You are on page 1of 18

‫كتاب الأنثروبولوجيا التطبيقية الجزء الأول‬

‫لكتاب‪ :‬الأنثروبولوجيا التطبيقية‬

‫سياقات التطبيق ومجالاته المتعددة‬

‫تأليف‪ :‬ساتش كيديا وجون فان ويلجن‬

‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬هناء خليف غني‬

‫تقديم‪ :‬أرسلت الدكتورة‪ ‬هناء خليف غني‪ ‬أستاذة اللغة لإنجليزية بالجامعة المستنصرية ببغداد‬
‫مشكورة الفصل الأول من هذا الكتاب الممتاز حول الأنثروبولوجيا التطبيقية والذي قامت‬
‫بترجمته ونظرا لطول الفصل فقد ارتأينا تقسيمه إلى أربعة أجزاء ستنشر تباعا‪.‬‬

‫الجزء الأول‬

‫تُعنى الأنثروبولوجيا التطبيقية‪ ،‬كما هو واضح من أسمها‪ ،‬بتطبيق المعارف‪ ،‬والمناهج‪ ،‬والمقاربات‬
‫النظرية الأنثروبولوجية بهدف التصدي للمشكلات والقضايا المجتمعية ومعالجتها‪ .‬والمحور الذي‬
‫تدور حوله فصول الكتاب الحالي يتصل بمعرفة الآليات التي يتمكن بوساطتها‪ ‬الأنثروبولوجيون‬
‫من وضع خبراتهم ومعارفهم النظرية والعملية تحت تصرف المحتاجين إليها في جملة من‬
‫السياقات والمجالات‪ .‬والهدف من توظيف هذه المعارف والخبرات‪ ،‬بحسب ما يؤكده‬
‫الأنثروبولوجيون‪ ،‬هو الإستعانة بها في رسم السياسات‪ ،‬وإتخاذ القرارات‪ ،‬وتحديد الأولويات‪،‬‬
‫واقتراح المبادرات التي من شأنها التخفيف من وطأة‪ -‬وربما النجاح في معالجة‪ -‬بعض‬
‫المشكلات الاجتماعية‪ ،‬والاقتصادية‪ ،‬والصحية‪ ،‬والتكنولوجية الضاغطة التي تواجه‬
‫المجتمعات البشرية المعاصرة‪ .‬وفي ضوء إلتزامهم بحماية‪  ‬خاصية التنوع في أنماط الحياة البشرية‬
‫وضمان بقائها‪  ،‬يضطلع علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية بدو ٍر محوري في مجال تطوير البرامج‬
‫والمشاريع التي من شأنها التأثير في حياة الأفراد والمجتمعات البشرية‪ .‬ان نطاق الدراسات‬
‫التحليلية التي ينخرط فيها الأنثروبولوجيون تسهم إسهاما ً مباشرا ً في تحدي الصور النمطية الشائعة‬
‫عنهم في الأفلام السينمائية ومنتجات الثقافة الشعبية أمثال المغامر ذائع الصيت انديانا جونز‬
‫في الفلم الذي يحمل الأسم ذاته‪ ،‬والمنقب عن الآثار الذي يعيش وحيدا ً بمعزل عن الآخرين‪،‬‬
‫في أماكن بعيدة‪ ،‬وربما غير مأهولة‪.‬‬

‫ومما تجدر الإشارة إليه الزيادة في عدد الأنثروبولوجيين الحاصلين على شهادات عليا الذين‬
‫فضلوا العمل في منظمات المجتمع المدني‪ ،‬والدوائر الحكومية‪ ،‬وقطاعات التجارة والأعمال‬
‫المختلفة على العمل في مجال التدريس الجامعي‪ .‬فطبقا ً لما أوردته إحدى الدراسات الحديثة‪،‬‬
‫بلغت نسبة حملة شهادة الدكتوراه ممن أختاروا العمل في غير المؤسسات الجامعية والأكاديمية‬
‫الثلت تقريبا ً في العقدين الممتدين بين عامي ‪ 1977‬و ‪ .1997‬ولم يشهد هذا الوضع تغيرا ً في‬
‫السنوات التالية‪ ،‬إذ ارتفعت هذه النسبة الى أكثر من (‪ )%42‬في بعض الأعوام (برايس‬
‫‪.)2000‬‬

‫ويتميز عمل الأنثروبولوجيين التطبيقيين‪  ‬بكونه عملا ً بين‪-‬معرفي بأمتياز لجهة اشتراك عددٍ كبيرٍ‬
‫من الأطراف‪ ،‬أمثال صانعي السياسات الحكومية‪ ،‬والعاملين في المؤسسات والشركات‬
‫ومنظمات المجتمع المدني وجماعات المصلحة الأخرى‪ ،‬والخبراء العلميين والتقنيين‪ ،‬واعضاء‬
‫المنظمات والجماعات السكانية المختلفة‪ ،‬في إنجازه‪ .‬وهذا التداخل والتعاون بين المعرفي الوثيق‬
‫يتطلب من الأنثروبولوجيين التطبيقيين التحلي بالمهارات اللازمة التي تمكنهم من العمل مع‬
‫الآخرين فضلا ً عن ضرورة تعلمهم اللغات التقنية التي يستعملها المختصون والعاملون في‬
‫الحقول المعرفية الأخرى بغية التواصل معهم‪ .‬وثمة خاصية اخرى ينبغي للانثروبولوجيين‬
‫التحلي بها هي ضرورة الإحاطة التامة بالمناهج البحثية والممارسات العلمية والتحليلية الشائعة‪،‬‬
‫فضلا ً عن أساليب التواصل المعتمدة في الحقل المعرفي الذي أختاروا العمل فيه لضمان‬
‫حصولهم على المعلومات الضرورية‪ ،‬ثم توظيفها بدقة وكفاية عاليتين‪ .‬وعلى الرغم من الأهمية‬
‫الكبيرة التي تحظى بها الممارسة العملية في المجالات التطبيقية وتفوقها‪ ،‬لجهة المكانة التي‬
‫تحظى بها‪ ،‬على جملة متنوعة من المهارات البحثية والتواصلية‪ ،‬يُعد توفر عاملي َ العناية والدعم‬
‫من العناصر المهمة لضمان الحصول على النتيجة المطلوبة‪ .‬وتكمن أهمية هذين العاملين في‬
‫مساعدتهما الأنثروبولوجيين في تعزيز علاقات التعاون طويلة الأمد مع المجتمعات المحلية‪.‬‬
‫وتستلزم عملية تحقق هذين العاملين مثابرة‪  ‬الأنثروبولوجيين في عملهم وتعهدهم بالسعي الجاد‬
‫لتحقيق جملة من الأهداف في النطاق العام للحقل المعرفي الذي يعملون فيه‪ .‬وقد برهن‬
‫الأنثروبولوجيون التطبيقيون على قدرتهم في التأثير في مجالات عملهم المختلفة ونجاحهم في‬
‫تعزيز مصالح لا الحقل المعرفي الذي يعملون فيه فحسب‪ ،‬بل مصالح الأطراف المستفيدة من‬
‫عملهم‪.‬‬
‫وتتميز المجالات التي من المؤمل ان يجد الأنثروبولوجيون التطبيقيون فرصا ً للعمل فيها بالتنوع‬
‫والتعدد‪ ،‬وكذلك بصعوبة تحديدها أو تعريفها على نحوٍ دقيقٍ‪ .‬إذ يورد جون فان ويلجن (‬
‫‪ )John Van Willigen‬في كتابه الموسوم (الأنثروبولوجيا التطبيقية‪ :‬مقدمة تعريفية‪،2002 ،‬‬
‫‪ ،)8‬قائمة ً طويلة ً ومفتوحة‪ ،‬حسبما يؤكد‪ ،‬بالمجالات التي بمقدور الأنثروبولوجيين العمل فيها‪.‬‬
‫وانطلاقا ً من ذلك‪ ،‬يضع المجلد الحالي نصب عينيه مناقشة مجالات التطبيق المهمة التي يمكن‬
‫فيها للأنثروبولوجيين توظيف معارفهم‪ ،‬ومناهجهم‪ ،‬ونظرياتهم‪ ،‬ومهاراتهم ذات الصلة بالأنشطة‬
‫التطبيقية بغية الربط ما بين الجوانب النظرية والعملية‪ ،‬وبالتالي النجاح في تفعيل العلاقة بين‬
‫البحث والسياسة والفعل‪ .‬ومجالات التطبيق المطروحة في المجلد الحالي تشمل التنمية‪،‬‬
‫والزراعة‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والصحة‪ ،‬والطب‪ ،‬والتغذية‪ ،‬وسياسات التوطين السكاني‪ ،‬والتعليم‪،‬‬
‫والشيخوخة‪ ،‬وهي‪ ،‬كما هو واضح‪ ،‬مجالات متنوعة وواعدة‪ .‬وقد حرص الأنثروبولوجيون‬
‫التطبيقيون العاملون في هذه المجالات على توظيف خبراتهم ومعلوماتهم المستمدة من‬
‫الدراسات‪ ،‬والأبحاث‪ ،‬والأدبيات الخاصة لا بحقلهم المعرفي فحسب‪ ،‬بل بكافة الحقول‬
‫المعرفية الاخرى فضلا ً عن المؤسسات‪ ،‬والمنظمات المهنية‪ ،‬والمشاريع‪ ،‬والبرامج الحريصة‬
‫جميعها على توظيف أفضل المعارف والتقنيات وأحدثها في مجالات عملها‪ .‬وهناك عدد ُ لا‬
‫حصر له من مجالات التطبيق التي ما برح الأنثروبولوجيون يشحذون همهم فيها‪ ،‬ويوظفون‬
‫مهاراتهم وفي الوقت نفسه يُسهمون في إثراء حقلهم المعرفي الأم وتطويره‪ .‬والفصل الحالي‬
‫معني بتقديم نبذة موجزة عن السياق العام الذي ينشط فيه العاملون في حقل الأنثروبولوجي‬
‫بعامة‪ ،‬وتسليط الضوء على المسارات التي أتخذها تطور هذا الحقل وتاريخه‪ ،‬ومناهجه‪،‬‬
‫والأدوار التي يتوقع منه أداؤها‪ ،‬وأخيرا ً وليس آخراً‪ ،‬أخلاقياته التطبيقية‪ .‬أما خاتمة الفصل‬
‫الحالي فك ُرست لتقديم نبذة موجزة عن كل مجال من مجالات التطبيق المختلفة التي نشط فيها‬
‫علماء الأنثروبولوجي‪.‬‬

