You are on page 1of 54

‫جامعة حماة‬

‫كلية اآلداب – قسم اللغة العربية‬

‫محاضرات في علم الجمال‬

‫رضوان السح‬

‫العام الدراسي ‪2017-2016‬‬


‫المحاضرة األولى‬

‫علم الجمال‪ ..‬وفلسفة القيم‬

‫تدور الفلسفة في فلك ثالثة مباحث هي‪ :‬مبحث الوجود‬


‫المعرفة‬ ‫ومبحث‬ ‫(األنطولوجيا‪)ONTOLOGY‬‬
‫القيم‬ ‫ومبحث‬ ‫(األبستمولوجيا‪)EPISTEMOLOGY‬‬
‫)اإلكسيولوجيا ‪ )AXIOLOGY‬حيث يتناول المبحث األول جوهر الوجود‬
‫وعلله‪،‬وحدوثه أو أزليته‪ ،‬وحركته وسكونه ‪..‬ويتناول المبحث الثاني العالقة بين‬
‫المدرك والوجود‬
‫ِ‬ ‫الذات العارفة وموضوع معرفتها‪ ،‬أي العالقة بين اإلنسان‬
‫المدرك‪ ،‬ويتساءل هذا المبحث ‪:‬هل المعرفة ممكنة؟ وهل تنقل المعرفة صورة‬ ‫َ‬
‫صادقة عن الوجود؟ وإذا كان ثمة ضالل وتزييف في المعرفة فما السبيل إلى‬
‫المعرفة الصحيحة؟ وهل المعرفة الصحيحة عقلية أم حسية؟وينتهي هذا المبحث إلى‬
‫علوم المنطق ومناهج البحث‪.‬‬
‫أما المبحث الثالث وهو الذي ينتمي إليه علم الجمال‪ ،‬فيبحث أقانيم القيم الثالث ‪:‬‬
‫الحق والخير والجمال‪ ،‬وهذا المبحث يمتاز بعدم حياديته‪ ،‬ألن موضوعه هو القيمة‪،‬‬
‫أي أن موضوعه هو قيمة الشيء بالنسبة إلى الذات‪ ،‬فموضوعه ليس الشيء بل‬
‫العالقة‪ ،‬وهو يقترب من الموضوعية بقدر ما يستطيع دراسة هذه العالقة بتجرد‪،‬‬
‫وهذا‪ -‬منطقيا‪ -‬يقع في شيء من الدور‪ ،‬إذ كيف يتج ّرد الباحث عن الذات وهو‬
‫يدرس العالقة مع الذات !ولكن ليس هذا بالمستغرب كثيرا في العلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫ولكي يتضح عالم القيم أكثر‪ ،‬علينا أن نتصور مع عا ِلم الجمال‪ ،‬ذي األصل‬
‫اإلسباني‪ ،‬جورج سانتيانا )‪" (1952-1863‬كائنات إنسانية ذات طابع عقلي‬
‫صرف‪ ،‬عقول تنعكس فيها تغيرات الطبيعة بال انفعال واحد‪ ،‬ففي إمكانها مالحظة‬
‫ك ّل حدث وكل عالقة‪ ،‬وتوقّع تكرار األحداث‪ ،‬إل أن كل ذلك يحدث بال أي أثر‬
‫للرغبة أو اللذة أو األسف‪ ،‬فهي ل تشمئز من شيء ول تفزع من شيء‪ ،‬وباإلجمال‬
‫يمكننا تصور عالم يتألف من الفكر ويخلو تماما من اإلرادة‪ ،‬في هذه الحالة لب ّد وأن‬
‫تختفي القيمة تماما)‪ 1‬فالقيمة هي ما نريده أو ننفر منه‪ ،‬ما يسعدنا أو يشقينا ما فيه‬

‫‪ - 1‬سانتيانا‪ ،‬جورج ‪:‬اإلحساس بالجمال‪ ،‬تر ‪:‬د ‪.‬محمد مصطفى بدوي ‪-‬مراجعة ‪:‬د ‪.‬زكي نجيب‬
‫محمود ‪-‬مكتبة األنجلو المصرية ‪-‬القاهرة (د‪.‬ت) ص ‪.45-44‬‬

‫‪2‬‬
‫النفع أو الضرر‪ ،‬ما نلذ له أو نتألم ‪..‬وباختصار‪ ،‬نرى أن مبحث القيم ينظر إلى‬
‫الموجودات من حيث عالقاتها بإرادتنا ورغباتنا وحاجاتنا‪ ،‬ولو كنا آلت مدركة‪،‬‬
‫وحسب‪ ،‬لنتفى عالم القيمة‪.‬‬
‫هذا هو عالم القيمة إجمال‪ ،‬أما الفروق البينية في هذا العالم فسوف تتوضح من‬
‫خالل إبراز موقع علم الجمال فيه ‪ -‬وهذا هو موضوعنا – من خالل المقارنة بين‬
‫الجمال وشقيقيه‪ :‬الحق والخير‪ .‬ولكننا قبل ذلك سنبحث في نشوء مصطلح علم‬
‫الجمال‪.‬‬
‫قراءة في المصطلح‪:‬‬
‫من العلوم التي انفصلت حديثا عن الفلسفة يمكن أن نذكر علم الجتماع‬
‫(السوسيولوجيا) وعلم النفس (السيكولوجيا)‪ .‬وعلى الرغم مما حقق هذان العلمان‬
‫من نجاحات باستقاللهما عن الفلسفة ومنهجها الميتافيزيقي‪ ،‬واعتمادهما المنهج‬
‫العلمي القائم على الستقراء والمالحظة والتجربة واإلحصاء‪..‬الخ‪ .‬فإن علمين مثل‬
‫علم األخالق (األطيقا‪ )Ethics‬وعلم الجمال (اإلستطيقا‪ )Aesthetics‬لم يستطيعا‬
‫الخروج من عباءة الفلسفة‪.‬‬
‫لقد استخدم المنهج التجريبي في علم الجمال إل أنه لم يحقق فتوحات هامة‪ ،‬ولعل‬
‫ذلك يعود إلى الطبيعة الميتافيزيقية للسؤال المطروح في كل من علم الجمال وعلم‬
‫األخالق‪ .‬وهو في األول‪ :‬ما هو الخير؟ وفي الثاني ما هو الجمال؟‬
‫وراح علم الجمال في منحاه العلمي أو التجريبي يتكئ على منجزات علم الجتماع‬
‫وعلم النفس‪ ،‬ويمكن مالحظة ذلك من عناوين بعض المؤلفات في علم الجمال مثل‪:‬‬
‫(األسس النفسية لإلبداع الفني) لمصطفى سويف و (سيكولوجية البتكار) لحلمي‬
‫المليجي و(الفن وعلم الجتماع الجمالي) لعبد العزيز عزت‪.1‬‬
‫على الرغم من أن أفالطون (‪ 347-427‬ق‪.‬م ) قد ذكر ( علم الجمال)‪ 2‬إل أن‬
‫السياق الذي أورده فيه لم يكن في صدد تحديد منهج يبحث في مفهوم الجمال‬

‫‪ -1‬انظر قائمة المراجع في ‪ :‬أبو ريان ‪،‬د‪.‬محمد علي‪ :‬فلسفة الجمال‪ -‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية ‪ .1993‬ص ‪.349‬‬

‫‪ - 2‬انظر ‪ :‬أفالطون ‪ :‬محاورة (سيمبوزيوم – المائدة ) المحاورات الكاملة – تر‪ :‬شوقي‬


‫داود تمراز – األهلية للنشر والتوزيع‪ -‬بيروت ‪ 1994‬ص ‪.175‬‬

‫‪3‬‬
‫الطبيعي أو الفني ‪ ،‬بقدر ما كان ذلك السياق صوفيا داعيا إلى الستغراق في تأمل‬
‫الجمال الجزئي أو الحسي ‪ ،‬بغية تذكر الجمال المطلق المثالي وتأمله‪.‬‬
‫أما بومغارتن األلماني (‪ )1762 -1714 ( )Baumgarten‬فهو من يتحدث عنه‬
‫علماء الجمال بصفته مؤسسا لهذا العلم‪ ،‬وقد وضع له اسم علم الجمال‬
‫(إستطيقا‪ 1)Aesthetics‬في كتاب له صدر عام ‪ ، 21735‬ثم وسع دراساته في‬
‫هذا المجال فأصدر كتابا خاصا بهذا العلم تحت عنوان (اإلستطيقا) في مجلدين‪3.‬‬

‫شاع استخدام عبارة ( علم الجمال) في الدراسات العربية ترجمة لـ(‪)Aesthetics‬‬


‫اإلنكليزية و ( ‪ ) Esthetique‬الفرنسية ‪ ،‬إلى جانب عبارة أخرى هي (فلسفة‬
‫الجمال )‪ 4‬التي ربما كانت تعبيرا عن استمرارية انضواء هذا الجانب المعرفي تحت‬
‫عباءة الفلسفة‪.‬‬
‫ينقسم موضوع علم الجمال إلى جمال طبيعي وجمال فني‪ ،‬ويشير مجمل الدراسات‬
‫الجمالية التي أنجزت بدءا من بومغارتن إلى رجحان البحث في الجانب الفني ول‬
‫سيما في الدراسات الغربية‪ ،‬فقد فطن إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬في ترجمة إحدى‬
‫الدراسات الجمالية‪ ،‬إلى الترجمة الفضفاضة لمصطلح (اإلستطيقا) بمصطلح (علم‬
‫الجمال)‪ ،‬ألن مصطلح (اإلستطيقا) أضيق من مفهوم علم الجمال‪ ،‬ومن األفضل أن‬
‫يقتصر مفهوم اإلستطيقا على الجمال الفني وحده‪ .5‬وكان عفيف بهنسي سباقا إلى‬
‫مثل هذه المالحظة ‪ ،‬فرأى أن الصائب والبعيد عن اللبس هو أن يسمى علم الجمال‬
‫بفلسفة الفن التي تدرس المبدع والعمل الفني والمتذوق‪ ،6‬وهذا يفسر اختيار زكريا‬
‫إبراهيم ـ وهو من أوائل المؤلفين العرب في هذا المضمار‪ -‬عبارة (مشكلة الفن)‪7‬‬
‫عنوانا لكتابه الذي يبحث المشكلة اإلستطيقية بدل من عبارة ) مشكلة الجمال) ألن‬

‫‪ -1‬أبو ريان‪ -‬فلسفة الجمال ‪.‬ص ‪30‬‬


‫‪ - 2‬عنوان الكتاب‪ :‬مالحظات حول الشعر(‪.)Reflections on poetry‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص ‪ (30‬حاشية)‪.‬‬
‫‪ - 4‬وردت العبارتان ‪ ( :‬علم الجمال) و( فلسفة الجمال) ترجمة للعبارتين اإلنكليزية والفرنسية‬
‫في ‪ :‬عفيفي أبو العال وآخرون ‪ :‬مصطلحات الفلسفة باللغات الفرنسية واإلنكليزية والعربية –‬
‫المجلس األعلى لرعاية الفنون واآلداب والعلوم الجتماعية – القاهرة ‪ .1964‬ص ‪.35‬‬
‫‪ - 5‬ستيس‪ ،‬ولتر ‪.‬ت ‪ :‬معنى الجمال ( نظرية في اإلستطيقا) – تر ‪ :‬إمام عبد الفتاح إمام –‬
‫المشروع القومي للترجمة ‪ /‬المجلس األعلى للثقافة – (د‪.‬م) ‪( 2000‬مقدمة المترجم) ‪.‬ص‪.9‬‬
‫‪ - 6‬بهنسي ‪ ،‬عفيف ‪ :‬الفن والجمال‪ -‬مجلة المعرفة‪ -‬العدد (‪ -)11‬وزارة الثقافة‪ -‬دمشق‪ -‬كانون‬
‫الثاني ‪ . 1963‬ص ‪.109‬‬
‫‪- 7‬إبراهيم ‪ ،‬د‪ .‬زكريا – مشكلة الفن – مكتبة مصر ( د‪.‬م‪-‬ت) ‪ .‬وقد عرفت مؤلفاته بـ‬
‫(مشكالت فلسفية) ‪ ،‬حيث يضع في عنواناته كلمة (مشكلة) قبل موضوعاتها‪ ،‬مثل ‪ :‬مشكلة‬
‫البنية‪ ،‬مشكلة الحب ‪ ،‬المشكلة الخلقية‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫األبحاث اإلستطيقية إنما هي أبحاث في اإلبداع الفني فهي تضع أصول النقد الفني‪،‬‬
‫كما تعمل على إثرائه‪.‬‬
‫لقد استخدمت تعابير (علم الجمال ) و ( فلسفة الجمال) و(فلسفة الفن) للتعبير عن‬
‫مبحث الجمال ‪ ،‬ولكن يبدو تعبير (علم الجمال ) هو األكثر شيوعا‪ -‬ولعله يعبر عن‬
‫الطموح في أن يبحث السؤال الجمالي أو الفني‪ ،‬بمنهج علمي بعيد عن الميتافيزيقا ‪،‬‬
‫وظل تعبير (إستطيقا) هو األكثر شيوعا في الدراسات الغربية‪ ،‬فعلى الرغم مما‬
‫يأخذه هيغل على هذا المصطلح الذي وضعه مواطنه بومغارتن‪ ،‬فإنه ظ ّل معتمدا‬
‫إياه‪ ،‬وذلك ـ ببساطة ـ ألن اقتراح تسميات أخرى مثل‪( :‬نظريات العلوم الجميلة) و(‬
‫الفنون الجميلة) لم يكتب لها البقاء‪ .‬يقول هيغل‪" :‬سوف نأخذ إذن بمصطلح‬
‫اإلستطيقا‪ -‬ليس ألن السم ل أهمية له تذكر عندنا‪ ،‬وإنما ألن هذا المصطلح فاز‬
‫بحقوق المواطنية في اللغة الرائجة‪ ،‬وهذه بذاتها حجة ل يستهان بها في تأييد اإلبقاء‬
‫عليه"‪.1‬‬

‫‪ - 1‬هيغل‪ :‬المدخل إلى علم الجمال‪ -‬تر‪ :‬جورج طرابيشي‪ -‬دار الطليعة – بيروت طـ‪3‬‬
‫‪ . 1988‬ص‪ ، 21‬ويذكر هيغل مصطلح (الكاليسطيقا) وهو يعني (علم الجمال) ألن‬
‫(كالوس) هو (الجمال ) باليونانية الصفحة نفسها‪ ،‬حاشية (‪ .)4‬ويذكر أن الفرنسيين‬
‫استخدموا عبارة (نظرية الفنون) أو (نظرية اآلداب الجميلة ) وأن اإلنكليز أدرجوا مباحث‬
‫اإلستطيقا في( النقد )‪ .‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫المحاضرة الثانية‬

‫هيراقليطس والشعر‬

‫الجمال بمعيار الحق‬

‫على الرغم من أن ما وصلنا من كتابات الفيلسوف اإلغريقي العظيم هيراقليطس‬


‫(‪475-540‬ق‪.‬م) هي شذرات قليلة‪ 1‬على شكل تعابير مبتورة عن سياقها‪ ،‬في معظم‬
‫األحيان‪ ،‬فإننا نستطيع أن نكوّ ن فكرة واضحة من خاللها عن موقف الفلسفة في‬
‫مراحل تكوينها األولى من الشعر اإلغريقي الذي كان حامال لمعتقدات القوم‬
‫وعلومهم ‪.‬‬
‫لقد بُني موقف الفلسفة من الشعر على مبدأ معرفي (أبستمولوجي) فالسؤال هنا‪ :‬من‬
‫يمتلك الحقيقة ؟ وهذا يعني أن الفلسفة قد فرضت المعايرة بينها وبين الشعر المبنيّ‬
‫على قيمة ( القداسة) وقيمة ( الجمال) بناء على قيمة ( الحق)‪ ،‬ولذا كانت الحكمة‬
‫‪2‬‬
‫عند هيراقليطس هي أن ننطق بالحق‪(.‬ص‪)39‬‬
‫ويحرص هيراقليطس على التمييز بين عالم الفلسفة القائم على العقل وعالم الشعر‬
‫القائم على الخيال فيقول‪:‬‬
‫"بالنسبة لأليقاظ هناك كون ّ‬
‫منظم واحد مشترك (بالنسبة للجميع)على حين أن كل‬
‫إنسان في النوم‪ ،‬يشي ُح (عن هذا العالم) إلى عالم خاص به"ص‪.35‬‬
‫"يجب أل نتص ّرف مثل النائمين وأل نتكلم مثلهم‪( "3‬ص‪.)41‬‬
‫"يجب أل نتصرف مثل أطفال آبائنا‪( "4‬ص‪.)41‬‬

‫‪ - 1‬لم يتب ّق من كتابه ( في الطبيعة) سوى(‪ )126‬شذرة ‪ ،‬يضاف إليها (‪ )15‬شذرة هي موضع‬
‫شك ‪.‬هيراقليطس ‪ :‬جدل الحب والحرب – ترجمة وتعليق ‪:‬مجاهد عبد المنعم مجاهد ‪ -‬دار التنوير ‪-‬‬
‫بيروت ط‪(2‬تصدير المترجم) (ص‪.)7‬‬
‫‪ -2‬سنكتفي بإيراد رقم الصفحة في المتن ألن المرجع السابق هو مصدرنا الوحيد في الشذرات ‪.‬‬
‫‪ -3‬وردت‪" :‬ل يجب أن نتصرّف ول يجب أن نتكلّم مثل النائمين"‪.‬‬
‫‪ -4‬وردت ‪" :‬ل يجب أن نتصرف أشبه بأطفال آبائنا"‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ويأخذ هجوم هيراقليطس على الشعر شكل هجوم على محتواه األسطوري‬
‫المعتقدي‪ ،‬فيقول‪" :‬إنهم (اليونانيون) يسجدون آللهة ل تسمعهم وكأنها تسمعهم‪ ،‬وهي‬
‫ل تمنحهم شيئا كما أنها ل تستطيع أن تطلب‪(."1‬ص‪ ،)42‬وينكر على اليونان‬
‫التح ّدث إلى هذه اآللهة في (ص‪ ،)47‬ويسحب هذا اإلنكار على المصريين‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫"لو كانت آلهة فلماذا تلومونها؟ وإذا و ّجهتم إليها اللوم فيجب أل تستم ّروا في ع ّدها‬
‫آلهة‪("2‬ص‪.)47‬‬
‫يرسم هيراقليطس طريق المعرفة والحكمة من خالل الذكاء والعقل‪ ،‬فالمعلومات‬
‫الكثيرة المبعثرة التي ل يجمعها مبدأ كلّي ل تفيد في العلم شيئا (ص‪ ،) 55‬كما أن‬
‫شأن‬ ‫التخمينات ليست طريقا إلى المعرفة (ص‪ ،)56‬ولذلك يُعلي من‬
‫طاليس(حوالى ‪547-624:‬ق‪.‬م) الفيلسوف اليوناني األول من حيث إنه "أول من‬
‫درس علم الفلك"(‪ .)57‬والعقل – عند هيراقليطس ‪ -‬ليس هبة لشخص دون شخص‬
‫فتكون المعرفة وقفا على إلهام شاعر‪" :‬ملكة التفكير مشتركة بين الجميع"(‪،)59‬‬
‫ويكرر ذلك في الشذرة التي تليها ‪.‬‬
‫ويقول في شذرة ثالثة‪" :‬لهذا يجب أن يتبع اإلنسان اللوجوس ـ أو القانون العام ـ‬
‫أل وهو ذلك الذي هو شائع لدى الجميع‪(".‬ص‪.)60‬‬
‫وبهذا العقل ‪ -‬أو اللوجوس ‪ -‬يبدأ هيراقليطس الهجوم على الشعر الذي ا ّدعى امتالك‬
‫الحقيقة بعيدا عن هذه الملكة التي يمتلكها الجميع‪ ،‬والتي يقرّها الجميع وسيلة لمعايرة‬
‫األقوال‪ ،‬فينعت الشاعر اإلغريقي األقدم هوميروس (القرن‪ 9‬ق‪.‬م) بالحتيال‪،‬‬
‫ّ‬
‫يستحق أن ينحّ ى‬ ‫فيقول ‪":‬لقد كان هوميروس نصّابا"(‪ .)89‬ويقول‪" :‬إن هوميروس‬
‫جانبا عن المسابقات األدبية ويلّقن علقة ساخنة‪ .)89("..‬ويرى مجاهد عبد المنعم‬
‫مجاهد ‪ ،‬في تعليقه‪ ،‬أن هذا الهجوم قد يكون البذرة التي بنى عليها أفالطون هجومه‬
‫على الشعراء مطالبا بطردهم من جمهوريته ‪(.‬ص‪.)89‬‬
‫ويهاجم أيضا الشاعر هزيود (القرن‪ 8‬ق‪.‬م) ـ وألسباب معرفية أيضا ـ قائال ‪:‬‬
‫"هزيود هو معلم الكثيرين‪ ،‬وهو لم يفهم ل النهار ول الليل‪ ،‬ذلك أنهما شيء واحد"‬
‫(ص‪ .)71‬وكان هزيود يتطيّر من بعض األيام ويتفاءل بأخرى‪ ،‬فينعته هيرقليطس‬
‫بالجهل‪" :‬إن هزيود ليس على بيّنة أن طبيعة األيام جميعا واحدة"(ص‪.)90‬‬

