You are on page 1of 24

28 ‫ ــــــ‬05‫ ص‬،)2014( ) 02‫ العدد‬13 ‫المجلد‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬

ISSN:1111-536X EISSN:2676-1793

‫مقاربات في دراسات جمهور وسائل اإلعالم ومستخدمي الوسائط الجديدة‬


Approaches To Study Mass Audience and New Media
User
‫على قسايسية‬/‫د‬.‫أ‬
3‫جامعة الجزائر‬

Abstract-
This piece of work attempts to review the most up-dated approaches to study mass media
audience and new media users. A brief historical reviewing could allow underlining an
exhausted conclusion from the natural history of Audience Studies
the multiplicity of models and theories and approaches and methodological approaches
stemming from the evolution and diversity of the media on the one hand, and the historical
development of the public on the other hand, enabled the accumulation heritage theoretical
and methodological developed sophisticated upward in the direction of turn history positive,
meaning a review of this heritage review periodically and re-drafted to enter necessary
adjustments dictated by this development, either to cancel expired elements or by adding new
elements to express the emerging reality.
Key Words:
Audience, User, Media, Old Media, New Media, Multimedia
-‫ملخص‬
‫سنحاول في هذه الورقة البحثية تتبع و مراجعة أحدث األساليب لدراسات جمهور وسائل اإلعالم‬
‫ قد تسمح مراجعة تاريخية موجزة للتأكيد على استنتاج دقيق ومفيد لتعدد‬.‫ومستخدمي الوسائط الجديدة‬
‫النماذج والنظريات والمقاربات واألساليب المنهجية النابعة من تطور وتنوع اإلعالم من حيث التاريخ‬
‫ لقد م ّكن التراكم النظري والمنهجي من تطوير تصاعدي في االتجاه‬. ‫الطبيعي لدراسات الجمهور‬
‫ أي مراجعة التراث بشكل دوري واعادة صياغتها إلدخال التعديالت الالزمة التي‬،‫التاريخي اإليجابي‬
‫ إما بإلغاء العناصر منتهية الصالحية أو بإضافة عناصر جديدة للتعبير عن الواقع‬، ‫يمليها هذا التطور‬
.‫الناشئ‬
:‫الكلمات الدالة‬
‫ الوسائط المتعددة‬، ‫ الوسائط الجديدة‬، ‫ الوسائط القديمة‬، ‫ الوسائط‬، ‫ المستخدم‬، ‫الجمهور‬

WWW.ACR-DZ.COM

5
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫تبين الجوانب النظرية والمفاهيمية المتعلقة بجمهور وسائل اإلعالم والدراسات الخاصة به‪ ،‬أن‬
‫الباحثين المه تمين بهذا الميدان ال يتعاملون مع أنموذج واحد أومع مقاربة واحدة ألبحاث الجمهور أو‬
‫نظرية واحدة لالتصال الجماهيري‪ ،‬ولكنهم يعالجون شيئا أكثر بقليل من مجموعة من التطلعات البديلة‬
‫والتعميمات التي تتوقف قابليتها للتطبيق وقبولها )‪ ،(Applicability-Validity‬على توفر ظروف‬
‫اجتماعية وتاريخية متنوعة وعلى شروط الزمن والمكان الراهنة‪.‬‬
‫إن الدراسات اإلعالمية عامة‪ ،‬لم تتوصل بعد إلى اعتماد أدبيات موحدة حتى في اللغة‬
‫المتخصصة الواحدة (‪ ،)Jargon‬ناهيك عن اللغات المتعددة‪ .‬هناك مثال مصطلحات من قبيل "دراسات‬
‫االتصال الجماهيري"(‪" ،)Mass Communication Studies‬الدراسات اإلعالمية"(‪،)Media Studies‬‬
‫"علوم اإلعالم واالتصال"(‪ )Sciences de l’Information et de la Communication‬وحتى "علم‬
‫االتصال"‪ )Science de la communication(،‬سائدة في األدبيات الغربية األوروبية واألنجلو‪-‬‬
‫سكسونية)‪ .(1‬وقد يعود تنوع مصطلحات اإلعالم واالتصال‪ ،‬إلى عدم التوصل بعد إلى صياغة نظريات‬
‫تعيد بلورة مبدأ تداخل العلوم الذي تم التخلي عنه منذ انفصال العلوم عن الفلسفة واعتماد فلسفة‬
‫التخصص‪ ،‬حيث أن األنماذج (‪ )Paradigms‬المتبعة في البحث العلمي اإلعالمي وواقعه حتى في‬
‫الدول المتقدمة‪ ،‬لم تتوصل بعد إلى صياغة "كيان نظري متكامل لعلم االتصال‪ ،‬باعتباره أحد العلوم‬
‫المستقبلية‪ ،‬إن لم يكن أهمها على اإلطالق"‪)2(.‬غير أن هذا األمر ال يوجد له مثيل في البلدان االنتقالية‬
‫وفي مقدمتها البلدان العربية‪ ،‬حيث أن األدبيات اإلعالمية المتداولة‪ ،‬شأنها شأن جميع "اللغات"‬
‫المتخصصة‪ ،‬ليست متنوعة وغير موحدةوغير دقيقة وحسب‪ ،‬ولكنها أحيانا متباينة‪ ،‬خاصة بين المشرق‬
‫العربي المتأثر بالثقافة األنجلو‪ -‬سكسونية‪ ،‬والمغرب العربي المتأثر بالثقافة الالتينية (خاصة الفرنسية)‪.‬‬
‫والراجح أن هناك العديد من المحاوالت النادرة التي قام بها باحثون عرب في ميدان الدراسات‬
‫اإلعالمية‪ ،‬شأنها شأن جميع ميادين المعرفة األخرى‪ ،‬لم تنشر على نطاق واسع ألسباب عدة‪ ،‬لعل في‬
‫مقدمتها‪ ،‬أن الحقائق المتعلقة بالواقع االجتماعي‪ ،‬ولو كانت نسبية والتنتمي للعلوم الصحيحة‪ ،‬تبدو مخيفة‬
‫عامة ومنها العربية خاصة‪ ،‬األمر الذي يلغي الحرية‬ ‫)‪(3‬‬
‫بالنسبة لجل األنظمة القائمة في البلدان االنتقالية‬
‫العلمية المتمثلة في حرية الفكر وحرية البحث العلمي وحرية التعبير عن النتائج وحرية نشرها‪.‬‬

‫(‪ )2‬مصلح البلدان أو المجتمعات االنتقالية‪ ،‬وأيضا التقليدية يعني البلدان التي كانت في السبعينات سائرة في طريق النمو الذي كان يستهدف االنتقال‬
‫بالمستعمرات السابقة لإلمبراطوريات االستعمارية إلى دول نامية على شاكلة تلك الدول االستعمارية الكبرى‪ .‬وهو مصطلح ال يحظى باإلجماع‪،.‬‬
‫خاصة بعد فشل االستراتيجيات اإلنمائية‪.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪6‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫ويحول غياب الحرية العلمية دون االستفادة من الكفاءات التي تتوفر عليها هذه المجتمعات‪ ،‬وفي‬
‫النهاية يحول دون تراكم معرفي يسمح بصياغة مقاربات تأخذ بعين االعتبار الخصوصيات المحلية‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يبقى المصدر الوحيد للدراسات النظرية واألمبريقية ذات المصداقية والداللة العلمية هو‬
‫المجتمعات المتطورة التي جعلت من العلم والمعرفة والتكنولوجيات الروافد األساسية واآلمنة لنهضتها‬
‫واستمرارها ف ي النهوض والتطور الدائم في الزمن وفي المكان‪ ،‬وجعلتها أيضا وخاصة الدعائم التي يقوم‬
‫عليها بناؤها االجتماعي والحضاري‪.‬‬
‫ولكن عند محاولة توظيف هذه المعارف العلمية فيما يتعلق بالعلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬تطرح‬
‫أمام الباحثين في الدول االنتقالية تحديات إبستومولوجية كبرى من نوع آخر‪ ،‬تواجه محاوالت تأصيل‬
‫وتوطين وتوظيف مناهج بحث نشأت في بيئات ثقافية واجتماعية ونفسية معينة من أجل تحقيق أهداف‬
‫مغايرة‪ ،‬وفي كثير من األحيان متباينة مع تلك األوضاع القائمة واألهداف المنشودة من وراء أي نشاط‬
‫بحثي محلي‪.‬‬
‫كما أن تعدد النماذج والنظريات والمقاربات واألساليب المنهجية النابعة من تطور وتنوع وسائل‬
‫اإلعالم من جهة‪ ،‬ومن التطور التاريخي العام من جهة أخرى‪ ،‬م ّكن من تراكم تراث نظري ومنهجي‬
‫متطور تطو اًر تصاعدياً في اتجاه منحى التاريخ اإليجابي‪ ،‬بمعني مراجعة هذا التراث مراجعة دورية‬
‫منتظمة واعادة صيا غته بإدخال التعديالت الضرورية التي يمليها هذا التطور‪ ،‬إما بإلغاء عناصر منتهية‬
‫صالحيتها أو بإضافة عناصر جديدة للتعبير عن الواقع المستجد‪.‬‬
‫ولكي تتسنى لنا اإلحاطة بالمنطلقات النظرية والمنهجية التي أطرت دراسات الجمهور في البلدان‬
‫المتقدمة تكنولوجياً واعالمياً وعلمياً عبر الحركية التاريخية ومقارنتها بما جرى وخاصة بما يجري في‬
‫بلداننا‪ ،‬مثلها مثل بقية البلدان االنتقالية‪ ،‬قد يكون من المفيد استعراض أهم المقاربات التي أسفرت عنها‬
‫مسيرة بحثية تمتد إلى حوالي قرن من الزمن‪ ،‬خطت فيها أبحاث الجمهور خطوات كبيرة‪ ،‬ذلك أنه‬
‫اليتسنى فهم الحاضر دون االستعانة بالتراكمات الماضية التي تشكل هذا الحاضر وتؤسس للمستقبل‪.‬‬
‫لقد انتقلت هذه األبحاث من "السلبية المطلقة" للجمهور أمام" القوى الخارقة" لوسائل اإلعالم‪ ،‬إلى‬
‫الجمهور النشط الفعال وتأثيره ومشاركته في إعداد الرسائل اإلعالمية‪ ،‬مرو اًر بتجزئته وتحليله جزئيا‬
‫واثنوغرافيا في سياق االستعمال المنزلي لوسائل االتصال في المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية‪،‬‬
‫وهي مجتمعات إليكترونية أو ما بعد الحديثة‪ ،‬وصوال إلى جيل ثالث من دراسة التلقي(‪)Morley, 2001‬‬
‫في عالم ما بعد الجمهور(‪ ،)Hartley & Lull, 1988((4) )Post-Audience World‬أوالجمهور‬
‫اإلليكتروني (‪ )e-Audience‬وأخي ار الجمهور ذي القدرة الكلية على التواجد في كل مكان في نفس الزمن‬
‫(‪.)u-Audience‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪7‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫من هذا المنطلق‪ ،‬سأحاول أن أتناول في هذه المقالة‪ ،‬جانبا أوال يتعلق بالتاريخ الطبيعي ألبحاث‬
‫الجمهور(‪ ،)Natural History‬وجانبا ثانيا يخص تصنيفية (‪ )Typology‬المقاربات األكثر استعماال في‬
‫ظل األنماذج المتبعة تبعا النعكاسات المستحدثات التكنولوجية من جهة‪ ،‬ونتائج أبحاث الجمهور‬
‫األمبريقية وكثافة األحداث المؤثرة في التطور التاريخي العام للمجتمعات من جهة أخرى‪ .‬كما سأتناول‪،‬‬
‫في جانب ثالث‪ ،‬بعض مظاهر المفاهيم الناجمة عن االنفجار اإلليكتروني والمتعلقة بالدراسات اإلعالمية‬
‫عامة‪ ،‬ودراسات الجمهور بصفة خاصة في عالم ما بعد الحداثة‪ ،‬العالم اإلليكتروني (‪ )e-World‬الذي‬
‫يجري بناؤه من خالل ترسانة السواتل والطرقات اإلعالمية السريعة والشبكات الداخلية والمحلية واإلقليمية‬
‫والدولية والبيئات التقنو‪-‬اجتماعية‪-‬ثقافية القائمة في المنازل والمكاتب واألماكن العمومية من مطارات‬
‫ومحطات القطارات والحافالت‪ ،‬وحتى في جيوب األشخاص (‪.)Kurbalija, 2005‬‬
‫يعتمد هذا العالم الجديد أساساً على العقل البشرى واإلليكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية‬
‫والكمبيوتر وهندسة االتصاالت والذكاء اإلصطناعى وتوليد المعلومات المتعلقة بشئون األفراد‬
‫والمجتمعات‪ ،‬وتخزين هذه المعلومات واالحتفاظ بها واستردادها عند الحاجة وتوصيلها بسرعة فائقة إلى‬
‫أفراد الجمهور في أي مكان يتواجدون وفي أي وقت يريدون‪ .‬وعلى الرغم من التغييرات الجدرية التي‬
‫أحدثتها التطورات التكنولوجية الجديدة على الدراسات اإلعالمية عامة‪ ،‬ودراسات الجمهور خاصة‪،‬‬
‫والمفاهيم الجديدة التي أثَْرت بها المنظمومة اإلصطالحية‪ ،‬فإن عناصرها الجوهرية مستمدة من التطور‬
‫التاريخي لهذه الدراسات‪ ،‬كما يمكن استخالصه مما سيأتي‪:‬‬
‫‪ -I‬التاريخ الطبيعي ألبحاث الجمهور‬
‫تجدر اإلشارة في مستهل هذا التذكير التاريخي إلى أن هذا التقسيم الذي يبدو مساي اًر للتسلسل‬
‫الزمني‪ ،‬ليس تصنيفاً كرونولوجياً لألحداث بقدر ما هو محاولة قراءة التطور الذي شهدته أبحاث الجمهور‬
‫عبر مختلف المراحل التاريخية‪ ،‬انطالقا من وقائع الوضع الراهن‪.‬‬
‫تدخلت عوامل محيطية لعبت‪ ،‬إلى جانب التطور التاريخي العام وتاريخ تطور وسائل‪ ،‬دو اًر‬
‫وقد ّ‬
‫بار اًز في رسم معالم مميزة لتاريخ نظريات التأثير وهيكلة فعل التلقي وتفكيك البيئة االجتماعية‪ ،‬بتصور‬
‫أنموذج اتصالي جزئي لجمهور مجزأ‪ ،‬وأخي ار مشروع محاولة تخطى الوجود المادي للجمهور وتبنى‬
‫السلوك المعبر عن هذا الوجود الالمادي في العالم اإلليكتروني الذي يتميز فيه هذا الجمهور بكونه ذو‬
‫قدرة كلية على التواجد في كل مكان في نفس الزمن‪ .‬وقد بدأ التفكير جدياً في مآل الجمهور بمفهومه‬
‫الكالسيكي الذي أوجدته حضارة حروف الطباعة خالل الستة قرون األخيرة وبالنظر إلى عالقة سلوكياته‬
‫بالقائم باالتصال وبالرسالة المبلغة عبر وسائل االتصال القديمة‪ .‬ويتجه تيار التفكير الجديد نحو التنظير‬
‫مجدداً للمكانة المهتزة ودور القائم باالتصال المتقهقر نحور درجة العدم في ظل اآلثار العميقة التي‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪8‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫أحدثتها حضارة الحروف البصرية منذ عشريتين من الزمن وخاصة فيما يتعلق باالستقاللية التامة والحرية‬
‫التي اكتسبها الباحث‪-‬المتلقي عن المعلومة وللمعلومة‪ ،‬والسلطات الالمتناهية التي منحتها تكنولوجيات‬
‫االتصال لإلنسان بصرف النظر عن تموقعه الجغرافي وسماته الديموغرافية االجتماعية والثقافية‪.‬‬
‫الجمهور"(علي قسايسية‪،‬‬ ‫وباختصار مفيدة بدأ الحديث بجد عن "موت" القائم باالتصال وعن "نهاية‬
‫‪.) (http://alikessaissia.net،2012‬‬

