Professional Documents
Culture Documents
التعارض والترجيح بين الأقيسة دراسة تحليلية أصولية
التعارض والترجيح بين الأقيسة دراسة تحليلية أصولية
1
الباب التمهيدي :خطة البحث
المقدمة
القياس هو المصدر الرابع من مصادر الشريعة اﻹسﻼمية بعد القرآن ،والسنة ،واﻹجماع .ومما يمﻸ
النفس إعجابا وتعظيما بالشريعة اﻹسﻼمية الغراء أنها اعتبرت القياس أصﻼ أساسيا مع أصولها الثﻼثة
المذكورة ،ﻷنه مما أبقى أحكام الشريعة المطهرة أبد الدهور ،وبه اتسعت الشريعة لتشمل مصالح الناس
مع كر الزمان وتغير الثقافات والبلدان .فلذا يحتاج إليه كل مجتهد وطالب .وﻻ بد من معرفته للباحﺚ فﻲ
الفقه وأصوله أو أي مادة تتعلق باﻷحكام الشرعية.
لذلك أطال اﻷصوليون المبحﺚ القياسى قديما وحديثا .ومعلوم أن القياس من أدق مصادر الشريعة وأشدها
على المجتهد ،يحتاج إلى عقل سليم وفكر صحيح؛ ﻷن بقية اﻷدلة من القرآن والسنة واﻹجماع ،أساسها
النقل والسماع؛ فإذا ثبت عنده بأنه وارد من ﷲ ورسوله وجب العمل به .ولكن القياس أساسها العقل
الصحيح ،ﻷنما يحتاج اليه فيما لم يرد فيه النص صريحا أو إشارة.
فإذا حدث للناس حادثة جديدة ﻻ عهد لها فﻲ اﻹسﻼم ،ولم يذكرها القرآن والسنة ،ينظر المجتهد ويقيس
على اﻷصول المعروفة فﻲ الشريعة حتى يلحق به من الفروع الجديدة ما أشبهها .وهذا يقتضﻲ معرفة
علل اﻷحكام ،ومداره على العقل والفكر ،وهما متفاوتان من انسان إلى انسان ومن مجتهد إلى مجتهد .لذا
كثر التعارض فﻲ المسائل القياسية ،واحتاج إلى الترجيح بين القياسين المتعارضين حتى يعمل على
اﻷصح منهما .وباب الترجيحات فﻲ القياس واسع.
إشكالية البحث
التعارض بين اﻷدلة الشرعية النقلية باب حساس ،حيﺚ يؤمن المؤمن أنه ﻻ يوجد تعارض فﻲ اﻷدلة
الشرعية النقلية الصادرة من ﷲ و رسوله ،لذلك تكلم اﻷصوليون عن دفع التعارض الحادث عند المجتهد.
و لكن القياس ليس كالنقلﻲ ،فمرجعه اﻹجتهاد؛ فﻼ غرابة فﻲ التعارض بين اﻹجتهادات فﻲ مسألة واحدة
حسب فكر المجتهدين و علمهم ،فماذا نفعل إذا تعارض القياسان؟ و بأيهما نعمل؟ .فهذا امر واسع تكلم
عنه اﻷصوليون ،و اختلفوا فﻲ تعيينه ،و البحﺚ عن ذلك موجود فﻲ الكتب اﻷصولﻲ التراثﻲ ممنتشرة فﻲ
2
كتبهم عند ما يبحﺚ عن الترجيحات بين اﻷدلة الشرعية .و ليس هذا مجموعا فﻲ كتب واحد حتى يسهل
على الطﻼب و الباحثين فيها.
فهذه دراسة خاصة عن طرق دفع التعارض الواقع بين اﻷقيسة ،تجمع آراء اﻷصوليين التى ذكروها
منتشرة فﻲ كتبهم التراثﻲ ،و يذكر الباحﺚ فيها ما يرجحه من بعد المناقشة اﻷقوال المختلفة فيه.
أسئلة البحث
من خﻼل هذا البحﺚ ،سيقوم الباحﺚ بمحاولة اﻹجابة عن عدد من اﻷسئلة حول التعارض بين اﻷقيسة ،و
كيفية الترجيح بينها ،أهمها ما يلﻲ :
أهداف البحث
-1بيان معانﻲ القياس لغة و اصطﻼحا ،مع إلقاء الضوء إلى أهميته فﻲ الشريعة.
-6جمع أقوال المختفلة عن ترجيح بعض اﻷٌقيسة على معارضها ،مع بيان قول الراجح.
3
الدراسات السابقة
لقد تكلم اﻷصوليون عن القياس ،و التعارض و الترجيح بين اﻷقيسة من قبل و من بعد ،حيﺚ ان القياس
وبوب كل أصولﻲ فى كتبهم التراثﻲ ،أبوابا خاصا للتعارض
هو المصدر الرابع الذي ﻻ غنى عنه لمجتهدّ .
بين الدليلين والترجيح بينهما ،تحدثوا فيها عن التعارض بين الدليلين النقليين ،وبين الدليلين العقليين ،و
بين دليل نقلﻲ ودليل عقلﻲ؛ فﻼ يكاد يخلو كتاب تراثﻲ فﻲ أصول الفقه من بحﺚ عن القياس ،و التعارض
بين اﻷقيسة ،و طرق الترجيح بينها؛ ولكن نجد أنهم يتفاوتون فﻲ تناول هذا الموضوع ،فهم ما بين موسع
و مضيق فﻲ الحديﺚ عنه ،فمنهم من إختصر كﻼمهم عن القواعد الكلية فقط ،من غير ذكر اﻷدلة و
اﻷمثلة :كناصر الدين البيضاوي فى ‘منهاج الوصول’ ،وابن الحاجب فﻲ ‘مختصر المنتهى’ ،وتاج
الدين السبكﻲ فى ‘جمع الجوامع’ ...؛ و منهم من توسع كﻼمهم فﻲ أنواع الترجيح و ذهب إلى التفاصيل
و التفريعات مع إيراد اﻷمثلة لكل مسائل :مثل أبو الوليد الباجﻲ فﻲ ‘إحكام الفصول’ ،و سيف الدين
اﻵمدي فﻲ ‘اﻹحكام فﻲ أصول اﻷحكام’...؛ وتسمية كل أصولﻲ مع كتابه تطويل ﻻيحتاج إليه البحﺚ.
ولكن لم يكن هناك كتاب يتناول موضوع التعارض فﻲ اﻷقيسة خاصة ،إﻻ بعد مجﻲء دور البحوث فﻲ
الجامعات اﻹسﻼمية الجديدة ،فجاء الباحثون وجمعوا ما انتشر فﻲ كتب اﻷصول والفروع ،وصنفوا فﻲ
التعارض الترجيح ،كتبا خاصا يحتوي على مسائل عديدة يتعلق بمواضع مختلفة ،كالتعارض بين اﻷدلة
النقلية ،وبين القياس و النقل ،والتعارض بين اﻷقيسة ،وما إليها؛ ومن هذا القبيل كتاب أبراهيم محمد
الحفناوي ،يسمى ‘التعارض و الترجيح عند اﻷصوليين وأثرهما فﻲ الفقه اﻷسﻼمﻲ’ .يبحﺚ فيه عن
التعارض الحاصل بين اﻷدلة كلها ويشتمل البحﺚ على طرق الخﻼص منه .و ألف عبد اللطيف البرزنجﻲ
أيضا فﻲ نفس الموضوع .و فيه كثير من التفاصيل ،كذكر اﻵراء المتنوعة .ولكن هذين الكتابين يبحثان
عن التعارض الواقعة بين اﻷدلة الشرعية كلها عموما ،و ﻻ يركز على التعارض الحاصل بين اﻷقيسة
خصوصا.
و بحﺚ لخضر لخضاري عما وقع من التعارض بين القياس و خبر الواحد ،و كيفية الترجيح فيه ،فﻲ
كتابه ‘تعارض القياس مع خبر الواحد وأثره فﻲ الفقه اﻹسﻼمﻲ،؛ ولكن هذا أيضا ﻻ يحتوي عن التعارض
بين اﻷقيسة أصﻼ .فما وجد الباحﺚ فﻲ هذا الموضوع كتابا خاصا ،يتركز على التعارض بين اﻷقيسة،
فيريد بهذا البحﺚ جمع ما قال فيه اﻷصوليين ،و مناقشة ما اختلفوا فﻲ تفصيله ،حتى يصل إلى قول
راجح.
4
المناهج البحث
يسير الباحﺚ فﻲ دراسته عن التعارض فﻲ القياس و كيفية الترجيح فيه ،المناهج اﻵتية:
-1المنهج التحليلﻲ :و ذلك بمراجعة ما كتب عن هذا الموضوع فﻲ القديم و الحديﺚ ،و نقل ما قال فيه
اﻷصوليون ،وتحليل معانيه ،و إيراد التفاصيل و اﻹختﻼفات فﻲ المسائل المهمة.
-2و المنهج النقدي :و ذلك بمناقشة أقوالهم فﻲ ما اختلفوا فيه من التفاصيل ،ثم يرجح منها قوﻻ راجحا فﻲ
ضوء اﻷدلة الثابتة.
و يتم تحليل الباحﺚ من خﻼل اهتمامه بالمصادر اﻷصلية حسب اﻹمكان .وهذا يشتمل كل ما كتب عن
القياس و عن التعارض والترجيح بينها ،من الكتب التراثﻲ و المعاصر؛ و يعتمد على المصادر الثانوية
أيضا ،و ذلك إذا لم يحصل الكتب اﻷصلﻲ.
أوﻻ قسمت البحﺚ إلى بابين ،وكﻼ منهما إلى عدة فصول ،ويحتوي كل فصل على مباحﺚ كثيرة:
5
الفصل الثالﺚ :معنى الترجيح
نتائج البحث
الخاتمة
6
الباب اﻷول :بيان معاني ألفاظ الترجمة
نبحﺚ فﻲ هذا الباب عن معانى ألفاظ الترجمة – أي القياس والترجيح والتعارض ،ونبين فيه معانيها فﻲ
اللغة واﻹصطﻼح ،مع ذكر ما نحتاج إليه من معرفة أركانها وشروطها ،كﻲ يكون توطئتا إلى البحﺚ عن
التعارض والترجيح فﻲ القياس.
يحتوي هذا الفصل تعريف القياس لغة وإصطﻼحا ،وبيان أركان القياس وحجيته فﻲ الشريعة اﻹسﻼمية.
ويتبين منه أن القياس يستدعى أمرين ،يضاف أحدهما إلى اﻵخر بالمسواة ،كما يقال :فﻼن يقاس بفﻼن -
أي يساويه ،وأن القياس لغة فى اﻷحكام :رد الشيئ إلى نظيره ليكون مثﻼ له فﻲ الحكم الذي وقعت
الحاجة إلى إثباته.
ب تعريفٍ
تنوعت أقوال العلماء فﻲ تعريف القياس إصطﻼحا ،وهم فيه على ثﻼث مناهج؛ وتوكأ كل صاح ِ
على ما ذهب إليه ،وبرهنَ فﻲ إبطال ما عداه.