‫‪ -1‬وردت نهاية الشذرة‪" :‬بمثل ما ل تستطيع أن تطلب"‪.‬‬


‫‪ -2‬وردت ‪" :‬لو كانت آلهة فلماذا تلوم ّنها؟ وإذا وجهتم إليها اللوم فال يجب أن تستمروا في ع ّدها‬
‫كاآللهة"‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ويوجز هيراقليطس موقفه من الشعر الذي كان سائدا في عصره ‪ ،‬والذي كان يمثل‬
‫الثقافة الشعبية لليونانيين متحدثا عن أبناء قومه بضمير الغائب‪" :‬أي عقل أو فهم‬
‫لديهم !إنهم يؤمنون بشعراء الدهماء‪ ،‬ويجعلون العامة معلميهم!‪("..‬ص‪.)42‬‬
‫وهكذا ينتهي هيراقليطس بنسفه للشعر إلى نسف مضمونه األسطوري الهوميري ‪-‬‬
‫ّ‬
‫المنظم‪ ،‬والذي هو واحد بالنسبة للجميع‪،‬‬ ‫نسبة إلى هوميروس –فيقول‪" :‬هذا الكون‬
‫لم يخلقه إله من اآللهة‪ ،‬أو إنسان من البشر ‪ ،‬لكنه كان ويكون وسيكون لألبد شعلة‬
‫حيّة تضطرم بمقدار وتنطفئ بمقدار"(ص‪.)77‬‬
‫وإذا ما أبقينا على لفظ ( اآللهة) فإن هذا اللفظ لن ي ّدل إل على األضداد ‪" :‬اآللهة‬
‫هي النهار والليل‪ ،‬الشتاء والصيف‪ ،‬الحرب والسالم‪ ،‬التخمة والمجاعة ‪ .‬لكنه تغيّر‬
‫أشبه بالنار التي عندما تختلط بدخان البخور تتسمى بحسب رغبة كل‬
‫إنسان"(ص‪.)63‬‬
‫إن الشكل الفني للشعر‪ -‬أو قيمته الجمالية المجبولة بالقداسة ‪ -‬لم يشفع له عند‬
‫هيراقليطس‪ ،‬ألن القيمة التي كانت تتصدر المشهد إنما هي قيمة الحق‪ ،‬وكل قول ل‬
‫يحمل صوت الحق سيتراجع إلى الصفوف الخلفية ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫المحاضرة الثالثة‬

‫الحب والجمال في محاورة فايدروس‬


‫يؤكد ليون روبان في مقدمته لمحاورة فايدروس أن هذه المحاورة صحيحة النسبة‬
‫ألفالطون فقد أشار إليها أرسطو ‪ ،‬وأكد نسبتها إليه واتفق معه في ذلك القدماء‪.1‬‬
‫ويرجّح روبان أنها من المحاورات المتأ ّخرة ـ إذ ينتهي إلى أنها كتبت بعد (المأدبة)‬
‫و (الجمهورية)‪ . 2‬الشخصية المحاورة لسقراط في هذه المحاورة ـ والتي هي‬
‫شخصية (فايدروس) ـ وردت في محاورة ( المأدبة)‪ ،‬وكان فايدروس هناك من‬
‫أنصار السفسطائيين وهو في قرابة الخامسة والثالثين من عمره‪.3‬‬
‫‪4‬‬
‫ُتقدم هذه المحاورة سقراط وفايدروس وهما يتحاوران حول خطاب كتبه (لوسياس)‬
‫في موضوع العشق وهوعشق األجساد الجميلة‪ ،‬ونظرا لطبيعة الثقافة السائدة في‬
‫أثينا تلك األيام ‪ ،‬فإن تلك األجساد هي أجساد الفتية‪.‬‬
‫يرى (برقلس ت ‪485‬م)‪ 5‬أن الجمال هو الذي يدفعنا للتطلع إلى العالم العلوي‪،‬‬
‫فكلمة ( الجمال) مشتقة من الفعل (ينادي) أو (يدعو)‪ ،‬لذا فالجمال هو القوة التي‬
‫يجذب هللا بها جميع الكائنات بعد صدورها عنه‪ ،‬وذلك بواسطة‬
‫الحب(اإليروس‪ ،)EROOS‬وهو أول مخلوقات العقل اإللهي‪.6‬‬
‫إن هذا الجمال الذي (يجذب) يمكن أن يقود النفس إلى الفضيلة كما يمكن أن يقودها‬
‫إلى الرذيلة‪ ،‬ويصور سقراط النفس في هذه المحاورة بمركبة يجرها جوادان‬
‫مج ّنحان يقودهما حوذيّ ‪ .‬وإذا كانت نفوس اآللهة خيرة بجواديها وحوذيّها فإن النفس‬

‫‪ 1‬ـ أفالطون ‪:‬محاورة فايدروس ـ تر‪:‬د‪ .‬أميرة حلمي مطر ‪-‬دار غريب ‪-‬القاهرة ‪2000‬‬
‫(تلخيص مقدمة ليون روبان‪ ،‬وتعليق المترجمة) ص‪.15‬‬
‫‪ - 2‬نفسه (تلخيص مقدمة ليون روبان‪ ،‬وتعليق المترجمة)ص ‪.17‬‬

‫‪ - 3‬نفسه (تلخيص‪( ..‬ص ‪.18‬‬


‫‪ - 4‬خطيب من صقلية‪ ،‬عرف بكتابة ُخطب الدعاء والدفاع في المحكمة‪ ،‬وبلغ أوج شهرته عام‬
‫‪403‬ق‪.‬م‪ ،‬نفسه تلخيص ‪..‬ص ‪.19‬‬

‫‪ - 5‬من أتباع أفلوطين (‪205‬ـ‪270‬م)‪ ،‬شرح محاورات أفالطون الثالث الكبرى ‪:‬طيماوس‬
‫والجمهورية‪ ،‬وبارمنيدس‪ ،‬وهو أشهر فالسفة أثينا في عصره‪ .‬فخري‪ ،‬د ‪.‬ماجد ‪:‬تاريخ الفلسفة‬
‫اليونانية ‪-‬دار العلم للماليين ‪-‬بيروت ‪.1991‬‬

‫‪ - 6‬أفالطون ‪:‬محاورة فايدروس)حاشية المترجمة رقم ‪ )95:‬ص‪.69‬‬


‫‪9‬‬
‫البشرية التي يقسّمها أفالطون إلى ثالثة أقسام‪ :‬الحكمية في الرأس‪ ،‬والغضبية في‬
‫يوزع أقسامها الثالثة ـ هناـ على الحوذي‬ ‫ّ‬ ‫الصدر‪ ،‬والشهوية في البطن‪،‬‬
‫والجوادين‪:‬فالجواد الذي يقف على اليمين هو األفضل‪ ،‬إنه معتدل القامة متناسب‬
‫األعضاء‪ ،‬طويل العنق أقنى األنف‪ ،‬أبيض اللون‪ ،‬أسود العينين‪ ،‬وهو عاشق للمجد‬
‫مع اعتدال وتحفظ ولما كان ميال للصواب فإنه يكفيه الكالم والتشجيع كي ينقاد دون‬
‫حاجة إلى الضرب‪ ،‬أما اآلخر فعلى العكس من ذلك ضخم الجسم ثقيل الطبع‪ ،‬قصير‬
‫العنق‪ ،‬غليظها‪ ،‬أفطس األنف‪ ،‬وهو أسود اللون رماديّ العينين‪،‬دمويّ المزاج‪،‬‬
‫حليف اإلفراط والغرور‪ ،‬ضخم األذنين‪ ،‬كثيف شعرهما‪ ،‬ول ّ‬
‫يؤثر فيه السّوط ذو‬
‫شعاب إل بالكاد‪.1‬‬
‫ال ّ‬

‫وهذا الوصف للجوادين يصرّح بجالء أن الجواد األيمن هو القوة الغضبية ‪ ،‬واآلخر‬
‫هو القوة الشهوية‪ ، 2‬ول شك أن الحوذيّ هو قوة الحكمة المتح ّكمة بالغضب‬
‫والشهوة‪.3‬‬
‫لنر ماذا سيحدث لهذه ( المركبة ـ النفس) إذا ما صادفت الجسد الجميل‪ .‬يقول‬
‫واآلن َ‬
‫سقراط‪" :‬وإذ يبصر الحوذي (الرؤية الجميلة) تغمر الحرارة نفسه‪ ،‬ويمتلئ بالوخز‬
‫نتيجة الشتياق‪ ،‬وعندئذ ينقاد الجواد الطيع للحوذي فيتحفظ ويمتنع عن النقضاض‬
‫على المحبوب‪ ،‬أما اآلخر الذي ل تؤثر فيه وخزات الحوذي ول سوطه‪ ،‬فإنه ينقض‬
‫بقفزة قوية مسببا لزميله وللحوذي آلما غير متصورة‪ ،‬ويضطرهما إلى التجاه‬
‫نحو المعشوق ليعرضا عليه لذات العشق"‪.4‬‬
‫إن الجمال ـ كما نرى ـ يجذب مركبة النفس بعناصرها الثالثة‪ ،‬ولكن الصراع‬
‫سيحدث بين العفة والفحش‪ ،‬بين تأمل الجمال من جهة‪ ،‬والتلذذ بالوصال من جهة‬
‫ثانية ومصدر هذا الصراع هو الطابع اإللهي والمقدس للجمال‪ ،‬هذا الطابع الذي‬
‫يتذكره الحوذي عندما كانت النفس ّ‬
‫مطلعة على عالم المثل‪ ،‬أو كانت تتنزه بصحبة‬
‫أحد اآللهة"‪.5‬‬
‫لنعد إلى مركبتنا المجنحة وهي تواجه طلعة الجميل‪" :‬هاهما أخيرا ينظران إلى‬
‫الطلعة المحبوبة التي تتألق‪ ،‬إنها المحبوب! وعند رؤيته يتجه تذكر الحوذي إلى‬
‫حقيقة الجمال‪ :‬فيراها من جديد مصحوبة بالحكمة‪ ،‬وواقفة على قاعدتها المقدسة‪ ،‬لقد‬
‫‪ - 1‬أفالطون ‪ :‬فايدروس ص‪.73‬‬
‫‪ - 2‬هاتان القوتان تقابالن في التصنيف الجتماعي األفالطوني طبقتي المحاربين والص ّناع‪.‬‬
‫‪ - 3‬يمكن أن يكون هذا التصنيف الثالثي للنفس مصدرا هاما لتصنيف فرويد ‪:‬األنا ‪-‬األنا‬
‫األعلى ‪-‬الهو‪.‬‬
‫‪ - 4‬أفالطون ‪:‬فايدروس ص‪.73‬‬
‫‪ - 5‬نفسه ص‪.67‬‬
‫‪10‬‬
‫كان قد رآها بواسطة التذكر‪ ،‬وعندئذ فإنه ينقلب على ظهره لفرط اضطرابه‬
‫وتبجيله‪ ،‬وعند سقوطه هذا فإنه يجذب الجوادين‪ 1‬من أعنتهما إلى الوراء بقوة‬
‫(‪ )...‬فينقاد األول بال مقاومة ألنه ل يتصلب‪ ،‬أما الجواد اآلخر الجامح فإنه يضطر‬
‫ألخذه بالقسوة‪ ،‬وبينما ينحرفان بعيدا يتصبب أحدهما من الخجل والخوف عرقا‪ ،‬أما‬
‫اآلخر فما يكاد يفيق من األلم الذي أصابه (‪ )...‬حتى ينتشر غضبه‪ ،‬ويأخذ في‬
‫تأنيب الحوذي ولوم رفيق مركبته لنكوصهما عن موقفهما األول وخيانتهما‬
‫والرتباط معه بوضاعة"‪.2‬‬
‫هذا المشهد يرينا ما أحدثه الجمال في النفس من اضطراب‪ ،‬ويفسر لنا الخوف‬
‫الذي يحدثه الجمال‪ ،‬فهو خوف من إثارة الجمال للشهوة مع ما يعقب هذه اإلثارة‬
‫من شكم العقل لها‪.‬‬
‫أل يدعو كل ذلك‪ ،‬إلى تجنب الجمال للحفاظ على طمأنينة النفس وسكونها؟‬
‫ثم أليست النفس التي ل تعنى بالجمال أقرب إلى الفضيلة من تلك التي يغويها‬
‫الجمال؟‬
‫يؤكد سقراط " أن الشهوة غير العاقلة عندما تسيطر على الرأي المستقيم فإنها‬
‫تطلب اللذة الصادرة من الجمال‪ ،‬وتزداد قوة عندما تجتمع بالشهوات األخرى التي‬
‫من فصيلتها والتي تتخذ جمال األجساد موضوعا لها"‪ ، 3‬إل أن ذلك ل يقوده إلى‬
‫تجنب الجمال‪ ،‬أو اإلعالء من شأن النفس الصماء مقابل النفس المرهفة التي‬
‫ترتعش في مشهد الجمال‪ .‬بل يقوده إلى التمييز بين إثارة الشهوة وإرضائها‪ ،‬فإذا‬
‫أصبحنا على يقين من أنه يرى في إرضاء الشهوة‪ ،‬أو اإلفراط في الملذات‪ ،‬فعال‬
‫ينأى بصاحبه عن الشرف والجمال "‪ ،4‬فإن التعرّض للجمال مع ما يثير من عشق‬
‫هو طريق إلى الفضيلة‪ ،‬وهذا ما يبينه سقراط في حديثه عن (الهوس اإللهي)‪.‬‬
‫إن الهوس عند سقراط هو نافذة اإلنسان لالتصال مع المطلق الذي يرمز إليه (عالم‬
‫اآللهة) وهذا الهوس اإللهي له أربعة أنواع‪:‬‬

‫‪ - 1‬وردت ‪:‬الجياد‪،‬وتم تصويب العبارات التالية بما يالئم المثنى‪.‬‬


‫‪- 2‬أفالطون ‪ :‬فايدروس ص‪.74-73‬‬
‫‪ - 3‬نفسه ص‪.50‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص ‪.49‬‬
‫‪11‬‬
‫‪-1‬هوس النبوءة‪ :1‬هو إلهام إلهي يمكن صاحبه من التنبؤ بالغيب‪ ،‬وصار يسمى فن‬
‫النبوءة‪.2‬‬
‫‪ -2‬فن العيافة‪ :‬البحث في المستقبل بواسطة زجر الطير‪ ،‬وهذا الفن أقل قيمة من فن‬
‫النبوءة‪.3‬‬
‫‪-3‬هوس الشعر‪ :‬مصدره ربات الشعر‪ ،‬وهنا يبدو أفالطون ‪-‬من خالل سقراط‪ -‬يعيد‬
‫للشعر العظيم جماليا قيمته‪ ،‬أو هو عل األقل ل يشير إلى ضرره كما فعل في‬
‫الجمهورية‪ ،4‬فيقول‪" :‬لكن من يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس‬
‫الصادر عن ربات الشعر ظنا منه أن مهارته‪ ..‬كافية ألن تجعل منه‪ ،‬في آخر األمر‪،‬‬
‫شاعرا فال شك أن مصيره الفشل‪ .‬ذلك ألن شعر المهرة من الناس سرعان ما يخفت‬
‫إزاء شعر الملهمين الذين مسّهم الهوس"‪.5‬‬
‫‪-4‬هوس الحب‪ :‬ليس هذا (إل)‪ 6‬تذكرا للموضوعات التي سبق لنفوسنا رؤيتها حينما‬
‫كانت تتنزه في صحبة اإلله‪ ،‬فتشرف على كل ما نصفه في حياتنا الراهنة بأنه‬
‫حقيقي‪ ،‬وكانت نفوسنا ترفع رأسها نحو ما هو موجود بالمعنى األتم‪.‬‬
‫ولذلك فإن فكر الفيلسوف هو الفكر المحلق ذو األجنحة‪ ،‬ذلك ألن عملية تذكره دائما‬
‫تتجه بقدر إمكانه‪ ،‬إلى الموضوعات نفسها التي يكون التصال بها مصدر ألوهية‬
‫اإلله‪ .7‬إن هذا النوع من الهوس يحدث عند رؤية الجمال األرضي فيذكر من يراه‬
‫بالجمال الحقيقي‪ ،‬وعندئذ يحسّ المرء بأجنحة تنبت فيه وتتعجل الطيران‪ ،‬ولكنها ل‬
‫تستطيع‪ ،‬فتشرئب ببصرها إلى أعلى كما يفعل الطائر‪ ،‬وتهمل موجودات هذه‬
‫األرض حتى لتوصف بأن الهوس قد أصابها‪ .8‬وهوس الحب هو خير أنواع الهوس‬
‫األربعة‪.9‬‬

‫‪ - 1‬يرى أفالطون أن التنبؤ بالغيب هو أجمل الفنون‪ ،‬واسمه مشتق من الهوس ( ‪Mania‬‬
‫)أفالطون ‪ :‬فايدروس‪ .‬ص‪.59‬‬
‫‪ - 2‬نفسه ص ‪.60‬‬
‫‪ - 3‬نفسه والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ - 4‬انظر على سبيل المثال ‪:‬أفالطون ‪:‬الجمهورية ‪-‬تر ‪:‬حنا خباز ‪-‬دار القلم ‪-‬بيروت ط‪2‬‬
‫‪ 1980‬ص ‪.90‬‬
‫‪ - 5‬أفالطون ‪ :‬فايدروس ص‪60‬ـ‪.61‬‬
‫‪ - 6‬يبدو أنها سقطت مطبعيا‪.‬‬
‫‪ - 7‬إشارة إلى أن عالم المثل فوق العالم اإللهي‪.‬‬
‫‪ - 8‬أفالطون ‪:‬فايدروس‪ ،‬ص ‪67‬ـ‪.68‬‬
‫‪ - 9‬نفسه ص ‪.93‬‬
‫‪12‬‬
‫‪1‬‬
‫إن ما يحرّك ( هوس الحب) إنما هو الجمال‪ ،‬ألنه يثير حسرتنا على الماضي‬
‫عندما كانت النفس في مواكب اآللهة تتطلع إلى عالم المثل ويفسّر أفالطون ميل‬
‫النفس إلى الجمال بالوضوح الذي يتفرد به الجمال‪ ،‬فالجمال وحده هو الذي أوتي‬
‫هذا القسط من الوضوح عند الرؤية ولذلك كان أحب األشياء‪.2‬‬
‫أما لماذا يختلف الناس في ر ّد فعلهم تجاه الجمال الحسّي بين التقديس من جهة‬
‫وإشباع الشهوة من جهة ثانية فهذا يعود إلى أمرين اثنين أحدهما يتعلق بحياة النفس‬
‫السابقة واآلخر يتعلق بحياتها الحالية‪ ،‬ففي الحياة السابقة قد تكون النفس قد قصَّرت‬
‫في رؤيتها عالم المثل‪ ،‬وذلك قد يعود لقصور في حوذيّها وسيطرته على جواديه‪،‬‬
‫أو قد يعود للمصادفة حيث تتعثر بعض المركبات وسط الزحام الشديد والسباق‬
‫المحموم‪ .3‬وفي كال الحالين فإن هذه النفس البائسة لم تحظ بالغذاء الكافي الذي ل‬
‫يتوافر إل في (سهل الحقيقة) وهو مايفيد في حسن التذكر في الحياة الالحقة ‪ ،‬وفي‬
‫نموّ ريش الجناح أيضا‪.4‬‬
‫أما األمر الثاني ‪ ،‬وهو الذي يتعلق بحياة النفس الحالية فيعود إلى وسائل التذ ّكر‪،‬‬
‫"فمن يلجأ إلى استخدام وسائل التذ ّكر بالطرق الصحيحة يمكنه المشاركة في‬
‫األسرار‪ ،‬وهو وحده الذي يمكنه بلوغ الكمال الحقيقي‪ 5‬وهذا هو الفيلسوف‪ ،6‬وما‬
‫يميزه هو انصرافه عما يشغل الناس‪ ،‬وتعلقه بما هو إلهي‪. 7‬‬
‫ولكن الجمال الحسّي ليس موضع إجماع بين الناس‪ ،‬فما نراه جميال قد ل يراه غيرنا‬
‫كذلك‪ ،‬فهل عالج أفالطون مسألة اختالف األذواق هذه؟‪.‬‬
‫يمكن أن نتلمس تفسيرا لهذه المسألة في حديث أفالطون عن مواكب اآللهة فكل‬
‫نفس كانت تسير في موكب أحد اآللهة‪ ،‬وهي تقوم على تمجيده ومحاكاته‪ ،‬وفي‬
‫الحياة الدنيا سوف تتعشق صفات إلهها المتبوع في من ترى من الفتية ‪،‬فهؤلء الذين‬
‫يتبعون زيوس يجتهدون بأن تكون نفوس محبوبيهم أشبه بزيوس‪ ،‬فهم يبحثون عما‬
‫إذا كان محبوبهم بطبيعته فيلسوفا وعاقال‪ ،‬فإذا اكتشفوا فيه هذا الخلق فإنهم يتيّمون‬
‫في حبّه "‪ "..‬ألن النظر إلى هذا اإلله هو بالنسبة لهم ضرورة ل غنى لهم عنها‪،‬‬
‫وحين يصلون إليها بواسطة التذ ّكر والجذب يتلقون من اإلله ال ُخلق والسلوك الخاص‬

‫‪ - 1‬نفسه ص‪.69‬‬
‫‪ - 2‬نفسه والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ - 3‬نفسه ص ‪.65‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص ‪.66‬‬
‫‪ - 5‬نفسه ص‪.68‬‬
‫‪ - 6‬نفسه ص‪.67‬‬
‫‪ - 7‬نفسه ص‪.68‬‬
‫‪13‬‬
‫به‪ ،‬ويشاركون في األلوهية بقدر ما تسمح الطاقة اإلنسانية‪ ،‬وهم يظنون أن السبب‬
‫في ذلك ليس سوى المحبوب‪.1‬‬
‫وكذلك األمر بالنسبة لبقية اآللهة‪.‬‬

‫‪ - 1‬نفسه ص ‪.72‬‬
‫‪14‬‬
‫المحاضرة الرابعة‬

‫فن الشعر عند أرسطو وشرّاحه‬

‫بين الحق والجمال‬


‫ّ‬
‫يمثل (الحق) قيمة القيم في الفلسفة اإلغريقية ‪ ،‬ولسيمّا عند المعلم األول واضع‬
‫المنطق الصوري ‪ ،‬ففي معيار المنطق تتحدد قيمة الكالم بقيمة (الصدق) ‪ ،‬والصدق‬
‫هو المفردة المرادفة لـ(الحق) ‪ ،‬لكن أرسطو (‪)322 -384‬ق ‪ .‬م استطاع أن يدرك‬
‫في الشعر ما لم يدركه معلمه أفالطون ‪ ،‬أو ما أدركه متأخرا‪ ،1‬وما أدركه أرسطو‬
‫هو الجانب الفني من الشعر حيث قيمة الجمال ‪ ،‬وحيث يتجلى الصدق ‪،‬أو الحق ‪،‬‬
‫بشكل آخر يختلف عن تجليه في الفلسفة أو المنطق‪.‬‬
‫ظ َّل الصدق هو المعيار الذي يح ّدد قيمة الشعر ‪،‬عند أرسطو‪،‬ولكن هذا الصدق ليس‬
‫مطابقة العبارة للواقع ‪ ،‬بل محاكاة الواقع أو تخييل الواقع ‪ ،‬وهاهو المعلم األول‬
‫يتحدث عن عظمة هوميروس الذي علّم جميع الشعراء كيف يحتالون لكي يوهمونا‬
‫بصدق العبارة ‪ ،‬وبأن الحدث المزعوم قد وقع فعال‪ .‬وهذه الحيلة تقوم على أن العقل‬
‫‪2‬‬
‫إذا كان أمام واقعتين مترابطتين عرضا ‪ ،‬وصدقت إحداهما توهّم صدق األخرى‬
‫‪،‬وهذا األمر يفيد الشاعر في صوغ الحبكة الدرامية في شعره‪.‬‬
‫إن الصدق المطلوب من الشاعر هو هذا الصدق ‪ ،‬وهو ما نعرفه اليوم باسم‬
‫(الصدق الفني) ‪ ،‬وهو يختلف عن الصدق العلمي ‪ ،‬والشاعر غير مطالب بالصدق‬
‫العلمي من حيث أنه شاعر‪ .‬فيرى أرسطو أن خطأ الشاعر الذي يالم عليه هو في‬
‫فن الشعر ‪ ،‬أما إذا أخطأ عرضا في علوم الطبيعة مثال ‪ ،‬فهذا ليس بالخطأ الكبير‪.3‬‬
‫على الرغم من أن (الصدق الفني ) ليس صدقا ‪ ،‬بل هو إيهام بالصدق ‪ ،‬فإن له عند‬
‫أرسطو منزلة في قيمة الحق تجعل الشعر ‪ ،‬وهو الذي يعرض أحداثا متوهمة ‪ -‬إذا‬
‫ما قورن مع التاريخ الذي يعرض أحداثا واقعية –أكثر قربا من الفلسفة ‪.‬فيقول‬

