You are on page 1of 49

‫رسالة إىل علماء اإلسالم‬

‫أمحد الريسوين‬

‫‪1‬‬
‫إهدإء‪:‬‬
‫س‬ ‫ل‬‫ع‬
‫إلى السادة اء إلإ لام؛‬
‫م‬

‫طي‬‫ب‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫مي‬‫ئ‬


‫تقديرإ للقا ن رإ ن‪،‬‬
‫ي‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ت‬
‫و قيرإ لاخرن‪..‬‬

‫‪2‬‬
‫تقدمي‬

‫العلماء ‪ -‬يف كافة جماالهتم وختصصاهتم ‪ -‬هلم مكانتهم الرفيعة يف أقوامهم ويف‬
‫جمتمعاهتم‪ ،‬وخاصة اجملتمعات املتحضرة‪ .‬وبعض العلماء تتجاوز مكانتُهم دائرةَ بلداهنم وأممهم‬
‫لتصبح مكانةً عاملية‪ ،‬عابرة حلدود املكان والزمان واالنتماءات القومية والدينية واملذهبية‪..‬‬

‫مث مكانة العلماء تزداد وترتفع حبسب اعتبارات عديدة؛ ذاتية واجتماعية وثقافية‬
‫ذات متيز وصدارة ورايدة‪.‬‬
‫طبقات العلماء َ‬
‫ُ‬ ‫وسياسية‪ ..‬ولكن على العموم تبقى‬

‫وقد أابنت اجلائحة الوابئية "كوروان"‪ ،‬اليت جتتاح العامل منذ مطلع العام امليالدي‬
‫(‪ - )2020‬وحىت اآلن ‪ -‬عن مدى احلاجة إىل العلماء واخلرباء يف جماالت الطب والصحة‬
‫العامة واألوبئة والفريوسات وصناعة األمصال واألدوية والعلوم االجتماعية‪ ،‬وأن شؤون الدول‬
‫واجملتمعات ال تُساس وال تُسري ابحلكام وحدهم‪ ،‬وال ابلسياسيني أو العسكريني وحدهم‪ .‬فإذا‬
‫انفرد السياسيون والعسكريون ابحلكم ‪ -‬دون العلماء واحلكماء ‪ -‬فقد خربت أو تكاد‪..‬‬

‫ويف العامل اإلسالمي ‪ -‬بصفة خاصة ‪ -‬قام علماء الدين ودعاته ومفكروه جبهود‬
‫وخدمات غاية يف األمهية‪ ،‬يف حماصرة الوابء؛ بتوجيه الناس إىل السلوك الصحي العام‪ ،‬والسلوك‬
‫الوقائي اخلاص ابألوبئة والطواعني‪ ،‬وذلك انطالقا من املبادئ والتشريعات واآلداب املقررة يف‬
‫اإلسالم‪ .‬وبفضل توعيتهم وتوجيهاهتم وفتاويهم رأينا املساجد ومجهورها‪ ،‬وعموم املتدينني‪،‬‬
‫منوذجا حيتذى يف السلوك الصحي‪ ،‬ويف االنضباط لالحرتازات الوقائية‪ ،‬وذلك يف شىت أرجاء‬
‫العامل‪.‬‬

‫حديثي يف هذه الرسالة هو عن هذا الصنف من العلماء؛ أعين علماء الدين‪ ،‬وحتديدا‬
‫علماءَ اإلسالم‪ .‬هو حديث عنهم‪ ،‬وحديث إليهم‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫وسيكون بعون هللا تعاىل يف ثالثة مباحث‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬العلماء وسلطة العلماء‬

‫املبحث الثاين‪ :‬العلماء بني الصالح والفساد‬

‫املبحث الثالث‪ :‬إصالح شأن العلماء‬

‫ت‬
‫استاطا ْع ُ‬
‫ح اما ْ‬
‫ص اال ا‬ ‫{إِ ْن أُ ِري ُد إِاَّل ِْ‬
‫اإل ْ‬
‫وما تا وفِ ِيقي إِاَّل ِِب اِ‬
‫َّلل اعلاْي ِه تا واكل ُ ِ ِ‬
‫ْت اوإِلاْيه أُن ُ‬
‫يب} [هود‪]88 :‬‬ ‫ا‬ ‫اا ْ‬

‫‪4‬‬
5
‫ب‬ ‫م‬‫إل‬
‫حث إلإول‪:‬‬

‫العلماء وسلطة العلماء‬

‫يف العصر احلديث شاع القول والعمل بتقسيم سلطات احلكم إىل ثالث ُسلَط‪ ،‬لكل‬
‫منها اختصاصاهتا واستقالليتها بذاهتا‪ :‬السلطة التنفيذية‪ ،‬والسلطة التشريعية‪ ،‬والسلطة‬
‫القضائية‪ .‬وهذا توزيع جيد‪ ،‬مىت َوجد تطبيقا سليما؛ ألن من شأنه أن يقلل االستبداد‬
‫واالحتكار السياسي‪ ،‬ومن تكدس األعباء واألثقال على كواهل أفراد معدودين‪..‬‬

‫أما يف اإلسالم فعندان سلطة أخرى هلا مكانتها وصالحياهتا‪ ..‬وال أقول هي السلطة‬
‫الرابعة‪ ،‬كما يقال عن الصحافة‪ ،‬بل أقول‪ :‬هي السلطة األوىل والسلطة العليا‪ ،‬أال وهي سلطة‬
‫العلم والعلماء‪ .‬لكن أن تكون هذه السلطة م َف َّعلة‪ ،‬أو معطلة‪ ،‬أو مكبلة‪ ،‬فتلك قضية أخرى‪،‬‬
‫سيأيت التطرق إليها الحقا‪ .‬لكن من الناحية الشرعية املبدئية‪ ،‬فالعلماء سلطة حقيقية‪ ،‬هلا‬
‫مكانتها الطليعية‪ ،‬وهلا صالحياهتا القيادية‪.‬‬

‫والعلماء يف اإلسالم‪ ،‬مع كوهنم سلطة علمية توجيهية قائمة بذاهتا‪ ،‬فإهنم هم العمود‬
‫الفقري للسلطتني التشريعية والقضائية‪ ،‬ملن تسنموا منهم مناصب اإلفتاء والقضاء‪.‬‬

‫وقبل تفصيل القول يف هذه املسألة وما يتصل هبا‪ ،‬أود التأكيد أبن إعالء كلمة العلماء‬
‫وسلطتهم‪ ،‬إمنا هو ‪ -‬يف أصله وحالته السوية ‪ -‬إعالء لكلمة العلم واملنطق والعقل والعقالنية؛‬
‫ألن ما حيكم حياة الناس ويتحكم فيها ال خيرج عن سلطتني أساسيتني مها‪ :‬سلطة العلم والفكر‪،‬‬
‫أبعده عن اهلوى‬
‫أصح علم و ُ‬
‫وسلطة اهلوى واملزاج‪ .‬والعلم نقيض اهلوى‪ ،‬واهلوى نقيض العلم‪ .‬و ُّ‬
‫ِ‬
‫املستضيئ بنوره‪.‬‬ ‫هو ما كان أصله واستمداده من الوحي املنزل‪ ،‬ومن الفكر‬

‫‪6‬‬
‫احلديث عن "سلطة العلماء" يقتضي أوال حتديد معاين هاتني املفردتني‪ :‬العلماء‪ ،‬وسلطة‬
‫العلماء‪..‬‬

‫أما العلماء‪:‬‬

‫فاملراد هبم يف هذا السياق علماءُ الدين (اإلسالم)‪ ،‬املؤمنون به‪ ،‬املؤمتنون على سالمة‬
‫البدهي أن يكون هؤالء العلماء يف‬
‫حفظه وفهمه واالستنباط منه‪ ،‬مع بيان ذلك للناس‪ .‬ومن َ‬
‫مقدمة العاملني ابلدين‪ ،‬السائرين على هديه وهنجه‪ ،‬يف حياهتم ومواقفهم‪ .‬فهذه هي احلالة‬
‫السوية للعلماء‪ ..‬فالعلماء هم طليعة املتدينني واملستقيمني‪ .‬فاحلديث اآلن عن هؤالء ومع‬
‫هؤالء‪..‬‬

‫السنيةَ‪ ،‬املفرتضة يف العلماء‪ ،‬ال ترفع عنهم احتماالت اخللل‬


‫على أن هذه احلالةَ السوية َّ‬
‫والزلل‪ ،‬وال تدخلهم يف دائرة العصمة‪ ،‬سواء يف أقواهلم أو يف أفعاهلم‪ .‬فالعلماء ورثة األنبياء‪،‬‬
‫لكنهم ليسوا أبنبياء‪.‬‬

‫كما أن العلماء متفاوتون يف تدينهم واستقامتهم‪ ،‬ومتفاوتون يف تقصريهم واختالل‬


‫أمورهم‪ ،‬مثلما هم متفاوتون يف علمهم وفهمهم‪ ..‬وعلى قدر ذلك كله تكون سلطتهم‬
‫وأتثريهم‪..‬‬

‫يلج أحدهم يف غيه وهواه‪ ،‬ويصبح ممن {يَ ُقولُو َن َما‬ ‫أما حني يشرد بعض العلماء‪ ،‬أو ُّ‬
‫ِ‬ ‫َال ي ْفعلُو َن}‪ ،‬ويتنكبون ما يعلمون‪ ،‬فأولئك مثلهم { َكمثَ ِل ِْ‬
‫َس َف ًارا} [اجلمعة‪:‬‬ ‫احل َما ِر َْحيم ُل أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫‪ .]5‬وسيأيت ذكر ذلك عند احلديث عن فساد العلماء‪..‬‬

‫وأما سلطة العلماء‪:‬‬

‫خص ُهم به الشرعُ من أمانة وإمامة‪..‬‬


‫فهي ‪ -‬عموما ‪ -‬تتجسد فيما َّ‬
‫فاإلسالم َّبوأ العلماء مكانةً قيادية وحَّلهم أمانتها‪ ،‬يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬ويف احلياة‬
‫البشرية‪ ،‬فكراي واجتماعيا وسياسيا‪ ،‬دينيا ودنيواي‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫غري أن هذه املكانة القيادية لعلماء الدين‪ ،‬مل تبدأ مع اإلسالم ومع الرسالة احملمدية‪،‬‬
‫يل‬
‫بل هي مكانة قدمية قدم الدين والتدين‪ .‬ذلك أن حفظ الدين نصا ومعىن وعمال‪ ،‬وتنز َ‬
‫تعاليمه وأحكامه ومقاصده على الوقائع واألحوال‪ ،‬أي حتقيق مناطاهتا نظراي وعمليا‪ ،‬وكذلك‬
‫حل ما يُشكل ويلتبس على الناس من أمور دينهم‪ ،‬ومعاجلةُ ما يظهر يف أفهامهم وأفعاهلم من‬
‫بدع واختالالت‪ ..‬كل هذه وغريها أمور حتتاج إىل علم وفقه وختصص‪ ،‬وإىل خربة وبصرية‪.‬‬
‫َّهوا ِيف‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬
‫فلذلك كان ال بد للدين من علماء الدين‪{ ،‬فَلَ ْوَال نَ َفَر م ْن ُك ِل ف ْرقَة مْن ُه ْم طَائ َفةٌ ليَ تَ َفق ُ‬
‫الدي ِن َولِيُ ْن ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َْحي َذ ُرو َن} [التوبة‪]122 :‬‬
‫ِ‬

‫وقد ميكن القول‪ :‬إن أول ظهور للتخصص العلمي يف التاريخ البشري‪ ،‬هو التخصص‬
‫يف "فقه الدين"‪ ،‬وإن أول فئة من الدارسني املتخصصني هم علماء الدين‪ ..‬وعنهم انبثق الساسة‬
‫واألطباء والفالسفة وغريهم من ذوي االختصاصات‪.‬‬

‫ويف آايت عديدة ذكر القرآن الكرمي علماء الدين يف األمم السابقة‪ ،‬مقررا يف ذلك‬
‫‪1‬‬
‫لوجودهم وشرعيتهم‪ ،‬ومؤكدا لرسالتهم وواجباهتم‪ ،‬وحمذرا من بعض اآلفات اليت تعرتيهم‪..‬‬
‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫ور َْحي ُك ُم هبَا النَّبيُّو َن الذ َ‬ ‫‪ -‬فمن ذلك قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّان أَنْ َزلْنَا الت َّْوَراةَ ف َيها ُه ًدى َونُ ٌ‬
‫اَّللِ َوَكانُوا َعلَْي ِه‬ ‫استُ ْح ِفظُوا ِمن كِتَ ِ‬ ‫الرَّابنِيُّو َن و ْاأل ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب َّ‬ ‫ْ‬ ‫َحبَ ُار ِبَا ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ادوا َو َّ‬ ‫َسلَ ُموا للَّذ َ‬
‫ين َه ُ‬ ‫أْ‬
‫اخ َش ْو ِن َوَال تَ ْش َرتُوا ِِب َايِيت ََثَنًا قَلِ ًيال َوَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِِبَا أَنْ َزَل‬
‫َّاس َو ْ‬ ‫ُش َه َداءَ فَ َال َختْ َش ُوا الن َ‬
‫ك ُه ُم الْ َكافُِرو َن} [املائدة‪]44 :‬‬ ‫اَّللُ فَأُولَئِ َ‬ ‫َّ‬
‫َّاس َوَال تَكْتُ ُمونَهُ‬ ‫اب لَتُبَ يِنُنَّهُ لِلن ِ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬
‫اَّلل ِميث َ َّ ِ‬
‫اق الذ َ‬ ‫َخ َذ َُّ َ‬ ‫{وإِ ْذ أ َ‬
‫‪ -‬وقوله عز وجل‪َ :‬‬
‫س َما يَ ْش َرتُو َن} [آل عمران‪]187 :‬‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫فَنَ بَ ُذوهُ َوَراءَ ظُ ُهوره ْم َوا ْش ََرتْوا به ََثَنًا قَل ًيال فَبْئ َ‬
‫ول َوَال نَِ ٍب إَِّال إِذَا َمتََّىن أَلْ َقى الشَّْيطَا ُن ِيف‬ ‫ك ِمن رس ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫{وَما أ َْر َس ْلنَا م ْن قَ ْبل َ ْ َ ُ‬ ‫‪ -‬وقوله‪َ :‬‬
‫اَّللُ َعلِ ٌيم َح ِك ٌيم لِيَ ْج َع َل َما‬ ‫آايتِِه َو َّ‬ ‫اَّللُ َما يُْل ِقي الشَّْيطَا ُن ُمثَّ ُْحي ِك ُم َّ‬
‫اَّللُ َ‬ ‫أ ُْمنِيَّتِ ِه فَيَ ْن َس ُخ َّ‬
‫ني لَِفي‬ ‫ِِ‬
‫وهبُْم َوإِ َّن الظَّالم َ‬ ‫اسيَ ِة قُلُ ُ‬ ‫ي ْل ِقي الشَّيطَا ُن فِْت نَةً لِلَّ ِذين ِيف قُلُوهبِِم مرض والْ َق ِ‬
‫ْ ََ ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫‪ 1‬بيان هذه اآلفات سيأيت عند التطرق إىل فساد العلماء‪..‬‬


‫‪8‬‬
‫ك فَيُ ْؤِمنُوا بِِه} [احلج‪- 52 :‬‬ ‫ِ ٍ ِ ٍ ِ َّ ِ‬
‫احلَ ُّق ِم ْن َربِ َ‬
‫ين أُوتُوا الْعِْل َم أَنَّهُ ْ‬
‫ش َقاق بَعيد َوليَ ْعلَ َم الذ َ‬
‫‪]54‬‬
‫اَّللِ خري لِمن آمن وع ِمل ص ِ‬
‫احلًا‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب َّ َ ٌْ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ين أُوتُوا الْع ْل َم َويْلَ ُك ْم ثَ َو ُ‬‫{وقَ َال الذ َ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ :‬‬ ‫‪-‬‬
‫الصابُِرو َن} [القصص‪]80 :‬‬ ‫َّاها إَِّال َّ‬
‫َوَال يُلَق َ‬
‫ات} [اجملادلة‪]11 :‬‬ ‫اَّلل الَّ ِذين آمنُوا ِمْن ُكم والَّ ِذين أُوتُوا الْعِْلم درج ٍ‬
‫َ ََ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫وأيضا‪{ :‬يَ ْرفَ ِع َُّ َ َ‬ ‫‪-‬‬
‫اب يَ ْع ِرفُونَهُ َك َما يَ ْع ِرفُو َن أَبْنَاءَ ُه ْم َوإِ َّن فَ ِري ًقا ِمْن ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اه ُم الْكتَ َ‬ ‫ين آتَ ْي نَ ُ‬
‫وقوله‪{ :‬الذ َ‬ ‫‪-‬‬
‫احلَ َّق َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن} [البقرة‪]146 :‬‬ ‫لَيَكْتُ ُمو َن ْ‬
‫ِ ِ‬
‫يل} [الشعراء‪197 :‬‬ ‫وقوله سبحانه‪{ :‬أ ََوَملْ يَ ُك ْن َهلُْم آيَةً أَ ْن يَ ْعلَ َمهُ عُلَ َماءُ بَِين إ ْسَرائ َ‬ ‫‪-‬‬
‫اَّللِ َوَما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َص َاهبُْم ِيف َسبِ ِيل َّ‬ ‫{وَكأَيِ ْن م ْن نَِ ٍب قَاتَ َل َم َعهُ ِربِيُّو َن َكثريٌ فَ َما َوَهنُوا ل َما أ َ‬ ‫وقوله‪َ :‬‬ ‫‪-‬‬
‫ين} [آل عمران‪]146 :‬‬ ‫ب َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬ ‫اَّللُ ُِحي ُّ‬
‫استَ َكانُوا َو َّ‬
‫ضعُ ُفوا َوَما ْ‬‫َ‬
‫الربٍي ني‪،‬‬
‫ففي هذه اآلايت حديث عن علماء بين إسرائيل‪ ،‬وعن الرابنيني واألحبار‪ ،‬وعن ِ‬
‫وعن الذين أوتوا العلم‪..‬‬

