Professional Documents
Culture Documents
2
د نور الدين دخان. أ،1هشام دراجي
hichem.derradji@univ-msila.dz ،) جامعة المسيلة (الجزائر، مخبر العلوم السياسية الجديدة1
dakhane.noureddine@univ-msila.dz ،)(الجزائر جامعة المسيلة،مخبر العلوم السياسية الجديدة 2
Abstract: :الملخــص
This research paper aims to shed تهدف هذه الورقة البحثية إلى تسليط الضوء على
light on the question of identity and its different مسألة الهوية وانعكاساتها المختلفة على السياسات التنموية
implications on the development policies
adopted in the Arab region. The question of حيث ُيطرح في الغالب سؤال الهوية،المنتهجة في المنطقة العربية
identity is often asked in many Arab countries بشدة في العديد من الدول العربية قبل رسم وتحديد مختلف
before drawing and defining the various
developmental policies and programs. Which ففي كثير من األحيان يشكل هذا،السياسات والبرامج التنموية
has produced many problems related to social وهو ما أنتج لنا مع،السؤال نوع وحجم هذه المشاريع والبرامج
equality on the one hand, and has also caused
many conflicts within the social fabric. On the مرور الزمن العديد من اإلشكاليات المتعلقة بالمساواة المجتمعية
other hand, these different manifestations in وأحدث أيضا الكثير من الصراعات داخل النسيج،من جهة
some Arab countries led to the emergence of
separatist demands Some of them have فقد أدت مختلف هذه التجليات،االجتماعي الواحد من جهة أخرى
succeeded in achieving their demands along نجح،في بعض الدول العربية إلى بروز مطالب انفصالية عديدة
the lines of what happened in the Sudan, while في،بعضها في تحقيق مطالبه على غرار ما حدث في السودان
others continue their attempts to achieve their
objectives, such as the Kurds in Iraq, which حين يواصل البعض اآلخر محاوالته تحقيق أهدافه كاألكراد في
leads us to emphasize the seriousness of social وهو ما يقودنا إلى التأكيد على خطورة الالمساواة،العراق
inequality in development policies on the
security, unity and stability of the state. المجتمعية في السياسات التنموية على أمن ووحدة واستقرار
Through the establishment of the values of هذه الخطورة التي يمكن تجاوزها من خالل إرساء قيم،الدولة
citizenship within the community, and work to
dissolve all the different identities in the والعمل على إذابة كل الهويات المختلفة،المواطنة داخل المجتمع
national identity of the university, which does التي ال تفرق في برامج التنمية بين،في الهوية الوطنية الجامعة
not differentiate in the development programs
among citizens regardless of their different .مواطنيها مهما كانت عرقياتهم أو لهجاتهم المختلفة
ethnicities or dialects. – السياسات التنموية – المنطقة العربية:كلمات مفتاحية
Key words: Identity - Development Policies -
Arab Region - Community Equality - Citizenship. المساواة المجتمعية – المواطنة- الهوية
مقدمة:
تعرف المجتمعات العربية حالة حادة من غياب الثقة في األنظمة السياسية الحاكمة،
وهي الحالة التي تعبر عن حجم الهوة بين الحاكم والمحكوم ،هذه الهوة التي بدأت في االتساع
عبر عقود طويلة من الفشل المؤسساتي للدولة في المجال السياسي العربي ،وما رافق ذلك
الفشل من بروز العديد من األزمات المرتبطة بشرعية العقد االجتماعي المنظم لطبيعة العالقة
بين السلطة والمجتمع ،وتعتبر في ذات السياق أزمة الهوية أحد أبرز األزمات التي تعاني منها
األنظمة السياسية العربية على اختالفها.
وفي هذا السياق يحاول الكثير من الباحثين في علم االجتماع تفسير تعاظم حدة
أزمة الهوية في المنطقة العربية من خالل التركيز على طبيعة المجتمعات التعددية ذات البناء
الفسيفسائي المتنوع من حيث األقليات العرقية والعشائرية واللغوية والدينية والطائفية ،هذه
األقليات التي تعمل على فرض نفسها بمنطق األنا مقابل اآلخر في محاولة منها تحصيل
حقوقها بمختلف الطرق واألساليب غير آبهة في ذلك للصدامات التي قد تجعلها في مواجهة
مباشرة مع مختلف األطراف األخرى ،غير أن هذا الطرح الذي يهمل دور األنظمة السياسية
الحاكمة في تغذية ودعم هذه النزعة الفردانية من خالل غياب مفهوم الدولة األمة ،هذه الدولة
التي تساوي بين جميع مواطنيها دون النظر في اختالفاتهم الهوياتية ،ويمكن اعتبار المساواة
المجتمعية خالل عملية توزيع الثروة بين أفراد المجتمع بمثابة حجر الزاوية في تحديد نجاح
مختلف السياسات التنموية المنتهجة.
حيث تعتبر مسألة تحديد السياسات التنموية في المنطقة العربية ،وبنائها على أسس
عرقية أو عشائرية أو لغوية أو دينية أو طائفية أو غير ذلك من معايير التمييز بين المواطنين،
مسألة بالغة الخطورة في سياق المحافظة على الوحدة الوطنية واألمن القومي ،فشعور أي
أطراف بغياب المساواة المجتمعية ،يدفعها إلى التقوقع على نفسها ،وبناء والءات تحت وطنية
تعمل من خاللها على ضمان حقوقها دون االكتراث بمصير الدولة الوطنية ومستقبلها.
أسئلة الدراسة:
تحاول هذه الدراسة اإلجابة على تساؤل وحيد ورئيسي مفاده ،كيف يمكن لسؤال
الهوية وغياب المساواة المجتمعية في سياق بناء السياسات التنموية العربية أن يساهم في
فشل الدولة؟ وهو ما يعني التساؤل عن خطر التمييز المجتمعي على األسس الطائفية
330
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
والعرقية ،وما يصاحب ذلك من قهر لألقليات المختلفة في إطار توزيع البرامج التنموية على
نجاح السياسات التنموية من جهة ،وعلى استمرار الدولة واستقرارها من جهة ثانية ،فالمساواة
المجتمعية هي بمثابة صمام األمان أمام التفكك والفشل واالنهيار الدوالتي الذي تعرفعه الكثير
من دول الجنوب في العالم.