‫الأنثروبولوجيا التطبيقية‪ :‬نظرة على السياق التاريخي‪:‬‬

‫تمثل بداية علم الأنثروبولوجيا التطبيقية نقطة بداية علم الأنثروبولوجي ذاته‪ .‬وقد بين َت جهود‬
‫بعض الأنثروبولوجيين الذين أهتموا بدراسة تاريخ حقلهم المعرفي رجوع بدايات تأسيس‬
‫الأنثروبولوجيا التطبيقية الى بواكير العصر الكلاسيكي‪ .‬فقد جمع المؤرخ اليوناني‪ ،‬هيرودتس (‬
‫‪  485-325( )Herodotus‬قبل الميلاد) المعلومات والبيانات عن الشعوب المجاورة في‬
‫منطقة حوض البحر المتوسط لصالح حكومته بغية مساعدتها في وضع السياسة الخارجية‬
‫لليونان (فان ويلجن ‪ .)2002‬وفي واقع الأمر‪ ،‬كانت غالبية المؤلفات ذات الطبيعة‬
‫الأنثروبولوجية في تلك الحقبة تسعى الى تحقيق غايات عملية محددة من قبيل الحصول على‬
‫المعلومات اللازمة عن الأعداء والأفراد الذين يُحتمل توظيفهم لدعم السلطة والحفاظ عليها‪.‬‬
‫ويلاحظ الأمر ذاته في الحقب التاريخية التالية أمثال حقبة الهيمنة الفارسية وآبان حكم‬
‫الأمبراطورية الرومانية والحكم الصليبي (غويني ‪.)2003‬‬

‫وفي ظل هيمنة السياسة الأمبريالية ومفاهيم التوسع الجغرافي في القرنين الثامن عشر والتاسع‬
‫عشر‪ ،‬أدركت الدول الغربية أهمية الإفادة من الدراسات الأنثروبولوجية عن الشعوب‬
‫والمجتمعات البعيدة الأخرى لتمكينها من إحكام سيطرتها وضمان تطبيق استراتيجيات الهيمنة‬
‫والاستغلال الاقتصادي المناسبة لها‪ .‬ويُعد الأب جوزيف لافيتو (‪ )Joseph Lafitau‬من‬
‫طلائع الباحثين التطبيقيين البارزين في أمريكا الشمالية الذي سافر الى منطقة فرنسا الجديدة‬
‫( ‪ )New France‬في ‪ 1711‬للعمل مبشرا ً في أوساط هنود الإيروكوا [نمط من أنماط‬
‫مصطلحات القرابة يوجد في قبائل الهنود الحمر]‪ .‬وقد تمكن لافيتو‪ ،‬بفضل إقامته الطويلة‬
‫هناك وتعرفه الى ثقافة السكان المحليين وعاداتهم (مارثالر ‪ ،)2002‬من جمع خبراته وتجاربه‬
‫ووضعها في واحدٍ من أهم المؤلفات الاثنوغرافية‪ ،‬هو (تقاليد الهنود الأمريكيين مقارنة ً‬
‫بتقاليد الشعوب في الأزمان القديمة‪ .)1724 ،‬وبالمثل‪ ،‬أثر الباحثون والعاملون في الحقول‬
‫المعرفية الاخرى في طبيعة الحقل المعرفي الناشئ‪ ،‬ونعني بذلك الأنثروبولوجي‪ ،‬ومساراته‬
‫المستقبلية‪ .‬وقد أسهمت مصادقة الأوساط العلمية على المناهج المستعملة في علم الأنثروبولوجي‬
‫في مساعدة بعض الباحثين في تطوير رؤاهم وإنجاز أعمالهم‪ .‬فها هو عالم النبات الشهير‪،‬‬
‫كارلوس لينايوس (‪ ،)Carlos Linnaeus‬يستعمل المقاربات الاثنوغرافية في تطوير نظامه‬
‫الثوري لتصنيف النباتات وتسميتها في مؤلفه المعروف (النظام الطبيعي) (‪ .)1735‬وشهدت‬
‫بدايات القرن التاسع عشر تكليف عالم الحيوان المعروف‪ ،‬فرانسوا بيرون (‪Francois‬‬
‫‪ ،)Peron‬مرافقة البعثة العلمية الفرنسية للأعوام من ‪ 1804-1801‬الى نيو هولاند (جنوب‬
‫استراليا الحالية وغربها) لجمع المعلومات الاثنوغرافية عن المنطقة وسكانها‪ .‬وقد حظي ّت هذه‬
‫ٍ‬
‫بموقع متميز وع ُدت إسهامات قيمة في حقلي َ التاريخ والأنثروبولوجيا الطبيعية‬ ‫المعلومات‬
‫(ادامز ‪.)1998‬‬

