You are on page 1of 39

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫جامعة آل البيت‬

‫كلية الدراسات العليا‬

‫كلية األداب والعلوم اإلنسانية‬

‫اللغة العربية وأدابها‬

‫ورقة بحثية بعنوان‪ :‬قراءة أسلوبية في قصيدة‬


‫حديث مع أبي موسى األشعري‬

‫للشاعر ‪:‬أمل دنقل‬

‫اسم المساق‪ :‬مناهج النقد األدبي الحديث والمعاصر‬

‫بإشراف االستاذ الدكتور‪ :‬عبد الباسط المراشدة‬


‫إعداد الطالبة‪ :‬فضة سليمان مشاقبة‬

‫الفصل الدراسي األول ‪2023-2022‬‬

‫‪1‬‬
‫الفهرس‪:‬‬
‫المقدمة ‪3................................................................................‬‬

‫المبحث األول‪ :‬ماهية المنهج األسلوبي ‪4.................................................‬‬

‫األسلوب عند القدماء ‪4................................................................‬‬

‫األسلوب عند المحدثين ‪8..............................................................‬‬

‫األسلوب في الفكر الغربي ‪10 ..........................................................‬‬

‫مفهوم األسلوبية ‪11 ...................................................................‬‬

‫اتجاهات األسلوبية ‪12 .................................................................‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬حديث خاص مع أبي موسى األشعري (دراسة أسلوبية)‪16 ............... .‬‬

‫_نبذة عن أمل دنقل‪16 .............................................................. :‬‬

‫_االستهالل والمقدمة الشارحة‪18 ................................................... :‬‬

‫_التشكيل البصري‪19 ............................................................... :‬‬

‫_عالمات الترقيم‪22 ................................................................. :‬‬

‫المراجع ‪38 ..............................................................................‬‬

‫‪2‬‬
‫المقدمة‬

‫تعد األسلوبية أحد المناهج ال نقدية التي أثارت الكثير من الجدل والتساؤالت حول طبيعتها ومنهجها‪،‬‬

‫ومصادر تلقيها‪ ،‬وذلك بتغيير الرؤية التقليدية التي تعتمد على االنطباعية والذوق في عملية الحكم والتقييم‬

‫للنص األدبي إلى رؤية معاصرة تعتمد التعامل مع النص بآليات وإجراءات جديدة مستمدة من ثقافة الغرب‬

‫وعصارة فكره‪.‬‬

‫وفي ظل الكثير من الجدل واإلشكاالت والتساؤالت فكان لزاماً على الدارسين األسلوبيين العرب‬

‫المعاصرين أال يتجاهلوا ما يحدث من تغيرات في مسار األسلوبية من تطورات‪ ،‬وحراك‪ ،‬ولذلك وقفوا موقفاً‬
‫حائ ًار صوب هذه اإلشكالية معترفين في ذلك بصعوبة المهمة سواء في مستوى الجهاز المصطلحي‬
‫لألسلوبية ومنهجها أو في مستوى مصادر تلقيها والمنابع التي نهلت منها من منطلقاتها وأسسها‪.‬‬
‫يعتبر المتلقي ركنا مهما في الدراسة األسلوبية‪ ،‬فالخطاب الشعري موجه لقارئ في األصل‪ ،‬وهو‬
‫رسالة من مبدع‪ ،‬وعلى المتلقي أن يفك رموزها‪ ،‬وكي يستطيع ذلك فإن عليه أن يبحث في أمرين‪:‬‬
‫األول ‪ :‬اختيار المبدع لهذا الشكل من اإلبداع‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬االنحرافات الجزئية والكلية داخل النص‪ ،‬ذلك أن المبدع‪ ،‬يختار بوعي شكل التعبير الذي‬
‫يراه مناسبا من بين خيارات عدة‪ ،‬ثم ولتجويد نصه فإنه يقوم بجملة من االنحرافات عما هو سائد ومعروف‬
‫في عرف اللغة‪ ،‬وهذه سمة اإلبداع األولى‪ ،‬فما هو مألوف وعادي ال يشد المتلقي‪ ،‬وال يحدث فيه أث ار ما‪،‬‬
‫وال يدفعه لمتابعة القراءة والتفاعل مع النص‪ ،‬وهذا ما يبتعد في األدب عن دوره‪ ،‬فالنص الجيد هو الذي‬
‫ينقل توتر المبدع إلى المتلقي‪ ،‬ويحقق التأثير والتأثر‪ ،‬وقد حرص البالغيون العرب على إبراز أهمية‬
‫االستهالل في الشعر والنثر‪ ،‬لدوره الهام في خلق عمليه محاورة النص واالستمتاع به والوقوف على خباياه‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫المبحث األول‪ :‬ماهية المنهج األسلوبي‬

‫األسلوب عند القدماء‬

‫إن مفاهيم األسلوب تختلف وفق اختالف أنظار رواد المناهج األسلوبية والمنطلقات التي‬

‫يصدرون عنها في تقليبهم للنصوص األدبية واستطالعهم لتجلياتها المائزة‪ .‬والمالحظ أن االختالف‬

‫في دراسة األسلوب يرجع إلى تعدد طرق التناول األسلوبي وإن كان المطلب الكلي للمناهج األسلوبية‬

‫يتراسل بطريقة تكاملية تتفرس األسلوب من وجوهه المختلفة‪.‬‬

‫ومن الواجب علينا أن نلتمس جذره اللغوي في القواميس العربية قبل الخوض في تحديد ماهيته‬

‫المختلفة‪ ،‬حيث نجد في لسان العرب ما يلي‪ ":‬ويقال للسطر من النخيل أسلوب‪ .‬وكل طريق ممتد فهو‬

‫أسلوب‪ ،‬واألسلوب الطريق‪ ،‬والوجه‪ ،‬والمذهب‪ ،‬يقال‪ :‬أنتهم في أسلوب سوء‪ ،‬ويجمع أساليب‪ ،‬واألسلوب‪:‬‬

‫الفن‪ ،‬يقال أخذ فالن في أساليب من القول أي أفانين"‪.1‬‬


‫طريق تأخذ فيه‪ ،‬واألسلوب‪ :‬بالضم ّ‬

‫وأما في المعجم الوسيط فقد تم تعريفه على أنه‪ ":‬األسلوب هو الطريق‪ ،‬ويقال‪ :‬سلكت أسلوب‬

‫فالن على مذا طريقته‪ ،‬مذهبه واألسلوب طريقة الكاتب في كتابته‪ ،‬واألسلوب الفن‪ ،‬يقال‪ :‬أخذنا في‬

‫‪2‬‬
‫أساليب من القول أي فنون متنوعة‪ ،‬واألسلوب الصف من النخيل‪ ،‬ونحوه‪ ،‬والجمع أساليب"‪.‬‬

‫وعند النظر إلى التحديد اللغوي لكلمة األسلوب نجد أمرين بحسب ما أورده محمد عبد المطلب‪:3‬‬

‫‪ 1‬ابن منظور‪ ،‬جمال الدين محمد بن مكرم‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬مج‪ ،1‬ط‪1995 ،1‬م‪ ،‬ص‪.473:‬‬
‫‪2‬أنيس‪ ،‬إيراهيم وآخرون‪ ،‬المعجم الوسيط‪ ،‬دار األمواج‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1990 ،2‬م‪ ،‬ص‪.440:‬‬
‫‪ 3‬عبد المطلب‪ ،‬محمد‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬الشركة المصرية العالمية للنشر‪ ،‬لونجمان‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.10:‬‬

‫‪4‬‬
‫األمر األول‪ :‬البعد المادي الذي يمكن أن نلمسه في تحديد مفهوم الكلمة من خالل ارتباطها في‬

‫مدلولها أي بمعنى الطريق الممتد‪ ،‬أو السطر من النخيل‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬البعد الفني اللذي يتمثل في ربطها بأساليب القول وأفانينه‪ ،‬كما نقول سلكت أسلوب‬

‫فالن‪ :‬طريقته وكالمه‪ ،‬على أساليب حسنه‪.‬‬

‫وإن أبرز ما ورد في التراث البالغي والنقدي العربيين من آراء ومقوالت مختلفة المشارب‪ ،‬متنوعة‬

‫المسالك لكلمة أسلوب‪ ،‬حيث كانت قضية إعجاز القرآن م ن أهم القضايا التي تعرضت لتحديد مفهوم‬

‫األسلوب‪ ،‬وتميي اًز بينه وبين أساليب العرب‪ ،‬فقال محمد الباقالني( ت‪403‬ه)‪" :‬إن نظم القرآن على‬

‫تصرف وجوهه‪ ،‬وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كالمهم‪ ،‬ومباين للمألوف من ترتيب‬

‫خطابهم‪ ،‬وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكالم المعتاد‪.‬وذلك أن الطرق التي‬

‫يتقيد بها الكالم البديع المنظوم‪ ،‬تنقسم إلى أعاريض الشعر‪ ،‬على اختالف أنواعه‪ ،‬ثم إلى أنواع الكالم‬

‫الموزون غير المقفى‪ ،‬ثم إلى أصناف الكالم المعدل المسجع‪ ،‬ثم إلى معدل موزون غير مسجع‪ ،‬ثم‬

‫ال‪ ،‬فتطلب في ه اإلصابة واإلفادة‪ ،‬وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع‪ ،‬ترتيب‬
‫إلى ما يرسل إرسا ً‬

‫ال في وزنه‪ ،‬وذلك شبيه بجملة الكالم الذي ال يتعمل فيه وال يتصنع له"‪.4‬‬
‫لطيف‪ ،‬وإن لم يكن معتد ً‬

‫وأما ابن قتيبة( ت‪276‬ه) فقد قال في صدر كتابه‪ّ ":‬إنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره‪،‬‬

‫واتسع علمه‪ ،‬وفهم مذاهب العرب وافتنانها في األساليب‪ ،‬وما خص هللا به لغتها دون جميع اللغات؛‬

‫ُوتيت من العارضة والبيان‪ ،‬و ّاتساع المجال‪ ،‬ما أوتيته العرب ِخ ِ‬


‫صيصا‬
‫ّ‬ ‫فإنه ليس في جميع األمم أُم ٌة أ ْ‬
‫ّ‬

‫‪4‬الباقالني‪ ،‬محمد بن الطيب ‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد صقر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪1972 ،‬م‪ ،‬ص‪.35 :‬‬

