Professional Documents
Culture Documents
رسالة في النـزعة الإنسانية ـ مارتن هايدغـر ـ ترجمة
رسالة في النـزعة الإنسانية ـ مارتن هايدغـر ـ ترجمة
إننا ال نفكر بعد في ماهية الممارسة بشــكل حاســم ،لــذا فنحن ال ننظــر إليهــا إال باعتبارهــا نتــاج أثــر تكمن حقيقتــه
الثمينةـ في ما يسديه من خدمات وصالحيات .هذا في حين أن ماهية الممارسة تكمن في اإلنجاز ،واإلنجاز معنــاه:
بسط شيء ما في تمام ماهيته ،وبلوغ ذلك التمام ،بحيث يكون اإلنجاز هو اإلنتاج بمعناه األصيل.
ال يمكننا إذن أن ننجز على الوجه الصحيح إال ما "يوجد" مسبقا .والحال أن مـا "يوجـد" مسـبقا هــو الوجـود .وإذا
كانت مهمة الفكر هي أن ينجز العالقة التي للوجود بماهية اإلنسان ،فإن هــذه العالقــة ال تنتجـ أبــدا عنــه وال تشــكل
من طرفه ،بل إن الفكر ال يعمل سوى على عرضها عن الوجـود باعتبار مــا من الوجــود يعــود على الفكــر نفســه.
هــذا العـــرض يكمن فيمــا يلي :في الفكــر على الوجــود أن يــأتي إلى اللغــة .واللغــة هي مـــأوى الوجــود ،حيث يقيم
اإلنسان .المفكرون والشعراء هم أولئــك الـــذين يســهرون ويحرســون على هــذا المــأوى .حراســتهم وعنــايتهم همــا
اإلنجاز التام لتجلي الوجود ،إذ من خالل قولهم وبه يحملون إلى اللغة ذلك التجلـــي ويحتفظــون بــه هنــاك .والفكــر
قبل كل شيء لم يرق إلى مرتبة الفعل لمجرد أن أثرا ما قــد نجم عنــه ،أو أنــه قابــل ألن يطبــق على… أو يوظــف
في… إن الفكر يتصرف ويمارس بقدر ما يفكر .هذه الممارسة مــا دامت تخص العـــالقة الــتي للوجــود باإلنســان،
فهي على أعظم تقدير األكثر بساطة .لكنها ولنفس السبب األكثر رفعة في نفس الوقت .وعليه فإن كل فعاليــة إنـــما
تستقر في الوجود لتتجه من ثم صوب الموجود.
بيد أن الفكر على العكس من ذلك يطاوع دعوة الوجود ونشدانه له ليقول حقيقته .إنه ينجـز هذه العفوية في التفكير
في الوجود والتخلي عن الموجود .فــالتفكير هــو تـــهيؤ الوجــود لقــول الوجــود ذاتــه .ال أعــرف مــا إذا كــانت اللغــة
تستطيع أن تجمع بين هذه الثنائيــة" :من" و"ل" في عبــارة واحــدة كهــذه" :الفكــر هــو تجنيــد الوجــود" .إن صــيغة
اإلضافة هنا "تجنيد الوجود" يجب أن تعبر عن كون المضاف إليه ،هو في نفس الوقت الذاتي والموضوعي معــا.
(الفاعــل والمفعـــول) .لكن مصــطلحي "الــذات" و"الموضــوع" (الفاعــل والمفعــول) همــا بالمقابــل مصــطلحان
ميتافزيقيان غير بريئين ،بقدر عدم براءة هذه الميتافزيقا التي استحوذت باكرا في شـكل الــ "منطـق" والــ "نحـو"
الغربيين على تأويل اللغة .إن ما يختفي في حدث من هذا القبيل ،ال يمكننا أن نتبينه اليوم إال بمشقة النفس .كمــا أن
تحرير اللغة من قيود النحو لصالح تـمفصل أكثر أصــالة بين عناصــرها ،يظــل رهينــا بــالفكر وبالشــعر .إن الفكــر
أدرك باعتبــاره واقــع الحـال الــراهن .بــل إنــه تجنيــد من
ليس فقط تجنيـدا في الفعل ألجل الموجود ومن طرفه وقد ِ
طرف حقيقة الوجود لصالح هذه الحقيقة .هذا الوجود الذي لم ولن يكتمل تاريخه أبــدا ،وإنمــا يظــل دائمــا في حالــة
ترقب وانتظار لطور االكتمال .إن تاريخ الوجود هذا هو الذي يتحمل ويحدد كـل ظرف وشرط إنساني .فــإذا كــان
علينا بادي ذي بدء أن نتعلم كيــف نختــبر بصـفاء ماهيـة الفكـر هــذه الـتي نتحـدث عنهـا ،الشـيء الــذي يعـود على
إنجازها ،فإن هذا يقتضي منا أن نتحرر من التأويل التقني للفكر الذي ترجـع أصــوله إلى أفالطــون وأرســطو .في
ذلك العصر كان الفكر نفسه ذا قيمة تخنية (نسبة إلى تخــني .) t c n h :لقــد كــان ســيرورة من الفكــر في خدمــة
العمل واإلنتاج .لكن الفكر قد تم تمثله آنذاك من وجهة نظر البراكسيس (( ) p r a x i Vالممارسة) والبويسيس
(الشعر بمعناه األصلي .) p r a x i V ( :ولهذا فالفكر إذا ما نظرنا إليه في ذاته ليس ممارسة .هذه الكيفيــة في
النظر إلى الفكر باعتباره "نظرية" (تيوريا ـ ،) q e w r i cوهذا التحديدـ للمعرفة باعتبارها "موقفا نظريــا"،
حدثا مسبقا في قلب وبداخل تأويل تقني للفكر .إنـها محاولة رجعية وردة فعل استهدفت الحفاظ على ما تبقى للفكــر
من اســتقاللية في مواجهــة الممارســة والعمــل .ومنــذ ذلــك الحين و"الفلســفة" في نـــزاع دائم مــع ضــرورة تــبرير
وجودها أمام الـ"علوم" .ولقد ارتأت أن النجاح المؤكد في هذه المهمة هـو أن تــرتقي بنفســها إلى مرتبـة العلم .لكن
هذا المجهود كان في حقيقة األمر هو التخلي الفعلي عن ماهية الفكر .لقد بات يالحقها الخـوف من ضــياع مكانتهــا
وصالحيتها إذا هي لم تصر علما .إننا نقف هنا على ما يشبه نقصا يناط بما ليس ـ علمويــا .هكــذا تم تــرك الوجــود
من حيث هو عنصر الفكر تحت رحمة التأويل الذي أصبح معموال بــه منـذ عصـر السفسـطائيين وأفالطــون .ومن
ثمة أصبحنا نحكم على الفكر حسب قياس ليس من طينته .هذه الكيفية في الحكم تشبه إلى حــد بعيــد،ـ تلــك الطريقــة
التـي تروم التعرف على ماهية األسماك وأصولـها من خالل القــدرة الــتي لـــها على العيش في اليابســة .وقــد أبــان
الفكر عن فشله في اليابسة هذه منذ زمن بعيدـ وبعيد جدا .فهل يجوز لنا اآلن أن ننعث هذا المجهود الذي يسعى إلى
إرجاع الفكر إلى عنصره ،بكونه "نـزعة العقالنية"؟
إن األسئلة الواردة في رسالتكم تتضح بيسر أكبر من خالل الحوار المباشر .أمــا في حالــة الكتابــة فــإن الفكــر يفقــد
بسهولة حافزه .لكنه ال يستطيع على وجه الخصوص الحفاظ على األبعاد الخاصة بمجاله إال بصــعوبة .إن نجاعــة
الفكر ال تكمن فقط ،بخالف العلوم ،في الدقة المصطنعة (أي التقنية ـ النظرية) للمفاهيم ،بل ترجع إلى مــا يلي :في
عنصــر الوجــود على القــول أن يبقى خالصــا ،ويســمح بـــهيمنةـ مــا في أبعــاده المتنوعــة من بســاطة .لكن الشــيء
المكتوب يمنحنا من ناحية أخرى الحاجة المالئمة لفهم يقظ من خالل اللغـة .وسأكتفي اليوم بعزل ســؤال واحــد من
بين أســـئلتكم وعرضـــه ،لعـــل االختبـــار الـــذي ســـأجريه لـــه يلقي بشـــيء من الضـــوء على األســـئلة األخـــرى.
إنكم تسألون" :كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة "النـزعة اإلنســانية؟" هــذا الســؤال يؤشــر على الرغبــة
في الحفاظ على نفس الكلمة .وإني ألتساءل ع َّما إذا كان ذلــك ضــروريا .ألم تتجــل بعــد بمــا فيــه الكفايــة ،المصــيبة
الكبرى التي تنجم عن مثل هذه اإلضافات ؟ صحيح أننا بــدأنا منــذ زمن بعيـدـ نحتــاط من إضــافة يــاء النســب وتــاء
التأنيث "…ية = …( "ismeللداللة على النـزعة إلى…) .لكن سوق الرأي العام لم يتوقف عن المطالبة بالمزيد.
كما أننا دائما على استعدادـ لتلبية هذا الطلب .إن مصطلحات من قبيل "منطــق"" ،أخالق" ،فيزيــاء" لم تظهــر هي
نفسها إال في اللحظة التي أصبح فيها الفكر األصيل على مشارف غروبه .أما اإلغريق إبان عصرهم العظيم ،فقــد
فكروا دونما حاجة إلى مثل هذه اإلضافات إلى حد أنـهم لم يطلقوا على الفكر اسم "فلسفة" .لقد كانت هذه األخــيرة
في طريقها إلى األفول عندما ابتعدت عن عنصرها .والعنصر هنا ،هــو مــا يســتطيع الفكــر انطالقــا منــه أن يكــون
فكرا .إنه بحق ما ـ له ـ القدرة :إنه القدرة ذاتـها أو الســلطة .فهــو يتكفــل بــالفكر ليحملــه بــذلك إلى ماهيتــه .وبكلمــة
واحدة نقول :إن الفكر هو فكر الوجود .واإلضافة هنا ،لـها معنيان :الفكــر من الوجـود على قــدر حصــوله من هــذا
األخير وانتمائه إليه ؛ الفكر فـي نفس الوقت تفكير في الوجود مادام إذ ينتمي إلى الوجود فهو يصغـي له .إن الفكر
يكون بما هو عليه تبعا لمصدر حصوله األساسي؛ بحيث بانتمائه للوجود إنما يصغي للوجود .الفكر يكــون :وهــذا
معناه أن الوجود يتكفل في كل مرة تبعا لتجلي عصــوره بماهيتــه .أن تتكفــل بـــ"شــيء" مــا أو بـــ"شــخص" مــا في
ماهيته ،معناه أنك تحبه ،أي ترغب فيه .هذه الرغبة إذا ما فكرنا فيهـا بشــكل أصــيل ،تجلت لنـا كهبـة من الماهيـة.
ومثل هذه الرغبة هي الماهية الخاصة بالقدرة التي ليس بوسعها فقط أن تحقــق هــذا أو ذاك ،وإنمــا أن تعمــل أكــثر
من ذلــك على بســط شــيء مــا انطالقــا من مصــدر حصــوله ،أي أنهــا تســمح بحصــول كينونتــه .إن قــدرة الرغبــة
وسلطتهـا هي هذا الذي "بموجب" ـه تكون لشيء ما بوجه خاص القدرة على االنوجاد( .)1هذه القــدرة عينهــا هي
الـ "ممكن" الذي تستقر ماهيته في الرغبة .ما ينشده الوجود ويستطيعه انطالقا من هذه الرغبة فيجعلــه ممكنــا هــو
الفكر .فالوجود من حيث هو رغبة ـ تُـ ْن َج ُز ـ قُـ ْد َرة هو الـ "ممكن" .إنــه من حيث هـو العنصـر ،الــ "قــوة الهادئــة"
للقــدرة المحبــة ،أي للممكن .إن كلمــتي" :الممكن" و "اإلمكانيــة" لم يفكــر فيهمــا بفعــل هيمنــة الـ ـ "المنطــق" والـ
"ميتافزيقا" إال في تعارضهما مع مفهوم "الواقع" ،أي انطالقا من تأويل ميتافيزيقي معين للوجود باعتباره وجودا
بالفعل ووجودا بالقوة .هذا التعارض هو ما تتم مماهاته مع الوجود ( )existentiaبمعنى العرض ومع الماهيـــة (
)essentiaبمعنى الجوهر .عندما أتحدث عن "القوة الهادئة" للممكن" فأنا أقصد بـها إمكان إمكانية متمثلــة فقــط،
وال أعني بـها الكمون باعتباره جوهر الوجود الفعلي كعرض ،بل أقصد بـــها الوجــود ذاتــه .هــذا الوجــود الــذي إذ
يــرغب ،يحتفــظ في رغبتــه بالسـلطة وبالقــدرة على الفكــر .ومن ثمــة على ماهيــة اإلنســان ،أي على العالقــة الــتي
لإلنســـان بـــالوجود .فـــأن تقـــدر على شـــيء مـــا معنـــاه :أن ترعـــاه في ماهيتـــه وتحافـــظ عليـــه في عنصـــره.
حينما يكون الفكر على مشارف أفوله مبتعداـ بذلك عن عنصره ،يستعيض عن خسارته تلك بأن يضمن لنفسه قيمة
ذات صبغة تقنية كأداة للتكوين ،ليصير عاجال تمرينا مدرسيا وينتهي بالتحول إلى ما يشبه مشروعـا ثقافيا .وشــيئا
فشيئا تصبح الفلسفة تقنية للتفسير من خـالل العلل واألسباب األولى .هكذا نكف عن التفكير وننشغل ب "الفلسفة".
وفي لعبة السبق والتنافس هذه ،يتم تقــديم مثــل هــذه االنشــغاالت إلى المجــال العمــومي في شــكل نـــزعات… (…
يــة )isme…/تنـــزع إلى المزايــدة والمضــاربة .وتفــوق مثــل هــذه الملصــقات وهيمنتهــا ال يرجــع في شــيء إلى
الصدفة ،وإنما يرتكز على ديكتاتورية اإلشهار الخاص ،خصوصا في األزمنـــة الحديثــة .فمــا نــدعوه بالــ "وجــود
الخصوصي" ليس بعد هو المهم ذلك الكائن اإلنساني الحر ،بــل مجــرد تصــلب لنفي مــا هــو عمــومي .ويبقى ذلــك
المطمور الذي يتوقف على كل هذا ،وال يقتات إال من اختفائه في مواجهته ،شــاهدا بــذلك رغمــا عنــه على خدمتــه
لإلشهار .والحال أن اإلشهار هو ذلك المجهـود الالمشروط ميتافزيقــا ـــمادام يمتح من هيمنــة الذاتيةــ الــذي يوجــه
انفتاح الموجود نحو الموضعة الالمشروطة لكل شيء ويدفع به نحو اإلقامة هناك .لهذا السبب تســقط اللغــة نفســها
في خدمة الوظيفة التوسطية لوسائل المبادلة التي تستطيع الموضعة بواسطتها ،من حيث هي مــا يجعــل كــل شــيء
فـي متناول الجميع على نحو متشابه ،أن تذهب إلى حد االستهانة بكل الحدود .هكذا بصدد تقــع اللغــة تحت رحمــة
ديكتاتورية اإلشهار .هذه األخيرة هي التي تقرر مسبقا بصدد ما هو قابل للفهم وما هو بخالف ذلــك فينبغي التخلي
عنه وإقصاؤه .إن ما قيل في "الوجود والزمان ( "1927عن الـ"هم" (الفصل 27 :و )2()35لم تكن الغايــة منــه
أبدا أن يتحول هذا الموضوع إلى مساهمة في السوسيولوجيا .كما أن ضــمير الــ "هم" ال يشــير فقــط إلى المطالبــة
على الصعيد األخالقي/الوجودي بالكينونة الحقة للشخص .إن ما قيل عن ضمير الـ "هم" يحتوي ،من حيث انتماء
الكلمة األصيل للوجود ،على إشـارة مفكــر فيهـا انطالقــا من الســؤال عن حقيقــة الوجـود .إال أن هـذه الصـلة تظـل
محتجبة مادامت تقع تحت هيمنة الذاتية التي تعرض نفسها كإشهار .ولكن عندما تصبح حقيقة الوجود وقد تــذكرها
الفكر ،جديرة بأن يفكر فيها لذاتـها ،آنذاك يصـير التفكـير في ماهيـة اللغـة أيضـا ملزمـا بـأن يضـمن لنفسـه مكانـة
أخـرى ،فال يسـعه أبـدا أن يكـون مجـرد فلسـفة للغـة .هــنا يكمن السـبب الوحيـد الـذي من أجلـه يحتـوي "الوجـود
والزمان" على إشارة إلى البعد الجوهري للغة تالمس هذا السؤال البسيط :على أي نحو من الوجـود توجــد اللغــة
واقعيا كلغة ؟ إن اجتياح اللغة الذي طال كل األنحاء وبوتيـرة سريعة ،ال يتوقف فقـط على المسـؤولية ذات الطـابع
الجمالي واألخالقي التي نتحملها في استعمالنا للكالم .بل يصدر عن وضع ماهية اإلنسان موضع الخطر .وليســت
العناية البالغة التي قد نبديها في استعمالنا للغة ،بدليل على أننا تخلصــنا من هــذا الخطــر الجــوهري ،بــل قــد يكــون
اليوم دليال على أننا ال نرى أبدا هذا الخطر ،وال يمكننا أن نراه ألننا لسنا بعدـ معرضين لبريقــه .إن انحطــاط اللغــة
الذي أصبحنا نتحدث عنه منذـ وقت قريب وحتى وقت متأخر ،ليس في جميع األحــوال ســببا ،بــل نتيجــة لســيرورة
بموجبها خرجت اللغة شبه مرغبة تقريبا من عنصرها تحت سطوة الميتافزيقـا الحديثــة للذاتيــة .إن اللغــة من حيث
هي مأوى حقيقة الوجود ،ما تزال تحجب عنا ماهيتها ،رغم أنـها تقدم لنا نفسها في محض ما نريد وفي ممارساتنا
كأداة للسيطرة على الموجود ،حيث يتجلى لنا هذا األخير نفسه في نسيج العلل والنتائج باعتباره الــواقعي ،فنعالجــه
من جانبا بـما هو كذلك ليس فقط بمواربة الحساب والممارسة ،وإنما أيضا بواســطة علم وفلســفة ينهجــان التفسيـــر
والتعليل .مع أننا نسمح لهما بدون شك ،بالتخلي عن جزء مما ليس بقابل للتفسير ،ونعتقــد مــع مثــل هــذه العبــارات
أننا في حضرة الغريب والعجائبي .كما لـو كـان من الممكن لحقيقـة الوجـود أال تسـمح لنفسـها أبـدا بـأن تقـوم على
منــوال العلــل واألســباب المفســرة .أو وهــذا نفس الشــيء ،على منــوال عــدم قابليتهــا لإلدراك الخاصــة بـــها.
ولكن إذا كان على اإلنسان أن يصل في يوم ما إلى اإلقامة بالقرب من الوجود ،فإن عليــه قبــل كــل شــيء أن يتعلم
كيــف يوجــد فيمــا ال اســم لــه .وأن يعــرف كيــف يعــترف بواقعــة اإلشــهار على قــدر اعترافــه بضــعف الوجــود
الخصوصي .إن عليه قبل أن ينبس ببنت شفة أن يدع نفسه أوال رهن إشارة دعوة الوجود له ،وتحــذيره إيــاه بفعــل
هذه الدعوة ،من خطر عدم وجود ما يقوله سوى النزر اليسير ،أو عدم وجود ما يقوله إال نادرا .وحينئذـ فقط يعــود
للكالم غنى ماهيته الالمتوقع ،ولإلنسان مسكنه في قلب حقيقة الوجود ليقيم فيه.
ولكن ،أليس في دعوة الوجود هذه لإلنسان ،كمــا في محاولــة إعــداد اإلنســان لـــهذه الــدعوة ،مجهــودا يهم اإلنســان
ذاته ؟ ما هي غاية "الـه ّم" ( )le souciإذا لم تكن هي إعادة تشييدـ اإلنسان في ماهيته ؟ هل يعني هــذا شــيئا آخــر
غير جعل اإلنسان إنسانا ؟ هكذا تحظى اإلنسانية بمكانتها في قلب مثل هذا الفكــر ،ألن النـــزعة اإلنســانية تقتضــي
ما يلي :لنفكر ونحرص على أن يكون اإلنسان إنسانا ال "همجيا" ،أي خارج ماهيتــه .والحــال أين تكمـــن إنســانية
اإلنسان ؟ إنـها تستقر في ماهيته.
