You are on page 1of 18

‫مهما يكن من أمر فإنَّ نظريات بعض اللسانيني األثروبولوجيني ح ول عدم قابلية اللغات‬

‫لالختزال‪،‬ونوعية الرؤية إىل العامل ‪ ،‬وحول فر ضية وحدة اللغة وعالقتها بالفكر‪ ،‬هي اليت عمقت أكثر‬
‫‪)1( .‬‬
‫أهمية اللسانيات التقابلية‬

‫ولذلك فإنَّ احللول العلمية اليت توفرها اللسانيات التقابلية هي موجهة لواضعي الربامج العلمية وأساتذة‬
‫اللغات أكثر من املتعلم‪ ،‬فهي تتوخى تطورًا نوعيً ا من أجل مقاربة اللغة الثانية انطالقًا من وظيفة اللغة‬
‫(‪)2‬‬
‫األم‪.‬‬

‫تنتمي اللسانيات التقابلية ‪،‬حينئذ‪ ،‬إىل املقاربا ت اللسانية التطبيقية يف ميدان تعليم اللغات‪ ،‬فهي إجراء‬
‫تقابلي يسعى إىل إجياد إجابات علمية كافية للمشاكل اليت يطرحها التعدد اللغوي يف الوسط‬
‫التعليمي‪ ،‬خاصة فيما يتعلق بتعليم لغة أجنبية بالطرائق نفسها املستخدمة لتعليم اللغة األم ‪.‬‬

‫تنطلق اللسانيات التقابلية من حتليل األخطاء اليت تظهر يف امللفوظات اليت ينجزها املتعلمون‬
‫املبتدئون‪ ،‬وذلك ملعرفة أسبابها وعالقتها بالكفاية اللغوية لدى املتعلم‪ ،‬وضبط جماهلا يف اللغة األم ‪،‬واللغة‬
‫الثانية املراد تعليمها‪.‬‬

‫قد تتدخل اللسانيات التقابلية‪ ،‬وكذا علم النفس اللساني ‪ ،‬لتيسري التالقي اللغوي لدى املتعلم ‪ ،‬وتذليل‬
‫(‪)3‬‬
‫الصعوبات املتعلقة مبسار تشكل التعددية اللغوية يف الوسط التعليمي ‪.‬‬

‫ليس من السهل تعليم لغتني أو أكثر باعتماد املعطيات اللسانية الصرف‪ ،‬فالبد من األخذ بعني االعتبار‬
‫العوامل املباشرة وغري املباشرة للتعارض بني اللغات‪ ،‬وضبط جمال التداخل يف الوسط التعليمي بالرتكيز‬
‫على العملية التفلظية يف حد ذاتها‪.‬‬

‫‪ Voir , R.Galisson et D. Coste : Dictionnaire de didactique des langues,‬ـ ‪1‬‬


‫‪librairie Hachette (1976) paris, p126.‬‬

‫‪ Ibid, p126‬ـ ‪2‬‬

‫‪ Paul Adolf :Linguistique contrastive et didactique de l'anglais ,Revue de‬ـ ‪3‬‬


‫‪linguistique et de didactique, Nancy ,n° 17/1 mars 1999.‬‬

‫‪137‬‬
‫تعد املقابلة بني لغتني‪ ،‬ال تنتميان إىل ساللة واحدة‪ ،‬مرتكزًا أساسً ا للسانيات التقابلية‪ ،‬فاملقابلة بني اللغة‬
‫العربية واللغة الفرنسية ‪ ،‬لغرض تعليمي أو ترمجي‪ ،‬هي أكثر إثارة ومردودية من املقابلة بني الفرنسية‬
‫واإلسبانية‪ ،‬أو بني العربية والعربية ‪.‬‬

‫تسعى اللسانيات القابلية إىل وضع منهجية متميزة لرتقية التالقي بني اللغات‪ ،‬منهجية قابلة للتطبيق يف كل‬
‫حاالت التعدد اللغوي ‪ ،‬سواء أكان األمر يتعلق بالرتمجة أم بتعليم اللغات ‪.‬‬

‫‪(Interférence‬‬ ‫أ ـ التداخل بين اللغات( ‪/ Linguistic interference‬‬


‫‪:linguistique‬‬

‫يعرف عادة التداخل يف نظرية التعلم بأنَّه ت أثري تعلم يف تعلم آخر أقرب إليه‪ ،‬وهو يتعلق‪ ،‬يف تعليمية‬
‫اللغات‪ ،‬بالعوائق والصعوبات اليت تعرتض املتعلم ‪ ،‬وكذلك األخطاء اليت يرتكبها أثناء تعلمه اللغة‬
‫األجنبية حتت تأثري لغته األم أو لغة أجنبية أخرى سبق له أنْ تعلمها‪.‬‬

‫وقد يتبدى التداخل يف مجيع مستويات اللغة ( تداخل صوتي‪ ،‬مورفولوجي‪ ،‬تركييب‪،‬داللي‪،‬أسلوبي)‪.‬‬
‫يستطيع التداخل أنْ يؤخر اكتساب مستوى من مستويات النسق اللساني أو يقاومه‪ ،‬وقد يؤدي إىل حدوث‬
‫اضطراب داللي وأسلوبي يتبدى يف اختيار كلمات غري مالئمة بفعل متاثل داللي خاطئ‪.‬‬

‫ومن هذا املنطلق فإنَّ اللسانيات التقابلية ميكن هلا أنْ تتنبأ بالتداخالت على كل املستويات اليت أشرنا‬
‫إليها‪ ،‬وأنْ تسعى إىل شرحها وتوضيحها‪ ،‬وتقرتح يف الوقت ن فسه تقنيات خاصة ملعلمي اللغات‪ ،‬وهذه‬
‫التقنيات هي نوعان‪:‬‬

‫‪ 3‬ـ تقنيات وقائية ‪ (Techniques préventives ):‬تستخدم لتفادي األخطاء الناجتة عن التداخل‬
‫بني اللغات ‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ تقنيات تصويبية ‪ (Techniques correctives ):‬تستخم لتصحيح األخطاء وتصويبها‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫وال ميكن هلذه اإلجراءات أنْ حتقق أهدافها دون تكث يف املقارنة البنيوية بني اللغات‪ ،‬ودون دراسة نسقية‬
‫(‪)1‬‬
‫لألخطاء ‪.‬‬

