You are on page 1of 18

‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫ كبدائل‬،‫إشكالية تحديد ملمح الشخصية وتكوين الكوادر‬


‫حلول ضمن املسعيني الوقايئ والناميئ‬
2 ‫ جامعة البليدة‬،‫ عبد القادر لوريس‬.‫د‬
2 ‫ جامعة البليدة‬،‫ عبد العزيز حدار‬.‫د‬
2 ‫ جامعة البليدة‬،‫ مراد نعموين‬.‫د‬
:‫امللخص‬
،‫تتناول هذه الدراسة ظاهرة إجرام أصحاب الياقات البيضاء يف أبعادها و تجلياتها وانعكاساتها‬
‫وتحاول أن تقرتح بعض عنارص ملمح شخصية املدانني يف مثل هذه الجرائم لفهم شخصيتهم و‬
‫ وذلك‬،‫دوافعهم وسياقاتها التنظيمية واالجتامعية والثقافية كأحد رشوط الحلول الوقائية املمكنة‬
‫ كام تتناول من جهة أخرى ضمن مسعى منايئ‬،‫ضمن اسرتاتيجية متكاملة للقضاء عىل هذه الظاهرة‬
‫ وتحصينهم القيمي اإلنتاميئ الذي تضطلع به الرتبية‬، ‫بنايئ ملسألة تكوين الكوادر بصفة خاصة‬
.‫والتنمية البرشية بصفة عامة‬
‫ إجرام الياقات البيضاء – ملمح الشخصية – تكوين الكوادر – االجرام التنظيمي‬:‫الكلامت املفتاحية‬
.‫– املسعى الناميئ والوقايئ‬
Résume :
La présente étude aborde le phénomène du crime en col blanc dans ses
dimensions, ses manifestations et ses répercussions, et essaie de pro-
poser certains éléments du profil de personnalité des condamnés pour
des délies économiques afin de comprendre leurs personnalités, leurs
motivations et leurs contextes organisationnels et socioculturels, comme
l’une des conditions des solutions possibles dans le cadre d’une straté-
gie intégrative afin d’annihiler ou de mettre un terme à ce phénomène.
Comme elle propose par ailleurs et dans le cadre d’une démarche déve-
loppementale et constructive la question de la formation des cadres de
manière spécifique, ainsi que l’humanisation sur le plan des valeurs et
de l’appartenance par le baie de l’éducation et le développement des
ressources humaines de manière générale.
Mot clés : Crime en col blanc – Profil de personnalité – Formation des
cadres – Crime organisationnel _ Démarche développementale et pré-
ventive.

229
‫مقدمة‪:‬‬
‫أثار اإلجرام االقتصادي الذي يرتكبه شخص يحظى باالحرتام و التقدير و مكانة اجتامعية خالل‬
‫مامرسته لوظائفه املهنية ‪،‬أو ما يسمى بإجرام الياقة البيضاء تحديدا‪ ،‬اهتامم الباحثني الذين يعملون‬
‫يف مجال علم اإلجرام والباثولوجيا التنظيمية مع مطلع سنة ‪ ،1990‬لذلك عرف هذا النوع من اإلجرام‬
‫خالل العرشين السنة األخرية وفرة يف إنتاج البحوث العلمية (‪ ،)Cullen and al, 2009‬حيث وصفه‬
‫( ‪ )Shnatterly, 2003‬بالوباء الحقيقي لالقتصاد األمرييك‪.‬‬
‫وميكن تفسري هذا «الشغف العلمي» تجاه ظاهرة إجرامية ظلت لعقود محل تجاهل من قبل‬
‫الباحثني و الخرباء و علامء االقتصاد والنفس واالجتامع و القانون‪ ،‬بالتغطية اإلعالمية الواسعة للفضائح‬
‫املالية أو الجرائم املالية املرتكبة من قبل النخبة االقتصادية يف الواليات املتحدة االمريكية‪.‬هذا ما دفع‬
‫وميي( ‪)Ouimet 2011‬للقول بأن «االستقطاب اإلعالمي حول جرائم الياقة البيضاء قد زعزع الطرح‬
‫التقليدي األحادي املتعارف‪ ،‬فيام يسمى بإجرام الشارع ‪ ))Street Crime‬الذي يتميز باستعراضية‬
‫ودمويته وطابعه الغريزي املرتبط بالطبقة االجتامعية االقتصادية املعوزة‪ ،‬وبذلك نافس بل و رسق‬
‫األضواء من إجرام الشارع‪ ،‬كالرسقة املرتبطة بالعنف‪ ،‬اإلعتداء الجنيس وغريهام‪ .‬وأبعد من ذلك دفع‬
‫املختصني يف علم النفس اإلجرامي و الباثولوجيا النفسية إىل إعادة النظر يف كل تلك االفرتاضات‬
‫واملحكات التشخيصية التي ارتبطت باضطراب الشخصية السيكوباتية‪ ،‬أو املضادة للمجتمع‪ ،‬من‬
‫حيث سببيتها اإلمراضية وخصائصها الدميوغرافية وسامتها املعرفية واالنفعالية والسلوكية‪ ،‬باعتبارها‬
‫املسؤولة عن اإلجرام وخرق قوانني املجتمع ومعايريه و أعرافه فيام عرف بإجرام الشارع ‪ ،‬لكن منطا‬
‫آخر من الشخصية املجرمة املنحرفة يظهر جليا يف السنوات األخرية‪ ،‬ال يحمل ذات خصائص وسامت‬
‫مجرمي الشارع‪ ،‬بل يناقض الكثري منها‪ .‬غري أن ما يثري فعال تساؤوالت وإشكاالت حقيقة هو أنه رغم‬
‫الرتسانة القانونية الجنائية والتدابري األمنية العقابية الرادعة إال أن مثل هذه الجرائم هي يف تزايد‬
‫مطرد و استفحال وبايئ‪ ،‬وهو ما قد يشري إىل وجود معالجة اختزالية تجزيئية يف مواجهة هذه‬
‫الظاهرة ‪،‬من خالل الرتكيز عىل الجانب الجنايئ العقايب دون طرح بدائل وقائية وأخرى منائية تربوية‬
‫تكوينية ضمن اسرتاتيجية متكاملة تهدف إىل إبطال تأثري عوامل سببية هذا النوع من اإلجرام يف‬
‫جذوره األوىل‪ ،‬ويتعلق األمر بالعوامل النفسية و االجتامعية و التنظيمية والثقافية املهيئة له ‪.‬و‬
‫فضال عن عدم متكن التدابري القانونية التنظيمية والجنائية من الحد من انتشار هذه الظاهرة‪ ،‬بل‬
‫أنها شكلت عوائق حقيقية للكوادر السامية‪ ،‬ورجال األعامل واإلداريني النزهاء يف مختلف املستويات‬
‫وحتى لدى عامة املواطنني املتعاملني مع اإلدارة‪ ،‬بحيث تحولت إىل نوع من البريوقراطية التي كبلت‬
‫املبادرات الشخصية تخوفا من العقوبات ‪،‬وعطلت املشاريع وأهدرت الكثري من الجهد والوقت واملال‬
‫يف الرتتيبات اإلدارية هذا رغم اإلقرار باملجهودات التي ما فتئت تبذلها الجهات املختصة األمنية منها‬
‫والقضائية‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫عنارص تعريفية لجرائم الياقة البيضاء‪:‬‬


