You are on page 1of 62

‫علم االجتماع القروي‬

‫(الفصل الرابع)‬

‫األستاذ محمد سالم شكري‬

‫‪1‬‬
‫المحاضرة األولى‬
‫(مدخل)‬

‫علم االجتماع القروي والعلوم االجتماعية‬

‫‪2‬‬
‫إن القراءة المتمعنة في تاريخ السوسيولوجيا تكشف أنه بعد مرحلة التأسيس مع الرواد الكبار‬

‫كونت‪ ،‬ماركس‪ ،‬دوركايم‪ ،‬فيبر‪ ،‬التي كان فيها هاجس صياغة النظريات والمفاهيم الكبرى‬

‫هاجسا مهيمنا‪ ،‬فإن االهتمام بالقرية وبالمجتمع القروي كان اهتماما مهيمنا العتبارات متعددة‬

‫نلخصها في‪:‬‬

‫ــ احتضان العالم القروي لساكنة قدرت ديمغرافيا في بدايات القرن العشرين بأكثر من ‪%70‬‬

‫من مجموع سكان العالم‪.‬‬

‫ــ اعتبار المجال القروي موضوع تحديث زراعي أو موضوع وحقل ثورة زراعية حسب‬

‫الخطابات ذات المرجعيات الليبرالية أو االشتراكية‪.‬‬

‫ــ كون أن القرية كانت دائما حقل الدراسات السوسيولوجيةواألنثروبولوجية سواء من خالل‬

‫نظمها االجتماعية متمثلة في القبيلة‪ ،‬العشيرة‪ ،‬الدوار‪ ،‬أو في الممارسات االجتماعية القائمة‬

‫من مقدس‪ ،‬متمثل في السحر‪ ،‬األضرحة‪ ،‬أو طقوس الزواج‪ ،‬الدفن‪...،‬الخ‪ ،‬أوطقوس الزعامة‬

‫السياسية وإعالن الحروب أو وقفها‪.‬‬

‫يشتمل علم االجتماع القروي على تراث متنوع سواء في السوسيولوجيااألنجلوساكسونية‬

‫أوالسوسيولوجيا الفرنسية‪ ،‬هذا فضال عما تضمنته مختلف اإلنتاجات األنتروبولوجية من‬

‫أنماط تحليلية ومقاربات تصنيفية لمختلف التشكيالت االجتماعية القروية‪ .‬سنعمد في هذا‬

‫المدخل إلى تقديم المستويات المعرفية الكبرى ذات العالقة المباشرة بعلم االجتماع القروي‬

‫وهي‪:‬‬

‫‪ΙΙΙ‬ـ علم االجتماع القروي بالمغرب‪.‬‬ ‫‪ Ι‬ـ األنثروبولوجيا‪ ΙΙ.‬ـ نظريات النمو و التخلف‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ Ι‬ـ األنثروبولوجيا‬
‫كان لهذا العلم االجتماعي المتعدد المجاالت والمتنوع التقنيات والمقاربات والمناهج دور في‬

‫تفكيك البنيات االجتماعية بالقرية‪ ،‬وفي تحليل الممارسات الثقافية‪ ،‬االقتصادية والسياسية‬

‫كممارسات اجتماعية‪ .‬ليس بإمكاننا حصر اإلنتاج األنثربولوجي أو إبراز قيمة مساهمته في‬

‫تلقيح السوسيولوجيا القروية بنتائج علمية وميدانية خصبة لكن وبصيغة مركبة‪ ،‬يمكن تحديد‬

‫المستويات التالية الخاصة بالعالقة القائمة بين األنثروبولوجيا وعلم االجتماع القروي‪ ،‬من‬

‫خالل النظريات الكبرى اآلتي ذكرها‪:‬‬

‫‪1‬ــ األنثربولوجيا الوظيفية‬

‫ساهمت المدرسة الوظيفية في األنثروبولوجيا كمدرسة أنجلوساكسونية في صياغة مقاربات‬

‫متنوعة للبنيات االجتماعية لمجتمعات قبلية بإفريقيا‪ ،‬أمريكا‪ ،‬واستراليا فإذا كان النصف‬

‫الثاني من القرن التاسع عشر هو قرن التأسيس الموضوعاتي األنثروبولوجيا مع األعالم‬

‫األولى ك‪ :‬اوفن‪ ،‬ماين‪ ،‬تايلور‪ ،‬ليبوك‪ ،‬مورغان‪ ،‬فإن النصف األول من القرن العشرين كان‬

‫قرن وضع شروط منهجية جديدة لألنثروبولوجيا بمحاولة االبتعاد عن الثقافة الغربية‬

‫مع‬ ‫خاصة‬ ‫المدروسة‬ ‫للمجتمعات‬ ‫المعاش‬ ‫الواقع‬ ‫ومعرفة‬ ‫الصناعية‬

‫‪،Rdcliffe‬‬ ‫‪Brown‬‬ ‫براون‬ ‫كليف‬ ‫راد‬ ‫مالينوفسكي‪،Malinowski‬‬

‫هرسكوفيتز‪ ،Herscowritz‬لنتون ‪ ،Linton‬كاردينر‪.Cardiner‬‬

‫‪4‬‬
‫ينتمي األوالن للمدرسة الوظيفية البريطانية‪ .‬أما الثالثة األواخر فينتمون للمدرسة الثقافية‬

‫األمريكية التي لعبت دو ار في نقد ا لنزعة االستعمارية واالهتمام بالثقافات األصلية لمجتمعات‬

‫<<الالكتابة>> سواء مجتمعات إفريقية أو أسترالية أو مجتمعات الهنود الحمر بأمريكا‬

‫الشمالية‪.‬‬

‫‪2‬ــ النظرية اإلنقسامية‬

‫تستند هذه النظرية على مقاربة تحليلية تجزيئية ‪ Segmentarismé‬تعتبر أن البنية‬

‫االجتماعية تشتغل وفق آليات االنشطار‪ ،‬االنقسام والتجزئ للبنية االجتماعية إلى أقسام‬

‫لتنقسم هذه بدورها إلى أقسام‪ ،‬وداخل كل مستوى هناك اتحاد أو تحالف دفاعي مواجهلتحالف‬

‫خارجي ( أنا ضد أخي‪/‬اإلخوة ضد أبناء العم‪/‬العشيرة(أ) ضد العشيرة(ب)‪/‬مجموع عشائر‬

‫القبيلة(أ)ضد عشائر القبيلة(ب)‪ /‬القبيلتان(أ)و(ب)تشكالن اتحادا قبليا في مواجهة اتحاد قبلي‬

‫آخر‪ .)...‬إن سلسلة االنشطارات هاته هي التي دفعت باألنثروبولوجييناألفريقانيين ‪Les‬‬

‫‪ ،africanistes‬منهم فورتس ‪ ،Fortes‬ميدلتون‪ ،Middleton‬تيت‪ ،Tait‬سوتال‪Southal‬‬

‫إلى تسمية المجتمعات المدروسة ب<<المجتمعات االنقسامية>>‪.‬‬

‫بالنسبة للمغرب يعتبر إرنستجيلنر‪ E.Gellner‬في دراسته <<صلحاء األطلس>> أهم‬

‫األنثروبولوجيين الذين فككوا التنظيم االجتماعي القبلي بالمغرب‪ ،‬حيث لجأ إلى التحليل‬

‫االنقسامي مستفيدا من تحليل إيفانس بريتشارد ‪ E.Pritchard‬لقبائل <<النويير>>‪Nuer‬‬

‫بإفريقيا الشرقية‪ .‬منح جيلنر للصلحاء دو ار مركزيا في تأدية وظائف اجتماعية وسياسية مهمة‬

‫‪5‬‬
‫داخل بنية قبلية شبيهة بشجرة لها فروع‪ ،‬حيث ينتخب الرؤساء سنويا وبنظام تناوبي‪ .‬أما‬

‫الصلحاء فهم الذين يضمنون الحصانة األخالقية حتى تتمكن االتحادات القبلية من االجتماع‬

‫وتنظيم االنتخاب‪ .‬لقد تعرضت نظرية جيلنر النتقاد علمي مؤسس من طرف األنثروبولوجي‬

‫المغربي عبد هللا حمودي‪ ،‬حيث اعتبر االنتخاب هو تعيين‪ ،‬كما أن االجماع تم خرقه أكثر‬

‫من مرة‪ ،‬إضافة إلى أن الحنصاليين تأرجحوا بين وضعية المسالمة والصلح‪ ،‬وبين وضعية‬

‫التمرد والنشاط العسكري في العالقة بسلطة المخزن المركزية‪.‬‬

‫‪3‬ــ األنثروبولوجيا بالمغرب‬

‫إذا كانت األثنولوجياوالسوسيولوجياالكولونياليتين(اإلستعماريتين) قد ارتبطتا اسميا بفرنسا‪،‬‬

‫خاصة في المرحلة االستعمارية‪ ،‬فإن المرحلة ما بعد االستعمارية قد ارتبطت اسميا‬

‫باألنثربولوجيااألنجلوساكسونية‪ ،‬المرتبطة بصفة أساسية بباحثين أمريكيين في عقدي الستينات‬

‫والسبعينات دراسات شملت حقوال وأنساق اجتماعية مختلفة خاصة بالمجتمع المغربي‪،‬‬

‫ولضرورة منهجية وبدافع إجرائي يوجهه هاجس التلخيص التركيبي‪ ،‬نشير إلى أهم الدراسات‬

‫األنجلوساكسونية مع موضعتها ضمن مجال من المجاالت التالية‪:‬‬

‫ــ الدين‪ ،‬المقدس والزوايا‪:‬من أهم الدراسات‪ ،‬نشير إلى دراسة جيلنر‪<<Gellner‬صلحاء‬

‫األطلس>> حول زاوية أحنصال‪ ،‬وبحث إدوارد وسترماك‪<<E.Westermack‬المعتقدات‬

‫الطقوسية بالمغرب>> (منطقة طنجة)‪ ،‬ودراسة ديل إيكلمان‪<<Dale Eickelman‬اإلسالم‬

‫في المغرب>> وهي تتعلق بالزاوية الشرقاوية بأبي الجعد‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ــ األرياف والقبائل‪ :‬نشير هنا من جديد إلى دراسة جيلنر المذكورة سابقا وأيضا دراسة دافيد‬

‫هارت ‪ D.Hart‬لقبيلة بني ورياغل بالريف وآيت عطا بالجنوب‪ ،‬وأيضا دراسة دافيد سيدون‬

‫‪ D.Seddon‬لقبيلة أوالد ستوت بزايو‪ .‬ووليام شورجر‪ W.Shorger‬حول منطقة مديونة‬

‫بالشاوية‪ ،‬ودراسة هرمان فون فريش ‪ H.VonFresh‬حول التحديث الزراعي بمنطقة ابن‬

‫احمد‪.‬‬

‫ــ الحكم‪،‬الملكية‪ ،‬والزعامات المحلية‪:‬لعل أهم دراسة أنجلوساكسونية معروفة هي‬

‫<<أمير المؤمنين>> لجون واطربوري‪ ،J.Waterbury‬والتي درست عالقة الملكية بالنخب‬

‫تحت‬ ‫<<اإلسالم‬ ‫كتاب‬ ‫وأيضا‬ ‫االستقالل‪،‬‬ ‫بعد‬ ‫ما‬ ‫لسنوات‬ ‫السياسية‬

‫المجهر>>لكليفوردجيرتز‪ ،C.Geertz‬ودراسة بول رابينوف‪ P.Rabinow‬حول الزعامات‬

‫السياسية المحلية بآيتيوسيبصفرو‪.‬‬

‫‪ ΙΙ‬ـ نظريات النمو و التخلف‬


‫كان للنظريات االقتصادية والسوسيولوجية المرتبطة بالنمو والتخلف دور أساسي في منح‬

‫قيمة أساسية للعالم القروي‪ ،‬وتحويل االنتباه ـ ولو لفترة محدودة ما بعد الحرب الكونية الثانية‬

‫ـ نحو األرياف والقرى لتأخذ نصيبها من <<التقدم>><<التنمية>> و<<التحديث>> كما هو‬

‫شأن الحواضر الكبرى بالبلدان الصناعية‪ .‬لذلك كان للتراكم النظري الكبير الخاص‬

‫ب<<سوسيولوجيا>> وأيضا <<اقتصاد>><<النمو والتخلف>> الدور الكبير في إدماج‬

‫‪7‬‬
‫العالم القروي ضمن اهتمام الباحثين السوسيولوجيين واالقتصاديين‪ ،‬وهنا يمكننا أن نصنف‬

‫هذه النظريات المرتبطة بمسألة النمو والتخلف بمدارس ثالثة رئيسية‪:‬‬

‫‪1‬ــ المدرسة الماركسية‪ :‬وهي مدرسة منذ كارل ماركس‪ ،‬وبعده فالدمير لينين‪ ،‬أدمجت‬

‫الفالحين ضمن الطبقة العمالية‪ ،‬واصفة إياهم ب <<البروليتاريا الزراعية>> بل تم تقييم دور‬

‫الفالحين‪ ،‬كدور معضد للطبقة العمالية بالمصانع والحواضر‪ ،‬دور الفالحين دور ملحق‬

‫و<<مساعد>>‪ ،‬ضمن نظرية الثورة االشتراكية‪ ،‬وكل أقطاب الماركسية من ماركس‪ ،‬لينين‪،‬‬

‫غرامشي‪ ،‬ماو‪ ،‬أطروا دور الفالحين ضمن يوتوبيا سياسية ترتبط ب <<ديكتاتورية‬

‫البروليتاريا>> كحلم ثوري لم يتحقق‪.‬‬

‫‪2‬ــ المدرسة الليبرالية‪ :‬تحضر مفاهيم‪ ،‬التراكم‪ ،‬اإلنتاج‪ ،‬فائض اإلنتاج‪ ،‬التبادل‪،‬‬

‫االستهالك‪ ،‬الربح‪ ،‬النمو‪ ،‬حضو ار قويا في الفكر الليبرالي‪ ،‬خاصة في شقه االقتصادي‪.‬‬

‫يتمحور الخطاب االقتصادي الليبرالي حول <<نظرية النمو>>‪ ،‬أي البحث على طرق‬

‫تحقيق وثائر سريعة للنمو االقتصادي‪ .‬إن هذا االهتمام هو السائد لدى االقتصاديين‬

‫الليبراليين منذ ريكاردو في القرن الثامن عشر‪ ،‬وصوال إلى روستوف في القرن العشرين‪.‬‬

‫ارتباط بالمجال القروي‪ ،‬اعتبرت النظرية الليبرالية أن <<التحديث الزراعي>> هو القاعدة‬

‫األساسية لتحقيق نمو اقتصادي بالمجال القروي‪ ،‬على الفالحة أن تتوجه نحو التسويق‬

‫والتصدير‪ ،‬وهو ما لن يتأتى إال بعصرنة آليات وأدوات اإلنتاج الز ارعي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪3‬ــ مدرسة التبعية‬

‫يندرج ضمن هذه المدرسة التي تشكلت في عقدي الستينات والسبعينات مفكرون‬

‫سوسيولوجيون‪ ،‬علماء اقتصاد وسياسة‪ ،‬معظمهم ينتمي لقارات أمريكا الجنوبية‪ ،‬إفريقيا‪،‬‬

‫وآسيا‪ ،‬وإن كانت فئة قليلة تنتمي ألوربا والواليات المتحدة‪ .‬يجمع مفكرو هذه المدرسة على‬

‫تقسيم اقتصاد العالم وبلدانه إلى مجموعتين‪ ،‬بلدان << المركز >> التي تضم أمريكا‬

‫الشمالية‪ ،‬أوربا‪ ،‬واليابان‪ ،‬وبلدان << المحيط >> التي تضم بلدان القارات الثالثة‪ ،‬والعالقة‬

‫بين المجموعتين هي عالقة ال تكافؤ‪ ،‬في اإلنتاج‪ ،‬التبادل‪ ،‬والتوزيع‪ ،‬حيث أن الجنوب ينتج‬

‫ويصدر بتكلفة رخيصة‪ ،‬ويتقاضى مقابل ذلك مواد تقنية بسيطة بتكلفة باهظة‪ .‬ويشكل العالم‬

‫القروي ضمن مجال << المحيط >><< محيط المحيط >> أو << هامش الهامش >> ألنه‬

‫بدوره يكون هو المهيمن عليه ‪ Dominé‬في عالقته بالعالم الحضري حيث تتمركز رؤوس‬

‫األموال والثروات االقتصادية‪ .‬من أهم رموز مدرسة التبعية نذكر سمير أمين‬

‫‪.Gordoso ،Frank ،Stavenhagen،S.Amin‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ ΙΙΙ‬ـ علم االجتماع القروي بالمغرب‬
‫يعتبر علم االجتماع القروي بالمغرب علما في طور التأسيس لم يكتمل نموه بعد‪ ،‬شأنه في‬

‫ذلك شأن علم االجتماع بالمغرب بشكل شمولي‪ .‬لذا فإن التمرحل الذي ميز الثاني ينطبق‬

‫على األول باعتباره فرعا منه‪ ،‬وإن كان يشكل قسمه الرئيسي‪ .‬نميز في تاريخ تشكل علم‬

‫االجتماع القروي بالمغرب بين مرحلتين‪1 :‬ـ مرحلة كولونيالية‪2 .‬ـ مرحلة وطنية‬

‫‪1‬ــ المرحلة الكولونيالية‬

‫عادة ما يؤرخ لظهور السوسيولوجيا بالمغرب بحدث تأسيس <<البعثة العلمية بالمغرب>> ‪La‬‬

‫‪ 1903(Mission scientifique au maroc‬ـ‪ ،)1904‬رغم أن الحدث كان مسبوقا بظهور‬

‫أبحاث إثنوغرافية متفرقة همت ظواهر السحر‪ ،‬القبيلة‪ ،‬الزوايا بمناطق مختلفة من المغرب‬

‫تمهيدا للتدخل االستعماري‪ .‬وقد تكاثرت الدراسات االثنوغرافيةوالمونوغرافيات المعرفة بقرى‬

‫وأرياف بالمغرب بعد التثبيت الرسمي والدولي االستعماري بالمغرب (‪ ،)1912‬حيث تميز‬

‫ميشو بلير بدراسته حول << الطرق الدينية بالمغرب>> (‪ ،)1927‬وإدموند دوتيه‪Doutté‬‬

‫في كتابه <<‪ ،)1914( >>Entribu‬ثم روبير مونطاني‪ R.Montagne‬في أطروحته‬

‫التحليلية المتميزة << البربر والمخزن >> (‪ ،)1930‬وبعده جورج دراك ‪ G.Drague‬في‬

‫مؤلفه حول الزوايا <<‪،)1951( >>Esquisse d’histoire religieuse du maroc‬‬

‫وبعدهم جاك بيرك المبتعد عن النزعة الكولونيالية والملتصق أكثر بالمجتمع القبلي لسكساوة‬

‫باألطلس الكبير في أطروحته الشهيرة الصادرة سنة ‪ << 1955‬البنيات االجتماعية لألطلس‬

‫‪10‬‬
‫الكبير >>‪ ،‬إنها أمثلة محدودة وقليلة ألهم ما خلفته السوسيولوجياالكولونيالية حول العالم‬

‫القروي بالمغرب‪.‬‬

‫‪2‬ــ المرحلة الوطنية‬

‫بعد العقد األول لإلستقالل السياسي للمغرب‪ ،‬وجد الجيل األول من الباحثين االجتماعيين‬

‫المغاربة نفسه أمام تحد‪ ،‬يرتبط بالبعد المزدوج للسوسيولوجياالكولونيالية‪:‬‬

‫ـ بعد معرفي يتمثل في القيمة الوصفية وأحيانا التحليلية للدراسات اإلثنوغرافية و‬

‫السوسيولوجية لباحثين كولونياليين همت ظواهر اجتماعية متعددة خاصة القبيلة‪ ،‬الدين‪،‬‬

