Professional Documents
Culture Documents
محاضرات في علم الجمال
محاضرات في علم الجمال
رضوان السح
- 1سانتيانا ،جورج :اإلحساس بالجمال ،تر :د .محمد مصطفى بدوي -مراجعة :د .زكي نجيب
محمود -مكتبة األنجلو المصرية -القاهرة (د.ت) ص .45-44
2
النفع أو الضرر ،ما نلذ له أو نتألم ..وباختصار ،نرى أن مبحث القيم ينظر إلى
الموجودات من حيث عالقاتها بإرادتنا ورغباتنا وحاجاتنا ،ولو كنا آلت مدركة،
وحسب ،لنتفى عالم القيمة.
هذا هو عالم القيمة إجمال ،أما الفروق البينية في هذا العالم فسوف تتوضح من
خالل إبراز موقع علم الجمال فيه -وهذا هو موضوعنا – من خالل المقارنة بين
الجمال وشقيقيه :الحق والخير .ولكننا قبل ذلك سنبحث في نشوء مصطلح علم
الجمال.
قراءة في المصطلح:
من العلوم التي انفصلت حديثا عن الفلسفة يمكن أن نذكر علم الجتماع
(السوسيولوجيا) وعلم النفس (السيكولوجيا) .وعلى الرغم مما حقق هذان العلمان
من نجاحات باستقاللهما عن الفلسفة ومنهجها الميتافيزيقي ،واعتمادهما المنهج
العلمي القائم على الستقراء والمالحظة والتجربة واإلحصاء..الخ .فإن علمين مثل
علم األخالق (األطيقا )Ethicsوعلم الجمال (اإلستطيقا )Aestheticsلم يستطيعا
الخروج من عباءة الفلسفة.
لقد استخدم المنهج التجريبي في علم الجمال إل أنه لم يحقق فتوحات هامة ،ولعل
ذلك يعود إلى الطبيعة الميتافيزيقية للسؤال المطروح في كل من علم الجمال وعلم
األخالق .وهو في األول :ما هو الخير؟ وفي الثاني ما هو الجمال؟
وراح علم الجمال في منحاه العلمي أو التجريبي يتكئ على منجزات علم الجتماع
وعلم النفس ،ويمكن مالحظة ذلك من عناوين بعض المؤلفات في علم الجمال مثل:
(األسس النفسية لإلبداع الفني) لمصطفى سويف و (سيكولوجية البتكار) لحلمي
المليجي و(الفن وعلم الجتماع الجمالي) لعبد العزيز عزت.1
على الرغم من أن أفالطون ( 347-427ق.م ) قد ذكر ( علم الجمال) 2إل أن
السياق الذي أورده فيه لم يكن في صدد تحديد منهج يبحث في مفهوم الجمال
-1انظر قائمة المراجع في :أبو ريان ،د.محمد علي :فلسفة الجمال -دار المعرفة
الجامعية -اإلسكندرية .1993ص .349
3
الطبيعي أو الفني ،بقدر ما كان ذلك السياق صوفيا داعيا إلى الستغراق في تأمل
الجمال الجزئي أو الحسي ،بغية تذكر الجمال المطلق المثالي وتأمله.
أما بومغارتن األلماني ( )1762 -1714 ( )Baumgartenفهو من يتحدث عنه
علماء الجمال بصفته مؤسسا لهذا العلم ،وقد وضع له اسم علم الجمال
(إستطيقا 1)Aestheticsفي كتاب له صدر عام ، 21735ثم وسع دراساته في
هذا المجال فأصدر كتابا خاصا بهذا العلم تحت عنوان (اإلستطيقا) في مجلدين3.
- 1هيغل :المدخل إلى علم الجمال -تر :جورج طرابيشي -دار الطليعة – بيروت طـ3
. 1988ص ، 21ويذكر هيغل مصطلح (الكاليسطيقا) وهو يعني (علم الجمال) ألن
(كالوس) هو (الجمال ) باليونانية الصفحة نفسها ،حاشية ( .)4ويذكر أن الفرنسيين
استخدموا عبارة (نظرية الفنون) أو (نظرية اآلداب الجميلة ) وأن اإلنكليز أدرجوا مباحث
اإلستطيقا في( النقد ) .الصفحة نفسها.
5
المحاضرة الثانية
هيراقليطس والشعر
- 1لم يتب ّق من كتابه ( في الطبيعة) سوى( )126شذرة ،يضاف إليها ( )15شذرة هي موضع
شك .هيراقليطس :جدل الحب والحرب – ترجمة وتعليق :مجاهد عبد المنعم مجاهد -دار التنوير -
بيروت ط(2تصدير المترجم) (ص.)7
-2سنكتفي بإيراد رقم الصفحة في المتن ألن المرجع السابق هو مصدرنا الوحيد في الشذرات .
-3وردت" :ل يجب أن نتصرّف ول يجب أن نتكلّم مثل النائمين".
-4وردت " :ل يجب أن نتصرف أشبه بأطفال آبائنا".
6
ويأخذ هجوم هيراقليطس على الشعر شكل هجوم على محتواه األسطوري
المعتقدي ،فيقول" :إنهم (اليونانيون) يسجدون آللهة ل تسمعهم وكأنها تسمعهم ،وهي
ل تمنحهم شيئا كما أنها ل تستطيع أن تطلب(."1ص ،)42وينكر على اليونان
التح ّدث إلى هذه اآللهة في (ص ،)47ويسحب هذا اإلنكار على المصريين ،فيقول:
"لو كانت آلهة فلماذا تلومونها؟ وإذا و ّجهتم إليها اللوم فيجب أل تستم ّروا في ع ّدها
آلهة("2ص.)47
يرسم هيراقليطس طريق المعرفة والحكمة من خالل الذكاء والعقل ،فالمعلومات
الكثيرة المبعثرة التي ل يجمعها مبدأ كلّي ل تفيد في العلم شيئا (ص ،) 55كما أن
شأن التخمينات ليست طريقا إلى المعرفة (ص ،)56ولذلك يُعلي من
طاليس(حوالى 547-624:ق.م) الفيلسوف اليوناني األول من حيث إنه "أول من
درس علم الفلك"( .)57والعقل – عند هيراقليطس -ليس هبة لشخص دون شخص
فتكون المعرفة وقفا على إلهام شاعر" :ملكة التفكير مشتركة بين الجميع"(،)59
ويكرر ذلك في الشذرة التي تليها .
ويقول في شذرة ثالثة" :لهذا يجب أن يتبع اإلنسان اللوجوس ـ أو القانون العام ـ
أل وهو ذلك الذي هو شائع لدى الجميع(".ص.)60
وبهذا العقل -أو اللوجوس -يبدأ هيراقليطس الهجوم على الشعر الذي ا ّدعى امتالك
الحقيقة بعيدا عن هذه الملكة التي يمتلكها الجميع ،والتي يقرّها الجميع وسيلة لمعايرة
األقوال ،فينعت الشاعر اإلغريقي األقدم هوميروس (القرن 9ق.م) بالحتيال،
ّ
يستحق أن ينحّ ى فيقول ":لقد كان هوميروس نصّابا"( .)89ويقول" :إن هوميروس
جانبا عن المسابقات األدبية ويلّقن علقة ساخنة .)89("..ويرى مجاهد عبد المنعم
مجاهد ،في تعليقه ،أن هذا الهجوم قد يكون البذرة التي بنى عليها أفالطون هجومه
على الشعراء مطالبا بطردهم من جمهوريته (.ص.)89
ويهاجم أيضا الشاعر هزيود (القرن 8ق.م) ـ وألسباب معرفية أيضا ـ قائال :
"هزيود هو معلم الكثيرين ،وهو لم يفهم ل النهار ول الليل ،ذلك أنهما شيء واحد"
(ص .)71وكان هزيود يتطيّر من بعض األيام ويتفاءل بأخرى ،فينعته هيرقليطس
بالجهل" :إن هزيود ليس على بيّنة أن طبيعة األيام جميعا واحدة"(ص.)90
7
ويوجز هيراقليطس موقفه من الشعر الذي كان سائدا في عصره ،والذي كان يمثل
الثقافة الشعبية لليونانيين متحدثا عن أبناء قومه بضمير الغائب" :أي عقل أو فهم
لديهم !إنهم يؤمنون بشعراء الدهماء ،ويجعلون العامة معلميهم!("..ص.)42
وهكذا ينتهي هيراقليطس بنسفه للشعر إلى نسف مضمونه األسطوري الهوميري -
ّ
المنظم ،والذي هو واحد بالنسبة للجميع، نسبة إلى هوميروس –فيقول" :هذا الكون
لم يخلقه إله من اآللهة ،أو إنسان من البشر ،لكنه كان ويكون وسيكون لألبد شعلة
حيّة تضطرم بمقدار وتنطفئ بمقدار"(ص.)77
وإذا ما أبقينا على لفظ ( اآللهة) فإن هذا اللفظ لن ي ّدل إل على األضداد " :اآللهة
هي النهار والليل ،الشتاء والصيف ،الحرب والسالم ،التخمة والمجاعة .لكنه تغيّر
أشبه بالنار التي عندما تختلط بدخان البخور تتسمى بحسب رغبة كل
إنسان"(ص.)63
إن الشكل الفني للشعر -أو قيمته الجمالية المجبولة بالقداسة -لم يشفع له عند
هيراقليطس ،ألن القيمة التي كانت تتصدر المشهد إنما هي قيمة الحق ،وكل قول ل
يحمل صوت الحق سيتراجع إلى الصفوف الخلفية .
8
المحاضرة الثالثة
1ـ أفالطون :محاورة فايدروس ـ تر:د .أميرة حلمي مطر -دار غريب -القاهرة 2000
(تلخيص مقدمة ليون روبان ،وتعليق المترجمة) ص.15
- 2نفسه (تلخيص مقدمة ليون روبان ،وتعليق المترجمة)ص .17
- 5من أتباع أفلوطين (205ـ270م) ،شرح محاورات أفالطون الثالث الكبرى :طيماوس
والجمهورية ،وبارمنيدس ،وهو أشهر فالسفة أثينا في عصره .فخري ،د .ماجد :تاريخ الفلسفة
اليونانية -دار العلم للماليين -بيروت .1991
وهذا الوصف للجوادين يصرّح بجالء أن الجواد األيمن هو القوة الغضبية ،واآلخر
هو القوة الشهوية ، 2ول شك أن الحوذيّ هو قوة الحكمة المتح ّكمة بالغضب
والشهوة.3
لنر ماذا سيحدث لهذه ( المركبة ـ النفس) إذا ما صادفت الجسد الجميل .يقول
واآلن َ
سقراط" :وإذ يبصر الحوذي (الرؤية الجميلة) تغمر الحرارة نفسه ،ويمتلئ بالوخز
نتيجة الشتياق ،وعندئذ ينقاد الجواد الطيع للحوذي فيتحفظ ويمتنع عن النقضاض
على المحبوب ،أما اآلخر الذي ل تؤثر فيه وخزات الحوذي ول سوطه ،فإنه ينقض
بقفزة قوية مسببا لزميله وللحوذي آلما غير متصورة ،ويضطرهما إلى التجاه
نحو المعشوق ليعرضا عليه لذات العشق".4
إن الجمال ـ كما نرى ـ يجذب مركبة النفس بعناصرها الثالثة ،ولكن الصراع
سيحدث بين العفة والفحش ،بين تأمل الجمال من جهة ،والتلذذ بالوصال من جهة
ثانية ومصدر هذا الصراع هو الطابع اإللهي والمقدس للجمال ،هذا الطابع الذي
يتذكره الحوذي عندما كانت النفس ّ
مطلعة على عالم المثل ،أو كانت تتنزه بصحبة
أحد اآللهة".5
لنعد إلى مركبتنا المجنحة وهي تواجه طلعة الجميل" :هاهما أخيرا ينظران إلى
الطلعة المحبوبة التي تتألق ،إنها المحبوب! وعند رؤيته يتجه تذكر الحوذي إلى
حقيقة الجمال :فيراها من جديد مصحوبة بالحكمة ،وواقفة على قاعدتها المقدسة ،لقد
- 1أفالطون :فايدروس ص.73
- 2هاتان القوتان تقابالن في التصنيف الجتماعي األفالطوني طبقتي المحاربين والص ّناع.
- 3يمكن أن يكون هذا التصنيف الثالثي للنفس مصدرا هاما لتصنيف فرويد :األنا -األنا
األعلى -الهو.
- 4أفالطون :فايدروس ص.73
- 5نفسه ص.67
10
كان قد رآها بواسطة التذكر ،وعندئذ فإنه ينقلب على ظهره لفرط اضطرابه
وتبجيله ،وعند سقوطه هذا فإنه يجذب الجوادين 1من أعنتهما إلى الوراء بقوة
( )...فينقاد األول بال مقاومة ألنه ل يتصلب ،أما الجواد اآلخر الجامح فإنه يضطر
ألخذه بالقسوة ،وبينما ينحرفان بعيدا يتصبب أحدهما من الخجل والخوف عرقا ،أما
اآلخر فما يكاد يفيق من األلم الذي أصابه ( )...حتى ينتشر غضبه ،ويأخذ في
تأنيب الحوذي ولوم رفيق مركبته لنكوصهما عن موقفهما األول وخيانتهما
والرتباط معه بوضاعة".2
هذا المشهد يرينا ما أحدثه الجمال في النفس من اضطراب ،ويفسر لنا الخوف
الذي يحدثه الجمال ،فهو خوف من إثارة الجمال للشهوة مع ما يعقب هذه اإلثارة
من شكم العقل لها.