‫ولعل من بين أبرز عوامل المحيط المساعدة على بروز هذا التوجة الجديد‪ ،‬مصالح الحكومات‬
‫والمشرعين‪ ،‬واحتياجات الصناعات ونشاطات الجماعات الضاغطة واهتمامات مروجي الدعاية السياسية‬
‫والتجارية وتنامي دور الرأي العام في الحياة السياسية واالجتماعية وموضة العلوم االجتماعية ( ‪Fashions‬‬
‫‪ ،)of Social Science‬التي تضفي على هذه الحركية التكنولوجية والسياسية واالقتصادية والتاريخية نوعا‬
‫من الطابع العلمي يخرجها‪ ،‬ولو قليال‪ ،‬من الدائرة األيديولوجية‪.‬‬
‫وقبل محاولة تصنيف تراث أبحاث الجمهور المتراكمة إلى نماذج ونظريات ومقاربات‬
‫(‪ )Paradigms, Approaches, Theories()5‬وتطبيقاتها الميدانية خالل زهاء قرن من الزمن‪ ،‬قد يكون‬
‫من المفيد إبراز أهم المحطات في هذا التاريخ الطبيعي ألبحاث الجمهور‪:‬‬
‫‪ .1‬ما قبل التحريات العلمية‬
‫تمتد هذه المرحلة‪ ،‬تاريخيا‪ ،‬من بداية القرن العشرين إلى أواخر الثالثينيات منه‪ ،‬ويمكن أن يطلق‬
‫عليها مرحلة ما قبل التحريات أو التحقيقات العلمية‪ ،‬حيث كانت المحاوالت التي تتناول العالقة بين ما‬
‫تبثه وسائل اإلعالم والجمهور المتلقي‪ ،‬عبارة عن انطباعات وآراء ونظرات ذاتية أكثر منها استنتاجات‬
‫لتحليل وقائع موضوعية‪.‬‬
‫وفي هذه المرحلة‪ ،‬كانت النظرة السائدة‪ ،‬لوسائل اإلعالم‪ ،‬أنها مصدر لقوى خفية خارقة تعمل على‬
‫صقل الرأي واالعتقادات وتغيير عادات الحياة وقولبة السلوك وفقا إلرادة أولئك الذين يملكون سلطة‬
‫الرقابة على هذه الوسائل وتوجيه نشاطاتها نحو مواضيع معينة ويمتلكون أيضا قوة التأثير في‬
‫مضامينها(‪.)Bauer & Bauer 1960‬‬

‫(‪)5‬تعريف كل من البراد يغمات أو النماذج والمقاربة والنظرية وعالقة كل و حد منها باآلخر‪ .‬فالنموذج هو منظور عام يضم نظرية عامة إلى جانب‬
‫نظريات متفرعة‪ ،‬وكل نظرية يمكن أن تشتمل على عدة مقاربات‪.‬‬
‫(‪)6‬مصطلح ‪ nexus‬الوارد في العبارة التالية المترجمة عن كتاب كليبر يعني الترابط أو الربط حسب المعجم اإلنجليزي ‪،Collins Robert‬‬
‫أونطاريو كندا‪ 1987 ،‬ص‪.343 .‬‬
‫‪Klapper, J., The Effects of Mass Communication, New York, Free Press, 1960, p.8 “Mass Communication does not‬‬
‫‪ordinarily serve as necessary and sufficient cause of audience effects. But rather functions through a nexus of mediating‬‬
‫”‪factors‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪9‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫ولم تكن مثل هذه األفكار‪ ،‬كما سبقت اإلشارة‪ ،‬قائمة على أساس تحريات علمية ( ‪Scientific‬‬
‫‪ ،)Invistigation‬وانما مجرد أراء مستوحاة من مالحظة الشعبية الكبيرة التي تكتسبها الصحافة والوسائط‬
‫(‪)6‬‬
‫الجديدة‪ ،‬مثل الفيلم السينمائي‪ ،‬والراديو ابتداء من العقد الثاني‪.‬‬
‫ومما زاد في ترسيخ االعتقاد في التأثير المطلق لوسائل اإلعالم‪ ،‬تدعيم المعلنين والحكومات‬
‫اإلمبراطورية في أوروبا خالل الفترة ما بين الحربين‪ ،‬خاصة أثناء الثورة البولشيفية في نهاية العشرية‬
‫الثانية‪ ،‬واألزمة االقتصادية الكبرى في الثالثينيات والتحضيرات النازية والفاشية للحرب الثانية‪ ،‬في سياق‬
‫اتساع نطاق استعمال الفيلم السنمائي المتنقل الصامت ثم الناطق‪ ،‬والراديو منذ العشرينيات إلى جانب‬
‫المنشورات المكتوبة‪ .‬فقد كانت هذه الوسائل تستعمل على نطاق يتوسع باستمرار‪ ،‬وكان الناس اليدركون‬
‫تعرفها بوضوح‪.‬‬
‫كنهها ومختلف أبعادها ومراميها لعدم تعودهم عليها وعدم وجود تفسيرات محايدة سابقة ِّ‬
‫أول نوع من التآلف مع هذه الوسائل‪ ،‬تتضمنه "نظرية المعنى العام" ( ‪Commun-Sense‬‬ ‫إذ أن ّ‬
‫يكونها عامة الناس حول موضوع معين‪ ،‬هو وسائل اإلعالم في‬
‫‪ )Theory‬التي تشير إلى األفكار التي ّ‬
‫هذه الحالة‪ ،‬والمستمدة أساساً من التجربة المباشرة واستعمال الشخصي لهذه الوسائل‪ ،‬واالنطباعات التي‬
‫تولدها هذه التجربة ويثيرها هذا االستعمال‪.‬‬
‫ّ‬
‫كان‪ ،‬بمقتضى هذه النظرية‪،‬كل قارئ للصحيفة أو مستمع للراديو أو مشاهد لفيلم سنمائي‪ ،‬يحمل‬
‫مجموعة من األفكار الشخصية حول الوسيط المعني وطبيعته ومحاسن استعماله وسيئاته‪ ،‬وكيف يمكن‬
‫مالءمته مع متطلبات الحياه اليومية وكيف ينبغي ق ارءة وتفسير مضامينه‪ ،‬وما هي عالقته بمظاهر‬
‫التجربة االجتماعية األخرى‪ ،‬مما دفع المهتمين إلى محاولة فهم طبيعة العالقة القائمة بين هذه المتغيرات‬
‫وتقديم تفسير مقنع لمختلف أبعاد هذه الظاهرة االجتماعية التي ستزداد تعقيداً بمرور الزمن وتبعاً لتطور‬
‫وسائل اإلعالم وتغل غلها في مختلف جوانب الحياة االجتماعية‪ ،‬واتساع اعتماد الناس عليها في االستعالم‬
‫واالسترشاد والتسلية والترفيه‪.‬‬
‫وقد أثارت مؤشرات فضاء االتصال واإلعالم الجديد فضول الباحثين المهتمين‪ ،‬بمتابعة ظواهر‬
‫الحياة االجتماعية ومالحظة التغييرات المتتالية‪ ،‬وخاصة التأثيرات الحاصلة في سلوك الناس والتي كانت‬
‫تبدو كنتيجة للتعرض لمضامين وسائل االعالم واستعمالها في أوضاع مختلفة‪ .‬فجاءت البدايات األولى‬
‫للتحريات الموضوعية في مجال البحث اإلعالمي‪ ،‬تحاول توظيف خالصات التأمالت النظرية والتجارب‬
‫المنهجية التي كانت قد توصلت إليها مختلف فروع المعرفة االجتماعية والنفسية‪ ،‬السيما السوسيولوجيا‬
‫العامة والسيكولوجيا الفردية واالجتماعية‪ ،‬في تفسير الظواهر الجديدة والعالقات القائمة والممكن قيامها‬
‫بنين مختلف التغيرات االجتماعية التي أسندت لوسائل اإلعالم‪.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪10‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫فقد تميزت الدراسات اإلعالمية منذ انطالقتها األولى بالتوجه السوسيولوجي والسيكولوجي‬
‫االجتماعي بالدرجة األولى‪ ،‬هذا التوجه الذي يالزمها عبر تاريخها الطبيعي‪ ،‬وما زال يقود خطواتها‬
‫المنهجية رغم إدخال عناصر جديدة تتعلق باالتجاه الوظيفي لوسائل اإلعالم واتجاه التقاليد النقدية الذي‬
‫يهتم باألبعاد الثقافية والرمزية لتلقي الرسائل اإلعالمية‪.‬‬
‫ويبدو أن األحداث الكبرى التي شهدتها تلك المرحلة األولى‪ ،‬عجلت بإيجاد مناهج وتقنيات جديدة‬
‫لفهم وتفسير مكانة ودور وسائل اإلعالم‪ ،‬أسست لبروز اتجاه أمبريقي سيسمح بتجاوز قصور انطباعات‬
‫المعرفة العامية واألفكار التأملية والنمطية النظرية على تفسير الظاهرة االتصالية الجديدة‪.‬‬

