Professional Documents
Culture Documents
200 مليار دولار احتياطي نفطي
200 مليار دولار احتياطي نفطي
* عمر بن درة
18/7/2012
طرح السؤال مراراً منذ بداية ما أسماه اإلعالم "الربيع العربي" :لماذا ال تندرج الجزائر في الموجة؟ ذلك أن كل الشروط المفترضة ُ
النفجار السخط الشعبي تجتمع في البالد .وتتوافق المعلومات الواردة من الجزائر على القول إن الوضع االجتماعي في تدهور عميق
ومتواصل ،على مستوى البطالة واليأس الذي ينتاب شريحة كبيرة من السكان .األوضاع االجتماعية واالقتصادية لعدد كبير من
الجزائريين ال ُت حتمل ،بينما تستفيد السلطة منذ سنوات من ارتفاع أسعار النفط ،وهو ما أنقذها من مصير التحول إلى دولة على حافة
االنهيار خالل التسعينيات ،ووضعها في حالة من التخمة المالية المدهشة ،يجسدها المستوى القياسي الذي بلغه االحتياطي النقدي :حوالي
!مئتي مليار دوالر
وفيما يسود مناخ من الفساد والكسب غير المشروع ،أثبتت االستراتيجية التي تعتمدها الحكومة منذ بداية االلفية الثالثة عدم فعاليتها .وقد
ركزت تلك االستراتيجية أساسا ً على تعزيز نمو القطاع غير النفطي من خالل اإلنفاق العام .ولكن النمو السنوي الفعلي للفترة ما بين
2006و 2010تراوح بين 2و 3.5في المئة ،وهو أق ّل بكثير من الحد األدنى المطلوب إلطالق االقتصاد اإلنتاجي وامتصاص البطالة.
كما ان التكاليف الخيالية التي تصرف على مشاريع كبرى غير مكتملة ،وكذلك الزيادة المطردة في االستيراد ،الغذائي تحديداً ،هما دليل
على فشل سياسة اقتصادية ترهق الميزانية العامة بدين خطير .وال يمكن االستمرار باتباع إنفاق هائل بمقدار ما هو غير منتج .فذلك
يتسبب باختالل التوازن .وهكذا تترافق الرداءة مع انعدام جذري في الشرعية لتجعل من تدابير النظام ،على الرغم من اإلمكانات
االستثنائية المتوافرة ،دائمة العقم .وألن الحكومة محشورة في زاوية من التبذير الكامل والفساد الشامل ،فقد اضطرت إلى تحجيم برنامجها
.االستثماري بقيمة 150مليار دوالر خالل فترة ما بين 2009و2013
في بلد ال تعمل فيه أي خدمات عامة جيداً ،يعاني الجزائريون من البطالة ،وسوء السكن ،وسوء الطبابة ،كما يعيشون بال أمل بتحسين أي
من ظروفهم الحياتية .وال يمكن التعويل على اإلحصاءات االقتصادية واالجتماعية .ولوال أنها تخبئ حقيقة م ّرة ،ألثارت األرقام الرسمية
للبطالة السخرية .فهي انخفضت بطريقة عجائبية من 29في المئة في العام 2000إلى 15.3في المئة في العام 2005ومن َث ّم الى
10.2في المئة في نهاية العام ، 2009ويستعيدها البنك الدولي بتسامح متواطئ .وبالرغم من التشكيك الكبير باإلحصاءات ،يقدر الخبراء
أن مستوى الفقر المدقع ال يزال مرتفعاً :أكثر من 15في المئة من السكان يعيشون بأقل من دوالرين في اليوم ،والتفاوت في الدخل كبير
.للغاية
تخضع فئات كاملة من الشعب للتهميش التام ،والمأساة التي يعيشها مرضى السرطان المحرومون من الدواء ،مؤشر على إدارة إجرامية
بكل معنى الكلمة .يعكس تصنيف الجزائر في المرتبة 104من أصل 182دولة على قائمة مؤشر التنمية البشرية لألمم المتحدة ،تلك
الرداءة العظيمة للحكم .ففي الواقع ،يخضع الشعب إلهمال حكومة بعيدة كل البعد عن اهتمامات الناس ،ال بل تتميز بقدرتها على األذى
والفساد .إن هذا المناخ من التوتر الدائم ،والذي يتغذى بالقمع والبطالة وغياب الدولة ،يشجع على انفجار العنف ،ويعمم العلل االجتماعية.