‫الزعامات المحلية‪.‬‬

‫ـ بعد إيديولوجيإرتبط بالتصورات القدحية والمضامين واألحكام السلبية التي شملتها‬

‫الدراسات الكولونيالية حول المغرب والمغاربة‪.‬‬

‫كان ضروريا للتمييز بين هذين البعدين الخاصين بالسوسيولوجياالكولونيالية التي كانت‬

‫نزعتها‬ ‫من‬ ‫السوسيولوجيا‬ ‫تصفية‬ ‫<<‬ ‫قروية‬ ‫سوسيولوجيا‬ ‫وبامتياز‬

‫الكولونيالية>>‪ ،Décoloniser la Sociologie‬كما دعا إلى ذلك المفكر المغربي عبد‬

‫الكبير الخطيبي‪.‬‬

‫أمام هذا الوعي النظري بالبعد المزدوج لتلك السوسيولوجيا‪ ،‬بدأت تتبلور معالم سوسيولوجيا‬

‫وطنية‪ ،‬كما تبلورت الخطوط األولى لعلم اجتماع قروي مغربي ـ بحكم أن الغلبة الديمغرافية‬

‫كانت للبوادي حتى إحصاء ‪ 1994‬ـ مثله بصفة عميقة بول باسكون‪ P.Pason‬لكن حضر‬

‫‪11‬‬
‫إلى جانبه باحثون آخرون اهتموا بالمجال القروي نذكر أهمهم ‪ :‬محمد جسوس‪ ،‬المكي بن‬

‫الطاهر‪ ،‬عبد الجليل حليم‪ ،‬رحمة بورقية‪ ،‬المختار الهراس‪.‬‬

‫تنوعت مساهمات هؤالء في نحت صورة واضحة لدراسات سوسيولوجية قروية‪ ،‬وإن لم يكن‬

‫علم اجتماع قروي مغربي مستقل وقائم بذاته‪ ،‬إال أن أهم باحث في السوسيولوجيا القروية‬

‫المغربية يبقى هو الراحل بول باسكون (‪ 1932‬ـ‪ )1985‬الذي تمكن من خالل عمله الميداني‬

‫المباشر وتأطيره العلمي للطلبة المهندسين بمعهد البحث الزراعي‪ ،‬وتجديده في الحقل‬

‫المفاهيمي من منح السوسيولوجيا المغربية نفسا قويا‪.‬‬

‫بول باسكون وعلم االجتماع القروي بالمغرب‬

‫تعددت التدخالت العلمية‪ ،‬النظرية والميدانية لبول باسكون في مناطق مختلفة من المغرب‬

‫منذ بداية الستينات‪ ،‬سواء بمساهمته في المخطط الخماسي ‪ 1960‬ـ ‪ 1964‬أو دوره في‬

‫تأسيس المكتب الوطني للري‪ ،‬أو دراساته لقرى منجمية لفائدة << المكتب الشريف للفوسفاط‬

‫>>‪ ،‬أو دعمه لفريق متعددة االختصاصات ‪ ،EIRESH‬هذا فضال عن أثره الواضح في‬

‫تأسيس المكتب الوطني للري بالحوز سنة ‪ ،1964‬ليصبح فيما بعد مدي ار جهويا للمكتب‬

‫الجهوي لالستثمار الفالحي بالحوز‪ .‬وقد مكنته هذه التجربة المهنية األخيرة ـ مع مزاوجتها‬

‫بالتدريس بمعهد الزراعة والبيطرة بالرباط ـ من إنجاز أطروحته الجامعية القيمة << حوز‬

‫‪12‬‬
‫مراكش >>‪ Le Haouz de Marrakech‬سنة ‪ ،1975‬والتي ستنشر في جزأين سنة‬

‫‪.1977‬‬

‫من أهم القضايا والخالصات المثيرة في كتابات باسكون‪ ،‬وخاصة أطروحته الجامعية‪ ،‬هو‬

‫نعته للمجتمع المغربي ب << المجتمع المركب >> ‪ ،Société composite‬كمجتمع هو‬

‫تركيب متداخل ألنماط إنتاج قبل رأسمالية وأخرى رأسمالية‪ ،‬فاإلنسان المغربي يعيش كما‬

‫يفكر‪ ،‬يستهلك ويتعايش مع ما هو إقطاعي‪ ،‬رأسمالي‪ ،‬واشتراكي في نفس اليوم واللحظة‪،‬‬

‫وهو ما ينطبق على السلوكات داخل المؤسسات‪ ،‬في الشارع‪ ،‬وداخل األسرة‪ .‬لقد مكنت‬

‫المالحظات التي جمعها باسكون حول المجتمع القروي بحوز مراكش من صياغة نظرية‬

‫سوسيولوجية حول << المجتمع المركب >> قابلة للتعميم على مستوى المجتمع المغربي‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫بيبليوغرافيا مختارة ألهم المراجع المتوفرة بمكتبة كلية اآلداب‬

‫(ظهر المهراز)‬

‫ج‪3/15403/‬‬ ‫ـ رحمة بورقية‪ ،‬األرياف المغربية في ظل التحوالت الكبرى‬

‫ـ محمد علي قطان‪ ،‬دراسة المجتمع في البادية والريف ج‪ 3/9662/‬أو ج‪3/7291/‬‬

‫ج‪3/9713/‬‬ ‫ـ محمد الجوهري وعلياء شكري‪ ،‬علم االجتماع الريفي والحضري‬

‫ـ عالء الدين جاسم البياتي‪ ،‬البناء االجتماع والتغير في المجتمع الريفي‪ /،‬الرشيدية‪ ،‬دراسة‬

‫أنثروبولوجية اجتماعية ج‪3/8571/‬‬

‫‪ 1899/A.‬ـ ‪ Guy Hunter, La Modernisation des sociétés rurales, 300‬ـ‬

‫‪ 2976/A.‬ـ ‪ Paul Bois, Paysans de l’ouest, 300‬ـ‬

‫‪ 3267/A.‬ـ ‪ Marcel Vigreux, La Crise de monde rural, 950‬ـ‬

‫‪ 8115/AB .‬ـ ‪ Placide Rambaud, Sociologie rural, 300‬ـ‬

‫‪ /A.‬ـ‪ MekkiBentahar, Villes et compagnes au Maroc, 300 9869‬ـ‬

‫‪ monde,‬ـ ‪Coquery, Vitro vitch, Société paysannesdu tiers‬ـ ‪ Catherine‬ـ‬

‫‪ 6907/B.‬ـ ‪950‬‬

‫‪ 4301/B.‬ـ ‪ Henri Deroches, Village en développement, 300‬ـ‬

‫‪ 2344/B.‬ـ ‪ Collectif, Villes et sociétés au Maghreb, C.N.R.S ,300‬ـ‬

‫‪14‬‬
‫بيبليوغرافيا مختصرة ومركزة‬

‫ـ ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫ـ محمد عبد الغني حسن‪ ،‬الفالح في األدب العربي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬القاهرة‪.1965 ،‬‬

‫ـ بول بايروك‪ ،‬مأزق العالم الثالث‪ ،‬دار الحقيقة‪ ،‬بيروت‪.1973،‬‬

‫ـ كارل ماركس‪ ،‬الرأسمال‪ ،‬دار الفرابي‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫ـ لينين‪ ،‬تطور الرأسمالية في روسيا‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬موسكو‪.‬‬

‫ـ محمد سالم شكري‪ ،‬هامشية المسألة الفالحية‪ ،‬مجلة أمل‪ ،‬عدد ‪ 22‬ـ ‪.2001/23‬‬

‫ـ إريك وولف‪ ،‬الحروب الفالحية في القرن العشرين‪ ،‬ترجمة أكرم الرافعي‪ ،‬دار الحقيقة‪،‬‬

‫بيروت‪.1977،‬‬

‫‪ Karl Marx, Le Capital, Livre 1, Ed sociales, paris,1977.‬ـ‬

‫‪ Lénine, La question agraine en Russie a La fin du 19 siècle, Ed. du‬ـ‬

‫‪Progrès.‬‬
‫‪ W.W.Rostow, Les étapes de la croissance économique, Ed, du seuil,‬ـ‬

‫‪paris 1963.‬‬
‫‪ Gramsci, Gramsci dans le texte, Ed, sociales, Paris,1977.‬ـ‬

‫‪ Charles Bettelheim, Questions sur la chine après la mort de Mao Tsé‬ـ‬

‫‪Toung, Ed, Maspéro, paris, 1978.‬‬

‫‪15‬‬
‫المحاضرة الثانية‬
‫هامشية المسألة الفالحية‬

‫‪16‬‬
‫يتحدد اإلطار النظري للدراسة ضمن الحقل المعرفي الخاص بعلم االجتماع القروي‬
‫كعلم ينقسم بدوره إلى حقول مختلفة تهتم بقضايا وموضوعات اجتماعية تهم المجتمع القروي‬
‫يعاد تأسيسها في موضوعات سوسيولوجية منها‪ :‬الصراعات والنزاعات االجتماعية‪ ،‬النخب‬
‫القروية‪ ،‬المقدس في المجتمع القروي‪ ،‬اإلصالح الزراعي‪...‬الخ‪ .‬الدراسة تتجه بشكل خاص‬
‫صوب المسألة الفالحية ‪ La question paysanne‬من خالل االهتمام بالفالح ليس من‬
‫منطلق نظري محض يستثمر المسألة الفالحية في رهانات إيديولوجية‪ ،‬بل من منطلق‬
‫سوسيولوجي يهدف إلى تحليل السياق االجتماعي لتطور المجتمع القروي الفالحي‪ .‬تنطلق‬
‫الدراسة من إعادة االعتبار ‪ Revalorisation‬للمسألة الفالحية‪ ،‬وتأسيس مقاربة‬
‫سوسيولوجية فهمية متعددة األدوات المفاهيمية والتقنيات المنهجية لمعرفة أكثر بواقع‬
‫الفالحين دون أحكام مسبقة قد تعلن نفسها أحكاما واقعية وموضوعية ألن المهم في البحث‬
‫السوسيولوجي ليس هو استبعاد اإليديولوجيا بل التحديد الواعي والمعقلن للعالقة القائمة بينها‬
‫وبين العلم‪ ،‬فاإليديولوجيا ليست بنت العقل‪ ،‬وانتشارها ال يكون عن طريق اإلقناع‪ ،‬بل عن‬
‫طريق التعاطف‪ .‬إنها تعبر دائما عن الهوى‪ ،‬الرغبة والمصلحة‪ ،‬وهي توظف كل الحقائق‬
‫العلمية والمعتقدات الدينية والرموز األسطورية إلقناع اآلخرين‪ ،1‬لكنها ال تشتغل بعيدة عنه‪،‬‬
‫فتحديد اإليديولوجيا ال يكون إال بمقارنتها بالعلم الذي يحاول من خالل منطقه االستداللي‬
‫عن الخطاب اإليديولوجي وإن كان يحمله باطنا وينتهي إلى تطبيقه في الممارسة االجتماعية‬
‫ما دام كل علم يرتبط بتحوير إيديولوجي لنتائجه ألنه « بجانب اإلقصاء المتبادل بين العلم‬
‫واإليديولوجيا فإن كال منهما يساعد على تحديد اآلخر وكأن تعريف العلم ذاته ال يتحدد إال‬
‫بتحديد ما هو إيديولوجي والعكس أيضا صحيح‪ :‬العلم هو كل ما ليس إيديولوجيا‪،‬‬
‫واإليديولوجيا هي كل ما ليس علميا »‪.2‬‬
‫يتأسس اإلطار النظري لدراستنا للمجتمع القروي الفالحي على التفكير في المسألة‬
‫الفالحية ومحاولة تجاوز الخطابات المقاربة لهذه المسألة والتي حددت الفالح بمرجعية‬
‫سلبية‪ .‬فما هي أهم األحكام والتصورات والقيم التي حملتها الخطابات التي تناولت الفالح‬
‫سواء في الثقافة العربية – اإلسالمية أو في الثقافة الغربية؟‬

‫‪ -1‬محمد سبيال‪ ،‬اإليديولوجيا‪ ،‬نحو نظرة تكاملية‪ .‬المركز الثقافي العربي‪ .‬بيروت‪ .‬الدار البيضاء‪ ،1992 .‬ص ص ‪.122-121‬‬
‫‪ -2‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.198‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -1‬صـورة الفـالح فـي الثقـافـة العربيـة – اإلسالميـة‬
‫لفظ الفالح مصدره الفلح‪ ،‬وفلحت األرض «شققتها للزراعة‪ .‬وفلح األرض للزراعة‪،‬‬
‫يفلحها فلحا‪ ،‬إذا شقها للحرث والفالح‪ :‬األكار‪ ،‬وإنما قيل له فالح ألنه يفلح األرض أي‬
‫يشقها وحرفته الفالحة‪ ،‬والفالحة بالكسر‪ :‬الحراثة‪ ،‬وفي حديث عمر‪ :‬اتقوا هللا في الفالحين‪،‬‬
‫يعني الزراعين الذين يفلحون األرض أي يشقونها»‪ .3‬تخفي هذه الداللة األولى لمفهوم الفالح‬
‫في اللسان العربي داللة ثانية تحمل تصو ار قدحيا للفالح‪ ،‬فإذا كان عمر ينصح «باتقاء هللا‬
‫في الفالحين» فمرد ذلك وجود ظلم اجتماعي الحق بهم إذ يصنفون في مرتبة دنيا‪ .‬وإذا كان‬
‫الفالح في نفس المصدر ] لسان العرب البن منظور[ يعني «الفوز بالجنة والنعيم» فإن‬
‫الفالح ] بالتشديد على الالم[ ال يفوز دائما بنعيم الموسم الفالحي‪ ،‬بل قد يلحقه الكساد‬
‫خاصة في مواسم الجفاف‪ .‬إن الحكم القدحي على الفالحين يتحول إلى نصح بالحذر منهم‬
‫ألنهم مصدر مكر « فلح به تفليحا‪ :‬مكر وقال غير الحق» والتفليح هو «المكر‬
‫واالستهزاء»‪ .4‬إن االنتقال من الداللة اللغوية األولى المرتبطة بالفالح كماكر ومتحايل وغير‬
‫قائل للحق يكشف عن احتضان الثقافة العربية لحكم سلبي لمهنة الفالحة وفئة الفالحين‬
‫وتصنيفهم في أسفل مراتب المجتمع‪ ،‬بل نجد ندرة في استعمال لفظة «فالحة» في الكتب‬
‫الثراتية‪ ،‬فرغم قدمها في القاموس العربي‪ ،‬فهي كانت تعوض بألفاظ «األكرة»‪« ،‬أهل القرى»‬
‫و «أهل األرياف»‪ ،‬كما أن لفظة «فالح» ولفظة «فالحون» لم تظه ار إال في القرن السابع‬
‫الهجري(‪ ،)5‬أي بعد سبعة قرون على تأسيس الثقافة اإلسالمية على مستوى النص القرآني‪،‬‬
‫والحديث النبوي‪ ،‬وتبلور مصادر فقهية للشروحات واالجتهادات انطالقا من النص الديني‬
‫األول قرآنا وحديثا نبويا‪.‬‬
‫أما ابن خلدون فيقول في المقدمة «إن الفالحة من معاش المستضعفين وأهل العافية‬
‫من البدو‪ ،‬ولذلك ال تجد ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب‪ ،‬وال من المترفين‪ ،‬ويختص‬
‫منتحله بالمذلة»‪ .‬قال (ص)‪ ،‬وقد رأى السك ببعض دور األنصار «ما دخلت هذه دار قوم‬

‫‪ -3‬ابن منظور‪ .‬لسان العرب‪ .‬المجلد الثاني‪ .‬دار صادر‪ .‬بيروت‪ .‬ص ‪.548‬‬
‫‪ -4‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.549‬‬
‫‪ -5‬محمد عبد الغني حسن‪ ،‬الفالح في األدب العربي‪ .‬دار القاهرة‪ 1965 .‬ص ‪.13‬‬

‫‪18‬‬
‫إال دخله الذل»‪ ،‬وحمله البخاري على االستكثار منه وترجم عليه‪« :‬باب ما يحذر من عواقب‬
‫االشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به»‪ .‬والسبب فيه وهللا أعلم ما يتبعها من‬
‫المغرم المفضى إلى التحكم واليد العالية‪ ،‬فيكون الغارم ذليال بائسا بما تتناوله أيدي القهر‬
‫واالستطالة‪ .‬قال(ص)‪ :‬ال تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرما»‪ ،‬إشارة إلى الملك القاهر‬
‫العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط والجور ونسيان حقوق هللا تعالى في المتموالت‬
‫‪6‬‬
‫واعتبار الحقوق كلها مغرما للملوك والدول»‪.‬‬
‫تتضمن «المقدمة»‪ ،‬كأهم مرجع من المراجع التاريخية العربية‪ ،‬نظرة تحقيرية للفالح‬
‫ألن الفالحة مهنة ذل وال يختص بها أهل المدينة والمترفين‪ ،‬وقد استند ابن خلدون إلضفاء‬
‫مشروعية على حكمه القيمي – السلبي على مهنة الفالحة بمشروعية دينية تمثلت في‬
‫]‬ ‫الحديث النبوي «ما دخلت هذه الدار قوم إال دخله الذل»‪ .‬واإلشارة هنا إلى السكة‬
‫المحراث[ التي رآها النبي بإحدى دور األنصار‪ .‬إن الحكم المتضمن في «مقدمة» ابن‬
‫خلدون يتضمن ما يسميه د‪ .‬محمد جسوس بالعائق التراثي كأحد العوائق التي تحول وتأسيس‬
‫معرفة موضوعية بواقع الفالح في المجتمعات العربية‪-‬اإلسالمية‪ ،‬وذلك ألن المعرفة الخاصة‬
‫بالمجتمع الفالحي مستمدة من مصادر غير فالحية‪ ،‬ومن مثقف مدني ينتمي لنخبة حضرية‬
‫تدور في فلك سلطة مركزية وحضارة إسالمية كان قطبها هو المدينة‪ ،‬فالمجتمع الفالحي لم‬
‫ينتج المكتوب‪ .‬تضاف إلى ذلك مسألة ثقافية مميزة للمجتمعات المغاربية وتتمثل في الثقافة‬
‫‪7‬‬
‫األمازيغية‪ ،‬مما يدل على أن تراث الفالحين حتى الشفوي منه كان التعبير عنه باألمازيغية‪.‬‬
‫كما تتضمن «المقدمة» حكما واقعيا يعبر عن طبيعة العالقة السياسية بين الحكم المركزي ]‬
‫الملك العضوض[‪ ،‬والفالحين كعالقة متميزة بالقهر واالستطالة و «اليد العالية» مما يجعل‬
‫من الزكاة غرامة‪ ،‬والجبايات والضرائب ضرورة مفروضة على الفالحين يؤدونها من‬
‫محاصيلهم الزراعية ومواشيهم‪.‬‬
‫من المراجع التراثية األساسية التي يمكن االستناد إليها في الثقافة العربية‪-‬اإلسالمية‬
‫لمعرفة التصورات المتضمنة في هذه الثقافة إزاء الفالحين نذكر «الفتاوي الفقهية» من خالل‬