‫‪ .2‬مرحلة التحريات العلمية‬


‫ظهر‪ ،‬في نفس السياق من االعتقادات والتفكير‪ ،‬مع بداية العشرية الرابعة من القرن الماضي‪ ،‬نوع‬
‫جديد من التحريات أسس لدخول البحث العلمي في مجال الجمهور استناداً إلى منهج المسح والتجربة‬
‫المخبرية واعتماداً على خالصات علم النفس وعلم النفس االجتماعي والرياضيات واإلحصاء والسيبرنيقا‪.‬‬
‫وقد مهدت هذه المنهجية في التفكير والممارسة‪ ،‬الطريق أمام سلسلة من األبحاث في الواليات‬
‫المتحدة األمريكية منذ بداية الثالثينات واستمرت إلى أوائل الستينات ( ‪Blumer, 1933 ; Hauser,‬‬
‫‪.)1943 ; Peterson, 1954 ; Thurstone, 1958‬‬
‫أجريت خالل هذه المرحلة دراسات أمبريقية متفرقة على تأثير أنواع من المحتوى‪ ،‬خاصة األفالم‬
‫وبرامج الحمالت االنتخابية واإلشهارية‪ .‬كانت العينة واسعة‪ ،‬ولكن االهتمامات تركزت حول إمكانيات‬
‫استعمال الفيلم ووسائل أخرى‪ ،‬في اإلقناع النشط واإلعالم مثل دراسات الزارسفالد ( ‪Lazarsfeld et al.,‬‬
‫‪ )1944‬حول دور الصحافة في الحملة االنتخابية لرئاسيات ‪ ،1940‬وتأثير الفيلم السينمائي على الجنود‬
‫األمريكيين‪ (Hovland et al., 1949) ،‬أو لتفادي تأثيرات أفالم العنف واالعتداءات والجنس على‬
‫األطفال والم ارهقين(‪.)Star and Hughes, 1950‬‬
‫وقد أسندت تلك الدراسات‪ ،‬ابتداء من دراسة الزارسفالد وكاتز‪ ،‬دو اًر متواضعاً لوسائل اإلعالم في‬
‫أحداث التأثيرات المتوقعة أو غير المنتظرة وغير المرغوب فيها‪ ،‬لخصتها دراسة حول أبحاث الجمهور‬
‫للباحث (‪ )Joseph Klapper‬نشرت سنة ‪ 1962‬في العبارات التالية‪" :‬إن وسائل االتصال ال تعمل عادة‬
‫كسبب ضروري وكافي للتأثير في الجمهور‪ ،‬ولكن باألحرى تعمل ضمن جملة من عوامل التبليغ‬
‫الوسيطية المترابطة")‪.(7‬‬
‫لم يعد في هذه المرحلة ينظر إلى وسائل اإلعالم‪ ،‬كما كان ينظر إليها سابقا‪ ،‬على أنها تُحدث في‬
‫كل الظروف نفس التأثيرات البالغة أو المحدودة‪ ،‬وانما هي تعمل ضمن بنية من العالقات االجتماعية‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪11‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫موجودة مسبقا في سياق سوسيو_ثقافي معين يلعب الدور األول في تشكيل وتوجيه اختيارات واهتمامات‬
‫واستجابات الجمهور‪ .‬ولم يكن سهال أن تتغير اآلراء خارج المجتمع العلمي_االجتماعي‪ ،‬وخاصة مواقف‬
‫اآلباء تجاه التأثير المتوقع لوسائل اإلعالم المنزلية‪ ،‬التلفزة آنذاك‪ ،‬على األطفال والمراهقين‪ .‬وكان من‬
‫الصعب أيضا قبول هذه األفكار الجديدة بالنسبة ألولئك الذين تعودوا على تصميم الحمالت اإلشهارية‬
‫والدعائية على أساس األفكار السابقة‪ .‬وكذلك كان األمر بالنسبة لمحترفي اإلعالم الذين آمنوا بأسطورة‬
‫القوى السحرية لوسائل مهنتهم‪ ،‬كما كان من الصعب أيضا أن يسلم علماء االجتماع بـ"الالتأثير" المطلق‪،‬‬
‫حيث فضل المشككون في هذه الخالصات إعادة دراسة المسألة انطالقا من فرضية مفادها أن وسائل‬
‫اإلعالم يمكن أن يكون لها تأثير اجتماعي من نوع ما‪ .‬وقد سلم العديد من الباحثين ابتداء من الستينيات‬
‫بممارسة وسائل اإلعالم لنوع من التأثير يحدث غالبا على المدى البعيد‪ ،‬مثلها مثل المؤسسات‬
‫االجتماعية المشكلة لما يسمى بالجماعات الثانوية التي يكون تأثيرها في تنشئة الفرد بطيئ ( ‪Lang and‬‬
‫‪.)Lang, 1959 ; key, 1961 ; Blumer, 1964 ; Halloran, 1965‬‬
‫رافق هذه الطريقة في التفكير انتشار التلفزيون على نطاق واسع واستعماله كوسيلة تكنولوجية‬
‫اتصالية منزلية تقريبا وحيدة‪ ،‬استقطبت فرضيات التحليل والدراسة التي ميزت نهاية القرن الماضي إلى أن‬
‫بدأ الحاسوب المرتبط بحواسب أخرى عبر شبكة الشبكات العالمية "األنترنات" في عملية تفاعلية متمايزة‬
‫لم يسبق لها مثيل في تاريخ دراسات تأثير تكنولوجيات االتصال الحديثة‪ ،‬وأدخلت أبعاداً جديدة على‬
‫عمليات التعرض التّزامني والالّتزامني(‪ )Synchronized, Asynchronized‬وأنماط السلوك االتصالي‬
‫الذي وفرتها وسائل اإلعالم التقليدية على امتداد القرن العشرين‪.‬‬
‫ولقد استمرت أفكار هذه المرحلة من التنظير والبحث في تاريخ تطور ظاهرة الجمهور‪ ،‬تقود‬
‫التأطير النظري والخطوات المنهجية التي أدخلت آخر اعتبارات طرحها‪ ،‬في بداية القرن الحالي‬
‫إلى جانب دانيال ميلر ودون ساليتر( ‪Daniel‬‬ ‫)‪(8‬‬
‫مورلي(‪ ،)Morley‬حول الجيل الثالث من دراسات التلقي‬
‫‪ ،)Miller ; Don Slater‬تتعلق بالمقاربة اإلثنوغرافية لتحليل استعمال اإلنترنت في بيئات سوسيو_ثقافية‬
‫مختلفة‪.‬‬
‫لم يتم طرح التساؤالت التقليدية حول "استعمال" و"تأثير" هذا الوسيط االتصالي الجديد‪ ،‬ولكن حول‬
‫معرفة كيف أن ثقافة معينة تحاول أن تستمر في "منزلها" في هذا المحيط االتصالى السريع التحول (غير‬
‫مستقر)‪ ،‬وكيف يمكن لهذه الثقافة أن تكيف وتدمج هذا الوسيط في خصوصياتها المحلية وتطوعه لخدمة‬
‫عملية التعولم)‪ ،(9‬وكذلك معرفة اآلثار‪ ،‬أي التأثيرات المتبادلة بين هذه العناصر المدمجة‪ ،‬أو أشكال‬
‫التفاعلية بينها‪.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪12‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫لقد استمر التفكير في وجود "تأثير" و"تأثير قوي" يطبع العالقة القائمة بين الرسائل اإلعالمية‬
‫والجمهور‪ ،‬خاصة طبيعة العالقة بين درجة "التعرض" لمحتوى معين ونوع من التغيير يمكن قياسه‪ ،‬أو‬
‫لنقل نوع من التنوع (‪ ،)Variation‬أي التحول من حالة إلى أخرى في مواقف وآراء ومعلومات المتعرض‬
‫لمحتويات وسائل اإلعالم‪ .‬فقد تميز جديد البحث في "تحول االهتمام من تغيير المواقف والتأثير إلى‬
‫التغيير الطويل المدى واإلدراك وادخال متغيرات السياق واالستعدادات والحوافز وأجواء الرأي وبنيات‬
‫المعتقد واإليديولوجيا واألمور الثقافية وحتى األشكال المؤسساتية)‪.(10‬‬