‫وشهد النصف الأول من القرن التاسع عشر تناميا ً مفرطا ً في دراسات الأنثروبولوجيا‬
‫التطبيقية وبرامجها في المستويين الحكومي والصناعي‪ .‬ففي عام ‪ 1807‬أتخذت شركة الهند‬
‫الشرقية قرارا ً بتعيين فرانسس بوخنان (‪ )Francis Buchanan‬وتكليفه بمهمة دراسة‬
‫الشعب البنغالي في الهند بعد ان أدت ممارسات الشركة التعسفية وتحكمها بمقدرات السكان‬
‫ن قانون يخوله وضع اليد على‬
‫الى كارثة كبرى دفعت البرلمان البريطاني ذاته الى التدخل وس َ‬
‫الأراضي التابعة للشركة في تلك المنطقة (فيدبارثي ‪ .)1984‬وعبر الأطلسي‪ ،‬كلف‬
‫الكونغرس الأمريكي هنري ر‪ .‬شولكرافت‪ ،)Henry R. Schoolcraft( ،‬أحد مؤسسي‬
‫الجمعية العرقية الأمريكية بجمع دراساته عن القبائل الأمريكية المحلية ونشرها‪ .‬وقد لعبت‬
‫مجلداته الستة الموسومة (معلومات عن تاريخ القبائل الهندية في الولايات المتحدة الأمريكية‬
‫وظروف معيشتها وتقاليدها)‪ ،‬الذي نشره تباعا ً بين عامي ً ‪ 1851‬و ‪ ،1857‬دورا ً بارزا ً في‬
‫توجيه السياسة التي تنتهجها الحكومة الأمريكية حيال السكان المحليين في المناطق التي جمع‬
‫شولكرافت المعلومات عنها‪ .‬وعلى الجانب الآخر من الأطلسي‪ ،‬في أوروبا‪ ،‬خرج علم‬
‫الأنثروبولوجي من رحم الخلافات التي عصفت بالجمعيات الاثنوغرافية البريطانية المعنية‬
‫بدراسة المشكلات المجتمعية والقضايا الإنسانية في مطلع القرن التاسع عشر وأواسطه‪ .‬ويعود‬
‫السبب في هذه الخلافات الى رغبة العديد من الأطراف المعنية بالأنشطة الاثنوغرافية‬
‫الكف عن إضاعة الوقت في المجادلة والسجال‪ ،‬والتوجه‪ ،‬عوضا ً عن ذلك‪ ،‬الى تطبيق‬
‫معارفهم ومهاراتهم لضمان لعب دو ٍر أكبر في القضاء على العبودية‪ ،‬وضمان تمتع السكان‬
‫المحليين (الأصليين) في المستعمرات بمعاملة أفضل (ريننغ ‪.)1962‬‬

‫وشهد مطلع القرن العشرين إندفاع الفروع المعرفية المختلفة المنضوية تحت راية علم‬
‫الأنثروبولوجيا التطبيقية نحو التوحد والإلتحام‪ .‬إذ شرع العاملون في فروع علم الأنثروبولوجيا‬
‫كافة في وضع الخطط والبرامج المؤسساتية الكفيلة بمنحه المكانة والشرعية اللازمتين من قبيل‬
‫إفتتاح الأقسام العلمية في الجامعات‪ ،‬والمباشرة بتطبيق برامج منح الشهادات العليا‪ ،‬وتأسيس‬
‫الهيئات المهنية‪ ،‬وإعداد البرامج التدريبية‪ .‬وفي مبادرة منهم لدعم هذه الجهود‪ ،‬بادر‬
‫الباحثون‪  ‬والمختصون الأنثروبولوجيون في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والمكسيك الى‬
‫إجراء الدراسات والمسوحات الاثنوغرافية الميدانية في المستويين الوطني والأقليمي فضلا ً عن‬
‫تأليفهم لعددٍ من الدراسات الاثنوغرافية القيمة التي أعتنت بدراسة الثقافات السائدة في‬
‫مناطق بعينها‪ .‬وعلى الرغم من إشراف الحكومة الأمريكية المباشر ورعايتها لغالبية الدراسات‬
‫الأثنوغرافية‪  ،‬شهدت هذه المرحلة كذلك حصول بعض البرامج والمشاريع الأثنوغرافية على‬
‫ل خاصٍ من مثل الدراسة التي اعدتها الجمعية الأنثروبولوجية النسوية الأمريكية في‬
‫تموي ٍ‬
‫واشنطن عن أوضاع سكن الفقراء وظروفهم المعيشية في مناطق العاصمة الأمريكية في‬
‫‪( 1896‬فان ويلجن ‪ .)2002‬وبالمثل‪ ،‬أسهمت عملية نشر الدراسات والأبحاث المتجهة نحو‬
‫المشكلة التي حظي ّت برعاية المنظمات الحكومية‪ ،‬وأحيانا ً الخاصة‪ ،‬في تطوير الأدبيات‬
‫الأنثروبولوجية وإثرائها‪ .‬وكان الغرض من المناهج الدراسية التي ُأ عتمدت في قسم‬
‫الأنثروبولوجي لدى إفتتاحه في جامعة أكسفورد في ثمانينيات القرن التاسع عشر هو تدريب‬
‫الكوادر الإدارية وتأهيلها للعمل في الدوائر الاستعمارية المختلفة‪ .‬ومما تجدر الإشارة له‬
‫دخول مفردة الأنثروبولوجيا التطبيقية حيز التداول لأول مرة في هذه المرحلة عن طريق‬
‫تدوينها في كراس أحد البرامج التعليمية الذي نفذته الجامعة (فورتس ‪1953‬؛ فان ويلجن‬
‫‪ .)2002‬وفي السياق ذاته‪ ،‬أضطلعت المشاريع والأنشطة التطبيقية التي نفذتها الجمعيتان‬
‫العرقية والأنثروبولوجية في لندن اللتان تأسستا في ‪ 1843‬و ‪ 1863‬على التوالي‪ ،‬بدو ٍر بار ٍز في‬
‫تزويد الحقل المعرفي الناشئ بغالبية بناه التحتية بين‪-‬المعرفية (ريننغ ‪ .)1962‬وبعد ذلك‬
‫بعقدين تقريباً‪ ،‬في عام ‪ 1888‬تحديداً‪ ،‬أصدرت الجمعية الأنثروبولوجية في واشنطن (‬
‫‪ ،)ASW‬التي عملت في ما بعد برعاية الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية (‪ )AAA‬التي تأسست‬
‫في ‪ ،1902‬أول مجلة أنثروبولوجية‪ .‬وشهدت المرحلة ذاتها تنوعا ً في الأنشطة الأنثروبولوجية‬
‫وبروز العديد من الهيئات والجمعيات الأنثروبولوجية المختصة التي أتحدت وعملت معا ً تحت‬
‫ل لم يسبق له مثيل في المستويين المحلي والوطني‪.‬‬
‫راية الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية في شك ٍ‬

