Professional Documents
Culture Documents
أمحد الريسوين
1
إهدإء:
س لع
إلى السادة اء إلإ لام؛
م
2
تقدمي
العلماء -يف كافة جماالهتم وختصصاهتم -هلم مكانتهم الرفيعة يف أقوامهم ويف
جمتمعاهتم ،وخاصة اجملتمعات املتحضرة .وبعض العلماء تتجاوز مكانتُهم دائرةَ بلداهنم وأممهم
لتصبح مكانةً عاملية ،عابرة حلدود املكان والزمان واالنتماءات القومية والدينية واملذهبية..
مث مكانة العلماء تزداد وترتفع حبسب اعتبارات عديدة؛ ذاتية واجتماعية وثقافية
ذات متيز وصدارة ورايدة.
طبقات العلماء َ
ُ وسياسية ..ولكن على العموم تبقى
وقد أابنت اجلائحة الوابئية "كوروان" ،اليت جتتاح العامل منذ مطلع العام امليالدي
( - )2020وحىت اآلن -عن مدى احلاجة إىل العلماء واخلرباء يف جماالت الطب والصحة
العامة واألوبئة والفريوسات وصناعة األمصال واألدوية والعلوم االجتماعية ،وأن شؤون الدول
واجملتمعات ال تُساس وال تُسري ابحلكام وحدهم ،وال ابلسياسيني أو العسكريني وحدهم .فإذا
انفرد السياسيون والعسكريون ابحلكم -دون العلماء واحلكماء -فقد خربت أو تكاد..
ويف العامل اإلسالمي -بصفة خاصة -قام علماء الدين ودعاته ومفكروه جبهود
وخدمات غاية يف األمهية ،يف حماصرة الوابء؛ بتوجيه الناس إىل السلوك الصحي العام ،والسلوك
الوقائي اخلاص ابألوبئة والطواعني ،وذلك انطالقا من املبادئ والتشريعات واآلداب املقررة يف
اإلسالم .وبفضل توعيتهم وتوجيهاهتم وفتاويهم رأينا املساجد ومجهورها ،وعموم املتدينني،
منوذجا حيتذى يف السلوك الصحي ،ويف االنضباط لالحرتازات الوقائية ،وذلك يف شىت أرجاء
العامل.
حديثي يف هذه الرسالة هو عن هذا الصنف من العلماء؛ أعين علماء الدين ،وحتديدا
علماءَ اإلسالم .هو حديث عنهم ،وحديث إليهم.
3
وسيكون بعون هللا تعاىل يف ثالثة مباحث:
ت
استاطا ْع ُ
ح اما ْ
ص اال ا {إِ ْن أُ ِري ُد إِاَّل ِْ
اإل ْ
وما تا وفِ ِيقي إِاَّل ِِب اِ
َّلل اعلاْي ِه تا واكل ُ ِ ِ
ْت اوإِلاْيه أُن ُ
يب} [هود]88 : ا اا ْ
4
5
ب مإل
حث إلإول:
يف العصر احلديث شاع القول والعمل بتقسيم سلطات احلكم إىل ثالث ُسلَط ،لكل
منها اختصاصاهتا واستقالليتها بذاهتا :السلطة التنفيذية ،والسلطة التشريعية ،والسلطة
القضائية .وهذا توزيع جيد ،مىت َوجد تطبيقا سليما؛ ألن من شأنه أن يقلل االستبداد
واالحتكار السياسي ،ومن تكدس األعباء واألثقال على كواهل أفراد معدودين..
أما يف اإلسالم فعندان سلطة أخرى هلا مكانتها وصالحياهتا ..وال أقول هي السلطة
الرابعة ،كما يقال عن الصحافة ،بل أقول :هي السلطة األوىل والسلطة العليا ،أال وهي سلطة
العلم والعلماء .لكن أن تكون هذه السلطة م َف َّعلة ،أو معطلة ،أو مكبلة ،فتلك قضية أخرى،
سيأيت التطرق إليها الحقا .لكن من الناحية الشرعية املبدئية ،فالعلماء سلطة حقيقية ،هلا
مكانتها الطليعية ،وهلا صالحياهتا القيادية.
والعلماء يف اإلسالم ،مع كوهنم سلطة علمية توجيهية قائمة بذاهتا ،فإهنم هم العمود
الفقري للسلطتني التشريعية والقضائية ،ملن تسنموا منهم مناصب اإلفتاء والقضاء.
وقبل تفصيل القول يف هذه املسألة وما يتصل هبا ،أود التأكيد أبن إعالء كلمة العلماء
وسلطتهم ،إمنا هو -يف أصله وحالته السوية -إعالء لكلمة العلم واملنطق والعقل والعقالنية؛
ألن ما حيكم حياة الناس ويتحكم فيها ال خيرج عن سلطتني أساسيتني مها :سلطة العلم والفكر،
أبعده عن اهلوى
أصح علم و ُ
وسلطة اهلوى واملزاج .والعلم نقيض اهلوى ،واهلوى نقيض العلم .و ُّ
ِ
املستضيئ بنوره. هو ما كان أصله واستمداده من الوحي املنزل ،ومن الفكر
6
احلديث عن "سلطة العلماء" يقتضي أوال حتديد معاين هاتني املفردتني :العلماء ،وسلطة
العلماء..
أما العلماء:
فاملراد هبم يف هذا السياق علماءُ الدين (اإلسالم) ،املؤمنون به ،املؤمتنون على سالمة
البدهي أن يكون هؤالء العلماء يف
حفظه وفهمه واالستنباط منه ،مع بيان ذلك للناس .ومن َ
مقدمة العاملني ابلدين ،السائرين على هديه وهنجه ،يف حياهتم ومواقفهم .فهذه هي احلالة
السوية للعلماء ..فالعلماء هم طليعة املتدينني واملستقيمني .فاحلديث اآلن عن هؤالء ومع
هؤالء..
يلج أحدهم يف غيه وهواه ،ويصبح ممن {يَ ُقولُو َن َما أما حني يشرد بعض العلماء ،أو ُّ
ِ َال ي ْفعلُو َن} ،ويتنكبون ما يعلمون ،فأولئك مثلهم { َكمثَ ِل ِْ
َس َف ًارا} [اجلمعة: احل َما ِر َْحيم ُل أ ْ َ َ ََ
.]5وسيأيت ذكر ذلك عند احلديث عن فساد العلماء..
7
غري أن هذه املكانة القيادية لعلماء الدين ،مل تبدأ مع اإلسالم ومع الرسالة احملمدية،
يل
بل هي مكانة قدمية قدم الدين والتدين .ذلك أن حفظ الدين نصا ومعىن وعمال ،وتنز َ
تعاليمه وأحكامه ومقاصده على الوقائع واألحوال ،أي حتقيق مناطاهتا نظراي وعمليا ،وكذلك
حل ما يُشكل ويلتبس على الناس من أمور دينهم ،ومعاجلةُ ما يظهر يف أفهامهم وأفعاهلم من
بدع واختالالت ..كل هذه وغريها أمور حتتاج إىل علم وفقه وختصص ،وإىل خربة وبصرية.
َّهوا ِيف ِ ِ ِ ٍِ ِ
فلذلك كان ال بد للدين من علماء الدين{ ،فَلَ ْوَال نَ َفَر م ْن ُك ِل ف ْرقَة مْن ُه ْم طَائ َفةٌ ليَ تَ َفق ُ
الدي ِن َولِيُ ْن ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َْحي َذ ُرو َن} [التوبة]122 :
ِ
وقد ميكن القول :إن أول ظهور للتخصص العلمي يف التاريخ البشري ،هو التخصص
يف "فقه الدين" ،وإن أول فئة من الدارسني املتخصصني هم علماء الدين ..وعنهم انبثق الساسة
واألطباء والفالسفة وغريهم من ذوي االختصاصات.
ويف آايت عديدة ذكر القرآن الكرمي علماء الدين يف األمم السابقة ،مقررا يف ذلك
1
لوجودهم وشرعيتهم ،ومؤكدا لرسالتهم وواجباهتم ،وحمذرا من بعض اآلفات اليت تعرتيهم..
ِ ِ َّ ِ ِ
ين
ور َْحي ُك ُم هبَا النَّبيُّو َن الذ َ -فمن ذلك قوله تعاىل{ :إِ َّان أَنْ َزلْنَا الت َّْوَراةَ ف َيها ُه ًدى َونُ ٌ
اَّللِ َوَكانُوا َعلَْي ِه استُ ْح ِفظُوا ِمن كِتَ ِ الرَّابنِيُّو َن و ْاأل ِ ِِ
اب َّ ْ َحبَ ُار ِبَا ْ َ ْ ادوا َو َّ َسلَ ُموا للَّذ َ
ين َه ُ أْ
اخ َش ْو ِن َوَال تَ ْش َرتُوا ِِب َايِيت ََثَنًا قَلِ ًيال َوَم ْن َملْ َْحي ُك ْم ِِبَا أَنْ َزَل
َّاس َو ْ ُش َه َداءَ فَ َال َختْ َش ُوا الن َ
ك ُه ُم الْ َكافُِرو َن} [املائدة]44 : اَّللُ فَأُولَئِ َ َّ
َّاس َوَال تَكْتُ ُمونَهُ اب لَتُبَ يِنُنَّهُ لِلن ِ ِ
ين أُوتُوا الْكتَ َ
اَّلل ِميث َ َّ ِ
اق الذ َ َخ َذ َُّ َ {وإِ ْذ أ َ
-وقوله عز وجلَ :
س َما يَ ْش َرتُو َن} [آل عمران]187 : ِِ ِ ِ ِِ
فَنَ بَ ُذوهُ َوَراءَ ظُ ُهوره ْم َوا ْش ََرتْوا به ََثَنًا قَل ًيال فَبْئ َ
ول َوَال نَِ ٍب إَِّال إِذَا َمتََّىن أَلْ َقى الشَّْيطَا ُن ِيف ك ِمن رس ٍ ِ ِ
{وَما أ َْر َس ْلنَا م ْن قَ ْبل َ ْ َ ُ -وقولهَ :
اَّللُ َعلِ ٌيم َح ِك ٌيم لِيَ ْج َع َل َما آايتِِه َو َّ اَّللُ َما يُْل ِقي الشَّْيطَا ُن ُمثَّ ُْحي ِك ُم َّ
اَّللُ َ أ ُْمنِيَّتِ ِه فَيَ ْن َس ُخ َّ
ني لَِفي ِِ
وهبُْم َوإِ َّن الظَّالم َ اسيَ ِة قُلُ ُ ي ْل ِقي الشَّيطَا ُن فِْت نَةً لِلَّ ِذين ِيف قُلُوهبِِم مرض والْ َق ِ
ْ ََ ٌ َ َ ْ ُ
املنزل،
وأهنم مستح َفظون مؤمتنون على الوحي َّ
وأهنم يُبينون حقائق الدين وال يكتموهنا،
فهذه الوظائف هي الرتمجة العملية لسلطة علماء الدين ،يف كل وقت وحني.
