Professional Documents
Culture Documents
محاضرات علم الاجتماع القروي
محاضرات علم الاجتماع القروي
(الفصل الرابع)
1
المحاضرة األولى
(مدخل)
2
إن القراءة المتمعنة في تاريخ السوسيولوجيا تكشف أنه بعد مرحلة التأسيس مع الرواد الكبار
كونت ،ماركس ،دوركايم ،فيبر ،التي كان فيها هاجس صياغة النظريات والمفاهيم الكبرى
هاجسا مهيمنا ،فإن االهتمام بالقرية وبالمجتمع القروي كان اهتماما مهيمنا العتبارات متعددة
نلخصها في:
ــ احتضان العالم القروي لساكنة قدرت ديمغرافيا في بدايات القرن العشرين بأكثر من %70
ــ اعتبار المجال القروي موضوع تحديث زراعي أو موضوع وحقل ثورة زراعية حسب
ــ كون أن القرية كانت دائما حقل الدراسات السوسيولوجيةواألنثروبولوجية سواء من خالل
نظمها االجتماعية متمثلة في القبيلة ،العشيرة ،الدوار ،أو في الممارسات االجتماعية القائمة
من مقدس ،متمثل في السحر ،األضرحة ،أو طقوس الزواج ،الدفن...،الخ ،أوطقوس الزعامة
أوالسوسيولوجيا الفرنسية ،هذا فضال عما تضمنته مختلف اإلنتاجات األنتروبولوجية من
أنماط تحليلية ومقاربات تصنيفية لمختلف التشكيالت االجتماعية القروية .سنعمد في هذا
المدخل إلى تقديم المستويات المعرفية الكبرى ذات العالقة المباشرة بعلم االجتماع القروي
وهي:
ΙΙΙـ علم االجتماع القروي بالمغرب. Ιـ األنثروبولوجيا ΙΙ.ـ نظريات النمو و التخلف.
3
Ιـ األنثروبولوجيا
كان لهذا العلم االجتماعي المتعدد المجاالت والمتنوع التقنيات والمقاربات والمناهج دور في
تفكيك البنيات االجتماعية بالقرية ،وفي تحليل الممارسات الثقافية ،االقتصادية والسياسية
كممارسات اجتماعية .ليس بإمكاننا حصر اإلنتاج األنثربولوجي أو إبراز قيمة مساهمته في
تلقيح السوسيولوجيا القروية بنتائج علمية وميدانية خصبة لكن وبصيغة مركبة ،يمكن تحديد
المستويات التالية الخاصة بالعالقة القائمة بين األنثروبولوجيا وعلم االجتماع القروي ،من
متنوعة للبنيات االجتماعية لمجتمعات قبلية بإفريقيا ،أمريكا ،واستراليا فإذا كان النصف
األولى ك :اوفن ،ماين ،تايلور ،ليبوك ،مورغان ،فإن النصف األول من القرن العشرين كان
قرن وضع شروط منهجية جديدة لألنثروبولوجيا بمحاولة االبتعاد عن الثقافة الغربية
4
ينتمي األوالن للمدرسة الوظيفية البريطانية .أما الثالثة األواخر فينتمون للمدرسة الثقافية
األمريكية التي لعبت دو ار في نقد ا لنزعة االستعمارية واالهتمام بالثقافات األصلية لمجتمعات
الشمالية.
االجتماعية تشتغل وفق آليات االنشطار ،االنقسام والتجزئ للبنية االجتماعية إلى أقسام
لتنقسم هذه بدورها إلى أقسام ،وداخل كل مستوى هناك اتحاد أو تحالف دفاعي مواجهلتحالف
األنثروبولوجيين الذين فككوا التنظيم االجتماعي القبلي بالمغرب ،حيث لجأ إلى التحليل
بإفريقيا الشرقية .منح جيلنر للصلحاء دو ار مركزيا في تأدية وظائف اجتماعية وسياسية مهمة
5
داخل بنية قبلية شبيهة بشجرة لها فروع ،حيث ينتخب الرؤساء سنويا وبنظام تناوبي .أما
الصلحاء فهم الذين يضمنون الحصانة األخالقية حتى تتمكن االتحادات القبلية من االجتماع
وتنظيم االنتخاب .لقد تعرضت نظرية جيلنر النتقاد علمي مؤسس من طرف األنثروبولوجي
المغربي عبد هللا حمودي ،حيث اعتبر االنتخاب هو تعيين ،كما أن االجماع تم خرقه أكثر
من مرة ،إضافة إلى أن الحنصاليين تأرجحوا بين وضعية المسالمة والصلح ،وبين وضعية
والسبعينات دراسات شملت حقوال وأنساق اجتماعية مختلفة خاصة بالمجتمع المغربي،
ولضرورة منهجية وبدافع إجرائي يوجهه هاجس التلخيص التركيبي ،نشير إلى أهم الدراسات
ــ الدين ،المقدس والزوايا:من أهم الدراسات ،نشير إلى دراسة جيلنر<<Gellnerصلحاء
6
ــ األرياف والقبائل :نشير هنا من جديد إلى دراسة جيلنر المذكورة سابقا وأيضا دراسة دافيد
هارت D.Hartلقبيلة بني ورياغل بالريف وآيت عطا بالجنوب ،وأيضا دراسة دافيد سيدون
بالشاوية ،ودراسة هرمان فون فريش H.VonFreshحول التحديث الزراعي بمنطقة ابن
احمد.
قيمة أساسية للعالم القروي ،وتحويل االنتباه ـ ولو لفترة محدودة ما بعد الحرب الكونية الثانية
شأن الحواضر الكبرى بالبلدان الصناعية .لذلك كان للتراكم النظري الكبير الخاص
7
العالم القروي ضمن اهتمام الباحثين السوسيولوجيين واالقتصاديين ،وهنا يمكننا أن نصنف
1ــ المدرسة الماركسية :وهي مدرسة منذ كارل ماركس ،وبعده فالدمير لينين ،أدمجت
الفالحين ضمن الطبقة العمالية ،واصفة إياهم ب <<البروليتاريا الزراعية>> بل تم تقييم دور
الفالحين ،كدور معضد للطبقة العمالية بالمصانع والحواضر ،دور الفالحين دور ملحق
و<<مساعد>> ،ضمن نظرية الثورة االشتراكية ،وكل أقطاب الماركسية من ماركس ،لينين،
غرامشي ،ماو ،أطروا دور الفالحين ضمن يوتوبيا سياسية ترتبط ب <<ديكتاتورية
2ــ المدرسة الليبرالية :تحضر مفاهيم ،التراكم ،اإلنتاج ،فائض اإلنتاج ،التبادل،
االستهالك ،الربح ،النمو ،حضو ار قويا في الفكر الليبرالي ،خاصة في شقه االقتصادي.
يتمحور الخطاب االقتصادي الليبرالي حول <<نظرية النمو>> ،أي البحث على طرق
تحقيق وثائر سريعة للنمو االقتصادي .إن هذا االهتمام هو السائد لدى االقتصاديين
الليبراليين منذ ريكاردو في القرن الثامن عشر ،وصوال إلى روستوف في القرن العشرين.
األساسية لتحقيق نمو اقتصادي بالمجال القروي ،على الفالحة أن تتوجه نحو التسويق
والتصدير ،وهو ما لن يتأتى إال بعصرنة آليات وأدوات اإلنتاج الز ارعي.
8
3ــ مدرسة التبعية
يندرج ضمن هذه المدرسة التي تشكلت في عقدي الستينات والسبعينات مفكرون
سوسيولوجيون ،علماء اقتصاد وسياسة ،معظمهم ينتمي لقارات أمريكا الجنوبية ،إفريقيا،
وآسيا ،وإن كانت فئة قليلة تنتمي ألوربا والواليات المتحدة .يجمع مفكرو هذه المدرسة على
تقسيم اقتصاد العالم وبلدانه إلى مجموعتين ،بلدان << المركز >> التي تضم أمريكا
الشمالية ،أوربا ،واليابان ،وبلدان << المحيط >> التي تضم بلدان القارات الثالثة ،والعالقة
بين المجموعتين هي عالقة ال تكافؤ ،في اإلنتاج ،التبادل ،والتوزيع ،حيث أن الجنوب ينتج
ويصدر بتكلفة رخيصة ،ويتقاضى مقابل ذلك مواد تقنية بسيطة بتكلفة باهظة .ويشكل العالم
القروي ضمن مجال << المحيط >><< محيط المحيط >> أو << هامش الهامش >> ألنه
بدوره يكون هو المهيمن عليه Dominéفي عالقته بالعالم الحضري حيث تتمركز رؤوس
األموال والثروات االقتصادية .من أهم رموز مدرسة التبعية نذكر سمير أمين
9
ΙΙΙـ علم االجتماع القروي بالمغرب
يعتبر علم االجتماع القروي بالمغرب علما في طور التأسيس لم يكتمل نموه بعد ،شأنه في
ذلك شأن علم االجتماع بالمغرب بشكل شمولي .لذا فإن التمرحل الذي ميز الثاني ينطبق
على األول باعتباره فرعا منه ،وإن كان يشكل قسمه الرئيسي .نميز في تاريخ تشكل علم
االجتماع القروي بالمغرب بين مرحلتين1 :ـ مرحلة كولونيالية2 .ـ مرحلة وطنية
عادة ما يؤرخ لظهور السوسيولوجيا بالمغرب بحدث تأسيس <<البعثة العلمية بالمغرب>> La
أبحاث إثنوغرافية متفرقة همت ظواهر السحر ،القبيلة ،الزوايا بمناطق مختلفة من المغرب
وأرياف بالمغرب بعد التثبيت الرسمي والدولي االستعماري بالمغرب ( ،)1912حيث تميز
ميشو بلير بدراسته حول << الطرق الدينية بالمغرب>> ( ،)1927وإدموند دوتيهDoutté
التحليلية المتميزة << البربر والمخزن >> ( ،)1930وبعده جورج دراك G.Dragueفي
وبعدهم جاك بيرك المبتعد عن النزعة الكولونيالية والملتصق أكثر بالمجتمع القبلي لسكساوة
باألطلس الكبير في أطروحته الشهيرة الصادرة سنة << 1955البنيات االجتماعية لألطلس
10
الكبير >> ،إنها أمثلة محدودة وقليلة ألهم ما خلفته السوسيولوجياالكولونيالية حول العالم
القروي بالمغرب.
بعد العقد األول لإلستقالل السياسي للمغرب ،وجد الجيل األول من الباحثين االجتماعيين
السوسيولوجية لباحثين كولونياليين همت ظواهر اجتماعية متعددة خاصة القبيلة ،الدين،
الزعامات المحلية.
كان ضروريا للتمييز بين هذين البعدين الخاصين بالسوسيولوجياالكولونيالية التي كانت
الكبير الخطيبي.
أمام هذا الوعي النظري بالبعد المزدوج لتلك السوسيولوجيا ،بدأت تتبلور معالم سوسيولوجيا
وطنية ،كما تبلورت الخطوط األولى لعلم اجتماع قروي مغربي ـ بحكم أن الغلبة الديمغرافية
كانت للبوادي حتى إحصاء 1994ـ مثله بصفة عميقة بول باسكون P.Pasonلكن حضر
11
إلى جانبه باحثون آخرون اهتموا بالمجال القروي نذكر أهمهم :محمد جسوس ،المكي بن
تنوعت مساهمات هؤالء في نحت صورة واضحة لدراسات سوسيولوجية قروية ،وإن لم يكن
علم اجتماع قروي مغربي مستقل وقائم بذاته ،إال أن أهم باحث في السوسيولوجيا القروية
المغربية يبقى هو الراحل بول باسكون ( 1932ـ )1985الذي تمكن من خالل عمله الميداني
المباشر وتأطيره العلمي للطلبة المهندسين بمعهد البحث الزراعي ،وتجديده في الحقل
تعددت التدخالت العلمية ،النظرية والميدانية لبول باسكون في مناطق مختلفة من المغرب
منذ بداية الستينات ،سواء بمساهمته في المخطط الخماسي 1960ـ 1964أو دوره في
تأسيس المكتب الوطني للري ،أو دراساته لقرى منجمية لفائدة << المكتب الشريف للفوسفاط
>> ،أو دعمه لفريق متعددة االختصاصات ،EIRESHهذا فضال عن أثره الواضح في
تأسيس المكتب الوطني للري بالحوز سنة ،1964ليصبح فيما بعد مدي ار جهويا للمكتب
الجهوي لالستثمار الفالحي بالحوز .وقد مكنته هذه التجربة المهنية األخيرة ـ مع مزاوجتها
بالتدريس بمعهد الزراعة والبيطرة بالرباط ـ من إنجاز أطروحته الجامعية القيمة << حوز
12
مراكش >> Le Haouz de Marrakechسنة ،1975والتي ستنشر في جزأين سنة
.1977
من أهم القضايا والخالصات المثيرة في كتابات باسكون ،وخاصة أطروحته الجامعية ،هو
نعته للمجتمع المغربي ب << المجتمع المركب >> ،Société compositeكمجتمع هو
تركيب متداخل ألنماط إنتاج قبل رأسمالية وأخرى رأسمالية ،فاإلنسان المغربي يعيش كما
وهو ما ينطبق على السلوكات داخل المؤسسات ،في الشارع ،وداخل األسرة .لقد مكنت
المالحظات التي جمعها باسكون حول المجتمع القروي بحوز مراكش من صياغة نظرية
سوسيولوجية حول << المجتمع المركب >> قابلة للتعميم على مستوى المجتمع المغربي.
13
بيبليوغرافيا مختارة ألهم المراجع المتوفرة بمكتبة كلية اآلداب
(ظهر المهراز)
ـ عالء الدين جاسم البياتي ،البناء االجتماع والتغير في المجتمع الريفي /،الرشيدية ،دراسة
6907/B.ـ 950
14
بيبليوغرافيا مختصرة ومركزة
ـ محمد عبد الغني حسن ،الفالح في األدب العربي ،دار القلم ،القاهرة.1965 ،
ـ محمد سالم شكري ،هامشية المسألة الفالحية ،مجلة أمل ،عدد 22ـ .2001/23
ـ إريك وولف ،الحروب الفالحية في القرن العشرين ،ترجمة أكرم الرافعي ،دار الحقيقة،
بيروت.1977،
Progrès.
W.W.Rostow, Les étapes de la croissance économique, Ed, du seuil,ـ
paris 1963.