‫وأهنم حيكمون بني الناس ِبا أنزل هللا‪،‬‬

‫املنزل‪،‬‬
‫وأهنم مستح َفظون مؤمتنون على الوحي َّ‬
‫وأهنم يُبينون حقائق الدين وال يكتموهنا‪،‬‬

‫وال خيشون يف ذلك أحدا إال هللا‪،‬‬

‫وأهنم يقيمون احلجة والشهادة على الناس‪،‬‬

‫وأهنم يدفعون الشكوك والشبهات الشيطانية‪،‬‬

‫وأهنم جياهدون مع األنبياء ويصمدون ويصربون يف ذلك‪..‬‬

‫فهذه الوظائف هي الرتمجة العملية لسلطة علماء الدين‪ ،‬يف كل وقت وحني‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫سلطة العلماء يف اإلسالم‬

‫مقرر ومستمر‬
‫ما تقدم ذكره عن العلماء يف األمم والشرائع السابقة كله ‪ -‬وأكثر منه ‪َّ -‬‬
‫يف حق علماء اإلسالم‪ .‬وقد ورد يف القرآن والسنة مزيد من التأكيد والتفصيل والتوضيح‪ ،‬لرسالة‬
‫العلماء ولسلطتهم العلمية‪..‬‬

‫فمن القرآن الكرمي‪:‬‬

‫ُوِل ْاأل َْم ِر‬


‫ول َوأ ِ‬
‫الر ُس َ‬ ‫اَّلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َآمنُوا أَطيعُوا ََّ َ‬ ‫{اي أَيُّ َها الذ َ‬
‫‪ .1‬قوله عز وجل‪َ :‬‬
‫ول إِ ْن ُكْن تم تُؤِمنُو َن ِاب ََّّللِ‬
‫الرس ِ‬ ‫ِمْن ُكم فَِإ ْن تَنَازعتم ِيف َشي ٍء فَرُّدوه إِ َىل َِّ‬
‫ُْ ْ‬ ‫اَّلل َو َّ ُ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫َ ُْ ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َس ُن َأتْ ِويالً} [النساء‪.]59 :‬‬ ‫ك َخ ْريٌ َوأ ْ‬‫َوالْيَ ْوم ْاآل ِخ ِر ذَل َ‬
‫أمر للذين آمنوا‪ ،‬أبن يطيعوا أوِل األمر منهم‪ ،‬بعد األمر بطاعته تعاىل‪،‬‬
‫يف هذه اآلية ٌ‬
‫وبطاعة رسوله صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫فمن هم "أولو األمر" الذين جتب طاعتهم على عموم املؤمنني؟‬


‫َ‬
‫أقوال املفسرين يف معىن (أوِل األمر) ترتدد ‪ -‬يف غالبها ‪ -‬بني العلماء واألمراء‪ .‬وبعضهم‬
‫يضيفون إىل العلماء واألمراء سائر من تكون هلم زعامة وقيادة وقبول بني مجهور املسلمني‪.‬‬
‫القول األعدل يف ذلك هو أن (أوِل األمر) يف اآلية يتقدمهم العلماء واألمراء معا‪ .‬وهو ما‬
‫و ُ‬
‫اختاره العالمة ابن القيم رحه هللا فقال‪" :‬والتحقيق أن األمراء إمنا يطاعون إذ أَمروا ِبقتضى‬
‫العلم‪ .‬فطاعتهم تبع لطاعة العلماء‪ .‬فإن الطاعة إمنا تكون يف املعروف وما أوجبه العلم‪ .‬فكما‬
‫‪2‬‬
‫أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول‪ ،‬فطاعة األمراء تبع لطاعة العلماء"‪.‬‬

‫ويرى العالمة ابن عاشور أن طاعة األمراء إمنا تثبت هلم بتعيينهم وتوليتهم يف مناصبهم‪،‬‬
‫مث تزول بعزهلم‪ .‬وأما طاعة العلماء فتثبت هلم بصفاهتم وأهليتهم الذاتية‪ ،‬أي‪ :‬بعلمهم وعدالتهم‪،‬‬
‫وليس بتولية أحد هلم‪ .‬قال رحه هللا‪" :‬وملا أمر هللا بطاعة أوِل األمر‪ ،‬علمنا أن أوِل األمر يف‬

‫‪ 2‬أعالم املوقعني‪10/1‬‬

‫‪10‬‬
‫نظر الشريعة طائفة معينة‪ ،‬وهم قدوة األمة وأمناؤها‪ .‬فعلمنا أن تلك الصفة تثبت هلم بطرق‬
‫شرعية؛ إذ أمور اإلسالم ال خترج عن الدائرة الشرعية‪ .‬وطريق ثبوت هذه الصفة هلم‪ :‬إما الوالية‬
‫املسندة إليهم من اخلليفة وحنوه‪ ،‬أو من مجاعات املسلمني‪ ،‬إذا مل يكن هلم سلطان‪ .‬وإما صفات‬
‫حمل اقتداء األمة هبم‪ ،‬وهي اإلسالم والعلم والعدالة‪ .‬فأهل العلم العدول‪:‬‬
‫الكمال اليت جتعلهم َّ‬
‫من أويل األمر بذاهتم‪ ،‬ألن صفة العلم ال حتتاج إىل والية‪ ،‬بل هي صفة قائمة أبرابهبا الذين‬
‫اشتهروا بني األمة هبا‪ ،‬لِ َما ُج رب من علمهم وإتقاهنم يف الفتوى والتعليم‪ .‬قال مالك‪« :‬أولو‬
‫األمر‪ :‬أهل القرآن والعلم»‪ ،‬يعين أهل العلم ابلقرآن واالجتهاد ‪.‬فأولو األمر هنا (يعين يف‬
‫الرسول‪ِ ،‬من اخلليفة إىل واِل احلسبة‪ ،‬ومن قواد اجليوش‪ ،‬ومن فقهاء الصحابة‬
‫َ‬ ‫اآلية) هم َمن عدا‬
‫واجملتهدين‪ ،‬إىل أهل العلم يف األزمنة املتأخرة"‪.3‬‬

‫ونقل العالمة حممد رشيد رضا عن السيد مجال الدين األفغاين "أنه فكر يف هذه املسألة‬
‫من زمن بعيد‪ ،‬فانتهى به الفكر إىل أن املراد أبوِل األمر‪ :‬مجاعة أهل احلل والعقد من املسلمني؛‬
‫وهم األمراء واحلكام‪ ،‬والعلماء‪ ،‬ورؤساء اجلند‪ ،‬وسائر الرؤساء والزعماء‪ ،‬الذين يرجع إليهم‬
‫الناس يف احلاجات واملصاحل العامة‪.4"...‬‬

‫وهكذا جند أن العلماء يتصدرون أوِل األمر الذين أمر هللا تعاىل بطاعتهم‪ ،‬فهم أَْوىل‬
‫الناس ابلطاعة واالتباع‪ .‬وحىت إذا مل يكن للعلماء سلطة مادية‪ ،‬سياسية وقضائية‪ ،‬فلهم سلطة‬
‫علمية ومعنوية على جوانب واسعة من حياة الناس‪ ،‬ما ظهر منها وما بطن‪..‬‬

‫ولإلمام ابن تيمية ملحظ عميق يف سلطة كل من احلاكم والعامل‪ ،‬وموقع كل منهما‬
‫من اآلخر‪ ،‬مفاده أن احلكم الرشيد السديد هو الذي يكون فيه األمراء اتبعني للعلماء‪ ،‬ويكون‬
‫فيه صاحب السيف اتبعا لصاحب الكتاب‪ ،‬وأن هذا هو الوضع الشرعي السوي‪ ..‬قال رحه‬
‫هللا‪ ..." :‬األمصار اليت ظهر فيها مذهب أهل املدينة يكون فيها من احلكم ابلعدل ما ليس‬
‫يف غريها‪ ،‬من جعل صاحب احلرب متبعا لصاحب الكتاب‪ ،‬ما ال يكون يف األمصار اليت‬

‫‪ 3‬التحرير والتنوير ‪98/5‬‬

‫‪ 4‬تفسري املنار ‪147 /5‬‬


‫‪11‬‬
‫غي متبع لصاحب‬
‫ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم‪ ،‬حيث يكون يف هذه وايل احلرب ا‬
‫العلم ‪ ...‬ودين اإلسالم ‪ :‬أن يكون السيف اتبعا للكتاب ‪ .‬فإذا ظهر العلم ِبلكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وكان السيف اتبعا لذلك‪ ،‬كان أمر اإلسالم قائما‪.5"..‬‬

‫ناعم ونِ ْعم؛ أن يكون السيف اتبعا للكتاب والسنة‪ ،‬ويكون صاحب السيف اتبعا‬
‫لصاحب العلم والفكر‪ ،‬وأن تكون سلطة السياسيني والعسكريني اتبعة لسلطة العلماء‬
‫واخلرباء واملفكرين‪.‬‬

‫{وإِ َذا َجاءَ ُه ْم أ َْمٌر‬


‫املقررة لسلطة العلم والعلماء‪ ،‬قوله تعاىل‪َ :‬‬ ‫‪ .2‬ومن اآلايت ِ‬
‫ُوِل ْاأل َْم ِر ِمْن ُه ْم‬ ‫الرس ِ‬
‫ول َوإِ َىل أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِمن ْاألَم ِن أَ ِو ْ ِ‬
‫اخلَْوف أَ َذاعُوا به َولَْو َرُّدوهُ إ َىل َّ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ين يَ ْستَ ْنبِطُونَهُ ِمْن ُه ْم} [النساء‪]83 :‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫لَ َعل َمهُ الذ َ‬
‫‪ .3‬ومنها أيضا‪{ :‬فَلَوَال نَ َفر ِمن ُك ِل فِرقٍَة ِمْن هم طَائَِفةٌ لِي ت َفقَّهوا ِيف ِ‬
‫الدي ِن‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ْ‬
‫َولِيُ ْن ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َْحي َذ ُرو َن} [التوبة‪]122 :‬‬

‫قال اإلمام أبو بكر اجلصاص‪" :‬قوله تعاىل‪{ :‬ولو ردوه إىل الرسول وإىل أوِل األمر‬
‫منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}‪ ،‬قال احلسن وقتادة وابن أيب ليلى‪" :‬هم أهل العلم والفقه"‪,‬‬
‫وقال السدي‪" :‬األمراء والوالة"‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬جيوز أن يريد به الفريقني من أهل الفقه والوالة‪،‬‬
‫لوقوع االسم عليهم مجيعا‪ .‬فإن قيل‪ :‬أولوا األمر من ميلك األمر ابلوالية على الناس‪ ،‬وليست‬
‫هذه صفة أهل العلم‪ .‬قيل له‪ :‬إن هللا تعاىل مل يقل (من ميلك األمر ابلوالية على الناس)‪ .‬وجائز‬
‫قبول قوهلم فيها‪،‬‬
‫غريهم ُ‬ ‫أن يسمى الفقهاء أوِل األمر ألهنم يعرفون أوامر هللا ونواهيه‪ ،‬ويلزم َ‬
‫فجائز أن يسموا أوِل األمر من هذا الوجه‪ ،‬كما قال يف آية أخرى‪{ :‬ليتفقهوا يف الدين ولينذروا‬
‫احلذر إبنذارهم‪ ،‬وألزم املن َذرين‬
‫قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم حيذرون} [التوبة‪ ،]122 :‬فأوجب َ‬

‫‪ 5‬جمموع الفتاوى ‪393 /20‬‬

‫‪12‬‬
‫يسم ْون بذلك‬
‫قبول قوهلم‪ ،‬فجاز من أجل ذلك إطالق اسم أوِل األمر عليهم; واألمراء أيضا َّ‬
‫َ‬
‫لنفاذ أمورهم على من يلون عليه"‪.6‬‬

‫وسواء قلنا‪ :‬إن أوِل األمر الذين تلزمنا طاعتهم يدخل فيهم العلماء واألمراء معا‪ ،‬أو‬
‫قلنا‪ :‬هم إما األمراء‪ ،‬أو العلماء‪ ،‬فإن اآلية الكرمية تكون قد مجعت لنا بني الطائفتني‪ ،‬وجعلت‬
‫طاعة املسلمني دائرة بينهما‪ .‬ونستطيع أن نقول‪ :‬إن اآلية أمرت املسلمني بطاعة قادهتم‬
‫وزعمائهم الشرعيني‪ ،‬سواء كانوا ذوي سلطة سياسية عُرفية‪ ،‬أو ذوي سلطة علمية أخالقية‪.‬‬
‫وهؤالء مجيعا هم أئمة األمة وأئمة اجملتمع‪ .‬ويف حديث اإلمام مسلم‪ :‬عن متيم الداري‪ ،‬أن النب‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪« :‬الدين النصيحة» قلنا‪ :‬ملن؟ قال‪« :‬هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة‬
‫املسلمني وعامتهم»‪ .‬قال الشيخ حممد صاحل العثيمني‪" :‬األئمة مجع إمام‪ ،‬واملراد ابإلمام‪ :‬من‬
‫يُقتدي به ويُؤمتر أبمره‪ .‬وينقسم إىل قسمني‪ :‬إمامة يف الدين‪ ،‬وإمامة يف السلطة‪.‬‬
‫قال‪".:‬وعموما‪ :‬فأولو األمر‪ ،‬أو األئمة‪ ،‬هم أهل القول املسموع واملقام املتبوع"‪.7‬‬

‫ويف صحيح البخاري‪ ،‬عن قيس ابن أيب حازم قال‪ :‬دخل أبو بكر على امرأة من أحس‬
‫ص ِمتة‪ .‬قال هلا‪ :‬تكلمي‪،‬‬
‫يقال هلا زينب‪ ،‬فرآها ال تكلم فقال‪ :‬ما هلا ال تكلم؟ قالوا‪ :‬حجت ُم ْ‬
‫فإن هذا ال حيل‪ ،‬هذا من عمل اجلاهلية‪ .‬فتكلمت فقالت‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬امرؤ من املهاجرين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أي املهاجرين؟ قال‪ :‬من قريش‪ .‬قالت‪ :‬من أي قريش أنت؟ قال إنك لسؤول! أان أبو‬
‫بكر‪ .‬قالت‪ :‬ما بقاؤان على هذا األمر الصاحل الذي جاء هللا به بعد اجلاهلية؟ قال‪ :‬بقاؤكم‬
‫عليه ما استقامت بكم أئمتكم‪ .‬قالت‪ :‬وما األئمة؟ قال‪ :‬اأما كان لقومك رؤوس وأشراف‬
‫أيمروهنم فيطيعوهنم؟ قالت بلى‪ .‬قال‪ :‬فهم أولئك على الناس‪.‬‬