فرضيات الدراسة:
تفترض هذه الدراسة بأن المنطقة العربية تعاني في سياق بناء سياساتها التنموية
العديد من اإلشكاليات المتعلقة بالمساواة المجتمعية ،خاصة في ظل خصوصية مجتمعاتها
التي تتسم بالتعدد العرقي واإلثني والديني والطائفي ،وحتى اللغوي في بعض المناطق ،وأن
عملية تطييف هذه السياسات التنموية هو بمثابة فتح للطريق أمام بروز العديد من األزمات
المرتبطة بالمعضلة األمنية المجتمعية ،Societal Security Dilemmaوفي كل األحوال،
فإننا سنحاول في سياق هذه الدراسة إختبار صحة أو خطأ الفرضيات التالية:
) (1تُبنى السياسات التنموية في المنطقة العربية وفق اعتبارات تراعي التوازنات
العشائرية والقبلية ومختلف الخصوصيات المرتبطة بالهوية ،ما يجعل من األقليات تعاني من
ويالت التهميش .فوضع األقليات في العديد من الدول العربية يجعل من أفرادها يعيشون
كمواطنين من الدرجة الثانية ،على غرار حالة البدون في الكويت ،واألمازيغ في الريف المغربي.
كلما كان الهدف وراء السياسات التنموية في المنطقة العربية هو إرضاء جماعات )(2
معينة داخل المجتمع على حساب جماعات أخرى ،كلما عجل ذلك في حدوث صدام داخل
المجتمع من شأنه القضاء على كيان الدولة .فالمعضلة األمنية المجتمعية في هذا السياق تقوم
عادة بسبب جهود الجماعات وراء زيادة أمنها المجتمعي وتعزيز هويتها على حساب بقية
الجماعات األخرى الجماعات األخرى.
يؤدي شعور األقليات بعدم المساواة المجتمعية في سياق االستفادة من السياسات )(3
التنموية إلى تراجع والئها للدولة ،في مقابل تنامي والئها إلى جهات خارجية أخرى ترى أنها
تدعمها في سياق تعزيز هويتها ودعم وجودها .فالفراغ الذي تتركه الدولة في عالقتها مع أي
جماعة داخلها ،تحاول مختلف األطراف الخارجية االستثمار فيه ،ذلك أن مسألة الوالء واالنتماء
مسألة وجودية ال يمكن ألي جماعة االستمرار دون تحديدها وحسم أمرها فيهما.
331
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
منهجية الدراسة:
سنحاول التطرق نظريا إلى العديد من اإلشكاليات المرتبطة بواقع السياسات التنموية
العربية في ظل غياب المساواة المجتمعية واالعتماد على سؤال الهوية كمحدد رئيسي لهذه
السياسات ،وهو ما يحتم علينا التقيد بمستوى التحليل الخاص بالدولة ،انطالقا من االعتماد
على جملة من المقاربات النظرية ،يأتي في مقدمتها اقتراب عالقة الدولة والمجتمع الذي
سنحاول من خالله تقديم تفسيرات نظرية لطبيعة العالقة بين الدولة ومختلف الجماعات داخل
المجتمع ،ومحاولة االعتماد أيضا على اقتراب صنع القرار الذي سنحاول من خالله معرفة
كيف تصنع السياسات التنموية في المنطقة العربة.
تقسيم الدراسة:
تنطلق هذه الدراسة من البحث وراء مختلف المفاهيم ذات الصلة بمفهوم الهوية
كالطائفية والعرقية واألقلية ،ثم طرح سؤال الهوية وإشكالية المساواة المجتمعية في المنطقة
العربية في سياقاته الوصفية بهدف معرفة الواقع الذي تعيشه الشعوب في هذه المنطقة ،لننتقل
بعد ذلك إلى بيان أهم تداعيات التمييز المجتمعي في السياسات التنموية على االستقرار
السياسي للدولة في المنطقة العربية مع اإلشارة إلى حاالت السودان والعراق باعتبارهما أبرز
التجارب في هذا المجال ،لنخلص في الختام إلى محاول قراءة مستقبل الدولة األمة في المنطقة
العربية بالقياس على مؤشرات المواطنة والمساواة المجتمعية.
.1مدخل مفاهيمي لمحددات الدراسة:
1.1مفهوم السياسات التنموية.
يمكن تعريف السياسات التنموية على أنها " :األسلوب أو الفلسفة التي تتم بها عملية
التنمية ،أو هي تحديد خطوط التحرك الجوهرية التي تكفل نقل المجتمع من حالة من حالة
التخلف إلى حالة التقدم ،كما أنها الركيزة األساسية لتحقيق األهداف القومية العليا التي يتم
مراعاتها عند وضع الخطط والمشروعات والبرامج ،وال يمكن النظر إليها بمعزل عن األنشطة
المتعددة والمتداخلة التي تنتهي باتخاذ الق اررات المؤثرة في المجتمع ،وتبدأ هذه األنشطة أوال
بصياغة أهداف عامة يسعى المجتمع للوصول إليها – وهو ما يعبر عنه بصياغة أهداف
السياسات التنموية – وتستمر عبر مراحل مختلفة حتى يتم ترجمتها في عدد من الخطط
332
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
التفصيلية والبرامج ذات األهداف المحددة التي يتم تنفيذها عبر شبكة كبيرة من الهيئات
واألجهزة " ( .الزعبي ،2015 ،صفحة )26،25
ومن ناحية أخرى ،تعرف السياسات التنموية أيضا بأنها " :مجموعة المبادئ والق اررات
التي تتوصل الحكومات والتنظيمات والجماعات والقوى السياسية والمهنية واالجتماعية في
إطار ديمقراطي ،وبمقتضاها تحدد األساليب والغايات التنموية للمجتمع ،ويتم تحديد تلك
السياسات في إطار مجموعة من المحددات االقتصادية واالجتماعية والسيـ ـاسية ،والتي ت ـأخذ
صور تشريعـ ـات في أغلب األح ـوال وتحقق األهـ ـداف التنموية المبتغاة "( .الزعبي،2015 ،
صفحة )27
ولعل أهم ما يمكن الوقوف عليه من خالل هذه التعاريف هو مدى قدرة السياسات
التنموية على التأثير المباشر في المجتمع باعتبارها الفلسفة المحركة لمختلف المشاريع والبرامج
التنموية التي تنعكس على األفراد ،وهوما يقودنا للتأكيد على أهمية مشاركة هؤالء األفراد في
رسم هذه السياسات من خالل القنوات الرسمية المختصة في ذلك.