أل يدعو كل ذلك ،إلى تجنب الجمال للحفاظ على طمأنينة النفس وسكونها؟
ثم أليست النفس التي ل تعنى بالجمال أقرب إلى الفضيلة من تلك التي يغويها
الجمال؟
يؤكد سقراط " أن الشهوة غير العاقلة عندما تسيطر على الرأي المستقيم فإنها
تطلب اللذة الصادرة من الجمال ،وتزداد قوة عندما تجتمع بالشهوات األخرى التي
من فصيلتها والتي تتخذ جمال األجساد موضوعا لها" ، 3إل أن ذلك ل يقوده إلى
تجنب الجمال ،أو اإلعالء من شأن النفس الصماء مقابل النفس المرهفة التي
ترتعش في مشهد الجمال .بل يقوده إلى التمييز بين إثارة الشهوة وإرضائها ،فإذا
أصبحنا على يقين من أنه يرى في إرضاء الشهوة ،أو اإلفراط في الملذات ،فعال
ينأى بصاحبه عن الشرف والجمال " ،4فإن التعرّض للجمال مع ما يثير من عشق
هو طريق إلى الفضيلة ،وهذا ما يبينه سقراط في حديثه عن (الهوس اإللهي).
إن الهوس عند سقراط هو نافذة اإلنسان لالتصال مع المطلق الذي يرمز إليه (عالم
اآللهة) وهذا الهوس اإللهي له أربعة أنواع:
- 1يرى أفالطون أن التنبؤ بالغيب هو أجمل الفنون ،واسمه مشتق من الهوس ( Mania
)أفالطون :فايدروس .ص.59
- 2نفسه ص .60
- 3نفسه والصفحة نفسها.
- 4انظر على سبيل المثال :أفالطون :الجمهورية -تر :حنا خباز -دار القلم -بيروت ط2
1980ص .90
- 5أفالطون :فايدروس ص60ـ.61
- 6يبدو أنها سقطت مطبعيا.
- 7إشارة إلى أن عالم المثل فوق العالم اإللهي.
- 8أفالطون :فايدروس ،ص 67ـ.68
- 9نفسه ص .93
12
1
إن ما يحرّك ( هوس الحب) إنما هو الجمال ،ألنه يثير حسرتنا على الماضي
عندما كانت النفس في مواكب اآللهة تتطلع إلى عالم المثل ويفسّر أفالطون ميل
النفس إلى الجمال بالوضوح الذي يتفرد به الجمال ،فالجمال وحده هو الذي أوتي
هذا القسط من الوضوح عند الرؤية ولذلك كان أحب األشياء.2
أما لماذا يختلف الناس في ر ّد فعلهم تجاه الجمال الحسّي بين التقديس من جهة
وإشباع الشهوة من جهة ثانية فهذا يعود إلى أمرين اثنين أحدهما يتعلق بحياة النفس
السابقة واآلخر يتعلق بحياتها الحالية ،ففي الحياة السابقة قد تكون النفس قد قصَّرت
في رؤيتها عالم المثل ،وذلك قد يعود لقصور في حوذيّها وسيطرته على جواديه،
أو قد يعود للمصادفة حيث تتعثر بعض المركبات وسط الزحام الشديد والسباق
المحموم .3وفي كال الحالين فإن هذه النفس البائسة لم تحظ بالغذاء الكافي الذي ل
يتوافر إل في (سهل الحقيقة) وهو مايفيد في حسن التذكر في الحياة الالحقة ،وفي
نموّ ريش الجناح أيضا.4
أما األمر الثاني ،وهو الذي يتعلق بحياة النفس الحالية فيعود إلى وسائل التذ ّكر،
"فمن يلجأ إلى استخدام وسائل التذ ّكر بالطرق الصحيحة يمكنه المشاركة في
األسرار ،وهو وحده الذي يمكنه بلوغ الكمال الحقيقي 5وهذا هو الفيلسوف ،6وما
يميزه هو انصرافه عما يشغل الناس ،وتعلقه بما هو إلهي. 7
ولكن الجمال الحسّي ليس موضع إجماع بين الناس ،فما نراه جميال قد ل يراه غيرنا
كذلك ،فهل عالج أفالطون مسألة اختالف األذواق هذه؟.
يمكن أن نتلمس تفسيرا لهذه المسألة في حديث أفالطون عن مواكب اآللهة فكل
نفس كانت تسير في موكب أحد اآللهة ،وهي تقوم على تمجيده ومحاكاته ،وفي
الحياة الدنيا سوف تتعشق صفات إلهها المتبوع في من ترى من الفتية ،فهؤلء الذين
يتبعون زيوس يجتهدون بأن تكون نفوس محبوبيهم أشبه بزيوس ،فهم يبحثون عما
إذا كان محبوبهم بطبيعته فيلسوفا وعاقال ،فإذا اكتشفوا فيه هذا الخلق فإنهم يتيّمون
في حبّه " "..ألن النظر إلى هذا اإلله هو بالنسبة لهم ضرورة ل غنى لهم عنها،
وحين يصلون إليها بواسطة التذ ّكر والجذب يتلقون من اإلله ال ُخلق والسلوك الخاص
- 1نفسه ص.69
- 2نفسه والصفحة نفسها.
- 3نفسه ص .65
- 4نفسه ص .66
- 5نفسه ص.68
- 6نفسه ص.67
- 7نفسه ص.68
13
به ،ويشاركون في األلوهية بقدر ما تسمح الطاقة اإلنسانية ،وهم يظنون أن السبب
في ذلك ليس سوى المحبوب.1
وكذلك األمر بالنسبة لبقية اآللهة.
- 1نفسه ص .72
14
المحاضرة الرابعة
-1يقول د.عبد الرحمن بدوي" :يبدو أنه (= أفالطون) قد ندم على قراره ذلك بإبعاد الشعراء ،
وعاد يك ّفر عنه في كتاب (النواميس)" .أرسطو :فن الشعر – تر :عبد الرحمن بدوي -مكتبة
النهضة المصرية -القاهرة ( 1953مقدمة المترجم) ص.45
-2أرسطو :فن الشعر ص.70-69
-3نفسه ص.73-72
15
أرسطو ":الشعر أكثر نزوعا فلسفيا من التاريخ" ،1ويعلل ذلك بقوله" :ألن الشعر ،
باألحرى ،يروي الكلي ،بينما التاريخ يروي الجزئي ،وأعني بـ(الكلي) أن هذا
الرجل أو ذاك سيفعل هذه األشياء ،أو تلك ،على وجه الحتمال أو وجه
الضرورة" ،2ويعقّب غراهام هو على ترجيح أرسطو الشعر على التاريخ في معيار
النزوع الفلسفي قائال" :فهو [= الشعر] يُخضع مظاهر األشياء لرغبات العقل" 3بينما
يعرض التاريخ مظاهر األشياء كما هي في الواقع ،دون إخضاعها لرغبات العقل
القائمة على الكليات أو على مبدأ الحتمال والضرورة ،فتأتي الحبكة الشعرية أكثر
إقناعا من التاريخ ،وأمثلة العامة تعبّر عن هذه الفكرة بالقول ( :كذب مر ّتب خير من
صدق مفكك).
ٍ
هكذا يكون المعلم األول قد أدرك قيمة فلسفية في الشعر ،أي أن هذا الفن هو نافذة
على الحقيقة ،ألنه إذ يصوغ عالما متخيال فإنما يصوغه وفق المبادئ التي ترضي
العقل ونزوعه إلى المعنى أو المغزى ،فماذا ق ّدم الفالسفة المسلمون الذين شرحوا
الفلسفة األرسطية ،من إيضاحات وإضافات إلثراء (بويطيقا) المعلم األول.
الفارابي (ت 339هـ)
يتابع المعلم الثاني نهج الفلسفة اإلغريقية على ُخطا أرسطو ،في تأكيد قيمة القول
من خالل قيمة الحق ،أي الصدق والكذب .فيقسّم األقوال إلى خمسة أنواع ،
أعالها ،في الصدق ،هو القول البرهاني ،وأدناها ،في الصدق ،أي أكذبها ،القول
الشعري .يقول الفارابي " :إن األقاويل إما أن تكون صادقة ،ل محالة ،بالكل وإما
أن تكون كاذبة ،ل محالة ،بالكل وإما أن تكون صادقة باألكثر كاذبة باألقل ،وإما
عكس ذلك .وإما أن تكون متساوية الصدق والكذب .فالصادقة بالكل ل محالة هي
البرهانية ،والصادقة بالبعض على األكثر فهي الجدلية ،والصادقة بالمساواة فهي
الخطبية ،والصادقة في البعض على األقل ،فهي السوفسطائية والكاذبة بالكل ل
محالة ،فهي الشعرية".4
-1هذه العبارة بترجمة محيي الدين صبحي .هو ،غراهام :مقالة في النقد – تر :محيي الدين
صبحي – مطبعة جامعة دمشق –(د.م) 1393هـ 1973-م .ص 59.وتكررت العبارة في ص
.161وهي أدق من ترجمة د.عبد الرحمن بدوي التي جاءت على هذا النحو" :الشعر أوفر حظا
من الفلسفة وأسمى مقاما من التاريخ".أرسطو :فن الشعر ص.26
-2أرسطو :فن الشعر ص .27-26
-3هو ،غراهام :مقالة في النقد ص .161
-4الفارابي :مقالة في قوانين صناعة الشعراء .منشور في :أرسطو :فن الشعر -تح :د .عبد
الرحمن بدوي ص.151
16
ولكن على الرغم من تدني مستوى الشعر هذا ،فإن الفارابي تحدث ،كأرسطو ،عن
الشعر من حيث هو محاكاة أو تخييل وإيهام ،وفي هذه الناحية تكمن القيمة الفنية ،
أو اإلستطيقية للشعر ،فيميز الفارابي بين القول المغلّط والقول المحاكي ،فإذا كان
المغلّط يقول بنقيض الواقعة ،فإن المحاكي يقول بشبيه الواقعة ،فالمغلّط يحاول
إيهامنا بأن الساكن متحرك أو العكس ،بينما المحاكي يفعل ما تفعله المرائي.1
ويمايز الفارابي بين الشعراء من حيث جودة التخييل ،فيرى أن هناك نوعين من
الشعراء ،أحدهما يعتمد على جبلّته وطبيعته وغير عارف بصناعة الشعر ،واآلخر
عارف بهذه الصناعة .وشعراء النوع الثاني هم الذين "يجوّ دون التمثيالت
والتشبيهات بالصناعة".2
ابن سينا (ت 428هـ)
يتحدث الشيخ الرئيس بأسلوب أكثر وضوحا من أسلوب المعلم الثاني ،في ما
يخص طبيعة التصديق الشعري من حيث هو تخييل ،وذلك بإدخال مفهوم (إذعان
النفس) أو(النفعال) .يقول" :والمخيّل هو الكالم الذي تذعن له النفس فتنبسط عن
أمور ،وتنقبض عن أمور من غير رويّة وفكر واختيار .وبالجملة تنفعل له انفعال
نفسانيا غير فكري ،سواء كان المقول مص ّدقا به أو غير مصدق ،فإن كونه مص ّدقا
به غير كونه مخيّال أو غير مخيل :فإنه قد يص َّدق بقول من األقوال ول يُنفعل عنه،
فإن قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عن طاعة للتخييل ل للتصديق
،فكثيرا ما يؤثر النفعال ول يُحدث تصديقا ،وربما كان المتيقّن كذبه مخيّال".3
وعلى الرغم من أن كال من القول الصادق والقول المخيّل يحدث قبول ما في النفس
،فإن نوع هذا القبول ،أو ما يسميه ابن سينا اإلذعان،يختلف من هذا إلى ذاك
،فـ"التخييل إذعان ،والتصديق إذعان ،لكن التخييل إذعان للتعجب واللتذاذ بنفس
القول ،والتصديق إذعان لقبول أن الشيء على ما قيل فيه".4
أما كيف يصبح القول قول مخيال ،فيحدث في النفس لذة وقبول حتى وإن كان غير
مص ّدق ،فإنما يتم ذلك عبر وسائل ثالث أولها اللحن الذي يتن ّغم به ،وثانيها
بالكالم نفسه – سيتوضح ذلك عند ابن رشد – وثالثها بالوزن .والتخييل بالكالم
وحده من دون اللحن والوزن يتجلى في النثر ،وهذا التخييل هو األهم ،على ما يبدو:
-1نفسه ص.151-150
-2نفسه ص.156-155
– 3ابن سينا :فن الشعر (من كتاب الشفاء) .منشور في :أرسطو فن الشعر – تح :د.عبد
الرحمن بدوي ص .161
- 4نفسه ص .162
17
"وقد تكون أقاويل منثورة مخيّلة ،وقد تكون أوزان غير مخيّلة ألنها ساذجة بال
قول".1
ويؤكد الشيخ الرئيس أن أقدم شكل إلقرار العتقادات في النفوس إنما كان عبر
التخييل الشعري ،وذلك قبل نشوء الخطابة .2وبالتأكيد قبل نشوء المنطق ،أو القول
البرهاني.