‫‪ 6‬أحكام القرآن ‪269 /2‬‬

‫‪ 7‬شرح رايض الصاحلني ‪391/2‬‬

‫‪13‬‬
‫ومن السنة‪:‬‬

‫حديث أيب الدرداء‪ :‬العلماء ورثة األنبياء‬

‫قال اإلمام البخاري يف كتاب العلم من صحيحه‪" :‬ابب العلم قبل القول والعمل‪ ،‬لقول‬
‫هللا تعاىل‪{ :‬فاعلم أنه ال إله إال هللا} فبدأ ابلعلم‪ ،‬وأن العلماء هم ورثة األنبياء‪ ،‬ورثوا العلم‪،‬‬
‫من أخذه أخذ حبظ وافر‪ .‬ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل هللا له طريقا إىل اجلنة‪ .‬وقال‬
‫جل ذكره‪{ :‬إمنا خيشى هللاَ من عباده العلماءُ}‪ ،‬وقال‪{ :‬وما يعقلها إال العاملون}‪{ ،‬وقالوا لو‬
‫كنا نسمع أو نعقل ما كنا يف أصحاب السعري}‪ ،‬وقال {هل يستوي الذين يعلمون والذين ال‬
‫يعلمون}‪ .‬وقال النب صلى هللا عليه وسلم‪ :‬من يرد هللا به خريا يفهمه‪ ،‬وإمنا العلم ابلتعلم‪.‬‬
‫وقال أبو ذر‪ :‬لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إىل قفاه – مث ظننت أين أُنْفذ كلمة‬
‫علي ألنفذهتا‪ .‬وقال ابن عباس‪{ :‬كونوا‬
‫مسعتها من النب صلى هللا عليه وسلم قبل أن جتيزوا َّ‬
‫رابنيني} ُحلماء فقهاء‪ ،‬ويقال‪ :‬الرابين الذي يريب الناس بصغار العلم قبل كباره"‪.‬‬

‫خرجه وصححه عدد من العلماء واحملدثني سوى اإلمام البخاري‪.‬‬


‫واحلديث َّ‬
‫ونصه يف سنن أيب داود…‪ :‬عن أيب الدرداء قال‪ :‬مسعت رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫ُّ‬
‫وسلم يقول‪" :‬من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك هللا به طريقا من طرق اجلنة‪ ،‬وإن املالئكة‬
‫لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم‪ ،‬وإن العامل ليستغفر له من يف السماوات ومن يف األرض‪،‬‬
‫واحليتان يف جوف املاء‪ .‬وإن فضل العامل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر‬
‫الكواكب‪ .‬وإن العلماء ورثة األنبياء‪ ،‬وإن األنبياء مل َيوِرثوا دينارا وال درمها‪َّ ،‬‬
‫ورثوا العلم‪ .‬فمن‬
‫أخذه أخذ حبظ وافر"‪.‬‬

‫قال احلافظ ابن حجر عن هذا احلديث‪" :‬أخرجه أبو داود والرتمذي وابن حبان واحلاكم‬
‫مصححا‪ ،‬من حديث أيب الدرداء‪ .‬وحسنه حزة الكناين‪ ،‬وضعفه ابضطراب يف سنده‪ ،‬لكن‬
‫له شواهد يتقوى هبا‪ .‬ومل يفصح املصنف (أي البخاري) بكونه حديثا‪ ،‬فلهذا ال يعد يف تعاليقه‪،‬‬
‫الكتاب‬
‫ا‬ ‫لكن إيراده له يف الرتمجة يشعر أبن له أصال‪ .‬وشاهده يف القرآن قوله تعاىل‪( :‬مث أاورثنا‬

‫‪14‬‬
‫الذين اصطفينا من عبادان)‪ .‬ومناسبته للرتمجة من جهة أن الوارث قائم مقام املوروث‪ ،‬فله‬
‫حكمه فيما قام مقامه فيه‪ .‬قوله‪َّ :‬‬
‫ورثوا بتشديد الراء املفتوحة‪ ،‬أي األنبياء‪ .‬ويروى بتخفيفها‬
‫األول ما عند الرتمذي وغريه فيه‪ :‬وإن األنبياء مل يورثوا دينارا وال‬
‫مع الكسر أي العلماء‪ ،‬ويؤيد َ‬
‫ورثوا العلم"‪.8‬‬
‫درمها‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫ومن الواضح أن العلماء املقصودين يف هذا احلديث هم علماء الدين‪ ،‬فقهاء القرآن‬
‫والسنة‪ .‬فهم الذين تنطبق عليهم الصفات املذكورة‪ :‬ورثة األنبياء‪ ،‬توريث تركة األنبياء‪ ،‬ورثوا‬
‫ورثه األنبياء‪ ،‬ووِرثه عنهم العلماء‪ ،‬هو الوحي وما دل عليه وما استُنبط منه‪.‬‬
‫العلم‪ .‬فالعلم الذي َّ‬
‫فهذا هو الذي حيدد العلماءَ املعنيني يف احلديث‪.‬‬

‫تضمن احلديث بشارات شيقة ومقامات جليلة للعلماء‪ ،‬ولكنها حتمل هلم يف طياهتا‬
‫تكليفا ثقيال‪ ،‬يتمثل يف كوهنم ورثة األنبياء‪ .‬وذلك "أن الوارث قائم مقام املوروث‪ ،‬فله حكمه‬
‫فيما قام مقامه فيه"‪ ،‬كما قال احلافظ ابن حجر‪ِ .‬بعىن أن وظيفة العلماء هي نفسها وظيفة‬
‫األنبياء‪ ،‬وأن ما كان عليه األنبياء هو ما جيب أن يكون عليه ورثتهم العلماء‪ .‬وقد جاء يف‬
‫مسند البزار‪" :‬العلماء خلفاء األنبياء"‪ .‬فالعلماء يَخلُفون األنبياء ويقومون مقامهم يف كل‬
‫شيء‪ ،‬سوى العصمة والوحي اجلديد‪.‬‬

‫العلماء خلفاء األنبياء‪ ،‬يف ماذا؟‬

‫من املعلوم أن خصوصية األنبياء ومتيز وظائفهم عن غريهم ليست إبمياهنم واجتهادهم‬
‫يف العبادات وألعمال الصاحلات‪ ،‬وليست يف كثرة الصيام والقيام‪ ،‬فهذا عام ومتاح جلميع‬
‫املؤمنني‪ .‬وإمنا ميزة العلماء وخصوصيتهم تتجسد أساسا يف كوهنم َح َملة رسالة‪ ،‬مبعوثني‬
‫ومرسلني هبا إىل الناس‪ ،‬عامتِهم وخاصتِهم‪ ،‬يبلغوهنم إايها‪ ،‬ويبينوهنا هلم‪ ،‬ويقيموهنا فيهم‪..‬‬
‫ُ‬
‫قال هللا تعاىل مبينا واجبات األنبياء‪:‬‬

‫‪ 8‬فتح الباري ‪108 /1‬‬

‫‪15‬‬
‫{اي أَيُّ َها الْ ُمدَّثُِر قُ ْم فَأَنْ ِذ ْر} [املدثر‪]2 ،1 :‬‬ ‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫اص َد ْع ِِبَا تُ ْؤَم ُر} [احلجر‪]94 :‬‬ ‫{فَ ْ‬ ‫‪-‬‬
‫الرس ُ ِ‬
‫ت ِر َسالَتَه}‬ ‫ك َوإِ ْن َملْ تَ ْف َع ْل فَ َما بَلَّ ْغ َ‬ ‫ك ِم ْن َربِ َ‬ ‫ول بَل ْغ َما أُنْ ِزَل إِلَْي َ‬ ‫{اي أَيُّ َها َّ ُ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫[املائدة‪]67 :‬‬
‫اجا‬ ‫اعيا إِ َىل َِّ ِِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫{اي أَيُّها النَِّب إِ َّان أَرس ْلن َ ِ‬
‫اَّلل إب ْذنه َوسَر ً‬ ‫اك َشاه ًدا َوُمبَشًرا َونَذ ًيرا َوَد ً‬ ‫َ ُّ ْ َ َ‬ ‫‪-‬‬
‫ُمنِ ًريا} [األحزاب‪]46 ،45 :‬‬
‫آايتِِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل علَى الْمؤِمنِني إِ ْذ ب ع ِ‬
‫ث في ِه ْم َر ُس ًوال م ْن أَنْ ُفس ِه ْم يَْت لُو َعلَْي ِه ْم َ‬ ‫{لََق ْد َم َّن َُّ َ ُ ْ َ َ َ َ‬ ‫‪-‬‬
‫ض َال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وي َزكِي ِهم وي علِمهم الْ ِكتَاب و ِْ‬
‫ني} [آل‬ ‫ْمةَ َوإِ ْن َكانُوا م ْن قَ ْب ُل لَفي َ‬ ‫احلك َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ْ ََُ ُ ُ ُ‬
‫عمران‪]164 :‬‬
‫ص َريةٍ أ ََان َوَم ِن اتَّبَ َع ِين} [يوسف‪]108 :‬‬ ‫{قُل ه ِذهِ سبِيلِي أ َْدعو إِ َىل ا ََّّللِ علَى ب ِ‬ ‫‪-‬‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬
‫الر ُسل} [النساء‪:‬‬ ‫اَّللِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد ُّ‬
‫َّاس َعلَى َّ‬ ‫ين لِئَ َّال يَ ُكو َن لِلن ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َوُمْنذر َ‬
‫ِ‬
‫{ر ُس ًال ُمبَش ِر َ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫‪]165‬‬
‫ول‬‫ْم ٍة ُمثَّ َجاءَ ُك ْم َر ُس ٌ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬
‫ني لَ َما آتَ ْي تُ ُك ْم م ْن كتَاب َوحك َ‬ ‫اَّللُ ِميثَ َ‬
‫اق النَّبِيِ َ‬ ‫َخ َذ َّ‬ ‫{وإِ ْذ أ َ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫م ِ ِ‬
‫ص ِري قَالُوا‬ ‫َخ ْذ ُُْت َعلَى َذل ُك ْم إِ ْ‬ ‫صد ٌق ل َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤمنُ َّن بِه َولَتَ ْن ُ‬
‫ص ُرنَّهُ قَ َال أَأَقْ َرْرُُْت َوأ َ‬ ‫َُ‬
‫َّاه ِدين} [آل عمران‪]81 :‬‬ ‫أَقْ ررَان قَ َال فَا ْشه ُدوا وأ ََان مع ُكم ِمن الش ِ‬
‫َ َ ََ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫َّاس َوَال تَكْتُ ُمونَهُ} [آل‬ ‫اب لَتُبَيِنُنَّهُ لِلن ِ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬
‫اَّلل ِميث َ َّ ِ‬
‫اق الذ َ‬ ‫َخ َذ َُّ َ‬ ‫{وإِ ْذ أ َ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫عمران‪]187 :‬‬
‫استَطَ ْعت} [هود‪.]88 :‬‬
‫ص َال َح َما ْ‬ ‫يد إَِّال ِْ‬
‫اإل ْ‬ ‫‪{ -‬إِ ْن أُ ِر ُ‬
‫ت ِأل َْع ِد َل بَْي نَ ُك ُم} [الشورى‪]15 :‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫{وأُم ْر ُ‬‫َ‬
‫وخصوصيات منزلتهم‪..‬‬
‫ُ‬ ‫فهذه هي مجلة وظائف األنبياء‬
‫فاألنبياء طالئع الدعوة إىل هللا ِ‬
‫وشرعه وهداه‪،‬‬

‫واألنبياء يبلِغون وي ب يِ نون‪،‬‬

‫واألنبياء يبشرون وينذرون‪،‬‬


‫‪16‬‬
‫واألنبياء جيادلون ويقيمون احلجة هلل ولدينه‪،‬‬

‫واألنبياء يربُّون ويزكون ويُصلحون‪،‬‬

‫واألنبياء يقيمون العدل يف احلياة‪،‬‬

‫واألنبياء يرشدون وينصحون‪.‬‬

‫ووقائع احلياة‬
‫ُ‬ ‫وكل هذه الوظائف يرثها العلماءُ عن األنبياء‪ .‬وِبا أن الوحي قد توقف‪،‬‬
‫البشرية وتطوراهتا ال تتوقف‪ ،‬فيكون من وظائف العلماء أيضا أهنم جيتهدون ويستنبطون ويُفتون‬
‫يف هذه املستجدات‪ ،‬وفق الوحي الذي ورثوه‪ ،‬ووفق قواعده ومقاصده‪.‬‬

‫واخلالصة‪ :‬أن رسالة العلماء هي حل أمانة العلم الشرعي‪ ،‬وأداء حقه‪ ،‬ولزوم مقتضياته‪،‬‬
‫وبذل هذا العلم وبيانُه لكل مفتقر إليه‪ ،‬طلبَه أو مل يطلبه‪..‬‬
‫ُ‬
‫أفضل من بث‬
‫َ‬ ‫ويف فضل هذه الوظيفة قال ابن املبارك‪" :‬وال أعلم بعد النبوة درجة‬
‫العلم"‪.9‬‬

‫سره أن يكون من هؤالء العلماء الوارثني لألنبياء‪ ،‬وأن يكون من أهل هذه املنزلة‬
‫فمن َّ‬
‫َ‬
‫وهذه املزية‪ ،‬فلي َؤِد حقوقها؛ بوضع هذه الوظائف النبوية العُلمائية نصب عينيه‪ ،‬واالخنراط يف‬
‫أدائها ما استطاع إىل ذلك سبيال‪.‬‬

‫‪ 9‬هتذيب الكمال يف أمساء الرجال‪ ،‬لشمس الدين الذهب ‪276 /5‬‬

‫‪17‬‬
‫العلماء واجملتمع‪..‬‬

‫العلماء اإلمامةَ والرايدة يف جمتمعاهتم يقتضي أن يكونوا حاضرين فيها ومعها‪ ،‬وأن‬ ‫ِ‬ ‫توِل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يكونوا منها وإليها‪{ .‬لََق ْد جاء ُكم رس ٌ ِ‬
‫ول م ْن أَنْ ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ‬
‫يص َعلَْي ُك ْم‬ ‫َ َ ْ َُ‬
‫وف َرِح ٌيم} [التوبة‪]128 :‬‬ ‫ِِ‬
‫ِابلْ ُم ْؤمن َ‬
‫ني َرءُ ٌ‬
‫ومن الصفات املشرتكة بني كافة أنبياء هللا ورسله‪ ،‬صلوات هللا وسالمه عليهم أمجعني‪،‬‬
‫شائني يف األسواق)‪ .‬وقد عاب مشركو العرب على خاُت الرسل واألنبياء كونَه‬ ‫(م ّ‬‫أهنم كانوا ا‬
‫ول َأيْ ُك ُل الطَّ َع َام َوميَْ ِشي ِيف ْاألَ ْس َو ِاق}‬
‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫{وقَالُوا َمال َه َذا َّ ُ‬
‫أيكل الطعام وميشي يف األسواق‪َ ،‬‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫[الفرقان‪ .]7 :‬فجاءهم الرد املفحم احلاسم بقوله سبحانه‪{ :‬وما أَرس ْلنَا قَب لَ َ ِ‬
‫ك م َن الْ ُم ْر َسل َ‬ ‫ََ ْ َ ْ‬
‫َس َو ِاق} [الفرقان‪.]20 :‬‬ ‫إَِّال إِ َّهنُْم لَيَأْ ُكلُو َن الطَّ َع َام َوميَْ ُشو َن ِيف ْاأل ْ‬
‫وكو ُن املرسلني ميشون يف األسواق يعين أهنم خيالطون الناس‪ ،‬ويتواصلون معهم‪ ،‬ويطَّلعون‬
‫على أحواهلم‪ ،‬فيبلغوهنم ويرشدوهنم‪ ،‬ويستمعون إليهم ويبينون هلم‪ ..‬فمشيُهم يف األسواق هو‬
‫مشي الدعاة الناصحني املصلحني‪ ،‬املندجمني يف واقعهم وزماهنم وأقوامهم‪ .‬ومن مشائل خاُت‬
‫ُ‬
‫مشي‬
‫الرسل صلى هللا عليه وسلم أنه كان "جيالس املساكني وميشي يف األسواق"‪ .‬وهبذا يكون ُ‬
‫األنبياء والرسل يف األسواق جزءا من هنجهم وأخالقهم ومتطلبات رسالتهم ووظيفتهم‪ ،‬وليس‬
‫جملرد كسب املعاش أو إظهار التواضع‪ .‬وهذا اثبت يف السرية النبوية‪ ..‬ويؤكده ويوضحه ما جاء‬
‫يف بعض القراءات للفظ (وي مشون)‪ ..‬قال ابن عطية‪" :‬وقرأ مجهور الناس «ويَ ْم ُشون»‪ ،‬بفتح‬
‫الياء وسكون امليم وختفيف الشني‪ ،‬وقرأ علي وعبد الرحن وابن مسعود‪« :‬يُ َمش َّْون»‪ ،‬بضم الياء‬
‫دعون إىل املشي ويُ ْح املون عليه"‪.10‬‬
‫وفتح امليم وشد الشني املفتوحة‪ِ ،‬بعىن‪ :‬يُ ا‬
‫وإذا كان مجيع األنبياء والرسل على هذا النحو وهذا النهج‪ ،‬فال يبقى عذر ألحد من‬
‫(ورثة األنبياء) يف إيثار العزلة والتَّنائي عن املساكني وأهل األسواق ومجهور الناس‪.‬‬