‫‪5‬‬
‫من هللا‪ ،‬لما أرهصه في الرسول‪ ،‬وأراده من إقامة الدليل على نبو ِ‬
‫ته بالكتاب‪ ،‬فجعله علمه‪ ،‬كما جعل‬

‫علم ُك ِّل نبي من المرسلين من أشبه األمور بما في زمانه المبعوث فيه"‪.5‬‬
‫ّ‬
‫التهذيب‪ ،‬ومصّفى‬
‫كل ّ‬‫ثم يستطرد ابن قتيبة في الكالم حتى يقول‪ّ ":‬ثم ال يأتي بالكالم كّله‪ ،‬مه ّذبا ّ‬

‫وبالغث على السمين‪ .‬ولو جعله‬


‫ّ‬ ‫بالناقص على الوافر‪،‬‬
‫التصفية‪ ،‬بل تجده يمزج ويشوب‪ ،‬ليدل ّ‬
‫كل ّ‬‫ّ‬

‫كّله"‪.6‬‬

‫وأما عبد القاهر الجرجاني فقد حدد مفهوم األسلوب الذي يربطه بالنظم من حيث هو نظم‬

‫للمعاني وترتيب لها‪ ،‬وهو يطابق بينهما من حيث كانا يمثالن تنوعا لغويا فرديا يصدر عن وعي‬

‫واختيار‪ ،‬ومن حيث إمكانية هذه التنوعات في أن تصنع نسقاً وترتيباً يعتمد على إمكانية النحو"‪.7‬‬

‫وذلك أن األسلوب يعتبر اختيار من المتكلم وذلك بشرط أن يكون صاد ًار عن وعي وإرادة وانتظام‬

‫لذلك االختيار في الكلمات التي تشكل تركيبا ما‪ ،‬ألن عدم انتظامها واختيارها في أي تركيب لغوي ال‬

‫يمكن أن تشكل نسقاً‪ ،‬وإنما الذي يشكل نسقاً هو إرادة المبدع وقصده وطريقة تركيبه للكلمات وذلك‬

‫وفقًا ألسلوب معين‪ " ،‬ولكل معنى أسلوب خاص فيه‪ ،‬واألسلوب والضرب من النظم والطريقة فيه‪ ،‬فلذلك‬

‫يعمد شاعر آخر إلى ذلك األسلوب فيجيء به في شعره‪ ،‬فيشبه بمن يقطع أديمه نعالً على مثال نعل‬

‫قد قطعها صاحبها فيقال قد احتذى على مثاله"‪.8‬‬

‫إن عبد القاهر الجرجاني يؤكد على عملية الوعي في تركيب األسلوب عندما يتحدث عن‬

‫االستعارة‪ ،‬وإن منها نوعًا ال يمكن الوصول إليه أو معرفته إال ذوو الروحانية واألذهان الصافية‪ ،‬والعقول‬

‫‪5‬اب ن قتيبة‪ ،‬أبو محمد عبد هللا بن مسلم ‪ ،‬تأويل مشكل القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد صقر‪ ،‬دار إحياء الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪. 11‬‬
‫‪ 6‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪7‬أبو العدوس‪ ،‬يوسف ‪ ،‬األسلوبية والرؤيا والتطبيق‪ ،‬دار النشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪2007 ،1‬م‪ ،‬ص‪.16:‬‬
‫‪8‬الجرجاني‪ ،‬عبد القاهر ‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬شرح وتعليق‪ :‬محمد عبد المنعم خفاجي‪،-197 ،‬ص‪.418:‬‬

‫‪6‬‬
‫النافذة‪ ،‬والطباع السليمة‪ ،‬وذلك ألن االستعارة لها عدة طرف في اإلتيان بها من حيث التفرد والتميز‪،‬‬

‫وهذا األمر يؤدي إلى زيادة في جماليات األسلوب وتميزه عن غيره‪.‬‬

‫ولم يتحدث الجرجاني فقط عن االستعارة ودورها في مجال األسلوب فقط‪ ،‬بل قام بتجاوز ذلك‬

‫إلى مسالك أخرى من شأنها أن تضفي الجمال على األسلوب‪ ،‬وتؤكد على العالقة بين أنماط التعبير‬

‫وخاصية األسلوب‪ ،‬طالما إن األسلوب يقوم على نظم العالقات بين الكلمات والجمل في شكل انزياحات‬

‫وخروج عن المألوف في التعبير‪ ،‬ولعل من بين هذه المسالك نجد التمثيل والتشبيه والمجاز‪.9‬‬

‫تطرق الجاحظ إلى النظم والفرق بين نظم القرآن‪ ،‬ونظم سائر الكالم‪ ،‬فيقول في ذلك‪ ":‬فرق ما‬

‫بين نظم القرآن وتأليفه‪ ،‬فليس يعرف فروق النظم‪ ،‬واختالف البحث والنثر إال من عرف القصيد من‬

‫الرجز‪ ،‬والمخمس من األسجاع‪ ،‬والمزدوج من المنثور‪ ،‬والخطب من الرسائل‪ ،‬وحتى يعرف العجز‬

‫العارض الذي يجوز ارتفاعه‪ ،‬من العجز الذي هو صفة في الذات‪ .‬فإذا عرف صنوف التأليف عرف‬

‫مباينة نظم القرآن لسائر الكالم ثم ال يكتفي بذلك حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله عن مثله‪ ،‬وأن حكم‬

‫البشر حكم واحد في العجز الطبيعي‪ ،‬وإن تفاوتوا في العجز العارض‪.10‬‬

‫والنظم عند الجاحظ يتجلى في "حسن اختيار اللفظة المفردة اختيا ار موسيقيا يقوم على سالمة‬

‫جرسها‪ ،‬واختيا ار معجميا يقوم على ألفتها‪ ،‬واختيا ار ايحائياً يقوم على الظالل التي يمكن أن يتركها‬

‫استعمال الكلمة في النفس وذلك حسن التناسق بين الكلمات المتجاورة تآلفاً وتناسباً"‪.11‬‬

‫‪ 9‬الجرجاني‪ ،‬عبد القاهر‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار المعرفة للطباعة‪1978 ،‬م‪ ،‬ص‪.58 :‬‬
‫‪10‬أبو عثمان عمرو بن بحر‪ ،‬الجاحظ‪ ،‬كتاب العثمانٌة‪ ،‬تحقيق‪ ،‬عبد السالم هارون‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪، 1991 ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪11‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫إن مفهوم النظم عند الجاحظ يتخلص في أنه ذو صلة وثيقة باألسلوب‪ ،‬فيمكن القول أن عالقة‬

‫النظم باألسلوب هي عالقة الجزء بالكل‪ ،‬فال يمكن أن يتأتى األسلوب متينًا قويًا حسنًا موحيًا إال إذا‬

‫حسن التناسق بين الكلمات‪ ،‬واختيار طريقة معينة من خاللها تدرك المعاني النحوية‪ ،‬والدالالت الخفية‪.‬‬

‫األسلوب عند المحدثين‬

‫إن الكثير من النقاد األسلوبيين العرب المعاص رين عرفوا كلمة أسلوب‪ ،‬فكان أحمد الشايب يعرف‬

‫مجاز أو كناية‪،‬‬
‫تشبيها أو ًا‬
‫ً‬ ‫قصصا أو حو ًارا‪،‬‬ ‫األسلوب تعريفات مختلفة أبرزها‪ ":‬هو فن من الكالم يكون‬
‫ً‬

‫كما وأمثاال‪ .‬فإذا صح هذا االستنباط كان لألسلوب معنى أوسع إذ يتجاوز هذا العنصر‬ ‫ِ‬
‫ير أو ح ً‬
‫تقر ًا‬

‫اللفظي فيشمل الفن األد بي الذي يتخذه األديب وسيلة لإلقناع أو التأثير‪.12‬‬

‫وأما عبد القادر عبد الجليل فقد عرفه على أنه‪ ":‬األسلوب باعتباره منج اًز لغوياً فإنه رؤية الفكر‬

‫ورؤية الملتقي به‪ ،‬لذا حمل خاصية التعدد‪ ،‬وهو ينهض على مرتكزات بيانية ثالثة‪ :‬التفكير‪ ،‬والتصوير‪،‬‬

‫التعبير"‪.13‬‬

‫أما األسلوبيين العرب المعاصرين فقد استعصى عليهم ترجمة المقاالت التي تتعلق بموضوع‬

‫األسلوب‪ ،‬أو تلقيهم لموضوع األسلوب من الموروث البالغي‪ ،‬لذلك تعددت المفاهيم لديهم بتعدد‬

‫المشارب والمسالك‪ ،‬وبتنوع البيئات التي عاش فيها أولئك النقاد‪ ،‬فمحمد كريم الكواز قال عن األسلوب‪":‬‬

‫إن كلمة أسلوب في عصرنا هذا من الكلمات الشائعة التي يتم استعمالها في بيئات مختلفة‪ ،‬ويستعملها‬

‫العلماء ليدلوا بها على منهج من مناهج البحث العلمي‪ ،‬ويستعملها الموسيقيون دليالً على طرق التلحين‬

‫‪ 12‬الشايب‪ ،‬أحمد‪ ،‬األسلوب دراسة بالغية تحليلية ألصول األساليب األدبية‪ ،‬مكتبة النهضة المصرٌة‪ ،‬ط‪، 1966، 6‬ص ‪.41‬‬
‫‪ 13‬عبد الجليل‪ ،‬عبد القادر‪ ،‬األسلوبية وثالثية الدوائر البالغية‪ ،‬دار صفاء للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،2000 ،1‬ص‪.12:‬‬

‫‪8‬‬
‫وتأليف األنغام‪ ،‬وأما الرسامون فهي عندهم دليل على طريقة تأليف األلوان ومراعاة التناسب بينها‪،‬‬

‫ويستعملها األدباء في الفن األدبي"‪.14‬‬

‫مهما أختلفت وجهات نظر النقاد في األسلوب‪ ،‬فإنه يبقى مفهوم األسلوب محو اًر يدور في فلك‬

‫اللغة والنقد األدبي والبالغة‪ ،‬ومهما تعددت مناهجه واتجاهاته‪ ،‬وهو الذي يجمع بين الفكر والصور‪،‬‬

‫وقد ألفوا الك ّتاب كتبًا في هذا المجال مثل الناقد عبد السالم المسدي في كتابه "األسلوبية واألسلوب"‪،‬‬

‫وتالحقت أيضًا البحوث والدراسات حول ماهية األسلوب‪ ،‬في عدد كبير من النقاد األسلوبيين العرب‪،‬‬