Gramsci, Gramsci dans le texte, Ed, sociales, Paris,1977.ـ
15
المحاضرة الثانية
هامشية المسألة الفالحية
16
يتحدد اإلطار النظري للدراسة ضمن الحقل المعرفي الخاص بعلم االجتماع القروي
كعلم ينقسم بدوره إلى حقول مختلفة تهتم بقضايا وموضوعات اجتماعية تهم المجتمع القروي
يعاد تأسيسها في موضوعات سوسيولوجية منها :الصراعات والنزاعات االجتماعية ،النخب
القروية ،المقدس في المجتمع القروي ،اإلصالح الزراعي...الخ .الدراسة تتجه بشكل خاص
صوب المسألة الفالحية La question paysanneمن خالل االهتمام بالفالح ليس من
منطلق نظري محض يستثمر المسألة الفالحية في رهانات إيديولوجية ،بل من منطلق
سوسيولوجي يهدف إلى تحليل السياق االجتماعي لتطور المجتمع القروي الفالحي .تنطلق
الدراسة من إعادة االعتبار Revalorisationللمسألة الفالحية ،وتأسيس مقاربة
سوسيولوجية فهمية متعددة األدوات المفاهيمية والتقنيات المنهجية لمعرفة أكثر بواقع
الفالحين دون أحكام مسبقة قد تعلن نفسها أحكاما واقعية وموضوعية ألن المهم في البحث
السوسيولوجي ليس هو استبعاد اإليديولوجيا بل التحديد الواعي والمعقلن للعالقة القائمة بينها
وبين العلم ،فاإليديولوجيا ليست بنت العقل ،وانتشارها ال يكون عن طريق اإلقناع ،بل عن
طريق التعاطف .إنها تعبر دائما عن الهوى ،الرغبة والمصلحة ،وهي توظف كل الحقائق
العلمية والمعتقدات الدينية والرموز األسطورية إلقناع اآلخرين ،1لكنها ال تشتغل بعيدة عنه،
فتحديد اإليديولوجيا ال يكون إال بمقارنتها بالعلم الذي يحاول من خالل منطقه االستداللي
عن الخطاب اإليديولوجي وإن كان يحمله باطنا وينتهي إلى تطبيقه في الممارسة االجتماعية
ما دام كل علم يرتبط بتحوير إيديولوجي لنتائجه ألنه « بجانب اإلقصاء المتبادل بين العلم
واإليديولوجيا فإن كال منهما يساعد على تحديد اآلخر وكأن تعريف العلم ذاته ال يتحدد إال
بتحديد ما هو إيديولوجي والعكس أيضا صحيح :العلم هو كل ما ليس إيديولوجيا،
واإليديولوجيا هي كل ما ليس علميا ».2
يتأسس اإلطار النظري لدراستنا للمجتمع القروي الفالحي على التفكير في المسألة
الفالحية ومحاولة تجاوز الخطابات المقاربة لهذه المسألة والتي حددت الفالح بمرجعية
سلبية .فما هي أهم األحكام والتصورات والقيم التي حملتها الخطابات التي تناولت الفالح
سواء في الثقافة العربية – اإلسالمية أو في الثقافة الغربية؟
-1محمد سبيال ،اإليديولوجيا ،نحو نظرة تكاملية .المركز الثقافي العربي .بيروت .الدار البيضاء ،1992 .ص ص .122-121
-2نفس المرجع ،ص .198
17
-1صـورة الفـالح فـي الثقـافـة العربيـة – اإلسالميـة
لفظ الفالح مصدره الفلح ،وفلحت األرض «شققتها للزراعة .وفلح األرض للزراعة،
يفلحها فلحا ،إذا شقها للحرث والفالح :األكار ،وإنما قيل له فالح ألنه يفلح األرض أي
يشقها وحرفته الفالحة ،والفالحة بالكسر :الحراثة ،وفي حديث عمر :اتقوا هللا في الفالحين،
يعني الزراعين الذين يفلحون األرض أي يشقونها» .3تخفي هذه الداللة األولى لمفهوم الفالح
في اللسان العربي داللة ثانية تحمل تصو ار قدحيا للفالح ،فإذا كان عمر ينصح «باتقاء هللا
في الفالحين» فمرد ذلك وجود ظلم اجتماعي الحق بهم إذ يصنفون في مرتبة دنيا .وإذا كان
الفالح في نفس المصدر ] لسان العرب البن منظور[ يعني «الفوز بالجنة والنعيم» فإن
الفالح ] بالتشديد على الالم[ ال يفوز دائما بنعيم الموسم الفالحي ،بل قد يلحقه الكساد
خاصة في مواسم الجفاف .إن الحكم القدحي على الفالحين يتحول إلى نصح بالحذر منهم
ألنهم مصدر مكر « فلح به تفليحا :مكر وقال غير الحق» والتفليح هو «المكر
واالستهزاء» .4إن االنتقال من الداللة اللغوية األولى المرتبطة بالفالح كماكر ومتحايل وغير
قائل للحق يكشف عن احتضان الثقافة العربية لحكم سلبي لمهنة الفالحة وفئة الفالحين
وتصنيفهم في أسفل مراتب المجتمع ،بل نجد ندرة في استعمال لفظة «فالحة» في الكتب
الثراتية ،فرغم قدمها في القاموس العربي ،فهي كانت تعوض بألفاظ «األكرة»« ،أهل القرى»
و «أهل األرياف» ،كما أن لفظة «فالح» ولفظة «فالحون» لم تظه ار إال في القرن السابع
الهجري( ،)5أي بعد سبعة قرون على تأسيس الثقافة اإلسالمية على مستوى النص القرآني،
والحديث النبوي ،وتبلور مصادر فقهية للشروحات واالجتهادات انطالقا من النص الديني
األول قرآنا وحديثا نبويا.
أما ابن خلدون فيقول في المقدمة «إن الفالحة من معاش المستضعفين وأهل العافية
من البدو ،ولذلك ال تجد ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب ،وال من المترفين ،ويختص
منتحله بالمذلة» .قال (ص) ،وقد رأى السك ببعض دور األنصار «ما دخلت هذه دار قوم
-3ابن منظور .لسان العرب .المجلد الثاني .دار صادر .بيروت .ص .548
-4نفس المرجع ،ص .549
-5محمد عبد الغني حسن ،الفالح في األدب العربي .دار القاهرة 1965 .ص .13
18
إال دخله الذل» ،وحمله البخاري على االستكثار منه وترجم عليه« :باب ما يحذر من عواقب
االشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به» .والسبب فيه وهللا أعلم ما يتبعها من
المغرم المفضى إلى التحكم واليد العالية ،فيكون الغارم ذليال بائسا بما تتناوله أيدي القهر
واالستطالة .قال(ص) :ال تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرما» ،إشارة إلى الملك القاهر
العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط والجور ونسيان حقوق هللا تعالى في المتموالت
6
واعتبار الحقوق كلها مغرما للملوك والدول».
تتضمن «المقدمة» ،كأهم مرجع من المراجع التاريخية العربية ،نظرة تحقيرية للفالح
ألن الفالحة مهنة ذل وال يختص بها أهل المدينة والمترفين ،وقد استند ابن خلدون إلضفاء
مشروعية على حكمه القيمي – السلبي على مهنة الفالحة بمشروعية دينية تمثلت في
] الحديث النبوي «ما دخلت هذه الدار قوم إال دخله الذل» .واإلشارة هنا إلى السكة
المحراث[ التي رآها النبي بإحدى دور األنصار .إن الحكم المتضمن في «مقدمة» ابن
خلدون يتضمن ما يسميه د .محمد جسوس بالعائق التراثي كأحد العوائق التي تحول وتأسيس
معرفة موضوعية بواقع الفالح في المجتمعات العربية-اإلسالمية ،وذلك ألن المعرفة الخاصة
بالمجتمع الفالحي مستمدة من مصادر غير فالحية ،ومن مثقف مدني ينتمي لنخبة حضرية
تدور في فلك سلطة مركزية وحضارة إسالمية كان قطبها هو المدينة ،فالمجتمع الفالحي لم
ينتج المكتوب .تضاف إلى ذلك مسألة ثقافية مميزة للمجتمعات المغاربية وتتمثل في الثقافة
7
األمازيغية ،مما يدل على أن تراث الفالحين حتى الشفوي منه كان التعبير عنه باألمازيغية.
كما تتضمن «المقدمة» حكما واقعيا يعبر عن طبيعة العالقة السياسية بين الحكم المركزي ]
الملك العضوض[ ،والفالحين كعالقة متميزة بالقهر واالستطالة و «اليد العالية» مما يجعل
من الزكاة غرامة ،والجبايات والضرائب ضرورة مفروضة على الفالحين يؤدونها من
محاصيلهم الزراعية ومواشيهم.
من المراجع التراثية األساسية التي يمكن االستناد إليها في الثقافة العربية-اإلسالمية
لمعرفة التصورات المتضمنة في هذه الثقافة إزاء الفالحين نذكر «الفتاوي الفقهية» من خالل
-6ابن خلدون .المقدمة .الجزء .2الطبعة . 3دار النهضة للطباعة والنشر .الفجالة .القاهرة .محرم 1401هـ .تحقيق د.علي عبد الواحد وافي .ص
ص .927-926
-7د .محمد جسوس .محاضرات السلك الثالث السنة الجامعية ،1987/1986كلية اآلداب العلوم اإلنسانية ،جامعة محمد الخامس ،الرباط.
19
إبداء الفقهاء آلرائهم في «النوازل» المتمثلة في أحداث جديدة قد تتميز بالشدة والقسوة ،ولم
يصدر فيها نص ديني واضح .إال أن أغلب النوازل ال تشير إلى المكان والزمان وحتى تلك
التي تضمنت فتاوي في مسائل الفالحة من أكارة ومغارسة ومزارعة وحراثة طغى على
نصوصها تصدير فقهي طويل ،بينما الفتوى الفقهية الخاصة بالشؤون الفالحية تكون
مقتضبة وثانوية .إن العنصر السائد في الخطاب الفقهي حول النوازل هو اإلحالة على
مرجعية عصر التدوين العربي ،والعودة إلى النص الديني وذكر سيرة الصحابة ،إضافة إلى
احتكام واضح للنص الديني المكتوب ،بينما المجتمع الفالحي احتكم إلى ثقافة شفوية .8إن
النوازل والفتاوي الفقهية صادرة في أغلبها عن فقهاء يجسدون نموذج «المثقف التقليدي»
حسب تعبير غرامشي وهو المثقف المرتبط بالسلطة المركزية ،الذي تربى في الوسط
المديني .ولهذا فالنوازل المستعصية في قضايا الفالحة يقفز عليها بالعودة مكانا وزمانا إلى
العصر األول للثقافة اإلسالمية عوض االلتصاق بالواقع االجتماعي للفالحين ،ومن هنا
يمكن فهم رفضهم لعقود اإلجارة وشركة الخماسة ألنها تنافي قواعد الفقه اإلسالمية ،دون فهم
الشروط االجتماعية التي تدفع بالخماس إلى قبول وضعه لضرورات اجتماعية واقتصادية قد
تتجاوز ثبات الرؤية التي تميز الخطاب الفقهي.
يمكن للمتخصص في المصادر الدينية والتاريخية ] ابن خلدون[ ،والفقهية ] أدب
النوازل[ أن يستنتج أن الثقافة العربية اإلسالمية تتضمن أحكاما ،قيما وتصورات سلبية ،بل
وتحقيرية للفالحين ولممارسة الفالحة ،وهي أحكام ،قيم وتصورات مستمدة من المرجعية
النصية الدينية من جهة أولى ،كما هي مستمدة من المرجعية السوسيو-تاريخية من جهة
ثانية والمتمثلة في كون المدينة هي مركز الحضارة اإلسالمية بينما كان الفالحون مصد ار
حلوبا الستخالص الجبايات وفئة تخضع لإلذالل والقهر وتسلط «اليد العالية» ،وهذا ما
يفسر هامشية المسألة الفالحية في الثقافة العربية اإلسالمية.