‫قام الباحث السوسيولوجي األمرييك إيدوين سوذيرالند ( ‪ ،)Sutherland, 1939‬وهو من‬
‫املختصني يف علم الجرمية يف القرن العرشين‪ ،‬بتعريف الجرائم التي ترتكب بشكل مهني‬
‫ّ‬ ‫أشهر‬
‫عالٍ ‪ ،‬داخل املؤسسات ومكاتب العمل‪ ،‬بجرائم «الياقة البيضاء»‪.Crime، White Collar‬‬
‫حيث ّ‬
‫وضح أن هذه الجرائم ترتكب من قبل الطبقة الراقية يف املجتمع‪ ،‬أو الكوادر السامية‪،‬‬
‫ذوي املناصب اإلدارية الكبرية‪ ،‬وتشمل أنواعا مختلفة من الجرائم كالرشوة والتالعب‬
‫بالشيكات واالختالس والرسقة واستغالل النفوذ وغريها من الجرائم املالية االقتصادية‪.‬‬
‫أشكال إجرام الياقة البيضاء‪:‬‬
‫أجريت العديد من الدراسات الوصفية‪ ،‬منها دراسة ( ‪)Fleming et Zyglidopoulos 2008‬‬
‫لتحديد أشكال إجرام الياقة البيضاء‪ ،‬وتحديدا تلك املتعلقة باإلجرام املايل‪ ،‬حيث ميكن تصنيفها ‪-‬عىل‬
‫سبيل الذكر ال الحرص‪ -‬فيام ييل‪:‬‬
‫تحويل األموال‪،‬‬‫•‬
‫تزوير السجالت املالية‪،‬‬ ‫•‬
‫تضخيم مصاريف التمثيل‪،‬‬ ‫•‬
‫اإلفالس املزيف‪،‬‬‫•‬
‫استغالل النفوذ‪،‬‬‫•‬
‫االكتتاب قبل التاريخ ملعاملة يف البورصة‪،‬‬ ‫•‬
‫البيع الهرمي للقيمة املضافة املالية االستباقية‪،‬‬ ‫•‬
‫•‬
‫التهرب الجبايئ‪،‬‬
‫االنحراف السيربين التنظيمي‪،‬‬ ‫•‬
‫مستويات إجرام الياقات البيضاء‪:‬‬
‫ميكن أن ميتد هذا النوع من اإلجرام عىل عدة مستويات هي‪:‬‬
‫املستوى العاملي‪ :‬ميتد اإلجرام املايل ضمن حركات األموال الدولية‪ ،‬متارس هذه األنشطة املالية‬ ‫•‬
‫الالمرشوعة مبساهمة «الفردوسات املالية»‪ ،‬وغالبا ما تصطدم مكافحة الجرمية املالية مع حدود‬
‫العدالة الوطنية التي تفتقر لألدوات القانونية املناسبة الكافية ملواجهة هذه الظواهر الدولية‬
‫الواسعة النطاق‪ ،‬وتزداد صعوبة العدالة الوطنية يف متابعة مثل هذه الجرائم خارج حدودها‬
‫لوجود بعضا من الحامية الدولية غري املعلنة‪ ،‬حيث أن هناك مصالح كبرية تتصارع عليها القوى‬
‫العظمى‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫املستوى الوطني‪ :‬ينترش ضمن املؤسسات االقتصادية و غريها‪ ،‬ويتعلق األمر يف هذا املستوى‬ ‫•‬
‫بوجود شبكات مافياوية تنشط لحامية وتنمية مصالحها االقتصادية و السياسية واالجتامعية‪.‬‬
‫املستوى البسيط‪ :‬يعني هذا اإلجرام تحويل أموال لفائدة شخص أو مجموعة من األشخاص‪،‬‬ ‫•‬
‫وعادة ما يتم الكشف عن حاالت هذا املستوى دون املستويني األول و الثاين‪.‬‬

‫انعكاسات جرائم الياقة البيضاء‪:‬‬


‫أفضت هذه الجرائم إىل نتائج سلبية ‪ ،‬لعل من أهمها ما ييل ‪:‬‬
‫أ – الخسائر املالية التي تجاوزت سنويا مئات مليارات الدوالرات يف الواليات املتحدة‪ ،‬حيث كانت‬
‫هذه الخسائر أكرب بخمسة عرشة مرة من تلك املتعلقة بخسائر اإلجرام املتعارف عليه ‪،‬و قد كلفت‬
‫املؤسسات األمريكية سنويا مع مطلع ‪ ، 1980‬أكرث من ‪ 600‬مليار دوالر ( ‪)Niehoff, 2003‬‬
‫ب‪ -‬انحصار الشعور بالثقة ألصحاب األسهم‪ ،‬واملستدنني‪ ،‬واملوظفني تجاه املدراء و املسيريين‬
‫الساميني‪.‬‬
‫ج‪ -‬تدهور مستوى احرتام املواطنني البسطاء للكوادر السامية ‪ ،‬واملؤسسات‪ ،‬وعامل األعامل‪.‬‬

‫الخصائص التنظيمية املرتبطة بإجرام الياقة البيضاء‪:‬‬


‫أ‪ -‬حجم املؤسسة‪ :‬مل تؤكد أي دراسة ‪ ،‬حسب هولتفريرت (‪ ) ,2005Holtfreter‬وجود عالقة ارتباطية‬
‫بني حجم املؤسسة والجرائم املالية الخطرية املرتكبة من قبل الكوادر العليا‪ ،‬ولو أنه يفرتض حدوث‬
‫هذا النوع من اإلجرام يف املؤسسات الكبرية حيث تصعب املراقبة املالية‪.‬‬
‫ب‪ -‬الثقافة التنظيمية‪ :‬تفيد بعض املعطيات أن الثقافة البريوقراطية والتساهل‪ ،‬تشكل املصدر‬
‫املناسب إلنتاج االنحراف التنظيمي (‪.) Holtfreter, 2005‬‬
‫ج‪ -‬الصحة املالية‪ :‬أشار بريس( ‪ ) ,2001Pearce‬أن إجرام الياقة البيضاء يظهر يف املؤسسات التي تعرف‬
‫صعوبات ومشاكل مالية‪ ،‬رغم أن مثل هذه املؤسسات عادة ما تكون محل معاينة ومراقبة وتدقيق‬
‫مايل من قبل خرباء املحاسبة‪ ،‬قياسا باملؤسسات التي تتمتع بالصحة املالية‪.‬‬
‫د‪ -‬ميكانيزمات املراقبة الداخلية ‪ :‬تشري دراسات ( ‪ )Beasley, et al 2000‬و (‪( )Dunn 2004‬‬
‫‪ )Simpson, 2002‬أن غياب آليات املراقبة الداخلية يرتبط بشكل دال باالنحراف التنظيمي يف‬
‫شكل إجرام الياقة البيضاء‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫الخصائص الذاتية املرتبطة بإجرام الياقة البيضاء‪:‬‬