‫وهذا ما نراه عند المؤلف عدنان بن ذريل في مؤلفاته‪ :‬اللغة واألسلوب‪ ،‬اللغة والبالغة‪ ،‬والنقد واألسلوبية‬

‫بين النظرية والتطبيق‪ .‬ونجد أن عدنان بن ذريل في مؤلفاته يرى أن األسلوبية ال يمكن أن تكون بديالً‬

‫عن النقد األدبي أو أن تقوم مقام البالغة‪ ،‬ومن ناحية أخرى ال نجده ينكر صلة األسلوبية بهذه العلوم‪.15‬‬

‫وأما شكري محمد عياد فقد أضاف العديد من المقاالت والكتب حول موضوع األسلوب واألسلوبية‬

‫من أبرزها‪ ":‬مدخل إلى علم األسلوب‪ ،‬اتجاهات البحث األسلوبي‪ ،‬اللغة واإلبداع"‪.‬‬

‫وقام صالح فضل بإصدار كتاب علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪ ،‬ففيه الكثير من الموضوعات‬

‫التي تتعلق بموضوع األسلوب‪ ،‬حيث يرى أن األسلوب يمكن أن يكون وريثًا شرعيًا للبالغة التي أدركها‬

‫ٍ‬
‫أصالب مختلفة‪.‬‬ ‫سن اليأس‪ ،‬وهو ينحدر من‬

‫‪14‬الكواز‪ ،‬محمد كريم ‪ ،‬علم األسلوب مفاهيم وتطبيقات‪ ،‬جامعة السبع من أبريل ‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪ ،1‬ص‪.20:‬‬
‫‪15‬ابن رذيل‪ ،‬عدنان ‪ ،‬اللغة واألسلوب‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪1989 ،‬م‪ ،‬ص‪.141:‬‬

‫‪9‬‬
‫األسلوب في الفكر الغربي‬

‫اختلفت وجهات النظر لدى األسلوبيين الغرب حول ماهية األسلوب‪ ،‬فقد أوردت الكتب العربية‬

‫المترجمة مفاهيم عديدة لألسلوب لدى الغربيين‪ ،‬فحسن ناظم يورد مجموعة من الثوابت كانت سببًا في‬

‫تغير ماهية األسلوب‪ ،‬فاألسلوب عند حسن ناظم متعدد الزوايا مختلف الروئ‪ ،‬فتارة هو اختيار‪ ،‬وتارة‬

‫أخرى هو مجموعة من االستجابات‪ ،‬وكل ذلك ال يتم إال بثوابت ثالث يتفاعل بعضها ببعض وهي‪:‬‬

‫المؤلف والنص والمتلقي‪.‬‬

‫ويعرض حسن ناظم مجموعة من المعاجم المترجمة ا لتي من خاللها تم تحديد مفهوم األسلوب‪،‬‬

‫ومن أبرز هذه المعاجم معجم األسلوبية الذي حدد مفهوم األسلوب كما يلي‪ ":‬وفي أبسط معانيه يدل‬

‫األسلوب على طريقة التعبير في الكتابة أو الكالم‪ ،‬مثلما هناك طريقة في عمل أشياء معينة مثل لعب‬

‫السكواتش أو الرسم‪ ،‬وربما نتحدث عن كتا بة شخص بأنها ذات أسلوب منمق‪ ،‬أو عن كالم شخص‬

‫ما بأنه ذو أسلوب هزلي"‪.16‬‬

‫وأما يوسف وغليسي في كتاباته قام بإطالعنا بأن فريديرك نوفاليس يعتبر أحد األوائل الذين‬

‫استخدموا هذا المصطلح‪ ،‬على أن عامة الباحثين الغربيين من النادر ما يعتدون بمثل هذه االستخدامات‬

‫المتقدمة التي ترد في سياق هيمنة العصر البالغي"‪.17‬‬

‫وأما إنفكست فأنه يرى األسلوب على أنه‪ ":‬مجموعة من اإلمكانيات السياقية لمفرداته اللسانية"‪.‬‬

‫‪16‬ناظم‪ ،‬حسن ‪ ،‬البنى األسلوبية‪ ،‬دراسة في أنشودة المطر للسياب‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،2002 ،‬ص‪.15:‬‬
‫‪17‬وغليسي‪ ،‬يوسف ‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬جسور للنشر والتوزيع‪ ،‬المحمدية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪،2007 ،1‬ص‪.75:‬‬

‫‪10‬‬
‫وأما صالح فضل فيرى أن أصل كلمة أسلوب اشتقت من األصل الالتيني ‪ stylus‬ويعني ريشة‪،‬‬

‫ثم قان باالنطالق عن طريق المجاز إلى مفهومات تتعلق كلها بطريقة الكتابة"‪.18‬‬

‫مفهوم األسلوبية‬

‫تهتم األسلوبية بدراسة النص األدبي‪ ،‬وتعتبر منهجاً في دراسة األدب ونقده وهي متأثرة ببعض‬

‫العلوم األخرى التي تدرس النص األدبي؛ حيث ّإنها تدرس خصائص األسلوب والصور الشعرية‬

‫والمجازات واإليقاع وما فيه من جناس وأصوات ولغة الشعر‪ ،‬باإلضافة إلى الغموض وتوظيف األسطورة‬

‫وثيقا بمباحث البالغة العربية القديمة‪ ،‬وتأثرت األسلوبية في‬


‫اتصاال ً‬
‫ً‬ ‫و ِ‬
‫الحكم واألمثال وبذلك تتصل‬

‫المعرفية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫علما له ضوابطه‬
‫التطور النقدي بمراحله المختلفة‪ ،‬وكذلك بقضية سعي النقد لكي يصبح ً‬
‫ّ‬

‫ولذلك فإنها تهتم باألدب وق درة األديب على استخدام اللغة في التعبير عما يريد إيصاله للمتلقي‪.‬‬

‫يعرف نور الدين السد األسلوبية على أنها‪ ":‬الوجه الجمالي لأللسونية إنها تبحث في الخصائص‬

‫التعبيرية والشعرية التي يتوسلها الخطاب األدبي‪ ،‬وترتدي طابعا علميا تقريريا في وصفها للوقائع‪،‬‬

‫وتصنيفها بشكل موضوعي ومنهجي‪.‬‬

‫ال لثنائية أصولية فسواء أنطلقنا من الدال الالتيني‬


‫أما عبد السالم المسدي فيقول‪ ":‬يتراءى حام ً‬

‫وما تولد عنه في مختلف اللغات الفرعية أو انطلقنا من المصطلح الذي استقر له ترجمة في العربية‬

‫وفقاً على دال مركب جذره أسلوب ‪ style‬والحقته يه ‪ ique‬فاألسلوب ذو مدلول إنساني ذاتي وبالتالي‬

‫نسبي‪ ،‬والالحقة تختص فيما تختص به بالبعد العلماني العقلي‪ ،‬وبالتالي موضوعي ويمكن في كلتا‬

‫‪18‬فضل‪ ،‬صالح ‪ ،‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪ ،‬ص‪.93:‬‬

‫‪11‬‬
‫الحالتين تفكيك الدال االصطالحي إلى مدلولية بما يطابق عبارة علم األسلوب‪ ،‬لذلك يتم تعريف‬

‫األسلوبية بداهة" البحث عن األسس الموضوعية إلرسا علم األسلوب"‪.19‬‬

‫ويرى رومان جاكبسون أن األسلوبية‪ ":‬بحث عما يتميز به الكالم الفني عن بقية مستويات‬

‫الخطاب أوال وعن سائر أصناف الفنون اإلنسانية ثانياً"‪.20‬‬

‫ويمكن اعتبار األسلوبية منهجًا لسانيًا نقديًا جديدًا ومنحنى حديثًا في قراءة النص بما يحمله من‬

‫ظواهر صوتية‪ ،‬صرفية تركيبية داللية‪ ،‬وهي تسعى جاهدة لخلق استقالليتها وإثبات وجودها‪.‬‬

‫اتجاهات األسلوبية‬

‫يمكن الحديث عن اتجاهات األسلوبية التي يمكن حصرها في ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬األسلوبية المثالية‪ :‬ترى األسلوبية المثالية أن األسلوب نتاج فكر فردي‪ ،‬يعكس‬

‫شخصية الكاتب أو المؤلف‪ ،‬ويستجلي إرادته ومزاجه وثقافته وعولمته النفسية واالجتماعية‪ ،‬وهذا‬

‫يشبه ما قالت به الوضعية العقلية أو المثالية الفلسفية‪ ،‬ومثل هذا التصور كل من فاندات‪ ،‬وهيجو‬

‫شوشاردت‪ ،‬وكارل فوسلر‪ ،‬وبنديتو كروتشة‪ ،‬وفي هذا التصور يتم التركيز على أن العقل والذهن‬

‫هو المصدر الحقيقي لإلبداع األدبي‪ ،‬ومن هنا نجد إن األسلوب هو االنسجام واالتساق المتحققين‬

‫في النص اإلبداعي‪ ،‬ومن ثم يتم تعبير عن شخصية المبدع وفردانيته‪ ،‬ومن ثم األسلوب هو‬

‫صورة الروح‪.21‬‬

‫‪19‬المسدي‪ ،‬عبد السالم ‪ ،‬في آليات النقد األدبي‪ ،‬دار الجنوب‪ ،‬تونس‪1994،‬م‪ ،‬ص‪.48:‬‬
‫‪20‬المسدي‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬ا ألسلوب واألسلوبية‪ ،‬نحو بديل ألسني في نقد األدب‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪1977 ،‬م‪ ،‬ص‪.33:‬‬
‫‪21‬حمداوي‪ ،‬جميل ‪ ،‬اتجاهات األسلوبية‪ ،‬دار األلوكة‪ ،‬ط‪ ،1‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.12:‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ -2‬األسلوبية البنيوية‪ :‬وتعرف أيضاً باألسلوبية الوظيفية‪ ،‬وهي أكثر االتجاهات األسلوبية‬

‫شيوعًا حاليًا‪ ،‬حيث أولى الدارسون العرب من خالل ترجماتهم وأفكارهم أهمية لهذا االتجاه‪ ،‬فاعتبر‬

‫امتدادا متطو ار ألسلوبية بالي في الوصفية‪ ،‬وامتدادًا آلراء سوسير التي قامت على التفرقية بين‬

‫اللغة والكالم‪.22‬‬

‫‪ -3‬األسلوبية اللسانية‪ :‬يعد فرديناند دوسوسير المؤسس الحقيقي لألسلوبية اللسانية‪ .‬كما‬