‫‪.3‬مرحلة الال وضوح‬


‫بعد هذا العرض التاريخي المختصر حول دراسات تأثير وسائل اإلعالم في الجمهور‪ ،‬وقبل‬
‫استعراض أهم التطورات التي أدخلت على مقاربات التأثير وتنمية األنماذج األولي للتأثير‬
‫المباشر(‪ )Direct Effect‬الذي ساهمت نوال نيومان في إعادة بعثه ابتداء من سبعينات القرن الماضي‬
‫تحت عنوان "عودة لمفهوم وسائل اإلعالم القوية)‪ ،(11‬تجدر اإلشارة إلى أن وسائل اإلعالم التتوفر في‬
‫ذاتها على قوة تأثير‪ ،‬ولكن يتوقف األمر على اعتقاد الناس في قدرتها على تغيير مجرى األحداث‬
‫واألفكار واالتجاهات والمواقف‪.‬‬
‫وكان كاري (‪ )Carey, 1978‬قد حاول تفسير إشكالية التأثير ودرجاته والالتأثير وحدوده بتغيير‬
‫االعتقاد في قدرة وسائل اإلعالم وفقا لسلم يتدرج من التأثير البالغ إلى التأثير المحدود إلى مزيد من‬
‫التأثير(‪ ،)More Effect‬ويخضع لمالبسات الظروف التاريخية التي نشأت فيها كل فكرة)‪.(12‬‬
‫فقد ساد االعتقاد في قدرة وسائل اإلعالم الجماهيري على التأثير البالغ في فترة الثالثينات تحت‬
‫ضغوطات نفسية وتيارات سياسية وفرت أجواء الحرب وخلقت أرضية خصبة إلنتاج بعض أنواع التأثير‪.‬‬
‫ولنفس المسببات‪ ،‬دفعت ظروف االستقرار والهدوء التي سادت في العقدين الخامس والسادس إلى بزور‬
‫فكرة التأثير المحدود‪ ،‬في حين أن نهاية الستينات وبداية السبعينات شهدت توترات دولية نتيجة الحروب‬
‫العربية اإلسرائيلية (‪ )1973-1967‬وأزمتي البترول سنتي (‪ )1985 ،1973‬وزيادة حدة الصراع‬
‫اإليديولوجي بين المعسكرين الليبرالي والشيوعي‪.‬‬
‫وقياسا على ذلك‪ ،‬يمكن إضافة األحداث القريبة واآلنية‪ ،‬من مثل سقوط خط برلين في نهاية‬
‫الثمانينيات(‪ )1989‬والهجمات على مركز التجارة الدولي بنيويورك ومقر البنتاغون (سبتمبر ‪)2001‬‬
‫والحرب األنجلو‪-‬أمريكية ضد أفغانستان (‪ )2002‬وضد العراق (‪ )2003‬وتسو نامي آسيا(‪،)2004‬‬
‫والحرب ضد القذافي(‪ )2011‬وأحداث ما يسمى بالربيع العربي (‪.../2011‬؟) وغيرها من األحداث‬
‫واألزمات التي عرضت البنيات االجتماعية لالهت اززات وجعلتها أكثر حساسية لوسائل االتصال‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪13‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫الجماهيري‪ ،‬خاصة وأن هذه الوسائل تكاد تحتكر "الحقائق" واآلراء حول الوقائع‪ ،‬السيما القنوات‬
‫التلفزيونية الفضائية اآلنية والمواقع اإلليكترونية المتخصصة وكل الوسائط الجديدة على شبكة الواب‪.‬‬
‫غير أن بعض الباحثين يعتقدون أن األمر ال يتعلق بقدرة وسائل اإلعالم على التأثير‪ ،‬بقدر ما قد‬
‫يتعلق باجتماع أسباب قد تكون مصادفة زمنية‪ ،‬جعلت وسائل اإلعالم تبدو بتلك القوة في مرحلة تاريخية‬
‫معينة‪ .‬ومن المؤكد أن الناس يطلعون غالبا على األزمات من خالل وسائل اإلعالم‪ ،‬وقد يخلطون بين‬
‫الرسالة والوسيلة في أوقات التغيرات والشكوك‪ .‬ومن المحتمل جداً أن الناس يعتمدون أكثر فأكثر على‬
‫وسائل اإلعالم كمصدر‪ ،‬ربما الوحيدة لإلعالم واالسترشاد (‪ ،(13))Information & Guidance‬وأنها‬
‫تبدو أكثر فعالية في مواضيع خارجة عن نطاق التجربة الشخصية ومكونات الحاضر والماضي‪ ،‬أي في‬
‫ظل ظروف غير معتادة‪.‬‬
‫ومما يزيد في تلك االفتراصية لوسائل اإلعالم الجماهيري‪ ،‬أن الحكومات والنخب ومصالح المال‬
‫واألعمال‪ ،‬تعمل في ظل التوترات واالضطرابات‪ ،‬على استعمال وسائل اإلعالم في محاولة للتأثير على‬
‫الناس ومراقبة وتوجيه سلوكهم‪ .‬وهذا ما يعني أن وسائل اإلعالم‪ ،‬يمكن أن تكون في ظل ظروف تاريخية‬
‫ونفسية واجتماعية واقتصادية معينة ذات قوة بالغة‪ ،‬بالنظر لالستجابات الفورية أو المتوسطة التي قد‬
‫يبديها الناس إزاء الدعوات الهادفة إلى تغيير المواقف في اتجاه يخدم مصالح هذه األطراف في ظل تلك‬
‫الظروف‪ .‬وهذا ما يتجلى من خالل استعمال وسائل اإلعالم الجماهيرية في حمالت التضليل االعالمي‬
‫وعمليات غسل المخ‪.‬‬
‫في ظل هذه المراحل التاريخية ظهرت وتطورت مقاربات الجمهور‪ ،‬متأبطة شكل وحجم ولون‬
‫الظروف السياسية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية والتكنولوجية التي تحيط بها‪ ،‬والمستمدة أساساً من‬
‫خلفيات االطار الفلسفي العام‪.‬‬
‫‪ -II‬محاولة تصنيف مقاربات الجمهور‪:‬‬
‫قد يكون من المفيد‪ ،‬في هذه المرحلة من التحليل النظري لألبحاث اإلعالمية التي عالجت موضوع‬
‫الجمهور من مختلف الجوانب‪ ،‬أن نذكر بأهم النماذج (‪)Paradigms‬ومحاولة تصنيفها من حيث‬
‫الموضوع حتى يمكن استيعابها وتوظيفها في تحديد معالم النظريات والمقاربات المتعددة التخصصات في‬
‫دراسات الجمهور‪ ،‬والتي يمكن أن تفي بالغرض في التوصل إلى فهم وتفسير مقبول لظاهرة الجمهور‬
‫ومختلف أنماط التفاعالت والسلوكيات وتنوعها وتطوراتها المتسارعة تبعا لتطور المبتكرات التكنولوجية‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫في هذا الصدد‪ ،‬يمكن تمييز التوجهات الحديثة الكبرى ألبحاث الجمهور التي تبلورت منذ‬
‫السبعينات ضمن نوعين من التيارات البحثية‪ .‬النوع األول‪ ،‬والذي يمكن أن نطلق عليه أنموذج التأثير‪،‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪14‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫أحدث قطيعة مع األنموذج السائد منذ األربعينات‪ ،‬حيث تخلى عن تحليل التأثير القصير المدى‪ ،‬حجر‬
‫الزاوية في نظرية الزارسفالد‪ ،‬ليهتم بالتأثير اإلدراكي(‪ )Cognitive Effect‬على المدى البعيد لم‬
‫جموع أنظة وسائل اإلعالم (كمؤسسات اجتماعية)‪ ،‬خاصة األبحاث المتعلقة بتكوين الرأي العام‪.‬‬
‫وظهر النوع الثاني‪ ،‬الذي يمكن أن نسميه أنموذج التلقي‪ ،‬في بداية الثمانينات ليهتم بالكيفية التي "يؤول‬
‫بها المتلقي الرسائل اإلعالمية"‪ ،‬أي التركيز على عملية التلقي في حد ذاتها باعتبارها ممارسة لها أسسها‬
‫اجتماعياً وثقافياً‪ ،‬وباعتبارها عملية بناء اجتماعي للمعاني التي يضفيها المتلقي على الرسائل اإلعالمية‪.‬‬
‫‪ -1‬أنموذج التأثير(‪)Effect Paradigm‬‬
‫ويشمل هذا الصنف من النماذج‪ ،‬عموما‪ ،‬مجموعة النظريات والمقاربات التي تناولت التأثير البالغ‬
‫والمباشر والتأثير ا لمحدود الفوري والطويل المدى ثم المزيد من التأثير‪ .‬وهي تهتم بالتغير أو التحول الذي‬
‫قد يالحظ في سلوكيات الجمهور ومواقفه وحاالته االنفعالية والذهنية واإلدراكية والمعرفية أثناء وبعد‬
‫التعرض لوسائل اإلعالم وعالقة هذا التغيير‪ ،‬مقارنة بالوضع السابق للتعرض‪ ،‬بالقدرة المفترضة التي‬
‫أسندت لهذه الوسائل في مختلف مراحل تاريخ أبحاث الجمهور‪ ،‬كما سبقت اإلشارة لذلك‪.‬‬
‫وتوصف هذه النماذج‪ ،‬خاصة األولية منها‪ ،‬بكونها تشاؤمية لنظرتها السلبية لقدرة الجمهور على‬
‫مقاومة القوة الخارقة لوسائل اإلعالم التي تحدث تأثي ار في اتجاه خطي شقولي)‪.(14‬‬
‫وتجدر اإلشارة في هذا الصدد‪ ،‬إلى نموذج القوى البالغة لوسائل اإلعالم (‪)Powerful Media‬‬
‫ونموذج الوخز اإلبري (‪ ،)Hypodermic Paradigm‬أو القذيفة السحرية‪ ،‬التي ميزت المرحلة التاريخية‬
‫األولى من دراسات الجمهور‪ .‬وفي مرحلة الحقة‪ ،‬ظهرت نماذج أقل تشاؤما في نظرتها للجمهور‪ ،‬مثل‬
‫تأثير وسائل اإلعالم غير المباشر عبر قادة الرأي أو التدفق اإلعالمي عبر خطوتين والتدفق عبر خطوة‬
‫واحدة ثم التدفق عبر خطوات متعددة)‪ ،(15‬ثم العودة إلى مزيد من التأثير المعمم على عدد متزايد من‬
‫الناس مع تزايد األزمات والتوترات وتزايد تحكم وسائل االتصال الحديثة في النشر اآلني للمعلومات عبر‬
‫وسائط أقل تكلفة وأقل جهد وسهلة الولوج إليها وأكثر قابلية لالستعمال‪.‬‬
‫فهي أسرع تكييفا مع حاجيات الناس المتمايزة وأكثر جاذبية وفي متناول جماعة من الناس غير‬
‫محدودة عدديا (الهاتف الخلوي بجميع خدمات‪ ،‬األنترنات بجميع تقنياتها وتقنيات الجمع بينها وغيرها من‬
‫التكنولوجيات الفردية والجماعية)‪.‬‬
‫وعلى الرغم من استمرار واتساع االعتقاد في قدرة وسائل االتصال واإلعالم على إحداث تأثير ما‬
‫في المتلقين‪ ،‬فلقد فقد هذا الصنف‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬العديد من النماذج‪ ،‬خاصة األنموذجين التقليديين‬
‫األولين‪ ،‬ا لقوى الخفية والقذيفة السحرية‪ ،‬الذين سادا في البدايات األولى من محاوالت تفسير إقبال الناس‬
‫على مشاهدة الفيلم الجذاب أو قراءة القصة المشوقة أو متابعة اإلعالن المغري‪.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪15‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫كما كادت تختفي تماما أنماذج أخرى‪ ،‬مثل أنموذج اإلعالم اإلنمائي الذي افترض‪ ،‬في وقت من‬
‫األوقات‪ ،‬أن لوسائل اإلعالم دور كبير وفعال في حث الناس وتهيئتهم لالنطالقة (‪ )Take-off‬اإلنمائية‬
‫لمجتمعاتهم‪ ،‬وانتقالها من الحالة التقليدية إلى حالة الحداثة‪.‬‬
‫ويندرج في سياق نماذج التأثير التي لم يعد يعتد بها‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬أنموذج اإلمبريالية الثقافية والغزو‬
‫الثقافي الذي ازدهر خالل العقدين السادس والسابع من القرن الماضي فيما كان يسمى البلدان السائرة في‬
‫طريق النمو(‪ .)Developing countries‬ومازالت نماذج أخرى من نفس القبيل تتجدد تبعا للمستحدثات‬
‫التكنولوجية‪ ،‬وتلح على البقاء واالستمرار‪ ،‬الرتباطاتها الثيقة بتيارات أيديولوجية‪.‬‬
‫وم ن بين تلك النماذج التي الزالت لها أصداء في دراسات الجمهور‪ ،‬نذكر نموذج االنتقائية‬
‫(‪ ،)Selectiveness Paradigm‬ونموذج االستعمال واإلشباع (‪ ،)Use and Gratification‬ونموذج‬
‫تحديد مواضيع االهتمام (‪ ،)Agenda Setting Paradigm‬ونموذج لولب الصمت (‪.(16))Silent Spiral‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أن دراسة صيرورة(‪)Process‬تأثير وسائل اإلعالم كانت دائما متعددة‬
‫التخصصات(‪)Multidisciplinary‬مع تعاون وثيق بين علم االجتماع وعلم النفس‪ ،‬األول يطرح فرضيات‬
‫عامة ويقدم الثاني تفسيرات لنماذج (‪ )Models‬من السلوك مثل التعلم وتغيير المواقف والمناهج التجريبية‬
‫والمعاني والدالالت‪.‬‬
‫‪-2‬أنموذج التلقي (‪)Reception Paradigms‬‬
‫يقصد بأنموذج التلقي في هذا المقام‪ ،‬النظرية العامة والنظريات الفرعية والمقاربات التي حولت‬
‫محور الدراسة من محتوى الرسالة وعالقاته بالتأثير الذي قد يحدث في سلوك الجمهور‪ ،‬أي عالقة‬
‫الرسالة بالتأثير(‪ )ME‬الناجم عن محاولة اإلجابة عن التساؤل األولي (ماذا تفعل وسائل اإلعالم في‬
‫الجمهور؟) في نموذج السويل(‪ ،)Lasswell, 1948 ; 1952‬إلى التركيز على مصير الرسالة بعدما‬
‫يتلقاها الجمهوراإلنتقائي القوي والفعال والنشط الذي أعيد له االعتبار نتيجة تغيير استراتيجية البحث‬
‫إلى(ماذا يفعل الجمهور بوسائل اإلعالم؟)(‪ ) Katz Elihu, 1955‬لقد أحدثت مقاربة اإلشكالية الجديدة‬
‫بأنموذج االستعمال واإلشباع لكاتز‪ ،‬وبأنموذج التفاعل والتأويالت لمورلي‪ ،‬نقلة نوعية في نماذج أبحاث‬
‫الجمهور‪ ،‬حيث أصبح التركيز على العالقة بين الرسالة والمتلقي(‪.)MR‬‬
‫ونظرية التلقي التي تشكل حجر الزاوية في هذا األنموذج الدراسي‪ ،‬هي امتداد لنظرية التأثير‬
‫والتقبل األلمانية التي ظهرت‪ ،‬في مجال الدراسات األدبية‪ ،‬في أواسط السيتينيات من القرن الماصي‪،‬‬
‫موازاة مع التيارات الواقعية مثل النظرية الواركسية أةد والواقعية الجدلية والمناهج البيوغرافية التي تركز‬
‫اهتماماتها على المبدع وحياته وظروفه التاريخية‪ ،‬أي القائم باالتصال أو المرسل من منظور الدراسات‬
‫اإلعالمية‪ .‬كما جاءت نظرية موازية للتيارات النقدية التقليدية التي كان ينصب اهتمامها على المعني‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪16‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫واستخراجه من النص باعتباره جزءاً من المعرفة العامية والحقيقة المطلقة‪ ،‬وكذلك التيارات البنيوية التي‬
‫غاصت في النص المغلق وأهملت عنص اًر فعاالً في عملية التواصل األدبي أال وهو القارئ الذي ستهتم‬
‫به نظرية التلقي وتعيد له االعتبار‪.‬‬
‫وترى نظرية التلقي أن أهم شيء في عملية التواصل األدبي هي تلك المشاركة الفعالة بين النص‬
‫التي ألّفه المبدع وبين القارئ المتلقي‪ .‬أي أن الفهم الحقيقي لألدب ينطلق من وضع القارئ في مكانه‬
‫الحقيقي واعادة االعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه وهو كذلك القارئ‬
‫الحقيقي له‪ .‬ويعني هذا أن العمل األدبي التكتمل حياته وحركته اإلبداعية إال عن طريق القراءة واعادة‬
‫اإلنتاج من جديد‪ ،‬ألن المؤلف ماهو إال قارئ لألعمال السابقة وهذا ما يجعل التناص يلغي أبوية‬
‫النصوص ومالكيها األصليين‪.‬‬
‫طور بعض منظِّري وسائل اإلعالم الجماهيري نظرية التلقي وأقاموا خطوط تالقي بينها وبين‬ ‫لقد ّ‬
‫نظرية االستعمال واالشباع التي التركز‪ ،‬فحسب‪ ،‬على أثر أو تاثير وسائل اإلعالم على األفراد‪ ،‬بل‬
‫أيضا على طريقة االستخدام لهذه الوسائل وعلى المتعة والمنفعة التي يحصلون عليها من هذه الوسائل‪.‬‬
‫وعلى نفس المنوال‪ ،‬يركز المنظِّرون اإلعالميون على الدور الذي يلعبه الجمهور المتلقي في فك رموز‬
‫الرسائل واضفاء معاني عليها ليست بالضرورة هي نفسها معاني النصوص‪ ،‬أي ليست نفس المعنى الذي‬
‫يقصده القائم باالتصال‪.‬‬
‫وقد أصبحت نظرية التلقي واحدة من أبرز النظريات المعاصرة التي اعادت االعتبار لفعل التلقي‬
‫كأساس للعملية التواصلية بين المرسل والمستقبل‪ ،‬إضافة إلى االطالع على أساليب دراسة الرأي العام في‬
‫مختلف الوسائل اإلعالمية‪.‬‬
‫فهي تهتم عموما بمحاولة تفسير آليات فهم النصوص والصور اإلعالمية من خالل فهم كيفية‬
‫قراءة هذه النصوص من طرف الجمهور‪ ،‬حيث يرتكز االهتمام من خالل دراسات التلقي‪ ،‬على تجربة‬
‫مشاهدي السينما والتلفزيون وكيف يتم تشكل المعنى من خالل هذه التجربة‪ .‬ومن بين مزاعم هذه النظرية‪،‬‬
‫أن النصوص اإلعالمية‪ ،‬من خالل الفيلم أو البرنامج التلفزيوني‪ ،‬ال يستقل بمعنى ذاتي‪ ،‬داخلي مالزم له‪،‬‬
‫فالمعنى يولد لدى التفاعل بين المشاهد والنص (أي عندما يتعرض هذا األخير للنص)‪ ،‬ويذهب أصحاب‬
‫هذه النظرية إلى القول أن العوامل السياقية لها تأثير أكثر من العوامل النصية على الطريقة التي يشاهد‬
‫بها المتلقي الفيلم أو البرنامج التلفزيوني‪ .‬وتشتمل عوامل السياق‪ ،‬على تشكيلة متنوعة من العناصر منها‬
‫هوية المشاهد وظروف التعرض والتجارب القبلية لدى المشاهد وتصوراته السابقة عن نوع الفيلم وانتاجه‪،‬‬
‫وحتى قضايا سياسية وتاريخية واجتماعية محيطية‪.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪17‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫تأخذ بعين‬ ‫وعلى العموم‪ ،‬فإن نظرية التلقي تضع الجمهور‪ ،‬كأفراد وجماعات‪ ،‬في سياقات‬
‫االعتبار كل العوامل التي يمكن أن تؤثر في كيفية قراءة النص وبناء معنى انطالقا من النص المسيق‪.‬‬
‫وقد يكون مفيداً‪ ،‬التذكير بأن إشكالية تلقي الرسائل اإلعالمية طرحت‪ ،‬انطالقا من ثمانينيات القرن‬
‫الماضي‪ ،‬في السياق العام للتيارات النقدية وخاصة المدرسة األلمانية التي طورت نظرة نقدية في‬
‫الستينيات حول عالقة النص األدبي بالقارئ وتحول االهتمام من جماليات التأثير إلى جماليات‬
‫التلقي)‪ ،(17‬وقد ينسجم هذا الطرح عموما مع المنظور الذي طوره روالند بارث (‪ )Roland Barthes‬في‬
‫دراسته الشهيرة "موت المؤلف"(‪ )Death of the Auther‬حول التلقي‪ ،‬ويلتقي أيضا مع منظور مدرسة‬
‫فرانكفورت ومركز بيرمينغهام للدراسات الثقافية المعاصرة في بريطانيا‪.‬‬
‫ويعتقد الباحث مخلوف بوكروح أن الفضاء األكثر مالءمة لدراسة عملية تلقي الرسالة‪ ،‬هو المسرح‪،‬‬
‫إذ فيه " تتجلى استجابة الجمهور بصورة مباشرة")‪ .(18‬كما قد ينسجم مع التوجهات الجديدة في دراسات‬
‫الجمهور اب تداء من العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي‪ ،‬حيث أسند دور فعال للجمهور‪ ،‬في‬
‫فك رموز مدونات الرسائل اإلعالمية(‪ ،)Decoding‬ولو أن النقاد المهتمون بعالقة الجمهور‪/‬االستجابة‪،‬لم‬
‫يكونوا منسجمين فيما بينهم سواء في الواليات المتحدة األمريكية أو بريطانيا‪ .‬ولم يكن لهم‪ ،‬فرادى أو‬
‫جماعات‪ ،‬أي اتصال مع نقاد المدرسة النقدية األلمانية)‪ .(19‬غير أن هذا االتجاه النقدي العام‪ ،‬يمكن‬
‫تلمسهفي الدراسات اإلعالمية من خالل أنموذج نقد الثقافية الجماهيرية التي اشتهرت بها مدرسة‬
‫فرانكفورت(‪ )Frankfort School‬ومركز الدراسات الثقافية المعاصرة لجامعة بيرمينغهاموالذي تحول فيما‬
‫بعد إلى مركز للدراسات البريطانية ( ‪Birmingham Centre For Contemporary Cultural‬‬
‫‪ )Studies=BCCCS‬الذي انبثق عنه تيار دراسة تلقي الرسائل اإلعالمية‪.‬‬
‫ويركز تيار الدراسات الثقافية (‪ )Cultural Studies‬على نقد المضامين الرأسمالية للثقافة‬
‫الجماهيرية التي تعمل وسائل اإلعالم على فرضها على الجماهير التي تخلقها هذه الوسائل وتبيعها‬
‫للمعلنين الرأسماليين)‪.(20‬‬
‫وعلى الرغم من أن هذا األنموذج يضم تيارات مختلفة‪ ،‬إال أنها تستهدف جميعها تجديد األنموذج‬
‫النقدي التقليدي في دراسات االتصال الجماهيري‪ ،‬حيث يحلل الباحثون الثقافيون‪ ،‬الثقافة الجماهيرية على‬
‫أنها تعبير عن العالقات بين األفراد والطبقات االجتماعية في السياق االجتماعي والسياسي الخاص‬
‫بالمجتمعات الرأسمالية‪،‬وينظرون لوسائل اإلعالم كجزء ال يتج أز من"نظام التفاعالت الرمزية"( ‪Symbolic‬‬
‫‪ )Interactions System‬يساهم في إنتاج فضاء رمزي‪ ،‬أكثر مما هي أدوات في خدمة طبقة مهيمنة‪.‬‬
‫وهنا يلتقي منظور الدراسات الثقافية مع منظور االستعمال واإلشباع في القول أن"الناس هم الذين يفعلون‬
‫شيئا بوسائل اإلعالم وليس العكس"‬
‫)‪(21‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪18‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫وعلى الرغم من أن وسائل اإلعالم تعبر عن موقع أيديولوجي‪ -‬خاصة من خالل طريقة ترميز‬
‫النصوص‪ -‬إال أنه ليس من المؤكد أن يقوم المتلقي بنفس التفسير‪ ،‬ذلك أن طابع تعدد المعاني‬
‫(‪ )Polysemic‬للرسائل اإلعالمية يقدم تشكيلة واسعة من القراءات الممكنة التي تتوقف على الوضع‬
‫االجتماعي للمتلقي والذي يحدده السياق االجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫من هذا المنطلق‪ ،‬عكف عدد من الباحثين الثقافيين (‪)Hibson, Radway, ang, Morley‬على‬
‫التأسيس لمقاربة تركز على المظاهر النصية للمشاهدة التلفزيونية إلى جانب األبعاد االجتماعية للتحليل‬
‫وتأويالت المشاهدين‪ .‬يكمن الهدف الرئيسي في محاولة فهم كيف أن جماعة المشاهدين يستعملون عمليا‬
‫يؤولون محتوى الرسائل التلفزيونية‬
‫وبكيفية نشيطة التلفزيون كعنصر مندمج في ثقافتهم‪ ،‬بمعنى كيف ِّ‬
‫انطالقا من قيمهم الثقافية وخبراتهم وتجاربهم االجتماعية‪ ،‬وكيف يشاركون في البناء االجتماعي لمعاني‬
‫المنتوج اإلعالمي من خالل القراءة التي يقدمونها للنصوص‪.‬‬
‫ولفهم تأويل مشاهد معين لمنتوج تلفزيوني ما‪ ،‬يلجأ الباحثون لمنظور أكثر نفعية (‪)Pragmatic‬‬
‫حيث يستعملون بكثافة المناهج اإلثنوغرافية لجمع المعطيات‪ :‬االستجوابات العميقة‪ ،‬والمالحظة المباشرة‪،‬‬
‫والمالحظة بالمشاركة‪.‬‬
‫ويرجع الفضل في تطوير المنهج األنثروبولوجي في دراسات االتصال الجماهيري عامة ودراسات‬
‫الجمهور بصفة خاصة‪ ،‬إلى تيار األبحاث المتعلقة باألسر والتكنولوجيات المتولد عن االستعمال العائلي‬
‫المتنامي للمبتكرات التكنولوجية الجديدة (التلفزيون‪ ،‬مسجل وقارئ الفيديو‪ ،‬والحاسوب)‪ ،‬حيث سجلت منذ‬
‫ثمانينات القرن الماضي قطيعة مع تيار األبحاث الغالب في هذا المجال والذي كان يركز على تحليل‬
‫البرامج اإلعالمية العامة والمجالت السياسية‪ .‬وقد جاءت أولى المحاوالت في هذا الصدد في العقد‬
‫من القرن الماضي في وقت كان فيه العالم مقبل على عهد جديد في مجال االتصال المباشر‬ ‫الثامن‬
‫)‪(22‬‬