‫‪ 10‬احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ‪205 /4‬‬

‫‪18‬‬
‫والعجيب املؤسف هو أن بعض العلماء كلما زاد علمهم ومكانتهم‪ ،‬زاد بعدهم عن‬
‫الناس وهجرهم ألسواقهم وجمالسهم وشؤوهنم‪ ،‬بينما الواجب هو عكس ذلك‪ .‬فاملفروض أن‬
‫العامل كلما ازداد علما‪ ،‬أن يزداد قراب من صفة الرسل ومسلكهم يف خمالطة الناس ودخول‬
‫أسواقهم وارتياد جمامعهم‪ ،‬سواء أكانوا صاحلني أو طاحلني‪ ،‬موافقني أو خمالفني‪ .‬فهذا وجه من‬
‫وجوه أدائهم لوظيفتهم الفاضلة وسلطتهم الناعمة‪.‬‬

‫قبل حنو عشرين عاما سألت صديقا ِل من علماء اجلزائر عن الرئيس اجلزائري "الشاذِل‬
‫بنجديد" وأين يعيش بعد اإلطاحة به؟ فقال‪ :‬إنه يعيش يف مدينة وهران اليت هي مدينته‪ .‬قلت‪:‬‬
‫وماذا يفعل؟ قال ‪:‬أيكل الطعام وَّل ميشي يف األسواق!‬

‫وإذا كان الرئيس الراحل بنجديد – رحه هللا – قد أمضى سنوات من حياته أيكل‬
‫الطعام وال ميشي يف األسواق‪ ،‬فألنه كان جمربا على ذلك‪ ،‬وله أعذار أخرى‪ ..‬أما بعض علمائنا‬
‫فيفعلون ذلك اختيارا وطواعية‪ ،‬وهرواب من املسؤولية املنوطة هبم‪ .‬بل يعتربون البعد عن عوام‬
‫الناس وأسواقهم وشؤوهنم مما حيفظ هلم هيبتهم وشرفهم وجاللة قدرهم‪ ،‬وهلم يف ذلك عبارة قدمية‬
‫تقول‪" :‬اعتزال العامة مروءة اتمة"‪ .‬فيا ليت شعري ما موقع األنبياء يف هذا‪ ،‬وقد كانوا ميشون‬
‫يف األسواق وخيالطون العامة؟ هل كانت مروءهتم منقوصة أو مضيعة؟!‬

‫العلماء الرِبنيون والعلماء الرهبانيون‬

‫ما أكثر األوصاف الشرعية اجلليلةَ اليت قُلبت معانيها وحرفت عن مواضعها‪ ..‬ومنها‬
‫صفة "العامل الرِبين‪ ،‬والعلماء الرِبنيون"‪ ،‬وهو وصف خيتزن يف ضمنه صفات عديدة‪ ،‬تشري‬
‫إليها اآلايت الكرمية يف قوله تعاىل‪:‬‬

‫الرَّابنِيُّو َن‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫ادوا َو َّ‬ ‫َسلَ ُموا للَّذ َ‬
‫ين َه ُ‬ ‫ين أ ْ‬ ‫{إِ َّان أَنْ َزلْنَا الت َّْوَرا َة ف َيها ُه ًدى َونُ ٌ‬
‫ور َْحي ُك ُم هبَا النَّبيُّو َن الذ َ‬
‫اَّللِ َوَكانُوا َعلَْي ِه ُش َه َداءَ} [املائدة‪،]44 :‬‬‫اب َّ‬ ‫استُ ْح ِفظُوا ِمن كِتَ ِ‬ ‫و ْاأل ِ‬
‫َحبَ ُار ِبَا ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ْ‬

‫‪19‬‬
‫س َما َكانُوا‬
‫ت لَبْئ َ‬ ‫اإل ِْمث َوالْعُ ْد َو ِان َوأَ ْكلِ ِه ُم ُّ‬
‫الس ْح َ ِ‬ ‫وقوله عز وجل‪{ :‬وتَرى َكثِريا ِمْن ُه ْم يُسا ِرعُو َن ِيف ِْ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ََ‬
‫س َما َكانُوا‬‫ت لَبْئ َ‬ ‫اإل ْمثَ َوأَ ْكلِ ِه ُم ُّ‬
‫الس ْح َ ِ‬ ‫َحبَار َع ْن قَ ْوهلِِم ِْ‬
‫ُ‬
‫ي عملُو َن لَوَال ي ْن هاهم َّ ِ‬
‫الرَّابنيُّو َن َو ْاأل ْ ُ‬ ‫ْ َ َ ُُ‬ ‫َْ َ‬
‫صنَ عُو َن} [املائدة‪،]63 ،62 :‬‬ ‫يَ ْ‬
‫اب َوِِبَا ُكْن تُ ْم تَ ْد ُر ُسو َن} [آل عمران‪.]79 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقوله‪{ :‬ولَ ِكن ُكونُوا رَّابنِيِ ِ‬
‫ني ِبَا ُكْن تُ ْم تُ َعل ُمو َن الْكتَ َ‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ولكن املسافة أصبحت بعيدة بني املعىن السليم واملعىن السقيم لوصف (الرابنيني)‪..‬‬
‫قال شيخ املفسرين‪ ،‬اإلمام أبو جعفر حممد بن جرير الطربي رحه هللا‪" :‬وأما قوله‪" :‬كونوا‬
‫رِبنيني"‪ ،‬فإن أهل التأويل اختلفوا يف أتويله فقال بعضهم‪ :‬معناه‪ :‬كونوا حكماء علماء…وعن‬
‫جماهد قال‪ :‬الرابنيون‪ :‬الفقهاء العلماء‪ ،‬وهم فوق األحبار‪ .‬وقال آخرون‪ :‬بل هم والة الناس‬
‫وقادهتم‪ .‬قال أبو جعفر‪ :‬وأَْوىل األقوال عندي ابلصواب يف (الرابنيني) أهنم ُ‬
‫مجع رابين‪ ،‬وأن‬
‫صلح أمورهم ويربُّها ويقوم هبا‪.‬‬
‫الناس‪ ،‬وهو الذي يُ ْ‬
‫يرب َ‬ ‫الرَّابن‪ ،‬الذي ُّ‬
‫الرابين املنسوب إىل َّ‬
‫وصفت‪ ،‬وكان العامل ابلفقه واحلكمة من‬
‫ُ‬ ‫(الرابن ُّي) هو املنسوب إىل من كان ابلصفة اليت‬
‫اخلري‪ ،‬ودعائهم إىل ما فيه مصلحتهم‪ ،‬وكان كذلك‬
‫أمور الناس‪ ،‬بتعليمه إايهم َ‬
‫املصلحني‪ ،‬يَ ُرب َ‬
‫املصلحني‬
‫احلكيم التقي هلل‪ ،‬والواِل الذي يلي أمور الناس على املنهاج الذي َوليه املقسطون من ْ‬
‫صالح عاجلهم وآجلهم وعائدةُ النفع عليهم يف دينهم ودنياهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أمور اخللق‪ ،‬ابلقيام فيهم ِبا فيه‬
‫َ‬
‫مجيعا يستحقون أن يكونوا ممن َدخل يف قوله عز وجل‪( :‬ولكن كونوا رِبنيني)‪ .‬فالرِبنيون‬
‫كانوا ً‬
‫عماد الناس يف الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا ‪.‬ولذلك قال جماهد‪ :‬وهم فوق‬
‫إ ًذا‪ :‬هم ُ‬
‫البصر ِبلسياسة‬
‫ا‬ ‫اجلامع إىل العلم والفقه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫األحبار هم العلماء‪ ،‬والرِبين‪:‬‬
‫َ‬ ‫األحبار‪ ،‬ألن‬
‫والتدبي والقيام أبمور الرعية‪ ،‬وما يصلحهم يف ُدنياهم ودينهم"‪.11‬‬

‫ولألسف‪ ،‬فهذه املعاين اجلليلة‪ :‬الدعوية الرتبوية‪ ،‬اإلصالحية القيادية‪ ،‬السياسية‬


‫املضمنة يف لفظ "الرابنيني"‪ ،‬قد ضمرت وانطمست‪ ،‬وانقلبت إىل ضدها‪ ،‬سواء‬
‫االجتماعية‪َّ ،‬‬
‫عند عامة املسلمني أو خاصتهم‪ ،‬فأصبح "العامل الرابين" يف مفهومهم هو ذلك املنقطع لكتبه‬
‫ودروسه وكراريسه‪ ،‬العاكف على أوراده وصيامه وقيامه‪ ،‬املتفرغ خلويصة نفسه‪ ،‬ال يريد أن يرى‬

‫‪ 11‬تفسري الطربي ‪544 -543/6‬‬


‫‪20‬‬
‫وصف ‪":‬وكان منقطعا عن الناس" مفخرة ومنقبة تُتَوج هبا‬
‫ُ‬ ‫العامة وال أن يروه‪ ..‬حىت صار‬
‫تراجم بعض العلماء "الرابنيني"‪.12‬‬

‫قال العالمة املؤرخ طاش كربي زادة رحه هللا يف ترمجته ألحد العلماء‪ ..." :‬العالِم‬
‫الفاضل الكامل املوىل …وكان فاضال حمققا‪ ،‬منقطعا عن الناس ِبلكلية‪ ،‬مشتغال ِبلدرس‬
‫والعبادة‪ .‬وكان انقطاعه مبرتبة َّل يقدر على احلضور يف اجملالس‪ ،‬وحشةً من الناس واستحياء‬
‫‪13‬‬
‫منهم ‪.‬وِبجلملة كان عاملا رِبنيا مباركا"‬

‫ومن الواضح أن هذه احلالة – وهي جمرد عينة – تبدو أقرب إىل الرهبانية منها إىل‬
‫الرابنية‪.‬‬

‫‪ 12‬على سببيل املثال‪ :‬ورد هذا الوصف ‪ -‬وهبذا اللفظ فقط – َثان عشرة مرة‪ ،‬يف كتاب (الشقائق النعمانية يف تراجم‬
‫علماء الدولة العثمانية) لطاش كربي زادة‪.‬‬
‫‪ 13‬الشقائق النعمانية‪ ،‬ص‪351‬‬
‫‪21‬‬
22
‫ن‬ ‫ب‬ ‫م‬‫إل‬
‫ث‬
‫ث ال ا ى‪:‬‬‫ح‬

‫العلماء بين الصلاح والقساد‬

‫أن يكون العلماء متَّقني صاحلني‪ ،‬رابنيني مصلحني‪ ،‬فهذا هو األصل فيهم والالئق‬
‫اَّللَ ِم ْن ِعبَ ِادهِ الْعُلَ َماءُ} [فاطر‪ .]28 :‬وهم أحق من‬ ‫ِبقامهم‪ ،‬كما قال تعاىل‪{ :‬إَِّمنَا َخيْ َشى َّ‬
‫َح ًدا إَِّال َّ‬
‫اَّللَ َوَك َفى‬ ‫ت َِّ‬ ‫يقول احلق ويقوم ابحلق‪{ ،‬الَّ ِذين ي ب لِغُو َن ِرس َاال ِ‬
‫اَّلل َوَخيْ َش ْونَهُ َوَال َخيْ َش ْو َن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬
‫{وَال َخيَافُو َن لَ ْوَمةَ َالئٍِم} [املائدة‪.]54 :‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اب ََّّلل َحسيبًا} [األحزاب‪َ ،]39 :‬‬
‫وقد تقدم حديث أيب الدرداء رضي هللا عنه‪ ،‬عن مكانة العلماء‪ ،‬وفيه "وإن فضل العامل‬
‫على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب‪"...‬‬
‫ولكن هذه احلالة ِ‬
‫املشرفة وهذه الصورة املشرقة‪ ،‬ال تتحقق جلميع العلماء‪ ،‬وإذا حتققت‬
‫قد ال تدوم‪ ..‬فالعلماء أيضا معرضون للتقصري والتفريط‪ ،‬ولالنزالق واالحنراف‪ ..‬ووقوع بعض‬
‫العلماء يف أشكال من الفساد واخلروج عن اجلادة‪ ،‬اثبت يف التاريخ‪ ،‬مثلما هو اثبت يف‬
‫النصوص‪ ،‬كما سيأيت‪..‬‬

‫‪23‬‬
‫األمراء والعلماء أكرب سبب للصالح العام والفساد العام‬

‫من املألوف يف تراثنا اإلسالمي اجلمع بني العلماء واألمراء‪ ،‬ابعتبارهم يف اجلملة هم‬
‫مصدر الصالح العام إذا صلحوا‪ ،‬وهم مصدر الفساد العام إذا فسدوا‪ .‬وملا كان قيام اإلسالم‬
‫بطائفتَِي العلماء واألمراء‪ ،‬وكان عامة الناس هلم تَبَعا‪ ،‬كان صالح العامل بصالح هاتني‬
‫الطائفتني‪ ،‬وفساده بفسادمها‪.‬‬

‫عن ابن عباس‪ ،‬عن النب صلى هللا عليه وسلم قال‪( :‬صنفان من أميت إذا صلحا‬
‫صلحت األمة‪ ،‬وإذا فسدا فسدت األمة‪ :‬السلطان والعلماء)‪.‬‬

‫ويف رواية أخرى عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬صنفان من أميت إذا‬
‫‪14‬‬
‫صلحا صلح الناس‪ :‬األمراء والفقهاء"‬

‫وعن عبد هللا بن املبارك وغريه من السلف‪ :‬صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس‪،‬‬
‫وإذا فسدا فسد الناس‪ .‬قيل من هم؟ قال‪ :‬امللوك والعلماء‪.‬‬

‫وقال ابن املبارك‪:‬‬


‫رأيت الذنوب متيت القلوب … وقد يوِرث َّ‬
‫الذل إدما ُهنا‬

‫وترك الذنوب حياة القلوب … وخريٌ لنفسك عصيا ُهنا‬


‫ُ‬
‫الدين إال امللوك … وأحبار س وء ورهبانُها‪.‬‬
‫وهل أفسد َ‬
‫فامللوك (أي رؤساء الدول) إذا فسدوا‪ ،‬فسدت حاشيتهم وأتباعهم وأعواهنم‪ ،‬وبذلك تفسد‬
‫مؤسسات الدولة ووظائفها‪ .‬مث ميتد ذلك إىل عموم اجملتمع‪ ،‬ألن أهل الفساد يتشجعون وجيدون‬
‫هلم أسوة وسندا‪ .‬والعكس ابلعكس متاما‪ ..‬ومن هنا قيل‪" :‬الناس على دين ملوكهم"‪.‬‬

‫‪ 14‬جامع بيان العلم وفضله ‪641 /‬‬

‫‪24‬‬
‫وكذلك إذا فسد العلماء أو صلحوا‪ ،‬تبعهم عامة الناس يف صالحهم أو فسادهم؛ إذ منهم‬
‫يَستقون وهبم ي قتدون‪ .‬مث ينعكس ذلك – مرة أخرى ‪-‬على عمال الدولة وأعواهنا ومؤسساهتا‪..‬‬
‫َّخن يكون من األمراء‪ .‬وال يزال حال الناس خبري ما صلحت هلم‬
‫قال أبو حفص الداودي‪" :‬الد َ‬
‫ُهداهتم وهم العلماء‪ ،‬وأئمتهم وهم األمراء"‪.15‬‬

‫ورغم أن كل فرد فرد‪ ،‬مسؤول وحماسب – بصفته الفردية – على عمله وسلوكه وما‬
‫قد يعرتيه من خلل وفساد‪ ،‬فإن املسؤولية العامة والكربى تبقى على األمراء والعلماء‪ ،‬ملكانتهم‬
‫يسنون‪ ،‬وغريهم يستنون هبم‪ ،‬ويستدلون هبم‪ .‬ويف الصحيح‪ :‬قال رسول‬
‫القيادية يف اجملتمع‪ .‬فهم ُ‬
‫هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪َ ( -‬من سن يف اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل هبا‬
‫بعده‪ ،‬من غري أن ينقص من أجورهم شيء‪ .‬ومن سن يف اإلسالم سنة سيئة كان عليه وزرها‬
‫ووزر من عمل هبا من بعده‪ ،‬من غري أن ينقص من أوزارهم شيء)‪.‬‬

‫ويف صحيح البخاري عن قيس بن أيب حازم قال‪ :‬دخل أبو بكر على امرأة ِمن أحس‬
‫يقال هلا زينب‪ ،‬فرآها ال تكلم‪ ،‬فقال‪ :‬ما هلا ال تكلم؟ قالوا حجت ُمصمتة‪ .‬قال هلا‪ :‬تكلمي‬
‫فإن هذا ال حيل‪ ،‬هذا من عمل اجلاهلية‪ .‬فتكلمت فقالت‪ :‬من أنت؟ قال امرؤ من املهاجرين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أي املهاجرين؟ قال من قريش‪ .‬قالت‪ :‬من أي قريش أنت؟ قال‪ِ :‬‬
‫إنك لسئول! أان أبو‬
‫بكر‪ .‬قالت‪ :‬ما بقاؤان على هذا األمر الصاحل الذي جاء هللا به بعد اجلاهلية؟ قال‪ :‬بقاؤكم‬
‫عليه ما استقامت بكم أئمتكم‪ .‬قالت وما األئمة؟ قال‪ :‬أما كان لقومك رءوس وأشراف‬
‫أيمروهنم فيطيعوهنم؟ قالت بلى‪ .‬قال‪ :‬فهم أولئك على الناس‪.‬‬