‫وهو ينقسم من حيث التأثري إىل‪:‬‬

‫تداخل تقدمي‪ :‬عندما يؤثر التعلم السابق يف التعلم الالحق‪ ،‬تأثري تعلم اللغة (أ) يف تعلم اللغة (ب)‪.‬‬

‫تداخل تراجعي‪:‬عندما يؤث ر الالحق يف السابق‪ ،‬تأثري تعلم اللغة (ب) يف تعلم اللغة(أ)‪.‬‬

‫وينقسم من حيث الفاعلية إىل‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ تداخل إجيابي‪ :‬عندما يساعد على تيسري العملية التعليمية‪ ،‬عندما يسهل على املتعلم تعلم اللغة (ب)‬
‫مبساعدة اللغة (أ)‪ ،‬أو العكس تعلم اللغة (ب) يعمق تعلم اللغة (أ)‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ تداخل سليب‪ :‬عندما يعوق ويعرقل عملية التعلم‪ ،‬تعلم اللغة (أ) يعرقل تعلم اللغة (ب) أو تعلم اللغة‬
‫(‪)2‬‬
‫(ب) حيدث اضطرابًا يف تعلم اللغة (أ)‪.‬‬

‫ب ـ األخطاء‪:‬‬

‫تهتم اللسانيات التقابلية بدراسة األخطاء وحتليلها‪ ،‬وذلك بـ ‪:‬‬

‫‪1‬ـ ضبط أسبابها املباشرة وغري املباشرة ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ توفري الوسائل الكفيلة بتحييدها وإبعادها‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ وضع برامج تدرجيية ملقاومتها ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ تقليص الفرص لظهور اخلطأ يف مسار اكتساب اللغة ‪.‬‬

‫تقر اللسانيات التقابلية بأنْ األخطاء هي ‪:‬‬

‫‪ R.Galisson, OP, CIT, p291-292‬ـ ‪1‬‬

‫‪ Ibid, P 569.‬ـ ‪2‬‬

‫‪139‬‬
‫‪1‬ـ طفيليات ميكن هلا أنْ تعرقل التعلم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مكونات ضرورية ملسار اكتساب اللغات‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ سلسلة من احملاولة واخلطأ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ قواعد عبور أو قواعد انتقال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ أعراض تظهر يف مسار التعلم ‪.‬‬

‫قد يصبح اخلطأ يف العملية التعليمية الكاشف‪ ،‬أو املنبه ) ‪ (Révélateur‬لنقاط الضعف يف الطرائق‬
‫املستعملة لتعليم اللغات )‪.(1‬‬

‫ج ـ التمييز بين األخطاء ) ‪ (Erreurs/ Errors‬واألغالط ) ‪: ( Fautes/ Fault‬‬

‫مييز بعضهم بني األخطاء واألغالط ‪ ،‬ويتماشى هذا التمييز مع املقابلة اليت وضعها تشومسكي بني الكفاية‬
‫اللسان ية واألداء الكالمي أو اإلجناز‪ ،‬فاألغالط ناجتة عن ا ألداء واألخطاء ناجتة عن الكفاية‪ .‬فاالحنرافات‬
‫اليت تالحظ يف تعليم اللغة األم‪ ،‬هي أغالط وليست بأخطاء‪ ،‬واإلخفاقات اليت تطرأ على مسار تعلم لغة‬
‫أجنبية هي أخطاء؛ ألنَّها تتعلق بامتالك كفاية لسانية ثانية ‪.‬‬

‫تتعل ق األخطاء بتعلم اللغة األجنبية‪ ،‬إذ يرتبط حتليل األخطاء مباشرة بهذا النوع من التعليم؛ ألنَّ ظهور‬
‫( ‪)2‬‬
‫األخطاء يعكس قصورً ا يف كفاية املتعلمني يف هذه اللغة؛ أي القدرة على متثل النسق اللغوي اجلديد‪.‬‬

‫لقد عرفت اللسانيات التقابلية وتعليم اللغات والرتمجة يف السنوات األخرية تغريًا عميقًا؛ ألنَّ اللسانيات‬
‫التقابلية كانت يف بداية أمرها ترتكز على منا هج استبطانية ‪ ،‬ولكنها اآلن ترتكز على جمموعة واسعة من‬
‫النصوص املزدوجة أو املتعددة اللغات اليت تهيئ قاعدة جتريبية صلدة مل تكن متوافرة من قبل ‪.‬‬

‫‪ R.Galisson, OP, CIT p 35.‬ـ ‪1‬‬

‫(‪ )2‬ـ ينظر د‪ ،‬سام عمار ‪ :‬حنو رؤية جديدة لتدريس النحو العربي على املستوى اجلامعي ‪ ،‬جملة الرتبية عدد ‪ 318‬مارس‬
‫‪ 8111‬قطر‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫وما دامت هذه النصوص موجودة على شكل مدونات إلكرتونية‪ ،‬فهي إذ ذاك قابلة للتحليل اآللي أو‬
‫(‪)1‬‬
‫نصف اآللي‪ ،‬بفضل الربامج اآللية للتحليل اللساني‪.‬‬

‫تهتم اللسانيات التقابلية حاليًا باملوضوعات اآلتية‪:‬‬

‫ـ تأسيس إجراءات تقابلية فرعية‪:‬‬

‫‪1‬ـ علم املعاجم التقابلي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ املعجمية املزدوجة أو املتعددة اللغات‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ علم الداللة التقابلي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ علم الرتكيب التقابلي‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ التداولية التقابلية‪.‬‬

‫ـ مجع مدونات مربجمة آليا مزدوجة‪ ،‬ومتعددة اللغات‪ ،‬واستثمارها يف ترقية التقابل بني اللغات يف حقل‬
‫الرتمجة أو تعليمية اللغات ‪.‬‬

‫ـ وضع برامج آلية ) ‪ ( Logiciels‬لتحليل املدونات املزدوجة ) ‪(Corpus bilingues‬‬


‫أواملتعددة اللغات‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ـ تفعيل املدونات املزدوجة والرتمجة اآللية أو الرتمجة بواسطة احلاسوب‪.‬‬

‫(‪ )1‬ـ ينظر أعمال ملتقى ‪ :‬اللسانيات التقابلية والرتمجة ـ مقاربات جتريبية ـ باجلامعة الكاثوليكية‪.‬‬