9
سلطة العلماء يف اإلسالم
مقرر ومستمر
ما تقدم ذكره عن العلماء يف األمم والشرائع السابقة كله -وأكثر منه َّ -
يف حق علماء اإلسالم .وقد ورد يف القرآن والسنة مزيد من التأكيد والتفصيل والتوضيح ،لرسالة
العلماء ولسلطتهم العلمية..
ويرى العالمة ابن عاشور أن طاعة األمراء إمنا تثبت هلم بتعيينهم وتوليتهم يف مناصبهم،
مث تزول بعزهلم .وأما طاعة العلماء فتثبت هلم بصفاهتم وأهليتهم الذاتية ،أي :بعلمهم وعدالتهم،
وليس بتولية أحد هلم .قال رحه هللا" :وملا أمر هللا بطاعة أوِل األمر ،علمنا أن أوِل األمر يف
2أعالم املوقعني10/1
10
نظر الشريعة طائفة معينة ،وهم قدوة األمة وأمناؤها .فعلمنا أن تلك الصفة تثبت هلم بطرق
شرعية؛ إذ أمور اإلسالم ال خترج عن الدائرة الشرعية .وطريق ثبوت هذه الصفة هلم :إما الوالية
املسندة إليهم من اخلليفة وحنوه ،أو من مجاعات املسلمني ،إذا مل يكن هلم سلطان .وإما صفات
حمل اقتداء األمة هبم ،وهي اإلسالم والعلم والعدالة .فأهل العلم العدول:
الكمال اليت جتعلهم َّ
من أويل األمر بذاهتم ،ألن صفة العلم ال حتتاج إىل والية ،بل هي صفة قائمة أبرابهبا الذين
اشتهروا بني األمة هبا ،لِ َما ُج رب من علمهم وإتقاهنم يف الفتوى والتعليم .قال مالك« :أولو
األمر :أهل القرآن والعلم» ،يعين أهل العلم ابلقرآن واالجتهاد .فأولو األمر هنا (يعين يف
الرسولِ ،من اخلليفة إىل واِل احلسبة ،ومن قواد اجليوش ،ومن فقهاء الصحابة
َ اآلية) هم َمن عدا
واجملتهدين ،إىل أهل العلم يف األزمنة املتأخرة".3
ونقل العالمة حممد رشيد رضا عن السيد مجال الدين األفغاين "أنه فكر يف هذه املسألة
من زمن بعيد ،فانتهى به الفكر إىل أن املراد أبوِل األمر :مجاعة أهل احلل والعقد من املسلمني؛
وهم األمراء واحلكام ،والعلماء ،ورؤساء اجلند ،وسائر الرؤساء والزعماء ،الذين يرجع إليهم
الناس يف احلاجات واملصاحل العامة.4"...
وهكذا جند أن العلماء يتصدرون أوِل األمر الذين أمر هللا تعاىل بطاعتهم ،فهم أَْوىل
الناس ابلطاعة واالتباع .وحىت إذا مل يكن للعلماء سلطة مادية ،سياسية وقضائية ،فلهم سلطة
علمية ومعنوية على جوانب واسعة من حياة الناس ،ما ظهر منها وما بطن..
ولإلمام ابن تيمية ملحظ عميق يف سلطة كل من احلاكم والعامل ،وموقع كل منهما
من اآلخر ،مفاده أن احلكم الرشيد السديد هو الذي يكون فيه األمراء اتبعني للعلماء ،ويكون
فيه صاحب السيف اتبعا لصاحب الكتاب ،وأن هذا هو الوضع الشرعي السوي ..قال رحه
هللا ..." :األمصار اليت ظهر فيها مذهب أهل املدينة يكون فيها من احلكم ابلعدل ما ليس
يف غريها ،من جعل صاحب احلرب متبعا لصاحب الكتاب ،ما ال يكون يف األمصار اليت
ناعم ونِ ْعم؛ أن يكون السيف اتبعا للكتاب والسنة ،ويكون صاحب السيف اتبعا
لصاحب العلم والفكر ،وأن تكون سلطة السياسيني والعسكريني اتبعة لسلطة العلماء
واخلرباء واملفكرين.
قال اإلمام أبو بكر اجلصاص" :قوله تعاىل{ :ولو ردوه إىل الرسول وإىل أوِل األمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ،قال احلسن وقتادة وابن أيب ليلى" :هم أهل العلم والفقه",
وقال السدي" :األمراء والوالة" .قال أبو بكر :جيوز أن يريد به الفريقني من أهل الفقه والوالة،
لوقوع االسم عليهم مجيعا .فإن قيل :أولوا األمر من ميلك األمر ابلوالية على الناس ،وليست
هذه صفة أهل العلم .قيل له :إن هللا تعاىل مل يقل (من ميلك األمر ابلوالية على الناس) .وجائز
قبول قوهلم فيها،
غريهم ُ أن يسمى الفقهاء أوِل األمر ألهنم يعرفون أوامر هللا ونواهيه ،ويلزم َ
فجائز أن يسموا أوِل األمر من هذا الوجه ،كما قال يف آية أخرى{ :ليتفقهوا يف الدين ولينذروا
احلذر إبنذارهم ،وألزم املن َذرين
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم حيذرون} [التوبة ،]122 :فأوجب َ
12
يسم ْون بذلك
قبول قوهلم ،فجاز من أجل ذلك إطالق اسم أوِل األمر عليهم; واألمراء أيضا َّ
َ
لنفاذ أمورهم على من يلون عليه".6
وسواء قلنا :إن أوِل األمر الذين تلزمنا طاعتهم يدخل فيهم العلماء واألمراء معا ،أو
قلنا :هم إما األمراء ،أو العلماء ،فإن اآلية الكرمية تكون قد مجعت لنا بني الطائفتني ،وجعلت
طاعة املسلمني دائرة بينهما .ونستطيع أن نقول :إن اآلية أمرت املسلمني بطاعة قادهتم
وزعمائهم الشرعيني ،سواء كانوا ذوي سلطة سياسية عُرفية ،أو ذوي سلطة علمية أخالقية.
وهؤالء مجيعا هم أئمة األمة وأئمة اجملتمع .ويف حديث اإلمام مسلم :عن متيم الداري ،أن النب
صلى هللا عليه وسلم قال« :الدين النصيحة» قلنا :ملن؟ قال« :هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة
املسلمني وعامتهم» .قال الشيخ حممد صاحل العثيمني" :األئمة مجع إمام ،واملراد ابإلمام :من
يُقتدي به ويُؤمتر أبمره .وينقسم إىل قسمني :إمامة يف الدين ،وإمامة يف السلطة.
قال".:وعموما :فأولو األمر ،أو األئمة ،هم أهل القول املسموع واملقام املتبوع".7
ويف صحيح البخاري ،عن قيس ابن أيب حازم قال :دخل أبو بكر على امرأة من أحس
ص ِمتة .قال هلا :تكلمي،
يقال هلا زينب ،فرآها ال تكلم فقال :ما هلا ال تكلم؟ قالوا :حجت ُم ْ
فإن هذا ال حيل ،هذا من عمل اجلاهلية .فتكلمت فقالت :من أنت؟ قال :امرؤ من املهاجرين.
قالت :أي املهاجرين؟ قال :من قريش .قالت :من أي قريش أنت؟ قال إنك لسؤول! أان أبو
بكر .قالت :ما بقاؤان على هذا األمر الصاحل الذي جاء هللا به بعد اجلاهلية؟ قال :بقاؤكم
عليه ما استقامت بكم أئمتكم .قالت :وما األئمة؟ قال :اأما كان لقومك رؤوس وأشراف
أيمروهنم فيطيعوهنم؟ قالت بلى .قال :فهم أولئك على الناس.
13
ومن السنة:
قال اإلمام البخاري يف كتاب العلم من صحيحه" :ابب العلم قبل القول والعمل ،لقول
هللا تعاىل{ :فاعلم أنه ال إله إال هللا} فبدأ ابلعلم ،وأن العلماء هم ورثة األنبياء ،ورثوا العلم،
من أخذه أخذ حبظ وافر .ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل هللا له طريقا إىل اجلنة .وقال
جل ذكره{ :إمنا خيشى هللاَ من عباده العلماءُ} ،وقال{ :وما يعقلها إال العاملون}{ ،وقالوا لو
كنا نسمع أو نعقل ما كنا يف أصحاب السعري} ،وقال {هل يستوي الذين يعلمون والذين ال
يعلمون} .وقال النب صلى هللا عليه وسلم :من يرد هللا به خريا يفهمه ،وإمنا العلم ابلتعلم.
وقال أبو ذر :لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إىل قفاه – مث ظننت أين أُنْفذ كلمة
علي ألنفذهتا .وقال ابن عباس{ :كونوا
مسعتها من النب صلى هللا عليه وسلم قبل أن جتيزوا َّ
رابنيني} ُحلماء فقهاء ،ويقال :الرابين الذي يريب الناس بصغار العلم قبل كباره".
قال احلافظ ابن حجر عن هذا احلديث" :أخرجه أبو داود والرتمذي وابن حبان واحلاكم
مصححا ،من حديث أيب الدرداء .وحسنه حزة الكناين ،وضعفه ابضطراب يف سنده ،لكن
له شواهد يتقوى هبا .ومل يفصح املصنف (أي البخاري) بكونه حديثا ،فلهذا ال يعد يف تعاليقه،
الكتاب
ا لكن إيراده له يف الرتمجة يشعر أبن له أصال .وشاهده يف القرآن قوله تعاىل( :مث أاورثنا
14
الذين اصطفينا من عبادان) .ومناسبته للرتمجة من جهة أن الوارث قائم مقام املوروث ،فله
حكمه فيما قام مقامه فيه .قولهَّ :
ورثوا بتشديد الراء املفتوحة ،أي األنبياء .ويروى بتخفيفها
األول ما عند الرتمذي وغريه فيه :وإن األنبياء مل يورثوا دينارا وال
مع الكسر أي العلماء ،ويؤيد َ
ورثوا العلم".8
درمها ،وإمنا َّ
ومن الواضح أن العلماء املقصودين يف هذا احلديث هم علماء الدين ،فقهاء القرآن
والسنة .فهم الذين تنطبق عليهم الصفات املذكورة :ورثة األنبياء ،توريث تركة األنبياء ،ورثوا
ورثه األنبياء ،ووِرثه عنهم العلماء ،هو الوحي وما دل عليه وما استُنبط منه.