ابن رشد (ت 595هـ)
يبدو القاضي األج ّل والعالم المحصّل أبو الوليد ابن رشد أكثر وضوحا من سابقيه
في تلخيص آراء المعلم األول وشرحها ،فبعد أن يذكر وسائل التشبيه أو المحاكاة
التي ذكرها ابن سينا ،وقد أوردها على هذا النحو (المحاكاة والوزن واللحن)
وأوردها على نحو آخر ( :القول المخيّل والوزن واللحن) ،يذهب إلى بيان آراء
صاحب فن الشعر في أن القول الشعري هو (القول المغيّر) مقابل ما يسمى (القول
الحقيقي) ،فيقول" :وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغيّر ،أنه إذا غيّر
القول الحقيقي سُمي شعرا ،أو قول شعريا ،ووجد له فعل الشعر ،مثال ذلك قول
القائل:
ومسح باألركان من هو ماسح ولما قضينا من منى كل حاجة
المطي األباطح
ّ وسالت بأعناق أخذنا بأطراف األحاديث بيننا
إنما صار شعرا من ِق َبل أنه استعمل قوله ( :أخذنا بأطراف األحاديث بيننا وسالت
بأعناق المطيّ األباطح) بدل قوله :تحدثنا ومشينا.3".
ويورد ابن رشد رأي أرسطو في ضرورة اجتماع الوزن مع القول المحاكي ليصبح
القول شعرا ،وبالتالي يتم استبعاد منظومات أنباذقليس ومحاورات سقراط من
الشعر.4
أما نجاح القول المحاكي ،أو بلوغه التمام ،فيكون كلما كانت المسافة أقرب بين
طرفي التشبيه.5
- 1نفسه ص.168
- 2نفسه ص .180-179
- 3ابن رشد ،أبو الوليد :تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر (الشرح الوسيط) -منشور
في :أرسطو :فن الشعر – تر :د.عبد الرحمن بدوي ص.242
- 4نفسه ص.204
- 5نفسه ص .223-222
18
المحاضرة الخامسة
- 1الحكيم ،د .سعاد :وحدة الوجود -مادة في :زياده ،معن :الموسوعة الفلسفية العربية -معهد
اإلنماء العربي – (د.م) طـ1986 1ص .1517
- 2نفسه ص .1526-1517
- 3نفسه ص .1536-1527
- 4نفسه ص .1536
- 5اليافي ،د .عبد الكريم :بدائع الحكمة ( فصول في علم الجمال وفلسفة الفن) – دار
طالس -دمشق طـ 1999 1ص .137
- 6نفسه والصفحة نفسها.
19
وجرت العادة عند المتصوفة أن يقيموا آراءهم على النص المقدس سواء بتأويله ،أو
وضعه على طريقة الكشف التي عرفوا بها والتي يأخذها عليهم علماء الحديث ،
ُ
فخلقت خلقا كنت كنزا ل أعرف فأحببت أن أعرفُ والحديث القدسي الذي نصه" :
فعرَّ ف ُتهم بي ،فعرفوني" 1هو مثال على ذلك ،وهو بمثابة حجر الزاوية في تأصيل
وحدة الوجود على النص ،وهذا الحديث يوضح نشوء الكثرة عن الواحد بناء على
علة المعرفة ،أو الرغبة في النتقال من الخفاء ( كنت كنزا) إلى الظهور ( أن
أعرف) ،وهذه المعرفة ل يمكن إل أن تكون جمالية ،ألن تجلي مبدأ الوجود ل
يمكن أن يتوقف عند حدود المعرفة الوجودية الموضوعية الخالية من القيمة ومن
اإلحساس الجمالي تحديدا.
إن أول سمة من سمات هذه المعرفة التي يقدمها لنا هذا الحديث هي وحدة الذات
والموضوع ،وحدة الذات العارفة والموضوع المعروف ،ألن معرفة الخالق إنما تتم
به ( فع ّرفتهم بي) ولذا قال المتصوفة ":إن هللا ع ّرفنا نفسه بنفسه ".2
ومن أجل الوقوف على ماهية المعرفة الصوفية بوضوح أكبر ينبغي الوقوف على
ماهية الجهل عندهم ،والجهل عند القوم هو الحجاب والحجاب ل يعني أن الخالق
يحجب الخلق عن معرفته ،بل إن الجاهل يغفل عن حقيقة الواحدية ،فيتوهم أن ثمة
آ خرين في الوجود ،وهذا الوهم الناشئ عن الغفلة هو الحجاب والجهل ،ولذا يقول
ابن عطاء هللا السكندري ( ت 709هـ ) " :مما يدلّك على وجود قهره سبحانه ،أن
حجبك عنه بما ليس بموجود معه" .3وقال أيضا" :ما حجبك عن هللا وجود موجود
معه ،ولكن حجبك عنه توهّم موجو ٍد معه".4
ننتهي من ذلك إلى أن الصوفي العارف ل يرى شيئا إل ويرى هللا فيه ،أو يرى هللا
قبله . 5ولذلك فإن العالقة الثنائية مع الجميل ،والمتمثلة بموضوع الجمال وذات
المتذوق ،تغدو عند المتصوفة ثالثية هي "الجميل والرائي وهللا".6
الجمال المعار:
1
-العجلوني ،إسماعيل بن محمد :كشف الخفاء ومزيل اإللباس عما اشتهر من األحاديث على ألسنة الناس ـ
مكتبة القدسي ـ القاهرة1351هـ .رقم الحديث2016ج2ص.132
- 2الكالباذي ،أبو بكر محمد :التعرف لمذهب أهل التصوف -المكتبة األزهرية للتراث -القاهرة
طـ 1412 3هـ 1992 -م ص .79
- 3الشرنوبي ،عبد المجيد :شرح حكم اإلمام ابن عطاء هللا السكندري -تح :د .عبد الفتاح
البزم -دار ابن كثير -دمشق ،بيروت طـ 1422 8هـ 2002 -م ص.80
- 4نفسه ص .168
- 5الكالباذي :التعرف لمذهب أهل التصوف ص .78-77
- 6الحكيم ،د .سعاد :نحو نظرية في الجمال عند المتصوفة -محاضرة في الندوة الثامنة حول
(الفن والتصوف) – معهد سرفانتس 21 -و22و 23نيسان -2001 -المتحف الوطني -دمشق.
20
يوضح الشيخ األكبر في فتوحاته المكية حقيقة الجمال في العالم ،بأن جمال
الموجودات مستم ّد من جمال خالقها ،فاهلل جميل وقد خلق العالم على صورته 1ألنه
يحب الجمال ،فكان العالم كله جميال.
فحقيقة الجمال في هذا العالم ليست أصيلة فيه بل هي معارة من مصدر التجلي
اإللهي ،وهذا ما يؤكده شيخ شعراء الصوفية ابن الفارض(ت632هـ) في تائيته
الكبرى المسماة ( نظم السلوك):
2
معا ٌر له بل حسن كل مليحة فكل ُّ مليح حسنه من جمالها
فالذات اإللهية هي مصدر كل جمال في هذا العالم ،وهي التي تظهر للعشاق
بالصور المحبوبة:
من اللبس في أشكال حسن بديعة وتظهر للعشاق في كل ّ مظهر
3
وآونة تدعى بعــزة ،عـــــزت! ٌ
بثينة ففي مرة لبنى وأخرى
وهذه الفكرة القائمة على أن الجمال اإللهي هو مصدر كل جمال ظاهر إنما هي
فكرة أفالطونية ظهرت في نظرية المثل حيث الجمال الحقيقي يصدر عن ذلك العالم
،وتتجلى ظالله على األرض.
ومن الطريف أن نجد هذه الفكرة منتشرة في أوربا خالل عصر النهضة ،وربما
عاد ذلك إلى مصدر مباشر هو التصوف اإلسالمي ،يقول ميكل
آنجلو )1564-1475()Michelangeloم) عبقري عصر النهضة الشهير" :كل
جمال نراه على هذه األرض هنا يأتي من هذا المنبع اإللهي الذي نأتي نحن منه".4
وهذا يعني أن الجمال ليس وحده المعار ،بل نحن معارون أيضا من حيث إننا
مشاهدو هذا الجمال.
الط ْرف المعار:
- 1ابن غانم المقدسي ،العز عبد السالم :الديوان -تح :ماهر محمد عبد القادر -المعهد الفرنسي
للدراسات العربية -دمشق 2001ص .158
- 2للو ،شارل :مبادئ علم الجمال ( االستطيقا) – تر :مصطفى ماهر -را :د .يوسف مراد-
دار إحياء الكتب العربية -القاهرة 1959ص.34
- 3الحكيم :نحو نظرية في الجمال عند الصوفية ص.8
22
هذه الروح يرى الصوفي في الغزل الدنيوي الحسي معاني روحية تجعل من
المحبوب الحسي رمزا أو معبرا للمحبوب اإللهي ،فيروى أن إبراهيم بن أدهم (ت
161هـ) سمع رجال يغني بهذا البيت:
ٌر سوى اإلعراض عني كل ُّ ذنب لك مغفـــــــــو
فغشي عليه ،1إذ وصله الخطاب على شكل عتا ٍ
ب إلهي.
ّ
المعذل ويبدو أن أبا بكر الشبلي ( ت 334هـ) قد تمثل يوما بأبيات لعبد الصمد بن
( ت 240هـ تقريبا) ،فنسبت إليه وهي :
ل َك سلطان على المهج يا بديع الدل ّ والغنج
غير محتاج إلى السرج إن بيتا ً أنت ساكنه
يوم يأتي الناس بالحجج وجهك المأمول حجتنا
2
يوم أدعو منك بالفرج ال أتاح هللا لي فرجا ً
ول يتمثل صوفي مثل الشبلي بهذه األبيات إل بعد انزياح دللتها الحسية إلى دللة
روحية صوفية تغدو فيها ذات الحق هي المحبوب المخاطب ،وقد تحدث أبو القاسم
الجنيد ( ت 297هـ) عن الجمال المقيد من حيث هو معبر إلى الجمال المطلق
بقوله " :كما أن النساء حبائل الشيطان فهن حبائل العرفان ،إذ قد يتوصل العاقل عن
عشقهن إلى معرفة مبدعهن ألن المقدمات الصريحة تنتج األغراض الصحيحة ،
وباألحرى من أمعن النظر في مخلوق زائل ترقى عند معرفة غايته إلى دائم
فاعل".3
4
إذا كانت غاية الصوفي هي الجمال المطلق ،فإن الجمال المقيد هو رسالة أو نداء
ينبه الغافل ،ألن النفس ل تميل وتكلَف ول تعشق وتهيم إل بالجمال ،5ويفسر الوزير
- 1حسان ،عبد الحكيم :التصوف في الشعر العربي اإلسالمي -دار العرّ اب ودار نور -دمشق
2010ص .185-184
- 2الشبلي ،أبو بكر :الديوان -تح :د .كامل مصطفى الشيبي -مطابع دار التضامن -بغداد طـ1
1386هـ 1967-م ص .139
- 3عبد الحكيم :التصوف في الشعر اإلسالمي ص .84
- 4يرى برقلس( ت 485م) أن كلمة ( الجمال) مشتقة من الفعل ( ينادي) فالجمال قوة يجذب
بها هللا الكائنات بعد صدورها عنه ،أفالطون :محاورة فايدروس -تر :د أميرة حلمي مطر -دار
غريب – القاهرة 2000حاشية المترجمة رقم 195 :ص .69
– 5ابن الخطيب ،الوزير لسان الدين :روضة التعريف بالحب الشريف -تح :عبد القادر أحمد
عطا -دار الفكر العربي( -د.م) (تاريخ مقدمة المحقق 1386هـ 1966 -م) ص.291
23
لسان الدين بن الخطيب ارتباط الجمال الجزئي أو المقيد ،بالجمال المطلق بأنه عالقة
الشبيه بالشبيه ،ويقول" :رسخ حب الصور وحب الحادث للحادث ،فما كان منه
غير مقرون بالشهوات ( )...فربما كان سلما للحب الحقيقي".1
ولكن طالما أن الجمال المقيد يع ّرض ذائقه لخطر النزلق في الشهوات والضالل
عن الجمال المطلق الذي هو الهدف والغاية ،فإن المتصوفة يحذرون من هذا
الخطر فيقول ابن الفارض:
3
بي تمال! 2فقلت :قصدي وراكا قال لي حسن كل شيء تجلى
وكثيرا ما يؤكد الصوفية بعد غزلهم بما يبدو جمال حسيا ،أو جزئيا مقيدا ،أنهم ل
يقصدون بهذا الغزل إل الجمال المطلق ،فهذا الشيخ األكبر بعد أن يع ِّدد أنواعا من
الجمالت الحسية يؤكد لسامعه أنه ل يقصد هذه الجمالت الح ّسيّة ذاتها بل ما تحيل
إليه من جمال مطلق ،فيقول:
4
واطلب الباطن حتى تعلما فاصرف الخاطر عن ظاهرها
ويقول الشيخ عمر اليافي ( ت 1233هـ) في أحد قدوده:
فمرادي مشهدك األسمى إن همت بهند أو أسما
5
يزداد فؤادي توحيدا وبنور صفاتك واألسما
القبح عند المتصوفة
إذا كان العالم تجليا للخالق الجميل ،فينبغي أن يكون جميال بإطالق ،فما س ّر ما يبدو
لنا في عالم الواقع من عالمات على القبح.