‫‪ -1‬يقول د‪.‬عبد الرحمن بدوي‪" :‬يبدو أنه (= أفالطون) قد ندم على قراره ذلك بإبعاد الشعراء ‪،‬‬
‫وعاد يك ّفر عنه في كتاب (النواميس)"‪ .‬أرسطو‪ :‬فن الشعر – تر‪ :‬عبد الرحمن بدوي‪ -‬مكتبة‬
‫النهضة المصرية‪ -‬القاهرة ‪( 1953‬مقدمة المترجم) ص‪.45‬‬
‫‪ -2‬أرسطو‪ :‬فن الشعر ص‪.70-69‬‬
‫‪ -3‬نفسه ص‪.73-72‬‬

‫‪15‬‬
‫أرسطو ‪":‬الشعر أكثر نزوعا فلسفيا من التاريخ"‪ ،1‬ويعلل ذلك بقوله‪" :‬ألن الشعر ‪،‬‬
‫باألحرى ‪ ،‬يروي الكلي ‪ ،‬بينما التاريخ يروي الجزئي ‪ ،‬وأعني بـ(الكلي) أن هذا‬
‫الرجل أو ذاك سيفعل هذه األشياء‪ ،‬أو تلك ‪ ،‬على وجه الحتمال أو وجه‬
‫الضرورة"‪ ،2‬ويعقّب غراهام هو على ترجيح أرسطو الشعر على التاريخ في معيار‬
‫النزوع الفلسفي قائال‪" :‬فهو [= الشعر] يُخضع مظاهر األشياء لرغبات العقل"‪ 3‬بينما‬
‫يعرض التاريخ مظاهر األشياء كما هي في الواقع ‪ ،‬دون إخضاعها لرغبات العقل‬
‫القائمة على الكليات أو على مبدأ الحتمال والضرورة ‪ ،‬فتأتي الحبكة الشعرية أكثر‬
‫إقناعا من التاريخ ‪،‬وأمثلة العامة تعبّر عن هذه الفكرة بالقول ‪( :‬كذب مر ّتب خير من‬
‫صدق مفكك)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هكذا يكون المعلم األول قد أدرك قيمة فلسفية في الشعر ‪ ،‬أي أن هذا الفن هو نافذة‬
‫على الحقيقة ‪ ،‬ألنه إذ يصوغ عالما متخيال فإنما يصوغه وفق المبادئ التي ترضي‬
‫العقل ونزوعه إلى المعنى أو المغزى ‪ ،‬فماذا ق ّدم الفالسفة المسلمون الذين شرحوا‬
‫الفلسفة األرسطية ‪ ،‬من إيضاحات وإضافات إلثراء (بويطيقا) المعلم األول‪.‬‬
‫الفارابي (ت ‪339‬هـ)‬
‫يتابع المعلم الثاني نهج الفلسفة اإلغريقية على ُخطا أرسطو ‪ ،‬في تأكيد قيمة القول‬
‫من خالل قيمة الحق ‪،‬أي الصدق والكذب ‪ .‬فيقسّم األقوال إلى خمسة أنواع ‪،‬‬
‫أعالها‪ ،‬في الصدق ‪ ،‬هو القول البرهاني ‪ ،‬وأدناها ‪،‬في الصدق ‪ ،‬أي أكذبها ‪ ،‬القول‬
‫الشعري‪ .‬يقول الفارابي‪ " :‬إن األقاويل إما أن تكون صادقة ‪ ،‬ل محالة‪ ،‬بالكل وإما‬
‫أن تكون كاذبة ‪ ،‬ل محالة ‪ ،‬بالكل وإما أن تكون صادقة باألكثر كاذبة باألقل‪ ،‬وإما‬
‫عكس ذلك ‪ .‬وإما أن تكون متساوية الصدق والكذب‪ .‬فالصادقة بالكل ل محالة هي‬
‫البرهانية‪ ،‬والصادقة بالبعض على األكثر فهي الجدلية ‪ ،‬والصادقة بالمساواة فهي‬
‫الخطبية ‪ ،‬والصادقة في البعض على األقل ‪ ،‬فهي السوفسطائية والكاذبة بالكل ل‬
‫محالة ‪ ،‬فهي الشعرية"‪.4‬‬

‫‪ -1‬هذه العبارة بترجمة محيي الدين صبحي‪ .‬هو‪ ،‬غراهام‪ :‬مقالة في النقد – تر‪ :‬محيي الدين‬
‫صبحي – مطبعة جامعة دمشق –(د‪.‬م) ‪1393‬هـ ‪ 1973-‬م ‪ .‬ص‪ 59.‬وتكررت العبارة في ص‬
‫‪ .161‬وهي أدق من ترجمة د‪.‬عبد الرحمن بدوي التي جاءت على هذا النحو‪" :‬الشعر أوفر حظا‬
‫من الفلسفة وأسمى مقاما من التاريخ"‪.‬أرسطو‪ :‬فن الشعر ص‪.26‬‬
‫‪ -2‬أرسطو‪ :‬فن الشعر ص ‪.27-26‬‬
‫‪ -3‬هو ‪ ،‬غراهام‪ :‬مقالة في النقد ص ‪.161‬‬
‫‪ -4‬الفارابي‪ :‬مقالة في قوانين صناعة الشعراء‪ .‬منشور في‪ :‬أرسطو‪ :‬فن الشعر‪ -‬تح ‪ :‬د‪ .‬عبد‬
‫الرحمن بدوي ص‪.151‬‬
‫‪16‬‬
‫ولكن على الرغم من تدني مستوى الشعر هذا‪ ،‬فإن الفارابي تحدث‪ ،‬كأرسطو‪ ،‬عن‬
‫الشعر من حيث هو محاكاة أو تخييل وإيهام ‪ ،‬وفي هذه الناحية تكمن القيمة الفنية ‪،‬‬
‫أو اإلستطيقية للشعر ‪،‬فيميز الفارابي بين القول المغلّط والقول المحاكي‪ ،‬فإذا كان‬
‫المغلّط يقول بنقيض الواقعة ‪ ،‬فإن المحاكي يقول بشبيه الواقعة‪ ،‬فالمغلّط يحاول‬
‫إيهامنا بأن الساكن متحرك أو العكس ‪،‬بينما المحاكي يفعل ما تفعله المرائي‪.1‬‬
‫ويمايز الفارابي بين الشعراء من حيث جودة التخييل‪ ،‬فيرى أن هناك نوعين من‬
‫الشعراء‪ ،‬أحدهما يعتمد على جبلّته وطبيعته وغير عارف بصناعة الشعر‪ ،‬واآلخر‬
‫عارف بهذه الصناعة‪ .‬وشعراء النوع الثاني هم الذين "يجوّ دون التمثيالت‬
‫والتشبيهات بالصناعة"‪.2‬‬
‫ابن سينا (ت ‪ 428‬هـ)‬
‫يتحدث الشيخ الرئيس بأسلوب أكثر وضوحا من أسلوب المعلم الثاني ‪ ،‬في ما‬
‫يخص طبيعة التصديق الشعري من حيث هو تخييل ‪،‬وذلك بإدخال مفهوم (إذعان‬
‫النفس) أو(النفعال)‪ .‬يقول‪" :‬والمخيّل هو الكالم الذي تذعن له النفس فتنبسط عن‬
‫أمور ‪ ،‬وتنقبض عن أمور من غير رويّة وفكر واختيار‪ .‬وبالجملة تنفعل له انفعال‬
‫نفسانيا غير فكري ‪ ،‬سواء كان المقول مص ّدقا به أو غير مصدق‪ ،‬فإن كونه مص ّدقا‬
‫به غير كونه مخيّال أو غير مخيل ‪ :‬فإنه قد يص َّدق بقول من األقوال ول يُنفعل عنه‪،‬‬
‫فإن قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عن طاعة للتخييل ل للتصديق‬
‫‪،‬فكثيرا ما يؤثر النفعال ول يُحدث تصديقا ‪ ،‬وربما كان المتيقّن كذبه مخيّال"‪.3‬‬
‫وعلى الرغم من أن كال من القول الصادق والقول المخيّل يحدث قبول ما في النفس‬
‫‪،‬فإن نوع هذا القبول ‪،‬أو ما يسميه ابن سينا اإلذعان‪،‬يختلف من هذا إلى ذاك‬
‫‪،‬فـ"التخييل إذعان‪ ،‬والتصديق إذعان‪ ،‬لكن التخييل إذعان للتعجب واللتذاذ بنفس‬
‫القول‪ ،‬والتصديق إذعان لقبول أن الشيء على ما قيل فيه"‪.4‬‬
‫أما كيف يصبح القول قول مخيال ‪،‬فيحدث في النفس لذة وقبول حتى وإن كان غير‬
‫مص ّدق ‪،‬فإنما يتم ذلك عبر وسائل ثالث أولها اللحن الذي يتن ّغم به ‪ ،‬وثانيها‬
‫بالكالم نفسه – سيتوضح ذلك عند ابن رشد – وثالثها بالوزن‪ .‬والتخييل بالكالم‬
‫وحده من دون اللحن والوزن يتجلى في النثر‪ ،‬وهذا التخييل هو األهم‪ ،‬على ما يبدو‪:‬‬

‫‪ -1‬نفسه ص‪.151-150‬‬
‫‪ -2‬نفسه ص‪.156-155‬‬
‫‪ – 3‬ابن سينا‪ :‬فن الشعر (من كتاب الشفاء)‪ .‬منشور في‪ :‬أرسطو فن الشعر – تح‪ :‬د‪.‬عبد‬
‫الرحمن بدوي ص ‪.161‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص ‪.162‬‬
‫‪17‬‬
‫"وقد تكون أقاويل منثورة مخيّلة‪ ،‬وقد تكون أوزان غير مخيّلة ألنها ساذجة بال‬
‫قول"‪.1‬‬
‫ويؤكد الشيخ الرئيس أن أقدم شكل إلقرار العتقادات في النفوس إنما كان عبر‬
‫التخييل الشعري‪ ،‬وذلك قبل نشوء الخطابة‪ .2‬وبالتأكيد قبل نشوء المنطق‪ ،‬أو القول‬
‫البرهاني‪.‬‬
‫ابن رشد (ت ‪ 595‬هـ)‬
‫يبدو القاضي األج ّل والعالم المحصّل أبو الوليد ابن رشد أكثر وضوحا من سابقيه‬
‫في تلخيص آراء المعلم األول وشرحها ‪ ،‬فبعد أن يذكر وسائل التشبيه أو المحاكاة‬
‫التي ذكرها ابن سينا ‪ ،‬وقد أوردها على هذا النحو (المحاكاة والوزن واللحن)‬
‫وأوردها على نحو آخر ‪( :‬القول المخيّل والوزن واللحن)‪ ،‬يذهب إلى بيان آراء‬
‫صاحب فن الشعر في أن القول الشعري هو (القول المغيّر) مقابل ما يسمى (القول‬
‫الحقيقي) ‪ ،‬فيقول‪" :‬وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغيّر ‪ ،‬أنه إذا غيّر‬
‫القول الحقيقي سُمي شعرا ‪ ،‬أو قول شعريا ‪ ،‬ووجد له فعل الشعر ‪ ،‬مثال ذلك قول‬
‫القائل‪:‬‬
‫ومسح باألركان من هو ماسح‬ ‫ولما قضينا من منى كل حاجة‬
‫المطي األباطح‬
‫ّ‬ ‫وسالت بأعناق‬ ‫أخذنا بأطراف األحاديث بيننا‬
‫إنما صار شعرا من ِق َبل أنه استعمل قوله ‪( :‬أخذنا بأطراف األحاديث بيننا وسالت‬
‫بأعناق المطيّ األباطح) بدل قوله ‪ :‬تحدثنا ومشينا‪.3".‬‬
‫ويورد ابن رشد رأي أرسطو في ضرورة اجتماع الوزن مع القول المحاكي ليصبح‬
‫القول شعرا‪ ،‬وبالتالي يتم استبعاد منظومات أنباذقليس ومحاورات سقراط من‬
‫الشعر‪.4‬‬
‫أما نجاح القول المحاكي‪ ،‬أو بلوغه التمام‪ ،‬فيكون كلما كانت المسافة أقرب بين‬
‫طرفي التشبيه‪.5‬‬

‫‪ - 1‬نفسه ص‪.168‬‬
‫‪- 2‬نفسه ص ‪.180-179‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد ‪ ،‬أبو الوليد‪ :‬تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر (الشرح الوسيط)‪ -‬منشور‬
‫في‪ :‬أرسطو‪ :‬فن الشعر – تر‪ :‬د‪.‬عبد الرحمن بدوي ص‪.242‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص‪.204‬‬
‫‪ - 5‬نفسه ص ‪.223-222‬‬
‫‪18‬‬
‫المحاضرة الخامسة‬

‫وحدة الوجود‪ ...‬والجمال عند المتصوفة‬

‫ل يستقل المتصوفة بنظرية في الجمال إل من خالل نظرية وحدة الوجود‬


‫(‪ ، )Pantheism‬وهذا المصطلح يشير إلى كل "نظرية تحاول تفسير الوجود‬
‫بإرجاعه كله إلى مبدأ واحد"‪ ،1‬وبذلك يمكن أن تكون هذه النظرية " أقدم موقف‬
‫فلسفي وديني جاد من قضية األلوهية" ويمكن تلمسها في فلسفات الهند والطاوية‬
‫واألفالطونية الجديدة‪.2‬‬
‫ويمكن تلمس إرهاصات النظرية في الفكر اإلسالمي عبر التنزيه المعتزلي‪،‬‬
‫وبصورة أوضح في نظرية الفيض وقبل ذلك في الفناء الصوفي على يدي أبي يزيد‬
‫البسطامي ( ت ‪ 261‬هـ )‪.3‬‬
‫وعلى الرغم من الفرق الدقيق بين الوحدة الوجودية المطلقة عند ابن سبعين ( ت‬
‫‪ 669‬هـ) ووحدة الوجود عند ابن عربي (ت ‪ 638‬هـ)‪ ،‬وهذا الفرق هو أن هللا "‬
‫وجود كل موجود" عند ابن عربي بينما "هو كل موجود" كما يقول ابن سبعين‪،4‬‬
‫فإن هذه النظرية قد وسمت التصوف الالحق بميسمها‪ ،‬وكان ابن عربي أوسع تأثيرا‬
‫فصار اسمه علما عليها‪ ،‬وإن كان لفظ ( وحدة الوجود) لم يرد في كتبه‪ ،‬بل مريدوه‬
‫والمتأثرون بآرائه هم من استعملوا هذا اللفظ‪.5‬‬
‫يشير د‪ .‬عبد الكريم اليافي إلى أهمية هذه النظرية في الفلسفة الجمالية عند المتصوفة‬
‫فيقول‪" :‬هذه النظرية ذات شأن في الفلسفة اإلسالمية ‪ ،‬وهي ذات شأن في دراسة‬
‫الجمال ألنها تجعل له أصال ميتافيزيائيا راسخا في الكون‪ ،‬وأكثر المتصوفين منذ‬
‫ذلك العصر‪ ،‬إذا تأملوا الجمال‪ ،‬فإنما يتأملونه من خالل هذه النظرية"‪.6‬‬

‫‪- 1‬الحكيم ‪،‬د‪ .‬سعاد ‪ :‬وحدة الوجود‪ -‬مادة في‪ :‬زياده ‪ ،‬معن‪ :‬الموسوعة الفلسفية العربية‪ -‬معهد‬
‫اإلنماء العربي – (د‪.‬م) طـ‪1986 1‬ص ‪.1517‬‬
‫‪ - 2‬نفسه ص ‪.1526-1517‬‬
‫‪- 3‬نفسه ص ‪.1536-1527‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص ‪.1536‬‬
‫‪ - 5‬اليافي‪ ،‬د‪ .‬عبد الكريم ‪ :‬بدائع الحكمة ( فصول في علم الجمال وفلسفة الفن) – دار‬
‫طالس‪ -‬دمشق طـ‪ 1999 1‬ص ‪.137‬‬
‫‪ - 6‬نفسه والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫وجرت العادة عند المتصوفة أن يقيموا آراءهم على النص المقدس سواء بتأويله‪ ،‬أو‬
‫وضعه على طريقة الكشف التي عرفوا بها والتي يأخذها عليهم علماء الحديث ‪،‬‬
‫ُ‬
‫فخلقت خلقا‬ ‫كنت كنزا ل أعرف فأحببت أن أعرف‬‫ُ‬ ‫والحديث القدسي الذي نصه‪" :‬‬
‫فعرَّ ف ُتهم بي ‪ ،‬فعرفوني"‪ 1‬هو مثال على ذلك‪ ،‬وهو بمثابة حجر الزاوية في تأصيل‬
‫وحدة الوجود على النص‪ ،‬وهذا الحديث يوضح نشوء الكثرة عن الواحد بناء على‬
‫علة المعرفة‪ ،‬أو الرغبة في النتقال من الخفاء ( كنت كنزا) إلى الظهور ( أن‬
‫أعرف)‪ ،‬وهذه المعرفة ل يمكن إل أن تكون جمالية ‪ ،‬ألن تجلي مبدأ الوجود ل‬
‫يمكن أن يتوقف عند حدود المعرفة الوجودية الموضوعية الخالية من القيمة ومن‬
‫اإلحساس الجمالي تحديدا‪.‬‬
‫إن أول سمة من سمات هذه المعرفة التي يقدمها لنا هذا الحديث هي وحدة الذات‬
‫والموضوع‪ ،‬وحدة الذات العارفة والموضوع المعروف‪ ،‬ألن معرفة الخالق إنما تتم‬
‫به ( فع ّرفتهم بي) ولذا قال المتصوفة‪ ":‬إن هللا ع ّرفنا نفسه بنفسه "‪.2‬‬
‫ومن أجل الوقوف على ماهية المعرفة الصوفية بوضوح أكبر ينبغي الوقوف على‬
‫ماهية الجهل عندهم‪ ،‬والجهل عند القوم هو الحجاب والحجاب ل يعني أن الخالق‬
‫يحجب الخلق عن معرفته‪ ،‬بل إن الجاهل يغفل عن حقيقة الواحدية ‪ ،‬فيتوهم أن ثمة‬
‫آ خرين في الوجود‪ ،‬وهذا الوهم الناشئ عن الغفلة هو الحجاب والجهل‪ ،‬ولذا يقول‬
‫ابن عطاء هللا السكندري ( ت ‪ 709‬هـ )‪ " :‬مما يدلّك على وجود قهره سبحانه ‪ ،‬أن‬
‫حجبك عنه بما ليس بموجود معه"‪ .3‬وقال أيضا‪" :‬ما حجبك عن هللا وجود موجود‬
‫معه‪ ،‬ولكن حجبك عنه توهّم موجو ٍد معه"‪.4‬‬
‫ننتهي من ذلك إلى أن الصوفي العارف ل يرى شيئا إل ويرى هللا فيه ‪ ،‬أو يرى هللا‬
‫قبله‪ . 5‬ولذلك فإن العالقة الثنائية مع الجميل‪ ،‬والمتمثلة بموضوع الجمال وذات‬
‫المتذوق‪ ،‬تغدو عند المتصوفة ثالثية هي "الجميل والرائي وهللا"‪.6‬‬
‫الجمال المعار‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬العجلوني‪ ،‬إسماعيل بن محمد‪ :‬كشف الخفاء ومزيل اإللباس عما اشتهر من األحاديث على ألسنة الناس ـ‬
‫مكتبة القدسي ـ القاهرة‪1351‬هـ‪ .‬رقم الحديث‪2016‬ج‪2‬ص‪.132‬‬
‫‪ - 2‬الكالباذي‪ ،‬أبو بكر محمد‪ :‬التعرف لمذهب أهل التصوف‪ -‬المكتبة األزهرية للتراث‪ -‬القاهرة‬
‫طـ‪ 1412 3‬هـ‪ 1992 -‬م ص ‪.79‬‬
‫‪ - 3‬الشرنوبي‪ ،‬عبد المجيد‪ :‬شرح حكم اإلمام ابن عطاء هللا السكندري‪ -‬تح ‪ :‬د‪ .‬عبد الفتاح‬
‫البزم‪ -‬دار ابن كثير‪ -‬دمشق‪ ،‬بيروت طـ‪ 1422 8‬هـ‪ 2002 -‬م ص‪.80‬‬
‫‪- 4‬نفسه ص ‪.168‬‬
‫‪ - 5‬الكالباذي ‪ :‬التعرف لمذهب أهل التصوف ص ‪.78-77‬‬
‫‪ - 6‬الحكيم ‪ ،‬د‪ .‬سعاد‪ :‬نحو نظرية في الجمال عند المتصوفة‪ -‬محاضرة في الندوة الثامنة حول‬
‫(الفن والتصوف) – معهد سرفانتس‪ 21 -‬و‪22‬و ‪ 23‬نيسان‪ -2001 -‬المتحف الوطني‪ -‬دمشق‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫يوضح الشيخ األكبر في فتوحاته المكية حقيقة الجمال في العالم‪ ،‬بأن جمال‬
‫الموجودات مستم ّد من جمال خالقها‪ ،‬فاهلل جميل وقد خلق العالم على صورته‪ 1‬ألنه‬
‫يحب الجمال‪ ،‬فكان العالم كله جميال‪.‬‬
‫فحقيقة الجمال في هذا العالم ليست أصيلة فيه بل هي معارة من مصدر التجلي‬
‫اإللهي‪ ،‬وهذا ما يؤكده شيخ شعراء الصوفية ابن الفارض(ت‪632‬هـ) في تائيته‬
‫الكبرى المسماة ( نظم السلوك)‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫معا ٌر له بل حسن كل مليحة‬ ‫فكل ُّ مليح حسنه من جمالها‬
‫فالذات اإللهية هي مصدر كل جمال في هذا العالم‪ ،‬وهي التي تظهر للعشاق‬
‫بالصور المحبوبة‪:‬‬
‫من اللبس في أشكال حسن بديعة‬ ‫وتظهر للعشاق في كل ّ مظهر‬
‫‪3‬‬
‫وآونة تدعى بعــزة‪ ،‬عـــــزت!‬ ‫ٌ‬
‫بثينة‬ ‫ففي مرة لبنى وأخرى‬
‫وهذه الفكرة القائمة على أن الجمال اإللهي هو مصدر كل جمال ظاهر إنما هي‬
‫فكرة أفالطونية ظهرت في نظرية المثل حيث الجمال الحقيقي يصدر عن ذلك العالم‬
‫‪ ،‬وتتجلى ظالله على األرض‪.‬‬
‫ومن الطريف أن نجد هذه الفكرة منتشرة في أوربا خالل عصر النهضة ‪ ،‬وربما‬
‫عاد ذلك إلى مصدر مباشر هو التصوف اإلسالمي‪ ،‬يقول ميكل‬
‫آنجلو )‪1564-1475()Michelangelo‬م) عبقري عصر النهضة الشهير‪" :‬كل‬
‫جمال نراه على هذه األرض هنا يأتي من هذا المنبع اإللهي الذي نأتي نحن منه"‪.4‬‬
‫وهذا يعني أن الجمال ليس وحده المعار‪ ،‬بل نحن معارون أيضا من حيث إننا‬
‫مشاهدو هذا الجمال‪.‬‬
‫الط ْرف المعار‪:‬‬