‫‪Université Catholique de Louvain (Louvain-La-Neuve. Belgique 5-6/02/1999‬‬

‫‪2- Voir, Université Catholique de Louvain (Louvain-La-Neuve. Belgique 5-‬‬


‫‪6/02/1999‬‬

‫‪141‬‬
‫خنلص إىل القول يف نهاية املطاف بإنَّ احلقل التعليمي للغات ينماز بالتعددية اللغوية والثقافية‪ ،‬وهو إذ‬
‫ذاك مهيأ السرتفاد مجيع العلوم واملعارف اليت هلا صلة بتشكل األمناط اللغوية والثقافية‪ ،‬من حيث هي‬
‫أمناط تعك س فاعلية العقل البشري من جهة ‪ ،‬وتعكس النزعة التواصلية لدى األفراد و اجملتمعات من جهة‬
‫أخرى ‪.‬‬

‫وهو األمر الذي يستدعي وعيًا عميقً ا بأهمية تفعيل تعليمية اللغات واللسانيات التقابلية‪ ،‬وذلك إلجياد‬
‫مجيع اآلليات املمكنة لتجاوز كثري من املعوقات واإلخفاقات اليت تط رأ عادة حتت تأثري التداخل‬
‫اللغوي‪ ،‬وهو التداخل الذي قد يعوق أحيانً ا العملية التلفظية يف الوسط التعليمي للغات ‪ ،‬من حيث هو‬
‫وسط متعدد األلسن والثقافات بالضرورة‪.‬‬

‫اللسانيات األنثروبولوجية ‪Linguistique anthropologique :‬‬ ‫ثالثا‪:‬‬


‫‪: Anthropological linguistics‬‬

‫ُتعرّف األنثروبولوجيا العامة (‪ ،)1‬بأنَّها ‪:‬‬


‫ـ العلم الذي يدرس اإلنسان من حيث هو كائن عضوي حي‪ ،‬يعيش يف جمتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية‬
‫ل ثقافة معيّنة ‪.‬‬
‫يف ظ ّ‬
‫ـ العلم الذي يدرس احلياة البدائية واحلياة احلديثة املعاصرة‪ ،‬وحياول التنبّؤ مبستقبل اإلنسان معتمداً على‬
‫تطوّره عرب التاريخ اإلنساني الطويل ‪.‬‬

‫(‪ )1‬ـ األنثروبولوجيا ‪ Anthropology‬مصطلح إجنليزي مشتق من أصل يوناني مكون من ‪: Anthropolos :‬‬
‫اإلنسان و ‪ : Logos‬العلم أو الكلمة أو الدراسة ‪ ،‬فاملركب الداللي للمصطلح هو علم اإلنسان = علم اإلناسة ‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫مخطط توضيحي‬
‫اللسانيات‬
‫اللغة من حيث هي‬ ‫‪Anthropological‬‬
‫ظاهرة ثقافية‬ ‫األنثروبولوجية‬ ‫‪linguistics‬‬

‫األنثروربولوجيا‬ ‫اللسانيات‬
‫‪Anthropology‬‬ ‫‪Linguistics‬‬

‫ظاهرة ثقافية‬ ‫اللغة‬ ‫ظاهرة لسانية‬

‫األنثروبولوجيا الثقافيه ‪ : Cultural anthropology‬هي دراسة علمية موضوعها اخلصائص‬


‫اإلنسانية للمجتمعات البشرية ‪ ،‬ومن أهم هذه اخلصائص الثقافة (جمموع العادات والتقاليد واألعراف‬
‫وأمناط احلياة جملموعة بشرية معينة ) ‪.‬‬
‫يعين مفهوم "ثقافة‪ " CULTURE‬من وجهة نظر األنثروبولوجيا احلصيلة الكلية للتقاليد والعادات‬
‫واألعراف ومنط احلياة لطائفة اجتماعية تتميز خبصوصيات حضارية معينة‪.‬‬

‫‪/‬‬ ‫‪Linguistique‬‬ ‫‪anthropologique‬‬ ‫األنثربولوجية‬ ‫اللسانيات‬


‫‪Anthropological linguistics‬‬

‫تعد اللغة من حيث هي ظاهرة ثقافيه قامسًا مشرتكً ا بني اللسانيات واألنثروبولوجيا‪ ،‬وهو األمر الذي‬
‫يؤدي إىل تقاطعهما معرفيًا ومنهجيًا‪ ،‬فنشأ عن هذا التقاطع فرع علمي جديد جيمع بني املرجعيتني (اللسانية‬
‫واألنثروبولوجية )‪ ،‬أضحى يسمى فيما بعد باللسانيات األنثربولوجية ‪ .‬موضوعها األلسنة اخلاصة‬

‫‪143‬‬
‫باجلماعات البشرية من حيث اخلصائص اإلنسانية للمجتمعات خباصة اجملتمعات اليت تنعت عادة بالبدائية‬
‫أو الفطرية ‪ ،‬فهي تبحث يف الصلة اليت تربط اللغة باخلصائص الثقافيه لإلنسان يف جمتمع معني‪ ،‬إذ إنَّ الصلة‬
‫بني اللغة وثقافة اجملتمع تعد من املوضوعات اهلامة لعامل األنثروبولوجيا‪ .‬وما كان ذلك إال ألنَّ كل‬
‫اجملتمعات سواء أكانت متحضرة (متطورة) أم بدائية هلا ثقافة‪ ،‬وأنَّ احلامل املادي هلذه الثقافة هي اللغة يف‬
‫(‪)1‬‬
‫بنيتها املتميزة‪.‬‬