‫‪ -6‬ابن خلدون‪ .‬المقدمة‪ .‬الجزء‪ .2‬الطبعة‪ . 3‬دار النهضة للطباعة والنشر‪ .‬الفجالة‪ .‬القاهرة‪ .‬محرم ‪1401‬هـ‪ .‬تحقيق د‪.‬علي عبد الواحد وافي‪ .‬ص‬
‫ص ‪.927-926‬‬
‫‪ -7‬د‪ .‬محمد جسوس‪ .‬محاضرات السلك الثالث السنة الجامعية ‪ ،1987/1986‬كلية اآلداب العلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة محمد الخامس‪ ،‬الرباط‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫إبداء الفقهاء آلرائهم في «النوازل» المتمثلة في أحداث جديدة قد تتميز بالشدة والقسوة‪ ،‬ولم‬
‫يصدر فيها نص ديني واضح‪ .‬إال أن أغلب النوازل ال تشير إلى المكان والزمان وحتى تلك‬
‫التي تضمنت فتاوي في مسائل الفالحة من أكارة ومغارسة ومزارعة وحراثة طغى على‬
‫نصوصها تصدير فقهي طويل‪ ،‬بينما الفتوى الفقهية الخاصة بالشؤون الفالحية تكون‬
‫مقتضبة وثانوية‪ .‬إن العنصر السائد في الخطاب الفقهي حول النوازل هو اإلحالة على‬
‫مرجعية عصر التدوين العربي‪ ،‬والعودة إلى النص الديني وذكر سيرة الصحابة‪ ،‬إضافة إلى‬
‫احتكام واضح للنص الديني المكتوب‪ ،‬بينما المجتمع الفالحي احتكم إلى ثقافة شفوية ‪ .8‬إن‬
‫النوازل والفتاوي الفقهية صادرة في أغلبها عن فقهاء يجسدون نموذج «المثقف التقليدي»‬
‫حسب تعبير غرامشي وهو المثقف المرتبط بالسلطة المركزية‪ ،‬الذي تربى في الوسط‬
‫المديني‪ .‬ولهذا فالنوازل المستعصية في قضايا الفالحة يقفز عليها بالعودة مكانا وزمانا إلى‬
‫العصر األول للثقافة اإلسالمية عوض االلتصاق بالواقع االجتماعي للفالحين‪ ،‬ومن هنا‬
‫يمكن فهم رفضهم لعقود اإلجارة وشركة الخماسة ألنها تنافي قواعد الفقه اإلسالمية‪ ،‬دون فهم‬
‫الشروط االجتماعية التي تدفع بالخماس إلى قبول وضعه لضرورات اجتماعية واقتصادية قد‬
‫تتجاوز ثبات الرؤية التي تميز الخطاب الفقهي‪.‬‬
‫يمكن للمتخصص في المصادر الدينية والتاريخية ] ابن خلدون[‪ ،‬والفقهية ] أدب‬
‫النوازل[ أن يستنتج أن الثقافة العربية اإلسالمية تتضمن أحكاما‪ ،‬قيما وتصورات سلبية‪ ،‬بل‬
‫وتحقيرية للفالحين ولممارسة الفالحة‪ ،‬وهي أحكام‪ ،‬قيم وتصورات مستمدة من المرجعية‬
‫النصية الدينية من جهة أولى‪ ،‬كما هي مستمدة من المرجعية السوسيو‪-‬تاريخية من جهة‬
‫ثانية والمتمثلة في كون المدينة هي مركز الحضارة اإلسالمية بينما كان الفالحون مصد ار‬
‫حلوبا الستخالص الجبايات وفئة تخضع لإلذالل والقهر وتسلط «اليد العالية»‪ ،‬وهذا ما‬
‫يفسر هامشية المسألة الفالحية في الثقافة العربية اإلسالمية‪.‬‬

‫‪ -8‬عبد اللطيف حباشي‪ .‬حول صورة الفالح في الثقافة العربية‪-‬اإلسالمية‪ -‬أدب النوازل نموذجا‪ :-‬مجلة « األمل »‪ .‬عدد ‪.1997 .9‬‬
‫ص ص ‪.82-61‬‬

‫‪20‬‬
‫‪ -2‬صـورة الفـالح فـي الثقـافـة الغربيـة‬
‫يبد و أن دراسة كيفية تناول التراث الغربي للمسألة الفالحية من خالل مرجعياته‬
‫المكتوبة والشفوية‪ ،‬القديم منها والحديث‪ ،‬هي دراسة محكومة بنسبية نتائجها ومحدودية أفقها‬
‫النظري ألن الثقافة الغربية متعددة المصادر والتخصصات وذات قنوات لسانية متنوعة أهمها‬
‫اإلنجليزية‪ ،‬الفرنسية واإلسبانية‪ .‬لكن يمكن على ضوء الوقائع التاريخية لألزمنة المعاصرة‬
‫وما أنتجته من منظومات فكرية لها تخصصات معرفية متنوعة‪ ،‬أن نثبت وجود نظريتين‬
‫أساسيتين وجهتا األبحاث في العلوم االجتماعية كما شكلتا اإلطار المرجعي والبيئة‬
‫اإليديولوجية ألنظمة سياسية سواء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو طيلة القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وهما النظرية الليبرالية والنظرية الماركسية‪ ،‬فما هي الصورة المكرسة إزاء الفالح‬
‫ضمن كل نظرية من النظريتين؟‬
‫أ‪ -‬النظرية الليبرالية‪:‬‬
‫تعتبر النظرية الليبرالية سابقة للنظرية الماركسية من حيث التأسيس والنشأة‪ ،‬بل إن‬
‫النظرية الثانية بلورت مفاهيمها وأطرها النظرية انطالقا من النتائج التي تضمنتها تحليالت‬
‫النظرية األولى‪ ،‬وهذا يظهر بصورة واضحة في عالقة كارل ماركس بدافيد ريكاردو حيث‬
‫أسس نظريته في تحليل االقتصاد الرأسمالي انطالقا من المصنع اإلنجليزي‪ ،‬من خالل‬
‫قراءته لريكاردو في مرحلة أولى ونقده إياه في مرحلة ثانية بإبراز أن «فائض القيمة» يتحقق‬
‫في دائرة اإلنتاج‪ ،‬وفي العالقات االجتماعية للرأسمال والعمل المأجور‪ ،‬ال في دائرة التوزيع‬
‫وتسويق المنتوج حين يت حول إلى بضاعة‪ .‬تستمد النظرية الليبرالية أصولها من مواكبتها‬
‫للتطور الذي عرفته الطبقة البورجوازية حيث أنها لم تحقق ثورة صناعية فقط‪ ،‬بل حققت ثورة‬
‫زراعية موطنها األصلي هولندا في القرنين ‪ 16‬و ‪ 17‬كبلد كان يعرف كثافة سكانية‪ .‬ستنتقل‬
‫هذه الثورة الزراعية إلى بلد عرف كثافة سكانية منخفضة في القرنين السابع عشر والثامن‬
‫عشر هو إنجلترا‪ .‬إال أن الشكل المتطور للنظرية الليبرالية في المجال االقتصادي هو الذي‬
‫يحضر في نظرية روستوف‪ Rostow‬حول المراحل الخمس للنمو االقتصادي‪ ، 9‬الذي ال‬
‫يقتصر على القطاع الصناعي‪ ،‬بل للقطاع الفالحي دور أساسي‪ ،‬فروستوف يجعل من‬
‫الموارد الغذائية قاعدة اقتصادية في مرحلة اقتصادية في مرحلة االنتقال الممهدة لمرحلة‬

‫‪ –9‬بول باريوك‪ .‬مآزق العالم الثالث‪ .‬دار الحقيقة‪ .‬بيروت‪ .1973 .‬ص ص ‪27-26‬‬

‫‪21‬‬
‫اإلقالع االقتصادي ‪ .10‬على الفالحة أن توجه نحو تحقيق حاجيات تسويقية وأيضا إنتاج‬
‫رساميل تنمي القطاع «العصري» في االقتصاد‪ ،‬وهو القطاع الصناعي‪ .11‬إن نظرية‬
‫روستوف تجعل القطاع الفالحي مرتبطا بالقطاع الصناعي‪ ،‬بل إن تطويره يعتبر تصنيعا له‪،‬‬
‫وعصرنة ألدواته ووسائله‪ ،‬حتى يكون قطاعا تمويليا للنمو االقتصادي‪ ،‬ألن التجربة التاريخية‬
‫للبلدان األوربية كما سلفت اإلشارة أظهرت أن الزراعة «شكلت العمود الفقري للثورة‬
‫الصناعية» كما يؤكد بول بايروك‪.12‬‬
‫ال نعثر ضمن هذه النظرية الليبرالية الماكرو‪-‬اقتصادية على حضور للفالح أو‬
‫اهتمام بفئة الفالحين‪ ،‬فالنمو االقتصادي يتخذ تحديث الفالحة وسيلة لتحقيق النموذج‬
‫الليبرالي في التقدم‪ .‬تمكن هذا النموذج الذي يعود إلى روستوف من الهيمنة على خطاب‬
‫نظرية االقتصاد العالمي‪ ،‬وهو الذي حاولت المنظمات الدولية خاصة «صندوق النقد‬
‫الدولي» و «البنك العالمي لإلنماء والتعمير» تطبيقه‪ .‬لكن االتجاه المهيمن لدى هذه‬
‫المؤسسة الثانية هو اتجاه سياسي ضمني حاول االهتمام بالعالم القروي من خالل تطبيق‬
‫اإلصالح العقاري‪ ،‬ومساعدة دول كثيرة إلنجاز مشاريع استثمارية في القطاع الفالحي كحالة‬
‫المغرب‪ .‬لم تهتم النظرية الليبرالية بالفالحة إال من منظور اقتصادي يتوخى تحقيق المردودية‬
‫والرفع من اإلنتاج‪ ،‬وفي هذا االهتمام تغيب المسألة الفالحية في بعدها السوسيولوجي‪،‬‬
‫المتمثل في معرفة الحقل االجتماعي الذي هو موضوع للتحديث لتحقيق النمو االقتصادي‪:‬‬
‫حقل يتشكل من فئات وطبقات لها ثقافة تاريخية ذات قيم وتمثالت رمزية قد ال تستسيغ‬
‫خطط التحديث والعصرنة المطبقة على القطاع الفالحي ألن الفالح يمارس عمله داخل‬
‫]اإلطار السوسيو‪-‬‬ ‫مجال رمزي وفي توافق بين مجال إيكولوجي ومجال اجتماعي‬
‫مجالي[‪.‬‬
‫أغفلت النظرية الليبرالية اإلطار السوسيو‪-‬مجالي الذي ستطبق فيه خطاطتها‬
‫االقتصادية ألنها اختزلت النمو االقتصادي في مجرد تطبيق مادي ألساليب تقنية‪ ،‬علما أن‬
‫التكنولوجيا هي منتوج نسق غربي مما يجعل الفالح يتعامل مع منتوج غريب عنه كما يجعل‬

‫‪10‬‬
‫‪– W-W Rostow. Les étapes de la croissance économique. Ed. Seuil. Paris. 1963.p.40.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪– Ibib.p.44.‬‬
‫‪ –12‬بول بايروك‪ .‬مرجع مذكور‪ .‬ص ‪.33‬‬

‫‪22‬‬
‫االقتصاد الوطني لبلد متخلف مرتبطا بمعرفة واستيعاب تكنولوجيا نسق اقتصادي غربي ‪.13‬‬
‫ال يمكن للتحديث أن يرتبط باألشياء المادية فقط من خالل تحقيق نمو اقتصادي وتراكم‬
‫للرأسمال‪ ،‬بل هو تحديث يجب أن يهتم بالكائنات البشرية‪ ،‬وهنا يكمن الخطأ النظري لـ‬
‫«حكمة التحديث» التي أخذت بها دول العالم الثالث كما يثبت أحد الباحثين السوسيولوجيين‬
‫المغاربة ‪ ،14‬فالمنطق الذي وجه النظرية الليبرالية هو ترسيخ تقابل ضدي بين‬
‫«الحديث» و «التقليدي» وإخراج القطاع الفالحي كقطاع «تقليدي» من دائرة «التخلف»‬
‫ليصبح قطاعا «حديثا» شبيها بالقطاع الصناعي‪ .‬وفي ذلك عدم معرفة بوتيرة التغير المميز‬
‫للمجتمعات القروية ومطابقة عمياء بين التحديث الصناعي الذي يتحقق بتغيير تقني سريع‬
‫والتحديث الزراعي الذي ال يتحقق بتكيف سريع للفالح مع األساليب التقنية الحديثة من خالل‬
‫إدماجها في النسق الثقافي «التقليدي» للمجتمع القروي‪ .‬هنا تبدو مساهمة األنثروبولوجيا‬
‫ذات مشروعية كبيرة ألنها ساهمت – كما يقول جورج بالندييه‪ -‬في وضع أسس مستقبلية‬
‫لدراسة المجتمعات التي تتغير وفق «سرعات» مختلفة ‪.15‬‬
‫تتخذ النظرية الليبرالية الفالح في إطار عملية التحديث كوسيلة بشرية لتطبيق الخطط‬
‫التنموية لتمكين األرض من اإلنتاج المتزايد وضمان مردودية مرتفعة‪ ،‬ولذلك تتمحور سيرورة‬
‫التنمية حول البعد االقتصادي وحده‪ ،‬ويتم إغفال أبعاد أخرى أساسية في عملية التنمية‪.‬‬
‫يظهر عزيز بالل دور العوامل الثقافية‪ ،‬السياسية واإليديولوجية في سيرورة التنمية وينتقد‬
‫النظرية ال تنموية التي تختزل التنمية في البعد التقني فيسميها باإليديولوجيا التنموية‬
‫‪ Idéologie développementiste‬كإيديولوجيا تقصي باقي عناصر المشروع التنموي‬
‫وتختزل الممارسة االجتماعية في مجرد ممارسة تقنية ‪ .16‬النظرية الليبرالية إذن تتضمن في‬
‫مرجعيتها النظرية‪ ،‬كما في مجالها التطبيقي نزعة أذاتية‪ ،‬تحول الفالح إلى «نكرة» وعنص ار‬
‫يؤدي وظيفة السخرة لتحقيق نمو مرتفع القتصاد عالمي ال يشكل االقتصاد الوطني سوى‬
‫حلقة صغيرة وذيلية ضمن حلقاته‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫‪– FarikKannane. « Science, technologie et développement rural » Alasas. N°49./1983.pp26-29.‬‬
‫‪ –14‬محمد شقرون‪ .‬مفهوم التحديث واستعماالته في سوسيولوجيا المجتمعات النامية‪ .‬مجلة الوحدة‪/‬العدد ‪ 1991/85‬ص ص ‪.14-9‬‬
‫‪15‬‬
‫‪Georges Balandier. Sens et puissance. 2.ed.P.U.F. 1981. PP 144-145.‬‬
‫‪16‬‬
‫‪– Aziz Belal. Développement et facteurs non économiques.SMER. Rabat. 1980. pp81-100.‬‬

‫‪23‬‬
‫ب‪ -‬النظرية الماركسية‬
‫تمكنت النظرية الماركسية انطالقا من تحليل نمط اإلنتاج الرأسمالي في تشكيلته‬
‫االجتماعية من المساهمة في تشريح ماكرو –اقتصادي آلليات الرأسمالية‪ ،‬وهي كنظرية‬
‫تموقع البورجوازية كما البروليتاريا كطبقتين أساسيتين متصارعتين في المجتمع الرأسمالي‪،‬‬
‫فعينة التحليل بالنسبة لكارل ماركس هي «المصنع اإلنجليزي»‪ ،‬لكن التشكيلة االقتصادية‬
‫واالجتماعية ال تتضمن هاتين الطبقتين فقط‪ ،‬بل هناك طبقات أخرى قد تتوزع إلى فئات‬
‫اجتماعية‪.‬‬
‫يرى أحد كبار الفالسفة الماركسيين الذين اقترحوا قراءة جديدة لكتاب «الرأسمال» أن‬
‫ماركس لم يقدم نظرية لنمط إنتاج رأسمالي خالص إذ ال وجود لهذا النمط اإلنتاجي بشكل‬
‫خالص دون استمرار رواسب أنماط إنتاج أخرى بداخله‪ ،‬فالنموذج اإلنجليزي الذي درسه‬
‫ماركس لم يكن إذن نموذجا رأسماليا خالصا ‪ .17‬يكشف ماركس عن أثر التطور الرأسمالي‬
‫على القطاع الفالحي‪ ،‬فيبين أن التصنيع أدخل اآللة إلى العمل الفالحي‪ ،‬فأدى إلى تعويض‬
‫اإلنسان باآللة في أمريكا الشمالية وإلى إفراغ كلي للبوادي اإلنجليزية من ساكنتها‪ ،‬فتحول‬
‫الفالح إلى أجير‪ ،‬وهكذا « حل التطبيق التقني للعلم محل االستغالل األكثر رتابة وال عقالنية‪،‬‬
‫وقطع اإلنتاج الرأسمالي بشكل نهائي الصلة التي كانت تربط بين الفالحة والمصنع منذ‬
‫طفولتهما‪ ،‬لكنه خلق في نفس الوقت الشروط المادية لتركيب جديد وأكثر تطورا‪ ،‬أي اتحاد‬
‫الفالحة والصناعة على قاعدة التطور الحاصل في كل منهما في فترة انفصالهما الكلي (‪)...‬‬
‫في المقابل‪ ،‬فكل تقدم في الفالحة الرأسمالية هو تقدم ليس فقط في فن استغالل العامل‪ ،‬بل‬
‫أيضا في فن استنزاف األرض‪ ،‬فكل تقدم في فن الرفع من خصوبتها لفترة محددة‪ ،‬هو تقدم‬
‫في استنزاف الموارد الدائمة لخصوبتها (‪ )...‬ال يطور إذن اإلنتاج الرأسمالي التقنية وسيرورة‬
‫اإلنتاج االجتماعي إال باستنزافه في نفس الوقت للمصدرين اللذان تنبع منهما كل ثروة‪:‬‬
‫األرض والعامل»‪.18‬‬
‫يتحول الفالح إلى عامل أجير في السياق التطوري لنمط اإلنتاج الرأسمالي‪ ،‬وتتحول‬
‫فئة الفالحين إلى بروليتاريا زراعية تحت ضغط ضرورة تاريخية لمنطق «تقدمي» له وجهان‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫‪– Louis Althusser. Lire Le Capital. Tome2,/2. ed Maspero. Paris, 1980. pp.75-76.‬‬
‫‪18‬‬
‫‪– Karl Max. Le Capital. Livre1.ed. Sociales. Paris 1977. pp359-361.‬‬

‫‪24‬‬
‫وجه إيجابي يتمثل في إدخال التقنية إلى القطاع الفالحي والرفع من إنتاجية األرض‬
‫وخصوبتها‪ ،‬ووجه سلبي يتمثل في هجرة الفالحين لقراهم‪ ،‬وتحولهم إلى عمال بمصانع المدن‬
‫على الخصوص‪ ،‬أما الذين فضلوا البقاء للعمل في الفالحة فهم فقراء ليسوا عبيدا وال‬
‫أح ار ار»‪ .19‬أين تتموقع فئة الفالحين ضمن النظرية الماركسية‪ ،‬وما هو المستقبل الذي رسمه‬
‫لها ماركس؟‬
‫في تحليله لألوضاع السياسية في فرنسا سنوات ‪ 1850 ،1849 ،1848‬أظهر ماركس‬
‫أن العائالت المكونة من الفالحين والتي تعيش في ظروف اقتصادية تفصلها عن باقي‬
‫الطبقات االجتماعية‪ ،‬تشكل هي أيضا طبقة قائمة بذاتها لكونها طبقة ال تحمل وعيا طبقيا‬
‫وعاجزة عن تشكيل تنظيمها السياسي‪ ،‬لهذا ستبقى غير قادرة على الدفاع عن مصالحها‬
‫الطبقية ‪ ،20‬وهي بذلك]كطبقة[ رغم ما تعرفه من استغالل اقتصادي فإنها تشكل عائقا أمام‬
‫الثورة التي ستحققها البروليتاريا‪ .‬إنها الطبقة الرابعة بعد البورجوازية‪ ،‬البروليتاريا والبورجوازية‬
‫الصغيرة‪ ،‬إال أنه محكوم عليها بأن تنحل وتذوب في البروليتاريا‪ .‬لهذا فإن ماركس – سنوات‬
‫بعد ذلك‪ -‬وفي آخر فقرات "الرأسمال" يحرر مشروع مخطوط حول "الطبقات" لم يتمكن من‬
‫استكماله‪ ،‬في نصه األخير حول الطبقات في المجتمع الرأسمالي يغير تصنيفه الطبقي‬
‫السابق معتب ار المأجورين الرأسماليين والمالك العقاريين الطبقات الثالث األساسية في نمط‬
‫اإلنتاج الرأسمالي‪ ،21‬ليؤكد أن التقسيم الطبقي ال يظهر بشكل خالص حتى في أنجلت ار‬
‫البلد «الذي عرف التقسيم االقتصادي للمجتمع الحديث بشكل أكثر تطو ار»‪.22‬‬
‫لم تحظ طبقة الفالحين في تحليالت كارل ماركس بتعريف نظري واضح‪ ،‬فهي ذات‬
‫وزن سياسي كبير ألن ظروفها االقتصادية القاسية بفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر‬
‫تدفعها إلى التعجيل بتطور سياسي "تقدمي"‪ ،‬لكنها ليست طبقة بالمعنى االقتصادي ألنها ال‬
‫تعي مصالحها الموضوعية وال تتميز بالتجانس‪ ،‬وهذا ما يجعلها ذيلية وملحقة بالبروليتاريا‪.‬‬
‫نستنتج أن تصور مؤسس الماركسية موضع هو أيضا الفالحين كأداة في سيرورة التطور‬
‫الرأسمالي تمهيدا لالنتقال نحو االشتراكية‪ ،‬فهم ليسوا سوى طبقة تؤدي وظيفة " السخرة‬