‫‪ - 1‬اليافي‪ :‬بدائع الحكمة ص‪.141‬‬


‫‪ - 2‬ابن الفارض‪ :‬الديوان‪ -‬صححه وضبطه‪ :‬إبراهيم السامرائي‪ -‬دار الفكر للنشر والتوزيع‪-‬‬
‫عمان ‪ 1985‬ص‪.38‬‬
‫‪ - 3‬نفسه ص‪.39‬‬
‫‪ - 4‬برتليمي‪ ،‬جان‪ :‬بحث في علم الجمال‪ -‬تر‪ :‬د‪ .‬أنور عبد العزيز‪-‬‬
‫مرا‪:‬د‪ .‬نظمي لوقا‪ -‬دار نهضة مصر بالشتراك مع مؤسسة فزنكلين للطباعة والنشر‪ -‬القاهرة ‪،‬‬
‫نيويورك ‪ 1970‬ص ‪.631‬‬
‫‪21‬‬
‫لقد أعارنا هللا هذا الجمال من جماله‪ ،‬ولكننا ما كنا نستطيع تذوق هذا الجمال‪ ،‬أو‬
‫إدراكه لول أنه أعارنا الحواس أو ملكة التذوق التي نهتدي بها إلى هذا الجمال‪،‬‬
‫وهذا يعني – كما م ّر معنا‪ -‬أن هللا عرفنا نفسه بنفسه‪ ،‬يقول العز عبد السالم بن غانم‬
‫المقدسي ( ت ‪ 678‬هـ)‪:‬‬
‫وال تألفنّ ســــوى إلفها‬ ‫ومخطوبة الحسن محجوبة‬
‫عرفِها‬
‫َ‬ ‫وأهدت إليه شذى‬ ‫إذا ما تجلت على عاشق‬
‫بما أبرز الحسن من لطفها‬ ‫تغيب الصفات وتفنى الذوات‬
‫ولم يستطع إذ عال وصفها‬ ‫فإن رام عاشقها نظرة ً‬
‫‪1‬‬
‫فكان البصير لها طرفها‬ ‫أعارته طرفا ً رآها به‬
‫الجمال المطلق والجمال المقيد‪:‬‬
‫يمكن أن نتلمس جذر فكرة إطالق الجمال وتقييده في نظرية المثل األفالطونية‪ ،‬ففي‬
‫عالم المثل ندرك جمال يفوق الجمال الحسي‪ ،‬وهو "ل يرى ول يسمع‪ ،‬ولكن العقل‬
‫يدركه في شيء من المشقة‪ ،‬وباسم هذا الجمال نحكم نحن على صور الجمال‬
‫الناقصة الموجودة في عالمنا األرضي"‪ ،2‬إل أن الجمال الحسي أو المقيد هو ما‬
‫يذكرنا بالجمال المطلق‪ ،‬فيبعث فينا الشوق والحنين إلى ذلك العالم الذي كنا سكانه‪.‬‬
‫وعالم المثل هذا يقابله في التصوف اإلسالمي عالم الذ ّر الذي سمعنا فيه الميثاق‬
‫اإللهي بين هللا وعباده بعبارة‪":‬ألست بربكم!"‪ ،‬وباإلجابة‪" :‬بلى"‪ .‬وكذلك تقابله الجنة‬
‫التي يحظى سكانها بتأمل الجمال المطلق‪ ،‬سواء كانت الجنة مكانا مفقودا أو مكانا‬
‫موعودا يحظى أهله بلذة المشاهدة‪( :‬وُ جُوه َي ْو َم ِئ ٍذ َناضِ َرة‪.‬إِلَى َر ِّب َها َناظِ َرة)‬
‫(القيامة‪ .)23-22:‬يقول ابن عربي في فتوحاته ‪" :‬يقوم أهل جنات األعمال إلى‬
‫الكثيب‪،‬وهو كثيب من المسك األبيض (‪ )...‬فيأتيهم رسول من هللا يقول لهم‪ :‬تأهبوا‬
‫لرؤية ربكم ج َّل جالله‪ ...‬فيتأهبون فيتجلى الحق ج ّل جالله"‪.3‬‬
‫ولكن إذا كان الجمال المقيد هو الصورة الحسية الممكنة للجمال المطلق‪ ،‬فما على‬
‫الصوفي إل المجاهدة من أجل إلغاء وهم حجاب السوى ليصبح المقيد مطلقا‪ ،‬وبمثل‬

‫‪ - 1‬ابن غانم المقدسي‪ ،‬العز عبد السالم‪ :‬الديوان‪ -‬تح‪ :‬ماهر محمد عبد القادر‪ -‬المعهد الفرنسي‬
‫للدراسات العربية‪ -‬دمشق ‪ 2001‬ص ‪.158‬‬
‫‪ - 2‬للو‪ ،‬شارل‪ :‬مبادئ علم الجمال ( االستطيقا) – تر ‪ :‬مصطفى ماهر‪ -‬را‪ :‬د‪ .‬يوسف مراد‪-‬‬
‫دار إحياء الكتب العربية‪ -‬القاهرة ‪ 1959‬ص‪.34‬‬
‫‪ - 3‬الحكيم‪ :‬نحو نظرية في الجمال عند الصوفية ص‪.8‬‬
‫‪22‬‬
‫هذه الروح يرى الصوفي في الغزل الدنيوي الحسي معاني روحية تجعل من‬
‫المحبوب الحسي رمزا أو معبرا للمحبوب اإللهي‪ ،‬فيروى أن إبراهيم بن أدهم (ت‬
‫‪161‬هـ) سمع رجال يغني بهذا البيت‪:‬‬
‫ٌر سوى اإلعراض عني‬ ‫كل ُّ ذنب لك مغفـــــــــو‬
‫فغشي عليه‪ ،1‬إذ وصله الخطاب على شكل عتا ٍ‬
‫ب إلهي‪.‬‬
‫ّ‬
‫المعذل‬ ‫ويبدو أن أبا بكر الشبلي ( ت ‪ 334‬هـ) قد تمثل يوما بأبيات لعبد الصمد بن‬
‫( ت ‪ 240‬هـ تقريبا)‪ ،‬فنسبت إليه وهي ‪:‬‬
‫ل َك سلطان على المهج‬ ‫يا بديع الدل ّ والغنج‬
‫غير محتاج إلى السرج‬ ‫إن بيتا ً أنت ساكنه‬
‫يوم يأتي الناس بالحجج‬ ‫وجهك المأمول حجتنا‬
‫‪2‬‬
‫يوم أدعو منك بالفرج‬ ‫ال أتاح هللا لي فرجا ً‬

‫ول يتمثل صوفي مثل الشبلي بهذه األبيات إل بعد انزياح دللتها الحسية إلى دللة‬
‫روحية صوفية تغدو فيها ذات الحق هي المحبوب المخاطب‪ ،‬وقد تحدث أبو القاسم‬
‫الجنيد ( ت ‪ 297‬هـ) عن الجمال المقيد من حيث هو معبر إلى الجمال المطلق‬
‫بقوله‪ " :‬كما أن النساء حبائل الشيطان فهن حبائل العرفان‪ ،‬إذ قد يتوصل العاقل عن‬
‫عشقهن إلى معرفة مبدعهن ألن المقدمات الصريحة تنتج األغراض الصحيحة ‪،‬‬
‫وباألحرى من أمعن النظر في مخلوق زائل ترقى عند معرفة غايته إلى دائم‬
‫فاعل"‪.3‬‬
‫‪4‬‬
‫إذا كانت غاية الصوفي هي الجمال المطلق‪ ،‬فإن الجمال المقيد هو رسالة أو نداء‬
‫ينبه الغافل‪ ،‬ألن النفس ل تميل وتكلَف ول تعشق وتهيم إل بالجمال‪ ،5‬ويفسر الوزير‬

‫‪ - 1‬حسان‪ ،‬عبد الحكيم‪ :‬التصوف في الشعر العربي اإلسالمي‪ -‬دار العرّ اب ودار نور‪ -‬دمشق‬
‫‪ 2010‬ص ‪.185-184‬‬
‫‪ - 2‬الشبلي‪ ،‬أبو بكر‪ :‬الديوان‪ -‬تح‪ :‬د‪ .‬كامل مصطفى الشيبي‪ -‬مطابع دار التضامن‪ -‬بغداد طـ‪1‬‬
‫‪1386‬هـ‪ 1967-‬م ص ‪.139‬‬
‫‪ - 3‬عبد الحكيم‪ :‬التصوف في الشعر اإلسالمي ص ‪.84‬‬
‫‪ - 4‬يرى برقلس( ت‪ 485‬م) أن كلمة ( الجمال) مشتقة من الفعل ( ينادي) فالجمال قوة يجذب‬
‫بها هللا الكائنات بعد صدورها عنه‪ ،‬أفالطون‪ :‬محاورة فايدروس‪ -‬تر‪ :‬د أميرة حلمي مطر‪ -‬دار‬
‫غريب – القاهرة ‪ 2000‬حاشية المترجمة رقم‪ 195 :‬ص ‪.69‬‬
‫‪ – 5‬ابن الخطيب‪ ،‬الوزير لسان الدين‪ :‬روضة التعريف بالحب الشريف‪ -‬تح‪ :‬عبد القادر أحمد‬
‫عطا‪ -‬دار الفكر العربي‪( -‬د‪.‬م) (تاريخ مقدمة المحقق ‪ 1386‬هـ‪ 1966 -‬م) ص‪.291‬‬
‫‪23‬‬
‫لسان الدين بن الخطيب ارتباط الجمال الجزئي أو المقيد‪ ،‬بالجمال المطلق بأنه عالقة‬
‫الشبيه بالشبيه ‪ ،‬ويقول‪" :‬رسخ حب الصور وحب الحادث للحادث‪ ،‬فما كان منه‬
‫غير مقرون بالشهوات (‪ )...‬فربما كان سلما للحب الحقيقي"‪.1‬‬
‫ولكن طالما أن الجمال المقيد يع ّرض ذائقه لخطر النزلق في الشهوات والضالل‬
‫عن الجمال المطلق الذي هو الهدف والغاية ‪ ،‬فإن المتصوفة يحذرون من هذا‬
‫الخطر فيقول ابن الفارض‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫بي تمال!‪ 2‬فقلت ‪ :‬قصدي وراكا‬ ‫قال لي حسن كل شيء تجلى‬
‫وكثيرا ما يؤكد الصوفية بعد غزلهم بما يبدو جمال حسيا‪ ،‬أو جزئيا مقيدا‪ ،‬أنهم ل‬
‫يقصدون بهذا الغزل إل الجمال المطلق‪ ،‬فهذا الشيخ األكبر بعد أن يع ِّدد أنواعا من‬
‫الجمالت الحسية يؤكد لسامعه أنه ل يقصد هذه الجمالت الح ّسيّة ذاتها بل ما تحيل‬
‫إليه من جمال مطلق‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫واطلب الباطن حتى تعلما‬ ‫فاصرف الخاطر عن ظاهرها‬
‫ويقول الشيخ عمر اليافي ( ت ‪ 1233‬هـ) في أحد قدوده‪:‬‬
‫فمرادي مشهدك األسمى‬ ‫إن همت بهند أو أسما‬
‫‪5‬‬
‫يزداد فؤادي توحيدا‬ ‫وبنور صفاتك واألسما‬
‫القبح عند المتصوفة‬
‫إذا كان العالم تجليا للخالق الجميل‪ ،‬فينبغي أن يكون جميال بإطالق ‪ ،‬فما س ّر ما يبدو‬
‫لنا في عالم الواقع من عالمات على القبح‪.‬‬
‫الحق أن المتصوفة يظلون مخلصين لمقدمتهم في صدور العالم عن الجميل‪،‬‬
‫وضرورة أن يكون العالم كله جميال وخاليا من القبح‪ ،‬وهكذا ل يعدو أن يكون القبح‬
‫غفلة وقصورا‪ ،‬كما أن السوى الذي يحجب المطلق هو كذلك‪ ،‬وهذا عبد الكريم‬
‫الجيلي (ت ‪ 805‬هـ) قد أعطى التعليل الصوفي لغياب القبح‪ ،‬فكل شيء في العالم‬

‫‪ - 1‬نفسه ص ‪.292 -291‬‬


‫‪ - 2‬يسوّ غ أستاذنا د‪ .‬عبد الكريم اليافي عدم حذف حرف العلة بأنه إشباع للفتحة‪ .‬اليافي‪ :‬بدائع‬
‫الحكمة‪ -‬ص ‪ ( 137‬حاشية ‪.)-23-‬‬
‫‪ - 3‬ابن الفارض‪ :‬الديوان ص ‪.94‬‬
‫‪ - 4‬ابن عربي‪ :‬ترجمان األشواق‪ -‬دار صادر‪ -‬بيروت طـ ‪ 1424 3‬هـ ‪ 2003-‬م ص ‪.11-10‬‬
‫‪ - 5‬موسى باشا‪ ،‬د‪.‬عمر‪ :‬قطب العصر عمر اليافي‪ -‬منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ‪-‬‬
‫‪ 1416‬هـ‪ 1996 -‬ص ‪.643‬‬
‫‪24‬‬
‫هو تج ٍّل لصفات الحق‪ ،‬وصفات الحق ليست إل ألوانا من الجمال والجالل ‪ ،‬ولذا ل‬
‫يصح أن يكون القبيح ـ ما يبدو قبيحا ـ قبيحا عند التحقيق‪:‬‬
‫إليه البها والقبح بالذات راجع‬ ‫وال تحسبن الحسن ينسب وحده‬
‫فما إن ننظر إلى القبيح من حيث هو جمال إلهي‪ ،‬حتى تزول عنه صفة القبح‬
‫ويظهر وجهه الحقيقي الجميل‪:‬‬
‫أتتك معاني الحسن فيه تسارع‬ ‫َ‬
‫نسبت لحسنه‬ ‫وكل قبيح إن‬
‫‪1‬‬
‫فما ث ّم نقصانٌ ‪ ،‬وال ثم باشع‬ ‫يك ّمل نقصانَ القبيح جماله‬
‫فالقبيح كالمليح في هذا العالم‪ ،‬ألن كليهما مجلى من مجالى الجمال اإللهي‪ ،‬يقول‬
‫الجيلي ‪" :‬اعلم أن القبح في األشياء إنما هو لالعتبار‪ ،‬ل لنفس ذلك الشيء فال يوجد‬
‫في العالم قبح إل باعتبار ‪ ،‬فارتفع حكم القبيح المطلق من الوجود فلم يبق إل الحسن‬
‫المطلق‪ ،‬أل ترى إلى قبح المعاصي إنما ظهر باعتبار النهي وقبح الرائحة المنتنة‬
‫إنما ثبت باعتبار من ل يالئم طبعه ‪ ،‬وأما هي عند الجعل ومن يالئم طبعه من‬
‫المحاسن"‪.2‬‬
‫فالجمال عند المتصوّ فة يمتلك صفة اإلطالق في وجوده‪ ،‬أما وجود القبح فهو نسبي‪،‬‬
‫أي أنه ل يتجاوز حدود اعتبارات المالءمة‪ ،‬فال وجود للقبح بالمعنى المطلق‪.‬‬

‫‪ - 1‬الجيلي‪ ،‬عبد الكريم‪ :‬النادرات العينية‪ -‬تح‪ :‬د‪ .‬يوسف زيدان‪ -‬دار األمين القاهرة طـ ‪1‬‬
‫‪1419‬هـ ‪ 1999 -‬م ص ‪.96‬‬
‫‪ - 2‬الجيلي‪ ،‬عبد الكريم‪ :‬اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل ـ تح‪ :‬صالح بن محمد بن‬
‫عويضة‪ -‬منشورات محمد علي بيضون ودار الكتب العلمية – بيروت طـ‪1418 1‬هـ ‪ 1997-‬م‬
‫ص ‪.94‬‬

‫‪25‬‬
‫المحاضرة السادسة‬

‫بين الجمال واألخالق‬

‫كان يجري التعبير عن الخيـر والجميل ‪ ،‬عند قدماء اليونان‪ ،‬بلفظة واحدة هي‬
‫(ح َسن)‪ ،1‬وهذه اللفظة ُتطلق على‬ ‫(‪ ،)kalokagathos‬ومثلها في العربية كلمة َ‬
‫كل ما يجلب للمرء متعة أو منفعة‪ .‬وربما كان في مفهومي المتعة (‪)hedonism‬‬
‫والمنفعة (‪ )utilitarianism‬مفتاح لغز التمييز بين األخالقي والجمالي‪ .‬فأساس‬
‫القيمة هو المتعة‪ ،‬أو اللذة‪ ، 2‬كما قال أريستبوس القورينائي ِ(‪)Aِِ ristippus‬‬
‫(‪355-435‬ق‪.‬م)‪ ،‬إل أن أبيقور (‪270-341‬ق‪.‬م) ميَّز بين لذة مباشرة ولذة غير‬
‫مباشرة‪ ،‬إذ رأى أن المرء َيلذ بذكـرى اللذة الماضية‪ ،‬ويلذ بأمل اللذة المستقبلة‪.‬‬
‫ألم تعقبه لذة‪ ،‬وباجتناب لذة صغرى‬ ‫ونصح‪ ،‬في إرشاده األخالقي‪ ،‬باإلقدام على ٍ‬
‫تحرمنا من لذة كبـرى‪ ،‬وباجتناب لـذة يعقبها ألم‪ .‬وفي كل ذلك إنما كان أبيقور‬
‫ينهض بصرح القيمة تأسيسا على القيمة الجمالية‪ ،‬أو اللذة المباشرة‪ .‬ثم انتقل بهذه‬
‫القيمة الجمالية‪ ،‬عبر إدخاله مفهوم القتصاد والتقنين‪ ،‬إلى الفضاء األخالقي القائم‬
‫على المنفعة‪ ،‬وكأن القيمة األخالقية هي تقنين اقتصادي للقيمة الجمالية أو للذة‪.‬‬
‫الالذة تقوم على البداهة األولى‪ ،‬وعلى الحدس المباشر باآلن‪ ،‬أما‬‫َّ‬ ‫فالقيمة الجمالية‬
‫القيمة األخالقية فهي نتاج إعمال العقل المدرك لنقسام الزمن إلى آنات الماضي‬
‫والحاضر والمستقبل‪ ،‬وهي نتاج اقتصاد اللذة‪ ،‬وذلك بتوفيرها للمستقبل وفق مبدأ‬
‫المنفعة‪ .‬وبذلك يمكن القول مع د‪ .‬عبد الكريم اليافي‪ :‬إن فكرة الجمال هي المظهر‬
‫األوّ ل لفكرة الخير‪3.‬‬

‫‪ - 1‬زيعووور‪ ،‬علووي‪ :‬ضمممير (وجممدان) ـ زيووادة‪ :‬الموسمموعة الفلسممفية العربيممة ـ معهوود اإلنموواء‬
‫العربي ـ (د ‪ .‬م ) ط‪ .1986 1‬مج‪1‬ص‪.545‬‬

‫‪ - 2‬كون إيغور(إشراف)‪ :‬معجم علم األخالق ـ تر‪ :‬توفيق سلوم ـ دار التقدم ـ موسكو‪.1984‬‬
‫ص‪.44‬‬

‫‪ - 3‬اليافي‪ ،‬د‪.‬عبد الكريم‪ :‬بدائع الحكمة (فصول في علم الجمال وفلسفة الفن) ـ دار طالس ـ‬
‫دمشق ط‪.1999 1‬ص‪.46‬‬