2.1مفهوم الهوية.
تكمن هوية الشيء في جملة السمات الجوهرية التي تحدد أنه هذا الشيء أو هذا
النوع من األشياء ،وليس األشياء األخرى ،وتميزه من األشياء واألنواع األخرى ،غير أن االعتماد
على مسألة اإلشارة إلى االختالفات فقط ليس أم ار كافيا في سياق تحديد هوية الشيء ،ألن
الكثير من االختالفات في العادة قد تكون طفيفة أو عادية ،وهو ما يجعلها غير قادرة على
تعريف الكيان الذي نحن بصدد معرفته( .باريك ،2013 ،صفحة )30
وعلى هذا األساس ،فإن للهوية بعدين رئيسين مترابطين يمكن حصرهما في :
البعد األول :المرتبط بالهوية الشخصية؛ حيث أن الكائنات البشرية عبارة عن •
مجموعة أفراد متفردين ،يملكون مراكز مميزة لإلحساس بالذات ،وأجساما وتفاصيل
ذاتية مختلفة ،وحياة داخلية ال يمكن إقصائها ،وشعور قوي بالكيان الشخصي
واألفكار واآلراء الخاصة.
البعد الثاني :المرتبط بالهوية االجتماعية؛ والتي تتميز بالتداخل والتماسك •
االجتماعي ،فالناس جماعات عرقية أو دينية أو ثقافية أو مهنية أو قومية أو غيرها
333
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
من الجماعات المختلفة ،وترتبط هذه الجماعات باآلخرين بطرق رسمية وغير رسمية
عديدة( .باريك ،2013 ،صفحة )31،30
ولعل أهم ما يمكن التوصل إليه من خالل هاذين البعدين ،هو انقسام هوية األفراد
بين الفردية التي يتمياز كل فرد من خاللها بما يشكل بنيته الفيزيولوجية من جهة ،والنفسية من
جهة أخرى ،وبين هوية اجتماعية تقسم التواجد البشري على األرض إلى عرقيات متنوعة ،أو
طوائف مختلفة ،أو أقليات متماثلة ،ويعتبر هذا البعد األخير بمثابة وحدة التحليل الرئيسية
للدراسة ،لذلك سنحاول تحديد معنى أهم المصطلحات ذات الصلة في هذا السياق المعرفي.
✓ الجماعات العرقية :
يمكن تعريف الجماعة العرقية بأنها " :تجمع بشري يرتبط أفراده فيما بينهم من خالل
روابط فيزيقية أو بيولوجية كوحدة األصل ،أو الساللة أو السمات الجسمانية ،ويعيش أفراد هذا
التجمع في ظل مجتمع سياسي أكبر ،مشكال في ذلك إلطار ثقافي حضاري مغاير لإلطار
الثقافي الحضاري لباقي المجتمع ،ويكون عادة أفراد هذا التجمع مدركين لتمايز مقومات هويتهم
وذاتيتهم ،ويسعون دائما من أجل الحفاظ على هذه المقومات في مواجهة عوامل الضعف
والتحلل( .وهبان ،2014 ،صفحة )04
وفي سياق سعيهم الدائم للحفاظ على مقوماتهم ،يلجئ أفراد هذه الجماعات العرقية
إلى العديد من اإلجراءات المختلفة مثل:
العضوية اإلجبارية لكل من يولد ألبوين يحمالن عضوية الجماعة. •
التزاوج الداخلي من خالل الحرص على زواج ذكور الجماعة من اإلناث المنتمين •
لنفس الجماعة.
الوعي العرقي المتمثل في إدراك األفراد لعوامل تمايزهم ومحاولة الحفاظ على •
مقومات هويتهم ،عبر التنشئة االجتماعية( .وهبان ،2014 ،صفحة )04
✓ الجماعات الطائفية:
يتفق معظم الباحثين والمفكرين على أن الهويات الدينية الجزئية -الطائفية -تقوم
على عدة ركائز أولها :تعيين الهوية الدينية أو الهوية المذهبية -في دين واحد منقسم -على
أساس الجماعة أو الطائفة ،وليس على أساس الدولة األمة ،وثانيتها :تسييس هذه الهوية
كوحدة للفعل الجمعي بدال من الهويات االجتماعية كالطبقات أو الهويات اإليديولوجية ،سواء
334
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
بإزالة الجماعات األخرى المغايرة أو بإزالة الدولة ،وثالثتها :أن الهويات الدينية الجزئية تنشطر
بتأثير التنظيمات االجتماعية كالقبائل والطبقات ،أو هي التي تقضي على هذه التنظيمات،
ورابعتها :أن الجماعة الجزئية ،سواء قامت على انقسام داخل الدين الواحد على أساس المذهب،
أو تعدد األديان ،أو تعدد اإلثنيات والجماعات القومية ذات المذهب أو الدين المختلف ،فإنها
ليست كيانا صوانيا ،وال بنية ثابتة مهما بلغت من قوة( .الجبار ،2013 ،صفحة )24
✓ األقليات:
عرفت الموسوعة الدولية للعلوم االجتماعية األقليات على أنها " :جماعة من األفراد
الذين يتميزون عن بقية أفراد المجتمع عرقيا أو قومي ـا أو دينيا أو لغويا ،وهم يع ـانون من نقص
ن ـسبي فـي القـوة ،ولـ ـذلك فـهم يخضعون لبعض أن ـواع االستعبـ ـاد واالضطه ـاد والمعـ ـاملة
التمييزي ـة" ( .العجاتي ،2015 ،صفحة )35
في حين يعرفها إسماعيل صبري مقلد بأنها " :ذلك الجزء من سكان الدولة الذين
ينتمون أو ينتسبون إلى أصل قومي ،يختلف عن األصل القومي الذي ينحدر منه غالبية
السكان " ( .نوي ،2015 ،صفحة )44
أم ـا جيل ديشان فقد حاول تعريف األقلية باعتبارها " :مجموعة مواطني دولة تمثل
أقلية عددية وتوجد في وضعية غير مسيطرة داخل تلك الدولة ،تتمتع بخصائص عرقية ،دينية
أو لغوية مختلفة عن األغلبية من السكان ،يتضامنون مع بعضهم البعض ،تدفعهم ولو ضمني ـا
إرادة مشتركة للبقاء ،ويسعون لتحقيق المساواة الفعلية والقانونية مع األغلب " ( .نوي،2015 ،
صفحة )44،43
تشترك معظم التعريفات السابقة لمفهوم األقلية في تصنيفها كجزء من الكل العام،
يتميز عن بقية األجزاء األخرى المكونة للكل في المواصفات المشتركة ،سواء العرقية أو
الطائفية ،باإلضافة إلى االتفاق التام حول السعي وراء تحقيق المساواة مع بقية األجزاء األخرى
والتي تعتبر أكبر حجما منها ما يفسر سيطرتها على المجاالت السياسية واالقتصادية والثقافية
في كثير من الحاالت.