‫‪ 15‬نقله سراج الدين ابن امللقن‪ :‬التوضيح لشرح اجلامع الصحيح ‪341 /32‬‬

‫‪25‬‬
‫عالقة العلماء ِبألمراء الفاسدين‬

‫ت فيما سبق أن طائفيت العلماء واألمراء تشكالن املنبع األول لصالح أحوال األمة‬
‫ذكر ُ‬
‫أو فسادها‪ ،‬وأن صالح إحدى الطائفتني يقوي صالح األخرى وحيفظه‪ ،‬ولذلك فتحالفهما‬
‫وتعاوهنما على الصالح واإلصالح يعدان من أوجب الواجبات عليهما‪ ،‬ألجل حتقيق الصالح‬
‫العام وحفظه‪.‬‬

‫لكن السؤال هو‪ :‬حني يكون احلاكم فاسدا مفسدا‪ ،‬هل للعلماء أن يضعوا أيديهم يف‬
‫يده ويتعاونوا معه‪ ،‬أم يبتعدون عنه وأيخذون مسافة منه‪..‬؟‬

‫الدخول على السالطني واألمراء الظالمة وخمالطتُهم؟‬

‫هذه مسألة شغلت علماءان كثريا‪ ،‬منذ عصر الصحابة والتابعني‪ ..‬وقد احتدم اخلالف‬
‫فيها واحتد النقاش حوهلا‪ ،‬خاصة بعد أن كثر احلديث عن احلكام الظلمة وأمراء اجلور‪..‬‬
‫ومذلة‬
‫وم جالسهم‪ ،‬هو جمرد فتنة َ‬
‫والسؤال فيها هو‪ :‬هل دخول العلماء إىل قصور هؤالء األمراء َ‬
‫ٍ‬
‫رخيصة للظاملني ولظلمهم؟ أم هو أمر ال بد منه‪ ،‬ألجل‬ ‫ٍ‬
‫خدمة‬ ‫للعامل ولدينه وعلمه‪ ،‬وجمرد‬
‫النصح واإلرشاد والسعي ابإلصالح؟‬

‫املوقف األول هو ما روي عن الصحايب عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪ ،‬أنه قال‪:‬‬
‫"إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه‪ ،‬فيخرج وال دين له‪ .‬قيل له‪ :‬ول َم؟ قال‪ :‬ألنه يرضيه‬
‫بسخط هللا"‪16‬؟ ومثله‪ :‬قيل لعلقمة‪ :‬أال تدخل على السلطان فتنتفع؟ قال‪ :‬إين ال أصيب من‬
‫دنياهم شيئا إال أصابوا من ديين مثله"‪.17‬‬

‫‪ 16‬حشد اإلمام الغزاِل يف اإلحياء آاثرا كثرية تصب يف هذا االجتاه‪..‬‬


‫‪ 17‬النصيحة للراعي والرعية‪ ،‬للتربيزي ص‪134 :‬‬

‫‪26‬‬
‫واملوقف الثاين يتمثل فيما ورد عن اإلمام مالك أنه قيل له‪ :‬إنك تدخل على السلطان‬
‫وهم يظلمون وجيورون!؟ فقال‪« :‬يرحك هللا‪ ،‬فأين التكلم ابحلق؟"‪.18‬‬

‫ومن العلماء الذين ابلغوا يف العناية ِبسألة التعامل مع السالطني والوالة‪ ،‬وتشددوا‬
‫اإلمام أبو حامد الغزاِل‪ .‬وقد كتب يف (اإلحياء) اباب مطوال‪" :‬فيما حيل من خمالطة‬
‫ُ‬ ‫فيها‪:‬‬
‫الدخول عليهم واإلكرِام هلم"‪ ،‬قال يف‬ ‫ِ‬
‫غشيان جمالسهم و ِ‬ ‫كم‬
‫وح ُ‬
‫السالطني الظلمة وما حيرم‪ُ ،‬‬
‫أوله‪:‬‬

‫"اعلم أن لك مع األمراء والعمال الظلمة ثالثة أحوال‪:‬‬

‫‪ -‬احلالة األوىل‪ ،‬وهي شرها‪ :‬أن تدخل عليهم‪،‬‬


‫‪ -‬والثانية‪ ،‬وهي دوهنا‪ :‬أن يدخلوا عليك‪،‬‬
‫‪ -‬والثالثة‪ ،‬وهي األسلم‪ :‬أن تعتزل عنهم‪ ،‬فال تراهم وال يرونك"‪.19‬‬

‫ولإلمام الشوكاين رحه هللا رسالة يف املوضوع مساها (رفع األساطني يف حكم اَّلتصال‬

‫ِبلسالطني)‪ ،‬نصر فيها القول ِبشروعية التعامل والتعاون مع احلكام‪ ،‬ولو كانوا ظلمة فاسدين‪..‬‬

‫وخالصتها يف قوله رحه هللا‪" :‬وما زال عمل املسلمني على هذا منذ قامت امللة اإلسالمية إىل‬

‫اآلن‪ ،‬مع كل ملك من امللوك؛ فجماعةٌ يلُون هلم القضاء‪ ،‬ومجاعة يلون هلم اإلفتاء‪ ،‬ومجاعة‬

‫يلون هلم على البالد اليت إليهم‪ ،‬ومجاعة يلون هلم إمارة اجليش‪ ،‬ومجاعة يُ ِ‬
‫درسون يف املدارس‬

‫املوضوعة لذلك‪ ،‬وغالب ِجراايهتم من بيت املال‪.‬‬

‫‪ 18‬جامع بيان العلم وفضله البن عبد الرب‬


‫‪19‬‬

‫‪27‬‬
‫جائر! قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن هذا املتصل هبم مل يتصل‬
‫فإن قلت‪ :‬قد يكون من امللوك من هو ظامل ٌ‬
‫هبم ليعينهم على ظلمهم وجورهم‪ ،‬بل ليقضي بني الناس حبكم هللا‪ ،‬أو يفيت حبكم هللا‪ ،‬أو يقبض‬

‫من الرعااي ما أوجبه هللا‪ ،‬أو جياهد من حيق جهاده‪ ،‬ويعادي من حتق عداوته‪ .‬فإن كان األمر‬

‫ك قد بلغ من الظلم إىل أعلى درجاته مل يكن على هؤالء من ظلمه شيء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫هكذا فلو كان املل ُ‬

‫بل إذا كان ألحدهم مدخل يف ختفيف الظلم‪ ،‬ولو أقل قليل أو أحقر حقري‪ ،‬كان مع ما هو‬

‫فيه من املنصب مأجوراً أبلغ األجر؛ ألنه قد صار مع منصبه يف حكم من يطلب احلق ويكره‬

‫الباطل‪ ،‬ويسعى ِبا تبلغ إليه طاقته يف دفعه‪ ،‬ومل يُِع ْنه على ظلمه‪ ،‬وَّل سعى يف تقرير ما هو‬

‫نفسه يف شيء من هذه األمور؛ فهو‬


‫عليه أو حتسينه‪ ،‬أو إيراد الشبه يف جتويزه‪ ،‬فإن أادخل ا‬
‫يف ِعداد الظالمة‪ ،‬وفريق اجلااورة‪ ،‬ومن مجلة اخلونة‪.‬‬

‫وليس كالمنا فيمن كان هكذا‪ ،‬إمنا كالمنا فيمن قام ِبا ُوكل إليه من األمر الديين‪ ،‬غري مشتغل‬
‫ٍ‬
‫ختويف من‬ ‫ِ‬
‫ختفيف ظلم‪ ،‬أو‬ ‫ِبا ُهم فيه‪ ،‬إال ما كان من أم ٍر ِبعروف‪ ،‬أو هني عن منكر‪ ،‬أو‬
‫عاقبته‪ ،‬أو وعظ فاعله ِبا قد يندفع فيه بعض شره"‪.20‬‬

‫وللشيخ العثيمني رحه هللا تعليقات على رسالة اإلمام الشوكاين رحه هللا‪ ،‬وافقه يف‬
‫توجهه القائل ابملشروعية اليت قد تصل إىل حد الوجوب‪ ،‬خاصة مع وجود فرص للنصح والنفع‬
‫لإلسالم واملسلمني‪.‬‬

‫ومن ذلك قوله‪" :‬وال شك أن اإلنسان إذا قال كلمة احلق إبخالص ستؤثر‪ ،‬وال أدل على‬
‫{ويْلَ ُك ْم َال تَ ْف َرتُوا‬
‫ذلك من قول موسى عليه الصالة والسالم حينما اجتمع السحرة‪ ،‬قال هلم‪َ :‬‬
‫اب َم ِن افْ ََرتى} [طه‪ .]61 :‬فماذا أَثرت هذه الكلمة؟‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫علَى َِّ ِ‬
‫اَّلل َكذ ًاب فَيُ ْسحتَ ُك ْم ب َع َذاب َوقَ ْد َخ َ‬ ‫َ‬

‫‪20‬رفع األساطني يف حكم االتصال ابلسالطني‪ ،‬ضمن كتاب‪ :‬الفتح الرابين من فتاوى اإلمام الشوكاين ‪4668 /9‬‬

‫‪28‬‬
‫قال تعاىل {فَتَ نَ َازعُوا أ َْمَرُه ْم بَْي نَ ُه ْم} [طه‪ .]62 :‬والفاء تدل على الرتتيب والتعقيب والسببية؛‬
‫أي ِبجرد ما قال هكذا تنازعوا أمرهم بينهم‪ ...‬فالواجب على اإلنسان أن يعمل ِبا فيه مصلحة‬
‫املسلمني‪ ،‬ويسأل هللا اهلداية للوالة الظلمة‪ .‬وهبذا نعرف خطأ من ينفرون من الوظائف يف‬
‫البالد اليت يكون والهتا غري مستقيمني على شرع هللا‪ ،‬إما من العلمانيني‪ ،‬أو من ِ‬
‫احملكمني‬
‫لألنظمة والقوانني املخالفة لشريعة هللا‪ .‬جيب علينا حنن أن ال نرتك ما فيه مصلحة لإلسالم‬
‫واملسلمني"‪.21‬‬

‫وأنقل فيما يلي واقعة منوذجية حية‪ ،‬جتسد وتوضح اخلالف القدمي الذي كان قائما ‪-‬‬
‫وجمالسهم… وقد أوردها‬ ‫قصورهم‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫وال يزال ‪ -‬حول دخول العلماء على األمراء‪ ،‬وغشيان هم َ‬
‫القاضي عياض يف ترمجته أليب بكر الباقالين‪ِ ،‬‬
‫إمام األشاعرة ولسان أهل السنة‪:‬‬

‫اخسرو بن بُويه الديلمي‪ ،‬حيب‬


‫عضد الدولة فَنَّ ُ‬
‫"قال أبو عبد هللا األزدي‪ ،‬وغريه‪ :‬كان امللك ُ‬
‫العلم والعلماء‪ .‬وكان جملسه حيتوي منهم على عدد عظيم يف كل فن‪ ،‬وأكثرهم الفقهاء‬
‫شر بن احلسني‪ ،‬معتزلياً‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واملتكلمون‪ .‬وكان يعقد هلم للمناظرة جمالس‪ .‬وكان قاضي قضاته‪ ،‬ب ُ‬
‫فقال ه عضد الدولة يوماً‪ :‬هذا اجمللس عامر ابلعلماء‪ ،‬إال أين ال أرى فيه عاقداً من أهل‬
‫اإلثبات واحلديث يناظر؟ فقال له قاضيه‪ :‬إمنا هم عامة‪ ،‬أصحاب تقليد ورواية‪ ،‬يروون اخلرب‬
‫وضده‪ ،‬ويعتقدوهنما مجيعاً‪ .‬وال أعرف منهم أحداً يقوم هبذا األمر‪ ،‬وإمنا أراد ذم القوم‪ ،‬مث أقبل‬
‫ميدح املعتزلة‪ .‬فقال له عضد الدولة‪ :‬حمال أن خيلو مذهب طبق األرض من انص ٍر‪ ،‬فانظر أي‬
‫موضع فيه مناظر‪ ،‬يُكتب فيه فيُجلب‪ .‬فلما عزم عليه قال القاضي‪ :‬أخربوين أن ابلبصرة شيخاً‬
‫وشاابً‪ ،‬الشيخ يعرف أبيب احلسن الباهلي – ويف رواية أبيب بكر بن جماهد – والشاب يعرف‬
‫اببن الباقالين‪ .‬فكتب امللك من حضرته يومئذ يشري اىل عامل البصرة‪ ،‬ليبعثهما‪ .‬وأطلق ماالً‬
‫لنفقتهما من طيب ماله‪ .‬فلما وصل الكتاب إليهما‪ ،‬قال الشيخ وبعض أصحابه‪ :‬هؤالء قوم‬
‫كفرة فسقة – ألن الديلم كانوا روافض – ال حيل لنا أن نطأ بساطهم‪ ،‬وليس غرض امللك من‬

‫‪ 21‬التعليق على رسالة رفع األساطني يف حكم االتصال ابلسالطني‪ ،‬ص‪13‬‬

‫‪29‬‬
‫هذا إال أن يقال إن جملسه مشتمل على أصحاب احملابر كلهم‪ ،‬ولو كان خالصاً هلل‪ ،‬لنهضت‪.‬‬
‫قال القاضي (يقصد الباقالين)‪ :‬فقلت له‪ :‬هكذا قال ابن كالب واحملاسب‪ ،‬ومن يف عصرهم‪:‬‬
‫إن املأمون فاسق‪ ،‬ال حنضر جملسه‪ ،‬حىت سيق أحد بن حنبل اىل طرسوس‪ ،‬وجرى عليه بعده‬
‫ما عُرف‪ .‬ولو انظروه لكفُّوه عن هذا األمر‪ ،‬وتبني هلم ما هم عليه ابحلجة‪ .‬وأنت أيضاً أيها‬
‫الشيخ تسلك سبيلهم‪ ،‬حىت جيري على الفقهاء ما جرى على أحد‪ ،‬ويقولوا خبلق القرآن‪ ،‬ونفي‬
‫الرؤية؟ وها أان خارج إن مل خترج‪ .‬فقال الشيخ‪ :‬أما إذا شرح هللا صدرك هلذا‪ ،‬فاخرج"‪.22‬‬

‫فهاهنا رأاين وتقديران خمتلفان يف املسألة ‪:‬‬

‫األول‪ :‬ميثله الشيخ اجلليل أبو احلسن الباهلي‪ ،‬وآخرون قبله‪ .‬ويرى أصحابه أن هؤالء‬
‫احلكام فسقة فاسدون‪ ،‬وال يريدون بدعوة العلماء وتقريبهم إال الدعاية ألنفسهم وتعز َيز‬
‫وحتسني صورهتم …ا‬
‫َ‬ ‫مشروعيتهم‬

‫الثاين‪ :‬ميثله تلميذه الشاب أبو بكر الباقالين‪ ،‬ويتبىن مبدأ احلضور الفاعل واملشاركة‬
‫اإلجيابية والتدافع مع املذاهب واألفكار املخالفة‪ ،‬وأن ذلك له أثره وفائدته امللموسة‪ ،‬خبالف‬
‫سياسة املقعد الفارغ‪ ،‬اليت ال أتيت بشيء‪ ،‬وال تزيد الطني إال بلة‪.‬‬

‫وخالصة مذاهب العلماء يف التعامل مع احلكام الفاسدين هي‪:‬‬

‫‪ -‬أن املانعني إمنا مينعون احتياطا وخوفا من وقوع التأثريات السلبية اليت قد ينجر إليها‬
‫العامل يف دينه وفتاويه ومواقفه‪..‬‬
‫‪ -‬وأن اجمليزين إمنا جييزون ذلك بشرط السالمة يف الدين واالحرتاز من الدخول يف‬
‫املفاسد واملظامل‪ ،‬مع حتقيق ما فيه مصلحة اإلسالم واملسلمني‪..‬‬

‫‪ 22‬ترتيب املدارك وتقريب املسالك ‪52 /7‬‬

‫‪30‬‬
‫قال الشوكاين‪" :‬فتقرر لك هبذا أن ال ُمداخل هلم (أي لألمراء) إذا مل يصدقهم يف كذهبم‪،‬‬

‫وال أعاهنم على ظلمهم‪ ،‬وال رضي‪ ،‬وال اتبع؛ فهو من رسول هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ورسول هللا‬