‫ومن ههنا فإ َّن النمط الثقايف ألي جمموعة بشرية يرتبط ارتباطًا وثيقً ا بالنموذج اللغوي املتميز لتلك‬
‫اجلماعة‪ ،‬مما جيعل تقطيع املفاهيم وتوزيعها يف ثقافة من الثقافات خيتلف باختالف اللغات ‪ ،‬فقد الحظ يف‬
‫هذا السبيل مدون املادة املعجمية ( اسم) يف األنسيكلوبيديا يف القرن الثامن عشر‪ ،‬أنَّ استخدام بعض األلفاظ‬
‫(‪)2‬‬
‫اليت تتفاوت يف مدى جتريدها ليس بناتج عن قدرات ذهنية‪ ،‬بل عن اهتمامات اجلماعة الثقافيه‪.‬‬
‫ولذلك جند عالقة الثقافة باللغة الطبيعية حتتل مركزًا هامًا يف املطبوعات األوىل جلامعة تارتو ( ‪)TARTU‬‬
‫( اجلمعية السيميائية – باالحتاد السوفياتي سابقًا ) حيث حددت الظواهر الثقافية على أنَّها أنظمة ثانوية‬
‫( ‪)3‬‬
‫مشكلة وفق النموذج اللغوي‪.‬‬
‫تعود هذه الفكرة يف مرحلتها اجلنينية إىل هاردر ( ‪ ) HARDER‬وهمبلد وغريهما يف أوروبا‪ ،‬وإىل‬
‫يف أمريكا حيث يرى هؤالء مجيعاً أنَّ اللغة حتدد نظرة اجملتمع للعامل احمليط‬ ‫(‪)4‬‬
‫سابري ( ‪( SAPIR‬‬
‫باإلنسان الذى ينتمي إىل منط ثقايف معني‪ ،‬كما أنَّ هلا تأثريًا يف الطريقة اليت يفكر بها أفراد اجملتمع الذين‬
‫(‪)5‬‬
‫يتكملون لغة متجانسة‪.‬‬

‫يرى سابري أنَّ البشر ال يعيشون يف العامل املادي وحده وال يف عامل النشاط االجتماعي باملفهوم العادي‪،‬‬
‫(‪) 6‬‬
‫ولكنهم خيضعون خضوعًا إلزاميًا إىل النموذج اللغوي الذي حيدد التكيف االجتماعي يف احمليط الثقايف‪.‬‬

‫(‪ )1‬ـ ماريو باي ‪ ،‬املرجع املذكور سابقًا ‪ ،‬ص‪.63‬‬


‫(‪ )2‬ـ ليفي سرتاوس ‪ ،‬مقاالت يف اإلناسة ‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫(‪ )3‬ـ سيزا قاسم وآخرون ‪ ،‬مدخل إىل السيميوطيقا ‪ ،‬ص‪. 382‬‬
‫(‪ )4‬ـ ‪ 0101 - 0787 Edward Sapir‬باحث أنثروبولوجي ـ لساني أمريكي‪.‬‬

‫(‪ )5‬ـ عاطف مدكور‪ ،‬علم اللغة بني القديم واحلديث ‪ ،‬ص‪. 48‬‬
‫(‪ )6‬ـ املرجع نفسه ‪ ،‬ص‪. 48.‬‬

‫‪144‬‬
‫ويؤكد أيضاً يف مقام آخر أنَّ فصل اللغة عن الثقافة ليس باألمر اهلني‪ ،‬ويستعمل ههنا لفظ الثقافة مبعناها‬
‫الواسع للداللة على جمموعة التصورات‪ ،‬والتمثالت‪ ،‬واملفاهيم اليت تشكل النظرة اليت تكوِّنها اجملموعة‬
‫(‪)1‬‬
‫البشرية عن العامل احمليط بها‪.‬‬

‫لقد اقتفى ورف ( ‪ )2(( WHORF‬أثر أستاذه سابري‪ ،‬إذ كان تلميذه ومساعده يف اإلجنازات العلمية اليت‬
‫حققها يف جمال البحث اللساني واألنثروبولوجي ‪ ،‬فأفاد ورف من هذه الدراسات واستغل هذا الرصيد املعريف‬
‫يف الدراسات الشاملة اليت قام بها يف الوسط الثقايف واللساني للهنود احلمر‪ ،‬فتوص ل إىل جمموعة من النتائج‬
‫العلمية‪ ،‬أصبحت تنعت فيما بعد بفرضية ورف ‪HYPOTHESE ) Whorf hypothesis‬‬
‫‪:)DE WHORF‬‬

‫يرى ورف أنَّ اللغة ليست يف جوهرها وسيلة للتعبري عن األفكار‪ ،‬بل هي نفسها اليت تشكل هذه‬
‫األفكار‪ ،‬فنحن نقسم العامل بناء على اإلطار العام الذي حيدده النموذج اللغوي سلفًا (‪ .)3‬وقدم صاحب هذه‬
‫النظرية أمثلة كثرية من لغات متعددة لتأكيد فرضيته منها‪ :‬مناذج من بنية األفعال يف إحدى لغات اهلنود احلمر‬
‫املسماة (‪ ، ) HOPI‬وقارنها ببنية ال فعل يف اللغة اإلجنليزية فتبيَّن له بعد هذه املقارنة أن نظرة كل من‬
‫(‪)4‬‬
‫اجملتمعني إىل الزمن ختتلف اختالفا جذريا‪.‬‬

‫جيوز لنا أنْ نقول يف األخري‪:‬إنَّ النموذج اللغوي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنماذج الثقافية جملموعة بشرية معينة‪،‬‬
‫وبناء على ذلك فإنَّ اللغة عامل أسا س يف إضفاء الط ابع الثقايف املميز على اجملتمع؛ ألنَّ العالقات‬
‫االجتماعية التتشكل إال بواس طة النموذج اللغوي الذي يقوم بدور جوهري يف جمال الرتاكم الثقايف‪ ،‬وانتقال‬
‫النمط الثقايف عرب األجيال‪ )5(.‬وما كان ذلك كله إال ألنَّ اللغة تشكل جزءً ا من الوعي الثقايف للجماعة‪ ،‬وهي‬
‫(‪) 6‬‬
‫وهي تعد يف بنيتها اجلوهرية واحدة من أقدم املظاهر هلذا الوعي‪.‬‬

‫(‪ )1‬ـ ميشال زكريا ‪ ،‬األلسنية ( علم اللغة احلديث) مبادئها وأعالمها ‪ ،‬ص‪.331‬‬
‫(‪ )2‬ـ ‪ 3287 Benjamin Lee Whorf‬ـ ‪ : 3893‬لساني أمريكي‪.‬‬