335
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
336
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
وغيرها ...لكن المسألة األساسية في هذا السياق تكمن في اإلدارة السياسية لهذا التعدد
المجتمعي الذي شهد عبر محطات تاريخية وجوها مختلفة من النزاعات العنيفة أو الباردة .
(مسرة ،2013 ،صفحة )62
وهو ما يجعل من سؤال الهوية في المنطقة العربية ،أحد أبرز األسئلة تداوال في الساحة
السياسية واالجتماعية ،وحتى االقتصادية في كثير من األحيان ،ذلك أن مسألة تسييس الهوية
وإدخال األقليات الطائفية أو العرقية إلى معترك الساحة السياسية يؤدي بالضرورة إلى تصاعد
وتيرة االحتقان بين مختلف الجماعات داخل المجتمع الواحد .وقد يبدو مفيدا في سياق تفسير
هذه الظاهرة مراعات جملة االعتبارات التالية :
-أن ظاهرة تسييس وأدلجة الهويات الجزئية ظاهرة جديدة ،رغم قدم هذه الهويات كفضاء
سوسيو ثقافي.
-اعتماد هذا التسييس على المكونات التاريخية الثقافية الممتدة في التاريخ القديم ،بقيت
آثاره واضحة في االنتقال من الدولة في سياقاتها القديمة إلى الدولة الحديثة.
-أن التسييس نفسه ،أي القدرة على تحويل الهوية الثقافية إلى حركة احتجاج وانقسام
متعدد األوجه سياسي اجتماعي أيديولوجي ،هي سيرورة مديدة ومتعرجة انحسرت ولم
تشتد سوى في العقدين األخيرين من القرن العشرين.
-أن عوامل نجاح هذا التسييس ال ترجع فقط إلى الطابع المركزي للدولة وسياساتها
االحتكارية فقط ،بل يتعداه ذلك إلى نشاط وإيديولوجية اإلسالم السياسي وشرائح
واسعة من المؤسسة الدينية ،ورجال الدين ،باإلضافة إلى المؤثرات اإلقليمية والعالمية
كانهيار االشتراكية وزوال خطابها( .الجبار ،2013 ،صفحة )26،25
ولعل السبب الرئيسي وراء عملية التسييس الممنهج للهوية في المجتمعات العربية،
يكمن في رغبة السلطة الحاكمة في فرض سطوتها على المجتمع من خالل اللجوء إلى إثارة
الفتن العرقية والمذهبية ،واالستعداء الديني والعرقي داخل المجتمع ،وتحريض مختلف
الجماعات على بعضها البعض ،أو االستعانة بجماعات معينة ومنحها االمتيازات والصالحيات
لضرب الجماعات األخرى ...وهذا ما يؤسس لحالة الصراع الدائم بين فئات المجتمع والذي
تقوده الفئات المقهورة ضد الفئات القاهرة وبوسائل من العنف والعنف المضاد ،فاألولى تكون
337
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
مدفوعة بهاجس االنتقام والثأر ،والثانية مدفوعة بأوهام الدفاع عن امتيازاتها المختلفة واستمرار
سطوتها( .الربيعي ،2007 ،صفحة )56وهو ما يقودنا إلى إشكالية المساواة المجتمعية ،ودور
السلطة الحاكمة في تكريس القيم الفاسدة كالتمييز المجتمعي والالمساواة المجتمعية بين أفراد
المجتمع الواحد.
ونستطيع القول أن أبرز أجه التمييز المجتمعي وغياب المساواة المجتمعية تظهر بشكل
واضح في المنطقة العربية من خالل السياسات التنموية التي تطلقها مختلف األنظمة الحاكمة
في المنطقة ،فتجدها تميل إلى مغازلة جماعات عرقية أو دينية أو طائفية ،وتصب كل تركيزها
على تنمية المناطق التي تأهلها ،على حساب جماعات أخرى تعاني التهميش والفقر ،وانعدام
أبسط متطلبات العيش الكريم.
إن هذه الحقيقة ،تقودنا إلى الحديث عن األسباب الحقيقية لحالة التخلف التي تشهدها
المنطقة العربية ،فالفقر والالمساواة جزءان مترابطان من مشكلة واحدة ،وهو ما تركز عليه
جميع تقارير األمم المتحدة لبحوث التنمية االجتماعية ، UNRISDفالفقر حسب هذه التقارير
مرتبط بأبعاد مختلفة لالمساواة كتلك المتعلقة بالدخل والجنس والعرق والموقع ،وما يصاحبها
من تمييز( .العيسوى ،2014 ،صفحة )115
ومن جهة أخرى ،فإن مسألة الحكم على نجاح السياسات التنموية في المنطقة العربية
يقتضي التركيز على مؤشر المساواة المجتمعية بشكل خاص ،وهو ما ذهب إليه جونار ميردال
حين قال " :إن النتيجة التي توصلت إليها هي أن الالمساواة واتجاهها العام إلى التزايد يمثالن
مركبا من العوائق والعقبات أمام التنمية .لذا هناك حاجة ملحة إلى عكس هذا االتجاه العام،
وتحقيق المزيد من المساواة كشرط للتعجيل بالتنمية وتسريع وتيرتها "( .العيسوى،2014 ،
صفحة )143بمعنى يجعل من المساواة المجتمعية ضرورة قيمية وعملية لضمان نجاح التنمية
ومختلف السياسات القائمة عليها .
