You are on page 1of 77

‫ملاذا قالوا؟‬

‫ال طاقة لنا اليوم؟‬


‫الطاقة املهدرة وسبيل احلصول عليها لنكون أسعد من ميشي على األرض‬
‫من دون غم وال هم‬

‫تأليف‬
‫د ‪ /‬حممد بن أمحد بن حممد اجلحالن‬
‫‪@maljahlan‬‬

‫الطبعة الثانية‬
‫‪ 1441‬هـ ‪2020 /‬م‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫إن الذي يشرب من النهر والكل ينظر إليه وهو غير مبال بما يفعله‬
‫أمام الجميع وقد نُهي عن الشرب منه‪ ،‬هو الذي كان قد شرب المعاصي‬
‫شربا‪ ،‬وجاهر هبا وتفاخر هبا ‪ ،‬فهو ال يستحي من الناس‪ ،‬وال يستحي‬
‫من اهلل ابتدا ًء‪ .‬فرتاه يشرب الكذب شربا‪ ،‬ويشرب الربا شربا‪ ،‬ويشرب‬
‫الفواحش شربا‪ ،‬ويشرب الخيانة شربا و ال يرده عن أي ظلم إال عدم‬
‫وجود فرصه أمامه‪ ،‬فمتى ما وجد فرصة للظلم تراه ظالما‪ .‬وهذه الفئة‬
‫قد تربأ منها طالوت وقال عنهم فيما أخربنا به اهلل‪﴿ :‬ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞ﴾‬
‫ومن حكمة اهلل ‪ ‬أن فضح هؤالء الظالمين أمام الناس‬
‫الناس‬
‫الناس بين أهل الحق وبين أهل الباطل‪ .‬وبذلك يعلم ُ‬
‫حتى يميز ُ‬
‫من يتبعونه ومن يحذرون منه ‪...‬‬

‫‪2‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪3‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫حممد بن أمحد بن حممد اجلحالن‪ 1434 ،‬هـ‬ ‫ح‬


‫فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النشر‬
‫اجلحالن‪ ،‬حممد بن أمحد بن حممد‬
‫ال طاقة لنا اليوم‪ :‬الطاقة املهدرة وسبيل احلصول عليها‬
‫حممد بن أمحد بن حممد اجلحالن‪ - .‬الرياض‪ 1434 ،‬هـ‬
‫ط ‪ - 1‬الرياض‪ 1435 ،‬هـ‬
‫ص‪77‬؛ ‪ 24 × 17‬سم‬
‫ردمك‪978-603-01-2997-3 :‬‬
‫‪ -1‬الوصايا واحلكم‬
‫أ‪ .‬العنوان‬ ‫‪ -2‬الوعظ واإلرشاد‬
‫‪1434/8466‬‬ ‫ ‬
‫ديوي ‪818.02‬‬

‫رقم اإليداع‪1434/8466 :‬‬


‫ردمك‪978-603-01-2997-3 :‬‬

‫الطبعة الثانية‬
‫‪ 1441‬هـ ‪2020 -‬م‬

‫حقوق الطبع متاحة للجميع وللتوزيع اخلريي‬


‫شريطة عدم احلذف أو اإلضافة أو التغيري‬

‫‪4‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬املراد بالطاقة ‪L‬‬


‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من‬
‫شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي‬
‫له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪،‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫تسليما ً‬
‫ً‬ ‫صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم‬
‫أما بعد‪ :‬عندما خلقنا ربنا ‪ ‬خلق لنا طاقة نستطيع أن نتقوى هبا يف‬
‫كل أمورنا‪ ،‬لنتغلب على كل المعوقات‪ ،‬مادي ًة كانت أو معنوية‪ ،‬فال نشعر بعدها‬
‫بغم وال حزن وال هم‪ ،‬بإذن اهلل‪ ،‬ونستطيع أن نحصل هبا على كل ما نتمناه من‬
‫طيبات هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وعلى النعيم الدائم يف الحياة اآلخرة‪.‬‬
‫فالمالك لها ال يعرف معنًى لالكتئاب‪ ،‬بل تراه يحيا حياة طيبة؛ ألن الخالق‬
‫معه يف كل أموره‪ ،‬وقد رفع اهلل قدره يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقضى حوائجه بما هو خير‬
‫له وبما يرضيه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬
‫وهبذه الطمأنينة‬ ‫(((‬
‫ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ﴾‬
‫تراه راض ًيا ّ‬
‫كل الرضا يف جميع أحواله‪ ،‬ألنه بفضل اهلل قد وصل إلى درجة ﴿ﰎ‬
‫ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾(((‪.‬‬

‫(( ( سورة النحل‪.97 :‬‬


‫(( ( سورة المائدة‪.119:‬‬

‫‪5‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫لكن الحصول على هذه الطاقة ال يستطيعه إال من تفضل اهلل هبا عليه‪ ،‬فآمن‬
‫بعضا من آثارها‪ ،‬وكلما ازداد المؤمن إيمانًا باهلل قولاً وتطبي ًقا يف‬
‫بوجودها وجرب ً‬
‫كل أمور حياته ازدادت هذه الطاقة لديه‪ ،‬فعرف قيمتها واستزاد منها‪.‬‬
‫عرفها أكثر عندما فقدها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭰ ﭱ‬
‫عرف هذه الطاقة َ‬
‫وبعض َمن َ‬
‫وهؤالء‬ ‫(((‬
‫ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ﴾‬
‫الناس من بني إسرائيل‪ ،‬هم المؤمنون الذين جربوا هذه الطاقة وأحسوا بفقداهنا‬
‫يف لحظة من لحظاهتم‪ ،‬يف ذلك اليوم‪ ،‬عندما قالوا‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾((( فهم‬
‫يعرفوهنا‪ ،‬وقد جربوها يف كثير من أمورهم‪ ،‬فبها ال يقف أمامهم شيء وال يعكر‬
‫صفوهم شيء بإذن اهلل‪ ،‬ألن قرهبم من اهلل ‪ ‬يمأل قلوهبم وجميع جوارحهم‬
‫بالقوة التي يتغلبون هبا على كل ما يواجهونه يف حياهتم اليومية‪ ،‬ويجعلهم ِ‬
‫راضي َن‬
‫مطمئنين‪ ،‬ال يعرفون التوتر وال القلق‪ ،‬لكنهم يف ذلك اليوم العصيب‪ ،‬ويف لحظة‬
‫من اللحظات‪ ،‬أحسوا بفقدان تلك الطاقة‪ ،‬وذلك بسبب بعض ما كسبت أيديهم‪،‬‬
‫فأعلنوا بصوت مسموع عن فقداهنا‪.‬‬
‫وهؤالء المأل من بني إسرائيل عندما أعلنوا اعرتافهم بالذنب ومِن َث َّم توبتهم‪،‬‬
‫أعاهنم اهلل بإخوان لهم‪ ،‬ممن يتواصون بالحق ويتواصون بالصرب‪ ،‬يملكون طاقة‬
‫دائمة ال يفقدوهنا أبدً ا‪ ،‬بإذن اهلل‪ ،‬فذكّروهم باهلل فاست َقوا من إيماهنم وطاقتهم‬
‫إيمانًا وطاقة أعانتهم على الثبات والطمأنينة والقوة المعنوية والمادية‪ ،‬فهزموا‬
‫العدو بإذن اهلل‪ ،‬وهم الذين قال اهلل عنهم‪﴿ :‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾(((‪.‬‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬


‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬
‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪249‬‬

‫‪6‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وكان من بين هؤالء الذين يظنون أهنم مالقو اهلل داود ‪ ‬وقد كان‬
‫أعالهم إيمانًا‪ ،‬ومِن َث َّم أعالهم طاقة‪ ،‬وم َّكنه اهلل ‪ ‬من أخطر عدو لهم‪،‬‬
‫وهو جالوت‪ ،‬وقد أخرب اهلل سبحانه عن ذلك بقوله‪﴿ :‬ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﴾(((‪.‬‬
‫ولذلك حاز داود الدنيا واآلخرة‪ ،‬فبعدما كان جند ًّيا من الجنود‪ ،‬أصبح َملِ ًكا‬
‫على كل الجنود‪ ،‬بل وتفضل اهلل عليه بأن جعله نب ًّيا‪ ،‬فآتاه اهلل الملك والحكمة‬
‫وع َّلمه مما يشاء‪.‬‬
‫وقبل أن يذهب داود للقتال لم يكن َيدُ ْر يف َخ َلده هذه المنح من اهلل‪ ،‬ولم‬
‫يطلبها ولم َي ْس َع إليها لِذاهتا‪ ،‬وإنما كان همه هو رضا اهلل ‪ ‬فرضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬وأرضاه يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬حيث أوصله اهلل إلى مرحلة الرضا بعد أن‬
‫‪ ‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾((( فال يرى فوق عطاء اهلل‬
‫رضا‪ ،‬فقد رضي واطمأن يف كل‬
‫قدرا‪ ،‬وال فوق رضا اهلل ً‬
‫عطاء‪ ،‬وال فوق قدر اهلل ً‬
‫لحظة من لحظاته‪.‬‬
‫الملك قبل الذهاب‪ ،‬وهم الذين قال اهلل عنهم‪:‬‬
‫وذلك خالف َمن طلبوا ُ‬
‫﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﴾((( يعنُون بذلك طالوت‪،‬‬
‫وهؤالء أبعد ما يكونون عن الرضا‪ ،‬فقد كان هدفهم دنيو ًّيا‪ ،‬فلم ينالوا دنيا وال‬
‫آخرة‪ ،‬بل قال عنهم طالوت‪( :‬إهنم ليسوا مني) وأبعدهم عنه حينما لم ينجحوا يف‬
‫امتحان النهر‪ ،‬فأصبحوا من الخاسرين‪.‬‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.251‬‬


‫(( ( سورة المائدة‪.119:‬‬
‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.247‬‬

‫‪7‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وهؤالء الخاسرون الذين ال يملكون تلك الطاقة‪ ،‬يجهلون أن هناك طاقة‪،‬‬


‫والجاهل بوجود الشيء لن يطلبه ولن يسعى إليه‪.‬‬
‫ونحن يف هذه الكلمات سنحاول أن نتعرف على هذه الطاقة‪ ،‬وكيف حصل‬
‫عليها داود والذين معه ممن يظنون أهنم مالقو اهلل‪ ،‬فنحاول أن نحصل عليها نحن‬
‫أيضا‪ ،‬لنستعين هبا بإذن اهلل يف كل أمور حياتنا المادية والمعنوية‪ ،‬وتكون سب ًبا لنا‬
‫ً‬
‫يف السعادة يف الدنيا‪ ،‬والفوز بالفردوس األعلى يف اآلخرة‪.‬‬

‫***‬

‫‪8‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬أحسن القصص ‪L‬‬


‫إن من عدل اهلل ورحمته بنا أن قص علينا أحسن القـَصص‪ ،‬كما قال سبحانه‪:‬‬
‫﴿ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﴾(((‪.‬‬

‫فمنذ أن خلق اهلل سبحانه آدم ‪ ‬بل وقبل أن ُيخلق آدم‪ ،‬إلى يومنا‬
‫هذا‪ ،‬هناك مليارات القصص بعدد مخلوقات اهلل‪ ،‬قصص بين اهلل ومالئكته‪ ،‬وبين‬
‫اهلل وإبليس‪ ،‬وبين آدم وربه‪ ،‬وبين آدم والمالئكة‪ ،‬وبين النبي وقومه‪ ،‬وبين االبن‬
‫وأبيه‪ ،‬وبين األخ وأخيه‪ ،‬وبين المرء وصديقه‪ ،‬وبينه وبين عدوه‪ ،‬وبين اإلنس‬
‫والجن‪ ،‬وبين اإلنسان والحيوان ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬
‫ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﴾((( وبين النملة والنمل ﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﴾(((‪.‬‬

‫قصص ال يعده وال يحصيه إال اهلل ‪ ‬وقد اختار لنا منها أحسن‬
‫القصص التي مرت على كل العصور لكي نتدبرها ونستفيد مما فيها من أمور‬
‫حصلت على أرض الواقع‪ ،‬وليست نظريات غير مطبقة أو ال يمكن تطبيقها‪،‬‬
‫ولكي نراها رأي المتيقن بقول اهلل ‪ ‬عندما يقول‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﴾ ونعمل‬
‫بمثل ما عمل به أولئك المؤمنون فنكون مثلهم‪.‬‬

‫(( ( سورة يوسف‪ :‬آية ‪.3‬‬


‫(( ( سورة النمل‪ :‬آية ‪.20‬‬
‫(( ( سورة النمل‪ :‬آية ‪.18‬‬

‫‪9‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وهو ‪ ‬حينما يخرب عن بعض القصص ويقول‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﴾ فكأن‬


‫المـُخا َطب يرى ما فعل ربه بما أخ َبر رأي العين‪ ،‬بل إنه أقوى مما لو رآه رأي‬
‫المخبِر هو اهلل الذي يخربنا بأدق التفاصيل ذات الفائدة ويرتك ما ليس‬
‫العين؛ ألن ُ‬
‫فيه فائدة من ذكره‪ ،‬فنكون رأينا أفضل ما يمكن رؤيته‪ ،‬بل وما ال يمكن أن نراه‬
‫من خفايا قلوب أصحاب القصص‪ ،‬ومن الغيبيات أثناء الحدث وقبل الحدث‬
‫وبعده‪.‬‬
‫واآليات التي يخاطب اهلل ‪ ‬هبا رسوله ‪ ‬يف القرآن بقوله‪:‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﴾ كثيرة‪ ،‬ومن تلك اآليات خرب طالوت وجالوت‪ ،‬الذي سوف نحاول أن‬
‫نرى منه‪ ،‬كما أمرنا اهلل أن نرى‪ ،‬ونتدبر ما فيها من اآليات العظيمة‪ ،‬فنتعرف بذلك‬
‫على الطاقة التي ذكرها اهلل يف خرب طالوت وجالوت‪ ،‬وكيف نحصل عليها لنتقوى‬
‫هبا بإذن اهلل على كل أمورنا المادية والمعنوية‪.‬‬

‫***‬

‫‪10‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬طالوت وجالوت ‪L‬‬


‫قال تعالى‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ‬
‫ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ‬
‫ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾(((‪.‬‬
‫طالوت بسطة يف العلم‪ ،‬لذا فهو يعلم من اهلل أن عدوه قوي وذو‬
‫َ‬ ‫اهلل‬
‫لقد زاد ُ‬
‫عتاد‪ ،‬ويلزم لهزيمة ذلك العدو طاقة‪ ،‬ويعرف أيضا أين تكمن هذه الطاقة‪.‬‬
‫وهو عندما خرج للقتال‪ ،‬خرج معه كل الرجال‪ ،‬المؤمن منهم وغير المؤمن‪،‬‬
‫وبقي من له عذر بالقعود من األطفال والنساء والعجزة والمرضى‪.‬‬
‫(((‬
‫وقد سمى اهلل هؤالء الذين خرجوا بالجنود ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ﴾‬
‫ولم يسمهم بالمؤمنين إال بعد ما اجتازوا امتحان اإليمان‪ ،‬بعد اجتيازهم للنهر‪،‬‬
‫حيث قال سبحانه عنهم‪﴿ :‬ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﴾(((‪.‬‬
‫لذلك أراد طالوت أال يصحب معه إال من يستطيع أن يملك تلك الطاقة ‪ -‬مع علمه‬
‫كبيرا من الجنود ‪ -‬وال يملك هذه الطاقة إال المؤمنون‪،‬‬
‫بأنه سوف يفقد بذلك جز ًءا ً‬
‫ٌّ‬
‫كل على قدر إيمانه‪ .‬فالمعركة هنا معركة عقدية بين الكفر واإليمان وليست معركة‬
‫مادية‪ ،‬والكافر لن يقاتل مع المؤمن لنصرة العقيدة الفاقد لها باألصل‪.‬‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪11‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وألن اهلل ‪ ‬عادل يف حكمه فقد أراد سبحانه أن يكون التقسيم‬


‫ظاهرا معلو ًما للكل‪ ،‬مع أنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعلم المؤمن من غير‬
‫ً‬ ‫واختيار المؤمنين‬
‫المؤمن‪.‬‬
‫(((‬
‫وألن اإليمان الحقيقي هو الذي يصدقه العمل ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﴾‬
‫فقد جاء ابتالء النهر ابتال ًء عمل ًّيا للجميع‪ ،‬والذي سوف يعكس صورهتم الحقيقية‬
‫لِـما كانوا عليه قبل االبتالء‪.‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﴾(((‪.‬‬
‫االبتالء يكون بالبالء‪ ،‬وهذا هو الفرق بين الصيغتين‪ ،‬فالبالء هو الحدث‬
‫نفسه‪ ،‬واالبتالء هو تأثير هذا الحدث على اإلنسان‪.‬‬
‫وإذا ذكر اهلل االبتالء يف القرآن فإنه ال يذكره إال لتمييز المؤمن القوي من‬
‫المؤمن الضعيف‪ ،‬والمؤمنين من غير المؤمنين‪ ،‬ليمحص اهلل الخبيث من الطيب‪،‬‬
‫كما قال تعالى يف سورة األحزاب‪﴿ :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ‬
‫ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ‬
‫ﮪ ﴾((( ففي هذا الموقف سمى اهلل الذين ثبتوا على إيماهنم بالمؤمنين‪ ،‬أما‬
‫المنافقون فقد فضحهم اهلل هبذا االبتالء حتى أعلنوا كفرهم‪ ،‬وعرفهم الناس‪،‬‬
‫غرورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حيث قالوا‪ :‬ما وعدنا اهلل ورسوله إال‬

‫((( [سورة العصر‪ :‬آية ‪.]3‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة األحزاب‪ :‬اآليات ‪.]12-10‬‬

‫‪12‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ويف قصة جنود طالوت‪ ،‬الكل هنا قد خرج وهو يدّ عي اإليمان‪ ،‬مع ٍ‬
‫قائد‬
‫مؤمن وهو طالوت‪ ،‬لذا فقد أخرب اهلل سبحانه عن هذا الموقف بأنه ابتالء‪ ،‬حيث‬
‫يقول سبحانه‪﴿ :‬ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾(((‪.‬‬

‫ولقد ب ّين ربنا ‪ ‬لهؤالء المأل من بني إسرائيل ماهية هذا االبتالء‪،‬‬
‫بل وطريقة النجاح وتخطي االمتحان‪ ،‬كما أنه سبحانه سهل عليهم االمتحان‬
‫وأعطاهم فرصتين للنجاح مقابل فرصة واحدة للخسارة‪ ،‬وأخربهم سبحانه‬
‫أصر الخاسرون إال الخسارة‪ ،‬ولم‬
‫بنتائج هذا االبتالء قبل الدخول فيه‪ ،‬ومع ذلك ّ‬
‫يجتز هذا االمتحان إال القليل منهم‪.‬‬

‫ وقد أظهرت نتيجة هذا االبتالء ثالث فئات من الناس‪:‬‬


‫ *القسم األول‪ :‬ال يعرف هذه الطاقة وال يعرف أهنا موجودة‪ ،‬وهم الظالمون‪.‬‬
‫وقد ذكرهم اهلل وذكر صفاهتم يف بداية القصص إلى ما قبل اجتياز النهر‪.‬‬
‫ *القسم الثاني‪ :‬الذي يعرف هذه الطاقة وقد يفقدها يف لحظة من لحظاته‬
‫بسبب عدم كمال اإليمان عنده‪.‬‬
‫ *القسم الثالث‪ :‬هو كامل اإليمان والمالك لهذه الطاقة من اهلل يف كل وقت‬
‫من أوقاته‪ ،‬والذي طمأنه اهلل وأذهب عنه كل مسببات الغم والهم‪.‬‬

‫وقد ذكر اهلل صفات القسمين الثاين والثالث من المؤمنين بعد أن اجتازوا‬
‫النهر‪ ،‬فكان النهر هو الفاصل بين الكفر واإليمان‪.‬‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪13‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ الفئة األوىل‪ :‬الذين ال يعرفون وال ميلكون الطاقة‪:‬‬


‫يف بداية هذا القصص أعطانا ربنا ‪ ‬مقدمات لنتعرف هبا على فاقدي‬
‫اإليمان الذين سماهم اهلل بالظالمين‪ ،‬وهم الذين ال يملكون أدنى شيء من الطاقة‬
‫قبل وبعد وصولهم للنهر‪ ،‬وذكر بأهنم هم األغلبية‪.‬‬
‫وكأنه طمأنة للمؤمن حتى ال يجزع من هذه النتيجة التي قد يراها يف كل‬
‫عصر من العصور‪ ،‬حيث أخربنا ‪ ‬أن الغالبية العظمى من الناس يدّ عون‬
‫المثالية‪ ،‬وليسوا كذلك‪ ،‬بل سماهم اهلل ‪ ‬بالظالمين‪ ،‬فقد ظهر عند‬
‫االمتحان أن غالبية الناس ليس لديهم من الطاقة المادية أو المعنوية أدنى شيء‪،‬‬
‫ثم أخربنا أن القليل من الناس هم المؤمنون الذين عرفوا الطاقة الحقيقية فتشبثوا‬
‫هبا‪ ،‬ومن فقدها منهم‪ ،‬أو فقد شي ًئا منها يف لحظة من لحظاته بحث عنها حتى‬
‫وجدها‪.‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ‬
‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾(((‪.‬‬
‫فربنا ‪ ‬أمرنا أن نرى عندما قال‪﴿ :‬ﭑ ﭒ﴾((( لنعرف حقيقة هؤالء‬
‫المأل من بني إسرائيل الذين ا ّدعوا المثالية عندما طلبوا القتال يف سبيل اهلل‪ ،‬ولم‬
‫يكن قد كتب عليهم القتال‪ ،‬ونبيهم يعرف من اهلل أن هؤالء الذين طلبوا القتال‬
‫يف سبيل اهلل ليس لديهم أدنى مقومات القتال‪ ،‬وقد أخربهم نبيهم بذلك‪.،‬لكنهم‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]246‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]246‬‬

‫‪14‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫أصروا على طلبهم‪ ،‬وكرروا القول بأن الهدف من القتال أنه قتال يف سبيل اهلل‪ ،‬مع‬
‫أهنم ذكروا أن السبب الحقيقي من القتال كوهنم أخرجوا من ديارهم وأبنائِهم‪،‬‬
‫وليس قتالاً لتكون كلمة اهلل هي العليا‪.‬‬
‫قال تعالى مخربا عنهم‪﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ‬
‫ﮋ ﴾((( وبين لنا ‪ ‬أن سبب خوفهم ومن َث َّم توليهم هو كوهنم ظالمين‪،‬‬
‫والظالم أينما كان وكيفما كان فإنه يف الحقيقة أجبن وأضعف ما يكون‪ ،‬وقد أخربنا‬
‫اهلل عنه يف كثير من اآليات‪ .،‬ونراه يف هذه اآليات حالاً واق ًعا‪ ،‬فهو‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫عليم هبم يف كل عصر من العصور‪ ،‬يعلم الصادق من الكاذب‪ ،‬وهو ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬يخربنا هنا أن األكثرية يف كل عصر هم الظالمون‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ﰇ ﰈ‬
‫ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﴾((( أي إن أكثر الناس هم الظالمون‪.‬‬
‫و يجب أن نالحظ هنا أهنم قد كرروا ادعاءهم مرتين بأن القتال قتال يف سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬لكن نبيهم نفى القتال كلي ًة عنهم‪ ،‬ال يف سبيل اهلل وال يف غير سبيل اهلل‪ ،‬حيث‬
‫أخربنا ‪ ‬يف قوله‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﴾((( فنبيهم قال لهم‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﴾(((ولم يقل‪:‬‬
‫(أ ّ‬
‫ال تقاتلوا يف سبيل اهلل) فنفى قتالهم كليةً‪ ،‬وتأكد ذلك يف قوله تعالى يف هناية اآلية‪:‬‬
‫(((‬
‫﴿ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ﴾‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]246‬‬


‫(( ( [سورة يوسف‪ :‬آية ‪.]103‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]246‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]246‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]246‬‬

‫‪15‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫فاألغلبية تولت‪ ،‬وبقيت القلة من المؤمنين الذين لم يطلبوا القتال‪ ،‬وهم الذين‬
‫اجتازوا امتحان اإليمان باجتيازهم النهر مع طالوت‪ ،‬كما سوف نرى الح ًقا بإذن‬
‫اهلل‪ ،‬وهذا يؤكد أنه لم يجتز النهر إال المؤمنون فقط الذين قاتلوا يف سبيل اهلل‪ ،‬أما‬
‫الظالمون فإهنم لم يقاتلوا البتة‪.‬‬
‫ومن المقدمات التي بينت لنا حقيقة هؤالء الظالمين‪ ،‬قبل الدخول يف‬
‫االمتحان الحقيقي عند النهر‪ ،‬أهنم لم َيخ ُفوا حرصهم على الدنيا‪ ،‬حيث أعلنوا‬
‫أهنم هم أحق بالملك من طالوت‪ ،‬فيما أخربنا اهلل عنهم‪﴿ :‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ‬
‫ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﴾(((‪.‬‬
‫وهذا هو الخطأ الثاين‪ ،‬الذي بين لنا سبب الخطأ األول‪ ،‬والذي كان يوم أن‬
‫طلبوا القتال وا ّدعوا أنه يف سبيل اهلل قبل أن ُيطلب منهم‪ ،‬وهم ههنا قد جعلوا‬
‫يؤت سعة من المال‪ ،‬بينما األفضل عند اهلل‬
‫األفضل من الناس يف نظرهم هو من َ‬
‫هو األتقى‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﴾(((‪.‬‬
‫وهذا خطأ ثالث أخربنا اهلل به عنهم‪ ،‬لنعرف لماذا وصفهم اهلل بالظالمين‪،‬‬
‫ونعرف ونرى سبب فقداهنم للطاقة ومن َث َّم توليهم عن القتال‪.‬‬
‫ما أكرمك يا رب وأنت تبين لنا صفات مدَّ عي المثالية الذين لم يستطيعوا إخفاء‬
‫وحب للذات‪ ،‬وهي نفس الصفات التي قد نراها يف كل‬
‫ٍّ‬ ‫نواياهم الحقيقية من طمع‬
‫زمان ممن هم على شاكلة هؤالء‪ ،‬نراها وقد كشفها اهلل لنا يف كل وقت من األوقات‪.‬‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]247‬‬