7
"قال :فما القياس:؟ أهو اﻹجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ ،قلت :هما إسمان لمعنى واحد .قال :فما
جماعهما ،قلت :كل ما نزل بمسلم ففيه حكم ﻻزم ،أو على سبيل الحق فيه دﻻلة موجودة ،وعليه
إذا كان فيه بعينه حكم :إتباعه؛ وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدﻻلة على سبيل الحق فيه باﻹجتهاد؛
واﻻجتهاد هو القياس".2
فسوى الشافعﻲ القياس و اﻹجتهاد ،و لكن عامة أهل العلم على خﻼف هذا التعريف ،وتعقبه اﻹمام
الحرمين )البرهان ،ج (2بأن تسوية القياس باﻻجتهاد فﻲ طلب الحق ،فاسد؛ بسبب أن من كان يجتهد فﻲ
طلب النص ليس قايسا مع أنه مجتهد.
ويتعذرعن الشافعﻲ رحمه ﷲ أنه أراد به المعنى المجازي ،فسوى بينهما مبالغة فقط ،كما قال النبﻲ صلى
ﷲ عليه وسلم" :الحج عرفة"؛ إذ القياس هو أهم مباحﺚ اﻹجتهاد .و ليس مرا ده به القياس الحقيقﻲ كما
بين السرخسﻲ" :ويسمى ذلك)القياس( اجتهادا مجازا ايضا ،ﻷن ببذل المجهود يحصل هذا المقصود".3
ذهب بعض اﻷصوليون إلى أن القياس من عمل المجتهد ،ويرى أصحاب هذا المنهج أن للمجتهد دخﻼ فﻲ
إدراك العلة المشتركة بين اﻷصل والفرع ،وفﻲ إثبات الحكم فﻲ الفرع ،سواء كان مدركا لحكم ﷲ تعالى
أو مخالفا له .فعرفوا القياس كما يلى :
قال العزالﻲ" :أنه )القياس( حمل معلوم على معلوم فﻲ إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ،بأمر جامع بينهما
من إثبات حكم أوصفة أو نفيهما عنهما".4
عرفه اليضاوي":وهو إثبات حكم معلوم فﻲ معلوم آخر ﻻشتراكهما فﻲ علة الحكم عند المثبت".5
عرفه ابن السبكﻲ" :هو حمل معلوم على معلوم لمساواته فﻲ علة حكمه عند الحامل".6
وفﻲ قولهم "إثبات" أو "حمل" ،وقولهم "عند الحامل" أو"عند المثبت" إشارة إلى أن مدار القياس عندهم
إدراك العلة فﻲ نظر المجتهد ،وأنه فعل من أفعال المجتهد .ويعترض على هذا بأن اﻹثبات هو ثمرة
القياس ﻻ القياس نفسه.
( 2اﻹمام محمد بن إدريس الشافعﻲ ،الرسالة )بيروت ،دار الكتب العلمية1426،هـ2006/م(413 ،
( 3أبوبكر محمد بن أحمد السرخسﻲ ،أصول السرخسﻲ)بيروت ،دار المعرفة( 143/2
( 4أبو حامد الغزالﻲ ،المستصفﻲ من علم اﻷصول )بيروت ،دار إحياء التراثى العربﻲ(96/2 ،
( 5ناصر الدين عبد ﷲ بن عمر البيضاوي ،منهاج الوصول إلى علم اﻷصول )بيروت ،دار الكتب العلمية1424،هـ2004/م(5/3 ،
( 6تاج الدين عبد الوهاب السبكﻲ ،جمع الجوامع فﻲ أصول الفقه )بيروت ،دار الكتب العلمية1424،هـ2003/م( 80
8
المنهج الثالث :القياس هو إ ظهار الحكم ﻓي الفرع المقيس عليه.
وأنصار هذا المنهج إعتبروا القياس عمﻼ من عمل ﷲ تعالى ،وهو دليل شرعية ،وضعه الشارع ،مثل
الكتاب والسنة؛ وانما المجتهد يظهر عﻼمات القياس ،ويدرك حكم ﷲ فيه عن طريق النظر.
قال اﻷمدي بعد إيراد جميع تعريفاته المعروفة وإبطال كل واحد منها ":والمختار فﻲ حد القياس أن يقال
أنه عبارة عن اﻹستواء بين الفرع واﻷصل فﻲ العلة المستنبطة من حكم اﻷصل".7
8
وقال ابن الحاجب" :هو مساواة فرعٍ اﻷص َل فﻲ علة حكمه".
وتعريفهم بـ"المساواة" مشعر على أنه ليس من عمل المجتهد ،وليس له إﻻ إظهار المساواة التى نصبها ﷲ
فيه .ولكن يرد على هذا التعريف أن المساواة صفة للمقيس ،والقياس من فعل القائس ،فالمساواة إنما تكون
نتيجة قياسه ﻻ نفس القياس ،ويعترض عليه أيضا بأنه ﻻ يشمل القياس الفاسد .والحق فﻲ الحد أن يعرف
الماهية بما هﻲ ،ثم يفرق بين الصحيح والفاسد.
ذكرنا أن تعريف القياس باﻹجتهاد ،تعريف باﻷخص إﻻ إذا أخذ بمعنى المجاز ،ولم يعرفه أحد إﻻ
الشافعﻲ – رحمه ﷲ .وما أورد الباحﺚ من تعريف أصحاب المناهج اﻷخرى ،فكلها صحيح ومعتبر،
لكونها جامعا ﻷفراد القياس المعتبرة ،ومانعا عن غيره؛ وﻷنه راجع إلى اﻹصطﻼح ،وﻻ مشاحة فيه؛ و
مآل التعريفات واحد ﻻيختلف ،فهذا التنوعات فﻲ التعريف ﻻ أثر له فﻲ معنى القياس وﻻ الفروع الفقهية.
وكلهم اتفقوا على أن أركان القياس أربعة ،وأن حكم اﻷصل يلحق بالفرع ،إذا إشتركا فﻲ وصف واحد
معتبر فﻲ الشرع؛ ولكن يرد اﻻعتراضات على إختيارهم بعض اﻷلفاظ فﻲ تعريفاتهم ،إشارة إلى رأيهم
عن صفة القياس؛ أهو فعل ﷲ أم فعل المجتهد؟ ،و قد أشير إلﻲ هذه اﻹعتراضات ،عند بيان التعريفات؛
فﻼ حاجة إلى تفصيله هنا.
ويقول الباحﺚ فﻲ توضيح ماهية القياس ،تحقيقا لكل ما قيل فيه :أن القياس بذل الجهد فﻲ إلحاق صورة
مجهولة الحكم بصورة معلومة ،ﻻشتراكهما على جامع ،يقتضﻲ ذلك الحكم.
( 7سيف الدين أبى الحسن اﻵمدي ،اﻹحكام فﻲ أصول اﻷحكام )بيروت ،دار الكتب العلمية( 171-170/3
( 8ابن الحاجب ،مختصر 137/4
9
شرح التعريف:
يشعر قول الباحﺚ "بذل الجهد" على أن للمجتهد نظر فﻲ القياس ،سواء كان مثبتا – كما قال أصحاب
المنهج الثانﻲ ،أو مظهرا لحكم ﷲ فيه – كما قال أنصار المنهج الثالﺚ .ويشمل "اﻹلحاق" الحم َل والتسوية
بين اﻷصل والفرع فﻲ الحكم بجامع .والمراد بـ"الصورة المجهولة " هو الفرع -أي المقيس .والمقصود
من "المعلومة" هو اﻷصل – أي المقيس عليه ،ﻷن حكمه معلوم من النص .و"الجامع" هو العلة
المشتركة بين اﻷصل والفرع.
المثال للقياس:
ويمكن أن يمثل له بقياس اﻷرزعلى البر فﻲ ثبوت الربا بجامع وجود الطعم فيه .وبيان ذلك :أن اﻷرزهو
الفرع – أي المقيس الذي هو محل النزاع ،لعدم ورود حكمه فﻲ الخبر ،فﻼ نعرف حكمه قبل إثباته
بالقياسح والبر هو اﻷصل – أي المقيس عليه الذي هو محل اﻹتفاق ،ﻹن حكمه ثابت بحديﺚ الربا
المشهور؛ والربا هو الحكم الذي نريد إثباتها فﻲ الفرع؛ والطعم هو العلة المشتركة بين اﻷرز والبر ،وبه
يثبت الحكم فﻲ الفرع.
ﻻ خﻼف بين المفكرين على أن القياس حجة فﻲ اﻷمور الدنيوية ،واتفق العلماء أيضا على حجية القياس
الصادر من النبﻲ صلى ﷲ عليه و سلم؛ وإنما الخﻼف فﻲ القياس الشرعﻲ ،فهو حجة شرعية أصلية عند
الجمهور من الفقهاء والمتكلمين والمنطقيين والفلسفيين ،و عمل به اﻷصحاب والتابعين ،واتفق عليه
المذاهب اﻷربعة المشهورة ،و اعتمدوا عليها فﻲ الفروع ،اﻻ ان بعض الظاهرية وغيرهم شرطوا لقبولها
أو انكروها بتمام! ،واستدل كل منهم على ما ذهب إليه ،بدﻻئل متنوعة من الكتاب والسنة واﻹجماع
واستنصروا رأيهم باﻷدلة العقلية أيضا.9
( 9تقيى الدين على السبكﻲ ،اﻹبهاج فﻲ شرح منهاج الوصول )بيروت ،دار الكتب العلمية1424 ،هـ14-9/3 (2004/
10
اﻷول :مذهب الجمهور
جماهير العلماء ذهبوا إلى جواز التعبد بمقتضﻲ القياس عقﻼ ،ووجوب العمل به شرعا؛ وبه قال الصحابة
والتابعون واﻷئمة اﻷربعة -أي أبو حنيفة والشافعﻲ واﻹمام مالك وأحمد -رحمهم ﷲ .واستدلوا لجوازه
اعتبار اﻷمثال واﻷشباه من قضية العقل ،فهو يسوي بين
ُ عقﻼ ،بأنه ﻻ يلزم من وقوعه محال أصﻼ ،وبأن
المتماثﻼت فﻲ الحكم .وفﻲ تعبد بالقياس مصلحة ﻻ يحصل بغيره ،والعقل يجوز ما فيه مصلحة.10
قال أبو الحسين البصري من المعتزلة ،أنه يجب العمل بالقياس عقﻼ وإنما الشرع والنصوص يأكده ،فثبت
عندهم وجوب العمل بالقياس عقﻼ وشرعا .وقال القفال وأبوبكر الدقاق – من أصحاب مذهب الشافعية،
بهذا المذهب.11
واستدلوا له بان الشريعة كاملة يشمل كل الحوادث ،والنبوة قد انتهى بالنبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم ،ولكن
الحوادث يحدث ويتجدد وﻻ نهاية لها؛ فوجب القياس شرعا فيما ﻻ نص فيه من الحوادث الجديدة ،لكﻲ ﻻ
يخلو شريعة ﷲ من اﻷحكام .واما عقﻼ فﻸنه يوجب قياس ما اتفق فيه العلل.