كيف وانطالقا مماذا تتحدد ماهية اإلنسان ؟ إن ماركس يلح على أن "اإلنسان اإلنساني" تجب معرفته واالعتراف
به .وقد وجد هذا اإلنسان في الـ "مجتمع" .إن اإلنســان "االجتمــاعي" بالنســبة لــه هــو اإلنسـان "الطــبيعي" .إذ في
"المجتمع" تؤمن بشكل منتظم "طبيعة" اإلنسان ،أي مجموع "حاجياتـه الطبيعية" (الغذاء ـ اللباس ـ إعادة اإلنتــاج
ـ والضرورات االقتصادية) .أما المسيحي فيرى إنسـانية اإلنسـان في تقاطعهــا مـع الصـفات اإللهيـة .فمن منظــور
تاريخ الخالص ،يكون اإلنسان إنسانا باعتباره "ابن هللا" الذي يبصـر نداء األب في المسيح فيستجيب له .إنــه ليس
من هذا العالم مادام الـ"عالم" مفكرا فيه على نحو أفالطوني/نظري ،ليس سوى ممر عابر نحـــو المــاوراء .وألول
مرة تعرف فيه اإلنسانية ويشار إليها صراحة بـــهذا االســـم ،كــان ذلــك في عهــد الدولــة الرومانيــة ،حيث اإلنســان
اإلنساني يتعارض مع اإلنسان "البربري" .لقد كان اإلنســان اإلنســاني هــو الرومــاني الــذي يعظم ويعلي من شــأن
المهارة الرومانية من خالل "إدماج" ما كان قد باشره اإلغريق تحت اسم الـ"بيديا" ( ( ) p a i d e ß aالتكوين).
واإلغريق هنـا ،هم أناس الهلينستية المتأخرة ذات الثقافة الملقنة في المدارس الفلسفية .هذه الثقافة تختص بالتنقيـب
والتأسيس في الفنون الجملية .وقد كانت (البيدييا) مفهومة على هذا النحو تترجم باإلنسانية .وفي مثل هذه اإلنسانية
تكمن بحق رومانية اإلنسان الروماني .هكذا انعـثر على أول نزعـة إنسـانية في رومـا ،وبهـذا تكـون اإلنسـانية في
ماهيتها تجليا رومانيا محضا صادرا عن التقاء بين الرومانية والثقافة ذات النـزعة الهلينستية المتأخرة .وما ســمي
بالنهضة في روما إبان القرن الرابع عشر والخامس عشر ،إنمــا هي نـــهضة ذات نــزعة رومانيــة .ومــادام األمــر
يتعلق بالنزعة الرومانية ،فالمسألة تتعلق باإلنسانية ،ومن ثم بالـ"بيدييا" اإلغريقية .لكن الهيلنستية المقصودة هنــا،
هي دائما تلك المعروفــة في شــكلها المتــأخر ذي الصــبغة الرومانيــة تحديــدا.ـ فاإلنســان الرومــاني لعصــر النهضــة
يتعارض بدوره مع اإلنســان الــبربري (الالإنســاني) .والمقصــود بالالإنسانـــي هنــا ،هــو تلــك البربريــة المزعومــة
للسكوالئية القوطية في العصر الوسيط .لــهذا الســبب نجـد أن النـــزعة اإلنسـانية في تجلياتــها التاريخيــة ،تحتــوي
دائما على دراسة إنسانوية تقترن صراحة بالعهــد القــديم ،وتقــدم نفسهـــا كــل مـــرة في شــكل إحيــاء جديــد للنـــزعة
الـهيلنستية .وهـذا هـو الشـيء الـذي يوقـظ فينـا النــزعة اإلنسـانية للقـرن الثـامن عشـر ،كمـا جسـدها "وانكلمـان"
،Wincklmanغوته ،Goetheوشلير .Schilleaأما هولدرلين “ ”Holderlinفهو على العكس من هــؤالء ال
ينتمي إلى النـزعة اإلنسانية ،لسبب وجيه وهو أنه يفكر في قدر ماهية اإلنسـان بشـكل أكـثر أصـالة ممـا تسـتطيعه
هذه "النـزعة اإلنسانية".
ولكن ،إذا كنا نفهم من النزعة اإلنسانية بصفة عامة ذلك المجهود الذي يرمي إلى جعل اإلنسـان حـرا في إنسـانية،
ويخول له اكتشاف كرامته ،فإن النـزعة اإلنسانية سـتختلف والحالـة هـذه حسـب المفهـوم الـذي لنـا عن "الحريـة"
وعن "طبيعة" اإلنسان .كما ستختلف بنفس الكيفية وسائل تحقيقها .فالنزعــة اإلنســانية عنــد "مــاركس" ال تقتضــي
أي رجوع إلى العهد القديم مثلهـا في ذلـك مثـل النــزعة اإلنسـانية الـتي يـدرجها "سـارتر" تحت اسـم :الوجوديـة.
والمسيحية بدورها إذا ما نظرنا إليها بالمعنى الواسع المشار إليه سابقا ،تمثل أيضا نـزعة إنسانية من حيث أن كــل
شيء في مذهبها رهين بخالص الروح ،وإن تاريخ اإلنسانية يندرج في إطار تاريخ الخالص هذا .ومهمــا اختلفت
هذه النـزعات اإلنسانية وتعددت من حيث هــدفها ،أساســها ،نـــمطها ووســائل تحقيقهــا أو من خالل شــكل مــذهبها،
فهي تتفـق مع ذلك حول هذه النقطة الجوهرية :وهي أن إنسانية اإلنسان اإلنساني تكون دائمــا محــددة انطالقــا من
تأويل معد سلفا للطبيعة والتاريخ والعالم وأساس العالم ،أي الموجود في كليته.
كل نـزعة إنسـانية تقـوم على أسـاس ميتــافزيقي أو تكــون هي نفســها هــذا األسـاس .وكــل تحديــد لـــماهية اإلنسـان
يفترض مسبقا ،بوعي منـه أو بدون وعي ،تأويال للموجــود دون أن يطــرح الســؤال بصــدد حقيقــة الوجــود ،يكــون
عبارة عن ميتافزيقا .لـهذا السبب نـجد أن كل ميتافزيقـا إذا ما أخذنا بعين االعتبـار الكيفيـة الـتي تحـدد بــها ماهيـة
اإلنساني ،تتجلى في كونـها " تنـزع منـزعا إنسانيا" (إنسانوية) .وبنفس الكيفية تظل كل نـزعة إنسانية ميتافزيقية.
فالنـزعة اإلنسانية في تحديـدها إلنسانية اإلنسان ،ال تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال عن عالقة الوجود بماهية هذا
األخــير ،وإنمــا تحــول أكــثر من ذلــك دون طرحــه متجاهلــة إيــاه .والســبب في ذلــك أنـــها تضــرب بجــذورها في
الميتافزيقا .هذا في حين أن الضرورة والشكل الخاص بـهذا السؤال الذي يروم حقيقة الوجود ـ وهو ســؤال منســي
في الميتافزيقا وبسببها ـ ال يمكنه أن يرى النـور إال إذا طرحنـا في خضـم الميتافزيقـا ذاتــها هـذا السـؤال" :مـاهي
الميتافزيقا؟" .بل أكثر من ذلك أن على كل سؤال بصدد الـ "وجود" ،وحــتى ذلــك الــذي يــروم حقيقــة الوجــود ،أن
يقدم نفسه منذ البداية كسؤال ميتافزيقي.
إن أو لنـزعة إنسانية ،وأعني بـها تلك الخاصة برومـا ،وبـاقي أنـواع النــزعات اإلنسـانية الـتي تالحقت منـذـ ذلـك
الحين إلى يومنا هذا ،يفترضن جميعا الــ "ماهيـة" األكـثر شــمولية لإلنسـانية كبداهــة .لقــد اعتــبر اإلنسـان حيوانـا
عاقال .وهذا التحديدـ ليس فقط ترجمة التينية للكلمات اإلغريقية التالية ( ) x y o n l o g o n x c o nبل تأويال
ميتافزيقيا .وكل تحديدـ من هذا القبيل لماهية اإلنسان ال يكون خاطئا بل مشروطا بالميتافزيقا .وما اعتبره "الوجــود
والزمان" جديرا بالسؤال ،ليس فقط هو حدود هذا التأويــل وإنمــا مصــدره األساســي كــذلك .إن مـا هــو جــدير بــأن
يوضع موضع سؤال ،بـدل تركه تحت رحمة الفعل الهدام لنـزعة فارغة ،قد أنيط بالفكر باعتباره ما ينبغي لــه هــو
نفسه أن يفكر فيه .
صــحيح أن الميتافزيقــا تتمثــل الموجــود في وجــوده ،وبــذلك فهي تفكــر في وجــود الموجــود .ولكنهــا ال تفكــر في
االختالف بين الوجــود والموجــود( .في ماهيــة الســبب 1929ص ( )8كانــط ومشــكلة الميتافزيقــا ،1929 .ص
( :)225الوجود والزمان ،ص .)230إن الميتافزيقا ال تطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود نفسه ،لهذا السبب فهي
ال تتساءل ابــدا عن الكيفيــة الــتي من خاللهــا تنتمي ماهيــة اإلنســان إلى حقيقــة الوجــود .فهــذا الســؤال ليس فقــط لم
تطرحـــه الميتافزيقــا بعــد ،وإنمــا ليس في متناولهــا كميتافزيقــا .إن الوجــود ينتظـــر دائمــا من اإلنســان أن يتــذكره
باعتباره ما هو جدير بأن يفكر فيه.
بالنظر إلى هذا التحديدـ الماهوي لإلنسان ،سواء أحددنا عقالنية الحيوان أو عقل الكائن الحي كـــ"ملكــة مبــادئ" أو
كـ"ملكة مقوالت" أو بأي كيفية أخرى ،فإن ماهية العقل تتأسس دائما وفي كل جوابـــها على مــا يلي :بالنســبة لكــل
إدراك للموجود وفهم له في كينونتــه ،يكــون الوجــود نفســه قــد أضـيء مســبقا وحصــل في حقيقتــه .وبنفس الكيفيــة
يقتضي مسبقا مصطلح "حيوان" ( ) x y o nتأويال للـ "حياة" يستند بالضرورة على تأويل للموجود كبدنـ ( x
) w Þوكفيزيس ( ) ö ý ü i Vبداخلهما يظهر الكائن الحي .ولكن يبقى علينا من جهة أخرى أن نتساءل قبل
كل شيء ،ومن وجهة نظر أصيلة تقرر مسبقا بصــدد كــل شــيء ،هــل مــا إذا كــانت ماهيــة اإلنسـان تكمن في بعــد
الحيوانية ؟ وبصفة عامة ،هل نحن على الطريق الصــحيح عنــدما نحــدد اإلنســان وطالمــا بقينــا نحــدده ككــائن حي
معارضين إياه بالنبات وبــالحيوان وباهلل ؟ بإمكاننــا أن نســلك هــذا النهج .وباســتطاعتنا على هــذا النحــو أن نـــموقع
اإلنسـان داخـل الموجـود كموجـود بين الموجـودات األخـرى ،فيكـون بإمكاننـا دائمـا أن نصـدر في حقـه عبـارات
صائبة .ولكن علينا أن نفهم جيدا أننـا بــهذا نـدفع باإلنسـان إلى المجـال المـاهوي للحيوانيـة حـتى وإن كنـا نخصـه
باختالف جوهري لنبتعدـ عن مماهاته بالحيوان .إذ مبدئيا سنفكر دائما في اإلنسان الحيواني حتى وإن افترضــنا أن
هذا الحيوان حي وعاقل ،واعتبرناه بعد ذلك ذاتا أو شخصا أو روحا .ومثل هذا الموقف هو ما تتوخاه الميتافزيقــا.
لكنه تقدير فقير جدا لماهية اإلنسان ،مادام لم يفكر فيها من خالل مصدر حصولـها؛ ذلك المصــدر المــاهوي الــذي
يظل باستمرار بالنسبة لإلنسانية التاريخية المستقبل األساسي.
إن الميتافزيقا تفكر في اإلنسان انطالقا من الحيوانية ،لكنها ال تفكر باتجاه إنسانيته .إن الميتافزيقا تصدر عن أبسط
معطى أساسي ،وهو كون اإلنسان ال يبسط في ماهيته إال من حيث هــو مــدعو من طــرف الوجــود .إذ انطالقــا من
دعوة الوجود هذه له ومطالبته به ،أنوجد هناك حيث تقيم ماهيته .وانطالقا من هذه اإلقامة "كانت له" اللغة كمأوى
يحرس لماهيته خاصيتها الدهولية اللدنية( .)3وما ادعوه باالنوجاد هو المكوث في نور الوجود وانفتاحه .إنه كيفية
تخص اإلنسان وحده .ولهذا فاالنوجاد من حيث هو كذلك ليس فقط أســاس إمكانيــة العقــل ،بــل هــو الــذي فيــه ومن
خالله ترعى ماهية اإلنسان مصدر حصولها وتحديدها.
إن االنوجاد ال يمكنه أن يقــال إال عن ماهيــة اإلنســان ،أي عن الكيفيــة اإلنســانية في "الكينونــة".ـ ذلــك أن اإلنســان
وحده يكون وذلك بقـدر ما نمتلك عنه تجربة منخرطة في قدر االنوجاد .لهذا السبب فاالنوجــاد إذا مــا افترضــنا أن
قدر اإلنسان أن يفكر في ماهية كينونته،ـ وليس فقط أن ينشيء صالت حول بنيتهـ وفعاليته انطالقا من رؤية العلــوم
الطبيعية والتاريخية ،ال يمكن أن يفكر فيه كنمط متميز يخص الكائن الحي من بين أنماط أخرى .هكذا يستمد أيضا
ما نسبناه لإلنسان انطالقا من مقارنته "بالحيوان" كحيوانية ،أساســه من ماهيــة االنوجــاد .أمــا جســد اإلنســان فهــو
شيء أخر يختلف ماهويا عن الجهاز العضوي للحيوان .وخطــأ النـــزعة البيولوجيــة لم يتم تجــاوزه بمجــرد اقـران
الواقع الجسدي لإلنسان بالروح والروح بالذهن والذهن بالخاصية الوجوديــة ،والتأكيــد بعـدـ ذلــك بقــوة على القيمــة
العليا للذهن ،ومن تم اخنزال كل شيء في التجربة الحياتية غير مدخرين جهدا في التنديدـ بكون الفكر يهدم مجرى
الحياة بفعل مفاهيمه المتصلبة ،وبأن فكر الوجود يشوه الواقع .إن قدرة الفيزيولوجيــا وكــذلك الكميــاء الفيزولوجيــة
على دراسة اإلنسان كجهاز عضوي من وجهة نظر العلوم الطبيعية،ـ ال يــبرهن في شــيء على أن ماهيــة اإلنســان
تكمن في هذه "الخاصية العضوية" ،أي في الجسد المشرح علميا .فهذا يشبه إلى حــد كبــير محاولــة حصــر ماهيــة
الطبيعة في الطاقة الذرية .في حين أن الطبيعة من المحتمـل جدا أن تكون قد اختفت ماهيتهــا بالضــبط في الجــانب
الذي تقدمه لهيمنه التقنية بواسطة اإلنسان .وبالمثل فماهية اإلنسان ال تكمن أبدا في كونـــها مجــرد جهــاز عضــوي
حيواني .وهذا القصور في التحديد المـاهوي إلنسـان ال يمكن اسـتبعاده أو اختزالـه بمجـرد أن نخلـع على اإلنسـان
روحا خالدة أو ملكة عقلية أو خاصية تجعل منه شخصـا .ذلــك أننــا في جميــع هــذه الحـاالت نكــون قــد انحزنـا إلى
جانب الماهية ،ولكن من منطلق نفس المشروع الميتافزيقي.
إن ما يكونه اإلنسان ،أي "ماهيته" باللسان التقليدي للميتافزيقــا ،يكمن في انوجــاده .لكن االنوجــاد مفكــر فيــه على
هذا النحو ال يتطابق مع الوجود (بالمعنى التقليــدي ،أي الوجــود بالفعــل) الــذي يشــير إلى الواقــع في تعارضــه مــع
الماهية( .بالمعنى التقليـدي أيضـا ،أي الوجــود بــالقوة = الجوهــر = الشـيء في ذاتـه) باعتبـاره إمكانيـة .نجـد في
"الوجود والزمان ،ص .)42هذه العبارة مكتوبــة بــأحرف بــارزة " :إن ماهيــة الــدزاين تكمن في وجــوده" .ولكن
األمر هنا ال يتعلق بتعارض بين الوجود والماهية (بالمعنى المشار إليه سـابقا ،ألن هــذين التحديــدين الميتــافزيقيين
للوجود بصفة عامة وأكثر من ذلك للعالقة بينهما،ـ ليسا بعد موضع سؤال .كمــا أن العبــارة ال تحتــوي على قضـــية
عامة عن الدزاين ـ هذا إذا ما كان ينبغي لـهذه التسمية (الدزاين= )Da-seinالتي ظهرت في القرن الثامن عشــر
للداللة على "الموضوع"( )4أن تعبر عن المفهوم الميتافزيقي الذي يشير إلى واقعية الواقـع ـ بل إنـها تريد القــول
بأن اإلنسان يبسط ماهيته على نحو يجعله بالضبـط هو هذه الـ "هنا" ،أي ضياء الوجود وانفتاحه .فـ ـ "كينونــة" الـ
"هنا" هذه تشــتمل بمفردهــا فقــط على الخاصــية األساســية لالنوجــاد ،أي على اإلقامــة اللدنيــة في حقيقــة الوجــود.
فالماهية اللدنية لإلنسان تكمن في االنوجاد الذي ال يتطابق بأي حال مع الوجــود الفعلي مفكــر فيــه ميتافزيقيــا .هــذا
الوجود الفعلي (الوجــود بالفعــل )existence :تجلى للفلســفة عــبر العصــور باعتبــاره عرضــية.)Actualitas( :
وقدمه "كانط" كواقع بمعنى موضوعية التجربة .وحدده "هيغل" كفكرة للذاتية المطلقة الــتي تتعــرف على نفســها.
وتمثله "نيتشه" كعود أبدي لذات الشيء .أمــا فيمــا يتعلــق بمعرفــة هــل مــا إذا كــان مفهــوم الوجــود الفعلي هــذا في
تأويالته كواقع تــأويالت ال تختلــف إال في الظــاهر ،يكفي للتفكــير في كينونــة الحجــر أو حــتى في الحيــاة ككينونــة
للنبات والحيوان ،فإن هذا السـؤال سنتركه معلقا .يبقى أن الكائنات الحية تظل بما هي عليـه دون أن يكون بوسعها
أن تقيم في حقيقة الوجود ،أو تحرص في وضعها هذا على ما يجعــل كينونتهــا تبســط ماهيتهــا .الظــاهر أن الكــائن
الحي من اصعب الكائنات الموجودة التي يمكن التفكير فيها ،ألن هوة من ماهيتنا االنوجادية تفصلنا عنه وإن كــان
أكثر قرابة منا بشــكل من األشــكال .هــذا في حين أن ماهيــة المقــدس تبــدو أكــثر قربــا منــا من هــذا الواقــع الممتنـعـ
للكائنات الحية .وأعني بالقرب هنا مسافة ماهوية من طبيعة مغلقــة على أســرارها ال يمكن تصــورها إال بصــعوبة
من حيث هي مسافة أشد حميمية مع ماهيتها االنوجادية من القرابــة الجســدية الــتي لنــا مــع الحيــوان .إن مثــل هــذه
األفكـار والتصـورات تلقي بأضـواء غريبـة على الطريقـة المعتـادة ومن تم المتهافتـة في تحديـد اإلنسـان كحيـوان
عاقل .فإذا كانت النباتات والحيوانات محرومة من اللغة فمــا ذلــك إال ألنـــها تظــل ســجينة مجــال محيطهــا دون أن
يكون باستطاعتها أبدا أن تقيـم في نــور الوجــود وانفتاحــه .والحــال أن نــور الوجــود وانفتاحــه هــذا هــو مــا نــدعوه
بالـ"عالم" .وليس امتناع اللغة عن هذه الكائنات الحية هو ما يجعلها سجينة بيئتها دونـما عالم .ففي كلمــة "المحيــط
البيئوي" يتكاثف بشكل عميق لغـز الكـائن الحي .إن اللغـة في ماهيتهـا ليســت وســيلة يتخـارج من خاللهـا الجهـاز
العضوي .كما أنـها ليست تعبير الكائن الحي .لـهذا الســبب مــا كـان بوســعنا أبــدا أن نفكــر فيهــا بكيفيــة تنسـجم مــع
ماهيتها انطالقا من قيمة دوالـها .وال ربما حتى انطالقا من قيمتها الداللية .فاللغة هي المجيء ـ المضيء ـ المفسح
ـ المفصح والكاتم في نفس الوقت للوجود ذاته.
إن االنوجاد مفكر فيه على نحو لدني (صوفي) ،ال يلتقي أبدا سواء من حيث شكله أو محتــواه مــع الوجــود الفعلي.
إنه يدل بالنظر إلى حقيقة الوجود على االنخطاف واالنتشــاء .أمــا الوجــود بالفعــل ( )existenceفيـــدل من جهتــه
على الراهن ،أو الواقع في مقابل اإلمكانية المحضة باعتبارها فكرة .فاالنوجاد إذن يدل على ما يكونه اإلنســان في
قدر الحقيقة .أما الوجود بالفعل فهو اإلسم الذي نخص بــه تحقــق مــا يكونــه شــيء مــا عنــدما يتجلى في فكرتــه .إن
عبارة" :اإلنسان ينوجد (يكون)" ليست جوابا على ســؤال بصــدد "ماهيــة" اإلنســان .هــذا الســؤال يظــل مطروحــا
بشكل سيئ سواء سألنا عما يكونه اإلنسان ؟ أو عمن هو اإلنسان ؟ ألننا مـع هذه الـ "من" أو الـ "مــا" ،ننظــر إليــه
مسبقا باعتبار شخصا أو موضوعا .في حين أن مقولة الشخص مثلهــا في ذلــك مقولــة الموضــوع ،تســمح في نفس
الوقت بانفالت وحجب ما يجعل االنوجاد التاريخي/االنطولوجي يبسط ماهيته .لـهذا السبب جــاءت كلمــة "ماهيــة"
في الجملة الواردة في "الوجود والزمان ،ص "42والمــذكورة أعاله ،موضــوعة بين قوســين .والمــراد بــذلك هــو
اإلشارة إلى كون الماهية لم تعد تحدد أبدا ال انطالقــا من الموجــود المــاهوي وال انطالقــا من الموجــود الوجــودي،
وإنما انطالقا من الخاصية اللدنية للدزاين (الكينونة ـ هنا) .فبقدر ما ينوجد اإلنسان يتحمل الكينونة ـ هنا .لكن هـذه
األخـــيرة نفســـها تبســـط ماهيتهــــا في مـــا يبســـطه الوجـــود .هـــذا الوجـــود الـــذي هـــو قـــدر وبعث وحصـــول.