‫(( ( [سورة الحجرات‪ :‬آية ‪.]13‬‬

‫‪16‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ولما أكد لهم نبيهم أن طالوت هو الملك الذي بعثه اهلل لهم‪ ،‬لم يصدقوه‪،‬‬
‫وطالبوه بأن يأتيهم بآية من ربه‪.‬‬
‫حليم سبحانه‬
‫ٌ‬ ‫وهذا هو الخطأ الرابع‪ ،‬حيث لم يصدقوا قول نبيهم‪ ،‬ولكن اهلل‬
‫حيث أرسل لهم التابوت وفيه بقية من آل موسى وآل هارون ‪ - ‬وكان قد‬
‫ُسرق منهم ‪ -‬وقد كانوا يتفاءلون به عند القتال‪ ،‬فيأخذونه معهم عند مالقاة عدوهم‪،‬‬
‫ويزعمون أن سبب انتصاراهتم هو وجود التابوت معهم‪ ،‬حتى ُسلِ َ‬
‫ب منهم يف آخر‬
‫حرب لهم‪ ،‬فلما رأوا أن التابوت قد عاد إليهم اقتنعوا بأحقية طالوت بالملك‪.‬‬
‫واقتناعهم بعد أن رأوا التابوت الذي يتفاءلون به يف حروهبم وأنه سبب‬
‫انتصاراهتم‪ ،‬فيه قدح يف توكلهم على اهلل‪.‬‬
‫وهذا خطأ خامس‪ ،‬حيث بينوا خوفهم من العدو قبل لقائه‪ ،‬وبينوا عدم ثقتهم‬
‫باهلل ‪.‬‬
‫هذه هي بعض المقدمات التي نستطيع أن نراها يف هذه اآليات الكريمة من‬
‫صفات هؤالء القوم الذين أخربنا اهلل عنهم بأهنم تولوا وأهنم ظالمون‪ ،‬حتى نعرف‬
‫السبب الحقيقي يف انعدام الطاقة لديهم‪ ،‬ومِن َث َّم رعبهم من العدو حتى تملكهم‬
‫العطش الشديد بسبب الخوف الشديد‪ ،‬فالخوف يجلب العطش‪ ،‬فلم يستطيعوا أن‬
‫يمنعوا أنفسهم من الشرب‪ ،‬وبالتالي فشلوا يف اختبار النهر‪ ،‬فأصبحوا من الخاسرين‪،‬‬
‫حيث تولوا ولم يقاتلوا مع طالوت‪ ،‬وذلك نتيجة ما كسبته أيديهم من ظلم‪.‬‬
‫وهؤالء الذين شربوا من الماء هم األغلبية‪ ،‬وهم من اعتادوا شرب المعاصي‬
‫وتفاخرا هبا أمام الناس قبل مجيئهم إلى النهر‪ ،‬حتى استمرأوا‬
‫ً‬ ‫شرب الهيم مجاهر ًة‬
‫تلك المعاصي‪ ،‬كما وصفهم اهلل ‪ ‬ووصف طباعهم‪ ،‬وكيف كانت‬

‫‪17‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫جرأهتم مع نبيهم‪ ،‬وبالتالي معصيتهم هلل ‪ ‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ‬


‫ﭭ ﭮ ﴾(((‪.‬‬
‫وعدم قتالهم وتوليهم يرتتب عليه غضب آخر من اهلل‪ ،‬وهذا يعترب ذنب وخطأ‬
‫ومصيبة أكرب من مصيبة الخوف‪ .‬وألن هؤالء وصلوا إلى أعلى درجات الظلم‪،‬‬
‫فقد كانت نتيجة ذلك الظلم من العقاب أيضا عالية‪ ،‬ومنها الرعب الذي يزلزل‬
‫القلوب يف الدنيا‪ ،‬والنار يف اآلخرة‪.‬‬
‫فالذي يشرب من النهر ُشرب الهيم والكل ينظر إليه وهو غير مبال بما يفعله‬
‫أمام هذا الجمع‪ ،‬وقد نُهي عن الشرب‪ ،‬هو الذي كان قد شرب المعاصي شر ًبا‬
‫وجاهر هبا وتفاخر هبا ‪ ،‬فهو ال يستحي من الناس‪ ،‬وال يستحي من اهلل ابتدا ًء‪،‬‬
‫فرتاه يشرب الكذب شر ًبا‪ ،‬ويشرب الربا شر ًبا‪ ،‬ويشرب الفواحش شر ًبا‪ ،‬ويشرب‬
‫الخيانة شر ًبا‪ ،‬وال يرده عن أي ظلم إال عدم وجود فرصه أمامه‪ ،‬فمتى وجد فرصة‬
‫ظالما‪.‬‬
‫للظلم تراه ً‬
‫وهذه الفئة قد تربأ منها طالوت وقال عنهم فيما أخربنا به اهلل‪ ﴿ :‬ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﴾((( وهؤالء ليسوا أهلاً ألن يكونوا مع طالوت يف مسيره؛ ألهنم‬
‫ليس لديهم أدنى شيء من الطاقة‪ ،‬بل إهنم ال يعرفون أن هناك طاقة‪ ،‬فهم أسرى‬
‫ألهوائهم‪ ،‬وأسرى للشيطان‪ ،‬ال يملكون من قوة اإلرادة شي ًئا‪.‬‬
‫ومن حكمة اهلل ‪ ‬أن فضح هؤالء الظالمين من بني إسرائيل أمام‬
‫الناس‪ ،‬بل إنه سبحانه فضحهم يف قرآن يقرأ إلى يوم القيامة‪ ،‬وذلك حتى يميز‬
‫الناس من يتبعونه ومن‬
‫ُ‬ ‫الناس بين أهل الحق وبين أهل الباطل‪ ،‬وبذلك يعلم‬
‫ُ‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪18‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫يحذرون منه‪ .‬وهذه سنة اهلل يف كل ظالم يصر على الظلم‪ ،‬يفضحه حينما يتعرى‬
‫من المثاليات التي كان يدّ عيها لنفسه يف وقت الحاجة الحقيقية لتلك المثاليات‪.‬‬

‫ الفئة الثانية‪ :‬الذين ميلكون طاقة قد يفقدونها يف بعض األحيان‪.‬‬


‫وهم المؤمنون الذين قد يحصل منهم بعض الخطأ عندما تغلبهم شهواهتم‬
‫وغرائزهم يف لحظة من لحظات ضعفهم‪ ،‬فيستحيون من اهلل ويرجعون إليه‬
‫سبحانه ويتوبون‪ .‬وهم الذين يعرتفون أهنم مخطئون أثناء الخطأ‪ ،‬لذلك فهم ال‬
‫يجاهرون بالمعصية وال يصرون عليها‪.‬‬
‫وقد صنفهم اهلل سبحانه يف امتحان النهر بمن اغرتف غرفة بيده‪ ،‬وهم الذين‬
‫لم يستطيعوا المقاومة وأ َبوا إال أن يذوقوا طعمه‪ ،‬ولكنهم لم يصروا ولم ير َت ُووا‬
‫من الماء وذلك خو ًفا من اهلل ‪ .‬فهؤالء أصاهبم بعض الخوف والفزع‬
‫بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب‪ ،‬فأحسوا ببعض العطش نتيجة ذلك الخوف‪،‬‬
‫فلم يمنعوا أنفسهم من أن يغرتفوا غرفة من النهر‪ ،‬كما أهنم لم يستطيعوا أن ُيخفوا‬
‫هذا الخوف فأعلنوا لمن حولهم بقولهم‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﴾((( كأهنم‬
‫يطلبون العون منهم‪.‬‬
‫وربنا سبحانه من رحمته بعباده وعلمه هبم فقد عد هؤالء من المؤمنين‪ .‬وهؤالء‬
‫مستثنَون من الفئتين‪ ،‬من الفئة التي شربت‪ ،‬ومن الفئة التي لم َتط َعم‪ ،‬لذلك جعل‬
‫اهلل هذا االستثناء يأيت بعد ذكر الفئتين‪ ،‬ولم يأت االستثناء بعد الفئة التي شربت‪.‬‬
‫لذا لم يقل طالوت‪ :‬فمن شرب منه فليس مني‪ ،‬إال من اغرتف غرفة بيده‪،‬‬
‫ومن لم يطعمه فإنه مني‪ .‬بل قال كما أخرب اهلل سبحانه‪﴿ :‬ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪19‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﴾(((‪.‬‬
‫المغرتفين بأيديهم غرفة‪،‬‬ ‫(((‬
‫فاستثنى من قوله‪﴿ :‬ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ﴾‬
‫فكأن طالوت قال‪ :‬فمن شرب من ماء النهر فليس مني‪ ،‬إال من اغرتف غرفة بيده‬
‫فإنه مني‪ .‬فقد استثناهم من أن يكونوا كمن شربوا من النهر شرب الهيم‪ ،‬وبالتالي‬
‫استثناهم ممن ليسوا منه‪ ،‬فاعترب طالوت هؤالء الذين اغرتفوا غرفة بأيديهم منه‬
‫باإليمان‪ ،‬ثم استثنى من قوله ‪﴿ :‬ﭟ ﭠ ﭡ ﴾((( المغرتفين بأيديهم غرفة فقال‪:‬‬
‫ومن لم يطعم ماء ذلك النهر فإنه مني‪ ،‬إال من طعمه بغرفة يغرتفها بيده فإنه ليس‬
‫مني يف كمال اإليمان‪ .‬حيث إنه لم يصل إلى درجة من لم يطعمه يف كمال اإليمان‪.‬‬
‫فالذي اغرتف غرفة بيده هو منه يف اإليمان‪ ،‬لكنه ليس منه يف كمال اإليمان‪.‬‬
‫و أكثر المؤمنين هم من هذه الفئة‪ ،‬وربنا ‪ ‬إنما ُيذكـِّرهم بالرجوع إليه‬
‫عندما يصيبهم بالمصائب بسبب بعض ما كسبته أيديهم‪ ،‬ليرجعوا إليه ‪‬‬
‫وليرتقوا إلى أعلى منزلة‪ ،‬وهي منزلة الذين لم يطعموا المعاصي‪.‬‬

‫ الفئة الثالثة‪ :‬الذين ميلكون طاقة دائمة‪.‬‬


‫وهم الذين لم يطعموا المعاصي وال يعرفون مذاقها‪ ،‬ولو ُذكر عندهم نوع‬
‫من المعاصي فرتاهم ال يعلمون كيف تكون طبيعة وصفة ومذاق تلك المعصية‪،‬‬
‫ألهنم عزموا على أنفسهم بأال يطعموها أبدً ا‪ ،‬و أال يقربوا الفواحش ما ظهر منها‬
‫وما بطن‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬بل إن نفوسهم تتقزز منها‪ ،‬وإن حصل منهم أي خطأ‬
‫‪ -‬بحكم أهنم ليسوا معصومين عن الخطأ ‪ -‬فيكون هذا الخطأ من غير قصد منهم‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪20‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ومن غير إصرار عليه‪.‬‬


‫بل إهنم متى ما اتضح لهم الخطأ فإهنم يبتعدون عنه‪ ،‬ويطلبون المغفرة من اهلل‬
‫على ما حصل لهم من جهل هبذا الخطأ من غير قصد‪ ،‬ويطهرون أنفسهم بكثرة‬
‫االستغفار والتوبة‪ .‬ونراهم هنا قد ابتعدوا عن ماء النهر راجين أن يكونوا ممن قال‬
‫عنهم طالوت‪﴿ :‬ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﴾((( فلم يتذوقوا طعم هذا النهر‪ ،‬خالف‬
‫الذين أسرعوا إلى النهر وطفقوا يكرعون فيشربون منه شرب الهيم‪.‬‬
‫وهؤالء الفئة الذين لم يطعموا منه هم الذين يملكون أعلى قدر من الطاقة‬
‫التي وهبها اهلل لعباده الذين آمنوا به إيمانًا كاملاً ‪ ،‬فهم لم يغرتفوا غرفة واحدة‬
‫من المعاصي قبل وصولهم للنهر‪ ،‬كما أهنم لم يغرتفوا غرفة واحدة من ماء النهر‬
‫ولم يطعموه استجابة لألمر‪ .‬وسوف نرى أثر هذه الطاقة يف هذه الفئة القليلة بعد‬
‫عبورهم النهر‪.‬‬
‫بعضا من ِحكم اهلل يف أن جعل جميع من حضر هذا‬
‫وهنا يجدر بنا أن نذكر ً‬
‫الموقف يرى رأي العين هؤالء الفئة الخالصة التي لم تطعم من ماء النهر شي ًئا‪.‬‬
‫فبعدما كان عملهم الذي بينهم وبين اهلل مخف ًّيا وبعيدً ا عن الرياء‪ ،‬ال يراه وال‬
‫الناس على حقيقة هؤالء الصفوة من المؤمنين‪،‬‬
‫اهلل سبحانه َ‬
‫يعلم به إال اهلل‪ ،‬أطلع ُ‬
‫خالصا هلل فإن اهلل يذيعه للمأل ليعلموه حتى قيام الساعة‪.‬‬
‫ً‬ ‫فمن ُيخفي عمله ويجعله‬
‫كما أخرب ‪ ‬عن الذي يؤيت ماله يتزكى‪ ،‬وهو أبو بكر الصديق‪،‬‬
‫حيث أخرب ‪ ‬عن هذا العمل يف قرآن ُيقرأ إلى يوم القيامة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪21‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾(((‪.‬‬
‫وهذه الحكمة من اهلل تعيننا على أن نرى من هو األتقى الذي يجب أن ُيقتدى‬
‫به و ُيطاع و ُيسأل النصيحة ويثق به الناس‪ ،‬حتى ال يختلط على الناس المؤمن‬
‫الحق من المنافق‪ .‬وهؤالء هم الذين يثبتهم اهلل يف المواقف الصعبة‪ ،‬فال يجزعون‬
‫وال يخافون‪ ،‬بل تجدهم مطمئنين راضين لذلك‪.‬‬
‫ولقد استفاد مؤمنو بني إسرائيل من هؤالء الصفوة بعد عبورهم النهر‪،‬‬
‫وطلبوا منهم النصح‪ ،‬فنصحوهم النصيحة الحقيقية‪ ،‬وانتصروا على عدوهم‪،‬‬
‫حيث قالوا لهم كما أخربنا اهلل عنهم‪﴿ :‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( وهذه الفئة‬
‫لم تتأثر هبذه الحادثة‪ ،‬بل إهنا زادهتم إيمانًا باهلل‪ ،‬فأظهروا هذا اإليمان قولاً وعملاً ‪.‬‬
‫حيث أعلنوا ذلك بقولهم كما أخربنا اهلل‪ ﴿ :‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( فال‬
‫خوف وال طلب للعون إال من اهلل‪ ،‬كما قال اهلل سبحانه واص ًفا من هم مثلهم يف‬
‫اإليمان يف آية أخرى‪﴿ :‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ‬
‫ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﴾(((‪.‬‬
‫ونجد المصيبة التي يراها غيرهم أهنا مصيبة‪ ،‬هم ال يروهنا كذلك‪ ،‬وإنما يرون‬
‫ٍ‬
‫راض كل الرضا بإذن اهلل؛ ألنه‬ ‫أهنا حادثة فيها ابتالء وامتحان من اهلل يجتازه وهو‬

‫(( ( [سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.]21-17‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.]173‬‬

‫‪22‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ٍ‬
‫راض تمام الرضا‬ ‫كان قد وصل إلى مرحلة ﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﴾((( فهو‬
‫رضا ليس معه خوف وال جزع وال هم وال غم‪ ،‬ال غم مما فات‬
‫بكل ما يقدره اهلل‪ً ،‬‬
‫وال هم مما سيأيت‪ ،‬ويكون جواهبم يف كل مصيبة صغيرة كانت أم كبيرة هو قولهم‪:‬‬
‫﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﴾((( وهم الذين يظنون أهنم مالقو اهلل‪ .‬بعكس من يجزع‬
‫ويسخط عند المصيبة‪ ،‬خاصة يف أول الصدمة‪.‬‬
‫والمؤمنون موقنون هبذا االبتالء‪ ،‬ويعلمون أنه ال يأيت إال ليمحص اهلل به‬
‫الخبيث من الطيب‪ ،‬فيعدّ ون هذا االبتالء تحقي ًقا لوعد اهلل باالبتالء ويزيدهم‬
‫إيمانًا على إيماهنم‪ ،‬لذلك فقد هتيأوا له‪ ،‬كما قال اهلل عنهم‪﴿ :‬ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ‬
‫ﰔ ﴾((( وذلك ألن لديهم طاقة دائمة من رهبم يعينهم اهلل هبا على كل أمورهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫وهي الطاقة التي أعلن القسم اآلخر من مؤمني قوم طالوت عن فقداهنا‬
‫مسموع حينما قالوا‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﴾((( فرأيناها واضحة عند هؤالء‬
‫المؤمنين الذين يظنون أهنم مالقو اهلل يف قولهم‪﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾(((‪.‬‬
‫ومما يميز كاملي اإليمان أن فائض اإليمان عندهم يتعدى إلى غيرهم‪،‬‬
‫وذلك بالتواصي بالحق والتواصي بالصرب‪ ،‬كما قال اهلل ‪ -‬تعالى‪ -‬عنهم‪﴿ :‬ﭾ‬
‫ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ‬

‫((( [سورة المجادلة‪ :‬آية ‪.]22‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]156‬‬
‫(( ( [سورة األحزاب‪ :‬آية ‪.]22‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪23‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫تواصوا بالتوكل على اهلل وعدم النظر لعدد العدو‪،‬‬


‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( فقد َ‬
‫تواصوا بالصرب على تحقيق معنى اإليمان‬
‫َ‬ ‫ألن الغلبة ليست بالعدد‪ .‬ونراهم قد‬
‫بأشكاله الثالثة؛ إيمان بالقلب للوصول ألعلى درجات اليقين‪ ،‬وإيمان باللسان‬
‫وذلك بالبوح واإلعالن بما يف القلب من يقين‪ ،‬ودعوة الغير لهذا اإليمان‪ .‬والشكل‬
‫الثالث هو اإليمان العملي‪ ،‬وذلك بالصرب على عدم الغرف من المعاصي‪ ،‬وبالتالي‬
‫يكونون ممن لم يطعم أي معصية كبيرة كانت أو صغيرة‪.‬‬
‫وهبذا يتحقق لديهم الصرب على قتال هذا العدو‪ ،‬ويتم تأييد ما يف القلب وما‬
‫قاله اللسان بالعمل‪ ،‬فهؤالء هم الذين يعرفون معنى الصرب‪ ،‬ويعرفون أن الهدف‬
‫المنشود يتحقق بإذن اهلل يف الوقت الذي يعلم اهلل أنه هو الوقت المناسب يف‬
‫المكان المناسب‪ ،‬وما عليهم إال عمل األسباب حسب طاقتهم‪ ،‬ومن تكون تلك‬
‫صفاته فقد قال طالوت عنه‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﴾((( وذلك يف كمال اإليمان‪.‬‬
‫وقد رأينا لفظ ﴿ﭢﭣ﴾((( يتكرر يف المواقف التي يتضح فيها كمال اإليمان‪،‬‬
‫يب ‪ ‬فيما رواه مسلم يف صحيحه‪:‬‬ ‫لج َليبِ ٍ‬
‫فقد قالها الرسول ‪ُ ‬‬
‫حدثنا إسحاق بن عمر بن سليط‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن كنانة‬
‫غزى له‪ ،‬فأفاء اهلل عليه‪،‬‬ ‫ابن نعيم‪ ،‬عن أبي برزة أن النبي ‪ ‬كان يف َم ً‬
‫فقال ألصحابه‪« :‬هَ ْل َت ْف ِقدُ ونَ ِم ْن َأ َح ٍد؟» قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فالنًا وفالنًا وفالنًا‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫«هَ ْل َت ْف ِقدُ ونَ ِم ْن َأ َح ٍد؟» قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فالنًا وفالنًا وفالنًا‪ .‬ثم قال‪« :‬هَ ْل َت ْف ِقدُ ونَ ِم ْن‬
‫«ل ِكنِّي َأ ْف ِقدُ ُج َل ْيبِي ًبا‪َ ،‬ف ْ‬
‫اط ُل ُبو ُه» ف ُطلب يف القتلى‪ ،‬فوجدوه‬ ‫َأ َح ٍد؟» قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪َ :‬‬

‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬


‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬
‫((( [سورة البقرة‪ :‬آية ‪.]249‬‬

‫‪24‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫إلى جنب سبعة‪ ،‬قد قتلهم ثم قتلوه‪ ،‬فأتى النبي ‪ ‬فوقف عليه فقال‪:‬‬
‫« َقت ََل َس ْب َع ًة‪ُ ،‬ث َّم َق َت ُلو ُه‪ ،‬هَ َذا ِمنِّي َو َأ َنا ِم ْن ُه‪ ،‬هَ َذا ِمنِّي َو َأ َنا ِم ْن ُه» قال‪ :‬فوضعه على‬
‫ساعدَ ا النبي ‪ .‬قال‪ :‬فحفر له ووضع يف قربه‪ .‬ولم‬ ‫ساعديه‪ ،‬ليس له إال ِ‬

‫يذكر غسالً‪.‬‬

‫فج َليبِ ٌ‬
‫يب ‪ ‬وجدوه مقتولاً بين سبعة قد قتلهم‪ ،‬وقد شهد له الرسول‬ ‫ُ‬
‫‪ ‬بأنه هو الذي قتلهم‪ ،‬وهذه الصورة تدل على عدم خوفه وعلى عزمه‬
‫وإقدامه وإصراره على قتال سبعة رجال حتى قـُتل ‪ ‬وهبذا أعلن الرسول‬
‫‪ ‬بأن ُج َليبِي ًبا منه‪ ،‬وأن الرسول ‪ ‬مِن ُج َليبِيب‪ ،‬وهذه شهادة‬
‫مغمورا بين الصحابة‪ ،‬حتى أهنم لم يفقدوه عندما سألهم‬ ‫ً‬ ‫عظيمة لصحابي كان‬
‫َ‬
‫الرسول ‪ ‬بقوله‪« :‬هَ ْل َت ْف ِقدُ ونَ ِم ْن أ َح ٍد؟» كررها مرتين‪ ،‬فذكروا ً‬
‫أناسا‬
‫يب مكانة عند‬ ‫لج َليبِ ٍ‬
‫ولم يذكروا ُج َليبِي ًبا‪ ،‬ولكنه ‪ ‬ذكره ألنه يعرف أن ُ‬
‫«غ ْي َر َأ َّن َك ِع ْن َد اهَّلل ِ َل ْس َت‬
‫اهلل ‪ ‬وقد قال له الرسول ‪ ‬يو ًما‪َ :‬‬
‫اس ٍد» عندما َ‬
‫عرض عليه الرسول ‪ ‬الزواج فقال عن نفسه‪ :‬إذا‬ ‫بِ َك ِ‬
‫تجدين كاسدً ا‪.‬‬
‫وكل إنسان يف هذه الدنيا البد أن يكون موقعه يف إحدى هذه الفئات‪ ،‬فأين‬
‫نضع أنفسنا نحن من بين هذه الفئات الثالث؟‬

‫***‬

‫‪25‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬أثر هذه الطاقة اإلميانية على من ميلكها ‪L‬‬