‫العبر وطني (‪)Transnational‬بفضل ظهور الصحافة اإلليكترونية والبث التلفزيوني المباشر عبر‬
‫السواتل ومطالبة الدول السائرة في طريق النمو آنذاك بنظام إعالمي دولي جديد أكثر عدال وتوازنا‪ ،‬وبداية‬
‫انهيار الثنائية القطبية‪ ،‬وبروزاألحادية في تنظيم الشؤون الدولية‪.‬‬
‫ولقد طرحت في سياق تلك الظروف التاريخية‪ ،‬تساؤالت حول الحصص المسماة االتصال السياسي‬
‫الموجهة لجمهور عريض غير منسجم(‪ )Heterogene‬قبل أن تشمل جميع األنواع المسماة شعبية‬
‫(رياضة ومنوعات وأوبرات صابونية ومسلسالت بوليسية)‪ .‬كما طرحت على بساط البحث القضايا‬
‫المتعلقة بالعينة التمثيلية مثل النوع (ذكر‪/‬أنثى) واالنتماء الطبقي والجماعات اإلثنية‪ .‬وكان هدف هذا‬
‫التيار الجديد الذي يندرج في نفس منظور)‪ (Encoding-Decoding‬الذي تبناه ستيوارت هول ( ‪Stuart‬‬
‫‪ ،)Hall, 1973‬الوصول إلى مؤشرات تأويل الجمهور للرسائل اإلعالمية انطالقا من متغيرات النوع‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪19‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫واالنتماء الطبقي االجتماعي‪ .‬وقد أظهرت نتائج هذه الدراسة درجات التعقيد وتنوع أنماط فك الرموز‬
‫واستحالة فهم تعدد القراءات الممكنة انطالقا من متغير االنتماء الطبقي االجتماعي وحده‪.‬‬
‫وقد وجهت لهذا التيار الجديد انتقادات‪ ،‬منها إهماله إلمكانيات التقاطع بين مدونات المتلقين من‬
‫مختلف الطبقات االجتماعية‪ .‬إهمال التفاعل االجتماعي بهذا الشكل‪ ،‬أوجد ُه ّوة بين األبحاث المتعلقة‬
‫بالمعرفة العامية (‪ )Public knowledge‬والمركزة على اإلنتاج غير الخيالي‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبين األبحاث‬
‫المتعلقة بالثقافة الشعبية)‪ (Popular Culture‬المركزة أكثر على التسلية والترفيه (‪ ،)Entrtainment‬من‬
‫جهة أخرى‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن مختلف التباسات مفهوم المعنى لم تكن لتيسر عملية التنظير للعالقة بين‬
‫النص والجمهور وتوضح مضامينها‪.‬‬
‫لقد بدأ االهتمام في منتصف الثمانينات ينصب حول االستعماالت األسرية للتلفزيون( ‪Morley, D.,‬‬
‫‪ )Family Television, 1986‬حيث كان قد تم االعتراف للمتلقي بدور فعال في بناء معاني الرسائل‬
‫اإلعالمية وبأهمية السياق الذي تتم فيه عملية التلقي‪ ،‬حيث استبدل مفهوم "فك الترميز" بمفهوم "سياق‬
‫المشاهدة"(‪ ،)Viewing‬وتحول مركز االهتمام إلى عملية "المشاهدة" نفسها ومحاولة فهم هذا النشاط في‬
‫حد ذاته أكثر مما هو مجرد استجابة خاصة لبرنامج إعالمي خاص‪ .‬وقد اهتم مورلي في هذه الدراسة‬
‫التي استعمل فيها المنهج اإلثنوغرافي‪ ،‬بالتفاعالت بين مختلف أفراد العائلة أمام الشاشة الصغيرة في‬
‫السياق "الطبيعي" الستقبال التلفزيون الذي هو الفضاء المنزلي‪ .‬حيث استجوب والحظ بالمشاركة ثمانية‬
‫عشر عائلة بريطانية تتكون من شخصين بالغين وطفلين وتنتمي للطبقة العاملة في أغلبيتها‪ .‬وقد اهتم‬
‫باالختالفات بين العائالت من جهة‪ ،‬وبين أفراد العائلة الواحدة من جهة ثانية مرك از على عالقة السلطة‬
‫بين الجنسين وبين البالغين والقصر‪ ،‬دون أن يهمل إطار التحليل‪ ،‬وبنية الجمهور من منظور االنتماء‬
‫الطبقي والتربية وااليدولوجيا‪ ...‬التي تحدد السياق االجتماعي والثقافي الذي تحلل فيه تركيبية الجمهور‬
‫وواقعه وأنماط تفاعله‪ .‬ويقترح هنا اعتبار الطبقة االجتماعية أو الدخل كمؤشر أكثر مما هو عامل يؤثر‬
‫مباشرة في تحليل األبعاد االجتماعية للمشاهدة التلفزيونية وتأويل الرسائل‪.‬‬
‫سجل في بداية العشرية التاسعة من القرن الماضي‪ ،‬تطور آخر في دراسات االستعماالت المنزلية‬
‫لتكنولوجيات اإلعالم واالتصال‪ ،‬حيث لم يعد التلفزيون وحده مركز االهتمام ضمن التكنولوجيات‬
‫األخرى التي ينبغي تحليل دورها في تمفصل الفضاءات الخاصة والعمومية ومحاولة تحديد‬ ‫المنزلية‬
‫)‪(23‬‬

