Professional Documents
Culture Documents
المناسبة في اللغة :المقاربة والمشاكلة؛ یقال :فلان یناسب فلانا فهو نسیبه ،أي قریبه ،وتقول :لیس بینهما مناسبة ،أي
مشاكلة ،ونسبت الرجل َأ نسبه بالضم نسبة ونسبا ،إذا ذكرت نسبه.
يقول ابن فارس ت 395هـ " :النون والسين والباء كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء ،و منه و منه ،منه النسب ،سمي
هي بیان وجه الارتباط بین الجملة والجملة في الآیة الواحدة أو بین الآیة في الآیات المتعددة ،أو بین السورة والسورة.
وعرفها الإمام الزركشي بقوله" :المناسبة أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول.
وقد عرفها الإمام البقاعي بقوله":علم مناسبات القرآن :علم تعرف منه علل ترتیب أجزائه.
ويقول الدكتور محمد بازمول" :هو معرفة مجموع الأصول الكلية والمسائل المتعلقة بعلل ترتيب أجزاء القرآن العظيم بعضها
ببعض.
مما سبق یتضح لنا أن هناك ترابطا وثیقا بین التعریف اللغوي والاصطلاحي للمناسبة؛ "فكلاهما یعني أن الآیة وجارتها
شقیقتان ،یربط بینهما رباط من نوع ما ،كما یرتبط النسب بین المتناسبین ،غیر أن ذلك لا یعني الآیتان أو الآیات متماثلة
كل التماثل ،بل ربما یكون بینهما تضاد ،أو تباعد في المعنى ،المهم أن هناك سواء توصل إلیها العلماء أم ّ صلة ،أو رابط یربط
بین الآیتین ،أو یقارب بینهما ،سواء توصل إلیها العلماء أم لا ،فقد تظهر أحیانا ،وتختفي أحیانا أخرى ،وفي هذا مجال لتسابق
علم المناسبات أحد علوم القرآن الكریم المتعددة بل هو من أهمها؛ إذ مبناه على التدبر لكتاب االله ،وقد أمرنا االله ( U
) 29 :و قال َ :أ فَلَا يَتَد َب ّر ُونَ ٱلْقُر ْءَانَ َأ ْم عَلَى قُل ُ ٍ
وب َأ ق ْف َالُهَٓا (محمد (. ٢٤ :یقول الإمام البقاعي وهو یتكلم عن المناسبات:
ٰ
"وموضوعه :أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حیث الترتیب" .وهذا في أي مناسبة ،فیكون علم المناسبات هنا أجزاء
القرآن وآیاته وسوره من حیث الترتیب وتناسقه وتناسبه ووجه اتصال بعضه ببعض.
البحوث ،وما ذاك إلا لأنه علم من علوم ُ القرآن الكریم ،وشرف العلم بشرف المعلوم ،وهو علم بدیع "تحرز به العــقول،
ویعرف به قدر القائـل فیمـا یقول ،ویكشف به الوحدة الموضوعیة للقرآن الكریم ُ من خلال تآخي وتناسق سوره وآیاته.
وهو من "العلوم الدقیقة التي تحتاج إلى فهم دقیق لمقاصد القرآن الكریم ،وتذوق لنظم القرآن الكریم وبیانه المعجز ،والى
معایشه جو التنزیل ،وكثیرا ما تأتي ً ٕ إلى ذهن المفسر على شاكلة إشراقات فكریة أو روحیة.
ولدراسة هذا العلم ومعرفة وجه الارتباط بین الآیات والسور فوائد عدیدة هي :
الفائدة الأولى :جلاء كیفیة ارتباط الكلام فإن علم المناسبات "یجعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فیقوى بذلك
الثانیة :بیان مناسبة السورة لما قبلها أو الآیات لما قبلها خطوة مهمة في تفسیر القرآن تلقي الضوء على غرض السورة أو الآیة
الثالثة :معرفة المناسبة للسورة أو الآیات مع ما قبلها یساعد على ترجیح بعض الآراء على بعضها الآخر لأن الآراء إذا
تساوت في القوة كان تناسب الكلام مع بعضه مساعدا على الترجیح وذلك أمر معمول به في مصادر التفسیر.