‫أ‪ -‬السن ‪ :‬يشري (‪ ) Holtfreter, 2005‬أن املجرمني من الياقات البيضاء يكونون أكرب سنا من مجرمي‬
‫الشارع ‪،‬أي خارج اسوار املؤسسة‪ ،‬وميكن عزو ذلك إىل املدة الزمنية التي يستغرقها الشخص للوصول‬
‫إىل املناصب العليا التي تسمح له بارتكاب هذا النوع من اإلجرام‪ ،‬فيام تبني دراسات كل من (‬
‫‪ )Shover et Hochstetler, 2002‬و (‪ ) Zahra, et al 2007‬أنه ضمن فئة الكوادر العليا ‪ ،‬يالحظ‬
‫أن الكوادر األكرب سنا – أكرب من ‪ 50‬سنة ‪ -‬هم األقل ارتكابا لهذا النوع من اإلجرام و توجها نحو‬
‫االنحراف االقتصادي ‪،‬باملقارنة مع نظائرهم األصغر منهم‪.‬‬
‫ب‪ -‬الجنس ‪ :‬أوضحت دراسة ( ‪ )Whan, 2003‬أن الكوادر من الذكور هم األكرث تورطا يف املخالفات‬
‫و ارتكاب مختلف أشكال الجرائم االقتصادية ‪ ،‬قياسا بالكوادر من اإلناث‪ ،‬إال أن هيمر(‪Heimer,‬‬
‫‪ )2000‬يشري إىل أن الكفة بدأت تتوازن بني الجنسني يف السنوات األخرية‪ ،‬حيث سجلت العديد من‬
‫حاالت اإلجرام االقتصادي لدى النساء‪ ،‬بعدما متكنن من اعتالء مناصب عالية يف املؤسسات‪.‬‬
‫ج‪ -‬املستوى التعليمي ‪:‬عىل خالف مجرمي الشارع ‪ ،‬فإن مجرمي الياقات البيضاء يتمتعون مبستوى‬
‫تعليمي عال‪ ،‬إذ أن أغلبهم من خريجي الجامعات و املدارس العليا‪ ،‬قياسا بالفئة األوىل‪ ،‬ذلك أن‬
‫حيازة منصب عال ضمن الهرمية التنظيمية للمؤسسة يتطلب مستوى تعليميا جامعيا‪ ،‬أي الحصول‬
‫عىل شهادة جامعية ( ‪ ،)Holtfreter, 2005‬فيام أشار بعض املؤلفني ( �‪Feldman 2005, Fer‬‬
‫‪ )raro et al 2005‬أن النشاط اإلجرامي اإلقتصادي يرتبط باألشخاص الذين زاولوا التعليم الجامعي‬
‫يف تخصص علوم التسيري‪ ،‬وقد فرسوا ذلك بكون أن مناهج التعليم يف مدارس التجارة تركز عىل‬
‫النظريات االقتصادية والتجارية والتسيري‪ ،‬بعيدا عن أي توجه أخالقي قيمي‪.‬‬
‫د‪ -‬املكانة يف الهرمية التنظيمية للمؤسةسة ‪:‬ذكر كل من ( ‪ )Friedrichs, 2007‬و(�‪Piquero et Pe‬‬
‫‪ )quero, 2001‬أن املناصب العليا متنح ملن توالها سهولة يف اكتساب ثقة اآلخرين‪ ،‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫فإن هذه املناصب متنح ألصحابها أيضا فرص عديدة الرتكاب مثل هذه الجرائم عىل نطاق واسع‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬حالة االستعداد لإلجرام ‪ :‬يعزو بعض املؤلفني اسباب اإلجرام التنظيمي االقتصادي إىل االستجابة‬
‫التكيفية لضغوطات الوسط امللحة‪ ،‬حيث ميكن أن تأخذ هذه الضغوطات شكل ما يسميه( (�‪Schoep‬‬
‫‪ ) fer et Piquero 2006‬باإلرشاط الالمعياري التسيريي‪ ،‬أو شكل البحث عن الربح والغنى بأي مثن‬
‫‪.‬ويعد اإلرشاط الالمعياري التسيريي‪ ،‬أحد نتائج الحلم االجتامعي األمرييك الذي يجعل من النجاح‬
‫املادي القيمة األساسية التي تحدد اختيارات الحياة لدى األفراد‪ ،‬ويؤكد شابر و ‪Schoepfer et‬‬
‫‪ Piquero 2006‬أن الحث امللح للنجاح املادي الذي يشكل النجاح املايل نواته ‪ ،‬يعد من العوامل‬
‫األساسية يف سببية إجرام الياقات البيضاء‪.‬‬
‫و‪ -‬أبعاد يف الشخصية ‪:‬‬
‫ضعف التحكم الذايت ‪ :‬يشكو مجرمو الياقة البيضاء من شدة يف االندفاعات والنزوع املفرط‬ ‫•‬
‫نحو مغريات النجاح الرسيع القائم عىل الكسب املايل واملادي‪ ،‬لذلك ال يستطيعون مقاومة هذه‬
‫اإلغراءات املالية‪ ،‬رغم وجود ترشيعات عقابية رادعة‪ ،‬بسبب ضعف التحكم الذايت‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫ضعف درجة الوعي ‪ :‬يتكون الوعي من األبعاد الثالثة التالية وهي التنظيم ‪ ،‬و الدقة واملصداقية‪،‬‬ ‫•‬
‫ويشكل الوعي أحد السامت الشخصية التي يفتقر لها األشخاص الذين يرتكبون إجرام الياقة‬
‫البيضاء مثلام أكدته دراسة كولينز وشميدت( ‪ )Collins et Schmidt 1993‬التي أفادت بأن‬
‫املستوى املنخفض للوعي ارتبط بتواتر الجرائم لدى الكوادر العليا‪ ،‬غري أن دراسة بليكل و‬
‫آخرين( ‪ )Blickle, et al 2006‬ناقضت هذه النتيجة حيث بينت أن الفرد ال ميكنه التدرج يف‬
‫مستويات سلم الهرمية التنظيمية املؤدية إىل وظيفة إطار سام‪ ،‬وضع حيز التنفيذ خطة للقيام‬
‫بجرم مايل دون أن يتمتع بدرجة عالية من الوعي و التنظيم‪.‬‬
‫الرغبة امللحة يف مامرسة التحكم ‪ :‬تعد هذه الرغبة حسب بيكورو وآخرين ‪Piquero, et al 2005‬‬ ‫•‬
‫أحد سامت الشخصية التي تدفع الكوادر السامية إىل ارتكاب الجرائم املالية‪ ،‬حيث أن األشخاص‬
‫الذين يشكون من الحاجة القهرية املتزايدة يكونون مدفوعني إىل اللجوء إىل كل الوسائل التي‬
‫من شأنها أن تضمن لهم التحكم يف األحداث املؤثرة فيهم‪.‬‬
‫الدرجة املرتفعة لسامت العصابية ‪ :‬دلت بعض الدراسات أن األشخاص املتورطني يف هذا النوع من‬ ‫•‬
‫الجرائم يتسمون بدرجات عالية يف سامت االنبساطية والعاطفة السلبية‪ ،‬والعصابية‪ ،‬وهي زمالت‬
‫مرضية تخفي العديد من الباثولوجيا النفسية‪.‬‬
‫اإلنخراط يف املتعية ‪ :‬كشف بليكل و آخرين ( ‪ )Blickle, et al 2006‬عن وجود مستوى عال من‬ ‫•‬
‫املتعية ( البحث عن اللذة وتثمني النشوة واالستمتاع باملمتلكات املادية ) لدى املدراء املتورطني‬
‫يف جرائم مالية‪.‬‬

‫ز‪ -‬الشخصية الرنجسية ‪:‬‬


‫يعد اضطراب الشخصية الرنجسية أهم العوامل النفسية يف سببية إجرام الياقة البيضاء‪ ،‬بل أنها‬
‫نواة شخصية مجرم الياقة البيضاء‪ ،‬وعليه ستحظى هذه الشخصية بيشء من التعريف املفصل‪ ،‬مثلها‬
‫مثل الشخصية السيكوباتية‪.‬‬
‫يتصف الرنجسيون بشعور غري واقعي بأهميتهم وقيمتهم‪ ،‬وهم جد منشغلني بذواتهم إىل‬
‫درجة افتقارهم للتعاطف أو مواساة اآلخرين‪ (.‬غندرسون وآخرون ‪)Guenderson 1995‬‬
‫ويعرف أكريمان وآخرون ( ‪ )Ackerman, et al 2005‬الشخصية الرنجسية من خالل سبعة أبعاد‬
‫هي ‪:‬‬
‫االستعداد للتعدي عىل السلطة‬ ‫•‬
‫•حب الظهور‬
‫•الشعور بالتفوق‬
‫•الشعور بأحقية االستفادة من االمتيازات‬
‫‪234‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫استغالل اآلخرين‬ ‫•‬


‫•االكتفاء والخيالء والعجب‬
‫وبصفة عامة تتأسس الشخصية الرنجسية حول ثالثة سامت أساسية ‪:‬‬
‫امليل ملامرسة السلطة‬ ‫•‬
‫•حب الظهور املتعاظم‬
‫•اليقني باستحقاق االمتيازات املرتبطة باستغالل اآلخرين‬
‫بينام حدد الدليل التشخييص لالضطرابات العقلية ( اإلصدار الرابع ‪ )2004‬املحكات التشخيصية‬
‫لهذا االضطراب عىل النحو التايل ‪:‬‬

‫أ‪ -‬أمنوذج منترش من العظمة (يف التخيل أو السلوك) يرنو إىل اإلعجاب ويفتقر إىل املشاركة‬
‫العاطفية‪ ،‬يظهر يف باكورة البلوغ‪ ،‬ويتجىل يف أنواع مختلفة من االقرتانات‪ ،‬بخمس دالالت أو أكرث من‬
‫الدالالت التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬لديه إحساس بالعظمة والتعاظم بأهمية الذات (أي املبالغة يف اإلنجازات واملواهب‪ ،‬ويتوقع‬
‫أن ينظر إليه كمتفوق‪ ،‬وذلك بدون وجود تكافؤ باإلنجازات مع إدعاءاته وتخيالته وما ينسبه إىل‬
‫نفسه)؛‬
‫‪ -2‬يكون منشغال بالتخيالت املتعلقة بنجاح غري محدود‪ ،‬وبالقوة‪ ،‬وباألملعية‪ ،‬وبالجامل‪ ،‬أو بحب مثايل؛‬
‫‪ -3‬يؤمن بأنه فريد‪ /‬بأنها فريدة‪ ،‬وهو نوع خاص وال ميكن أن يفهمه إال أفراد من الناس من الذين‬
‫هم من الطبقة الخاصة أو العالية؛‬
‫‪ -4‬يحتاج إىل اإلعجاب املفرط ويطلبه؛‬
‫‪ -5‬يتملكه حس التلقيب‪ ،‬أي التوقعات الالمعقولة مبعاملة مرضية خاصة‪ ،‬أو امتثال آيل لتوقعاته ‪/‬‬
‫توقعاتها؛‬
‫‪ -6‬يف عالقاته مع الناس يبدو استغالليا انتهازيا‪ ،‬أي يستغل اآلخرين ويسخرهم لتلبية طلباته ورغباته؛‬
‫‪ -7‬يفتقر إىل املشاركة العاطفية‪ ،‬فهو يتجاهل ويرفض التعرف عىل مشاعر وحاجات اآلخرين وال‬
‫يعرتف بها إذ يرتكز اهتاممه عىل حاجاته ومنافعه فقط؛‬
‫‪ -8‬غالبا ما يكون حسودا لآلخرين‪ ،‬ويؤمن بأن اآلخرين يحسدونه؛‬
‫يظهر التكرب والتعجرف والصلف‪ ،‬والسلوكيات املتعالية واملواقف املتفاخرة‪.‬‬
‫وأضاف الدليل التشخيص ( اإلصدار الخامس ‪ )2013 ،‬بعض السامت و هي ‪:‬‬