إن إرادة تفسير هذه القضية حول الماهية المنوجدة لإلنســان ،كمــا لــو كــانت نقال وتحريفــا دنيويــا لفكــرة الالهــوت
المسيحي عن هللا" :هللا هو موجد الوجود" ،وقد تم تطبيقها عن اإلنسان ،لهو أكــبر احتقــار .ذلــك أن االنوجــاد ليس
أبدا تحقيقا لماهية حتى ال ينتج أو يضع هو نفسه مقولة الماهيـة ،فـأن نفهم "المشـروع" الـذي يتعلـق األمـر بـه في
"الوجود والزمان" كفعل لحمل شيء ما إلى التمثل ،هو أن نعتبره كتحقيـق للذاتيــة ،فال نفكـر فيــه مطلقـا باعتبــاره
الوحيد الذي بإمكانه التفكير في "وعي الوجود" في نطاق "التحليـل الوجودي" للوجود ـ في ـ العـالم كعالقــة لدنيـة
بنور الوجود وانفتاحه .إن االتمام واالكتمال الكافي لـهذا الفكر المغاير الذي يغادر الذاتية ،قد أصبح أكـثر صـعوبة
ما دام الفصل الثالث من الجزء األول من "الوجود والزمان" ،لم ينشر غــداة ظهــور هــذا األخــير( .انظــر الوجــود
والزمان ،ص .)39حيث في هذه النقطة بالذات ينقلب كل شيء رأســا على عقب .وإذا كــان هــذا الفصــل لم ينشــر
فذلك ألن الفكر لم يصل إلى التعبير عن هـذا القلب بطريقة كافية ،وما كان له أن يذهب بعيدا في التعبــير عن ذلــك
بلسان الميتافزيقا.
إن المحاضرة التي تحمل عنوان" :في ماهية الحقيقة" ،والتي تم التفكير فيهــا وإلقاؤهــا ســنة ،1930ولم تنشــر إال
في سنة ،1943تسمح لنا قليال بتبين فكرة قلب الوجــود والزمــان إلى الزمــان والوجــود .هــذا القلب لم يكن تعــديال
لوجهة نظر "الوجود والزمان" ،وإنما ما منه فقط أمكن للفكر الـذي يبحث عن نفسه أن يصل إلى منطقــة بعدويــة،ـ
انطالقـــا منهـــا احتـــك "الوجـــود والزمـــان :واكتملت خبرتـــه من خالل التجربـــة األساســـية لنســـيان الوجـــود.
إن "سارتر" يصوغ على العكس من ذلك ،مبدأ الوجودية على النحو التالي :الوجود يسبق الماهية .وهو هنــا يفهم
الوجود ( = existenceالوجود بالفعل) والماهية ( = essentiaالوجود بالقوة) ،بالمعنى الميتــافزيقي الــذي يــرى
منذ أفالطون أن الماهية سابقة عن الوجود .إنه يقلب حقا هذه القضية .لكن أي قلب لقضية ميتافزيقيــة يظــل قضــية
ميتافزيقية .فتظل من حيث هي كذلك استمرارا في نسيان حقيقة الوجود .سواء حددت الفلسفة بالفعل عالقة الماهية
بالوجود بالمعنى المدرسي (الجدالي) للقرون الوسطى ،أو بالمعـنى الاليبنيزي أو بأي كيفية أخرى ،فــإن علينــا أن
نتساءل أوال وقبل كل شيء عن قــدر الوجــود الــذي انطالقــا منــه حــدث هــذا التميــيز في قلب الوجــود بين الوجــود
الماهوي (الوجود بالقوة) والوجود الفعلي (الوجود بالفعل) أمام الفكر؟ وأن نفكر لماذا لم يطرح أبدا السؤال بصـدد
قدر الوجود ،ولماذا لم يكن من الممكن التفكير فيه .ولكن أليس مصير هذا التمييز بين الماهية والوجود ،دليال على
نسيان الوجود ؟ لنا كل الحق في افتراض أن هذا القدر ال يرجـع سـببه إلى مجـرد إهمـال الفكـر اإلنسـاني لـه ،وال
حتى إلى ضعف مقدرة الفكر الغربي في بداياته .بل إن هذا التمييز المستتر مصدر حصوله المــاهوي بين الماهيــة
والوجود ،يهيمنـ على قدر التاريخ الغربي وعلـى كل التاريخ مثلما حددته أوربا.
إن المبدأ األول لوجودية "سارتر" الذي يقول بأسبقية الوجود على الماهية ،يبرر بالفعــل إطالق اســم "الوجوديــة"
على هذه الفلسفة .ولكنه ال يمتلك أدنى نقطة اتصال أو تشابه مع الجملة الواردة في "الوجود والزمان" .ناهيك عن
الحديث عن كون أية فرضية حول العالقة بين الوجود والماهيـة ،ال يمكنها مطلقا أن تصاغ في هذا الكتاب ،مــادام
األمر فيه يتعـلق فقط بإعداد أرضـية قبليـة ذات أســبقية .أرضـية ال يمكن بلوغهـا تبعــا لمـا قلنـاه سـابقا ،إال بكيفيـة
مشوبة بكثير من النقص .يبقى أن الذي علينا قوله اليوم وألول مرة ،يمكنــه أن يشــكل حــافزا يقــود ماهيــة اإلنســان
نحو ما من شأنه أن يجعلها ـ وهي تفكر ـ تضع نصب أعينها بُعد حقيقة الوجود المهيمنـ كليا عليها .وأي حدث من
هذا القبيل ال يمكنه أن يحصل في كل مرة إال من أجل كرامة الوجود ولصالح هذه "الكينونة ـ هنــا" الــتي يتحملهــا
اإلنســــــان في االنوجـــــاد ،وليس لحســـــاب اإلنســـــان لكي تلمـــــع بفعـــــل فعاليتـــــه الحضـــــارة والثقافـــــة.
إذا كنا نحن اليوم ،نريد الوصول إلى هذا البعدـ لحقيقة الوجود حتى نكون ونفكر فيه ،فإن علينــا قبــل كــل شــيء أن
نبين بوضوح ،كيف أن الوجود يقتحم اإلنسان ،وكيف أنه يطالب به ويدعوه إليه .ومثل هذه التجربـة الماهويـة هي
ما يعطي لنا عندما نبدأ بفهم أن اإلنسان ال يكون إال بقــدر مــا ينوجــد .وإذا أردنــا أن نعــبر عن هــذا بلســان الــتراث
نقول" :انوجاد اإلنسان "جوهرةُ" .لهذا السبب ما فتئت العبارة التالية الواردة في "الوجــود والزمــان" ،ص 177ـ
212ـ "( : 314جوهر" اإلنسان وجوده) تتكـــرر في عــدة ســياقات .إال أن كلمــة "جــوهر" هــذه ،مفكــرا فيهــا في
إطار تاريخ الوجود ،هي ترجمة محرفة سابقا لكلمة "أوسيا" ( )ousiaالتي تدل على حضور ما هو حاضر ،كمــا
تشــير في معظم األحيــان ،بشــيء من الغمــوض الملغــز ،إلى هــذا الــذي هــو نفســه حاضــر .أمــا إذا مــا فكرنــا في
المصــطلح الميتــافزيقي للـــ"جــوهر" بـــهذا المعــنى الــذي ينقــال في الوجــود والزمــان ،انســجاما مــع "التقــويض
الفنومنولوجي" المنجز في هذا الكتاب ،فإن معنى العبارة"( :جوهر" اإلنسان وجوده) هو ما يلي وال شيء غــيره:
إن الكيفية التي يكون اإلنسان تبعا لـها حاضرا في ماهيته الخاصة بالنسبة للوجــود ،هي اإلقامــة اللدنيــة في حقيقــة
الوجود .وهذا التحديد الماهوي لماهية اإلنسان ال يفترض إن التأويالت اإلنسانوية لـهذا األخــير كحيــوان عاقــل أو
كـ"شخص" أو ككائن ـ روحاني ـ مزود بروح وجسد ،تأويالت خاطئة ومستبعدة من طرفه .بل إن قصــده الوحيــد
هو قبل شيء التأكيد على أن أسمى التحديدات اإلنسانوية لماهية اإلنسان لم تتعرف بعد على الكرامة الخاصــة بــه.
بهذا المعنى يكون الفكر الذي يفصح عن نفســه في "الوجــود والزمــان" ضــد النـــزعة اإلنســانية .لكن هــذا التضــاد
واالعتـراض ال يعني بأي حال من األحوال أن مثل هذا الفكر يتجه بخالف ما هو إنساني ،داعيـــا إلى الالإنســاني،
مدافعا عن الهمجية وحاطا من كرامة اإلنسـان .فإذا كنا نفكر ضد النـزعة اإلنسانية فذلك ألن هذه األخيرة ال ترقى
بإنسانية اإلنسان إلى مرتبة سامية جدا .إن السمو المــاهوي لإلنســان ال يكمـــن بكــل تأكيــد في كونــه يشــكل جــوهر
ّ
"ذات لـهذا األخير ،لينحل في "الموضوعية" المشهورة إلى حد االبتــذال ،من حيث هي مســتودع قــوة الموجود كـ
الوجود ،أي موجودية الموجود.
إن اإلنسان قد "ألقى ـ به" قبل كل شيء في حقيقة الوجود من طرف الوجود نفســه ،حــتى يحــرص بانوجــاده على
هذا النحو على تلك الحقيقة ،وينجلي له الموجود في نور الوجود باعتبــاره الموجــود الــذي يوجــد .أمــا فيمــا يتعلــق
بمعرفة هل ما إذا كان الموجـود يتجلى وبأيـة كيفيـة يتم لـه ذلـك ،وهـل مـا إذا كـان اإللـه واإللهـة وكـذلك التـاريخ
والطبيعة يلجن في نـور الوجــود وانفتاحـه ،ومـا هي الكيفيــة الـتي بـــها يلجـــن فيـه ،وهـل مـا إذا كن حاضـرين أو
غائبين،ـ فإن اإلنسان ليس له أن يقرر بشان ذلك .إن قــدوم الموجــود إلى نــور الوجــود يكمن في قــدر الوجــود .أمــا
بالنسبة لإلنسان فالمسألة تبقى رهينة بمعرفة هل ما إذا كان يجد االنسجام الخاص بماهيته للتوافق مــع هــذا القــدر،
مادام عليه من حيث هو من ينوجد ،أن يحرص تبعا لـهذا القدر على حقيقة الوجود .إن اإلنسان هو راعي الوجود.
وهذا بالضبط ما حمل "الوجود والزمـان" على عاتقــه مهمـة التفكـير فيــه عنــدما اختبـــر الوجـود اللــدني باعتبـاره
"هما" ( .)SS44, a. p 226 sqولكن ،ما هو الوجود يا ترى ؟ ـ إن الوجود هو ما هــو ،هــذا مــا يتــوجب على
الفكر مستقبال أن يتعلم سبر غـوره وقولـه .فالــ "وجـود" ليس إلـه أو أسـاس العـالم .إنـه من بين كـل الموجـودات
األكثر بعدا عن اإلنسان .ومع ذلك فهو األقرب إليه من أي موجود آخر سواء كـان صخرة أو حيوانا أو عمال فنيـا
أو آلة أو مالكا أو اإلله نفسه .الوجود هو األقرب إليه .لكن اإلنسان ،رغم أن هذه القرابة هي أكــثر مــا هــو موغــل
في التواري عنه ،ال يتعلق دائما وقبل كـل شـيء سـوى بـالموجود فقـط .صـحيح أن الفكـر عنـدما يتمثـل الموجـود
كموجود ،يحـال إلى الوجـود .لكنـه في حقيقــة األمـر ال يفكـر باستمــرار إال في الموجـود كمـا هـو وليس أبـدا في
الوجود بما هو كذلك .وبالتالي يظل "ســؤال الوجـود" هــو دائمــا ذلــك الســؤال الــذي يقصــد الموجــود (يحمــل على
الموجود) .فسؤال الوجود ليس بعد بأي حـال من األحـوال ،هـو مـا تــدعي هــذه التمسـية المزيفــة " :السـؤال الــذي
يُـح َمل على الوجود" اإلشارة إليـه .والفلسـفة ال تحيـد مطلقـا عن خـط التمثـل الميتـافزيقي هـذا حـتى عنـدما تكـون
"نقدية" كما عند "ديكارت" و "كانط" .إنـها تفكر انطالقا من الموجود باتجـاه هـذا الموجـود نفسـه مـرورا بنظـرة
وساطة عن الوجود ،ألن كل خـروج من الموجود ورجوع إليه يتموقع مسبقا في نور الوجود.
إن الميتافزيقا ال تعرف نور الوجود وانفتاحه إال باعتباره ذلك النظر المتجه صوبنا من جــانب مــا هــو حاضــر في
"التجلي" ( = ß ò Ý áأيدينا = فكرة = مثال) .أو باعتباره من وجهة نظر نقدية ،ما تبلغه الذاتية بواسطة التمثل
المقوالتي .وهذا معناه أن حقيقة الوجود ،من حيث هي ذلك النور واالنفتاح نفســه ،تظــل متواريــة عن الميتافزيقــا.
لكن هذا االختفاء والتواري ليس بأي حال من األحوال نقصا أو قصورا في الميتافزيقا ،بل مصدر كنزهــا وغناهــا
الخاص الذي هو محتجب عنها وإن كان ماثال فيها .والحال أن هذا النور واالنفتاح هو الوجود نفسه .إنه ما يخــول
لإلنسان على امتداد قدر الوجود في الميتافزيقا فضاء الرؤية هذا ،حيث ما هو حاضر يصيب اإلنسـان الذي يكــون
بدوره حاضرا بالنسبة له على نحو به فقط يستطيع هذا األخير نفسه أن يالمس الوجود في اإلدراك (نــوينí ï å :
) é íـ ( .)Aristote. Met. T. 10وحده فضاء الرؤية هذا يجذب إليه مرمى النظر ،ويتفرغ إليـه في اإلدراك
الذي أصبح تمثال منتجا في الكوجيطو ،أي في إدراك ذات التفكير والوعي بـها كذاتية لليقين .هل لنا أن نطرح هذا
السؤال :كيف يأتي الوجود إلى االنوجاد؟ إن الوجود نفسه هو العالقة :ذلك أنه يحمل االنوجاد إلى ذاته في ماهيتــه
االنوجادية ،أي اللدنية .يأتي بـــهذه إلى ذاتــها باعتبارهـا المجـال الـذي تقيم فيــه حقيقــة الوجـود في قلب الموجـود.
ومادام اإلنسان يتوصل كمنوجد إلى اإلقامة في هذه العالقة التي فيها ينبعث الوجود ذاتــه ويصــير ،مناصــرا إياهــا
لدنيا ،أي محتمال لـها في الـهم ،فإنه يجهل هذا الذي هو أكثر قربا منه أوال (الوجود) ،ويتعلق فقط بمــا ال يــأتي إال
الحقا (الموجود) إلى حد االعتقاد أن هذا األخير هو األقرب إليه ،هذا في حين أن القــرب ذاتــه (La proximite
= حركة االقتراب ومسافة الجوار) ،أي حقيقة الوجود ،هي األكثر قربا مما هو أقرب إليه ،واألكـثر بعـدا في نفس
الوقت بالنسبة للفكر العادي مما هو أكثر بعدا عنه.
أما ما يدعوه "الوجود والزمان" بالـ "سقوط" ،هو نسيان حقيقة الوجود بفعل اجتياح للموجــود غــير مفكــر فيــه في
ماهيته .وكلمة "سقوط" هنا ال تشير إلى خطيئة اإلنسان بالمعنى الفلسفي األخالقي وقد جرد من سياقه الــديني ،أي
بالمعنى الوضعي .بل إلى صلة ما هوية لإلنسان بالوجود داخل عالقة الوجــود بماهيــة اإلنســان .وبنفس الكيفيــة ال
يقتضــي مصــطلحا " :األصــيل" و "الزائــف" اللــذان يـــمهدان لـــهذا التفكــير ،أي اختالف أخـــالق/وجــودي أو
انتروبولوجي ،وإنما يشيران إلى هذه العالقة "اللدنية" لماهية اإلنسان بحقيقة الوجود التي تدعونا للتفكير فيها قبــل
كل شيء ،ألنـها ظلت إلى حــد اآلن مســتترة عن الفلســفة .إال أن هــذه العالقــة ال تكــون بمــا هي عليــه على أســاس
االنوجاد ،بل إن ماهية االنوجاد هي التي تكون على العكس من ذلــك وجودويــة ــ لدنيــة انطالقــا من ماهيــة حقيقــة
الوجود .إن هذا وحده هو "الشيء" البسيط الذي أراد الفكر الساعي إلى التعبير عن نفســه ألول مــرة في "الوجــود
والزمان" بلوغه .والوجـود من حيث هو هذا "الشيء" البسيط نفسه يظل ملغزا باستمرار .إنه القرب العاري لقــوة
ال جبرية .هذا القرب والجوار يبسط ماهيته باعتبارها هي اللغــة ذاتــها .إال أن اللغـة هنـا ،ليسـت أبـدا مجـرد لغـة
بالمعنى الذي نتمثلها به فقط ،أي باعتبارها في أحسن األحوال وحدة لعناصــر ثالثــة هي :البنيــة الصــوتية (الخــط
والرسم) ،اللحن واإليقاع ثم الداللة (أو المعنى) ،لنرى بعــد ذلــك في البنيــة الصــوتية والخطيــة جســد الكلمــة ،وفي
اللحن واإليقاع روحها ،وفي القيمة الدالة فكـر اللغـة .فنحن عنـدما نفكـر في ماهيـة اللغـة عـادة مـا نماثلهـا بماهيـة
اإلنسان ،حيث الماهية هنا قد تم تمثلها كحيوان عاقل ،أي كوحدة لجسد وروح وفكــر .وكمــا أن االنوجــاد ،ومن تم
عالقة حقيقة الوجود باإلنسان ,قد ظل محتجبا في إنسانية اإلنسان الحيواني ،كذلك يخفي التأويـل الميتــافزيقي للغــة
على نمط الحيوان ،ماهيتها التاريخية/االنطولوجية التي تكـون اللغة تبعا لـها مسكنا للوجود ،بفعلها يحصل وعليها
يتجمع .لـهذا السبب من المفيد أن نفكر في ماهية اللغة في توافقها مع الوجـود من حيث هي هذا التوافق نفســه ،أي
من حيث هي مأوى ماهية اإلنسان .لكـن اإلنسان ليس فقط هو ذلك الكائن الحي الــذي يتــوفر على اللغــة باإلضــافة
إلى مقدورات أخرى .بل إن اللغة قبل كل شــيء هي مســكن الوجــود حيث يقيم اإلنســان .وعلى هــذا النحــو ينوجــد
منتميا إلى حقيقة الوجود التي هو حارسها.
يترتب إذن عن هذا التحديد إلنسانية اإلنسان كانوجاد ،أن المهم ليس هو اإلنسان ،بل الوجود كبعد للدنيةـ االنوجاد.
والبعـد هنا ليـس هو ما نعرفه كحيز فضائي ،بل إن كل حــيز فضــائي وكــل فضــاء/زمــاني يبســط ماهيتــه في هــذا
البعدوي الذي هو الوجود نفسه بما هو كذلك.