‫الهدف من تدبرنا لهذه اآليات أن نعرف أين يكون تصنيفنا ضمن هذه‬
‫األقسام الثالثة‪ ،‬وبالتالي كل منا سوف يعرف أثر هذه الطاقة اإليمانية على نفسه‬
‫من عدمها‪ ،‬تب ًعا لتصنيفه‪ ،‬وهو ما حصل لقوم طالوت‪.‬‬
‫وقد كنا ذكرنا أن اهلل ‪ ‬قد أخربنا عن صفات الظالمين قبل أن‬
‫يصلوا النهر‪ ،‬ورأينا كيف كان النهر هو الفاصل بين الكفر واإليمان‪ ،‬وبين من ال‬
‫يملك الطاقة اإليمانية ومن يملكها‪.‬‬
‫فبعد ظهور نتائج االبتالء اجتاز طالوت النهر هو والذين عدّ هم أهنم منه من‬
‫الفئتين‪ ،‬وهما من لم َيط َعم من النهر‪ ،‬ومن اغرتف غرفة بيده‪ ،‬وقد سماهم اهلل‬
‫بالمؤمنين حيث قال عنهم‪﴿ :‬ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﴾(((‪.‬‬
‫وكان عددهم ثالثمائة وبضعة عشر‪ ،‬كما جاء يف صحيح البخاري عن الرباء‬
‫اب ُم َح َّم ٍد ‪ِ ‬م َّم ْن َش ِه َد َبدْ ًرا َأ َّن ُه ْم َكا ُنوا‬ ‫‪ ‬أنه قال‪َ :‬حدَّ َثنِي َأ ْص َح ُ‬
‫ال َث ِما َئ ٍة‪َ .‬ق َ‬
‫ال ال َب َر ُاء‪:‬‬ ‫ين َج ُازوا َم َع ُه ال َّن َه َر‪ ،‬بِ ْض َع َة َع َش َر َو َث َ‬ ‫وت ا َّل ِذ َ‬ ‫اب َطا ُل َ‬ ‫ِعدَّ َة َأ ْص َح ِ‬
‫َال َوال َّل ِه‪َ ،‬ما َج َ‬
‫او َز َم َع ُه ال َّن َه َر إِ اَّل ُمؤْ ِم ٌن (((‪.‬‬
‫وقد استبعد طالوت الذين شربوا من النهر‪ ،‬وهم الغالبية العظمى من‬
‫الجنود‪ ،‬وبعد اجتياز النهر نظر غالبية المؤمنين بعضهم إلى بعض‪ ،‬فرأوا أهنم قلة‬
‫قليلة‪ ،‬وتذكروا كثرة وقوة بطش جالوت وجنوده‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ال طاقة لنا اليوم‬
‫بجالوت وجنوده! كما أخرب عنهم اهلل سبحانه يف قوله‪﴿ :‬ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬


‫(( ( صحيح البخاري‪ )3957( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾((( وليس كل الذين آمنوا‬


‫هم الذين قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‪ ،‬ولكن هذا يفيد التغليب؛ ألن‬
‫األكثرية هم الذين قالوا ذلك‪ ،‬فمنهم من كان ثابتًا وث َّبت إخوانه‪ ،‬كما سوف يأيت‬
‫الح ًقا بإذن اهلل‪.‬‬
‫وهؤالء الذين أحسوا بشيء من الخوف وبفقدان الطاقة‪ ،‬وأن ال طاقة لهم يف‬
‫ذلك اليوم بالذات هم الذين اغرتفوا غرفة بأيديهم من المؤمنين‪ ،‬وهم األغلبية‬
‫ممن اجتاز النهر‪ ،‬فأصاهبم من الخوف ما أصاهبم بسبب بعض ذنوهبم‪.‬‬
‫كما أخربنا تعالى يف قوله‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﴾((( فهو ‪ ‬عاقبهم ببعض ذنوهبم حتى أحسوا هبذا‬
‫الخوف من العدو‪ ،‬ولو أنه عاقبهم بكل ذنوهبم ألصاهبم الرعب وألصبحوا مع‬
‫القوم الظالمين ولم يجتازوا النهر‪ ،‬لكنه ‪ ‬قد عفا عن كثير من ذنوهبم‬
‫بسبب إيماهنم‪.‬‬
‫وألن سنة اهلل ال تتغير منذ أن خلق اهلل الخلق‪ ،‬فإننا نرى نفس مشهد الذين‬
‫اغرتفوا غرفة بأيديهم يتكرر يف غزوة أحد‪ ،‬وقد أخربنا اهلل عن الذين تولوا يف‬
‫لحظة من لحظات ذلك اليوم يف قوله تعالى‪﴿ :‬ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ‬
‫ﯝ ﴾((( فأخرب ‪ ‬يف هذه اآلية بأن ما أصاهبم إنما كان ببعض ما كسبوا‬
‫وليس بكل ما كسبوا‪ ،‬ألنه سبحانه يعفو عن كثير‪ ،‬ولو أنه سبحانه عاقبهم بكل ما‬
‫بق منهم من أحد‪ ،‬لكنه ‪ ‬غفور‬ ‫كسبوا الستأصلهم يف هذه المعركة ولم ُي ِ‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬


‫(( ( سورة الشورى‪ :‬آية ‪.30‬‬
‫((( سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.155‬‬

‫‪27‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫يغفر الزالت‪ ،‬وهو سبحانه حليم ال يعجـِّل العقوبة‪.‬‬


‫وهكذا فإن كل من يغرتف غرفة بيده من المعاصي سوف يتكرر معه هذا‬
‫المشهد‪ ،‬ويرى بنفسه أثر فقدان الطاقة الحقيقية‪ ،‬طاقة اإليمان الكامل‪.‬‬
‫وقد رد ‪ ‬على الذين استغربوا حدوث تلك المصيبة يف غزوة أحد‬
‫بقوله تعالى‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﴾(((‪.‬‬
‫فإذا رأينا آثار ما كسبته األيدي يف هؤالء‪ ،‬وهم أصحاب الرسول ‪،‬‬
‫والذين أخرب ‪ ‬أنه عفا عنهم وهو الغفور الحليم سبحانه‪ ،‬فيجب أال‬
‫نأمن المصائب يف أنفسنا بسبب ما كسبته أيدينا من اغرتاف غرفة من المعاصي‪.‬‬
‫ويجب أن نعلم أنه عندما يصاب أحدٌ بجرحٍ يف إصبعه‪ ،‬فإن هذا الجرح إنما‬
‫هو بسبب بعض ما كسبه من المعاصي‪ ،‬ولو لم يعف سبحانه عن الكثير لقـُطِعت‬
‫جرح يف اإلصبع‪ ،‬فكأنه‬
‫ٌ‬ ‫يد هذا اإلنسان من العضد أو من الكتف وليس فقط‬
‫سبحانه بعفوه وحلمه قد عفا عما يوجب قطع اليد كلها‪ ،‬لذا وجب علينا أن نحمد‬
‫اهلل على هذا العفو‪ ،‬ونستغفره عن كل مصيبة‪ ،‬وهكذا مع كل المصائب‪ ،‬ألنه‬
‫سبحانه أخربنا بذلك على العموم بقوله‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬
‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﴾(((‪.‬‬
‫ومن هنا وجب على كل منا أن يراجع نفسه ويقلص أسباب المصيبة‪ ،‬فال‬
‫يطعم من المعاصي شي ًئا ليصل إلى مصاف الذين قال عنهم اهلل ‪:‬‬
‫﴿ﭟﭠﭡ﴾((( وهم الذين تطمئن قلوهبم يف كل حين فال يجد الخوف والغم‬

‫(( ( سورة آل عمران‪.165:‬‬


‫(( ( سورة الشورى‪ :‬آية ‪.30‬‬
‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬

‫‪28‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫والهم سبيلاً إلى قلوهبم‪ ،‬فقد وهبهم اهلل ‪ ‬طاقة تعينهم بإذن اهلل على كل‬
‫ُّ‬
‫أمورهم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫وهؤالء هم الواثقون باهلل وبقدرته وبرحمته‪ ،‬وبنصره لهم يف أي زمان ومكان‪،‬‬
‫وهم الذين يعرفون اهلل‪ ،‬ويعلمون علم اليقين أهنم مالقو اهلل ‪ ‬ويعلمون‬
‫أن اهلل بيده الخير‪ ،‬فكل ما يصيبهم إنما هو خير من اهلل‪ ،‬وما أصاهبم من شر فإنما هو‬
‫من أنفسهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﴾((( لذلك‬
‫فهم يبعدون أنفسهم عن كل ما يوجب نزول المصيبة عليهم‪ ،‬ويجاهدون أنفسهم يف‬
‫ذلك‪ ،‬وإذا حصل منهم خطأ من غير قصد‪ ،‬ألهنم غير معصومين من الخطأ‪ ،‬فإهنم‬
‫ويطهرون أنفسهم بكثرة االستغفار والتوبة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يبتعدون عنه لحظة معرفتهم بذلك‪،‬‬
‫وقد أخربنا سبحانه عن بعض صور هؤالء المؤمنين الذين لم يطعموا‬
‫المعاصي ممن كانوا مع طالوت‪ ،‬فنراهم يف أحلك المواقف ثابتين مطمئنين ال‬
‫يبدو عليهم الخوف‪ ،‬بل إهنم يحاولون تثبيت وطمأنة إخواهنم ممن اغرتف ُغرفة‬
‫بيده‪ ،‬الذين بدا عليهم الخوف واالرتباك‪.‬‬
‫وقد علم اهلل ذلك عنهم‪ ،‬فقال واص ًفا الذين لم يطعموا بقوله سبحانه‪:‬‬
‫﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( وهذا هو حال من لم يطعم المعاصي يف كل وقت ويف‬
‫كل حال من أحواله‪ ،‬وصرب على ذلك واستمر عليه‪ ،‬تراه مطمئنًّا ثابتًا‪ ،‬قد طمأنه‬
‫اهلل ‪ ‬ألنه سبحانه مع أوليائه الصابرين على طاعة اهلل وعلى البعد عما‬
‫يغضبه سبحانه‪.‬‬

‫(( ( سورة النساء‪ :‬آية ‪.79‬‬


‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬

‫‪29‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ونرى مثل هؤالء يف غزوة أحد ممن كان مع الرسول ‪ ‬وقد‬


‫وصفهم اهلل بقوله‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ‬
‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﴾(((‪.‬‬
‫فما أعظمه من وصف حيث وصف سبحانه فئة منهم بالمحسنين وبالمتقين‪،‬‬
‫وهم الذين يعبدون اهلل كأهنم يرونه حقيقة‪ ،‬فإن لم يكونوا يرونه فهم يعلمون علم‬
‫اليقين بأنه سبحانه يراهم‪ ،‬لذا فهم يتقون غضبه يف كل أمور حياهتم‪ ،‬فال يقولون‬
‫وال يفعلون ما يغضبه ‪﴿ ‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﴾((( وإذا‬
‫وصف العظيم سبحانه شي ًئا بأنه عظيم فليس لك أن تتخيل عظمة هذا الشيء‪،‬‬
‫ألنك لن تستطيع‪ .‬جعلنا اهلل وإياكم من هؤالء المحسنين المتقين الحائزين على‬
‫هذا األجر العظيم‪.‬‬
‫ومن آثار هذا األجر العظيم يف الحياة الدنيا ما أخرب به ‪ ‬يف قوله‪:‬‬
‫﴿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ‬
‫ﭡ ﴾((( فهنا نعمة ليست كأي نعمة‪ ،‬بل نعمة من اهلل سبحانه ال من غيره‪ ،‬وهي‬
‫خاصة لهؤالء‪ ،‬فلم يمسسهم أي سوء‪ ،‬وقد جاء ذكر (سوء) بالنكرة المنفية لينفي‬
‫كبيرا‪ ،‬وهذا من فضل اهلل ‪.‬‬
‫صغيرا كان أم ً‬
‫ً‬ ‫عنهم أي سوء‪،‬‬
‫أيضا اتباعهم رضوان اهلل‪ ،‬وهذا هو الفوز العظيم‪ ،‬ألهنم باتباعهم‬
‫ومن فضله ً‬
‫رضوان اهلل سيستمرون يف كوهنم ممن ال يطعمون المعاصي‪ ،‬وهذا تثبيت من‬

‫((( سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.173-172‬‬


‫((( سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.172‬‬
‫((( سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.174‬‬

‫‪30‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫اهلل لهم على طاعته سبحانه‪ ،‬وبذا تستمر نِ َعم اهلل عليهم وحفظه سبحانه لهم من‬
‫كل سوء‪ ،‬وكل ذلك ألن اهلل سبحانه وتعالى ذو فضل عظيم‪ ،‬وفضله سبحانه ال‬
‫يمكن أن يحيط به مخلوق‪ ،‬زادنا اهلل وإياكم من فضله ﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﴾((( واسع الفضل‪ ،‬عليم بمن يستحق هذا الفضل ممن أحسنوا‬
‫واتقوا‪ ،‬عليم بكيف ومتى يعطيهم هذا الفضل يف كل وجوهه‪ ،‬فهو سبحانه الواسع‬
‫يف رحمته‪ ،‬الواسع يف عفوه‪ ،‬الواسع يف رزقه‪ ،‬الواسع يف علمه‪ ،‬الواسع يف عطائه‪.‬‬

‫***‬

‫(( ( سورة المائدة‪ :‬آية ‪.54‬‬

‫‪31‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬كيف نكون مع من مل يطعمه؟ ‪L‬‬


‫وبالتالي حنصل على اإلميان الكامل والطاقة الكاملة‬

‫رأينا ‪ -‬كما أمرنا اهلل أن نرى عندما قال سبحانه‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﴾ ‪ -‬كيف كان مآل‬
‫الظالمين الذين ال يؤمنون باهلل‪ ،‬ورأينا كيف كانت الطاقة العظمى لذوي اإليمان‬
‫الكامل‪ ،‬وهم الذين نجحوا يف االبتالء وترجموا إيماهنم عملاً ‪ ،‬فلم يطعموا‬
‫يتواصون مع أنفسهم ومع غيرهم‬
‫َ‬ ‫المعاصي ولم يعرفوا لها مذا ًقا‪ ،‬وهم الذين‬
‫ويتواصون بالصرب على االستمرار يف أن يكونوا كذلك‪ .‬وهم الذين أنعم اهلل‬
‫َ‬ ‫بالحق‪،‬‬
‫عليهم ووهبهم النصر على عدوهم الطاغية‪ ،‬وهؤالء ق ّلـة مقارنة بجنود جالوت‪.‬‬
‫وكذلك رأينا ‪ -‬كما أمرنا اهلل أن نرى ‪ -‬كيف أن داود جاء جند ًّيا من الجنود‬
‫الملك وجعله نب ًّيا وع ّلمه مما يشاء سبحانه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ورجع َمل ًكا على كل الجنود‪ ،‬فوهبه اهلل ُ‬
‫حيث كان هو أعظم هؤالء الجنود إيمانًا‪ ،‬وكان يطبق هذا اإليمان تطبي ًقا عمل ًّيا‬
‫يف كل خطوة من خطواته‪ ،‬فأبعده اهلل عن كل خسارة وفاز بحظ الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وإذا رأينا هذا كله فيجب أن نستفيد من هذه الرؤية ونختار ألنفسنا بأن نكون‬
‫من أتباع أفضل قسم من األقسام الثالثة‪ ،‬وهم ذوو الطاقة العظمى الذين لم يطعموا‬
‫المعاصي‪ .‬وهذا االختيار سهل لمن سهله اهلل عليه‪ ،‬ويتحقق ذلك باآليت‪:‬‬

‫  اً‬
‫أول‪ :‬حتديد اهلدف‪:‬‬
‫فنجعل هدفنا أن نكون مع هؤالء الذين لم يطعموا المعاصي‪ ،‬فنكون مع من‬
‫هم أفضل من يمشي على األرض‪ ،‬وهم أكرم الناس عند اهلل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭵ‬
‫ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ‬

‫‪32‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾((( فقد أخربنا سبحانه أن أكرم إنسان عند اهلل من بين هؤالء‬
‫الناس من الشعوب والقبائل هو أتقاهم هلل‪ ،‬فال ينظر سبحانه ال لنوع الجنس ذكر‬
‫كان أم أنثى‪ ،‬وال لنوع الشعب‪ ،‬وال لنوع القبيلة يف اإلكرام‪ ،‬وهو سبحانه عليم‬
‫خبير هبؤالء الصفوة من األتقياء‪ .‬جعلنا اهلل وإياكم من هؤالء‪.‬‬

‫ ثان ًيا‪ :‬السعي واجملاهدة هلذا اهلدف‪:‬‬


‫ال بد لنا أن نعرف أن كل من أراد الخير وسعى إليه وبذل شي ًئا من الجهد يف‬
‫ذلك فإن اهلل ‪ ‬سوف يهديه ألفضل سبيل‪ ،‬وهو سبيل اهلل ‪،‬‬
‫ففي كل حركة وكل فعل هناك ٌ‬
‫سبيل يكون هو أفضل سبيل‪ ،‬وهو سبيل اهلل‪،‬‬
‫والساعي لتلك السبل يف كل أقواله وأفعاله ويف كل حركاته وسكناته سوف يهديه‬
‫اهلل إليها كما وعد ‪ ‬يف قوله‪﴿ :‬ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﴾((( فهذه اآلية فيها هداية وفيها معية مع اهلل‪ ،‬فهي تبشر بأن كل‬
‫من حرص على معرفة الحق فإن اهلل سوف يهديه لذلك‪ ،‬وأن اهلل مع كل محسن‪،‬‬
‫المحسن الذي يحيا كأنه يرى اهلل فإن لم يكن يرى اهلل فهو يعلم بأن اهلل ‪‬‬
‫يراه‪ ،‬فيتقي غضبه بالبعد عما يغضبه‪.‬‬
‫فإذا كان ربنا سبحانه قد أرسل أفضل البشر‪ ،‬وهم األنبياء‪ ،‬إلى الكفرة المشركين‬
‫لكي يدلوهم إلى الطريق المستقيم‪ ،‬وإذا علمنا أن هؤالء المشركين لم يطلبوا ذلك‪،‬‬
‫بل إن البعض منهم يرفض الرسالة‪ ،‬ويحارب الرسل‪ ،‬والرسل يتصدون لهؤالء يف‬
‫الطرقات ليبلغوهم دين اهلل ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾((( فكيف بمن‬

‫((( سورة الحجرات‪ :‬آية ‪.13‬‬


‫(( ( سورة العنكبوت‪ :‬آية ‪.69‬‬
‫((( سورة عبس‪ :‬آيات ‪.6 - 5‬‬

‫‪33‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫طلب الهداية من نفسه وبحث عنها وسعى إليها! فاهلل العادل لن يخيبهم يف أي‬
‫مكان يف األرض وال يف أي زمان‪ ،‬منذ بدء الخلق حتى قيام الساعة‪.‬‬
‫فعبد اهلل بن أم مكتوم‪ ،‬وهو األعمى الذي ال يرى بعينيه‪ ،‬أراد معرفة الحق‬
‫وسعى إليه بقلبه‪ ،‬فلم يرسله اهلل إلى أبي جهل وال إلى الوليد بن المغيرة وال إلى‬
‫أي كافر‪ ،‬بل إن اهلل دله على منبع الحق حيث ذهب إلى الرسول ‪‬‬
‫أمرا للرسول ‪ ‬بأن يستمع‬
‫ليبين له الحق‪ ،‬وقد أصدر اهلل ‪ً ‬‬
‫َ‬
‫أفضل البشر محمدً ا ‪ ‬ألنه تلهى‬ ‫اهلل‬
‫لهذا الذي جاءه يسعى‪ ،‬وعاتب ُ‬
‫عن عبد اهلل ابن أم مكتوم ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫ﭺ ﴾((( فاهلل ‪ ‬وعد بأن كل من جاهد نفسه لمعرفة الحقيقة فإن اهلل‬
‫‪ ‬سوف يهديه إلى الحق الذي هو سبيل اهلل‪ ،‬كما قال سبحانه‪﴿ :‬ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﴾(((‪.‬‬
‫أيضا أحد آثار هذه اآلية الكريمة ‪ -‬وأنصح‬
‫وقصة إسالم سلمان الفارسي هي ً‬
‫الكل بأن يقرأها ‪ -‬فقد جاهد سلمان ‪ ‬لمعرفة الحق‪ ،‬فهداه اهلل سبحانه‬
‫ألفضل السبل وجاء به ‪ ‬من أصبهان يف بالد فارس إلى الشام ومن ثـ ََّم‬
‫جاء به إلى المدينة مق َّيدً ا‪ ،‬حتى أوصله سبيل اهلل وجعله يستقي من معين الهداية‪،‬‬
‫من الرسول ‪.‬‬
‫وسا ِعنْدَ النَّبِ ِّي ‪‬‬
‫روى مسلم يف «صحيحه» َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة َق َال‪ُ :‬كنَّا ُج ُل ً‬
‫ور ُة ا ْل ُج ُم َع ِة‪َ ،‬ف َل َّما َق َر َأ‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﴾((( َق َال َر ُج ٌل‪:‬‬ ‫ِ‬
‫إِ ْذ ن ََز َل ْت َع َل ْيه ُس َ‬
‫ول اهللِ؟ َف َلم ُير ِ‬
‫اج ْع ُه النَّبِ ُّي ‪َ ‬ح َّتى َس َأ َل ُه َم َّر ًة َأ ْو َم َّر َت ْي ِن َأ ْو‬ ‫َم ْن َه ُؤلاَ ِء َيا َر ُس َ‬
‫ْ َ‬

‫(( ( سورة عبس‪ :‬اآليات ‪.10-8‬‬


‫(( ( سورة العنكبوت‪ :‬آية ‪.69‬‬
‫(( ( سورة الجمعة‪ :‬آية ‪.3‬‬

‫‪34‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ار ِسي‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َو َض َع النَّبِي ‪َ ‬يدَ ُه َع َلى َس ْل َم َ‬ ‫ْ ُ َْ ِ‬ ‫َ ً َ َ ِ‬


‫ان‬ ‫ُّ‬ ‫ثلاَ ثا‪ .‬قال‪َ :‬وفينَا َسل َمان الف ُّ‬
‫ال ِم ْن هَ ؤُ اَل ِء»(((‪.‬‬
‫يمانُ ِع ْن َد ال ُّث َر َّيا َلن ََال ُه ِر َج ٌ‬ ‫ُث َّم َق َال‪َ :‬‬
‫«ل ْو َكانَ إْ ِ‬
‫ال َ‬
‫ومعنى اآلية‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﴾((( أي من غير العرب‪ ،‬من الفرس‬
‫والروم وغيرهم من العجم الذين لم يلحقوا باألميين‪ ،‬وهم العرب الذين بعث اهلل‬
‫فيهم رسولاً منهم‪ ،‬وهو محمد ‪ ‬جاءهم ليتلو عليهم آياته ويزكيهم‬
‫ويعلمهم الكتاب والحكمة وقد كانوا قبل مجيئه يف ضالل مبين وواضح لكل من‬
‫له عقل ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﴾(((‪.‬‬
‫فسلمان الفارسي من هؤالء َ‬
‫اآلخرين الذين لحقوا باألميين العرب الذين‬
‫اتبعوا محمدً ا ‪ ‬فقد كان هدف سلمان ‪ ‬هو اإليمان فناله‪ .‬ولن‬
‫بشهادة من اهلل ‪‬‬ ‫ٍ‬ ‫يطلب الحق واإليمان أحدٌ إال ناله ولو كان عند الثريا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وشهادة من الرسول ‪.‬‬
‫وكذلك من كان هدفه أن يكون ممن لم يطعم المعاصي وجاهد نفسه على‬
‫دائما‪ ،‬كما قال‬
‫ذلك‪ ،‬فإن اهلل سوف يهديه لهذا الطريق ويعينه عليه ويكون اهلل معه ً‬
‫سبحانه‪﴿ :‬ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾((( مع َّية من‬
‫اهلل للمحسنين دائمة مستمرة‪ .‬يحيا ومعه اهلل يف كل لحظة من لحظاته‪ ،‬ومن كان‬
‫اهلل معه فلن يخسر يف أي صفقة‪.‬‬

‫صحيح مسلم‪ )6498( :‬ط الرسالة‪ ،‬وأخرجه البخاري‪ )4897( :‬ط الرسالة‪.‬‬ ‫((( ‬
‫سورة الجمعة‪ :‬آية ‪.3‬‬ ‫(( (‬
‫سورة الجمعة‪ :‬اآليات ‪.4-2‬‬ ‫((( ‬
‫سورة العنكبوت‪ :‬آية ‪.69‬‬ ‫(( (‬

‫‪35‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ ثال ًثا‪ :‬العمل‪:‬‬


‫بعد تحديد الهدف‪ ،‬وهو أن نكون ممن لم يطعمه‪ ،‬والسعي إلى هذا الهدف‬
‫ومجاهدة النفس على االستمرار يف ذلك‪ ،‬بعد ذلك يأيت التطبيق العملي‪ ،‬فال بد‬
‫أن نحاسب أنفسنا على كل فعل نفعله خالل اليوم والليلة‪ ،‬ويكون ذلك دأبنا‬
‫يف كل شيء‪ ،‬حتى نصل إلى مرحلة التقوى ومرحلة اإلحسان‪ .‬ويتحقق ذلك‬
‫بالتخلية ثم التحلية‪.‬‬

‫ التخلية‪:‬‬
‫صغيرا‪ ،‬ألن الذنوب هي‬ ‫كبيرا كان أو‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫فالتخلية أن نُخل َي أنفسنا من كل ذنب ً‬
‫سبب كل مصيبة‪ ،‬كما قال ‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬
‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﴾((( مصيبة دينية أو دنيوية‪ ،‬مصيبة يف الدين أو يف البدن‪،‬‬
‫وأكرب مصيبة هي ترك الطاعات؛ ألن السيئة تجلب السيئة وتبعد الطاعة أو تضعفها‪.‬‬
‫وقد رأينا ما أصاب جنود طالوت الذين شربوا من النهر‪ ،‬فمصيبتهم العظمى‬
‫يف دينهم هي معصية اهلل يف الشرب من النهر والتخلف عن الجهاد مع طالوت‪،‬‬
‫وسبب ذلك كان مصيبتهم يف بدهنم‪ ،‬حيث الرعب والخوف الشديد من جنود‬
‫قووا‬
‫جالوت الذي زلزلهم وجعلهم يشعرون بالعطش الشديد‪ ،‬حتى إهنم لم َي َ‬
‫على عدم الشرب‪ ،‬كل ذلك كان بسبب تراكم المعاصي وظلمهم قبل أن يصلوا‬
‫إلى النهر‪ ،‬حتى وصلوا إلى مرحلة عدم الثقة والقلق‪ ،‬ففضحهم اهلل أمام المأل‪،‬‬
‫وهكذا دواليك يف حلقة مفرغة‪ ،‬والعياذ باهلل من ذلك‪.‬‬
‫كما يجب أ َّ‬
‫ال نستحقر صغائر الذنوب؛ ألن اإلصرار عليها قد يجعلها من‬