‫يتجلى ذلك واضحا في كتابه‪ (:‬محاضرات في اللسانيات العامة)‪ ،‬حيث بلور مجموعة من‬

‫المستويات اللسانية لها عالقة باألسلوب‪ ،‬كالمستوى الصرفي‪ ،‬والمستوى الصوتي‪ ،‬والمستوى‬

‫الداللي‪ ،‬والمستوى التكريبي‪ . ،‬وقد تبنى دوسوسير دراسة اللغة بدل الكالم؛ ألن الكالم فعل حر‬

‫فردي منعزل‪ ،‬من الصعب دراسته‪ ،‬وتجريده‪ ،‬وتصنيفه‪ .‬على عكس اللغة‪ ،‬فهي ظاهرة اجتماعية‬

‫وثقافية تتسم بالثبات‪ ،‬ويمكن رصدها بشكل الئق صوتيا وصرفيا ودالليا وتركيبيا‪ .‬وقد ناقش‬

‫دوسوسير قضية الدال والمدلول في عالقتهما بالمرجع‪ ،‬ودافع أيضا عن دراسة اللغة سانكرونيا‬

‫بدل دراستها دياكرونيا وتارخييا‪ .‬واهتم أيضا بالعالقات االستبدالية والتركيبية في دراسة اللغة‪ ،‬و‬

‫ميز بني األسلوب التقريري الحرفي واألسلوب المجازي الموحي‪.23‬‬

‫‪ -4‬األسلوبية التعبيرية‪ :‬تعتبر األسلوبية التعبيرية من أكثر االتجاهات شيوعا وانتشا ار في‬

‫الدرس األسلوبي‪ ،‬لذلك قام العلماء باالهتمام بها وخصوصا بالدراسة والتحليل‪ ،‬وهذا االتجاه يمثل‬

‫شارل بالي فاألسلوب عنده يتجلى في مجموعة من الوحدات اللسانية التي تمارس تأثي اًر معينًا في‬

‫مستمع ها أو قارئها‪ ،‬ومن هنا يتمحور هدف األسلوبية حول اكتشاف القيم اللسانية المؤثرة ذات‬

‫‪22‬‬
‫‪-Ferdinand de Saussure : Cours de linguistique générale,Payot,Paris,France1967.‬‬
‫‪23‬حمداوي‪ ،‬جميل ‪ ،‬اتجاهات األسلوبية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14 :‬‬

‫‪13‬‬
‫الطباع العاطفي‪ ،‬ويركز بالي على أهمية تأثير القيم أو الوحدات اللسانية في وجدان المتلقي‪،‬‬

‫ولذلك فإن األسلوبية التعبيرية تهتم في دراسة الصلة بين األثر األدبي وما ينتجه من تأثيرات‬

‫وجدانية في المتلقي‪.‬‬

‫وتهدف أسلوبية التعبير إلى دراسة القيم التعبيرية اللغوية التي تكمن في الكالم‪ ،‬أو المثا ةر‬

‫فيه وهي‪ ":‬تقف على نحو خاص أمام الكالم المنطوق‪ ،‬لتالحظ العالقة بين المحتوى الوجداني‬

‫والتركيب الذي جاء عليه الكالم‪ ،‬فإذا كان موقف اإلشفاق ينتج عبارة مثل‪ ":‬يا للمسكين فإن هناك‬

‫عالقة أسلوبية يمكن أن تقوم من خالل التحليل بين الشفقة والتعجب واإليجاز‪ ،‬ويمكن اكتشاف‬

‫المحتوى الوجداني للتصغير في عبارة يا بني من خالل إثارته للرقة أو الضعف‪ .24"..‬ولهذا‬

‫األسلوبية عند بالي علم يقوم بالتركيز على المحتوى العاطفي أو المضمون الوجداني حيث يعتبر‬

‫األسلوبية‪ ":‬علم يدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية محتواها العاطفي أي التعبير عن واقع‬

‫الحساسية الشعورية من خالل اللغة وواقع اللغة عبر هذه الحساسية"‪.25‬‬

‫‪ -5‬األسلوبية التكوينية‪ :‬تعرف األسلوبية التكوينية أيضًا باألسلوبية األدبية أو األسلوبية‬

‫الذاتية وشاعت تسميتها باألسلوبية النفسية‪ ،‬وقد اهتم العرب اهتماما كبي ار في هذا االتجاه‪ ،‬الذي‬

‫يضم طائفة من األسلوبيين الغربيين وعلى رأسهم " ليو سبترز" الذي ذاع صيته باعتباره أحد النقاد‬

‫ا لذي يعزى هذا االتجاه لهم‪ ،‬وأصبح الممثل الصريح له‪ ،‬وهذا األمر جعل األسلوبيين العرب أن‬

‫يتأثروا به‪ ،‬فقاموا بالمحاولة في تحري الموضوعية تجاه أسلوبيته تنظي ار وتطبيقا‪ ،‬والتي قامت‬

‫بالتركيز على المبدع دون مصدر اإلبداع وغايته إليه‪ ،‬ثم على معاشرة النص والولوج إلى أعماقه‬

‫‪24‬الكواز‪ ،‬محمد كريم ‪ ،‬علم األسلوب مفاهيم وتطبيقات‪ ،‬منشورات جامعة السابع من أبريل‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪، 1‬ص ‪.98‬‬
‫‪25‬فضل‪ ،‬صالح ‪ ،‬علم األ سلوب‪ ،‬مبادئه وإجراءاته‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪، 1985، 1‬ص ‪17‬‬

‫‪14‬‬
‫تمهيداً للتحليل والتشريح‪ ،‬وقد قام سبترز أن يقيم صلة بين نفسية الكاتب وأسلوبه وقد استطاع‬

‫من خالل ذلك أن يقوم بتحديد منهجية في البحث األسلوبي‪ ،‬تعرف بطريقة الدائرة الفيلولوجية(‬

‫فقه اللغة) التي تترتب على التعاطف الحدسي مع النص‪ ،‬وهي تتكون من مرحلتين وهما‪:‬‬

‫المرحلة األولى‪ :‬هي المرحلة التي تعتمد على القارئ‪ ،‬فمن المفروض أن تتوافر فيه‬ ‫‪-‬‬

‫الموهبة والخبرة‪ ،‬والتجربة‪ ،‬واالخالص‪ ،‬واإليمان‪ ،‬فيقوم بقراءة النص قراءة متأتية ناتجة عن تكرار‪،‬‬

‫حتى أن يدرك ما يلفت نظره في لغة النص أو أن يقوم بالعثور على سمة أسلوبية مكررة بصفة‬

‫الف تة ومستمرة‪ ،‬وكل ذلك يتم التوصل إليه عبر الحدس‪.‬‬

‫المرحلة الثانية‪ :‬هي مرحلة إجرائية تفسيرية بعيدة عن الذاتية‪ ،‬والتذوق الشخصي‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫بالبحث عن قراءات جديدة تفسر السمة األسلوبية حيث أن بمقدورها أن تكون بمثابة دعم لما‬

‫توصل إليه الحدس‪ ،‬وبالتالي تلك القراءات الجديدة يمك ن أن تمثل الجزئيات التي تكمل وتدعم‬

‫الكل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬حديث خاص مع أبي موسى األشعري (دراسة أسلوبية)‪.‬‬
‫يشكل العنوان الصدمة األولى للمتلقي‪ ،‬فإنه يوحي للملتقي بأنه حوار سيكون بين الشاعر‪،‬‬

‫وأبي موسى األشعري‪ّ ،‬إال أن القارئ يفاجأ بالشاعر قد لبس قناع أبي موسى وتحدث باسمه‪ ،‬فالعنوان‬

‫يتحدث عن حديث "مع أبي موسى وليس ألبي موسى‪ ،‬ويتوقع أن يجد الشاعر وأبا موسى يتبادالن‬

‫الحديث‪ ،‬وبخاصة أن اسم أبي موسى ارتبط بقضية التحكيم بين علي ومعاوية بعد معركة صفين التي‬

‫تمخضت عن خالف‪ ،‬بعد أن تمت خديعة أبي موسى من قبل الحكم الثاني عمرو بن العاص‪ ،‬وترتب‬

‫على ذلك أن انتقلت الخالفة من البيعة إلى الملك المورث‪،‬بعد سفك دماء‪ ،‬وتفرق كلمة المسلمين من‬

‫خالل ظهور أكثر من حزب سياسي‪ ،‬واستمرار الخالف حول الحكم ‪.‬‬

‫شكل العنوان إغواء وإغراء للملتقي‪،‬فالسياق الذي كتبت فيه القصيدة‪ ،‬يهيء لذلك‪ ،‬فقد كتبت‬
‫ّ‬

‫قبيل حرب حزيران بشهرين وبعض الشهر‪ ،‬فالمتلقي في شوق لمعرفة ما سيقوله أبو موسى حول ما‬

‫حدث في التحكيم إال أنه يفاجأ بالشاعر يدخله في رمزية‪ ،‬وعليه أن يبحث في ثناياها عما يريد إيصاله‬

‫إليه ‪.‬‬

‫_نبذة عن أمل دنقل‪:‬‬


‫هو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل‪ ،‬ولد سنة ‪1940‬م‪ ،‬شاعر معاصر ومفكر ومثقف‬

‫وقومي عروبي من جمهورية مصر العربية‪ُ ،‬ولد أمل دنقل في الصعيد المصري من أسرة صعيدية في‬

‫قرية القلعة مركز قفط في محافظة قنا في الصعيد‪ ،‬وكان والده من علماءاألزهر الشريف‪ ،‬وقد أثر ْت‬

‫هذه المكانة التي كان لوالده في شخصيته بشكل واضح‪ ،‬كما ظهر هذا التأثير في قصائده‪ ،‬وسمي أمل‬

‫دنقل بهذا االسم ألنه جاء في السنة التي حصل فيها والده على إجازة عالمية‪ ،‬فسماه باسم أمل لنجاحه‬

‫‪16‬‬
‫في ذلك العام‪ ،‬وقد ورث أمل دنقل عن والده كتابة الشعر‪ ،‬كما ورث عنه مكتبة ضخمة فيها الكثير‬

‫من كتب الفقه والشريعة والتفسير‪ ،‬وفي سن العاشرة فقد أمل والده فكان لهذا الفقد المبكر أثر كبير على‬