‫‪26‬‬
‫يبدو أن مثل هذا التحليل هو ما قاد النظرة العامة للتمييز بين الخير والجمال‪ ،‬هذا‬
‫التمييز الذي لم يتضح قبل القرون الوسطى‪ .1‬وقد تابع القديس أوغسطين ‪Saint‬‬
‫‪430-354(Augustine‬م) أفالطون في جعل (الجميل) قيمة في ذاته‪ ،‬أي أنه‬
‫يروقنا في ذاته‪ ،‬مميِّزا إياه عن (المالئم) الذي يرضينا لعالقته بشيء آخر‪ ،‬وهذا‬
‫(المالئم) أو(النافع) سيغدو خيرا‪ ،‬أو صفة أساسية للخير‪.‬‬
‫إل أن صفة الخير التي حملت‪ ،‬في الفكر المسيحي القروسطي‪ ،‬دللة على العدل‬
‫السماوي مقابل الشر األرضي‪ ،‬اضطربت‪ ،‬على صعيد التفكير األخالقي‪ ،‬من‬
‫تأطيرها بالنافع‪ ،‬فأبقاها أوغسطين سامية وهدفا أعلى‪ ،‬وجعل من الجمال وسيلة إلى‬
‫ذلك الهدف‪.‬‬
‫وكذلك‪،‬على صعيد التفكير الجمالي‪ ،‬اضطربت صفة الجميل‪ ،‬إذ كيف يكون الجميل‬
‫قيمة إيجابية وهو مرتبط بعالم الحواس‪" ،‬العالم األرضي الدنس المليء بالخطيئة"‪.2‬‬
‫ول شك في أن اإلقرار بأن كل لذة هي قيمة جمالية‪ ،‬يجعل جميع اللذات الناشئة عن‬
‫عمل أعضاء الجسد جمال‪ ،‬أي قيمة روحية‪ .‬وقد احتاط علم الجمال الحديث لذلك‬
‫بأن ميز بين اللذة الجمالية واللذة المادية‪ ،‬فاللذة الجمالية تتطلب "أن يكون العضو‬
‫شفافا ل يعوق اهتمامنا‪ ،‬وإنما يوجهه مباشرة إلى موضوع خارجي"‪ ،3‬حتى كأن‬
‫"الجهد الجمالي ليس سوى إدراك المرء لحالت نفسه مج َّسمة في أشياء‬
‫محسوسة"‪.4‬‬
‫ومثل هذا التمييز بين اللذة المادية واللذة الجمالية‪ ،‬يبدو مؤسَّسا على ما أثاره‬
‫أفالطون في محاورة (هيبياس األكبر)‪ ،‬من تميز الجميل عن النافع والمفيد والخيِّر‪،5‬‬
‫ومن َقصْ ِر الجمال على حاستي السمع والبصر‪ ،‬إذ يقول سقراط‪" :‬الجميل هو‬
‫المتعة ‪ ،‬ليس أية متعــة كانت‪ ،‬بل تلك التي تأتي عن طريق البصر والسمع"‪ ،6‬وقد‬

‫‪ - 1‬بلوز‪ ،‬د‪.‬نايف‪ :‬علم الجمال ـ المطبعة التعاونية ـ دمشق‪1400‬هـ ـ ‪1980‬م‪.‬ص‪.46‬‬

‫‪ - 2‬بلوز‪ :‬علم الجمال ص‪.14‬‬

‫‪ - 3‬سانتيانا‪ ،‬جورج‪ :‬اإلحساس بالجمال ـ تر‪ :‬د‪.‬محمد مصطفى بدوي ـ را‪:‬د‪.‬زكي نجيب‬
‫محمود ـ مكتبة األنجلو المصرية ـ القاهرة(د‪.‬ت)‪ .‬ص‪.62‬‬

‫‪ - 4‬الحاج‪ ،‬كميل‪ :‬جمال ـ زيادة‪ :‬الموسوعة الفلسفية العربية مج‪1‬ص‪.337‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬أفالطون‪ :‬هيبياس األكبر ـ تر‪ :‬د‪.‬علي نجيب إبراهيم ـ دار كنعان ـ دمشق ط‪1‬‬
‫‪ .2003‬ص‪.71-66‬‬

‫‪ - 6‬نفسه‪ .‬ص‪.86‬‬
‫‪27‬‬
‫تابع القديس توما األكويني (‪1274-1225‬م) التمييز بين الخير والجمال‪ ،‬و َق َ‬
‫صر‪،‬‬
‫َّ‬
‫"منزها عن‬ ‫كذلك‪ ،‬اللذة الجمالية على حاستي السمع والبصر‪ ،‬وأبقى الجميل‬
‫الغرض"‪ ،1‬أي أن قيمته في ذاته‪ .‬وبين ما يملك قيمة في ذاته‪ ،‬وما يُرجى لغرض‬
‫ينتج عنه‪ ،‬يمكن تلمس الخط الفاصل بين الخير والجمال‪.‬‬
‫فإذا نظر الباحث في مسألة األخالق مد ِّققا في الفـرق بين ما يملك قيمـة في ذاته‪،‬‬
‫وما هو مقصود لغاية أخرى‪ ،‬فربما تك َّشفت له التجاهات األخالقية منضوية تحت‬
‫اتجاهين كبيرين‪ ،‬يمكن أن يُطلق على أحدهما (األخالق التقليدية)‪ ،‬وعلى اآلخر‬
‫(األخالق اإلبداعية)‪.‬‬
‫فما هي سمات األخالق التقليدية؟‬
‫يمكن حد هذه األخالق في أن منطلقها ليس في الذات‪ ،‬بل في الخارج‪ ،‬فهي تقوم‬
‫على تنفيذ لوائح تعليمات في نصوص دينية‪ ،‬أو أعراف اجتماعية‪ ،‬أو دساتير حزبية‬
‫‪ ...‬الخ‪ .‬وإن غاية هذه األخالق ليست في السلوك األخالقي‪ ،‬بل في ما يعد به هذا‬
‫السلوك من نعيم اآلخرة‪ ،‬أو النجاح الجتماعي‪.‬‬
‫وهذه األخالق يمكن أن تقع في الشكالنية والرياء‪ ،‬أو ما يعرف بـ(الفريسية) التي‬
‫واجهتها المسيحية‪ ،‬في بداياتها‪ ،‬بطرح ( ُخلقيَّة الباطن) في مقابل (الخلقية‬
‫الظاهرية)‪ .2‬و(الخلقية الظاهرية) ُتعرف بـ(الليغالية‪ ،)legalism‬وهي من الالتينية‬
‫(‪=legalis‬شرعي)‪ ،‬وقد انتقدها كانط ‪ )1804-1724(Kant‬ألن اإلنسان فيها ل‬
‫ينطلق من إحساسه بالواجب‪ ،‬بل من الرغبة في النجاح‪.3‬‬
‫وتمتاز األخالق التقليدية بجمودها‪ ،‬فهي منظومة من الوصايا والتعليمات الساكنة‬
‫التي تأخذ طابع الديمومة‪ .‬ويُطلق برغسون ‪ )1941-1859(Bergson‬على هذه‬
‫األخالق اسم (األخالق المغلقة)‪ ،‬ويشبهها بالغريزة عند الحشرات‪ ،‬فيقول‪" :‬لو ألقينا‬
‫نظرة فاحصة على مجتمعات النحل أو النمل (‪ )...‬لوجدنا أن الغريزة هي التي‬
‫تجعل أفراد تلك الحشرات تح ِّقق من األفعال ما هو ضروري لصيانة حياتها‬
‫الجتماعية‪ ،‬وأما في المجتمعات البشرية فإن (األخالق المغلقة)‪ ،‬هي التي تقوم بمثل‬

‫‪ - 1‬بلوز‪ :‬علم الجمال ص‪.15‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬كون‪ :‬معجم علم األخالق ص‪.289-288‬‬

‫‪ - 3‬نفسه ص‪.335-334‬‬

‫‪28‬‬
‫هذه الوظيفة"‪ ،1‬وبذلك يحدد برغسون القاعدة الكبرى لكل أخالق مغلقة بأنها "العمل‬
‫على صيانة التقاليد النافعة للمجتمع"‪.2‬‬
‫أما (األخالق اإلبداعية) فهي على النقيض من تلك األخالق‪ ،‬وربما كانت محاربة‬
‫المسيحية لجمود النص من أبرز تجلياتها‪ ،‬إذ "يحارب المسيح الفريسية ألنها تغرق‬
‫في الحترام الشكلي للفضيلة‪ ،‬وفي الوله المتغطرس بالقاعدة‪ ،‬وفي التضحية بالروح‬
‫لمصلحة الحرف"‪.3‬‬
‫وإذ كان منطلق األخالق اإلبداعية هو الذات الفردية‪ ،‬فإنها أخالق حرية‪ ،‬ول‬
‫ترضى بأي نداء يعوق نداء الحرية‪ ،‬حتى ولو كان نداء (الجسد) الذي هو من‬
‫ملحقات الذات الفردية‪ .‬ولذلك فإن األخالق اإلبداعية لم تكن أخالق الشهوات‬
‫بالضرورة‪ ،‬وهذا تيار الكلبية(‪ )Cynicism‬مـن أبـرز ممثلي األخالق اإلبداعية‪،‬‬
‫يقول مؤ ِّسسُه أنتيستينس األثيني ‪370-435(Antisthenes of Athens‬ق‪.‬م)‪:‬‬
‫"إن اللذة تستعبد النفس ‪ ،‬ولذلك فال حرب أشرف من الحرب ضد اللذة"‪ ،4‬واللذة‬
‫المقصودة هنا هي اللذة المادية‪ ،‬ولو كانت اللذة بإطالق لشملت اللذة الروحية‪،‬‬
‫َ‬
‫ولخ ِرب المبدأ الذي تقوم عليه األخالق اإلبداعية من لذة السلوك وفق دوافع الذات‪،‬‬
‫أو وفق مبدأ الحرية‪ .‬فمبدأ الحرية هو"المبدأ األساسي في األخالق الكلبية"‪ ،‬ويعني‬
‫التحرر من كل القوانين واألعراف والتقاليد السائدة‪.5‬‬
‫واألخالق اإلبداعية عند برغسون هي (األخالق المفتوحة) المضادة لـ(األخالق‬
‫المغلقة)‪ ،‬أو هي (األخالق اإلنسانية) المضادة لـ(األخالق الجتماعية)‪ .‬فإذا كانت‬
‫الثانية خاضعة ل َقسْ ر الجماعة‪ ،‬فإن األولى خاضعة لما يسميه برغسون (نداء الحياة‬
‫الصاعدة)‪ ،‬ويرى أن الفارق بين هذه األخالق وتلك ليس في الدرجة‪ ،‬وإنما هو‬
‫فارق في طبيعة ك ٍّل منهما‪ ،‬إذ بينما تتجه األخالق الجتماعية نحو حماية الجماعة‬
‫من عدوان غيرها من الجماعات‪ ،‬وينحصر مثلها األعلى في تحقيق العدالة‬
‫والتضامن‪ ،‬نجد أن األخالق اإلنسانية تنـزع نحـو العمل لصالـح البشرية قاطبة‪،‬‬

‫‪ - 1‬إبراهيم‪ ،‬د‪.‬زكريا‪ :‬المشكلة الخلقية ـ دار مصر للطباعة الفجالة (تاريخ المقدمة‪.)1969‬‬
‫ص‪.97‬‬

‫‪ - 2‬نفسه ص‪.99‬‬

‫‪ - 3‬زيعور‪ ،‬علي‪ :‬المسيحية ـ زيادة‪ :‬الموسوعة الفلسفية العربية مج‪2‬قسم‪2‬ص‪.1257‬‬

‫‪ - 4‬متى‪ ،‬كريم‪ :‬الكلبية ـ زيادة‪ :‬الموسوعة الفلسفية العربية مج‪2‬قسم‪2‬ص‪.1136‬‬

‫‪- 5‬نفسه ص‪.1136‬‬

‫‪29‬‬
‫ومثلها األعلى هو (المحبة)‪ .‬غير أن هذه األخالق ل تنهـض بها الجماعات‪ ،‬بل تقوم‬
‫على أكتاف العظماء من األبطال واألنبياء والمصلحين‪.1‬‬
‫الفردي العيني والعام المجرد‪:‬‬
‫يمثل تمييز كانط )‪ )1804-1724 ( ) Cant‬القائم على المفهوم (‪) concept‬‬
‫بين الحكم الجمالي والحكم األخالقي‪ ،‬النقطة األبرز في التمييز بين الجميل والخير‪،‬‬
‫فالحكم األخالقي يقوم على المفهوم بينما يفتقر الحكم الجمالي للمفهوم‪ ،‬فما هو‬
‫المفهوم؟‬
‫يمكن أن نعبر عن فكرة ( المفهوم) بالعربية بعبارة( التصور) وهو كما عرفه ولتر‬
‫ت‪.‬ستيس (‪" )1967 -1876 ( ) w.T Stace‬فكرة مجردة أو عامة تتميز عن‬
‫الفكرة الفردية أو العينية ففكرتي عن (زيد) أو (عمرو) ليست تصورا ألنها ل‬
‫تن طبق إل على فرد واحد‪ ،‬أما فكرة (اإلنسان) فهي تصور ألنها فكرة عامة تنطبق‬
‫على جميع أعضاء فئة من الموضوعات ‪ ،‬وهي في هذه الحالة جميع أفراد البشر‪.‬‬
‫وهكذا فإن التصور يمكن أن يوصف بأنه فكرة عن فئة‪ ،‬أو فكرة عن الصفات التي‬
‫يشترك بها جميع أعضاء فئة ما‪ )...( .‬وليس ثمة ضرورة ألن تكون الموضوعات‬
‫مادية‪ ،‬فقد تكون عالقات أو أفعال‪ ،‬فمثال (الضرب) تصور ألنه يدل على فكرة‬
‫عامة من فئة األفعال‪ 2".‬فإذا كان الحكم على هذا النحو‪( :‬هذه اللوحة جميلة) فهو‬
‫حكم جمالي‪ ،‬ولكن قولي‪( :‬الرسم جميل)‪ ،‬أو (األعمال الفنية جميلة) فليس حكما‬
‫جماليا ‪ ،‬ألنه يقوم على مفهوم ‪( :‬الرسم) أو (األعمال الفنية) ‪ ،‬وليس على واقعة‬
‫فردية عيانية‪.‬‬
‫أما الحكم األخالقي فيمكن صوغه وفق مفهوم‪ 3‬كقولنا‪( :‬إغاثة الملهوف من أعمال‬
‫الخير)‪ .‬فالح كم ل يتعلق بهذه اإلغاثة أو تلك أو هذا الملهوف أو ذاك ‪ ،‬بل بمفهوم‬
‫إغاثة الملهوف عامة‪.‬‬

‫‪ - 1‬زكريا‪ :‬المشكلة الخلقية ص‪.100‬‬

‫‪ -2‬ستيس ‪ ،‬ولتر‪ .‬ت‪ :‬معنى الجمال ( نظرية في اإلستطيقا) – تر‪ :‬إمام عبد الفتاح إمام –‬
‫المجلس األعلى للثقافة – (د‪.‬م) ‪. 2000‬ص ‪.247‬‬

‫‪ -3‬انظر‪ :‬كانط‪ :‬نقد ملكة الحكم –تر‪ :‬غانم هنا‪ -‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ -‬المنظمة‬
‫العربية للترجمة‪ -‬بيروت طـ‪ .2005 1‬ص ‪ 16‬وص‪. 200‬‬

‫‪30‬‬
‫ويتابع الفيلسوف األلماني هيغل (‪ )1831 -1770 ( ) Hegel‬مواطنه كانط في‬
‫هذا الرأي عبر تحسره على مكانة الفن التي كانت له في عصر ازدهاره عند‬
‫اإلغريق‪ ،‬فيقول‪ " :‬لقد أضحت ثقافتنا بأسرها ثقافة محكومة برمتها بالقاعدة العامة‪،‬‬
‫بالقانون‪ .‬وقد أطلق على هذه التحديدات العامة اسم المفاهيم "‪ ، 1‬ويثبت في الحاشية‬
‫شعرا لمواطنه األلماني شيللر(‪ ،)1805-1759 ( ) Chiller‬ومما جاء فيه‪:‬‬
‫"كئيب هو سلطان المفهوم‪ :‬فمن ألف شكل متغير‬
‫ل يصنع سوى شكل واحد يتيم فقير وفارغ‪.‬‬
‫لكن الحياة والفرح يكونان على أشدهما حيثما للجمال‬
‫شكل‪2".‬‬ ‫سيادة ‪ ،‬فالواحد األزلي يعاود ظهوره في ألف‬
‫أما الفيلسوف اإليطالي كروتشه (‪ ، )1952-1866( ) Croce‬فيميز بين شكلين‬
‫من المعرفة‪ :‬معرفة تقوم على المفهوم‪ ،‬ومعرفة تقوم على الحدس ( ‪)intuition‬‬
‫وهي المعرفة الجمالية‪.3‬‬
‫اإليجابي والسلبي‪:‬‬
‫يضع عالم الجمال‪ ،‬ذو األصل اإلسباني‪ ،‬جورج سانتيانا (‪-1863()Santayana‬‬
‫‪ )1952‬مبدأ اإليجابية والسلبية معيارا للتمييز بين القيم الجمالية والقيم األخالقية‪،‬‬
‫فهو يرى "أن األحكام الجمالية إيجابية أساسا‪ ،‬بمعنى أنها تنطوي على إدراك ما هو‬
‫خير‪ ،‬في حين أن األحكام الخلقية في أساسها سلبية‪ ،‬أي أنها إدراك للشر"‪.4‬‬

‫‪ -1‬هيغل‪ :‬المدخل إلى علم الجمال‪ -‬تر‪ :‬جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت طـ‪3‬‬
‫‪ .1988‬ص ‪.26‬‬

‫‪ -2‬نفسه ‪ ،‬والصفحة نفسها‪ (.‬حاشية ‪.) -1-‬‬

‫‪ -3‬انظر‪ :‬كروتشه‪ ،‬بنديتو‪:‬علم الجمال – تر‪ :‬نزيه الحكيم‪ -‬را‪ :‬بديع الكسم ‪ -‬المجلس األعلى‬
‫لرعاية الفنون واآلداب والعلوم الجتماعية‪ -‬المطبعة الهاشمية‪( -‬د‪.‬م) ‪ 1383‬هـ ‪1963‬م‪ .‬ص‬
‫‪ 31‬وص‪.95‬‬

‫‪ -4‬سانتيانا‪ ،‬جورج ‪ :‬اإلحساس بالجمال ‪ -‬تر‪ : :‬د‪ .‬محمد مصطفى بدوي‪ -‬را‪ :‬د‪ .‬زكي نجيب‬
‫محمود‪ -‬مكتبة األنجلو المصرية‪ -‬القاهرة (د‪.‬ت) ‪.‬ص ‪.50-49‬‬

‫‪31‬‬
‫وإذا ما كان هناك تيار في األخالق يدعو إلى قيام أخالق على مبدأ اللذة‪ ،‬فهو تيار‬
‫ضعيف ‪ ،‬من ناحية الشيوع أو الجماهيرية‪ ،1‬لـ" أن األخالق ل تهتم بتحقيق اللذة‪،‬‬
‫وإنما هي في أعمق قواعدها وأقواها تهتم بتجنب األلم‪.2‬‬
‫فالقيم في ميدان الجمال قيم إيجابية دائما ‪ ،‬وهي – كما أسلفنا‪ -‬سلبية دائما في ميدان‬
‫األخالق‪ ،‬وإذا تراءى لنا (القبح ) – وهو قيمة جمالية – قيمة سلبية في مجال الفنون‬
‫فإن سانتيانا ل يق ّر سلبيّته "ألن القبح ليس مصدرا أللم حقيقي‪ :‬بل إنه في ذاته‬
‫مصدر تسلية" أما إذا طغى القبح وبات منفّرا إلى درجة تبدو مهددة للحياة "فإن‬
‫وجوده في هذه الحال يصبح شرا حقيقيا‪ ،‬وبالتالي تجدنا نأخذ منه موقفا عمليا‬
‫خلقيا"‪ ،3‬أي أن القبح هنا يغادر الميدان الجمالي ليستقر في الميدان األخالقي بصفته‬
‫أذى أو شرا‪.‬‬
‫المجال المفتوح والمجال اإلنساني‪:‬‬
‫يتحدث د‪ .‬نايف بلوز عن ظهور األخالق في التجمع البشري نتيجة الحاجة إلى‬
‫تنظيم اجتماعي يلبي ما عجزت الضرورة البيولوجية عن تلبيته‪ ،‬وجاء هذا التنظيم‬
‫على شكل قواعد أخالقية أساسها الجزاء الخارجي‪ ،‬وذلك قبل أن تتحول تلك القواعد‬
‫إلى قوة إلزام داخلية وجدانية‪" .‬فمجال الوعي األخالقي هو األعمال اإلنسانية‬
‫وتوجيهها"‪ .4‬أما القيمة الجمالية فال تختص بمجال محدد مثل األعمال اإلنسانية‪،‬‬
‫فمجال القيمة الجمالية مجال مفتوح على الطبيعة الحية وغير الحية‪ ،‬وعلى اإلنسان‬
‫في هيئته الخارجية وعالمه الداخلي‪ ،‬وعلى مختلف نشاطاته التقنية والعلمية والفنية‪.‬‬
‫"إن مجال الجمال شامل لكل المجالت"‪.5‬‬

‫‪ -1‬أطلقنا عليه اسم األخالق الجمالية‪ ،‬السح ‪ ،‬رضوان‪ :‬دالل الجمال ( فلسفة القيم في تجربة‬
‫الحالج – منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ -‬دمشق ‪ .2012‬ص ‪.148 -135‬‬

‫‪ -2‬سانتيانا‪ :‬اإلحساس بالجمال‪ .‬ص ‪.50‬‬

‫‪ -3‬نفسه‪ .‬ص ‪ ،51‬وانظر‪ :‬ستيس ‪ :‬معنى الجمال‪.‬ص ‪.105-103‬‬

‫‪ -4‬بلوز‪ ،‬د‪ .‬نايف‪ :‬علم الجمال‪ -‬المطبعة التعاونية – دمشق ‪ 1401 -1400‬هـ‪-1980 -‬‬
‫‪ 1981‬م‪.‬ص ‪.47‬‬