العلم .فالعلم الذي َّ
فهذا هو الذي حيدد العلماءَ املعنيني يف احلديث.
تضمن احلديث بشارات شيقة ومقامات جليلة للعلماء ،ولكنها حتمل هلم يف طياهتا
تكليفا ثقيال ،يتمثل يف كوهنم ورثة األنبياء .وذلك "أن الوارث قائم مقام املوروث ،فله حكمه
فيما قام مقامه فيه" ،كما قال احلافظ ابن حجرِ .بعىن أن وظيفة العلماء هي نفسها وظيفة
األنبياء ،وأن ما كان عليه األنبياء هو ما جيب أن يكون عليه ورثتهم العلماء .وقد جاء يف
مسند البزار" :العلماء خلفاء األنبياء" .فالعلماء يَخلُفون األنبياء ويقومون مقامهم يف كل
شيء ،سوى العصمة والوحي اجلديد.
من املعلوم أن خصوصية األنبياء ومتيز وظائفهم عن غريهم ليست إبمياهنم واجتهادهم
يف العبادات وألعمال الصاحلات ،وليست يف كثرة الصيام والقيام ،فهذا عام ومتاح جلميع
املؤمنني .وإمنا ميزة العلماء وخصوصيتهم تتجسد أساسا يف كوهنم َح َملة رسالة ،مبعوثني
ومرسلني هبا إىل الناس ،عامتِهم وخاصتِهم ،يبلغوهنم إايها ،ويبينوهنا هلم ،ويقيموهنا فيهم..
ُ
قال هللا تعاىل مبينا واجبات األنبياء:
15
{اي أَيُّ َها الْ ُمدَّثُِر قُ ْم فَأَنْ ِذ ْر} [املدثر]2 ،1 : َ -
اص َد ْع ِِبَا تُ ْؤَم ُر} [احلجر]94 : {فَ ْ -
الرس ُ ِ
ت ِر َسالَتَه} ك َوإِ ْن َملْ تَ ْف َع ْل فَ َما بَلَّ ْغ َ ك ِم ْن َربِ َ ول بَل ْغ َما أُنْ ِزَل إِلَْي َ {اي أَيُّ َها َّ ُ
َ -
[املائدة]67 :
اجا اعيا إِ َىل َِّ ِِ ِِ ِ ِ ِ ِ {اي أَيُّها النَِّب إِ َّان أَرس ْلن َ ِ
اَّلل إب ْذنه َوسَر ً اك َشاه ًدا َوُمبَشًرا َونَذ ًيرا َوَد ً َ ُّ ْ َ َ -
ُمنِ ًريا} [األحزاب]46 ،45 :
آايتِِه ِ ِ اَّلل علَى الْمؤِمنِني إِ ْذ ب ع ِ
ث في ِه ْم َر ُس ًوال م ْن أَنْ ُفس ِه ْم يَْت لُو َعلَْي ِه ْم َ {لََق ْد َم َّن َُّ َ ُ ْ َ َ َ َ -
ض َال ٍل ُمبِ ٍ ِ ِ وي َزكِي ِهم وي علِمهم الْ ِكتَاب و ِْ
ني} [آل ْمةَ َوإِ ْن َكانُوا م ْن قَ ْب ُل لَفي َ احلك َ َ َ َُ ْ ََُ ُ ُ ُ
عمران]164 :
ص َريةٍ أ ََان َوَم ِن اتَّبَ َع ِين} [يوسف]108 : {قُل ه ِذهِ سبِيلِي أ َْدعو إِ َىل ا ََّّللِ علَى ب ِ -
َ َ ُ َْ َ
الر ُسل} [النساء: اَّللِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد ُّ
َّاس َعلَى َّ ين لِئَ َّال يَ ُكو َن لِلن ِ ِِ
ين َوُمْنذر َ
ِ
{ر ُس ًال ُمبَش ِر َ
ُ -
]165
ولْم ٍة ُمثَّ َجاءَ ُك ْم َر ُس ٌ ِ ِ ٍ ِ
ني لَ َما آتَ ْي تُ ُك ْم م ْن كتَاب َوحك َ اَّللُ ِميثَ َ
اق النَّبِيِ َ َخ َذ َّ {وإِ ْذ أ َ
َ -
ِ ِ ِ م ِ ِ
ص ِري قَالُوا َخ ْذ ُُْت َعلَى َذل ُك ْم إِ ْ صد ٌق ل َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤمنُ َّن بِه َولَتَ ْن ُ
ص ُرنَّهُ قَ َال أَأَقْ َرْرُُْت َوأ َ َُ
َّاه ِدين} [آل عمران]81 : أَقْ ررَان قَ َال فَا ْشه ُدوا وأ ََان مع ُكم ِمن الش ِ
َ َ ََ ْ َ َْ
َّاس َوَال تَكْتُ ُمونَهُ} [آل اب لَتُبَيِنُنَّهُ لِلن ِ ِ
ين أُوتُوا الْكتَ َ
اَّلل ِميث َ َّ ِ
اق الذ َ َخ َذ َُّ َ {وإِ ْذ أ َ
َ -
عمران]187 :
استَطَ ْعت} [هود.]88 :
ص َال َح َما ْ يد إَِّال ِْ
اإل ْ { -إِ ْن أُ ِر ُ
ت ِأل َْع ِد َل بَْي نَ ُك ُم} [الشورى]15 : ِ -
{وأُم ْر َُ
وخصوصيات منزلتهم..
ُ فهذه هي مجلة وظائف األنبياء
فاألنبياء طالئع الدعوة إىل هللا ِ
وشرعه وهداه،
ووقائع احلياة
ُ وكل هذه الوظائف يرثها العلماءُ عن األنبياء .وِبا أن الوحي قد توقف،
البشرية وتطوراهتا ال تتوقف ،فيكون من وظائف العلماء أيضا أهنم جيتهدون ويستنبطون ويُفتون
يف هذه املستجدات ،وفق الوحي الذي ورثوه ،ووفق قواعده ومقاصده.
واخلالصة :أن رسالة العلماء هي حل أمانة العلم الشرعي ،وأداء حقه ،ولزوم مقتضياته،
وبذل هذا العلم وبيانُه لكل مفتقر إليه ،طلبَه أو مل يطلبه..
ُ
أفضل من بث
َ ويف فضل هذه الوظيفة قال ابن املبارك" :وال أعلم بعد النبوة درجة
العلم".9
سره أن يكون من هؤالء العلماء الوارثني لألنبياء ،وأن يكون من أهل هذه املنزلة
فمن َّ
َ
وهذه املزية ،فلي َؤِد حقوقها؛ بوضع هذه الوظائف النبوية العُلمائية نصب عينيه ،واالخنراط يف
أدائها ما استطاع إىل ذلك سبيال.
17
العلماء واجملتمع..
العلماء اإلمامةَ والرايدة يف جمتمعاهتم يقتضي أن يكونوا حاضرين فيها ومعها ،وأن ِ توِل
ِ ِ ِ يكونوا منها وإليها{ .لََق ْد جاء ُكم رس ٌ ِ
ول م ْن أَنْ ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ
يص َعلَْي ُك ْم َ َ ْ َُ
وف َرِح ٌيم} [التوبة]128 : ِِ
ِابلْ ُم ْؤمن َ
ني َرءُ ٌ
ومن الصفات املشرتكة بني كافة أنبياء هللا ورسله ،صلوات هللا وسالمه عليهم أمجعني،
شائني يف األسواق) .وقد عاب مشركو العرب على خاُت الرسل واألنبياء كونَه (م ّأهنم كانوا ا
ول َأيْ ُك ُل الطَّ َع َام َوميَْ ِشي ِيف ْاألَ ْس َو ِاق}
الرس ِ ِ
{وقَالُوا َمال َه َذا َّ ُ
أيكل الطعام وميشي يف األسواقَ ،
ني ِ [الفرقان .]7 :فجاءهم الرد املفحم احلاسم بقوله سبحانه{ :وما أَرس ْلنَا قَب لَ َ ِ
ك م َن الْ ُم ْر َسل َ ََ ْ َ ْ
َس َو ِاق} [الفرقان.]20 : إَِّال إِ َّهنُْم لَيَأْ ُكلُو َن الطَّ َع َام َوميَْ ُشو َن ِيف ْاأل ْ
وكو ُن املرسلني ميشون يف األسواق يعين أهنم خيالطون الناس ،ويتواصلون معهم ،ويطَّلعون
على أحواهلم ،فيبلغوهنم ويرشدوهنم ،ويستمعون إليهم ويبينون هلم ..فمشيُهم يف األسواق هو
مشي الدعاة الناصحني املصلحني ،املندجمني يف واقعهم وزماهنم وأقوامهم .ومن مشائل خاُت
ُ
مشي
الرسل صلى هللا عليه وسلم أنه كان "جيالس املساكني وميشي يف األسواق" .وهبذا يكون ُ
األنبياء والرسل يف األسواق جزءا من هنجهم وأخالقهم ومتطلبات رسالتهم ووظيفتهم ،وليس
جملرد كسب املعاش أو إظهار التواضع .وهذا اثبت يف السرية النبوية ..ويؤكده ويوضحه ما جاء
يف بعض القراءات للفظ (وي مشون) ..قال ابن عطية" :وقرأ مجهور الناس «ويَ ْم ُشون» ،بفتح
الياء وسكون امليم وختفيف الشني ،وقرأ علي وعبد الرحن وابن مسعود« :يُ َمش َّْون» ،بضم الياء
دعون إىل املشي ويُ ْح املون عليه".10
وفتح امليم وشد الشني املفتوحةِ ،بعىن :يُ ا
وإذا كان مجيع األنبياء والرسل على هذا النحو وهذا النهج ،فال يبقى عذر ألحد من
(ورثة األنبياء) يف إيثار العزلة والتَّنائي عن املساكني وأهل األسواق ومجهور الناس.
18
والعجيب املؤسف هو أن بعض العلماء كلما زاد علمهم ومكانتهم ،زاد بعدهم عن
الناس وهجرهم ألسواقهم وجمالسهم وشؤوهنم ،بينما الواجب هو عكس ذلك .فاملفروض أن
العامل كلما ازداد علما ،أن يزداد قراب من صفة الرسل ومسلكهم يف خمالطة الناس ودخول
أسواقهم وارتياد جمامعهم ،سواء أكانوا صاحلني أو طاحلني ،موافقني أو خمالفني .فهذا وجه من
وجوه أدائهم لوظيفتهم الفاضلة وسلطتهم الناعمة.