‫منه‪ .‬فكانت هذه مرتبة عالية‪ ،‬وفضيلة جليلة‪ ،‬فكيف إذا مجع بني عدم وقوع ذلك منه‪،‬‬

‫والسعي يف التخفيف أو املوعظة احلسنة"‪.‬‬

‫وأما من وقع يف هذه املظامل واملفاسد‪" ،‬فهو يف ِعداد الظَّلمة‪ ،‬وفريق اجلََورة‪ ،‬ومن مجلة‬

‫اخلونة"‪.‬‬

‫وما دام حديثنا عن العلماء‪ِ ،‬با أوتوه من علم ودين وعقل‪ ،‬وِبا يُفرتض فيهم من حسن‬

‫التقدير‪ ،‬فكل واحد يكون فقيه نفسه‪ ،‬فيما يستطيعه وما ال يستطيعه‪ ،‬وفيما ُختشى عواقبه وما‬

‫ال خوف منه‪ .‬ولنا عربة وهداية يف احلديث الذي خرجه اإلمام مسلم يف صحيحه‪ ،‬عن أىب ذر‬

‫قال‪ :‬قلت اي رسول هللا أال تستعملين؟ قال‪ :‬فضرب بيده على منكب مث قال‪ :‬اي أاب ذر‪ ،‬إنك‬

‫ضعيف‪ ،‬وإهنا أمانة‪ ،‬وإهنا يوم القيامة خزى وندامة‪ ،‬إال من أخذها حبقها وأدى الذى عليه‬

‫فيها‪.‬‬

‫مسألة نصيحة العلماء لألمراء‪ ،‬كيف تكون؟‬

‫ما زال الدفاع مستميتا عند بعض علماء العصر‪ ،‬حول تقدمي النصيحة لوِل األمر‪،‬‬
‫وأهنا جيب أن تكون سرا بينك وبينه‪ ،‬وأن اجلهر هبا فتنة ورايء وسوء أدب…‬

‫‪31‬‬
‫وما زال دعاة "النصيحة السرية" يعكفون على صورة واحدة‪ ،‬ساكنة ال تتغري وال‬
‫تتحرك‪ ،‬حيبسون عندها أنفسهم وأنفاسهم‪ ،‬وهي الواردة يف حديث ضعيف يقول‪" :‬من أراد‬
‫أن ينصح لسلطان أبمر‪ ،‬فال ي ِ‬
‫بد له عالنية‪ ،‬ولكن ليأخ ْذ بيده فيخلو به"‪.‬‬‫ُ‬
‫وبناء على هذه الرواية وعلى فهمهم هلا‪ ،‬فليس على العلماء أو غريهم من املسلمني‪،‬‬
‫إذا كان عندهم ما جيب أن يقال لوِل األمر‪ ،‬إال أن يزوروه يف بيته‪ ،‬ويكلموه على انفراد‪ ،‬أو‬
‫أحدهم بيده‬
‫أن ينتظروا فرصة اللقاء به‪ :‬يف املسجد‪ ،‬أو يف السوق‪ ،‬أو يف املطار‪ ،‬لكي أيخذ ُ‬
‫فمن أتتَّى له ذلك فقد أدى الذي عليه‪ ،‬ومن مل يتأت له ذلك‪ ،‬فقد‬
‫وخيلو به وينصحه…! َ‬
‫كفى هللا املؤمنني القتال!‬

‫عالقة العلماء ِبألمراء يف الواقع املعاصر‬

‫احلديث عن لعالقات واللقاءات املباشرة بني أشخاص العلماء والفقهاء‪ ،‬وأشخاص‬


‫السالطني واألمراء‪ ،‬أصبح اليوم تقريبا غري ذي موضوع‪..‬‬

‫ليد اليوم ‪ -‬هو عالقة أشخاص ِبؤسسات ومناصب‪،‬‬


‫فالسائد اليوم ‪ -‬وإن مل يكن و َ‬
‫أو عالقة مؤسسات ِبؤسسات ومناصب ِبناصب‪ ،‬بعض النظر عن األشخاص‪ .‬فقد تكون‬
‫العالقة الشخصية منعدمة أو شبه منعدمة‪ ،‬ولكن العالقة مع املؤسسات‪ ،‬أو بني املؤسسات‪،‬‬
‫فوِل األمر‪ ،‬أو األمري‪ ،‬أصبح اليوم‬
‫أو عرب املؤسسات‪ ،‬تكون على أشدها ويف أقصى درجاهتا‪ُّ .‬‬
‫يعرب عنه ابلدولة‪ ،‬أو احلكومة‪ ،‬أو احلزب احلاكم‪ ،‬ويتجسد يف شبكة من مؤسسات الدولة‬
‫وأجهزهتا‪ ،‬املركز ِية واحمللية‪ ،‬وهي ابملئات أو ابآلالف‪ .‬ويتجسد ُّ‬
‫وِل األمر كذلك يف مناصب‬
‫ذات صالحيات خمتلفة‪ .‬واملنصب جتد فيه اليوم فالان‪ ،‬وغدا جتد فيه فالان آخر‪ .‬ولكن‬ ‫ٍ‬
‫عديدة َ‬
‫املنصب هو املنصب‪ .‬فالعالِم ‪ -‬وغريه ‪ -‬إمنا يتعامل اليوم مع هذا الواقع؛ يتعامل مع دولة ممثلة‬
‫يف "نظام حاكم"‪ ،‬ويف مؤسسة حكومية‪ ،‬ويف سياسات وقوانني وبرامج‪ ،‬وجمسدة يف منصب‬
‫وزير‪ ،‬أو مستشار‪ ،‬أو مدير‪ ،‬أو رئيس‪ ،‬أو حمافظ‪ ،‬أو عميد ‪ ،‬أو ضابط‪...‬‬

‫‪32‬‬
‫اليوم‪ ،‬حني نتساءل ونتباحث ونتناقش‪ ،‬يف مسألة العالقة بني العامل واحلاكم‪ ،‬جيب أن‬
‫نستحضر هذا الواقع اجلديد‪ ،‬ال أن نستحضر عالقات وروابط ثنائية للشيخ الفالين ابألمري‬
‫الفالين‪ ،‬أو عالقةً لصاحب فضيلة أو مساحة‪ ،‬مع صاحب فخامة أو جاللة‪ ،‬وال عالقةَ السلطان‬
‫الفالين أبرابب احملابر والعمائم‪ .‬فهذه األمناط أصبحت اندرة ومتوارية‪ .‬ال جند اليوم حاكما‬
‫يزور عاملا‪ ،‬أو يدعوه إليه‪ ،‬مث يقول له‪ :‬حدثين‪ ،‬أو ِعظين‪ ،‬أو كيف تراين؟ وكيف ترى أعواين؟‬
‫وال جند أمراء أو سالطني يفتحون أبواب قصورهم للعلماء واملفكرين‪ ،‬ويدعوهنم للمناظرة‬
‫العلمية‪ ،‬أو للمشاورة السياسية‪ ،‬أو لطلب فتاوى فقهية‪ .‬نعم قد يدعوهنم اليوم ألغراض دعائية‬
‫أمام الكامريات ولبضع حلظات‪ ،‬وحىت هذا قلما يفعلونه‪ .‬ومنهم من ال يفعله أبدا‪ .‬وقبل سنوات‬
‫حدثين أحد العلماء الفضالء أن هيئة كبار العلماء عندهم‪ ،‬طلبت لقاء مع رئيس الدولة منذ‬
‫توليه منصبه‪ ،‬وظلت جتدد طلبها وتنتظر‪ ،‬ومل يستجب هلم إىل أن مات‪ .‬فهذا عن "كبار‬
‫العلماء"‪ ،‬وعن هيأهتم الرمسية‪ ،‬فكيف بغري كبارهم؟ وكيف أبفرادهم؟ ومع ذلك جند يف هذا‬
‫البلد نفسه َمن ألف كتااب حافال مساه (قطع املراء يف حكم الدخول على األمراء)‪ ،‬حشد‬
‫فيه كل ما أمكنه مجعُه من نصوص وأقاويل واستنباطات وردود‪ ،‬ليثبت بذلك كله جواز الدخول‬
‫على األمراء…‬

‫الدخول على السالطني واألمراء‪ ،‬أصبح اليوم دخوال إىل مؤسسات الدولة وتوابعها‪،‬‬
‫وليس دخوال على أشخاص األمراء‪ ،‬وأصبح حديثا مع الدولة أو عنها يف وسائل اإلعالم‬
‫والنشر‪ .‬والعالقة اليوم هي عالقة مع الدولة ومؤسساهتا وسياساهتا ومشاريعها‪ .‬والنقد والنصيحة‬
‫اليوم ال يتوجهان ابلضرورة إىل عني السلطان واألمري‪ ،‬بل يتوجهان إىل كياانت اعتبارية‬
‫ومؤسسات مجاعية وأشخاص غري معينني‪ .‬وأداءُ واجب النقد والنصح والتعبري والبيان‪ ،‬أصبح‬
‫له ألف طريق وطريق‪ .‬وأكثرها ال يتطلب ذلك "الدخول" املتنازع فيه‪ ،‬ملا له من خماطر وحماذير‪.‬‬

‫ويف ظل هذا التغري والتنوع‪ ،‬يبقى الثابت يف حق العامل‪ ،‬هو أن يكون حاضرا غري غائب‬
‫حرف جر‪ .‬وأن يكون انصحا أمينا‬
‫وال مغيَّب‪ ،‬وأن يكون متبوعا وفاعال مرفوعا‪ ،‬ال جمرورا وال َ‬
‫لوالة األمور ومؤسساهتم ومشاريعهم‪ ،‬سواء كان قريبا منهم أو بعيدا عنهم أو شريكا هلم‪ ،‬وسواء‬

‫‪33‬‬
‫كان معهم يف حالة وائم أو حالة خصام‪ .‬واجبه‪ :‬أن يبني وال يكتم‪ ،‬وأن يوضح وال يُبهم‪ ،‬وأال‬
‫حيرف وال ينحرف‪ ،‬بل يقول احلق وال خياف يف هللا لومة الئم‪ .‬فإن فعل ذبك فقد أدى أعظم‬
‫واجبات العلماء‪ ،‬وجنا من خماطر "إمارة السفهاء"‪.‬‬

‫فساد العلماء‪!..‬‬

‫تط ُّر ُق الفساد إىل العلماء‪ ،‬وشيوعُه يف صفوفهم‪ ،‬أم ٌر نبه عليه القرآن الكرمي كثريا‪،‬‬
‫موضوع حتذير وتشنيع من العلماء أنفسهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫وآاثر عديدة‪ .‬وكان على الدوام‬
‫أحاديث ٌ‬
‫ُ‬ ‫ووردت فيه‬
‫سلفا وخلفا…‬

‫واآلايت الواردة يف املوضوع‪ ،‬أكثرها تتحدث عن علماء بين إسرائيل وعن مظاهر من‬
‫فسادهم‪ ،‬أي تتحدث عن املاضي‪ .‬ولكن حديث القرآن عن املاضي‪ ،‬هو دوما حديث عن‬
‫َّاس َوَما يَ ْع ِقلُ َها إَِّال‬
‫ض ِرُهبَا لِلن ِ‬
‫ال نَ ْ‬ ‫{وتِْل َ‬
‫ك ْاأل َْمثَ ُ‬ ‫احلاضر واملستقبل‪ ،‬وخطاب للحاضر واملستقبل‪َ :‬‬
‫الْ َعالِ ُمو َن} [العنكبوت‪ .]43 :‬والقرآن الكرمي ال يذم أمرا وال حيذر منه‪ ،‬إال وهو واقع‪ ،‬أو‬
‫متوقع‪ ،‬أو حمتمل الوقوع…‬

‫وفيما يلي مجلة من تلكم اآلايت‪ ،‬وهي غنية عن التفسري ملن تدبرها‪ ،‬على األقل يف‬
‫داللتها اإلمجالية يف موضوعنا‪:‬‬
‫ِ‬ ‫الرْهب ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫صدُّو َن َع ْن َسبِ ِيل‬
‫َّاس ِابلْبَاط ِل َويَ ُ‬
‫ان لَيَأْ ُكلُو َن أ َْم َو َال الن ِ‬ ‫‪{ -‬إِ َّن َكث ًريا م َن ْاأل ْ‬
‫َحبَا ِر َو ُّ َ‬
‫هللا} [التوبة‪.]34 :‬‬
‫اب‬ ‫َّاس ِيف الْ ِكتَ ِ‬‫ات َوا ْهلَُدى ِم ْن بَ ْع ِد َما بَيَّنَّاهُ لِلن ِ‬‫‪{ -‬إِ َّن الَّ ِذين يكتُمو َن ما أَنْزلْنَا ِمن الْبيِنَ ِ‬
‫َ ُ َ َ َ َ‬
‫الال ِعنُو َن} [البقرة‪.]159 :‬‬ ‫اَّللُ َويَ ْل َعنُ ُه ُم َّ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫ك يَ ْل َعنُ ُه ُم َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ك َما‬ ‫اب َويَ ْش َرتُو َن بِِه ََثَنًا قَل ًيال أُولَئِ َ‬ ‫اَّلل ِمن الْ ِكتَ ِ‬
‫ين يكتُ ُمو َن َما أَنْ َزَل َُّ َ‬ ‫‪{ -‬إ َّن الذ َ‬
‫ب أَلِ ٌيم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّار َوَال يُ َكلِ ُم ُه ُم َّ‬
‫اَّللُ يَ ْوَم الْقيَ َامة َوَال يَُزكي ِه ْم َوَهلُْم َع َذا ٌ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهن ْم إَّال الن َ‬

‫‪34‬‬
‫ِ‬ ‫أُولَئِ َّ ِ‬
‫َص ََربُه ْم َعلَى النَّا ِر}‬ ‫اب ِابلْ َم ْغفَرةِ فَ َما أ ْ‬‫َّاللَةَ ِاب ْهلَُدى َوالْ َع َذ َ‬
‫ين ا ْش ََرتُوا الض َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َ‬
‫[البقرة‪]175 ،174 :‬‬
‫اَّللُ َعلَى بَ َش ٍر ِم ْن َش ْي ٍء قُ ْل َم ْن أَنْ َزَل‬ ‫اَّللَ َح َّق قَ ْد ِرِه إِ ْذ قَالُوا َما أَنْ َزَل َّ‬
‫{وَما قَ َد ُروا َّ‬
‫‪َ -‬‬
‫وهنَا َوُختْ ُفو َن‬
‫يس تُْب ُد َ‬ ‫َّاس َْجتعلُونَه قَر ِ‬
‫اط‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫الْ ِكتاب الَّ ِذي جاء بِِه موسى نُورا وه ًدى لِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ ً َُ‬ ‫َ َ‬
‫َكثِ ًريا} [األنعام‪.]91 :‬‬
‫ت والطَّاغُ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫وت َويَ ُقولُو َن‬ ‫ين أُوتُوا نَصيبًا م َن الْكتَاب يُ ْؤمنُو َن اب ْجلْب َ‬ ‫‪{ -‬أََملْ تَ َر إ َىل الذ َ‬
‫ين َآمنُوا َسبِ ًيال} [النساء‪]51 :‬‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َك َف ُروا َه ُؤَالء أ َْه َدى م َن الذ َ‬ ‫للَّذ َ‬
‫يدو َن أَ ْن تَ ِ‬
‫ضلُّوا‬ ‫صيبا ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َّاللَةَ َويُِر ُ‬
‫اب يَ ْش َرتُو َن الض َ‬ ‫ين أُوتُوا نَ ً َ‬ ‫‪{ -‬أََملْ تَ َر إ َىل الذ َ‬
‫يل} [النساء‪.]44 :‬‬ ‫َّ ِ‬
‫السب َ‬
‫حديث كعب بن عجرة رضي‬ ‫ومن األحاديث ِ‬
‫احملذرة للعلماء من ولوج أبواب الفساد‬
‫ُ‬
‫هللا عنه ‪ -‬الذي أخرجه الرتمذي يف اجلامع الصحيح‪ ،‬واإلمام أحد يف املسند ‪ -‬قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أعاذك هللاُ من إمارة السفهاء‪ .‬قال‪ :‬وما إمارة السفهاء؟ قال‪:‬‬
‫فمن صدقهم بكذهبم‪ ،‬وأعاهنم‬‫أمراء يكونون بعدي‪ ،‬ال يقتدون هبديي‪ ،‬وال يَست نُّون بسنيت‪َ ،‬‬
‫علي حوضي‪ .‬ومن مل يصدقهم‬ ‫على ظلمهم‪ ،‬فأولئك ليسوا مين ولست منهم‪ ،‬وال يَ ِردون َّ‬
‫بكذهبم‪ ،‬ومل يعنهم على ظلمهم‪ ،‬فأولئك مين وأان منهم‪ ،‬وس يَ ِردون َّ‬
‫علي حوضي)‪.‬‬