‫وفي الولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬أضحى علم الأنثروبولوجي مرادفا ً للجهود التي تبذلها دائرة علم‬
‫السلالات الأمريكية (‪ )BAE‬التابعة للحكومة للفيدرالية‪ ،‬والتي تأسست في ‪ 1879‬استنادا ً‬
‫الى قانون سن َه الكونغرس الأمريكي بغية جمع المعلومات اللازمة لمساعدة الحكومة في إدارة‬
‫المناطق التي يقطنها الهنود‪ .‬ولهذه الدائرة تحديداً‪ ،‬سك جيمس موني (‪)James Mooney‬‬
‫مفردة (علم السلالات التطبيقي)‪ ،‬وأوردها في أحد التقارير الصادرة عن الدائرة في ‪1902‬‬
‫(هنسلي ‪1976‬؛ فان ويلجن ‪ .)2002‬ولم تقتصر عناية الحكومة الأمريكية بدراسة‬
‫الأثنولوجيا على الداخل فحسب‪ ،‬إذ شهد العام ‪ 1901‬تأسيس (معهد الدراسات‬
‫الاثنولوجية) في الفلبين الذي أتُخذ متحفا ً في بادئ الأمر‪ ،‬ليتحول بعد ذلك الى أحد‬
‫الأقسام الاثنولوجية‪  ‬التابعة لهيأة العلوم في ‪ .1906‬وفي ‪ ،1899‬أصبح فرانز بواس (‬
‫‪ ،)Franz Boas‬مؤسس الأنثروبولوجيا الأمريكية‪ ،‬أول استاذ لمادة الأنثروبولوجيا في‬
‫جامعة كولومبيا‪ .‬وقد أسهمت دراسة بواس (‪ )1907‬عن الأطفال الأوروبيين المهاجرين‬
‫التي كُتبت برعاية دائرة الهجرة الأمريكية وبتمويل منها في تغيير الآراء والمفاهيم الوراثية‬
‫والعرقية الشائعة عن تأثيرات الهجرة في الأمريكيين من خلال دراسته عوامل العرق والثقافة‬
‫ل على حدة‪ .‬وقد أضحت هذه الدراسة في ما بعد الأساس الذي أستندت إليه‬
‫واللغة ك ُ‬
‫النسبية الثقافية‪ ،‬وتمكن بواس بفضلها من التأثير في العديد من طلابه المعروفين امثال الفرد‬
‫كروبر ورالف لنتون ومارغريت ميد وروث فلتون بندكت‪.‬‬

‫وتميز البحث الأنثروبولوجي في ذلك الوقت‪ ،‬كما هو اليوم‪ ،‬بطابعه التجريبي‪  ‬لجهة اعتماده‬
‫المكثف على جمع المعلومات والبيانات وتحليلها حول ثقافة أو مجتمع محلي ما بهدف تعزيز‬
‫معارفنا عن أصل التنظيم والتكيف البشريين وتنوعهما الكبير‪ .‬وطبقا ً لفان ويلجن (‬
‫‪ ،)2002‬فقد أدت هيمنة النموذج التطوري الدارويني في حقلي ً العلوم الطبيعية‬
‫والأنثروبولوجية الى إيمان الممارسين الأنثروبولوجيين الذين تلقوا تعليمهم في الغرب برؤية‬
‫غائية(‪ )1‬للثقافة البشرية خلال الحقبة الاثنولوجية التطبيقية التي أمتدت من‪1860  ‬الى‬
‫‪ .1930‬وبناء ً على ذلك‪ ،‬يبدو أمرا ً طبيعيا ً ان ت ًكرس الدراسات الحقلية في تلك المرحلة‬
‫لتوثيق أنماط الحياة الشائعة في أوساط الجماعات السكانية المحلية في النصف الغربي من الكرة‬
‫الأرضية والمجتمعات الأقل تطورا ً في أفريقيا وآسيا وبعض مناطق الباسفيك‪ .‬وكان هذا‬
‫الرأي شائعا ً في أوساط العديد من الأنثروبولوجيين الثقافيين الأوروبيين الذين عملوا لدى‬
‫الحكومات الاستعمارية فضلا ً عن الإداريين الذين تلقوا تدريبا ً خاصا ً في حقل العلوم‬
‫الاثنولوجية استعدادا ً للعمل في المستعمرات‪ .‬وكانت الدراسة في هذا الحقل جزءا ً لا يتجزء‬
‫من برامج تدريب الكوادر المختصة بالعمل في الخارج في هولندا منذ العام ‪( 1864‬هيلد‬
‫‪1953‬؛ كندي ‪ ،)1944‬وأتحاد جنوب افريقيا في ‪( 1905‬فورد ‪ ،)1953‬والسودان‬
‫الانكلو‪-‬مصرية منذ ‪( 1908‬ميرز ‪ ،)1928‬والمناطق الخاضعة للحكم البلجيكي منذ‬
‫‪(1920‬نيكيس ‪ ،)1960‬وغينيا الجديدة الاسترالية منذ ‪( 1925‬فان ويلجن ‪ .)2002‬كما‬
‫حرصت العديد من الحكومات على تقديم الدعم للأنثروبولوجيين لإدراكها أهمية أعمالهم‬
‫ومؤلفاتهم في مجال مساعدتها في إدارة المناطق الخاضعة لها‪ .‬إذ وظفت حكومة بريطانيا‬
‫العظمى عددا ً من الأنثروبولوجيين لقابلياتهم البحثية الفريدة وقدرتهم على العمل في المناطق‬
‫الخاضعة لحكمها‪ ،‬والتي ضمت عددا ً كبيرا ً من الأقاليم في آواخر القرن التاسع عشر ومطلع‬
‫القرن العشرين من مثل ايرلندا والهند والسودان وزيمبابوي والعراق وغويانا (‪ .)Guyana‬وفي‬
‫تلك الحقبة‪ ،‬أقتصر عمل الأنثروبولوجيين‪ ،‬بصفتهم وسطاء أو ممثلين لجهات معينة‪ ،‬على‬
‫تعريف المسؤولين الإداريين بعادات الشعوب الخاضعة لسيطرة حكوماتهم وتقاليدها‪ ،‬وبالتالي‬
‫الإسهام في تحديد ملامح السياسة الاستعمارية العامة‪ ،‬وتحديد أفضل السبل لتنفيذها(تشامبرز‬
‫‪ .)1989‬وفي ‪ ،1909‬كلفت الحكومة السودانية سي‪ .‬ج‪ .‬سيلغمان (‪)C. G. Seligman‬‬
‫بإعداد دراسة ميدانية اثنوغرافية عن المجتمعات المحلية المقيمة في المنطقة‪ .‬وبفضل عمله‬
‫استاذا ً للأنثروبولوجي‪ ،‬عمل سيلغمان في دعم جهود زملائه الآخرين والترويج لكتاباتهم أمثال‬
‫سير أدوارد أيفان ايفانز‪-‬برتشارد (‪ )E. E. Evans-Pritchard‬الذي كتب إحدى أفضل‬
‫الدراسات الأثنوغرافية المعروفة في زمانه‪ ،‬وضمنها في ثلاثيته الشهيرة (قبائل النوير‪ ،‬وديانة‬
‫النوير‪ ،‬وعلاقات القرابة والزواج عند النوير) (‪ ،)1940‬وسيغفريد فردريك ‪ ‬نادل (‬
‫‪ ،)Siegfried Frederick Nadel‬الذي ن ُشرت دراساته القيمة عن الدولة النوبية في دولة‬
‫النيجر ومنطقة النوبة في السودان في عام ‪.1947‬‬