الحق أن المتصوفة يظلون مخلصين لمقدمتهم في صدور العالم عن الجميل،
وضرورة أن يكون العالم كله جميال وخاليا من القبح ،وهكذا ل يعدو أن يكون القبح
غفلة وقصورا ،كما أن السوى الذي يحجب المطلق هو كذلك ،وهذا عبد الكريم
الجيلي (ت 805هـ) قد أعطى التعليل الصوفي لغياب القبح ،فكل شيء في العالم
- 1الجيلي ،عبد الكريم :النادرات العينية -تح :د .يوسف زيدان -دار األمين القاهرة طـ 1
1419هـ 1999 -م ص .96
- 2الجيلي ،عبد الكريم :اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل ـ تح :صالح بن محمد بن
عويضة -منشورات محمد علي بيضون ودار الكتب العلمية – بيروت طـ1418 1هـ 1997-م
ص .94
25
المحاضرة السادسة
كان يجري التعبير عن الخيـر والجميل ،عند قدماء اليونان ،بلفظة واحدة هي
(ح َسن) ،1وهذه اللفظة ُتطلق على ( ،)kalokagathosومثلها في العربية كلمة َ
كل ما يجلب للمرء متعة أو منفعة .وربما كان في مفهومي المتعة ()hedonism
والمنفعة ( )utilitarianismمفتاح لغز التمييز بين األخالقي والجمالي .فأساس
القيمة هو المتعة ،أو اللذة ، 2كما قال أريستبوس القورينائي ِ()Aِِ ristippus
(355-435ق.م) ،إل أن أبيقور (270-341ق.م) ميَّز بين لذة مباشرة ولذة غير
مباشرة ،إذ رأى أن المرء َيلذ بذكـرى اللذة الماضية ،ويلذ بأمل اللذة المستقبلة.
ألم تعقبه لذة ،وباجتناب لذة صغرى ونصح ،في إرشاده األخالقي ،باإلقدام على ٍ
تحرمنا من لذة كبـرى ،وباجتناب لـذة يعقبها ألم .وفي كل ذلك إنما كان أبيقور
ينهض بصرح القيمة تأسيسا على القيمة الجمالية ،أو اللذة المباشرة .ثم انتقل بهذه
القيمة الجمالية ،عبر إدخاله مفهوم القتصاد والتقنين ،إلى الفضاء األخالقي القائم
على المنفعة ،وكأن القيمة األخالقية هي تقنين اقتصادي للقيمة الجمالية أو للذة.
الالذة تقوم على البداهة األولى ،وعلى الحدس المباشر باآلن ،أماَّ فالقيمة الجمالية
القيمة األخالقية فهي نتاج إعمال العقل المدرك لنقسام الزمن إلى آنات الماضي
والحاضر والمستقبل ،وهي نتاج اقتصاد اللذة ،وذلك بتوفيرها للمستقبل وفق مبدأ
المنفعة .وبذلك يمكن القول مع د .عبد الكريم اليافي :إن فكرة الجمال هي المظهر
األوّ ل لفكرة الخير3.
- 1زيعووور ،علووي :ضمممير (وجممدان) ـ زيووادة :الموسمموعة الفلسممفية العربيممة ـ معهوود اإلنموواء
العربي ـ (د .م ) ط .1986 1مج1ص.545
- 2كون إيغور(إشراف) :معجم علم األخالق ـ تر :توفيق سلوم ـ دار التقدم ـ موسكو.1984
ص.44
- 3اليافي ،د.عبد الكريم :بدائع الحكمة (فصول في علم الجمال وفلسفة الفن) ـ دار طالس ـ
دمشق ط.1999 1ص.46
26
يبدو أن مثل هذا التحليل هو ما قاد النظرة العامة للتمييز بين الخير والجمال ،هذا
التمييز الذي لم يتضح قبل القرون الوسطى .1وقد تابع القديس أوغسطين Saint
430-354(Augustineم) أفالطون في جعل (الجميل) قيمة في ذاته ،أي أنه
يروقنا في ذاته ،مميِّزا إياه عن (المالئم) الذي يرضينا لعالقته بشيء آخر ،وهذا
(المالئم) أو(النافع) سيغدو خيرا ،أو صفة أساسية للخير.
إل أن صفة الخير التي حملت ،في الفكر المسيحي القروسطي ،دللة على العدل
السماوي مقابل الشر األرضي ،اضطربت ،على صعيد التفكير األخالقي ،من
تأطيرها بالنافع ،فأبقاها أوغسطين سامية وهدفا أعلى ،وجعل من الجمال وسيلة إلى
ذلك الهدف.
وكذلك،على صعيد التفكير الجمالي ،اضطربت صفة الجميل ،إذ كيف يكون الجميل
قيمة إيجابية وهو مرتبط بعالم الحواس" ،العالم األرضي الدنس المليء بالخطيئة".2
ول شك في أن اإلقرار بأن كل لذة هي قيمة جمالية ،يجعل جميع اللذات الناشئة عن
عمل أعضاء الجسد جمال ،أي قيمة روحية .وقد احتاط علم الجمال الحديث لذلك
بأن ميز بين اللذة الجمالية واللذة المادية ،فاللذة الجمالية تتطلب "أن يكون العضو
شفافا ل يعوق اهتمامنا ،وإنما يوجهه مباشرة إلى موضوع خارجي" ،3حتى كأن
"الجهد الجمالي ليس سوى إدراك المرء لحالت نفسه مج َّسمة في أشياء
محسوسة".4
ومثل هذا التمييز بين اللذة المادية واللذة الجمالية ،يبدو مؤسَّسا على ما أثاره
أفالطون في محاورة (هيبياس األكبر) ،من تميز الجميل عن النافع والمفيد والخيِّر،5
ومن َقصْ ِر الجمال على حاستي السمع والبصر ،إذ يقول سقراط" :الجميل هو
المتعة ،ليس أية متعــة كانت ،بل تلك التي تأتي عن طريق البصر والسمع" ،6وقد
- 3سانتيانا ،جورج :اإلحساس بالجمال ـ تر :د.محمد مصطفى بدوي ـ را:د.زكي نجيب
محمود ـ مكتبة األنجلو المصرية ـ القاهرة(د.ت) .ص.62
- 5انظر :أفالطون :هيبياس األكبر ـ تر :د.علي نجيب إبراهيم ـ دار كنعان ـ دمشق ط1
.2003ص.71-66
- 6نفسه .ص.86
27
تابع القديس توما األكويني (1274-1225م) التمييز بين الخير والجمال ،و َق َ
صر،
َّ
"منزها عن كذلك ،اللذة الجمالية على حاستي السمع والبصر ،وأبقى الجميل
الغرض" ،1أي أن قيمته في ذاته .وبين ما يملك قيمة في ذاته ،وما يُرجى لغرض
ينتج عنه ،يمكن تلمس الخط الفاصل بين الخير والجمال.
فإذا نظر الباحث في مسألة األخالق مد ِّققا في الفـرق بين ما يملك قيمـة في ذاته،
وما هو مقصود لغاية أخرى ،فربما تك َّشفت له التجاهات األخالقية منضوية تحت
اتجاهين كبيرين ،يمكن أن يُطلق على أحدهما (األخالق التقليدية) ،وعلى اآلخر
(األخالق اإلبداعية).
فما هي سمات األخالق التقليدية؟
يمكن حد هذه األخالق في أن منطلقها ليس في الذات ،بل في الخارج ،فهي تقوم
على تنفيذ لوائح تعليمات في نصوص دينية ،أو أعراف اجتماعية ،أو دساتير حزبية
...الخ .وإن غاية هذه األخالق ليست في السلوك األخالقي ،بل في ما يعد به هذا
السلوك من نعيم اآلخرة ،أو النجاح الجتماعي.
وهذه األخالق يمكن أن تقع في الشكالنية والرياء ،أو ما يعرف بـ(الفريسية) التي
واجهتها المسيحية ،في بداياتها ،بطرح ( ُخلقيَّة الباطن) في مقابل (الخلقية
الظاهرية) .2و(الخلقية الظاهرية) ُتعرف بـ(الليغالية ،)legalismوهي من الالتينية
(=legalisشرعي) ،وقد انتقدها كانط )1804-1724(Kantألن اإلنسان فيها ل
ينطلق من إحساسه بالواجب ،بل من الرغبة في النجاح.3
وتمتاز األخالق التقليدية بجمودها ،فهي منظومة من الوصايا والتعليمات الساكنة
التي تأخذ طابع الديمومة .ويُطلق برغسون )1941-1859(Bergsonعلى هذه
األخالق اسم (األخالق المغلقة) ،ويشبهها بالغريزة عند الحشرات ،فيقول" :لو ألقينا
نظرة فاحصة على مجتمعات النحل أو النمل ( )...لوجدنا أن الغريزة هي التي
تجعل أفراد تلك الحشرات تح ِّقق من األفعال ما هو ضروري لصيانة حياتها
الجتماعية ،وأما في المجتمعات البشرية فإن (األخالق المغلقة) ،هي التي تقوم بمثل
- 3نفسه ص.335-334
28
هذه الوظيفة" ،1وبذلك يحدد برغسون القاعدة الكبرى لكل أخالق مغلقة بأنها "العمل
على صيانة التقاليد النافعة للمجتمع".2
أما (األخالق اإلبداعية) فهي على النقيض من تلك األخالق ،وربما كانت محاربة
المسيحية لجمود النص من أبرز تجلياتها ،إذ "يحارب المسيح الفريسية ألنها تغرق
في الحترام الشكلي للفضيلة ،وفي الوله المتغطرس بالقاعدة ،وفي التضحية بالروح
لمصلحة الحرف".3
وإذ كان منطلق األخالق اإلبداعية هو الذات الفردية ،فإنها أخالق حرية ،ول
ترضى بأي نداء يعوق نداء الحرية ،حتى ولو كان نداء (الجسد) الذي هو من
ملحقات الذات الفردية .ولذلك فإن األخالق اإلبداعية لم تكن أخالق الشهوات
بالضرورة ،وهذا تيار الكلبية( )Cynicismمـن أبـرز ممثلي األخالق اإلبداعية،
يقول مؤ ِّسسُه أنتيستينس األثيني 370-435(Antisthenes of Athensق.م):
"إن اللذة تستعبد النفس ،ولذلك فال حرب أشرف من الحرب ضد اللذة" ،4واللذة
المقصودة هنا هي اللذة المادية ،ولو كانت اللذة بإطالق لشملت اللذة الروحية،
َ
ولخ ِرب المبدأ الذي تقوم عليه األخالق اإلبداعية من لذة السلوك وفق دوافع الذات،
أو وفق مبدأ الحرية .فمبدأ الحرية هو"المبدأ األساسي في األخالق الكلبية" ،ويعني
التحرر من كل القوانين واألعراف والتقاليد السائدة.5
واألخالق اإلبداعية عند برغسون هي (األخالق المفتوحة) المضادة لـ(األخالق
المغلقة) ،أو هي (األخالق اإلنسانية) المضادة لـ(األخالق الجتماعية) .فإذا كانت
الثانية خاضعة ل َقسْ ر الجماعة ،فإن األولى خاضعة لما يسميه برغسون (نداء الحياة
الصاعدة) ،ويرى أن الفارق بين هذه األخالق وتلك ليس في الدرجة ،وإنما هو
فارق في طبيعة ك ٍّل منهما ،إذ بينما تتجه األخالق الجتماعية نحو حماية الجماعة
من عدوان غيرها من الجماعات ،وينحصر مثلها األعلى في تحقيق العدالة
والتضامن ،نجد أن األخالق اإلنسانية تنـزع نحـو العمل لصالـح البشرية قاطبة،
- 1إبراهيم ،د.زكريا :المشكلة الخلقية ـ دار مصر للطباعة الفجالة (تاريخ المقدمة.)1969
ص.97
- 2نفسه ص.99
29
ومثلها األعلى هو (المحبة) .غير أن هذه األخالق ل تنهـض بها الجماعات ،بل تقوم
على أكتاف العظماء من األبطال واألنبياء والمصلحين.1
الفردي العيني والعام المجرد:
يمثل تمييز كانط ) )1804-1724 ( ) Cantالقائم على المفهوم () concept
بين الحكم الجمالي والحكم األخالقي ،النقطة األبرز في التمييز بين الجميل والخير،
فالحكم األخالقي يقوم على المفهوم بينما يفتقر الحكم الجمالي للمفهوم ،فما هو
المفهوم؟
يمكن أن نعبر عن فكرة ( المفهوم) بالعربية بعبارة( التصور) وهو كما عرفه ولتر
ت.ستيس (" )1967 -1876 ( ) w.T Staceفكرة مجردة أو عامة تتميز عن
الفكرة الفردية أو العينية ففكرتي عن (زيد) أو (عمرو) ليست تصورا ألنها ل
تن طبق إل على فرد واحد ،أما فكرة (اإلنسان) فهي تصور ألنها فكرة عامة تنطبق
على جميع أعضاء فئة من الموضوعات ،وهي في هذه الحالة جميع أفراد البشر.