فخارج المناطق المحمية التي يسكنها ذوو االمتيازات ،لم يمنع انتشار الشرطة االنفالت األمني وعمليات النهب .وأمام مثل هذا الوضع،
وفي محاولة لخنق السخط العام ،ال تجد السلطة ما تفعله سوى توزيع بعض العوائد في المناسبات على الفئات االكثر إلحاحا ً بالمطالبة،
متعال
ٍ .وهي تفعل ذلك بشكل مبعثر و"ملوكي"
قمع وفساد
ترتكز البيروقراطية (البورجوازية العسكرية/المالية المنسوجة حول رؤساء االستخبارات العسكرية) على وسيلتين :المراقبة البوليسية
والفساد .ويشكل الجهاز األمني الهيكل العظمي المستتر لهذه المنظمة التي ،باحتقارها القانون ،تفرِّ غ المؤسسات من كل مضمون وتضعف
.الدولة الى حد كبير
تقوم المراقبة البوليسية على ممارسة تحبيك أمني شديد التالصق للبالد ،متالزما ً مع سيطرة بوليسية على كل المؤسسات والمنظمات،
سواء كانت إعالمية أو إدارية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية ،أو تنتمي الى المجتمع المدني :تختبئ حقيقة الديكتاتورية الجزائرية خلف
.واجهة "قانونية" ،فيما قوتها الفعلية تأتي من خارج المؤسسات
ترافق المراقبة البوليسية الضيقة استراتيجية تفتيت النضاالت االجتماعية والتخدير السياسي عبر الفساد .يسمح االقتصاد الريعي ،القائم
على استغالل الموارد األحفورية ،للنظام بتوزيع اإلعانات والرشى للناس وتلبية الحد األدنى من المطالب االجتماعية من خالل زيادة
الرواتب في الوظيفة العامة وتوزيع قروض على الشباب العاطلين من العمل .وهي قروض مرصودة باألصل إلنشاء شركات ولـ"توظيف
.الشباب" ،ولكنها تذهب الى شراء السيارات والسلع االستهالكية
وقد يمكن لتوجيه جزء من الريوع الى "الزبائن" (السياسيين) والى الفئات االجتماعية "الخطيرة" أن يسمح بخلق ثروات ضخمة ويجيز
مستوى استهالكيا ً مقطوع الصلة مع العمل .إال أنه ال يمكنه تهدئة المطالبات الشعبية على نطاق واسع .وتترجم حالة فقدان األمل لدى
الجزائريين بظاهرة الهجرة غير الشرعية – "الحرّ اقة" – وتكاثر التمرُّ دات المحلية وانفجار الغضب الشعبي العفوي ،اللذان يفتقدان
.للتأطير والتمثيل السياسيين
تسببت فترة الحرب األهلية في التسعينيات بمقتل 200ألف شخص واختفاء حوالي 20ألفا آخرين ،فضالً عن التشريد القسري لمئات
اآلالف من الناس .وهي مكنت النظام الجزائري من كسر كل أدوات التمثيل السياسي .وبطبيعة الحال ،تتحمل الطغمة العسكرية الحاكمة،
التي قررت آنذاك ،في كانون الثاني/يناير ، 1992إيقاف العملية االنتخابية ،المسؤولية األساسية عن حمام الدم الرهيب وعن سلسلة من
األعمال الوحشية التي ال تخطر على بال .ولكن بعض قادة االسالميين يشاركونها بالتأكيد في الذنب ،بعدما دعوا للكفاح المسلح ضد قادة
االنقالب وحلفائهم .وقد أتاحت الحرب القذرة ومناخ الرعب الذي ُأرسي ،تفكيك القطاع االقتصادي العام ،وتطبيق برنامج لإلصالح
الهيكلي في العام 1994برعاية صندوق النقد الدولي ،والتوجه نحو اقتصاد "الكونتوار" (الذي يعتمد على التجارة الخارجية) ،السائد
.حتى الساعة
وسمحت "الحرب ضد التمرُّ د" خصوصا ً ،ورزمة قوانين الطوارئ التي رافقتها ،بتجميد الحياة السياسية وإنشاء مشهد سياسي وهمي تحت
إشراف بوليسي .مسرح الظل ذاك ،بين المعارضة المصطنعة وأحزاب "الحكومة" ،ال صلة له بالواقع السياسي ،بل ال يعدو كونه مجرد
ستارة لجماعات المصالح التي تدير فعليا ً شؤون البالد .الحرب ضد اإلرهاب ،وأحكامها "القانونية" واإلدارية ،ش ّكلت الوسيلة الحاسمة
.إلسكات أي محاولة للتعبير النقدي ،وص ّد أي شكل من أشكال التنظيم السلمي للمجتمع ومنع حق التظاهر والتجمع
ولم يكن رفع حالة الطوارئ في شباط/فبراير ( 2011بعد فرضه في العام )1992سوى تنازل شكلي ،لم يغير في نهج اإلدارة القمعية
القائمة منذ انقالب كانون الثاني/يناير . 1992أما القوانين الجديدة في اإلعالم وعمل الجمعيات ،فهي تؤكد القيود المفروضة على حرية