‫(( ( سورة الشورى‪ :‬آية ‪.30‬‬

‫‪36‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫الكبائر‪.‬‬
‫روى أحمد يف مسنده أن سهل بن سعد قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪:‬‬
‫ود‪َ ،‬و َج َاء َذا بِ ُع ٍ‬
‫ود‪،‬‬ ‫وب‪َ ،‬ك َق ْو ٍم َنزَ ُلوا ِفي َب ْط ِن َو ٍاد‪َ ،‬ف َج َاء َذا بِ ُع ٍ‬ ‫ات ُّ‬
‫الذ ُن ِ‬ ‫اك ْم َو ُم َح َّق َر ِ‬
‫«إِ َّي ُ‬
‫اح ُب َها ُت ْه ِل ْك ُه»(((‪.‬‬
‫وب َمتَى ُيؤْ َخ ْذ بِ َها َص ِ‬ ‫ات ُّ‬
‫الذ ُن ِ‬ ‫َح َّتى َأن َْض ُجوا ُخ ْبزَ َت ُه ْم‪َ ،‬وإِنَّ ُم َح َّق َر ِ‬
‫أعاذنا اهلل من ذلك‪.‬‬
‫وقد يكون الذنب يف شيء لم نتوقعه أو نفكر فيه مما اعتاد الناس عليه يف‬
‫حياهتم اليومية‪ ،‬بل قد يكون الذنب يف الطاعة‪ ،‬وذلك عندما يعجب إنسان بعم ٍل‬
‫صالحٍ َع ِم َله‪ ،‬وقد يكون الذنب يف عدم أداء الطاعة على الوجه المطلوب الذي‬
‫يريده اهلل منا‪ ،‬كعدم الخشوع يف الصالة‪ ،‬وقد يكون الذنب يف شيء نرتكبه كل‬
‫يوم وال نشعر به‪ ،‬كوجود غل على بعض المؤمنين‪ ،‬أو يف عدم خفض الجناح‬
‫للمؤمنين‪ ،‬واهلل أمر نبيه أن يخفض جناحه للمؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯱ ﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﴾(((‪.‬‬
‫يجب أن نرجع إلى أنفسنا يف كل مصيبة تصيبنا‪ ،‬ولو كانت شوكة ن َُشاكُها‪،‬‬
‫وننظر ماذا عملنا من ذنب أوجب علينا هذه المصيبة‪ ،‬فنحمد اهلل سبحانه َّأولاً‬
‫بأهنا جاءت يف شوكة ولم ِ‬
‫تأت بمصيبة أكرب؛ ألن اهلل قد عفا عن كثير مما يوجب‬
‫ُخلِ َي أنفسنا من‬
‫حرصا شديدً ا أن ن ْ‬
‫ً‬ ‫أكرب من هذه المصيبة‪ ،‬ثم بعد ذلك نحرص‬
‫تلك الذنوب باالبتعاد عنها‪ ،‬ولذا نطلب من اهلل التخلية الكاملة من كل ذنب‬
‫باالستغفار والتوبة إلى اهلل‪ ،‬وإذا لم نتذكر ذن ًبا بعينه فلنكثر من االستغفار والتوبة‬

‫(( ( مسند أحمد‪ ) 312/5( :‬تحقيق أحمد شاكر‪ ،‬وقال‪ :‬إسناده صحيح‪ ،‬وكذا صححه األلباين‪ ،‬وقال‬
‫الهيثمي‪ :‬رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد ‪.)193/10‬‬
‫(( ( سورة الحجر‪ :‬آية ‪.88‬‬

‫‪37‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫من كل ذنب علمناه أو لم نعلمه‪.‬‬


‫فعائشة أحب إنسان للرسول ‪ ‬وقد علمت أن ليلة القدر خير من‬
‫ألف شهر‪ ،‬فلننظر ماذا قدم الرسول ‪ ‬من نصحٍ ألحب إنسان إليه يف‬
‫أفضل ليلة؟ لقد كانت النصحية طلب العفو من اهلل ‪.‬‬
‫ول اهَّللِ َأ َر َأ ْي َت‬
‫روى الرتمذي وابن ماجه وأحمد عن عائشة َقا َل ْت‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ول فِ َيها؟ َق َال‪ُ « :‬قولِي‪ :‬ال َّل ُه َّم إِ َّن َك ُع ُف ٌّو ُت ِح ُّب‬
‫إِ ْن َعلِ ْم ُت َأ ُّي َل ْي َل ٍة َل ْي َل ُة ال َقدْ ِر َما َأ ُق ُ‬
‫ا ْل َع ْف َو َف ْ‬
‫اع ُف َعنِّي»(((‪.‬‬
‫وأبو بكر أحب الناس لرسول اهلل ‪ ‬من الرجال‪ ،‬فلننظر بماذا نصحه‬
‫رسول اهلل ‪.‬‬
‫الصدِّ يق ‪َ ‬أ َّن ُه َق َال لِرس ِ‬
‫ول‬ ‫بكر ِّ‬ ‫روى البخاري يف «صحيحه» عن أبي ٍ‬
‫َ ُ‬
‫اهَّللِ ‪َ :‬ع ِّل ْمنِي ُد َعا ًء َأ ْد ُعو بِ ِه فِي َصالَتِي‪َ .‬ق َال‪ُ « :‬ق ْل‪ :‬ال َّل ُه َّم إِ ِّني َظ َل ْم ُت‬
‫وب إِ اَّل َأن َْت‪َ ،‬ف ْ‬
‫اغ ِف ْر لِي َمغْ ِف َر ًة ِم ْن ِع ْن ِد َك َو ْار َح ْمنِي‪،‬‬ ‫َن ْف ِسي ُظ ْل ًما َكثِ ًيرا‪َ ،‬و َال َيغْ ِف ُر ُّ‬
‫الذ ُن َ‬
‫يم»(((‪.‬‬ ‫الر ِح ُ‬ ‫الغ ُف ُ‬
‫ور َّ‬ ‫إِ َّن َك َأن َْت َ‬

‫فأبو بكر‪ ،‬وهو من الصديقين وأفضل الصحابة وأرجحهم إيمانًا‪ ،‬ومع ذلك‬
‫ظلما‬
‫طلب منه الرسول ‪ ‬أن يدعو ربه ويعرتف لربه أنه ظلم نفسه ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وأن يطلب المغفرة من ربه يف كل صالة‪.‬‬
‫ً‬
‫عجب بنفسه!‬
‫إذا عرفنا ذلك فكيف بنا نحن! وكيف بمن يعمل العمل هلل ثم ُي َ‬

‫(( ( الرتمذي (‪ )3822‬ط الرسالة‪ ،‬وابن ماجه (‪ )3850‬ط الرسالة‪ ،‬وأحمد يف مسنده (‪ )25384‬ط‬
‫الرسالة‪ ،‬وكذلك النسائي يف الكربى (‪ )7665‬ط الرسالة‪ ،‬وهو حديث صحيح‪ ،‬صححه الرتمذي‬
‫والنووي وابن القيم واأللباين وغيرهم‪.‬‬
‫(( ( صحيح البخاري‪ )6326( :‬ط الرسالة‪ ،‬وأخرجه مسلم‪ )6869( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫مقارنة بأبي بكر الذي شهد له اهلل بأنه األتقى‪ ،‬حيث يقول سبحانه‪﴿ :‬ﭚ‬
‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾((( ومع ذلك ُيع ِّلمه الرسول ‪ ‬أن يدعو هبذا‬
‫الدعاء يف كل صالة حتى ينقيه اهلل ‪ ‬من كل ذنب‪.‬‬
‫والرسول ‪ ‬لم يخرت ألبي بكر من بين كل األدعية التي َيعلمها‬
‫‪ ‬إال هذا الدعاء‪ ،‬ألنه يعلم قيمة هذا الدعاء‪ ،‬فاختاره الرسول‬
‫تحصل على التخلية قبل التحلية عندما‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬ألحب الناس إليه‪ .‬وهبذا‬
‫طلب من اهلل المغفرة ثم الرحمة يف كل صالة يصليها‪.‬‬
‫بل إن أفضل البشر‪ ،‬وهو الرسول ‪ ‬الذي قد غفر اهلل له ما تقدم‬
‫من ذنبه وما تأخر‪ ،‬يستغفر اهلل ويتوب إليه يف اليوم أكثر من سبعين مرة‪.‬‬
‫ول اهَّللِ ‪‬‬
‫روى البخاري يف «صحيحه» عن َأبي ُه َر ْي َر َة قال‪َ :‬س ِم ْع ُت َر ُس َ‬
‫ين َم َّر ًة»(((‪.‬‬ ‫«وال َّل ِه إِ ِّني أَ َل ْس َتغْ ِف ُر ال َّل َه َو َأ ُت ُ‬
‫وب إِ َل ْي ِه ِفي ال َي ْو ِم َأ ْك َث َر ِم ْن َس ْب ِع َ‬ ‫َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬‬
‫فكثرة االستغفار وطلب العفو من اهلل يف كل وقت تضمن للمؤمن بإذن اهلل‬
‫تنقيته وتخليته من كل ذنب علمه أو لم يعلمه‪ ،‬وإذا خال المؤمن من الذنوب فإنه‬
‫بإذن اهلل يخلو مما يوجب العذاب يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﴾(((‪.‬‬
‫يقول القرطبي يف تفسيره لهذه اآلية‪ :‬استفهام بمعنى التقرير للمنافقين‪ .‬التقدير‪:‬‬
‫أي منفعة له يف عذابكم إن شكرتم وآمنتم؛ فنبه تعالى أنه ال يعذب الشاكر المؤمن‪،‬‬

‫((( سورة الليل‪ :‬آية ‪.21-17‬‬


‫(( ( صحيح البخاري‪ )6307( :‬ط الرسالة‪.‬‬
‫(( ( سورة النساء‪ :‬آية ‪.147‬‬

‫‪39‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وأن تعذيبه عباده ال يزيد يف ملكه‪ ،‬وتركه عقوبتهم على فعلهم ال ينقص من سلطانه‪.‬‬
‫وقال مكحول‪ :‬أربع من ك َّن فيه ك َّن له‪ ،‬وثالث من ك َّن فيه ك َّن عليه؛ فاألربع‬
‫الاليت له‪ :‬فالشكر واإليمان والدعاء واالستغفار‪ ،‬قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵﯶﯷﯸ﴾((( وقال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﯫﯬﯭﯮﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶﯷ ﯸ ﴾((( وقال تعالى‪﴿ :‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﴾((( وأما الثالث الاليت عليه فالمكر والبغي والنكث‪ ،‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫(((‬
‫﴿ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾((( وقال تعالى‪﴿ :‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﴾‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﴾(((‪ .‬انتهى كالم القرطبي ‪.(((‬‬
‫لذلك إذا فكر اإلنسان يف عمل معصية من المعاصي‪ ،‬فليعلم أنه يهيئ نفسه‬
‫الستحقاق مصيبة تصيبه‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﴾(((‪.‬‬
‫قال القرطبي يف التفسير‪ :‬أي يف تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد هناكم(((‪.‬‬

‫ التحلية‪:‬‬
‫وبعد التخلية وتنقية النفس من كل دنس نكون قد هيأنا أنفسنا للتحلية‪،‬‬

‫سورة النساء‪ :‬آية ‪.147‬‬ ‫(( (‬


‫سورة األنفال‪ :‬آية ‪.33‬‬ ‫(( (‬
‫سورة الفرقان‪ :‬آية ‪.77‬‬ ‫((( ‬
‫سورة الفتح‪ :‬آية ‪.10‬‬ ‫(( (‬
‫سورة فاطر‪ :‬آية ‪.43‬‬ ‫((( ‬
‫سورة يونس‪ :‬آية ‪.23‬‬ ‫((( ‬
‫تفسير القرطبي (‪.)427 - 426/5‬‬ ‫(( (‬
‫سورة النساء‪ :‬آية ‪.144‬‬ ‫(( (‬
‫تفسير القرطبي (‪.)425/5‬‬ ‫(( (‬

‫‪40‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وتكون النفس أسرع ما تكون لعمل كل ما يرضي اهلل‪ .‬وربنا عندما يأمرنا بعمل‬
‫فإنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يبدأ بالتخلية قبل التحلية‪ ،‬وأعظم تخلية وتحلية هي يف كلمة‬
‫التوحيد (ال إله إال اهلل) وكذلك يف قوله تعالى‪ ﴿ :‬ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ‬
‫ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾((( فبدأ سبحانه بالتخلية من عبادة غير اهلل إلى‬
‫التحلية يف عبادة اهلل وحده واالستمساك بالعروة الوثقى‪.‬‬
‫وهكذا يف جميع أعمالنا‪ ،‬فنتخلى عن الكذب لنتحلى بالصدق‪ ،‬ونتخلى‬
‫اهلل النظر إليه لنتحلى‬
‫عن الغش لنتحلى باألمانة‪ ،‬ونتخلى عن النظر إلى ماحرم ُ‬
‫بغض البصر‪ ،‬ونتخلى عن ترك الصالة أو التكاسل يف أدائها لنتحلى بالمحافظة‬
‫على أدائها على الوجه المطلوب وبالزيادة منها نافلة‪ ،‬ونتخلى عن البخل لنتحلى‬
‫باإلنفاق يف سبيل اهلل‪ ،‬ونتخلى عن الغضب لنتحلى بكظم الغيظ‪ ،‬وهكذا يف كل ما‬
‫يرضي اهلل يف جميع حركاتنا وسكناتنا‪.‬‬

‫ راب ًعا‪:‬الصرب‪:‬‬
‫إذا حددنا الهدف بأن نكون ممن لم يطعم المعاصي‪ ،‬ثم سعينا لذلك وطلبناه‪،‬‬
‫وبعد ذلك بدأنا بتتبع كل خطوة نخطوها‪ ،‬بحيث ال تكون هذه الخطوة إال فيما‬
‫يرضي اهلل‪ ،‬فأخلينا أنفسنا من كل ما يسخط اهلل‪ ،‬وتحلينا بما يرضي اهلل‪ ،‬بعد ذلك‬
‫يأيت الصرب على االستمرار على هذه األشياء‪ ،‬وهذا الصرب يساعدنا بإذن اهلل على‬
‫تحقيق األهداف المرجوة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫™ ™والصرب نوعان‪:‬‬

‫ *صبر على األفعال‪ ،‬وهو فعل الطاعات وترك المعاصي‪.‬‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.256‬‬

‫‪41‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ *وصبر على الحوادث‪ ،‬سواء كانت يف الماضي أو يف المستقبل‪.‬‬


‫والبد أن يكون الصرب صربًا باهلل فال نستعين إال به سبحانه‪ ،‬وهلل بحيث يكون‬
‫خالصا له سبحانه‪ ،‬فال يكون ريا ًء وال لمصلحة دنيوية‪ ،‬ومع اهلل باالجتهاد يف فعل‬
‫ً‬
‫ما يرضي اهلل وترك ما يغضبه‪.‬‬
‫ُعرفه بأنه اليقين واإليمان الكامل يف داخل‬
‫والصرب على الحوادث نستطيع أن ن ّ‬
‫النفس‪ ،‬ويف تصرفات المؤمن‪ ،‬بأن الزمان والمكان لتحقيق الهدف المطلوب هو‬
‫الزمان والمكان الذي يعلم اهلل أنه أفضل زمان وأفضل مكان لهذا المؤمن لتحقيق‬
‫هدفه أو ما ينتظره‪ ،‬وإن تحقق عكس ما ينتظره فليعلم أن عدم تحقيق الهدف إنما‬
‫هو أفضل له من تحقيقه‪ ،‬فليثق باهلل الذي ال يأيت منه إال الخير‪ ،‬وال يسخط وال‬
‫فرحا بذلك‪ ،‬وليشكر اهلل ويحمده سبحانه‪.‬‬
‫يجزع‪ ،‬وليكن مطمئنًّا ً‬
‫وإذا أردنا أن نضع مثالاً عمل ًّيا لمن يعرف معنى الصرب‪ ،‬فال أروع وال أفضل‬
‫من حادثة صلح الحديبية‪ ،‬وكيف تباين الصحابة يف تطبيقهم لمعنى الصرب‪.‬‬
‫فنرى أن الصحابة ومعهم عمر بن الخطاب‪ ،‬رضوان اهلل عليهم‪ ،‬استاؤوا من‬
‫أن يرجعوا للمدينة ولم يعتمروا يف تلك السنة‪ ،‬وقد علموا أن النبي ‪‬‬
‫وعدهم أهنم سوف يأتون البيت ويطوفون به‪ ،‬فأراد الصحابة‪ ،‬رضوان اهلل عليهم‪،‬‬
‫أن يتحقق هذا الهدف يف هذه اللحظة‪ ،‬إال أبا بكر ‪ ،‬فإنه رضي ولم يستأ‬
‫لذلك‪ ،‬بل إن ر ّده على عمر بن الخطاب كان مطاب ًقا لرد الرسول ‪‬‬
‫على عمر بن الخطاب‪ ،‬فأبو بكر يعلم علم المؤمن المتيقن أن أي حدث يحدث‬
‫له إنما هو خير من اهلل‪ ،‬فهو يف هذه اللحظة يعيش هذا الخير من اهلل‪ ،‬لذلك نراه‬
‫يف اللحظة التي تم فيها اإلعالن عن عدم الدخول لمكة وعدم العمرة‪ ،‬لم يجزع‬
‫ولم يحزن؛ ألنه يرى هذا الخير رأي العين كما يراه الرسول ‪ ‬وهذا‬
‫‪42‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫هو معنى الصرب‪.‬‬


‫ففي صحيح البخاري فيما رواه المسور بن مخرمة ومروان يف قصة صلح‬
‫اب‪َ :‬ف َأ َت ْي ُت َنبِ َّي اهَّللِ ‪َ ‬ف ُق ْل ُت‪:‬‬ ‫الخ َّط ِ‬
‫الحديبية‪ ،‬وفيه‪َ :‬ق َال‪َ :‬ف َق َال ُع َم ُر ْب ُن َ‬
‫الح ِّق َوعَدُ ُّونَا َع َلى ال َباطِلِ! َق َال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫َأ َل ْس َت َنبِ َّي اهَّلل َح ًّقا! َق َال‪َ « :‬ب َلى» ُق ْل ُت‪َ :‬أ َل ْسنَا َع َلى َ‬
‫يه‪،‬‬‫ول ال َّل ِه‪َ ،‬و َل ْس ُت َأ ْع ِص ِ‬ ‫« َب َلى» ُق ْل ُت‪َ :‬فلِ َم ُن ْعطِي الدَّ نِ َّي َة فِي ِدينِنَا إِ ًذا؟ َق َال‪« :‬إِ ِّني َر ُس ُ‬
‫وف بِ ِه؟ َق َال‪َ « :‬ب َلى‪،‬‬ ‫اص ِري» ُق ْل ُت‪َ :‬أ َو َل ْي َس ُكن َْت ُت َحدِّ ُثنَا َأنَّا َسن َْأتِي ال َب ْي َت َفنَ ُط ُ‬ ‫َو ُه َو َن ِ‬
‫يه َو ُم َّط ِّو ٌف بِ ِه» َق َال‪َ :‬ف َأ َت ْي ُت‬ ‫ال‪َ .‬ق َال‪َ « :‬فإِ َّن َك آتِ ِ‬ ‫العا َم؟» َق َال‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬‬ ‫يه َ‬ ‫َف َأ ْخ َب ْر ُت َك َأ َّنا َن ْأتِ ِ‬
‫ِ‬
‫الح ِّق‬‫َأ َبا َب ْك ٍر َف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َأ َبا َب ْك ٍر‪َ ،‬أ َل ْي َس َه َذا َنبِ َّي اهَّلل َح ًّقا؟ َق َال‪َ :‬ب َلى‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬أ َل ْسنَا َع َلى َ‬
‫َوعَدُ ُّونَا َع َلى ال َباطِلِ؟ َق َال‪َ :‬ب َلى‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬فلِ َم ُن ْعطِي الدَّ نِ َّي َة فِي ِدينِنَا إِ ًذا؟ َق َال‪َ :‬أ ُّي َها‬
‫است َْم ِس ْك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرج ُل إِ َّنه َلرس ُ ِ‬
‫ول اهَّلل ‪َ ‬و َل ْي َس َي ْعصي َر َّب ُه‪َ ،‬و ُه َو نَاص ُر ُه‪َ ،‬ف ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫َان ُي َحدِّ ُثنَا َأنَّا َسن َْأتِي ال َب ْي َت َو َن ُط ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وف‬ ‫الح ِّق‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬أ َل ْي َس ك َ‬ ‫بِ َغ ْر ِزه‪َ ،‬ف َواهَّلل إِ َّن ُه َع َلى َ‬
‫ف بِ ِه‪.‬‬ ‫ال‪َ .‬ق َال‪َ :‬فإِن ََّك آتِ ِيه َو ُم َّط ِّو ٌ‬ ‫بِ ِه؟ َق َال‪َ :‬ب َلى‪َ ،‬أ َف َأ ْخ َب َر َك َأن ََّك َت ْأتِ ِيه ال َعا َم؟ ُق ْل ُت‪َ :‬‬
‫ول اهَّللِ‬ ‫َاب َق َال َر ُس ُ‬ ‫َق َال ُع َم ُر‪َ :‬ف َع ِم ْل ُت ل ِ َذل ِ َك َأ ْع َمالاً ‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َل َّما َف َر َغ مِ ْن َق ِض َّي ِة الكِت ِ‬
‫اح ِل ُقوا» َق َال‪َ :‬ف َواهَّللِ َما َقا َم مِن ُْه ْم َر ُج ٌل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لأِ‬
‫وموا َفان َْح ُروا ُث َّم ْ‬ ‫‪ْ َ ‬ص َحابِه‪ُ « :‬ق ُ‬
‫ات‪َ ،‬ف َل َّما َل ْم َي ُق ْم مِن ُْه ْم َأ َحدٌ َد َخ َل َع َلى ُأ ِّم َس َل َمةَ‪َ ،‬ف َذك ََر َل َها‬ ‫ث مر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى َق َال َذل َك َثالَ َ َ َّ‬
‫ب َذل ِ َك! ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َما َل ِقي مِ َن الن ِ‬
‫ال ُت َك ِّل ْم‬‫اخ ُر ْج ُث َّم َ‬ ‫َّاس‪َ ،‬ف َقا َل ْت ُأ ُّم َس َل َمةَ‪َ :‬يا َنبِ َّي اهَّلل‪َ ،‬أ ُتح ُّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َأ َحدً ا من ُْه ْم كَل َم ًة َحتَّى َتن َْح َر ُبدْ ن ََك‪َ ،‬و َتدْ ُع َو َحال َق َك َف َي ْحل َق َك‪َ .‬ف َخ َر َج َف َل ْم ُي َك ِّل ْم َأ َحدً ا‬
‫مِن ُْه ْم‪َ ،‬حتَّى َف َع َل َذل ِ َك؛ ن ََح َر ُبدْ َن ُه‪َ ،‬و َد َعا َحال ِ َق ُه َف َح َل َق ُه‪َ ،‬ف َل َّما َر َأ ْوا َذل ِ َك َقا ُموا َفن ََح ُروا‪،‬‬
‫َو َج َع َل َب ْع ُض ُه ْم َي ْحلِ ُق َب ْع ًضا‪َ ،‬حتَّى كَا َد َب ْع ُض ُه ْم َي ْقت ُُل َب ْع ًضا َغ ًّما(((‪.‬‬
‫عود نفسه على الصرب باهلل وهلل ومع اهلل يف كل أفعاله‪،‬‬
‫فأبو بكر الصديق الذي ّ‬
‫(( ( صحيح البخاري‪ )2732( ،)2731( :‬ط الرسالة‪ ،‬صحيح مسلم‪ )4834( :‬الرسالة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫أعانه اهلل على معرفة معنى الصرب على الحوادث‪ ،‬وهو االنتظار لتحقق الهدف يف‬
‫الزمان والمكان الذي يعلم اهلل أهنما األحسن لمن يصرب لذلك الوقت‪ ،‬ولذلك‬
‫كان رد أبي بكر لعمر بن الخطاب هو نفس رد الرسول ‪ ‬لعمر عندما‬
‫العا َم؟» أي‪ :‬هل أخربتك يا عمر أننا سوف‬
‫يه َ‬‫قال ‪َ « :‬ف َأ ْخ َب ْر ُت َك َأ َّنا َن ْأتِ ِ‬
‫نطوف بالبيت هذا العام؟ فقال عمر‪ :‬ال‪ .‬قال له رسول اهلل ‪ ‬وقال له‬
‫يه َو ُم َّط ِّو ٌف بِ ِه» وهذا هو كمال اليقين والتصديق واإليمان باهلل‬
‫أبو بكر‪َ « :‬فإِ َّن َك آتِ ِ‬
‫ومن ثم الصرب واالنتظار لذلك الوقت بطمأنينة‪.‬‬
‫لهذا فإنه ال يتحقق لنا أن نكون ممن لم يطعمه إال بتطبيقنا لكل معاين الصرب‪،‬‬
‫الصرب الذي ال يستطيعه من يشرب المعاصي شرب ِ‬
‫اله ِ‬
‫يم‪ ،‬أو الذي ال يقدر على‬
‫بعضه ممن يغرتف من المعاصي ُغرفة بيده‪.‬‬
‫ومؤمنو قوم طالوت بصربهم على ترك المعاصي واالستمرار على طاعة‬
‫اهلل‪ ،‬أعاهنم اهلل على الصرب والثبات يف المعركة حتى حققوا هدفهم المرجو‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬
‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬
‫ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ‬
‫ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ‬
‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﴾(((‪.‬‬
‫فهؤالء القوم صربوا باهلل عندما طلبوا العون من اهلل يف قولهم‪﴿ :‬ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﴾((( وصربوا هلل‪ ،‬فلم يكن صربهم يف عدم الشرب من النهر وصربهم‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.252-250‬‬


‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.250‬‬

‫‪44‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫على القتال رياء وال لمصلحة دنيوية‪ ،‬وصربوا مع اهلل فيما يرضيه يف أوامره ونواهيه‬
‫فلم يشربوا من النهر‪ .‬بعكس الظالمين الذين لم يحققوا معنى الصرب قبل مجيئهم‬
‫وبعد مجيئهم للنهر‪ ،‬فأصبحوا من الخاسرين‪.‬‬

‫***‬

‫‪45‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬هل أنت يف خسر أم يف فوز؟ ‪L‬‬


‫إن ما حدث لهؤالء القوم من بني إسرائيل نراه متمثلاً يف ثالث ٍ‬
‫آيات من سورة‬
‫العصر‪ ،‬وهذا ينطبق على كل البشر ويف كل عصر من العصور‪ ،‬فمن عمل بما جاء‬
‫يف هذه السورة فسوف يصل ألعلى درجات اإليمان‪ ،‬ويحوز أعلى طاقة تعينه‬
‫بإذن اهلل يف دينه ودنياه‪.‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾(((‪.‬‬
‫يتكون من كل ثانية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫فربنا ‪ُ ‬يقسم بالعصر الذي هو الدهر‪ ،‬الذي ّ‬
‫وكل دقيقة‪ ،‬وكل ساعة‪ ،‬وكل يوم‪ ،‬وكل شهر‪ ،‬وكل سنة من سنوات عمر‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكل قرن من القرون ليشمل كل جيل من األجيال حتى قيام الساعة‪،‬‬
‫قسم سبحانه ‪ -‬وهو ليس بحاجة إلى أن ي ِ‬
‫ـقسم ‪ -‬أن اإلنسان يف كل لحظة من‬ ‫ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لحظاته يف خسر‪ ،‬بل إنه سبحانه زاد على القسم بأن جاء بحرف التوكيد (إن) يف‬
‫قوله‪﴿ :‬ﭓ ﭔ ﴾((( ليقول لنا سبحانه إن كل إنسان نراه أمامنا هو يف حالة‬
‫خسارة‪ ،‬خسارة متكررة يف كل لحظة من لحظاته وكل حركة من حركاته‪ ،‬إال من‬
‫استثناه ربنا سبحانه من أن يكون يف خسر‪.‬‬
‫و إذا قال ربنا سبحانه إن اإلنسان يف خسر فهو يف خسر‪ ،‬إال أن يشاء سبحانه‬
‫ويجعله ممن يملك الصفات األربع المنجية بإذنه سبحانه من الخسران‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫((( سورة العصر‪.‬‬


‫(( ( سورة العصر‪ :‬آية ‪.2‬‬

‫‪46‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫أول‪ :‬اإليمان الكامل بالقلب واللسان والجوارح الذي يحقق أركان‬


‫ * اً‬
‫اإليمان الستة‪.‬‬
‫ *ثان ًيا‪ :‬ترجمة ذلك اإليمان بالعمل الصالح‪ ،‬وهو عمل الجوارح‪ ،‬بحيث‬
‫كبيرا‪ ،‬ويف كل لحظة من‬
‫صغيرا كان أو ً‬
‫ً‬ ‫يكون كل عمل يعمله هذا اإلنسان‬
‫لحظات عمره‪ ،‬ال بد أن يكون ضمن العمل الصالح؛ ألنه إن خرج عن‬
‫العمل الصالح فسوف يكون من جملة الذين أقسم اهلل بأهنم يف خسر‪،‬‬
‫والعمل الصالح هو كل عمل يرضي اهلل ‪.‬‬
‫ *ثال ًثا‪ :‬التواصي بالحق‪ .‬إذ إنه ال يكفي أن يعمل اإلنسان من أجل نفسه‬
‫فقط‪ ،‬فال بد أن يتعدى الخير إلى غيره‪ ،‬وأن يحاول نشر هذا الخير‬
‫ليعم الناس فينجو أكرب قدر منهم من الخسران‪ ،‬فنحصل على مجتمع‬
‫رتجم باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬أ ًّيا كان‬
‫مثالي‪ ،‬وهذا كله ُي َ‬
‫هذا المعروف‪ ،‬بد ًءا من أعلى الواجبات إلى أدنى المستحبات‪ ،‬وأ ًّيا كان‬
‫هذا المنكر‪ ،‬بد ًءا من أكرب المحرمات إلى أدنى المكروهات‪ ،‬آخذين بعين‬
‫نفسا إال وسعها‪ٌّ ،‬‬
‫كل على حسب استطاعته التي‬ ‫االعتبار أن اهلل ال يكلف ً‬
‫يعلم هبا الخالق ‪.‬‬
‫ *راب ًعا‪ :‬التواصي بالصرب لالستمرار على هذه الصفات الثالث‪ ،‬وهي‬
‫اإليمان والعمل الصالح والتواصي بالحق‪ ،‬الصرب الذي يأيت بعده‬
‫الفوز ‪ -‬الذي هو ضد الخسارة ‪ -‬يأيت يف الوقت والمكان والطريقة‬
‫الحكيمة التي يعلمها اهلل سبحانه العليم الحكيم‪ ،‬فيتحقق بذلك الفوز‬
‫المعنوي يف كل لحظة من لحظات هذا اإلنسان المستثنى من الخسارة؛‬
‫متحقق‬
‫ٌ‬ ‫ألنه يعلم علم المؤمن كامل اإليمان المتيقن أن الفوز المادي‬
‫‪47‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ٍ‬
‫مكان يعلمه اهلل أنه مناسب لهذا اإلنسان‬ ‫ٍ‬
‫زمان وأفضل‬ ‫بإذن اهلل يف أفضل‬
‫المؤمن‪ ،‬فينتج عن هذا كله الطمأنينة والرضا عن اهلل ‪‬‬
‫﴿ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾(((‪.‬‬
‫فاإلنسان يف كل عمل البد أن يحقق هذه الصفات األربع بعد عمل األسباب‪،‬‬
‫ويصرب على األعمال هلل وباهلل ومع اهلل‪ ،‬ويصرب على الحوادث التي تحدث يف‬
‫الوقت والمكان َ‬
‫اللذ ْين يعلم اهلل أهنما األفضل لهذا الحدث‪ ،‬أو أن يصرب ويتقبل‬
‫عدم تحقيق هذا األمر الذي يعلم اهلل أن قضاءه سوف يسبب له أذى‪ .‬هذا هو‬
‫الفوز بالدنيا الذي يؤدي للفوز العظيم باآلخرة‪ ،‬وهو الفوز بالجنة‪ ،‬والفوز برؤية‬
‫اهلل ‪.‬‬

‫***‬

‫(( ( سورة المائدة‪ :‬آية ‪.119‬‬

‫‪48‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬صور ممن مل يطعم املعاصي ‪L‬‬


‫قد جعل اهلل ‪ ‬يف كل عصر من العصور أقوا ًما ممن أنعم اهلل عليهم‬
‫لم يطعموا المعاصي‪ ،‬ليكونوا قدوة لمن حولهم‪ ،‬وقد تكفل اهلل ‪ ‬ببيان‬
‫حقيقة هؤالء للناس حتى يميزوا بينهم وبين المنافقين‪.‬‬
‫خالصا هلل‪ ،‬أظهره اهلل للناس‪،‬‬
‫ً‬ ‫وكلما أخفى اإلنسان عمله الصالح وجعله‬
‫أناس إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫ظهر عمل بعض المؤمنين فيعلمه ٌ‬ ‫حتى إنه سبحانه قد ُي ِ‬
‫واألمثلة على ذلك كثيرة جدا‪.‬‬
‫قال تعالى يمتدح إسماعيل ‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫صغيرا‪ ،‬وهو عند اهلل عظيم‪ ،‬عملاً كان‬
‫ً‬ ‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾((( عملاً يراه البعض‬
‫إسماعيل ‪ ‬يعمله يف بيته ال يراه إال اهلل‪ ،‬فأظهر اهلل هذا العمل يف قرآن ُيقرأ‬
‫إلى يوم القيامة‪ ،‬أظهره اهلل بصيغة المدح حيث امتدح إسماعيل هبذا العمل‪ ،‬ولك‬
‫أن تتصور أن اهلل يمدحك نفس هذا المديح يف كل مرة وأنت تأمر أهلك وأبناءك‬
‫بالصالة وغيرها من المعروف؛ ألن سنة اهلل تمشي على الجميع‪ .‬فما أعظمه من‬
‫مادح وما أعظمه من مديح‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫و َع ْن َأبِي َذ ٍّر ‪َ ‬ق َال‪ :‬ق َيل ل َر ُسول اهلل ‪َ :‬أ َر َأ ْي َت َّ‬
‫الر ُج َل‬
‫ُون َع َل ْي ِه بِ ِه! َق َال‪« :‬تِ ْل َك َع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ُل‬ ‫َي ْع َم ُل ا ْل َع َم َل م ْن ا ْل َخ ْي ِر هلل‪َ ،‬ف َي ْح َمدُ ُه الن ُ‬
‫َّاس َو ُي ْثن َ‬
‫ُب ْش َرى ا ْل ُمؤْ ِم ِن»((( قال العلماء‪ :‬معناه‪ :‬هذه البشرى المعجلة له بالخير دليل على‬
‫رضا اهلل تعالى عنه ومحبته له فيحببه إلى الخلق‪.‬‬

‫(( ( سورة مريم‪ :‬آية ‪.55‬‬


‫(( ( أخرجه مسلم (رقم ‪.)2642‬‬

‫‪49‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫خالصا‬
‫ً‬ ‫وسنأيت ببعض األمثلة ألناس ممن لم يطعموا المعاصي‪ ،‬وكان عملهم‬
‫هلل‪ ،‬ال يريدون به غير وجه اهلل ‪ ‬وقد أظهر اهلل عملهم للناس بعد أن كانوا‬
‫قد أخفوه‪ ،‬حيث كان مبدأهم يف العمل قول اهلل تعالى‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾(((‪.‬‬

‫***‬

‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-19‬‬

‫‪50‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬داود ‪L ‬‬
‫بين لنا ربنا ‪ ‬يف قـَصص قوم طالوت أن أفضل رجل من الذين لم‬
‫يطعموا النهر هو داود ‪ ‬ولم يكن قد بعثه اهلل نب ًّيا قبل مجيئه مع طالوت‪،‬‬
‫لكنه ‪ ‬كان من أولئك الذين أنعم اهلل عليهم‪ ،‬فربوا أنفسهم على أال يطعموا‬
‫شي ًئا من المعاصي يف جميع أحوالهم‪ ،‬وكان دائم الذكر هلل‪ ،‬فكان يسبح وتسبح‬
‫معه الجبال‪.‬‬
‫وبين لنا ‪ ‬ثمرة هذا اإليمان يوم التقى الجمعان‪ ،‬يوم أن قال الذين‬
‫حيث طمأهنم‬ ‫(((‬
‫اغرتفوا غرفة باليد‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾‬
‫وحثهم داود ومن كان معه‪ ،‬ممن لم يطعموا النهر‪ ،‬على القتال‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾((( وتأكد هذا القول بالفعل حيث رأينا كيف تقدم داود‬
‫جالوت بإذن اهلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫بشجاعة وتوك ٍل على اهلل فقتل‬

‫ الثمرة اليت جناها داود ‪:‬‬


‫دائما وأبدً ا‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬
‫يقول اهلل ‪ ‬وقوله الحق ً‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾(((‪.‬‬
‫من هذه اآليات يتبين لنا صفة المؤمن الذي ال يطعم المعاصي‪ ،‬وهي أنه ال‬
‫يتحرى نعم ًة‬ ‫ٍ‬
‫ألحد ألن له فضلاً عليه‪ ،‬أو‬ ‫يعمل عملاً وال يعطي عطا ًء مجازاة‬
‫ّ‬

‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬


‫((( سورة البقرة‪.249 :‬‬
‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-19‬‬

‫‪51‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫منه‪ ،‬بل يعمل العمل ابتغاء وجه ربه األعلى‪ ،‬وأغلب أعمال هؤالء المؤمنين إنما‬
‫يعملوهنا يف الخفاء وال يطلع عليها إال اهلل ‪.‬‬
‫ولذلك شهد اهلل لمن كانت هذه حاله بأنه األتقى يف قوله سبحانه‪﴿ :‬ﭚ‬
‫ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾(((‪.‬‬
‫وقد وعد اهلل ‪ ‬أن من كانت هذه صفاته أنه سوف يرضى‪ ،‬وإذا قال‬
‫اهلل ‪ ‬عن أحد أنه سوف يرضى فإنه البد أن يرضى؛ ألنه قول الحق‬
‫‪ .‬فلك أن تتخيل مدى الرضا الذي يعيشه من تفضل اهلل عليه وأرضاه‪.‬‬
‫جعلنا اهلل وإياكم ممن وعده اهلل بأنه سوف يرضى‪.‬‬
‫و لذلك فإن داود جنى ثمرة إيمانه الكامل باهلل‪ ،‬فرأينا كما أمرنا اهلل أن نرى كيف‬
‫نجح يف امتحان النهر‪ ،‬وكيف كان ثباته وتثبيته للمؤمنين عندما واجهوا جالوت‬
‫وجنوده حتى تم لهم النصر‪ ،‬فاختاره اهلل من بين المأل من بني إسرائيل ألن يكون‬
‫َملِ ًكا نب ًّيا كما أخرب سبحانه‪﴿ :‬ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﴾(((‪.‬‬
‫وهذا ما يريدنا اهلل أن نراه يف قصص المأل من بني إسرائيل‪ ،‬وما حدث لهم‬
‫مع طالوت وجالوت‪ ،‬وكيف خسر الخاسرون‪ ،‬وحاز األفضل منهم ‪ -‬وهو داود‬
‫الذي لم يطعم من المعاصي ‪ -‬على خير الدارين‪.‬‬
‫هذا هو طبع األنبياء كلهم‪ ،‬فهم الذين اصطفاهم اهلل للنبوة‪ ،‬وكذلك هو طبع‬
‫من تفضل اهلل عليهم من الصديقين الذين يقتدون باألنبياء‪.‬‬

‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-17‬‬


‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.251‬‬

‫‪52‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وإنما ذكرت داود ‪ ‬من بين األنبياء ألنه جاء مع الجيش جند ًّيا مثل‬
‫بقية الجنود يف الطاعة لطالوت‪ ،‬قبل أن يؤتيه اهلل الملك والحكمة‪ ،‬لكنه ُف ِّضل‬
‫عليهم كلهم بما فضله اهلل من علو اإليمان‪ ،‬ونجح يف االمتحان العلني أمام جميع‬
‫خيري الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫الجنود‪ ،‬فحاز على َ‬

‫***‬

‫‪53‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ُ J‬ج َر ْي ٌج الراهب ‪L‬‬


‫«كانَ ُج َر ْي ٌج َيت ََع َّبدُ ِفي‬ ‫روى مسلم يف «صحيحه» َع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬أ َّن ُه َق َال‪َ :‬‬
‫ف َلنَا َأ ُبو َرافِ ٍع ِص َف َة َأبِي ُه َر ْي َر َة ل ِ ِص َف ِة‬ ‫َص ْو َم َع ٍة‪َ ،‬ف َج َاء ْت ُأ ُّم ُه» َق َال ُح َم ْيدٌ ‪َ :‬ف َو َص َ‬
‫اجبِ َها‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫ف َج َع َل ْت َك َّف َها َف ْو َق َح ِ‬ ‫ول اهللِ ‪ُ ‬أ َّم ُه ِحي َن َد َع ْت ُه‪َ ،‬ك ْي َ‬ ‫رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫َر َف َع ْت َر ْأ َس َها إِ َل ْي ِه َتدْ ُعو ُه « َف َق َال ْت‪َ :‬يا ُج َر ْي ُج‪َ ،‬أ َنا ُأ ُّم َك‪َ ،‬ك ِّل ْمنِي‪َ .‬ف َصا َد َف ْت ُه ُي َص ِّلي‪،‬‬
‫َار َصلاَ َت ُه‪َ ،‬ف َر َج َع ْت‪ُ ،‬ث َّم َعا َد ْت ِفي ال َّثانِ َي ِة َف َق َال ْت‪َ :‬يا‬ ‫اخت َ‬‫الله َّم ُأ ِّمي َو َصلاَ تِي! َف ْ‬‫ال‪ُ :‬‬ ‫َف َق َ‬
‫َار َصلاَ َت ُه‪َ ،‬ف َق َال ْت‪ُ :‬‬
‫الله َّم‬ ‫الله َّم ُأ ِّمي َو َصلاَ تِي! َف ْ‬
‫اخت َ‬ ‫ال‪ُ :‬‬ ‫ُج َر ْي ُج‪َ ،‬أ َنا ُأ ُّم َك‪َ ،‬ف َك ِّل ْمنِي‪َ .‬ق َ‬
‫إِنَّ هَ َذا ُج َر ْي ٌج‪َ ،‬و ُه َو ا ْبنِي‪َ ،‬وإِ ِّني َك َّل ْم ُت ُه َف َأ َبى َأنْ ُي َك ِّل َمنِي‪ُ ،‬‬
‫الله َّم َفلاَ ُت ِم ْت ُه َح َّتى ُت ِر َي ُه‬
‫اعي َض ْأ ٍن َي ْأ ِوي‬ ‫«و َكانَ َر ِ‬ ‫«و َل ْو َد َع ْت َع َل ْي ِه َأنْ ُي ْفت ََن َل ُفتِ َن» َق َال‪َ :‬‬
‫ات» َق َال‪َ :‬‬ ‫وم َس ِ‬ ‫ا ْل ُم ِ‬
‫اعي‪َ ،‬ف َح َم َل ْت َف َو َل َد ْت‬ ‫َ‬
‫ت ا ْم َرأ ٌة ِم َن ا ْل َق ْر َي ِة َف َو َق َع َع َل ْي َها َّ‬
‫الر ِ‬ ‫إِ َلى َد ْي ِر ِه» َق َال‪َ « :‬ف َخ َر َج ِ‬
‫ب هَ َذا الدَّ ْي ِر» َق َال‪َ « :‬ف َج ُاءوا بِ ُفئ ِ‬
‫ُوس ِه ْم‬ ‫اح ِ‬ ‫يل َل َها‪َ :‬ما هَ َذا؟ َق َال ْت‪ِ :‬م ْن َص ِ‬ ‫ُغلاَ ًما‪َ ،‬ف ِق َ‬
‫احي ِه ْم‪َ ،‬فنَا َد ْو ُه‪َ ،‬ف َصا َد ُفو ُه ُي َص ِّلي‪َ ،‬ف َل ْم ُي َك ِّل ْم ُه ْم» َق َال‪َ « :‬ف َأ َخ ُذوا َي ْه ِد ُمونَ َد ْي َر ُه‪،‬‬ ‫َو َم َس ِ‬
‫الصبِ ِّي‬ ‫س َّ‬ ‫َف َل َّما َر َأى َذلِ َك َنزَ َل إِ َل ْي ِه ْم‪َ ،‬ف َقا ُلوا َل ُه‪َ :‬س ْل هَ ِذ ِه» َق َال‪َ « :‬ف َت َب َّس َم‪ُ ،‬ث َّم َم َس َح َر ْأ َ‬
‫الض ْأ ِن‪َ .‬ف َل َّما َس ِم ُعوا َذلِ َك ِم ْن ُه َقا ُلوا‪َ :‬ن ْبنِي َما هَ َد ْمنَا‬
‫اعي َّ‬ ‫ال‪َ :‬أبِي َر ِ‬ ‫وك؟ َق َ‬ ‫ال‪َ :‬م ْن َأ ُب َ‬ ‫َف َق َ‬
‫ال‪ :‬اَل‪َ ،‬و َل ِك ْن َأ ِعيدُ و ُه ُت َرا ًبا َك َما َكانَ ‪ُ .‬ث َّم َعلاَ ُه»(((‪.‬‬ ‫ب َوا ْل ِف َّض ِة‪َ .‬ق َ‬ ‫الذهَ ِ‬‫ِم ْن َد ْي ِر َك بِ َّ‬

‫«ل ْم َيت ََك َّل ْم‬


‫ويف رواية لمسلم َع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ع ِن النَّبِي ‪َ ‬ق َال‪َ :‬‬
‫ِّ‬
‫اح ُب ُج َر ْي ٍج‪َ ،‬و َكانَ ُج َر ْي ٌج َر ُجلاً َعابِدً ا‪،‬‬ ‫يسى ا ْب ُن َم ْر َي َم‪َ ،‬و َص ِ‬ ‫ِفي ا ْل َم ْه ِد إِ اَّل ثَلاَ َث ٌة‪ِ :‬ع َ‬
‫ال‪َ :‬يا َر ِّب‬ ‫َفات ََّخ َذ َص ْو َم َع ًة‪َ ،‬ف َكانَ ِف َيها‪َ ،‬ف َأ َت ْت ُه ُأ ُّم ُه َو ُه َو ُي َص ِّلي‪َ ،‬ف َق َال ْت‪َ :‬يا ُج َر ْي ُج! َف َق َ‬

‫((( صحيح مسلم‪ )6508( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ُأ ِّمي َو َصلاَ تِي! َف َأ ْق َب َل َع َلى َصلاَ تِ ِه‪َ ،‬فان َْص َر َف ْت‪َ ،‬ف َل َّما َكانَ ِم َن ا ْل َغ ِد َأ َت ْت ُه َو ُه َو ُي َص ِّلي‪،‬‬
‫ال‪َ :‬يا َر ِّب ُأ ِّمي َو َصلاَ تِي! َف َأ ْق َب َل َع َلى َصلاَ تِ ِه‪َ ،‬فان َْص َر َف ْت‪َ ،‬ف َل َّما‬ ‫َف َق َال ْت‪َ :‬يا ُج َر ْي ُج! َف َق َ‬
‫ال‪َ :‬أ ْي َر ِّب ُأ ِّمي َو َصلاَ تِي! َف َأ ْق َب َل‬ ‫َكانَ ِم َن ا ْل َغ ِد َأ َت ْت ُه َو ُه َو ُي َص ِّلي َف َق َال ْت‪َ :‬يا ُج َر ْي ُج! َف َق َ‬
‫ات‪َ .‬فت ََذ َاك َر َبنُو‬ ‫وه ا ْل ُم ِ‬
‫وم َس ِ‬ ‫الله َّم اَل ُت ِم ْت ُه َح َّتى َي ْن ُظ َر إِ َلى ُو ُج ِ‬ ‫َع َلى َصلاَ تِ ِه‪َ ،‬ف َق َال ْت‪ُ :‬‬
‫ت ا ْم َر َأ ٌة َب ِغ ٌّي ُيت ََم َّث ُل بِ ُح ْسنِ َها‪َ ،‬ف َق َال ْت‪ :‬إِنْ ِش ْئت ُْم أَ َل ْفتِ َن َّن ُه‬
‫يل ُج َر ْي ًجا َو ِع َبا َد َته ُ‪َ ،‬و َكا َن ِ‬
‫إِ ْس َرائِ َ‬
‫اع ًيا َكانَ َي ْأ ِوي إِ َلى َص ْو َم َعتِ ِه‪،‬‬ ‫َل ُك ْم!» َق َال‪َ « :‬فت ََع َّر َض ْت َل ُه َف َل ْم َي ْلت َِف ْت إِ َل ْي َها‪َ ،‬ف َأ َت ْت َر ِ‬
‫َف َأ ْم َك َن ْت ُه ِم ْن َن ْف ِس َها‪َ ،‬ف َو َق َع َع َل ْي َها َف َح َم َل ْت‪َ ،‬ف َل َّما َو َل َد ْت َق َال ْت‪ُ :‬ه َو ِم ْن ُج َر ْي ٍج‪َ .‬ف َأ َت ْو ُه‬
‫ال‪َ :‬ما َش ْأ ُن ُك ْم؟ َقا ُلوا‪َ :‬ز َن ْي َت بِ َه ِذ ِه‬‫اس َتنْزَ ُلو ُه َوهَ َد ُموا َص ْو َم َع َت ُه َو َج َع ُلوا َي ْض ِر ُبو َن ُه‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫َف ْ‬
‫ال‪َ :‬د ُعونِي َح َّتى ُأ َص ِّل َي‪.‬‬ ‫الصبِ ُّي؟ َف َج ُاءوا بِ ِه‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫ال‪َ :‬أ ْي َن َّ‬ ‫ا ْل َب ِغ ِّي َف َو َل َد ْت ِم ْن َك! َف َق َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫وك؟ َق َ‬ ‫ال‪َ :‬يا ُغلاَ ُم َم ْن َأ ُب َ‬ ‫الصبِ َّي َف َط َع َن ِفي َب ْطنِ ِه َو َق َ‬ ‫َف َص َّلى‪َ ،‬ف َل َّما ان َْص َر َف َأ َتى َّ‬
‫ال‪َ :‬ف َأ ْق َب ُلوا َع َلى ُج َر ْي ٍج ُي َق ِّب ُلو َن ُه َو َيت ََم َّس ُحونَ بِ ِه‪َ ،‬و َقا ُلوا‪َ :‬ن ْبنِي َل َك‬ ‫اعي‪َ .‬ق َ‬ ‫الر ِ‬ ‫ُفلاَ نٌ َّ‬
‫ين َك َما َكا َن ْت‪َ .‬ف َف َع ُلوا‪.‬‬ ‫ال‪ :‬اَل‪َ ،‬أ ِعيدُ وهَ ا ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ب‪َ .‬ق َ‬‫َص ْو َم َعت ََك ِم ْن َذهَ ٍ‬

