس بب تعظيمهم‬
‫لمقامات أئمتهم‪ ،‬وزيارتهم لهم‪ ،‬فهم يزورونهم وفي نفس ال وقت يقوم ون ب الحج ال ذي‬
‫يعتقدون وجوبه‪ ،‬وال يرون أن أحدهما مغن عن اآلخر‪.‬‬
‫مع العلم أن الكث ير من مقاص د الحجج تتحق ق في تل ك الزي ارات‪ ،‬حيث يجتم ع‬
‫المؤمنون من كل مكان‪ ،‬وفي تلك األماكن يجدون الكثير من أهل العلم والص الح‪ ،‬وق د‬
‫يكون ذلك سببا في تغير حياتهم جميعا‪.‬‬
‫وهذه الزيارات لم تكن خاصة بالش يعة‪ ،‬ب ل إن جمي ع الم دارس الس نية م ا ع دا‬
‫المدرس ة الس لفية يؤمن ون بزي ارة األولي اء والص الحين وتأثيره ا في حي اتهم‪ ،‬ب ل إن‬
‫الكثير منهم يقدمون أمثال تلك الزيارات على الحج‪ ،‬حتى إذا ما ذهبوا إلى الحج ذهبوا‪،‬‬
‫وهم يعرفون قيمته ومقاصده‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك مث ل ال ذي يق ال ل ه‪ :‬ال ينبغي أن تحج قب ل أن ت زور إم ام المس جد‪،‬‬
‫وتجلس إليه‪ ،‬وتتعلم منه‪ ،‬حتى إذا ما ذهبت إلى الحج كان ذلك مؤثرا في ك‪ ،‬مفي دا ل ك‪،‬‬
‫ولم تبق في أي شيء ربما يبطل عليك حجك‪.‬‬
‫وق د ذك ر الش يخ محم د حس ين ال زين في كتاب ه [الش يعة في الت اريخ] بعض‬
‫مشاهداته مع أبناء المدرسة السنية‪ ،‬وتعظيمهم لمقامات أولي ائهم من أمث ال الش يخ عب د‬
‫الق ادر الجيالني وغ يره؛ فق ال‪( :‬مقام ات األولي اء كث يرة في بالد اإلس الم‪ ،‬ويزوره ا‬
‫المسلمون‪ ،‬ويتبركون بها إال ما شذ منهم‪ ،‬بل قد يتبركون بمن زارها ويحترمونه أك بر‬
‫احترام‪ ،‬وخصوصا أهل مصر وحلب)‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪ ،‬وحسنه األلباني‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬وصححه األلباني‪.‬‬
‫‪ )(3‬اللقاء الشهري (‪.)74/22‬‬

‫‪212‬‬
‫ثم ذكر قصة حدثت له‪ ،‬فق ال‪( :‬وإلي ك قص ة ش اهدتها بنفس ي‪ ،‬ب ل على األص ح‬
‫جرت معي في ‪ 15‬جمادى األولى س نة ‪ 1342‬هـ حيث س افرت يومئ ذ من بغ داد إلى‬
‫حلب‪ ،‬ومنها إلى بيروت‪ ،‬واجتمعت في محطة القطار الحلبية بثالث ة نف ر من الحلب يين‬
‫عليهم أبهة الجاللة وسيماء التقوى حتى أن أحدهم قد أسدل على وجهه منديال وسد أنفه‬
‫بإصبعيه من فوق المنديل لما رأى بعض اللبنانيين يشربون الخمر في القطار‪ ،‬ومجم ل‬
‫القصة أنني سألتهم ابتداء عن محل قطع التذاكر للركاب‪ ،‬فأج ابوا‪ :‬ذل ك ه و‪ ،‬وأش اروا‬
‫إلى جهة من جهات المحط ة‪ ،‬وقب ل أن أذهب إلى تل ك الجه ة ق الوا‪ :‬وين رايح؟ فقلت‪:‬‬
‫رايح إلى ب يروت وكنت في بغ داد‪ ،‬فق الوا‪ :‬أص حيح في بغ داد؟ ‪ ،‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ص حيح‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬أرأيت مق ام س يدنا عب د الق ادر الجيالني؟ قلت‪ :‬رأيت ه طبع ا‪ ..‬ف أقبلوا ف ورا على‬
‫جبهتي يقبلونها قبالت حارة‪ ،‬ثم ذهبوا معي بأجمعهم وقطعوا لي تذكرة الس فر وحمل وا‬
‫أسبابي إلى القطار‪ ،‬وجلس وا ح ولي يتح دثون عن من اقب عب د الق ادر وكرامات ه ح تى‬
‫بلغوا بها إلى أعلى مراتب الغلو‪ ،‬ورحت أح دثهم عن مقام ه الفخم‪ ،‬وبنائ ه الب ديع‪ ،‬إلى‬
‫أن جاء وقت (الترويقة)‪ ،‬فقمت وأتيت بما كان باقيا ل دي من ال زاد ال ذي ص حبته معي‬
‫من بغ داد وقدمت ه إليهم ودع وتهم إلي ه (وك ان في ه ف تيت كع ك وبعض تم يرات)‬
‫فاختاروهما على غيرها‪ ،‬وابتدأوا بقس مة الف تيت؛ ف التهم ك ل س همه بلهف ة مدهش ة‪ ،‬ثم‬
‫تقاسموا التميرات ولف كل سهمه بورقة‪ ،‬وق الوا ‪ -‬معت ذرين‪ :‬نبقيه ا للبرك ة‪ ،‬ثم ق اموا‬
‫وجاءوا بزادهم الف اخر‪ ،‬فأكلن ا جميع ا‪ .‬وال تس ل عن خ دمتهم لي ط ول الطري ق ح تى‬
‫وصلنا بيروت وافترقنا قسرا)(‪)1‬‬
‫ثم علق على ذلك بقوله‪( :‬فهل يس وغ لي أو ألي مس لم أن يبهت ه ؤالء النف ر أو‬
‫يرميهم بقول‪( :‬إنهم يحترمون كلمة قادري أو بغدادي عن كلمة حجي) أو بأن (من زار‬
‫عبد الق ادر أك ثر احترام ا وطه ارة عن دهم ممن زار مك ة) ؟ اللهم ال؛ ألن ذل ك بهت ان‬
‫عظيم‪ ،‬وفتق بين المسلمين كبير‪ ،‬خليق بكل مسلم غيور رتقه وصد فاتقي ه‪ ،‬لئال يتس ع‪،‬‬
‫فيسهل على المستعمر الدخول منه)(‪)2‬‬
‫وما ذكره الشيخ محمد حسين الزين من تعلق عامة المسلمين من المدرسة السنية‬
‫باألولياء والصالحين‪ ،‬وزيارتهم لمقاماتهم وتبركهم بهم‪ ،‬ليس خاصا بالعام ة فق ط‪ ،‬ب ل‬
‫ن رى في كتب الت اريخ والرج ال الكث ير من األعالم ال ذين يش دون الرح ال لزي ارة‬
‫المقام ات‪ ،‬وخصوص ا مقام ات أه ل ال بيت(‪ ، )3‬وخصوص ا مق ام اإلم ام الرض ا في‬
‫مش هد‪ ،‬وال ذي تح ول إلى مرك ز من مراك ز الحض ارة بس بب ذل ك االهتم ام الكب ير‪،‬‬
‫والجموع الكبيرة التي كانت تجتمع حوله‪.‬‬

‫‪ )(1‬الشيعة في التاريخ‪ ،‬محمد حسين الزين‪ ،‬ص‪.204‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.205‬‬
‫‪ )(3‬ذكرنا في كتاب [كلكم كفرة] األمثلة الكثيرة عن ذلك‪ ،‬ومنه ا ومنهم المح دث أب و على الخالل ال ذي ذك ر عن ه‬
‫الخطيب البغدادي هذه الرواية‪ ،‬قال‪( :‬أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي‪ ،‬قال‪ :‬سمعت الحسن بن إب راهيم أب ا علي‬
‫الخالل‪ ،‬يقول‪ :‬ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر‪ ،‬فتوسلت به إال سهل هللا تعالى لي ما أحب)[ ت اريخ بغ داد (‪/1‬‬
‫‪])442‬‬

‫‪213‬‬
‫وقد ذكر الحافظ ابن حبان في كتابه [الثقات] ذلك مقررا له‪ ،‬فق ال‪( :‬وق بره ـ أي‬
‫قبر اإلمام علي الرضا ـ بسنا ب اذ خ ارج النوق ان مش هور ي زار بجنب ق بر الرش يد ق د‬
‫زرته م رارا كث يرة‪ ،‬وم ا حلت بي ش دة في وقت مق امي بط وس ف زرت ق بر على بن‬
‫موسى الرضا صلوات هللا على جده وعلي ه ودع وت هللا إزالته ا ع نى إال أس تجيب لي‬
‫وزالت عنى تلك الشدة‪ ،‬وهذا شئ جربت ه م رارا‪ ،‬فوجدت ه ك ذلك أماتن ا هللا على محب ة‬
‫المصطفى وأهل بيته صلوات هللا عليه وعليهم أجمعين)(‪)1‬‬
‫ب ل إن من األس باب الك برى لتكف ير الش يخ محم د بن عب د الوه اب وغ يره من‬
‫السلفية لعلماء األمة وعامتها هو بس بب تل ك المقام ات والزي ارات‪ ،‬ال تي ك انت قاس ما‬
‫مشتركا بين المسلمين جميعا‪ ،‬ولم يشذ عنهم فيها إال التيار السلفي‪.‬‬
‫ومثلما يحصل اآلن من تكفير إيران بسبب تلك المقامات وزيارتها‪ ،‬حص ل قبل ه‬
‫تكفير مماثل ال يقل عنه للدولة العثمانية‪ ،‬فقد سئل الش يخ عبدهللا بن عب داللطيف (ت وفي‬
‫‪1339‬هـ) عن من لم يكفر الدولة العثمانية واخت ار واليتهم‪ ،‬فأج اب بقول ه‪( :‬من لم‬
‫يعرف كفر الدولة العثمانية‪ ،‬ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المس لمين لم يع رف مع نى‬
‫ال إله إال هللا‪ ،‬فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة العثمانية مسلمون فهو أشد وأعظم‪ ،‬وهذا هو‬
‫الشك في كفر من كفر باهلل وأِرك ب ه‪ ،‬ومن ج رهم وأع انهم على المس لمين ب أي إعان ة‬
‫( )‬
‫فهي ردة صريحة) ‪2‬‬
‫ثانيا ـ اهتمام اإليرانيين بالسلوك التحققي‪:‬‬
‫وهو ما يعبر عنه عندهم‪ ،‬وعند جميع الشيعة بالعرفان العملي‪ ،‬ويقصدون به كل‬
‫الوسائل التي تستعمل للسير إلى هللا والتقرب منه‪ ،‬ويمكن اعتبار أكثر م ا كتب في ه ذا‬
‫المج ال‪ ،‬كتب في إي ران‪ ،‬وخصوص ا على ي دي كب ار ص وفيتها من أمث ال أبي حام د‬
‫الغزالي الطوسي الذي ترك كتب ا كث يرة في ه ذا المج ال‪ ،‬وأهمه ا كتاب ه [إحي اء عل وم‬
‫الدين] الذي يعتبر موسوعة كاملة في السير التحققي والتخلقي‪.‬‬
‫ومنها كتابه الذي ينسب إلي ه [منه اج العاب دين](‪ ،)3‬وال ذي ذك ر في ه الخط وات‬
‫العملية للتزكية مشبها ً لها بالطريق الذي يسلكه الش خص للوص ول إلى مقص وده‪ ،‬ومن‬
‫العقب ات ال تي تع ترض الس الك‪ ،‬وبين الغ زالي كي ف تجاوزه ا‪ :‬عقب ة العلم‪ ..‬ثم عقب ة‬
‫التوبة‪ ..‬ثم عقبة العوائق‪..‬ثم عقبة العوارض‪ ..‬ثم عقبة البواعث‪ ..‬ثم عقب ة الق وادح‪ ..‬ثم‬
‫عقبة الحمد والشكر)‬
‫ومن الذين كتبوا في هذا المجال من اإليرانيين أبو القاسم عبد الكريم بن ه وازن‬
‫القشيري النيسابوري‪ ،‬وخاصة في كتاب ه المش هور المت داول بين الص وفية إلى الي وم‪،‬‬
‫والمعنون بـ [الرسالة القشيرية]‬

‫‪ )(1‬الثقات (‪)457 / 8‬‬


‫‪ )(2‬الدرر السنية‪.8/242 ،‬‬
‫‪ )(3‬هو كتاب يُنسب إلى أبي حامد الغزالي‪ ،‬غير أن هناك خالفا في ذلك‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫ومنهم أبو نص ر عب د هللا الس راج الطوس ي (ت وفي ‪ 378‬هـ) الملقب بط اووس‬
‫الفق راء‪ ،‬وص احب كت اب [اللم ع في التص وف] وال ذي ذك ر في ه المنهج الص وفي في‬
‫السلوك‪ ،‬كما ذكر فيه طبقات الصوفية وعلومهم ومصطلحاتهم وأقوالهم وأحوالهم‪.‬‬
‫ومنهم المال محس ن فيض الكاش اني(‪( ،)1‬ت وفي ‪ 1091‬هـ) ص احب كت اب‬
‫[المحجة البيضاء‪ ،‬في تهذيب اإلحياء]‪ ،‬والذي أراد من خالله تهذيب بعض م ا رآه من‬
‫مخالفات في اإلحي اء‪ ،‬ال عالق ة له ا بالس لوك‪ ،‬باإلض افة إلى ذك ر الرواي ات عن أه ل‬
‫البيت مما لم يذكره الغزالي‪ ،‬وقد ذكر في مقدمة كتابه سبب تأليفه‪ ،‬فقال‪ ..( :‬ف رأيت أن‬
‫أهذبه تهذيبا ً يزيل عنه م ا في ه من الوص مة والعيب‪ ،‬وأب ني مطالب ه كلّه ا على أص ول‬
‫أصيلة ُمحكمة ال يتطرق إليها شك وال ريب‪ ،‬وأضيف إليها في بعض األب واب م ا ورد‬
‫عن أه ل ال بيت من األس رار المختص ة بهم‪ ،‬وأختص ر بعض مباحث ه بنظم فرائ ده‪،‬‬
‫وحذف زوائده‪ ،‬لكي يزيد فيه رغبة متناوليه‪ ،‬وأفصّل أبوابه الطويلة بفص ول قص يرة)‬
‫(‪)2‬‬
‫ومنهم أبــو حفص شــهاب الــدين الســهروردي(‪ 539( )3‬ـ ‪ 632‬هـ)‪ ،‬مؤس س‬
‫الطريق ة الس هروردية الص وفية‪ ،‬وص احب كت اب [ع وارف المع ارف] في الس لوك‬
‫الصوفي وآدابه‪ ،‬وقد وصفه الذهبي بأن ه (الش يخ اإلم ام الع الم الق دوة الزاه د الع ارف‬
‫المحدث شيخ اإلسالم أوحد الصوفية)‪ ،‬وقال عنه ابن النجار‪( :‬كان ش هاب ال دين ش يخ‬
‫وقته في علم الحقيقة‪ ،‬وانتهت إليه الرياسة في تربية المري دين‪ ،‬ودع اء الخل ق إلى هللا‪،‬‬
‫والتسليك)‬
‫وأكثر مؤلفاته في السلوك الص وفي وآداب ه‪ ،‬ومنه ا‪ :‬ع وارف المع ارف‪ ،‬ونغب ة‬
‫البي ان في تفس ير الق رآن‪ ،‬وج ذب القل وب إلى مواص لة المحب وب‪ ،‬والس ير والط ير‪،‬‬
‫ورشف النصائح اإليمانية وكشف الفضائح اليونانية‪.‬‬
‫ومن المتأخرين نج د الكتب الكث يرة في ه ذا المج ال‪ ،‬وخاص ة تل ك الكتب ال تي‬
‫تشرح [منازل السائرين]‪ ،‬وغيرها من كتب السلوك‪.‬‬
‫وقد أولى القادة الروحيون للجمهورية اإلسالمية اإليراني ة ه ذا الج انب اهتمام ا‬
‫كبيرا‪ ،‬باعتبار الكث ير منهم ينتم ون إلى المدرس ة العرفاني ة في التش يع‪ ،‬وهي مدرس ة‬
‫تتبنى الكثير من المعاني الصوفية الواردة في المدرسة السنية‪ ،‬ولكنها تختلف معه ا في‬
‫المصاديق أو في بعض المضامين‪ ،‬مثلم ا ذكرن ا ذل ك عن موق ف الكاش اني من إحي اء‬

‫‪ )(1‬هو محمد محسن بن الش اه مرتض ى بن الش اه محم ود‪ ،‬الم دعو ب المولى محس ن الكاش اني‪ ،‬أح د أعالم الق رن‬
‫الحادي عشر للهجرة‪ ،‬ولد ونشأ في بلدة قم‪ ،‬ثم انتقل إلى كاشان‪ ،‬ث ّم ارتحل إلى شيراز بع د س ماعه ب ورود العالم ة ماج د‬
‫البحراني هناك‪ ،‬فأخذ العلم منه ومن صدرالدين الشيرازي المعروف بالمال ص درا‪ ،‬وت زوج ابنت ة في ش يراز‪ ،‬وغادره ا‬
‫إلى كاشان‪ ،‬وبقي فيها حتى توفي‪ .‬وقد كتب في التفسير والحديث والفقه واألخالق وس ائر أص ناف المع ارف‪ ،‬وق د بلغت‬
‫كتبه قرابة مائتي كتاب‪ ،‬من أهمها‪ :‬تفسير الصافي‪ ،‬والوافي‪ ،‬والمحجة البيضاء‪ ،‬وبعد انشغاله بالتدريس والت أليف أص بح‬
‫بعد ذلك إمام الجمعة في مدينة كاشان‪ ،‬ومن العلماء المشهورين فيها‪[ .‬انظر‪ :‬المحجة البيضاء‪ ،‬علي اكبر غفاري‪ ،‬مقدم ة‬
‫المحقق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪].30 ،‬‬
‫‪ )(2‬المحجة البيضاء‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪.. 44 ،‬‬
‫‪ )(3‬انظر ترجمته في‪ :‬وفيات األعيان ‪ ،380 :1‬والبداية والنهاية ‪ 138 :13‬و ‪ 143‬وطبقات الشافعية ‪.143 :5‬‬

‫‪215‬‬
‫علوم الدين‪ ،‬والذي هذبه حتى يتناسب مع المدرسة الشيعية‪.‬‬
‫وتناسبه مع المدرسة الشيعية ال يعني ـ كما ي ذكر المغرض ون ـ تحول ه إلى دين‬
‫باطني غنوصي ال عالقة له بالشرائع والشعائر اإلسالمية‪ ،‬وإنم ا نع ني ب ه م ا ع رفت‬
‫هذه المدرسة من تقديم النص على االجتهاد‪ ،‬ومراعاة الرجوع في كل التفاص يل ألئم ة‬
‫أهل البيت‪ ،‬وهو ما يعني الحف اظ على الش ريعة بك ل معانيه ا الظ اهرة والباطن ة‪ ،‬كم ا‬
‫عبر عن ذلك الخميني بقوله‪( :‬واعلم أن طي أي طريق في المع ارف اإللهي ة‪ ،‬ال يمكن‬
‫إال بالبدء بظاهر الشريعة‪ ،‬وما لم يتأدب اإلنسان بآداب الش ريعة الحق ة‪ ،‬ال يحص ل ل ه‬
‫شيء من حقيقة األخالق الحسنة‪ ،‬كما ال يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف‬
‫له العلوم الباطنية وأسرار الشريعة‪ .‬وبعد انكشاف الحقيقة‪ ،‬وظهور أنوار المعارف في‬
‫قلبه ال بد من االستمرار في التأدب باآلداب اشرعية الظاهرية أيضا) (‪)1‬‬
‫ثم رد على من يخالف ذلك من أدعياء التصوف؛ فقال‪( :‬ومن هنا نع رف بطالن‬
‫دع وى من يق ول‪( :‬إن الوص ول إلى العلم الب اطن يك ون ب ترك العلم الظ اهر)‪ ،‬أو (ال‬
‫حاجة إلى اآلداب الظاهرية بعد الوصول إلى العلم الب اطن)‪ ،‬وأن ه ذه ال دعوى ترج ع‬
‫إلى جهل من يقول بها‪ ،‬وجهله بمقامات العبادة ودرجات اإلنسانية)(‪)2‬‬
‫وله ذا ن راه في كتب ه العرفاني ة جميع ا يح رص على ال دعوة إلى مراع اة أدق‬
‫التفاصيل في األحكام الشرعية‪ ،‬فهو يخاطب مريده محذرا له من دقائق الري اء‪ ،‬ق ائال‪:‬‬
‫(أيها العزيز‪ ،‬كن دقيقا في أعمالك‪ ،‬وحاسب نفسك في كل عمل‪ ،‬واستنطقها عن ال دافع‬
‫في األعمال الخيرة‪ ،‬واألمور الشريفة‪ ،‬فما الذي يدفعها إلى الس ؤال عن مس ائل ص الة‬
‫الليل أو على ترديد األذكار؟ هل تريد تتفهّم أحكام صالة الليل وتُعلمها قربة إلى هللا‪ ،‬أو‬
‫تريد أن توحي إلى الناس بأنها من أهل صالة الليل؟‪ ..‬لماذا ال ترضى أن ال يطل ع أح د‬
‫على الصدقات التي تعطيها في الخفاء‪ ،‬وتحاول أن تتحدث عنه ا ليطّل ع عليه ا الن اس؟‬
‫إذا كان ذلك هلل‪ ،‬وتريد أن يتأس ّى به الناس باعتبار أن [ال دال على الخ ير كفاعل ه] ف إن‬
‫إظهار حسن‪ ،‬وأشكر هللا على هذا الض مير النقي والقلب الط اهر‪ ،‬ولكن ليكن اإلنس ان‬
‫ح ذرا في المن اظرة والج دال م ع النفس‪ ،‬وأن ال ينخ دع بمكره ا وإظهاره ا ل ه العم ل‬
‫المرائي بصورة عمل مقدس‪ .‬ف إن لم يكن هلل‪ ،‬فترك ه أولى‪ ،‬ألن ه ذا من طلب الس معة‬
‫وهو من شجرة الرياء الملعونة‪ .‬ولن يقبل هللا المنان عمله‪ ،‬بل يأمر بإلقائ ه في س جّين‪،‬‬
‫ر مكائد النفس‪ ،‬فإن مكائدها خفية جداً)(‪)3‬‬ ‫ويجب علينا أن نستعيذ باهلل تعالى من ش ِّ‬
‫ّ‬
‫وه و في ك ل كتب ه يختل ف تمام ا م ع أولئ ك ال ذين ي دعون المعرف ة باهلل‪ ،‬بينم ا‬
‫يمارس ون ك ل أن واع اإلرج اء‪ ،‬والتس اهل م ع األحك ام الش رعية‪ ،‬بحج ة رحم ة هللا‬
‫الواسعة‪ ،‬ومن األمثلة على ذل ك قول ه ـ في مع رض حديث ه عن الري اء وخطورت ه ـ‪:‬‬
‫(ويل ألهل الطاعة والعبادة والعلم والديانة الذين عندما يفتحون أبصارهم ويقيم سلطان‬

‫‪ )(1‬شرح األربعين حديثا‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.29‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.72‬‬

‫‪216‬‬
‫اآلخ رة قدرت ه‪ ،‬ي رون أنفس هم من أه ل كب ائر المعاص ي‪ ،‬ب ل وأس وأ من أه ل الكف ر‬
‫والشرك‪ ،‬بحيث أن صحفية أعمالهم تكون أشد سوادا من صحائف الكفار والمش ركين‪،‬‬
‫الوي ل لمن ي دخل بص الته وطاعت ه جهنم‪ ،‬الوي ل لمن تك ون ص ورة ص دقته وزكات ه‬
‫وصالته أبشع مما يمكن تصوره‪ ..‬أيها المسكين الم رائي‪ ،‬أنت مش رك‪ ،‬وأم ا العاص ي‬
‫فموحد‪ ،‬إن هللا يرحم بفضله العاصي إن شاء‪ ،‬لكنه يقول إنه لن يرحم المشرك إذا رحل‬
‫من الدنيا بدون توبة)(‪)1‬‬
‫وهكذا نراه يستعمل الترغيب والترهيب‪ ،‬وبلغة واضحة ليس فيها تلك الشطحات‬
‫التي نراها عادة في كتب الذين خلط وا العرف ان بالغنوص يات الش رقية والغربي ة‪ ،‬فه و‬
‫يقول لمريده‪( :‬يا أيها العزي ز؛ ف ّك ر لتج د س بيال لنجات ك‪ ،‬واعلم أن الش هرة ين ه ؤالء‬
‫الناس َوه ٌم باطل‪ ،‬إنها ليست بشيء‪ .‬إن قلوب هؤالء التي لو أكلها عصفورا لم ا ش بع‪،‬‬
‫إن هي إال قلوب ضعيفة تافهة‪ ،‬وال طاقة لها على شيء وإن هذا المخل وق الض عيف ال‬
‫حول له وال قوة‪ .‬القوة هي قوة هللا المقدسة‪ ،‬فهو الفاعل المطلق ومسبب األس باب‪ .‬ول و‬
‫اجتمع الناس جميعا وكان بعضهم لبعض ظهيرا‪ ،‬لما اس تطاعوا أن يخلق وا ذباب ة‪ ،‬وإذا‬
‫سلبت منهم الذبابة شيئا لما استطاعوا استرجاعه منها‪ ،‬كما جاء في اآلية الكريمة) (‪)2‬‬
‫ولهذا نرى ذلك الورع الذي يدعو من خالله إلى ال تزام أدق آداب الش ريعة‪ ،‬ب ل‬
‫إنه يدعو إلى مراعاة االحتياط ح تى في األم ور ال تي نص فيه ا الفقه اء على الج واز‪،‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما عقب به على م ا ذك ره الفقه اء من المح ال ال تي تج وز فيه ا‬
‫الغيبة‪ ،‬حيث قال‪( :‬اعلم بأن العلماء والفقهاء ـ رضوان هللا عليهم ـ اس تثنوا م وارداً من‬
‫حرمة الغيبة تبلغ في كلمات بعضهم العشرة‪ ،‬ولسنا بصدد عرضها وتع دادها‪ ،‬ح تى ال‬
‫تكون هذه الصفحات ساحة لبيان األبحاث الفقهية)(‪)3‬‬
‫وبعد أن أقر بما قاله الفقه اء‪ ،‬راح ي ذكر موقف ه ال ذي ي دعو في ه إلى االحتي اط‪،‬‬
‫فيقول‪( :‬والذي يجب أن نذكره هنا هو أن على اإلنسان أن ال يعيش حالة االطمئنان أبداً‬
‫من مكائد النفس‪ ،‬بل يجب أن يتحرك في منتهى الحذر واالحتياط‪ ،‬وال يك ون في ص دد‬
‫التبرير ـ لغيبته ـ باألعذار بأن يقول أن هذا الم ورد ه و من الم وارد المس تثناة فيس مح‬
‫لنفسه بالبحث عن عيوب الن اس وإش اعتها في المجتم ع‪ ،‬إن مكائ د النفس بالغ ة الدق ة‪،‬‬
‫فيمكن أن تَخدع اإلنسان عن طريق الشرع‪ ،‬وتزجّه في مهلكة) (‪)4‬‬
‫ِ‬
‫وضرب مثاال على ذلك بما يذكره الفقهاء من جواز غيبة المتجاهر بالفسق‪ ،‬بع د‬
‫أن ي ردع وينص ح‪ ،‬فق ال معقب ا على ذل ك‪( :‬ولكن يجب أن يتأم ل اإلنس ان ب أن ال دافع‬
‫النفسي لغيبته هو الداعي الشرعي اإللهي ـ النهي عن المنك ر ـ أو أن الب اعث‪ ،‬أه واء‬
‫شيطانية‪ ،‬ورغبة نفسانية ـ العداوة والتشفي‪ ..‬فإن كان الهدف الدافع اإللهي ـ النهي عن‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.74‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.74‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.346‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.346‬‬

‫‪217‬‬
‫المنكر ـ كان عمله من العبادات‪ ،‬بل كانت غيبت ه ه ذه بنيّ ة إص الح المتج اهر بالفس ق‬
‫واإلساءة إليه‪ ،‬من أوضح مصاديق اإلحسان واإلنعام إليه وإن لم يشعر المغتاب ب ذلك‪،‬‬
‫ولكن إذا كان قصده مشوبا ً بالفس اد والمي ول النفس انية‪ ،‬فال ب د من تخليص الني ة ـ من‬
‫غير الدافع اإللهي ـ والص فح عن أع راض الن اس وحرم اتهم عن د ع دم وج ود ه دف‬
‫صحيح) (‪)1‬‬
‫وهو يدعو إلى ترك المتشابهات‪ ،‬حرصا على ع دم الوق وع في الح رام؛ فيق ول‪:‬‬
‫(بل إن تعويد النفس على الغيبة في األح وال الج ائزة‪ ،‬يض ّر بحاله ا أيض اً‪ ،‬ألن النفس‬
‫تميل نحو الشرور والقبائح‪ ،‬فمن المحتمل أن ينج ّر روي داً روي داً من الم وارد الج ائزة‬
‫إلى مرحلة أخرى وهي الموارد المحرمة‪ ،‬كما أن الدخول في الش بهات غ ير محم ود‪،‬‬
‫رغم ج وازه‪ ،‬ألنه ا حمى المحرم ات ومن الممكن أن االقتح ام في الحمى يفض ي إلى‬
‫ال دخول في المحرم ات‪ .‬يجب على اإلنس ان مهم ا أمكن أن يبع د النفس عن الغيب ة في‬
‫األحوال المسموحة‪ ،‬ويحترز عن األمور التي يحتمل أن يكون فيها طغيان للنفس) (‪)2‬‬
‫وهكذا نرى كتابه [شرح األربعين حديثا] مملوءا بمثل هذه المعاني الراقية ال تي‬
‫تجنب فيها ما وقع فيه بعض الصوفية من الطامات والشطحات والتساهل مع الشريعة‪.‬‬
‫ويمكن اعتبار هذا الكتاب من أحسن ما كتب في ه ذا الب اب‪ ،‬ويهتم ب ه الخطب اء‬
‫والوعاظ اإليرانيون كثيرا‪ ،‬باعتباره مادة تربوية علمية وعظية‪ ،‬لها دوره ا ال تربوري‬
‫الكبير‪ ،‬فقد استطاع فيه الخميني أن يع بر عن مراح ل الس لوك وكيفيت ه بطريق ة س هلة‬
‫بسيطة جذابة‪ ،‬وفوق ذلك جعل تلك المعاني منطلقة من النص وص المقدس ة‪ ،‬وش روحا‬
‫لها‪.‬‬
‫ولألسف ال نجد اهتماما كبيرا به في المدرسة السنية‪ ،‬مع أهميته البالغ ة‪ ،‬وكون ه‬
‫ـ كالسلوك الروحي جميعا ـ ال فرق فيه بين المدارس اإلسالمية‪.‬‬
‫وأحب أن أذكر هنا بعض أقواله في التزكية والتي تبين م دى التق ارب الموج ود‬
‫بين المدارس اإلسالمية في هذا الباب‪ ،‬ذلك أن كل ما ذكره ال يختلف عما يذكره س ائر‬
‫علماء السلوك من معان‪ ،‬وهو رد بليغ على من يصور السلوك ال روحي عن د الش يعة‪،‬‬
‫بأوهام ال عالقة لها بالواقع‪.‬‬
‫فقد بدأ كتابه بأول ح ديث‪ ،‬رواه بس نده إلى جعف ر الص ادق عن آبائ ه عن الن بي‬
‫‪ ،‬أنه بعث سرية‪ ،‬فلم ا رجع وا‪ ،‬ق ال‪( :‬مرحب ا بق وم قض وا الجه اد األص غر‪ ،‬وبقى‬
‫عليهم الجهاد األكبر)‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول هللا وما الجهاد األكبر؟ قال‪( :‬جهاد النفس)(‪)3‬‬
‫ثم علق عليه بقوله ـ مبينا ضرورة السلوك للتحق ق بحقيق ة اإلنس ان ـ‪( :‬اعلم أن‬
‫اإلنسان كائن عجيب‪ ،‬له نشأتان وعالمان‪ :‬نشأة ظاهرية ملكية دنيوية هي بدن ه‪ ،‬ونش أة‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.346‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.346‬‬
‫‪ )(3‬ف روع الك افي‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪ ،3‬ورواه ال بيهقي بلف ظ‪( :‬ق الوا ‪ :‬وم ا الجه اد األك بر؟ ق ال ‪ :‬جه اد القلب) ‪ ،‬ورواه‬
‫الخطيب البغدادي بلفظ ‪( :‬رجعنا من الجهاد األصغر إلي الجهاد األكبر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما الجهاد األكبر ؟ ق ال ‪ :‬مجاه دة العب د‬
‫هواه)‬

‫‪218‬‬
‫باطنية غيبية ملكوتية تكون من عالم آخر‪ ،‬إن لروح اإلنس ان ال تي هي من ع الم الغيب‬
‫والملكوت مقامات ودرجات‪ ،‬قسَّمها علماء السلوك بصورة عامة إلى سبعة أقسام حيناً‪،‬‬
‫وإلى أربعة أقسام حينا ً ثاني اً‪ ،‬وإلى ثالث ة أقس ام حين ا ً ثالث اً‪ ،‬وإلى قس مين حين ا ً رابع اً‪..‬‬
‫ولكل من المقامات وال درجات جن ود رحماني ة وعقالني ة تج ذب النفس نح و الملك وت‬
‫األعلى وتدعوها السعادة‪ ،‬وجنود شيطانية وجهالنية تجذب النفس نحو الملكوت السفلي‬
‫وتدعوها للشقاء‪ ،‬وهناك دائما ً جدال ونزاع بين هذين المعسكرين‪ ،‬واإلنسان هو س احة‬
‫حربهما‪ ،‬فإذا تغلبت جنود الرحمن كان اإلنسان من أهل السعادة والرحمة وانخ رط في‬
‫ُش َر في زم رة األنبي اء واألولي اء والص الحين‪ ،‬وأم ا إذا تغلب جن د‬ ‫س لك المالئك ة وح ِ‬
‫ُش َر في زم رة‬ ‫الشيطان ومعسكر الجهل‪ ،‬كان اإلنس ان من أه ل الش قاء والغض ب‪ ،‬وح ِ‬
‫الشياطين والكفار والمحرومين)(‪)1‬‬
‫وانطالقا من هذا المعنى راح يتحدث ـ مثلما يتح دث ص وفية المدرس ة الس نية ـ‬
‫عن مقامات النفس وأوجه سعادتها وتعاستها وكيفية مجاهدتها‪.‬‬
‫وال يمكن ذكر ذلك جميعا هنا‪ ،‬ولكن نشير إلى بعض ما ذكره من باب الرد على‬
‫الذين يصورون أن للشيعة دينا آخر مختلفا تماما عن اإلسالم‪ ،‬ذلك أن القيم النبيلة ال تي‬
‫طرحها الخميني في كتابه عن كيفية مجاهد النفس‪ ،‬ال تخطر حتى على بال أولئك الذين‬
‫يجلس ون على األرائ ك يتث اءبون‪ ،‬ثم يطلق ون أحك امهم التكفيري ة من غ ير بحث وال‬
‫دراسة وال اطالع‪ ،‬وإنما هو الهوى المجرد‪.‬‬
‫فأول ما تبدأ به المجاهدات النفسية ـ كما يذكر الخمي ني ـ [التفكر]‪ ،‬فه و البداي ة‬
‫التي يبدأ بها السير إلى هللا‪ ..‬ويبين الخميني كيفيته؛ فيقول‪( :‬التفكر في هذا المقام هو أن‬
‫يفكر اإلنسان بعض الوقت في أن مواله الذي خلقه في هذه الدنيا‪ ،‬ووفّر له ك ل أس باب‬
‫الدعة والراحة‪ ،‬ووهبه جسما ً سليما ً وقوي سالمة ذات منافع تحيِّر ألباب الجميع‪ ،‬والذي‬
‫رعاه وهيَّأ له كل هذه السعة وأسباب النعم ة والرحم ة من جه ة وأرس ل جمي ع ه ؤالء‬
‫األنبياء‪ ،‬وأنزل ك ّل هذه الكتب‪ ،‬وأرشد ودعا إلى الهدى‪ ..‬هذا المولى ماذا يستحق من ا؟‬
‫وما هو واجبنا تجاه مالك الملوك؟‪ .‬هل أن وجود جميع هذه النعم‪ ،‬ه و فق ط ألج ل ه ذه‬
‫الحياة الحيوانية وإشباع الشهوات ال تي نش ترك فيه ا م ع الحيوان ات أو أن هن اك ه دفا ً‬
‫وغاية أخرى؟‪ ..‬وهل لألنبياء الكرام‪ ،‬واألولياء العظام‪ ،‬والحكماء الكبار‪ ،‬وعلم اء ك ل‬
‫أمة الذين يدعون الن اس إلى حكم العق ل والش رع ويح ذرونهم من الش هوات الحيواني ة‬
‫ومن هذه الدنيا البالية‪ ،‬عدا ًء ضد الناس أم أنهم كانوا مثلن ا ال يعلم ون طري ق ص الحنا‬
‫نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!)(‪)2‬‬
‫ثم يذكر اإلجابة المنسجمة مع العقل على هذه التساؤالت التي يطرحها المتفك ر؛‬
‫فيقول‪( :‬إن اإلنسان إذا ف َّكر لحظ ة واح دة‪ ،‬ع رف أن اله دف من ه ذه النعم ه و ش يء‬
‫آخر‪ ،‬وأن الغاية من ه ذا الخل ق أس مى وأعظم‪ ،‬وأن ه ذه الحي اة الحيواني ة ليس ت هي‬

‫‪ )(1‬األربعون حديثا‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.26‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.27‬‬

‫‪219‬‬
‫الغاية بح َّد ذاتها‪ ،‬وأن على اإلنسان العاقل أن يفكر بنفسه‪ ،‬وأن يترحم على حاله ونفسه‬
‫المسكينة‪ ،‬ويخاطبها قائالً‪ :‬أيته ا النفس الش قية ال تي قض يت س ني عم رك الطويل ة في‬
‫الشهوات‪ ،‬ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندام ة‪ ،‬ابح ثي عن الرحم ة‪ ،‬وأس تحي من‬
‫مال ك المل وك‪ ،‬وس يرى قليالً في طري ق اله دف األساس ي الم ؤدي إلى حي اة الخل د‬
‫والسعادة السرمدية‪ ،‬وال تبيعي تلك السعادة بشهوات أيام قليل ة فاني ة‪ ،‬ال تي ال تتحص ل‬
‫حتى مع الصعوبات المضنية الشاقة‪ .‬ف ّك ري قليال في أح وال أه ل ال دنيا‪ ،‬من الس ابقين‬
‫والالحقين وتأملي مت اعبهم وآالمهم كم هي أك بر وأك ثر بالنس بة إلى هن ائهم‪ ،‬في نفس‬
‫الوقت الذي ال يوجد فيه هناء وراحة ألي شخص) (‪)1‬‬
‫وبعد أن يجيب على الشبهات المختلفة التي ق د يوس وس به ا الش يطان على ب ال‬
‫المري د في أول س لوكه‪ ،‬ي ذكر المرحل ة الثاني ة من مراح ل الس لوك التحققي‪ ،‬وهي‬
‫[العزم]‪ ،‬والذي بين أهميته من خالل ما ذكره عن بعض مشايحه الذي قال‪َّ :‬‬
‫(إن الع زم‬
‫هو جوهر اإلنسانية‪ ،‬ومعيار م يزة اإلنس ان‪ ،‬وإن اختالف درج ات اإلنس ان ب اختالف‬
‫درجات عزمه) (‪)2‬‬
‫ثم بين كيفية التحقق به؛ فقال‪( :‬العزم الذي يتناس ب وه ذا المق ام‪ ،‬ه و أن ي وطن‬
‫اإلنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجب ات‪ ،‬ويتخ ذ ق راراً ب ذلك‪ ،‬ويت دارك م ا‬
‫فاته في أيام حياته‪ ،‬وبالتالي يس عى على أن يجع ل من ظ اهره إنس انا ً ع اقالً وش رعياً‪،‬‬
‫بحيث يحكم الشرع والعقل حسب الظاهر بأن هذا الشخص إنس ان‪ .‬واإلنس ان الش رعي‬
‫هو الذي ينظم سلوكه وفق ما يتطلب ه الش رع‪ ،‬يك ون ظ اهره كظ اهر الرس ول األك رم‬
‫‪ ،‬يقتدي بالنبي العظيم ‪ ‬ويتأس ى ب ه في جمي ع حركات ه وس كناته‪ ،‬وفي جمي ع م ا‬
‫ي فرد‬ ‫يفعل وما يترك‪ ،‬وهذا أمر ممكن‪ ،‬ألن جعل الظاهر مثل هذا القائد أمر مقدور أل ّ‬
‫من عباد هللا)(‪)3‬‬
‫ولست أدري ما هو موقف الذين يتصورون أنهم يحتكرون السنة من ه ذا النص‬
‫الذي قاله الخميني‪ ،‬والذي يدعو فيه إلى التزام السنة بكل مفرداته ا‪ ،‬ومن دون التفري ط‬
‫في أي جزئي ة من جزئياته ا‪ ..‬أليس له ذا الرج ل الح ق أيض ا في أن يطل ق علي ه لقب‬
‫السني؟ وهو ال ذي لم ي ترك س نة من الس نن إال وطبقه ا‪ ،‬ابت داء من شخص ه‪ ،‬وانته اء‬
‫بالدول ة ال تي أقامه ا‪ ،‬وح رص على أن ينتهج فيه ا نهج النب وة في ك ل تش ريع من‬
‫تشريعاتها‪.‬‬
‫ثم ي ذكر الخمي ني المرحل ة الثالث ة ال تي يص ل إليه ا الس الك بع د الع زم‪ ،‬وهي‬
‫[المشارطة والمراقبة والمحاسبة]‪ ،‬وهي نفس المعاني التي ذكرها الغ زالي وابن القيم‬
‫وكل من كتبوا في السلوك‪.‬‬
‫وقد شرح كيفية تنفيذ المشارطة بقوله‪( :‬المشارط هو الذي يشارط نفس ه في أول‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.28‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪220‬‬
‫يومه على أن ال يرتكب اليوم أي عم ل يخ الف أوام ر هللا‪ ،‬ويتخ ذ ق رارا ب ذلك ويع زم‬
‫علي ه‪ .‬وواض ح أن ت رك م ا ي ألف أوام ر هللا‪ ،‬لي وم واح د‪ ،‬أم ر يس ير للغاي ة‪ ،‬ويمكن‬
‫لإلنسان بكل سهولة أن يلتزم به‪ .‬فاعزم وشارط وجرب‪ ،‬وأنظر كي ف أن األم ر س هل‬
‫يسير‪ ،‬ومن الممكن أن يصور لك إبليس اللعين وجنده أن األمر صعب وعسير‪ ،‬فادرك‬
‫أن هذه هي من تلبيسات ه ذا اللعين‪ ،‬فالعن ة قلب ا ً وواقع اً‪ ،‬وأخ رج األوه ام الباطل ة من‬
‫قلبك‪ ،‬وجرب ليوم واحد‪ ،‬فعند ذلك ستصدق هذا األمر)(‪)1‬‬
‫وشرح كيفية تنفيذ المراقبة بقوله‪( :‬وكيفيتها أن تنتب ه ط وال م دة المش ارطة إلى‬
‫عملك وفقها‪ ،‬فتعتبر نفسك ملزما ً بالعمل وفق ما شارطت‪ .‬وإذا حص ل ـ ال س مح هللا ـ‬
‫ح ديث لنفس ك ب أن ت رتكب عمالً مخالف ا ً ألم ر هللا‪ ،‬ف اعلم أن ذل ك من عم ل الش يطان‬
‫وجنده‪ ،‬فهم يريدونك أن ت تراجع ع ًّم ا اش ترطته على نفس ك‪ ،‬ف العنهم واس تعذ باهلل من‬
‫شرهم‪ ،‬واخرج تلك الوس اوس الباطل ة من قلب ك‪ ،‬وق ل للش يطان‪( :‬إني اش ترطت على‬
‫نفسي أن ال أقوم في هذا اليوم ـ وهو يوم واحد ـ بأ ي عمل يخالف أمر هللا تعالى‪ ،‬وهو‬
‫ولي نعمتي طول عم ري‪ ،‬فق د أنعم وتلطّ ف عل ًّي بالص حة والس المة واألمن وألط اف‬
‫أخرى‪ ،‬ولو أني بقيت في خدمته إلى األبد لما أديت حق واح دة منه ا‪ ،‬وعلي ه فليس من‬
‫الالئق أن ال أفي بشرط بسيط كهذا‪ ،‬وآمل ـ إن شاء هللا ـ أن ينصرف الشيطان‪ ،‬ويبتع د‬
‫عنك‪ ،‬وينتصر جنود الرحمن)(‪)2‬‬
‫وشرح كيفية تنفيذ المحاسبة بقوله‪( :‬وأما المحاسبة‪ ،‬فهي أن تحاسب نفسك لترى‬
‫ه ل أ ّديت م ا اش ترطت على نفس ك م ع هللا‪ ،‬ولم تخن ولي نعمت ك في ه ذه المعامل ة‬
‫الجزئية؟ إذا كنت قد وفيت حق ا ً فاش كر هللا على ه ذا التوفي ق‪ ،‬وإن ش اء هللا ييس ر ل ك‬
‫سبحانه التقدم في أمور دني اك وآخرت ك‪ ،‬وس يكون عم ل الغ د أيس ر علي ك من س ابقه‪،‬‬
‫فواظب على هذا العم ل ف ترة‪ ،‬والم أمول أن يتح ول إلى ملك ة في ك بحيث يص بح ه ذا‬
‫العمل بالنسبة إليك سهال ويسيراً للغاي ة‪ ،‬وس تحسُّ عن دها بالل ذة واألنس في طاع ة هللا‬
‫تعالى وترك معاصيه‪ ،‬وفي ه ذا الع الم بال ذات‪ ،‬في حين أن ه ذا الع الم ليس ه و ع الم‬
‫الجزاء لكن الجزاء اإللهي يؤثر ويجعلك مس تمتعا ً وملت ذاً ـ بطاعت ك هلل وابتع ادك عن‬
‫المعصية ـ وأعلم أن هللا لم يكلفك ما يشق عليك به‪ ،‬ولم يفرض عليك ما ال طاقة لك ب ه‬
‫وال قدرة لك عليه‪ ،‬لكن الشيطان وجنده يصورون لك األمر وكأنه شاق وصعب)(‪)3‬‬
‫ه ذه مج رد نم اذج عن بعض المراح ل االبتدائي ة للس ير التحققي كم ا يش رحه‬
‫الخميني‪ ،‬وقد رأينا من خاللها مدى انسجامه مع الش ريعة‪ ،‬وم دى ق رب المس افة ال تي‬
‫يتحدث من خاللها مع سائر المدارس اإلسالمية‪ ،‬بل ن راه ف وق ذل ك يتجنب الكث ير من‬
‫الطامات التي وقع فيها من تحدث في هذا الباب‪.‬‬
‫ولهذا ال نجد في التراث العرفاني الذي تركه إال الدعوة اللتزام الش ريعة ظ اهرا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬

‫‪221‬‬
‫وباطنا‪ ،‬ألنه ال يمكن أن يتحقق السالك بأي حقائق عرفانية من دونها‪.‬‬
‫ولذلك ننصح أولئك الذين يرمون هذا الرجل الممتلئ بالورع والتقوى والحرص‬
‫على الشريعة بكل ألوان البهتان وال زور أن يراجع وا أنفس هم‪ ،‬وأن يط العوا كتب ه كم ا‬
‫كتبها ال كما حرفها الدجالون‪ ،‬وال ينسوا أن يقرؤوا معها قوله ‪ ‬في الحديث القدس ي‪:‬‬
‫(إن هللا تعالى قال‪ :‬من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)(‪)1‬‬
‫وإن وجدوا أي هفوة في حديث من أحاديثه‪ ،‬فه و بش ر‪ ،‬وليس معص وما؛ فعليهم‬
‫أن يتعاملوا معه كما يتعاملون مع من يقدسونهم من العلماء والصالحين‪ ،‬حتى ال يرم وا‬
‫غيرهم بالقذاة‪ ،‬وينسون الجذع في أعينهم‪.‬‬
‫ثالثا ـ اهتمام اإليرانيين باألذواق والمعارف الروحية‪:‬‬
‫ال يقتصر اهتمام اإليرانيين على ما ذكرنا من أنواع الس لوك ال روحي س واء م ا‬
‫ارتبط منه بالشعائر التعبدية‪ ،‬أو ما ارتبط بالرياضات والمجاهدات الروحية‪ ،‬فكل ذل ك‬
‫ليس سوى وسيلة لتحقيق الغاية العظمى من الس لوك‪ ،‬وهي التق رب إلى هللا‪ ،‬والتع رف‬
‫عليه‪ ،‬والتحقق بالوصال معه‪.‬‬
‫وكل هذه المعاني نجدها في التراث الروحي اإليراني‪ ،‬والذي انتش ر من ه لس ائر‬
‫بالد الع الم اإلس المي؛ ف أكثر الشخص يات من المتق دمين والمت أخرين ال ذين اهتم وا‬
‫بالعرفان النظري‪ ،‬نجدهم من نيسابور أو أص فهان أو ط وس أو ش يراز أو غيره ا من‬
‫عواصم الحضارة اإليرانية‪.‬‬
‫ولنثبت هذا نحاول أن نذكر هنا بعض النماذج عن المتقدمين المؤسسين للعرف ان‬
‫النظري‪ ،‬ونماذج عن المتأخرين منهم‪ ،‬ونحتم بنم اذج عن ق ادة الجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليرانية‪ ،‬ومؤسسيها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ نماذج عن اهتمام سلف اإليرانيين بالعرفان‪:‬‬
‫عند مطالعة أي كتاب من كتب طبقات الصوفية‪ ،‬سواء تلك ال تي ألفه ا إيراني ون‬
‫أمثال‪ :‬اللمع للطوسي‪ ،‬أو الرسالة للقش يري‪ ،‬أو ت ذكرة األولي اء للعط ار‪ ،‬أو تل ك ال تي‬
‫ألفها غيرهم‪ ،‬نج د أن أك بر المؤسس ين للعرف ان‪ ،‬وال ذين نقلت مق والتهم‪ ،‬وأس س على‬
‫أساسها التص وف اإلس المي‪ ،‬إيراني ون‪ ،‬س واء عاش وا في إي ران‪ ،‬وبث وا مع ارفهم في‬
‫مدنها‪ ،‬أو انتقلوا منها إلى غيرها‪.‬‬
‫وسأذكر هنا باختصار شديد من مصدر من مصادر تراجم الصوفية المعت برين‪،‬‬
‫بعض النم اذج عن أمث ال ه ذه الشخص يات‪ ،‬وبعض مقوالته ا في العرف ان‪ ،‬وم دى‬
‫تأثيره ا‪ ،‬لنع رف من خالله ا أن مس اهمة اإليران يين في خدم ة العرف ان ال تق ل عن‬
‫مساهماتهم في خدمة سائر العلوم اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد تعمدت أن أخت ار هن ا مرجع ا معت برا كتب ه مص ري‪ ،‬وليس إيراني ا‪ ،‬وه و‬
‫كتاب (الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية) للشيخ محمد عب د ال رؤوف بن ت اج‬
‫العارفين المناوي (‪ 1031 - 952‬هـ)‪ ،‬والذي يعتبر من أشهر م ا كتب في ه ذا الب اب‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫من كتب المتأخرين‪.‬‬
‫وميزته أنه ليس كتاب تاريخ فقط‪ ،‬وإنم ا ن راه يع رض ال تراجم مش فوعة ب ذكر‬
‫أقوال أصحابها‪ ،‬وأطروحاتهم‪ ،‬وأعمالهم‪ ،‬وحكمهم‪ ..‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ولع ل أهم شخص ية يمكنن ا أن نب دأ به ا هي شخص ية الجني د‪ ،‬ذل ك ال ذي أجم ع‬
‫الصوفية على أنه سيدهم‪ ،‬فهم يلقبون ه [س يد الطائف ة]‪ ،‬وال ذي ك ان أص له من نهاون د‪،‬‬
‫وهي مدينة من المدن اإليرانية القديمة(‪.)1‬‬
‫وهو أبو القاسم الجنيد بن محمد(‪( )2‬توفي ‪ 297‬هـ)‪ ،‬وقد وصفه المن اوي بقول ه‪:‬‬
‫ّ‬
‫المتوش ح بجالبيب التّق وى والحلم‪ ،‬المن وّر بخ الص اإليق ان‪،‬‬ ‫(هو المزيّن بفن ون العلم‪،‬‬
‫المؤيّد بثابت اإليمان‪ ،‬العالم بمودوع الكتاب‪ ،‬العامل بمحكم الخطاب‪ ،‬الموفّق فيه للبيان‬
‫والص واب‪ ،‬ك ان كالم ه بالنص وص مربوط ا‪ ،‬وبيان ه باألدلّ ة منوط ا مبس وطا‪ ،‬وه و‬ ‫ّ‬
‫ي الزجّاج نس بة لحرف ة أبي ه‪ ،‬س يّد الطّائف ة‪،‬‬
‫ي المنشأ‪ ،‬القوارير ّ‬ ‫ي األصل‪ ،‬بغداد ّ‬ ‫نهاوند ّ‬
‫ومق ّدم الجماعة‪ ،‬وإمام أهل الخرقة‪ ،‬وشيخ طريق التصوّف‪ ،‬بهل وان الع ارفين‪ ،‬مرج ع‬
‫( )‬
‫أهل السّلوك في زمنه فمن بعده‪ ،‬رزق من القبول وصواب القول ما لم يقع لغيره) ‪3‬‬
‫ومنهم طاووس بن كيسان (‪( )4‬توفي ‪ 106‬هـ)‪ ،‬وقد وصفه المناوي بقوله‪( :‬كان‬
‫من فضالء الصّالحين‪ ،‬و علماء العابدين‪ ،‬وعظ و تكلّم على المن ابر‪ ،‬و حض ر مجلس ه‬
‫األعيان و األكابر‪ ،‬أصله من الفرس‪ ،‬و أ ّمه حميريّة‪ ..‬وأدرك خمسين ص حابيّا‪ ،‬ص لّى‬
‫ج أربعين حجّة)(‪)5‬‬ ‫الصّبح بوضوء العشاء أربعين سنة‪ ،‬و ح ّ‬
‫قال الغزالي‪( :‬و كان عظيم الورع‪ ،‬ج ّدا‪ ،‬ففعل ابن له كتابا على لسانه إلى عم ر‬
‫بن عبد العزيز‪ ،‬فأعطاه ثالث مئة دينار‪ ،‬فباع طاووس ضيعة له‪ ،‬فبعث بها إلى عم ر‪،‬‬
‫أن السّلطان مثل عمر‪ ،‬فهذه هي ال ّدرجة العليا في الورع)(‪)6‬‬ ‫هذا مع ّ‬
‫باإلضافة إلى هذين العلمين الكبيرين نجد الكثير من أعالم السلوك والعرف ان في‬
‫كتب الرجال والطبقات‪ ،‬وخصوصا من أهل مدينة نيســابور‪ ،‬ال تي خ رج منه ا الكث ير‬
‫من الصوفية‪ ،‬وأسست فيها الكثير من الثكايا‪ ،‬ومن الشخصيات النيسابورية التي ت رجم‬
‫ي(‪ ،)7‬وق د وص فه المن اوي بقول ه‪( :‬حم دون‬ ‫القصـار النّيســابور ّ‬
‫ّ‬ ‫لها المناوي‪ :‬حمدون‬
‫القصّار‪ ،‬أح د األئ ّم ة الكب ار‪ ،‬مواعظ ه س ديدة‪ ،‬وكلمات ه مفي دة‪ ،‬وديانت ه وافي ة واف رة‪،‬‬
‫وشمس مناقبه وكراماته باهي ة ب اهرة س افرة‪ ،‬وه و ش يخ المالمتي ة‪ .‬ص حب النّخش ب ّي‬