ذهب أصحاب الظاهرية -وعلى رأسهم ابن حزم اﻷندلس -إلى عكس ما قال به الجمهور .فالتعبد بالقياس
جائزعندهم عقﻼ ،وﻻ يجوزالتعبد به شرعا – أي لم يرد فﻲ الشرع ما يدل على العمل بالقياس ،وإكان
وقوعه جائزا عقﻼ؛ ﻷنه ﻻ توجد حادثة اﻻ وفيها حكم ﷲ ثابتا بالنص ،أو بفحوى النص ودليله .و ﻻ يعمل
اﻻ بالكتاب و السنة واﻹجماع .ولكن الداود الظاهري يقبل القياس الجلﻲ فقط ،فقياس اﻷولى و المساوئ
مقبول عنده.12
بعض علماء الشيعة قالوا باستحالة التعبد بالقياس عقﻼ؛ ولكن الزيدية -فرق من الشيعة -قالوا بحجية
القياس
( 10محمد بن على الشوكانى ،إرشاد الفحول إلى تحقيف الحق من علم اﻷصول )دارالفكر( 199؛ الغزالﻲ ،المستصفﻲ 102-99/2
( 11جمال الدين اﻹسنوي ،نهاية السول فﻲ شرح منهاج الوصول 798/2؛ ابن السبكﻲ ،اﻹبهاج 9/3؛ الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 199
( 12المراجع السابق
11
وفﻲ حجية القياس آراء أخرى ،كقبول القياس حجة فﻲ مواضع خاصة؛ وذهب إليه أبو بكر القاسانى
والمعافﻲ النهروانى – كﻼهما من الشافعية؛ فيجب العمل عندهم فﻲ صورتين:13
اﻻول :إذا كانت علة اﻷصل منصوصا عليها ولو باﻹجماع ،كما فﻲ قوله تعإلى ]والسارق
والسارقة ﻓاجلدوا ايديهما .14[...
الثانﻲ :إذا كان الحكم أولى فﻲ الفرع كقياس الضرب على التأفيف فﻲ قوله تعالى ]وﻻ تقل لهما
أف[.15
وهناك تفاصيل أخرى يوجد فﻲ الكتب عند البحﺚ عن القياس وحجيته .واوردها ابن السبكﻲ موجزا فﻲ
جمع الجوامع ،وقال:
"وهو حجة فﻲ اﻷمور الدنيوية؛ قال اﻹمام )الرازي( :اتفاقا ،وأما غيرها فمنعه قوم عقﻼ ،وابن
حزم شرعا ،وداود غير الجلﻲ ،وأبو حنيفة فﻲ الحدود والكفارات والرخص والتقديرات ،وابن
عبدان مالم يضطر إليه ،وقوم فﻲ اﻷسباب والشروط والموانع ،وقوم فﻲ أصول العبادات ،وقوم
فﻲ الجزئﻲ الحاجﻲ إذا لم يرد نص على وفقه كضمان الدرك وآخرون فﻲ العقليات ،وآخرون فﻲ
النفﻲ اﻷصلﻲ".16
ويفهم من هذه اﻷقوال السابقة أن هناك ثﻼث فرق فﻲ حجية القياس :
12
المطلب الثاني :أدلة الموجزين
استدل الجمهور لقبول القياس ،بادلة شتﻲ من الكتاب والسنة واﻹجماع وغيرها .وردوا جميع ما استدل به
المنكرون للقياس.
أ( استدلوا بعموم اﻻيات اللتﻲ يطلب ﷲ فيه التفكير واﻻعتبار فﻲ آياته .كقوله تعالى] :ﻓاعتبروا يا
أولى اﻻبصار[.17
ووجه اﻻستدﻻل أن معنى اﻻعتبار هو انتقال من شيئ إلى غيره؛ فهكذا القياس انتقا ٌل من شيئ معلوم إلى
شيئ غير معلوم.
(2قوله تعالﻲ] :ياأيها الذين آمنوا ﻻ تقتلوا الصيد وأنتم حرم ،ومن قتله منكم متعمدا ﻓجزاء مثل ما قتل
من النعم ،يحكم به ذوا عدل منكم[ .18
واﻻستدﻻل بأن ﷲ لم يحدد المثل ولم يبينه ولكن و ّكل اﻻمر إلى اﻻجتهاد .والقياس ايضا اجتهاد ليفهم
المثل.
(3وقوله تعالى] :و إذا جاءهم أمر من اﻷمن أو الخوف أذاعوا به ،ولو ردوه إلى الرسول وأولى اﻻمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم[.19
والمراد بأولﻲ اﻻمر هم العلماء والمجتهدون .ووصفهم ﷲ ‘بالذين يستنبطونه’ ،واﻹستنباط هو استخراج
المعنى من النص بالرأي والفكر ،وهو المراد بالقياس.
واستدلوا بآيات أخري التى يذكر ﷲ فيه عن ضرب المثال .فقالوا أجاز ﷲ تشبيه الشيئ بالشيئ .فهذا هو
القياس.20
( 17سورة الحشر2:
( 18سورة المائدة95/
( 19سورة النساء83:
( 20الشافعﻲ ،الرسالة 417؛ الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 202-200؛ اﻹسنوي ،نهاية السول 803-801/2؛ ابن السبكﻲ ،اﻹبهاج 14-11/3
13
اﻷ دلة من السنة :
-1ما أقر النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم ،معاذ بن جبل على اﻹجتهاد .فروي شعبة عن معاذ أن
النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال :كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال:
أقضى بما فﻲ كتاب ﷲ ،قال :فإن لم يكن فﻲ كتاب ﷲ؟ قال :فبسنة رسول ﷲ صلى ﷲ عليه
وسلم ،قال فإن لم يكن فﻲ سنة رسول ﷲ؟ قال :أجتهد رأيﻲ ،وﻻ آلو .قال :فضرب رسول
الذي وفق رسو َل رسو ِل ﷲ لما يرضاه رسول ﷲ".21 ﷲ صدري ،وقال" :الحمد
-2قال النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم ":إذا حكم الحاكم فاجتهد ،ثم أصاب فله أجران؛ وإذا حكم
فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".22
-3واستدلوا ايضا بما ورد عن النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم انه طبق القياس فﻲ عدة أمور .كجواب
النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم لجارية الخثعمية لسؤالها عن أبيها مات وعليه قضاء؛ فقال":أرأيت
23
لو كان على أبيك دين فقضيته ،أكان ينفعه ذلك؟" قالت :نعم .قال":فدين ﷲ أحق بالقضاء"
و قياس النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم فﻲ هذه الوقائع يكفﻲ دليﻼ على أن القياس مقبول فﻲ الشرع.
واستدل الموجزون بماروي من الوقائع التﻲ قاس فيها الصحابة .كقتال أبﻲ بكر -رضﻲ ﷲ عنه -المانع
من الزكاة قياسا على تارك الصﻼة ،وقياس علﻲ – كرم ﷲ وجهه -الشارب المسكر على القاذف ،بحده
ثمانين جلدة وعلل بانه إذا شرب سكر ،وإذا سكر هذي وإذا هذي افتري؛ فعليه حد المفتري .وقول
عمرﻻبﻲ موسى اﻻشعري لما أرسله الﻲ البصرة قال " :الفهم الفهم فيما يحتاج فﻲ صدرك مما لم يبلغك
فﻲ الكتاب والسنة .واعرف اﻻشباه واﻻمثال وقس اﻻمور على ذلك" .وقياس ابن عباس الجدَ على ابن
اﻻبن فﻲ حجب اﻻخوة .وهكذا ما روي من غيرهم من الصحابة رضوان ﷲ عليهم أجمعين دليل ظاهر
على أن القياس دليل شرعيى أقره اﻻسﻼم.24
( 21أخرجه ابو داود فﻲ السنن :باب إجتهاد الرأي فﻲ القضاء ،رقم الحديﺚ3119 :؛ وأخرجه الترمذي فﻲ السنن :باب ما جاء فﻲ القاضﻲ كيف
يقضى ،رقم الحديﺚ1249 :؛ ابن قيم الجوزي ،إعﻼم الموقعين )القاهرة ،دار الحديﺚ1422 ،هـ2002/م( 162/1
( 22رواه مسلم ،باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ،رقم الحديﺚ4584 :
( 23رواه مسلم ،كتاب الصيام ،باب قضاء الصيام عن الميت :رقم الحديﺚ 2749 :
( 24اﻹسنوي ،نهاية السول806-804/2؛ ابن قيم ،إعﻼم الموقعين 165-163/1؛ الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 203
14
اﻷ دلة العقلية :
واستدل الجمهور بأدلة عقلية يوجب اﻻستدﻻل بالقياس .وقالوا بأن النصوص محدود فﻲ القرآن والسنة.
وﻻ مجال لنص جديد حيﺚ اكمل ﷲ هذا الدين و اختتم النبوة مع الرسول ﷲ ى ﷲ عليه وسلم .ولكن
ئ من حكم ﷲ
اﻻمور والمشاكل يتجدد واحد اثر اخري .فﻼ بد من القياس ليتم أمر ﷲ ،ولئﻼ يعطيى شي ٌ
فيه .وقالوا أيضا بأن العقل السليم يقر القياس و يقبله .و ﻻ يلزم من وقوعه محال أصﻼ ،بل فيه مصلحة
يميل إليه العقل؛ وذلك ﻷن المجتهد إذا رأي دليﻼ قطعيا يثبت حكما فﻲ صورة من الصور ،وعلم من
القرائن أن هناك معنى يمكن أن يكون داعيا ﻹثبات ذلك الحكم ،ثم إذا وجد هذا المعنى فﻲ صورة أخرى،
ولم يكن هناك ما يعارض هذا الحكم؛ غلب على ظنه ثبوت الحكم فيه أيضا .ومخالفته يوجب العقاب ﻷنه
مخالفة لما ثبت عنده من حكم ﷲ ،فالعقل يرجح فعل ذلك جلبا للمصلحة ودفعا للمفسدة.
فالذي يظهر للباحﺚ أن القياس حجة فﻲ الدين بﻼ شك .ومن الجدير بالذكر انهم مع إختﻼفهم فﻲ التسمية،
متفقون فﻲ مسائل عديدة ،على ان حكم اﻻصل ثابت فﻲ الفرع -وان سماها بعضهم باسم آخر؛ ومنها ما
يلى :
(1إذا كانت علية القياس ثابتة فﻲ اﻷصل بأدلة قطعية كالكتاب و السنة واﻹجماع.
(2القياس الجلﻲ كقياس حرمة الضرب على التافيف بجامع اﻻيذاء المشتمل على كل منهما.
و سماها داود الظاهري اما استدﻻﻻ أو استنباطا .فكأن منكرو القياس انكروا التسمية ،واﻻ فهم يعترفون
به؛ كما بينه الشوكانى: 25
"أن نفاة القياس لم يقولوا بكل ما يسمى قياسا وان كان منصوصا على علته أومقطوعا فيه بنفﻲ
الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلوﻻ عليه بدليل اﻷصل مشموﻻ به مندرجا تحته .وبهذا
يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ويقرب إليك ما بعدوه ﻷن الخﻼف فﻲ هذا النوع
15
الخاص صار لفظيا ،وهو من حيﺚ المعنى متفق على اﻷخذ به والعمل عليه؛ واختﻼف طريقة
العمل ﻻ يستلزم اﻻختﻼف المعنوي"
يفهم من تعاريف القياس أن له أربعة أركان ،وهﻲ :اﻷصل ،والفرع ،والعلة ،وحكم اﻷصل .و اتفق
العلماء المجيزون على هذا القدر ،ولكن اختلفوا فﻲ تسميتها ،وشروطها ،و تفاصيلها .وكﻼمهم فﻲ هذا
الباب كثير ،ﻻ نحتاج إليه فﻲ هذا البحﺚ .ونورد هنا مايشبعه.
الطريق اﻷول :اﻷصل هو المحل الحكم المشبه به -أي الخمر فﻲ المثال المذكور ،وهذا مسلك
الفقهاء و نظار.
الطريق الثانﻲ :هو دليل الحكم المشبه به -أي النص الدال على الحكم ،وهذا مسلك المتكلمين.