إن الفكر شديد العناية بهذه العالقات البسيطة ،إنه يبحث في قلب اللسان التراثي القـديم للميتافزيقـا وفي نحوهـا عن
الكالم الذي يعبر به عن تلك العالقات .بقـي لنا أن نعرف هل ما إذا كان من الممكن لـهذا الفكر أن يتحــدد كنـــزعة
إنسانية ،مع افتراض أن مثل الملصقات يمكنهـا أن تكــون ذات محتـوى .بكـل تأكيـد :ال ،نظـرا إلى كـون النــزعة
اإلنسانية تفكر من وجهة نظر ميتافزيقية ،وال إذا كانت هذه النـزعة نـزعة وجوديــة إليهــا تنتمي عبــارة "ســارتر"
التاليــة" :إننــا بالضــبط على تصــميم حيث ال يوجــد إال النــاس فقــط" .بحيث لواردنــا أن نفكــر في هــذا انطالقــا من
"الوجود والزمان" لوجب علينا أن نقول" :إننا بالضبط على تصــميم حيـــث مبــدئيا هنــاك الوجــود" .ولكن مــا هــو
التصميم؟ وما مصدره؟ إن الوجود والتصــميم يتمــاثالن .لــذا قيــل في "الوجــود والزمــان ،ص "212بحــذر شــديد
وبمعرفة تامة باألسباب" :هناك الوجود" .وهذه الــ "هنــاك" ( )5()Il y'aال تــترجم بدقــة عبــارة “ .”esgibtألن
الضمير “) es”: (Ilالذي يعطي ( )donne = gibtهو الوجود نفسه .وكلمة "يعطي" هذه ،تعين في كل األحوال
ماهية الوجود باعتبارها هي من يعطي ويخول ماهيتها ،وما ينعطي بذاته لذاته في المنفتح بواسطة هذا المتفتح هو
الوجود نفسه… إن العبارة" :هنـاك وجود" قد وظفت كذلك من أجل أن نتجنب مؤقتا قول" :الوجــود يوجــد" ،ألن
كلمة "يوجد" هذه تقال عادة عن شيء ما كائن ندعوه بالموجود .فأن تقول عن الوجود بأنه "يوجد" دون أن ترفــق
ذلك بأي تعليق معناه أن تتمثله بسهولة كـ "موجود" كائن على نمط الموجود المعروف الــذي منتج باعتبــاره علــة،
ومنتوج باعتباره نتيجة .ومع ذلك فقد سبق لبارمنيدس أن قال" :يوجد بالفعــل وجــود" أو "هنــاك في حقيقــة األمــر
وجودا" .في هذا الكالم يختفي األصل العجيب لكل فكر .ربما ال يمكن لكلمة "يوجد" "هناك" أن تقال بحق إال عن
الوجود ،بحيث إن كل موجـود ال "يوجد" وال يمكنه أبدا أن "يكون" .ولكن على الفكـــر أوال أن يتوصــل إلى قــول
الوجود في حقيقته ،بدل أن يفسره كموجود انطالقا من الموجود ذاته .كما ينبغي لـهذا السؤال أن يبقى مفتوحا أمــام
الحـذر اليقظ للفكر :هل يوجد الوجود؟ وكيف؟
إن عبارة بارمنيدس" :هنـاك في حقيقــة األمـر وجـود" ،لم يتم التفكـير فيهــا اليـوم بعــد .وباسـتطاعتنا أن نقيس من
خالل هذا ،مدى التقدم الحاصل في الفلسفة .فهذه األخيرة عندما تكون حريصة على ماهيتهــا ال تتقــدم ،بــل تــراوح
مكانـها بوعي منها لتفكر بتبات في ذات الشيء .Le Même :أما التقدم ،أي االبتعاد عن هذا المكــان فهــو الخطــأ
الذي يالحق الفكر باعتباره الظل الذي يصدر عنه .إن الوجود لم يفكر فيه بعــد،ـ لــذا قيــل في "الوجــود والزمــان":
"إنه هناك" [أي يوجد في حركة انعطائه الــتي هي ذاتــه باعتبارهـا مــا يعطي ومن يعطي ] .ولكننــا ال نســتطيع أن
نتحدث عن هذه الـ "هنـاك" أو الــ "يوجــد" أو الــ "ينعطي" [وكلهـا عبــارات لـــها نفس المعــنى المضــمر في Il :
)y'aأو ( ]esgibtمن غـير اسـتعداد أو سـند .إنــها تــهيمن كقـدر للوجـود الـذي يـأتي تاريخـه إلى اللغـة في كالم
المفكرين األساسيين .لـهذا السبب كان الفكر الــذي يفكــر من حيث هــو فكــر باتجــاه حقيقــة الوجــود ،فكــرا تاريخيــا
(بالمعنى األصيل) .ال وجود إذن لفكر "نسقـي" تقترن به استوغرافيا اآلراء السابقة على سبيل الشهرة .كما ليـــس
هناك نسق يستطيع ،مثلما يعتقد "هيغل" ،أن يضع قانون فكره كقـانون للتـاريخ ،ليقــوم من تم بتـذويب التـاريخ في
النسق .ولكن هنـاك تاريخ للوجود مفكر فيه على نحو أصيـل ،إليه ينتمي الفكر كفكر متـذكر ــ في ــ الوجــود لهــذا
التاريخ الذي به يكون حصوله .وهذا الفكر ــ المتــذكر ــ في ــ الوجـود ،يختلـف ماهويـا عن مجـرد إحيــاء لــذكرى
التاريخ باعتباره ماضيا ينساب .فالتاريخ ال يقع باعتباره حدثا .والحدث ليس إنسيابا زمنيا .بل إنه ما يبسط ماهيتــه
كقدر لحقيقة الوجود انطالقا من هـذا األخير( .هولدرلين وماهية الشــعر ،1951 :ص .)47إن الوجـــود يــأتي إلى
قدره من حيث هو هو .إنه ينعطي الشيء الذي يعني أن الوجود وقد فكر فيه انسجاما مع هذا القدر ،ينعطي ويمتنع
في نفس الوقت[ ،يتجلى ويحتجب] .هذا في حين أن التحديد الهيغلي للتاريخ كتطــور "للــروح" ليس خاطئــا .وهــذا
ليس معناه أنه مخطئ في جانب ومحق في آخر .بل إنه تحديد صحيح صـحة الميتافزيقـا ذاتـــها ،الــتي حملت ألول
مرة عند "هيغل" ماهيتهـا مفكرا فيها على نحو مطلق إلى اللغة في النسق .إن الميتافزيقا المطلقة تنتمي شأنـــها في
ذلك شأن كل أشكال القلب التي ألحقها بـها "ماركس" و"نيتشــه" ،إلى تــاريخ حقيقــة الوجــود .ومــا تــرتب عنهــا ال
يمكننا معالجته أو إلغاؤه من خالل دحضه .بل ال يسعنا إال اســتقباله من حيث هــو ماهيتهــا وقــد أرجعت على نحــو
أصيل إلى الوجود نفسه ،محتجبة فيه ومنسحبة من دائرة الرأي اإلنســاني المحض .إن كــل دحض في حقــل الفكــر
المــاهوي ،هــو بمثابــة ال ــ معــنى .ومــا الصــراع بين المفكــرين إال "خصــام عشــاق" مــرده إلى ذات الشــيء .إنــه
يساعدهم تباعا على بلوغ االنتمـاء البسيـــط لـذات الشـيء ،حيث يجــدون التوافـق مــع قــدرهم داخــل قـدر الوجــود.
إذا قدر لإلنسان مستقبال أن يصل إلى التفكـير في حقيقـة الوجـود فسـيفكر فيهـا انطالقـا من االنوجـاد .إنـه يقيم من
حيث هو منوجد ،داخل قدر الوجود .وانوجاده هذا ال يكون إال من حيث هو انوجاد تاريخي .وهذا ليس مــرده أبــدا
إلى مجرد كون كل ضروب األشياء تنبثق مع اإلنسان والقضـايا اإلنسـانية في مجـرى الـزمن .وألن األمـر يتعلـق
بالتفكير في انوجاد الكينونةـ ـ هنا (الدزاين) ،كان من األهمية بمكان بالنسبة للفكر في "الوجود والزمان" أن يختبر
تاريخية هذه الكينونة.
ولكن ألم نقل في "الوجود والزمان" حيث العبارة "هناك = ينعطي" ترد في اللغة بأنــه "ليس هنــاك من وجــود إال
بوجود الكينونة ـ هنا :الدزاين ؟" .ال شك في ذلك .وهذا معناه أن الوجود ال ينتقــل إلى اإلنســان إال بقــدر حصــول
نور الوجود وانفتاحه .إال أن حصول الـ "هنا" باعتبارهـا هي هذا النور واالنفتاح كحقيقة للوجود نفسه ،هو بمثابة
وصف للوجود في حد ذاته .ذلك أن الوجود هو قدر النور واالنفتاح .وهذه العبارة ال تعني بــأي حــال من األحــوال
أن كينونة اإلنسان (الدزاين) بالمعنى التقليدي للوجود بالفعل وبالمعنى الحديث لواقــع األنــا ــ أفكــر (الكوجيطـــو)،
هي هذا الموجود الذي يُ ْبتَدعـ بواسطته الوجود .إنـها ال تقول بأن الوجود من إنتــاج اإلنســان .ففي مقدمــة "الوجــود
والزمان" ص ،38ترد العبارة التالية خالصة واضحة المضمون ،وموضوعة بين قوسين " :الوجود هــو التعــالي
المجرد والبسيط" .فكما أن مقاربة المكانية تتجاوز كل شيء قــريب أو بعيــد عنــدما نتناولـــها من وجهــة نظــر هــذا
الشيء ،كذلك الوجود يظل ماهويا في منأى عن كل موجود ألنه هو هذا النور واالنفتاح نفســه .هنــا الوجــود قــد تم
التفكير فيه وفق كيفية للرؤية ال يمكن تحاشيها للوهلة األولى في الميتافزيقا التي مــا تــزال مهيمنــة.ـ ومن مثــل هــذا
المنظور فقط ينكشف الوجود كمجاوزة ومن حيث هو هذه المجاوزة .
هذا التحديد التمهيدي " :الوجــود هــو التعــالي المحض والبســيط" يجمــع في عبــارة بســيطة الكيفيــة الــتي بموجبهــا
اتضحت واستضاءت ماهية الوجود لإلنسان .كما أن هذا التحديدـ المعكوس لماهيــة الوجــود انطالقــا من استضــاءة
الموجود وانفتاحه كما هو ،يظل ال محيد عنه بالنســبة لكـل فكــر يســعى إلى طـرح الســؤال بصــدد حقيقــة الوجــود.
هكذا يشهد الفكر على قدر انبعاث ماهيته الخاصة ،بعيدا عن الرغبــة في إعــادة تنــاول كــل شــيء من البدايــة تحت
دريعة عدم صحة الفلسفات السابقة .أما فيما يتعلق بمعرفة هـل مـا إذا كـان هـذا التحديـد للوجـود كمتعــال محض،
يشير مسبقا إلى الماهية البسيطة لحقيقة الوجود ،فهذا هو السؤال الوحيد الذي على كل فكر يســعى إلى التفكــير في
حقيقة الوجـود أن يطرحه قبل كل شيء .لـهذا السبب قيل في "الوجود والزمان" ص ،230بأنه ال يمكننــا أن نفهم
كيف يكون هناك الوجود ،إال انطالقا من "المعـنى" فقـط ،أي انطالقـا من حقيقـة الوجـود .فـالوجود ينفتح ويسـتتر
لإلنسان في المشروع اللدني .لكن هذا المشروع ال يخلق الوجود .يبقى أن هذا المشروع في ماهيتـه مشروع ملقى
به .لكن الذي يلقي فيما هو ملقـى به ليس هو اإلنسان ،بل الوجود نفســه الــذي يقــدر على اإلنســان تحمــل انوجــاد ـ
الكينونةـ ـ هنا (الدزاين) ،كما لو يخلع عليه ماهيته .هذا القدر يحصل باعتباره نور الوجود وانفتاحه .إنه هــو نفســه
هذا النور واالنفتاح .إنه يخول للوجود قربه .وفي هذا القـرب ،أي في هـذه الــ "هنــا" ،يقيم اإلنسـان من حيث هـو
منوجد دون أن يتمكن إلى يومنا هذا من اختبار هذه اإلقامة بحق ،وتحملها بالخصوص .هذا القــرب "الـــ" لوجـــود
"من" الوجود الذي هو نفســه "هنـا" الكينونــة ــ هنــا (الــدزاين) ،هــو مــا يســميه الخطــاب في مقالــة حــول (مرثيــة
"العودة) لهولدرلين )1943وقد فكر فيها انطالقــا من الوجــود والزمــان ،بـــ" :الــوطن" .وهي كلمــة مســتعارة من
شعر الشاعر نفسه وانطالقا من تجربة نسيان الوجـود .لـذا فقـد تم التفكـير فيهـا هنـا بمعـنى جـوهري ،أي منظـور
تاريخ الوجود .الشيء الذي يعني أنـها ال تحيل إلى أية نـزعة قومية أو وطنية .كمــا أن ماهيــة "الوطـــن" هنــا ،قــد
دعيت بـهدف التفكير في معنى غياب الوطن بالنسبة لإلنسان الحديث انطالقا من التفكير في ماهية تاريخ الوجــود.
ولقد كان "نيتشه" آخر من اختبر هذا الغياب للوطن ،ولم يجد لــه من مخــرج داخــل الميتافزيقـا ســوى القيــام بقلب
لـها .إال أن هذا القلب كان في حقيقة األمر سدا نهائيا لكل المخارج .أما "هولدرلين" فقد كان كل همه عنــدما تغــنى
ب " :الرجوع إلى الوطن" ،هو أن يحمل "مواطنيـ"ـه على بلوغ ماهيتهم .فهو ال يتغنـى أبدا بـــهذه الماهيــة بــدافع
أنانية وطنية أو قومية ،بل ينظر إليها قبل كـل شيء انطالقا من االنتمــاء لقــدر الغـرب .والغـرب هنــا لم يفكــر فيــه
بكيفية جهوية كمقابــل للشــرق،وال حــتى باعتبــاره أوربــا .وإنمــا من منظــور تــاريخ العــالم انطالقــا من القــرب من
األصل .ولم نشرع نحن في التفكير في العالقات العجيبة مع الغرب التي صارت كالمــا في شــعر "هولــدرلين" إال
مؤخرا .إن "الحقيقـة األلمانية" لم يتم قولـها للعالم ليجد هذا األخير شفـاءه في الماهية األلمانيــة ،بــل قيلت لأللمــان
ليصيروا بموجب القدر الذي يربطهم ببقية الشعوب األخرى مساهمين معها في تاريخ العالم .والقــرب من الوجــود
هو موطن هذه اإلقامة التاريخية.
في هذا القرب للوجود من الوجود وفيه وحده ،يجب أن يتقـرر وإلى األبـد ،هـل مـا إذا كـان اإللـه واإللــهة سـتظل
ممتنعة عن التجلي وكيـف يحصل هذا االمتناع ؛ وهل ما إذا كان الليل سيستمر ؛ وهل مــا إذا كــان نـــهار المقــدس
سيشرق ؛ وكيـف سيكون ذلك الشروق ؛ وهـل ما إذا كان من الممكن لتجلي اإلله واإللـهة في هذا الفجــر المقـــدس
أن يبدأ من جديد وكيف .والحال أن المقدس الذي هو الفضاء الماهوي الوحيد للقداسة ،التي هي بدورها وحدها من
يخـول لإلله ولإللـهة بعدها ،ال يأتي إلى نور التجلي غال عنـدما يكـون الوجـود قـد استضـاء مسـبقا وبعــد اســتعداد
طويل ،وتم اختباره في حقيقته .إذ بـهذا وحده ،وانطالقا من الوجود ،يتم الشروع في مجاوزة غيــاب الــوطن .ذلــك
الغياب الذي ليس الناس وحدهم هم الذين يتيهونـ فيه ،بل ماهيتهم كذلك.
إن هذا الغياب للوطن الذي مازال ينبغي لنا أن نفكر فيه ،يكمن في التخلي عن الوجود لصالح الموجود .إنه الــدليل
على نسيان الوجـود الذي تظل حقيقته بسبب هذا النسيان غير مفكر فيها .وهذا ما ينكشف بطريقة غير مباشرة في
كون اإلنسان ال يهتم أبدا إال بالموجود وال يشتغل إال عليــه .ولكن مــادام اإلنســان ال يســتطيع والحالــة هــذه ،الكــف
على أن يجعل من الوجــود تمثال،ـ فــإن هــذا األخــير ال يحــدد إال باعتبــاره ذلــك الــ "مفهــوم األكثـــر عموميــة" عن
الموجود ،وبالتالي باعتباره ما يشمله ويحيط به ،أو باعتبـاره خلقـا للموجـود الالمتنـاهي ،أو منتـوج ذات متناهيـة.
وفي نفس الوقت يتم النظــر إلى "الوجــود" ،وقــد حــدث هــذا منــذ زمن طويــل ،على أنــه هــو "الموجــود" والعكس
صــحيح .أي يتم اعتبــار "الموجــود" على أنــه "الوجــود" كمــا لــو أنـــهما يمتزجــان في خليــط عجيب لم نتمكن من
التفكير فيه بعد.
إن الوجود من حيث هو القدر الذي يبعث الحقيقــة يظــل محتجبــا .إال أن قــدر العــالم هــذا ينقــال في الشــعر دون أن
يكون قد تجلى كتاريخ للوجود .لـهذا السبب ،وبالنظر إلى إبعاد تاريخ العالم ،يظل فكر "هولدرلين" الذي يعبر عن
نفسه في قصيدة "ذاكرة" ،أكثر أصالة ماهويا .وبالتالي أكثر مستقبلية من نـزعة المواطنــة الكونيــة الخالصــة عنــد
"غوثه" .Goetheولـهذا السبب أيضا نجد في عالقة "هولدرلين" بالهيلينستيةـ شيئا آخر يختلف ماهويا عن كونــه
مجرد نـزعة إنسانية .لذلك كان ما فكــر فيــه الشــباب األلمـاني الــذي كــانت لــه معرفــة بهولــدرلين ،ومـا عاشــه في
مواجهة الموت شيئا آخر غير ما ادعى الرأي العام أنه وجهة النظر الخاصة باأللمان.
إن غياب الوطن قد أصبح قدرا عالميا .لـهذا ينبغي التفكــير في هــذا القــدر بــالنظر إلى تــاريخ الوجــود .ومـا أقربــه
"ماركس" منطلقا من "هيغل" بمعنى جد مهم وجوهري كــاغتراب لإلنســان ،شــيء ضـــارب بجــدوره عميقـــا في
غياب الوطن عند اإلنسان الحديث .هذا الغياب للوطن يفصح عن نفسـه انطالقا من قدر الوجود في مختلف أشكال
الميتافزيقا التي تقويه وتخفيه في نفس الوقت كفقــدان للــوطن .وألن مــاركس قــد بلــغ وهــو يختــبر االغــتراب بعــدا
جوهريا للتاريخ ،فقد جاء مفهومه عن هذا األخير أكثـر سموا من بقية أشــكال االســتوغرافيا .وبمــا أن "هوســرل"
و"سارتر" كذلك حسب ما أعلم لم يتمكنا من االعتراف بأن للتـاريخي L’historiqueماهويتـه في الوجـود ،فـإن
الفنومنولوجيا وحتى الوجودية ال يمكنهما بلوغ هذا البعد الذي بداخله وحده يصبح من الممكن قيام حـوار بنـاء مـع
الماركســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية.
ولكن ،من أجل هذا ينبغي أوال التخلص من التمثالت الساذجة للنـزعة الماديــة ،ومن الدحوضــات الرخيصــة الــتي
تعتقد بلوغها .فماهية النـزعة المادية ال تكمن أبدا في اإلقرار بــأن كــل شــيء ليس إال مــادة .بــل تكمن على العكس
من ذلك في تحديدـ ميتافزيقي يتجلـى تبعا له كل موجود كأداة للعمــل .في "فنومنولوجيـا الـروح" كــان "هيغـل" قـد
فكـر مسبقا في الماهيــة الميتافزيقيــة والحديثــة للعمــل كســيرورة لإلنتــاج الالمشــروط تنتظم تلقائيــا ،أي كموضــعه
للواقعي ( )Le reelمن طرف اإلنسان وقد تعرف على نفسه كذاتيــة .Subjectiviteإن ماهيــة النـــزعة الماديــة
تختفي في ماهية هذه التقنية التي كتب عنها في الحقيقة الشيء الكثير ،ولم يفكر فيها إال قليال .فالتقنيــة في ماهيتهـــا
قدر تاريخي/انطولوجي لحقيقة الوجود من حيث هي كامنة في النسيان .وهي ال ترجع إلى كلمة (تخنيô Ý ÷ í :
) çاإلغريقية من حيث االشتقاق فحسب ،بل إن جدرها التــاريخي /المــاهوي أيضـا يجب البحث عنــه في التخــني
كنمط لال ـ تحجب (الال ـ اختفاء .) Ž ' Ü ë ç q e ý å é í :أي كصفة لتجلي الموجود وانكشافه .إن التقنية من
حيث هي شكل للحقيقة لــها أساسـها في تـاريخ الميتافزيقـا .هـذه األخـيرة نفسـها تشـكل مرحلـة حاسـمة في تـاريخ
الوجود .إنـها الوحيدة التي يمكننـا أن نحيط بـها علما .بإمكاننا أن نتخذ موقفا بكيفيات مختلفــة من تعــاليم الشــيوعية
ومما يؤسسها .لكن من المؤكد أن تجربة أولية لصيرورة العالم التاريخية على صــعيد تــاريخ الوجــود تفصــح فيهــا
عن نفسها .فأن نرى في "الشيوعية" مجرد حزب ،أو مجرد "مفهوم عن العالم" ،معناه أننا قصــيرو التفكــير أكــثر
من أولئك الذين ال يعنون من نعثهم ب "النـــزعة األمريكيــة" سـوى نمــط حيــاة خـاص ،مســتهينين بــذلك منهــا .إن
الخطر الذي تجد أوربا نفسها اليوم محشورة فيه دائما بوضوح ،قد يكمن قبل كل شيء في كون فكرهــا الــذي كــان
سابقا مصدر سموها وعظمتها ،يتراجع عن الطريق الجوهري للقدر العــالمي الــذي يفصــح عن نفســه .ذلــك القــدر
الذي يظل مع ذلك أوربيــا من حيث المالمح األساســية لمصــدر حصــوله المــاهوي .ليس باســتطاعة أيــة ميتافزيقــا
سواء كانت مثالية أو مادية أو مسيحية أن تلحق بقدرها تبعــا لـــماهيتها أو للجهــود الــتي تبــذلها من أجــل االنتشــار.