‫‪ )(1‬تقع في منطقة جبلية إلى الجنوب من جبال زاغروس‪.‬‬


‫‪ )(2‬طبقات الصوفية ‪ ،155‬حلية األولياء ‪.255 /10‬‬
‫‪ )(3‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪571 :‬‬
‫‪ )(4‬الزهد ألحمد بن حنبل ‪ ،375‬طبقات ابن سعد ‪ ،537 /5‬حلية األولياء ‪.3 /4‬‬
‫‪ )(5‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.336 :‬‬
‫‪ )(6‬إحياء علوم الدين (‪)138 /2‬‬
‫‪ )(7‬طبقات الصوفية ‪ ،123‬حلية األولياء ‪ ،231 /10‬الرسالة القشيرية ‪ ،114 /1‬صفة الصفوة ‪.122 /4‬‬

‫‪223‬‬
‫( )‬
‫وغيره) ‪1‬‬
‫ومنهم عمــرو بن ســلمة الحــدّاد(‪ ،)2‬وق د وص فه بقول ه‪( :‬اإلم ام أب و حفص‬
‫النّيسابوري‪ ،‬شيخ خراسان‪ ،‬كان عظيم الشان‪ ،‬عالي المق ام‪ ،‬واض ح البره ان‪ ،‬مبارك ا‬
‫على ص وفيّة اإلس الم‪ ،‬وتربيت ه عائ دة عليهم بص الت المع ارف ال تي ال تحص رها‬
‫األقالم‪ ،‬مشكور السّيرة في ال ّس ّر والجهر‪ ،‬من نوادر العصر‪ ،‬وأفراد ال ّدهر‪ ،‬ل ه الفت وّة‬
‫( )‬
‫الكاملة‪ ،‬والمروءة ال ّشاملة‪ ،‬صحب األبيوردي‪ ،‬وتتلمذ للحيري وغيرهما) ‪3‬‬
‫وذكر ابتداء أمره‪ ،‬فقال‪( :‬كان ح ّدادا‪ ،‬فبينم ا غالم ه ينفخ‪ ،‬غ اب فك ره في ذك ر‬
‫ي الظّ اهر‪ ،‬ونس ي أن يخ رج الحدي د من الك ير باآلل ة‬ ‫محبوبه‪ ،‬فغاب عن الحسّ البشر ّ‬
‫وأخرجه بيده‪ ،‬فصاح الغالم‪ :‬الحديد في يدك بال كلبتين‪ ،‬فرم اه ب ه‪ ،‬وخ رج س ائحا في‬
‫الب ّريّة وهو يقول‪ :‬شرط المحبّة التّستّر والكتمان ال االفتضاح واإلعالن)‬
‫وروى عنه أنه دخل على مريض يع وده‪ ،‬فق ال‪ :‬آه‪ ،‬فق ال‪ :‬م ّمن؟ فس كت‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫مع من؟ فقال‪ :‬كيف أكون؟ قال‪( :‬ال يكون أنينك شكوى وال سكوتك تجلّدا)‬
‫وروى عنه أنه ل ّما قدم بغداد لقي ه الجني د‪ ،‬ف رأى أص حابه من األدب مع ه كأنّم ا‬
‫ألن حسن األدب في الظّاهر‬ ‫على رؤوسهم الطّير‪ ،‬فقال له‪ :‬أ ّدبتهم بآداب الملوك‪ .‬فقال‪ّ :‬‬
‫عنوان ألدب الباطن‪ ،‬فقد قال عليه السّالم‪( :‬لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)‪.‬‬
‫ومنهم فاطمــة النّيســابوريّة(‪ ،)4‬وال تي وص فها بقول ه‪( :‬ك انت من المص طفيات‬
‫العابدات العارفات‪ ،‬وهي أس تاذة ذي النّ ون المص ري‪ ،‬وزاره ا أب و يزي د البس طامي‪،‬‬
‫وقال‪ :‬ما رأيت في عمري إاّل رجال وامرأة‪ ،‬والمرأة فاطم ة النّيس ابورية‪ ،‬وم ا أح ّدثها‬
‫عن مقام من المقامات إاّل وكان الخبر لها عيانا‪ ،‬وقال ذو النّ ون‪ :‬م ا رأيت أج ّل منه ا)‬
‫( )‬
‫‪5‬‬
‫( )‬
‫ومنهم عبــد هّللا بن محمــد المــرتعش النّيســابوري ‪ ، 6‬وق د وص فه بقول ه‪( :‬ل ه‬
‫ق قوّاال‪ ،‬وعلى الوالة ص وّاال‪ ،‬كب يرا ق دره‪،‬‬ ‫اللّسان النّاطق‪ ،‬والخاطر الفائق‪ ،‬وكان للح ّ‬
‫مثيرا ذكره‪ ،‬منيرا بدره‪ ..‬وك ان يق ال‪ :‬عج ائب ال ّدنيا في التّص وّف ثالث ة‪ّ :‬‬
‫الش بل ّي في‬
‫( )‬
‫اإلشارات‪ ،‬والمرتعش في النّكت‪ ،‬وجعفر الخلدي في الحكايات) ‪7‬‬
‫ي(‪ ،)8‬وقد وص فه المن اوي بقول ه‪:‬‬ ‫ومنهم محمد بن إبراهيم ال ّز ّجاج ّي النّيسابور ّ‬

‫‪ )(1‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.592 :‬‬


‫‪ )(2‬طبقات الصوفية ‪ ،115‬حلية األولياء ‪ ،229 /10‬الرسالة القشيرية ‪.106 /1‬‬
‫‪ )(3‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.686 :‬‬
‫‪ )(4‬صفة الصفوة ‪ ،123 /4‬طبقات الشعراني ‪ ،66 /1‬أعالم النساء ‪.147 /4‬‬
‫‪ )(5‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.694 :‬‬
‫‪ )(6‬طبقات الصوفية ‪ ،349‬حلية األولياء ‪ ،355 /10‬تاريخ بغداد ‪ ،221 /7‬الرسالة القشيرية ‪.161 /1‬‬
‫‪ )(7‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.110 :‬‬
‫‪ )(8‬طبقات الصوفية ‪ ،431‬حلية األولياء ‪ ،376 /10‬الرسالة القشيرية ‪.177 /1‬‬

‫‪224‬‬
‫(كان شيخ عص ره‪ ،‬وفخ ر مص ره‪ ،‬خ ير ح بر تقتبس الفوائ د من ن وره‪ ،‬وتغ ترف من‬
‫بحره وجوده‪ ،‬كم جاور بين زمزم والمقام! وألقى عصا سفره ل ّما رح ل الحجيج وأق ام‪،‬‬
‫وكم طاب له القرار بطيبة! وطهّر بها من أراد السّلوك وأزال عيبه‪ ،‬وكم استروح بظ ّل‬
‫الش ريفة وغ يره يس ّح على ق رب تربه ا‬ ‫والس مرات! وتملّى بمش اهدة الحج رة ّ‬ ‫ّ‬ ‫نخله ا‬
‫( )‬
‫العبرات‪ ،‬وكم كتب له بالوصول وصول! فلم يكن بينه وبين الرّسول رسول) ‪1‬‬
‫ي(‪ ،)2‬وق د وص فه المن اوي بقول ه‪:‬‬ ‫ومنهم محمد بن أحمــد بن جعفــر النّيســابور ّ‬
‫(من أعظم مشايخ نيسابور في وقته‪ ،‬إمام عال في أفق التّوفيق مجده‪ ،‬وأن ار في دي اجي‬
‫المش كالت والمعض الت زن ده‪ ،‬وزك ا في روض اللّط ائف فرع ه وأص له‪ ،‬ونف ذ في‬
‫( )‬
‫غرض المعارف رمحه ونصله) ‪3‬‬
‫( )‬
‫ومنهم الحسن بن علي الدّقاق ‪ ، 4‬وقد وصفه المناوي بقوله‪( :‬الحس ن بن علي‪،‬‬
‫األستاذ أبو علي ال ّدقّاق النّيسابوريّ‪ ،‬الشافع ّي‪ ،‬لسان وقته‪ ،‬وإم ام عص ره‪ .‬ك ان فاره ا‬
‫ي‬‫ي الطريق ة‪ ،‬س ر ّ‬‫في العلم‪ ،‬مبسوطا في الحلم‪ ،‬محمود السّيرة‪ ،‬مجهود السّريرة‪ ،‬جنيد ّ‬
‫ي صاحب (ال ّرسالة)‪ ،‬وقال الغزالي عنه‪ :‬كان زاهد زمانه‪،‬‬ ‫الحقيقة‪ ..‬وهو أستاذ القشير ّ‬
‫( )‬
‫وعالم أوانه) ‪5‬‬
‫ومنها مدينة الري التي دخلت منذ فترة طويل ة ض من جغرافي ة مدين ة طه ران‪،‬‬
‫والتي ظهر فيها الكثير من أعالم المتكلمين في العرفان النظري والعملي‪ ،‬ومنهم يحيى‬
‫بن معاذ الرازي(‪( ،)6‬توفي ‪ 258‬هـ)‪ ،‬وق د وص فه المن اوي بقول ه‪( :‬الم ادح الش ّكار‪،‬‬
‫ف األي دي عن‬ ‫صبّار‪ ،‬كان آم را ب المعروف‪ ،‬ناهي ا عن المنك ر‪ ،‬ل ه س طوة تك ّ‬ ‫القانع ال ّ‬
‫الجور‪ ،‬ومهابة تزعزع ك ّل جبّار متع ّدي الطور‪ ،‬لزم الح داد توقّي ا من المع اد‪ ،‬واس ّ‬
‫تلذ‬
‫( )‬
‫السّهاد تح ّريا للوداد‪ ،‬واحتمل ال ّشداد توصّال إلى العتاد) ‪7‬‬
‫ي(‪ ،)8‬وقد وصفه المناوي بقوله‪( :‬كان عن حظّ ه‬ ‫ومنهم عبد هّللا بن محمد ال ّراز ّ‬
‫حائ دا‪ ،‬ولمش هوده عاب دا مش اهدا‪ ،‬ذا رتب ة في التّص وّف ركنه ا م نيع‪ ،‬ومنزل ة عالي ة‬
‫( )‬
‫طودها شامخ رفيع) ‪9‬‬

‫‪ )(1‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.125 :‬‬


‫‪ )(2‬طبقات الصوفية ‪ ،505‬طبقات األولياء ‪ ،243‬طبقات الشعراني ‪.125 /1‬‬
‫‪ )(3‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.111 :‬‬
‫‪ )(4‬تبيين كذب المفتري ‪ ،226‬الكامل في التاريخ ‪ ،326 /9‬العبر ‪ ،93 /3‬تذكرة الحفاظ ‪.1064 /3‬‬
‫‪ )(5‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪180 :‬‬

‫‪ )(6‬طبقات الصوفية ‪ ،107‬حلية األولياء ‪ ،51 /10‬الرسالة القشيرية ‪.101 /1‬‬


‫‪ )(7‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.727 :‬‬
‫‪ )(8‬طبقات الصوفية ‪ ،288‬حلية األولياء ‪ ،345 /10‬الرسالة القشيرية ‪.148 /1‬‬
‫‪ )(9‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.679 :‬‬

‫‪225‬‬
‫الش ـعراني (‪( )1‬توفي ‪ 353‬هـ)‪ ،‬وق د وص فه‬ ‫ي ّ‬ ‫ومنهم عبد هّللا بن محمــد الـ ّراز ّ‬
‫المناوي بقوله‪( :‬كان له من الرّياضة ما تعجز عنه األسماع‪ ،‬وفي المجاهدة والمالزم ة‬
‫ما ال يستطاع‪ ،‬انتفع الصّوفيّة به وبتعليمه‪ ،‬وص اروا نبالء من توقيف ه وتفهيم ه‪ ،‬وك ان‬
‫يدري الطّريق وعللها‪ ،‬وتفاصيل أحوالها وجملها) ‪2‬‬
‫( )‬

‫ومنهم محمد بن يوسف الـ ّرازي(‪ ،)3‬وق د وص فه المن اوي بقول ه‪( :‬المتخلّي عن‬
‫النّاس‪ ،‬المتحلّي باإلخالص‪ ،‬تارك التّزيّن والتّصنّع‪ ،‬مفارق التلوّن والتمتع) ‪4‬‬
‫ّ ّ ( )‬

‫وغيرهم كثير‪ ،‬ومنها مدينة أصفهان ال تي اش تهرت بك ثرة أوليائه ا وص الحيها‪،‬‬


‫ومنهم ســهل بن عبــد هّللا بن الف ّرخــان األصــفهان ّي (‪( )5‬ت وفي ‪ 276‬هـ)‪ ،‬وق د وص فه‬
‫المناوي بقوله‪( :‬صوف ّي‪ ،‬دينه متين‪ ،‬ولسانه بدوام ال ّذكر غ ير ض نين‪ ،‬وعلم ه مق رون‬
‫( )‬
‫باإلخالص‪ ،‬ونفسه مجتهدة في تحصيل ال ّزاد ليوم اإلشخاص‪ ،‬وكان مجاب ال ّدعوة) ‪6‬‬
‫ومنهم علي بن ســهل األصــفهاني (‪( )7‬ت وفي ‪ 276‬هـ)‪ ،‬وق د وص فه المن اوي‬
‫بقول ه‪( :‬من ق دماء مش ايخ أص فهان‪ ،‬وأق ران الجني د‪ ،‬ص حب النّخش ب ّي‪ ،‬وابن مع دان‬
‫وغيرهما‪ ،‬وجاب القفار والبالد‪ ،‬وما هاب الوحش والجاّل د‪ ،‬وقطع المفاوز بحظّ هابط‪،‬‬
‫وعزم صاعد‪ ،‬وسام ك ّل ب اذل‪ ،‬وانتج ع ك ّل راع د‪ ،‬إلى أن أقم ر ليل ه الحال ك‪ ،‬بع د م ا‬
‫( )‬
‫تطوّر في أطوار واقتحم المهالك) ‪8‬‬
‫( )‬
‫ومنهم محمــد بن يوســف األصــفهاني ‪ ، 9‬وق د وص فه المن اوي بقول ه‪( :‬عاب د‬
‫زاهد‪ ،‬اشتهرت فضائله‪ ،‬وعام ل ع ارف ظه رت ب راهين خ يره ودالئل ه‪ ،‬وك ان يلقّب‬
‫عروس ال ّزهاد‪ ،‬لكثرة الج ّد واالجتهاد‪ ،‬والتّش مير واالرتي اد‪ ،‬في التّب ادر والتّس ابق إلى‬
‫كأن وجهه وجه عروس‪ ،‬لكثرة مناجاته وكان يقول لنفسه‪ :‬هب‬ ‫المعاد‪ ،‬وكان إذا أصبح ّ‬
‫ّ‬
‫أنّك عالم أو قاض أو صالح ماذا يكون وراء ذلك؟ وكان ال ينام الليل أبدا‪ ،‬بل يض طجع‬
‫( )‬
‫بعد الفجر ساعة‪ ،‬ثم يقوم) ‪10‬‬
‫وغيرهم كثير‪ ،‬وإنما ذكرناهم هنا‪ ،‬لع ل أولئ ك ال ذين امتألت قل وبهم حق دا على‬

‫‪ )(1‬طبقات الصوفية ‪ ،451‬الرسالة القشيرية ‪.181 /1‬‬


‫‪ )(2‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.164 :‬‬
‫‪ )(3‬طبقات الصوفية ‪ ،185‬حلية األولياء ‪.238 /10‬‬
‫‪ )(4‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪165 :‬‬
‫‪ )(5‬حلية األولياء ‪ ،212 /10‬ذكر أخبار أصبهان ‪.339 /2‬‬
‫‪ )(6‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.648 :‬‬
‫‪ )(7‬طبقات الصوفية ‪ ،233‬حلية األولياء ‪ ،404 /10‬ذكر أخبار أصبهان ‪.14 /2‬‬
‫‪ )(8‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.683 :‬‬
‫‪ )(9‬طبقات المحدثين بأصبهان ‪ ،21 /2‬حلية األولياء ‪.225 /8‬‬
‫‪ )(10‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.443 :‬‬

‫‪226‬‬
‫إي ران واإليران يين أن ي تراجعوا ويتفك روا في ه ؤالء جميع ا‪ ،‬وخ دماتهم للس لوك‬
‫الروحي‪ ،‬وهل يمكن أن يفعل ذلك مجوسي أو متآمر على اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نماذج عن اهتمام المتأخرين من اإليرانيين بالعرفان‪:‬‬
‫بناء على تلك المعارف الكثيرة التي أسس بها المتق دمون من الص وفية للعرف ان‬
‫النظري والعملي ظهرت في فترة الحقة التحقيقات والتأص يالت المرتبط ة به ا‪ ،‬وك ان‬
‫من أوائل من اهتم بذلك الكثير من األعالم اإليرانيين‪ ،‬والذين ال يمكن اإلحاطة بهم هنا‬
‫الســـلمي‬
‫لك ثرتهم‪ ،‬فل ذلك نقتص ر على نم اذج منهم‪ ،‬فمنهم أبـــو عبـــد الـــ ّرحمن ّ‬
‫ي(‪ 412()1‬هـ)‪ ،‬والذي وصفه المناوي بقوله‪( :‬إمام يقت دى بمقاالت ه‪ ،‬وزاه د‬ ‫النّيسابور ّ‬
‫يهتدى بأنوار أحواله ومقاماته‪ ،‬سمع من أهل الرّواية‪ ،‬وأخذ عن أرباب ال ّدراية‪ ،‬ورحل‬
‫إلى األقطار‪ ،‬وبل غ المقاص د واألوط ار‪ ،‬ثم ك ّر راجع ا إلى خراس ان‪ ،‬وص ار عالمه ا‬
‫وصوفيّها ومح ّدثها المشار إليه ببديع البيان‪ ،‬ورؤوس البنان‪ ..‬وك ان ش يخ الطّري ق في‬
‫وقته‪ ،‬الموفّق في جميع علوم الحقائق‪ ،‬ومعرفة طريقة التّص ّوف‪ ،‬واف ر الجالل ة‪ ،‬عظيم‬
‫الش أن‪ ،‬أخ ذ [التص وف] عن أبي ه وج ده‪ ،‬وجم ع من الكتب م ا لم يس بق إلى ترتيب ه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫( )‬
‫وبلغت تصانيفه نحو المئة) ‪2‬‬
‫ومن مؤلفاته‪( :‬حقائق التفسير)‪ ،‬وهو تفسير إشاري على طريقة أهل التص وف‪،‬‬
‫و(طبقات الصوفية) و(مقدمة في التصوف)‪ ،‬و(مناهج العارفين) و(رسالة في غلط ات‬
‫الصوفية) و(رسالة المالمتية) و(آداب الفقر وش رائطه) و(بي ان زل ل الفق راء ومن اقب‬
‫آدابهم) و(الفتوة) و(آداب الصحبة) و(السؤاالت) و(س لوك الع ارفين) و(عي وب النفس‬
‫ومداواتها) و(الف رق بين الش ريعة والحقيق ة) و(آداب الص وفية) و(كت اب االربعين في‬
‫الحديث) و(درجات المعامالت)‬
‫ومنهم عبد الكريم بن هــوازن النّيســابوري(‪ 465()3‬هـ)‪ ،‬وق د وص فه المن اوي‬
‫بقول ه‪( :‬األس تاذ أب و القاس م القش يريّ‪ ،‬الملقّب زين اإلس الم‪ ،‬اإلم ام مطلق ا وص احب‬
‫[الرسالة] التي سارت مغربا ومشرقا‪ ،‬واألص الة ال تي تج اوز به ا ف وق الفرق د ورقى‬
‫إمام األئمة‪ ،‬ومجلّي ظلم ات ّ‬
‫الض الل المدله ّم ة‪ ،‬ش يخ المش ايخ أس تاذ الجماع ة‪ ،‬مق ّدم‬
‫الطائفة‪ ،‬الجامع للطّريقين‪ ..‬وكان فقيه ا من رفع اء الش افعية‪ ،‬أص وليا متحقق ا‪ ،‬متكلّم ا‬
‫سنّيا مح ّدثا‪ ،‬حافظا مفس را مفتي ا‪ ،‬نحوي ا لغويّ ا أديب ا‪ ،‬كاتب ا ش اعرا‪ ،‬مليح الخ طّ ج دا‪،‬‬
‫شجاعا بطال‪ ،‬أجمع أهل عصره على أنّه سيّد زمانه‪ ،‬وق دوة وقت ه وأوان ه‪ ،‬لم ي ر مث ل‬
‫نفسه‪ ،‬وال رأى الرّاؤون مثله في كالمه وبراعت ه‪ ،‬جم ع بين ّ‬
‫الش ريعة والحقيق ة‪ ،‬وأ ّم ا‬
‫المجالس في التّذكير والقعود بين المريدين‪ ،‬وأجوبة أسئلتهم عن الوق ائع ف أجمعوا على‬
‫( )‬
‫أنّه عديم النّظير فيه‪ ،‬وتصانيفه في ذلك مشهورة) ‪4‬‬
‫‪ )(1‬طبقات األولياء ‪ ،313‬النجوم الزاهرة ‪ ،256 /4‬لسان الميزان ‪.140 /5‬‬
‫‪ )(2‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.200 :‬‬
‫‪ )(3‬تبيين كذب المفتري ‪ ،271‬المنتظم ‪ ،280 /8‬الكامل ‪.88 /10‬‬
‫‪ )(4‬الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.187 :‬‬

‫‪227‬‬
‫ومن مؤلفات ه ال تي ك ان له ا تأثيره ا الكب ير في التص وف والس لوك‪( :‬التفس ير‬
‫الكبير) و(الرسالة) المشهورة التي أجمعت عليه ا جمي ع الط رق الص وفية‪ ،‬و(التّحب ير‬
‫في التّ ذكير) و(آداب الص وفية) و(لط ائف اإلش ارات) وكت اب (الج واهر) و(عي ون‬
‫األجوبة في أصول األسئلة) وكتاب (المناجاة) وكتاب (نحو القلوب الكبير) و(الصغير)‬
‫وكتاب (أحكام السّماع) و(األربعين) وغيرها‪.‬‬
‫ومنهم عبد الرزاق جمال الــدين بن أحمــد الكاشــاني (توفي ‪ 730‬هـ)‪ ،‬ص احب‬
‫المؤلف ات الكث يرة في التص وف‪ ،‬ومنه ا (كش ف الوج وه الغ ر)‪ ،‬و(اص طالحات‬
‫الصوفية)‪ ،‬و(شرح منازل السائرين)‪ ،‬و(تأويالت القرآن)‬
‫ومنهم فريـــد الـــدين العطّـــار النيســـابوري (‪ 545‬ـ ‪ ،)627‬الش اعر الص وفي‬
‫المشهور‪ ،‬والذي اشتهرت أش عاره ال تي ن اهزت م ائتي أل ف بيت‪ ،‬ومن كتب ه‪ :‬منط ق‬
‫الطير‪ ،‬وإلهي نامه‪ ،‬وأسرار نام ه‪ ،‬وت ذكرة األولي اء‪ ،‬وج واهر ال ذات‪ ،‬وحي در نام ه‪،‬‬
‫وشرح القلب‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫لكن أشهرها منظومته المعروفة ب [منطق الط ير] ‪ ، 1‬تل ك المنظوم ة المم يزة‬
‫)‬ ‫(‬
‫التي حاول أن يعبر فيها عن كال العرف انين النظ ري والعملي بطريق ة رمزي ة مم يزة‪،‬‬
‫والتي صور فيها الطيور‪ ،‬وهي تقوم برحلة صوب الطائر األكمل واألجمل والس لطان‬
‫المطلق والمسمى [الس يمرغ]‪ ،‬واخت ارت الطي ور الهده د ليك ون رئيس ا لهم ومرش دا‪،‬‬
‫فطفقت الطيور تقدم التبريرات المختلفة حتى ال تتكبد مش اق الرحل ة‪ ،‬وبعض ها راحت‬
‫تسأل عن الطريق شتى األسئلة‪ ،‬والهدهد يجيب عن كل هذا‪ ،‬ويفند كل األوه ام ويحثهم‬
‫للتخلى عن ك ل العالئ ق والمض ى نح و عش ق األكم ل من خالل المواع ظ والقص ص‬
‫المختلف ة‪ ،‬ويخ برهم عن األودي ة ال تى س يمرون به ا‪ :‬وادى الطلب‪ ،‬ثم العش ق‪ ،‬ثم‬
‫المعرفة‪ ،‬ثم االستغناء‪ ،‬ثم التوحيد‪ ،‬ثم الح يرة‪ ،‬وأخ يرا الفن اء والبق اء‪ ،‬وهك ذا انطلق وا‬
‫جميعا وتكبدوا المشاق على أنواعها‪ ،‬وم ات من م ات ح تى وص ل ثالث ون ط ائرا إلى‬
‫الحضرة ليرفع الحجاب‪.‬‬
‫وهكذا عبر اإليرانيون عن العرفان النظري والعملي بالطرق المختلف ة‪ ،‬وال تي‬
‫امتزجت فيها المواعظ بالفلسفة بالشعر‪ ،‬وبكل أل وان الكتاب ة‪ ،‬وال تي تجتم ع جميع ا في‬
‫كونها تتوجه إلى هللا‪ ،‬وتعرف به‪ ،‬وتمأل القلوب شوقا إليه‪.‬‬
‫وكلها بال استثناء ـ مهما اختلفت مشاربها وطرائقها ـ تعظم الشريعة اإلس المية‪،‬‬
‫وتتبنى المعارف القرآنية‪ ،‬وتخضع له ا‪ ،‬وإن ك انت تختل ف في فهمه ا‪ ،‬أو في تأويله ا‪،‬‬
‫ولكنها جميعا تعتقد أنها مشربها ومنهلها العذب‪ ،‬وفي ذلك كل ه رد بلي غ على الط ائفيين‬
‫الذين لم يعرفوا إيران‪ ،‬وال أعالمه ا‪ ،‬وال تاريخه ا‪ ،‬وفي نفس ال وقت يت ألون على هللا‪،‬‬
‫ويحكمون عليها‪ ،‬وعلى أوليائها وعلمائها بما لم يحيطوا بعلمه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نماذج عن اهتمام قادة الجمهورية اإلسالمية اإليرانية بالعرفان‪:‬‬
‫لعل من األسباب الكبرى لنجاح الثورة اإلس المية اإليراني ة ذل ك البع د ال روحي‬
‫‪ )(1‬منطق الطير‪ .‬العطّ ار‪ ،‬فري د ال دين‪( .)2002( .‬ب ديع مح ّم د جمع ة‪ ،‬ترجم ة ودراس ة)‪ .‬ب يروت‪ :‬دار األن دلس‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫ال ذي اتس م ب ه قادته ا؛ س واء من تول وا منهم المناص ب الرفيع ة‪ ،‬أو من ظ ل منهم في‬
‫مجالس العلم والبحث والدراسة‪.‬‬
‫ذل ك أن الش عب اإلي راني‪ ،‬رأى في أولئ ك الق ادة من طه ارة النف وس‪ ،‬وس مو‬
‫األرواح‪ ،‬م ا ك ان يس معه عن أئمت ه من قيم اإليم ان والروحاني ة والطه ارة والعف اف‬
‫وغيرها من القيم الكريمة‪ ..‬ولهذا نرى اإليرانيين ال يزال ون يت بركون بآث ار الخمي ني‪،‬‬
‫ألنهم لم ينظروا إليه باعتبار أكبر شخصية سياسية في البلد‪ ،‬وإنما نظروا إليه قبل ذل ك‬
‫وبعده باعتباره وليا من أولياء هللا الصالحين‪.‬‬
‫ومن طالع تراث الخميني‪ ،‬ال يستبعد منهم هذا الموقف‪ ،‬فالرجل ترك تراثا جليال‬
‫في كل مجال من مجاالت العرفان‪ ،‬حتى الشعر الص وفي‪ ،‬نج ده يجي ده ويتقن ه‪ ،‬وكأن ه‬
‫فريد الدين العطار‪ ،‬أو جالل الدين الرومي‪.‬‬
‫فمن قصائده الروحية التي تدل على تلك اآلفاق السامية من العرف ان ال تي تحل ق‬
‫فيها روح ه قول ه في بعض رباعيات ه‪ ،‬ال تي ينتهج فيه ا منهج الرم ز الص وفي بجمال ه‬
‫وجالله‪:‬‬
‫شمع صبوح وجهك‬ ‫ِ‬ ‫أنا فراشة‬
‫أنا المفتون بممشوق بان قامتك‬
‫أنا المهيج المضطرب يا سيد الحسن من فراقك‬
‫أال فارفع الحجاب عني‪ ،‬ارفعه‪ ،‬فأنا مفتضح بك‬
‫وقال في رباعية أخرى‪:‬‬
‫ماذا أفعل إن لم أكن على طريق دارك؟‬
‫ماذا أفعل إن لم أكن سرابا لوجهك؟‬
‫وتر من شعرك !‬‫إن العالم – الروحي – أسير ٍ‬
‫فما أفعل أنا إن لم أكن رهين كل شعرك؟!‬
‫وقال في رباعية أخرى‪:‬‬
‫حين أنظر أيها األحباء جيدا بتفكر‬
‫أخرج من قيد وجودي كله‬
‫و مكبرا‪ ،‬مكبرا أوجه وجهي نحو المحبوب‬
‫و أنزع عني خرقتي‪ ،‬وأنقلب درويشا‬
‫وقال في رباعية أخرى‪:‬‬
‫أيها الحبيب‪ ،‬نحن جميعا مبتلون بحبك !!‬
‫كلنا محترقون بتذكر صورة وجهك !‬
‫إن تبعدنا وإن تقبلنا عندك‬
‫فنحن مقيمون ثابتون في درب آالم فراقك‬
‫وقال في رباعية أخرى‪:‬‬
‫ليس في أي من القلوب شوق إلى سواك‬

‫‪229‬‬
‫ليس لنا إالك متق ٌد ومجير !‬
‫ما من أحد ال يحمل حبك‪..‬أنت في قلبه‬
‫أال فَ ْلتُلَبِّ صرخة قلبنا‬
‫وقال في رباعية أخرى‪:‬‬
‫القلب الذي ال يذكرك ليس بقلب‪،‬‬
‫و القلب الذي ال يخفق بحبك ليس سوى طين‬
‫ق على محلَّتك‬ ‫و من ليس له طري ٌ‬
‫ليس له خي ٌر من حياته المجردة من أي ثمر‬
‫وقال في رباعية أخرى‪:‬‬
‫أال إن حاجبك هو قبلة صالتي‬
‫و ذكرك هو ما يح ّل عقدة سري‬
‫و إنني ألشيح بوجه حاجتي عن العالمين جميعا‬
‫إن يكن طرف لحاظك ملبّيا ً حاجتي‬
‫وغيرها من رباعياته وقصائده الكثيرة التي ت دل على روح في منتهى الش فافية‪،‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن من لم يعرف هذا الجانب منه‪ ،‬ال يمكن أن يعرفه أبدا‪ ،‬ذل ك أن ك ل مواقف ه‬
‫وحركاته وسكناته كانت مرتبطة بما يمليه عليها هذا الجانب من شخصه‪.‬‬
‫ولم تقتصر كتابات الخميني العرفانية على ذل ك الش عر الجمي ل‪ ،‬وإنم ا كتب في‬
‫كل معانيه‪ ،‬وبلغة يجتمع فيها العلم الدقيق والذوق الرفيع‪.‬‬
‫وهو ـ خالفا لما يتوهم الكثير ـ لم يكن مقلدا في العرفان‪ ،‬وال ك ان خاض عا لك ل‬
‫ما كتب في ه‪ ،‬ب ل ك ان يمحص‪ ،‬ويم يز الطيب من الخ بيث‪ ،‬ويتكلم عن تجرب ة وذوق‪،‬‬
‫ولهذا كان يحذر من يقرأ كتب العرف ان من االغ ترار‪ ،‬فالعرف ان س لوك قب ل أن يك ون‬
‫علوما‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ذكره الخمي ني في وص اياه العرفاني ة ألهل ه وغ يرهم‪،‬‬
‫ومنها وصيته لزوجة ابنه فاطمة (‪ )1‬التي طلبت منه بعض الوصايا‪( :‬ابنتي‪ ..‬اإلنشغال‬
‫بالعلوم حتى العرفان والتوحيد إذا كان الكتناز االصطالحات هو حاصل أو ألجل نفس‬
‫تلك العلوم‪ ،‬فإنه ال يقرب السالك من الهدف بل يبعده عنه (العلم هو الحج اب األك بر)‪،‬‬
‫وإذا كان البحث عن الحق وعشقه هو الهدف‪ ،‬وهو ناد ٌر ج داً‪ ،‬ف ذلك مص باح الطري ق‬
‫ون ور الهداي ة‪( ،‬العلم ن ور يقذف ه هللا في قلب من يش اء من عب اده)(‪ ،)2‬وللوص ول إلى‬
‫يسير من ه يل زم الته ذيب والتطه ير والتزكي ة؛ ته ذيب النفس وتطه ير القلب من غ يره‬
‫فض الً عن الته ذيب من األخالق الذميم ة ال تي يحت اج الخالص منه ا إلى كث ٍ‬
‫ير من‬
‫المجاهدة وفضال عن تهذيب العمل مما ه و خالف رض اه ج ل وعال‪ ،‬والمواظب ة على‬
‫األعمال الصالحة‪ ،‬من قبيل الواجبات التي هي في الطليعة‪ ،‬والمستحبات بقدر الميسور‬
‫‪ )(1‬السيدة فاطمة طباطبائي‪ ،‬وهي ابنة السيد محمد باقر سلطان طباطب ائي وزوج ة ابن الخمي ني‪ ،‬وق د طلبت من ه‬
‫وصايا عرفانية‪ ،‬فأجابها برسالة موجودة ضمن وصاياه العرفانية‪..‬‬
‫‪ )(2‬المحجة البيضاء ‪.5/45/‬‬

‫‪230‬‬
‫واألنانية) (‪)1‬‬
‫وبالقدر الذي ال يوقع اإلنسان في العجب‬
‫ويقول لها‪( :‬ابنتي‪ :‬العجب والغرور نتيجتان لغاية الجهل بحقارة النفس وعظم ة‬
‫الخالق‪ ،‬إذا فكر اإلنسان قليالً في عظمة الخلقة بالمقدار ال ذي وص ل البش ر‪ ،‬رغم ك ل‬
‫هذا التقدم العلمي‪ ،‬إلى شيء يسير منه‪ ،‬ي درك حق ارة وض آلة نفس ه وك ل المنظوم ات‬
‫الشمسية والمجرات‪ ،‬ويفهم قليال من عظمة خالقها ويخجل من عُجبه وأنانيته وغ روره‬
‫ويشعر بالجهل)(‪)2‬‬
‫ويقول لها‪( :‬ما دام الشباب في ي دك فج دي في العم ل وفي ته ذيب القلب وكس ر‬
‫األقفال ورفع الحجب‪ ،‬فإن آالف الشباب الذين هم أقرب إلى أفق الملكوت يوفقون لذلك‬
‫وال يوفق هرم واحد‪ ..‬القيود واألغالل واألقفال الشيطانية إذا ُغف ل عنه ا في (مرحل ة)‬
‫الشباب تض رب ج ذورها في ك ل ي وم يمض ي من العم ر وتص بح أق وى ‪ ..‬من مكائ د‬
‫الشيطان الكبرى والنفس األخطر منه أنهما يع دان اإلنس ان باإلص الح في آخ ر العم ر‬
‫وزمان الش يخوخة‪ ،‬وي ؤخران الته ذيب والتوب ة إلى هللا إلى الزم ان ال ذي تص بح في ه‬
‫شجرة الفساد وشجرة الزقوم قوية واإلرادة والقدرة على التهذيب ضعيفتين بل ميت تين)‬
‫(‪)3‬‬
‫وهكذا نرى الخميني يمزج دائما بين العرف ان النظ ري والعرف ان العملي‪ ،‬ح تى‬
‫يقي السالك من كل ألوان الغرور التي قد تجعله يدعي م ا لم يص ل إلي ه من المع ارف‪،‬‬
‫ولهذا نراه يكثر من التحذير من العجب والغرور والتع الي والتع الم‪ ،‬وي دعو ب دلها إلى‬
‫العبودية والتواضع‪.‬‬
‫ولهذا لم يقع ـ رغم تراثه العرفاني الكبير ـ في ذل ك ال دخن الكب ير ال ذي امتألت‬
‫به كتب ابن عربي أو الجيلي أو القون وني أو غ يرهم‪ ،‬م ع كون ه تعام ل معهم‪ ،‬ودرس‬
‫كتبهم‪ ،‬واستفاد منها‪ ،‬ولكنه استطاع أن يميز بين ما يقبل منها‪ ،‬وما يرفض‪.‬‬
‫وربما يكون السبب في عدم وقوعه في ذلك الخلط الذي وق ع في ه الكث يرون بين‬
‫حقائق العرفان وأوهامه‪ ،‬هو ارتباطه الشديد بأهل البيت‪ ،‬وله ذا لم ي وص في العرف ان‬
‫إال بااللتزام بأدعية أهل البيت ومناجياتهم‪ ،‬فهي التي تمثل خط العرف ان الس ليم من ك ل‬
‫وهم‪ ،‬وله ذا ك ان يهتم ب دعاء الس حر‪ ،‬وش رحه في كت اب عرف اني في منتهى الجم ال‬
‫والعلمية والتبسيط‪.‬‬
‫ومن األدعية التي كان يهتم بها كث يرا‪ ،‬ه و وس ائر ق ادة الجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليرانية‪ ،‬المناجاة الشعبانية(‪ ،)4‬والتي هي بمثاب ة ت دريب للم ؤمن على كيفي ة خط اب‬

‫‪ )(1‬وصايا عرفانية‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.109‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.111‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.113‬‬
‫‪ )(4‬المناجاة الشعبانية هي مناجاة يرويها الشيعة عن اإلمام علي‪ ،‬وتحتوي على نماذج من التض رع ووص ف ح ال‬
‫األولياء في عالقتهم مع هللا‪ ،‬وغالبا ً ما يقرأ الشيعة هذه المناجاة فيى ش هر ش عبان‪ ،‬يق ول عنه ا آي ة هللا الملكي الت بريزي‪:‬‬
‫(ومناجاته الشعبانية معروفة‪ ،‬وهي مناجاة عزيزة على أهلها‪ ،‬يحبونها ويستأنسون بشعبان من أجلها‪ ،‬بل ينتظرون مج يئ‬
‫شعبان ويشتاقون إليه من أجلها وفي هذه المناجاة علوم ج ّمة في كيفية تعامل العبد مع هللا جل جالل ه‪ ،‬وبي ان وج وه األدب‬

‫‪231‬‬
‫ربه‪ ،‬وقد قال عنها الخمي ني‪( :‬أن ا لم أر في األدعي ة‪ ،‬أي دع اء قي ل ب أن جمي ع األئم ة‬
‫بأن األئمة كانوا يدعون ب دعاء آخ ر‬ ‫كانوا يقرؤونه إاّل دعاء المناجاة الشعبانية‪ ،‬ولم أر ّ‬
‫غير المناجاة الشعبانية‪ ،‬ألن المناجاة الشعبانية هي إلع دادكم‪ ،‬إلع داد الجمي ع لض يافة‬
‫هللا عزوجل)(‪)1‬‬
‫أن أهل البيت‬ ‫(إن المناجاة الشعبانيّة المأثورة والتي ر ُِوي َّ‬‫ويقول عنها الخامنئي‪َّ :‬‬
‫كانوا يداومون عليها هي أح د األدعي ة ال تي ال يُمكن إيج اد نَظ ير لمعانيه ا العرفانيّ ة‪،‬‬
‫األلس نة‬‫ولس انها البلي غ‪ ،‬ولمض امينها العالي ة ج داً‪ ،‬المليئ ة بالمع ارف الرَّفيع ة‪ ،‬على ْ‬
‫الجارية وفي المحاورات العاديّة‪ ،‬بل ليس ُممكنا ً أصالً أن تُنشأ بِ ِمث ل تل ك ْ‬
‫األلس نة‪َّ ..‬‬
‫إن‬
‫ْ‬
‫واص ِطفا ًء‪،‬‬ ‫هذه المناجاة‪ ،‬هي النَّمو َذج الكا ِمل ِمن تضرُّ ع أكثر عباد هللا الصالحين قُرْ با ً‬
‫الذات الرّبوبيّة المق َّدسة‪ .‬إنّها ِمن جه ة درسٌ من المع ارف‪،‬‬ ‫بين يدَي معبوده و َمحبوبه‪ّ ،‬‬
‫وهي أيضا ً أُسوة ٌ في كيفي َّة إظهار الحاجة وطلب اإلنسان المؤ ِمن من هللا)(‪)2‬‬
‫والتأمل في هذه المناجاة‪ ،‬والمعاني السامية ال تي تحمله ا‪ ،‬ي دل على س ر اهتم ام‬
‫هؤالء القادة الكبار بها‪ ،‬وترغيب ش عبهم فيه ا‪ ،‬فمن المق اطع ال واردة فيه ا‪( :‬إلهي هب‬
‫لي كمال االنقطاع إليك‪ ،‬وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظره ا إلي ك‪ ،‬ح تى تخ رق أبص ار‬
‫القلوب حجب النور‪ ،‬فتصل إلى مع دن العظم ة‪ ،‬وتص ير أرواحن ا معلق ة بع ِّز قدس ك‪،‬‬
‫إلهي واجعلنى ممن ناديته فأجابك‪ ،‬والحظته فصعق لجاللك)(‪)3‬‬
‫وقد علق على هذا المقطع الخميني بقوله‪( :‬كمال اإلنقطاع ه ذا ه و الخ روج من‬
‫منزل األنا واإلنية ومن كل شيء وك ل ش خص‪ ،‬وااللتح اق ب ه واالنقط اع عن الغ ير‪.‬‬
‫وهو هبةٌ إلهي ة إلى األولي اء الخلّص بع د الص عق الحاص ل من الجالل ال ذي يق ع إث ر‬
‫اللحظ‪ ..‬وما لم تُن ّور أبصار القلوب بضياء نظرته ال تُخرق حجب النور‪ ،‬ومادامت هذه‬
‫الحجب باقية فال سبيل إلى معدن العظمة‪ ،‬وال تحصل األرواح على التعلّق بع ّز الق دس‬
‫وال تحصل مرتب ة الت دلي {ثُ َّم َدنَ ا فَتَ دَلَّى} [النجم‪ ،]8 :‬وأدنى من ذل ك الفن اء المطل ق‬
‫والوصول المطلق)(‪)4‬‬
‫ومثل ذل ك ن راه في وص اياه العرفاني ة يك ثر من الحث على األدعي ة باعتباره ا‬
‫مصادر العرفان النظري والعملي‪ ،‬وله ذا اس تطاع أن يحف ظ العرف ان الش يعي من ك ل‬
‫ذلك الدخن الذي أصاب العرفان السني‪.‬‬
‫ومن أمثلة حثه على االل تزام باألدعي ة والتأم ل فيه ا ودوره ا في بن اء اإلنس ان‬
‫وتقريبه من خالقه قوله‪( :‬هذه األدعية هي مصدر أمثال هذه النهض ات‪ ،‬وه ذه األدعي ة‬
‫هي التي توجه اإلنسان للمبدأ الغيبي لو أحس ن قراءته ا‪ ،‬ونفس ه ذا التوج ه ي ؤدي إلى‬
‫ال تي ينبغي أن نلتزمه ا ونت أ ّدب به ا عن دما نس أل هللا تع الى حوائجن ا‪ ،‬ون دعوه س بحانه ونس تغفره) [الملكي الت بريزي‪،‬‬
‫المراقبات‪ ،‬الفصل الثامن في اعمال الشعبان المعظم]‬
‫‪ )(1‬صحيفة نور‪ ،‬ج‪ ،13 .‬ص‪.31 .‬‬
‫‪ )(2‬من خطاب له ‪ 25‬شعبان ‪1422‬هـ ـ كاشان‪.‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار ‪.91/97‬‬
‫‪ )(4‬وصايا عرفانية‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.109‬‬

‫‪232‬‬
‫تقليل تعلق وحب اإلنسان لنفسه‪ ،‬وهذا ال يمنع اإلنسان عن الحرك ة والنش اط‪ ،‬كال‪ ،‬ب ل‬
‫على العكس هو يولد حركة ونشاطا أيضا لدي اإلنس ان ولكن ليس من أج ل نفس ه‪ ،‬ي ل‬
‫إنه يدرك أنه يجب أن يتحرك وينشط من أجل خدمة عباد هللا‪ ،‬فهي خدمة هلل)‬
‫ثم يوجه لومه الشديد لمن ينتقدون ه ذا‪ ،‬ق ائال‪( :‬أولئ ك المنتق دون لكتب األدعي ة‬
‫إنما يفعلون ذلك لكونهم جهل ة مس اكين ال يعرف ون كي ف أن كتب األدعي ة ه ذه تص نع‬
‫اإلنسان‪ ،‬فأي إنسان ‪ -‬عظيم ‪ -‬تصنعه األدعي ة األدعي ة ال واردة عن أئمتن ا‪ ،‬كالمناج اة‬
‫الشعبانية ودعاء كميل‪ ،‬ودعاء اإلمام سيد الشهداء يوم عرفه‪ ،‬دعاء السمات‪ ..‬إن ال ذي‬
‫يقرأ المناجاة الشعبانية هو نفس ه ال ذي يش هر الس يف أيض ا ه ذه المناج اة ك ان يقرأه ا‬
‫جميع األئمة‪ ،‬ولم أر فيما يتعلق بسائر األدعية األخرى مثل هذا الوصف ‪ -‬قراءة جميع‬
‫األئمة لها ‪ -‬والذي يقرأها يشهر السيف ويجاهد الكف ار‪ ..‬ه ذه األدعي ة تخ رج اإلنس ان‬
‫من هذه الظلمات وعندما يخرج منهما يصبح عامال في سبيل هللا‪ ،‬مقاتال في س بيل هللا‪،‬‬
‫قائما هلل‪ ..‬األدعية ال تحجز اإلنسان عن الحركة والعمل كما يدعي أولئك الذين قصروا‬
‫آمالهم على هذه الدنيا معتبرين كل ما وراءه ا من ال ذهنيات لكنهم سيص لون إلى حيث‬
‫يرون أن هذه الذهنيات هي العينيات وما كانوا يرونه عينيا هو الذهنيات‪ ..‬هذه األدعي ة‬
‫والخطب ونهج البالغة ومفاتيح الجن ان وس ائر كتب األدعي ة‪ ،‬هي ال تي تعين اإلنس ان‬
‫ليصبح إنساناً)(‪)1‬‬
‫هذه نماذج عن موقف الخميني من العرفان النظ ري‪ ،‬وهي ت بين م دى ارتباط ه‬
‫بالقيم التي ذكرها أهل البيت‪ ،‬وهي ترد كذلك على أولئك المرجفين‪ ،‬والذين يتصورون‬
‫أن ه ق د وق ع في المتاه ات ال تي وق ع فيه ا ال ذين خلط وا التص وف النقي ب الكثير من‬
‫الخرافات التي استوردوها من المشرق والمغرب‪.‬‬

‫‪ )(1‬سر الصالة أو صالة العارفين‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.76‬‬

‫‪233‬‬
‫إيران ‪ ..‬والقيم األخالقية‬
‫ال يمكن لمجتمع أن يتم تدينه أو تحضره من غير أن تكون له مجموع ة من القيم‬
‫األخالقية التي يؤمن بها‪ ،‬ويطبقها في حياته‪ ،‬ذلك أن الدين في جوهره ليس سوى قيم ا‬
‫أخالقية رفيعة جاء األنبياء للدعوة إليها‪ ،‬كما نص على ذلك رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬إنَّم ا‬
‫ثت ُ‬
‫ألتم َم مكار َم األخالق)(‪ ،)1‬واعت بر أن أكم ل المؤم نين إيمان ا أحس نهم أخالق ا‪ ،‬فق ال ‪:‬‬ ‫ب ُِع ُ‬
‫(أكمل المؤمنين إيمانا‪ ،‬أحسنهم خلقا)(‪ ، )2‬وجعل الخل ق مقياس ا للتحق ق بالكم ال اإلنس اني‪،‬‬
‫إلي‬
‫إلي وأقربكم مني في اآلخرة مج الس محاس نكم أخالق ا‪ ،‬وإن أبغض كم ّ‬ ‫فقال ‪ ( :‬إن أحبكم ّ‬
‫( )‬
‫وأبعدكم مني مساوئكم أخالقا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون) ‪3‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا الفصل بيان مدى تمسك اإليرانيين بالقيم األخالقية‪ ،‬ومن‬
‫خاللها نرى مدى تمسكهم بالدين الص حيح األص يل‪ ،‬ذل ك أن أول عالم ات الت دين المزي ف‬
‫سوء الخلق‪ ،‬وما ينشأ عنه من أمراض نفسية لها آثارها السلبية الكثيرة في الواقع‪.‬‬
‫وكذلك نرى من خالله مدى تحضرهم؛ فالحضارة ليست تقدما ماديا فق ط‪ ،‬وإنم ا هي‬
‫قبل ذلك وبعده قيم أخالقية‪ ،‬ترفع اإلنسان إلى المحل الكريم الذي أكرمه هللا به‪.‬‬
‫ولبيان ذلك حاولنا أن ننظر إلى م دى اهتم ام اإلي رانين ب القيم األخالقي ة‪ ،‬س واء على‬
‫مستوى تراثهم العريق‪ ،‬الذي يعبر عن الواقع االجتماعي التاريخي‪ ،‬أو على مس توى الواق ع‬
‫المعيش الذي نراه اآلن من خالل حياتهم االجتماعية أو مواقفهم السياسية ونحوها‪.‬‬
‫والنتيجة التي خلصنا إليها‪ ،‬هي أن إيران في الوقت الحالي‪ ،‬تمثل ـ اجتماعيا وسياس يا‬
‫وتراثيا ـ جميع القيم األخالقية النبيلة التي جاء اإلسالم بالدعوة إليها‪ ،‬وبذلك هي تمثل نم وذج‬
‫التدين األصيل‪ ،‬الذي يعتبر األخالق ركنا أساسيا ال يمكن االستغناء عنه‪.‬‬
‫بل إننا لو تخلينا عن أحقادنا وقرأنا الواقع اإليراني جيدا قراءة منصفة‪ ،‬لعلمن ا أن ك ل‬
‫ما حصل إليران من حروب وحص ار وظلم في العق ود األخ ير ك ان نتيج ة لتمس كها ب القيم‬
‫األخالقية التي لم تسمح لها أن تتخلى عن مبادئها ألجل تحقيق مصالحها‪ ،‬فهي دولة مبدئي ة ـ‬
‫شعبا ونظاما ـ ولهذا ابتليت بكل أولئك األعداء‪.‬‬
‫وال ذين يقارنونه ا بغيره ا من ال دول اإلس المية‪ ،‬وخصوص ا تركي ا ودول الخليج‬
‫يخطئون كثيرا‪ ،‬ألنهم ينظرون إلى التقدم المادي‪ ،‬وال ينظرون إلى التقدم في القيم واألخالق‪،‬‬
‫وقد كان في إمك ان إي ران أن تحص ل على الكث ير على م ا يحص ل علي ه غيره ا من التق دم‬
‫المادي والرخاء االقتصادي لو أنها تنازلت كما تنازلت تركي ا ودول الخليج‪ ،‬لكنه ا لم تفع ل‪،‬‬
‫وهذا ما يبرهن على م دى تغلغ ل القيم األخالقي ة في المجتم ع والسياس ة اإليراني ة‪ ،‬ذل ك أن‬

‫‪ )(1‬رواه مالك في الموطأ‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬وابن حبان في صحيحه‪ ،‬والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحم د وابن حب ان في ص حيحه‪ ،‬والط براني‪ ،‬وال بيهقي‪ ،‬وك ذا الترم ذي وزاد ق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ :‬م ا‬
‫المتفيهقون؟ قال‪( :‬المتكبرون)‬

‫‪234‬‬
‫السياسة لم تكن لتقف تلك المواقف الصلبة لوال وجود حضانة شعبية لمواقفها‪.‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا الفصل أن ن ذكر تجلي ات القيم األخالقي ة في إي ران على‬
‫الجانبين التاليين‪:‬‬
‫أوال ـ جانب التراث‪ ،‬ذلك أن التراث اإليراني يزخر بكتابات كثيرة حول األخالق‪ ،‬بل‬
‫ال نبالغ إن ذكرنا بأن أمهات كتب علم األخالق‪ ،‬وأصوله الكبرى من تأليف علماء إيرانين‪.‬‬
‫ثانيا ـ جانب الواقع‪ ،‬وذلك من خالل مطالعة الواقع االجتم اعي والسياس ي والتع رف‬
‫على القيم األخالقية التي تحكمه وأسباب ذلك‪.‬‬
‫أوال ـ القيم األخالقية والتراث اإليراني‪:‬‬
‫مثلم ا اكتش فنا س ابقا ال دور الري ادي للعلم اء اإليران يين في المج االت العلمي ة‬
‫المختلفة‪ ،‬فإننا عن د البحث في ال تراث األخالقي نكتش ف نفس النتيج ة‪ ،‬ف أول من كتب‬
‫في هذا العلم فالسفة وأدباء ومفكرون وعلماء إيرانيون‪ ،‬وال ت زال إلى اآلن إس هاماتهم‬
‫الكثيرة في هذا الجانب‪.‬‬
‫وسنحاول هنا أن نذكر نماذج عن ذلك من خالل المنهجين الكبيرين المتبعين في‬
‫دراسة األخالق‪ :‬المنهج الفلسفي‪ ،‬والمنهج الديني‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ التراث الفلسفي واألخالق‪:‬‬
‫ُقس م علم األخالق إلى قس مين‪ :‬نظ ري‪ ،‬ويبحث عن (أس س الخ ير المطل ق‪،‬‬ ‫ي ّ‬
‫وفكرة الفضيلة من حيث هي بغضّ النظر عن المص اديق واألف راد) ‪ ، 1‬ويطل ق علي ه‬
‫)‬ ‫(‬
‫[فلس فة األخالق]‪ ،‬وعملي‪ ،‬ويبحث عن (مص اديق الخ ير ال تي تق ع تحت الح واس‪،‬‬
‫والفض ائل الخارجي ة كالوف اء باألمان ة واإلحس ان إلى المع وزين)‪ ،‬وك ل ذل ك أيض ا‬
‫بطريقة فلسفية‪ ،‬وقد يدمج ببعض النصوص الدينية المؤيد لما يقتضيه العقل‪.‬‬
‫وعند مراجعة التراث اإلسالمي‪ ،‬وما ألف فيه في كال الجانبين نج د للمس اهمات‬
‫اإليرانية الريادة في ذلك كله‪ ،‬ف أول من أل ف في علم األخالق النظ ري‪ ،‬باتف اق جمي ع‬
‫علماء األخالق أبو علي أحمد بن يعقوب‪ ،‬المعــروف بــابن مســكويه الــرازي [‪- 325‬‬
‫‪421‬هـ]‪ ،‬والذي يع ّد أكبر فيلسوف أخالقي مسلم‪ ،‬وقد ترك الكثير من الكتب الرائدة في‬
‫مجالها‪ ،‬ومنها‪( :‬تهذيب األخالق وتطه ير األع راق)‪ ،‬و(ت رتيب الس عادات)‪ ،‬و(الف وز‬
‫األصغر)‪( ،‬رسالة في العدل)‪( ،‬الهوامل والشوامل)‪ ،‬وغيره ا‪ ،‬وال تي ك ان له ا أثره ا‬
‫بعد ذلك في كل ما كتب حول األخالق‪.‬‬
‫وكان يطل ق علي ه ـ بس بب إس هاماته الفلس فية في ه ذا المج ال ـ لقب ـ [المعلم‬
‫الثالث]‪ ،‬بل إن محمد إقبال يعتبر فلسفة ما بع د الطبيع ة عن ده أك ثر انتظام ا من فلس فة‬
‫الفارابي‪ ،‬ذلك أنه أس س نظريت ه في األخالق على اإليم ان باهلل‪ ،‬وله ذا ن راه في القس م‬
‫األول من الفوز األص غر يعق د عش رة فص ول ح ول إثب ات الص انع‪ ،‬ويعق د في القس م‬
‫الث اني عش رة فص ول مختص رة ح ول معرف ة النفس والمع اد‪ ،‬وفي القس م الث الث من‬
‫الكتاب يعقد عشرة فصول أيضا ً تدور حول النبوة‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬فلسفة األخالق في اإلسالم‪،‬الشيخ محمد جواد مغنية‪ ،‬ص‪53‬ـ‪..56‬‬