‫طويال‪ ،‬فقد توفي وهو في الثالثة واألربعين من ُع ُمره‪.‬‬


‫ً‬ ‫حياته‪ ،‬ولم يعش أمل دنقل‬

‫وبخالف ما كان سائداً في الشعر في أواسط القرن العشرين من تأثر بالميثولوجيا الغربية بشكل عام‬

‫واليونانية بشكل خاص‪ ،‬عاش أمل دنقل أحالم العروبة والثورة المصرية وقام بالكتابة من أجل هذه‬

‫األهداف‪ ،‬وفي عام ‪ 1967‬م تعرض أمل دنقل مثل العرب والمصريين إلى صدمة كبيرة بعد حرب‬

‫النكسة ضد الصهيونية‪ ،‬فكتب مجموعته الرائعة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"‪ ،‬وأصدر مجموعته‬

‫الشعرية الموسومة "تعليق على ما حدث"‪ ،‬وبعد أن شاهد أمل دنقل النصر في حرب النكسة ثم الهزيمة‬

‫القاسية‪ ،‬وقف في وجه معاهدة السالم وكتب وقتها قصيدته الشهيرة "ال تصالح"‪ ،‬هذه القصيدة التي‬

‫كل ما يكون يدور في باله وبال جميع المصريين‪ ،‬وقد ظهر تأثير هذه المعاهدات على‬
‫عبر فيها عن ُّ‬

‫شعر أمل دنقل‪ ،‬وخاصة في مجموعته الشعرية "العهد اآلتي" الصادرة عام ‪1977‬م‪.26‬‬

‫حمل دنقل مع الجماهير التي كتب لها شعره‪ ،‬آالم األمة العربية وضياع نصرها عبر معاهدات‬

‫السالم المجحفة‪ ،‬متجرعا م اررة طعم النكسة عام ‪ ،1967‬لينعكس كل ألم عاشته البالد واألمة في‬

‫شعره‪ ،‬بل في حياته وجسده ونفسيته المرهفة‪ ،‬حيث تم معاملته من قبل السلطات المصرية معاملة ال‬

‫تليق بشاعر عربي كبير‪ ،‬في حين أغدقت بسخاء على آخرين‪.27‬‬

‫‪26‬الحزاني‪ ،‬عماد‪ ،‬نبذة عن أمل دنقل‪ ،‬متوفر على موقع اإلنترنت ‪ /https://sotor.com‬متوفر بتاريخ ‪ 2020/6/26‬تمت مشاهدته‬
‫بتاريخ ‪.2022/11/11‬‬

‫‪ 27‬أمل دنقل شاعر البسطاء والمهزومين‪ ..‬بريق "ال" الشعرية في أزمنة االنحطاط العربي‪ ،‬متوفر على موقع اإلنترنت‬
‫‪ /https://www.aljazeera.net‬بتاريخ ‪ ،2020/7/17‬تمت مشاهدته بتاريخ ‪.2022/11/12‬‬

‫‪17‬‬
‫إن جمالية الكلمات الشعرية في قصائد دنقل كانت ترتفع من مجرد المشاهدة الفورية الممتعة‬

‫إلى التأمل المعرفي المنتج‪ ،‬فقد تمكن دنقل من أن يحدث شرخا في القصيدة العربية‪ ،‬استطاع من‬

‫خالله كثير من الشعراء الالحقين أن ينفذوا منه إلى أفق جديد ومتميز‪ ،‬فقلما نجد اآلن شاع ار من‬

‫شعراء التفعيلة لم يتأثر ‪-‬ولو بقدر‪ -‬بقصيد ة أمل دنقل الرافضة المحتجة المتألمة‪ ..‬فأمل هو صاحب‬

‫كلمة "ال" الشعرية بامتياز‪.‬‬

‫_االستهالل والمقدمة الشارحة‪:‬‬

‫بدأ القصيدة بمقدمة شارحة وكأنها تضيء طريق القصيدة‪ ،‬وتخبر القارئ بأنها قصيدة حدسية‬

‫تحمل نبوءة مستقبلية‪:‬‬

‫(حاذيت خطو هللا ال أمامه‪ ،‬ال خلفه)‪ ،‬والمقدمة الشارحة‪ ،‬أو المسيرة‪ ،‬انحراف يحرص عليه‬
‫ُ‬

‫الشاعر أمل دنقل كثيرا‪ ،‬وليس من عادة الشعراء قديما وحديثًا فعل ذلك‪ ،‬وإن وجد فهو انحراف قد‬

‫يغري المتلقي‪ ،‬ويسعفه أحيانا ‪.‬‬

‫واالستهالل مهم‪ ،‬وذو أثر بالغ‪ ،‬ويؤكد ذلك علم النفس"إن االنطباع األولي للنفس يكون أقوى‬

‫وأكثر فاعلية من غيره‪ ،‬وألنه من ثم سينسحب آثاره على ما يليه‪ ،‬فإن كان حسنا انجذبت النفس إلى‬

‫النص الذي ينقل التجربة‪ ،‬وتفاعلت معه‪ ،‬ولهذا يكون عامال مهما في إثارة التخيالت المناسبة فيها‪،‬‬

‫وأقدر على إحداث اإلستجابة المناسبه" ‪.28‬‬

‫‪ 28‬ناجي‪ ،‬مجيد عبد المجيد‪ ،‬األسس النفسية لألساليب البالغية العربية‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.91:‬‬

‫‪18‬‬
‫وتشف هذه المقدمة الشارحة بأن الشاعر يؤمن بقدرة الشاعر والشعر معا على استشراف‬
‫ُّ‬

‫المستقبل‪ ،‬بل يؤكد ذلك‪ ،‬والعبارة تنسب ألبي موسى بعد أن لومه حزب المحكمة‪ ،‬ومن شأنها‪ ،‬أن‬

‫تخلق أسئلة لدى المتلقي‪،‬فتكون الصدمة الثانية التي تدفعه لمواصلة القراءة‪ ،‬فالعبارة لمن ال يفهم‬

‫مضمونها قد يعتقد أن خروجا كبي ار عن الد ين فيها‪ ،‬ووضعها مقدمة شارحة‪ ،‬يعتبر مجازفة من الشاعر‪،‬‬

‫وقد فسرت الحقا بأنها خروج عن الدين‪ ،‬وعلى المتلقي أن يدرك أنه تعبير مجازي‪ ،‬والقصد منه نفي‬

‫الهوى عما هو قادم من كالم‪ ،‬وأنه حقائق‪ ،‬وأن النبوءة القادمة ستكون صادقة كذلك ‪.‬‬

‫التشكيل البصري‪:‬‬

‫التشكيل البصري "هو كل ما يمنحه النص للرؤية‪ ،‬سواء أكانت الرؤية على مستوى العين المجردة‬

‫أم على مستوى العين البصيرة"‪ .29‬تهتم قصيدة الشعر الحر بالتشكيل البصري‪ ،‬كبديل لإليقاعات‬

‫الصوتيه‪ ،‬بعد أن تخلت قصيدة الشعر الحر عن إيقاع القصيدة العمودية‪ ،‬وال تقف عند شكل واحد من‬

‫هذا التشكيل‪ ،‬بل تنوعت أشكاله وطرقه تبعا للحالة الشعورية لدى المبدع‪ ،‬ووعية بأهميته‪ ،‬وأصبحت‬

‫مساحة البياض‪ ،‬و الفواصل السطرية‪ ،‬وعالمات الترقيم تحمل مردودا إيحائيا على المتلقي أن يدركه‬

‫ويتفاعل معه كواحد من أهم انحرافات القصيدة الحديثة عن األنماط السائدة‪ ،‬إضافة إلى تداخل األجناس‬

‫األدبية والفنية‪ ،‬ومعرفة الشعراء بأهمية كل ما يتعلق بفضاء القصيدة‪،‬ويسهم في نقل حالته الشعورية‪،‬‬

‫تشد انتباه المتلقي من خالل الصورة البصرية‪ ،‬فهي تعمل على كسر المألوف‬
‫والتي من شأنها أن ّ‬

‫المرأي‪ ،‬ففي تساوى عدد األسطر طوال وترتيبا مثال‪ ،‬يعمل على إدخال الملل إلى المتلقي‪ ،‬بينما في‬

‫تنويعاتها مثيرات تدعو للتساؤل والمتابعة ‪.‬‬

‫‪29‬ا لصفراني‪ ،‬محمد‪ ،‬التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث‪،‬النادي األدبي الثقافي بالرياض‪ ،‬والمركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪2008‬م‪ ،‬ص‪.18:‬‬

‫‪19‬‬
‫_التشكيل البصري السطري‪:‬‬

‫تتفاوت األسطر الشعرية في قصيدة أمل دنقل "حديث خاص مع أبي موسى األشعري‪ ،‬من حيث‬

‫عدد الكلمات‪ ،‬وتوزيعها في األسطر الشعرية‪ ،‬وهذة المساحة التي يحتلها السطر‪ ،‬ونرى ذلك في معظم‬

‫مقاطع القصيدة‪:‬‬

‫‪..‬إطار سيارته ملوث بالدم!‬

‫سار‪ ..‬ولم يهتم!!‬

‫كنت أنا المشاهد الوحيد‬

‫اليومية‬
‫ّ‬ ‫لكني‪ ..‬فرشت فوق الجسد الملقى جريدتي‬

‫وحين أقبل الرجال من بعيد‬

‫مزقت هذا الرقم المكتوب في ورقة مطوية‬

‫وسرت عنهم‪ ..‬ما فتحت الفم!!‬

‫ويعبر هذا التفاوت في طول األسطر وترتيبها‪ ،‬عن الحالة الشعورية للشاعر‪،‬فأقصر سطرفي‬

‫المقطع الشعري الذي يعبر عن موقف واحد‪ ،‬هو تعبير عن حالة الالمباة‪ ،‬والسطر األخير يعبر عن‬

‫حالة االنسحاب ‪.‬‬

‫سار‪ ..‬ولم يهتم‬

‫وسرت عنهم‪ ..‬ما فتحت الفم‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫وهما اقصر سطرين في المقطع الشعري‪ ،‬والفارق بينهما أن األول يعبر عن الالمباالة‪ ،‬فقط‪،‬‬

‫والثاني يعبر عن اعتزال الفتنة واإلنسحاب من أجواء الفتنة التي أعقبت التحكيم‪،‬وموقف الالمباالة األول‬

‫من قبل معاوية على األغلب‪ ،‬وتسببه بالحرب التي تركت سيال من الدماء وانسحباب أبي موسى‬