الرابعة :معرفة المناسبة للسورة أو الآیات مع ما قبلها یساعد على حل مشكلات في تفسیر القرآن فیوقف على الحق من
الخامسة :علم المناسبات یكشف لنا عن وجه من وجوه إعجاز القرآن الكریم.
ویقول الإمام أبو بكر النیسابوري :إن إعجاز القرآن البلاغي لم یرجع إلا إلى هذه المناسبات الخفیة والقویة بین آیاته وسوره،
وقال الدكتور مناع القطان" :ولمعرفة المناسبة فائدتها في إدراك ٕ ٕ اتساق المعاني ،واعجاز القرآن البلاغي ،واحكام بیانه،
السادسة :الكشف عن مقصد السورة الأساسي والمحور الذي تدور علیه معاني السورة في القرآن الكریم وذلك أن التفسیر
السابعة :أن هذا العلم یربي العقل ویعطیه ملكة قویة في حسن التدبر والاستنباط.
الثامنة :في معر ً فة هذا العلم ووجه مناسبة اللاحق للسابق وما نزل متأخرا لما نزل قبل ،وأوجه الارتباط بین ما تباعد نزوله،
التاسعة :بهذا العلم یتبین سر التكرار في الكلمات والآیات والقصص بحیث تظهر مناسبة كل كلمة أو آیة أو قصة وردت في
العاشرة :بهذا العلم نتمكن من دحض شبه المفترین على كتاب االله بالادعاءات الكاذبة والمشككة في تمام القرآن ،واثب ات
أن القرءان لا نقص فیه ولا تحریف ،وذلك من خلال ترابط آیاته دون أي خلل.
ظهور علم المناسبات وأهم المؤلفات فيه
مر معنا سابقا يف تعريف المناسبة قول ابن العربي لم يتعرض له - :أي علم المناسبات -إال عالم واحد عمل فيه سورة
البقرة ،وذكر السيوطي أن غير ابن العربي قال :أول النيسابوري من أظهر علم المناسبة الشيخ أبو بكر ،وكان غزير العلم يف
الشريعة واألدب ،وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه :لم جعلت هذه اآلية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة يف جعل هذه
السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد؛ لعدم علمهم بالمناسبة.
یمكن القول بأن علم المناسبات كان موجودا بصورة متناثرة في ثنایا التفسیر والحدیث عموما ،بل كان معروفا عند الأولین
وذكر فضیلة الأستاذ الدكتور نور الدین عتر حفظه االله في مذكرته "علم المناسبات" :أن أول ما بدأ به علم المناسبات
شذرات على لسان السلف یستأنسون بها في تفسیر القرءان ولا سیما في اجتهاداتهم وحواراتهم.
١ـ البرهان فى ترتیب سور القرآن لأبي جعفر أحمد بن إبراهیم بن الزبیر الثقفي الغرناطي (ت٨٠٧ه) ،مطبوع.
٢ـ نظم الدرر في تناسب الآیات والسور لبرهان الدین إبراهیم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (ت:
٨٨٥هـ) ،مطبوع.
٣ـ مصاعد النظر للإشر اف على مقاصد السور ویسمىالمقصد الَأ سمى في ّ مطابقة اسم كل سورة للمسمى َ ُ لإبراهیم بن عمر
بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (ت٨٨٥ :هـ) ،مطبوع.
المناسبة معنى واصل بین الآیات ،أو بین السورتین عام أو خاص ،عقلي أو حسي أو خیالي ،أو غیر ذلك من أنواع
العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب والعلة والمعلول ،والنظیرین والضدین ونحو ذلك مما یربط أجزاء الكلام،
ویجعل بعضه آخذا بأعناق بعض ،فیقوى بذلك الارتباط ویصیر التألیف حاله حال البناء المحكم المترابط الأجزاء.
ومن هنا قال الشیخ ولي الدین الملوي" :والذي ینبغي في كل آیة أن یبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو
مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم وهكذا في السور یطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سیقت له.
بید أننا قبل أن نأخذ فیما قصدنا إلیه نحب أن نقول "كلمة" ساق الحدیث إلیها :وهي أن السیاسة الرشیدة في دراسة النسق
القرآني تقضي بأن یكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فیه ،فلا یتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعیة
بین جزء منه -وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآیات ومقاطعها -إلا بعد أن یحكم النظر في السورة كلها بإحصاء
أجزائها وضبط ً مقاصدها على وجه یكون معوانا له على السیر في تلك التفاصیل عن بینة.