‫‪235‬‬
‫ومن ال ذين ك انت لهم مس اهماتهم الفلس فية الك برى في علم األخالق‪ ،‬وخاص ة‬
‫التطبيقية منها‪ ،‬بل يعد رائ دا فيه ا‪ ،‬محمــد بن الحســن الجهــرودي الطوسي‪ ،‬المش هور‬
‫بـالخواجة نصير الدين الطوسي (‪ 672 – 597‬هـ)‪ ،‬الذي ألف في المج االت العلمي ة‬
‫والفلسفية المختلف ة‪ ،‬وك ان رائ دا فيه ا جميع ا‪ ،‬ومنه ا كتب ه في علم األخالق‪ ،‬وخاص ة‬
‫التطبيقة منها‪ ،‬والذي يعد بحق رائدا فيها‪.‬‬
‫ق ناص ِريّ]‪ ،‬ال ذي يعت بر من أهم‬ ‫ومن أشهر كتبه فيها الكت اب المع روف [أخال ُ‬
‫اآلثار في الحكمة العملية‪ ،‬وهو يتكون من ثالثة أقسام تشمل األخالق التطبيقي ة بجمي ع‬
‫فروعها‪ ،‬وهي‪ :‬األخالق‪ ،‬وتدبير المنزل‪ ،‬وسياسة المدن‪.‬‬
‫وقد ذكر المؤرخون لعلم األخالق أن نصير الدين الطوس ي أب دع في كتاب ه ه ذا‬
‫بما لم يسبقه إليه أحد ال في العهد اليوناني‪ ،‬وال في العصر اإلس المي‪ ،‬ذل ك أن فالس فة‬
‫أن ه ذا الكت اب يعت بر‬ ‫العصر اإلسالمي من قبله قد ألّفوا في كليات الحكمة النظرية إالّ ّ‬
‫أوّل أثر في الحكمة العملي ة‪ ،‬وله ذا الس بب أيض ا ً اتخ ذه الفالس فة ال ذين تل وه نموذج ا ً‬
‫يحتذى به في تدوين كليات الحكمة العملية‪.‬‬
‫ومن اإليرانيين الذين كانت لهم إسهاماتهم الفلس فية في ه ذا المج ال قطب الــدين‬
‫محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي (توفى ‪710‬هـ) وه و من علم اء الرياض يات‬
‫والفل ك والفيزي اء والفلس فة الكب ار‪ ،‬باإلض افة إلى ذل ك كتب في علم األخالق في‬
‫موسوعته [درّة التاج]‬
‫ومنهم جالل الــدين الــدواني (‪ 830‬هـ ‪918 -‬هـ) وه و ق اض‪ ،‬وفقي ه ش افعي‪،‬‬
‫ومتكلم‪ ،‬ومفس ر‪ ،‬وفيلس وف‪ ،‬وق د ش رح ع دداً من الكتب المش هورة في الفلس فة‬
‫والتصوف‪ ،‬وقد كتب في مجال األخالق تحريراً جدي داً ألخالق ناص ري تحت عن وان‬
‫[أخالق جاللي]‪ ،‬أضاف فيه إلى الموضوعات ال تي اقتبس ت من أخالق ناص ري بلغ ة‬
‫سلسة فوائد أخرى من الكتاب والسنة ومؤلفات أهل الشريعة مثل أبي الحسن الماوردي‬
‫وأبي حامد الغزالي وفخر الدين الرازي‪.‬‬
‫ومنهم أحمد النراقي الكاشاني (‪ 1185‬ــ ‪ 1245‬هـ)‪ ،‬الملقب بالفاض ل ال نراقي‪،‬‬
‫وكان أديبا ً وش اعراً‪ ،‬درس المنط ق‪ ،‬والفق ه‪ ،‬واألص ول‪ ،‬والكالم‪ ،‬والفلس فة وغيره ا‪،‬‬
‫وكان له آثاره فيه ا‪ ،‬وق د ق ال عن ه محس ن األمين‪( :‬ك ان عالم ا ً فاض الً جامع ا ً ألك ثر‬
‫العلوم‪ ،‬السيما األصول والفقه والرياضيات‪ ،‬شاعراً بليغا ً بالفارسية)(‪)1‬‬

‫وقال عنه الشيخ أقا بزرك الطهراني‪( :‬هو الشيخ المولى أحمد بن الم ولى محمد‬
‫مه دي بن أبي ذر ال نراقي الكاش اني‪ ،‬ع الم كب ير وفقيه ب ارع ومص نف جلي ل‪ ،‬والمع‬
‫متبحر ورئيس مطاع‪ ،‬وكان رحمه هللا من العلم اء االتقي اء واالب رار األخي ار عطوف ا ً‬
‫على الفقراء‪ ،‬شفيعا ً على الضعفاء‪ ،‬س اعيا ً في قض اء الح وائج‪ ،‬ب اذالً جه ده في إنج از‬
‫مطالب المحتاجين)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬أعيان الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪..184‬‬


‫‪ )(2‬الطهراني‪ ،‬طبقات أعالم الشيعة‪ ،‬ج ‪ ،10‬ص ‪..116‬‬

‫‪236‬‬
‫وق ال عن ه الش يخ عب اس القمي‪( :‬الع الم العابد والفاضل الفقيه النبيه والش اعر‬
‫االديب‪ ،‬والسراج الوهاج‪ ،‬والبحر العجاج‪ ،‬فحل الفحول)(‪)3‬‬

‫ومن أهم كتب ه في األخالق‪ ،‬وال تي م زج فيه ا بين الفلس فة وال دين في ط رح‬
‫القضايا األخالقية كتابه المشهور [جامع السعادات]‪ ،‬وه و كت ابٌ في األخالق النظري ة‬
‫والتطبيقية‪ ،‬وميزته الكبرى التي أهلت له كل تلك الشهرة اشتماله على البعدين الفلس في‬
‫والعقلي في الحديث عن القض ايا األخالقي ة‪ ،‬باإلض افة الش تماله على الج انبين ال ديني‬
‫والتطبيقي‪.‬‬
‫والكتاب يشتمل على ثالثة أبواب تجمع أهم وأكثر المسائل األخالقية‪ ،‬ففي الباب‬
‫األول يتض من مواض يع كلّي ة لعلم األخالق ومبانيه ا‪ ،‬من قبي ل تج رّد النفس وبقائه ا‪،‬‬
‫وت أثير الم زاج على األخالق‪ ،‬وت أثير التربي ة على األخالق‪ ،‬وش رف علم األخالق‬
‫لشرف موض وعه وغايت ه‪ ،‬والنفس وأس ماؤها وقواه ا األرب ع ّ‬
‫وأن غاي ة الس عادة ه و‬
‫التشبّه بمبدأ الخلق‪.‬‬
‫وتناول في الباب الثاني أقسام األخالق‪ ،‬وبحث فيه عن الفضائل األربع (الحكمة‬
‫أن العقل النظري بنفسه يدرك الفض ائل‬ ‫والعدالة والشجاعة والعفّة)‪ ،‬وفي حقيقة العدالة ّ‬
‫والرذائل‪ ،‬وح ّد الوسط (االعتدال) وما سواه (اإلفراط والتفريط) في األخالق‪.‬‬
‫وتناول في الباب الثالث األخالق الحميدة‪ ،‬يشتمل على مق ّدم ة وأربع ة مقام ات‪،‬‬
‫وجاء في المق ّدمة طريقة حفظ االعتدال للفض ائل األخالقي ة‪ ،‬ويبحث فيه ا عن معالج ة‬
‫النفس بنحو عام ومعالجتها على وج ه خ اصّ ‪ ،‬ويبحث في المقام ات عن الق وة العاقل ة‬
‫وما يتعلق بقوة الغضب من أمور وعن رذائل وفضائل قوة الش هوة‪ ،‬ومطالع ة الرذائ ل‬
‫والفضائل للقوى الثالث أو ما يتعلق لقوتين منها دون أخرى‪.‬‬
‫وميزة الكتاب الكبرى ـ كما ذكرنا ـ ذلك المزج بين ما قاله الفالسفة‪ ،‬وما ج اءت‬
‫به الشريعة‪ ،‬من غير أن يعطي الفلسفة فوق قدرها‪ ،‬بل هو يعتقد أن ما جاء به الفالسفة‬
‫ال يمكن مقارنته بما جاءت به الشريعة‪ ،‬وقد قال في مقدم ة كتب ه ي ذكر ذل ك‪( :‬ال ريب‬
‫في أن التزكي ة موقوف ة على معرف ة مهلك ات الص فات ومنجياته ا‪ ،‬والعلم بأس بابها‬
‫ومعالجاتها‪ ،‬وهذا هو الحكمة الحقة التي مدح هّللا أهلها‪ ،‬ولم يرخص ألحد جهلها‪ ،‬وهي‬
‫الموجبة للحياة الحقيقة‪ ،‬والس عادة الس رمدية‪ ،‬والت ارك له ا على ش فا ج رف الهلك ات‪،‬‬
‫وربم ا أحرقت ه ن يران الش هوات‪ ،‬وق د ك ان الس لف من الحكم اء يب الغون في نش رها‬
‫وت دوينها‪ .‬وجمعه ا وتبيينه ا‪ ،‬على م ا أدت إلي ه ق وة أنظ ارهم‪ ،‬وأدرك وه بق رائحهم‬
‫وأفكارهم‪ ،‬ولما جاءت الشريعة النبوية (على صادعها أل ف ص الة وتحي ة) حثت على‬
‫تحسين األخالق وتهذيبها‪ ،‬وبينت دقائقها وتفصيلها بحيث اضمحل في جنبه ا م ا ق رره‬
‫أساطين الحكمة والعرفان‪ ،‬وغيرهم من أهل المل ل واألدي ان‪ ،‬إال أن ه لم ا ك ان م ا ورد‬
‫منها منتشرا في موارد مختلفة‪ ،‬ومتفرقا في مواضع متعددة‪ ،‬تعسّر أن يحي ط ب ه الج ل‬
‫فال بد من ضبطه في موضع واحد ليسهل تناوله للكل‪ ،‬فجمعت في هذا الكتاب خالصة‬

‫‪ )(3‬القمي‪ ،‬الفوائد الرضوية‪ ،‬ص ‪..85‬‬

‫‪237‬‬
‫ما ورد من الشريعة الحقة مع زبدة ما أورده أه ل العرف ان والحكم ة على نهج تق ّر ب ه‬
‫أعين الطالبين‪ ،‬وتسر به أفئدة الراغبين)(‪)1‬‬
‫ومن الشخصيات اإليرانية الرائدة في علم األخالق‪ ،‬والتي يمكن ذكرها هن ا أبــو‬
‫محمــد عبــد هللا بن المقفع(‪ 145 - 109( )2‬ه‍) الك اتب والش اعر والم ترجم الكب ير‪،‬‬
‫وأصله من فيروز آباد هي مدينة إيرانية ال تزال تسمى بهذا االسم‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته المهمة المرتبطة باألخالق‪ ،‬والتي ك ان له ا تأثيره ا الكب ير الممت د‬
‫إلى العصر الحالي كتاب [كليلة ودمن ة]‪ ،‬وال ذي ص اغ في ه الكث ير من القيم األخالقي ة‬
‫على شكل قصص تدور بين الحيوانات‪ ،‬وتتضمن عدة مواضيع من أبرزها العالقة بين‬
‫الحكم والمواعظ‪.‬‬
‫الحاكم والمحكوم‪ ،‬باإلضافة إلى الكثير من ِ‬
‫ومن كتب ه األدب الكب ير‪ ،‬ال ذي يع ني ب ه أدب النفس‪ ،‬وه و يبحث في الس لطان‬
‫وآداب ه‪ ،‬وفي الص داقة ومعامل ة األص دقاء وآدابهم‪ ،‬ويع رض بعض الحكم والنص ائح‬
‫لطالب العلم واألدب‪.‬‬
‫ومنها األدب الصغير‪ :‬وسماه بذلك تمييزاً له من (األدب الكبير) لص غر حجم ه‪،‬‬
‫وتحدث فيه عن حاجة العقل إلى األدب‪ ،‬وتأثير األدب في إنماء العق ول‪ ،‬وحف ظ أق وال‬
‫أهل الرأي والمشورة‪ ،‬واالقتداء بالصالحين‪ ،‬واألخذ عن الحكماء‪.‬‬
‫ومنها رسالة الصحابة‪ :‬هي رس الة كتبه ا ابن المقف ع للخليف ة المنص ور‪ ،‬ي ذ ّكره‬
‫فيها بأحوال رعيته‪ ،‬وما ينبغي أن يوجه نظره إليه بشأن بالد الخالفة‪ ،‬وبشأن ص حابته‬
‫وأعوانه وجنده‪ ،‬ودراسة أحوالهم وتنظيمها‪.‬‬
‫ه ذه نم اذج عن بعض الفالس فة اإليران يين الق دامى ال ذين كتب وا في األخالق‪،‬‬
‫ويمكن أن يضم إليهم الكثير من المعاصرين من أمثال الشيخ تقي مصباح اليزدي (ولد‬
‫‪ 1934‬م) الفيلسوف والعالم اإليراني الكبير الذي كتب في المجاالت المعرفية الكث يرة‪،‬‬
‫وخصوصا الفلسفية منها‪ ،‬ومنها فلسفة األخالق‪ ،‬وهو مؤسس مؤسس ة اإلم ام الخمي ني‬
‫للتعليم والبحث العلمي‪ ،‬وعض و مجلس خ براء القي ادة في إي ران‪ ،‬وأح د أب رز تالم ذة‬
‫المفس ر والفيلس وف اإلس المي محم د حس ين الطباطب ائي‪ ،‬باإلض افة إلى كون ه أش هر‬
‫فيلسوف إسالمي في الوقت الراهن‪.‬‬
‫وكل مؤلفات تنظ ر لألخالق‪ ،‬وتتناوله ا من زواي ا مختلف ة‪ ،‬ومنه ا‪ :‬معرف ة هللا‪،‬‬
‫ومعرفة ال َكوْ ن‪ ،‬ومعرفة اإلنسان‪ ،‬ومعرفة الس بيل‪ ،‬ومعرف ة ال دليل‪ ،‬ومعرف ة الق رآن‪،‬‬
‫واألخالق في القرآن(ثالثة أجزاء) ‪ ،‬والمجتمع والتاريخ في الرؤية القرآني ة‪ ،‬والحق وق‬
‫‌والسياسة ‌في الق رآن‪ ،‬والح رب والجه اد في الق رآن‪ ،‬واإلمام ة والوالي ة في الق رآن‬
‫اإلس الم‪ ،‬ودروس في‬ ‫الك ريم‪ ،‬والتوحي د في النظ ام العقائ دي وفي النظ ام القيمي في ِ‬
‫اإلسالمية(ثالثة أجزاء) ‪ ،‬وشرح برهان الشفاء(أربعة أجزاء) ‪ ،‬وشرح الهي ات‬ ‫العقيدة ِ‬
‫الشفاء البن سينا (جزءان) ‪ ،‬وشرح األسفار األربعة لصدر ال دين الش يرازي‪ ،‬وش رح‬

‫‪ )(1‬جامع السعادات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.35 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر في ترجمته‪ :‬الذهبي‪ :‬سير النبالء ‪ ،222 :5‬القفطي‪ :‬تاريخ الحكماء ‪.220‬‬

‫‪238‬‬
‫نهاي ة الحكم ة للعالم ة الطباطب ائي (ج زءان) ‪ ،‬وتعليق ة علي نهاي ة الحكم ة‪ ،‬والمنهج‬
‫الجديد في تعليم الفلسفة(جزءان) ‪ ،‬وخالصة عدة بحوث فلس فية‪ ،‬ودروس في الفلس فة‪،‬‬
‫وااليديولوجي ة المقارن ة‪ ،‬ونق د م وجز ألص ول الماركس ية‪ ،‬وال ذود عن حص ون‬
‫اآليديولوجية(ستة أج زاء) ‪ ،‬وفي ض ياء البارق ة‪ ،‬وأص ولالمعارف اإلنس انية‪ ،‬وح وار‬
‫ُم بين ح ول األفك ار األساس ية‪ ،‬ولقاءهللا‪ ،‬وتجلي الق رآن في نهج البالغ ة‪ ،‬والس ائرون‬
‫على طريق الحبيب‪ ،‬والدين والحرية‪ ،‬وكلمة حول فلس فة األخالق‪ ،‬ودروس في فلس فة‬
‫األخالق‪ ،‬وفلسفة األخالق‪ ،‬ونقد ودراسة المذاهب األخالقية‪ ،‬ومعرفة الذات لبنائه ا من‬
‫جديد ‪ ،‬ونحو بن اء ال ذات‪ ،‬وفي البحث عن العرف ان اإلس المي‪ ،‬والمتطلّب ات التمهيدي ة‬
‫لإلدارة ا ِإلسالمية‪ ،‬وتأ ّمالت في الحكمة واإلشراق‪ ..‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫وقد ذكرنا أسماء ه ذه المؤلف ات لنع رف من خالله ا س عة المج االت ال تي بحث‬
‫فيها‪ ،‬وخاصة وهو يرأس تلك المؤسسات اإليراني ة المهم ة‪ ،‬لنع رف من خالله ا م دى‬
‫تغلغل الفلسفة اإلسالمية بأنواعها المختلفة في المؤسسات اإليرانية‪ ،‬سواء ما كان منه ا‬
‫ذا طابع علمي‪ ،‬أو ما كان ذا طابع سياسي‪ ،‬وهي فلسفة تمتزج بالدين‪ ،‬بل تنطل ق من ه‪،‬‬
‫وليست فلسفة إلحادية‪ ،‬وال حداثية‪ ،‬وال عندها أي نفور من الدين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التراث الديني واألخالق‪:‬‬
‫نقصد بالتراث الديني ذلك التراث ال ذي ب ني انطالق ا من المص ادر المقدس ة من‬
‫الكتاب والسنة وغيرهما‪ ،‬وهو ال يع ني خل وه من البحث الفلس في والعقلي‪ ،‬فالعق ل أداة‬
‫تستعمل في كل المجاالت‪.‬‬
‫وعند البحث في هذا النوع من التراث واهتمامه باألخالق‪ ،‬نج د أك بر المص ادر‬
‫التي ألفت فيه إيرانية بامتياز‪ ،‬وسأذكر هنا نم اذج عن أك بر م ا أل ف في ه‪ ،‬ل نرى م دى‬
‫مصداقية ذلك‪.‬‬
‫فمن أوائ ل الكتب ال تي ألفت في األخالق‪ ،‬وام تزج فيه ا البحث العقلي الفلس في‬
‫بالبحث الديني‪ ،‬مؤلفات الراغب األصفهاني‪ ،‬والتي استفاد منها أبو حامد الغزالي كثيرا‬
‫في كتبه(‪ ،)1‬وأهمها كتابه (الذريعة إلى مكــارم الشــريعة)‪ ،‬وه و من الكتب الرائ دة في‬
‫علم األخالق‪ ،‬وتناول فيه‪ :‬أحوال اإلنسان‪ ،‬وقواه‪ ،‬وفضيلته‪ ،‬والعقل‪ ،‬والعلم‪ ،‬والنط ق‪،‬‬
‫وما يتعلق بالقوى الشهوية‪ ،‬وما يتعلق بالقوى الغضبية‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والظلم‪ ..‬وغيرها‪.‬‬
‫وقد ذكر الراغب األصفهاني في مقدمة كتابه دوافعه لتأليف كتاب ه؛ فق ال‪( :‬كنت‬
‫قد أشرت فيما أمليته من كتاب [تحقيق البيان في تأوي ل الق رآن] إلى الف رق بين أحك ام‬
‫الشريعة ومكارمها‪ ،‬فإن المكارم المطلق ة هي اس م لم ا ال يتحاش ى من وص ف الب اري‬
‫ج ل ثن اؤه به ا أو بأكثره ا نح و الحكم ة‪ ،‬والج ود‪ ،‬والحلم‪ ،‬والعلم‪ ،‬والعف و‪ ،‬وإن ك ان‬
‫وصفه تعالى بذلك على حد أشرف مم ا يوص ف ب ه البش ر‪ ،‬وإن األحك ام تتن اول ذل ك‬

‫‪)(1‬قال في [كشف الظن ون عن أس امي الكتب والفن ون (‪ :])827 /1‬قي ل أن اإلم ام‪ :‬حج ة اإلس الم الغ زالي‪ ،‬ك ان‬
‫يستصحب كتاب (الذريعة) دائما‪ ،‬ويستحسنه لنفاسته‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك كذلك ما ذك ره د‪ .‬محم د يوس ف موس ى‪ ،‬في‬
‫كتاب ه [ت اريخ األخالق‪ ،‬ص‪ ]194‬من أن الغ زالي أخ ذ في كتاب ه [مع ارج الق دس ]‪ ،‬من [تفص يل النش أتين وتحص يل‬
‫السعادتين] للراغب‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫وتتناول العبادات‪ ،‬وإنه باكتساب المكرمة يستحق اإلنسان أن يوصف بكون ه خليف ة هَّللا‬
‫ض خَ لِيفَةً } [البق رة‪ ،]30 :‬وأش رت أن خالف ة هللا‬ ‫المعني بقوله‪ { :‬إِنِّي َجا ِع ٌل فِي اأْل َرْ ِ‬
‫عز وج ل ال تص ح إال بطه ارة النفس‪ ،‬كم ا أن أش رف العب ادات ال تص ح إال بطه ارة‬
‫الجس م‪ ،‬وق د اس تخرت هَّللا اآلن‪ ،‬وعملت في ذل ك كتابً ا ليك ون ذريع ة إلى مك ارم‬
‫الشريعة‪ ،‬وبينت كيف يصل اإلنسان إلى منزل ة العبودي ة ال تي جعله ا هللا تع الى ش رفًا‬
‫لألتقياء‪ ،‬وكيف يترقى عنها إذا وصلها إلى منزلة الخالفة التي جعله ا هَّللا تع الى ش رفا‬
‫للص ديقين والش هداء‪ ،‬فب الجمع بين أحك ام الش رع ومكارم ه عل ًم ا‪ ،‬وإبرازهم ا عماًل‬
‫يكتسب العال‪ ،‬ويتم التقوى‪ ،‬ويبلغ إلى جنة المأوى‪ ،‬ورغبني أيها األخ الفاض ل ‪ -‬وفق ك‬
‫هَّللا وأرشدك‪ ،‬وأعاذك من ش ر نفس ك ‪ -‬في تص نيفه م ا رأيت من تش وقك أن ت زين م ا‬
‫وليه هَّللا من حسن َخ ْلقك و ُخلُق ك بم ا تت واله من تحس ين أدب ك‪ ،‬وإكم ال مروءت ك‪ ،‬فم ا‬
‫( )‬
‫أجدر رواك الصبيح أن تحصِّ ل وراءه الرأي الصحيح) ‪1‬‬
‫ومن أهم مزاي ا الكت اب‪ ،‬وال تي تجعل ه من الكتب الرائ دة في علم األخالق ذل ك‬
‫المزج بين ما ورد في النصوص المقدسة‪ ،‬وما أورده الفالسفة والحكماء من المس لمين‬
‫وغيرهم‪ ،‬وبذلك كان الكتاب مصدرا من المصادر المهمة والرائدة في علم األخالق‪.‬‬
‫ومن كتب ه األخ رى في علم األخالق كت اب [تفصـــيل النشـــأتين وتحصـــيل‬
‫السعادتين]‪ ،‬وهو من أهم الكتب المرغب ة والمؤسس ة لألخالق‪ ،‬وه و يبحث في حقيق ة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وماهيته‪ ،‬وغاية وجوده‪ ،‬ومصيره‪ ،‬وك ل ذل ك بأس لوب اس تداللي م تين‪ ،‬م ع‬
‫اإلكثار من االستشهاد بالنصوص القرآنية‪ ،‬واآلثار‪ ،‬وأقوال العلماء‪.‬‬
‫ومن الكتب الرائ دة في علم األخالق كتب أبي حام د الغ زالي الكث يرة‪ ،‬ذل ك أن‬
‫معظمها يرتبط باألخالق‪ ،‬وخاصة [إحياء علــوم الــدين]‪ ،‬ال ذي يعت بر أك بر كت اب في‬
‫األخالق‪ ،‬جمع فيه تراث كل من سبقه بطريقة علمي ة مبس طة جعلت من ه أش هر الكتب‬
‫وأكثرها تأثيرها على امتداد التاريخ والجغرافية اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد قال فيه بعض المعاصرين ردا على السلفيين الذين تع ودوا أن يزه دوا في ه‪،‬‬
‫وينف روا من ه‪[( :‬إحي اء عل وم ال دين] من أفض ل الكتب وأعظمه ا في تزكي ة النفس‬
‫وتصفيتها من الشوائب واآلف ات‪ ،‬وفي معرف ة اإلنس ان خباي ا نفس ه ودخائله ا‪ ،‬وكي ف‬
‫يعالجه ا‪ ،‬ومعرف ة حقيق ة العب ادة وروحه ا‪ ،‬والكت اب كلُّه يق وم على قاع دة أساس يَّة‪،‬‬
‫تتل َّخص بكلم تين‪ ،‬تقرأهم ا في ك ِّل ب اب من أبواب ه‪ ،‬أو فص ل من فص وله‪ :‬تص حيح‬
‫المعاملة مع هللا تعالى‪ ،‬ومع عباد هللا على أساس من العلم والعمل‪ ،‬م ع االس تهداء بفهم‬
‫السلف وأحوالهم‪ ..‬وهو اسم على مس َّمى‪ ،‬إذ كان إحياء لما خفت نوره من علوم ال دين‪،‬‬
‫وا َّمحت آثاره من حياة النَّاس‪ ،‬فنهض هذا اإلمام الجليل إلحيائه ا وتجدي دها‪ ،‬ووض عها‬
‫في مسارها الصحيح‪ ،‬وبؤرة التأثير والتغيير‪ ،‬فأحيا بعمله األ ّمة‪ ،‬وج ّدد انبعاثه ا‪ ..‬وه و‬
‫كتاب كتب هللا له القبول بين النَّاس‪ ،‬وتلقَّته خيار األُ َّمة باالعتناء واالهتمام‪ ،‬وانتفعت به‬
‫الغزالي ُحجَّة اإلسالم ش هد ل ه األئ ّم ة المعت برون ب ذلك‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫جيالً بعد جيل‪ ،‬ومؤلّفه اإلمام‬

‫‪ )(1‬الذريعة الى مكارم الشريعة (ص‪)59 :‬‬

‫‪240‬‬
‫الس يَر‪( :‬الغ زالي‬ ‫وع ُّدوه مجدِّد اإلسالم في قرنه‪ ،‬وقد وصف اإلمام ال ذهبي مؤلِّف ه في ِّ‬
‫الشيخ اإلمام البحر‪ُ ،‬حجَّة اإلسالم‪ ،‬أعجوبة الزمان)‪ ،‬ويكفي الكت اب ومؤلِّف ه ش هادة َّ‬
‫أن‬
‫ك َّل َم ْن أتى بع ده‪ ،‬وكتب فيم ا كتب نس ج على منوال ه‪ ،‬واقتفى آث اره‪ ،‬واس تفاد من ه‪،‬‬
‫( )‬
‫ودونكم التاريخ يشهد بما أقول‪ ،‬وهو شاهد صدق‪ ،‬وحكم عدل) ‪1‬‬
‫ومن الكتب المتأثرة باإلحياء‪ ،‬والتي سعت إلى تهذيب ه [المحج ة البيض اء] للمال‬
‫محسن فيض الكاشاني (توفي ‪ 1091‬هـ)‪ ،‬والذي اشتهر في البيئة الشيعة مث ل اش تهار‬
‫اإلحياء في البيئة السنية‪ ،‬وميزة المحجة البيضاء تطهير اإلحياء من األشياء ال تي انتق د‬
‫فيها‪ ،‬كسوء فهم بعض الصوفية للتوكل‪ ،‬أو الجوع الشديد ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومن ال ذين كتب وا في األخالق من اإليران يين أب ــو علي الحســن بن الحســـين‬
‫السبزواري البيهقي‪ ،‬المعروف بالش يعي(‪( )2‬ك ان حي ا س نة ‪،)753‬وه و كم ا وص فه‬
‫م ترجموه‪( :‬ع الم فاض ل متكلم ع ارف واع ظ)‪ ،‬ومن مؤلفات ه في األخالق [مص ابيح‬
‫القلوب في المواعظ والنصائح]‬
‫باإلض افة إلى ذل ك كل ه ن رى في ال تراث األخالقي اإلي راني الكث ير من الكتب‬
‫الروائية والتي ال يكاد يخلو منها كتاب من كتب الحديث سواء من المص ادر الس نية أو‬
‫الشيعية‪ ،‬وأشهرها في إيران‪ ،‬وأكثرها تداوال كتاب‪[ :‬مكارم األخالق ومع الم األعالق‪،‬‬
‫الح اوي لمحاس ن األفع ال واآلداب‪ ،‬من س يرة الن بي ‪ ‬وآداب ه وأخالق ه‪ ،‬وأوص افه‪،‬‬
‫وسائر حاالته‪ ،‬وحاالت االئمة المعصومين عليهم السالم وما روت في ذلك عن ه وعن‬
‫أهل بيته صلوات هللا عليه وعليهم] ألبي نصر الحسن بن الفضل الطبرس ي‪ ،‬من أعالم‬
‫القرن السادس الهجري‪.‬‬
‫أما المتأخرون والمعاصرون‪ ،‬فال يمكن عد كتبهم هنا لكثرته ا‪ ،‬ف أكثر المراج ع‬
‫والعلماء المتأخرين صنفوا في األخالق‪ ،‬س واء من خالل الق رآن الك ريم‪ ،‬أو من خالل‬
‫األحاديث والروايات‪ ،‬أو من خالل البحوث الفلسفية والعقلية‪ ،‬من أمث ال ناص ر مك ارم‬
‫الشيرازي الذي ألف موسوعة حول األخالق في القرآن الكريم‪.‬‬
‫وهك ذا ن رى الق ادة الفك ريين للث ورة اإلس المية اإليران يين يهتم ون بالكتاب ة في‬
‫األخالق‪ ،‬باعتبارها ركنا أساسيا من أركان الث ورة اإلس المية‪ ،‬ومنهم الش يخ مرتض ى‬
‫مطهري الذي رد في كتبه على كل الرؤى والمدارس الفلسفية التي تحاول التنص ل من‬
‫القيم واألخالق‪ ،‬وقد عرض القيم األخالقية بطريقة علمي ة فلس فية ديني ة مبس طة‪ ،‬ك ان‬
‫لها تأثيرها الكبير في األجيال ال تي تبنت الث ورة واحتض نتها وتحملت األعب اء الكب يرة‬
‫في سبيلها‪ ،‬وق د ق ال عن ه الخمي ني‪( :‬أوص ي الطبق ة المف ّك رة والطاّل ب الج امعيّين أاّل‬
‫يَدَعوا قراءة كتب األستاذ العزيز (الشهيد مرتضى مطهّري)‪ ،‬وال يجعلوها تُنسى جرّاء‬
‫الدسائس المبغضة لإلسالم‪ ،‬فقد كان عالما ً باإلسالم والقرآن الكريم والفنون والمع ارف‬
‫ي اس تثناء س هلةٌ‬ ‫وإن كتابات ه وكلمات ه كلّه ا بال أ ّ‬
‫اإلسالميّة المختلفة‪ ،‬فريداً من نوعه‪ّ ..‬‬

‫‪ )( 1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬نظرات في كتاب (إحياء علوم الدين) لإلمام الغزالي‪ ،‬عمر بن عبد المجيد البيانوني‪.‬‬
‫‪ )(2‬أعيان الشيعة ‪.60 - 50 :27‬‬

‫‪241‬‬
‫ومربِّية)(‪)1‬‬
‫وقال عنه الخامنئي‪( :‬يوجد القالئل من العلماء من أمثال الش هيد مطه ري‪ ،‬به ذه‬
‫الق وة الفكري ة والروحي ة‪ ،‬إن ك ل خطب ة من خطب ه يمكن أن تك ون عنوان ا وعمال‬
‫تخصصيا كامال‪ .‬ولهذا البد من العمل على مبانيه وخطه الفلسفي وبشكل كبير‪ .‬إن آثار‬
‫الشهيد مطهري تمثل المباني الفكرية للجمهورية اإلسالمية)(‪)2‬‬
‫ومن كتب ه ال تي يمكن اعتباره ا كتب ا أخالقي ة‪ ،‬وإن ك انت ك ل كتب ه تخ دم ه ذا‬
‫الجانب بنحو من األنحاء‪ :‬خليفة هللا اإلنسان الكامل‪ ،‬وكتاب طه ارة ال روح‪ ،‬واإلنس ان‬
‫الكامل‪ ،‬واإلنسان والقدوة‪ ،‬والرؤية اإللهية والرؤية المادية‪ ،‬والحكم والنصائح‪ ،‬وفلسفة‬
‫األخالق‪ ،‬ونظام حقوق المرأة في اإلسالم‪ ،‬والنظ ام االقتص ادي النظ ري في اإلس الم‪،‬‬
‫ونقد الماركسية‪ ،‬وهدف الحياة‪.‬‬
‫ثانيا ـ القيم األخالقية والواقع اإليراني‪:‬‬
‫من خالل مطالعة الواقع اإليراني سواء على المستويات االجتماعية ال تي يمثله ا‬
‫الش عب‪ ،‬أو على المس تويات السياس ية ال تي تمثله ا المؤسس ات الحاكم ة نج د أن للقيم‬
‫األخالقي ة محال كب يرا‪ ،‬وظه ورا واض حا‪ ،‬يتجلى من خالل مقارن ة الواق ع اإلي راني‬
‫بالكثير من المجتمعات اإلسالمية وغير اإلسالمية‪.‬‬
‫ولع ل أك بر بره ان على ذل ك ه و تل ك التض حيات العظيم ة‪ ،‬وذل ك الس خاء‬
‫الالمح دود ال ذي أب رزه الش عب اإلي راني وقيادت ه طيل ة أربع ة عق ود من الحص ار‬
‫والضغوط‪ ،‬ومع ذلك لم يستسلم ولم يخضع‪ ،‬بل بقي محافظا على قيمه ومبادئه وثورته‬
‫وموقفه من قضايا األمة‪ ،‬بل إنه ي زداد ك ل ي وم قرب ا من تحقي ق مبادئ ه الك برى ال تي‬
‫نهض من أجلها‪.‬‬
‫انطالق ا من ه ذا نح اول في ه ذا المبحث بي ان م دى تمس ك اإليران يين ش عبا‬
‫وحكوم ة ب القيم األخالقي ة‪ ،‬ودوافعهم ل ذلك‪ ،‬ليك ون ذل ك تجرب ة جدي دة ألولئ ك ال ذين‬
‫ينبهرون كل حين بالتجربة اليابانية أو األلمانية أو الماليزية أو التركية‪ ،‬لكنهم يحتقرون‬
‫التجربة اإليرانية‪ ،‬م ع كونه ا أك ثر التج ارب قرب ا من القيم ال تي ج اءت به ا الش ريعة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ القيم األخالقية والواقع االجتماعي‪:‬‬
‫مع أننا ال نقول بعصمة أي مجتمع من المجتمعات في أي عص ر من العص ور‪،‬‬
‫حتى العصور التي ازدهت باألنبياء واألولياء الكبار‪ ،‬لكننا مع ذلك ال نستطيع أن نضع‬
‫المجتمعات جميعا في محل واحد‪.‬‬
‫فالمجتمع ات ك األفراد منه ا م ا يغلب ص الحه فس اده‪ ،‬ومنه ا م ا يغلب فس اده‬
‫صالحه‪ ،‬ومنها ما يتمحض للفساد‪ ،‬فال تجد فيه شيئا من الصالح‪ ..‬وهكذا نجد منه ا م ا‬
‫يسير في طريق الصالح‪ ،‬ومنها ما يسير في طريق الفساد‪.‬‬

‫‪ )(1‬من مقدمة كتاب اإلنسان الكامل‪ ،‬مطهري‪ ،‬ص‪.5‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬

‫‪242‬‬
‫وعند تطبيق هذه المعايير على الواقع االجتماعي اإليراني نجد أنه قد حقق نس بة‬
‫كبيرة من الصالح بفعل المؤسس ات الكث يرة الديني ة والمدني ة‪ ،‬ال تي اعت برت اإلنس ان‬
‫مشروعها األكبر‪ ،‬فراحت تستثمر فيه‪ ،‬وتوفر له البيئة المناس بة للص الح‪ ،‬وتبع د عن ه‬
‫كل ما يمكن أن يؤدي إلى الفساد‪.‬‬
‫فمنذ قامت الثورة اإلسالمية اإليرانية اهتمت بالمجتمع‪ ،‬واعتبرته األساس ال ذي‬
‫يتم فيه نجاحها‪ ،‬واعتبرت القيم األخالقية هي المعيار األكبر لمدى نجاح الثورة‪ ،‬وله ذا‬
‫لم تبال بكل تلك الصيحات التي تتهمها بالتفري ط في حق وق اإلنس ان‪ ،‬أو كونه ا ليس ت‬
‫دولة ليبرالية تعطي الحرية لشعبها ليمارس م ا يش اء‪ ،‬ب ل إن قادته ا ك انوا يص رحون‬
‫بمواقفهم ضد الليبرالية الغربية‪ ،‬وأنهم مع الحرية المنضبطة بالضوابط الشرعية‪.‬‬
‫ولهذا لم تضع في ألقاب الدولة وصف [الديمقراطية]‪ ،‬ال لكونها ال تؤمن بحري ة‬
‫األفراد في اختيار ممثليهم‪ ،‬وإنما لكونها تؤمن بأن القيم األخالقية التي تمثله ا الش ريعة‬
‫هي التي تحكم‪ ،‬ال األهواء التي يمثلها أي كان‪.‬‬
‫وله ذا ن رى الخمي ني ينتق د الديمقراطي ة ال تي تنح رف بالش عوب‪ ،‬وي رى أنه ا‬
‫مؤامرة‪ ،‬يقول في ذلك‪ ( :‬الديمقراطية مندرجة في اإلسالم‪ ،‬والناس أحرار في االس الم‬
‫في بيان عقائدهم أو في أعم الهم م ا لم تكن ثم ة م ؤامرة في الموض وع‪ ،‬ولم يطرح وا‬
‫مسائل تجر الجيل اإليراني إلى االنحراف)(‪)1‬‬
‫ولهذا ينصح الشباب أال يقع وا في الم ؤامرات ال تي يحيكه ا لهم الغ رب‪ ،‬وال تي‬
‫يريد من خاللها استعبادهم عبر تلك الحريات المزيفة التي يتيحه ا لهم‪ ،‬يق ول في ذل ك‪:‬‬
‫ت وفتيانا ً أن ال يض حّوا باالس تقالل والحري ة والقيم اإلنس انية ح تى‬
‫(أدعو الشباب فتيا ٍ‬
‫ولو تطلب األم ر تحم ل المعان اة والص عاب؛ في مقاب ل ال ترف الزائ د ووس ائل الله و‬
‫والتحلل الخلقي‪ ،‬والتواج د في مراك ز البغ اء ال تي يش يعها الغ رب وعمالؤه من باع ة‬
‫الوطن في أوساطهم)(‪)2‬‬
‫وي رى أن ذل ك نوع ا من االس تعمار ال ذي يش يعه الغ رب تحت اس م الحري ة‬
‫والليبرالية‪ ،‬فيقول‪( :‬هبوا لبناء بلدكم‪ ،‬فاألمر يستحق بذل الجهد وتحم ل العن اء لعق د أو‬
‫أكثر لتحقيق االستقالل لبالدنا وتخليصها من أنياب هذه الذئاب المتوحشة)‬
‫ولهذا يرى أن على الدول ة أن تق ف في وج ه ك ل ش يء يمكن أن ي ؤثر في القيم‬
‫األخالقية التي ينبغي أن تحكم المجتمع‪ ،‬وأوله ا الفن ال ذي حظي بتوجيه ات كث يرة من‬
‫(إن الفن الوحيد الّذي يحظى بالقبول الق رآني‪ ،‬ه و‬‫طرف الخميني‪ ،‬ومن أقواله فيه(‪ّ :)3‬‬
‫ي األص يل‪ ،‬إس الم أئ ّم ة اله دى عليهم‬‫الفن الكاش ف عن حقيق ة اإلس الم المحم د ّ‬‫ذل ك ّ‬
‫السالم‪ ،‬إسالم الفقراء والبائسين‪ ،‬إسالم الحفاة‪ ،‬إسالم المض طهدين على ط ول الت اريخ‬
‫المرير والمخجل)‬

‫‪ )(1‬منهجية الثورة االسالمية‪ ،‬مقتطفات من أفكار وآراء اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪..359‬‬


‫‪ )(2‬من الوصية السياسية االلهية‪ ،‬بتاريخ ‪.1989/7/5‬‬
‫‪ )(3‬الكلمات القصار‪ ،‬اإلمام الخميني قدس سره‪ ،‬إعداد ونشر‪ :‬جمعية المعارف اإلسالمية الثقافية‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫الفن الّذي يك ون ص اعقة م د ّمرة للرأس ماليّين‬ ‫الفن الجميل النق ّي هو ّ‬ ‫(إن ّ‬‫ويقول‪ّ :‬‬
‫الفن المحطم إلس الم ال ترف والعبث‪ ،‬لإلس الم‬ ‫ّ‬ ‫والش يوعيّين مصّاص ي ال دماء‪ ،‬وه و ّ‬
‫االلتق اط ّي‪ ،‬إس الم المس اومة وال ذ ّل والتق اعس‪ ،‬إس الم الم ترفين غ ير المب الين ب آالم‬
‫أن يكون مبيداً لإلسالم األمريك ّي)‬ ‫غيرهم‪ ،‬وبكلمة واحدة ْ‬
‫ّ‬
‫(الفن في مدرس ة العش ق ه و ال ذي يش ّخص ويش ير إلى غ وامض‬ ‫ّ‬ ‫ويق ول‪:‬‬
‫ومبهمات المشاكل االجتماعيّة واالقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة)‬
‫الفن في العرفان اإلس الم ّي ه و ص ورة واض حة للعدال ة والكرام ة‬ ‫(إن ّ‬‫ويقول‪ّ :‬‬
‫والقسط‪ ،‬وهو تجسيد مأساة الجياع المغضوب عليهم من قبل القوّة والثروة)‬
‫الفن الّ ذي يُعلم طري ق‬
‫ّ‬ ‫ويقول‪( :‬من بين الفنون يجب االش تغال واالهتم ام فق ط ب ّ‬
‫مقارعة ومحاربة ناهبي العالم)‬
‫ّ‬
‫أن يتخل وا عن مس ؤوليّاتهم واألمان ة ال تي‬‫ّ‬ ‫ويق ول‪( :‬بالنس بة لفنّانين ا فال يُمكنهم ْ‬
‫أن ي تيقّنوا أن جم اهيرهم ق د‬ ‫حملوها على عواتقهم إاّل في حالة واحدة ال غير هي بع د ْ‬
‫وصلت إلى حياتهم الخالدة في ظ ّل عقيدتها فقط دون االعتماد على الغير)‬
‫(إن إخراج مسرحيّة تنسجم مع األخالق اإلنسانيّة اإلس الميّة تحت اج إلى‬ ‫ويقول‪ّ :‬‬
‫فإن ذلك يتطلّب منها وقتا ً كبيراً)‬ ‫أن تكون هكذا ّ‬‫جهد‪ ،‬وكذلك السينما‪ ،‬فلو أرادت ْ‬
‫وهكذا كان موقفه من كل ألوان التسلية التي تعبث باألخالق‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬أ ّما‬
‫فإن اإلس الم ي رفض ك ّل م ا ي ؤ ْدي باإلنس ان للش عور بالعبثيّ ة‬ ‫بشأن ما يُسمى بالتسلية ّ‬
‫والتغ رّب عن ال ذات‪ .‬و َمن ع اإلس الم الس كر والخم ر‪ ،‬ومن ع ك ذلك األفالم الّ تي تُبع د‬
‫اإلنسان عن األخالق السامية)‬
‫وله ذا ش رعت الق وانين في الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة على أس اس ه ذه‬
‫التعليمات وغيرها‪ ،‬والتي كان الخميني وكل قادة الث ورة حريص ين على بثه ا‪ ،‬وإقن اع‬
‫المجتمع بها‪ ،‬على الرغم من تلك الحملة الكبيرة التي يقودها اإلعالم المغ رض‪ ،‬وال تي‬
‫تتهم إيران بمصادره حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫انطالقا من هذا نح اول في ه ذا المطلب أن ن ذكر دور المؤسس ات اإليراني ة في‬
‫نشر القيم األخالقية في الواقع االجتماعي‪ ،‬لتحقيق أكبر نسبة من الص الح في ه إم ا عن‬
‫طريق اإلقناع والهداية‪ ،‬أو عن طريق الزجر والحزم‪ ،‬وقد رأينا أن ه يمكن اختص ارها‬
‫في نوعين من المؤسسات‪ :‬المؤسسات الدينية‪ ،‬والمؤسسات المدني ة‪ ،‬وإن ك ان الجمي ع‬
‫في إيران خاضعا للمؤسسة الدينية‪ ،‬تحت وصاية والية الفقيه‪.‬‬
‫أ ـ المؤسسات الدينية ودورها في نشر القيم األخالقية‪:‬‬
‫للمؤسسات الدينية سواء كانت مساجد أو حسينيات أو حوزات علمي ة أو غيره ا‬
‫تأثيرها الكبير في المجتمع اإليراني‪ ،‬فمراج ع وعلم اء ووع اظ وق راء إي ران يحظ ون‬
‫بمكانة خاصة في المجتمع‪ ،‬قد ال نجد نظيرا لها في غيرها من المجتمع ات اإلس المية‪،‬‬
‫ومع أن ذلك قد يحمل بعض السلبيات‪ ،‬لكنه في نفس ال وقت ي تيح للمؤسس ة الديني ة من‬
‫األدوار ما يمكنها أن تؤدي من خالله واجباتها اإلصالحية‪.‬‬
‫ولهذا نرى كل ق ادة الث ورة اإلس المية يتوجه ون بال دعوة له ذه المؤسس ات ألن‬

‫‪244‬‬
‫تؤدي أدوارها‪ ،‬وأال تقف موقفا سلبيا من كل من يحاول تمزي ق المجتم ع أو الس ير ب ه‬
‫نحو طريق االنحراف‪ ،‬وأول ذلك إصالح تلك المؤسسات‪ ،‬وإص الح رجاله ا‪ ،‬ذل ك أن‬
‫فاقد الشيء ال يعطيه‪.‬‬
‫ولهذا نرى الخميني يخاطب طلبة الح وزة العلمي ة‪ ،‬ب أال يكتف وا بالمع ارف ال تي‬
‫تعلموها‪ ،‬وإنما عليهم أن يض موا إليه ا القيم األخالقي ة‪ ،‬فيق ول‪( :‬أنتم الش باب تس يرون‬
‫نحو الهرم والشيخوخة‪ ،‬ونحن الشيوخ نقترب من الموت‪ ،‬ف أنتم على علم بم دى التق دم‬
‫العلمي الذي أحرزتموه وحجم المعارف التي اكتسبتموها في هذا الع ام ال دراس‪ ،‬ولكن‬
‫م ا ال ذي فعلتم وه بالنس بة لته ذيب األخالق وتزكي ة النفس وتحص يل اآلداب الش رعية‬
‫والمعارف اإللهية؟ أية خطوة إيجابية خطوتم؟ وهل كان لديكم برنامج لذلك؟)(‪)1‬‬
‫وهو يدعو إلى إصالح الحوزة العلمية‪ ،‬ح تى ت ؤدي دوره ا في إخ راج العلم اء‬
‫الصالحين‪ ،‬ال العلم اء ال ذين يحفظ ون العلم‪ ،‬وي تركون العم ل‪ ،‬فيق ول‪( :‬إن الح وزات‬
‫العلمية بحاجة إلى تعليم وتعلم المسائل األخالقية والعل وم المعنوي ة جنب ا ً إلى جنب م ع‬
‫تدريس الموضوعات العلمية‪ ،‬فاإلرشادات األخالقية وتربية القوى الروحية واإليماني ة‬
‫ومج الس الوع ظ واإلرش اد أم ر ض روري‪ ،‬ينبغي أن تك ون ال برامج األخالقي ة‬
‫والتربوي ة‪ ،‬ودروس التربي ة والته ذيب‪ ،‬وتعليم المع ارف اإللهي ة ال تي مثلت اله دف‬
‫األساس من بعثة األنبياء ـ عليهم السالم ـ رائجة وشائعة في الحوزات العلمية)(‪)2‬‬
‫ويق ول‪( :‬من المفي د أن يهتم الفقه اء العظ ام والمدرس ون األعالم ممن هم مح ط‬
‫اهتمام الجامعة ـ الحوزة ـ العلمية‪ ،‬بتربية األفراد وته ذيبهم خالل تدريس هم وأبح اثهم‪،‬‬
‫وأن يركزوا أكثر على القضايا المعنوية واألخالقية‪ ،‬كما ينبغي لطلبة العلوم الديني ة أن‬
‫ال يتوانوا في سبيل اكتساب الملك ات الفاض لة وته ذيب النفس‪ ،‬وأن يهتم وا بالواجب ات‬
‫المهمة والمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتقهم) (‪)3‬‬
‫ويقول ـ مبينا األدوار العظيمة التي تنتظ رهم ـ‪( :‬أنتم ال ذين تدرس ون الي وم في‬
‫هذه المراكز العلمية‪ ،‬وتتطلعون ألن تتسلموا في الغد زمام قي ادة المجتم ع وهدايت ه؛ ال‬
‫تتص وروا أن ك ل واجبكم أن تحفظ وا حفن ة من المص طلحات‪ ،‬ب ل تق ع على ع اتقكم‬
‫مسؤوليات أخرى أيضاً‪ .‬ينبغي لكم أن تبنوا أنفس كم وتربوه ا في ه ذه الح وزات بحيث‬
‫إذا م ا ذهبتم إلى مدين ة أو قري ة وفقتم إلى هداي ة أهاليه ا وته ذيبهم‪ .‬يؤم ل منكم عن د‬
‫مغادرتكم الحوزات العلمية أن تكونوا ق د ه ذبتم أنفس كم وبنيتموه ا بنح و تتمكن ون من‬
‫بن اء اإلنس ان وتربيت ه وفق ا ً ألحك ام اإلس الم وتعاليم ه وقيم ه األخالقي ة‪ ،‬ولكن إذا م ا‬
‫عج زتم ـ ال س مح هللا ـ عن إص الح أنفس كم خالل مراح ل الدراس ة‪ ،‬ولم تكتس بوا‬
‫الكم االت المعنوي ة واألخالقي ة‪ ،‬ف إنكم أينم ا ذهبتم ستض لون الن اس ـ والعي اذ باهلل ـ‬

‫‪ )(1‬الجهاد األكبر أو جهاد النفس‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪.13‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪245‬‬
‫الدين) (‪)1‬‬ ‫وتسيئون إلى اإلسالم وإلى علماء‬
‫بل إنه يعتبر كل طالب علم لم يهذب نفسه حتى تتناسب م ع المس ؤولية العظيم ة‬
‫التي تناط به مشوها لإلسالم‪ ،‬وعنص را فاس دا في المجتم ع‪ ،‬يق ول لهم‪( :‬إذا لم تعمل وا‬
‫بمسؤولياتكم في الحوزات العلمية ولم تفكروا بتهذيب أنفسكم‪ ،‬واقتصر همكم على تعلم‬
‫عدد من المصطلحات وبعض المسائل الفقهية واألصولية‪ ،‬فإنكم ستكونون في المستقبل‬
‫عناصر مضرة ـ ال سمح هللا ـ لإلسالم والمجتمع اإلس المي‪ ،‬ومن الممكن أن تتس ببوا ـ‬
‫والعياذ باهلل ـ في إضالل الناس وانحرافهم‪ .‬فإذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوككم‬
‫وسوء عملكم‪ ،‬فإنكم ترتكبون بذلك أعظم الكبائر‪ ،‬ومن الصعب أن تقبل توبتكم‪ .‬كما لو‬
‫أن شخصا ً اهتدى بكم فإن ذلك خير لكم مما طلعت عليه الشمس‪ ،‬كما ورد في الح ديث‬
‫الشريف) (‪)2‬‬
‫ولذلك يرى أن الواجب في حقهم هو التورع حتى عن المباحات ال تي ق د تس يء‬
‫إليهم‪ ،‬ألن المجتم ع ينظ ر إلى الع الم باعتب اره نموذج ا لالقت داء ب ه‪ ،‬فيق ول‪( :‬إن‬
‫مسؤوليتكم جسيمة للغاية‪ ..‬وواجباتكم غير واجبات عامة الناس‪ .‬فكم من األمور مباح ة‬
‫لعامة الناس إال أنها ال تجوز لكم‪ ،‬وربم ا تك ون محرم ة عليكم‪ .‬فالن اس ال تتوق ع منكم‬
‫أداء الكثير من األمور المباحة‪ ،‬فكي ف إذا م ا ص درت عنكم ـ ال س مح هللا ـ األعم ال‬
‫القبيحة غير المشروعة‪ ،‬فإنها س تعطي ص ورة س يئة عن اإلس الم وفئ ة علم اء ال دين‪.‬‬
‫وهنا يكمن الداء‪ .‬فإذا ش اهد الن اس عمالً أو س لوكا ً من أح دكم خالف ا ً لم ا يتوق ع منكم‪،‬‬
‫ف إنهم س ينحرفون عن ال دين ويبتع دون عن علم اء ال دين‪ ،‬وليس عن ذل ك الش خص‪.‬‬
‫وليتهم ابتعدوا عن هذا الشخص وأساءوا الظن به فحس ب‪ ..‬إذا م ا رأى الن اس تص رفا ً‬
‫منحرفا ً أو سلوكا ً ال يليق من أحد المعممين‪ ،‬فإنهم ال ينظرون إلى ذلك بأن ه من الممكن‬
‫أن يوجد بين المعممين أش خاص غ ير ص الحين‪ ،‬مثلم ا يوج د بين الكس بة والم وظفين‬
‫أفراد منحرفون وفاس دون‪ .‬ل ذا ف إذا م ا ارتكب بق ال مخالف ة‪ ،‬ف إنهم يقول ون إن البق ال‬
‫الفالني منحرف‪ ..‬ولكن إذا ما ق ام أح د المعممين بعم ل ال يلي ق‪ ،‬ف إنهم ال يقول ون‪ :‬إن‬
‫المعمم الفالني منحرف‪ ،‬بل يقولون إن المعممين سيئون) (‪)3‬‬
‫ويذكر تأثير العلماء الصالحين في المجتمع ات‪ ،‬فيق ول متح دثا عن نفس ه‪( :‬كنت‬
‫أرى في بعض الم دن ال تي كنت أذهب إليه ا في فص ل الص يف‪ ،‬أه الي تل ك الم دن‬
‫ملتزمين بآداب الشرع إلى حد كبير‪ ،‬والسبب في ذلك كما اتضح لي‪ ،‬هو أنه كان لديهم‬
‫عالم صالح ومتق‪ .‬فإذا كان العالم ال ورع والص الح يعيش في مجتم ع أو مدين ة أو إقليم‬
‫ما‪ ،‬فإن وج وده يبعث على ته ذيب أه الي تل ك المدين ة وه دايتهم‪ ،‬وإن لم يكن يم ارس‬
‫الوعظ واإلرشاد لفظاً‪ ..‬لقد رأينا أشخاصا ً كان وجودهم يبعث على الموعظة والع برة‪..‬‬
‫إن مج رد النظ ر إليهم ك ان يبعث على االتع اظ واالعتب ار‪ .‬وأن ا أعلم اآلن إجم االً أن‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.15‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪246‬‬
‫مناطق طه ران تختل ف عن بعض ها‪ .‬فالمنطق ة ال تي يقطنه ا ع الم ورع ومت ق‪ ،‬يك ون‬
‫أهاليها مؤمنين صالحين‪ .‬وفي محلة أخرى حيث أصبح أحد المنحرفين الفاسدين معمما ً‬
‫وأصبح إماما ً للجماعة وفتح دكانا ً له‪ ،‬تراه يخدع الناس ويلوثهم ويحرفهم)‬
‫وفي مقابل هؤالء الصالحين يذكر نماذج عن علماء الس وء‪ ،‬وكي ف س اهموا في‬
‫اإلساءة إلى المجتمعات‪ ،‬فيقول‪( :‬إن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف‬
‫كث يرين وإض اللهم‪ ،‬ك انوا من أه ل العلم‪ .‬فبعض ه ؤالء درس وا في المراك ز العلمي ة‬
‫الدينية ومارسوا الرياضات النفسية‪ ،‬حتى إن مؤسس إحدى الفرق الضالة ق د درس في‬
‫حوزاتنا العلمية هذه‪ ،‬ولكن نظراً ألن دراسته لم تكن مقترنة بته ذيب النفس وتزكيته ا‪،‬‬
‫لم يخط على الصراط المستقيم‪ ،‬ولم يتمكن من إبعاد نفسه عن الرذائ ل‪ ،‬فك انت عاقبت ه‬
‫كل تلك الفضائح‪ .‬فإذا لم يتخلص اإلنسان من الخب ائث‪ ،‬ف إن دراس ته وتعلم ه ال تجدي ه‬
‫نفعا ً بل تلحق به أضراراً أيضاً‪ ،‬فالعلم عن دما يك ون في أرض ية غ ير ص الحة‪ ،‬س وف‬
‫ينبت نبتا ً خبيثا ً ويصبح شجرة خبيثة‪ .‬وكلما تكدست هذه المفاهيم في القلب المظلم غ ير‬
‫المهذب‪ ،‬ازدادت الحجب أكثر فأكثر‪ ..‬ومن هنا كان شر العالم الفاس د بالنس بة لإلس الم‬
‫أخطر وأعظم من كل الشرور) (‪)1‬‬
‫هذه نم اذج عن دع وة الخمي ني إلص الح المؤسس ة الديني ة‪ ،‬وال تي يق وم عليه ا‬
‫العبء األكبر في اإلصالح االجتماعي‪ ،‬وله ذا أولى النظ ام اإلي راني االهتم ام األك بر‬
‫بتوجيه هذه المؤسسة وإصالحها ووضع البرامج الكفيلة لذلك‪ ،‬ومن بينها إضافة المواد‬
‫المرتبطة بالعرفان العملي واألخالق لدراس ة الطلب ة‪ ،‬باإلض افة للرقاب ة المش ددة له ذه‬
‫المؤسسة حتى ال يتخرج منها إال من هو أهل لذلك‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك‪ ،‬ق ام النظ ام اإلي راني بإص الحات كب يرة في التعام ل م ع‬
‫األطروحات الدينية‪ ،‬وخاصة تلك المرتبط ة بأه ل ال بيت‪ ،‬حيث اس تعمل ك ل الوس ائل‬
‫لتصحيح تلك الص ور الخاطئ ة عنهم‪ ،‬وعن العالق ة بهم‪ ،‬وكونه ا كافي ة في النج اة من‬
‫دون عمل وال تقوى وال صالح‪.‬‬
‫ولذلك استعمل كل الوسائل إلشاعة القيم المرتبطة بهم‪ ،‬واعتب ار االنتس اب إليهم‬
‫وحده ال يكفي‪ ،‬بل المنتسب الصادق لهم هو الذي يسعى للتحقق بالقيم التي دعوا إليه ا‪،‬‬
‫وطبقوها في حي اتهم‪ ،‬يق ول الخمي ني في ذل ك‪( :‬يت وهم بعض الن اس أن مج رد ادع اء‬
‫التشيع وحب التشيع وحب أهل بيت الطهارة والعصمة يس وغ ل ه والعي اذ باهلل اق تراف‬
‫كل محرم من المحذورات الشرعية ويرف ع عن ه قلم التكلي ف‪ ،‬إن ه ذا الس يء الح ظ لم‬
‫ينتبه بأن الشيطان قد ألبس عليه األمر‪ ،‬فيخشى عليه في نهاية عمره أن تسلب منه ه ذه‬
‫المحبة الجوفاء التي ال تجدي وال تنفع‪ ،‬ويحشر يوم القيامة صفر اليدين‪ ،‬وفي ص فوف‬
‫نواصب أهل البيت‪ ..‬إن ادعاء المحبة من دون دليل وبين ة ال يك ون مقب والً إذ ال يمكن‬
‫أن أكون صديقك وأضمر لك الحب واإلخالص‪ ،‬ثم أقوم بكل ما ه و من اقض لرغبات ك‬
‫وأه دافك‪ ..‬إن ش جرة المحب ة تنتج وتثم ر في اإلنس ان المحب والعم ل حس ب درج ة‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.19‬‬