.التعبير ،وتقمع أكثر من أي وقت مضى حرية إنشاء الجمعيات
ت َّم احتواء األحزاب والجمعيات التي أفلتت من سيطرة األجهزة العسكرية السرية قبل وقوع االنقالب في ،1992فيما تمت استمالة
قيادييها من ضمن عدد من "خياالت المآتة" الكثر .فباستثناء حزب "جبهة القوى االشتراكية" برئاسة حسين آيت أحمد ،تعتبر األحزاب
السياسية التي كثيراً ما ُتذكر في الصحافة المأمورة ،امتداداً بال مصداقية أو شعبية للنظام ،وليست منظمات المجتمع المدني ،باستثناء
.بعض النقابات المستقلة ومنظمات الدفاع عن حقوق االنسان ،سوى قواقع فارغة
الجزائريون ،المدركون تماما ً تالعب النظام ،هم بغالبيتهم العظمى مستعصون على الدعاية الرسمية ،كما ال يعترفون بأي فاعل أو جهاز
سياسي .الريبة هي أول رد فعل مواطني .وهذا ،عالوة على صدمة الحرب القذرة ،هما ما يفسر رفض الجزائريين لالستجابة لنداءات
.المجتمع المدني وشعاراته .وهو إحجام يظهر من زاوية ما مدى تفكك المجتمع الجزائري
------------------------
يواجه النظام الجزائري التغييرات الطارئة على بيئته الجيوستراتيجية المباشرة بوضع داخلي هشّ .وهو يرى في الحراك االجتماعي الذي
أطاح النظام في تونس (;الذي كان ينظر إليه كنموذج للحكم االستبدادي "المستنير") ،وفي سقوط الرئيس حسني مبارك في مصر ،تهديداً
مباشراً له .ولكن ما حيّر جنراالت االستخبارات العامة ،وفاجأهم ،هو التدخل الغربي في ليبيا ،إضافة الى لعبة النفوذ الخارجي في
سوريا ،والقدرة على تأقلم الغرب مع التيارات اإلسالمية التي تؤثر عليها الوهابية في كل من تونس ومصر .ومع توسّع الشروخ
الجيوستراتيجية في المنطقة ،بدا أنه بات من الممكن أن تعيد الواليات المتحدة وفرنسا النظر في التحالف القوي الذي يربطها بالنظام
الجزائري .هذه فرضية ال تزال بعيدة ،ولكنه راح يعززها ما تشهده دولة مالي المجاورة من تفكك اثر إعالن استقالل "األزواد" ،بعد
تمرّ د الطوارق ،ثم بإزاحة هؤالء وسيطرة الميليشيالت االسالمية على الموقف .يضعف تطور أزمة "الساحل" موقف الجزائر ،المتهمة
بتأدية دور غامض في تلك المنطقة .سيما وانها ليست جزءاً من "السيدياو"" ،الجماعة االقتصادية لدول غرب افريقيا" التي تضم 15
دولة من المنطقة ،وتهيئ ،بسبب العجز الغربي عن التدخل المباشر ،للعب دور ميداني في أزمة مالي المستفحلة ،بل ولتغطية التدخل
العسكري .وكان اختطاف الرهائن في الصحراء من قبل منظمات إرهابية ،من المعروف أن االستخبارات الجزائرية تتالعب بها
وتديرها ،قد شكل عامالً إضافيا ً في تغذية الشكوك حول تالعبات الحكام الفعليين في الجزائر بالمعضلة المعقدة في الساحل ،وربما فقدانها
للسيطرة عليها كما في السابق .أما المنظمات اإلجرامية العابرة للجنسيات ،والتي تعمل في قطاع المخدرات ،فهي تتعايش مع الحركات
الجهادية متنوعة المشارب ،على خلفية الفقر المدقع والتهميش اللذين تعاني منهما المنطقة ،وهي شاسعة وصعبة االحتواء ،وغنية
بالثروات المنجمية وبالمحروقات غير المستثمرة بعد ،بل وحتى غير المعلن عنها .وكان إنشاء "القيادة العسكرية ألفريقيا" (أفريكوم) في
مؤشراً واضحا ً على تعزيز نفوذ ومصالح الواليات المتحدة في منطقة ،2006 (PSI" 2004)،عقب "المبادرة األميركية لدول الساحل
.هي من يقرر توجهات دولها ما بعد االستعمارية ) (Françafriqueكانت ال تزال شبكات المصالح الفرنسية/األفريقية
يمكن ألزمة مالي ( 15مليون مواطن ،وواحدة من افقر دول العالم ،ولكنها مهد الثقافات االفريقية) ،أكثر من الخضات الليبية ،أن يكون
لها تأثير مباشر على الجنوب الجزائري ،حيث إغراء النزعات االنفصالية يتغذى من سخط السكان المحليين .ويتنامى شعور اإلحباط لدى
هذه الفئات التي تعاني إهماالً يفوق ما يعانيه السكان الجزائريون في شمال البالدّ ،
يعززه بالتحديد حرمانها من أي استفادة من الموارد
.النفطية..بينما هي كامنة في جوف مناطقها
اقتصادي من الجزائر *