‫ار ٍة َح َسن ٍَة‪،‬‬ ‫اك ٌب َع َلى َدا َّب ٍة َفا ِرهَ ٍة َو َش َ‬ ‫َو َب ْينَا َصبِ ٌّي َي ْر َض ُع ِم ْن ُأ ِّم ِه‪َ ،‬ف َم َّر َر ُج ٌل َر ِ‬
‫الله َّم‬
‫ال‪ُ :‬‬ ‫اج َعلِ ا ْبنِي ِمث َْل هَ َذا! َفت ََر َك ال َّثدْ َي َو َأ ْق َب َل إِ َل ْي ِه‪َ ،‬فن ََظ َر إِ َل ْي ِه َف َق َ‬ ‫َف َق َال ْت ُأ ُّم ُه‪ُ :‬‬
‫الله َّم ْ‬
‫ول اهللِ‬ ‫اَل َت ْج َع ْلنِي ِمث َْل ُه! ُث َّم َأ ْق َب َل َع َلى َثدْ يِ ِه َف َج َع َل َير َت ِض ُع» َق َال‪َ :‬ف َك َأنِّي َأ ْن ُظر إِ َلى رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫الس َّبا َب ِة فِي َف ِم ِه‪َ ،‬ف َج َع َل َي ُم ُّص َها‪َ .‬ق َال‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪َ ‬و ُه َو َي ْحكي ْارت َضا َع ُه بِإِ ْص َبعه َّ‬
‫ول‪َ :‬ح ْسبِ َي الل ُه‬ ‫ت! َو ِه َي َت ُق ُ‬ ‫ت! َس َر ْق ِ‬ ‫«و َم ُّروا بِ َجا ِر َي ٍة َو ُه ْم َي ْض ِر ُبو َن َها َو َي ُقو ُلونَ ‪َ :‬ز َن ْي ِ‬ ‫َ‬
‫اع َو َن َظ َر إِ َل ْي َها‬ ‫الر َض َ‬ ‫الله َّم اَل َت ْج َعلِ ا ْبنِي ِمث َْل َها! َفت ََر َك َّ‬ ‫يل! َف َق َال ْت ُأ ُّم ُه‪ُ :‬‬ ‫َونِ ْع َم ا ْل َو ِك ُ‬
‫يث‪َ ،‬ف َق َال ْت‪َ :‬ح ْل َقى! َم َّر َر ُج ٌل‬ ‫اج َعا ا ْل َح ِد َ‬
‫َاك َت َر َ‬ ‫اج َع ْلنِي ِمث َْل َها! َف ُهن َ‬ ‫الله َّم ْ‬‫ال‪ُ :‬‬ ‫َف َق َ‬
‫الله َّم اَل َت ْج َع ْلنِي ِمث َْل ُه! َو َم ُّروا‬
‫اج َعلِ ا ْبنِي ِمث َْل ُه! َف ُق ْل َت‪ُ :‬‬ ‫َح َس ُن ا ْل َه ْيئ َِة َف ُق ْل ُت‪ُ :‬‬
‫الله َّم ْ‬
‫الله َّم اَل َت ْج َعلِ ا ْبنِي‬‫ت! َف ُق ْل ُت‪ُ :‬‬ ‫ت‪َ ،‬س َر ْق ِ‬ ‫بِ َه ِذ ِه أْ َ‬
‫ال َم ِة َو ُه ْم َي ْض ِر ُبو َن َها َو َي ُقو ُلونَ ‪َ :‬ز َن ْي ِ‬

‫‪55‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫الله َّم اَل‬


‫ارا‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‪ُ :‬‬ ‫الر ُج َل َكانَ َج َّب ً‬ ‫اك َّ‬ ‫ال‪ :‬إِنَّ َذ َ‬ ‫اج َع ْلنِي ِمث َْل َها! َق َ‬ ‫ِمث َْل َها! َف ُق ْل َت‪ُ :‬‬
‫الله َّم ْ‬
‫ت َو َل ْم َت ْس ِر ْق‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‪:‬‬ ‫ت َو َل ْم َت ْز ِن‪َ ،‬و َس َر ْق ِ‬‫َت ْج َع ْلنِي ِمث َْل ُه! َوإِنَّ هَ ِذ ِه َي ُقو ُلونَ َل َها‪َ :‬ز َن ْي ِ‬
‫اج َع ْلنِي ِمث َْل َها»(((‪.‬‬
‫الله َّم ْ‬
‫ُ‬
‫أغلب الناس يستشهد بحديث جريج عندما يتكلمون عن بر الوالدين‬
‫واإلحسان إليهما والحذر من عقوقهما‪ ،‬ولهم الحق يف هذا االستشهاد‪ ،‬لكن‬
‫البعض يغفل عن فائدة عظيمة يف هذا الحديث‪ ،‬فما هذه الفائدة؟‬
‫هذه الفائدة نراها يف حسن ظن جريج بربه ‪ ‬وكأنه يعلم أن الصبي‬
‫يعرف من هو أبوه‪ ،‬ويعلم أنه سيتكلم وهو يف المهد‪ ،‬حيث أتى جريج وسأل‬
‫الصبي الذي عمره يوم أو يومان بكل ثقة ويقين بربه من أنه سيجد الجواب‬
‫عند هذا المولود‪ ،‬وبالفعل وأمام دهشة الجميع أجابه الصبي إجابة ّبرأته مما‬
‫اهتموه به‪.‬‬
‫جريجا يتيقن‬
‫ً‬ ‫وحى إليه‪ ،‬فما الذي جعل‬
‫جريجا ليس بنبي ل ُي َ‬
‫ً‬ ‫نحن نعلم أن‬
‫باإلجابة! السيما أن السؤال كان ارتجال ًّيا أمام الناس‪ ،‬وقد يقع يف حرج كبير‬
‫أمامهم لو لم يجبه الطفل‪.‬‬
‫جريجا متيقنًا من اإلجابة‬
‫ً‬ ‫وللجواب على هذا التساؤل نقول‪ :‬الذي جعل‬
‫هو رصيده مع اهلل يف دوام العبادة والطاعة والشكر له‪ ،‬وأنه لم يكن ممن يطعم‬
‫المعاصي‪ ،‬فحاز على ٍ‬
‫طاقة مثل طاقة من لم يطعم من النهر من قوم طالوت‪.‬‬
‫وقد يكون جرب نفسه مع اهلل‪ ،‬وعلم أنه مجاب الدعوة‪ ،‬فظنه باهلل أكرب مما‬
‫نتصور نحن‪ ،‬ودليلنا على ذلك كله هو‪:‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ )6509( :‬ط الرسالة‪ ،‬ورواه البخاري‪ )3436( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫  اً‬
‫أول‪ :‬رصيده مع اهلل يف دوام العبادة هلل‪:‬‬
‫فقد كان جريج دائم الصالة هلل ‪ ‬حتى أنه لم ُي ِر ْد أن َيتلهى عن‬
‫أيضا عبادة وطاعة هلل‪ ،‬لكنه اجتهد‬
‫الصالة ولو للحظات مع أمه‪ ،‬مع أن إجابته ألمه ً‬
‫يف اتخاذ القرار بين أمه أو صالته‪ ،‬فاختار اجتها ًدا صالته واستمر يف الصالة‪ ،‬فهو‬
‫يعترب أن لحظ ًة يبتعدُ فيها عن الصالة وعن الوقوف أمام اهلل ‪ ‬خسارة‬
‫كبيرة بالنسبة له؛ ألنه يتلذذ بكل ساعة وكل دقيقة وكل ثانية يكون فيها واق ًفا‬
‫أمام اهلل‪.‬‬
‫وهذا التلذذ يذكرنا بالحديث الذي رواه أبو داود عن سالم بن أبي الجعد‪:‬‬
‫الصلاَ َة َأ ِر ْحنَا بِ َها»((( فقرة عين النبي‬
‫أن النبي ‪ ‬قال‪َ « :‬يا بِلاَ ُل َأ ِق ِم َّ‬
‫‪ُ ‬ج ِع َل ْت يف الصالة‪ .‬وهذا هو دأب العارفين بلذة الصالة‪ ،‬نسأل اهلل‬
‫أن يبلغنا منازلهم‪.‬‬

‫ ثان ًيا‪ :‬رصيده مع اهلل يف كونه ممن مل يطعم املعاصي‪:‬‬


‫لتلهيه عن العبادة الكربى‬
‫فجريج لم َيدَ ْع عبادة من العبادات‪ ،‬وهي طاعة أمه‪ِّ ،‬‬
‫وهي الصالة‪ ،‬فكيف بمعصية؟ فرت ُْك المعصية بالنسبة له من باب أولى‪ .‬وهذا‬
‫دليل على أنه ال يطعم المعاصي أبدً ا‪.‬‬
‫وأمه تعرف هذا تمام المعرفة‪ ،‬فهي تعلم أنه ال يوجد شيء من حطام الدنيا‬
‫يهتم به جريج لتدعو عليه به‪ ،‬فعندما غضبت دعت عليه بشيء هو عنده عظيم‪،‬‬
‫وهو النظر إلى المومسات‪ ،‬ولذلك عندما رأى المومس تبسم ألنه تذكر دعوة‬

‫(( ( سنن أبي داود‪ )4985( :‬وصححه األلباين‪ ،‬وقال الزيلعي يف تخريج الكشاف (‪ :)62/1‬إسناده سند‬
‫الصحيحين‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫أمه‪ ،‬وعرف أن اهلل استجاب لها‪ ،‬فعلم بذلك أنه أخطأ يف اجتهاده‪ ،‬فصلى ركعتين‬
‫استغفر اهلل ودعاه هبما‪ ،‬فغفر اهلل له واستجاب لدعوته‪.‬‬
‫فهذا هو جريج ال يرضى لنفسه النظر ولو للحظة واحدة للمومسات‪ ،‬ولو‬
‫مضطرا للدفاع عن نفسه‪ ،‬كما هو الحال عندما ادعت عليه تلك المرأة‪ ،‬وهذا‬
‫ًّ‬ ‫كان‬
‫كله ألنه ر ّبى نفسه على أن يكون ممن لم يطعم المعاصي‪.‬‬
‫فأين نحن من جريج يف ذلك؟‬

‫ الثمرة اليت جناها جريج من هذا العمل‪:‬‬


‫لقد كان عمل جريج مخف ًّيا عن الناس فال ي ّطلِع على اجتهاده يف العبادة‪ ،‬وال‬
‫يعلم بمدى إخالصه وابتعاده عن المعاصي إال اهلل‪ ،‬فأظهر اهلل ذلك للناس وبين‬
‫اهلل لهم رضاه عن جريج حتى وصل إلى مرحلة ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﴾((( فقد وصل‬
‫إلى مرحلة التشبع من الرضا فرضي عن اهلل‪ ،‬حتى ال يرى فوق عطاء اهلل عطاء وال‬
‫فوق رضا اهلل رضا ﴿ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾(((‪.‬‬
‫جريجا‬
‫ً‬ ‫وألن اهلل وعد من كانت هذه صفاته أنه سوف يرضى‪ ،‬فقد أرضى اهلل‬
‫عندما طلب شي ًئا من الخوارق‪ ،‬حيث استجاب له وأنطق الصبي شاهدً ا برباءته‬
‫أمام الناس‪.‬‬
‫لذلك فليس بغريب أن يرفض جريج إعادة بناء صومعته من ذهب كما طلب‬
‫الناس؛ ألنه يعلم علم اليقين أنه لو طلب من اهلل أن يقلب صومعته واألرض التي‬
‫حولها ذه ًبا ألجابه اهلل لذلك بإذنه ‪ ‬وهو القادر سبحانه على ذلك‪،‬‬

‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآلية ‪.21‬‬


‫(( ( سورة المائدة‪ :‬آية ‪.119‬‬

‫‪58‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫فجريج يرى يف نفسه أنه أغنى الناس باهلل ‪ ‬الذي وعده ووعد األتقى‬
‫بأنه سوف يرضى‪.‬‬
‫هذه سنة اهلل يف خلقه إلى يوم القيامة‪ ،‬وهذه سنته فيمن لم يطعم المعاصي‪،‬‬
‫يغنيه اهلل ‪ ‬يف الدنيا حتى ال يكون بحاجة ألحد إال هلل ‪ ‬ويف‬
‫اآلخرة يفوز بجنات الخلد‪ ،‬وقد طمأنه اهلل يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭡ‬
‫ﭢﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾(((‪.‬‬

‫***‬

‫(( ( سورة الفجر‪.30-27:‬‬

‫‪59‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬أبو بكر الصديق ‪L ‬‬


‫ درجة األتقى‪:‬‬
‫إن أفضل قدوة بعد النبي محمد ‪ ‬ممن ال يطعم المعاصي هو‬
‫أبو بكر الصديق ‪ ‬الذي شهد له اهلل بأنه األتقى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭚ‬
‫ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾(((‪.‬‬
‫يقول ابن كثير يف تفسير هذه اآليات‪ :‬قال اهلل تعالى ﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﴾((( أي‪:‬‬
‫ولسوف يرضى من اتصف هبذه الصفات‪ .‬وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن‬
‫هذه اآليات نزلت يف أبي بكر الصديق ‪ ‬حتى إن بعضهم حكى اإلجماع‬
‫من المفسرين على ذلك‪ ،‬وال شك أنه داخل فيها وأولى األمة بعمومها؛ فإن لفظها‬
‫لفظ العموم‪ ،‬وهو قوله تعالى ﴿ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﴾((( ولكنه مقدم األمة وسابقهم يف جميع هذه األوصاف‬
‫كريما جوا ًدا بذالاً ألمواله يف‬
‫ً‬ ‫وسائر األوصاف الحميدة‪ ،‬فإنه كان صدِّ ي ًقا تق ًّيا‬
‫طاعة مواله ونصرة رسول اهلل ‪ .(((‬انتهى كالمه‪.‬‬
‫وهذه شهادة من اهلل ألبي بكر الصديق على أنه األتقى‪ ،‬وتقواه التي وصل هبا‬
‫لدرجة األتقى تعني أنه ممن لم يطعم المعاصي‪.‬‬

‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-19‬‬


‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآلية ‪.21‬‬
‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-17‬‬
‫((( تفسير بن كثير‪ ،‬ط العلمية‪.)409/8( :‬‬

‫‪60‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ومن صور تقواه وورعه ‪ ‬ما رواه البخاري يف «صحيحه»‏عن‏‏عائشة‬


‫َان َأ ُبو َب ْك ٍر َي ْأك ُُل مِ ْن‬‫اج‪َ ،‬وك َ‬ ‫َان لأِ َبِي َب ْك ٍر ُغالَ ٌم ُي ْخ ِر ُج َل ُه َ‬
‫الخ َر َ‬ ‫‏ ‏‪ ‬‏ ‏قالت‪ :‬ك َ‬
‫اج ِه‪َ ،‬ف َجا َء َي ْو ًما بِ َش ْي ٍء َف َأك ََل مِنْ ُه َأ ُبو َب ْك ٍر‪َ ،‬ف َق َال َل ُه ال ُغالَ ُم‪َ :‬أ َتدْ ِري َما َه َذا؟ َف َق َال‬ ‫َخر ِ‬
‫َ‬
‫اهلِ َّي ِة‪َ ،‬و َما ُأ ْح ِس ُن الكِ َها َنةَ‪ ،‬إِلاَّ‬
‫ان فِي الج ِ‬ ‫َأبو ب ْك ٍر‪ :‬وما ُهو؟ َق َال‪ُ :‬كن ُْت َت َكهن ُْت لإِ ِ نْس ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ َ‬
‫َأنِّي َخدَ ْع ُت ُه‪َ ،‬ف َل ِق َينِي َف َأ ْع َطانِي بِ َذل ِ َك‪َ ،‬ف َه َذا ا َّل ِذي َأ َك ْل َت مِنْ ُه‪َ .‬ف َأ ْد َخ َل َأ ُبو َب ْك ٍر َيدَ ُه‪،‬‬
‫َف َقا َء ك َُّل َش ْي ٍء فِي َب ْطنِه(((‪.‬‬
‫يقول ابن حجر يف فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪ :‬إن أبا بكر إنما قاء ل ِ َما‬
‫ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن‪ ،‬وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته‪،‬‬
‫والكاهن من يخرب بما سيكون عن غير دليل شرعي‪ ،‬وكان ذلك قد كثر يف الجاهلية‬
‫خصوصا قبل ظهور النبي ‪ ‬وهذا ورع من أبي بكر(((‪ .‬انتهى كالمه‪.‬‬
‫ً‬
‫و‏روى أحمد يف مسنده عن‏‏األسود بن قيس‏‏عن‏‏ربيح‏‏عن‏‏أبي سعيد الخدري‬
‫‏‏أهنم‏خرجوا مع رسول اهلل‏‏‪‬‏‏يف سفر فنزلوا رفقاء رفقة مع فالن ورفقة‬
‫مع فالن‏‪ .‬قال‪:‬‏‏فنزلت يف رفقة‏‏أبي بكر‪،‬‏‏فكان معنا أعرابي من أهل‏‏البادية‪،‬‏‏فنزلنا‬
‫بأهل بيت من‏‏األعراب‪ ،‬‏وفيهم امرأة حامل‪ ،‬فقال لها األعرابي‪ :‬أيسرك أن تلدي‬
‫ِ‬
‫ولدت غالما‪ .‬فأعطته شاةً‪ ،‬‏وسجع ‏ ‏لها ‏‏أساجيع‪ .‬‏قال‪:‬‬ ‫غالما؟ إن أعطيتني شا ًة‬
‫فذبح الشاة‪ ،‬فلما جلس القوم يأكلون قال رجل‪ :‬أتدرون ما هذه الشاة؟ فأخربهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرأيت‏‏أبا بكر‏‏مترب ًّيا‏‏مستنبلاً ‏‏متقي ًئا(((‪.‬‬
‫هذا هو ورعه ‪ ‬يف ابتعاده عن كل ما يغضب اهلل ولو كان له فيه عذر‪،‬‬
‫أي معصية‪ ،‬وهبذا الورع نال درجة األتقى من اهلل ‪.‬‬
‫فإنه يأبى أن يذوق َّ‬

‫(( ( صحيح البخاري‪ )3842( :‬ط الرسالة‪.‬‬


‫((( فتح الباري البن حجر‪ -‬دار المعرفة‪.)154/7( :‬‬
‫(( ( مسند أحمد‪ ،)11268( :‬وقال الهيثمي يف مجمع الزوائد‪ :‬رجاله ثقات‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ درجة ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﴾(((‪:‬‬
‫أما عن حرصه على األعمال التي ترضي اهلل‪ ،‬فإن كل عمل يعمله أبو بكر‬
‫الصديق إنما هو عمل خالص لوجه ربه األعلى‪ ،‬ال يشوبه شائبة‪ ،‬فال يفعل ذلك‬
‫بيد له عنده‪ ،‬حتى وصل إلى منزلة ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬ ‫ألحد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫مجازا ًة‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾((( فال أحدَ من المخلوقين له نعمة يجازيه‬
‫عليها أبو بكر‪ ،‬بل يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه األعلى وطلب رضاه‪ ،‬ولذلك عندما‬
‫‪ ‬وعده بأنه سوف يرضى‪.‬‬
‫فما أعظمها من منزلة‪ ،‬منزلة ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﴾((( بحيث تكون عنوانا ّ‬
‫لكل عمل يعمله ابن آدم ليصل إلى رضا اهلل‬
‫ثم يشمله قول اهلل‪ ﴿ :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﴾(((‪.‬‬
‫ومن ّ‬
‫وألن أبا بكر ُيخفي أعماله ويجعلها خالصة لوجه اهلل حقا‪ ،‬فإن اهلل يظهرها‬
‫للناس فتكون معلومة لكل جيل إلى يوم القيامة‪ ،‬ويعلمها من لم يكن قد عاش يف‬
‫عصر أبي بكر الصديق‪.‬‬
‫ومن هذه األعمال ما جاء يف صحيح مسلم أن أبا هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫‪َ « :‬م ْن َأ ْص َب َح ِم ْن ُك ُم ا ْل َي ْو َم َصائِ ًما؟» َق َال َأ ُبو َب ْك ٍر ‪َ :‬أنَا‪َ .‬ق َال‪:‬‬
‫َاز ًة؟» َق َال َأ ُبو َب ْك ٍر ‪َ :‬أنَا‪َ .‬ق َال‪َ « :‬ف َم ْن َأ ْط َع َم ِم ْن ُك ُم‬ ‫« َف َم ْن َتبِ َع ِم ْن ُك ُم ا ْل َي ْو َم َجن َ‬
‫يضا؟»‬ ‫ا ْل َي ْو َم ِم ْس ِكينًا؟» َق َال َأ ُبو َب ْك ٍر ‪َ :‬أنَا‪َ .‬ق َال‪َ « :‬ف َم ْن َعا َد ِم ْن ُك ُم ا ْل َي ْو َم َم ِر ً‬

‫سورة الليل‪ :‬اآلية ‪.19‬‬ ‫(( (‬


‫سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-19‬‬ ‫(( (‬
‫سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.20-19‬‬ ‫(( (‬
‫سورة الليل‪ :‬اآلية ‪.21‬‬ ‫(( (‬

‫‪62‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫اجت ََم ْع َن ِفي ا ْم ِر ٍئ‬ ‫َق َال َأبو ب ْك ٍر ‪َ :‬أنَا‪َ .‬ف َق َال رس ُ ِ‬
‫ول اهلل ‪َ « :‬ما ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫إِ اَّل َد َخ َل ا ْل َج َّن َة»(((‪.‬‬
‫فكان وحده من بين الحضور الذي اجتمعت فيه هذه األعمال‪ ،‬فكيف يا ترى‬
‫يكون أبو بكر بقية يومه؟ وكيف يكون يف ليله؟‬
‫فهو لم يكن يعلم أن رسول اهلل ‪ ‬سوف يسأله‪ ،‬وإنما كان هذا‬
‫هو أسلوبه يف الحياة‪ ،‬بحيث ال يرتك أية فرصة أمامه يرى فيها زيادة يف األجر إال‬
‫استكثر من هذا األجر مبتغ ًيا وجه ربه األعلى‪ ،‬وهبذا استطاع أبو بكر أن يستويف‬
‫كل شعب اإليمان بسهولة؛ ألن اهلل سهلها عليه‪.‬‬
‫وقد أظهر اهلل ما أخفاه أبو بكر من أعمال حتى نعرف منزلة من نقتدي هبم‬
‫من الصديقين‪ ،‬وحتى يبين لنا اهلل ‪ ‬أن األعمال الصالحة ليست نظريات‬
‫ال يمكن تطبيقها‪ ،‬وإنما يوجد مؤمنون يطبقوهنا على أكمل وجه فيتنافس بذلك‬
‫المتنافسون‪.‬‬
‫وهبذا نال أبو بكر أعلى الدرجات بعد األنبياء‪ ،‬وجنى ثمار ذلك يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫ الثمرة اليت جناها أبو بكر الصديق‪:‬‬


‫أول‪ :‬إن أعظم ثمرة جناها أبو بكر الصديق الذي لم يطعم المعاصي‪ ،‬هو‬
‫اً‬
‫شهادة اهلل له بأنه األتقى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭚ ﭛ ﭜ ﴾((( وقد ذكرنا أن هذه‬
‫اآلية نزلت يف أبي بكر‪ ،‬وبذلك يكون عند اهلل هو األكرم بعد األنبياء‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫﴿ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﴾(((‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ )6182( ،)2374( :‬ط الرسالة‪.‬‬


‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآلية ‪.17‬‬
‫((( سورة الحجرات‪ :‬آية ‪.13‬‬