وهكذا فإن التصور يمكن أن يوصف بأنه فكرة عن فئة ،أو فكرة عن الصفات التي
يشترك بها جميع أعضاء فئة ما )...( .وليس ثمة ضرورة ألن تكون الموضوعات
مادية ،فقد تكون عالقات أو أفعال ،فمثال (الضرب) تصور ألنه يدل على فكرة
عامة من فئة األفعال 2".فإذا كان الحكم على هذا النحو( :هذه اللوحة جميلة) فهو
حكم جمالي ،ولكن قولي( :الرسم جميل) ،أو (األعمال الفنية جميلة) فليس حكما
جماليا ،ألنه يقوم على مفهوم ( :الرسم) أو (األعمال الفنية) ،وليس على واقعة
فردية عيانية.
أما الحكم األخالقي فيمكن صوغه وفق مفهوم 3كقولنا( :إغاثة الملهوف من أعمال
الخير) .فالح كم ل يتعلق بهذه اإلغاثة أو تلك أو هذا الملهوف أو ذاك ،بل بمفهوم
إغاثة الملهوف عامة.
-2ستيس ،ولتر .ت :معنى الجمال ( نظرية في اإلستطيقا) – تر :إمام عبد الفتاح إمام –
المجلس األعلى للثقافة – (د.م) . 2000ص .247
-3انظر :كانط :نقد ملكة الحكم –تر :غانم هنا -مركز دراسات الوحدة العربية -المنظمة
العربية للترجمة -بيروت طـ .2005 1ص 16وص. 200
30
ويتابع الفيلسوف األلماني هيغل ( )1831 -1770 ( ) Hegelمواطنه كانط في
هذا الرأي عبر تحسره على مكانة الفن التي كانت له في عصر ازدهاره عند
اإلغريق ،فيقول " :لقد أضحت ثقافتنا بأسرها ثقافة محكومة برمتها بالقاعدة العامة،
بالقانون .وقد أطلق على هذه التحديدات العامة اسم المفاهيم " ، 1ويثبت في الحاشية
شعرا لمواطنه األلماني شيللر( ،)1805-1759 ( ) Chillerومما جاء فيه:
"كئيب هو سلطان المفهوم :فمن ألف شكل متغير
ل يصنع سوى شكل واحد يتيم فقير وفارغ.
لكن الحياة والفرح يكونان على أشدهما حيثما للجمال
شكل2". سيادة ،فالواحد األزلي يعاود ظهوره في ألف
أما الفيلسوف اإليطالي كروتشه ( ، )1952-1866( ) Croceفيميز بين شكلين
من المعرفة :معرفة تقوم على المفهوم ،ومعرفة تقوم على الحدس ( )intuition
وهي المعرفة الجمالية.3
اإليجابي والسلبي:
يضع عالم الجمال ،ذو األصل اإلسباني ،جورج سانتيانا (-1863()Santayana
)1952مبدأ اإليجابية والسلبية معيارا للتمييز بين القيم الجمالية والقيم األخالقية،
فهو يرى "أن األحكام الجمالية إيجابية أساسا ،بمعنى أنها تنطوي على إدراك ما هو
خير ،في حين أن األحكام الخلقية في أساسها سلبية ،أي أنها إدراك للشر".4
-1هيغل :المدخل إلى علم الجمال -تر :جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت طـ3
.1988ص .26
-3انظر :كروتشه ،بنديتو:علم الجمال – تر :نزيه الحكيم -را :بديع الكسم -المجلس األعلى
لرعاية الفنون واآلداب والعلوم الجتماعية -المطبعة الهاشمية( -د.م) 1383هـ 1963م .ص
31وص.95
-4سانتيانا ،جورج :اإلحساس بالجمال -تر : :د .محمد مصطفى بدوي -را :د .زكي نجيب
محمود -مكتبة األنجلو المصرية -القاهرة (د.ت) .ص .50-49
31
وإذا ما كان هناك تيار في األخالق يدعو إلى قيام أخالق على مبدأ اللذة ،فهو تيار
ضعيف ،من ناحية الشيوع أو الجماهيرية ،1لـ" أن األخالق ل تهتم بتحقيق اللذة،
وإنما هي في أعمق قواعدها وأقواها تهتم بتجنب األلم.2
فالقيم في ميدان الجمال قيم إيجابية دائما ،وهي – كما أسلفنا -سلبية دائما في ميدان
األخالق ،وإذا تراءى لنا (القبح ) – وهو قيمة جمالية – قيمة سلبية في مجال الفنون
فإن سانتيانا ل يق ّر سلبيّته "ألن القبح ليس مصدرا أللم حقيقي :بل إنه في ذاته
مصدر تسلية" أما إذا طغى القبح وبات منفّرا إلى درجة تبدو مهددة للحياة "فإن
وجوده في هذه الحال يصبح شرا حقيقيا ،وبالتالي تجدنا نأخذ منه موقفا عمليا
خلقيا" ،3أي أن القبح هنا يغادر الميدان الجمالي ليستقر في الميدان األخالقي بصفته
أذى أو شرا.
المجال المفتوح والمجال اإلنساني:
يتحدث د .نايف بلوز عن ظهور األخالق في التجمع البشري نتيجة الحاجة إلى
تنظيم اجتماعي يلبي ما عجزت الضرورة البيولوجية عن تلبيته ،وجاء هذا التنظيم
على شكل قواعد أخالقية أساسها الجزاء الخارجي ،وذلك قبل أن تتحول تلك القواعد
إلى قوة إلزام داخلية وجدانية" .فمجال الوعي األخالقي هو األعمال اإلنسانية
وتوجيهها" .4أما القيمة الجمالية فال تختص بمجال محدد مثل األعمال اإلنسانية،
فمجال القيمة الجمالية مجال مفتوح على الطبيعة الحية وغير الحية ،وعلى اإلنسان
في هيئته الخارجية وعالمه الداخلي ،وعلى مختلف نشاطاته التقنية والعلمية والفنية.
"إن مجال الجمال شامل لكل المجالت".5
-1أطلقنا عليه اسم األخالق الجمالية ،السح ،رضوان :دالل الجمال ( فلسفة القيم في تجربة
الحالج – منشورات اتحاد الكتاب العرب -دمشق .2012ص .148 -135
-4بلوز ،د .نايف :علم الجمال -المطبعة التعاونية – دمشق 1401 -1400هـ-1980 -
1981م.ص .47
32
المحاضرة السابعة
عندما نتحدث عن الجمال أو الجميل ،من حيث هو مقولة نكون أمام مصطلح
يعبر عن نمط ٍ ،أو نوع من أنواع الجمال ل عن الجمال عامة ،فـ( الجمال) في
عبارة (علم الجمال) مثال ،يعني جميع أنواع الجمال أي أنه يضم جميع المقولت
الجمالية من الجميل والجليل والقبيح ...الخ ،أما (الجمال) من حيث هو مقولة،
فهو نوع من أنواع الجمال يتسم بـ" الهدوء والتزان والسالم والطمئنان،
وتناسب األجزاء وكمال كل جزء في المجموع ،واتساق هذه األجزاء بعضها
مع بعض ومع المجموع ،واتساق المجموع معها".1
- 1اليافي ،د.عبد الكريم :بدائع الحكمة ( فصول في علم الجمال وفلسفة الفن) – دار
طالس -دمشق طـ . 1999 1ص .63
33
يقيم عالم الجمال الفرنسي شارل للو ( ) 1953-1877 ( ( LaLoالجمال على
التعاطف بيننا وبين قوة خفية 1في الموضوع الذي نتأمله ،ويمكن أن يقوم الجمال
على كل ما( يعب ّر عن الحياة ،أو يذكر بالحياة ) 2فيكون نقيض الجمال هو ما
يذكر بالموت .ومن الطبيعي إذا كان الجمال يحيل إلى الحياة أن تكون المشاعر
التي ت صاحب الشعور بالجميل هي مشاعر " األنس والمحبة والغتباط
والراحة".3
ل شك أن مقولة الجميل تزداد وضوحا عند مقارنتها بالمقولت الجمالية األخرى
،ول سيما بمقولتي (الجليل ) و( القبيح).
-2الجليل ( :) Sub Lime
- 1للو ،شارل :مبادئ علم الجمال ( اإلستطيقا) – تر :مصطفى ماهر -را :د .يوسف مراد –
دار إحياء الكتب العربية -القاهرة 1959ص.63
- 2مرعي ،د .فؤاد :الجميل في العصور الحديثة -مجلة المعرفة -العدد المزدوج ()301-300
– وزارة الثقافة – دمشق -شباط ،آذار 1987ص .46
- 3كليب ،د .سعد الدين :البنية الجمالية في الفكر العربي -اإلسالمي -منشورات – وزارة
الثقافة -دمشق 1997ص .161
- 4يعبرَّ عن مفهوم ( الجليل) بعبارتي ( :الرائع) و( السامي) أيضا.
- 5اليافي :بدائع الحكمة ص .99
- 6نفسه ص.100
- 7مرعي :الجميل في العصور الحديثة ص .64
- 8نفسه ص ( 65حاشية .)-1-
- 9نفسه ص .65
34
وهذا يعني أن كبر الحجم صفة أساسية من صفات الجليل ،وهو ما يؤكده كانط
إذ يقول ":نحن نسمي ساميا ما هو كبير كبرا مطلقا ".1
يحلل عالم النفس الفرنسي ريبو ) 1916 -1839 ( RiboTالشعور بالرائع
إلى:
" -1شعور بقلق وتصاغر وضعف حيوي يرجع إلى انفعال أولي هو الخوف.
-2شعور باندفاع وحيوية يرجع إلى انفعال آخر وهو اإلحساس بقدرة ذاتية
شخصية.
-3شعور واع ٍ ،أو غير واع ٍ ،باألمن تلقاء قدرة هائلة.
2
ولول األمن لزال كل شعور جمالي "
وهذا الشعور المركب من تضاؤل الذات أمام المظهر الهائل والمخيف،
واإلحساس في الوقت ذاته بقدرة ذاتية وشعور باألمن ،هو جوهر الشعور
بالجليل .فعلى الرغم من أن كانط يقيم مفهوم الجالل على الخوف ،إل أنه يميز
الجالل بنوع من الخوف هو اإلجالل ،وذلك اعتمادا على التمييز بين الدين
والخرافة .فاإلنسان المؤمن بالعدالة اإللهية ،والقدرة اإللهية التي ل ترد ،توقظ
فيه تلك القدرة فكرة سمو هذا الكائن الذي في داخله ،ألنه يملك نية سامية مطابقة
إلرادة هللا ،أما الخرافة فإنها ل ترسخ في النفس إجالل للسامي ،بل خوفا (فقط)
من الكائن كلي القدرة.3
ولع ّل ما أشار إليه كانط بمفهوم اإليمان يشير إليه شارل للو بعبارة " :تعاطف
ممزوج بالحب" ،وهو يؤكد الطبيعة المركبة للجليل ،من النفور والستلطاف.4
يرى د .فؤاد مرعي أن مفهوم الكمال عند الفيثاغوريين في الحضارة اإلغريقية
،يمكن أن يمثل بداية إلدراك مفهوم (الجليل) ،ومفهوم (المثل األعلى) إدراكا
نظريا .5والجليل هو الظاهرة األكثر قربا من المثل األعلى .6وقد تمثل الجليل
- 1كانط :نقد ملكة الحكم -تر :غانم هنا – المنظمة العربية للترجمة – بيروت ط 2005 1ص
.157
- 2اليافي :بدائع الحكمة ص .105
- 3كانط :نقد ملكة الحكم .ص .143
– 4للو :مبادئ علم الجمال ص .63
- 5مرعي :الجميل في العصور الحديثة ص .65
- 6نفسه ص .79
35
في الحضارة المصرية عبر أبي الهول واألهراما ت 1وتمثل في الحضارة
اإلسالمية بمشاهد يوم القيامة ،وباإلسراء والمعراج وهبوط الوحي والحج.2
ويمكن أن نقارن الجالل بالجمال ،فبينما كنا مع مشاعر األنس والمحبة
والغتباط والراحة في مصاحبة الجميل ،فإن مشاعرنا أمام الجليل تتمحور حول
(الهيبة).3
وبينما يرى بعض الباحثين أن الجليل ل يحتاج إلى جمال الشكل ألنه يتطلب
عنصر التنفير ،4فإن آخرين يرون أن الجليل هو الجميل الخارق والالمتناهي،
أو أنه أعلى درجات الجميل.5
فالنفور الناشئ عن الخوف في الجليل ليس نفورا من القبح ،بل هو خوف
مسيطر عليه 6فال يمكن أن يكون الجليل قبيحا ،7بل إننا أمام الجليل نرخص
أنفسنا الحادثة وننشد التوحد بجوهر الحقيقة ،وكأننا نقول " :أيها الرب ! إنني
سأثق بك حتى حينما تقتلني ".8
-3القبيح ( : (The Ugly
يبدو القبيح ،من حيث هو مقولة جمالية ،منطويا على تناقض ما ،إذ كيف يكون
الموضوع المن ِّفر 9جذابا وممتعا في الوقت ذاته؟ وباختصار :كيف يكون القبيح
جميال؟
إن ما يجعل القبيح مقولة جمالية إنما هو الفن ،فالفن يحررنا من الشر واألذى في
ما نراه -واقعيا -قبيحا ،ولذلك فـ" إن صورة امرأة قبيحة أو عادية ،بطبيعتها،
يمكن جدا أن تكون تحفة فنية رائعة" .10وهذه المرأة القبيحة ضمن العمل الفني
هي نموذج لمقولة القبيح.