أنواع المناســــــبات
من خلال التأمل والتتبع والاستقراء في كتب علوم القرآن عموما ،وفي الكتب التي ألفت في المناسبات على وجه
الخصوص ،یمكن تقسیم المناسبات إلى نوعین رئیسین ،وكل قسم من هذین القسمین تندرج تحته صور:
الأمثلة على هذا النوع أكثر من أن تحصر في الكتاب العزیز ،ومن هذه الأمثلة:
1ـ التناسب بین سورة الفیل واسمها؛ فإن اسم السورة یشیر إلى حادثة الفیل الذي قدم به أبرهة قاصدا هدم الكعبة وما
2ـ التناسب بین سورة یوسف واسمها؛ فإن المحور الرئیس الذي تعرضت له هذه السورة هو قصة یوسف فلم تذكر قصة نبي
الصورة الثانیة :المناسبة بین مطلع السورة والمقصد الذي سیقت له ،وهذه تدخل في براعة.
مثال ذلك:
1ـ افتتاح سورة "الرحمن" باسم الرحمن جل جلاله فیه براعة استهلال وذلك لأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء.
ْس الل ّٰه ُ ب ِاَحْك َم ِ الْحٰكِم ِيْنَ (( )٨التین( ٨:وهذا تقریر
یقول الإمام ابن القیم في بیان وجه التناسب" :ثم ختم السورة بقوله :اَلَي َ
لمضمون السورة من إثبات النبوة والتوحید والمعاد وحكمه بتضمن نصره لرسوله على من كذبه وجحد ما جاء به بالحجة
والقدرة والظهور علیه وحكمه بین عباده في الدنیا بشرعه وأمره وحكمه ٕ بینهم في الآخرة بثوابه وعقابه وان أحكم الحاكمین لا
یلیق به تعطیل هذه الأحكام بعد ما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقویم ونقله في أطوار التخلیق ً حالا بعد
حال إلى أكمل الأحوال فكیف یلیق بأحكم الحاكمین أن لا یجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وهل ذلك إلا قدح في
حكمه وحكمته فلله ما أخصر لفظ هذه السورة وأعظم شأنها وأتم معناها والله أعلم.
جه َا و َت َشْت َكِ ْٓي ا ِل َى الل ّٰه ِ ۖو َالل ّٰه ُ ي َ ْسم َ ُع تَحَاوُرَكُمَاۗ ا ِ َ ّ
ن الل ّٰه َ سَمِي ْ ٌع ۢ بَصِ يْر ٌ ()١ ل َال ّت ِ ْي تُجَادِل ُ َ
ك ف ِ ْي ز َ ْو ِ 1ـ قوله تعالى :ق َ ْد سَم ِ َع الل ّٰه ُ قَو ْ َ
المجادلة١:؛ فإن الآیة لما كانت تتحدث عن سماع االله لشكوى هذه المرأة ،وتألمها من فعل زوجها لما ظاهر منها؛ ناسب أن
القسم الأول :أن یظهر الارتباط بین الآیة الثانیة والآیة الأولى
ْب
ضو ِ َاط ال َ ّذ ِي ْ َ
ن اَنْعَمْتَ عَل َيْه ِ ْم ەۙ غ َيْر ِ ال ْمَغْ ُ مثل قوله تعالى :اِهْدِن َا الص ِّر َ
َاط ال ْمُسْتَقِي ْم َ ۙ ( )6ص ِر َ
عَل َيْه ِ ْم وَل َا َ
الضّ ۤا لِّيْنَ()7
القسم الثاني :وهو ما لا یظهر الارتباط فیه بین الآیتین ,وینقسم هذا القسم إلى قسمین:
القسم الأول :أن تكون الآیة الثانیة معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف ،فتشاركها في
الحكم ،ولا بد أن تكون بینهما جهة جامعة ،إذ لا بد منها عند العطف.