الطريق الثالﺚ :هو الحكم نفسه -أي الحرمة فﻲ مسألة الخمر،
ولكل وجه ،ﻷن اﻷصل ما يبتنﻲ عليه غيره وحكم الفرع مبنﻲ على كل واحد من اﻷمور الثﻼثة؛ ولكن
كون اﻷصل هو النص نظر ،ﻷنه ان كان كذلك ،لبنﻲ الحكم على النص ،ﻻ القياس؛ و أماإستعماله لمعنى
اﻷول ،هو الشائع فﻲ الكتب والبحوث.
( 26اﻵمديﻲ ،اﻹحكام171/3 ،؛ د .لخضر لخضاري ،تعارض القياس مع خبر الواحد وأثره فﻲ الفقه اﻹسﻼمى )بيروت ،دار ابن حزم،
1427هـ2006/م( 121؛ ابن الحاجب ،مختصر مع رفع الحاجب 156/4
16
يقل أحد أنه دليله قياسا على ماذكر بأن المراد باﻷصل هو النص الدال على الحكم ،ﻷن الدليل هنا هو
القياس.
"الرابع العلة؛ قال أهل الحق المعرف ،وحكم اﻷصل ثابت بها ﻻ بالنص خﻼفا للحنفية ،وقيل
المؤثر بذاته ،وقال الغزالﻲ بإذن ﷲ وقال اﻵمدي الباعﺚ عليه ،وقد تكون دافعة أو رافعة أو
فاعلة اﻷمرين ،ووصفا حقيقيا ظاهرا منضبطا أو عرفيا مطردا.27"...
نفصل فيه معنى التعارض فﻲ اللغة وإصطﻼح اﻷصوليين ،وﻻ نورد شروطه وأركانه ﻷنا ﻻنحتاج إليه
فﻲ هذا لبحﺚ.
17
المبحث الثاني :التعارض إصطﻼحا
إختلف اﻷصوليون فﻲ تعريف التعارض تبعا ﻹختﻼفهم فﻲ شروط التعرض و إختﻼفهم فﻲ وقوعه بين
اﻷدلة القطعية أو الظنية .فﻼ نذهب إلى تفاصيل هذا اﻹختﻼف ،بل نكتفﻲ فﻲ هذا البحﺚ بإيراد بعض
التعارف المشهور وإختيار واحد منها.
عرفه السرخسﻲ وقال" :وأما الركن ،فهو تقابل الحجتين المتساويتين ،على وجه يوجب كل واحد منها
ضد ما توجبه اﻷخرى ،كالحل والحرمة والنفﻲ واﻹثبات."29
وسواه الغزالﻲ بالتناقض ،وقال فﻲ المستصفﻲ أن التعارض هو التناقض؛ واعترض على هذه التعريف
بأنه تعريف لفظﻲ ،وأيضا لم يتفق على تسويته اﻷصوليون ،ومنهم من فرق بينهما ،وقالوا ﻻ يقع التناقض
بين اﻷدلة الشرعية أصﻼ.30
وعرف اﻷسنوي فﻲ شرحه على المنهاج بأنه تقابل اﻷمرين على وجه يمنع كل واحد منها مقتضى
صاحبه .وتعقب عليه بأن قوله "اﻷمرين" أشمل وأعم مماهو المراد فﻲ الباب .واستعمل البيضاوي وابن
السبكﻲ والشوكانى التعادل بمعنى التعارض.31
وعرفه الشوكانى وقال" :وأما التعادل فهو التساوي وفﻲ الشرع استواء اﻷمارتين" ،32ولكن هذا التعريف
أعم وغير مانع ،ﻷنه ﻻ يلزم من اﻹستواء بين الشيئين أن يكونا متعارضين.
ويمكن أن يقال أن المراد بالتعارض هنا هو التقابل بين اﻷدلة الشرعية بحيﺚ يقتضى أحدهما خﻼف ما
يقتضى اﻵخر.
( 29ابو بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى ،أصول السرخسﻲ) ،بيروت ،دار الكتب العلمية( 12/2
( 30محمد إبراهيم محمد الحفناوي ،التعارض والترجيح عند اﻷصوليين وأثرهما فﻲ الفقه اﻹسﻼمى 32
( 31عبد الرحمن البنانى ،حاشية البنانى على شرح المحلﻲ على متن جمع الجوامع )بيروت ،دار الكتب العلمية1418 ،هـ1998/م(551/2؛
البيضاوي ،منهاج الوصول مع شرح اﻹسنوي 963/2
( 32الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 273
18
الفصل الثالث :معنى الترجيح
نبحﺚ فﻲ هذا الفصل عن معنى الترجيح لغة واصطﻼحا ،وﻻ نذهب إلى أقسامه وصوره.
عرفه اليضاوي" :الترجيح تقوية إحدى اﻷمارتين على اﻵخرى ليعمل بها".34
فهذا التعريف مبنﻲ على رأيه أن الترجيح صفة اﻷدلة وليس من عمل المجتهد ،ولكن يرد على هذاأنه حد
للرجحان أو الترجح ﻻ للترجيح ﻷنه عمل شخص .وقوله"اﻷمارتين" – أي الدليلين الظنين ،يشير إلى
عدم التعارض بين القطعيين وبين القطعﻲ والظنﻲ.
وتعريف ابن حاجب و الشوكانى أيضا فﻲ معناه" :اقتران اﻷمارة بما تقوي بها على معارضها" وعرف
على هذا اﻹتجاه اﻵمدي وغيره.35
وعرف أيضا بمعنى أنه عمل المجتهد ،كما عرفه الرازي بأنه تقوية أحد الطريقين ،ليعلم اﻷقوي فيعمل
به ،ويطرح اﻵخر.هذا هو الصحيح ﻷن الترجيح يشعر على أنه عمل عامل ،وهنا هو عمل المجتهد .فعلى
هذا يمكن أن يقال أن الترجيح تقديم المجتهد أحد الدليلن المتعارضين لما له مزية على اﻵخري.
و اتفق أكثر العلماء على جواز التمسك بالترجيح ،وأنكر بعضهم العمل بالترجيح وقالوا يلزم التخيير أو
التوقف عند التعارض ،وﻻ يرجح أحد الظنين وإن تفاوتا .ولكن هذا غير صحيح لترجيح الصحابة بين
اﻷخبار المتعارضة فﻲ عدة وقائع .واﻷصح أن العمل بالدليل الراجح واجب اقتداء بالصحابة.36
19
الباب الثاني :التعارض والترجيح بين اﻷقيسة
بعد بيان معانى اﻷلفاظ وما يحتاج إليه البحﺚ ،آن الوقت للبحﺚ التعارض والترجيح بين اﻷقيسة .أوﻻ،
يتكلم الباحﺚ عن إمكانية التعارض فﻲ القياس و سبب وقوعه ،ثم ينتقل إلى بيان كيفية الترجيح بين
القياسين المتعارضين.
فتحدث العلماء حول هذه الصورالثﻼث ،والراجح ان وقوع التعارض بين القياسين القطعيين محال؛
لكونه إجتماع النقيضين ،وﻻ يقع التعارض بين قياس ظنﻲ وقياس قطعﻲ ،اذ ﻻ يحصل ظن عند القطع
بالنقيض ،وأيضا يمكن ترجيح القطعيى على الظنﻲ ابتداءا .فانما يقع التعارض بين قياسين ظنيين فقط.
وحينئذ ينحصر الترجيح بين قياسين ظنيين متعارضين.37
( 36ابن السبكﻲ ،اﻹبهاج 175/3؛ رفع الحاجب 608/4؛ اﻵمدي ،اﻹحكام 460/4
( 37اﻵمدي ،اﻹحكام 462/4
20
المبحث الثاني :أسباب التعارض ﻓي القياس
القياس مداره على العلة .والعلل المؤثرة فﻲ الحكم مختلفة – بعضها قطعﻲ و بعضها ظنﻲ ،فيختلف قوة
القياس بحسب قوة العلة و الدليل .فان كان العلة ثابتة بالنص ،فﻼ مجال فيه لكثرة اﻻختﻼف .و ان كان
العلة ثابتة باستنباط المجتهد ،فيسلك كل واحد فﻲ تعيينه مسالك مختلفة من مسالك العلة .فيختلف القياس
والحكم ،حسب تعيينهم العلة .و لذا يكثروقوع التعارض بين اﻷقيسة ،ﻷن عقل المجتهدين متفاوت و
مختلف.
اﻻول :القياس القطعﻲ :و ذلك ما يثبت فيه الحكم قطعا ،كما إذا نص الشارع عند الحكم على
علته ،و قطع بثبوتها فﻲ الفرع .فﻼ شك أن حكم اﻷصل ثابت فﻲ الفرع ،فﻼ يوجد فيه مجال للتعارض اﻻ
نادرا.
والثانﻲ :القياس الظنﻲ :وهو ما ﻻ يثبت فيه الحكم قطعا ،وذلك لكون دليله أو علته ظنيا ،كما إذا
لم ينص الشارع على علة الحكم ،فيسلك الفقهاء فﻲ تعيين تلك العلة مسالك مختلفة .وليست هذة المسالك
كلها قطعية ،بل معظمها ظنية ،مؤداها الظن.
فإذا كان العلة ظنيا ،وسلك المجتهدون لبيانهم مسالكهم الخاصة ،يختلف قياس بعضهم من بعض .ﻷن فيه
مجال لﻺختﻼف طبعا لتفاوت العقول واﻷفهام .ومن هنا يكثر تعارض اﻷقيسة.38
إذا تعارض القياسان ،فهناك طرق للخﻼص منه ،كما فﻲ بقية اﻻدلة المتعارضة .والجدير بالذكر أنه ﻻ
يكون هناك مجال لنسخ أحد القياسين؛ ﻷن النسخ خاص باﻷدلة النقلية فﻲ زمن الوحﻲ .ولم يتكلم
اﻷصوليون عن الجمع ،طريقة لدفع التعارض بين القياسين ،إذ ﻻ يحتاج إليه؛ ﻷن القياس من عمل
المجتهد حسب عقله و فكره ،فإن تعارض قياسان من المجتهدين أو من مجتهد واحد بنفسه ،فﻼ يضطر
إلى الجمع ،ﻷن فيه مجال للخطأ و الغفلة ،بخﻼف اﻷدلة النقلية ،فهﻲ صادر من ﷲ ورسوله وهم الشارع،
فﻼ يقع منهم زلة و ﻻ خطأ ،وإنما الخطأ فﻲ فهمنا النصوص ،فعلينا أن نجمع بينهما حسب اﻹمكان.
21
فلم يبقى الجمع والنسخ طرقا للخﻼص من التعارض فﻲ اﻷقيسة ،و إنما بقﻲ فيه خصلتان ،و هما ترجيح
أحد القياسين أو إختيارالمجتهد أحدهما للعمل به ان أمكن .فان وجد شيئا مرجحا ﻷحد الجانبين ،يقدمه
على اﻵخر و يعمل به .وان لم يجد شيئا يؤيد أحد القياسين ،فﻼ يتبادر إلى اسقاط الدليلين .ولكن يجوز
للمجتهد أن يختار أحدهما ،و يعمل به مطلقا عند الشافعية ،وعند اﻷحناف يعمل أيضا بأحدهما ،ولكن بعد
استفتاء قلبه فقط.39
تكلم اﻷصوليون عن طرق الترجيح بين القياسين إذا تعارضا ،وعينوا فيه أنواعا كثيرا .وأختلفوا فﻲ عدده
وتقسيمه و تسميته إختﻼفا شديدا:
قال اﻵمدي" :40فإن كان التعارض بين قياسين ،فالترجيح بينهما قد يكون بما يعود إلى أصل القياس ،وقد
يكون بما يعود إلى فرعه ،وقد يكون بما يعود إلى مدلوله ،وقد يكون بما يعود إلى أمر خارج".