‫‪ -5‬نفسه‪ .‬ص ‪.48-47‬‬

‫‪32‬‬
‫المحاضرة السابعة‬

‫المقوالت الجمالية ‪-1-‬‬

‫الجميل والجليل والقبيح والمأسوي‬


‫كما أننا نقف في مجال األخالق أمام أشكال متعددة من السلوك البشري‪ ،‬تمتد على‬
‫محور قطباه الخير والشر‪ ،‬فتتلون أعمال الخير بألوان كالمروءة والنخوة والكرم‬
‫والصدق والوفاء‪ ....‬وتتلون أعمال الشرِّ بألوان كالنذالة والنفاق والغدر‪ ....‬كذلك‬
‫يقف الوعي البشري‪ ،‬في مجال الجمال أمام أشكال وألوان من الجمال نذكر منها‪:‬‬
‫الجميل والرشيق واألنيق والخالب والشامخ والرقيق‪....‬‬
‫وقد بحث علم الجمال في الفروق الدقيقة بين هذه المفاهيم الجمالية‪ ،‬وأطلق عليها‬
‫مصطلح (مقولت) أو (قيم) وربما كان المصطلح األول أكثر شيوعا‪ ،‬ولذا سنعتمده‬
‫في دراستنا هذه‪ ،‬فنعرّ ف المقولت الجمالية بأنها المفاهيم التي تعبر عن تنوع أنماط‬
‫الجمال أو أشكاله‪ ،‬وبال تالي تعبر عن نوع الشعور المرافق لكل نمط من تلك األنماط‬
‫‪.‬‬
‫ولما كانت أنواع الشعور هذه من الكثرة ما يجعل حصرها مستحيال أو يكاد ‪ ،‬فإننا‬
‫سنقف عند مقولت خمس هي األكثر شهرة في الدراسات الجمالية‪ ،‬وهي ‪ :‬الجميل‬
‫والجليل والقبيح والمأسوي ‪ ،‬والهزلي‪.‬‬
‫‪-1‬الجميل ( ‪)Beautiful‬‬

‫عندما نتحدث عن الجمال أو الجميل ‪ ،‬من حيث هو مقولة نكون أمام مصطلح‬
‫يعبر عن نمط ٍ‪ ،‬أو نوع من أنواع الجمال ل عن الجمال عامة‪ ،‬فـ( الجمال) في‬
‫عبارة (علم الجمال) مثال‪ ،‬يعني جميع أنواع الجمال أي أنه يضم جميع المقولت‬
‫الجمالية من الجميل والجليل والقبيح‪ ...‬الخ‪ ،‬أما (الجمال) من حيث هو مقولة‪،‬‬
‫فهو نوع من أنواع الجمال يتسم بـ" الهدوء والتزان والسالم والطمئنان‪،‬‬
‫وتناسب األجزاء وكمال كل جزء في المجموع ‪ ،‬واتساق هذه األجزاء بعضها‬
‫مع بعض ومع المجموع ‪ ،‬واتساق المجموع معها"‪.1‬‬

‫‪ - 1‬اليافي ‪ ،‬د‪.‬عبد الكريم‪ :‬بدائع الحكمة ( فصول في علم الجمال وفلسفة الفن) – دار‬
‫طالس‪ -‬دمشق طـ‪ . 1999 1‬ص ‪.63‬‬
‫‪33‬‬
‫يقيم عالم الجمال الفرنسي شارل للو (‪ ) 1953-1877 ( ( LaLo‬الجمال على‬
‫التعاطف بيننا وبين قوة خفية‪ 1‬في الموضوع الذي نتأمله‪ ،‬ويمكن أن يقوم الجمال‬
‫على كل ما( يعب ّر عن الحياة‪ ،‬أو يذكر بالحياة )‪ 2‬فيكون نقيض الجمال هو ما‬
‫يذكر بالموت‪ .‬ومن الطبيعي إذا كان الجمال يحيل إلى الحياة أن تكون المشاعر‬
‫التي ت صاحب الشعور بالجميل هي مشاعر " األنس والمحبة والغتباط‬
‫والراحة"‪.3‬‬
‫ل شك أن مقولة الجميل تزداد وضوحا عند مقارنتها بالمقولت الجمالية األخرى‬
‫‪ ،‬ول سيما بمقولتي (الجليل ) و( القبيح)‪.‬‬
‫‪ -2‬الجليل ( ‪:) Sub Lime‬‬

‫يع ّد المفكر السوري القديم كاسيوس لونجينوس ( ‪ 273 -213‬م ) هو أول‬


‫الباحثين الذين تناولوا مفهوم الرائع‪ 4‬في األدب والبيان‪ 5‬وهو يعرّف الروعة في‬
‫البيان بأنها " صدى عظمة الروح " وبأنها " تفوق وامتياز في اللغة" وكذلك هي‬
‫" قدرة تبعث النشوة "‪ 6‬غير أن لونجينوس ل يدعي أنه المكتشف األول لمفهوم‬
‫(الجليل)‪ ،‬ويذكر اسم سابقه في دراسة هذا المفهوم‪ ،‬وهو الخطيب تسيسيلي الذي‬
‫لم تصل مؤلفاته إلينا‪ ،7‬وقد كتب بحث (الجليل) في القرن األول الميالدي‪،‬‬
‫ولونجينوس عاش في القرن الثالث الميالدي‪ ،‬ولذا نرى بعض الباحثين ينسبون‬
‫هذا البحث إلى لونجينوس بعد أن يضيفوا له عبارة ( المزيف)‪.8‬‬
‫لقد تحدث لونجينوس عن الجليل في الطبيعة فأظهر أنه ل يمكن أن يرى في‬
‫السواقي الصغيرة مهما كانت مياهها نظيفة وشفافة‪ ،‬بل يرى في األنهار العظيمة‬
‫والبحر ‪ ،‬كما يُرى في مشهد البركان‪.9‬‬

‫‪ - 1‬للو‪ ،‬شارل ‪ :‬مبادئ علم الجمال ( اإلستطيقا) – تر‪ :‬مصطفى ماهر‪ -‬را‪ :‬د‪ .‬يوسف مراد –‬
‫دار إحياء الكتب العربية‪ -‬القاهرة ‪ 1959‬ص‪.63‬‬
‫‪ - 2‬مرعي‪ ،‬د‪ .‬فؤاد‪ :‬الجميل في العصور الحديثة‪ -‬مجلة المعرفة‪ -‬العدد المزدوج (‪)301-300‬‬
‫– وزارة الثقافة – دمشق‪ -‬شباط‪ ،‬آذار ‪ 1987‬ص ‪.46‬‬
‫‪ - 3‬كليب‪ ،‬د‪ .‬سعد الدين‪ :‬البنية الجمالية في الفكر العربي‪ -‬اإلسالمي‪ -‬منشورات – وزارة‬
‫الثقافة‪ -‬دمشق ‪ 1997‬ص ‪.161‬‬
‫‪ - 4‬يعبرَّ عن مفهوم ( الجليل) بعبارتي ‪ ( :‬الرائع) و( السامي) أيضا‪.‬‬
‫‪ - 5‬اليافي‪ :‬بدائع الحكمة ص ‪.99‬‬
‫‪ - 6‬نفسه ص‪.100‬‬
‫‪ - 7‬مرعي ‪ :‬الجميل في العصور الحديثة ص ‪.64‬‬
‫‪ - 8‬نفسه ص ‪ ( 65‬حاشية ‪.)-1-‬‬
‫‪ - 9‬نفسه ص ‪.65‬‬
‫‪34‬‬
‫وهذا يعني أن كبر الحجم صفة أساسية من صفات الجليل‪ ،‬وهو ما يؤكده كانط‬
‫إذ يقول ‪ ":‬نحن نسمي ساميا ما هو كبير كبرا مطلقا "‪.1‬‬
‫يحلل عالم النفس الفرنسي ريبو ‪) 1916 -1839 ( RiboT‬الشعور بالرائع‬
‫إلى‪:‬‬
‫"‪ -1‬شعور بقلق وتصاغر وضعف حيوي يرجع إلى انفعال أولي هو الخوف‪.‬‬
‫‪ -2‬شعور باندفاع وحيوية يرجع إلى انفعال آخر وهو اإلحساس بقدرة ذاتية‬
‫شخصية‪.‬‬
‫‪ -3‬شعور واع ٍ‪ ،‬أو غير واع ٍ‪ ،‬باألمن تلقاء قدرة هائلة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ولول األمن لزال كل شعور جمالي "‬
‫وهذا الشعور المركب من تضاؤل الذات أمام المظهر الهائل والمخيف‪،‬‬
‫واإلحساس في الوقت ذاته بقدرة ذاتية وشعور باألمن‪ ،‬هو جوهر الشعور‬
‫بالجليل‪ .‬فعلى الرغم من أن كانط يقيم مفهوم الجالل على الخوف‪ ،‬إل أنه يميز‬
‫الجالل بنوع من الخوف هو اإلجالل‪ ،‬وذلك اعتمادا على التمييز بين الدين‬
‫والخرافة‪ .‬فاإلنسان المؤمن بالعدالة اإللهية‪ ،‬والقدرة اإللهية التي ل ترد ‪ ،‬توقظ‬
‫فيه تلك القدرة فكرة سمو هذا الكائن الذي في داخله‪ ،‬ألنه يملك نية سامية مطابقة‬
‫إلرادة هللا‪ ،‬أما الخرافة فإنها ل ترسخ في النفس إجالل للسامي‪ ،‬بل خوفا (فقط)‬
‫من الكائن كلي القدرة‪.3‬‬
‫ولع ّل ما أشار إليه كانط بمفهوم اإليمان يشير إليه شارل للو بعبارة‪ " :‬تعاطف‬
‫ممزوج بالحب" ‪ ،‬وهو يؤكد الطبيعة المركبة للجليل ‪ ،‬من النفور والستلطاف‪.4‬‬
‫يرى د‪ .‬فؤاد مرعي أن مفهوم الكمال عند الفيثاغوريين في الحضارة اإلغريقية‬
‫‪ ،‬يمكن أن يمثل بداية إلدراك مفهوم (الجليل) ‪ ،‬ومفهوم (المثل األعلى) إدراكا‬
‫نظريا‪ .5‬والجليل هو الظاهرة األكثر قربا من المثل األعلى‪ .6‬وقد تمثل الجليل‬

‫‪- 1‬كانط ‪ :‬نقد ملكة الحكم‪ -‬تر ‪ :‬غانم هنا – المنظمة العربية للترجمة – بيروت ط‪ 2005 1‬ص‬
‫‪.157‬‬
‫‪- 2‬اليافي ‪ :‬بدائع الحكمة ص ‪.105‬‬
‫‪ - 3‬كانط‪ :‬نقد ملكة الحكم ‪ .‬ص ‪.143‬‬
‫‪ – 4‬للو ‪ :‬مبادئ علم الجمال ص ‪.63‬‬
‫‪ - 5‬مرعي‪ :‬الجميل في العصور الحديثة ص ‪.65‬‬
‫‪ - 6‬نفسه ص ‪.79‬‬
‫‪35‬‬
‫في الحضارة المصرية عبر أبي الهول واألهراما ت‪ 1‬وتمثل في الحضارة‬
‫اإلسالمية بمشاهد يوم القيامة‪ ،‬وباإلسراء والمعراج وهبوط الوحي والحج‪.2‬‬
‫ويمكن أن نقارن الجالل بالجمال‪ ،‬فبينما كنا مع مشاعر األنس والمحبة‬
‫والغتباط والراحة في مصاحبة الجميل‪ ،‬فإن مشاعرنا أمام الجليل تتمحور حول‬
‫(الهيبة)‪.3‬‬
‫وبينما يرى بعض الباحثين أن الجليل ل يحتاج إلى جمال الشكل ألنه يتطلب‬
‫عنصر التنفير‪ ،4‬فإن آخرين يرون أن الجليل هو الجميل الخارق والالمتناهي‪،‬‬
‫أو أنه أعلى درجات الجميل‪.5‬‬
‫فالنفور الناشئ عن الخوف في الجليل ليس نفورا من القبح ‪ ،‬بل هو خوف‬
‫مسيطر عليه‪ 6‬فال يمكن أن يكون الجليل قبيحا‪ ،7‬بل إننا أمام الجليل نرخص‬
‫أنفسنا الحادثة وننشد التوحد بجوهر الحقيقة‪ ،‬وكأننا نقول ‪ " :‬أيها الرب ! إنني‬
‫سأثق بك حتى حينما تقتلني "‪.8‬‬
‫‪ -3‬القبيح ( ‪: (The Ugly‬‬

‫يبدو القبيح ‪ ،‬من حيث هو مقولة جمالية‪ ،‬منطويا على تناقض ما‪ ،‬إذ كيف يكون‬
‫الموضوع المن ِّفر‪ 9‬جذابا وممتعا في الوقت ذاته؟ وباختصار ‪ :‬كيف يكون القبيح‬
‫جميال؟‬
‫إن ما يجعل القبيح مقولة جمالية إنما هو الفن‪ ،‬فالفن يحررنا من الشر واألذى في‬
‫ما نراه‪ -‬واقعيا‪ -‬قبيحا‪ ،‬ولذلك فـ" إن صورة امرأة قبيحة أو عادية ‪ ،‬بطبيعتها‪،‬‬
‫يمكن جدا أن تكون تحفة فنية رائعة"‪ .10‬وهذه المرأة القبيحة ضمن العمل الفني‬
‫هي نموذج لمقولة القبيح‪.‬‬

‫‪ - 1‬نفسه ص ‪.67‬‬
‫‪ - 2‬اليافي‪ :‬بدائع الحكمة ص ‪.107‬‬
‫‪ - 3‬كليب‪ :‬البنية الجمالية في الفكر العربي ـ اإلسالمي ‪ .‬ص‪.191‬‬
‫‪ - 4‬مرعي ‪ :‬الجميل في العصور الحديثة ص ‪.81‬‬
‫‪ - 5‬نفسه ص ‪.82‬‬
‫‪ - 6‬سانتيانا‪ ،‬جورج‪ :‬اإلحساس بالجمال‪ -‬تر ‪ :‬د‪ .‬محمد مصطفى بدوي‪ -‬مكتبة األنجلو المصرية‬
‫– القاهرة ( د‪.‬ت) ص ‪.255‬‬
‫‪ - 7‬نفسه ص ‪.259‬‬
‫‪- 8‬نفسه‪ .‬ص ‪.260‬‬
‫‪ - 9‬يرى للو أن القبح نفور‪ ،‬للو‪ :‬مبادئ علم الجمال ص ‪.63‬‬
‫‪ - 10‬نفسه ‪ .‬ص ‪.12‬‬
‫‪36‬‬
‫ول يمكن الوقوف على طبيعة المشاعر المصاحبة لمقولة القبيح إل إذا وقفنا على‬
‫سمات القبيح في الطبيعة‪ ،‬ومن أولى هذه السمات سمة المسخ أو التشوه‪ ،‬وقد‬
‫تحدث ابن سينا كيف أن عوارض ما قد تعترض الصورة فتمنعها من الظهور‬
‫في المادة بمظهر الكمال‪ ،‬وعند ذلك ل تقبل المادة التخطيط والتشكيل القويم ‪،‬‬
‫فتتشوه الخلقة‪.1‬‬
‫وتبدو مقولة القبيح على النقيض من مقولة الجميل في ثنائية الحياة والموت‪ ،‬فإذا‬
‫كان الجميل هو ما يعبّر عن الحياة أو يذ ّكر بالحياة‪ -‬كما م ّر في مقولة الجميل‪-‬‬
‫فإن القبح ‪ ،‬كما يرى بعض علماء الجمال‪ ،‬هو كل ما يعب ّر عن الموت أو يذ ّكر‬
‫به‪ ،‬ويقولون أن الضفدع إذا كان قبيحا فما ذلك إل ألن جلده يذكر بجلد الميت‪.2‬‬
‫ويرى للو مع ليف تولستوي (‪ )1910-1828 ( ) Tolstoy‬وأوغست كونت (‬
‫‪ ) 1857-1798 ( ) Comet‬وغيرهما‪ " ،‬أن كل ما يوحّد الناس جميل‪ ،‬وأن‬
‫كل ما يهدف إلى إضعاف الرباط الجتماعي قبيح "‪.3‬‬
‫أما هيغل فيطرح القبح كقيمة نسبية‪ ،‬ونسبيتها تقوم على العادة واإللفة‪ ،‬فنحن‬
‫ننسب القبح إلى الحيوانات التي تمتلك عضوية ل تشبه العضويات التي اعتدنا‬
‫على رؤيتها‪.4‬‬
‫وقد وقف بعض المتصوفة المسلمين على نسبية القبح لكي ينفوا إطالقه ويقولوا‬
‫بإطالق الجمال‪ ،‬ألن الطبيعة هي مجلى الحق‪ ،‬فال يصح أن يقع فيها نقص أو‬
‫قبح إل باعتبار أي بنسبية‪ ،‬على ح ّد تعبير الشيخ عبد الكريم الجيلي (ت ‪805‬‬
‫هـ) ‪" :‬ا علم أن القبح في األشياء إنما هو لالعتبار ل لنفس ذلك الشيء‪ ،‬فال يوجد‬
‫في العالم قبح إل باعتبار ‪ ،‬فارتفع حكم القبيح المطلق من الوجود‪ ،‬فلم يبق إل‬
‫الحسن المطلق ‪ ،‬أل ترى إلى قبح المعاصي إنما ظهر باعتبار النهي‪ ،‬وقبح‬

‫‪ - 1‬ابن سينا‪ :‬كتاب الشفاء‪ ،‬نقال عن‪ :‬كليب‪ :‬البنية الجمالية في الفكر العربي‪ -‬اإلسالمي ‪.‬ص‬
‫‪.195‬‬
‫‪ - 2‬مرعي‪ :‬الجميل في العصور الحديثة‪ .‬ص ‪.49‬‬
‫‪ - 3‬للو‪ :‬مبادئ علم الجمال ص ‪.132‬‬
‫‪ - 4‬هيغل‪ :‬المدخل إلى علم الجمال‪ -‬تر ‪ :‬جورج طرابيشي – دار الطليعة للطباعة والنشر‪-‬‬
‫بيروت ط‪ .1988 3‬ص ‪.210‬‬
‫‪37‬‬
‫الرائحة المنتنة إنما ثبت باعتبار من ل يالئم طبعه‪ ،‬وأما هي عند الجعل ومن‬
‫يالئم طبعه من المحاسن"‪.1‬‬
‫وقد أشار الجيلي في هذا المقبوس إلى اعتبارين األول قبح باعتبار الشرع أو‬
‫النهي‪ ،‬والثاني قبح باعتبار الطبع الحيوي للكائن الذي يحكم على الموضوع‬
‫بالقبح أو عدمه‪.‬‬
‫‪-‬المأسوي ( التراجيدي ‪:) The Tragic‬‬

‫المأساة هي ترجمة لـ ( التراجيديا) اليونانية هذه الكلمة التي كانت تطلق على‬
‫الحتفا لت الدينية القديمة عند اإلغريق‪ ،‬ثم صارت تطلق على األعمال المسرحية‬
‫التي تنتهي بموت البطل بعد صراعه قوى عاتية ‪.‬‬
‫صحيح أن التراجيديا تنتهي نهاية حزينة لموت البطل الذي يحمل قيمنا حتى لنحسب‬
‫أننا نحن من يصارع تلك القوى العاتية‪ ،‬إل أن هذا الحزن ليس شعورا بالشفقة‪،2‬‬
‫وليس انكسارا ورضوخا‪ ،‬بل هو تحد ّ يبعث على النشوة والفخار لعظمة اإلرادة‬
‫البشرية التي ل تقبل أن تعلوها إرادة‪ ،‬فتضحي بكل شيء إل أن تنصاع إلرادة‬
‫أخرى‪ ،‬مهما بلغ حجم القوة التي تذخر بها هذه اإلرادة الغاشمة ‪.‬‬
‫يقول د‪ .‬نايف بلوز‪" :‬الموت ل يعد مأسويا إل إذا كانت الحياة مثال أعلى‪ ،‬أما إذا‬
‫كان الموت مجرد عبور لحياة خالدة في عالم آخر فال يعتبر مأسويا"‪ ،3‬والشق الثاني‬
‫من هذا القول صحيح تماما‪ ،‬إذ إن الحياة الخالدة الموعودة تخفف من الحزن‬
‫والفاجعة فتعطل شرطا من شروط المأساة‪ ،‬أما الشق األول الذي يشترط أن تكون‬
‫الحياة مثال أعلى‪ ،‬فهو ل يستطيع بمفرده تحقيق المأساة ‪ ،‬فهو يمكن أن يؤدي إلى‬
‫شعور بالتشاؤم واإلحباط والقبح‪ ،‬وهو ما أشار إليه د‪ .‬بلوز نفسه باسم (المـأساة‬
‫التشاؤمية) ‪ ،‬طارحا ح ّل هذه التشاؤمية – على الطريقة الماركسية‪ -‬عبر إدراك أن‬
‫القوى الطبيعية والجتماعية المعادية للبشر ستهزم يوما ما من خالل التضحيات‪.4‬‬
‫ول ننكر أهمية هذا الحل ‪ ،‬إل أننا ينبغي أن نشير إلى محدوديته وقصوره ‪ ،‬فهو‬

‫‪ - 1‬الجيلي‪ ،‬الشيخ عبد الكريم ‪ :‬اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل ‪ -‬تح‪ :‬صالح بن‬
‫محمد بن عويضة – منشورات محمد علي بيضون ودار الكتب العلمية‪ -‬بيروت ط‪ 1418 1‬هـ‬
‫‪ 1997‬م‪.‬ص ‪.94‬‬
‫‪ - 2‬يرى د‪ .‬عبد الكريم اليافي أن المأساة (( تستدعي الرثاء والشفقة ))‪ .‬اليافي ‪ :‬بدائع الحكمة –‬
‫ص ‪.123‬‬
‫‪ - 3‬بلوز ‪ ،‬نايف‪ :‬علم الجمال‪ -‬المطبعة التعاونية‪ -‬دمشق ‪ 1401 – 1400‬هـ ‪-1980 ،‬‬
‫‪1981‬م‪ .‬ص ‪. 95‬‬
‫‪ - 4‬بلوز ‪ :‬علم الجمال ص ‪96 – 95‬‬
‫‪38‬‬
‫من جهة قاصر عن أن يبلغ بالتراجيديا ذرا عالية ألنه يقع في النفعية التي تشابه‬
‫نفعية الخلود في العالم اآلخر‪ .‬والنفعية ل تناسب الجمال عموما فضال عن أن تناسب‬
‫المأسوي‪.‬‬
‫ومن جهة ثانية فإن هذا الح ّل محدود القدرة في تفسير عدد كبير من األعمال‬
‫التراجيدية العالمية‪ .‬وما نراه هو أن المثل األعلى‪ -‬في المأساة – يتمثل في اإلرادة‬
‫البشرية‪ ،‬وأن المأساة إنما تتحقق برؤيتنا هذه اإلرادة وهي تقدم أع ّز ما تملك‪ ،‬وهو‬
‫الحياة عبر "عراك يقوم به كائن يعتقد أنه ح ّر ضد جبرية خارجية ل مفرّ منها ‪.1".‬‬
‫إن المثل األعلى في المأسوي هو إرادتنا البشرية المتحدية للقوى العظيمة‪ ،‬أما في‬
‫الجليل فالمثل األعلى هو إرادتنا المستسلمة لعظمة هذه القوى‪ ،‬ولذا ل يصح القول‬
‫إنه في المأساة " غالبا ما تتجسد النهاية بالموت الجليل"‪ 2‬فإذا ما شاهدنا إعصارا‬
‫قويا يكتسح مدينة فنحن أمام الجليل‪ ،‬وذلك لغياب البطل الذي يصارع هذا‬
‫اإلعصار‪.‬‬
‫فإذا ّ‬
‫مثل اإلعصار إرادة غاشمة تبغي كسر إرادة البطل‪ ،‬وتقدم البطل للمنازلة على‬
‫الرغم من عدم التكافؤ‪ ،‬سقطت صفة الجليل ‪ ،‬وأصبحنا أمام المأسوي أو التراجيدي‪.‬‬
‫ولذا يأخذ شارل للو على كانط رؤيته في الرائع (= الجليل) انتقاما لحريتنا من‬
‫الالنهائي في الكبر ‪ ،‬ألن (النتقام ) ل يناسب الموقف من الجليل‪ ،‬فيقول للو‪:‬‬
‫"وهكذا نرى أن كانط قد خلط التراجيدي بالرائع"‪.3‬‬