‫‪235‬‬
‫تقدير الذات املتقلب ‪ ،‬املتأرجح بني الشعور بالتفوق و الشعور بالنقص‬ ‫•‬
‫•التعبري الشديد عن املشاعر و االنفعاالت ( الغضب‪ ،‬الحسد‪ ،‬العار) وسلوكيات (الخداع و االنتقام)‪،‬‬
‫املرتبطة بتغريات هامة يف املزاج ( النزق‪ ،‬الحرص‪ ،‬االكتئاب أو االبتهاج ) حني يكون تقدير الذات‬
‫محل تهديد‪.‬‬
‫خالفا لهذا التوصيف‪ ،‬يذهب كل من هورويتز ( ‪ )Horowitz, 2009‬وميالر و أخرون ( ‪Miller‬‬
‫‪ )et al 2010‬إىل التأكيد بأن االهتامم الغالب الذي منح للتمظهرات العرضية القابلة للمالحظة ‪،‬‬
‫كالشعور بعظمة الذات‪ ،‬التعجرف‪ ،‬والسلوكيات املنفرة‪ ،‬تحجب رؤية الطابع املعقد للواقع الداخيل‬
‫لهذه الشخصية التي تتشكل من املكونات التالية ‪ :‬تقلب تقدير الذات ‪ ،‬عدم االستقرار العاطفي ‪ ،‬عدم‬
‫القدرة عىل التعاطف ‪ ،‬النقد الذايت غري املربر‪ ،‬مشاعر النقص والألمان‪ ،‬والعار‪.‬‬
‫ومن منظور اجتامعي ثقايف‪ ،‬يفرس كرستوفر الش( ‪ )Christopher Lasch,1978‬السببية اإلمراضية‬
‫للشخصية الرنجسية يف كتابه « الثقافية الرنجسية « حيث يشري إىل أن تواتر هذا االضطراب يتزايد يف‬
‫معظم املجتمعات الغربية‪ ،‬بسبب التغريات االجتامعية الواسعة النطاق‪ ،‬و التأكيد عىل قيم املتعية‪،‬‬
‫والفردانية‪ ،‬والتنافسية و النجاح‪ ،‬وكل ذلك يف أقرب وقت ممكن‪) Durand and Barlow.2004 (.‬‬

‫ل ‪ -‬السيكوباتية أو الشخصية املضادة للمجتمع‪:‬‬


‫وصف هار ( ‪),1993Hare‬ذوي الشخصية املضادة للمجتمع بأنهم مفرتسون ألفراد املجتمع‪،‬‬
‫مغوون‪ ،‬متالعبون‪ ،‬حيث يرتكون وراءهم قلوبا محطمة‪ ،‬وأحالما منهارة‪ ،‬وأمواال مبددة‪.‬يفتقرون‬
‫للضمري األخالقي والتعاطف‪ ،‬يستولون بأنانية عىل ما يريدون‪ ،‬ويفعلون ما يرغبون يف فعله‪ ،‬خارقني‬
‫للمعايري واالنتظارات االجتامعية دون أدين إحساس بالذنب أو الندم‪)Durand and Barlow.2004(.‬‬
‫حدد الدليل التشخييص لالضطرابات العقلية ( اإلصدار الرابع ‪ )2004‬املحكات التشخيصية لهذا‬
‫االضطراب عىل النحو التايل‪:‬‬
‫نجد يف هذا النموذج املنترش االزدراء وعدم االعتبار واالستهتار بحقوق اآلخرين وخرقها‪ ،‬وذلك‬
‫منذ عمر ‪ 15‬سنة‪ ،‬وذلك يف ثالث بنود أو أكرث من البنود التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلخفاق يف التناغم والتطابق مع املعايري االجتامعية‪ ،‬وذلك من ناحية السلوكيات القانونية بداللة‬
‫األعامل املتكررة ذات األرضيات القامئة عىل الحجز والتوقيف واالعتقال؛‬
‫‪ -2‬الخداع والتضليل‪ ،‬بداللة الكذب املتكرر واستخدام واستغالل اآلخرين ملنفعة شخصية أو مرسة؛‬
‫‪ -3‬االندفاعية والطيش والعجز عن التخطيط للمستقبل؛‬
‫‪ -4‬قابلية التهيج والعدوان بداللة املشاجرات البدنية املتكررة واالعتداءات؛‬
‫‪ -5‬االستهتار والتفريط بالسالمة الشخصية وبسالمة اآلخرين؛‬

‫‪236‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫‪ -6‬عدم املسؤولية بداللة اإلخفاق املتكرر باالحتفاظ بسلوك العمل املالئم‪ ،‬أو الوفاء بااللتزامات‬
‫املالية؛‬
‫‪ -7‬فقدان الضمري بداللة الالمباالة وتربير اإليذاء‪ ،‬وسوء املعاملة‪ ،‬أو الرسقة من اآلخرين؛‬
‫يكون العمر عىل األقل ‪ 18‬سنة؛‬ ‫أ‪-‬‬
‫ج‪ -‬هناك داللة عىل ظهور اضطراب السلوك فبل عمر ‪ 15‬سنة؛‬
‫د‪ -‬ال يحدث السلوك املضاد للمجتمع خالل سري الفصام أو عارضة الهوس‪.‬‬
‫هذا وقد ضع هار ( ‪ )Hare 2003‬سلام تشخيصيا للشخصية السيكوباتية يتكون من عاملني‬
‫أساسيني هام‪:‬‬
‫العامل األول‪ :‬االبعاد االنفعايل‪ ،‬ويشمل وجهني هام ‪:‬‬ ‫•‬
‫أ‪ -‬الوجه ‪ : 1‬املؤرشات الخاصة بالتالعب باآلخرين‬
‫ب‪ -‬الوجه ‪ : 2‬الخواء العاطفي‬
‫العامل الثاين ‪ :‬اإلنحراف االجتامعي‪ ،‬ويشمل وجهني هام ‪:‬‬ ‫•‬
‫ج‪ -‬الوجه ‪ : 3‬أسلوب الحياة اإلندفاعي و الالمسؤول‬
‫د‪ -‬الوجه ‪ : 4‬السلوكيات املنحرفة‬
‫وعليه اعترب ( ‪ )Hicks et al, 2004‬أنه يوجد منطان من السيكوباتيني‪ :‬النمط االنفعايل املستقر‬
‫الذي يتميز بخصائص العامل األول‪ ،‬والنمط العدواين الذي يتميز بخصائص العامل الثاين وضمن‬
‫التصنيفات التي وضعت للسيكوباتية وأشكالها ‪ ،‬اقرتح (‪ )Hare, 2003‬تصنيفا آخر للسيكوباتية حيث‬
‫قسمها إىل أربعة أمناط وهي‬
‫‪ -1‬السيكوبايت الجذاب‪ :‬يشبه الثعلب‪ ،‬وأهم سامته املكر‪ ،‬ويقوم هذا السيكوبايت بجرائم الياقة‬
‫البيضاء‪.‬‬
‫‪ -2‬السيكوبايت الرشس ‪ :‬يشبه الذئب‪ ،‬وأهم سامته القسوة‪ ،‬ويقوم هذا السيكوبايت بالقتل املتسلسل‪.‬‬
‫‪ -3‬السيكوبايت الطفييل ‪ :‬يشبه الفأر‪ ،‬واهم سامته الطفيلية‪ ،‬ويقوم هذا السيكوبايت عادة بأعامل‬
‫تخريبية و التحرش‪.‬‬
‫‪ -4‬السيكوبايت الغضوب‪ :‬ويشبه الدب‪ ،‬وأهم سامته الفظاظة‪ ،‬ويقوم هذا السيكوبايت بأعامل الصعلكة‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫العالقة بني إجرام الياقة البيضاء والثالثية الكاحلة (الرنجسية ‪ ،‬السيكوباتية ‪،‬‬
‫املكيافيلية)‪:‬‬
‫هناك ترابط وتشابك بني مكونات الثالثية الكاحلة ‪ :‬الرنجسية و السيكوباتية و املكيافيلية‪ ،‬و‬
‫إجرام الياقة البيضاء حيث أن الرباغامتية الألخالقية املكيافيلية و التخذر االنفعايل السيكوبايت يفضيان‬
‫إىل القضاء عىل العجز املسجل يف التحكم االنفعايل لدى الشخصية الرنجسية ‪ ،‬وهو األمر الذي ميكنها‬
‫من التحكم الذايت القوي القرتاف غش مايل عىل نطاق واسع‪ ،‬أو إجرام الياقات البيضاء‪.‬‬
‫أثبتت دراسات أمبريقية ( ‪ )Blickle et al, 2006‬و ( ‪ )Ouimet, 2010‬عن وجود عالقة ارتباطية‬
‫موجبة بني الرنجسية وإجرام الياقة البيضاء‪ ،‬إذ كشفت دراسة (‪ )Blickle et al 2006‬عن وجود ثالثة‬
‫مكونات للشخصية الرنجسية لدى مجرمني بالياقة البيضاء‪ ،‬وهي ‪ ،‬الشعور بعظمة الذات ‪ ،‬والحاجة‬
‫لإلعجاب من قبل اآلخرين‪ ،‬وغياب التعاطف اتجاه اآلخرين ‪ .‬كام أوضحت دراسة (‪Ouimet,‬‬
‫‪ )2010‬عن وجود سامت مشرتكة بني الشخصية الرنجسية و مجرمي الياقة البيضاء‪ ،‬وهي الشعور‬
‫بعظمة الذات‪ ،‬والهوامات املعاودة املنتظمة ذات العالقة باالتصاف بخصوصيات فوق العادة‪ ،‬وغياب‬
‫التعاطف مع اآلخرين‪ ،‬والرغبة يف االنتقام و التعويض‪ .‬كام أفادت دراسة ( ‪ )Eaton, 2006‬بوجود‬
‫قواسم مشرتكة بني هذه الشخصية و إجرام الياقة البيضاء من خالل السامت التالية‪ :‬وجود امليل‬
‫للتعدي عىل حدود ومعايري املجتمع‪ ،‬عدم الرحمة‪ ،‬الرغبة يف االنتقام‪ ،‬استحقاق املعاملة التفاضلية‬
‫الخاصة‪ ،‬بالسامح باإلشباع اآلين للرغبات املستشعرة‪ ،‬املخاطرة الناتجة عن إعطاء األولوية للبحث‬
‫عن تحقيق النتائج املرغوب فيها عىل تجنب النتائج غري املرغوب فيها‪ ،‬ركوب املجازفات الناتجة عن‬
‫االستباق االعتباطي أكرث من املؤسسة عىل املعطيات املثبة بالربهان القاطع‪.‬‬
‫كام دلت دراسة ( ‪ )Ali et al, 2009‬عن وجود ارتباط موجب بني السيكوباتية األولية و الشخصية‬
‫الرنجسية و املكيافيلية ‪.‬وبالعودة إىل التصنيف الرباعي للسيكوباتية‪ ،‬فإن النمط األول لهذه األخرية‬
‫املعروف بالسيكوبايت الجذاب الذي يتميز باملكر‪ ،‬نجده لدى مجرمي بالياقة البيضاء‪ ،‬حيث يلجأ عادة‬
‫هذا النوع من املجرمني إىل استخدام املكر و الحيلة ليك يغالط ويخادع الناس و املؤسسات املستهدفة‬
‫حتى يتمكن من االحتيال عليهم‪ ،‬فهو يستغل اآلخرين بقناع ومظاهر االمتثالية االجتامعية‪ ،‬ويساعده‬
‫يف ذلك االحرتام الذي يتلقاه بفعل مكانته االجتامعية‪ ،‬ودخله املايل‪ ،‬ووظيفته املرموقة ‪ ،‬وهندامه‬
‫الفاخر‪ ،‬ومظهر الخارجي األنيق‪ ،‬وطالقة تعبري اللفظي وغري اللفظي‪ ،‬لذلك يعمل مجرم الياقة البيضاء‬
‫خارج القوانني يف الغالب ‪ ،‬بعيدا عن أي شكوك‪ .‬ويف ذات املنطق‪ ،‬أشار (‪) Gao et Raine, 2010‬‬
‫أن السيكوبايت الجذاب الذي يقرتف الجرائم املالية واالقتصادية‪ ،‬يستطيع التملص من االعتقال بفعل‬
‫اقرتافه لألعامل اإلجرامية‪ ،‬فهو يعد شخصية مضادة للمجتمع‪ ،‬ويف كثري من األحيان يكون أكرث خطورة‬
‫من السيكوبايت النموذجي‪ .‬لذلك يسميه (‪ ) Hall et Benning, 2006‬بالسيكوبايت غري املجرم‪.‬‬
‫يتضح من خالل نتائج هذه الدراسات األمبرييقية والرتاث السيكولوجي ملجال اإلجرام‪ ،‬وجود‬
‫تشابه وتقاطع بني الرنجسية والسيكوباتية واملكيافلية وإجرام الياقات البيضاء‪ ،‬حيث يؤكد بعض‬