‫وصمته هما ما يحاربهما الشاعر‪ ،‬ويكره الخوض فيهما‪ ،‬فانتهت الدفقة الشعورية في سطرين قصيرين‪،‬‬

‫وفي مقطع آخر تتفاوت األسطر طوال وعدد كلمات‪ ،‬وهي سمة القصيدة كلها‪:‬‬

‫وستهبطين على الجموع‬

‫وترفرفين‪ ..‬فال تراك عيونهم‪ ..‬خلف الشراع‬

‫تتوقفين على السيوف الواقفة‬

‫تتسمعين الهمهمات الواجفة‬

‫وسترحلين بال رجوع!‬

‫‪...............................................‬‬

‫ويكون جوع‬

‫ويكون جوع!‬

‫بعد سطر مملوء بعالمة الحذف‪ ،‬ربما يعبر عن الزمن الفاصل بين الحرب والجوع‪ ،‬يأتي بسطرين‬

‫هما اقصر سطرين في القصيدة كلها‪ ،‬وهما سطر مكرر طوال وعدد كلمات مع فارق بعالمة تعجب‬

‫في السطر األخير الذي يختم به القصيدة‪ ،‬فقد استنفذ الشاعر كل ما لدية من تعبير وطاقتة شعورية‪،‬‬

‫فختم بالجوع رم از للكارثة التي ستحل بعد الحرب‪ ،‬ولن تعود بعدها حمامة السالم‪ ،‬ألن المعاناة‬

‫ستستمر‪ ،‬وقد صدقت نبوءة الشاعر‪ ،‬فوقعت الحرب بعد شهرين‪ ،‬وتليها حرب بعد سنوات‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫_عالمات الترقيم‪:‬‬

‫لم تنظر القصيدة العربية الحديثة لعالمات الترقيم على أنها مزيد من القيود كما كان في القصيدة‬

‫العمودية‪ ،‬بل باتت واحدة من أدوات الشاعر في البنية الشعورية لدية‪ ،‬من خالل وقعها البصري على‬

‫المتلقي ونقلها الكثير من اإليحاءات والدالالت‪ ،‬وإسهامها في تكثيف الحالة االنفعالية‪ ،‬وشد المتلقي‪،‬‬

‫ودفعه للتوقف عندها وقراءة مضمونها وإيحائها‪،‬فالشعر العربي الحديث "استدرج عالمات الترقيم لخدمة‬

‫منحاة اإلبداعي التجاوزي‪ ،‬وعاملها معاملة الدوال اللغوية‪ ،‬وذلك بشحنها بدالالت ووظائف جديدة تحيد‬

‫عن المألوف في دالالتها ووظائفها"‪.30‬‬

‫وتحتل عالمات ال ترقيم مساحة من هذه القصيدة وأهمها وأكثرها دورانا‪ ،‬عالمة التعجب‪ ،‬وعالمة‬

‫الحذف‪ ،‬وتهيمن عالمة التعجب على بقية العالمات‪ ،‬ال بل على القصيدة ذاتها‪ ،‬فيكررها ٍ‬
‫ثمان وعشرين‬

‫مرة‪ ،‬ويكرر أحيانا عالمة التعجب في المساحة الواحدة‪ ،‬لتكثيف اإليحاء بالحالة التي يود التعبير عنها‬

‫من خالل الرؤية البصرية‪ ،‬فعالمة التعجب ليست مرهونة بالتعجب القياسي في هذه القصيدة‪ ،‬هذا‬

‫الذي يرضخ للقواعد النحوية المعروفة‪ ،‬ال بل يأخذ أشكاال أخرى ويعبر عن حاالت تنقل المتلقي ما لم‬

‫يقله الشاعر من خالل كلمات اللغة‪ ،‬فأحيانا يجد المتلقي نفسه حائ ار أمام توظيف هذه العالمة مثل‪:‬‬

‫إطار سيارته ملوث بالدم!‬

‫سار‪ ..‬ولم يهتم!!‬

‫‪30‬الصفراني‪ ،‬التشكيل البصري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.70 :‬‬

‫‪22‬‬
‫إن السؤال الذي يطرحه المتلقي‪ ،‬هو ‪:‬لماذا جاءت عالمة التعجب مرة واحدة في السطر‬

‫األول‪ ،‬وجاءت مكررة في السطر الثاني؟‬

‫فإذا كان قد تعجب من المشهد في السطر األول الذي يرمز إلى دور معاوية في الحرب فإنه‬

‫في السطر الثاني يعبر عن غضبه وتعجبه من هذا االستهتار بحياة الناس من أجل منفعة ذاتية‪ ،‬وهذه‬

‫الالمباالة لما حدث ‪.‬‬

‫هكذا يفسر المتلقي حضور عالمة التعجب مكررة‪ ،‬وقد يفسرها بطريقة أخرى ولكنها تنقل بعضا‬

‫من انفعال الشاعر‪ ،‬ويبدو أثرها واضحا في محاولة تفسيرها من قبل المتلقي‪ ،‬وبخاصة أنها جاءت‬

‫خرقا لقواعد توظيفه المألوف‪ .‬وتظهر بهذا الشكل مرة أخرى في المقطع الشعري ذاته‪ ،‬ومن خالل هذا‬

‫التكرار لعالمة التعجب يمكن الربط بينهما‪:‬‬

‫مزقت هذا الرقم المكتوب في ورقة مطوية‬

‫وسرت عنهم‪ ..‬ما فتحت الفم!!‬

‫فهناك تشابه في المقوفين مضمونا‪ ،‬وصورة بصرية من حيث قصر السطرين‪ ،‬والقافية التي جاء‬

‫بها عمدا ليقارب بين الموقفين واإلدانتين لفعل معاوية‪ ،‬وفعل أبي موسى األشعري من خالل انسحابه‬

‫رغم أنه بطيبته كان سببا فيما جرى‪ ،‬ثم كثف المشهد من بالصورة البصرية المتشابهة‪ ،‬في عالمات‬

‫التعجب‪ ،‬وعالمات الحذف‪ ،‬والفعل كذلك‪:‬‬

‫سار‪ ..‬ولم يهتم!!‬

‫وسرت عنهم‪ ..‬ما فتحت الفم!!‬

‫‪23‬‬
‫سار وسرت‪ ،‬ثم عالمة الحذف (‪ )..‬ثم عالمتا التعجب(!!)‪ ،‬ثم الترتيب الذي أعطى إيحاء أكثر‬

‫بتشابه الموقوفين وتشابة درجة االنفعال عند الشاعر في الحالتين ‪.‬‬

‫ويتكرر مثل هذا الشكل من التوظيف لعالمة التعجب المكررة‪:‬‬

‫تتساقط األقراط من آذان عذ اروات مصر!‬

‫ويموت ثدي األم‪ ..‬تنهض في الكرى‬

‫تطهو _على نيرانها_الطفل الرضيع!!‬

‫هذه األسطر من بين مقطع يعبر فيه الشاعر عما ستكون عليه مصر بعد الحرب من فقر‬

‫وجوع‪ ،‬ضمن نبوءته التي بثها في القصيدة‪ ،‬ففي السطر األول تعبير عن الخوف من أن تجبر ظروف‬

‫العيش نساء مصر إلى بيع حليهن وأدوات زينتهن‪ ،‬و خص العذ اروات‪ ،‬ألنهن أشد تعلقا بأدوات التزيين‬

‫والتجميل‪ ،‬وذلك لتكثيف المشهد اإليحائي‪ ،‬ثم جاء بعالمة التعجب ليزيد من هذا التكثيف جامعا بين‬

‫الصورة التعبيرية والصورة البصرية الموحية‪ ،‬وحين تطور المشهد إلى أكل لحم األطفال بلغت الحالة‬

‫اإلنفعالية عند الشاعر ذروتها‪ ،‬فجاء بعالمة التعجب مكررة‪ ،‬فنقلت انفعاله مضخما ومكثفا‪ ،‬وكذلك‬

‫استقبلها المتلقي ‪،‬إنه انفعال مشوب بالرعب والقلق‪ ،‬والغضب‪ ،‬وقد يكون هذا الشكل التعبيري البصري‬

‫مؤث ار في القارئ أكثر من التعبير اللغوي ‪.‬‬

‫ويمكن قراء ة الحالة الشعورية التي يمر بها الشاعر عند ذكر األطفال في القصيدة‪ ،‬وانفعاالته‬

‫وتدفقها وغليانها من خالل هذه العالمة فها هو في مقطع آخر يأتي بعالمة التعجب مكررة عند ذكر‬

‫أطفال مصر‪ ،‬تعبي ار عن حجم الخوف على مستقبل الطفولة البريئة‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫تقول لي تحنيطة التمساح فوق باب المنزل المقابل‪:‬‬

‫إن عظام طفلة‪ ..‬كانت فراش نومه في القاع!!‬

‫فقد كرر عالمة التعجب عند ذكر الطفل الرضيع‪ ،‬وها هو يكررها عند ذكر طفلة ‪..‬‬

‫وليست هذه إال أمثلة على داللة توظيف واحدة من عالمات الترقيم في التشكيل البصري عند الشاعر‬

‫في هذه القصيدة‪ ،‬وهي العالمة المهيمن ة‪،‬ولكن عالمات الحذف ال تقل شأنا في هذه القصيدة في بث حاالت‬

‫الشاعر اإلنفعالية المختلفة‪ ،‬وما كان يريد أن يوصله المتلقي‪ ،‬فهو يبدأ القصيدة بعالمة الحذف‪:‬‬

‫‪..‬إطار سيارته ملوث بالدم!‬

‫تترك عالمة الحذف الفضاء مفتوحا أمام المتلقي ليخمن داللتها‪ ،‬وضرورة وجودها‪ ..‬إن مجرد‬

‫خلق هذا الفضاء البصري التأملي يعتبر انحرافا مهما وخالقا‪ ،‬فليس شرطا أن يلتقي الجميع حول تأويل‬

‫واحد لهذا الفراغ المنقوط‪ ،‬وليس شرطا أن يجد المتلقي له تأويال‪ ،‬فيكفي أنه ترك في ذاته انطباعا بأن‬

‫الشاعر لديه ما يقوله ولكنه لم يقله‪ ،‬ألنه أحجم عن ذلك‪ ،‬أو ألنه كان أكبر من أن يعبر عنه بالمفردات‪،‬‬

‫أو ألنه كان يمر بحالة انفعال لم يجد لها ترجمة بواسطة التعبير الصريح‪ ،‬أو ‪...‬‬