‫‪ - 1‬للو‪ :‬مبادئ علم الجمال‪ .‬ص ‪.108‬‬


‫‪ - 2‬بلوز‪ :‬علم الجمال‪ .‬ص ‪.93‬‬
‫‪ - 3‬للو‪ :‬مبادئ علم الجمال‪ .‬ص ‪ ( 109‬حاشية ‪.)-1-‬‬
‫‪39‬‬
‫المحاضرة الثامنة‬

‫المقوالت الجمالية‪-2-‬‬

‫مقولة الهزلي في فلسفة برغسون الجمالية‬


‫ربما كان الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ‪ )1941-1859( Bergson‬واحدا‬
‫من أهم الفالسفة الذين عالجوا مقولة الهزلي (الكوميدي ‪ )The comic‬في علم‬
‫الجمال‪ ،‬وقد خص هذه المقولة بكتاب مستقل عرفه قراء العربية باسم (الضحك ‪:‬‬
‫بحث في داللة المضحك) كتبه عام ‪.1900‬‬
‫لقد قام برغسون‪ ،‬في هذا الكتاب بتفسير ظاهرة الضحك‪ ،‬في الفن والمجتمع‪،‬‬
‫ووقف على وظيفته‪ ،‬مبينا الطبيعة الخاصة لفن الهزل‪ ،‬التي تميزه عن أشكال الفن‬
‫األخرى‪ ،‬أو عن بقية المقوالت الجمالية‪ ،‬وتكمن قوة فلسفة برغسون للضحك في‬
‫نهوضها على مذهب فلسفي‪ ،‬في الحياة والمعرفة‪ ،‬يمتاز بفرادته وتماسكه ووضوحه‪،‬‬
‫ولذلك سنقف على المالمح العامة لهذا المذهب قبل الدخول في نظرية الهزلي‬
‫البرغسونية‪.‬‬
‫أظهر برغسون منذ بداية حياته األكاديمية اهتماما بعلم الحياة )البيولوجيا( ولذا‬
‫راح يقدم مشكلة المعرفة من خالل معطيات بيولوجية‪ ،‬فكانت أطروحته للدكتوراه‬
‫بعنوان (رسالة في معطيات الشعور المباشرة ‪ ، (1889‬وتالها كتابه (المادة‬
‫والذاكرة ‪ ) 1896‬الذي أوضح فيه أن اإلدراك يتجه عادة نحو العمل‪ ،‬ال نحو‬
‫المعرفة الخالصة‪ ،1‬وهو يعلن بذلك أن الطابع الذرائعي (البراغماتي( هو الذي يقود‬
‫عملية المعرفة‪ ،‬فالمعرفة هي غرض نفعي للعضوية الحية‪ ،‬وال معنى للمعرفة لوال‬
‫ميل العضوية للفعل‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫"إن علة الوجود الحقيقي لإلدراك في جملته كائنة في ميل الجسم إلى الحركة"‪ 2‬إال‬
‫أن شذوذا عن هذه القاعدة هو ما يقترب بنا إلى المعرفة الخالصة‪ ،‬وهو ما يخلق‬
‫الفن‪.3‬‬

‫‪ -1‬برغسون‪ ،‬هنري‪ :‬المادة والذاكرة (دراسة في عالقة الجسم بالروح) ـ تر ‪:‬د ‪.‬أسعد عربي‬
‫درقاوي ـ مرا ‪:‬د‪.‬بديع الكسم ـ منشورات وزارة الثقافة واإلرشاد القومي ـ دمشق ط‪1985 2‬‬
‫ص‪.28‬‬
‫‪ -2‬نفسه‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪ - 3‬برغسون‪ ،‬هنري ‪:‬الضحك (بحث في داللة المضحك) ـ تر‪ :‬سامي الدروبي وعبد هللا عبد‬
‫الدائم ـ دار العلم للماليين ـ بيروت ط‪.1983 3‬ص‪.125-116‬‬
‫‪40‬‬
‫ويتابع برغسون في كتابة (التطور الخالق‪ (1907‬مذهبه في تفسير المعرفة بناء‬
‫على معطيات البيولوجيا‪ ،‬فيحدثنا عن الملكة المعرفية التي امتاز بها اإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫العقل في مقابل الغريزة عند الحيوان‪ ،‬فنقف على الطبيعة الذرائعية لعمل العقل‪ ،‬فهو‬
‫لكي يدرك الحركة ـ والحركة هي الواقع كما يرى برغسون ـ يعمد إلى تجزيء‬
‫الحركة إلى مواقف ساكنة متتابعة‪ ،‬وهذه حيلة نافعة‪ ،‬إال أنها توضح لنا أن العقل غير‬
‫مهيأ للتأمل المحض‪ ،1‬أو المعرفة الخالصة‪ ،‬بل هو آلة نافعة في خدمة العضوية‬
‫الحية‪.‬‬
‫ولكن أين الفن ومقولة الهزلي أو المضحك من كل ذلك؟‬
‫يرى برغسون أن الفنانين هم أفراد شذوا عن هذه القاعدة العامة‪ ،‬ومالوا إلى نمط‬
‫من المعرفة المقصودة لذاتها ال لغرض نفعي‪ ،‬فالحالة العادية لإلدراك تجعلنا " نعيش‬
‫في منطقة وسيطة بين األشياء وبيننا‪ ،‬ال في األشياء وال في أنفسنا‪ ،‬ولكن الطبيعة‬
‫تذهل من حين إلى حين فتخلق نفوسا أكثر انصرافا عن الحياة"‪ .‬وهؤالء هم الفنانون‬
‫سواء في إدراكهم لألشياء أو في إدراكهم ألنفسهم‪.2‬‬
‫هكذا يغدو الفن في المذهب البرغسوني ذهوال عن النفعي وغوصا في فرادة‬
‫األشياء والذات‪ ،‬إال أن الهزلي هو بخالف ذلك‪ ،‬إنه مقولة فنية‪ ،‬ولكنه يقصد نفعا‬
‫للحياة‪ ،‬وبذلك يمكن أن نقول‪" :‬إن الملهاة وسط بين الفن والحياة‪ :‬إنها ليست كالفن‬
‫المحض مجردة عن الغرض"‪ .3‬ولكن إذا كان هذا الغرض هو الحياة أو تقديم خدمة‬
‫ومنفعة للفرد أو المجتمع‪ ،‬فكيف يتم تحقيق هذا الغرض من خالل الضحك؟‬
‫يعرف برغسون الحياة بأنها "قبل كل شيء نزوع إلى التأثير في المادة الميتة"‪،4‬‬
‫وهذا التعريف يمثل ركيزة أساسية لقيام الضحك على المفارقة بين الحيوي‬
‫والمتصلب‪ ،‬أو بين الحيوي واآللي‪ ،‬فالضحك هو بمثابة عقاب اجتماعي‪ 5‬للمضحوك‬
‫منه‪ ،‬إنه إنذار يشير إلى خطر التصلب‪ 6‬واآللية‪ ،‬ولكن كيف يتجلى ذلك عمليا؟‪.‬‬
‫يضع برغسون ما يمكن تسميته مبادئ أولية للمضحك أو للتصلب وهي‪:‬‬

‫‪ -1‬برغسون‪ ،‬هنري‪ :‬التطور الخالق ـ تلخيص د‪.‬محمد بديع الكسم‪ .‬منشور في‪ :‬قسم الدراسات‬
‫الفلسفية المعاصرة بجامعة دمشق‪ :‬تاريخ الفلسفة المعاصرة ‪-‬مطبعة الداودي ‪-‬دمشق ‪-1402‬‬
‫‪1403‬هـ ‪1983-1982 ،‬م‪.‬ص‪.48‬‬
‫‪ -2‬برغسون ‪:‬الضحك ص‪.120-119‬‬
‫‪ -3‬نفسه ص‪.130‬‬
‫‪ -4‬برغسون ‪:‬التطور الخالق ص‪.35‬‬
‫‪ -5‬برغسون ‪:‬الضحك ص‪.107‬‬
‫‪ - 6‬نفسه ص‪.109‬‬
‫‪41‬‬
‫‪ -1‬العفريت ذو النابض‪ :‬يشير هذا المبدأ إلى لعبة من ألعاب األطفال تتمثل بعلبة‬
‫يخرج منها العفريت‪ ،‬عند فتحها مدفوعا بنابض‪ ،‬وكلما حاولنا إعادته بضغطه‬
‫فإنه يعند ويقفز إلى األعلى‪ ،‬والشك أن هذه اللعبة تجعل الطفل يغرق في‬
‫الضحك‪ .‬والمضحك هنا ـ كما يرى برغسون ـ هو النزاع القائم بين عنادين‪،‬‬
‫أحدهما آلي واآلخر حيوي‪ .‬ولعبة القط والفأر تقوم على المبدأ ذاته‪ ،‬فالقط‬
‫يتغافل عن الفأر حتى إذا هم بالحركة أوقفه بلمسة من مخلبه‪ .‬ويضرب‬
‫برغسون أمثلة من األعمال المسرحية الكوميدية التي تقوم على هذا المبدأ‪.1‬‬
‫‪ -2‬األراجوز ذو الخيوط‪ :‬ويتمثل هذا المبدأ بدمية يحركها األراجوزي بخيوط‪،‬‬
‫فتظهر لنا أن إنسانا قد تصلب ألنه بات ألعوبة بين يدي شخص آخر‪ ،‬وقد بنيت‬
‫أعمال كوميدية عديدة على هذا المبدأ‪ ،2‬ومنها شخصية العاشق الخجول الذي‬
‫يلقنه صديقه الجريء كالما يغازل به محبوبته‪.‬‬
‫‪ -3‬كرة الثلج ‪:‬وهذا المبدأ يشير إلى أثر يبدأ ضئيال اليُذكر ثم يؤدي إلى نتائج‬
‫خطيرة غير متوقعة‪ ،‬فالتصلب الذي يحدث كنتاج للنظام العسكري الصارم‬
‫يمكن أن يكون مثاال على ذلك‪ ،‬فالجنود في صفوفهم التي تبدو مرسومة‬
‫بالمسطرة‪ ،‬يمكن أن تقدم مشهدا هزليا حين يتعثر جندي‪ -‬وهذا حدث بسيط ‪-‬‬
‫فيؤدي األمر إلى تعثر جماعي وسقوط متتابع‪.3‬‬
‫تجليات للمضحك‪:‬‬
‫كل مايورده برغسون من أشكال للمضحك هو صورة لإلنسان يحوله سبب ما إلى‬
‫مايشبه اآللة‪:‬‬
‫‪ -1‬التكرار‪ :4‬مشهد التوائم الحقيقية مضحك‪ ،‬ألنه يوحي بأن الحياة قد تصلبت‬
‫وراحت تنسج شكال موحدا‪.‬‬
‫‪ -2‬القلب‪ :‬وهو قلب األدوار‪ ،‬ونمثل له بمشهد المتهم وهو يقدم مواعظ أخالقية‬
‫للقاضي‪.5‬‬
‫‪ -3‬تداخل السالسل‪ :6‬مثل مشهد يضم شخصيات في حفلة عرس‪ ،‬فتجري أحداث‬
‫تجعلهم يُشاهَدون في سلسلة أخرى هي مجلس عزاء مثال‪.‬‬

‫‪ -1‬نفسه ص‪.66-60‬‬
‫‪ -2‬نفسه ص‪.68-66‬‬
‫‪ -3‬نفسه ص‪.72-68‬‬
‫‪ -4‬نفسه ص‪.78-75‬‬
‫‪ -5‬نفسه ص‪.79-78‬‬
‫‪ 6‬نفسه ص‪.83-79‬‬
‫‪42‬‬
‫‪ -4‬مضحك الكلمات‪ ،‬وهو يقوم على طبيعة اللغة المحلية ومفارقاتها في مايمكن أن‬
‫تحمل العبارة من معان متعددة‪ ،‬وهذا النوع ممتنع على الترجمة‪.1‬‬
‫‪ -5‬الذهول‪ :‬وهو شكل واضح الداللة على التصلب‪ ،‬فالذاهل أشبه باآللة‪ .2‬وتحت‬
‫عنوان الذهول يمكن أن نضع منطق الحلم‪ 3‬الذي ال يعترف بمبدأ الهوية‪.‬‬
‫‪ -6‬حضور المادي إلى جانب الروحي‪ :‬وهو كقول فيلسوف ألماني في عبارة‬
‫تأبينية‪" :‬كان ـ رحمه هللا ـ فاضال سمينا"‪ .4‬ويتجلى أحيانا على شكل حضور‬
‫الواقعي في العبارة المجازية‪ ،‬كقولنا‪" :‬الفنون إخوة" بالمعنى المجازي فيحضر‬
‫تعبير "الفنون أبناء عمومة"‪ 5‬الذي ال يسمح بالداللة المجازية‪.‬‬
‫‪ -7‬الفعل والحركة‪ :‬يعني برغسون أن "الفعل شيء مراد‪ ،‬وهو على كل حال أمر‬
‫شعوري‪ ،‬أما الحركة فتفلت منك عفوا‪ ،‬وهي آلية‪.6‬‬
‫بين الهزلي والمأساوي‪:‬‬
‫يرى برغسون أن الهزلي يميل إلى العمومية والنمذجة‪ ،‬بينما بطل المأساة شخصية‬
‫فريدة‪ ،‬ولذا يمكن القول بأن المأساة تعنى بأفراد ‪ ،‬بينما تعنى الملهاة بأنواع‪.7‬‬
‫ويشير برغسون إلى الفارق الهام في إبداع كل من المأساة والملهاة‪ ،‬فيرى أن‬
‫المأساة تقوم على المالحظة الداخلية‪ ،‬فالمبدع يرسم بطله من أعماق ذاته‪ ،‬بينما يقوم‬
‫إبداع الملهاة على المالحظة الخارجية‪ ،‬وهي بذلك ذات طبيعة تشبه العلوم‬
‫االستقرائية‪.8‬‬

‫‪ -1‬نفسه ص‪.84‬‬
‫‪ -2‬نفسه ص‪.92-90‬‬
‫‪ -3‬نفسه ص‪.145-141‬‬
‫‪ -4‬نفسه ص‪.47‬‬
‫‪ - 5‬نفسه ص‪.93‬‬
‫‪ -6‬نفسه ص‪.112‬‬
‫‪ -7‬نفسه ص‪.127-126‬‬
‫‪ -8‬نفسه ص‪.130-128‬‬

‫‪43‬‬
‫المحاضرة التاسعة‬

‫كانط في نقد ملكة الحكم‪:‬‬

‫الجمال غائية بدون غاية‬

‫يُعرف إيمانويل كانط‪ )1804-1724 ( )KanT (1‬في تاريخ الفلسفة الحديثة‪ ،‬بأنه‬
‫مؤسس الفلسفة‪ -‬النقدية األلمانية‪ ،‬وهذه الفلسفة قد شقت طريقها من خالل نقد‬
‫فلسفتين متصارعتين هما الفلسفة العقلية و الفلسفة التجريبية‪.‬‬
‫وإذا كان كانط هو أول من قام في العصر الحديث‪ ،‬بمحاولة كبرى لتأسيس علم‬
‫الجمال‪ ،‬وذلك في كتابه ( نقد ملكة الحكم)‪ ،2‬فال بد لمعرفة فلسفته الجمالية من‬
‫الوقوف على ركائز فلسفته في المعرفة وفي األخالق أيضا‪.‬‬
‫انطلقت الفلسفة النقدية الكانطية من مبحث المعرفة ‪ ،‬فأصدر كانط كتابه (نقد العقل‬
‫الخالص)‪ 3‬عام ‪ ،1781‬وثناه بكتاب في علم األخالق بعنوان ‪( :‬نقد العقل العملي)‬
‫عام ‪ 1787‬وفي عام ‪ 1790‬أصدر كتابه (نقد ملكة الحكم) في علم الجمال‪ ،‬ليكتمل‬
‫به ثالوث الفلسفة النقدية‪.4‬‬
‫الجمال والحق‬
‫تتمثل المعرفة عند كانط بالحكم ‪ ،‬والحكم هو الربط بين الموضوع والمحمول‪ ،‬فبين‬
‫أن هناك نوعين من األحكام‪:‬‬

‫كنت)‪.‬‬ ‫‪ - 1‬عرف تعريب هذا السم أربعة رسوم هي ‪( :‬كانط – كنط – كانت –‬
‫‪ - 2‬بلوز‪ ،‬د‪ .‬نايف‪ :‬علم الجمال‪ -‬المطبعة التعاونية‪ -‬دمشق ‪ 1401 -1400‬هـ ‪1981 -1980‬‬
‫م‪ .‬ص ‪.184‬‬
‫‪ - 3‬وترجم بعبارة ‪ ( :‬نقد العقل المحض ) أيضا‪.‬‬
‫‪ - 4‬أصدر كانط مؤلفات أخرى إلى جانب هذه الكتب األساسية ‪ ،‬منها‪ :‬تأسيس ميتافيزيقا‬
‫األخالق ( ‪ ، )1785‬والدين في حدود العقل وحده ( ‪ ، )1793‬وعلم اإلنسان من الناحية‬
‫العملية ( ‪ .)1798‬انظر على سبيل المثال ‪ :‬كانط ‪ :‬نقد ملكة الحكم – تر‪ :‬غانم هنا‪ -‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية – المنظمة العربية للترجمة – بيروت ط ‪. 2005 1‬ص ‪ ( 27‬مقدمة‬
‫المترجم )‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫‪-1‬أحكام تحليلية يكون محمولها متضمنا في موضوعها كقولنا‪( :‬كل الكرات‬
‫كروية)‪.1‬‬
‫‪-2‬أحكام تركيبية‪ ،‬وهي التي يكون في محمولها إضافة ما إلى الموضوع وهي‬
‫نوعان‪:‬‬
‫أ – أحكام قبلية (‪ ) A Priori‬وهي تشبه األحكام التحليلية في استغنائها عن التجربة‬
‫ومثالها ‪) 12=6+6( :‬‬
‫ب‪ -‬أحكام بعدية ( ‪ )A posteriori‬وهي األحكام التي ل يمكن معرفة محمولها إل‬
‫من خالل التجربة مثل‪( :‬الزرنيخ سام)‪.2‬‬
‫ويمكن الكتفاء باألحكام التركيبية‪ ،‬ألن التحليلية ل تكاد تتجاوز اللفظية ‪ ،‬وبذلك‬
‫يكون عند كانط نوعان من الحكم‪ :‬حكم سابق للتجربة‪ ،‬وحكم ل يقوم إل بعد‬
‫التجربة‪ ،‬ففي أي نوع من هذين النوعين يقع الحكم الجمالي ؟‬
‫هل نكتسب معرفة الجمال بالتجربة ‪ ،‬أم إن الحكم الجمالي في فطرتنا مبدأ قبلي مثله‬
‫مثل إدراكنا المبادئ الرياضية؟‬
‫يقول كانط مخاطبا أحد أصدقائه (قبل صدور كتابه نقد ملكة الحكم بثالث سنوات )‪:‬‬
‫"أنا مشغول بنقد الذوق وإني أكتشف في مجاله نوعا من المبادئ القبلية مختلفا عن‬
‫المبادئ القبلية السابق لي بيانها‪ ،‬ذلك أن ملكات الروح ثالث‪ :‬ملكة المعرفة‪،‬‬
‫والشعور باللذة واأللم‪ ،‬وملكة الرغبة (اإلرادة)‪.‬‬
‫وقد وجدت مبادئ قبلية بالنسبة إلى الملكة األولى وذلك في‪ :‬نقد العقل المحض‬
‫(النظري)‪ ،‬وبالنسبة إلى الملكة الثالثة في‪ :‬نقد العقل العملي‪ ،‬ولهذا رحت أبحث‬
‫أيضا عن مبادئ قبلية بالنسبة إلى الملكة الثانية "‪.3‬‬
‫هذا يعني أن كانط قد وقف على مبادئ قبلية معرفية‪ ،‬أو عقلية‪ ،‬وعلى مبادئ قبلية‬
‫أخالقية تتعلق بالرغبة أو اإلرادة‪ ،‬ويسعى إلى الوقوف على مبادئ قبلية جمالية‬
‫قائمة على الشعور باللذة واأللم‪ .‬فما عسى أن تكون هذه المبادئ الجمالية؟‬

‫‪-AL-Azm,Sadik J: 4 introductory philosophical -1‬‬


‫‪Essays- AL- jadidah printing press- Damascus 1399-‬‬
‫‪14ooHejra;1979-1980 A .p-p39.‬‬