‫‪247‬‬
‫المحبة ومستواها؛ فإذا لم تحمل تلك الشجرة ه ذه الثم رة فالب د من معرف ة أنه ا لم تكن‬
‫محبة حقيقية وإنما هي محبة وهمية‪ ..‬فمحب أهل البيت هو الذي يش اركهم في أه دافهم‬
‫ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم‪ ..‬وإن المؤمن إذا لم يعمل بمتطلب ات اإليم ان وم ا‬
‫تستدعيه محبة هللا وأوليائه لما ك ان مؤمن ا ً ومحب اً‪ ،‬وإن ه ذا اإليم ان الش كلي والمحب ة‬
‫الجوفاء من دون جوهر ومضمون ينتفي ويزول أمام حوداث بسيطة وضغوط يس يرة)‬
‫(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا أص درت المؤسس ات الرس مية البيان ات والق وانين الكث يرة ال تي‬
‫تنظم الطقوس التي كانت تمارس في البيئة الشيعية‪ ،‬والتي أس اء بعض ها أله ل ال بيت‪،‬‬
‫ووض ع ب دلها الكث ير من المراس م الجدي دة ال تي تمث ل القيم األخالقي ة أله ل ال بيت‪،‬‬
‫وتنشرها‪.‬‬
‫ومن تلك البيانات والفتاوى تلك األوامر المشددة بتحريم التطبير ومنعه والعقوبة‬
‫عليه‪ ،‬ومن تعليمات الخامنئي في هذا المجال‪ ،‬قوله‪( :‬يؤسفني أن أقول إن أموراً ج رت‬
‫خالل األعوام الماضية‪ ،‬وأعتقد أن أيادي تقف وراءها‪ ،‬أموراً ج رت أث ارت الش بهات‬
‫لدى ك ل من رآه ا‪ ،‬من ذ الق دم ك ان متعارف ا ً أن يض رب الن اس أي ام الع زاء أجس ادهم‬
‫باألقفال ثم تحدث العلماء عن ذلك فزالت تلك العادة‪ ،‬واليوم ظهرت هذه العادة مج دداً‪،‬‬
‫ما هذا العمل الخاطئ ال ذي يق وم ب ه البعض (التطب ير) أيض ا ً من جمل ة ه ذه األم ور‪،‬‬
‫ويعتبر عمالً غير مشروع)(‪)2‬‬
‫ويخاطب أولئك الذين يدافعون عن مثل هذه السلوكات المبتدعة المشينة؛ فيق ول‪:‬‬
‫(اعلم أن البعض سيقول لكم ليس من المناسب أن يتحدث فالن عن التطبير‪ ،‬وم ا دخل ه‬
‫في األمر‪ ،‬ك ان حري ا ً بهم أن ي دعهم يض ربون ال رؤوس بالقام ات (الس يوف)‪ ،‬كال ال‬
‫يصح ذلك‪ ،‬لو كانت مسألة (التطبير) ال تي ب دأوا يروج ون له ا في الس نوات الماض ية‬
‫سائدة أيام حياة إمامنا الراحل رضوان هللا عليه لوقف اإلمام بوجهها‪ ،‬إنه عم ل خ اطئ‬
‫البعض يمسكون بالقامات ويضربون بها رؤوسهم ليغرق وا ب دمائهم‪ ،‬عالم ذل ك؟ وه ل‬
‫يعتبر ذلك عزاء؟‪ ..‬هل سمعتم أن أح داً راح يض رب رأس ه بالس يف لفق ده عزي زاً من‬
‫أعزته؟ هل يعتبر ذلك عزاء؟ كال‪ ،‬إن ه وهم‪ ،‬وال يمت ذل ك إلى ال دين بص لة‪ ،‬وم ا من‬
‫شك بأن هللا ال يرضى ذلك)(‪)3‬‬
‫ثم أصدر أوامر باعتب اره ال ولي الفقي ه‪ ،‬بتح ريم ذل ك تحريم ا ش ديدا‪ ،‬ب ل منع ه‬
‫والعقوبة عليه؛ فقال‪( :‬كلما فك رت في األم ر رأيت أن ني ال يمكن ني الس كوت عن ه ذا‬
‫العمل الذي هو بالتأكيد عمل غير مشروع وبدعة‪ ،‬فليكفوا عن هذا العم ل‪ ،‬ف إنني غ ير‬
‫راض عنه‪ ،‬إنني غ ير راض من ك ل قل بي عن ك ل ش خص يري د التظ اهر ب التطبير‪،‬‬
‫أحيانا ً كان يجتمع عدد من األشخاص في ركن نا ٍء ويقومون بهذا العمل بعيداً عن أعين‬

‫‪ )(1‬األربعون حديثاً‪ ،‬ص‪.632‬‬


‫‪ )(2‬في مدرسة عاشوراء‪ ،‬علي الخامنئي‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫الن اس وعن التظ اهر ب ذلك أم امهم‪ ،‬ولم يكن أح د يت دخل في ش ؤونهم مش روعا ً ك ان‬
‫عملهم ذاك أم غير مشروع‪ ،‬فقد كان يتم ضمن نطاق محدود‪ ،‬ولكن إذا تقرر أن يخرج‬
‫عدة آالف من الناس فجأة في أحد شوارع طهران أو قم أو مدن أذربيج ان أو خراس ان‬
‫ويضربوا رؤوسهم بالسيوف‪ ،‬فإننا لن نقبل بذلك‪ ،‬وهذا أم ر غ ير مش روع لن يرض ي‬
‫اإلم ام الحس ين‪ ،‬ال أدري من أين ي أتي ه ذه األم ور لتنتش ر في مجتمعاتن ا اإلس المية‬
‫ومجتمعنا الثوري؟!)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا وضعت العقوبات التي تحمي قيم أهل ال بيت من أن تص بح لعب ة‬
‫بأيدي المش وهين له ا؛ فان دثرت ه ذه الع ادة الس يئة في إي ران‪ ،‬كم ا ان دثر غيره ا من‬
‫العادات‪ ،‬وكان األحرى باإلسالميين أن يستقبلوا أمثال ه ذه التص حيحات والتوجيه ات‬
‫بفرح وسرور‪ ،‬ويشعرا أن التشيع ص ار أق رب إلى التس نن من أي وقت مض ى‪ ،‬لكنهم‬
‫لألسف ال ينظرون إلى كل تلك التصحيحات‪ ،‬ويكتفون أثناء نقدهم إليران وللتشيع بنقل‬
‫صور المطبرين مع أن كل المراج ع المع ترف بهم ينكرون ه‪ ،‬ويرفض ونه‪ ،‬ويعتبرون ه‬
‫بدعة‪ ،‬بل إن القوانين اإليرانية تجرمه‪.‬‬
‫وبدال لتل ك الطق وس المس يئة يق وم النظ ام باس تعمال ك ل م ا من ش أنه أن يعي د‬
‫العالقة بأهل البيت إلى إطارها الصحيح‪ ،‬ولهذا نراهم يشجعون على األدعية ومج الس‬
‫الوعظ التي تنشر قيم أهل البيت‪.‬‬
‫وبالمناسبة‪ ،‬فإن هناك تراثا أخالقيا كبيرا موجود في المصادر الحديثية الشيعية‪،‬‬
‫وه و كفي ل وح ده بنش ر القيم األخالقي ة وتعميمه ا‪ ،‬والجمهوري ة اإلس المية ـ ع بر‬
‫مؤسساتها المختلفة الدينية واإلعالمية والثقافية ـ تس عى لنش ره‪ ،‬لتص حيح العالق ة من‬
‫خالل ه بأه ل ال بيت‪ ،‬يق ول الخمي ني في ال دعوة إلى دراس ته واالس تنارة ب ه‪( :‬ي ا أيه ا‬
‫العزيز‪ :‬إن كنت راغبا ً في دراسة األخبار واألحاديث‪ ،‬فراجع الكتب الش ريفة لألخب ار‬
‫الس الم‬ ‫وخاصة كتاب (أصول الك افي) ح تى تع رف م دى اهتم ام المعص ومين عليهم ّ‬
‫بالخلق الكريم والمبادئ الفاضلة‪ ،‬وإن كنت من التائقين للبي ان العلمي وكلم ات العلم اء‬
‫فراجع الكتب األخالقية‪ ،‬مثل كتاب(طه ارة األع راق) البن ُم ْس َك َويْه‪ ،‬وكتب المرح وم‬
‫فيض الكاشاني‪ ،‬وكتب المجلسي‪ ،‬وكتب النراقيين(‪ )2‬حتى تستوعب آثار ونتائج مكارم‬
‫األخالق‪ .‬وإن وج دت نفس ك في غنًى عن اقتن اء الفض يلة‪ ،‬أو ال تلمس ض رورة في‬
‫االبتعاد عن الخلق السيئ‪ ،‬فحاول أن تعالج جهلك الذي هو رأس األمراض)‬
‫وهو يورد في مواعظه ودروسه الكث ير من تل ك الرواي ات‪ ،‬ومن خالله ا يعم ق‬
‫المعاني األخالقية في المجتمع‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك عرضه لما ورد في الرواي ة عن‬
‫اإلمام جعفر الص ادق‪ ،‬وال تي يق ول فيه ا‪( :‬الَ يَ ُك ونُ ال ُم ْؤ ِمنُ ُم ْؤ ِمن ا ً َ َحتّى يَ ُك ونَ خَائِف ا ً‬
‫كونَ عَا ِمالً لِما يَخَافُ ويَرْ جُو)(‪)3‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اجيا ً َحتّى يَ ُ‬
‫اجيا ً َوالَ يَ ُكونَ خَائِفا ً َر ِ‬
‫َر ِ‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬يقصد به مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي صاحب كتاب [جامع السعادات] وولده أحم د بن مه دي ص احب‬
‫كتاب [معراج السعادة]‪.‬‬
‫‪ )(3‬أصول الكافي‪/2 ،‬ح ‪ 5‬وح ‪.11‬‬

‫‪249‬‬
‫(إن َمثَ َل من ال يعمل وينتظر رحمة رب ه ويرج و رض وانه‬ ‫ثم علق عليها بقوله‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫َمثَ ُل من يرجو المسبِّب دون أن ي ُِع َّد األسباب‪َ ،‬و َمثَ ُل الفالح الذي ينتظر ال زرع من دون‬
‫أن يب ذر األرض أو يهتم به ا وبإروائه ا أو يقض ي على موان ع ال زرع‪ .‬إن مث ل ه ذا‬
‫االنتظار ال يسمى بالرجاء‪ ،‬بل ه و بل ه وحماق ة‪ ،‬وإن َمثَ ُل من لم يُص لح أخالق ه أو لم‬
‫يبتع د عن المعاض ي فينهض بأعم ال راجي ا ً تزكي ة نفس ه‪َ ،‬مثَ ُل من ي ودع الب ذر في‬
‫أراض ي س بخة‪ ،‬ومن الواض ح أن ه ذا ال زرع ال يثم ر النتيج ة المتوخ اة‪ ،‬فالرج اء‬
‫المستحسن والمحبوب هو تهيئة كافة األس باب ال تي يمتلكه ا اإلنس ان كم ا أم ر هللا به ا‬
‫واستغاللها حسب القدرة التي زوده بها الحق المتعال بعنايته الكاملة‪ ،‬وحس ب هدايت ه ـ‬
‫عز وجل ـ إي اه إلى ط رق الص الح والفس اد‪ ،‬ثم ينتظ ر ويرج و الح ق المتع ال أن يت ّم‬
‫عنايته السابقة تجاه األسباب التي وفّرها من قبل‪ ،‬ويحقق األس باب ال تي ال ت دخل تحت‬
‫إرادته واختياره من بعد‪ ،‬ويزيل الموان ع والمفاس د‪ ،‬ف إذا نظ ف العب د قلب ه من أش واك‬
‫األخالق الفاسدة وأحجار الموبقات وسباختها‪ ،‬وبذر فيها بذور األعم ال‪ ،‬وس قاها بم اء‬
‫العلم الصافي النافع واإليمان الخالص‪ ،‬وخلص ها من المفس دات والموان ع مث ل العجب‬
‫والرياء وأمثالها التي تعد بمثابة األعشاب الضارة العائقة لنم و ال زرع‪ ،‬ثم انتظ ر رب ه‬
‫المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق‪ ،‬ويجع ل عاقب ة أم ره إلى خ ير‪ ،‬ك ان ه ذا الرج اء‬
‫مستحسناً)(‪)4‬‬
‫ومن الوسائل التي استعملتها المؤسسة الدينية باإلضافة إلى نشرها ألحاديث أهل‬
‫ال بيت والقيم المرتبط ة بهم‪ ،‬األدعي ة الكث يرة ال واردة عنهم‪ ،‬وال تي يح وي أكثره ا‬
‫مضامين أخالقية في غاية الجودة‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك دع اء مك ارم األخالق ال ذي يبث ك ل حين‪ ،‬وفي ك ل‬
‫القنوات اإليرانية‪ ،‬وهو وحدة مدرسة أخالقية متكامل ة‪ ،‬حيث يق ول في ه اإلم ام الس جاد‬
‫في بعض مقاطع ه‪( :‬للهم ص ل على محم د وآل ه‪ ،‬وس ددني ألن أع ارض من غش ني‬
‫بالنصح‪ ،‬وأج زي من هج رني ب البر‪ ،‬وأثيب من حرم ني بالب ذل‪ ،‬وأك افي من قطع ني‬
‫بالص لة‪ ،‬وأخ الف من اغت ابني إلى حس ن ال ذكر‪ ،‬وأن أش كر الحس نة‪ ،‬وأغض ي عن‬
‫السيئة‪ ..‬وحلني بحلية الصالحين‪ ،‬وألبسني زينة المتقين‪ ،‬في بسط العدل‪ ،‬وكظم الغي ظ‪،‬‬
‫وإطفاء النائرة‪ ،‬وضم أهل الفرقة‪ ،‬وإصالح ذات البين‪ ،‬وإفشاء العارفة‪ ،‬وستر العائبة‪،‬‬
‫ولين العريك ة‪ ،‬وخفض الجن اح‪ ،‬وحس ن الس يرة‪ ،‬وس كون ال ريح‪ ،‬وطيب المخالق ة‪،‬‬
‫والسبق إلى الفضيلة‪ ،‬وإيثار التفضل‪ ،‬وترك التعيير‪ ،‬واإلفض ال على غ ير المس تحق‪،‬‬
‫والقول بالحق وإن ع ز‪ ،‬واس تقالل الخ ير وإن ك ثر من ق ولي وفعلي‪ ،‬واس تكثار الش ر‬
‫وإن قل من قولي وفعلي‪ ،‬وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة‪ ،‬ولزوم الجماع ة‪ ،‬ورفض أه ل‬
‫البدع‪ ،‬ومستعمل الرأي المخترع)‬
‫وهك ذا نج د في ك ل األدعي ة مض امين أخالقي ة عالي ة‪ ،‬تق وم ب أداء دوره ا‬
‫اإلصالحي الذي ال يمكن أن تعوضه المواعظ وال الدروس وال المحاضرات‪.‬‬

‫‪ )(4‬األربعون حديثا‪ ،‬ص‪.263‬‬

‫‪250‬‬
‫ب ـ المؤسسات المدنية ودورها في نشر القيم األخالقية‪:‬‬
‫كم ا أن في إي ران مؤسس ات ديني ة كب يرة‪ ،‬له ا حض ورها الق وي في المجتم ع‬
‫والسياسة؛ فإن لها كذلك مؤسسات مدنية‪ ،‬مثل سائر ال دول‪ ،‬لكن الف رق بينهم ا ه و أن‬
‫هذه المؤسسات ـ وإن كان المسؤولون الكبار فيها منتخبين من طرف الشعب ـ إال أنهم‬
‫محكوم ون ب القوانين الثابت ة ال تي تجعلهم يتحرك ون في إط ار الش ريعة وقيمه ا‪ ،‬ال‬
‫يتجاوزونها‪ ،‬وهذا ما تقتضيه والية الفقيه‪ ،‬كما سنرى ذل ك بتفص يل في الج زء الث اني‬
‫من هذه السلسلة‪.‬‬
‫وبناء على ذلك؛ فإن وزارة كوزارة الثقافة مثال‪ ،‬ليس ت مهمته ا في الجمهوري ة‬
‫اإلسالمية اإليرانية رعاية اإلنتاج الثقافي‪ ،‬والتشجيع علي ه‪ ،‬وتس لية الش عب من خالل ه‬
‫فقط‪ ،‬وإنما مهمتها األكبر هي إرشاد الشعب إلى القيم النبيلة‪ ،‬وحمايته من كل م ا يمكن‬
‫أن يسيء إليه‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ن رى أنهم يس مونها [وزارة الثقاف ة واإلرش اد اإلس المي]‪ ،‬وهي‬
‫تحظى بميزاني ة كب يرة‪ ،‬لتؤهله ا ألداء دوره ا في نش ر القيم الروحي ة والخلقي ة في‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫وقد جاء في المنش ور الخ اص بمب ادئ السياس ة الثقافي ة للجمهوري ة اإلس المية‬
‫اإليراني ة‪ ،‬وال ذي ص ادق علي ه المجلس األعلى للث ورة الثقافي ة (‪ )1‬م ا يلي‪( :‬السياس ة‬
‫الثقافية‪ ،‬إنما هي سياسة الثورة اإلسالمية‪ ،‬والثورة اإلسالمية تهدف لكي تك ون الثقاف ة‬
‫اإلسالمية مبدأ وأساسا ً في جميع الشؤون الفردية واالجتماعية للبالد‪ .‬وله ذا يجب أن ال‬
‫تــعبّئ على أحس ن وج ه‬ ‫يغيب عن األذهان أن الثورة اإلسالمية ثورة ثقافية‪ .‬والب ّد أن ُ‬
‫أغلب اإلمكان ات والق درات والطاق ات والجه ود – إن لم نقل كلها – من أجل تحقيق‬
‫التكامل والنضج وص نع حركة ثقافية في جمي ع الش ؤون الفردي ة واالجتماعي ة‪..‬‬
‫والسياسة الثقافية للجمهورية اإلسالمية مستلهمة من الرؤية اإلسالمية للكون واإلنس ان‬
‫وقائمة على أسس ومبادئ من قبيل‪ :‬هيمنة النظرة التوحيدية على جميع ش ؤون الحي اة‬
‫الفردية واالجتماعية‪ ،‬والدور األساس والتأثير الكبير لالعتقاد بأص ول ال دين وفروع ه‬
‫(ك الوحي‪ ،‬النب وة‪ ،‬اإلمام ة‪ ،‬العدال ة‪ ،‬والمع اد‪ ،‬والت بري والت ولي) على المجتم ع‬
‫اإلس المي‪ ،‬وخل ود اإلنس ان وكرامت ه وش رفه ال ذاتي بص فته خليف ة هللا في األرض‪،‬‬
‫ومختاراً ذا إرادة‪ ،‬ويمتلك قوة التعقل واالنتخاب خالل مسيرة تقري ر المص ير‪ ،‬وك ذلك‬
‫دور العقل والتجربة في استمرار حركته التكاملية)‬
‫ومن المبادئ التي جاء فيها مما له عالقة بنشر القيم الخلقية‪ ،‬وارتباطها باإليمان‬
‫والتوحيد‪( :‬قدرة اإليمان على خلق القيم المعنوي ة والفض ائل األخالقي ة‪ ،‬وتك وين روح‬
‫االستقالل والحرية واإلباء وتوثيق العالق ات اإلنس انية في المجتم ع‪ ..‬الت أثير ال تربوي‬
‫لدى اإلنسان وفاعلية استعدداته وطاقاته البنّاءة باتجاه بناء مجتمع موحد‪ ،‬مناشد للعدل‪،‬‬
‫مجد في طلب العلم‪ ،‬مؤمن بالجهاد واالجتهاد‪ ،‬موصوف باالعتدال والواقعية‪ ..‬وتسوده‬
‫روح النق د والتحقي ق العلمي‪ ،‬ويس تفيد من الع بر والتج ارب التاريخي ة‪ ..‬أص الة القيم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مبادئ السياسة الثقافية للجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬موقع وزارة الثقافة واإلرشاد اإلسالمي ‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫المعنوية والفضائل األخالقية في المجتمع اإلسالمي ودور التقوى والعلم واالجته اد في‬
‫تعيين درجة الكرامة والفضيلة لدى الناس‪ ..‬تأثر اإلنس ان بالعوام ل اإليجابي ة والس لبية‬
‫السائدة في البيئة االجتماعية والثقافية‪ ،‬ومسؤولية النظام اإلس المي حي ال حف ظ س المة‬
‫المجتمع وتحقي ق القس ط والع دل ومنح ح ق اش تراك الش عب في جمي ع األم ور ‪ ،‬م ع‬
‫وجوب القضاء على األسباب والعوامل التي تساعد على ظه ور الكف ر والنف اق والفق ر‬
‫والفساد السياسي والظلم واالستبداد والتسلط واالستكبار)‬
‫والمصادر الفكرية التي تتبناها هذه الوزارة ـ حسبما تحدد مبادئها ـ هي الرجوع‬
‫إلى تعليمات قادتها الفكريين‪ ،‬وعلى رأسهم الخميني‪ ،‬وقد ج اء في المنش ور من ض من‬
‫المبادئ التي تتبناها وزارة الثقافة‪( :‬فالسياسة الثقافية لنظام الجمهورية اإلسالمية تس ير‬
‫حس ب أفك ار وآراء وفت اوى س ماحة اإلم ام الخمي ني بص فتها أهم م ؤثر في اإلس الم‬
‫المحم دي األص يل‪ ،‬وتم يزه عن س ائر أن واع الطروح ات االس المية داخ ل البالد‬
‫وخارجها‪ ،‬فدائرة معاني الكلم ات المس تخدمة في الئح ة السياس ة الثقافي ة ومص اديقها‬
‫مح ددة بح دود مس تلهمة من المب ادئ اإلس المية الموص وفة في خ ط اإلم ام الفك ري‬
‫والفقهي ووصاياه اإللهية السياسية القيمة‪ .‬فلو وجدت بين سلسلة كلمات وعب ارات ه ذا‬
‫النص‪ ،‬عبارات متشابهة أو مبهمة‪ ،‬فهناك محكمات أيضا ً يمكن الرج وع إليه ا لتفس ير‬
‫تلك المتشابهات‪ ،‬فأفكار اإلمام وآراؤه في المضامير العرفانية والثقافية والفني ة – مثلما‬
‫هي في المجاالت السياسية واالقتصادية واالجتماعية – بمنزلة دليل وحلول تهت دي بها‬
‫السياسة الثقافية والفنية للبالد‪ .‬وما قاله اإلم ام بش أن أن واع الموس يقى واألفالم‬
‫والمسلسالت التلفزيونية والرياض ية وغيرها يعد مص باح هداية ودليل إرش اد في ه ذا‬
‫الش أن‪ ،‬فكالم ه ذا الرج ل العظيم على ص عيد الفك ر والثقاف ة ق د طب ع على ص حائف‬
‫القلوب والنفوس)‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإننا إذا رجعنا إلى تعليمات الخميني التي أش ار إليه ا المنش ور‪،‬‬
‫نجدها تعطي القيم األخالقية أهمية كبيرة على أساسها يتحرك كل منتوج ثقافي مسموح‬
‫به في إيران‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله عن السينما‪( :‬نحن ضد السينما التي ت ؤدي برامجه ا‬
‫إلى إفساد أخالق شبابنا وتخريب ثقافتنا اإلسالميّة)(‪)1‬‬
‫بل إنه يعتبرها من مؤسس ات الفس اد ال تي يجب تطهيره ا من الرذائ ل‪ ،‬وإحالل‬
‫الفضائل بدلها‪ ،‬مثلما ينبغي أن يُفعل مع كل المحال التي يريد األعداء من خاللها إفس اد‬
‫المجتمع لتسهيل السيطرة عليه‪ ،‬يق ول في ذل ك‪ ،‬وه و يتح دث بأس ف عم ا م ورس في‬
‫عهد الش اه وغ يره لتطوي ع المجتم ع اإلي راني‪( :‬لق د فتح وا أب واب الفس اد أم ام ش بّاننا‬
‫أن مراك ز‬ ‫بأن دولكم كذلك أيض اً‪ .‬إنّن ا نش اهد ّ‬‫وزادوا فيها‪ .‬فنحن نشاهد بالدنا وأعلم ّ‬
‫الفساد في بالدنا والّتي تج ّر الشبّان نحو الفساد وتقضي على أصالتهم هي كث يرة‪ ...‬فق د‬
‫صيّة الّتي يجب على الش بّان أن يمتلكوه ا‪،‬‬ ‫ج ّردونا من ك ّل شيء وسلبوا من شبّاننا الخا ّ‬
‫الخميني قدس سره‪ ،‬ص ‪..243‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )(1‬الكلمات القصار‪ ،‬اإلمام‬

‫‪252‬‬
‫وأرادوا أن يأخذوا قوّة الشبّان منّا‪ ،‬ث ّم ليقوموا بعد ذلك بنهب ذخائرنا ليص بح ش بّاننا ال‬
‫مبالين)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا كانت التعليمات الصارمة من جميع الجهات الرسمية في مواجهة‬
‫كل ما يمكن أن يشجع الرذيل ة‪ ،‬أو يفتح أبوابه ا للمجتم ع‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي فتحت‬
‫فيه كل األبواب لتشجيع كل نش اط ثق افي ي دعو إلى القيم الروحي ة واألخالقي ة‪ ،‬ويب ني‬
‫اإلنسان وفق الرؤية اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد ص نفت أوروب ا وأمريك ا وغيره ا من دول االس تكبار الع المي إي ران له ذه‬
‫الموقف وغيره من ضمن ال دول ال تي تهض م حق وق اإلنس ان‪ ،‬وذل ك كونه ا لم تس مح‬
‫للجهات المعادية باستغالل هذه النواحي إلفساد المجتمع‪ ،‬وتسهيل السيطرة عليه‪.‬‬
‫وال نس تغرب أن تك ون ه ذه االتهام ات من ال دول الغربي ة الممتلئ ة باإلباحي ة‬
‫والرذيلة‪ ،‬والتي أتاحت قوانينه ا ك ل م ا يه دم القيم اإلنس انية‪ ،‬ولكن العجب أن يص در‬
‫اإلنكار على قوانين إيران المرتبطة باألخالق من بعض الدول العربية‪ ،‬وخصوصا من‬
‫السعودية‪ ،‬حيث يقول بعض كتاب جريدة من جرائدها الرسمية‪ ،‬تحت عنوان‪[ :‬حجاب‬
‫النس اء في إي ران‪ ..‬ب اإلكراه!]‪( :‬من أغ رب سياس ات إي ران االجتماعي ة‪ ،‬من ذ ظه ور‬
‫الجمهورية االسالمية عام ‪ 1979‬إلى اليوم‪ ،‬اإلصرار على فرض الحكومة والس لطات‬
‫المعنية‪( ،‬الحجاب االجب اري) على ك ل النس اء في الحي اة العام ة وال دوائر والم دارس‬
‫وك ل مك ان‪ ،‬الحج اب يش مل اإلن اث ص غارا وكب ارا‪ ،‬الطالب ات والموظف ات‪ ،‬البن ات‬
‫واألمهات‪ ،‬الشابات‪ ..‬وثم ة مالحظ ات أخ رى على (الحج اب االجب اري) ال ذي تتبن اه‬
‫ايران منذ ‪ 35‬عاما‪ ،‬فهي تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تتبنى مثل ه ذه السياس ة بح ق‬
‫النساء في العالم االسالمي كله‪ ،‬وبخاصة بعد أن تغيرت بعض الشيء هذه السياس ة في‬
‫دولة مثل المملكة العربية السعودية‪ ،‬وربما حتى السودان‪ ،‬وان كان الح ال متش ابها في‬
‫مناطق هيمنة طالبان بأفغانستان)(‪)2‬‬
‫ويتساءل الكاتب منتقدا‪ (:‬أين حرية اختيار المرأة للباسها‪ ،‬وطاعتها للشريعة عن‬
‫رض ا وقناع ة دون إك راه؟‪ ..‬ولم اذا تتحجب المس لمة أو ت رفض ارت داء الحج اب في‬
‫عشرات الدول اإلسالمية‪ ،‬ومنها تركيا مثال وباكستان وأندونيسيا وغيره ا‪ ،‬بينم ا يق وم‬
‫رجال الدين وقادة الثورة في إيران بفرض الحجاب؟‪..‬م ا ال ذي حققت ه سياس ة اإلجب ار‬
‫واإلكراه والمالحقة ومنع االختالط بعد نحو ‪ 35‬عاما من نجاح الث ورة؟ ‪ ..‬لم اذا يس ير‬
‫المتعص بون اإليراني ون على خطى رض ا ش اه بهل وي‪ ،‬ال ذي ف رض الس فور وأج بر‬
‫النساء على خلع الحجاب باالكراه ولم ينجح‪ ،‬بينما يحاول رجال الدين وأنصار الحرس‬
‫الثوري‪ ،‬فرض الحجاب باإلكراه ؟ هل يمكن فرض كل أركان االسالم على اإليرانيين‬
‫باإلكراه كذلك‪ ،‬من صالة وصيام وحج لمن هو قادر وغير ذلك؟‪ ..‬لم اذا تفض ل إي ران‬
‫(مدرسة) كوريا الشمالية وصين ماوتس تونغ في تطبيق الحجاب وال زي الموح د‪ ،‬وال‬

‫‪ )(1‬منهجية الثورة اإلسالميّة‪ ،‬ص ‪..178‬‬


‫‪ )(2‬حجاب النساء في إيران‪ ..‬باإلكراه!‪ ،‬خليل علي حيدر‪ ،2014/12/16 ،‬جريدة الوطن‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫تلتفت الى عشرات الدول االسالمية التي تختار فيها أغلبية الفتي ات والنس اء الحج اب‪..‬‬
‫دون إجب ار حك ومي؟‪ ..‬أال تش عر القي ادة االيراني ة أن ال دنيا تغ يرت كث يرا من ذ ع ام‬
‫‪1979‬؟)‬
‫وهكذا راحت صحيفة (الش رق االوس ط) تتهكم على ف رض الحج اب على غ ير‬
‫المسلمات‪ ،‬فقد كتبت تقول‪( :‬اللباس الشرعي) يطبق على جميع النس اء في الجمهوري ة‬
‫االسالمية من اإليرانيات وغير اإليرانيات وح تى غ ير المس لمات)!‪ ،‬وأق ول‪ :‬ل و ك ان‬
‫اإلخوان المسلمون أمسكوا برقاب المصريين والمصريات في محاولتهم الفاشلة‪ ،‬لك ان‬
‫هذا مصير الرجال والنساء في مصر‪ ،‬من مسلمين وأقباط!)(‪)1‬‬
‫وتق ول نفس الجري دة في مق ال آخ ر‪( :‬ال يق وم البرلم ان اإلي راني‪ ،‬أو (مجلس‬
‫الش ورى) لألس ف‪ ،‬ب دور المنق ذ لنس اء إي ران‪ ،‬ب ل يط الب بعض أعض ائه بمزي د من‬
‫(الدعم المادي والمالي) للقيود واألصفاد‪ .‬ف نرى على س بيل المث ال الن ائب (غالم علي‬
‫حداد عادل)‪ ،‬ينتقد ما وصفه (بتدهور أوض اع االل تزام بالحج اب في إي ران يوم ا ً بع د‬
‫يوم)‪ .‬وطالب الحكومة بتقديم (دعم مالي للشركات المنتجة لألزياء اإلس المية)‪ ،‬به دف‬
‫تشجيع ارتداء (ال زي اإلس المي)‪ ،‬يُ ذكر أن الش رطة تلقي القبض على األف راد أحيان ا ً‬
‫بتهم ة م ا تس ميها بـ(ع دم االل تزام بالحج اب اإلس المي) في الم دن الك برى أو تكتفي‬
‫بتوجيه إنذار لهم)(‪)2‬‬
‫ولألس ف‪ ،‬ف إن ه ذه الص حف وغيره ا تتص ور أن الحج اب مس ألة شخص ية‪،‬‬
‫ومتعلق بالقناعات الشخصية‪ ،‬ولم تعلم أن ه مرتبط ة ب المجتمع‪ ،‬فمن رواف د االنح راف‬
‫االجتماعي التبرج والتحلل الخلقي ال ذي يبدي ه أي عض و في ه‪ ،‬ل ذلك ك ان على الدول ة‬
‫التي تقدر اإلنسان‪ ،‬والقيم التي تحكمه أن تعتبر هذا الجانب‪ ،‬وتوليه أهميتها‪ ،‬وال يهمها‬
‫بعد ذلك من يوافقها أو يخالفها‪ ،‬فالقيم الخليقة تدخل ضمن األمن القومي ألي دولة‪.‬‬
‫واألمر ال يرتبط باللباس فقط‪ ،‬وإنما بكل شيء‪ ،‬وقد تهكمت الص حف الس عودية‬
‫لألسف بالجرائد اإليرانية التي لم تظهر صورة عالمة رياضيات إيرانية ف ازت بج ائزة‬
‫عالمية كبرى خارج إيران بسبب عدم ظهورها بالحجاب‪.‬‬
‫حيث ورد في بعض الصحف (‪( :)3‬البروفيسورة اإليرانية (مريم ميرزا خاني)‪،‬‬
‫أول امرأة في الت اريخ تف وز بميدالي ة (فيل دز) المرموق ة ال تي تش به من حيث األهمي ة‬
‫جائزة نوبل في العلوم‪ ،‬وقد ع بر اإليراني ون وال رئيس روح اني عن ف رحهم وفخ رهم‬
‫باالنجاز‪ ،‬ولكن الصحافة احتارت كيف تنشر ص ورة عالم ة الرياض يات اإليراني ة‪ ،‬إذ‬
‫ك انت ال ترت دي حجاج اً‪ ،‬حيث يل زم الق انون اإلي راني النس اء ب الظهور محجب ات في‬
‫العلن‪ ،‬حتى لو ُكن خارج البالد‪ ،‬وقد حُكم على ممثلة إيرانية بالسجن لمدة عام وتسعين‬
‫جلدة‪ ،‬بسبب ظهورها من دون حج اب في فيلم أس ترالي‪ ،‬وص حيفة (القبس) الكويتي ة‪،‬‬

‫‪ )(1‬الشرق االوسط‪.2012/2/23 ،‬‬


‫‪ )(2‬الشرق األوسط‪.2014/5/31 ،‬‬
‫‪ )(3‬منها القبس الكويتية‪.2014/8/19 ،‬‬

‫‪254‬‬
‫نقلت صورة العالمة الرياضية اإليرانية كما نش رتها الص حف اإليراني ة ال تي احت ارت‬
‫هي نفسها كيف تنشرها‪ ،‬فكانت من دون شعر وال أذن وال رقبة‪ ..‬والص حيفة الرس مية‬
‫(إي ران) ع ّدلت ص ورة ميرزخ اني بالفوتوش وب‪ ،‬ورس مت على رأس ها حجاب اً‪ ،‬أم ا‬
‫(كيهان) المحافظة فقد تجاهلت الحدث كليا ً كي ال تحرجها الصورة‪ ،‬بينما نشرت معظم‬
‫الصحف األخرى صورة قديمة لمريم عندما كانت في إيران وترتدي الحجاب)‬
‫ولألس ف‪ ،‬ف إن ه ؤالء المحج وبين بأمث ال ه ذه المواض يع يغفل ون عن األدوار‬
‫الكبيرة المتاحة للمرأة اإليرانية‪ ،‬والمناص ب الرفيع ة ال تي تتواله ا‪ ،‬واالح ترام العظيم‬
‫الذي تجده‪ ،‬ذلك أنهم يقصرون نظرهم إلى جسد المرأة واستعماله للفتن ة دون مالحظ ة‬
‫ما للمرأة من أدوار نافعة يمكن أن تؤديها للمجتمع‪.‬‬
‫وق د نص ق ادة الث ورة اإلس المية على تل ك األدوار ودع وا إلى تفعيله ا الحي اة‪،‬‬
‫ومنهم الخميني الذي قال‪( :‬إن المرأة في النظ ام اإلس المي تتمت ع ب الحقوق ذاته ا ال تي‬
‫يتمتع بها الرجل‪ ،‬بما في ذلك حق التعليم والعمل والتمل ك واالنتخ اب والترش يح‪ ،‬وفي‬
‫مختلف المجاالت التي يمارس الرجل دوره فيها‪ ،‬للمرأة الحق في ممارسة دورها‪ ،‬بي د‬
‫أن هناك أموراً تعد مزاولتها من قبل الرجل حرام ا ً ألنه ا تق وده إلى المفاس د‪ ،‬وأخ رى‬
‫يحظر على المرأة مزاولتها ألنه ا توج د مفس دة‪ ،‬لق د أراد اإلس الم للم رأة والرج ل أن‬
‫يحافظا على كيانهما اإلنساني‪ ،‬فهو ال يريد للمرأة أن تصبح ألعوبة بيد الرجل‪ ،‬وإن م ا‬
‫يرددونه في الخارج من أن اإلسالم يتعامل مع المرأة بخشونة وعنف ال أس اس ل ه من‬
‫الصحة وهو دعاية باطلة يروج لها المغرضون‪ ،‬وإال فإن الرجل والمرأة كالهما يتمتع‬
‫بصالحيات في اإلسالم‪ .‬وإذا ما وجد تباين فهو لكليهما‪ ،‬وإن ذلك عائ د إلى طبيعتهم ا)‬
‫(‪)1‬‬
‫ويذكر الفرق بين النظ امين‪ :‬اإلس المي والغ ربي في التعام ل م ع الم رأة‪ ،‬حيث‬
‫كان الغرب يحترم الشاه‪ ،‬ونظامه في تعامله مع المرأة رغم استبداده وفساده الكب ير في‬
‫نفس الوقت الذي يشن فيه حمالته على معاملة النظام اإلسالمي للمرأة‪ ،‬يقول في ذل ك‪:‬‬
‫(إن األفالم المغرضة المسمومة‪ ،‬وأحاديث الخطباء الجهلة‪ ،‬حولت المرأة في الخمسين‬
‫عاما ً السوداء من الحكم البهلوي الخبيث‪ ،‬إلى مجرد سلعة‪ ،‬وقد عملوا على ج ر النس اء‬
‫الالتي كن على استعداد للتأثر بهذه األج واء‪ ،‬إلى أم اكن يع ف القلم عن ذكره ا‪ ،‬فليع د‬
‫من ي رغب في اإلطالع على ج انب تل ك الج رائم‪ ،‬إلى الص حف والمجالت وأش عار‬
‫األوباش واألراذل في عهد رضا خان ب دءاً بف ترة إجب ار النس اء على الس فور والتخلي‬
‫عن الحج اب اإلس المي فص اعداً‪ ...‬س ود هللا وج وههم وتحطمت أقالمهم ال تي ت دعي‬
‫التنوير)(‪)2‬‬
‫وق د ب رهن الواق ع اإلي راني بع د م ا يق ارب األربعين س نة من عم ر الث ورة‬
‫اإلسالمية على صحة كل األطروحات التي دعا إليها الخميني‪ ،‬بل دعت إليها قبل ذلك‬

‫‪ )(1‬من لقاء له بتاريخ ‪ ،7/12/1978‬وانظر‪ :‬المرأة في فكر اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪.25‬‬


‫‪ )(2‬من كلمة بمناسبة يوم امرأة‪ .‬بتاريخ ‪ ،5/5/1980‬وانظر‪ :‬المرأة في فكر اإلمام الخميني‪ ،‬ص‪.23‬‬

‫‪255‬‬
‫الش ريعة اإلس المية؛ ف المرأة اإليراني ة اآلن تحظى ب احترام كب ير‪ ،‬وتت ولى مناص ب‬
‫رفيعة‪ ،‬وتنجح نجاحات باهرة في كل المجاالت‪ ،‬وخصوصا المجاالت المرتبطة بالعلم‬
‫والبحث العلمي‪ ،‬كما سنرى ذل ك إن ش اء هللا بتفص يل في محل ه من الج زء الث اني من‬
‫هذه السلسلة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ القيم األخالقية والواقع السياسي‪:‬‬
‫من خالل مطالعة المبادئ المحركة للسياسة اإليرانية سواء على مستوى الداخل‬
‫أو الخارج نرى مدى تحكم القيم األخالقية فيها؛ فهي سياسة تنبع من المبادئ األخالقية‬
‫قبل أن تنبع من المصالح المؤقتة‪.‬‬
‫وهذا ما يفسر كل تلك الحروب والضغوطات التي تتع رض له ا ك ل حين‪ ،‬ذل ك‬
‫أنه ا ل و انتهجت منهج المص لحة والبراغماتي ة‪ ،‬وتخلت عن مبادئه ا ونص رتها‬
‫للمستضعفين‪ ،‬لوجدت من أعدائها قبوال كبيرا‪ ،‬ولتعاملوا معها مثلما يتعاملون م ع تل ك‬
‫ال دول ال تي لم تع رف في أي لحظ ة من حياته ا أي ل ون من أل وان الديمقراطي ة‪ ،‬وال‬
‫صناديق االنتخابات‪ ،‬وال حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫وهذه السياسة التي انتهجتها إيران في الداخل والخ ارج تنب ع من تل ك التعليم ات‬
‫التي كان الخميني وكل قادة الثورة اإلسالمية يوجهون بها مسيرة الثورة منذ انطالقتها‪.‬‬
‫وعند مطالعة ما يطلق عليه [الوصية اإللهية السياسية لالم ام الخمي ني]‪ ،‬وال تي‬
‫أوص ى به ا قب ل وفات ه‪ ،‬وق رئت بع دها‪ ،‬وال تي نج د له ا تأثيره ا الكب ير في السياس ة‬
‫اإليرانية نجد مدى اهتمامه بالقيم األخالقية في تحريك السياسة الداخلية والخارجية‪.‬‬
‫فمما ذكره في وصيته(‪ )1‬فيما يتعلق بالسياس ة الداخلي ة واألح زاب واالنتخاب ات‬
‫والمبادئ التي تحكمها قوله في البند السابع من بنود الوصية‪( :‬من األم ور الض رورية‬
‫أيضاً‪ ،‬تديّن نواب مجلس الشورى االسالمي‪ ،‬فقد رأينا جميعا ً أيٌة إضرار محزنة لحقت‬
‫باإلسالم وبإيران نتيجة عدم صالحية مجلس الش ورى وانحراف ه من ذ الف ترة ال تي تلت‬
‫النهضة الدستورية وحتى عهد النظام البهل وي المج رم‪ ،‬وال تي ك ان س واها وأخطره ا‬
‫عهد ذل ك النظ ام الفاس د المف روض‪ .‬ياله ا من مص ائب وخس ائر م دمرة حلت ب البالد‬
‫والشعب على أيدي هؤالء العبيد التافهين المجرمين‪ ،‬لقد أدى وج ود أكثري ة مص طنعة‬
‫مقابل أقلية مظلومة خالل الخمسين عاما ً األخيرة ـ من العهد البائد ـ إلى تمكن إنجل ترا‬
‫واالتح اد الس وفيتي وأمريك ا بع د ذل ك من تمري ر ك ل م ا أرادوه على أي دي ه ؤالء‬
‫المنح رفين الغ افلين عن هللا مم ا ج ر البالد الى حاف ة ال دمار واالنهي ار‪ .‬فمن ذ م ا تال‬
‫الحركة الدستورية لم يطبق شيء تقريبا ً من مواد الدستور األساس ية‪ ،‬وق د تم ذل ك قب ل‬
‫عهد رض ا خ ان ع بر الم أمورين للغ رب وحفن ة من الباش وات واإلقط اعيين‪ ،‬وع بر‬
‫النظام السفاك وحواشي البالط وأزالمه في عهد النظام البهلوي)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذه التجربة القاسية التي ذكرها الخميني‪ ،‬والتي مرت بها إيران دع ا‬
‫‪ )( 1‬هذه النصوص مقتبسة من‪ :‬الوصية اإللهية السياسية لالمام الخميني‪ ،‬وهي موجودة في محال كثيرة منها كت اب‪:‬‬
‫صحيفة الثورة اإلسالمية‪ ،‬وموقع االمام الخميني‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫‪)(2‬صحيفة الثورة اإلسالمية‪ ،‬الخميني‪ ،‬ص‪..40‬‬

‫‪256‬‬
‫إلى التشدد في اختيار النواب‪ ،‬واالهتمام بالتزامهم الديني واألخالقي ح تى ال يخ ترقهم‬
‫العدو‪ ،‬ويمرر مشاريعه التدميرية من خاللهم‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬أم ا اآلن‪ ،‬وحيث أص بح‬
‫مصير البالد ـ وبلطف هللا وعنايته وهمة الشعب العظيم ـ بأيد المواطنين أنفسهم‪ ،‬حيث‬
‫أصبح النواب منبثقين من سواد الجماهير يتم انتخابهم لمجلس الشورى اإلس المي دون‬
‫تدخل الحكومة أو الباشوات‪ ،‬فإن المؤمل أن يحول ال تزامهم باإلس الم وحرص هم على‬
‫مصالح البالد دون وقوع أي انحراف‪ ،‬لذا ف إني أوص ي أبن اء الش عب أن يص وتوا في‬
‫ك ل دورة انتخابي ة ـ حاض راً ومس تقبالً ـ لص الح المرش حين المل تزمين باإلس الم‬
‫والجمهوري ة اإلس المية انطالق ا ً من إرادتهم الص لبة وال تزامهم بأحك ام اإلس الم‬
‫وحرصهم على مصالح البالد)(‪)1‬‬
‫ثم ذك ر أن الع ادة جاري ة ب أن أمث ال ه ؤالء ال يكون ون من الطبق ة المترف ة‬
‫المستغرقة في الدنيا‪ ،‬بل يكونون من عامة الناس‪ ،‬وهم لذلك أك ثر احتكاك ا بهم‪ ،‬وأك ثر‬
‫إحساسا بحاجاتهم‪ ،‬يقول‪( :‬وال شك أن مثل هؤالء المرشحين يكونوا غالبا ً من الطبق ات‬
‫االجتماعية الوسطى ومن بين المحرومين غير المنحرفين عن الص راط المس تقيم نح و‬
‫الغرب أو الشرق‪ ،‬ومن غير الميالين نحو المدارس العقائدية المنحرفة‪ ،‬ومن المتعلمين‬
‫المطلعين على مجريات االمور المعاصرة والسياسات اإلسالمية) (‪)2‬‬
‫ولضمان اس تمرار المب ادئ في التحكم في السياس ة اإليراني ة ي دعو العلم اء إلى‬
‫عدم االعتزال‪ ،‬أو ترك الحرية المطلقة للسياسيين‪ ،‬يقول‪( :‬وأوصي العلماء المحترمين‬
‫ـ ال سيما المراجع العظام ـ أن ال يعتزلوا قضايا المجتمع‪ ،‬خصوصا ً عند انتخاب رئيس‬
‫الجمهورية أو نواب المجلس‪ ،‬وأن ال يكونوا غير مكترثين به ذه األم ور‪ .‬فكلكم رأيتم ـ‬
‫واألجيال الالحقة ستسمع بذلك ـ كيف قام ممتهنو السياس ة من عمالء الش رق والغ رب‬
‫بعزل الروح انيين ال ذين وض عوا الحج ر األس اس للملكي ة الدس تورية بع د أن تحمل وا‬
‫المشاق والمعان اة‪ ،‬وكي ف أن الروح انيين أيض ا ً ابتلع وا الطعم ال ذي ألق اه لهم ممتهن و‬
‫السياسة فظنوا أن التدخل في أمور البالد والمسلمين مما ال يليق بمقامهم‪ ،‬فانسحبوا من‬
‫الميدان تاركين إياه للمأسورين للغرب‪ ،‬األمر الذي الحق بالحركة الدستورية والدستور‬
‫والبالد واإلسالم ما يحتاج جبرانه إلى زمن طويل‪ ،‬واآلن وبعد أن أزيلت الموانع بحمد‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وتوفرت األجواء الحرة المناسبة لمشاركة جميع الشرائح االجتماعية لم يبق‬
‫من عذر‪ ،‬والتساهل بأي أمر من أمور المسلمين من الذنوب الكبيرة التي ال تغتفر) (‪)3‬‬
‫وهو ال يكتفي بذلك‪ ،‬بل يحذر الشعب بأطيافه المختلفة كل حين لمراقبة الحكومة‬
‫وكل أجهزتها‪ ،‬لتبقى دائما في خط المبادئ التي سنتها الشريعة‪ ،‬والقيم التي جاءت بها‪،‬‬
‫يقول في ذلك‪( :‬فعلى كل امر ٍء أن يس عى ـ وبمق دار اس تطاعته وبمال ه من الت أثير في‬
‫خدم ة اإلس الم وال وطن وأن يح ول بج د ـ دون نف وذ عمالء القط بين المس تعمرين‪،‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.42‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.42‬‬

‫‪257‬‬
‫والمنبهرين بالغرب أو الشرق والمنحرفين عن نهج اإلسالم العظيم‪ ،‬وليعلم الجميع بأن‬
‫أعداء اإلسالم والدول اإلسالمية المتمثلين بالقوى الناهبة الدولية الكبرى إنم ا يتغلغ ون‬
‫في بل داننا والبل دان اإلس المية األخ رى بخف ة ومه ارة ليوقع وا تل ك البل دان في ش باك‬
‫االستعمار مستغلين أبناء شعوب تلك البلدان ذاتها‪ ،‬كونوا يقظين‪ ،‬راقبوا بحذر‪ ،‬وما أن‬
‫تشعروا بأول خطوة تغلغل هبوا للمواجه وال تمهلوهم‪ ،‬وهللا معينكم وهو حافظكم) (‪)1‬‬
‫وبناء على هذا ن رى في إي ران المؤسس ات الكث يرة ال تي ال نج د نظ يرا له ا في‬
‫العالم أجمع‪ ،‬وهي مؤسسات تتكون عادة من فقهاء وعلماء دين باإلضافة إلى مختصين‬
‫في القوانين ونحوها‪ ،‬باإلضافة للمنتخبين من طرف الشعب‪ ..‬وذلك ح تى تض من بق اء‬
‫المبادئ اإلسالمية كما هي من دون أن تتحكم فيها التقلبات واألهواء‪.‬‬
‫وقد أشار الخميني في وصيته إلى هذه الجوانب‪ ،‬وكررها كثيرا‪ ،‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫(أط الب ممثلي مجلس الش ورى اإلس المي ـ في ه ذا العص ر والعص ور اآلتي ة ـ أن‬
‫يصرّوا على عدم قب ول أوراق اعتم اد العناص رالمنحرفة ال تي تتمكن في وقت م ا من‬
‫فرض تمثيله ا على الن اس بالدس ائس واألالعيب السياس ية‪ ،‬وأن يحول وا دون وص ول‬
‫حتى عنصر مخرب عميل واحد إلى المجلس‪ ،‬كم ا أوص ي األقلي ات الديني ة المع ترف‬
‫به ا رس ميا ً أن يأخ ذوا الع برة من ال دورات االنتخابي ة ال تي ج رت في عه د النظ ام‬
‫البهل وي‪ ،‬وأن يحرص وا على انتخ اب ممثليهم المل تزمين بأدي انهم وبالجمهوري ة‬
‫اإلس المية‪ ،‬غ ير الم رتبطين ب القوى اإلس تعمارية‪ ،‬وغ ير الميال ة للم دارس اإللحادي ة‬
‫المنحرف ة واإللتقاطي ة‪ ،‬وأطلب من جمي ع الن واب أن يتع املوا فيم ا بينهم بحس ن الني ة‬
‫واألخوة‪ ،‬وليسعوا جميعا ً إلى أن ال تسن القوانين المنحرفة عن اإلسالم ـ ال س مح هللا ـ‬
‫وليكون وا جميع ا ً أوفي اء لالس الم وألحكام ه الس ماوية‪ ،‬س عيا ً في ني ل س عادة ال دنيا‬
‫واآلخرة) (‪)2‬‬
‫وهكذا أوصى أعضاء صيانة الدستور بقوله‪( :‬أط الب أعض اء ص يانة الدس تور‬
‫المحترمين وأوصيهم ـ سواء في هذا الجيل أم االجيال القادمة ـ أن يحرص وا على أداء‬
‫واجباتهم اإلسالمية والوطنية بكل دقة وحزم‪ ،‬وأن يحاذروا من الوقوع تحت ت أثير أي ة‬
‫سلطة‪ ،‬وأن يحولوا دون سن القوانين المخالفة للش رع المطه ر والدس تور‪ ،‬دون األخ ذ‬
‫بنظ ر االعتب ار أي ة اعتب ارات أخ رى‪ ،‬وأن ينتبه وا إلى مص الح البالد ال تي يجب أن‬
‫تتحقق عبر األحكام الثانوية تارة‪ ،‬أو عبر والية الفقيه تارة أخرى) (‪)3‬‬
‫وهكذا أوصى الشعب بأن يؤدي دوره في حفظ المبادئ والقيم التي ق امت عليه ا‬
‫الث ورة اإلس المية‪ ،‬وذل ك بمش اركته الفاعل ة في اختي ار ممثلي ه من ال ذين يتوس م فيهم‬
‫النزاهة والصالح‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬وأوصي الشعب المجيد بأن يس جل حض وراً ف اعالً‬
‫في جميع االنتخابات‪ ،‬سواء انتخابات رئاس ة الجمهوري ة أو انتخاب ات الخ براء لتع يين‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.43‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.44‬‬