‫(‪ )3‬ـ عاطف مدكور ‪ ،‬املرجع املذكور سابقا ‪ ،‬ص ‪. 61‬‬


‫(‪ )4‬ـ نايف خرما ‪ ،‬أضواء على الدراسات اللغوية املعاصرة ‪ ،‬ص ‪. 302‬‬
‫(‪ )5‬ـ ميشال زكريا ‪ ،‬املرجع املذكور سابقا ‪ ،‬ص ‪. 333‬‬
‫(‪ )6‬ـ ماريو باي ‪ ،‬املرجع املذكور سابقًا ‪ ،‬ص ‪. 312‬‬

‫‪145‬‬
‫رابعًًا ‪ -‬علم االجتماع اللساني ‪: Sociolinguistics / sociolinguistique‬‬

‫كانت البداية منذ أنْ أكد دي سويسر الطابع االجتماعي للسان من حيث هو نظام متكامل من العالمات‬
‫الدالة‪ ،‬فهو يف ح قيقة أمره راسب من رواسب النشاط االجتماعي جلماعة بشرية معينة تتميز خبصوصيات‬
‫(‪)1‬‬
‫ثقافية وحضارية متجانسة ‪ ،‬إذ ليس هناك حقيقة لسانية واقعية خارج بنية اجملتمع‪.‬‬

‫لقد استمد دي سويسر هذا التصور االجتماعي للظاهرة اللغوية من املدد النظري الذي هيأه العامل‬
‫االجتماعي دور كايم )‪ David Émile Durkheim )1858 –1917‬الذي أثار االنتباه إىل‬
‫خصوصيات الظاهرة االجتماعية‪ ،‬فأمست اللغة – إذ ذاك – ظاهرة اجتماعية كغريها من الظواهر األخرى‬
‫‪ ،‬مما جعل بعض العلماء يرى أنَّ ه إذا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية‪ ،‬وتؤدي أيضً ا وظيفة اجتماعية‪ ،‬فليس‬
‫(‪)2‬‬
‫هناك ف رق بني اللسانيات وعلم االجتماع ‪ ،‬واألنثروبولوجيا االجتماعية‪.‬‬

‫يتقاطع علم االجتماع من حيث هو علم يدرس الظواهر االجتماعية مع اللسانيات معرفيًا ومنهجيًا عندما‬
‫ي درس اللسان بوصفه ظاهرة اجتماعية ‪ ،‬ينشأ عن هذا التقاطع علم فرعي جديد يسمى بعلم االجتماع‬
‫اللساني ‪.Sociolinguistics‬‬

‫‪ Juliette Garmadi, La sociolinguistique P13 .‬ـ ‪1‬‬


‫(‪ ) 2‬ـ عاطف مدكور ‪ ،‬املرجع املذكور سابقاً ‪ ،‬ص ‪.42‬‬

‫‪146‬‬
‫غ‬ ‫ل‬‫ل‬‫ا‬
‫سم‬ ‫ة قا‬
‫ت‬‫ش‬ ‫م‬
‫ب‬ ‫ك‬‫ر‬
‫ي‬
‫سان‬ ‫علم االجتماع اللساني ن الل‬
‫ت‬ ‫ا‬‫ي‬
‫ل‬‫ع‬‫و‬
‫ال‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ا‬‫م‬‫جت‬
‫ع‬ ‫علم االجتماع‬
‫اللسانيات‬

‫ظاهرة اجتماعية‬
‫اللغة‬ ‫ظاهرة لسانية‬

‫موضوعات علم االجتماع اللساني ‪:‬‬

‫‪1‬ـ اللهجات (‪: ) DIALECTES‬‬


‫إ َّن اجملموعة البشرية اليت تنتم ي إىل رقعة سياسية وحضارية معينة ‪ ،‬عادة ما تستعمل أمناطا هلجية متفرعة‬
‫عن اللغة املثالية‪ ،‬كما نلفي ذلك واضحا يف اجملتمعات العربية‪ ،‬إذ إنَّ هذه اجملتمعات ختتلف فيما بينهما‬
‫باختالف اللهجات اخلاصة اليت تعرف بها‪ ،‬كما نالحظ ذلك أيضا يف اللغة اإلجنليزية فهي يف إجنلرتا ختتلف‬
‫من حيث التلون اللهجي عن اإلجنليزية يف أمريكا واسرتاليا ‪ ،‬وقد يؤدي تعدد اللهجات وتباينها يف اجملتمع‬
‫الو احد إىل القطيعة واالنفصال عن اللغة املشرتكة حينما تغيب الرواب ط السياسية والدينية واالجتماعية‪،‬‬
‫وأيضً ا عندما تنعدم وسائل االتصال اجلماهريى اليت هلا دور أساس يف هذا الشأن‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك‬