هذا كما لوحظ أيضا أن المجتمعات التي تشاع فيها درجة أعلى من الالمساواة تكون
عرضة بدرجة أكبر من غيرها لعدم االستقرار االجتماعي والسياسي ،وتقدم االضطرابات التي
شهدتها بعض الدول العربية منذ أواخر العام 2010تذكي ار قويا بهذه الحقيقة( .العيسوى،
،2014صفحة )144فالمشهد التونسي في تلك الثورة الشعبية التي انطلقت من معاقل التمييز
338
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
المجتمعي وغياب المساواة التنموية بين الشمال والجنوب خير مثال يمكن الرجوع إليه لتفسير
ترابطية المساواة المجتمعية باالستقرار االجتماعي والسياسي.
. 3تداعيات غياب المساواة المجتمعية في السياسات التنموية بالمنطقة العربية حاالت
السودان – العراق.
إن مسألة مطالبة األقليات في المنطقة العربية بحقوقها ،مسألة قديمة تعود جذورها
إلى أربعينات القرن الماضي ،بدأت بالتزايد التدرجي في أجواء مشحونة بالتوترات االجتماعية
وسط أعمال القمع واالستبداد من قبل بعض األنظمة الحاكمة ،والتي كانت بدورها تخشى
تنامي مطالب هذه األقليات حتى تصل إلى المطالبة بالحكم الذاتي أو االنفصال النهائي،
والقراءة المتأنية لهذه المطالب تبين أنها في الحقيقة لم تكن تتعدى سوى حق ممارسة المواطنة
المتساوية في الدولة( .العجاتي ،األقليات في المنطقة العربية أزمة تمييز أم أزمة دولة)2016 ،
وهناك من يرى في االعتراف بوجود األقليات في المنطقة العربية ،دليل على االعتراف
بوجود جماعات داخل الجماعة الكبرى لها بالفعل تقاليد متميزة نسبيا ،وليس ألحد الحق في
مطالبة هذه ا لجماعات بالتخلي عن هذا التمايز الثقافي ،لكن تبدأ المشكلة الحقيقية عندما
يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي ،وتتعقد المشكلة أكثر عندما تترابط هذه الجماعة
وتتحد بقصد الدفاع عن نفسها( .غليون ،2013 ،صفحة )39،38
وهنا نصبح أمام صراع أقليات وجماعات متناحرة تسعى إلى فرض هيمنتها على
باقي الجماعات األخرى ،هذا الصراع الذي يمهد الطريق أمام تفاقم حدة األزمة الداخلية ما
يمهد الطريق أمام حدوث ما يعرف بالمعضلة األمنية المجتمعية .خاصة وأن هذه األخير تنشأ
حسب مدرسة كوبنهاغن للدراسات األمنية عندما تؤدي جهود إحدى الجماعات لزيادة أمنها
المجتمعي وتعزيز هويتها إلى إشاعة الخوف في الجماعات األخرى ،ما يدفعها بدورها إلى
زيادة أمنها المجتمعي ،وهكذا تستمر الحلقة المفرغة بين الجماعات ،حيث تؤدي المساعي إلى
زيادة األمن إلى إنقاصه في النهاية( .قوجيلي ،2014 ،صفحة )83
تحدث هذه المعضلة األمنية بسبب تزايد دافع األمن لدى جماعة معينة خاصة عندما
تكون أقلية لدرجة كبيرة جدا لدرجة تحول سلوكها ليصبح شبه إبادي تجاه الجماعات األخرى
المجاورة لها ،والسبب األساسي للوصول إلى هذه الحالة الخطيرة حسب باري بوسن هو تسييس
339
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
اإلطار السوسيو تاريخي؛ حيث يعتبر استخدام التاريخ أنجع طريقة متاحة ألي مجموعة من
أجل تقييم النتائج الهجومية للجماعات األخرى في اإلحساس بالهوية ،حيث أنهم ينطلقون من
الكيفية التي تصرفت بها الجماعات األخرى في المرة األخيرة ،وما إذا كان هناك سجل لألنشطة
العسكرية الهجومية من الطرف اآلخر؟ ويجد بوسن أن الظروف الكامنة وراء هذا التقييم توحي
بأن هذه الجماعات من شأنها اعتبار أن جيرانها خطريين ...ويعتبر التماسك في هذه الحالة
هو الوسيلة الوحيدة ألي جماعة في سياق التخطيط لمواجهة الخطر القادم من الطرف اآلخر.
(قوجيلي ،2014 ،صفحة )84
إن هذا الوضع الذي يمكن أن يصل إليه أي مجتمع ،إذا ما أهمل المساواة المجتمعية
ودورها في إذابة كل الفوارق اإلثنية والعرقية والطائفية أو تلك األسئلة المرتبطة بهوية الجماعات
المختلفة داخل المجتمع الواحد في سياق األدوار التقليدية لألنظمة السياسية على غرار الوظيفة
التوزيعية أو التنموية ،إنما هو حتمية مستقبلية حتى وإن نجحت بعض الدول العربية في تجنبه
على المستوى الراهن ،في حين فشلت أخرى وتصاعدت حدة هذه المعضلة لتصل للتفكك
واالنقسام في السودان ،والحرب الطائفية في العراق ،والصراع القبلي المسلح في ليبيا واليمن.
1.3حالة السودان ( من الصراع المجتمعي إلى االنقسام والتفكك ):
ينقسم السودان على مستوى تركيبته اإلثنية والعرقية واللغوية إلى 530قبيلة تختلف
أصولها العرقية بين العرب والزنوج ،كما تختلف لغاتهم ولهجاتهم المحلية وتنقسم تلك القبائل
إلى قبائل منطقة البحر األحمر وقبائل بني عامر التي تتكلم بلغاتها القديمة المشتقة من
الحامية والسامية ،كما نجد أيضا قبائل النوبية في شمال وادي النيل وهي تتكلم العربية المختلطة
ببقايا اللغة النوبية ،أما في وسط البالد فهناك مجموعة متنوعة من القبائل العربية كالكباش
والكواهلة والجعليين والرشايدة ،بينما يعرف الجنوب تمركز القبائل الزنجية كالنوير والشيك
والكاوك ،باإلضافة إلى الدنكا أكبر هذه القبائل في البالد( .البصراتي)2017 ،
شهد السودان منذ القديم العديد من الصراعات القبلية والتي يرجع أهم أسبابها إلى
التنافس الشديد بين قبائل المزارعين والرعاة على مصادر المياه والرعي ،هذا التنافس الذي
ساهم سؤال الهوية في تغذيته لعقود طويلة من الزمن في ظل فشل مشروع الدولة الوطنية
خالل مرحلة ما بعد االستعمار ،وهو ما أدى إلى زيادة حدة هذا الصراع في فترات زمنية معينة
340
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
وفي أماكن جغرافية دون أخرى ،فجنوب السودان وإقليم دارفور يعتبران مركزي الصراع القبلي
في السودان.