‫السياق الذي يجري فيه النقاش حول قدرة وسائل اإلعالم على خلق وصيانة الهويات الثقافية‪ .‬ويتعلق‬
‫األمر هنا بإعادة تسييق(‪ )Re-contextualisation‬دراسة استهالك التلفزيون في إطار اجتماعي‪-‬تقني‬
‫وثقافي أوسع وااللتزام بعمل أمبريقي إثنوغرافي من شأنه أن يساعد على فهم ظاهرة التلقي المعقدة‪ ،‬وادراك‬
‫ديناميكية منزلية(‪ )Domestication‬التكنولوجيات داخل العائالت‪ ،‬أي إدماج هذه التكنولوجيات في‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪20‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫الفضاء األسري اليومي‪ ،‬والكيفية التي تعمل بها كل عائلة في إدارة فضائها االجتماعي والتكنولوجي)‪.(24‬‬
‫المسيقة للتلقي وأن هذه الممارسات‬
‫ّ‬ ‫وينبغي أن تفهم دالالت التلفزيون كخصوصيات صاعدة للممارسة‬
‫تكونه األسرة والتفاعالت التي تجري في هذا المحيط‪.‬‬
‫تتشكل داخل المحيط االجتماعي الجزئي الذي ّ‬
‫تميز التطور األولي ألنموذج التلقي‪ ،‬بانتقال اهتمامات البحث من قضايا االيدولوجيا وتحليل‬
‫الرسائل المتلفزة من خالل تساؤالت حول البنية الطبقية وعملية فك الرموز إلى التمايز في ممارسة‬
‫المشاهدة من منظور النوع داخل العائلة‪ .‬وقد ترتب عن هذا التحول إعادة تأطير قضية التلقي داخل‬
‫سياق أوسع يستدعي الربط بين التكنولوجيات الجديدة ووسائل االتصال الجماهيري والديناميكيات العائلية‬
‫بهدف فهم عملية التلقي في أبعادها المتعددة‪.‬‬
‫وهكذا أثارت مسألة التلقي فضول العديد من الباحثين الذين اهتموا‪ ،‬كل حسب األنموذج الذي‬
‫ينطلق منه وحسب طبيعة أهداف البحث‪ ،‬بمختلف جوانب عملية التلقي سواء تعلق بالمتلقي(القارئ‪-‬‬
‫المشاهد) أو بالنص أو بطبيعة العالقة بينهما أو بالتأويل (فك الرموز)‪.‬‬
‫غير أن األعمال التي قدمها كل من(‪ )Morley, 1980, 1986, 1990, 1992, 2001‬و( ‪Staiger‬‬
‫‪ )Janet, 1992‬و(‪ )Daniel Miller ; Don Slater, 2000‬و(‪ )Baker Martin, 2005‬وغيرهم‪ ،‬تبقى‬
‫أكثر داللة في جانبها التنظيري واألمبريقي السريع الذي يجعلها أكثر ديناميكية وقدرة على مالحقة‪،‬‬
‫وبالتالي تأطير التغييرات التي تدخلها يوميا التكنولوجيات الجديدة على الفضاء اإلعالمي واالتصالي‪،‬‬
‫وبالنتيجة على األبحاث المتعلقة بالجمهور‪.‬‬
‫‪ .3‬مؤشرات أنموذج جديد‬
‫تستمد المفاهيم الجد يدة المتعلقة بجمهور وسائل وسلوكياته وأبحاثة‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة لمختلف‬
‫المفاهيم والدراسات اإلعالمية عامة‪ ،‬تستمد مقوماتها أساسا من األدبيات التي أوجدتها تيارات ما بعد‬
‫الحداثة ابتداء من القرن العشرين‪ ،‬وأيضا من األجواء التي خلقتها تكنولوجيات اإلعالم واالتصال‬
‫المستجدة في المحيط االتصالي المتحرك‪ .‬ومن هناك‪ ،‬فإن حصر دالالت هذه المفاهيم المستجدة‪،‬‬
‫يستدعي استحضار بعض الجوانب المناسبة في إطارها المرجعي السيميولوجي والتقني‪.‬‬
‫إن مفهوم ما بعد الحداثة (‪)Post-modernitsm‬تكثف استعماله منذ العقد الثامن للقرن العشرين‪،‬‬
‫للداللة على تشكيلة واسعة من التغيير في أنماط التفكير‪ ،‬مشي اًر على العموم إلى التيارات النقدية للحقائق‬
‫المطلقة والهويات إن في الفلسفة والفن والموسيقى أوالهندسة المعمارية أواألدب والشعر واللغة أوالتاريخ‬
‫والسياسة والثقافة‪ .‬وهو يعني في هذه المجاالت بالذات مواقف أيديولوجية أكثر من كونه يعبرعن حقبة‬
‫زمنية في تاريخ الحضارة اإلنسانية‪ ،‬كما يشير إليه البعد التكنولوجي(‪.(25))Post-modernity‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪21‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫وقد شاع استعمال مصطلح ما بعد الحداثة بعد دخوله‪ ،‬أوال المجال‪ ،‬الفلسفي سنة ‪ 1979‬على يد‬
‫جون ف ار نسوا ليوطار(‪ )Jean-François Lyotard‬الذي نشر" شرط ما بعد الحداثة" ( ‪La Condition‬‬
‫‪ ،)Post-moderne‬وهو العمل الذينشر باإلنجليزية سنة ‪ ،1984‬أي أن األدبيات األنجلو‪-‬سكسونية بدأت‬
‫تكتشف وتستعمل المفهوم في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي‪.‬‬
‫وقد تتجلى أفكار ما بعد الحداثة المطروحة في جوانب التلقي المختلفة وفي ميادين نشر‬
‫المستحدثات)‪ ،(26‬من خالل دراسة إبيستومولوجية للباحثة "جاب نيكواليزن" (‪،)Nicolaisen, 2005‬‬
‫والنقاشات التي كانت قد جرت من قبل حول العناصر األكثر داللة في المفاهيم األكثر تداوال في أبحاث‬
‫الجمهور خاصة خالل العشرية األخيرة (‪ )2005-1995‬على يد كوكبة من الباحثين منهم مورلي‪،‬‬
‫كاران‪ ،‬فيسك وساليتر وغيرهم من الذين الزالوا يواكبون عن قرب تطورات دراسات الجمهور‪.‬‬
‫ولئن كانت هذه االرهاصات التشكل بعد أنموذجاً متماي اًز‪ ،‬فإنها مؤشرات قوية على ظهور تيار‬
‫جديد في الدراسات اإلعالمية‪ ،‬والسيما دراسات الجمهور في عالم ذي حركية سريعة‪ ،‬يمكن أن تستقر‬
‫قريبا في أنموذج يتخذ وصف ما مابع الحداثة‪ .‬وحتى يمكن التعرف على إرهاصات هذه المرحلة‬
‫ومؤشرات تيار الدراسات الجديد‪ ،‬نستعرض فيما يلي ملخصات ألهم المفاهيم المتداولة في هذه المرحلة‬
‫االنتقالية من مجتمعات الحداثة إلى المجتمعات الالحقة لما بعد الحداثة التقنية (‪After post-‬‬
‫‪ )Modernism‬التي شكلت موضوع ملتقي في جامعة شيكاغو عام ‪.1997‬‬
‫مفهوم السياق المنزلي(‪)Domestic Context‬‬
‫تعتبر االتجاهات الحديثة‪ ،‬المشاهدة التلفزيونية كنشاط يومي معقد يجري في السياق المنزلي‬
‫ويمارس أساسا ضمن العائلة‪ ،‬فالتلفزة تستقبل في سياق بالغ التعقيد والقوة)‪ .(27‬غير أن الطابع السياقي‬
‫للتلقي يطرح تساؤالت مؤرقة حول الكيفية التي تستعمل بها التلفزة في المنزل‪ ،‬وحول سلطة اتخاذ الق اررات‬
‫المتعلقة باختيار القنوات التلفزيونية والبرامج التي تشاهد في هذا الوسط األسري‪.‬‬
‫إن مفهوم السياق المنزلي يسمح باإللمام أكثر بمختلف جوانب الظاهرة‪ ،‬فالمحيط أو اإلطار الذي‬
‫تستقبل فيه الرسائل اإلعالمية‪ ،‬خاص أوفي حضور أفراد العائلة الذين يفترض أنهم مصقولو ن بمتطلبات‬
‫هذا المحيط ذاته‪ ،‬يطرح التساؤل حول الكيفية التي تتحقق بها عملية االتصال في هذا السياق "الطبيعي"‬
‫نفسه ال ذي ينظر إليه داخل ومن خالل هذه الصيرورة‪ ،‬وكيف يتم داخل هذا السياق ذاته إدماج‬
‫التكنولوجيات المنزلية وفي نفس الوقت تكييفها مع مستلزمات هذه البيئات وتجنيدها لتدعيمها‪.‬‬
‫تسعى أبحاث التلقي الحديثة‪ ،‬من خالل محاولة اإلجابة على مثل هذه اإلشكاليات‪ ،‬تطوير نموذج‬
‫لالتصا الت المنزلية يأخذ بعين االعتبار نشاطات االتصال المتنوعة التي تتعايش في وضعية المشاهدة‬
‫التلفزيونية من بين تشكيلة االستعماالت األخرى لتكنولوجيات االتصال واإلعالم المنزلية‪.‬وينبغي أن يأخذ‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪22‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫نموذج االتصال المنزلي بعين االعتبار‪ ،‬أيضا‪ ،‬أوجه التشابه والتمايز بين األسر وفهم مكانة هذه الفروق‬
‫والتماثل في فضاء الثقافة والمجتمع الواسع حيث تحدد قضايا االنتماء الطبقي واإلثني وااليدولوجيا‬
‫والسلطة والجوانب المادية لعالم الحياة اليومية‪.‬‬
‫يستبعد تحليل سياق المشاهدة التلفزيونية المفهوم العددي للجمهور حيث لم يعد مجرد حصيلة‬
‫عددية ألفراد األسر الذين يتابعون البرامج والحصص‪ ،‬وانما أصبح ينظر إلى المتلقي كعضو ديناميكي‬
‫ممارس لنشاط اتصالي رتيب في الحياة اليومية لألسرة (الجماعة)‪ .‬فال ينبغي أن يستمر البحث في النظر‬
‫إلى األفراد على أساس أن آراءهم وسلوكياتهم فردية ومنعزلة عن تلك الظروف السياقية التي تتشكل فيها‬
‫األفكار وتعتنق وتعدل)‪.(28‬‬
‫كما ينبغي أن يركز تحليل السياق المنزلي على بحث الكيفية التي يتم بها إدماج (‪)Encastre‬‬
‫التكنولوجيات حتى تصبح جزءاً ال يتج أز من الديناميكية الداخلية وتنظيم الفضاء المنزلي‪.‬‬