‫‪258‬‬
‫شورى القيادة أو القائد‪ ،‬وعليهم أن يحرصوا على إتمام عملية االقتراع وف ق الض وابط‬
‫المعتبرة‪ .‬فمثالً في انتخ اب الخ براء لتع يين ش ورى القي ادة أو القائ د عليهم أن ينتبه وا‬
‫جيداً‪ ،‬فإذا تم تجاوز الموازين الشرعية والقانون في انتخاب الخبراء وحصل تساهل ما‬
‫في ذلك‪ ،‬فمن الممكن أن يتعرض اإلسالم والبالد إلى خسائر ال يمكن جبرانها‪ ،‬وحينها‬
‫سنكون الجميع مسؤولين أمام هللا تعالى‪ ،‬وعلى هذا األساس‪ ،‬فإن عدم مشاركة الش عب‬
‫ـ بمراجعه وعلمائه العظام وت ّجاره وكسبته وفالحيه وعماله وموظفيه ـ يحم ل الجمي ع‬
‫المسؤولية عن مصير البالد واإلسالم‪ ،‬سوا ٌء بالنسبة لهذا الجيل أم األجيال القادمة‪ .‬وقد‬
‫يكون التساهل وعدم المشاركة في بعض الظروف ذنبا ً من أكبر الكبائر) (‪)1‬‬
‫ثم يبين لهم المواصفات الشرعية لمن ينتخبونه؛ فيق ول‪( :‬ليح رص الجمي ع عن د‬
‫اختي ار رئيس الجمهوريّ ة ون واب المجلس على أن يكون وا ممن لمس وا حرم ان‬
‫المستضعفين والمجتمع ومظلوميتهم‪ ،‬وممن يعتزمون تحقيق الرفاهي ة ألبن اء الش عب‪،‬‬
‫وليجتبن وا أولئ ك التج ار واإلقط اعيين من الس اعين للوجاه ة والش هرة‪ ،‬الم رفهين‬
‫الغارقين في المل ذات والش هوات غ ير الق ادرين على إدراك م رارة الحرم ان ومعان اة‬
‫الجائعين والحفاة) (‪)2‬‬
‫هذه نماذج عن توجيهات الخميني‪ ،‬التي بينت عليها القوانين اإليراني ة المختلف ة‪،‬‬
‫وهي ترينا بوضوح مدى تغلغل القيم األخالقية في تسيير السياس ة الداخلي ة للبالد بك ل‬
‫أجهزته ا‪ ،‬وطبع ا ذل ك ال يمن ع من وق وع االختراق ات‪ ،‬والتمثي ل الس يء‪ ،‬ولكن ذل ك‬
‫محدود جدا‪ ،‬ويمكن ألجهزة الرقابة المختلفة أن تحد منه‪ ،‬أو تمنع امتداد آثاره‪.‬‬
‫أما السياســة الخارجية‪ ،‬فهي محكوم ة بالمب ادئ والقيم األخالقي ة مث ل السياس ة‬
‫الداخلية‪ ،‬ولهذا كان أول م ا فعلت ه الث ورة اإلس المية‪ ،‬وفي أحل ك مراحله ا وقوفه ا في‬
‫وجه االستكبار العالمي على ال رغم من إدراكه ا للثمن ال ذي يمكن أن تدفع ه في س بيل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فقد كان الخميني وكل قادة الث ورة اإلس المية وإلى الي وم يص رحون بم واجهتهم‬
‫ألمريكا‪ ،‬ويسمونها الشيطان األكبر‪ ،‬ومثلها إسرائيل‪ ،‬ويسمونها الغدة السرطانية‪ ،‬وفي‬
‫الوقت الذي يدعو فيه العرب إلى صفقة القرن‪ ،‬وإلى تجاه ل حق وق الفلس طينيين ن رى‬
‫من المبادئ الكبرى إليران‪ ،‬إيمانها بفلسطين جميعا‪ ،‬وبجمي ع حق وق الفلس طينيين‪ ،‬ب ل‬
‫إمدادها لقوى المقاومة الفسلطينية بكل ما تحتاجه من دعم‪.‬‬
‫يقول الخميني في بعض بياناته التي وجهها للعالم اإلسالم‪( :‬يا مس لمي الع الم ي ا‬
‫أيه ا المستض عفون الرازح ون تحت ن ير الظ المين! انهض وا واتح دوا ودافع وا عن‬
‫إسالمكم ومقدراتكم‪ ،‬وال تخشوا صخب األقوياء‪ ،‬فان هذا القرن هو – بإذن هللا – ق رن‬
‫انتصار المستضعفين على المستكبرين وانتصار الحق على الباطل)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.44‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.45‬‬
‫‪ )(3‬نداء اإلمام إلى حجاج بيت هللا ‪ 6/9/1981‬صحيفة النور ‪ ،‬ج ‪ ،15‬ص ‪.125‬‬

‫‪259‬‬
‫وق ال في بي ان آخ ر‪( :‬أمريكا الع دو األول ليعلم المس لمون المتواج دون في‬
‫المواقف المش رفة‪ ،‬بمختل ف م ذاهبهم وقومي اتهم‪ ،‬جي داً ب أن الع دو األص لي لإلس الم‬
‫والقرآن الكريم والرسول األعظم ‪ ‬هي الق وى العظمى‪ ،‬خصوص ا ً أمريك ا وولي دتها‬
‫الفاسدة إسرائيل‪ ،‬التي تنظ ر إلى بل دان الع الم اإلس المي بعين الطم ع‪ ،‬وال تت ورع عن‬
‫اإلقدام على أية جريمة أو مؤامرة من أجل نهب ثرواتها ومواردها الطبيعي ة‪ .‬وإن س ّر‬
‫نجاحهم في هذه المؤامرة الش يطانية يكمن في بثهم الفرق ة بين ص فوف المس لمين ب أي‬
‫نحو كان‪ ،‬وفي موس م الحج من الممكن أن يقوم وا ب دفع بعض الماللي الم رتبطين بهم‬
‫إلشاعة أجواء االختالف بين الشيعة والسنة‪ ،‬والتشديد على هذه الظاهرة الشيطانية إلى‬
‫درجة تجعل بعض البسطاء يصدقونها ويمسون سببا ً في الفرق ة والفس اد‪ .‬على األخ وة‬
‫واألخ وات من الف ريقين أن يتنبه وا إلى ذل ك‪ ،‬وأن يعلم وا ب أن ه ؤالء عُمي القل وب‬
‫الضالين إنما ينوون باسم اإلسالم والقرآن المجيد وس نة الرس ول‪ ،‬إبع اد المس لمين عن‬
‫اإلسالم والقرآن والسنة‪ ،‬أو على األقل حرفهم عنها‪ .‬على األخوة واألخوات أن يعلم وا‬
‫بان أمريكا وإسرائيل تعاديان أسس اإلسالم‪ ،‬ألنهما تريان في اإلسالم والق رآن والس نة‬
‫أشواكا في طريقهما‪ ،‬تحول دون أطماعهما ونهبهما‪ ،‬ذلك أن إيران باتباعها لهذا القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬انتفضت بوجههم وثارت وانتصرت)(‪)1‬‬
‫ويذكر الخميني السبب الذي من أجل ه ع ادى الغ رب‪ ،‬وبعض ال دول اإلس المية‬
‫إي ران‪ ،‬فق ال‪( :‬الجمي ع يعلم الي وم أن ذنبن ا الحقيقي – من وجهة نظر ن اهبي الع الم‬
‫المعتدين – هو الدفاع عن اإلسالم‪ ،‬وإرساء دعائم لحكومة الجمهورية اإلسالمية لتح ل‬
‫محل النظام الطاغوتي الظالم‪ .‬إن ذنبنا وجريرتنا هي إحي اء س نة الرس ول ‪ ‬والعم ل‬
‫بتعليمات القرآن الكريم‪ ،‬وإعالن وحدة المسلمين من الشيعة والسنة‪ ،‬لمواجه ة م ؤامرة‬
‫الكف ر الع المي‪ ،‬ودعم الش عوب المحروم ة في فلس طين وأفغانس تان ولبن ان‪ ،‬وإغالق‬
‫السفارة اإلسرائيلية في إيران‪ ،‬وإعالن الحرب ضد هذه الغ دة الس رطانية والص هيونية‬
‫العالمي ة‪ ،‬ومحارب ة التمي يز العنص ري‪ ،‬وال دفاع عن الش عوب اإلفريقي ة المحروم ة‪،‬‬
‫وإلغاء معاهدات العبودية التي وقعها النظام البهلوي القذر مع أمريكا الناهبة للعالم)(‪)2‬‬
‫وحتى نوضح مدى تشبع السياسة الخارجية إليرانية ب القيم األخالقي ة‪ ،‬ننق ل هن ا‬
‫بعض النصوص من قائد من القادة الفكريين للجمهورية اإلسالمية اإليراني ة‪ ،‬وه و في‬
‫نفس الوقت تلميذ من تالميذ الخميني‪ ،‬وهو الش يخ مص باح ال يزدي‪ ،‬ال ذي أل ف الكتب‬
‫والرسائل الكثيرة حول الرؤى الفكرية والفلسفية التي تستمد الجمهورية اإلسالمية منها‬
‫قوانينها المختلفة‪.‬‬
‫وقد كتب في هذا الموضوع تحت عنوان [القيم األخالقي ة ودوره ا في العالق ات‬
‫الدولية]‪ ،‬مبينا المبادئ الشرعية التي تحكم العالقات الدولية‪ ،‬وقد صنف فيه الدول غير‬

‫‪ )(1‬من بيان اإلمام الخميني بمناس بة عق د م ؤتمر الحج وعي د األض حى المب ارك‪ ،‬بت اريخ ‪ .30/8/1984‬ص حيفة‬
‫النور‪ ،‬ج ‪ ،19‬ص ‪.46‬‬
‫‪ )(2‬من بيان لإلمام بتاريخ ‪ ،28/7/1978‬صحيفة النور‪ ،‬ج ‪ ،20‬ص ‪.116‬‬

‫‪260‬‬
‫االسالمية إلى صنفين (‪:)3‬‬
‫الصنف األول‪ :‬الدول التي تحترم حقوق المسلمين‪ ،‬ويرى أن العالق ة بينهم وبين‬
‫المسلمين تتحدد طبقا ً للمعايير الكلية في القيم االجتماعي ة‪ ،‬كأص ل (العدال ة)‪ ،‬أو أص ل‬
‫(اإلحسان)‪ ،‬ويرجع في حالة التزاحم بين هذه األصول إلى أصول (األولوية)‬
‫أما العدالة‪ ،‬فيرى أن (المجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين يقابلها المس لمون‬
‫بالمثل‪ ..‬فيجب على المسلمين أن يحترموا اتفاق اتهم م ع الكف ار م ا دام وا (أي الكف ار)‬
‫يحترمونها‪ .‬وحتى في حالة تجاوز الكفار على المسلمين‪ ،‬فيجب أن يكون رد المس لمين‬
‫بالمقدار نفسه‪ ،‬وال ينبغي تعدي ذلك)‬
‫وأم ا اإلحس ان‪( ،‬فكم ا أن المجتم ع االس المي محك وم في داخل ه لبعض القيم‬
‫األخالقية التي توجب على بعض هم أن يحس نوا إلى المس اكين والفق راء والمح رومين‪،‬‬
‫كذلك تطرح القيم نفسها بحدود معينة مع المجتمعات األخرى‪ ،‬فالمجتمعات التي تحترم‬
‫حق وق المس لمين وترتب ط معهم بمعاه دات معين ة‪ ،‬تك ون هي ك ذلك موض ع اح ترام‬
‫المسلمين ومحل عطفهم فمن المنساب جداً أن يجد هؤالء المسلمين إلى جانبهم في حالة‬
‫تعرض هم إلى الك وارث والمص ائب ك الزالزل والس يول والمجاع ات وغيره ا‪ .‬وه ذا‬
‫األصل تجري مراعاته ضمن قاعدة (األولوية) أي تقديم حاجة المجتمع االسالمي على‬
‫غ يره‪ ،‬وتق ديم المس اعدات في حال ة ع دم ال تزاحم إلى المحت اجين من المس لمين ومن‬
‫الكفار غير المحاربين)‬
‫وبن اء على ه ذا ي رى إمكاني ة إقام ة عالق ات طيب ة م ع غ ير المس لمين بش رط‬
‫(المحافظ ة على س يادة المس لمين‪ ،‬والمحافظ ة على س معة المس لمين والمجتم ع‬
‫اإلسالمي)‬
‫ولهذا ال يصح ـ كما يذكر ـ (أن تقام عالقات المجتمع االسالمي م ع المجتمع ات‬
‫األخرى بحيث تكون للكفار اليد العليا في هذه العالقات‪ ،‬مما قد يخدش سيادة المس لمين‬
‫واستقاللهم‪ ،‬ويجعل للكافرين عليهم سبيالً)‬
‫وال يص ح ك ذلك أن يتخلى المس لمون عن (قيمهم ال تي يع تزون به ا‪ ،‬ويوجبه ا‬
‫االسالم إرضاء لعرف كافر وانسجاما ً مع قيم اجتماعية باطل ة‪ ،‬فق د يس تنكر الغربي ون‬
‫حجاب المرأة ويستهجنون حشمتها ونوع لباس ها‪ ،‬لكن ذل ك ال يس وغ تس اهلها في ه ذا‬
‫األمر بحجة مسايرة العرف واالنحراف معه وعدم استفزازه)‬
‫الصنف الثاني‪ :‬الدول التي ال تحترم حق وق المس لمين‪ ،‬أو تح اربهم‪ ،‬وهي ال تي‬
‫يطلق عليها اصطالحا اسم (المحاربين)‪ ،‬وهي كذلك ال يصح في المنظور اإلس المي ـ‬
‫كما يرى الشيخ يزدي ـ أن تعلن عليه ا المواجه ة أو الح رب بعي دا عن القيم واألخالق‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫ول ذلك ال يص ح في المنظ ور اإلس المي ـ كم ا ي رى ي زدي ـ القي ام باس تعمار‬
‫اآلخ رين واس تخدامهم‪( ،‬وحين يلتقي الفريق ان‪ ،‬ك ان ي دعو االس الم إلى ن وع من القيم‬

‫‪ )(3‬القيم األخالقية ودورها في العالقات الدولية‪ ،‬الشيخ مصباح يزدي‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫األخالقية الدقيقة‪ .‬منه ا مثالً‪ :‬اح ترام المقدس ات‪ ،‬س واء ك انت ه ذه المقدس ات موض ع‬
‫احترام الكفار أو الكفار والمسلمين‪ ..‬كذلك يجب احترام الكنائس‪ ،‬وأم اكن العب ادة ال تي‬
‫أقامها المسيحيون أو اليه ود لعب ادة هللا‪ ،‬وليس ألح د أن يتع رض لش يخ أو طف ل أو أي‬
‫شخص محايد لم يشارك في الحرب‪ ..‬فهذه األصول وغيره ا‪ ،‬أوجب االس الم االل تزام‬
‫به ا‪ ،‬ح تى م ع أش د أع داء االس الم‪ ،‬ولم يتس امح في تطبيقه ا‪ ،‬إال إذا ب ادر الع دو إلى‬
‫خرقها)‬
‫ويلخص يزدي أصول أخالق التعامل م ع المح اربين بقول ه‪( :‬لق د أراد االس الم‬
‫للحرب أن تكون حربا ً شجاعة شريفة واضحة فال استغفال للعدو وال مباغت ة ل ه‪ ،‬إذ ال‬
‫حرب قبل اإلعالن وإذا ما وقعت الحرب فال مج ال لعملي ات اإلب ادة أو الح رق‪ ،‬ح تى‬
‫إحراق منازل العدو ومزارعه ال تي تم ده بالغ ذاء والم ال‪ ،‬إال إذا لج أ الع دو إلى ذل ك‪.‬‬
‫فالحرب تحسم في ميدان القتال‪ ،‬وباألسلحة المتعارفة في ذلك العصر‪ ،‬وما بعد الحرب‬
‫يأتي دور األسرى ال ذين وض ع االس الم أص والً للتعام ل معهم‪ ،‬أوض حتها الرواي ات‪،‬‬
‫وتحدثت عنه ا كتب الفق ه باس هاب‪ ،‬والح رب ليس ت ه دفا ً في االس الم‪ ،‬ح تى الح رب‬
‫الدفاعية ـ كالحرب مع البغاة‪ ،‬فهي محدودة بحدود رفع الظلم ودفع التجاوز على النظام‬
‫وفرض األمن اإلسالمي)‬
‫ه ذه بص ورة عام ة القيم األخالقي ة ال تي تحكم العالق ات الدولي ة في المنظ ور‬
‫اإلسالمي بحسب رؤية قادة الثورة اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬وهي التي تعمل أجه زة الدول ة‬
‫في تنفيذها على أرض الواقع‪ ،‬وبناء عليها تص در الفت اوى المختلف ة من والي ة الفقي ه‪،‬‬
‫والتي لها السلطة العليا في قضايا الداخل والخارج‪.‬‬
‫ومن أحسن النماذج عن تلك الفت اوى األخالقي ة الك برى‪ ،‬فت وى المرش د األعلى‬
‫للثورة اإلسالمية في إيران السيد علي الخامنئي بحرمة استخدام أسلحة الدمار الش امل‪،‬‬
‫والتي صدرت عام ‪ 2003‬م‪ ،‬ثم أعلنتها الحكومة االيرانية في بيان رس مي في اجتم اع‬
‫الوكالة الدولية للطاقة الذري ة في فيين ا‪ ،‬وال تي يق ول فيه ا‪( :‬نعتق د إض افةً إلی الس الح‬
‫النووي‪ ،‬سائر صنوف أسلحة الدمار الش امل كاألس لحة الكيمياوي ة والميكروبي ة تمث ل‬
‫خط راً حقيقي ا ً علی البش رية‪ ،‬والش عب اإلي راني باعتب اره ض حية الس تخدام الس الح‬
‫الكيمياوي يشعر أكثر من غ يره من الش عوب بخط ر إنت اج وتخ زين ه ذه األن واع من‬
‫األس لحة‪ ،‬وه و علی اس تعداد لوض ع كاف ة إمكانات ه في س بيل مواجهته ا‪ ،‬إنن ا نعت بر‬
‫استخدام ه ذه األس لحة حرام اً‪ّ ،‬‬
‫وإن الس عي لحماي ة أبن اء البش ر من ه ذا البالء الكب ير‬
‫واجبا ً علی عاتق الجميع) (‪)1‬‬
‫وهو يشير كل حين إليها‪ ،‬ويبين دوافعه ا الش رعية واألخالقي ة‪ ،‬ومن ذل ك قول ه‬
‫بعد أربعة أيام من عقد االتفاقية حول البرنامج النووي عام ‪( :2015‬لقدأص درنا فت وی‬
‫بحرمة إنتاج السالح النووي قبل سنوات‪ ،‬وذلك لتعارضها م ع الش رع واألخالق‪ ،‬لكن‬
‫األمريكان رغم أنهم يعترفون أحيانا ً بأهمية هذه الفتوى‪ ،‬يكذبون ويه ددون في إعالمهم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تحريم اسلحة الدمار الشامل‪ ،‬الموقع الرسمي لمكتب خامنئي‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫اإليراني)(‪)2‬‬‫ويزعمون أن تهديداتهم هي التي حالت دون إنتاج السالح النووي‬
‫وقد عد الكثير من الذين يعرفون إيران‪ ،‬ومبادئه ا‪ ،‬ويثق ون في مص داقيتهم ه ذه‬
‫الفتوى أكبر ضمان لحركة ايران في مسار التكنولوجيا النووي ة الس لمية‪ ،‬ب ل اعتبره ا‬
‫أعداء الجمهورية أنفسهم كذلك‪ ،‬بما فيهم باراك أوبام ا ال ذي اعت بر الفت وى آلي ة جي دة‬
‫لاللتزام باالتفاق‪.‬‬

‫‪ )( 2‬إقامة صالة عيد الفطر المبارك بإمامة السيد علي الخامنئي في مصلى طهران‪ ،‬الموقع الرس مي لمكتب آي ة هللا‬
‫خامنئي‪.18/07/2015 ،‬‬

‫‪263‬‬
‫إيران ‪ ..‬والقيم الحضارية‬
‫ال نريد بالقيم الحضارية هنا ذلك المفهوم الخاطئ ال ذي يتص وره الكث ير‪ ،‬وعلى‬
‫أساسه يصورون الغ رب اآلن بأن ه وص ل إلى قم ة الحض ارة‪ ،‬حيث يجعل ون من ه ذا‬
‫المص طلح قاص را على ذل ك الرف اه الم ادي‪ ،‬أو تل ك القيم الممتلئ ة باألناني ة‪ ،‬وال تي‬
‫تحرص على بعض القيم اإلنسانية‪ ،‬مع التطفيف في الموازين عند التعام ل معه ا‪ ،‬كم ا‬
‫ار يُ َؤ ِّد ِه إِلَ ْيكَ َو ِم ْنهُ ْم‬ ‫ْ‬ ‫قال هللا تعالى عن أهل الكتاب‪َ { :‬و ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب َم ْن إِ ْن تَأ َم ْنهُ بِقِ ْنطَ ٍ‬
‫َار اَل يُ َؤ ِّد ِه إِلَ ْيكَ إِاَّل َما ُد ْمتَ َعلَ ْي ِه قَائِ ًما َذلِ كَ بِ أَنَّهُ ْم قَ الُوا لَي َ‬ ‫ْ‬
‫ْس َعلَ ْينَ ا فِي‬ ‫َم ْن إِ ْن تَأ َم ْنهُ بِ ِدين ٍ‬
‫اأْل ُ ِّميِّينَ َسبِيلٌ} [آل عمران‪]75 :‬‬
‫ف القيم ال تي تحكم الغ رب اآلن قيم مادي ة‪ ،‬ال عالق ة له ا بالحض ارة الحقيقي ة‪،‬‬
‫وال دليل على ذل ك ه و أن ه ذا الغ رب ال ذي يتص ور الكث يرون أن ه وص ل إلى نهاي ة‬
‫الت اريخ‪ ،‬وتحققت في ه ك ل المث ل اإلنس انية‪ ،‬ه و نفس ه الغ رب ال ذي اس تعمر بالد‬
‫المستض عفين‪ ،‬وانتهب خيراته ا قرون ا طويل ة‪ ،‬وه و نفس ه ال ذي يح رض اآلن‬
‫المستضعفين بعضهم على بعض‪ ،‬لتبقى له الس يادة والس لطة واالس تكبار عليهم‪ ..‬وه و‬
‫نفسه الغرب الذي ينشر اإلباحية واإللحاد وكل الفلسات ذات التوجهات المادي ة‪ ،‬وال تي‬
‫ال تعطي أي قيمة لألخالق‪ ،‬وال للقيم الرفيعة‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬ال نريد من القيم الحضارية تلك القيم المادية التي وقع بعض اإلس الميين‬
‫لألس ف أس ارى له ا‪ ،‬فص اروا يقيس ون نج اح أي حكوم ة أو دول ة بمس توى رخائه ا‬
‫االقتص ادي‪ ،‬وتق دمها الم ادي‪ ،‬ال بمس توى القيم األخالقي ة والحض ارية الحقيقي ة ال تي‬
‫تحملها‪.‬‬
‫ولهذا نراهم يشنون الحملة على إيران‪ ،‬ويقيسونها على مثيالتها من ال دول ال تي‬
‫باعت ذممها‪ ،‬ولم تبال بالقيم الدينية وال األخالقية‪ ،‬واكتفت ببعض الرخاء االقتص ادي‪،‬‬
‫المصحوب بالتبعية للغرب والفكر الغربي‪.‬‬
‫وق د أش ار إلى ه ذا المع نى ق ادة الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة في أح اديثهم‬
‫الكثيرة التي عبروا فيها عن رؤاهم حول مفه وم الحض ارة والقيم المرتبط ة به ا‪ ،‬ومن‬
‫ذلك قول الخامنئي‪ ..( :‬الحضارة‪ ،‬رغم مع ك ّل م ا فيه ا وم ع ك ّل ا ّدعاءاته ا‪ ،‬خ رجت‬
‫مهزومة من ساحة االمتحان من خالل األعمال التي يمارسها ه ؤالء األمريكي ون‪ ،‬من‬
‫إشعال الحروب والظلم وعدم العدالة والغ رور والس لوكيّات غ ير العاقل ة‪ ..‬ومن أب رز‬
‫تج ارب ه ذه الحض ارة‪ ،‬إش عال الح روب‪ ،‬وتهدي د الس الم‪ ،‬وقت ل األبري اء‪ ،‬وص رف‬
‫رساميل طائلة على الحروب تحت مبرّرات ال يمكن الوثوق بها)‪1‬‬
‫ثم ي دعو إلى المقارن ة بين ه ذه الحض ارة المزيف ة ال تي يزعمه ا الغ رب بقي ادة‬
‫أمريكا مع تلك الحضارة ال تي أسس ها المس لمون؛ فيق ول‪( :‬ق ارنوا بين ه ذه الحض ارة‬
‫الغربية‪ ،‬وبين الحض ارة اإلس الميّة عن دما فتح المس لمون المن اطق الغربيّ ة في الع الم‬
‫‪ 1‬من كالم له في لقاء مسؤولي النظام (‪.)15/10/2001()23/7/1380‬‬

‫‪264‬‬
‫اإلسالمي ـ أي مناطق الروم وسوريا اليوم ـ في زمان الخلفاء الراشدين‪ ،‬حيث تع املوا‬
‫مع اليهود والمسحيّين بأسلوب جعل الكثيرين منهم يتوجّهون نح و اإلس الم‪ ،‬وفي بل دنا‬
‫إيران استسلم الكثير من الناس من دون مقاومة‪ ،‬ألنّهم شاهدوا مروءة ورحمة وم داراة‬
‫المسلمين لألعداء‪ ،‬لذلك جاءوا بأنفسهم إلى اإلس الم‪ ،‬وي ذكر الت اريخ أنّ ه عن دما دخ ل‬
‫المسلمون بعض البالد‪ ،‬كان أهلها ير ّددون عبارة‪ :‬إنّنا لم نر يو ًما جمياًل في حياتنا كهذا‬
‫اليوم)‪1‬‬
‫وهكذا نراه يعتبر قمة الحضارة هي ذلك العصر الذي عاش فيه رس ول هللا ‪،‬‬
‫على الرغم من كل ذلك الزهد الذي عاشه مع أصحابه‪ ،‬ولكن القيم اإليماني ة ك انت هي‬
‫المتحكمة والسائدة‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬في صدر اإلسالم‪ ،‬استطاع رسول اإلسالم المك رّم‬
‫وصحابته وخلفاؤه العظام باالعتماد على هللا أن يؤسّسوا حضارةً تاريخيّةً عظيم ةً‪ .‬لق د‬
‫لكن اإليم ان أم ّدهم‬ ‫ضا‪ ،‬في مقابل القوى العظمى في زمانهم‪ ،‬قلّة في الظ اهر‪ّ ،‬‬ ‫كانوا أي ً‬
‫بالقوّة‪ ،‬فاستطاعوا تحقيق عظمة في التاريخ امت ّدت قرونًا‪ ،‬لِ َم ال يمكننا نحن ذلك)‬
‫وأضاف يقول‪( :‬لقد أسّس النب ّي في زمانه وفي م ّدة قص يرة ـ في ظ رف عش ر‬
‫سنوات ـ بنيان حضار ٍة عظيمة‪ .‬هنا تتّضح عظم ة الن ب ّي‪ ..‬وه ذه هي ق درة النب وّة‪ ،‬لق د‬
‫صنع الناس بنحو واستخدمهم بنح و أمكن ه أن يص نع بتل ك الع ّدة القليل ة ـ حيث ك انت‬
‫أساس ا ب نيت‬ ‫ً‬ ‫دولته بادىء األمر عبارة عن مدينة واحدة تض ّم‪ ،‬ع ّدة آالف من األف راد‪،‬‬
‫فوقه حضارة عظيمة) ‪2‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا الفصل أن نبين القيم الحضارية الكبرى التي تبنته ا‬
‫إيران في واقعها الح الي‪ ،‬أو في تاريخه ا الطوي ل‪ ،‬وهي قيم تنب ع من اإلس الم بعقائ ده‬
‫وأخالقه ومثله العليا‪ ،‬وقد رأينا من خالل استقراء الت اريخ والواق ع أن ه يمكن تص نيفها‬
‫إلى أربعة قيم كبرى‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أوال ـ االنفتاح الحضاري‪ :‬ونريد به ما دعا إلي ه قول ه تع الى‪ { :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ إِنَّا‬
‫خَ لَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُ ْنثَى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُوبًا َوقَبَائِ َل لِتَ َعا َرفُوا إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْتقَ ا ُك ْم إِ َّن‬
‫هَّللا َ َعلِي ٌم َخبِيرٌ} [الحجرات‪ ،]13 :‬وقوله‪ { :‬فَاسْأَلْ بِ ِه خَ بِيرًا } [الفرقان‪ ،]59 :‬فالمسلم‬
‫المتحضر ال ينغلق على نفسه‪ ،‬وإنم ا يس ير في األرض‪ ،‬وينفتح على جمي ع الش عوب‪،‬‬
‫ويتناول من جميع موائد علمها وخبرتها مع محافظته على هويته وشخصيته وقيمه‪.‬‬
‫ثانيــا ــ اإلبــداع الحضــاري‪ :‬ونريد ب ه المس اهمة في إنت اج المعرف ة وتطويره ا‬
‫وخدمة اإلنسانية من خاللها‪ ،‬وهو ما أشارت إليه تل ك النص وص المقدس ة ال تي ت ذكر‬
‫داود علي ه الس الم وتل يين الحدي د ل ه‪ ،‬أو ت ذكر ذي الق رنين وكي ف اس تطاع أن ينق ذ‬
‫المستضعفين باالختراعات التي اخترعها‪.‬‬
‫ثالثا ـ تصدير الحضارة‪ :‬ونريد به المس اهمة في خدم ة اإلنس انية‪ ،‬وع دم الش ح‬
‫عليها بأي معرفة أو علم يمكنه أن يساهم في تطويرها‪.‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 2‬خطاب القائد في لقاء أعضاء الجمعيّة اإلسالميّة للطلبة الجامعيّين (‪.)7/11/2000‬‬

‫‪265‬‬
‫{واَل تُ َجا ِدلُوا أَ ْه َل‬
‫رابعا ـ الحوار الحضاري‪ :‬ونريد به ما نص عليه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ب إِاَّل بِ الَّتِي ِه َي أَحْ َس نُ إِاَّل الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا ِم ْنهُ ْم } [العنكب وت‪ ،]46 :‬فهي ترس م‬
‫ْال ِكتَ ا ِ‬
‫العالقة بين المسلمين وغيرهم من المس المين‪ ،‬وهي عالق ة مبين ة على الح وار ال على‬
‫الصراع كما تتبناها الرؤية الغربية‪.‬‬
‫وسنحاول في ه ذا الفص ل بي ان م دى تحق ق إي ران به ذه القيم األربع ة‪ ،‬وم دى‬
‫مساهمتها في خدمة جميع البالد اإلسالمية‪ ،‬بل غيرها من البالد من خاللها‪.‬‬
‫والنتيجة التي خلصنا إليها هي أن إيران في أقل أحوالها مركز كب ير من مراك ز‬
‫اإلشعاع الحضاري اإلسالمي‪ ،‬والذي يريد أن يش طبها من الخارط ة اإلس المية‪ ،‬علي ه‬
‫أوال أن يلغي الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وكل القيم الجميلة التي تحملها‪ ،‬ويلغي معها كل ذلك‬
‫التراث الفلسفي والعلمي والديني الذي كتبه اإليراني ون‪ ،‬وال ذي ال يمكن االس تهانة ب ه‪،‬‬
‫بل ال يمكن تصور الحديث عن الحضارة اإلسالمية من دون الحديث عنه‪.‬‬
‫لذلك فإن الجريمة التي يقع فيها أولئك المغرضون الذين يوجه ون س هام ح ربهم‬
‫إلى إيران‪ ،‬ويعتبرونها مؤامرة على اإلسالم‪ ،‬هي كونهم ـ في حقيقة األم ر ـ يوجه ون‬
‫حربهم لإلسالم نفسه‪ ،‬ألن إيران في كل تاريخها مثلت اإلسالم أحس ن تمثي ل‪ ،‬وأعطت‬
‫صورة جميلة عن الحضارة اإلسالمية بأرقى مظاهرها‪.‬‬
‫أوال ـ إيران واالنفتاح الحضاري‪:‬‬
‫نري د باالنفت اح الحض اري االحتك اك بك ل الثقاف ات والعل وم‪ ،‬والتع رف عليه ا‪،‬‬
‫والتأثير فيها‪ ،‬والت أثر به ا‪ ،‬وع دم االنغالق على ال ذات‪ ،‬إم ا اس تعالء على اآلخ ر‪ ،‬أو‬
‫خوفا منه‪.‬‬
‫وه و مقدم ة لك ل إب داع حض اري‪ ،‬ذل ك أن ه ال يمكن أن تق وم أي حض ارة من‬
‫الحض ارات دون االس تناد إلى غيره ا‪ ،‬واالس تفادة منه ا‪ ،‬والبن اء على مكتس باتها‪،‬‬
‫فالحضارة ال وطن لها‪.‬‬
‫وعند التأمل في المنتجات الحضارية اإليرانية في العلوم المختلفة نج د أن ه ك ان‬
‫لالنفت اح دوره الكب ير في ك ل تل ك اإلب داعات الجدي دة ال تي ج اء علم اء إي ران في‬
‫المجاالت المختلفة‪ ،‬والتي سنرى بعضها في المبحث الثاني من هذه الفصل‪.‬‬
‫وبن اء علي ه سنقتص ر هن ا على مجموع ة نم اذج من الق ديم والح ديث‪ ،‬وكي ف‬
‫انفتحت على اآلخر في نفس الوقت الذي حافظت فيه على ذاتها وقيمها وهويتها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ المتقدمون من اإليرانيين واالنفتاح الحضاري‪:‬‬
‫من أق دم األمثل ة على ذل ك وأحس نها ذل ك القتي ل المظل وم عبــد هللا بن المقفع‬
‫الفيروز آبادي (‪ 145 - 109‬ه‍) ذلك الكاتب والشاعر والمترجم الكبير‪ ،‬وصاحب تلك‬
‫الروائع األدبية والفلسفية التي كان له ا تأثيره ا الكب ير في الثقاف ة اإلس المية من أمث ال‬
‫[كليلة ودمنة]‪ ،‬و[األدب الكبير]‪ ،‬و[األدب الصغير]‪ ،‬وغيرها‪ ،‬والتي استطاع أن ينق ل‬
‫فيه ا الكث ير من ال تراث الهن دي والفارس ي‪ ،‬ويص يغه بص ياغة مقبول ة ش رعا وعقال‬
‫وذوقا‪ ،‬حتى بدا وكأنها من إبداعه الخاص‪.‬‬
‫ومنه ا أبــو حامــد الغــزالي الطوسي (‪ 450‬هـ ‪ 505 -‬هـ)‪ ،‬وال ذي ع بر عن‬

‫‪266‬‬
‫اهتمامه بكل الثقافات‪ ،‬بل بكل األديان والمذاهب‪ ،‬ومحاولت ه التع رف عليه ا عن كثب‪،‬‬
‫الس تكناه أس رارها‪ ،‬وفهم أغواره ا‪ ،‬وق د ق ال مع برا عن ذل ك‪( :‬ولم أزل في عنف وان‬
‫ش بابي ـ من ذ راهقت البل وغ‪ ،‬قب ل بل وغ العش رين إلى اآلن‪ ،‬وق د أن اف الس ن على‬
‫الخمسين ـ أقتحم لجة هذا البحر العميق‪ ،‬وأخوض غمرته خ وض الجس ور‪ ،‬ال خ وض‬
‫الجبان الحذور‪ ،‬وأتوغل في كل مظلمة‪ ،‬وأتهجّم على كل مش كلة‪ ،‬وأتقحم ك ل ورط ة‪،‬‬
‫وأتفحص عن عقيدة كل فرقة‪ ،‬وأستكشف أسرار م ذهب ك ل طائف ة‪ ،‬ألم يز بين مح ق‬
‫ومبط ل‪ ،‬ومتس نن ومبت دع‪ ،‬ال أغ ادر باطني ا ً إال وأحب أن أطل ع على باطنيت ه‪ ،‬وال‬
‫ظاهريا ً إال وأريد أن أعلم حاصل ظاهريت ه‪ ،‬وال فلس فيا ً إال وأقص د الوق وف على كن ه‬
‫فلسفته‪ ،‬وال متكلما ً إال وأجتهد في اإلطالع على غاي ة كالم ه ومجادلت ه وال ص وفيا ً إال‬
‫وأحرص على العثور على سر صفوته‪ ،‬وال متعبداً إال وأترصد ما يرج ع إلي ه حاص ل‬
‫عبادت ه‪ ،‬وال زن ديقا ً معطالً إال وأتحس س وراءه للتنب ه ألس باب جرأت ه في تعطيل ه‬
‫وزندقته)(‪)1‬‬
‫وعبر عنه في تعامله مع التراث األجنبي الذي كان يحمل حينه ا اس م الفلس فة أو‬
‫علوم األوائل‪ ،‬حيث وجد في عصره صنفين من التعامل معها‪.‬‬
‫أم ا الص نف األول؛ ف يرى ال رفض الكلي لتل ك الثقاف ات‪ ،‬وت أليب ال رأي الع ام‬
‫عليها‪ ،‬وتكفير أو تبديع كل من يبحث أو يخوض فيها‪ ،‬فلم تكن عالق ة ه ذا التي ار بتل ك‬
‫الثقافات إال عالقة الحكم المسبق في معظم األحيان‪ ،‬ولم يكن نق دها إال نق دا ظاهري ا ال‬
‫يعتمد البرهان العلمي‪ ،‬وال الحجة المنطقية‪ ،‬ألن المنطق نفسه من الفلسفة‪.‬‬
‫وهذا الصنيف يشبه كثيرا التيار الس لفي وم ا ش ابهه من التي ارات في عص رنا‪،‬‬
‫ودولته تشبه دولة طالبان أو دول ة داعش المنغلق تين على ذاتهم ا‪ ،‬والرافض تين لآلخ ر‬
‫رفضا كليا‪.‬‬
‫وق د اعت بر الغ زالي ه ذا التي ار س ببا النتش ار األفك ار المض للة‪ ،‬وه و يس ميهم‬
‫بالص ديق الجاه ل (‪ ،)2‬ومن األمثل ة ال تي ذكره ا عنهم إنك ارهم ك ون خس وف القم ر‬
‫عبارة عن انمحاق ضوء القم ر بتوس ط األرض بين ه وبين الش مس‪ ،‬وأنك روا الهندس ة‬
‫والحساب والمنطق والفلك وغيرها(‪ ،)3‬ألن مصدر ذلك هو الثقافات األجنبية‪ ،‬مع أنه ا‬
‫ال تصادم النصوص الشرعية‪ ،‬يقول الغزالي‪( :‬وأعظم ما يفرح به الملح دة أن يص رح‬
‫ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خالف الشرع‪ ،‬فيسهل عليه طري ق إبط ال الش رع)‬
‫(‪ ،)4‬مع أن الشرع لم يتعرض لهذه العلوم نفي ا وال إثبات ا‪ ،‬وال في ه ذه العل وم تع رض‬

‫‪ )(1‬المنقذ من الضالل (ص‪)109 :‬‬


‫المنقذ من الضالل ص‪.114‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫معراج السالكين‪( ،‬الرسائل الفرائد) ص‪ 220‬ـ ‪.221‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫تهافت الفالسفة ص‪.43‬‬ ‫‪)(4‬‬

‫‪267‬‬
‫لألمور الشرعية(‪.)1‬‬
‫وقد انجر عن هذا المنهج نوع من الشعور بالتصادم بين العقل والدين‪ ،‬ف إن تل ك‬
‫القضايا من الوضوح والدقة‪ ،‬وبراهينه ا من الوض وح والق وة بحيث ال يمكن رفض ها؛‬
‫ورفض العلماء لها بحجة منافاتها للدين كذب عليه‪ ،‬وخدمة للملحدين والمشككين‪ ،‬وهو‬
‫ما حصل في أوروبا عندما أنكرت الكنيسة الكثير من الكشوف العلمية التي تتن افى م ع‬
‫موروثاتها اليونانية وغيرها‪ ،‬مما أدى إلى النفور من الكنيسة‪ ،‬والتمكين لإللحاد‪.‬‬
‫وم ا ذك ره الغ زالي عن ه ذا الص نف وموقف ه من العل وم‪ ،‬يش به تمام ا موق ف‬
‫الس لفيين في عص رنا من الحق ائق العلمي ة الكث يرة‪ ،‬وخصوص ا الفلكي ة منه ا‪ ،‬بحج ة‬
‫مصادمتها للنصوص المقدسة‪.‬‬
‫أما الصنف الثاني‪ ،‬فهو على النقيض من الصنف األول‪ ،‬ويرى القبول الكلي لما‬
‫ورد في تلك الفلسفات والثقافات‪ ،‬وط رح ال دين بس ببها‪ ،‬واالنخ داع بمظاهره ا‪ ،‬يق ول‬
‫الغزالي معبرا عن هذا التيار في مقدمة (تهافت الفالسفة)‪( :‬أما بعد‪ ،‬فإني رأيت طائف ة‬
‫يعتقدون في أنفسهم التم يز عن األت راب والنظ راء بمزي د الفطن ة وال ذكاء ق د رفض وا‬
‫وظائف اإلسالم‪ ،‬واستحقروا ش عائر ال دين‪ ،‬ب ل خلع وا بالكلي ة ربق ة ال دين بفن ون من‬
‫( )‬
‫الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل هللا‪ ،‬ويبغونها عوجا) ‪2‬‬
‫وهو يش به تمام ا أولئ ك ال ذين ي دعون التن وير من الح داثيين وغ يرهم‪ ،‬وال ذين‬
‫راحوا يتالعبون بحقائق الدين‪ ،‬ويؤولونها‪ ،‬ويرفضون الكث ير منه ا‪ ،‬بغي ة ال ذوبان في‬
‫اآلخر‪ ،‬وتخليص اإلسالم من كل خصوصياته وحقائقه وقيمه‪.‬‬
‫والغزالي ينتقد ذوبان هذا التيار في تلك الثقافات‪ ،‬ويرى أن مصدر ذلك ال ذوبان‬
‫ال يرج ع إلى تحكيم الم وازين العقلي ة بق در رجوع ه إلى أوه ام وخي االت وأس باب‬
‫النفسية‪ ،‬وهو يعد منها‪:‬‬
‫‪ .1‬إطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم ودق ة عل ومهم‪ ،‬وأنهم م ع ك ل ذل ك‬
‫الذكاء منكرون للشرع متنصلون من تكاليفه‪.‬‬
‫‪ .2‬مصادرتهم العامة على مطالبهم المعرفي ة اس تدراجا لهم‪ ،‬بحيث أن ه إذا م ا أوردوا‬
‫عليهم إشكاال تذرعوا بأن هذه العلوم غامض ة‪ ،‬وأنه ا أعص ى العل وم على األفه ام‬
‫الذكية‪ ،‬وال يمكن التوص ل إلى فهمه ا إال بتق ديم الرياض يات والمنط ق‪،‬وه ذا كل ه‬
‫استدراج نفسي للوصول بهم إلى حالة االنبهار التام المؤدي إلى ا لخضوع الكلي‪.‬‬
‫‪ .3‬الخلط بين العلوم الطبيعية والهندسية والمنطقية مع اآلراء الميتافيزيقي ة‪ ،‬ح تى ظن‬
‫من ينظر في منطقهم فيراه مستحسنا أن سائر علومهم مؤيدة بتلك البراهين‪.‬‬
‫وكل هذه األس باب ال تي ذكره ا الغ زالي وغيره ا ل ذوبان ه ذا الفري ق في تل ك‬
‫الثقافات ال ترج ع إلى ب راهين عقلي ة‪ ،‬أو حجج منطقي ة‪ ،‬وإنم ا ه و حال ة من االنبه ار‬
‫الساذج‪ ،‬والتأثر العاطفي الذي ال يحكمه العقل‪ ،‬وال يستند إلى الحجة‪.‬‬

‫المنقذ من الضالل ص‪.102‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫تهافت الفالسفة ص‪.38‬‬ ‫‪)(2‬‬

‫‪268‬‬
‫وبديال عن ذينك الصنفين يقترح الغ زالي ص نفا ثالث ا‪ ،‬ه و وس ط بين الص نفين‪،‬‬
‫ويتمثل في التمييز بين المقبول والمرفوض من تلك الثقافات؛ فيقبل ما دل عليه الش رع‬
‫والعقل‪ ،‬ويرفض ما يرفضانه‪ ،‬وبناء على هذا األساس قسم الغزالي علوم الفالس فة إلى‬
‫ستة أقسام مبينا أن أكثرها يمكن قبوله واالستفادة منه‪ ،‬وأنه ال ضرر منه على الدين‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قبوله الرياضيات‪ ،‬وما يتعلق بها من الحس اب والهندس ة‪،‬‬
‫وعلم هيئ ة الع الم‪ ،‬وحكمه ا كم ا يق رر الغ زالي أن ه (ال يتعل ق ش يء منه ا ب األمور‬
‫الدينية‪،‬بل هي أمور برهانية ال سبيل إلى مجا حدتها بع د فهمه ا) (‪ ،)1‬ب ل إن ه يجعله ا‬
‫من الفروض الكفائية ما دام هناك من يحتاج إليها‪ ،‬وه و ال يح ذر س وى من اس تغاللها‬
‫استغالال عقديا ال عالقة لها به(‪.)2‬‬
‫ومن األمثل ة عليه ا قبول ه العل وم المنطقي ة المتعلق ة ب النظر في ط رق األدل ة‬
‫والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها‪ ،‬باعتبار أن ه ال يتعل ق ش يء منه ا‬
‫بالدين ـ في رأي الغزالي ـ إال ما حشيت به من أمثلة تتناقض وتتع ارض م ع األص ول‬
‫الدينية‪ ،‬وألجل ذلك ألف الغزالي كتبه المنطقية‪ ،‬كمعيار العلم وغيره‪ ،‬وحشاها بدال من‬
‫ذلك باألمثلة الفقهية‪.‬‬
‫ومن األمثلة عليها قبوله العل وم الطبيعي ة بم ا تش تمل علي ه ذل ك الحين من طب‬
‫وكيمياء وفلك وغيرها‪ ،‬ويرى الغزالي عدم تعرضها لل دين‪ ،‬ول ذلك ال ينبغي مخ الفتهم‬
‫في شيء منها إال بما ه دى إلي ه ال دليل العلمي‪ ،‬وه و ال يعتب على ه ذه العل وم إال في‬
‫جعلها الطبيعة فاعلة بذاتها‪ ،‬ولذلك يدعو أثناء مطالعة هذه العلوم أن يعلم المطلع عليه ا‬
‫(أن الطبيعة مسخرة هلل تعالى‪ ،‬وال تعمل بنفس ها‪ ،‬ب ل هي مس تعملة من جه ة فاطره ا‪،‬‬
‫والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره‪ ،‬ال فعل لشيء منها لذاته) (‪)3‬‬
‫ومن األمثلة عليها قبوله بما سماه [العلوم السياسية]‪ ،‬والتي يبحث فيه ا الفالس فة‬
‫عن الحكم المص لحية المتعلق ة ب األمور الدنيوي ة‪ ،‬وال ي رى الغ زالي ل ذلك أي تعل ق‬
‫بالدين‪ ،‬بل يمكن االستفادة من أبحاثهم فيها باعتبارها مستمدة ـ كما يرى ـ من كتب هللا‬
‫المنزلة على األنبياء‪ ،‬ومن الحكم المأثورة عن سلف األنبياء (‪.)4‬‬
‫وهذا الموق ف ه و ال ذي أكس ب الغ زالي فك را سياس يا متين ا يحت اج إلى مزي د‬
‫دراسة‪.‬‬
‫ومن األمثلة عليها قبوله بالعلوم األخالقية‪ ،‬وكالمهم فيها ـ كما يلخصه الغزالي ـ‬
‫يرج ع إلى حص ر ص فات النفس وأخالقه ا وأجناس ها وأنواعه ا وكيفي ة معالجته ا‬
‫ومجاهدتها‪ ،‬وهو ال يرى ردها باعتبارها ال تناقض الش رع‪ ،‬ب ل ي رى أن كالمهم فيه ا‬

‫المنقذ من الضالل ص‪.101‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫المنقذ من الضالل ص‪.104‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫المنقذ من الضالل ص‪.108‬‬ ‫‪)(4‬‬

‫‪269‬‬
‫م أخوذ من كالم الص وفية والمت ألهين (‪ )1‬ال ذين لم يخل و من وج ودهم أي عص ر من‬
‫العصور‪ ،‬ولذلك فإن االس تفادة منهم تل ق لمزي د من التج ارب والفوائ د ال تي لم تمنعن ا‬
‫الشريعة من األخذ بها (‪.)2‬‬
‫بعد هذا التقسيم ال يرى الغزالي حرجا أن يستفيد اللبيب من كل علومهم م ا ع دا‬
‫ما عارض الشرع منها‪ ،‬ألن معرفة الح ق مطلب ك ل عاق ل‪ ،‬والحكم ة ض الة الم ؤمن‬
‫أنى وجدها فهو أحق بها‪.‬‬
‫وهو ينكر على من يرد عليهم بمجرد كونهم فالسفة‪ ،‬ويشبه ذلك بالذي يسمع من‬
‫النصراني قول‪( :‬ال إله إال هللا عيسى رسول هللا) فينكره‪ ،‬ويق ول‪ :‬ه ذا كالم نص راني‪،‬‬
‫وال يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتب ار ه ذا الق ول أو باعتب ار إنك ار نب وة‬
‫محمد ‪.)3( ‬‬
‫وبسبب هذا الفكر المتفتح المنتقي استفاد الغزالي من الفالسفة‪ ،‬وضمن ذلك كتب ه‬
‫بعد مزجه بالنصوص الشرعية‪ ،‬أو بعد أسلمته‪ ،‬وق د القى بس بب ذل ك النق د الالذع من‬
‫كثير من الطاعنين‪ ،‬كقول ابن العربي المالكي‪( :‬إن شيخنا هذا [الغ زالي] دخ ل بط ون‬
‫الفالسفة ثم أراد أن يخرج فما قدر) (‪)4‬‬
‫وقد حصل له ذلك االعتراض في حياته‪ ،‬فقال مجيبا‪( :‬ولقد اعترض على بعض‬
‫الكلم ات في تص انيفنا في أس رار عل وم ال دين طائف ة من ال ذين لم تس تحكم في العل وم‬
‫سرائرهم‪ ،‬ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بص ائرهم‪ ،‬وزعمت أن تل ك الكلم ات‬
‫من كلمات األوائل‪ ،‬مع أن بعضها من مولدات الخواطر‪ ،‬وال يبعد أن يق ع الح افر على‬
‫الحافر‪ ،‬وبعضها يوجد في الكتب الشرعية‪ ،‬وأكثرها موجود معت اد في كتب الص وفية)‬
‫(‪)5‬‬
‫ثم يعقب على ذلك منكرا‪( :‬وهب أنها ال توجد إال في كتبهم‪ ،‬فإذا كان ذلك الكالم‬
‫معقوال في نفس ه مؤي دا بالبره ان‪ ،‬ولم يكن على مخالف ة الكت اب والس نة‪ ،‬فلم ينبغي أن‬
‫يهجر وينكر؟) (‪)6‬‬
‫‪ 2‬ـ المتأخرون من اإليرانيين واالنفتاح الحضاري‪:‬‬
‫ال يمكنن ا هن ا ذك ر نم اذج المت أخرين واطالعهم على ثقاف ة اآلخ ر واس تفادتهم‬
‫منها‪ ،‬فهي من الكثرة بحيث ال يمكن اإلحاطة بها‪ ،‬وبن اء على ه ذا سنقتص ر على ق ادة‬
‫الجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬وكي ف انفتح وا على الع الم‪ ،‬وأعط وا ص ورة مش رفة‬

‫التأله‪ :‬التنسك والتعبد‪ ،‬انظر‪ :‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب ‪ 13‬ص‪ 467‬رقم‪.8664 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫المنقذ من الضالل ص‪.109‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫المرجع السابق ص‪.110‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫ابن العربي‪ ،‬العواصم من القواصم ص‪.7‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫المنقذ من الضالل ص‪.111‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬

‫‪270‬‬
‫بذلك االنفتاح في مقابل أولئك المنغلقين الذين حجروا على أنفسهم االس تفادة من ت راث‬
‫األجانب بحجة أنها علوم كفار‪.‬‬
‫وأول مظه ر من مظ اهر ذل ك االنفت اح االنفت اح على ك ل الم ذاهب اإلس المية‪،‬‬
‫وعدم التقوقع داخل المدرسة أو المذهب‪ ،‬ولهذا نرى قادة الثورة اإلسالمية ي دعون إلى‬
‫الوحدة اإلسالمية‪ ،‬وإلى التقريب بين الم ذاهب اإلس المية‪ ،‬وع دم االس تماع لم ا يقول ه‬
‫الطائفيون في ذلك‪.‬‬
‫ومن خطاب ات الخمي ني في ه ذا المج ال‪ ،‬وال تي وجهه ا إلى الحجيج في موس م‬
‫الحج باعتباره محال الجتماع جميع المسلمين قوله لهم‪( :‬أيه ا الح ّج اج المح ترمون لق د‬
‫اجتم ع الع الم ح ول بعض ه البعض‪ ،‬ويتب ادل اآلراء في مص الح اإلس الم ومش اكل‬
‫المس لمين‪ ،‬فيجب أن تتخ ذوا إج راءات ض رورية لح ل ه ذه المش اكل والوص ول إلى‬
‫األه داف اإلس المية المق ّدس ة وابحث وا في ط رق وس بل الوح دة بين جمي ع الطوائ ف‬
‫والم ذاهب اإلس المية‪ ،‬وابحث وا في المس ائل السياس ية المش تركة بين جمي ع الطوائ ف‬
‫اإلسالمية وابحثوا إليجاد حل للمشاكل التي أوجدها أعداء اإلسالم لمسلمي العالم والتي‬
‫يعتبر أهمها تفرقة صفوف المسلمين)(‪)1‬‬
‫وهو يستعمل كل أنواع االستدالال ليثبت لهم أنه ال حل لخروج المستضعفين من‬
‫نير المتس كبرين إال باتح ادهم ووح دتهم ونب ذهم لك ل م ا يف رق بينهم‪ ،‬يق ول في ذل ك‪:‬‬
‫(طريق واحد هو األساس لكل السبل‪ ،‬ويقتلع ج ذور ه ذه المآس ي ويقط ع داب ر الفس اد‬
‫ويعي د وح دة المس لمين ب ل وح دة جمي ع المستض عفين وك ل المستض عفين والمكبلين‬
‫بالسالس ل في الع الم‪ ،‬ه ذه الوح دة ال تي يؤك دها ويكرره ا اإلس الم الش ريف والق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬ويجب تحقيقها في الواقع من خالل الدعوة والتبليغ به ا بش كل واس ع‪ ،‬ومرك ز‬
‫هذه الدعوة مك ة المعظم ة عن دما يجتم ع المس لمون ألداء فريض ة الحج‪ ..‬يخ اطب هللا‬
‫إبراهيم خليل هللا ليدعو الناس إلى الحج‪ ،‬ويأتون من جميع األقطار ليش هدوا من افع لهم‬
‫ومنافع للمجتمع‪ ،‬منافع سياس ية‪ ،‬ومن افع اقتص ادية‪ ،‬ومن افع اجتماعي ة وثقافي ة‪ ،‬لي أتوا‬
‫ويروا نبيهم الذي قدم أغلى وأع ّز ثمرة في حيات ه في س بيل هللا‪ ..‬ويجب على ذرّي ة آدم‬
‫كلها أن تتأسى به فلينظروا كيف حطّم األصنام‪ ،‬وكيف أبع د ورمى جانب ا ً ك ل م ا ع دا‬
‫هللا‪ .‬شمسا ً كان أم قم راً‪ ،‬هياك ل‪ ،‬حيوان ات أو بش راً‪ ..‬يجب على الجمي ع التأس ي ب أبي‬
‫التوحيد‪ ،‬وأبي األنبياء عظماء الشأن) (‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬ومن جملة الوظائف في هذا االجتماع العظيم‪ ،‬دعوة الناس والمجتمع ات‬
‫اإلسالمية لوحدة الكلمة ورفع االختالفات بين فئات المسلمين حيث ينبغي على الخطباء‬
‫والعلماء والمفكرين أن يبادروا إلى هذا األمر الحياتي ويسعوا في سبيل إيجاد وتش كيل‬
‫جبهة للمستضعفين حيث إنهم يستطيعون بوحدة الجبهة‪ ،‬ووحدة الكلم ة‪ ،‬وش عار ال إل ه‬
‫إال هللا أن يتحرّروا من أس ر الق وى الش يطانية لألج انب والمس تعمرين والمس تثمرين‪،‬‬