✓ إقليم دارفور :جدلية األمن والتنمية!
تتعد األسباب وراء نشوب األزمة الراهنة في إقليم دارفور بالسودان ،حيث يذهب
الكثير من الباحثين وراء تحميل الحكومات السودانية المتعاقبة المسؤولية الكبيرة في ما وصل
إليه حال اإلقليم اليوم ،فسوء توزيع الثروة ،ورفض المشاركة الفعلية للمعارضة ،والتمادي في
تطبيق سيا سات التهميش والقمع ،ومصادرة الحريات ،وإعطاء األهمية لألمن على حساب
التنمية ،كلها أسباب جعلت من سكان اإلقليم يشعرون بالتهميش وغياب التنمية ،ولعل أهم ما
يدعم هذه الطروحات هو تصفية المشاريع التي كانت قائمة في بعض المناطق ،مثل مشروع
ساق النعام ،ومشروع طريق اإلنفاق الغربي ،حيث صدر قانون في سنة 1995في شكل
مرسوم مؤقت من طرف المجلس الوطني االنتقالي على أن يتم تنفيذه مع حلول مطلع عام
،1997وقد أصبح منسيا لليوم ،وهكذا تعاملت الحكومات السودانية مع إقليم دارفور بنوع من
التبسيط واإلهمال ،مما أدى إلى تفاقم الوضع في اإلقليم ،وتفويت الفرصة على الحكومة لحل
األزمة التي كانت في بداية األمر مشكلة تتعلق بالتنمية ،والمطالبة بالمساواة مع بقية المواطنين
في األقاليم األخرى خاصة القريبة من المركز ( .كمرشو ،2013 ،صفحة )13
يتفق الكثير من الباحثين في الشأن السوداني على أن أصل الصراع في البالد هو
صراع حول تقسيم السلطة والثروة رغم أخذه الطابع العرقي في كثير من األحيان ،وأن الحكومة
السودانية تتحمل جزءا كبي ار من مسؤولية ما آلت إليه األوضاع خاصة مع عدم اهتمامها بتنمية
األقاليم الم همشة ،وعدم توزيع السلطة والثروة بشكل عادل ،فمشكلة إقليم دارفور ال تتعلق
باإلقليم فحسب ،بل تشمل كل السودان باعتبار دارفور كانت وال تزال تسهم في الدخل القومي
وتكاليف معيشة السودانيين ككل رغم الضيق والظلم وغياب المساواة التي لحقت بها لعقود
طويلة( .موسى ،2012 ،الصفحات ص-د)
✓ جنوب السودان :بين المساواة المجتمعية واالنفصال.
بعد استقالل السودان برزت عدة مستويات من التناقض بين النخبة الحاكمة على
مستوى الحكومة المركزية والمحيط الخارجي ،فبينما كان نشوء معظم العوامل األساسية مرتبط
341
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
342
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
تكثر فيها الحساسيات والمقارنات بين أوضاع الجماعات الداخلية ،ومسألة التنمية فيها ،مسألة
محورية في سياق ضمان المصالح المختلفة والتوازنات العامة للدولة.
2.3حالة العراق ( صراع الطوائف من أجل الهيمنة والنفوذ ).
يتواجد بالعراق العديد من األقليات العرقية والدينية منذ آالف السنين ،كالكلدانيين
السريانيين اآلشوريين واألرمن ،والصابئة المندائيين واألزيديين والشبك والكرد والفيليين
والكاكائيين واليهود ،وغيرهم من المكونات القومية والدينية الصغيرة والتي كانت تشكل أغلبية
في السابق قبل أن تتحول وألسباب سياسية مختلفة بعد حدوث تغييرات ديموغرافية وجيوسياسية
إلى شعوب وقوميات صغيرة مهددة باالنقراض والتالشي( .الصنا)2018 ،
تعاني هذه األقليات في العراق على المستوى التنموي من التهميش والتغييب ،هذا
الوضع الذي يتفاقم في ظل هيمنة الشيعة والسنة على المشهد السياسي باعتبارهما أكبر
الطوائف الدينية المسيطرة على صناعة القرار في البالد ،فالتنافس بينهما شكل محور الصراع
السياسي في الدولة منذ سقوط النظام السابق ،وهو ما أدى إلى إعاقة عمليات إعادة بناء
الدولة ،وتعميق حالة عدم االستقرار في البالد ...فتاريخيا ،كانت الخالفات حول القضايا
السياسية والالهوتية والعقائدية هي السبب في االنقسام بين السنة والشيعة ،غير أن التنافس
على السلطة والموارد والمكانة هو الدافع وراء مظاهرها وتجلياتها الحديثة اليوم ،وهو ما جعل
من فكرة التمثيل الطائفي على العالقات السياسية بديال عمليا لفكرة تمثيل المواطنين ،األمر
الذي أدى إلى تفاقم االنقسامات القائمة بدل التخفيف من حدتها( .حسين)2018 ،
إن مسألة التنافس على السلطة والموارد والمكانة تقتضي بالضرورة ،أن المنتصر في
المعركة سيفرض على الجميع منطقه وسياساته ،وهو ما جعل من الطائفة الشيعية التي تسيطر
على مفاصل الحكم من سقوط النظام السابق تعمل على توجيه سياساتها التنموية نحو مناطقها
الجيوسياسية وأق اليمها ،في مقابل التهميش الممنهج لبقية األقليات المكونة للنسيج المجتمعي
للعراق.