-8عبد اللطيف حباشي .حول صورة الفالح في الثقافة العربية-اإلسالمية -أدب النوازل نموذجا :-مجلة « األمل » .عدد .1997 .9
ص ص .82-61
20
-2صـورة الفـالح فـي الثقـافـة الغربيـة
يبد و أن دراسة كيفية تناول التراث الغربي للمسألة الفالحية من خالل مرجعياته
المكتوبة والشفوية ،القديم منها والحديث ،هي دراسة محكومة بنسبية نتائجها ومحدودية أفقها
النظري ألن الثقافة الغربية متعددة المصادر والتخصصات وذات قنوات لسانية متنوعة أهمها
اإلنجليزية ،الفرنسية واإلسبانية .لكن يمكن على ضوء الوقائع التاريخية لألزمنة المعاصرة
وما أنتجته من منظومات فكرية لها تخصصات معرفية متنوعة ،أن نثبت وجود نظريتين
أساسيتين وجهتا األبحاث في العلوم االجتماعية كما شكلتا اإلطار المرجعي والبيئة
اإليديولوجية ألنظمة سياسية سواء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو طيلة القرن
العشرين ،وهما النظرية الليبرالية والنظرية الماركسية ،فما هي الصورة المكرسة إزاء الفالح
ضمن كل نظرية من النظريتين؟
أ -النظرية الليبرالية:
تعتبر النظرية الليبرالية سابقة للنظرية الماركسية من حيث التأسيس والنشأة ،بل إن
النظرية الثانية بلورت مفاهيمها وأطرها النظرية انطالقا من النتائج التي تضمنتها تحليالت
النظرية األولى ،وهذا يظهر بصورة واضحة في عالقة كارل ماركس بدافيد ريكاردو حيث
أسس نظريته في تحليل االقتصاد الرأسمالي انطالقا من المصنع اإلنجليزي ،من خالل
قراءته لريكاردو في مرحلة أولى ونقده إياه في مرحلة ثانية بإبراز أن «فائض القيمة» يتحقق
في دائرة اإلنتاج ،وفي العالقات االجتماعية للرأسمال والعمل المأجور ،ال في دائرة التوزيع
وتسويق المنتوج حين يت حول إلى بضاعة .تستمد النظرية الليبرالية أصولها من مواكبتها
للتطور الذي عرفته الطبقة البورجوازية حيث أنها لم تحقق ثورة صناعية فقط ،بل حققت ثورة
زراعية موطنها األصلي هولندا في القرنين 16و 17كبلد كان يعرف كثافة سكانية .ستنتقل
هذه الثورة الزراعية إلى بلد عرف كثافة سكانية منخفضة في القرنين السابع عشر والثامن
عشر هو إنجلترا .إال أن الشكل المتطور للنظرية الليبرالية في المجال االقتصادي هو الذي
يحضر في نظرية روستوف Rostowحول المراحل الخمس للنمو االقتصادي ، 9الذي ال
يقتصر على القطاع الصناعي ،بل للقطاع الفالحي دور أساسي ،فروستوف يجعل من
الموارد الغذائية قاعدة اقتصادية في مرحلة اقتصادية في مرحلة االنتقال الممهدة لمرحلة
–9بول باريوك .مآزق العالم الثالث .دار الحقيقة .بيروت .1973 .ص ص 27-26
21
اإلقالع االقتصادي .10على الفالحة أن توجه نحو تحقيق حاجيات تسويقية وأيضا إنتاج
رساميل تنمي القطاع «العصري» في االقتصاد ،وهو القطاع الصناعي .11إن نظرية
روستوف تجعل القطاع الفالحي مرتبطا بالقطاع الصناعي ،بل إن تطويره يعتبر تصنيعا له،
وعصرنة ألدواته ووسائله ،حتى يكون قطاعا تمويليا للنمو االقتصادي ،ألن التجربة التاريخية
للبلدان األوربية كما سلفت اإلشارة أظهرت أن الزراعة «شكلت العمود الفقري للثورة
الصناعية» كما يؤكد بول بايروك.12
ال نعثر ضمن هذه النظرية الليبرالية الماكرو-اقتصادية على حضور للفالح أو
اهتمام بفئة الفالحين ،فالنمو االقتصادي يتخذ تحديث الفالحة وسيلة لتحقيق النموذج
الليبرالي في التقدم .تمكن هذا النموذج الذي يعود إلى روستوف من الهيمنة على خطاب
نظرية االقتصاد العالمي ،وهو الذي حاولت المنظمات الدولية خاصة «صندوق النقد
الدولي» و «البنك العالمي لإلنماء والتعمير» تطبيقه .لكن االتجاه المهيمن لدى هذه
المؤسسة الثانية هو اتجاه سياسي ضمني حاول االهتمام بالعالم القروي من خالل تطبيق
اإلصالح العقاري ،ومساعدة دول كثيرة إلنجاز مشاريع استثمارية في القطاع الفالحي كحالة
المغرب .لم تهتم النظرية الليبرالية بالفالحة إال من منظور اقتصادي يتوخى تحقيق المردودية
والرفع من اإلنتاج ،وفي هذا االهتمام تغيب المسألة الفالحية في بعدها السوسيولوجي،
المتمثل في معرفة الحقل االجتماعي الذي هو موضوع للتحديث لتحقيق النمو االقتصادي:
حقل يتشكل من فئات وطبقات لها ثقافة تاريخية ذات قيم وتمثالت رمزية قد ال تستسيغ
خطط التحديث والعصرنة المطبقة على القطاع الفالحي ألن الفالح يمارس عمله داخل
]اإلطار السوسيو- مجال رمزي وفي توافق بين مجال إيكولوجي ومجال اجتماعي
مجالي[.
أغفلت النظرية الليبرالية اإلطار السوسيو-مجالي الذي ستطبق فيه خطاطتها
االقتصادية ألنها اختزلت النمو االقتصادي في مجرد تطبيق مادي ألساليب تقنية ،علما أن
التكنولوجيا هي منتوج نسق غربي مما يجعل الفالح يتعامل مع منتوج غريب عنه كما يجعل
10
– W-W Rostow. Les étapes de la croissance économique. Ed. Seuil. Paris. 1963.p.40.
11
– Ibib.p.44.
–12بول بايروك .مرجع مذكور .ص .33
22
االقتصاد الوطني لبلد متخلف مرتبطا بمعرفة واستيعاب تكنولوجيا نسق اقتصادي غربي .13
ال يمكن للتحديث أن يرتبط باألشياء المادية فقط من خالل تحقيق نمو اقتصادي وتراكم
للرأسمال ،بل هو تحديث يجب أن يهتم بالكائنات البشرية ،وهنا يكمن الخطأ النظري لـ
«حكمة التحديث» التي أخذت بها دول العالم الثالث كما يثبت أحد الباحثين السوسيولوجيين
المغاربة ،14فالمنطق الذي وجه النظرية الليبرالية هو ترسيخ تقابل ضدي بين
«الحديث» و «التقليدي» وإخراج القطاع الفالحي كقطاع «تقليدي» من دائرة «التخلف»
ليصبح قطاعا «حديثا» شبيها بالقطاع الصناعي .وفي ذلك عدم معرفة بوتيرة التغير المميز
للمجتمعات القروية ومطابقة عمياء بين التحديث الصناعي الذي يتحقق بتغيير تقني سريع
والتحديث الزراعي الذي ال يتحقق بتكيف سريع للفالح مع األساليب التقنية الحديثة من خالل
إدماجها في النسق الثقافي «التقليدي» للمجتمع القروي .هنا تبدو مساهمة األنثروبولوجيا
ذات مشروعية كبيرة ألنها ساهمت – كما يقول جورج بالندييه -في وضع أسس مستقبلية
لدراسة المجتمعات التي تتغير وفق «سرعات» مختلفة .15
تتخذ النظرية الليبرالية الفالح في إطار عملية التحديث كوسيلة بشرية لتطبيق الخطط
التنموية لتمكين األرض من اإلنتاج المتزايد وضمان مردودية مرتفعة ،ولذلك تتمحور سيرورة
التنمية حول البعد االقتصادي وحده ،ويتم إغفال أبعاد أخرى أساسية في عملية التنمية.
يظهر عزيز بالل دور العوامل الثقافية ،السياسية واإليديولوجية في سيرورة التنمية وينتقد
النظرية ال تنموية التي تختزل التنمية في البعد التقني فيسميها باإليديولوجيا التنموية
Idéologie développementisteكإيديولوجيا تقصي باقي عناصر المشروع التنموي
وتختزل الممارسة االجتماعية في مجرد ممارسة تقنية .16النظرية الليبرالية إذن تتضمن في
مرجعيتها النظرية ،كما في مجالها التطبيقي نزعة أذاتية ،تحول الفالح إلى «نكرة» وعنص ار
يؤدي وظيفة السخرة لتحقيق نمو مرتفع القتصاد عالمي ال يشكل االقتصاد الوطني سوى
حلقة صغيرة وذيلية ضمن حلقاته.
13
– FarikKannane. « Science, technologie et développement rural » Alasas. N°49./1983.pp26-29.
–14محمد شقرون .مفهوم التحديث واستعماالته في سوسيولوجيا المجتمعات النامية .مجلة الوحدة/العدد 1991/85ص ص .14-9
15
Georges Balandier. Sens et puissance. 2.ed.P.U.F. 1981. PP 144-145.
16
– Aziz Belal. Développement et facteurs non économiques.SMER. Rabat. 1980. pp81-100.
23
ب -النظرية الماركسية
تمكنت النظرية الماركسية انطالقا من تحليل نمط اإلنتاج الرأسمالي في تشكيلته
االجتماعية من المساهمة في تشريح ماكرو –اقتصادي آلليات الرأسمالية ،وهي كنظرية
تموقع البورجوازية كما البروليتاريا كطبقتين أساسيتين متصارعتين في المجتمع الرأسمالي،
فعينة التحليل بالنسبة لكارل ماركس هي «المصنع اإلنجليزي» ،لكن التشكيلة االقتصادية
واالجتماعية ال تتضمن هاتين الطبقتين فقط ،بل هناك طبقات أخرى قد تتوزع إلى فئات
اجتماعية.
يرى أحد كبار الفالسفة الماركسيين الذين اقترحوا قراءة جديدة لكتاب «الرأسمال» أن
ماركس لم يقدم نظرية لنمط إنتاج رأسمالي خالص إذ ال وجود لهذا النمط اإلنتاجي بشكل
خالص دون استمرار رواسب أنماط إنتاج أخرى بداخله ،فالنموذج اإلنجليزي الذي درسه
ماركس لم يكن إذن نموذجا رأسماليا خالصا .17يكشف ماركس عن أثر التطور الرأسمالي
على القطاع الفالحي ،فيبين أن التصنيع أدخل اآللة إلى العمل الفالحي ،فأدى إلى تعويض
اإلنسان باآللة في أمريكا الشمالية وإلى إفراغ كلي للبوادي اإلنجليزية من ساكنتها ،فتحول
الفالح إلى أجير ،وهكذا « حل التطبيق التقني للعلم محل االستغالل األكثر رتابة وال عقالنية،
وقطع اإلنتاج الرأسمالي بشكل نهائي الصلة التي كانت تربط بين الفالحة والمصنع منذ
طفولتهما ،لكنه خلق في نفس الوقت الشروط المادية لتركيب جديد وأكثر تطورا ،أي اتحاد
الفالحة والصناعة على قاعدة التطور الحاصل في كل منهما في فترة انفصالهما الكلي ()...
في المقابل ،فكل تقدم في الفالحة الرأسمالية هو تقدم ليس فقط في فن استغالل العامل ،بل
أيضا في فن استنزاف األرض ،فكل تقدم في فن الرفع من خصوبتها لفترة محددة ،هو تقدم
في استنزاف الموارد الدائمة لخصوبتها ( )...ال يطور إذن اإلنتاج الرأسمالي التقنية وسيرورة
اإلنتاج االجتماعي إال باستنزافه في نفس الوقت للمصدرين اللذان تنبع منهما كل ثروة:
األرض والعامل».18
يتحول الفالح إلى عامل أجير في السياق التطوري لنمط اإلنتاج الرأسمالي ،وتتحول
فئة الفالحين إلى بروليتاريا زراعية تحت ضغط ضرورة تاريخية لمنطق «تقدمي» له وجهان:
17
– Louis Althusser. Lire Le Capital. Tome2,/2. ed Maspero. Paris, 1980. pp.75-76.
18
– Karl Max. Le Capital. Livre1.ed. Sociales. Paris 1977. pp359-361.
24
وجه إيجابي يتمثل في إدخال التقنية إلى القطاع الفالحي والرفع من إنتاجية األرض
وخصوبتها ،ووجه سلبي يتمثل في هجرة الفالحين لقراهم ،وتحولهم إلى عمال بمصانع المدن
على الخصوص ،أما الذين فضلوا البقاء للعمل في الفالحة فهم فقراء ليسوا عبيدا وال
أح ار ار» .19أين تتموقع فئة الفالحين ضمن النظرية الماركسية ،وما هو المستقبل الذي رسمه
لها ماركس؟
في تحليله لألوضاع السياسية في فرنسا سنوات 1850 ،1849 ،1848أظهر ماركس
أن العائالت المكونة من الفالحين والتي تعيش في ظروف اقتصادية تفصلها عن باقي
الطبقات االجتماعية ،تشكل هي أيضا طبقة قائمة بذاتها لكونها طبقة ال تحمل وعيا طبقيا
وعاجزة عن تشكيل تنظيمها السياسي ،لهذا ستبقى غير قادرة على الدفاع عن مصالحها
الطبقية ،20وهي بذلك]كطبقة[ رغم ما تعرفه من استغالل اقتصادي فإنها تشكل عائقا أمام
الثورة التي ستحققها البروليتاريا .إنها الطبقة الرابعة بعد البورجوازية ،البروليتاريا والبورجوازية
الصغيرة ،إال أنه محكوم عليها بأن تنحل وتذوب في البروليتاريا .لهذا فإن ماركس – سنوات
بعد ذلك -وفي آخر فقرات "الرأسمال" يحرر مشروع مخطوط حول "الطبقات" لم يتمكن من
استكماله ،في نصه األخير حول الطبقات في المجتمع الرأسمالي يغير تصنيفه الطبقي
السابق معتب ار المأجورين الرأسماليين والمالك العقاريين الطبقات الثالث األساسية في نمط
اإلنتاج الرأسمالي ،21ليؤكد أن التقسيم الطبقي ال يظهر بشكل خالص حتى في أنجلت ار
البلد «الذي عرف التقسيم االقتصادي للمجتمع الحديث بشكل أكثر تطو ار».22
لم تحظ طبقة الفالحين في تحليالت كارل ماركس بتعريف نظري واضح ،فهي ذات
وزن سياسي كبير ألن ظروفها االقتصادية القاسية بفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر
تدفعها إلى التعجيل بتطور سياسي "تقدمي" ،لكنها ليست طبقة بالمعنى االقتصادي ألنها ال
تعي مصالحها الموضوعية وال تتميز بالتجانس ،وهذا ما يجعلها ذيلية وملحقة بالبروليتاريا.
نستنتج أن تصور مؤسس الماركسية موضع هو أيضا الفالحين كأداة في سيرورة التطور
الرأسمالي تمهيدا لالنتقال نحو االشتراكية ،فهم ليسوا سوى طبقة تؤدي وظيفة " السخرة
19
– Ibid. p. 487.
20
– K.Marx. Le dix huit brumaire de Louis Bonaparte, Ed. Sociales. Paris. P. 129.
21
K.Marx. Le capital .Livre 3.p.796
22
ibid. p.796.
25
السياسية" إلنجاز التحول نحو االشتراكية وتحول "جماهير الفالحين" إلى بروليتاريا نتيجة
سيرورة تقدمية لتطور موضوعي في قوى اإلنتاج في المجتمع الرأسمالي.
ستجد النظرية الماركسية تحققها في إطار الدولة مع الثورة البلشفية في أكتوبر
،1917وسينقل لينين التصور النظري الذي صاغه ماركس حول الفالحين إلى الممارسة
السياسية حيث ستكون الطبقة الفالحية مجرد طبقة تعضد البروليتاريا لترسيخ االشتراكية
ودحر "القوى البيضاء" المتمثلة في التكتل االقتصادي – السياسي – العسكري لإلقطاع
الروسي .توخت سياسة لينين نزع األراضي للفالحين بنهج مبدأ التأميم الشامل وتحويلها إلى
"كولخوزات" ،إال أن تشبث الفالحين بأرضهم ( وهي المجال الرمزي والثقافي الذي يربطهم
بالعالم) شكل في تصور لينين عائقا أمام إنجاز الثورة االشتراكية ،فكان عليه أن يطبق"
السياسة االقتصادية الجديدة " التي تفسح مجاال ضيقا للفالحين للتملك الفردي لألراضي.