‫وجاء إندلاع الحرب العالمية الأولى ليلقي بظلاله على الدراسات الأثنوغرافية التي تأثرت‬
‫سلبا ً جراء انهماك الدول المتحاربة في العمليات العسكرية‪ ،‬وسقوط المجتمعات البشرية في آتون‬
‫ل من‬
‫ل آخر أثر في زخم النشاط الاثنوغرافي يتصل بظهور جي ٍ‬
‫الحرب وأهوالها‪ .‬وثمة عام ُ‬
‫الناجين الذين تحمسوا لتحقيق م ُثل الحرية والعدالة الاجتماعية في مرحلة ما بعد الحرب بعد‬
‫سنوات طويلة من الإحباط والدمار‪ .‬وقد أضحت هذه المتغيرات الأساس الذي أستند إليه‬
‫التحول الذي طرأ على دراسات الأنثروبولوجيا التطبيقية‪ ،‬مثلما هو واضح في أعمال الفرد‬
‫ريجنالد رادكليف‪-‬براون‪ ،)Alfred  Reginald Radcliffe Brown(،‬الذي ع ُرف بتأييده‬
‫ودعمه للعمل التطبيقي‪ .‬فبعد تعيينه استاذا َ للأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة كيب تاون‬
‫في جنوب أفريقيا للمدة من ‪ 1920‬الى ‪ ،1925‬حرص رادكليف على توظيف المناهج‬
‫الأنثروبولوجية للإسهام في التخفيف من حدة الإضطرابات العنصرية المتفجرة في المنطقة‪.‬‬
‫وقد أسفرت جهود رادكليف‪-‬براون ودراساته في تأسيس أطار نظري وظيفي أسهم في‬
‫تجدد الاهتمام بالأنثروبولوجيا التطبيقية ودفع الحكومة الى دعم هذا النوع من الأبحاث‪.‬‬
‫وفضلا ً عن رادكليف‪-‬براون‪ ،‬عمل أي‪ .‬دبليو‪ .‬ر‪ .‬ﭼنري (‪ ،)E. W. R. Chinnery‬الذي‬
‫تلقى تعليمه في جامعة كامبردج‪ ،‬مستشارا ً في شركة تعدين النحاس المحدودة في غينيا‬
‫الجديدة في ‪ 1924‬قبل مباشرته بالعمل بصفته انثروبولوجيا ً لدى حكومة غينيا الجديدة للمدة‬
‫من ‪1924‬الى ‪ .1932‬ومن موقعه الإداري الجديد‪ ،‬عمل ﭼنري في تطوير برنامج انثروبولوجي‬
‫متكامل في جامعة سدني في ‪ .1957‬كما أسهم في التأسيس لتقليد إرسال طلاب قسم‬
‫الأنثروبولوجي في جامعة سدني الى غينيا الجديدة لمدة سنتين لتلقي التدريب العملي وصقل‬
‫معارفهم النظرية بالخبرة والممارسة العمليتين‪ .‬كما أتخذ ﭼنري سلسلة من الإجراءات التي‬
‫عززت مكانة علم الأنثروبولوجي‪ ،‬منها المباشرة بتنفيذ برنامج طموح يتيح للطلاب فرصة‬
‫الحصول على وظائف تؤهلهم ممارسة تخصصهم في أحد الأقسام الإدارية التابعة للحكومة بعد‬
‫اجتيازهم متطلبات الدراسة في أقسامهم العلمية‪ .‬وعلى الرغم من الدور الذي لعبته هذه‬
‫الأنشطة والأبحاث في إثراء علم الأنثروبولوجي وتزويده بحالات دراسية قيمة للغاية‪ ،‬فإنه‬
‫أسهم‪ ،‬ضمنياً‪ ،‬في ترسيخ منظور التمركز الأوروبي المعتمد في التعامل مع المناطق المُستعمرة‪،‬‬
‫فضلا ً عن دوره في مساعدة الحكومات الاستعمارية في إحكام قبضتها على المناطق الخاضعة‬
‫لها‪ .‬ومما يؤخذ على هذه الدراسات عدم عنايتها بمعرفة وتحديد الطرائق التي تُعين المجتمعات‬
‫المحلية‪-‬موضوع الدراسة‪ -‬على الإفادة من المعلومات والنتائج المتضمنة فيها في مجال معالجة‬
‫مشكلاتها والتصدي للتحديات اليومية وضمان بقاء رواسبها الثقافية‪ .‬ودأب الأنثروبولوجيون‬
‫الذين يعملون في المجالات التطبيقية المختلفة قبل العام ‪ 1945‬في إعداد دراساتهم بالإستناد‬
‫الى المنظور الضمني للقيمة‪  ‬المتأثر بمبادئ الفلسفة الوضعية (فان ويلجن ‪ .)2002‬وعلى‬
‫الرغم من إدراك بعض الأنثروبولوجيين التطبيقيين لحجم القيود التي تفرضها مقاربة كهذه‪،‬‬
‫دافع آخرون عنها مؤكدين أهميتها ودورها المحوري في عملهم‪ .‬وفي السياق ذاته‪ ،‬أصر‬
‫الأنثروبولوجيون التطبيقيون على التمترس خلف أسوار مواقعهم الوظيفية وعدم تجاوز حدود‬
‫عملهم الإستشاري في طبيعته‪ ،‬لشيوع الإعتقاد وقتذاك ان تجاوز هذا الدور من شأنه إلحاق‬
‫الضرر بخبراتهم وعلاقتهم بالاخرين في البيئات التي يعملون فيها‪.‬‬