وفي ظل هذا الوضع ،يبقى العراق يعيش في حلقة مفرغة من الصراعات التي
تعصف بمشروع بناء الدولة وتحقيق االستقرار السياسي واالجتماعي ،بل إن هذا الوضع يسير
بالعراق إلى التفكك واالنقسام إلى دويالت عديدة على أسس عرقية ودينية مختلفة.
343
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
وقد أكدت كيت غيلمور نائب المفوض السامي لحقوق اإلنسان في مؤتمر صحفي
عقدته بجونيف عقب زيارتها للعراق على أهمية أن يتم اتخاذ خطوات ملموسة للتخطيط المرتكز
على المساواة ،وسيادة القانون ،ورؤية إستراتيجية تكسب ثقة جميع الطوائف المختلفة في البالد،
ففي مجمل حديثها عن األوضاع االجتماعية والمساواة المجتمعية قالت " :لدى القادة العراقيين،
على ما يبدو ،ذاكرة طويلة األمد ولكن لديهم رؤية ضيقة األفق .إن الخطاب الشائع بين كثير
من زعماء العراق يتمحور حول ( المظالم مجتمعية ) ،دون االعتراف بطبيعة معاناة العراقيين،
والفشل في تخطيط مسار للمستقبل الجامع " ..وأكدت أيضا على ضرورة تقيد قادة العراق،
على كل المستويات ،بالفعل والقول التزاما أكبر بكثير بالسالم والمساواة وسيادة القانون بدال
من سرد المظالم أو االنتقام المدفوع بالطائفية ،فهناك غياب مقلق للخطاب السياسي الذي
يجمع بين جميع الطوائف المختلفة في العراق ،خطاب يشمل جميع األقليات( .موقع أخبار
األمم المتحدة )2018 ،
.4دور الدولة األمة في تعزيز المساواة المجتمعية بالمنطقة العربية /دولة المواطنة.
يقول عالم االجتماع الفرنسي جوروفيتش " :في مجتمع معقد قليل التوحد ،ومنقسم
بفعل كثرة من السالسل الترابية وكثرة التجمعات واألنظمة ،يصبح الوجود االجتماعي للوحدات
الجماعية وأعضائها ،النحن واآلخرون مستحيال دون المعرفة السياسية ،ويصبح معرضا للتحول
إلى حرب الجميع ضد الجميع "( .نبيه ،2008 ،صفحة )136وهو ما يشكل خط ار كبي ار
على كيان الدولة ووجودها ،وتهديد مقومات استقرارها السياسي واالجتماعي.
إن مسألة االستقرار االجتماعي والسياسي ،وبناء الدولة األمة ،ال تستدعي قمع
األقليات والتنكر لتمايزها والعمل على إلغائه ،بل تستدعى ضرورة رفع انتماء المواطنين جميعا
لوطنهم ،وربط والئهم له دون غيره من الكيانات األخرى الضيقة ،أي ترقية و تعزيز قيم
المواطنة من خالل المشاركة العادلة في الخيرات واتخاذ الق اررات ،وهذا ما ينقل المواطنة من
كونها مجرد توافق أو ترتيب سياسي تعكسه نصوص قانونية ،لتصبح المساواة بين المواطنين
في الحقوق والواجبات قيمة اجتماعية وأخالقي ــة وممارس ــة سلوكية يعبر أدائها من قبل
المواطنين عن نضج ثقافي ورقي حضاري وإدراك سياسي حقيقي لفضيلة معاملة جميع
المواطنين على قدم المساواة دون تمييز بينهم بسبب الدين والمذهب والعرق والجنس( .بشير
نافع ،وآخرون ،2004 ،صفحة )40،39
344
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
إن هذه المساواة المجتمعية كقيمة ثابتة من قيم المواطنة ،تزداد أهميتها أكثر فأكثر
في البيئات التي تتضمن تنوعا ثقافيا وتعددا دينيا وعرقيا ،فالعودة لتاريخ الفكر السياسي الغربي،
تفيدنا في معرفة دور المواطنة كقيمة معيارية ساهمت المساهمة الكبرى في إدارة التنوع العرقي
واإلثني والديني واللغوي في المجتمعات الغربية( .مباركية ،2013 ،صفحة )101وال يمكن
لألنظمة السياسية العربية اليوم ،أن تدير هذه الفسيفساء العرقية واإلثنية في المنطقة بعيدا عن
قيم المواطنة بكل تجلياتها الثقافية واألخالقية.
ويبدوا جليا أن المنطقة العربية تعرف حالة حادة من التناقض الصارخ بين نصوصها
القانونية ودساتيرها المختلفة التي تتغنى بالمواطنة والمساواة المجتمعية ،وبين تطبيقاتها على
أرض الواقع ،فالصراعات العرقية والطائفية اليوم تنخر جسد الدولة ،وتنذر بالفشل الذي يلوح
في األفق للعديد من الدول كاليمن وليبيا والسودان والعراق وسوريا ،هذه الدول التي عرفت عدم
استقرار سياسي واجتماعي ،وتعاظم حدة المعضلة األمنية المجتمعية داخليا ،لذلك فالمسألة
هنا تتطلب إعادة النظر في وظائف الدولة المتعلقة بتوزيع الثروة والسلطة واالعتماد على
المساواة المجتمعية في سياق بناء السياسات التنموية المختلفة.
الخاتمة:
إن االعتماد على سؤال الهوية في سياق بناء السياسات التنموية في المنطقة العربية،
ساهم ولعقود طويلة من عمر الدولة الوطنية في بروز العديد من اإلشكاليات المرتبطة بالتنمية
غير المتوازنة ما أدى إلى فشل المشروع التنموي الكثير من الدول التي ال زالت تعاني من
ضعف معدالت النمو وتفاقم األوضاع المعيشية المزرية وارتفاع معدالت البطالة ،باإلضافة
إلى مؤشرات أخرى أكثر خطورة تتعلق باستقرار الدولة وأمنها القومي ،خاصة مع ارتفاع حدة
النزاعات الداخلية بين مختلف المكونات المجتمعية التي يساهم غياب المساواة المجتمعية في
تأجيجها ،وهو ما رأيناه في الكثير من الحاالت على غرار السودان الذي دفعته الحروب األهلية
الداخلية إلى التفكك واالنقسام بعد فشل مشروع الدولة في المساواة التنموية بين جميع أقاليمه
المختلفة والمتنوعة عرقيا وقبليا ،باإلضافة إلى العراق الذي تعاني فيه األقليات الصغيرة من
التهميش والفقر ،وغياب المساواة مع بقية الطوائف األخرى ذات النفوذ الواسع على غرار
الشيعة.