أدرك لينين تأخر القطاع الفالحي بروسيا وركز على ضرورة معرفة المعطيات األساسية
حتى يمكن معرفة طبيعة العالقات الفالحية« :فقط حين نحدد طبيعة الطبقات واتجاه النمو،
يمكن آنذاك االهتمام بمسائل خاصة كسرعة النمو أو تحول ما في االتجاه العام» . 23إن
الهدف هنا هو تحديد طبيعة الطبقات المتصارعة ،وهل انقسمت طبقة الفالحين إلى
بورجوازية وبروليتاريا ،وليس تطوير قطاع الفالحة ،فمسألة النمو في القطاع الفالحي تمت
موضعتها في سياق سياسي هو إمكانية تحويل الفالحين إلى طبقة سياسية تعضد البروليتاريا
في إنجاز "الثورة االشتراكية" .لهذا لم يختلف لينين اختالفا كبي ار عن ماركس ،بل هو يؤكد
نتيجة تحليله بإبراز أن الرأسمالية قلصت من أعداد الفالحين بفعل ظهور اآللة التي دفعت
بهم إلى المدن ليتحولوا إلى عمال في المصانع ،مبينا أن «التاريخ لم يدحض قانون ماركس
حول الفالحة فيما يخص البلدان الرأسمالية الحالية ،بل هو بالعكس أكده».24
يمثل تحليل لينين ل"تطور الرأسمالية في روسيا "بشكل عام ،وتطور الفالحة الروسية
بشكل خاص اإلثبات النظري والسياسي لتحليل ماركس للمسألة الفالحية ،فبالرغم من دقة
تحليله والذي يعد مكمال لتحليل كاوتسكي للمسألة الزراعية ،25فهو ال يجعل الفالحين طبقة
أسا سية في مشروع "الثورة االشتراكية" بل أداة لتحقيق نمو ال يجعل الفالحين طبقة أساسية
23
Lénine. La question agraire en Russie à la fin du 19 eme siècle. Ed. Progrès. T 15. p134.
24
Lénine. Le capitalisme dans l’agriculture. Ed . Progrès. Moscou T.4 p 111.
25
Thami El Khayari Agriculture au Maroc .Ed Okad. Rabat. 1987. pp .434-451.
26
في مشروع "الثورة االشتراكية" بل أداة لتحقيق نمو الرأسمالية ،فنمو الفالحة يعني تحديثها،
والتحديث هو التصنيع ( النمو= التحديث= التصنيع ) .بهذا المعنى تكون طبقة الفالحين
ملحقة بالبروليتارياوالبروجوازية وتذوب فيهما ،فيغيب التحديد النظري الواضح للتحليل
الماركسي -اللينيني للمسألة الفالحية .يالحظ أحد الباحثين الفرنسيين المهتمين بقضايا
المغرب العربي في دراسته المعروفة «الفالحون بين الخطاب والممارسة» أن األحزاب
الشيوعية تعاملت مع الفالحين بعدم ثقة من مؤتمر باكو سنة 1920حتى حرب الجزائر،26
مدعما رأيه باألطروحة التي تعتبر أن الماركسيين أعادوا إنتاج الوهم العلموي بأهمية التقنية
والتحديث انطالقا من إيمان غير مبرر بالنخبوية الثورية للطبقة العاملة.27
بالنسبة للنموذج الصيني كأحد النماذج الخاصة بالتجربة االشتراكية فهو يظهر
نموذجا متفردا في معالجته للمسألة الفالحية كمعالجة ال تتصور تحقيق التغيير السياسي في
بلد أغلبيته من الفالحين دون االستناد عليهم كقاعدة أساسية .لهذا تتشكل القاعدة االجتماعية
الطبقية "للمسيرة الطويلة" التي قادها ماوتسيتونغ من الفالحين الذين قاموا بثورات في القرن
التاسع عشر لكنها أحبطت .اعتمد الشيوعيون الصينيون على الفالحين دون أن يتحول
الحزب الشيوعي الصيني إلى حزب فالحي في سياسته في المجال الفالحي رغم أن غالبية
أعضائه تتشكل من الفالحين ،بل إنه طبق إصالحا زراعيا ليبراليا في الشمال الغربي للصين
كما دافع الشيوعيون على الفالحين األغنياء .28يستنتج األنثروبولوجي إيريك وولف أنه تمت
تعبئة الفالحين المتوسطين "األحرار" بمناطق هامشية رغم أنهم محافظون وتقليديون ،وسبب
االلتقاء بين فئات فالحية وسطى ونخبة هامشية شيوعية هو تضرر األولى من تقلبات
االقتصاد التجاري كعامل اقتصادي ،وعودة أبنائهم المتعلمين في المدينة بثقافة سياسية
حاملة لقيم السخط والتمرد والمعارضة ،يتأثر بها اآلباء المشكلون للفئة الوسطى من
الفالحين .29إنه عامل ثقافي ساهم بتظافر مع العامل االقتصادي في تحول هذه الفئة إلى
26
– Bruno Etienne. « La paysannerie entre le discours et la pratique », in : les problèmes
agraires au Maghreb, Annuaire de l’Afrique du Nord. C.N.R.S/C.N.R.S.M. 1975. PP3-4.
27
– Ibid, p3.
إريك وولف ،الحروب الفالحية في القرن العشرين ،ترجمة أكرم الرافعي .دار الحقيقة، 28
27
قاعدة سوسيو -طبق ية بالنسبة ل "الثورة االشتراكية" كما خططت لها نخبة سياسية بزعامة
ماوتسيتونغ.
أظهر الخطاب السياسي للدولة االشتراكية بالصين –الخطاب الماوي أساسا -اهتماما
واضحا بالمسألة الفالحية أكثر من الخطاب الماركسي -اللينيني رغم أنه يجسد استم ار ار له،
كما حاول في ممارسته السياسية أن يجد موقعا للفالحين بمحاولته تطبيق هدفين متناقضين:
ثورة زراعية وإصالح ليبرالي .لكن محاولة الدولة لن تتحقق ،فابتداء من سنة 1976سيتم
الحد من مبادرات الفالحين في تسيير األراضي واستغاللها ،وسيظهر اتجاه إداري مركزي
يراقب الفالحين ويقنن المسألة الفالحية بعيدا عن المنتجين .أصبحت السياسة الفالحية
الجديدة للدولة الصينية تركز على تسريع سيرورة "التحديث" وتنمية عملية اإلنتاج وذلك
.تغيرت أهداف السياسة 30
بإخضاع الفالحين لمراقبة أطر مركزية وموظفين محليين
االقتصادية من التركيز على ثالثية الفالحة ،الصناعة الخفيفة وأخي ار الصناعة الثقيلة ،إلى
تركيز أحادي على "وتيرة النمو االقتصادي" وإعطاء األولوية لتراكم الرأسمال وتطوير قوى
اإلنتاج .هكذا تم تبني التركيز األحادي البعد على الصناعة على حساب الفالحة وتأكيد
التصور اإلنتاجوي لستالين "الوتائر هي المحددة لكل شيء" ،فكان االبتعاد عن األهداف
المحددة منذ .31 1956
رغم البدايات التأسيسية ذات المظاهر اإليجابية للتجربة الصينية في معالجة المسألة
الفالحية خطابا وممارسة في برامج "الثورة الزراعية" كما في أشكال تطبيقها العملي ،ورغم ما
يميز عالقة اإليديولوجيا الماوية باإليديولوجيا الماركسية-اللينينة من استقالل نسبي (عالقة
الخاص بالعام) ،فإنها تجربة انتهت إلى ترسيخ نموذج "التحديث" المرتكز على تسريع وتيرة
النمو ،مع تسيير إداري لالستغالليات الزراعية أنتج بيروقراطية مركزية ذات نفوذ كبير .هكذا
دعمت التجربة الصينية التصور األداتي اتجاه الفالحين الذي صاغه ماركس وطوره لينين
في تأسيسه للدولة السوفييتية ،مع فرق واضح يتمثل في استمرار حضور الطبقات الفالحية
في الخطاب السياسي الرسمي وغيابها في ممارسة الدولة إلصالحات في القطاع الفالحي
30
Charles Bettelheim. Questions sur la Chine après la mort de Mao Tsé-
Toung. Ed. Maspero. Paris 1978/pp 28-29
31
Charles Bettelheim. Questions sur la Chine après la mort de Mao Tsé-Toung
Ed Maspero. Paris 1978/pp 28-29
28
هدفها تطوير الرأسمال النقدي بصورة أحادية مما ينتج عنه إغفال الرأسمال البشري وتهميش
الفالحين.
يعتبر تحليل غرامشي للمجتمع اإليطالي تحليال له تفرده ضمن التحليالت الخاصة
بالنظرية الماركسية ،فقد انطلق في تفكيره من مرجعية سياسية تهدف إلى تغيير المجتمع
الرأسمالي بإنجاز "اإلصالح الثقافي واألخالقي" لبناء كتلة تاريخية مكوناتها األساسية هي:
المثقفون العضويون ،العمال والفالحون .الخاصية األساسية للمجتمع اإليطالي هو أنه
مجتمع فالحي متخلف في جنوبه وصناعي متقدم في شماله .تناول غرامشي هذه الثنائية
الجغرافية ،االقتصادية والثقافية المقسمة لهذا المجتمع في مقال أساسي حول المسألة
La question méridionaleعنوانه «قضايا حول المسألة الجنوبية» سنة الجنوبية
.1926عرف غرامشي في هذه الدراسة العميقة مجتمع جنوب إيطاليا بأنه «كتلة كبيرة
متكونة من ثالثة شرائح اجتماعية :جماهير واسعة من الفالحين غير مكتملة الشكل
ومتفككة ،مثقفو البورجوازية القروية الصغيرة والمتوسطة ،ثم كبار المالكين لألرض والمثقفون
الكبار» .32الفئة األولى هي موضوع الستغالل من طرف اإلقطاعيين والفئة الثانية رغم
أصولها القروية فهي تخجل من التخصص في النشاط الفالحي ولذلك ورث المثقفون عن
هذه الطبقة احتقا ار كبي ار للعمل الفالحي ،وهذا هو حال رجل الكنيسة بالجنوب اإليطالي
كنموذج ل«المثقف التقليدي» الذي نجد له نظي ار في الشمال الذي ال يتقيد بالطقوس الدينية
فقط بل يهتم بتوسيع أمالكه العقارية وهو صلة الوصل بين كبار المالكين والفئات الفالحية.
بذلك يستنتج غرامشي أن المثقفين بالجنوب يشكلون «الشريحة االجتماعية األكثر أهمية في
الحياة الوطنية إليطاليا .إذ يكفي التفكير في كون اكثر من ثالثة أخماس بيروقراطية الدولة
مكونة من الجنوبيين حتى نقتنع بذلك» .33يكمن التجديد النظري في فكر غرامشي ضمن
النظرية الماركسية في تحليله للمسألة الفالحية المتموضعة جغرافيا واجتماعيا في الجنوب
وفي إسناده لدور أساسي للمثقفين .لكن هذا الدور ال ينفصل عن المرجعية السياسية للنظرية
الماركسية المتمحورة حول إشكالية "السلطة" كما ال ينفصل عن فلسفة للتاريخ ذات مرجعية
32
– Gramsci. Gramsci dans le texte. Ed. Sociales. Paris. 1977. p133.
33
– Ibid. p. 114.
29
"تقدمية" في اتجاه تطوير قوى اإلنتاج ،والتحكم في الطبيعة وهو ما يعني بالضرورة تطبيق
التحديث كتصنيع للفالحة بالجنوب كغاية ستتحقق من خالل المثقفين.
تناولت النظرية الماركسية الفالحين باعتبارهم طبقة غير متجانسة لها وظيفة كوكبية
وذيلية مقتصرة على دعم الوظيفة السياسية للطبقة العاملة من أجل التغيير .وإذا كان
الخطاب الماوي والخطاب الغرامشي يتميزان من حيث المقاربة النظرية للمسألة الفالحية
ضمن النظرية الماركسية ،فإنهما معا ال يخرجان عن مرجعية المنظومة الماركسية التي
انتهت على مستوى التطبيق إلى تهميش الفئات الفالحية .يعرض "إريك وولف" ألهم الثورات
الفالحية في القرن العشرين من خالل أهم نماذجها المكسيك ،روسيا ،الصين،الفيتنام ،الجزائر
وكوبا ،فيستنتج في خالصة تحليله األنثروبولوجي العميق إلى أنها كثورات لم تكن مجرد رد
فعل على مشاكل محلية ،بل كانت استجابات محلية للتصدعات الكبرى الناتجة عن انقالب
أوضاع المجتمع نفسه ،فباتساع مجال السوق واقتالع الفالحين من جذورهم االجتماعية
ضعفت السلطة السياسية ،مما يقوي حظوظ ظهور زعيم جديد يحمل مشعل القضية
الفالحية ،وما إن تضع الحرب أوزارها ،ويتغير الجهاز الحاكم ،حتى تبدأ بنية سياسية جديدة
في التشكل .34إنه ميكانيزم إعادة إنتاج السلطة السياسية وإن اختلفت الزعامات ،لكن الخاسر
األكبر في الدورة التاريخية الطويلة التي بدأت منذ القرن التاسع عشر واستمرت طيلة القرن
العشرين هم الفالحون ،بناة "الثورة" وضحاياها في نفس الوقت .كان الدور االجتماعي
للفالحين في النظرية الماركسية دو ار ثانويا ،إذ يتعين إقصاؤهم لتستقيم ثنائية
البرجوازية/البروليتاريا على مستوى التحليل النظري المجرد ،وليمهد الطريق على المستوى
السياسي "النتصار" الطبقة الثانية على الطبقة األولى .أما حضور طبقة أخرى من
المستغلين (بفتح الغين) وأخرى من المستغلين (بكسر الغين) في المجال القروي فهو مزعج
على مستوى التحليل النظري وعائق على مستوى تحقيق «الثورة» .لهذا ورثت كتابات
ماركسية التصور األداتي للفالحين الذي صاغه ماركس ولينين مؤكدة أن «الفالحين في
المجتمع الرأسمالي هم طبقة وسطية ،غير أساسية وموجودة في جميع البلدان تقريبا ،وهي
تنحل بتأثير العالقات الرأسمالية فارزة البرجوازية الريفية والبروليتاريا الريفية( )...البرجوازية
30
الصغيرة تنقسم إلى قسمين هما البرجوازية المدينية والفالحون ،والفالحون ينقسمون بدورهم
إلى فالحين أغنياء ومتوسطين وفقراء الخ .35» ...بين إثبات أن الفالحين ينحلون كطبقة
ليتوزعوا بين البرجوازية والبروليتاريا ،وبين تصنيفهم أحيانا ضمن البرجوازية الصغيرة تترسخ
الصورة الغامضة للفالح في النظرية الماركسية ،كما يتأكد التعامل معه كأداة إلنجاح
«ثورة»العمال ال «ثورة»الفالحين.