‫‪ )(1‬أبعاد الحج‪ ،‬ص‪.29‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.30‬‬

‫‪271‬‬
‫وأخوّتهم) (‪)1‬‬ ‫ويتغلبوا على المشاكل بوحدتهم‬
‫وقال‪( :‬ليسمع الجميع هذه الحقيقة‪ ،‬إن أعداء اإلسالم يسعون بك ل ق وّتهم إليج اد‬
‫التفرقة واالختالف بين المجتمعات اإلس المية ويس عون ب أي وس يلة وتحت أي عن وان‬
‫إليج اد النزاع ات بين المس لمين‪ ،‬وال تي بتحقيقه ا تتهيّ أ األرض ية الص الحة لتس لّطهم‬
‫الكام ل من جدي د على جمي ع ال دول اإلس المية‪ ،‬ويس اعدهم على ذل ك هج ومهم لنهب‬
‫الثروات‪ ،‬ومن هذه الجهة يجب االحتراز عن أي عمل يؤدي إلى التفرقة وه ذا تكلي ف‬
‫شرعي وإلهي) (‪)2‬‬
‫وبن اء على ه ذا أسس ت في إي ران الكلي ات ال تي ت درس الم ذاهب اإلس المية‬
‫المختلفة‪ ،‬ومن ي زور مكتباته ا وجامعاته ا يتعجب من ذل ك التن وع المع رفي الموج ود‬
‫فيها‪ ،‬والذي ال نجده لألسف في مكتبات المدارس السنية‪.‬‬
‫ومن مظ اهر االنفت اح الحض اري ل دى ق ادة الجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة‬
‫االنفتاح على العالم‪ ،‬وعلى جميع الشعوب‪ ،‬ولعل أكبر من يمثل ذل ك االنفت اح الخمي ني‬
‫الذي استبدل ذلك الطرح الذي يقسم اإلسالميون على أساسه البشر إلى مسلمين وكفار‪،‬‬
‫ويعتق دون أن الص راع ق ائم بين اإلس الم والكف ر‪ ،‬بتقس يم جدي د‪ ،‬اس تمده من الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وهو المستكبرون والمستضعفون‪ ..‬ففي المستكبرين مسلمون وغير المسلمين‪..‬‬
‫وفي المستضعفين كذلك‪.‬‬
‫يق ول الخمي ني في وص يته‪( :‬أوص ى وزراء الخارجي ة في مج ال السياس ة‬
‫الخارجية الهادفة لحفظ االستقالل ومصالح البالد وإقام ة العالق ات الحس نة م ع ال دول‬
‫التي ليس في نيّتها التدخل في شؤوننا الداخلية‪ ،‬حاذروا وبكل ح زم من أي أم ٍر تش وبه‬
‫بأن التبعيّة في بعض األمور يع رِّ ض البالد ـ رغم‬ ‫شائبة التبعيّة بكل أبعادها‪ ،‬ولتعلموا ّ‬
‫ظاهرها الخ داع أو م ا تحقق ه من من افع مؤقت ة ـ إلى كارث ة م دمرة‪ ..‬اس عوا لتحس ين‬
‫عالقاتكم مع الدول اإلسالمية وإيقاظ قادتها وكونوا دع اة للوح دة واالتح اد فاهلل معكم‪..‬‬
‫ليبادر العلماء األعالم‪ ،‬والخطباء الموقرون في الدول اإلسالمية إلى دع وة الحكوم ات‬
‫لتحرير أنفسها من التبعيّة للقوى األجنبية الكبرى‪ ،‬وليتفقوا مع شعوبهم ف إنهم إذا فعل وا‬
‫عانقوا النصر ال محالة‪ ،‬عليهم أيض ا ً أن ي دعوا الش عوب إلى الوح دة ونب ذ العنص رية‬
‫المخافة لتعاليم اإلسالم‪ ،‬ومد يد االخوة إلى إخوانهم في اإليم ان في أي بل د ك انوا ومن‬
‫أي عنصر فإن اإلسالم يع ّد الجمي ع اخ وة‪ ،‬ول و أن ه ذه االخ وة تحققت يوم ا ً م ا بهم ة‬
‫الحكومات والشعوب وبتأييد هللا العلي‪ ،‬فسيظهر للعيان كيف أن المسلمين يشكلون أكبر‬
‫قوة في العالم)(‪)3‬‬
‫وهكذا نرى الخامنئي يس ير على نفس ال درب في تقس يم الع الم‪ ،‬يق ول في ذل ك‪:‬‬
‫(إنكم ل و نظ رتم اآلن إلى المش هد الجغ رافي له ذا الع الم في تقس يماته وممارس اته‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ )(3‬الوصية اإللهية السياسية‪ ،‬ص‪.27‬‬

‫‪272‬‬
‫السياسية‪ ،‬لوجدتم على ماذا يستند أولئك الذين يتص َّورون امتالكهم لكل شيء على ه ذه‬
‫األرض‪ ،‬وال ذين ينظ رون باحتق ار لك ل الش عوب ويس يطرون ظلم ا ً وع دوانا ً على‬
‫المصادر البشرية والمادية‪ ،‬وهم قوى االس تكبار‪ ،‬فعلى م اذا يعتم د ه ؤالء؟ إن أهم م ا‬
‫يعوّلون عليه هو اإليحاء للشعوب بأن قوتهم قوة ال منازع لها) (‪)1‬‬
‫وهذا المظه ر من مظ اهر االنفت اح ليس قاص را على السياس ة وح دها‪ ،‬ب ل إن ه‬
‫يتجاوزها إلى االنفتاح الثقافي والفكري وفي المجاالت المختلفة‪.‬‬
‫ونحب أن نذكر هنا نموذجا عن ذل ك من كلم ات قائ د الث ورة اإلس المية الح الي‬
‫نفسه‪ ،‬وكيف ينفتح على الثقافات بأنواعها المختلفة‪ ،‬ولعل أكبر دليل على ذلك ترجمت ه‬
‫لبعض كتب سيد قطب وثناؤه العريض عليها‪ ،‬ومنها ترجمته لتفس ير في ظالل الق رآن‬
‫لسيّد قطب‪ ،‬وكتابه المستقبل لهذا الدين‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وهو يدعو شعبه ك ل حين إلى مطالع ة ك ل المع ارف‪ ،‬واالس تفادة منه ا جميع ا‪،‬‬
‫(إن الكتاب هو نافذة على العالم الواسع للعلم والمعرفة‪ ،‬والكت اب الجيّ د‪،‬‬ ‫يقول في ذلك‪ّ :‬‬
‫هو أحد أفضل وسائل الكمال البشري‪ ..‬فالش خص الّ ذي ليس لدي ه ارتب اط به ذا الع الم‬
‫ك مح رو ٌم من أه ّم النتاج ات اإلنس انية‬ ‫الجمي ل والمح يي‪( ،‬ع الم الكت اب)‪ ،‬ه و بال ش ّ‬
‫وأيضا ً من أكثر المعارف اإللهية والبشرية‪ .‬إنّه ا لخس ارة عظيم ة لأل ّم ة الّ تي ال ش أن‬
‫ق عظي ٌم لإلنس ان أن ي أنس بالكت اب‪ ،‬وأن يك ون في حال ة‬ ‫ألبنائها بالكتاب‪ ،‬وإنّ ه لتوفي ٌ‬
‫استفادة دائمة منه‪ ،‬فيتعلّم أشياء جديدة) ‪2‬‬
‫( )‬

‫ويتحدث عن نفسه‪ ،‬وعن م دى ت أثير الكت اب في ه‪ ،‬فيق ول‪( :‬الكت اب الّ ذي أق رأه‬
‫يؤثّر في نفسي‪ ،‬أي أنّه ينفذ إلى أعماق وج ودي‪ ،‬فج ز ٌء من انعكاس اته يظه ر بالت أثّر‪،‬‬
‫لكن هن اك ج ز ًء آخ ر ن اتج عن ارتب اطي بالن اس‪ ،‬وعن ك ون قض ايا الن اس ونبض‬
‫إن‬‫التحرّك العا ّم للمجتمع في يدي‪ ،‬ولست بغاف ٍل عن هذه األم ور‪ ..‬أري د أن أق ول لكم‪ّ :‬‬
‫كتابكم هذا‪ ،‬ومقالتكم هذه‪ ،‬وهذا الفيلم‪ ،‬وهذا الشعر‪ ،‬كلّها مؤثّرة ج ّداً‪ .‬لماذا يشتبه علين ا‬
‫( )‬ ‫األمر عند تقييم نتاجاتنا ونتصوّر ّ‬
‫أن هذا العمل قليل األثر؟) ‪3‬‬
‫وهو يدعو إلى البحث في تاريخ كل الشعوب‪ ،‬وأخذ العبر منه ا‪ ،‬يق ول في ذل ك‪:‬‬
‫(أع ّزائي! بعض منكم مطّلع على التاريخ جيّداً‪ .‬أنا أيضا ً مطّلع على التاريخ‪ .‬لقد ق رأت‬
‫مراراً صفحات ت اريخ الس نوات الس بعين والثم انين س نةً الماض ية وم ا قبله ا‪ ،‬س طراً‬
‫سطراً‪ .‬وأنا ـ العبد الفقير ـ لي في باب شبه القارّة الهندية مطالع ات مطوّل ة‪ ،‬وق د ألّفت‬
‫ً ( )‬
‫كتابا ً في هذا المجال أيضا) ‪4‬‬
‫بل إنه يدعو شعبه إلى مطالع ة الكتب األدب‪ ،‬وكتب الرواي ة‪ ،‬وي ذكر عن نفس ه‬
‫مدى اهتمامه به ا‪ ،‬يق ول في ذل ك‪( :‬ليس لي في مق والت الس ينما والفن ون التص ويرية‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬


‫‪ )(2‬في رسالة بمناسبة ابتداء أسبوع الكتاب‪25/12/1993 ،‬م‬
‫‪ )(3‬في لقاء له بأعضاء مج ّمع الكتّاب المسلمين‪29/6/1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ )(4‬في لقاء له مع المثقّفين والفنّانين‪23/7/2001 ،‬م‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫وأمثالها مثل ه ذه الخ برة‪ ،‬هن ا أك ون مس تمعا ً عاديّ اً‪ .‬لكن في الش عر والرواي ة‪ ،‬لس ت‬
‫إنسانا ً عاديّاً‪ ،‬لق د ق رأت الكث ير من ه ذه اآلث ار الموج ودة‪ .‬إذا ألقيتم نظ رةً على األدب‬
‫أن هن اك س وراً‪ ،‬وعلى‬ ‫أن هناك ستاراً موصوالً من الوس ط‪ ،‬أي ّ‬ ‫الروسي‪ ،‬ستُفاجؤون ّ‬
‫طرفي السور هذا‪ ،‬توجد أعمال عظيمة مرتبط ة ب الطرفين‪ .‬لكن عن دما تنظ رون مثالً‬
‫في أعم ال ش ولوخوف(‪ )1‬أو ألكس ي تولس توي(‪ )2‬تج دون له ا م ذاقا ً آخ ر‪ ..‬ألكس ي‬
‫ي ج ّداً‪ ،‬وله روايات كث يرة‪ ،‬وه و من كتّ اب الث ورة الروس ية‪،‬‬ ‫تولستوي هذا‪ ،‬كاتب قو ّ‬
‫وتج دون م ذاق العه د الجدي د في كتابات ه‪ ..‬بينم ا ت رون في كت اب [الح رب والس لم]‬
‫لتولستوي(‪ )3‬اآلثار القومية الروسية‪ ،‬لكنّكم ال ترون آث ار ف ترة الس تين س نةً األخ يرة‪،‬‬
‫فتلك حقبة أخرى وآثار أخرى ومرتبطة أساسا ً بمكان آخر) ‪4‬‬
‫( )‬

‫وهو يذكر عن نفسه مطالعاته الكث يرة في المج ال األدبي‪ ،‬فيق ول‪( :‬نتيج ة ك ثرة‬
‫اش تغالي بالرواي ات المتنوّع ة‪ ،‬يمكن أن أب دي رأيي‪ .‬لعلّ ني ق رأت على امت داد ه ذه‬
‫السنوات الثالثين أو األربعين من عم ري‪ ،‬الّ تي اهتممت فيه ا ب الكتب الروائي ة‪ ،‬آالف‬
‫إن أفضل القصص هي الّ تي يتكام ل فيه ا المض مون‬ ‫القصص أله ّم الكتّاب في العالم‪ّ ..‬‬
‫هي تلك القصص المحقّقة لك ّل هذه الشروط‪ ،‬ولكنّها غير مباشرة‪ ،‬أ ّما لو سلّطتم الضوء‬
‫فالقص ة عن دها س وف‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القص ة فيم ا بع د‪،‬‬ ‫في القصّة على مسألة ما‪ ،‬وعُلم كيف س تتّجه‬
‫( )‬
‫تفشل) ‪5‬‬
‫وهو ـ مثلما ذكرن ا عن ابن المقف ع والغ زالي ـ ي دعو إلى غربل ة م ا ي ترجم من‬
‫كتب اآلخر‪ ،‬أو يصاغ صياغة جديدة تحفظ الدين واألخالق‪ ،‬ومن األمثلة على ذل ك م ا‬
‫ذكره عن نفسه‪ ،‬فقال‪( :‬جاءني يوما ً أحد المترجمين المش هورين والمحم ودين‪ ،‬والّ ذي‬
‫ي مشكلة معه‪ ،‬فهو شخص محترم والئق‪ ،‬مع جماعة من الن اس‪.‬‬ ‫في الواقع ليس لدينا أ ّ‬
‫وكنت قد قرأت الرواية الّتي ترجمها والمؤلّفة من أربعة مجلّ دات‪ ..‬الظ اهر أنّ ه تعجّب‬
‫من كوني قد قرأت روايةً مؤلّفةً من أربعة مجلّدات‪ ،‬تُرجمت عن اللغة الفرنسية‪ ،‬كانت‬
‫أن المجلّ د األوّل ك ان يحت وي على‬ ‫هن اك مس ألتان س يّئتان في ذل ك الكت اب‪ .‬األولى‪ّ ،‬‬
‫مشاهد شهوانية لحبّ عبثي‪ ،‬قد فُصّلت تفصيالً دقيقا ً من قبل الكاتب‪ ،‬من دون أن تكون‬
‫األحداث الرئيسة للرواية بحاج ة إليه ا‪ ،‬وك ان يمكن للم ترجم أن يح ذف الكث ير منه ا‪،‬‬
‫فالمترجم لم يتعهّد بذكر ك ّل مطلب كتبه المؤلّف بعينه‪ ،‬ويمكنه أن يقول إنّن ا ح ذفنا هن ا‬
‫عشر صفحات أو خمسة أسطر لكونها غير مناسبة‪ ،‬فال مانع من ذلك‪ ..‬المسألة الثاني ة‪،‬‬
‫كانت حواراً بين كاهن يؤمن بالدِّين وبين ش خص ملح د‪ ،‬بحيث يس عى ك ّل ط رف من‬
‫خالل االستدالل إلى فرض رأي ه على اآلخ ر أو عرض ه علي ه‪ .‬ويط ول الكالم أيض اً‪،‬‬
‫‪ )(1‬ميخائيل ألكساندر وفيتش شولوخوف ( ‪.) 1984- 1905‬‬
‫‪ )(2‬ألكسي نيكوال يفيتش تولوستوي (‪.)1945-1883‬‬
‫‪ )(3‬ليو نيكوالو تولوستوي (‪.) 1910 - 1828‬‬
‫‪ )(4‬في لقاء له بجمع من الفنّانين‪25/11/1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ )(5‬في لقاء له بالمدراء والمنتجين في المسلسل التلفزيوني "شاهد"‪3/1/1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫إن هذه ليست حقيقة‪ ،‬المسألة‪ .‬أنت نفسك ال‬ ‫لكن في النهاية ينتصر هذا الملحد! قلت له‪ّ :‬‬
‫أن اإللحاد صحيح‪ ،‬فما الداعي لك ألن تنص ر ه ذا الملح د؟ ذل ك الفص ل األخ ير‬ ‫تعتقد ّ‬
‫الّذي هو كالم الملحد‪ ،‬عبارة عن صفحة واحدة‪ ،‬لو كنت حذفته‪ ،‬فال ضير في ذلك) ‪1‬‬
‫( )‬

‫وبن اء على ه ذا ن رى كي ف تق وم وزارة اإلعالم في الجمهوري ة اإلس المية‬


‫اإليرانية في التعامل مع األفالم األجنبية التي خصصت بعض المحط ات له ا‪ ،‬إرض اء‬
‫لبعض شعبها‪ ،‬فهي لم تتركها كما هي‪ ،‬وإنما تقوم بحذف كل المشاهد المنافي ة لألخالق‬
‫والقيم الدينية‪.‬‬
‫والخامنئي من خالل مطالعاته الكثيرة يشير كثيرا على اإلعالميين والفنانين بم ا‬
‫يحتاج ه الواق ع اإلي راني من إب داعات فني ة‪ ،‬ومن األمثل ة على ذل ك قول ه‪( :‬قب ل ع ّدة‬
‫سنوات قلت لبعض األصدقاء‪ ،‬لماذا ال تنتجون أفالم ا ً عن مع وّقي الح رب؟‪ُ ..‬‬
‫كنت ق د‬
‫أن فيلم ا ً أُنتج عن ذل ك‬ ‫ُ‬
‫معت بع دها ّ‬ ‫رأت كتاب ا ً أُلّ ف عن ج ريح مع وّق روس ي‪ ،‬وس‬‫ُ‬ ‫ق‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الكتاب‪ ..‬لق د طب ع ال روس أنفس هم ه ذا الكت اب ووزع وه‪ .‬وك ان ه ذا أيض ا من كتبهم‬
‫[قص ة إنس ان واقعيّ ة]‬
‫ّ‬ ‫الدعائية‪ .‬وقع هذا الكتاب بين ي د ّ‬
‫ي في ب دايات الث ورة‪ ،‬واس مه‬
‫ُ‬
‫أن ك ّل طيّار أو ك ّل ج ريح قطعت‬ ‫تحكي قصّة طيّار تسقط طائرته فتُقطع رجله‪ .‬رأيت ّ‬
‫رجله أو فقد بصره‪ ،‬لو قرأ هذا الكتاب‪ ،‬سوف يشعر باالطمئنان والرّضا‪ .‬ونحن الّ ذين‬
‫لدينا ك ّل هؤالء الجرحى المعوّقين‪ ،‬لماذا ال نكتب مثل هكذا كتاب؟ وال ننتج هك ذا فيلم؟‬
‫( )‬
‫فهذا من نقائصنا) ‪2‬‬
‫والخامنئي مع عدائه الشديد ألمريكا‪ ،‬واعتبارها الشيطان األكبر إال أن ه ال يمن ع‬
‫من مطالعة إنتاجها العلمي أو الثقافي‪ ،‬بل هو يدعو إلى ذلك‪ ،‬ويذكر عن نفسه أنه يفع ل‬
‫ذلك‪ ،‬ومن األمثل ة على ذل ك قول ه‪( :‬إذا تس نّت لكم الفرص ة لق راءة بعض الكتب الّ تي‬
‫ُكتبت عن الوضع االجتماعي في أمريكا‪ ،‬سوف تلتفت ون إلى ه ذه المس ألة‪ ..‬لق د ق ُ‬
‫رأت‬
‫كتبا ً عديدة في هذا المجال‪ ،‬ال أعلم إن كنتم قد قرأتموها أيضا ً أم ال‪ ..‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫قرأت في مجال القضايا االنتخابية‪ ،‬كتابا ً للكاتب األمريكي هاورد فاست(‪ ،)3‬المعروف‬ ‫ُ‬
‫نسبيا ً بميوله اليسارية‪ .‬ولهذا الكاتب كتبٌ أخرى أيضاً‪ ..‬بالطبع هو كاتب روائي‪ .‬كتاب ه‬
‫يتناول سيرة طفل تهاجر عائلته في بدايات القرن العشرين من إحدى ال دول األوروبي ة‬
‫إلى أمريكا‪ .‬ويولد هذا الطفل في أمريكا‪ ،‬حيث يص بح مواطن ا ً أمريكي ا ً وف ق الق وانين‪.‬‬
‫ص ل في ذل ك الكت اب الوض ع‬ ‫بعدها‪ ،‬يصبح محامياً‪ ،‬ومن ث ّم يتر ّشح لالنتخابات‪ .‬لق د فُ ّ‬
‫االنتخ ابي في أمريك ا‪ .‬التفت وا‪ ،‬ه ذا األم ر مرتب ط بأوائ ل ذاك الق رن‪ ،‬بالعش رينات‬
‫والثالثينات‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ساء الوضع بدرجات‪ ،‬وذلك باعتراف ك ّل من لديه خبرة في هذا‬
‫ّ‬
‫المرش حين ه و الم ال‬ ‫إن من يعيّن‬ ‫المج ال وكتب ح ول ه ذا الموض وع‪ ..‬في الواق ع‪ّ ،‬‬

‫‪ )(1‬في لقاء له بالقيّمين على إحياء أسبوع الكتاب‪22/10/2006 ،‬م‪.‬‬


‫‪ )(2‬في لقاء له بوزير الثقافة واإلرشاد اإلسالمي ومسؤولي الوزارة‪25/11/1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ )(3‬هاورد فاوست (‪ 1914‬ـ ‪.)2000‬‬

‫‪275‬‬
‫والق ّوة الدعائية للشركات الكبرى المسيطرة على أمور البلد كافّة) ‪1‬‬
‫( )‬

‫هذه نماذج عن م دى انفت اح اإليران يين على الع الم‪ ،‬وهي نم اذج كافي ة‪ ،‬وتمث ل‬
‫اإلسالم األصيل في مقاب ل أولئ ك ال ذين ينغلق ون على أنفس هم انغالق ا تام ا‪ ،‬أو أولئ ك‬
‫الذين يذوبون في اآلخر‪ ،‬ويتخلون عن شخصيتهم في سبيل ذلك‪.‬‬
‫ثانيا ـ إيران‪ ..‬واإلبداع الحضاري‪:‬‬
‫عرفنا في الفصول السابقة الكثير من مظاهر اإلبداع الذي قام ب ه اإليراني ون في‬
‫التعامل مع العلوم اإلسالمية ابتكارا وتطويرا‪ ،‬وهو مظهر من مظ اهر الحض ارة ال تي‬
‫يسرت للمسلمين التعامل م ع مص ادرهم وعقائ دهم وش رائعهم‪ ،‬وذل ك ع بر الع روض‬
‫المختلفة لها‪ ،‬والبراهين الكثيرة الدالة عليها‪.‬‬
‫وق د أش ار إلى ه ذه الناحي ة ك ل من أرخ للعل وم العربي ة واإلس المية في الق ديم‬
‫والحديث؛ وكلهم يذكر م ا قال ه ابن خل دون في تفس ير ذل ك‪ ،‬حيث ق ال في مقدمت ه في‬
‫فصل بعنوان [فصل في أن حملة العلم في اإلسالم أكثرهم العجم]‪( :‬من الغريب الواق ع‬
‫أن حملة العلم في الملّة اإلسالميّة أكثرهم العجم ال من العل وم ّ‬
‫الش رعيّة وال من العل وم‬ ‫ّ‬
‫العقليّ ة إاّل في القلي ل النّ ادر‪ ،‬وإن ك ان منهم الع رب ّي في نس بته فه و أعجم ّي في لغت ه‬
‫ي)(‪)2‬‬ ‫أن الملّة عربيّة وصاحب شريعتها عرب ّ‬ ‫ومرباه ومشيخته مع ّ‬
‫ّ‬
‫(والس بب‬ ‫ثم حاول أن يعتمد على نظريته في الحضارة لبيان س بب ذل ك؛ فق ال‪:‬‬
‫الس ذاجة‬‫أن الملّ ة في أوّله ا لم يكن فيه ا علم وال ص ناعة لمقتض ى أح وال ّ‬ ‫في ذل ك ّ‬
‫والبداوة‪ ،‬وإنّما أحكام ال ّشريعة الّ تي هي أوام ر هللا ونواهي ه ك ان الرّج ال ينقلونه ا في‬
‫الش رع‬ ‫والس نّة بم ا تلقّ وه من ص احب ّ‬
‫ّ‬ ‫ص دورهم‪ ،‬وق د عرف وا مأخ ذها من الكت اب‬
‫وأصحابه‪ .‬والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التّعليم والتّأليف والتّ دوين وال دفع وا إلي ه‬
‫وال دعتهم إليه حاجة‪ .‬وجرى األمر على ذلك زمن الصّحابة والتّابعين وك انوا يس ّمون‬
‫المختصّين بحمل ذلك‪ .‬ونقل ه إلى الق رّاء أي الّ ذين يق رؤون الكت اب وليس وا أ ّميّين ّ‬
‫ألن‬
‫األ ّميّة يومئذ صفة عا ّمة في الصّحابة بما كانوا عرب ا فقي ل لحمل ة الق رآن يومئ ذ ق رّاء‬
‫والس نّة الم أثورة عن هللا ألنّهم لم يعرف وا األحك ام‬
‫ّ‬ ‫إشارة إلى هذا‪ .‬فهم ق رّاء لكت اب هللا‬
‫شرعيّة إاّل منه ومن الحديث الّذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح)(‪)3‬‬ ‫ال ّ‬
‫وهكذا بع د انته اء العص ر األول‪ ،‬ودخ ول الكث ير من أه ل البالد المفتوح ة إلى‬
‫اإلسالم‪ ،‬بدأ الدور لهم في التعامل مع تلك الرواي ات جمع ا وتص نيفا وتحليال وتحقيق ا‪،‬‬
‫يق ول ابن خل دون‪( :‬فل ّم ا بع د النّق ل من ل دن دول ة الرّش يد فم ا بع د اح تيج إلى وض ع‬
‫التّفاسير القرآنيّة وتقييد الحديث مخافة ضياعه‪ ،‬ث ّم اح تيج إلى معرف ة األس انيد وتع ديل‬
‫النّاقلين للتّمييز بين الصّحيح من األسانيد وما دون ه ث ّم ك ثر اس تخراج أحك ام الواقع ات‬
‫من الكتاب وال ّسنّة وفسد مع ذلك اللّسان فاحتيج إلى وض ع الق وانين النّحويّ ة وص ارت‬

‫‪ )(1‬في لقاء له بجمع من المنظّمات الطالبية في جامعات البالد‪5/12/1996 ،‬م‪.‬‬


‫‪ )(2‬المقدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ص ‪.. 747‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.747‬‬

‫‪276‬‬
‫العلوم ال ّشرعيّة كلّها ملكات في االستنباطات واالستخراج والتّنظير والقياس واحت اجت‬
‫إلى علوم أخرى وهي الوسائل لها من معرفة ق وانين العربيّ ة وق وانين ذل ك االس تنباط‬
‫والذبّ عن العقائد اإليمانيّة باألدلّة لكثرة البدع واإللح اد فص ارت ه ذه العل وم‬‫والقياس ّ‬
‫كلّها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التّعليم فاندرجت في جملة الصّنائع‪ ،‬وقد كنّ ا ق ّدمنا‬
‫وأن الع رب أبع د النّ اس عنه ا فص ارت العل وم ل ذلك‬ ‫أن الصّنائع من منتح ل الحض ر ّ‬ ‫ّ‬
‫حضريّة وبعد عنها العرب وعن سوقها)(‪)1‬‬
‫ثم فس ر م راده من العجم‪ ،‬وك ون اإليران يين أول الم رادين باعتب ار أنهم أول‬
‫الش عوب غ ير العربي ة تحض را دخلت في اإلس الم‪ ،‬فق ال‪( :‬والحض ر ل ذلك العه د هم‬
‫العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الّذين هم يومئ ذ تب ع للعجم في‬
‫الحضارة وأحوالها من الصّنائع والحرف ألنّهم أقوم على ذلك للحضارة الرّاس خة فيهم‬
‫منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النّحو سيبويه والفارس ّي من بع ده وال ّز ّج اج من‬
‫بع دهما وكلّهم عجم في أنس ابهم‪ .‬وإنّم ا ربّ وا في اللّس ان الع رب ّي فاكتس بوه ب المربى‬
‫ومخالطة العرب وصيّروه قوانين وفنّا لمن بعدهم‪ ،‬وك ذا حمل ة الح ديث الّ ذين حفظ وه‬
‫الفن ب العراق‪،‬‬‫عن أهل اإلسالم أك ثرهم عجم أو مس تعجمون باللّغ ة والم ربى التّس اع ّ‬
‫وكان علماء أصول الفق ه كلّهم عجم ا كم ا يع رف‪ ،‬وك ذا حمل ة علم الكالم وك ذا أك ثر‬
‫المفسّرين‪ ،‬ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إاّل األعاجم‪ .‬وظهر مصداق قوله ‪( :‬لو تعلّ ق‬
‫العلم بأكناف السّماء لناله قوم من أهل فارس)(‪)2‬‬
‫ومع احترامنا لرأي ابن خلدون‪ ،‬ولكن ا ال نتف ق مع ه في ه‪ ،‬ف العرب كغ يرهم من‬
‫األجناس كان يمكنهم بالتعلم ومخالطة المتحضرين أن تتحقق فيهم القدرة على ما ذك ره‬
‫من صناعة‪ ،‬وكان يمكن أن يبدعوا في ذلك ل و أرادوا‪ ،‬وكم ا حص ل م ع الكث ير منهم‪،‬‬
‫ولكن السبب الحقيقي في ذلك هو ما ذكره من الحديث الشريف‪ ،‬وهو صدق الفرس في‬
‫إسالمهم‪ ،‬صدقا جعلهم ينذرون كل حياتهم له‪.‬‬
‫وأما العرب‪ ،‬فهم مع صدق إسالمهم إال أن ال دنيا ال تي ح ذرهم منه ا رس ول هللا‬
‫‪ ‬اجتذبتهم‪ ،‬أو كما عبر ابن خلدون نفسه عن ذلك؛ فقال‪( :‬وأ ّما العرب الّ ذين أدرك وا‬
‫هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فش غلتهم الرّئاس ة في ال ّدول ة العبّاس يّة‬
‫وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم‪ ،‬والنظر في ه‪ ،‬ف إنّهم ك انوا أه ل ال ّدول ة‬
‫وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من األنفة عن انتحال العلم حينئذ بم ا ص ار من‬
‫الص نائع والمهن وم ا يج ّر إليه ا ودفع وا‬ ‫جملة الصّنائع‪ .‬والرّؤساء أبدا يس تنكفون عن ّ‬
‫ذلك إلى من قام به من العجم والمولّدين‪ .‬وما زالوا يرون لهم ح ق القي ام ب ه فإن ه دينهم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وعلومهم وال يحتقرون حملته ا ك ّل االحتق ار‪ .‬حتّى إذا خ رج األم ر من الع رب جمل ة‬
‫وصار للعجم صارت العلوم ال ّشرعيّة غريبة النّس بة عن د أه ل المل ك بم ا هم علي ه من‬
‫البعد عن نسبتها وأمتهن حملتها بما ي رون أنّهم بع داء عنهم مش تغلين بم ا ال يغ ني وال‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.748‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.748‬‬

‫‪277‬‬
‫يجدي عنهم في الملك والسّياسة كما ذكرناه في نقل المراتب ال ّدينيّة‪ .‬فهذا الّذي قرّرناه‬
‫شريعة أو عا ّمتهم من العجم)(‪)1‬‬ ‫أن حملة ال ّ‬‫هو السّبب في ّ‬
‫وهك ذا األم ر م ع العل وم والعقلي ة والكوني ة‪ ،‬فهي كم ا ينص ابن خل دون ك ان‬
‫النصيب األوفر فيه ا للعجم‪ ،‬يق ول في ذل ك‪( :‬وأ ّم ا العل وم العقليّ ة أيض ا فلم تظه ر في‬
‫فاختص ت ب العجم‬‫ّ‬ ‫الملّة إاّل بعد أن تميّز حملة العلم ومؤلّفوه‪ ،‬واستق ّر العلم كلّه ص ناعة‬
‫وتركته ا الع رب وانص رفوا عن انتحاله ا فلم يحمله ا إاّل المعرّب ون من العجم ش أن‬
‫الصّنائع كما قلناه أوّال‪ .‬فلم ي زل ذل ك في األمص ار اإلس الميّة م ا دامت الحض ارة في‬
‫العجم وبالدهم من الع راق وخراس ان وم ا وراء النّه ر‪ .‬فل ّم ا خ ربت تل ك األمص ار‬
‫والص نائع ذهب العلم من‬ ‫ّ‬ ‫وذهبت منه ا الحض ارة الّ تي هي س ّر هللا في حص ول العلم‬
‫العجم جملة لم ا ش ملهم من الب داوة واختصّ العلم باألمص ار الموف ورة الحض ارة‪ .‬وال‬
‫أوف ر الي وم في الحض ارة من مص ر فهي أ ّم الع الم وإي وان اإلس الم وينب وع العلم‬
‫والصّنائع‪ .‬وبقي بعض الحضارة في ما وراء النّهر لما هناك من الحضارة بال ّدولة الّتي‬
‫والص نائع ال تنك ر‪ .‬وق د دلّن ا على ذل ك كالم بعض‬ ‫ّ‬ ‫حص ة من العل وم‬‫ّ‬ ‫فيه ا فلهم ب ذلك‬
‫علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البالد وهو س عد ال ّدين التّفت ازان ّي‪ .‬وأ ّم ا غ يره‬
‫من العجم فلم نر لهم من بعد اإلمام ابن الخطيب ونص ير ال ّدين الطّوس ّي كالم ا يع وّل‬
‫على نهايته في اإلصابة) (‪)2‬‬
‫بناء على ه ذا التص ريح من ابن خل دون‪ ،‬ومثل ه الكث ير من الب احثين في ت اريخ‬
‫العل وم‪ ،‬نح اول في ه ذا المبحث التع رف على بعض أدوار اإليران يين وإب داعاتهم في‬
‫مجاالت المعرفة المختلفة‪ ،‬وخصوصا العقلي ة والكوني ة واللغوي ة واألدبي ة‪ ،‬وذل ك من‬
‫خالل العناوين التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اإليرانيون واإلبداع في العلوم اللغوية واألدبية‪:‬‬
‫من أكبر األدلة على نفي ما يذكره المغرضون عن إي ران وحق دها على العربي ة‬
‫اهتمام اإليرانيين منذ دخلوا اإلسالم باللغة العربية‪ ،‬وكتابتهم بها‪ ،‬واعتم ادهم في كتاب ة‬
‫الفارسية على الحرف العربي‪ ،‬على الرغم من كونهم كانوا ذوي حضارة قديمة‪ ،‬وكان‬
‫لهم خطهم الخاص‪ ،‬وفوق ذلك كله خدماتهم الكثيرة التي قدموها لعل وم اللغ ة العربي ة‪،‬‬
‫حتى أنهم كانوا المؤسسين ألكثرها‪.‬‬
‫فأكبر علماء النحو وإمامهم‪ ،‬وأول من بسط علم النحو‪ ،‬ووضع دستوره ال ذي ال‬
‫ن زال نس تعمله في مدارس نا وجامعاتن ا أبــو بشــر عمــرو بن عثمــان بن قنــبر الملقب‬
‫بســيبويه (‪ 148( )3‬هـ ‪ 180 -‬هـ)‪ ،‬وه و من أس رة فارس ية‪ ،‬ول د بقري ة البيض اء‬
‫بشيراز‪ ،‬وبها قبره‪ ،‬وهو صاحب أشهر كتاب في النحو [الكتاب]‬
‫وقد اعترف بفضله على علم النحو كل من أرخ ل ه‪ ،‬ق ال عن ه ابن عائش ة‪( :‬كن ا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.749‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.749‬‬
‫‪ )(3‬ابن خلكان ‪ 385 :1‬والشريشي ‪ 17 :2‬والبداية والنهاية ‪.176 :10‬‬

‫‪278‬‬
‫نجلس مع سيبويه النحوي في المسجد‪ ،‬وكان ش ابًا جميالً نظيفً ا‪ ،‬ق د تعل ق من ك ل علم‬
‫بسهم‪ ،‬مع حداثة سنِّه وبراعته في النحو)(‪)1‬‬ ‫ب‪ ،‬وضرب في كل أدب‬ ‫بسب ٍ‬
‫ٍ‬
‫وقال الذهبي‪( :‬إمام النحو‪ ،‬حجة العرب‪ ،‬الفارس ي‪ ،‬ثم البص ري‪ .‬ق د طلب الفق ه‬
‫والحديث مدة‪ ،‬ثم أقبل على العربية‪ ،‬فبرع وساد أهل العصر‪ ،‬وألف فيه ا كتاب ه الكب ير‬
‫الذي ال يدرك شأوه فيه‪ .‬قيل فيه مع فرط ذكائه حبس ة في عبارت ه‪ ،‬وانطالق في قلم ه)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقال المبرد‪( :‬لم يُعم ل كت اب في علم من العل وم مث ل كت اب س يبويه؛ وذل ك أن‬
‫الكتب المصنَّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها‪ ،‬وكتاب سيبويه ال يحت اج َم ْن فَ ِه َم ه إلى‬
‫غيره)(‪)3‬‬
‫وقال الجاحظ في كتابه‪( :‬لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله وجميع كتب الن اس‬
‫عليه عيال)(‪)4‬‬
‫وقال صاعد األندلسي‪( :‬ال أعرف كتابًا أُلِّف في علم من العل وم ق ديمها وح ديثها‬
‫فاش تمل على جمي ع ذل ك العلم‪ ،‬وأح اط ب أجزاء ذل ك الفن غ ير ثالث ة كتب‪ ،‬أح دها‪:‬‬
‫المجس طي لبطليم وس في علم هيئ ة األفالك‪ ،‬والث اني‪ :‬كت اب أرس طوطاليس في علم‬
‫يشذ عن ه من أص ول‬ ‫المنطق‪ ،‬والثالث‪ :‬كتاب سيبويه النحوي؛ فإن كل واحد من هذه لم ّ‬
‫فنِّه شيء إال ما ال خطر له)(‪)5‬‬
‫ومنهم أَبُو َعلِي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفا ِرسي(‪ 377 - 288( )6‬هـ)‪،‬‬
‫أحد أئمة العربي ة‪ ،‬ول د في فس ا‪ ،‬وهي مدين ة من الم دن اإليرانية(‪ ،)7‬وق د ت رك تراث ا ً‬
‫حافالً في علوم اللغة وآدابها‪ ،‬منه ا‪ :‬الت ذكرة في عل وم العربي ة‪( ،‬في عش رين مجل داً)‪،‬‬
‫وتع اليق س يبويه (ج زآن)‪ ،‬والش عر‪ ،‬والحج ة (في ِعل ل الق راءات)‪ ،‬وج واهر النح و‪،‬‬
‫واإلغف ال في م ا أغفل ه الزج اج من المع اني‪ ،‬والمقص ور والمم دود‪ ،‬والعوام ل (في‬
‫النحو)‪.‬‬
‫وسئل في حلب وشيراز وبغداد والبصرة أسئلة كثيرة فصنف في أس ئلة ك ل بل د‬
‫كتاباً‪ ،‬منها (المسائل الشيرازية)‪ ،‬و(المسائل البصريات)‪ ،‬و(الحلبيات)‪ ،‬و(البغداديات)‬
‫وقد اعترف بفضله على اللغ ة العربي ة ك ل من ت رجم ل ه‪ ،‬ق ال عن ه الس يوطي‪:‬‬
‫علم العربية‪ ...‬وقال كثير من تالمذته‪ :‬إنَّه أعل ُم من المبرِّد)(‪)8‬‬
‫(واحد زمانه في ِ‬
‫‪ )(1‬المنتظم في تاريخ الملوك واالمم‪ ،‬ابن الجوزي‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪..54‬‬
‫‪ )(2‬سير أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪..351‬‬
‫‪ )(3‬خزانة األدب‪ ،‬البغدادي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪..358‬‬
‫‪ )(4‬مسالك االبصار في ممالك االمصار‪ ،‬ابن فضل هللا العمري‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪.86‬‬
‫‪ )(5‬المدارس النحويه‪ ،‬شوقي ضيف‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪..60‬‬
‫‪ )(6‬األعالم للزركلي (‪ ،)180 ،2/179‬مع الهوامش‪ ،‬والبلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ( ‪ ،)1/14‬وفيات األعيان‬
‫(‪)2/80‬‬
‫‪ )( 7‬تقع في محافظة فارس وهي مركز مقاطعة فسا‪ ،‬وتبعد عن شيراز مركز المحافظة ‪ 145‬كم‪.‬‬
‫‪ )(8‬بُغية الوعاة (‪)1/496‬‬

‫‪279‬‬
‫ت بين ه وبين أبي الطيب‬ ‫وقال ابن خلكان‪( :‬كان إما َم وقته في ِعلم النحو‪ ...‬وج َر ْ‬
‫ب عض َد الدولة ابن بويه‪ ،‬وتق َّدم عنده‪،‬‬ ‫وصح َ‬
‫ِ‬ ‫المتنبي مجالس‪ ،‬ثم انتقل إلى بالد فارس‪،‬‬
‫وعلت منزلته‪ ،‬حتى قال عضد الدولة‪ :‬أنا غالم أبي علي الفسوي في النحو)(‪)1‬‬ ‫ْ‬
‫وقال محمد بن يعقوب الفيروزأبادي‪( :‬اإلمام العالَّمة قرأ النحو على أبي إسحاق‬
‫وص ِحب عض َد الدول ة فعظَّم ه‪،‬‬ ‫وانتهت إلي ه رئاس تُه‪َ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫الزج اج‪ ....‬وبَ َرع في النح و‪،‬‬
‫وأحسن إليه)(‪)2‬‬
‫ت منزلتُه في النحو حتى قال قوم من تالمذت ه‬ ‫وقال عنه الخطيب البغدادي‪( :‬و َعلَ ْ‬
‫هو فوق المب ِّرد وأعلم من ه‪ ،‬وص نَّف كتبً ا عجيب ة حس نة لم يُس بق إلى مثله ا‪ ،‬واش تهر‬
‫ِذ ْك رُه في اآلف اق‪ ،‬وبَ َرع ل ه غلم ان ُح َّذاق مث ل عثم ان بن ج ني‪ ،‬وعلي بن عيس ى‬
‫ُ‬
‫معت‬ ‫الشيرازي‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬و َخدَم الملوك‪ ،‬ونفق عليهم‪ ،‬وتق َّدم عن د عض د الدول ة‪ ،‬فس‬
‫ي النحوي الفسوي في النحو)(‪)3‬‬ ‫أبِي يقول‪ :‬سمعت عض َد الدولة يقول‪ :‬أنا غال ُم أبي عل ٍّ‬
‫ومنهم أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد هللا بن بهمن بن فيروز الكسائي ‪1( 4‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫‪ 189- 19‬هـ)‪ ،‬وهو من أصول إيرانية ودفن في مدين ة ال ري‪ .‬وك ان إمام ا في اللغ ة‬
‫والنحو‪ ،‬بل إنه يعد المؤسس الحقيقي للمدرسة الكوفي ة في النح و‪ ،‬باإلض افة إلى كون ه‬
‫سابع القراء السبعة‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته‪ :‬معاني القرآن ومقطوع القرآن وموص وله‪ ،‬وكت اب في الق راءات‪،‬‬
‫وكتاب النوادر الكبير‪ ،‬وكتاب النوادر األصغر‪ ،‬ومختصر في النح و‪ ،‬وكت اب اختالف‬
‫العدد‪ ،‬وكتاب قص ص األنبي اء‪ ،‬وكت اب الح روف‪ ،‬وكت اب الع دد‪ ،‬وكت اب الق راءات‪،‬‬
‫وكتاب المصادر‪ ،‬وكتاب الهجاء وغيرها‪.‬‬
‫ومنهم أبو محمد عبــد هللا بن مســلم بن قتيبــة الــدينوري(‪ 213( )5‬ـ ‪ 276‬هـ)‪،‬‬
‫وه و من مدين ة ال دينور اإليراني ة القريب ة من هم ذان‪ ،‬وك ان به ا في عه ده كث ير من‬
‫العلماء والفقهاء والمحدثين‪ ،‬الذين درس على أيديهم‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته‪ :‬تفسير غريب القرآن‪ ،‬وغريب الحديث‪ ،‬وعيون األخب ار‪ ،‬وتأوي ل‬
‫مش كل الق رآن‪ ،‬وتأوي ل مختل ف الح ديث‪ ،‬وأدب الك اتب‪ ،‬واالختالف في اللف ظ‪،‬‬
‫والمعارف‪ ،‬وإصالح الغلط (وهو إصالح غلط أبي عبي د)‪ ،‬والمع اني الكب ير‪ ،‬والش عر‬
‫والشعراء‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قال عنه ابن النديم‪( :‬كان صادقا فيما كان يرويه‪ ،‬عالما باللغة‪ ،‬والنحو‪ ،‬وغ ريب‬
‫القرآن ومعانيه‪ ،‬والشعر‪ ،‬والفقه؛ كثير التصنيف والتأليف)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬وفيات األعيان (‪)2/80‬‬


‫‪ )(2‬البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة (‪)1/13‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ بغداد (‪)7/275‬‬
‫‪ )(4‬غاية النهاية ‪ 535 :1‬وابن خلكان ‪ 330 :1‬وتاريخ بغداد ‪ 403 :11‬ونزهة االلبا ‪ 94 ،81‬وطبقات النحويين‬
‫‪.138‬‬
‫‪ )(5‬الوالة والقضاة ‪ 485‬و ‪ 546‬وإنباه الرواة ‪ 45 :1‬ومعجم األدباء ‪.103 :3‬‬
‫‪ )(6‬الفهرست (ص ‪.)85‬‬

‫‪280‬‬
‫وق ال الخطيب البغ دادي‪( :‬ك ان ثق ة ديِّن ا ً فاض الً‪ ،‬وه و ص احب التص انيف‬
‫المشهورة)(‪)1‬‬
‫وقال أبو البركات األنباري‪( :‬كان فاض الً في اللغ ة والنح و والش عر؛ متفنّن ا ً في‬
‫العلوم)(‪)2‬‬
‫وقال ابن الجوزي‪( :‬كان عالما ً ثقة ديِّنا ً فاضالً‪ ،‬وله التصانيف المشهورة)(‪)3‬‬
‫ومنهم أبو بكر عبــد القــاهر بن عبــد الــرحمن بن محمــد الجرجــاني(‪- 400( )4‬‬
‫‪471‬هـ)‪ ،‬مؤسس علم البالغة‪ ،‬وه و من مدينة جرج ان اإليراني ة‪ ،‬ويعت بر المؤرخ ون‬
‫لعلم البالغة أن كتاب ه [دالئ ل اإلعج از] ه و الكت اب األول في بي ان اإلعج از البالغي‬
‫للقرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته‪ :‬اإليضاح في النحو‪ ،‬والجمل‪ ،‬وإعج از الق رآن‪ ،‬والرس الة الش افية‬
‫في اإلعجاز‪ ،‬ودالئل اإلعجاز‪ ،‬وأسرار البالغة‪ ،‬وقد أورد في كتابيه األخ يرين‪ ،‬معظم‬
‫آرائه في علوم البالغة العربية‪.‬‬
‫ومنهم محمد بن يعقوب بن محمد مجد الدين الشيرازي الفيروزآبادي ‪729( 5‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫ـ)‪ ،‬وه و ص احب الق اموس المحي ط‪ ،‬ويعت بر من كب ار أئم ة اللغ ة واالدب‪ ،‬ول د ببل دة‬
‫بكارزين بشيراز في إيران حالياً‪ ،‬واشتهر بالفيروز آبادي نسبة إلى [فيروز آب اد] وهي‬
‫مدينة جنوب شيراز كان منها أبوه وجده‪.‬‬
‫وقد ذاعت شهرة معجمه [القاموس المحيط] حتى ك ادت كلم ة [الق اموس] تح ل‬
‫محل [المعجم]‪ ،‬إذ حسب كثير من الناس أنهم ا لفظ ان مترادف ان‪ ،‬وذل ك لك ثرة ت داول‬
‫معجمه وانتشاره‪.‬‬
‫وقد ترك نحو ‪ 60‬كتابا ً في علوم القرآن الكريم والحديث واللغة والنحو وغيرها‪،‬‬
‫ومنه ا‪ :‬الق اموس المحي ط‪ ،‬والق ابوس الوس يط‪ ،‬الج امع لم ا ذهب من كالم الع رب‬
‫شماميط‪ ،‬وتحبير الموشين‪ ،‬في التعبير بالسين والشين‪ ،‬وشرح قصيدة (بانت سعاد) في‬
‫مجلدين‪ ،‬والروض المسلوف‪ ،‬فيم ا ل ه اس مان إلى أل وف‪ ،‬وال درر المبثث ة‪ ،‬في الغ رر‬
‫المثلثة‪ ،‬والمثلث الكبير‪ .‬في خمسة مجلدات‪ ،‬وأنواء الغيث‪ ،‬في أس ماء الليث‪ ،‬والجليس‬
‫األنيس‪ ،‬في أس ماء الخن دريس‪ ،‬ومقص ود ذوي األلب اب‪ ،‬في علم اإلع راب‪ ،‬وبص ائر‬
‫ذوي التمييز‪ ،‬في لطائف الكتاب العزي ز‪ ،‬وتفس ير فاتح ة الكت اب‪ ،‬والبلغ ة‪ ،‬في ت راجم‬
‫أئمة النحاة واللغة‪ ،‬ونزهة األذهان‪ ،‬في تاريخ أصبهان‪ ،‬وش وارق األس رار العلي ة‪ ،‬في‬
‫شرح مشارق األنوار النبوية‪ ،‬ومنح الباري‪ ،‬بالسيل الفسيح الجاري‪ ،‬في شرح ص حيح‬
‫البخ اري‪ ،‬وتس هيل طري ق الوص ول‪ ،‬إلى األح اديث الزائ دة على ج امع األص ول‪،‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ بغداد (‪.)10/170‬‬


‫‪ )(2‬نزهة األلباء (ص ‪.)209‬‬
‫‪ )(3‬المنتظم (‪.)5/102‬‬
‫‪ )(4‬وفيات األعيان ‪ 298 :1‬وطبقات السبكي ‪.238 :3‬‬
‫‪ )(5‬البدر الطالع ‪ 280 :2‬والضوء الالمع ‪ 79 :10‬وبغية الوعاة ‪ 117‬والعقود اللؤلؤية ‪ 264 :2‬و ‪ 278‬و ‪.297‬‬

‫‪281‬‬
‫وغيرها كثير‪.‬‬
‫ازي القزويــني‪ ،‬المعــروف‬ ‫ومنهم أحمد بن فــارس بن زكريــا‪ ،‬أبــو الحســين الـ َّر ُّ‬
‫بالرازي (‪1004–941( )1‬م)‪ ،‬أصله من ق زوين‪ ،‬وأق ام م دة في هم ذان‪ ،‬ثم انتق ل إلى‬
‫الري فتوفي فيها‪ ،‬وإليها نسبته‪.‬‬
‫وقد صنف كتبا ً كثيرة في اللغة والفقه والسيرة وغيرها‪ ،‬ومنه ا‪ :‬كت اب المجم ل‪،‬‬
‫ومتخير األلفاظ‪ ،‬وفقه اللغة‪ ،‬وغريب إعراب القرآن‪ ،‬وتفسير أسماء النبي ‪ ،‬ومقدمة‬
‫نحو‪ ،‬ودارات العرب‪ ،‬ومقاييس اللغة‪.‬‬
‫ومن مزاي ا كتابات ه اللغوي ة ـ كم ا ي ذكر المختص ون ـ أن ه انف رد في معجمي ه‬
‫[المجمل]‪ ،‬و[المقاييس] بطريقة خاصة تنسب إليه وحده‪ ،‬فإضافة إلى اتباع ه االبجدي ة‬
‫العادية انفرد بفكرتي األصول والمقاييس لجميع مفردات اللغة‪ ،‬وقد تميز بغزارة المادة‬
‫اللغوية التي ظهرت من خالل تناوله لبعض المسائل اللغوي ة‪ ،‬وج اءت دراس ته ش املة‬
‫لمستويات اللغة األربعة‪ :‬المستوى الصوتي‪ ،‬والص رفي‪ ،‬والنح وي‪ ،‬وال داللي‪ ،‬فض الً‬
‫عن الظواهر اللغوية التي تناولها كالنحت واألضداد والترادف واإلتباع وغيرها‪.‬‬
‫ومنهم أبــو القاســم إســماعيل بن عبــاد القزويــني‪ ،‬الطالقــاني‪ ،‬االصــفهاني‪،‬‬
‫المعروف بالصاحب بن عباد(‪ 385 - 326( ،)2‬هـ)‪ ،‬وكان من كبار العلماء واألدباء‪،‬‬
‫باإلضافة لمشاركته في مختلف العل وم كالحكم ة والطب والمنط ق‪ ،‬وك ان مح دثا ً ثق ة‪،‬‬
‫شاعراً مبدعا‪ ،‬وأحد أعيان العصر البويهي‪ .‬وكان وزي راً‪ ،‬ومن ن وادر ال وزراء ال ذين‬
‫غلب عليهم العلم واألدب‪.‬‬
‫قال عنه الثعالبي‪( :‬ليست تحضرني عبارة أرضاها لإلفصاح عن ُعلُ ِّو َم َحلِّه في‬
‫العلم واألدب وجاللة شأنه في الجود والكرم‪ ،‬هو صدر المشرق‪ ،‬وتاريخ المجد‪ ،‬و ُغرَّة‬
‫الزمان‪ ،‬وينبوع العدل واإلحسان)‬
‫وق ال الط ريحي‪( :‬جم ع الص احب بين الش عر والكتاب ة‪ ،‬وف اق فيه ا أقران ه‪.‬‬
‫الصاحب بن عباد عالم‪ ،‬فاضل م اهر‪ ،‬ش اعر أديب‪ ،‬محق ق متكلم‪ ،‬عظيم الش أن جلي ل‬
‫القدر في العلم واألدب والدِّين والدنيا)‬
‫من مؤلفاته‪ :‬المحيط في اللغة‪ ،‬والكشف عن مس اوئ المتن بي‪ ،‬ودي وان رس ائل‪،‬‬
‫وديوان شعر‪ ،‬وعنوان المعارف في التاريخ‪ ،‬وأسماء هللا وصفاته‪ ،‬وجوهرة الجمه رة‪،‬‬
‫واإلمام ة‪ ،‬واإلبان ة عن اإلمام ة‪ ،‬والوق ف واالبت داء‪ ،‬والفص ول المهذب ة‪ ،‬والش واهد‪،‬‬
‫والقضاء والقدر‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ومنهم أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد األصــفهاني ‪ 284( 3‬ـ ‪ 356‬هـ)‪،‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫من أئم ة األدب‪ ،‬األعالم في معرف ة الت اريخ واألنس اب والس ير واآلث ار واللغ ة‬
‫والمغازي‪.‬‬

‫‪ )(1‬ابن خلكان ‪ 35 :1‬واألنباري ‪ 392‬واليتيمة ‪ 214 :3‬وآداب اللغة ‪ 309 :2‬ومجلة المجمع العلمي ‪.501 :22‬‬
‫العربي ‪.73 :19‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )(2‬معجم األدباء ‪ 343 ،273 :2‬والمنتظم ‪ 179 :7‬وإنباه الرواة ‪ 201 :1‬ومجلة المجمع العلمي‬
‫‪ )(3‬وفيات األعيان ‪ 334 :1‬ويتيمة الدهر ‪ 278 :2‬ومفتاح السعادة ‪.184 :1‬‬