‫ص ُدق أكثر ما يصدق على العلماء؛‬ ‫واحلديث وإن كان عاما يف العلماء وغريهم‪ ،‬فإنه يَ ْ‬
‫فهم الذين يكون لدخوهلم على الظَّ لَمة معىن ومغزى‪ ،‬ويكون لتأييدهم هلم ولظلمهم وكذهبم‬
‫ِ‬
‫أثر ومردودية‪ ،‬يف التمكني للظلم والفساد‪ ،‬وإلباس ِهما َ‬
‫ثوب املشروعية واملصلحة العامة‪ ،‬زورا‬
‫وتلبيسا‪ .‬وقد ظل العلماء العاملون الصاحلون ‪ -‬سواء قلُّوا أو كثُروا ‪ -‬ظلوا دوما يتحدثون عن‬
‫العلمائي ‪ .‬وممن أطال وشدد يف هذا الباب‪ :‬اإلمام أبو‬‫االحنرافات واملفاسد اليت تصيب اجلسم ُ‬
‫حامد الغزاِل‪ ،‬الذي يرى "أن فساد الزمان ال سبب له إال كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين‬
‫أيكلون ما جيدون‪ ،‬وال مييزون بني احلالل واحلرام‪ .‬فتلحظهم أعني اجلهال ويستجرئون على‬

‫‪35‬‬
‫املعاصي ابستجرائهم‪ ،‬اقتداء هبم واقتفاء آلاثرهم‪ .‬ولذلك قيل‪ :‬ما فسدت الرعية إال بفساد‬
‫امللوك‪ ،‬وما فسدت امللوك إال بفساد العلماء"‪.23‬‬
‫ٍ‬
‫وعميقة‪ .‬والعلماء ُم َع َّوٌل عليهم كثريا يف‬ ‫إن األمة اإلسالمية تعاين من مشاكل عديدةٍ‬
‫َ‬
‫اإلصالح والنهوض‪ .‬وحىت ال يكون العلماء‪ ،‬أو ال يب َقوا‪ ،‬جزءا من املشكلة‪ ،‬بل يصبحون ‪-‬‬
‫فعال ‪ -‬جزءا من احلل ووسيلة من وسائله‪ ،‬ال بد من إصالح العلماء أوال؛ ففاقد الشيء ال‬
‫يعطيه‪ .‬وكما قيل قدميا‪:‬‬

‫امللح إ َذا املِْل ُح فَ َس ْد‬ ‫ِ‬


‫اي علماء الدي ِن اي م ْل َح البل ْد … َم ْن يُصلح َ‬

‫عدم السكوت عن فساد العلماء واحنرافاهتم‬

‫العلماء حىت وإن كانوا على ما يرام من الصالح والنزاهة واألمانة‪ ،‬فإهنم يب َقون عرضة‬
‫للتأثر ِبختلف املؤثرات والضغوط السلبية من حوهلم‪ ،‬فهم {بَ َشٌر ِمم َّْن َخلَ َق} [املائدة‪.]18 :‬‬

‫وألجل تعزيز صالحهم‪ ،‬وكبح استشراء الفساد يف صفوفهم‪ ،‬جيب إخضاعهم للنقد‬
‫والتنبيه عند كل فساد يظهر عليهم‪..‬‬

‫وليس املقصود هنا ما يقع فيه عموم الناس من عثرات وكبوات وزالت‪ ،‬فهذه تُعامل‬
‫ابلسرت والتغاضي والتماس العذر‪ .‬وقد حتتاج إىل نصيحة وتنبيه بشكل خاص وضمن العالقة‬
‫الشخصية العادية‪..‬‬

‫الفساد الذي يصبح ظاهرا وممتدا‪ ،‬ويصبح سلوكا متبعا لدى بعض‬ ‫ُ‬ ‫وإمنا املقصود‬
‫العلماء‪ ،‬قلُّوا أو كثروا‪ ..‬وقد تقدم الذكر والبيان ألنواع من الفساد واالحنراف اليت يقع فيها‬
‫بعض العلماء‪ .‬فهذه هي اليت ال ينبغي التغاضي عنها والتعايش معها ومع أصحاهبا‪ .‬واملكانة‬
‫العلمية هلؤالء ال تشفع هلم وال تعفيهم من النقد‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فمكانتهم هذه هي اليت‬

‫‪ 23‬إحياء علوم الدين ‪238 /2‬‬


‫‪36‬‬
‫وإظهار احنرافهم وحتريفهم وتفريطهم يف األمانة‪ ،‬وذلك‬
‫َ‬ ‫الرد عليهم‬
‫حتتم ‪ -‬أكثر ‪ -‬نقدهم و َّ‬
‫لكوهنم يف حمل القدوة واالتِباع‪ .‬وأسوتنا يف ذلك القرآن والسنة‪ ،‬اللذيْن شنعا على أنواع من‬
‫فساد العلماء وحذرا منها‪ ،‬ولو بدون تسمية األشخاص وتعيينهم‪ ،‬كما رأينا يف اآلايت‬
‫واألحاديث آنفا‪ ،‬وكما يف هذا الصنف الذي قال هللا تعاىل عنه‪{ :‬مثَل الَّ ِذين ُِ‬
‫حلُوا الت َّْوَراةَ ُمثَّ‬ ‫َ ُ َ‬
‫{واتْ ُل َعلَْي ِه ْم نَبَأَ‬ ‫ِ‬ ‫َمل َحي ِملُوها َكمثَ ِل ِْ‬
‫َس َف ًارا} [اجلمعة‪ ،]5 :‬وكما يف هذا النموذج‪َ :‬‬ ‫احل َما ِر َْحيم ُل أ ْ‬ ‫ْ ْ َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذي آتَي نَاه ِ‬
‫آايتنَا فَانْ َسلَ َخ مْن َها فَأَتْ بَ َعهُ الشَّْيطَا ُن فَ َكا َن م َن الْغَا ِو َ‬
‫ين َولَْو شْئ نَا لََرفَ ْعنَاهُ هبَا َولَكنَّهُ‬ ‫ْ ُ َ‬
‫ث أَو تَرتْكه ي ْله ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ث َذل َ‬ ‫ب إِ ْن َْحتم ْل َعلَْيه يَ ْل َه ْ ْ ْ ُ ُ َ َ‬ ‫ض واتَّبَ َع َهواهُ فَمثَلُهُ َكمثَ ِل الْ َك ْل ِ‬
‫َ َ َ‬
‫أْ ِ‬
‫َخلَ َد إ َىل ْاأل َْر ِ َ‬
‫ص لَ َعلَّ ُه ْم يَتَ َف َّك ُرون} [األعراف‪]176 ،175 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ص َ‬ ‫ص الْ َق َ‬‫ص ِ‬ ‫ين َك َّذبُوا ِِب َايتنَا فَاقْ ُ‬
‫َمثَ ُل الْ َق ْوم الذ َ‬
‫وعليه‪ ،‬جيب أن نفرق بني حرمة العلماء وأعراضهم ومكانتهم‪ ،‬وما جيب هلا من صون‬
‫واحرتام وحسن ظن‪ ،‬وبني االحنراف الظاهر‪ ،‬الذي يسيء إىل اإلسالم واملسلمني‪ ،‬ويلبِس على‬
‫املؤمنني‪.‬‬

‫يف "دولة املرابطني"‪ ،‬اليت حكمت جممل مشال أفريقيا وغرهبا واألندلس‪ ،‬كان للفقهاء‬
‫املالكية النفوذُ األعظم والكلمة العليا يف الدولة واجملتمع‪ ،‬مما جعل طائفة منهم يصابون أبمراض‬
‫فهب آخرون لنقدهم والتشنيع عليهم‪ ،‬حىت قيل يف ذمهم‪:‬‬
‫الرتف واجلشع والعلو‪َّ ،‬‬
‫لبستم انموسكم … كالذئب أدجل يف الظالم العات ِم‬
‫أهل الرايء ُ‬
‫َ‬
‫لكتم الدنيا ِبذهب مالك … وقسمتم األموال اببن القاس ِم‬
‫ف َم ُ‬
‫كبتم ُشهب البغال أبشهب … وأبَصب ٍغ‪24‬صبغت لكم يف العاِمل‬
‫ور ُ‬
‫ويف هذه احلقبة أيضا عاش الفقيه الزاهد أبو حممد عبد العزيز التونسي (ت ‪،)486‬‬
‫الذي كان يُد ِرس الفقه ِبراكش‪ ،‬فتخرج على يديه عدد ممن تولوا املناصب وحازوا املكاسب‪..‬‬
‫فلما رأى ما رأى من فسادهم وتكالبهم على الدنيا واهنماكهم فيها ابحلق والباطل‪ ،‬وأهنم إمنا‬

‫‪ 24‬ابن القاسم‪ ،‬وأشهب‪ ،‬وأصبغ‪ :‬من أصحاب اإلمام مالك‪ ،‬ومن كبار فقهاء مذهبه‪ .‬ومعىن كالم الناظم أن فقهاء زمانه‬
‫يستغلون هذه األمساء وأقواهلا‪ ،‬ويستغلون املذهب وفقهه‪ ،‬خلدمة مكاسبهم وتعزيز مناصبهم‪..‬‬
‫‪37‬‬
‫ينالون ذلك بفضل ما حصلوه من العلم‪ ،‬امتنع عن التدريس‪ ،‬وقال موضحا سبب امتناعه‪:‬‬
‫"صران بتعليمنا هلم‪ ،‬كبائع السالح من اللصوص"‪.25‬‬

‫املقصود أن مكانة العلماء ال ينبغي أن جتعلهم يف مأمن من النقد واحملاسبة‪ ،‬عند‬


‫احنرافهم وإضرارهم ابإلسالم واملسلمني‪ .‬جيب أن جنعل العامل حيس أن زمالءه يرقبون‪ ..‬وأن‬
‫عامة الناس يرصدون‪..‬‬

‫وأما إذا أحس أنه ليس عليه رقيب وال حسيب‪ ،‬فإن ذلك سيكون من دواعي الفساد‬
‫واالستبداد‪ ،‬إال من رحم هللا‪..‬‬

‫وقبل بضع سنني‪ ،‬أتيحت ِل جلسةُ مذاكرة مطولة مع أحد علماء مصر الفضالء‪،‬‬
‫وتنقل حديثنا – بتلقائية – من موضوع إىل موضوع‪ ،‬حىت كان املوضوع األخري الذي توقفنا‬
‫عنده أكثر من غريه‪ ،‬هو طرائف بعض األزهريني‪ ،‬ومناذج من مواقفهم وتصرفاهتم البعيدة كل‬
‫البعد عن األزهر ومكانته‪ ،‬وعن العلم وأهله‪ ،‬بل وعن اإلسالم وأخالقه وشريعته…‬

‫كانت البداية حبالة الشيخ (عج)‪ ،‬مث اهنمرت النماذج والوقائع وتشعبت‪ ،‬عموداي‬
‫وأفقيا…كان حمدثي يسرتسل يف سرد الوقائع والطرائف املضحكة املبكية‪ ،‬وكأنه حيفظ موسوعة‬
‫يف هذا املوضوع‪ ،‬وذلك لكثرة ما شهده بنفسه‪ ،‬وما مسعه من شيوخه وزمالئه وطالبه‪ .‬وكان‬
‫املعممني وتالعبهم ابلدين‬
‫كلما رأى دهشيت واستغرايب‪ ،‬زادين مناذج أخرى من فساد بعض َّ‬
‫والعلم… وفجأة استوقفتُه سائال‪ :‬على هذا األساس‪ ،‬أيهم أشد فسادا وضررا‪ :‬هؤالء األزهريون‬
‫املنحلون‪ ،‬أم ضباط اجليش املستبدون‪ ،‬الذين حيكمون مصر ويعيثون فيها فسادا وظلما منذ‬
‫أمد بعيد؟ وبدون أدىن تردد أو تريث قال‪ :‬بل هؤالء األزهريون أسوأ‪ ..‬قلت ‪ -‬وأان أكثر‬
‫استغرااب ودهشة ‪ : -‬كيف؟ قال‪ :‬ألن ضباط اجليش قد تتقلب عليهم الظروف‪ ،‬فيحاسبون‬
‫ويعاقبون ويعزلون‪ ،‬وقد يُسجنون أو يعدمون‪ ..‬أما هؤالء األزهريون الفاسدون‪ ،‬فال أحد‬

‫‪ 25‬التشوف إىل رجال التصوف البن الزايت ص ‪5- 92‬‬

‫‪38‬‬
‫حياسبهم‪ ،‬وال أحد يفضحهم‪ ،‬وال أحد يعاقبهم‪ ،‬وال أحد يكتب عنهم‪ .‬فهم موقرون َّ‬
‫حمصنون‪،‬‬
‫ال يُسألون عما يقولون وما يفعلون! فقط عليهم أن ميجدوا احلاكم وما يصدر عنه‪..‬‬

‫يذكر هنا أن العلماء ‪ -‬منذ القرن األول ‪ -‬أخذوا ِببدأ اجلرح والتعديل لرواة األحاديث‬
‫النبوية‪ ..‬فعلى الرغم من حترمي الغيبة وسوء الظن والتشهري ابلعصاة‪ ،‬فإن علماء احلديث قد‬
‫أجازوا كل ذلك وفعلوه يف حق الرواة‪ ،‬حاية للسنة النبوية من الدس والتحريف واخللط‪ ..‬فحفظ‬
‫الدين وحفظ السنة‪ ،‬مقدم على حفظ مسعة الرواة وأعراضهم وخصوصيات أحواهلم‪.‬‬

‫وحفظ ألفاظ السنة من الزايدة والنقص والتبديل‪ ..‬ليس أبوىل من حفظ معانيها‬
‫وأحكامها ‪ -‬وحفظ الدين عموما ‪ -‬من التالعب والتحريف والتشويه‪.‬‬

‫ومن روائع الفقه احلنفي ما تقرر فيه من وجوب "احلجر على املفيت املاجن"‪ .‬وال يشفع‬
‫له كونه "فقيها عاملا"‪ ..‬فحرمة الشرع أعلى وأوىل من حرمة فقيه ماجن‪.‬‬

‫والفقيه املاجن هو الذي يفيت ابحليل‪ ،‬ويفتح هبا األبواب ملن يريدون االنسالخ من‬
‫أحكام الدين ومقاصده‪ ،‬مع اإلبقاء على الشكليات والظواهر اخلادعة‪ ،‬ورفع الفتة "جيوز"!‬

‫وكثري من حكام املسلمني ال يتذكرون الفقهاء‪ ،‬وال يلتفتون إليهم‪ ،‬إال عند احتياجهم‬
‫إىل هذه اخلدمة ابلذات‪.‬‬

‫على أن "العلماء" ال ُم َّجان ال ينحصر ضررهم فيما حيرفونه ومييِعونه من أحكام ومعان‬
‫شرعية‪ ،‬بل ينعكس ضررهم على مكانة العلم والعلماء‪ ،‬فتصبح مكانةً مهزوزة متَّهمة عند‬
‫الناس‪ .‬فألجل هذا وجب التجريح والتسفيه ملن يتعمدون اإلساءة للشرع‪ ،‬وملقام العلم والعلماء‪.‬‬

‫‪39‬‬
40
‫ب‬ ‫م‬‫إل‬
‫حث الثالث‬

‫إصلاح سان العلماء‪..‬‬

‫من املعلوم أن مكانة العلماء وأتثريهم اليوم‪ ،‬قد تراجعا كثريا‪ ،‬يف ظل منط "الدولة‬
‫احلديثة" املفرتسة‪ ،‬ويف ظل التطورات واملؤثرات االجتماعية والثقافية والتعليمية واإلعالمية‬
‫والتكنولوجية املعاصرة‪ .‬ولكن أيضا مما ال شك فيه أن تقلص املكانة العُلمائية والتأثري العلمائي‬
‫يف هذا العصر‪ ،‬يرجع يف قدر كبري منه إىل حالة العلماء أنفسهم‪ ،‬وإىل التدين الذايت يف أهليتهم‬
‫ومصداقيتهم وفاعليتهم‪ .‬فالتشوف والسعي إىل استعادة العلماء ملكانتهم ورسالتهم‪ ،‬وإىل‬
‫تصدرهم للجهود واملبادرات اإلصالحية اإلسالمية يف جمتمعاهتم‪ ،‬وعلى صعيد األمة عموما‪..‬‬
‫كل ذلك منوط‪ ،‬بل مشروط‪ ،‬إبصالح أحواهلم وجتاوز أعطاهبم وعوائقهم الذاتية‪ .‬فاجلسم‬
‫اَّللَ َال يُغَِريُ َما بَِق ْوٍم َح َّىت يُغَِريُوا َما ِأبَنْ ُف ِس ِهم} [الرعد‪:‬‬
‫العُلمائي ليس استثناء من قاعدة {إِ َّن َّ‬
‫‪ .]11‬وكما قال الشاعر الزاهد أبو العتاهية‪:‬‬