إن الخاصية األساسية المشتركة بين النظريتين الليبرالية والماركسية هي حضور تصور أداتي
للمسألة الفالحية ،إذ تمت مقاربة القطاع الفالحي مقاربة اقتصادية اختزلت سيرورته التنموية
في عملية التصنيع السريع المتمثل في االعتماد على المكننة الزراعية بإدخال آالت جديدة،
بينما غابت المقاربة التنموية الشمولية التي تتناول المسألة الفالحية في كل أبعادها
االقتصادية ،الثقافية والسياسية ،بتأسيس تنمية مندمجة تحقق تفاعل المجتمع القروي الفالحي
مع باقي أنساق المجتمع .رغم التباين اإليديولوجي بين المرجعية الليبرالية والمرجعية
الماركسية فإنهما تتفقان في تحديد غاية أساسية وهي وتيرة النمو االقتصادي Rythme de
. la croissance économiqueكانت هذه الغاية هي العنصر المهيمن في الخطاب
كما في الممارسة المرتبطين عضويا ووظيفيا بالنظريتين الليبرالية والماركسية .صورة الفالح
في النظرية األولى هي صورة إنسان "ممكنن" عليه أن يرفع من اإلنتاجية الزراعية والحيوانية
ويطبق توجيهات العقل التقني الحديث لتحقيق تراكم للرأسمال المندمج رغما عنه في وضعية
تبعية لنسق الرأسمال الدولي وهذه هي صورة الفالح في النظرية االشتراكية للماركسية التي
تؤكد في ممارستها من خالل جهاز الدولة نفس الصورة ،وإن كانت على مستوى الخطاب
تتميز عن النظرية الليبرالية بإثبات أن الفالحين ينقسمون إلى مستغلين ومستغلين مما يؤدي
على مستوى التحليل النظري إلى إدماج من يمارس عليهم استغالل في طبقة البروليتاريا
ومن يمارسون االستغالل في طبقة البورجوازية (الرأسمالية الزراعية) ،وهذا يحمل داللة على
مستوى الممارسة السياسية هي ذوبان المصالح الخاصة للفالحين والمتميزة عن باقي
المصالح الموضوعية لطبقات اجتماعية أخرى في اإلطار الخاص بالبروليتاريا أو
البورجوازية كإطار للصراع سينتهي نظريا بتحقيق االشتراكية بينما في الممارسة كانت الدولة
31
ترسخ إطا ار اقتصاديا وسياسيا للرأسمالية ،إنها رأسمالية الدولة التي تشتغل وظيفيا من خالل
بيروقراطية الحزب الحاكم.
32
المحاضرة الثالثة
السوسيولوجيـــــــــــــا القرويـــــــــــــــــــــــــــــــة
بالمغـــــــــــــــــرب
(بول باسكون)
33
في قراءتنا لسوسيولوجيا بول باسكون كأهم مؤسس و صانع للسوسيولوجيا القروية
بالمغرب ،ترتسم خطـ ـوط متعددة للت ـدخل النظـ ـري و الميدان ـي لعـ ـالم اجتم ـاع است ـمد
مف ـاهيمه النظري ـة و السوسيولوجية كما صاغ بناءه النظري المركب انطالقا من بحوث
ميدانية متنوعة شملت مجاالت جغرافية مختلفة بالمغرب .نقترح لمقاربة السوسيولوجيا
القروية لبول باسكون العرض ثالثة محاور أساسية تقرب و ال تحيط اإلحاطة الشاملة بعمق
سيرة حياته ( ) 1985 -1932بصمت كما أثرت في تفكيره و إنتاجه فهو ابن فاس يبدو
القروي ،دفعاه للبقاء بالمغرب عوض العودة مع الفرنسيين في السنوات االولى الستقالل
المغرب .بعد حصوله على االجازة في علم االجتماع بباريس سنة ، 1958أسس رفقة
زمالء مغاربة و فرنسيين أول " فريق متداخل االختصاصات لألبحاث في العلوم
34
اقتصاد و جغرافيا وقانون .كانت أهم األسماء المشكلة لهذا الفريق تتشكل من باسكون ،
بنسيمون ،بودربالة ،فوي ،لحليمي ،ال ازريف ،لحلو ،كارسنتي ،بنعلي ،مواتيه ،
شوفالدونيه و آخرون .استمرت تجربة هذا الفريق الشاب لمدة خمس سنوات ( -1958
) 1963وهي تجربة مؤسسة النطالقة البحث في العلوم االجتماعية بالمغرب ،كما هي
تجربة مؤسسة النطالقة البحث العلمي التطبيقي المواكب لتأسيس وحدات إنتاجية و
مؤسسات الفوسفاط ،الري ،الماء واإلصالح الزراعي ،مع مساهمة واضحة في وضع
بعد نهاية تجربة فريق EIRESHسيلتحق بول باسكون بالمكتب الوطني للري ليعين
سنة 1964مسؤوال عن منطقة الحوز ،حيث سيصبح مدي ار " للمكتب الجهوي لالستثمار
الفالحي للحوز " سنة 1966تزامنا مع حدث حل المكتب الوطني للري و تأسيس "
المكاتب الجهوية لالستثمار الفالحي " .كانت خطة و ازرة الفالحة بمنطقة الحوز وتحت
المسؤولية المباشرة لعالم االجتماع المغربي تقتضي استعادة أراضي المعمرين و أراضي
القائد الكالوي ،وإعادة توزيعها على الفالحين المغاربة و البحث عن الوحدات الزراعية
األكثر إنتاجية ،ووضع خطة لسياسة الري الكبير .في كل هذه المحطات و داخل
سلسلة كل هذه اإلجراءات الكبرى كان لحضور باسكون أثر فاعل بمنطقة الحوز مزاوجا
بين إدارته ل " المكتب الجهوي لالستثمار الفالحي لحوز مراكش " وبين إلقائه
35
لمحاضرات في السوسيولوجيا القروية بمعهد البحث الزراعي سنة ، 1969 – 1968
ليعين أستاذا محاض ار بنفس المعهد بشعبة العلوم اإلنسانية سنة ، 1970حيث أن هذه
المزاوجة كانت حاف از لباسكون إلنجاز أطروحته الجامعية الشهيرة حول " حوز مراكش "
التي ناقشها سنة 1975و نشرها سنة ، 1977رغم مغامرته الميدانية الشاقة المتمثلة في
تأطيره الميداني للطلبة المهندسين بالمعهد الزراعي بالرباط و إشرافه على خرجات و
استطالعات ميدانية تمكن الطالب المهندس من معرفة الحياة االجتماعية للساكنة القروية
سوس ،دكالة ،الجهة الشرقية ،الصحراء ...الخ ،نزل عالم المغرب ،الحوز،
االجتماع المغربي الى البئر االجتماعي للمغرب العميق البعيد و المنسي ،نهل و ق أر في
حقول التاريخ ،الجغرافيا ،القانون ،و االقتصاد ،دون الحديث عن حقل التخصص
علم االجتماع ،.حلل كما رصد ميدانيا ظواهر و أبعاد الري ،الملكية الزراعية ،أنماط
العيش ،التشكيلية االقتصادية و االجتماعية ،اليد العاملة الزراعية ،الشباب القروي ،
الصراعات و التناقسات القبلية حول المجاالت الرعوية .كان للتنوع البيوغرافي في مسار
السوسيولوجيا القروية بالمغرب اهمها أطروحته " حوز مراكش " و كتابه "درسات قروية "
و دراسته حول التاريخ االجتماعي لتازروالت " إضافة الى كتاب باشتراك مع محمد
36
الناجي " الفالحون بدون أرض بالمغرب " .إال أن قسما مهما من إنتاج باسكون ظل
موزعا بين مجالت ودوريات مغربية و دولية .بعد اختفاء االبن جيل و البنت نادين في
رحلة دراسية بالجنوب المغربي سنة 1976وعدم ظهورهما انغمس باسكون في رحلة
عميقة للبحث السوسيولوجي ليلقى نفس المصير في حادثة سير بموريطانيا رفقة الباحث
الشاب أحمد عريف ،حيث خلف باسكون تراثا سوسيولوجيا متنوعا ركب بين النظري و
الميداني ،بين المفهمة السوسيولوجية و التحري المباشر ،بين التجديد انطالقا من
المجتمع المحلي كمجتمع للدراسة وبين تناول هذا المجتمع منطلقا للتجديد النظري و
الصياغة المفاهيمية .لكن تبقى أهم أعمال باسكون ذات العالقة الوطيدة بالسوسيولوجيا
القروية هي " دراسات قروية " و " حوز مراكش " و هذا ال يعني أن باقي أعماله هي
بمنأى عن حقل السوسيولوجيا القروية ،بل إن كل ما نشره بول باسكون انخرط و ارتبط
بهذا المجال السوسيولوجي سواء خالصة هنا أو هناك لبحث ميداني أو عناصر لتفكير
قروسة ، Etudes Ruralesحيث تمحور تفكيره حول اإلجابة على إشكال تاريخي
وأكاديمي ومهم وهو :كيف يمكن للمثقفين أن يرتبطوا ارتباطا عضويا بالفالحين
37
؟ المقصود بالمثقفين لدى باسكون في المجال اإلجتماعي القروي التقنيون و
وعلميا داخل المجتمع القروي .إن التورط الموضوعي كارتباط عضوي لهذه الفئة
مشروعيته من مجال تاريخي عميق ومتجذر يخص العالقة بين الدولة والفالحين
من جهة ثانية .يقول من جهة ،وبين الدولة والتقنيين والمهندسيين
الدولة والفالحين والتي باسك ـ ـ ـ ــون« هناك تارخييا ،العديد من األمور المعقدة بين
يتطلب التدقيق فيها أالنصاب بالدهشة حين نرى فئة التقنيين قد دخلت الص ـ ـراع
في وقت متأخر وهي موضوعة بين الشجرة وقشرتها » ،إنه تعبير استعارة على
الوضع الحرج الذي تعيشه فئة المهندسين التقنيين والباحثين االجتماعيين في
اإلقتصاديين وعلماء االجتماع ...إل خ ،كل اللذين اقتنعوا باستعمال منهج معلن
عنه أنه منهج خاص وعقالني ،بحيث تتمثل وظيفتهم في تحويل الطبيعة الجامدة
أو البيولولوجية أو البشرية " .ليس التقني محايدا وليست التقنية حيادية ،إنها
غير بريئة حاملة للمصلحة السياسية للدولة ،والتقني موجود في وضع حرج بين
سياسة الدولة ومعيش الفالحين ،وضع حرج ألن تاريخ العالقة بين الدولة
38
اختزلته الكتابات الكولونيالية في ثنائية المخزن / والفالحين هو تاريخ صراعي
بقيادة السيبة ،المخزن يجسد المجال السياسي والترابي لنفوذ السلطة المركزية
السلطان ،والسيبة كحركة تمرد تمتد سياسيا وسوسيومجاليا عبر نفوذ قبلي ينفلت
من رقابة المخزن وسلطته .إذا كان التقني كنعت لشرائح المهندسين واالقتصاديين
وعلماء اإلجتماع يرمز الى تجانس فئة فإن الفالحين ال يشكلون طبقة اجتماعية
متجانسة ،بل هم ينشطرون كما ينقسمون حسب ملكيتهم لألرض ،إذ هناك :
" ثالث فئات :الفالحون الفقراء ،الفالحون المتوسطون ،المالكون الكبار .
يعتبر هذا التصنيف مريحا ،إال أنه يترك في الظل كل الغنى المميز
الرأسمالية العالمية " .يكفي التدقيق في فئة الفالحين الفقراء لمعرفة أنها تتوزع
الى فئات عديدة تتألف من الخماسين والفالحين بدون أرض والفالحين بدون عمل
بأرضهم .
العالقة التاريخية القائمة بين الدولة والفالحين كعالقة تتحدد بناظمة مركزية واضحة
في المجال القروي حيث تتحول إلى عالقة خاصة و واضحة بين المهندس
39
الفئات األخرى من الفالحين سواء المتوسطة أو الكبرى المالكة لوسائل اإلنتاج
والملكيات الزراعية الكبيرة ،فهي ذات مواقع اجتماعية متميزة .يتحدد عمل
المثقف داخل المجتمع القروي في ضرورة اختياره بين خدمة الفالحين الفقراء أو
خدمة كبار المالكين ،وهو غي كلتا الحالتين يظل موظفا للدولة ،يقول
إن المهندس كرجل دولة يظل كذلك حتى بالنسبة للذين تجمعهم باسكون " :
معه عالقا ت داخل دائرة العمل من مرؤوسيه وعمال زراعيين " .المهندس
ممثل للدولة حتى وإن كان يشتغل في القطاع الخاص وحتى وإن نسج عالقات
إيجابية مع الفالحين ،فهو يبقى في تمثالتهم وتصوراتهم " موظف الدولة "
وحتى وإن وضع نفسه رهن إشارة صغار الفالحين ،ألن العالقة بين هؤالء وبين
يتوجه المثقف إلى المجال القروي والمجتمع الفالحي وهو حامل لكل مواصفات
وأن " البرجوازية الحضرية للمدن الكبرى التقليدية تمنح ./.80من المهندسين
المغرب ،ألنه فيما بعد التحق العديد من الطلبة المهندسين من أصول قروية بمعهد
الزراعة والبيطرة بالرباط .إن التقني كمهندس زراعي أو كباحث اجتماعي هو في
" المخيال االجتماعي " للفالحين شخص قادم من المدينة كنقيض للقرية ،ممثل
40
عالقة متكافئة ومتضامنة .إنه لجهاز المخزن الذي لم تكن عالقته بالبادية
" شخص " غريب " مجسد لعالقة الالتكافؤ بين المدينة والبادية ،عالقة
تهريب " المدينة لخيرات القرى ومنتوج البادية .تتراكم طبقات من الالتواصل ،
وظائفهما ، أدوارهما والفالح ألن المثقف بين التفاعل عوائق وتتعدد
وأوضاعهما محكومة بتقابالت ضدية وثنائيات صراعية لم تكن دائما تكاملية ،
الثقافة الشفوية ...إلخ يرسم باسكون لتاريخ العالقة بين الدولة والفالحين من
• زمن المخزن ،حيث كانت عالقته بالفالحين تتلخص في جباية الضرائب واإلقتطاع
من فائض اإلنتاج الفالحي ،حيث ال يتدخل إال إذا هددت سلطته السياسية.