ثم بين كل واحد منه ،وأورد تحته أنواعا كثيرة ،و لعل اﻵمدي -فﻲ كتابه ‘اﻹحكام فﻲ أصول اﻷحكام’ -
هو الذي أورد أكثر احتمال الترجيح بين اﻷقيسة المتعارضة مع التفاصيل و بيان آراء العلماء واختﻼفهم
فيه.
وقسمها البيضاوى إلى خمسة وجوه :اﻷول الترجيح بحسب العلة ،و الثانﻲ بحسب دليل العلية ،والثالﺚ
بحسب دليل الحكم ،والرابع بحسب كيفية الحكم ،والخامس بأمور خارجية41؛ ولم يتناول كتابه التفاصيل و
اﻷمثلة ،و إنما عده مختصرا .وإعتمد الحفناوي -فﻲ كتابه ‘التعارض والترجيح عند اﻷصوليين’ -على
هذا التقسيم.42
22
و أما الشوكانى فيكون عنده الترجيح على سبعة أنواع :اﻷول :بحسب العلة ،والثانﻲ :بحسب الدليل الدال
على وجود العلة ،والثالﺚ :بحسب الدال عل علية الوصف للحكم ،والرابع :بحسب دليل الحكم ،والخامس:
بحسب كيفية الحكم ،والسادس :بحسب اﻷمور الخارجية ،والسابع :بحسب الفرع.43
ويغلب على ظن الباحﺚ ،تحديد أقسام الترجيح بين اﻷقيسة إلى خمسة أقسام؛ ﻷن الترجيحات فيها يكون
إما بحسب أحد أركانه اﻷربعة ،و إما باعتبار أمر خارج عنها .فيكون مجموعها منحصرة فﻲ خمسة،
وأما ما عدوه أكثر منها ،فهو مندرج فﻲ أحد هذه اﻷقسام الخمسة ،وهﻲ:
اﻷصل -أي المقيس عليه -ركن من أركان القياس .فإذا تعارض القياسان يرجع إلى اﻷصل ،فان وجد
فيه شيئا يقوي احد القياسين ،ير ّجح على اﻵخرى.
إذا تعارض القياسان و حكم اﻷصل فﻲ أحدهما قطعﻲ ،وفﻲ الثانﻲ ظنﻲ؛ فيقدم القياس اﻻول على
الثانﻲ ،ﻻن ما كان حكمه قطعية ،أقوى وأغلب مما كان حكمه ظنية.
المثال :قياس اﻷخرس على الفاسق فﻲ صحة اللعان منه ،فيقول الشافعﻲ :يصح ،ﻷن ما صح من
الفاسق صح من اﻷخرسن كاليمين؛ و وهذا مقدم على قياسه الحنفية على شهاداته بجامع أنه يفتقر إلى
23
لفظ الشهادة ،ﻷن اليمين يصح من اﻷخرس باﻹجماع ،وهو قطعﻲ ،و أما جواز شهاداته ،ففيه خﻼف
بين الفقهاء.
وفﻲ معنى هذا ما إذا كان حكم اﻷصل فيهما ظنيا ،ولكن الظن فﻲ أحدهما أرجح من اﻵخر ،فيكون
هو اﻷولى.
إذا تعارض القياسان واصل احدهما متفق على بقاء حكمه ،فيقدم على اﻵخرى الذي اختلف فﻲ بقاء
حكمه بان قيل انه منسوخ .ﻷن ما سلم من اﻹحتمال واﻹختﻼف أولى وأبقى مما قيل فيه بأنه منسوخ،
و إن كان القول بأنه منسوخ ضعيفا.
فيقدم القياس الذي حكمه غير معدول عن سنن القياس والقواعد الكلية ،على القياس الذي هو معدول
أرش ما دون الموضحة عليها فﻲ وجوبه على العاقلة ،على قياس
َ عنه .مثاله :ترجيح قياس الشافعية
الحنفية له على غرامات اﻻموال ،فﻲ وجوبه على الجارح ﻻ على العاقلة؛ وسبب الترجيح أن اﻷصل
والفرع فيه مشتركان فﻲ كونهما جناية على البدن ،بخﻼف القياس الثانية ﻷنهما مختلفان فيه.45
إذا كان أحد القياسين المتعارضين مما اتفق على تعليل حكم أصله واﻵخر مختلف فيه ،فيكون ما اتفق
على تعليله ،أولى مما اختلف فيه ،ﻷن مدار القياس على العلة.
إذا كان الدليل المثبت للحكم اﻷصل فﻲ أحد القياسين أرجح من دليل اﻵخر ،فاتفق العلماء فﻲ تقديمه
على اﻵخر .ولكن إختلفوا فيما إذا كان أحدهما ثابت بالنص ،واﻵخر ثابت باﻹجماع.
24
والجمهور على ان ما ثبت باﻹجماع يقدم على ما ثبت بالنص ،واستدلوا لذلك بأن النص قابل للنسخ
والتخصيص ،بخﻼف اﻹجماع .واختارالسبكﻲ هذا المذهب .46وبعضهم ذهب إلى أن النص يقدم
مطلقا .ﻻن النص هو اﻷصل ،واﻷصل مقدم على الفرع .واختاره البيضاوي.47
والصحيح هو اﻷول ،ﻷن اﻹجماع صادر عن النص ،فالمتعارض فﻲ الحقيقة نصان يرجح أحدهما
بالقياس .وأما ما استدل به البيضاوي بكون اﻹجماع فرعا للنص ،واﻷصل مقدم على الفرع؛ قول
صحيح إذا كان المراد فرعه ،ولكن اﻹجماع فﻲ المسألة ليس فرعه ،بل فرع نص اخر.
يرجح أحد القياسين بقيام دليل خاص على تعليل حكم اﻷصل و جواز القياس عليه ،لبعده عن الخﻼف
ولكونه أقرب للعقول.
إذا كان أحد القياسين يعتمد على أصول كثيرة ،فيرجح على مخالفه الذي يعتمد على أصول أقل منه.
المثال :جواز مسح العمامة فﻲ الوضوء قياسا على الخف عند الحنابلة ،ومنعه عند الشوافع قياسا على
الوجه واليدين والرجلين .فيقدم الثانﻲ لكثرة أصوله.
وكذا كون النية واجبة فﻲ الوضوء قياسا على سائر العبادات ،وخالف فيه الحنفية وقالوا بعدم وجوبه
قياسا على غسل النجاسة .فيقدم القياس اﻻول لكثرة أصوله.
الفرع هو ثانى اﻷركان اﻷربعة للقياس .ويكون التعارض بين القياسين بحسب الفرع خاصة قليﻼ؛ ﻷن
قياس بالنظر إلى كيفية حكم الفرع وقوة إثباته ،ﻹتباعه
ٌ الحكم يثبت فيه قياسا على اﻷصل ،فﻼ يرجح
اﻷصل فيه .وإنما يبقى مجال الترجيح فيه ،هو كون العلة ثابتة فﻲ الفرع؛ فإنه كلما ثبت العلة فﻲ الفرع
متساويا لﻸصل ،يثبت فيه الحكم بﻼ خﻼف ،وان شك فﻲ وجود العلة فﻲ الفرع يكون ثبوت الحكم فيه
ظنيا ،ولقلة إمكانية الترجيح بحسب الفرع ،لم يذكر بعض اﻷصوليين – كالبيضاوي – فﻲ كتبهم ،و اتبعه
25
الحفناوي فلم يذكره أيضا ،48و ذكر ابن حاجب ثﻼث أمور للترجيح بالفرع ،49وأما اﻵمدي فزاد و عد
لذلك أربع خصلة ،وإتبعه البرزنجى ،50ولكن قسم الشوكانﻲ نفس هذه اﻷمور إلى خمسة على عادته فﻲ
التقسيم اﻷمور.51
عند التعارض بين القياسين الذين فرعهما مشترك باﻷصل ،يرجح ما كان اشتراكها به أقوى على ما دونه.
وهذا كما قال ابن حاجب ":الفرع :يرجح بالمشاركة فﻲ عين الحكم ،و عين العلة ،على الثﻼثة ،وعين
أحدهما على الجنسين ،وعين العلة خاصة على عكسه".52
أ( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ عين الحكم وعين العلة :وهذا يقدم على اﻷقسام
الباقية – بﻼ شك ،ﻷن التعدية باعتبار اﻹشتراك فﻲ المعنى اﻷخص فقط أغلب على الظن من
اﻹشتراك فﻲ المعنى اﻷعم.
ب( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ عين العلة وجنس الحكم :يقدم هذا على ما كان
مشاركا فﻲ جنس الحكم وجنس العلة.
وفﻲ تقديمه على ما كان مشاركا فﻲ عين الحكم وجنس العلة خﻼف؛ ذهب قوم إلى تقديمه عليه،
ومنهم ابن الحاجب و الشوكانى ،واﻵمدي .وذهب آخرون -منهم التفتازانى ،وابن الهمام ،وابن
أمير الحاج ،إلى تقديم القياس المشارك فﻲ عين الحكم وجنس العلة على ما كان مشاركا فﻲ عين
العلة وجنس الحكم .واستدلوا بإن اعتبار الحكم بكونه المقصود ،أهم وأولى بالترجيح من اعتبار
العلة.53
والراجح عند الباحﺚ ما ذهب اليه اﻷول ،من تقديم المشارك فﻲ عين العلة وجنس الحكم ،ﻷن
تعدية الحكم من اﻷصل إلى الفرع إنما هﻲ نتيجة ثبوت العلة فيه ،وﻷن العلة هو اﻷساس فﻲ
التعدية وعليه مدار القياس.
26
ت( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ عين الحكم وجنس العلة :وهذا يقدم على المشارك
فﻲ جنس الحكم وجنس العلة إتفاقا ،وفﻲ تقديمه على المشارك فﻲ عين العلة وجنس الحكم
الخﻼف المذكور.
ث( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ جنس الحكم وجنس العلة :وهذا أضعف من اﻷقسام
السابقة ،ﻷنه كلما كان اﻹشتراك فﻲ المعنى اﻷعم ،كان أضعف على الظن فﻲ ثبوته ،من
اﻷشتراك فﻲ المعنى اﻷخص.
ان كان الفرع فﻲ أحد القياسين متأخرا عن اﻷصل ،وفﻲ اﻵخر متقدما؛ يرجح ما كان الفرع فيه متأخرا،
لسﻼمته عن اﻹضراب ،وبعده عن الخﻼف ،ﻷنه يقطع بثبوت الحكم فيه بقياسه على اﻷصل.