‫‪238‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫الباحثني عىل وجود تالزمية مرضية بني الرنجسية والسيكوباتية و املكيافيلية‪ ،‬أو ما اصطلح عىل‬
‫تسميته بالثالثية الكاحلة السوداء ( ‪ . )Dark Triad‬لكن هذا التقاطع الذي يشكل كوكبة من‬
‫السامت والخصائص املعرفية و االنفعالية و السلوكية غري كاف لإلقدام عىل الفعل اإلجرامي املايل‬
‫االقتصادي ‪ ،‬دون تضافر العوامل املوضوعية والذاتية املذكورة سالفا يف حدوث هذا النوع من اإلجرام‪.‬‬

‫ملمح شخصية مجرمي الياقة البيضاء‬


‫عىل ضوء ما سبق من نتائج الدراسات اإلمبرييقية والرتاث السيكولوجي ملجال باثولوجيا اإلجرام‪،‬‬
‫فإنه ميكن أن نرسم و لو بشكل افرتايض بعض الخصائص والسامت و العوامل التي تشكل يف مجملها‬
‫ملمحا لشخصية مجرم الياقة البيضاء‪:‬‬
‫‪ -1‬الخصائص الدميوغرافية‪:‬‬
‫السن ‪ :‬أكرب سنا من مجرم الشارع ‪ ،‬لكن غالبا ما يكون أقل من خمسني سنة‬ ‫•‬
‫الجنس ‪ :‬ذكرا يف الغالب‬ ‫•‬
‫املستوى التعليمي ‪ :‬جامعي‬ ‫•‬
‫‪ -2‬الخصائص الشخصية ‪:‬‬
‫الشخصية الرنجسية‬ ‫•‬
‫•الشخصية السيكوباتية‬
‫‪ -3‬خصائص ذاتية أخرى ‪:‬‬
‫املكيافيلية‬ ‫•‬
‫ضعف التحكم الذايت‬ ‫•‬
‫االنخراط يف املتعية‬ ‫•‬
‫الرغبة امللحة يف مامرسة التحكم‬ ‫•‬
‫درجات عالية يف سامت العصابية واالنبساطية ‪ ،‬والعاطفة السلبية‬ ‫•‬
‫‪ -4‬خصائص املؤسسة ‪:‬‬
‫الهرمية التنظيمية ‪ :‬الوظائف املرموقة ‪ ،‬الكوادر السامية‬ ‫•‬
‫حجم املؤسسة ‪ :‬املؤسسات الكبرية يف الغالب‬ ‫•‬
‫الثقافة التنظيمية ‪ :‬ضعف الثقافة التنظيمية‬ ‫•‬
‫الصحة املالية ‪ :‬البحبوحة املالية‬ ‫•‬
‫‪239‬‬
‫‪ -5‬الخصائص االجتامعية و الثقافية ‪:‬‬
‫الفردانية‬ ‫•‬
‫قيم الربح الرسيع‬ ‫•‬
‫قيم النجاح املادي‬ ‫•‬
‫ثقافة االستهالك و املتعية‬ ‫•‬
‫حالة الالمعيارية‬ ‫•‬
‫هذه جملة من الخصائص والعوامل التي تشكل يف مضمونها ملمحا لشخصية املجرم بالياقة‬
‫البيضاء‪ ،‬وكذلك عوامل سببية لحدوث هذه الظاهرة يف إطار املجتمعات الغربية‪ ،‬خاصة املجتمع‬
‫األمرييك‪.‬‬
‫املسعى الوقايئ و تحديد ملمح شخصية املجرم ضمن السياق الجزائري‪:‬‬
‫يتطلب هذا املسعى الوقايئ يف أحد أبعاده‪ ،‬وبالضبط البعد النفيس االجتامعي‪ ،‬تحديد ملمح‬
‫شخصية مجرم الياقة البيضاء يف الجزائر‪ ،‬حيث ميكن من خالل هذا التحديد التعرف عىل الكثري من‬
‫عوامل سببية اإلجرام املايل االقتصادي ودوافعه و سياقاته‪ ،‬ويشمل هذا التحديد العوامل من حيث‬
‫النوعية ‪ :‬كالعوامل النفسية املعرفية السلوكية‪ ،‬والعوامل التنظيمية‪ ،‬والعوامل االجتامعية الثقافية‬
‫وغريها‪.‬‬
‫العوامل من حيث طريقة تأثريها ‪ :‬كالعوامل املهيئة‪ ،‬والعوامل الضابطة‪ ،‬والعوامل املفجرة‪ ،‬و‬
‫العوامل املدعمة‪.‬‬
‫إذا تناولنا هذا النوع من اإلجرام يف الجزائر بالدراسة‪ ،‬نكاد ال نعرث عن أي بحث إمربيقي تناول‬
‫هذه اإلشكالية من منظور الباثولوجية النفسية لإلجرام ‪ ،‬بحيث ميدنا مبعطيات علمية تساعدنا عىل‬
‫فهم هذه الشخصية وسامتها املرضية ودوافعها الخفية واملعلنة القرتاف هذا النوع من اإلجرام وفق‬
‫السياق الثقايف للمجتمع الجزائري‪ .‬هذا وميكن أن نفرس مثل هذه الندرة أو اإلحجام عن دراسة مثل‬
‫هذه اإلشكالية يف الجزائر بوجود صعوبات موضوعية وأخرى منهجية‪ ،‬لكن هذه الصعوبات ميكن‬
‫تجاوزها إلنجاز هذا العمل البحثي الذي من شأنه املساهمة يف وضع اسرتاتيجية شاملة متكاملة‬
‫للقضاء عىل هذه الظاهرة‪.‬‬
‫صعوبات الدراسة اإلمبرييقية إلجرام الياقة البيضاء‪:‬‬
‫ميكن تصنيف هذه الصعوبات يف نوعني أساسيني هام ‪:‬‬
‫أ – الصعوبات املوضوعية ‪ :‬تتمثل أساسا يف عدم توفر عينة البحث املتشكلة من املدراء و الكوادر‬
‫السامية التي تم الحكم عليهم و أدينوا يف قضايا الجرائم االقتصادية‪ ،‬وإيجاد اإلطار املناسب إلجراء‬
‫هذا النوع من البحوث‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