‫وفي الولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬شكلت ظاهرة الكساد العظيم او ما يُعرف بالأزمة‬
‫الأقتصادية في ثلاثينيات القرن العشرين فرصة مناسبة لعلم الأنثروبولوجي لتأكيد دوره بصفته‬
‫إحدى الأدوات الفاعلة في التصدي للمشكلات المجتمعية الخانقة وإيجاد الحلول لها‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من ندرة الوظائف المتاحة أمام الأنثروبولوجيين في الجامعات الأمريكية قبل الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬أزدادت فرص العمل المتاحة أمامهم في قطاعات الحكومة الفيدرالية والقطاع‬
‫الخاص زيادة ً كبيرة ً‪ .‬وفي أعقاب تنفيذ مشروع البرنامج الجديد(‪ )2‬الذي أقترحه الرئيس‬
‫الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت (‪ ،)1945-1882‬ازداد الطلب على علماء الاجتماع‬
‫الممارسين‪ -‬ولاسيما من يتمتعون بخبرة أنثروبولوجية كبيرة في مجال إستملاك الأراضي‪،‬‬
‫والهجرة‪ ،‬والتغذية‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والتنمية الاقتصادية والسكانية في المناطق الريفية وتلك التي‬
‫يقطنها سكان امريكا الأصليين‪-‬الهنود‪ -‬لأهميتهم ودورهم في توفير المعلومات الضرورية في‬
‫مجال رسم السياسات وتنفيذ البرامج الحكومية‪ .‬وتزامن ذلك مع تأسيس العديد من‬
‫مؤسسات الأبحاث التطبيقية التي تقف على رأسها وحدة الأنثروبولوجيا التطبيقية التابعة‬
‫لمكتب إدارة شؤون الهنود (‪ )BIA‬التي أسسها جون كوليير (‪ )John Collier‬في‬
‫ثلاثينيات القرن العشرين‪ .‬وفي ظل إدارته‪ ،‬تمكنت الوحدة من إصدار العديد من التقارير‬
‫التي سلطت الضوء على أنماط الإستيطان‪ ،‬وأثرت في السياسات الخاصة بالتنمية الاقتصادية‬
‫والتعليم‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ان التأثير في رسم السياسات هو الغاية الرئيسة من إعداد هذه الأبحاث‬
‫والتقارير‪ ،‬فإنها لم تنجح‪ ،‬عملياً‪ ،‬في ممارسة التأثير اللازم في المراحل المختلفة لتنفيذ هذه‬
‫السياسات وأعتمادها‪ .‬وبرغم ذلك‪ ،‬يلاحظ ان نجاح كوليير لم يقتصر على إدارة الوحدة‬
‫وإعداد الأبحاث‪ ،‬إذ أسهمت جهوده الرامية الى تعزيز مكانة علم الأنثروبولوجي بوصفه فرعا ً‬
‫معرفيا ً له أبعاد عملية مؤثرة في حياة الجنس البشري في زيادة فرص العمل المتاحة أمام‬
‫الأنثروبولوجيين في دوائر الحكومة الفيدرالية‪ .‬ففي برنامج التعاون التقني الذي وضعه مكتب‬
‫إدارة شؤون الهنود الأمريكيين (‪ ،)TC-BIA‬عمل الأنثروبولوجيون بالتعاون مع وزارة‬
‫الزراعة الأمريكية لتنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية وإدارة الموارد في العديد من مناطق‬
‫المحميات الهندية (فان ويلجن ‪ .)2002‬كما عمل الأنثروبولوجيون في مشاريع بحثية كبيرة في‬
‫منطقة حوض ريو غراند لدراسة الدور الذي تلعبه المعتقدات الثقافية الشائعة في أوساط‬
‫بعض المجتمعات المحلية الأثنية‪ ،‬في بروز أنماط معينة من استغلال الأراضي في مناطق‬
‫الجنوب الغربي‪ .‬وفضلا ً عن ذلك‪ ،‬نشط الأنثروبولوجيون العاملون في قطاع الصناعات‬
‫الإنتاجية في دراسة الصلة بين بيئة العمل وطبيعة الأنماط الإنتاجية الشائعة‪ .‬وتُعد‬
‫الملاحظات الاثنوغرافية التي دونها دبليو ليود وارنر (‪ )W. Lioyd Warner‬عن ثقافات‬
‫العمل في مشروع الكهرباء الذي نُفذ في المنطقة الغربية تزامنا ً مع تجارب هوثورن للمدة من‬
‫‪ 1924‬الى ‪ 1932‬من أبرز الأمثلة في هذا المجال لدوره في تأسيس حقل الأنثروبولوجيا‬
‫التطبيقية الصناعية والتجارية‪ .‬وزيادة على ذلك‪ ،‬أسهم النمو في قطاع المشاريع التجارية وما‬
‫تمخض عنه من عناية متنامية بآليات رسم السياسات ودراساتها الى توسيع قاعدة استعمال‬
‫المفاهيم والمناهج الأنثروبولوجية التطبيقية من قبيل مفهوم “أبحاث الفعل” الذي أضطلع بدو ٍر‬
‫بار ٍز في التعجيل بالتغيرات التي شهدها هذا الفرع المعرفي والتي أتضحت بأنصع صورها في‬
‫الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫ففي ‪ ،1941‬أعلنت الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية دعمها الكامل لقرار مشاركة الولايات‬
‫المتحدة في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وحرص أعضاؤها على مساعدة الحكومة في جهودها‬
‫الحربية‪ .‬وطبقا ً لما أورده فان ويلجن‪ ،‬فقد قد َرت مارغريت ميد (‪“ )1977‬نسبة‬
‫الأنثروبولوجيين الأمريكيين الذين عملوا مع الحكومة الامريكية لدعم المجهود الحربي في‬
‫أربعينيات القرن العشرين بأكثر من‪ .)28 ،2002( ”%95‬كما شجعت الحرب العديد من‬
‫الأنثروبولوجيين على الإنخراط في مجال العمل الحكومي الفيدرالي‪ ،‬ولاسيما في ‘هيأة إعادة‬
‫التوطين الحربية’‪ ،‬التي أشرفت على إدارة معسكرات الإحتجاز اليابانية‪ -‬الأمريكية‪ ،‬والتي‬
‫عملوا فيها كحلقات وصل بين الجانبين‪ .‬وكما اتجهت بريطانيا العظمى صوب جامعتي َ كامبردج‬
‫وأكسفورد للإستعانة بخبرات الأنثروبولوجيين في تدريب العاملين في المستعمرات البريطانية‪،‬‬
‫أتجهت الولايات المتحدة‪ ،‬في أثناء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬صوب جامعاتها لتأسيس معاهد‬
‫ومؤسسات قادرة على تدريب الكوادر الحكومية والعسكرية وتعريفهم بأساليب معاملة‬
‫اليابانيين والالمان في المناطق التي استولى عليها الامريكيون‪ .‬وفي استجابة منهم للتطورات‬
‫المتسارعة التي يشهدها حقل الأنثروبولوجيا التطبيقية‪ ،‬أسست مارغريت ميد وروث بندكت‬
‫واخرون جمعية الأنثروبولوجيا التطبيقية(‪ )SFAA‬في ‪ ،1941‬وهي جمعية مهنية مختصة تعمل‬
‫جنبا ً الى جنب الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية (‪ )AAA‬التي لم تكن تملك في ذلك الوقت‬
‫قسما ً تطبيقيا ً خاصا ً بها‪ .‬وفي الوقت نفسه تقريبا َ‪ ،‬باشر المعهد السمثسوني للانثروبولوجيا‬
‫الاجتماعية‪ ،‬الذي تأسس في ‪ ،1943‬بتنفيذ عددٍ من المشاريع البحثية التي وظفت جملة من‬
‫المناهج والمقاربات الأنثروبولوجية‪ .‬وأشرف على هذه المشاريع جورج فوستر(‪George‬‬
‫‪ ،)Foster‬الذي أسهم في ما بعد في تأسيس فرع الأنثروبولوجيا الطبية التطبيقية (فان‬
‫ويلجن ‪ .)2002‬وبقيت أنواع الوظائف التي شغلها الأنثروبولوجيون التطبيقيون بصفة باحثين‬
‫ومستشارين ومدراء واساتذة‪ ،‬على حالها تقريبا ً لم يطرأ عليها تغيير حتى العام ‪ .1945‬ومما‬
‫تجدر الإشارة له في هذا السياق تردد العديد من الأنثروبولوجيين في التعريف بأنفسهم‬
‫بصفتهم انثروبولوجيين تطبيقيين‪ .‬ويتضح ذلك من محاولة البعض منهم الحفاظ على التوازن‬
‫الحذر القائم بين عملهم الأكاديمي والتطبيقي‪ ،‬وقرار البعض الآخر التخلي عن وظائفهم في‬
‫الدوائر الحكومية الفيدرالية لصالح العمل في المؤسسات الأكاديمية‪.‬‬