‫‪282‬‬
‫قال عنه الحم وي‪( :‬أب و الف رج األص بهاني العالم ة النس اب األخب اري الحاف ظ‬
‫الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراية‪ :‬ال أعلم ألحد أحسن من تص انيفه في فنّه ا‬
‫وحسن استيعاب ما يتص ّدى لجمعه‪ ،‬وكان مع ذلك شاعرا مجيداً)(‪)1‬‬
‫وقال ابن خلكان‪( :‬األصبهاني ص احب كت اب [األغ اني] ه و أص بهاني األص ل‬
‫بغدادي المنشأ‪ ،‬ك ان من أعي ان أدبائه ا‪ ،‬وأف راد مص نفيها‪ ،‬وروى عن ع الم كث ير من‬
‫العلماء يطول تعدادهم‪ ،‬وكان عالما ً بأيام الناس واألنساب والسير)(‪)2‬‬
‫وقال التنوخي‪( :‬كان أب و الف رج يحف ظ من الش عر واألغ اني واألخب ار واآلث ار‬
‫واألحاديث المسندة والنسب ما لم أر ق ط من يحف ظ مثل ه‪ ،‬ويحف ظ دون ذل ك من عل وم‬
‫آخر منها اللغة والنحو والخرافات والس ير والمغ ازي‪ ،‬ومن آل ة المنادم ة ش يئا ً كث يراً‪،‬‬
‫مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم واألشربة وغير ذل ك‪ ،‬ول ه ش عر‬
‫يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء)(‪)3‬‬
‫وقال الذهبي‪( :‬صاحب األغاني العالمة األخباري أبو الفرج‪ ،‬كان بحرا في نق ل‬
‫اآلداب‪ ،‬وكان بصيرا باألنساب وأيام العرب‪ ،‬جيد الشعر‪ ،‬والعجب أنه أم وي ش يعي!)‬
‫(‪)4‬‬
‫قال الخطيب البغدادي‪( :‬أبو الفرج األموي الكاتب المع روف باألص بهاني‪ :‬ك ان‬
‫عالم ا ً بأيّ ام الن اس واألنس اب والس يرة‪ ،‬وك ان ش اعراً محس ناً‪ ،‬والغ الب علي ه رواي ة‬
‫األخبار واآلداب‪ ،‬وصنَّف كتبا ً كثيرة)(‪)5‬‬
‫وقال ابن خلدون‪( :‬وقد ألف القاض ي أب و الف رج االص بهاني كتاب ه في االغ اني‬
‫جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في‬
‫المائة صوتا التي اختارها المغنون للرش يد‪ ،‬فاس توعب في ه ذل ك أتم اس تيعاب وأوف اه‪،‬‬
‫ولعمري إنه دي وان الع رب‪ ،‬وج امع أش تات المحاس ن ال تي س لفت لهم في ك ل فن من‬
‫فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر االحوال وال يعدل به كت اب في ذل ك فيم ا نعلم ه‪،‬‬
‫وهو الغاية التي يسمو إليها األديب ويقف عندها وأنى له به)(‪)6‬‬
‫ومن أهم كتبه وأشهرها [كتاب األغاني] في ‪ 25‬مجلدا‪ ،‬وهو يح وي (ت اريخ فن‬
‫الغناء العربي‪ ،‬ما من مغن إال وأفرد ل ه أب و الف رج حيّ زاً يخص ه ويتح دث عن ه وعن‬
‫أخباره وفنه متوسعا ً في ذلك ما أمكنه‪ ،‬ال يألوا جهداً في ه ذا المج ال‪ ،‬وال يقص ر‪ .‬وق د‬
‫حاول أبو الفرج السير على طريق ة معاص ره في إس ناد األخب ار فج اء بسلس لة ال رواة‬
‫الذين أوصلوا الخبر إليه أخيراً‪ ،‬ولم ينس أن يذكر الروايات كلها‪ ،‬وكأنها أراد ب ذلك أن‬

‫‪ )(1‬معجم األدباء‪ ،‬الحموي‪ ،‬ج‪ 2‬ص ‪.52‬‬


‫‪ )(2‬وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان‪ ،‬ابن خلكان‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.307‬‬
‫‪ )(3‬نشوار المحاضرة‪ ،‬التنوخي‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫‪ )(4‬سير أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬ج ‪ ،16‬ص ‪. 202‬‬
‫‪ )(5‬تاريخ بغداد‪ ،‬الخطيب‪ ،‬ج‪ 11‬ص ‪.397‬‬
‫‪ )(6‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.554‬‬

‫‪283‬‬
‫يوثق كتابه‪ ..‬ويدرس كتاب األغاني في كثير من ال دول العربي ة كمص در من مص ادر‬
‫التراث)‬
‫ومن مؤلفاته [مقاتل الط البيين]‪ ،‬وت رجم في ه للش هداء من ذري ة أبي ط الب من ذ‬
‫عصر رسول هللا ‪ ‬إلى الوقت الذي شرع يؤلف فيه كتاب ه‪ ،‬وه و جم ادى األول س نة‬
‫‪ 313‬هـ‪ ،‬سواء أكان المترجم له قتي ل الح رب أو ص ريع الح رب أو ص ريع الس م في‬
‫السلم‪ ،‬وسواء أكان مهلكه في السجن أو في مهربة أثناء تواريه من السلطان‪ ،‬وقد رتب‬
‫مقاتلهم في السياق الزمني‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته األخرى‪ :‬أخبار القيان‪ ،‬وأخب ار الطفيل يين‪ ،‬وأي ام الع رب‪ ،‬واإلم اء‬
‫الش واعر‪ ،‬وأدب الغرب اء‪ ،‬وأدب الس ماع‪ ،‬واالخب ار والن وادر‪ ،‬والف رق والمعي ار في‬
‫األوغاد واألحرار‪ ،‬والمماليك الش عراء‪ ،‬والغلم ان المغ نين‪ ،‬والتع ديل واالنتص اف في‬
‫اخبار القبائل وانسابها‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫ه ذه نم اذج عن كب ار اللغ ويين ال ذين أنجبتهم إي ران‪ ،‬وك انت لهم مس اهماتهم‬
‫الرائ دة في عل وم اللغ ة العربي ة نحوه ا وص رفها وغريبه ا وبالغته ا‪ ،‬بحيث يمكن‬
‫اعتبارهم المؤسسين الرواد لها‪ ،‬أما غيرهم ممن كتب في اللغ ة‪ ،‬ف أكثر من أن نع ده أو‬
‫نحصيه في هذا المحل‪.‬‬
‫وه ذا كل ه ي دل على اهتم ام الف رس بالعربي ة‪ ،‬وأنهم ال يحق دون عليه ا‪ ،‬وال‬
‫يتنكرون لها‪ ،‬كما يذكر المغرضون‪ ،‬ب ل إنهم ـ كم ا رأين ا ـ يكش فون بلغ ة علمي ة من‬
‫نواحي إعجازها ما لم يكتشفه العرب أنفسهم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اإليرانيون واإلبداع في العلوم العقلية‪:‬‬
‫ال يمكن ألي باحث منص ف أن يع زل ال دور ال ذي ق ام ب ه الفالس فة والب احثون‬
‫اإليرانيون في المجاالت العلمية المختلفة‪ ،‬ب ل إن الص ادق منهم‪ ،‬يع ترف ب أن فض لهم‬
‫فيها ال يوازيه أحد؛ فهم رواد الحضارة اإلسالمية في هذا الجانب بال منازع‪ ،‬مثله مث ل‬
‫الجوانب األخرى‪.‬‬
‫وربما يكون سبب ذلك ما ورثوه من حضارة سابقة‪ ،‬كان لها تأثيرها فيهم‪ ،‬وه و‬
‫تأثير منهجي ال فكري‪ ،‬فهم في أفك ارهم مس لمون مؤمن ون ال يش كك أح د في ذل ك إال‬
‫المغرضون‪.‬‬
‫وقد عبر ابن خلدون عن مدى تمرسهم في الجوانب العقلية‪ ،‬ب ل إن ه ينس ب إليهم‬
‫كل أنواع الفلسفة حتى اليونانية منها؛ فقال‪( :‬وأما الفرس‪ ،‬فكان شأن هذه العلوم العقلي ة‬
‫عندهم عظيماً‪ ،‬ونطاقها متسعاً‪ ،‬لما ك انت علي ه دولتهم من الض خامة واتص ال المل ك‪،‬‬
‫ولقد يقال‪ :‬إن هذه العلوم‪ ،‬إنما وصلت إلى يونان منهم‪ ،‬حين قتل اإلس كندر دارا وغلب‬
‫على مملكة الكينية‪ ،‬فاس تولى على كتبهم وعل ومهم‪ ،‬إال أن المس لمين لم ا افتتح وا بالد‬
‫فارس‪ ،‬وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم‪ ،‬ما ال يأخ ذه الحص ر كتب س عد بن أبي‬
‫وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيله ا للمس لمين‪ ،‬فكتب إلي ه عم رأن‬
‫اطرحوها في الماء‪ .‬فإن يكن ما فيها هدًى‪ ،‬فقد هدانا هللا بأه دى من ه‪ ،‬وإن يكن ض الالً‬
‫فقد كفاناه هللا؛ فطرحوها في الماء أو في النار‪ ،‬وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تص ل‬

‫‪284‬‬
‫إلينا)(‪)1‬‬
‫ولسنا ندري مدى دقة هذه الحادثة التي ذكرها ابن خل دون‪ ،‬وال دق ة ك ون أص ل‬
‫الفلسفة اليونانية من الفرس‪ ،‬ولكن ال ذي ندري ه أن أك ثر الفلس فات أص الة في اإلس الم‬
‫وقربا منه كانت ذات منابع إيرانية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما يطلق عليه الفلسفة أو الحكمــة اإلشــراقية‪ ،‬وهي ال تي‬
‫وض عها أبـــو الفتـــوح يحـــيى بن حبش بن أمـــيرك الســـهروردي‪ ،‬المشـــهور باســـم‬
‫السهروردي المقتول(‪ 587 - 549( ،)2‬هـ)‪ ،‬وهو فيلسوف إشراقي‪ ،‬شافعي المذهب‪،‬‬
‫ولد في سهرورد الواقعة شمال غربي إيران‪ ،‬وك ان مقتل ه ب أمر ص الح ال دين بع د أن‬
‫نسب البعض إليه فساد المعتقد ولتوهم صالح ال دين أن الس هروردي يفتن ابن ه ب الكفر‬
‫والخروج عن الدين‪ ،‬وكل ذلك زور وبهتان‪ ،‬فالرجل مؤمن ال ش ك في إيمان ه‪ ،‬ب ل إن‬
‫صوفية المدرسة السنية أنفسهم يعتبرونه من كبار األولياء‪ ،‬وهم ينش دون في مج امعهم‬
‫قصيدته المعروفة‪ ،‬والتي يخاطب فيها هللا تعالى بقوله‪:‬‬
‫َو ِوص الُ ُكم َريحانُه ا‬ ‫َحن إِلَي ُك ُم األَروا ُح‬
‫داً ت ُّ‬ ‫أَب‬
‫را ُح‬ ‫َوال‬
‫َوإِلى لَذيذ لق ائكم تَرت ا ُح‬ ‫َوقُلوبُ أَه ِل ِودادكم تَش تاقُ ُكم‬
‫س تر ال َمحبّ ِة َوالهَ وى‬ ‫للعاش قينَ تَكلّف وا‬
‫ِ‬ ‫َوا َرحم ةً‬
‫ا ُح‬ ‫ض‬‫فَ ّ‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد كان فقيها شافعيا معتبرا‪ ،‬وكان أكثر علماء عصره علما‬
‫بالفلسفة والمنطق والحكم ة‪ ،‬ويس مي مذهب ه ال ذي ع رف ب ه [حكم ة اإلش راق]‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفات ه‪ :‬رس ائل في اعتق ادات الحكم اء‪ ،‬وهياك ل الن ور‪ ،‬والمش ارع والمطارح ات‪،‬‬
‫ورسالة مختصرة‪ ،‬واألربعون اس ًما‪ ،‬واألسماء اإلدريسية‪ ،‬وكتاب البصر‪ ،‬والتنقيح ات‬
‫في األصول‪ ،‬والرقيم القدسي‪ ،،‬ورسالة عقل‪.‬‬
‫ونحب أن نذكر هنا أن ما حصل له من القتل ال يعبر عن حقيقة أمره ـ كما يذكر‬
‫المتطرفون ـ ذلك أن القتل تم ألجل أسباب شخصية‪ ،‬حاولت أن تلبس لباس الدين‪ ،‬وق د‬
‫حصل مثل ذلك لعب د هللا بن المقف ع الم ؤمن الش هيد ال ذي قت ل ظلم ا‪ ،‬وحص ل للحالج‬
‫وغيره‪ ،‬بل إن أبا حامد الغزالي الذي تتبناه المدرسة السنية‪ ،‬وتعت بره من كب ار فقهائه ا‬
‫وصوفيتها‪ ،‬اتهم بالكفر‪ ،‬وأحرقت كتبه‪ ،‬وذلك ال يدل على كونه كما ذكروا‪.‬‬
‫ومن الفلسفات األصيلة والرائدة التي ولدت في إيران فلســفة الحكمــة المتعالية‪،‬‬
‫والتي وض عها المال صــدرا محمــد بن إبــراهيم القــوامي الشــيرازي المعــروف بصــدر‬
‫المتألهين(‪ 980( )3‬ـ ‪1050‬هـ)‪ ،‬وال ذي ح اول أن يجم ع فيه ا بين الفلس فة والعرف ان‬
‫والقرآن‪ ،‬وكان طرحه ـ كما يذكر المؤرخون له ـ متط ورا ج دا‪ ،‬وف اق ح دود عص ره‬

‫‪ )(1‬تاريخ ابن خلدون (‪)631 /1‬‬


‫‪ )(2‬وفيات األعيان ‪ ، 261 :2‬وطبقات األطباء ‪ ، 171 - 167 :2‬والنجوم الزاهرة ‪.114 :6‬‬
‫‪ )(3‬انظ ر في ترجمت ه‪ :‬أب و عب د هللا الزنج اني‪ ،‬في مجل ة المجم ع العلمي الع ّ‬
‫ربي ‪ 661 :9‬و ‪ 723‬ثم ‪29 :10‬‬
‫وروضات الجنات ‪ 331‬ومعجم المطبوعات ‪ 1174‬والذريعة ‪ 39 :2‬و ‪ 279‬وأعيان الشيعة ‪.99 :45‬‬

‫‪285‬‬
‫مما صعب على معاصريه أن يقبلوه‪ ،‬فالقى من معاصريه صنوف المض ايقات بس بب‬
‫ذلك‪ ،‬فكفر ورمي بأبشع التهم‪ ،‬مثلما حصل للكثير من الفالسفة والصوفية‪.‬‬
‫ً‬
‫قال عنه السيّد مح ّمد باقر الخونساري في روضات الجنّات‪( :‬كان فائق ا على من‬
‫تق ّدم ه من الحكم اء الب اذخين‪ ،‬والعلم اء الراس خين إلى زمن موالن ا نص ير ال دين‬
‫الطوسي‪ ،‬منقّحا ً أساس اإلشراق والم ّشاء بما ال مزيد عليه)‬
‫وقال عنه الشيخ مح ّمد رضا المظفّر‪( :‬بالغ في تصوير آرائه باختالف العبارات‬
‫والتكرار‪ ،‬حسبما أوتي من مقدرة بيانية‪ ،‬وحسبما يسعه موض وعه من أدائ ه باأللف اظ‪،‬‬
‫وهو كاتب موهوب لعلّه لم نعهد له نظيراً في عصره وفي غ ير عص ره من أمثال ه من‬
‫فإن تلميذه ن اف علي ه‬ ‫الحكماء‪ ،‬وإذا كان أُستاذه الجليل السيّد الداماد يسمى أمير البيان‪ّ ،‬‬
‫وكان أكثر منه براعة وتم ّكنا ً من البيان السهل)(‪)1‬‬
‫وقال الشيخ مح ّمد حسين األصفهاني‪( :‬لو أعلم أحداً يفهم أس رار كت اب األس فار‬
‫لشددت إليه الرحال للتَّلمذة عليه وإن كان في أقصى الديار)‬
‫ومن مؤلفاته‪ :‬الحكمة المتعالية في األسفار األربعة العقلية‪ ،‬والذي يعت بر من أهم‬
‫كتبه‪ ،‬حيث عرض فيه فلسفته‪ ،‬وقد قسمه إلى أربعة أسفار‪ :‬السفر من الخلق إلى الحق‪،‬‬
‫والسفر بالحق في الحق‪ ،‬والسفر من الحق إلى الخلق بالحق‪ ،‬والسفر بالحق في الخلق‪.‬‬
‫ومنه ا‪ :‬الش واهد الربوبي ة في المن اهج الس لوكية‪ ،‬وه و يلي األس فار من حيث‬
‫األهمي ة‪ ،‬وق د أورد فيه ا المعلوم ات نفس ها ال تي وردت في األس فار دون أن ين اقش‬
‫نظريات اآلخرين من الفالسفة‪.‬‬
‫ومنه ا‪ :‬المب دأ والمع اد‪ ،‬وه و الكت اب الث اني من حيث الحجم‪ ،‬ويش تمل على‬
‫اإللهي ات والطبيعي ات‪ ،‬ودرس في كيفي ة تك وين وظه ور النفس الناطق ة ومقاماته ا‬
‫ونهاياتها‪ ،‬وكذلك يحتوي على مباحث النب وات والمنام ات‪ ،‬ويالح ظ الق ارىء النزع ة‬
‫اإلشراقية واضحة في هذا الكتاب‪ ،‬ويقول سيد حسين نص ر في مقدمت ه للكت اب‪( :‬ك ان‬
‫مال ص درا متعم داً في إطالق ه ه ذا العن وان على أث ر ض خم كه ذا ليثبت توجه ه إلى‬
‫السابقة التاريخية لمبحث المبدأ والمعاد‪ .‬واستفاد من العن وان ال ذي ك رره م راراً ح تى‬
‫يجعل القارىء يدرك مدى عالقة أفكاره ببنية الفكر اإلسالمي الغنية‪ ،‬وذلك‪ ،‬دون التقيد‬
‫بما ورد لدى غيره من الفالسفة المشائين)‬
‫ومنها‪ :‬رسالة المشاعر‪ ،‬وتدور حول مسألة أصالة الوج ود واعتباري ة الماهي ة‪،‬‬
‫وتحتوي على ثمانية مشاعر في شرح الوجود والماهية وكيفية تحققهما‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مفاتيح الغيب‪ ،‬وقد ألَّفه عندما اكتملت فلسفته‪ ،‬وه و كب ير الحجم‪ ،‬م رتب‬
‫َّ‬
‫على عشرين مفتاحا ً كل مفتاح له فواتح‪ ،‬ويمتاز هذا الكتاب بكونه من الكتب الجوام ع‪،‬‬
‫إذ م زج في ه الفلس فة بالعرف ان ومزجهم ا بالكت اب والح ديث مزج ا ً أنيق اً‪ ،‬ودمج في ه‬
‫العناصر المتقابلة في ظاهر اإلفهام وفي ال‌طريقة الماض ية لمك اتب الفلس فة والعرف ان‬
‫والكالم والتفسير والشرح‪.‬‬

‫‪ )(1‬سميح دغيم‪ ،‬موسوعة مصطلحات صدر الدين الشيرازي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪..11‬‬

‫‪286‬‬
‫ومنها‪ :‬كسر أصنام الجاهلي ة‪ ،‬وه و كت اب ص غير الحجم‪ ،‬انتق د في ه الش يرازي‬
‫المتصوفة وآراءهم‪ ،‬وذلك بغية تفريقهم عن العرفانيين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬رسالة في حدوث العالم‪ ،‬وتشتمل على مبحث الحركة وقس م من الج وهر‬
‫واألع راض وال تي فص لها في (األس فار)‪ ،‬وفيه ا أيض ا ً أثبت ح دوث الع الم الم ادي‪،‬‬
‫وجسمانية النفس‪ ،‬وهذه الرسالة كان كتبها قب ل ف ترة العزل ة‪ ،‬وق د أورد بعض األمثل ة‬
‫منها في األسفار‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬التفسير الكبير‪ ،‬ويشتمل تفسير جملة من السور‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫ومن فالسفة إيران الكبار الميرداماد‪ ،‬وهو محمــد بــاقر األســترآبادي(‪( 1‬ت وفي‬
‫)‬
‫‪ 1041‬هـ)‪ ،‬الملقب بـ [المعلم الثالث]‪ ،‬وكان فقيه ا ً وفيلس وفاً‪ ،‬وش اعراً باللغ ة العربي ة‬
‫والفارسية‪ ،‬درس مدة طويلة في مدينة مشهد‪ ،‬وكان مشتغالً بالتحقيق في آثار الفالس فة‬
‫سيما ابن سينا‪ ،‬ثم سافر إلى قزوين وأقام مدة به ا‪ ،‬ثم س افر إلى كاش ان‪ ،‬وبالنهاي ة إلى‬
‫أصفهان واهتم بـالفلسفة اإلسالمية‪ ،‬وأسهم في إحيائها‪ ،‬والتدريس والتأليف في مختل ف‬
‫العلوم‪.‬‬
‫وق د ت رك الكث ير من المؤلف ات في الفلس فة والحكم ة اإلش راقية‪ ،‬والكالم‪،‬‬
‫والهندس ة‪ ،‬والش ريعة والتفس ير‪ ،‬والح ديث‪ ،‬منه ا‪ :‬القبس ات‪ ،‬في الحكم ة‪ ،‬والص راط‬
‫المستقيم‪ ،‬والحبل المتين‪ ،‬وخلسة الملكوت‪ ،‬وتقويم اإليمان‪ ،‬واألُف ق الم بين في الحكم ة‬
‫اإللهي ة‪ ،‬والرواش ح الس ماوية‪ ،‬واإليماض ات والتش ريفات في ح دوث الع الم وقدم ه‪،‬‬
‫والجمع والتوفيق بين رأيي الحكيمين في حدوث العالم‪ ،‬ورسالة في ح دوث الع الم ذات ا ً‬
‫وق ّدمه زماناً‪ ،‬واللوامع الربانية في ر ّد شبه النص رانية‪ ،‬ورس الة في المنط ق‪ ،‬ورس الة‬
‫في تحقيق مفهوم الوجود‪ ،‬وكتاب السبع الشداد‪ ،‬في فنون من العلوم‪ ،‬ورسالة في فن ون‬
‫العلوم والصناعات‪ ،‬وسدرۃ المنتهى‪ ،‬ورسالة في خلق األعم ال‪ ،‬ون براس الض ياء في‬
‫تحقيق معنى البداء‪ ،‬وشرح االستبص ار‪ ،‬في الح دیث‪ ،‬ورس الة في الج بر والتف ويض‪،‬‬
‫في نفيهما وإثبات األمر بين األمرين‪ ،‬ورسالة في إبطال الزمان الموهوم‪.‬‬
‫وقد أثنى عليه الكثير من العلماء‪ ،‬ومنهم تلميذه الفيلسوف الكبير صدر المت ألهين‬
‫الذي قال عنه في شرح أصول الكافي‪( :‬سيدي وس ندي‪ ،‬وأس تاذي في المع الم الديني ة‪،‬‬
‫والعلوم اإللهية‪ ،‬والمعارف الحقيقية‪ ،‬واألص ول اليقيني ة‪ ،‬الس يد األج ل األن ور‪ ،‬الع الم‬
‫المق ّدس األطهر‪ ،‬الحكيم اإللهي‪ ،‬والفقيه الرباني‪ ،‬سيد عصره‪ ،‬وص فوة ده ره‪ ،‬األم ير‬
‫الكبير‪ ،‬والبدر المنير‪ ،‬عالمة الزمان‪ ،‬أعجوبة الدوران‪ ،‬الس می بمح ّم د‪ ،‬الملقب بب اقر‬
‫الداماد الحسيني قدس هللا عقله بالنور الرباني)(‪)2‬‬

‫وقال عنه الشيخ الحر العاملي في كتابه [أمل اآلمل]‪( :‬عالم فاضل‪ ،‬جليل القدر‪،‬‬
‫حكيم متكلّم‪ ،‬م اهر في العقلي ات‪ ،‬معاصر لش يخنا البه ائي‪ ،‬وك ان ش اعراً بالفارس ية‬

‫‪ )(1‬روضات الجنات ‪ ، 114 :1‬والذريعة ‪ 237 :2‬و ‪ 261‬و ‪.153 :12‬‬


‫‪ )(2‬الميرداماد‪ ،‬الرواشح السماوية‪ ،‬ص ‪..7‬‬

‫‪287‬‬
‫والعربية)(‪)1‬‬
‫وقال عنه الشيخ أسد هللا الك اظمي‪( :‬الس يد الهم ام‪ ،‬ومالذ األن ام‪ ،‬عين األماث ل‪،‬‬
‫عديم المماثل‪ ،‬عمدة األفاضل‪ ،‬منار الفضائل‪ ،‬بح ر العلم ال ذي ال ي درك س احله‪ ،‬وب ر‬
‫الفضل الذي ال تطوى مراحله‪ ،‬المقتبس من أنواره أنواع الفن ون‪ ،‬والمس تفاد من آث اره‬
‫أحكام الدين المصون‪ ،‬الفقيه المحدث األديب الحكيم)(‪)2‬‬
‫وق ال عن ه الفيلس وف الياب اني [توش ي هيک و ايزوتس نو]‪( :‬محمد ب اقر ال داماد‬
‫المشهور بالمیرداماد واحد من أعالم الفلسفة اإلسالمية في العه د الص فوي‪ ،‬واش تهاره‬
‫باللقب الفاخر ــ يعنى المعلم الثالث ــ يدل على شهرة عظيمة له في الفلسفة اإلس المية‪،‬‬
‫شهرةً ال مع ارض له ا‪ ،‬وه ذا اللقب يحكي عن عل ّو مرتبت ه في الفلس فة اإلس المية في‬
‫عصره وبعده)(‪)3‬‬
‫ومنهم محمد (أو محمود) بن محمد الرازي أبــو عبـد هللا‪ ،‬قطب الــدين الــرازي‪،‬‬
‫ويعرف أيضا بالقطب التحتاني(‪ 766 - 694( )4‬هـ) هو عالم بالحكمة والمنط ق‪ ،‬من‬
‫أهل الري‪ ،‬ومن كتبه‪( :‬المحاكمات) في المنطق‪ ،‬ح اول أن يوف ق في ه بين آراء الفخ ر‬
‫ال رازي والنص ير الطوس ي على كت اب (اإلش ارات) البن س ينا‪ ،‬و(تحري ر القواع د‬
‫المنطقية في شرح الشمسية)‪ ،‬وتعرف بالرس الة القطبي ة‪ ،‬و(لوام ع االس رار في ش رح‬
‫مطالع األنوار) في المنطق‪ ،‬وهو شرح لكتاب (مطالع األنوار) لألرموي‪ ،‬ورس الة في‬
‫(الكليات وتحقيقها)‪ ،‬و(تحقيق معنى التصور والتصديق)‬
‫باإلضافة إلى هؤالء وغيرهم‪ ،‬نرى أن أكثر المس اجالت الفالس فية حص لت في‬
‫إيران‪ ،‬ومن أمثالها كتاب [تهافت الفالسفة] للغزالي‪ ،‬والذي ك ان ل ه ت أثيره الكب ير في‬
‫مسيرة الفلسفة في العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫أم ا المت أخرون‪ ،‬وخاص ة المعاص رون‪ ،‬فق د ظه ر الكث ير من كب ار الفالس فة‪،‬‬
‫أصحاب الفلسفة األصيلة التي تحاول عرض القرآن الك ريم بطريق ة عقالني ة منس جمة‬
‫مع الرؤى المختلفة‪ ،‬ومن أشهرهم مرتضى مطهري الفقيه والفيلسوف والمفكر الكبير‪،‬‬
‫والذي يُعد من أبرز المتصدين للفلسفات المادية‪.‬‬
‫ومنهم عبـــد هللا الجـــوادي اآلملي (‪ )..- 1932‬الفيلس وف المعاص ر الكب ير‪،‬‬
‫مؤسس مؤسس ة اإلس راء للبح وث في مدين ة قم اإليراني ة‪ ،‬وه و من أش هر المفس رين‬
‫والفالسفة في الوقت الراهن‪.‬‬
‫ومنهم الشــيخ تقي مصــباح الــيزدي (‪ )..- 1934‬الفيلس وف والع الم الكب ير‪،‬‬
‫ومؤسس مؤسسة اإلمام الخميني للتعليم والبحث العلمي‪ ،‬وعضو مجلس خ براء القي ادة‬
‫في إيران‪.‬‬
‫‪ )(1‬الحر العاملي‪ ،‬أمل اآلمل‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪..249‬‬
‫‪ )(2‬الكاظمي‪ ،‬مقابس األنوار‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪..16‬‬
‫‪ )(3‬الميرداماد‪ ،‬الرواشح السماوية‪ ،‬ص ‪..10‬‬
‫‪ )(4‬القالئد الجوهرية ‪ 239‬ومفتاح السعادة ‪ 246 :1‬وشذرات الذهب ‪ 207 :6‬وطبقات الشافعية ‪ 31 :6‬و ‪, 275‬‬
‫‪., 272‬‬

‫‪288‬‬
‫وغيرهم كثير‪ ،‬ذلك أن الكثير ممن مارس الفلسفة مارس معها العلوم الش رعية‪،‬‬
‫فصار أكثر نسبة إليها من نسبته للفلسفة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اإليرانيون واإلبداع في العلوم الكونية‪:‬‬
‫من أهم المجاالت التي برز فيها اإليرانيون في مختلف فترات تاريخهم ما يطلق‬
‫عليه [العلوم الكونية]‪ ،‬أو [العلوم المحضة]؛ ولهذا نج د في الكتب المؤرخ ة للحض ارة‬
‫اإلسالمية أن أكبر الشخصيات‪ ،‬وأكثر المنجزات‪ ،‬كانت إيرانية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أبو بكــر محمــد بن يحــيى بن زكريــا الــرازي ‪- 251( 1‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫‪ 313‬هـ)‪ ،‬العالم في الرياضيات والطب والفلسفة والفل ك والكيمي اء والمنط ق واألدب‪،‬‬
‫وه و مخ ترع تقط ير الكح ول واس تخدامه في الطب‪ ،‬وه و أول من ابتك ر خي وط‬
‫الجراحة‪ ،‬وصنع المراهم‪ ،‬وله مؤلفات في الصيدلة ساهمت في تقدم علم العقاقير‪.‬‬
‫وقد وصفته [سيغريد هونكه] في كتابها [ش مس هللا تس طع على الغ رب] بقول ه‪:‬‬
‫(أعظم أطباء اإلنسانية على اإلطالق‪ ،‬حيث ألف كت اب الح اوي في الطب‪ ،‬ال ذي ك ان‬
‫يضم كل المعارف الطبي ة من ذ أي ام اإلغري ق ح تى ع ام ‪925‬م وظ ل المرج ع الط بي‬
‫الرئيسي في أوروبا لمدة ‪ 400‬عام بعد ذلك التاريخ)(‪)2‬‬
‫وقد عم ل رئيس ا لمستش فى ال ري‪ ،‬ول ه الكث ير من الرس ائل في ش تى مج االت‬
‫األمراض‪ ،‬وكتب في كل فروع الطب والمعرفة في ذل ك العص ر‪ ،‬وق د ت رجم بعض ها‬
‫إلى الالتينية‪ ،‬وكان يعتبر من المراجع الرئيسية في الطب حتى القرن السابع عشر‪.‬‬
‫وله ‪ 200‬كتاب ومقال في مختلف جوانب العلوم‪ ،‬ومنه ا‪ :‬ت اريخ الطب‪ ،‬وكت اب‬
‫المنصور في الطب‪ ،‬وكتاب األدوية المف ردة‪ ،‬ال ذي يتض من الوص ف ال دقيق لتش ريح‬
‫أعضاء الجسم‪.‬‬
‫ومن أهم كتبه كتاب الح اوي في الطب‪ ،‬ال ذي يعت بر من أك ثر كتب ه أهمي ة وق د‬
‫وصفه بموسوعة عظيمة في الطب تحت وي على ملخص ات كث يرة من م ؤلفين إغري ق‬
‫وهنود إضافة إلى مالحظاته الدقيق ة وتجارب ه الخاص ة‪ ،‬وق د ت رجم الح اوي كتب ه من‬
‫اللغ ة العربي ة إلى اللغ ة الالتيني ة وطب ع ألول م رة في بريش يا في ش مال إيطالي ا ع ام‬
‫‪ 1486‬وقد أعيد طبعه مرارا في البندقية في القرن السادس عشر الميالدي‪.‬‬
‫ونحب أن نشير هنا إلى أنه بسبب إسهاماته العلمية الكثيرة تع رض لم ا تع رض‬
‫له من ذكرنا من الفالسفة إلى التكفير‪ ،‬ونسبوا إليه كتبا ومقاالت‪ ،‬وكلها مدسوسة عليه‪،‬‬
‫ولم يصلنا شيء منها‪ ،‬بل ما وصل إلينا يدل على كون ه مؤمن ا مس لما كس ائر الفالس فة‬
‫واألطباء وغيرهم‪.‬‬
‫ق ال الب احث المعاص ر المختص بكتب ه د‪ .‬عب د اللطي ف العب د عن ه في رس الته‬
‫للدكتوراه الموسومة [فلسفة أبي بكر الرازي]‪( :‬المؤلفات المنس وبة ألبي بك ر ال رازي‬
‫وآرائ ه الفلس فية وال تي تطعن بال دين واألنبي اء‪ ،‬في الحقيق ة لم يص ل ش يء منه ا إنم ا‬

‫‪ )(1‬ابن النديم ‪ 299 :1‬وطبقات األطباء ‪ 321 - 309 :1‬ونكت الهميان ‪.249‬‬
‫‪ )(2‬شمس هللا تشرق على الغرب‪ ،‬سيغريد هونكه‪ ،‬ص‪.243‬‬

‫‪289‬‬
‫أخ ذت من مخطوط ة منس وبه ألبي ح اتم ال رازي (وه و فيلس وف ومتكلم إس ماعيلي)‬
‫اسمه (أعالم النبوة) وضع فيها مقتطفات من مؤلف ات لملح د مجه ول زعم البعض أن ه‬
‫أبو بكر الرازي‪ ،‬الصفحة األولى من هذه المخطوطة مفقودة‪ ،‬فال يعرف اسم الشخص‪،‬‬
‫والذي كان يرد عليه أبو حاتم‪ ..‬كما أن ألبي بكر الرازي كتاب ا اس مه [إن للعب د خالق ا]‬
‫وآخر اسمه [أسرار التنزيل في التوحيد])(‪)1‬‬
‫ومنهم أبو الحسـين عبـد الـرحمن بن عمـر بن سـهل الصـوفي الـرازي (‪ 291‬ـ‬
‫‪ 376‬هـ)‪ ،‬وكان عالم فلك كبير‪ ،‬وقد اعتبره المؤرخ جورج سارطون من أعظم فلك يي‬
‫اإلسالم‪ ،‬وكان صديقا ً للخليفة البويهي عضد الدولة الذي اتخذه فلكيا ً ومعلما ً له لمعرف ة‬
‫مواضع النجوم والكواكب المختلفة وحركة األجرام الفلكية‪ ،‬وقد قام عضد الدول ة ببن اء‬
‫مرصد خاص للصوفي في شيراز مما ساعده في القيام بإنجازاته الفلكية‪.‬‬
‫ص َد النجوم‪ ،‬وع َّدها وحدد أبعادها عرضا ً وطوالً‬ ‫ومن إسهاماته في علم الفلك‪َ :‬ر َ‬
‫في السماء‪ ،‬والحظ نجوما ً لم يسبقه إليها أحد من قب ل‪ ،‬ثم رس م خريط ة للس ماء حس ب‬
‫فيها مواضع النجوم وأحجامها ودرجة لمعان كل منها‪ ،‬ووضع فهرسا ً للنجوم لتصحيح‬
‫أخطاء من سبقوه‪.‬‬
‫وقد اعترف األوربيون بدقة مالحظاته الفلكي ة حيث يص فه أل دومييلي بأن ه (من‬
‫أعظم الفلك يين الف رس ال ذين ن دين لهم بسلس لة دقيق ة من المالحظ ات المباش رة‪ ..‬ولم‬
‫يقتصر هذا الفلكي العظيم على تعيين كثير من الكواكب التي ال توج د عن د بطليم وس‪،‬‬
‫بل صحح أيضا ً كثيراً من المالحظات التي أخطأ فيه ا‪ ،‬ومكن ب ذلك الفلك يين المح دثين‬
‫من التعرف على الكواكب التي حدد لها الفلكي اليوناني مراكز غير دقيقة)‬
‫باإلضافة إلى ذلك يعتبر أول فلكي يَرصد ويُالحظ تغير ألوان الكواكب وأقدارها‬
‫(وحدة لقياس السطوع)‪ ،‬وأيضا ً كان أول من رس َم الحركة الص حيحة تمام ا ً للك واكب‪.‬‬
‫وهو أول من الحظ وجود مجرة أندروميدا‪ ،‬ووص فها بـ [لطخ ة س حابية]‪ ،‬وك ان أول‬
‫من الحظَ وجود سحابتي ماجالن الكبرى والصغرى‪.‬‬
‫وقد صحح الكثير من األخطاء في وصف بطليموس لمواضع النجوم‪ ،‬وذل ك في‬
‫كتابه صور الكواكب الثمانية واألربعين‪ ،‬وقام بوضع حدود دقيقة لكل كوكب ة وللنج وم‬
‫التي تقع في الص ورة ال ُمتخيل ة له ا وال تي خارجه ا‪ ،‬ووص ف في ه مواق ع ك ل النج وم‬
‫وأقدارها (حيث كان القدماء يُصنفون النجوم ضمن ستة أق دار‪ ،‬وك انوا يُض طرون إلى‬
‫تقدير لمعانها لعدم توفر أدوات دقيقة لقياسه) من رصده الخاص لها‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته‪ :‬كتاب الكواكب الثابتة غير المتحركة (كان العرب القدماء يُس مون‬
‫النجوم بالكواكب الثابتة‪ ،‬والك واكب ب الكواكب الس يارة)‪ ،‬ويع ّده س ارطون أح د الكتب‬
‫الرئيس ة الثالث ة ال تي اش تهرت في علم الفل ك عن د المس لمين‪ ،‬أم ا الكتاب ان اآلخ ران‪،‬‬
‫فأحدهما البن يونس‪ ،‬واآلخر أللغ بك‪ ،‬ويتميز كتاب الكواكب الثابت ة بالرس وم الملون ة‬
‫لألبراج والصور السماوية‪.‬‬
‫د‪.‬عبد اللطيف محمد العبد‪ ،‬تحقيقه لكتاب‪ ،‬أخالق الطبيب للرازاي‪ ،‬مكتب ة دار ال تراث‪ ،‬الق اهرة‪،1977 ،‬ص‬ ‫‪)(1‬‬
‫‪.43‬‬

‫‪290‬‬
‫ومن مؤلفاته األخرى‪ :‬كتاب األرج وزة في الك واكب الثابت ة‪ ،‬وص ور الك واكب‬
‫الثماني ة واألربعين‪ ،‬ورس الة العم ل باألس طرالب‪ ،‬وكت اب الت ذكرة‪ ،‬وكت اب تط ارح‬
‫الشعاعات‪.‬‬
‫ومنهم العالمة الكبير نصير الدين الطوسي ‪ 672 – 597( 1‬هـ)‪ ،‬ال ذي س بق‬
‫)‬ ‫(‬

‫ذكره‪ ،‬ويعتبر أحد أب رز الشخص يات في ت اريخ الحض ارة اإلس المية‪ ،‬ومن إس هاماته‬
‫الك برى في الفل ك أن ه فن د المفه وم الس ائد في وقت ه ح ول مركزي ة االرض ـ أي ان‬
‫األرض هي مركز الكون ـ فقد انتقد الطوسي هذا النظام وحاول إيجاد ب دائل ل ه‪ ،‬وح ل‬
‫معدل المسار‪.‬‬
‫وتمكن الطوسي من إبداع طريقة رياضية عرفت فيم ا بع د بمزدوج ة الطوس ي‬
‫نقضت نظرية أرسطو‪ ،‬والتي كانت تنص على أن الحركة إما خطي ة أو دائري ة‪ ،‬حيث‬
‫أثبت الطوسي أنه من الممكن أن تنتج حرك ة خطي ة من حرك تين دائريي ان‪ ،‬واس تعمل‬
‫هذه التقنية لحل إشكالية النظام البطلمي‪ ،‬ومع دل المس ار للعدي د من الك واكب‪ ،‬ويعتق د‬
‫الكثير من الباحثين أن مزدوجة الطوسي وجدت طريقه ا إلى مكتب ة الفاتيك ان بع د فتح‬
‫القسطنطينية عام ‪1453‬م لتصل إلى عالم الفلك [نيك والس كوبرنيك وس] ال ذي اعتم د‬
‫عليه ا في نظريت ه الش هيرة مركزي ة الش مس وال تي غ يرت مف اهيم علم الفل ك ج ذريا‬
‫وأنهت االعتقاد السائد بأن األرض هي مركز الكون (‪.)2‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك تمكن الطوسي من خالل مالحظاته في مرصد مراغة وال ذي‬
‫كان أفضل المراصد في ذاك الوقت‪ ،‬أن يضع الجدول األدق لحرك ة الك واكب في ذاك‬
‫الوقت في كتابه الزيج األخليني وأستغرق في ذلك ‪ 12‬س نة‪ .‬حيث يحت وي ه ذا الكت اب‬
‫على جدول فلكي لحساب مواقع الكواكب وأسماء النجوم وقد أستخدم بشكل واسع حتى‬
‫اكتش اف نظ ام مركزي ة الش مس ل نيكوالس كوبرنيك وس‪ ،‬كم ا اس تطاع تحدي د مع دل‬
‫االنح راف الس نوي لمح ور األرض وهي ‪ 51‬درج ة\س نة‪ ،‬وهي قريب ة من الدرج ة‬
‫المكتشفة حديثا وهي ‪.50.2‬‬
‫وتمكن الطوسي من أن يضع وصفا دقيقا لمجرة درب التبانة حيث قال في كتابه‬
‫[الت ذكرة]‪( :‬إن درب التبان ة مخلوق ة من ع دد هائ ل من النج وم الص غيرة المتقارب ة‪،‬‬
‫ولشدة صغرها وتركيزها تبدو كرقع غيمية لذلك تكون قريب ة من ل ون الحليب)‪ ،‬وه ذا‬
‫ما تم اكتشافه بعد ثالث قرون عن دما اس تعمل ج اليليو المرق اب ليكتش ف ب أن المج رة‬
‫مكونة من عدد هائل من النجوم الخافتة‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر في ترجمته‪ :‬اإلسماعيليون والمغول ونصير ال دين الطوس ي‪ ،‬حس ن األمين‪ ،‬ص‪ ،54‬والعالم ة خواج ة‬
‫نصير الدين الطوس ي ‪ ،‬محم د تقي م درس رض وي ‪ ،‬تع ريب علي هاش م األس دي ‪ ،‬ص ‪ ،21‬وأعي ان الش يعة‪ ،‬ج‪ 9‬ص‬
‫‪ ،416‬و حسين الجابري ‪ ،‬نصير الدين الطوسي تاريخ وحضارة ‪ ،‬مجلة آداب المستنصرية ‪ ،1999 ،‬ص ‪ ،345‬نص ير‬
‫الدين الطوسى حياته وفلسفته ‪،‬دكت وراه‪ ،‬عب د ال رحمن المراك بى‪ ،‬ا ‪.‬د ‪ /‬محم د عب د الس تار نص ار‪ ،‬بكلي ة أص ول ال دين‬
‫بالقاهرة ‪ 3344‬ع ‪.26‬‬
‫‪ )(2‬نصير الدين الطوسي‪ ،‬خالد العاني‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪291‬‬
‫ومنهم أبــو الفتــوح غيــاث الــدين عمــر بن إبــراهيم الخيــام المعــروف بعمــر‬
‫الخيام(‪( )1‬توفي ‪ 515‬هـ)‪ ،‬وه و ع الم وفيلس وف وش اعر‪ُ ،‬ولِ َد في مدين ة نيس ابور‪،‬‬
‫وتوفي فيها‪.‬‬
‫ورغم شهرته بكونه شاعرا‪ ،‬فقد كان من علماء الرياضيات‪ ،‬حيث اشتهر بالجبر‬
‫واشتغل في تحديد التقويم السنوي للسلطان ملكشاه‪ ،‬والذي صار التقويم الفارسي المتبع‬
‫إلى اليوم‪ ،‬وهو أوّل من اخترع طريقة حساب المثلثات ومع ادالت جبري ة من الدرج ة‬
‫الثالث ة بواس طة قط ع المخ روط‪ ،‬وه و أول من اس تخدم الكلم ة العربي ة [ش يء] ال تي‬
‫رسمت في الكتب العلمية البرتغالي ة (‪ )Xay‬وم ا لبثت أن اس تبدلت بالت دريج ب الحرف‬
‫األول منها [‪ ]x‬الذي أص بح رم زاً عالمي ا ً للع دد المجه ول‪ .‬وق د وض ع الخي ام تقويم ا‬
‫سنويا ً بالغ الدقة‪ ،‬وقد تولى الرصد في مرصد أصفهان‪.‬‬
‫وترجع شهرته كذلك إلى عمله في الرياضيات حيث ح َّل معادالت الدرجة الثانية‬
‫بطرق هندسية وجبري ة‪ ،‬كم ا نظم المع ادالت وح اول حله ا كله ا‪ ،‬ووص ل إلى حل ول‬
‫هندسية جزئية لمعظمها‪ .‬وقد بحث في نظرية ذات الحدين عندما يك ون األس ص حيحا ً‬
‫موجباً‪ ،‬ووضع طرقا ً إليجاد الكثافة النوعية‪ .‬كما برع في الفل ك أيض اً‪ ،‬وق د طلب من ه‬
‫الس لطان ملكش اه س نة ‪ 467‬هـ‪ 1074/‬م مس اعدته في تع ديل التق ويم الفارس ي الق ديم‪.‬‬
‫ويقول سارطون إن تقويم الخيام كان أدق من التقويم الجريجوري‪.‬‬
‫ومن مؤلفات ه باللغ ة العربي ة‪ :‬ش رح م ا أش كل من مص ادرات كت اب أقلي دس‪،‬‬
‫واالحتيال لمعرفة مقداري الذهب والفضة في جسم مركب منهم ا‪ ،‬وفي ه طريق ة قي اس‬
‫الكثافة النوعية‪ ،‬ورسالة في الموسيقى‪ ،‬ورباعيات الخيام‪.‬‬
‫هذه مج رد نم اذج عن بعض إس هامات إي ران في التط ور العلمي في العص ور‬
‫السابقة‪ ،‬أما إسهاماتها في العصر الحديث‪ ،‬وخاصة في مش روعها الحض اري الجدي د‪،‬‬
‫فال يمكن وصفها‪ ،‬ألنها تفوق كل العصور السابقة‪ ،‬مع كونها عاشت طيل ة ه ذه الف ترة‬
‫في ظل األحقاد الدولية المسلطة عليها‪ ،‬وفي ظل الحصار المجحف‪ ،‬ولكنها اس تطاعت‬
‫أن تتغلب على ذلك‪ ،‬وتتفوق على دول كثيرة لم تحاصر ولم تحارب‪ ،‬بل وف ر له ا ك ل‬
‫الدعم‪.‬‬
‫وقد ورد في مقالة بعنوان [نظرة على التط ور التكنول وجي والعملي في إي ران]‬
‫بصحيفة الوقت االلكترونية هذا الخبر‪( :‬واصلت إيران ومنذ نجاح ثورته ا اإلس المية‪،‬‬
‫االستثمار الممنهج في الصناعة التي تعتمد على البح وث والتنمي ة المكثّف ة‪ ،‬مم ا جع ل‬
‫العدو قبل الص ديق يش هد له ا ب الثورة الفكري ة والتق دم التكنول وجي ال تي تحقق ه البالد‬
‫وعلى مختلف المجاالت‪ ،‬وتحتل اآلن مرتبة متقدم ة ج داً من حيث إنت اج العلم بحس ب‬
‫االحصائيات العلمیة ال تي تجريه ا كبري ات المؤسس ات المتخصص ة‪ ،‬س واء من حيث‬
‫حجم المق االت العلمي ة العالمي ة ال تي تنش ر في المجالت المحكم ة أو من حيث‬
‫االختراعات والتجارب العلمية الفريدة‪ ،‬وتفوقت إيران بذلك في ت رتيب االنت اج العلمي‬

‫‪ )(1‬أخبار الحكماء ‪ ، 162‬وتاريخ حكماء اإلسالم ‪.119‬‬

‫‪292‬‬
‫وتركيا)(‪)1‬‬
‫والتكنولوجي على كل من سويسرا‬
‫ومن المجاالت التي ذكرها صاحب المقال عن التطور العلمي في إي ران‪ :‬مج ال‬
‫الن انو تكنولوجي ا‪ ،‬وبح وث الخالي ا الجذعي ة‪ ،‬وعل وم الوراث ة‪ ،‬والهندس ة الكيميائي ة‪،‬‬
‫وبحوث الفضاء‪ ،‬والهندسة الزراعية‪ ،‬وأنظمة االتص االت ب الليزر‪ ،‬وعل وم الكم بيوتر‬
‫واإللكترونيات‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وذكر صاحب المقال أن إي ران أص بحت قبل ة لس كان الش رق األوس ط للس ياحة‬
‫المرضية‪ ،‬إذ يتدفق آالف المرضى من العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان وأغلب دول‬
‫الشرق األوسط الذين يع انون من أن واع مختلف ة من الس رطان إلى مرك ز ال دم وزرع‬
‫النخاع في مستش فى ال دكتور ش ريعتي ال ذي ل ه بن ك من مخزون ات الخالي ا الجذعي ة‬
‫األكثر تقدما في العالم‪ ،‬باالضافة الى توافد مئات مرضى الكبد من الشرق االوس ط الى‬
‫مدينة شيراز (وسط البالد) المركز األول لزراعة الكبد في المنطقة‪.‬‬
‫وفيما يتعلق بزراعة األعضاء‪ ،‬فإن إي ران حققت تق دما ً كب يراً في ه ذا المج ال‪،‬‬
‫ويتحدث المختص ون اإليراني ون عن قف زة كب يرة حققه ا ه ذا الن وع من الجراح ة من ذ‬
‫أوائل الثمانينات‪ ،‬وال ينكرون دور الحاجة التي نشأت نتيج ة الح رب المفروض ة على‬
‫إيران من قبل النظام العراقي من عام ‪ 80‬إلى عام ‪ 88‬وك ثرة الج رحى والمع اقين في‬
‫تنمي ة ه ذا الج انب من الطب البش ري‪ ،‬إذ بمق دور األطب اء اإليران يين اآلن وب دون‬
‫االستعانة بأي مس اعدة خارجي ة توف ير العض و المطل وب أو من حيث إج راء العملي ة‬
‫الجراحية الناجحة في هذا المجال ابتدا ًء من الكلية إلى القلب إلى نخاع العظم إلى الكب د‬
‫وغيرها‪ ،‬وبعد أن كان هذا الجانب يعاني من التخلف أصبح قسم زراع ة األعض اء من‬
‫األقسام المتطورة‪.‬‬
‫ويذكر صاحب المق ال أن ه من المتوق ع أن األبح اث ال تي أع دت ح ول التط ور‬
‫العلمي في إي ران ستص عد إلى الدرج ة األولى في مج االت االقتص اد والعل وم‬
‫والتكنولوجي ا في منطق ة جن وب غ رب آس يا (ال تي تض م آس يا الوس طى‪ ،‬والمن اطق‬
‫القرغيزية‪ ،‬والشرق األوسط والبلدان المجاورة)‬
‫وذكر صاحب المقال أيضا أن الجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬دشنت أول سفينة‬
‫أبحاث عابرة للمحيطات‪ ،‬تابعة لوزارة العل وم واالبح اث والتقني ات اإليراني ة‪ ،‬وتض م‬
‫مختبرات متطورة خاصة بأبحاث الفيزياء البحرية‪ ،‬وعلم األحي اء البحري ة‪ ،‬والكيمي اء‬
‫البحرية‪ ،‬ويمكن لهذه السفينة أن تبحر لـ‪ 45‬يوم ا بس رعة ‪ 15‬عق دة بحري ة ومن دون‬
‫الحاجة الى الرسو في الموانئ‪ ،‬كما يمكنها أخ ذ عين ات من رس وبات ق اع البح ر على‬
‫عمق ‪ 3‬آالف متر‪.‬‬
‫وذكر ص احب المق ال أن التط ور العلمي في إي ران أرخى بظالل ه بش كل كب ير‬
‫على المنجزات الدفاعية في البالد‪ ،‬إذ تكشف إي ران ك ل حين عن منجزاته ا التس ليحية‬
‫الدفاعية الجديدة‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬نظرة على التطور التكنولوجي والعملي في إيران‪ ،‬ص حيفة ال وقت االلكتروني ة‪ ،‬وفي المق ال التوثيق ات‬
‫الخاصة بما ذكره صاحبه‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫وهو ما يخشاه الكيان الصهيوني الذي يعتبر إيران أخطر ع دو ل ه في المنطق ة‪،‬‬
‫إذ حذر رئيس ش عبة اإلس تخبارات العس كرية في الجيش اإلس رائيلي‪ ،‬الل واء هرتس ي‬
‫هليفي‪ ،‬من التطور العلمي المطرد للجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬واصفا ً إياه ب الخطر‬
‫الذي يحدق بإسرائيل‪ ،‬وأشار إلى أن اإليران يين ينجح ون باللح اق بـ(الدول ة العبري ة)‬
‫علمياً‪ ،‬وهم قادرون على سد الفجوة سريعا ً بين الجانبين (‪.)1‬‬
‫وقال هليفي‪( :‬تسألونني إن كانت الحرب ستنشب بيينا وبين إيران خالل األعوام‬
‫العشرة المقبلة‪ ،‬وإجابتي ستكون مفاجئة لكم‪ ،‬فنحن نخ وض حرب ا ً م ع إي ران‪ ،‬إال أنه ا‬
‫ليس ت حرب ا ً عس كرية مباش رة‪ ،‬ب ل هي ح رب تكنولوجي ة‪ ،‬إذ إن مهندس ينا يق اتلون‬
‫المهندسين اإليرانيين اليوم‪ ،‬وهذه الحرب ستتحول إلى أكثر ضراوة الحقاً)‪.‬‬
‫ووصف هليفي تقدير الوضع التكنول وجي بين إس رائيل وإي ران بعب ارات مليئ ة‬
‫بالتش اؤم‪ ،‬إذ أش ار إلى أن الح رب ال تي يخوض ها الجانب ان في المي دان التكنول وجي‬
‫تتمحور حول اإلستخبارات واألسلحة والقدرات العسكرية التي يملكانها‪ ،‬وق ال (نتمت ع‬
‫حاليا ً ببعض التفوق‪ ،‬إال أن إي ران تلح ق بن ا وبس رعة‪ ،‬لق د تض اعف ع دد الجامع ات‬
‫وعدد الطالب الجامعيين في إيران منذ الثورة اإلسالمية عام ‪ 1979‬ولغاية اليوم بنح و‬
‫عشرين ضعفاً‪ ،‬بينما تضاعفت هذه المعاهد والجامعات في إسرائيل فقط ثالثة أضعاف‬
‫ونصف ضعف)‬
‫وأض اف يق ول‪( :‬إننا نخوض حربا ً تكنولوجي ة م ع إي ران‪ ،‬وهي ح رب في غاي ة‬
‫األهمي ة‪ ،‬وع دد الطالب اإليران يين ال ذين يلتحق ون بمج االت العل وم والتكنولوجي ا‬
‫والهندسة والرياضيات‪ ،‬وصل إلى حدود السماء)‬
‫وفي مقال آخر بعنوان‪[ :‬هذه إيران‪ ..‬أين نحن؟!] يقول صاحبه اإلعالمي الكبير‬
‫سامي كليب(‪( :)2‬لماذا نحن نكره الشيعة وإيران؟ هل تريدون اآلن معرفة لماذا الغرب‬
‫واسرائيل يخش يان إي ران‪ ،‬ولم اذا دول الخليج تخ اف دوره ا؟ إليكم ه ذه المعلوم ات‪..‬‬
‫حسب تقرير طوموسن رويترز‪ ،‬إيران ص عدت إلى المركز ‪ 17‬عالميا بانت اج العل وم‬
‫من مطلع ع ام ‪ 2013‬بانتاجها ‪ 2925‬مق اال علميا متخصصا‪ ..‬وتحتل إي ران المركز‬
‫االول عالميا في مع دل النمو في االنت اج العلمي المنش ور ويتض اعف االنت اج كل ‪3‬‬
‫س نوات‪ ..‬ومن ع ام ‪ 96‬ح تى ‪ 2008‬زادت إي ران من انتاجه ا العلمي ‪ 18‬ض عفا‪..‬‬
‫والمقاالت العلمية المتخصصة كانت تنحصر قبل الثورة نحو ‪ 400‬مقال‪ ،‬اآلن تخطت‬
‫‪ 20‬الفا‪ ..‬وعدد الطالب كان قبل الث ورة يقتصر على ‪ 167‬الف ا‪ ،‬اآلن يق ارب االربعة‬
‫ماليين‪ ..‬ونسبة المتعلمين ارتفعت من ‪ 50‬بالمئة قبل الثورة‪ ،‬الى ‪ 86‬بع دها‪ .‬وص لت‬
‫الى محو ش به كام ل لألمي ة‪ 60 .‬بالمئ ة من المقب ولين في الجامع ات هن من االن اث‪..‬‬
‫وأنفقت إي ران ‪ 6.3‬ملي ار دوالر ع ام ‪ 2011‬على البحث العلمي‪ ..‬وع ام ‪2012‬‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬تطور إيران العلمي والتكنولوجي‪ ...‬يقلق إسرائيل‪ ،‬يحيى دبوق‪ ،‬جريدة األخبار‪ ،‬اإلث نين‬
‫‪ 2‬تشرين الثاني ‪.2015‬‬
‫‪ )(2‬انظر المقال في موقع قناة العالم‪ ٠٧ ،‬أغسطس ‪.. ٢٠١٥‬‬