‫‪147‬‬
‫اللغات األوروبية املعاصرة (اإليطالية ـ الفرنسية ـ اإلسبانية ـ الربتغالية ـ والرومانية‪ ) .‬اليت كانت هلجات‬
‫(‪)1‬‬
‫متفرعة عن اللغة الالتينية‪.‬‬
‫‪2‬ـ اللهجات الفردية (‪: ) Idiolects / Idiolectes‬‬
‫يتعلق هذا النمط اللهجي بالطابع الش خصي أثناء اإلجناز الفعلي للكالم‪ ،‬إذ إنَّ لكل شخص خصائصه‬
‫اللغوية املتميزة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬البصمة الصوتية اليت ختتلف من شخص إىل آخر‪.‬‬ ‫أ‬
‫ب ـ العادات اللغوية اليت تظهر أثناء عملية التلفظ‪.‬‬
‫ج‪ -‬الشعور باالنتماء املهين واحلريف وأثره يف القاموس اللغوي عند الفرد املتكلم‪.‬‬
‫‪3‬ـ عالقة اللغة باجلنس ‪:‬‬
‫إ َّن أدنى تأمل يف اإلجناز الفعلي للغة يف اجملتمع يهدي إىل أنَّ هناك فرقًا ملموسًا بني لغة الرجال ولغة‬
‫النساء ‪ ،‬فالقاموس اللغوي عند املرأة خي تلف عن القاموس اللغوي عند الرجل‪ ،‬هناك كلمات خاصة بالنساء‬
‫اليستعملها الرجال كأمساء األلوان مثال والصفات الدالة على املشاعر واألحاسيس والعواطف‪ ،‬وقد تزداد‬
‫هذه الفروق يف اجملتمعات اليت التسمح باالختالط بني اجل نسني يف مرافق احلياة االجتماعية‪ ،‬وقد تقل‬
‫(‪) 2‬‬
‫وتتالشى يف اجملتمعات اليت تبيح االختالط‪.‬‬
‫‪4‬ـ عالقة اللغة بالتباين االجتماعي ‪:‬‬
‫يدرس علم االجتماع اللساني ظاهرة التفاوت الطبقي وأثرها يف النسق اللغوي‪ ،‬فيبني الفروق اللغوية‬
‫املوجودة بني طبقات اجملتمع امل ختلفة‪ ،‬كما يرصد التحول أو االنتقال االجتماعي من طبقة إىل أخرى‪ ،‬وأثر‬
‫ذلك كله يف حتول بنية النسق اللغوي ‪.‬‬
‫‪5‬ـ الكالم احملظور (‪: )TABOU‬‬
‫ترتبط هذه الظاهرة باجملتمع اللغوي ارتباطًا كبريًا ؛ ألن االستعمال اللغوي خيضع لقواعد واعتبارات‬
‫اجتماعية ختتلف من جمتمع إ ىل آخر ‪ ،‬وهذه االعتبارات هي اليت ت قبل أو ترفض استعمال كلمات‬
‫معينة‪،‬مثل الكلمات اليت تتصل بالعيوب والعاهات اجلسمية‪ ،‬وأمساء األمراض‪ ،‬فنرى يف كثري من‬
‫اجملتمعات حتايالً بتهذيب بعض الكلمات وحتسينها‪ ،‬مثل كلمة‪( :‬مات) اليت تستبدل عادة بكلمات مثل ‪:‬‬
‫انتقل إىل رمحة ا هلل ‪ ،‬أسلم روحه‪ ،‬قضى حنبه‪ ،‬توفاه اهلل‪ ،‬اختاره اهلل‪ ،‬ذهب إىل جوار ربه ‪ .‬كما جند بعض‬

‫(‪ )1‬ـ عاط ف مدكور‪ ،‬املرجع املذكور سابقًا‪ ،‬ص ‪. 46 ، 44‬‬


‫(‪ )2‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 45‬‬

‫‪148‬‬
‫الكلمات يعزهلا اجملتمع‪ ،‬بل يصادرها اجتماعيًا مثل‪ :‬الكلمات اليت تتصل بأجزاء معينة من جسم اإلنسان‬
‫(‪)1‬‬
‫وإفرازاته واألمور اجلنسية‪.‬‬

‫خامسًًا ـ علم النفس اللساني ‪:Psycholinguistics / Psycholinguistique/‬‬


‫يدرس علم النفس الظاهرة النفسية بكل أبعادها ‪ ،‬وحينما يتناول اللغة بوصفها ظاهرة نفسية يتقاطع منهجيًا‬
‫مع اللسانيات‪ ،‬فيشكل هذا التقاطع منواالً مركبً ا ينعت بعلم النفس اللساني ‪.‬‬

‫ليس هذا التقارب جبديد بني الظاهرة النفسية ‪،‬والظاهرة اللغوية‪ ،‬فمنذ أنْ كان االهتمام بالظاهرة اللغوية‬
‫كان التصور النفسي هلذه الظاهرة حاضراً حضوراً دائما يف أي مبحث يسعى إىل استكشاف حقيقة هذه‬
‫الظاهرة اإلنسانية ‪.‬‬

‫كانت اإل رهاصات األوىل هلذا العلم تتكون يف رحاب املدرسة اإلجنليزية اليت ميثلها الرتابطيون(‪ ( ) 2‬النزعة‬
‫الرتابطية ‪ ) Associationism‬الذين كانوا منشغلني بتفسري العمليات العقلية بواسطة تداعي األفكار‪،‬‬
‫وكانت تعتمد يف حتليل ذلك على املعرفة اللغوية ‪.‬‬

‫كما جند مالمح علم النفس اللساني تتبدى يف أصفى صورة هلا يف أملانيا على يد وهلام فونت‪W .‬‬
‫‪)3( Wundt‬وهو أول من أسس خمتربا لعلم النفس عام ‪ ، 0228‬كما أنَّ ه أول باحث نفسي يكتب‬
‫املقاالت الطوال حول سيكولوجية اللغة‪.‬‬

‫(‪ )1‬ـ زكي حسام الدين ‪،‬أصول تراثية يف علم اللغة ‪ ،‬ص ‪.010‬‬
‫(‪ )2‬ـ املرتكز املعريف األساس الذي ترتكز عليه هذه املدرسة هو مفهوم الرتابط (ترابط األفكار) عن طريق العقل الذي ينظم‬
‫األفكار والتصورات الذهنية يف سلسلة من العالقات النسقية القائمة على التداعي واالستدعاء‪.‬‬

‫(‪ )3‬ـ ‪ . Wilhelm Maximilian Wund.‬فيلسوف ونفساني أملاني (‪1832‬ـ ‪ ، )1921‬أسس سنة ‪ 1879‬أول‬
‫خمترب يف علم النفس التجرييب يف ( ‪ ) Leipzig.‬بأملانيا‪ ،‬كان له الفضل الكبري يف تكوين عدد من الطلبة من أوروبا وأمريكا‬
‫الشمالية‪ ،‬وإكسابهم منهجية علم النفس التجرييب‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫أما يف أمريكا فقد اكتمل هذا املبحث ‪ ،‬واستقل بنفسه خاصة منذ أن ظهر عدد خاص من جملة علم النفس‬
‫األمريكية سنة ‪ ، 0821‬حيث كان موضوع هذا العدد املشكالت املختلفة لعلم النفس اللساني يف ظل‬
‫(‪)1‬‬
‫الثنائية ( لسان ‪ /‬كالم )‪.‬‬

‫ويتدعم هذا املنهج بظهور أفكار واطسون ‪ 0226( John Broadus Watson‬ـ ‪ )0862‬نفساني‬
‫أمريكي مؤسس علم النفس السلوكي ابتداء من سنة ‪ .0830‬يرى واطسون أنَّ السلوك اإلنساني ما هو إال‬
‫سلوك ديناميكي‪ ،‬وأنَّ العقل ليس موضوعًا مناسبً ا للدراسة النفسية‪ ،‬ويقرتح بدالً من ذلك دراسة السلوك‬
‫الظاهري فحسب‪ .‬ومن ههنا فإنَّ أي إجراء عملي يتناول الظاهرة النفسية مبعزل عن املثري واالستجابة ‪ ،‬يعد‬
‫وهما علميًا عقيمًا ‪.‬‬