مثال ذلك :المناسبة بین فاتحة سورة البقرة وخاتمة سورة الفاتحة فإن "افتتاح سورة البقرة بقوله { الۤ ۤمّ ۚ ذٰل ِ َ
ك ا ْلكِت ٰبُ ل َا
نَ} (البقرة(١،٢ :فیه إشارة إلى {الصراط} في قوله { اِهْدِن َا الص ِّر َ
َاط ال ْمُسْتَقِي ْم َ ۙ {(الفاتحة( ٦:كأنهم ر َي ْبَ ۛ فِيْه ِ ۛ هُدًى لِّل ْم َُت ّق ِي ْ ۙ
لما سألوا الهدایة إلى الصراط المستقیم قیل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهدایة إلیه هو الكتاب وهذا معنى حسن یظهر فیه
مثال ذلك :المناسبة بین خاتمتي سورة المنافقون والتغابن ،فقد ختمت سورة المنافقین بقوله تعالىٰٓ :يا ُ َ ّيهَا ال َ ّذ ِي ْ َ
ن ا ٰم َنُو ْا ل َا تلُْه ِك ُ ْم
ففي هذه الآیات یحذر االله المؤمنین بألا تلههم الأموال والأولاد عن ذكر االله ،دم ،ثم ٍ ثم حضت الآیات على الإنفاق
قبل مجيء ساعة الموت ،فحینئذ لا ینفع الن مدحت االله بصفة من صفاته أنه خبیر بما یعملون ،ومرجع هذه الصفة أنه
متصف بالعلم.
وكان أواخر سورة التغابن قوله تعالى :ا ِ َن ّمَٓا اَمْوَال ُك ُ ْم و َا َ ْول َاد ُك ُ ْم فِت ْن َة ٌ ۗو َالل ّٰه ُ عِنْد َ ٓه ٗ ا َ ْ
جر ٌ عَظِي ْم ٌ( )15ف َ َات ّق ُوا الل ّٰه َ م َا اسْ تَطَعْتُم ْ
فقد حذرت هذه الآیات المؤمنین من فتنة الأموال والأولاد ،ثم حضت على الإنفاق ،ورغبت فیه بأنه تكفیر للخطایا ،ثم
ختمت بصفة من صفات االله بأنه عالم الغیب والشهادة ،ومرد هذه الصفة أن االله متصف بصفة العلم.
مثال ذلك :المناسبة بین الفاتحة والبقرة وآل عمران :فقد قال بعض الأئمة في وجه المناسبة" :وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار
بالربوبیة والالتجاء إلیه في دین الإسلام والصیانة عن دین الیهودیة والنصرانیة وسورة البقرة تضمنت قواعد الدین وآل عمران
مكملة لمقصودها فالبقرة بمنزلة إقامة الدلیل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ولهذا ورد فیها ذكر
المتشابه لما تمسك به النصارى وأوجب الحج في آل عمران وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فیه
وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر كما أن خطاب الیهود في البقرة أكثر لأن التوراة أصل والإنجیل فرع لها والنبي
لما هاجر إلى المدینة دعا الیهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل
الكتاب ولهذا كانت السور المكیة فیها الدین الذي اتفق علیه الأنبیاء فخوطب به جمیع الناس والسور المدنیة فیها خطاب من
أقر بالأنبیاء من أهل الكتاب والمؤمنین فخوطبوا بیا أهل الكتاب یا بني إسرائیل یأیها الذین آمنوا
اس اس( ،نحو ما جاء في سورة النساء والحج؛ قال تعالى ٰٓ :يا ُ َ ّيهَا َ
الن ّ ُ وذلك كما ذكروا ما افتتحت به سورتان بٰٓ ) :يا ُ َ ّيهَا َ
الن ّ ُ
ن ب ِ ٖه جه َا و َب َ َّث مِنْهُم َا رِج َال ًا كَث ِيْر ًا َوّنِس َ ۤا ء ً ۚ و ََات ّق ُوا الل ّٰه َ ال َ ّذ ْ
ِي تَس َ ۤا ءَلُو ْ َ حدَة ٍ َوّخ َل َ َ
ق مِنْهَا ز َ ْو َ س َوّا ِ
ِي خَلَق َك ُ ْم مّ ِنْ َن ّ ْف ٍ
َات ّقُو ْا ر ََب ّك ُم ُ ال َ ّذ ْ
الحج ( ١:ففي سورة النساء تحدثت عن بدء الخلق والحیاة ،والحج ذكرت بنهایة هذه الحیاة.