‫وأسهم انطفاء جذوة الحماس للحرب في الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب‬
‫العالمية الثانية في تنمية الحس النقدي لدى الأنثروبولوجيين‪ ،‬ولاسيما من عمل منهم في‬
‫معسكرات الإحتجاز اليابانية‪-‬الأمريكية‪ ،‬الذين تساءلوا عن جدوى انخراط حقلهم المعرفي في‬
‫جهود بلادهم الحربية‪ .‬وأدى شيوع هذا الحس النقدي وتزامنه مع تقلص حاجة الحكومة‬
‫الى الأنثروبولوجيين الى تبخر غالبية فرص العمل المتاحة‪  ‬أمامهم في القطاع الحكومي‪ .‬بيد ان‬
‫ذلك لم يعق عملية التطور المتسارعة التي كان هذا الحقل المعرفي يشهدها‪ ،‬والذي تمكن من‬
‫تجاوز أزمة فرص العمل في القطاع الحكومي بفضل إعلان الكليات عن توفرالعديد من‬
‫فرص العمل فيها‪ ،‬ولا سيما بعد الزيادة الهائلة في عدد المتقدمين للدراسة في الجامعات في‬
‫أعقاب تشريع الكونغرس لقانون إعادة تأهيل المقاتلين‪ ،‬المعروف عموما ً بـ (‪ )GI Bill‬في عام‬
‫‪ ،1944‬وشروع الحكومة بتوفير الإعانات المالية للمقاتلين العائدين من جبهات القتال‪.‬‬

‫غير ان‪  ‬هذه المتغيرات والظروف لم تؤثر كثيرا ً في علم الأنثروبولوجيا التطبيقية الذي سرعان‬
‫ما عثر على ميادين جديدة ينشط فيها‪ .‬إذ أسهمت الإنقلابات العسكرية والإضطرابات‬
‫الاجتماعية التي عصفت بعددٍ من مجتمعات ما بعد الحرب‪ ،‬وتضعضع القوة الإستعمارية‬
‫الأوروبية في العديد من ارجاء العالم في توفير المناخ المناسب لتبلور وجهات نظر ومواقف‬
‫غربية مغايرة لما كان سائدا ً في حقبة ما قبل الحرب‪ ،‬وبالتالي بروز الحاجة الى الإستعانة‬
‫بالخبرات والمعارف الأنثروبولوجية‪ .‬ويلاحظ في هذه المرحلة إنخراط بعض الانثربولوجيين‬
‫في قضايا الدفاع عن الثقافات المُهمشة وحقوق المجتمعات المحلية الصغيرة عن طريق تزويدها‬
‫بالمعارف‪ ،‬والمعلومات‪ ،‬والخبرات التجريبية اللازمة التي تعينها في مجال المطالبة بحق تقرير‬
‫المصير‪ ،‬والاستقلال‪ ،‬والتمتع بفرص اقتصادية متساوية‪ ،‬وزيادة معدلات تمثيلها السياسي‪.‬‬
‫وفي محاولة منهم لمواكبة المستحدثات في الساحتين المحلية والدولية‪ ،‬لم يتردد بعض‬
‫الأنثروبولوجيين في طرق مجالات جديدة لم يعهدوها سابقا ً من مثل إنخراطهم في عمليات‬
‫صنع القرار بدلا ً من الإكتفاء بتوفير المعلومات التي تؤثر في إتخاذها‪ .‬وهذا التحول في‬
‫الإشتغالات الأنثروبولوجية يعكس إصرار هذا الحقل المعرفي على رفض المقاربة الضمنية‬
‫للقيمة التي تبنت مقياسا ً مستحيلا ً للموضوعية لا يعكس العالم الواقعي‪ .‬وهكذا‪ ،‬أضحى هذا‬
‫التحول الأساس الذي أستندت إليه مناهج الأنثروبولوجيا التطبيقية المبتكرة التي تسمح‬
‫بمشاركة أشمل وأكثر مباشرية في حياة الأفراد والمجتمعات موضوع الدراسة‪ ،‬فضلا ً عن‬
‫توفيرها وسائل أكثر كفاية وفاعلية لجهة إسهامها في إحداث تغييرات ايجابية في حياة‬
‫المجتمعات المحلية‪ .‬ويُعد ‘علم الأنثروبولوجيا العملية’ أو ‘علم أنثروبولوجيا الفعل’ الذي نشأ في‬
‫خمسينيات القرن العشرين من أبرز ما أسفر عنه هذا الحراك المعرفي والأكاديمي‪.‬‬

‫وفضلا ً عن ذلك‪ ،‬وظف بعض الأنثروبولوجيين الممارسين عددا ً من المناهج المعنية بدراسة‬
‫التغيرات في السلوك بغية المساعدة في وضع الخطط التفاعلية الكفيلة بتحسين الظروف‬
‫المعيشية لأفراد المجتمعات المحلية‪ .‬فعلى سبيل المثال لا الحصر‪ ،‬نفذ سول تاكس‪ ،‬بالتعاون‬
‫مع قسم الدراسات الميدانية التابع لجامعة شيكاغو‪ ،‬مشروع فوكس في آواخر اربعينيات‬
‫القرن العشرين لمساعدة أفراد قبيلة فوكس في ولاية آيوا في تطوير قدراتهم في مجال المطالبة‬
‫بحق تقرير المصير معتمدة في ذلك على مقاربة ثنائية تتضمن الإفادة من مناهج المشروع‬
‫البحثي ومقاربة الفعل التطبيقيين‪ .‬ومن رحم هذا التطبيق المبكر المتضمن لعنصريَ الفعل‬
‫والقيمة الواضحة أنبثقت فروع علم انثروبولوجيا البحث والتنمية‪ ،‬وعلم انثروبولوجيا تنمية‬
‫المجتمع‪ ،‬وانثروبولوجيا الأبحاث التعاونية‪ ،‬والوساطة الثقافية (فان ويلجن ‪ ،2002‬تاكس‬
‫‪         .)1958‬غير ان هذا الحراك والتغير في المنظورات والمقاربات‪ ،‬على الرغم مما ينطوي‬
‫ٍ‬
‫مناح ايجابية‪ ،‬أسهم في بروز جملة من القضايا والإشكاليات الأخلاقية الشائكة التي‬ ‫عليه من‬
‫اثارت جدلا ً واسعا ً في أوساط الأنثروبولوجيين بعامة‪ ،‬والتطبيقيين منهم بخاصة‪ .‬وقد تجلت‬
‫طبيعة هذه القضايا بأنصع صورها في أثناء تنفيذ مشروع فكوس (‪)3()Vicos Project‬‬
‫الذي تولى إدارته عالم الأنثروبولوجيا المعروف من جامعة كورنيل‪ ،‬آلن هولمبيرغ (‪Allen‬‬
‫‪ .)Holmberg‬ففي خمسينيات القرن العشرين أكد هولمبيرغ وزملاؤه صحة الرأي القائل أن‬
‫لعلم الأنثروبولوجي القدرة على التأثير في المجتمعات التي يدرسها‪ ،‬وان هذه القدرة هي صفة‬
‫متأصلة فيه‪ .‬في فكوس‪ ،‬نفذ هولمبيرغ مشروعه بنحوٍ يضمن له النجاح في تعديل الترتيب‬
‫الهرمي السائد في المزارع المحلية‪ -‬المسماة (‪ -)Hacienda‬في المجتمع الذي درسه في البيرو‬
‫عن طريق شراء المزارع وتولي إدارتها‪ ،‬ثم‪  ‬العمل على تمكين العمال الهنود من استملاكها‬
‫وإدارتها بأنفسهم بمساعدة حزمة من المناهج البحثية ومفاهيم التنمية المجتمعية التي طورها‬
‫الأنثروبولوجيون‪ .‬وعلى الرغم من نجاح هولمبيرغ في تنفيذ غالبية أهداف المشروع الذي أسفر‬
‫في ما بعد عن تنفيذ المزيد من مشاريع التنمية والفعل الايجابية‪ ،‬لم ينج مشروع فيكوس من‬
‫أطراف عدة طرحت تساؤلات عميقة وجادة حول‬
‫ٍ‬ ‫سهام النقد اللاذع التي وجهت له من‬
‫الطبيعة الأخلاقية لهذا النوع من أنواع التدخل ودور علماء الأنثروبولوجي فيه (تشامبرز‬
‫‪ ،1989‬فان ويلجن ‪ ،2002‬هولمبيرغ ‪.)1958‬‬