‫‪19‬‬
‫‪– Ibid. p. 487.‬‬
‫‪20‬‬
‫‪– K.Marx. Le dix huit brumaire de Louis Bonaparte, Ed. Sociales. Paris. P. 129.‬‬
‫‪21‬‬
‫‪K.Marx. Le capital .Livre 3.p.796‬‬
‫‪22‬‬
‫‪ibid. p.796.‬‬

‫‪25‬‬
‫السياسية" إلنجاز التحول نحو االشتراكية وتحول "جماهير الفالحين" إلى بروليتاريا نتيجة‬
‫سيرورة تقدمية لتطور موضوعي في قوى اإلنتاج في المجتمع الرأسمالي‪.‬‬
‫ستجد النظرية الماركسية تحققها في إطار الدولة مع الثورة البلشفية في أكتوبر‬
‫‪ ،1917‬وسينقل لينين التصور النظري الذي صاغه ماركس حول الفالحين إلى الممارسة‬
‫السياسية حيث ستكون الطبقة الفالحية مجرد طبقة تعضد البروليتاريا لترسيخ االشتراكية‬
‫ودحر "القوى البيضاء" المتمثلة في التكتل االقتصادي – السياسي – العسكري لإلقطاع‬
‫الروسي‪ .‬توخت سياسة لينين نزع األراضي للفالحين بنهج مبدأ التأميم الشامل وتحويلها إلى‬
‫"كولخوزات"‪ ،‬إال أن تشبث الفالحين بأرضهم ( وهي المجال الرمزي والثقافي الذي يربطهم‬
‫بالعالم) شكل في تصور لينين عائقا أمام إنجاز الثورة االشتراكية‪ ،‬فكان عليه أن يطبق"‬
‫السياسة االقتصادية الجديدة " التي تفسح مجاال ضيقا للفالحين للتملك الفردي لألراضي‪.‬‬
‫أدرك لينين تأخر القطاع الفالحي بروسيا وركز على ضرورة معرفة المعطيات األساسية‬
‫حتى يمكن معرفة طبيعة العالقات الفالحية‪« :‬فقط حين نحدد طبيعة الطبقات واتجاه النمو‪،‬‬
‫يمكن آنذاك االهتمام بمسائل خاصة كسرعة النمو أو تحول ما في االتجاه العام»‪ . 23‬إن‬
‫الهدف هنا هو تحديد طبيعة الطبقات المتصارعة‪ ،‬وهل انقسمت طبقة الفالحين إلى‬
‫بورجوازية وبروليتاريا‪ ،‬وليس تطوير قطاع الفالحة‪ ،‬فمسألة النمو في القطاع الفالحي تمت‬
‫موضعتها في سياق سياسي هو إمكانية تحويل الفالحين إلى طبقة سياسية تعضد البروليتاريا‬
‫في إنجاز "الثورة االشتراكية"‪ .‬لهذا لم يختلف لينين اختالفا كبي ار عن ماركس‪ ،‬بل هو يؤكد‬
‫نتيجة تحليله بإبراز أن الرأسمالية قلصت من أعداد الفالحين بفعل ظهور اآللة التي دفعت‬
‫بهم إلى المدن ليتحولوا إلى عمال في المصانع‪ ،‬مبينا أن «التاريخ لم يدحض قانون ماركس‬
‫حول الفالحة فيما يخص البلدان الرأسمالية الحالية‪ ،‬بل هو بالعكس أكده»‪.24‬‬
‫يمثل تحليل لينين ل"تطور الرأسمالية في روسيا "بشكل عام‪ ،‬وتطور الفالحة الروسية‬
‫بشكل خاص اإلثبات النظري والسياسي لتحليل ماركس للمسألة الفالحية‪ ،‬فبالرغم من دقة‬
‫تحليله والذي يعد مكمال لتحليل كاوتسكي للمسألة الزراعية ‪ ،25‬فهو ال يجعل الفالحين طبقة‬
‫أسا سية في مشروع "الثورة االشتراكية" بل أداة لتحقيق نمو ال يجعل الفالحين طبقة أساسية‬

‫‪23‬‬
‫‪Lénine. La question agraire en Russie à la fin du 19 eme siècle. Ed. Progrès. T 15. p134.‬‬
‫‪24‬‬
‫‪Lénine. Le capitalisme dans l’agriculture. Ed . Progrès. Moscou T.4 p 111.‬‬
‫‪25‬‬
‫‪Thami El Khayari Agriculture au Maroc .Ed Okad. Rabat. 1987. pp .434-451.‬‬

‫‪26‬‬
‫في مشروع "الثورة االشتراكية" بل أداة لتحقيق نمو الرأسمالية‪ ،‬فنمو الفالحة يعني تحديثها‪،‬‬
‫والتحديث هو التصنيع ( النمو= التحديث= التصنيع )‪ .‬بهذا المعنى تكون طبقة الفالحين‬
‫ملحقة بالبروليتارياوالبروجوازية وتذوب فيهما‪ ،‬فيغيب التحديد النظري الواضح للتحليل‬
‫الماركسي‪ -‬اللينيني للمسألة الفالحية‪ .‬يالحظ أحد الباحثين الفرنسيين المهتمين بقضايا‬
‫المغرب العربي في دراسته المعروفة «الفالحون بين الخطاب والممارسة» أن األحزاب‬
‫الشيوعية تعاملت مع الفالحين بعدم ثقة من مؤتمر باكو سنة ‪ 1920‬حتى حرب الجزائر‪،26‬‬
‫مدعما رأيه باألطروحة التي تعتبر أن الماركسيين أعادوا إنتاج الوهم العلموي بأهمية التقنية‬
‫والتحديث انطالقا من إيمان غير مبرر بالنخبوية الثورية للطبقة العاملة‪.27‬‬
‫بالنسبة للنموذج الصيني كأحد النماذج الخاصة بالتجربة االشتراكية فهو يظهر‬
‫نموذجا متفردا في معالجته للمسألة الفالحية كمعالجة ال تتصور تحقيق التغيير السياسي في‬
‫بلد أغلبيته من الفالحين دون االستناد عليهم كقاعدة أساسية‪ .‬لهذا تتشكل القاعدة االجتماعية‬
‫الطبقية "للمسيرة الطويلة" التي قادها ماوتسيتونغ من الفالحين الذين قاموا بثورات في القرن‬
‫التاسع عشر لكنها أحبطت‪ .‬اعتمد الشيوعيون الصينيون على الفالحين دون أن يتحول‬
‫الحزب الشيوعي الصيني إلى حزب فالحي في سياسته في المجال الفالحي رغم أن غالبية‬
‫أعضائه تتشكل من الفالحين‪ ،‬بل إنه طبق إصالحا زراعيا ليبراليا في الشمال الغربي للصين‬
‫كما دافع الشيوعيون على الفالحين األغنياء‪ .28‬يستنتج األنثروبولوجي إيريك وولف أنه تمت‬
‫تعبئة الفالحين المتوسطين "األحرار" بمناطق هامشية رغم أنهم محافظون وتقليديون‪ ،‬وسبب‬
‫االلتقاء بين فئات فالحية وسطى ونخبة هامشية شيوعية هو تضرر األولى من تقلبات‬
‫االقتصاد التجاري كعامل اقتصادي‪ ،‬وعودة أبنائهم المتعلمين في المدينة بثقافة سياسية‬
‫حاملة لقيم السخط والتمرد والمعارضة‪ ،‬يتأثر بها اآلباء المشكلون للفئة الوسطى من‬
‫الفالحين‪ .29‬إنه عامل ثقافي ساهم بتظافر مع العامل االقتصادي في تحول هذه الفئة إلى‬

‫‪26‬‬
‫‪– Bruno Etienne. « La paysannerie entre le discours et la pratique », in : les problèmes‬‬
‫‪agraires au Maghreb, Annuaire de l’Afrique du Nord. C.N.R.S/C.N.R.S.M. 1975. PP3-4.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪– Ibid, p3.‬‬
‫إريك وولف‪ ،‬الحروب الفالحية في القرن العشرين‪ ،‬ترجمة أكرم الرافعي‪ .‬دار الحقيقة‪،‬‬ ‫‪28‬‬

‫بيروت‪ .1977 ،‬ص ص ‪156-150‬‬


‫نفس المرجع‪ ،‬ص ص ‪284-283‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪27‬‬
‫قاعدة سوسيو‪ -‬طبق ية بالنسبة ل "الثورة االشتراكية" كما خططت لها نخبة سياسية بزعامة‬
‫ماوتسيتونغ‪.‬‬
‫أظهر الخطاب السياسي للدولة االشتراكية بالصين –الخطاب الماوي أساسا‪ -‬اهتماما‬
‫واضحا بالمسألة الفالحية أكثر من الخطاب الماركسي‪ -‬اللينيني رغم أنه يجسد استم ار ار له‪،‬‬
‫كما حاول في ممارسته السياسية أن يجد موقعا للفالحين بمحاولته تطبيق هدفين متناقضين‪:‬‬
‫ثورة زراعية وإصالح ليبرالي‪ .‬لكن محاولة الدولة لن تتحقق‪ ،‬فابتداء من سنة ‪ 1976‬سيتم‬
‫الحد من مبادرات الفالحين في تسيير األراضي واستغاللها‪ ،‬وسيظهر اتجاه إداري مركزي‬
‫يراقب الفالحين ويقنن المسألة الفالحية بعيدا عن المنتجين‪ .‬أصبحت السياسة الفالحية‬
‫الجديدة للدولة الصينية تركز على تسريع سيرورة "التحديث" وتنمية عملية اإلنتاج وذلك‬
‫‪ .‬تغيرت أهداف السياسة‬ ‫‪30‬‬
‫بإخضاع الفالحين لمراقبة أطر مركزية وموظفين محليين‬
‫االقتصادية من التركيز على ثالثية الفالحة‪ ،‬الصناعة الخفيفة وأخي ار الصناعة الثقيلة‪ ،‬إلى‬
‫تركيز أحادي على "وتيرة النمو االقتصادي" وإعطاء األولوية لتراكم الرأسمال وتطوير قوى‬
‫اإلنتاج‪ .‬هكذا تم تبني التركيز األحادي البعد على الصناعة على حساب الفالحة وتأكيد‬
‫التصور اإلنتاجوي لستالين "الوتائر هي المحددة لكل شيء"‪ ،‬فكان االبتعاد عن األهداف‬
‫المحددة منذ ‪.31 1956‬‬
‫رغم البدايات التأسيسية ذات المظاهر اإليجابية للتجربة الصينية في معالجة المسألة‬
‫الفالحية خطابا وممارسة في برامج "الثورة الزراعية" كما في أشكال تطبيقها العملي‪ ،‬ورغم ما‬
‫يميز عالقة اإليديولوجيا الماوية باإليديولوجيا الماركسية‪-‬اللينينة من استقالل نسبي (عالقة‬
‫الخاص بالعام)‪ ،‬فإنها تجربة انتهت إلى ترسيخ نموذج "التحديث" المرتكز على تسريع وتيرة‬
‫النمو‪ ،‬مع تسيير إداري لالستغالليات الزراعية أنتج بيروقراطية مركزية ذات نفوذ كبير‪ .‬هكذا‬
‫دعمت التجربة الصينية التصور األداتي اتجاه الفالحين الذي صاغه ماركس وطوره لينين‬
‫في تأسيسه للدولة السوفييتية‪ ،‬مع فرق واضح يتمثل في استمرار حضور الطبقات الفالحية‬
‫في الخطاب السياسي الرسمي وغيابها في ممارسة الدولة إلصالحات في القطاع الفالحي‬

‫‪30‬‬
‫‪Charles Bettelheim. Questions sur la Chine après la mort de Mao Tsé-‬‬
‫‪Toung. Ed. Maspero. Paris 1978/pp 28-29‬‬
‫‪31‬‬
‫‪Charles Bettelheim. Questions sur la Chine après la mort de Mao Tsé-Toung‬‬
‫‪Ed Maspero. Paris 1978/pp 28-29‬‬

‫‪28‬‬
‫هدفها تطوير الرأسمال النقدي بصورة أحادية مما ينتج عنه إغفال الرأسمال البشري وتهميش‬
‫الفالحين‪.‬‬
‫يعتبر تحليل غرامشي للمجتمع اإليطالي تحليال له تفرده ضمن التحليالت الخاصة‬
‫بالنظرية الماركسية‪ ،‬فقد انطلق في تفكيره من مرجعية سياسية تهدف إلى تغيير المجتمع‬
‫الرأسمالي بإنجاز "اإلصالح الثقافي واألخالقي" لبناء كتلة تاريخية مكوناتها األساسية هي‪:‬‬
‫المثقفون العضويون‪ ،‬العمال والفالحون‪ .‬الخاصية األساسية للمجتمع اإليطالي هو أنه‬
‫مجتمع فالحي متخلف في جنوبه وصناعي متقدم في شماله‪ .‬تناول غرامشي هذه الثنائية‬
‫الجغرافية‪ ،‬االقتصادية والثقافية المقسمة لهذا المجتمع في مقال أساسي حول المسألة‬
‫‪La question méridionale‬عنوانه «قضايا حول المسألة الجنوبية» سنة‬ ‫الجنوبية‬
‫‪ .1926‬عرف غرامشي في هذه الدراسة العميقة مجتمع جنوب إيطاليا بأنه «كتلة كبيرة‬
‫متكونة من ثالثة شرائح اجتماعية‪ :‬جماهير واسعة من الفالحين غير مكتملة الشكل‬
‫ومتفككة‪ ،‬مثقفو البورجوازية القروية الصغيرة والمتوسطة‪ ،‬ثم كبار المالكين لألرض والمثقفون‬
‫الكبار»‪ .32‬الفئة األولى هي موضوع الستغالل من طرف اإلقطاعيين والفئة الثانية رغم‬
‫أصولها القروية فهي تخجل من التخصص في النشاط الفالحي ولذلك ورث المثقفون عن‬
‫هذه الطبقة احتقا ار كبي ار للعمل الفالحي‪ ،‬وهذا هو حال رجل الكنيسة بالجنوب اإليطالي‬
‫كنموذج ل«المثقف التقليدي» الذي نجد له نظي ار في الشمال الذي ال يتقيد بالطقوس الدينية‬
‫فقط بل يهتم بتوسيع أمالكه العقارية وهو صلة الوصل بين كبار المالكين والفئات الفالحية‪.‬‬
‫بذلك يستنتج غرامشي أن المثقفين بالجنوب يشكلون «الشريحة االجتماعية األكثر أهمية في‬
‫الحياة الوطنية إليطاليا‪ .‬إذ يكفي التفكير في كون اكثر من ثالثة أخماس بيروقراطية الدولة‬
‫مكونة من الجنوبيين حتى نقتنع بذلك»‪ .33‬يكمن التجديد النظري في فكر غرامشي ضمن‬
‫النظرية الماركسية في تحليله للمسألة الفالحية المتموضعة جغرافيا واجتماعيا في الجنوب‬
‫وفي إسناده لدور أساسي للمثقفين‪ .‬لكن هذا الدور ال ينفصل عن المرجعية السياسية للنظرية‬
‫الماركسية المتمحورة حول إشكالية "السلطة" كما ال ينفصل عن فلسفة للتاريخ ذات مرجعية‬

‫‪32‬‬
‫‪– Gramsci. Gramsci dans le texte. Ed. Sociales. Paris. 1977. p133.‬‬
‫‪33‬‬
‫‪– Ibid. p. 114.‬‬

‫‪29‬‬
‫"تقدمية" في اتجاه تطوير قوى اإلنتاج‪ ،‬والتحكم في الطبيعة وهو ما يعني بالضرورة تطبيق‬
‫التحديث كتصنيع للفالحة بالجنوب كغاية ستتحقق من خالل المثقفين‪.‬‬
‫تناولت النظرية الماركسية الفالحين باعتبارهم طبقة غير متجانسة لها وظيفة كوكبية‬
‫وذيلية مقتصرة على دعم الوظيفة السياسية للطبقة العاملة من أجل التغيير‪ .‬وإذا كان‬
‫الخطاب الماوي والخطاب الغرامشي يتميزان من حيث المقاربة النظرية للمسألة الفالحية‬
‫ضمن النظرية الماركسية‪ ،‬فإنهما معا ال يخرجان عن مرجعية المنظومة الماركسية التي‬
‫انتهت على مستوى التطبيق إلى تهميش الفئات الفالحية‪ .‬يعرض "إريك وولف" ألهم الثورات‬
‫الفالحية في القرن العشرين من خالل أهم نماذجها المكسيك‪ ،‬روسيا‪ ،‬الصين‪،‬الفيتنام‪ ،‬الجزائر‬
‫وكوبا‪ ،‬فيستنتج في خالصة تحليله األنثروبولوجي العميق إلى أنها كثورات لم تكن مجرد رد‬
‫فعل على مشاكل محلية‪ ،‬بل كانت استجابات محلية للتصدعات الكبرى الناتجة عن انقالب‬
‫أوضاع المجتمع نفسه‪ ،‬فباتساع مجال السوق واقتالع الفالحين من جذورهم االجتماعية‬
‫ضعفت السلطة السياسية‪ ،‬مما يقوي حظوظ ظهور زعيم جديد يحمل مشعل القضية‬
‫الفالحية‪ ،‬وما إن تضع الحرب أوزارها‪ ،‬ويتغير الجهاز الحاكم‪ ،‬حتى تبدأ بنية سياسية جديدة‬
‫في التشكل‪ .34‬إنه ميكانيزم إعادة إنتاج السلطة السياسية وإن اختلفت الزعامات‪ ،‬لكن الخاسر‬
‫األكبر في الدورة التاريخية الطويلة التي بدأت منذ القرن التاسع عشر واستمرت طيلة القرن‬
‫العشرين هم الفالحون‪ ،‬بناة "الثورة" وضحاياها في نفس الوقت‪ .‬كان الدور االجتماعي‬
‫للفالحين في النظرية الماركسية دو ار ثانويا‪ ،‬إذ يتعين إقصاؤهم لتستقيم ثنائية‬
‫البرجوازية‪/‬البروليتاريا على مستوى التحليل النظري المجرد‪ ،‬وليمهد الطريق على المستوى‬
‫السياسي "النتصار" الطبقة الثانية على الطبقة األولى‪ .‬أما حضور طبقة أخرى من‬
‫المستغلين (بفتح الغين) وأخرى من المستغلين (بكسر الغين) في المجال القروي فهو مزعج‬
‫على مستوى التحليل النظري وعائق على مستوى تحقيق «الثورة»‪ .‬لهذا ورثت كتابات‬
‫ماركسية التصور األداتي للفالحين الذي صاغه ماركس ولينين مؤكدة أن «الفالحين في‬
‫المجتمع الرأسمالي هم طبقة وسطية‪ ،‬غير أساسية وموجودة في جميع البلدان تقريبا‪ ،‬وهي‬
‫تنحل بتأثير العالقات الرأسمالية فارزة البرجوازية الريفية والبروليتاريا الريفية(‪ )...‬البرجوازية‬

‫إيريك وولف‪ .‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.287‬‬ ‫‪34‬‬