‫‪294‬‬
‫أصدرت إيران اكثر من ‪ 38‬الف عن وان كت اب‪ ،‬وتطبع أك ثر من ‪ ٢٥٠‬ملي ون نس خة‬
‫كتاب‪ ،‬وتحتل المركز األول باص دارات الكتب في الش رق االوس ط والعاش ر عالمي ا‪..‬‬
‫وتحتل المرتبة ‪ 12‬بانتاج السيارات في العالم‪ ،‬واالولى في الش رق االوسط‪ .‬اك ثر من‬
‫مليون سيارة في العام‪ ..‬وأطلقت قمرين صناعيين إلى الفضاء بتصنيع محلي‪ ،‬وارسلت‬
‫قردا وأعادته إيران حي ا ً من الفض اء‪ ..‬وفي مق ال نشر في نيوزويك في ‪ 18‬آب ‪2008‬‬
‫ك ان العن وان‪( :‬لننس ه ارفرد ذل ك ان اب رز ال زمالء المتخ رجين في الع الم هم في‬
‫إيران)‪ ..‬ومسؤولو جامعة ستانفورد العريقة فوجئوا عام ‪ 2003‬بان ابرز طالب ف رع‬
‫الهندسة االلكترونية لنيل ش هادة ال دكتوراه ج اءوا جميع ا ً من جامعة ش ريف للعل وم‬
‫والتكنولوجيا اإليرانية)‬
‫وبعد إيراد الكاتب له ذه اإلحص ائيات وغيره ا‪ ،‬ق ال‪( :‬ك ل ه ذا حص ل وإي ران‬
‫مطوقة ومحاصرة‪ ،‬فكيف حين تستعيد اآلن الـ ‪ 120‬مليار دوالر من ودائعها المجمدة؟‬
‫وكيف إذا أضفنا الى ما تق َّدم الص واريخ واالس لحة واالقم ار الص ناعية واالختراع ات‬
‫العلمية وغيرها على أيدي جيل من الشباب لم تتخط اعمارهم الثالثين عام ا‪ ..‬ه ل زار‬
‫أحد الخائفين من إيران إحدى مدنها؟ هل رأى أنها تقارب بأناقته ا ونظافته ا وهندس تها‬
‫أعرق مدن الغرب؟ هل عرف أحدنا كيف أن اإليراني يهدي زوجته ورودا طيلة السنة‬
‫ويحترمها ويقدرها؟)‬
‫ثم قال معبرا عن مشاعره الشخصية تجاه إيران‪( :‬أن ا اع تز بعروب تي‪ ،‬وأفض ل‬
‫أن تكون أي دول ة عربي ة‪ ،‬كالس عودية أو الك ويت أو قط ر أو س وريا أو اإلم ارات أو‬
‫مصر أو الجزائر أو السودان أو المغرب أو اليمن أو حتى جيبوتي والص ومال وج زر‬
‫القمر‪ ،‬بهذه األهمية لكي نك ون كش عوب عربي ة خلفه ا‪ ،‬لكن ب دالً من البك اء على دور‬
‫إيران‪ ،‬وتشكيل القوى العسكرية لصد دورها في هذه الدول ة أو تل ك‪ ،‬فلنوظ ف أموالن ا‬
‫كما وظفتها لخدمة االنسان والعلم والتقدم والتكنولوجيا)‬
‫ثم ذكر السبب الحقيقي للحرب المعلنة على إيران؛ فقال‪( :‬الغ رب يخش ى إي ران‬
‫النها ببساطة ستنافسه علميا‪ ،‬النها لو اقترحت بعد حين مثالً مفاعال كهربائيا ً نوويا ً في‬
‫دولة عربية أو نامية سيكون أقل بعشرات االضعاف من س عره االوروبي‪ ،‬وألن دول ة‬
‫بهذه القدرات‪ ،‬تستطيع أن تلعب دورا محوريا كبيرا يزعج إسرائيل‪ ..‬إس رائيل وح دها‬
‫االك ثر انزعاج اً‪ ،‬والغ رب ما ج اء يف اوض إي ران إالّ ألنها أس ندت علومها بق درات‬
‫عس كرية عالي ة‪ ،‬ففاوضت من موقع الق وة ألنها هي األخ رى بحاجة للم ال‪ ،‬ال‬
‫كمفاوضاتنا المذلة من ذ ك امب دايفي د م رورا بمدري د واوس لو ح تى الي وم‪ ..‬وال ننس ى‬
‫وادي عربة ملك الهاشمية‪ ..‬نعم إي ران عن دها قنابل نووي ة‪ ،‬لكنها قنابل العلم والمعرفة‬
‫والتقدم‪ ،‬فمبروك إليران قنابلها العلمية النووية‪ ،‬وعسى أن نح ذو ح ذوها يوم ا ً ما ب دل‬
‫الشكوى من دورها)‬
‫وال نملك بعد إيرادنا ألك ثر م ا أورده ه ذا اإلعالمي الموض وعي المنص ف في‬
‫مقاله هذا إال أن ن دعو ك ل أولئ ك المش ككين والمغرض ين إلى زي ارة المواق ع العلمي ة‬
‫إليران‪ ،‬ومالحظة مدى تفوقها‪ ،‬ومحاولة االستفادة منها في خدمة المسلمين‪ ،‬والقض ايا‬

‫‪295‬‬
‫اإلسالمية؛ فالتطور اإليراني ليس إليران وحدها‪ ،‬وإنما هو للمس لمين جميع ا‪ ،‬ب ل ه و‬
‫للبشرية جميعا‪.‬‬
‫ثالثا ـ اإليرانيون‪ ..‬وتصديرـ الحضارة‪:‬‬
‫نقصد بهذه القيمة [تصدير الحض ارة] تص دير الثقاف ة والعل وم والقيم األخالقي ة‬
‫والروحية وغيرها لسائر بالد العالم اإلسالمي‪ ،‬بل سائر بالد الع الم‪ ،‬نهوض ا ب الواجب‬
‫الشرعي المرتبط بذلك‪ ،‬وهو من مقتضيات الشهادة التي وص فت به ا ه ذه األم ة‪ ،‬كم ا‬
‫ُ‬
‫قال تع الى‪َ { :‬و َك َذلِكَ َج َع ْلنَ ا ُك ْم أ َّمةً َو َس طًا لِتَ ُكونُ وا ُش هَدَا َء َعلَى النَّ ِ‬
‫اس َويَ ُك ونَ الر ُ‬
‫َّس و ُل‬
‫َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيدًا} [البقرة‪]143 :‬‬
‫ول ذلك ك ان على ك ل دول ة من دول الع الم اإلس المي أن تمتل ك مقوم ات ه ذه‬
‫الشهادة‪ ،‬وأن تسعى لتطبيقها‪ ،‬حتى تكون أسوة ونموذجا يمثل القيم اإلسالمية الرفيع ة‪،‬‬
‫ويكون فوق ذلك قبلة لألحرار والمستضعفين وطلبة العلم‪.‬‬
‫وقد كانت إيران في فترات كثيرة من تاريخها قبلة لطلبة العلم وأس اتذته‪ ،‬يف دون‬
‫إلى مدنها من كل حدب وصوب للتعلم أو للتعليم‪ ..‬ولو طبقنا ه ذا المقي اس على علم اء‬
‫المسلمين الذين درسوا في المدن اإليرانية‪ ،‬أو درّسوا فيها‪ ،‬لوجدنا كما كبيرا جدا‪.‬‬
‫فنيسابور مثال كان بها م دارس كث يرة‪ ،‬ودرس فيه ا الكث ير من العلم اء من ك ل‬
‫الفن ون‪ ،‬من ال ذين ال ينتس بون إليه ا‪ ،‬من أمث ال ابن دري د (‪321- 223‬هـ) ص احب‬
‫القصيدة المقصورة والجمهرة في اللغة‪ ،‬وأبو منص ور الثع البي (‪ 429 – 350‬هـ)‪،‬‬
‫وهو أديب ولغوي وناقد وصاحب الكتاب الش هير يتيمة ال دهر‪ ،‬وك ان يلقب بـ [جاحظ‬
‫نيس ابور]‪ ،‬وأبو الحسن الجُرج اني (‪322‬هـ – ‪392‬هـ)‪ ،‬ص احب الكت اب المش هور‬
‫[الوساطة بين المتنبي وخصومه]‪ ،‬وأبو الفضل الهمذاني (‪398 – 358‬هـ) المش هور‬
‫ببديع الزمان‪ ،‬صاحب المقامات الشهيرة‪ ،‬ومحمد بن إس ماعيل بن إب راهيم بن المغ يرة‬
‫البخ اري (‪256 - 194‬هـ) ص احب الص حيح‪ ،‬وغ يرهم كث ير ممن لم ن ذكرهم في‬
‫المح دثين والمفس رين واللغ ويين‪ ،‬م ع ك ونهم عاش وا ف ترات طويل ة من أعم ارهم في‬
‫إيران‪ ،‬وربما ماتوا فيها‪.‬‬
‫فمنذ الفتح اإلسالمي ونيس ابور مرك ز من مراك ز الحض ارة وقبل ة أله ل العلم‪،‬‬
‫ابت داء من الدول ة األموي ة‪ ،‬ثم العباس ية‪ ،‬ثم ال دول المس تقلة عن الخالف ة‪ ،‬وإن تبعته ا‬
‫اسميًا‪ ،‬من أمثال الدولة الطاهرية في خراسان (‪259 – 205‬هـ)‪ ،‬والدول ة الص فَّارية‬
‫في إيران وهرات وما وراء النهر‪298 – 254( ،‬هـ)‪ ،‬والدول ة الس امانية في بالد م ا‬
‫وراء النهر وغيرها (‪390 – 261‬هـ)‪ ،‬والدولة الغزنوية في غزنة ومعظم إيران وما‬
‫وراء النه ر وبعض الهن د (‪579 – 349‬هـ)‪ ،‬الدول ة الس لجوقية الك برى (‪– 432‬‬
‫‪583‬هـ)‬
‫وقد عبر الجغرافي الكب ير ابن حوق ل عن قيمته ا الحض ارية والعلمي ة في عه د‬
‫الدولة الطاهرية والدولة الصفارية‪ ،‬بقوله‪( :‬كانت دار اإلمارة بخراسان فى قديم األي ام‬

‫‪296‬‬
‫بمرو وبلخ إلى أيام الطاهريّة‪ ،‬ف إنهم نقلوه ا إلى نيس ابور‪ ،‬فع ّم رت وك برت وغ زرت‬
‫وعظمت أموالها عند توطّنهم إياها‪ ،‬وقطونهم بها حتى انتابها الكتّاب واألدب اء بمق امهم‬
‫بها‪ ،‬وطرأ إليها العلماء والفقهاء عن د إيث ارهم له ا‪ ،‬وق د خ رّجت نيس ابور من العلم اء‬
‫ر األيّام من الفقهاء من شهر اسمه وسمق قدره وعال ذكره)(‪)1‬‬ ‫كثرة ونشأ بها على م ّ‬
‫وقال الحم وي‪( :‬نيس ابور مع دن الفض الء ومنب ع العلم اء‪ ،‬لم أر فيم ا طفت من‬
‫البالد مدينة كانت مثلها)(‪)2‬‬
‫وقال الرحال ة ابن بطوط ة‪( :‬هي أح د الم دن األرب ع ال تي هي قواع د خراس ان‬
‫ويق ال له ا دمش ق لك ثرة فواكهه ا وبس اتينها ومياهه ا وحس نها‪ ،‬وتخترقه ا أربع ة من‬
‫األنهار‪ ،‬وأسواقها حسنة مشعة‪ ،‬ومسجدها بديع وهو في وسط السوق)(‪)3‬‬
‫وق ال‪( :‬في مدارس ها من الطلب ة خل ق كث ير يق رؤون الق رآن والفق ه‪ ،‬وهي من‬
‫حسان م دارس تل ك البالد‪ ،‬وم دارس خراس ان والعراق يين وبغ داد ومص ر وإن بلغت‬
‫الغاية من اإلتقان والحسن فكلها تقصر عن مدرسة نيسابور)‬
‫وقال بعض المعاصرين معبرا عن ذلك‪( :‬وق د نب غ فيه ا جماع ة من العلم اء في‬
‫ك ل فن م ا ال يحص ی ع ددهم في الق رون األولی اإلس المية‪ ،‬ال س يما في فن الح ديث‬
‫والفقه‪ ،‬حتی فاقت نظاميةُ نيسابور نظاميةَ بغداد‪ .‬فق د قي ل بل غ ع دد مح دثيها ورجاله ا‬
‫العلمية في القرون األربعة األولی إلی ‪ 3000‬عالماً)(‪)4‬‬
‫ول ذلك أف رد تاريخه ا ورجاله ا بالت أليف‪ ،‬ومن أهمه ا كت اب [ت اريخ نيس ابور]‬
‫للحاف ظ الح اكم النيس ابوري (‪405 – 321‬هـ) ص احب كت اب المس تدرك على‬
‫الص حيحين‪ ،‬ومنه ا [الس ياق لت اريخ نيس ابور]‪ ،‬للحاف ظ أبي الحس ن عب د الغ افر ب ِن‬
‫الفارسي النيسابوري (‪529 – 451‬هـ)‪ ،‬ومنها [المنتخب من كت اب الس ياق‬ ‫ِّ‬ ‫إسماعيل‬
‫لتاريخ نيسابور]‪ ،‬لإلمام الحافظ تقي ال دين أبي إس حاق إب راهيم بن محم د الص ريفيني‬
‫الحنبلي (‪641 – 581‬هـ)‬
‫وق د ك ان من مزاياه ا الك برى ال تي أهلته ا ألن تك ون قبل ة لطلب ة العلم ك ثرة‬
‫مدارس ها ومكتباته ا وجوامعه ا؛ ف أول مدرس ة أنش ئت في الع الم اإلس المي ك انت في‬
‫نيسابور‪ ،‬وكان اسمها المدرسة البيهقية وذلك في القرن الرابع الهجري‪.‬‬
‫ثم أنشئ بعدها م دارس كث يرة منه ا أرب ع م دارس أنش أها الس لطان محم ود بن‬
‫سبكتكين الغزنوي (‪421 – 367‬هـ)‪ ،‬كما أنشأ بها وبغيرها الس لطان مس عود األول‪،‬‬
‫الذي أعقب السلطان محمود (‪431 – 421‬هـ) ع ددًا من الم دارس اإلس المية‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من أن الدولة كانت تشرف على تلك المدارس‪ ،‬فإنها لم تكن ذات من اهج مح ددة‬

‫‪ )(1‬صورة األرض‪ ،‬ابن حوقل (‪)434 /2‬‬


‫‪ )(2‬معجم البلدان ص ‪.4/331‬‬
‫‪ )(3‬رحلة ابن بطوطة (ص ‪)401‬‬
‫‪ )(4‬خراسان قديمي ترين پايگاه علوم اسالمي‪ ،‬مولوي عبد الحميد‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫كالمدارس النظامية‪.‬‬
‫التاريخية(‪)1‬‬ ‫ومن مكتباتها الك برى مكتب ة الص ابوني‪ ،‬وال تي ذكرته ا المص ادر‬
‫عند حديثها عن خلف بن أحمد أمير سيس تان‪ ،‬وال ذي ق ام بجم ع علم اء إي ران‪ ،‬وطلب‬
‫منهم إعداد تفسير شامل للقرآن الكريم يحتوي على جميع األح اديث وأق وال المفس رين‬
‫السابقين‪ ،‬والقراءات‪ .‬وقد رص د له ذا المش روع مبل غ ‪ 20‬أل ف دين ار‪ ،‬ونتج عن ذل ك‬
‫ت أليف تفس ير واس ع يش تمل على مئ ة ج زء وه ذا التفس ير الفري د ق د أُودع في مكتب ة‬
‫أن هذا الكتاب ضاع ـ في جمل ة‬ ‫الصابوني بنيسابور ليفيد منه الطلبة والباحثون‪ ..‬غير ّ‬
‫ما ضاع من هذه المكتبة ـ في الهجوم على نيسابور‪.‬‬
‫ومنها مكتبة الشجري‪ ،‬التي أنش أها مس عود بن ناص ر الش جري (المت وفى س نة‬
‫‪ 477‬هـ) إلى جوار مسجد عقيل في نيسابور‪ ،‬وكانت محتويات هذه المكتبة من نف ائس‬
‫الكتب في ذلك الوقت‪.‬‬
‫ومنها مكتبة المدرسة السعديّة‪ ،‬وهي من األعمال العمرانية التي تولّى القي ام به ا‬
‫حاكم نيسابور أبو نصر بن سبكتكين‪ ،‬أخو السلطان محمود الغزنوي‪.‬‬
‫ومنه ا مكتب ة أبي س عيد‪ ،‬وال تي بنه ا أب و س عيد إس ماعيل بن علي بن منش ي‬
‫االسترآبادي‪ ،‬العارف والواعظ النيسابوري‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومنها مكتبة المدرسة البيهقية‪ ،‬والتي أنشئت في نيسابور قبل المدرس ة النظامي ة‬
‫بسنوات كثيرة‪ ،‬وكان موئالً للعلماء والباحثين‪.‬‬
‫ومنها مكتبة مدرسة الشوافع‪ ،‬وهي من أقدم مدارس إيران ومكتباته ا‪ ،‬وفي ه ذه‬
‫المدرسة درس أبو علي الدقّاق وأبوالقاسم القُ َشيري‪.‬‬
‫باإلض افة إلى المكتب ات الملحق ة بالم دارس‪ ،‬ومن أمثلته ا‪ :‬مدرس ة المش طي‪،‬‬
‫ومدرسة السووي‪ ،‬ومدرسة أبي علي الدقّاق‪ ،‬ومدرسة الشحّامي‪ ،‬والمدرسة القش يرية‪،‬‬
‫ومدرسة أبي نصر بن أبي الخير‪ ،‬ومدرسة السمعاني‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وهكذا كانت مدينة أصفهان(‪ )2‬من مراكز الحضارة اإلسالمية الكبرى‪ ،‬وقد ذكر‬
‫القزويني سبب ذل ك االهتم ام به ا من أه ل العلم‪ ،‬فق ال‪( :‬أص فهان مدين ة عظيم ة‪ ،‬من‬
‫أعلی المدن ومشاهيرها‪ ،‬جامعة ألش تات األوص اف الحمي دة من طيب الترب ة وص حة‬
‫الهواء وعذوبة الماء وصفاء الج و وص حة األب دان وحس ن ص ورة أهله ا وح ذقهم في‬
‫العلوم والصناعات)(‪)3‬‬
‫وقد أفرد تاريخه ا ورجاله ا ألج ل ذل ك بالتص نيف‪ ،‬وممن فع ل ذل ك حم زة بن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬نبذة تاريخية عن مكتبات إيران‪ ،‬تأليف‪ :‬ركن ال دين هُم ايون فَ رُّ خ‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪ ،28‬نش ر وزارة الثقاف ة‬
‫والفن‪ ،‬طهران ‪ 1968‬م)‬
‫‪ )(2‬وهي تق ع في وس ط اي ران‪ ،‬وتمي ل إلی غربه ا أك ثر‪ ،‬وهي في جن وب العاص مة تبع د عنه ا ‪ 313‬أو ‪420‬‬
‫كيلومتراً‪ ،‬وقد فاقت بجودة تربتها واستعدادها للزراعة وعذوبة مائها وطيب هوائها علی أكثر المدن اإليراني ة‪ ،‬ومم ا زاد‬
‫في حسن موقعها وجمالها أنها تقع علی ضفة النهر المشهورة بـ [زاينده رود] وهو يجري اليوم داخلها‪ ،‬ولعل ه ذا س بب‬
‫اهتمام أهل العلم بها‪..‬‬
‫‪ )(3‬آثار البالد وأخبار العباد ص ‪.296‬‬

‫‪298‬‬
‫الحسين األصفهاني (ت ‪ 360‬هـ) في كتابه (التاريخ الكبير)‪ ،‬وأبو الشيخ ابن حي ان في‬
‫كتابه (طبقات المحدثين بأصفهان)‪ ،‬والذي تضمن تعريفا لنحو ‪ 660‬علما ً من الصحابة‬
‫والت ابعين ومن تبعهم من جهاب ذة المح دثين‪ ،‬وأب و نعيم أحم د بن عب د هللا األص فهاني‬
‫(المتوفى‪430 :‬هـ) في كتابه (ذكر أخبار أص فهان) ال ذي تض من التعري ف لنح و ألفي‬
‫شخص من محدثي أصفهان والقادمين عليها‪ ..‬وغيرها من الكتب الكثيرة‪.‬‬
‫وق د ع بر عن ك ثرة علمائه ا ي اقوت الحم وي‪ ،‬فق ال‪( :‬خ رج من أص فهان من‬
‫العلماء واألئمة في كل فن ما لم يخرج من مدينة من الم دن بأس ناد عالي ة‪ ،‬ف إن أعم ار‬
‫أهله ا تط ول‪ ،‬ولهم م ع ذل ك عناي ة واف رة بس ماع الح ديث‪ ،‬وبه ا من الحف اظ خل ق ال‬
‫يحصون ولها عدة تواريخ‪ ..‬ومن نسب إلی أصفهان من العلماء ال يحصون)(‪)1‬‬
‫أم ا أب و عب د هللا المق رئ محم د بن عيس ی األص فهاني(ت‪241‬هـ)‪ ،‬فق د راح‬
‫يخاطب أهل الري يفخر عليهم قائال‪( :‬ي ا أه ل ال ري من ال ذي أفلح منكم؟ إن ك ان ابن‬
‫األصفهاني فمنا‪ ،‬وإن كان إبراهيم بن موسی فمنا‪ ،‬وإن كان جرير فمنا‪ ،‬وإن كان الخط‬
‫فج ّدي علمكم ما أفلح منكم إال رجل واحد ولن أقول لكم حتی تموتوا كمداً)(‪)2‬‬
‫وهكذا كانت الكثير من المدن اإليرانية عواصم ومراكز علمي ة ك برى يف د إليه ا‬
‫الطلب ة واألس اتذة من جمي ع بالد الع الم اإلس المي‪ ،‬وق د س اهم ذل ك في تص ديرها‬
‫للحضارة اإلسالمية ليس للدول اإلسالمية فحسب‪ ،‬وإنما للعالم أجمع‪.‬‬
‫وفي بداية النهضة اإلسالمية في العصر الحديث نرى كذلك كب ار دع اة التجدي د‬
‫والنهضة اإلسالمية يخرج ون من إي ران‪ ،‬ليبعث وا اليقظ ة في الع الم اإلس المي أجم ع‪،‬‬
‫وعلى رأسهم باعث النهضة في العصر الحديث‪ ،‬والذي كان له الت أثير الفاع ل في ك ل‬
‫الدعاة والمفكرين محمد بن صفدر الحســيني األســد أبــادي(‪ 1315 - 1254( )3‬هـ)‪،‬‬
‫والذي اشتهر بلقب باألفغاني مع كونه كان إيرانيا‪ ،‬ولم يكن أفغانيا(‪.)4‬‬
‫فمن المتفق عليه عند كل المؤرخين للفكر والحركات اإلسالمية الحديثة اعتب اره‬
‫العقل الملهم لجمي ع الحرك ات اإلس المية‪ ،‬س نيها وش يعيها‪ ،‬ح تى حرك ة التق ريب بين‬
‫المذاهب اإلسالمية‪ ،‬كان جمال الدين أول من دعا لها‪.‬‬
‫وهو ـ خالفا لما يشاع من كونه أفغانيا ـ إيراني‪ ،‬لكن المصلحة والتقية دعته ألن‬
‫يلقب بذلك اللقب‪ ،‬أو كما عبر عن ذلك الك اتب والم ؤرخ (علي ال وردي) بقول ه‪( :‬وق د‬
‫تميّز السيد جمال الدين بقدرة خارق ة على التكيّ ف م ع المحي ط االجتم اعي والسياس ي‬
‫‪ )(1‬معجم البدان ‪.210 ،1/209‬‬
‫‪ )(2‬طبقات المحدثين ألبي الشيخ ابن حيان ‪.2/105‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ األستاذ االمام ‪ 102 - 27 :1‬وتاريخ الصحافة العربية ‪.299 - 293 :2‬‬
‫‪ )(4‬وهذا ما ذهب إليه أكثر الباحثين‪ ،‬ويذكرون أنه كان إيرانيًا من أسد آباد بالقرب من هم دان‪ ،‬وأن ه ك ان ش يعيًا‬
‫جعف ري الم ذهب‪ ،‬ب الرغم من حرص ه على تلقيب نفس ه باألفغ اني‪ ،‬وانخراط ه في علم اء أه ل الس نة في جمي ع البل دان‬
‫اإلسالمية التي زارها أو أقام فيها‪ ،‬ومن األدلة التي ذكروها لذلك‪( :‬وجود عائلة جمال ال دين في إي ران‪ ،‬وع دم وج ود أي‬
‫أثر لها في أفغانستان‪ ..‬أن اسم والد جمال الدين [صفدر]‪ ،‬اسم إيراني شيعي يعني‪ :‬البطل ممزق الصفوف‪ ..‬اهتمام جم ال‬
‫الدين بإيران ومشكالتها أكثر من اهتمامه بأي قطر إسالمي آخر‪ ..‬إجادة جمال ال دين اللغ ة الفارس ية باللهج ة اإليراني ة‪..‬‬
‫تمجيد جمال الدين لإليرانيين وإشادته بذكائهم)‬

‫‪299‬‬
‫الذي يحل في ه‪ ،‬وتمث ل ذل ك في تغي يره ألقاب ه‪ ..‬فه و األفغ اني‪ ،‬والحس يني‪ ،‬والك ابلي‪،‬‬
‫واالسطنبولي واألسد آبادي‪ ،‬ولم يقتصر التكيّف على ألقاب ه‪ ،‬ب ل ك ان زيّ ه ه و اآلخ ر‬
‫يتبدل حسب ظروف وتقاليد المجتمع الذي يح ل في ه‪ ،‬فمن العم ائم الس وداء والبيض اء‪،‬‬
‫والخضراء إلى طربوش أزهري أو تركي‪ ،‬وعقال وكوفية حجازية‪ ،‬فحين وصل السيد‬
‫جمال الدين إلى أسطنبول كان في زي سيد أفغاني على جبة وكس اء وعمام ة عج راء‪،‬‬
‫فشرع بتعلّم اللّغة التركية ح تى تم ّكن بع د م دة وج يزة من أن يتكلّم به ا ويكتب‪ ،‬وحين‬
‫سافر إلى أوربا لبس الطربوش‪ ،‬ولكنه في الحجاز كان يلبس العقال والكوفي ة‪ ،‬وعن دما‬
‫وصل إلى ايران خلع السيد جمال الدين زيّه األفغاني الذي عرف به في تركي ا ومص ر‬
‫وتزيّا بزي سيّد من علماء الشيعة حيث وض ع العمام ة الس وداء على رأس ه‪ ،‬والعب اءة‬
‫على كتفيه‪ ،‬والمداس األصغر في قدميه ولقب نفسه بالحسيني)(‪)1‬‬
‫ونرى أن هذه التقية التي مارسها جمال ال دين لم يكن يقص د به ا حراس ة نفس ه‪،‬‬
‫بقدر ما كان يريد به ا حراس ة دعوت ه‪ ،‬وال تي ك ان يمكن أن تغت ال في اللحظ ة األولى‬
‫التي يعلن فيها عن أصله اإلي راني‪ ،‬ول ذلك لم يكن ي ذكره إال عن دما دعت ه الحاج ة إلى‬
‫ذلك‪ ،‬حين وقف مخاطبا ً الشاه بقوله‪( :‬أستطيع أن أفخر بنفسي أن أرى عاهل ايران ق د‬
‫اس تيقظ من س باته العمي ق‪ ،‬وأخ ذ يفك ر في تعم ير البالد ورقيه ا ويث ق بي‪ ،‬نعم إن ني‬
‫إي راني أس د آب ادي‪ ،‬وإن كاف ة العل وم بحم د هللا مخزون ة في ص دري‪ ،‬فال تنظ ر إلى‬
‫وح دتي‪ ،‬وص غر جس مي ف إني أس تطيع أن أطمس جب ل دماون د ه ذا بقبض ة ي دي‬
‫الصغيرة)(‪)2‬‬
‫وقال مرزا لطف هللا أس د آب ادي ابن اخت جم ال ال دين المش هور باألفغ اني في‬
‫كتابه (جمال الدين األسدابادي)‪( :‬وكان كش ف حقيق ة جم ال ال دين أم ام الس لطان عب د‬
‫الحميد ضربة قاضية وجَّهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها عالء الملك‬
‫سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت باألدلة القاطعة أن جمال الدين إيراني‬
‫شيعي يختفي في ثياب األفغاني‪ ،‬ويتّخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به)(‪)3‬‬
‫وقد أشاد ب ه ك ل الق ادة الفك ريين والسياس يين للجمهوري ة اإلس المية اإليراني ة‪،‬‬
‫ومنهم مرتضى مطهري الذي قال عنه‪( :‬إن السيد جمال الدين األسد آبادي‪ ،‬ه و الرائ د‬
‫في الحركاة اإلص الحية خالل الق رن المنص رم‪ .‬ه و أول من ب دأ بتحري ك الص حوات‬
‫اإلسالمية وكش ف برؤي ة موض وعية عن هم وم المجتمع ات اإلس المية وق ّدم الحل ول‬
‫لإلصالح والقضاء عليها‪...‬كانت حركته ذات طابع فكري واجتماعي في آن واحد‪ ...‬قد‬
‫حظي الس يد جم ال ال دين – بفضل حركته وحيويته ‪ -‬بمعرفة دقيقة للزم ان والع الم‬
‫المعاص َرين له وبمعضالت البلدان اإلسالمية المطلوبة عالجها عنده‪ .‬حسب تشخيص ه‬
‫يتص در اإلس تبداد ال داخلي في الحكم واالس تعمار الخ ارجي قائم ة أه ّم المش كالت‬

‫‪ )(1‬مالمح اجتماعية من تاريخ العراق الحديث‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪..273‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪..305‬‬
‫‪ )(3‬جمال الدين األسدابادي‪ ( ،‬ص ‪)34‬‬

‫‪300‬‬
‫المتجذرة في المجتمعات اإلس المية فق ام بالتص دي لهم ا‪ ،‬وأخ يراً ب ذل حيات ه في ه ذا‬
‫السبيل)‬
‫ولخص الطرق ال تي يراه ا جم ال ال دين حل وال لخ روج المس لمين من أزمتهم‪،‬‬
‫ومنها‪( :‬مناهضة المستبدين في استئثارهم ب الحكم‪ ،‬ع بر تثقي ف الش عب وتفهيم ه مب دأ‬
‫وجوب النضال السياس ي على أس اس ال دين والش ريعة‪ ..‬ال تزوّد ب العلوم والص ناعات‬
‫الحديثة‪ ..‬وعودة المسلمين إلى الشريعة األص لية ونب ذ الخراف ة والب دع والزوائ د ال تي‬
‫أُلحقت باإلسالم على مدى العصور‪ ،‬برأي السيد أن هذه العودة إلى الشريعة اإلس المية‬
‫األولى‪ ،‬ال تتم إال من خالل العودة إلى القرآن والسنة الموثقة وسيرة الس لف الص الح‪..‬‬
‫والثقة والعقيدة بالشريعة وبأن اإلس الم كش ريعة ومنظوم ة عقدي ة‪ ،‬ق ادر على تحري ر‬
‫المس لمين والقض اء على اإلس تبداد ال داخلي واالس تعمار الخ ارجي وأن يق دم الع زة‬
‫والس عادة للمس لمين‪ ..‬ومعارض ة االس تعمار الخ ارجي بجمي ع أش كاله السياس ية‬
‫واإلقتصادية والثقافية‪ ..‬ووحدة اإلسالم‪ ..‬وبث روح الكفاح والجه اد في جس د المجتم ع‬
‫اإلسالمي الذي يلفظ أنفاسه األخيرة‪ .‬قام باسترجاع أصل الجهاد إلى األذهان والذي ق د‬
‫أص بح مهج وراً‪ ،‬كم ا اعت بر نس يانه ع امالً رئيس يا ً في تخلّ ف المس لمين‪ ..‬والتص دي‬
‫للذهول أمام الحضارة الغربية)(‪)1‬‬
‫وقال عنه الخامنئي‪( :‬الس يد جم ال ال دين الكب ير‪ ،‬ذل ك الرج ل ال داعي لإلس الم‬
‫والهمام والمناهض‪ ،‬الكبير‪ ،‬أفض ل مك ان وج ده مناس با ً لنهض ته‪ ،‬هي مص ر‪ ،‬ومن ثم‬
‫تالمذته محمد عبده واآلخرين‪ ،‬هكذا سوابق الحركات اإلسالمية في مصر)(‪)2‬‬
‫ونرى ه ذا البع د ك ذلك في الث ورة اإلس المية اإليراني ة ال تي لم تكت ف بال دعوة‬
‫إلصالح إيران‪ ،‬وتحويلها إلى مركز من مراكز الحضارة اإلس المية‪ ،‬وإنم ا دعت إلى‬
‫تصدير نموذجها النهضوي في العالم اإلسالمي جميعا‪ ،‬وهو ما ك ان س ببا فيم ا حص ل‬
‫لها من حروب وحصار‪.‬‬
‫ذلك أن االستكبار العالمي ال يرضى لدول العالم اإلسالمي أن تتخلى عن تبعيتها‬
‫للغرب‪ ،‬وال أن تتحلى بقيم الشريعة بصورتها النقية الصافية‪ ،‬ولهذا كان من أكبر تهمه‬
‫إليران ما يطلق عليه [تصدير الثورة]‪ ،‬والتي نرى أنها ليس ت تهم ة مس يئة‪ ،‬بق در م ا‬
‫هي مدح وشرف‪.‬‬
‫فمن خالل مطالع ة ت راث الخمي ني وغ يره من الق ادة الفك ريين إلي ران‪ ،‬نج د‬
‫إيم انهم به ذا المب دأ (تص دير الث ورة)‪ ،‬ولكن ليس كم ا يفهم المغرض ون‪ ،‬أي ص ورة‬
‫التصدير بالسالح وإيجاد االنقالبات العسكرية ونحوها‪ ،‬وإنما يقصدون به دع وة الع الم‬
‫اإلسالمية للخروج من الهيمنة الغربية‪ ،‬والتحقق بالذاتية اإلسالمية‪ ،‬وما تحويه من قيم‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك ق ول الخمي ني في خطاب ه لس فراء األقط ار اإلس المية‬
‫بمناسبة عيد الفط ر ع ام ‪1400‬هـ‪( :‬إنن ا نعت بر األقط ار اإلس المية جميع ا ً ج زءاً من‬

‫‪ )(1‬الحركات اإلسالمية في القرن األخير في دراسة إجمالية‪ ،‬المطهري‪ ،‬مرتضى‪ ،‬ص‪..29-20‬‬


‫‪ )(2‬في خطبة له قبيل صالة الجمعة في تاريخ ‪ 4‬فبراير ‪.2011‬‬

‫‪301‬‬
‫وجودنا دون أن يعني ذلك أن تفقد وجودها المستقل‪ ،‬وإنما نريد لها أن تتمت ع بم ا تمت ع‬
‫به الش عب اإلي راني من مزاي ا الخالص من ب راثن الق وى الك برى‪ ،‬وقط ع أي ديها عن‬
‫منابعه الحياتية‪ ،‬نريد لهذه الحالة أن يتسع مداها لتشمل كل الشعوب)‪.‬‬
‫ويفسر تصدير الثورة بقوله‪(:‬إننا نعني بتصدير الث ورة أن تس تيقظ ك ل الش عوب‬
‫وكل الحكومات وتتخلل من قيود التبعية والتسلط)‬
‫ويضيف‪( :‬إننا ثرنا لنحيي اإلسالم‪ ،‬ومن ثم لنصدر الثورة ـ بمشيئة هللا ـ إلى كل‬
‫مكان‪ ،‬ذلك إننا أخوة وأحبة‪ ،‬مما يزيد فينا األمل للعمل سوية وبك ل م ا نس تطيع لتعميم‬
‫هذا الجهاد وتحقيق هذا الهدف)‬
‫ويق ول في نفس الخط اب‪( :‬إنن ا إذ نعلن عزمن ا على تص دير الث ورة إلى ك ل‬
‫األقط ار اإلس المية ب ل ك ل األقط ار ال تي ي رزح فيه ا المستض عفون تحت ن ير‬
‫المستكبرين‪ ،‬فإنما نري د من ذل ك أن نح يي في الش عوب روح التح رك ض د المس تكبر‬
‫الفتاك‪ ،‬ونردم تلك الهوة بين الشعب والحكم المسلط عليه)‬
‫فالتصدير ـ حسب هذه النصوص وغيرها ـ يع ني تص دير النم وذج الحض اري‬
‫والنهضوي اإليراني لجميع العالم اإلسالمي مع الحف اظ على المزاي ا المحلي ة الخاص ة‬
‫بكل بلد‪.‬‬
‫وهذا ما يبرز بوضوح عند خطاب ه لمجموع ة من الباكس تانيين في خري ف ع ام‬
‫‪ ،1980‬فقد قال لهم‪( :‬هل تتصورون أن هدف الخط ط االس تعمارية ه و القض اء على‬
‫إيران؟ كال‪ ،‬إن الهدف هو القضاء على اإلسالم‪ ،‬فليس األمر يقتص ر على قط ر واح د‬
‫فحسب‪ ،‬إنه يعم األقطار اإلسالمية جميعاً)‬
‫وهكذا نرى المغرضين أيضا يشوهون مصطلحا حضاريا أصدره بعض فالسفة‬
‫وعلماء إيران‪ ،‬وهو مصطلح (أم القرى)‪ ،‬والذي نس ب لمحم د ج واد الريج اني رئيس‬
‫جمعية الفيزياء والرياضيات في إيران‪ ،‬وهو مصطلح يقصد به التخطيط لتحويل إيران‬
‫إلى مركز حضاري لألمة اإلسالمية‪ ،‬بل للعالم اإلس المي‪ ،‬ح تى يمث ل اإلس الم أحس ن‬
‫تمثيل‪ ،‬وال عالقة للمصطلح بالهيمنة على مكة المكرم ة وال غيره ا‪ ،‬ألن اله دف أك بر‬
‫بكثير‪ ،‬وهو هدف حضاري ال استعماري‪.‬‬
‫وكان في إمكان المغرضين لو ك انوا ص ادقين م ع أنفس هم أن ي دعو بالدهم إلى‬
‫نفس ال دعوة‪ ،‬ح تى تتن افس بالد الع الم اإلس المي في التحق ق باألفض لية‪ ،‬والنم وذج‬
‫الحضاري الراقي الذي يؤهلها ألن تصبح أم المدن والقرى‪ ،‬ومركز الحضارة‪.‬‬
‫لكنهم‪ ،‬ال ينظرون إال بعيون حس دهم وحق دهم‪ ،‬وله ذا تتح ول المص طلحات في‬
‫أذهانهم من معانيها الشرعية الصحيحة إلى معان سقيمة‪ ،‬تمثل أهواءهم وأحقادهم‪ ،‬وال‬
‫تمثل الحقيقة‪.‬‬
‫رابعا ـ إيران والحوار بين الحضارات‪:‬‬
‫من القيم الك برى ال تي دعت إليه ا إي ران ومثلته ا‪ ،‬وانطلقت فيه ا من رؤيته ا‬
‫الس لمية للتعام ل م ع القض ايا العالمي ة م ا يص طلح علي ه [ح وار الحض ارات]‪ ،‬وه و‬
‫مصطلح يمثل الرؤية اإلس المية في التعام ل بين الش عوب‪ ،‬في مقاب ل الرؤي ة الغربي ة‬

‫‪302‬‬
‫التي تتب نى [ص راع الحض ارات]‪ ،‬أو [ص دام الحض ارات] وال ذي ص اغه ـ كعن وان‬
‫لمقال وكتاب ـ ص امويل هنتنجت ون‪ ،‬وال ذي ادعى في ه ب أن ص راعات مابع د الح رب‬
‫الب اردة لن تك ون بين ال دول القومي ة واختالفاته ا السياس ية واإلقتص ادية‪ ،‬ب ل س تكون‬
‫االختالفات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر(‪.)1‬‬
‫وقد صاغ هذه النظرية ليرد بها على على أطروح ة فرانس يس فوكويام ا [نهاي ة‬
‫التاريخ واإلنسان األخير]‪ ،‬والتي ذكر فيها فوكوياما أنه بنهاية الحرب الباردة‪ ،‬س تكون‬
‫الديمقراطية الليبرالية الشكل الغالب على األنظمة حول العالم‪.‬‬
‫لكن هنتغت ون اعتبره ا نظ رة قاص رة‪ ،‬وج ادل ب أن ص راعات مابع د الح رب‬
‫الب اردة لن تك ون بين ال دول القومي ة واختالفاته ا السياس ية واإلقتص ادية‪ ،‬ب ل س تكون‬
‫االختالفات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين القادمة‪.‬‬
‫ولم يكت ف ب ذلك‪ ،‬ب ل راح يض ع خارط ة للحض ارات ال تي يحتم ل أن يح دث‬
‫الصراع بينها‪ ،‬وهي ‪( :‬الحضارة الغربية‪ ،‬والحض ارة الالتيني ة‪ ،‬والحض ارة الياباني ة‪،‬‬
‫والحض ارة الص ينية‪ ،‬والحض ارة الهندي ة‪ ،‬والحض ارة اإلس المية (ك ل ال دول ذات‬
‫األغلبي ة المس لمة) ‪ ،‬والحض ارة األرثوذكس ية‪ ،‬والحض ارة األفريقي ة‪ ،‬والحض ارة‬
‫البوذية)‬
‫وقد تبنت أمريكا ومعها االستكبار العالمي هذا الطرح‪ ،‬ومن خالله مارس ت ك ل‬
‫ألوان الهيمنة على العالم اإلسالمي حتى تجعله عاجزا عن أي مواجهة حضارية‪.‬‬
‫وفي مقابل هذه النظرة العنصرية الحاقدة الممتلئة بالصراع تق دم ال رئيس محم د‬
‫خ اتمي رئيس الجمهوري ة االس المية اإليراني ة في ذل ك الحين‪ ،‬بمش روع [ح وار‬
‫الحضارات] نال اهتماما ً عالميا ً واسعاً‪ ،‬وأعلنت منظمة االمم المتحدة ع ام ‪ ٢٠٠١‬ع ام‬
‫حوار الحضارات (‪.)2‬‬
‫وق د ذك ر بعض الب احثين الف رق بين النظري تين‪ ،‬فق ال‪( :‬إن مفه وم (ص دام‬
‫الحض ارات) إيديولوجي ة جازم ة‪ ،‬ومطلق ة‪ ،‬تقس م الع الم إلى ص ديق وع دو‪ ،‬وق ريب‬
‫وبعي د‪ ،‬وفي النهاي ة ت ؤدي للع داوة‪ ،‬ونش وء الص راعات بين البل دان والحض ارات‪.‬‬
‫وبالطبع نعلم أن هذه الصراعات بسبب السلطة الغربية وقوتها سوف ت ؤول لإلض رار‬
‫بالبلدان الصغيرة‪ ،‬ودول المنطقة‪ ،‬لكن مفهوم (حوار الحضارات والثقافات) بعكس م ا‬
‫س بق ال يقس م الع الم إلى ص ديق وع دو‪ ،‬وي رى أن جمي ع الش عوب هي ص احبة ح ق‬
‫واستقالل سياسي‪ ،‬ويري د الس الم والس عادة والديمقراطي ة والمجتم ع الم دني للش عوب‬
‫كلها‪ ،‬ويدعو الحكومات للتعايش السلمي‪ ،‬والمشاركة في بناء حياة البشر) (‪)3‬‬
‫وقد قامت الجمهورية اإلس المية اإليراني ة ع بر مستش ارياتها الثقافي ة في بل دان‬
‫العالم بنشاطات كثيرة للدعاية لهذا الحوار‪ ،‬وأقامت حوله الم ؤتمرات‪ ،‬ونش رت الكتب‬
‫‪ )(1‬انظر مقاال مفصال في ه ذا‪ :‬نظري ة ص راع الحض ارات واالس تراتيجية األمريكي ة‪ ،‬هم ام الس ليم‪ ،‬المرك ز‬
‫الديمقراطى العربى‪ 30 ،‬أغسطس ‪.2016‬‬
‫‪ )(2‬محاضرات حول حوار الحضارات‪ ،‬مح ّمد علي آذرشب‪ ،‬ثقافتنا ‪ -‬العدد ‪ ، ٢‬موقع إيران والعرب‪..‬‬
‫‪ )(3‬حوار الحضارات من منظور علماء االجتماع في إيران‪ ،‬غسان حمدان‪ ،‬موقع معابر‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫واإلصدارات المختلفة‪ ،‬وهي ال ت زال تمث ل ه ذا المش روع‪ ،‬وتتص در ال دعوة إلي ه في‬
‫العالم أجمع‪.‬‬
‫وقد قال وزير الثقافة واالرشاد اإلسالمي الس يد أحم د مس جد ج امعي في بعض‬
‫النشاطات المقامة لهذا الغرض يذكر مدى ش رعية ه ذه القيم ة‪ ،‬وكونه ا من القيم ال تي‬
‫تبنتها إيران طيلة تاريخها‪( :‬أعتق د أن الحض ارة اإلس المية بس بب قيامه ا على أس اس‬
‫مع رفي اهتمت بش كل خ اص بالحري ة والعقالني ة‪ ..‬وه ذه الحض ارة باتس اع ص درها‬
‫ألفكار المخالفين وآرائهم قد وفّرت الج ّو لعرض وجه ات النظ ر المختلف ة‪ ،‬ونش هد في‬
‫التاريخ أن سعة الصدر هذه كلّما ضاقت‪ ،‬ق ّل التنوع الفكري‪ ،‬وض اقت دائ رة العقالني ة‬
‫أكثر‪ ،‬مما يؤدي إلى أفول هذه الحضارة)‬
‫ثم ذك ر تط بيق إي ران له ذا المش روع في تاريخه ا؛ فق ال‪( :‬ومن نم اذج ه ذا‬
‫االستيعاب الحميد نستطيع أن ن ذكر وقفيّ ة (رب ع رش يدي) ووقفيّ ة (مدرس ة خ ان) في‬
‫ش يراز‪ ..‬ففي وقفيّ ة رب ع رش يدي ينصّ الواق ف على تخص يص ميزاني ة لترجم ة‬
‫مجموعة من الكتب سنويا ً إلى العربي ة والفارس ية (اللغ تين العلمي تين آنئ ذ)‪ ،‬وإرس الها‬
‫إلى البلدان األخرى‪ ،‬والمخ اطبون في ه ذه الوقفي ة هم أه ل الص ين والهن د‪ ،‬وهم ا من‬
‫األقاليم الحضارية الكبرى يومذاك‪ ..‬وفي وقفية مدرسة خان بشيراز يخص ص الواق ف‬
‫ريع الموقوفة على إرسال بعثة من أفراد هذه المدرسة إلى أرجاء العالم ليجمعوا الكتب‬
‫المختلفة في دائرة العلوم والمعارف والحكمة‪ ،‬أو ليستخدموها ويضعوها تحت تصرف‬
‫طالب المدرسة‪ ،‬هذه الحركة توقفت برهة من الزمن‪ ،‬وال عجب أن تك ون ه ذه الوقف ة‬
‫مقرون ة تقريب ا ً بعص ر ب دء أف ول الحض ارة اإلس المية‪ ،‬وبنم ّو الحض ارة الغربي ة‬
‫وازدهارها أيضاً)‬
‫وبناء على ذلك االهتمام ظه رت الكث ير من الدراس ات العلمي ة ال تي تح اول أن‬
‫تجعل من هذه النظرية نظرية علمية تقنع بها العالم أجمع‪ ،‬ومن تلك الدراس ات دراس ة‬
‫ع الم االجتم اع د‪ .‬علي أص غر ص باغ پ ور ‪ ،‬وال تي ذك ر فيه ا احتياج ات الح وار‬
‫وضروراته على الصورة التالية(‪: )1‬‬
‫االحتياجات الحضارية‪ :‬فكل حضارة تحتاج إلى التعامل مع البيئ ات ال تي تحي ط‬
‫بها ألجل بقائها‪ ،‬وتفاعلها‪ ..‬وفي هذه الحالة يبدو أن النظرة الدينامية إلى جانب النظ رة‬
‫الساكنة تساعدنا على تقوية الحضارة الخاصة بنا‪ ،‬ففي النظ رة الس اكنة نع د الحض ارة‬
‫بمثابة بناء‪ ،‬ونظام ميكانيكي كحد أعلى‪ ،‬في حين أنها في الحالة الدينامية تب دو كعض و‬
‫حي‪ ،‬ونظام مفتوح له حياة‪ ،‬ووجود ح ٌّي‪ ،‬ولديه القابلية للنمو‪ .‬وفي عالمن ا الي وم تتعل ق‬ ‫ٍّ‬
‫دينامية الحضارات وبقائها بارتباطها ببعضها البعض‪.‬‬
‫االحتياجات الدولية‪ :‬إن كل حكومة ونظ ام سياس ي يج ران وراءهم ا ج ذورهما‬
‫الحض ارية‪ .‬وإن نظ رة الحكوم ات إلى الس الم الع المي‪ ،‬والدبلوماس ية والح رب‪،‬‬

‫‪ )(1‬علي اصغر صباغ پور‪ ،‬گفتگ وى تم دنها در جه ان متغ ير‪ =( ،‬ح وار الحض ارات في ع الم متغ ير)‪ ،‬مجل ة‬
‫گفتمان‪ ،‬العدد ‪ ،3‬طهران‪ ،1999 ،‬ص ‪.175 – 173‬‬

‫‪304‬‬
‫وغيره ا‪ ،‬تت أثر بالمض امين الفكري ة والثقافي ة والحركي ة للحكوم ات‪ .‬وي تيح ح وار‬
‫الحضارات هذه الفرصة للحكومات بأن تعرض خالص ة حض ارتها لألخ رى ليص لوا‬
‫إلى ميث اق ع المي‪ ،‬ولتنخفض الح وادث الم رة‪ ،‬وغ ير المستس اغة ال تي حص لت في‬
‫الماض ي (ك الحروب) إلى ح دها األدنى‪ ،‬لتص ل الش عوب إلى حال ة من الثب ات‬
‫واالستقرار في قالب من السالم العالمي‪.‬‬
‫االحتياجــات االقتصــادية‪ ،‬واالجتماعيــة‪ ،‬والسياســية‪ :‬ال ب د لك ل بل د من أج ل‬
‫الوصول إلى المصالح الوطني ة من تحقي ق ص يانة ال ذات واالس تقالل ووح دة األرض‬
‫واألمن القومي واألوضاع االقتصادية الجيدة‪ ،‬وقد تساعد فك رة ح وار الحض ارات في‬
‫الوصول إلى المصالح الوطنية‪ ،‬وما يليها‪ ،‬عبر عمليات معقدة ت ارة‪ ،‬وواض حة وجلي ة‬
‫تارة أخرى‪.‬‬
‫وب ذلك يمكن اعتب ار إي ران نموذج ا متف ردا في القيم الحض ارية‪ ،‬ذل ك أنه ا لم‬
‫تمارس أي نوع من أنواع االستعمار أو االستكبار مع أي دولة من دول العالم‪ ،‬ب ل ك ل‬
‫ما مارسته طيلة تاريخها هو الحوار عبر النتاج العلمي والثقافي‪.‬‬
‫لكن لألسف نجد المغرضين يتهمونها ب المؤامرة على الع الم اإلس المي في نفس‬
‫الوقت الذي يزكون في ه تركي ا والخالف ة العثماني ة ال تي ك انت عبئ ا ثقيال على األم ة‪،‬‬
‫وك انت مص درا من مص ادر االس تبداد ال ذي أخره ا قرون ا طويل ة‪ ،‬وعن دما حص ل‬
‫االستعمار لتلك الدول لم تنهض لنجدتها‪ ،‬ولتعويض تلك الض رائب ال تي ك انت تجبيه ا‬
‫منها‪ ،‬وإنما اكتفت بالوقوف موقف المتفرج أحيانا‪ ،‬والداعم للمستعمرين أحيانا كثيرة‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫يحاول هذا الكتاب ـ من خالل األدلة والوثائق الكثيرة ـ إثبات ج انبين مهمين في‬
‫إيران عبر مسيرتها التاريخية‪ ،‬وواقعها الحالي‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫أوال ـ بيان أن اإليرانيين مس لمون من ذ الفتح األول‪ ،‬لم ي تزحزحوا عن إس المهم‬
‫شعرة واحدة‪ ،‬وأن إسالمهم كان صادقا كما أخبر رسول هللا ‪ ،‬وأنهم لم يتآمروا على‬
‫اإلس الم بتحري ف أحكام ه‪ ،‬وال على المس لمين ب إعالن الح رب عليهم‪ ،‬كم ا ي زعم‬
‫المغرضون‪.‬‬
‫وذكرنا في الكت اب الكث ير من التجلي ات والش واهد وال براهين الدال ة على ذل ك‪،‬‬
‫ابتداء من اهتمامهم بالقرآن الكريم قراءة وتفسيرا وتفعيال في كل جوانب الحياة‪ ..‬ومثله‬
‫اهتمامهم بس نة رس ول هللا ‪ ‬بحس ب م ا وص لت إليهم نصوص ها‪ ،‬وأنهم ألج ل ذل ك‬
‫مؤمن ون بعقائ د اإلس الم‪ ،‬ومنف ذون لش رائعه‪ ،‬ومتحل ون بقيم ه األخالقي ة والروحي ة‬
‫والحضارية‪ ،‬ما استطاعوا إلى ذلك سبيال‪.‬‬
‫ثانيا ـ بيان أن إيران لم تتمسك بدينها تمسكا أنانيا‪ ،‬احتكرته لنفسها‪ ،‬وإنما راحت‬
‫تستعمل كل الوس ائل لخدم ة اإلس الم والمس لمين ابت داء من الق رن األول‪ ،‬حيث ك انت‬
‫أرضها منبعا لكل العلوم اإلسالمية‪ ،‬ومحال لتدريسها والكتابة فيها‪.‬‬
‫ففيها ظهرت أكبر تفاسير القرآن الكريم‪ ،‬وأكثر مجامع السنة النبوية‪ ،‬ومعظم ما‬
‫كتب في العقيدة والفقه واألخالق والعرفان‪ ،‬وكل العلوم العقلية والكونية‪.‬‬
‫وفيها كانت المدارس التي نشأ فيها كبار العلماء‪ ،‬وتتلمذت فيها أجيال طويلة من‬
‫المسلمين‪ ،‬الذين استقر بهم اإلسالم‪ ،‬وامتد في األرض‪ ،‬لينشر هداية هللا‪ ،‬ويلبس في كل‬
‫عصر اللباس الذي يتناسب معه‪.‬‬

‫‪306‬‬

You might also like