- 1نفسه ص .67
- 2اليافي :بدائع الحكمة ص .107
- 3كليب :البنية الجمالية في الفكر العربي ـ اإلسالمي .ص.191
- 4مرعي :الجميل في العصور الحديثة ص .81
- 5نفسه ص .82
- 6سانتيانا ،جورج :اإلحساس بالجمال -تر :د .محمد مصطفى بدوي -مكتبة األنجلو المصرية
– القاهرة ( د.ت) ص .255
- 7نفسه ص .259
- 8نفسه .ص .260
- 9يرى للو أن القبح نفور ،للو :مبادئ علم الجمال ص .63
- 10نفسه .ص .12
36
ول يمكن الوقوف على طبيعة المشاعر المصاحبة لمقولة القبيح إل إذا وقفنا على
سمات القبيح في الطبيعة ،ومن أولى هذه السمات سمة المسخ أو التشوه ،وقد
تحدث ابن سينا كيف أن عوارض ما قد تعترض الصورة فتمنعها من الظهور
في المادة بمظهر الكمال ،وعند ذلك ل تقبل المادة التخطيط والتشكيل القويم ،
فتتشوه الخلقة.1
وتبدو مقولة القبيح على النقيض من مقولة الجميل في ثنائية الحياة والموت ،فإذا
كان الجميل هو ما يعبّر عن الحياة أو يذ ّكر بالحياة -كما م ّر في مقولة الجميل-
فإن القبح ،كما يرى بعض علماء الجمال ،هو كل ما يعب ّر عن الموت أو يذ ّكر
به ،ويقولون أن الضفدع إذا كان قبيحا فما ذلك إل ألن جلده يذكر بجلد الميت.2
ويرى للو مع ليف تولستوي ( )1910-1828 ( ) Tolstoyوأوغست كونت (
) 1857-1798 ( ) Cometوغيرهما " ،أن كل ما يوحّد الناس جميل ،وأن
كل ما يهدف إلى إضعاف الرباط الجتماعي قبيح ".3
أما هيغل فيطرح القبح كقيمة نسبية ،ونسبيتها تقوم على العادة واإللفة ،فنحن
ننسب القبح إلى الحيوانات التي تمتلك عضوية ل تشبه العضويات التي اعتدنا
على رؤيتها.4
وقد وقف بعض المتصوفة المسلمين على نسبية القبح لكي ينفوا إطالقه ويقولوا
بإطالق الجمال ،ألن الطبيعة هي مجلى الحق ،فال يصح أن يقع فيها نقص أو
قبح إل باعتبار أي بنسبية ،على ح ّد تعبير الشيخ عبد الكريم الجيلي (ت 805
هـ) " :ا علم أن القبح في األشياء إنما هو لالعتبار ل لنفس ذلك الشيء ،فال يوجد
في العالم قبح إل باعتبار ،فارتفع حكم القبيح المطلق من الوجود ،فلم يبق إل
الحسن المطلق ،أل ترى إلى قبح المعاصي إنما ظهر باعتبار النهي ،وقبح
- 1ابن سينا :كتاب الشفاء ،نقال عن :كليب :البنية الجمالية في الفكر العربي -اإلسالمي .ص
.195
- 2مرعي :الجميل في العصور الحديثة .ص .49
- 3للو :مبادئ علم الجمال ص .132
- 4هيغل :المدخل إلى علم الجمال -تر :جورج طرابيشي – دار الطليعة للطباعة والنشر-
بيروت ط .1988 3ص .210
37
الرائحة المنتنة إنما ثبت باعتبار من ل يالئم طبعه ،وأما هي عند الجعل ومن
يالئم طبعه من المحاسن".1
وقد أشار الجيلي في هذا المقبوس إلى اعتبارين األول قبح باعتبار الشرع أو
النهي ،والثاني قبح باعتبار الطبع الحيوي للكائن الذي يحكم على الموضوع
بالقبح أو عدمه.
-المأسوي ( التراجيدي :) The Tragic
المأساة هي ترجمة لـ ( التراجيديا) اليونانية هذه الكلمة التي كانت تطلق على
الحتفا لت الدينية القديمة عند اإلغريق ،ثم صارت تطلق على األعمال المسرحية
التي تنتهي بموت البطل بعد صراعه قوى عاتية .
صحيح أن التراجيديا تنتهي نهاية حزينة لموت البطل الذي يحمل قيمنا حتى لنحسب
أننا نحن من يصارع تلك القوى العاتية ،إل أن هذا الحزن ليس شعورا بالشفقة،2
وليس انكسارا ورضوخا ،بل هو تحد ّ يبعث على النشوة والفخار لعظمة اإلرادة
البشرية التي ل تقبل أن تعلوها إرادة ،فتضحي بكل شيء إل أن تنصاع إلرادة
أخرى ،مهما بلغ حجم القوة التي تذخر بها هذه اإلرادة الغاشمة .
يقول د .نايف بلوز" :الموت ل يعد مأسويا إل إذا كانت الحياة مثال أعلى ،أما إذا
كان الموت مجرد عبور لحياة خالدة في عالم آخر فال يعتبر مأسويا" ،3والشق الثاني
من هذا القول صحيح تماما ،إذ إن الحياة الخالدة الموعودة تخفف من الحزن
والفاجعة فتعطل شرطا من شروط المأساة ،أما الشق األول الذي يشترط أن تكون
الحياة مثال أعلى ،فهو ل يستطيع بمفرده تحقيق المأساة ،فهو يمكن أن يؤدي إلى
شعور بالتشاؤم واإلحباط والقبح ،وهو ما أشار إليه د .بلوز نفسه باسم (المـأساة
التشاؤمية) ،طارحا ح ّل هذه التشاؤمية – على الطريقة الماركسية -عبر إدراك أن
القوى الطبيعية والجتماعية المعادية للبشر ستهزم يوما ما من خالل التضحيات.4
ول ننكر أهمية هذا الحل ،إل أننا ينبغي أن نشير إلى محدوديته وقصوره ،فهو
- 1الجيلي ،الشيخ عبد الكريم :اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل -تح :صالح بن
محمد بن عويضة – منشورات محمد علي بيضون ودار الكتب العلمية -بيروت ط 1418 1هـ
1997م.ص .94
- 2يرى د .عبد الكريم اليافي أن المأساة (( تستدعي الرثاء والشفقة )) .اليافي :بدائع الحكمة –
ص .123
- 3بلوز ،نايف :علم الجمال -المطبعة التعاونية -دمشق 1401 – 1400هـ -1980 ،
1981م .ص . 95
- 4بلوز :علم الجمال ص 96 – 95
38
من جهة قاصر عن أن يبلغ بالتراجيديا ذرا عالية ألنه يقع في النفعية التي تشابه
نفعية الخلود في العالم اآلخر .والنفعية ل تناسب الجمال عموما فضال عن أن تناسب
المأسوي.
ومن جهة ثانية فإن هذا الح ّل محدود القدرة في تفسير عدد كبير من األعمال
التراجيدية العالمية .وما نراه هو أن المثل األعلى -في المأساة – يتمثل في اإلرادة
البشرية ،وأن المأساة إنما تتحقق برؤيتنا هذه اإلرادة وهي تقدم أع ّز ما تملك ،وهو
الحياة عبر "عراك يقوم به كائن يعتقد أنه ح ّر ضد جبرية خارجية ل مفرّ منها .1".
إن المثل األعلى في المأسوي هو إرادتنا البشرية المتحدية للقوى العظيمة ،أما في
الجليل فالمثل األعلى هو إرادتنا المستسلمة لعظمة هذه القوى ،ولذا ل يصح القول
إنه في المأساة " غالبا ما تتجسد النهاية بالموت الجليل" 2فإذا ما شاهدنا إعصارا
قويا يكتسح مدينة فنحن أمام الجليل ،وذلك لغياب البطل الذي يصارع هذا
اإلعصار.
فإذا ّ
مثل اإلعصار إرادة غاشمة تبغي كسر إرادة البطل ،وتقدم البطل للمنازلة على
الرغم من عدم التكافؤ ،سقطت صفة الجليل ،وأصبحنا أمام المأسوي أو التراجيدي.
ولذا يأخذ شارل للو على كانط رؤيته في الرائع (= الجليل) انتقاما لحريتنا من
الالنهائي في الكبر ،ألن (النتقام ) ل يناسب الموقف من الجليل ،فيقول للو:
"وهكذا نرى أن كانط قد خلط التراجيدي بالرائع".3
المقوالت الجمالية-2-
-1برغسون ،هنري :المادة والذاكرة (دراسة في عالقة الجسم بالروح) ـ تر :د .أسعد عربي
درقاوي ـ مرا :د.بديع الكسم ـ منشورات وزارة الثقافة واإلرشاد القومي ـ دمشق ط1985 2
ص.28
-2نفسه ،ص.43
- 3برغسون ،هنري :الضحك (بحث في داللة المضحك) ـ تر :سامي الدروبي وعبد هللا عبد
الدائم ـ دار العلم للماليين ـ بيروت ط.1983 3ص.125-116
40
ويتابع برغسون في كتابة (التطور الخالق (1907مذهبه في تفسير المعرفة بناء
على معطيات البيولوجيا ،فيحدثنا عن الملكة المعرفية التي امتاز بها اإلنسان ،وهي
العقل في مقابل الغريزة عند الحيوان ،فنقف على الطبيعة الذرائعية لعمل العقل ،فهو
لكي يدرك الحركة ـ والحركة هي الواقع كما يرى برغسون ـ يعمد إلى تجزيء
الحركة إلى مواقف ساكنة متتابعة ،وهذه حيلة نافعة ،إال أنها توضح لنا أن العقل غير
مهيأ للتأمل المحض ،1أو المعرفة الخالصة ،بل هو آلة نافعة في خدمة العضوية
الحية.
ولكن أين الفن ومقولة الهزلي أو المضحك من كل ذلك؟
يرى برغسون أن الفنانين هم أفراد شذوا عن هذه القاعدة العامة ،ومالوا إلى نمط
من المعرفة المقصودة لذاتها ال لغرض نفعي ،فالحالة العادية لإلدراك تجعلنا " نعيش
في منطقة وسيطة بين األشياء وبيننا ،ال في األشياء وال في أنفسنا ،ولكن الطبيعة
تذهل من حين إلى حين فتخلق نفوسا أكثر انصرافا عن الحياة" .وهؤالء هم الفنانون
سواء في إدراكهم لألشياء أو في إدراكهم ألنفسهم.2
هكذا يغدو الفن في المذهب البرغسوني ذهوال عن النفعي وغوصا في فرادة
األشياء والذات ،إال أن الهزلي هو بخالف ذلك ،إنه مقولة فنية ،ولكنه يقصد نفعا
للحياة ،وبذلك يمكن أن نقول" :إن الملهاة وسط بين الفن والحياة :إنها ليست كالفن
المحض مجردة عن الغرض" .3ولكن إذا كان هذا الغرض هو الحياة أو تقديم خدمة
ومنفعة للفرد أو المجتمع ،فكيف يتم تحقيق هذا الغرض من خالل الضحك؟
يعرف برغسون الحياة بأنها "قبل كل شيء نزوع إلى التأثير في المادة الميتة"،4
وهذا التعريف يمثل ركيزة أساسية لقيام الضحك على المفارقة بين الحيوي
والمتصلب ،أو بين الحيوي واآللي ،فالضحك هو بمثابة عقاب اجتماعي 5للمضحوك
منه ،إنه إنذار يشير إلى خطر التصلب 6واآللية ،ولكن كيف يتجلى ذلك عمليا؟.