345
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
وبناء على ذلك ،فإن تجاوز هذه الحالة التي تعاني منها المجتمعات في المنطقة
العربية يتطلب جملة من اإلجراءات ،ومنها :
ضرورة تبني الدولة لسياسات تنموية متوازنة تراعي جميع مكونات المجتمع من -
أقليات وجماعات مختلفة.
الرفع من قيم المواطنة داخل المجتمع من خالل العمل على المساواة التامة بين -
جميع المواطنين بغض النظر عن أعراقهم أو أديانهم أو لغاتهم أو طوائفهم أو قبائلهم.
رفع الشعور لدى المواطنين باالنتماء للوطن وما يترتب على ذلك من تغيير في -
والءاتهم.
محاربة كل أشكال التمييز بين المواطنين ،وإتاحة الفرصة للجميع من أجل المشاركة -
السياسية واالقتصادية واالجتماعية في بناء الوطن.
االهتمام باألقاليم البعيدة عن المركز ،والتي تعاني في جميع الدول العربية من ضعف -
التنمية بها وانعدام مقومات العيش الكريم.
العمل على مساعدة األقليات ومراكز تواجدهم الجغرافية في تحسين ظروفهم -
االجتماعية.
قائمة المراجع:
ابراهيم العيسوى .)2014( .العدالة اإلجتماعية والنماذج التنموية :مع إهتمام خاص مبصر وثروهتا .بريوت :
املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات .
أمحد حممد وهبان .)2014( .الصراعات العرقية واإلستقرار السياسي يف العامل العريب .الرايض :اجلمعية السعودية
للعلوم السياسية .
العجايت ,م . (2016, 02 19).األقليات يف املنطقة العربية أزمة متييز أم أزمة دولة . Récupéré sur
http://www.arab-reform.net/ar/
اهلامشي كمرشو .)2013( .سلطات جملس األمن يف اإلحالة على احملكمة اجلنائية الدولية :دراسة قانونية إلقليم
دارفور السوداين .رسالة ماجستري غري منشورة .كلية احلقوق والعلوم السياسية ،جامعة بسكرة :
اجلزائر .
أنطوان الصنا .)2018 ,03 29( .حقوق األقليات يف العراق .مت االسرتداد من اجلمعية العراقية حلقوق اإلنسان
يف الوالايت املتحدة األمريكية http://www.ihrsusa.net/details-185.html :
أنطوان مسرة .)2013( .ما معىن الطائفية وكيف ندرسها اليوم ؟ بريوت :مركز الوحدة العربية .
346
السياسات التنموية في المنطقة العربية :بين تحديات الهوية ورهانات المساواة المجتمعية
برهان غليون .)2013( .املسألة الطائفية ومشكلة األقليات .بريوت :املركز العريب لألحباث ودراسة السياسات.
بشري انفع ،وآخرون .)2004( .املواطنة والدميقراطية يف البلدان العربية .بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية.
بيكو ابريك .)2013( .سياسات جديدة للهوية :املبادئ األساسية لعامل يتسم ابإلعتماد املتبادل .القاهرة :
املركز القومي للرتمجة .
حارث حسني .)2018 ,03 29( .األزمة الطائفية يف العراق ...إرث من اإلقصاء .مت االسرتداد من مركز
كارنيغي للشرق األوسط :
lang=ar&https://carnegieendowment.org/sada/?fa=55405
حسان بن نوي .)2015( .أتثري األقليات على استقرار النظم السياسية يف الشرق األوسط .االسكندرية :دار
الوفاء القانونية .
رافائيل بدال .)2018 ,03 28( .الصراع يف جنوب السودان .مت االسرتداد من معهد اجلزيرة لإلعالم :
https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/83d8cc45-94dd-4fb3-b80c-
cd17f5b820a2
سيد أمحد قوجيلي .)2014( .الدراسات األمنية النقدية :مقاربة جديدة إلعادة تعريف األمن .األردن :املركز
العلمي للدراسات السياسية .
شارل مونتيسكيو .)2012( .روح الشرائع .القاهرة :كلمات عربية للرتمجة والنشر .
صاحب الربيعي .)2007( .سلطة االستبداد واجملتمع املقهور .دمشق :صفحات للدراسات والنشر.
ضحاوي آدم أمحد موسى .)2012( .التنمية غري املتوازنة وأثرها على األمن القومي السوداين .رسالة جامعية.
جامعة الزعيم األزهري ،السودان.
عبد هللا بن سعيد بن حممد أل عبود .)2011( .قيم املواطنة لدى الشباب واسهامها يف تعزيز األمن الوقائي .
الرايض :جامعة انيف العربية للعلوم األمنية .
علي الزعيب .)2015( .السياسات التنموية وحتدايت احلراك السياسي يف الوطن العريب .الكويت :مركز دراسات
اخلليج واجلزيرة العربية .
فاحل عبد اجلبار .)2013( .املشكلة الطائفية يف الوطن العريب .بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية .
حممد العجايت .)2015( .املواطنة واملكوانت اجملتمعية يف الوطن العريب عقب الثورات العربية ...استكمال البنية
أم تغيري يف املسار؟ منتدى البدائل العريب للدراسات .
حممد نور البصرايت .)2017 ,01 02( .جنوب السودان :جذور املشكلة ،وتداعيات اإلنفصال .مت االسرتداد
من املركز الدميقراطي العريبhttp://democraticac.de/?p=41939 :
منري مباركية .)2013( .مفهوم املواطنة يف الدول الدميقراطية املعاصرة وحالة املواطنة يف اجلزائر .بريوت :مركز
دراسات الوحدة العربية .
347
هشام دراجي ،األستاذ الدكتور :نور الدين دخان
موقع أخبار األمم املتحدة .)2018 ,03 29( .مت االسرتداد من
https://news.un.org/ar/story/2016/04/24961
نسرين عبد احلميد نبيه .)2008( .مبدأ املواطنة بني اجلدل والتطبيق .االسكندرية :مركز االسكندرية
للكتاب .
348