‫ب – الصعوبات املنهجية ‪ :‬تتمثل يف صعوبة الحصول عىل معطيات و معلومات ذات مصداقية من‬
‫هذا النوع من العينة ‪ ،‬ألسباب تتعلق مبا ييل‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬حساسية املوضوع املرتبطة باعتبار الذات واملقبولية االجتامعية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الخصائص النفسية واملعرفية ألفراد العينة الذين يتصفون بالكثري من سامت الشخصية‬
‫الرنجسية و السيكوباتية ‪ ،‬وتحديدا القدرة عىل التضليل والتالعب والكذب‪.‬‬
‫بعض املوجهات العملية لتجاوز الصعوبات املوضوعية و املنهجية‪:‬‬ ‫•‬
‫أ‪ -‬الصعوبات املوضوعية ‪ :‬ميكن لألخصائيني العاملني داخل املؤسسات العقابية ومراكز إعادة الرتبية‬
‫من استغالل تواجد هذه الفئة يف هذه املؤسسات إلجراء بحوث إمبرييقية علمية ‪ ،‬توفر لنا الكثري‬
‫من املعطيات العلمية لفهم هذه الشخصية‪ ،‬وبصورة اشمل اإلجرام‪ ،‬ملساعدة هؤالء نفسيا لفهم‬
‫ذواتهم وإعادة تأهيلهم مجددا لالندماج االجتامعي‪ ،‬مثلام تساعد نتائج هذه الدراسات يف وضع‬
‫وتصميم اسرتاتجية متكاملة بنائية‪ ،‬وقائية للقضاء عىل هذا النوع من اإلجرام الذي ميس متاسك‬
‫النسيج اإلجتامعي وغياب الثقة بني مؤسسات املتجمع واملواطنني‪.‬‬
‫ب‪ -‬الصعوبات املنهجية ‪ :‬إذا تناولنا إشكالية دراسة إجرام الياقة البيضاء و تجاوز صعوباتها املنهجية‬
‫قصد الحصول عىل معطيات ذات مصداقية من أفراد العينة‪ ،‬فإن هذه املسألة تطرح دوما يف‬
‫التعامل مع الشخصية الرنجسية والسيكوباتية‪ ،‬بسبب لجوئها للكذب والتمويه والتالعب كإسرتاتجية‬
‫أساسية يف التفاعل مع اآلخرين‪ ،‬خاصة وأن أدوات البحث تعتمد بالدرجة األوىل عىل االختبارات‬
‫املوضوعية‪ .‬ولتجاوز مثل هذه العوائق‪ ،‬ميكن تقديم االقرتاحات التالية ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬ينبغي يف املقام األول‪ ،‬أن تتم الدراسة يف إطار تكفل نفيس داخل املؤسسة العقابية‬
‫ويرشف عىل هذه الدراسة مختصون نفسانيون وباحثون يف باثولوجية اإلجرام متمرسون (تكوين‬
‫خاص)‪ .‬وال يتم هذا البحث و الخربة السيكولوجية ‪ ،‬دون إقامة «عالقة عالجية و بحثية « ‪ ،‬إن صح‬
‫التعبري ‪،‬مهام كانت صعوبات تحقيق ذلك مع هذا النوع من أفراد العينة‪ .‬إذ من الرضوري وجود‬
‫حد أدىن من مستوى الثقة واالحرتام والقبول والتفهم املتبادل بني الباحث و املبحوث‪ ،‬ما يسمح‬
‫لهذا األخري أن يبدي نوعا من التعاون‪ ،‬ويكون عىل استعداد اإلدالء مبعلومات صحيحة عن حالته و‬
‫شخصيته و الكثري من املعطيات الحميمية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ميكن االستعانة بأدوات تقدير إضافية ‪ ،‬مكملة لالختبارات املوضوعية ‪ ،‬وفق ما اقرتحه‬
‫تارديف ( ‪ )Tardiff.2000‬الذي يؤكد عىل رضورة استخدام اختبارات مخربية فيزيولوجية‪ ،‬وتحديدا (‬
‫‪ )IRM‬تصوير الرنني املغناطييس الذي يفرتض أن يستعمل بانتظام يف تقدير مخاطر املجرمني‪ ،‬للكشف‬
‫عن باثولوجية الفص الصدغي‪.‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬ولتجاوز التمويه والتالعب‪ ،‬توجد تقنيات أقل حساسية ملثل هذه‬
‫السلوكيات املضللة التي غالبا ما تالحظ عىل هذا النوع من الشخصية‪ ،‬وهي ما تسمي باالختبارات غري‬