‫‪63‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وكذلك وعد اهلل له بأنه سوف يرضى‪ ،‬أي سوف يرضى يف الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ونحن نعلم أن هدف كل إنسان هو الرضا‪ ،‬وليس بعد الرضا شيء‪ ،‬فهني ًئا لمن قال‬
‫عنه اهلل بأنه سوف يرضى؛ ألن وعد اهلل حق‪.‬‬
‫ولك أن تتخيل مدى رضا إنسان قد بشره الرسول ‪ ‬بالجنة‪ ،‬فأبو‬
‫بكر قد بشره الرسول ‪ ‬أكثر من مرة بأنه من أهل الجنة‪ ،‬بل إنه يدخل‬
‫الجنة من جميع أبواهبا الثمانية‪.‬‬
‫ول اهللِ ‪َ ‬ق َال‪َ « :‬م ْن َأ ْن َف َق َز ْو َج ْي ِن ِفي َسبِيلِ‬ ‫َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة َأ َّن َر ُس َ‬
‫اب‬ ‫الصلاَ ِة ُد ِع َي ِم ْن َب ِ‬ ‫ود َي ِفي ا ْل َج َّن ِة‪َ :‬يا َع ْب َد اهللِ‪ ،‬هَ َذا َخ ْي ٌر‪َ ،‬ف َم ْن َكانَ ِم ْن َأ ْهلِ َّ‬ ‫اهللِ ُن ِ‬
‫اد‪َ ،‬و َم ْن َكانَ ِم ْن َأ ْهلِ َّ‬
‫الص َد َق ِة‬ ‫الصلاَ ِة‪َ ،‬و َم ْن َكانَ ِم ْن َأ ْهلِ ا ْل ِج َه ِ‬
‫اد ُد ِع َي ِم ْن َب ِ‬
‫اب ا ْل ِج َه ِ‬ ‫َّ‬
‫ان» َق َال َأ ُبو َب ْك ٍر‬
‫الر َّي ِ‬
‫اب َّ‬ ‫الص َد َق ِة‪َ ،‬و َم ْن َكانَ ِم ْن َأ ْهلِ ِّ‬
‫الص َيا ِم ُد ِع َي ِم ْن َب ِ‬ ‫اب َّ‬ ‫ُد ِع َي ِم ْن َب ِ‬
‫ور ٍة‪َ ،‬ف َه ْل‬ ‫ول اهللِ‪ ،‬ما َع َلى َأح ٍد يدْ َعى مِن تِ ْل َك الأْ َبو ِ ِ‬ ‫الصدِّ ُيق‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫اب م ْن َض ُر َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ول اهللِ ‪َ « :‬ن َع ْم‪َ ،‬و َأ ْر ُجو‬ ‫اب ُك ِّل َها؟ َق َال َر ُس ُ‬‫ُيدْ َعى َأ َحدٌ مِ ْن تِ ْل َك الأْ َ ْب َو ِ‬
‫َأنْ َت ُكونَ ِم ْن ُه ْم»(((‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬إنه أحب الناس من الرجال للرسول ‪.‬‬
‫ش َذ ِ‬
‫ات‬ ‫اص ‪َ ‬أ َّن النَّبِي ‪َ ‬ب َع َث ُه َع َلى َج ْي ِ‬ ‫عن َع ْم ِرو ْب ِن ال َع ِ‬
‫َّ‬
‫«عائِ َش ُة» َف ُق ْل ُت‪ :‬مِ َن الر َج ِ‬
‫ال؟‬ ‫ب إِ َل ْي َك؟ َق َال‪َ :‬‬ ‫السالَ ِسلِ‪َ ،‬ف َأ َت ْي ُت ُه َف ُق ْل ُت‪َ :‬أ ُّي الن ِ‬
‫َّاس َأ َح ُّ‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫اب» َف َعدَّ ِر َجال(((‪.‬‬ ‫الخ َّط ِ‬
‫«أ ُبوهَ ا» ُق ْل ُت‪ُ :‬ث َّم َم ْن؟ َق َال‪ُ « :‬ث َّم ُع َم ُر ْب ُن َ‬ ‫َف َق َال‪َ :‬‬

‫والرسول ‪ ‬ال يحب أحدً ا إال هلل‪ ،‬ودرجة حبه للشخص إنما هي‬
‫بدرجة إيمان هذا الشخص‪ ،‬فهو ‪ ‬يتعبد اهلل يف حبه للمؤمنين‪ ،‬ألن‬

‫(( ( أخرجه مسلم (رقم ‪.)1027‬‬


‫(( ( البخاري‪ )3662( :‬ط الرسالة وسلم‪ )6177( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ُخلقه القرآن‪ ،‬والقرآن يقول‪﴿ :‬ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﴾((( وإذا كان أبو بكر‬
‫الصديق هو أحب الرجال للرسول ‪ ‬فهذا يعني أن أبا بكر هو أتقى‬
‫الصحابة وأعالهم إيمانًا‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬ال عجب من كانت هذه صفاته أن يكون من أهل الدرجات العال‬
‫بشهادة رسول اهلل ‪ ‬له‪.‬‬
‫ول اهَّللِ ‪« :‬إِنَّ َأ ْه َل‬ ‫يد َق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬ ‫فقد روى الرتمذي َعن َأبِي س ِع ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اء‪َ ،‬وإِنَّ َأ َبا‬ ‫ُ‬ ‫العلاَ َل َي َر ُاه ْم َم ْن َت ْحت َُه ْم َك َما َت َر ْونَ ال َّن ْج َم َّ‬
‫الطالِ َع ِفي أ ُف ِق َّ‬
‫الس َم ِ‬ ‫ات ُ‬ ‫الدَّ َر َج ِ‬
‫َب ْك ٍر َو ُع َم َر ِم ْن ُه ْم َو َأن َْع َما»‪.‬‬
‫الخدْ ِر ِّي ‪َ ‬ع ِن النَّبِ ِّي‬ ‫يد ُ‬ ‫وقد رواه البخاري ومسلم َعن َأبِي س ِع ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف ِم ْن َف ْو ِق ِه ْم‪َ ،‬ك َما َيت ََر َاء ْونَ‬ ‫الج َّن ِة َيت ََر َاء ْونَ َأ ْه َل ُ‬
‫الغ َر ِ‬ ‫‪َ ‬ق َال‪« :‬إِنَّ َأ ْه َل َ‬
‫ب‪ ،‬لِ َت َف ُ‬ ‫الم ْش ِر ِق َأ ِو َ‬
‫األ ُف ِق‪ِ ،‬م َن َ‬ ‫الغابِر ِفي ُ‬ ‫َ‬
‫اضلِ َما َب ْين َُه ْم» َقا ُلوا‬ ‫المغْ ِر ِ‬ ‫الك ْو َك َب الدُّ ِّر َّي َ َ‬
‫ال َي ْب ُل ُغ َها َغ ْي ُر ُه ْم؟ َق َال‪َ « :‬ب َلى َوا َّل ِذي َن ْف ِسي بِ َي ِد ِه‪،‬‬
‫اء َ‬ ‫َ‬ ‫ول اهَّللِ تِ ْل َك َمن ِ‬
‫َاز ُل األَ ْنبِي ِ‬ ‫َيا َر ُس َ‬
‫الم ْر َس ِل َ‬
‫ين»(((‪.‬‬ ‫ال آ َمنُوا بِال َّل ِه َو َصدَّ ُقوا ُ‬
‫ِر َج ٌ‬

‫راب ًعا‪ :‬إن اهلل أكرمه بأن يكون هو أول خليفة يخلف رسول اهلل ‪ ‬على‬
‫المسلمين‪ ،‬فكانت خالفته أول ُسنّة تسن للمسلمين يف أ ّمة محمد ‪‬‬
‫لمن يحكمهم بعد رسول اهلل ‪.‬‬
‫قدرا من اهلل قدّ ره للمسلمين‪ ،‬وقد علم ذلك رسول‬
‫وقد كان اختياره ‪ً ‬‬
‫اهلل ‪ ‬حيث قال‪ :‬يأبى اهلل والمؤمنون إال أبا بكر‪.‬‬

‫((( سورة الحجرات‪ :‬آية ‪.13‬‬


‫(( ( البخاري‪ )3256( :‬ط الرسالة‪ ،‬ومسلم (‪ )7144‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ول اهللِ ‪ ‬فِي َم َر ِض ِه‪« :‬ا ْد ِعي لِي َأ َبا‬ ‫فعن َعائِ َش َة َقا َل ْت‪َ :‬ق َال لِي َر ُس ُ‬
‫ول َقائِ ٌل‪َ :‬أ َنا‬
‫اف َأنْ َيت ََم َّنى ُمت ََم ٍّن َو َي ُق ُ‬
‫ُب ِكتَا ًبا‪َ ،‬فإِ ِّني َأ َخ ُ‬ ‫اك‪َ ،‬ح َّتى َأ ْكت َ‬ ‫اك‪َ ،‬و َأ َخ ِ‬ ‫َب ْك ٍر َأ َب ِ‬
‫َأ ْو َلى! َو َي ْأ َبى الل ُه َوا ْل ُمؤْ ِم ُنونَ إِ اَّل َأ َبا َب ْك ٍر»(((‪.‬‬
‫فالرسول ‪ ‬ال يعمل أي عمل إال ويتعبد اهلل هبذا العمل ألنه يطبق‬
‫(((‬
‫قول اهلل ‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﴾‬
‫ولذلك غضب ‪ ‬وهو على فراش المرض إال أن يكون أبو بكر الصديق‬
‫يرض أن يكون أبو بكر مأمو ًما‪.‬‬ ‫هو اإلمام يف الصالة‪ ،‬ولم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فعن عائِ َش َة ُأم المؤمِنِين َأ َّن رس َ ِ‬
‫«م ُروا‬‫ول اهَّلل ‪َ ‬ق َال في َم َر ِضه‪ُ :‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ِّ ُ ْ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫اس» َقا َل ْت َعائِ َشةُ‪ُ :‬ق ْل ُت‪ :‬إِ َّن َأ َبا َب ْك ٍر إِ َذا َقا َم فِي َم َقامِ َك َل ْم‬ ‫َأ َبا َب ْك ٍر ُي َص ِّلي بِال َّن ِ‬
‫«م ُروا َأ َبا َب ْك ٍر َف ْل ُي َص ِّل‬ ‫اء‪َ ،‬ف ُم ْر ُع َم َر َف ْل ُي َص ِّل لِلن ِ‬ ‫يس ِم ِع النَّاس مِن الب َك ِ‬
‫َّاس! َف َق َال‪ُ :‬‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُْ‬
‫اس» َف َقا َل ْت َعائِ َشةُ‪َ :‬ف ُق ْل ُت ل ِ َح ْف َصةَ‪ُ :‬قولِي إِ َّن َأ َبا َب ْك ٍر إِ َذا َقا َم فِي َم َقامِ َك َل ْم‬ ‫بِال َّن ِ‬
‫ول اهَّللِ‬
‫َّاس! َف َف َع َل ْت َح ْف َصةُ‪َ ،‬ف َق َال َر ُس ُ‬ ‫اء‪َ ،‬ف ُم ْر ُع َم َر َف ْل ُي َص ِّل بِالن ِ‬ ‫يس ِم ِع النَّاس مِن الب َك ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ُْ‬
‫اس» َف َقا َل ْت‬ ‫وس َف‪ُ ،‬م ُروا َأ َبا َب ْك ٍر َف ْل ُي َص ِّل لِل َّن ِ‬ ‫اح ُب ُي ُ‬ ‫‪« :‬إِ َّن ُك َّن أَ َل ْنت َُّن َص َو ِ‬
‫يب مِن ِْك َخ ْي ًرا(((‪.‬‬ ‫لأِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َح ْف َص ُة ل َعائ َشةَ‪َ :‬ما ُكن ُْت ُص َ‬
‫فأي فضل ألبي بكر أفضل من أن يأبى اهلل والمؤمنون أن يكون خليفة رسول‬
‫اهلل غير أبي بكر الصديق ‪ !‬ومن يرضى غير ذلك بعد أن سمع كالم الرسول‬
‫‪ !‬فليس من المؤمنين الذين ذكرهم الرسول ‪ ‬إهنم يأبون‬
‫وس ّمي من‬ ‫فس ّمي أبو ٍ‬
‫بكر خليفة رسول اهلل ‪ُ ‬‬ ‫إال أن يكون أبا بكر‪ُ ،‬‬
‫جاء بعده بخليفة خليفة رسول اهلل ‪.‬‬

‫((( مسلم‪ ) 2387( :‬ط الرسالة‪.‬‬


‫((( سورة األنعام‪.162 :‬‬
‫(( ( البخاري‪ )716( ،)679( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫خامسا‪ :‬ومن الثمار التي جناها أبو بكر الصديق أن اهلل أكرمه بكرامات ومن‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫الر ْح َم ِن ْب ِن َأبِي َب ْك ٍر َّ‬ ‫ِ‬
‫الص َّفة كَانُوا ُأن ً‬
‫َاسا‬ ‫أن َأ ْص َح َ‬
‫اب ُّ‬ ‫هذه الكرامات ما رواه َع ْبد َّ‬
‫ث‪،‬‬ ‫ُف َق َرا َء َو َأ َّن النَّبِي ‪َ ‬ق َال‪َ « :‬م ْن َكانَ ِع ْن َد ُه َط َع ُام ا ْثن َْي ِن َف ْل َي ْذهَ ْب بِ َثالِ ٍ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫س» َو َأ َّن َأ َبا َب ْك ٍر َجا َء بِ َثالَ َثة‪َ ،‬فا ْن َط َل َق النَّبِ ُّي ‪‬‬ ‫ام ٌس َأ ْو َس ِ‬ ‫َوإِنْ َأ ْر َب ٌع َف َخ ِ‬
‫اد ٌ‬
‫ادم ‪ -‬بينَنَا وبين بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ت‬ ‫بِ َع َش َرة‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف ُه َو َأنَا َو َأبِي َو ُأ ِّمي ‪َ -‬فالَ َأ ْد ِري َق َال‪َ :‬وا ْم َر َأتي َو َخ ٌ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ‬
‫الع َشا ُء‪،‬‬‫ت ِ‬ ‫َأبِي ب ْك ٍر‪ ،‬وإِ َّن َأبا ب ْك ٍر َتع َّشى ِعنْدَ النَّبِي ‪ُ ‬ثم َلبِ َث حي ُث ص ِّلي ِ‬
‫َْ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ُث َّم َر َج َع‪َ ،‬ف َلبِ َث َحتَّى َت َع َّشى النَّبِ ُّي ‪َ ‬ف َجا َء َب ْعدَ َما َم َضى مِ َن ال َّل ْي ِل َما َشا َء‬
‫يه ْم؟ َقا َل ْت‪َ :‬أ َب ْوا‬ ‫اهَّلل‪َ ،‬قا َل ْت َل ُه ا ْم َر َأ ُت ُه‪َ :‬و َما َح َب َس َك َع ْن َأ ْض َيافِ َك؟ َق َال‪َ :‬أ َو َما َع َّش ْيتِ ِ‬ ‫ُ‬
‫اخ َت َب ْأ ُت‪َ ،‬ف َق َال َيا ُغنْ َث ُر! َف َجدَّ َع‬ ‫جي َء‪َ ،‬قدْ ُع ِر ُضوا َف َأ َب ْوا‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َذ َه ْب ُت َأنَا َف ْ‬ ‫َحتَّى َت ِ‬
‫ال َأ ْط َع ُم ُه َأ َبدً ا! َوا ْي ُم اهَّللِ‪َ ،‬ما ُكنَّا ن َْأ ُخ ُذ مِ ْن‬ ‫ال َهنِي ًئا! َف َق َال‪َ :‬واهَّللِ َ‬ ‫ب‪َ ،‬و َق َال‪ُ :‬ك ُلوا َ‬ ‫َو َس َّ‬
‫ُل ْق َم ٍة إِلاَّ َر َبا مِ ْن َأ ْس َفلِ َها َأ ْك َث ُر مِن َْها‪َ .‬ق َال‪َ :‬ي ْعنِي َحتَّى َشبِ ُعوا َو َص َار ْت َأ ْك َث َر مِ َّما كَان َْت‬
‫َق ْب َل َذل ِ َك‪َ ،‬فنَ َظ َر إِ َل ْي َها َأ ُبو َب ْك ٍر َفإِ َذا ِه َي ك ََما ِه َي َأ ْو َأ ْك َث ُر مِن َْها‪َ ،‬ف َق َال لاِ ْم َر َأتِ ِه‪َ :‬يا ُأ ْخ َت‬
‫اآلن َأ ْك َثر مِنْها َقب َل َذل ِ َك بِ َثالَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َبنِي فِ َر ٍ‬
‫ث‬ ‫ال َو ُق َّرة َع ْيني‪َ ،‬ل ِه َي َ ُ َ ْ‬ ‫اس َما َه َذا؟ َقا َل ْت‪َ :‬‬
‫ان‪َ .‬ي ْعنِي َي ِمينَ ُه‪ُ ،‬ث َّم َأك ََل‬ ‫الشي َط ِ‬ ‫ات‪َ .‬ف َأك ََل مِنْها َأبو ب ْك ٍر و َق َال‪ :‬إِنَّما ك َ ِ ِ‬
‫َان َذل َك م َن َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬
‫مر ٍ‬
‫َ َّ‬
‫مِن َْها ُل ْق َمةً‪ُ ،‬ث َّم َح َم َل َها إِ َلى النَّبِي ‪َ ‬ف َأ ْص َب َح ْت ِعنْدَ ُه‪َ ،‬وك َ‬
‫َان َب ْينَنَا َو َب ْي َن َق ْو ٍم‬ ‫ِّ‬
‫اهَّلل َأ ْع َل ُم ك َْم‬ ‫ِ‬
‫َاس‪ُ ،‬‬ ‫َع ْقدٌ ‪َ ،‬ف َم َضى األَ َج ُل‪َ ،‬ف َف َّر َقنَا ا ْثنَا َع َش َر َر ُجلاً ‪َ ،‬م َع ك ُِّل َر ُج ٍل من ُْه ْم ُأن ٌ‬
‫ون‪َ ،‬أ ْو ك ََما َق َال(((‪.‬‬ ‫َم َع ك ُِّل َر ُجلٍ‪َ ،‬ف َأ َك ُلوا مِن َْها َأ ْج َم ُع َ‬

‫هذا الحديث يبين لنا فضل أبي بكر الصديق وعلو منزلته عند اهلل يف هذه‬
‫الكرامة‪ ،‬حيث بارك اهلل يف طعامهم فربا وزاد‪ ،‬حتى أقسمت زوجته لهي اآلن أكثر‬
‫منها قبل ذلك بثالث مرات‪ ،‬فأكلوا حتى شبعوا جمي ًعا‪ ،‬ثم فرقوها على جمع من‬

‫(( ( البخاري‪ ) 602( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫الناس‪ .‬وهذه الكرامات ال تكون إال ألولياء اهلل‪.‬‬


‫سادسا‪ :‬ومن الثمار التي جناها أبو بكر أيضا شهادة الرسول ‪ ‬له‬
‫ً‬
‫بأنه صدّ يق‪.‬‬
‫عن أنس بن مالك ‪َ ‬أ َّن النَّبِ َّي ‪َ ‬ص ِعدَ ُأ ُحدً ا‪َ ،‬و َأ ُبو َب ْك ٍر َو ُع َم ُر‬
‫ان»(((‪.‬‬ ‫يد ِ‬‫يق َو َش ِه َ‬ ‫ف بِ ِه ْم‪َ ،‬ف َق َال‪« :‬ا ْث ُب ْت ُأ ُحدُ ؛ َفإِ َّن َما َع َل ْي َك َنبِ ٌّي َو ِص ِّد ٌ‬
‫ان‪َ ،‬ف َر َج َ‬
‫َو ُع ْث َم ُ‬

‫ومعلوم أن منزلة الصديقين تأيت بعد األنبياء‪ ،‬وقد أخرب اهلل أهنم من الذين‬
‫أنعم اهلل عليهم‪ ،‬وامتدح من يكون رفي ًقا لهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﴾((( وإذا قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﮉ ﮊ ﮋ﴾ فاعلم أهنم‬
‫يف أحسن رفقة‪ ،‬ألن اهلل قال ذلك‪ ،‬فأي منزلة أعظم من هذه الرفقة‪.‬‬
‫وعظم هذه المنزلة تتضح يف آثارها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾((( فالصديقون قد أنعم اهلل عليهم من ضمن الذين‬
‫أنعم اهلل عليهم بالهداية للصراط المستقيم‪ ،‬ومنزلتهم يف اتباع الصراط المستقيم‬
‫تأيت بعد األنبياء من حيث التصديق والتطبيق‪.‬‬
‫واتباع الصراط المستقيم درجات بحسب درجات اإليمان‪ ،‬أعالها األنبياء‬
‫ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون‪ ،‬ول ِ ُع ُل ِّو هذه المنزلة أمرنا اهلل أن ندعوه‬
‫ليهدينا صراطهم‪ ،‬وهبذه الهداية يمشي الصديقون بنور اهلل يف كل أمورهم‪،‬‬
‫ويصاحبهم التوفيق من اهلل يف كل قراراهتم بإذن اهلل‪.‬‬

‫(( ( البخاري‪ ) 3686 ( :‬ط الرسالة‪.‬‬


‫(( ( سورة النساء‪ :‬آية ‪.69‬‬
‫((( سورة الفاتحة‪ :‬آية ‪.7-6‬‬

‫‪68‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫وال عجب أن يكون ذلك لمن هم يف أعلى منزلة بعد األنبياء من اتباع الطريق‬
‫المستقيم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫فالمؤمنون يمشون بنور اهلل يف كل حركة من حركاهتم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫(((‬
‫ﯵ﴾‬
‫﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﴾((( فينير لهم الطريق الصحيح‬
‫يف كل أمورهم‪ ،‬يف العبادات والمعامالت‪ ،‬يهديهم اهلل لعبادته العبادة الصحيحة‬
‫الخالصة له‪ ،‬ويهديهم ليتعاملوا مع الناس أفضل معاملة؛ ليصلوا بذلك إلى كمال‬
‫العبادات وكمال المعامالت‪.‬‬
‫ومثل هؤالء هم الذين نقتدي هبم ونطلب منهم االستشارة فيما يطرأ من قضايا‬
‫وأحداث‪ ،‬ألهنم على نور من رهبم الذي يهديهم إلى الطريق الصحيح‪ ،‬وهذا ما‬
‫فعله الذين لم يطعموا المعاصي من قوم طالوت حينما طلب منهم إخواهنم العون‬
‫عندما واجهوا عدوهم جالوت وجنوده‪ ،‬فبينوا لهم أن النصر ليس بالكثرة‪ ،‬وإنما‬
‫باإليمان والصرب بإذن اهلل‪.‬‬
‫وألن هذه النصيحة جاءت من مؤمنين هداهم اهلل إلى صراطه المستقيم‪،‬‬
‫وبينوا هذه الهداية باإليمان الصادق والثبات والصرب واإلخالص هلل‪ ،‬فقد ذكر اهلل‬
‫نصيحتهم هذه يف آيات تتلى إلى يوم القيامة‪ ،‬وجعل قـَصصهم من ضمن أحسن‬
‫القصص الذي اختاره اهلل لنا‪ ،‬فذكره يف كتابه الكريم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭾ ﭿ‬
‫ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﴾(((‪.‬‬

‫((( سورة الملك‪ :‬آية ‪.22‬‬


‫(( ( سورة المائدة‪ :‬آية‪.16 :‬‬
‫((( سورة البقرة‪ :‬آية ‪.249‬‬

‫‪69‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫بخالف المكذبين الذين نجد أن قراراهتم فيها تخبط وارتباك‪ ،‬ألنه ليس‬
‫لديهم هداية ونور من اهلل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫فهم ُص ٌّم ال يستمعون لمن‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﴾((( ُ‬
‫وهم ُب ْك ٌم ال يستطيعون إقناع غيرهم بما يقولون‪،‬‬
‫يكلمهم‪ ،‬فال يرون إال رأيهم‪ُ ،‬‬
‫ألهنم يفقدون الحجة‪ ،‬وهم يف ظلمات ال يرون الرؤية الحقيقية لما يدور حولهم‪،‬‬
‫فال يحسنون تحليل القضايا والحوادث والتصرف على ضوئها‪.‬‬
‫سابع ًا‪ :‬ثمار الهداية لصراط الصديقين التي تفرد هبا أبو بكر الصديق عن غيره‬
‫من الصحابة‪:‬‬
‫إن من عدل اهلل ورحمته ‪ ‬أن دلنا على الصديقين وصفاهتم كي‬
‫نقتدي هبم وهنتدي هبدايتهم‪ ،‬وكذلك أرانا ثمار هداية الصديقين التي طلب منا أن‬
‫ندعوه كي يهدينا إياها‪ ،‬ومن ثمار هداية أبي بكر الصديق للصراط المستقيم التي‬
‫تفرد هبا عن غيره‪:‬‬
‫‪ ) 1‬جوابه السريع عندما أخربه كفار قريش بخرب اإلسراء والمعراج ظنًّا‬
‫منهم أنه سوف يرتد‪ ،‬فقال قولته المشهورة‪( :‬إن كان قاله فلقد صدق)((( فهذا‬
‫الرد السريع يدل على إيمانه القوي ويقينه وتصديقه بكل ما يقوله الرسول‬
‫‪ ‬حتى أنه لم يسأل أي سؤال قد يفيد الشك‪ ،‬فلم يسأل عن كيفية‬
‫اإلسراء‪ ،‬وال متى ذهب‪ ،‬وال متى رجع‪ ،‬بل كان رده التصديق فقط‪ ،‬ألن كل‬
‫ما يقوله الرسول ‪ ‬حق‪ ،‬وهذه الدرجة من الهداية هي نعمة من اهلل‬
‫ينعمها على الصديقين من أمثال أبي بكر ‪.‬‬