وهذه الخصلة هﻲ التى أضافه اﻵمدي ،و ذكره البرزنجﻲ طبعا .و لم يذكر هذا ابن حاجب.54
إذا كان وجود العلة فﻲ أحد الفرعين قطعيا ،وفﻲ اﻵخر ظنيا ،فالقياس المقطوع بوجود علته فﻲ الفرع
مقدم على غيره ،لبعده عن إحتمال القادح.55
مثﻼ :قول الشافعية بنجاسة بول ما يؤكل لحمه ،بجامع أنه مما يستحيل من الجوف ،فأشبه بول اﻹنسان .و
هذا يعارض ما قاله المالكية بطهاة بوله ،بجامع أنه مائع وردت الرخصة فﻲ إباحة شربه .فيرجح قياس
الشوافع ﻷن علتهم موجود فﻲ الفرع – بﻼ شك ،بخﻼ ف علة المالكية ،فإنها صفة مختلف فيها ،و ﻻ يقطع
بجودها فﻲ الفرع.56
القياس الذي ثبت حكم الفرع فيه بالنص جملة – ﻻ تفصيﻼ ،يرجح على معارضه الذي ثبت الحكم فيه
بغيره ،ﻷن ما ثبت فيه الحكم جملة ،أغلب على الظن فﻲ ثبوت الحكم بالقياس .وأما ما ثبت فيه الحكم
تفصيﻼ ،فﻼ حاجة إلﻲ القياس إذ الحكم ثابت بالنص.57
( 54اﻵمدي ،اﻹحكام 498/4؛ ابن حاجب ،مختصر 645/4؛ البرزنجى ،التعارض والترجيح 274/2
( 55المراجع السابق.
( 56ابن السبكﻲ ،رفع الحاجب 645/4
( 57اﻵمدي ،اﻹحكام 498/4؛ ابن حاجب ،مختصر 645/4؛ البرزنجى ،التعارض والترجيح 274/2
27
المبحث الثالث :المرجحات بحسب العلة
العلة من أهم اﻷركان الذي عليه مدارالقياس .ومن ثم كثر اﻻختﻼف والتعارض بين القياسين بحسب العلة.
لذا أوفر طرق الترجيح بين القياسين باعتبار العلة .وتحدث العلماء عن كيفية استنباط العلة ،وذلك ما
يسمى بمسالك العلة .وتحدثوا ايضا عن اسباب القدح فﻲ العلة و سموها قوادح العلة .فالترجيح بين
القياسين المتعارضين باعتبار العلة يتعلق بهما .ومن هنا وسع مجال الترجيحات بحسب العلة ،وأطال
اﻷصوليون هذا البحﺚ.
يمكن الترجيح بحسب العلة بأمور ،فمنها ما يرجع إلى صفة العلة ،و منها ما يرجع إلى طرق إثباتها.
يرجح أحد القياسين ان كانت العلة فﻲ أحدهما وصفا حقيقيا ،على القياس الذي علته نفس الحكمة ،ﻷن
التعليل بالوصف الحقيقﻲ الذي هو مظنة الحكمة مجمع عليه ،بخﻼف التعليل بالحكمة .مثاله ترجيح
التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بالمشقة.
ومنها ما كانت العلة فﻲ أحد القياسين وصفا حقيقيا ،فيقدم على ما كانت علته وصفا عرفيا أو حكما
شرعيا؛ ﻷن الحقيقﻲ ﻻ يتفق على شيئ بخﻼفهما .ﻷنهما يحتاج إلى العرف والشرع.
وكذا يقدم ما كانت علته وصفا عرفيا على ما كانت علته حكما شرعيا؛ وذلك ﻹتفاق العلماء على التعليل
بالوصف العرفﻲ بخﻼ ف الشرعﻲ.
قد يكون الوصف والحكم وجوديين فﻲ قياس ،أو يكونا عدميين ،أو أحدهما وجودي واﻵخر عدمﻲ.
فحصل منه أربعة أقسام:58
( 58اﻹسنوي ،نهاية السول 1013/2؛ ابن السبكﻲ ،اﻹبهاج 200/3؛ البرزنجى ،التناقض والترجيح 270/2؛ ابن السبكﻲ ،رفع الحاجب 639/4
28
.2التعليل بالوصف العدمﻲ على الحكم العدمﻲ.
.3التعليل بالوصف العدمﻲ على الحكم الوجودي.
.4التعليل بالوصف الوجودي على الحكم العدمﻲ.
فيرجح ما كانا وجوديين على اﻷقسام باقية؛ وهكذا يرجح ما كانا عدمين على القسمين اﻷخيرين ،والقسم
الثالﺚ على الرابع.
ٌ
طﻼق ﻷنه فرقة ينحصر ملكها فﻲ مثال تقديم الوجوديين على العدميين ،قياس الشافعية فﻲ الجديد ،الخلع
الزوج فيكون طﻼقا ،فالحكم والعلة فيه وجودي .لذا يقدم على ما فﻲ القديم بأنه فسخ ﻷنه ﻻ رجعة فيه فﻼ
يكون طﻼقا ،ﻷن الحكم )ﻻ يكون طﻼقا( والعلة )كونه عدم الرجعية( عدمﻲ.
ومثال تقديم العدميين على ماكان الوصف عدميا والحكم وجوديا ،ترجيح قول الجمهور :المرأة ﻻ تلﻲ
القضاء ،فﻼ تلﻲ النكاح كالمجنون )كﻼهما عدمﻲ( على قول الحنفية :ﻻ تمنع المرأة من التصرف فﻲ
المال ،فتلﻲ النكاح كالعاقل.59
إذا تعارض قياسان وكانت علة أحدهما وصفا بسيطا – اي مفردا ،وعلة اﻵخر وصفا مركبا ،فيرجح
الوصف البسيط على الوصف المركب؛ ﻷن اﻹجتهاد فيه أقل ،وكلما أقل اﻹجتهاد سلم من القدح .وهذا هو
مذهب متأخري الشافعية ،واختاره السبكﻲ والبيضاوي.60
وذهب الحنفية إلى تقديم المركبة على البسيط .وقال اﻹمام الحرمين فﻲ التلخيص على انهما سواء .وقول
الثانﻲ ليس بصحيح؛ ﻷنه يؤدي أن يكون كلما زاد تركيب العلة كان القياس أرجح ،وهذا غير معقول.61
مثاله :قول الشافعﻲ فﻲ الجديد بعلية الطعم فﻲ اﻷشياء اﻷربعة الربوية .فيقدم على تعليله فﻲ القديم بكونه
طعما و مقدارا.
ترجح أحد القياسين إذا كان علته عامة توجد فﻲ جميع اﻷفراد ،على القياس الذي علته خاصة ﻻ يشتمل
بعض اﻷفراد .ﻷن اﻷعم أكثر فائدة من اﻷخص ﻹشتماله أفرادا كثيرا.
( 59ابن السبكﻲ ،رفع الحاجب 640/4
( 60ابن السبكﻲ ،جمع الجوامع ،117البيضاوي ،نهاية السول مع شرح اﻷسنوي 1012/2
( 61ابن السبكﻲ ،اﻹبهاج 201/3
29
مثاله :تعليل الشافعية منع بيع الكلب بالنجاسة ،فيرجح على تعليل الحنفية جواز بيعه باﻹنتفاع .ﻷن اﻷول
يشمل كل أفراد الكلب بخﻼف الثانية ،فﻼ يدخل فيه الجرو لعدم اﻹنتفاع به.
إذا تعارض القياسان وكانت علة أحدهما ناقلة -أي متعدية إلى أفراد كثرة ،و اﻷخري غير متعدية؛ فيقدم
الناقلة على اﻵخري لكثرة فوائدها.
اﻻول :يرجح المتعدية لكثرة فوائده على القاصرة ،هذا مذهب الجمهور و اختاره اﻻمدي وابن
الحاجب.63
الثانﻲ :يقدم العلة القاصرة لقلة الخطأ فيه
الثالﺚ :عدم الترجيح بواحدةمنهما ،وأنهمامتساويان؛ فﻼ يرجح أحد القياسين بكونه ناقلة أو
قاصرة ،ولكن ينظر إلى صفة أخري .وهذا هو قول الباقﻼنى واﻻمام الحرمين.
(1أن فائدة الناقل أكثر من فائدة القاصرة ،ﻷن العلة القاصرة ﻻ يستنتج شيئا جديدا.
مثال ذلك :تعليل الشافعية الربوية فﻲ النقدين كونهما جوهر النقدين من الذهب والفضة ،فﻼ يتعدى الحكم
إلى باقى النقد سوى الذهب الفضة .وتعليل الحنفية فيهما كونهما موزونين وهما يراج فيتعدي الربا إلى
باقى الدنانير والدراهيم .فيقدم قياس الحنفية ﻷن علتهم متعدية إلى فروع.
( 62أبو الوليد الباجﻲ ،إحكام الفصول فﻲ أحكام اﻷصول)بيروت ،دار العر اﻹسﻼمﻲ760 (1986،؛ الغزالﻲ ،المستصفﻲ 214/2؛ اﻵمدي،
اﻹحكام 492/4
( 63مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب641/4،
30
وتفصيل الدرجات والترجيح به مع ما فيه من اﻹختﻼف ما يلى :
إن كان وجود العلة فﻲ أصل أحد القياسين مقطوعا به ،فيرجح على معارضه الذي ليس وجود العلة فيه
قطعيا؛ لكونه أقوى فﻲ الدﻻلة وأغلب على الظن.
ومن هذا القبيل ما كان وجود العلة فﻲ أصل كل واحد منهما مظنونا ،غير أن الظن فﻲ وجود إحداهما
أرجح من اﻵخرى؛ ﻷن ما غلب فيه الظن أقرب إلى القطع ،والقطع مقدم على غيره.64
فيقدم ما ثبت فيه العلة بالنص القاطع على غيرها مطلقا .والقاطع ما دل على عليته بﻼ شك .كما إذا ورد
بعد اﻻلفاظ القاطعة على العلية مثل " كﻲ" و"كيﻼ" و " من أجل"؛ كما فﻲ قوله تعالى] :ومن أجل ذلك
65
كتبنا على بنى اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو ﻓساد ﻓي اﻷرض ﻓك أنما قتل الناس جميعا[
مثاله :قياس النبيذ القليل على الخمر فﻲ الحرمة بجامع اﻹسكار عند الشافعﻲ ومالك ،وقياس اﻷحناف
النبيذ على العسل فﻲ حل قليله الذي ﻻ يسكر بجامع أن ما أعده ﷲ فﻲ الجنة يجب أن يكون من جنسه ما
هو مباح ﻷن علة اﻻول ثابت بالنص فﻲ قوله الخمر حرام ﻹسكاره.
ويقدم ايضا ما ثبت فيه العلة بانص الظاهر على الثابت بدليل ادنى ،والظاهر ما يحتمل غير العلية أيضا
كـ "الﻼم" ﻻنه يأتى للعاقبة ايضا كما جاء فﻲ قوله تعالى] :أقم الصﻼة لدلوك الشمس إلى غسق الليل
66
وقرآن الفجر[
إذا كان القياسان متعارضين فيقدم القياس الذي أثبتت علته باﻹيماء 67على معارضه الذي أثبتت علته بما
هو أدنى من اﻹيماء من باقى مسالك العلة كالمناسبة أو الشبه؛ ﻷن التعليل باﻹيماء أمر متفق عليه ،وما
عداه مختلف فﻲ عليته؛ فما هو متفق عليه مقدم على ما هو مختلف فيه.
31
وأخر البيضاوى اﻹيماء على المناسبة والدوران والسبر والشبه .ولكن هذا غير مسلم؛ ﻷن اﻹيماء مشارك
للنص ،وما هو مشرك للنص مقدم جميع الطرق العقلية ،ونقل السبكﻲ واﻹسنوى فﻲ شرحهما على
المنهاج قول اﻹمام الرازي بأن الجمهور متفق على تقديم اﻹيماء على غيرها.68
يقدم القياس الذي علته ثابت باﻹجماع ،على ما ثبت علته بغيره من مسالك العلة سوي النص اتفاقا ،وفﻲ
تقديمه على النص الخﻼف المذكور؛ فيرجح النص عليه على القول البيضاوي ،ولكن يقدم القياس الذي
ثبتت عليته باﻹجماع على غيره مطلقا جتى على ما نص عليته عند الجمهور ،ﻻن النص قابل للنسخ
والتخصيص ،بخﻼف اﻹجماع.