‫‪30‬‬
‫الصغيرة تنقسم إلى قسمين هما البرجوازية المدينية والفالحون‪ ،‬والفالحون ينقسمون بدورهم‬
‫إلى فالحين أغنياء ومتوسطين وفقراء الخ‪ .35» ...‬بين إثبات أن الفالحين ينحلون كطبقة‬
‫ليتوزعوا بين البرجوازية والبروليتاريا‪ ،‬وبين تصنيفهم أحيانا ضمن البرجوازية الصغيرة تترسخ‬
‫الصورة الغامضة للفالح في النظرية الماركسية‪ ،‬كما يتأكد التعامل معه كأداة إلنجاح‬
‫«ثورة»العمال ال «ثورة»الفالحين‪.‬‬
‫إن الخاصية األساسية المشتركة بين النظريتين الليبرالية والماركسية هي حضور تصور أداتي‬
‫للمسألة الفالحية‪ ،‬إذ تمت مقاربة القطاع الفالحي مقاربة اقتصادية اختزلت سيرورته التنموية‬
‫في عملية التصنيع السريع المتمثل في االعتماد على المكننة الزراعية بإدخال آالت جديدة‪،‬‬
‫بينما غابت المقاربة التنموية الشمولية التي تتناول المسألة الفالحية في كل أبعادها‬
‫االقتصادية‪ ،‬الثقافية والسياسية‪ ،‬بتأسيس تنمية مندمجة تحقق تفاعل المجتمع القروي الفالحي‬
‫مع باقي أنساق المجتمع‪ .‬رغم التباين اإليديولوجي بين المرجعية الليبرالية والمرجعية‬
‫الماركسية فإنهما تتفقان في تحديد غاية أساسية وهي وتيرة النمو االقتصادي ‪Rythme de‬‬
‫‪ . la croissance économique‬كانت هذه الغاية هي العنصر المهيمن في الخطاب‬
‫كما في الممارسة المرتبطين عضويا ووظيفيا بالنظريتين الليبرالية والماركسية‪ .‬صورة الفالح‬
‫في النظرية األولى هي صورة إنسان "ممكنن" عليه أن يرفع من اإلنتاجية الزراعية والحيوانية‬
‫ويطبق توجيهات العقل التقني الحديث لتحقيق تراكم للرأسمال المندمج رغما عنه في وضعية‬
‫تبعية لنسق الرأسمال الدولي وهذه هي صورة الفالح في النظرية االشتراكية للماركسية التي‬
‫تؤكد في ممارستها من خالل جهاز الدولة نفس الصورة‪ ،‬وإن كانت على مستوى الخطاب‬
‫تتميز عن النظرية الليبرالية بإثبات أن الفالحين ينقسمون إلى مستغلين ومستغلين مما يؤدي‬
‫على مستوى التحليل النظري إلى إدماج من يمارس عليهم استغالل في طبقة البروليتاريا‬
‫ومن يمارسون االستغالل في طبقة البورجوازية (الرأسمالية الزراعية)‪ ،‬وهذا يحمل داللة على‬
‫مستوى الممارسة السياسية هي ذوبان المصالح الخاصة للفالحين والمتميزة عن باقي‬
‫المصالح الموضوعية لطبقات اجتماعية أخرى في اإلطار الخاص بالبروليتاريا أو‬
‫البورجوازية كإطار للصراع سينتهي نظريا بتحقيق االشتراكية بينما في الممارسة كانت الدولة‬

‫فالديسالف كيللهوماتفيكوفالسون‪ ،‬المادية التاريخية‪ :‬دراسة في نظرية المجتمع الماركسية‪،‬‬ ‫‪35‬‬

‫ترجمة إلياس شاهين‪.‬ط‪.2.‬دار التقدم‪ .‬موسكو ص ‪.175‬‬

‫‪31‬‬
‫ترسخ إطا ار اقتصاديا وسياسيا للرأسمالية‪ ،‬إنها رأسمالية الدولة التي تشتغل وظيفيا من خالل‬
‫بيروقراطية الحزب الحاكم‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫المحاضرة الثالثة‬

‫السوسيولوجيـــــــــــــا القرويـــــــــــــــــــــــــــــــة‬
‫بالمغـــــــــــــــــرب‬
‫(بول باسكون)‬

‫‪33‬‬
‫في قراءتنا لسوسيولوجيا بول باسكون كأهم مؤسس و صانع للسوسيولوجيا القروية‬

‫بالمغرب ‪ ،‬ترتسم خطـ ـوط متعددة للت ـدخل النظـ ـري و الميدان ـي لعـ ـالم اجتم ـاع است ـمد‬

‫مف ـاهيمه النظري ـة و السوسيولوجية كما صاغ بناءه النظري المركب انطالقا من بحوث‬

‫ميدانية متنوعة شملت مجاالت جغرافية مختلفة بالمغرب ‪ .‬نقترح لمقاربة السوسيولوجيا‬

‫القروية لبول باسكون العرض ثالثة محاور أساسية تقرب و ال تحيط اإلحاطة الشاملة بعمق‬

‫التدخل العلمي و الميداني لبول باسكون في المجال االجتماعي بالمغرب ‪:‬‬

‫‪ )1‬بول باسكون ‪ :‬البيوغرافيا و البيبليوغرافيا‬


‫‪ )2‬المثقفون ‪ :‬الدولة الفالحون‬
‫‪ )3‬المجتمع المغربي مجتمع مركب‬

‫بول باسكون‪ :‬البيوغرافيا و البيبليوغرافيا‬ ‫‪)1‬‬


‫يرتبط المسار البيوغرافي لبول باسكون و يتداخل مع مساره البيبليوغرافي حيث أن‬

‫سيرة حياته (‪ ) 1985 -1932‬بصمت كما أثرت في تفكيره و إنتاجه فهو ابن فاس يبدو‬

‫ظاهريا من إنتاج كولونيالي ‪ ،‬إال أن ارتباطه بالمغرب ‪ ،‬وتعلقه بالفالحين و بالعالم‬

‫القروي ‪ ،‬دفعاه للبقاء بالمغرب عوض العودة مع الفرنسيين في السنوات االولى الستقالل‬

‫المغرب ‪ .‬بعد حصوله على االجازة في علم االجتماع بباريس سنة ‪ ، 1958‬أسس رفقة‬

‫زمالء مغاربة و فرنسيين أول " فريق متداخل االختصاصات لألبحاث في العلوم‬

‫( ‪Equipe interdisciplinaire en Sciences humaines‬‬ ‫االنسانية "‬

‫‪ E.I.R.E.SH).‬مع مجموعة من الباحثين في العلوم االجتماعية من علم اجتماع و‬

‫‪34‬‬
‫اقتصاد و جغرافيا وقانون‪ .‬كانت أهم األسماء المشكلة لهذا الفريق تتشكل من باسكون ‪،‬‬

‫بنسيمون ‪ ،‬بودربالة ‪ ،‬فوي ‪ ،‬لحليمي ‪ ،‬ال ازريف ‪ ،‬لحلو ‪ ،‬كارسنتي ‪ ،‬بنعلي ‪ ،‬مواتيه ‪،‬‬

‫شوفالدونيه و آخرون ‪ .‬استمرت تجربة هذا الفريق الشاب لمدة خمس سنوات ( ‪-1958‬‬

‫‪ ) 1963‬وهي تجربة مؤسسة النطالقة البحث في العلوم االجتماعية بالمغرب ‪ ،‬كما هي‬

‫تجربة مؤسسة النطالقة البحث العلمي التطبيقي المواكب لتأسيس وحدات إنتاجية و‬

‫مؤسسات اقتصادية كبرى في السنوات األولى لالستقالل و التي همت مجاالت و‬

‫مؤسسات الفوسفاط ‪،‬الري ‪ ،‬الماء واإلصالح الزراعي ‪ ،‬مع مساهمة واضحة في وضع‬

‫أسس المخطط االقتصادي الخماسي ‪. 1964 -1960‬‬

‫بعد نهاية تجربة فريق ‪EIRESH‬سيلتحق بول باسكون بالمكتب الوطني للري ليعين‬

‫سنة ‪ 1964‬مسؤوال عن منطقة الحوز ‪ ،‬حيث سيصبح مدي ار " للمكتب الجهوي لالستثمار‬

‫الفالحي للحوز " سنة ‪ 1966‬تزامنا مع حدث حل المكتب الوطني للري و تأسيس "‬

‫المكاتب الجهوية لالستثمار الفالحي " ‪ .‬كانت خطة و ازرة الفالحة بمنطقة الحوز وتحت‬

‫المسؤولية المباشرة لعالم االجتماع المغربي تقتضي استعادة أراضي المعمرين و أراضي‬

‫القائد الكالوي ‪ ،‬وإعادة توزيعها على الفالحين المغاربة و البحث عن الوحدات الزراعية‬

‫األكثر إنتاجية ‪ ،‬ووضع خطة لسياسة الري الكبير ‪ .‬في كل هذه المحطات و داخل‬

‫سلسلة كل هذه اإلجراءات الكبرى كان لحضور باسكون أثر فاعل بمنطقة الحوز مزاوجا‬

‫بين إدارته ل " المكتب الجهوي لالستثمار الفالحي لحوز مراكش " وبين إلقائه‬

‫‪35‬‬
‫لمحاضرات في السوسيولوجيا القروية بمعهد البحث الزراعي سنة ‪، 1969 – 1968‬‬

‫ليعين أستاذا محاض ار بنفس المعهد بشعبة العلوم اإلنسانية سنة ‪ ، 1970‬حيث أن هذه‬

‫المزاوجة كانت حاف از لباسكون إلنجاز أطروحته الجامعية الشهيرة حول " حوز مراكش "‬

‫التي ناقشها سنة ‪ 1975‬و نشرها سنة ‪، 1977‬رغم مغامرته الميدانية الشاقة المتمثلة في‬

‫تأطيره الميداني للطلبة المهندسين بالمعهد الزراعي بالرباط و إشرافه على خرجات و‬

‫استطالعات ميدانية تمكن الطالب المهندس من معرفة الحياة االجتماعية للساكنة القروية‬

‫و للفالح المغربي تحديدا والعيش معه لفترات دورية ‪.‬‬

‫تنوعت إنتاجات بول باسكون فشملت موضوعات متنوعة و غطت جل مناطق‬

‫سوس ‪ ،‬دكالة ‪ ،‬الجهة الشرقية ‪ ،‬الصحراء ‪...‬الخ ‪ ،‬نزل عالم‬ ‫المغرب ‪،‬الحوز‪،‬‬

‫االجتماع المغربي الى البئر االجتماعي للمغرب العميق البعيد و المنسي ‪ ،‬نهل و ق أر في‬

‫حقول التاريخ ‪ ،‬الجغرافيا ‪ ،‬القانون ‪ ،‬و االقتصاد ‪ ،‬دون الحديث عن حقل التخصص‬

‫علم االجتماع ‪ ،.‬حلل كما رصد ميدانيا ظواهر و أبعاد الري ‪ ،‬الملكية الزراعية ‪ ،‬أنماط‬

‫العيش ‪ ،‬التشكيلية االقتصادية و االجتماعية ‪ ،‬اليد العاملة الزراعية ‪ ،‬الشباب القروي ‪،‬‬

‫الصراعات و التناقسات القبلية حول المجاالت الرعوية ‪ .‬كان للتنوع البيوغرافي في مسار‬

‫باسكون أن أغنى حصيلته البيبليوغرافية بإصدارات ال يمكن إغفالها في مجال‬

‫السوسيولوجيا القروية بالمغرب اهمها أطروحته " حوز مراكش " و كتابه "درسات قروية "‬

‫و دراسته حول التاريخ االجتماعي لتازروالت " إضافة الى كتاب باشتراك مع محمد‬

‫‪36‬‬
‫الناجي " الفالحون بدون أرض بالمغرب " ‪ .‬إال أن قسما مهما من إنتاج باسكون ظل‬

‫موزعا بين مجالت ودوريات مغربية و دولية ‪ .‬بعد اختفاء االبن جيل و البنت نادين في‬

‫رحلة دراسية بالجنوب المغربي سنة ‪ 1976‬وعدم ظهورهما انغمس باسكون في رحلة‬

‫عميقة للبحث السوسيولوجي ليلقى نفس المصير في حادثة سير بموريطانيا رفقة الباحث‬

‫الشاب أحمد عريف ‪ ،‬حيث خلف باسكون تراثا سوسيولوجيا متنوعا ركب بين النظري و‬

‫الميداني ‪ ،‬بين المفهمة السوسيولوجية و التحري المباشر‪ ،‬بين التجديد انطالقا من‬

‫المجتمع المحلي كمجتمع للدراسة وبين تناول هذا المجتمع منطلقا للتجديد النظري و‬

‫الصياغة المفاهيمية ‪ .‬لكن تبقى أهم أعمال باسكون ذات العالقة الوطيدة بالسوسيولوجيا‬

‫القروية هي " دراسات قروية " و " حوز مراكش " و هذا ال يعني أن باقي أعماله هي‬

‫بمنأى عن حقل السوسيولوجيا القروية ‪ ،‬بل إن كل ما نشره بول باسكون انخرط و ارتبط‬

‫بهذا المجال السوسيولوجي سواء خالصة هنا أو هناك لبحث ميداني أو عناصر لتفكير‬

‫للمنهج المفترض إبداعه ميدانيا ولألدوات الالزم‬ ‫نظري و تأسيس إيستمولوجي‬

‫التسلح بها من قبل الباحث السوسيولوجي ‪.‬‬

‫‪ )2‬المثقفون الدولة ‪ ،‬الفالحون‬


‫تشكل هذه التسمية الثالثية عنوانا ألحد فصول كتاب باسكون " دراسات‬

‫قروسة ‪ ، Etudes Rurales‬حيث تمحور تفكيره حول اإلجابة على إشكال تاريخي‬

‫وأكاديمي ومهم وهو ‪ :‬كيف يمكن للمثقفين أن يرتبطوا ارتباطا عضويا بالفالحين‬

‫‪37‬‬
‫؟ المقصود بالمثقفين لدى باسكون في المجال اإلجتماعي القروي التقنيون و‬

‫المهندسون الزراعيون والباحثون اإلجتماعيون المتورطون موضوعيا ‪ ،‬مهنيا‬

‫وعلميا داخل المجتمع القروي‪ .‬إن التورط الموضوعي كارتباط عضوي لهذه الفئة‬

‫بالفالحين غير نابع من إرادات فردية أو رغبات شخصية ‪ ،‬بل هو يستمد‬

‫مشروعيته من مجال تاريخي عميق ومتجذر يخص العالقة بين الدولة والفالحين‬

‫من جهة ثانية ‪ .‬يقول‬ ‫من جهة ‪ ،‬وبين الدولة والتقنيين والمهندسيين‬

‫الدولة والفالحين والتي‬ ‫باسك ـ ـ ـ ــون« هناك تارخييا ‪ ،‬العديد من األمور المعقدة بين‬

‫يتطلب التدقيق فيها أالنصاب بالدهشة حين نرى فئة التقنيين قد دخلت الص ـ ـراع‬

‫في وقت متأخر وهي موضوعة بين الشجرة وقشرتها » ‪ ،‬إنه تعبير استعارة على‬

‫الوضع الحرج الذي تعيشه فئة المهندسين التقنيين والباحثين االجتماعيين في‬

‫أيضا الجغرافيا‬ ‫مجاالت ال تخص السوسيولوجيا القروية فقط ‪ ،‬بل تخص‬

‫القروية والسوسيولسانيات ‪ .‬التقني في تعريف باسكون يعمم على " المهندسين‬

‫اإلقتصاديين وعلماء االجتماع ‪ ...‬إل خ ‪ ،‬كل اللذين اقتنعوا باستعمال منهج معلن‬

‫عنه أنه منهج خاص وعقالني ‪ ،‬بحيث تتمثل وظيفتهم في تحويل الطبيعة الجامدة‬

‫أو البيولولوجية أو البشرية " ‪ .‬ليس التقني محايدا وليست التقنية حيادية ‪ ،‬إنها‬

‫غير بريئة حاملة للمصلحة السياسية للدولة ‪ ،‬والتقني موجود في وضع حرج بين‬

‫سياسة الدولة ومعيش الفالحين ‪ ،‬وضع حرج ألن تاريخ العالقة بين الدولة‬

‫‪38‬‬
‫اختزلته الكتابات الكولونيالية في ثنائية المخزن ‪/‬‬ ‫والفالحين هو تاريخ صراعي‬

‫بقيادة‬ ‫السيبة ‪ ،‬المخزن يجسد المجال السياسي والترابي لنفوذ السلطة المركزية‬

‫السلطان ‪ ،‬والسيبة كحركة تمرد تمتد سياسيا وسوسيومجاليا عبر نفوذ قبلي ينفلت‬

‫من رقابة المخزن وسلطته ‪ .‬إذا كان التقني كنعت لشرائح المهندسين واالقتصاديين‬

‫وعلماء اإلجتماع يرمز الى تجانس فئة فإن الفالحين ال يشكلون طبقة اجتماعية‬

‫متجانسة ‪ ،‬بل هم ينشطرون كما ينقسمون حسب ملكيتهم لألرض ‪ ،‬إذ هناك ‪:‬‬

‫" ثالث فئات ‪ :‬الفالحون الفقراء ‪ ،‬الفالحون المتوسطون ‪ ،‬المالكون الكبار ‪.‬‬

‫يعتبر هذا التصنيف مريحا ‪ ،‬إال أنه يترك في الظل كل الغنى المميز‬

‫الناتجة عن مختلف طرق اندماج البوادي ضمن السوق‬ ‫لألوضاع الملموسة‬

‫الرأسمالية العالمية " ‪ .‬يكفي التدقيق في فئة الفالحين الفقراء لمعرفة أنها تتوزع‬

‫الى فئات عديدة تتألف من الخماسين والفالحين بدون أرض والفالحين بدون عمل‬

‫الزراعية الموسمية ) ‪ ،‬وصغار المالكين المتشبثين‬ ‫مستمر ( اليد العاملة‬

‫بأرضهم ‪.‬‬

‫يساهم هذا التحديد المزدوج لكل من التقنيين والفالحين في توضيح طبيعة‬

‫العالقة التاريخية القائمة بين الدولة والفالحين كعالقة تتحدد بناظمة مركزية واضحة‬

‫في المجال القروي حيث تتحول إلى عالقة خاصة و واضحة بين المهندس‬

‫‪ ،‬والفالح الفقير من جهة ثانية ‪ .‬أما‬ ‫الزراعي أو الباحث االجتماعي من جهة‬

‫‪39‬‬
‫الفئات األخرى من الفالحين سواء المتوسطة أو الكبرى المالكة لوسائل اإلنتاج‬

‫والملكيات الزراعية الكبيرة ‪ ،‬فهي ذات مواقع اجتماعية متميزة ‪ .‬يتحدد عمل‬

‫المثقف داخل المجتمع القروي في ضرورة اختياره بين خدمة الفالحين الفقراء أو‬

‫خدمة كبار المالكين ‪ ،‬وهو غي كلتا الحالتين يظل موظفا للدولة ‪ ،‬يقول‬

‫إن المهندس كرجل دولة يظل كذلك حتى بالنسبة للذين تجمعهم‬ ‫باسكون ‪" :‬‬

‫معه عالقا ت داخل دائرة العمل من مرؤوسيه وعمال زراعيين " ‪ .‬المهندس‬

‫ممثل للدولة حتى وإن كان يشتغل في القطاع الخاص وحتى وإن نسج عالقات‬

‫إيجابية مع الفالحين ‪ ،‬فهو يبقى في تمثالتهم وتصوراتهم " موظف الدولة "‬

‫وحتى وإن وضع نفسه رهن إشارة صغار الفالحين ‪ ،‬ألن العالقة بين هؤالء وبين‬

‫الدولة مثقلة بإرث تاريخي وحصيلة سياسية من الصراعات والتوترات ‪.‬‬

‫يتوجه المثقف إلى المجال القروي والمجتمع الفالحي وهو حامل لكل مواصفات‬

‫المدينة ومظاهر الوسط الحضري ‪ :‬السيارة ‪ ،‬الهندام ‪ ،‬لغة التخاطب ‪ ،‬خاصة‬

‫وأن " البرجوازية الحضرية للمدن الكبرى التقليدية تمنح ‪ ./.80‬من المهندسين‬

‫أغلبهم تكونوا بفرنسا ‪ .‬تخص مالحظة باسكون السنوات األولى الستقالل‬

‫المغرب ‪ ،‬ألنه فيما بعد التحق العديد من الطلبة المهندسين من أصول قروية بمعهد‬

‫الزراعة والبيطرة بالرباط ‪ .‬إن التقني كمهندس زراعي أو كباحث اجتماعي هو في‬

‫" المخيال االجتماعي " للفالحين شخص قادم من المدينة كنقيض للقرية ‪ ،‬ممثل‬

‫‪40‬‬
‫عالقة متكافئة ومتضامنة ‪ .‬إنه‬ ‫لجهاز المخزن الذي لم تكن عالقته بالبادية‬