‫أصبحت اللغة بناء على هذا التصور سلوكًا ظاهريًا‪ ،‬وفُسِّرَتْ حينئذ تفسريًا بسيطًا‪ ،‬فهي التعدو أنْ تكون‬
‫(‪)2‬‬
‫جمموعة من ردود األفعال املشروطة‪.‬‬

‫ثم يظهر بعد ذلك هيل (‪ ،) 0821( )HULL‬ثم سكينر ‪Burrhus Frederic Skinner‬‬
‫‪0814‬ـ‪ 0881‬الذي طور هذه النظرية (‪ ،)0862‬وأسقط معطياتها على عملية التعلم‪ )3(،‬وهي النظرية‬
‫اليت أثرت يف الفكر اللساني عند بلومفيلد (‪ )Bloomfield‬خباصة ما كتبه عامل النفس السلوكي بول‬
‫(‪)4‬‬
‫ويس (‪ )Paul Weiss‬يف كتابه ‪ " :‬األصول النظرية للسلوك اإلنساني"‪.‬‬

‫عندما كانت السلوكية يف أوج ازدهارها ظهرت يف هذه الفرتة ؛ أي ابتداء من سنة ‪ 0842‬نظرية االتصال‬
‫على يد مؤسسها شانون ‪ 3831 ( Claude Shannon‬ـ‪ ، )8113‬وترى جودت جرن ( ‪Judith‬‬
‫‪ )Green‬أنَّ علماء النفس الذين درسوا اللغة قد تأثروا مبؤثرين أساسني‪ :‬نظرية التعلم‪ ،‬ونظرية االتصال‬
‫ا ليت تبحث يف عملية االتصال بعامة‪ ،‬واالتصال اللغوي خباصة ‪ ،‬وهي تنطلق من حقيقة مؤداها أنَّ اللغة‬
‫الطبيعية تتطلب من مستخدميها دراية وخربة‪ ،‬متكنهم من التحكم يف أي جانب من جوانب الرسالة‬

‫(‪ )1‬ـ حلمي خليل‪ ،‬اللغة والطفل‪ ،‬ص ‪32‬‬


‫(‪ )2‬ـ املرجع نفسه ‪،‬ص ‪. 32‬‬
‫‪3 - Oswald Ducrot, Tzvetan Todorov,OP.CIT, pp92-93.‬‬
‫(‪ )4‬ـ حلمي خليل‪ ،‬املرجع املذكور سابقًا‪ ،‬ص ‪. 34‬‬

‫‪151‬‬
‫الكالمية(‪ .)1‬فنظرية االتصال يف توجهها العام جتعل اللغة اإلنسانية وسيلة من وسائل التواصل‪ ،‬فهي ترتكز‬
‫على دراسة آلية تركيب الرسائل الشفوية وتفكيكها يف خمتلف السياقات ‪.‬‬

‫اكتملت ه ذه احملاوالت على يد سيبيوك ‪0831(Thomas A. Sebeok‬ـ‪ )3110‬حوالي ‪، 0864‬‬


‫وأُ طْلِقَ مصطلح علم النفس اللساني(‪ ، )2‬ومن ههنا أخذ هذا العلم خصائصه املنهجية ‪ ،‬فأصبح علمًا‬
‫مستقالً بذاته ‪ ،‬له أدواته العلمية ‪ ،‬وإجراءاته التطبيقية‪ ،‬ويتبلور ذلك خباصة بعد ظهور النظرية التوليدية‬
‫والتحويلية على يد تشومسكي (‪ )Chomsky‬الذي يرى أن عقل الطفل حيتوي على خصائص فطرية‪ ،‬أو‬
‫ما ميكن أن ينعت بامللكة الفطرية اليت جتعله قادرًا على تعلم أي لغة إنسانية‪ ،‬وهو من إذ ذاك له استعداد‬
‫(‪)3‬‬
‫فطري ألنْ يكوِّن قواعد لغته من خالل الكالم الذي يسمعه بصورة إبداعية‪.‬‬

‫أهداف علم النفس اللساني وموضوعاته ‪:‬‬

‫أوال‪ :‬األهداف ‪ :‬يهدف علم اللساني إىل‪:‬‬

‫‪ 0‬ـ تقديم تفسري علمي دقيق للجوانب النفسية يف الظاهرة اللغوية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ حتديد األسس العصبية للغة ودور ال دماغ يف إنتاج اللغة واستقباهلا‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ حتديد األسس النظرية للغة من خالل دراسة العالقة بني اللغة والتفكري‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ ضبط طبيعة العالقة بني اللغة والذاكرة‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ ضبط آليات الفهم واإلدراك‪ ( :‬تفسري املنطوق واملكتوب وحتديد ردود األ فعال العقلية واللغوية املناسبة)‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ ضبط املهارات اللغوية‪ ( :‬االستماع‪،‬والكالم‪،‬والقراءة‪،‬والكتابة)‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ تشخيص صعوبات الفهم يف التواصل اللغوي واألمراض الكالمية املرتبطة بذلك‪ .‬مثل‪ :‬التأتأة والفأفأة‬
‫واحلبسة الكالمية و احلبسة الرتكيبية( صعوبة تركيب اجلمل وتفكيكها)‪.‬‬

‫(‪ )1‬ـ حلمي خليل‪ ،‬املرجع املذكور سابقًا ‪ ،‬ص ‪. 32‬‬


‫‪2 - Oswald Ducrot, Tzvetan Todorov. OP.CIT,p96.‬‬
‫(‪ )3‬ـ املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪151‬‬
‫ثانيا‪ :‬املوضوعات ‪:‬يدرس علم النفس اللساني املوضوعات اآلتية ‪:‬‬