يقدم القياس الذي ثبتت عليته بالمناسبة ،69على غيره من القياس الذي ثبتت عليته بما هو أدنى منه من بقية
مسالك العلة ،كالسبر والتقسيم .ولكن يقدم البيضاوي المناسبة على اﻻيماء كما مر آنفا .و اﻵمدي وابن
الحاجب يقدم السبر والتقسيم على المناسبة .70والصحيح تقديم المناسبة على بقية المعقوﻻت من مسالك
العلة؛ ﻷن دﻻلة المناسبة على العلية أمر ﻻزم بخﻼ ف غيرها ،فقد ﻻ يدل عليها.
والمناسبة قد تكون من الضروريات الخمسة المعروفة ،وقد تكون من الحاجيات – أي المصلحيات ،قد
تكون من التحسينيات – أي التتمات؛ فيقدم منه الضروريات ،ثم المصلحيات ،ثم التحسينيات.
وفﻲ الضروريات يقدم الضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية؛ ﻷن الدنيوية أيضا لتتمة الدينية
ولتقويتها ،وهو المقصود بالذات ،و لقوله صلى ﷲ عليه وسلم" :دين ﷲ أحق أن تقضى" .وقال بعضهم
أن مصلحة الدين مؤخرة عن بقية الضرورات ،ﻷن حق ﷲ تعإلى مبنﻲ على المسامحة والمساهلة ،وحق
اﻵدمﻲ مبنﻲ على المضايقة .وهذا غير مقبول لما ذكرناه وﻷن المراد بالدينية هوالسعادة اﻵخروية ،وليس
له بديل.71
32
(6تقديم ما ثبتت عليته بالسبر والتقسيم:
يقدم القياس الذي ثبتت عليته بالسبر والتقسيم ،72على ما ثبتت عليته بالدوران ،وهذا هو الذي أختاره ابن
73
. الحاجب وابن السبكى واﻵمدي ،بخﻼف البيضاوي حيﺚ تقدم الدوران على السبر والتقسيم وغيره
و الصحيح هو اﻷول ،ﻷن الحكم فﻲ الفرع يتوقف على تحقيق مقتضيه و نفﻲ المعارض فيه معا ،و السبر
والتقسيم يدل على مقتضى العلية و يتعرض لنفﻲ كل ما ﻻ يليق لها .74
وكذاعند التعارض بين القياسين يقدم أحدهما إذا كان علية وصفه ثبتت بالسبر والتقسيم على ما كان سببه
الشبه والطرد وما دونهما من مسالك العلة.
يرجح القياس الذي تثبت علية وصفه بالدوران ،75على الثابت بما بعده كالشبه ،ﻹجتماع اﻹطراد
اﻹنعكاس فﻲ العلية المستفادة من الدوران ،ولذا قدمه بعضهم على المناسبة أيضا بدليل أن المطردة
المنعكسة أشبه بالعلل العقلية.
وأورد اﻹسنوي و السبكﻲ 76هنا مسائل يرجح فيه الدوران بعضها على بعض ،وصورته أن يكون القياس
ثابت عليته بالدوران الحاصل فﻲ محل واحد ،كأن يحدث حكم فﻲ محل لحدوث صفة فيه ،وينعدم ذلك
الحكم عنه بزوال ذلك الصفة عنه ،واﻷخرى ثابت عليته بالدوران الحاصل فﻲ أكثر من محل واحد؛
فيرجح اﻷول لقلة احتمال الخطأ فيه ،و ﻹفادته القطع بعدم علية ما عدا الدوران بخﻼف الدوران فﻲ
محلين أو أكثر ،فإنه ﻻ يفيد ذلك.
مثال الدوران فﻲ محل واحد :إثبات علية اﻹسكار فﻲ ماء العنب ،بقولك أن العصير لما لم يكن مسكرا لم
يكن حراما ،ثم صار حراما بصفة اﻹسكار وانعدم بزواله.
( 72السبر والتقسيم :هو حصر اﻷوصاف الموجودة فﻲ اﻷصل وإبطال ما ﻻ يصلح منها للعلية ،فيتعين العلة )جمع الجوامع مع شرح المحلى
(416/2
( 73البيضاوي ،المنهاج مع شرح اﻹسنوى1016/2؛ ابن السبكﻲ ،اﻹبهاج 203/3؛ اﻵمدي ،اﻹحكام 490/4؛ مختصر ابن الحاجب 639/4/4
( 74ابن السبكﻲ ،جمع الجوامع117؛ اﻵمدي ،اﻹحكام ،490/4اﻹسنوي،نهاية السول1017/2
( 75الدوران :هو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ويرتفع بارتفاعه فﻲ صورة واحدة )الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 221؛ جمع الجوامع(94
( 76اﻹسنوي ،نهاية السول 1017/2؛ ابن السبكﻲ،اﻹبهاج 203/3
33
(8ترجيح الشبه على الطرد وما دونه من مسالك العلة:
يرجح ما ثبتت عليته بالشبه على ما ثبتت عليته بالطرد ،77ﻷن الطرد ما ﻻ يناسب الحكم اصﻼ.
وهذا التقديم بقوة الدليل الدال على علية الوصف يطيل إلى ما لم نذكره هنا ،مثﻼ ترجيح تنقيح المناط على
الطرد؛ والحاصل من هذا البحﺚ أن ما كان أولى فﻲ الدﻻلة يقدم على ما هو أدنى دﻻلة.
الحكم واحد من أركان القياس .والمقصود بالقياس هو إلحاق الفرع باﻷصل ،حتى يثبت الحكم فيه لتساوى
العلة فيهما .ولذلك يمكن الترجيح بين القياسين المتعارضين بالنظر إلى الحكم ،فإن كان الحكم فﻲ أحدهما
أليق بمقاصد الشريعة ومحاسن اﻻنسان يرجح على ماليس كذلك.
والمرجحات بحسب الحكم بين القياسين ،هو نفس ما يرجح بها بين المنقولين ،وهذا هو السبب لترك اكثر
المصنفين المبحﺚ عنها ،ولكن أشاروا إلى ما ذكروا فﻲ باب الترجيح بين المنقولين .ومن أهم ما يرجح به
بحسب الحكم مايلى :
إذا كان حكم أحدهما الحظر – أي الحرام ،فيقدم على ما كان حكمه اﻹباحة؛ وهذا هو مذهب الجمهورمن
الشافعية ،وأحمد بن حنبل ،والرازي والكرخﻲ وغيرهم ،وذهب قوم إلى ترجيح اﻹباحة ،وقوم إلى تساوي
الدليلين وتساقطهما .ورجح الغزالﻲ التساوي وأوردها تحت ترجمة "القول فيما يظن أنه ترجيح وليس
بترجيح" .78واحتجوا بأن تحريم المباح كإباحة المحظور ،ﻷن كل من الحرمة واﻹباحة من أحكام ﷲ،
لذلك عاتب ﷲ تحريم الحﻼل أيضا بقوله]:ياأيهاالذين آمنوا ﻻ تحرموا طيبات ما أحل ﷲ لكم وﻻ تعتدوا،
أن ﷲ ﻻ يحب المعتدين[.79
( 77الطرد :هو مقارنة الحكم الوصف من غير مناسبة؛ والشبه :هو ذو منزلة بين الطرد والمناسبة )جمع الجوامع مع شرح المحلى (446-442/2
( 78الغزالﻲ ،المستصفﻲ 210/2؛ الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 283
( 79سورة المائدة87 :
34
أحدهما :قوله صلى ﷲ عليه و سلم" :ما اجتمع الحﻼل والحرام إﻻ وغلب الحرام على الحﻼل "80وقال
صلى ﷲ عليه و سلم أيضا":دع ما يريبك إلى ما ﻻ يريبك."81
والثانﻲ :أن اﻹحتياط يقتضى اﻷخذ بالتحريم ﻷن مﻼبسة الحرام موجبة لﻺثم بخﻼف المباح ،ولهذا يقال لو
إجتمع فﻲ العين الواحدة حظر وإباحة ،كما إذا طلق بعض نسائه ثم نسيها ،حرم عليه وطئ جميع
82
الزوجات ،إحتياطا من الوقوع فﻲ الحرام.
يقدم ما كان حكمه يفيد الحرام ،على ما يفيد الوجوب .ﻷن الحرمة غالبا لدفع مضرة ،والوجوب لنيل
مصلحة ،ودفع المفسدة أهم فﻲ الشرع وأتم للعقل من تحصيل المصلحة ،فإن من أراد أمرا لمصلحة،
يتركه إذا ظهر له من فعله مفسدة مساوية للمصلحة .ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه أكثروأشد فﻲ
إرتكاب المعاصى من ترك الواجبات كالرجم للزنى .وأيضا أن الحرمة أفضى إلى المقصود من الواجب،
فكانت المحافظة على الحرام أولى .وبيان ذلك أن المقصود من الحرمة يتأتى بالترك ،سواء كان مع
القصد أم مع الغفلة؛ ولكن الواجب ليس كذلك.83
إذا اجتمع قياسان أحدهما يقتضى الحرمة ،واﻵخر يقتضى الكراهة فقط ،فيقدم ما يقتضى الحرمة على
اﻵخر .ﻷن المقصود منها الترك ،والحرام أولى وأبلﻎ فيه من الكراهة .وﻷن ترجيح الحرمة ﻻ يلزم منه
إبطال دﻻلة الكراهة بخﻼف العمل بالكراهة ،ﻷنه يقتضى جواز الفعل أيضا فيبطل مقتضى الحرام؛
ومعلوم أن العمل بما ﻻ يفضى إلى بطﻼن الدليل أولى مما يؤدي إلى البطﻼن.
يرجح القياس الذي يقتضى الوجوب ،على القياس الذي يقتضى الندب أو اﻹباحة فقط ،لما قررناه فﻲ تقديم
الحرام على الكراهة.
مثال ذلك :التعارض بين قولى الشافعﻲ عن غسل اللحية التى نزلت عن حد الوجه؛ فقال الشافعيى فﻲ أحد
قوليه :يجب غسله أيضا قياسا على الوجه ﻷنه شعر ثابت فﻲ الوجه؛ وفﻲ ثانيهما قال :ﻻ يجب قياسا على
( 80البيهقﻲ ،سنن الكبري ،باب الزنا ﻻ يحرم الحﻼل ،رقم الحديﺚ13747 :
( 81رواه الترمذي :باب كراهة مبايعة من أكثر ماله من الربا ،رقم الحديﺚ10601 :
( 82البيضاوي ،منهاج الوصول مع اﻹبهاج 194/3؛ اﻹسنوي ،نهاية السول 1002/2؛ اﻵمدي ،اﻹحكام 478/4؛ ابن السبكﻲ ،الجمع الجوامع 115
( 83اﻵمدي ،اﻹحكام 489/4؛ اﻹسنوي ،نهاية السول1003 /2؛ الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول 283
35
الذؤابة المجاوزة لحج الرأس فﻲ عدم استحباب مسحه .فيرجه قوله اﻷول ﻷنه يوجب الغسل ،وهو أحق
لﻺحتياط.