قبل حنو عشرين عاما سألت صديقا ِل من علماء اجلزائر عن الرئيس اجلزائري "الشاذِل
بنجديد" وأين يعيش بعد اإلطاحة به؟ فقال :إنه يعيش يف مدينة وهران اليت هي مدينته .قلت:
وماذا يفعل؟ قال :أيكل الطعام وَّل ميشي يف األسواق!
وإذا كان الرئيس الراحل بنجديد – رحه هللا – قد أمضى سنوات من حياته أيكل
الطعام وال ميشي يف األسواق ،فألنه كان جمربا على ذلك ،وله أعذار أخرى ..أما بعض علمائنا
فيفعلون ذلك اختيارا وطواعية ،وهرواب من املسؤولية املنوطة هبم .بل يعتربون البعد عن عوام
الناس وأسواقهم وشؤوهنم مما حيفظ هلم هيبتهم وشرفهم وجاللة قدرهم ،وهلم يف ذلك عبارة قدمية
تقول" :اعتزال العامة مروءة اتمة" .فيا ليت شعري ما موقع األنبياء يف هذا ،وقد كانوا ميشون
يف األسواق وخيالطون العامة؟ هل كانت مروءهتم منقوصة أو مضيعة؟!
ما أكثر األوصاف الشرعية اجلليلةَ اليت قُلبت معانيها وحرفت عن مواضعها ..ومنها
صفة "العامل الرِبين ،والعلماء الرِبنيون" ،وهو وصف خيتزن يف ضمنه صفات عديدة ،تشري
إليها اآلايت الكرمية يف قوله تعاىل:
19
س َما َكانُوا
ت لَبْئ َ اإل ِْمث َوالْعُ ْد َو ِان َوأَ ْكلِ ِه ُم ُّ
الس ْح َ ِ وقوله عز وجل{ :وتَرى َكثِريا ِمْن ُه ْم يُسا ِرعُو َن ِيف ِْ
َ ً ََ
س َما َكانُوات لَبْئ َ اإل ْمثَ َوأَ ْكلِ ِه ُم ُّ
الس ْح َ ِ َحبَار َع ْن قَ ْوهلِِم ِْ
ُ
ي عملُو َن لَوَال ي ْن هاهم َّ ِ
الرَّابنيُّو َن َو ْاأل ْ ُ ْ َ َ ُُ َْ َ
صنَ عُو َن} [املائدة،]63 ،62 : يَ ْ
اب َوِِبَا ُكْن تُ ْم تَ ْد ُر ُسو َن} [آل عمران.]79 : ِ ِ وقوله{ :ولَ ِكن ُكونُوا رَّابنِيِ ِ
ني ِبَا ُكْن تُ ْم تُ َعل ُمو َن الْكتَ َ
َ َ َ ْ
ولكن املسافة أصبحت بعيدة بني املعىن السليم واملعىن السقيم لوصف (الرابنيني)..
قال شيخ املفسرين ،اإلمام أبو جعفر حممد بن جرير الطربي رحه هللا" :وأما قوله" :كونوا
رِبنيني" ،فإن أهل التأويل اختلفوا يف أتويله فقال بعضهم :معناه :كونوا حكماء علماء…وعن
جماهد قال :الرابنيون :الفقهاء العلماء ،وهم فوق األحبار .وقال آخرون :بل هم والة الناس
وقادهتم .قال أبو جعفر :وأَْوىل األقوال عندي ابلصواب يف (الرابنيني) أهنم ُ
مجع رابين ،وأن
صلح أمورهم ويربُّها ويقوم هبا.
الناس ،وهو الذي يُ ْ
يرب َ الرَّابن ،الذي ُّ
الرابين املنسوب إىل َّ
وصفت ،وكان العامل ابلفقه واحلكمة من
ُ (الرابن ُّي) هو املنسوب إىل من كان ابلصفة اليت
اخلري ،ودعائهم إىل ما فيه مصلحتهم ،وكان كذلك
أمور الناس ،بتعليمه إايهم َ
املصلحني ،يَ ُرب َ
املصلحني
احلكيم التقي هلل ،والواِل الذي يلي أمور الناس على املنهاج الذي َوليه املقسطون من ْ
صالح عاجلهم وآجلهم وعائدةُ النفع عليهم يف دينهم ودنياهم،
ُ أمور اخللق ،ابلقيام فيهم ِبا فيه
َ
مجيعا يستحقون أن يكونوا ممن َدخل يف قوله عز وجل( :ولكن كونوا رِبنيني) .فالرِبنيون
كانوا ً
عماد الناس يف الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا .ولذلك قال جماهد :وهم فوق
إ ًذا :هم ُ
البصر ِبلسياسة
ا اجلامع إىل العلم والفقه،
ُ األحبار هم العلماء ،والرِبين:
َ األحبار ،ألن
والتدبي والقيام أبمور الرعية ،وما يصلحهم يف ُدنياهم ودينهم".11
قال العالمة املؤرخ طاش كربي زادة رحه هللا يف ترمجته ألحد العلماء ..." :العالِم
الفاضل الكامل املوىل …وكان فاضال حمققا ،منقطعا عن الناس ِبلكلية ،مشتغال ِبلدرس
والعبادة .وكان انقطاعه مبرتبة َّل يقدر على احلضور يف اجملالس ،وحشةً من الناس واستحياء
13
منهم .وِبجلملة كان عاملا رِبنيا مباركا"
ومن الواضح أن هذه احلالة – وهي جمرد عينة – تبدو أقرب إىل الرهبانية منها إىل
الرابنية.
12على سببيل املثال :ورد هذا الوصف -وهبذا اللفظ فقط – َثان عشرة مرة ،يف كتاب (الشقائق النعمانية يف تراجم
علماء الدولة العثمانية) لطاش كربي زادة.
13الشقائق النعمانية ،ص351
21
22
ن ب مإل
ث
ث ال ا ى:ح
أن يكون العلماء متَّقني صاحلني ،رابنيني مصلحني ،فهذا هو األصل فيهم والالئق
اَّللَ ِم ْن ِعبَ ِادهِ الْعُلَ َماءُ} [فاطر .]28 :وهم أحق من ِبقامهم ،كما قال تعاىل{ :إَِّمنَا َخيْ َشى َّ
َح ًدا إَِّال َّ
اَّللَ َوَك َفى ت َِّ يقول احلق ويقوم ابحلق{ ،الَّ ِذين ي ب لِغُو َن ِرس َاال ِ
اَّلل َوَخيْ َش ْونَهُ َوَال َخيْ َش ْو َن أ َ َ َ َُ
{وَال َخيَافُو َن لَ ْوَمةَ َالئٍِم} [املائدة.]54 : ِ ِ ِ
اب ََّّلل َحسيبًا} [األحزابَ ،]39 :
وقد تقدم حديث أيب الدرداء رضي هللا عنه ،عن مكانة العلماء ،وفيه "وإن فضل العامل
على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"...
ولكن هذه احلالة ِ
املشرفة وهذه الصورة املشرقة ،ال تتحقق جلميع العلماء ،وإذا حتققت
قد ال تدوم ..فالعلماء أيضا معرضون للتقصري والتفريط ،ولالنزالق واالحنراف ..ووقوع بعض
العلماء يف أشكال من الفساد واخلروج عن اجلادة ،اثبت يف التاريخ ،مثلما هو اثبت يف
النصوص ،كما سيأيت..
23
األمراء والعلماء أكرب سبب للصالح العام والفساد العام
من املألوف يف تراثنا اإلسالمي اجلمع بني العلماء واألمراء ،ابعتبارهم يف اجلملة هم
مصدر الصالح العام إذا صلحوا ،وهم مصدر الفساد العام إذا فسدوا .وملا كان قيام اإلسالم
بطائفتَِي العلماء واألمراء ،وكان عامة الناس هلم تَبَعا ،كان صالح العامل بصالح هاتني
الطائفتني ،وفساده بفسادمها.
عن ابن عباس ،عن النب صلى هللا عليه وسلم قال( :صنفان من أميت إذا صلحا
صلحت األمة ،وإذا فسدا فسدت األمة :السلطان والعلماء).
ويف رواية أخرى عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :صنفان من أميت إذا
14
صلحا صلح الناس :األمراء والفقهاء"
وعن عبد هللا بن املبارك وغريه من السلف :صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس،
وإذا فسدا فسد الناس .قيل من هم؟ قال :امللوك والعلماء.
24
وكذلك إذا فسد العلماء أو صلحوا ،تبعهم عامة الناس يف صالحهم أو فسادهم؛ إذ منهم
يَستقون وهبم ي قتدون .مث ينعكس ذلك – مرة أخرى -على عمال الدولة وأعواهنا ومؤسساهتا..
َّخن يكون من األمراء .وال يزال حال الناس خبري ما صلحت هلم
قال أبو حفص الداودي" :الد َ
ُهداهتم وهم العلماء ،وأئمتهم وهم األمراء".15
ورغم أن كل فرد فرد ،مسؤول وحماسب – بصفته الفردية – على عمله وسلوكه وما
قد يعرتيه من خلل وفساد ،فإن املسؤولية العامة والكربى تبقى على األمراء والعلماء ،ملكانتهم
يسنون ،وغريهم يستنون هبم ،ويستدلون هبم .ويف الصحيح :قال رسول
القيادية يف اجملتمع .فهم ُ
هللا -صلى هللا عليه وسلمَ ( -من سن يف اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل هبا
بعده ،من غري أن ينقص من أجورهم شيء .ومن سن يف اإلسالم سنة سيئة كان عليه وزرها
ووزر من عمل هبا من بعده ،من غري أن ينقص من أوزارهم شيء).
ويف صحيح البخاري عن قيس بن أيب حازم قال :دخل أبو بكر على امرأة ِمن أحس
يقال هلا زينب ،فرآها ال تكلم ،فقال :ما هلا ال تكلم؟ قالوا حجت ُمصمتة .قال هلا :تكلمي
فإن هذا ال حيل ،هذا من عمل اجلاهلية .فتكلمت فقالت :من أنت؟ قال امرؤ من املهاجرين.
قالت :أي املهاجرين؟ قال من قريش .قالت :من أي قريش أنت؟ قالِ :
إنك لسئول! أان أبو
بكر .قالت :ما بقاؤان على هذا األمر الصاحل الذي جاء هللا به بعد اجلاهلية؟ قال :بقاؤكم
عليه ما استقامت بكم أئمتكم .قالت وما األئمة؟ قال :أما كان لقومك رءوس وأشراف
أيمروهنم فيطيعوهنم؟ قالت بلى .قال :فهم أولئك على الناس.