‫‪241‬‬
‫املبارشة التي تعرف تطورا ملحوظا منذ التسعينيات‪ )Kop et Chassard . 2005( ،‬حيث يفرتض أن‬
‫استقاللية تصميمها وتطبيقها عن اإلرادة الواعية لدى األفراد يف التحكم يف أجوبتهم ‪،‬رغم أنها تطرح‬
‫بعض اإلشكاالت العلمية واألخالقية‪ .‬هذه املقاييس غري املبارشة تقوم عىل براديغامت كالسيكية لعلم‬
‫النفس املعريف‪ ،‬وتحديدا الرباديغم القائل بأن املدخل العاطفي (‪)amorçage affectif‬بعد التكييف‪،‬‬
‫يتحول إىل مدخل لفظي (‪ . )amorçage sémantique‬ومن هذه املقاييس عىل سبيل املثال ‪:‬اختبار‬
‫التداعيات الضمنية ( ‪ ،)Greenwald et al .1998 ( )IAT‬واختبار العاطفة الخارجي( ‪( )EAST‬‬
‫‪،)Houwer .2003‬اختبار السيكوباتية ( ‪in Bourgeois()Gray et al 2003 ( )PSYCHOPATHY‬‬
‫‪)et Bénézech, 2001‬‬
‫وعليه‪ ،‬ميكن االستعانة بهذه املقاييس‪ ،‬كأدوات مكملة لبقية االختبارات واألساليب التقديرية‬
‫ضمن إسرتاتجية متكاملة ومتناسقة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬ميكن تفادي الوقوع يف مشكلة قلة مصداقية املعطيات املتحصل عليها من املبحوثني‪،‬‬
‫باللجوء إىل مصادر متعددة للحصول عىل معلومات هامة عن تاريخ الحالة‪ ،‬وكل املؤرشات الدالة عىل‬
‫مرضيتها وخطورتها‪ ،‬وهنا ميكن استقاء هذه املعلومات من ‪:‬‬
‫املبحوث ذاته؛واملقربني من املبحوث (العائلة‪ ،‬األصدقاء‪ ،‬الزمالء‪)... ،‬؛وسجالت املصالح اإلدارية‬
‫للمؤسسات‪ ،‬وسجالت مصالح األمن والعدالة‪.‬‬
‫هذا و يقرتح ( ‪ )Lincoln et Guba, 1985‬سبع تقنيات تسمح للباحث من مضاعفة مصداقية‬
‫املعطيات التي يتحصل عليها وهي عىل النحو التايل ‪:‬‬
‫الغمر و انغامس الباحث يف الوسط املستضيف للبحث ( املؤسسة العقابية‪ ،‬فليس أفضل من‬ ‫•‬
‫األخصائيني العاملني يف هذه املؤسسة إلنجاز هذه الدراسة )‬
‫•‬
‫املالحظة الدقيقة الثاقبة للظواهر‬
‫•تعزيز الثالثية املتمثلة يف مصادر املعلومات بتنويعها‪ ،‬الباحثون بتعددهم‪ ،‬واألساليب البحثية‬
‫بتنوعها‪.‬‬
‫التحقق املتكرر من صدقية الفرضيات‬ ‫•‬
‫•اتساق املعطيات املنتقاة يف الغالب مع معطيات و أحكام علمية أخرى‬
‫•تأكيد املشاركني يف الدراسة من دقة املعلومات التي أدلوا بها‬
‫•الرؤية النقدية للزمالء الباحثني‬
‫باملحصلة فإن تحديد ملمح شخصية مجرم الياقة البيضاء يف الجزائر يشكل خطوة هامة نحو‬
‫القضاء عىل هذا الشكل من اإلجرام‪ ،‬أو التقليل من نسبة تواتره وانتشاره‪ ،‬ذلك أن نتائج هذه‬
‫الدراسات ستمد‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬املرشفني عن عملية االنتقاء والتوظيف يف املناصب اإلدارية التسيريية‬
‫‪242‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬
‫واملالية‪ ،‬من وضع روائز واختبارات سيكولوجية فنية تسمح لهم بتحديد هذا النوع من الشخصية‪،‬‬
‫إلبعادهم من تسلم مقاليد هذه املسؤوليات ‪.‬وعليه تهدف عملية التقدير يف هذا املجال إىل الكشف‬
‫وتشخيص هذا النوع من الشخصية والتنبؤ العلمي مبخاطر ارتكابها لإلجرام املايل االقتصادي‪ .‬لكن‬
‫هذه العملية ليس من السهولة مبكان تجسيدها بطريقة موضوعية ودقيقة‪ .‬ذلك ألن مخاطر ارتكاب‬
‫جرمية الياقة البيضاء يبقى مفهوما احتامليا تنبئيا يستند إىل بعض املؤرشات التي ميكن أن تستخدمها‬
‫املقاييس املقننة وغري املقننة لهذا الغرض‪ ،‬كتغريات السن والجنس‪ ،‬واالضطرابات الشخصية وأسلوب‬
‫الحياة (خاصة الرنجسية والسيكوباتية) وغريها من املؤرشات واألبعاد‪ .‬كام أن نتائج التقدير يرتتب‬
‫عنها مسئوليات يف االنتقاء والتوظيف‪ .‬لهذه األسباب وتلك‪ ،‬ال ميكن االكتفاء باألساليب الكالسيكية يف‬
‫االنتقاء والتوظيف أو االستخدام املترسع لهذه االختبارات التي ميكن أن تفيض إىل إعطاء معلومات‬
‫غري دقيقة ال تسمح بتقديم خربة نفسية وإقرار توقعات للسلوكيات االنحرافية اإلجرامية‪ .‬ومع كل ما‬
‫عرفته أدوات التقدير والقياس من تقنني وتطور‪ ،‬فإن نتائجها تبقى نتائجها نسبية تحتاج إىل رشوط‬
‫معينة لضامن صدقية هذه النتائج وإعطاء تشخيص وتنبؤ‪ ،‬وهو األمر الذي يتطلب دراسات امربيقية‬
‫معمقة يف الجزائر حول هذه الشخصية و هذا النوع من اإلجرام‪.‬‬
‫ومن جانب آخر‪ ،‬يعد املسعى الوقايئ غري كاف يف مثل هذه القضايا حتى ولو أخذ عدة مسارات‬
‫و أبعاد‪ ،‬وإمنا ينبغي احتضانه من قبل ما ميكن تسميته باملسعى البنايئ والناميئ حيث تعطى األولوية‬
‫للتكوين والرتبية والتنمية البرشية عىل املدى البعيد‬
‫املسعى البنايئ ‪ :‬تكوين الكوادر و تحصني القيم اإلنتامئية‪:‬‬
‫أشار (‪ ) Feldman 2005, Ferraro et al, 2005‬أن إجرام الياقة البيضاء يف الواليات‬
‫املتحدة االمريكية يرتبط يف الغالب باألفراد الذين تابعوا تعليام جامعيا يف تخصص علوم التسيري‪،‬‬
‫وقد فرسوا هذا االنحراف املايل التنظيمي بكون أن مناهج التعليم يف مدارس التجارة و التسيري تركز‬
‫عىل النظريات االقتصادية و التجارية و التسيري ‪ ،‬بعيد عن أي توجه أخالقي أو خالية من أي اعتبارات‬
‫أخالقية قيمية ‪ .‬كام ميكن أن نعترب أن القيم السائدة يف ذات املجتمع من الفردانية‪ ،‬و إيديولوجيا‬
‫النجاح املادي الفردي ‪،‬وثقافة االستهالك ‪،‬هي األخرى عوامل مساعدة عىل دفع الكثري من املسريين إىل‬
‫اقرتاف هذا النوع من الجرائم ‪ ،‬ذلك أن النسق املكرب مبا يحتويه من قيم وأيديولوجيا و عنارص ثقافية‬
‫‪ ،‬تشكل عوامل مهيئة و مفجرة لالنحراف التنظيمي ‪ ،‬ويف حالة توفر العوامل الشخصية ( الرنجسية‬
‫والسيكوباتية ) وعوامل ذات الصلة باملؤسسة‪ ،‬فإن الكادر ال ينفلت من حتمية هذه السببية املرضية‬
‫اإلجرامية ‪ ،‬ليجد نفسه متورطا يف مثل هذه الجرائم‪.‬‬
‫ونعني يف هذا السياق تحديدا العنرصين الثقافيني التاليني‪:‬‬
‫أ‪ -‬إيديولوجية النجاح املادي الفردي ‪:‬تتمثل يف مبدأ الفردانية‪ ،‬والنجاح املادي الفردي حيث تقدر‬
‫قيمة اإلنسان مبا يكسبه ‪ ،‬و برصيده املايل‪ ،‬وميثل النجاح املادي قيمة وجودية أساسية‪ ،‬تدفع بالكثري‬
‫إىل التخيل عن قيم النزاهة و االستقامة مقابل تحقيق هذا النجاح املادي‪ .‬فليس هناك إشباع غري‬
‫إشباع املادي املايل‪ ،‬فالفرد الذي ال يحقق ذلك‪،‬يحكم عىل نفسه بالفشل يف الحياة‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫ب‪-‬ثقافة االستهالك ‪:‬تتمثل يف مبدأ الالستهالك لكل السلع و املواد عىل اعتبار أن االستهالك هو القوة‬
‫املحركة للنمو االقتصادي‪،‬و تقوم ثقافة االستهالك عىل مبدأ املتعية الراهنة وتحقيق اللذة اآلنية‪،‬‬
‫وما يرتبط بذلك من محاولة االنغامس يف الرفاهية املفرطة كأسلوب حياة‪ ،‬ما يفيض إىل البحث عن‬
‫الربح الرسيع دون الجهد أو دون مراعاة الضوابط القانونية‪ .‬إن هذه الحالة تجعل من الحياة مجرد‬
‫البحث عن إشباع للحاجات األولية من غذاء وملذات آنية بكل الوسائل املرشوعة و غري املرشوعة‪.‬‬
‫وإذا تناولنا مسألة تحصني الكوادر الجزائرية ضد إجرام الياقة البيضاء و الفساد املايل‪ ،‬فالواقع‬
‫أن هناك جهود يبذلها األساتذة يف هذا املسعى بطريقة جادة أثناء الدروس و املحارضات‪ ،‬لكنها‬
‫أقرب إىل العفوية و األبوية منها إىل التكوين املنظم الهادف‪ .‬ومع ذلك فهي جهود ينبغي تثمينها‬
‫مهام كانت الطريقة البيداغوجية املتبعة‪ ،‬ملا تبثه من قيم النزاهة و االستقامة و األمانة‪ ،‬و االلتزام يف‬
‫مامرسة الوظائف اإلدارية السامية‪ ،‬حيث اإلغراءات املالية واملسؤوليات جد ضاغطة‪.‬إذ ميكن ملثل هذا‬
‫املدارس العليا للتسيري والتجارة أن تخصص ضمن مناهجها التعليمية ‪ ،‬بعض من الوحدات ذات الصلة‬
‫بالتوجه البنايئ للطلبة ملواجهة الفساد املايل‪ ،‬كوحدة أخالقيات وظيفة املسري والكادر‪ ،‬و وحدة مواجهة‬
‫الضغوط التنظيمية‪ .‬كإجراء قريب املدى يف العملية الرتبوية البنائية التحصينية ضد هذه الظاهرة‪.‬‬
‫من املؤكد‪ ،‬من منظور آخر‪ ،‬أن التكوين البنايئ البعيد املدى هو األكرث فاعلية إزاء هذه الظاهرة‬
‫حيث ميكن التحدث عن الرتبية القيمية واالنتامئية والتنمية البرشية املمتدتني عرب كل مراحل‬
‫املسارين التعليمي و الحيايت‪ ،‬وهنا تجدر اإلشارة إىل أن املسألة تتعلق بثقافة املجتمع ككل حيث‬
‫يف زمن العوملة بدأت الكثري من قيمها السلبية‪ ،‬منها الفردانية وايديولوجيا النجاح املادي الفردي‬
‫‪ ،‬وثقافة االستهالك تأخذ مكانا ضمن النسق القيمي للمجتمع الجزائري‪ ،‬مزيحة بذلك الكثري من‬
‫القيم املحلية األصيلة‪،‬وهي القيم مشجعة عىل الفساد املايل و االنحراف التنظيمي‪ ،‬وإجرام الياقة‬
‫البيضاء‪ ،‬حيث يشري مصطفى حجازي ( ‪ )2010‬إىل أن التقارير الرتبوية الخاصة بالقرن ‪ 21‬تذهب‬
‫إىل أن معركة القيم ستكون يف مكان متقدم من أولوياتها‪ ،‬وتجعل العوملة هذه املعركة واإلعداد لها‬
‫أكرث إلحاحا للعديد من األسباب‪ .‬فهناك األوجه املظلمة للعوملة التي يتعني تحصني األجيال الطالعة‬
‫ضد آثارها‪ ،‬ومن أبرزها التلوث السلويك‪ ،‬مام يتمثل بالفساد والرشوات والسمرسات والصفقات املالية‬
‫املغامرة التي تدفع شعوب بأكملها فواتريها من مدخراتها و رزقها و عرقها‪ ،‬ويضاف إىل ذلك استفحال‬
‫املافيات الدولية التي أصبحت خارج السيطرة‪..‬ألنها عالية التنظيم‪ ،‬قادرة أن تلتف عىل الرقابة و‬
‫القوانني‪ ،‬ومتتلك جيوشها وخرباءها‪ ،‬وتوظف و تستدرج مجموعة من كبار املسؤولني الرسميني ممن‬
‫يفرتض بهم محاربتها‪..‬وهو األمر الذي تعني تحصني األجيال الطالعة ضد آثارها الفتاكة‪ ،‬من خالل‬
‫التزود بنظام قيم سلويك متني” ‪.‬وعليه يدعو مصطفى حجازي (‪)2010‬إىل ما أسامه بالحصانة الوطنية‬
‫التي تشكل الرشط الضامن لدميومة النمو و االرتقاء‪ ،‬و يف ذات الوقت مواجهة سلبيات قيم العوملة‬
‫حيث يؤكد عىل الرضورة امللحة إلعطاء بناء الهوية واالنتامء املتينني األولوية امللحة يف مرشوعي‬
‫التنشئة املستقبلية أو التنمية البرشية املستدمية ‪ ،‬ويتم ذلك بتفعيل املقومات التاريخية و الجغرافية‬
‫و الثقافية ‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫جرائم الياقات البيضاء االقتصادية‬