• زمن الحماية ،حيث أصبحت دولة الحماية تتدخل تدريجيا في شؤون المجتمع
القروي من تنظيم للرعي وتحديد للملكية ،وإدخال للحالة المدنية ،مع جلب أطر
خارجية وتقنيات بعيدة عما هو محلي ابتداء من سنة . 1945
• زمن اإلستقالل ،حيث عملت الدولة على استكمال ما بدأته دولة الحماية في
الصحة والتعليم ،أو دخول قطاعات لم تتمكن الحماية من اقتحامها مجاالت
كالعدل والدين ،وأصبحت الدولة الوطنية حاضرة بقوة في كل المجاالت ،من
خالل ترسيخ بنية اإلدارة المحلية ( القايد ) .
عبر هذا التاريخ التراكمي ال حامل للثقل السياسي والحمولة االجتماعية لألزمنة
الثالثة ،سيكون على التقني أن يختار مجال عمله و اتجاه تدخله ألن التقنية ليست
محايدة كما يدعي ،بل هي ذات حمولة سياسية تجعل من التقني " رجل الدولة
" و " خادما لها " وهو كما يؤكد باسكون " إذا كانت له شجاعة اختيار العمل
الى جانب المحرومين ،فعليه أن يظهر كفاءة كبيرة في الخيال والمجهود ليؤكد
41
أن ترقيعه Bricolageالذي سيتجنب إحداث البرقعات ،Bavuresيقترب أكر مما
هوشمولي دون أن يبلغه في اآلن نفسه ".
42
وسياسي في تنظيم الحركات االجتماعية الصادرة عن اإلطار االجتماعي
القبلي .ركز باسكون أيضا على المرحلة األخيرة في تاريخ الزوايا حيث كان
التوظيف الذكي للمخزن لها دون القضاء عليها ألن " الحد من نفوذ الزوايا
يولد فراغا سياسيا -دينيا جد كبير داخل المجال القبلي ،لهذا فالقليل من
الملوك من ذهب حدا بعيدا بلغ مستوى القضاء على الزوايا " ( ص . )257
في الفصل الثالث واألخير " الهيمنة الرأسمالية " يعرض باسكون
للتاريخ االجتماعي لمنطقة الحوز في الفترة المعاصرة بداية من القرن التاسع
عشر ،واصفا طبيعة اإلنتاج الذي كان يعتمد على الطاقة البشرية ،وبشكل
محظوظ على الطاقة الحيوانية .أما الطاقة المائية ،فهي تقتصر على مطاحن
الدقيق التي يملكها القواد والمخزن والممتدة عبر السواقي الكبيرة للدولة .
صعوبات كثيرة تمثلت في سيجد المعمرون في ثالثينيات القرن الماضي
الجهل بالتقنيات الزراعية ،والنقص في الموارد المائية وقلة بيع الملكيات
الزراعية .اعترفت تقارير رسمية للسلطات اإلدارية اإلستعمارية بإغفال المسألة
المائية أثناء وضع مشاريع تهم المجال الفالحي ،فالمعمر القادم إلى مراكش بعد
الحرب العالمية األولى هو شخص مهاجر شجعته المظاهر الطبيعية المرئية من
طقس جميل وزراعة سهلة بسقي بسيط واثمنة حبوب مشجعة ويد عاملة
رخيصة في العشرينيات .المعمرون في سنة 1931إدراة الحماية في اجتماع "
الغرفة المختلطة بمـراكش" (28دجنبر) ألنها لم تحقق التزاماتها ووزعت عليهم
أراض غير صالحة للزراعة ( ص ص . ) 491-489
ستتدخل السلطة السياسية االستعمارية للبحث عن موارد مائية تؤمن مصالح
و أرباح المالك الزراعيين األوروبيين و ذلك بتحسين توزيع الماء و التحكم فيما
تقيمه من سدود ،وهكذا سيصبح التفوق للمزارعين األوربيين على حساب
المزارعين المغاربة بعد أربعين سنة من التدخل االستعماري في وقت كان التكافؤ
بينهما في العقد االول لفرض سلطة الحماية ( ص ص . )528 -527يبين باسكون
أنه لتحديث ورأسملة البنيات الزراعية يلزم تمكين الفالحين المغاربة من الموارد
43
المائية ،وهو ما يعني نزعها من االوربيين باعتبارها المصدر الحقيقي ألطماعهم .
إن النتيجة اإليجابية للتحديث بالنسبة للفالحين المغاربة كنتيجة وحيدة هي حصول
المغاربة على شغل ،دون أن يخضعوا للتبلتر Prolétarisationألنهم لم يكونوا
يملكون أراض ووسائل إنتاج ،ففقدوها و اضطروا للعمل لدى المعمرين .إن هذه
األمالك كانت في الفترة قبل االستعمارية في حيازة المخزن و أعيان مدينة مراكش
،لقد اضطر المعمرون في العقد 1930 -1920الى جلب اليد العاملة الزراعية من
مناطق مجاورة للحوز ( ص ص . )538-533
اذا كان مؤلف " حوز مراكش " قد عرض للمكونات الجغرافية ،التاريخية ،
االقتصادية والعقارية لإلطار السوسيو مجالي للحوز عامة و للبنيات الزراعية
خاصة ،فإن غاية بحثه لم تتمركز في مجال التاريخ ،الجغرافيا او االقتصاد ،بل
هو استثمر هذه المجاالت و ما يتعالق معها من معارف لتحديد ما يهمه
كسوسيولوجي :البنيات االجتماعية les Structures Socialesو ذلك باعتبار أن
" البنية الزراعية هي كل مركب و أشكال اجتماعية مهيمن عليها ،مقاومة لبعضها
البعض كما هي متحالفة فيما بينها ،وهذا ينطبق أيضا على العوامل االجتماعية .
كما أن التنوع يلعب دورا مؤثرا حسب المناطق و الفترات التاريخية " (ص . )587
يتضمن المجتمع المركب أنماط إنتاج وتفكير يتعايش فيها العبودي مع اإلقطاعي مع
الرأسمالي .اإلنسان المغربي في المجتمع المركب – وهذا هو المثال الذي يقدمه
باسكون– يستعمل الطاقة الكهربائية بمدينة مراكش ،لكن بالبادية وغير بعيد عن
هذه المدينة تنافس الطاقة المائية الطاقة الكهربائية .تهيمن داخل المدينة العالقات
األجرية – الرأسمالية وخارجها تتحقق الهيمنة لعالقات " الخماسة " و " الشركة "
التي تصبح عالقات عبودية في المناطق النائية حيث يبخس المجهود البشري .
أماعلى مستوى البنيات الفكرية و اإليديولوجية فتتعايش منظومات قانونية و رمزية
متفاوتة و متباعدة في تاريخة تشكلها ،فاألب الرأسمالي بالمدينة له خادمة بالبيت
يعاملها معاملة العبيد في حين أن له ابن يعلن انتمائه " التقدمي " .
44
كيف تشتغل هذه األنماط اإلنتاجية البطريكية القبلية ،القائدية ،الفيودالية و
الرأسمالية في مجتمع مركب كالمجتمع المغربي ؟
جوابا على هذا التساؤل اإلشكالي العويص يوضح باسكون أن النمط المهيمن
هو النمط الصناعي بحكم الحاجة إلى التقنية في المرحلة الرأسمالية ،إال أن مؤسسات
أخرى ما قبل رأسمالية تظهر مقاومة عنيفة حيث يتم تقديس السلطة ويقع " توزيع
السلطة ليس انطالقا من التقنية ،بل من الوالء و شبكة الزبونية و ملكية األرض .
أما داخل العائلة فيهمين النموذج البطريكي الذي تتحدد به العالقات االجتماعية
ووضعية المرأة ( )...التي تنتج هي أيضا أشكال مقاومة " ( ص .)591إن مفهوم
" المجتمع المركب " الذي صاغه باسكون في عقد الستينيـــــــات )La Nature
Composite de la Société Marocaine (« Lamalif »N°17,Dec.1967و بلوره
ضمن إطار نظري شمولي و مركب في أطروحته "حوز مراكش " هو مفهوم
يشكل أداة خصبة لتحليل سوسيولوجي عميق ال يجب ان يتوقف عند المونوغرافيا و
ال أن يصوغ الفرضيات ،بل عليه التحري الميداني لمعرفة عناصر التغير
االجتماعي ،عوامله و نتائجه التي شملت التركيبة الخاصة بالمجتمع المغربي أو
تلك الخاصة بمجتمعات محلية .يقول باسكون معرفا مجتمع الحوز « إنا اضطررنا
الى تقديم تعريف موجز لما هو مجتمع الحوز اليوم ( السبعينات ) سنتوصل الى
تركيبة التعقيد التالي :التشكيلة االجتماعية للحوز اآلن هي تشكليةقائدية–مخزنية
تقضي على القبلية و تهيمن على البطريكية التي وجدت مكانها في العائلة الصغيرة
و االستغالل االقصى للنساء و األطفال ،لكن هذه القائدية هي االخرى تهمين عليها
الرأسمالية العالمية في دائرة اإلنتاج والتبادل»(ص.)591
يعرف باسكون أن اقتراحه لمفهوم " المجتمع المركب " كناظمة مفاهيمية و
نظرية جامعة لعناصر بحثه حول " الحوز " هو اقتراح ليس بسحري وال يعبد كل
الطرق أمام ما يعترض الباحث االجتماعي من معضالت نظرية وعوائق ميدانية
تتطلب في تجاوزها و حلها النقصي الدقيق و تستدعي " الخيال السوسيولوجي "
(ميلز ، ) Millsلذلك يؤكد في آخر فقرة من كتابه التي تحمل عنوان " تشكرات " :
45
" لدي انطباع أنني لم أتحدث عن سكان " الحوز " بل تحدثت عبرهم ،من فوق ،
من تحت على الجانب .قال جاك بيرك J.Berqueأثناء مناقشة األطروحة " إنها
ميتا – أطروحة بالضبط !C’est une métathéseلقد فهمت جيدا الجماعات ،
الطرق و الحيل المتبعة كما فهمت سلوكات األفراد ،وكل هذه األمور في نظري
يصعب اإلمساك بها ،إنها حبلى بالكثير من الحلول و اإلمكانيات " ( ص. )599
46
بيبليوغرافيا مختارة ألهم إصدارات بول باسكون مصنفة كرونولوجيا
1- Ce que disent 296 jeunes ruraux , Enquête d’opinion pour le
compte de l’UNICEF , B.E.S.M n°112-113 , jav , juin 1969
2- La formation de la sociétemarocaine , B.E.S.M n° 120-121-
1971
3- La question agraire au Maroc (en collaboration avec
NajibBouderbala et M.Charaibi )B.E.S.M N° 123-124-125 août
1974 , 423 pages .
4- Le Haouz de Marrakech , Histoire sociale et structures
agraires..(thése pour le doctorat d’état en sociologie) 2
tomes , Tanger 1977 , 858 pages .
5- Segmentarité et stratification dans la société rurale
marocaine. Actes du Durham; B.E.S.M n°138-139 mars 1979.
6- Féoclalisme ou caiclalisme au maroc? Lamalif ; dec 1980
7- Etudes rurales , S.M.E.R , Rabat 1980.
8- La maison d’illigh et l’histoire sociale du tazerwalt , ( collectif)
, S.M.E.R Rabat 1984.
9- La question hydraulique au maroc( collectif ), Rabat , 1984.
10- Les paysans sans terre au maroc( avecM.Ennagi)
Ed.Toubkal , Casablanca , 1986.
47
أهم المقاالت المنشورة لبول باسكون
• Les villages miniers de l’office chérifien des phosphates
(en collaboration avec G.lazavev 450pages .bip ,o.c.p ) 1959.
• Les structures agraires dans le perimètre des Doukkala
, Rabat ; 1981.
• L’érit et le verbal , in lamalif ; n°113 fev .1980 .
48
المحاضرة
الرابعة
49
سبق لبول باسكون كأحد األسماء األساسية المدشنة و الباصمة للسوسيولجيا المغربية
أن اقترح منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي مفهوم «المجتمع المركب» و هو المفهوم
الذي طوره في أطروحته« حوز مراكش» في منتصف السبعينات ،مفهوم أثار آنذاك كما
أثار فيما بعد نقاشــات مستفيضـة و متباينـة المنطلـقات المنهجيـة و المقاربات النظرية و
أيضا المرامي اإليديولوجية .ما نقترحه في هذه المساهمة في إطار التمثل المزدوج لقيمة
المفهوم الباسكوني استمرارية و تجاوزا هو مفهــوم « التغير المركب » كمفهوم يعبر عن
سيرورة معقدة من التحوالت االجتماعية ذات المستويات المتداخلة و المركبة بدورها ماديا
ورمزيا ،و العوامل المتفاعلة فيما بينها سواء السياسية أو االقتصادية أو الثقافية .هو
مفهوم شكل في صياغته حصيلة متابعة ميدانية ممتدة في الزمن ،كما شكل إفرازا نظريا
لعملية محدودة لكنها ضرورية من المفهمة لظواهر اجتماعية همت مجتمعا قرويا فالحيا في
الربع األخير من القرن العشرين ،وهي ظواهر ال زالت تتمتع لحد اليوم بخاصية
االستمراريــة التاريخيــة و التجذر االجتماعي داخل هذا المجتمع القروي .
في دراستنا للتغير االجتماعي المميز لمجتمع قروي فالحي محلي هو خميس
الزمامرة بالمجال الدكالي ،انطلقنا في تحديد عوامله ومستوياته والفاعلين في سيرورته من
ثالثة فرضيات رئيسية :الفرضية األولى تخص أثر التحديث الزراعي على البنيات
السوسيو-اقتصادية ،وخاصة مستويات الدخل الفالحي ،والسكن والصحة والتعليم وقياس
مدى تطورها مقارنة بين مرحلة البور ومرحلة السقي .أما الفرضية الثانية فتخص أثر
التحديث الزراعي على البنيات الرمزية لمجتمع الدراسة كنموذج للمجتمع القروي ،وقد
حددنا المستويات الخاصة بهذه البنيات في تصورات الفالحين لظاهرة الجفاف ،والمقدس
الديني متمثال في زيارة أضرحة األولياء ،كما حددنا التغير في البنيات الرمزية كذلك في
دراسة مدى اختفاء أو ترسيخ ظواهر ثقافية ميزت المجتمع القروي المغربي بصفة عامة
كالذهاب إلى المواسم واألسواق األسبوعية وزيارة األقارب بالمدينة ،يضاف إلى ذلك
معرفة التغير الحاصل في القيم الثقافية والتصورات الرمزية المقيمة لوظيفة المدرسة وتعليم
البنات والهجرة .أما الفرضية الثالثة فترتبط بدراسة مستويات التحضر انتقاال من بنية
50
الدوار إلى بنية المركز الحضري.لقد توصلنا بعد دراسة ميدانية إلى خالصات مركزية
نعرض مضام ينها األساسية تالؤما مع طبيعة التقسيمات النظرية و التقطيعات
السوسيولوجية لمجتمع الدراسة .