15نقله سراج الدين ابن امللقن :التوضيح لشرح اجلامع الصحيح 341 /32
25
عالقة العلماء ِبألمراء الفاسدين
ت فيما سبق أن طائفيت العلماء واألمراء تشكالن املنبع األول لصالح أحوال األمة
ذكر ُ
أو فسادها ،وأن صالح إحدى الطائفتني يقوي صالح األخرى وحيفظه ،ولذلك فتحالفهما
وتعاوهنما على الصالح واإلصالح يعدان من أوجب الواجبات عليهما ،ألجل حتقيق الصالح
العام وحفظه.
لكن السؤال هو :حني يكون احلاكم فاسدا مفسدا ،هل للعلماء أن يضعوا أيديهم يف
يده ويتعاونوا معه ،أم يبتعدون عنه وأيخذون مسافة منه..؟
هذه مسألة شغلت علماءان كثريا ،منذ عصر الصحابة والتابعني ..وقد احتدم اخلالف
فيها واحتد النقاش حوهلا ،خاصة بعد أن كثر احلديث عن احلكام الظلمة وأمراء اجلور..
ومذلة
وم جالسهم ،هو جمرد فتنة َ
والسؤال فيها هو :هل دخول العلماء إىل قصور هؤالء األمراء َ
ٍ
رخيصة للظاملني ولظلمهم؟ أم هو أمر ال بد منه ،ألجل ٍ
خدمة للعامل ولدينه وعلمه ،وجمرد
النصح واإلرشاد والسعي ابإلصالح؟
املوقف األول هو ما روي عن الصحايب عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه ،أنه قال:
"إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه ،فيخرج وال دين له .قيل له :ول َم؟ قال :ألنه يرضيه
بسخط هللا"16؟ ومثله :قيل لعلقمة :أال تدخل على السلطان فتنتفع؟ قال :إين ال أصيب من
دنياهم شيئا إال أصابوا من ديين مثله".17
26
واملوقف الثاين يتمثل فيما ورد عن اإلمام مالك أنه قيل له :إنك تدخل على السلطان
وهم يظلمون وجيورون!؟ فقال« :يرحك هللا ،فأين التكلم ابحلق؟".18
ومن العلماء الذين ابلغوا يف العناية ِبسألة التعامل مع السالطني والوالة ،وتشددوا
اإلمام أبو حامد الغزاِل .وقد كتب يف (اإلحياء) اباب مطوال" :فيما حيل من خمالطة
ُ فيها:
الدخول عليهم واإلكرِام هلم" ،قال يف ِ
غشيان جمالسهم و ِ كم
وح ُ
السالطني الظلمة وما حيرمُ ،
أوله:
ولإلمام الشوكاين رحه هللا رسالة يف املوضوع مساها (رفع األساطني يف حكم اَّلتصال
ِبلسالطني) ،نصر فيها القول ِبشروعية التعامل والتعاون مع احلكام ،ولو كانوا ظلمة فاسدين..
وخالصتها يف قوله رحه هللا" :وما زال عمل املسلمني على هذا منذ قامت امللة اإلسالمية إىل
اآلن ،مع كل ملك من امللوك؛ فجماعةٌ يلُون هلم القضاء ،ومجاعة يلون هلم اإلفتاء ،ومجاعة
يلون هلم على البالد اليت إليهم ،ومجاعة يلون هلم إمارة اجليش ،ومجاعة يُ ِ
درسون يف املدارس
27
جائر! قلت :نعم ،ولكن هذا املتصل هبم مل يتصل
فإن قلت :قد يكون من امللوك من هو ظامل ٌ
هبم ليعينهم على ظلمهم وجورهم ،بل ليقضي بني الناس حبكم هللا ،أو يفيت حبكم هللا ،أو يقبض
من الرعااي ما أوجبه هللا ،أو جياهد من حيق جهاده ،ويعادي من حتق عداوته .فإن كان األمر
ك قد بلغ من الظلم إىل أعلى درجاته مل يكن على هؤالء من ظلمه شيء، ِ
هكذا فلو كان املل ُ
بل إذا كان ألحدهم مدخل يف ختفيف الظلم ،ولو أقل قليل أو أحقر حقري ،كان مع ما هو
فيه من املنصب مأجوراً أبلغ األجر؛ ألنه قد صار مع منصبه يف حكم من يطلب احلق ويكره
الباطل ،ويسعى ِبا تبلغ إليه طاقته يف دفعه ،ومل يُِع ْنه على ظلمه ،وَّل سعى يف تقرير ما هو
وليس كالمنا فيمن كان هكذا ،إمنا كالمنا فيمن قام ِبا ُوكل إليه من األمر الديين ،غري مشتغل
ٍ
ختويف من ِ
ختفيف ظلم ،أو ِبا ُهم فيه ،إال ما كان من أم ٍر ِبعروف ،أو هني عن منكر ،أو
عاقبته ،أو وعظ فاعله ِبا قد يندفع فيه بعض شره".20
وللشيخ العثيمني رحه هللا تعليقات على رسالة اإلمام الشوكاين رحه هللا ،وافقه يف
توجهه القائل ابملشروعية اليت قد تصل إىل حد الوجوب ،خاصة مع وجود فرص للنصح والنفع
لإلسالم واملسلمني.
ومن ذلك قوله" :وال شك أن اإلنسان إذا قال كلمة احلق إبخالص ستؤثر ،وال أدل على
{ويْلَ ُك ْم َال تَ ْف َرتُوا
ذلك من قول موسى عليه الصالة والسالم حينما اجتمع السحرة ،قال هلمَ :
اب َم ِن افْ ََرتى} [طه .]61 :فماذا أَثرت هذه الكلمة؟ ِ ِ ٍ علَى َِّ ِ
اَّلل َكذ ًاب فَيُ ْسحتَ ُك ْم ب َع َذاب َوقَ ْد َخ َ َ
20رفع األساطني يف حكم االتصال ابلسالطني ،ضمن كتاب :الفتح الرابين من فتاوى اإلمام الشوكاين 4668 /9
28
قال تعاىل {فَتَ نَ َازعُوا أ َْمَرُه ْم بَْي نَ ُه ْم} [طه .]62 :والفاء تدل على الرتتيب والتعقيب والسببية؛
أي ِبجرد ما قال هكذا تنازعوا أمرهم بينهم ...فالواجب على اإلنسان أن يعمل ِبا فيه مصلحة
املسلمني ،ويسأل هللا اهلداية للوالة الظلمة .وهبذا نعرف خطأ من ينفرون من الوظائف يف
البالد اليت يكون والهتا غري مستقيمني على شرع هللا ،إما من العلمانيني ،أو من ِ
احملكمني
لألنظمة والقوانني املخالفة لشريعة هللا .جيب علينا حنن أن ال نرتك ما فيه مصلحة لإلسالم
واملسلمني".21
وأنقل فيما يلي واقعة منوذجية حية ،جتسد وتوضح اخلالف القدمي الذي كان قائما -
وجمالسهم… وقد أوردها قصورهم ِِ
َ وال يزال -حول دخول العلماء على األمراء ،وغشيان هم َ
القاضي عياض يف ترمجته أليب بكر الباقالينِ ،
إمام األشاعرة ولسان أهل السنة:
29
هذا إال أن يقال إن جملسه مشتمل على أصحاب احملابر كلهم ،ولو كان خالصاً هلل ،لنهضت.
قال القاضي (يقصد الباقالين) :فقلت له :هكذا قال ابن كالب واحملاسب ،ومن يف عصرهم:
إن املأمون فاسق ،ال حنضر جملسه ،حىت سيق أحد بن حنبل اىل طرسوس ،وجرى عليه بعده
ما عُرف .ولو انظروه لكفُّوه عن هذا األمر ،وتبني هلم ما هم عليه ابحلجة .وأنت أيضاً أيها
الشيخ تسلك سبيلهم ،حىت جيري على الفقهاء ما جرى على أحد ،ويقولوا خبلق القرآن ،ونفي
الرؤية؟ وها أان خارج إن مل خترج .فقال الشيخ :أما إذا شرح هللا صدرك هلذا ،فاخرج".22
األول :ميثله الشيخ اجلليل أبو احلسن الباهلي ،وآخرون قبله .ويرى أصحابه أن هؤالء
احلكام فسقة فاسدون ،وال يريدون بدعوة العلماء وتقريبهم إال الدعاية ألنفسهم وتعز َيز
وحتسني صورهتم …ا
َ مشروعيتهم
الثاين :ميثله تلميذه الشاب أبو بكر الباقالين ،ويتبىن مبدأ احلضور الفاعل واملشاركة
اإلجيابية والتدافع مع املذاهب واألفكار املخالفة ،وأن ذلك له أثره وفائدته امللموسة ،خبالف
سياسة املقعد الفارغ ،اليت ال أتيت بشيء ،وال تزيد الطني إال بلة.
-أن املانعني إمنا مينعون احتياطا وخوفا من وقوع التأثريات السلبية اليت قد ينجر إليها
العامل يف دينه وفتاويه ومواقفه..
-وأن اجمليزين إمنا جييزون ذلك بشرط السالمة يف الدين واالحرتاز من الدخول يف
املفاسد واملظامل ،مع حتقيق ما فيه مصلحة اإلسالم واملسلمني..
30
قال الشوكاين" :فتقرر لك هبذا أن ال ُمداخل هلم (أي لألمراء) إذا مل يصدقهم يف كذهبم،
وال أعاهنم على ظلمهم ،وال رضي ،وال اتبع؛ فهو من رسول هللا عليه وآله وسلم ،ورسول هللا
منه .فكانت هذه مرتبة عالية ،وفضيلة جليلة ،فكيف إذا مجع بني عدم وقوع ذلك منه،
وأما من وقع يف هذه املظامل واملفاسد" ،فهو يف ِعداد الظَّلمة ،وفريق اجلََورة ،ومن مجلة
اخلونة".
وما دام حديثنا عن العلماءِ ،با أوتوه من علم ودين وعقل ،وِبا يُفرتض فيهم من حسن
التقدير ،فكل واحد يكون فقيه نفسه ،فيما يستطيعه وما ال يستطيعه ،وفيما ُختشى عواقبه وما
ال خوف منه .ولنا عربة وهداية يف احلديث الذي خرجه اإلمام مسلم يف صحيحه ،عن أىب ذر
قال :قلت اي رسول هللا أال تستعملين؟ قال :فضرب بيده على منكب مث قال :اي أاب ذر ،إنك
ضعيف ،وإهنا أمانة ،وإهنا يوم القيامة خزى وندامة ،إال من أخذها حبقها وأدى الذى عليه
فيها.