وأعني بذلك أن تبلغ في الفكر ما من الوجود قد أنجز راهنا .إن القدر المستقبلي لإلنسان ينبني ،بالنظر إلى الغيــاب
الماهوي للوطن الذي أصاب هذا األخير ومن أجــل الفكــر التــاريخي/االنطولــوجي كــذلك ،على ضــرورة اكتشــافه
لحقيقة الوجود ووضع نفسه على درب هذا االكتشاف .إن كل نـزعة قوميــة هي على الصــعيدـ الميتــافزيقي نـــزعة
انتروبولوجية .ومن ثم فهي نـزعة ذاتية .كما أن هذه النـــزعة القوميــة لم يتم تجاوزهــا من خالل النـــزعة العالميــة
المحضة ،بل تم فقط توسيعها وتنظيمها في نسق .وبالتالي فهي لم تبلغ مرتبة اإلنسانية وتكتمل فيها إال قليال .مثلهـا
في ذلك مثل النـزعة الفردانية التي لم تبلغ اكتمالها في النـزعة الجماعية إال عبر مراحــل تاريخيــة .فالجماعــة هي
ذاتية اإلنسان على مستوى الكلية .إنـها تنجز اإلقرار الخاص والالمشروط بـهذه الذاتية .هذا اإلقــرار ال يســمح لنــا
بتحطيمـه وال حتى باختباره بطريقة كافية من خالل فكر ال يوسط إال جانيا منه .ومع ذلك فإن اإلنسان يدور ،وقــد
نفي من حقيقة الوجود ،حول محيط ذاته نفسها كحيوان عاقل .
لكن ماهية اإلنسان تكمن في كونه أكثر من مجرد إنسان ،مادام قد تم تمثله كحي ينعم بعقل .وعبارة "أكــثر من" ال
يجب فهمها هنا بمعنى اإلضافة كما لو أن التعريف التقليدي لإلنسان وجب أن يظل هو التحديدـ األساسي ،ليتم فقــط
توسيعه بعد ذلك بإضافة الخاصية الوجودية له .بل إن معناها" ،أي أكثر من" ،سيكون هو :أكثر أصــالة ،ومن تم
أكثر تجدرا في الماهية .وهنا ينبري اللغز :إن اإلنسان يوجــد في وضــعية الملقى بــه .الشــيء الــذي يعــني أنــه من
حيث هو الجواب المنوجد للوجود ،يتجاوز بكثير الحيـوان العاقل أكثر مما هو بالضبط على صــلة باإلنســان الــذي
يعي نفسه بنفسه انطالقا من الذاتية .إن اإلنسان ليس سيد الموجود بل هو راعي الوجود فقط .وكلمة "فقط" هــذه ال
يخسر اإلنسان بموجبها شيئا ،وإنما يفوز على العكس من ذلـك ببلوغـه حقيقـة الوجـود .إنـه ينـال الفقـر الجـوهري
للراعي الذي تكمن كرامته فيما يلي :إنه من ينادي عليه الوجود نفسه ليتولى حراسة وصــيانة حقيقتــه .هــذا النــداء
يـــأتي كإســقاط للمشـــروع الـــذي يتأصــل فيـــه الكـــائن ـــ الملقى ــــ بـــه للكينونـــة ــــ هنـــا .فاإلنســـان في ماهيتـــه
التاريخية/االنطولوجية ،هو هذا الموجود الذي تكمن كينونته كانوجاد في كونـه يقيم بالقرب من الوجــود .إنــه جـار
الوجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــود.
ولكن ،هل أنتم حقا على استعدادـ للرد علي منذ وقت طويل ،بأن فكرا من هذا القبيــل ال يفكــر بالضــبط في إنســانية
اإلنسان اإلنساني؟ أال يفكر هذا الفكر في هذه اإلنسانية بمعنى جد حاسم وبشكل لم تقم به أيــة ميتافزيقـــا حــتى اآلن
وليست بقادرة على القيام به؟ أال ينطوي هذا الفكـر على "نـزعة إنسانية" بالمعنى القــوي للكلمــة؟ بلى ،إنــه كــذلك
بكل تأكيد .إنه النـزعة اإلنسانية التي تفكر في إنسانية اإلنســان انطالقــا من عالقـــة القــرب والجــوار مــع الوجــود.
ولكنها في نفس الوقت النـــزعة اإلنسـانية الــتي ليس الرهـان فيهــا على اإلنسـان ،بــل على ماهيتــه التاريخيــة الــتي
مصدر حصولها من صميم حقيقة الوجود .وهذا معناه بدون شـــك أن األمـر يتعلــق والحالـة هــذه بانوجـاد اإلنسـان
كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذلك.
لقد قيل في "الوجود والزمان" (ص )38بأن كل سؤال للفلســفة "يحيــل إلى الوجــود" .لكن الوجــود الــذي نتحــدث
عنه هنا ليس هو واقع األنا ـ المفكر (ذات الكوجيطــو) .كمــا أنــه ليس أبــدا مجــرد واقــع ذوات ينتج بعضــها بعضــا
بصفة مشتركة ليقف بذلك كــل منهــا على كنهــه (ذاتــه) .إن "االنوجـاد" إذ يختلــف في هــذا جــذريا عن كــل وجــود
بالفعل ،وعن الوجود (بـمعنى واقع الموجود) ،هو اإلقامة اللدنية بجوار الوجـود وعلى مقربــة منــه .إنــه الرهبانيــة
واليقظة والتبصر .أي ه ّم الوجود .وألن األمر يتعلق في هذا الفكر بـالتفكير في شـيء بسـيط ،فقـد وجـد فيـه الفكـر
المعتمد على التمثل والذي انتقل إلينا عبر التراث كفلسفة ،صـعوبات جمـة .إال أن الصعــب ليس بالخصـوص هـو
االرتباط بمعنى عميق أو صياغة مفاهيم مركبة .بل يكمن قبل كل شيء في طريقة الرجوع إلى الوراء الــتي تمكن
الفكــر من بلــوغ ســـؤال هــو في حقيقتــه تجربــة واختبــار .وتجعــل الــرأي المعتــاد عن الفلســفة تافهــا وبال معــنى.
لقد تردد كثيرا أن محاولة "الوجود والزمان" قد انتهت إلى الطريق المسدود .لندع هذا الرأي جانبا .إن الفكر الذي
يقوم ببضع خطوات في هذا المؤلف ما يزال معلقا إلى يومنا هذا .ولكنه بمرور الوقت ربما يكون قــد اقــترب شــيئا
ما من موضوعه .وطالما أن الفلسفة ال تهتم دائما إال بحرمان نفسها من كــل إمكانيــة لبلــوغ موضــوع الفكــر الــذي
ليس سوى حقيقة الوجود ،فإنـها تنفلت بكل تأكيدـ من خطر القطيعة المطلقة مــع صــالبة موضــوعها .لـــهذا الســبب
نجد أن ثمة هوة تفصل فعل "التفلسف" حول الفشل عن الفكر الذي يجرب الفشل في حد ذاته .وإذا ما وجــد إنســان
ما الفرصة لبلوغ مثل هذا الفكر ،فسوف لن يصيبه من ذلك أي شـقاء .بـل ســتكون من نصــيبه تلــك الهبـة الوحيــدة
التي تأتي من الوجود إلى الفكر.
علينا أن نضع نصب أعيننا مـا يلي :إن موضــوع الفكــر ال يتم بلوغــه بمجــرد الشــروع في الــثرثرة حــول "حقيقــة
الوجود" وحول "تاريخ الوجود" .بل المهم هو أن تأتي حقيقة الوجود إلى اللغــة ،ويتوصـــل الفكــر إلى هــذه اللغــة.
ولعل اللغة تقتضي منا والحالة هذه ،صمتا محقا أكثر بكثير من التهافت في التعبير .ولكن من منا اليوم يستطيع أن
يتخيل بــأن المــوطن األصــيل لـــهذه المحــاوالت في التفكــير هــو درب الصــمت؟ لــو أمكن لفكرنــا أن يــذهب بعيــدا
الستطاع أن يدل على حقيقة الوجود ،وإن يعلن عنها باعتبارها ما يجب التفكــير فيــه .وال نســحب بــذلك من دائــرة
الرأي والمصادفة ،وانتقـل إلى هذه الطريقة الفنية في الكتابة التي أصبحت نادرة .فاألشياء التي لها وزنــها ولـو لم
ترسخ إلى الألبد،ـ تحصل في الوقت المناسب ،رغم ما قد يطـرأ على هذا الوقت من تأخر إلى حد كبير.
أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان مجال حقيقة الوجود عبارة عن طريق مسدود أو كان هــذا المجــال هــو البع ـدـ
الحر حيث تضع الحرية ماهيتها ،فإن كل واحد يستطيع أن يحكـم على ذلك بنفسه عندما يحـــاول أن يســلك الســبيل
المشار إليه ،أو ـ وهذا أفضل ـ أن يشق لنفسه طريقا آخر أنجع ،أي أكثر انسجاما مع السؤال .في الصفحة مــا قبــل
األخيرة من "الوجود والزمان" (ص )437يمكننا أن نقرأ الجمل التالية" :إن النقاش المتعلق بتأويــل الوجــود (وال
أقول بالموجود أو أكثر من ذلك بكينونة اإلنسان) ،ال يمكنه أن يتوقف ألنــه لم يشــرع فيــه بعــد .وفي كــل األحــوال
ليس لنا أن نفرضه بالقوة ،ولكن علينا من أجل خوض غماره أن نستعد له .وهــذا هــو الـــهدف الوحيــد الــذي يتجــه
صوبه البحث الراهن" .هذه الجمل ما تزال صالحة إلى يومنا هذا رغم مرور عشرين سنة على كتابتها .لنبــق إذن
في ما سيأتي من األيام على هذا الدرب كمسافرين ماضين باتجاه مجاورة الوجود والتقرب منه .وإن السؤال الــذي
تطرحونه ليساعد على تحديد ما يكونه هذا السبيل بكل دقة.
إنكم تسألون" :كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة "النـزعة اإلنسانية؟" وهذا السؤال ال يفترض فقــط أنكم
ترغبون في اإلبقاء على نفس الكلمة ،بل يحتوي كذلك على التصــريح بكونـــها فقــدت معناهــا .ولقــد فقــدت معناهــا
بالفعل ألننا نعي تماما أن النـزعة اإلنسانية ميتافزيقية في ماهيتها .وهذا يعني في الــوقت الــراهن أن الميتافزيقــا ال
تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال بصدد حقيقة الوجود ،بل تحول أكثر من ذلك دون طرحـه من فرط استمرارها في
نسيان الوجود .إال أن الفكر الذي قادنا بالضبط إلى اقتحـام ماهيـة النــزعة اإلنسـانية على هـذا النحــو جـاعال منهــا
سـؤاال ،قــد حملنـا في نفس الـوقت على التفكـير بأصـالة أقـوى في ماهيــة اإلنسـان .وبـالنظر إلى إنسـانية اإلنسـان
اإلنساني هذه األكثر عمقا وماهوية ،تتاح لنا إمكانية إعطاء من جديد لكلمة النـزعة اإلنسـانية معـنى تاريخيـا أكـثر
قدما من ذلك الذي يمكننا أن نقيمه كرونولوجيا .عندما أقول بأن علينـا أن نعطيها معنى جديــدا ،ال أقصــد بــذلك أن
كلمة "النـزعة اإلنسانيـة" خالية في حد ذاتـها من المعنى ،وإنـها هراء .بل إن "اإلنسية" في هذه الكلمــة تــدل على
اإلنسانية من حيث هي ماهية اإلنسان .أما "…ية" (ياء النسب وتاء التأنيت التي تدل على النـزعة إلى …) فتشير
إلى أن ماهية اإلنسان يجب النظر إليها كأساس .وهذا هو المعنى الخاص بكلمـة "النـزعة اإلنسانية" من حيث هي
كلمة .وإذا كان علينا أن نعطيها معنى ،فهذا يعـني أن علينـا فقـط ،أن نحـدد معـنى الكلمـة من جديـد،ـ الشـيء الـذي
يتطلب اختبار ماهية اإلنسان ،قبل كل شيء بشكل أكثر أصالة ،لنبين فيما بعد بـأي مقيـاس توجــد هــذه الماهيـة في
كيفيتها تبعا لقدر حصولها .إن ماهية اإلنسان تكمن في االنوجاد ـ واالنوجاد هــو المهم باألســاس ــ أي انطالقــا من
الوجود نفسـه من حيث هو الذي يعمل على حصول ماهية اإلنسان باعتباره من ينوجد للسـهر على حقيقـة الوجـود
داخل هذه الحقيقة نفسها .وبناء على هذا ســيكون معــنى "النـــزعة اإلنســانية" ــ هــذا إذا مــا قررنــا االحتفــاظ بنفس
الكلمة ـ هو أن ماهية اإلنسان أساسية جدا بالنسبة لحقيقة الوجود .وإنـــها من األهميــة بحيث لن يكــون اإلنســان من
اآلن فصاعدا هو بالضبط الوحيد الذي يهمنا أمره .هكذا تتجلى الكلمة باعتبارها مصطلحا يتجاوز ما يحيل إليه في
ذاتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه.
هذه "النزعة اإلنسانية" التي تقوم ضد كل نـزعة إنسانية سابقة ،دون أن تــدعي مــع ذلــك بــأي حــال من األحــوال،
أنـها المبشر بالال ـ إنساني ،هل يجب أن ننعتها أيضا بالـ "نـزعة اإلنسانية"؟ ربما يكون مكســبنا الوحيــد من هــذا،
ونحن نتبنى استعمال هذا الملصق ،هـو االنسـياق بـدورنا في التيـارات المهيمنـة الـتي اختنقت في النــزعة الذاتيـة
للميتافيزيقا ،وانتهى بـها األمر إلى الغرق في نسيان الوجـود ،ولكن ،أليس على الفكـر أن يحـاول مقاومـة مفتوحـة
للنزعة اإلنسانية المجازفة باندفاع قد يمكـن أخيرا من االعتراف بإنسانية اإلنســان اإلنســاني وبمــا يؤسســها؟ هكــذا
يـمكن أن يستيقظ ذلك الفكر الذي يضع على عاتقه مهمة التفكير ليس فقط في اإلنسان ،بل في "طبيعتـــ"ـــه ،وليس
فقط في الطبيعة ،وإنما فيما هو أكثر أصالة ،أي في البعد الذي تجد فيه ماهية اإلنسان نفسها ـ وقــد حــددت انطالقــا
من الوجود ذاته ـ في مسكنها .وهذا لن يتأتى بطبيعة الحــال ،إال إذا كــان الظــرف الــراهن لتــاريخ العــالم يــدفع من
تلقاء ذاته إلى مثل هذا التفكير .ربما يكــون من األجــدى أن نتحمــل ولــو لبعض الــوقت ،األخطــاء المحتومــة لـــهذه
التأويالت التي يجد مسار الفكر في عنصر الوجود وفي الوجود والزمان ،نفسه عرضة لـها .ونتركهــا حــتى تنهــك
وتتالشى من تلقاء ذاتـها .فـهذه األخطاء في التأويل هي االنعكاس الطـبيعي لمـا فكرنـا فيــه مباشـرة أثنــاء القـراءة
وكنا نعتقد قبلها أننا على علم به .إنـها تكشف في جملتها عن نفس البنية ونفس األســاس .وبمــا أن هــذا الفكــر يقــوم
ضد "النـزعة اإلنسانية" ،فقد ساد االعتقاد بأنه دفاع عن الال ـ إنســاني ،وتمجيــد لالنــدفاع المتــوحش .إذ أي شــيء
أكثر "منطقا" من هذا ،وهو أن من يفضح النـزعة اإلنسانية ويقوم ضدها ،لن يجد له من مخرج سوى الــدعوة إلى
البربريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.
وبما أن هذا الفكر يقوم ضد "المنطق" ،فقد ساد االعتقاد بأنــه إذ يتنــازل عن نجاعــة التفكــير ،فإنــه يســتعيض عنــه
ضرورة بـهيمنةـ اعتباطية الغرائز واألهواء وبالتالي فهو يطالب بال "نزعة الالعقالنية" كواقـع .إذ أي شيء أكثر
منطقـــــا من هـــــذا وهـــــو أن من يصـــــرح بأنـــــه ضـــــد مـــــاهو منطقي ،إنمـــــا يـــــدافع عن الالمنطـــــق.
وبما أن هذا الفكر يقوم ضد "القيم" فقد اعتبر بكل برودة أنه فلسفة تتجرأ على جعل القيم العليــا لإلنســانية عرضــة
لالحتقار .إذ أي شـيء أكــثر منطقـا من هــذا ،وهــو أن الفكــر الــذي ينفي القيم ،وجب بالضـرورة أن يصـرح بعــدم
وجود قيمة ألي شيء .وبما أنه قد قيل عن كينونة اإلنسان بأنـها تكمن في "الوجود ـ في ـ العالم" ،فقد اعتــبر ذلــك
اختزاال لـها في ماهية دنيويةـ محضة .الشيء الذي يغرق الفلسفة في النـزعة الوضعية .إذ أي شيء أكثر "منطقــا"
من هذا ،وهو أن من يقر بعالمية كينونـة اإلنسان ،إنما يقيم وزنا للدنيا نافيا بذلك اآلخرة ،ورافضـا لكــل "تعــال"؟!
وبما أنه قد تمت اإلحالة إلى كلمة "نيتشه" عن "موت اإلله" ،فقد اعتبر مثــل هــذا الموقــف نـــزعة الحاديــة .إذ أي
شيء أكثر "منطقا" من هذا ،وهو أن من جرب واختبر "موت اإلله" ال بد أن يكون ملحدا ؟!
وبما أن الفكر يقوم في كل ما أتينا على ذكره ضد كل ما تعتبره اإلنسانية ساميا ومقدسا ،فقد ســاد االعتقــاد أن هــذه
الفلسفة ذات "نـزعة عدمية" هدامة وال مسؤولة .إذ أي شيء أكـثر "منطقـا" من هــذا ،وهــو أن من ينفي على هــذا
النحــو الوجــود الحــق من كــل شــيء ،إنمــا ينحــاز إلى جــانب الالموجــود ويعلن العــدم المحض كمعــنى للواقــع؟!
ولكن ما الذي يحدث في حقيقة األمر؟ إن سمعنا يشنف بحــديث عن "نـــزعة إنســانية" ،عن "منطــق" ،عن "قيم"،
عن "عالم" وعن "هللا" ،ثم عن نواقض لـهذه الكيانات .إننا نتعرف فيهــا على مــا هــو إيجــابي ونأخــذها على أنـــها
الشيء اإليجابي .وما قيل ضدها ،أو تم على األقل تبنيهـ بإدعان ساذج ودون تمحيص يذكر ،ينظر إليه بعجلــة على
أنه نفي لـها ،منددين في هــذا النفي بالــ "ســلبي" باعتبــاره مــا هــو هــدام .هــذا مــع أننــا في مكــان مــا من "الوجــود
والزمان" ،تحدثنا صراحة عن "التقويض الفينومنولوجي" .ولقد ساد االعتقاد انطالقا من العقل ومن هــذا المنطــق
الذي ما فتئ يعتدـ به ،بأن ما ليس إيجابيا فهو سلبي يفضي إلى تحجيم العقل .وبالتالي فهو يستحق أن يفضح وينــدد
به كانحالل وفساد .هكذا يدفع االعتزاز المفرط بالـ "منطق" إلى التعجيل بضم كل ما يتعارض مــع خمــول الــرأي
المستقيل إلى خانة األضداد التي ينبغي التخلص منها .فكل ما ال يمت بصلة لإليجابي المعـروف والمسـتحب ،يلقى
به في خندق السلب المحض .ذلك الخندق المعد سلفا للطعن في كل شيء والزج به في العدم لتكمــل بــذلك النـــزعة
العدمية.ـ إذ بـهذه الطريقة المنطقية في "التفكـير" يتم إغـراق كـل شـيء في نــزعة عدميــة بـنيت أساسـا بمسـاعدة
المنطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق.
ولنا أن نسأل :هل تقود المعارضة الــتي يرفعهــا فكــر مــا في وجــه الــرأي المعتــاد إلى النفي المحض وإلى الســلبي
بالضرورة ؟ إن هذا ال يحدث في حقيقة األمر (وفي هذه الحالة بشكل محتوم وحاسم ،أي دونما مفــر باتجــاه شــيء
آخر) ،إال إذا فرضنا مسبقا أن يكون هذا الرأي هو "اإليجابي" ،وأنـه انطالقـا من هــذا "اإليـــجابي" يتقــرر مطلقـا
وبصفة سلبية في نفس الوقت ،مجال االعتراضات التي بإمكانها أن تقوم ي مواجهته .إن مثل هذا التصـرف يكثـــم
االمتناع عن تعريض ما قــدرنا مســبقا أنــه "إيجــابي" للنقــد ،وكــذا الموقــف والمعارضــة اللــذان يعتقــد أنــه قــد نجـا
بواسطتهما .فمن خالل اإلحالة المستمرة إلى ما هو "منطقي" نعطي االنطباع بأننا نسلك درب الفكـر ،بيـد أننـا في
الحقيقة قد أنكرناه وتخلصنا منه .يمكننا بقليل من الكلمات أن نقيم الدليل على أن معارضة الـ "نـزعة اإلنسانية" ال
تعــني بــأي حــال من األحــوال الــدفاع عمــا هــو ال ـ ـ إنســاني ،وإنمــا تفتح على العكس من ذلــك مخــارج أخــرى.