يضع برغسون ما يمكن تسميته مبادئ أولية للمضحك أو للتصلب وهي:
-1برغسون ،هنري :التطور الخالق ـ تلخيص د.محمد بديع الكسم .منشور في :قسم الدراسات
الفلسفية المعاصرة بجامعة دمشق :تاريخ الفلسفة المعاصرة -مطبعة الداودي -دمشق -1402
1403هـ 1983-1982 ،م.ص.48
-2برغسون :الضحك ص.120-119
-3نفسه ص.130
-4برغسون :التطور الخالق ص.35
-5برغسون :الضحك ص.107
- 6نفسه ص.109
41
-1العفريت ذو النابض :يشير هذا المبدأ إلى لعبة من ألعاب األطفال تتمثل بعلبة
يخرج منها العفريت ،عند فتحها مدفوعا بنابض ،وكلما حاولنا إعادته بضغطه
فإنه يعند ويقفز إلى األعلى ،والشك أن هذه اللعبة تجعل الطفل يغرق في
الضحك .والمضحك هنا ـ كما يرى برغسون ـ هو النزاع القائم بين عنادين،
أحدهما آلي واآلخر حيوي .ولعبة القط والفأر تقوم على المبدأ ذاته ،فالقط
يتغافل عن الفأر حتى إذا هم بالحركة أوقفه بلمسة من مخلبه .ويضرب
برغسون أمثلة من األعمال المسرحية الكوميدية التي تقوم على هذا المبدأ.1
-2األراجوز ذو الخيوط :ويتمثل هذا المبدأ بدمية يحركها األراجوزي بخيوط،
فتظهر لنا أن إنسانا قد تصلب ألنه بات ألعوبة بين يدي شخص آخر ،وقد بنيت
أعمال كوميدية عديدة على هذا المبدأ ،2ومنها شخصية العاشق الخجول الذي
يلقنه صديقه الجريء كالما يغازل به محبوبته.
-3كرة الثلج :وهذا المبدأ يشير إلى أثر يبدأ ضئيال اليُذكر ثم يؤدي إلى نتائج
خطيرة غير متوقعة ،فالتصلب الذي يحدث كنتاج للنظام العسكري الصارم
يمكن أن يكون مثاال على ذلك ،فالجنود في صفوفهم التي تبدو مرسومة
بالمسطرة ،يمكن أن تقدم مشهدا هزليا حين يتعثر جندي -وهذا حدث بسيط -
فيؤدي األمر إلى تعثر جماعي وسقوط متتابع.3
تجليات للمضحك:
كل مايورده برغسون من أشكال للمضحك هو صورة لإلنسان يحوله سبب ما إلى
مايشبه اآللة:
-1التكرار :4مشهد التوائم الحقيقية مضحك ،ألنه يوحي بأن الحياة قد تصلبت
وراحت تنسج شكال موحدا.
-2القلب :وهو قلب األدوار ،ونمثل له بمشهد المتهم وهو يقدم مواعظ أخالقية
للقاضي.5
-3تداخل السالسل :6مثل مشهد يضم شخصيات في حفلة عرس ،فتجري أحداث
تجعلهم يُشاهَدون في سلسلة أخرى هي مجلس عزاء مثال.
-1نفسه ص.66-60
-2نفسه ص.68-66
-3نفسه ص.72-68
-4نفسه ص.78-75
-5نفسه ص.79-78
6نفسه ص.83-79
42
-4مضحك الكلمات ،وهو يقوم على طبيعة اللغة المحلية ومفارقاتها في مايمكن أن
تحمل العبارة من معان متعددة ،وهذا النوع ممتنع على الترجمة.1
-5الذهول :وهو شكل واضح الداللة على التصلب ،فالذاهل أشبه باآللة .2وتحت
عنوان الذهول يمكن أن نضع منطق الحلم 3الذي ال يعترف بمبدأ الهوية.
-6حضور المادي إلى جانب الروحي :وهو كقول فيلسوف ألماني في عبارة
تأبينية" :كان ـ رحمه هللا ـ فاضال سمينا" .4ويتجلى أحيانا على شكل حضور
الواقعي في العبارة المجازية ،كقولنا" :الفنون إخوة" بالمعنى المجازي فيحضر
تعبير "الفنون أبناء عمومة" 5الذي ال يسمح بالداللة المجازية.
-7الفعل والحركة :يعني برغسون أن "الفعل شيء مراد ،وهو على كل حال أمر
شعوري ،أما الحركة فتفلت منك عفوا ،وهي آلية.6
بين الهزلي والمأساوي:
يرى برغسون أن الهزلي يميل إلى العمومية والنمذجة ،بينما بطل المأساة شخصية
فريدة ،ولذا يمكن القول بأن المأساة تعنى بأفراد ،بينما تعنى الملهاة بأنواع.7
ويشير برغسون إلى الفارق الهام في إبداع كل من المأساة والملهاة ،فيرى أن
المأساة تقوم على المالحظة الداخلية ،فالمبدع يرسم بطله من أعماق ذاته ،بينما يقوم
إبداع الملهاة على المالحظة الخارجية ،وهي بذلك ذات طبيعة تشبه العلوم
االستقرائية.8
-1نفسه ص.84
-2نفسه ص.92-90
-3نفسه ص.145-141
-4نفسه ص.47
- 5نفسه ص.93
-6نفسه ص.112
-7نفسه ص.127-126
-8نفسه ص.130-128
43
المحاضرة التاسعة
يُعرف إيمانويل كانط )1804-1724 ( )KanT (1في تاريخ الفلسفة الحديثة ،بأنه
مؤسس الفلسفة -النقدية األلمانية ،وهذه الفلسفة قد شقت طريقها من خالل نقد
فلسفتين متصارعتين هما الفلسفة العقلية و الفلسفة التجريبية.
وإذا كان كانط هو أول من قام في العصر الحديث ،بمحاولة كبرى لتأسيس علم
الجمال ،وذلك في كتابه ( نقد ملكة الحكم) ،2فال بد لمعرفة فلسفته الجمالية من
الوقوف على ركائز فلسفته في المعرفة وفي األخالق أيضا.
انطلقت الفلسفة النقدية الكانطية من مبحث المعرفة ،فأصدر كانط كتابه (نقد العقل
الخالص) 3عام ،1781وثناه بكتاب في علم األخالق بعنوان ( :نقد العقل العملي)
عام 1787وفي عام 1790أصدر كتابه (نقد ملكة الحكم) في علم الجمال ،ليكتمل
به ثالوث الفلسفة النقدية.4
الجمال والحق
تتمثل المعرفة عند كانط بالحكم ،والحكم هو الربط بين الموضوع والمحمول ،فبين
أن هناك نوعين من األحكام:
كنت). - 1عرف تعريب هذا السم أربعة رسوم هي ( :كانط – كنط – كانت –
- 2بلوز ،د .نايف :علم الجمال -المطبعة التعاونية -دمشق 1401 -1400هـ 1981 -1980
م .ص .184
- 3وترجم بعبارة ( :نقد العقل المحض ) أيضا.
- 4أصدر كانط مؤلفات أخرى إلى جانب هذه الكتب األساسية ،منها :تأسيس ميتافيزيقا
األخالق ( ، )1785والدين في حدود العقل وحده ( ، )1793وعلم اإلنسان من الناحية
العملية ( .)1798انظر على سبيل المثال :كانط :نقد ملكة الحكم – تر :غانم هنا -مركز
دراسات الوحدة العربية – المنظمة العربية للترجمة – بيروت ط . 2005 1ص ( 27مقدمة
المترجم ).
44
-1أحكام تحليلية يكون محمولها متضمنا في موضوعها كقولنا( :كل الكرات
كروية).1
-2أحكام تركيبية ،وهي التي يكون في محمولها إضافة ما إلى الموضوع وهي
نوعان:
أ – أحكام قبلية ( ) A Prioriوهي تشبه األحكام التحليلية في استغنائها عن التجربة
ومثالها ) 12=6+6( :
ب -أحكام بعدية ( )A posterioriوهي األحكام التي ل يمكن معرفة محمولها إل
من خالل التجربة مثل( :الزرنيخ سام).2
ويمكن الكتفاء باألحكام التركيبية ،ألن التحليلية ل تكاد تتجاوز اللفظية ،وبذلك
يكون عند كانط نوعان من الحكم :حكم سابق للتجربة ،وحكم ل يقوم إل بعد
التجربة ،ففي أي نوع من هذين النوعين يقع الحكم الجمالي ؟
هل نكتسب معرفة الجمال بالتجربة ،أم إن الحكم الجمالي في فطرتنا مبدأ قبلي مثله
مثل إدراكنا المبادئ الرياضية؟
يقول كانط مخاطبا أحد أصدقائه (قبل صدور كتابه نقد ملكة الحكم بثالث سنوات ):
"أنا مشغول بنقد الذوق وإني أكتشف في مجاله نوعا من المبادئ القبلية مختلفا عن
المبادئ القبلية السابق لي بيانها ،ذلك أن ملكات الروح ثالث :ملكة المعرفة،
والشعور باللذة واأللم ،وملكة الرغبة (اإلرادة).
وقد وجدت مبادئ قبلية بالنسبة إلى الملكة األولى وذلك في :نقد العقل المحض
(النظري) ،وبالنسبة إلى الملكة الثالثة في :نقد العقل العملي ،ولهذا رحت أبحث
أيضا عن مبادئ قبلية بالنسبة إلى الملكة الثانية ".3
هذا يعني أن كانط قد وقف على مبادئ قبلية معرفية ،أو عقلية ،وعلى مبادئ قبلية
أخالقية تتعلق بالرغبة أو اإلرادة ،ويسعى إلى الوقوف على مبادئ قبلية جمالية
قائمة على الشعور باللذة واأللم .فما عسى أن تكون هذه المبادئ الجمالية؟
- 2نفسه ص .37
-كانط :نقد ملكة الحكم .ص ( 35مقدمة المترجم ).
3
45
يتحدث كانط عن ملكة الحكم (الجمالي) بأنها حلقة وسط بين العقل النظري والعقل
العملي ،ولو سألناه :وإلى أيهما تميل هذه الملكة؟ ألجاب " :لو لم يكن باإلمكان
تقسيم الفلسفة إل إلى قسمين رئيسيين :الفلسفة النظرية والفلسفة العملية ،لوجب أن
نعتبر كل ما نريد قوله حول المبادئ الخاصة بملكة الحكم تابعا للقسم النظري ،أي
للمعرفة العقلية 1".أي أن القيمة الجمالية أقرب إلى قيمة الحق منها إلى القيمة
األخالقية .
ولكن ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن حكم الذوق والحكم المنطقي متقاربان؟
لنميِّز بداية بين هذين الحكمين ،فإذا قلت :هذه الوردة جميلة ،فهذا حكم ذوق ،بينما
إذا قلت :كل الورود جميلة ،فهذا حكم منطقي ،ألن الحكم الجمالي ل يكون وفق
مفاهيم ( ،)Conceptsأما األحكام األخالقية فيمكن أن تكون وفق مفاهيم ،2فإغاثة
الملهوف خير ،وهذا حكم أخالقي وفق مفهوم عام ،إذ لم أقل ( :إغاثة هذا
الملهوف).
هذا يعني أن الحكم المنطقي والحكم األخالقي يشتركان في أنهما يقومان على مفاهيم
،بخالف الحكم الجمالي ،فما الذي يجعل الحكم الجمالي قريبا من الحكم المنطقي؟
على الرغم من أن كانط يباعد بين حكم الذوق والحكم المنطقي بمقتضى التباعد بين
الذاتية والموضوعية فيقول " :ليس حكم الذوق قابال للتعيين بأسباب برهانية إطالقا
،كما لو كان ذاتيا بحتا" ،3فإنه يرى أن" :الحكم الجمالي يشبه الحكم المنطقي في
كون أن من الممكن افتراضه صادقا بالنسبة إلى الجميع " ،4أي أنني حين أحكم على
موضوع ما بالجمال ،فإنني أفترض أن هذا الحكم (الذاتي) هو حكم (موضوعي)
في الوقت ذاته ،ألن اآلخرين يقرون به ،كما يقرون باألحكام المنطقية التي هي
أحكام قبلية " .والحق أن ذاتية كانط ترجع الجمالي إلى وعي جمالي ( )000ول
يجوز تجاهل األهمية المنهجية للقبلية في تحليل الوعي الجمالي ،فالقبلية إذ تؤكد بأن
الحكم الجمالي على الشكل يصدر قبل تولد الشعور الجمالي ،وأنه يفترض الصدق
بالنسبة إلى الجميع ،تضمن صفة الضرورة والكلية وبالتالي الموضوعية لهذا الحكم
، 5" .وهكذا فإن ذاتية الحكم الجمالي إذ تتسم بالقبلية فإنها تتسم بالموضوعية
والضرورة وإن لم تكن موضوعية في إدراك الموضوعات فإنها ـ على األقل ـ
- 1نفسه ص .76
- 2انظر :نفسه ص .116وص .200
- 3نفسه ص .202
- 4نفسه ص .111
- 5بلوز :علم الجمال .ص .197
46
تعبير عن وحدة الذائقة اإلنسانية ،وربما هذه الوحدة قد عبر عنها د .محمد علي أبو
ريان بعبارة " :النسجام أو التساق بين قوى النفس وملكاتها" ،1ألنه بغير هذه
الوحدة التي يشترك بها األفراد ل يمكن الحديث عن موضوعية في الحكم ،هذه
الموضوعية التي يمكن أن نطلق عليها اسم (الذاتية الموضوعية).