‫"‬ ‫شخص " غريب " مجسد لعالقة الالتكافؤ بين المدينة والبادية ‪ ،‬عالقة‬

‫تهريب " المدينة لخيرات القرى ومنتوج البادية ‪ .‬تتراكم طبقات من الالتواصل ‪،‬‬

‫وظائفهما‬ ‫‪،‬‬ ‫أدوارهما‬ ‫والفالح ألن‬ ‫المثقف‬ ‫بين‬ ‫التفاعل‬ ‫عوائق‬ ‫وتتعدد‬

‫وأوضاعهما محكومة بتقابالت ضدية وثنائيات صراعية لم تكن دائما تكاملية ‪،‬‬

‫ثنائيات البادية ‪ /‬المدينة ‪ ،‬القبيلة ‪ /‬المخزن ‪ ،‬الهامش‪/‬المركز‪ ،‬الثقافة العالمة ‪/‬‬

‫الثقافة الشفوية ‪...‬إلخ يرسم باسكون لتاريخ العالقة بين الدولة والفالحين من‬

‫خالل كرونولوجيا تمتد عبر ثالثة أزمنة معروفة‪:‬‬

‫• زمن المخزن ‪ ،‬حيث كانت عالقته بالفالحين تتلخص في جباية الضرائب واإلقتطاع‬
‫من فائض اإلنتاج الفالحي ‪ ،‬حيث ال يتدخل إال إذا هددت سلطته السياسية‪.‬‬
‫• زمن الحماية ‪ ،‬حيث أصبحت دولة الحماية تتدخل تدريجيا في شؤون المجتمع‬
‫القروي من تنظيم للرعي وتحديد للملكية ‪ ،‬وإدخال للحالة المدنية ‪ ،‬مع جلب أطر‬
‫خارجية وتقنيات بعيدة عما هو محلي ابتداء من سنة ‪. 1945‬‬
‫• زمن اإلستقالل ‪ ،‬حيث عملت الدولة على استكمال ما بدأته دولة الحماية في‬
‫الصحة والتعليم ‪ ،‬أو دخول قطاعات لم تتمكن الحماية من اقتحامها‬ ‫مجاالت‬
‫كالعدل والدين ‪ ،‬وأصبحت الدولة الوطنية حاضرة بقوة في كل المجاالت ‪ ،‬من‬
‫خالل ترسيخ بنية اإلدارة المحلية ( القايد ) ‪.‬‬
‫عبر هذا التاريخ التراكمي ال حامل للثقل السياسي والحمولة االجتماعية لألزمنة‬
‫الثالثة ‪ ،‬سيكون على التقني أن يختار مجال عمله و اتجاه تدخله ألن التقنية ليست‬
‫محايدة كما يدعي ‪ ،‬بل هي ذات حمولة سياسية تجعل من التقني " رجل الدولة‬
‫" و " خادما لها " وهو كما يؤكد باسكون " إذا كانت له شجاعة اختيار العمل‬
‫الى جانب المحرومين ‪ ،‬فعليه أن يظهر كفاءة كبيرة في الخيال والمجهود ليؤكد‬

‫‪41‬‬
‫أن ترقيعه ‪ Bricolage‬الذي سيتجنب إحداث البرقعات‪ ،Bavures‬يقترب أكر مما‬
‫هوشمولي دون أن يبلغه في اآلن نفسه ‪".‬‬

‫مركب‪Société Composite‬‬ ‫‪) 3‬المجتمع المغربي مجتمع‬


‫انسجاما مع األطروحة المركزية الواردة في " دراسات قروية "‬
‫والخاصة بعالقة الدولة بالفالحين ودور المثقف داخل مجتمع قروي فالحي ‪،‬‬
‫يبين باسكون أن بحثه حول " حوز مراكش " لم يتبلور كفكرة في سياق‬
‫علمي أكاديمي ‪ ،‬بل في سياق مهني انطالقا من التقارير الخاصة بجماعات‬
‫معنية بتهيئة حوض من األحواض المائية للحوز ‪ ،‬حيث تشترك أغلب التقارير‬
‫في التأكيد على مقاومة التغير‪ ،‬وهو أمرغير مدهش ألن المقاومة لكل ما هو‬
‫جديد مسألة عالمية ‪ .‬تدافع البادية عن نفسها وتعبر الجماعات المحلية عن‬
‫مقاومتها لتدخل الدولة عبر تفاوض موحد وصعب حيث تنتقل الجماعات (‬
‫األفراد الذين يمثلونها ) من رفض لخطة الدولة الى اقتناع تدريجي بقيمتها‬
‫وجدواها ‪ ،‬بعد أن تقتنع بأن مصلحتها تكمن في الموافقة على مشروع رسمي‬
‫كالتهيئة المائية للنهر ( ص ص ‪. ) 6 – 5‬‬
‫بعد عرضه في الفصل األول " الضرورات الجغرافية " الخاصة‬
‫بالجوانب الطبيعية من ماء ‪ ،‬جغرافيا وأرض ‪ ،‬ينتقل في الفصل الثاني "‬
‫اإلرث التاريخي " لتحليل التاريخ اإلجتماعي والتشكيل القبلي لمنطقة الحوز ‪،‬‬
‫باعتبارها منطقة شكلت رهانا للسلطة الحاكمة منذ عهد المرابطين ‪ .‬يعرض‬
‫باسكون كما يناقش أهم النظريات التارخية ‪ ،‬السوسيولوجيةواألنثروبولوجية التي‬
‫تناولت التنظيم اإلجتماعي القبلي بالمغرب األقصى وبجهة الحوز بصفة خاصة ‪.‬‬
‫بيرك ‪ ،‬ويحضر التوصيف‬ ‫جيلنر ‪ ،‬جاك‬ ‫ابن خلدون ‪،‬‬ ‫تحضر أسماء‬
‫السوسيولوجي لمنطقة الحوز عبر اإلشارة لمراحل تارخية همت األسر الحاكمة‬
‫‪ ،‬حيث كان للزوايا دور ديني‬ ‫من مرابطين ‪ ،‬موحين سعديين وعلويين‬

‫‪42‬‬
‫وسياسي في تنظيم الحركات االجتماعية الصادرة عن اإلطار االجتماعي‬
‫القبلي ‪ .‬ركز باسكون أيضا على المرحلة األخيرة في تاريخ الزوايا حيث كان‬
‫التوظيف الذكي للمخزن لها دون القضاء عليها ألن " الحد من نفوذ الزوايا‬
‫يولد فراغا سياسيا ‪ -‬دينيا جد كبير داخل المجال القبلي ‪ ،‬لهذا فالقليل من‬
‫الملوك من ذهب حدا بعيدا بلغ مستوى القضاء على الزوايا " ( ص ‪. )257‬‬
‫في الفصل الثالث واألخير " الهيمنة الرأسمالية " يعرض باسكون‬
‫للتاريخ االجتماعي لمنطقة الحوز في الفترة المعاصرة بداية من القرن التاسع‬
‫عشر ‪ ،‬واصفا طبيعة اإلنتاج الذي كان يعتمد على الطاقة البشرية ‪ ،‬وبشكل‬
‫محظوظ على الطاقة الحيوانية ‪.‬أما الطاقة المائية ‪ ،‬فهي تقتصر على مطاحن‬
‫الدقيق التي يملكها القواد والمخزن والممتدة عبر السواقي الكبيرة للدولة ‪.‬‬
‫صعوبات كثيرة تمثلت في‬ ‫سيجد المعمرون في ثالثينيات القرن الماضي‬
‫الجهل بالتقنيات الزراعية ‪ ،‬والنقص في الموارد المائية وقلة بيع الملكيات‬
‫الزراعية ‪ .‬اعترفت تقارير رسمية للسلطات اإلدارية اإلستعمارية بإغفال المسألة‬
‫المائية أثناء وضع مشاريع تهم المجال الفالحي ‪ ،‬فالمعمر القادم إلى مراكش بعد‬
‫الحرب العالمية األولى هو شخص مهاجر شجعته المظاهر الطبيعية المرئية من‬
‫طقس جميل وزراعة سهلة بسقي بسيط واثمنة حبوب مشجعة ويد عاملة‬
‫رخيصة في العشرينيات ‪ .‬المعمرون في سنة ‪ 1931‬إدراة الحماية في اجتماع "‬
‫الغرفة المختلطة بمـراكش" (‪28‬دجنبر) ألنها لم تحقق التزاماتها ووزعت عليهم‬
‫أراض غير صالحة للزراعة ( ص ص ‪. ) 491-489‬‬
‫ستتدخل السلطة السياسية االستعمارية للبحث عن موارد مائية تؤمن مصالح‬
‫و أرباح المالك الزراعيين األوروبيين و ذلك بتحسين توزيع الماء و التحكم فيما‬
‫تقيمه من سدود ‪ ،‬وهكذا سيصبح التفوق للمزارعين األوربيين على حساب‬
‫المزارعين المغاربة بعد أربعين سنة من التدخل االستعماري في وقت كان التكافؤ‬
‫بينهما في العقد االول لفرض سلطة الحماية ( ص ص ‪ . )528 -527‬يبين باسكون‬
‫أنه لتحديث ورأسملة البنيات الزراعية يلزم تمكين الفالحين المغاربة من الموارد‬

‫‪43‬‬
‫المائية ‪ ،‬وهو ما يعني نزعها من االوربيين باعتبارها المصدر الحقيقي ألطماعهم ‪.‬‬
‫إن النتيجة اإليجابية للتحديث بالنسبة للفالحين المغاربة كنتيجة وحيدة هي حصول‬
‫المغاربة على شغل ‪ ،‬دون أن يخضعوا للتبلتر‪ Prolétarisation‬ألنهم لم يكونوا‬
‫يملكون أراض ووسائل إنتاج ‪ ،‬ففقدوها و اضطروا للعمل لدى المعمرين‪ .‬إن هذه‬
‫األمالك كانت في الفترة قبل االستعمارية في حيازة المخزن و أعيان مدينة مراكش‬
‫‪ ،‬لقد اضطر المعمرون في العقد ‪ 1930 -1920‬الى جلب اليد العاملة الزراعية من‬
‫مناطق مجاورة للحوز ( ص ص ‪. )538-533‬‬
‫اذا كان مؤلف " حوز مراكش " قد عرض للمكونات الجغرافية ‪ ،‬التاريخية ‪،‬‬
‫االقتصادية والعقارية لإلطار السوسيو مجالي للحوز عامة و للبنيات الزراعية‬
‫خاصة ‪ ،‬فإن غاية بحثه لم تتمركز في مجال التاريخ ‪ ،‬الجغرافيا او االقتصاد ‪ ،‬بل‬
‫هو استثمر هذه المجاالت و ما يتعالق معها من معارف لتحديد ما يهمه‬
‫كسوسيولوجي ‪ :‬البنيات االجتماعية ‪ les Structures Sociales‬و ذلك باعتبار أن‬
‫" البنية الزراعية هي كل مركب و أشكال اجتماعية مهيمن عليها ‪ ،‬مقاومة لبعضها‬
‫البعض كما هي متحالفة فيما بينها ‪ ،‬وهذا ينطبق أيضا على العوامل االجتماعية ‪.‬‬
‫كما أن التنوع يلعب دورا مؤثرا حسب المناطق و الفترات التاريخية " (ص ‪. )587‬‬
‫يتضمن المجتمع المركب أنماط إنتاج وتفكير يتعايش فيها العبودي مع اإلقطاعي مع‬
‫الرأسمالي ‪.‬اإلنسان المغربي في المجتمع المركب – وهذا هو المثال الذي يقدمه‬
‫باسكون– يستعمل الطاقة الكهربائية بمدينة مراكش ‪ ،‬لكن بالبادية وغير بعيد عن‬
‫هذه المدينة تنافس الطاقة المائية الطاقة الكهربائية ‪ .‬تهيمن داخل المدينة العالقات‬
‫األجرية – الرأسمالية وخارجها تتحقق الهيمنة لعالقات " الخماسة " و " الشركة "‬
‫التي تصبح عالقات عبودية في المناطق النائية حيث يبخس المجهود البشري ‪.‬‬
‫أماعلى مستوى البنيات الفكرية و اإليديولوجية فتتعايش منظومات قانونية و رمزية‬
‫متفاوتة و متباعدة في تاريخة تشكلها ‪ ،‬فاألب الرأسمالي بالمدينة له خادمة بالبيت‬
‫يعاملها معاملة العبيد في حين أن له ابن يعلن انتمائه " التقدمي " ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫كيف تشتغل هذه األنماط اإلنتاجية البطريكية القبلية ‪ ،‬القائدية ‪ ،‬الفيودالية و‬
‫الرأسمالية في مجتمع مركب كالمجتمع المغربي ؟‬
‫جوابا على هذا التساؤل اإلشكالي العويص يوضح باسكون أن النمط المهيمن‬
‫هو النمط الصناعي بحكم الحاجة إلى التقنية في المرحلة الرأسمالية ‪،‬إال أن مؤسسات‬
‫أخرى ما قبل رأسمالية تظهر مقاومة عنيفة حيث يتم تقديس السلطة ويقع " توزيع‬
‫السلطة ليس انطالقا من التقنية ‪ ،‬بل من الوالء و شبكة الزبونية و ملكية األرض ‪.‬‬
‫أما داخل العائلة فيهمين النموذج البطريكي الذي تتحدد به العالقات االجتماعية‬
‫ووضعية المرأة (‪ )...‬التي تنتج هي أيضا أشكال مقاومة " ( ص ‪ .)591‬إن مفهوم‬
‫" المجتمع المركب " الذي صاغه باسكون في عقد الستينيـــــــات ‪)La Nature‬‬
‫‪Composite de la Société Marocaine (« Lamalif »N°17,Dec.1967‬و بلوره‬
‫ضمن إطار نظري شمولي و مركب في أطروحته "حوز مراكش " هو مفهوم‬
‫يشكل أداة خصبة لتحليل سوسيولوجي عميق ال يجب ان يتوقف عند المونوغرافيا و‬
‫ال أن يصوغ الفرضيات ‪ ،‬بل عليه التحري الميداني لمعرفة عناصر التغير‬
‫االجتماعي ‪ ،‬عوامله و نتائجه التي شملت التركيبة الخاصة بالمجتمع المغربي أو‬
‫تلك الخاصة بمجتمعات محلية ‪ .‬يقول باسكون معرفا مجتمع الحوز « إنا اضطررنا‬
‫الى تقديم تعريف موجز لما هو مجتمع الحوز اليوم ( السبعينات ) سنتوصل الى‬
‫تركيبة التعقيد التالي ‪ :‬التشكيلة االجتماعية للحوز اآلن هي تشكليةقائدية–مخزنية‬
‫تقضي على القبلية و تهيمن على البطريكية التي وجدت مكانها في العائلة الصغيرة‬
‫و االستغالل االقصى للنساء و األطفال ‪ ،‬لكن هذه القائدية هي االخرى تهمين عليها‬
‫الرأسمالية العالمية في دائرة اإلنتاج والتبادل»(ص‪.)591‬‬
‫يعرف باسكون أن اقتراحه لمفهوم " المجتمع المركب " كناظمة مفاهيمية و‬
‫نظرية جامعة لعناصر بحثه حول " الحوز " هو اقتراح ليس بسحري وال يعبد كل‬
‫الطرق أمام ما يعترض الباحث االجتماعي من معضالت نظرية وعوائق ميدانية‬
‫تتطلب في تجاوزها و حلها النقصي الدقيق و تستدعي " الخيال السوسيولوجي "‬
‫(ميلز ‪ ، ) Mills‬لذلك يؤكد في آخر فقرة من كتابه التي تحمل عنوان " تشكرات " ‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫" لدي انطباع أنني لم أتحدث عن سكان " الحوز " بل تحدثت عبرهم ‪ ،‬من فوق ‪،‬‬
‫من تحت على الجانب ‪ .‬قال جاك بيرك ‪ J.Berque‬أثناء مناقشة األطروحة " إنها‬
‫ميتا – أطروحة بالضبط ‪ !C’est une métathése‬لقد فهمت جيدا الجماعات ‪،‬‬
‫الطرق و الحيل المتبعة كما فهمت سلوكات األفراد ‪ ،‬وكل هذه األمور في نظري‬
‫يصعب اإلمساك بها ‪،‬إنها حبلى بالكثير من الحلول و اإلمكانيات " ( ص‪. )599‬‬

‫‪46‬‬
‫بيبليوغرافيا مختارة ألهم إصدارات بول باسكون مصنفة كرونولوجيا‬
1- Ce que disent 296 jeunes ruraux , Enquête d’opinion pour le
compte de l’UNICEF , B.E.S.M n°112-113 , jav , juin 1969
2- La formation de la sociétemarocaine , B.E.S.M n° 120-121-
1971
3- La question agraire au Maroc (en collaboration avec
NajibBouderbala et M.Charaibi )B.E.S.M N° 123-124-125 août
1974 , 423 pages .
4- Le Haouz de Marrakech , Histoire sociale et structures
agraires..(thése pour le doctorat d’état en sociologie) 2
tomes , Tanger 1977 , 858 pages .
5- Segmentarité et stratification dans la société rurale
marocaine. Actes du Durham; B.E.S.M n°138-139 mars 1979.
6- Féoclalisme ou caiclalisme au maroc? Lamalif ; dec 1980
7- Etudes rurales , S.M.E.R , Rabat 1980.
8- La maison d’illigh et l’histoire sociale du tazerwalt , ( collectif)
, S.M.E.R Rabat 1984.
9- La question hydraulique au maroc( collectif ), Rabat , 1984.
10- Les paysans sans terre au maroc( avecM.Ennagi)
Ed.Toubkal , Casablanca , 1986.

47
‫أهم المقاالت المنشورة لبول باسكون‬
• Les villages miniers de l’office chérifien des phosphates
(en collaboration avec G.lazavev 450pages .bip ,o.c.p ) 1959.
• Les structures agraires dans le perimètre des Doukkala

O.N.I Rabat .Dec 1961.


• la main d’œuvre et l’emploi dans le secteur traditionnel

B.E.S.M n° 100 janv . mars 1966


• La nature composite de la société marocaine

Lamalif , n° 8 déc 1967.

• La compétition des éleveurs dans la région d Azrou

Le maroc agricole ; n°65 mai 1974.


• L’ingénieur entre la logique des choses et la logique des hommes :

critique de la sainte raison technique ; Lamalif n°90 ;1977 ; et les


temps modernes n°375.1977
• Consiels pratiques pour la préparation des mémoires et des théses

, Rabat ; 1981.
• L’érit et le verbal , in lamalif ; n°113 fev .1980 .

• Ce que je pense est faux ( surK.Popper) , Lamalif ;mai 1982.

• Le réglage du texte ( dactylo ) 1985.