إن الـ"منطق" ينظر إلى الفكـر على أنـه تمثـل للموجـود في وجـوده .وهـذا الوجـود يعرضـه التمثـل على ذاتـه في
عمومية المفهوم .ولكن ،ماذا عن التفكير في الوجود نفسه؟ أي عن الفكر الذي يفكــر في حقيقــة الوجــود؟ لقــد كــان
هذا الفكر هو أول من أدرك الماهية األصلية للوغوس الذي ولــد ميتــا ومســتهلكا عنــد كــل من أفالطــون وأرســطو
مؤسس الـ "منطق" .فأن نفكـر ضد الـ"منطق" ليس معناه أن نفتح نقاشا لصالح الالمنطـق .بــل أن نعــود فقــط إلى
التفكير في اللوغوس وفي ماهيته كما تجلت للفكر في عصره األول ،أي أن نتعاطى أخــيرا لتحمــل مشــقة اإلعــداد
لمثل هذا التفكير .ماذا تجدي كل هذه األنساق المنطقية المهذارة إذا كــانت تنطلــق أوال وقبــل كــل شــيء من العمــل
على استبعاد طرح السؤال بصدد ماهية اللوغـوس ،دون أن تكـون حـتى على علم بمـا تفعــل؟ وإذا شــئنا أن نعكس
وجهة هذه االنتقادات ،وهذا شيء عقيم بكل تأكيد،ـ أمكننا أن نقول بمزيدـ من السدادة أيضا ،بأن النـزعة الالعقالنية
من حيث هي رفض للعقل ،تـهيمن بشـكل خفي ال يمكن الطعن فيـه ،في سـيادة الـدفاع عن الــ "منطـق" بالضـبط،
مـادام هذا الـدفاع يعتقـد أنـه قـادر على القيـام بتأمـل في اللوغـوس وفي ماهيــة العقـل اللـذين يكمن فيهمـا أساسـه.
إن الفكــر الــذي يتعــارض مــع "القيم" ال يــدعي أبــدا بــأن كــل مــا نتحــدث عنــه من "قيم" وثقافــة" و"فن" و "علم
و"كرامة اإلنسان" و"العالم" و "هللا" ،ال قيمة له .وإنما األمر يتعلق فيه أوال باالعتراف أخيرا بأن عمليــة إضــفاء
قيمة على شيء ما هي بالضبط التي تجرد ما اعتقدنا أننا نســمو بــه على هــذا النحــو من كرامتــه .وأعــني بــذلك أن
التقدير الزائد لشيء ما كقيمة له ،ال يسمح بتداول مـا تم تقييمــه إال كموضــوع للتقــييم من طــرف اإلنســان .لكن مــا
يكونه شيء ما في كينونته ال يستنفـد في توضيعه ،السيما إذا كانت لـهذه الموضعة( )6خاصية القيمة .فكــل تقــييم،
حتى عندما يكون إيجابيا يكون عبارة عن تذويت (نسبة إلى الــذات) .إنــه ال يــدع الموجــود يوجــد ،بــل يجعــل منــه
موضوعا لمساوماته فقط .وهذا تصرف غريب يسعى إلى إثبات موضــوعية القيم دون أن يكــون على علم بحقيقــة
ما يفعل .فنحن عندما نصرح بأن هللا هو "أسمى قيمة" إنما نحط في الحقيقة من قيمته .هنا كما هناك نجد أن الفكــر
المصوغ في شكل قيم هو أكبر قذف يمكنه أن يقال في حق الوجود .أما عندما نفكــر ضــد القيم ،فهــذا ال يعــني أننــا
ندعو بصخب كبير إلى غياب القيم وانتفاء الموجود ،بل إلى ما يلي :أمـام هـذا التــذويت الــذي يجعـل من الموجـود
مجرد موضوع ،علينا أن نعمل على حمل نور حقيقة الوجود وانفتاحها أمام الفكر.
إن اإلحالة إلى "الوجود ـ في ـ العالم" كسمة أساسية إلنسانية اإلنسان اإلنساني ال تزعم أن اإلنـسان مجــرد ماهيــة
"دنيوية" بالمعنى المسيحي .أي أنـها قد صدت عن سبيل هللا وانفصلت نـهائيا عن "التعالي" .ونقصد بـهذه الكلمــة
ما سيكون واضحا عند تسميته ب "المتعـالي" .وهذا "المتعالي" هو الموجود ما فــوق المحســوس .إنــه هنــا بمثابــة
الموجود األكثر سموا بمعنى العلة األولى لكل موجود .وهللا نفسه هو الذي فكر فيه هنا باعتباره هذه العلــة األولى.
أما كلمة "العالم" في عبارة "الوجـود ـ في ـ العالم" فال تشير مطلقا إلى الوجود األرضي في مقابـل الملكـوت ،وال
حتى إلى "الدنيوي" في مقابل "األخروي" .إن كلمة "عالم" في هذا التحديدـ ال تشير أبدا إلى موجود ما ،وال حــتى
إلى مجـال معين للموجود ،بـل إلى انفتـاح الوجـود .فاإلنسـان يكـون ،ويكـون إنسـانا بقـدر مـا ينوجـد .إنـه يقيم في
االنخطاف نحو انفتاح الوجود .هذا االنفتاح هو الوجود نفسه الذي يســتقبل من حيث هــو من يلقي ،ماهيــة اإلنســان
بإلقاءها في الـ"هم" .إن اإلنســان وقــد ألقي بــه على هــذا النحــو يقيم "في" انفتــاح الوجــود .ومـــا "العــالم" إال نــور
الوجود وانفتاحه حيث اإلنسان غارق في قلب ماهيته الملقـاة .الـ"وجود ـ في ـ العـالم" إذن يسـمي ماهيـة االنوجـاد
بالنظـر إلى البعد المنفتح والمستضاء الذي انطالقا منه وفيه تنتشر "أن" الـ (انــ) وجـاد( .)7هكـذا يكـون "العـالم"
بشكل من األشكال ،وإذا ما فكرنا فيه انطالقا من االنوجاد ،هو بالضبط الماوراء (المفــارق) داخــل االنوجــاد ومن
أجله .فاإلنسان ليس أبدا إنسانا قبـل كـل شـيء من جـانب العـالم كــ "ذات" حـتى نـدرك هـذه الكلمـة كــ "أنـا" وكـ
"نحن" .إنه ليس أبدا مجرد ذات فقط تكون في نفس الوقت على عالقــة ثابتــة بموضوعاتـــها ،على نحــو تكــون بــه
ماهيته مقيمة في العالقة :ذات/موضوع .بل إنه في ماهيته يكون منوجـدا أوال وقبل كل شــيء في انفتــاح الوجــود.
هذا التفتح وحده يضيء ويفسح ما "بين ـ الثنايا" (الوجود والموجود) ،حيث يمكن لعالقــة مــا بين ذات وموضــوع
أن "تحصل".
إن العبارة التالية" :ماهية اإلنسان تقوم على أسـاس الوجــود ــ في ــ العــالم" ،ال تقــرر أبــدا بشـأن هــل مــا إذا كــان
اإلنسان بالمعنى الميتافزيقي/الالهوتي كائنا دنيويا أو ينتمي إلى العالم األخــروي .لـــهذا السبـــب لم يتقــرر بعــد من
خالل هذا التحديد الوجودي لماهية اإلنسان شيئا بصدد "وجود هللا" أو "عدم وجوده" ،وال أكثر من ذلــك بإمكانيــة
اإللـهة أو استحالتها .إنه إذن لمن السخافة والتهافت في التحليل االدعاء بأن هذا التأويل لماهية اإلنسان انطالقا من
عالقتها بحقيقة الوجود ،نـزعة الحادية .فهذا التصنيف االعتباطي ال يكشف سوى عن نقص في االنتبــاه وضعـــف
في التركيز أثناء القراءة .ولقد ورد "في ماهية السبب" ،1929ص .28ما يلي دون أن يكــثرت أحــد بــذلك " :إن
التأويل االنطولوجي للكينونة ـ هنا (الدزاين) كـ"كينونة ــ في ــ العــالم" ال يقــرر شــيئا ســلبا أو إيجابــا عن إمكانيــة
وجود هللا .لكن عرض التعالي وتوضيحه يمكنه بدون شـك أن يقدم لنا وألول مرة مفهوما كافيا عن الكينونة ــ هنــا
(الــدزاين) ،بنــاء عليــه يمكننــا من اآلن فصــاعدا أن نتســاءل على المســتوى االنطولــوجي عن العالقــة بين اإللــه
والكينونة ـ هنا" .فإذا كان التفكير اآلن في هــذه المســألة ضــيقا وســطحيا للغايــة كمــا العــادة ،فــذلك مــا تصــرح بــه
المالحظة التالية ذاتـها :إن هذه الفلسفة ال تقرر هل ما إذا كانت مع أو ضــد وجــود هللا ؛ إنـــها تظــل مســتغرقة في
الالـ مباالة ؛ إن المسألة الدينيةـ ليست بالنسبة لـها ذات أهمية ،وعليه فإن نـزعة الحياد هذه (والعبثيــة حــتى) تكــون
طعما للنـزعة العدمية.
ولكن ،هل تدعو الفقرة الواردة أعاله إلى نـزعة الحياد ؟ لماذا تكون بعض الكلمات والحالة هذه ،قد حددت وكتبت
بمفردها بحروف بارزة في الملحوظة ؟ لقد كانت الغاية من ذلك هي اإلشارة إلى أن الفكر الذي يفكــر انطالقــا من
السؤال بصدد حقيقة الوجود يتساءل بشكل أكــثر أصــالة ممــا تســتطيع الميتافزيقــا القيــام بــه .إذ انطالقــا من حقيقــة
الوجود هذه تسمح لنا ماهية المقدس بالتفكير فيها .كما ال يمكننا التفكــير في ماهيــة األلوهيــة إال انطالقــا من ماهيــة
المقدس .وال يمكننا التفكير والحديث عما تسميه كلمة "هللا" إال انطالقا من ماهية األلوهية (القداسة) .أال ينبغي لنــا
والحالة هذه ،أن ندرك بعناية جميع هذه الكلمات ونتمكن من اإلصغاء لـها ،إذ أردنا أن نكون من حيث نحن بشــر،
أي من حيث نحن كائنات منوجدة ،في مسـتوى اختبـار العالقـة بين اإللـه واإلنسـان ؟ كيـف يتمكن إنسـان التـاريخ
الراهن للعالم ولو من التساؤل عما إذا كان اإلله يقترب منه أو يبتعدـ عنه ،مادام يهمل تجنيدـ فكره قبل كل شيء في
البعدـ الذي بداخله وحده فقط ،يمكن لـهذا السؤال أن يطرح ؟ هذا البعد الذي هو بعد المقــدس ،يظــل بمــا هــو كــذلك
منغلقا طالمـا أن تفتح الوجـود لم يســتنر ولم يقــترب في نـوره وانفتاحــه من اإلنسـان .ولعـل السـمة المهيمنـةـ لــهذا
العصر من العالم تكمن في انغالق بعد ما هو حميد،ـ وفي هذا قد يكمن الضــرر الوحيــد .ومــع ذلــك فنحن ال نقصــد
مطلقا من خالل هذه المالحظة أن الفكـر الذي يؤشر على حقيقة الوجود باعتبارها ما يجب التفكــير فيـــه ،قــد قــرر
االنحياز إلى جانب اإليـمان .إنه ال يستطيع أن يكون مؤمنا مثلمـــا ال يسـتطيع أن يكــون ملحــدا .وهـذا ليس مـــرده
إلى موقف الحيــاد ،بــل إلى كونــه يأخــذ بعين االعتبــار الحــدود الثابتــة الــتي ال يمكن للفكـــر من حيث هــو فكــر أن
يتجاوزها .وهو ال يستطيع أن يتجاوزها بفعل هذا نفسـه الذي يقدم له باعتباره ما يجب التفكير فيه ،أال وهو حقيقــة
الوجود .وعندما يتشبت الفكر بمهمته هذه ،فإنه يوجه لإلنسان في هذا اللحظة من القــدر العــالمي ،الــدعوة ليقيم في
البعدـ األصلي إلقامته التاريخية .وبقوله لحقيقـة الوجود على هذا النحو ،يكون الفكر قد عاد إلى ما هو أكــثر أهميــة
من كل القيم ومن كل موجود .فال يتجاوز الميتافزيقا بالقفز عليها ،أي بالصعود عاليــا إلى حيث ال نـدري من أجـل
إكمالهــا ،وإنمــا بــالنزول إلى حــد االقــتراب ممــا هــو أقــرب .وإن الــنزول ألصــعب وأشــد خطــورة من الصــعود،
خصوصا هناك حيث اإلنسان قدتاه قي ارتقائه إلى الذاتية :إنه يقود اإلنسان اإلنساني إلى فقر انوجاده حيث يغــادر
مجــال اإلنســان الحيــواني للميتافزيقــا .وهــذا المجــال هــو الــذي تشــكل ســيادته األســاس البعيـدـ والالمباشــر لعمــاء
واعتباطية ما نحدده باعتباره نـزعة بيولوجية .وأيضا لما نعرفه تحت اسم :البراغماتية (النفعية) .ذلــك أن التفكــير
في حقيقة الوجود يعني في نفس الوقت التفكير في إنسانية اإلنسان اإلنساني .فالمهم إذن هو أن تكون اإلنســانية في
خدمة حقيقة الوجود من دون نـزعة إنسانية بالمعنى الميتافيزيقي.
ولكن ،إذا كانت اإلنسانية تبدو بالنسبة لفكر الوجود ضرورية إلى هذا الحد ،أال يجب أن تكتمل "االنطولوجيا" بالـ
"أخالق"؟ أليس المجهود الذي تعبرون عنه في هذه الجملة والحالة هذه ،من األهمية بمكان":إن ما أسعى للقيام بــه
منذ زمن بعيد هو التحديد الدقيق للعالقة بين االنطولوجيا وإمكانية األخالق"؟ لقد سبق أن سألني صديق شــاب ولم
يكن قد مضى عن صدور "الوجود والزمان" إال وقت وجيز" :مــتى تكتبــون في األخالق" والحــق أن هنــاك حيث
ماهية اإلنسان قد تم التفكير فيها بشــكل جـوهري جـــدا ،أي انطالقــا من الســؤال بصــدد حقيقــة الوجـود ،وحيث أن
اإلنسان لم ينظر إليه مع ذلك كمركز للموجود ،تظهــر الحاجــة الملحــة إلى بالغ يتلــوه وإلى قواعـــد توضــح كيــف
ينبغي لإلنسان المجرب انطالقا من انوجـاد الوجــود أن يعيش انسـجاما مــع قـدره .فبقــدر مـا يتنــامى االضـطراب
الظاهر في اإلنسـان والخفي منـه متجـاوزا كـل المقـاييس ،بقـدر مـا تـدعو الحاجـة إلى األخالق ضـرورة تحقيقهـا
بإلحاح كبير .والواجب أن نوجه عنايتنا واهتمامنا لمؤسسة الربط األخالقي هذه ،خصوصا في زمن لم يعد فيه من
الممكن إلنسان التقنية الواقع تحت رحمة الكيان ـ الجماعي ،أن يبلغ استقرارا مضمونا إال بتجميع وتنسيق مجموع
تصاميمه وممارساته انسجاما مع هذه التقنية.
كيف لنا أن نتجاهل هذه الفاقة ؟ أال تجب مراعاة وتقويــة الروابــط الموجــودة ،حــتى وإن كــانت ال تضــمن تماســك
ماهية اإلنسان إال بشكل ضئيل جدا وفي الظرف الراهن فقط؟ بلى ،هذا ما يجب بكل تأكيد .ولكن ،هل هذه الحاجة
رغم كل هذا ،تعفي الفكر من استذكار ما بقي له مبدئيا أن يفكر فيه ،والذي هو ،باعتباره الوجــود وحــتى قبــل كــل
موجود ،الضمانة والحقيقة؟ هل مازال بإمكان الفكر أن يتغاضى عن التفكير في الوجود بعد أن كشف هذا األخــير
عن نفســه في الــوقت الــراهن للعــالم ،عــبر اهــتزاز كــل موجــود ،وبعــد أن ظــل طي النســيان لــزمن طويــل ؟
ولكن ،إذا كانت "االنطولوجيا" تفصح ،مثلها في ذلك مثل "األخالق" وكل فكر وليــد المــذاهب عن عــدم جــدواها،
وترتب عن هذا أن صار فكرنا أكثر مذهبيــة ،فمــاذا ســيكون مصــير الســؤال عن العالقـــة بين هــذين الفــرعين في
الفلســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفة؟
لقد ظهرت "األخالق" ألول مرة مع بداية ظهور "المنطق" و"الفزياء" في مدرسة أفالطون .فكان أن نشــأت هــذه
الفروع في العصـر الذي أصبح فيه الفكر "فلسفة" ،وأصبحت الفلسفة (اإلبيســتيمي) والعلم كــذلك مهمــة للتــدريس
وعمال مدرســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيا.
وقد مكنت هذه السيرورة التي فتحتها الفلسفة بهذا المعنى من نشأة العلم فكانت وباألعلى الفكــر وتقويضــا لــه .قبــل
هذا العصر لم يكن المفكرون يعرفــون الــ "منطــق" أو الــ "أخالق" أو الــ "فزيــاء" .ومــع ذلــك لم يكن فكــرهم ال
منطقيا أو ال أخالقيا ،بل فكروا في الفيزيس بعمق وسعة .وهـو الشـيء الـذي لم يكن أبــدا في مقـدور أيــة "فزيـاء"
الحقة أن تقـوم بـه .وإذا جـاز لنـا القيــام بـــهذه المقاربـة قلنـا :إن مسـرحيات "سـوفوكلس" تتضـمن في نصوصــها
"االيتوس" بشكل أكثر أصالة من دروس أرسـطو حـول "األخالق" .إن عبـارة وجـيزة "لــهرقليطس" مكونـة من
ثالث كلمات ،تعبر عن شيء أكثر بساطة بحيث تتضح من خاللـها ماهية االيتوس (األخالق) مباشرة .هذه العبارة
تقول ما يترجم عادة بما يلي" :الخاصية األساسية لإلنســان هي شـيطانه" (الشــذرة ،)119 ،هـذه الترجمـة تفصـح
عن طريقة حديثة في التفكير ليست أبدا إغريقيــة ،ألن (االيتــوس) تعــني :اإلقامــة ومكــان الســكن .إنـــها تشــير إلى
المنطقة المنفتحة حيث يقيم اإلنسان .هذا المنفتح الذي يقيـم فيه اإلنسان يعمــل على إظهــار مــا يتقــدم باتجــاه ماهيــة
هـذا األخير ليقيم في هذا الحصول على مقربة منه .إن مأوى اإلنسان يحتوي ويحرس على مجيء مــا عليــه ينتمي
اإلنسان في ماهيته .وتبعا لكلمــة هــيرقلطس ( )Demonفــإن هــذا الــذي تنتمي إليــه ماهيــة اإلنســان هــو اإللــه .إن
الشذرة تقول" :اإلنسان يقيم في القرب من هللا بقدر ما يكون إنسانا" .والحكاية التالية الــتي أوردهــا "أرســطو"()8
تسير في نفس االتجاه" :من المأثور عن "هرقليطس" هذه الكلمـة التي قالـها لبعض الغرباء الذين جــاؤوا لزيارتــه
في محـل إقامته ،ولما اقتربوا منه وجدوه يستدفئ بالقرب من فرن لطهي الخبز .وقد كانت دهشتهم كبيرة لما رأوه
على هذا الحال ،فتســمروا في مكــانهم مــترددين بين اإلقبــال واألدبــار ،لكن هــرقليطس الــذي أدرك مــا ألم بهم من
دهشــة وحــيرة شــجعهم على اإلقــدام ودعــاهم إلى الــدخول بالكلمــات التاليــة" :هنــا أيضــا اإللـــهة حاضــرة".