يرجح أحد القياسين إن كان مثبتا للحكم على ما ﻻ ينفﻲ الحكم ﻷن فﻲ المثبت زيادة علم وفائدة.
ومن هذا القبيل ما ذكره اﻷصوليون من ترجيح القياس المثبت للعتق على القياس النافﻲ لهما على ما فيه
من الخﻼف بينهم .84ومثاله قول الشافعﻲ رضﻲ ﷲ عنه :الحربﻲ يصح عتقه لعبده ﻷن من صلح عتق
عبده المسلم صح منه العتق مطلقا؛ فيقدم هذا على قول غيره عتق الحربﻲ غير صحيح ،ﻷن ملكه غير
مستقر.
إذا تعارض القياسان ولم يوجد مرجح بحسب أركانها حتى يقوي أحدهما ،ينظر إلى أمر خارج .وأما
الترجيح باعتبار أمر خارج فبأمور.
أ( يقدم القياس الموافق لﻸصول بأن يكون علة أصله على وفق اﻷصول
ب( يقدم ما كان حكم أصله موافقا لﻸصول
ت( يرجح ما كان مطردا فﻲ الفروع
ث( يرجح ماانضمت إلى علته علة أخرى
ج( يقدم ما انضم اليه فتوى صحابﻲ
ولكن بعض هذه اﻷمورليس بأمر خارجﻲ ،ﻷنه يمكن أن يعد القسم اﻷول والثالﺚ مما يرجح بحسب العلة،
والثانﻲ يرجع إلى الترجيح بحسب الحكم ،والثالﺚ يرجع إلى الترجيح بحسب الفرع .فاﻷحسن أن يذكر
هذه اﻷمور فﻲ موضعه .وأما اعتبار فتوى الصحابﻲ وفق أحد القياسين لترجيحه على اﻵخري هو
الترجيح بأمر خارج عن القياس.
( 84البرزنجى ،التعارض والترجيح 249-248/2؛ اﻵمدي ،اﻹحكام 480/4؛ اﻹسنوي ،نهاية السول 1003/2؛ البيضاوي ،منهاج الوصول مع
اﻷبهاج 197-194/3
( 85الشوكانﻲ ،إرشاد الفحول281 ،
36
وقسمها البيضاوي فﻲ المنهاج إلى ثﻼثة أقسام:86
وايراد هذه اﻷمور تحت أمور خارجية ليس بصحيح ،ﻷن اﻷول من قسم العلة ،والثانﻲ من قسم الحكم
والثالﺚ من قسم الفرع .ولذلك اعترضه اﻻسنوي على هذا ،وقال" :وكان ينبغى ذكر كل واحد منها فﻲ
موضعه".87
وأورد الحفناوى هذا التقسيم بنفسه فﻲ كتابه أيضا ثم بينها مع اﻷمثلة ،ولكن لم ينبه على أنها ليست من
اﻷمور الخارجية فﻲ الحقيقة.88
اﻷمور الخارجية كثيرذكرها اﻷصوليون عند البحﺚ عن ترجيح أحد النقلين المتعارضين ،ومنها:
وهناك أمور أخرى قد بحثه اﻷصوليون فﻲ هذا الصدد ،والقاعدة فيه أن ما تقوى بشيئ من الترجيحات
أولى بالعمل مما ليس كذلك .ونكتفﻲ بهذا ﻹمكان قياس بقية اﻷقسام على ماذكر
37
نتائج البحث
بعد جولة يسيرة فﻲ موضوع التعارض بين اﻷقيسة و طرق الترجيح بينهما ،توصل الباحﺚ إلﻲ نتائج
عديدة ،أهمها ما يلﻲ :
-1أن باب القياس واسع ،وأثرها فﻲ الفروع كثير ،وتكلم عنه كل أصولﻲ وتنوعت كﻼمهم عن
تعريفه ،وشروطه ،ومسالك العلة و ما إليها.
-3إمكانية وقوع التعارض بين اﻷقيسة أكثر منه فﻲ اﻷدلة النقلية ،ﻷن مدار القياس العقل .وهو
متفاوت بين المجتهدين ،فيختلف قياسهم طبعا.
-4ﻻ يكون دفع التعارض فيه بالنسخ ،ﻷنه خاص بالنقلية ،و ﻻ يحتاج إلى الجمع أيضا ،ﻷن القياس
نتيجة اﻹجتهاد ،و يقع فيه الخلل و الغفلة.
-5الخﻼص من التعارض فﻲ القياس بترجيح أحدهما ،و يمكن العمل بهما ان أمكن صحتهما.
-6يمكن الترجيح بين القياسين المتعارضين بوجوه ،وذلك بالنظر إلى أحد أركان القياس -من
اﻷصل و الفرع و الحكم و الدليل – أو ألى أمر خارج منها.
-7طرق التراجيح بين اﻷقيسة واسعة ،و القاعدة فيه أنه يقدم أحد القياسين إن وجد فيه شيئ يؤيده.
-8تختلف وجه التراجيح من مجتهد إلى مجتهد ،و ليس فﻲ تفصيله اتفاق بين المذاهب ،و ﻻ فﻲ
مذهب واحد.
-9توسع اﻷصوليين البحﺚ عن الترجيح بين اﻷقيسة المتعارضة ،فمنهم من اختصر على القواعد
العامة كالبيضاوي فﻲ منهاج الوصول ،وابن حاجب فﻲ مختصره؛ و منهم من أورد اﻷمثلة و
اﻵراء المختفة مع المناقشة و الترجيح كالغزالﻲ فﻲ المستصفى ،و اﻵ مدي فﻲ اﻹحام.
سلك بعض المتأخرين منهج بعض المتقدمين فﻲ بيان أنواع الطرق لدفع التعارض و فﻲ -10
تقسيم اﻷنواع و فﻲ ترجيح قول فﻲ المسائل الفروعية ،مثﻼ:
يسلك محمد إبراهيم الحفناوي – فﻲ كتابه ‘ التعارض و الترجيح عند اﻷصوليين’ مسلك
البيضاوي فﻲ كثير من التفصيﻼت.
38
كما فﻲ تقسيمهما أنواع الترجيح بين اﻷقيسة إلى خمسة :89بحسب العلة ،و بحسب الدليل على
علية الوصف ،و بحسب دليل الحكم ،و بحسب كيفية الحكم ،و بحسب أمور خارجية.
90
ثﻼثة أضرب للترجيح بحسب اﻷمور الخارجية مع أن هذه اﻷمور ليست و كما فﻲ بيانهما
خارجة عن القياس .ولكن الحفناوي زاد اﻷمثلة و التفاصيل.
لم ينحصر اﻷصوليون فﻲ ذكرهم اﻷنواع لطرق التراجيه ،على الواقع فﻲ الحقيقة؛ بل ذكروا -11
بعض أنواعها استطرادا ،كبحثهم عن تقديم القياس المعلل بالعلة المتعدية على المعلل بالقاصرة ،ﻷنه ﻻ
قياس فﻲ القاصرة أصﻼ.91
الخاتمة
و أخيرا نقدم هذا البحﺚ وأعتذر عن التقصير الواقع فيه ،وﻻ أدعﻲ الكمال فيه ،وما احتوت هذه الدراسة
المسائ َل كلها؛ لما أن إيراد جميع أوجه التراجيح مع اﻷمثلة فى مثل هذا البحﺚ محال ﻻ يمكن ﻷحد،
والموضوع واسع يحتاج بحثا مستقﻼ .ونكتفﻲ على ما أوردناه هنا ناقﻼ قول تاج الدين السبكﻲ فى اﻹبهاج
بعد شرحه على منهاج الوصول للبيضاوي؛ وهذا نصه :
"إعلم أن طرق الترجيح ﻻ تنحصر فإنها تلويحات تجول فيها اﻹجتهادات ،و يتوسع فيها من
توسع فﻲ الفقه .فلذلك إقتصرنا على ما فﻲ الكتاب ،وأما اﻷمثلة فﻲ بابﻲ تراجيح اﻷخبار
واﻷقيسة ،فإذا ضرب الضارب بعضها فﻲ بعض ،وأراد اﻹتيان لكل قسم بمثال كان طالبا لتطويل
عظيم ،فإن ذلك يحتمل مع اﻻستيعاب وقد يعبر ،فلذلك أضربنا عن هذا الغرض وجئنا بالنزر
92
اليسير فﻲ البابين ،وﷲ الموفق والمعين بمنه وكرمه"
39
الـمـصـادر والـمـراجـع
إحكام الفصول ﻓي أحكام اﻷصول :الباجﻲ ،أبو الوليد -بيروت :دار الغرب اﻹسﻼمﻲ،
1986م1407/هـ.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم اﻷصول :الشوكانى ،محمد بن على بن محمد : - .دار الفكر.
أساس القياس :الغزالى ،أبو حامد محمد - .الرياض :مكتبة العبيكان1413 ،هـ1993 /م.
أصول الفقه :السرخسﻲ ،أبو بكر محمد بن أحمد -بيروت ،دار الكتب العلمية.
ابن القيم ،محمد بن أبى بكر الجوزية - .القاهرة :دار إعﻼم الموقعين عن رب العالمين:
الحديﺚ2002،م1422/هـ.
اﻹبهاج ﻓي شرح المنهاج :السبكى ،تقﻲ الدين ،ابن السبكى ،تاج الدين - .بيروت :دار الكتب العلمية،
2003م1424-هـ.
اﻹحكام ﻓي أصول اﻷحكام :اﻵمدي ،سيف الدين أبو الحسن علﻲ بن أبى علﻲ - .بيروت :دار الكتب
العلمية.
البرزنجﻲ ،عبد اللطيف عبد ﷲ - .بيروت :دار الكتب التعارض و الترجيح بين اﻷدلة الشرعية:
العلمية1996 ،م 1417-هـ.
الحفناوي ،محمد إبراهيم محمد - .مصر :دار التعارض و الترجيح وأثرهما ﻓي الفقه اﻷسﻼمى:
الوفاء1987 ،م 1408-هـ.
القياس بين مؤيده ومعارضه :د.عمر سليمان اﻷشقر - .اﻷردن :دار النفائس1412/1992 ،هـ.
المستصفي من علم اﻷصول :الغزالﻲ ،أبو حامد محمد بن محمد - .بيروت :دار إحياء التراثى العربى.
تعارض القياس مع خبر الواحد وأثره ﻓي الفقه اﻻسﻼمي :لخضر لخضاري - .بيروت :دار ابن حزم،
2006م1427-هـ.
40
جمع الجوامع ﻓي أصول الفقه :ابن السبكﻲ ،تاج الدين عبد الوهاب - .بيروت :دار الكتب العلمية،
2003م1424-هـ.
حاشية العﻼمة البنانى على شرح المحلى على متن جمع الجوامع :البنانى - .بيروت :دار الكتب
العلمية1998 ،م ـ 1418هـ.
رﻓع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب :ابن السبكى ،تاج الدين عبد الوهاب - .بيروت :عالم الكتب،
1419-1999هـ.
نظرية القياس اﻻصولى منهج تجريبى إسﻼمي :داود ،محمد سليمان - .اﻻسكندرية :دار الدعوة،
1984م1404-هـ.
نهاية السول ﻓي شرح منهاج الوصول :اﻹسنوي ،جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن - .بيروت :دار ابن
حزم1999 ،م1420-هـ.
41
الـمـحـتـويات
الصحفة الموضوع
42