48
‫المحاضرة‬
‫الرابعة‬

‫من المجتمــــــع المركـب‬


‫إلى‬
‫التغير المركب‬

‫‪49‬‬
‫سبق لبول باسكون كأحد األسماء األساسية المدشنة و الباصمة للسوسيولجيا المغربية‬
‫أن اقترح منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي مفهوم «المجتمع المركب» و هو المفهوم‬
‫الذي طوره في أطروحته« حوز مراكش» في منتصف السبعينات ‪ ،‬مفهوم أثار آنذاك كما‬
‫أثار فيما بعد نقاشــات مستفيضـة و متباينـة المنطلـقات المنهجيـة و المقاربات النظرية و‬
‫أيضا المرامي اإليديولوجية ‪ .‬ما نقترحه في هذه المساهمة في إطار التمثل المزدوج لقيمة‬
‫المفهوم الباسكوني استمرارية و تجاوزا هو مفهــوم « التغير المركب » كمفهوم يعبر عن‬
‫سيرورة معقدة من التحوالت االجتماعية ذات المستويات المتداخلة و المركبة بدورها ماديا‬
‫ورمزيا ‪ ،‬و العوامل المتفاعلة فيما بينها سواء السياسية أو االقتصادية أو الثقافية ‪ .‬هو‬
‫مفهوم شكل في صياغته حصيلة متابعة ميدانية ممتدة في الزمن ‪ ،‬كما شكل إفرازا نظريا‬
‫لعملية محدودة لكنها ضرورية من المفهمة لظواهر اجتماعية همت مجتمعا قرويا فالحيا في‬
‫الربع األخير من القرن العشرين ‪ ،‬وهي ظواهر ال زالت تتمتع لحد اليوم بخاصية‬
‫االستمراريــة التاريخيــة و التجذر االجتماعي داخل هذا المجتمع القروي ‪.‬‬
‫في دراستنا للتغير االجتماعي المميز لمجتمع قروي فالحي محلي هو خميس‬
‫الزمامرة بالمجال الدكالي ‪ ،‬انطلقنا في تحديد عوامله ومستوياته والفاعلين في سيرورته من‬
‫ثالثة فرضيات رئيسية‪ :‬الفرضية األولى تخص أثر التحديث الزراعي على البنيات‬
‫السوسيو‪-‬اقتصادية‪ ،‬وخاصة مستويات الدخل الفالحي‪ ،‬والسكن والصحة والتعليم وقياس‬
‫مدى تطورها مقارنة بين مرحلة البور ومرحلة السقي‪ .‬أما الفرضية الثانية فتخص أثر‬
‫التحديث الزراعي على البنيات الرمزية لمجتمع الدراسة كنموذج للمجتمع القروي ‪ ،‬وقد‬
‫حددنا المستويات الخاصة بهذه البنيات في تصورات الفالحين لظاهرة الجفاف‪ ،‬والمقدس‬
‫الديني متمثال في زيارة أضرحة األولياء‪ ،‬كما حددنا التغير في البنيات الرمزية كذلك في‬
‫دراسة مدى اختفاء أو ترسيخ ظواهر ثقافية ميزت المجتمع القروي المغربي بصفة عامة‬
‫كالذهاب إلى المواسم واألسواق األسبوعية وزيارة األقارب بالمدينة ‪ ،‬يضاف إلى ذلك‬
‫معرفة التغير الحاصل في القيم الثقافية والتصورات الرمزية المقيمة لوظيفة المدرسة وتعليم‬
‫البنات والهجرة‪ .‬أما الفرضية الثالثة فترتبط بدراسة مستويات التحضر انتقاال من بنية‬

‫‪50‬‬
‫الدوار إلى بنية المركز الحضري‪.‬لقد توصلنا بعد دراسة ميدانية إلى خالصات مركزية‬
‫نعرض مضام ينها األساسية تالؤما مع طبيعة التقسيمات النظرية و التقطيعات‬
‫السوسيولوجية لمجتمع الدراسة ‪.‬‬
‫بسطا للدالالت المركزية لمفهوم التغير المركب و تحديدا ألبعاده السوسيولوجية‬
‫األساسية ‪ ،‬من األنسب إبراز هذه األبعاد وتلك الدالالت عبر تصنيف يتشكل من أربعة‬
‫قضايا و مفاصل أساسية تناسبا مع السيرورة المركبة للتغير االجتماعي ‪.‬‬

‫‪ .I‬التغير في البنيات المادية‪.‬‬


‫‪ .II‬التغير في البنيات الرمزية‪.‬‬
‫‪ .III‬من الدوار إلى المركز الحضري‪.‬‬
‫‪ .IV‬في التغير المركب ‪.‬‬

‫‪ .I‬التغير في البنيات المادية‪.‬‬

‫ال نعلن في عرض الخالصات األساسية المرتبطة بالبنيات المادية للتغير عن إحاطة‬
‫شاملة بكل عناصر هذه البنيات ومستوياتها‪ ،‬لكن وتوخيا للموضوعية فقد سعينا بعد معاينة‬
‫ميدانية وعمل نظري مقارن بين أبحاث تقاطعت في مفاصل محددة مع موضوع دراستنا‪،‬‬
‫حصر مستويات التغير في البنيات المادية في المستوى االقتصادي‪ ،‬المستوى التعليمي‪،‬‬
‫المستوى الصحي‪ ،‬كما حددنا عوامل هذا التغير وفاعله الرئيسي‪.‬‬
‫ال يقاس التغير الحاصل في المستوى االقتصادي لفالح الزمامرة بمجرد معرفة مظهر‬
‫واحد من مظاهر حياته اليومية أو استجماع معطيات إحصائية تخص ظاهرة قابلة للرصد‬
‫الكمي‪ ،‬بل هو تغير مركب يخص حجم الملكية الزراعية‪ ،‬الدخل الفالحي وشبكة التجهيزات‬
‫األساسية بالمسكن القروي‪ .‬تعتبر فئة الفالحين المالكين هي الفئة األساسية في المجتمع‬
‫القروي الفالحي بنسبة ‪ ،%58‬إال أن هذا المعطى يخفي تغيرا في البنية العقارية للملكية‬
‫الزراعية التي تتجزأ كما تتفتت أكثر نتيجة التقسيم الذي تخضع له بين «الورثة» ‪ ،‬وهو‬

‫‪51‬‬
‫ما حول هذه الملكية بالمجال الدكالي إلى «ملكية مجهرية»‪ .‬أما الدخل الفالحي فهو دخل‬
‫يرتبط أساسا بالمنتوج الفالحي وخاصة الشمندر السكري والحبوب‪ ،‬وهو ليس دخال أحادي‬
‫المصدر ومقيدا بالنشاط الزراعي فقط‪ ،‬إذ توجد فئة من الفالحين تعتمد على مصدر آخر في‬
‫دخلها الفالحي يرتبط بتربية األبقار الحلوب‪ ،‬كما قد يرتبط بأنشطة تجارية‪ .‬كان الرتفاع‬
‫الدخل الفالحي أثر على اإلطار السيوسيو‪-‬مجالي للفالح كما كان له دور في إعادة تنظيم‬
‫هذا المجال حيث أصلحت المساكن القديمة وشيدت مساكن جديدة بالحديد واإلسمنت في قلب‬
‫االستغاللية الزراعية في حالة قربها من الدوار‪ .‬كما أقيمت بموازاة ظهور المساكن الجديدة‬
‫بالمجال القرويشبكةتجهيزات كالكهرباء والماء الصالح للشرب وجهاز التلفزيون وآلة الطبخ‬
‫بالغاز‪ .‬إال أن هذه التجهيزات لم تشمل كل فئات الفالحين‪ ،‬فالكهرباء ال يستفيد منه سوى‬
‫‪ %32‬والماء يبقى محدود االنتشار واالستعمال مع استمرار حضور «المطفية»‪ .‬أما‬
‫التلفزيون فهو يحضر لدى ‪ %84‬من الفالحين كما تستعمل آلة الطبخ بالغاز [ الصنف‬
‫الكبير] بنسبة ‪ .%74‬إنها عالمات واضحة تبين التأثير الكبير للتحديث الزراعي على‬
‫الحياة االقتصادية لفالح الزمامرة‪[ .‬معطيات الدراسة الميدانية منتصف التسعينات]‪.‬‬
‫إن هذا التغير في المستوى االقتصادي للمجتمع القروي الفالحي لم يعضده تغير في‬
‫المستويين التعليمي والصحي‪ ،‬بسبب ارتفاع نسبة األمية في تسعينيات القرن‬
‫العشرين(‪ %89‬بين الذكور)وهي نسبة أكبر لدى اإلناث‪ .‬أما نسبة ‪ %11‬من المتعلمين‬
‫فهي لم تتجاوز في معظمها طور التعليم االبتدائي‪ .‬كما يتأكد على مستوى السياسة الصحية‬
‫ارتفاع الطلب االجتماعي على المؤسسة الصحية من خالل ارتفاع عدد اللقاحات بالنسبة‬
‫لألطفال دون ‪ 5‬سنوات و أيضا بالنسبة للنساء في طور اإلنجاب‪،‬وهو تغير مرده التدخل‬
‫األساسي للدولة وليس تغير في البنيات الثقافية للمجتمع المحلي ‪.‬‬
‫يقودنا التفكير السوسيولوجي في التغير االجتماعي الخاص بالبنيات المادية سواء‬
‫الزراعية منها‪ ،‬السكنية‪ ،‬التعليمية والصحية‪ ،‬إلى إثبات أن العامل االقتصادي هو عامل‬
‫محدد للتغير المادي الخاص بالمجتمع القروي ألن تحديث القطاع الفالحي من خالل تحديث‬
‫أساليب اإلنتاج الزراعي والحيواني أدى إلى تطور الحياة اليومية للفالح سواء في نمط‬
‫عيشه االستهالكي أو في أساليب تنقله بين مكان إقامته و أماكن و مراكز أخرى لقضاء‬

‫‪52‬‬
‫أغراض مختلفة ‪ ،‬تنقل أصبح أكثر يسرا في منطقة سهلية بحكم تمديد الشبكة الطرقية المعدة‬
‫أصال بتدخل من «م‪.‬ج‪.‬س‪.‬ف‪.‬د» لنقل الشمندر‪ .‬إن هذا التغير الذي طال حياة فالح المنطقة‬
‫السقوية ينظر إليه فالح منطقة البور نظرة نقمة ألنه يعتبره نعمة حرم منها‪ ،‬في حين أن‬
‫فالح السقي المقيد بزمن فالحي جديد كزمن صارم يظل أسير الدورات الزراعية والسقوية‬
‫ينظر هو اآلخر بنقمة لفالح البور ألنه يعتبره متمتعا بنعمة تتمثل في عدم التقيد بجدول‬
‫زمني صارم للدورة الزراعية‪ .‬إذ يكفي بالنسبة لفالح البور أن يلقي ببذور في بداية الموسم‬
‫الفالحي منتظرا نزول األمطار لجني المحصول في نهاية فصل الربيع‪ .‬إن هذا التبادل‬
‫لنظرة النقمة على اعتبار أن الفالح اآلخر في نعمة ال يعبر في الحقيقة عن تبادل متكافئ في‬
‫الخيرات المادية‪ ،‬ألن ارتفاع الدخل الفالحي بالنسبة لفالح السقي ال يقاس بثبات الزمن‬
‫بالنسبة لفالح البور وصعوبة تدبيره لنشاطه الفالحي‪.‬‬
‫تعتبر الدولة هي الفاعل الرئيسي في التغير االجتماعي المميز للمجتمع القروي‪ ،‬فهي‬
‫المؤسسة السياسية األبوية الصانعة لمشروع التحديث الزراعي والمراقبة لمراحل إنجازه‪،‬‬
‫فالدولة تحضر في المخيال الجماعي للفالحين باعتبارها « األب الوصي» الذي يتعين عليه‬
‫إطعام «األبناء» وحل الخالفات بينهم حتى بالعنف كعنف مشروع‪ .‬إن الدولة هي مدبر‬
‫المشروع التحديثي في مجاالت الفالحة‪ ،‬التعليم‪ ،‬الصحة و التجهيزات األساسية‪ .‬سبق‬
‫لباسكون أن الحظ في الكتاب الجماعي «المسألة الزراعية بالمغرب» جدوى مراقبة الدولة‬
‫لعمليات توزيع األراضي على الفالحين الذي ظل توزيعا محدودا‪ .‬إن السلطة البطريكية‬
‫للدولة كمؤسسة ماكرو‪-‬سياسية تجمع بين دمج وظائفها كدولة وطنية حديثة مع وظائفها‬
‫التقليدية كمخزن [المخزن الجديد] هي سلطة تستمر في ممارسة دورها «األوديبي» داخل‬
‫المجتمع الفالحي‪ ،‬وهذا ما ال يرتاح له مدبروها المحليون دائما‪ .‬ليس باألمر الغريب أن‬
‫نسمع عبارات التشكي لرجال السلطة المحلية والمهندسين والتقنيين من الطلب المتزايد‬
‫للفالح طالبا تدخلهم حتى في أصغر الشؤون اليومية‪ .‬إذا كان التغير الذي عرفته الحياة‬
‫االقتصادية للفالح لن يواكبه تغير واضح في المؤشرات الخاصة بالمستوى التعليمي ‪ ،‬فإن‬
‫التغير ا لذي عرفه المشروع التحديثي من خالل االتجاه نحو خوصصته [نقل قطاع إنتاج‬
‫السكر من القطاع العام إلى القطاع الخاص] ورغبة الدولة في التراجع عن مسؤولية تدبير‬

‫‪53‬‬
‫هذا المشروع ومراقبته لم يواكبه مسار من الخوصصة ( الفردانية ) لتدبير الفالح لشأنه‬
‫الفالحي ألن نظرته لدور الدولة تبقى نظرة متجذرة في البنيات الثقافية العميقة وفي‬
‫التشكيالت التاريخية المنتجة للبنيات الرمزية ‪.‬‬
‫‪ .II‬التغير في البنيات الرمزية‪.‬‬

‫نقترح في محاولتنا رصد التغير الذي طال البنيات الرمزية للمجتمع القروي‬
‫الفالحي تقسيما ثالثيا لهذه البنيات ‪ -1 :‬العالقات العموديـة‪ -2،‬العالقات األفقية ‪ -3‬القيم‬
‫الثقافية المتضمنة ألهم التمثالت الذهنية واألحكام التي يحملها الفالحون تجاه مؤسسات‬
‫إدارية وسياسية تتدخل بشكل كبير في تدبير مشروع التحديث الزراعي‪ .‬ثمة اختالف في‬
‫األحكام و التمثالت الخاصة بنتائج التغير و مظاهره وهي أحكــــام و تمثالت بعضها‬
‫ايجابي و البعض اآلخر سلبي ‪ ،‬اختالف يستمد عناصره التفسيرية من المتغيرات‬
‫السوسيولوجية الكالسيكية المرتبطة بالفئات العمرية و أيضا الفئات السوسيواقتصادية ‪.‬‬
‫يبدو أن شباب المجتمع القروي الفالحي هو أكثر انتقادا لتدخل الدولة من خالل‬
‫مدبريها المحليين وخاصة رجال السلطة وأعوانها كما هو أكثر انتقادا لمؤسسات القرض‬
‫الفالحي ومعمل السكر و«م‪.‬ج‪.‬س‪.‬ف‪.‬د»‪O.R.M.V.A.D‬مقارنة بالكبار‪ .‬لكن يبقى عامل‬
‫االنتماء لفئة سوسيو‪-‬اقتصادية من فئات الفالحين هو العامل المؤثر في تبلور المواقف‬
‫اإليجابية أوالسلبية من األدوار والوظائف التي تؤديها هذه المؤسسات داخل المجتمع القروي‬
‫الفالحي‪ ،‬حيث يتأكد أن الفئات الفقيرة أكثر انتقادا لهذه المؤسسات مقارنة بفئات الفالحين‬
‫حتى ذات الدخل المتوسط أو الدخل المرتفع‪ .‬إذا كانت هذه العالقة بين الموقف النقدي‬
‫للفالح لهذه المؤسسات وبين انتمائه السوسيو‪-‬اقتصادي تبدو عالقة بديهية فإن ما يحفز على‬
‫تعميق التفكير السوسيولوجي الستكناه الطبقات العميقة من ثقافة الفالحين واحتوائها لتمثالت‬
‫مهمة تخص الدولة‪ ،‬القرض‪ ،‬المال‪ ،‬العمل الفالحي‪ ...‬الخ‪ ،‬هو تفاوت يرتبط بقيمة هذه‬
‫المؤسسات في «المخيال االجتماع» للفالحين‪ ،‬حيث أن المؤسسة ذات الدور اإليجابي في‬
‫نظر الفالح هي مؤسسة القرض الفالحي‪ ،‬كمؤسسة تنقذه في وضعيات اقتصادية صعبة‪،‬‬
‫وتليها من حيث األهمية مؤسسة «م‪.‬ج‪.‬س‪.‬ف‪.‬د» كمؤسسة تقدم من خالل تقنييها ومدبريها‬
‫المباشرين إرشادات فالحية تتعلق بتنظيم دورات السقي واستعمال معداته‪ ،‬كما تتعلق‬

‫‪54‬‬
‫بالعناية بالمزروعات وتربية األبقار الحلوب‪ ،‬دون إغفال دور تقنيي ومدبري هذه المؤسسة‬
‫في استخالص ذعائر من الفالحين ناتجة عن مخالفتهم لقوانين السقي‪ ،‬وهو ما يرسخ أكثر‬
‫الطابع العمودي لعالقة الفالح بمؤسسة «لوفيس»‪.‬‬
‫أما المؤسستان األكثر بعدا عن الفالح والمجسدتان بصورة واضحة للطابع العمودي‬
‫لعالقاتهما بفالح الزمامرة‪ ،‬فهما معمل السكر و« المخزن الجديد » ألن المؤسسة األولى‬
‫المرتبطة بالقطاع الخاص تحول قسما كبيرا من منتوج الشمندر ومن مجهود الفالح لفائدتها‪،‬‬
‫وهو تحويل رغم أنه مؤسس على تعاقدات قانونية ينظر إليه الفالح بنقمة‪ .‬أما «المخزن‬
‫الجديد» الجامع بين وظائف إدارية وأخرى سياسية‪ ،‬فهو ينظر إليه كقوة راعية للطابع‬
‫العمودي للعالقات القائمة بين المؤسسات السابقة والمجتمع القروي الفالحي‪ ،‬إذ أن كل‬
‫مظاهر القوة التي تمارسها مؤسسات التحديث الزراعي على هذا المجتمع هي مظاهر نابعة‬
‫م ن قوة الحضور السياسي للدولة «كمخزن جديد» الذي يتخذ حضوره داخل هذا المجتمع‬
‫بعدا ماديا مباشرا من خالل مراقبة أعوانه لحركة الدوار والتجمع القبلي كما يتخذ بعدا‬
‫رمزيا مضمونه استبطان الوظيفة «البطريكية» للدولة عبر أزمة تاريخية سابقة‪.‬‬
‫أما بالنسبة للعالقات األفقية كمكون ثان للبنيات الرمزية للتغير بهذا المجتمع ‪ ،‬فهي‬
‫األخرى عالقات ذات مستويات مركبة‪ ،‬ألنها عرفت من جهة أولى تفككا للروابط التضامنية‬
‫التقليدية التي كانت تميز المجتمع القروي خاصة ظاهرة «التويزة»اآليلة نحو االنقراض‬
‫كنتيجة طبيعية لصعوبة تدبير الزمن الفالحي في المدارات السقوية‪ ،‬وهي من جهة ثانية‬
‫تعرف نشأة نزاعات اجتماعية بين الفالحين سببها الزراعــة السقويــة ( الرش) وهي وإن‬
‫كانت نزاعات تقليدية تجد حلولها سابقا داخل «الجماعة القروية» بمدلولها التاريخي القديم‪،‬‬
‫فهي اليوم نزاعات حديثة تجد حلولها أو تتعقد بانتقال المتنازعين إلى المحاكم حيث يتأكد‬
‫ارتفاع عدد النزاعات القضائية بعد ظهور «ماء الرش» ‪.‬‬
‫إال أن العالقات بين الفالحين ليست عالقات ذات مستوى أفقي محض بل هي‬
‫عالقات يخترقها المستوى العمودي خاصة بالنسبة للتنظيمات الجمعوية والممارسات‬
‫السياسية الحديثة‪ ،‬فالتنظيمات التعاونية والجمعوية الخاصة بإنتاج الشمنذر وتسويق الحليب‬
‫وأيضا التنظيم الفالحي النقابي‪ ،‬تبدو كتنظيمات أفقية محتضنة لتراتبات هرمية تنتج‬