: ‫املراجع‬
.‫ لبنان‬،‫ بريوت‬،‫ دار الكتاب العريب‬،‫ علم النفس والعوملة‬،2010 ،‫مصطفى حجازي‬1 .1
2. Blickle, G., Schlegel, A., Fassbender, P., Klein, U., 2006. Some personality
correlates of business white-collar crime. Applied Psychology: An International
Review 55 (2), 220–233
3. Bourgeois M.L, Bénézech M (2001) : Dangerosité criminologique, psychopatho-
logie et co-morbidité psychiatrique. Annales médico-psychologiques 159 (2001)
475486-.
4.
5. Collins, J.M., Schmidt, F.L., 1993. Personality, integrity, and white-collar crime: a
construct validity study. Personnel Psychology 46 (2), 295–311.
6. Cullen, F.T., Hartman, J.L., Jonson, C.L., 2009. Bad guys: why the public supports
punishing white-collar offenders. Crime, Lawand Social Change 51 (1), 31–44.
7. Dhami, M.K., 2007. White-collar prisoners’ perceptions of audience reaction. De�-
viant Behavior 28 (1), 57–77.
8. Durand, D.H. Barlow : Psychopathologie, une perspective multidimensionnelle.
Trad : M.Gottschalk. De boeck.Bruwelles.(2002).
9. Eaton, J., Struthers, C.W., Santelli, A.G., 2006. Dispositional and state forgiveness:
the role of self-esteem, need for structure, and narcissism. Personality and Individual
Differences 41 (2), 371–380.
10. Feldman, D.C., 2005. The food’s no good and they don’t give you enough:
reflections on Mintzberg’s critique of MBA education. Academy of Management
Learning and Education 4 (2), 217–220.
11. Fleming, P., Zyglidopoulos, S.C., 2008. The escalation of deception in organizations.
Journal of Business Ethics 81 (4), 837–850.
12. Friedrichs, D.O., 2007. Trusted Criminals. White Collar Crime in Contemporary
Society, 3rd ed. Thomson Wadsworth, Belmont,CA.
13. Gao, Y., Raine, A., 2010. Successful and unsuccessful psychopaths: a
neurobiological model. Behavioral Sciences and the Law 28
14. (2), 194–210.
15. Guba, E.G., 1981. Criteria for assessing the thruthworthisness of naturalistic
inquiries. Education, Communication andTechnology 29 (2), 75–91.
16. Gunderson, k.APhilips :A current view of the interface between borderline
personality disorder and depression.Am J Psychiatry.148(1981), 967–975.
17. Hare, R.D., Neumann, C.S., 2006. The PCL-R assessment of psychopathy:
development, structural properties, and new directions.
18. In: Patrick, C.J. (Ed.), Handbook of Psychopathy. The Guilford Press, New York,
pp. 58–88.
19. Heimer, K., 2000. Changes in the gender gap in crime and women’s economic
marginalization. In: LaFree, G. (Ed.),Criminal justice 2000: the nature of crime,
continuity and change (vol. 1). National Institute of Justice, Washington,
20. DC, pp. 1–57.
21. Holtfreter, K., Van Slyke, S., Bratton, J., Gertz, M., 2008. Public perceptions of
white-collar crime and punishment. Journal of Criminal Justice 36 (1), 50–60.

245
22. Holtfreter, K., 2005. Is occupational fraud “typical” white-collar crime? A
comparison of individual and organizational characteristics. Journal of Criminal
Justice 33 (4), 353–365.
23. Horowitz, M., 2009. Clinical phenomenology of narcissistic pathology. Psychiatric
Annals 39 (3), 124–128.
24. Kop J , Chassard D(2005) : La falsification des réponses dans l’évaluation de la
personnalité : une solution du côté des mesures indirectes ?   Psychologie du Tra-
vail et des Organisations, Volume 11, Issue 1, March 2005 : 15-23
25. Niehoff, J.T., 2003. Protecting against fraud: taking steps to prevent and detect
fraud can improve the bottom line of any firm. Legal Business 136, 16.
26. Ouimet, G., 2009. Psychologie du criminel en col blanc : à la recherche de sa per-
sonnalité. Psychologie du Travail et des Organisations 15 (3), 297–320.
27. Ouimet, G., 2009. Psychologie et gestion de la contestation pathologique de l’auto-
rité. Cahier de recherche,HECMontréal, no 09-05:18 pages.
28. Ouimet, G., 2010. ‫ة‬tiopathogénie du crime en col blanc : une étude de cas explora-
toire. Pratiques Psychologiques 16 (4), 337–357.
29. Pearce, F., 2001. Crime and capitalist business corporations. In: Shover, N., Wright,
J.P. (Eds.), Crimes of privilege:readings in white-collar crime. Oxford University
Press, Oxford, UK, pp. 35–48.
30. Piquero, N.L., Benson, M.L., 2004. White-collar crime and criminal careers:
specifying a trajectory a punctuated situationaloffending. Journal of Contemporary
Criminal Justice 20 (2), 148–165.
31. Piquero, N.L., Exum, M.L., Simpson, S.S., 2005. Integrating the desire for control
and rational choice in a corporate crime context. Justice Quarterly 22 (2), 252–280.
32. Piquero, N.L., Piquero, A.R., 2001. Characteristics and sources of white-collar
crime. In: Shover, N., Wright, J.P. (Eds.), Crimes of privilege: readings in white-
collar crime. Oxford University Press, Oxford, UK, pp. 329–341.
33. Schnatterly, K., 2003. Increasing firm value through detection and prevention of
white-collar crime. Strategic Management Journal 24 (7), 597–614.
34. Schoepfer, A., Piquero, N.L., 2006. Exploring white-collar crime and the American
dream: a partial test of institutional anomie theory. Journal of Criminal Justice 34
(3), 227–235.
35. Simpson, S.S., 2002. Corporate crime, law, and social control. Cambridge
University Press, Cambridge, UK.
36. Zahra, S.A., Priem, R.L., Rasheed, A.A., 2007. Understanding the causes and
effects of top management fraud. Organizational Dynamics 36 (2), 122–139.
37. Whan, J., 2003. Sex differences in competitive and compliant unethicalwork
behavior. Journal of Business and Psychology 18 (1), 121–128.

246

You might also like