ما زال الدفاع مستميتا عند بعض علماء العصر ،حول تقدمي النصيحة لوِل األمر،
وأهنا جيب أن تكون سرا بينك وبينه ،وأن اجلهر هبا فتنة ورايء وسوء أدب…
31
وما زال دعاة "النصيحة السرية" يعكفون على صورة واحدة ،ساكنة ال تتغري وال
تتحرك ،حيبسون عندها أنفسهم وأنفاسهم ،وهي الواردة يف حديث ضعيف يقول" :من أراد
أن ينصح لسلطان أبمر ،فال ي ِ
بد له عالنية ،ولكن ليأخ ْذ بيده فيخلو به".ُ
وبناء على هذه الرواية وعلى فهمهم هلا ،فليس على العلماء أو غريهم من املسلمني،
إذا كان عندهم ما جيب أن يقال لوِل األمر ،إال أن يزوروه يف بيته ،ويكلموه على انفراد ،أو
أحدهم بيده
أن ينتظروا فرصة اللقاء به :يف املسجد ،أو يف السوق ،أو يف املطار ،لكي أيخذ ُ
فمن أتتَّى له ذلك فقد أدى الذي عليه ،ومن مل يتأت له ذلك ،فقد
وخيلو به وينصحه…! َ
كفى هللا املؤمنني القتال!
32
اليوم ،حني نتساءل ونتباحث ونتناقش ،يف مسألة العالقة بني العامل واحلاكم ،جيب أن
نستحضر هذا الواقع اجلديد ،ال أن نستحضر عالقات وروابط ثنائية للشيخ الفالين ابألمري
الفالين ،أو عالقةً لصاحب فضيلة أو مساحة ،مع صاحب فخامة أو جاللة ،وال عالقةَ السلطان
الفالين أبرابب احملابر والعمائم .فهذه األمناط أصبحت اندرة ومتوارية .ال جند اليوم حاكما
يزور عاملا ،أو يدعوه إليه ،مث يقول له :حدثين ،أو ِعظين ،أو كيف تراين؟ وكيف ترى أعواين؟
وال جند أمراء أو سالطني يفتحون أبواب قصورهم للعلماء واملفكرين ،ويدعوهنم للمناظرة
العلمية ،أو للمشاورة السياسية ،أو لطلب فتاوى فقهية .نعم قد يدعوهنم اليوم ألغراض دعائية
أمام الكامريات ولبضع حلظات ،وحىت هذا قلما يفعلونه .ومنهم من ال يفعله أبدا .وقبل سنوات
حدثين أحد العلماء الفضالء أن هيئة كبار العلماء عندهم ،طلبت لقاء مع رئيس الدولة منذ
توليه منصبه ،وظلت جتدد طلبها وتنتظر ،ومل يستجب هلم إىل أن مات .فهذا عن "كبار
العلماء" ،وعن هيأهتم الرمسية ،فكيف بغري كبارهم؟ وكيف أبفرادهم؟ ومع ذلك جند يف هذا
البلد نفسه َمن ألف كتااب حافال مساه (قطع املراء يف حكم الدخول على األمراء) ،حشد
فيه كل ما أمكنه مجعُه من نصوص وأقاويل واستنباطات وردود ،ليثبت بذلك كله جواز الدخول
على األمراء…
الدخول على السالطني واألمراء ،أصبح اليوم دخوال إىل مؤسسات الدولة وتوابعها،
وليس دخوال على أشخاص األمراء ،وأصبح حديثا مع الدولة أو عنها يف وسائل اإلعالم
والنشر .والعالقة اليوم هي عالقة مع الدولة ومؤسساهتا وسياساهتا ومشاريعها .والنقد والنصيحة
اليوم ال يتوجهان ابلضرورة إىل عني السلطان واألمري ،بل يتوجهان إىل كياانت اعتبارية
ومؤسسات مجاعية وأشخاص غري معينني .وأداءُ واجب النقد والنصح والتعبري والبيان ،أصبح
له ألف طريق وطريق .وأكثرها ال يتطلب ذلك "الدخول" املتنازع فيه ،ملا له من خماطر وحماذير.
ويف ظل هذا التغري والتنوع ،يبقى الثابت يف حق العامل ،هو أن يكون حاضرا غري غائب
حرف جر .وأن يكون انصحا أمينا
وال مغيَّب ،وأن يكون متبوعا وفاعال مرفوعا ،ال جمرورا وال َ
لوالة األمور ومؤسساهتم ومشاريعهم ،سواء كان قريبا منهم أو بعيدا عنهم أو شريكا هلم ،وسواء
33
كان معهم يف حالة وائم أو حالة خصام .واجبه :أن يبني وال يكتم ،وأن يوضح وال يُبهم ،وأال
حيرف وال ينحرف ،بل يقول احلق وال خياف يف هللا لومة الئم .فإن فعل ذبك فقد أدى أعظم
واجبات العلماء ،وجنا من خماطر "إمارة السفهاء".
فساد العلماء!..
تط ُّر ُق الفساد إىل العلماء ،وشيوعُه يف صفوفهم ،أم ٌر نبه عليه القرآن الكرمي كثريا،
موضوع حتذير وتشنيع من العلماء أنفسهم،
َ وآاثر عديدة .وكان على الدوام
أحاديث ٌ
ُ ووردت فيه
سلفا وخلفا…
واآلايت الواردة يف املوضوع ،أكثرها تتحدث عن علماء بين إسرائيل وعن مظاهر من
فسادهم ،أي تتحدث عن املاضي .ولكن حديث القرآن عن املاضي ،هو دوما حديث عن
َّاس َوَما يَ ْع ِقلُ َها إَِّال
ض ِرُهبَا لِلن ِ
ال نَ ْ {وتِْل َ
ك ْاأل َْمثَ ُ احلاضر واملستقبل ،وخطاب للحاضر واملستقبلَ :
الْ َعالِ ُمو َن} [العنكبوت .]43 :والقرآن الكرمي ال يذم أمرا وال حيذر منه ،إال وهو واقع ،أو
متوقع ،أو حمتمل الوقوع…
وفيما يلي مجلة من تلكم اآلايت ،وهي غنية عن التفسري ملن تدبرها ،على األقل يف
داللتها اإلمجالية يف موضوعنا:
ِ الرْهب ِ ِ ِ
صدُّو َن َع ْن َسبِ ِيل
َّاس ِابلْبَاط ِل َويَ ُ
ان لَيَأْ ُكلُو َن أ َْم َو َال الن ِ { -إِ َّن َكث ًريا م َن ْاأل ْ
َحبَا ِر َو ُّ َ
هللا} [التوبة.]34 :
اب َّاس ِيف الْ ِكتَ ِات َوا ْهلَُدى ِم ْن بَ ْع ِد َما بَيَّنَّاهُ لِلن ِ{ -إِ َّن الَّ ِذين يكتُمو َن ما أَنْزلْنَا ِمن الْبيِنَ ِ
َ ُ َ َ َ َ
الال ِعنُو َن} [البقرة.]159 : اَّللُ َويَ ْل َعنُ ُه ُم َّ أُولَئِ َ
ك يَ ْل َعنُ ُه ُم َّ
ِ ِ َّ ِ
ك َما اب َويَ ْش َرتُو َن بِِه ََثَنًا قَل ًيال أُولَئِ َ اَّلل ِمن الْ ِكتَ ِ
ين يكتُ ُمو َن َما أَنْ َزَل َُّ َ { -إ َّن الذ َ
ب أَلِ ٌيم ِ ِ ِ َّار َوَال يُ َكلِ ُم ُه ُم َّ
اَّللُ يَ ْوَم الْقيَ َامة َوَال يَُزكي ِه ْم َوَهلُْم َع َذا ٌ ِِ ِ
َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهن ْم إَّال الن َ
34
ِ أُولَئِ َّ ِ
َص ََربُه ْم َعلَى النَّا ِر} اب ِابلْ َم ْغفَرةِ فَ َما أ َّْاللَةَ ِاب ْهلَُدى َوالْ َع َذ َ
ين ا ْش ََرتُوا الض َ ك الذ َ َ
[البقرة]175 ،174 :
اَّللُ َعلَى بَ َش ٍر ِم ْن َش ْي ٍء قُ ْل َم ْن أَنْ َزَل اَّللَ َح َّق قَ ْد ِرِه إِ ْذ قَالُوا َما أَنْ َزَل َّ
{وَما قَ َد ُروا َّ
َ -
وهنَا َوُختْ ُفو َن
يس تُْب ُد َ َّاس َْجتعلُونَه قَر ِ
اط ِ ن لالْ ِكتاب الَّ ِذي جاء بِِه موسى نُورا وه ًدى لِ
َ َ ُ َ َ َ ُ َ ً َُ َ َ
َكثِ ًريا} [األنعام.]91 :
ت والطَّاغُ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
وت َويَ ُقولُو َن ين أُوتُوا نَصيبًا م َن الْكتَاب يُ ْؤمنُو َن اب ْجلْب َ { -أََملْ تَ َر إ َىل الذ َ
ين َآمنُوا َسبِ ًيال} [النساء]51 : ِ َّ ِ ِ ِِ
ين َك َف ُروا َه ُؤَالء أ َْه َدى م َن الذ َ للَّذ َ
يدو َن أَ ْن تَ ِ
ضلُّوا صيبا ِمن الْ ِكتَ ِ ِ ِ َّ ِ
َّاللَةَ َويُِر ُ
اب يَ ْش َرتُو َن الض َ ين أُوتُوا نَ ً َ { -أََملْ تَ َر إ َىل الذ َ
يل} [النساء.]44 : َّ ِ
السب َ
حديث كعب بن عجرة رضي ومن األحاديث ِ
احملذرة للعلماء من ولوج أبواب الفساد
ُ
هللا عنه -الذي أخرجه الرتمذي يف اجلامع الصحيح ،واإلمام أحد يف املسند -قال :قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :أعاذك هللاُ من إمارة السفهاء .قال :وما إمارة السفهاء؟ قال:
فمن صدقهم بكذهبم ،وأعاهنمأمراء يكونون بعدي ،ال يقتدون هبديي ،وال يَست نُّون بسنيتَ ،
علي حوضي .ومن مل يصدقهم على ظلمهم ،فأولئك ليسوا مين ولست منهم ،وال يَ ِردون َّ
بكذهبم ،ومل يعنهم على ظلمهم ،فأولئك مين وأان منهم ،وس يَ ِردون َّ
علي حوضي).