‫‪ 0‬ـ خصائص السلوك اللغوي وأثر اجلوانب النفسية يف اللغة‪ ( :‬عالقة اللغة باحلالة النفسية للمتكلم)‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ اكتساب اللغة عند الطفل‪ ( :‬مراحل النمو اللغوي)‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الكفاية اللغوية ‪،‬واألداء الكالمي‪ ( :‬القدرة العقلية اليت ميتلكها اإلنسان واليت تسمح له باملمارسة‬
‫الفعليه للغة)‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ احلوار الذاتي‪ ( :‬احلوار الداخلي أو املناجاة)‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ اضطرابات اللغة والعوائق اليت تعرتض العملية التلفظية وأمراض الكالم ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ صعوبات امتالك املهارات اللغوية‪ ( :‬االستماع‪ ،‬والكالم‪ ،‬والقراءة‪ ،‬والكتابة)‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ اضطراب الذاكرة اللغوية‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ضبط طبيعة العالقة بني اللغة والذاكرة‪.‬‬

‫سادسًا‪ :‬الجغرافيا اللسانية ‪:Géolinguistique / Geolinguistics‬‬

‫ُيعد االهتمام بالعامل اجلغرايف أث ناء التعامل مع الظاهرة اللغوية نزعة قدمية يقدم البحث اللغوي نفسه‪،‬‬
‫فالدارسون العرب األقدمون أسسوا حترياتهم اللغوية على العامل اجلغرايف ويظهر ذلك يف حرصهم الشديد‬
‫على حتديد رقعة الفصاحة حتديدًا جغرافيًا‪ .‬ويندرج هذا اإلجراء فيما يسمى بالبحث يف اللسانيات اخلارجية‪،‬‬
‫يقول دي سوسري يف هذا الشأن‪ " :‬إنَّ من يباشر مسألة عالقة الظاهرة اللسانية باملكان‪ ،‬خيرج من جمال‬
‫(‪)1‬‬
‫اللسانيات الداخلية ويدخل يف جمال اللسانيات اخلارجية "‬

‫إنَّ تأسيس البحث – يف اللسانيات اخلارجية – على املكان قد جيد مربرًا له يف تنوع احلدث اللغوي‪،‬‬
‫واختالفه من منطقة جغرافية إىل أخرى‪ ،‬يقول دي سوسري ‪ " :‬لئن كانت االختالفات اللغوية النامجة عن‬

‫(‪ )1‬ـ دي سوسري‪ ،‬د روس يف األلسنية العامة‪ ،‬ترمجة صاحل القرمادي‪ ،‬ص ‪.326‬‬

‫‪152‬‬
‫الزمان غالبً ا ما تغيب عن املالحظ فإنَّ ا الختالفات اللغوية بني مكان وآخر‪ ،‬تربز مباشرة للعيان (‪ )...‬إنَّ هذه‬
‫(‪)1‬‬
‫املقارنة بالذات‪ ،‬هي اليت جتعل شعبً ا من الشعوب يتفطن إىل أنَّ له لسانًا خاصًا"‪.‬‬

‫وقد حاول الباحثون يف هذا السمت ضبط االستعماالت اللغوية املختلفة بكل مستويات ها الصوتية والرتكيبية‬
‫والداللية ‪ ،‬وتصنيفها حسب التوزيع اجلغرايف للمصدر البشري املستعمل للغة معينة‪ ،‬ويتم ذلك عادة‬
‫بواسطة خرائط وأطاليس تبيِّ ن االختالفات اللهجية للمجموعة البشرية الواحدة‪.‬‬

‫نموذج التغيرات الصوتية بتغير المكان‬

‫قلم ــــــــــــــــــــــ ألم‬ ‫األلف‬

‫قلم ــــــــــــــــــــ ‪GALEM‬‬ ‫الجيم المصرية‬


‫القاف‬ ‫الكاف‬
‫‪GA‬‬

‫قلم ـــــــــــــــــــ غلم‬


‫قلم ـــــــــــــــــــ كلم‬ ‫الغين‬

‫أول مبادرة تسجل يف هذا الشأن كانت على يد الباحث اللغوي األملاني ‪0263( Georg Wenker‬‬
‫ـ ‪ )0800‬الذي مل يؤثر يف الفكر اللغوي آنذاك بسبب تأخر نشر أحباثه (‪ ) 0220‬ثم وسع (‪)Wenker‬‬
‫التحريات إىل كل املناطق األملانية فحصل على جمموعة من األجوبة (‪ 44630‬إجابة) جملموعة أسئلة كان قد‬
‫اعتمدها‪ ،‬بيد أنَّ هذه النتائج مل تظهر إال يف سنة ‪ 0835‬بعنوان ‪. Deutscher Sprachtlas‬‬

‫(‪ )1‬ـ دي سوسري‪ ،‬د روس يف األلسنية العامة‪ ،‬ترمجة صاحل القرمادي ‪ ،‬ص ‪. 326،‬‬

‫‪153‬‬
‫ثم بع د ذلك بدأ الفرنسي ون يهتمون بهذا النوع من الدراسة‪ ،‬فقام أحد الباحثني‪ ،‬وهو جول جيلريون‬
‫‪ ) 0835 – 0264( Jules Gilliéron‬بإجراء حتريات تتمثل يف جمموعة من األمثلة املوجهة ملعرفة‬
‫كيفيات أداء اللغة‪ ،‬تتكون من ‪ 0611‬سؤال طرحت على األهالي الذين يتوزعون على ‪ 521‬منطقة‬
‫جغرافية معينة‪ ،‬ثم وضع األجوبة على خرائ ط ونشرها باسم أطلس فرنسا اللغوي(‪L'Atlas ( .)1‬‬
‫‪ linguistique de la France (ALF‬يسمى أيضا أطلس جيلريون نشر بني ‪3818‬و ‪3831‬‬
‫يتضمن االختالفات اللهجية انطالقً ا من األقاليم اجلغرافية لفرنسا‪.‬‬
‫ومن الكتب األخرى اليت تدرج يف هذا السمت (‪: )2‬‬
‫‪-Andre MARTINET, Prononciation du français contemporain, 1945.‬‬

‫‪P. Nauton, Atlas linguistique et ethnographique du Massif Central‬‬


‫‪1957 .‬‬

‫(‪ )1‬ـ احلاج صاحل ‪ ،‬املرجع املذكور سابقا ‪ ،‬ص ‪ ، 20 ، 21‬العدد ‪ 0‬سنة ‪.0823‬‬
‫(‪ )2‬ـ ميشال زكريا ‪ ،‬املرجع املذكور سابقا ‪ ،‬ص ‪030‬‬

‫‪154‬‬

You might also like