‫وقد حافظت الإشكاليات الأخلاقية الشائكة على موقعها المحوري في نقاشات الأنثروبولوجيين‬
‫الذين انتقدوا بشدة تورط بلادهم في الحرب في فيتنام ورفضوا العمل في الدوائر التابعة‬
‫للحكومة الفيدرالية احتجاجا ً على استمرار العمليات الحربية‪ .‬وتتجلى مسألة تسييس هذا الفرع‬
‫المعرفي بأنصع صورها في الجدال الذي رافق تنفيذ مشروع كاميلوت الذي ي ُشكل إحدى‬
‫القضايا الأخلاقية المعروفة في تاريخ الأخلاقيات الأنثروبولوجية‪ .‬إذ كان الهدف المعلن من‬
‫ي برعاية القوات المسلحة الأمريكية في عام ‪1964‬هو الإفادة من خبرات‬
‫المشروع الذي حظ َ‬
‫الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع في مساعدة بعض حكومات امريكا اللاتينية على التخفيف‬
‫من تأثيرات الحروب الأهلية المستعرة في بلدانهم‪ ،‬وربما القضاء عليها‪ .‬غير ان المشروع لم يحظ‬
‫بموافقة غالبية العاملين في حقل الأنثروبولوجي الذين سارعوا الى إدانته وانتقاده لتدخله‪،‬‬
‫بحسب رأيهم‪ ،‬في السياسات الداخلية لدول امريكا اللاتينية‪ ،‬ودوره المحتمل في ترسيخ‬
‫التقسيمات الطبقية‪ .‬ولهذا‪ ،‬أنتهى الأمر بالسلطات الى الإعلان عن توقف العمل بالمشروع‪،‬‬
‫ولاسيما بعد معرفة علماء الأنثروبولوجي والاجتماع العاملين فيه ان مشاركتهم تتضمن القيام‬
‫بأنشطة استخباراتية لصالح مكتب الأبحاث والعمليات الخاصة التابع للجيش الأمريكي‪.‬‬

‫وفي النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬أضطلع شيوع نمط الأقتصادات المعولمة الكبرى‬
‫وأنتشار الشركات متعددة الجنسية بدو ٍر بار ٍز في زيادة الطلب على الأنثروبولوجيين للإفادة‬
‫من خبراتهم في معرفة آليات العمل الشائعة ومواقعها‪ ،‬وطبيعة قوة العمل‪ ،‬وتعزيز فرص هذه‬
‫الشركات في الدخول الى الأسواق العالمية وجذب المستهلكين الى بضائعها‪ .‬وشهدت هذه‬
‫المرحلة كذلك شروع المزيد من الأنثروبولوجيين في توظيف معارفهم وخبراتهم على نحوٍ‬
‫أدواتي يضمن لهم تلبية احتياجات زبائنهم عوضا ً عن الاكتفاء بدراسة مجتمعات وثقافات‬
‫معينة‪ .‬وفي السياق ذاته‪ ،‬شارك الأنثروبولوجيون العاملون في الوكالات والمؤسسات الدولية‬
‫بفاعلية في تطوير حقل الأنثروبولوجيا التطبيقية‪ .‬وشهدت العقود الثلاثة التالية من القرن‬
‫المنصرم إنضمام المزيد من العلماء في الحقول المعرفية الأخرى الى علماء الأنثروبولوجي لدعمهم‬
‫في جهودهم الرامية الى تطوير الفرع المعرفي الناشئ‪ ،‬ويندرج في خانة هؤلاء علماء الاجتماع‬
‫العاملين في البنك الدولي‪ ،‬والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (‪ ،)USAID‬ومنظمة الزراعة‬
‫والغذاء الدولية‪ ،‬ومنظمة الصحة العالمية‪ ،‬وغيرها من المنظمات الدولية‪.‬‬

‫ومن الجدير بالملاحظة الدور الذي يضطلع به الأنثروبولوجيون وعلماء الاجتماع العاملون في‬
‫البنك الدولي في مجال رسم السياسات والبرامج الواعية اجتماعيا ً باستعمال منهجيات مبتكرة‬
‫تتألف عناصرها من “الكفاية والمسؤولية الأخلاقية وتنمية إمكانات التطبيق ومجالاته”(سيرنيا‬
‫‪ .)2 ،1994‬وتميز إسهام علماء الاجتماع على وجه الخصوص‪ ،‬في مجال إثراء العديد من‬
‫الحقول المعرفية الاخرى وتطويرها‪ ،‬بالتنوع والعمق‪ .‬ففضلا ً عن عملهم في تعزيز النظريات‬
‫والمناهج التطبيقية‪ ،‬حرص علماء الأجتماع على الإنخراط في عمليات تقييم التأثير ودعم‬
‫الممارسات الأخلاقية المتبعة في المشاريع التنموية عن طريق الإستعانة بالأبحاث بين المعرفية‬
‫والتعاونية‪.‬‬

‫وفي الولايات المتحدة الأمريكية‪ ،‬أسهم عاملان إضافيان في تعزيز فرص التوظيف‪ ،‬وكتابة‬
‫الأبحاث في تلك المرحلة؛ هما التقلص في عدد الوظائف الأكاديمية في نهاية سبعينيات القرن‬
‫العشرين حتى الوقت الحاضر (بالدرستورم واردنر ‪ ،1971‬كارتر ‪ ،1974‬دي اندريد‬
‫وآخرون ‪ ،)1975‬والتوسع في البنية والتنظيم الفيدراليين اللذين أسهما في تجدد الأهتمام‬
‫بالابحاث الخاصة بوضع السياسات الداخلية‪ .‬ومع زيادة الاهتمام بعوامل القدرة على تحمل‬
‫المسؤولية وفعالية الكلفة‪ ،‬لوحظ ان غالبية المنح الفيدرالية الم ُخصصة لتقديم الخدمات تستلزم‬
‫تخصيص جزء من ميزانيتها لتقييم البرامج المقترحة‪ ،‬وهو مجال حرص فيه الأنثروبولوجيون‬
‫المعاصرون على توظيف خبراتهم البحثية والميدانية بدقة وفاعلية(أرفن ‪ .)2000‬ان المجالات‬
‫التي يعمل فيها الأنثروبولوجيون اليوم لا تقتصر على المؤسسات الأكاديمية مثل الجامعات‪ ،‬بل‬
‫ان الغالبية العظمى منهم يعمل في مجالات متنوعة عدة من مثل الدوائر التابعة للحكومة‬
‫الأمريكية ودوائر البلدية في مستوى الولايات‪ ،‬والمنظمات الدولية‪ ،‬ومعاهد السياسة العامة‪،‬‬
‫والجمعيات الخيرية أو غيرالربحية‪ ،‬وأحيانا ً المؤسسات الاستشارية والبحثية الخاصة أو‬
‫الشركات التجارية‪ .‬وبموازاة ذلك‪ ،‬شهدت هذه المرحلة زيادة ً م ُطردة ً في عدد المجالات التي‬
‫يمكن للأنثروبولوجيين تطبيق معارفهم وخبراتهم فيها‪ ،‬وبالتالي بروز العديد من الأدوار‬
‫والأنشطة التطبيقية الإضافية التي يؤمل منهم اداؤها‪.‬‬

You might also like