‫مفهوم التكنولوجيات المنزلية (‪)Domestic Technologies‬‬


‫على الرغم من أن دراسات االستعماالت التكنولوجية المنزلية قد انطلقت منذ حوالي ربع قرن من‬
‫الزمن‪ ،‬ورغم التطور الهائل في هذه التكنولوجيات‪ ،‬فإن فهم مكانه التلفزيون في المجتمع المعاصر ال‬
‫زالت تشكل قضية هامة ضمن إطار األبحاث الحديثة‪ ،‬حيث تنظر هذه األبحاث إلى هذه التكنولوجيات‬
‫كوسيلة إعالم منزلية أساساً‪ ،‬والتي ينبغي النظر إليها في نفس الوقت‪ ،‬في السياق العائلي وفي داخل‬
‫السياق العام للحقائق االجتماعية والسياسية واالقتصادية التي يعاد تمفصلها بدون انقطاع في السياق‬
‫المنزلي‪ .‬فالتلفزيون يعتبر‪ ،‬على الصعيدين المنزلي والوطني‪ ،‬الخاص والعمومي‪ ،‬عامال فاعال في ثقافة‬
‫‪)29(.‬‬
‫االستهالك وفي الثقافة التقنية‬
‫غير أن التلفزيون ينبغي‪ ،‬على أهميته المتميزة‪ ،‬أن يعتبر واحدا فقط من مظاهر الثقافة التقنية‪ ،‬إلى‬
‫جانب عدد متنامي من تكنولوجيات اإلعالم واالتصال التي تشغل حي از منزليا في السياقات األسرية‪ ،‬مثل‬
‫آلة تسجيل وقراءة أشرطة الفيديو‪ ،‬وجهاز الكومبيوتر الشخصي‪ ،‬والستريو‪ ،‬والمجيب اآللي‪ ،‬والو لكمان‬
‫والهاتف والراديو‪.‬‬
‫وتعني التكنولوجيا هنا‪ ،‬الموضوع في حد ذاته والممارسات المتولدة عنها والدالالت التي تثيرها‪.‬‬
‫فالتكنولوجيا ال تتوفر فقط على قيمة مادية ولكنها تتضمن أيضا قيمة رمزية تأخذ شكلها من خالل‬

‫(‪)29‬ترجمة شخصية للنص التالي (‪ ،)Morley, 1992‬المرجع السابق ص‪202.‬‬


‫‪« Within this formulation television's meanings, that is the meanings of both texts and technologies have to be understood as‬‬
‫‪emergent properties of contextualized audience practices. These practices have to be seen as situated within the facilitating‬‬
‫»‪and constraining micro-social environments of family and household interaction.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪23‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫استعماالتها‪ ،‬األمر الذي يعطي كل األهمية لفهم الكيفية التي يتم بها إدماجها في الحياة العائلية اليومية‬
‫وفي المقابل‪ ،‬فهم الكيفية التي تؤثر بها الحياة العائلية اليومية في التكنولوجيات المنزلية‪ .‬وبهذه الصيغة‬
‫تصب ح "دالالت التلفزيون‪ ،‬وبالتالي كل التكنولوجيات المنزلية‪ ،‬تضم في نفس الوقت دالالت النصوص‬
‫المسيقة‪ .‬وينبغي أن‬
‫ّ‬ ‫ودالالت التكنولوجيات‪ ،‬وينبغي أن تفهم كخصائص مستحدثة لممارسات الجمهور‬
‫ينظر إلى هذه الممارسات في موقعها ضمن تسهيالت ومعوقات تفاعالت المحيط االجتماعي الجزئي في‬
‫العائلة والمنزل‪ )30(.‬تصبح تكنولوجيات اإلعالم واالتصال من هذا المنظور‪ ،‬نظاما تقنيا وماديا واجتماعيا‬
‫وثقافيا يشمل قواعد واستعماالت وعالقات‪.‬‬

‫الديناميكية العائلية (‪)Family Dynamism‬‬


‫أدخل هذا المنظور تعديال هاما على مفهوم الجمهور الذي لم يعد مجرد فرد مشاهد‪ ،‬ولكنه عضو‬
‫في الجماعة (العائلة) المشاهدة‪ ،‬وأصبحت األسرة بالتالي‪ ،‬هي الوحدة القاعدية بدال من المشاهدة الفردية‪.‬‬
‫ويستهدف هذا البعد التحليلي للديناميكية العائلية‪ ،‬جعل األسرة مجاال نشيطا للممارسات االجتماعية التي‬
‫تتأثر في نفس الوقت بالمحيط االجتماعي والثقافي الكلي وبالخصوصيات الموجودة داخل كل عائلة التي‬
‫مع األفراد المكونين لها‪ ،‬لهم تاريخ خاص وعادات وتقاليد وطقوس وأسرار خاصة‪ ،‬تحدد درجات تفتحهم‬
‫أو انغالقهم على التأثيرات الخارجية وتجعلهم أكثر أو أقل حساسية لدعوات المعلنين أو المربين أو‬
‫المسلين أو المرشدين للش ارء والتعلم والترفيه والهداية‪.‬‬
‫ويعتقد ميك أندر وود (‪)Mick Underwood, 2006‬أن مراجعة اإلجراءات المنهجية لدراسات‬
‫الجمهور‪ ،‬حولت فهمنا‪ ،‬وبالتالي نظرتنا للجمهور الذي اعتبرته الدراسات واألبحاث األولية مجرد أفراد‬
‫متأثرين بالقوى البالغة للرسائل اإلعالمية قارئين للنصوص ومؤولين للصور التي تخلقها وتوزعها وسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬والتي جعلت جيمس كارن (‪ )Curran, 1997‬على سبيل المثال يتمكن من كتابة تاريخ دراسات‬
‫التلقي ويعيب على مورلي‪ ،‬وفيسك‪ ،‬وسارطو( ‪ )Morley, Fiske, Certau‬وغيرهم من المحللين الثقافيين‬
‫المحدثين‪ ،‬إفراطهم في االعتماد على مذهب "المراجعة" الجديد)‪.(31‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن طرح إشكالية الديناميكية العائلية بهذه الكيفية‪ ،‬يسمح بوضع إطار للتفكير قد يكون‬
‫مفيدا في دراسة العالقات االجتماعية (العائلية في المقام األول) التي تتم من خالل عملية استعمال‬
‫مجموع التكنولوجيات المنزلية الجديدة وتأويل الرموز التي تحملها هذه التكنولوجيات ومضامين الرسائل‬
‫التي تنقلها‪ .‬يتم في إطار هذه العالقات االجتماعية من جهة‪ ،‬بحث مختلف أشكال الديناميكيات الداخلية‬
‫لألسرة المرتبطة بتمايز سلوك أعضائها تبعا الختالف متغيري السن والنوع‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬بحث‬

‫)‪(30‬‬
‫‪Mick Underwood, Reception Studies-Criticisms, CCMS InfoBase, htm, April, 2006‬‬
‫‪“New audience research as the 'new revisionism' shows how many, much earlier; studies have demonstrated that audiences‬‬
‫‪construct highly individual readings of media texts (Curran 1990). There is, however, certainly some justice in David‬‬
‫‪Morley's claim 1997 that neither Curran nor anyone else could have written that particular history of cultural studies until the‬‬
‫‪'new revisionism' had transformed our understanding of audience research”.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪24‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫ديناميكيات العالقات الخارجة عن األسرة حيث أن تأويل دالالت الرموز التي تحملها الرسائل اإلعالمية‬
‫واالستجابة لمضامينها‪ ،‬يحدد طبيعة العالقات مع العالم الخارجي‪ .‬كما‬
‫يجري في نفس اإلطار تحليل طبيعة الق اررات المتخذة داخل البنية العائلية والكيفية التي تتخذ بها‬
‫هذه الق اررات (أي عضو من أفراد العائلة يتخذ أي قرار ومتى ولماذا) وأيضا الكيفية التي تناقش بها‬
‫القضايا المرتبطة باختيار المحتوى‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬تمكن دراسة الديناميكية العائلية من تحليل المشاهدة و‪/‬أو االستعمال الفردي في إطار‬
‫العالقات العائلية من خالل التفاعالت التي تحدث داخلها‪ .‬ويسمح هذا السياق بتحديد العوامل الحاسمة‬
‫في ممارسة المشاهدة من حيث السلطة والمسؤولية والرقابة في مكان معين وفي أوقات معينة‪.‬‬
‫"جيل ثالث" من دراسات التلقي(‪) Third Generation of Reception Studies Aspects‬‬
‫شهدت دراسات الجمهور في بداية هذا العقد األول من األلفين تطو اًر كبي اًر سماه مورلي‬
‫(‪)Morley, 1999‬الجيل الثالث من دراسات التلقي‪)32(.‬في سياق إعادة التفكير في جمهور وسائل‬
‫ملخصة لمرحلتين آيلتين للزوال مرت بهما هذه الدراسات (الجيل األول متعلق بالتأثير‬ ‫اإلعالم‪ ،‬في إشارة ّ‬
‫والجيل الثاني خاص بالتلقي‪ ،‬أوالمشاهدة كفعل اجتماعي وثقافي)‪.‬‬
‫إن هذا الجيل الجديد الذي لم ترتسم معالمه النهائية بعد‪ ،‬ولكن يمكن تلمسه في إرهاصات العديدة‬
‫من الظواهر والمفاهيم المرتبطة بها‪ ،‬هو انعكاس النشغال عام ناجم عن جملة من األحداث والعوامل‬
‫والمؤشرات التكنولوجية واالقتصادية والسياسية التي كان لوسائل اإلعالم الدور الحاسم في توزيع صورها‬
‫وبناء الرموز االجتماعية الدالة عليها في الذاكرة الجماعية للجمهور‪ ،‬والتي عايشتها بداية هذه العشرية‪.‬‬
‫فعلى الصعيد التكنولوجي‪ ،‬تسارعت عملية انتشار الواب وتغلغله في جميع مناحي الحياة‪ ،‬واجتياح‬
‫العولمة اإلعالمية مختلف مناطق المعمورة‪ ،‬وتعميم أنظمة االتصال الرقمية التي غيرت جذريا عالقات‬
‫التبعية بين المرسل والمتلقي‪.‬‬
‫وعلى الصعيد االقتصادي‪ ،‬أعاد نهوض البلدان المسماة "النمور اآلسيوية" في نهاية القرن الماضي‬
‫والنمو االقتصادي المذهل الذي تحققه الصين منذ بداية القرن الحالي‪ ،‬الثقة في الذاتية وحرر القد ارت‬
‫الكامنة لتلك الشعوب التي أصبح بإمكانها المحافظة على خصوصياتها الثقافية والروحية والحضارية‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت العيش في مجتمعات ما بعد الحداثة بمنتجاتها الذاتية‪ ،‬وفتح لديها آفاق الدخول في‬
‫منافسة مع األمم المحتكرة لالقتصاد والسياسة والتكنولوجيات والعلم‪.‬‬
‫أما األ حداث السياسية األكثر انعكاسا على عملية إعادة التفكير في أنماط التفاعالت الممكنة بين‬
‫التدفق اإلعالمي المعولم والمتلقين من مختلف االنتماءات الثقافية والعرقية واإلثنية‪ ،‬تبرز أحداث نيويورك‬
‫وواشنطن عام ‪ 2001‬وما تالها من حرب ضد "اإلرهاب" والتي طرحت إشكاليات معقدة تخص أطروحات‬
‫صراع الحضارات والتخلي عن الكثير من المبادئ التي أقيم عليها النظام الدولي لعالم ما بعد الحرب‬