‫‪ - 2‬نفسه ص ‪.37‬‬
‫‪ -‬كانط ‪ :‬نقد ملكة الحكم‪ .‬ص ‪ ( 35‬مقدمة المترجم )‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪45‬‬
‫يتحدث كانط عن ملكة الحكم (الجمالي) بأنها حلقة وسط بين العقل النظري والعقل‬
‫العملي‪ ،‬ولو سألناه ‪ :‬وإلى أيهما تميل هذه الملكة؟ ألجاب‪ " :‬لو لم يكن باإلمكان‬
‫تقسيم الفلسفة إل إلى قسمين رئيسيين‪ :‬الفلسفة النظرية والفلسفة العملية ‪ ،‬لوجب أن‬
‫نعتبر كل ما نريد قوله حول المبادئ الخاصة بملكة الحكم تابعا للقسم النظري‪ ،‬أي‬
‫للمعرفة العقلية‪ 1".‬أي أن القيمة الجمالية أقرب إلى قيمة الحق منها إلى القيمة‬
‫األخالقية ‪.‬‬
‫ولكن ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن حكم الذوق والحكم المنطقي متقاربان؟‬
‫لنميِّز بداية بين هذين الحكمين‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬هذه الوردة جميلة‪ ،‬فهذا حكم ذوق ‪ ،‬بينما‬
‫إذا قلت‪ :‬كل الورود جميلة‪ ،‬فهذا حكم منطقي‪ ،‬ألن الحكم الجمالي ل يكون وفق‬
‫مفاهيم (‪ ،)Concepts‬أما األحكام األخالقية فيمكن أن تكون وفق مفاهيم‪ ،2‬فإغاثة‬
‫الملهوف خير‪ ،‬وهذا حكم أخالقي وفق مفهوم عام‪ ،‬إذ لم أقل ‪( :‬إغاثة هذا‬
‫الملهوف)‪.‬‬
‫هذا يعني أن الحكم المنطقي والحكم األخالقي يشتركان في أنهما يقومان على مفاهيم‬
‫‪ ،‬بخالف الحكم الجمالي‪ ،‬فما الذي يجعل الحكم الجمالي قريبا من الحكم المنطقي؟‬
‫على الرغم من أن كانط يباعد بين حكم الذوق والحكم المنطقي بمقتضى التباعد بين‬
‫الذاتية والموضوعية فيقول‪ " :‬ليس حكم الذوق قابال للتعيين بأسباب برهانية إطالقا‬
‫‪ ،‬كما لو كان ذاتيا بحتا"‪ ،3‬فإنه يرى أن‪" :‬الحكم الجمالي يشبه الحكم المنطقي في‬
‫كون أن من الممكن افتراضه صادقا بالنسبة إلى الجميع "‪ ،4‬أي أنني حين أحكم على‬
‫موضوع ما بالجمال ‪ ،‬فإنني أفترض أن هذا الحكم (الذاتي) هو حكم (موضوعي)‬
‫في الوقت ذاته ‪ ،‬ألن اآلخرين يقرون به‪ ،‬كما يقرون باألحكام المنطقية التي هي‬
‫أحكام قبلية ‪" .‬والحق أن ذاتية كانط ترجع الجمالي إلى وعي جمالي (‪ )000‬ول‬
‫يجوز تجاهل األهمية المنهجية للقبلية في تحليل الوعي الجمالي‪ ،‬فالقبلية إذ تؤكد بأن‬
‫الحكم الجمالي على الشكل يصدر قبل تولد الشعور الجمالي‪ ،‬وأنه يفترض الصدق‬
‫بالنسبة إلى الجميع‪ ،‬تضمن صفة الضرورة والكلية وبالتالي الموضوعية لهذا الحكم‬
‫‪ ، 5" .‬وهكذا فإن ذاتية الحكم الجمالي إذ تتسم بالقبلية فإنها تتسم بالموضوعية‬
‫والضرورة وإن لم تكن موضوعية في إدراك الموضوعات فإنها ـ على األقل ـ‬

‫‪ - 1‬نفسه ص ‪.76‬‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬نفسه ص ‪ .116‬وص ‪.200‬‬
‫‪ - 3‬نفسه ص ‪.202‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص ‪.111‬‬
‫‪ - 5‬بلوز‪ :‬علم الجمال‪ .‬ص ‪.197‬‬
‫‪46‬‬
‫تعبير عن وحدة الذائقة اإلنسانية‪ ،‬وربما هذه الوحدة قد عبر عنها د‪ .‬محمد علي أبو‬
‫ريان بعبارة ‪ " :‬النسجام أو التساق بين قوى النفس وملكاتها"‪ ،1‬ألنه بغير هذه‬
‫الوحدة التي يشترك بها األفراد ل يمكن الحديث عن موضوعية في الحكم‪ ،‬هذه‬
‫الموضوعية التي يمكن أن نطلق عليها اسم (الذاتية الموضوعية)‪.‬‬
‫ولكن إذا كان حكم الذائقة موضوعيا مثل الحكم المنطقي فهل يحصِّل األول معرفة‬
‫مثل الثاني؟‬
‫يرى كانط أن حصيلة حكم الذوق هو لذة أو ألم‪ ،‬ول يمكن أن تكون جزءا من‬
‫المعرفة‪ ،2‬فالمحمول الذي يقترن بالموضوع الجمالي إنما هو شعور بالمسرة أو‬
‫نقيضها‪ .3‬ولكن قبل تحصيل المعرفة‪ ،‬أل ينبغي أن نتساءل‪ :‬هل حقا حكم الذوق‬
‫موضوعي يحقق إجماعا ما كما يحقق الحكم المنطقي؟‬
‫وإذا كان األمر كذلك فماذا عن اختالف األذواق الذي هو بمثابة البديهية؟‬
‫يرى كانط أن ل نسبية في الذوق إذا ما تعلق الحكم بالجمال‪ ،‬وأنَّ النسبية إنما تصح‬
‫في المالئم وليس في الجميل ‪ ،‬وهذا بحثه سيكون في المقارنة بين الجمال والخير‪.‬‬
‫الجمال والخير‬
‫يميَّز كانط‪ ،‬بوضوح بين الجميل والمالئم ففي الوقت الذي يكون فيه الحكم على‬
‫موضوع ما بأنه جميل هو حكم عام يصدق على الجميع‪ ،‬فإن الحكم على موضوع‬
‫بأنه مالئم‪ ،‬ل يعني أكثر من أنه مالئم لي‪ ،‬أو مالئم لفالن‪ ،‬ولهذا فإنه عندما يقول‬
‫شخص ما‪" :‬خمر جزر الكناري مالئم‪ ،‬ويصحح له قوله شخص آخر ‪ ،‬ويذكره بأنَّ‬
‫عليه أن يقول‪ :‬إنه مالئم لي‪ ،‬فإنه يرضى عن طيب خاطر ويسلم بذلك"‪ .‬والمالئم‪-‬‬
‫كما يقول كانط‪ -‬ل يقتصر على "الذوق باللسان والحلق والبلعوم" بل يمتد إلى ما‬
‫"يكون مالئما للعين واألذن أيضا"‪.4‬‬
‫أما الجميل فأمره مختلف تماما‪ ،‬إذ ل يصح أن أشير إلى قصيدة أو مقطوعة‬
‫موسيقية‪ ،‬أو لوحة تشكيلية‪ ...‬بالقول‪ :‬هذه جميلة بالنسبة لي‪ ،‬ألنه ل يصح أن ينعت‬

‫‪ - 1‬أبو ريان‪ ،‬د‪.‬محمد علي ‪ :‬فلسفة الجمال‪ -‬دار المعرفة الجامعية ‪ -‬اإلسكندرية‬
‫‪.1993‬ص‪.41‬‬
‫‪.‬ص‪.89‬‬ ‫‪ - 2‬كانط ‪ :‬نقد ملكة الحكم‬
‫‪ -‬بلوز‪ :‬علم الجمال‪ .‬ص ‪.192‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ -‬نفسه ص ‪.112‬‬
‫‪4‬‬

‫‪47‬‬
‫بالجمال ما ل يفترض أنه جميل بالنسبة للجميع‪ .‬وهكذا فإن عبارة( لك ٍّل ذوقه‬
‫الخاص) إنما تصح في المالئم فقط‪ ،‬ول يراها كانط صالحة في الحكم الجمالي‪.1‬‬
‫من المفترض أننا نقارن في هذه الفقرة بين الجمال والخير‪ ،‬فهل المالءمة هي الخير‬
‫عند كانط؟ يجيب كانط بالنفي‪ ،‬فعلى الرغم من أن المالئم قد يشيع في بيئة أو منطقة‬
‫فيخرج عن نطاق الفردية ويمثل ذوقا عاما إل أنه يبقى خاضعا للقواعد التجريبية‪،‬‬
‫أي أنه ليس قبليا‪ .‬وهذا ما يميزه عن الجميل والخير‪ .‬والمالئم يميَّز عن الخير‬
‫بخاصية أخرى‪ ،‬وهي أن "تمثل الخير ل يتم إل بواسطة مفهوم كموضوع رضا‬
‫عام‪ ،‬وهذا غير حاصل ل في حالة المالئم ول الجميل على حد ٍّسواء"‪.2‬‬
‫لقد بدأنا فقرتنا هذه ـ وهي للمقارنة بين الجمال والخير‪ -‬بالمقارنة بين الجميل‬
‫والمالئم‪ ،‬لكي نقف على فكرة الغائية التي تجمع بين الخير والمالئم‪ ،‬هذا من جهة‪،‬‬
‫و لكي نقف على فكرة جوهرية تميز الخير الكانطي فال ينطبق على جميع أشكال‬
‫النفعية‪ ،‬وهذه الفكرة الجوهرية هي فكرة المفهوم‪.‬‬
‫إن الجميل يسر مباشرة‪ ،‬ولكن في العيان ل في المفهوم كما هو الحال في األخالق‪،3‬‬
‫فإذا ما أخذنا (إغاثة الملهوف) مثال للمقارنة بين الخير والجميل وجدنا أن ( إغاثة‬
‫الملهوف) من حيث هو مفهوم وتجريد لحالت عينية كثيرة‪ ،‬هو خير‪ ،‬أما الجمال‬
‫فال يتحقق إل في المشهدية العيانية الفردية لهذه اإلغاثة أو تلك ‪.‬‬
‫إننا في الحكم الجمالي أمام حرية المخيلة وحساسية ملكة الذوق‪ -‬أما في الحكم‬
‫األخالقي فنحن أمام حرية اإلرادة من حيث اتفاقها مع ذاتها وفقا لقوانين العقل‪ 4‬التي‬
‫وضعت قواعد األخالق‪.‬‬
‫إن المالئم والنافع والخير ل تفهم إل في صورة السعي إلى لذة أو نفع ٍ أو دفع ألم ٍ‬
‫أو ضرر ‪ ٍ،‬منها على صعيد شخصي ومنها على صعيد عام‪ ،‬وبالتالي ل تفهم إل في‬
‫صورة غائية‪ ،‬فثمة هدف يجري السعي إلى تحقيقه أما الحكم الجمالي‪ ،‬فأمر الغائية‬
‫فيه ملتبس عند كانط ‪ ،‬وهذا اللتباس هو س ّر تفرد الحكم الجمالي عن الحكم‬
‫األخالقي‪.‬‬
‫" إن حركات الجسم أثناء السير تستهدف غاية خارجية مثل الوصول إلى بيت‬
‫صديق أو إلى المخزن ‪ ،‬أما حركات الجسم في الرقص فال تستهدف مثل هذه الغاية‬

‫‪ - 1‬نفسه ص‪.113 -112‬‬


‫‪ - 2‬نفسه ص ‪.113‬‬
‫‪ - 3‬نفسه ص‪.292‬‬
‫‪ - 4‬نفسه‪ ،‬والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫الخارجية‪ ،‬فغاية الرقص هي الرقص نفسه‪ .‬وكاتب المقال السياسي يهدف إلى دفع‬
‫القارئ لتخاذ موقف معين‪ ،‬أو للقيام بعمل من األعمال ‪ ،‬أما قراءة القصيدة فال‬
‫تتوخى شيئا يتجاوز المتعة الجمالية أثناء القراءة(‪ )...‬فالحكم الجمالي مقصود‬
‫لذاته"‪.1‬‬
‫ما يخلص إليه كانط في الحكم الجمالي هو أن الجمال يبدو ساعيا لغاية‪ ،‬ولكن هذه‬
‫الغاية مجهولة تماما‪ ،‬وبحسب تعبيره‪ " :‬ل تنسب على اإلطالق‪ -‬بحسب حكمنا‪ -‬إلى‬
‫أي هدف"‪ ،‬ويضرب مثال زهرة التوليب‪ ،‬فهي على عكس األدوات الحجرية في‬
‫المدافن‪ ،‬فهذه األدوات وإن كانت مجهولة الهدف بدقة ‪ ،‬إل أننا نعرف أن اإلنسان‬
‫صنعها لغرض ما‪ ،‬أما الغاية في تكوين الزهرة فيبقى غامضا‪ ،2‬وهذا س ّر جمالها‪.‬‬
‫إن الحكم الجما لي‪ ،‬عند كانط ‪ ،‬هو "حكم غائي بدون أية غاية موضوعية أو‬
‫خارجية (‪ )...‬فله إذن صورة الغائية أو شكلها‪ ،‬دون غاية محددة مثل السعي إلى‬
‫المنفعة والفائدة"‪ .3‬وكان لهذه النظرية الكانطية في تحديد الحكم الجمالي‪ ،‬وتميزه‬
‫عن الحكم األخالقي‪ ،‬تطبيق على صعيد فلسفة الفن أو النقد الفني‪ ،‬فاألعمال الفنية إذ‬
‫تس ّخر لخدمة أهداف غير أهداف الجمال‪ ،‬تكفّ ‪ ،‬عند كانط‪ ،‬عن أن تكون أعمال‬
‫فنية‪.4‬‬

‫‪.194-193‬‬ ‫‪ - 1‬نفسه ص‬
‫‪ - 2‬كانط ‪ :‬نقد ملكة الحكم ص ‪ ( 143 -142‬حاشية ‪.)-6-‬‬
‫‪ - 3‬بلوز‪ :‬علم الجمال ص ‪.193‬‬
‫‪ - 4‬نفسه ص‪.194‬‬
‫‪49‬‬
‫المحاضرة العاشرة‬

‫نظرية الجمال عند ولتر ستيس‬

‫إذا كان علم الجمال المعاصر غالبا ما يفسر قيمة الجمال‪ ،‬أو ظاهرة تذوّ ق الجمال‬
‫والمفاضلة الجمالية‪ ،‬بناء على ملكة الحدس‪ ،‬هذه الملكة التي هي أشبه بالغريزة‬
‫والمعرفة المباشرة المقابلة لالستدلل كما عند برغسون وكروتشه‪ ،‬فإن نظرية‬
‫الفيلسوف األمريكي ولتر ستيس(‪ )w.t.stac‬إنما تقوم بتفسير غموض مفهوم‬
‫الحدس في اإلدراك الجمالي‪ ،‬وإن كان ل يقول ذلك صراحة‪ ،‬بل يؤكد أن نظريته‬
‫على طرف نقيض من النظرية القائمة على الحدس(‪ ،)intuition‬وذلك ألنها تقوم‬
‫على المفهوم أو التصور(‪.) concept‬‬
‫‪.‬من هو ولتر ستيس؟‬
‫ولد ولتر ستيس في لندن عام‪ ،1886‬ونال شهادة التخرج في الفلسفة‪ .‬وعمل بعد‬
‫ذلك في وظائف خدمية كان منها منصب رئيس بلدية كولومبو عام ‪.1929‬‬
‫حصل ستيس على شهادة من كلية الثالوث بدبلن عام ‪ ،1932‬وعمل محاضرا في‬
‫جامعة بريستون‪ ،‬ثم أستاذا للفلسفة منذ عام‪ 1935‬حتى تقاعده‪ .‬وتوفي عام‪.1967‬‬
‫‪.‬نظرية ستيس في الجمال‬
‫يقدم ستيس نظريته في الجمال في كتابه (معنى الجمال‪ -‬نظرية في الستطيقا) الذي‬
‫كتبه عام‪ ،1929‬وقام بترجمته إلى العربية الدكتور إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬وكان‬
‫د‪.‬إمام قد ترجم له المجلد األول من كتاب (فلسفة هيجل) بعنوان (المنطق وفلسفة‬
‫الطبيعة)‪ ،‬وكذلك المجلد الثاني(فلسفة الروح)‪ ،‬وكتاب (الدين والعقل الحديث)‪،‬‬
‫وكتاب (التصوف والفلسفة)‪.‬‬
‫ولدخول هذه النظرية ينبغي التمييز بداية بين مفهومي(قبلي ‪ )A priori‬أي المعرفة‬
‫القائمة في العقل البشري قبل التجربة مثل مفاهيم‪ :‬المكان والزمان والكم والكيف‬
‫والعلة‪....‬و(بعدي ‪ )A posteriori‬أي المعرفة المحصَّلة بالتجربة‪ ،‬وهذان‬
‫المصطلحان من السمات المميزة لفلسفة كانط‪ ،‬ولهما أهمية في عرض نظرية ستيس‬
‫في الجمال‪ ،‬ألنها تقوم على مفهوم (التصور التجريبي غير اإلدراكي)‪ .‬وهذا‬
‫التصور هو تجريبي (أي بعدي) و(ليس قبليا) إل أنه يمتاز عن التصورات البعدية‬
‫في أنه (غير إدراكي) أي ل يدرك بالحواس‪ ،‬كما يمتاز عن المفاهيم القبلية كالمكان‬
‫‪50‬‬
‫والزمان والعلة‪..‬في أنه غير موجود في الوعي قبل التجربة‪ .‬ويضرب ستيس أمثلة‬
‫على هذا التصور مثل‪ :‬التطور‪ ،‬الحب‪ ،‬الرشاقة‪ ،‬الحضارة‪...‬فهذه المفاهيم أو‬
‫التصورات تتطلب تجربة حتى تتشكل في الوعي‪ ،‬إل أنها ل تدرك بالحواس‪ ،‬فنحن‬
‫نرى عاشقا ولكن ل نرى العشق‪ ،‬ونرى سلوكا أو أثرا حضاريين ولكن ل نرى‬
‫الحضارة‪....‬وهذه التصورات حصّلها الوعي البشري في تجربته الحضارية‪ ،‬وهي‬
‫التي تمّيز‪ -‬برأي ستيس‪ -‬بين التجمعات البشرية الوحشية‪ ،‬والتجمعات الحضارية‬
‫الراقية‪.‬‬
‫أما كيف يتم إدراك الجمال وفق هذه التصورات؟ أو كيف تخدم هذه التصورات‬
‫عملية إدراك الجمال؟ فيرى ستيس أن الجمال هو المتزاج الحاصل بين واحد من‬
‫هذه التصورات والمدرك الحسي ‪ -‬وكلما كان التصوّ ر أكثر قيمة‪ ،‬وكان المتزاج‬
‫المتذوق أجمل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بينه وبين المدرك الحسي أكبر‪ ،‬كان الموضوع‬
‫ويرى ستيس أن الفارق بين اإلدراك الحسي العادي واإلدراك الجمالي يختلفان في‬
‫أن األول قائم على الجمع بين المقولت أو المفاهيم القبلية والمدركات الحسية‪ ،‬ولذا‬
‫يتحقق فيه الغرض اإلدراكي ولكن دون المتعة‪ ،‬أما في اإلدراك الجمالي فتتحقق‬
‫المتعة الجمالية الناشئة عن تجسد مفهوم ينطوي على قيمة‪.‬‬
‫‪.‬جذور النظرية‬
‫إن قيام نظرية ستيس على التصور واستبعادها للحدس يعني أنها تنطلق من منطلق‬
‫عقلي أو مثالي‪ ،‬أي أن جذرها األعمق يمتد إلى أفالطون‪ ،‬فهذه النظرية ‪ -‬كما يقول‬
‫صاحبها‪ -‬تنطبق عليها صفة النزعة العقلية‪ ،‬فهي ل تتخبط في جوانب صوفية أو‬
‫حدسية أو ل عقلية‪ ،‬وهي تشبه النظرية المثالية أكثر من أي نظرية أخرى‪ .‬فالقول‬
‫بأن الجمال هو تركيبة عضوية بين المدرك الحسّي والتصور العقلي هو ما تعبّر‬
‫عنه اإلستطيقا عند هيغل‪ ،‬ويمكن أن نجد جذورها عند كانط‪ ،‬ألن الجمال عنده هو‬
‫نقطة التقاء بين اإلحساس والعقل‪ ،‬كما أن الجميل عند هيغل هو مصالحة بين المادة‬
‫واإلحساس من جهة‪ ،‬والعقل والروح من جهة ثانية‪.‬‬
‫‪.‬موقف النظرية من القبح‬
‫يرى ستيس أنّ ثمة خطأ يقع فيه الكثير من الباحثين حين يظنون أن القبيح هو نقيض‬
‫الجميل تماما كما هو الشر نقيض الخير‪ ،‬وكما هو الباطل نقيض للحق‪ .‬ولكن في‬
‫هذه النظرية رأينا أن المتزاج بين المضمون العقلي والمدرك الحسّي يعطي‬
‫الجميل‪ ،‬فإذا لم يحصل المتزاج ل نحصل على القبيح بل نحصل على غير الجميل‪،‬‬
‫وبعبارة أوضح‪ :‬إذا لم يحصل المتزاج ل نحصل على شيء ينتمي للقيمة الجمالية‪،‬‬
‫‪51‬‬
‫وذلك مثل نشرة األحوال الجوية‪ ،‬أو المقالة العلمية‪..‬فهذه األشياء ليست قبيحة‪ ،‬وهي‬
‫في الوقت ذاته ل تنتمي إلى المجال اإلستطيقي أو الجمالي‪ ،‬إنها من الناحية الجمالية‬
‫موضوعات محايدة‪.‬‬
‫ولكن إذا لم يكن القبيح نقيضا للجميل‪،‬فما هو القبيح؟‬
‫إذا كان الجميل هو امتزاج التصور التجريبي غير اإلدراكي مع المدرك الحسي‪،‬‬
‫فإن ثمة تصورات متنوعة تش ّع عند امتزاجها بالمدرك الحسّي بإشعاعات متنوعة‬
‫من المشاعر واألحاسيس‪ ،‬فبعض التصورات مؤلمة‪ ،‬وبالتالي ينشأ عنها األلم أو‬
‫الستياء‪ ،‬ولكن في نفس الوقت تنشأ متعة إستطيقية من امتزاج التصور والمدرك‪،‬‬
‫فنحصل على المتعة مما هو مؤلم‪ ،‬وتنشأ أطياف من الجميل هي‪ :‬المرعب‪،‬‬
‫والمأسوي‪ ،‬والجليل‪ ،‬والكوميدي‪ ...‬وأيضا القبيح‪.‬‬
‫أي أن القبيح ليس ض ّدا ّ للجميل‪ ،‬بل هو نوع من أنواعه‪.‬‬

‫‪52‬‬
53
54

You might also like