‫‪55‬‬
‫تمايزات سوسيو‪-‬اقتصادية بين الفالحين وتفتح فرص «الترقية والحركية االجتماعيتين»‬
‫لبعض المنخرطين‪ ،‬فهي كتنظيمات أفقية ال تشتمل على تمركز مكثف لعالقات عمودية‬
‫مقارنة بالحزب السياسي و«جمعية مربي األبقار»‪ .‬ينفتح المجال في هذين التنظيمين‬
‫الغتناء النخب المحلية من خالل ممارسة وظائف سياسية خاصة في السيرورات االنتخابية‬
‫كسيرورات تعمل على « تحيين البنيات التقليدية» في صور وأشكال سياسية حديثة‪ .‬إن‬
‫سيرورة التقليدوية كما ركزت عليها دراسات جين فافري ‪ J. Favret‬أو التقليدانية كما‬
‫تبرزها تحليالت إزنشطات ‪ Eisensdat‬هي سيرورة غايتها ترسيخ البنيات التقليدية من‬
‫خالل استثمار المؤسسات الحديثة شكال ال مضمونا‪ .‬إن مرحلة االنتخابات السياسية هي‬
‫مرحلة إحياء التقابال ت والنزاعات التقليدية داخل كل دوار أو بين دوار وآخر أو بين قبيلة‬
‫وقبيلة أخرى حيث يشكل السباق نحو مقاعد المؤسسات الجماعية والتشريعية رهان كسب‬
‫معارك الصراعات التقليدية‪ -‬القبلية بين األجزاء والعناصر المكونة للمجتمع القروي‬
‫الفالحي‪.‬‬
‫تتضمن البنيات الرمزية المميزة لثقافة المجتمع القروي الفالحي مجموعة من القيم‬
‫الثقافية الخاصة بظواهر متنوعة‪ ،‬منها ماهو طبيعي كالجفاف‪ ،‬ومنها ما هو مقدس كالصالة‬
‫و االعتقاد في «بركة» األولياء وزيارة أضرحتهم‪ ،‬ومنها ما هو اجتماعي ‪ -‬ثقافي كالذهاب‬
‫وزيارة األقارب بالمدينة‪ ،‬أو ثقافي محض كاألحكام المقيمة‬ ‫إلى األسواق األسبوعية‬
‫لوظائف المدرسة وتعليم البنات والهجرة إلى المدينة أو نحو الخارج‪ .‬إن القيم الثقافية التي‬
‫يحملها الفالحون في تمثلهم لكل هذه الظواهر ليست قيما محكومة بتجانس األحكام و‬
‫المواقف ‪ ،‬بل هي قيم محكومة باختالف األحكام و المواقف التي تبلغ حد التناقض نظرا‬
‫النشطار المجتمع القروي الفالحي إلى فئات سوسيو‪-‬اقتصادية وعمرية‪ .‬تحمل تصورات‬
‫الفالحين الكبار تجاه ما هو طبيعي أو مقدس نظرة دينية إيمانية أكثر مقارنة مع الفالحين‬
‫الشباب‪ ،‬مما يبين أن العالقة تناسبية بين التقدم في السن وترسيخ سلوكات ونزعات دينية‪.‬‬
‫أما بالنسبة للتقليد الثقافي خارج الدوار والمحدد في ثالثة ظواهر هي مواسم األولياء‪،‬‬
‫األسواق األسبوعية وزيارة األقارب بالمدينة فهو تقليد ال يعرف التفكك كنتيجة للتحديث‬
‫الزراعي ورأسملة البنيات اإلقتصادية‪ ،‬بل هو تقليد يبحث عن تأكيد حضوره واستمراريته‬

‫‪56‬‬
‫حتى خارج اإلطار السوسيو‪ -‬مجالي القروي حيث تتحقق من خالل ممارسة هذا التقليد‬
‫وظائف اقتصادية اجتماعية وسيكولوجية‪ .‬إن هذا التباين في األحكام يستمد مشروعيته من‬
‫تقليد ثقافي أساسه الهيمنة الذكورية في احتكار الخيرات المادية والرمزية داخل المجتمع‬
‫المغربي بصفة عامة وداخل المجتمع القروي الفالحي بصفة خاصة‪.‬‬
‫ينشطر المجتمع القروي الفالحي إلى شطرين في تقييمه اإلجمالي لنتائج السقي‬
‫كعمود فقري لمشروع التحديث الزراعي ‪ :‬شطر يعتبر نتائج السقي إيجابية وشطر يعتبرها‬
‫نتائج سلبية ‪ .‬يرتبط هذا اإلنشطار في جذوره العميقة بتقسيم الثروات اإلقتصادية والرساميل‬
‫المادية في هذا المجتمع خاصة ما يرتبط منها باألرض‪ .‬ثمة فئة تعتبر السقي نعمة وهي‬
‫الفئة التي تستفيد من حيازتها ألرض فالحية تمكنها من استجالب ربح مالي من زراعة‬
‫الشمنذر والخضر و تربية األبقار‪ ،‬وثمة فئة أخرى تعتبر السقي نقمة وهي الفئة التي‬
‫تضطر للعمل األجري الموسمي أو هي المالكة ألرض صغيرة ال تتجاوز الهكتار أو هي‬
‫فئة بدون أرض‪ .‬من هنا يكون اإلنشطار السوسيو‪-‬اقتصادي داخل هذا المجتمع منتجا‬
‫النشطار نوعي في التقييم اإلجمالي لحصيلة التحديث الزراعي وما أدى إليه من تغير في‬
‫البنيات اإلقتصادية واإلجتماعية‪.‬‬

‫‪ .III‬من الدوار إلى المركز الحضري ‪.‬‬

‫بدراسة سيرورة التغير االجتماعي الذي شمل البنيات المجالية‪ ،‬الديمغرافية‬


‫واالقتصادية (البنيات المادية)‪ ،‬كما شمل البنيات الثقافية والسياسية (البنيات الرمزية)‪ ،‬يتأكد‬
‫وجود تطور في مستويات التغير الخاص بالبنيات المادية‪ ،‬في مقابل تكريس التقليد والوضع‬
‫القائم فيما يتصل بالتغير الخاص بالبنيات الرمزية‪ .‬لقد خضع مجتمع الدراسة (مركز خميس‬
‫الزمامرة ) لحركة توسع في إطاره المجالي‪ ،‬و هي حركة ارتبطت بتوسع عمراني ناتج عن‬
‫وفود مهاجرين قرويين من الدواوير المجاورة أو استقرار فئات من الموظفين والعاملين‬
‫بالقطاع الحر ومهن يدوية وتجارية‪ .‬كان الستراتيجية الدولة في تحجيم تدفق المهاجرين‬

‫‪57‬‬
‫القرويين نحو مدينة الدار البيضاء‪ ،‬أثر إيجابي في وفود القرويين نحو مركز الزمامرة‪،‬‬
‫خاصة مع نهج تحديث زراعي ارتبط في بعد أحادي بزراعة الشمنذر السكري‪ .‬إال أن هذا‬
‫النهج هو نفسه السبب الكامن وراء خنق االمتداد المجالي للمركز الحضري المحاصر‬
‫باألراضي الزراعية السقوية‪ ،‬وذلك بالرغم من النمو الديموغرافي الذي ميز هذا المركز‬
‫الذي لم يحتضن ظاهرة التحضر بمعناها العميق والحقيقي‪ ،‬بل استقبل وافدين من فئات‬
‫سوسيو‪-‬اقتصادية فقيرة‪ ،‬كما تكشف عن ذلك التركيبة االجتماعية للحي الصفيحي «درب‬
‫الجران»(حي الضفادع ) وأحياء أخرى كالحي المحمدي (بام) وحي السالم ‪.‬‬
‫يتأكد على المستوى الثقافي استمرار حضور التقليد الثقافي من خالل قوة استمرار‬
‫ظاهرتين اجتماعيتين ميزتا المجتمع القروي بالمغرب عبر فترة تاريخية طويلة وهما‬
‫ظاهرة السوق األسبوعي وظاهرة تنظيم «مواسم» األولياء‪ .‬فيما يرتبط بالظاهرة األولى‬
‫يتأكد أن استمرار السوق األسبوعي داخل مركز خميس الزمامرة هو إعالن تأكيدي على‬
‫استمرار هيمنة ماهو قروي على مركز حضري ناشئ‪ ،‬خاصة وأن السوق األسبوعي يؤدي‬
‫وظائف اقتصادية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬ترفيهية‪ ،‬وسياسية (فترات الحمالت االنتخابية) متنوعة ‪ ،‬كما‬
‫يشكل العصب الرئيسي للحياة االقتصادية بالمركز وللموارد الجبائية للبلدية‪ .‬أما بالنسبة‬
‫لتنظيم مواسم األولياء‪ ،‬فيظهر الرحيل شبه الجماعي ألبناء الزمامرة إلى موسم موالي عبد‬
‫هللا أمغار‪ ،‬وإغالق مجموعة من المحالت التجارية طيلة فترة هذا الموسم الصيفي‪ ،‬مما يبين‬
‫عمق تجذر التقليد الثقافي داخل مركز حضري لم يتحول إلى مدينة‪ ،‬وليس بإمكان ساكنته‬
‫أن تنتج ثقافة حضرية ومدينية‪ .‬ليس هذا حكم قيمة يضع فاصال نوعيا بين ما هو قروي وما‬
‫هو حضري ‪ ،‬بل هو إثبات لواقع سوسيولوجي مركب حيث الغلبة لسيرورة الترييف‪-‬‬
‫التحضر ‪ ،Rurbanisation‬إذ خلف أشكال العقالنية االقتصادية وحركية العمران تترسخ‬
‫االستمرارية التاريخية العميقة للقيم الثقافية الخاصة بالبنيات الرمزية للمجتمع القروي‪.‬‬
‫أما في الحقل السياسي فيتأكد أن التغير هو تغير شكلي يرتبط بـ « تحديثانية‬
‫سياسية» حيث أن التركيز على السيرورة االنتخابية ال يكشف عن تجذر ثقافة سياسية تنزع‬
‫نحو تطوير الديمقراطية‪ ،‬بل هو يكشف عن تكريس التحالفات‪/‬النزاعات التقليدية المنتمية‬
‫للبنيات االجتماعية القبلية‪ .‬إن التغير السياسي الخاص بالمركز الحضري هو نفس التغير‬

‫‪58‬‬
‫الخاص بالمجتمع القروي الفالحي حيث شكل تغيرا في األشكال الخارجية للتدبير‬
‫السياسي‪،‬كما شكل انتقاال من نظام الجماعة القبلية إلى نظام الجماعة اإلدارية حسب التقطيع‬
‫الذي تنهجه سلطات اإلدارة الترابية‪ .‬رغم ما تبرزه المونوغرافيات السياسية لعناصر النخبة‬
‫المحلية من انتماء أغلبها لقطاع التعليم‪ ،‬فالثابت أن التقليد السياسي المؤسس على المحافظة‬
‫والتحالفات التقليدية هو التقليد المهيمن‪ ،‬خاصة وأن ارتفاع نسبة المشاركة السياسية في عقد‬
‫التسعينات من القرن العشرين كنسبة مميزة للدائرة التشريعية بخميس الزمامرة‪ ،‬هو ارتفاع‬
‫مرتبط بتجنيد عناصر نخبة محلية لكتلة ناخبة قروية وأمية في مكونها السائد من أجل‬
‫تحقيق مصالحها (النخبة) المادية والرمزية‪ ،‬في تفاعل مع الطلب السياسي الذي تقدمه الدولة‬
‫والنخب السياسية الوطنية و ذلك من خالل تمتين شبكة عالقات الزبونية والتدخل لدى‬
‫المحاكم‪ ،‬الدرك الملكي و إدارات أخرى‪ ،‬باعتبار أن عناصر هذه النخبة المحلية تشكل‬
‫«األعيان الجدد» ضمن سيرورة تكريس لعبة االنقسامات السياسية واالجتماعية التقليدية‬
‫تحت إشراف المخزن الجديد‪.‬‬

‫في التغير المركب‪.‬‬ ‫‪.IV‬‬

‫يعتبر التغير االجتماعي سيرورة مستمرة من التحوالت االقتصادية‪ ،‬السياسية‬


‫والثقافية المتباينة من حيث تأثيرها‪ ،‬فهو سيرورة مركبة تتألف من عناصر ومستويات‬
‫متعددة تختلف باختالف السياقات الزمانية والمكانية‪ ،‬التاريخية والمجالية‪ ،‬كما تشترط في‬
‫تشكلها واستمراريتها بعوامل أساسية ومدبرين رئيسيين يعتبرون الفاعل في سيرورة التغير‬
‫االجتماعي سواء كدولة أو كطبقات اجتماعية أو كتحالفات قبلية أو سياسية‪ .‬من هنا يكون‬
‫التغير االجتماعي كموضوع سوسيولوجي سيرورة مركبة تحتاج في تفكيك عناصرها‬
‫تبتعد عن األحكام‬ ‫ومستوياتها وتحديد عواملها ومدبريها إلى معرفة سوسيولوجية‬
‫االجتماعية الجاهزة التي تؤكد جازمة إما تحقق التغير وإما استحالته ضمن منطق ثنائي ال‬
‫يستسيغ سوى طرفا واحدا من ثنائية وجود التغير أو عدمه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫يظهر التمايز واضحا على مستوى التأثير الذي يمارسه التحديث الزراعي على البنيات‬
‫المادية من جهة وعلى البنيات الرمزية من جهة ثانية كتأثير ال يرتبط بعوامل بنيوية تتعالق‬
‫مع سيرورة التحديث الزراعي فقط بل يرتبط كذلك بعوامل خارجية أهمها حضور الدولة‬
‫كفاعل رئيسي في مشروع التحديث الزراعي داخل المجال القروي‪.‬تكشف المتابعة الرصينة‬
‫لجل المشاريع التنموية التحديثية بالمجال القروي عن حضور هاجس تقنوي و تحديثوي في‬
‫غياب سياسة تنموية متكاملة ‪ ،‬حيث يتم التركيز الواضح على التحديث المادي للبنيات‬
‫العقارية كمااالهتمام المفرط بالمردودية االقتصادية لزراعة الشمنذر سواء من طرف الدولة‬
‫أو القطاع الخاص ‪ ،‬دون تركيز واهتمام كبيرين بالتحديث الثقافي للبنيات الرمزية للمجتمع‬
‫القروي الفالحي من خالل معرفة حقيقية بتمثالته وأحكامه ومواقفه إزاء كل ما هو جديد‪.‬‬
‫سبق لهربرت بوب ‪H.Popp‬أن أكد في دراسته للزراعات السقوية بمنطقة سوس ماسة‬
‫عن تبعية الفالح للمؤسسات البيروقراطية من خالل إجباره على التقيد بزراعات محددة في‬
‫المجال السقوي ‪ .‬كما سبق لبول باسكون أن أبرز في أطروحته « حوز مراكش» مدى‬
‫مقاومة الفالحين للتغير الذي تحمله مشاريع االستثمار الفالحي‪ ،‬كما أبرز في نفس الوقت‬
‫الوجه اآلخر لهذه المقاومة والمتمثل في تفاوض الفالحين مع الدولة وتقبلهم لمشاريعها‬
‫اإلستثمارية مادامت ال تهدد النسق االجتماعي التقليدي ‪ .‬في هذا السياق يتأكد إذن الدور‬
‫المركزي للدولة في صياغة مشروع تحديث متكامل للمجتمع القروي الفالحي كمشروع‬
‫يهتم بالبنيات الرمزية بنفس مستوى اهتمامه بالبنيات المادية وخاصة االقتصادية منها ‪.‬إن‬
‫التركيز على االستثماراالقتصادي لوحده يعد مغامرة تحمل قدرة النسق الثقافي التقليدي على‬
‫عرقلة أو نسف كل مشروع لتحديث المجتمع القروي ‪.‬‬
‫يخفي تضخم الخطاب حول العنايةبالعالم القروي جهال كما يخفي خوفا من فهم حقيقة‬
‫هذا العالم‪ .‬إن الخطاب الراهن حول العالم القروي هو خطاب منتفخ بنزعات اقتصادية‬
‫وتحديثوية تنظر لتنمية المجال القروي من خالل ضرورة تمدينه تمدينا ال يتجاوز بناء‬
‫طريق صغير وربط الدوار بشبكة الماء والكهرباء وبناء حجرة دراسية ‪ .‬تنعت فاني كولونا‬
‫‪ F. Colonna‬الخطاب الرسمي الذي بلورته الدولة الجزائرية حول الفالحين بكونه خطابا‬
‫منافقا ألن تضخم الخطاب حول «الثورة الزراعية» وازته محدودية التأثير الملموس في‬

‫‪60‬‬
‫الحياة اإلجتماعية للفالحين ‪ .‬إن الخطاب الخاص بتنمية العالم القروي هو خطاب لن يلتصق‬
‫بعمق النسق االجتماعي الخاص بالمجتمع القروي إال إذا كان خطابا يهتم بفهم قيم الفالحين‬
‫وينظر إلى التنمية القروية ‪-‬ال التنمية الفالحية فحسب‪ -‬كتنمية تكاملية و شمولية ‪ ،‬مادية‬
‫ورمزية‪ ،‬اقتصادية وثقافية تشمل جميع مكونات المجتمع القروي الفالحي وتنفذ إلى كل‬
‫مستوى من مستوياته‪.‬‬
‫يبين الراحل عالم االجتماع التونسي عبد القادر الزغل أن التحوالت المميزة للمجتمع‬
‫القروي بمنطقة المغرب العربي هي تحوالت تدبرها الدولة وتتحكم في أطوارها و مفاصلها‬
‫األساسية مما يجعل الفالحين يفقدون خاصيتهم الفالحية‪ . Dépaysannisation‬تكمن‬
‫داللة هذا النعت الذي يجمع بين التوصيف والتقييم االجتماعيين في إثبات أن الفالح ضاعت‬
‫منه هويته كفالح تقليدي ضمن مجتمع تضامني دون أن يكتسب في نفس الوقت صفة الفالح‬
‫العصري أو المزارع الرأسمالي الذي استطاع تحقيق استقالليته عن الدولة دون حاجة مادية‬
‫أو رمزية لتدخلها الباتريمونيالي كما تحقق في االقتصاد الزراعي الرأسمالي لنماذج‬
‫بأمريكيا الشمالية وغرب أوربا‪ .‬من هنا يكون هذا التفاوت الواضح بين تغير ملموس و‬
‫سريع أحيانا في البنيات المادية( البنيات االقتصادية و العقارية والديمغرافية) و بين تغير‬
‫ال مرئي و بطيء فـي معظــــم األحيان و الفتــــرات في البنيــــات الرمزيـــة ( البنيات‬
‫الثقافية و السياسية ) تغير مركب يتحقق عبـر سيرورات متفاوض بشأنـها وسيرورات‬
‫أخرى تعترضها آليات مقاومة اجتماعية ثقافية ‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫إحاالت مرجعية‬

Colonna , Fanny« la ville au village , transfert des savoirs


et modéles entre villes et campagnes en Algérie » ،

in méthodes d’approche du monde rural ( collectif ،

office
des publications universitaires ، Alger ، 1976 .

Pascon , Paul« la nature composite de la société marocaine», Lamalif


n° 17 . Dec 1967.
Pascon , Paul le Haouz de Marrakech . 2 ed , Editions marocaines et
internationales . Tanger 1986 .
Popp , Herbert «l’Agriculture irriguée au Maroc entre les
décisions de l’état et celles de l’individu .Analyse socio-
géographique». in revue de géographie du Maroc, nouvelle
Série, N° 6, 1982.
Zghal , Abdelkader « Pourquoi la réforme agraire ne mobilise- t-
elle pas les paysans maghrébins ? », in Les Problèmes
agraires au Maghreb ، A.A.N، C.R.E.S.M /C.N.R،

1975.

62

You might also like