هذه النادرة واضحة من تلقاء ذاتـها وال تحتاج إلى تعليق .ومع ذلك لنتوقف عنــدها قليال :لقــد أصــيب وفــد الــزوار
الغرباء الذين جاؤوا بدافع حب االستطالع ،بالخيبة والحيرة بمجرد أن القـوا نظـرة على محــل إقامـة المفكـر .لقـد
كانوا يعتقدون أنـهم سيجدون هذا األخير في ظروف تتسم ،إذ تتعارض مـع مجـرى الحيـاة العـادي للنـاس ،بطـابع
الفرادة والندرة .ومن تم بالتشويق .الشيء الذي قد يمكنهم من استخالص مادة من هذه الزيـارة لـثرثرة ولـو لبعض
الوقت .لقد كان هؤالء الغـرباء الذين أرادوا زيارة المفكــر في محــل إقامتــه ،يعتقــدون أنهم ســيفاجئونه في اللحظــة
التي يكون فيها بالضبط غارقا في تأمل عميق يفكر .إن رغبة الزوار هي أن يعيشوا تلك اللحظــة ،ليس ألن الفكــر
قد استهواهم قليال ،ولكن فقط ليستطيعوا القول بأنـهم رأوا وسمعوا شخصا اقل ما يقال عنه إنه مفكر .لكن بدل هذا
وجد هؤالء الفضوليون "هرقليطس" يجلس بالقرب من فرن .ها هنــا مكــان عـــادي ال يثــير االنتبــاه .إنــه بالضــبط
المكان الذي يطهى فيه الخبز .الشيء الذي لم يكن يقوم به "هرقليطس" لألسف ،بل ارتاد المكــان من أجــل التدفئــة
فقط .وبالتالي فقد فضح في هذا المكان العادي جدا كل ما في حياتــه من فاقــة .فمشــهد مفكــر أحس بــالبرد ال يــدعو
لالهتمام إال قليال ،بحيث أن الفضوليين المحبطين فقدوا الرغبة في التقدم إلى األمام بمجرد أن شاهـــدوه على ذلــك
الحال .ماذا يصنعون في هذا المكــان مـادام هــذا الحــدث التافــه والــذي ال رونــق فيــه لشـخص أحس بــالبرد وجلس
يستدفئ بالقرب من فرن ،يستطيع كل واحد أن يشهده في أية لحظة عنده في مسكنه الخاص؟ أما "هرقليطس" فقــد
قرأ في وجودهم هذا الفضول المحبــط .إنــه يعــرف أن حرمــان الحشــد من إثــارة منتظــرة كــاف لــرد هــؤالء الــذين
وصلوا للتو على أعقابـهم .لذلك أعاد لهم الشجاعة ،ودعاهم صراحة للدخول رغم كل شــيء بهــذه الكلمــات" :هنــا
أيضا اآللـهة حاضرة".
إن هذا الكالم يلقي بضوء جديد على إقامة (إيتوس) المفكر وعمله .أما فيما يتعلق بمعرفة هــل مــا إذا كــان الــزوار
قد فهموه في الحيـن ،أو حتى أدركوه فقط مبصرين كل شيء عندئذ على ضوء هذا النور الجديـد بخالف ما كــانوا
يعتقدون ،فـهذا ماال تقوله الحكاية .ولكـن ،أن تكون هذه القصة قد رويت إلى حد أنـها انتقلت إلينا نحن اليوم ،فـهذا
يرجع إلى كون ما تحكي عنه يصدر عن االنسجام الخاص الذي يسم هذا المفكر وحياته" :هنا أيضــا" بــالقرب من
الفرن ،في هذا المكان المتواضـع حيث كل شيء وكل ظرف وكل تصرف وكل فكــرة هـــي بـــمثابة أشــياء مألوفــة
وعادية ،أي معهودة ومعتادة" ،في هذا المكان نفسـه" ،في هذا العالم المعهود ،إنه بالضبط المكان الذي تكون "فيه
اآللـهة حاضرة"" .إن اإلقامة المعهــودة والمألوفـــة" ــ يقــول "هــيرقليطس" ــ هي المجــال المنفتح لحضــور اإللــه
(المقدس) والعجائبي بالنسبة لإلنسان".
إذا كان إذن مصطلح "أخالق" ،انسجاما مع المعنى األساسي لكلمـة (ايتـوس) ،يـدل على أنـه كتخصـص عليـه أن
يفكر في إقامة اإلنسان ،أمكننا القول بأن هذا الفكر الذي يفكر في حقيقة الوجود باعتباره العنصر األصلي لإلنسان
من حيث هو منوجد ،هو بمثابة األخالق األصليـة .غير أن هــذا الفكــر ليس مــع ذلــك مجــرد أخـــالق نظــرا لكونــه
عبـارة عن انطولوجيا في حد ذاته ،ذلك أن االنطولوجيا ال تفكر أبدا إال في الموجود في كينونته (وجوده) .والحال
أنـــها تظــل بال أســاس طالمــا ال يتم التفكــير في حقيقــة الوجــود .لـــهذا الســبب تعين الفكــر الــذي رام في "الوجــود
والزمان" التفكير باتجاه حقيقة الوجود كانطولوجيا أساسية .فـهذه األخيرة ترقى إلى األساس الجوهري الــذي عنــه
يصدر التفكير في حقيقة الوجود .وقد أمكن لـــهذا الفكــر من خالل تقديمــه لســؤال آخـر أن ينفلت من "انطولوجيـا"
الميتافزيقا( ،بما فيها تلك التي شيدها "كانط") .لكن "االنطولوجيا" سواء كانت متعاليــة أو قبــل ــ نقديــة ،ال تســقط
تحت ضربات النقد ألنـها ال تفكر في وجود الموجود وبالتالي تختزل الوجـود في المفهوم ،بل لكونـها ال تفكــر في
وجود الموجود وتجهل بذلك أنـها فكر أكثر نجاعة من الفكر المفهومي ،إن الفكر الذي يحاول التفكير باتجاه حقيقة
الوجود ال يحمل إلى اللغة ،نظرا لصعوبة مقاربته األولى إال جزءا ضئيال من هــذا البعـــد اآلخــر .إن اللغــة نفســها
تفسد إذا لم ترق إلى دعم مساعدة الرؤية الفنومنولوجية ،مع رفضها االدعاء المفـرط للــ "علم" أو الــ "بحث" .إال
أنه لـجعل هذه المحاولة في التفكــير بينــة ومفهومــة في نفس الــوقت داخــل الفلســفة القائمــة ،ينبغي أن نتحــدث أوال
انطالقا من أفق هذه الفلسفة ،ونستخدم المصطلحات التي من صلبها.
لقد علمتني التجربة مع مرور الزمن أن هذه المصطلحات نفسها تصبح مباشرة وحتما مضـللة .ذلــك أن القـارئ ال
يتجشأ عناء التفكير فيها وفي اللسان المفهومي انطالقا من الواقع الذي ينبغي التفكير فيــه أوال ،بـــل إن هــذا الواقــع
ذاته قد تم تمثله انطالقا من هذه المصطلحات وقـد حـافظت على داللتهــا المألوفــة .إن الفكـر الــذي يطـرح السـؤال
بصدد حقيقة الوجود ليحدد بذلك اإلقامــة الماهويــة لإلنسـان انطالقـا من الوجـود وباتجاهـه ،الهــو بـأخالق والهـو
بانطولوجيا .لـهذا السبب لن يكون من اآلن فصاعدا للسؤال عن العالقة بين هذين التخصصين في هذا المجــال أي
أســاس .هــذا في حين أن ســؤالكم ســيظل وقــد فكــر فيــه بأصــالة أكــبر محافظــا على معــنى ووزن أساســيين.
يجب علينا بالفعل أن نتساءل :هل هذا الفكر الذي إذ يفكر في حقيقة الوجود يحدد ماهية اإلنســان كانوجــاد انطالقــا
من انتماء هذا األخير للوجود ،يظل مجرد تمثل نظري للوجود واإلنسان ،أم أن بإمكاننا أن نستخلص من مثل هذه
المعرفة إشارات صالحة للحياة العملية وقابلة للتوظيف فيها ؟
الجواب هو كالتالي :إن هذا الفكر ليس بنظري وال بعملي ،إنــه يحــدث قبــل هــذا التميــيز .ومـا دام يوجــد على هــذا
النحو فهو فكر للوجود في الوجـود وال شـيء غــير ذلــك .فهــو إذ ينتمي للوجــود ألنــه من ألقى بــه ألجــل الحراســة
الصادقة لحقيقتـه ومن طالب به من أجل هذه الحراسة ،إنـما يفكر في الوجود .ومثل هذا الفكر ال نتيجة له .ال ينتج
أي أثر ،بل يكتفـي بماهيته في اللحظة التي هو فيها .لكنه ال يكون إال بالقدر الذي يقول فيـه ما عليه قوله .وفي كل
لحظة تاريخية ليست هناك دائما إال عبارة واحدة مما على الفكر قوله تكـون من نفس طبيعـة مـا يجب عليـه قولـه.
هذا االقتضاء الذي يربط هذه العبارة بـما لـها وعليها قوله هو باألساس أكثر سموا وتفوقا من صالبة العلوم ،ألنــه
أكثر حرية منها ،مادام يدع الوجود يوجد (بما هو عليه في طواعية حصوله).
إن الفكر يعمل على بناء مسكن الوجـود ،مسـكن يفـرض الوجـود من خاللــه من حيث هـو من يجمــع ،على ماهيــة
اإلنسان أن تقيم كل مـرة في حقيقة الوجود انسـجاما مـع القـدر .هـذا السـكن (المـأوى) أو هـذه اإلقامــة هي ماهيـة
"الوجــود ــ في ــ العــالم"( .الوجــود والزمــان ،ص .)54فاإلشــارة الــواردة في هــذا المقطــع عن "الوجــود ــ في"
باعتباره "مأوى" و "إقامة" ،ليس لعبة اشتقاقية فارغة .وكذلك األمر بالنســبة لإلحالــة في (محاضــرة )1936إلى
كالم "هولـــــــــدرلين"" :باســـــــــتحقاق أكـــــــــبر يقيم اإلنســـــــــان شـــــــــعريا على هـــــــــذه األرض"(.)9
إن هذه اإلحالة لم تكن أبدا تتويجا لفكر يبحث وقد غادر العلم ،عن خالصه في الشعر .فالحديث عن مسكن الوجود
ّ
"الـبيت .ذلــك أن العكس هـو الممكن .أي أنــه انطالقـا من ماهيــة الوجـود ال يعني أبدا أننا نستعير للوجـود صـورة
مفكرا فيها بما هي عليه ،يمكننا في يوم من األيام أن نفكـر فيما يكونه "المسكن" واإلقامة".
إن الفكر ال يبتدعـ أبدا مسكن الوجود ،وإنمـا يقــود انوجـاد اإلنسـان التـاريخي ،أي إنسـانية اإلنسـان اإلنسـاني ،إلى
المجال الذي يشرق فيه فجر الحميد .لكن الحميد ال يتجلى في نور الوجود وانفتاحه إال وبصحبته الخــبيث .وماهيــة
الخبيث ال تكمن في المكر المحض لممارسة اإلنسان ،بل في كيد االندفاع .كالهما :الحميد واالندفاع (الخــبيث) ال
يمكنهما بأي حال أن يبســطا ماهيتهمــا في الوجــود إال من حيث إن هــذا األخــير هــو مجـال الصــراع ،فيــه يحتجب
ويختفي مصـدر الحصول الماهوي لالنعدام .وما يُـــع ِدم يتجلى باعتبــاره مــا يشــتمل في ذاتــه على الســلب والنفي :
ليس…( .)10هذا السلب والنفي يمكننا أن نستشفه في كلمة "ال" .فكل أدوات النفي ،أي السلب ال تتأتى من قــول ـ
الـ النافية .ألن كل "ال" ال تتطـابق مع تجلي القدرة التي للذاتية نفسها أن تطرحها وتظل سماحا بوجــود االنوجــاد،
هي بمثابة استجابة لمطلب االنعدام الذي اتضح .فكل "ال" ليسـت إال إقـرارا وتصـريحا بوجـود السـلب (ليس…).
وكل إقرار هو بمثابة اعـتراف .هـذا االعـتراف يسـمح لمـا يتعلـق األمـر بـه [لغـة] بـالمجيء إلى ذاتـه .ولقـد سـاد
االعتقاد بأن االنعدام ال يمكننا العثور عليه في الموجود ذاته .وهذا صــحيح طالمــا أننــا نبحث عن المعــدوم كشــيء
موجود ،أي كنمطية لنظام الموجود الذي يؤثر في الموجود .لكننا بهذه الطريقــة في البحث ال نكــون حقيقــة بصــدد
البحث عن المعدوم .الوجود نفسه ليس كيفيـة لـهذا النظام الـذي يمكننـا أن نستنتجــه في الموجـود ،ومـع ذلـك فهـو
أكثر وجودا من أي موجـود .ومادام االنعدام يبسط ماهيته في الوجود ذاتــه ،فليس بإمكاننــا أبــدا أن ندركـــه كشــيء
موجود يؤثر في الموجود .إال أن اإلحالة إلى هذه االستحالة ال تبرهن في شيء وبــأي حــال من األحــوال ،على أن
مـصدر حصول السلب لغة يتأتى من القول ـ ال .فمثل هذا البرهــان ال يبــدو أنــه محـــق إال إذا كنــا ننظــر للموجــود
على أنه الواقع الموضوعي للذاتية .يستنبط إذن من هذا الخيــار (الحــيرة) أن كــل أســاليب النفي الــتي تصــاغ لغــة،
مادامت ال تتجلـى أبدا كشيء موضوعي ،عليها بدون منازع أن تكون من إنتاج فعل الذات ..أمــا فيمــا يتعلــق اآلن
بمعرفة هل ما إذا كان قول ـ الهو الذي يضـع كل صفة للسلب كمجــرد موضــوع للفكــر ،أو أن االنعــدام ذاتــه هــو
الذي يطالب قبل كل شيء بـ" :ال" باعتبارها ما يمكن قوله في إطار السماح بوجود الموجود ،فــإن تــأمال ذاتيــا في
الفكر الذي وضع نفسه مسبقا كذاتية ال يمكنه بكل تأكيد أن يقـرر بصدد هذا .إن مثل هذا التفكير لن يتمكن بعــد من
الوصول إلى البعد الذي بداخله يمكن لـهذا السؤال أن يطرح كما ينبغي .بقي لنا أن نتساءل :إذا افترضــنا أن الفكــر
ينتمي لالنوجاد ،أال تكون كل "ال" وكل "نعم" بالنظر إلى حقيقة الوجود منوجدة مسبقا؟ إذا كان األمر كــذلك فهــذا
معناه أن "نعم" و "ال" هنـا من صميم حقيقة الوجود ،إليه يصغيان وإيــاه يخــدمان .وبمــا أن وجودهمــا من صـميم
هذه التبعية ،فليس بإمكانـهما أبدا أن يضعا من تلقاء ذاتـهما ما إليه ينتميان.
إن االنعدام من صميم ماهية الوجود نفسه ،فيها يبســط ماهيتــه ال في كينونــة اإلنســان الــتي هي كينونــة ــ هنــا ،أي
"وجود ـ في ـ العالم" .وإذا كنا ننظر إليه خطأ بخالف ذلك فألننا نفكر في هذه الكينونة ـ هنا كذاتيةـ لألنا ـ المفكــرة
(للكوجيطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــو).
إذا كانت الكينونة ـ هنا تنفي وتسلب وتعدم فهذا ال يرجع أبدا إلى كون اإلنسان هو من ينجز هذا العـدم بفعـل كونـه
ذاتا ،بل ألن ما يخـول لـها القيام بذلك باعتبارها الماهية التي في قلبها ينوجد اإلنسان ،هو كونـها من صميم ماهيــة
الوجود ،فالتعديم من فعل الوجود بما هـو كذلك .لـهذا السبب تجلى السلب في المثالية المطلقة عند كل من "هيغل"
و "شيلنج" باعتباره ما يحصـل في ماهيــة الوجــود كنفي للنفي .إال أن الوجــود قــد فكــر فيــه آنــذاك بمعــنى الحقيقــة
المطلقة باعتبارها إرادة ال مشروطة ترغب في ذاتـها ،وترغب فيها كإرادة للمعرفة والحب .في هذه اإلرادة كـــان
الوجود من حيث هو إرادة اقتدار ما يزال محتجبا .ال يمكننا بأي حال من األحوال أن نفحص هنا لماذا كان الســلب
في الذاتية المطلقة "جدليا" ،ولماذا ظل في نفس الوقت النفي (التعديم) الذي حمله إلينا الجــدل مســتترا في ماهيتــه.
إن ما ينفي ويسلب ويعدم في الوجود هو ماهية ما ادعوه بالعدم أو (الالـ شيء) .لـهذا السبب كان الفكر الذي يفكــر
في الوجود يفكر في العدم كذلك .وحده الوجود يخول للحميد ارتقاءه للنعمة واللطف ،ولالندفاع والتهور (الخــبيث)
ارتماءه باتجاه اإلفالس والخسران.
بقدر ما ينتمي اإلنسان المنوجد في حقيقة الوجود إلى الوجود ،بقدر ما يمكن أن يصــدر عن الوجــود ذلــك التكليــف
بالفرائض التـي ينبغي أن تصبح بالنســبة لإلنسـان ضـوابط وقــوانين .والتكليــف باللســان اإلغــريقي هــو (نيمــون).
والناموس ليس فقط مجرد قانون( ،)11بل إنه أكثر من ذلك التكليف المتستر في قرار الوجود .وحده هــذا التكليــف
يمكن من حمل اإلنسان إلى الوجود وإلزامه به .ووحده هذا اإليعاز واألمر يســمح بالحمــل والربــط .في حين تظــل
كل القوانين مجرد نتاج للعقل البشري .إن ما هو أكثر جوهرية من مؤسسة القوانين هو اكتشاف اإلنســان لمــواطن
اإلقامة بالنظر إلى حقيقـة الوجود .وحدها هذه اإلقامة تخول تجربة ما يوثق الروابــط ،ذلــك أن حقيقــة الوجــود هي
التي تصنع هبة التماسك في كل عروة وثقى .إن كلمة( :هالت) (قف) في اللغة األلمانية تعني" :حراســة" (انتبــاه).
فالوجود هو الحراسة التي تشتمل في حقيقتها على رعاية اإلنسان في ماهيته االنوجادية ،بحيث تقود االنوجـاد إلى
مأواه في اللغة .هذا ما يجعل اللغة مسكنا للوجود ومأوى لماهية اإلنسـان في نفس الــوقت .ولــو أنـــها لم تكن كــذلك
لما أمكن للبشر ولإلنسانيات التاريخية أن تغدو بال مأوى في لسانـها الخاص الذي أصبح بالنسبة لـها حجــرة قيــادة
إلدارة دسائسها.
لكن في أية عالقة يتموقع فكر الوجود بالموازاة مع التصرف النظري والعملي؟ إن هذا الفكر يسمو على كل تأمــل
ألنه يهتم بالنور الذي فيه وحده يمكن لرؤية ما أن تقيم وتتصرف كنظرية .إنه يكــون شــديد االهتمــام واالنتبــاه إلى
نور الوجود وانفتاحه عندما يدرج قوله للوجود في اللغة التي هي لغة مأوى االنوجاد .هكذا يكون الفكر ذاتــه عمال
وممارسة .لكنه عمل يتفوق دفعة واحدة عن كل براكسيس .إن الفكر أرقى من كل فعل وإنتــاج ،وهــذا ليس راجعــا
إلى عظمة ما يحققه أو إلى النتائج التـي تترتب عنه ،وإنما إلى عدم داللة فعل انجازه الذي ال نتيجة له .فالفكر فيما
يقوله ،ال يحمل إلى اللغة سوى كالم الوجود الذي لم يقل بعد .يجب علينا ابتداء من اآلن أن نأخذ العبارة المستعملة
هنا "الحمل إلى اللغة" بمعناها الحرفي .باستضــاءته وانفتاحــه يــأتي الوجــود إلى اللغــة .إنــه في طريقــه إليهــا دون
انقطاع .والفكر المنوجد يحمل من جانبه إلى اللغة فيما يقوله هذا القــدوم والمجيء (الحصــول) .هكــذا تكــون اللغــة
نفسها قد ارتقت إلى نور الوجود وانفتاحه وسمت فيه .وحينئذـ فقـط يتجلى لنـا كم أن اللغـة غريبـة وملغـزة .وكيـف
أنـها مع ذلك هي من يوجهنا ويتحكم فينـا باسـتمرار .وحينمـا تكـون اللغـة وقـد حُملت إلى سـعة ماهيتهـا على هـذا
النحو تاريخية ،آنـذاك فقط يكون الوجود محروسا في ومن أجل الفكر ـ الذي يفكــر ـ ـ فيــه .إن االنوجــاد ال يقيم في
مسـكن الوجـود إال عنـدما يفكـر .وكـل هـذا يحصــل كمـا لـو أن الشـيء مطلقـا يـترتب عن هـذا القـول ــ المفكـر.
يخطر لنا في هذه اللحظة نفسها مثال حي عن هذا التصرف للفكر الذي يحدث في صــمت ودونـــها مظهــر ؛ فنحن
عندما نفكر في هذه الصيغة المرسلة للغة بالخصوص" :يحمل إلى اللغة"،وعندما يكون كل همنــا أثنــاء الكالم هــو
اإلبقاء على ما أتينا على التفكير فيه ،باعتباره ما سيكون علينا انطالقا من اآلن أن نفكر فيه دائما ،نكون بالفعل قــد
حملنا إلى اللغـة شيئا ما فيه تنبسط ماهية الوجود ذاته .وما يدعو حقا للغرابة والدهشــة في فكــر الوجــود هــذا ،هــو
احتواؤه على شيء بسيط .وهذا بالضبط هو ما يبعدنا عنه .ذلك أننا تعودنا البحث عن هـذا الفكـر الـذي انتقـل إلينـا
عبر التاريخ تحت اسم "فلسفة" ،باعتباره المخالف للمالوف الذي ال يكون في متناول غير المعنيينـ به .إننــا نتمثــل
الفكر على نمط المعرفة والبحث العلميين،ـ ونقيس العمل باالنجازات الهامة المتوجة النتصار الممارسة .لكن عمل
الفكر ال هو بنظري وال هو بعملي .كما أنه ال يكمن فوق ذلك في الجمع بين هـذين النمطين من التصرف .إن هــذا
الفكر الذي هو تفكير للوجود في الوجود يمنعنا من التعرف عليه بفعل بساطة ماهيته نفسها .وحــتى عنــدما نحــاول
االستئناس بما في ماهيته من شذوذ وغرابة ،نجد أن ثمة صعوبة أخرى تترصدنا ،فيساورنا الشــك فيمــا إذا لم يكن
يسقط ضحية االعتباطية مادام ال يستطيع أن يتمسك بالموجود .على أي أساس إذن ،وبأية معايير وضوابط يهتدي
الفكر؟ ما هو قانون عمله؟
هنا بالضبط يجب أن يثار السؤال الثالث الوارد في رسالتكم :كيف ننقذ عنصر المغــامرة الــذي يتضــمنه كــل بحث
دون أن نجعل من الفلسفة مجرد مجازفة ؟
لنكتف في هذه اللحظة وعلى سبيل اإلشارة فقط ،بذكر الشعر .فهذا األخير يتموقع أمام نفس السؤال وبنفس الكيفية
كما الفكـر .والكلمة الــتي مــا صــدق أرســطو أن قالهــا في كتــاب "الشــعر" ،تظــل دائمــا صــالحة ومحقــة ،وهي إن
اإلبداع الشعري أكثر حقيقة وواقعية من التحري المنهجي للموجود.