‫إن هذا الفضاء المفتوح من خالل التشكيل البصري البسيط يجمع بين المبدع والمتلقي‪،‬في الحالة‬

‫اإلنفعالية ‪.‬‬

‫وهذا هو يكثف من توظيف عالمات الحذف في سطرين ليتركها تتحدث عنه‪:‬‬

‫"لكنني منحته القرش ‪ :‬فزين الوجها ‪...‬‬

‫ببسمة‪ ...‬كلبية‪ ...‬بلها‪..‬‬

‫‪25‬‬
‫ما يقوله التشكيل البصري بعالمات الحذف في هذا المشهد أبلغ بكثير مما قاله التعبير باللغة‪،‬‬

‫فقد بلغ من كره الشاعر لهذا النادل أن ضاق التعبير عن وصفه‪ ،‬فترك عالمات الحذف لتقول عنه ما‬

‫تشاء‪ ،‬وترك للملتقي أن يرسم في مخيلته ما يشاء من صور لهذا النموذج من البشر‪.‬‬

‫إن الفضاء الواسع الذي تفتحه عالمات الحذف أمام المتلقي هو من مظاهر انحرافات القصيدة‬

‫الحديثة التي لم تفرض قالبها الشكلي ومقوالتها على المتلقي‪ ،‬بل تركت له أن يكون شريكا في عملية‬

‫اإلبداع من خالل عملية التوصيل الذي تقوم به اللغة‪ ،‬و التأويل‪ ،‬والمشاركة اإلنفعالية مع المبدع‪.‬‬

‫فها هو الشاعر يأتي في نهاية القصيدة بصورة أخرى من صور التشكيل البصري بعالمات‬

‫الحذف‪:‬‬

‫وسترحلين بال رجوع‬

‫‪................................‬‬

‫ويكون جوع‬

‫ويكون جوع!‬

‫ٍ‬
‫مساو للسطر الذي سبقه في الطول‪ ،‬ثم جاء بأقصر سطر‬ ‫فقد أتى بسطر من عالمات الحذف‬

‫شعري في القصيدة وكرره متلوا بعالمة التعجب !‬

‫مد المتلقي بصورة بصرية من صنع البصيرة‪ ،‬فالقصيدة‬


‫إنها هندسة شعرية مقصودة‪ ،‬هدفها ّ‬

‫مينية على نبوءة الشاعر وحدسه‪ ،‬بأن الحرب ستقع وستترك آثا ار اقتصادية مدمرة‪ ،‬وال يمكن أن تتحدث‬

‫عن الحرب إال وتفكر في ضده وهو السالم‪ ،‬والسالم رمزه الحمامة‪ ،‬فخاطب الحمامة مؤكدا بأنها‬

‫‪26‬‬
‫سترحل بال عودة كناية عن طول أمد المشقة في مصرفكثف هذه الصورة من خالل تعبير صريح من‬

‫خالل سطر شعري قصير مكرر داللة على نفاذ الطاقة الشعرية مع هذه النهاية المتوقعة‪ ،‬ثم ترك‬

‫المتلقي أن يركض مع عالمة الحذف سط ار كامال‪ ،‬وليكن بدال من ذلك زمنا طويال‪ ،‬ثم يأتي بعالمة‬

‫التعجب ليختم بها المشهد‪ ،‬وكأنها تدين كل ما سلفها في القصيدة ‪.‬‬

‫_التقنيات السينمائية في القصيدة‪:‬‬

‫يحظى موضوع تداخل األجناس األدبية والفنية باهتمام كبير‪ ،‬ذلك أن األدب بشكل عام بات‬

‫مفتوحا لتداخل األجناس األدبية والفنية‪ ،‬والقصيدة كالرواية‪ ،‬والقصة القصيرة وغيرها باتت قادرة على‬

‫احتضان غيرها من هذه الفنون األدبية والفنية‪ ،‬فإن عوامل عدة أسهمت في تركيز القصيدة على الصو ةر‬

‫المتحركة الناطقة‪ ،‬التي ال تكتفي بالقول‪ ،‬بل تضعه أمام صورة متحركة موحية مؤثرة‪،‬ولهذا فإن القصيدة‬

‫الحديثة تتعالق مع السينما كما الرواية وغيرها من األجناس األدبية والفنية‪،‬وقد أخذت القصيدة الحديثة‬

‫بأسلوب المونتاج الذي تعت مد علية السينما "على أن أهم تغير ط أر على القصيدة منذ نشوئها إلى يومنا‬

‫‪.‬‬ ‫‪31‬‬
‫هو تبنيها ألسلوب المونتاج الذي استحدثته السينما"‬

‫تعتمد السينما على الصورة المكثفة القادرة على إحداث المتعة والتأثير في المشاهد‪ ،‬وهو ما باتت‬

‫تعتمده القصيدة الحديثة من خالل بالغة التشكيل البصري في تكثيف اللقطات‪ ،‬وشحنها بالطاقة‬

‫اإليحائية‪ ،‬ولعل في تأثر الشعر بتقنيات الصورة في السينما ألن الصورة‪ ،‬أبلغ أث ار في ذات المتلقي‪،‬‬

‫‪ 31‬الدوخي‪ ،‬حمد محمود‪ ،‬المونتاج الشعري في القصيدة العربية المعاصرة‪ ،‬إتحاد كتاب العرب‪ ،2009 ،‬ص‪.15:‬‬

‫‪27‬‬
‫والشعر منذ القدم وظف الصورة‪ ،‬ولكنها صورة ثابتة في الغالب تعتمد على بعض الفنون البالغية‪ ،‬أما‬

‫صورة الشعر الحديث فإنها أخذ ت من الصورة السينمائية‪ ،‬حيويتها وحركتها‪ ،‬وتكثيفها ‪.‬‬

‫تهيمن الصورة المتحركة على قصيدة أمل دنقل‪ ،‬ال هذه القصيدة فحسب‪ ،‬بل في معظم قصائده‪،‬‬

‫فهو يعتمد على الصورة اعتمادها كبيرا‪ ،‬ويبدو وكأنه عمل شاع ار مخرجا‪ ،‬فالقصيدة مدار التحليل‬

‫مقسمة إلى مجموعة من الصور‪ ،‬من خالل تقسيم الشاعر لها إلى وحدات شعرية منفصلة واضحة‬

‫الحدود ولكنها في النهاية ترسم جسد القصيدة‪ ،‬وتبوح بسرها المبني على الحدس النابع من الظروف‬

‫التي عاشتها مصر قبل الحرب‪ ،‬ويبدأ القصيدة بمشهد سينمائي‪:‬‬

‫إطار سيارته ملوث بالدم !‪..‬‬

‫سار‪ ..‬ولم يهتم!!‬

‫كنت أنا المشاهد الوحيد‬

‫لكني‪ ..‬فرشت فوق الجسد الملقى جريدتي اليومية‬

‫وحين أقبل الرجال من بعد‪..‬‬

‫مزقت هذا الرقم المكتوب في ورقة مطوية‬

‫وسرت عنهم‪ ..‬ما فتحت الفم!!"‪.‬‬

‫إنه مشهد لصورة متحركة ‪ :‬سيارة تدهس رجال‪ ،‬ويبقى دمه عالقا على إطارها‪ ،‬ولكن قائد السيا ةر‬

‫يمضي يتابع سير سيارته‪ ،‬وكأن شيئا لم يكن‪ ،‬والراوي هو الشاهد الوحيد على الحادثة يقف متفرجا‪،‬‬

‫ثم يضع جريدته فوق جثة القتيل‪ ،‬وحين قدم جمع من الرجال إلى موقع الحدث‪،‬غادر الشاهد دون أن‬

‫ينبس ببنت شفة !‪..‬‬


‫‪28‬‬
‫قدم لنا حدثا تاريخيا مؤثرا‪ ،‬فما فعله معاوية‪ ،‬وما ترتب عليه من ويالت لم يعره التفاتة ما‪ ،‬بل‬

‫ظل ساد ار في طلب الخالفة‪ ،‬وأبو موسى الشاهد على لعبة التحكيم‪ ،‬طوى ورقة التحكيم ومضى إلى‬

‫مكة !‪..‬‬

‫لقد قدم الشاعر الحدث بصورة مكثفة قريبة‪ ،‬فصورها عن قرب فبدت المتلقي قريبة واضحة‬

‫بأحداثها ودالالتها‪ ،‬فقد جمع أكثر من مشهد متحرك ودمجه في صورة متحركة‪ ،‬فبات التشكيل البصري‬

‫من خالل عملية المونتاج السينمائي أكثر إيحاء وإقناعا‪ ،‬ويشي ذلك بأن صورة الحدث التارخي الذي‬

‫استحضره الشاعر ليسقط عليه ما يجري أو قد يحدث في مصر‪ ،‬يعيش في ذاته‪ ،‬وأن الخوف الذي‬

‫يشعر به من تكرار آثار الحدث في مصر يسيطر عليه ‪.‬‬

‫والقصيدة مليئة بالصور المتحركة‪ ،‬وهذه صورة أخرى‪:‬‬

‫"حين دلفت داخل المقهى‬

‫جردني النادل من ثيابي‬

‫جردته بنظرك ارتياب‬

‫بادلته الكرها‬

‫لكنني منحتة القرش‪:‬فزين الوجها‬

‫ببسمة‪ ..‬كلبية‪ ..‬بلها‪..‬‬

‫ثم رسمت وجهه الجديد‪..‬فوق علبة الثقاب‪! ".‬‬

‫وزاد هذه الصورة إيحاء هذه الصور االستعارية فيها‪: ،‬‬

‫جردني النادل من ثيابي‬

‫‪29‬‬
‫جردته بنظرة ارتياب‬

‫ببسمة‪ ..‬كلبية‪ ..‬بلها‪..‬‬

‫فالصورة متحركة‪ ،‬وهي صورة معبرة عن أحوال الناس في زمن الشاعر‪ ،‬وتترك للمتلقي فرصة‬

‫تأويلها‪ ،‬وهي ذات داللة على شغف الشاعر بهذا النوع من التشكيل البصري‪ ،‬فالصورة هنا تتحرك في‬

‫مكان هو المطعم أو المقهى‪ ،‬ويقابل الراوي بنظرة ازدراء من نادل المطعم‪ ،‬يقابلها نظرة زاجرة من‬