‫(( ( سورة األنعام‪ :‬آية ‪.39‬‬


‫((( انظر البداية والنهاية البن كثير‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ ) 2‬انفراده يف صلح الحديبية عن غيره من الصحابة الذين حزنوا عندما علموا‬


‫أهنم لن يدخلوا مكة ولن يعتمروا تلك السنة‪ ،‬فلم يحزن ولم يتضجر ولم يناقش‬
‫الرسول ‪ ‬يف ذلك؛ ألنه وصل إلى اليقين بأن كل ما يحدث له إنما هو‬
‫خير من اهلل ولو لم ير هذا الخير اآلن‪ ،‬لكنه واثق ومتيقن منه؛ ألنه يصدق كل ما‬
‫يقوله اهلل ورسوله‪ ،‬وكان عمر ‪ ‬قد راجع الرسول ‪ ‬يف ذلك ثم‬
‫راجع أبا بكر‪ ،‬فكان كالم أبي بكر مطاب ًقا لكالم الرسول ‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري فيما رواه المسور بن مخرمة ومروان يف قصة صلح‬
‫اب‪َ :‬ف َأ َت ْي ُت َنبِ َّي اهَّللِ ‪َ ‬ف ُق ْل ُت‪:‬‬ ‫الخ َّط ِ‬‫الحديبية‪ ،‬وفيه‪َ :‬ق َال‪َ :‬ف َق َال ُع َم ُر ْب ُن َ‬
‫الح ِّق َوعَدُ ُّونَا َع َلى ال َباطِلِ! َق َال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫َأ َل ْس َت َنبِ َّي اهَّلل َح ًّقا! َق َال‪َ « :‬ب َلى» ُق ْل ُت‪َ :‬أ َل ْسنَا َع َلى َ‬
‫يه‪،‬‬ ‫ول ال َّل ِه‪َ ،‬و َل ْس ُت َأ ْع ِص ِ‬ ‫« َب َلى» ُق ْل ُت‪َ :‬فلِ َم ُن ْعطِي الدَّ نِ َّي َة فِي ِدينِنَا إِ ًذا؟ َق َال‪« :‬إِ ِّني َر ُس ُ‬
‫وف بِ ِه؟ َق َال‪َ « :‬ب َلى‪،‬‬ ‫اص ِري» ُق ْل ُت‪َ :‬أ َو َل ْي َس ُكن َْت ُت َحدِّ ُثنَا َأنَّا َسن َْأتِي ال َب ْي َت َفنَ ُط ُ‬ ‫َو ُه َو َن ِ‬
‫يه َو ُم َّط ِّو ٌف بِ ِه» َق َال‪َ :‬ف َأ َت ْي ُت‬
‫ال‪َ .‬ق َال‪َ « :‬فإِ َّن َك آتِ ِ‬‫العا َم؟» َق َال‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬‬ ‫يه َ‬ ‫َف َأ ْخ َب ْر ُت َك َأ َّنا َن ْأتِ ِ‬
‫ِ‬
‫الح ِّق‬‫َأ َبا َب ْك ٍر َف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َأ َبا َب ْك ٍر‪َ ،‬أ َل ْي َس َه َذا َنبِ َّي اهَّلل َح ًّقا؟ َق َال‪َ :‬ب َلى‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬أ َل ْسنَا َع َلى َ‬
‫َوعَدُ ُّونَا َع َلى ال َباطِلِ؟ َق َال‪َ :‬ب َلى‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬فلِ َم ُن ْعطِي الدَّ نِ َّي َة فِي ِدينِنَا إِ ًذا؟ َق َال‪َ :‬أ ُّي َها‬
‫است َْم ِس ْك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرج ُل إِ َّنه َلرس ُ ِ‬
‫ول اهَّلل ‪َ ‬و َل ْي َس َي ْعصي َر َّب ُه‪َ ،‬و ُه َو نَاص ُر ُه‪َ ،‬ف ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫َان ُي َحدِّ ُثنَا َأنَّا َسن َْأتِي ال َب ْي َت َو َن ُط ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وف‬ ‫الح ِّق‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬أ َل ْي َس ك َ‬ ‫بِ َغ ْر ِزه‪َ ،‬ف َواهَّلل إِ َّن ُه َع َلى َ‬
‫ف بِ ِه‪.‬‬ ‫ال‪َ .‬ق َال‪َ :‬فإِن ََّك آتِ ِ‬
‫يه َو ُم َّط ِّو ٌ‬ ‫يه ال َعا َم؟ ُق ْل ُت‪َ :‬‬ ‫بِ ِه؟ َق َال‪ :‬ب َلى‪َ ،‬أ َف َأ ْخبر َك َأن ََّك َت ْأتِ ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫ول‬ ‫َاب َق َال َر ُس ُ‬ ‫َق َال ُع َم ُر‪َ :‬ف َع ِم ْل ُت ل ِ َذل ِ َك َأ ْع َمالاً ‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َل َّما َف َر َغ مِ ْن َق ِض َّي ِة الكِت ِ‬
‫اح ِل ُقوا» َق َال‪َ :‬ف َواهَّللِ َما َقا َم مِن ُْه ْم‬ ‫ِ‬ ‫لأِ‬ ‫ِ‬
‫وموا َفان َْح ُروا ُث َّم ْ‬ ‫اهَّلل ‪ْ َ ‬ص َحابِه‪ُ « :‬ق ُ‬
‫ات‪َ ،‬ف َل َّما َل ْم َي ُق ْم مِن ُْه ْم َأ َحدٌ َد َخ َل َع َلى ُأ ِّم َس َل َمةَ‪،‬‬ ‫ث مر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َر ُج ٌل‪َ ،‬حتَّى َق َال َذل َك َثالَ َ َ َّ‬
‫ب َذل ِ َك! ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َف َذك ََر َل َها َما َل ِقي مِ َن الن ِ‬
‫اخ ُر ْج ُث َّم‬ ‫َّاس‪َ ،‬ف َقا َل ْت ُأ ُّم َس َل َمةَ‪َ :‬يا َنبِ َّي اهَّلل‪َ ،‬أ ُتح ُّ‬ ‫َ‬
‫‪71‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫ال ُت َك ِّل ْم َأ َحدً ا مِن ُْه ْم كَلِ َم ًة َحتَّى َتن َْح َر ُبدْ ن ََك‪َ ،‬و َتدْ ُع َو َحال ِ َق َك َف َي ْحلِ َق َك‪َ .‬ف َخ َر َج َف َل ْم‬ ‫َ‬
‫ُي َك ِّل ْم َأ َحدً ا مِن ُْه ْم‪َ ،‬حتَّى َف َع َل َذل ِ َك؛ ن ََح َر ُبدْ َن ُه‪َ ،‬و َد َعا َحال ِ َق ُه َف َح َل َق ُه‪َ ،‬ف َل َّما َر َأ ْوا َذل ِ َك‬
‫َقا ُموا َفن ََح ُروا‪َ ،‬و َج َع َل َب ْع ُض ُه ْم َي ْحلِ ُق َب ْع ًضا‪َ ،‬حتَّى كَا َد َب ْع ُض ُه ْم َي ْقت ُُل َب ْع ًضا َغ ًّما(((‪.‬‬
‫َّاس‪ ،‬ا َّت ِه ُموا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫و َع ْن َأبِي َوائ ٍل َق َال‪َ :‬قا َم َس ْه ُل ْب ُن ُحنَ ْيف َي ْو َم ص ِّفي َن َف َق َال‪َ :‬أ ُّي َها الن ُ‬
‫ول اهللِ ‪َ ‬ي ْو َم ا ْل ُحدَ ْيبِ َي ِة َو َل ْو ن ََرى قِ َتالاً َل َقا َت ْلنَا‪،‬‬ ‫َأ ْن ُفس ُكم‪َ ،‬ل َقدْ ُكنَّا م َع رس ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ول اهللِ ‪َ ‬و َب ْي َن ا ْل ُم ْش ِركِي َن‪َ ،‬ف َجا َء‬ ‫َان َب ْي َن رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫الص ْلحِ ا َّل ِذي ك َ‬ ‫ِ ِ‬
‫َو َذل َك في ُّ‬
‫ول اهللِ‪َ ،‬أ َل ْسنَا َع َلى‬ ‫ول اهللِ ‪َ ‬ف َق َال‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫اب‪َ ،‬ف َأ َتى َر ُس َ‬ ‫ُع َم ُر ْب ُن ا ْل َخ َّط ِ‬
‫َح ٍّق َو ُه ْم َع َلى َباطِلٍ! َق َال‪َ « :‬ب َلى» َق َال‪َ :‬أ َل ْي َس َقتْلاَ نَا فِي ا ْل َجن َِّة َو َقتْلاَ ُه ْم فِي الن ِ‬
‫َّار!‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ُن ْعطي الدَّ ن َّي َة في ديننَا‪َ ،‬ون َْرج ُع َو َل َّما َي ْح ُك ِم ُ‬
‫اهلل َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم؟‬ ‫َق َال‪َ « :‬ب َلى» َق َال‪َ :‬فف َ‬
‫الله َو َل ْن ُي َض ِّي َعنِي الل ُه َأ َبدً ا» َق َال‪َ :‬فا ْن َط َل َق ُع َم ُر‬ ‫ول ِ‬ ‫اب‪ ،‬إِ ِّني َر ُس ُ‬ ‫َف َق َال‪َ « :‬يا ْب َن ا ْل َخ َّط ِ‬
‫َف َل ْم َي ْصبِ ْر ُم َت َغ ِّي ًظا‪َ ،‬ف َأ َتى َأ َبا َب ْك ٍر َف َق َال‪َ :‬يا َأ َبا َب ْك ٍر َأ َل ْسنَا َع َلى َح ٍّق َو ُه ْم َع َلى َباطِلٍ!‬
‫َّار! َق َال‪َ :‬ب َلى‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َعلاَ َم‬ ‫َق َال‪َ :‬ب َلى‪َ .‬ق َال‪َ :‬أ َل ْي َس َقتْلاَ نَا فِي ا ْل َجن َِّة َو َقتْلاَ ُه ْم فِي الن ِ‬
‫اهلل َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم؟ َف َق َال‪َ :‬يا ْب َن ا ْل َخ َّط ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‪،‬‬ ‫ُن ْعطي الدَّ ن َّي َة في ديننَا‪َ ،‬ون َْرج ُع َو َل َّما َي ْح ُك ِم ُ‬
‫ول اهللِ ‪‬‬ ‫آن َع َلى رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫اهلل َأ َبدً ا‪َ .‬ق َال‪َ :‬فن ََز َل ا ْل ُق ْر ُ‬ ‫إِ َّنه رس ُ ِ‬
‫ول اهلل َو َل ْن ُي َض ِّي َع ُه ُ‬ ‫ُ َ ُ‬
‫ول اهللِ‪َ ،‬أ ْو َفت ٌْح ُهو؟ َق َال‪َ « :‬ن َع ْم»‬ ‫بِا ْل َف ْتحِ ‪َ ،‬ف َأ ْر َس َل إِ َلى ُع َم َر‪َ ،‬ف َأ ْق َر َأ ُه إِ َّيا ُه‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫َف َطا َب ْت َن ْف ُس ُه َو َر َج َع(((‪.‬‬
‫حاضرا‬
‫ً‬ ‫فقد كان رد أبي بكر مطاب ًقا لر ّد الرسول ‪ ‬مع أنه لم يكن‬
‫عندما كان عمر يسأل الرسول ‪ ‬لكنه نور اهلل يهدي لنوره من يشاء‪،‬‬
‫است َْم ِس ْك بِ َغ ْر ِز ِه‪َ ،‬ف َوال َّل ِه‬
‫حتى إن أبا بكر ليقينه أقسم باهلل على ذلك عندما قال‪َ :‬ف ْ‬

‫(( ( صحيح البخاري‪ )2732( ،)2731( :‬ط الرسالة‪ ،‬صحيح مسلم‪ )4834( :‬الرسالة‪.‬‬
‫((( مسلم‪ )4633( :‬ط الرسالة‪ ،.‬البخاري‪ )3182( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫إِ َّن ُه َع َلى َ‬


‫الح ِّق‪ .‬فهذا هو صراط الذين أنعم اهلل عليهم من الصديقين الذين هم‬
‫بالمرتبة بعد األنبياء‪ ،‬نرى أبا بكر يمشي عليه من دون تردد أو شك‪ .‬وهذه الثمرة‬
‫من أعظم الثمار التي جناها أبو بكر الصديق‪ ،‬وقد عرف عمر هذا بعد ذلك حيث‬
‫تكفيرا لمراجعته للرسول ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قال ‪َ :‬ف َع ِم ْل ُت لِ َذلِ َك َأ ْع َم اًال‪ .‬أي‬
‫أيضا إصراره‬
‫‪ ) 3‬ومن صور الهداية للصراط المستقيم وتصديقه ‪ً ‬‬
‫على إرسال جيش أسامة بن زيد بعد وفاة الرسول ‪ ‬وكان أغلب‬
‫الصحابة معارضين لذلك‪ ،‬وقد ذكروا أسبابا العرتاضهم‪ ،‬منها أن المرتدين‬
‫تكالبوا على المسلمين من كل ناحية وهم ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬بحاجة لجيش أسامة‪،‬‬
‫لكنه ‪ ‬أصر على إنفاذ ما عقده الرسول ‪ ‬ألنه موقن ومصدق‬
‫يف كل ما يأمر به الرسول ‪ ‬دون تردد‪.‬‬
‫روى ابن كثير يف «البداية والنهاية» قال‪ :‬أشار كثير من الناس على الصديق أال‬
‫ينفذ جيش أسامة الحتياجه إليه فيما هو أهم‪ ،‬ألن ما ُجهز بسببه يف حال السالمة‪،‬‬
‫وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب‪ ،‬فامتنع الصديق من ذلك وأبى‬
‫أشد اإلباء إال أن ينفذ جيش أسامة‪ ،‬وقال‪ :‬واهلل ال أحل عقدة عقدها رسول اهلل‪،‬‬
‫ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة‪ ،‬ولو أن الكالب جرت بأرجل‬
‫أمهات المؤمنين ألجهزن جيش أسامة‪ ،‬وآمر الحرس يكونون حول المدينة‪.‬‬
‫فكان خروجه يف ذلك الوقت من أكرب المصالح والحالة تلك‪ ،‬فساروا ال يمرون‬
‫بحي من أحياء العرب إال ُأرعبوا منهم وقالوا‪ :‬ما خرج هؤالء من قوم إال وهبم‬
‫منعة شديدة! فقاموا أربعين يو ًما ثم أتوا سالمين غانمين‪ ،‬ثم رجعوا‪ ،‬فجهزهم‬
‫حينئذ مع األحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة ومانعي الزكاة(((‪ .‬انتهى كالمه‪.‬‬

‫((( انظر البداية والنهاية البن كثير‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫فهذه الصور وغيرها انفرد هبا الصديق عن غيره من الصحابة حتى استحق‬
‫لقب الصديق عند اهلل حيث أصر على إنفاذ جيش أسامة‪ ،‬ألن الذي أمر به هو‬
‫الرسول ‪ ‬وهو يعلم أن الرسول ‪ ‬يمشي على الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين‪ ،‬وهو بذلك يتبع هذا الصراط‬
‫الخير يف‬
‫َ‬ ‫كما أمر اهلل أن يتبعه‪ ،‬فيطبق ما يأمر به الرسول ‪ ‬ألنه يرى‬
‫غانما‪ ،‬وألن‬
‫سالما ً‬
‫ً‬ ‫أمر الرسول ‪ ‬وقد كان ذلك‪ ،‬حيث رجع الجيش‬
‫حريصا كل الحرص يف اتباع صراط الذين أنعم اهلل عليهم من النبيين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أبا بكر كان‬
‫فقد ارتقى بذلك حتى وصل إلى منزلة الصديقين الذين أنعم اهلل عليهم‪ ،‬ممن َي َّتبِع‬
‫صراطهم المؤمنون‪.‬‬
‫‪ ) 4‬هدايته للصراط المستقيم يف حربه المرتدين‪.‬‬

‫ف َأ ُبو َب ْك ٍر‬ ‫ُخلِ َ‬ ‫است ْ‬ ‫عن َأبِي هرير َة َق َال‪َ :‬لما ُتو ِّفي رس ُ ِ‬
‫ول اهَّلل ‪َ ‬و ْ‬ ‫َّ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ َ َْ‬ ‫َ ْ‬
‫َّاس َو َقدْ َق َال‬ ‫ب‪َ ،‬ق َال ُعمر لأِ َبِي ب ْك ٍر‪َ :‬كي َ ِ‬ ‫َب ْعدَ ُه‪َ ،‬و َك َف َر َم ْن َك َف َر مِ َن ال َع َر ِ‬
‫ف ُت َقات ُل الن َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫اس َح َّتى َي ُقو ُلوا‪َ :‬‬
‫(ال إِ َل َه إِ اَّل ال َّل ُه) َف َم ْن‬ ‫«أ ِم ْر ُت َأنْ ُأ َقاتِ َل ال َّن َ‬ ‫ول اهَّللِ ‪ُ :‬‬ ‫َر ُس ُ‬
‫ال‪:‬‬ ‫(ال إِ َل َه إِ اَّل ال َّل ُه) َع َص َم ِمنِّي َم َال ُه َو َن ْف َس ُه‪ ،‬إِ اَّل بِ َح ِّق ِه َو ِح َسا ُب ُه َع َلى ال َّل ِه»؟ َف َق َ‬
‫ال‪َ :‬‬ ‫َق َ‬
‫ال‪َ ،‬وال َّل ِه َل ْو َمن َُعونِي‬ ‫الز َك ِاة‪َ ،‬فإِنَّ َّ‬
‫الز َكا َة َح ُّق َ‬
‫الم ِ‬ ‫ال ِة َو َّ‬ ‫َوال َّل ِه أَ ُل َقاتِ َل َّن َم ْن َف َّر َق َب ْي َن َّ‬
‫الص َ‬
‫ول ال َّل ِه ‪َ ‬ل َقا َت ْلت ُُه ْم َع َلى َم ْن ِع ِه‪َ .‬ف َق َ‬
‫ال ُع َم ُر‪:‬‬ ‫ِع َق اًال َكا ُنوا ُيؤَ ُّدو َن ُه إِ َلى َر ُس ِ‬
‫َال‪َ ،‬ف َع َر ْفت َأ َّن ُه َ‬
‫الح ُّق(((‪.‬‬ ‫َف َوال َّل ِه َما ُه َو إِ اَّل َأنْ َر َأ ْيت ال َّل َه َقدْ َش َر َح َصدْ َر َأبِي َب ْك ٍر لِ ْل ِقت ِ‬

‫لقد عرف عمر بن الخطاب ‪ ‬درجة هداية الصديقين‪ ،‬فأقسم على أن‬
‫صراط أبي بكر الصديق هو الحق‪ ،‬عندما قال‪َ « :‬ف َواهَّلل ِ َما ُه َو إِ اَّل َأ ْن َر َأ ْيت اهَّللَ َقدْ‬

‫(( ( البخاري‪ )7285( ،)7284( :‬ط الرسالة‪ .‬ورواه مسلم‪ )124( :‬ط الرسالة‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫َشر َح َصدْ ر َأبِي َب ْكرٍ لِ ْل ِقت ِ‬


‫َال‪َ ،‬ف َع َر ْفت َأ َّن ُه َ‬
‫الح ُّق» فقد هدى اهلل أبا بكر الصديق إلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قرار كان قد عارضه جميع الصحابة عليه ‪ ‬أجمعين‪،‬‬ ‫الصراط المستقيم يف ٍ‬
‫فهذه هي الهداية التي أمرنا اهلل أن ندعوه أن يهدينا إياها‪ ،‬وال يظفر هبداية الصديقين‬
‫إال من اتبع طريق الصديقين‪ ،‬نسأل اهلل أن يجعلنا منهم‪.‬‬

‫***‬

‫‪75‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬اخلامتة ‪L‬‬
‫تلك هي صفات وأحوال من لم يطعم المعاصي‪ ،‬قد أظهرها اهلل للناس يف كل‬
‫عصر ليعلموا أن التأسي هبؤالء واتباع طريقهم المستقيم ليس صع ًبا لمن سهله‬
‫اهلل عليه‪.‬‬
‫وهؤالء قد م ّن اهلل عليهم بمعرفة األسلحة التي ينفعهم اهلل هبا يف الدنيا واآلخرة‬
‫فاستخدموها‪ ،‬فصاروا أقوى وأثبت من يمشي على األرض بعد األنبياء؛ ألهنم‬
‫ول اهَّللِ‬ ‫عرفوا اهلل الذي يقول يف الحديث القدسي الذي رواه أبو ُه َر ْي َرةَ‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ب‪َ ،‬و َما َت َق َّر َب إِ َل َّي‬ ‫الح ْر ِ‬ ‫ال‪َ :‬م ْن َعا َدى لِي َولِ ًّيا َف َقدْ آ َذ ْن ُت ُه بِ َ‬ ‫‪« :‬إِنَّ ال َّل َه َق َ‬
‫َع ْب ِدي بِ َش ْي ٍء َأ َح َّب إِ َل َّي ِم َّما ا ْفت ََر ْض ُت َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َما َيزَ ُال َع ْب ِدي َي َت َق َّر ُب إِ َل َّي بِال َّن َو ِافلِ‬
‫َح َّتى ُأ ِح َّب ُه‪َ ،‬فإِ َذا َأ ْح َب ْب ُت ُه ُك ْن ُت َس ْم َع ُه ا َّل ِذي َي ْس َم ُع بِ ِه‪َ ،‬و َب َص َر ُه ا َّل ِذي ُي ْب ِص ُر بِ ِه‪َ ،‬و َي َد ُه‬
‫أَ‬ ‫َ‬
‫است ََعا َذنِي‬ ‫ش بِ َها‪َ ،‬و ِر ْج َل ُه ا َّلتِي َي ْم ِشي بِ َها‪َ ،‬وإِنْ َسأ َلنِي ُل ْع ِط َي َّن ُه‪َ ،‬و َلئِ ِن ْ‬ ‫ا َّلتِي َي ْب ِط ُ‬
‫الم ْو َت‬ ‫المؤْ ِم ِن‪َ ،‬ي ْك َر ُه َ‬ ‫س ُ‬ ‫اع ُل ُه َت َر ُّد ِدي َع ْن َن ْف ِ‬ ‫يذ َّن ُه‪َ ،‬و َما َت َر َّد ْدت َع ْن َش ْي ٍء َأ َنا َف ِ‬ ‫أَ ُل ِع َ‬
‫َو َأ َنا َأ ْك َر ُه َم َس َاء َت ُه»(((‪.‬‬
‫جعلنا اهلل ممن ال يطعم المعاصي‪ ،‬وممن إذا سأله أعطاه وإذا استعاذه أعاذه‪.‬‬
‫وجعلنا ممن قال عنهم سبحانه‪ ﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﴾((( آمين‪.‬‬

‫***‬
‫(( ( البخاري‪ )6502( :‬ط الرسالة‪.‬‬
‫(( ( سورة الليل‪ :‬اآليات ‪.21-19‬‬

‫‪76‬‬
‫ملاذا قالوا‪ :‬ال طاقة لنا اليوم؟‬

‫‪ J‬الفهرس ‪L‬‬
‫™ ™املراد بالطاقة ‪5.........................................................................................................................‬‬
‫™ ™أحسن القصص ‪9........................................................................................................................‬‬
‫™ ™طالوت وجالوت‪11.......................................................................................................................‬‬
‫● ●الفئة األوىل‪ :‬الذين ال يعرفون وال ميلكون الطاقة‪14...........................................................‬‬
‫● ●الفئة الثانية‪ :‬الذين ميلكون طاقة قد يفقدونها يف بعض األحيان ‪19.................................‬‬
‫● ●الفئة الثالثة‪ :‬الذين ميلكون طاقة دائمة ‪20.......................................................................‬‬
‫™ ™أثر هذه الطاقة اإلميانية على من ميلكها ‪26..........................................................................‬‬
‫™ ™كيف نكون مع من مل يطعمه؟‪32...............................................................................................‬‬
‫أول‪ :‬حتديد اهلدف ‪32...........................................................................................................‬‬
‫● ● اً‬
‫● ●ثان ًيا‪ :‬السعي واجملاهدة هلذا اهلدف ‪33.................................................................................‬‬
‫● ●ثال ًثا‪ :‬العمل ‪36.....................................................................................................................‬‬
‫● ●راب ًعا‪ :‬الصرب ‪41......................................................................................................................‬‬
‫™ ™هل أنت يف خسر أم يف فوز؟ ‪46...................................................................................................‬‬
‫™ ™صور ممن مل يطعم املعاصي‪49...................................................................................................‬‬
‫● ●داود ‪51.................................................................................................................. ‬‬
‫● ● ُج َر ْي ٌج الراهب ‪54....................................................................................................................‬‬
‫● ●أبو بكر الصديق ‪60.................................................................................................‬‬
‫™ ™اخلامتة ‪76..................................................................................................................................‬‬

‫***‬
‫‪77‬‬

You might also like