والحال أن الفكر كبحث وسؤال بصدد الالـ مفكر ـ فيه ليس مغامرة .إنه في ماهيته من يطالب به الوجود باعتبــاره
فكرا للوجود في الوجود .فهو باقترابه من الوجود وتعلقه به إنما يتعلق بما يحصــل .إنــه يرتبــط من حيث هــو فكــر
بإقبال الوجود وحصوله .أي بالوجود من حيث هو هـذا القدوم واإلقبــال (الحصــول) .لقــد أقبــل الوجــود إلى الفكــر
وانكتب له .والوجود ال يكون إال من حيث هو قـدر الفكـر .لكن هـذا القـدر تاريخــي في ذاتـه ،وقـد حـدث أن اقبـل
تاريخه إلى اللغة من خالل قول المفكرين الذين حملوه إليها.
إن المهمة الوحيدة الملقاة على عاتق الفكر هي أن يحمل في كل مــرة قــدوم الوجــود إلى اللغــة .وهــو قــدوم وإقبــال
مستمر يترقب اإلنسـان على الدوام .لـهذا السبب يسعى المفكرون األساســيون بثبــات إلى قــول ذات الشــيء .وهــذا
ليس معناه :المتطابق .ومن المؤكد أنـهم ال يتحدثون عنه إال لمن اضـطلع بمهمــة التفكــير اقتفـاء ألثــرهم .وعنــدما
يكون الفكر وهو يفكر تاريخيا في الوجود ،شديد االنتباه لـهذا األخير ،آنذاك يكون قد اقــترن مســبقا بــالتالؤم الــذي
ينسجم مع هذا القدر .وهذا المالذ المتطابق ليس بالخطير .وإنما الخطر كـل الخطـر هــو المجازفــة في هـذا التنــافر
الحاد لقول ذات الشيء ،حيث التهديدـ بالتلعثم والتفكك المحض.
إن القانون األول للفكر هو تالؤم وتوافق قول الوجود كقدر للحقيقة ،وليس هو قواعد المنطــق الــتي ال تســتطيع أن
تكون قواعد إال انطالقا من قانون الوجود .لكن ،أن نكون شديدي االهتمام بالقول ـ المفكــر ال يقتضــي منــا فقــط أن
نفكر في كل مرة فيما ينبغي قوله عن الوجود وكيف يجب قول ما يجب ـ التفكــير ـ ـ فيــه ؟ وإلى أي حــد ؟ وفي أي
لحظة من تاريخ الوجود ؟ وأي حوار مــع هــذا التــاريخ ؟ وأخــيرا انطالقــا من أي مطلب؟ هــذه النقــط الثالث الــتي
أثيرت في رسالة سابقة( )12قد حددت في قرابتها انطالقا من قانون توافق الفكر التاريخي/االنطولوجي :أال وهــو
نجاعة التأمل والتفكير ،الحذر اليقظ للقول واالقتصاد في الكالم.
لقد حان الوقت للكف عن التقدير الزائد للفلسفة ،ومن تم مطالبتها بالشيء الكثير .وهذا مــا يلزمنــا لســد الخصــاص
الحالي للعالم :قليل من الفلسفة مع كثير من االهتمام بالفكر؛ قليل من اآلداب وكثـير من العنايـة بالرسـالة كمـا هي.
إن الفكر الذي سيأتي لن يكون فلسفة ألنه سيفكر بأصالة أكثر من الميتافزيقــا الــتي هي كلمــة مرادفــة لـــها .إنــه لن
يتمكن أبدا من التخلي عن اسم "محبة الحكمة" كما أراد له "هيغل" ،ليصــير هــو الحكمــة عينهــا في شــكل معرفــة
مطلقة .إن الفكر سيهبط من جديد إلى فقر ماهيته العابرة ،ويجمع اللغة باتجاه القول البسيط .هكذا ستكون اللغة هي
لغة الوجود ،تماما مثلما هي السحب للسماء .إن الفكر بقوله يرسم في اللغة ثالما ال مرئية ،ثالما أقل تجليا من تلك
التي يحفرها بخطواته البطيئة على امتداد الحقل.
LETTRE A JEAN BEAUFRET
رسالة إلى "جان بوفريه"
لقد جعلتني رسالتك التي نقلها إلي م .بالمر M. Palmerمنذ بضعة أيام قي غاية السعادة.
إني لم أتعــرف على اســمكم إال منــذ فــترة وجــيزة ،وذلــك من خالل مقــاالتكم القيمــة الــتي نشــرتموها في مجلــة
،Confluencesوالتي ال أتوفر منها لسوء الحظ ســوى على العــدد الثــاني والخــامس .ولقــد تــبين لي منــذ المقالــة
األولى (العدد )2المفهوم الرفيع الذي تخصون بــه "الفلســفة" .إنــه هنــا مــا يــزال ذلــك المجــال الخفي الــذي وحــده
المستقبل كفيل بإضاءته .لكن هذا لن يحصل إال إذا لقيت نجاعة الفكر وفطانة القول واقتصاد الكلمات اهتماما غير
ذلك الـذي حظيت بـها حتى اآلن .وإنك لترى أن الهوة التي تفصــل هنــا فكــري عن فلســفة "كــارل ياســبيرس" K.
Japersجد شاسعة .ناهيك عن الحديث عن كون السؤال الذي يوجــه فكــري مختلفــا تمامــا ،وأنــه قــد قوبــل بشــكل
يدعو للغرابة بتجاهل مطلـق .إني أقدر "ياسبرس" حق قدره كشخص وككاتب ..فتأثيره على الشباب الجــامعي في
غاية األهمية .لكن المقاربة بين "ياسبرس وهيدغر" التي أصبحت متداولة في فلسفتنا بشكل كالسيكي تقريبــا ،هي
سوء الفهم بامتياز .وقد بلغ سوء الفهم هذا أقصى مداه في ذلـك التمثـل الـذي يجعـل من فلسـفتي "نــزعة عدميـة"،
رغم أنـها ال تسـأل فقط عن وجود الموجود ككل الفلسفات السابقة ،وإنما ماهية النـزعة العدميــة تكمن على العكس
من هذا في كونـها غير قادرة على التفكير في العـدم .إني أتنبأ في فكر فالسفة فرنسا الشــباب بقفــزة رائعـة تكشـف
بوضـــوح على أن تمـــة ثـــورة تتهيـــأ في هـــذا المجـــال ،رغم أني لم أنتبـــه لـــذلك إال منـــذ عـــدة أســـابيع فقـــط.
إن ما تقولونه عن ترجمـة (دزاين )Da-sein :بالــ"الواقـع اإلنسـاني" صـحيح كـل الصـحة .وممتـازة هي كـذلك
مالحظتكم " :إذا كان للغة األلمانية منابعها فإن للغــة الفرنســية حــدودها" .هنــا تكمن اإلشــارة الجوهريــة إلمكانيــة
المثاقفة بينهما وفق تبادل متكافئ ضمن فكــر منتج[ .نتمــنى من خالل هــذه الترجمــة أن تنــال العربيــة نصــيبها من
ذلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك].
إن مصطلح "الكينونة ـ هنا" هي الكلمة المفتاح لتفكيري .كما أنـها تفسح المجال أمام أخطاء فادحة في التأويل .إن
"الكينونةـ ـ هنا" (الدزاين) ال تعـني بالنسـبة لي "هـا أنـا ذا" ،بـل إذا أمكن لــي أن أعـبر عن ذلـك بفرنسـية الشـك
مستحيلة ( etre-le-la :كينونة ـ الـ ـ هنا) .والـ "هنا" هي بالضبط انكشاف وال ـ ـ اختفــاء (أليتيــا) أي انفتــاح .لكن
هذا ليس إال إشارة عابرة .إن الفكر الخصب يمتح أكثر من حيوية النقـــاش ،ومن هــذا العمــل الــذي هــو تعلم وأخــذ
أكثر مما هو عطاء.
مارتن هيدغر
عن:
M. Heidegger "Lettre sur l'humanisme" in Questions III T.R. Munier. Ed. Gallimard
. 1966, pp. 73-157
الهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوامش:
1ـ قد يبدو هذا المصطلح غريبا .لكن غرابته تتبدد إذا علمنا أنـه يحيـل إلى معـنى جديـد يسـتمده من الحقيقـة الـتي
توجد عليها ماهية اإلنسان باعتبارها "وجودا ـ في ـ العالم" .بحيث تكون بذلك ماهيتها من صــميم ماهيــة الوجــود.
وبما أن ماهية الوجود هي الحقيقة من حيث انكشــاف وانفتــاح وتفتح وتعــال ،يحيــل إلى الحضــور كفضــاء زمــاني
تفاضلي ،الشيء الذي يجعل ماهية الوجود والزمان والحقيقة على حد سواء هي الشرط االنطولوجي المســبق لكــل
كينونة تدرك أبعاد ماهيتها كامتداد لماهية الحقيقة ـ واإلشارة هنا لإلنسان ـ فإن االنوجاد هو طواعية هذا الوجود :
هو الحضور المنفتح على ماهية الحقيقة كنور وانفتاح ؛ هو الحقيقة إذ تحجب وتخفي وتنكشف وتتجلى فتكون بمــا
هي عليه ،مكتفية بذاتها ،مضيئة لما يحضر ساترة في غياهبها لما يغيب .لـذلك أدرك "هيـدعر" أن الصــواب هـو
القول بأن الوجود ينوجد ،وأن ماهية اإلنسان انوجاد ،فكان التغيير في البنيــة الصــوتية للكلمــة ( Ek-sisterبــدل :
Ek-sistences, existerبدل )Existence :هو الكيفيــة المثلى لحمــل ماهيــة الوجــود واإلنســان والحقيقــة إلى
اللغة والتخلص من الحمولة الميتافيزيقية القديمـة للمصـطلح .أمـا المصـطلح العـربي " :أنوجـاد" فبنيتـه الصـرفية
(الزيادة باأللف والنون للداللة على المطاوعة) تسهل التفكير باتجاه المعنى المراد .ألن المصدر هنا بتسميته للفعل
في طواعيته يدل على الحصول التلقائي .والحصـول من صـميم ماهيـة الوجـود الـتي تجعـل من اإلنسـان موجـودا
حاضرا متعاليا متفتحا على الحقيقة إلى حد القداسة .وهذا هو أقصى غايات االنوجاد كما يـرى "هيـدعر" ،وأيضـا
بماله من قرابة بمعاني الوجد والوجدان والوجود ،كما أن الفعل "انوجــد" يتضــمن اقتضــاء معــاني َ :و َجــدُ ،و ِجــد،
أوجد .وكلهـا من معاني الوجود منه تمتح إمكانية تحققهـا مــادامت عالقتهــا بالعــدم كــذلك هي ســندها االنطولــوجي
القـــوي ألن تقـــول مـــا تتضـــمنه من حقـــائق هي بمثابـــة محـــددات أساســـية لماهيـــة الحقيقـــة المشـــار إليهـــا.
2ـ لقد احتل هذا الضمير “ ”onمكانة متميزة في تفكير "هيدغر" خصوصا في كتابــه "الوجــود والزمــان" بحيث
إن تحليل الكينونة ـ هنا (الدزاين) ينبني في معظمه على تحليل هذا الحضـور الدال لــه في اللغــة ،والشــائع أنــه تتم
مقابلته في العربية ب ضمير ال "هم" .هذا في حين أن وظيفته الدالليــة في اللغــات الهنديـةـ ــ األوربيــة الــتي تكــاد
تنفرد به دون العربية ـ على األقل من حيث هو فاعل مصـرح به ـ هي أنــه يــدل على الجميــع دون أن يعــني أحــدا
على وجه التحديد.ـ ومثل هذه الوظيفـة هي ما يتحقق مع ضمير الــ "نحن" و "نــا" الجماعــة في لغتنــا ،وكــذلك في
صيغة المصدر حيث الفعل واالسم مندمجان الشيء الذي يجعل العبــارة صــيغة للفعــل الــذي يمكن أن يقــوم بــه أي
كـــان .لـــذا قـــال هيـــدغر " إن اللغـــة كـــالترام حيث يمكن ألي شـــخص أن يصـــعد إليـــه ويهبـــط منـــه"( .م)
.M. Heidegger : Introdiction a la metaphysique, ed. Gallimard
3ـ إن ماهية اإلنسان وبحكم عالقتها المتعالية بالوجود وانفتاحها على حقيقته ،تنحو بالضرورة منحى صــوفيا .أي
أن كينونتها القائمة ـ في ـ نور ـ الحقيقة تنفتح بمعانقتها للموجود في كليته على ما في الوجود من قدســية (الغــريب
والعجائبي) .هذه األخيرة هي "السر" وقــد تجلى كحضـور وغيـاب ،كانكشـاف واحتجـاب .وهــذا معنــاه الحضـور
الدائم للسؤال الذي ال يشفع لـه إال المقـدس الماثـل كـاثر للوجـود وقـد تجلى في نـوره الموجـود ،إن هـذا الحضـور
المسبق للمقدس الذي هو من سمات الوضع االنطولوجي لماهية اإلنسان في عالقتها بحقيقــة الوجــود ،هــو الشــرط
االنطولـوجي المسـبق الـذي يجعــل التصـوف كمـا نعرفــه تجربــة ممكنــة لكنهـا ضـرورية .ومـا الوجــود والحلـول
واإلشــــراق اإلدروة الدهشــــة واالنبهــــار بــــالوجود والتجــــاوز والتعــــالي لمعانقتــــه كليــــة الموجــــودة( .م)
4ـ لقد أصبح مضمون هذا المصطلح (الدزاين) أو الكينونة هنا جديدا كل الجدة منذـ أن اسـتعمله "هيــدغر" :فمنـذ
ظهور كتاب (الوجود والزمـان )1927تأكــد أن الفنومنولوجيــا ليس بوســعها أن ننجــز التصــميم الــذي يعيــد رســم
المالمح األساسية لماهية اإلنسان وفق تشكلها االنطولــوجي كوجــود ــ في ــ العــالم ،إال باالبتعــاد عن مصــطلحات
ميتافزيقية من قبيل الذات ،الماهية ،الجوهر ،الروح والوعي… التي نحتتهــا فلســفات الــوعي والذاتيــة (ديكــارت ـ
هيغل…) .وهذا االبتعاد هو ما توخاه "الهدم الفنومنولوجي" الذي كان هدفا لالنطولوجيا األساســية ،هــذه األخــيرة
مكنت بحسن استعمالها لمصطلح (الدزاين) من إعادة تأويل ماهية اإلنسان في عالقتها بالوجود ،فكانت الـ "هنا" ـ
الــتي يجب أن تظهــر في الترجمــة نظــرا ألهميتهــا باعتبارهــا بيت القصــيد ــ هي اإلشــارة الواضــحة إلى التعــالي
واالنفتاح ،إلى الخروج من "الذات" ،إلى الوجود ـ في ــ العـالم ،إلى اللغــة كمــأوى لحقيقــة الوجــود ،واألفضــل أن
نتجنب النقرحة في ترجمتها .لذلك عندما نقول الكينونة "هنا" نكون بالفعل قد حققنا هذا المطلب .وقد نبتعدـ عنه إذا
قلنـــا (الحقيقـــة اإلنســـانية) ولم نكلـــف نفســـنا عنـــاء التفكـــير فيمـــا تنطـــوي عليـــه من معـــاني وأبعـــاد( .م)
5ـ لمزيد من اإللمام بمقتضيات هـذه العبـارة وبقيمتهـا التعبيريـة عن حقيقـة الوجـود الـتي تمكننـا من التفكـير فيـه
بـمعزل عن الموجود ،بحيث نقر بوجوده دون أن نجعل منه موجودا متعينا على نــمط الكـائن ،يستحسـن الرجـوع
إلى مقالة "هيدغر" "الزمان والوجود" في كتاب" :التقنية ــ الحقيقـة ــ الوجـود" ترجمــة باالشـتراك مــع د .محمــد
سبيال المركز الثقافي العربي :بيروت /الدارالبيضاء .1995
6ـ من الغريب أن ثمة قرابة في اللغة العربية بين كلمة "موضوع" وكلمة "وضــيع" .إن هــذا يــدعو إلى التفكــير.
ويؤكد ما يقوله هيدغر من أن كل "موضعة" للشيء هي "توضيع" له.
7ـ اإلشارة هنا إلى المطاوعة (األلف والنون) .والتي معنـاها في هذا المصطلح ما قيل عن الـ "هنا" في الكينونــة
ـ هنا.
.Parties des animaux. A5, 645. a. 17 - 8
9ـ من قصيدة "هولدرلين" "كما لو في يوم عيد" انظر :
.Friderich Holderlin : Deuze Poemes. Par : Francois Fedier difference 1989
انظر أيضا " :انشاد المنادى" بسام حجار .المركز العربي لإلنماء القويم .1994وقــد خص "هيـدغر" هـذا الــبيت
الشعري بكثير من االهتمام متخذا منه عنوان لمقالة حلل فيهــا معــنى اإلقامــة الشــعرية لإلنســان على هــذه األرض
انظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر :
.M. Heidegger : L’homme habite en poete in : Essais et conferences. Ed: Gallimard
10ـ أدوات النفي كثــيرة منهــا ( :ليس ــ لم ــ لن ــ ال ــ مـا ــ دون…) إن احتــواء اللغــة على هـذه األدوات يقــول
"هيدغر" ،هو أكبر دليل على كونـها تأوي حقيقة الوجود ،وهي هنا كــون العــدم من صــميم ماهيتهــا .لــذلك فاللغــة
بتوظيفها لـهذه األدوات إنما تستجيب في حقيقة األمر لـهذا الـمطلب األصلي ،الشيء الذي ال يجعل السلب خاصية
تضـــــــفيها الـــــــذات على الموجـــــــود كمـــــــا لـــــــو تخلـــــــع عليـــــــه صـــــــفة من نتـــــــاج فكرهـــــــا( .م)
11ـ "الناموس" كلمة عربية تداولت منذـ القـديم .وهي ال تتطــابق مـع الكلمــة اإلغريقيـة من حيث البنيــة الصـوتية
فقط ،بل كذلك من حيث المضمون ،إنـها تعني التكليف بالفرائض (الشريعة) .ما مصدر هذا التكليف؟… هذا ما ال
يمكن تبينه ألنه "السر" في حد ذاته .وهو بالضـبط مـا يسـمح بالحـديث عن النبـوة .وعن الرسـالة السـماوية .وعن
الرسل كأشخاص مصطفين لهم حق النطق باسمه .وهو هنا "هللا" .عندما ذهبت خديجة زوجة الرســول (ص) إلى
بن عمها "ورقة بن نفيل" الذي كانت له معرفة بـالكتب الســماوية ،لتستفســره عمــا ألم بزوجهــا وقـد عـاد من غــار
حراء يطلب منها أن تدثره (الغار :العزلة :السر :االرتباط المباشر بالمقدس) .أجابـها بأن زوجها سيكون له شأن
عظيم ،وأن ما أصابه كان "الناموس" األعظم الذي "كلم" موسى" .الناموس" إذن شريعة ،والشريعة هي التكليف
بالفرائض .التـهمنا هنا القرابة التي للسان العربي باإلغريقي (التي كانت وال تزال موضــوع عــدة دراســات شــيقة
ومثيرة) سوى في التوكيدـ على أن النــاموس (الشــريعة بمعناهــا األصــلي واألصــيل) ،كــانت قضــية للفكــر قبــل أن
تصبح موضوعا ومصدرا للوحي والتنزيل ،وبما أن ماهية اإلنسان والفكر من صميم ماهية الوجود حيث القداســة
واأللوهية من سماتـها وأسمى تجلياتـها فإن التفكير باتجاهها بناء على المواصفات التي يقدمها هيدغر للفكر ،كفيل
بأن يجعل هذا األخير ليس فقط مصدرا لألخالق والقوانين ،بل األخالق عينها وقــد تجلت كأســمى قــانون للوجــود.
فالناموس األعظم هو الوجود بكل هذه األبعاد(.م)
12ـ انظر الرسالة الالحقة التي بعث بـها هيدغر إلى جان بوفريه .ت .عبد الهادي مفتاح.