‫الراوي الشاعر‪ ،‬ثم وبعد أن منحه القرش رم از لمبلغ صغير من المال‪ ،‬تغيرت نظرته ومالمحه‪ ،‬وللقارئ‬

‫أن يستحضر صورة "الكلب المبتسم" من خياله‪ ،‬ثم يرى صورته الجديدة فوق علبة الثقاب التي سيرميها‬

‫بعد نفاذ أعوادها !‪.‬‬

‫والقصيدة قائمة على الصور المتحركة‪ ،‬بعضها قريب‪ ،‬وبعضها بعيد قليال‪ ،‬ولكنها جميعا صور‬

‫متحركة‪،‬وبعضها من خالل رؤيا كما أعلن الشاعر‪:‬‬

‫وهذه صورة تلخص أسطورة أو خرافة مصرية قديمة‪ ،‬تحكي أن المصريين القدماء كانوا يقدمون‬

‫لنهر النيل قربانًا كل عام‪ ،‬وهو عبارة عن فتاة جميلة يتم تجميلها وتزينها في ليلة تسمى ليلة الوفاء ثم‬

‫يلقى بها في النهر في اليوم التالي‪ ،‬والشاعر من أكثر الشعراء العرب توظيفا للتراث العربي واإلسالمي‪،‬‬

‫واألسطورة أحياناً‪ ،‬واستحضار القصة الخ ارفية لها مدلولها‪ ،‬وهي بمثابة التشبيه التمثيلي في البالغة‪،‬‬

‫فهي إسقاط على ما يشغل الشاعر في زمن كتابة القصيدة‪ ،‬وكأنه يشبه مصر بعروس النيل‪ ،‬ثم يقدم‬

‫مشهدا مؤث ار للملتقي معب ار عن عما يصطرخ في داخله من خوف وغضب‪ ،‬ويضعه أمام المتلقي على‬

‫شكل صورة سينمائية‪ ،‬وكأنه مخرج ماهر يحرك الكامي ار متتبعا المشاهد المؤثرة‪:‬‬

‫"رأيتهم ينحدرون في طريق النهر‬


‫‪30‬‬
‫لكي يشاهدوا عروس النيل_عند الموت _في جلوتها األخيرة‬

‫وانخرطوا في الصلوات والبكاء‪.‬‬

‫وجئت بعد أن تالشت الفقاقيع‪ ،‬وعادت الزوارق الصغيرة‬

‫رأيتهم في حلقات البيع والشراء‬

‫يقايضون الحزن بالشواء"‬

‫إنه يقدم طقسا خرافيا مصريا قديما_لم تثبت صحته_من خالل صورة متحركة‪ ،‬فيصور الناس‬
‫وهم ذاهبون إلى نهر النيل لرؤية لحظة رمي الفتاة القربان في النيل‪ ،‬ثم بعد ذلك بكاءهم وصلواتهم‪،‬‬
‫ثم بعد ذلك انشغالهم بالبيع والشراء‪ ،‬إذ تنتقل الكامي ار في المكان وتصور مشاهد مؤثرة اختارها الشاعر‬
‫وبث فيها مشاعره‪ ،‬ليعبر عن موقف الناس السلبي واستسالمهم‪ ،‬وضعفهم‪ ،‬واالكتفاء بالحسرة والبكاء‬
‫وهو ما حاربه الشاعر طول مشواره الشعري‪ ،‬ودفع ثمنه غاليا‪ ،‬فهو شاعر مقاوم‪ ،‬وبعد هزيمة عام‬
‫‪ .١٩٦٧‬ذهب إلى زرقاء اليمامه وبكى بين يديها‪ ،‬وكأنه يذكر بأنه تنبأ بالعزيمة من خالل هذه القصيدة‬
‫التي وظف فيها التراث من خالل استدعاء شخصية عربية مسلمة‪ ،‬ومن خالل أسطورة قديمة‪،‬وليس‬
‫ذلك حسب‪ ،‬بل ذهب إلى تناص يعثر عليه بالكاد فحوره بما يخدم القصيدة‪ ،‬ولكنه يلفت إلى أهمية‬
‫الرؤيا‪ ،‬وعنون المقطع ب"الرؤيا "‪:‬‬
‫ويكون عام‪ ..‬فيه تحترق السنابل والضروع"‬
‫فقد ذهب إلى قصة تفسير _يوسف عليه السالم_لرؤيا فرعون‪ ،‬غير أن العام الذي تحدث عنه‬
‫يوسف عام يغاث فيه الناس بعد سبع سنين عجاف‪ ،‬أما عام الشاعر فهو عام قحط‪:‬‬
‫ويكون عام‪ ..‬فيه تحترق السنابل والضروع‬
‫تنمو حوارنا _مع اللعنات_من ٍ‬
‫ظمأ وجوع‬
‫يتزاحف األطفال في لعق الثرى‬

‫‪...‬‬

‫‪31‬‬
‫الخاتمة‬

‫كشفت الدراسة أن دراسة القصيدة دراسة أسلوبية قادرة على استكناه مكامن جمالها وتأثيرها من‬

‫خالل دراسة جملة انحرافاتها ‪ ،‬وقد توصلت هذه الدراسة القصيرة إلى جملة من النتائج وهي كالتالي‪:‬‬

‫وتمييز‬
‫اً‬ ‫إن قضية إعجاز القرآن من أهم القضايا التي تعرضت لتحديد مفهوم األسلوب‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫بينه وبين أساليب العرب‪.‬‬

‫إن األسلوب يعتبر اختيار من المتكلم وذلك بشرط أن يكون صاد ًار عن وعي وإرادة‬ ‫‪-‬‬

‫وانتظام لذلك االختيار في الكلمات التي تشكل تركيبا ما‪ ،‬ألن عدم انتظامها واختيارها في أي‬

‫تركيب لغوي ال يمكن أن تشكل نسقاً‪.‬‬

‫_ وظف الشاعر المقدمة الشارة كمدخل القصيدة ‪.‬‬

‫_ تمثلت أهم انحرافات القصيدة في التشكيل البصري ‪.‬‬

‫_ لعب توظيف عالمات التقيم توظيفا بصريا‪ ،‬في إثراء القصيدة‬

‫_كان لتداخل القصيدة مع السينما األثر األكبر في التشكيل البصري‪ ،‬فقد اعتمدت‬

‫القصيدة على الصور المتحركة الموحية المعبرة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫قصيدة حديث خاص مع أبي موسى األشعري‪ -‬للشاعر‪ :‬أمل دنقل‬

‫‪33‬‬
34
35
36
37
‫المراجع‬
‫الكتب‪:‬‬

‫‪ -‬أنيس‪ ،‬إبراهيم أنيس وآخرون‪ ،‬المعجم الوسيط‪ ،‬دار األمواج‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1990 ،2‬م‬
‫‪ -‬باقالني‪ ،‬محمد بن الطيب ‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد صقر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪1972 ،‬م‬
‫‪ -‬الجرجاني ‪ ،‬عبد القاهر بن عبد الرحمن‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة‬
‫المدني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -‬الجرجاني‪ ،‬عبد القاهر بن عبد الرحمن‪ ،‬دالئل اإلعجاز في علم المعاني‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محمد‬
‫شاكر‪ ،‬مطبعة المدني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1992 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -‬دوخي‪ ،‬حمد محمود‪ ،‬المونتاج الشعري في القصيدة العربية المعاصرة‪ ،‬إتحاد كتاب العرب‪2009 ،‬‬
‫‪ -‬ذريل‪ ،‬عدنان ‪ ،‬اللغة واألسلوب‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬شايب‪،‬أحمد‪ ،‬األسلوب دراسة بالغية تحليلية ألصول األساليب األدبية‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪،‬‬
‫ط‪.1966، 6‬‬
‫‪ -‬صفراني‪ ،‬محمد‪ ،‬التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث‪،‬النادي األدبي الثقافي بالرياض‪،‬‬
‫والمركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬عبد الجليل‪ ،‬عبد القادر‪ ،‬األسلوبية وثالثية الدوائر البالغية‪ ،‬دار صفاء للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫‪ -‬عبد المطلب‪ ،‬محمد عبد المطلب‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬الشركة المصرية العالمية للنشر‪ ،‬لونجمان‪،‬‬
‫ط‪.1994 ،1‬‬

‫‪ -‬عدوس‪ ،‬يوسف ‪ ،‬األسلوبية والرؤيا والتطبيق‪ ،‬دار النشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪2007 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -‬عثمان‪ ،‬عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬العثمانٌة‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم هارون‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪.1991‬‬
‫‪ -‬فضل‪ ،‬صالح ‪ ،‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ -‬قتيبة‪ ،‬أبو محمد عبد هللا بن مسلم ‪ ،‬تأويل مشكل القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد صقر‪ ،‬دار إحياء الكتب‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬كواز‪ ،‬محمد كريم ‪ ،‬علم األسلوب مفاهيم وتطبيقات‪ ،‬جامعة السبع من أبريل ‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪.1‬‬

‫‪ -‬منظور‪ ،‬جمال الدين محمد بن مكرم‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬مج‪ ،1‬ط‪1995 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -‬ناظم‪ ،‬حسن ‪ ،‬البنى األسلوبية‪ ،‬دراسة في أنشودة المطر للسياب‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬المغرب‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬ناجي‪ ،‬مجيد عبد المجيد‪ ،‬األسس النفسية لألساليب البالغية العربية‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ -‬وغليسي‪ ،‬يوسف‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬جسور للنشر والتوزيع‪ ،‬المحمدية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪2007 ،1‬م‪.‬‬
‫مواقع إلكترونية‪:‬‬

‫‪ -‬أمل دنقل شاعر البسطاء والمهزومين‪ ..‬بريق "ال" الشعرية في أزمنة االنحطاط العربي‪ ،‬متوفر‬
‫على موقع اإلنترنت ‪ /https://www.aljazeera.net‬بتاريخ ‪ ،2020/7/17‬تمت مشاهدته‬
‫بتاريخ ‪.2022/11/12‬‬

‫‪ -‬الحزاني‪ ،‬عماد‪ ،‬نبذة عن أمل دنقل‪ ،‬متوفر على موقع اإلنترنت ‪ /https://sotor.com‬متوفر‬
‫بتاريخ ‪ 2020/6/26‬تمت مشاهدته بتاريخ ‪.2022/11/11‬‬

‫مراجع أجنبية‪:‬‬

‫‪Ferdinand de Saussure : Cours de linguistique‬‬


‫‪générale,Payot,Paris,France1967.‬‬

‫‪39‬‬

You might also like