بسطا للدالالت المركزية لمفهوم التغير المركب و تحديدا ألبعاده السوسيولوجية
األساسية ،من األنسب إبراز هذه األبعاد وتلك الدالالت عبر تصنيف يتشكل من أربعة
قضايا و مفاصل أساسية تناسبا مع السيرورة المركبة للتغير االجتماعي .
ال نعلن في عرض الخالصات األساسية المرتبطة بالبنيات المادية للتغير عن إحاطة
شاملة بكل عناصر هذه البنيات ومستوياتها ،لكن وتوخيا للموضوعية فقد سعينا بعد معاينة
ميدانية وعمل نظري مقارن بين أبحاث تقاطعت في مفاصل محددة مع موضوع دراستنا،
حصر مستويات التغير في البنيات المادية في المستوى االقتصادي ،المستوى التعليمي،
المستوى الصحي ،كما حددنا عوامل هذا التغير وفاعله الرئيسي.
ال يقاس التغير الحاصل في المستوى االقتصادي لفالح الزمامرة بمجرد معرفة مظهر
واحد من مظاهر حياته اليومية أو استجماع معطيات إحصائية تخص ظاهرة قابلة للرصد
الكمي ،بل هو تغير مركب يخص حجم الملكية الزراعية ،الدخل الفالحي وشبكة التجهيزات
األساسية بالمسكن القروي .تعتبر فئة الفالحين المالكين هي الفئة األساسية في المجتمع
القروي الفالحي بنسبة ،%58إال أن هذا المعطى يخفي تغيرا في البنية العقارية للملكية
الزراعية التي تتجزأ كما تتفتت أكثر نتيجة التقسيم الذي تخضع له بين «الورثة» ،وهو
51
ما حول هذه الملكية بالمجال الدكالي إلى «ملكية مجهرية» .أما الدخل الفالحي فهو دخل
يرتبط أساسا بالمنتوج الفالحي وخاصة الشمندر السكري والحبوب ،وهو ليس دخال أحادي
المصدر ومقيدا بالنشاط الزراعي فقط ،إذ توجد فئة من الفالحين تعتمد على مصدر آخر في
دخلها الفالحي يرتبط بتربية األبقار الحلوب ،كما قد يرتبط بأنشطة تجارية .كان الرتفاع
الدخل الفالحي أثر على اإلطار السيوسيو-مجالي للفالح كما كان له دور في إعادة تنظيم
هذا المجال حيث أصلحت المساكن القديمة وشيدت مساكن جديدة بالحديد واإلسمنت في قلب
االستغاللية الزراعية في حالة قربها من الدوار .كما أقيمت بموازاة ظهور المساكن الجديدة
بالمجال القرويشبكةتجهيزات كالكهرباء والماء الصالح للشرب وجهاز التلفزيون وآلة الطبخ
بالغاز .إال أن هذه التجهيزات لم تشمل كل فئات الفالحين ،فالكهرباء ال يستفيد منه سوى
%32والماء يبقى محدود االنتشار واالستعمال مع استمرار حضور «المطفية» .أما
التلفزيون فهو يحضر لدى %84من الفالحين كما تستعمل آلة الطبخ بالغاز [ الصنف
الكبير] بنسبة .%74إنها عالمات واضحة تبين التأثير الكبير للتحديث الزراعي على
الحياة االقتصادية لفالح الزمامرة[ .معطيات الدراسة الميدانية منتصف التسعينات].
إن هذا التغير في المستوى االقتصادي للمجتمع القروي الفالحي لم يعضده تغير في
المستويين التعليمي والصحي ،بسبب ارتفاع نسبة األمية في تسعينيات القرن
العشرين( %89بين الذكور)وهي نسبة أكبر لدى اإلناث .أما نسبة %11من المتعلمين
فهي لم تتجاوز في معظمها طور التعليم االبتدائي .كما يتأكد على مستوى السياسة الصحية
ارتفاع الطلب االجتماعي على المؤسسة الصحية من خالل ارتفاع عدد اللقاحات بالنسبة
لألطفال دون 5سنوات و أيضا بالنسبة للنساء في طور اإلنجاب،وهو تغير مرده التدخل
األساسي للدولة وليس تغير في البنيات الثقافية للمجتمع المحلي .
يقودنا التفكير السوسيولوجي في التغير االجتماعي الخاص بالبنيات المادية سواء
الزراعية منها ،السكنية ،التعليمية والصحية ،إلى إثبات أن العامل االقتصادي هو عامل
محدد للتغير المادي الخاص بالمجتمع القروي ألن تحديث القطاع الفالحي من خالل تحديث
أساليب اإلنتاج الزراعي والحيواني أدى إلى تطور الحياة اليومية للفالح سواء في نمط
عيشه االستهالكي أو في أساليب تنقله بين مكان إقامته و أماكن و مراكز أخرى لقضاء
52
أغراض مختلفة ،تنقل أصبح أكثر يسرا في منطقة سهلية بحكم تمديد الشبكة الطرقية المعدة
أصال بتدخل من «م.ج.س.ف.د» لنقل الشمندر .إن هذا التغير الذي طال حياة فالح المنطقة
السقوية ينظر إليه فالح منطقة البور نظرة نقمة ألنه يعتبره نعمة حرم منها ،في حين أن
فالح السقي المقيد بزمن فالحي جديد كزمن صارم يظل أسير الدورات الزراعية والسقوية
ينظر هو اآلخر بنقمة لفالح البور ألنه يعتبره متمتعا بنعمة تتمثل في عدم التقيد بجدول
زمني صارم للدورة الزراعية .إذ يكفي بالنسبة لفالح البور أن يلقي ببذور في بداية الموسم
الفالحي منتظرا نزول األمطار لجني المحصول في نهاية فصل الربيع .إن هذا التبادل
لنظرة النقمة على اعتبار أن الفالح اآلخر في نعمة ال يعبر في الحقيقة عن تبادل متكافئ في
الخيرات المادية ،ألن ارتفاع الدخل الفالحي بالنسبة لفالح السقي ال يقاس بثبات الزمن
بالنسبة لفالح البور وصعوبة تدبيره لنشاطه الفالحي.
تعتبر الدولة هي الفاعل الرئيسي في التغير االجتماعي المميز للمجتمع القروي ،فهي
المؤسسة السياسية األبوية الصانعة لمشروع التحديث الزراعي والمراقبة لمراحل إنجازه،
فالدولة تحضر في المخيال الجماعي للفالحين باعتبارها « األب الوصي» الذي يتعين عليه
إطعام «األبناء» وحل الخالفات بينهم حتى بالعنف كعنف مشروع .إن الدولة هي مدبر
المشروع التحديثي في مجاالت الفالحة ،التعليم ،الصحة و التجهيزات األساسية .سبق
لباسكون أن الحظ في الكتاب الجماعي «المسألة الزراعية بالمغرب» جدوى مراقبة الدولة
لعمليات توزيع األراضي على الفالحين الذي ظل توزيعا محدودا .إن السلطة البطريكية
للدولة كمؤسسة ماكرو-سياسية تجمع بين دمج وظائفها كدولة وطنية حديثة مع وظائفها
التقليدية كمخزن [المخزن الجديد] هي سلطة تستمر في ممارسة دورها «األوديبي» داخل
المجتمع الفالحي ،وهذا ما ال يرتاح له مدبروها المحليون دائما .ليس باألمر الغريب أن
نسمع عبارات التشكي لرجال السلطة المحلية والمهندسين والتقنيين من الطلب المتزايد
للفالح طالبا تدخلهم حتى في أصغر الشؤون اليومية .إذا كان التغير الذي عرفته الحياة
االقتصادية للفالح لن يواكبه تغير واضح في المؤشرات الخاصة بالمستوى التعليمي ،فإن
التغير ا لذي عرفه المشروع التحديثي من خالل االتجاه نحو خوصصته [نقل قطاع إنتاج
السكر من القطاع العام إلى القطاع الخاص] ورغبة الدولة في التراجع عن مسؤولية تدبير
53
هذا المشروع ومراقبته لم يواكبه مسار من الخوصصة ( الفردانية ) لتدبير الفالح لشأنه
الفالحي ألن نظرته لدور الدولة تبقى نظرة متجذرة في البنيات الثقافية العميقة وفي
التشكيالت التاريخية المنتجة للبنيات الرمزية .
.IIالتغير في البنيات الرمزية.
نقترح في محاولتنا رصد التغير الذي طال البنيات الرمزية للمجتمع القروي
الفالحي تقسيما ثالثيا لهذه البنيات -1 :العالقات العموديـة -2،العالقات األفقية -3القيم
الثقافية المتضمنة ألهم التمثالت الذهنية واألحكام التي يحملها الفالحون تجاه مؤسسات
إدارية وسياسية تتدخل بشكل كبير في تدبير مشروع التحديث الزراعي .ثمة اختالف في
األحكام و التمثالت الخاصة بنتائج التغير و مظاهره وهي أحكــــام و تمثالت بعضها
ايجابي و البعض اآلخر سلبي ،اختالف يستمد عناصره التفسيرية من المتغيرات
السوسيولوجية الكالسيكية المرتبطة بالفئات العمرية و أيضا الفئات السوسيواقتصادية .
يبدو أن شباب المجتمع القروي الفالحي هو أكثر انتقادا لتدخل الدولة من خالل
مدبريها المحليين وخاصة رجال السلطة وأعوانها كما هو أكثر انتقادا لمؤسسات القرض
الفالحي ومعمل السكر و«م.ج.س.ف.د»O.R.M.V.A.Dمقارنة بالكبار .لكن يبقى عامل
االنتماء لفئة سوسيو-اقتصادية من فئات الفالحين هو العامل المؤثر في تبلور المواقف
اإليجابية أوالسلبية من األدوار والوظائف التي تؤديها هذه المؤسسات داخل المجتمع القروي
الفالحي ،حيث يتأكد أن الفئات الفقيرة أكثر انتقادا لهذه المؤسسات مقارنة بفئات الفالحين
حتى ذات الدخل المتوسط أو الدخل المرتفع .إذا كانت هذه العالقة بين الموقف النقدي
للفالح لهذه المؤسسات وبين انتمائه السوسيو-اقتصادي تبدو عالقة بديهية فإن ما يحفز على
تعميق التفكير السوسيولوجي الستكناه الطبقات العميقة من ثقافة الفالحين واحتوائها لتمثالت
مهمة تخص الدولة ،القرض ،المال ،العمل الفالحي ...الخ ،هو تفاوت يرتبط بقيمة هذه
المؤسسات في «المخيال االجتماع» للفالحين ،حيث أن المؤسسة ذات الدور اإليجابي في
نظر الفالح هي مؤسسة القرض الفالحي ،كمؤسسة تنقذه في وضعيات اقتصادية صعبة،
وتليها من حيث األهمية مؤسسة «م.ج.س.ف.د» كمؤسسة تقدم من خالل تقنييها ومدبريها
المباشرين إرشادات فالحية تتعلق بتنظيم دورات السقي واستعمال معداته ،كما تتعلق
54
بالعناية بالمزروعات وتربية األبقار الحلوب ،دون إغفال دور تقنيي ومدبري هذه المؤسسة
في استخالص ذعائر من الفالحين ناتجة عن مخالفتهم لقوانين السقي ،وهو ما يرسخ أكثر
الطابع العمودي لعالقة الفالح بمؤسسة «لوفيس».
أما المؤسستان األكثر بعدا عن الفالح والمجسدتان بصورة واضحة للطابع العمودي
لعالقاتهما بفالح الزمامرة ،فهما معمل السكر و« المخزن الجديد » ألن المؤسسة األولى
المرتبطة بالقطاع الخاص تحول قسما كبيرا من منتوج الشمندر ومن مجهود الفالح لفائدتها،
وهو تحويل رغم أنه مؤسس على تعاقدات قانونية ينظر إليه الفالح بنقمة .أما «المخزن
الجديد» الجامع بين وظائف إدارية وأخرى سياسية ،فهو ينظر إليه كقوة راعية للطابع
العمودي للعالقات القائمة بين المؤسسات السابقة والمجتمع القروي الفالحي ،إذ أن كل
مظاهر القوة التي تمارسها مؤسسات التحديث الزراعي على هذا المجتمع هي مظاهر نابعة
م ن قوة الحضور السياسي للدولة «كمخزن جديد» الذي يتخذ حضوره داخل هذا المجتمع
بعدا ماديا مباشرا من خالل مراقبة أعوانه لحركة الدوار والتجمع القبلي كما يتخذ بعدا
رمزيا مضمونه استبطان الوظيفة «البطريكية» للدولة عبر أزمة تاريخية سابقة.
أما بالنسبة للعالقات األفقية كمكون ثان للبنيات الرمزية للتغير بهذا المجتمع ،فهي
األخرى عالقات ذات مستويات مركبة ،ألنها عرفت من جهة أولى تفككا للروابط التضامنية
التقليدية التي كانت تميز المجتمع القروي خاصة ظاهرة «التويزة»اآليلة نحو االنقراض
كنتيجة طبيعية لصعوبة تدبير الزمن الفالحي في المدارات السقوية ،وهي من جهة ثانية
تعرف نشأة نزاعات اجتماعية بين الفالحين سببها الزراعــة السقويــة ( الرش) وهي وإن
كانت نزاعات تقليدية تجد حلولها سابقا داخل «الجماعة القروية» بمدلولها التاريخي القديم،
فهي اليوم نزاعات حديثة تجد حلولها أو تتعقد بانتقال المتنازعين إلى المحاكم حيث يتأكد
ارتفاع عدد النزاعات القضائية بعد ظهور «ماء الرش» .