ص ُدق أكثر ما يصدق على العلماء؛ واحلديث وإن كان عاما يف العلماء وغريهم ،فإنه يَ ْ
فهم الذين يكون لدخوهلم على الظَّ لَمة معىن ومغزى ،ويكون لتأييدهم هلم ولظلمهم وكذهبم
ِ
أثر ومردودية ،يف التمكني للظلم والفساد ،وإلباس ِهما َ
ثوب املشروعية واملصلحة العامة ،زورا
وتلبيسا .وقد ظل العلماء العاملون الصاحلون -سواء قلُّوا أو كثُروا -ظلوا دوما يتحدثون عن
العلمائي .وممن أطال وشدد يف هذا الباب :اإلمام أبواالحنرافات واملفاسد اليت تصيب اجلسم ُ
حامد الغزاِل ،الذي يرى "أن فساد الزمان ال سبب له إال كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين
أيكلون ما جيدون ،وال مييزون بني احلالل واحلرام .فتلحظهم أعني اجلهال ويستجرئون على
35
املعاصي ابستجرائهم ،اقتداء هبم واقتفاء آلاثرهم .ولذلك قيل :ما فسدت الرعية إال بفساد
امللوك ،وما فسدت امللوك إال بفساد العلماء".23
ٍ
وعميقة .والعلماء ُم َع َّوٌل عليهم كثريا يف إن األمة اإلسالمية تعاين من مشاكل عديدةٍ
َ
اإلصالح والنهوض .وحىت ال يكون العلماء ،أو ال يب َقوا ،جزءا من املشكلة ،بل يصبحون -
فعال -جزءا من احلل ووسيلة من وسائله ،ال بد من إصالح العلماء أوال؛ ففاقد الشيء ال
يعطيه .وكما قيل قدميا:
العلماء حىت وإن كانوا على ما يرام من الصالح والنزاهة واألمانة ،فإهنم يب َقون عرضة
للتأثر ِبختلف املؤثرات والضغوط السلبية من حوهلم ،فهم {بَ َشٌر ِمم َّْن َخلَ َق} [املائدة.]18 :
وألجل تعزيز صالحهم ،وكبح استشراء الفساد يف صفوفهم ،جيب إخضاعهم للنقد
والتنبيه عند كل فساد يظهر عليهم..
وليس املقصود هنا ما يقع فيه عموم الناس من عثرات وكبوات وزالت ،فهذه تُعامل
ابلسرت والتغاضي والتماس العذر .وقد حتتاج إىل نصيحة وتنبيه بشكل خاص وضمن العالقة
الشخصية العادية..
الفساد الذي يصبح ظاهرا وممتدا ،ويصبح سلوكا متبعا لدى بعض ُ وإمنا املقصود
العلماء ،قلُّوا أو كثروا ..وقد تقدم الذكر والبيان ألنواع من الفساد واالحنراف اليت يقع فيها
بعض العلماء .فهذه هي اليت ال ينبغي التغاضي عنها والتعايش معها ومع أصحاهبا .واملكانة
العلمية هلؤالء ال تشفع هلم وال تعفيهم من النقد ،بل على العكس ،فمكانتهم هذه هي اليت
يف "دولة املرابطني" ،اليت حكمت جممل مشال أفريقيا وغرهبا واألندلس ،كان للفقهاء
املالكية النفوذُ األعظم والكلمة العليا يف الدولة واجملتمع ،مما جعل طائفة منهم يصابون أبمراض
فهب آخرون لنقدهم والتشنيع عليهم ،حىت قيل يف ذمهم:
الرتف واجلشع والعلوَّ ،
لبستم انموسكم … كالذئب أدجل يف الظالم العات ِم
أهل الرايء ُ
َ
لكتم الدنيا ِبذهب مالك … وقسمتم األموال اببن القاس ِم
ف َم ُ
كبتم ُشهب البغال أبشهب … وأبَصب ٍغ24صبغت لكم يف العاِمل
ور ُ
ويف هذه احلقبة أيضا عاش الفقيه الزاهد أبو حممد عبد العزيز التونسي (ت ،)486
الذي كان يُد ِرس الفقه ِبراكش ،فتخرج على يديه عدد ممن تولوا املناصب وحازوا املكاسب..
فلما رأى ما رأى من فسادهم وتكالبهم على الدنيا واهنماكهم فيها ابحلق والباطل ،وأهنم إمنا
24ابن القاسم ،وأشهب ،وأصبغ :من أصحاب اإلمام مالك ،ومن كبار فقهاء مذهبه .ومعىن كالم الناظم أن فقهاء زمانه
يستغلون هذه األمساء وأقواهلا ،ويستغلون املذهب وفقهه ،خلدمة مكاسبهم وتعزيز مناصبهم..
37
ينالون ذلك بفضل ما حصلوه من العلم ،امتنع عن التدريس ،وقال موضحا سبب امتناعه:
"صران بتعليمنا هلم ،كبائع السالح من اللصوص".25
وأما إذا أحس أنه ليس عليه رقيب وال حسيب ،فإن ذلك سيكون من دواعي الفساد
واالستبداد ،إال من رحم هللا..
وقبل بضع سنني ،أتيحت ِل جلسةُ مذاكرة مطولة مع أحد علماء مصر الفضالء،
وتنقل حديثنا – بتلقائية – من موضوع إىل موضوع ،حىت كان املوضوع األخري الذي توقفنا
عنده أكثر من غريه ،هو طرائف بعض األزهريني ،ومناذج من مواقفهم وتصرفاهتم البعيدة كل
البعد عن األزهر ومكانته ،وعن العلم وأهله ،بل وعن اإلسالم وأخالقه وشريعته…
كانت البداية حبالة الشيخ (عج) ،مث اهنمرت النماذج والوقائع وتشعبت ،عموداي
وأفقيا…كان حمدثي يسرتسل يف سرد الوقائع والطرائف املضحكة املبكية ،وكأنه حيفظ موسوعة
يف هذا املوضوع ،وذلك لكثرة ما شهده بنفسه ،وما مسعه من شيوخه وزمالئه وطالبه .وكان
املعممني وتالعبهم ابلدين
كلما رأى دهشيت واستغرايب ،زادين مناذج أخرى من فساد بعض َّ
والعلم… وفجأة استوقفتُه سائال :على هذا األساس ،أيهم أشد فسادا وضررا :هؤالء األزهريون
املنحلون ،أم ضباط اجليش املستبدون ،الذين حيكمون مصر ويعيثون فيها فسادا وظلما منذ
أمد بعيد؟ وبدون أدىن تردد أو تريث قال :بل هؤالء األزهريون أسوأ ..قلت -وأان أكثر
استغرااب ودهشة : -كيف؟ قال :ألن ضباط اجليش قد تتقلب عليهم الظروف ،فيحاسبون
ويعاقبون ويعزلون ،وقد يُسجنون أو يعدمون ..أما هؤالء األزهريون الفاسدون ،فال أحد
38
حياسبهم ،وال أحد يفضحهم ،وال أحد يعاقبهم ،وال أحد يكتب عنهم .فهم موقرون َّ
حمصنون،
ال يُسألون عما يقولون وما يفعلون! فقط عليهم أن ميجدوا احلاكم وما يصدر عنه..
يذكر هنا أن العلماء -منذ القرن األول -أخذوا ِببدأ اجلرح والتعديل لرواة األحاديث
النبوية ..فعلى الرغم من حترمي الغيبة وسوء الظن والتشهري ابلعصاة ،فإن علماء احلديث قد
أجازوا كل ذلك وفعلوه يف حق الرواة ،حاية للسنة النبوية من الدس والتحريف واخللط ..فحفظ
الدين وحفظ السنة ،مقدم على حفظ مسعة الرواة وأعراضهم وخصوصيات أحواهلم.
وحفظ ألفاظ السنة من الزايدة والنقص والتبديل ..ليس أبوىل من حفظ معانيها
وأحكامها -وحفظ الدين عموما -من التالعب والتحريف والتشويه.
ومن روائع الفقه احلنفي ما تقرر فيه من وجوب "احلجر على املفيت املاجن" .وال يشفع
له كونه "فقيها عاملا" ..فحرمة الشرع أعلى وأوىل من حرمة فقيه ماجن.
والفقيه املاجن هو الذي يفيت ابحليل ،ويفتح هبا األبواب ملن يريدون االنسالخ من
أحكام الدين ومقاصده ،مع اإلبقاء على الشكليات والظواهر اخلادعة ،ورفع الفتة "جيوز"!
وكثري من حكام املسلمني ال يتذكرون الفقهاء ،وال يلتفتون إليهم ،إال عند احتياجهم
إىل هذه اخلدمة ابلذات.
على أن "العلماء" ال ُم َّجان ال ينحصر ضررهم فيما حيرفونه ومييِعونه من أحكام ومعان
شرعية ،بل ينعكس ضررهم على مكانة العلم والعلماء ،فتصبح مكانةً مهزوزة متَّهمة عند
الناس .فألجل هذا وجب التجريح والتسفيه ملن يتعمدون اإلساءة للشرع ،وملقام العلم والعلماء.
39
40
ب مإل
حث الثالث
من املعلوم أن مكانة العلماء وأتثريهم اليوم ،قد تراجعا كثريا ،يف ظل منط "الدولة
احلديثة" املفرتسة ،ويف ظل التطورات واملؤثرات االجتماعية والثقافية والتعليمية واإلعالمية
والتكنولوجية املعاصرة .ولكن أيضا مما ال شك فيه أن تقلص املكانة العُلمائية والتأثري العلمائي
يف هذا العصر ،يرجع يف قدر كبري منه إىل حالة العلماء أنفسهم ،وإىل التدين الذايت يف أهليتهم
ومصداقيتهم وفاعليتهم .فالتشوف والسعي إىل استعادة العلماء ملكانتهم ورسالتهم ،وإىل
تصدرهم للجهود واملبادرات اإلصالحية اإلسالمية يف جمتمعاهتم ،وعلى صعيد األمة عموما..
كل ذلك منوط ،بل مشروط ،إبصالح أحواهلم وجتاوز أعطاهبم وعوائقهم الذاتية .فاجلسم
اَّللَ َال يُغَِريُ َما بَِق ْوٍم َح َّىت يُغَِريُوا َما ِأبَنْ ُف ِس ِهم} [الرعد:
العُلمائي ليس استثناء من قاعدة {إِ َّن َّ
.]11وكما قال الشاعر الزاهد أبو العتاهية:
العلماء هم الصابون ،وهم صناع الصابون ألمتهم .لكن كيف بنا إذا أصبحوا حباجة
إىل صابون ألنفسهم ،أي أصبحوا حباجة إىل إصالح حالتهم وتنظيف هيئتهم؟!