‫(‪)32‬تفاصيل أكثر دقة عن المنظور المنهجي الجديد‪ ،‬اإلثنوغرافي‪ ،‬ستشكل موضوع دراسة قادمة مستقلة‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪25‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫العالمية الثانية‪ ،‬من مثل سيادة الدول والشعوب‪ ،‬والديموقراطية وحقوق اإلنسان‪ ،‬بما فيها الحق في‬
‫اإلعالم والحق في االختالف‪.‬‬
‫لقد أصبحت بعض مظاهر هذا الجيل الثالث من دراسات التلقي الذي يرتكز على منظور المنهج‬
‫اإلثنوغرافي)‪ ، (33‬واضحة‪ ،‬ولكنها غير دقيقة تحتاج إلى أبحاث واسعة وعميقة‪ ،‬ومن ضمن األبعاد الجديدة‬
‫التي اكتسبها منظور التلقي بفضل تطور أبحاث الجمهور‪ ،‬من جهة‪ ،‬وانعكاسات تكنولوجيات االتصال‬
‫واإلعالم الجديدة‪ ،‬عنصر الوجود الالمادي والالمحدودية في الزمن والمكان للجمهور والذي أصبح يطلق‬
‫عليه "عالم ما بعد الجمهور" (‪ ،)Post-Audience World‬حيث أضافت هذه التكنولوجيات تشكيلة‬
‫متنوعة من العناصر الداخلة في تكوين مفهوم الجمهور‪ ،‬لم تكن متوفرة في أنظمة االتصال الجماهيرية‬
‫السائدة قبل نظام االتصال الرقمي‪.‬‬
‫إن الرقمية لم تمنح حرية االختيار المطلق للمتلقي وحسب‪ ،‬ولكنها قضت على العديد من القيود‬
‫التي تفرضها وسائل اإلعالم التقليدية على جمهورها قبل عرض نسخ من خدماتها عبر مواقع الشبكة‬
‫العنكبوتية العالمية )‪ ،(World Wide Web‬وقبل إنشاء وسائل إعالم جماهيرية إليكترونية (‪،)e-Media‬‬
‫وبصفة خاصة الجرائد والمجالت اإلليكترونية(‪ )e-Magazine, e-Journal‬وتلفزيونات األنترنات‪.‬‬
‫سيوفر نظام االتصال الرقمي بعد تعميمه‪ ،‬أي جمهرته في عمليات االتصاالت المحلية واإلقليمية‬
‫والدولية‪ ،‬وخاصة تلفزيون األنترنات وتوسيع شبكات الخوادم المضيفة (‪ )Servers‬ذات سعة تخزين هائلة‪،‬‬
‫سيوفر لجمهور المتلقين‪ ،‬وخاصة جمهور مشاهدي التلفزيونية‪ ،‬خيارات عديدة‪ .‬من هذه االختيارات‬
‫المتاحة‪ ،‬القدرة على التجوال بين الزوايا المختلفة واألزمنة المختلفة‪ ،‬لتلقي كافة التفصيالت الدقيقة عن‬
‫الحدث أو العمل الدرامي مثل القرب والبعد والزوايا األمامية والجانبية والتكبير والتصغير‪ ،‬ومصاحبة‬
‫الصوت أو بدون صوت‪ ،‬التوقف عند لقطة مختارة في لحظة معينة‪ ،‬والرجوع إلى الخلف أو التقدم إلى‬
‫األمام‪ ،‬وغيرها من العمليات الدالة على سيادة المتلقي في اتخاذ القرار المناسب لظروفه الخاصة‪،‬‬
‫واستقالليته عن المرسل الذي يفقد باستمرار التحكم في مصير نص الرسالة اإلعالمية‪ .‬فقد أضافت‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬هذه الحرية في االختيار التي يكتسبها باستمرار الجمهور‪ ،‬سمات أخرى مثل سمة التفاعلية‬
‫(‪ )Interctivity‬والالتزامنية (‪ )Asynchronization‬في المشاهدة التلفزيونية‪ ،‬حيث تتيح للمشاهد‬
‫إمكانيات المشاهدة واعادة المشاهدة بالتفاصيل التي يريدها المتلقي نفسه ال كما يريدها‪ ،‬أو كما كان‬
‫يتوقعها‪ ،‬القائم باالتصال‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ساهمت هذه التكنولوجيات في تنامي مفهوم جمهور المتلقين النشط الذي يتخذ ق ارره بناء‬
‫على معطيات سابقة لتلقي الرسالة والمصدر والمحتوى وأعطت للمعرفة اإلدراكية دو ار فعاال كإحدى القوى‬
‫الوسطية التي تعمل على إحالل التفاعلية محل التأثير بتغيير اتجاهه الخطي‪ .‬فالفرد في الجمهور" يقبل‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪26‬‬
‫المجلد ‪ 13‬العدد‪ ،)2014( ) 02‬ص‪ 05‬ــــــ ‪28‬‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
‫‪ISSN:1111-536X‬‬ ‫‪EISSN:2676-1793‬‬

‫أو يرفض‪ ،‬يقترب أو يتجنب‪ ،‬يتعرض أو ال يتعرض إلى وسائل اإلعالم بناء على قرار اختياره وتفضيله‬
‫(‪)34‬‬
‫ومستوى هذا التفضيل وشدته‪.‬‬
‫والى جانب ذلك‪ ،‬بدأ هذا النظام يجسد مبدأ المشاركة الفعالة في العملية االتصالية من خالل نوادي‬
‫المحادثة والحوار التي يتم فيها تبادل الرسائل اإلعالمية فوريا وبصفة تزامنية مستقلة عن التموقع الجغرافي‬
‫للحضور المشترك في الزمن‪ .‬يمكن إذن تلمس فكرة "عالم ما بعد الجمهور" من خالل مختلف أنماط‬
‫السلوكيات المشتركة التي يقوم بها جمهور مشبك (‪ )Networked‬غير محدد في فضاء جغرافي معين‪.‬‬
‫وقد أُثْريت اللغة المتخصصة بعدة مصطلحات للداللة‪ ،‬من زوايا مختلفة‪ ،‬على واقع الجمهور‬
‫الجديد التي خلقته تكنولوجيات اإلعالم واالتصال الجديدة‪ ،‬مثل الجمهور اإلليكتروني(‪)e-Audience‬‬
‫والجمهور عن بعد(‪ )Remote Audience‬والمواطن المشبك (‪ )Netizen‬في مجال السلوك االنتخابي‬
‫خاصة‪ .‬ولكن أحدث هذه المفاهيم األكثر انتشا ار والتي دخلت الحقل األكاديمي هو ما يمكن أن نسميه –‬
‫الجمهور القادر على التواجد الكلي)‪ )Ubiquitous Audience( (35‬ويشار إليه في األدبيات اإللكترونية‬
‫)‪(u-Audience‬‬
‫ويدل هذا المصطلح‪ ،‬على العموم‪ ،‬إلى الشيء الذي يبدو متواجدا في كل مكان وغالبا غير متموقع‬
‫جغرافيا‪ .‬وقد استعمله ماك ويزر(‪ )Mark Weiser‬في نهاية التسعينات للداللة على عالم تحيط فيه الحواسب‬
‫والتجهيزات اإلعالمية بالناس وتساعدهم في كل شيء يقومون به‪ .‬هذه البيئة قائمة اآلن في المنزل وفي‬
‫المكتب وفي الجيب‪ ،‬مثل الهاتف الخلوي ومذكرة الجيب الرقمية (‪ ،)PDA‬توفر للمستعملين الذين يتزايد‬
‫عددهم باضطراد‪ ،‬القدرة على االستعالم واالتصال والتسوق والشراء والبيع ودفع الفواتير ومختلف التحويالت‬
‫المالية واستشارة األطباء والمحامين‪ ،‬أي القيام بالنشاطات اليومية العادية في أي مكان يتواجدون فيه وفي أي‬
‫زمن‪ ،‬أي بدون انقطاع(‪ .)Non-Stop‬وهذا بفضل تطوير الواب وتكييف التكنولوجيات الجديدة مع احتياجات‬
‫المستعملين‪ .‬غير أن األبحاث التي تجريها الجامعات ومراكز الدراسات‪ ،‬الزالت تركز‪ ،‬في هذه المرحلة من‬
‫تطور الواب على الجوانب التقنية للبحث عن أنجع وأقصر السبل لجمهرة (‪ )Massification‬تكنولوجيات‬
‫اإلعالم واالتصال‪ ،‬أي تمكين أكبر عدد من الناس‪ ،‬من خالل تخفيض السعر وتيسير طرق االستعمال‪ ،‬من‬
‫االستفادة من المزايا التي توفرها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن مناهج األبحاث في هذه البيئات التقنية‪-‬االجتماعية ومختلف أنماط التفاعالت بين‬
‫مختلف العناصر المكونة لها‪ ،‬بدأت في أقل من عشرية من الزمن تعطي بعض النتائج التي لم تكن‬
‫متوقعة قبل حلول هذا العالم ما بعد الحديث‪.‬‬

‫هوامش وم ارجع‪:‬‬
‫‪1- Mcquail D, Mass Communication Theory, Sage publication, London, 1984, p.13‬‬

‫(‪)34‬نظمت جامعة كايو(‪ )Keio‬بطوكيو في شهر مارس ‪ ، 2006‬ملتقى حول ظاهرة القدرة الكلية على التواجد في كل مكان في نفس الزمن‪ ،‬شارك‬
‫فيه عن قرب‪ ،‬ولكن عن بعد أيضا باحثون وأساتذة وجمهور من مختلف الجامعات المتوفرة على إمكانيات التواجد في كل مكان‪ ،‬من مختلف األماكن‬
‫الجغرافية عبر الكرة األرضية‪.‬‬

‫‪WWW.ACR-DZ.COM‬‬

‫‪27‬‬
28 ‫ ــــــ‬05‫ ص‬،)2014( ) 02‫ العدد‬13 ‫المجلد‬ ‫المجلة الجزائرية لالتصال‬
ISSN:1111-536X EISSN:2676-1793

3- Journal of Broadcasting and Electronic Media, spring 2001. p.348


4- McQuail, D., (1964) op.cit, p.176
7- Morley, D., Rethinking the Media Audience, sage publication, London, 1999
8- Daniel Miller & Don Slater, The Internet: An Ethnographic Approach, Oxford Berg, 2000, chapter One, p.1
9- McQuail, 1984, Op.cit. P.177
10- Noelle Neuman, Return to the Concept of Powerful Mass Media, Studies of Broadcasting, 9:66-112, 1973
11- Carey J., The Ambiguity of Policy Research, Journal of Communication,28 :114-119, 1978
12- Ball-Rokeach & DeFleur, A Dependency Model of Mass Media Effects, Communication Research, 3:3-21, 1976.
2006 ،‫ جامعة الجزائر‬،)‫ أطروحة دكتوراه دولة ( موصى لها بالنشر‬،‫ أثر مسائل اإلعالم على القيم والسلوكيات لدى الشباب‬،‫ سعيد بومعيزة‬-13
37-35.‫ص‬
2005،‫ الجزائر‬،‫ دار هومة للنشر‬،‫ في الوسيط في الدراسات الجامعية الجزء الحادي عشر‬،‫ مقاربات السلوك االتصالي‬،‫ علي قايسية‬-14
:‫ مزيد من التفاصيل في‬-15
،‫ دار هومة للنشر‬،‫ الجزء الحادي عشر‬،‫ في الوسيط في الدراسات الجامعية‬،‫ من األثر المؤكد إلى األثر المحتمل‬:‫ إشكالية التأثير‬،‫* عزيز لعبان‬-
2005 ،‫الجزائر‬
133-39.‫ ص‬.‫س‬/‫ م‬،2006 ،‫ *سعيد بومعيزة‬-
1994 ،‫ جدة‬،‫ النادي األدبي الثقافي‬،‫ ترجمة عز الدين إسماعيل‬،‫ مقدمة نقدية‬:‫ نظرية التلقي‬،‫ روبرت هولب‬-16
2004 ،‫ الجزائر‬،‫ مؤسسة فنون وطباعة‬،‫ التلقي والمشاهدة في المسرح‬،‫ مخلوف بوكروح‬-17
8.‫س ص‬/‫ م‬،‫ عز الدين إسماعيل‬-18
19- Graham, M., & Peter, G.,.... ?
20- Florence Millerand, David Morley et la problématique de la réception, Thèse, université de Montréal, 1997
21- Morley, D., The Nationwide Audience, British Film Institute, London, 1980
22- Morley, D., Family Television, Comedia/Routlege, London, 1986
23- Free Encyclopedia, post-Modernism, Http:// Wikipedia.org, April 2006
24- Silverstone R. Morley, D.,Domestic Communication, Media, Culture and Society, University of Brunel, 1990
25- Jeppe Nicolaisen, The Epistemological Lifeboat : Diffusion Researches and Reception Studies, April 2005
26- Morley D., Television, Audience and Culrural Studies, Routlege, London, 1992, p.202: « Television is received in an
already Complex and powerful context”
27- Morley, ibid.p.17
28- Dayan, Danielle, Raconter le Public, Hermès No 11-12, 1993, p.15
31- Morley, D. The Third Generation of reception Studies, in Rethinking the Media Audience, (Ed: Alasantari P), sage,
London, 1999.

2004 ،‫ القاهرة‬،‫ عالم الكتب‬،‫ نظريات اإلعالم واتجاهات التأثير‬،‫ محمد عبد الحميد‬-33

WWW.ACR-DZ.COM

28

You might also like