ولكن إذا كان حكم الذائقة موضوعيا مثل الحكم المنطقي فهل يحصِّل األول معرفة
مثل الثاني؟
يرى كانط أن حصيلة حكم الذوق هو لذة أو ألم ،ول يمكن أن تكون جزءا من
المعرفة ،2فالمحمول الذي يقترن بالموضوع الجمالي إنما هو شعور بالمسرة أو
نقيضها .3ولكن قبل تحصيل المعرفة ،أل ينبغي أن نتساءل :هل حقا حكم الذوق
موضوعي يحقق إجماعا ما كما يحقق الحكم المنطقي؟
وإذا كان األمر كذلك فماذا عن اختالف األذواق الذي هو بمثابة البديهية؟
يرى كانط أن ل نسبية في الذوق إذا ما تعلق الحكم بالجمال ،وأنَّ النسبية إنما تصح
في المالئم وليس في الجميل ،وهذا بحثه سيكون في المقارنة بين الجمال والخير.
الجمال والخير
يميَّز كانط ،بوضوح بين الجميل والمالئم ففي الوقت الذي يكون فيه الحكم على
موضوع ما بأنه جميل هو حكم عام يصدق على الجميع ،فإن الحكم على موضوع
بأنه مالئم ،ل يعني أكثر من أنه مالئم لي ،أو مالئم لفالن ،ولهذا فإنه عندما يقول
شخص ما" :خمر جزر الكناري مالئم ،ويصحح له قوله شخص آخر ،ويذكره بأنَّ
عليه أن يقول :إنه مالئم لي ،فإنه يرضى عن طيب خاطر ويسلم بذلك" .والمالئم-
كما يقول كانط -ل يقتصر على "الذوق باللسان والحلق والبلعوم" بل يمتد إلى ما
"يكون مالئما للعين واألذن أيضا".4
أما الجميل فأمره مختلف تماما ،إذ ل يصح أن أشير إلى قصيدة أو مقطوعة
موسيقية ،أو لوحة تشكيلية ...بالقول :هذه جميلة بالنسبة لي ،ألنه ل يصح أن ينعت
- 1أبو ريان ،د.محمد علي :فلسفة الجمال -دار المعرفة الجامعية -اإلسكندرية
.1993ص.41
.ص.89 - 2كانط :نقد ملكة الحكم
-بلوز :علم الجمال .ص .192
3
-نفسه ص .112
4
47
بالجمال ما ل يفترض أنه جميل بالنسبة للجميع .وهكذا فإن عبارة( لك ٍّل ذوقه
الخاص) إنما تصح في المالئم فقط ،ول يراها كانط صالحة في الحكم الجمالي.1
من المفترض أننا نقارن في هذه الفقرة بين الجمال والخير ،فهل المالءمة هي الخير
عند كانط؟ يجيب كانط بالنفي ،فعلى الرغم من أن المالئم قد يشيع في بيئة أو منطقة
فيخرج عن نطاق الفردية ويمثل ذوقا عاما إل أنه يبقى خاضعا للقواعد التجريبية،
أي أنه ليس قبليا .وهذا ما يميزه عن الجميل والخير .والمالئم يميَّز عن الخير
بخاصية أخرى ،وهي أن "تمثل الخير ل يتم إل بواسطة مفهوم كموضوع رضا
عام ،وهذا غير حاصل ل في حالة المالئم ول الجميل على حد ٍّسواء".2
لقد بدأنا فقرتنا هذه ـ وهي للمقارنة بين الجمال والخير -بالمقارنة بين الجميل
والمالئم ،لكي نقف على فكرة الغائية التي تجمع بين الخير والمالئم ،هذا من جهة،
و لكي نقف على فكرة جوهرية تميز الخير الكانطي فال ينطبق على جميع أشكال
النفعية ،وهذه الفكرة الجوهرية هي فكرة المفهوم.
إن الجميل يسر مباشرة ،ولكن في العيان ل في المفهوم كما هو الحال في األخالق،3
فإذا ما أخذنا (إغاثة الملهوف) مثال للمقارنة بين الخير والجميل وجدنا أن ( إغاثة
الملهوف) من حيث هو مفهوم وتجريد لحالت عينية كثيرة ،هو خير ،أما الجمال
فال يتحقق إل في المشهدية العيانية الفردية لهذه اإلغاثة أو تلك .
إننا في الحكم الجمالي أمام حرية المخيلة وحساسية ملكة الذوق -أما في الحكم
األخالقي فنحن أمام حرية اإلرادة من حيث اتفاقها مع ذاتها وفقا لقوانين العقل 4التي
وضعت قواعد األخالق.
إن المالئم والنافع والخير ل تفهم إل في صورة السعي إلى لذة أو نفع ٍ أو دفع ألم ٍ
أو ضرر ٍ،منها على صعيد شخصي ومنها على صعيد عام ،وبالتالي ل تفهم إل في
صورة غائية ،فثمة هدف يجري السعي إلى تحقيقه أما الحكم الجمالي ،فأمر الغائية
فيه ملتبس عند كانط ،وهذا اللتباس هو س ّر تفرد الحكم الجمالي عن الحكم
األخالقي.
" إن حركات الجسم أثناء السير تستهدف غاية خارجية مثل الوصول إلى بيت
صديق أو إلى المخزن ،أما حركات الجسم في الرقص فال تستهدف مثل هذه الغاية
.194-193 - 1نفسه ص
- 2كانط :نقد ملكة الحكم ص ( 143 -142حاشية .)-6-
- 3بلوز :علم الجمال ص .193
- 4نفسه ص.194
49
المحاضرة العاشرة
إذا كان علم الجمال المعاصر غالبا ما يفسر قيمة الجمال ،أو ظاهرة تذوّ ق الجمال
والمفاضلة الجمالية ،بناء على ملكة الحدس ،هذه الملكة التي هي أشبه بالغريزة
والمعرفة المباشرة المقابلة لالستدلل كما عند برغسون وكروتشه ،فإن نظرية
الفيلسوف األمريكي ولتر ستيس( )w.t.stacإنما تقوم بتفسير غموض مفهوم
الحدس في اإلدراك الجمالي ،وإن كان ل يقول ذلك صراحة ،بل يؤكد أن نظريته
على طرف نقيض من النظرية القائمة على الحدس( ،)intuitionوذلك ألنها تقوم
على المفهوم أو التصور(.) concept
.من هو ولتر ستيس؟
ولد ولتر ستيس في لندن عام ،1886ونال شهادة التخرج في الفلسفة .وعمل بعد
ذلك في وظائف خدمية كان منها منصب رئيس بلدية كولومبو عام .1929
حصل ستيس على شهادة من كلية الثالوث بدبلن عام ،1932وعمل محاضرا في
جامعة بريستون ،ثم أستاذا للفلسفة منذ عام 1935حتى تقاعده .وتوفي عام.1967
.نظرية ستيس في الجمال
يقدم ستيس نظريته في الجمال في كتابه (معنى الجمال -نظرية في الستطيقا) الذي
كتبه عام ،1929وقام بترجمته إلى العربية الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ،وكان
د.إمام قد ترجم له المجلد األول من كتاب (فلسفة هيجل) بعنوان (المنطق وفلسفة
الطبيعة) ،وكذلك المجلد الثاني(فلسفة الروح) ،وكتاب (الدين والعقل الحديث)،
وكتاب (التصوف والفلسفة).
ولدخول هذه النظرية ينبغي التمييز بداية بين مفهومي(قبلي )A prioriأي المعرفة
القائمة في العقل البشري قبل التجربة مثل مفاهيم :المكان والزمان والكم والكيف
والعلة....و(بعدي )A posterioriأي المعرفة المحصَّلة بالتجربة ،وهذان
المصطلحان من السمات المميزة لفلسفة كانط ،ولهما أهمية في عرض نظرية ستيس
في الجمال ،ألنها تقوم على مفهوم (التصور التجريبي غير اإلدراكي) .وهذا
التصور هو تجريبي (أي بعدي) و(ليس قبليا) إل أنه يمتاز عن التصورات البعدية
في أنه (غير إدراكي) أي ل يدرك بالحواس ،كما يمتاز عن المفاهيم القبلية كالمكان
50
والزمان والعلة..في أنه غير موجود في الوعي قبل التجربة .ويضرب ستيس أمثلة
على هذا التصور مثل :التطور ،الحب ،الرشاقة ،الحضارة...فهذه المفاهيم أو
التصورات تتطلب تجربة حتى تتشكل في الوعي ،إل أنها ل تدرك بالحواس ،فنحن
نرى عاشقا ولكن ل نرى العشق ،ونرى سلوكا أو أثرا حضاريين ولكن ل نرى
الحضارة....وهذه التصورات حصّلها الوعي البشري في تجربته الحضارية ،وهي
التي تمّيز -برأي ستيس -بين التجمعات البشرية الوحشية ،والتجمعات الحضارية
الراقية.
أما كيف يتم إدراك الجمال وفق هذه التصورات؟ أو كيف تخدم هذه التصورات
عملية إدراك الجمال؟ فيرى ستيس أن الجمال هو المتزاج الحاصل بين واحد من
هذه التصورات والمدرك الحسي -وكلما كان التصوّ ر أكثر قيمة ،وكان المتزاج
المتذوق أجمل.
َّ بينه وبين المدرك الحسي أكبر ،كان الموضوع
ويرى ستيس أن الفارق بين اإلدراك الحسي العادي واإلدراك الجمالي يختلفان في
أن األول قائم على الجمع بين المقولت أو المفاهيم القبلية والمدركات الحسية ،ولذا
يتحقق فيه الغرض اإلدراكي ولكن دون المتعة ،أما في اإلدراك الجمالي فتتحقق
المتعة الجمالية الناشئة عن تجسد مفهوم ينطوي على قيمة.
.جذور النظرية
إن قيام نظرية ستيس على التصور واستبعادها للحدس يعني أنها تنطلق من منطلق
عقلي أو مثالي ،أي أن جذرها األعمق يمتد إلى أفالطون ،فهذه النظرية -كما يقول
صاحبها -تنطبق عليها صفة النزعة العقلية ،فهي ل تتخبط في جوانب صوفية أو
حدسية أو ل عقلية ،وهي تشبه النظرية المثالية أكثر من أي نظرية أخرى .فالقول
بأن الجمال هو تركيبة عضوية بين المدرك الحسّي والتصور العقلي هو ما تعبّر
عنه اإلستطيقا عند هيغل ،ويمكن أن نجد جذورها عند كانط ،ألن الجمال عنده هو
نقطة التقاء بين اإلحساس والعقل ،كما أن الجميل عند هيغل هو مصالحة بين المادة
واإلحساس من جهة ،والعقل والروح من جهة ثانية.
.موقف النظرية من القبح
يرى ستيس أنّ ثمة خطأ يقع فيه الكثير من الباحثين حين يظنون أن القبيح هو نقيض
الجميل تماما كما هو الشر نقيض الخير ،وكما هو الباطل نقيض للحق .ولكن في
هذه النظرية رأينا أن المتزاج بين المضمون العقلي والمدرك الحسّي يعطي
الجميل ،فإذا لم يحصل المتزاج ل نحصل على القبيح بل نحصل على غير الجميل،
وبعبارة أوضح :إذا لم يحصل المتزاج ل نحصل على شيء ينتمي للقيمة الجمالية،
51
وذلك مثل نشرة األحوال الجوية ،أو المقالة العلمية..فهذه األشياء ليست قبيحة ،وهي
في الوقت ذاته ل تنتمي إلى المجال اإلستطيقي أو الجمالي ،إنها من الناحية الجمالية
موضوعات محايدة.
ولكن إذا لم يكن القبيح نقيضا للجميل،فما هو القبيح؟
إذا كان الجميل هو امتزاج التصور التجريبي غير اإلدراكي مع المدرك الحسي،
فإن ثمة تصورات متنوعة تش ّع عند امتزاجها بالمدرك الحسّي بإشعاعات متنوعة
من المشاعر واألحاسيس ،فبعض التصورات مؤلمة ،وبالتالي ينشأ عنها األلم أو
الستياء ،ولكن في نفس الوقت تنشأ متعة إستطيقية من امتزاج التصور والمدرك،
فنحصل على المتعة مما هو مؤلم ،وتنشأ أطياف من الجميل هي :المرعب،
والمأسوي ،والجليل ،والكوميدي ...وأيضا القبيح.
أي أن القبيح ليس ض ّدا ّ للجميل ،بل هو نوع من أنواعه.
52
53
54