41
الوحي الشريف يف أتهيل النب األكرم واملصلح األعظم ،صلى هللا عليه
ُ حينما َش رع
وسلم ،وضع على عاتقه عدة أوامر وتكاليف أولية ،نقرأها يف مطالع سورة العلق ،وسورة املزمل،
{وثِيَابَ َ
ك فَطَ ِه ْر َوالر ْجَز فَ ْاه ُج ْر} [املدثر،]5 ،4 : وسورة املدثر .وكان من مجلتها قوله تعاىلَ :
تنبيها على أن املصلح ال بد أن يعتين أوال -ودائما -إبصالح نفسه وتطهري ثيابه وما هو
متلبس به…
وإذن ،فال غضاضة علينا وال لوم إن دعوان علماءان إىل العناية بتطهري ملبوساهتم
وحتسني هيئاهتم ،وهجر آفاهتم ،ومعاجلة أعطاهبم.
واجلسم العلمائي -فيما أرى -حيتاج إىل ثالثة أصناف من املداواة واإلصالح:
وأييت يف طليعة هذا اجلانب :انغماس بعضهم يف أجواء احلكام الفاسدين الظلمة،
وجماراتُهم هلم ،وأتييدهم يف ظلمهم واحنرافهم .وهذا ما حذر منه النب صلى هللا عليه وسلم يف
قوله لكعب ب ِن عُجرة( :أعاذك هللاُ من إمارة السفهاء .قال :وما إمارة السفهاء؟ قال :أمراء
فمن صدقهم بكذهبم ،وأعاهنم على
يكونون بعدي ،ال يقتدون هبديي ،وال يَست نُّون بسنيتَ ،
ظلمهم ،فأولئك ليسوا مين ولست منهم…)
فهذه هي الورطة ،أو الطامة ،اليت يقع فيها بعض العلماء املخالطني والتابعني ألمراء
اجلور والفساد :تصديقهم بكذهبم ،وإعانتهم على ظلمهم .مث أيخذون على ذلك أجرا وسحتا،
42
تتخمر به عقوهلم وتتورم به شهواهتم .ويزداد األمر قبحا وإَثا حني يعمد بعضهم إىل حتريف
األحكام وتطويع النصوص الشرعية ،حىت توافق هوى احلاكم ومصلحته وسياسته.
فالعامل احلريص على دينه ،إذا كان إبزاء حالة كهذه ،أو أي حالة أخرى فاسدة ،جذابة
جارفة ،ال يسعه إال أحد أمرين:
-إما التعامل معها بشكل حمدود وحذر وصارم ،حبيث ينفع وينتفع ،وال يضر وال
يتضرر،
-وإما االبتعاد عنها متاما .وأرض هللا واسعة.
َّ ِ ٍ ٍِ ِ ِ ِ َّ ِ
ين
ت لَنَا مثْ َل َما أُويتَ قَ ُارو ُن إنَّهُ لَ ُذو َحظ َعظيم َوقَ َال الذ َ
احلَيَا َة الدُّنْيَا َايلَْي َ ين يُِر ُ
يدو َن ْ {قَ َال الذ َ
الصابُِرو َن} [القصص:َّاها إَِّال َّ اَّلل خري لِمن آمن وع ِمل ِ أُوتُوا الْعِْلم وي لَ ُكم ثَو ِ
صاحلًا َوَال يُلَق َ اب َّ َ ٌْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َْ ْ َ ُ
.]80 ،79
وهنا نستحضر -مرة أخرى -حديث أيب ذر رضي هللا عنه" :قال :قلت اي رسول
هللا أال تستعملين؟ قال :فضرب بيده على منكب مث قال :اي أاب ذر ،إنك ضعيف ،وإهنا أمانة،
وإهنا يوم القيامة خزى وندامة ،إال من أخذها حبقها وأدى الذي عليه فيها".
أما االنغماس والتمادي فيه ،دون تقدير للمخاطر ،ودون اكرتاث ابلعواقب ،فال بد
نفسه فاسدا مفسدا ،مفتوان فاتنا ،بل يصبح حجة للفاسدين واملفسدين..
أن جيعل العامل َ
43
قال أبو الفرج ابن اجلوزي" :ومن تلبيس إبليس على الفقهاء خمالطتُهم األمراءَ
وترك اإلنكار عليهم مع القدرة على ذلك .ورِبا رخصوا هلم فيما ال
والسالطني ،ومداهنتهمُ ،
الفساد لثالثة أوجه:
ُ عرضا ،فيقع بذلك
رخصة هلم فيه ،لينالوا من دنياهم َ
علي الفقيه ،وكيف ال أكون مصيبا
األول :األمري ،يقول :لوال أين على صواب ألنكر َّ
وهو أيكل من ماِل.
والثاين :العامي ،فإنه يقول :ال أبس هبذا األمري وال ِباله وال أبفعاله ،فإن فالان الفقيهَ
ال يربح عنده.
صدها
ومن مسالك العالج النافع الناجع هلذه االنزالقات احملدقة ابلعلماء املخالطنيَ :تر ُّ
طالب العلم واعيا هبا
والتلقيح ضدها يف أوقات مبكرة من مراحل تكوين العلماء ،حىت ينشأ ُ
وأبخطارها ،حمصنا منها ومن مصايدها.
ومن ذلك :تضمني مواد الدراسة مادةً عن "أخالق العلم والعلماء" ،تُقدم فيها مجلة
من األحكام واألخالق واآلداب األكثر اتصاال ابلعلم والعلماء ورسالتهم ،مع تدريس مجلة من
الرتاجم و ِ
الس يَ ر للعلماء النموذجيني يف عفتهم نزاهتهم واستقامتهم واستقالليتهم وعزة نفوسهم..
وحىت خارج نطاق الدراسة والتدريس ،على العلماء املصلحني أن يولوا عناية دائمة
ملوضوع أخالق العلم والعلماء ،ومزالق العلم والعلماء..
ومن ذلك :العمل -ما أمكن -على توفري موارد وإمدادات مالية للعلماء وطالب
العلم ،تغنيهم وحتفظ عليهم عزهتم وكرامتهم ،وتضمن هلم عدم االفتقار إىل العطااي املشروطة
واهلدااي املسمومة..
44
وأما اإلصالح العلمي التجديدي:
فالدعوة إليه تنبعث وتنطلق من الواقع الذي نعيشه ونعاين منه؛ وهو أن كثريا من
علمائنا ما زالوا يعيشون درجات متفاوتة من اجلمود والقصور واالجرتار ،ومن عدم القدرة على
العصر احلديث ،على كافة
ُ استيعاب التطورات والتغريات والتحدايت اليت أنتجها ورماان هبا
األصعدة .وهي كلها تطورات ومستجدات تتطلب من علمائنا جتديدا عميقا يف ذواهتم
ومناهجهم ،ومواجهة مكافئة للتحدايت احمليطة هبم ،واجتهادا واسعا يف قضااي عصرهم
وحميطهم ،وعدم االقتصار على ما أنتجه السابقون ،وعدم املكوث يف املنايف التارخيية..
ومنذ قرن من الزمان ،أو يزيد ،تُطلق النداءات بعد النداءات ،وتبذل اجلهود واحملاوالت،
ألجل حتقيق التجديد واإلصالح الفكري والعلمي والتعليمي .وقد حتقق من ذلك الشيء
الكثري ،ولكن ما بقي أيضا كثري أو أكثر..
فهذه اجلبهة اجلهادية؛ جبهة اإلصالح والتجديد واالجتهاد العلمي ،جيب املرابطة فيها،
وخوض معاركها ،واستكمال متطلباهتا.
وأان أحتسر حني أرى كثريا من السادة العلماء الفضالء يُقبلون على األنشطة اخلطابية،
والكلمات الوعظية ،واملعارك االستعجالية ،واملداخالت االرجتالية ،ويتحمسون هلا ،ويُبلون فيها
البالء احلسن ،بينما األعمال العلمية ،واملشاريع البحثية ،والقضااي االجتهادية ،واإلشكاالت
الفكرية ،ال جتد شيئا من ذلك اإلقبال واحلماس!
45
الع املي التحديثي:
وأما اإلصالح ا
فله َشبَ ه ِبا تقدم ،ولكنه يتعلق خاصة بوسائل العمل وأساليبه .فاستخدام األساليب
والوسائل احلديثة ما زال ضعيفا عند علمائنا ،ويسريُ سريا بطيئا ،وهو ما جيعل عطاءاهتم
ومن هم دوهنم من خمتلف
ومشاركاهتم وإنتاجاهتم ضعيفة ،وحمدودةَ األثر ،مقارنة مع غريهم َ
الفئات الفاعلة يف اجملتمعات املعاصرة..
ومما يؤسف له أننا جند ذوي األنشطة واملنتجات املفسدة واملضللة والساقطة والتافهة،
يصولون وجيولون ،ويغزون امليادين واألسواق ،ويتحكمون يف العقول واألذواق ،بينما علماء
اإلسالم ودعاته أصواهتم -إن هم تكلموا -خافتة مبحوحة ،وهي تبقى يف مساحات ضيقة
حمبوسة.
حنن اليوم يف عامل ينجح فيه ويسيطر أصحاب الوسائل القوية واألساليب الفعالة ،ولو كانت
ومقاصدهم اتفهة أو خسيسة ،بينما يفشل أصحاب الوسائل العتيقة
ُ بضاعتهم فاسدة أو رديئة
واألساليب الضعيفة ،ولو كانت بضاعتهم ممتازة ونفيسة.
وهكذا يصبح أصحاب احلق واخلري مهزومني مغلوبني على أمرهم ،بينما أصحاب
الباطل يصولون وجيولون ،ويسيطرون على ساحة املعركة .وملثل هذه احلال كان سيدان عمر
وعجز الثقة".
رضي هللا تعاىل عنه يدعو ويقول" :أشكو إىل هللا َجلَد الفاجر َ
أصحاب وسائل
َ أصحاب األفكار اجليدة
ُ ولذلك فمن الواجب األكيد أن يكون
أصحاب أساليب فعالة ،وأدوات متطورة.
َ جيدة ،و
ومن هنا أدعو السادة العلماء ،وطلبة العلوم الشرعية ،ومن يهتمون بشأهنم ،إىل تنظيم
دورات وحلقات نقاشية متكررة للعلماء ،ختصص لتحسيسهم وتوعيتهم أبمهية هذه القضية
وأبعادها وجوانبها التنظيمية والتواصلية والتكنولوجية ،ولتدريبهم وترقيتهم يف اكتساب مهاراهتا
الضرورية .بل املفروض أن تدرج وتدمج هذه القضية ومتطلباهتا التطبيقية يف صميم الربامج
الدراسية والربامج التكميلية لطالب التعليم الشرعي.
46
وآخر دعواان أن احلمد هلل رب العاملني
47