إال أن العالقات بين الفالحين ليست عالقات ذات مستوى أفقي محض بل هي
عالقات يخترقها المستوى العمودي خاصة بالنسبة للتنظيمات الجمعوية والممارسات
السياسية الحديثة ،فالتنظيمات التعاونية والجمعوية الخاصة بإنتاج الشمنذر وتسويق الحليب
وأيضا التنظيم الفالحي النقابي ،تبدو كتنظيمات أفقية محتضنة لتراتبات هرمية تنتج
55
تمايزات سوسيو-اقتصادية بين الفالحين وتفتح فرص «الترقية والحركية االجتماعيتين»
لبعض المنخرطين ،فهي كتنظيمات أفقية ال تشتمل على تمركز مكثف لعالقات عمودية
مقارنة بالحزب السياسي و«جمعية مربي األبقار» .ينفتح المجال في هذين التنظيمين
الغتناء النخب المحلية من خالل ممارسة وظائف سياسية خاصة في السيرورات االنتخابية
كسيرورات تعمل على « تحيين البنيات التقليدية» في صور وأشكال سياسية حديثة .إن
سيرورة التقليدوية كما ركزت عليها دراسات جين فافري J. Favretأو التقليدانية كما
تبرزها تحليالت إزنشطات Eisensdatهي سيرورة غايتها ترسيخ البنيات التقليدية من
خالل استثمار المؤسسات الحديثة شكال ال مضمونا .إن مرحلة االنتخابات السياسية هي
مرحلة إحياء التقابال ت والنزاعات التقليدية داخل كل دوار أو بين دوار وآخر أو بين قبيلة
وقبيلة أخرى حيث يشكل السباق نحو مقاعد المؤسسات الجماعية والتشريعية رهان كسب
معارك الصراعات التقليدية -القبلية بين األجزاء والعناصر المكونة للمجتمع القروي
الفالحي.
تتضمن البنيات الرمزية المميزة لثقافة المجتمع القروي الفالحي مجموعة من القيم
الثقافية الخاصة بظواهر متنوعة ،منها ماهو طبيعي كالجفاف ،ومنها ما هو مقدس كالصالة
و االعتقاد في «بركة» األولياء وزيارة أضرحتهم ،ومنها ما هو اجتماعي -ثقافي كالذهاب
وزيارة األقارب بالمدينة ،أو ثقافي محض كاألحكام المقيمة إلى األسواق األسبوعية
لوظائف المدرسة وتعليم البنات والهجرة إلى المدينة أو نحو الخارج .إن القيم الثقافية التي
يحملها الفالحون في تمثلهم لكل هذه الظواهر ليست قيما محكومة بتجانس األحكام و
المواقف ،بل هي قيم محكومة باختالف األحكام و المواقف التي تبلغ حد التناقض نظرا
النشطار المجتمع القروي الفالحي إلى فئات سوسيو-اقتصادية وعمرية .تحمل تصورات
الفالحين الكبار تجاه ما هو طبيعي أو مقدس نظرة دينية إيمانية أكثر مقارنة مع الفالحين
الشباب ،مما يبين أن العالقة تناسبية بين التقدم في السن وترسيخ سلوكات ونزعات دينية.
أما بالنسبة للتقليد الثقافي خارج الدوار والمحدد في ثالثة ظواهر هي مواسم األولياء،
األسواق األسبوعية وزيارة األقارب بالمدينة فهو تقليد ال يعرف التفكك كنتيجة للتحديث
الزراعي ورأسملة البنيات اإلقتصادية ،بل هو تقليد يبحث عن تأكيد حضوره واستمراريته
56
حتى خارج اإلطار السوسيو -مجالي القروي حيث تتحقق من خالل ممارسة هذا التقليد
وظائف اقتصادية اجتماعية وسيكولوجية .إن هذا التباين في األحكام يستمد مشروعيته من
تقليد ثقافي أساسه الهيمنة الذكورية في احتكار الخيرات المادية والرمزية داخل المجتمع
المغربي بصفة عامة وداخل المجتمع القروي الفالحي بصفة خاصة.
ينشطر المجتمع القروي الفالحي إلى شطرين في تقييمه اإلجمالي لنتائج السقي
كعمود فقري لمشروع التحديث الزراعي :شطر يعتبر نتائج السقي إيجابية وشطر يعتبرها
نتائج سلبية .يرتبط هذا اإلنشطار في جذوره العميقة بتقسيم الثروات اإلقتصادية والرساميل
المادية في هذا المجتمع خاصة ما يرتبط منها باألرض .ثمة فئة تعتبر السقي نعمة وهي
الفئة التي تستفيد من حيازتها ألرض فالحية تمكنها من استجالب ربح مالي من زراعة
الشمنذر والخضر و تربية األبقار ،وثمة فئة أخرى تعتبر السقي نقمة وهي الفئة التي
تضطر للعمل األجري الموسمي أو هي المالكة ألرض صغيرة ال تتجاوز الهكتار أو هي
فئة بدون أرض .من هنا يكون اإلنشطار السوسيو-اقتصادي داخل هذا المجتمع منتجا
النشطار نوعي في التقييم اإلجمالي لحصيلة التحديث الزراعي وما أدى إليه من تغير في
البنيات اإلقتصادية واإلجتماعية.
57
القرويين نحو مدينة الدار البيضاء ،أثر إيجابي في وفود القرويين نحو مركز الزمامرة،
خاصة مع نهج تحديث زراعي ارتبط في بعد أحادي بزراعة الشمنذر السكري .إال أن هذا
النهج هو نفسه السبب الكامن وراء خنق االمتداد المجالي للمركز الحضري المحاصر
باألراضي الزراعية السقوية ،وذلك بالرغم من النمو الديموغرافي الذي ميز هذا المركز
الذي لم يحتضن ظاهرة التحضر بمعناها العميق والحقيقي ،بل استقبل وافدين من فئات
سوسيو-اقتصادية فقيرة ،كما تكشف عن ذلك التركيبة االجتماعية للحي الصفيحي «درب
الجران»(حي الضفادع ) وأحياء أخرى كالحي المحمدي (بام) وحي السالم .
يتأكد على المستوى الثقافي استمرار حضور التقليد الثقافي من خالل قوة استمرار
ظاهرتين اجتماعيتين ميزتا المجتمع القروي بالمغرب عبر فترة تاريخية طويلة وهما
ظاهرة السوق األسبوعي وظاهرة تنظيم «مواسم» األولياء .فيما يرتبط بالظاهرة األولى
يتأكد أن استمرار السوق األسبوعي داخل مركز خميس الزمامرة هو إعالن تأكيدي على
استمرار هيمنة ماهو قروي على مركز حضري ناشئ ،خاصة وأن السوق األسبوعي يؤدي
وظائف اقتصادية ،اجتماعية ،ترفيهية ،وسياسية (فترات الحمالت االنتخابية) متنوعة ،كما
يشكل العصب الرئيسي للحياة االقتصادية بالمركز وللموارد الجبائية للبلدية .أما بالنسبة
لتنظيم مواسم األولياء ،فيظهر الرحيل شبه الجماعي ألبناء الزمامرة إلى موسم موالي عبد
هللا أمغار ،وإغالق مجموعة من المحالت التجارية طيلة فترة هذا الموسم الصيفي ،مما يبين
عمق تجذر التقليد الثقافي داخل مركز حضري لم يتحول إلى مدينة ،وليس بإمكان ساكنته
أن تنتج ثقافة حضرية ومدينية .ليس هذا حكم قيمة يضع فاصال نوعيا بين ما هو قروي وما
هو حضري ،بل هو إثبات لواقع سوسيولوجي مركب حيث الغلبة لسيرورة الترييف-
التحضر ،Rurbanisationإذ خلف أشكال العقالنية االقتصادية وحركية العمران تترسخ
االستمرارية التاريخية العميقة للقيم الثقافية الخاصة بالبنيات الرمزية للمجتمع القروي.
أما في الحقل السياسي فيتأكد أن التغير هو تغير شكلي يرتبط بـ « تحديثانية
سياسية» حيث أن التركيز على السيرورة االنتخابية ال يكشف عن تجذر ثقافة سياسية تنزع
نحو تطوير الديمقراطية ،بل هو يكشف عن تكريس التحالفات/النزاعات التقليدية المنتمية
للبنيات االجتماعية القبلية .إن التغير السياسي الخاص بالمركز الحضري هو نفس التغير
58
الخاص بالمجتمع القروي الفالحي حيث شكل تغيرا في األشكال الخارجية للتدبير
السياسي،كما شكل انتقاال من نظام الجماعة القبلية إلى نظام الجماعة اإلدارية حسب التقطيع
الذي تنهجه سلطات اإلدارة الترابية .رغم ما تبرزه المونوغرافيات السياسية لعناصر النخبة
المحلية من انتماء أغلبها لقطاع التعليم ،فالثابت أن التقليد السياسي المؤسس على المحافظة
والتحالفات التقليدية هو التقليد المهيمن ،خاصة وأن ارتفاع نسبة المشاركة السياسية في عقد
التسعينات من القرن العشرين كنسبة مميزة للدائرة التشريعية بخميس الزمامرة ،هو ارتفاع
مرتبط بتجنيد عناصر نخبة محلية لكتلة ناخبة قروية وأمية في مكونها السائد من أجل
تحقيق مصالحها (النخبة) المادية والرمزية ،في تفاعل مع الطلب السياسي الذي تقدمه الدولة
والنخب السياسية الوطنية و ذلك من خالل تمتين شبكة عالقات الزبونية والتدخل لدى
المحاكم ،الدرك الملكي و إدارات أخرى ،باعتبار أن عناصر هذه النخبة المحلية تشكل
«األعيان الجدد» ضمن سيرورة تكريس لعبة االنقسامات السياسية واالجتماعية التقليدية
تحت إشراف المخزن الجديد.
59
يظهر التمايز واضحا على مستوى التأثير الذي يمارسه التحديث الزراعي على البنيات
المادية من جهة وعلى البنيات الرمزية من جهة ثانية كتأثير ال يرتبط بعوامل بنيوية تتعالق
مع سيرورة التحديث الزراعي فقط بل يرتبط كذلك بعوامل خارجية أهمها حضور الدولة
كفاعل رئيسي في مشروع التحديث الزراعي داخل المجال القروي.تكشف المتابعة الرصينة
لجل المشاريع التنموية التحديثية بالمجال القروي عن حضور هاجس تقنوي و تحديثوي في
غياب سياسة تنموية متكاملة ،حيث يتم التركيز الواضح على التحديث المادي للبنيات
العقارية كمااالهتمام المفرط بالمردودية االقتصادية لزراعة الشمنذر سواء من طرف الدولة
أو القطاع الخاص ،دون تركيز واهتمام كبيرين بالتحديث الثقافي للبنيات الرمزية للمجتمع
القروي الفالحي من خالل معرفة حقيقية بتمثالته وأحكامه ومواقفه إزاء كل ما هو جديد.
سبق لهربرت بوب H.Poppأن أكد في دراسته للزراعات السقوية بمنطقة سوس ماسة
عن تبعية الفالح للمؤسسات البيروقراطية من خالل إجباره على التقيد بزراعات محددة في
المجال السقوي .كما سبق لبول باسكون أن أبرز في أطروحته « حوز مراكش» مدى
مقاومة الفالحين للتغير الذي تحمله مشاريع االستثمار الفالحي ،كما أبرز في نفس الوقت
الوجه اآلخر لهذه المقاومة والمتمثل في تفاوض الفالحين مع الدولة وتقبلهم لمشاريعها
اإلستثمارية مادامت ال تهدد النسق االجتماعي التقليدي .في هذا السياق يتأكد إذن الدور
المركزي للدولة في صياغة مشروع تحديث متكامل للمجتمع القروي الفالحي كمشروع
يهتم بالبنيات الرمزية بنفس مستوى اهتمامه بالبنيات المادية وخاصة االقتصادية منها .إن
التركيز على االستثماراالقتصادي لوحده يعد مغامرة تحمل قدرة النسق الثقافي التقليدي على
عرقلة أو نسف كل مشروع لتحديث المجتمع القروي .
يخفي تضخم الخطاب حول العنايةبالعالم القروي جهال كما يخفي خوفا من فهم حقيقة
هذا العالم .إن الخطاب الراهن حول العالم القروي هو خطاب منتفخ بنزعات اقتصادية
وتحديثوية تنظر لتنمية المجال القروي من خالل ضرورة تمدينه تمدينا ال يتجاوز بناء
طريق صغير وربط الدوار بشبكة الماء والكهرباء وبناء حجرة دراسية .تنعت فاني كولونا
F. Colonnaالخطاب الرسمي الذي بلورته الدولة الجزائرية حول الفالحين بكونه خطابا
منافقا ألن تضخم الخطاب حول «الثورة الزراعية» وازته محدودية التأثير الملموس في
60
الحياة اإلجتماعية للفالحين .إن الخطاب الخاص بتنمية العالم القروي هو خطاب لن يلتصق
بعمق النسق االجتماعي الخاص بالمجتمع القروي إال إذا كان خطابا يهتم بفهم قيم الفالحين
وينظر إلى التنمية القروية -ال التنمية الفالحية فحسب -كتنمية تكاملية و شمولية ،مادية
ورمزية ،اقتصادية وثقافية تشمل جميع مكونات المجتمع القروي الفالحي وتنفذ إلى كل
مستوى من مستوياته.
يبين الراحل عالم االجتماع التونسي عبد القادر الزغل أن التحوالت المميزة للمجتمع
القروي بمنطقة المغرب العربي هي تحوالت تدبرها الدولة وتتحكم في أطوارها و مفاصلها
األساسية مما يجعل الفالحين يفقدون خاصيتهم الفالحية . Dépaysannisationتكمن
داللة هذا النعت الذي يجمع بين التوصيف والتقييم االجتماعيين في إثبات أن الفالح ضاعت
منه هويته كفالح تقليدي ضمن مجتمع تضامني دون أن يكتسب في نفس الوقت صفة الفالح
العصري أو المزارع الرأسمالي الذي استطاع تحقيق استقالليته عن الدولة دون حاجة مادية
أو رمزية لتدخلها الباتريمونيالي كما تحقق في االقتصاد الزراعي الرأسمالي لنماذج
بأمريكيا الشمالية وغرب أوربا .من هنا يكون هذا التفاوت الواضح بين تغير ملموس و
سريع أحيانا في البنيات المادية( البنيات االقتصادية و العقارية والديمغرافية) و بين تغير
ال مرئي و بطيء فـي معظــــم األحيان و الفتــــرات في البنيــــات الرمزيـــة ( البنيات
الثقافية و السياسية ) تغير مركب يتحقق عبـر سيرورات متفاوض بشأنـها وسيرورات
أخرى تعترضها آليات مقاومة اجتماعية ثقافية .
61
إحاالت مرجعية
office
des publications universitaires ، Alger ، 1976 .
1975.
62