‫َبع َد ما تُكابِ ُد‬


‫يهات ما أ َ‬
‫ِ‬
‫الناس وأنت فاس ُد …***… َه َ‬ ‫َ‬ ‫لن تُصلِ َح‬
‫وهنا حتضرين طُرفة مسعتها يف اجلزائر‪ ،‬وكثريا ما أستعريها وأستشهد هبا يف هذا السياق؛‬
‫وهي أن أحد العلماء اجلزائريني املعاصرين‪ ،‬كان يف وليمة‪ ،‬فلما أُتِ َي ابملاء والصابون‬
‫صاحب البيت مازحا معه‪:‬‬ ‫َ‬ ‫لغسل يديه‪ ،‬وجد قطعة الصابون ملطخة وسخة‪ ،‬فنادى‬
‫اي فالن‪ ،‬هذا الصابون حيتاج إىل صابون!‪..‬‬

‫العلماء هم الصابون‪ ،‬وهم صناع الصابون ألمتهم‪ .‬لكن كيف بنا إذا أصبحوا حباجة‬
‫إىل صابون ألنفسهم‪ ،‬أي أصبحوا حباجة إىل إصالح حالتهم وتنظيف هيئتهم؟!‬

‫‪41‬‬
‫الوحي الشريف يف أتهيل النب األكرم واملصلح األعظم‪ ،‬صلى هللا عليه‬
‫ُ‬ ‫حينما َش رع‬
‫وسلم‪ ،‬وضع على عاتقه عدة أوامر وتكاليف أولية‪ ،‬نقرأها يف مطالع سورة العلق‪ ،‬وسورة املزمل‪،‬‬
‫{وثِيَابَ َ‬
‫ك فَطَ ِه ْر َوالر ْجَز فَ ْاه ُج ْر} [املدثر‪،]5 ،4 :‬‬ ‫وسورة املدثر‪ .‬وكان من مجلتها قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫تنبيها على أن املصلح ال بد أن يعتين أوال ‪ -‬ودائما ‪ -‬إبصالح نفسه وتطهري ثيابه وما هو‬
‫متلبس به…‬

‫وإذن‪ ،‬فال غضاضة علينا وال لوم إن دعوان علماءان إىل العناية بتطهري ملبوساهتم‬
‫وحتسني هيئاهتم‪ ،‬وهجر آفاهتم‪ ،‬ومعاجلة أعطاهبم‪.‬‬

‫واجلسم العلمائي ‪ -‬فيما أرى ‪ -‬حيتاج إىل ثالثة أصناف من املداواة واإلصالح‪:‬‬

‫‪ -‬إصالح سلوكي أخالقي‪،‬‬


‫‪ -‬إصالح علمي جتديدي‪،‬‬
‫‪ -‬إصالح عملي حتديثي‪،‬‬

‫أما اإلصالح السلوكي األخالقي‪:‬‬

‫إصالح ما يعرتي بعض العلماء من احنرافات وانزالقات سلوكية ُخلقية‪ ،‬ال‬


‫ُ‬ ‫فاملراد به‬
‫تليق ِبقامهم‪.‬‬

‫وأييت يف طليعة هذا اجلانب‪ :‬انغماس بعضهم يف أجواء احلكام الفاسدين الظلمة‪،‬‬
‫وجماراتُهم هلم‪ ،‬وأتييدهم يف ظلمهم واحنرافهم‪ .‬وهذا ما حذر منه النب صلى هللا عليه وسلم يف‬
‫قوله لكعب ب ِن عُجرة‪( :‬أعاذك هللاُ من إمارة السفهاء‪ .‬قال‪ :‬وما إمارة السفهاء؟ قال‪ :‬أمراء‬
‫فمن صدقهم بكذهبم‪ ،‬وأعاهنم على‬
‫يكونون بعدي‪ ،‬ال يقتدون هبديي‪ ،‬وال يَست نُّون بسنيت‪َ ،‬‬
‫ظلمهم‪ ،‬فأولئك ليسوا مين ولست منهم…)‬

‫فهذه هي الورطة‪ ،‬أو الطامة‪ ،‬اليت يقع فيها بعض العلماء املخالطني والتابعني ألمراء‬
‫اجلور والفساد‪ :‬تصديقهم بكذهبم‪ ،‬وإعانتهم على ظلمهم‪ .‬مث أيخذون على ذلك أجرا وسحتا‪،‬‬
‫‪42‬‬
‫تتخمر به عقوهلم وتتورم به شهواهتم‪ .‬ويزداد األمر قبحا وإَثا حني يعمد بعضهم إىل حتريف‬
‫األحكام وتطويع النصوص الشرعية‪ ،‬حىت توافق هوى احلاكم ومصلحته وسياسته‪.‬‬

‫واالنغماس يف أجواء السلطة ومناصبها له من الضغط والتأثري على النفوس ما يصعب‬


‫مقاومته والسالمة منه ملن وقع فيه‪ .‬حىت لقد اعتربه ابن القيم نوعا من أنواع السكر والعربدة‪،‬‬
‫فقال‪" :‬وكذلك سكر السلطان والرائسة‪ ،‬فإن للرائسة سكرا وعربدة ال ختفى"‪.26‬‬

‫فالعامل احلريص على دينه‪ ،‬إذا كان إبزاء حالة كهذه‪ ،‬أو أي حالة أخرى فاسدة‪ ،‬جذابة‬
‫جارفة‪ ،‬ال يسعه إال أحد أمرين‪:‬‬

‫‪ -‬إما التعامل معها بشكل حمدود وحذر وصارم‪ ،‬حبيث ينفع وينتفع‪ ،‬وال يضر وال‬
‫يتضرر‪،‬‬
‫‪ -‬وإما االبتعاد عنها متاما‪ .‬وأرض هللا واسعة‪.‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ٍ ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين‬
‫ت لَنَا مثْ َل َما أُويتَ قَ ُارو ُن إنَّهُ لَ ُذو َحظ َعظيم َوقَ َال الذ َ‬
‫احلَيَا َة الدُّنْيَا َايلَْي َ‬ ‫ين يُِر ُ‬
‫يدو َن ْ‬ ‫{قَ َال الذ َ‬
‫الصابُِرو َن} [القصص‪:‬‬‫َّاها إَِّال َّ‬ ‫اَّلل خري لِمن آمن وع ِمل ِ‬ ‫أُوتُوا الْعِْلم وي لَ ُكم ثَو ِ‬
‫صاحلًا َوَال يُلَق َ‬ ‫اب َّ َ ٌْ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َْ ْ َ ُ‬
‫‪.]80 ،79‬‬

‫وهنا نستحضر ‪ -‬مرة أخرى ‪ -‬حديث أيب ذر رضي هللا عنه‪" :‬قال‪ :‬قلت اي رسول‬
‫هللا أال تستعملين؟ قال‪ :‬فضرب بيده على منكب مث قال‪ :‬اي أاب ذر‪ ،‬إنك ضعيف‪ ،‬وإهنا أمانة‪،‬‬
‫وإهنا يوم القيامة خزى وندامة‪ ،‬إال من أخذها حبقها وأدى الذي عليه فيها"‪.‬‬

‫أما االنغماس والتمادي فيه‪ ،‬دون تقدير للمخاطر‪ ،‬ودون اكرتاث ابلعواقب‪ ،‬فال بد‬
‫نفسه فاسدا مفسدا‪ ،‬مفتوان فاتنا‪ ،‬بل يصبح حجة للفاسدين واملفسدين‪..‬‬
‫أن جيعل العامل َ‬

‫‪ 26‬مدارج السالكني ‪314 /3‬‬

‫‪43‬‬
‫قال أبو الفرج ابن اجلوزي‪" :‬ومن تلبيس إبليس على الفقهاء خمالطتُهم األمراءَ‬
‫وترك اإلنكار عليهم مع القدرة على ذلك‪ .‬ورِبا رخصوا هلم فيما ال‬
‫والسالطني‪ ،‬ومداهنتهم‪ُ ،‬‬
‫الفساد لثالثة أوجه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫عرضا‪ ،‬فيقع بذلك‬
‫رخصة هلم فيه‪ ،‬لينالوا من دنياهم َ‬
‫علي الفقيه‪ ،‬وكيف ال أكون مصيبا‬
‫األول‪ :‬األمري‪ ،‬يقول‪ :‬لوال أين على صواب ألنكر َّ‬
‫وهو أيكل من ماِل‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬العامي‪ ،‬فإنه يقول‪ :‬ال أبس هبذا األمري وال ِباله وال أبفعاله‪ ،‬فإن فالان الفقيهَ‬
‫ال يربح عنده‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬الفقيه‪ ،‬فإنه يُفسد دينه بذلك"‪.27‬‬

‫صدها‬
‫ومن مسالك العالج النافع الناجع هلذه االنزالقات احملدقة ابلعلماء املخالطني‪َ :‬تر ُّ‬
‫طالب العلم واعيا هبا‬
‫والتلقيح ضدها يف أوقات مبكرة من مراحل تكوين العلماء‪ ،‬حىت ينشأ ُ‬
‫وأبخطارها‪ ،‬حمصنا منها ومن مصايدها‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬تضمني مواد الدراسة مادةً عن "أخالق العلم والعلماء"‪ ،‬تُقدم فيها مجلة‬
‫من األحكام واألخالق واآلداب األكثر اتصاال ابلعلم والعلماء ورسالتهم‪ ،‬مع تدريس مجلة من‬
‫الرتاجم و ِ‬
‫الس يَ ر للعلماء النموذجيني يف عفتهم نزاهتهم واستقامتهم واستقالليتهم وعزة نفوسهم‪..‬‬

‫وحىت خارج نطاق الدراسة والتدريس‪ ،‬على العلماء املصلحني أن يولوا عناية دائمة‬
‫ملوضوع أخالق العلم والعلماء‪ ،‬ومزالق العلم والعلماء‪..‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬العمل ‪ -‬ما أمكن ‪ -‬على توفري موارد وإمدادات مالية للعلماء وطالب‬
‫العلم‪ ،‬تغنيهم وحتفظ عليهم عزهتم وكرامتهم‪ ،‬وتضمن هلم عدم االفتقار إىل العطااي املشروطة‬
‫واهلدااي املسمومة‪..‬‬

‫‪ 27‬تلبيس إبليس ص ‪109‬‬

‫‪44‬‬
‫وأما اإلصالح العلمي التجديدي‪:‬‬

‫فالدعوة إليه تنبعث وتنطلق من الواقع الذي نعيشه ونعاين منه؛ وهو أن كثريا من‬
‫علمائنا ما زالوا يعيشون درجات متفاوتة من اجلمود والقصور واالجرتار‪ ،‬ومن عدم القدرة على‬
‫العصر احلديث‪ ،‬على كافة‬
‫ُ‬ ‫استيعاب التطورات والتغريات والتحدايت اليت أنتجها ورماان هبا‬
‫األصعدة‪ .‬وهي كلها تطورات ومستجدات تتطلب من علمائنا جتديدا عميقا يف ذواهتم‬
‫ومناهجهم‪ ،‬ومواجهة مكافئة للتحدايت احمليطة هبم‪ ،‬واجتهادا واسعا يف قضااي عصرهم‬
‫وحميطهم‪ ،‬وعدم االقتصار على ما أنتجه السابقون‪ ،‬وعدم املكوث يف املنايف التارخيية‪..‬‬

‫ومنذ قرن من الزمان‪ ،‬أو يزيد‪ ،‬تُطلق النداءات بعد النداءات‪ ،‬وتبذل اجلهود واحملاوالت‪،‬‬
‫ألجل حتقيق التجديد واإلصالح الفكري والعلمي والتعليمي‪ .‬وقد حتقق من ذلك الشيء‬
‫الكثري‪ ،‬ولكن ما بقي أيضا كثري أو أكثر‪..‬‬

‫فهذه اجلبهة اجلهادية؛ جبهة اإلصالح والتجديد واالجتهاد العلمي‪ ،‬جيب املرابطة فيها‪،‬‬
‫وخوض معاركها‪ ،‬واستكمال متطلباهتا‪.‬‬

‫وأان أحتسر حني أرى كثريا من السادة العلماء الفضالء يُقبلون على األنشطة اخلطابية‪،‬‬
‫والكلمات الوعظية‪ ،‬واملعارك االستعجالية‪ ،‬واملداخالت االرجتالية‪ ،‬ويتحمسون هلا‪ ،‬ويُبلون فيها‬
‫البالء احلسن‪ ،‬بينما األعمال العلمية‪ ،‬واملشاريع البحثية‪ ،‬والقضااي االجتهادية‪ ،‬واإلشكاالت‬
‫الفكرية‪ ،‬ال جتد شيئا من ذلك اإلقبال واحلماس!‬

‫إن الدعاة والوعاظ واخلطباء واملدرسني ُك ث ر‪ ،‬ولكن العلماء اجملتهدين‪ ،‬واملفكرين‬


‫املبدعني‪ ،‬والباحثني احملققني‪ ،‬والدارسني املتأنِني‪ ،‬هؤالء يندر أن جتدهم وجتد من يعول عليه‬
‫منهم‪ .‬فال بد من سد هذه الثغرة واملرابطة هبذا الثغر‪..‬‬

‫‪45‬‬
‫الع املي التحديثي‪:‬‬
‫وأما اإلصالح ا‬
‫فله َشبَ ه ِبا تقدم‪ ،‬ولكنه يتعلق خاصة بوسائل العمل وأساليبه‪ .‬فاستخدام األساليب‬
‫والوسائل احلديثة ما زال ضعيفا عند علمائنا‪ ،‬ويسريُ سريا بطيئا‪ ،‬وهو ما جيعل عطاءاهتم‬
‫ومن هم دوهنم من خمتلف‬
‫ومشاركاهتم وإنتاجاهتم ضعيفة‪ ،‬وحمدودةَ األثر‪ ،‬مقارنة مع غريهم َ‬
‫الفئات الفاعلة يف اجملتمعات املعاصرة‪..‬‬

‫ومما يؤسف له أننا جند ذوي األنشطة واملنتجات املفسدة واملضللة والساقطة والتافهة‪،‬‬
‫يصولون وجيولون‪ ،‬ويغزون امليادين واألسواق‪ ،‬ويتحكمون يف العقول واألذواق‪ ،‬بينما علماء‬
‫اإلسالم ودعاته أصواهتم‪ -‬إن هم تكلموا ‪ -‬خافتة مبحوحة‪ ،‬وهي تبقى يف مساحات ضيقة‬
‫حمبوسة‪.‬‬
‫حنن اليوم يف عامل ينجح فيه ويسيطر أصحاب الوسائل القوية واألساليب الفعالة‪ ،‬ولو كانت‬
‫ومقاصدهم اتفهة أو خسيسة‪ ،‬بينما يفشل أصحاب الوسائل العتيقة‬
‫ُ‬ ‫بضاعتهم فاسدة أو رديئة‬
‫واألساليب الضعيفة‪ ،‬ولو كانت بضاعتهم ممتازة ونفيسة‪.‬‬

‫وهكذا يصبح أصحاب احلق واخلري مهزومني مغلوبني على أمرهم‪ ،‬بينما أصحاب‬
‫الباطل يصولون وجيولون‪ ،‬ويسيطرون على ساحة املعركة‪ .‬وملثل هذه احلال كان سيدان عمر‬
‫وعجز الثقة"‪.‬‬
‫رضي هللا تعاىل عنه يدعو ويقول‪" :‬أشكو إىل هللا َجلَد الفاجر َ‬
‫أصحاب وسائل‬
‫َ‬ ‫أصحاب األفكار اجليدة‬
‫ُ‬ ‫ولذلك فمن الواجب األكيد أن يكون‬
‫أصحاب أساليب فعالة‪ ،‬وأدوات متطورة‪.‬‬
‫َ‬ ‫جيدة‪ ،‬و‬

‫ومن هنا أدعو السادة العلماء‪ ،‬وطلبة العلوم الشرعية‪ ،‬ومن يهتمون بشأهنم‪ ،‬إىل تنظيم‬
‫دورات وحلقات نقاشية متكررة للعلماء‪ ،‬ختصص لتحسيسهم وتوعيتهم أبمهية هذه القضية‬
‫وأبعادها وجوانبها التنظيمية والتواصلية والتكنولوجية‪ ،‬ولتدريبهم وترقيتهم يف اكتساب مهاراهتا‬
‫الضرورية‪ .‬بل املفروض أن تدرج وتدمج هذه القضية ومتطلباهتا التطبيقية يف صميم الربامج‬
‫الدراسية والربامج التكميلية لطالب التعليم الشرعي‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وآخر دعواان أن احلمد هلل رب العاملني‬

‫الدوحة يف ‪23‬صفر اخلي‪1443‬ه‪30/‬شتنرب‪2021‬م‬

‫‪47‬‬

You might also like